نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
509 - أما هذه فنعم
في (معجم البلدان) لياقوت
قال حفص ين عمر الأردبيلي: جلس سعيد بن عمر البرذعي في منزله، وأغلق بابه، وقال: ما أحدّث الناس؛ فإن الناس قد تغيروا. فاستعان عليه أصحاب الحديث بمحمد بن مسلم بن واره الرازي، فدخل عليه، وسأله أن يحدثهم، فقال: ما أفعل
فقال: بحقي عليك إلا حدثتهم
فقال: وأي حق لك علي؟
فقال: أخذت يوماً بركابك
فقال: فضيت حقاً لله عليك، وليس لك علي حق
فقال: إن قوماً اغتابوك فرددت عنك
فقال: هذا أيضاً يلزمك لجماعة المسلمين
قال: فإني عبرت بك يوماً في ضيعتك، فتعلقت بي إلى طعامك، فأدخلت على قلبك سروراً
فقال: أما هذه فنعم. فأجابه إلى ما أراد
510 - وأين ذاك الواحد
في (شرح المقامات) للشريشي:
كتب بعض وزراء ابن عباد يتسخط الإخوان هذا البيت:
وإذا صفا لك من زمانك واحد ... فهو المراد، وأين ذاك الواحد؟
فوقع في الكتاب: (وأين ذاك الواحد. صحف تعرف) فلما قرأه طار شروراُ. ومثل بالبساط، فلثمه بين يديه. وإنما صحف (وأين) فجاء منه (وأنت) فرد عليه من كلامه أبلغ جواب
511 - خذ معها. . .
في (تاريخ بغداد) للخطيب:
أبو بكر الصولي: قال محمد بن زكريا: حضرت مجلساً فيه عبيد الله بن محمد بن عائشة(552/28)
التيمي، وفيه جعفر بن القاسم الهاشمي. فقال جعفر لابن عائشة: ههنا آية نزلت في بني هاشم خصوصاً وهي: (وإنه لَذِكْرُ لك ولقومك) فقال له ابن عائشة: قومه قريش، وهي لنا معكم، قال جعفر: بل هي لنا خصوصاً
قال: فخذ معها (وكذِّب به قومك، وهو الحق) فشكت جعفر فلم يحر جواباً
512 - الفاكهة واللحم
في (مفاتيح الغيب) تفسير الرازي:
(وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون) هل في تخصيص التخيير بالفاكهة والاشتهاء باللحم بلاغة؟ قلت: وكيف لا، وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة، وإن كان لا يحيط بها ذهني الكليل، ولا يصل إليها علمي القليل. والذي يظهر لي فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل إلى الفاكهة، والجائع مشته، والشبعان غير مشته؛ وإنما هو مختار، إن أراد أكل، وإن لم يرد لم يأكل. فخص اللحم بالاشتهاء والفاكهة بالاختيار
513 - ألم تعلموا؟
شاعر في بعض الولاة:
إذا ما قضيتم ليلكم بمنامكم ... وأفنيتم أيامكم بمدام
فمن ذا الذي يغشاكم في ملمة ... ومن ذا الذي يلقاكم بسلام؟
رضيتم من الدنيا بأيسر بلغة ... بشرب مدام أو بلثم غلام
ألم تعلموا أن اللسان موكل ... بمدح كرام أو بذم لئام؟!
514 - التوارد في السرقة
في (بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة) لجلال الدين السيوطي: من أعجب ما وقع لأبي العباس أحمد بن علي الكناني الإشبيلي - الملقب باللص لكثرة سرقته أشعار الناس - في السرقة أن والياً قدم أشبيلية فانتدب أدباؤها لمدحه. قال: فطمعت تلك الليلة أن يسمح خاطري بشيء فلم يسمح، فنظرت في معلقاتي فإذا قصيد لأبي العباس الأعمى مكتوب عليه: (لم ينشد) فأدغمت فيه اسم الوالي. فلما أصبحنا وأنشد الناس أنشدت تلك القصيدة؛(552/29)
فقام شخص وأخرج القصيدة من كمه وقد صنع فيها ما صنعت، ووقع له ما وقع لي، فضحك الوالي من ذلك وكثر العجب من التوارد على السرقة
محمد إسعاف النشاشيبي(552/30)
النشيد
للأستاذ عمر أبو ريشة
يا قلب حزنك ما أشدِّهْ ... خفر الحبيب اليوم ودَّه
ماذا عليك إذا تنا ... سيت الهوى وطويت عهده
أمن المودة أن تع ... يث بأضلعي؟ أمن المودة؟
جاوزت حد الحزن يا ... واهي القوى! جاوزت حده
لو كان حزنك يستردُّ ... وفاءه لك لاسترده
قد طاب بعدك عيشه ... فعلام عيشك ساء بعده
كم مرتع بتنا به ... ولليل حاك عليه بُرْده
ولكم أذعت إليه وج ... دي في الهوى وأذاع وجده
وكم اتَّكا فوق الزهو ... ر ومد لي باللطف زنده
حتى إذا طوقته ... أدميت بالقبلات خده
عمر أبو ريشة(552/31)
الفجر الغارب
(إلى ذكرى الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير (في مسابحه الأبدية)
للأديب محي الدين صابر
مرَّ في موكب الحياة غريباً ... ومشى كالظِّلالِ فيه مُريباً!
وسرى كالخيال جَنَّحه الوحيُ ... فعيناه تقرآن الغيوبا
يحمل الناي في يٍدٍ، منه طُهْرٍ ... وبأُخرى، تراه يحمل كوبا
ِومشى في الحياة، نشوانَ، كالرحم_ة، دنيا ترِفُّ عطراً وطيبا!
وسقى الناس خَمَره، وهو يَصْدَى ... فَحسَا الناس روحه مسكوبا
وشدا نايه فكان لحوناً ... لو تجسَّمْنَ، خِلتَهُنَّ قلوبا
مشرفاً فوق ربوة الخلد كالرا ... عي، عَلَى مولد الحياة رقيبا!
عصفت تحته الحياة، فلا الج ... نُّ عزيفاً، ولا السوافي هُبُوبا!
ضَجَّةٌ تملأُ الوجود سكوناً ... ساخراً رجعُهُ ومعنًى رتيبا!
فانبرى الشاعر المجنح في المو ... كب، يُلقى إنجيله الموهوبا
ومضى يزحم الحياةًَ مِثالَّي ... ة فِكر فكان فناً عجيبا
رقصت حوله أمانيُّ قلب ... كاد بالخلق رحمة أن يذوبا
وسِعَ الكون كله وحواه ... خفقة في ضلوعه أو وجيبا!
عاش في عالم من الروح صوف ... يٍ، فجلاَّهُ عاَلماً مشبوبا
فيلسوف، دنياه حق وعدل ... وانطلاق كالوحي فكراُ خصيباً
ورسالاتُ شاعر عُلوىٍّ ... عاش كالطير في الروابي طروبا
أيها الشاعر الموشح بالخل ... د سلاماً كالفجر غضاً رطيبا!
لم تزل تسبق الزمان وتعلو ... قمم الفكر والخيال وثوبا!
ثائراً تُنكر القيود فأدرك ... ت على صحوةِ الصباح الغروبا
كنت لحناً على الحياة غريباً ... فتولى، فعاد رجعاً غريبا!
ما تلاقت فوق التراب حياتا ... نا، وإن كنت لي أخاً ونسيبا
جمع الفكر في السموات دنيا ... نا، كما يجمع المطاف الدُّروبا!(552/32)
ولقد طوَّفَتْ حياتك في الأر ... ض جراحاً بخاطري وندوبا!
يا أخى مَزِّق النقاب عن الغي ... ب، وبين لنا الغد المحجوبا
وانسخ الشك باليقين فقد تَه ... دى نفوساً، وقد تنير قلوبا!
ولقد تُنقذ الضحايا وما زا ... لوا وَقُوداً يُؤَرِّثون الحروبا
لا تزال الحياةُ مجلى صراع ... لا ترى غالباً ولا مغلوبا!
نحن في حيرةِ كما كنت فيها ... وسُؤال، فهل لقيت مجيبا؟
وبنو الفكر في الحياة أُناس ... يتحدًوْنَ كيف شاءُوا الخطوبا
إِنهم عنصر الخلود ولفتا ... ت من الروح بُرِّئت أن تغيبا
إِيه يا شاعر السماء وَدَاعاً ... ربما نلتقي هناك قريبا
لست أرثيك يا رفيقي ولكن ... أنا حَيَّيْتُ فنك الموهوبا
محي الدين صابر(552/33)
من الأدب البولندي
ستانسلوس أوجا خوفسكي
أحد الأحرار
للأستاذ حسين غنام
كانت دعوة مارتن لوثر المشهورة لا زالت طفلة غضة تحبو على يديها ورجليها، ولكنها كانت تتعثر كثيراً وتصطدم بعقبات قاسية، فحاربها البطاركة والرهبان في مختلف الأديرة والكنائس، وحاربها الملوك والأمراء والأعيان، بل حاربتها الشعوب أنفسها
وكان طبيعياً أن تتسرب تلك الدعوة الجريئة، في أوائل القرن السادس عشر، من بروسيا مهدها ومنشأها إلى جاراتها القريبة، وخاصة بولندا، وتلاقي صدى عند المفكرين الأحرار وأنصار التجديد الأجرياء
ولكن بولندا في تلك العصور كانت خاضعة خضوعاً عجيباً للبابا في روما. وكان البابا الكاثوليكي الروماني أشد خصوم دعوة لوثر التي ترمي إلى تجديد الدين وإصلاحه، دأب رجال الدين جميعاً في محاربة كل تجديد، أو ما يسمونه بدعة أو فتنة! فما بلك بخليفة الله في الأرض، وما يحيط به من آيات الجلال والتقديس، وهو يخشى أن تزعزع تلك الدعوة كيان روحانيته على الشعوب التي تقدسه؟
فكانت كل دعوة إلى الأخذ بآراء مارتن لوثر، أو ميل إلى تجديد الكنيسة يقابل بحرب عنيفة ولا شك مبعثها البابا، والمحرض الأكبر عليها هو وأعوانه الكثيرون
ولكن على الرغم من ذلك وجد بعض الأجرياء في بولندا في ذلك الحين، ولعل أول هؤلاء المصلحين الذين أثروا تأثيراً كبيراً في الكنيسة البولندية والحياة البولندية جميعاً هما أندرومودجافسكي وستانسلوس أوجاخوفسكي. ولكن ثانيهما كان أبعد أثراً وأجرأ قلباً وأعنف قلما وبيانا، وأشد إقداماً وأرسخ قدما من زميله
تلقى هذا الرجل علومه في وتنبرج، فاعتنق مذاهب المجددين وتشرب نظرياتهم وآراءهم، ثم صار تلميذاً للمجددين الدينيين العظيمين (مارتن لوثر) و (بلانجتن)(552/34)
ثم نزح إلى إيطاليا وقضى فيها مدة قصيرة عاد بعدها إلى بلده. وكان ذلك سنة 1543، والتحق بالسلك الديني مبتدئاً برتبة صغيرة ما زال يتدرج منها حتى رقى في زمن وجيز إلى وظيفة القسيس الأول في
وكان وقتئذ عضواً في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ولكنه لم يستطيع أن يخفي شعوره ضدها، وعملت فيه آراء أستاذيه المصلحين الكبيرة، كما استفزه قريبه الشاعر (ري) فكان لا يفتأ يعلن آراءه ويرددها غير خائف ولا وجل
وكان المذهب الديني الغالب آنئذ في مقاطعة (جاليسيا) - إحدى مقاطعات بولندة في ذلك الحين - هو المذهب الأرثوذكسي. كان هذا الرجل يقيم في تلك المقاطعة، وفيها إبرشيته التي يعمل فيها؛ فأخذ يكتب ويكتب في تمجيد العقيدة اليونانية، والدفاع عنها، وكان هذا ضد وظيفته، ولكنه لم يأبه لذلك، فقد كان غرضه مهاجمة البابا الكاثوليكي، والتعرض له فطلبته السلطات الدينية العليا للمحاكمة. واستطاع بعضهم أن يؤثر عليه تأثيراً مؤقتاً، وطلب إليه الرجوع عن تعاليمه ونبذها، ثم احرقوا كتابه الذي أعلن فيه هذه الآراء
ولم يكن عن ضعف رجوع الرجل عن آرائه؛ فدأب المصلح أن يمهد الطريق، ويحبس النبض، ولا يتردد في إحناء هامته للعاصفة القوية حتى تمر سراعاً، ثم ينتصب من جديد قوياً
فإن إذعان ستانسلوس لتلك السلطات الدينية كان إذعاناً وقتياً؛ فقد تزوج بعد ذلك بأمد وجيز من ماجدالين خَلمتسكي ضارباً بهذا الزواج تقاليد الكنيسة التي يمثلها، فدعاه مطران بشيمزل ليحاكمه على ما أتى، أمام محكمته، فذهب ستانسلوس برفقة صحبة قوية من أصدقائه؛ فخشي المطران أن تحدث فتنة، فلم يستطيع أن يفتتح الجلسة، وآثر أن يحكم على القسيس النافر غيابياً، ففعل، ثم وقع مرسوماً بفصله عن الكنيسة وتجريده من جميع رتبه الكنسية
وأعلنت فضيحته، وقيل إنه خارج على الدين الرسمي للدولة، وصودرت أملاكه. ولكنه لم يفزع لشيء من ذلك. ومر ذات يوم بكنيسة أثناء تأدية الخدمة الدينية فيها، فدخلها وتكلم في الجمع الحاشد بها، محتكما إلى المصلين، ومعلناً براءته مما نسب إليه
ولم تطل مدة الحكم عليه، فأصبح في نظر الكثيرين بريئاً منه، وانقلب التيار الآن وسار(552/35)
جارفاً قوياً ضد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وتطاول التيار ضدها، حتى وصل مجلس الآراء، ووجد كثير من الرجال الذين أخذوا بناصر أوجاخوفسكي وآزروه
قال المستر جيروم هورسي السفير البريطاني لدى بلاط الروسيا في ذلك الحين، في بعض مذكراته (عندما جئت فلنا، أكبر مدينة في لتوانيا، قدمت نفسي وأوراقي كمندوب من الملكة، فقابلني الأمير (راجفل)، وهو أمير عظيم ذو حول وطول، ويعتنق المذهب البروتستانتي!)
فمن هذا يبدو لنا كيف بجح أوجافسكي في تحويل التيار، حتى بين الأمراء، ضد الكنيسة البولندية التي حاربته
وفي مجلس الأمراء ظهر أوجاخوفسكي ظهوراً عظيما، فقرأ على الأعضاء نصوص الحكم عليه بقطعه من الكنيسة، وتساءل عما إذا كان في استطاعة الأكليروس أن ينصرفوا في حياة إنسان مثل هذا التصرف
وكان قرار المجلس حينئذ أنه في مثل هذه الأشياء التي تتعلق بمواطن بولندي يجب أن تعرض على مليكه ليتصرف فيها
ولكن أوجاخوفسكي وجه خطاباً جريئاً إلى الملك وإلى مجلس الأعيان، ونجح في إرجاء هذا العرض، وقرر المجلس أن يستشيروا البابا فيما إذا كان يبقي أوجاخوفسكي زوجته أم يطلقها
ورأى أوجاخوفسكي أن العاصفة هذه المرة قوية ضده أيضاً. فآثر أن يحني لها هامته للمرة الثانية، ريثما تمر كما مرت سابقتها، فهادن الكاثوليك الرومانيين بعد ذلك. وفي السابع عشر من فبراير عالم 1552 برئ من قطعه عن الكنيسة وأعلن خضوعه للمجلس الديني فيما يتعلق بالعقائد، ولكنه تخلى عن قدره ورتبه الكنسية، آملاً أن تعترف السلطات الرومانية الدينية بزواجه.
كان هذا النبيل رجلاً قوياً جديراً أن يعمل الكثيرون على استمالته، وكان همهم الأكبر أن يفصلوه عن البروتستانت، ولكنه لم يكن ممن يحترمون البابوات (الأحبار الرومانيين)، فخاطب يوليوس الثالث بهذا الأسلوب: (تأمل، يا يوليوس، وتبصر جيداً؛ مَن من الرجال ستفعل فعلتك معه. إن هذا الرجل ليس إيطالياً تفرض عليه سلطانك وجبروتك، والواقع(552/36)
أنني رجل روسي وهو ليس تحت رعويتك الباباوية الخسيسة، ولكني مدني من مملكة يجب حتى على ملكها أن يحترم قانونها ويطيعه إن في استطاعتك أن تحكم علي حتى بالموت، إذا أحببت، ولكنك لن تستطيع أن تنفذه فيَّ ولن ينفذ الملك، حكمك، لأن الأمر يجب أن يعرض على مجلس الأعيان. إن الرومانيين يحنون قامتهم ويركعون أمام جموع خدامك وأجرائك، ويحملون على أعناقهم نير الذل والعبودية عن كتاب الرومان الجبناء. . . ولكن هذه الحال لن تكون معنا. فحيثما يحكم القانون؛ فلا العرش، ولا الملك، ولا الحاكم، بمستطيعين أن يفعلوا ما يريدون، فالحكم لا يكون إلا للقانون وما يشرّع. إنه لن يقول، حالما تشير إليه بأصبعك، أو تبهر عينيه بخاتم الصياد السحري الذي في يدك، يا ستانسلوس أوجاخوفسكي! إن البابا يوليوس يريدك أن تذهب إلى المنفى، فيجب عليك أن تذهب، ولكني أُؤكد لك أن الملك لا يمكن أن يريد ما تريد أنت؛ فإن قوانيننا لا تسمح له أن يسجن أو ينفي أي شخص لم تحكم عليه محكمة خليقة بالحكم)
وأدرجت أعمال أجاخوفسكي ضمن القائمة السوداء في الفهرس البابوي، وأعلن الكتاب الكنسيون أنه خادم من خدم الشيطان
ولكنه بدل أن يرتدع بمثل هذه التصرفات، فقد انفجر ثائراً بتجريحات أقوى، وكتابات أعنف، وإليك مثالاً من مخاطبته للبابا بول الرابع: (بما أن هذا المكروه العربيد المعتوه الأخرق، الذي يسمى نفسه بول الرابع، قد أخرج موسى والمسيح من الكنيسة، فإني سأتبعهما بملء حريتي ورغبتي؛ فهل أستطيع اعتباره شيئاً حاطاً بكرامتي أن أكون زميلاً لهذين اللذين يسميهما الأخرق البغيض هرطيقين؟ هذا سيكون شرفاً لي وتاجاً يتوج رأسي. إن إهمال التعاليم القديمة أفسدنا وأذلنا وجردنا من شرفنا. يا بول! حذار أن تجر على إبرشيتك الخراب الأخير. نظف المدينة من جرائمها، واستأصل بذور الخسة والدناءة فيها، ولا تجر وراء الأرباح التي تجنيها لمصلحتك إني سأشرح لمواطني، بكل صراحة ووضوح، أن الفساد الروماني يضر الكنيسة ويؤذيها أكثرمما التواء اللوثرية)
بهذا وبمثله كان يخاطب أوحاخوفسكي الباباوات الرومانيين. وهو لم يكتف بذلك. فقد تناول هذا البابا في رسائل أخرى بالتجريح العنيف، وحمله من المذمات والقدح والشتم حملاً هائلاً، ثم بدأ مؤلفاً جديداً - لم يطبعه - ولكن بعض أصدقائه حدث أنه رآه مخطوطاً(552/37)
وقرأه، وهو في هذا الكتاب وعنوانه - خلع روما - أو شئ شبيه بذلك يفضح جرائم وأغلاط الباباوات، ثم أعلن أنه سينضم إلى الكنيسة اليوبانية التي كانت وقتئذ المذهب الشائع للجزء الأعظم من سكان مقاطعة جاليسيا
وفي بعض ثورات أُوجاخوفسكي الهجومية، غير المتصلة ذكر بعض الحقائق اللاذعة المؤلمة
فقد بين أن الأقسام التي يقسمها المطارنة للأبريشية البابوية تمنعهم أن يكونوا رعايا أُمناء للملك
وقال - إنه تقلد مطران كاثوليكي روماني منصب عضو في الأعيان، فمن الضروري أن يكون خائناً لبلده، لأنه سيفضل منفعة روما على مصالح مليكه؛ فهو سيقسم يمين الطاعة للبابا، ثم يقسم بعد ذلك للملك
ووجه أوجاخوفسكي الخطاب إلى الملك، قال - وإن هذا القسم لينسخ حرية المطارنة، ويجعلهم جواسيس على الشعب وعلى الملك، إن هيئة الأكليروس العليا بتطوعها لقبول هذه العبودية قد دخلت في مؤامرات خسيسة ضد بلادهم نفسها، وعلى الرغم من تآمرهم ضدك وضد عرشك، فهم لا يزالون يحتلون مقاعدهم في مجلس الشورى. لقد فحصوا خططك واستقصوها، ثم بلغوها إلى رئيسهم الأجنبي)
وقال أوجاخوفسكي في موضع آخر عن هؤلاء الأكليروس (دعهم يعمدون ويبشرون، ولكن لا تدعهم يوجهون أعمال الدولة وشئونها. وإذا كانوا يريدون - على الأقل - أن يحتفظوا بمناصبهم في مجلس الأعيان، فدعهم يبرأون من طاعتهم لروما)
هذه الآراء الجريئة ذكرها أوجاخوفسكي في كتابه البابا الأكبر، الذي نشره بلا توقيع في سنة 1558، ولكن المعروف المشهور إن هذا الأثر كتب بقلم أوجاخوفسكي
وقد أثمرت هذه الآراء، وهذه الثورة التي ثارها ذلك الرجل الفاضل الجريء، في القرن السادس عشر، ثمراً طيباً حتى في عصره، فقد اشتد النضال بين أنصار الباباوات وبين أنصار المجددين، واستعرت نار الشحناء بينهم واتسعت رقعتها، وعمت أرفع الطبقات، ومنها طبقات الأمراء والأشراف ورجال الأكليروس وخدمة الدين عامة، حتى أن قسيساً حكم عليه بالموت حرقاً لأنه كان يدعو للمذهبين جميعاً ولقيت إحدى السيدات نفس الجزاء(552/38)
لأنها أنكرت الواقع
وسارت عدوى التشكك إلى عديد من النبلاء، وتزوج الكثيرون من رجال الأكليروس
ويقال أن الملك سيحسموند، كان ميالاً إلى مذهب المجددين الدينيين، وسمح للمجدد الكبير كالفن أن يهدي إليه أحده مؤلفاته، وأن يقدم له لوثر طبعة من إنجيله الألماني، وهذا كله بتأثير دعوة ستانسلوس أوجاخوفسكي. . .
(الإسماعيلية)
حسين غنام(552/39)
البريد الأدبي
الأستاذ ساطع الحصري
من أنباء دمشق أن الحكومة السورية اغتنمت فرصة العطلة الموقوتة التي اضطر إليها أستاذ التربية في الشرق العلامة (أبو خلدون ساطع الحصري)، فعرضت عليه منصب المستشار العني لوزارة المعارف فيها، فقبله الأستاذ لأجل مسمى بعد تمنُّع شديد، ليتسنى له الرجوع متى شاء إلى العراق وطنه المختار، فيتبوأ فيه مكانه المرموق من قيادة النهضة الحديثة. وهذا التعيين ولاشك توفيق من الله يُناط به الأمل في بناء التعليم في الجمهورية السورية على أساس متين من العلم الصحيح والخبرة الحكيمة
ختان الأنثى بين الدين والرأي
أخشى أن يكون الأستاذ عبد المتعال الصعيدي قد شغله تطبيق قواعد فن الجدل عن أساسيات الموضوع فقد أوحت إليه طريقته في الدفاع عن الدين أن بعد إذ أجمع الأطباء على رأي الدكتور أسامة، بأن يوفق بين الطب والدين عن طريق تأويل حكم الدين، وهذا في نظره سهل في هذه المسألة، لأن الأحاديث التي وردت فيها أحاديث آحاد
فلنفرض أنه لم ينعقد إجماع، ولكن انعقدت أغلبية على رأى الدكتور أسامة؛ أفكان هذا مغيراً شيئاً من الناحية العملية للموضوع؟ إن الأستاذ عندئذ لا يكون عند نفسه مضطراً إلى التأويل، ولكن الشبهة تبقى حيث كانت من نفس الدكتور ومن لف لفه. وسيقال إن الدين يخالف أغلبية العلماء أو أغلبية الأطباء، ويكون الأستاذ لم يصنع شيئاً لخدمة الدين أو لإزالة الشبهة بتعليقه تأويل حكم الدين على انعقاد الإجماع
ثم لنفرض أن الإجماع انعقد على رأي الدكتور أسامة. أفكان يحل للأستاذ عندئذ التنازل عن حكم الدين بتأويله وإهمال أحاديث الآحاد الواردة فيه؟ كلا! لأن قاعدة التأويل التي يستند إليها مشروطة بالاضطرار لا يحل تطبيقها إلا عند تناقض النقل والعقل، بحيث لا يكون هناك سبيل إلى التوفيق إلا بالتأويل، وهذا الشرط مفقود في هذه المسألة لثبوت حكمة أخلاقية لختان الأنثى، وثبوت مراعاة الدين لوظيفة الزائدة المختونة بنهيه عن الإنهاك عند الختان. من أجل هذا قلت لو انعقد الإجماع ما تغير الحكم، لأن الخلاف هنا خلاف رأي لا خلاف واقع، ولم يقل أحد بتأويل النص من أجل الرأي كائناً ما يكون، وقد أشرت إلى هذا(552/40)
في عنوان كلمتي، ولكنها إشارة لم يقطن لها لأستاذ
ومن العجيب أن الأستاذ يعقل - كما يقول في كلمته - أن يتمسك متمسك بالطب رغم الدين، أو بالدين رغم الطب، ولا يعقل أن يتمسك متمسك بالدين والطب كليهما، لأنه لا خلاف في الواقع بينهما. أفليس هناك طريقة للتوفيق عند الأستاذ إلا طريق التأويل حتى يعجب من سالك سلك غير هذا الطريق؟ أم هل الطب عند الأستاذ هو رأي الأطباء لا حقائق العلم حتى يعجب ممن لم يبال بإجماع الأطباء لو أجمعوا على رأي يخالف حكم الدين في مسألة اتفقت حقائق الطب فيها مع حكم الدين؟
ويقول الأستاذ أني أجرى على طريقته في التوفيق بين العلم والدين، وددت لو جرى وجريت في هذا على طريقة واحدة، ولو نسيت بعد ذلك إليه لا إلى من سبقني وسبقه. إني مخبره بطريقتي والأمر إليه في أن يقول إنها أيضاً طريقته. إني أرى مستحيلا أن يتناقض العلم والدين بحيث يضطر للتوفيق بينهما إلى قاعدة التأويل، وهذه الاستحالة ناتجة عندي من أن حقائق العلم وأحكام الدين القصية مصدرها واحد، هو الحق سبحانه فاطر الفطرة ومنزل الدين. أما الرأي - رأي المجتهدين في الدين وأصحاب النظريات في العلم - فقد يختلف مع حقائق العلم أو نصوص الدين، وعندئذ يكون هذا الرأي خطأ قطعاً كرأي الدكتور أسامة في موضوع الختان
محمد أحمد الغمراوي
الأستاذ إسعاف النشاشيبي
ورد القاهرة علامة فلسطين وأديب العربية الأستاذ (إسعاف النشاشيبي)، فوردها العلم الحم والفضل العظيم. و (الأستاذ الجليل) في صف القيادة من نهضة العرب، وفي صدر الأبوة من أسرة الرسالة، فلا يحتاج فضله إلى تعريف، ولا دكره إلى تشريف. فنرجو للأستاذ الصديق طيب الإقامة ودوام السلامة
إلى طلبة السنة التوجيهية
في الأسبوع المقبل - إن شاء الله - ستقرئون مقالي عن كتاب (أخبار أبي تمام)، وهو مقرر للامتحان التحريري في مسابقة الأدب العربي(552/41)
وأسارع فأدعوكم إلى النظر في (علم البديع) نظر الفهم والاستقصاء، لتقفوا على أظهر جانب من جوانب التحديد في شعر أبي تمام، فمن المؤكد أنكم ستسألون عن هذه الناحية لأهميتها في تحديد اتجاه الصياغة الفنية عند هذا الشاعر المجيد
وأدعوكم أيضاً إلى النظر في كتاب (الموازنة بين الطائيين) للاّمدي، ففيه معارف كثيرة تزيد شخصية أبي تمام وضوحاً إلى وضوح
ويجب حتما أن تنظروا في ديوان أبي تمام؛ فإن لم تستطيعوا الوصول إليه بسبب نفاذ طبعته، فلا يفتكن أن تطيلوا التأمل في النماذج التي اختارها الصولي، وإن خفي عليكم شئ من دقائق تلك النماذج فاسألوا أساتذتكم بدون تسويف
ولا تنسوا ما أوصيتكم به من قبل، وهو الحرص على الظفر بجوائز وزارة المعارف، فذلك يقوى ثقتكم بأنفسكم، ويزيدكم حباً في التفوق
زكي مبارك(552/42)
العدد 553 - بتاريخ: 07 - 02 - 1944(/)
علامات الزمن
للأستاذ عباس محمود العقاد
للزمن علامات في أقوال الشعراء والأدباء
ولأقوال الشعراء والأدباء علامات في الزمن
ولكن العلامات التي تصدق في دلالتها، ويقل خطأها في إشاراتها هي على الأعم الأرجح علامات الصناعة دون علامات الطبيعة
لأن الطبيعة الإنسانية تتشابه في جميع الأزمان وتتماثل فيها الخصائص والعيوب بين جميع الأجيال، فلا يقال إن السخف وقف على عصر دون عصر، ولا إن الركاكة مقصورة على جيل دون جيل، وإن هذا البيت لا يمكن أن يصدر عن شاعر في الجاهلية لأنه سخيف، أو لا يمكن أن يصدر عن شاعر متأخر في القرن التاسع عشر لأنه متين ظاهر الفحولة، فهذه علامات لا تقطع بالقول الفصل على وجه اليقين، ولكنها تذكر للاستئناس كما يقال في لغة الفقهاء والمحامين، إذ يوجد السخف لا مراء في كلام الجاهلية كما توجد القوة والجزالة في كلام المتأخرين
إنما العلامات القاطعة في دلالتها التاريخية هي علامات الصناعة اللفظية والمعنوية على اختلافها في جميع اللغات؛ لأن المحسنات والموشحات وضروب التطريز والتشطير والتوشيع قد ظهرت عندنا في اللغة العربية على عهود معلومة تنحصر بالسنوات فضلاً عن الحقب والفترات. فلا يعقل أن يتكرر الجناس الكامل في الشعر الجاهلي ولا أن تصدر أفانين التوشيح عن مخضرم أو متقدم بين الأمويين. وقل مثل ذلك في كل علامة صناعية مرجعها إلى زمن معلوم
أما الركاكة أو السخف أو الإعياء أو اختلال الوزن فكل أولئك قد يوجد في الجاهلية كما يوجد في عصور المماليك. ورب بيت لشاعر من شعراء العصر الأول تسلكه بين أبيات النظامين من مداح الريف فلا تشعر بغرابته بينها. كقول حسان مثلاً:
وبحسبنا فخراً على من غيرنا ... حب النبي محمد إيانا
أو بيت عريق في القدم لو ألقيته على لسان خليع من خلعاء الأزبكية لجاز أن يكون من كلامه إذا نظرنا إلى الخلاعة والمجون، كقول الأعشى:(553/1)
قالت أميمة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل
فهذا البيت هو بعينه ترجمة (يا دهوتي عليك ويا دهوتي منك يا راجل أنت) التي تقطر بخلاعة المحدثين، إذا كانت المسألة مسألة عيب من عيوب النفس والمزاج
ولن يؤخذ بعلامة المتانة والجزالة مأخذ اليقين كما ليس يؤخذ بها هذا المأخذ في باب الركاكة والإسفاف
فالبارودي مثلاً يقول في إحدى معارضاته:
ألا حي من أسماء رسم المنازل ... وإن هي لم ترجع بياناً لسائل
خلاء تعفتها الروامس والتقت ... عليها أهاضيب الغيوم الحوافل
فلأياً عرفت الدار بعد ترسم ... أرامي بها ما كان بالأمس شاغلي
فللعين منها بعد تزيال أهلها ... معارف أطلال كوحي الرسائل
فأسبلت العينان منها بواكف ... من الدمع يجري بعد سح بوابل
والشيخ محمد عبد المطلب يقول:
لنا باللوى مغنى عهدناه آهلاً ... سقى الله روضات به وخمائلا
كساه السحاب الجون من نسج نبته ... عقود جمان نظمت وغلائلا
أو يقول:
دعته العلا أن الثواء من الوهن ... فأسلم أرسان الركاب إلى الظعن
وأرسلها في ذمة الشوق فانبرت ... صوادي تنسيها المنى حلب المزن
والسيد البكري يقول:
سقى دور مية بالأجرع ... مسفٌ من الدجن لم يقلع
ولو ترك الشوق دمعاً بجفني ... سقيت المنازل من أدمعي
ويروى مثل هذه الشعر لفئة من المحدثين لا يعدون الفترة العارضة بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فماذا لو أن ناقداً من المتحذلقين الذين يختطفون القول في علامات الزمن خطف الببغاوات رجع إلى مقاييسه الخاطفة فأنكر نسبة هذا الكلام إلى عصره وزعم أنه أشبه بعصور البداوة وأقرب إلى فحولة الجاهليين أو المخضرمين؟! بل ماذا لو أضاف إلى ذلك أمثلة من الشعر والنثر الشائعين في هذه الفترة، فقال جازماً إن(553/2)
الأسلوبين لا يصدران عن عصر واحد؟
إنه لو قال ذلك لكانت حجته أقوى وأسلم من حجة القائل أن شاعراً في العصر الإسلامي الأول لا يتأتى أن ينظم هذا البيت!
لواحي زليخا لو رأين جبينه ... لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي
لأنه في زعمه بيت تعوزه متانة الشعر في ذلك العصر. ولو صح أن المتانة تعوزه لما كان ذلك جازماً باستحالة نظمه في عصر من العصور، لأن عصراً من العصور الأولى أو الأخيرة لن يخلو من بيت ركيك أو سخيف
ومن المصادفات الحسنة أن كلامنا في الخلاف على صاحب هذا البيت يظهر في الرسالة وفيها كلمة للأديب الداغستاني يذكر فيها أن مؤلفي (قصة الأدب) نسبا أبياتاً إلى كثير عزة وهي منسوبة في كتاب الأغاني إلى بشار. ومنها هذا البيت:
يزهدني في حب عزة معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبي
وهناك قوم ينسبون الأبيات إلى ذي الرمة ويضعون (مية) في موضع عزة من البيت المتقدم، وبين العصرين دولة مضت بصدر الإسلام وأعقاب الأمويين. ومن الأبيات الثلاثة بيت يشير إلى النظر هو أليق ببشار الضرير حيث يقول:
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى ... فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب
وهناك أبيات ومقطوعات وموشحات ينسبها أناس إلى شعراء من الأندلس وينسبها آخرون إلى شعراء من بغداد ولا سبيل إلى القطع بصواب النسبة إلا الرجوع إلى علامات الصناعة وعوارض البلدان، أو الرجوع إلى دليل قاطع من العقل يبطل به النقل كل بطلان
وصفوة القول أن علامات الزمن في الشعر إنما تؤخذ مأخذ اليقين إذا اتصلت بحدود الصناعة وأوقاتها، ولكنها فيما عدا ذلك لا تبلغ مبلغ اليقين إلا بدليل قاطع من العقل أو دليل قاطع من النقل، أو بالدليلين معاً مجتمعين. وليس من ذلك هذا الزعم الذي أتى به المعترضون على رواية البيت المنسوب إلى عروة ابن الزبير في كتابنا (الصديقة بنت الصديق)
وهؤلاء المعترضون يزعمون أنهم قد أتعبوا أنفسهم تقصياً للكتب المحترمة في السير والأدب والتاريخ فلم يعثروا على إشارة إلى القصة التي أنكروها جملة وتفصيلاً وحسبوها(553/3)
من تلفيق كتب الأسمار التي لا يطلعون عليها
ومع هذا لم تقتصر الإشارة إلى تلك القصة على رواية واحدة ولا على كتاب واحد من كتب السير والأدب والتاريخ (المحترمة)
فأخرج أبو نعيم في الدلائل والخطيب وابن عساكر فيما روى السيوطي في شرح شواهد مغنى اللبيب، قال رواية عن السيدة عائشة:
(. . . كنت قاعدة أغزل والنبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً فبهت، فقال ما لك بهت؟ قلت جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نوراً؛ ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، حيث يقول:
ومبرّأ من كل غبّر حيضة ... وفساد مرضعة وداءِ مُغْيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت بروق العارض المتهلل
فهذه رواية في كتب محترمة تذكر التمثيل بالشعر في وصف شمائل النبي، وتذكر مناسبة التمثيل ويختلف فيها ناظم البيتين، ولم يقل أحد أن أبا نعيم والخطيب وابن عساكر ومحمد بن قاسم حبوس من أصحاب السمر الذين لا يذكرون مع كتاب التاريخ والسير، ويضاف إليهم السيوطي صاحب التفسيرات والأمالي في النحو والعربية؛ فأين جماعتنا إذن من الكتب المحترمة والاحترام؟
ويذهب بنا القول في أدلة العقل والنقل حول كتابنا (الصديقة بنت الصديق) إلى مناقشة الأستاذ الصعيدي مرة أخرى فيما اعتمدناه من النقل المتواتر الذي لا يناقض العقل على ما تراه
فالعقل لا يمنع أن تراجع السيدة عائشة محمداً صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور، ولا يمنع أن تخالفه في ضرب من الشعور، ولا سيما شعور الغيرة التي بلغت أشدها بعد مولد إبراهيم من مارية القبطية
ومن المحقق بالمناسبات القرآنية أن النبي عليه السلام هجر نساءه شهراً لأنهن راجعنه وألححن في مراجعته في شؤون النفقة، وفيما بينهن من التغاير والتناظر الذي تعددت أسبابه ومناسباته
ومن المتواتر في الروايات الموثوق بها أن عائشة كانت تراجع النبي لأنه كان يكرم ذكرى(553/4)
خديجة وهي تقول عنها أنها عجوز حمراء الشدقين، وكان يميل إلى صفية وعائشة تقول عنها أنها قصيرة، وكانت تزعم للنبي أنه أكل مغافير وهو لم يأكل المغافير
فهذه المراجعات والمناقشات لا ينفيها العقل ولا يستغربها، بل نقيضها هو الأحق بالنفي والاستغراب، لأنه مناقض لطبيعة الإنسان
ومهما يكن من قول النظام في معنى الواقع ومعنى التصديق فالواقع أن عائشة رضى الله عنها كانت تكذب لو أنها قالت إنها ترى شبهاً في إبراهيم وهي لا تراه. والواقع أن الغيرة تحجب النظر عن الشبه الذي يمتنع فيه الخلاف؛ فكيف بالشبه الذي يجوز فيه الخلاف؟ وأي شبه في طفل مولود لا يختلف فيه نظران؟
كذلك لا غرابة في أن يدعو النبي عائشة أو غيرها إلى الاستغفار إن كانت ألمت ببعض الذنب؛ فإن الاستغفار مطلوب بنصوص القرآن، ومطلوب بالعقل والبداهة، ولا مناقضة فيه لأدب النبوة ولا لأدب الحاكمين
ولست أرى من واجب المؤرخ أن يبطل الروايات المنقولة لأنه يظن ظناً ضعيفاُ لا سند له أن عائشة لن تقول هذا القول ولن ينطلق به لسانها مع فلتات الغيرة وجمحات المغاضبة، وإلا انتقلنا من البحث في عصمة الأنبياء إلى البحث في عصمة أزواجهم وأقربائهم حتى من فلتات اللسان، حيث تبدر الفلتات من كل إنسان، وإننا لننزه العقل الآدمي أن نغله بأمثال هذه القيود
عباس محمود العقاد(553/5)
2 - بركة خان
أول مسلم من ملوك التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
واستمرت المكاتبة والمهاداة بين الملوك من بني جوجر وبين سلاطين مصر زمناً طويلاً، وقد فصلت كتب التاريخ بعض المراسلات بين الدولتين ولا سيما بين بركة والملك الظاهر بيبرس حين كان المسلمون في فزع من التتار وبخاصة هلاكو وأشياعه من الذين غزوا ديار المسلمين حتى استولوا على بغداد ثم تجاوزوا إلى الشام حتى وقف سيلهم بعد موقعة عين جالوت سنة 658هـ
لما بلغت مصر أفواج التتار من أصحاب بركة الذين قدمنا الكلام عنهم، وعلم الملك الظاهر بيبرس بإسلام الملك بركة وعرف أحوال مملكته ومقر ملكه؛ أرسل إليه رسلاً معهم اثنان من التتار الذين قدموا إلى مصر
وحمل الرسل كتاباً إلى الملك بركة يرغبه في الجهاد ويحثه عليه، ويصف له جند المسلمين وكثرتهم وأجناسهم ويذكر من في طاعة الملك الظاهر من ملوك الأقطار، ومن هادنه وصالحه من ملوك الفرنجة وغيرهم، ويخبره بقدوم التتار من أنصاره إلى الديار المصرية، وأنه لم يأل في إكرامهم والحفاوة بهم، وإنزالهم المنازل الرفيعة
جمع السلطان الأمراء والأعيان وأمر أن يقرأ عليهم الكتاب، واستشارهم فيه، فاستحسنوه
يقول القاضي ابن عبد الظاهر كاتب السلطان بيبرس: (ولما كان يوم الخميس ثاني المحرم سنة 661 جلس السلطان مجلساً عاماً فيه جميع الناس، وجماعة التتار الواصلين، ورسل السلطان المتوجهون إلى الملك بركة، وحضر الإمام أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد. . . أمين الخليفة المسترشد بالله. وبايعه السلطان بعد ثبوت نسبه عند قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز. وبايعه الأمراء والعامة والتتار الواصلون، والرسل إلى الملك بركة، ولما تمت هذه البيعة المباركة حصل الحديث معه في إنفاذ الرسل إلى الملك بركة فوافق على ذلك ثم قرء الكتاب ثانياً بحضوره وانفصل المجلس)
(ثم أمر السلطان بعمل نسبته الطاهرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكتبت وأذهبت وسيرها إلى الملك بركة)(553/6)
(فلما كان يوم الجمعة ثاني هذا اليوم يعني يوم البيعة، اجتمع الناس وحضر الرسل المتوجهون إلى الملك بركة. فبرز الخليفة وعليه سواده، وصعد المنبر وخطب وصلى الجمعة بالناس ودعا للملك الظاهر وللمسلمين)
(ثم اجتمع الرسل بالخليفة والسلطان وحملهم السلطان من المشافهة ما فيه صلاح الإسلام؛ وعرف أصحابه التتار أحوال عساكره وكثرتها وما هو بصدده من جهاد وما يبذله من الأموال في نصرة الدين، وقتال الأعداء المشركين، وأنه محب للملك بركة وداع له بالنصر على الأعداء، فوافق له على ما فيه صلاح العالم)
هذه صفحة من التاريخ الإسلامي لم تعط كفاءها من القراءة والتأمل، وفصل من سياسة مصر في جهاد أعداء الإسلام لم ينل نصيبه من الإيضاح والشرح. هاهو ذا الملك الظاهر بيبرس وأمراؤه وعلماء مصر وكبراؤها يحيون الخلافة العباسية ليجمعوا عليها قلوب المسلمين، ويثبتوهم في تلك الفتن المحيرة، والكوارث المروعة. وهاهم أولاء يرسلون الكتب والهدايا والرسل إلى بركة خان ابن عم هولاكو، لينحاز إليهم ويحارب بني عمومته ويفل حدهم، ويكف بأسهم عن البلاد الإسلامية. وليس اختفاء السلطان بمبايعة الخليفة العباسي وإثبات نسبته إلى الرسول وإرسالها إلى الملك بركة، وصلاة الخليفة بالناس، وحضوره مفاوضة السلطان والرسل - ليس هذا كله إلا إعلاء لشأن الخلافة وإيذاناً لبركة بأن الخلافة التي أزالها ابن عمه وخصمه وعدو المسلمين هولاكو، قد حيت في مصر وكتبت إليه تستنجده وتستنصره بالإسلام دينه الذي ارتضاه وأنعم الله به عليه
وهذه مأثرة لسلاطين مصر في القرن السابع بعد بلائهم المشكور في دفع الصليبيين مائتي عام، وقبل جهادهم لرد تيمور عن الشام ومصر في مفتتح القرن التاسع. وإنها لمفاخر خالدة ومساع محمودة جديرة بعناية مؤرخي الإسلام
سار رسل الملك الظاهر حتى بلغوا القسطنطينية فلقوا بها رسل الملك بركة المتوجهين إلى مصر؛ فرجع معهم أحد الرسل المصريين، وهو الفقيه مجد الدين ألجأه المرض إلى العودة. وكتب ملك الروم إلى الظاهر أن رسله قدموا سالمين وتوجهوا إلى الملك بركة في صحبة رسل من عنده. ومؤرخو المسلمين يسمون ملك القسطنطينية في ذلك العصر الأشكري وهو تعريب اسم الأسرة التي سيطرت على مملكة الروم الشرقية في تلك العصور(553/7)
ثم يصف القاضي ابن عبد الظاهر مسير الرسل المصريين إلى القرم. ثم رحيلهم عنها إلى أن بلغوا شواطئ نهر إيل (الفلجا) في واحد وعشرين يوما. يقول:
وهو نهر حلو سعته سعة نيل مصر، وفيه مراكب الروسن وهو منزلة الملك بركة. وحملت إليهم (إلى الرسل) الإقامات والأغنام طول هذه الطرقات)
ولما اقتربوا من المخيم (الأردو) قابلهم الوزير شرف الدين القزويني، وهو يحدث بالعربية والتركية وأنزلهم في ضيافة الملك
ودعاهم الملك بركة من الغد فساروا إلى مضربه في صحبة الوزير شرف الدين. وعرفوا آداب الدخول على الملك
يدخلون إلى الجهة اليسرى؛ فإذا أخذت منهم الرسائل ينتقلون إلى اليمن، ويقعدون على الركبتين. ولا يدخل أحد بسيف أو سكين، ولا يطأ عتبة الخيمة. . . الخ.
كان الملك في خيمة عظيمة تسع خمسمائة فارس مكسوة باللباد الأبيض ومبطنة بثياب نفيسة ومزينة بالجواهر، وهو جالس على سرير، واضع رجليه على كرسي فوقه وسادة، لأنه كان مصاباً بالنقرس، وإلى جانبه الخاتون الكبرى، أي كبرى زوجاته (طقطفاي خاتون) - وكان له امرأتان أخريان ججك (زهرة) خاتون دكد (جوهرة) خاتون، وعنده زهاء خمسين أميراً على كراسي. وكان بركة كما روى ابن عبد الظاهر: (كبير الوجه خفيف اللحية في لونه صفرة، يلف شعره عند أذنيه، في أذنه حلقة ذهب فيها جوهر مثمنة. وعليه قباء خطائي وعلى رأسه سراغوج وفي وسطه حياصة ذهب مجوهرة معلق بها صولق بلفاري أخضر، وفي رجليه خف كيمنخت أحمر وليس في وسطه سيف، وفي حياصته قرون سود مقمعة بذهب)
دخل الرسل وأدوا رسالة الملك الظاهر فسر بها بركة سروراً عظيما، وأمر الوزير فقرأ الكتاب، وأمر بأن يجلس الرسل من يمينه خلف الأمراء الذين بين يديه، وقدم لهم القمز ثم العسل المطبوخ، ثم اللحم والسمك، ثم أمر بإنزالهم عند زوجه ججك خاتون وانصرفوا آخر النهار من الغد إلى منازلهم
وكان الملك بركة يدعو الرسل كل يوم يحدثهم ويسألهم عن أخبار مصر وعجائبها: سأل عن النيل والمطر وعن الفيل والزرافة، وقال سمعت أن عظماً لابن آدم ممتد على النيل(553/8)
يعبر عليه الناس فقالوا هذا ما رأيناه ولا هو عندنا. ويقول ابن عبد الظاهر:
(وكان عند الملك بركة رجل فقير من أهل الفيوم اسمه الشيخ أحمد المصري له عنده خدمة كبيرة. ولكل أمير من أمرائه مؤذن وإمام، ولكل خاتون أيضاً مؤذن وإمام. والصغار الذين عندهم لهم مكاتب يتلقنون فيها القرآن العزيز)
ما أعجب الأخوة الإسلامية التي وصلت بين بركة وقومه ووصلته بالمسلمين في بقاع الأرض كلها، وصيرته حليفاً للمصريين على ابن عمه هولاكو، ثم أحاطته بعلماء المسلمين وكبرائهم من غير قومه. فهذا وزيره شرف الدين قزويني يعرف العربية، وهؤلاء علماء من أقطار شتى ينحازون إليه، وهذا رجل مصري من الفيوم يعيش في كنفه ويحظى لديه.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(553/9)
طاقات ريحان
هدية إلى شعراء في هذا الزمان
لأستاذ جليل
يقرض قارضون في مصر والشام والعراق وبلاد المغرب - هذا الذي يطلع في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية والدواوين العامة؛ فإذا تعقب قارضي ذاك القريض متعقبون، وسوَّءوا عليهم ما يُهرئون، وأرذلوا تلك المخزيات المهلهلات - حِرد أولئك المقضِّدون والقوالون والفصالون ونزقوا، ولبثوا ليالي ونهرا متأوهين متأففين يلعنون النقد والناقدين. والناس في كل زمان لا يحبون إلا المدح والتمجيد، وبخ بخ، وزه، ومرحى. . .
يهوى الثناء مقصر ومبرز ... حب الثناء طبيعة الإنسان
وقد أردت أن أتقرب إلى أصحاب الشعر البهرج الهزروفي برواية أحاديث وأقوال في شعراء من قبلهم قالوا الشعر واللغة العربية عربية والناس ناس (والأدب غض والزمان زمان) ليتعزى الأصحاب بما يقرءون ويسمعون، وليتأسوا بإخوان لهم سابقين (إن الأسى تدفع الأسى)
ولولا الأُسى ما عشت في الناس ساعة ... ولكن إذا ما شئت جاوبني مثلي
عمرت للشرور دهراً فصارت ... للتعزّي رباعهم والتأسي
وبآبائك الكرام التأسي ... والتسلي عمن مضى والتعازي
وليستيقن القوم أن الله لم يدخر السخف لهذا الزمان، ولم ينج عصراً من العصور من خلط وهذيان. والدواهي أقاسيم، جزأها وقسمها بين الناس صانع حكيم
* (قال عبد الرحمن بن حمزة المكي: كان أبو العتاهية إذا حج يجلس عندي بمكة، فجاءه شاعر كان عندنا، فجعل ينشده وأبو العتاهية لا يصغي إليه لأنه لم يستجد شعره، فقال له الشاعر: مالك لا تصبر حتى تسمع؟ فقال:
سأصبر جهَدي لما أسمع ... فإن عيل صبري فما أصنع؟
* سمع عروة بن الزبير من ابن له شعراً، وكان ابنه هذا يقول الشعر، فقال له: يا بني، أنشدني، فأنشده حتى بلغ ما يريد من ذلك، فقال له: يا بني، إنه كان شئ في الجاهلية يقال له: الهزروف بين الشعر والكلام، وهو شعرك(553/10)
* قال أبو العيناء: دخلنا على العتبي نعوده وقد مرض، فقال: ما أجزع من الموت كجزعي من (أبي مسلم الخلق) لأني أخاف أن يرثيني كما رثى الأصمعي
* قال الهيثم السمري: حدثني شاعر من موالي بني تميم كان يألف أبا نؤاس، وكان أديباً طريفا قال: دخلت على أبي نؤاس في علته التي مات فيها، فسر بدخولي عليه، ونشط؛ فقلت له أعرض عليك شعراً لي؛ فقال: أعلى هذه الحال؟ فقلت له: أنت بخير حال. وأنشدته إياه فجعل يبكي، فقلت له: لم تبكي؟ لك بسائر اليهود والنصارى والملوك أسوة. . . فقال لي: كم تظن من شاعر قد مدح بأحسن من شعرك هذا فكان ثوابه أن صفع حتى عمى، وأنا أسأل الله أن يرزقك ما رزقهم فقال له مالك لا شفاك الله!
* أنشد رجل الفرزدق شعراً له وقال له كيف تراه
فقال: لقد طاف إبليس بهذا الشعر في الناس فلم يجد أحمق يقبله سواك
* قال السجستاني: أنشد رجل ابن مناذر قصيدة، فجعل يقول: غفر الله لك، غفر الله لك! فلما فرغ قال: ردها على شيطانك لا يمتن بها عليك
* قال الطبري في تاريخه: قال محمد بن سلام كان المهدي يقعد للشعراء فدخل عليه شاعر طويل اللحية، فأنشده مديحاً له فقال فيه: (وجوارٍ زفرات) فقال المهدي: أي شئ زفرات؟ فقال له: ولا تعلمه أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين لا تعرفه، أعرفه أنا؟ كلا والله. فقال المهدي: ينبغي أن تكون هذه الكلمة من لغة لحيتك.
* أنشد رجل أعرابياً شعراً وقال له: هل تراني مطبوعاً؟
قال: معم على قلبك
* قال الصولي في كتاب الأوراق والمرزباني في الموشح: سمع أحمد بن يوسف الكاتب لأخيه شعراً قد كتب به إلى هوى له فكتب إليه أحمد: وفقك الله (يا أخي) للسداد، وهداك للرشاد، قرأت لك شعراً أنفذته إلى من تخطب مودته، وتستدعي عشرته، فسرني شغفك بالأدب، وساءني اضطرابك في الشعر، وليس مثلك من أخرج من يده شيئاً يعود بعيب عليه، وأعيذك بالله أن تلج لجة الشعر بلا عوم ينجيك منها، وسباحة تصدرك عنها، فتنسب إلى قبيح أمر هويت النسبة إلى حسنه، فاعرف الشعر قبل قوله، واستعن على عمله بأهله،(553/11)
ثم قل منه ما أحببت، إذا عرفت ما أوردت وأصدرت
* قال ابن الجوزي: أنشد رجل أبا عثمان المازني شعراً له فقال: كيف تراه؟
قال: أراك قد عملت عملاً بإخراج هذا من جوفك لأنك لو تركته لأورثك السل
* قال إسحق الموصلي: أنشدت أبا عبيدة أبياتاً لبعض القدماء فقال: أترى فيها مثلاً أو معنى حسناً؟ فقلت: لا
فقال: من جعلك حامل أسفار؟
* قال إسحق: قال لي الفضل بن الربيع: يا أبا محمد، إن من الشعر لأبياتاً ملس المتون قليلة العيون، إن سمعتها لا تفكه لها، وإن فقدتها لم تبالها
* قال ابن الجوزي: جاء شاعر إلى بعض النحاة فقالا: اسمع شعرنا واخبرنا بأجودنا، فسمع شعر أحدهما، وقال ذاك أجود. قال له فما سمعت شعره
قال: ما يكون أنحس من هذا قط
* قال الجاحظ: أنشد عبد الرحمن بن عبد الأعلى أبا زيد الأنصاري شعراً له فقال أبو زيد: يا أخي، هذا شعر لا عليك ألا تستكثر منه
* قال أبو العيناء: عرض رجل على الأصمعي شعراً رديئاً فبكى الأصمعي، فقيل له: ما يبكيك؟ أن ليس لغريب قدر، لو كنت ببلدي بالبصرة ما جسر هذا أن يعرض علي هذا الشعر وأسكت عنه
* قال على المنجم: أكثر هذه الأشعار الساذجة البارد تسقط وتبطل إلى أن ترزق حمقى فيحملون ثقلها، فتكون أعمارها عدة أعمارهم، ثم ينتهي بها الأمر إلى الذهاب؛ وذلك أن الرواة ينبذونها وينفونها فتبطل
* قال الصفدي: قال الرضى الحلاوة يوماً لضياء الدين موسى الكاتب: أنا أشعر شعراً حسناً وما يعوزني إلا حلق
فقال له موسى: لحية. . .
* قال ابن رشيق صاحب العمدة:
الشعر مزلة العقول؛ وذلك أن أحداً ما صنعه قط فكتم ولو كان رديئاً
* أبو إسحق الصابي:(553/12)
لقد شان هذا الشعر قوم، كلامهم ... إذا نظموا شعراً من الثلج أبر
فيا رب، إن لم تهدهم لصوابه ... فأضللهم عن وزن ما لم يجودِّو
دعبل:
سأقضي ببيت يجمد الناس أمره ... ويكثر من أهل الرواية حامد
يموت رديء الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائلة
(* * *)(553/13)
مسابقة الأدب العربي
أخبار أبي تمام
للدكتور زكي مبارك
فرحة الأديب بالأديب
أتممت قراءة (أخبار أبي تمام لأبي بكر الصولي) وأثنيت من جديد على اللجنة المؤلفة من رجال الجامعة ورجال المعارف لتنظيم هذه المسابقات بمثل هذا النظر الدقيق
قضيت في قراءة هذا الكتاب سبع سهرات هي بداية كريمة لسهرات العام الجديد، ومن هذا الكتاب عرفت أن الأستاذين العظيمين خليل محمود عساكر ومحمد عبده عزام قد استطاعا تكوين قسم خاص بمكتبة الجامعة المصرية يشتمل على جميع ما أمكن الوصول إلية من المؤلفات التي عنى مؤلفوها بأبي تمام العظيم
وليس من الجديد أن أعرف الأستاذ محمد عبده عزام، فقد عرفته قبل سنين طوال، وأنا أستكثر عليه أي فضل، فهو أهل لكل فضل، وإنما الجديد هو التفاتي إلى الأستاذ خليل محمود عساكر، وأنا أذكر أني التفت إليه قبل قراءة هذا الكتاب، فليتقبل مني أصدق الثناء
وعلى غلاف الكتاب اسم الأستاذ (نظير الإسلام الهندي) بدون أي مجهود ظاهر يستحق وضع اسمه على الكتاب، ولكني بعد التأمل رأيته صحح لفظة كانت تحتاج إلى مهارة في التصحيح، وأنا أرى أن تصحيح لفظة واحدة عمل من أجل الأعمال؛ فقد انقضى زمن الأحجام والأوزان والمكاييل!
من هذا الصولي
معرفتي بأبي بكر الصولي قديمة العهد، فقد كان صاحب الفضل في أن أعرف مؤلف (الرسالة العذراء) يوم ثار الخلاف بيني وبين أستاذي مرسيه تحت أروقة الكولليج دي فرانس
وكان مثار الخلاف أن نسبة الرسالة العذراء إلى ابن المدبر ليست موضع يقين
إشارة واحدة في كتاب (أدب الكتاب للصولي) دلتني على أن لبن المدبر هو مؤلف الرسالة العذراء(553/14)
ولكني لم أعرف الصولي معرفة حب وإعجاب إلا قراءة كتاب (أخبار أبي تمام) فقد وجدته يؤمن بالأدب إيماناً هو الغاية في العمق، والذي يقرأ دفاعه عن أبي تمام يكاد يتوهم أنه يتحدث عن نبي من الأنبياء، لا شاعر من الشعراء، ويزيد في قيمته أنه يرد معاني أبي تمام إلى مصادرها القديمة حين يجد ما يوجب ذلك، وهذا الصنيع يشهد بحب هذا الرجل للصدق، ورغبته في أن تسلم أقواله من الأهواء
وقد تألمت حين تذكرت أن من الصعب أن نصل إلى بقية مؤلفات الصولي، ولا سيما المؤلفات الخاصة بتحقيق طائفة من دواوين الشعراء، كالذي صنع في تحقيق ديوان أبي نواس، بحيث صارت نسخته هي النسخة المعتمدة، وبحيث صارت النسخ القديمة تباع بدراهم بعد أن كانت تباع بعدد أوراقها دنانير فأين تلك النسخة الفريدة؟
هل يسمح الزمان بأن نجدها في أي مكان؟
إن ديوان أبي نواس أهمل، ولا أذكر أن في علماء هذا العصر من اهتم بشرحه، مع استثناء جهد أستاذنا الشيخ سيد المرصفي في شرح الرائية التي منها هذا البيت:
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرَّ من ثمرهْ
وأهمية نسخة الصولي أنها من تصنيف رجل قريب من زمن أبي نواس، ومن حديث الصولي نعرف أن المفاضلات بين بشاد وأبي نواس كانت تشغل الأندية في تلك الأيام، ومعنى هذا أن أشعار أبي نواس كانت لا تزال بمنجاة من التزبد والافتراء يرحم الله الصولس!
تراجم مفقودة
قال الناشران الفاضلان إنهما لم يعثرا على ترجمة مزاحم بن فاتك الذي ألف له الصولي كتاب (أخبار أبي تمام)، وأقول إن ترجمته موجودة بشهادة هذا الكتاب، أعني أنه كان شخصية كبيرة عاشت في صدر القرن الرابع واستحقت التفات الصولي الذي كانت له منزلة تسمح بمنادمة الخلفاء
ولكن هنالك تراجم مفقودة أحب أن يبحث عنها هذان الناشران الفاضلان، وهي تراجم الرجال الذين عادوا الصولي عداء ذهب برشده كل مذهب وأجرى قلمه بما لا يصدر إلا عن رجل مغتاظ مهتاج(553/15)
ومن المؤكد أن أولئك الرجال لم يكونوا نكرات، فكلامه صريح في أنهم كانوا يبارونه في التأليف، ويحاولون أن يخرجوه من الميدان
لقد حدثنا أنه انتصر عليهم، ولكن من هؤلاء الذين غاظوه وحاربوه؟
إنه كتب كثيراً من الصفحات في ذمهم وثلبهم ليبرد ما يتأجج في صدره من نيران الحقد
فمن هؤلاء؟
لابد من النظر مرة ثانية في التاريخ الأدبي لذلك العهد، فمن المحتمل أن نعرف فريقاً من هؤلاء، ومن المحتمل إن عرفناهم أن يزيد فهمنا للمشكلات الأدبية عند ذلك الجيل، وهو من أهم الأجيال
مقدمات وشروح
نجد مع هذا الكتاب مقدمتين: الأولى بقلم الأستاذ أحمد بك أمين، والثانية من صنع الأستاذ خليل محمود عساكر والأستاذ محمد عبده عزام
والمقدمة الأولى جيدة، وإن كنت أنكر أن يقول فيها الأستاذ أحمد أمين إن أبا تمام أخرج الشعر من رأسه لا من قلمه، فهذا القول غير صحيح، لأن أبا تمام رجل قوي القلب إلى أبعد الحدود، وشعوره بالحياة يدل على أنه كان غاية في قوة الوجدان وسنفصل هذا المعنى في المقال المقبل
أما المقدمة الثانية فهي صورة من البحث الهادئ الرزين والشروح سخية جدا، ففيها معارف أدبية ولغوية وتاريخية تنفع القارئ أجزل النفع، وتشهد لمؤلفيها بالصبر على عناء الاستقصاء
وفي ذيل الكتاب فهارس وافية، وقد روعيت فيها الأصول الصحيحة، على خير ما ترجو لإحياء مؤلفات القدماء
هبة الأيام
وأنتهز هذه الفرصة فأدعو المتسابقين إلى النظر في كتاب (هبة الأيام، فيما يتعلق بأبي تمام) للبديعي، ففي هذا الكتاب أشياء تكمل كتاب الصولي، وقد نشره الأستاذ محمود مصطفى أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية، وقد فقدته لغة العرب منذ سنة أو سنتين، فما(553/16)
أذكر متى مات، إن كنت أذكر أنه اختضر ليفارق على غير ميعاد
لو كان الأستاذ محمود مصطفى نشأ في عهد مثل عهد الصولي لوجد من يترجم عليه ويحيي ما ترك من غرر المخطوطات، ولكنه نشأ في عهد محوط بتقلبات لا تطاق، فلم يبكه غير كفنه ومضى وحيداً إلى دار البقاء
لم يرث الأستاذ محمود مصطفى إلا بكلمة أو كلمتين في مجلة (الرسالة)، وهذا فضل عظيم، فقد سكت عن نعيه جميع من انتفعوا بأدبه من أصحاب الجرائد والمجلات
أسئلة الاضحاق
وأرجع إلى الموضوع الأصيل فأقول: إني كنت أضمن في كل مرة قدرة الظفر بالخزانة التي تودع فيها أسئلة الامتحان فليعرفوا أن هذا المقال محاولة لكسر أقفال تلك الخزانة، وليثقوا بأني سأنقل إليهم أسرارها في المقال المقبل
ما هو الشمع الأحمر الذي تختم به وزارة المعارف صناديق أسئلة الامتحان؟
نحن نوجه تلاميذنا توجيهاً يضمن لهم معرفة تلك الأسئلة بأيسر عناء، إن كان من العسير عليهم أن يصلوا إلى خزانة محروسة بجنود صناديد
في مقدور كل تلميذ أن ينهب وزارة المعارف وأن يظفر بألقابها حين يشاء، على شرط أن (يعرف) كيف ينهب وزارة المعارف، وهي وزارة تشتهى أن ينبهها أبناؤها الأوفياء
فإلى المقال المقبل، يا عشاق المجد من قرائي.
زكي مبارك(553/17)
علي محمود طه
شاعر الفن والجمال
للأستاذ دريني خشبة
لقد افتتحت فصولي هذه عن علي محمود طه بأنه أصبح أغنية في فم الجيل الجديد، وأن شعره أصبح أنشودة من أناشيد مصر الحديثة. ولقد كنت أعنى ما أقول حينما افتتحت فصولي هذه بهذا الكلام. كنت أعني أن أقول إن الشاعر علي محمود طه هو شاعر بحتري يقول شعراً فيقع في فؤاد مصر الحديثة شدواً ويقع فيه غناء. . . إن الديباجة البحترية في الشعر العربي هي أصلح الديباجات للغناء. إن كل كلمة من كلماتها موزونة ومقدورة ومجودة. . ألم يقولوا إن البحتري أراد أن يشعر فغنى؟ لماذا قالوا هذا الذي قالوه؟ إنهم قالوه لما نقوله اليوم في شاعرنا المصري الرقيق. لقد زعم بروكلمان الألماني في كتابه (تاريخ التأليف العربي) أن علي محمود طه يدين للرومانتيك الفرنسي في القرن التاسع عشر - وهو الاتجاه الخيالي الفني والقمي والعقلي - وأنه انتفع في اطراد بما تأثر به في خلق فن قوي في ديوانه. ونحن لا يعز علينا أن يتأثر شعراؤنا بالمذاخب الأدبية التي تغمر الشرق أو الغرب، ففي هذا التأثر دليل من الحيوية والاتصال بركب الحياة والاستجابة للعالم الخارجي، ولكن الذي يعز علينا هو هذا التجريد من الأصالة الذي يرمينا به مؤرخو الآداب الأجانب مهما مدحونا بعد ذلك وأثنوا على شاعرية شعرائنا وأدب أدبائنا. إن علي محمود طه وغير علي محمود طه من الشعراء المصريين إن كانوا قد تأثروا بالمذاهب الأدبية الخارجية إلا أنهم لا يدينون لهذه المذاهب بتلك الأصالة التي هي جزء من الطبع المصري الشاعر، والتي تجري بكل مقوماتها في الجبلة المصرية مذ عرفت مصر الفنون والعلوم والآداب، وقد عرفتها قبل غيرها من الأمم. . . إن النزعة الرومانتيكية التي ينزع إليها أكثر شعرائنا، بل شعراء العالم العربي الأماثل ليست بضاعة واردة، بل هي طبيعة هؤلاء الشعراء التي طبعهم الله عليها، كما طبع عليها شعوب البحر المتوسط في الشرق والغرب والشمال والجنوب، هذه الشعوب التي رزقها الله تلك الأمزجة الرومانتيكية المرهفة المولعة بالغناء والموسيقى والشعر والنحت والتصوير والبلاغة البيانية وسائر الفنون التي تفتقر إلى هذا المزاج الرومانتيكي. ولقد حولت بعض الأسباب الدينية شعوب(553/18)
العالم العربي، ومعظمها من شعوب البحر المتوسط، عن النحت والتصوير قروناً طوالاً؛ فانصرفت طاقة هذه الشعوب الوجدانية كلها إلى الفنون الأخرى وفي مقدمتها الشعر فأنت فيه بالمعجز والمطرب كما يقولون، وخرجت القصائد من قرائح الشعراء المصريين والشاميين والعراقيين راقصة معجبة في العصر الحديث، كما كانت تخرج من قبل في الشرق العربي وفي المغرب الأندلسي والمغرب الأقصى راقصة معجبة، والمزاج الرومانتيكي بجميع مقوماته مزاج أصيل في جبلة شعوب البحر المتوسط، تلك الشعوب التي اخترعت أديانها قديماً من الخيال الخالص، والتي وضعت أصول فنونها على أسس وجدانية تشبه الشعر إن لم تكن الشعر المجسم نفسه. ومن الناحية القومية، فالوطنيات التي نشأت على شواطئ هذا البحر هي من أقدم الوطنيات في التاريخ أن لم تكن أقدمها جميعاً. ولقد كانت الوطنية تمتزج بالدين في مصر القديمة وعند اليونان والرومان، وأسطورة البقرة هاتور والإله حابي إله النيل هي أسطورة مشهورة. وإذا كان لعلي محمود طه شعر قومي فلجميع الشعراء المصريين أشعار قومية، بل نستطيع أن نقرر أن أكثر من نصف الشعر العربي الحديث قد قيل في مناسبات قومية. وواجبنا عند ما نقرر هذا ذكر شاعر قوميتنا الأول المغفور له حافظ إبراهيم الذي كان ولا يزال له قرناء في الوطنية في جميع الأقطار العربية
وعندي أن الغناء هو الظاهرة العامة في شعر علي محمود طه، الغناء الجميل الذي توزن له الألفاظ وتستجاد البحور وتسترق القوافي. ولو لم يعن الأستاذ عبد الوهاب أغنية الجندول لغناها غيره من مطربي العصر الحاضر أو من مطربي العصور المقبلة، وليست الجندول وحدها هي الجديرة بغناء عبد الوهاب، بل إن من نظمه ما يوشك أن يغنى نفسه. فما بال مطربينا نائمين عن هذا الكنز الثمين؟ إن من الأمية أن يهمل مطربونا غناء قطع علي محمود طه الخالدة: بحيرة كومو؛ خمرة الرين، أغنية ليالي النيل، كأس الخيام، وكلها في ليالي الملاح التائه؛ وقبلة، والنشيد، وميلاد شاعر وهي في الملاح التائه؛ وليالي كليوبطرة، وسارية الفجر، وأغنية الحب، وخمرة الشاعر، وزهراتي، وراقصة الحانة، والشاعر، وعاشقة، والكرمة الأولى، وحلم ليلة الهجرة، ليلة عيد الميلاد، وعام جديد، وكلها في مجموعته (خمر وزهر)(553/19)
فأي شاعر يملك هذه الثروة من المنظومات الغنائية الساحرة يجهله المغنون في وطنه كما يجهل المغنون في مصر علي محمود طه برغم ما لفتهم إليه المطرب الفنان محمد عبد الوهاب؟
ومع هذه المنظومات الكثيرة التي اخترناها هنا من مختلف دواوينه، فإن قصائده الباقية تكاد تغنى نفسها كما قدمنا. إنها قصائد غر نسمع لشجوها جرساً يخرج من صميم أبياتها فيترقرق في سمعك كرنين الذهب. ولعل الذي يكسبها هذه الميزة هي تلك الشاعرية الصادقة التي تتجلى فيها جميعاً، والتي يظنها القارئ تناقضاً في شخصية علي محمود طه، أو تناقضاً في آرائه ومعتقداته، إذ كيف تعلل ما جاء في قصيدته (الله والشاعر) مثلا، أو في ثنايا (أشباح وأرواح) من تمرد على الله وعلى البصيرة، وضرب في صحراء العقل الشاك، وهذا الإيمان العجيب الذي يبهرك نوره في قصائد (حلم ليلة الهجرة، وليلة عيد الميلاد، وعلام جديد)
إنك تقرأ من منظومته الرائعة (الله والشاعر) هذه الأبيات يخاطب بها الله:
أمنذري أنت بيوم الحسابْ؟ ... ولأيمي أنت على ما جرى؟
رحماك ما يرضيك هذا العذابْ ... لطَيع لم يعص ما قُدِّرا!
ما كنت إلا مقلما رُكِّبتْ ... غرائزي، ما شئت لا ما أشاءْ
فلتجزها اليوم بما قدَّمتْ ... وإن تكن مما جنته براءْ
تشككت نفسي بما تنتهي ... إليه دنياها وماذا تكون
مضت فما آبت بما تشتهي ... من حيرة الفكر وهجس الظنون
فتشعر أن أبا العلاء والخيام يختبئان في هذه النفس الحائرة لكنه سرعان ما يرد إليك الطمأنينة إذ يخبرك أنه شاعر، وأن صناعة هي رد الطمأنينة إلى القلوب الشاكية، ومسح الدموع عن العيون الباكية!
ها أنذا أرفع آلامه ... إلى سماء المنقذ الأعظم
أنا الذي ترسل أنغامه ... قيثارة القلب وناي الفم!
من عبراتي صغت هذا المقالْ ... ومن لهيب الروح هذه القلم
ملأت منه صفحات الليالْ ... فضُمّنت كل معاني الألم(553/20)
أنا الذي قدَّسْت أحزانه ... الشاعر الباكي شقاء البشر
فجرَّت بالرحمة ألحانه ... فاملأ بها يا رب قلب القدر
ولو تفضل القارئ فرجع إلى بقية المنظومة في (الملاح التائه) لاطمأن على هذا الفؤاد الحيران، ولعرف أن حبة قبس من الإيمان، فإن لم يجد مصداق ذلك فليقرأ حلم ليلة الهجرة، وعام جديد، وعيد ميلاد، ليشهد كيف تصدق شاعرية علي محمود طه في كل ما تتغنى به من فصول تلك الحياة. إن ميزة شاعريته الصدق في كل ما تقول، فهي كالروح الذي يتدفق في الجسم الحي، وهي لا تتدفق حكمة كما كانت تتدفق شاعرية المتنبي، ولا فلسفة وتشاؤماً كشاعرية أبي العلاء والخيام ولا وصفاً للطبيعة واندماجاً فيها كشاعرية ذي الرمة مثلاً لكنها تتدفق غناء كشاعرية البحتري. ولقد عددنا بعض منظومات علي محمود طه الغنائية الرائعة، ونرجو ألا يحكم أحد علينا بالمغالاة قبل أن يرجع إلى دواوين الشاعر ليراجع هذا المنظومات البديعة، وليجيل فكره في هذا الذي نقوله، ليره بعد ذلك أننا غير غالين ولا مبالغين في شاعرية علي محمود طه التي تترقرق سحراً كما غناء. . . حتى في منظومات الألم والأسى. . . أجل. . . إنها تترقرق سحراً وغناء حتى منظومات الألم والأسى. . ومن ذا الذي يقرأ منظومته (الموسيقية العمياء في ليالي الملاح التائة، ولا يسمع إلى ألحان الأنين المكبو يخفق بها قلبه كما تضج بها روحه؟ اسمع أيها القارئ:
إذا ما طاف بالأرض ... شعاع الكوكب الفضي
إذا ما أنّت الريحُ ... وجاش البرق بالومض
إذا ما فتح الفجر ... عيون النرجس الغضّ
بكيت لزهرة تبكي ... بدمع غير مرقض
أقرأها يا صديقي القارئ الشاعر في ليالي الملاح التائه، واقرأ الأغنيات التي أومأت إليها لتصدق أن الغناء هو الظاهرة العامة في شعر علي محمود طه، ولتصدق أن علي محمود طه أصبح أغنية في فم الجيل الجديد، وأن شعره أصبح أنشودة من أناشيد مصر الحديثة. . .
(يتبع)
دريني خشبة(553/21)
ستاندال والحب
للأستاذ صلاح الدين المنجد
ليس كموروا من يتحدث عن الكتاب والشعراء. وليس كمثله في سلاسة أسلوبه وتدفق ألفاظه وحلاوة معانيه. إنه كالساقية اللاهية تسقى وتروى ثم تمضي، وقد خلفت وراءها الخصب والحياة. أو كالزهر الفواح يروقك مرآه، ويسكرك شذاه، سذاجة وصفاء، ولكنها سذاجة ملؤها المتوع والجمال
لقد تحدث عن (شلي) أبرع الحديث، وقص مغامرات (بيرون) أحسن القصص، وعرض حياة (دزرائيلي) أجمل معرض، وسرد أعمال (ليوتي) كأعظم ما كتب كاتب، وصور (شاتبريان) بما لم يصوره قبله إنسان. وهاهو ذا الآن يتحدث عن (حمس صور من الحب) ويتكلم على ستاندال.
وستاندال إذا تحدث عن الحب فأعجب به من متحدث، وأكرم به من خبير! لقد بلا الحب وطعم ذواقه، ثم وصفه وعرفه وتساءل كيف ينبغي أن يكون الرجل مع النساء؟ أيكون معهن كما كان (دون جوان). أم مثل (فرتر) الهيمان؟ أيكون صياداً محارباً أم عاشقاً مدنفاً؟ لقد كان ستاندال يعجب بدون جوان، لأنه رمز الشجاعة والإقدام؛ وفي الوقت نفسه رمز الهدوء والهزؤ بالناس
والحق أن الناس جميعاً، كما يقول موروا، يعجبون بمن كان كدون جوان؛ ولكنهم يعرضون به ويثلبونه، في حين أن العشاق المتيمين أشباه فرتر المسكين، يشفهم السقم ويضنيهم العذاب، ويشعرون أنهم سعداء. سعادتهم في الخيال، يبنون القصور الشامخات ويزر كشونها بأحلى التهاويل. فهي أبداً رفافة بالنعيم، يعيشون ويحلمون، لأن الحب على نهج فرتر يعد لقبول كل فن رفيع وإحساس كل شعور لطيف
أن دون جوان يرى النساء عدوات لدوات. والحب في عينيه حرب ونضال. هو لا يتحدث عن شئ سوى المغامرات والانتصارات؛ أما أتباع فرتر فأولئك هم الهانئون وبأحلامهم قانعون وبحسراتهم وزفراتهم راضون
ودون جوان إلى ذلك يختصر الحب. إنه أمر هين ينتهي دائماً بالفوز. ولذلك يفكر كالقائد العظيم في الحيل التي يبلغ بها مشتهاه. يعمل دائماً على نجاح أعماله ونفاذ حيله(553/23)
الحب أمر هين، وكله ينطوي في (التبلور) صاحب نظرية (التبلور) هو ستاندال الذي وقف حياته على الحب. وكان الحب، كما قال، أعظم الأعمال طراً لديه، بل كان شغله الشاغل الوحيد
لقد خص به كتاباً من الكتب العظام. . . وروايات من الروايات العجاب. ولئن بحثت عن فلن تجد فيها غير الحب
ترى كيف يولد الحب، وكيف ينمو!
أجاب ستاندال، في الباب الذي عقده عن في كتابه: هذا السؤال وهاك ما يحدث في النفس
1 - الإعجاب، يلمح المرء الفتاة فيعجب بها
2 - ثم يحدث نفسه، ما أحلاها لذة أن يقبلني أو أقبلها إنها لطيفة، جميلة
3 - ثم يأمل أن نراها وأن تراه. ويرقب ذلك. . .
4 - وعندئذ يولد الحب
5 - ويبدأ (التبلور) الأول، فيشعر المحب بلذة ما بعدها لذة، وهو يخلع على فتاته الجمال والكمال، طوال يومه، في الطريق، وفي الكتب وفي السرير، وعند الطعام. . . وما يزال يزينها ويزوقها حتى تغدو آية الجمال في الأرض، ويحدث بها كما يحدث بغصن شجرة أجرد، إذا رموه في أحد مناجم الملح في (سالزبورغ). إنه يبقى شهرين أو ثلاثة شهور فإذا أخرجوه ألفوه غصناً من بلور، يتلألأ ويرف، وقد رصع ببلورات لماعة من الملح كأنها الدر تخطف الأبصار وتفتن القلوب. فإذا رآها إنسان غير من ألقاها، لم يدر قط أن هذه الدرر كانت ذات يوم غصناً كالحاً أجرد. . .
وما يسميه ستاندال (التبلور) هو تزيين الحبيب حبيبته وخلع المحاسن عليها ليل نهار. فإذا تم هذا التبلور كانت المحبوبة في عيني من يحبها أجمل مخلوقة في الدنيا. إنها الجمال نفسه، ليست من البشر، ولا كواحدة من النساء، إنها ملك كريم
ثم لا يسمع بشيء لذ إلا تمنى أن يلذه معها، ولا يخطر بباله سعادة إلا هفا قلبه، من أجلها إليها
ومن الملاحظة أن هذا التبلور ضرورة لابد منها. فالمحب إذا لم تتجدد محاسن محبوبته في(553/24)
نفسه، وإذا لم يتخيلها كل يوم ذات حسن لم تكن بلغته أمس، فإنه لا شك يمل، لأنه في الحال النفسية تلك يعزف عن كل رتيب ثابت، ويريد كل طريف جديد. وفي أعمال (التبلور) صور فيها كل الطرافة، وكل الجدة
على أن هذا المحب ما يلبث أن يقلق ويضطرب فلم يضطرب؟
6 - إنه يشك في حبه، وبلوغ أمله فبعد أن تضحك له المنى، يحس القلق يرتع في نفسه. يود أن تكون لذائذ الدنيا كلها طوع يديه، لينعم بها، هو وفتاته. ولكن اللذائذ لا توانيه، والعادة لا تأتيه
7 - وعندئذ يبدأ التبلور الثاني إن فكرة حرمانه الحبيبة تدفعه إلى تمجيدها وتزيينها. ويقول لنفسه (إنها جميلة كل الجمال. ليس في الدنيا أجمل منها. إنها لتنظر إلى نظرات باسمات. فهي إذن تحبني) ولكنه يتساءل: هل من سبيل كي أنال آية حبها؟ أتحبني أم تخدعني؟
فإذا كان الوصل بعد ذلك، فالتبلور يقف، وربما ذاب. وإذا كان الهجر، فهو يعود ويزداد
ويذهب ستاندال إلى أن التبلور يحدث سريعاً عند المرأة. لأنها على زعمه، أرهف حساً، وأرق قلباً , ثم إن لديها الوقت الوسيع لذلك. فهي تطرز وتفكر فيمن تحب. وهي تخيط وتتمثل من تهوى. عمل يدوي دائم، يرافقه حلم جميل باسم. وبهذا الحلم وذاك العمل تخلع الفتاة على من تحب أروع الصفات التي تود أن تكون في الرجل
ويعتقد ستاندال، خلافاً لبرناردشو أن الرجل في الحب يهاجم، وأن المرأة تدافع. وأنه يطلب، في حين أنها ترفض. وأنه يكون نشيطاً متوقداً، وتكون هي مذعورة مرعوبة. . .
والمرأة تتساءل عند برناردشو، كيف أغرى محبي. والرجل يقول، كيف أنجو من أسرها، وكيف أصبح طليقاً. أما ستاندال فيعتقد أن الرجل يتساءل: (هل من سبيل كي أنال رضاها) وأن المرأة تفكر في حبه وتقول: ألا يلهو بعد بحبه؟ أثابت حبه أم متقلب؟ لأن النساء يخفن ولذلك لا يظهرن حبهن بسرعة. بل ينتظرن أن يبلون محبهن ويثقن من حبه. . .
تلك نظرية التبلور عند ستاندال الفرنسي، وبعض آرائه في الحب. وكتابه في هذا طريف لطيف ظريف. وفي أدبنا العربي نظرات كثيرة تشبه نظرات ستاندال وشو، نجدها في(553/25)
كتاب الزهرة، (للأصبهاني) و (طوق الحمامة) لابن حزم، لعلنا أن نعود إليها، ونقايس بينها بعد حين
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(553/26)
منصب الوزير في مصر الفرعونية
للدكتور باهور لبيب
المدرس بجامعة فؤاد الأول سابقا
جرت عادة ملوك مصر الأقدمين أن يلقوا عبء الإجراءات الحكومية من إدارية وقضائية ومالية وحربية على عاتق أكبر موظف في الدولة وهو الوزير، وكان يسمى باللغة المصرية القديمة (ثات)
وكان من يشغل منصب الوزير له من الأهمية والسلطان قدر كبير، وذلك لأن الوزير كان هو رجل الدولة الأول الذي يلي الملك مباشرة في الأهمية والنفوذ والسلطان. ولأن الوزير كان بمثابة حلقة الاتصال بين الملك وبين الإدارات المختلفة، سواء في العاصمة أو في الأقاليم
وبسب هذه الأهمية التي كانت للوزير كان ينتخب من أعرق العائلات المخلصة للعرش المتفانية في ولائها وخدمتها له، بل كان يعين أحياناً من أولياء العهد أو أبناء الملك أو أقارب الملك في بعض العصور، وفي عصور أخرى كانت وظيفة الوزير وراثية. وفي ظروف خاصة جمع بعض الوزراء بين منصب الوزير ومنصب رئاسة كهنة إله الدولة الرسمي
وأقدم من ذكر من الوزراء وزير الملك مينا (تعومر): الموحد الأول لمصر القديمة ومؤسس الدولة القديمة (عصر التوحيد الأول)، وقد جرت العادة في العصور الأولى من تاريخ الحضارة المصرية القديمة أن يكون وزير واحد للملك والدولة
وبابتداء عصر التوحيد الثاني (الدولة الوسطى) نجد على الأرجح ظاهرة جديدة في تاريخ ملوك مصر الأقدمين، وهو أن اثنين من الوزراء يعاونان الملك في وقت واحد. ولكن نصوص هذا العصر لا ترينا تحديداً للاختصاص، ولكن من الثابت أن الشئون المصرية القديمة للمملكة الفرعونية قد زادت في هذا العصر نتيجة لازدياد الفتوح الأجنبية، مما يدل على أن الحاجة كانت ماسة لأكثر من وزير
أما في عصر التوحيد الثالث (الدولة الحديثة)، فقد وصلتنا نقوش ونصوص كثيرة تعطينا فكرة عن مهام الوزير، فقد كان لمصر وزيران أحدهما للشمال، واختصاصه المنطقة التي(553/27)
تمتد من شمال أسيوط حتى البحر المتوسط؛ والآخر للجنوب، ومنطقته تمتد من جنوب أسيوط حتى حدود مصر الجنوبية. وكان مركز الأول عين شمس أو منف أو تانس (بر رمسيس)، والثاني كان مركزه طيبة
وأهم المعلومات عن منصب الوزير يمكن استقاؤها من النقوش والنصوص المدونة على جدران مقبرة رحمي رع الذي كان وزيراً للملك تحتمس الثالث، وأوائل عصر الملك امنحتب الثاني، فتستنتج منها أن الملك هو الذي له حق تعيين الوزير. وكما أن الملك له حق تعيين الوزير فله الحق أيضاً في عزله كما دلت نصوص أخرى على ذلك
ومن الطريف أن الملك تحتمس الثالث عند تعيينه رحمي رع في منصب الوزارة للجنوب أسدى إليه الإرشاد ونصحه نصائح جليلة. وقد دلتنا النصوص على أن هذه التعليمات التي كان يقولها الملك لوزرائه كانت تقليدية، إذ وجدناها تقال عند تعيين كل وزير. فقد عثرنا في مقبرة الوزير أوسر، خال، الوزير رخمي رع، على نصوص تؤيد ذلك، كما وجدناها قد وجهت إلى الوزير حابو وزير الملك تحتمس الرابع. من ذلك على سبيل المثال قولهم: (كن يقظاً لكل ما يجري في الوزارة. وإذا أتاك مشتك فيجب عليك أن تبحث بنفسك في شكايته، عاملاً حسب القانون ولتتبع الحق ولتعلم أن غضب الإله يحل على من يؤثر المحاباة. . . لتكن معاملتك لمن لا تعرفه مثل معاملتك من تعرفه، ولمن هو قريب منك مثل من هو بعيد عنك). وزيادة على تعليمات الملك لوزيره بأن يحكم بالعدل، وبالا يحابي أحداً كان يرشده إلى ما يجب اتخاذه يومياً. فيبدأ الوزير عمله في كل صباح بأن يقابل الملك ويعرض عليه المسائل الحكومية لكي يبدي فيها رأيه. ومن هذا نرى أن الملك كان هو الرأس المفكرة العليا التي تدير سياسة البلاد
وفي أثناء مقابلة الوزير للملك يكون رئيس المالية منتظراً عند إحدى ساريات القصر. فإذا خرج الوزير تداول معه في أمور الدولة. ثم بعد ذلك يدخل رئيس المالية على الملك ويعرض عليه الشئون المالية وما اعترى خزينة الدولة من نقص أو زيادة (وطبيعي كانت في شكل مواد أولية كالأخشاب والخضر والجلود والأقمشة وما أشبه). وبعد ذلك يأمر الملك بفتح دواوين المصالح الحكومية. مما يدل على أن الملك كان يرشد كل وزير على ما يجب أن يبت فيه من أمور تهمه وتهم الدولة المصرية القديمة(553/28)
وفضلاً عن إشراف الملك علي وزير المالية، كان أيضاً تحت رقابة ورئاسة الوزير الأول للدولة الذي كان يعتبر عندئذ كرئيس الوزراء الآن. إذ دلتنا النصوص على أنه كان يكتب التقارير للوزير الأول باستمرار ليطلعه على الحالة المالية العامة للدولة
وقد كان منصب للوزير الأول للدولة في هذه العصور القديمة من الأهمية الكبرى والمكانة العظمى ما لمنصب رئيس الوزارة في العصور الحالية. فقد كان الرئيس الأعلى للقضاء. ففي مقبرة رحمي رع تجد رسماً لمجموعة قوانين مطوية في أربعين ملفاً بردياً محفوظة داخل أغلفة من الجلد وموضوعة أمام الوزير بصفته القاضي الأعظم (ساب سبختي) وهو جالس في دار المحكمة في إحدى الجلسات العلنية. (مع ملاحظة أن المرجع الأخير للمسائل الجنائية كان الملك، والمرجع الأخير في المسائل المدنية كان الوزير)
كما كان وزير الحربية؛ وبصفته هذه كان يشرف على الجيش والأسطول، وبمعنى آخر كان الرئيس الأعلى للجيوش البرية والبحرية. وكان لمصر أسطول عظيم سطر في سجل التاريخ انتصارات كبيرة. وكان الوزير أيضاً المشرف على الشئون الداخلية، وبصفته هذه كان رئيساً للبوليس في منطقة اختصاصه ومحافظاً للعاصمة
ثم كان أخيراً المشرف على الشئون الزراعية.
نرى من كل ما سبق مبلغ ما كانت عليه مصر القديمة من رقي ومدنية في الحضارة، وترتيب وتنظيم في الشئون الإدارية، ودقة ومهارة في تكييف الأمور والتصرف فيها
(عين شمس)
دكتور
باهور لبيب(553/29)
من أحلام الصحراء
للأديب محمد العلائي
إلى الدكتور (عزيز فهمي): هل تأذن لي يا أخي أن أهدي إليك هذه الصورة الوجدانية المحمومة، وفاء لما أشعرتني به قصيدتك من رقة الشاعر، وحنان الأخ، وكرم الصديق
موحشٌ ذلك الظلام، فيالي ... من تهاويل وحدتي وخيالي!
قذف الليل رعبه في ضميري ... عن يميني مخاوفٌ وشمالي
مزق الوهم خاطري. كل شئ ... في طريقي يَضجُّ بالأهوال
مِلءُ نفسي كآبة؛ وبسمعي ... صرخات الذئاب والأغوال
وعويل الرياح شرقاً وغرباً ... وهزيم الرعود فوق الجبال
والأفاعي لها هناك فحيح ... ينفث السم في الحصى والرمال
ووراء الكثيب جنٌّ تَغنَّى ... بنشيد الردى ولحن الزوال
وكهوف بها جماجم موتى ... نبشتها الوحوش منذ ليال
وعلى الجانبين صيحات شؤم ... بعثرتها الرياح في الأدغال
حوَّم الموت واقشعرَّ ضميري ... ها هنا مصرعي، وذاك مآلي
أنا يا ليل خائف قد تمشَّتْ ... رعدة الموت في دمي وعظامي
هاما لا أطيق رجع ظنوني ... والردى جاثم على أوهامي
ذاهل أنطوى على صرخاتٍ ... مزَّقتْنِي وفزَّعت أحلامي
لست أقوى على المسير، فرأسي ... مائل شَلَّهُ دوار الظلام
وذراعي بجانبي ليس فيها ... من حراك والشوك في أقدامي
جسدي مُوجع وخلف لساني ... حشرجات ترد فيَّ كلامي
وبحلقي شجىَ يقطِّع أنفا ... سي وفي مقلتي بريق الحِمام
وبصدري مواجعٌ ألهبتها ... وخزات المُدى ونزع السهام
آه! خلف الضلوع جرح سأقضي ... وهو خلف الضلوع دون التئام
لم يعد غير خفقة ثم أمضى ... ليس خلُّ هنا يواري حطامي
محمد العلائي(553/30)
كلية الآداب(553/31)
في التصوير الإسلامي
ليلى والمجنون
للدكتور محمد مصطفى
- 4 -
جعل الملوح بن مزاحم يبحث طويلاً بين الحجاج عن ابنه (قيس)، إلى أن ساق القدر إليه حادياً قادماً من ناحية نجد مع قافلة من الحجاج، فأخبره الحادي أنه رأى في طريقه شاباً ناحلاً أشعث الشعر ممزق الملابس يضرب في البادية على غير هدى، ولما اقترب منه وناداه فر هارباً واختفى في دغل قريب راح يراقب من خلال أشواكه الحادي وما عسى أن يصنع وعرف الحادي المجنون وأراد أن يجتذبه إليه كي يستنشده بعض أشعاره فرفع صوته يغني أنشودة للمجنون يقول فيها:
منى النفسِ ليلى قرّبي فاك من فمي ... كما لفَّ منقاْريهما غَرِدان
نَذُق قُبلةً لا يعرف البؤس بعدها ... ولا السُّقْمَ رٌوحانا ولا الجسدان
فكل نعيم في الحياة وغبطة ... على شفتينا حين تلتقيان
ويخفُقُ صدرانا خفوقاً كأنما ... مع القلب قلب في الجوانح ثان
واطمأن المجنون إلى الحادي حين سمعه يتغنى بذكر ليلى، فثاب إليه رشده، وأقبل من خلف الدغل نحو القافلة يسأل الحجاج:
أحجاج بيت الله في أي هودج ... وفي أي خدر من خدوركم قلبي
أأبقى أسير الحب في أرض غربة ... وحاديكم يحد وبقلبي في الركب
ولما رآه الحادي مال إليه فجلس إلى جانبه يحدثه في ليلى ويقص عليه ما سمعه من أخبارها، والمجنون ينصت في شغف وشوق، وقد هاج هذا الحديث في نفسه ذكريات الصبا، فصار يقاطعه بين حين وآخر لينشد ما يخطر له من أناشيد حب قالها في حبيبته ليلى. إلى أن أقسم عليه الحادي أن ينشده أحسن ما قاله في وصف المحاجر والأطراف والبشرة والجلد. فقال:
ليالي أصبو بالعشي وبالضحى ... إلى خُرَّد ليست بسودولاً عصل(553/32)
منعمة الأطراف هيفٌ بطونُها ... كواعب تمشي مشية الخيل في الوحل
وأعناقها أعناق غزلان رملة ... وأعينها من أعين البقر النجل
وأثلاثها السفلى بَرادِيَّ ساحل ... وأثلاثها الوسطى كثيب من الرمل
وأثلاثها العليا كأن فروعها ... عنا قيد تُغذَّى بالدهان وبالغَسل
وتَرمي فتصطاد القلوب عيونها ... وأطرافها ما تحسن الرمي بالنبل
زرعن الهوى في القلب ثم سقينه ... صبابات ماء الشوق بالأعين النجل
رعابيبُ أَقصدن القلوب وإنما ... هي النبل ريشت بالفتور وبالكحل
ففيم دماء العاشقين مُطَلَّةٌ ... بلا قوَد عند الحسان ولا عقل
ويقتلن أبناء الصبابة عنوة ... أما في الهوى يا رب من حَكم عدل
وما انتهى المجنون من أنشودته هذه حتى لمح غزالاً يقفز متحيراً في الأفق البعيد فهب واقفاً وهو يقول:
ألا يا شبه ليلى لا تراعي ... ولا تنسل عن وِرْدَ التلاع
لقد أشتهتها إلا خلالا ... نشوز القرن أو خمش الكراع
ثم جعل يعدو خلف الغزال حتى كاد يلحق به واختفى معه عن أعين الحادي وقافلة الحجاج
خرج زياد بن مزاحم يبحث عن ابن عمه (قيس)، فوجده جالساً على ربوة قريبة، يخطط بإصبعه في التراب، ويحدق أمامه نحو مضارب بني عامر على سفح جبل التوباد. ولما عرفه المجنون ناداه فجلس إلى جانبه يحدثه عن أهل الحي وأخبارهم، وعن رجوع والده من مكة - بعد سماع قصة الحادي - حزيناً مكتئباً، وبقى زياد عنده يستنشده الشعر ويدون ما يسمعه منه. ودلسا ذات صباح يتحدثان فظهر، لهما شبح امرأة قادمة نحوهما، ثم أخذت تقترب منهما شيئاً فشيئاً حتى تبيناها، فإذا بها (بلهاء) جارية المجنون وكانت تحمل بين يديها قصعة بها طعام، وقام إليها المجنون يعانقها ويقبل بيديها، وتناول منها القصعة وهو يقول:
أرى صنع أمي يا زياد، فديتها ... بروحي وإن حَّملتها الهم والَبْرحا
ثم نزع عن القصعة غطاءها فوجد بها ذبيحة مشوية، فعجب لذلك والتفت إلى زياد مستفهماً، إذ لم يكن في الوقت ما يدعو إلى ذلك. وسئل زياد البلهاء أن تحدثهما بخبر هذه(553/33)
الذبيحة ولا تكتم عنهما شيئاً من حقيقة أمرها فقالت:
لقد مرّ عرَّاف اليمامةِ باِلَحِمى ... فما راعنا إلا زيارته صبحا
طوى الحي حتى جاء عن قيس سائلاً ... وأظهر ما شاء المودَّةَ والنصحا
ولاحت له شاةٌ جثوم بموضع ... تخيلها ظلاً من الليل أو جنحا
فقال اذبحوا هاتيك فالخير عندها ... فقام إليها يافع يحسن الذبحا
فقال انزعوا من جثة الشاة قلبها ... فلم نألُ قلب الشاة نزعاً ولا طرحا
فلما شويناها رَقَى بعزائم ... عليها وألقى في جوانبها الملحا
وقال اطلبوا قيساً فهذا دواؤه ... كأني به لما تناوله صَحَّا
وحث زياد قيساً على أن يأكل من الشاة متوسلاً إليه بقوله:
تعلل قيس بالشاة ... عساها تذهب الحبا
فما العراف بالمجهو ... ل لا علماً ولا طبَّا
طبيب جرَّب اليابس ... في الصحراء والرَّطبا
وتلك الأمُّ يا قيس ... أطعْها تطع الربَا
وأراد قيس أن يجامل زياداُ ويتذوق شيئاً من الشاة فقال:
زياد اسمع وكن عوني ... وخل اللوم والعتبا
إذا ما لم يكن بُد ... فإني آكل القلبا
ومرت بلهاء بذلك ومدت يدها إلى صدر الشاة تبحث فيه عن القلب. . . ولكنها تفقدته فلم تجده، فاضطربت وجعلت تخاطب نفسها:
القلب! أين القلب؟ أين يا ترى وضعته؟
يا ويح لي! نسيتُ أني ... بيدي نزعته!
وكان في ذلك فصل الخطاب، فرفض قيس الطعام والدواء وهو يبكي أحر البكاء ويقول:
وشاة بلا قلب يداوونني بها ... وكيف يداوي القلب من لا له قلب
ورجعت بلهاء إلى الحي تجر أذيال خيبتها، وروت لقومها ما حدث؛ فاجتمعوا في بيت الملوح يتشاورون في أمر المجنون. ومر بهم بعض الأطباء فسأله الملوح عما يعالج؛ فقال أعالج كل مسحور مجنون، قال: مكانك آتيك بابن لي يهيم في الصحراء؛ فخرجوا في(553/34)
طلبه. فما زالوا يطلبونه حتى أحضروه وأدخلوه إلى المعالج، وأقبل بسقيه؛ فلما أكثر عليه المعالجة أنشأ يقول:
ألا يا طبيب الجن ويحك داوني ... فإن طبيب الأنس أعياه دائيا
أتيت طبيب الأنس شيخاً مدويا ... بمكة يعطي في الدواء الأمانيا
فقلت له يا عم حكمك فاحتكم ... إذا ما كشفت اليوم يا عم ما بيا
فخاض شراباُ بارداً في زجاجة ... وطرَّح فيه سلوة وسقانيا
فقلت ومرضى الناس يسعون حوله ... أعوذ برب الناس منك مداويا
فقال شفاء الحب أن تلصق الحشا ... بأحشاء من تهوى إذا كنت خاليا
ثم جعل بعض شفتيه ولسانه حتى خلاه أهله. فنهض المجنون ومضى إلى ربوات جبل التوباد يسعى وراء الذكريات والسلوة
وفي (شكل 1) ترى المجنون وقد ارتمى على الأرض يقبل قدمي البلهاء التي تحاول أن تمنعه من ذلك. وهذه الصورة من مخطوط كتب في مدينة هرات حوالي سنة 1450م.
(يتبع)
محمد مصطفى(553/35)
البريد الأدبي
حول لفظ الفشل
أجمع اللغويون على تفسير (الفشل) بالجبن والفرع والضعف، أو هو ضعف مع جبن، كما قال بعضهم. ولم يخرج مفسرو القرآن الكريم عن ذلك في الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ: كقوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا) (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر)
ولكن الكتاب لهذا العهد درجوا على استعمال (الفشل) بمعنى الإخفاق والخيبة، وأهملوا الوضع الأصلي للكلمة.
ولقد كنت نهت على هذا الخطأ منذ بعيد في إحدى المجلات. وما كنت لأعود إليه، لولا أن رأيت في الرسالة عدد 545 كلاماً في هذا الموضوع للأستاذ الجليل عباس محمود العقاد يرد به على الشيخ الفاضل محمود أبي رية
فقد عثر الشيخ في كتاب (عبقرية الإمام) (ببعض ألفاظ كان يقف عندها، مثل:. . . وفشل ص 81 و 96 و110 و 126) قال: (هل يجوز استعمال كلمة (فشل) في معنى أخفق وخاب؟)
فقال الأستاذ العقاد في رده: أما (فشل) بمعنى أخفق فلها حكم آخر. فهذه الكلمة من الاستعمال الحديث الذي شاع حتى غطى على معنى الكلمة القديم، مع تقارب المعنيين، حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر، لأن التراخي والضعف والخواء قريبة كلها من الحبوط والإخفاق)
وأنا أقول إن الإخفاق لا يلازم الضعف والتراخي حتما؛ فقد يكون الإخفاق نتيجة للضعف، أو ما يدور حول الضعف من المعاني. وقد يكون نتيجة لعوامل أخرى لا تمت للضعف بصلة؛ فقد يخفق الشجاع، وينجح الجبان الضعيف في أمر واحد يحاولانه معاً؛ فالضعف شئ، والإخفاق شئ آخر
ولو صح هذا التقارب بين المعنيين (حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر)، لجاز أن يطلق الإخفاق ويراد به الضعف أو ما يلابسه من المعاني، فيقال مثلاً: أخفق فلان في كذا، أي ضعف وجبن، وهو ما لا يمكن في اللغة(553/36)
وقال الأستاذ العقاد في دفاعه أيضاً: (وتجدد المعاني على حسب العصور سنة لا تحيد عنها لغة من اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية، فلو أننا أخذنا ألف كلمة من المعجم، وتعقبنا معانيها في العصور المختلفة، لما وجدا خمسين أو ستين فيها ثابتة على معنى واحد في جميع العصور. وربما غب المعنى الجديد، وبطل المعنى القديم وهو أصيل في عدة كلمات)
(خذ مثلاً كلمتي الجديد والقديم، وكيف ظهرا، ثم كيف تحولا إلى الغرض الذي نعنيه الآن. فالثوب الجديد هو الثوب الذي قطع حديثاً من (جده) فهو جديد أو بحدود. وكانوا يقطعون المنسوجات عند شرائها كما نقطعها اليوم؛ فيسمونها جديدة من أجل ذلك)
(ثم نسيت كلمة (الحديد) بمعنى المقطوع؛ فلا يتصرف إليها الذهن الآن إلا بتفسير أو تعيين. وأصبحنا نعبر بالجدة عن أمور لا تقطع ولا هي من المحسوسات. فنقول (المعنى الجديد) و (الفكر الجديد)، وما شابه هذه الأوصاف
ثم ساق الأستاذ أمثلة أخرى لهذا من اللغة المأثورة، وشرح تطور المعنى فيها وتحوله
وأنا أقول إن هذا قياس مع الفارق. فإن العرب هم الذين استعملوا (الجديد) - مثلاً - في المعنى الأصلي وما تفرع عليه بعد ذلك من المعاني، للعلاقة التي شرحها الأستاذ، تجوزاً سائغاً.
وهذا ديدنهم في المجاز والاستعارة يلمحون العلاقة والمناسبة بين المعنيين، فيستعيرون لفظ المعنى القديم للمعنى الجديد؛ فتفرعت اللغة بهذا واتسعت، وتحولت المعاني، وتولد بعضها من بعض، حتى عادت المعاني المجازية أضعاف الحقيقة الأصلية
فالأستاذ العقاد جاء بأمثلة من المعجمات ليشرح بها هذا التحول المجازي، المنبعث من مقتضيات التطور الطبيعي في الأمة على ممر العصور
ولا كذلك نرى الحال في لفظ (الفشل): فهذا لفظ سلم لنا بمعناه كاملاً، لم يتحول ولم يتطور. وصان هذا المعنى القرآن الكريم. ثم تنقل في العصور هكذا، عصراً بعد عصر، حتى إذا كان عصرنا هذا أخطأ في فهمه الناس، وتناقلوا هذا الخطأ، وثبتوا عليه، ثم تلمسوا له المعاذير
فليس تحوله من معناه الوضعي إلى المعنى الفاشي الآن خاضعاً لسنة التطور الطبيعي التي تخضع لها اللغات جميعاً وإنما هو وليد الخطأ في الفهم(553/37)
وليس معنى هذا أنه يمتنع التجوز في هذا اللفظ على الإطلاق وإنما ندعى هنا - كما أسلفنا - انعدام التقارب بين الإخفاق والضعف - على الوجه الذي قرره الأستاذ - ومن ثم ننكر (أن يحمل أحدهما قصد الآخر)
ثم نحا الأستاذ في جفاعه منحى آخر فقال:
على أنني حين استعملت كلمة (الفشل) لم أكد أخرج بها عما اصطلح عليه الأولون؛ فقلت: (يحاول الغلبة من حيث فشل) ولو جعلت (الفشل) هنا بمعنى ضعف، لكانت مقابلة للغلبة أحسن مقابلة)
ثم ساق عباراته الثلاث الباقية التي استعمل فيها كلمة (الفشل) وأولها على هذا النحو
ولكنا إن أسغنا فهم (الفشل) في هذه العبارة بمعنى الضعف، فكيف يمكن أن نسيغه في قوله: (ولا طائل في البحث عن علة هذا الخذلان الصريح، أكان هو الطمع في الملك بعد فشل على، أم النقمة على الأشتر)
أو في قوله:
(منى بالفشل، لأنه عمل بغير ما أشار به أصحابه الدهاة)
أو في قوله:
(ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل)
أترك هذا لحكم القراء ولذوقهم
هذا ما عناني من مقال الأستاذ الجليل، علقت عليه بما عن لذهني الكيل
وبعد فليس من التزمت في شئ أن نحارب أوضاعاً واستعمالات ليست من صميم اللغة الصحيحة، ولا هي مما يخرج تخريجاً مجازياً مقبولاً
وليس من التزمت في شئ أن نعمل على أن نفهم لغة الفصحاء وكلام الله تعالى على الوجه الصحيح.
(ا. ع)
1 - هل عرفنا المؤلف
كان العلامة الأمير شكيب أرسلان نشر كتاب (محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي(553/38)
عمرو الأوزاعي) غفلاً من اسم مؤلفه وقد رأيت في الجزء الثاني من (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي) في ترجمة احمد بن محمد المعروف بابن زيد أن له تأليفاً بهذا الاسم عينه، ثم رأيت في فهرس دار الكتب المصرية مخطوطة بهذا الاسم نفسه منسوبة إلى الحافظ احمد بن علي بن حجر العسقلاني
وابن زيد المذكور معاصر لابن حجر وممن سمع عليه بدمشق كما يقول السخاوي. فلو كان له تأليف بهذا الاسم لعرف ذلك أبن زيد فسمى كتابه باسم آخر، ولما خفي ذلك على السخاوي - وهو التلميذ الملازم لابن حجر وأعرف الناس بمؤلفاته - فيشير إليه في ترجمة ابن زيد على احتمال اتفاقهما في الاسم ولعل الاطلاع على مخطوطة الدار تؤيد ما أذهب إليه.
2 - أول غلط
قال (الأستاذ الجليل) الناقد المحقق في كلمته الماتعة عن (لامية شعية بن غريض) - في العدد 552 من الرسالة - وروى الإمام المرزباني في (معجم الشعراء) لشعية مقطوعة ختامها هذا البيت:
وأجتنب المقاذع حيث كانت ... وأترك ما هويت لما خشيت
والصواب أن راوي المقطوعة هو الإمام الآمدي في كتابه (المؤتلف والمختلف) وسبب غلط الأستاذ هو أن الكتابين (المعجم والمؤتلف) مطبوعان معاً في مجلد واحد.
عدنان. . .(553/39)
أدبي أدب حق
وصل خطاب من السودان يدعوني فيه كاتبه إلى أن أصحح ما ينسب إلى في بعض الجرائد والمجلات من الخروج في كتاباني عما ألف الناس في دنيوات التقاليد، لئلا يؤذيني ذلك التجريح
وأقول إني لا ألتفت إلى ما يكتب عني؛ ولا أدير بالي إلى خصومي، لأنهم لا يصلحون للحكم في قضية الأدب الرفيع
الأدب ليس مناحة تقام في أحد الميادين على موت الأخلاق، كما يفعل المرتزقون باسم الأخلاق، وإنما الأدب هو الفهم لأسرار الوجود والتعبير عن أسرار الوجود، بأصرح عبارة وأصدق بيان
إن كان في الدنيا من يبكي على الأخلاق فسأكون أول الباكين على الأخلاق
كان قلمي الرائد لحرية الفكر والرأي، وما رأيت إنساناً ينتاشنى بقلمه إلا تذكرت أن لي في عنقه ألف جميل وجميل، وإن كان الحزن يعصر قلبي حين أتذكر أن المنتفعين بأدبي لم يتخلقوا بأخلاقي، فقد كنت أحب أن يصيروا إلى ما صرت إليه من الاستغناء بالله عن الناس
لأكثر الخلائق في هذا العصر سناد، وأنا وحدي بلا سناد، لأني أعتمد على صاحب العزة والجبروت، أعتمد عليه أدباً لا خوفاً، لأني آمن غضبه على أرباب القلوب
أدبي هو الأدب الحق، فليبك ناس على أنفمهم لأنهم زوروا عواطفهم وسخروها لخدمة الفانين بصورة ملفوفة لا تزيد في قوتها عن ثوب الرياء.
زكي مبارك
إصلاح تطبيع
في المقالة (لامية شعية بن غريض): الربيع بن الخفيق وهو الربيع بن الخفيق.(553/40)
العدد 554 - بتاريخ: 14 - 02 - 1944(/)
من مآسي هذه الحرب
أجل، هي مأساة من مآسي هذه الحرب وإن وقعت في قرية صغيرة لأسرة فقيرة. فلا تقل أين (منصور جراد) من (استالين جراد)، ولا أين خمسة نفر أهلكهم الجوع من ملايين طحنتهم رحاً عرض شقيها كعرض السماء والأرض؛ فإن الموت في معركة الدبابات، كالموت في معركة الزهور. والشقاء الذي يكرب أنفاس أسرة، هو بعينه الشقاء الذي يفدح كواهل أمة. والموت لا يقاس أثره باتساع ميدانه وانتشار مداه ما دامت الجماعة لا تحسه إلا إحساساً جزئياً في كل فرد منها. والفرد مهما قوى شعوره لا يدرك من بحيرة السم غير القطرة التي تسرى فيه، ولا من أطنان القنابل غير الشظية التي تفتك به
ما أظنك نسيت صديقنا الشيخ منصورا ومواقفه الجريئة من أصحاب الضياع والألقاب، أيام الانتخاب لمجلس النواب فقد كان في جرأة قلبه وعزة نفسه مثل الفلاح المؤمن بعظمة الله وكرامة الإنسان وحقارة الدنيا؛ وكان كما علمت من وصفي إياه قد تعاظمت في نفسه الحرية حتى احتقر المالك، وألحت علي جسمه السلامة حتى سئم العافية، ونفرت عن قلبه الهموم حتى ألف السعادة
هذا الرجل الذي كان شخصه يتميز في الزحام من أبعد، قد استسرت على معرفته وهو أمامي! لقد ذوي ذلك المحيا النضر، وتهدم ذلك الجسد الوثيق، وتخدد ذلك العضل المكتنز، وتجرد ذلك الهيكل الريان، حتى ليخفق جلبابه على ألواح!
لقد انقطع علم ما بيني وبينه منذ دهر طويل، وكان آخر العهد به لقاء ضاحك في بعض قرى الريف وهو على حاله تلك من الوثاقة والطلاقة والصحة؛ فلما علم أني قدمت المصورة في هذا الأسبوع جاء يزورني متحاملاً على نفسه. فلما أقبل علىّ أنكرته أول ما رأيته، ثم لم ألبث أن عرفته بما بقى من سيماه على وجهه. فصافحته وأحسنت لقاءه؛ ثم دعوته إلى الجلوس فسقط بجانبي على الكرسي كما يسقط كيس من العظام على الأرض. وعقل الدهش لساني فلم أسأله عن أمره. وحدس هو ما يعتلج في نفسي من الخواطر فقال بصوت غير صوته، ولهجة غير لهجته:
- لعلك ظننتني خارجاً من المستشفى، أو بالحرى مبعوثاً من القبر! ليت ما بي كان المرض، فقد يكون للمرض دواء! وليت ما بي كان الموت، فقد ينحسم بالموت الداء! إنما هو جسم يذوب في نار من الهم لا تخبو، وروح تزهق في حشرجة من الكرب لا تنقطع!(554/1)
- إذن أنت يا صديقي حزين؟
- إذا كان لفظ الحزن يعبر عن هذا الذوبان الدائم وذلك الاحتضار المتصل فأنا حزين
- هل فقدت عزيزاً عليك؟
- لقد فقدت كل عزيز علي!
وهنا خانه الجلد فلم يستطع المسكين أن يملك دمعه. فلما هدأت نفسه وراجعه صبره قال:
- أنا في حياتي ما شكوت ولا رجوت، ولكن الخطوب التي قوضت ركني وسودت حياتي هي التي أكرهتني على أن أشكو وأرجو؛ وذلك وحده خطب الخطوب
كان ذلك في شتاء سنة 1941، وكان لي عامئذ زوجة مخلصة وابنة عزيزة وثلاثة شباب بررة. وكنا نحن الستة، ومعنا بقرتنا العاملة الحلوب، وحمارنا الفاره الدءوب، وكلبنا الحارس الأمين، لا نفترق ولا نختلف، ولا نرى الدنيا إلا في بيتنا وحقلنا، ولا نجد اللذة إلا في لباسنا وأكلنا. فإذا جار المالك علينا في القسمة، عدل الله فينا بالعوض.
وإن جرى القضاء علينا بما نكره، انتهى الصبر بنا إلى ما نحب. حتى أزمت هذه الحرب الناس، فضاق الرزق، وامتنع الوارد، وارتفعت البركة، وفشا المرض، وأعوز الداء، واختزن الملاك ما تنبت الأرض، واحتكر التجار ما تجلب السوق، ففحش الغلاء، وطفف الكيل، حتى أصبح الأجير يعمل الأسبوع كله ليشتري كيلة من الذرة إذا وجدها. ثم قضت سياسة التموين أن تشتري الحكومة مقداراً من القمح مفروضاً على كل زارع. وقضى الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إلا تزيد غلة أرضي على حصة الحكومة عندي، فنقلت على حماري ما في الجرن إلى بنك التسليف؛ وحجز المالك ثمن القمح استيفاء لبعض إيجاره، فخرجت صفر اليدين من النقد والحب، فلا في الجيب ولا في المخزن. ولكننا يا سيدي أحياء؛ والحي لا مناص له أن يأكل. فقمت أنا وزوجتي وابنتي على زراعة الأرض ورعي البقرة، واشتغل بني الثلاثة أجراء عند الناس، فكنا نجع أجرتهم في كل ثلاثة أيام لنشتري بها كيلة واحدة. وماذا تصنع الكيلة من غير إدام في ثلاثة أيام لستة أفواه؟
على أن هذه الحال لم تدم، وليتها دامت! فقد نفدت الحبوب من القرية، وحرم على الناس نقلها من بلد إلى بلد، فكنت أقبض أجرة أولادي في المساء، ثم أذهب إلى المنصورة في الصباح، فأشتري بها الخبز المخلوط ما لا يسمن ولا يشبع. وعلى هذا النمط النابي من(554/2)
سوء العيش قل الغذاء، وكثر العمل، وبلى الثوب، واتسخ الجسد، واعتلت الصحة. ووفدت على القرية حمى التيفوس فلم تجد مناعة في جسم، ولا وقاية من نظافة، فأودت ببني الأربعة واحداً بعد واحد. ونجت منها زوجتي لتندبهم في الثواكل حتى لا يترك أولادي الحياة من غير عرس ولا مأتم. ثم أمعن القدر في ابتلائه: فانتشر في الماشية وباء التسمم الدموي، فنفقت البقرة، وهلك الحمار، وأصبحت الدار والحمد لله خلاء مما صأى وصمت! أما بقية القصة فإنك تقرأها الآن في وجهي. وإذا جاز أن يكون لمثلي بعد ذلك رجاء، فإني أرجو من الله الموت ومنك الكفن!. . .
احمد حسن الزيات(554/3)
الرغيف
للأستاذ جليل
الرغيف فرزدقاً كان، أو كان من السميذ الحواري هو معضلة العالمين كلهم أجمعين منذ أن تجم الكائنان الأولان اللذان سماهما الأستاذ الأكبر (إرنست هيكل):
,
ومنذ أن ظهر آدم ونوح إلى أن يرث الأرض ومن عليها
فلهذا الرغيف يعمل العاملون، ولهذا الرغيف يخاطر المخاطرون، ولهذا الرغيف يتقاتل هؤلاء المتقاتلون، ولهذا الرغيف يصنف العلماء ويخطب الخطباء ويكتب الكاتبون
(ما صنف الناس العلوم بأسرها ... إلا لحيلتهم على تحصيله)
ومن كان لا يقبل (المقالة) إلا ومعها الشاهد والمثل وبيت الشعر فليستمع إلى هذه الأحاديث (الأماليح الأفاكيه) وليكن لها من الواعين، فإنها من عيون الأحاديث أو أعيانها كما يريد موهوب الجواليقي
* في مجمع الأمثال للميداني:
لولا الخيز لما عُبد الله
* في (برد الأكباد في الأعداد) للثعالبي:
أبو الدرداء الكلوذاني: الدنيا تدور على ثلاث مدورات: الدينار، والدرهم، والرغيف
* في (فتوح البلدان) للبلاذري:
قال كثير بن شهاب يوما: يا غلام، أطعمنا، فقال: ما عندي إلا خبز وبقل.
فقال: ويحك! وهل اقتتلت فارس والروم إلا على الخبز والبقل؟
* في (الفتوحات المكية) لابن عربي:
إذا عاينت ذا سير حثيث ... فذاك السير في طلب الرغيف
له صلوا وصاموا واستباحوا ... دم الكفار والبَرِّ العفيف
له تسعى الطيور مع المواشي ... له يسعى القوي مع الضعيف
* في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) للثعالبي:
قال خلف الأحمر: كنت أرى أنه ليس في الدنيا رقية أطول من رقية الحية، فإذا رقية(554/4)
الخبز أطول منها. يعني ما يتكلفه الإنسان من النظم والنثر والتآليف والخطب لطلب المال
* قال الشافعي:
لا تشتشيروا أحداً لا يكون في بيته دقيق؛ فإن عقله زائل
* حكي عن محمد صاحب أبي حنيفة قال: كنت ذات يوم جالساً وكتب الفقه مطروحة أؤلفها؛ فجاءت خادم إليَّ وقالت قد فني الدقيق، فذهب عن خاطري خمس مئة مسألة مما كان نصب عيني وأردت إيداعها الأصول، فما ذكرت منها شيئاً بعد ذلك
* في (نهاية الأرب) للنويري:
قال جعفر الكاتب: قال لي إبراهيم بن سيابة الشاعر إذا كانت في جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة؛ فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم، وبيتك أولي بالمأتم من بيتهم
* في ديوان (ابن هانئ الأندلسي):
ولذا صار كل ليث هِزَبر ... قانعاً من زمانه بالرغيف
* في شرح النهج لابن أبي الحديد:
لولا ثلاث لم يسلل سيف: سلك أدق من سلك، ووجه أصبح من وجه، ولقمة أسوغ من لقمة
* في كامل المبرد:
كان مالك بن أنس يذكر (قلت: أربعة من عظماء هذه الأمة) فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر
* سمع جحظة قول الشاعر:
وإذا غلا شئ عليّ تركته ... فيكونُ أرخص ما يكون إذا غلا
فقال:
إلا الدقيق فإنه قوت لنا ... فإذا غلا يوماً فقد تزل البلا
* في شرح النهج لابن أبي الحديد:
توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر في أن تكلم بعلها عبد الله في أن يبايعه، فكلمته في ذلك، وذكرت صلاته وقيامه وصيامه فقال لها: أما رأيت البغلات الشهب التي كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة؟(554/5)
قالت بلى
قال: فإياها يطلب ابن الزبير بصومه وصلاته
* في مقامات الهمذاني:
ساخف زمانك جداً ... إن الزمان سخيفْ
وقل لعبدك هذا ... يجيئنا برغيف
لما فتحت العرب بلاد فارس، ورأت ما لم تكن عين عربي قد رأت، وذاقت الطعام اللذ الشهي (الدجاج المسمن بكسكر والرجراج بالسمن والسكر) (الشواء الرشراش والفالوذ الرجراج) قال عربي وقد طعم الفالوذ: والله لو لم نقاتلهم إلا على هذا لقاتلناهم عليه. وقد أمسى القوم بعد ذلك شولقيين
ومن العجيب - بل ليس من العجيب - أن هذا (الرغيف) قلما يقتنصه المرء حلالاً. ولذلك قال الحسن البصري: لو وجدت رغيفاً من حلال أحرقته ثم سحقته، ثم جعلته ذروراً لأداوي به المرضى
(* * *)(554/6)
مسابقة الأدب العربي
2 - أخبار أبي تمام
للدكتور زكي مبارك
أقول مرة ثانية، وسأقول ألف مرة، إن هذا الكتاب شغلني وألهاني عن المهم من شؤوني، ولو كان الورق موجوداً على نحو ما كان قبل الحرب لرجوت وزير المعارف أن يشير بتوزيعه على جميع التلاميذ، ليخلق فيهم الإيمان بالأدب، وليشعرهم بقوة الروح عند أسلافنا الأمجاد
وقد كتب الأستاذ الجليل إسعاف النشاشيبي مقالا عن هذا الكتاب في مجلة الرسالة في أعقاب ظهوره، فليراجع الطلبة مجموعات الرسالة بمكتبات المدارس الأميرية لينتفعوا بمحصول ذلك المقال
مدرسة أبي تمام
نواجه الموضوع بعد تردد وتهيب، لأنه أخطر من أن يدرس بمثل هذه السرعة في الدرس، ولأن أبا تمام أعز من أن نطوف بأشعاره متعجلين
كانت النية أن أؤلف كتابا عن عبقرية أبي تمام بعد كتاب عبقرية الشريف الرضي، ولهذا حججت إلى مقبرة بالموصل لأسلم عليه، فعليه وعلى روحه الفنان ألف تحية وألف سلام!
وهل أنسى ما صنعت مع هذا الشاعر قبل سنين تزيد على العشرين؟
أنا أذكر أن في كتاب البدائع حديثاً هو عتاب على الحكومة العراقية في اهتمامها بقبر أبي تمام، وإغفالها نشر ديوان أبي تمام بصورة تليق بمكانته في التاريخ الأدبي
ويظهر أني أقول أكثر مما أفعل، فقد مضت أعوام ولم أؤد الواجب نحو هذا الشاعر العظيم، فلم يبق إلا أن أوجو مدير جامعة فاروق الأول أن يعفي الأستاذ محمد عبده عزام من التدريس سنة أو سنتين ليصحح ديوان أبي تمام تصحيحاً يرفع عنه آصار اللبس والتحريف
ولأبي تمام علينا حقوق، فقد نشأ بمصر بجامع عمرو ما سمع، فنبغ روحه نبوغا سيبقى على الزمان إلى أبعد الآماد(554/7)
وأين الموضوع الأصيل؟
أراني أهرب من مواجهته، كأنه فوق ما أطيق!
أنا أريد أن أقول إن لأبي تمام مدرسة شعرية، وهي المدرسة الثانية في الأدب العربي، وهي أوضح من المدرسة الأولي، والكلام هنا مقصور على العهد الإسلامي، أما العهد الجاهلي فله مدرسة يختصم في رياستها شاعران عظيمان، هما زهير ولبيد، ومع احترامي لزهير صاحب الحوليات فأنا أعتقد أن معلقة لبيد هي أعظم قصيدة جاد بها الروح العربي، وأنا أتعجب من أن يتناسى مؤرخو الأدب منزلة لبيد مع أنه أهظم من امرئ القيس بمراحل طوال
أترك هذا الاستطراد وأذكر أن المدرسة الأولى في العصر الإسلامي كان فيها فصلان أساسيان: أحدهما خاص بالثورة على الأخيلة البدوية بإشراف أبي نواس، وثانيهما خاص بالفن الشعري بإشراف بشار، وهو أعظم الفنانين بين القدماء
ولا موجب للنص على منزلة مسلم بن الوليد، فهي أوضح من أن تحتاج إلى إيضاح، فقصيدته الدالية هي أشرف ما جاد به عصر بشار وأبي نواس
ومسلم بن الوليد هو الصورة التي تأثر بها أبو تمام؛ فقد حدثنا الأستاذ محمد المهدي في محاضراته بالجامعة المصرية أن أبا تمام وضع المصحف بين يديه وأقسم أن لا ينال طعاماً ولا شراباً إلا بعد أن يحفظ ديوان مسلم بن الوليد
ومن مجد مصر أن ديوان هذا الشاعر نشر أول مرة في مدينة دمياط
أبو تمام العربي
أراد ناس أن يشككوا في عروبة أبي تمام، ومنهم الدكتور طه حسين، والدكتور طه رجل منصف، ولهذا أرجوه أن يسمع حديثي
التشكيك في نسب أبي تمام بدعة قال بها المتأخرون من المستشرقين، وهي بدعة لا تستند إلى أي برهان، فقد أجمع القدماء على أن أبا تمام هو الطائي الأول وأن البحتري هو الطائي الثاني
أبو تمام العربي هو رئيس تلك المدرسة الشعرية، وهو الرئيس الذي عجز عن مجاراته ابن الرومي(554/8)
شعر العرب للعرب، فما ابن الرومي وما شعره وقد عجز عن الظفر بالموسيقا الشعرية؟
أبو تمام العربي هو رئيس المدرسة الثانية في العصر الإسلامي، وقد جلجل شعره وصلصل، وامتد صوته إلى آفاق يعجز عن اجتيازها الخيال
وأبو تمام مظلوم أقبح الظلم في هذا الزمن الظلوم، فقد قال أحد الناس إن شعره من رأسه لا من قلبه، وقال آخرون إن شعره خال من تعدد الألوان
والحق كل الحق أن فن أبي تمام جني عليه، فقد تصوره بعض بني آدم رجلاً لا يحسن غير التنميق، مع أن صياغته الروحية تفوق صياغته الفنية، ومع أن معانيه فوق ألفاظه بمراحل بعيدة، وإن اشتهر بزخرفة الألفاظ
هذا الرجل زلزل معاصريه وأوقعهم في فتن دامية، ولم يمت إلا بعد أن صرع خصومه وأرداهم أعنف إرداء
حدثنا الأستاذ محمد المهدي في محاضراته بالجامعة المصرية أن أبا تمام أخمل ثلثمائة شاعر في زمانه بلا قصد وبلا نية، لأنه كان نصيراً لجميع الشعراء، فما قال قائل إن هذا الشاعر العظيم وجه إلى أحد معاصريه أي إيذاء، لأنه كان غنياً بفضله كما قال أستاذنا محمد المهدي
وروح أبي تمام خلق جولة من الأدب، ولعله السبب في قتل الشريف الرضي وأبي الطيب المتنبي، فقد أراد هذان الشاعران أن يخملا اسمه بجهود عنيفة لا يستطيعها إلا من يكون في مثل قوة الرضي والمتنبي
وأنا متردد في الفصل بين هؤلاء الشعراء، فالشريف الرضي كانت له غاية واضحة هي السيطرة على الخلفاء في بغداد، والمتنبي كان يريد أن يظفر بمكانة في الديار المصرية، كأن يكون خليفة دعبل في مدينة أسوان
لم يلتفت أبو تمام إلى شيء من أعراض الدنيا الفانية أو الباقية، وإنما التفت إلى الفن الشعري ليرقم اسمه فوق جبين الخلود
أبو تمام مظلوم، فما التفت أحد إلى شعوره بالحياة، ولا عرف أجد أن اهتمامه بالألفاظ لا يقاس إلى اهتمامه بالمعاني
والجاهلون من مؤرخي الأدب العربي لا يعرفون إلا سمة واحدة من سمات أبي تمام، وهي(554/9)
غرامه بالزخرف اللفظي، مع أنهم سمعوا أنه كان من رجال المعاني، بدليل أنه صنف (ديوان الحماسة) تصنيفاً يشهد بأنه من أصحاب الأذواق.
إلى طلبة السنة التوجيهية
أنا تعبت في توجيهكم يا أبنائي، ولا يعزيني إلا الشعور بأنكم ستنهبون جوائز وزارة المعارف
هذه المقالات هي المفتاح للخزانة التي يحرسها جنود صناديد، وقد كسرت تلك الخزانة بيدي لأقدم إليكم أسئلة الامتحان، ولوزير المعارف أن يعاتبني على إذاعة أسئلة الامتحان
تذكروا ثم تذكروا أنكم ستسألون عن مدرسة أبي تمام الشعرية، وأنكم ستسألون عن العصر الذي عاش فيه أبو تمام، وأنكم ستسألون عن شعور أبي تمام بروح الوجود
لا تخافوا من الأسئلة ولا من الأجوبة، فالمصححون آباؤكم الروحيون، وهم سيفرحون بالقليل من الصواب، ولو جاء في سطرين اثنين
وزارة المعارف تنتظر من ينهب جوائزها الغالية، فانهبوها، لتفرح بكم، كما فرح الطائر الذي تحدث عنه ميسيه في إحدى قصائده الخوالد. انهبوا وزارة المعارف، انهبوها، فهي تشتهي أن تنهبوها. وما تحب وزارة المعارف إلا أن يكثر الطامعون في جوائزها الغالية.
زكي مبارك(554/10)
كتاب الذخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
أخي الأستاذ محمد عبد الغني حسن
اطلعت في مجلة الرسالة على مقال للأستاذ عن كتاب الذخيرة الذي تخرجه كلية الآداب
وإني أبدأ بالاعتذار عن بأخير جواب الأستاذ حتى اليوم. وعذري أني اطلعت على مقاله وأنا على أهبة السفر إلى فلسطين. فاضطررت إلى إرجاء الإجابة حتى أعود إلى مصر. وعدت مستقبلاً أشغالا متتابعة هونت على نفسي هذا التقصير وليس بهين.
وأثني بشكر الأستاذ شكراً مضاعفاً على كلمته في المقتطف وكلمته في الرسالة، إذ أثني على ناشري الكتاب وحمد لهم عملهم وأحسن الظن بهم
وأثلث بأني عند ظن الأخ سعة صدر للنقد، وارتياحا للحق. وأن للناقد الفاضل عندي جزاءه من الثناء والشكر بما اهتم بالكتاب، وقرأه قراءة مدقق، ثم أهدي إلينا ثناءه وعرفنا مآخذه. ونخن ما عشنا طلاب علم و (إنما العلم عند الله).
وقد لقينا نصباً في قراءة الخطوط المغربية المختلفة، ومقابلة النصوص المحرفة؛ وكنا تدرك بعض خفاياها أحيانا بضرب من الإلهام.
وبعد فأكثر هذه المآخذ كما يعلم الأستاذ زلات طبع. والأخ من أخبر الناس بها. ولي حديث عنها سيقرؤه إن شاء الله في مقدمتي لديوان أبي الطيب المتنبي الذي سيخرج للقراء عما قليل. وأحسب الأستاذ قد تنبه إلى أن كلمته في الرسالة في لم تخل من هذا التحريف المطبعي. فقد وقع فيها دوين، والصواب فتح النون. ووقع فيها ص 236، والصواب 236
وقد أكثر الغلط المطبعي فضول في الشكل، وذلك أن الأستاذ المستشرق الذي شاركنا في فاتحة العمل قال: إن المستشرقين يصعب عليهم أن يقرأوا الكلام غير المشكول فلا بد أن يشكل الكتاب شكلاً كاملاً، ورأيت أنا من بعد ألا يشكل إلا مواضع اللبس؛ ولكن زملاءنا الذين يشرفون على الطبع لا يزالون في إيثار الطريقة الأولى؛ فأسرفوا في الشكل وأدى الإسراف إلى شيء من الفضول، وأوقعهم الفضول في مثل: ومن أجلى قتلوه، والصواب فتح النون كما رأيتم. إنما ينبغي أن تشكل النون في هذا الوضع إذا عدل بها إلى الفتح فإن كانت ساكنة فليست حاجة إلى وضع السكون على النون ولو كان صوابا(554/11)
وكذلك النون في قول الشاعر: وخذ على الريق من أسبابه والصواب الفتح. وأما البيت:
لما رمته العيون ظالة ... وأثَّرَتْ في جماله الحدق
والبيت:
فكم صافحتني في مناها يد المنى ... وكم هبَّ عرف اللهو في عرفانهم
فقد صححا في الجدول آخر الكتاب
وأما ابن فتوح فقد شدد مرة ثم رجحنا التخفيف فجرينا عليه وكان ينبغي أن ينبه على هذا في جدول الغلط. وأما العبارة:. . . . . . . . فقلت لها يا قلبها أحديد أنت أم حجر فهي شطر بيت فزيد عليه الجملة (فقلت لها). وأظن الكاتب لم يرد غير هذا. وهذا الشطر عثرنا عليه في الموشى (ج1 ص 78)
شكوت ما بي إلى هند فما اكترئت ... يا قلبها أحديد أنت أم حجر
وأما قول الأستاذ ضبطنا الفعل (مُتَ) بضم الميم والأعلى كسرها، كما في قراءة حفص، فجوابه أن قراءة حفص فيهم الضم أيضاً في الآية (ولئن مُتًم أو قُتلتم لألي الله تحشرون)
وقد أخذتم مأخذين في (أن) إذ وجدتم الهمزة فوق الألف فقرأتموها مفتوحة وصوبتم الكسر، والحق أن مصححي الكتاب يرسمون الهمزة المكسورة فوق الألف أحياناً ويتركون الفتح والكسر للشكل. ولست أماري في أن التفريق بين الكسر والفتح بموضع الهمزة من الألف فوقها أو تحتها أحسن إذا جرى الاصطلاح عليه
والبيت:
لم أر أن أكون من رواته ... إذ هو معدود في هناته
غير متزن كما قلتم؛ وأحسب صوابه: إذ هو مما عد في هناته
وأما قول القائل: (إن لم أجد التأبين، فأجد البكاء والحنين) فنحن نوافقك على أنه ليس من مواضع فاء الجزاء، ولكن لم نستبح تغيير الكلام وكان ينبغي التنبيه عليه كما قلتم
وبقية الأغلاط الواضحة مثل الكسرتين تحت لام الجهل مع ألف التعريف، ومثل الرخصاء مكان الرحضاء في بيت المتنبي، وابن حَجر مكان ابن حُجر، فهي من الهفوات التي لا ندري كيف وقعت، ولكنا ندري أنها لم تقع إلا سهواً من الطابع أو المشرف عليه الخ
وأكرر للأستاذ اعتذاري وثنائي وشكري.(554/12)
عبد الوهاب عزام(554/13)
نقد علي محمود طه
للأستاذ دريني خشبة
وأخيراً نصل معاً، أو أصل وحدي، إلى الناحية المظلمة من علي محمود طه، شاعرنا الرقيق النابه، بعد أن جد بنا المسير
تلك الناحية المظلمة التي لا يجيد كثير من القراء الظالمين أن يبصروا إلا فيها. . . وهي ناحية تسهل الكتابة فيها أكثر مما تسهل الكتابة وتسلسل في الناحية المقابلة. . . الناحية المشرقة الزاهية. . . التي تعنى بالحسنات، أضعاف ما تعنى بالسيئات. . .
من السهل جداً يا صديقي القارئ، سواء أكنت ناقماً أم راضياً، أن يتناول الإنسان أحسن الأعمال الأدبية فيردها سوءاتٍ كلها. . . ومن السهل جداً أن يغمض الإنسان عينيه عن أمجاد الكاتب أو الشاعر، فلا يرى إلا ظلمات يتدجى بعضها فوق بعض. . . وقد عاهدت نفسي ألا أقع في هذا الظلم الأدبي الصارخ وأنا أنقد أحداً من أعز الناس على أدبائنا المصريين. . . بل أدبائنا العرب أجمعين، فرب ثناء يصادف محله، فكون تزكية للعبقرية الكامنة التي تستحق الثناء وتستأهله. . . ويكون سبباً في أن تفعل هذه العبقرية الأفاعيل. . . ورب قدح ظالم لا خير فيه، يسميه صاحبه نقداً وما هو بنقد، لكنه سم يسري في بنيان نهضتنا فيثبط الهمم، ويفت في العزائم، ويحطم الآمال. . . وكم كنت أتمنى ألا أكتب هذا المقال في نقد علي محمود طه. . . لأني مهما اجتهدت في تلقف ما أنقده به، وآخذه عليه، فلن أفوز إلا بهنات هينات لا يمكن أن تنال مطلقاً من شاعريته التي نضجت، أو من فنه الذي اكتمل
وربما تركت أكثر دواوينه، فلا أعرض لها إلا من بعد، وفي مناسبات قليلة، حينما أضطر إلى ضرب الأمثال للملاحظات التي أسوقها فيما يلي. . . ربما تركت أكثر دواوينه إذن. . . لأفرغ لمنظومته (أشباح وأرواح). . . تلك المنظومة التي كان من العسير على فهمي الضيق أن يلم بها، بالرغم مما كنت أقيم به من قراءة الأساطير، ومصاحبة هوميروس وأبولونيوس وفرجيل وأبي العلاء وابن شهيد ودانتي وملتون، وطول مداعبة خيالي لأخيل وبتروكلوس وأوديسيوس وأجاكس وهكتور وباريس، وإينياس وابن القارح، وزهير بن نمير، وبياتريس، وعيسى بن مريم، وهذه النخبة الساحرة من أبطال الإلياذة والأوديسة(554/14)
والإلياذة، ورسالة الغفران، والزوابع والتوابع، والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود. . .
فمالي قرأت هذه الروائع كلها وفهمتها على وجهها ثم أجدني غبياً أشد الغباء حين أتناول هذه الأرواح والأشباح فلا أستطيع أن أبلعها. . . نله أن أهضمها، ولا أستطيع أن أطير مع الشاعر البق المحبوب في تلك الجواء التي لم أتبين ألا زوردية هي، أم هي ظلمات في ظلمات في ظلمات!
يخبرنا الشاعر في المقدمة أنه تجرد من طيفه، (أو أن روحه انسدقت من طيفها فيما يشبه أحلام اليقظة. . . وكأنه بها وراء سحابة في عالمها الذي سبق أن عاشت فيه عند بعثها الأول، وأنه وجد نفسه في طريق أفلاطون ومثله العليا، فتنفس في هذا الجو طليقاً حراً لا تقيده بيئة ولا عقيدة، ولا يحد من حريته حذر أو اتهام، وأنه أرسل بصره في هذا الطريق الصاعد البعيد فلم يصل إلى مداه، وبدأت البصيرة عملها من حيث انتهى البصر، فإذا أبواب سحرية موصدة، وراءها خفايا وأسرار، وقضايا وأقدار، وإذا به في ختام قصيدته لا نزال في ذات الطريق لم يصل إلى غاية، ولم نوف على نهاية. . .) ويخبرنا أنه سمع حواراً في عالم الأسرار والأقدار يجري بين حوريات من صواحب الفن ورباته، هن: سافو وبليتيس وتابيس. . . ثم هرمز. . . أو هرميس كما سماه الشاعر. . . يحكم بينهن. . .
فلو أن هذا هو الذي يقرأه الإنسان في تلك المنظومة الغريبة لهان الأمر ولما اتهمت نفسي بالبلادة وفهمي بالغباء. . . لكنني أقرأ من هذه المنظومة هذه المقطوعة العجيبة الشائقة (حواء) فأجد قلباً يجيد وصف المرأة. هذه الجنة التي زان بها الله وجه الحياة. . . وأجد هذا القلب يعترف بالله وبالأقدار، وذلك حيث يقول:
قضى الله أن تُغوىَ الخالدين ... وتُغرىَ بالمجد عشاقها
وحيث يقول في ختام المنظومة:
من الخير والشر إلهامها ... وما هو إلا القديم السماعْ
فدع للسماء تصاريفها ... فقد أذن البعث بعد انقطاعْ
وهي أبيات يرددها صوت من السماء. . . فأين هو هذا الانطلاق من البيئة والعقيدة؟ وأين هو طريق أفلاطون ومثله العليا؟! أقول لك الحق يا صديقي على! إني أعرفك أكثر مما تعرف نفسك. . . ورأيي فيك هو الذي أعلنته في كلماتي السابقة حينما دافعت عنك.(554/15)
ودفعت عنك ما يظنه الناس فيك، وما تظنه أنت بنفسك من البعثرة بين الزهر والخمر، وبين أطياف سافو وأفروديت وتاييس وبليتيس. . .
على أنني لست أدري لماذا تستأثر بخيالك أشباح اليونان الغابرة، ولماذا نسيت في هذه الأشباح والأرواح مصر الخالدة الحاضرة؟ فهل رأيت كيف لم تستطع الانسلاخ من الشرق العزيز الحبيب حين هتف بك هذا الصوت من السماء في آخر المنظومة، فردك إلى وادي الوحدانية المؤمنة، وأقصاك عن الأولمب الوثني ذي الآلهة المتعددة، وذلك حينما قلت:
أم الشك آذنني بالصرا ... ع أم حل بي غضب المنتقمْ
فجلجل في أذنيك - أو أوحى إليك. . . بأن تدع للسماء تصاريفها. . .
ولكن. . . لا غبار عليك، فلست أول مفتون بجمال الميثولوجيا اليونانية التي ظلت أحقاباً وأحقاباً مصدراً لإلهام الشعراء. . . ولعلك جاعل لمصر نصيباً في غير هذه المنظومة إن شاء الله.
هذا من حيث الموضوع. . . أما من حيث الشكل فالنقد أيسر ما يجري به قلم الناقد. . . ولعل أول ما يلفت النظر في سياق أشباح وأرواح هو طريقة الانتقال هذه من مقطوعة إلى مقطوعة، ومن حوار إلى حوار. . . ولو كانت المنظومة تمثيلية لما كان ثمة موضع لمؤاخذة. ولكن المنظومة قصة خيالية، فلماذا لم تنظم هذه الكلمات الانتقالية التي كتبت بالمداد الأحمر، مع أنها تصور مناظر خلابة كهذه الكلمات التي مهج بها لمقطوعة (الحية الخالدة)، والكلمات الواردة في صفحة 64 التي يقول فيها: (هرمز ينظر إلى غمائم بيض) قريبة وكأنه يترقب شيئاً والتي في صفحة 65 والتي في صفحة 78 التي تصور انشقاق الغمامة عن الشاعر في موقف اضطراب. . . . . .
لقد كان هوميروس بارعاً جداً في مثل هذه الانتقالات. . . لقد كان ينطق أخيل مثلاً بكلام، فإذا انتهى أخيل وأراد خصمه هكتور أن يتكلم، تجلت عبقرية هوميروس في وصف أثر كلمات أخيل في نفس خصمه، وفي نفوس الطرواديين. . . فإذا تكلم هكتور وفرغ من كلامه، مهد هوميروس للمنظر الذي يلي بشعر يعتبر من غرر الإلياذة الخالدة. وكذلك كان يصنع في الأوديسة. ومنظر انشقاق الغمامة عن الشاعر هو منظر تصويري مبتكر، فكيف يكون خيال شاعرنا الرقيق الموهوب أكثر عبقرية من تعبيره الكلامي؟ ولماذا لم يلبس هذا(554/16)
المنظر حلته البهية السنية من شعر علي محمود طه البهي السني؟ لماذا؟. . . لماذا هذه السرعة في الإخراج؟
ولقد تغنيت طويلاً بحسن اختيار الشاعر لبحوره وقوافيه ولكني لاحظت مع ذلك أنه كان ينام أحياناً عن اختيار هذه البحور، وينام عنها ملء أجفانه. وكان حين يصنع ذلك يرسل كلاماً لا هو بالشعر فتحمد موسيقاه، ولا هو بالنثر فتحمل هجيراه: ومن ذلك هذا الكلام الذي تقوله حوريتنا ربة الريح الغربية في أغنية الرياح الأربع ص 73:
أنا ريح الغرب ... بنت الآباد
أنا همس القلب ... أنا رجع الشادي
أنا رمز الحب ... في هذا الوادي
ثم هذا الكلام الذي يقوله ماتوكا العبد الأسود ص 95:
مائدة حافلة ... كثيرة الأغراء
جاءت بها قافلة ... تدلف من سيناء
فأين موسيقا علي محمود طه وأين غناؤه وألوانه في هذا الكلام؟ وقل مثل هذا في ذلك النشيد الذي يهرف به باتوزيس ص 33
واحسبني قد انزلقت برغمي إلى أعمق أعماق الناحية المظلمة من علي محمود طه، وعلى الرغم مني. . . ولذلك فأنا أوثر أن أعبر هذه الظلمات القليلة في سرعة خاطفة، لأن أنوار الشاطئ الآخر المتلألئة تجذبني في قوة وعنف. . .
فمما اصطدمت به في تلك الظلمات انتقال الشاعر في كلام المتحدث الواحد من بحر إلى بحر، كما يقول ماتوكا (ص96):
هو عند الشاطئ يستقصي ... نبأ ويسائل ركبانا
إن شاء سيدي أمر ... أرفع هاتيك الستر
ولست أجري لماذا لم ينظم البيت الثاني من المتدارك كالذي قبله؟ فإن اعتذر بأن البيت القاني كان فاتحة كلام جديد، فما أظنه حرياً بباتوزيس الشاعر أن يجري وراء ماتوكا الخادم في بحر يستفتحه له!
ومن ذلك قول أزمردا ص 40(554/17)
أقيم في قصر؟ وقيم القصور؟
وطوع سلطاني هذي البحور؟
ويمضي في النظم على هذا الميزان، ومن تلك القافية، ثم تراه يغير الميزان ويبقى على القافية فيقول:
يثير أهواء الحسان الحورْ
حتى تُرى في ظله المنشورْ
يحملها إلى الغد المقدورْ؟
ولست أدري ما ذنب هذه المصاريع الثلاثة الأخيرة لتشذ عن موسيقا المصاريع العشرة التي سبقتها؟
ومما صدمني في هذه الظلمات القليلة بعض الانحرافات (النحوية) التي لا أسيغها، ولا أحسب أن لغتنا العربية تسيغها. . .
فمن ذلك إفراد فعلاء التي تصف جمعاً إذا كانت فعلاء هذه صفة لونية. . . فالغرف الحمراء ص 36 خطأ في رأيي، والصحيح أن يقال (الغرف الحمر) ولا داعي مطلقاً إلى تحدي الناس جميعاً بأن يوردوا مثالاً واحداً أفردت فيه فعلاء اللونية إذا وصفت جمعاً من قرآن أو كلام جاهلي أو إسلامي. . . ولن يقبل عذر معتذر بأن أعلام كتابنا يستعملون ذلك اليوم
ومن الانحراف النحوي أيضاً قول الشاعر (لا زال) ص 48 وهو يريد اطرح بالطاء المشددة
ويقع أدري معنى (إضطرح) ص 49 وهو يريد اطرح بالطاء المشددة
ويقع الشاعر في هذه الغلطة الذائعة فيقول: الأسى الداوي مكان المدوي (الملاح التائه ص 80)
على أن هذا كله ليس شيئا في مفاتن شاعرنا الرقيق العبقري الموهوب، الذي أصبح لسانا من ألسنة مصر الحديثة تدخره لمجدها وتنطوي عليه حناياها.
دريني خشبة(554/18)
الطبيعة توحي والشاعر ينطق
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
- 2 -
لم أذكر في مقالي الأول شعراء الطبيعة في الشرق والمغرب على سبيل الحصر، بل ذكرتهم على سبيل المثال. وما كنت في معرض بأذن لي بأن أتتبع شعراء الطبيعة واحداً واحداً في العالم كله، وأحصرهم جميعاً في مقال واحد في مجلة أسبوعية تضيق صفحاتها عن الحصر في موضوع يعجز الكاتب أن يستوفي جميع أطرافه. فذلك عمل أولى أن يكون موضوعاً لكتاب يكتب ويحفظ على سبيل الرجوع إليه، لا مقالاُ في مجلة نختلف أفانين الكلام فيها باختلاف الكتاب ونوع اختيارهم لما يكتبون
ولم أشأ أن أجعل لمقالي الأول لحقاً يلحق به، أو حلقة ثانية، ولكن الأديب الفاضل الأستاذ حسين الغنام استدرك على مقالي بعض أشياء رأى أن يذكرها لي في كتاب خاص. فرأيت ألا أحرم قراء الرسالة الاشتراك في موضوع لم يعد لي وحدي؛ ولكنه أصبح موضوع كل قارئ. ومن حق القارئ على الكاتب ألا يغفل رأيه أو يهمل استدراكه. وخاصة إذا كان المستدرك أديباً في نفسه وأديباً في درسه. فاستدراك أديبنا اليوم فيه كثير من الاطلاع على الأدب الغربي، وفيه كثير من الأدب في الاستدراك؛ وذلك شيء يشجع الكاتب على المضي في عمله، ويغريه بالاستمرار في البحث
يأخذ على المستدرك الفاضل أنني ذكرت ناساً وتركت ناساً أشهر منهم من شعراء الطبيعة جميعهم لا استثني منهم أحداً؛ ولكني قصدت المشهورين ممن أكثروا في وصف الطبيعة وكانت إلهاماً لهم ووحياً لشعرهم. ولو كنت في مقام يقتضي العد والحصر لذكرت مثلاً توماس ناش 1567 - 1601م الذي عاش قرابة ثلث قرن وعاصر جرين ومارلو، ومات بعد حياة كانت أملأ بالكفاح والنضال منها بالدعة والمرح. ولهذا الشاعر غرام عجيب بالطبيعة. وكان من حقه أن أنظمه في سلك شعراء مقالي الأول؛ إلا أن شهرته الأدبية لا تعدل شهرة من ذكرت وله أبيات في البيع عنوانها يقول منها:
المروج معطرة الأنفاس
والأقاحي تقبل أقدامنا(554/19)
وأحداث العشاق يلتقون
والزوجات العُجز يضْحين في الشمس
وفي كل ثنية تحيى آذاننا زقزقة الطيور
ولو كنت في مقام يقتضي الحصر والعد لذكرت مثلاً بن جونسون 1573 - 1637؛ وذكرت معه أبياته الرائعة بعنوان الطبيعة النبيلة
ولذكرت روبرت هربك 1591 - 1674؛ وذكرت زيادة على أبياته في زهرة الدافوديلس قصائده في البنفسجة، والبريمروز، وبراعم الكرز، والعشب. فهو في هذا الموضوعات مغن للطبيعة. ولقد يكون في أفكاره شيء من التفاهة؛ ولكنه يخلع على تلك الأفكار ثياباً من تعبير يكسيها نضارة قطرات الندى في تباشير الصباح
ولذكرت الشاعر ويليم كولينيس 1721 - 1759، وذكرت قصيدته غير المقفاة التي عنوانها (إلى مساء)
ولو كنت في مقام يقتضي الحصر والعد لذكرت والتر لاندور 1775 - 1864؛ وهو الذي يقول في إحدى مقطوعاته:
(إنني أحببت الطبيعة، وأحببت الفن بعدها)
ولذكرت لورد تنيسون 1809 - 1892؛ وذكرت قصيدته التي يخاطب بها البحر قائلاً:
تكسر! تكسر! تكسر أيها البحر!
على صخورك الباردة الدواكن
وذكرت قصيدته (الجدول) التي أنطق فيها الجدول المترقرق من حين ينبجس إلى حين يتصل بالنهر، ماراً بالهضاب، مترتراً مع الأحجار، مخترقاً الحقول، محتملاً فوق مائه برعمة طافية أو عشبة يابسة، ملقياً بهما في أحضان تياره المندفع فوق صغار الحصي
ولذكرت بروننج 1812 - 1889؛ وذكرت قصيدته (أفكار نحو الوطن - من البحر)
ولو كنت في مقام يقتضي الحصر والعد لذكرت شارلس كنجسلي 1819 - 1875، وذكرت قصيدته (أغنية إلى ريح الشمال الشرقي)، ولذكرت وليام موريس 1834 - 1896 وذكرت قصيدته (فجر الصيف) وهي لوحة على إيجازها مملوءة بالخصيب من الألوان ولذكرت سوينبرون 1837، 1909، وذكرت قصيدته (حديقة مهجورة) ولو أنها(554/20)
أميل إلى شعر التأمل والتفكير الفلسفي منها إلى شعر التصوير والطبيعة
لو كنت في مقام يقتضي الحصر والعد لذكرت هؤلاء وكثيراً غيرهم ممن يصادفهم قارئ الأدب الإنجليزي؛ ولذكرت غيرهم من شعراء الطبيعة الفرنسيين؛ ولذكرت غيرهم من شعراء العربية ممن لم أذكرهم في مقالي الأول اكتفاء بمن ذكرت؛ ولأضفت إلى هؤلاء بضعة من الشعراء اقترحهم على الأديب حسين الغنام في رسالته الخاصة، أمثال إمرسن ويوسف كيزار وكبلنج ولو نغفلو في أدب اللغة الإنجليزية. وبوشكين في الأدب الروسي؛ ولأضفت إليهم - من عندي - بريدجز، وهو سمان، وتوماس هاري، وشارلس سورلي، ولأمير من شعراء القرن العشرين، وأضفت إليهم كذلك روزنيرج؛ وداي لويس، وبيتس، وليون، وغيرهم من المغمورين
نعم، لو كان المقام يقتضي الدراسة الواسعة والبحث المحيط لخصصت كل واحد من هؤلاء بمقال، وأضفت إليهم غيرهم ممن لم أذكرهم ولم يذكرهم المستدرك الفاضل، ولكن دواوينهم مطبوعة يرجع إليهم من شاء من طلاب التوسع والمزيد
وهناك اعتراض آخر، وهو أني لم أسلك عبد الرحمن شكري والعقاد والمازني مع من سلكت من الشعراء المصريين
والمعترض يقول (لكل واحد من هؤلاء غير قصيدة واحدة في الطبيعة)
وهذا كلام فيه بعض الحق. فلعبد الرحمن شكري في ديوانه الأول قصائد خطرات في المساء ص 4، أو حنين الغروب عند الشمس ص 8، وتحية للشمس عند شروقها ص 16، والحب والليل ص 18، والروض بالليل ص 55، والبرق ص55، وغيرها. وله في ديوانه الثاني رثاء عصفور ص 63. وله في ديوانه الثالث سحر الربيع ص 7، والشعر والطبيعة ص 16، وله في ديوانه (زهر الربيع) قصيدة نرجس ص 48، وقصيدة حديقة الصيف ص 1، والطائر الحبيس ص 6
وللعقاد كذلك قصائد ومقطوعات في الطبيعة. وأطولها قصيدة في (الكروان) التي ضاعت منها الوحدة الموضوعية التي نبحث عنها في الشعر العربي الحديث
وللمازني كذلك مقطوعات في الطبيعة، ولكن الحق كل الحق أن شاعراً مصرياً لم يتفرد بوصف الطبيعة والجلوس إليها والانغمار فيها كما فعل الشاعران اللذان ذكرتهما في مقالي(554/21)
الأول وهما المرحوم الهمشري وشاعر البراري
ولو كانت قصيدة واحدة أو بضع قصائد تكفى لأن نسلك صاحبها في عداد شعراء الطبيعة، لسلكنا فيمن سلكنا حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وخليل مطران وعلي محمود طه والدكتور ناجي وعبد العزيز عتيق، وكثيراً غيرهم ممن يضطرنا ضيق المقام إلى عدم ذكر أسمائهم.
وعلى المستدرك التحية والسلام
محمد عبد الغني حسن(554/22)
من إعجاز القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
كتب الكاتبون قديماً وحديثاً في إعجاز القرآن، ولكن ليس كمثل الأمثلة العملية الواقعية بيان لذلك الإعجاز. ومن أحدث هذه الأمثلة وأغربها ما وقع من الدكتور زكي مبارك أو (الكاتب المجهول كما يسمي نفسه في العدد 351 من الرسالة
والدكتور زكي مبارك كبير الإعجاب بنفسه يظن أنه أحاط بالأدب العربي من أطرافه: أطراف النثر وأطراف الشعر، فلم يدع لكاتب ولا لشاعر شأواً معه. تعرف ذلك في دعاواه الطويلة العريضة التي ينثرها يميناً وشمالاً بغير حساب فيما يكتب من مقال، وما يؤلف من كتاب، كأنما أراد أن يكون المقل المنجسم لقانون التعويض النفسي في الأدب، فهو يعوض نفسه عما فاته من ثناء الناس بالمبالغة في الثناء على نفسه، وهذا شيء لم يكن يفهم لولا أن إعجاب الدكتور بنفسه انقلب فيه غروراً، وأن الغرور بلغ منه حداً جعله يتطاول إلى مقام القرآن الكريم، يشكك في إعجازه تارة، ويكاد يصرح أنه من كلام البشر تارة أخرى، ويدعو إن بتلميح وإن بتصريح إلى تناول القرآن بالنقد، كأنما يظن أن ذلك في مقدوره لولا أن المسلمين لم يستعدوا بعد لتلقي كل ما عند الدكتور
وسولت له نفسه أن يكتب مقاله (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق)، ولأمر ما رأى أن يوقعه بغير اسمه
ولكنه نسى نفسه حين أمن أن يعرف قومي بها عوراء مخزية حين كتب: (أما بعد، فأنا لا أعوذ برب الفلق من شر ما خلق، وإنما أعوذ برب الفلق من خير ما خلق، وهو الجمال). لعلك لو فتشت عن قلبه حين كتب هذا لوجدته مسروراً به، يرى أنه جاء بطريف وهذا خذلان الله لكل من يلحد في آياته: يخفى عنه الغلطة المنكرة لا تخفى على العامة من الناس.
والغلطة المنكرة هي جهله أن كلمة (شر) في الآية الكريمة اسم لا أفعل تفضيل، وأن الفرق بين معنى الآية كما فهمها وبين معناها كما أنزلت كالفرق بين الجماد والحي، والإعجاز وغير الإعجاز
وإذا أدرك زكي مبارك غلطته فحاول أن ينكر أن (شر) في جملته أفعل تفضيل كذبته كلمة(554/23)
(خير) في نفس الجملة، إذ لا شك مطلقاً في إن (خير) في جملته تلك أفعل تفضيل جاء في مقابلة (شر) أفعل التفضيل الآخر في أول الجملة
إن كلمة شر إذا كانت اسماً مضافاً إلى ما الموصولة، كما هي في الواقع في قوله تعالى (من شر ما خلق) في السورة الكريمة المعروفة، شملت كل شر لكل مخلوق، فلاستعاذة بالله من شر ما خلق على هذا الوجه هي استعاذة تامة كاملة لم تدع موضعاً لاستدراك مستدرك ولا للعب لاعب. فإذا أراد مغرور أن يلعب باللفظ تظرفاً واستطرافاً سقط سقطة الدكتور زكي مبارك. قد يكون الجمال خير ما خلق الله وقد لا يكون، لكن إذا كان للجمال شر يخشى ويستعاذ بالله منه فقد دخل في الشر المطلق شر كل مخلوق خلقة الله، وهو ما أمر الله الإنسان بالاستعاذة منه برب الفلق، فلا داعي هناك قط إلى تعوذ جديد من الجمال أو من غير الجمال
فانظر الآن إلى ما يطرأ على المعنى من التغيير والتضييق والنقض بجعل (شر) أفعل تفضيل كما فهم صاحب النثر الفني. لقد انفتح له بذلك من ناحية باب الاستدراك فقال إنه لا يتعود من شر ما خلق الله ولكن من خير ما خلق وهو الجمال. ومن ناحية أخرى صارت الاستعاذة على هذا الوجه مقصورة على شر أكثر خلق الله شراً، وتركت ما عدا ذلك من شر كثير حراً طليقاً يصيب من الإنسان ما شاء. فِأي استعاذة هذه التي تترك المتعوذ عرضة لأكثر الشر في جملته، أو لشر كثير على أقل تقدير؟ فلو كان هذا المعنى مقصوداً في كلام أديب لكان معيباً عند أهل البلاغة، ومع ذلك فهذا هو ما فهمه من كلام الله الدكتور زكي مبارك المستأثر ببلاغة النثر والشعر الحائز لدكتوراه الأدب العربي من باريس بكتابه النثر الفني الذي زعم فيه أن القرآن من كلام البشر ودعا فيه إلى نقد القرآن
فكان الله سبحانه أراد أن يضرب مثلاً لخلقه من إعجاز كلامه على يد شاك يظن أنه ملك ناصية الكلام، فقيض الدكتور زكي مبارك، لا ليبدل لفظاً من لفظ ليكون لفظ القرآن هو الأفصح والأبلغ، ولكن لينقل لفظاً تعينه من وجه إلى وجه، من الاسمية إلى الوصفية، ولا يكون هذا اللفظ إلا أبسط كلمة في أبسط آية يفهمها حتى عوام المسلمين في أنحاء الأرض، ليجئ المعنى تافهاً بعد مروره في ذهن الدكتور؛ وليتبين للناس مقل من هزة القرآن وإعجازه؛ وأن صاحب النثر الفني لا يفقه فرق ما بين الإعجاز وعير الإعجاز، وأنه ليس(554/24)
من القرآن الكريم في حقيقة ولا مجاز.
محمد أحمد الغمراوي(554/25)
أحزان الوحدة!
للأديب عبد الرحمن الخميسي
دَمِّريَ ياَ وَحْشَتيِ كُلَّ هَناَءْ ... وَعِلَى أَنْقاَضِهِ سِرْ يَا عَنَاءْ
وَاعْصِفي بيِ ياَ شُجُوني عَصْفَة ... تَحَمِلُ النَّفْسَ إلى وَادي الفَنَاءْ
أناَ أُفْرِدْتُ وَلاَ مِنْ مُؤْنِسٍ ... يُبْعْدُ الْوَحْدَةَ عَنَي وَالشَّقاَءْ
أَناَ أُفْرِدْتُ فَياَ مَنْ عَزّ أَنْ ... يَتَلقّاهاَ خَياَلُ الشُّعَرَاءْ
أَيْنَ أَلْقَاَكِ؟ ابْزُغِي في عَالَمِي ... تَتَفتَّحْ لِيَ آفاٌقُ الرَّجَاءْ!
هذِه الْوَحْدَةُ ماَذَا بَعْدَهاَ ... يا زَماَنيِ يَنطَوى لي في الْخفاَءْ؟
أَخرِقي بالدَّمْعِ أَجْفاَني ياَ ... أَعْيُني وَاسْتَعْذِبي مُرَّ البُكاء
أَناَ أُفْرِدْتُ فَيَا غُرْبَةُ ماَ ... كُنْتِ لي غَيْرَ مَعين الْبُرَحَاء
فاَنْزِفي يا أَضْلُعي في وَحْدَتي ... حَرَّ ماَ يُتْرعُ قَلْبِي مِنْ دِماَء
هاَتِهِ الأنجُمً مَنْ يُغْرِقٌهاَ ... في أَوَاذِّيكَ يا بَحْرَ السماء؟!
ثُمَّ مَنْ يُطْلِقُ رِيحاً صَرْصَراً ... تُطْفيُّ الْمِصْباَحَ فاَلدَّارَ خلاَء!
غُرْفتي لاَ تعْرِفُ الأصوات ياَ ... شِقْوَةَ الْهاَتِفِ إِبٌانَ النَّدَاء
انطقي أيتها الجدران، أو ... فاَصْعِقيني وَاهْدِمي فوق الْبِناَء
وَقفي أيتها الأرض! وَلاَ ... تقطعي الدورة في هذا الفضاء
عبد الرحمن الخميسي(554/26)
البريد الأدبي
جميل بثينة
جميل جداً أن يتجه الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد إلى كنوز الأدب العربي يجلو صفحاتها ببيانه المطرب المعجب العميق. وقد كان من أواخر ما جلته لنا يراعته الفياضة من هذا القبيل (جميل بثينة) في شعره وفي سيرته، فملأ بذلك فراغا كان يشعر به رواد الأدب الحديث. وكان بغنائه هذا اللحن الجديد في هذا الموضوع القديم يمثل بحق دور (الكاتب البارع) الذي تحدث عنه (سنوحي) في قصته عن لسان أحد أبطالها المبدعين.
وقد استوعبت رسالة الأستاذ عن (جميل) مطالعة وإمعاناً ملتذاً بما تحويه من أفانين النظريات النفسية الحديثة في عرض كله إمتاع. وفي أثناء مطالعتي لفصولها تبدت لي بعض ملاحظات لا تؤثر على جوهرها ولا فضلها، وهذه هي:
أولا: يصف الأستاذ بثينة (بالحمق) مستدلا على ذلك بحديثها مع عبد الملك بن مروان حين قال لها ما الذي رأى فيك جميل؟ فقالت: الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك. ويعقب الأستاذ على هذا بقوله: (مثل هذه الحماقة لا تظهر في الكهولة إلا إذا كان لها أساس أصيل من بداية العمر). والذي يلوح لي أن إجابة بثينة لا تنبئ عن حمق، بل هي تشف عن حصافة رأى ورجاحة عقل وسرعة بديهة وجرأة قلب، شأن الكيسات الفصيحات من نساء عرب البادية. فعبد الملك إنما سألها بما سأل مبكتاً غاضا من جمالها وقادحا في جميل الذي فتن بهذا الجمال الموهوم. وسرعان ما أدركت غرضه فردت له الكيل بكيل مثله
ثانيا: في الصفحتين 86 و 87 من فصل (مكانة جميل الشعرية) مال الأستاذ إلى نظرية القائلين بتقديم جميل الشعرية في النسيب خاصة على شعراء الجاهلية والإسلام. وفي الصفحة 98 نقض هذه النظرية. فأيهما أجدر بالاعتبار والتقرير؟
ثالثاً: يقرر الأستاذ خطأ مدرسة (الاستحسان) التي تقرر بأن من وصف محبوبه بأنه كالشمس أغزل ممن شبهه بالبدر أو كوكب من الكواكب. وقد ساق ما لا مريد عليه من الأدلة لتوطيد هذه النظرية الطريفة، بيد أنه خرج من ذلك في الصفحة 78 إلى أن قول جميل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح(554/27)
ينأى به عن اتباع المذهب الاستحساني في تغزله. والذي يبدو لي في هذا القول أنه ليس فيه ما يجافي جميلا عن المذهب المذكور، فهو لم يقدح في جمال عيني بثينة ولا ثغرها؛ بل ما زال مستحسنا لهما كل الاستحسان، وناهيك بوصفه الأنياب بالغر. وغاية ما بجميل أنه كانت تستبد به أحياناً عوامل الغرام فيصاب بما يصاب به الوالهون في مثل هذه الساعات من ذهول واضطراب يجعلانه يتبرم بكل شيء في الحياة، حتى أن حبيبته التي هي أعز ما في الحياة لديه يتمنى أن تذوق شيئاً من الشقاء، حتى ترغم على العطف عليه فينعم بهذا العطف وحسبه ذاك. على أن جميلا نفسه فيما رواه الأستاذ في (مختارات شعره) ص 141 قد وصف محبوبته بأنها كالبدر، ووصف غيرها من النساء بأنهن كالكواكب فهن دونها جمالا، وبهذا اتبع مذهب (الاستحسان)، وذلك حين يقول:
هي البدر حسناً والنساء كواكب ... وشتان ما بين الكواكب والبدر
(مكة المكرمة)
عبد القدوس الأنصاري
بين حمدة والمنازي
دهشت لما قرأت حكم الأديب عبد الحميد عبد المجيد بأن نسبة الأبيات التي أولها:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم الخ إلى أبي نصر أحمد بن يوسف
المنازي خطأ وإنها لحمد الأندلسية. دهشت لأني أعلم أن هذه الأبيات مما تنازعها المشرقيون والأندلسيون قديماً، بل لقد أجمع أدباء المشرق - كما يقول ياقوت في معجم الأباء - على نسبة هذه الأبيات للمنازي المتوفى سنة 437 ونسبها أدباء الأندلس ومؤرخوه إلى حمدة بيت زياد
وفي وفيات الأعيان لابن خلكان أن المنازي اجتاز في بعض أسفاره بوادي (بزاعا) - قرية بين منبج وحلب - فأعجبه حسن هذا الوادي وقال هذه الأبيات في وصغه.
2 - قيس لبنى وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود
ذكر صاحب الأغاني (ج 8 ص 94) أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال في زوجته عشمة هذه الأبيات:(554/28)
تغلغل حب عشمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
صدعت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور
إلى آخرها وهي ستة أبيات رقيقة باكية. وذكرها أبو علي القالي في ذيل الأمالي (217) ونسبها إلى عبيد الله أيضاً إلا أن صاحب الأغاني ذكر في صفحة 113 ج 8 البيت الثاني والثالث ونسبهما إلى قيس بن ذريح صاحب لبنى في قصة طريفة ذكر أنهما من شعر قيس. فأي قولي الأصفهاني نصدق؟
برهان الدين الداغستاني
الشيخ محمد عياد الطنطاوي
رجا فاضل في هذه المجلة (في العدد 549) ممن يعثر على تاريخ هذا الرائد المجهول أن يدلي على صفحات الرسالة بالمصادر التي يمكن الرجوع إليها عنه
وتلبية له أشير إلى أن المرحوم العلامة أحمد تيمور باشا قد عنى بجميع أخباره وتسقطها زمناً، وبذل في ذلك جهداً مشكوراً، ثم نشر ما وصل إليه في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1924م (المجلد الرابع ص 388 - 391)
ثم جاء المستشرق الروسي المعروف: (أغناطيوس كراتشكوفسكي) من أكاديمية العلوم الروسية، فاستدرك على تيمور باشا بعض استدراكات مفيدة جداً نشرها في المجلة المذكورة (ص562 - 564) من المجلد الرابع، ذاكراً أن للفقيد ترجمة بقلمه، وآثاراً علمية من تآليفه، تحتفظ بها مكتبة الكلية في بترغراد وكلها تخط مؤلفها، وأشار إلى مصادر عن حياته لا تخلو من فائدة، كما صحح خطأ المستشرق في تأريخ وفاة الشيخ محمد عياد الطنطاوي رحمه الله
(دمشق)
سعيد الأفغاني
إلى الأستاذ قدوري طوقان(554/29)
قرأنا لكم كتابكم العظيم (الكون العجيب) فحمدنا لكم هذا الصنيع إذ تنفذون إلى أعماق الكون وسرائر الوجود بفكر ثاقب وقلب مؤمن، وإذا أنا أطالع في مقدمة (ابن خلدون) عثرت على اصطلاحات فلكية لا أكون مجانباً الصواب قلت إن أكثرها يحتاج إلى دراسة عميقة حتى يتبين منها ما أظهر العلم الحديث صحته أو بطلانه. وكان ما استوقفني من هذه الاصطلاحات قوله: ص 49 طبع مصطفى محمد (وقد تبين في موضعه من الهيئة أن الفلك الأعلى متحرك من المشرق إلى المغرب حركة يومية يحرك بها سائر الأفلاك في جوفه قهراً، وهذه الحركة محسوسة)؛ فما هو الفلك الأعلى وما عوامل قسره سائر الأفلاك على الحركة، ثم ماذا يعني العلامة ابن خلدون بقوله وهذه الحركة محسوسة؟ وبد هي أننا حين قرأنا قول الشاعر:
تقفون والفلك المحرك دائر ... وتقدرون فتضحك الأقدار
لم نتعمق الفكر ولم تدفق الحساب مع الشاعر؛ إذ قصارى المعنى الشعري أن الحياة سائرة والمخاطبين جامدون: أما ابن خلدون الباحث الاجتماعي الذي شرقت آراؤه وغربت؛ فلا بد من مناقشته وعرض آرائه على بساط البحث
فإلي الأستاذ الكبير قدري طوقان أسوق الحديث.
إبراهيم السعيد عجلان
استدراك
جاء في مقالي عن الشاعر الإنجليزي (شلي) في العدد 549من الرسالة: (أنه سافر حدثاً ليلتحق بكلية إتون بأكسفورد)، وصوابه: ثم بأكسفورد، أي الجامعة الشهيرة وهي التي طرد منها الشاعر أخيراً. إذ كما يعلم القارئ اللبيب أن لا علاقة بين المؤسستين على الإطلاق
(بغداد)
محي الدين السامرائي(554/30)
القصص
جميلة تحت ظلال الأرز
ملخصة عن قصة طويت لهزي بوردو
بقلم الأستاذ حلمي مراد
لم يكن يدور بخلدي، يوم أن رست بي الباخرة (لوتس) في ميناء بيروت، أن الأقدار قد هيأت لي أن أعود من زيارتي للبنان بوقائع هذه الفاجعة: فاجعة قلبين فرقت بينهما شريعة الدين، فجمعت بينهما شريعة الحب. وما كنت لأقص خبرها لو لم أسمعها بأذني من فم الرجل الذي كان شاهدها، بل كان واحداً من أبطالها، قبل أن يكون راويها
كنت قد عرفت (خليل خوري) في إحدى قرى لبنان؛ كان شيخاً مارونياً في نحو السبعين من عمره، طويل القامة، وسيم القسمات، مهيباً في عباءته الحمراء وعقاله الأسود العريض. وكنت قد قضيت اليوم معه في التجوال فوق قمم الجبال التي تكسوها الثلوج، حتى أن لنا أن نستريح، فجلسنا عند حافة غابة الأرز العتيق، نشرف من عل على الوادي السحيق، حيث ينبثق نهر (قاديشا) من بين الصخور التي اصطبغت بلون الأرجوان، وينساب بين المراعي والقرى وغابات البرتقال
وهناك تحت ظل أرزة ساحقة، باح لي الشيخ الحزين بسره الذي أقفل عليه قلبه طوال خمسين عاماً كاملة. باح لي به تحت تأثير إلحاحي الشديد، وتحت وقر الكتمان الطويل الذي كثيراً ما يرهق العاشق كما يرهق المجرم الأثيم
قد يبدو غريباً أن ترد قصة غرام جارف على لسان عجوز في السبعين، ولكن عزاءه كان أن الاستغراق في الذكرى قد أعاد له - ولو إلى حين - انفعالات الشباب، فوجد في قلبه، مرة أخرى، عاطفة الأيام الخوالي. العاطفة التي أحالت واحة حياته إلى صحراء مقفرة، لا بهجة فيها ولا رواء
ومن يدري؟ ربما كان الشيخ قد رأى في تغلبه على عوائق السن ودواعي الوقار، أطيب تحية يزجيها للعاطفة الأثيمة التي فاضت من قلب (جميلة) قبل نصف قرن من الزمان(554/31)
كان ذلك حوالي عام 1870، في قرية (بشرى) الهاجعة في أحضان الجبل على عتبة غابة الأرز، ولم يكن مضى غير أعوام منذ فقد خليل خوري أباه في مذبحة (دير القمر) وهي إحدى المذابح البشعة العديدة التي خضبت في القرن الماضي جبال لبنان بدماء بنيه من المسلمين والمارونيين. فلما دهم اليتم الغلام، وهو ما يزال في الثامنة، تلقفه بالعطف والحدب أكثر من قلب، وخاصة من أفراد أسرة الشيخ راشد والد جيرانه الأطفال: بطرس وجميلة ومنتهى، ومن ثم وجد الغلام في ثلائتهم اخوة يبادلونه ألعابهم ويصطحبونه معهم كلما خرجوا على ظهور الخيل للصيد بين الجبال
مرت أعوام، وبلغ الفتى علمه الخامس عشر، فإذا ببطرس يفاجئه يوماً بالقول في لهجته القوية الآمرة: (إن جميلة سوف تغدو زوجتك يا خليل). . . وكأن هذه الكلمات قد أثارت في الفتى فتوته فسبقت مشاعره سنه، وإذا به يحس مزيجاً مسكراً من الأحاسيس والأخيلة، ثم إذا بالخيال يوشك أن يصبح حقيقة، حين يدرك خليل من حركات وهمسات أفراد الأسرتين أن زواجه من جميلة أضحى أمراً مفروغاً منه. . . ولم لا؟ أليست جميلة كأخته؟ إذن فالتطور لن يصل إلى حد الطفرة، لن يعدو أن يكون خطوة قصيرة واستكمالاً طبيعياً لمودتهما العذبة، المودة التي وقفت صلتهما عندها طويلاً. . . إلى أن وقع حادث تافه بد لها في قلب خليل إلى حب جارف. . .
. . . وإنه ليذكر ذلك الحادث كأنه قد حدث بالأمس. . . كان خليل عائداً مع بطرس وجميلة - عصر أحد أيام الشتاء - من قرية (حصرون) القريبة، حيث كانوا يبتاعون بعض ثمار القراصيا والمشمش المجفف. وإنهم لفي الطريق الغائص تحت الثلوج، وإذا ببطرس قد أبعد في سيره طلباً للصيد في الغابة. وبقى خليل وجميلة ينتظران عودته، وبينما هما يسيران متجاورين، لمست يد الفتى - عفواً - يد رفيقته. . . كانت باردة كالثلج، فأخذها بين راحتيه يدفئها ويعيد إليها الحياة، برغم أن الدفء والدم قد سريا إليها بعد حين، فإنه قد استمرأ أن يبقيها برهة أطول، حتى قالت له الفتاة ضاحكة: (دعني) فلم يبال رجاءها بل ضغط يدها أكثر، ثم اندفع فجأة يقبل اليد الرخصة بلا وعي! ظلت الفتاة ساكنة، لم يرعبها هذا الانفعال غير المألوف، ولكنها عادت بعد برهة تقول به في صوت خفيض: (هيا بنا نعود). . . ووافقها هذه المرة(554/32)
وحين أبلغها بيتها، وجدهم قد أعدوا لهما نبيذاً دافئاً، ولكنه كان ثملاً بغير خمر. وتغيرت نظرته إلى جميلة، رآها بعين العاشق الفاحصة في ثوبها الصوفي الأبيض، وراح تصره يتملى شعرها اللامع ورقبتها التي في لون العاج، وخدها الدافق بحيوية مشبوبة، وعينيها الزرقاوين كالبحر الهادئ حين يرى من هامة غابة الأرز في يوم صحو جميل. . . ثم صوتها بدا له كأنه لم يسمعه من قبل، حتى لقد ود لو يذوقه في منبعه: بين شفتيها الحمراوين كالقرمز، وأسنانها البيض كالثلج. وبالاختصار وثب إلى ذهنه إدراك مباغت: أن طفلته قد صارت امرأة
وعندما وصل إلى بيته، سأل أمه في اضطراب: (ألم تحن الساعة بعد يا أمي؟) ولم يزد. وفهمت هي مراده بغريزة الأمومة فضحكت وهي تقول: (كما تريد يا بني). . . وفي اليوم التالي سار ثملاً مع أمه إلى بيت الشيخ راشد لخطبة جميلة. وبأمر من بطرس، وعلى ملأ من الأسرتين، قطف خليل من خدها القبلة الأولى. ثم جاء الربيع، وأزهرت أشجار الفاكهة الفواحة الأريج، ولكن بقية من الثلوج البيض المتناثرة، كانت ما تزال ترى من شرفة بيت الشيخ راشد، فسأل الفتى واجفاً (متى الزواج؟) وأجاب الأب (حين تذوب الثلوج هناك) وكان معنى هذا القرار: الانتظار حتى أغسطس. وهكذا صار الموعد رهناً بحرارة الشمس لا بحرارة قلبي العاشقين. . . ومن ثم صار الفتى يسرع إلى الشرفة كل صباح كي يطمئن. . . لكن الشتاء كان قاسياً فطال بقاء الثلوج
وفي ذات صباح جميل، رؤى خليل بعدو كالطفل إلى بيت جميلة وهو يقول: (جميلة!. . . جميلة! لقد ذابت آخر قطعة من الثلج. . . لم يعد هناك ثلوج) وأسرعا معاً إلى الأب، فقال لهما بصوت أغاظتهما رزانته: (ستتزوجان. . . بعد أن ينفض عيد الأرز)
. . . وجاء يوم العيد. وأقبلت على غابة الأرز جموع المعيدين، من قرية بشرى وسائر القرى المتناثرة كالعنقود على جانبي النهر. . . ثلاثة آلاف نسمة أقبلوا لقضاء يومهم في الهواء الطلق تحت ظلال الأشجار العتيقة، يستمعون إلى الطقوس الدينية، ويتناولون طعامهم على العشب، ويرقصون (الدبكة)، رقصتهم الوطنية الجميلة. . . حتى يغيب النهار فيعودون إلى بيوتهم مع المساء
وجلس أفراد الأسرتين تحت أرزة وارفة الظل مدت غصونها فوق رؤوسهم كأنها تباركهم(554/33)
وتحميهم. . . جلسوا جميعاً: خليل وبطرس ووالده الشيخ وجميلة وأختها الصغرى منتهى، ثم صديقاتهن: آبلة ونالة وراحيل، وقد خلعت كل واحدة نقابها الأبيض ونشرته على فرع من شجرة الأرز. . . وكانت جميلة تبدو بينهن - وهي متكئة على وسادتها - كالملكة في بلاطها، وأحس خليل بغبطة جارفة. إنها ستغدو له وحده بعد أيام. . . وبينما هو مستغرق في الحلم همس له بطرس بلهجة تنطق بالحقد، وهو يشير أمامه: (مسلمان!. . . ماذا أتى بهما؟. . . ماذا يريدان؟ وتلفت خليل إلى حيث أشار فرأى أعرابيين شابين يترجلان من فوق صهوة فرسيهما المطهمين، وقد بدت طلعتهما رائعة وقسماتهما وسيمة. . . بلحيتيهما السوداوين، وعيونهما السمراء التي ترسل نظرات من نار وتقدح بفتنة لا يمكن تجاهلها. . . ووراءهما تابعان يجران الفرسين، ولم يكن الضيفان سوى عمر بك الحسين، وعبد الرزاق بك عثمان، من أمراء عكار، جاءا ينشدان النزهة والترويح عن النفس
دأب الشابان على تقليب البصر في وجوه القوم، حتى استقرت نظرات عمر بك على جميلة، وثبتت عندها. لم يحس خليل بدبيب الغيرة في بادئ الأمر، ولكن النظرات طالت، فبدأ الدم يصعد إلى رأسه. إن الغريب قد اجترأ على فتاته. . . أليست هذه إهانة للمارونيين جميعاً؟ وأخذ الاهتياج يعذبه، ولكنه كتمه وعاد ينظر إلى جميلة. كانت قد اضطجعت على وسادة ناعمة، في وضع أظهر فتنتها صارخة، وكان شعرها يحتضن كتفيها، وشعاع من الشمس قد انساب من بين الغصون فوقع على خديها وطلاهما بلون الذهب أو الحنطة. ترى هل تم هيئتها عن احتقارها لجرأة الغريب؟ ولكنها تنظر إليه بدورها طائعة، وعيونهما تتقابل. وأحس خليل أن عاصفة تجتاح نفسها وتعكر البحر الصافي في عينيها، حتى لتبدو عليها سمة الفتاة حين تسلم كيانها لانفعال حاد، وخيل إليه أن عاطفتها الناعمة من نحوه قد تبددت، جرفتها العاصفة العاتية التي أثارتها في أعماقها نظرات عمر. ومن ثم أحس الفتى بحلمه يتبدد رويداً رويداً، وبحلقه يجف، فود لو يستغيث، لكنه لم يجد صوته. إن نظراتهما ما تزال متقابلة في غير مبالاة بالجموع الغفيرة التي شغلها الطعام أو شغلتها الغفلة والغباء عن التنبه لما يجري. وأخيراً أفاق العاشق المعذب من غمرة أفكاره على صوت بطرس يسأله وهو يهز كتفه مراراً: (ما بالك يا خليل؟) فأجابه دون وعي: (إنها تنظر إلى الغريب) وضحك بطرس في سخرية، واحمرت(554/34)
وجنتا الفتاة، لأنها لا شك سمعته!
فرغ القوم من الطعام وبدأت رقصة (الدبكة) بعد حين، فرقص بطرس مع الجموع، ثم نهضت جميلة، فأخلى الكل الحلقة لها ووقفوا حولها يتفرجون في شغف، وراحت هي ترقص وحدها في خفة الطير، وكأنها من فرط رشاقتها لا تلمس الأرض. كان ذراعاها البضتان تدوران في الهواء، واتخذت بشرتها لون أحجار (بعلبك) حين يغرب عليها النهار. وفي كلمة، كانت كآلهة الشباب والجمال والحب، ثم فرغت من رقصتها بعد حين؛ وتقدم خليل ليهنئها؛ فإذا بها منشغلة عنه يتلقى نظرات الأعرابي الجميل. واقترب والدها يرحب بالضيف، وطال بينهما الحديث: امتدح الشيخ فرس عمر، فقال هذا: (عندي أختها وتدعي سلمي. سأحضرها لك إذا شئت) ورحل الفارسان، وعادت الأسرتان إلى القرية
وفي أثناء الطريق سار خليل وجميلة متجاورين، صامتين كأن عتاباً خفياً يلجم لسانيهما، وحين جلس خليل إلى مائدة العشاء - في بيتها - وجد على مقعده غلافا صغيراً فضه في غفلة العيون؛ فإذا فيه خاتم الخطبة وكل ما أهداه إليها من حلي!
تحطم قلبه بغتة، ولكن أحداً لم يلحظ شيئاً، فإن القلوب لا تحدث صوتاً وهي تتحطم. ووجد في نفسه القوة على الكتمان. وفي اليوم التالي لقيها في الحديقة، وجلسا معاً عند النافورة، فكانت جميلة ترمقه بنظرة مشفقة أليمة، ثم تخفض بصرها إلى ذرات الماء المتساقطة من النافورة في الحوض. . . وجرى بينهما عتاب رقيق حزين كنفسيهما. سألها خليل: (إنك لم تعودي تحبينني؟) وكان زائغ النظرات، فغضت من بصرها ثم أجابت بعد حين: (هو ذاك) وعبثاً حاول أن يطرد من قلبها شبح عمر، فإنه كان قد احتله وتحصن فيه. وافترقا على أمل يراود خليلاً، بأنها ستنسى الغريب مع الأيام.
لم يمض يومان حتى عاد عمر ومعه الفرس التي وعد بها أبا جميلة، وأعجب بها الشيخ راشد فسأل صاحبها عن الثمن، ولكن عمر أمهله قائلاً له في لهجة حازمة: (سأحدد لك الثمن. . . في الغد) وعبثاً ناقشه الشيخ فإنه أصر، وإزاء إصراره وتحت ضغط الحرج والشهامة والكرم، دعاه الشيخ إلى قبول ضيافته وقضاء الليلة تحت سقفه. . . فقبل عمر!
ماذا حدث بعد ذلك في ضمير الليل؟ لم يدر أحد. . . حتى أفاق خليل من نومه في الصباح مذعوراً، على صوت بطرس يبلغ إليه النبأ: إن الضيف قد فر، وجميلة قد اختفت. . . هل(554/35)
فرت معه طائعة، أم خطفها؟ من يدري!
وبعد ساعات كان بطرس وخليل ممتطيين صهوة سلمي فرس عمر، في طريقهما إلى بلدته (عكار). . . وراح قلب العاشق المدنف يناجي طيف محبوبته (جميلة!. . . أين أنت الآن؟ ترى هل يقع بصري عليك بعد اليوم، فأرى عينيك في لون البحر الهادئ تحت أعتاب الجبل، وأرى خديك الناضرين ورقبتك التي في لون العاج، وذراعيك، وشعرك. . . شعرك الجميل. . . إن الطل لا بد قد بلله ليلة أمس، وأنت تحيطين بدن عمر بذراعيك فوق صهوة الفرس وهي تعدو بكما منسابة بين الجبال في الظلام. . . جميلة! جميلة! إنني آتٍ في ظل إثمك أتبعك. . . ألا تسمعيني يا جميلة؟) لكنها لم تسمع، فإن أسوار قصر عمر في (عكار) كانت غليظة وعالية!
وبعد أيام خرجت عكار عن بكرة أبيها إلى الطرقات، وازينت، كي تحتفل بزفاف المارونية التي أسلمت، وكي تراها وهي تعبر شوارع البلدة في هودجها الفاخر يتهادى بها. وبينما كان الركب يخترق أحد الشوارع كان خليل وبطرس واقفين يستعرضانه في صمت وغيظ. وحين مر بهما الهودج وجميلة في داخله تبتسم جذلة، امتدت يد بطرس إلى غدارته، وهم بإطلاقها، لولا أن أقنعه خليل - والدموع في عينيه - بأن يتريث فإنه يريدها حية؟ وارتدت يد الأخ الغاضب لشرفه. ومر الركب بسلام. ومضى التعسان مبتئسين، والحنق يجفف حلقيهما ويضن عليهما بالبكاء
وحين بلغ الموكب القصر، وضم عمر عروسه إلى صدره، كانت ظلال خليل وبطرس قد اختلطت بالظلام الذي يرين على الطريق، حتى إذا كان الغد، عادا أدراجهما إلى قريتهما
ومضت أيام وأسابيع وشهور، والغضب للشرف ما يزال يتأجج في صدريهما وفي صدر الأب الحزين (الشيخ راشد) فإنهم جميعاً لم يكونوا قد طلقوا عزمهم على استعادة جميلة بأي ثمن!
وبعد سبعة شهور من الزفاف، وفي أوائل الربيع، عاد خليل وبطرس ينحدران بين غابات الصنوبر والأرز، في طريقهما إلى (طرابلس)، فقد أتاهما النبأ أن جميلة وعمر قد انتقلا إلى قصر آخر له هناك
ولم يطل بحثهما عن ضالتيهما، فقد اهتديا سريعاً إلى القصر الباذخ، حيث تعيش العاصية،(554/36)
كافرة بشريعة العشيرة، مؤمنة بشريعة الهوى
وبعد أيام - ومن نفس الطريق - عاد الشابان يصعدان الجبل إلى قريتهما ومعهما في هذه المرة. . . جميلة؛ فقد وفقا إلى اختطافها أخيراً
وفي (بشرى) انعقد مجلس الأسرة لمحاكمتها، واعترفت التعسة بكل شيء: اعترفت بأنها قد فرت من كنف أسرتها مختارة، وطلقت دينها مختارة، وتزوجت من عدو عشيرتها. . . مختارة أيضاً
وصدر حكم الأسرة عليها بالإعدام. ووكل أمر التنفيذ إلى أخيها بطرس.
كم بكى خليل، حين انفرد بالعاصية بعد صدور الحكم، وكم أجهد أعصابه وهو يفتنها عن حبها لعمر، محاولاً إقناعها بأن تشتري حياتها بالزواج منه هو. . . لكنها أبت في إصرار، وراحت تتطلع إلى بعيد وقد رفت نظراتها وبدت كالحالمة وهي تقول بصوت حنون: (إنني أوثر حبي، فأنت لا تعرف حبيبي) ودق الباب، ودخل بطرس - جلادها - فبكى خليل، وإذا بها ترمقه بنظرة أوهنها الإشفاق، ثم تقول وهي تضع يديها على كتفيه: (كن شجاعاً يا خليل. . . فلست بخائفة. . . وهل يعرف الخوف من يعرف الحب؟)
ثم ذهبوا بها وقد انتزعوها منه بعد أن أوصدوا عليه الباب وحين تمكن من اقتحامه، بعد لأي، مضى كالمجنون، يعدو باحثاً عنها. . . حتى وجدها تحت شجرة أرز. . . مذبوحة!
ولم تمض أيام حتى لحق بها زوجها عمر. قتل نفسه على قبرها، بعد أن أوصى بأن يدفن معها في نفس المقبرة. . . المقبرة التي ما تزال قائمة حتى اليوم خارج بلدة طرابلس، والتي ما تزال تظهر على أحجارها أحرف محفورة بخط عربي جميل. . . أحرف اسمي: عمر وجميلة.
حلمي مراد
المحامي(554/37)
العدد 555 - بتاريخ: 21 - 02 - 1944(/)
في معرض الآراء
للأستاذ عباس محمود العقاد
مرت بنا في هذه الأيام آراء كثيرة حول الكتابة والكتاب وحول التأليف والمؤلفين، منه ما يفيد للمناقشة فيه والرد عليه، ومنه ما يفيد للدلالة على بعض الإفهام والأذواق. وفيما يلي طائفة من هذه الآراء، على سبيل التمثيل لا على سبيل الحضر والاستقصاء
من ذلك قول الأديب الحجازي الأستاذ عبد القدوس الأنصاري إنني أستدل على حماقة بثينة بحديثها مع عبد الملك بن مروان حين قال لها: ما الذي رأى فيك جميل؟ فقالت الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك!
ويقول الأديب: (والذي يلوح لي أن إجابة بثينة لا تنبئ عن حمق، بل هي تشف عن حصافة رأى ورجاحة عقل. . . فعبد الملك إنما سألها بما سأل مبكتاً غاضاً من جمالها وقادحاً في جميل. . . إلى آخر ما قال
وخطأ الأديب في هذه الملاحظة راجع إلى نسيانه أول الحديث الذي تناقلته كتب الأدب ونقلناه فقلنا: إنها دخلت على عبد الملك بن مروان (فرأى امرأة خلقاء - أي حمقاء - مولية)
فقولنا إنها لم تخل من حماقة منظور فيه إلى هذه الرواية المتناقلة لا إلى السؤال أو الجواب بينها وبين عبد الملك، وقد يكون في جوابها قصاص سريع من عبد الملك، ولكن الأجوبة المسكتة كثيراً ما صدرت من الحمق والمجانين
قم قال الأديب عبد القدوس يشير إلى كلامنا في رسالة جميل بثينة: (يقرر الأستاذ خطأ مدرسة الاستحسان التي تقرر بأن من وصف محبوبه بأنه كالشمس أغزل ممن شبهه بالبر أو كوكب من الكواكب. . . بيد أنه خرج من ذلك في الصفحة 78 إلى أن قول جميل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح
ينأى به عن اتباع المذهب الاستحساني في تغزله. والذي يبدو لي في هذا القول أنه ليس فيه ما يجافي جميلاً عن المذهب المذكور)
وخطأ الأديب في هذه الملاحظة راجع أيضاً إلى نسيانه المدرسة الغزلية الأخرى التي تكلمنا عنها وهي مدرسة الرقة في خطاب المحبوب أو في التحدث عنه. وقد نسي أيضاً أن(555/1)
الذي يتمنى التشويه لمحبوبته لا يرضى مذهب الاستحسان بهذا التمني. وقد قلنا معترضين: (إن جميلاً - مثلا - أبطل المبطلين في عشقه وغزله عند مدرسة الاستحسان أو مدرسة الرقة. . . لأنه سأل الله تشويه ما هو حسن في عيني حبيبته وثغرها وهما أجمل ما يتمنى له الجمال في وجه محبوب)
وعلى أية حال لا مساس في هذا ولا ذاك بالحقيقة التي نقررها وهي أن الاستحسان غير العشق وغزل العشاق، لأن الإنسان قد يستحسن ولا يحب، بل قد يجمع الكره والاستحسان، وقد يتمنى تشويه محبوبه ليتركه له الناس كما ضربنا المثل بأمنية جميل وأمنية كثير، وهنا موضع الإشارة في كلامنا إلى مدرسة الرقة ومدرسة الاستحسان
وننتقل من هذا الكلام إلى يحسبه كله كلاماً فارغاً ويحسبنا نحن الكتاب أو النقاد رجعيين جامدين لأننا نحفل في هذا العصر بشعر عمر بن أبي ربيعة أو شعر جميل، ومن جاراهما من الشعراء
فقد حمل إلى البريد مجلة أسبوعية على موضع منها علامة حمراء تومئ إلى حديث دار بين المجلة وبين آنسة من الطالبات أو (الأديبات) السوريات سئلت فيه عن رأيها في أدباء مصر فقالت: (مما يؤسف له أشد الأسف أن معظمهم رجعيون. . . أفكارهم. . . كتبهم. . . مؤلفاتهم. . . مقالاتهم. . . كلها تدل على أنهم من أنصار الرجعية. ثم أطلقت الآنسة ضحكة رشيقة وقالت: أنظر. . . نحن الآن في عصر الطيارات والراديو والمخترعات الحديثة، ولكن الأدباء ما يزالون يتحدثون عن عصر ابن أبي ربيعة!. . .)
وبودنا نحن أن نعرف ما هي العلاقة بين الطيارات وإلغاء شعر ابن أبي ربيعة أو شعر غيره من أدباء العصور الأولى
هل كان ابن أبي ربيعة صانع دراجات أو مركبات خيل فبارت صناعته باختراع الطيارات؟
هل حلت الطيارات محل النساء اللاتي كان ابن أبي ربيعة مشغولاً بهن فوجب أن يشتغل بمغازلة الطيارات عن مغازلة النساء؟
هل أصبح الناس بغير قلوب وبغير ألسنة لأنهم يركبون الطيارة أو يستمعون إلى المذياع؟
هل ألغي الأوربيون مخترعو الطيارة شعر هوميروس وهو سابق لعصر عمر من أجل هذا(555/2)
الاختراع؟
لا وحق المحروسة الغالية التي تعلم كتاب مصر وأدباءها ماذا يكتبون وماذا يدرسون
فالأوربيون الذين اخترعوا الطيارات على أنواعها، والذين شغلتهم الطيارة في كل ميدان من ميادين القتال أو ميادين السلام، والذين يبتدعون الأزياء للعقول والجسوم، لم يتركوا أدباءهم الأقدمين أو المحدثين ليستبدلوا بهم مصنوعات المعامل من آخر طراز، ولم يحسبوا أن هؤلاء الأدباء مرجوعات تباع في سوق (الخردة) كلما ظهر طراز جديد من المصنوعات
وإلى يساري الساعة رفوف عليها أكثر من خمسين مجموعة شعرية ظهرت في إبان الحرب الحاضرة بين ضرب القذائف من الطيارات وإطلاق الأسراب بعد الأسراب من الطيارات، وقيام الرؤساء وقعودهم بالحديث عن الطيارات والغارات بالعشرات بعد العشرات
بل في هذه المجموعات نفسها قصائد من نظم الطيارين الذين يعيشون على الطيارة ويموتون معها ثم يعودون إلى شعرهم القديم ويذكرون أساطير اليونان الني تحدثت عن الطيران قبل الأوان
فلا علاقة إذن بين الطيارة وإلغاء عصر ابن أبي ربيعة. وإن كان هناك شيء قد صنعه عصر الطيارة على التحقيق فهو أنه لا يقبل الآن ما كان يقبله عهد القرون الوسطى من ثرثرة الكبيرات أو الصغيرات من بنات حواء، لأنهن بنات حواء
فإذا كانت المحروسة الغالية تفهم هذا فلا تستغرب أن تلقي بعض جزائها على الخوض فيما تجهل وعلى التعرض بذلك الأسلوب لأناس لهم على كل إنسان مهذب حق الرعاية والتبجيل
ونستأذن عصر الطيارات مرة أخرى لنرجع إلى موضوع (رجعي) عتيق وهو موضوع اللغة ثم موضوع التاريخ القديم، وكلاهما قد يحرم على المخلوق الناطق في عصر الدوي والأزيز؛ فقد أجبنا الأستاذ الفاضل محمود أبا رية بما نراه في استعمال كلمة الفشل بمعنى الإخفاق، فقلنا: (إن هذه الكلمة من الاستعمال الحديث الذي شاع حتى غطى على معنى الكلمة القديم، مع تقارب المعنيين، حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر، لأن التراخي(555/3)
والضعف والخواء قريبة كلها من الحبوط والإخفاق)
فعقب على هذا عالم فاضل من رجال اللغة عندنا قائلاً في العدد الماضي من الرسالة: (وأنا أقول إن الإخفاق لا يلازم الضعف والتراخي حتما. . . فالضعف شيء والإخفاق شيء آخر، ولو صح هذا التقارب بين المعنيين، حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر لجاز أن يطلق الإخفاق ويراد به الضعف أو ما يلابسه من المعاني)
ونحن كما يرى حضرات القراء لم نقل أن الإخفاق والضعف شيء واحد، ولكننا قلنا إنهما متقاربان قد يحل أحدهما محل الآخر، فكل ضعيف مخفق في حالة ضعفه وقوة خصمه عليه، وكل مخفق ضعيف في حالة إخفاقه ونجاح خصمه. ولنا أن نقول إن فلاناً مخفق الرأي ونعني به الضعف الذي يحول بينه وبين النجاح، وليس التحرج في هذا بأنفع من التسهل، وما كان العرب يجهلون إطلاق الكلمة على المعنى لمناسبة قريبة بل بعيدة في أحايين كثيرة. وحسبنا أن الأستاذ نفسه قد تردد بين التسهل والتشدد في هذا الموضوع لنعلم أن التسهل فيه لا يخلو من حجة يحسب لها حساب
وقد وردت علينا آراء أخرى لا نحب أن نعرض الآن لجانب اللغة منها، لأننا نود أولاً أن نحيل صاحب تلك الآراء على المراجع الكبرى ليهتدي إلى صوابه قبل أن نهديه إليه
ولكننا نتناول ناحية التفكير من آرائه لأن المجال فيها متسع لشيء من التنبيه والتذكير
فقد كتب الفهرسي المجتهد الأستاذ بشر فارس في مجلة المقتطف مقالاً استغرق نحو سبع صفحات منها عن كتابنا (الصديقة بنت الصديق) زعم فيه زعماً لا يقبل الشكر كما قال (إن المؤلف ما أراد أن يولج كتابه في جانب العلم الصرف)
وهذا الزعم الذي لا يقبل الشكر هو الزعم الذي لا يحسب من العلم الصرف في شيء
لأن الحق الذي توخيناه هو أننا أردنا متابعة العلم في كل حقيقة من الحقائق التي بسطناها، ولكننا لم نولج كتابنا على حد تعبيره - في باب الفهرسيات وما إليها، لأنها صناعة تليق بمساعد في مكتبة علمية، ولا تليق بعالم أن يفرغ لها أو يجعلها كل قسطه من العلم والكتابة
ففي كل (دفتر خانة) من دواوين الحكومة كاتب صغير أو ساع يعرف الكتابة والقراءة ويعرف من الرفوف والأرقام ومراجع المواليد والوفيات والمزارع والبيوت والأسناد والعقود ما يستنفد السنوات من حفاظ الفهارس والعناوين(555/4)
ولكنني أؤكد التوكيد الذي لا شكر فيه أنهم لا يحسبون من العلماء والأدباء، ولا فرق بينهم على الإطلاق وبين من يحفظون الفهارس والجزازات ويستخرجونها (عند الطلب) من مواضعها على الرفوف
وفي الأمر ما هو أكثر من ذلك وأدعى إلى الحذر والانتباه؛ فإن هذه المحفوظات الفهرسية خطر على التفكير وإصالة البحث قد يعطل الأفكار ويعوق الفهم عن درك حقائق الأمور، لأنه يعود الفارغين لها أن يعرفوا الأشياء بأسمائهم وعناوينها ويغفلوا عن مسمياتها وحقائقها. ولا خير في ألف عنوان لألف مذهب أو كتاب إذا كانت هي قصارى المعرفة عند جماعة الفهرسيين
ومن عوارض ذلك في كلام ناقد المقتطف أنه يذكر مثلاً كلمة النقد الداخلي ويسوقها إلينا كأنها شيء غريب لم يخطر لنا ولا لأحد على بال، لأنه عرف الشيء بعنوانه ولم يعرفه بحقيقته ولبابه. ولو أنه عرف ما هو النقد الداخلي على الحقيقة واللباب لفهمه في عشرة كتب على الأقل كتبناها عن شخوص مختلفين، وكلها دائرة على النقد الداخلي لطبائع أولئك الرجال. وليس بفاهم ما هو هذا النقد الداخلي من لم يفهم أنه هو النقد الذي توخيناه ونحن نكتب عن محمد وعمر والصديق وعلي وعائشة وجيتي وابن الرومي وأبي العلاء والمتنبي وسعد زغلول وعشرات آخرين
كذلك يقول مثلاً: (كيف تكون عائشة جارية صغيرة على نحو ما وصفتها بريرة - تنام عن عجينها - وهي ابنة ستة عشرة أو فوق ذلك؟)
فلولا الفهرسيات لاستطاع ناقد المقتطف أن يفهم ذلك حق فهمه، لأننا كتبنا ثلاثة فصول نقرر فيها أن السيدة عائشة قد نشأت مدللة بحكم ولادتها في الحضر، وبحكم ولادتها في قبيلة بني تميم خاصة، وبحكم ولادتها في بيت الصديق على الأخص، وبحكم الحظوة التي لقيتها في بيت زوجها العظيم. فإذا كانت فتاة في السادسة عشرة لا تنام عن عجينها في هذه الحال فماذا يسميها الناقد الفهيم؟ أيقال إنها امرأة نصف؟ أيقال إنها عجوز شمطاء؟
إنما الآفة آفة الفهارس كما قلنا، وإنما كان صاحبنا يفهم ما ذكرناه لو أنه ظفر بجزازة فهرسية قيدت عليها كلمة العجين وقيل فيها - مثلاً - (ومن العجين ما تنام عنه الفتاة وهي في السادسة عشرة، كما جاء في ترجمة عائشة - راجع كذا وكذا وكذلك وكذاك. . .)(555/5)
ويومئذ يكون هذا هو العلم الصرف وهذا هو التحقيق العجيب. . .
وإذا كان لهذا الكاتب عذر من قلة الفهم فقد كان ينبغي أن يتجنب قلة الذوق لئلا يجمع بين الفقرين السيئين، وفي واحد منهما كفاية
فلا يحسب علينا أن نطيل القول في حديث الإفك دفاعاً وتصحيحاً وهو يطيل القول فيه للتوهين والتشكيك
(فنحن نقول (على الذي يقبل وشاية كتلك الوشاية الواهية أن يروض عقله على تصديق أمور كثيرة لا موجب لتصديقها. . . عليه أن يصدق أن صفوان بن المعطل كان رجلاً لا يؤمن بالنبي ولا بأحكام الإسلام، وأن يصدق أن السيدة عائشة كانت وهي زوج النبي لا تؤمن به ولا تعمل بدينه)
فإذا بالناقد الفهيم يعقب على ذلك فيقول: (والذي أراه أن هذا الاستدلال مجتلب بل محض ذاتي، وذلك لأننا نعلم من طريق المشاهدة والملاحظة أن البشر يتفق لهم أن يزلوا وإن كانوا من أهل التصديق والإيمان)
وهذا كلام فيه سوء فهم وسوء ذوق مجتمعان!
سوء فهم، لأن المسألة هنا ليست مسألة الزلل وكفى، ولكنها مسألة الشك في اتصال النبي بعالم الغيب وقدرته على كشف الحقيقة مع إنكار المنكرين. وليس في المشاهدة والملاحظة التي يتشدق بها هذا الكاتب الفهرسي أن امرأة نبي تفعل ذلك وهي مؤمنة به، وتفعله بغير إغراء يستطير الألباب من الرءوس
أما سوء لذوق فكفى أن نشير إليه ولا نطيل فيه، وكفى الآن من هذا الموضوع إلى حين.
عباس محمود العقاد(555/6)
محمد أحمد جاد المولى
للدكتور زكي مبارك
في الساعة الثامنة من صباح اليوم حدثني الأستاذ عبد الله الصفتي تليفونياً بنبرات حزينة لم يتحدث بمثلها من قبل وهو يقول: عظم الله أجرك في جاد المولى بك!
فقلت: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وكررتها نحو عشر مرات وأنا مأخوذ بصدمة لم تكن تخطر في البال، فقد كان جاد المولى بك في صحة وعافية، وكانت ملامح وجهه تنبئ بأنه لن يموت قبل التسعين أو الثمانين
وأحدق الحزن بقلبي من كل جانب، فقد تصورت ماضيه وماضي في رعاية صداقة غالية كانت مضرب الأمثال، بحيث اعتقد كثير من الناس أنه لم يصادق غيري وأني لم أصادق سواه، فما وقع بيننا ما يوجب الملام في محضر أو مغيب، ولا سمع عني أو سمعت عنه ما يستوجب العتاب
كذلك تصورت، وكذلك توهمت أنني فجعت فيه وحدي، ثم كانت النتيجة أن يتبدد ما تصورت وما توهمت، فقد رأيت جميع من في وزارة المعارف يترحمون عليه، ورأيت فيهم من بكاه بالدمع وهو الدكتور رياض
زلزلت وزارة المعارف لموت هذا الرجل، وعدت فجيعتها فيه من الفواجع الفوادح، وتمثل الجميع ما كان عليه من سجاحة النفس ودماثة الأخلاق
وأدى رجال المعارف واجبهم نحو فقيدهم الغالي فبلغوا نعيه إلى مدارس القاهرة ليشترك جميع المدرسين في تشييع جثمانه إلى المقر الأخير
وأردت أن أشترك في توديعه، ولكني لم أستطع فقد عز علي أن أرى جاد المولي بك محمولاً على نعش، وكان بالأمس ملء العيون والقلوب
لم يبق إلا أن أودع هذا الرجل بكلمة تقرب صورته إلى من جهلوه، وما أكثر من جهلوه، والحكيم يعيش في زمانه عيشة الغرباء
بداية جميلة
كان جاد المولى بك في طليعة إخوانه بدار العلوم، فأوفدته وزارة المعارف إلى إنجلترا في بعثة علمية، وحين عاد أعجب به المغفور له حسن باشا عبد الرزاق فاقترح على عظمة(555/7)
السلطان حسين كامل منحه رتبة البكوية، وكانت تلك الرتبة لا تمنح للشبان، فكان أول من نالها بفضل تفوقه وهو في عنفوان الشباب.
ثم رأى أن يتعرف إلى الجمهور فألقى محاضرتين علنيتين عن الغزالي وابن خلدون، فكان غاية في الفهم لابتكارات هذين الفيلسوفين العظيمين
وفي سنة 1924 أرسلت إدارة الجامعة المصرية خطاباً إلى وزارة المعارف تدعوها فيه إلى تكليف أحد رجالها الاشتراك في لجنة امتحان الدكتوراه في الفلسفة بجانب الأستاذ عبده بك خير الدين، وكان وكيل المعارف حينذاك عاطف باشا بركات، فاختار جاد المولى بك، ولهذا الاختيار قيمة نفيسة، فقد كان عاطف باشا من أعرف الناس بأقدار الرجال
كنت أنا الطالب الذي يؤدي امتحان الدكتوراه في الفلسفة وكنت أنا الذي جهل أن وزارة المعارف رمتني منه بداهية، فقد وجه إلى أسئلة أثارت الجمهور وحملت الشيخ عبد المجيد اللبان والشيخ محمد الأبياري على أن يغضبا غضبة إسلامية، ولولا تلطف الدكتور منصور بك فهمي لانقلب ميدان الامتحان إلى قتال
كان من رأي جاد المولى بك حين خلت اللجنة للمداولة أنها غير مسئولة عن آرائي في كتاب الأخلاق عند الغزالي، ولكن الدكتور منصور بك فهمي أقنعه بأن لجنة امتحان الدكتوراه لا تعرف غير شيء واحد هو قدرة الطالب على تأييد آرائه ولو انتهت إلى الضلال!
الذكي المتغابي
كان جاد المولى بك غاية في الذكاء، وكان غاية في التغابي
ما أذكر أن مشكلة غاب عنه فهمها على الوجه الصحيح، ولا أذكر أنه أخطأ الفهم لشأن من الشؤون
كان يثق بي فيحدثني عن آرائه في المجتمع، فأرى له مذاهب من الفكر تغيب عن أكثر الرجال
شهيد الواجب
بلغ جاد المولى بك سن التقاعد قبل شهور، ولكن معالي الهلالي باشا رأى أن يقترح على(555/8)
مجلس الوزراء مد خدمته سنتين، للانتفاع بخبرته التعليمية، فبالغ جاد المولى بك في نشاطه ليؤيد حقه في ثقة ذلك الوزير الجليل
وفي أحد أيام الأسبوع الأخير من شهر أغسطس الماضي كنت بحضرة الهلالي باشا في مكتبه بالإسكندرية، لأحدثه في شؤون تستوجب لقاءه هناك
وفي أثناء الحديث صلصل تليفون المعارف بالقاهرة ليقول الوزير للوكيل ما نصه بالحرف:
(يجب أن تنتهي حركة التنقلات قبل اليوم العاشر من سبتمبر، ليعرف المدرسون إلى أين يتوجهون. . . شغل جاد المولى بك)
وعند رجوعي إلى القاهرة رأيت من الأمانة أن أبلغ جاد المولى بك ما سمعت، فطلب جميع معاونيه من إجازاتهم بالبرقيات لينجز حركة التنقلات بأسرع ما يستطاع
والذي يعرف أن متاعب مدرسي اللغة العربية ليس لها حدود يعرف كيف يعاني من يحاول راحتهم من شديد العناء
ضغط الدم قتل جاد المولى بك، وهو مرض لا يصاول غير شهداء الواجب. . . فعلى روح هذا الشهيد ألف تحية وألف سلام
كانت لهذا الرجل مغاضبات في أعوامه الأخيرة، ولكنه لم يغاضبني في أي يوم. كانت عبارته حين يلقاني: أهلاً بدكتورنا فسلام عليك يا أكرم أستاذ وأشرف صديق
لو أنشأنا مليون مدرسة لما استطعنا أن ننشئ فتى في مثل أدبك وذوقك. ولو أنشأنا مليون قصيدة في الرثاء لعجزنا عن كلمة الصدق فيك، يا أصدق الأوفياء
أكرمك الله وأعزك، وجعلك من أهل الفردوس
رفق ولطف
كان جاد المولى بك رفيقاً جداً بمعاونيه من المفتشين فلا يصدر رأياً إلا بعد الاستئناس بما عندهم من آراء، وكانت صلاته بالمراقبين صلات أخوة صافية، وقد بلغ به التواضع أبعد مبلغ فاتهم بالضعف ظلماً وعدواناً، وجرت القالة بأنه يعجز عن درء الشر إن وجه إليه، وهذه القالة وتلك التهمة مهدومتان من الأساس، فجاد المولى بك لم يكن يحب الخصام ولا القتال، حتى نطالبه بالمقدرة على اللدد والعنف، وإنما كانت فطرته تهدية دائماً إلى إيثار(555/9)
الرفق والمسالمة مع جميع الناس
وما الموجب لأن تكون حياتنا كلها قتالاً في قتال، بحيث لا نتصور الشجاعة إلا بصورة واحدة هي المصاولة والفتك والإيذاء؟
وما الذي يمنع من أن نرى في ضبط النفس شجاعة تفوق كل شجاعة؟
إن المظاهرة بالعداء أخف وأسهل من المجاهرة بالصفاء، لأن العداء العنيف هو البقية مما ورثناه عن عهود الوحشية، ولا كذلك التلطف والترفق، فهما من مظاهر الرقي في الشمائل الإنسانية
والحق أن أخلاق جاد المولى بك كانت فوق ما نطيق، ولهذا كان يحب ناس أن يزيفوها، ليستروا عجزهم عنها، فقد كانت من المعجزات
أين من يصدق أن كبير مفتشي اللغة العربية لم يكن يقدر على توجيه كلمة فيها صورة الأمر للساعي الذي يحفظ ودائع مكتب التفتيش؟
لو كان تلطفه مع الرؤساء ناشئاً عن ضعف لوجب أن يكو أسداً في معاملة الضعفاء
وهذا بحث إن أطلناه طال، والمقام يضيق عن الإطناب
مؤلفات جاد المولى بك
أشهر مؤلفاته كتاب (محمد المثل الكامل) وقد طبع غير مرة، وانتفع به كثير من المسلمين، ثم ترجمه أحد الأفاضل إلى اللغة الفارسية باسم (عظمت محمد)، وبهذا وصل نفعه إلى أبعد آفاق الشرق الإسلامي
ومن خير مؤلفاته (كتاب الأخلاق) وهو كتاب فصل به المذاهب الأخلاقية أجمل تفصيل
ثم ماذا؟
ثم يكون الرد المفحم على ما اتهم به جاد المولى بك، فقد قيل وقيل إنه وضع اسمه على مؤلفات كثيرة بوصف أنه اشترك في التأليف مع أنه لم ينشئ بقلمه فصلاً من فصول تلك المؤلفات
ولهذه التهمة أصل من الصحة، ولكن المتهمين تناسوا جوهر القضية؛ فقد كان الرجل أستاذاً كبيراً، والأستاذ يوجه أكثر مما يؤلف، وبالتوجيه السديد أنشأ جيلاً من المؤلفين النوابغ، وهم تلاميذه الأوفياء، وبإرشاده وبجهودهم زودت المدارس بأطايب المؤلفات الأدبية(555/10)
الدينية. وهذا فضل لا يجحده إلا أهل العقوق
تحية وسلام
أما بعد، فإني أسارع إلى رثاء هذا الرجل الكريم، لأني أخشى أن لا يجد من يرثيه، فما كانت له عصبية دنيوية، ولا كان يحب أن يكون له اسم طنان، ولا كان يعلن معروفه ليقال إنه طوق جيد فلان أو فلان
كانت أعماله لوجه الله ولوجه الوطن في صمت وسكون
لم أستطع المشي في جنازتك يا أستاذي وصديقي وزميلي؛ فقد هدني الحزن الذي رأيته على وجوه رجال المعارف يوم موتك، وهو حزن صادق من رجال صادقين
أفي الحق أني لن أراك بعد اليوم؟
أفي الحق أن إخوانك بوزارة المعارف لن يجدوك إن افتقدوك؟
عندي خبر أبلغه إليك، وهو أننا تلقينا اليوم خطاباً باسمك أرسلته الرابطة العربية تدعوك فيه إلى موافاتنا بعيادة الدكتور محجوب ثابت لتنظيم الاحتفال بتأبين الأستاذ محمود بك بسيوني، رحمه الله ورحمك
فما رأيك في أسبوع أفقد فيه صديقين كريمين؟
أتكون الدنيا غادرة إلى هذا الحد المزعج؟
ما أسعد الذين شيعوه وشيعوك إلى مثواه ومثواك
عند الله أحتسب فجيعتي في صديقين قد لا يجود بمثلهما الزمان، ومن الله أستمد العواء، فليس من العدل أن أشقى لفراق صديقين يشغلان عني بما أعد الله من النعيم لأهل الصدق والوفاء.
زكي مبارك(555/11)
في مجموع رسائل الجاحظ
لأستاذ جليل
في هذا الكتاب الذي أفضل على الأدب العربي في هذا الوقت بنشره الدكتور باول كراوس، والأستاذ محمد طه الحاجري، وطبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر - وجدت حروفاً أذكر بعضها اليوم:
1 - في ص 45:
. . . فيفشو من هذه الجهات أكثر مما تفشيه ألسن المذاييع المبذر، وجاء في الحشية: كذا في الأصل ولعله المبذرين أو البياذير
قلت: هي البذر مثل الصبور والصبر والغيور والغير والفخور والفخر، والبذور والبذير هو الذي يذيع السر ولا يكتمه، ومثل البذر في المعنى المذاييع جمع المذياع وهو بناء مبالغة من أذاع السر إذا أفشاه
وفي حديث: ليسوا بالمساييح البذر. وفي حديث على: ليسوا بالمذاييع البذر
2 - في ص 104:
. . . وفي مثل آخر: لن تعدم الحسناء ذامًّا
قلت: هو لا تعدم الحسناء ذاماً. والذام والذيم: العيب، وذامه - كذمه - عابه. ومثله العاب والعيب في الوزن. وقد ذكرت كتب الأمثال قصة هذا المثل
3 - في ص 120:
واستمسكت بحبلك، واستذرأت في ظلك
قلت: استذريت في ظلك، واستذري بفلان أي التجأ إليه وصار في كنفه، وفلان في ذرى فلان أي في ظله
4 - في ص 102:
. . . وقد قيل: كل مجرٍ في الخلاء يسبق
قلت: المثل المشهور هو كل مجر في الخلاء يسر. وقد يقال: كل مجر بخلاء سابق، وكل مجر بخلاء مجيد
5 - في ص 71:(555/12)
وسواء - جعلت فداك - ظلمت بالبطش والغشم، أو ظلمت بالدحس والدس
وجاء في الحاشية: ولعل الصواب (أي صواب الدحس) الدعس
قلت: العس الوطء. وأغلب الظن أنها الرس، ورس بين القوم: أفسد
6 - في ص 40:
وقام مقام الإخبار عن غير تشاور ولا تواطئ مقام العيان قلت: رسم التواطؤ هو بهمزة فوق واو. ومثل ذلك التجرؤ والتبرؤ اللتان يكتبونهما كثيراً بهذه الصورة: (التجري والتبري) وجاءت (خطئ) في ص 21 بهذه الصورة: (خطأي) وأرى رسمها كما خططتها. وقد وردت التواطؤ في ص 24 مضبوطة
7 - في ص 22:
ومنهم من تريده للمهنة
قلت: ضبطت المهنة بكسر الميم، وقد أنكر الأصمعي الكسر. ونقده الزمخشري في (الفائق) ووردت اللفظة في كتب اللغة بفتح الميم وكسرها، وفتح الميم والهاء، وفتح الميم وكسر الهاء. فخير أن تضبط بالفتح والكسر، أو بالذي هو أفصح - كما قالوا - وهو الفتح. ومثل الاقتصار على كسر الميم في المهنة ضبط الضن في ص 7 و 26 و 27 بالكسر، وهي بالفتح والكسر
8 - في ص 63:
ولابد أيضاً من حزم يحذرك مصارع البغي، ويخوفك من ناصر المظلوم.
قلت أرى أن تضبط (مصارع) بفتح الميم كما قصد صاحب القول.
9 - في ص 64:
والهوى يتصور في صورة امرأة، فلا يبصر مساقط العيب، ومواقع الشرف
قلت: السرف، والجمل التي بعدها تدل على ذلك، ولم ينبه على اللفظة في جريدة (التصحيحات)
10 - في ص 18:
والإفراط في المضرة مبعثة على حربك، والإفراط في جر المنفعة غنا لمن أفرطت في نفعه عنك(555/13)
قلت: إذا كسرت عين (غنى) قصرت، وإذا فتحتها مددت فقلت غناء كما قال ابن سيده في (المخصص) والغنى والعناء: الاستغناء
11 - في ص 30:
فتحرز من دخلاء السوء
قلت: السوء - بفتح السين - وهو الفساد
12 - في ص 103:
فلما لم ير أحداً بحضرته يدب عن كتابي قال. . .
قلت: يذب بالذال، وذب عنه دافع عنه. وهذا تطبيع لم يذكر في جريدة (التصحيحات)
13 - في ص 110:
لاسيما إن كان مع استبطان الحسد
قلت: جاءت (ولاسيما) في هذا الموضع وفي غيره مجردة من ذينك الحرفين. وأستبعد كثيراً هذا التجريد في كلام المحدثين الأولين؛ وإن أجاز ذلك نحاة من المولدين المتأخرين، وقد وردت اللفظة ومعها صاحباها في ص 24 و 68
14 - في ص 43:
ألم تر أن وُشاة الرجا ... ل لا يدعون أديما صحيحا
فلا تفش سرك إلا إلي ... ك فإن لكل نصيح نصيحا
قلت: (ل) في أول الشطر الثاني في البيت الأول هي في مكانها في هذا البحر. وفي المتقارب تجتمع العروض الصحيحة والمحذوفة. و (ك) في أول الشطر الثاني في البيت الثاني مكانها في الشطر الأول مع جارها، والقبض في هذا البحر في كل موضع حسن. فترتيب هذا البيت هو بهذه الصورة:
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
وإذا كانت (الكاف) في العجز اختل وزنه
15 - في ص 104
فإن أبناء النعم وأولاد الأسد محسودون
قلت: هل الأصل وأولاد الأسر - بالراء - محسودون، ونحن هنا في حسد الأناسية لا في(555/14)
حسد السباع الضارية
16 - في ص 117
وإذا اكتسى ثوباً نسيسا لم أقل ... يا ليت أن علىَّ حسن ردائه
قلت: ثوباً نفيساً. والنسيس بقية الروح الذي به الحياة، والجهد وأقصى كل شيء، والجوع الشديد
17 - وفي هذه الصفحة المتقدمة:
وإذا تخرق في غناه وقرته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه
قلت: وفرته بالفاء، وهذا البيت والذي قبله هما من مقطوعة رويت في (رسالة فصل ما بين العداوة والحسد) ورواها أبو تمام في حماسته، وهذه هي رواية حبيب:
إني وإن كان ابن عمي غائباً ... لمقاذف من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرءا ... متزحزحاً في أرضه وسمائه
ومتى أجئه في الشدائد مرملاً ... ألقي الذي في مزودي لوعائه
وإذا تتبعت الجلائف مالنا ... خُلطت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا اكتسي ثوباً جميلاً لم أقل ... يا ليت أن علىّ حسن ردائه
وفي رسالة الجاحظ:
وكان عبد الله بن مروان إذا أنشد (إني وإن كان ابن عمي الأبيات) قال: هذا والله من شعر الأشراف. نفى عن نفسه الحسد واللؤم والانتقام عند الإمكان والمسألة عند الحاجة
ناقد(555/15)
المرأة. . .!
للأستاذ عمر الدسوقي
مناجاة:
ويحك أيها اليراع! مالك تتململ ولا تحير جواباً؟ ما يحبسك عن خوض هذه المعركة المحتدمة؟ إنها الفتنة تكاد تتمخض عن شر مبين، وسيطرة لا تنازع لتلك الأقلام التي تنكرت لما تحب وتؤمن أنه الحق! وإذا كتب لها الفلج فهيهات أن تجد سميعاً أو مجيباً أو مؤازراً بل ستخمد إلى الأبد مطموراً مع تلك الفضائل الحبيبة التي عصفت بها أعاصير الفتنة الجامحة!
استيقظ - ويحك - من هذا السبات الطويل؛ فإن الصمت اليوم جريمة! ألا ترى كيف يناضل دعاة الفتنة، ويصدرون عن ذهنية واحدة، ويضربون في هدف واحد، ويسيرون قد ما بخطى ثابتة يريدون أن يجتثوا ما بقى في قلوبنا من عقيدة وفي نفوسنا من حياء، ويمسخوا تقاليدنا الطيبة مسخاً زرياً؟!
هل تخشى أيها اليراع ذياك التيار الجارف العنيف الذي يهدر بالمجانة والعبث والرذيلة، ويكتسح أمامه النفوس الضعيفة المستخذية المنحلة ويقوض دعائم الحق والإيمان والفضيلة؟ هل يردعك ألا تجد في الميدان لداتك من دعاة الحق إلا نفراً قليلاً؟. . .
لا ترع أيها القلم! فإن هناك نفوساً كثيرة خيرة لا تزال صامدة صابرة تقاوم سيل الأباطيل المتدفق الذي يزلزل الأرض تحت أقدامها، وإن كان يخشى عليها الزلل إن لم يتقدم من يشد أزرها، وينافح عن مبادئها السامية، ويزيل من طريقها ما أثارته تلك الأعاصير حتى يتكشف لها الحق ويتضح الخير فيسكن بلبالها وتطمئن أفئدتها وتذهب شكوكها
لا ترع أيها القلم! فإن دعاة الخير كثيرون، وإن كانوا في صمت رهيب كما كنت، وسوف يدوي صوتهم كما كان بالأمس وسوف يغص بهم الميدان ثانية، فلن تكون في قلة، إن (الرسالة) في ماضيها المجيد قد كشفت عن أقلام جريئة قوية صادقة. فأين هي تلك الأقلام يا ترى؟ لعلها تستجيب لندائك فتلبي سراعاً، فتكافح في سبيل المدنية والخير والفضيلة!
من يوميات فتاة عصرية(555/16)
فتاة مسلمة من أصل جركسي ولا يفوتني أن أشكر المؤلف إذ لم يدع أنها من سلالة عربية - تقطن القاهرة مدينة المعز، ومثابة الدين لا ترى حرجاً، وقد تشربت نفسها روح الحضارة الأوربية، وخلب لبها زيفها - أن تسجل في مذكراتها ما يأباه الدين والكرامة، فهي تسمح لعلي شقيق صديقتها بأن يقبلها لأنها (تستلطفه)، ثم تغازل أحمد في سيارة عامة لأن عينيه جذابتان، وتدع منديلها يسقط على مرأى منه كي يعدو وراءها ويناديها فتعرف: هل صوته جميل كعينيه؟ وتراه يدخل حانوت وراق فتلجه خلفه وتتمسح به، فإذا خرج كانت معه لدى الباب كما أرادت فيدعوها للخيالة فتلبي رغبته، وهي لا ترى بأساً من الكذب على والديها، وتذهب معه لأحياء ليلة رأس السنة في ملهى من ملاهي القاهرة وتعود بعد منتصف الليل ولا ترى ضيراً من إحياء عيد ميلادها هي بشرب قدحين من (البورتو)، وقد كادا يكونان من (الويسكي) في مقهى بالجيزة. . . الخ ما هنالك مما أستحي أن أسطره
هذا بعض ما جاء في آخر ما صدر من سلسلة (أقرأ)، ولست أدري وأيم الحق ما غرض مؤلفه منه!
أيريد أن يعرض علينا صورة بشعة مما عليه تعض الفتيات اللاوائي نبذن الفضيلة والخلق الرضي وراءهن ظهرياً، وقلدن الفتاة الغربية في مثالبها ونقائصها فيثير فينا الحمية، حتى ننأى ببناتنا عن مزالق الفتنة؟
أم يريد أن يؤنبنا على تفريطنا في أمر الفتاة، وأنا تركنا لها الحبل على القارب، فكان هذا شأنها؟ أم يريد أن يقول: إن هذه هي الفتاة العصرية، فيآيها الفتيات اللائي لا يزلن متمسكات بالفضيلة والحياء، إنكن جامدات رجعيات، وإن التمدين لن يكون إلا على هذا النمط، فقلدن (سميحة) حتى تتشرفن بأن يخلع عليكن لقب (العصريات)؟
ربما لم يقصد المؤلف شيئاً من كل هذا، وإنما يرمى لهدف لا أدريه، أو أنه يقصد (الفن للفن)، وإن كان عقلي الكليل لم يجد فيما كتب فناً
لا أنكر وجود هذا الصنف من الفتيات اللائي ينتسبن إلى بيئات تدعى أنها (أرستوقراطية)، ولعل الكاتب قد تلطف كثيراً فلم يعرض إلا نموذجاً (معتدلاً) منهن. ولكن أما آن لنا أن نكف عن عرض هذه المغريات التي تهوى بمجتمعنا إلى الحضيض؟(555/17)
لقد ظهرت (سميحة) بأنها فتاة تعبث ولكنها لا تزل؛ وهذه خدعة من الكاتب، إذا لو هوت وزلت لارتدعت فتيات كثيرات ممن سيقرأن هذا الكتاب حفاظاً على شرفهن. وهب أن فتاة ما نجت بفضل مهارتها وإرادتها، أو بفضل ظروفها إذ لم تقع بين يدي ذئب مستهتر من ذئاب البشرية، فهل هناك ما يكفل لكل فتاة تنهج هذا النهج ذياك المصير؟
إننا لا نكتب لمصر فحسب، بل نكتب للشرق العربي كله، وليس هذا النوع - ونحن في فجر نهضتنا السياسية والاجتماعية - مما يجدر بنا أن نذيعه، فضلاً عن أنه يصور بيئتنا بصورة غير حقيقية لا تمثل إلا شرذمة انفلتت من تقاليدنا الإسلامية، ومسخت مسخاً غريباً فتنكرت لنا، وتنكرنا لها
كم نسبة المتعلمات في مصر - على فرض أنهن جميعاً من هذا الطراز لا قدر الله -؟ شئ ضئيل لا يكاد يذكر مع مجموع سكانها. فهل من الإنصاف أن نتحدث عن الفتاة المصرية بمثل هذا؟
لست ممن يحاربون تعليم الفتاة، لأني أومن بأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن الأم المتعلمة خير من الجاهلة؛ ولكني أريد تعليماً نغرس الفضائل في النفوس الغضة، تعليماً يجعل منها زوجاً صالحة، وأما تنشئ جيلاً قوياً فتياً معداً لمستقبلنا الذي يفرض علية تبعات كبيرة
إني أومن كذلك برسالة مصر الأدبية، ولكن إذا كان في مجتمعنا ما يزري، فهلا سترناه عملاً بالحكمة المشهورة: (إذا بليتم فاستتروا)! إني أعلم أن مصر قدوة تحتذي في البلاد العربية، فلم لا تكون القدوة حسنة تجاري الطبيعة العربية والفضائل الدينية؟!
حزب النسائي
أما سمعت بأن النساء يؤلفن حزباً في مصر - إذ لا ينقصنا غيره - وأن من أعراض هذا الحزب المطالبة بما يسمونه حقوق المرأة في الانتخاب، وأن بعضهن يطلب تغيير الشريعة الإسلامية في الطلاق، إذ لم يحسن الرجل استعماله فلتجرب المرأة، وفي الميراث، فتتساوى النساء والرجال. . . إلى آخر ما هنالك مما أذاعته بعض المجلات عندنا
ليست هذه الأمور مما يجمل بنا التقاضي عنها وإهمال مناقشتها، فإن كانت فاسدة وجب محاربتها، وإلا تركناها تأخذ مجراها الطبيعي. أما المطالبة بما يسمونه حق المرأة في(555/18)
الانتخاب فليس هذا أوانه أبداً، لأن تسعة أعشار النساء في مصر يرسفن في أغلال الجهل والفاقة والأمية والخرافات، وليس من الطبيعي أن نكلف هذه الأكثرية العظمى فوق طاقتها بأن تفكر في الانتخابات وتعنى بالشئون العامة، وهي لم تنل بعد من الضروريات ما يجعلها تعيش كانسان، وإذا كانت جمهرة المنتخبين من الرجال في مصر لا يحسنون استعمال هذا الحق بعد فكيف يكون حال النساء؟ أليس عملكن هذا كمن يرى بائساً جائعاً يموت من الطوى، وعرياناً تقف أعضاؤه وتيبس من البرد فيعرض عليه نزهة في سيارة؟! إن المرأة الأوربية التي تحاكينها لم تنل هذا الحق إلا بعد أن صار التعليم في ديارها أكثر من تسعين في المائة؛ ففي إنجلترا مثلاً لم تنله إلا في هذا القرن، ومنذ سنين معدودات. وأولى بنا ألا نفكر في هذا إلا بعد أن نبلغ هذا القدر من التعليم
إني أتمنى كل الخير للمرأة المصرية فهي نصف الأمة أو تزيد، وأرجو أن تخلص الحركة النسائية في مصر لقضية المرأة فلا تهتم بالزخارف وتغفل الجوهر، وتقلد المرأة الغربية تقليداً أعمى في آخر ما وصلت إلية. إن الخطوات الطبيعة للنهوض بالمرأة المصرية أن يحشد المتعلمات جهودهن لإزالة الفقر والجهل ومحو الأمية وتنوير عقول الجمهرة من نسائنا، حتى لا يخلدن إلى الخرافات والخزعبلات والرقي والتعاويذ
أما الشطط الذي يلج فيه بعض المتعلمات حين يطالبن بتغيير الشريعة الإسلامية في الطلاق والميراث فيتم عن عدم تبصرة بمبادئ الإسلام، وما نتضمنه من خير عميم للمرأة المسلمة تحسدها عليه كل امرأة أخرى في العالم. ولست هنا في صدد بيان هذه المبادئ والإفاضة في شرحها، بيد أني أقول: إذا كان بعض الرجال قد حاد عن نهج الدين وأساء استعمال هذا الحق ولم يستمع لقول نبي الإسلام عليه السلام (أبغض الحلال عند الله الطلاق)، فلن يكون عمل هذا النفر دليلاً ما على أن الشريعة الإسلامية لم تتوخ العدالة ولم تعرف أي الجنسين أولى بأن يمسك عقدة الطلاق. فالمرأة مرهفة الحس رقيقة العاطفة، سريعة التأثر، وزوجها مكلف شرعا بالإنفاق عليها وعلى بنيها، فهو يقدر التبعة حق قدرها ويأخذ حقه الطبيعي. إن مآسي الطلاق في أوربا تفوق الحصر، ويضطر أولو الأمر في لندن لإنشاء محكمة للطلاق كل عام حتى تناهض عدد القضايا الكثيرة، فخير لنا أن نحترم شريعتنا وأن نبث تعاليم الدين الصحيح بين أفراد الشعب، وألا نغالي في ظلامات النساء.(555/19)
أما حق المرأة في الميراث، فالمفروض أنها ستكون زوجاً؛ لأن هذه هي وظيفتها التي هيأتها لها الطبيعة، فإذا أخذت نصف أختها في الميراث ستأوي إلى من يتكفل بعيشها والنفقة عليها، فيكون نصيبها ونصيب زوجها مساوياً لنصيب أخيها وامرأته، وهذه هي العدالة بعينها. فلا بد من تفهم الإسلام قبل أن نجهر بهذه الآراء الفجة التي تدل على تسرع المرأة وانفعالها وسرعة تأثرها وعدم إصغائها لنداء العقل بل لصرت العاطفة.
عمر الدسوقي
مدرس بمعهد التربية العالي(555/20)
جولة في الفردوس
مع الشاعر ميخائيل نعيمة
للأستاذ رديني خشبة
(إلى روح أبي العلاء، بمناسبة أسبوعه في لبنان الصديقة)
استطاع شاعر لبنان المبدع ميخائيل نعيمة أن ينقلنا معه على أجنحته الأثيرية إلى جنته الوارفة الظلال، التي غرسها خياله الواسع الشاسع العلوي العجيب.
صحبناه فيها ساعة، بل ساعات، في مجموعته الشعرية الرقيقة (همس الجفون) التي جمعت طائفة من أشعاره الباهرة الممتعة من نظمه بين سنتي 1917 و 1930، بعضها بالعربية وبعضها بالإنجليزية، مترجماً إلى العربية بالشعر المنثور، فما راعنا إلا أن نرى شبحين، أو طيفين يلازماننا في رحلتنا إلى هذه الجنة العجيبة غدواً ورواحا. . . أحدهما عن يميننا، وكان عابساً متجهماً، منقبض القلب. . . كاسف البال، منطوياً على نفسه، غائر العينين مظلمهما. . . وقد وقف عند الباب فلم يدخل معنا. . . ولم ندعه نحن للدخول، لأننا لم نكن قد دعوناه لاصطحابنا في هذه الرحلة البعيدة المدى، بل لم نلق بالنا إلى عروجه معنا. أما ثانيهما فكان يدلف عن شمالنا، وكان هاشاً باشاً، ضحوكا طروباً. . . تشيع في أعطافه نشوة تشبه الخمار، فهو يتثنى ويتمطى. . . ونحن ننظر إليه، ولا نستطيع أن نفهم عنه هذا التخلج ولا ذاك الاضطراب. . . فلما انفتح باب الجنة كان أسبقنا إليها دخولا، واعرفنا بها مسالك ودروباً. ثم ابتعد عنا وغاب بين الأشجار عن أنظارنا، وسمعني شاعر لبنان أردد من شعره، وقد سمعت نغما ينبعث من أقدام ذاك الطيف:
من ذلك، بين الأشجار ... يمشي كخيال من نار
هو يضرب عوداً والأشجا ... ر تئن لشكوى الأوتار
الزهر يُنكّس تيجانه ... والحور يُلَمْلِم أغصانه
والريح تمر على أوتار ... العود فتخنق ألحانه!
فتبسم وقال: هذا النيسابوري عمر الخيام. فقلت: ليته رأى شيئاً كهذا في حياته، إذن لكان آمن وكفى نفسه شر هذا الشك الذي باعد بينه وبين هذا الفردوس! إني لأسمعه الآن وهو(555/21)
ينشد:
عدم آخر الوجود، فصاحي ... هاتِ راحاً أغدو بها غير صاح
وأدرها ريحانة الأرواح
لست شيئاً بعد الممات فهبني ... لست شيئاً قُبيله، واصطحبني
نقتل الوقت لذةً وانشراحا ... وثمولاً ونشوةً وانطرابا
فأرثى له، لأنه نفى أن يكون شيئاً بعد الموت، وهاهو ذا يسعى بروحه بين أيديكم يا معشر الشعراء إلى حيث تذهبون من هذه الجنات التي تغرسونها اليوم. . . له الله!. . أين ولي؟. . . فقال صاحبي اللبناني: لقد ذهب يلتمس ريحانة الأرواح في ظل تلك الكرمة النائية، فهلم نذهب إليه، فقلت: عجبا لك يا صاحبي! ألا تزال مشوقاً إليه مشغوفاً به، وأنت من أنت في هذه الجنة الفيحاء؟ أليس بحسبك ما ترسمت خطاه، حين قلت في همس جفونك، من أوراق الخريف:
عودي إلى حضن الثرى ... وجددي العهود
وانسي جمالاً قد ذوى ... ما كان لن يعود
كم أزهرت سوسانةُ ... وكم ذَوَتْ ورود
فلا تخافي ما جرى ... ولا تلومي القدرا
فمن أضاع جوهراً ... يلقاه في اللحودْ
عودي إلى حضن الثرى!
وأردت أن أردد من أشعاره ما ردد فيها من معاني النيسابوري عمر الخيام، لولا أن تجهم قليلاً، وقال مقاطعاً لكنك تبدل بعض الكلمات في شعري ولا ترويه كما نظمته. . فاعتذرت إليه بأني إنما أروى الذي علق بالذاكرة، وقد لا تؤتمر الذاكرة في غالب أمرها
ثم انطلقنا إلى حيث جلس الخيام في ظل كرمة، وقد وقف أمامه مخلوق عجيب يحاسبه ويشتط عليه في الحساب. . . فلما سألت صاحبي اللبناني عن هذا المخلوق الأديب المتمكن، ذكر لي أنه زهير بن نمير، شيطان ابن شهيد، الذي ألهمه رسالته (الزوابع والتوابع). فقلت له: وما زهير بن نمير في هذه الجنة، وهو شيطان!؟ فتبسم صاحبي ثم قال: لعله ما أوى إلى هذه الجنة إلا ليحاسبني أنا، لا ليحاسب الخيام. . . فامض بنا،(555/22)
وليكفني الله شره! فقلت له: وماذا أخشى منه؟ إن لأراك تفرق أشد الفرق! فقال: أخشى منه تحذلقه وتشبثه السخيف بالعربية الصحيحة الفصحى؟ فقلت: أتعد التشبث بصحة اللغة وفصاحتها سخفاً؟! والله لنشر كنه في هذا الأمر إذن! يا زهير. . . يا زهير. . . يا زهير بن نمير. . . ولم أزل أهتف به حتى شغلته عن الخيام ويمم نحونا. ولم يحيي ولم يبني، بل عبس عبوسة مظلمة قاتمة ثم قال: ويحك أيها اللبناني! أتدع أستاذك وابن جلدتك وفخر بلادك. . . درة المعرة أبا العلاء العظيم، بباب هذه الجنة، فلا تدعوه ولا تكلمه، وتترك تلميذه هذا الخراساني، ينفتل إليها ويعيث فيها، ويبحث أول ما يبحث عن أم عنب فينبطح في ظلها؟ من علمكم غرس الفراديس والتقلب في أفياء الجنان غير أي العلاء؟ وأنت مع ذاك تقول لصاحبك إنك تخشاني وتفرق من محاسبتي لتشبثي الذي تنعته بالسخف، بالعربية الصحيحة الفصحى؟ ولكن، لا والله. . . فلن يكون قاضيك إلا ذاك الذي تركته عند باب جنتك دون أن تدعوه إليها. . . فعد أدراجك إليه ثم كفر له عن ذنبك، ويشرفني أن أكون في إثرك مشاركاً في الدعوة عسى أن يغفر لك الشيخ!
ورأيت جبين صاحبي يقطب تقطيباً شديداً؛ وما كاد يخطو خطوة إلى وراء حتى انطوت أرض الفردوس تحت قدميه، وتحت قدمي، فكنا عند الباب من قدمنا، وإذا سيدنا أبو العلاء ينظر إلينا بكلتا عينيه الغائرتين، وقد رد إليهما الله القدير نورهما ثم يبتسم. . . وكنت أسبق إليه من صاحبي بالتحية التي حيانا بأحسن منها. وإذا كان أمر زهير بن نمير عجيباً، حين عرف ما تحدث به صاحبي ولم يكن معنا ولا قريباً منا. . . فقد كان أمر أبي العلاء العظيم أعجب. . . لقد هون على الشاعر اللبناني المبدع ما قال زهير، وما عنف عليه به، ثم أخذ يعاتبه هذا العتب الظريف اللطيف الحلو، دون أن يدخل الجنة:
ماذا يا حفيد الأحفاد، وسليل العرب النجب الأمجاد! فيم ضربك في بيداء الشك وأنت أكبر آية على الحق الذي تبكى من أجله دون أن تهتدي إليه؟ لماذا تعيش كما عشت من قبلك موزعاً بين الفلسفات والوساوس، مقسماً بين الظلام والنور، قلقاً بين الرجاء واليأس، مضطرباً بين الضلال والإيمان؟ لشد ما رثيت لك حينما انتهى إليَّ قولك:
فإذا ما راح فكري عبثاً ... في صحاري الشك يستجلي البقاء
مر منهوكاً بقلبي فجثا ... تائباً يمتص من قلبي الرجاء(555/23)
وإذا ما أملي يوماً مشى ... تائهاً في مهمه العيش السحيق
عاد لما كاد يقضى عطشا ... يحتسي الإيمان من قلبي الرقيق
وإذا الإيمان ولي والرجا أضحي ضرير ... فلينم قلبي إلى أن يُنفخ البوق الأخير!
لقد قلت عني مرة: (وهذا الرجل عينه، من بعد ألف سنة مرت على انعتاقه من حياته المرة، يفتح لي، وللكثير سواي باب منزلة على مصراعيه قائلاً: (تفضلوا وادخلوا) وهذا هو الذي يؤلمني ويقض مضجعي في ظلمات قبري يا صديقي العزيز. . . فلشد ما يضاعف آلامي أن أكون سبباً في هذه البلبلة التي تملأ خيالك وتجعله شروداً هائماً، كما تملأ خيال غيرك من الشعراء الذين تأثروا بي ومشوا على دربي وانتهجوا نهجي. لقد كنت أفكر بآلامي، وكانت الظلمات التي تملأ عيني تتدجى في فؤادي. وكانت زيارتي للاذقية، ولبثي بديرها، فتنة لي وعاصفة في إيماني. . . ولكن ما بالكم أنتم يا شعراء القرن العشرين، ومفكري عصور النور والمدنية، الضاربين بين العالمين القديم والجديد. . . ما بالكم تنظرون إلى الدنيا بأعيننا، وتفكرون فيها بأداة تفكيرنا؟ لقد تكشفت لكم عن مئات من الأسرار التي كنا نجهلها، ونقف منها موقف الحدس، بل موقف التخمين والترجيم. . . فلماذا لا تؤمنون؟ لماذا لا تملأونها نوراً على نور وبهجة على بهجة؟ ثم ما هذا الذي أسمعك تتغنى به:
كحل اللهم عيني ... بشعاع من ضياك كي تراك
في جميع الخلق، في دود القبور ... في نسور الجو، في موج البحار
في صهاريج البراري، في الزهور ... في الكلا، في التبر، في رمل القفار
في قروح البرحي، في وجه السليم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما هذا الكلام يا أخي. . . ما دود القبور، وما هذا الدود الكثير الذي تملأ به أشعارك، وما صهاريج البراري، وما قروح البرحي؟ أهذا من جملة ما علمتك يا ميخائيل؟ هل فتحت لك بابي لتملأ أشعارك بدود القبور وصهاريج البراري وثروح البرحى! أعوذ بالله يا صاحبي. . . أعوذ بالله!
وهل هذه هي بدائع خلق الله التي تراه في مفاتنها؟ ثم ما هذا التفريط في سلامة العربية يا حفيد الرب الأمجاد؟. . . وكيف تكسو عرائس أشعارك هذه المزق وتلك الأسمال؟ أنظر(555/24)
إليهن كنف يمشين في استحياء مما أضفيت عليهن. . .
وهنا هز زهير بن نمير أعطافه تيهاً وعجباً، ثم دس في الحديث أنفه وقال: حاسبه يا فخر العرب، وذخيرة اللغة والأدب، على هذه الهنات: يشمخ أنفه وردانا الخزى والعار والرعد يدوي ونجع القتيل ولا يكف الضرب والأحلام والشك والآلام والأيام أطلوا وكل هذا في ربع الديوان الأول، بدل يشمخ بأنفه، وأردانا، ويدوي بالتشديد، ونجيع، ولا يكف عن، وأطلت. فقال أبو العلاء صه يا نمير صه. . . إن من المصريين من يعيبون على الناقد ما يأخذ على الشاعر أو الأديب ما يقع فيه من اللحن، كأن اللغة صارت من الهوان بحيث لا يقام لها وزن. . . على أنني أجلك يا ميخائيل عن مراتب اللحانين بقدر إجلالي لك عن التردي في مهاوي الشك. ورجائي ألا تضيق بي، وأستودعك الله وأدعو لك. والسلام عليك ورحمة الله. عشت للعرب وأغنية الأدب
ولا أدري والله كيف عدنا إلى هذه الأرض، ولا كيف وقع لي هذا الحديث. والذي أذكره أن زهير بن نمير أراد أن يخوض في حديث صاحبه فصرفه أبو العلاء، ولعل لذلك عودة
دريني خشبة(555/25)
القضايا الكبرى في الإسلام
قتل الحلاج
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
الحلاج هو الحسين بن منصور من أهل البيضاه، وهي بلدة بفارس، وقد نشأ بواسط من مدن العراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره من أكابر المتصوفة. ولم تكن أسرته قديمة عهد بالإسلام، بل كان جده مجوسياً، ومن شأن من يكون حديث عهد بدين أن يأخذ فيه طريق التشدد، فرأى الحلاج أن يأخذ في إسلامه طريق التصوف والزهد، وأن يبالغ فيهما إلى أقصى حد. وقد سار من العراق إلى مكة فأقام بها سنة في الحجر، لا يستظل تحت سقف شتاء ولا صيفاً. وكان يصوم الدهر، فإذا جاء العشاء أحضر له القوام كوز ماء وقرصاً، فيشرب الماء، ويعض من القرص ثلاث عضات من جوانبه فيأكلها ويترك الباقي فيأخذونه، ولا يأكل شيئاً آخر إلى الغد آخر النهار. وكان شيخ الصوفية يومئذ بمكة عبد الله المغربي، فأخذ أصحابه ومشى إلى زيارة الحلاج فلم يجد في الحجر، وقيل له قد صعد إلى جبل أبي قبيس، فصعد إليه فرآه على صخرة حافياً مكشوف الرأس، والعرق يجري منه إلى الأرض، فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلمه، وقال: هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله، سوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدره
ثم عاد الحلاج إلى بغداد فيضي في إظهار الزهد والتصوف وجعل يظهر الكرامات للناس، فيخرج لهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم قد كتب عليها - قل هو الله أحد - ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه وما صنعوه في بيوتهم ويتكلم بما في ضمائرهم، فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول، واختلف الناس في أمره اختلافاً كبيراً فمنهم من قال: إنه حل فيه جزء إلهي، وادعى فيه الربوبية ومنهم من قال: إنه ولي من أولياء الله تعالى، والذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين، ومنهم من قال: إنه مشعبذ وممخرق وساحر كذاب ومتكهن، والجن تطيعه فتأتيه بالفاكهة في غير أوانها
وكان ذلك في عهد المقتدر بالله العباسي ووزيره حامد بن العباس، وقد تتولى له الوزارة بعد أبي الحسن بن الفرات، وكان قبلها يقوم بأعمال واسط، فذكر للمقتدر حاله وسعة نفسه(555/26)
وكثرة أتباعه، وأن له أربعمائة مملوك يحملون السلاح، فأمره بالحضور من واسط فحضر وقبض على ابن الفرات، وقد أقام حامد في دار الخلافة ثلاثة أيام، فكان يتحدث مع الناس ويضاحكهم ويقوم لهم، فبان للخدم ولأبي القاسم بن الحواري وحاشية الدار قلة معرفته بالوزارة، وقال له حاجبه: يا مولانا، الوزير يحتاج إلى لبسة وجلسة وعبسة. فقال له: تعني أن نلبس ونقعد فلا تقوم لأحد، ولا نضحك في وجه أحد، ولا نحدث أحداً؟ قال: نعم. فقال له: إن الله أعطاني وجهاً طلقاً وخلقاً حسناً، وما كنت بالذي أعبس وجهي وأقبح خلقي لأجل الوزارة. فعابوه عند المقتدر، ونسبوه إلى الجهل بأمور الوزارة، فأمر المقتدر بإطلاق علي بن عيسى من محبسه، وكان وزيراً للمقتدر قبل ابن الفرات، وجعله يتولى الدواوين كتائب عن حامد، فكان يراجعه في أمور الدولة، ويصدر عن رأيه فيها، ثم استبد بالأمر دونه ولم يبق له من الوزارة إلا اسمها، حتى قيل فيهما:
هذا وزير بلا سَوادٍ ... وذا سواد بلا وزير
وكان هذا سبباً في اضطراب الأمور ببغداد، فضعفت هيبة السلطنة، وطمع اللصوص والعيارون، وكثرت الفتي، وكبست دور التجارة، وأخذت بنات الناس في الطريق المنقطعة، وكثر المفسدون في الأرض
وقد نقل إلى حامد - وهذا شأنه - عن الحلاج ما يفعله في بغداد، وأنه أحيا جماعة من الناس بعد موتهم، وأن الجن يخدمونه ويحضرون عنده ما يشتهي، وأن الناس قد فتنوا به وقدموه على جماعة من حواشي الخليفة، وأن نصرا الحاجب وغيره من الحاشية قد مال إليه، فاهتم حامد بأمره، وطلب من المقتدر أن يسلم إليه الحلاج وأصحابه، فدفع عنه نصر الحاجب عند المقتدر، ولكن الوزير ألح على المقتدر حتى سلمه إليه
ومن هنا تبدأ قضية الحلاج التي اختلف الناس في أمرها اختلافاً كبيراً، وسندلي برأينا فيها بعد أن نفصل أمرها من أولها إلى آخرها، وقد أخذ حامد الوزير في التحقيق مع الحلاج قبل أن يقدمه إلى القضاء، ليعين التهمة التي ينسبها إليه، ويطلب من القضاء أن يحاكمه على أساسها، فأحضر شخصاً يعرف بالشمري وغيره ممن قيل إنهم يعتقدون في الحلاج الألوهية، وقد قررهم فاعترفوا بأنه قد صح عندهم أنه إله، وأنه يحيى الموتى. ما في الجبة إلا الله. ولكن الحلاج أنكر ما نسبوه إليه، وقال: أعوذ بالله إن أدعي الربوبية أو النبوة،(555/27)
وإنما أنا رجل أعبد الله عز وجل
فلم يقبل منه حامد هذا الإنكار، وأحضر القاضي أبا عمر محمد بن يوسف والقاضي أبا جعفر بن البهلول وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود، فاستفتاهم فيما أقر به الشمري وغيره من نسبة الألوهية إلى الحلاج، فقالوا: لا يفتى في أمره بشيء إلا أن يصح عندنا ما يوجب قتله، ولا يجوز قبول قول من يدعي عليه ما ادعاه إلا ببينة أو إقرار
فاجتهد حامد في أن يأخذ إقراراً من الحجاج بما نسبه إليه الشمري، وكان يخرجه كل يوم إلى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه ما يخالف الدين، وقد طال الأمر على ذلك وحامد مجد في أمره، وكان يحاول أن يجد ما يستحل به دمه، وجرى له في ذلك قصص يطول شرحها. ثم عثر أخيراً على كتاب للحلاج وجد فيه بغيته، لأن الحلاج ذكر فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد من داره بيتاً لا يلحقه شيء من النجاسات ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله، وفعل ما يفعله الحاج بمكة، ثم يجمع ثلاثين يتيماً، ويعمل أجود طعام يمكنه، ويطعمهم في ذلك البيت ويخدمهم بنفسه، فإذا فرغوا كساهم وأعطى كل واحد منهم سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك كان كمن حج
فأحضر حامد القاضي أبا عمر، فلما قرئ عليه ما ذكره الحلاج في ذلك الكتاب قال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري. فقال له: كذبت يا حلال الدم، قد سمعناه بمكة وليس فيه هذا. فلما قال له يا حلال الدم وسمعها الوزير قال له: اكتب بهذا. فدافعه القاضي؛ فألزمه الوزير، فكتب بإباحة دمه، وكتب بعده من حضر المجلس.
ولما سمع الحلاج ذلك قال: ما يحل لكم دمي، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، ولي فيها كاب موجودة، فالله الله في دمي
ثم كتب الوزير إلى المقتدر يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوي إليه، فكتب إليه المقتدر: إذا كان القضاة قد أفتوا بقتله فليسلم إلى صاحب الشرطة، وليتقدم إليه فيضربه ألف سوط، فإن مات من الضرب وإلا ضربه ألف سوط أخرى ثم يضرب عنقه. فسلمه الوزير إلى الشرطي، وقال له ما رسم به المقتدر، وأوصاه إن خدعه وقال له أنا أجري الفرات ودجلة ذهباً وفضة ألا يسمع منه، ولا يرفع العقوبة عنه، فتسلمه الشرطي ليلا، وأصبح يوم الثلاثاء لسبع وقيل لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلثمائة، فأخرجه عند باب الطاق،(555/28)
واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم، ثم ضربه الجلاد ألف سوط فلم يتأوه، بل قال للشرطي لما بلغ ستمائة: أدع بي إليك، فإن لك عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية. فقال له: قد قيل لي عنك أنك تقول هذا وأكثر منه، وليس إلى أن أرفع الضرب عنك سبيل
فلما فرغ من ضربه قطع أطرافه الأربعة، ثم حز رأسه وأحرق جثته، ولما صارت رماداً ألقاها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد على الجسر، وانتهت بذلك مأساة هذه القضية
وقد اختلف العلماء في هذا الحكم اختلافا كبيراً، ففريق يرى أنه حكم صحيح، لأن الحلاج قد ارتد عن الإسلام بدعوى الألوهية، وهذا رأي باطل، لأن الحلاج قد تبرأ من اعتقاد بعض أتباعه فيه أنه إله، ولا يصح أن يؤخذ شخص باعتقاد فاسد يراه فيه غيره
وفريق على رأسه الإمام الغزالي يبالغ في تعظيم الحلاج، ويعتذر عن الألفاظ التي تفوه بها مثل قوله: أنا الحق، فحملها في كتابه مشكاة الأنوار على محامل حسنة، وذكر أن هذا من فرط المحبة وشدة الوجد. وقد تفوه كثير من الصوفية بأمثال هذه الأقوال، فقبلها منهم أهل عصرهم، ولم يحكموا بكفرهم كما حكم أولئك القوم بكفر الحلاج، وهذا مثل قول بعضهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن رُوحان حللنا بَدَنا
فإذا أبصرتني أبصرتَهُ ... وإذا أبصرتًهُ أْبصَرْتَنا
وهذا اعتذار غير مقبول، لأن أولئك المتصوفة يذهبون في تلك الأقوال مذاهب معروفة قال بها بعض الفلاسفة قبل الإسلام وبعده، وليسوا أول من قالها حتى تؤول ذلك التأويل لهم؛ على أن الحلاج قد تبرأ من تلك الأقوال، فلا معنى لذلك الاعتذار عنه
وفريق يرى أن الحلاج قد تفوه بتلك الألفاظ كالفريق الثاني، ولكنه يرى أنه لا يعذر فيها كما يعذر غيره من المتصوفة أنه قالها في حال صحوه، ولم يقلها في حال غيبوبته مثلهم، وبهذا استحق حكم القتل الذي حكم عليه به
وكل هذا كما ترى بعيد عما يرويه التاريخ في تحقيق تلك القضية، فهو لم يحكم عليه فيها بتلك الألفاظ التي تبرأ منها، وإنما حكم عليه بما جاء في بعض كتبه عمن أراد الحج ولم يمكنه. وإني أرى أن هذا الحكم باطل شكلاً وموضوعاً، فأما بطلانه شكلاً فلأن القاضي أبا عمر حصل منه أثناء التحقيق ما كان يجب أن يرد به عن الحكم، وهو قوله للحلاج - كذبت يا حلال الدم - وكان ذلك فلتة لسانية لم يدركها إلا بعد وقوعها. فلما قال له الوزير(555/29)
أكتب بهذا دافعه، فألزمه فكتب بإباحة دمه. ولا شك أن هذا صريح في أن القاضي لم يكن يرى أنه يستحق الحكم بإباحة الدم، ولكنه ألزم بهذا الحكم إلزاماً، وقد أمضاه وهو يرى ما يحيط به من الظلم والفساد، فلم يأمن على نفسه نقمة الوزير إن امتنع عنه، ولهذا كله كان ذلك الحكم باطلاً شكلاً
وأما بطلانه موضوعاً، فلأن ما ذهب إليه الحلاج فيمن أراد الحج ولم يمكنه لا يستحق الحكم بالقتل، وما هو إلا بدعة من البدع الفاسدة التي ابتدعت في الدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ابتدع في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد عليه. فقضى على المبتدع بأن يرد عليه ما ابتدع، ولم يقض بكفره ولا بإهدار دمه، وما بدعة الحلاج في الحج إلا كبدعة غيره في إسقاط الصلاة وغيرها من البدع التي ظهرت في الدين، ولم يحكم على أصحابها بكفر ولا بقتل
والحق أن الحلاج كان مشعبذاً اتخذ التصوف ستاراً له، وأن التحقيق في قضيته كان يجب أن يتناول تلك الشعبذات التي كان يظهرها للناس على أنها كرامات، ليظهر لهم فسادها، ويتبين لهم أمر الحلاج على حقيقته، والحكم الذي كان يستحقه على ذلك هو التعزيز بالحبس أو غيره، ولكنهم أرادوا أن يبالغوا في الحكم زجراً لأصحابه فجاء بعكس مقصودهم، لأن أصحابه بعد قتله جعلوا يعدون نفوسهم برجوعه بعد أربعين يوماً، واتفق أن دجلة زادت في تلك السنة زيادة وافرة فادعوا أن ذلك بسبب إلقاء رماده فيها، وقد ادعى بعضهم أنه لم يقتل وإنما ألقى شبهه على عدو له.
عبد المتعال الصعيدي(555/30)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
515 - وليتك تسلم. . .
في (تاريخ بغداد): قال الإمام أحمد بن حنبل للإمام حاتم الأصم: أخبرني (يا حاتم) فيم التخلص من الناس؟
قال: يا أحمد، في ثلاث خصال
قال: وما هي؟
قال: أن تعطيهم ما لك ولا تأخذ من مالهم شيئاً؛ وتقضي حقوقهم ولا تستقضى أحداً منهم حقاً لك؛ وتحتمل مكروههم ولا تكره أحداً على شيء
فأطرق أحمد ينكت بإصبعه على الأرض، ثم رفع رأسه ثم قال: يا حاتم، إنها لشديدة!
فقال له حاتم: وليتك تسلم، ليتك تسلم، ليتك تسلم. . .
516 - إن الفناء زاد الراكب
خرج عمر للحج فسمع غناء راكب يغنى - وهو محرم - فقيل: يا أمير المؤمنين، ألا تنهاه عن الغناء وهو محرم؟
فقال: دعوه فإن الغناء زاد الراكب
* قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟
فقال: نعم العون الغناء على طاعة الله؛ يصل الرجل به رحمه، ويؤاسي صديقه
* دخل الشعبي وليمة فأقبل على أهلها فقال: مالكم كأنكم جمعتم على جنازة؟! أين الغناء والدف
* ابن جريح: سألت عطاء عن القراءة على ألحان الغناء والحداء، فقال لي: لا بأس بذلك
* في (الرسائل إخوان الصفاء): الموسيقار إذا كان حاذقاً بصنعته حرك النفوس نحو الفضائل، ونفي عنها الرذائل
* في (من غاب عنه المطرب) للثعالبي: كان بعض المتكلمين يقول: قد اختلف الناس في السماع فأباحه قوم وحظره آخرون، وأنا أخالف الفريقين فأقول بوجوبه لكثرة منافعه(555/31)
ومرافقه، وحاجة النفوس إليه، وحسن أثر استمتاعها به
517 - رأس لا يتكلم خير منه دبة
في (معجم البلدان) لياقوت: أبو اسحق الكراني أحد كتاب الإنشاء في ديوان عضد الدولة نيابة عن أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف. وله قصة مع عضد الدولة ظريفة، وذلك أنه أنشد عضد الدولة في بعض الأيام قصيدة مدحه بها، وقال فيها وقد تأخر عنه جاريه:
أمن الرعاية يا ابن كل مُملَّكِ ... رُفعت له في المكرمات منار
أن يُقطعَ الجاري اليسير عن أمرئ ... ردفت كتابتَه لك الأشعار؟
يا صاحبيَ، دنا الرحيل فذللا ... قُلُصَ الركاب تحثها السُّفَّار
الأرض واسعة الفضاء بسيطة ... والرزق مكتَفِلٌ به الجبار
فالتفت عضد الدولة إلى أبي القاسم المطهر بن عبد الله وزيره، وقد غاظه ما سمعه، وقال به: أنت عرضتني لهذا القول. أطلق جاريه، ووفه ما فاته منه. فلما خرج أبو القاسم المظهر من بين يدي عضد الدولة قال للكراني: أظنك قد كرهت رأسك! فقال له: أيها الأستاذ، رأس لا يتكلم خير منه دبة
محمد إسعاف النشاشيبي(555/32)
البريد الأدبي
والعاديات ضبحا
يقول العالم الدكتور زكي مبارك في مقاله (إلى أصدقائي في لبنان) في هذا الأسبوع في (المصري) الغراء:
(مجد مصر اليوم هو مجد أقلامها، وهو المجد الجدير بالخلود، وقد أقسم الله بالقلم ولم يقسم بالسيف)
قلنا: إن من حفظ كتاب الله معنا قدسها باله عن قوله تعالى: (والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا - إن الإنسان لربه لكنود)
والقسم بالخيل هو مثل القسم بالسيف. والخيل من العدد التي أمرنا الله في (الكتاب) بإعدادها للدفاع وللجهاد بقوله:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)
قال شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (رحمه الله ورضى عنه) في تفسير تلكم الآيات الكريمات في (سورة العاديات):
(أقسم بالخيل متصفة بصفاتها التي ذكرها، آتية بالأعمال التي سردها، ليتوه بشأنها، ويعلي من قدوها، في نفوس المؤمنين أهل العمل والجد. . . وكان في هذه الآيات القارعات وفي تخصيص الخيل بالذكر في قوله: وأعدوا لهم الآية. . . وفيما ورد من الأحاديث التي لا تكاد تحصى - ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون في مقدمة فرسان الأرض مهارة في ركوب الخيل. . . أفليس من أعجب العجب أن ترى أمماً، هذا كتابها قد أهملت شأن الخيل والفروسية إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزؤ والسخرية. . .؟
أليس من أغرب ما يستغرب أن أناساً يزعمون أن هذا الكتاب كتابهم يكون طلاب العلوم الدينية منهم أشد الناس رهبة من ركوب الخيل، وأبعدهم عن صفات الرجولية، حتى وقع من أحد أساتذتهم المشار إليهم بالبنان عندما كنت أكلمه في منافع بعض العلوم وفوائدها في علم الدين - أن قال (إذا كان كل ما يفيد في الدين نعلمه لطلبة العلم كان علينا إذن أن نعلمهم ركوب الخيل) يقول ذلك ليفحمني، وتقوم له الحجة علي، كأن تعليم ركوب الخيل مما لا يليق، ولا ينبغي لطلبة العلم. . .)(555/33)
وبعد فقول الزميل الجليل: مجد مصر اليوم هو مجد أقلامها) قول حق. وإنها لظافرة - وهناك تلك العزائم والهمم - بالمجدين عظيمين. و (العلم مذ كان - محتاج إلى العلم) كما قال عمارة اليمني في الميمية العبقرية، وقد كان مجد وإنه ليعود، ومن ساد في القديم ورام العلاء فلابد أن يسود وألف سنة في العز والسلطان لن يذهب سدى. وكتال الله نتلوه كل يوم، وفيه تحريض، وفيه تذكير، وفيه تبشير، وفيه الضياء، وفيه الهدى (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون)
(القاهرة)
أزهري
تميمة الأسلوب
قضيت ما قضيت من زماني وأنا نهبة للنمائم، ولم يبق من البلية إلا أن ينم عليَّ أسلوبي. وكنت أظنه يحفظ أسراري، عفا الله عنك يا أسلوب المبارك!
أقول هذا وقد حاول ناس أن يقلدوا أسلوبي ليؤذوني، كالذي يصنع الكاتب المجهول، والكاتب المعروف، والدكتور بديع الزمان، والسيد فلان، والفتى الأزهري، والأستاذ الجامعي، وهي أسماء رجال من تلاميذي، فلله الحمد وعليه الثناء
وأنا لن أخذل تلاميذي، ولن أنهاهم عن تقليد أسلوبي، لأني دعوتهم إلى أن يكونوا صورة من روحي وعقلي وبياني
ولكن من هذا الكاتب الذي يتبهنس في العدد السالف من مجلة الرسالة فيحمل الدكتور زكي مبارك جرائر الكاتب المجهول؟
من هذا الكاتب وهو لا يمضغ إلا كلاماً حاورني به منذ عشرين سنة في بيت القاياتي؟
إنه يتمسح بالدين لينتصر عليَّ، وليس هناك، فالإسلام لا يعرف أمثاله، لأنه دين حقائق لا دين أباطيل
ولو كان مسلماً صحيح الإيمان لستر أخطائي إن كنت من المخطئين، ولكنه مسلم بالصورة لا بالحقيقة، ولن يقام لتحديه ميزان، لأنه أضعف من أن يقام لتحديه ميزان.
زكي مبارك(555/34)
1 - الشيخ الشنقيطي
في صباح الخميس الثامن من صفر سنة 1363 توفى العالم الغزير العلم والرجل القوي العزم الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي عن 68 سنة. ولد رضى الله عنه في بيت علم ورياسة بشنقيط، وتلقى أكثر العلوم على كبار مشايخ القطر الشنقيطي من أقاربه وغيرهم، ثم هاجر إلى مراكش فعلم به السلطان مولاي عبد الحفيظ فاصطفاه أخذ العلم عنه، ثم استأذنه وهاجر إلى المدينة المنورة فجاور هناك، وبعد الحرب العامة الماضية سافر إلى دمشق فصحب شيخ القراءة فيها وأجازه بالقراءات، ثم هبط مصر فندبته مشيخة الأزهر لتأليف كتاب يضم ما اتفق على تخريجه البخاري ومسلم، فعكف على ذلك عشر سنوات ونيفاً؛ وقد تم طبعه بأخرة في ستة أجزاء. واختارته مشيخة الأزهر كذلك مدرساً بتخصص كلية أصول الدين، وعضواً في بعض اللجان العلمية، ورجاه بعضهم أن يلقي محاضرة في جمعية الشبان المسلمين، فلما علا المنبر اقترحوا عليه أن تكون المحاضرة في التاريخ فاقترحها من صدره، فعجبوا منه. وعرف مكانته كثير من أهل العلم والفضل بمصر فزاروه وحفلوا به، رأيت منهم في داره بعض جماعة كبار العلماء ومشايخ كليات الأزهر وغيرهم. وترك في شنقيط والحجاز ومصر من التلاميذ والتآليف المطبوعة والمخطوطة ما يدون اسمه في سجل الخالدين. ودفن بجوار العالم الصالح الشيخ محمد الجنبيهي بمقابر الإمام الشافعي. أفاض الله على قبره رحمة ونوراً وعوض الإسلام منه خيراً.
أديب الأندلس ابن زيدون
في (أهرام) غرة فبراير عالم 1944 كلمة في الدعوة إلى إحياء ذكرى الأديبين العظيمين الحسن بن رشيق وأبي الوليد ابن زيدون، قال كاتبها إن وفاة ابن زيدون كانت سنة 663 وأنه مضى عليها سبعة قرون. والصواب أن وفاته كانت سنة 463 وهي السنة التي توفى فيها ابن رشيق المذكور، على ما في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد)، ودائرة معارف البساتي وغيرهما.
عدنان. . .(555/35)
العدد 556 - بتاريخ: 28 - 02 - 1944(/)
15 - دفاع عن البلاغة
7 - الأسلوب
نعود إلى حديث البلاغة بعد أن صرفتنا عنه صوارف من توزع البال وفتور الطبع واعتلال الجسد. وكانت النية أن نترك بقية هذا الدفاع لينشر بجملته في كتاب؛ ولكن رغبة القراء ما زالت تلح على هذه النية حتى تناولت القلم وأخذت أكتب:
سبق القول في الصفة الأولى من صفات الأسلوب الجامعة الثلاث وهي (الأصالة) وما تضمنته من صفات الدقة والصحة والصدق والطبعية والوضوح. وكلامنا اليوم في الصفة الثانية منها وهي (الوجازة). وإذا كانت الأصالة هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق، فإن الوجازة بإجماع الرأي هي حد البلاغة. وإذا كانت الوجازة أصلاً في بلاغات اللغات، فإنها في بلاغة العربية أصل وروح وطبع. وأول الفروق بين اللغات السامية واللغات الآرية أن الأولى إجمالية والأخرى تفصيلية. يظهر ذلك في مثل قولك: (قتل الإنسان!)، فإن الفعل في هذه الجملة يدل بصيغته الملفوظة وقرينته الملحوظة على المعنى والزمن والدعاء والتعجب وحذف الفاعل، وهي معان لا تستطيع أن تعبر عنها في لغة أوربية إلا بأربع كلمات أو خمس. وطبيعة اللغات الإجمالية الاعتماد على التركيز، والاقتصار على الجوهر، والتعبير بالكلمة الجامعة، والاكتفاء باللمحة الدالة؛ كما أن طبيعة اللغات التفصيلية العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع، والاهتمام بالملابسات، والاستطراد إلى المناسبات، والميل إلى الشرح ولم تعرف العربية التفصيل والتطويل والمط إلا بعد اتصالها بالآرية في العراق والأندلس. ولا أقصد من وراء ذلك إلى تفضيل لغة على لغة، أو ترجيح أسلوب على أسلوب، فإن الاختلاف اختلاف جنسية وعقلية ومزاج. والتفصيل إذا سلم من اللغة كان كالإجمال إذا برئ من الإخلال؛ وكلاهما حسن في موقعه بليغ في بابه وقد يكون التفصيل من الإيجاز إذا قدر لفظه على معناه. فإن الإيجاز الذي نعنيه أن يدل اللفظ على المعنى ولا يزيد عليه؛ فإن كان ناقصاً عنه فهو إيجاز التقدير والمساواة. إنما أقصد بذكر الإجمال والتفصيل إلى أن الأسلوب العربي الأصيل موسوم بالوجازة من أصل النشأة؛ لأنه أسلوب أمة صافية الذهن دقيقة الحس سريعة الفهم، تشعر بقوة، وتعبر بقوة، وتفهم بقوة. وقوة الروح والقلب، وقوة(556/1)
العقل والخلق، تلازمهما قوة اللسان والقلم، أي البلاغة. والبلاغة الإيجاز، والإيجاز امتلاء في اللفظ، وقوة في الحبك، وشدة في التماسك. ولا ترى التميع والتفكك والانتشار إلا حيث ترى الضعف في شيء من أولئك. وملاك الإيجاز غزارة المعاني ووضوحها في الذهن، وطواعية الألفاظ ومرونتها في اللسان. وإنما يكون الغي والثرثرة ومضغ الكلام من جدب القريحة أو قلة العلم أو سقم الذوق أو نبؤ اللغة أو مجافاة الغرض. ومن الكلام المأثور: من ضاق عقله اتسع لسانه. اختصر في صفة واحدة صفات البلاغة في أساليب القرآن والحديث وأشعار الجاهليين وخطب الأمويين وكتب العباسيين، فلن تكون هذه الصفة غير الإيجاز. أقرأ قوله تعالى في آخرة الطوفان: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بعداً للقوم الظالمين)، وقول الرسول (ص) في تقييد الحرية، وهو الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام: (إن قوماً ركبوا سفينة فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما أشاء. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهكلوا)؛ ثم قول زهير في حروب عبس وذبيان:
رعوا ما رعوا منِ ظمئهم ثم أوردوا ... غماراً تسيل بالرماح وبالدم
فقضِّوْا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كَلأ مستوبَل متوَخمّ
وقول معاوية لعائشة بنت عثمان وهي تثيره على قتلة أبيها:
(يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد. ومع كل إنسان سيفه، وهو يرى مكان أنصاره. وإن نكثنا نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا يكون أم لنا. ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين، خير من أن تكوني امرأة من عراض المسلمين) فهل تجد آية البلاغة في هذا الذي قرأت غير الإيجاز وما يصحبه من الجزالة والجلالة والبروز والسبك؟ وهل تجد مصدراً لهذا الإيجاز المطبوع غير القوي المشبوبة في النفوس والعقول والطباع؟ انحدر بعد ذلك رويداً إلى عهود الوهن والانحلال نجد التطويل وتوابعه من اللغو والحشو والسقط يزيد بزيادة الضعف، ويتقدم بتقدم الجهالة، حتى تسقط به على كتب الدواوين وعهود السلاطين فتدهش أن يكون في خلق الله من يملأ مائة صفحة بالفقر والأسجاع ولا يعني بها شيئاً لذلك كان الإسهاب أول ما(556/2)
يصاب به ناشئة الكتاب، لأن جهدهم القليل يضيق عن شرح الفكرة، فيدورون حولها مجمجمين بالكلم الفوارغ والجمل الجوف. ومن جناية الصحافة على الأسلوب أن أكثر كتابها يؤثرون الكم على الكيف، فيكبرون الصغير، ويطولون القصير، لأن الصحيفة تخرج كل يوم، ولا يجوز أن تخرج بيضاء! وقد كان أحد شيوخ الصحافة يدبج مقالاً في نهرين طويلين كل صباح؛ فإذا نظرت فيه على أن تقرأ سطرين وتترك أربعة بلغت آخره وقد حصلت من ثلثه على ما كان في ثلثيه وكأنك لم تحذف شيئاً! ولعل كثيراً من مزاولي القصص عندنا يفيدهم أن يقرءوا قول ابن الأثير: (جلس إليّ في بعض الأيام جماعة من الإخوان وأخذوا في مفاوضة الأحاديث، وانساق ذلك إلى ذكر غرائب الوقائع التي تقع في العالم، فذكر كل من الجماعة شيئاً. فقال شخص منهم: إني كنت بالجزيرة العمرية في زمن الملك فلان، وكنت إذ ذاك صبياً صغيراً، فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية، وصعدنا إلى سطح طاحون لبني فلان، وأخذنا نلعب على السطح فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون، فوطئه بغل من بغال الطاحون، فخفنا أن يكون أذاه؛ فأسرعنا النزول إليه، فوجدناه قد وطئه البغل، فختنه ختانة صحيحة حسنة لا يستطيع الصانع الحاذق أن يفعل خيراً منها. فقال له شخص من الحاضرين: والله إن هذا عيّ فاحش وتطويل كثير لا حاجة إليه، فإنك بصدد أن تذكر أنك كنت صبياً تلعب مع الصبيان على سطح طاحون؛ فوقع صبي منكم إلى أرضها، فوطئه بغل من بغالها فختنه ولم يؤذه. ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه. ولو كانت بأقصى المشرق أو بأقصى المغرب لم يكن ذلك قدحا في غرابتها. وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان، فإن مثل هذا كله تطويل لا حاجة إليه والمعنى المقصود يفهم بدونه)
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(556/3)
لقد هان هذا الخطب!
للكاتب المجهول
لقد هان هذا الخطب، وما كنت أنتظر أن يهون، ولكن الدنيا بصروفها الغرائب تهون الخطوب، وكان من شيمتها أن تجسم الخطوب!
هان خطب القطيعة، هان ثم هان، واستشعرت روح الخلاص، وكنت أبغض الخلاص، فيا عجباً لزمن يجعل بعدي عنكم شهوة يطمح إليها فؤادي!
ما بكيت على نفسي حين ودعتكم، وإنما بكيت عليكم، بكيت على دولة الحسن التي ذهبت إلى غير معاد، وبكيت على اللطف الذي حرمتموه كما تحرم الزهرة من العطر بعد الذبول
ما تمثلت أيامكم إلا تعجبت مما تصنع الدنيا بأهلها، فما كانت لكم نظائر في الحسن وللطف، ولا كانت لكم أشباه في سماحة النفس وصفاء الروح
وبكيت أيضاً على نفسي، فهذا ملك ضاع من يدي، ملك أضاعه الدهر الغادر الذي لا يبقى على شيء، والذي يستمد سطوته من قدرته على إدالة دولة اللطف والجمال
حرمت بقطيعتكم آخر أمل يرجوه من يقف على المقابر ليؤدي التحية إلى أموات يحسبهم أحياء يتلقون تسليمات الأحياء
المقابر تسمع ولا تجيب، وأنتم تجيبون ولا تسمعون بدليل أنكم تخطئون في الجواب
لو أنني كنت البادي بهذا الحب لرأيت لكم عذراً في الصدوف عني، فما يتصدق الأغنياء على الشعراء في كل وقت، وإنما كنتم البادئين وهذا فضل لن أنساه إلى آخر الزمان، فكيف تهدمون ما بنيتم، وكان غاية في متانة البناء؟
هل تعود ليالينا؟ تعود؟
لن تعود ليالي معكم يا غادرين، لأنكم لم تعودوا صالحين لإدراك ما يشتجر في قلبي، ولأن هواكم قد مات، وما كنت أحسب أنه مما يجوز عليه الموت، وقد كذبت على نفسي حين توهمت أن الهوى لا يموت
وأنا مع هذا فرح جذلان، لأني واثق بأنكم لا تعانون من آصار القطيعة بعض الذي أعاني، ومن هواي أن تكونوا في عافية من ثورة الوجدان، لتعيشوا في سلام
هل كان حبنا مزاحاً جد به الزمن فانهزم؟(556/4)
أنا كنت أجد، وما خطر في بالي أنكم كنتم هازلين، وجد الهوى جد، وهزله جده لو كنتم تعقلون
هل كنت حين أناجيكم أناجي وثناً بلا روح؟
لو ناجيت الصخر لأنطقته بألطف المعاني، فكيف عجزت عن رياضتكم على الوفاء؟
ما أشد حزني على ما ضيعت من ليالي وأيامي!
لم نكن نعرف ما النهار وما الليل
أيام لا أدري وإن سألتِ ... ما الفرقُ بين جُمعة وسبْت
ولم نكن نعرف أن للدنيا غدرات ينبو فيها جنب عن جنب وقلب عن قلب، فترحلون عن مصر الجديدة إلى حلوان، وهي بهجركم أبعد من أسوان
لو كنت أعرف أن فيكم خيراً لجعلت داركم داري ولو سكنتم في مقبرة تشرف على عالم الفناء، ولكن القدر أراد ما أراد فانتزع حبكم من فؤادي، فأنا اليوم بلا حب وبلا فؤاد
أن إقامة صرح فوق أثباج البحر أبقى وأثبت من الحب الذي أقمته فوق روحكم، والروح من الروح وهو النسيم وليس للنسيم ثبات
انقضى عهد الحب، انقضى بالرغم مني، فما فارقتكم إلا بعد أن صح عندي أن هواكم لم يكن إلا أسطورة لفقها الخيال
أينتهي غرامنا بمثل هذه النهاية فلا أسأل عنكم ولا تسألوا عني؟
وهل كان البهاء زهير ملهماً حين عبر عما أريد فقال:
ملكتموني رخيصاً ... فانحطّ قدري لديكم
فأغلق الله باباً ... دخلت منه إليكم
حتى ولا كيف أنتم ... ولا السلام عليكم
لن نتصافح إذا التقينا مصادفة في شارع فؤاد، فالمصافحة من الصفح، ولن أصفح عنكم أبداً، ولو ضمنتم أن تعود معكم أيامي السوالف وليالي الخوالي
أنا فرح بما صرتم إليه، فقد أنجاكم الله مما ابتلاني
ولكني حزين مما صرتم إليه، فلن تعانوا اشتجار العواطف بعد فراقي، واشتجار العواطف هو أثمن ما تتغذى به القلوب(556/5)
وإني لأشكر لكم صنيعكم، فقد رحمتموني من هاوية كنت سأتردى فيها إن طال حبي لكم، وكان ثورة وجدانية تزلزل أقطار السماء
انتهينا من العتاب، أليس الأمر كذلك؟
وانتهينا من ليالي مصر الجديدة وليالي حلوان، وانتهينا من الظهريات الجميلة بحديقة الشاي في حدائق الحيوان. . . هل تذكرون يا غادرين؟
وانتهينا من جمع كسارات الكأس المصدوع، في تلك الليلة، وهي ليلة لن تعود، ويا ليتها تعود، فلو صرتم رمة بالية لرجوت أن أستروح منكم روح العطر النفيس
لا تسألوا عني بعد اليوم، فقد تبت توبة نهائية عن الغرام بالتماثيل، وهي أبدان بلا أرواح
أنا أحسنت الظن بمن لم يكونوا لحسن الظن بأهل، فلتعاقبني المقادير بما تشاء، وعدل من الله كل ما صنع، كما قال أستاذنا العباس بن الأحنف، عليه رحمة الحب!
كانت غايتكم أن تستأثروا بقلبي، وقد حاولت النجاة بقلبي فلم أفلح، ثم كانت العاقبة أن نصير إلى ما صرنا إليه، وما أفظع ما صرنا إليه!
الغدر مسخكم فأحالكم صورة ميتة برقشتها ريشة رسام جهول
هل تذكرون تأريخ العيون الكحيلة، وكانت أجمل ما رأت العيون؟
استفتوا المرآة، ثم حاسبوا ضمائركم، إن كانت لكم ضمائر، لتعرفوا أن سواد عيونكم لم يكن إلا منحة خلعها عليكم سواد قلبي، وهو قلب يمنح الرهبة والسحر لسواد الليالي وسواد الخيلان.
وقد استرددت تلك المنحة بعد أن أيقنت أني خلعتها على من يكفر بالجميل، ولست أغنى من الله وهو مع غناه عن الثناء يؤدب من يتعم عليهم فيطالبهم بالثناء
تخطروا إن شئتم في شارع فؤاد، وانظروا هل تلتفت إليكم عين أو يخفق لكم قلب؟
أنا أبدعتكم إبداعاً لا نظير له ولا مثيل، وغاب عنكم جميلي فجحدتم جميلي، وغضبة الله والحب على من يجحد الجميل.
لن أبكي عليكم، ولكني سأبكي على أخلاقي، وهي جديرة بالبكاء.
كنت أعتقد أني من رجال الأخلاق، ثم ظهر أن في صدري غريزة وحشية تشتهي الاقتتال والافتراس، وإلا فما الذي يمنع من أن أنتصر على كبريائي فأسعى إلى داركم لأسأل عنكم(556/6)
ولأخلع عليكم بياض الوجوه وسواد العيون؟
كنت أبدع البشاشة في أرواح الملاح ثم صرت المنتقم الفاتك بأرواح الملاح، فما أفظع جرمي، وما أسوأ صنيعي!
سأقتحم داركم بعد أيام أو أسابيع، فما أدري متى أنتصر على كبريائي
انتظروني، انتظروني، لتعرفوا أن خطب الفراق لم يهن ولن يهون
سأصافحكم بيدي، ألم أحدثكم أن المصافحة مشتقة من الصفح؟
غفرت ذنوبكم، غفرت، ثم غفرت، وأنا أول من يغفر ذنوب الجمال
عربد الحسن بكم فأسأتموني، والحسن عربيد، ومن واجبي أن أغفر ذنوب العرابيد
كان لي منكم تاريخ هو أجمل التواريخ، وكان رزقاً ساقه الله إلي، والله حين يتفضل يمنح بلا حساب
أنا لا أعرف متى نتصافح، لأن هذا لن يكون إلا بعد أن أتنازل عن كبريائي، وهذا أمل بعيد المنال
سلام عليكم يا أحباباً وفوا ثم خانوا
أنا أعبد الجمال، على شرط أن يعرف الجمال حقوق الوفاء
لن أزور داركم أبداً، ولن أراكم ولن تروني، فقد حل عليكم غضبي وغضب العاشق الصادق نقمة تنزل من السماء
شرقوا وغربوا في طلب المستحيل، فصفحي عنكم هو المستحيل
سأبدع بدائع جديدة، وسأخلق في دنيا الحب ما لا تعلمون، فتناسوا عهدي، لتعيشوا في أمان، من جزع الوجدان
لن تستطيعوا الفرار من انتقامي، ولن تتخطروا بعد اليوم في شارع فؤاد، ولن تكونوا نهبة لأعين الحاسدين، وألسن العاذلين، ومن حق من يخلق أن يميت
سلام على الهوى وسلام عليه، وألف سلام
أنتم تمردتم على سجن الحب، فتمتعوا بالحرية التي اشتهيتموها جاهلين بالعواقب، فما يتمرد على سجن الحب غير الصائرين إلى الفناء. . .
كانت كملتكم في ساعة التمرد:(556/7)
وهذا صحيح، فقد كان من حق الهوى أن أتصرف تصرف المالك بالمملوك
لا تظنوا أنكم خرجتم من يدي، ولا يخطر لكم في بال أني سأترك واجبي في دفن حسنكم الذاهب إلى غيابات الفناء
هان خطبكم، ثم هان، وما كنت أحسب أنه سيهون، ألم أقل إن الدنيا تصنع الغرائب؟
أنا واثق بأنكم سترجعون إلى قبل أن أرجع إليكم الشعر عندي والجمال عندكم، والشعر أفتن من الجمال
أما بعد فمن أنتم؟
أنا أعرفكم بأكثر مما تعرفون أنفسكم، فقد كنتم الغاية لما تشتهي الأرواح والقلوب، وما اشتهت عيناي أفضل مما اشتهيت منكم، يا نهاية النهايات في سحر العيون
أنا بنيتكم بيدي، ولن أهدمكم بيدي، والباني لا يكون من الهدامين
سلام عليكم، فما ألقاكم إلا إن تنازلت عن كبريائي
احرسيني يا ليلى، احرسيني، قبل أن أقول: (عليك مني السلام)
(الكاتب المجهول)(556/8)
التعارف بين الأدباء
للأستاذ دريني خشبة
منذ شهرين تقريباً نشرت الرسالة لصديقنا السوري الأديب الكريم الأستاذ صلاح الدين المنجد دعوة قصيرة ينادي فيها بوجوب تعارف الأدباء فيما بينهم وتكوين رابطة أدبية تنتظم صفوفهم. . . ورأى الأستاذ أن يعقد مؤتمر يدعى إليه أدباء الأقطار العربية كلها، في القاهرة أو دمشق أو بغداد، ليعرف الأدباء بعضهم بعضاً، ويتحادثوا فيما ينقصنا وما يشوه أدبنا وما نحن بحاجة إليه. ولما زار الأستاذ الصديق مصر في الشهر كان فرحنا به يعدل فرحنا بسوريا كلها، وقد تذاكرنا دعوته التي دعا إليها ووعدناه بالكتابة فيها، لأنها تؤيد دعوتنا إلى إصلاح الأدب العربي وتجديده
ومنذ شهر تقريباً دعانا صديقنا السوري الأديب الأستاذ حبيب زحلاوي للاحتفاء بالزوجين الكريمين السوريين الأستاذ زكي المحاسني والسيدة الأدبية وداد سكاكيني وذلك بالنادي الشرقي
ومنذ أيام قليلة قرأت دعوة يقوم بها أربعة من كرام الأدباء المصريين إلى إخوانهم الكتاب والأدباء والشعراء للاجتماع بمكان عينوه لدرس حالة الأدباء المصريين وتكوين هيئة تسهر على صوالحهم وتعمل على تقوية أواصر الصداقة بينهم
ومنذ أسابيع طويلة والأستاذ الصديق الدكتور زكي مبارك يناوش إخواننا الأعزاء المحبوبين أدباء لبنان لأنهم على ما يذكر الأستاذ يحاولون جادين نزع الزعامة الأدبية التي تدعيها مصر بين الأمم العربية من أيدي الأدباء المصريين. . . وقد كتب الدكتور زكي مبارك مقالات طويلة في هذا الموضوع في صحيفة المصري الغراء
ومنذ أسابيع قليلة حاضر الدكتور طه حسين في الروابط الثقافية بين الأمم العربية وكان صوته أول صوت ارتفع في العالم العربي بوجوب ربط أسباب المشرق العربي بالمغرب العربي، فهاج في القلوب العربية كلها أشجاناً وأحزاناً وذكريات عزيزة مؤلمة
ومنذ علم أو أكثر ونحن نردد فيما بيننا شكوى الأدباء جميعاً من تفكك العلاقات بينهم، بل انعدامها تقريباً مما يجعلهم متدابرين متنافرين، بل مما يجعل جهودهم وثمار قرائحهم نهباً لدور النشر ومستغلي ضعف الأدباء وعجزهم اللذين هما نتيجة هذا التفكك في علاقاتهم(556/9)
وانعدامها
ولعل أعجب ما حدث في كل ما قدمنا هو ما حدث في دعوة صديقنا السوري المحبوب الأستاذ حبيب زحلاوي بالنادي الشرقي. . . فقد دعانا بالتلفون، ولم يكن أحدنا قد رأى صديقه الآخر قبل هذه الدعوة. فلما توجهنا إلى النادي، وشهدنا الحفل مجموع الشمل قصدنا إليه، وقد عرفناه لوجود ثلاثة أو نحوهم من إخواننا ممن حدسنا أنهم مدعوون مثلنا للتعرف إلى الضيفين الكريمين والاحتفاء بهما. . . وقد عجبت لأن الأديب صاحب الدعوة لم يلقني. . . وظننت أنه ربما كان متغيباً في تلك اللحظة لأمر ما. . . ثم دار الحديث عن الأدب، واستطاع الأستاذ الجليل توحيد السلحدار أن يستدرج الأستاذ نقولا حداد ليحدثنا عن النسبية. . . واستطعت أنا أن أدس أنفي في الحديث مما دعا أحد إخواني إلى النطق باسمي عالياً. فماذا حدث؟ وقف الأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن ليصافحني باشا. . . وليته ما فعل! فقد كشف عن عيب من أشنع عيوب الأدباء المصريين، هو عدم معرفة بعضهم بعضاً، وعدم عنايتهم بمحاولة إيجاد هذه المعرفة وخلقها خلقاً. . . ثم ماذا؟ ثم نهض صديقي صاحب الدعوة الأستاذ حبيب ليضحك هو الآخر ويصافحني، ثم يقول إنه سأل عني الأستاذ محمود تيمور وكان جالساً إلى جانبه، فلم يعرفني، وقال له: ألم تدعه؟ فقال الأستاذ حبيب: كلا. . . وقد ذكرني كلامه هذا، ثم ضحكه بالمأسوف عليه خالد الذكر السيد أشعب؟ على أنني عجبت كيف يكون الضيف الكريم الأستاذ المحاسني أسرع منا جميعاً بادرة وأدق ملاحظة. . . فقد عرفت أنه هو لجلوسه إلى جانب السيدة وداد فصافحتهما مرحباً بهما، وذلك عند قدومي، فما راعني إلا أن أسمع الأستاذ يقول للسيدة الأديبة. . . هذا فلان. . . ويذكر اسمي كاملاً في صوت ربما لم يسمعه بعد السيدة أحد غيري، وقد استمطرت رحمة الله على المعيدي في تلك اللحظة الحرجة! ثم جعلت أتهم نفسي لانطوائها الذي بالغت فيه عن المحافل الأدبية وعدم محاولتي أن أعقد من الصداقات الأدبية ما لا غنى لمثلي - ولا مؤاخذة! - عن مثله! ويظهر أنني عنفت على نفسي في اللوم حتى أخذ العرق يتفصد من جميع جسمي بالرغم من برودة الليل. . . على أن الأمر لم يدم طويلا. . . إذ خفف عني ما اكتشفته بعد ذلك من أنني أكثر الحاضرين (معارف) بعد الأستاذ صاحب الدعوة. . . فلم يكن أحد منهم يعرف من الموجودين أكثر ممن كنت أعرف. . . وقد(556/10)
ضحك الأستاذ المحاسني لذلك أشد الضحك وتعجب لحالنا وأنذر ليتحدثن به إلى أدباء الشام جميعاً. . . والحق أنه لشيء يتحدث به ويتندر، إذ كيف تجمع القاهرة ثمانية أعشار الأدباء المصريين ثم لا تجمعهم جامعة، ولا تربط بينهم رابطة، ولا يعرف الواحد منهم ثلاثة أو خمسة من عشرات بل من مئات ومئات؟!
ولقد أضحكتنا هذه الظاهرة، أو تلك البادرة، ضحكا طويلا. فهذا هو الأستاذ الزيات لا يعرف الأستاذ خليل ثابت إلا حين يلقاه فجأة في مناسبة من المناسبات. وهذا هو الأستاذ عبد الرحمن صدقي يكتب في مجلة الهلال ثلاث سنوات أو أربع سنوات ثم لا يعرفه الأستاذ إميل زيدان بعد هذه المدة الطويلة إلا حين يقدمه إليه أحد أصدقاء الطرفين في إحدى المناسبات أيضاً. . . وهكذا. . . وهكذا. . .
وأحسب القراء يذكرون ما حدثتهم به من التقائي فجأة بالأستاذ الحكيم في الرسالة، وما انتهى إليه هذا اللقاء من صداقة كريمة. وقد سألني الأستاذ الحكيم مداعباً بعد فراغي من الكتابة عن الشاعر الكريم علي محمود طه. . . فضحكت. . . ثم أخبرته في بساطة تامة أنني لم أره في حياتي مطلقاً؟! هذا مع العلم بأن بين مجلس النواب وبين وزارة المعارف دقيقة واحدة! ولا شك في أننا كلينا مقصران!
أما ما يناوش به الدكتور زكي مبارك إخواننا أدباء لبنان فهو موضع العجب. . . لحدوثه في الوقت الذي نبتهل إلى الله فيه أن ينجح الدعوة إلى الوحدة العربية، لأن في هذه الوحدة عزة الأدباء العرب أجمعين، ونحن إلى التعارف والتقارب أحوج منا إلى التنابذ والتباعد. أما الزعامة الأدبية فليس سبيلها أن يدعيها الأدباء اللبنانيون فتكون لهم أو أدباء اليمن فتكون ملك أيمانهم. . . بل سبيلها الإنتاج الأدبي وقيمة هذا الإنتاج وأثره في شعوب الوحدة العربية، ولهذا كان خليقاً بأدباء لبنان ألا يشاكسوا الدكتور زكي مبارك، كما كان خليقاً بالدكتور زكي مبارك ألا يناوش أدباء لبنان. . . لأننا نعز اللبنانيين جميعاً، لا أدباءهم فقط، كما نعز أنفسنا
وإذا كان التعارف بين الأدباء في داخل مصر واجباً، فهو أوجب بين الأدباء المصريين وأدباء الشرق العربي، ثم بيننا وبين أدباء أفريقيا الشمالية، ويجب أن يتحقق أمل الأستاذ الصديق صلاح الدين المنجد في عقد مؤتمر أدبي عربي في القريب العاجل إن شاء الله(556/11)
أما دعوة هذا النفر من الأدباء المصريين للاجتماع بالمكان الذي عينوه، والزمان الذي حددوه، فهو ما ندعو له بالنجح والتوفيق. ونصيحتنا إلى المتشائمين أن يخففوا من تشاؤمهم، وأن يجعلوا الصفاء والأخوة الكريمة السمحة ديدنهم، وأن يطهروا قلوبهم من السخائم الأدبية الفارغة، فاعتصامهم بحبل الله وحبل المودة فيه حياتهم وبأسهم ومستقبلهم الذي ينبغي أن يفكروا فيه من الآن حتى تضع الحرب أوزارها. . . وقد آن أن يتحرك الأدباء فيلموا شملهم بعد أن ملأت القاهرة النقابات، من كل صنف ومن كل نوع، ولا ضير عليهم أن يكونوا آخر من يفكر في ذلك، حتى لو لم يربحوا إلا التعارف بينهم
ولعل أظرف ما نختم به تلك الكلمة هو ما يبديه بعض إخواننا الأدباء من التخوف من نجاح هذه الحركة. . . فهو يخشى إن يمت أن يكثر (معارفه) منهم كثرة كبيرة، ومنهم الأدباء المنتجون الذين يخرجون كل شهر أو شهرين كتاباً، فإذا تم التعارف صحبه الإهداء. . . ويكون مضطراً حينذاك إلى القراءة التي تفرض عليه بهذه الوسيلة فرضاً. . . حتى لا يغضب أحداً إذا سأله عن رأيه في كتابه الأخير مثلاً. . . وقد يكون هذا الأديب المتحرج مشغولاً بقراءة أخرى أهم مما تفرضه عليه الصداقات الجديدة قراءته. . . فماذا يصنع. . . وقد تكون الكتب المطلوب إليه قراءتها سخيفة. . . فما العمل؟! ولا أستطيع أن أقرر إلا أن هذه الملاحظة دعابة لطيفة، وأخشى أن تكون. . . تافهة. . . ولا يسخط هذا التعبير صديقي العزيز. . . الذي أهدى إلى كتابه الأخير، ولن أعفيه من الكتابة عنه.
دريني خشبة(556/12)
إيوان كسرى بين شاعرين
للأستاذ حسن الأمين
- 1 -
وقف البحتري على إيوان كسرى وقفة طويلة جالت فيها عيناه في جوانب الإيوان وتطلعت إلى صوره ونقوشه، وترامت في جوانبه وأركانه، فأدهشته فخامة البنيان وروعة الفن وجلالة الصنعة فاستوحى خياله واستنطق شاعريته فجاءنا بقصيدته السنية الخالدة التي اشتهرت كل الاشتهار
وكما وقف البحتري على الإيوان وقف عليه بعد البحتري شاعر شهير، فأرسل بطرفه إلى سوامقه الشاهقة. وتلفت إلى بقاياه الهائلة، فهاجت شاعريته، وفاضت قريحته. فرفد الأدب العربي بقصيدة عضماء لم يكتب لها من الشهرة ما كتب لقصيدة البحتري؛ فظلت في ديوان الشاعر مغمورة بين قصائده الكثيرة قل أن يذكرها ذاكر أو يشير إليها مشير. وهكذا تواتي الحظوظ شعراً فيحلق في الأجواء، وينتشر في الآفاق، وتعاكس شعراً فينزوي بين طيات الأوراق، لا يرفع رأساً، ولا يسمع همساً فيضيع أي ضياع!
هذا الشاعر الذي عنيته هو الشريف الرضي، فقد تقاذفته النوى حتى حطت به على إيوان كسرى فنظم قصيدة من أروع قصائد الشعر العربي، ولكنها ظلت مهملة، فلم نجد بين كتاب العربية ونقادها من أولاها عناية، أو أشار إليها إشارة، مع ما فيها من الإحساس العميق والشعور السامي الذي يرفع صاحبها إلى أسمى المراتب بين شعراء الأمجاد العربية.
وقف الشاعران على الإيوان وتطلع كل منهما إليه بعينين تختلفان عن عيني الآخر، وأثار الإيوان في نفس أحد الشاعرين غير ما أثار في نفس الشاعر الآخر؛ فجاءت قصيدتاهما متباينتي الروح والعاطفة والغاية
فالبحتري كان في وقوفه على الإيوان شاعراً فحسب، لم يهج فيه الإيوان إلا عاطفة الشعر. فوصف ما شاهد وصف الشاعر المجيد الفنان فأبدع في الوصف ما شاء الإبداع، وأوحى له خلو الإيوان من بناته، وانقراض حماته عاطفة الأسى العميق فقال:
أتسلي عن الحظوظ وآسي ... لمحل من آل ساسان درْس
ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وتنسى(556/13)
وهُم خافضون في ظل عال ... مشرف يحسر العيون ويخسى
مغلق بابهَ على جبل القب - ق إلى دارتي خلاط ومكس
فهو في هذه الأبيات متدكر معبر يتأسى عن الجدود العاثرة بالطلول الداثرة، فيذكر آل ساسان وحياتهم الهنيئة في ظل الإيوان، وعيشتهم الرغيدة في أبهائه، وما كان لهم فيه من سلطان أي سلطان. ثم هو يقارن بين هذه الأطلال الساسانية الضخمة وبين الأطلال البدوية التي شغلت شعراء الجاهلية فوقفوا عليها وبكوها وفاض شعرهم بالتغني بها وترديد ذكرها، فكأنما يريد أن يقول إن مثل هذه الأطلال هي التي يجب أن تشغل الشاعر فيعوج عليها ويستنطقها أخبار الظاعنين لا أطلال القفار البسابس التي لم يكن لها أن تشغل الشعراء ذلك الإشعال:
حُلل لم تكن كأطلال سعدي ... في قفار من البسابس ملس
ثم يندفع الشاعر بصف خلو الدار وإقفارها حتى كأنها أرماس أو مآتم بعد أعراس. ثم يشير إلى ما تدل عليه هذه الآثار من عجائب مشيديها وإبداع موجديها، ثم يسهب في وصف ما فيها من النقوش والصور الماثلة، مجيداً في كل ذلك كل الإجادة:
وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان منهم بلبس
فإذا ما رأيت صورة أنطا ... كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنوشر ... وان يزجي الصفوف تحت الدرفْس
في اخضرار من اللباس على أص ... فر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجالِ بين يديه ... في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوى بعامل رمح ... ومُليح من السنان بترس
وفي هذه الأبيات نستدل على ما كان عليه الإيوان من فن رائع تتحلى فيه صور المعارك الحربية بين الروم والفرس وصور ملوك بألبستهم الزاهية يقودون جيوشهم المنتصرة، وصور المتقاتلين هذا يهوى برمحه وذاك يتقى بترسه إلى غير ذلك من المشاهد المتنوعة
ويبلغ إعجاب البحتري بهذه الصور والنقوش أقصي حدوده حتى ليحسبها أشخاصاً حية، وحتى أنه ليمعن في هذا الحسبان فيغالط نفسه فيتقدم إليها ويلمسها ليتأكد من خمود الحياة فيها:(556/14)
نصف العين أنهم جد أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلى فيهم ارتيابي حتى ... تنقراهم يداي بلمس
ثم يمضي البحتري على هذا النسق في الوصف والشعور والتوجع في تسعة أبيات ينتقل بعدها إلى ما أصاب الإيوان من كوارث وأرزاء ثم لا ينسى أن يعزيه عما نزل به مشيراً إلى أن ذلك لا يعيب عظمته الخالدة ما دام لا يزال مشمخراً عالي الشرفات:
عكست حظه الليالي وبا ... ت المشتري فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدي تجلداً وعليه ... كلكل من كلا كل الدهر مرسى
لم يعبه أن يُزَّمن بسط الديبا ... ج واستل من ستور الدمقس
مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس
لابسات من البياض فما تب ... صر منها إلا غلائل برس
وبعد ذلك يظهر البحتري دهشته فيسائل نفسه أيستطيع الإنسان أن يبدع هذا الإبداع أم هي بدائع الجن للإنس:
ليس يدري أصنع إنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لإنس
ومهما يكن من أمر فهو يؤمن أن الباني لم يكن ملكاً خاملاً ولا إنساناً حقيراً بل هو بانِ كانت تغص نواديه بالوافدين، وتعج مقاصيره بالقيان والمغنين، وهو من هؤلاء الملوك الذين سادوا الزمن فعنا لهم وانقاد إليهم فعاشوا حياة كلها رغد وهناء
فكأني أرى المراتب والقو ... م إذا ما بلغت آخر حسي
وكأن الوفود ضاحين حسرى ... من وقوف خلف الرخام وجَلس
وكأن القيان وسط المقاص ... ير يرجحن بين حُوّ ولعس
وكأن اللقاء أول من أم ... س ووشك الفراق أول أمس
وبعد كل هذا يبرز البحتري شاعراً لا يهمه من كل ما رأى إلا أنه مظهر حي يهز النفوس الشاعرة الحساسة فتبكي العز الزائل والملك الهاوي وتشيد بذكر الأمجاد أيا كانوا:
عمرت للسرور دهراً فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعنيها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس
ذاك عندي وليست الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنسي(556/15)
ثم يعقب على ذلك ببيته الختامي الذي يظهر فيه مذهبه الشعري الإنساني:
وأراني من بعد أكلف بالأش ... راف طراً من كل سنخ وجنس
- 2 -
يستهل الشريف الرضي قصيدته استهلالاً فروسياً جميلاً تتجلى فيه روحه الوثابة وتبرز سجاياه الشماء، بل تبدو إحساساته المكبوتة وعواطفه المقهورة. فالرضى فتى ملء بروده الرجولة التواقة إلى العلياء، الطماحة إلى المجد، وقد اجتمع له من كريم نسبه ونبل خلاله وسمو مكانته ما جعله يأنف حياة الدعة والخمول وعيش الصغار والهوان. وتحكم في عصره بالناس من هم دونه كفاية وشهامة وحسباً ونسباً فحاول أن يشق طريقه فأقعده الزمن وردته ظروفه فظل مهضوماً مغبظاً يفرج كرباته بالشعر:
قربوهن ليبعدن الخِفارا ... ويبدلْن بدار الهون دارا
واصطفوهن لينتجن العلى ... بالعوالي لا لينتجن المهارا
إنه ليترنم بالخيل ويهتف بإسمها ويصيح برهطه ليقربوها إليه!. . . وماذا في الخيل؟. . . إن فيها مظاهر القوة والعظمة، مظاهر النضال والكفاح، مظاهر الفروسية الباسلة. والشريف يرى نفسه رجل الخيل المغيرات وقد حيل بينه وبين أعنتها فهو يزفر من أعماق صدره هذه الزفرة الحماسية جامعاً فيها ما يتأكل نفسه من الحرمان المرير، ومضمناً لها ما يجول في خاطره من التوثب إلى معالي الأمور، فهو وقد وقف على إيوان كسرى لا يتغزل بالحسان الساحرات، ولا يستبكي للأطلال الداثرات، بل يفتتح قصيدته بدعوة الخيل لا للتسلي بأعنتها، ولا للتلهي بصهواتها، بل للغارات البعيدة، ولتبدل له بدار الهوان التي تأويه دار العز التي يطمح لها. فهو يرى أنه إنما يحيا في دار الذل ومنزل الضيم بالرغم مما كان يحاط به من تكريم وإعظام.
وتراه في البيت الثاني يعلن زهده في المادة فهو لا يريد الخيل لتنتج له العلا
وبعد أن يمضي الرضي في واحد وعشرين بيتاً يضمنها نوازعه وخواطره يصل بنا إلى ذكر الإيوان فيخبرنا أنه نزل فيه داراً لم تكن دار ذل، وأن بناته كانوا ذوي مجد رفيع استقلوا فيه عن الناس وشغلوه عن أن نعار لغيرهم:
قدَ نزلنا دار كسرى بعده ... أربُعاً ما كن للذل طوارا(556/16)
أسفرت أعطانها عن معشر ... شغلوا المجد بهم عن أن يعارا
تصف الدار لنا قطانها ... المعالي والمساعي والنجارا
وهنا يتجلى إنصافه واعترافه بالحق؛ فهو بالرغم من مزعته القومية المتحمسة لا يبخس الناس أشيائهم ولا يغض من ذوي المواهب، بل يتكلم عن الناس بما كانوا عليه؛ فقد وصفت الدار له قطانها، فهي باذخة البناء رحيبة الفناء، وهي محكمة الصنعة متقنة العمل، وهي في كل ذلك ناطقة بفضل من أبدعوها وحلوها تخبر عنهم بلسان فصيح ولغة واضحة
ثم نراه يلم بما أصاب هؤلاء القطان من نزول عن مجدهم واضمحلال لأمرهم، فهو يرى أن الدهر استرد منهم ما أعارهم ليعيره إلى غيرهم فكأنما نعم الحياة عاريات يجود بهما الدهر على ناس، ثم يبدو له فيستردها ليجود بها على آخرين وهكذا تتداول الأمم المجد فيما بينها:
آل ساسان حدا الخطب بهم ... واسترد الدهر منهم ما أعارا
بعد ما شادوا البُنى ترفعها ... عَمَد المجد قباباً ومنارا
كل ملموم القرى صعب الذرى ... يزلق العقبان عنه والنشارا
ثم ينتقل إلى وصف الإيوان كما رآه في عهده ولكنه لا يصف لنا صوره ونقوشه ولا يتحدث عن عجائب صنعه وبدائع فنه، بل إن ذلك لا يشعل ذهنه ولا يثير اهتمامه فلا يسترسل كالبحتري في وصف دقائقه، بل يعطينا صورة إجمالية عنه تملأ النفس رهبة ووحشة:
حمل الدهر إلى أن رده ... ضاغط العبء ضلوعاً وفقارا
مطرقاً إطراق مأمون الشذا ... غمر النادي حلماً ووقارا
أو مليك وقع الدهر به ... فأماط الطوق عنه والسوارا
أوهنت منه الليالي فترة ... لا يلاقى وهنها اليوم جبارا
إذ لم يكن يهم الرضي أن يستوفي وصف الإيوان، فنحن لا نستطيع أن نتعرف من قصيدته إلى حال الإيوان يوم ذاك ولا إلى ما كان لا يزال مائلاً من زخارفه؛ فكأنه لا يعنيه أن يسهب في ذلك، بل يريد أن يستخرج العبرة من موقفه هذا، فيتحدث عن حملة الدهر على الإيوان حتى تركه (ضاغط العبء ضلوعاً وفقاراً)(556/17)
ثم يصوره تصويراً فنياً رائعاً فيتخيله مطرقاً إطراق من كانت له صولة فزالت، وأمن الناس نفعه وضره، فهو مطأطئ الهامة أسفاً على ماضيه وتفكراً بحاضره، ولكن هذا الإطراق المحزن لا يذهب بوقاره وحلمه فهو - على شجاه - يملأ النادي حلماً ووقاراً. وهو على ما نزل به لا يزال محتفظاً بجلاله وهيبته، ثم يشبهه بملك وقع الدهر به وحلت كوارثه في ساحته فسلبته ملكه وأماطت عنه تاجه وذهبت بطوقه وسواره؛ فهو لا يزال كما كان رجلاً كامل الهيبة، ولكنه عاطل من حلل الملك وحليه، وكذلك الإيوان، فهو لا يزال قصراً شامخاً، ولكنه خال من كل ما كان له من شأن
وهذه الأبيات هي كل ما يظفر به الإيوان من الشريف الرضي من الوصف، ثم ينتقل بعدها إلى ما يريده من أغراض قومية، فيسائل أين معالي الإيوان الجمة وأين حماه الأفيح وأين رجاله الذين غلبوا الناس:
أين لا أين المعالي جمة ... والحمى أفيح والرأي مغارا
ورجال شدخت أوضاحهم ... غلبوا الأعناق مَناً وإسارا
فيجيب عن ذلك بجواب تتجلى فيه نزعته القومية، وروحه الإسلامية واضحة جلية:
عمروا لم يعلموا أن لنا ... جائز الأمر عليهم والإمارا
ثم هو يشير إلى ما كانت عليه الأمم المجاورة للعرب من النظر إليهم نظر الاستهانة وقلة الاكتراث غير عالمة بما وراء هذا الهمود من الاندفاع العجيب، ولا حاسبة بأن تلك الأمة الممزقة الرأي المقطعة الأوصال ستهب هبة تدهش الدنيا:
قدروا جَد تزار واقفاً ... ومشى الجد فما عزوا نزارا
ثم يصف الوثبة العربية العظيمة وما رافقها من بطولات وتضحيات وكيف أذهلت الناس فعنوا لها مستسلمين
لاوَذوا لما رأوا من دونهم ... وادياً يلقى به السيل غمارا
عينوا الضرب دِرَا كافي الطلى ... يعجل الفارس والطعن بدارا
ثم يشبه العرب بالأسد يهب مصحراً بعد طول الخور:
أصحر الليث العفوني فانثنى ... يطلب اليربوعُ في الأرض وجارا
وبعد هذا الاعتزاز بقومه والتفاخر بأمته يتحدث عما أفضت إليه نهضة العرب وعن(556/18)
رسالتهم الإسلامية التي حملوها إلى الآفاق تجلو دياجير الشرك وتمحو معالم الوثنية وتنشر التوحيد حيث حلت:
قهروا الشرك على أعقابه ... بعد ما استخدم غياً وضرارا
وأثاروا الدين من مربضه ... وأطاروا عن مجاليه الخمارا
داينوا المجد بأطراف القنا ... فغدا عينا وقد كان ضمارا
وهكذا ترى أن موقف الرضي على الإيوان غير موقف البحتري؛ فإن الإيوان أثار من البحتري شاعريته، ولكنه في الرضي أثار قوميته.
حسن الأمين(556/19)
صلات علمية
بين مصر والشام
في النصف الأول من القرن الثامن الهجري
للأستاذ محمد عبد العني حسن
طلع هلال المحرم من القرن الثامن الهجري على العالم العربي بأحداث جسام؛ وسلطان المماليك في مصر هو الناصر ابن قلاوون، ونائب مصر الأمير سيف الدين سلار؛ ونائب الشام آقوش الأشرم؛ ونائب حماة قراسنقر المنصوري بعد موت الملك المظفر
وكان التتار في أواخر القرن السابع الهجري قد أغاروا على الشام مرتين فردهم بيبرس على أعقابهم. وفي سنة 700هـ أي في مستهل القرن الجديد أغاروا ثانية على الشام بقيادة قازان وأحلوا بها الحرمات وكثر عبثهم فيها وقتلوا وسبوا النساء واقتحموا على الناس المساجد، يحطمون أبوابها ويحاربون الله فيها. . .
وهنا يقف علماء الشام موقفاً رائعاً، فيحرضون الناس على الدفاع، وينظرون شزراً إلى ذهب التتار وفضتهم اللامعة؛ ويقف رجل منهم جليل هو ابن تيمية معلناً أن أهل الشام لا يسلمونها إلى عدو الله ما دامت فيهم عين تطرف؛ ويرسل إلى نائب قلعة دمشق يقول له: لا تسلمهم القلعة ولو لم يبق فيها إلا حجر واحد. ويستجيب المسلمون إلى صوت شيخ العلماء فيقفون صفاً واحداً، حتى يكرهوا العدو على الرحيل ويطهروا البلاد من أرجاسه
وكان ابن تيمية هذا يقظاً متنبهاً لأحداث زمانه، وليست فيه غفلة بعض. الفقهاء، ولكنه رجل صاحي العين والفؤاد. وكيف ينام والعدو على أبواب دمشق؟ فهو يقضي الليل قائماً يحضض الناس على الصبر؛ ويدور كل ليلة على أسوار دمشق يحرض الناس على الثبات ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط.
وليس يعنينا من القرن الثامن أحداثه السياسية، فذلك ليس موضوع البحث، ولكن يعنينا حالة العلماء والفقهاء فيه فقد ظهرت بين للقطرين الشقيقين في ذلك العهد مشاركة في مناصب العلم والوعظ والفضاء، وكان كثير من علماء مصر يعينون في الديار الشامية؛ كما أن كثيراً من علماء الشام يعينون في مصر. وكان أحرار العلماء - وأعني بهم غير(556/20)
الموظفين - يجوبون بين البلاد العربية ويتنقلون بين القطرين فيفد الطلاب للقائهم والانتفاع بعلمهم والاغتراف من مناهلهم. والأمثلة على هذا كثيرة وقد تكفلت بسردها كتب التاريخ وخاصة كتب السلوك للمقريزي والبداية والنهاية لابن كثير والنجوم الزاهرة لابن تغري بردى
فنرى مثلاً أن أحمد بن سلامة الإسكندري المصري يعين قاضياً لدمشق، ونور الدين السخاري المصري يعين مدرساً بالجامع الأموي بدمشق، والشيخ ابن الوكيل يدرس بمصر في مشهد الحسين وبالشام في دار الحديث الأشرفية وغيرها
وكان تبادل العلماء بين مصر والشام أمراً مألوفاً في ذلك العصر، لما كان تعيين المدرسين من حق سلطان مصر. فإنه لما مات قاضي قضاة مصر ابن دقيق العيد سنة 722 هـ كتب السلطان الناصري المصري إلى ابن جماعة قاضي قضاة الشام يحييه ويعظمه ويحترمه ويدعوه إلى مباشرة وظيفة قاضي القضاة بمصر خلفاً لابن دقيق العيد. فيجيب الشيخ دعوة السلطان ويفد إلى مصر مكرماً فتخلع عليه الخلع ويجزل له العطاء
وكان السلطان يعين كبار العلماء في المناصب الكبرى كمشيخة الشيوخ والمفتي وقاضي القضاة وقاضي العسكر والمدرسين. وكانت وظيفة مدرس من أرقى المناصب العلمية في ذلك العهد. ويكفي للدلالة على سمو قدرها أن التعيين فيها كان من اختصاص السلطان مباشرة، كما يذكر المقريزي في كتابه السلوك. وكانت وظيفة المعيد تلي وظيفة المدرس في المنزلة، وعمل المعيد في القرون الوسطى هو بعينه عمل المعيد في الجامعات الحديثة. وقد عرفه القلقشندي صاحب صبح الأعشى تعريفا دقيقا فقال: (هو ثاني رتبة المدرس، وأصل موضوعه أنه إذا أتى المدرس الدرس وانصرف أعاد المعيد للطلبة ما ألقاه ليفهموه ويحسنوه)
ولم يكتف علماء القطرين في القرن الثامن بالجلوس للدرس في المساجد والمدارس، بل كان لهم نوع من النشاط العلمي الديني فرضته عليهم بعض الظروف في ذلك العصر. فقد ظهرت بعض المذاهب المبتدعة الحائدة عن سنن الرسول وهديه والمنحرفة عن إجماع المسلمين. وكان في خلال بعض هذه المذاهب وميض نار يوشك أن يكون لها ضرام. . . فكثر الروافض بين التتار واشتد أمر الأحمدية وهي طائفة كان لها أحوال شيطانية - كما(556/21)
يصفهم المؤرخ ابن كثير؛ ولهم كثير من الحيل والبهتان. وهم في نظر ابن تيمية من الدجاجلة المخالفين للشريعة؛ فنصب هذا الإمام السلفي لهم العداء، واخذ عليهم أقوالهم وأفعالهم، وعقدت له بالشام ثلاثة مجالس للرد عليهم وبيان ما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب والسنة.
ولم تكن تلك المجالس تعقد في المساجد الجامعة كما يتبادر إلى الذهن، ولا في سرادقات خاصة تضرب لها، ولكنها كانت تعقد في قصر نائب السلطان بدمشق. وهي تعيد إلى الذهن تلك المناظرات الدينية التي دارت بين علماء الكلام في العصر العباسي الأول.
وقد أثارت تلك المجالس الدينية خصومة شديدة بين العلماء، ولعبت فيها أحقاد القلوب دوراً عظيما، فخشى الشيخ الأكبر على نفسه في الشام، وقصد إلى مصر لعله يجد فيها متسعا لآرائه وجهاده، فخرج لوداعه من أهل الشام خلق كثير. وكان الخارجون - كما يروى لبن كثير - بين باك عليه أو حزين لفراقه أو شامت فيه أو منفرج محيد. وفي طريقه إلى مصر يعرج على غزة فيعقد له في جامعها مجلس ديني عظيم. وفي مصر يعقد له مجلس بالقلعة يحضره القضاة ورجال الدين وأكابر الدولة. فتلاحقه في مصر الأحقاد ويكثر الحاسدون فيه القول، ويفترون عليه الكذب. ويدعي عليه في هذا المجلس ابن مخلوف المالكي المصري أنه من المشبهة الذي يقولون بأن الله فوق العرش حقيقة وأنه يتكلم بحرف وصوت. ويقف الشيخ ليدافع فيقاطعه ابن مخلوف قائلاً: ما جئنا بك لتخطب. فيسأل ابن تيمية: ومن هو الحكم في؟ فيجاب بأنه ابن مخلوف نفسه. فيتجه ابن تيمية إلى ابن مخلوف قائلا: كيف تحكم فيّ وأنت خصمي؟ وينتهي المجلس بحبس الشيخ الأكبر في برج أولاً، ثم ينقل إلى محبس يعرف بالجب
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد الغني حسن(556/22)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
518 - ومشى إلى مكة راجلا حافيا
مروءة مصرية مدهشة
في (الغرر الواضحة):
لما ولي صالح بن علي مصر من قبل ابن أخيه أبي العباس السفاح خرج عليه رجاء بن روح بفلسطين مع عمه الحكم بن ضبعان وكان على شرطة مصر. فأرسل إليهم أبا عون ومحمد بن أشعث الخزاعي بعسكر، فهزما الحكم، وبلغ صالح بن علي أن رجاء ابن روح دخل مصر، واستجار بمحمد بن معاوية فأجاره، فأرسل إليه فحضر، فقال: ألم أكرمك؟ ألم أشرفك؟
قال: بلى
قال: فكان جزائي منك أن أجرت عدوي
قال: وما ذاك أيها الأمير؟
قال: رجاء بن روح وابنه
قال: أصلح الله الأمير! اختر واحدة من اثنين، لي فيهما براءة: إما أن أثلج صدرك بيمين، أو ترسل رجلاً من ثقاتك يفتش منازلي
قال: وتحلف؟
قال: نعم. فأحلفه بطلاق زوجته، وعتق عبيده، ومشيه إلى مكة راجلاً حافياً. فحلف له. ثم انصرف إلى منزله، وأعلم زوجته، فاعتزلت عنه، وقالت له لا تنقطع عني لئلا يشعر بك فلما عزل صالح عن مصر، ورجع إلى بغداد أظهر محمد بن معاوية طلاق زوجته، وأعتق رقيقه، ومشى إلى مكة كما شرط عليه: (راجلاً حافياً)
519 - فتنت أهل العراق بقولك
لما اجتاز أبو نواس بحمص قاصداً مصر لامتداح الخصيب سمع (ديك الجن) بوصوله فاستخفى منه خوفاً أن يظهر لأبي نواس أنه قاصر بالنسبة إليه، فقصده أبو نواس في داره،(556/23)
وهو بها، فطرق الباب وأستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو ههنا. فعرف مقصده، فقال لها: قولي له قد فتنت أهل العراق بقولك:
موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
فلما سمع ديك الجن خرج إليه واجمع به، وأضافه
520 - متى عصرت من الورد المدام
أبو الحسن الحصري القيرواني:
أقول له وقد حيّا بكأس ... لها من مسك ريقته ختام:
أمن خديك تعصر؟ قال: كلا ... متى عُصرت من الورد المدام؟
521 - نظرت في ديوان أبي نؤاس. . .
في (كتاب الأذكياء لابن الجوزي: روى أبو الحسن ابن هلال بن المحسن الصابي قال: حكى السلامي الشاعر قال: دخلت على عضد الدولة فمدحته فأجزل عطيتي من الثياب والدنانير وبين يديه حسام خسرواني، فرآني ألحظه، فرمى به إليّ، وقال: خذه، فقلت:
وكل خير عندنا من عنده
فقال عضد الدولة: ذلك أبوك. . .
فبقيت متحيراً لا أدري ما أراد، فجئت أستاذي فشرحت له الحال، فقال: ويحك! أخطأت خطيئة عظيمة؛ لأن هذه الكلمة لأبي نؤاس يصف كلباً حيث يقول:
أنعتُ كلباً، أهُله في كدَّه
قد سعدت جدودهم بجِده
وكل خير عندهم من عنده
فعدت متوشحاً بكساء فوقفت بين يدي الملك، فقال: مالك؟ فقلت: حممت الساعة. فقال: هل تعرف سبب حماك؟ قلت: نظرت في ديوان أبي نؤاس
فقال: لا تخف. لا بأس عليك من هذه الحمى. . .
محمد إسعاف النشاشيبي(556/24)
سجاد الأناضول
للدكتور محمد مصطفى
(بمناسبة معرض السجاد الذي يقام الآن في دار الآثار
العربية)
- 1 -
تقدمة:
للأناضول اتصال وثيق بتطور الحضارات القديمة. وقد كان ينقسم إلى عدة دويلات أهمها مملكة فريجيا التي سيطرت على الأناضول من سنة 2000 إلى سنة 800 قبل الميلاد، وتلاها مملكة ليديا، إلى أن فتحه الاسكندر الأكبر في سنة 350ق م فصار جزءاً من الدولة المقدونية. وبعد وفاة الاسكندر انقسم الأناضول ثانية إلى دويلات دامت حتى سنة 133 ق م لما استولى عليه الرومان وجعلوه مقاطعة تابعة لهم. وفي سنة 395 ميلادية عند تجزئة الدولة الرومانية الشرقية أو البيزنطية. وجاء السلاجقة من بلاد التركستان الصينية، وامتد ملكهم إلى إيران، ثم العراق، ثم الأناضول، وهنا مكثوا من سنة 1037 - 1300م. وكانت عاصمة دولتهم مدينة قونية. وخلف الأتراك العثمانيون السلاجقة في الأناضول، وكانت عاصمتهم في أول الأمر مدينة بورصا حيث بنى سلاطينهم قصراً عظيماً كان أحد أبوابه يسمى (الباب العالي) وانتقلوا من بورصا إلى أدرنة، فمكثوا بها إلى أن فتح السلطان محمد الفاتح مدينة القسطنطينية في سنة 1453م فصارت عاصمة الدولة العثمانية
وبعد تحطيم الدولة البيزنطية وفتح القسطنطينية صارت تركيا من أقوى الدول الشرقية، فاستطاع السلطان سليم الأول أن يفتح مصر سنة 1517م، وغزا ابنه السلطان سليمان القانوني بلاد إيران واستولى على تبريز وبغداد. وأخذ العثمانيون معهم من مصر وإيران الصناع والفنانين، فعاونوا على نهضة الفنون وازدهارها في تركيا
ولما أمن العثمانيون جانب البلاد الشرقية اتجهوا نحو أوربا وامتدت فتوحاتهم بها حتى وصلوا إلى فينا. وكانت تركيا أقرب دول الشرق إلى أوربا، فحملت إليها لواء الفن الإسلامي، وكان لها أثر كبير في عصر النهضة الفنية بإيطاليا، حتى إننا نجد أن قطع(556/25)
نسيج القطيفة المصنوعة في إيطاليا في القرن السادس عشر شديدة الشبه من حيث الرسوم والصناعة بقطع القطيفة التركية، المصنوعة في مدينة أسكوتاري على ساحل الأناضول المواجه للقسطنطينية
وكما دالت دول كثيرة كانت في غابر الزمان قوية وعظيمة، نرى الانحلال وقد بدأ يدب في عروق الدولة العثمانية، فارتدت جيوشها عن (باب أوربا) بعد أن صمد لها الأوربيون في فينا. وجاء القرن التاسع عشر وكانت الكهولة قد بلغت حد الهزم، ففقد (الرجل الهرم) مكانته القديمة بين الدول لما عجز عن أن يجعل خصومه يشعرون بقوة حسامه، ويدينون بمبادئه وأفكاره، وطغى الرخيص من الفنون الأخرى على جمال الفن التركي فذهب به وأفقده زهوه وبهاءه.
العناصر الزخرفية في سجاد الأناضول
كانت العناصر الزخرفية من النوع الهندسي هي السائدة على فنون الأناضول حتى القرن الخامس عشر. ويتبين لنا ذلك بوضوح من زخارف التحف الفنية التي ترجع إلى هذا العصر، ومن صور سجاد الأناضول التي رسمها فنانو البندقية في لوحاتهم الزيتية خلال القرن الرابع عشر، ومن قطع السجاد القديمة المعروفة إلى الآن، ومن بينها ما عثر عليه في جامع علاء الدين بقونية، وهذه تؤرخ بسنة 1220م وهي محفوظة في متحف الأوقاف باستامبول
فالطريقة الجافة الجامدة في رسم الوحدات الزخرفية بخطوط مستقيمة تنكسر في زوايا محددة، والعناصر الزخرفية النباتية مثل الزهور والفروع والأوراق التي تهذب عادة بطريقة هندسية حتى تبلغ درجة يصعب معها تمييز هذه الزهور ومعرفة أصولها، وكذلك تلوين السجاد بألوان باهتة وممزوجة بأخرى، كل هذا من الميزات الهامة لسجاد الأناضول قبل أن يتأثر بالأسلوب الإيراني
وتختلف رسوم سجاد الأناضول المصنوع قبل سنة 1300م عن رسوم السجاد المصنوع بعد هذا التاريخ. فقد كانت ترسم على النوع الأول وحدات زخرفية مأخوذة من الفن الساساني البيزنطي. والمعروف أن العنصر الزخرفي الشائع في الفن الساساني البيزنطي في ذلك الوقت كان في شكل دوائر تضم كل منها طائراً أو اثنين بهيئة رمزية. وقد حور(556/26)
فنانو الأناضول الشكل الدائري إلى شكل ذي ثمانية أضلاع، أي إلى خطوط مستقيمة تنكسر في زوايا لها مظهر فيه الكثير من الجمود وشدة الجفاف، لأن طبيعتهم تنفر من الأشكال الدائرة المرنة، وكان إطار السجاجيد في العصر السلجوقي يزين بشريط من شبه الكتابة الكوفية، تتفق في مظهرها مع باقي الوحدات الزخرفية ذات الشكل الهندسي. ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن الرحالة الشهير (ماركو بولو)، كان قد ذهب إلى هذه البلاد في سنة 1283 وزار السلاجقة في عاصمتهم قونية وكتب عن ذلك يقول إن أحسن وأجود سجاد العالم يصنع في الأناضول
أما بعد سنة 1300م فقد قام آل عثمان على أنقاض الدولة السلجوقية في بلاد الأناضول وأسسوا الدولة العثمانية، وكانوا شديدي التمسك بتعاليم السنة وكره رسوم الكائنات الحية، فعملوا على اختفاء صور الحيوانات والطيور من التحف الفنية ومن السجاد. ومنذ بدء القرن السادس عشر أخذوا في تقليد رسوم قطع السجاد الممتازة الإيرانية، فأدخلوا بذلك عناصر جديدة على أنواع الزخارف في الأناضول، واستطاعوا في أواخر هذا القرن أن يكونوا لأنفسهم أسلوباً فنياً خاصاً بهم، عُني فيه أشد العناية بالزخارف النباتية في تطوراتها المختلفة حتى بلغت أقصى حدود الكمال، مثال ذلك المراوح النخيلية وأنواع الزهور المهذبة (الأرابسك) والأوراق المسننة التي تشبه سنان الحراب، وكذلك الزهور المحببة إلى سكان الأناضول كالقرنفل وزهور السوسن ذات السيقان الرفيعة
واقتبس فنانو الأناضول من بين العناصر الزخرفية المغولية ما يسمى (السحب الصينية) (تشي)، وإن كانوا قد تجنبوا تكرار استعمال غيرها من الزخارف المغولية كصور الحيوانات الخرافية التي تتنافر مع شدة تمسكهم بتعاليم السنة. وقد ظهر هذا التأثير المغولي في سجاد الأناضول في القرن الرابع عشر، ولم يكن ذلك نتيجة لفتوحات المغول وامتدادها إلى العراق وسوريا، بل نشأ عن التبادل التجاري الواسع المدى بين الصين وبلاد الشرق الأدنى، وما كان لأنواع الصناعات الصينية من أثر كبير في فنون هذه البلاد كما نرى ذلك بوضوح في زخارف وأنواع الأواني الخزفية والمنسوجات المصرية وسجاد الأناضول وغير ذلك من صناعات هذا العصر. وظهر هذا التأثير لأول مرة في شكل (مصارعة التنين للعنقاء) على سجادة رسمها المصور دومينيكو دي بارتولو في إحدى لوحاته حوالي(556/27)
سنة 1440م
ويحتوي المتر المربع من سجاد الأناضول عادة على 152000 عقدة، ويصنع من صوف الأغنام الناعم، وهو أرق وألين من سجاد إيران. والألوان الشائعة فيه هي: الأحمر الباهت والأخضر النباتي الفاتح، والأزرق المائل للاخضرار، والأصفر الليموني، والأبيض الناصع، وقد تأخرت صناعة السجاد في الأناضول في النصف قرن الماضي واندمجت بها أشياء دخيلة على هذه البلاد، فتأثرت رسومها بالفنون الأوربية، واستبدلت الألوان الطبيعة بالألوان الصناعية (الانيلين) الذي أسئ استعماله، ومزج صوف أغنام الأناضول بالصوف المستورد من استراليا.
أنواع سجاد الأناضول
توجد أنواع كثيرة من سجاد الأناضول، ينسب بعضها إلى نوع عناصره الزخرفية، والبعض إلى مكان العثور عليه، أو إلى مراكز صناعته، أو إلى أماكن جمعه وإعداده للتصدير، والشهير منها أنواع: عشاق، تشنتماني، الأبسطة ذات الطيور، هولباين، سجاد ترانسلفانيا، ودمشق، وسجاجيد الصلاة المصنوعة في بلاد: جورديز، كولا، لاذق، كيرشهر، ميلاس، موجور. وسجاد البدر من برغمه وقونية، وغير ذلك من الأنواع. وسوف نتحدث فيما يلي عن كل من هذه الأنواع على حدة مع التوضيح بالصور.
وفي (شكل 1) سجادة صلاة من نوع (عشاق) الفاخر، من أوائل القرن السادس عشر، عليها محراب أرضيته باللون الأزرق القاتم، يحدها من أسفل بالأزرق الفاتح (سحابة صينية) كبيرة تحيط بباقة مرسومة بالألوان على أرضية حمراء. ويعلو السحابة الصينية الكبيرة أخرى صغيرة حمراء ويحيط بها زهور مهذبة. وأرضية خواصر العقد الأعلى بالأحمر وعليها في الأركان بالأصفر الذهبي فروع وأوراق مسننة ومهذبة (أرابسك). وهذه السجادة من مجموعة حضرة صاحب السعادة الدكتور علي إبراهيم باشا، وهي معروضة الآن في معرض سجاد تركيا بدار الآثار العربية. وليس لهذه السجادة نظير في العالم سوى واحدة مماثلة لها تماما في متحف الدولة ببرلين.
وسوف نتابع الحديث في العدد القادم من (الرسالة) عن سجاد (عشاق) الفاخر، ثم عن أنواع سجاد الأناضول الأخرى(556/28)
(يتبع)
محمد مصطفى(556/29)
النسر. . .
للأستاذ عمر أبو ريشة
أصبح السفح ملعباً للنسور ... فاغضبي يا ذُرَى الجبال وثوري
إن للجرح صيحة، فابعثيها ... في سماع الدُّنَى فحيح سيعر
واطرحي الكبرياء شِلْوًا مُدمَّي ... تحت أقدام دهرك السِّكِّير
لملمي يا ذُرَى الْجبال بقايا ... النّسر وارمي بها صدور العصور
إنه لم يعد يكحِّل جَفْنَ الن ... جم تيهاً بريشه المنثور!
هجر الوكرَ ذاهلاً وعلى عي ... نيه شيء من الوَداع الأخير
تاركاً خلفه مواكب سُحْب ... تتهادى من أُفْقها المسحور
كم أكبَّتْ عليه وهي تُندِّي ... فوقه قُبلة الضحى المخمور!
هبط السفح طاوياً من جنا ... حيه على كل مطمح مقبور
فتبارت عصائب الطير ما بي ... ن شَرود من الأذى ونَفور
لا تطيري! جوابةَ السفح فالنس ... ر إذا ما خَبَرْتِه لم تطيري
نسل الوهنُ مخلبيه وأدْمت ... منكبيه عواصف المقدور
والوقار الذي يشيع عليه ... فضْلة الإرث من سحيق الدهور
وقف النسر جائعا يتلوى ... فوق شِلْوٍ على الرمال نثير
عِجافُ البُغاث تدفعه بالمخ ... لب الغض والْجناح القصير
فسرَت فيه رِعشة من جنون ال ... كبر واهتز هزة المقرور
ونزا ساحباً على الأفُق الأغْ ... بَر أنقاض هيكل منخور
وإذا ما أتى الغياهبَ واجتا ... زمدي الظن من ضمير الأثير
جلجلت منه زعقة نشَّت الآ ... فاق حري من وهجها المستطير
وهوى جثة على الذَّروة الشما ... ء في حِضن وكره المهجور!
أيها النسر هل أعود كما عد ... ت، أم السفح قد أمات شعوري
عمر أبو ريشة(556/30)
بين معبدين
في المعبد المسحور، سبَّحنا، وغنينا هوانا
ومثنى الهوى، نشوان، ننسج من مفاتنه مُنانا
وسعى به قلبان ينتفضان في الدنيا، حنانا
نسَخ الحياة خيالنا، حلماً، فكانت من رؤانا
في ظلها النعسان طافت سمحة الإشراق نفسي
ونهلت من ينبوعها، فملأت بالإلهام كأسى
ونسيت تحت سمائها، من سكرتي، يومي، وأمسى
فكأنني فوق الزمان، وفوق أعصابي وحسي
عمر كغفوة حالم، بين المنى، أو رجع لحن
أو نشوة علوية عبرت. . . ولم تخطر بدَنِّ
مرت صباباتي، كأوهام، ونام اليوم فني
يا موكب الأحلام، في كف الردى، إياك أعني
من خان لذاتي. . . وأطلق من يديْ لهوي، متاعي
ومن الذي جُنَّت ضلالته فمزق لي شراعي
وأذل أيامي، وأطفأ في متاهتها شعاعي
وأقامني حرماً، حزين الظل، فوق غد مُضاع
طوفت ثم رجعت. . . والذكرى تعربد في ضلوعي
والقلب مخدِور المشاعر غال صحوته خشوعي. . .
ولذائذي انحدرت، تولول، صارخات، في دموعي
لفم الخريف المر، ما حفلت به دنيا الربيع
اليوم أرجع للهوى، من بعد إيماني وشركي
وأعود أنثر فوقه مترحماً، زهري. . . وشوكي
وأظل فوق ضريحه. . . ما بين أوهامي وشكي
في المعبد المهجور - بعد إلهه - قد عدت أبكي
محي الدين صابر(556/31)
خلود. . .
من عّلم الحور أسمار الأناسيِّ ... هذي غلالة إشراق سماوي
في عالم الفلك الأعلى مواطنه ... يا طين كبر وهلل للإلهي
تسرب النور من أمواج مسبحه ... نهراً تعالى على التصفيق والري
يا صائت الصمت والأنغام لاغطة ... مَوْسقت همي بلحن منك علوي
قلبي يتيم هَوى ماتت بخفقته ... ملذة السكر من خمر الأمانيِّ
كلمتني فبعثت الحس في بدني ... قد كنت صورة إنسان خياليَّ
عصرت أزمنة الّسمار في قدحي ... وجئت أسقيك أفراح النواسي
جبينك الفلق الوضاء كلله ... نور التفرد بالطهر الضيائي
تبارك الشفق الوردي مجتمعا ... في كأس ثغر نَدِيّ الراح مسكي
عيناك عّلمتاني - والهوى عبر ... رعاية الوحش للظبي الكناسي
السحر فيك صبابات مطهرة ... وخدعة السحر أن أحظى بلاشيّ
زكريا الحجاوي(556/33)
البريد الأدبي
الشعر الجديد
اطلعت في الرسالة (عدد 553) على مقال للأستاذ المحقق الثبت (* * *)، وعنوانه (طاقات ريحان، هدية إلى شعراء في هذا الزمان)، أودعته طرائف مما قاله بعض بلغاء المتقدمين وشعرائهم في صفة الشعر البهرج، والنظم الغث والقريض المهلهل.
فهاج هذا المقال الممتع في نفسي ما كنت أضمره من رأي، وأحرص ألا أبوح به، ولو لخلصائي، والمطلعين على دخيلة آرائي؛ خشية أن أرمي (بالرجعية)، والتخلف عن القافلة الجادة المرقلة؛ وخشية أن أجاهر - فوق ذلك - بقصور الفهم، وكلالة الذهن؛ وبأنني أعيش في عصر غير عصري، وأتعلق بما لا يتأتى أن يتعلق به مثلي.
وطالما كتبت في هذا الموضوع ثم عدلت عما كتبت. وكنت منذ قريب صنعت فيه مقالة، ثم حملتها إلى (الرسالة). وإني لفي الطريق إذ تنازعتني عوامل متضاربة، وفكر متعاكسة، دفعتني آخر الأمر إلى النكوص.
هذا هو موقفي. وأعتقد أنه موقف كثير من حملة الأقلام. وإلا فأين النقاد؟ أين من يقول هذا حسن وهذا قبيح؟ وهذا جيد وهذا زائف؟
إنهم يتوقون هؤلاء القارضين الذين إذا صاح بهم صائح أو نهرهم ناهر، أو كشف عن مواطن جهلهم كاشف، عووا عواء الذئاب، وانتاشوه بألسنة حداد. ونزقوا ولبثوا ليالي ونهرا متأوهين متأففين، يلعنون النقد والناقدين)
وهكذا استشرى شر هؤلاء المتشاعرين، وقويت شوكتهم، وتسنى لهم في مصر وفي غير مصر من البلاد العربية أن ينعتوا (بالمجددين)، وأن يلجوا أبواب الصحف المحترمة التي تحفل بالأدب، وأن يصلوا منها إلى موضع التشريف والتكريم
فكنت كلما وقعت على شيء من مقصداتهم اندفعت إليه مشوقا؛ لعلي أصيب منه طريفاً؛ أو أفيد منه معنى شريفاً، أو أظفر بما تهش به النفس وتقر العين
أو لعلي - بعد ذلك - ألمح فيه شيئاً من (التجديد) الذي به يتشدقون، وعليه في تدجيلهم يتوكئون - ذلك التجديد الذي لا أدري ما هو؟ ولا كيف هو؟ وإنما الذي أدريه أنه لفظ لاكته الألسن منذ نحو ثلث قرن. وأدري أيضاً أنه لفظ جنى على اللغة والأدب جناية أي(556/34)
جناية.
علم الله لقد كنت جاداً فيما أحاول لا هازلاً، وكنت مستفيدا، وكنت أبحث عن الحق، وكنت متجرداً من الهوى، وكنت أرجو أن يكون لهؤلاء النظام ولو بعض ما يدعون، أو شيء مما به يتغنون.
ولكني - وا أسفاه! - كنت أرجع من ذلك كله فارغ اليد واجما، أندب من الوقت ما أنفقت، ومن الجهد ما بذلت
يا سبحان الله! كيف أتيح أن ينشر مثل هذا الهراء في تلك الصحف الكريمة، وأصحابها من نعلم ذكاء وأصالة رأي ونفاذ حكم؟
(ا. ع)
زكي مبارك وإعجاز القرآن
ينكر الدكتور زكي مبارك أنه (الكاتب المجهول) وليس في الناس من يصدقه في ذلك ولا زكي مبارك نفسه.
ويقول إني أحاوره بكلام حاورته به في بيت القاياتي منذ عشرين سنة، وليس يدري أنه بقوله هذا يعترف على نفسه بإنكاره إعجاز القرآن وأتهمه بالتشكيك فيه في كتابه النثر الفني، ونثره الفني لا يزيد عمره عن بضع سنين، فلا بد أن يكون غيره مما قال في ذلك العهد كان سبب مواجهتي إياه بتلك التهمة في ذلك الحين. وإذن فالشك في إعجاز القرآن باعتراف زكي مبارك مذهب يذهبه زكي مبارك من قديم
ثم هو لا يدري أنه بقوله ذلك أبطل أيضاً كل ما زعمه من صورية إسلامي لأني لم أستر أخطاءه إن كان من المخطئين! أليس يكفيه ستر تلك الأخطاء قرابة عشرين سنة حتى كان هو الذي فضح نفسه بما كتب في كتابه وفي مقالاته؟ فليعلم نفسه إذن وليفهمها إن كان لائماً أو متهماً أحداً من الناس.
ثم متى كان ستر الأخطاء من لوازم الإسلام بالحقيقة حتى يكون كاشفها مسلماً بالصورة، خصوصاً إذا كانت تلك الأخطاء من نوع التشكيك في إعجاز القرآن
لقد أسندت إلى زكي مبارك تهما معينة تحديته بها كما يقول لينكرها إن استطاع، فلم يفعل،(556/35)
ولو استطاع لفعل. لكنه يعلم أن مجرد الإنكار لا يغني وكلامه شاهد عليه؛ ثم عز عليه أن يتبرأ من كلامه ذلك بعد أن طال افتخاره به، فجمجم يقول إني أتمسح بالدين لأنتصر عليه، ودمدم يظن أنه يستطيع أن يخدع الناس عن ضعفه بتظاهره بالقوة. ولست ابغي إلا أن يعرفه الناس فيحذروه. فإذا هو لم يخرج مما دخل فيه بالتبرؤ منه والرجوع عنه، فسنخرج نحن مما دخلنا فيه بإيراد الدليل عليه من كلام زكي مبارك نفسه، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
محمد أحمد الغمراوي
إلى الدكتور زكي مبارك
كنت أيها الأستاذ الجليل أسبق الأدباء المصريين إلى رد الظلم والبهتان اللذين حاول كاتب لبناني أن يلصقهما بهم، وكنت أسرعهم إلى رفع الحيف الذي ما فتئ هذا الكاتب ينالهم به، بين حين وآخر، لغاية في نفسه
ولقد حمدنا لكان تتناول - في مقالات نشرت في (المصري) آراء ذلك الكاتب بالنقد والتجريح وأن تحللها مبيناً ضعف الحجة ووهن المنطق فيها
بيد أن الذي لم نحمده لك أن تخاطب في مقالاتك الأدباء اللبنانيين جميعهم، كأنك تعتقد أن التهمة التي ألصقتها بذلك الكاتب، جائزة عليهم كلهم، فكنت تعجب من (الكتاب اللبنانيين) ومن ظلمهم وتعسفهم وإنكارهم لقيمة الأدب المصري، وما كان يجوز لك أن تجري عليهم جميعاً حكمك على كاتب منهم معين، أو على مجلة معينة. فلا تحسبن أن الذي تنكره على ذلك الكاتب وعلى تلك المجلة، نستسيغه نحن، ونرضى به، ولئن كنا لم نسارع إلى دفع ذلك الكلام، ولم نبادر إلى نقده، فليس ذلك لأننا راضون عنه أو لأننا عاجزون عن رده، وإنما كان ذلك لأننا لمسنا أن وراء ذلك الكلام غاية معينة، وغرضاً خاصاً، تستهدف له كرامتنا الوطنية نفسها
ولما كنا نعتقد أن كرامتنا الوطنية بلغت من تقدير الناس وتقديرنا لها حداً لن يتأثر قط بأراجيف مصطنعة، وادعاءات مغرضة؛ فإننا طوينا كشحاً عن كلام ذلك الكاتب غير آبهين له خاصة وإننا كلنا أو جلنا على مثل اليقين بأن الكاتب المقصود لم يقم يوماً بدراسة أو محاضرة ولم يؤلف كتاباً أو مقالاً خالصاً لوجه الأدب!(556/36)
ومع ذلك فقد شاء كاتب لبناني كبير أن يطلع الناس على تلك الحجج الواهنة، والبراهين الضعيفة التي استند إليها المحاضر فكتب مقالاً قيما في مجلة (الأديب) البيروتية جزء شباط سنة 1944
أقول إنه كان من الوجب أن تحترس في توجيه خطابك فتقتصر به على الكاتب المقصود، ثم إن مما أثار عجبنا أن تثير تلك الكلمات هذه الضجة في مصر خاصة بعد أن لمس المصريون أنفسهم عواطف الإخاء والود والعرفان بين مصر ولبنان في هذه الأيام الأخيرة، وقد كان من الواجب عليهم أن يفطنوا حين يستمعون إلى بعض أنغام جديدة، إلى أن هذه الأنغام شاذة وناشزة، فلا يتعبوا أنفسهم وعقولهم في محاولة إصلاحها ودرجها في الأنغام المنسجمة الرائعة، لأنها لا شك ستضمحل ذات يوم وتتلاشى وتجف حين لا تجد الأذن المصغية
وعلى هذا فنرجو أن يفسر إخواننا الأدباء المصريون سكوتنا بغير ما ينبغي أن يفسر، وألا يحملوه على غير محمله، لنعمل جميعاً على تحقيق ما نصبوا إليه من شئون التعاون بكل أطرافه السياسي والاجتماعي والثقافي وأن يحد الدكتور مبارك من غلوائه التي نستهدف لها جميعاً!
(بيروت)
سهيل إدريس
معرض سجاد تركيا بدار الآثار العربية
تقيم جمعية محبي الفنون الجميلة في يوم الاثنين 28 فبراير سنة 1944 معرض سجاد تركيا بدار الآثار العربية. ويضم هذا المعرض مجموعة قيمة تمثل أغلب أنواع السجاد القديم المصنوع في بلاد الأناضول يندر أن يجمع مثلها في مكان واحد. وقد ساهم كثيرون من كبار هواة السجاد في هذا المعرض بقطع فاخرة من مجموعاتهم الخاصة، كما زينت قاعات المعرض بقطع من قطيفة بروسة واسكوتاري ومن أنواع مختلفة من التطريز، وألواح القاشاني، وشمعدانات من النحاس وأدوات جميلة من الفضة، وأسلحة نقش عليها أسماء بعض سلاطين آل عثمان. وكان لمساهمة حضرتي صاحب السمو الأمير يوسف(556/37)
كمال وصاحب المعالي الدكتور علي إبراهيم باشا أثر كبير في استكمال مظاهر الفن والجمال بهذا المعرض
ولم يفت القائمين على تنظيم هذا المعرض وترتيبه أن ينسقوه. على حسب أنواع السجاد وتطورها في العصور المختلفة حتى صار بمثابة دليل علمي يستطيع فيه الزائر أن يتتبع دراسة سجاد تركيا
وقد وضع الأستاذان حسين راشد وجاستون فييت بالفرنسية دليلاً لهذا الغرض فيه تفاصيل كثيرة عن أنواع السجاد. وترجم هذا الدليل إلى اللغة العربية الأستاذ محمد راتب والدكتور محمد مصطفى.
في (مجموع رسائل الجاحظ)
ومتى أجئه في الشدائد مرملا ... ألق الذي في مزودي لوعائه
الحافظ أبن حجر(556/38)
العدد 557 - بتاريخ: 06 - 03 - 1944(/)
العلم التبشيري
للأستاذ عباس محمود العقاد
الدرس العلمي يخدم الحقيقة ويبحث عنها ويرحب بها ولا يكره إظهارها حيث كانت في مذهبمن المذاهب أو إنسان من الناس
أما الدرس الذي يكره إظهار الحقيقة لأنها تخص مذهبا غير مذهبه، أو تشيد بفضل إنسان على غير اعتقاده، فليس ذلك بدرس علمي ولا بعلم، إنما هو تبشير أو دعاية أو هوى مدخول.
ومن هذا القبيل درس كاتب في مجلة (المقتطف) يستره بدعوى العلم الصرف وما هو بمستور، ويمزجه بنوازع التعصب الخفي عامداً أو غير عامد وما بها من خفاء
كتبنا عن عائشة كتابنا (الصديقة بنت الصديق) وعقدنا فيه الفصول لنقول إنها رضى الله عنها كانت امرأة تامة الأنوثة في طبيعتها وخلائقها. فأعجب كاتب المقتطف بهذه الطريقة وقال من عنده: (. . . ومن محاسن هذه الطريقة أن المترجم مهما يعظم ويخطر ينزل منزلة الإنسان. فالسيدة عائشة على فضلها أنثى تامة الأنوثة: تغار وتفرط في الغيرة حتى أنها لتدب بين إحدى ضرائرها والرسول ابتغاء الاستئثار به، وإنها ذات حدة طبعية، وإنها ظلت تحمل الحقد لمن نصح للرسول أن يطلقها، وإنها مالت إلى ذوي قرباها في أمر الخلافة)
انتهى كلام كاتب المقتطف الذي يصطنع الدراسة العلمية وما هو منها في غير باب الفهارس والعناوين
ونحن لم نقل إن السيدة عائشة حملت الحقد أو دبت بين الرسول وبين إحدى زوجاته، فهذه عبارات الكاتب راقه أن يعبر بها عما أراده، وبينها وبين ما ذكرناه فرق محسوس
إلى هنا نحن علماء، وطريقتنا في النقد لها محاسن؛ ولكننا على ما يظهر لا نكون علماء ولا تعرف لطريقتنا حسنة إلا إذا وقفنا عند هذا الحد في الكتاب كله من ألفه إلى يائه. فأما إذا أسفر النقد عن محمدة أو عن تبرئة من مذمة فقد كفرنا بالعلم وخرجنا من محاسن الطريقة إلى السيئات
ولهذا عاد كاتب الفهارس والعناوين يقول: (وتلك مزية في الإنشاء قد تحرف المنشئ إلى(557/1)
التمجيد والتفخيم إطلاقاً، بدلاً من اختبار كنه النفس الفياضة بالإحساسات البشرية الصادقة الصافية. . .)
إلى أن يقول: (غير أن هذا الضرب من الإنشاء ربما كان مسافة إلى حديث يغلب عليه منطق الدفاع، وذلك ما انجذب إليه المؤلف لما عرض لقصة الإفك، فاجتهد في الجدل - وهو لصناعته حاذق - فأيد مذهبه بشواهد المعقول ونصوص المنقول، وربما لج في استخراج هذه، وأبعد في استنباط تلك، حتى أنه يمسي في مدارج المجاذبة والمدافعة مدرها لا باحثاً. . .)
ومعنى ذلك أننا أخطأنا لأننا نقضنا حديث الإفك وأسهبنا في نقضه، وإننا كنا نوافق العلم إذا رويناه ولم نعقب عليه، أو كان قصارانا في التعقيب عليه أن نقول: (إن قصة الإفك لا تحتاج إلى مثل ذلك الاجتهاد. . .)
إذن تكون علماء ولا نكون مدرهين مدافعين. . .!
وإذن يقر (العلم التبشيري) عيناً لأنه يستطيع أن يصيح يومئذ بين من يستمعون إليه: (أيها الناس! هذا قصارى ما يملكه الباحث في حياة السيدة عائشة من تفنيد لحديث الإفك وإبطال لدعوى المفترين عليها، ولو كان عندهم مزيد من التفنيد والتصحيح لجاءوا به ولم يسكتوا عنه)
وهذا هو العلم اللذيذ الشهي المعجب المطرب الذي يبرئنا من اللجاجة ولا يؤخذ علينا فيه عيب القدرة على الجدال
أما العلم الذي يسهب في تصحيح حديث الإفك دفاعاً عن سمعة السيدة عائشة فهو علم كريه بغيض عند المبشرين وأشباه المبشرين
هكذا يريدها كاتب (المقتطف) الذي يصطنع الدراسة العلمية لينفذ منها إلى هذه المآرب الخفية على ظنه، وما هي بخفية
إذ الواقع أن المسألة هنا أظهر من أن يسترها هذا البرقع الممزق المشنوء، وأن العلم الصحيح، والأدب الصحيح، براء من هذا العوج البين في التفكير والتقدير
والواقع أن الإسهاب في تصحيح حديث الإفك واجب علمي نلام على إهماله أو التقصير فيه، لأننا نكتب عن (شخصية) السيدة عائشة فلا نكون قد صنعنا شيئاً إذا نحن لم نمحص(557/2)
خلائقها ولم تظهر مقدار الصدق أو البطلان فيما يقال عنها
وكل ما يجب علينا أن نثبت مقال الخصوم فلا نحذف منه شيئاً، وأن نعرضه على مقاطع الحجج أو مواضع الاحتمال والترجيح فلا نغفل منها شيئاً، ثم نقابل بين الكفتين لندل على الراجحة منهما والمرجوحة، دون أن نكره القارئ على التصديق بغير برهان. وهذا ما صنعناه
وهذا الذي يعده الكاتب الذي حرمه الله الذوق والفهم لجاجة وخروجاً من وظيفة البحث العلمي إلى وظيفة الدفاع
ومن الواضح أن الباحث العلمي مطالب بالالتفات إلى البراهين القاطعة والوقائع الحاسمة كما هو مطالب بالالتفات إلى القرائن المرجحة والأدلة المحتملة، فلا يلام على قرينة لأنها غير قاطعة، ولا على دليل لأنه غير حاسم، ولكنه يلام إذا أهمل شيئاً من ذلك أو أثبته ثم أعطاه حظاً من القوة غير حظه الذي يحتويه
ونحن قد أتينا بكل ما يخطر على البال من جانبي المقال، ولم نبالغ قط في قيمة ترجيح أو احتمال، فقيل إنه خروج من البحث إلى الجدال
ولكن ما هو البحث الخالص البريء الذي لا جدال فيه يا ترى؟
هو الإسهاب في متابعة كل حجة وكل قرينة للتشكيك والتوهين، إذ التشكيك والتوهين هما العلم الذي لا جدال فيه. . . أما التصحيح والتبرئة فهما الجدال الذي يعاب على الباحثين والعلماء. . .!
وهذه أمثلة من إسهاب كاتب (المقتطف) الذي برئ من الفهم والذوق وصراحة التفكير واستقامة القياس
قال يعنينا:
(من ذلك أنه أول شكوى امرأة صفوان بن المعطل - وهو بطل حديث الإفك عند المرجفين - تأويلاً متزيداً فيه، ثم استند لأجل دعمه إلى خبر لا ندري ما يكون. وتفصيل ذلك أن المؤلف نقل أن امرأة صفوان شكته إلى النبي لأنه ينام ولا يصلي الصبح قبل طلوع الشمس، ثم زاد: وقد يحسن هنا أن نوجه شكوى امرأة صفوان إلى بعض معانيها. كأنها أرادت بثقل النوم كناية عن أمر آخر لا تفصح عنه. إذ قيل عن صفوان هذا إنه كان(557/3)
حصوراً لا يأتي النساء)
نقل كاتب المقتطف ما تقدم من كتابنا ثم قال: (والذي عندي أن ليس وراء شكوى امرأة صفوان تعريض، وليست حروف الشكوى بفارة نحو الكناية، ولو كانت فارة لكان النبي الزكن فطن للأمر، فما قال لصفوان على جهة التصريح: إذا استيقظت فصل. . .!)
فكل ما قلناه نحن أن الباحث يحسن به أن يوجه شكوى امرأة صفوان إلى بعض معانيها، وهو أنها تكنى بنومه إلى ما بعد طلوع الشمس إلى إهماله واجب الزوجية، ولا تحب أن تصرح بما أرادت، لأن التصريح قد يخجل المرأة في مجلس الرجال
لم نقل أن هذا القصد هو كل معاني الكلمة، بل قلنا إنه بعض معانيها، ولم نشأ أن نزيد على ذلك كثيراً ولا قليلاً، ولو شئنا لزدنا وقلنا إن المرأة لم ترد إلا ما أشرنا إليه، وإلا فما شأنها هي بصلاته بعد طلوع الشمس إذا كان ذلك جائزاً في الدين؟
لكننا مع هذا وقفنا عند حد الاحتمال الجائز ولم نزد عليه، فإذا بهذا المطموس ينكر الكناية هنا كل الإنكار بدليل لا يخطر إلا على خاطر كليل وذهن عليل، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لصفوان بعد أن سمع شكاية امرأته: إذا استيقظت فصل!
فياءيها المطموس مرة أخرى! بماذا تريد أن يجيبها النبي وهو يخاطب بذلك الكلام على سبيل الكناية؟
أتريد من النبي الزكن الفطن أن تخاطبه امرأة خجلى كناية وتعريضاً فيجيبها على الملأ بما هربت منه وأبت أن تذكره على سبيل التصريح؟
أهذا هو البحث الذي لا لجاجة فيه؟ وهذا هو التدليل الذي لا يحسب من الجدال؟
ثم أبى هذا الكاتب المطموس البصيرة أن يكون صفوان حصوراً بالمعنى الذي يبرئ السيدة عائشة فقال:
(وأما قصة الحصر فليست بالحجة القاطعة. فالذي في سير ابن هشام أن عائشة إنما كانت تقول: لقد سئل عن ابن المعطل فوجدوه رجلاً حصوراً ما يأتي النساء. . . ثم أضف إلى هذه الاستدلال الخبري واللغوي أن الذي ذكر عن صفوان لو كان أمراً مقطوعاً به مسلماً ما انبثّ حديث الإفك) إلى آخر ما قال
فلماذا يرد هذا على ذهن الكاتب المطموس ولا يرد على ذهنه أن ابن المعطل لو كان أمر(557/4)
حصره باطلاً معروفاً لما شاع عنه أنه حصور؟ ترى هل كان يمكن أن يقال عنه إنه حصور وله ذرية غير متهمة؟ ترى هل كان يمكن أن يقال عنه إنه حصور وله امرأة تعلم هي على الأقل أن الاتهام باطل وأن هذا الاتهام الباطل دليل على شئ مخبوء؟
لماذا خطر له أن أصحاب حديث الإفك لن يشيعوا ما ينقض البرهان؟ ولم يخطر له أنهم قد يشيعون ذلك اعتماداً على التباس التهمة التي تحتمل كل التباس؟
لماذا؟. . . أللعلم الذي لا جدل فيه، أم لشهوة النفس التي لا علم فيها ولا أمانة للحق والتاريخ؟
وخلاصة هذه الأمثلة أن المسألة مكشوفة لا يجدي مداراتها اللغط بألفاظ البحث والعلم والاستقراء، فإنما يكون الاستقراء علمياً عند هذا الكاتب وأمثاله كلما أفضى إلى تشكيا واسترابة، ولا يكون الاستقراء علمياً ولا محموداً ولا واجباً على الباحث أن يلم به إلماماً في عرض الطريق كلما أفضى إلى تبر وتعظيم
وإذا قلنا إن السيدة عائشة مؤمنة بنبوة محمد عليه السلام ظهر في سيرتها جميعاً لم يفهم معنى هذه الدلالة وراح يقول: ألا يخطئ المؤمنون والمؤمنات؟ ويفوته أن المسألة هنا ليست مسألة الخطأ بل مسألة الشك في علم النبي بالخطأ من طريق الوحي والإلهام. ومن واجب الباحث أن يستبعد وقوع الخطأ من هذا القبيل، لأنه لم يحدث قط في حياة الأنبياء، ولأن الإغراء الذي يقاوم كل هذه الموانع غير موجود ولا مفروض في حديث الإفك السخيف الذي لا برهان عليه
وبعد، فإن كنا نأسف لشيء فإنما لمجلة (كالمقتطف) أن تتورط في مثل هذا الإسفاف وقد تنزهت عنه في أيدي كتابها الأفاضل حقبة من الزمان، وأن تسلم زمامها إلى هازلين يعبثون بكرامتها ويخرجون بها عن سوائها وهم ما هم من قلة الفهم وقلة الذوق وقلة الإنصاف، وحظهم من حب العلم والحقيقة ما رأيناه، وهو حظ يلحقهم بدعاة التبشير ويخرجهم من زمرة كتاب المقتطف المعهودين، وللقائمين على المقتطف أن يختاروا لمجلتهم ما يحلو لهم من مصير، ولكن القراء أيقاظ لا يغفلون.
عباس محمود العقاد(557/5)
في الرملة البيضاء
للدكتور عبد الوهاب عزام
دعيت حينما حللت بيت المقدس إلى زيارة إخوان كرام في الرملة ويافا، وقد صادفت الدعوة شوقا في النفس وحنيناً، ولبثت أرتقب الفرصة حتى حسبتها قد أفلتت. وبينما أنا بالمسجد الأقصى يوم الجمعة الذي حدثت عنه في مقالي عن المسجد المبارك، شكوت إلى الصديق الكريم الذي ذكرته قبلا وقلت إن وجهه لا يعيب عن مشهد من مشاهد الخير، ما فاتني من السرور بما أملت من زيارة إخوان كرام في مواطن كريمة، وقالت ضاق الوقت فالرحيل بعد غد قال: وما عليك إذا زرت المدينتين غداً وركبت الطائرة بعد غد من اللد دون الرجوع إلى بيت المقدس. إن في الوقت سعة لإدراك بغيتك، وتأدية واجبك، ونذهب معاً إن شاء الله
فارقنا بيت المقدس ظهر السبت الخامس والعشرين من رمضان نؤم الرملة، وسارت السيارة في أودية فلسطين وشعابها، وأفضنا نحن في شعاب من الحديث وأودية نفصلها على ما نرى من مشاهد جميلة، وما نمر عليه من زروع وأشجار وجبال وقرى، وما يوحي به أولئك من ذكر وعبر بين الماضي والحاضر حتى أوفينا على المدينة الكريمة.
نزلنا في دار البنك، بنك الأمة العربية. ولهذا البنك دور في أمهات مدن فلسطين، فسرني ما رأيت من صور تاريخنا على الجدران، وما توسمت من صور جهادنا الحاضر في أعمال البنك وحسابه. وكم فرج هذا المصرف من كرب، وكم محا من يأس، وكم عصم من مال وأرض، وكم جمع الكلمات المتفرقة، وألف الأهواء الشتيتة. وإن رجاءنا في مستقبله أعظم من اغتباطنا بماضيه، وابتهاجنا بحاضره. وجزى الله خيراً كل من ساهم في الذود عن هذه الأمة بعقل مدبر، أو يد عاملة، أو لسان ناصح، أو مال نافع.
ثم سار بنا الشوق والسرور إلى دار الأخ الصديق المجاهد محمد يعقوب الغصين، فنعمنا حيناً بالجلوس مع الأخ الكريم، وجماعة من وجوه الرملة أتوا مسلمين. نضر الله هذه الوجوه ورعاها. وكانت مطامعنا قد اتسعت لأن نزور المدينتين، ونجيب الدعوتين، ونقضي الغرضين في يوم واحد. فلما لقينا الوجوه الكريمة، وأفضنا في أفانين الحديث، عرفنا أن ما بقى من إقامتنا في فلسطين لا يتسع لأداء فرض واحد من فروض كثيرة(557/6)
تلزمنا بنزولنا الرملة، فأقصرنا عن زيارة يافا أسفين آملين أن تيسر لنا فرصة نزور فيها يافا والرملة أيضاً
خرجت في العشى في صحبة الصجيق الكريم أحمد حلمي باشا لنجول في الرملة وما حولها على قدر ما تأذن لنا بقية نهار من رمضان فذهبنا إلى أطلال مسجد كبير تدل رسومه وبقايا جدره وأسطواناته، ومكان المحراب من هذه البقايا، أنه كان من أعظم الجوامع الإسلامية وأفسحها كجامع بني أمية في دمشق، وجامع المعتصم في سامرا، وجامع ابن طولون في مصر أو أوسع. ولا يبنى مثل هذا الجامع إلا في مدينة كبيرة عامرة. وكذلك كانت الرملة البيضاء. فقد مصرها سليمان بن عبد الملك وهو وال على فلسطين من قبل أخيه الوليد، ثم عني بعمارتها بعد أن آلت إليه الخلافة، ودعا الناس إلى البناء فيها فاتسعت وعظمت. وقد روى ياقوت أن سليمان أراد أن يخلد ذكره بمدينة الرملة ومسجدها كما خلد ذكر أبيه عبد الملك بقبة الصخرة، وذكر أخيه الوليد بجامع دمشق. وحسب جامع الرملة أن يكون صنو جامع دمشق، وبيت المقدس. ما هذه الأساطين والجدر إلا بقبة العراك المديد بين الحادثات المدمرة وهذا المسجد العظيم، قامت كما يثبت المجاهدون الصابرون للخطوب الجسيمة، والأرزاء العظيمة
وقد تداولت الرملة أحداث الدهر أيام الحروب الصليبية حتى أنقذها من الفرنج السلطان صلاح الدين عام ثلاث وثمانين وخمسمائة؛ ثم اضطر إلى أن يخربها بعد أربع سنين حذرا أن يستولي عليه الفرنج مرة أخرى. وناهيك بالمحن التي تضطر صلاح الدين إلى إخراب مثل هذه المدينة!
وفي شمالي ساحة الجامع منارة عظيمة عالية مربعة مبنية بالحجارة الضخمة المهندسة بناها الملك الناصر محمد بن قلاون وكأنه أراد أن يجعلها مئذنة ومنارة أو مرقباً لمراقبة السفن القادمة إلى سواحل فلسطين. على المنارة كتابة واضحة فيها اسم الملك الناصر وألقابة، وتاريخ بنائها سنة ثماني عشرة وسبعمائة. والمنارة قائمة وحدها مفردة، كأنها رمز للتوحيد ثابت على مر الزمان، أو علم للأيمان القوي الذي لا يقهره تقلب الحدثان. كم شهدت هذه المنارة من الغير، ورأت من أحداث القدر، وتاريخ البشر! وليت شعري ماذا تروى من أخبار السلف، وماذا تنقم من أفعال الخلف؟(557/7)
فاقت هذه الآثار قائلاً: رحم الله بني أمية، وهذا أيضاً من آثارهم، منشداً في هذه الآثار المخذولة، وذاك الحمي المستباح قول كثير:
حموا منزل الأملاك من مَرْج راهط ... ورملة لُدَّ أَن تباح سهولها
ذاكرا الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي ما تزال آثاره في مصر والشام شاهدة بمآثره، ناطقة بمحامده
ثم جلنا ساعة في الأودية القريبة من المدينة والمزارع والمشاجر الناضرة الفيحاء، ومررنا بوادي حنين
قال الباشا: هنا بستان للأخ الكريم الأستاذ محمد علي الطاهر يقضى علينا الوفاء أن نراه لنعرف كيف تعهدّاه والعناية به. والبستان في ربوة يؤدي إليه طريق صاعد ضيق. قال الباشا: إن سائقنا يشفق من هذا الطريق، فكلما مررت على مقربة منه أسرع آملاً ألا أذكر البستان إلا بعد أن يبعد عنه فيستريح من مشقة الإصعاد إليه وتخلل المسلك الضيق بالسيارة. وقد أدركت حيلته فهددته أن أخبر الأستاذ الطاهر ليهجوه بمقال أو مقالين. سرنا بين بساتين يانعة كثيفة الشجر، كثيرة الثمر، حتى انتهينا إلى بستان أخينا فدخلناه وتخللناه، فوجدناه حديث عهد برى، وسرنا أن وجدناه مع ما أدركه من حرفة الأدب التي جعلته أقل نضارة من جاره، مخضرا تنوء أشجاره بما حملته أخذنا غصناً من البرتقال فيه تسع حبات متراكبة كعنقود العنب، وغصناً من الليمون الهندي الذي يسمى جريبفروت فيه خمس حبات كذلك، قلت أنعم بها من بشرى نحملها إلى الصديق في القاهرة، وهدية نطرفه بها من بساتينه الناضرة، وقد حرصت عليها وحملتها في الطائرة متيمناً بها، أراها أغصان نضارة وسلامة، ورمز عناية بالصديق وكرامة، وتنضيراً للصلة بين مصر وفلسطين، وما احسبني فرحت بهدية حملتها، ولا الأخ الطاهر سر بهدية حملت إليه، سرورنا بهذه الهدية الخضراء الجميلة التي حملتها الرياح من الرملة إلى القاهرة
وعدنا إلى دار ضيافتنا للإفطار وصلينا في مصلى في الدار به ضريح يقال إنه ضريح أبي يزيد البسطامي الصوفي المعروف وما عرفنا في تاريخ أبي يزيد أنه جاء إلى الرملة، بل قبره في بسطام بلده معروف يقصده الزوار من الأرجاء، ولا سيما الصوفية حتى اليوم؛ ولعله ضريح بنى على ذكر أبي يزيد، أو قبر صوفي آخر من البسطامية أتباعه غلبه على(557/8)
قبره صيت شيخه وقد قرأنا في تاريخ الصوفية أن أول من عرف منهم بهذا الاسم صوفي اسمه أبو هاشم اتخذ صومعة في مدينة الرملة وتوفى سنة 150 فهل هذا قبره؟ لم يتسع مقالنا للبحث في هذا الشأن
وبعد العشاء ذهبنا إلى دار الشبان المسلمين فلقينا جمعاً من الشبان حاشداً وعلمنا أنهم لم يجتمعوا منذ سبع سنين؛ فرط عقدهم، وباعدت بينهم، ومنعتهم الإلتثام في مثل هذا الجمع، حوادث الحرب وما قبل الحرب من الثورة والجهاد، وممارسة الخطوب الشداد، فما كان أعظم غبطتي، وما كان أسعد جدي أن كانت زورتي المدينة الكريمة مقرونة باجتماع الشمل، وانتظام الجمع. تكلم صديقنا المجاهد محمد يعقوب الغصين وتكلم عدة من كرام الشبان فأفاضوا ما شاء أدبهم وكرمهم محيين المجاهد الكريم، والزعيم الاقتصادي أحمد حلمي باشا والضيف المصري الذي لا نرى نفسه في فلسطين ضيفاً، ولا يعد القاهرة أولى به من الرملة. وتكلمت على وجوه يعرفها قلبي وإن لم تشهدها عيني مستمداً من تاريخنا ومآثرنا وأخلاقنا وعزائمنا ما يثبتنا في هذه المحن، ويربط على قلوبنا في هذه الفتن، ويجمع الكلمة في هذه المصائب، ويؤلف العزائم لهذه النوائب، وألقيت إليهم من تاريخنا وأخلاقنا وأواصرنا مقاليد المستقبل الكريم، الوضاء الذي يبسم في أعقاب هذه الظلمات، ويتنفس من وراء تلك الكربات. ومن وراء كلامي ما يضيق عنه الكلام، وتتلقفه عن الوجدان الإفهام. لقد كانت ساعة جليلة لا تزال تضئ في جوانحي، وتشتعل في سرائري.
أصبحت إلى مطار اللد في صحبة إخواني الكرام أتمثل بقول القائل:
وْنكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا
وأنشد قول أبي الطيب في طريقه إلى مصر:
إذا السحاب زفتْه الريح مرتفعاً ... فلا عدَا الرملة البيضاء من بلد
عرجنا على بنك الأمة العربية في اللد فلبثنا حتى سرنا إلى المطار وقد قصصت قصته من قبل في حديث عن الطيران من اللد إلى القاهرة
عبد الوهاب عزام(557/9)
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
للأستاذ ساطع الحصري
للأستاذ دريني خشبة
عندما فرغت في العام الماضي من قراءة الجزء الأول من كتاب الأستاذ الجليل ساطع الحصري (أبو خلدون) عن مقدمة (ابن خلدون) أيقنت أنني لم أضع وقتي سدى في قراءة هذا الكتاب الثمين، وأيقنت أن ابن خلدون جدير بأن يوليه مفكرونا وكتابنا عنايتهم، كما يوليه مفكر والغرب وكتابه عنايتهم على الأقل، وإن كان واجبنا يقتضينا أن نسبقهم إلى ذلك ونبزهم فيه. . . فليس كثيراً على ابن خلدون أن يكتب عنه الدكتور طه حسين رسالة يكسرها على فلسفته الاجتماعية، ثم يأتي الأستاذ عبد الله عنان فينقل إلى العربية تلك الرسالة، ويزيد فيضع كتاباً جديداً عن حياة ابن خلدون وتراثه الفكري، ثم يتفرغ الأستاذ أبو خلدون لوضع مؤلفه الشامل عن مقدمة ابن خلدون فيملأ أيدينا ووعينا ببحث عجيب مستفيض عن هذا الرجل العبقري الذي يعتبر بحق نابغة الأمة العربية في علم الاجتماع، وقد أصدر الأستاذ ساطع بك الجزء الثاني من بحثه القيم عن المقدمة هذا العام (1944)، وما كدنا نراه حتى أكببنا عليه نتلوه، بل ندرسه، في شغف وفي شوق وفي إعجاب
تناول المؤلف في الجزء الأول موقف ابن خلدون من الكهانة والنجامة والسحر ومشيئة الله، والأدوار التي لعبتها هذه الأشياء في التاريخ؛ ثم نبذة شاملة عن حياة ابن خلدون لم يقتصر فيها على ما كتبه المؤرخ عن نفسه في الرسالة المحفوظة بدار الكتب المصرية، والتي تنقص تأريخ فترة طويلة من حياته تبلغ إحدى عشرة سنة إلى وفاته؛ ثم تاريخ كتابة المقدمة وشعور ابن خلدون بأنه إنما استحدث في علم التاريخ حدثاً جديداً لم يسبقه إليه أحد، وانتقل إلى ما حدث من إهمال المؤرخين العرب للأسس التي وضعها ابن خلدون في مقدمته لعلمي التاريخ والاجتماع وما كان من تنبه المؤرخين العثمانيين إليها آخر الأمر، وانتفاعهم بها في وضع تواريخهم، وذلك من نعيما صاحب التاريخ المعروف إلى عبد الرحمن شرف المؤرخ الرسمي الأخير، مما أدى إلى ترجمة المقدمة إلى التركية قبل ترجمتها إلى أية لغة أوربية بنحو من قرن كامل، ثم تناول بعد ذلك لغة المقدمة فشرح نظرية النقد التفسيري شرحا لم يسبقه إليه أحد في العربية، وفسر لنا بعض العبارات التي(557/10)
تعيننا على فهم أسلوب ابن خلدون ومقاصده من كثير من العبارات التي خرج بها على المعاني المألوفة لها مما يحدث التباساً في مسايرته إلى أغراضه إن لم نلم بها قبل قراءة المقدمة، وهذا فضل لم نر بداً من تسجيله للأستاذ ساطع في هذه الكلمة السرية الموجزة. ثم يستطرد بعد هذا فجأة إلى نسب ابن خلدون، ويناقش الدكتور طه حسين فيما ذهب إليه من شك ابن خلدون نفسه في نسبه، كما يناقش الأستاذ عنان أيضاً في هذه المسألة. ونرجو أن تكون لنا عودة بصدد هذه المناقشات
وفي القسم الثاني من الجزء الأول يتناول الأستاذ الجليل مكانة المقدمة في تاريخ (فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع) ويحدثنا عن فيكو وآرائه، كما يحدثنا عن مونتسكيو ونظرياته، مقارناً بينهما وبين ابن خلدون، ومكانة ابن خلدون من علم الاجتماع ونظرة علماء أوربا إلى نابغة العرب. والأستاذ ساطع يثير إعجاب القارئ إلى أقصى حد بسعة إطلاعه وجهوده العميقة الموفقة التي بذلها في هذا القسم من أقسام الكتاب، فهو يلفتك إلى عشرات وعشرات من المراجع الهامة التي يضع بين يديك خلاصتها، ويثير فيك فضول الاطلاع بالرجوع إليها، فمن أروع ما أثبته هنا خلاصة ما كتبه (روبرت فلنث) عن ابن خلدون وتفضيله على جميع أنداده ممن كتبوا في فلسفة التاريخ. ولا يفوتنا ونحن نكتب هذه اللمحة، أن نعارض بشدة ما أورده (فيكو) من أن العبرانيين، ثم الكلدان، ثم الأسكيت، ثم الفينيقيين أقدم جميعاً من المصريين. . . لقد بطلت هذه النظرية أتم البطلان، وأثبتت مجموعة البداري الأثرية التي يرجع عهدها إلى ما قبل خمسة عشر ألف سنة، كما أثبتت مئات الشواهد التاريخية الأخرى أن المصريين هم أقدم أمة على وجه الأرض
ويتناول القسم الثالث من الجزء الأول (آراء ابن خلدون ونظرياته) فيحدثنا عن موضوع التاريخ ومهمة المؤرخ، وطبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم، والقسر الاجتماعي والتقليد وطبائع الأمم وسجاياها، ونظرية العصبية والخط والكتابة. وقد ذكرتنا معظم هذه الفصول برأي لنا قديم نشرناه عن تلمذة ابن خلدون لإخوان الصفا في رسائلهم المشهورة، وانتفاعه بما جاء في هذه الرسائل، ولا سيما عن تأثر طبائع الأمم وسجاياها ببيئة الإقليم ومناخه وهوائه ومحصولاته وأثر الجوع والخصب في أخلاق الشعوب ودياناتها، كما ألمعنا إلى أوجه الشبه بين ما قرره إخوان الصفاء في رسائلهم عن الزهد ودرجات الناس، وعلاقات أولياء(557/11)
الله وكيف آتاهم الله القدرة على إدراك الغيب ومعرفة بواطن الأمور، وما ذهب إليه ابن خلدون في هذه الأمور جميعاً بما يشبه أن يكون نقلاً أو اقتباساً عن إخوان الصفاء. وكذلك ما كتبه ابن خلدون عن النجامة فهو يشبه، إن لم يكن هو، ما قرره إخوان الصفاء من قبل. . . وكم كان يسعدنا أن يتنبه إلى هذه الملاحظة الهامة كتابنا الإجلاء الذين ألفوا عن ابن خلدون. وقد تناول الأستاذ الحصري بالتفنيد ما يذهب إليه بعض العلماء من شعوبية ابن خلدون وحملته على العرب. ولسنا بمعرض مناقشة آرائه الآن، إلا أننا ننبه هنا إلى أن ابن خلدون كان متأثراً في هذه الحملة بما قرأ في رسائل إخوان الصفاء. . . وفي الرسالة الحيوانية مصداق لهذا كله
وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن الجزء الثاني لا نرى بد من التنويه بما أفاض فيه الأستاذ الحصري عن نظرية العصبية واتصالها بالاجتماع السياسي، ومناقشته لآراء المؤلفين الأجانب الذين عنوا بابن خلدون بصدد هذه النظرية. إنه فصل يستحق الأستاذ عليه ألف تهنئة
أما الجزء الثاني من هذه الدراسات العميقة القيمة عن ابن خلدون، فلسنا نعدو الحق إذا قررنا أنه خير ما قرأناه هذا العام (1944) في المكتبة العربية من نوعه، وإن كنا لا نطيق تأجيل عتبنا على الأستاذ للهجة التي ناقش بها آراء الدكتور طه حسين وخصوصاً تكراره ألفاظ: (ادعى فلان، وادعاء فلان، ويدعي فلان، وحظ أقوال فلان من الحق والصواب. . . ثم التعريض بمعلومات الدكتور العلمية حينما كان يكتب رسالته) إن هذا كله يثبت أن الأستاذ الجليل ساطع الحصري كان متحمساً وهو يكتب مؤلفه الخالد، فأوقعته حماسته فيما لا يناسب سجايا العلماء ولا سيما إن كانوا من طراز الأستاذ الحصري. . . ولندع ذلك الآن. . .
تناول الجزء الثاني الكلام عن التطور التدريجي في الطبيعة والمجتمعات وسبق ابن خلدون إلى إدراك مذهب النشوء والارتقاء قبل داروين بأحقاب طويلة، كما تناول الكلام عن المذاهب الأساسية في علم الاجتماع وما استحدث في هذا العلم من نظريات شتى، وما سبق إليه ابن خلدون من الإلماع إلى هذه النظريات، ثم ينتقل من هذا إلى الدولة وتطوراتها وعمرها واتساع نطاقها، ثم ما قرره ابن خلدون عن الحروب وأصلها والجيوش ومراتبها(557/12)
ودواعي الانتصار أو الهزيمة وما يتصل بالدفاع عن الدولة. . . على أن أبدع فصول هذا الجزء - ولعل ذلك في رأيي - هي هذه التي تناول فيها الأستاذ المؤلف شرح آراء ابن خلدون وتحليله للنفس الإنسانية - وهو ما أؤكد للأستاذ أنه متأثر فيه أيضاً بآراء إخوان الصفاء - ثم هذه اللمحات الفريدة عن التربية والتعليم فيما يرى ابن خلدون وما جمعه الأستاذ المؤلف من المعلومات الطريقة عن أحوال التعليم في عصره، وما كان من حرية التعليم والتدريس وأنواع المساجد، وعدم إشراف الحكومة الرسمي على التعليم إلا في حدود (الحسبة) التي وصفها ابن خلدون بأنها (وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وأن من اختصاص موظفي الحسبة (الضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها، في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين!). . . وأن مهنة التعليم في عهد ابن خلدون كانت من مهن المستضعفين؟! (ولا حول ولا قوة إلا بالله يا إخواني المدرسين!)، ومذاهب كل من الأقطار الإسلامية في تعليم الولدان. . . إلى آخر ما لا يتسع المجال لذكره هنا مع طرافته وإمتاعه. . .
وبعد. . . فلا بد من كلمة عن عدم العناية بمراجعة الكتاب أثناء الطبع. ذلك الأمر الذي أذاع في جوانبه الخطأ المطبعي، ولم يسلمه من وقوع بعض التعبيرات التي انزلقت إلى انحرافات نحوية كان من الممكن تجنبها لأنها تعد من الهنات، بل من الكبائر، التي لا يصح وقوعها من كبار مؤلفينا، وزعماء مفكرينا. . . ولسنا نرى داعياً إلى ذكر شئ من هذه الانحرافات، رجاء أن تنتهي الحرب قريباً فيطبع الكتاب طبعة أنيقة تليق بما يحمل من مادة خصبة وعلم غزير. . . هذا. . . وقد ابتدع الأستاذ المؤلف اشتقاقات، ونحت نِسَباً لا نرى ضيراً في إقرارها، وإن ثقلت في السمع أول الأمر، وذلك كعضواني ونفساني، والنظرة الحياتية - أي البيولوجية، والفلسجة الاجتماعية، ومرفجة العقلاني. . الخ. . . إن لم يضع مجمعنا اللغوي كلمات أجود منها لمرادفاتها الإفرنجية.
دريني خشبة(557/13)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
آمال يحققها الهلالي باشا
إن قراء الرسالة عرفوا ما انتهت إليه قضية المدرسين بالمدارس الحرة، فقد نشرت الجرائد اليومية خلاصة الخطب التي ألقاها رفعة النحاس باشا ومعالي الهلالي باشا وسعادة الدكتور طه بك حسين، ونقل المذياع تلك الخطب إلى جميع الأسماع
وأقول إن الذي يجب تسجيله هو تحقيق آمال المدرسين بالمدارس الحرة بعد أن كان تحقيقها من رابع المستحيلات، فهذا الوزير نفسه كان يستصعب حل هذه القضية، بدليل أنه لم يحلها في الوزارة الماضية، ولو لم يوفقه الله في هذه المرة لظلت تلك القضية عقدة العقد ومشكلة المشكلات إلى آخر الزمان
كان الأمل الذي أطمح إليه هو تعيين المدرسين بالمدارس الأجنبية على وظائف تذكارية، كالذي نصنع في معاملة المدرسين الذين نرسلهم إلى الأقطار العربية، وقد كتبت في تزكية هذا الاقتراح عدة تقارير، منها تقرير نشرته مجلة الرسالة منذ سنين بإمضاء مجهول
كان اقتراحي يبدو كأنه طيف الخيال، ولم أكن أصدق أنه سيتحقق، ثم كانت المعجزة الطريفة، وهي جعل المدرسين جميعاً في منزلة واحدة، بلا تفرقة بين المدارس الحرة والمدارس
وأعترف بأني أكاد أكذب ما قرأت وما سمعت، فهل من الحق أن وزارة المعارف رضيت وهي طائعة مختارة أن تجعل مدرسي المدارس الحرة في منزلة مدرسي المدارس الأميرية؟
أنا لا أصدق، فالمألوف أن تجود الحكومة بالخير بعد أن تدعى إليه ألوف المرات، ومدرسو المدارس الحرة لم الحرة لم يطلبوا يوماً مساواتهم بمدرسي المدارس الأميرية في جميع الحقوق، وإنما طلبوا حقوقاً سهلة هينة لا تزعج وزارة المعارف، هل طلبوا غير الترفق في تحديد المرتبات، وكانت من الضآلة بمكان؟
لأول مرة في تاريخ الحكومة المصرية يبذل الخير لمن لم يطلبوه، وهذه أريحية جديدة لم نعرف لها مثيلاً فيما سلف من العهود
الهلالي باشا يقول إن النحاس باشا هو صاحب الفكرة، والنحاس باشا يقول إن الهلالي هو(557/14)
صاحب الفكرة، والنتيجة معروفة، وهي أن هذين الرجلين يتسابقان إلى الخير تسابق الجياد، أعزهما الله وكتب لهما دوام التوفيق
حكومة تثأر للأمة
قال الهلالي باشا في خطبته إن الأمة كانت أسبق من الحكومة إلى نشر التعليم، وتحدث عما صنع مصطفى كامل وسعد زغلول، ولم يفته النص على جهود الجمعيات الخيرية وجهود الأفراد، وهذه الالتفاتة هي أجمل ما ورد في خطبة الهلالي باشا، لأنها صورت هذه الوزارة بصورة الحكومة التي تثأر للأمة، وهذا معنى جديد، فقد كانت الحكومة تنظر إلى الأمة بمنظار يعف قلمي عن وصف مرآه الجميل!
تاريخ الجامعة المصرية
تحدث الهلالي باشا عن الجامعة المصرية الأولى، الجامعة التي أنشأتها الأمة، وقال إن حكومة ذلك العهد كانت تحارب الجامعة بحجة أن مصر لا تحتاج إلى جامعات وإنما تحتاج إلى كتاتيب!
فهل يذكر الهلالي باشا قيمة الإعانة التي كانت تقدمها وزارة المعارف إلى الجامعة المصرية بألفين اثنين من الجنيهات، ومع هذا كانت تماطل في الدفع، والشواهد تحت يدي، وسأقدمها إلى معالي الوزير إن أراد
لا موجب للتذكير بهذا التاريخ، فما تمثلته إلا توجعت مما كانت تصنع الحكومة في مغايظة الأمة. . . على تلك العهود ألف عفاء!
زكي مبارك وإعجاز القرآن
هذا عنوان الكلمة التي نشرها الأستاذ محمد أحمد الغمراوي بمجلة الرسالة، وهي كلمة مؤذية سبقتها كلمات مؤذيات بقلم هذا الكاتب المفضال
هذا الكاتب يتحداني لأشرح ما غاب عليه من أسرار كتاب (النثر الفني)، وهو يرجو أن يجد فرصة جديدة تؤيد غرامه باتهامي في إسلامي
وأقول مرة ثانية إني لا أقيم لتحديه أي ميزان، ولن أعترف بأن من حقه أن يساجل صاحب النثر الفني، فقد ظهر أنه لم يفهم كتابي(557/15)
قال هذا الكاتب إنه لا يبغي إلا أن يعرفني الناس فيحذروني؛ وهذا القول مسروق من كلامي، فقد نبهت الناس ألف مرة إلى أن يحذروني، لأني لا أبالي في الحق أي ملام، ولا ألتفت إلى أوهام المتزمتين
ثم دعاني هذا الكاتب إلى التبرؤ من كتال النثر الفني
لبيك، ثم لبيك، يا كاتباً يدعو إلى تبرؤ الآباء من نجباء الأبناء
كتاب النثر الفني كتابي، وقد استكثره ناسٌ علىَّ فزعموا أنه من وحي الجن، وليس بيني وبين الجنة نسب حتى أستوحي ما عندهم من آراء وأهواء، فهو كتابي، وقد سطرته بيميني في فورة شبابي، ولن أتبرأ منه ولو صرت معه إلى جهنم الحامية، فسأكون به أشرف مذنب يصطلي نار السعير، وفي جهنم مكان لأحرار الرجال
الجنة لا تستهويني، لأن الحياة فيها تخلو من المتاعب، وأنا أكره الحياة الخالية من المتاعب
مضيت مرة للبحث عن مكان هادئ في إحدى ضواحي باريس فوجدت بيتاً كتبت على بابه هاتان الكلمتان: فانزعجت، لأني أعرف أن الهدوء المطلق لا يكون إلا في مساكن الأموات
وفي بغداد اخترت داراً يجاورها مصنع حديد، لأفر من الهدوء المطلق
وبنيت داري بمصر الجديدة في مكان يجاور ضجيج الحياة، ولأسمع إشتجار المعاني في صدر الوجود
ماذا يقع إن كان مصيري إلى جهنم؟
تلك فرصة ثمينة أتذكر بها ذنوبي، وأعرف أن لي وزناً عند فاطر الأرض والسماء، وهل تكون جهنم نقمة وهي مكان التطهير من الذنوب؟
ليس الدين هو الباعث على محاربتك، إياي، فهنالك باعث آخر هو غرامك بأن يقرن اسمك باسم الدكتور زكي مبارك
أنا مفطور على التسامح، ولكني لن أسامحك، وسأدعو الله أن يغضب عليك، إلا أن تتوب، ولن تكون من التائبين
عند الله جزائي، فقد أكون أول مؤمن يعلن الكفر ليصحح عقيدة الإيمان. . . الله للمجاهدين، فلا تصدقوا من يزعمون أن الله للمنافقين(557/16)
الفتنة نائمة
لقيني الأستاذ إميل بك زيدان في مكتبة المعارف فقال: (الفتنة نائمة) فابتسمت وقلت: (ولعن الله من أيقظها!). . . فهل فهم جوابي؟
إنه يشير إلى مقالاتي في مصاولة بعض أدباء لبنان، وأنا لم أكتب حرفاً واحداً في إيذاء الأدباء اللبنانيين، وإنما يتجنى فريق منهم علينا من يوم إلى يوم، ويقعون في أخطاء تنكرها الأذواق، فهل ثار الأستاذ أميل زيدان على تلك الأخطاء، وهو يعرف أن إخوانه هنالك هم الموقظون للفتنة والداعون إلى التفريق؟
لقد تعبت في معاتبة أولئك الرفاق، فما استمع مستمع ولا أجاب مجيب، فهل نلام على تذكيرهم بالواجب؟ وهل يكون من إيقاظ الفتنة أن نصحح تاريخ الأدب الحديث بعد أن طغى عليه التحريف؟
سأقول وأقول إن مصر هي باعثة الأدب العربي بعد أن طال عهده بالهجود، وسأذكر بالتفصيل ما أخذه الأدباء اللبنانيون عن الأدباء المصريين
نحن خلفاء العرب، والمصحف لا يطبع إلا في بلادنا، وسنرفع راية العروبة في جميع الميادين
من هؤلاء؟
جاءت مجلة الأديب البيروتية وفيها اتهام صريح بالدعوة إلى التفريق، اتهام موجه إلى (عصبة) تدعو إلى عزل لبنان عن الأمة العربية، وهي نفسها العصبة التي تتجنى على الأدباء المصريين من حين إلى حين
ولو كنت أعرف أن هذا هو رأى اللبنانيين في تلك العصبة لكففت قلمي عما جرى فوق صفحات جريدة المصري
ولهذا أعتذر لحضرة الأستاذ سهيل إدريس وأتلقى عتابه المنشور في مجلة الرسالة بأحسن القبول
الآن عرفت أن التجني على مصر لم يكن نزعة لبنانية، وإنما هو نزوة تطوف برءوس حرمها الله نعمة العقل، وكتب عليها الخذلان(557/17)
محمد فهيم
اشتركت في الحفلة التي تقام لتكريم المربي الكبير الأستاذ محمد بك فهيم، ولكني لم أستطع الوصول إلى مكان الاحتفال بسبب الزحام، فلم يبق إلا أن أحييه بهذه الكلمات
إن لهذا الرجل تأثيراً في حياتي الأدبية، فهو الذي قهرني قهراً على السفر لخدمة العلم في العراق، وكانت حجته أن وزارة المعارف العراقية طلبتني باسمي، وأنه لا يجوز أن أرفض هذا التشريف، وبهذا قضيت في بغداد عاماً هو أجمل أعوام حياتي
وللأستاذ محمد بك فهيم خصائص يجهلها أكثر الناس، فهو على تحضره وغناه لا يزال يقيم في دار أبيه بجوار جامع شيخون، وهو يتصل بالريف كل أسبوع، بحيث يجوز أن أن نعده من أعيان الفلاحين
أما أدب النفس فخصيصة أساسية يمتاز بها هذا الرجل المهذب إلى أبعد حدود التهذيب
ولعل هذه الحلفة تردَّه بحرارتها إلى فورة العافية، فقد سمعت أنه كان مرض بضعة أسابيع
محمد فيهم أحد رجالنا الاماجد، وأنا أشترك في تكريمه بهذه السطور، وهي أقل ما يجب لمن يتحلى بمثل أدبه النفيس
زكي مبارك(557/18)
صلات علمية
بين مصر والشام
في النصف الأول من القرن الثامن الهجري
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وما مناظرات ابن تيمية في مصر والشام إلا صورة مما كان يحدث في هذا العصر بين العلماء. وكانت الشغل الشاغل لهم، وكان أغلب القائمين بها من علماء السنة الذي وقفوا للمبتدعين بالمرصاد، كما كان بيت ابن تيمية هو البيت الديني الذي يحمل لواء أهل السنة ويتولى الرد على أهل البدعة. ويعاونه في ذلك أخواه شرف الدين وزين الدين. وقد كان لهما مناظرة في مجلس سلار نائب السلطان الناصر. فظهر شرف الدين بالحجة على مناظرهما ابن مخلوف المالكي. وكان الكلام هذه المرة في مسألة العرش وكلام الله وفي مسألة النزول.
ولقد حدثت بسبب هذه المناظرات فتن كثيرة في مصر والشام، واهتاجت لها الخواطر الساكنة. وانقسم الناس شيعاً كل واحدة تحارب غيرها، وسجن كثير من العلماء لمجرد التقول عليهم أو إطلاق الألسنة فيهم. وخاصة في دمشق التي وقع فيها خبط كثير وتشويش. فنادى نائب السلطنة المصرية في الشام ألا يتكلم أحد في العقائد. ومن عاد حل ماله ودمه وصودرت داره وحانوته؛ فهدأت الأحوال وسكنت الأمور
ولم يكن هذا الهدوء إلا لأجل قصير؛ فقد عادت خصومة العلماء في صورة اتهامات توجه إلى الأبرياء وغير الأبرياء. وهي اتهامات كان أقل ما عليها من المجازاة أن يعزر فيها المتهم تعزيراً عنيفاً، ويطاف به في البلدة على حال منكرة؛ كما حدث سنة 712 لابن زهرة المغربي الذي اتهمه بعض العلماء والصالحين باستهانته بالمصحف وخوضه في أهل العلم، فطيف به في دمشق وعذب وحبس
والحق أن (تنكز) نائب السلطنة المصرية في الشام كان دائم القلق مما يحدث بين العلماء وأهل المذاهب والعقائد، وكان لا ينظر بعين الرضى إلى أمثال هذه الحركات التي تجعل(557/19)
بأس المسلمين واهيا. كان لا يريد إلا الإصلاح ما استطاع بين المختلفين فحينما حدثت الفتنة سنة 716 بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد أصلح بينهم في مجلس حافل بدار نيابة السلطنة وخرج المتنازعون على خير حال من التفاهم
وكانت تقوم إلى جانب العلماء والمدرسين وظيفة الخطيب وكانت الشهرة في المساجد الصغيرة كفيلة بإيصال الخطباء إلى المساجد الكبيرة، كالجامع الأموي والأزهر ومساجد المدن الكبرى في الشام ومصر. وكان لكل بلدة خطيب مشهور بجانب عدد آخر من الخطباء المغمورين. فاشتهر بالخطابة الجامع الأموي بدمشق الشيخ زين الدين الفارقي وتولاها بعد وفاته شرف الدين الفزاري. واشتهر بالخطابة في بعلبك ضياء الدين ابن عقيل وأبوه جمال الدين، وقد توليا الخطابة في هذه البلد ستين عاما واشتهر بالخطابة في مصر بهاء الدين السكر وشمس الدين الجزري خطيب جامع ابن طولون ونور الدين القسطلاني خطيب جامع عمرو بن العاص
ولم يكن للخطيب أن يقضي بين الناس أو يفصل الخصومات فذلك شأن القاضي الذي يعينه قاضي القضاة ولكن حدث أن خطباء انتدبوا لمهمة القضاء، كما حدث بعض القضاة انتدبوا للخطابة. فنرى في حوادث سنة 706 في تاريخ إبن كثير أن سليمان بن هلال بن شبل الخطيب انتدب للقضاء بدلاً من القاضي جلال الدين القزويني الذي كلف بالخطابة عوضاً من القضاء
وكان بعض الخطباء يتولون التدريس، كما أن بعد القضاة يجمعون بين الحكم والتدريس كالقاضي على بن صفي الدين الحنفي الذي تولى قضاء الحنفية في دمشق مع ما بيده من التدريس
كان منتصف القرن الثامن الهجري مملوءاً بالأحداث الجسام كما سلف القول؛ فالتتار على أسوار دمشق، وقبائل العرب في مصر العليا شقت عصا الطاعة على الملك الناصر في مدة سلطنتة الثانية، والصليبيون قدموا باتفاق أمير قبرص لغزة دمياط. وألمماليك منقسمون على أنفسهم؛ ففريق مع السلطان الناصر المتخلي عن عرشه، وفريق آخر مع الأمير بيبرس، وفي وسط هذه التيارات القوية نجد العلماء يحرضون على مقابلة التتار، ويدعون لمحاربة الصليبيين، ويقيمون المناظرات الدينية عوداً إلى عهود الجدل والكلام؛ ولكنهم مع(557/20)
ذلك كله لا يخوضون في حديث السياسة الداخلية، ولا يتكلمون فيمن تولى وفيمن عزل؛ فذلك ليس من شأنهم، فإذا نزل أحدهم ميدان السياسة عرض نفسه للعزل كما حدث لسليمان بن حمزة قاضي الحنابلة بدمشق الذي عزل بسبب تكلمه في نزول الملك الناصر عن عرشه مكرهاً لا مخيراً، وكما حدث للشيخ كريم الدين بن الحسين الأيكي شيخ الشيوخ بمصر الذي كان على صلة بأمراء المماليك، وكان له هوى سياسي معين، فعزل عن منصبه الرفيع وعين بدلاً منه ابن جماعة المشهور
ولم تكن المرأة المصرية أو الشامية جملة بمعزل عن مجالس العلماء في ذلك العصر؛ بل كان بعض النساء يترددن على هذه المجالس ويستمعن إلى الدروس ويناقشن في المسائل. فالسيدة فاطنة بنت عباس البغدادية كانت تحضر مجلس ابن تيمية، وكان هو يستعد لها بسبب كثرة مسائلها وحسن أسئلتها وسرعة فهمها. ويذكر ابن كثير المؤرخ أنه سمع ابن تيمية - وكان معاصراً له - يثنى عليها ويصفها بالفضيلة والعلم. والشيخة الصالحة ست الوزراء بنت عمر بن أسعد كانت تروى صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث. وكانت تحدث الرجال بحديث الرسول عليه السلام
ولا شك أن ابن تيمية كان أشهر العلماء بين مصر والشام في ذلك العصر، فقد شغل الدنيا كلها بمسائله ومناظراته ومجالسه وقد جمع إلى ذكاء العقل وسرعة الفهم والشجاعة في الحق وعدم الخشية في سبيل الله. وله مع قازان ملك التتار مواقف مشهورة ذكرها الشيخ محمد البالسي زميله في وفد العلماء إلى قازان. فقد قام ابن تيمية يهدر كالسيل لم يخش أحداً ولم يجامل سلطاناً ولم يتملق حاكماً. ولكن الله أجرى الصراحة على لسانه؛ وأودع الشجاعة في قلبه، فإذا به يخاطب ملك التتار قائلاً: أنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت
ولد هذا الإمام بحرَّان ونشأ وتعلم بدمشق، ودرس بغزة وأوذي أولاً واكرم أخيراً في مصر، وتوفى بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوساً فيها أيام محنته الأولى بعد أن أكد صلات العلم والدين بين القطرين الشقيقين في الربع الأول من القرن الثامن الهجري.
محمد عبد الغني حسن(557/21)
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها
للأستاذ سعيد الديوه جي
كانت الخلافة من أهم الأمور التي فرقت صفوف العرب والمسلمين، ذلك لأن الخليفة هو الذي يتولى أمور المسلمين الدينية والدنيوية. وهذا مقام رفيع دونه كل مقام في الإسلام يطمع فيه القوي. وقد تطاحنت الأسر القرشية في سبيلها منذ صدر الإسلام. وحاول كل حزب أن يجعل له صبغة دينية يقوى مركزه بها بين الأحزاب المعارضة، فظهر في الإسلام فرق وطوائف عديدة كان الكثير منها دعوة دنيوية ولكنها تسير تحت ستار من الدين. وبعد القضاء على الحركة تبقى صبغتها الدينية بين أتباعها وتستحيل إلى مذهب ديني. وعلى مر الدهور يتطور هذا المذهب ويدخله الأساطير والتعاليم الشاذة. ولربما استحال إلى دعوة هدامة أو مذهب مغال أو فرقة باطنية منفصلة عن الإسلام. والتتبع لتاريخ الإسلام يرى الكثير من هذا. فحركات الخوارج، وحركة المختار الثقفي، والقرامطة، والفاطمية والدروز، والنصيرية، كلها نشأت وتطورت على هذا المنوال
وأصل اليزيدية فرقة إسلامية أموية سارت باسم الدين إلى مناصرة بني أمية في الخلافة والدفاع عنهم وناوأت (آل البيت) - أقوى حزب ناضل الأمويين - وعلى مر العصور تطورت إلى فرقة صوفية (عَدَوية) على يد رجل أموي، ففرقة مغالية في حب (يزيد بن معاوية)، ففرقة خارجة عن الإسلام. كل ذلك كان في سبيل الخلافة وإرجاعها إلى بني أمية بعد سقوط دولتهم في الشرق
إن أقوى نزاع شهده العالم الإسلامي على الخلافة هو النزاع بين العلويين والأمويين. ذلك لأن العداوة بين بني أمية وبني هاشم قديمة. ففي الجاهلية تنازعوا على زعامة مكة. وفي الإسلام تجدد النزاع على الخلافة بعد مقتل (عثمان) فشق على الحزب الأموي أن تخرج الخلافة منهم بعد أن نالوها. خاصة وأن (الإمام علياً) عزل ولاة (عثمان) فهل يرضى (معاوية) أن يترك (الشام) وما فيها من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم بعد أن حكمها عشرين عاماً؟ أنكر بيعة (علي) ودعا لنفسه واستعمل دهاءه وكرمه في جلب دهاة العرب إليه فقوى أمره، وبعد مقتل الإمام (علي) تنازل (الحسن) عن الخلافة وصار الحزب الأموي هو الحاكم المطلق في الدولة(557/22)
ولم يكن (معاوية) بالخليفة المستضعف، بل ساس الناس بحلمه وجوده. فعفا عن المذنب وتجاوز عن المسيء وأغدق عطايا عل كل قاصد، كما سل سيفه على من لم تنفع معه هذه الطرق فانقاد له الناس راغبين أو راهبين
وبعد وفاة معاوية تولي ابنه (يزيد) على كره من أولاد الصحابة فثارت الأحزاب المعارضة، وأشدها الحزب العلوي فكانت فاجعة (كربلاء) التي أججت الأحقاد؛ واستمرت الثورات العلوية حتى انقراض الدولة الأموية وكانت هذه الثورات من أهم العوامل التي قوضت أركان الدولة
وبعد سقوط الدولة الأموية انعكست الآية فانتقم العباسيون من الأمويين شر انتقام، حتى الأموات فإنهم لم يخلصوا من التمثيل بهم. وصار الحزب الأموي هو المستضعف في البلاد وأخذ الأموين يلجأون إلأى الجبال والأماكن النائية عن النفوذ العباسي. ولكنهم لم يعدموا الأنصار، كما أنهم لم ييأسوا من الخلافة، بل أحيوا النعرة الدينية التي كانت لحزبهم وأخذوا يزيدون عليها. ونراهم قد قلدوا العلويين أو من قام باسمهم في ادعاءاتهم هذه. وهذه النعرة الدينية لحزبهم كانت منذ أول عهدهم بالخلافة تسير أثر الدعوة العلوية؛ ولكن الأمويين خلال حكمهم لم يهتموا بها لاعتمادهم على بطشهم ونفوذهم. وأما بعد سقوط دولتهم فإنهم صاروا مستضعفين في الأرض فتدرعو بالدين ليستروا تحته دعوتهم للدنيا. وهذا أول ظهور الطائفة اليزيدية.
ومن الأدلة التي تثبت أن أصل العقيدة اليزيدية هي حركة أموية مضادة لآل البيت:
1 - يوم عاشوراء: في هذا اليوم قتل (الحسين) عليه السلام فهو يوم كرب وبلاء على العلويين يظهرون فيه من العزاء والنياحة والحزن على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لا نشاهد مثله في غيره من الأيام. ونجد الضد من هذا عند الأمويين، فإن الحجاج سن لأهل (الشام) أن يتخذوا هذا اليوم يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم وينبسطون في المطاعم ويصنعون الحلوى، ويتخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون ويدخلون الحمام ليرغموا بذلك شيعة (علي بن أبي طالب) كرم الله وجهه. واستمر الأمر على ذلك عند الحزب الأموي بعد سقوط دولتهم، وهذا ما نراه عند اليزيدية فإنهم يتخذون هذا اليوم يوم سرور يخرجون بزينتهم إلى ظاهر قراهم ويرقصون رقصاتهم الشعبية على ضرب الطبول ونقر(557/23)
الدفوف، ويمرحون ويلعبون؛ ويصورون تماثيل من الطين لشهداء كربلاء يهجمون عليها برماحهم ويفتكون بها ويطؤونها بخيولهم. كل ذلك لأن إلههم (يزيد) ظفر بعدوه (الحسين) في هذا اليوم وقتله.
2 - المهدي المنتظر والسفياني المنتظر: يعتقد الشيعة أن
المهدي المنتظر سيظهر في آخر الزمان وسيملأ الدنيا عدلاً
كما ملئت ظلماً وجوراً. وادعى الأمويون مقابل هذا: سيظهر
من أولاد أبي سفيان من يكون أمره كأمر (المهدي المنتظر)
وهو (السفياني المنتظر). وزاد بعلق الأمويين بهذا الادعاء
بعد سقوط دولتهم فصاروا يترقبون ظهوره. وقد ذكر
(المسعودي) أنه وجد ببلاد (طبرية) من بلاد الأردن في سنة
324هـ أحد علمائهم وقد ألف كتاباً بهذا وأنه ذكر فيه (من
ظهور أمرهم ورجوع دولتهم وظهور السفياني في الوادي
اليابس من أرض الشام، وإنهم أصحاب الحيل الشهب
والرايات الصفر وما يكون لهم من الوقائع والحروب
والغارات والزحوف الخ. . .) وهذا ما نجده عند اليزيدية،
فإنهم يعتقدون أن (عدياً) وهو رجل أموي سيظهر في آخر
الزمان وسيكون أمره كما تقدم، ويسميه بعضهم بالمهدي.
وعندهم طبقة دينية يسمون (خدام المهدي)
3 - يذهب الحزب العلوي أن (علياً) وأولاده أحق بالخلافة وأن الحسين قتل مظلوماً.(557/24)
وبالضد من هذا يدعي الأمويون أنهم أحق بالخلافة وأن الحسين قتل بسيف الحق لأنه خرج على الإمام المبايع. وأخذ كل فريق يعزز مدعاه ونغالي في تعظيم الذي يدعو إليه، ويحاول أن ينقص من قيمة الحزب المعارض. وما زال هذا الأمر والمغالاة تزداد عند الفريقين حتى أدى إلى أن تعتقد بعض الفروق المغالبة أن علياً أحق بالنبوة من محمد، وأن البعض الآخر ذهب إلى أعظم من هذا، فادعى ألوهيته. وكذا الأمر في (يزيد) فإن مناصريه ادعوا أنه كان إماماً عادلاً هادياً مهدياً، وأنه كان من الصحابة بل من أكابر الصحابة، وأنه كان من أولياء الله تعالى، ثم اعتقدوا أنه كان من الأنبياء وقالوا (من وقف في يزيد وقفه الله على نار جهنم)، ثم ذهبوا إلى أعظم من هذا فقالوا بألوهيته. وهذا ما يعتقده اليزيدية أن (يزيد بن معاوية) هو ألههم. ونجد قرى (الشبك) والتركمان، والصارلية، والجيجية حول الموصل، والبابوات في قضاء سنجار، وهم الذين يغالون في (الإمام علي) على مقربة من مواطن اليزيدية الذين يؤلهون (يزيد بن معاوية)
4 - اللعن: بعد أن خدع (عمرو بن العاص) (أبا موسى الأشعري) في مؤتمر (اذرح) صار (الإمام علي) يلعن معاوية وعمراً ومن والاهما بعد كل صلاة، وقابله معاوية بالمثل. وبعد مقتل (الإمام علي) استمر الأمويون يلعنون أبا تراب بعد خطبة صلاة الجمعة. ولما تولى (عمر بن عبد العزيز) الخلافة رفع هذه السنة السيئة ووضع مكانها (إن الله يأمر بالعدل والإحسان. . . الآية)، ولكن بعض أنصار الحزب الأموي المغالين لم ينتهوا عن هذا. فأهل (حرَّان) امتنعوا عن الصلاة وقالوا: (لا صلاة إلا بلعن أبي تراب) واستمروا على ذلك، حتى ظهور الدعوة العباسية. وكان العلويون يقابلون هذا اللعن بأكثر منه، وزادوا فيه بعد واقعة (كربلاء)، وصار اللعن يوجه بصورة خاصة إلى (يزيد). أما الشيخ (عدي) فإنه لما رأى تفاقم الأمر عند الفريقين، وأن هذا مناف للتعاليم الإسلامية، وأن من الصعب أن يكف أحد الحزبين عن لعن الآخر، حرم اللعن مطلقاً. ولكن الفكرة تطورت إلى أبعد من هذا عند اليزيدية، فإنهم حرموا اللعن حتى على الشيطان. ومع أن اللعن صار من المحرمات عندهم؛ فإن يزيدية (جبل مقلوب) استمروا على الطعن في علي وأولاده في أيام الجمعة والعيدين، كما كانت عليه العادة في الدولة الأموية. وكان فيهم فرقة مغالية جداً في اللعن تقف مصلتة السيوف وتلعن (علياً) وأولاده، ويقال لهم (السيافة) واستمر الأمر على ذلك(557/25)
إلى القرن الحادي عشر الهجري
(للحديث صلة)
سعيد الديوه جي
بالموصل(557/26)
سجاد الأناضول
للدكتور محمد مصطفى
- 2 -
عشاق
مدينة عُشَّاق في داخل بلاد الأناضول خلف ميناء أزمير، وهي - وما يحيط بها من البلاد والقرى - مشهورة بصناعة السجاد حتى وقتنا الحاضر، وإن كانت الصلة قد انقطعت بين السجاد القديم الذي كان ينسج بها منذ بداية القرن السادس عشر حتى سنة 1750، وبين السجاد المنسوج بعد هذا التاريخ، إذ أن الأخير تأثر كثيراً بالذوق الأوربي
ويشبه سجاد عشاق القديم من حيث زخارفه السجاد الإيراني المنسوج في أوائل العصر الصفوي. وتتألف زخرفته من أشكال نجمية كبيرة، أو من جامات بيضاوية مدببة الطرفين، تذكرنا بالوحدات الزخرفية المستعملة في تذهيب المصاحف، وتزين الأركان بأربعة أنصاف جامات، وتنتشر على الأرضية زخارف نباتية دقيقة وفروع مهذبة. وبزخرف إطار السجاد بفروع مزهرة أو بسحب صينية. أما ألوانه فهي أناضولية في جملتها، ويمتاز بالألوان الدافئة، فتلون الأرضية بالأزرق القائم، والإطار بالأحمر الباهت أو بالعكس، والزخارف بالأصفر والأخضر النباتي والأزرق الفاتح والأبيض الناصع
ويختلف سجاد عشاق في مساحاته فيبلغ أحياناً التسعة أمتار طولاً وما يناسب ذلك في العرض وفي المعرض المقام الآن في دار الآثار العربية عدة نماذج طيبة من سجاد عشاق
هولباين
هو اسم لعائلة من مدينة (بال) اشتهر بعض أبنائها فيما بين سنتي 1460 و1543 بالرسم والتصوير. ويسمى هذا النوع من السجاد المصنوع في الأناضول باسم (هولباين) لأننا نراه مرسوماً في الكثير من لوحات أبناء هذه العائلة، ولوحات المصورين الإيطاليين المعاصرين لهم. ويظهر أنه كان النوع المحبب لدى الأوربيين في ذلك الوقت، والغالب أنه كان النوع المحبب لدى الأوربيين في ذلك الوقت، والغالب أنه كان يصنع في بلاد الأناضول للتصدير إلى أوربا، لأن ما عثر عليه منا في بلاد الشرق قليل جداً(557/27)
ويمتاز هذا السجاد بعنصر زخرفي خاص به، يمكن تمييزه بسهولة، ويتألف من رسوم نباتية ذات مظهر تنقصه المرونة مرسومة في خطوط مستقيمة وزوايا محددة، بطريقة مهذبة تميل في شكلها نحو الرسوم الهندسية، وفي وحدات زخرفية متماثلة يقرب بعضها من بعض. ويزين الإطار في القديم منه بما يشبه الكتابة الكوفية، وفي المتأخر - من أوائل القرن السابع عشر. بفروع نباتية أو بسحب صينية مهذبة على طريقة الأناضول وتلون الأرضية غالباً باللون الأحمر الباهت، والزخارف باللون الأصفر الذهبي، والإطار بالأزرق الفاتح
وفي (شكل 1) بساط من أوائل القرن السابع عشر، أرضيته بالأحمر الباهت عليها بالأصفر الذهبي وحدات زخرفية من نوع هولباين، والإطار باللون الأزرق الفاتح، تزينه فروع نباتية مهذبة. وهذا البساط في مجموعة المسيو كريستيان جراند.
الابسطة ذات الطيور
تعرف بهذا الاسم لأنها تزين بوحدة زخرفية تتألف من شكل هندسي بطرفين مدببين يشبه كل منها رأس طائر، وتتكرر هذه الوحدة الزخرفية - في الغالب - على أرضية بيضاء. ويشبه إطارها إطار الأنواع الأخرى القديمة. ويرجع تاريخ هذا النوع إلى ما بين أوائل القرن السادس ومنتصف السابع عشر. وفي مجموعة معالي الدكتور علي إبراهيم باشا بساط من هذا النوع معروض الآن في دار الآثار العربية
تشنتماني
لهذا النوع من السجاد صلة كبيرة بالنوع السابق ذي الطيور. فكل منهما يماثل الآخر في شكل زخرفة الإطار الذي يحيط غالباً بأرضية بيضاء عليها نوع من زخرفة رمزية، كما أن كل منهما يصنع في بلاد الأناضول ومعاصر للآخر
ويمتاز هذا النوع بتكرار الوحدة الزخرفية المعروفة باسم (تشنتماني) وتتألف من خطين متموجين أو متعرجين، ويعلوهما ثلاث كور في وضع مثلث الشكل. وهذه الكور الثلاث هي إحدى العلامات المقدسة في تعاليم ديانة البوذيين، وترى كثيراً على التحف الصينية، وقد كانت كذلك مرسومة على رنك القائد العظيم تيمورلنك عندما فتح الأناضول في سنة(557/28)
1402م، وقد يفسر هذا ظهور وحدة (تشنتماني) الزخرفية في سجاد الأناضول
وفي (شكل 2) بساط من أواخر القرن السادس عشر، أرضينه بيضاء، تتكرر عليها وحدة (تشنتماني)، وإطاره مزين بشريط من شبه الكتابة الكوفية. وهو في مجموعة معالي الدكتور علي إبراهيم باشا.
(يتبع)
محمد مصطفى(557/29)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
522 - ولا يوم الطين. . .
قال لسان الدين بن الخطيب: رأت زوجة المعتمد بن عباد الرميكية الملقبة ب (اعتماد) ذات يوم بأشبيلية، نساء البادية يبعن اللبن في القرب، وهن رافعات عن سوقهن في الطين. فقالت له: يا سيدي، أشتهي أن أفعل أنا وجواري مثل هؤلاء النساء
فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد وصير الجميع طيناً في القصر، وجعل لها قرباً وحبالاً من أبريسم، وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين. ولما خلع، وكانت تتكلم معه مرة، جرى بينهما ما يجري بين الزوجين فقالت له: والله ما رأيت منك خيراً قط، فقال لها: ولا يوم الطين. . .؟ تذكيراً لها بهذا اليوم الذي أباد فيه من الأموال مالا يعلمه إلا الله، فاستحيت وسكتت
523 - فهات شرابك العطر العجيبا
في (شرح الكبير للشريشي): كان أبو محمد البصري تاب وحج، فلما قفل راجعاً بدا له في شرب الخمر فقال:
ألا يا هندُ، قد قضَّيتُ حجَّي ... فهاتِ شرابَكِ العَطِرَ العجيبا
فقد ذهبت ذنوبي بالليالي ... فقومي الآن نقترف الذنوبا. . .
524 - قإن الحد قد جاوز الحدا. . .
في (شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي في سنة (667) أمر السلطان (الظاهر بيبرس) بإراقة الخمور وتبطيل المفسدات والخواطئ بالديار المصرية، وكتب بذلك إلى جميع بلاده، وأمسك كاتباً يقال له: ابن الكازروني وهو سكران، فصلبه، وفي عنقه جرة الخمر! فقال الحكيم ابن دانيال:
وقد كان حدُّ السكر من قبل صلبه ... خفيف الأذى إذ كان في شرعنا جَلْدا
فلما بدا المصلوبً قلتُ لصاحبي: ... ألاُ تبْ؛ فإن (الحدَّ) قد جاوز الحد!!
525 - الصريح لا يعارص من بالمؤول(557/30)
قال الصفدي في شرح لامية العجم: أنشدت بعض المولعين بالكيمياء قول القائل:
أعيا الفلاسفةَ الماضين في الحِقَبِ ... أن يصنعوا ذهباً إلا من الذهب
أو يصنعوا فضة بيضاء خالصة ... إلا من الفضة المعروفة النسب
فقل لطالبها من غير معدنها: ... أضعت نفسك بالتنكيد والتعب
فقال لي: صدق. لو لم يكن الذي يدبره الصانع في أصله ذهباً بالقوة لما صار ذهباً بالفعل فقلت له: هذا من باب التأويل وإخراج اللفظ الظاهر عن الصريح إلى ما لا يفهم منه إلا بالاحتمال؛ والصريح لا يعارض بالمؤول، ولو أراد الإنسان أن يجعل معلقة امرئ القيس مرثية في قط، أو غزلاً في فيل، لما أعجزه ذلك. . .
526 - حمى الروح
قال بعض الملوك لطبيب: جس نبضي، فجسه، فقال له: مزاجك معتدل، إلا أني أرى فيه تكديراً. فهل جالسك اليوم ثقيل؟ قال: نعم
قال له: لا تعد تجالس الثقلاء فإنهم حمى الروح
527 - وذا يقول استرحنا
قال السبكي: أنشدني بعضهم في قاضيين غزل أحدهما وولى الآخر
عندي حديث ظريف ... بمثله يُتّغنى
في قاضيين يُعزّى ... هذا، وهذا يُهنّا
هذا يقول: جُبِرْنا ... وذا يقول استرَحْنا
ويكذبان جميعاً ... ومن يصدق منا؟
محمد إسعاف النشاشيبي(557/31)
البريد الأدبي
قنا وأسوان
ما زال السيل الجارف من التبرعات الكريمة ينهال على منكوبي قنا وأسوان، كما تنهال صبابات الماء على اللاهث المحرور فتنعش من روحه ومن بدنه. وما برحت جهود الحكومة وعلى رأسها مليكنا المعظم تتوالى على القوم بما يكشف ضرهم ويخفف من بلواهم. وإن العوامل التي تحفزنا إلى معونة هؤلاء البائسين لمتعددة ومعروفة؛ ولكنا قد نضيف إليها عاملاً جديداً بما نحاوله هنا من الإشارة إلى حال هذا الإقليم من الرقي والرفاهة في سابق عهوده.
فقد غبرت قرون كثيرة وتلك المنطقة من صعيد مصر تكاد تبز سائر المناطق خصباً وحضارة وعلماً ورقياً وعمراناً. وكانت أسماء المرج وسمهود وبهجورة وفاو ودشنا وهو وفرجوط وقنا وقفط ونقادة وقوص وقمولا والأقصر وأرمنت وأسفون وإسنا وأدفو وأسوان - تحتل كلها رأس القائمة بين كبريات المدن التي يؤمها أهل الوطن أو النازحون إلية من سائر الأقاليم. فثمت كان العلم والمال والجاه جميعاً. وهنالك كان الهدى والغي لمن يلتمس أحدهما أو كليهما، على حد قول قائلهم - في أسوان:
أسوان في الأرض نصف دائرة ... والخير فيها والشر قد جُمعا
تصلح للناسك التقى إذا ... أقام، والفاتك الخليع معا!
وكانت خصوبة هذا الإقليم وعذوبة مائه مما يضرب بهما المثل، ولا تستنكر عند ذكرهما المبالغة. قال السديد الدمياطي: انتهيت في السفر في الوجه القبلي إلى هو، وبين مائها وماء مصر كماءٍ بسكر وماء صرف!
وقد ذكر كمال الدين الأدفوي صاحب كتاب (الطالع السعيد، الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد) أن الفدان في هذا الإقليم ينتج ثلاثين إردباً من البرسيم ومن الشعير أربعين، ومن الذرة أربعة وعشرين أو ما يقارب ذلك
وذكر أيضاً أن منطقة إسنا أنتجت في بعض السنين أربعين ألف إردب تمراً، واثني عشر ألف إردب من الزبيب. وأنه تحصل من مدينة أسوان سنة ست وثلاثين وسبعمائة ألف إردب من التمر. قال: (وأخبرت أن نخلة بالقوسة من عمل المرج، وأخرى بقمولا، حصل(557/32)
من كل منهما اثنا عشر إردباً من التمر)
وكان عنب هذا الإقليم - كسائر فاكهته - من أعجب ما وقع عليه الناس. وزنوا حبة منه بمدينة أدفو فبلعت عشرة دراهم، كما روى الأدفوي في موضع من كتابه المذكور
وقال في موضع أخر إن بطيخ هذه البلاد وافر الحجم (بحيث ما يكاد يستقل بحمل الحبة الواحدة إلا الرجل الشديد القوة)
هذا وقد كان طريق الحج بين قنا وعيذاب. مما يزيد في تقدم هذا الإقليم وثراء أهله؛ ومنه اجتاز أكثر الرحالين المشهورين على فترات من التاريخ متباعدة
وإن الحديث ليطول على من يحاول التنويه ببعض من أنجبت هذه البلاد من العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين، وغير أولئك من ذوي الفضل والجاه. فلنكتف - الآن - بهذه الإثارة من تاريخ القوم وبلادهم؛ ولنعلم أنها بلاد كانت من العز والنعمة بمكان فشقيت وذلت؛ وأنه لم يكن عجيباً - في فترة ما - أن يهتف شاعر من أبنائها ضاقت نفسه بإقفار مدائن الشمال؛ فيقول صادقاً:
لهفيِ على قوصٍ ولو أنني ... أكون من حُرَّاس أبنائها!
(جرجا)
محمود عزت عرفة
مجمع فؤاد الملكي للغة العربية
اجتمع مؤتمر المجمع ستة أسابيع متوالية من 15 يناير سنة 1944 عقد خلالها ثماني عشرة جلسة شهدها حضرات الأعضاء المقيمين بمصر والوافدين من الخارج
وقد عرضت خلال هذه الجلسات طائفة من المسائل، منها: ما يتعلق بالمصطلحات العلمية في علوم الجراثيم والأمراض والرمد وغير ذلك من فروع الطب، ثم في مصطلحات لمقدمة القانون والأموال والالتزامات وغيرها من فروع القانون فأبديت في بعضها ملاحظات، وقرر المؤتمر أن يتولى حضرات الأعضاء الممثلين للبلاد العربية عرض هذه المصطلحات على الهيئات العلمية المختصة في بلادهم لموافاة المجمع بالرأي فيها، كما قرر أن يتصل المجمع بالهيئات الرسمية في البلاد العربية لهذا العرض(557/33)
وكذلك نظر المؤتمر في اقتراحات مختلفة منها ما يتعلق بوضع معجم لغوي لألفاظ القرآن الكريم على أسلوب ميسر يقتصر فيه على شرح المفردات اللغوية شرحاً دقيقاً وافياً. فوافق المؤتمر عليه وألف لجنة لذلك
ومنها ما يتعلق بقياسية بعض الصيغ الصوفية التي يحتاج إلى استعمالها بكثرة فأقرها المؤتمر معتمداً في ذلك على أقوال بعض علماء الصرف والاشتقاق
ومنها ما يتعلق بتيسير بعض قواعد اللغة ومثلها فقرر المؤتمر أن يحال هذا الاقتراح وما دار فيه من مناقشات إلى لجنة الأصول لدرسه مفصلاً وتقديم تقرير بما تراه إلى المؤتمر في اجتماعه المقبل
ومن الاقتراحات كذلك ما يتصل بتيسير الكتابة العربية إما بوصل علامات للحركة والسكون ببنية الحروف، وإما باتخاذ حروف لاتينية تضم إليها بعض الحروف العربية، وناقش المؤتمر هذين الموضوعين ورأى أن ينشر ما قيل فيهما من آراء وردود في مختلف الهيئات العلمية بمصر وغيرها لكي يتيسر للجنة المختصة جمع ما يمكن جمعه من الآراء المختلفة فيهما وما قد يرد إليها من مقترحات أخرى في هذا الموضوع وذلك تمهيداً لوضع تقرير يعرض على المؤتمر في اجتماعه المقبل
واقترح أن يطلب وضع جائزة مالية لمن يقترح من غير أعضاء المؤتمر مشروعاً في ذلك ينال القبول
1 - الشعر الجديد وطاقات الريحان والورد والنقد
ما عرفت أستاذنا الكبير (ا. ع) ورعاً عند اللقاء هيوباً؛ ولا عرفته جبان القلب نكس اللسان. فهو يستطيع في عفة قول، وشرف كلام، وصواب منطق، وحسن نية أن يوجه المتخلفين من شعراء هذا الزمان إلى قصد الطريق
وليس بعذر من أستاذنا الكبير - ا. ع - أنه يتهيب ألسنة الشعراء المنقودين أو يخشى عواءهم. فمن كان مثل الأستاذ في المكانة والقصد لا يضيره عواء ولا هراء
ومتى كان المعلمون الأفاضل وشيوخ اللغة والأدب يتوقون ما يجره عليهم النقد من اجتراء السفهاء وسلاطة النوكي؟
الحق أن الأستاذ الفلسطيني الجليل، والأستاذ المصري الكبير، هما أجل قدراً من أن يتأثرا(557/34)
بما يتعرضان له من خصومة المغرورين من شعراء زماننا؛ وهما - في الوقت نفسه - أكبر من أن يضنا على (الشعر الجديد) بتوجيه سديد ورأى مفيد
أما إرسال الكلام على وجه التعميم، من غير أن تبين مواضع النقد، فذلك ما لا يرجى معه للشعر صلاح
وإني لأعرف من صراحة الأستاذين: (الجليل) و (الكبير) ما يطمعني في الرجاء منهما أن يفصلا النقد، ويبينا القصد. وبذا تكون لهما على الشعر الحديث يدٌ أي يدٌ. والسلام عليهما ورحمة الله
2 - أقوى من الموت
هذا الكتاب ألفه أيليا أهرنيورغ، وترجمه قدري قلعجي ونشرته مجلة الطريق ببيروت
والكتاب قوي العبارة، كأن كاتبه استمد من نيران الحرب، ولفح المعارك لفح عبارته. فقد كان في باريس يوم دخلها الألمان، وشهد بعض المواقع في روسيا، ورأى بعينيه روعة التضامن في معارك (رجيف)
وأسلوب الكاتب لاذع حاد. وكأن الأستاذ قدري قلعجي أمين في نقل تلك السلاطة والحدة إلى اللغة العربية. . .
وفي الكتاب تصوير لمواقف رائعة في سهول روسيا ووديانها. وجميل من المؤلف أن يكون وفياً لوطنه وهو على شفا حفرة من الموت. وجميل من المترجم الفاضل أن يترجم هذه المواقف الرائعة إلى اللسان العربي؛ ولكن أجمل من ذلك كله أن يتجه المترجم إلى مواقع اليرموك والقادسية وحض بابليون وذات الصواري فإنه واجد فيها أمثلة رائعة من البطولة العربية التي تبرز على حال من الروعة في مثل قلمه البليغ وأسلوبه الطريف
محمد عبد الغني
1 - تلاقي الأكفاء
يمتاز الأستاذ الزميل على أدهم بتعمقه في جميع الدراسات التي يتناولها وحسن هضمه لهذه الدراسات، فهو من خيرة الكتاب ذوي الاطلاع الواسع في مصر وفي الشرق العربي. وكتابه الجديد (تلاقي الأكفاء) شاهد على ما نقول. وقد جمع فيه بحوثه القيمة التي نشرت(557/35)
من قبل أو لم تنشر في الأدب والتاريخ فسد بها المكتبة العربية فراغاً ملحوظاً. . . ولست أدري إن كان يحق لي أن أقترح على زميلي العزيز أن يكرس جهوده كلها للتاريخ الإسلامي؟ وهل يتقبل مني هذا الاقتراح الذي لا ينتقص شيئاً من سعة اطلاعه على التاريخ العام؟ إن قلم الأستاذ أدهم في التاريخ الإسلامي هو قلم ممتاز واسع الإحاطة، جميل العرض وخليق بالقلم الذي أنشأ صقر قريش، والمنصور بن أبي عامر (إن صح أن أبشر بظهوره قبل أن يصدر قريباً إن شاء الله)، وهذه الفصول الضافية التي شملها (تلاقي الأكفاء) عن أبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني والحكم أمير الأندلس وبطل وقعة الزاب عبد الله بن علي. . . خليق بهذا القلم أن يفرغ للتاريخ الإسلامي العتيد فيدبج من فصوله كثيراً من الروائع التي أوشكت اليوم أن تنسى. وكم كنا نتمنى لو تذكر الأستاذ المؤلف مصر والمصريين فيترجم في مجموعته البديعة لزوج أو زوجين من أكفائها الذين لا يقلون عبقرية عمن ترجم لهم وقابل بينهم. . . مثل: محمد علي والسيد عمر مكرم، أو محمد علي والبرديسي، أو إسماعيل العظيم وإسماعيل المفتش، أو مصطفى كامل وعلي يوسف، أو المتنبي وكافور. . . إلى آخر ما يزخر به التاريخ المصري من الأبطال الذين تلاقوا وجهاً لوجه، وعسى أن يستدرك هذا في أجزاء الكتاب التالية مع تهنئاتنا الخالصة وإعجابنا الشديد.
2 - ألوان من الحب
هكذا سمى الأستاذ عبد الرحمن صدقي مجموعة قصصه المترجمة الجديدة. وقراء الرسالة والرواية يذكرون قلم الأستاذ صدقي بمزيد الإعجاب، ويذكرون أنه جيد الاختيار لقصصه إلى حد يثير الدهش، وغرامه الذي لا يحد بالقصاصين الروس والأسبان والفرنسيين معروف مشهور، وقد اختار لنا في هذه المجموعة طائفة لزعماء الأقصوصة وأبطالها وقصرها على موضوع واحد هو. . . الحب. . . ويدفعنا الفضول إلى سؤل الأستاذ عما أدى به إلى إغفال القصاصين الإيطاليين والإنجليز فلم يضمن مجموعته شيئاً من روائعهم. . . فهل هو فاعل في الأجزاء التالية إن شاء الله؟ أما أسلوب صدقي الفني وقدرته على الوصف فسنعرض لهما في غير هذا العدد. . . وكم كنا نؤثر لو أنه تناول بالشرح هذا الفيض الكثير من الكلمات المغربة في ذيل الصحيفة توخياً لمنفعة القراء دون استثناء(557/36)
وتفادياً لانصرافهم عن البحث عن معانيها بالرغم من أنها ثروة لا تقدر بثمن عند من يعني بكلمات الأوصاف وعباراتها في اللغة العربية. . . ولا غرو أن كل من يقرأ ألواناً من الحب سوف ينتفع بها سواء أكان قارئاً عادياً أو شاباً أو أديباً، فتى أو فتاة. . . إنها دروس في تطهير القلب وإرهاف الحس وتقويم الخلق. . . فلا تبذل فيها ولا إسفاف.
دريني خشبة(557/37)
العدد 558 - بتاريخ: 13 - 03 - 1944(/)
16 - دفاع عن البلاغة
8 - الأسلوب
كان سيد البلغاء محمد بن عبد الله (ص) يكره أن يجاوز الكلام مقدار القصد به؛ فقد تكلم رجل عنده فأطال، فقال له: (كم دون لسانك من حجاب؟ قال: شفتاي وأسناني. فقال له الرسول: إن الله يكره الانبعاق في الكلام. فنضر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته)
وقيل لإياس: (لا عيب فيك إلا أنك تطيل. قال: أخيراً تسمعون أم شراً؟ قالوا: خيراً. قال: فالزيادة في الخير خير. روى ذلك الجاحظ وعقب عليه بقوله: (وليس الأمر كما قال إياس؛ فإن للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية. وما فضل عن مقدار الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والملال، فذاك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه)
وكان أمراء النثر العربي من أمثال جعفر بن يحيى وسهل ابن هرون يتوخون جانب القصد، ويؤثرون طريق الإيجاز، حتى قال جعفر للكتاب: (إن استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا). والتوقيعات ما يعلقه الخليفة أو الوزير أو الرئيس على ما يقدم إليه من الكتب في شكوى حال أو طلب نوال. وهي تجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة. مثل ذلك ما وقّع به المأمون إلى الرستمي في قضية من تظلم منه: (ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة وغريمك خاوٍ وجارك طاوٍ). وما وقع به جعفر في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: (قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت)
كذلك كان أقطاب النثر الفرنسي من أشباه (شاتبريان) و (فلوبير) يتشددون في الإيجاز، ولا يتسمحون في الإعادة، حتى حرموا على أنفسهم استعمال اللفظ مرتين في صفحة واحدة. وقد أخذ (فلوبير) في إحدى رسائله على (شاتبريان) أنه كرر لفظاً مرتين في وصفه قدوم (أودور) إلى روما في كتابه (الشهداء). ومن كلام (بوالو): يجب أن تعرف كيف توجز، لتعرف كيف تكتب. ونفور نوابغ الكتاب من الإسهاب منشؤه فيهم تلك القوة البلاغية الإلهية التي تحدد الغاية وتريد أن تبلغها من أخصر طريق. فهم لا يلغون لأنهم يعلمون المعنى(558/1)
الذي يدل، ولا يخبطون لأنهم يبصرون الأمد الذي يرام. أما الذين لا يقدرون ما يقولون، أو لا يدرون أين يقصدون، فهم كالماء الهائم على وجه المنحدر قصاراه زبدٌ وجرجرة، أو كاللسان المخبول نطقه لغطٌ وثرثرة. وثرثرة اللسان كقرقرة البطن أصوات تذهب مع الريح!
والإيجاز في بلاغة العربية كما قلنا أصل وروح وطبع، ولكنه في البلغاء قوة وروية وعمل. ونريد بالعمل الجهد، لأن الإيجاز غربلة ونخل، وتنقية وتصفية، وتصعيد وتركيز، وذلك لا يتهيأ لك إلا بدوام النظر وطول التعهد. ومهما قلبت المجلة على وجوه البيان فإنك لا محالة واجد فيها عوجاً يعدل، أو نتوءا يسوى، أو فضولاً يشذب. والنثر في رأي فلوبير لم ينته، وهو في رأينا لا يمكن أن ينتهي، لأن صور الجمال لا تنفد، وغاية الكمال لا تدرك.
والمزية الظاهرة للإيجاز على الإطناب أنه يزيد في دلالة الكلام من طريق الإيحاء. ذلك لأنه يترك على أطراف المعاني ظلالاً خفيفة يشتغل بها الذهن، ويعمل فيها الخيال، حتى تبرز وتتلون وتتسع، ثم تتشعب إلى معان أخر يتحملها اللفظ بالتفسير أو بالتأويل، والقرآن الكريم معجزة الدهر في هذا الصدد
وليس بسبيل الإيجاز البلاغي من يقص أجنحة الخيال ويطفئ ألوان الحسن، ويترك أسلوبه كأسلوب التلغراف، شديد الاقتضاب والجفاف، على نحو ما يدعو إليه بعض أدبائنا المعاصرين؛ فإن الإيجاز، مهما قيل في جلالة خطره، صفةٌ من صفات البلاغة الثلاث لا يغني عنها ولا تغنى عنه
ولقد كان لإطناب الفرس مساغ في أذواق العرب أول ما قطرت به أقلام عبد الحميد وابن المقفع والحسن بن سهل ومن لف لفهم، لاقتصارهم منه على ما يصحح الازدواج ويقيم التوازن، كقول عبد الحميد: (واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك، ويفترض غفلتك، لأنها خدع إبليس، وخواتل مكره، ومصايد مكيدته، فاحذرها مجانباً لها، وتوقها محترساً منها. . . الخ). فلما اشتد خلاط العرب للفرس تداخلت اللغتان، وتمازجت العقليتان، واصبح تعاقب الجمل على المعنى الواحد سمة الأسلوب في ذلك العصر، حتى قال ابن قتيبة في قول يزيد لمروان وقد تلكأ في بيعته: (أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى(558/2)
فاعتمد على أيهما شئت): (إن هذا لو قيل الآن لم يأت بالتأثير المطلوب. والصواب أن يطيل ويكرر، ويعيد ويبدئ، ويحذِّر وينذر)
وظل الفن الكتابي يتخبط في ذلك الفضول، ويتعثر في تلك الذيول، لا يسدده توجيه، ولا يهذبه نقد، حتى اتصل بالأدب الأوربي في هذا العصر، فتحدد لفظه، وتجدد أسلوبه، وانبعث شبابه الفتي الغض من القرائح الموهوبة، صافي الديباجة مشرق البيان، إلا عقابيل مما تركت عصور الضعف والجهالة بقيت على الأقلام المرضوضة تكريراً للفظ، وترديداً للمعنى، وتوليداً لنوع آخر من أنواع الاجترار الأدبي يعبر عنه الأديب زكريا إبراهيم فيما كتب إلى بقوله:
(شاع بين أدبائنا اليوم نوع جديد من الأدب، نستطيع أن نسميه بحق أدب (الدردشة). وهذا الأدب الجديد يصدر عن نزعات فنية حديثة، لأنه كلام يقال لمجرد الكلام،
أو الفن للفن كما يقولون! وعلى الرغم من أن عدوى هذا الأدب قد انتشرت بين كثير من الأدباء، فإنه لم يكتسب عندنا حق الوجود؛ لأن كل شئ لابد أن يقصد من ورائه إلى غاية، والكلام إذا لم يكن داع يدعو إليه كان لغواً وهذراً. أما أن يتخذ بعض الكتاب من عبارة (الحديث ذو شجون) ذريعة لأن يسامحوا أنفسهم في الكلام إذا عنّ، ولا يراعوا صحة دواعية، وإصابة معانيه، فهذا ما نأخذه عليهم، ولا نقبله منهم، مهما افتنوا في اختلاق المعاذير له. ونصيحتنا لهؤلاء هي قول الشاعر:
إذا لم تجد قولاً سديداً تقوله ... فصمتك عن غير السداد سداد)
ونظن الأديب الفاضل يعني فيمن يعني صاحب (النثر الفني)، ولولا أن صديقنا المبارك يحتكر زعامة الصناعتين، ويعتقد أن للسانه شعبتين ولقلمه سنين، لاستأنفنا له الحكم، وتولينا عنه الدفاع!
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(558/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بين الإنسان القديم والإنسان الجديد
تكلمت بعض المجلات السورية واللبنانية عن قلة اهتمام الأدباء المصريين بما يسمونه (أدب الحرب) ورأت في ذلك تضييعاً لاحساسات تستحق التسجيل، ونصت بالذات على خلو أدبي من أحاديث الحرب، والتفاتي إلى شؤون لا تمس أهوال الحرب من قريب ولا من بعيد
وأقول إن موقفي وموقف سائر الأدباء المصريين من الحرب هو موقف الإنسان الجديد، وهو يختلف عن الإنسان القديم كل الاختلاف أو بعض الاختلاف
وتفصيل ذلك الإنسان اليوم يدرك أكثر مما يشعر، وكان الإنسان قديماً يشعر أكثر مما يدرك، والفرق بعيد بين الشعور والإدراك
إن حروب طروادة المشهورة في التاريخ القديم أنطقت اليونان بأعظم القصائد وأعمق الأقاصيص، وهي حروب تعتبر ألعاب أطفال بالنسبة إلى حروب هذه الأزمان، ومع ذلك لن يكون في شعراء هذا الجيل من يؤرخ الحروب الحاضرة، كما أرخ القدماء تلك الحروب
الإنسان القديم كان يحارب وهو مدفوع بعوامل الازدهاء والاختيال، أما الإنسان الجديد فيحارب وهو مدفوع بعمليات حسابية تراعي فيها الخسائر والأرباح، فالفرق بين هذين الإنسانين هو الفرق بين الشاعر والحاسب، وثروة الأول أحلام، وثروة الثاني أرقام
كانت أعظم موقعة في بداية هذه الحرب هي موقعة دنكرك وقد انسحب منها الإنجليز، فكيف كان شعورهم عند الانسحاب؟
أنا لا أظن أنهم حزنوا، وإنما أرجح أنهم فرحوا، لأن الغاية من الحرب هي الربح، والربح الذي يفهمه الإنسان الجديد، وهو ضمان السلامة في الأموال والأرواح.
شاهد طريف
إذا تصاول أسدان كان على الأسد المغلوب أن ينسحب إلى أن يتأهب لاستئناف الصيال، وإذا تقاتل ديكان كان على الديك المغلوب أن يثبت في الميدان إلى أن يموت(558/4)
وكان ذلك لأن الأسد يدرك أكثر مما يشعر، وأن الديك يشعر أكثر مما يدرك، والشعور أحط مرتبة من الإدراك، فما في الوجود شعور أقوى من شعور الأطفال
وأبو تمام الذي بلغ الغاية في الرثاء بهذا البيت في وصف أحد المستشهدين
وقد كان فوت الموت سهلاً فردًه ... إليه الحفاظ المرُّ والخُلق الوعر
هو نفسه أبو تمام الذي اختار في ديوان الحماسة أبياتاً في تبرير الهرب من ميدان القتال، وهي أبيات بعيدة من روح الحماسة، ولكنها من شواهد العقل، فقد علل الشاعر هربه من الميدان بأنه يفر من أعدائه (طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد)، ثم قال:
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضررْ عدوي مشهدي
وعلى هذا يكون إيثار العقل على الشعور في ميادين القتال مما آمن به العرب قبل مئات السنين، وبهذا كان هذا الشاعر من تباشير الإنسان الجديد
أدب وأدب
الأدب الأول سبق تسهيل المواصلات، فاختلفت الصور هنا وهناك
جان جاك روسو لن يخلق بعد اليوم، فما تسمح الدنيا في أيامنا هذه بأن يتشرد فتى مثل هذا الفتى، بحيث يقطع مئات الأميال على قدميه، وبحيث ينفعل بمناظر السهول والجبال، فيكتب الروائع في وصف ما رأت عيناه وهو ينتقل من مكان إلى مكان في الشهور الطوال
أدب الرحلات سينقرض، ولعله انقرض، بسبب ذيوع السفر بالطيارات، وهو سفر لا يتيح أية فرصة لدرس ما تمر عليه من مختلف البلاد
وأدب التشفي والانتقام لن يعود، وهو الروح الذي أملي على أبي تمام هذه الأبيات عندما أحرق المعتصم مدينة عمورية:
ما رَبعُ ميةَ معموراً يطيف به ... غيلانُ أبهى ربىً من ربعها الخرِب
ولا الخدود ولو أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظر من خدها الترب
سماجة غنيت منها العيون بها ... عن كل حسن بدا أو منظر عجب
وحُسنُ منقلب تبقى عواقبه ... جاءت بشاشته من سوء منقلب
فما تقبل اليوم الشماتة بمدينة تحترق، ولو كان أهلها من أخطر الأعداء
ولأبي تمام عذر فيما صنع، فقد استطال إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية ثم استطال،(558/5)
وكانت نيته أن يزعزع هيبة الإسلام في الشرق، فلم يكن بد لأمير المؤمنين المعتصم بالله من تأديب تيوفيلس بإحراق مدينته التي أعجزت المحاربين من أكابر الملوك
والإنسان الجديد يتمثل في نابليون يوم دخل موسكو، فقد راعه أن يحرقها الروس بأعنف النيران، وكان يتمنى أن تعيش بعافية، ليبلغ من تحضيرها ما يريد، وإن كان فاته أن يفهم أن بداوة الاستقلال، أفضل من حضارة الاحتلال
والإنسان الجديد يتمثل في حكومة فرنسا يوم رأت أنها ستنهزم في هذه الحرب، فقد طلبت إعفاء باريس من القتال، لتسلم باريس وهي عصارة أجيال وأجيال
متاعبنا الجديدة
الحرب عندنا ليست بحرب، ألم أقل لكم إنها عملية حسابية في نظر الجيل الجديد؟
والتاريخ ليس عندنا بتاريخ، وما أضيع من يعيش في ضيافة التاريخ!
متاعبنا الجديدة هي أن نعرف سرائر نفوسنا معرفة لا يفسدها التزييف
يجب أن نفهم ماذا نريد من الحياة، وماذا تريد منا الحياة
فإن حددنا الجواب عن هذين السؤالين فسنمضي إلى الغاية المنشودة بلا إبطاء
ندخل حدائق الحيوان بالقاهرة أو بأي مدينة فنرى جميع أصناف الحيوان في أمان من الانحراف، لأنها بعيدة من جهالة الناس، ففي الناس أعور وأعمى وأكمه وأبرص، والحيوان لا يعاني هذه العاهات، لأن خلو حياته من التعقيد يضمن لها السلامة والبقاء.
تكريم الدكتور طه حسين
قلت مرة: إن الأدب الحديث يحتاج إلى مؤرخ مثل أبي الفرج الأصبهاني، ففي حيوات أدباء هذا العصر أشياء تستحق التسجيل، وإن بدت من توافه الأشياء
وأنا سأحاكي أبا الفرج في منهاجه الأدبي فأقص قصة يرتاح لها القراء، لأنهم سيقرأونها مبتسمين، والابتسام يفوق جميع الأثمان:
نشرت في جريدة المصري كلمة أدعو بها إلى تكريم الدكتور طه حسين، بمناسبة ظهور الجزء الثالث من كتابه (على هامش السيرة)، وأنا موقن بأن الناس سيقولون: (لأمرٍ ما دعا زكي مبارك إلى تكريم طه حسين)(558/6)
ولم أتهيب هذا القيل، فقد علمت من أساتذتي في باريس أن أخطر مقتل في شمائل الفرنسيين هو تهيبهم من أن يقال، عند مواجهة الأعمال
' - ?
وقد وقع ما توقعت، فقد نشرت مجلة الاثنين كلمة (لطيفة) سجلت بها دعوتي إلى تكريم الدكتور طه بعد أن كنت من خصومه الألداء، وحدثني صديق أن ناساً من خلق الله زعموا أني أحاول استعطاف المستشار الفني لوزارة المعارف، لأظفر بدرجة ترفعني إلى الصف الذي ارتقى إليه بعض النجباء من تلاميذي
ولقد أحزنني ما قرأت وما سمعت، فما خطر في بالي أن لي مسألة عند الدكتور طه حسين، ولا أنا أستجيز استغلال النقد الأدبي لمنفعة شخصية، ولا أنا أقبل عطفاً من أي إنسان في أي حال. والدكتور طه نفسه يعرف هذا الجانب من أخلاقي، ويعرف أني لا أقبل منه ولا من غيره أية مساعدة، لأني أغنى منه ومن جميع الناس، بفضل النعم التي يسوقها الله إلى بغير حساب، وأنا أخشى أن تقتلني هذه النعم، كما تصنع الأزاهير والرياحين بمن يعانقها في ليلة صفاء
زكي مبارك(558/7)
محاورات الموتى
المحاورة الأولى
للكاتب الفرنسي برنار بوفيه دفونتنيل
بقلم الأديب يوسف روشا
إسكندر وفرين
فرين: عاهرة مشهورة عاشت في أثينا حوالي سنة 323ق. م. وكانت حظية لبراكستلس الذي أخذ رسمها. ويقال إن أبلس رسم صورته (فينوص) بعد أن رأى فرين عند ساحل البحر عارية وقد أسدلت شعرها المغدودن. لقد غدت فرين، بفضل سخاء عشاقها الكثيرين، غنية إلى حد أنها رغبت في إعادة بناء طيبة التي دمرها إسكندر على نفقتها، ولكن رغبتها لم تجب
رودوب: حظية يونانية مشهورة جمعت ثروة طائلة؛ ورغبة منها في تخليد اسمها شيدت أحد أهرام مصر
اسكندر الثالث: الملقب بالكبير ولد سنة 355ق. م. كان تلميذاً لأرسطو لخمس سنوات، وهو الذي دمر طيبة وأعلن الحرب على الفرس وغزا آسيا الصغرى، وبسط سلطانه على مصر وسوريا وفارس، توفى في بابل سنة 323 بعد حكم دام اثنتي عشرة سنة أحرز في أثنائها انتصارات متوالية بارعة
ديموستين: خطيب أثيني شهير قال عنه شيشرون - وقد كان ندا له بين الرومانين - إنه شخصية فذة قلما يجود التاريخ بمثلها
المحاورة:
فرين: لو أنك سألت جميع سكان طيبة الذين عاشوا في زماني، لقالوا لك كيف عرضت عليهم إعادة بناء جدران طيبة التي دمرتها أنت على نفقتي، بشرط أن يقيموا لي نصباً يكتب عليه هذه العبارة: (لقد دمر اسكندر الكبير هذه الجدران، ولكن الزانية فرين أعادت بناءها)
اسكندر: إذن أنت خائفة من أن تجهل الأجيال القادمة الحرفة التي كنت تمارسينها؟(558/8)
فرين: وماذا على من ذلك؟ لقد بلغت بها الذروة. وإن لكافة الممتازين من الناس، مهما تكن حرفتهم، لولعاً جنونياً بالأنصاب
اسكندر: صحيح أن لرودوب نصباً قبلك؛ فقد عرفت كيف تستغل جمالها لتبني أحد أهرام مصر الشهيرة، ولا يزال قائماً حتى الآن. وأذكر أنها كانت أمس تتحدث عنه إلى أطياف بعض الفرنسيات اللاتي كان لهن - على زعمهن - رقة وجمال، فأخذن ينتحبن قائلات: إن الجمال في بلدهن، وفي العصر الذي عشن فيه، لم يكن ليجلب ثروة كافية لبناء هرم
فرين: ولكني أمتاز عن رودوب بأني أعدت بناء جدران طيبة، وبذلك جعلت نفسي في صفك أنت الذي كنت أعظم فاتح في العالم. ألا ترى كيف استطاع جمالي أن يصلح ما أنزلته شجاعتك بالبلاد من تخريب وتدمير!
اسكندر: أنت تتطرقين إلى شيئين ليس إلى عقد المقارنة بينهما من سبيل. إذن أنت فخورة أن يذاع عنك بأنه كان لك عشاق كثيرون؟
فرين: وأنت، ألست فخوراً بتدميرك أكبر قسم من العالم؟ لو أن في كل مدينة خربتها (فرين) لما بقي أقل أثر لجنونك
اسكندر: لو قدر لي أن أعيش مرة أخرى لما تمنيت أن أكون إلا فاتحاً عظيما
فرين: وأنا لو رجعت إلى الحياة لما تمنيت إلا أن أكون غازية للقلوب. إن للجمال حقاً طبيعياً في السيطرة على الرجال على حين أن الشجاعة تفرض حقها على الناس بالقوة والبطش. للنساء الجميلات عرش في قلوب الناس قاطبة مهما تكن جنسياتهم؛ ولا كذلك الملوك والفاتحون. ولأقنعك أكثر من هذا أقول: إن أباك فيليب، الذي كان شجاعاً مقداماً كما كنت أنت، لم يستطع هو وأنت أن تدخلا الرعب في قلب الخطيب المصقع ديموستين الذي قضى حياته كلها يخطب ضدكما، على حين أن فرين أخرى كانت ذات مرة على وشك أن تخسر قضية هامة جداً، وإذا بمحاميها، وقد بذل لأجلها كل ما يملك من الفصاحة والبلاغة بلا جدوى، يرفع عن وجهها النقاب فيبهر جمالها الحكام فيحكمون لها أن أوشكوا أن يحكموا عليها. ألا ترى كيف أن صلصلة أسلحتك كل هذه السنين التي حكمتها لم تقو على كم فم خطيب واحد، على حين أن سحر فتاة جميلة أفسد في لحظة حكام أراكوس القساة
اسكندر: بالرغم من استنجادك بفرين أخرى فإني لا أعتقد أن جانب اسكندر قد ضعف(558/9)
كثيراً. ومما يدعو إلى الأسف أنه لو. . .
فرين: أعرف ما تريد أن تقوله: اليونان، آسيا، فارس، الهند. . . كل ما من شأنه أن يبهر العالم بالطنين والرنين. ومع هذا إذا أنا أسقطت من مجدك كل ما ليس لك، فأعدت إلى جنودك وقوادك، وحتى إلى الحظ الذي ساعفك، نصيبهم من الظفر الذي هم له أهل، فهل تعتقد أنك لن تخسر بذلك كثيراً؟ ولكن المرأة الجميلة لا يشاركها أحد في غزواتها، فليس لأحد عليها فضل، بل الفضل كله لها. أقول لك الحق إنه لمركز جميل. . . مركز المرأة الحسناء
اسكندر: يظهر أنك حج مقتنعة بما ذهبت إليه من أمر هذه المرأة الحسناء. ولكن أتتصورين حقاً أنها تصل إلى هذا الحد الذي وصفت؟
فرين: كلا. . . كلا. . . فسأكون منصفة معك. أنا أعترف بأني قد أسأت وصف شخصية المرأة الحسناء كل الإساءة. أنا وأنت. . . لقد كانت لنا غزوات وغزوات. فلو كنت اكتفيت بعشيقين أو ثلاثة على الأكثر لكان ذلك من طبيعة الأشياء، وليس ثمة ما يدعو إلى الانتقاد. أما أن يكون لي من العشاق جيش أستطيع معه إعادة بناء طيبة فشطط ما تعده شطط. ولو أنك كذلك لم تغز سوى اليونان والجزر المجاورة وقسم من آسيا الصغرى، إذا لم يكن من ذلك بد، وأسست لك منها مملكة لكان ذلك مفهوماً معقولاً. أما أن تخبط خبط عشواء فتأخذ المدن دون أن تعلم لماذا تأخذها، وتفرغ من غزو إلى غزو من غير أن يكون لك خطة معينة أو هدف معقول؛ كل ذلك لا تستسيغه العقول النيرة
اسكندر: ليقل أصحاب العقول النيرة ما يشاءون. فلو أني استعملت شجاعتي وحظي بحكمة لما تحدث عني أحد
فرين: وأنا أيضاً لو كنت استعملت جمالي بفطنة لما ظفرت بهذه الشهرة الواسعة. على أنه كلما أريد إحداث ضجة في العالم، فليس أحصف الناس وأعقلهم هم الذين يصلحون لها.
(بغداد)
يوسف روشا(558/10)
مراسلات مع الريح
يا عدوى
للأستاذ إسماعيل مظهر
منذ خمسين سنة ونيف كنّا نقطن حيا من الأحياء الوطنية القديمة لا يزال يسمى الدرب الأحمر. ولعله اكتسب هذه التسمية من دماء المماليك التي انحدرت في مسالكه من باب القلعة إلى باب الوزير، عند ما استأصلهم الكبير محمد علي واستأصل معهم شأفة الفساد والشر. وكان المنزل الذي نقطنه على رحابة أرجائه كأنه سجن له فناء، ولا يطل منه على العالم الخارجي إلا نافذة واحدة طولها أمتار وعرضها شبر واحد، كنا ننصت منها على جلبة الشارع، فكنا إذا سمعنا مصطفى الزرّاب يغني بصوته الرخيم أطلقنا لأرجلنا العنان، واستبق بعضنا البعض إلى السلم ومنه إلى الفناء، ثم من الفناء إلى الدهليز؛ ثم من الدهليز إلى الدِّركة، فنرى عم جوهر جاثماً فوق السدَّلة فنحييه، ثم نقفز إلى الشارع. وكان الزرَّاب منادياً يأجره البعض إذا فقدوا شيئاً، فينادي عليه في الأزقة والحواري والمسالك. وذات يوم شهدناه ينادي عن معزاة فقدها جلاّد (بائع جلود) بجوار منزلنا. وكان رخيم الصوت يفتن في النغم ويخلق من مناداته شهي اللحن، فرأيناه ينشد المعزاة بلغة عربية تشوبها العامية المقبولة، وأخذ يسير ونحن وراءه، حتى إذا أشرفنا على جامع المرداني وتجاوزنا باب قسم الدرب الأحمر، انفتل يميناً إلى حارة الروم بعد أن صاح (يا عدوى)، وكان يختم بها كل نداء. فترك عربته وأخذ يقول: (يا خدرات الأروام: يا خواجات الخته: فيه واخد ميزه: أنده اتنين بلخه هينا (ويشير إلى جوزته) الشر بتاعه أخمر. البوز بتاعه أبيد. تمسك فلوس كويس لوجبته. يا خريستو) (بدلاً من أن يقول يا عدوى)
تذكرت هذه الحادثة بعد هذه السنين الطوال، وتذكرت مصطفى الزراب عندما قرأت في مجلة المصور مشروع كتابة العربية بالحروف اللاتينية الذي خرج علينا به سعادة عبد العزيز فهمي باشا عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية خروج الزراب من عرينه أمام جامع المرداني، ينشد معزاته الضائعة: متوسلاً بالعدوى، إلى لاتينية الأعاجم عند ما انفتل إلى حارة الروم مستنجداً بخريستو، مستمداً منه العون. ولله الأمر من قبل ومن بعد
كذلك اعتقد كثير من الخرافيين في العصور الوسطى أن الشيطان قد تدخل في تصوير كرة(558/11)
الأرض. فقد رأوا أن لبلاد اسكنديناوه شكلاً خاصاً يغاير شكل بقية أجزاء الأرض؛ ذلك بأنها أشبه بذراع ممدودة أخذت من حواشيها المدى والسيوف فتركت به تلك الخلجان والقطوع المائية، التي صلحت في الأزمان الأولى أن تكون مقراً آمناً للقرصان الذين نشروا الرعب في شمال أوربا، وامتد إرهابهم إلى حوض البحر المتوسط، رأوا ذلك فتخيلوا حادثاً كونياً محصله أن الله القادر على كل شئ بعد أن انتهى من عمل الخليقة، تسلل الشيطان ليرى العمل الذي أتمه في تلك الأيام السبعة التي تخلف فيها عن الظهور منه فوق العرش. فطاف ثم طاف، حتى إذا وقع على سيارنا هذا ورأى ما فيه من جمال وحسن بالرغم من صغر حجمه ضاقت نفسه وساء سلوكه، فاقتلع حجراً عظيماً قذف به كرة الأرض، مقر الإنسان الجديد، فاستقر الحجر في بحر الجمد الشمالي حيث اسكانديناوه الآن
ومن هذه الخرافة نستمد العظة. فكل جميل كامل الجمال، وكل حسن كامل الحسن، يأبى صلف الإنسان إلا أن ينتقصه من أطرافه، لا بد من أن يرمي بحجر يقذفه شيطانه، كذاك الذي قذف كرة الأرض بحجره العظيم، فزاد من جمالها وضاعف من حسنها. أرأيت تمثال فينوس ميلون؟ أفإن انحدر إلينا كاملاً بذراعه الجميلة، أكنا نشهد فيه ذلك الجمال كله؟ كلا فإن جمال الجزء الناقص ندركه من الجمال الأجزاء الباقية. أضف إلى ذلك شعور العطف الذي نحسه إزاء ذلك الحجر المنحوت، وذهول الكارثة التي أطارت منه الذراع. إن الجمال فيه لم ينقصه، وإدراكنا لقيمة جماله وحسنه وروعته قد شابها العطف عليه بحنو يبعث من وجداننا ما كان ليفوز به لو أن القدر أبقى منه تلك الذراع المفقودة
وما أشبه لغتنا العربية المجيدة بكرة الأرض وحادثها مع الشيطان! فإن هذه اللغة ما فازت بالبقاء دون أخواتها الساميات إلا لأسرار فيها يعجز عن إدراكها الفكر ويضل في بحثها التاريخ. وكل تعليل لهذه الظاهرة إنما هو تعليل ناقص؛ فإن ذلك التيه الواسع الذي نسميه اللغة العربية إنما هو على اتساعه وحدة كاملة الأطراف متماسكة الجوانب، إذا زعزعت منه أساساً تداعت من حوله كثير من الأسس. فلقد تطورت هذه اللغة على مر السنين، وتكاملت على كر الأعوام، حتى أصبحت كالبناء المصبوب من الفولاذ، ناحية النقص الواحدة فيه؛ أنك لا تجد فيه منفذاً واحداً يمكنك من أن تضيف إليه جديداً منه؛ غير أنه(558/12)
يظهر كالرقعة المهلهلة في الثوب الجديد الكامل النسق
وما الذي يحملنا على أن نفكر في الحروف اللاتينية لنكتب بها العربية؟ ما الذي يحملنا على أن نحمل ذلك الحجر الثقيل على أكتافنا من بلاد اللاتين إلى صميم بلاد العرب، لتقذف به لغة العرب، فيلوب في بحرها الخضم ثم يلوب، ومن بعد تبتلعه، ولا نكسب من ذلك إلا تعب الحمل، ووزر ذلك الشيطان الذي قذف كرة الأرض بحجره الثقيل، فلم ينتقصها وإنما ابتلعه جمالها فزادت به جمالاً، ولم يغير من طبيعتها وإنما زاد إلى تاريخها فصلاً محجوجاً مكروها. إنما يكون مثلنا في هذه الحال كالشمطاء التي أبت إلا أن تنتقص جمال حسناء، حقداً وكيداً، فاجتزت خصلة من لمتها، فبدت غرتها أجمل وأفتن
حاول الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا أن يصلح من اللغة العربية بمشروعه ذاك الذي نشره في المصور، بأن يجد طريقاً يسهل على الناس قراءة العربية صحيحة كما تلقيناها عن الفصحاء. وأشار من طرف خفي إلى حروف الحركة، كأن اللغة العربية ليس بها حروف حركة؛ ولكنه نسى أن العربية تمتاز على جميع لغات العالم من هذه الناحية. نسى أن بها حروف مد وحروف حركة، فإن حروف الألف والواو والياء ليست في الواقع حروف حركة في اللغة العربية وإنما هي حروف مد. فإذا قلنا مثلاً (كتاب) فالألف هنا ليست حرف حركة وإنما هي حرف مد تطول معه حركة التاء. أما حروف الحركة فهي في الواقع الحركات الفتح والضم والكسر والسكون، فصلت عن بقية الكلمة لتدل على حركة حروفها، وهو نوع من الاختصار لا تجد له مثيلاً في لغة من لغات الأرض، ولون من الجمال الواضح والوحدة السليمة تمتاز به هذه اللغة العجيبة دون غيرها من اللغات. وسبحان الله إذ يصبح الكمال في نظر بعض الناس نقصاً، والجمال قبحاً، كأنما نحن نمل أن نتعلم لغتنا على أساسها الصحيح، ومن طريقها الواضح الذي شرحه العلامة الأستاذ عرفة على صفحات الرسالة، إنما نحن نعبر بمثل هذه الآراء التي يعرضها الباشا الكبير عن ملل واضطراب
وما أريد أن أتكلم عن تراث العرب والعربية، وما أريد أن أتكلم في أن هذه اللغة لغة دين ولغة أدب وعلم وفن انحدرت إلينا من خمسة عشر قرناً إلا قليلاً تحمل إلينا في تضعيفها مشعل الماضي مضيئاً. لا أريد أن أتكلم في شئ من هذا فإنه بمثابة القول المعاد، وإنما(558/13)
أريد أن أقول: إن هذه النزعات نزعات يبعثها ضعف في القومية واستهتار بتراث العرب الموروث ونبذ لكل تقليد قديم تلقيناه عن أصولنا
إننا لا نعلم اللغة العربية في مدارسنا وإنما نعلم بعض قواعد منها. ولا يسمع الطالب لغة فيها شئ من العربية الصحيحة إلا من معلم اللغة العربية، فإذا احتك بمعلم الحساب أو الهندسة أو الجبر أو التاريخ الطبيعي أو غير ذلك لم يسمع إلا العامية، لغة سقيمة مهلهلة. فأين نحن من تعلم اللغة العربية؟ بل إن بعض طلبتنا في بعض الكليات يتلقى دروسه من أستاذه باللغة العامية ثم يذاكر الموضوع بالإنجليزية. فهل سمعتم بمثل هذا في أنحاء كرة الأرض؟ هل سمعتم بأن مثل هؤلاء الطلبة يستطيعون أن يدركوا شيئاً من أسرار لغتهم وهم على مثل هذا الوضع؟
يا سعادة الباشا قل معنا يا عدوى؛ فإننا لن نقول معك يا خريستو أبد الدهر.
إسماعيل مظهر(558/14)
الجمعية الملكية
للأستاذ خليل السالم
لم تمتع جمعية علمية بحياة طويلة ثابتة المبدأ متصلة الكفاح باهرة النجاح كما تمتعت الجمعية الملكية في لندن، مع أنها ليست أقدم الجمعيات العلمية في العالم؛ فهي تعود في تاريخ تأسيسها إلى الحرب الأهلية، إذا اجتمع سنة 1645 نفر من رجال العلم الذين يفيضون غيرة وحماسة، ويأنفون أن تتخبط البلاد في المنازعات السياسية والعصبيات الدينية، وأرادوا أن يتوجهوا بالفكر إلى ميادين أسمي وأكثر جدوى، وجعلوا غرضهم المباشر فهم قضايا الفلسفة التجريبية التي ظهرت على مسرح فكرهم حديثاً. وقد عقد الاجتماع الأول في كلية جريشام في مدينة لندن. ونقل مكان الاجتماع إلى كلية وادهام من جامعة أكسفورد عندما انتسب جون ولكنز مدير هذه الجامعة إلى المؤسسة الناشئة، وكان من أوائل منشطيها ومشجعيها
وفي سنة 1662 أصدر الملك شارل الثاني مرسوماً بتأسيس الجمعية، واعتبارها هيئة تعاونية رسمية. ويصلح هذا التاريخ أن يكون بحق فجراً جديداً في تاريخ العلم، ومبدأ نهضة وهاجة السنا باهرة الإشراق. وكيفما كانت الصورة الماجنة المستهترة التي تقدمها كتب التاريخ عن مؤسس الجمعية الأول شارل الثاني، فلا ريب أنه كان يقدر العلم والعلماء، ويرى ببعيد نظره يمكن أن يدر تشجيع العلم على ثروة البلاد من المغانم الكبرى والربح الوفير. وكان سياسياً حاذقاً ومثقفاً واعياً عندما اكتسب لنفسه لقب مؤسس الجمعية الأول. وكان مدركا لروح العصر الجديد الذي تميز بهدم تعاليم أرسطو على يد نبي العلم (بيكون)، وبنبذ الخرافات والشعوذات، وبالانصراف عن العلم المنقول إلى الطريقة التجريبية والتحقيق العلمي
وكان هدف الجمعية كما ورد في مرسوم تأسيسها (تحسين المعرفة الطبيعية). وناضلت الجمعية في سنيها الأولى نضالاً عنيفاً قاسياً، فلم يمدها مؤسسها الأول بالمال الذي رصده لها، كما لم يتمكن أعضاؤها من دفع رسم الاشتراك، أو لم يرد بعضهم ذلك. إلا أنه لما تبوأ نيوتن كرسي الرياسة (1703 - 1727) تحسن دخل الجمعية، لأن العلم المنظم وصل مستوى عالياً من النجاح والتطبيق على يد العالم العبقري الفذ نيوتن الذي فرض احترامه(558/15)
واحترام نظرياته واكتشافاته على الوسط العلمي، واستفاد وشعروا بشرف الاشتراك معه في العمل والبحث. ولم تحظ الجمعية برئيس بعث الدم فيها وأحياء مواتها وجدد حياتها ورفع من قيمتها كنيوتن إلا في القرن الثامن عشر عندما تولى مقاليدها السر جوزيف بانكس ; فقد تحددت مرامي الجمعية في ذهنه واضحة صريحة، وانتهى إلى أن الفائدة المرجوة والثمرة المنشودة لن تدنو قطوفها إلا بحماية رسمية، فقبل في عضوية الجمعية أشخاصاً لم يكونوا علماء بكل ما في الكلمة من معنى. وبالرغم من اتهامه بالتفريط في حق العلم والعلماء والهجوم الشديد الذي وجهه إليه أعداؤه، فإنه استطاع أن يجعل من أولئك الأعضاء أصدقاء للعلم واستخدمهم لجمع المال الضروري للبحث العلمي. لم يتسن للحكومة أن تسيطر على الجمعية وتستغلها في مصالحها الخاصة، ولكن علاقات وثيقة ودية كانت تربط الجمعية بالسلطة. فاستعان بإرشاداتها ملوك وساسة ومديرو مصالح، وعرضت الجمعية خدمتها على الحكومة في كل مناسبة كانت مصلحة الوطن فيها تستدعي الجهد العلمي الرسمي. واعترافاً بمثل هذه الخدمات القيمة رصد البرلمان الإنجليزي سنة 1778 وما بعدها مخصصات باهظة لتضخيم ميزانية الجمعية.
ونتعب إن حاولنا تقصي المناسبات التي حلت فيها الجمعية مشاكل رسمية. ولكننا نرى اليوم عشرات القرناء منهمكين في الاختبارات العلمية التي تسرع بربح الحرب والتي تختلف بين تأمين الطعام لجميع أفراد الأمة وبين ابتكار أقوى الأسلحة الحربية فتكا وتدميراً.
يبلغ عدد أعضاء الجمعية 450 عضواً منهم 50 عضواً أجنبياً. وبينما كانت مقاعد الجمعية تضم في وقت ما كل علماء إنجلترا أصبحت اليوم ضيقة بهم؛ مما جعل الانتساب إلى الجمعية حلماً عبقرياً يتردد في ذهن كل عالم، وشرفاً كبيراً تتجه إليه الهمم. . . والواقع أن العضو في الجمعية يحرز فوائد مادية جمة فضلاً عن مظاهر التكريم والإجلال. سئل أحد القرناء الأطباء عن معنى الأحرف الثلاثة التي تلحق باسمه. فأجاب بأنها تعني:
أي أن أجوره ارتفعت بعد أن أضيفت هذه الأحرف إلى اسمه. ومن هنا كان الانتساب إلى الجمعية يقتضي كفاية نادرة وسبقاً علمياً معترفاً به في أحد ميادين المعرفة. ولا يرشح أحد العلماء للعضوية إلا بعد أن يزكيه ستة أعضاء على الأقل بشرط أن يكون بينهم ثلاثة(558/16)
خبروا معلومات المرشح ومؤهلاته واكتشافاته واتصلوا به اتصالاً شخصياً. وبعد مشاورات طويلة يعرض مجلس الجمعية كشفاً بأسماء المرشحين ويجري الانتخاب في آذار من كل عام. وتوزع الجمعية يوم 30 نوفمبر دائماً عدداً من الأنواط على السابقين من أعضائها المشهود لهم بالفضل والنبوغ
ويدير شئون الجمعية مجلس يتألف من (21) عضواً يجدد انتخابهم كل سنة. أما رئيس الجمعية وسكرتيرها للمراسلات الخارجية فيبقيان في منصبيهما خمسة أعوام. ويحتفظ أمين الصندوق وسكرتير الجمعية للأبحاث البيلوجية وسكرتيرها للأبحاث الطبيعية بمناصبهم عشرة أعوام. ولا يحق لقرين غير هؤلاء أن يخدم في مجلس الجمعية أكثر من عامين متتالين
وتساعد لجان خاصة مجلس الجمعية على تنظيم الميزانية وتوجيه البحث العلمي وطبع الكتب. وترصد الجمعية مبالغ طائلة لتمويل الجهود العلمية. ولكن أهم وظائف الجمعية نشر البحوث التي يتمها القرناء وشرح كشوفهم، فهي تطبع سجلاً سنوياً يضم أحدث الأبحاث العلمية التي يحرص رجال العلم المنتشرون في كل بقاع الأرض على درسها وفهمها
ولا تتأثر الجمعية بنزعات الجنس والدين؛ ولها اليد الطولي في شيوع النظريات العلمية والدعوة إلى اتحاد علمي عالمي، والبلوغ (بدولية العلم) مستوى يكاد يقرب من الكمال
وتضم مكتبتها ما يزيد على (150) ألف مجلد، وتقتني أوفى مجموعة لمتشورات الأكاديميات العلمية في جميع أقطار المعمورة؛ وقيودها وسجلاتها مصدر تاريخي لا نظير له استفاد منه كثير من طلاب العلم
وكلمة أخيرة، عن كنوز الجمعية. ففي ردهاتها لوحات رسمها أمهر الفنانين البريطانيين لأشهر علمائهم منذ القرن السابع عشر حتى اليوم. وسجل الجمعية الذي وقع فيه جميع القرناء منذ تأسيس الجمعية كنز لا يثمن. وفيها صولجان أثرى يضعه الرئيس أمامه أثناء انعقاد الاجتماعات. وفيها المرقب العاكس الذي صنعه نيوتن. ومخطوطة كتاب (المبادئ) - ومنها نقلت الطبعة الأولى - وهناك فرجاران من مخلفات كرستوفر رن، ومفرغة هواء هوكسي، وساعتا وقف من عمل أرنولد استعملهما كوك في رحلتيه الثانية والثالثة حول(558/17)
العالم؛ ومصباح الأمن الذي اخترعه ديفي، وغير هذا كثير من الأجهزة العلمية التي كانت ملكا للجمعية ومنحتها لمتاحف العلم.
(السلط - شرق الأردن)
خليل السالم(558/18)
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها
للأستاذ سعيد الديوه جي
- 2 -
5 - كرسي المختار وتخت يزيد: ثار (المختار الثقفي) على الدولة الأموية باسم محمد بن الحنفية ليجعل لدعوته صبغة دينية وهي الدعوة لآل البيت، وأنكر ابن الحنفية أمره، ولكن (المختار) من دهاة ثقيف، فإنه لما وجد تثاقلاً من جيشه لحرب عبيد الله بن زياد أتى بكرسي وادعى أنه من مخلفات الإمام علي، وأنه بمنزلة التابوت في بني إسرائيل لا يحمله جيش إلا كتب له به النصر. فكساه بالديباج وسلمه إلى إبراهيم بن الأشتر قائد جيشه وانتصر الجيش على (ابن زياد) وقتله ودخل ابن الأشتر الموصل. فحركة المختار ظاهرها لآل البيت وحقيقتها دعوة باطلة له. ووضع اليزيدية مقابل هذا الكرسي تخت يزيد وهو من المشاهد المقدسة عندهم يجلس عليه أميرهم، وأمر التخت عندهم كأمر الكرسي عند أتباع المختار
6 - وجاء في كتابهم المقدس: (مصحف رش) قصة طريفة تؤيد ما ذهبنا إليه، وهو عداؤهم لآل البيت وتأييدهم للحزب الأموي وهي: (ولنعد الآن إلى محمد بن الإسماعيليين فكان عنده خادم اسمه معاوية؛ فنظر الله إلى محمد فرآه لا يسلك باستقامة فأوجع رأسه. فقال محمد لمعاوية: تعال احلق رأسي لتعاطي معاوية التزيين، فأتى معاوية وحلق رأس محمد بخفة فجرحه وجرى منه دم كثير. فلما رأى معاوية الدم لحسه بلسانه خوفاً لئلا يقع على الأرض، فقال له محمد: ماذا صنعت يا معاوية؟ أجاب: إني لحسته بلساني خوفاً لئلا يقع على الأرض. فقال محمد: لقد أخطأت بذلك فإنك تجذب وراءك أمة عظيمة وتتخاصم مع أمتي فقال معاوية: لا أتزوج ولا أقع في العالم قط. ثم بعد زمان سلط الله على معاوية عقارب فلدغته ورشت سمها عليه. فلما رآه الأطباء جزموا عليه بالزواج وأتوه بامرأة يربى عمرها على الثمانين كي لا تحبل. فلما عرفها معاوية أصبحت في الغد ابنة خمسة عشرة سنة وذلك بقدرة الإله. فحبلت وولدت إلهنا الذي يسمى (يزيداً) وهذا قول صريح من كتابهم المقدس أنهم أعداء لآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نسب أمرائهم ينتهي إلى (يزيد بن معاوية) فلم يبق شك في أن أصل حركة اليزيدية كانت حركة لمناصرة(558/19)
بني أمية والدفاع عن حقهم في الخلافة ومناوأة (آل البيت) الذين خاصمهم الأمويون على الخلافة منذ صدر الإسلام
والسبب الذي جعل الجبال القريبة من الموصل مركزاً لهذه الطائفة هو: أن الموصل كانت مدينة أموية منذ الحكم الأموي. واهتم بها الأمويون اهتماماً كبيراً، فوسعوها وسكنها جالية منهم وكانوا كثيراً ما يولون عليها أميراً من البيت الأموي. وممن تولاها: (سعيد بن عبد الملك، والحر بن يوسف، ومروان بن محمد) كما سكنها الخليفة (هشام) قبل أن يلي الخلافة وبنى له قصراً فخماً في ربضها الأسفل وغرس بها النخيل والبساتين. (والحر) صاحب (قصر المنقوشة) كان يملك القرى المجاورة لجبل (مقلوب) وهو أحد مراكز اليزيدية اليوم. وأن (إبراهيم الإمام) منظم الدعوة العباسية كان يعرف حب أهل الموصل للأمويين ولذلك أوصى (أبا مسلم الخراساني) ألا يعتمد عليهم. وذكر (أبو زكريا الأزدي) مؤرخ الموصل وقاضيها في القرن الرابع الهجري أن الموصل بقيت أموية في الحكم العباسي، ولهذا فتك بها العباسيون وقتلوا من أهلها ثلاثين ألف رجل سنة 133هـ. وبعد سقوط الدولة الأموية فر كثير من الأمويين ومواليهم إلى الجبال المجاورة للموصل، ومن هذه الجبال جبلاً (مقلوب، ولالش) أو (الهكارية) وأثروا على الأكراد الساكنين في هذه الأماكن وجعلوهم يميلون إلى بني أمية. ومما زاد في تأييد هذه الطائفة أن الموصل والجزيرة كانتا من مراكز الخوارج (الحرورية) وهم يحاربون كل حاكم، واستمرت حركتهم إلى القرن الثالث الهجري. وكانوا كلما ضاقت عليهم الأرض لجأوا إلى الجبال المجاورة. ولا شك أنهم كانوا يلاقون ارتياحاً من الحزب الأموي الساكن في هذه الجبال، ونشروا مذهب الخوارج بين الأكراد، كما أنه تأسست (الدولة الحمدانية) في القرن الثالث الهجري في الموصل. وكان أمراؤها يميلون إلى آل البيت وحاولوا نشر المذهب الشيعي في الموصل فلقي قبولاً عند بعض وإعراضاً من الآخرين. وحدثت ثورات في الموصل بسبب ذلك كانت بلا شك من تأثير الحزب الأموي. ثم جاءت بعدها الدولة العقيلية، وكان أمراؤها متعصبين للمذهب الشيعي، ولاقت مقاومة كذلك في الموصل. كل هذه الأمور كانت تجعل العداوة مستمرة بين الحزبين العلوي والأموي، واستمرت هذه العداوة في تزايد حتى القرن السادس الهجري ومجيء الشيخ عدي إليهم , فتحولت دعوتهم إلى طريق صوفية عدوية(558/20)
الدور الثاني
الشيخ عدي وتحول الحركة إلى طريقة (عدوية)
الشيخ عدي بن مسافر الأموي: يرجع نسبه إلى مروان ابن الحكم. ولد في بيت فار من أعمال بعلبك، وهاجر إلى الموصل وسكنها. ثم انتقل إلى جبال الهكارية ولزم طريق المجاهدة والخلوة والانقطاع عن الناس، وكان ينتقل في البراري والقفار ويقتات من النبات
ثم بنى زاويته المشهورة في جبل (لالش) وعكف عليه أهل تلك الديار لعلمه وصلاحه وانقطاعه إلى الله عز وجل ولا شك أن صلة النسب بينه وبينهم كانت من أقوى الأسباب التي جعلتهم يرتاحون له. ولكن هذا الشيخ لم يكن من الذين تغرهم الدنيا، بل تراه سلك بأتباعه طريق الرشد والصلاح وخفف من غلوائهم وعداوتهم لآل البيت. وأما زهده فقد قال عنه الشيخ عبد القادر الكيلاني: (لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها الشيخ عدي مسافر) ولعدي عدة رسائل في العقائد والتوحيد وهي مؤيدة بالكتاب والسنة، منها رسالة خطية في مكتبة (مدرسة الحجِّيات) في الموصل، وهي من خيرة الرسائل التي ألفت في هذا الباب، سلك بها سبيل السلف الصالح، ونراه يندد بالفرق الإسلامية المغالية كالقدرية والمجسمة ويرد عليهم فيقول فيها: (ونؤمن بما ورد في الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شئ منها، فإن كل ما تمثل في الوهم فهو مقدره قطعاً وخالقه. وهذا الذي اندرج عليه السلف قبل ظهور الأهواء وتشعب الآراء. فلما ظهرت البدع وانتشر في الناس التشبيه والتعطيل فزع أهل الحق إلى التأويل وتقرير مذهب السلف كما جاء من غير تمثيل ولا تكييف ولا تشبيه ولا حمل على ظاهر الخ. ويقول في القدرية واعتقادهم أن الشيطان خالق الشر: (وخلق تعالى إبليس عليه اللعنة وليس إليه من الضلالة شئ قال تعالى: (واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. وقوله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك منهم من الغاوين، وإن جهنم لموعدهم أجمعين)، لأنهم فتكوا في الكفر فجعلوا إرادة إبليس لعنه الله وأنفسهم أقوى من إرادة الله تعالى. أراد الملعون إبليس المعصية فوجدت، وأراد الله ألا تكون فكانت، فجعلوا إبليس الملعون وأنفسهم أقوى من(558/21)
إرادة الله. والقائل بهذه المقالة تكذيبه بقوله تعالى: إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله. الخ. . .
أما اعتقاده بالصحابة الكرام فهو يرى أن الأفضل هم الخلفاء الراشدون حسب ترتيبهم في الخلافة، ويرد على من يقدم الإمام علياً على الثلاثة السابقين. ويقول عن معاوية: (إن معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه خال المؤمنين، رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحي الله تعالى، أمين الله على وحيه، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ومات وهو عنه راض)
(للكلام صلة)
سعيد الديوه جي(558/22)
في (مجموع رسائل الجاحظ)
للأستاذ محمد طه الحاجري
تفضل الأستاذ الجليل (ناقد) فاستجاب للروح العلمية البريئة، ولما وجهناه إلى جمهرة الناقدين من دعوة خالصة، فكتب عن (مجموع رسائل الجاحظ) فصلاً من فصول الناقدة في الرسالة، عرض فيه لحروف تعرضت - فيما يرى - للتصحيف أو التطبيع أو خطأ الرسم، متهدياً في ذلك بذوقه الأدبي ومحصوله اللغوي، وما زلنا نرجو منذ ظهر هذا المجموع أن يتاح له حظ النقد البصير؛ فليس أحق من الجاحظ - كاتب العربية الأول - أن تتضافر القوى وتتعاون الجهود على جلاء آثاره وإبرازها في صورة أمينة دقيقة جديرة به، بعد أن تعرضت آثاره مدى الأجيال الطويلة للكثير الوافر من عوامل التحريف والتشويه والمسخ. ومن ذلك كان لعناية الأستاذ العلامة الناقد بالمشاركة في جلاء هذه الطائفة من آثاره أجمل الأثر في نفوسنا. وقد تجلت هذه العناية في هذا الفصل، وقد وفق خير التوفيق في بعض ما عرض له، وأما بعضه الآخر فإنا نرى فيه غير ما يرى
وإذا كنا نرى غير ما يرى في أكثر ما عرض له، فمرد كثير من ذلك - فيما يظهر - إلى الخلاف بيننا وبينه في الأصل الأول في النشر. فالأصل عندنا في نشر أثر من الآثار العقلية هو إبراز صورة أمينة من ذلك الأثر، بريئة مما تركته عليها الأجيال المختلفة، والأيدي الجانية، من تشويه أو تخريف أو تزوير. وسواء بعد هذا أن تجئ هذه الصورة كما نشتهي وكما ترجوها مثلنا، أو أن تكون منحرفة عن هذه المثل. ذلك هو الأصل في النشر، ومن هذا كان الناشر مقيداً في عمله بقيود مختلفة، ومحكوما باعتبارات كثيرة، تمسك يده أن تنطلق، وتكف نفسه أن تتدخل، ولا تدع لمزاجه الخاص أو محصوله العلمي سبيلاً إلى أن يفرض نفسه، أو يطبع كلام المؤلف بطابعه، أو يترك عليه أثراً منه. فأما الأستاذ العلامة (ناقد) فيظهر من اتجاهه فيما كتب عن المجموع أنه يميل قليلاً إلى تحكيم المثل في تحرير عبارة المؤلف
فمن ذلك تخطئته إيراد المثل: (كل مجر في الخلاء يسبق. (ص 102 س 19)، لأن المثل المشهور، أو الصورة المشهورة له (كل مجر في الخلاء يسر)، وهو نفسه يقرر أن للمثل صورتين أخريين: (كل مجر بخلاء يسبق، وكل مجر بخلاء مجيد، فكأنما عز عليه أن(558/23)
يسوق الجاحظ المثل في غير صورته المشهورة وهذا ولا ريب نوع من تحكم المثل الذي ذكرنا. وقد كان من الممكن أن نعتبر هذه الصورة المشهورة للمثل، لا لأنها الصورة المشهورة، ولكن لأن الجاحظ قد آثرها في أكثر من موضع في كتبه، كما نرى مثلاً في الحيوان (1: 88، 4: 207 وفي البيان والتبيين (1: 49) الخ، وهذه إحدى الطرق المقبولة في تفضيل قراءة على أخرى، ومع هذا آثرنا ما تعرضه عليه مخطوطتنا الوحيدة في هذا الموضع، إذ ليس ما يدعو إلى فرض تحريفه، ولأن الجملة التي زاوج الجاحظ بها هذا المثل تضعف احتمال الصورة المشهورة له، فهو يقول: (كل مجر في الخلا يسبق، وكل مناظر متفرد بالنظر مسرور)
وكذلك أخذ الأستاذ الناقد علينا أننا ضبطنا هذا المثل (لن تعدم الحسناء ذامّا) (ص 104 س 8) بحيث تصبح كلمة إلذام اسم فاعل من الذم لا اسماً بمعنى العيب، إذ كان المثل (لا تعدم الحسناء ذاماً)، ثم ذهب الأستاذ يفسر كلمة الذام كأن المثل أغرب علينا، فقاربنا وتصرفنا على ما فهمنا والمثل بعد مشهور بتخفيف الميم؛ ولكنا رجحنا أن الجاحظ تصرف في إيراد المثل على الصورة التي أوردناها، ليستقيم سياق المعنى الذي يريد تقريره عن الحسد، ودل عليه بكثير من الآثار والأمثال التي لا يستقيم معها ذلك المثل في صورته المأثورة إلا أن يكون الجاحظ ممن يلقي الكلام على عواهنه، ولا يعد أن يستشهد بما لا موضع له، ولا يتساوق مع غرصه، ويخالف بين أطراف الكلام مثل هذه المخالفة! ولكن الأمر الذي لا يعبأ به الجاحظ حقيقة هو أن يتصرف في المثل حتى يطوع له، على ذلك النحو الذي لا بأس به
ومن هذا الباب أيضاً تخطئته لنا أن نثبت هذه العبارة: (واستذرأت في ظلك) مهموزة، لأنه يقال - كما يحكى الأستاذ الناقد - استذرى بفلان أي التجأ إليه، وفلان في ذرى فلان أي في ظله. وحسب الأستاذ هذا، لا لتكون الكلمة خطأ، بل ليكون إثباتها منسوبة إلى الجاحظ خطأ. وليست المسألة بهذا اليسر، فيما نرى؛ وإنما الوضع الحقيقي للمسألة هو: هل يمكن القطع بأن هذا الخطأ هو خطأ الناسخ لا خطأ الكاتب، وهل مثل هذا الخطأ مما لا سبيل له إلى قلم الجاحظ، إن كان لا بد من تسميته خطأ؟
أما إنه لو صح لنا هذا لما كان لنا أن نستبقيه، ولوجب علينا أن نستبدل به؛ ولكن الأمر(558/24)
هنا ليس كذلك. وما أكثر ما تتعاقب الياء والهمزة في اللغة العربية، لا في باب الإبدال وحده، بل فيما وراء ذلك، فيما لا يندرج تحت تلك القواعد التي عني بتنسيقها وبسطها علماء التصريف. وقد عقد أبو علي القالي فصلاً في أماليه في (ما يقال بالياء والهمزة) إلى كثير غير ذلك من الكلمات التي لا تقع في باب الإبدال الرسمي
ولقد جاء في بعض الآثار الأدبية ما يدلنا على أن الفرق بين ما أصله الهمزة وما أصله الياء لم يكن من الفروق التي تحسها السليقة اللغوية إحساساً قوياً. من ذلك ما جاء في شعر الأعشى على رواية يعقوب بن السكيت:
إذا انبطحت جافي عن الأرض بطنها ... وخوأها راب كهامة جنبل
ويعلق أبو عبيد البكري، في لآليه، على هذا البيت بقوله: (وخوّأها مما همز ولا أصل له في الهمز) ثم يذكر أن الرواية الأصح، لهذا السبب، هي رواية من قال: (وخوّى بها). وهذا، في أكبر الظن، نوع من تحكيم المثل في الرواية، كالذي ذكرناه من تحكيم المثل في النثر
ومثل هذا ما أخذوه على شاعر إسلامي، هو المسعودي، عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، في قوله:
شققت القلب ثم ذرأت فيه ... هواك فليم فالتام الفطور
فقد قالوا إنه أخطأ حين قال (ذرأت)، وكان القياس أن يقول (ذريت) بالياء
وهكذا نرى أن وضع الهمزة موضع الياء ليس من الأخطاء المغلظة التي يجل الجاحظ عنها، أو نأنف له أن يقع فيها، فنزعم ما وقع من ذلك خطأ ناسخ يجب استصلاحه. وما دمنا لا نملك الدليل على أن وضع الهمزة موضع الياء من صنع الناسخ؛ وما دمنا لا نبعد أن يكون هذا من عبارة الجاحظ، فإن ما يقترحه الأستاذ الناقد من وضع (استذريت) موضع (استذرأت) يعتبر نوعاً من تحكيم المثل في النشر
فهذا نوع من المآخذ التي أخذها علينا العلامة الناقد. وهناك نوع آخر يرجع إلى العجلة، أو إلى أخطاء الدقة له، كقوله فيما علق به على قول الجاحظ (ص 110 س 17): (لاسيما إن كان مع استبطان الحسد الخ) إذ يقول: (قلت جاءت ولاسيما في هذا الموضع، وفي غيره مجردة من ذينك الحرفين، وأستبعد كثيراً هذا التجريد في كلام المحدثين الأولين، وإن أجاز(558/25)
ذلك نحاة من المولدين المتأخرين. وقد وردت اللفظة ومعها صاحباها في ص 24، 68) فلم تجئ (لا سيما) في عبارة الجاحظ مجردة عن لا والواو، بل عن الواو فقط، على الصورة التي أوردناها في هذه الفقرة
ومثل هذا ما جاء في التعليق على هذه العبارة (71: 16 - 17): (وسواء - جعلت فداك - ظلمت بالبطش والغشم، أو ظلمت بالدحس والدس) واقتراحنا وضع الدعس موضع الدس، إذ كان ذلك أشبه، فتوهم أننا إنما نضعها موضع الدحس، ثم اقتراح بدلاً من ذلك كلمة (الرس). وهذا نقد قائم على التوهم المحض. وما كان لنا أن نقترح كلمة موضع كلمة نظيرة لها في المعنى، وليس ما يمنع منها
وهناك نمط ثالث من المآخذ يرجع إلى الخلاف علىالرسم، وما نحب أن يطول الجدل حول هذا، إذ كانت قواعد الرسم لم تتقرر بعد على أصل ثابت. وقد أخذ علينا الأستاذ الناقد أننا رسمنا التواطؤ مرة بالواو وأخرى بالياء، ولعله حسب ذلك اضطراباً وتهافتاً، مع أن كلا منهما يخضع لقاعدة من قواعد الهمزة المتطرفة، على ما تنص عليه بعض المذاهب من أن الهمزة المتطرفة المكسورة ترسم ياء مطلقاً، والمضمومة ترسم واوا إذا كان ما قبلها مضموماً. وكذلك جاءت كلمة (التواطؤ) مرفوعة في (ص 24 س 16). (لا يمكن في مثله التواطؤ) ومجرورة في (ص 40 س 19): (وقام نجيء الأخبار من غير تواطؤ ولا تشاعر مقام العيان)، فالحالتان كما نرى مختلفتان
ومن هذا الباب أيضاً تخطئته رسم كلمة (غنا) بالألف فهي - فيما يقول - مقصورة ترسم بالياء، وممدودة ترسم بالألف والهمزة، وهي هنا مقصورة بدليل كسر أولها، فيجب أن ترسم بالياء، ولكن لهذه الكلمة في عبارة الجاحظ اعتباراً آخر، فهي ليست مقصورة فقط، ولكنهما مقصورة منونة، أثبت التنوين في آخرها كما أثبت الكسر في أولها، وهذا هو موضعها (ص 18 س 9): (والإفراط في جر المنفعة غِناً لمن أفرطت في نفعه عنك) وقياس أبي عثمان المازني أن مثل هذا يرسم بالألف. فإذا علمنا أن من علماء الرسم من يرى أن يكتب الباب كله بالألف على الأصل كان في هذا ما يعضد رأي المازني في المنون
وإذا كان الخلاف في مثل هذا يستحق التأمل والوقوف عنده، فالخلاف في كلمة (السوء) في(558/26)
قوله الجاحظ (ص 30 س 4): (فتحرز من دخلاء السوء ومجالسة أهل الريب) أهي بالضم أم بالفتح خلاف لا جدي له، فرد الكلمتين في المعنى واللفظ واحد، وإحداهما اسم والأخرى مصدر، وما يذكر بينهما من فروق ليس هنالك. وقد قرء بهما في كثير من آيات القرآن الكريم، كآية التوبة: (عليهم دائرة السوء)، وآية الفتح: (الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء) إلى غير ذلك من الآيات
وبعد، فإن شكرنا للأستاذ الناقد لا ينقضي لهذا التوجه الكريم إلى (مجموع رسائل الجاحظ) ولما جاء في مقاله من نقد عبقري بصير، كما في كلمة (المذاييع البذر) (45: 1)، ولما نبه عليه من أخطاء مطبعية، كلمة (مصارع) (63: 7) وكلمة (السرف) (64: 1)، وكلمة (يذب) (103: 7) وإنا لنأسف أشد الأسف لوقوع مثل هذه الأخطاء على شد حرصنا أن يخلو هذا المجموع منها
ولكن أشد هذه الأخطاء التي نأسف لها أسفاً يعتلج في القلب ورود هذه الكلمة (نسيسنا) (117: 14) على هذه الصورة الممسوخة، في أبيات مشهورة. رويت في أمهات كتب الأدب العربي لحماسة أبي تمام وذيل الأمالي لأبي على والأغاني وقد ظن الأستاذ الناقد أنها مصحفة عن (نفيسا)، وهذا ولا ريب تصحيح طيب، ولكنه مرتجل. وصواب الكلمة عندنا (قشيبا)، كما جاءت في رواية أبي على القالي:
وإذا اكتسى ثوباً قشيباً لم أقل ... يا ليت أن على فضل ردائي
وبعد، فهذه كلمات نرجو أن نكون قد أنصفنا بها أنفسنا وأنصفنا بها الحقيقة، وأنصفنا فيها أستاذنا الناقد الجليل والسلام عليه ورحمته وبركاته.
محمد طه الحاجري(558/27)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
528 - فهذا تمام الكتخدانية
في (تاريخ الطبري): قام الدهقان (في المهرجان في بلخ سنة 120) خطيباً فقال: أصلح الله الأمير (يخاطب عامل خراسان أسد بن عبد الله القسري): إنا معشر العجم أكلنا الدنيا أربع مائة سنة، أكلناها بالحلم والعقل والوقار، ليس فينا كتاب ناطق، ولا نبي مرسل. وكانت الرجال عندنا ثلاثة: ميمون النقيبة أينما توجه فتح الله على يديه، والذي يليه رجل تمت مروءته في بيته، ورجل رحب صدره، وبسط يده فرجي. وإن الله جعل صفات هؤلاء الثلاثة فيك أيها الأمير، وما نعلم أحداً هو أتم كتخدانية منك. إنك ضبطت أهل بيتك وحشمك ومواليك. فليس منهم أحد يستطيع أن يتعدى على صغير، ولا كبير، ولا غني ولا فقير، فهذا تمام الكتخدانية ثم بنيت الإيوانات في المفاوز فيجئ الجائي من المشرق والآخر من المغرب فلا يجدان عيباً إلا أن يقولا: سبحان الله! ما أحسن ما بنى! ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في مائة ألف فهزمته وفللته. وأما رحب صدرك وبسط يدك، فإنا ما ندري أي المالين أقر لعينك: أمال قدم عليك، أم مال خرج من عندك؟ بل أنت بما خرج أقر عينا. فضحك أسد وقال: أنت خير دهاقين خراسان، وناوله تفاحة كانت في يده
529 - سبب ذلك التباين تفاضل القرائح
في (الوساطة) للجرجاني: قدم مكة أيام مقامي بها شيخ بدوي من بني عامر بن ربيعه يدعى مُطرِّف بن سفيان فأنشدنا قصيدة مدح بها جعفر بن محمد الحسني، وجدتها متنافرة الأبيات بين عين نادر، ومتوسط متقارب، وضعيف ساقط، فكنت كالمتعجب لما أراه من اضطرابها وظهور تفاوتها. وامتحنت الشيخ فوجدت شعره إلى الضعف ما هو. فبينما نحن كذلك إذ أتانا بعض أصحابنا فسألناه عن العامري فأثبته معرفة، وذكر أنه حضر الحي وقت تأهبه للوفادة فرآه في نادي القوم وقد جمع فتيان الحلة فقال: إن شيخكم يريد امتداح هذا الشريف بمكة فزودوه، فزوده كل منهم البيتين والثلاثة، ثم نظمها قصيدة، وإذا سبب ذلك التباين تفاضل القرائح واختلاف الأفكار والهواجس(558/28)
530 - العامة
قال ابن الجوزي: مر بعضهم بقوم على رجل يضربونه، فقال لرجل يجيد ضربه: ما حال هذا؟
فقال: والله ما أدري ما حاله، ولكني رأيتهم يضربونه فضربته معهم لله وكلباً للثواب. . .
531 - بيت بثلاث قصائد مختارة
قال عبد الله بن محمد بن جرير: أنشدت أبا تمام قصيدة على ابن جبلة البائية فلما بلغت إلى قوله:
وردَّ البيض والبيض ... إلى الأغماد والحجب
اهتز أبو تمام من فرقه إلى قدمه ثم قال: أحسن والله! لوددت أن لي هذا البيت بثلاث قصائد من شعري يتخيرها وينتحلها مكانه
532 - علم وألمعية
في (الأغاني): قال ابن المعتز: حدثني محمد بن موسى قال: اصطبح المأمون يوماً ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة المغنين وعريب معه على مصلاه. فأومأ إليها بقبلة، فاندفعت تغني ابتداء:
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
تريد بغنائها جواب محمد بأن تقول له: (طعنة) فقال لها المأمون: أمسكي، ثم أقبل على الندماء فقال: من فيكم أومأ إلى عريب بقبلة؟ والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه. فقام محمد فقال: (أنا يا أمير المؤمنين) أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى. فقال: قد عفوت. فقال: كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك؟ قال: ابتدأت صوتاً وهي لا تغني ابتداء إلا لمعنى، فعلمت أنها لم تبتدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ به إليها، ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة، فعلمت أنها أجابت بطعنة(558/29)
الكتب
بعض رواد الأقصوصة المصرية
1 - أقاصيص من القهوة
2 - شعاب قلب
للأستاذ دريني خشبة
سعدت هذا الشهر بهديتين من أمتع الهدايا التي أوحت إلى موضوع هذا المقال، وهما مجموعتان من الأقاصيص، أولاها مصرية، والأخرى مصرية سورية، وصاحب المجموعة الأولى وأقاصيص من القهوة، هو شاب من خيرة شبابنا العصاميين، ليس أستاذاً في جامعة، ولا مدرساً في مدرسة، ولا محرراً في صحيفة. . . إنه شاب ممن آثروا الأعمال الحرة فنجحوا فيها لأنهم لم يستحيوا منها. . . إنه صاحب قهوة في مدينة دمنهور، إنه صديقي الأستاذ عبد المعطي المسيري الذي قدمه للقراء في الأمة العربية قاطبة الدكتور طه حسين، منذ عشر سنوات أو نحوها، بمناسبة كتيّبه القصصي الجميل (الظامئون)، الذي أهداه إلي في ذلك الحين، فكأن القطرة الأولى في كأس إخائنا المتين. والأستاذ المسيري قاص هادئ، يجري على فطرته، غير متأثر بأحد من كتاب القصة أو الأقصوصة في مصر أو في غيرها، وإن خيل إليه هو أنه صدى لهؤلاء القصاصين، وهذه إحدى النواحي الضعيفة فيه
كذلك من نواحي الضعف الشديد في الأستاذ المسيري أنه يبالغ في الاستخفاف بمنزلته في عالم القصص. فهو يتمنى أن تنشر له إحدى المجلات الممتازة شيئاً من هذه الأقاصيص التي ينشئها، ثم يطويها حتى يأذن الله فينشرها في إحدى مجموعاته. ولست أدري إن لم تنشر مجلاتنا هذا النوع الرفيع من القصص، فماذا عساها أن تنشر؟ أخشى أن يكون الأستاذ المسيري قد ترجم لنا عن مكنونات نفسه في تلك القصة الجميلة الثالثة التي أرسلها إلينا والتي طلبت فيها البطلة إلى البطل أن يكون أديباً ذائع الصيت ملحوظ المكانة في عالم الأدب، لأنها تمنى نفسها بأن تراه كذلك. وأخشى أن تكون القصة (عمتي) التي قلد فيها الأستاذ المازني هي تاريخ قصير لحياة المسيري نفسه. فالطفل الذي توفيت أمه ووكله أبوه(558/30)
إلى عمه الطفل لتنشئه على هذا التخويف المستمر بالعفاريت و (البعابع) لا بد أن ينشأ على استعظام كل شئ واسترهابه، وإن خيل إلى الأستاذ المسيري أن الوالد اللبق استطاع أن ينقذ ولده من عقابيل ما صنعته العمة المحترمة. . .
إن هذه الأخطاء اللغوية التي يعترف الأستاذ بورودها في مجموعته وذلك في المقدمة لا تنقص من قيمة أدبه وفنه مطلقاً، وإن كنت أبغض أشد البغض أن يتهاون أحد من الكتاب أو أن يغض من أمر اللغة. وبالرغم من ذلك، فأقاصيص من القهوة، هي من أمتع ما قرأت من مجموعات القصص المصري الحديث، وهي شئ يبشر بمستقبل باهر ونضج قريب للأقصوصة المصرية التي هي ظاهرة من أقوى ظاهرات الأدب وأحبها إلى القلوب؛ فأقصوصة (حلة العيد) و (الحاج بكار) ثم قصة (الحياة في القهوة) لا تقل عن أبدع ما أنشأه تشيكوف وأندرييف وجوركي من القصص القصيرة. وليس هذا كلاماً نلقيه على عواهنه، فلمن شاء أن يقرأها وأن يرى بعد ذلك رأيه فيما نقول. . . وسأذكر دائماً أن ميزة الأستاذ المسيري هي قدرته على تحديد هدف القصة، وخلق موضوعها خلقاً كاملاً طريفاً
أما المجموعة الثانية (شعاب قلب) فهي للأستاذ الصديق حبيب زحلاوي المعروف بسعة اطلاعه على طرف الأدب الغربي وقدرته على تميز جيده من رديئه. والأستاذ زحلاوي من أدبائنا العصاميين أيضاً، فهو - كالأستاذ المسيري ليس أستاذاً في جامعة، ولا مدرساً، ولا محرراً صحفياً. . . لكنه من الشباب الذين آثروا الأعمال الحرة، وهم مع ذاك من رجال الأدب. فإلمامهم بالحياة - مصدر الأدب الأول، ومعين المعرفة الذي لا ينضب، ونبع التجارب الذي لا يغيض، هو إلمام الأديب الفيلسوف الناقد الذي يستطيع أن يرد كل شئ إلى أسبابه وأن ينفذ إلى علل الأشياء فيجلوها ويبسطها تبسيطاً عجيباً. . . وشعاب قلب كما قدمنا مجموعة من الأقاصيص التي تشبه المرآة السحرية، تنظر فيها الحسناء السورية، فترى في المرآة حسناء مصرية. . . وقد يحدث العكس. وإذا صح أن نشكر رذيلة من رذائل الماضي، فنحن نشكر للعسف العثماني في أسود عصوره الخالية مطاردته للأدباء اللبنانيين والسوريين لتنال مصر نصيبها الأوفى منهم، فقد ولى معظمهم وجوههم شطر مصر، فأووا منها إلى ركن أمين. . . ولله حبيب إذ يقول: (طوتني مصر كما طوت الآلاف من الناس الذين وفدوا مثلي عليها، فأقلمتني بإقليمها، ونفخت في روحها، وألهمتني(558/31)
وحي بيئتها، فصيرتني كأحد أبنائها، أقوم بالواجب المفروض بمثل ما يقوم به كل مصري مخلص حر. ولما كنت أعود بذاكرتي صوب الشام، مسقط رأسي ومهد حداثتي، كنت أحس بالحرمان يمزقني ويكبت روحي، وأشعر بالواقع يسترضيني ويتودد إلى. . . حقاً لقد علمتني مصر أن أرى فيها وطني وأهلي، ولقد تعلمت منها كيف أبادلها جميلاً بجميل ووفاء بوفاء. لقد علمتني كيف أحبها وكيف أحافظ على حبي مسقط رأسي ومهد ذكرياتي، وكنت أصيح بسمعي دائماً إلى أنات قومي وأوجاعهم وأسعى جهدي إلى مزجها بأنات إخواني المصريين الموجعين!. .) هذه آيات الوفاء ينبض بها قلب مخلص وفي. . . ونحن والله نرد التحية بأحسن منها، ونشكر المقادير التي وحدت آلامنا وأمانينا حتى أثمرت هذا الثمر الجني. . .
ثم ما أجمل بعد هذا شعاب قلب! إنها أرواح صداحة تملأ الكون شعراً وجمالاً وموسيقاً، وإن غسلته بالدموع أحياناً. . . إنها صور وافرة تزدحم بها السطور ازدحاماً عجيباً، فهذه الفكرة تدفع في ظهر تلك، وتلك تأخذ بتلابيب التي بعدها. . . فهلا انتظمت جميعاً في قصيدة رائعة واحدة؟! إنها شعاب قلب حقاً. . . بل هي قطع من قلب معذب، ونفس حائرة، تجيد العناء والبكاء والضحك، كما تجيد النفاذ إلى قلوب المحبين ونفوس الموجعين ومهج الحزانى. . .
ولكن. . . وآه من لكن الملعونة هذه!
ما هذا اللغو يا صديقي الذي لغا به صاحبك في أقصوصة الآباء البيض! ومن زعم له أن لا فائدة من علوم الكهنوت للذين يتهيأون لأن يطلوا على أرجاء الحياة السحيقة من كوّات الدين، وأن علوم الدين على وجاهتها وقداستها تغل العقول وتضيق الأذهان وتبلد الرجولة في الإنسان؟. . .
وما هذه الأحلام المزعجة عن خيانات الأزواج والزوجات؟ وفيم كل ذلك العنف وكل تلك الألوان الصارخة. . . حيث كانت الألوان الرمادية، والألوان الصافية - الألترامارين! - ألطف وأحرى وأنسب؟ أما النادي الشرقي، فقضيته في مجموعتك البديعة لا تقام إلا فيه، لأن فيه قضاتك. وأما اللغة وأغلاطها الكثيرة التي نبهك إليها الأستاذ العقاد في المقدمة فهي سوءة لا تغتفر لك(558/32)
دريني خشبة
أبطال الإسلام: لمحمود نصير بك
في هذا الكتاب أربع وعشرون ترجمة لأربعة وعشرين بطلاً من أبطال الإسلام اختارهم المؤلف الفاضل ليعرضهم عرضاً تاريخياً؛ ليكون للأمة الإسلامية في كل بقعة من الأرض من سيرهم وروائع بطولتهم مثل تدفع الأبناء إلى التأسي بالآباء؛ وتحفزهم إلى العمل على استكمال عدتهم، لتتم لهم كرامة هذه الأمة العربية التي خرجت من ثنيات الوديان وكثبان الرمال ومضارب الصحراء، إلى الممالك العريقة ففتحتها ونشرت عليها راية الإسلام، وبثت فيها تعاليم القرآن.
وهذا المقصد الكريم هو الذي دعا محمود بك نصير في سنة 1924 إلى نشر تلك التراجم تباعاً في جريدة اللواء المصري؛ وهو الذي دعاه في سنة 1944 إلى جمع تلك التراجم في كتاب واحد، حتى يكون الرجوع إليها سهلاً؛ والاستئناس بها ميسوراً
لقد عبت في كلمة سابقة من (الرسالة) وفي هذا الموضع بعينه على من يجدون في رجال الغرب وفي معارك الغرب مجالاً لأقلامهم وميداناً لكتابتهم؛ فعندنا في تاريخ الإسلام والعرب من تفخر بهم البطولة، وتعتز بهم الرجولة، وتزهى بهم المواقف، وتتباهى بهم المعارك. وفي (القادسية) (واليرموك) (وذات الصواري) وفي (عمر) (وسعد بن أبي وقاص) (وخالد ين الوليد) (والنعمان بن مقرن) شواهد من الخبر
ولقد أنصف صديقنا محمود بك نصير حين أنصت لدواعي دينه، ودوافع إيمانه، فأرضى ربه وقومه وإسلامه بهذا الكتاب الكريم
محمد عبد العني حسن(558/33)
البريد الأدبي
2 الشعر الجديد
لم يذهب عني، إذ كتبت مقالي السابق، أن التجدد من سنن الكون
النافذة، وأنه من طبائعه الدائبة، وأنه سار في كل شئ، حتى المعاني
التي في النفوس، والفكر التي في العقول، بل هو قوام الحياة وسر
البقاء
لقد رأينا الشعر العربي يتجدد منذ القدم ويتطور، ويتغير ويتحول، ويساير مختلف البيئات، ويتابع متعاقب العصور
فهل عبر الأعراب الأولون عن أغراضهم وميولهم كما كان يعبر سلائلهم من بعدهم؟ وهل تصرف شعراؤهم الأقدمون في فنون القول كما كان يتصرف محدثوهم؟
ألا ترى إلى الشعر قبيل الإسلام كيف صفت ديباجته، وندر فيه الحوشى من اللفظ، والمتعقد من التركيب، والنافر من المعنى؟
إن العرب إذ ذاك كانوا قد خالطوا من جاورهم من الأمم المتمدينة، بالتجارة والرحلة؛ فاستعاروا منهم كثيراً من الألفاظ والمعاني، فتطعم لسانهم شيئاً جديداً، وتذوق فنوناً طريفة، امتزجت كلها، فخرجت ألواناً عذبة، وطعوماً سائغة
ثم كان الإسلام، فقلب أوضاع الحياة العربية، وكانت متهيئة لهذا الانقلاب، كما هو شأن الحوادث الجسام في التاريخ لا تولد فجاءة؛ وإنما تعمل أسبابها في الخفاء، فتمهد للفورة.
وكان القرآن الكريم، فاجتمع هذان العاملان على أن يجددا تجديداً لم يعهد من قبل - في لغة الحديث وفي الخطابة وفي الشعر
وكلنا يعرف ماذا كانت أغراض الشعر الجاهلي؛ وكلنا يعرف أيضاً كيف عاد كثير منه في صدر الإسلام أسلحة سياسية ذات مضاء
وكذلك كانت حال الشعر - أو أبرز أحواله - في الدولة الأموية أو في معظمها
ثم تعاقبت العصور بعد ذلك وتتابعت الأحداث في البلاد الخاضعة للإسلام. وكان الشعر في خلال تلك الحقب يزدهر تارة ويذبل تارة. وربما أشرق في ناحية وخبا في أخرى في وقت(558/34)
معاً، متأثراً في ذلك رقى البيئة أو انحطاطها، وقيام العدل أو فشو الظلم، واضمحلال الدولة أو عنفوانها
من هذه المثل الوجيزة - التي ما ادعينا أن ندلي فيها بعلم أو رأي جديد - نرى أن الشعر من حيث أنه كائن خاضع لمؤثرات شتى، في تجدد مستمر وتقلب وتحول. فلكل بيئة لونها ونتاجها لا شك في ذلك. والبيئة - كما يقول علماء التربية - تشمل كل مؤثر أيا كانت طبيعته
فهكذا يجب أن يفهم - في لغة الأدب - معنى التجدد، لا كما يوهمنا هؤلاء الأدعياء الذين أشرت إليهم في مقالتي السابقة، أولئك الذين سنحاول فيما يلي من حديثنا تصوير مذهبهم في القول، وإن كنا قد أخذنا على أنفسنا ألا يتخلل كلامنا ما يتم على أشخاصهم بلفظ أو إشارة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا
لقد تكون هذه المحاولة شاقة جداً، لالتواء طرقهم، واعتياص أساليبهم، وتستّرهم في تجديدهم وراء القعقعة والزخرف والترقيش
ولكنا سنحاول إن شاء الله.
(أ. ع)
من الفلك القديم
ساق إلىّ الأستاذ إبراهيم السعيد عجلان في الرسالة عدد 554 بعض أسئلة تتعلق باصطلاحات فلكية وردت في مقدمة ابن خلدون واستعملها العرب القدماء في مؤلفاتهم
وقبل الإجابة ألفت النظر إلى أن ابن خلدون لم يكن عالماً فلكياً ولا من الذين اشتغلوا بالرصد. وما جاء في مقدمته من معلومات وآراء في الفلك قد اقتبسه من فلكي زمانه أو من الذين سبقوه من عرب ويونان، ولم يكن من وضعه أو نتيجة لدرسه وبحثه.
وحين نعرض لآراء التي سأل عنها الأستاذ إبراهيم إنما نعرض للآراء التي كانت معروفة شائعة عند فلاسفة اليونان والعرب ومفكريهم في القرون المتوسطة وما قبلها
كان القدماء يعتقدون أن الأرض كرة قائمة في الفضاء على لا شئ، وإنها مركز الكون تحيط بها الشمس والقمر والكواكب والنجوم دائرة دورة كاملة كل يوم من الشرق إلى(558/35)
الغرب جاثمة من فوقها نهاراً ومن تحتها ليلاً
ولكل من الشمس والقمر والكواكب والنجوم فلك حول الأرض أي طريق دائري يسير عليه. وهذه كلها تدور حول (الأرض) في أفلاك؛ فالقمر - وهو أقرب الأجرام إلى الأرض - يدور حول الأرض في فلك هو أقرب الأفلاك. وفوق فلك القمر فلك عطارد، ثم فلك الزهرة، ثم فلك الشمس، ثم فلك المريخ، ثم فلك المشتري، ثم فلك زحل، ثم فلك النجوم
هذا ما كان يقول به بطليموس وغيره من علماء اليونان. وقد أخذ كثيرون من علماء العرب ومن قبلهم الرومان بهذا الرأي واعتمدوا عليه. ومن هنا يتبين أن المقصود من الفلك الأعلى هو فلك النجوم الثوابت وهو يسير من الشرق إلى الغرب وتتبعه في ذلك سائر الأفلاك التي تحته أو التي في جوفه
ومع أن كلا من الكواكب السيارة وغير السيارة خاضع لسير آخر خاص به لا محل لتفصيله؛ فإنها على الرغم من ذلك تتحرك حول الأرض من الشرق إلى الغرب. وهنا يتجلى السبب في استعمال (قهراً) أو (قسراُ) كما وردت في بعض الكتب الفلكية القديمة
ولقد عانى العرب ومن قبلهم علماء اليونان كثيراً في تعليل بعض الحركات وفي تفسير بعض الظواهر الطبيعية على أساس ما أخذوا به واعتمدوا عليه في جعل الأرض مركز الكون. وعجبنا كما عجب غيرنا كيف أن بطليموس وأضرابه من حكماء اليونان والرومان وفلكي العرب والإسلام وفيهم البوزجاني والبتاني والبيروني والصوفي والطوسي وغيرهم - وهم من ذوي الأدمغة الكبيرة - نقول كيف أن هؤلاء تمسكوا بهذا الرأي وكيف أن أفق تفكيرهم لم يصل إلى استجلاء حقيقته وكشف الخطأ فيه، وأن عقولهم الجبارة لم تستطع أن تقودهم إلى معرفة حقيقة مكان الأرض من الكون
والواقع المقطوع به الآن أن الأرض جرم من الأجرام السماوية يدور حول الشمس ويخضع للنواميس والأنظمة التي تخضع لها موجودات هذا الكون، وأنها (أي الأرض) سيار كبقية السيارات لا أكثر!
(نابلس)
قدوري حافظ طوقان(558/36)
العدد 559 - بتاريخ: 20 - 03 - 1944(/)
بين التخطئة والتصويب
للأستاذ عباس محمود العقاد
نبهني فاضل من علماء الأدب والتاريخ عندنا إلى كلمة (الأموية) نسبة إلى الأم في كتاب (الصديقة بنت الصديق) وقال لي إن النسبة إلى أم (أمي) على حسب القياس، فهل عدلت عنها لعلة؟
وكان تنبيهه هذا تنبيه العالم الذي لا يقطع بالقول قبل أن يسمع مختلف الأقوال، فكان منبهاً ومصححاً ومستفهماً في انتظار البيان والجواب في وقت واحد.
والواقع أن (الأمي) نسبة إلى (الأم) هي القياس الشائع الذي لا خلاف فيه، ولكن الأموي ليست بخطأ ولا هي بخلاف يأتي به مجرد الإغراب وفضول القول، لأن الحاجة ماسة إلى التفرقة بين معنى الأمي الذي شاع على الألسنة والأقلام للدلالة على الجاهل بالقراءة والكتابة، ومعنى الأمي الذي يدل على عواطف الأمومة والنسبة إلى أحد الأبوين
ولا خطأ في ذلك من جانب اللغة والقواعد النحوية، لأن (الأم) أصلها أمه وأمهة، وليس هذا الأصل مأخوذاً من تقديرات النحاة والصرفيين التي لا دليل عليها من المتواتر المنقول، ولكنه مأخوذ من اللغة المستعملة في الخطاب والشعر من كلام المذكورين قبيل الإسلام، ومن ذلك قول قصي ابن كلاب بن مرة جد النبي عليه السلام:
إني لدى الحرب رخي اللّبب ... معتزم الصولة عالي النسب
أمّهتي خندف والياس أبي
فإذا قلبت الهاء واواً كما تقلب في سنه وسنوى وشفه وشفوى وعضه وعضوي، فليس في ذلك خلاف للمأثور ولا للمنصوص عليه، وفيه تيسير للتفرقة بين المعنى المقصود بالأمي والمعنى المقصود بالأموي على الاعتبار الذي قدمناه
يذكرني مجال التخطئة والتصويب في اللغة بقول بعض الحكماء: (إن قليلاً من البحث يؤدي إلى الإلحاد، ولكن الكثير من البحث يرد الملحد إلى الله)
فهذا الكلام بعينه يمكن أن يقال عن التخطئة في اللغة والأخلاق والتفكير وعن كل تخطئة تحتمل الوجوه المتعددة من الآراء، لأن التخطئة سهلة ولكن الدلالة على مراجع الصواب هي التي تشق على الأكثرين، وكذلك يسهل إيجاد الذنب على من شاء ولا يسهل إيجاد(559/1)
العذر إلا على من خبر الدنيا وسبر الأخلاق وعرف طاقة النفوس وأغوار الطبائع والأخلاق
هذه حقيقة لا يحتاج العالم إلى التذكير بها لأنه يذكرها أبداً ولا يزال شعاره بين شبهات الخطأ والصواب: (وفوق كل ذي علم عليم)
ولكن الذين يحتاجون إلى التذكير بها هم أولئك الأدعياء الذين يقحمون أنفسهم فيما ليس لهم، ويخوضون عباب التخطئة والتصويب وليس عندهم من الزاد إلا محصول الفهارس والعناوين وجزازات اللمامين والجماعين
ومن هؤلاء دعي المقتطف الذي يجترئ على التخطئة في لغة العرب، وهو يقرأ ما أمامه بهذه اللغة فلا يفهمه ولا يخلص منه إلى ظاهر معناه، فضلاً عن باطنه الذي تتجه فيه الأذهان كل اتجاه
فهذا الدعي ينكر أن نقول: (آداب العرب النسائية) لأنه قرأ أن سيبويه نبه على أن النسبة إلى نساء نسوي. . . ويفوته أن سيبويه يتحدث بمذهب البصريين وحده، كما يفوته أن يرجع إلى بنية الفظ وإلى قواعد اللغة، فإن حكم نساء هو حكم نسوة ونسوان بغير اختلاف أياً كان القول في نساء سواء أصح أنها للكثرة أم صح أنها جمع نسوة إذا كثرن، وكلاهما لا يغير الحكم النحوي أقل تغيير
فمن الخطأ (أولاً) أن يقال أن نساء لا تستعمل إلا للكثرة لان القرآن الكريم يقول: (يا نساء النبي) وهن تسع ولا نزاع في أن القرآن مرجع لغوي يؤخذ به قبل كل كتاب وقد جاء في شعر الربيع بن زياد:
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه ... بالصبح قبل تبلج الأسحار
فالنساء بمعنى النسوة في الكثرة أو القلة، تحل إحدى الكلمتين محل الأخرى وتعطي حكمها بلا اختلاف
على إننا نفرض بعد هذا أن النساء لا تقال إلا للكثرة وهو فرض بعيد، فما دخل الكثرة في الحكم النحوي بالغاً ما بلغ الفرق بين عدد النساء القليلات أو النساء الكثيرات
بل نحن نذهب في الفرض وراء ذلك فنقول أن نسوة جمع امرأة من غير نوع الكلمة، وأن(559/2)
نساء هي جمع نسوة، فلماذا تمتنع النسبة إلى الجمع وهي جائزة في مثل هذا المعنى
ألا يقال الأنصاري والأعرابي إذا أنزل الجمع منزلة القبيلة الواحدة؟ ألا يقال النسائي إذا أنزل الجمع هنا منزلة الجنس الواحد، ولم يكن المقصود به نسوة محدودات؟
إنما أتى صاحبنا هنا من علم الفهارس الذي يتخطف أوائل الكلام ولا يتعداه إلى مواضع التوسع والإفاضة
وإذا كان الفهرس قد دله على تنبيه سيبويه ولم يدله على شئ آخر فالذنب على الفهرس المسكين لا عليه
كذلك قلنا في كتاب (الصديقة بيت الصديق) أن الاختلاف يتراوح بين السنة الرابعة والسنة السادسة، فرجع صاحبنا إلى الجزازات فوجد أن (الإمام اليازجي) يقول إن التراوح غير هذا ويتابعه على قوله بعض الباحثين الفضلاء
لكن المراوحة بين العملين في جميع معجمات اللغة هي (أن يعمل الرجل هذا مرة وهذا مرة)، أو يقول هذا مرة وهذا مرة، والمراوحة بين الرجلين هي أن يقوم على كلٍ مرة، وبين الجنبين هي أن يتقلب من جنب إلى جنب
فإذا قلنا على هذا أن الاختلاف يتراوح بين السنة الرابعة وبين السنة السادسة فذلك صحيح ما دام الاختلاف هنا هو الفاعل الذي يقول مرة بسنة من السنين ومرة بسنة أخرى، فهو يتراوح بين القولين تارة إلى هذا وتارة إلى ذاك
ويكون صاحبنا إذن قد عرف الجزازات والفهارس ولم يفهم معنى اليازجي ولا معاني المفرقين بين المراوحة والترجح، لأن الترجح انتقال دائم، أما المراوحة فهي ثبوت في حالة من الحالات ثم ثبوت في حالة أخرى، وهذا هو المقصود بما ذكرناه
ولكن هذا الكلام إنما يفهم بدماغ، ومن أين للفهارس والجزازات دماغ؟
وأعجب من هذه التخطئة وما شابهها في اللغة تخطئة في الجمع والطرح يحسبها ذلك الدعي من علم الجامعات، وهي لا تعدو علوم المدارس الإلزامية وكتاتيب القرى، إذا كان قصاراها أن (14 + 2=16) كما أراد أن يقول بعد مجهود في الإحصاء والتعديد
فنحن حين عرضنا لسن السيدة عائشة رضى الله عنها عند بناء النبي بها لم نقل إننا حصرنا سنها بشهادة الميلاد، ولا كان يعنينا أن نحصرها بتلك الشهادة أو بغيرها(559/3)
وإنما عنانا أن نبطل قول القادحين في النبي أنه عليه السلام بنى ببنت صغيرة لا تصلح للزواج، وقد أبطلنا ذلك بالأدلة التي لا نكررها هنا لأننا في غنى عن هذا التكرير
فإذا جاز مثلاً أن تكون سنها ست عشرة سنة في أيام غزوة بني المصطلق ولم يكن ذلك قولاً قاطعاً لا تردد فيه فسبب ذلك أن عزوة بني المصطلق يتراوح القول فيها بين السنة الرابعة والسنة السادسة، ولا ضرورة لتكرير الشك في عدد السنين كلما عرضت لنا مناسبة لاختلاف التواريخ
إنما هذا هو علم الفهارس والجزازات الذي لا يعنينا ولا نلتفت إليه، ونحن لم يفتنا تحقيقه لأن جمع (2 + 14) عسير علينا أو على جامع أو طارح في أصغر المدارس الإلزامية، ولكننا تركناه للتقدير والترجيح إذ كان القطع فيه غير مستطاع، وإذ كان تكرير الاحتمالات كل مرة عبثاً لا يدعونا إليه داع
وبحسبنا أن نعلم أن عائشة خطبت قبل خطبتها للنبي، وأن الذي خطبت له كان المشركين - بحسبنا أن نعلم هذا لنعلم أنها خطبت قبل الدعوة الإسلامية وأن أبا بكر لن يزوج بنته بعد الدعوة الإسلامية لرجل يكفر بدينة، وهو البرهان الراجح على أنها حين خطبت لمحمد عليه السلام وبني بها بعد الخطبة بسنوات قد كانت في سن صالحة للزواج
تلك هي الحقيقة التاريخية التي تحتاج إلى بحث وتنقيب وموازنة للوقائع والتواريخ. أما (14 + 2=16) فهي كما أسلفنا من حقائق الكتاتيب الإلزامية لا من حقائق السوربون ولا من حقائق المدارس التي تجاوزت أوائل دروس الهجاء والحساب
على أن التخطئة في المنطق أصعب من التخطئة في اللغة والحساب، ولهذا كان فهم هذا الدعي وأمثاله لطريقتنا في الاستدلال فهماً يشوبه العي والغباء، كما يشوبه سوء الذوق وسوء التعبير
فنحن لم نقل إن الخطأ بعيد عن السيدة عائشة لأنها مؤمنة بالله ونبيه، فهذا دليل رخيص لا نتنزل إليه ولا ندين أحداً به ولو كان من المسلمين. وما قال أحد أن المؤمن معصوم من الخطأ وقد طال البحث بين أناس في عصمة الأنبياء
كلا. نحن لا نعتمد يوماً من الأيام على دليل يقبله المسلم ويرفضه غير المسلم، ولا على دليل يأخذه من يشاء ويرفضه من يشاء، ولو أجزنا ذلك لأنفسنا لأثبتنا آيات القرآن الكريم(559/4)
في تبرئة السيدة عائشة ووقفنا عندها مكتفين بها أو متوسعين في شرحها، ولكننا كما يعلم قراء كتابنا قد أشرنا إلى تلك الآيات حين أشارت إليها السيدة عائشة ولم نزد على الإشارة بقليل ولا كثير
إنما دليلنا على براءة السيدة عائشة أنها إن كانت قد أخطأت - وبرأها القرآن - استحال عليها أن تؤمن بالكتاب وأن تصدق بأنه وحي من عند الله، وأيسر شئ عليها إذن أن تخترع الأحاديث على النبي عند مسيس الحاجة إلى الاختراع، وأي حاجة إلى الاختراع أمس من لجاج الخصومة بينها وبين على أو بينها وبين عثمان، بل أي حاجة إلى الاختراع أمس من تشيعها لطلحة أو الزبير ورغبتها في تقديم المسلمين إياهما وهي قادرة على تعزيز ذلك بكلام تعزوه إلى زوجها العظيم ويصدقه الأصدقاء والخصوم!
فإيمانها بالقرآن وبالأحاديث النبوية وتقديسها لحرمة تلك الأحاديث هو الدليل القاطع على براءتها من التهمة التي افتريت عليها. إذ هي لو كانت قد أخطأت وبرأها القرآن لكان إيمانها بالقرآن والأحاديث من المستحيلات، واستحالة الإيمان هنا حقيقة مقررة يقبلها عقل المسلم، ويقبلها عقل المسيحي، ويقبلها عقل الملحد الذي لا يدين بدين
ومن ثم يخطئ الأستاذ المسلم - الشيخ محمد يوسف موسى - إذ يقول: (إنه استدلال أن صدقه من يرى لأم المؤمنين النزاهة والجلالة من أجل دينه فحسب فقد لا يصدق به من لم يكن كذلك)
لأن التصديق هنا قضية عقلية لا فكاك منها. . . هل يقوم الدليل القاطع عند عائشة على أن القرآن برأها من ذنب جاءت به ثم تظل على إيمانها بالقرآن؟
الجواب هنا من المسلمين وغير المسلمين: كلا. بل هو مستحيل، وهذا هو الذي قصدنا إليه
وعلى ذكر الأستاذ المسلم - الشيخ محمد يوسف موسى - نرى من الواجب أن نعقب على كلامه ببعض التعليق المفيد
فهو يقول في كلمته (إني لم أتشرف بعد بصداقة الأستاذين، ولكني أعرف لكل منها حقه من التقدير)
فإن فهم أحد من هذه الكلمة أن الشيخ محمد يوسف لا يعرفنا ولا علاقة له بنا فذلك فهم يحتاج إلى تصحيح(559/5)
وتصحيحه أن الشيخ قد عرفنا ولقينا وأهدى إلينا كتاباً في تاريخ الأخلاق وسألنا أن نكتب عنه وعاد إلى هذا الرجاء بوساطة من أصدقائنا، فاعتذرنا إليه آسفين لأن وقت القراءة عندنا محدود في هذه الأيام
ولا شك أن هذا التصحيح تعقيب مفيد على ما قال أو على ما يفهمه من كلامه بعض القارئين.
عباس محمود العقاد(559/6)
فلسطين. . .!
للأستاذ عمر الدسوقي
جهاد مجيد
لبيك يا فلسطين لبيك!
إن ما سطرته في سفر الجهاد والبطولة، وما ضربته من المثل الرائعة الجليلة، منذ حلت بك المحنة، ووفد عليك البلاء كان شآبيب الرحمة والغفران على أجداث آبائك الصيد الذين شادوا الدولة العربية قديماً؛ وسيظل رمزاً نبيلاً لأبناء العروبة يثير حميتهم إذا ونت، وبشحذ عزائمهم إذا فترت. فقد أبيت الضيم في شمم وكبرياء، ونهضت تذودين عن الحق المهضوم بقلب باسل ذمر يعاف الجنف والاستخذاء، وكلما ظن الدخيل أنها جذوة نار عما قريب تخمد زادتها حرارة إيمانك ضراماً فبذلت النفوس بذل السماح، فمن مات كان للوطن ضحية وقرباناً، ومن عاش كان للشرف نموذجاً وعنواناً. لقد هزم صبرك المال وسطوته، وقهر إيمانك الجيش وعدته. وقفت وحدك ردحاً من الزمن تذودين عن الحمى، وتصونين العربية، حتى عرف أبناء التاميز صدق جهادك وفقهوا كنه قضيتك، فأصدروا كتابهم الأبيض، وبه إقرار لبعض حقك على أن يكون لبنيك الغلبة في ديارهم، حكومة وعدداً، وأن تقف الهجرة الصهيونية في عامنا هذا
ثم انفجر مسعر الحرب ولف أوارها العالم في ريظته، وأبينا إلا أن نقف مع خصومنا بالأمس موقفاً يمثل نفسيتنا العربية الكريمة فبسطنا لهم أكف الصداقة في إخلاص لا تشوبه مداجاة أو رياء؛ لعلمنا أنهم يدافعون عن الحريات المسلوبة، ويقفون في وجه الجبروت والبغي، وعنجهية العنصر، والسيطرة الفردية؛ بل وبذلنا في سبيل نصرتهم كل ما قدرنا عليه، لم ندخر وسعاً، ونأل جهداً، ولم نكن يوماً على ذلك بآسفين.
دعوى اليهود
وإن تعجب فعجب لقوم يريدون أن يغتصبوا دياراً يعمرها أهلها منذ أربعة عشر قرناً بدعوى أنهم كانوا يقيمون بها قبل أن نضرب عليهم الذلة والمسكنة ويشردوا في الآفاق؛ مع أن دولتهم بها لم تزد عن قرنين!(559/7)
وما ذنب العرب في أن اليهود لا يجدون لهم وطناً يأوون إليه؟ ولماذا تحل قضيتهم على حساب العرب وهم آمنون وادعون في ديارهم التي نزحوا إليها في الجاهلية، وفتحها أسلافهم بحد السيف وطردوا منها الرومان في الإسلام؟
إن الذنب في الواقع ذنب اليهود فهم لم يندمجوا يوماً ما في الشعوب التي نزحوا إلى ديارها، ولم يشاركوهم في السراء والضراء، بل ظلوا بمنأى عن ميادين الجهاد والتضحية، وجل همهم ادخار الثروات والنفوذ؛ وهذا ما بغضهم إلى كثير من الأمم فاضطهدوا في حقب التاريخ المتتابعة. ولو أخلصوا لأوطانهم التي أقاموا بها واتخذوا اليهودية شعاراً دينياً فحسب ما أساء إليهم أحد
سألت كثيراً من اليهود بإنجلترا: هل يفضلون الهجرة لفلسطين على أن يسلبوا الجنسية الإنجليزية أو يؤثرون حالتهم الراهنة؟ فكان جوابهم جميعاً: إنهم لا يرضون بغير إنجلترا بديلاً. فإذا سألتهم: لماذا إذا تعاضدون فكرة الوطن القومي؟ أجابوا: (حتى إذا أسئ لنا هنا وجدنا بلداً نأوي إليه)، فإذا جادلتهم: إما أن تكونوا إنجليز وإما أن تكونوا يهوداً؛ لأن الإنجليزي إذا أسئ إليه في بلده لا يتنصل من جنسيته ولا يرحل عنها، أرتج عليهم ولم يجدوا جواباً
إن دعوى اليهود في فلسطين لا يبررها التاريخ، ولا يؤيدها الواقع ولا يناصرها العدل؛ وأولى لهم - إذا كانوا حقاً ينفرون من الاضطهاد أن يكونوا مواطنين أوفياء للشعوب التي آثروا الإقامة بينها، يبذلون من أموالهم وأنفسهم وذكائهم وتجاربهم في سبيل رفاهيتها وسعادتها، ولا يبتغون من وراء ذلك مادة أو جاها شأن الوطنيين المضحين المخلصين، وحينذاك لا يجدون من يجرؤ على قذفهم بالخيانة والجشع، أو من يحاول التحريض عليهم وإرهابهم
وإن لم يكن في قدرتهم التغلب على طبيعتهم التي زادتها القرون تمكناً والضرب في الآفاق إرهافاً، فالأجدر بهم أن يبحثوا عن بقعة أخرى من الأرض تضم شتاتهم، وهم نيف وستة عشر مليوناً في أرجاء المعمورة المتباينة. ولعل هؤلاء الذين يعطفون عليهم ويؤيدون طلبتهم في إنشاء وطن قومي، وفي طليعتهم (المرشال سمطس)، وبعض شيوخ الولايات المتحدة يكونون صادقين في حدبهم عليهم ورفقهم بهم فيقطعونهم منفسحاً من الأرض في(559/8)
الدنيا الجديدة أو جنوب أفريقيا، ويتركون فلسطين الصغيرة الوادعة الغاصة بأهلها الذين لا يريدون التخلي عنها أو يفنوا عن آخرهم
على أن فلسطين لن تحل المشكلة اليهودية فهي أضيق من أن تتسع لهم جميعاً مهما بالغوا في مقدرة المدن الصناعية على استيعاب السكان. وأين يذهب العرب؟ ولم يتركون أوطانهم وبيوتهم لغيرهم؟ ولم يصيرون أقلية مستضعفة في ظل دولة يهودية غريبة معتدية لها الأكثرية والحكم بعد أن كانوا هم أهل البلاد وأصحاب ثروتها منذ الفتح الإسلامي؟
ثم إن هذه الدولة الصناعية ليست خطراً على فلسطين فحسب ولكنها ستكون نكبة على الشرق العربي كله؛ لما لليهود في العالم من رءوس أموال ضخمة وخبرة فنية وصناعية واسعة ستجعل من الشرق العربي سوقاً لسلعهم، وتميت فيه الصناعات الناشئة، ولن يكون أهله إلا أجراء أو مستهلكين، والثمرة والمال لليهود المستغلين
ومن حجج اليهود الواهية المتداعية التي يخدعون بها بعض الساسة في أوربا ادعاؤهم إنعاش فلسطين اقتصادياً منذ ابتدءوا ينزحون إليها، وأن أجور العمال من العرب قد ارتفعت، ومستوى الحياة قد ارتقى، وكثيراً من الأرض اليباب القحلة قد أصلح، وكانت فلسطين قبلهم معدمة تغص بالمستنقعات ويعاني أهلها الجهل والفقر والغبن
على أن هذه الحجة غير صحيحة؛ فلم يفد العرب شيئاً من أموال اليهود ونشاطهم وهم دوماً يؤثرون العمال من بني جنسهم ويجعلون مدنهم ومستعمراتهم، ولا يتبادلون السلع مع العرب بل لا يشترون شيئاً منهم، واستولوا على كثير من الوديان الخصبة المزروعة، ولو كان ادعاؤهم هذا صحيحاً فالعرب يرفضون مدنيتهم ورفاهيتهم وأموالهم وصناعاتهم على أن تبقى لهم حريتهم الغالبة، ورحم الله عنترة حين قال:
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أكرم منزل
إن صلة اليهود بفلسطين صلة دينية فقط، وأما طمعهم في جعلها وطناً قومياً يضم دولة يهودية فيجب ألا يفكروا فيها، لأن فلسطين جزء من الوطن العربي الكبير، ووجود دولة غربية بجنسها ودينها ومشخصات قوميتها وسط هذا الوطن خطر كبير عليه، ومدعاة للشغب والاضطراب والفتن الدائمة؛ ولن يرضى العرب بذلك أبداً.(559/9)
ثم إن فلسطين عزيزة على العرب من مسلمين ومسيحيين، ولهم فيها ذكريات غاليات، وحرمات مقدسة، بل إن المسلمين جميعاً في كل صقع الأرض يقدسونها ويعظمونها، ولن تطيب لهم نفس أو يهدأ لهم بال إن غلب عليها اليهود
الوعي العربي
نحمدك اللهم على أن أفقنا أخيراً من سباتنا العميق، وأخذنا نتآلف ونتآزر، ونتشارك في السراء والضراء بعد أن فرقتنا أيدي المطامع بدداً، وبعد أن بحت أصوات المخلصين للوحدة العربية.
إننا نيف وخمسون مليوناً من الأنفس في بقاع متصلة من خير الأرض وأمرعها وأغناها وأحسنها موقعاً، تربطنا أواصر محكمة من اللغة والتاريخ والعادات والدم والدين والآمال والآلام؛ وإذا لم تكن هذه الأواصر كفيلة بتكوين أمة متحدة متماسكة اقتصادياً وعلمياً وحربياً وسياسياً، فلست أدري أي شئ يكوّن هذه الأمة!!
كانت قضية لبنان اختباراً لمبلغ الوعي القومي عند الشعوب العربية، والخروج من ميدان الكلام والإعداد إلى ميدان العمل والجهاد، بيد أن قضية لبنان لم تكن من التعقيد مثل قضية فلسطين. وهنا سيتجلى إخلاصنا للقضية العربية، ومبلغ صدقنا في الجهاد وثباتنا أمام الصعاب، وقدرتنا على تذليلها وتعبيدها. فإن وقفنا أمة واحدة تنطق بلسان واحد وكلمة واحدة لا تتغير، ولا تفتر لنا عزيمة، أو تلين لنا قناة فسننتصر ونخرج ظافرين من الاختبار بحول الله. وهي خطوة لها ما بعدها، إن نجحت كانت حجر الزاوية في بناء الصرح العربي المرموق
ولا يسعنا إلا أن يسجل بالحمد والشكر والفخر والتأييد موقف الحكومات العربية، وفي طليعتها الحكومة المصرية على احتجاجها الصارخ على معاضدة بعض الشيوخ الأمريكيين لقضية اليهود في فلسطين. ويقيننا أنهم أيقاظ للأحداث الدولية المنتظرة، وأنهم سيجعلون نصب أعينهم، وضمن برامجهم السياسية إنقاذ فلسطين من اليهود واستخلاصها للعرب، واستنجاز إنجلترا ما وعدت به في الكتاب الأبيض، وأنهم لن يلينوا أمان الضغط والدعاية اليهودية، وأنهم والحمد لله عامرة قلوبهم بالإيمان والإخلاص والوطنية
إن في هذه الحرب عظات ودروساً يجب أن نتلقفها ونفيد منها، فأقوى الأمم وأمنعها حوزة(559/10)
وأغناها مالاً وأكثرها رجالاً، وأبرعها سياسة لم تخض غمار هذه الحرب بل اتخذت لها درءاً ونصيراً من الأمم التي تتفق معها في المشرب والمبدأ والأطماع وإن أمماً صغيرة كثيرة قد ابتلعت وتقوضت عروشها. وإن كل الأمم ينشد الحليف والمؤازر في هذه الحرب القاسية؛ ونحن كما ذكرنا أمة واحدة فرقتها سياسة العصور المظلمة، والأطماع الغاشمة؛ أفلا يجدر بنا أن نتعظ ونعتبر ونسير بخطى حثيثة نحو الوحدة أو الاتحاد رائدنا الإخلاص لأنفسنا ولأولادنا
هذا أمل نرجو ألا تعصف به زعازع السياسة، وأن يبقى عليه كبار الساسة، أو يتعهدوه بالري والنماء حتى يؤتى ثمرة حلواً جنياً. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وهو ولي التوفيق.
عمر الدسوقي(559/11)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
صاحبك من بختك
هذا مثل مصري، وهو يمثل متاعبنا في الحياة أصدق تمثيل، فما نشكو في حياتنا غير قلة الصاحب وانعدام الصديق
وأخطر ما يؤذيني في حياتي هو الشعور بأني لا أجد روحاً يجاوب روحي، وأنا لا أتهم أحداً بالغدر، فما خلق الله روحاً يقدر على مجاوبة روحي
أنا أعيش بلا صاحب وبلا صديق، لأني رجل ليس له بخت، ولأني رجل أغناه الله عن البخت، فليشبع أصدقائي بما عندهم من أطايب البخوت!
أنا أجود بالصداقة ولا أنتظر أي جزاء، لأن جودي فوق الجزاء.
وسيبكي ناس على أنفسهم إن فقدوني، ولن يفقدوني، فما تطيب نفسي بالصدوف عمن رضيت صحبتهم لحظةً من زمان
لن يقول أحدٌ إنه طوق عنق بجميل، فأنا دائماً صاحب الجميل.
تباركت وتعاليت، يا فاطر الأرض والسماء، فقد أغنيتني عن مجاملة الصاحب، وملاطفة الصديق
في لحظة من لحظات الضيق دعوتك فقلت: (اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك)
وقد استجبت لدعائي، فلم تحوجني إلى أحد من خلقك
وأنا بعد هذا أشكر لك نعمة لم تجد بها على أحد من خلقك، إلا أن يكون في مثل إيماني بك، وأدبي معك، وهي نعمة الصفح عن الصديق الكافر بالجميل
إن قدرتك على خلق البرية بما فيها من أنهار وبحار وجبال ونجوم وكواكب، إلى آخر ما تعلم وأجهل، لا تقاس إلى قدرتك على إغنائي عن خلقك
علِّمني كيف أثني عليك، فقد عجزت عن الثناء عليك ثلاثون سنة، ثلاثون، ثلاثون، وأنا أحارب الناس ولم يهزموني، لأنهم جهلوا سر قوتي، وأنا أعتز بك، وصاحبك من بختك، وأنت يا إلهي صاحبي وبختي، ولم يبق إلا أن أرجوك أن تعلمني كيف أثني عليك
محرجات النقد الأدبي(559/12)
تمرّست بالصحافة السياسية والأدبية عدداً من السنين ولم أشعر بحرج يماثل الحرج الذي عانيته في الأسبوع الماضي ولكن كيف؟
كنت أعددت مقالاً لمجلة الرسالة أصاول به بعض المتجنين علينا من أدباء لبنان
ثم صلصل الهتَّاف بما معناه: (إن صاحب الدولة رياض بك الصلح أمر بأن لا يكتب حرف في صحيفة لبنان تجنياً على الأدباء المصريين)
وكان في مقدوري أن أتجاهل هذه الإشارة التليفونية وأن أقدم إلى مجلة (الرسالة) مقالي، وأستريح من تحبير مقال جديد
ولكن الرقيب الأعظم نهاني، وهو ضميري، فطويت مقالي، وكتبت لمجلة الرسالة حديثاً غير ذلك الحديث، في لحظة محرجة لم أكن أستطيع فيها كتابة أي حديث
وأنا أعتذر عما جرى به قلمي في مصاولة أدباء لبنان، وأتمنى لهم مثل الذي أتمنى لنفسي، وهو تصويب النظر إلى استكشاف محاسن الصديق
ثم أرجوهم أن يذكروا أننا نعاني محنة قاسية في حياتنا الأدبية، فالكاتب اللبناني يستطيع الظهور بمقالة أو مقالتين، والشاعر اللبناني يستطيع الظهور بقصيدة أو قصيدتين، ولا كذلك الكاتب المصري أو الشاعر المصري، فبلادنا لا تسمح بالظهور لكاتب أو شاعر إلا بعد أن يشقى بالنثر والنظم عشرين سنة أو تزيد
الفرق بين متاعبنا ومتاعبكم هو الفرق بين متاعب القاهرة ومتاعب بيروت
نحن في حياتها الأدبية نشقى شقاء لا يخطر لكم في بال، ولهذا ننتظر عطفكم علينا، ونرجو أن تترفقوا بنا ترفق الصديق بالصديق.
وزعامة مصر الأدبية عبءٌ ألقاه القدر علينا، ولولا الحياء لفررنا من حمل ذلك العبء الثقيل
أكرمونا بعطفكم، أكرمونا، لنصبر على حمل الراية في ذلك الميدان
إلى معالي الهلالي باشا
إنك تذكر أيها - الوزير الجليل - أني تجشمت السفر إلى الإسكندرية في الصيف الماضي وبيدي مذكرة أزكي بها إنشاء مدرسة ابتدائية في سنتريس ينتفع بها عشرون بلداً هناك،(559/13)
وتذكر أني أخبرتك منذ أسبوع بما انتهت إليه تحريات مراقبة التعليم الابتدائي ففرحت وقلت: سأمضي لافتتاح هذه المدرسة بنفسي في مطلع العام الدراسي المقبل.
ومع أني واثق بأنك ستنجز وعدك، وبأني أستطيع أن أستهديك ما أريد لخير تلك البلاد العشرين، فقد جدت حالة توجب أن أسارع برفع ما يعترض هذا المشروع من العقبات. والله بالتوفيق كفيل
كانت ميزانية المعارف للعام المقبل تتضمن إنشاء خمس مدارس ابتدائية، وبهذا كان الأمل قوياً في إنشاء مدرسة سنتريس، ثم سمعت أن الوزارة عدلت الميزانية فاكتفت بإنشاء ثلاث مدارس، وخفت أن تؤجل مدرسة سنتريس، وإنما كان الخوف لأن الوزير نفسه حدثني أنه سينشئ مدرسة في الدرب الأحمر ومدرسة في بولاق، فهل تكون المدرسة الثالثة هي مدرسة سنتريس؟ ليت ثم ليت!
أنا أرجو معالي الوزير أن يتذكر أن القاهرة تنتهب حقوق الأقاليم، ثم أرجوه أن يضع حد لهذا الانتهاب، فما يجوز أن تأخذ القاهرة أكثر مما أخذت، ولا يجوز أن ننسى أن مواصلات القاهرة تعين القاهريين على الوصول إلى المدارس بأمان، ولو كانوا من أهل الدرب الأحمر أو بولاق، ولا كذلك الحال في الأقاليم، فالمواصلات هنالك في غاية من الصعوبة، ولا يتيسر الانتقال إلا مع التعب العنيف
قد يقال إن نائب بولاق يراعي أهل دائرته فيطلب إنشاء مدرسة، وإن نائب الدرب الأحمر يراعي أهل دائرته فيطلب إنشاء مدرسة، وأنا لا أعترض على مساعي هذين النائبين، فمن واجب كل نائب أن يقدم لأهل دائرته أقصى ما يستطيع من الخدمات
وهنا تظهر خطورة هذه القضية: فقد مضت عشرون سنة وسنتريس مسرح للحفلات الانتخابية، وكان كل مرشح يمنينا بأنه سينشئ في سنتريس مدرسة ابتدائية، ثم ينقضّ السامر وتذهب تلك الأماني!
لم يبق إلا أن استهدي عطف وزير المعارف على عشرين بلداً هي أخصب بلاد المنوفية، ففي سنتريس وحدها أكثر من ثلاثين شهادة عالية، وموقع سنتريس الجغرافي أجمل من موقع شبين وأظهر من موقع أشمون
أيكون من حق النواب أن يصل صوتهم إلى قلب وزير المعارف قبل صوتي؟(559/14)
هذا مستحيل، فأنا من أمناء وزير المعارف، وأنا سفيره إلى جميع البلاد المصرية، فمن أوضح الواضحات أن أكون سفيره في البلاد تجاور بلدي، وأنا أعرفها كما أعرف نفسي
لوزير المعارف أن يتفضل فيطلب التقرير الذي قدمته لمراقبة التعليم الابتدائي ومعه تقرير الرقيب، وأي رقيب؟ هو رجل من أكابر المربين دعاه مراقب التعليم الابتدائي إلى مصاحبتي لمعاينة مدرسة سنتريس، لئلا يطغى علىّ حبي لبلدي فأقول إن اسمها سنتريس!
لمعالي وزير المعارف أن يقرأ هذين التقريرين ثم يفكر فيما يصنع، فأنا واثق بأنه سيكرم تلك البلاد العشرين، وندائي لمعاليه هو نداء تلك البلاد العشرين
زكي مبارك(559/15)
عبقريات أزهرية مدفونة
للأستاذ دريني خشبة
مئات من الرسائل التي أنشأها النبغاء من أبناء الأزهر في كلياته الثلاث ليحصلوا بها على إجازاته النهائية - على طريقة الجامعات الحديثة - ملقاة في ركن سحيق من أركان الإهمال، وقلة العرفان في مكتبات الكليات، لا ينتفع بها أحد، ولا يلتفت إليها أحد، ولا يفكر أحد في أن ينفع بها الثقافة الإسلامية في الأمم العربية عامة، والنهضة الفكرية الحديثة في مصر الإسلامية بوجه خاص. والعجيب، بل أعجب العجب، ألا يلتفت ولاة الأمور في الأزهر إلى أهمية هذه الرسائل الثمينة في تدعيم شخصية جامعتهم الكبرى، وإثبات وجودها، والمساهمة بها في حياة المسلمين الفكرية، ومحاربة الأفكار الجاهلة التي أخذت تغزو إفهام الناس عن أقدم جامعات الشرق، بل أقدم جامعات العالم وأعظمها
مئات من هذه الرسائل التي أنشأها النبغاء من أبناء الأزهر بإرشاد أساتذته، وأساتذة الجامعة المصرية، وأساتذة النهضة الفكرية في مصر، مهملة مغفلة لا ينتفع بها أحد، لأن النظام الذي يرين على الأزهر الشريف يقضى على تلك الجهود الغالية بالدفن، كما يقضي على الآمال المنوطة بتلك الجهود بالضياع
لست أدري ما نصيب الأزهر في مئات الكتب التي غمرت السوق الفكرية في السنوات الخمس الأخيرة في مصر؟ لا شئ؟ فهل معنى هذا أن أبناء الأزهر أقل نشاطاً من سائر أبنائهم المتعلمين؟ كلا. . . فالحق الذي لا مرية فيه هو أنهم في المقدمة من حيث الإنتاج الذهني الرفيع كما وكيفا، لكنهم فقراء ومتوسط الحال منهم لا يستطيع أن يجازف بما يدخره من قروش في سبيل السناء العلمي ولآلاء الشهرة، بطبع بعض ما أنتجت قريحته من ثمار ما ألف وما يستطيع أن يؤلف. . . ولو أن هذه الميزانية الضخمة التي تربط للأزهر كل عام اتسعت قليلاً لطبع شئ من هذه الرسائل النادرة التي أودعها شباب الأزهر جهوده بل أرواحه وآماله لعاد هذا العمل على الأزهر نفسه بالسمعة الطيبة، وعلى الأمة بالنفع الجزيل، وعلى نهضتنا الثقافية بالخير العميم، ثم هو بعد ذلك كله عمل يلفت العالم الإسلامي إلى طابع الأزهر الجديد، وإلى الروح الذي يحدوه إلى السمى وإلى الكمال
وبعد، فما هذه الرسائل التي نشيد بها تلك الإشادة، والتي ندعو جميع الأدباء إلى التفضل(559/16)
بالذهاب إلى الكليات الأزهر للاطلاع عليها حيث حبست عن الخير العام في أركان المكتبات تشبه المتاحف، أو أقبية المتاحف. . . حتى لتوشك أن تسمع من صفحاتها أنيناً وحسرات شاكية من إهمال أولى الأمر لهم على هذا الشكل المزري
كتب بعض هذه الرسائل خريجو قسم التخصيص على النظام القديم في الأزهر، ثم كتب معظمها خريجو هذا القسم على النظام الحديث، وقد بذل كل من أبناء النظامين جهوداً شريفة في الإحاطة بالموضوعات التي اختاروها. والذي يثير العجب في الخطة التي انتهجها كل من الفريقين في وضع رسائلهما هو تجافيهم عن روح الأزهر القديم، ومحاولتهم في إخلاص وصدق أن يطبعوا الرسائل بطابع البحث الجامعي العصري الطريف. ويحسن أن نقصر الكلام الآن على رسائل كلية اللغة العربية تلك الكلية التي تنافس في شرف وفي نبل معاهد المعلمين في مصر، كما تسير على هدى من كلية الآداب بالجامعة المصرية، وبتوجيه أساتذتها الأفاضل
لقد اهتم كبار كتابنا في العصر الأخير بالتاريخ الإسلامي فأخذوا يتبارون في كتابته في صور شتى، وأخذت كتبهم تصدر تباعاً، وتلقف الناس تلك الكتب فرحين مستبشرين لما تجلو لهم من صفحات المجد التي كانوا يسمعون بها ولا يعرفون منها شيئاً. . . ومن هذه الكتب ما طبع أكثر من مرة، ومنها ما لم يبق من طبعاته الأولى شئ. . . وقد تألفت أخيراً جماعة أخذت على عاتقها إصدار كتب شهرية عن أبطال المسلمين يتولى الكتابة عن كل منهم إما واحد من هذه الجماعة الفاضلة أو أحد الذين يقع عليهم اختيارها من أرباب الأقلام في مصر وفي شقيقاتها من الأمم العربية. . . ولقد شهدت في كتبة كلية اللغة العربية مجموعة كبيرة من الرسائل في التاريخ الإسلامي تناولت رجاله بالترجمة والنقد والتحليل والتحقيق (وتفلية) والموسوعات التاريخية والمقابلة بين رواياتها، ومعارضة تلك الروايات بما حققه المستشرقون، وما وقع هؤلاء من الحيف والتخبط أحياناً. . . مما لا يتوفر مثله من التمحيص إلا للدارس المنقطع الذي يرى بين كل سطر من سطوره وجه سائل أو يسمع اعتراض مناقش أو حجة ممتحن. فمما راقني من هذه البحوث المركزة، وما يحسن التمثيل به لما حوت تلك المكتبة من هذه الرسائل: بحث في نظام ولاية العهد في الإسلام، ورسالة في دخول الإسلام إلى الهند وانتشاره فيه، وأخرى عن تاريخ الإسلام في جزيرة(559/17)
صقلية، ورابعة عن العلاقات السياسية بين الرومان والعرب، وخامسة عن العلاقة بين العلويين والعباسيين، ورسالة عن نشأة الدروز وعقائدهم، وبحث جميل مستفيض عن الأحزاب السياسية في عصر بني أمية، ورسالة عن دولة بني بويه. . . ومن البحوث غير الإسلامية رسالة أنشأها طالب هندي في تاريخ سوامي ديانند مؤسس الديانة الآرية في الهند، وهو أول كتاب من نوعه في اللغة العربية، أنفق فيه صاحبه جهوداً تثير الإعجاب. . . هذا، إلى مئات من الرسائل الأخرى التي تغطى التاريخ الإسلامي كله، وتتناول أبطاله المشهورين واحداً واحداً، في عرض جميل، وتبويب جيد، وتحقيق لم يدع مصدراً في دور الكتب المصرية، مخطوطاً أو مطبوعاً، إلا تناوله واستوعب ما فيه
أما الرسائل الأدبية فهي بلا شك مفخرة أبناء كلية اللغة العربية، سواء منهم من تخصص بعد الشهادة العالمية للمهنة - أي لمزاولة التدريس في المدارس وفي الأزهر، ومدة هذا التخصص ثلاث سنوات - أو من تخصص منهم للمادة - ويتولى خريجو هذا القسم التدريس في كلية اللغة العربية نفسها، ومدته سبع سنوات كاملة (!!). فمن أبدع ما يستلفت النظر من رسائل الأدب رسالة في تاريخ القصة في الأدب العربي، رأيت لزاماً أن أخص صاحبه في كلمتي هذه بالتهنئة لما استطاع أن يتناول به في بحثه القيم أطراف هذا الموضوع المتشعب من الاستقصاء والاستيعاب، ومنها رسالة في الكتابة في العصر العباسي شن فيها صاحبها حرباً شعواء على كثيرين من رجال الأدب في مصر، وكال فيها للدكتور زكي مبارك كيلاً شديداً، ثم رسالة طريفة عن الموشحات - نشأنها وصلتها بالشعر، وهي رسالة جيدة ما كان أحوج المكتبة العربية إليها. . . ثم عشرات من الرسائل عن البحتري والحطيئة والأخطل وابن زيدون والعرجي والأصمعي وغيرهم من ألمع الأسماء في الأدب العربي، وممن لم يتناولهم أحد في بحوث خاصة مستقلة إلا أبناء هذه الكلية الجنود المجهولون. . . ومن أطرف رسائل الأدب رسالة أنشأها صاحبها عن الأدب في عصر المماليك، وقد تناولت الرسالة هذه الناحية الغامضة من تاريخ الأدب المصري في عصر من أغمض عصوره. . . أما الرسائل التي وضعها متخصصو المادة فلا تزال قليلة العدد لقلة خريجي هذا القسم، وهي على قلتها رسائل جيدة عالية القدر شاملة الإحاطة، رأيت منها رسالتين في أدب الخوارج وفي أدب الشيعة، فلا أبالغ إذا سجلت هنا أنهما من(559/18)
أثمن ما كتب في هذا الموضوع في العالم العربي.
ومن أكبر المآخذ على أزهرنا الشريف المبارك ذي الميزانية الضخمة والأحباس الخرافية أن يغير هاتين الرسالتين كما يصنع بأشباههما، فلا ينتفع بهما وبأمثالهما العالم الإسلامي والمشتغلون بالأدب. . . ومن رسائل التخصص في المادة بحوث قيمة في البلاغة وتاريخها. . .
ومن أروع ما يلفت النظر من رسائل اللغة رسالة في المبرد لا توجد إلا في مخطوط ضخم في دار الكتب العربية، وكان لابد أن يشهد أعضاء لجنة الامتحان هذا المصدر بأعينهم، فلما رفضت دار الكتب إعارة الطالب هذا المصدر، اضطر إلى نسخه كله. . . فكم من الجهد والعناء تجشم هذا الطالب المسكين في إنشاء رسالته الطريفة النادرة يا ترى؟!
ذاك ويطول الكلام إذا استعرضنا رسائل التربية وعلم النفس وما تناول به الخريجون تاريخ التعليم الإسلامي في مدارس بغداد والكوفة والبصرة ودمشق والقاهرة وقرطبة، وأصول التربية في القرآن والسنة. . . ثم مئات الرسائل في مختلف أبواب النحو والصرف والبلاغة والبيان والعروض
هذا قل من كثر. . . وهذا كله في كلية اللغة العربية فقط. . . وله أشباه ونظائر في الكليتين الأخريين. . . وهي عبقريات أزهرية مدفونة من التقصير المعيب أن تعمى عنها عيون القائمين بالأمر في الأزهر الشريف المبارك. . . وليذكر الذاكرون أن أعظم رجال النهضة في مصر الحديثة كانوا ناساً كهؤلاء الناس المغمورين، وأنهم جميعاً، أو أكثرهم، ممن للأزهر في ثقافتهم أوفر نصيب، عن قرب أو عن بعد. وأنه لو أتيح لكثير من هؤلاء النبغاء المغمورين سبيل الظهور والعمل لنفعوا عالم التأليف العربي بما لا يقدر عليه غيرهم، ولانتفعت بهم نهضتنا الثقافية بما لا تنتفع به إلا منهم، ولمهدنا لطائفة عظيمة منهم القيام بواجبهم الأدبي مكان زعماء تلك النهضة (بعد عمر طويل!
وبعد. . . فهذه ناحية من عبقرياتنا المدفونة توجد لها أشباه في الجامعة المصرية وفي دوائر ثقافية أخرى نرجو أن نتكلم عنها وننبه إليها قريباً.
دريني خشبة(559/19)
الأنات الحائرة. . .
للأستاذ راشد رستم
. . . وبعد فلست حائراً معك حيرتك مع الأنات أو حيرة الأنات معك، أو حيرة الناس من هذه الأنات، فلقد رأيتك بالأمس في الأمر باكياً، وسمعتك اليوم في هذا الأمر ناعياً، وأشهد أني أعهدك في كليهما شاعراً شادياً
إنك عاطفي رفيع، وإنك عاطفي عميق، ولا أقول قد تظهر منك العاطفة وتختفي، ولا أقول هي قد تثور أو قد ترعوى، فإن العاطفة عندك هي منك، وهي قائمة عند المحراب تصلي دائماً
ولقد حزنت عندما وصلتني أناتك، ثم (فرحت) بها لذاتها كما فرحت بها لأنها منك
أخذت أهمس لنفسي مترنما، وحيداً صامتاً، وأحيي بها الحزن صباحا ومغرباً، وستبقى معي آمنة في مكانها الحبيب كما سيبقى رنينها عالياً داوياً - وهكذا في الوقت الذي تبقى كامنة ساكنه هي في الحق ثائرة فائرة. . .
إن مستودعها عندي، رغم جرمه الصغير، واسع كبير يملأ الدنيا حباً، وتملؤه الدنيا تعباً. . .
ولما آنستني (الأنات الحائرة) غير حائرة، ونزلت عندي قادمة راغبة، أقبلت عليها راضياً شاكراً، ثم معها راشد شارداً. . .
وإذا أنا قد تأخرت في النداء فلست مقصراً ولا عامداً ولكنها موجة الأسى تملكت النفس بالهوى والقلب بالجوى فاستكانت الروح نائمة ثم استيقظت على الصوت الذي أبعث اليوم إليك مناجياً. . .
وإن لي من الأصدقاء من هم أهل العاطفة الباكية الشاكية وحملة القلوب الحائرة الثابتة، فذكرتني أناتك بهم كما ذكرتهم بها لأنها إبداع مثل إبداعهم وعواطف من طراز عواطفهم
ذهبت إلى (جوتيه) شاعر الألمان، فإذا به يعجب ويقول وحيد!! لا. لست أنا وحيداً. . . إنني أعيش مع الذكريات والصور العزيزة المحبوبة. . .
ثم التفت إلى كاتب الفرنسيس (أناتول فرانس)، فإذا به يقول وكأنه يرد على صاحبه - مهما حاول المرء فإنه دائماً وحيد في هذا العالم. . .(559/20)
فرجعت إلى صاحب التفكير الواسع السيد جان جاك روسو فإذا هو يلقي القول الهادئ وقد لاقى من الزمان شدته فيقول - كلما كانت الوحدة التي أعيش فيها عميقة شاملة كانت الحاجة أدعى إلى بعض الذكريات لملء هذا الفراغ. . .
ثم اتجهت إلى البحر الزاخر والشاعر الحائر والروح الثائر السيد فيكتور هوجو فإذا به يصيغ القول على طريقته فيقول - إن المفكر المنبت كالصحراء، كئيب رغم الاتساع، مظلم رغم الضياء. . .
ثم رأيتني منذ عشرين عاما أستودع يومياتي الفرنسية في الغرب قولاً لم يتغير معي إلى اليوم، فكنت أقول - إن من لا حاضر له ينظر دائماً إلى ماضيه، ومن كان له حاضر فهو لا يرقب إلا مستقبلاً. ولكن أليست الحياة حاضراً قائما يتحول باستمرار إلى ماض يفوت ولا يموت. . .!
ثم لقيت في طريقي عجوزاً يناجي نفسه ويقول: الماضي! الماضي! هو القوى القدير. هو القوي القدير! الماضي! الماضي. . . فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله. . .
ثم ذكرت كلاماً كان عجيباً أن ينشر في (الحديقة والمنزل) وأن تنطوي صفحاتها على هذه العبرات جنب تلك الزهرات مما جعلني اليوم أسأل الأيام هل كان ذلك عن حاجة إلى الذوق، أم هي تنسيقات الحدائق والبيوت، أم هي صفحات الحياة. . .؟
وجدتني (أبكي لأني أرى ما يبكيني. وهذا المحزون اقرؤوه عني السلام. كل له حزن يعنيه، وما عرف الدنيا إلا حزين. .
اسمع التنهدات بعد الضحكات فاسمع ترجيع صدى لحزن مضى. . . ورنيناً لأنين سيأتي. . . وأشعر في ثنايا الضحكة نذير الدمعة. . . وأرى الابتسامة علامة الخوف من قرب الأسى. . .
إن دموع الأحزان هي أنقى دموع الإنسان. . .
والبكاء أول ميراث الأحياء الكرام من الأموات الكرام)
ووجدتني في نفس الحديقة أرى في الوقت ذاته الوجه الجميل في إطار من الزهر الجميل، وأسمع الشعراء يترنمون بأناشيد الربيع، وكان ربيعاً، وأرى الغانيات الحسان يمرن ويسرحن تحت الخمائل وبين الظلال. . .(559/21)
فرجعت مسرعاً إلى شاعر الحب والحياة السيد الفريد دو موسيه، فإذا به هادئ مطمئن، يلقاني حزيناً باسماً ويقول في صوته الخافت ولغته السهلة النافذة: جميل أن تبكي وجميل أن تبتسم. . .
وأخيراً. . . ذكرت نغمات بكلمات سمعتها من سيدة باسمة الوجه، صبوح نصوح، تترنح وتقول: هل في العالم حزين؟ إنني في عجب! هل من يبكي وهذه الشمس تسطع في السماء، وهذه الأرض سندسة خضراء! لماذا البكاء وهذه الحياة حلم وهي هباء. . . ودمت لأخيك
(المعادي)
راشد رستم(559/22)
محاورات الموتى
المحاورة الثانية
للكاتب الفرنسي برنار بوفيه دفونتنيل
بقلم الأديب يوسف روشا
أنكريون وأرسطو
أنكريون: شاعر غنائي إغريقي شهير من بلدة تيوس في بونيا ولد حوالي 560 قبل المسيح. كان دأبه التغني بالحب والخمر
أرسطو: من أعظم فلاسفة الإغريق ولد حوالي 384 قبل المسيح. فلما بلغ الثامنة عشرة من عمره ذهب إلى أثينا وتلمذ لأفلاطون عشرين عاما وتلقى بعد ذلك دعوة من بلاط مقدونيا ليعلم الاسكندر، وكان يومئذ في الثالثة عشرة من عمره. ولأرسطو الفضل الأكبر في نشوء الفلسفة والعلوم وازدهارها، وخاصة في العهود التي سبقت النهضة الفكرية والعلمية الحديثة.
ابتداء المحاورة
أرسطو: لم يخطر ببالي أن يجرؤ شاعر غنائي على أن يقارن نفسه بفيلسوف شهير مثلي
أنكريون: أنت رفعت اسم الفيلسوف، وأنا أيضاً أسكرت النفوس بأغاريدي، حتى أصبح الناس يلقبونني بأنكريون (الحكيم) وإنه ليلوح لي أن لقب (الحكيم) لا يقل منزلة عن لقب (الفيلسوف)
أرسطو: إن الذين منحوك هذا اللقب لم يتدبروا ولم يفكروا؛ وإلا فما الذي عملته حتى تستحق أن تلقب بالحكيم؟
أنكريون: أنا لم أعمل شيئاً سوى الشرب والغناء والغزل. وإن من أعجب العجب أن ألقب (بالحكيم) بهذا الثمن البخس، على حين أنك لم تحصل على لقب الفيلسوف إلا بشق النفس. فكم سهرت من ليال محاولاً نظم ما انتثر من علم المنطق الشائك! وكم ألفت من كتب ضخمة في موضوعات غامضة لعلك لم تفهمها أنت نفسك حق الفهم
أرسطو: أعترف بأنك قد توخيت أسهل الطرق إلى الحكمة. ولو لم تكن على جانب عظيم(559/23)
من الذكاء لما استطعت أن تبلغ بقيثارك وكأسك من المجد ما لم يبلغه أعاظم الرجال بالدرس العميق والجهد المتصل
أنكريون: إني لأشم من كلامك رائحة التهكم؛ ولكني مازلت أعتقد أن من أصعب الأمور على المرء أن يشرب ويغنى كما كنت أشرب وأغنى، وإن من أسهلها عليه أن يفلسف كما تفلسف أنت. إنك لكي تشرب وتغنى كما كنت أفعل، يجب أن تتجرد من العواطف الجائشة، وألا تطمح إلى شئ ليس إلى حصوله من سبيل، وأن تكون مستعداً لأخذ الحياة على علاتها. وقصارى القول إن هناك عدداً من المسائل الصغيرة يجب على المرء قبل كل شئ أن يتدبرها مع نفسه؛ وأن هذه المسائل وإن كانت لا تحتاج إلى براعة فائقة، لا ينتهي منها المرء إلا بعد عناء طويل. أما أن يفلسف المرء، كما كنت تفعل، فلا يحتاج إلى كل هذا العناء، ذلك لأن الفيلسوف لا يضطر إلى معالجة نفسه من الطموح أو الطمع، وأن من الفلاسفة من تجمع لديه من المنح خمسمائة ألف ريال، ولكنه لم ينفقها كلها في سبيل العلم كما أراد مانحها. وجملة الكلام أن في هذا النوع من الفلسفة أشياء كثيرة تنافي الفلسفة
أرسطو: يظهر أنك سمعت عني وشايات كثيرة منذ هبطت إلينا. ومهما يكن من الأمر فإن مقياس الرجل عقله، وإن أسمي عمل في الوجود هو أن تعين الناس على فهم أسرار هذه الطبيعة واستجلاء غوامضها
أنكريون: إن هناك ما يبرهن على أن الرجال يسيئون استعمال كل شئ. فالفلسفة في ذاتها شئ جميل للغاية؛ ولو أحسن الناس استعمالها لأفادتهم فوائد جليلة جزيلة؛ ولكنهم أشفقو من أن تربكهم إذا هي تدخلت في أمورهم فقذفوا بها في الفضاء لتبحث عن الكواكب وقياس حركاتها، فإذا أعادوها إلى أرضهم استعانوا بها على بحث ما يظنونه هناك. وخلاصة القول أنهم حريصون ما استطاعوا على أن تكون الفلسفة مشغولة عنهم. ولما كانوا شديدي الرغبة في أن يكونوا فلاسفة بأيسر كلفة فقد وسعوا بفضل براعتهم، استعمال هذا اللقب حتى أخذوا يسبغونه في أكثر الأحيان، على الذين يبحثون في قوانين الطبيعة.
أرسطو: وهل ثمة لقب أصلح لهؤلاء من هذا اللقب؟
أنكريون: الفلسفة يجب أن تعنى بالناس فحسب، وألا تشغل نفسها بما عداهم؛ فالفلكي ينظر في النجوم، والطبيب يعنى بالأجسام، والفيلسوف يفكر في نفسه. ولكن من ذا الذي يرضى(559/24)
أن يوضع في مثل هذا الموضع الشائك؟ لا أحد. واحسرتاه! ولذلك سمحوا للفلاسفة ألا يكونوا فلاسفة، واقتنع الجميع بأن يكونوا فلكيين أو أطباء. أما أنا فإني لم أكن بطبيعتي ميالاً إلى الإمعان في التفكير؛ ولكني واثق بأنه ليس في أكثر الكتب الفلسفية فلسفة بقدر ما في بعض قصائدي التي تزدريها هذا الازدراء. وإليك واحدة منها على سبيل المثال:
(لو أن في إمكان (الأصفر الرَّنان) أن يطيل أمد الحياة السريعة الأدبار لكلفت به أشد الكلف، ولملأت منه خزانتي، حتى إذا ما حانت الساعة، ولم يبق لي عند أحد شفاعة، رشوت به الموت ليؤجل حتفي. أما وإن ذهب الدنيا كلها لا يستطيع أن يمد في حياتنا ساعة واحدة، ولا أن ينير حلكة القبر، فلماذا إذن نعنى أنفسنا ونذرف الدمع السخين، بلا جدوى، على مصيرنا المحتوم؟ لا. . . أعط الثروة غيري، فليست لي بها حاجة، ودعني أرتع في ملذاتي، بين أصحابي ولداتي، وليكن نصيبي مما بقى من حياتي تلك الأفراح التي لا يقدر على منحها إلا الحب)
أرسطو: إذا شئت أن تقصر الفلسفة على علم الأخلاق فإنك واجد في كتبي عن الأخلاق أشياء لا تقل إبداعاً عن قصائدك. ومهما يكن من أمر هذا الغموض الذي قد تجده في بعض كتبي، والذي من أجله وبخت أعنف توبيخ، فإنك لن تجده في كل ما كتبت في ذاك الموضوع. لقد أقر العالم أجمع بأنه ليس ثمة أوضح ولا أروع مما قلت في العاطفة
أنكريون: ما أشد خطأك! ليست المسألة مسألة تحديد العواطف على طريقة من الطرق كالذي زعموا أنك فعلت، بل المهم التغلب عليها وقهرها. فالرجال يضعون بين أيدي الفلاسفة أخطاءهم عن طيبة خاطر، للنظر فيها لا لعلاجها. ولقد اكتشف الفلاسفة سر إيجاد قواعد أخلاقية لا تمسهم بقدر ما يمسهم علم الفلك. وكيف نملك ألا نضحك عندما نرى رجالاً يذمون المال وهم أشد الناس تكالباً على اقتنائه؟ ثم كيف نمسك نفوسنا عن الضحك عندما نشاهد أراذل الناس يتشاجرون فيما بينهم على تحديد معنى الشهامة.
(بغداد)
يوسف روشا(559/25)
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها
للأستاذ سعيد الديوه جي
- 3 -
وأما رأي الشيخ عدي في النزاع بين (علي ومعاوية) فإنه يقول (كانا إمامين مجتهدين، ولكن المصيب منهما علي رضي الله عنه، وأصحابهما أصحاب إمامين مجتهدين، وقتالهم كان باجتهاد ولطلب الحق لا لحظوظ الدنيا، ولم يكن أحد منهم حريصاً على قتل أخيه، وقتلاهم جميعاً في الجنة. ونكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وننشر محاسنهم رضى الله عنهم، وإن الله قد غفر لهم)، فنرى أنه كان معتدلاً في رأيه يرى أحقية (الإمام علي)؛ ولكنه مع هذا لا يبخس (معاوية) حقه.
وامتاز عصره بظهور عدة مشايخ كمل (كالشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ قضيب البان الموصلي، والشيخ أحمد الرفاعي، والشيخ وهب السنجاري) وغيرهم كثير. وكان (الشيخ عدي) أحد هؤلاء الكمل. وأسس طريقته (العدوية) فدخل فيها الأكرار والموالون للحزب الأموي ومن هذا الوقت صار يطلق على أنصار الحزب الأموي اسم (الأكراد العدوية) فظهرت حركتهم بمظهر صوفي، ولكن حبهم لبني أمية لم يطرأ عليه تغيير سوى أنهم خففوا من بغضهم لآل البيت، وكان ذلك بتأثير شيخهم (عدي). وعمر الشيخ عدي تسعين سنة. ونال من القبول عند أصحابه ما لم ينله سواه. وتوفى سنة 557هـ، ودفن في زاويته التي بناها (بلانش)، وقبره هناك معروف يزار.
وكان الشيخ قد استخلف ابن أخيه (صخر) قبل موته، وكان هذا عالماً عاقلاً على جانب كبير من الدين والتقوى، وصارت منزلته عند العدوية لا تقل عن منزلة عمه. سلك بأتباعه طريق الخير وأبعدهم عن المفاسد والشرور.
وخلفه بعد موته ابنه (أبو المفاخر عدي)؛ وكان لا يقل عن أبيه في العلم والورع وسلوك طريق الخير بأتباعه. وصار لهذه الأسرة منزلة عند العدوية دونها منزلة الملوك. ولكن الثلاثة الذين سلفوا لم يتدخلوا في أمور الدنيا. انقطعوا إلى الله عز وجل فكان الله معهم.
الدور الثالث(559/26)
الشيخ حسن وابتداء الغلو في يزيد ومعاوية
وكثيرا ما تغر الدنيا بعض أصحاب المذاهب والطرق الدينية فينحرفون عن الجادة المستقيمة التي سار عليها آباؤهم وأجدادهم، وذلك استئثاراً بطاعة الأتباع واستغلالهم لمصالحهم الدنيوية. وإن (الشيخ حسن) هو أحد الذين غرتهم الدنيا لأنه وجد ما عليه أسرته من المنزلة الرفيعة وطاعة الأكراد العدوية لهم وشدة بأس هؤلاء الأكراد؛ وإن إشارة بسيطة منه تسوقهم إلى الموت وهم راغبون، فسولت له نفسه أن يبدل دينه وأن يظهر في الأرض الفساد. وهو بلا شك كان يريد أن يستغل الضعف السياسي الذي كان يشمل العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري ليعيد تشكيل الدولة الأموية. وربما كان يقدر له هذا لو سار على الطريق المستقيم الذي رسمه (الشيخ عدي الكبير)
انقطع (الشيخ حسن) عن أصحابه ست سنين ثم ظهر لهم وقد ألف (كتاب الجلوة لأرباب الخلوة) زاد أشياء باطلة في اعتقادهم نظماً ونثراً، وغالى في تعظيم (يزيد وعدي) ووجد كلامه قبولاً حسناً عندهم لأنه كان من رجال العالم رأياً ودهاء، وله فضل وأدب وشعر في التصوف يستهوي به أصحابه. وبذلك انقلبت الطريقة (العدوية) إلى فرقة مغالية في حب (يزيد وعدي)، فتطورت من طريقة دينية إلى حزب ثوري له صبغة دينية باطلة. فكم من دعوة صالحة انقلبت إلى غي وضلال! وكم من مبدأ سامٍ انعكس إلى جمعية هدامة! هذا إذا تولى الأمر أصحاب الأهواء والمطامع.
انتقل الشيخ حسن إلى الموصل وسكنها. ولعله كان يريد بهذا أن يكون على اتصال تام بأرباب الحكم (الاتابكي) لينفث سمومه الفتاكة فيهم ويتحين الفرص المناسبة. وصار له مريدون وأتباع في هذه المدينة، كما أنه نشر دعاته في (هيت) والكبيسات. وسنجار. وسامراء. وتكريت. وسورية) ولاقت قبولاً عند البعض لولا مناوأة الحزب العلوي لها. وصار الملوك يخشون أمر هذه الدعوة. وخاصة (بدر الدين لؤلؤ) صاحب الموصل فإنه كان من أكبر المناوئين لها لأنه يخشى على ملكه لقربه منهم. وفي سنة 644هـ قبض على الشيخ حسن وحبسه ثم خنقه بوتر وبدد شمل أصحابه من الموصل وفتك بهم فتكاً ذريعاً، ثم أخذ يختلق الحجج على أحفاد الشيخ عدي، ويكلفهم ما لا يطيقونه، ويرهقهم(559/27)
بالضرائب الفادحة. وفي سنة 652هـ جهز جيشاً كبيراً عليهم وأعمل السيف فيهم ونبش قبر الشيخ (عدي الكبير) وأحرق عظامه. فأضعف أمر هذه الفرقة. ولا ننسى أن الملك (بدر الدين لؤلؤ) كان يميل إلى العلويين كثيراً، وأنه بنى الأضرحة والمراقد العديدة في الموصل لأبناء (الإمام علي) ولا تزال هذه الأماكن شاهدة على ما نقول
هذا هو تطور هذه الفئة من حزب سياسي معاد لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى طريقة صوفية عدوية خالصة لله، إلى فرقة مغالية في حب (يزيد وعدي)
الدور الرابع
خروجهم عن الإسلام
وفي القرن الثامن الهجري بدأ انحراف هذه الفرقة يزداد عن الإسلام، ودخل التجسم في اعتقادهم. ولا سيما أن رؤساءهم الدينيين حرموا القراءة والكتابة عليهم فأوقعوهم في ظلمات الجهل، وسخروهم لمصالحهم، وقادوهم حيث أرادوا. ودخل عقائدهم عقائد يهودية ومسيحية ووثنيه وصابئية وخارجية. وكانوا يسترون عقائدهم الزائغة عن الإسلام بكتمانها وعدم إباحتها. وصاروا بذلك فرقة باطنية خارجة عن الإسلام بكتمانها وعدم اباحتها. وصاروا بذلك فرقة باطنية خارجة عن الإسلام. ولا ندري متى تم هذا الانفصال؛ ولكن بعض النصوص تصرح بأن يزيدية (جبل مقلوب) بقوا محافظين على إسلامهم حتى القرن الحادي عشر الهجري، وهم على المذهب الشافعي كبقية الأكراد، ولا يشوب عقيدتهم إلا بغض (آل البيت) والتطاول عليهم. ولهذا فإننا نرجح أن انفصال اليزيدية عن الإسلام تم في العصور المتأخرة أي بعد القرن الحادي عشر الهجري
عقائدهم
تكفيرهم بقية الأديان
يعتقدون أن الأمم الباقية من مسيحيين ويهود ومسلمين على ضلال. ويجب على (اليزيدية) أن يجتنبوهم لأن إلههم (طاووس ملك) لا يحبهم كما يحب اليزيدية. وعليهم أن يكتموا أمر دينهم، وكتبهم المقدسة عنهم، كما يحذرهم من قراءة كتب هذه الملل لأنها مبدلة. جاء في كتابهم (الجلوة) (لا تقبلوا كتب الأجانب من اليهود والنصارى والإسلام لأنهم غيروها،(559/28)
ولكن اقبلوا ما يوافق سنتي). وقال أيضاً: (جميع الكتب الموجودة بين الخارجين بدلوا فيها وزاغو عنها ولو كتبها الأنبياء والرسل المرسلون لأن كل واحد يبطل الآخر وينفى قوله ويضادده الحق والباطل معلوم عندي حتى وقوع البشر في التجربة) وهو يوصي أتباعه بالتعاضد والتكاتف ومقاومة من يريد أن يتطاول على تعاليم (طاووس ملك)، وعليهم أن يحتملوا المصائب والمحن بسبب هذا. وهو لا ينسى نصيبهم من المكافأة في أحد العوالم. قال في الجلوة: (الذين يحتملون المصائب والضيقات بسبي لا بد لي من مكافأتهم بأحد العوالم. جميع أتباعي أريد أن يتحدوا برباط واحد لئلا يضادوهم الأجانب. أيها الذين تبعتم وصاياي وتعاليمي أنكروا تعاليم الأجانب وأقولهم لأني لست أنا معلمها لهم وليست من عندي لا تذكروا اسمي ومكاني أمام الخوارج لئلا تندموا؛ لأنكم لا تعلمون ما يفعل الأجانب) ونرى كثيراً ما يوصيهم بالكتمان والمحافظة على أسرار كتبهم ودينهم لئلا يطلع الأجانب عليها، ولهذا فأن اليزيدية لا يبيحون بحقيقة اعتقاداتهم لأحد؛ وإن باحوا بشيء منها فلا شك أنهم يحرفونها امتثالاً لأمر (طاووس ملك) وقد جاء في مصحف رش بأن طاووس ملك خلق لهم عدة ملوك قبل الأمويين، وأن ديانتهم كانت قبل المسيح تسمى وثنية (وكل اليهود والنصارى والإسلام وغير ذلك من الطوائف حتى العجم أيضاً قاموا ضد ديانتنا، ولكن لن يقدروا عليها ولا علينا قط، لأن إلهنا يقوينا عليهم ويعلمنا العلم الأول والآخر)
(للكلام صلة)
سعيد الديوه جي(559/29)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
533 - لولا الفول لطاروا
قال أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوى في كتابه (ألف با): كنت أقرأ على الحافظ بالإسكندرية (رحمه الله وحرسها) جزءاً من تآليفه، فمررت فيه بحديث يرويه عن أشياخه عن الشافعي (رضى الله عنهم) قال: الفول يزيد في الدماغ، والدماغ يزيد في العقل. وأهل تلك البلاد ينقطون الفاء بواحدة من فوق، وينقطون القاف باثنتين من فوق أيضاً، فلم ألق بالي، وحسبت الفاء قافاً فقرأت (القول يزيد في الدماغ) فضحك - وكان حلواً ظريفاً، رحمه الله - وقال لي: الفول يفرغ الدماغ أو نحو هذه الكلمة. فقلت له: القول عندي في الكتاب. فقال: إنما هو الفول، فأعلمني بمذهبهم في النقط، فقلت له كيف يزيد الفول في العقل، ونحن نقول في بلادنا بخلاف ذلك؟ فضحك وقال: سألت عن هذه المسألة شيخي فلانا فقلت له كيف هذا وطبرستان أكثر بلاد الله فولاً، وأهلها أخف الناس عقولاً؟ فقال لي: لولا الفول لطاروا. . .
(الرسالة): كان المرحوم الدكتور عباس حلمي طبيب الأزهر على عهدنا يرى هذا الرأي ويقول: (لولا الفول لجن الأزهريون من طول النظر في كتبهم المعقدة)
534 - تمنيت وكيلا فسميته صديقا
قال أبو حيان علي بن محمد التوحيدي: قلت للهائم أبي علي: من تحب أن يكون صديقك؟
قال: من يطعمني إذا جعت، ويكسوني إذا عريت، ويحملني إذا كللت، ويغفر لي إذا زللت
فقال له علي بن الحسين العلوي: أنت إنما تريد إنساناً يكفيك مؤونتك، ويكفلك في حالك، كأنك تمنيت وكيلاً فسميته صديقاً. . .
فما أحار الهائم جواباً
535 - قد ضل عقلي في تراكيبه
أنشد للمأمون:
أما نرى ذا الفَلك الدائرا ... أبيت من همٍّ به ساهرا(559/30)
مفكراٌ فيه وفي أمره ... فما أرى خلْقاً به خابرا
يخُبر عن لطف تدابيره ... وكيف أضحى للورى حاصرا
قد ضلّ عقلي في تراكيبه ... وصار قلبي والهاً حائرا
يا ليت شعري هل أُرى مرة ... أكون في أبراجه سائرا
أكون معْ طالعها طالعا ... وتارةً معْ غائرٍ غائرا
حتى أرى جملةَ تدبيره ... وأعلم المستورَ والظاهرا
536 - الغنى والفقر
سئل أبو محمد الجريري عن الفقر والغنى أيهما أفضل؟ فقال: لو لم يكن من فضل الفقر إلا ثلاث: إسقاط المطالبة، وقطع عن المعصية، وتقديم الدخول إلى لجنة، لكفى. فنقل هذا الكلام إلى أبي العباس بن عطاء (أحمد بن محمد) فقال: يا سبحان الله! وأي فضل يكون أفضل مما أضافه الله إلى نفسه؟ وأي شئ يكون أعجز من شئ تنافى الله عنه؟ لأن الله أضاف الغنى إلى نفسه، وتنافى عن الفقر، واعتد على نبيه فقال: (ووجدك عائلاً فأغنى) ولم يقل فأفقر، فكان اعتداد الله بالعطاء لا بالفقر ثم ذكر عند تشريف أسماء العطاء (إن ترك خيراً)، ولم يقل: إن ترك فقراً. فإن احتج محتج بأنه عرض عليه (صلى الله عليه وسلم) مفاتيح الدنيا فلم يقبلها وتركها اختياراً؛ فهذه صفة التاركين، والتارك لا يكون إلا غنما.(559/31)
البريد الأدبي
3 - الشعر الجديد
إني أعتبر الحقبة التي نبغ فيها البارودي وصبري وشوقي وحافظ، من أعظم حسنات الدهر على الشعر. فإن هؤلاء الأفذاذ قد أضاءوا لنا الظلمة الحالكة، بعد أن لبثنا فيها أحقاباً طوالا فالتفت إليهم العالم العربي - ومصر خاصة - التفات الساري إلى النجم المتألق، واستمع لهم وأنصت، وتحلى تغريدهم، وتدبر معانيهم، وفقه مراميهم، واستظهر قصائدهم. ثم لقد ذهبت فينا حكمهم مذهب الأمثال، نرددها في أنديتنا وسوامرنا، ونستعذبها لقربها من قلوبنا، وعلوقها بعواطفنا، وصلتها بأرواحنا
إنهم قد ترجموا لنا حياتنا، وعبروا عن آلامنا وأمانينا، وغنوا لنا في أفراحنا، ورفهوا عنا في أتراحنا، ووصفوا الوصف العجاب، وأبدعوا وجددوا ما شاء لهم التجديد والإبداع
لقد نفخوا في الشعر روحاً، ونفثوا في العربية حياة، وتركوا من ورائهم ثروة زخرت بالنفيس من القول، والفاتن من التصوير، والشريف من المعاني
إنهم لم يعنفوا حين عبروا، ولم يغربوا إذ فكروا، ولم يكن الزخرف من صناعتهم، ولا البديع من مقاصدهم. فجاءت لغتهم صفواً رائقة، وأساليبهم سائغة شائقة، وألفاظهم عذبة فائقة
لم تكن ثقافتهم من نوع واحد، ولا كانت من طبيعة واحدة. ثم لقد اختلفت في الحياة أعمالهم، وتشعبت مسالكهم، وتغايرت فيها مشاربهم. ولكنهم استقوا جميعاً من معين واحد، معين الأدب الصافي في أزهى عصوره، وأنضر أزمانه. فنهلوا منه وعلّوا، ثم نهلوا وعلوا، حتى استقام لهم القول، وسلس منه القياد، واستحكمت السليقة، وتمهدت الجادة.
هذا أحدهم حافظ إبراهيم؛ أخبرني مرة أنه يكاد يقرأ (كتاب الأغاني) من ظهر القلب، لطول ما عكف عليه ومارسه.
وكان - رحمه الله - شديد الحافظة، حاد الذكاء. وكنت أختلف إلى بعض مجالسه التي يذكرها من أصفيائه من لا يزالون بيننا في هذه الحياة
فكان يدهشنا حقا بواسع اطلاعه، وفيض محفوظه، وعجيب بديهته. وكان له في تلاوته وقفات خلوة للتعليق والشرح، والتعقيب والنقد. يتخلل أولئك نوادر من اللغة، وشوارد من(559/32)
الأدب، وفكاهات ومقابسات، وموازنات ومناظرات.
سقى الله مجالسك الغر يا حافظ، فقد لا يجود بمثلها الزمان! فأين هذا - هو مثال وجيز من عبقرية شاعر - من متشاعري هذا الزمان الذي كل بضاعتهم قشور من هنا ومن هناك، وثقافة فجة، وجهل مطبق بالأدب العربي وتاريخه، وألفاظ ذات بريق يلوون بها ألسنتهم، لتحسبها من الشعر، وما هي منه - لعمرك - في شئ؟
أعود إلى تلك الحقبة التي أبرزت شعراءنا الأربعة، فأزعم أنها لا تعبر إلا عنهم وحدهم، وإن نجم بينهم فيها من يعترف لهم بالاقتدار وسمو الشاعرية.
وقد يكون هذا رأيا خاصاً بي، لا يشركني فيه غيري؛ ولكنه رأي هكذا كونته. وقد أعرض له بشيء من التفصيل، متى واتت الفرصة.
فلما خلا الميدان من هؤلاء الفرسان، ودالت أيامهم، سدلت على (المسرح) الستارة. ثم عادت فارتفعت، فإذا مشهد عجب، وإذا الحال غير الحال، وإذا نحن أمام فوضى النظم والنظام، تلك الفوضى التي يجب أن يتظاهر عليها فضلاء النقاد، وذوو الرأي من الأدباء، ليكبحوا من جماحها، ويفلَّوا من شرَّتها.
(للحديث بقية)
(ا. ع)
(النقد) بمعنى المال
تناول الشيخ أحمد محمد شاكر كتاب الأستاذ العقاد (الصديقة بنت الصديق) بالنقد في جريدة الوفد المصري فأنكر البيتين اللذين نسبهما العقاد إلى عروة بن الزبير وأجراهما على لسان عائشة
فلو سمعوا في مصر أوصاف خده ... لما بذلوا في سوم يوسف من نقد
ويقول الأستاذ شاكر: (ولكن العرب لا تعرف (النقد) بالمعنى المفهوم عند المتأخرين بمعنى المال كما يقول العامة (النقد) (النقود)، وإنما النقد عندهم تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها. والنقد عندهم أيضاً خلاف النسيئة، وله معان أخر ليس منها المال نفسه، فإن شاء الكاتب الجريء - يريد العقاد - أن يكابر في هذا فليذكر لنا نصاً صريحاً ثابتاً من كلام(559/33)
الفصحاء شعراً أو نثراً يذكر فيه (النقد) بمعنى المال نفسه)
فنحن ندلي بالنصوص التي حضرتنا مؤيدة لهذا المعنى
يقول الزمخشري: (نقد جيد ونقود جياد)، وابن قتيبة الدنيوري يحدثنا في أخباره العيون فيقول: قال إعرابي:
وفي السوق حاجات وفي النقد قلة ... وليس يُقضى الحاج غير الدراهم
ويقول: قال دليم:
الله لَقَّي من عرابة بيعة ... على حين كان النقد يعسر عاجله
ويقول الحريري في مقامته التاسعة والعشرين (الواسطية): (فقد وليت العقد، وأكفلت النقد). قال شارح المقامات أبو العباس أحمد القيسي الشريشي: (النقد هو المال الحاضر)
وقد أستعمل هذا المبنى لذلك المعنى المؤرخان الجليلان أبو الحسن المسعودي وابن خلدون.
هذا ما حضرني - والذهن كليل - من تراث العرب، وهو صريح في جواز استعمال كلمة (النقد) بمعنى المال كما هو معروف اليوم
سعد محمد حسن
إلى الأستاذ الكبير أحمد حافظ عوض بك
سيدي الأستاذ
سلام عليك في عزلتك بعدما ملأت الأسماع لطفاً وظرفاً؛ وبعد: فقد حدثني الأستاذ الجليل إسعاف النشاشيبي عنك حديثاً يوزن وزناً. وقد جر إلى الحديث عنك رأيك الذي أبديته في الشعر الحديث، ونظمك لي مع أستاذنا الكبير خليل مطران في سلك واحد. ولقد شاء فضلك ومحلك في الأدب أن ترى في شعري رأياً أعده كثيراً على جهدي وإسرافاً في مثلي. ولكنك رضيت فارتأيت! ولولا أن أستاذنا الجليل النشاشيبي عاد إلى فلسطين بعد أن كان تسليمه علينا وداعاً، ومقامه بيننا غمضة عين، وخفقة قلب، وحسوة طير؛ لولا ذلك لزرتك في صحبته، وسعيت إليك في بطانته.
ولكنني ألقاك على صفحات (الرسالة) الغراء؛ فرأيك فيها وفي صاحبها مما يسر أن نذيع به. فأجعلها اليوم رسولي إليك، لشكرك والتسليم عليك. والسلام(559/34)
محمد عبد الغني حسن
في ديوان (حافظ بك إبراهيم)
كتب الأديب رضوان العوادلي بالبريد الأدبي من مجلة الرسالة الغراء العدد (543) ما نصه:
(نسى الأستاذان أحمد أمين والزين أن يوردا هذه (القصيدة) في ديوان (حافظ إبراهيم)؛ فآثرنا نشرها في الرسالة الغراء)
أنا في يأس وهم وأسى ... حاضر اللوعة موصول الأنين
ستهين بالذي (لاقيته) ... وهو لا يدري بماذا يستهين
سور عندي له مكتوبة ... ودَّ لو يسرى بها الروح الأمين
إنني لا آمن الرسل ولا ... آمن الكتب على ما يحتوين
وكم أود أن أظفر بشعر لم يضم بعد إلى ديوان حضرة شاعرنا الكبير 0فأشعاره - رحمه الله - هي ذخر فني قيم - وثروة أدبية طائلة يعتز بها كل أبناء العربية - ولكن الأبيات هذه مثبتة بالديوان المذكور لم ينسها جامعوه، وهي بالصفحة (249) من الجزء الأول في باب الغزل تحت عنوان: (رسائل الشوق)
إلا أن ثم اختلافا في ترتيبها - فيه - والأحجى أن يكون الترتيب كما ذكره الأديب، وكما جاء أيضاً في مجموعة (مختارات الزهور) الصادرة لسنة 1916 بعنوان (لوعة وأنين)
وبعد، فلحضرة الباحث الكريم جزيل احترامي.
(مكة المكرمة)
حسن عبد الله القرشي
(أبو شوشة والمواكب) لمحمود تيمور بك
للأستاذ محمود تيمور بك اختيار لطيف لأبطال مسرحياته وقصصه، فهو يوائم بين الاسم وصاحبه حتى لتجد المطابقة بينهما تامة غير منقوصة. ففي مسرحيته الفاتنة (سهاد) ترى (أم سرعرع) علماً على العرافة؛ وترى (أقميش وقرطيش) علمين على القزمين اللذين(559/35)
يثيران الضحك في كل حركة أو كلمة. وفي مسرحيته (المنقذة) ترى (شلبية) قارئة البخت. وفي مسرحيته (قنابل) ترى القزم (كتكوت) وناظر الزراعة (حواش أفندي). وفي مسرحية (أبو شوشة) ترى شخصية (الشيخ غندور) وهو شيخ أخفق في دراسته فاتخذ من (عطوة باشا) سبيلاً إلى التندر والمضاحكة في مجلسه
ومحمود تيمور يختار لمسرحياته الأزمان التي توافق فنه الرفيع: كما يختار لها الأمكنة الملائمة. فمسرحية (سهاد) مثلاً زمانها عصر الخلافة الإسلامية، ومكانها الصحراء العربية بوديانها وكثبانها ومضارب الخيام فيها. ومسرحية (المنقذة) مكانها مصر وزمانها عصر المماليك، ومسرحية أبو شوشة مكانها مصر وزمانها عصرنا هذا وأشخاصها مصريون أصلاً. وكذلك مسرحية (الموكب) التي طبعها محمود تيمور مع (أبو شوشة) في كتاب واحد
وفي أغلب مسرحيات تيمور طابع من (الفكاهة) المتمثلة في شخصيات مضحكة؛ وهذه الشخصيات يعرضها المؤلف دائماً في معرض التهريج والعبث. (فالشيخ كروان) مهرج من المرتزقة الطامعين من فتات موائد الأغنياء. وهو أضحوكة مسرحية (الموكب). والشيخ (غندور) مهرج آخر في مسرحية (أبو شوشة)؛ فهو أزهري متحذلق. وقد اتخذه عطوة باشا سميراً ونديماً. . . لا بل اتخذه مضحكاً ومهرجاً. . .! فهو حين يقدم إلى مؤنس بك ينحني ويقول فيضحك الجمع منه، والمؤلف هنا بارع، فهو لا ينطق الشيخ (غندوراً) إلا بهذه اللفظة الفرنسية، ويترك القارئ وحده يضحك لهذا الشيخ المتفرنس!
أما الشيخ (كروان) مهرج مسرحية (الموكب) فهو شيخ متحذلق أيضاً؛ إلا أنه يزيد على صاحبه (غندور) بالثرثرة والسجع المتكلف والتملق المرذول. اسمعه مثلاً وهو يخاطب (فضل الله باشا) (أقسم برب الكعبة المشرفة، غير حانث ولا كاذب، أنك رجل هذا العصر، ومنارة مصر، وأوحد الدهر - ص 83). ولا يكتفي الشيخ بهذا بل ينشد أبياتاً في مدح الباشا يصفق لها السامعون ويشتركون في الضجيج حتى المتوقرون منهم أمثال بديع بك وزهرية هانم
والمؤلف ليس عنيفاً في إدارة الحوار وتجلية الطبائع، لكنه يسوقها في هدوء بالغ، ولست تحس وأنت تقرأ (تيمور) عنفاً أو صخباً أو جلبة. ولكنك ترى الهدوء الذي ينطوي في الإلغاز والرمز. وهذا سر أن مسرحيات تيمور لا تختم بما تختم به مسرحيات غيره من(559/36)
المؤلفين. ولعل هذا سبب في أن المسرح المصري لم يحط من مسرحيات تيمور بتمثيل العدد الكثير. فإن إخراج مثل النوازع النفسية الباطنة في مسرحياته يحتاج إلى مخرج بصير مدرك، وجمهور أعمق مرامي من جماهير المسرح اليوم
ألحق أن محمود تيمور فنان مخلص لفنه، فلا تنقطع بينهما صلة على الرغم من أثقال الزمان. وقد أخرج من عهد قريب مسرحيتي (المنقذة وحفلة شاي) ومسرحية (قنابل) وهاهو ذا اليوم يخرج (أبو شوشة والموكب) في اللغة الفصحى التي كان المغفور له والده علماً من أعلامها. ولا شك في أن نشر (مجلة الصباح الدمشقية) لهاتين المسرحيتين بعد مشاركة طيبة من سورية الناهضة في إعلاء شأن المسرح العربي الحديث. وهي مشاركة سبقها فيها (لبنان) الأشم بنشر (نداء المجهول) للمؤلف نفسه(559/37)
العدد 560 - بتاريخ: 27 - 03 - 1944(/)
أبو العلاء المعري
بمناسبة عيده الألفي
في اليوم السابع والعشرين من شهر ربيع الأول عام 363، والشمس في الغروب، والقمر في المحاق، والمعرّة في همود الكلال، والطبيعة في فتور الكرى، ولد الطفل النبيل الضئيل أحمد أبو العلاء!
كان في ظلام الرحم، وولد في ظلام العشية، ثم عاش في ظلام البصر، وانتهى إلى ظلام القبر! ومن هذا الظلام المتصل نسج القدر حياة أبي العلاء وأنشأ عواطفه، وسود فلسفته، وأبهم عقيدته، وأوحش نفسه!
ومن هذا الظلام أيضاً تفجر النور كله على قلبه وعقله، فكان آية من آيات ربه الكبرى في ذكاء الفهم ولطافة الحس وقوة الحفظ ودقة التخيل. وهو القائل:
سواد العين زار سواد قلبي ... ليتفقا على فهم الأمور
وإذا كان لكل عاهة من عاهات الحس تعويض من قوى الروح، فإن لها كذلك أثراً شديداً في حياة المعُوهِ، ترسم له الطريق وتعين له الغاية. فعاهة أبي العلاء فرضت عليه أن يجعل العلم شغل حياته؛ واختارت له من العلم أنواعه النقلية والنظرية مما تغنى فيه الحافظة وتعين عليه المخيلة، كاللغة والدين والشعر، ووسائلها من الرواية والنحو والصرف والعروض؛ فقضى عمره الأول بين أيدي الشيوخ في الشام وبغداد، أو على مقاعد المكتبات في المساجد والأديرة، يسمع ويعي، ويجمع ويستوعب، حتى لم يدع كلمة في معاجم اللغة وكلام العرب إلا علقها، ولا مسألة من مسائل العلوم الأدبية إلا حذقها. ثم قضى عمره الثاني معتكفاً في داره، يُعسِّل الشهد تعسيل النحل امتلأت بطونها برحيق الزهر المختلف، ويقطر الزلال تقطير المرشح الضخم أفعم جوفه بماء السيل المشوب. ولغلبة الأدب على حافظته لم ينضح فؤاده إلا به؛ وكتبه التي أملاها وهي تربى على المائتين لم تخرج عن فنون الأدب المختلفة. أما علمه بالفلسفة وسائر العلوم فقد كان علم الأديب، يأخذ منها ولا يعطيها، ويشارك فيها ولا يختص بها. وأروع مظاهر النبوغ في ثقافته الأدبية إحاطته باللغة إحاطة المستوعب، حتى كانوا إذا عدوا من رزقوا السعادة في شئ لم يؤته الله غيرهم، عدوا أبا العلاء ممن تفرد بالاطلاع الواسع على لسان العرب. ومن هنا طغى(560/1)
الغريب على نظمه ونثره؛ إذ كان همه مصروفاً إلى تقييد الأوابد اللغوية مما جمع عليه وعاء قلبه. وما كان في نية أبي العلاء أن يكتب لدهماء الناس، إنما كان يكتب لنفسه ولتلاميذه. فهو ينظم ليرتاض، ويؤلف ليسجل، ويملي ليعلم. ومن قوله في مقدمة سقط الزند: (لم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طلباً للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس) فإذا كتب للعامة أشرق لفظه وسهل أسلوبه، كما صنع في كتابه (سيف الخطيب)، وهو مجموعة من الخطب المنبرية ألفها على حروف من حروف المعجم، ثم قال: (وتركت الجيم والخاء وما يجري مجراهما، لأن الكلام المقول في الجماعات ينبغي أن يكون سجسجاً سهلاً)
وعاهة أبي العلاء هي التي جذبت إليه العيون وشغلت به الألسن؛ لأن الضرير الذي يجيد النرد والشطرنج، ويدخل في كل باب من أبواب الجد والهزل، ويحفظ من مرة واحدة ما يرد على سمعه مما يفهم وما لا يفهم، عجيبة من العجائب التي يجب أن ترى، وتستحق أن تروى. واكتظاظ مجلسه بالناس سبيل إلى الفضول والتزيد منهم، وإلى مقابلة الحال بالحال وموازنة الحظ بالحظ منه. وأبو العلاء الذي خلق بحكم منبته الكريم عزيز النفس رفيع الهوى ظاهر المزية، كان يستشعر العجز والنقص بما يعلم من انطفاء بصره ودمامة وجهه وضآلة بدنه وقصر قامته، فكان لذلك شديد التيقظ لحركات الجالس وكلمات المتكلم. وربما أساء الظن ببرئ، وتوهم الإساءة من محسن. وهو في طعامه وهندامه وسلامه وقيامه عرضة للخطأ ومظنة للمؤاخذة؛ فكان لا ينفك متزايلاً ضجراً يديم الحذر ويؤثر العزلة
صاحب أبو العلاء الزمان ولا بس الناس وراود السعادة حتى استحار شبابه، فلم تزده الأيام إلا يقيناً بعجزه الطبيعي عن مجاراة الأنداد في سباق الحياة، وعن مرضاة النفس بلذات العيش، وعن منازلة الخصوم بسلاح الإفك، فانقلب إلى داره ناقضاً كفيه من دهر لا رجيَّة له فيه، وعالم لا صديق له به، ونعيم لا نصيب له منه. وساعد على إمضائه نية الاعتزال فجيعته في أمه وهي الظل الذي يأوي إليه، والسبب الذي يتعلق به؛ فزهد في الدنيا وصدف عن الناس، وأخذ نفسه بالخشونة والحرمان خمساً وأربعين سنة لا يلبس غير القطن، ولا يفترش غير اللبد، ولا يأكل غير العدس، ولا يتفكه إلا بالتين. وهو في أثناء ذلك الدهر الطويل منطو على نفسه، متحامل على ذهنه، يحوك القوافي ويصوغ الأسجاع في التسبيح(560/2)
لله، والتزهيد في العيش، والترغيب عن الزواج، والزراية على أم دفر، والتنديد بأبي البشر، والتشنيع على رياء أهل الدين وجور أصحاب الحكم، والتشكيك في صلاح الأنظمة والشرائع.
كان أبو العلاء في شبيبته نسيم رحمة، ثم صار في كهولته عاصفة دمار! ولعله لو كان بصيراً متفائلاً كالجاحظ، أو ضريراً شهوان كبشار، لتبدل حكمه على الدنيا، وتغير رأيه في الناس!
أحمد حسن الزيات(560/3)
على هامش العيد الألفي
لأبي العلاء
بقلم صديقه الأستاذ كامل كيلاني
(وهي صفحة من مقدمته التحليلية لرسالة الهناء، إحدى رسائل
المعري المخطوطة. وستظهر للناس مشروحة مضبوطة بقلم
الأستاذ عما قليل)
القدرة الإلهية
يرى أستاذنا الجليل (أبو العلاء) - فيما يراه - أن قدرة الله، سبحانه، لا يعجزها شئ؛ فاليبيسُ مستعيدٌ - بمشيئته - بعد اصفراره، شبابه وخضرته، مسترد - بعد مواته - حياته ونضرته
والنيران الملتهبة متفجر لهيبها - بأمره - مياهاً سائلة، والطبيعة الإنسانية متحولة - بإذنه - من الغدر إلى الوفاء. والأغنام متغيرة طبائعها - بحكمه - مستبدلة بضعفها قوة، وباستخذائها إقداماً وعزيمة، متخيرة من عرين السباع سكناً تأوي إليه وتقر فيه
وهكذا يسترسل أبو العلاء في خياله البارع، وأسلوبه الساخر الفياض بالدعابة القاسية والتهكم اللاذع، والسخط المرير، فيثبت لنا بما ألفناه من طرائق إثباته المبدعة أن الطبيعة الإنسانية لا سبيل إلى استقامتها واستوائها، إلا إذا تغيرت طبائع الأشياء كلها، وانقلبت حقائق الكون الثابتة، فدبت الحياة في الهشيم، وتحولت النار ماء، والأغنام المستضعفة سباعاً ضارية
وإلى القارئ النص العلائي الذي فصلناه:
(إذا أذن ربنا أخضر الدرين (اليبيس)
وتبجست - بالماء الإرين (النيران)
ووفي لقرينه، القرين، وراحت الساجسية (وهي ضرب من الغنم) ومأواها العرين. . .
وذلك - من القدرة - ليس ببديع!)(560/4)
وفي رسالة الهناء هذه التي نجلوها لرواد الأدب العلائي في عيده الألفي يقرر لنا شيخ المعرة كيف يتحول الطبع الإنساني من الكذب إلى الصدق، ويسلك في تقريره مثل ذلك النسق الفريد المبتدع الذي سلكه في فصوله وغاياته، فيتمثل صاحبه وقد انشقت له لجج البحار بإذن الله، كما انشقت من قبل لموسى الكليم، ثم يتمثل دهشة الأسماك - حينئذ - مما حدث، ويتخيل حيتان البحر وهي تتحدث متعجبة متطلعة إلى تعرف اسم ذلك الشيخ العظيم الذي تمت على يديه المعجزة، مضاعفة لصاحبه الثناء، داعية له بطول البقاء، وموصول السعادة والهناء، مبتهلة إلى الله أن يجزل له في عطائه ومكافأته، في دنياه وآخرته، جزاء ما أسلف للناس من مكرمات، وأسدى إليهم من حسنات
فإذا انتهى شيخ المعرة من هذا التمهيد، راح يصف في براعته النادرة، وألمعيته الساخرة، كيف تأذن القدرة الإلهية أن تخمد نيران الكذب، ومتى تريح العالم من لهيبه المستعر، الذي لا يبقى ولا يذر
ولكنه يبنى آماله البعيدة على مقدمات تسبقها، وهي في قدرة الله هينة، وإن كانت في طاقة البشر مستحيلة التحقيق
فهو إذا شاء - سبحانه - أمر اللجج الملاح، فأصبحت عسلاً سائغاً حلو المذاق، وانقلبت ملوحتها المفرطة في المرارة شهداً مفرطاً في اللذاذة والحلاوة
وهو إذا شاء - سبحانه - جعل السفينة تمشي على اليابسة، وتصبح قبساً متوهجاً من السّنا والنور، كأنما قبس لتوه من شعلة من النار ملتهبة. وليس هذا بالمطلب البعيد المنال، متى أذن من أبدع الأكوان على غير مثال
وهو إذا شاء - سبحانه - أمر الريح أن تحمل السفينة وأن تطير بها في أجواز الفضاء، كما حلت عرش (بلقيس) في غابر الزمان، فإن القياس يجوِّز وقوعه ويرضاه، والقدر تقر حدوثه ولا تأباه
ولو شاء - سبحانه - لجعل أسماك البحر وحيتانه آمنات ممنعات، في رغد من العيش هانئات، يتهادين في ذرا الجبال الشامخات، ويمرحن في أرجائها الفسيحة منطلقات، ويجرين في جنباتها مسرعات، كما تجري أسراب النعام في واسع الفلوات، زرافات وجماعات.(560/5)
وهنا يتمثل (أبو العلاء) صاحبه - وقد تم له المراد، وبلغ من غايته ما أراد - ويتمثل القدرة الإلهية التي لا يعجزها شئ ممتنع في العقول، وقد أذنت لمياه البحر أن تعود إليه، وأعلنت كلمتها بأن ينصلح ما فسد من الزمان، ويستقيم ما اعوج من طبع الإنسان، وتنطفئ نيران الإفك والبهتان
ومتى تحققت هذه الخوارق والمعجزات، انتصر الصدق على الأكاذيب والترهات. فلنرتقب مع شيخنا المعري هذه النتائج الباهرات، فلسنا يائسين من الفوز والظفر، والعاقبة لمن تأنى وصبر
لعل الكثيرين من قراء (ابن الرومي) يذكرون - بهذه المناسبة - أسلوبه البارع في سخريته من الوزير (أبي الصقر) حين ولى الديوان، وعجب خصومه من تلك الطفرة، وكيف تظاهر (ابن الرومي) باستنكار ما تخيله من دهشتهم فقرر لهم معابثاً ساخطاً أن ظفره بذلك المنصب ليس أعجب من ظفره بالانتساب إلى أسرة (شيبان) العربية الكريمة مع أنه من الأعجام، ولكن الحظ السعيد يصنع الأعاجيب، والقدرة الإلهية تفعل ما تشاء من الغرائب، ثم ختم دعابته القاسية بقوله:
إن للحظ كيمياء، إذا ما ... مس كلباً أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء، كما ش ... ء، متى شاء كائناً ما كانا
وللمعري في هذه الرسالة مثل ما له في غيرها من منثوره ومنظومه: فنون معجبة في وصف ما تبدعه القدرة من تصوير الأماني والأحلام، وبعث الهواجس والأوهام، شخوصاً بادية للعيان، مائلة في الخلد والجنان
وهو لا يفتأ يتمثل جميع الكائنات، من جماد وحيوان ونبات، وكواكب وسيارات، وحروف هجائية وكلمات، وقواف وحركات، وأصفار وأعداد وأرقام مضروبات ومقسومات، كأنما هي أناسي مثلنا، موفورة الإحساس بالحياة، تألم مثل ما نألم، وتتناجى كما نتناجى، ويعرض لها كما تعرض لنا - ألوان من الأماني والرغبات، وتستحر بينها ضروب الفتن والعدوات وتعلن في منطق - هو على خفائه عنا - بليغ فصيح، رائع التقديس والتسبيح، تبتهل بصادق الدعوات، في الغدوات والآصال والروحات، لخالق الأرضين ومبدع السموات(560/6)
فلا غرو إذا رأيناه يتمثل - في هذه الرسالة - طريقاً ضيقاً يبتهل إلى خالقه أن يجزي صاحب (المعري) أحسن الجزاء مكافأة له على ما بذل من صالح المسعى، ويتجه الدرب إلى الله أن يبدل من شعابه الضيقة، مسالك وطرقاً فسيحة الرحاب. تغدو - لفرط سعتها - كأنها الصحاري والسباسب، لا تضيق بالعدد الأوفر من الجيوش الحاشدة والمواكب. وأن تتبدل أحجار الأكمة الخشنة، فتصبح بعد خشونتها ناعمة، كأنها لملاستها رق نعام
ثم يتمادى في خياله فيتمثل القدرة الإلهية قد بدلت لصاحبه أحجار التلال موائد حافلة بلذائذ الأطعمة والأشربة، يصيب منها الجائع ويرتوي الظمآن كما شاء، لا يتكبد في ذلك مشقة ولا عناء
وللمعري - في غير هذه الرسالة أيضاً - من روائع الصور الفنية التي يتمثل فيها من عجائب القدرة الإلهية، ما لا تتسع له هذه الإلمامة الموجزة، فلنجتزيء من ذلك بوجازة خاطفة، تاركين التفصيل لفرصة أخرى، فهو يقول في فصولة:
(يقدر الله على المستحيلات: رد الفائت، وجمع الجسمين في مكان، وما لا تحتمله الألباب، إذ كان لا ينسب إلى عجز أو انتقاص. فإذا مررت بعود بال، فاعلم أن الله يستطيع أن يكسوه أخضر كخضرة الحسام، حتى يورق ورقاً، كعدد الرمال، ويقف على كل ورقة ورقاء (حمامة) تعبده بألحان معبديات (منسوبة إلى (معبد) المغنى المعروف) أو يقول:
وفي قدرة الخالق أن يجعل الراحة (بطن اليد) ذات ذوائب، والهامة (الرأس) كفاثور اللجين (خوان الفضة) وأن يجري الفضة من الفجاج) أو يقول: (والله - بقدرته - يطير ذوات الأخفاف)
ثم يسبح الخيال بأبي العلاء. فيستبق الأجيال، حتى ليتمثل عصرنا الحاضر: عصر السرعة الخاطفة وما يتلوه من عصور، متنبئاً بما كشفه العلم وما لم يزح الستر عنه إلى اليوم، فيقول:
(إن شاء المليك قرب النازح وطواه، حتى يطوف الرجل - في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر طوفه بالكعبة حول (قاف) (وهو - فيما تقول الأساطير جبل محيط بالأرض)، ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما همت بالأسحار)
وثمة يطفر به خياله الوثاب، فيتمثل في عالم الأماني والأحلام ما بلغه العلم بعد عصره(560/7)
بألف عام، فيتخيل الإذاعة اللاسلكية التي أصبحت الآن حقيقة راهنة بعد أن كانت وهماً من الأوهام فيقول: (ويسلم بمكة، فيسمعه أخوه بالشام)
ثم يتمادى في خياله فيتمثل الإنسان وقد استطاع أن ينقل النار في لحظات من مكان قصي إلى آخر، أو يتخيله يغص باللقمة وهو في (خراسان) فيسرع إلى ماء (زمزم) ليستقي منه ويزيل غصته به. أو بغيره من المياه البعيدة النائية، فيقول: (ويأخذ النار من نهامة، فيوقد بها النار في يبرين وقاصية الرمال. ويجأز بأكيلته (بغص بلقمته) في قصور فرغان (في خراسان) فيعتصر بماء المضنونة (زمزم) أو جراب (موضع بعيد، فيه ماء)
كامل كيلاني(560/8)
الأدب والأخلاق
للأستاذ عمر الدسوقي
تقليد:
ربَّ! إلى أين نحن سائرون؟ وما هذه العواصف التي تعصف بنا من كل صوب؟ وما هذا الفيض المنهمر الذي ترمينا به المطابع في هذه الأيام؟ أبلغنا حد الترف العقلي والعمراني، وأخذنا نصيبنا كاملاً من ضروريات الحياة، والغذاء الصحيح للعقول، ومقومات الأخلاق والشخصية، ولم يبق أمامنا إلا أن نعكف على مخلفات الحضارة الأوربية نلتقط منها الغث والسمين، والنافع والضار، والجميل والدميم، وما يلائمنا وما لا نستسيغه، وما لا يوافق طباعنا وعاداتنا وجوهر شخصيتنا؟
أهو اتجار بعقلية الجماهير، واستغلال لرغبتها الملحة في القراءة، وحمى من حميات كسب المال التي ملكت على بعض الناس عقولهم وألبابهم في هذه الأيام العصيبة؟ أم هو افتتان بما أوقع أوربا في التهلكة، وفكك فيها الأسرة والشعب، وطوح بالأخلاق والفضيلة والإيمان، وجعلها تنبذ المثل العليا، ولا ترى إلا المادة المزرية هدفاً يذلف إليه ويتناحر الناس في سبيل الوصول إليه حتى أرداهم حرصهم عليه في ذلك الأتون المستعر الذي كاد بالطارف والتليد؟
وإلا فما هذا القصص الخليع الذي يثير الشهوة ويقتل الحياء، ويلطم وجه الفضيلة والشرف، ويوحي بالإجرام والفسق؟ وما هذا الأدب الموبوء الذي يزلزل العقيدة ويخدش العفاف؟ إنه ورد آسنٌ وغذاء عفنٌ وايم الحق، وأحرى به أن يصادر، ويؤاخذ المتجرون به أخذاً عنيفاً على ما أجرموا في سبيل أمتهم الشادية في العلم والحضارة! إنهم يريدون مسخها وتشويهها حتى تتناسى ماضيها، وتفقد ما كمن فيها من عزة وأنفة، وتنسى أن لها ديناً يعصمها من الزلل والعثار، وتاريخاً يزخر بالبطولة والمثل العليا، وأدباً هو وحي الفطر السليمة
ولقد أعدت الحمى كثيرين فأخذوا يقلدون هذه السلع الدخيلة من غير وعي، ويصورون أسوأ ما في مجتمعاتنا مرة باسم (الأدب الواقعي) وتارة باسم (الأدب الحر)، وأخرى باسم (الفن للفن). . . إلى غير ذلك من هذه العلامات التي رأوها ملصقة على الآداب الواردة(560/9)
من الخارج، دون أن يدركوا ما في انتحالهم هذا من عبث وهذر وتزييف وتقليد غث
إن تملق النزعات الوضيعة عند الجمهور، وبعث الغرائز الدنيا لدى الإنسان من معقلها - وقد حاولت الأديان والأخلاق والعلم الصحيح كبتها وتهذيبها - تحت هذه الأسماء المزيفة التي جنت على الغرب من غير أن نتعظ بمأساته جرم لا يغتفر
ليس للأدب الواقعي قيمة لا من جهة الفن ولا من جهة المغزى؛ لأنه محاكاة لما في الطبيعة أو لما في البيئة الإنسانية محاكاة لا تصرف فيها، فلا تظهر شخصية المؤلف أو إحساس الخاص، أو ما يضفيه خياله على الصورة المنقولة، وكل ما له من جهد أنه جرد الصورة مما يحيط بها وحاول إبرازها بأداء تعبيره، على قدر استطاعته، طبق ما في الخارج
ففن المؤلف هنا سلبي محض، وأما المغزى، فالأصل دائما أروع وأبلغ وأكبر أثراً في النفس من التقليد. ولم أجد على هذا المذهب أشفى من رد أرسطو حين يعرف الأدب في كتابه الشعر (بأنه تقليد الناس بصورة خير مما في الحياة أو شر مما في الحياة) مهملاً مطابقته لما في الحياة؛ (لأن الأصل أمامنا أبداً وهو أبلغ وأقوى) وبدهي أن أرسطو قصر الأدب بتعريفه هذا على المأساة والمهزلة، ولا يعنينا تبيان رأيه هذا إلا بالقدر الذي سقناه إليه؛ إذ يريد إثارة العواطف والمشاعر في الناس، ولذا فهو يبالغ في مثل الخير حتى يحمل الناس على احتذائها، ويبالغ في تصوير مثل الشر حتى ينفر الناس منها
ثم لماذا لا يقلد هؤلاء باسم (الأدب الواقعي) إلا الصور الدميمة التي تدفع إلى الرذائل ذوي القلوب الخاوية والأخلاق الرقيقة، ومن ليس عندهم مبادئ تعصمهم أو إيمان يردعهم، ومن تسهل غوايتهم وإضلالهم؟
أما (الفن للفن) أو للفن المقصود لذاته فعبارة يريدون بها أن ليس للفن وظيفة يؤديها في الحياة، وأنه لا يحكم عليه بأمور خارجة عنه فلا يقال: إنه صادق أو صحيح أو نافع أو مهذب أو ضار أو كذب، وإنما هو التعبير لمجرد التعبير دون أن نتوقع منه أن يخبرنا بشيء أو يقنعنا برأي
أما أن يكون للكلام معنى أو خالياً من المعاني، فإن كان له معنى، فإما أن يكون المؤلف قد عناه وحاول التعبير عنه أو يكون قد جاء عفواً دون أن يدري به أو يقصده، فإن كان قد عناه ورمى إليه بعبارته فليس أدبه من الفن للفن؛ وإن كان رمية من غير رام وشيئاً صدر(560/10)
عنه من غير أن يشعر به أو يعمل فيه فكره - فلو سلمنا بهذا - لم يؤاخذ عليه صاحبه لأنه أشبه بهذيان المحموم وعبارات المعتوه لا يعنيها ولا يريدها ولا يسأل عنها أو يحاسب عليها. ومثل هذا حري بنا ألا نشغل به عقولنا أو نسميه أدباً. وأما إن كان الكلام خلواً من المعاني فحسبنا أنه كذلك، فهو لغو وهراء فهل هذا هو (الفن للفن)؟
إني أفهم (العبارة) على أنها وسيلة لنقل معني في نفس المؤلف يريد أن يفضي به للقارئ، لا غاية في ذاتها؛ وهذا المعنى سيؤدي وظيفته من تأثير في نفس القارئ بالخير أو الشر، وسيصدر عليه القارئ حكمه حتماً حسب استعداده وحسب قوة وصوله إليه أو ضعفها - تبعاً لمهارة المؤلف الفنية - سواء أراد المؤلف ذلك أم لم يرده. أما ألا نوجه للفن حكماً خارجاً عن طبيعته، فأغلب الظن هذه نظرية أرادوا بها التخلص من التبعات والتهرب من النقد، والتستر وراء الفن حتى لا يهاجموا أو يحاكموا إن ند فكرهم أو شردت أغراضهم عن المألوف، أو طعنوا الفضائل واستخفوا بالأخلاق
مهمة الأدب
الأدب صورة لما يتجاوب في النفس الإنسانية الملهمة الفنانة من فكر وإحساس ورغبة، فنفس الأديب تتأثر تارة بما في الحياة من تجارب ومناظر وحقائق واحساسات فتنفعل لتلك المؤثرات وتتحد معها وتضفي عليها من إلهامها وخيالها ومشاعرها ثم يبرزها بعد ذلك الانصهار ليتأثر بها غيرها، وتارة تتبع تلك الصورة من النفس ذاتها وما اختزنته من تجارب وما أدته من علم وخيال. وفي كلتا الحالتين هناك صورة تختمر من نفس الأديب تظهر في عبارة لتنقل إلى القارئ، وكلما كان تأثر الأديب بالصورة عظيما، وتعبيره عنها قوياُ، كان تأثيرها في القارئ لا يقل عن أثرها في نفس مبدعها.
وما دام الأدب لا بد أن يمر على النفس الإنسانية ويصدر عنها، فمظاهر هذه النفس تحدد لنا الغاية من الأدب والمهمة التي يضطلع بها في الحياة.
نعلم أن للنفس الإنسانية ثلاثة مظاهر: تفكير ووجدان وإرادة. فالتفكير يبحث عما في الحياة والكون من حقائق، ويتفهم ما في هذا العالم تفهماً صحيحاً عارياً عن اللبس والغموض، فغاية هذا المظهر الحق.
والوجدان يتأثر بالجمال والجلال والقوة، والألم والأمل، وينفعل بكل ما يثير العاطفة(560/11)
ويغذيها ويرهفها، فغايته الاهتداء لمواطن الروعة والجمال، سيان في ذلك ما يوجد في الكون والطبيعة، وما يرى في الحياة الإنسانية من تصرفات ومآسٍ وخلق، فما كان منه منسجما رائعاً شع في النفس الأديب الإعجاب والارتياح، وما كان منه متنافراً رديئاً أثار في نفسه الألم والاشمئزاز
والإرادة تصبو إلى تنفيذ ما يرجوه الإنسان وما يرغب فيه، وما يراه أنه خير له، وأن في تحقيقه سعادته، والإنسان دوماً حريص على أن يحقق عظائم الأمور، ويتوق إلى الكمال؛ ولهذا كان مظهر الإرادة في نفس الإنسان السليم هو الخير
فالنفس الإنسانية بمظاهرها الثلاثة تجرى وراء الحق والجمال والخير، وما دام الأدب صورة لنفس إنسانية ممتازة بالإلهام والقدرة على التعبير فلابد أن يحقق واحداً من هذه الثلاثة
وإذا كان هناك أدب لا هذه الأمور أو يفصح عنها فهو أدب نفس مريضة شاذ يهيم بالضلال والدمامة والشر، وهو أدب يترضى النزعات الحقيرة في الإنسان، وينادي الأجزاء الدنيا من النفس الإنسانية لتستجيب له، ويعمل على شل سيطرة العقل أو إضعاف سلطانه على بقية أجزاء النفس من قوى شهوانية وغضبية، وفي هذا ما فيه من شر مبين على نفس الفرد وانسجام المجتمع.
ثم إن نفس القارئ تهتز وتطرب وتأذن بيسر وسهولة لمن يحدثها عن الحق والجمال والخير إلا النفوس الوضيعة الملتاثة. ولا ريب أن الموضوعات النفسية تختلف أنواعها في نظر الإنسان بين الجميل والقبيح والجليل والحقير والشريف والوضيع، وهي تهتز وتعجب بمن يصور لها الجمال والمجد والشرف، وتصغي لهذه الحقائق في نهم وشوق لأنه يسمو بها ويحلق في أجواء المثل العليا التي تطمح في الوصول إليها، وبنيه فيها مشاعر الجمال والجلال. قد يجيد بعض من يتحدثون عن الأشياء التافهة الحقيرة؛ بيد أن جودة فهم قد تغبن في تفاهة الموضوع. والأدب لا ينظر فيه إلى الإجادة فحسب، ولكن يراد مع هذا الموضوع الذي ينفث في النفس الإنسانية من قوته وسحره وروعته. فيشد من عزيمتها وينمي مشاعر الخير والجمال منها، وبهذا يؤدي الأدب رسالته السامية، وفي هذا يتفاوت الأدباء في ميدان الخلود والشهرة، وكلما حققوا في كتبهم وجعلوا غايتهم تلك المثل الرفيعة، كان حظهم من(560/12)
المجد والعبقرية أوفى
أما هؤلاء الذين يتشدقون بأنه ليس من شأن الأديب أن يكون واعظاً أو مرشداً وإلا ثقل على النفس وسمج فأقول: إن هناك طرقاً شتى للتأثير في نفس القارئ وتحقيق الغاية من الأدب، فالإيحاء والتعريض، والصورة والرمز وضرب المثل، وإبراز المآسي، والتهكم والتندر بالأسلوب الطريف الشائق؛ كل هذه وسائل تعبد أمام الأديب سبيله. أما أن يكون أدبه مجرد عبارة تقال لا غاية لها ولا معنى تفصح عنه، فهو هراء تربأ بأنفسنا وبكم أن نشغل به
وبعد فنحن أمة لا يزال نصيبها من الرقي ضئيلاً، وفينا عيوب خلقية واجتماعية كثيرة، ونحن أحوج إلى من يرينا الحق ويهذب نفوسنا، ويكبح جماح شهواتنا، ويرشدنا إلى طريق السعادة والخير. إن بيتاً من الشعر قد يصلح نفساً ضالة أو يرد النكس الجبان إلى الثبات والشجاعة. ولقد قتل بيت من الشعر أبا الطيب المتنبي حين هاجمه أعداؤه وهو عائد من لدن عضد الدولة، فلما رآهم كثراً وأنه ليس لهم نداً، هم بالفرار فنادوه: ألست القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ورحم الله معاوية حين قال: (اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، فلقد رأيتني ليلة الهدير بصفين، وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى فما حملتني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمى، بعد، عن عرض صحيح
عمر الدسوقي(560/13)
محاورات الموتى
المحاورة الثالثة
للكاتب الفرنسي برنار توفيه دفونتنيل
بقلم الأديب يوسف روشا
هوميروس وإيزوب
هوميروس: صاحب الملحمتين الخالدتين الالياذة والأوديسة، عاش حوالي 850 قبل المسيح، ومن أغرب ما تحكى أن الرسام أغاتون قد دفعه تعصبه لهوميروس إلى أن يصوره وهو يقيء وسائر الشعراء يزدردون قيئه
إيزوب: مؤلف وفيلسوف إغريقي، صاحب القصص الخرافية المشهورة، عاش في القرن السادس قبل المسيح، وكان عبداً ثم أعتق لنبوغه.
للمحاورة
هوميروس: ليس من الممكن حقاً أن تظفر كل هذه القصص الخرافية التي قرأتها على بإعجاب الناس كثيراً. على أنك لو لم تكن على جانب عظيم من الفن ما استطعت أن تضمن قصصك القصيرة هذه العظات البالغات، وأن تذيع أفكارك القيمة على ألسنة البهائم.
إيزوب: ما أجمل المديح لهذا الفن يصدر عنك أنت الذي تجيده كل الإجادة!
هوميروس: أنا؟ أنا لم أحاوله قط.
إيزوب: ماذا؟ ألم تزعم أنك ضمنت مؤلفاتك عظات بالغات؟
هوميروس: مع الأسف لم يخطر ذلك على بالي
إيزوب: ولكن العلماء في زماني قالوا كلهم ذلك، وقد أقبلوا على الإلياذة والأوديسة فاستعاروا صورهما، وصاغوا منها أجمل المعاني الرمزية، مؤكدين أن جميع أسرار اللاهوت والطبيعيات والأدب، حتى الرياضيات مبثوثة في ما كتبت، على أن نشرهم لتلك الروائع لم يكن سهلاً هينا؛ فبينما كان أحدهم يجد معنى أخلاقياً إذا يراه طبيعياً. ولكن ما عدا ذلك لم يكن هناك اختلاف في أنك كنت محيطاً بكل شئ، ولقد قلت كل شئ للذين يفهمون ما كنت تقول(560/14)
هوميروس: أقول لك الحق، لقد وقع في نفسي أن بعض الناس لا يعجزون عن استنباط أروع المعاني وأبلغ العبر مما كتبت، مع أني لم أقصد إلى شئ من ذلك. ما أسهل على المرء أن يتنبأ عن حوادث بعيدة ثم ينتظر وقوعها، أو أن يقص حكايات خرافية ثم ينتظر من يطبق عليها المجازات!
إيزوب: لاشك أنك كنت جريئاً بعض الشيء في إلقائك عبء إدخال المجازات في شعرك على كواهل قرائك. أين كنت تكون لو أنهم فهموها على معناها الحرفي؟
هوميروس: هدئ من روعك، فإن ذلك لو حدث لما نشأ عنه نكبة عظمى كما تتصور
إيزوب: كيف! وهؤلاء الآلهة الذين بعضهم بعضاً! أما ترى إلى كبير الآلهة (جوبيتر) كيف يتوعد زوجه البارعة (جونو) في أحد اجتماعات الآلهة بضربها؛ وإلى مارس إله الحرب وقد جرحه (ديوميدس) جرحا بليغاً كيف يصرخ كما تقول بقوة تسعة آلاف أو عشرة آلاف رجل، ومع ذلك لا يعمل ما يعمله رجل واحد! فبدلاً من أن يمزق اليونانيين شر ممزق لا يرى غضاضة في أن يذهب إلى كبير الآلهة يشكو له جراحه! كان في الإمكان أن تبلغ هذا الغرض من غير حاجة إلى استعمال المجازات
هوميروس: وماذا على من ذلك؟ أتتصور أن الطبيعة البشرية لا تتوخى غير الحقيقة؟ إذن ما أضلك! إن هناك عطفاً متبادلاً واتصالاً وثيقاً بين الذكاء البشري والكذب. فإذا أردت أن يستسيغ الناس الحقيقة فلابد أن تكسوها بالأساطير، على حين أن الأساطير لا تحتاج إلى الحقيقة ليستسيغها الناس! فالحقيقة إذن مضطرة إلى أن تستعير وجه الكذب ليتقبلها ضمير الإنسان قبولا حسناً، ولكن الكذب ينفذ إلى قلب الإنسان بغير استئذان ولا شفيع، ذلك لأن هناك مولده وفيه مقامه. أما الحقيقة فهي وحدها الغريبة. والحق الذي لا شك فيه ولا يحسن بك أن تجهله هو أن آلهتي على علاتهم لم يستسخفهم الناس.
إيزوب: إن الذي تقوله يفزعني، فأنا شديد الخوف من أن يعتقد الناس أن الحيوانات تتكلم جعلتها تتكلم في أساطيري
هوميروس: ذلك خوف لا حقيقة له
إيزوب: كيف؟ إذا كان الناس يعتقدون أن في إمكان الآلهة أن يتحدثوا فيما بينهم على الصورة التي قصصت، فماذا يمنعهم من أن يعتقدوا أن الحيوانات تتكلم كما أردت لها أن(560/15)
تتكلم؟
هوميروس: تلك مسألة أخرى. إن الرجال يسرهم أن تنخفض الآلهة إلى دنياهم، ولكنهم لا يرغبون أن ترتفع الحيوانات إلى مستواهم!
يوسف روشا(560/16)
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها
للأستاذ سعيد الديوه جي
- 4 -
(أ)
الاعتقاد بآلهة سبعة
يعتقد اليزيديون أن الله خلق سبعة آلهة من نوره، وكان عمله هذا كمن أوقد سراجاً من سراج. وهؤلاء الآلهة السبعة هم:
الملاك عزازيل وهو (طاووس ملك) رئيس الجميع خلقه يوم الأحد
الملاك دردائل وهو الشيخ حسن خلقه يوم الأثنيين
إسرافيل شمس الدين خلقه يوم الثلاثاء
ميخائيل أبو بكر الأربعاء
عزرائل وهو السجادين خلقه يوم الخميس
شمنائل ناصر الدين الجمعة
نورائل بدين السبت
وقال لهم الله إني خلقت السماء فليصعد كل منكم وليخلق شيئاً، فصعد الأول وخلق الأرض، وصعد الثاني وخلق الشمس، والثالث القمر، والرابع الفلك، والخامس (المصرفع) أي نجمة الصبح (والسادس الفردوس، ثم جهنم. ثم صعد الله إلى محله وتناوب هؤلاء الآلهة السبعة إدارة العالم منذ طوفان نوح إلى الآن، وكل منهم تولاه ألف سنة دون أن يتدخل أحدهم في شأن الآخر. والحكم الآن والتدبير (بين طاووس) وهو رئيسهم والمتأمل في آلهتهم يجد أنهم - ما عدا طاووس ملك - مشايخهم الذين أضلوهم عن الطريق، وأولهم الشيخ حسن، وهو أول من بدل دينهم. وهذا نتج عن الغلو في حب هؤلاء المشايخ حتى أدى إلى تأليههم. والاعتقاد بآلهة سبعة هو اعتقاد الصابئة؛ ولعل هذا الاعتقاد سرى إليهم من صابئة (حران)، وقد علمنا أن هذه المدينة كانت منذ العهد الأموي من أشد الناس تعصباً للأمويين وأنها كانت كذلك مركز الصابئة في صدر الإسلام(560/17)
(ب) الشيطان (طاووس ملك)
ويعتقدون أن الشيطان - ويسمونه (طاووس ملك) - أشد هذه الآلهة بطشاً، وأنه أقربهم إلى الله تعالى؛ بل إن سلطانه في بعض الأحيان لا يقل عن سلطان الله جل وعلا، وأنا مختص بالملة اليزيدية. وقد جاء عندهم ورأوه، وينكرون أمر طرد من الجنة. جاء في مصحف رش: (إن الأمم لا تعرف ذلك فنقول إن إلهنا نزل من السماء مطرودا محتقراً ولذا يجدفون عليه، فقد غلطوا بذلك وضلوا، أما عندنا نحن اليزيدية فلا نقبل ذلك، لأننا نعرفه وحدنا وهو واحد من السبعة الآلهة المذكور آنفاً ونعرف صورته وشخصه وهي صورة الديك، فلا يجوز لأحد أن يلفظ اسمه أو ما شابه اسمه كالشيطان والقبطان وشروشط وما شاكل ذلك، ولا لفظة ملعون أو لعنة أو نعلبذ أو ما أشبه، فكلها حرام علينا لفظها احتراماً له. وإذا جدف عليه أحد أو نطق بما شابه ذلك أمام يزيدي يجب على اليزيدي أن بقتله أو يقتل نفسه. أما بقية الطوائف فلا تعرف هذه الأشياء كلها، لأنها لا تعرف طاووس ملك ولا يعرفها ولا ينزل عن حدها. أما نحن معشر اليزيدية فأني عندنا وسلم لنا الآيات والحقائق والقوانين، فصارت كلها بالتناسل وراثة من الوالد إلى ابنه ثم صعد إلى السماء). وفي (مصحف رش) ما يستفاد أن (طاووس) هو المتسلط على العالم الفعال بلا منازع ولا يسمح لغيره من الآلهة أن يتدخل في أمره. قال (طاووس ملك) (أنا موجود ولبس لي نهاية. أنا رتبت منذ القديم تدابير العالم وانقلاب الأجيال وتعرف مديريهم لي تسلط على كل الخلائق، وإلى تدبير مصالح كل الذين تحت حوزتي وقبضة يدي. أنا حاضر سريعاً عند الذين يثقون بي ويدعونني وقت الحاجة، ولا يخلو مني مكان في الدنيا كلها. أنا مشترك في كل الوقائع التي يسميها الخارجون شروراً لأنها ليست تحسب مرامهم) وهو فوق هذا متسلط على بقية الآلهة وهم قاموا بوظائفهم حسب إرادة هذا الرئيس.
ومن لم يفعل ما يأمره به (طاووس ملك)، فإنه يندم. جاء في الجلوة: (لكل زمان مدبر مشورتي. ويندم ويحزن الذي يقاومني. جميع الآلهة ليس لها مداخلة في شغلي. بيدي قوة وسلطة على جميع ما في الأرض فوقاً وأسفل) وطاووس ملك نوصي أتباعه أن يخلصوا لتعاليمه ويدافعوا عنها فإن فعلوا هذا، فإنهم يجدون في أنفسهم لذة وفرحاً وينالون خيراً منه. وأما الذين يقاومونه فإنه يسلط عليهم الأوجاع الأسقام. وهو الذي يعطى. ويمنع والعظمة(560/18)
والثروة بيده يعطيها لمن يختاره من بني آدم، ويمنعها عمن يسخط عليه. ويروون حكايات كثيرة تدل على تسلطه على بقية الآلهة، وإنه يفعل ما لا يقدر غيره من الآلهة أن يفعله حتى ولو كانت هذه الأفعال خلافاٌ لأمر الله غز وجل. ومن ذلك: أن الله غضب على عيسى بن مريم مرة فأخذه ونزل به الأرض وألقاه في جب ووضع طبقاً كبيراً من الحجارة على فوهة الجب لئلا يخرج، وبقى هذا المسكين يعاني آلام الوحدة والوحشة والجوع والعطش، وأخذ يستغيث بالآلهة واحداً بعد آخر فلم يجبه أحد خوفاً من الله. وأخيراً خطر بباله طاووس ملك فاستغاث به فما كاد يسمع صوته حتى هرع إلى الأرض وأخرجه من الجب وصعد به إلى السماء. ولما رآه الله جل جلاله سأله من أخرجك؟ قال له: طاووس ملك. فقال له الإله: لا بأس بذلك، لأن طاووس ملك عزيز علىّ ولا أرد له عملاً وأن غيره لا يقدر على إخراجك من محبسك إلا بأمري
أما عدم سجوده لآدم فيعتقدون أنه كان محقاً في ذلك، وكان بفعله هذا ممتثلاً لأمر الله تعالى ولم يخالفه، وإنما نال القربى منه بعد أن حاجه في فعله، وذلك (أن الله عندما خلق السموات والأرض سلم مفاتيح الخزائن إلى طاووس ملك وأوصاه أ، يفتح هذه المخازن كلها إلا واحداً. ولكن طاووس ملك فتح المخزن الذي نهاه الله عن فتحه فوجد فيه ورقة مكتوباً عليها: (لله ألهك تسجد، وله وحده تعبد) فأخذ الورقة واحتفظ بها. ولما خلق الله آدم وأمره بالسجود له أبى، فألح عليه، وأصر طاووس ملك على عدم السجود، وأراه الورقة. فقال له الله تعالى: أفتحت البيت الذي نهيتك عنه؟ قال: نعم. قال له الله: (هرطوقى) باللغة الكردية ومعناها (اذهب إلى الطوق) وهو طوق حديدي يضعه الله في رقبة من يغضب عليه. ولكن الله تعالى لما وجد حجة طاووس ملك قوية وأنه محق بفعله ممتثل لأمره رضى عنه وأرجعه إلى السماء. ويقولون: (هل يمكن أن أحداً يغضب عليه أبوه ويطرده إلى الأبد؟ كلا. إنما غضب عليه ثم رده حالاً احتراماً له)
وأما إغواء آدم وطرده من الجنة، فكان بأمر (طاووس ملك) جاء في الفضل الثاني من مصحف رش: (وأمر جبرائيل أن يدخل آدم إلى الفردوس، ويأمره بأن يأكل من كل الشجر ما عدا الحنطة. وبقى آدم مائة سنة. فقال (طاووس ملك) لله كيف يكثر آدم وأن نسله إن لم يأكل من شجرة الحنطة؟ فقال له الله تول أنت، سلمت الأمر والتدبير بيدك. فجاء (طاووس(560/19)
ملك)، وقال لآدم هل أكلت من الحنطة؟ أجاب آدم كلا، لأن الله قد نهاني. قال (طاووس ملك) كل من الحنطة فتغدو أحسن، ثم أكل آدم من الحنطة وللوقت انتفخت بطنه وأخرجه من الفردوس وصعد إلى السماء. وكان آدم خزيناً كئيب الخاطر يبكي وينوح. ويعتقدون أن سبب الطوفان الأول هو من استهزاء الجنس البشري الذي تناسل من آدم وحواء (أي اليهود والنصارى والإسلام) بإلههم. ولهذا سلط عليهم (طاووس ملك) المياه وأغرقهم. ثم أعقبه الطوفان الثاني الذي مضى عليه سبعة آلاف سنة حكم به كل إله ألف سنة ينزل في أرض (اليزيدية) لأن كل الأماكن المقدسة عندهم. وفي هذا الزمان قد أقام عندهم (طاووس ملك) وهو يكلمهم باللسان الكردي من عهد آدم إلى الآن وجميع وصاياه وتعاليمه أملاها عليهم بهذه اللغة لقدمها
وإن سبب مقاطعتهم للعن وما أشبه هذه اللفظة فإنه بدأ في زمن (الشيخ عدي الكبير) وذلك لأنه عندما وجد تفاقم أمر اللعن عند الحزبين الأموي والعلوي - كما مر آنفاً - حرم عليهم كل لعن ليجتث هذه السنة السيئة من أساسها. ثم تطورت هذه الفكرة بعده على يد أحفاده الضالين المضلين فحرموا اللعن حتى على الشيطان والنطق باسمه واستعاضوا عنه (بطاووس ملك) وإني أرجح أن يكون لفظ (طاووس ملك) محرفاً عن (طاغوت) وقد ورد هذا اللفظ في عدة أماكن في القرآن الكريم بمعنى الشيطان، منها قوله عز وجل: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذي كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) واليزيدية ينطقونه (طاغوس ملك) والتقارب قوي بين اللفظين
والخلاصة أن عقيدة اليزيدية في الشيطان مرتبكة جداً، ومن الصعب أن نقف على أول دخولها عندهم وعلى تطورها حتى آلت إلى ما هي عليه من الارتباك. وأعتقد أن هذا الارتباك في أمره نتج عن أمية هذه الطائفة، وخاصة أن كتبهم المقدسة كتبت في عهد قريب على ما يظهر من سقم عباراتها وابتذال ألفاظها وارتباك معانيها. كما أن القراءة والكتابة محرمة على كافة اليزيدية ما عدا طبقة الملالي وقم الذين يدعون أنهم من نسل (حسن البصري)
وهم يذكرون متناقضات عنه: تارة بأنه خلق العالم منذ الأزل وأنه متصرف فيه، وأن كل(560/20)
صغيرة وكبيرة لا تكون إلا بأمره، وأن جميع الآلهة قاموا بإدارة العالم بمشورته، وإن الله لا يرد له عملاً. ومن جهة أخرى إن الله خلقه كما خلق بقية الآلهة، وإنه غضب عليه وطرده من الجنة ثم أعاده وغير ذلك. ولا شك في أن عقيدتهم فيه متأثرة بالديانة (الزردشتية) فهو إله الشر (وأعماله التي يقوم بها خير بخلاف ما يظنه أهل الملل الباقية إنها شرور، فهي شرور عليهم لأنهم لا يعرفون حقيقتها ولا يعرفون (طاووس ملك)، ولكنها بالنسبة إلى الأمة اليزيدية التي تعترف به والتي يحيها هو، وقد اختارها من دون الخلق، خير وسرور وسعادة)
(البقية في العدد القادم)
سعيد الديوه جي(560/21)
سجاد الأناضول
للدكتور محمد مصطفى
- 3 -
سجاد (دمشق)
اشتهر هذا النوع من السجاد أي (سجاد دمشق)، لأن زخارفه تماثل زخارف ألواح القاشاني المشهورة باسم (دمشق). ولكن علماء الفن الإسلامي يقولون إن دمشق لم تشتهر بصناعة السجاد، وهم لذلك يرجحون أنه كان يجمع في هذه المدينة لشهرتها كمركز تجاري، ويعد بها للتصدير إلى أوربا. والرأي السائد هو أنه كان ينسج في مناسج خاصة بالبلاط العمثاني أنشأها السلطان سليمان القانوني بجهة قريبة من القسطنطينية مثل مدينة بورصا، وأحضر إليها صناع السجاد من مصر وإيران. ويتضح مما نراه في طريقة نسج زخارفه النباتية من الدقة التامة والعناية أنها منقولة عن رسوم وتصميمات وضعت لها من قبل.
ونلاحظ في هذا السجاد أن الزخارف النباتية الإيرانية التي استعملت فيه قد تطورت إلى درجة كبيرة، ودخلت عليها عناصر جديدة جعلتها كثيفة وغنية، فتبدو كأنها تحاكي الطبيعة إذا نظر إلى كل وحدة منها على حدة، ولكنها تظهر في مجموعها مهذبة وشديدة الكثافة. ويتبين هذا في أشكال المرواح النخيلية الكبيرة، وفي تموجات الأوراق الملتوية ذات الأسنان، وفي الأغصان والفروع المثقلة بالزهور، وفي الطريقة الزخرفية التي ترسم بها زهور النرجس والسوسن والقرنفل. وتنسج هذه الزخارف باللون الأصفر أو الأبيض على أرضية بالأحمر أو الأزرق، والألوان الأخرى المستعملة فيه هي الأخضر والأسود
وينسج سجاد دمشق من صوف ماعز الأناضول اللامع، أو من الحرير. وللسجاد المنسوج من الحرير خصائص أنواع سجاد الأناضول الأخرى المنسوجة من هذه المادة، أي أن لحمته تصبغ باللون الأخضر، وكذلك السداة إذا كانت من الحرير أيضاً
وفي (شكل 1) بساط من سجاد دمشق أرضيته باللون الأحمر عليها بالأصفر والأبيض والأزرق المائل إلى الاخضرار زخارف نباتية وفروع متشابكة وكثيفة بأوراق مسننة كبيرة(560/22)
مرسومة في أوضاع متناظرة (سيمترية). وهذا البساط من أواخر القرن السادس عشر، وهو في مجموعة دار الآثار العربية
سجاد (ترانسلفانيا)
عثر هواة السجاد في أواخر القرن الماضي على عدد كبير من نوع خاص من سجاد الأناضول كان محفوظاً في خزائن كنائس مدينة كرونستاد بمقاطعة ترانسلفانيا، فعرف هذا النوع باسم (سجاد ترانسلفانيا)، ويعلل وجود عدد كبير منه في مدينة كرونستاد أن رجال الكنيسة في هذا البلد كانوا يتقاضونه بمثابة مكس من تجار السجاد القادمين من الأناضول كي يسمحوا لهم بالمرور إلى غرب أوربا. وكان هذا السجاد يستعمل في الكنائس البروتستانتية بترانسلفانيا لتغطية كراسي الصلاة، وكان أفراد العائلات يتوارثونه جيلاً بعد جيل.
ونجد سجاد ترانسلفانيا مصوراً في اللوحات الأوربية المرسومة فيما بين سنتي 1520 و 1700. والغالب أنه كان ينسج في جهات قونية أو لاذق كما يتبين من متانة نسيجه وكثافته، وقد انقطعت صناعته منذ منتصف القرن الثامن عشر
وهذا السجاد متشابه في رسومه، ففي وسط أرضيته نرى عقد محراب أو عقدين متقابلين، وتواشيح العقود مزينة بفروع متشابكة بسيطة مرسومة بطريقة هندسية يمتاز بها نوع ترانسلفانيا، أو بزهور في شكل تروس وأوراق بسيطة مسننة. ويزخرف الإطار بزهور كبيرة غريبة المنظر يتدلى من جانبي كل منها ورقتان مسننتان يجعلانها تشبه شكل الجعران، أو بمناطق نجمية بداخلها وحدات زخرفية يتفرع من جانبي كل وحدة ما يشبه الخطاف
وألوان سجاد ترانسلفانيا زاهية ويغلب فيه اللون الأحمر والأحمر الزاهي والأزرق الفاتح والأصفر السمني والبني المائل إلى اللون الأسود الذي يحصلون عليه باستعمال مرارة الحيوانات في الصباغة
واللحمة والسداة من الصوف، ولا تزيد مقاساته عن 1. 2 2. 00 متراً
وفي (شكل 2) سجادة صلاة من نوع ترانسلفانيا، عليها محراب بعقد مدبب تتدلى منه مشكاة، وأرضية المحراب باللون الأصفر السمني، عليها بالأبيض والأحمر الفاتح والأزرق(560/23)
الزاهي فروع مزهرة متشابكة في وضع هندسي متناظر سيمتري. وخاصرتا عقد المحراب باللون الأزرق القاتم وعليها بالأحمر فروع متشابكة مرسومة بشكل هندسي تظهر كأنها متشجرة. وإطار هذه السجادة يتألف من شريطين على شكل شرفات متجاورة بالأحمر والبني الأسود، بينهما شريط عريض عليه مناطق نجمية بداخلها وحدات زخرفية هندسية يتفرع من جانبي كل وحدة ما يشبه الخطاف من النوع الذي يمتاز به سجاد ترانسلفانيا. وزخارف الإطار مقطوعة وغير متصلة كما يتبين ذلك في الركن الأعلى الأيمن وفي الجانب الأسفل من الإطار، وهذا النقص يمتاز به سجاد الأناضول، لأن الصناع الأناضوليين - بعكس الصناع الإيرانيين - لم يتقنوا نسج الإطار المتصل الزخارف. وهذه السجادة من أواخر القرن السادس عشر، وهي في مجموعة المسيو بنسيلوم
سجاجيد الصلاة
تميز سجاجيد الصلاة بالمحراب الذي يحدد عليها بخطوط واضحة وبألوان تتباين مع الألوان المحيطة به. وعقود هذه المحاريب لها أشكال كثيرة، فهي ترسم بخطوط مستقيمة أو مدرجة أو متموجة، وتكون مدببة الشكل أو مفرطحة أو على شكل حدوة الحصان. وقد تكون للمحراب عقد واحد أو عقدان أو ثلاثة عقود. ولكل بلد ينسج فيها السجاد طراز خاص بها لعقد المحراب، حتى أنه يمكن غالباً الاستدلال على مكان نسج السجاد من شكل عقود محاريبه.
وقد تزخرف أرضية المحراب فتتدلى من العقد مشكاة أو إبريق أو باقة من الزهور أو فرع طويل مزهر، وأحياناً تنتشر عليها زهيرات صغيرة فيسميها تجار السجاد (سينكلي) أي بالذباب
وترتكز بعض عقود المحاريب على أعمدة تكون في السجاد القديم مطابقة للشكل المعماري، ثم تتطور هذه الأعمدة حتى تصبح في شكل فروع مزهرة تتدلى من العقد بدلاً من أن تكون دعامة له يرتكز عليها
وتزخرف تواشيح خواصر هذه العقود بفروع نباتية شديدة التهذيب، أو بزهور مرصوصة في صفوف منتظمة
أما إطار هذه السجاجيد فإنه يتألف من ثلاثة أشرطة يكون الأوسط منها عريضاً، أو من(560/24)
عدة أشرطة رفيعة بيضاء وسوداء عليها نقط في مسافات متساوية فتسمى (شُبُكلى) لأنها تشبه غابة (الشبك)
ومن بين أنواع سجاجيد الصلاة نوع يسمى (صف) ينسج في جهات متعددة من مراكز نسج السجاد بالأناضول، ويرسم له عليه (صف) واحد أو أكثر من صف من المحارب المتجاورة، لتأدية الصلاة جماعة. وهذا النوع ينسج غالباً في الأناضول وفي بلاد التركستان الصينية. ومحاريب القديم منه متماثلة في السجادة الواحدة، ولكنها تختلف من حيث اللون والزخارف في كل سجادة من السجاد المنسوج بعد أواخر القرن الثامن عشر
وثمت نوع آخر من سجاجيد الصلاة يسمى (تربه لك) أو (مزار لك) ترسم على أرضية محرابه شواهد قبور أو مدافن بها أشجار سرو. ويستعمل هذا السجاد لفرش المقابر أو لتغطية نعش الموتى
جورديز
تقع مدينة جورديز في الجهة الشمالية الشرقية بالقرب من أزمير، وإليها ينسب السجاد المعروف بهذا الاسم
ويرسم محراب هذا النوع عادة في وسط السجادة تماماً، فتصير مقاساته بذلك أقصر منها في الأنواع الأخرى. وتعلو المحراب حشوة عليها زخارف قائمة بذاتها تختلف عن الزخارف الأخرى في السجادة، وترسم في أسفله حشوة أخرى متماثلة لهذه
وتلون أرضية المحراب غالباً بلون واحد أحمر أو أخضر أو أزرق أو أصفر وأحياناً باللون العاجي. وهذه الألوان تكون دائماً خفيفة وباهتة
وتنسج سجاجيد الجوردين من نسج ضيق محكم يزيد في دقة الرسم. واللحمة والسداة في السجاد القديم من الصوف، وفي بعض السجاد المتأخر تكون السداة من القطن
وتعرف بعض سجاجيد هذا النوع باسم (قيز جورديز) أي جورديز الفتاة. ويقال إن هذا السجاد كان ينسجه البنات ويعنون بنسجه عناية كبيرة بقصد إهدائه إلى أزواجهن عندما يتزوجن. وتتألف زخرفة الإطار من مثلثات في وضع مختلف، ترتكز على قاعدتها أو على إحدى زواياها وتزخرف بزهور مهذبة ويفصل بين هذه المثلثات أشرطة عريضة بيضاء عليها نقط سوداء موزعة بنظام وتنسيق. ويوجد نوع آخر من سجاد قيز جورديز ينسب(560/25)
إلى كبير من العظماء اسمه (قرا عثمان أوغلو) تكون أرضيته دائماً بالأبيض وهو دقيق في رسومه
ويرجع إلى عصر السلطان عبد المجيد (1839 - 1861) سجاجيد أرضيتها باللون الأبيض عليها شجرة سرو أو شجيرات مورقة، وزخارفها متأثرة بالزخارف الأوربية
وفي (شكل 3) سجادة صلاة (صف) من نوع جورديز عليها خمسة محاريب بجانب بعضها، أرضيتها بالتوالي من اليمين إلى اليسار باللون الأصفر السمني الغامق والأحمر الباهت والأزرق الزاهي والأخضر النباتي والأصفر السمني الفاتح. وتواشيح العقود محلاة بزهور متجاورة مرتبة في صفوف. ويحد المحراب من أعلى وأسفل منطقة مستطيلة على شكل خشوة بها زخرفة نباتية. وإطار السجادة به شريط من وحدات زخرفية لها أسنان تشبه المشط، وهي لذلك تسمي (دركلي) أي ذات المشط، ويتفرع من جانب كل الشط تفاحتان. وهذه السجادة من أواخر القرن الثامن عشر وهي في مجموعة السيد صلاح الدين رفيق صير مالي.
(يتبع)
محمد مصطفى(560/26)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
538 - ما أراد به النصيحة
قال معاوية: إذا لم يكن الهاشمي جواداً والأموي حليما والعوامي شجاعاً والمخزومي تياهاً لم يشبهوا آباءهم
فقال الحسن بن علي: والله ما أراد معاوية بقوله النصيحة، ولكن أراد أن يفنى بنو هاشم ما في أيديهم فيحتاجوا إليه، ويشجع بنو العوام فيقتلوا، وأن يتيه بنو مخزوم فيمقتوا، وأن يحلم بنو أمية فتحهم الناس
539 - فرحم الله ذلك المفتي
في البدر الطالع للشوكاني: لما أسلم غازان بن أركون (سلطان التتار) قيل له إن دين الإسلام يحرم نكاح نساء الآباء، وقد كان استضاف نساء أبيه إلى نسائه وكان أحبهن إليه خاتون وهي أكبر نساء أبيه. فهم أن يرتد عن الإسلام، فقال له بعض خواصه: إن أباك كان كافراٌ، ولم تكن خاتون معه في عقد صحيح، إنما كان مسامحاً بها، فاعقد أنت عليها، فإنها تحل لك، ففعل. ولولا ذلك لارتد عن الإسلام. واستحسن ذلك من الذي أفتاه به لهذه المصلحة، بل هو حسن ولو كان تحته ألف امرأة على سفاح. فإن مثل هذا السلطان المتولي على أكثر بلاد الإسلام في إسلامه من المصلحة ما يسوغ ما هو أكبر من ذلك حيث يؤدي التحريج عليه، والمشي معه على أمر الحق إلى ردته. فرحم الله ذلك المفتي!
540 - صائر إلى مالك
في وفيات الأعيان:
كان الفقيه أبو بكر المبارك الملقب بالوجيه والمعروف بابن الدهان - حنبليا، ثم تفقه على مذهب أبي حنيفة، ثم شغر منصب تدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشروط الواقف ألا يفوض إلا إلى شافعي المذهب، فانتقل الوجيه إلى مذهب الشافعي، وتولاه، فقال المؤيد أبو البركات التكريتي:
من مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي عليه الرسائل(560/27)
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل
وما اخترت قول الشافعي تدينا ... ولكنما تهوى الذي منه حاصل
وعما قليل أنت لاشك صائر ... إلى مالك، فافطن لما أنا قائل
541 - تحط ولكن فوقهم في جهنم
من القول بالموجب لبعض الحنابلة:
يحجون بالمال الذين يجمعونه ... حراماً إلى البيت العتيق المحرم
ويزعم كل أن تحط ذنوبهم، ... تحط ولكن فوقهم في جهنم
542 - حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
ابن خلكان: لما انتقل سيف الدين الآمدي إلى الديار المصرية وتولى الإعادة بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي وتصدر بالجامع الظافري بالقاهرة واشتهر بها فضله، واشتغل عليه الناس - حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة وانحلال الطوبة ومذهب الفلاسفة والحكماء، وكتبوا محضراً يتضمن ذلك ووضعوا فيه خطوطها بما يستباح به الدم. وبلغني عن رجل منهم فيه عقل ومعرفة لما رأى تحاملهم عليه، وإفراط التعصب، كتب في المحضر وقد حمل إليه ليكتب فيه مثلما كتبوا فكتب:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كتبه فلان بن فلان(560/28)
الكتب
(سلامة القس)
للأستاذ دريني خشبة
مَهاة من مَهَى مكة، ذات عينين خلقتا للحب، وفم برأه الله للغزل، وصوت رقَّقه للغناء، وقلب صغير إلا أنه فتيٌّ قويٌ زاخر، لأنه استطاع أن ينجو من إبليس، وأن يقاسم على مرضاة الله!
نشأت سلامة في كنف رجل تقي ورع محافظ، فكانت ترعى له البُهمْ في بطائح مكة تذهب بها خماصاً وتعود بها بطاناً، ثم تحلب وتطهى وتخدم، فإذا أوت إلى فراشها أخذت ترجع بصوتها المختبئ ملء صدرها وحلقها وطي لسانها، وتجد في ذلك الترجيع وهذا التسجيع لذة وراحة. . . حتى إذا زارت مكة جميلة المغنية، ونزلت في بيت ابن سهيل القريب من دار سلامة، وأخذت تملأ الدنيا كلها في هذا البلد الآمن غناءً، وتذيب قلوب أهله شدواً، كان قلب سلامة أول ناهل على ظمأ، وكان سمعها أول مستجيب على طول اصطبار، وكان لسانها أول مردد لألحان البلبل الغريد. وسمعها سيدها تجدف بهذا الغناء فنهاها عنه، ووكل إلى زوجته أمر مراقبتها، وإغرائها بترتيل القرآن؛ فأطاعت سلامة، لكنها كانت تطبق على آي الذكر الحكيم أصوات جميلة وألحانها، فلما سمعها مولاها جن جنونه واشتد في أمرها؛ وكانت سلامة ترعى البهم يوماً، فتركها تتخير من رطب الكلأ ما تشاء، وجلست هي تملأ الهواء بما ملأ صدرها من غناء، فما تنبهت إلا على صوت رقيق حلو ذي رنين يكمل لها اللحن ويضبط لها النغم، وإذا صاحب الصوت راع صغير يبتسم لها فتبتسم، وإذا هما يتعاهدان على أن يكون أحدهما معلماً والثانية متعلملة. . . بأجر زهيد. . . قبلة لقاء كل لحن!!
ويضيق بها سيدها لأنها لم ترعو عن هذا الغناء فيبيعها ابن سهيل صاحب القصر الذي نفذ منه إلى سمعها وقلبها غناء جميلة، والذي كان ندى الشعراء والمغنين في مكة، يغشاه ابن ربيعة والأحوص والغريض والعرجي ومعبد وكثيرون غيرهم. . . ويسلم ابن سهيل سلامة إلى زعماء الغناء فتثقف عنهم أحانه، وتصبح فتنة الفتن وريحانة القلوب. . . وإلى هنا لا تكون المأساة قد بدأت بعد! لأنها لا تبدأ إلا منذ هذه المصادفة التي تبدأ العاصفة في حياة(560/29)
قديس!
لقد كان في مكة تقي من أتقياء المسلمين وأشدهم ورعا، وكان يدعى عبد الرحمن بن عمار، وكان يدعوه قومه القس، لصفاء نفسه وانصرافه عن الدنيا وإكبابه على الصلاة، ولزومه المسجد، وزهده في مباهج الحياة، واحترازه من شراك الشيطان. وكان عبد الرحمن يوماً ماراً بقصر ابن سهيل في طريقه إلى المسجد، فما شدهه إلا أن سمع شدواً ينسكب في روحه وينساب في دمه، ثم يستقر في قلبه ليكتب في صفحته مأساة هذا الحب الخالد والهوى الحلال والعشق المكين
أبطأ عبد الرحمن في سيره. . . لكنه عاد فاستعاذ بالله؛ وقبل أن يسرع إلى المسجد سمع منادياً يناديه. . . فإذا هو ابن سهيل يدعوه إلى جلسة في قصره يشرفه بها. . . وكان ابن سهيل قد رأى عبد الرحمن إذ وقف ساهما مسبوهاً منصتاً للغناء، فسره أن يسحر صوت سلامة أتقى أتقياء مكة وأصفى أصفيائها، فأقسم ليأتمرن بهذه النفس التي تجردت من الدنيا، ليرى كيف يكون عبد الرحيم بين تقواها وبين مفاتن سلامة. . . وتأبى عبد الرحمن أول الأمر؛ ثم وعد أن يزور ابن سهيل وأن يستمع إلى سلامة من وراء حجاب. وقد أجابه الرجل إلى هذا الشرط، ثم رآه مرة وقد نفذ سحر الغناء إلى أغوار نفسه وأخذ يعصف بها عصفاً شديداً، فسأله إن كان يسمح بدعوة سلامة لتجلس إليهما وتغنى في حضرتهما من دون ما حجاب. . . وقبل أن يجيب عبد الرحمن دعا ابن سهيل جاريته فأقبلت. . . ولم تقبل لتغنى فحسب بل أقبلت لتغزو من نفس عبد الرحمن ما لم يغزه غناؤها. . . لقد كانت جمالاً منوِّرا وحسناً مزهرا وبهجةً سارية، فما هي إلا نظرة واستقرت من قلبه في قرار مكين!
ومضت الأيام. . . ولم يبال عبد الرحمن بما شرع أهل مكة يلوكونه عنه ويحيكونه عن هيامه بسلامة. . . وخلا بها مرة في قصر مولاها فصرح الحب، وباح الغرام، وقالت له وقال لها، ثم كانت سلامة أجرأ منه فتشهت أن تضع فمها على فمه. . . لكن الله القدير آثر لهما العفة، واختار لغرامهما الطهر، فصرف الشيطان عن نفس عبد الرحمن حفظاً لعرض صديقه، وإبقاء على الخيط الذي يربطه بأسباب السماء، وكان حسبه أن يترفق بصاحبته، وأن يفئ بسورتها إلى الله. . . ساقيا هذا الهوى الملح، والغرام المسرف بعض ما أسعدت(560/30)
عيناه من دموع. . . ثم عاهدها على أن يعمل كما يعمل الناس، حتى إذا اكتمل له ثمنها دفعه إلى ابن سهيل ثم أعتقها، ثم تكون له بعد هذا زوجة!
وكان ابن سهيل رفيقاً بعبد الرحمن حين لحظ ما كان يعصف به من رياح هذا الحب. . . فلم يلبث أن عرض عليه سلامة هدية خالصة. . . إلا أن عبد الرحمن أبى، وزاده إباء أن ابن سهيل كان إذ ذاك في عسرة من أحواله المالية، فإذا اشتراها عبد الرحمن ببعض المال كان أصلح لابن سهيل وأوفق لظرفه الخاص، ثم كان ذلك أكرم لهوى عبد الرحمن وأصون لحبه. . . ولم يبال، وقد فكر هذا التفكير أن يبيع بعض عقاره ليشتري سلامة. . . فلما فعل، وذهب بالمال إلى ابن سهيل، كان السيف قد سبق. . . فقد باع القاضي جميع ما يملك ابن سهيل، وسلامة في كل ما يملك. . . لقد اشتراها ابن رمانة تاجر الجواري بالمدينة، ولقد دفع فيها غالياً
وكانت صدمةً أي صدمة لعبد الرحمن! لقد ضاقت به الدنيا. . . وبكى أحر البكاء وأعنفه، وكانت دموعه تمتح من أعماق قلبه لا من أغوار عينيه. . . لكنه احتمل. . . وانتوى أن يعمل أضعاف ما عمل ليرضى شهوة المالك الجديد الذي اشترى سلامة تجارة رابحة وصيداً ليس مثله صيد!
ثم مضت الأيام كما مضت من قبل. . . أو أشد مما مضت من قبل، وربح عبد الرحمن مالاً جماً، وكان هذه المرة يعمل مع ابن سهيل؛ فلما بارك الله لهما، شدا رحلهما إلى المدينة بعد أن تجهزا. . . من أجل سلامة. . . وكان قلب عبد الرحمن يحدثه عند كل ثنّية، وكانت مشاعره تهيج عند كل مقام. . . لأن سلامة مرت من قبل بتلك الثنية أو قامت بهذا المقام. . . ثم نزلا ضيفين عند أحد الأصدقاء بالمدينة، قبل أن يتوجها إلى دار ابن رمانة. . . وعلما من صديقهما أنباء سلامة ففرحا واطمأنا وكان الرجل قد ذكر لهما أشياء وأخفى عنهما أشياء. . . ثم وجهه إلى ابن رمانة، وحضرا مجلس غناء شدت فيه سلامة، وأغمى على عبد الرحمن عند بيت من قصيدة له كانت تغنيها، وكانا قد تلاحظا وتعارفا قبل الإغماء. فتولت سلامة العناية به حتى عاد إليه صوابه، فما سلّما حتى استخرطا في بكاء شديد
وخلا الرجلان بابن رمانة وعرضا عليه ما قدما من أجله فأوشك التاجر الذي لا يعرف إلا(560/31)
عواطف المال ولغة المكسب أن يبكى من التأثر، ثم ألقى إليهما بالنبأ الفاجع: (لقد اشتراها رسل الخليفة بعشرين ألفاً، فهي منذ اليوم ملك يزيد بن عبد الملك. . . وغداً يذهبون بها إلى دمشق!)
وإذا كانت الدنيا قد أصبحت ظلمات بعضها فوق بعض في عين عبد الرحمن حين اشترى ابن رمانة سلامة، فيا ترى؟ ماذا تكون حاله الآن!. . .
وترفق ابن رمانة فأذن للعاشقين بخلوة، تعاهدا فيها بالصبر والصلاة. الصبر إلى يوم الدين إذ يلتقيان. . . في جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. . . والصلاة التي تهدى إلى هذه الجنات بإذن الله
هذه أيها القارئ قصة سلامة القس التي أنشأها الأخ الصديق الأستاذ علي أحمد باكثير، والتي كان قد نشرها من قبل فصولاً في إحدى المجلات، والتي تنشرها له اليوم (لجنة النشر للجامعيين) ضمن ما تنشره من كتب قيمة، فتملأ في عالم القصة المصرية فراغاً كبيراً، إن لم يكن فراغاً مخيفاً والأستاذ باكثير أديب حضرمي كسبته مصر التي نشأ فيها وتخرج في الجامعة المصرية، فهو يدين لمصر بتعلمه، كما يدين لها بهذا الأدب الناضج المتشعب، المتعدد النواحي، فهو شاعر رقيق الشعر جيد المعاني ثائر على التقاليد، وقد كنت على أن أتكلم عن طريقته في الشعر المرسل لولا أشياء صرفتني عن ذلك إلى حين. وباكثير شاعر مسرحي أيضاً، وله درامتان بالشعر المرسل هما إخناتون ونفرتيتي ثم إبراهيم باشا بطل مصر الخالد وتصور الأولى صفحة ناصعة من تاريخ مصر الروحي القديم، كما تصور الثانية صفحة ناصعة من تاريخ مصر الحديث في سبيل العروبة التي ننادي اليوم بوحدتها، وكان باكثير في المقدمة من دعاتها بدرامته هذه. . . ولولا أن اختار باكثير لهاتين الدرامتان
(الحكيم وليلى) للأستاذ توفيق حسن الشرتوني
قصة تحليلية تعالج كثيراً من المشكلات الاجتماعية. وإذا كان صاحبها الأستاذ توفيق حسن الشرتوني مجهولاً في مصر فإن أسرته خدمت العربية في المعجم النفيس (أقرب الموارد) الذي جمعه الشيخ سعيد الشرتوني
وعجيب جداً أن يكون للأستاذ توفيق الشرتوني أربعة كتب لم تذكرها صفحات النقد في(560/32)
مصر بكلمة واحدة. أو لعلها ذكرتها وغاب عنا زمانها ومكانها. ولكن هذه الظروف السعيدة بين لبنان ومصر قد حملت إلينا الأستاذ (توفيقاً) وحملت معه كتبه
في نظرات هذا الكاتب المفكر وميض قوي الشعاع؛ ولذا تجد أفكاره دائماً مومضة مشعةً. وتفكيره العميق يبدو في حديثه كما يبدو في كتابته. فهو لا يرمي الكلمة عفواً، ولا يرسلها كما تكون؛ ولكنه يزنها ويقدر لها مكانها بجانب أختها. ولهذا لا تجد في عباراته تزويقاً أو تنميقاً؛ ولكنها عبارات تمتاز بالوضوح وعدم الإسراف في القول والمغالاة فيه. وهو حكيم في نظراته إلى الأمور، يبصرها من زوايا متعددة لا من زاوية واحدة. ولهذا تجد الحوار في هذه القصة حوار الحكيم لا حوار القاص. والمؤلف نفسه (حكيم) هذه القصة المؤثرة؛ فهو يمشي إلى بيت البطلتين ليلى وسلمى؛ ويخلو إليهما خلوة الحكيم لا خلوة العاشق. وتراه يغشى كل ناد، ويرتاد كل مرتاد، ويخالط الناس في كل ضرب من الأرض. وفي خلال ذلك يبث آراءه وينشر تعاليمه، لا ييأس من إصلاح، ولا يقنط من موعظة؛ لأنه يريد أن ينشل (ليلى) مما تورطت فيه. و (ليلى) فتاة تزوجت من شاب غني انحرف عن الجادة، وجار عن السبيل، وأفسده القمار والخمار. . . فأهمل حق زوجته وواجب أولاده. فرأت الزوجة البائسة أن تنتقم منه فانتقمت من نفسها. . . فأهملت بيتها وتركت أولادها، وشغلت بشاب آخر على نصيب من المال والجمال وقوة العضلات. . .!
وهنا تزور (سلمى) جارة (ليلى) الحكيم وتقص عليه من حوادث جارتها المنحرفة ما يكون سلسلة من الفجائع. . . فقد مات ولداها ومات زوجها أشنع ميتة. . . وهي لا تزال ممعنة في نوازع هواها ونزعات شيطانها. . . ولا تزال الأيام ترميها بكل داهية حتى خولطت في عقلها
والأستاذ توفيق (الحكيم). . . اللبناني لا (توفيق الحكيم المصري) مخلص للأدب، مخلص للإنسانية. ففي كتابته نزعات نبيلة تطفر من بين سطوره طفراً. وهو صادق في فنه لأنه يعتقد (أن الصدق في القول والعمل هو جوهر الأدب الصافي في هذا الكون) وهو فوق ذلك كثير العطف على الإنسانية؛ كثير الإشفاق عليها؛ كثير الرجاء في صلاحها. وقصة (الحكيم وليلى) محاولة في سبيل هذا الإصلاح.
محمد عبد الغني حسن(560/33)
من الشعر المنسي لحافظ
في سنة 1902 أصدرت مطبعة هندية كتاباً ألفه محمد حافظ صبري من رجال القضاء المصري - ولا أدري أين هو الآن - وهذا الكتاب تحت عنوان: (المقارنات والمقابلات بين الأحكام والمعاملات والحدود في شرع اليهود ونظائرها من الشريعة الإسلامية الغراء، ومن القانون المصري والقوانين الوضعية الأخرى). وقد قرظ هذا الكتاب شاعر النيل المرحوم حافظ بك إبراهيم بقصيدة أثبتت في آخره، ومع ذلك لم تذكر هذه القصيدة في ديوان حافظ الذي طبعته وزارة المعارف، بينما ذكرت فيه (التقريظات) في الجزء الأول من صفحة 148 إلى صفحة 158؛ وهاهي ذي القصيدة:
أشرع العقل أم شرع الكليم ... أرى في ذلك السفر العظيم؟
قرأت سطوره فلمحت فيها ... برغم القوم تنزيل الحكيم
همو وضعوا لهم شرعاً جديداً ... فعاد بهم إلى الشرع القويم
ولولا هَدْى أحمد بعد موسى ... لما ساروا على النهج القديم
كذاك إذا النهى بلغت مداها ... هدتك إلى الصراط المستقيم
أحافظ قد وضعت لنا كتاباً ... جمعت بصلبه شمل العلوم
وأودعت النصوص به فكانت ... نصوص الدر في العقد النظيم
وأبرزت الشرائع في حلاها ... فمن آي، ومن قول كريم
ومن نص إلى (التلمود) يعزى ... ومن قول (صولون) الحكيم
جُزيت عن النهي والدين خيراً ... ووقيت العداء من الخصوم
فلعل الذين قاموا على جمع هذا الديوان وطبعه يلتفتون إلى إثبات هذه القطعة في الطبعة الجديدة للديوان.
(كلية اللغة العربية)
أحمد الشرباصي(560/34)
العدد 561 - بتاريخ: 03 - 04 - 1944(/)
شر ولا سر. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(. . . أرجوكم أن تتكرموا. . . بشرح هذا الموضوع على صفحات الرسالة الغراء. . . وهو (المرأة سر غامض)
(. . . هي الجميلة وهي القبيحة، هي الجنة وهي الجحيم هي الخادعة الفاتنة وهي المخدوعة المفتونة، هي الكريمة المحسنة وهي الشريرة الظالمة، هي الضاحكة الباسمة وهي الباكية القاتمة هي الوفية المخلصة وهي الخائنة الغادرة. . . كل هذا وأكثر من هذا عند المرأة، وهو عندها في زمان واحد، وعندها في عقد واحد وقلب واحد. . . فهل لكم أن تتفضلوا بكشف الغطاء عن هذا السر العويص، وعن خفايا هذا القلب وهذا العقل الغامضين. . .)
(بيت المقدس)
داود العارودي
كتاب جاءني من الأديب صاحب التوقيع واكتفيت بما نشرته لأنه هو المقصود بالإجابة، ورأيت حقاً أنه موضوع قديم حديث لا يزال الآن، ولن يزال آخر الزمان، صار للعودة إليه وزيادة القول فيه
فالمرأة كما قال الأديب شتيت من النقائض والصفات. ولا غرابة عندي في ذلك، لأن الغرابة إنما هي في الصورة التي نتلقاها وليست في الحقيقة التي تلقى تلك الصورة على أبصارنا
فمن شاء عجب واستغرب، ومن شاء نظر إلى السبب فبطل عنده العجب، وعلم أن النقائض في الظواهر إنما تفضي إلى باطن لا تناقض فيه، لأنه مفهوم على الوجه الذي ننتهي إليه، وليس هو في منتهاه ببعيد
إذا عرف السبب بطل العجب كما قيل
وإنما نعرف السبب في تناقض المرأة كلما اقتربنا أولاً من التفاهم على الشخصية الإنسانية،(561/1)
واقتربنا (ثانياً) من التفاهم على جوانب طبع المرأة، واقتربنا (ثالثاً) من فهم الأنوثة في جملتها
فمصدر الخطأ كله في تصور (الشخصية الإنسانية) أننا نتصورها شيئاً واحداً لأنها تنطوي في اللغة تحت عنوان واحد. ولكن الواقع أن (الشخصية الإنسانية) سواء في الرجل أو المرأة هي أشياء لا تحصى تنطوي تحت كلمة معدودة الحروف مجهولة الحدود
فهي تختلف بين حالة وحالة، وتختلف بين سن وسن، وتختلف على حسب العلاقة بينها وبين هذا الإنسان أو ذاك الإنسان، وتختلف على حسب العلل والبواعث التي تحركها إلى الأعمال
فهي في حالة الرضى والنعيم غيرها في حالة السخط والبأساء، وهي في الشباب الباكر غيرها في الكهولة أو الشيخوخة، وهي في معاملتها لفريق من الناس غيرها في معاملة أناس آخرين، وهي إذ تنبعث عن الطمع والخوف غيرها حين تنبعث عن النخوة والشجاعة
فإذا صدرت عنها الأعمال مختلفات فلا عجب في ذلك، لأنها لا تأتي من مصدر واحد، ولا تزال لها مصادر متعددات
ويقال هذا عن النساء كما يقال عن الرجال أو الأطفال، بل كما يقال عن الأشياء التي ليس لها حس ولا مشيئة
إن (الشواء) مثلاً هو قوة وضعف، وهو دواء نافع وسم ناقع، وهو لذيذ وكريه، وهو غال ورخيص
وسبب ذلك أنه قد يأكله الطفل كما يأكله الرجل، وقد يأكله المريض كما يأكله الصحيح، وقد يجود صنعه وقد يسوء في يد الطاهي الواحد على حسب اختلاف الأوقات والأدوات، وقد يؤكل من السفود أو يؤكل بارداً بعد أيام
وإذا جاز اختلاف الأثر إلى هذا المدى في صنف من الطعام فهو جائز إلى أبعد من هذا المدى في الخلائق الحية التي تتقلب بين الدوافع والطبائع كل حين
أما التفاهم على جوانب طبع المرأة فنحن نقترب منه كلما أحضرنا في أخلادنا هذه الجوانب المتعددة وذكرنا أنها تجتمع في وقت واحد وتعمل في وقت واحد، فتأتي أعمالها(561/2)
متفقات أو متناقضات على حسب الدواعي والغايات
فالمرأة من جهة فرد من أفراد نوع تستقل بوجودها الخاص بين جميع أفراد ذلك النوع، فهي هنا في مقام المناضلة عن استقلالها، أو مقام التضامن بالغريزة النوعية على تباين الأحوال والعلاقات
والمرأة من جهة ثانية هي عضو في بنية اجتماعية هي الأمة أو المدينة أو القبيلة، وهي من ثم زوجة أو بنت أو أخت أو صاحبة عمل تجمعها بتلك البنية الاجتماعية صلة العرف أو القانون، وتلك صلة أخرى غير صلة الغريزة النوعية أو صلة الفرد بسائر الأفراد الذي يشاركونه في نوع واحد
والمرأة من جهة غير هذه وتلك أنثى لها تركيب حيوي يربطها بمخلوق آخر تنظر إليه نظرة غير نظرتها إلى الفرد أو إلى الشريك في البنية الاجتماعية
وهي من جهة أخرى أم تحب أبناءها بالغريزة والألفة، وهي كائن حي من حيث هي وليدة الحياة في جملتها أيا كان النوع الذي تنتمي إليه والأمة التي تعيش بينها والعلاقات التي تجمعها بالزوج أو القرابة أو البنين
هي كل أولئك معاً لا فكاك لبعضهم من بعض ولا افتراق وليس من الضروري أن يتفق كل أولئك في الوقت الواحد على اتجاه واحد، لأن مطالب الفرد والزوجة والأم والحبيبة والكائن الحي قد تتعارض في مذاهبها وهي مجتمعة في بنية واحدة
وليس من الضروري كذلك أن تكون المرأة أما بالفعل لتشعر بحنو الأمومة، لأنها مخلوقة للأمومة قبل أن يولد لها الأبناء، وقد تكون الأم الوالدة أقل في حنوها من الفتاة العذراء، إذا طرأ للأم الوالدة ما تحجب فيها شعور الأمهات إلى حين
لدينا إذن فرد يريد بفطرته الفردية أن يستقل عن جميع الأفراد الآخرين سواء كانوا من الآباء أو الأمهات أو الأزواج؛ فلا يلبث أن يستقر فيه هذا الشعور الطبيعي حتى ينازعه فيه شعور الأنثى التي تريد أن تنضوي إلى رجل تهواه، وقد ينازعها شعوران بل أكثر من شعورين إذا تعددت الصفات التي تستهويها من الرجال وتفرقت بينهم على نحو يضلل الإرادة ويشتت الأهواء
ولا تلبث أن تغالب استقلالها الفردي وتطاوع نزعتها الأنثوية حتى يبرز لها المجتمع(561/3)
بحكمه الذي قد يخالف حكمها في الاختيار والترجيح، فيقودها إلى الجاه والمال وهي تنقاد إلى الفتوة والجمال، أو يلزمها الوفاء للزوج وهي تنظر إلى رجل آخر نظرة الأنثى التي سبقت بفطرتها قوانين الأمم وقواعد الآداب
ولا تلبث أن تحتال على هذه البواعث حتى يغلبها حنو الأمومة فيربطها بمكان لا تود البقاء فيه، أو ينهض الكائن الحي في نفسها نهضة لا تطيع باعثاً غير بواعث الحياة بمعزل عن نزوة الأنثى قانون المجتمع وغرائز الأمهات
تناقض كهذا لا عجب فيه ولا مباينة للمعقول؛ لأن كل دافع من دوافعه مرجعه إلى سبب مفهوم موافق لسنة الأحياء
ثم يضاف إليه تناقض آخر يرجع إلى تعدد الدواعي في كل صفة من هذه الصفات
ونكتفي بصفة واحدة لأن توضيح الصفات جميعاً شرح يطول بنا في هذا المقام
فالمرأة في صفة الأنوثة، وهي تنضوي إلى الذكورة، تحب الرجل الكريم لأنه يغمرها بالنعمة ويريحها من شدائد العيش ويخصها بالزينة التي توهيها وترضى كبرياءها بين النظيرات والمنافسات، فضلاً عما في الكرم من معنى العظمة والاقتدار
ولكنك قد ترى هذه المرأة بعينها تتعلق ببخيل لا ينفق ماله على زينة ولا متاع، فهل هي مناقضة لطبيعتها في هذا الاتحراف العجيب؟
كلا: بل هي لا تناقض طبيعة الكبرياء نفسها التي ترضيها عن كرم الكريم؛ لأن المرأة يجرح كبرياءها أن ترى رجلاً يستكثر المال في سبيل مرضاتها، ومتى جرحت المرأة في كبريائها أقبلت باهتمامها وحيلتها وغوايتها من حيث أصابها ذلك الجرح المثير، وليس أقرب من تحول الاهتمام إلى التعلق في طبائع النساء
فالنزعة الواحدة قد تكون سبيلاً إلى النقيضين في ظاهر الأعمال، ولكنهما نقيضان لا يلبثان أن يتفقا ويتوحدا عند المنبع الأصيل، متى عرفنا كيف تنتهي الردة إليه
أما فهم الأنوثة على جملتها فمن الحق أن نذكر أن الأنوثة درجات، وأن لها أطواراً كثيرة بين الظهور والضمور. فليست كل امرأة أنثى من فرع رأسها إلى أخمص قدمها كما يقال قديماً في معنى التعميم والشمول، أو ليست كل امرأة أنثى مائة في المائة كما يقول الأوربيون اليوم؛ بل ربما كانت فيها نوازع إلى الأنوثة ونوازع أخرى إلى الرجولة، وربما(561/4)
كانت أنوثتها رهناً بقوة في الرجل الذي يظهرها لا يتشابه فيها جميع الرجال، وربما كانت في بعض عوارضها الشهرية وما شابهها من عوارض الحمل والولادة أقرب إلى الأنوثة الغالبة أو أقرب إلى الذكورة الغالبة، وهي العوارض التي كانت تحسب فيما مضى كلاماً من كلام المجاز، فأصبحت اليوم حقيقة علمية من حقائق الخلايا وفصلاً مدروساً من فصول علم الأجنة ووظائف الأعضاء
وبعد فالمرأة شخصية إنسانية لا تنحصر في لون واحد ولا يستغرقها الحس في علاقة واحدة
والمرأة صفات متعددة أو أدوار كثيرة تتمثل على مسرح النوع ومسرح المجتمع ومسرح الطبيعة والحياة
والمرأة أنوثة لا تستقر على حال بين الحدة والفتور وبين الظهور والضمور
فأي عجب أن تختلف وتتناقض في لحظة واحدة؟ إنما العجب أن تختلف البواعث والأسباب ولا تختلف الأعمال والآثار
ومع هذا كم يقول النساء عن تناقض الرجال ولا يخطئن المقال؟ كم يقلن إن الرجل (كالبحر المالح) لا يعرف له صفاء من هياج؟ وكم يقلن إن فلاناً كشهر أمشير لا تدري متى تهب فيه الأعاصير؟ وكم تقول إحداهن للأخرى: (حبيبك في ليلك، عقرب في ذيلك؟) وكم لهن من أمثال هذه الأمثال مما لا يحفل به الرجال؟
إنهن لا يعنين بمقاربة الرجل من طريق الفهم كما يعنين بمقاربته من طريق التأثير. ولو حاولن فهمه كما يحاولن التأثير فيه لخرجن به لغزاً من الألغاز وأعجوبة من أعاجيب البحار في قديم الأسفار.
عباس محمود العقاد(561/5)
الحكم على الشعر
وأساليب النقد والتحليل
للدكتور محمد صبري
الشعر أعلى وأدق تعبير للحياة وقد وصفه أحد شعراء الإفرنج بأنه (لآلئ الفكر)، وهو يتصل بخياله وأوزانه بالتصوير والموسيقى اتصالاً وثيقاً، فلابد من الحس المرهف للحكم عليه، ولابد من (الذوق)، وقليلون جداً من يتذوقون الشعر و (يحسون نبو الوتر)، وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد في كل عصر وفي كل جيل. ومهما كان من الأمر فإن التذوق درجات تتفاوت وتختلف باختلاف الأمزجة، والتمرس بالآداب المختلفة، والخبرة والاستعداد الشخصي. فالشاب المنعم الذي لا يعرف متاعب الحياة ويجهل حب البنين، ليس في مقدوره أن يحس لواعج الخزن وعولة الحياة في رثاء ابن الرومي أو الهذلي لبنيه، ولا يفرق بين غناء العود وأنينه، وهو لا يستمع إلا بأذن صماء إلى بكاء الطير في الدوح، ونحيب البلبل في الغاب، وحنين الجمال في البيداء
حنينها وما اشتكت لغوبا ... يشهد أن قد فارقت حبيبا
إن الغريب يسعد الغريبا
والشعر في اعتقادي كالحبة التي أودعها الخالق قوة هائلة مركزة تركيزاً عجيباً مادياً وروحانياً؛ فمن الحبة تخرج الحياة، ومن حدودها الضئيلة تنبت وتتفرع وتنتشر الشجرة بظلها وجناها، فليس في مقدور كل أديب الإحساس بتلك (الهيولي) الساحرة الماثلة في بيت من الشعر. . . في غضون كلمات معدودات. . . وليس في مقدور كل إنسان أن يرى جمال الحقيقة وبهاءها، وفتنة الحياة وفجيعتها، وقوافل الإنسانية البائسة الصامتة المنكسة الرءوس والأعلام، وهي تطل من البيت والبيتين. . .
وقد بكى شعراء العرب أطلال المنازل التي كانت شاهد حبهم وحياتهم في عصر من عصورها، في لحظة من لحظات السعادة الزائلة، فلم يبك أحدهم الحياة في أوسع آفاقها وجناتها الخاوية مثلما بكاها البحتري وهو واقف (بين يدي الإيوان) وبين يدي الله. ولم يندب أحد بعد امرئ القيس الطلل البالي وسكونه. ووحشته بعد الأنس والحياة والحركة والضوضاء وبهجة الألوان، والوجوه والظلال والأشباح، كما ندبها البحتري في قوله:(561/6)
تلك المنازل ما تمتع واقفا ... بزها الشخوص ولا وغى الأصوات
ولأبي تمام بيت رائع من هذا القبيل كان يتغنى به المرحوم حافظ إبراهيم في غاب بولون، وقد صحبته إليها حين زار باريس:
لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار
فهذا الشعر يمثل الحقيقة لأنه صادر عن وجدان صادق، وعاطفة وتجارب مرة، وقوة ملاحظة وتصوير ناطق، وقد امتاز امرئ القيس بحب الحقيقة وتصويرها في أبهتها وجلالها وروعتها فأصبح عاهل الشعر حقاً
ولا ريب أن أروع شعر أبي تمام هو الشعر الذي ترسم فيه الحقيقة، لا الشعر الذي ملأه بديعاً وتكلفاً، وإذا كانت أشهر مراثيه قصيدة:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
وفيها يقول:
تردى ثياب الموت حمراً فما دجى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
فإن هناك قصيدة أخرى هي في اعتقادي أروع منها وأجل، وهي القصيدة التي رثى فيها ابنه، ووصفه وهو يتقلب على فراش الموت ويعاني آلامه:
أخر عهدي به صريعا ... للموت بالداء مستكينا
إذا شكا غصة وكرباً ... لاحظ أو راجع الأنينا
يدير في رجعه لسانا ... يمنعه الموت أن يبينا
يشخص طوراً بناظريه ... وتارة يطبق الجفونا
بُنَىّ يا واحد البنينا ... غادرتني مفرداً حزينا
وقد ذكر شعراء العرب من جاهليين وإسلاميين الطبيعة في شعرهم، ولكن الجاهليين الذي كانوا يعيشون في البادية والفضاء الرحب، والماء والغاب والوهاد والنجاد والصخور والكثبان والسيول والأنهار، كانوا أصدق عاطفة في تصويرها من المولدين، لأن الآخرين ولعوا بالرياض والزهور ومظاهر الطبيعة (السطحية) المنمقة (كالوشي) و (التطريز)، أكثر من ولعهم بالرياح التي تهب، وقوى الطبيعة التي تزخر وتصخب، وتئن في أحنائها وأفيائها. . .(561/7)
ولعل أكبر صلة تربط امرئ القيس بالإفرنج وتميزه على شعراء العرب كافة هي إحساسه العميق بالطبيعة، وإني وإن كنت قد بينت الصلات الأخرى نصاً وتصريحاً، فإني تركت هذه الصلة (صلة الطبيعة) تبدو (من تلقاء نفسها) شرحاً وتحليلاً، والواقع أن امرئ القيس موهبة من مواهب الطبيعة، يجب أن ندرسها ونتعلق بها تعلق الإنجليز بشكسبير وتراثه الخالد
وقد حصرنا إلى اليوم همنا في تنفير الناس من امرئ القيس، وحصر عبقريته في الاستعارات بين (بيضة الخدر) و (قيد الأوابد) و (السجنجل) و (العقنقل)، وتركنا جوهر الشعر اللامع الوضاء دفيناً تحت الرماد
وقد أبدع العقاد في تحليل شعر ابن الرومي، وكتب صفحات رائعات، وقد يكون لغيره في النقد والتحليل نفثات، وكل ما نرجوه أن نعمل جميعاً على إظهار مكنونات وكنوز الشعر العربي. وأحب هنا أن أذكر أن (كتابة) النقد والتحليل قد ترتفع إلى أعلى مراتب الكتابة والبيان، لأن شخصية الكاتب تتجلى فيها، وهذه الشخصية تبدو في غضون الكتاب لا في العنوان. والشخصية تشمل المزاج وقوة التصوير والقدرة البيانية وتجارب الحياة، وهي كلها ذات أوشاج وصلات مع شعر الشاعر وحياته
وهذا (سانت بيف) أكبر ناقد فرنسي بدأ حياته بالشعر ثم أرصدها للنقد، فساعده خياله وأدبه وسعة اطلاعه على فهم الشعر والمجتمع، وصار الناقد في عبقريته لا يقل عن أكبر شاعر، كما أن (بول بورجيه)، وهو من خيرة الروائيين الذين حللوا الحب والحياة، ساعدته قوة تحليله وفلسفته على كتابة صفحات في نقد الشعراء المعاصرين هي آية في الفلسفة التحليلية، واختراق الستار الذي يحجب الحياة والمجتمع في شعر الشاعر، وقد تمكن كل منهما من إظهار تلك الأشعة الدقيقة التي تحيط بجوهر الشعر والفكر والخيال
محمد صبري(561/8)
اللغة. . . والوطن. . .
للأستاذ دريني خشبة
يوشك الداء الوبيل الذي تفشى في أفريقيا الشمالية، ولا سيما في تونس والجزائر، أن يتفشى على الصورة نفسها في سوريا ولبنان. وها نحن أولاء نرى جراثيمه في دور الحضانة في مصر. . .
يوشك هذا الداء الوبيل الذي زعزع أركان اللغة العربية في تونس والجزائر، أن يزعزع أركان هذه اللغة في سوريا ولبنان، لأن العلية من إخواننا السوريين واللبنانيين يعدون اللغة الأصلية التي يأخذون بها أنفسهم وأبناءهم منذ الطفولة هي اللغة الفرنسية، فهم يحلونها محل العربية في مدارسهم ومعاملاتهم وأحاديثهم، وبالتالي فهم يفكرون بها، ويمزجون بها دماءهم، ويملأون بها أحلامهم، ويقومون بها ألسنة أطفالهم، حتى ليستطيع الطفل السوري أو اللبناني أن يحاورك بالفرنسية في سهولة ويسر، في حين أنه يعجز عن فهمك ومبادلتك الحديث إذا قصرت المخاطبة على اللغة العربية
ويجب قبل كل شئ أن تشغلنا هذه القضية عن كل تأويل يصح أن يؤول به الدافع الذي حدا بنا إلى الكتابة في هذا الموضوع الذي عزمنا على الخوض فيه عقب دعوة جمعت بين أسرتنا المصرية وبين أسرة سورية كريمة عرف اثنان منها على الأقل، في العالم العربي كله برسوخ القدم في الفكر والأدب والاجتماع ومنهما إحدى زعيمات النهضة النسائية العربية في الشرق الأدنى. فلقد هالني أن أرى السيدة النبيلة تخاطب أطفالها بالفرنسية فيجيبوها في انطلاق عجيب أكد لي أن هؤلاء الأطفال قد ثقفوا الفرنسية قبل أن يشدوا العربية. . . وهذه هي القضية التي أطرحها أمام القراء اليوم، وأمام الرأي العربي العام في جميع الشعوب العربية، لما فيها من الخطر الجسيم الذي نستهين به أول الأمر، ثم لا يلبث أن يجتاح كل مقوماتنا من لغة ودين وعادات ووطنية، ثم يؤدي آخر الأمر إلى الانسلاخ من الشرق، والضياع بين الأمم؛ لأننا مهما أتقنا الفرنسية فلن نصبح فرنسيين، ومهما استبدلنا الإنجليزية بالعربية فلن نكون من الإنجليز ولا كالإنجليز، ولن نجني على أنفسنا إلا شراً مستطيراً وبلاء كبيراً كهذا الشر وذاك البلاء اللذين تغص بهما تونس والجزائر اليوم(561/9)
وأنا إن كنت أخص سوريا ولبنان بالذكر فلست أصدر في ذلك إلا عن هذه المحبة التي أكنها ويكنها كل شرقي مخلص لهذين القطرين الشقيقين اللذين كانا في عصر مجيد من عصور هذا التاريخ العربي، كعبة اللغة العربية ومحور الثقافة العربية، وقطب الرحى في الشعر العربي، عنهما تأخذ كل الأقطار العربية، وإليهما تهفو قلوب العرب، وفيهما يخفق القلب العربي بالحكمة والسياسة والشعر والنثر والرواية والقصة وعلوم الشريعة وما إلى ذلك كله من الأمجاد العربية. . .
1 - وبعد. . . فما الدافع يا ترى إلى تمسك الآباء والأمهات في هذين القطرين العزيزين بتعليم أطفالهم الفرنسية قبل أن يثقفوا العربية؟ هل هو هذا الاستعلاء السخيف الذي تأخذ به أسر مصرية كثيرة، والذي مظهره عدول هذه الأسر بأطفالها عن المدارس المصرية إلى المدارس الأجنبية التي ما فتحت أبوابها في مصر والشرق إلا للاعتداء الصريح على قومياتنا وأدياننا ولغتنا واستقلالنا وكراماتنا؟ أو هو سبب اقتصادي يتعلق بمستقبل هؤلاء الأطفال في أوطاننا التي يغزوها الاقتصاد الأجنبي غزواً يريد اليوم أن يتحكم في وسائل التعليم كما حاول من قبل أن يتحكم في كل شئ آخر؟! أو هو قصر نظر منا نحن الشرقيين حين تبهرنا بهارج الغرب الزائفة، فنقع كالفراشة في نارها دون وعي ولا تدبر ولا تفكير؟
اللهم إن كان السبب هو الاستعلاء الذميم عن أن يبدأ أطفالنا التعلم باللغة العربية لا لشيء إلا أنها لغة عربية. . . وما يتصوره التعساء منا من أنها لغة الفقراء، أو لغة الطبقة الثالثة، فلشد ما نرتكب بهذا التصرف الخيانة الوطنية العظمى ضد وطننا وضد الشرق وضد العروبة
أما إن كان هو السبب الاقتصادي فيما يتعلق بمستقبل الأطفال في ذاك الوسط الذي يغزوه الاقتصاد الأجنبي، فعلاجه شئ آخر ليس هو البدء بتعليمهم اللغة الأجنبية قبل أن يثقفوا لغة بلادهم الأصلية
أما إن كان قصر نظر منا معاشر الشرقيين، فعلاج ذلك إعلان الحرب عليه، والأخذ بسياسة جديدة في تعلم اللغات الأجنبية
2 - ولعل انتشار مدارس البعثات الدينية هو أكبر الوسائل التي أدت إلى إهمال اللغة العربية كأداة أساسية من أدوات التعليم، إذ تعلم معظم المواد، بل كلها، في تلك المدارس(561/10)
بلغة أجنبية، ومن هنا تنقطع الصلة بين الطفل وبين لغة بلاده، بل بينه وبين بلاده، ووطنيته، ودينه؛ ومن هنا أيضاً استخفاف الطفل، حين يصبح رجلاً، والفتاة، حين تصبح أما، بالشرق، وباللغة العربية، وبما يتصل بالشرق وباللغة العربية من ثقافة وعادات ودين. ومن هنا أيضاً نظرة المتعلمين من هذا الطراز إلى إخوانهم الشرقيين على أنهم برابرة متوحشون. ومن هنا أيضاً عداؤهم المر للغة العربية وثقافة اللغة العربية ولكل ما له صلة بالعرب. والعجيب في أمرنا أننا نقبل على التعلم في تلك المدارس إقبالاً شديداً، ونحن نقبل ذلك الإقبال الشديد لسببين، أولهما أننا لا نجد من المدارس الوطنية ما يقوم بمهمة تعليم أطفالنا، والسبب الثاني هو هذا اللألاء الكاذب الذي نضفيه على تلك المدارس الأجنبية، والذي لا تستحق منه إلا ما يعدل أغراض تأسيسها التي أشرنا إليها
3 - وقد كانت النتيجة الأولى لهذا البلاء أن نشأ أبناؤنا الذين تعلموا في هذه المدارس وهم أضعف ما يكونون في اللغة العربية، فهم يخطئون في نحوها، ويخطئون في التعبير بها، وإذا كتبوا بها رأيتهم يكتبون كلاماً عربياً في مظهره سبقه تفكير بلغة أجنبية؛ وهنا يبدو الشذوذ في التراكيب، وتشيع الركاكة في الأساليب، ويلتوي الفهم، وتعتاص على القارئ متابعة الكاتب، فيزور عنه، ويضيق به، ثم يطويه وفي نفسه من الهم والحسرة على اللغة العربية ما فيها
وإذا قلت إن آثار ذلك بادية مع الأسف الشديد في كثير من أقلام الصحافة اللبنانية والسورية فإنما أقوله ولا أقصد مطلقاً أن أعيد إلى الأذهان هذا الحديث السخيف عن الزعامة الأدبية بين لبنان ومصر. . . إنما أقوله وبنفسي من المحبة للبنان ولسوريا ما لا يقل عن محبة اللبنانيين والسوريين بلادهم التي نفتديها بالمهج، وأقوله لأن قضية اللغة العربية هي قضيتنا جميعاً، وقد قدمت أن هذا الداء الذي يوشك أن يزعزع أركان اللغة العربية في لبنان وفي سوريا قد بدأت جراثيمه دور حضانتها في مصر، فكثير من الأسر المصرية تتخاطب فيما بينها بالفرنسية من غير ما ضرورة تلجئهم إلى ذلك إلا الاستعلاء الذميم على أشرف لغات الأرض والسموات! وقد تعلم أبناء هذه الأسر في مدارس تشبه المدارس المنتشرة في سورية وفي لبنان
4 - ولعل جريرة ذلك تقع على كاهل الحكومات العربية بقدر ما تقع على كاهل الشعوب(561/11)
العربية نفسها، فتقصير الحكومات في فتح المدارس الوطنية، ولا سيما للبنات، هو الذي ألجأ الأهالي إلى إرسال أبنائهم إلى تلك المدارس الأجنبية، وقدر زاد الطين بلة ترك الحرية لهذه المدارس كاملة في اختيار طرق التدريس ووضع المناهج وتكييف التلاميذ فيها حسب ما تشتهي! ولعل الذي كان يحدث في هذه المدارس في مصر إلى عهد قريب جداً من تدريس جغرافية فرنسا وتاريخها لصغار الأطفال المصريين، وإهمال التاريخ المصري والجغرافية المصرية هو نفسه الذي كان يحدث في مثل تلك المدارس بلبنان وسوريا، بل لعله لا يزال قائماً فيها إلى اليوم!
أما نصيب الأهالي من تلك الجريرة فهو انخداعهم في أمر تلك المدارس وإقبالهم عليها ذلك الإقبال الشديد بدافع من العوامل التي أشرنا إليها. ولعل نصيب العهد التركي من هذه الجريرة، والامتيازات الجنونية التي كان يمنحها في سفه هو أسود الأنصبة الثلاثة جميعاً
5 - على أننا خليقون ألا نفقد الأمل في علاج هذا الشر وحسمه قبل أن يستشري بالصورة التي استشرى بها في تونس والجزائر، فعلى الحكومات العربية واجب إنشاء المدارس التي تضارع تلك المدارس الأجنبية عظمة بناءٍ وفخامة مظهر، وعليها أن تنشئ المدارس الراقية في كل مدينة وقرية لتعليم الفتاة، وعليها أن تتولى هي أمر تعليم اللغات الأجنبية التي لا غناء عنها لنهضة الشرق، على أن تتفق فيما بينها على ألا يتعلم الطفل أية لغة أجنبية إلا إذا تجاوز العاشرة أو الثانية عشرة من عمره، أي بعد أن يدرس لغته ويثقفها ويمرن لسانه بها، وليستطيع أن يفهم بها شئون الحياة. وإلى أن يتم ذلك فواجب الحكومات العربية الإشراف على التعليم في تلك المدارس الأجنبية، فلا تسمح بتدريس أية مادة بها بغير اللغة العربية لصغار التلاميذ، أي قبل الثانية عشرة، وجواز تدريس مادة واحدة بلغة أجنبية بعد ذلك، بقصد تمكين التلاميذ من تلك اللغة، كما يجب ألا تقل الحصص المقررة للغة العربية عن حصص اللغة الأجنبية. أما واجب الشعوب العربية فهي أكرم من أن تنبه إليه
تلك كلمة مخلصة بريئة في تلك القضية أدعها تحت أنظار ولاة الأمور في البلاد العربية راجياً أن تشترك فيها أقلام كثيرة
دريني خشبة(561/12)
أطوار الوحدة العربية
القضية العربية
في المرحلة الحاسمة
فضل مصر على بلاد العرب
للأستاذ نسيب سعيد
لقد مضى زمن غير يسير انقطعنا فيه عن التحدث إلى القراء عن أطوار الوحدة العربية، وتركنا ذلك البحث القومي الذي بدأناه في العام المنصرم لأسباب قاهرة وهي سفرنا إلى الجزيرة في أقصى تخوم بلاد العرب مما سنتحدث عنه في المستقبل
ولابد لي من القول قبل مواصلة حديثي الماضي عن تاريخ الوحدة العربية من أن أستعرض في هذا المقال التطور الرائع والخطوات السريعة التي خطتها القضية العربية في هذه الأيام القليلة مما يبشر بمستقبل لامع لبلاد العرب، وبأمل باسم لأبناء العروبة، يعيدون به مجدهم التالد، وعزهم الخالد، وأرى لزاماً على أيضاً أن أسجل هنا بكل فخر وإعجاب للذكرى والتاريخ، فضل مصر العظيم على هذا التطور السريع الذي تجتازه القضية العربية في هذا الدور الخطير، فكلما كان لعزيز مصر محمد علي باشا الكبير الأثر البارز في بعث الفكرة العربية، والوعي القومي العربي، واليقظة الوطنية في بلاد العرب حينما حلم بتأسيس إمبراطورية كبرى تضم شتات هذا الشرق العربي، فكذلك قام اليوم رئيس حكومة مصر صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا يدعو لهذه الوحدة، ويعمل لها، ويسعى في سبيل تحقيقها ليل نهار، بدون كلل ولا ملل ليخرجها من الفكرة إلى الواقع، ومن الحلم إلى الحقيقة، بل قل من الظلمات إلى النور
وقد قام لأجل ذلك بمشاورات الوحدة العربية مع سائر دول العرب المستقلة واجتمع إلى أقطاب هذه الدول ورجال حكوماتها المسئولين، واستمع إلى آرائهم في جمع شمل العرب، ولم شعثهم، وضمهم في منظومة دولية واحدة. وكان أول من دعى إلى هذه المشاورات رئيس الحكومة العراقية نوري باشا السعيد في أول مايو عام 1943 ثم دعى رئيس الحكومة الأردنية واستقبل بعد ذلك الوفد السعودي، ثم الوفد السوري، وتلاه الوفد اللبناني،(561/14)
ثم اليماني. مما سنتحدث عنه مفصلاً
وإني لمن المؤمنين بأن التاريخ العربي، سيسجل بأحرف من نور على صحائف غر، هذه اليد البيضاء التي تسديها مصر العظيمة إلى القضية العربية، وهذا السعي الحثيث في سبيل وحدة العرب، تلك الوحدة التي فيها سعادتهم ورفع شانهم بين الدول فتعيد مجدهم وعزهم، وتفتح أمامهم آفاقاً جديدة، أبواباً واسعة للتقدم والرقي، فيد الله مع الجماعة وفي الاتحاد قوة، وفي التفرق ضعف ووهن
وليس أدل على عمل مصر وجهادها في هذا السبيل، من ذلك البيان الخطير الذي أذاعه رفعة النحاس باشا رئيس الحكومة المصرية على العالم في شهر فبراير سنة 1943 قبل البدء بمشاورات الوحدة على الدول العربية، وألقاه في مجلس الشيوخ المصري وزير العدل الأستاذ محمد صبري أبو علم باشا باسم رفعته رداً على سؤالين وجها إليه بشأن موقف مصر من الوحدة العربية. وإني لناشر هذا للبيان الخطير في مجلة الرسالة اليوم بكامله، لأنه ولا شك صفحة لامعة لمصر الخالدة، في التاريخ العربي. قال رفعة الرئيس الجليل: (إنني معنى من قديم بأحوال الأمم العربية، والمعاونة على تحقق آمالها في الحرية والاستقلال، سواء في ذلك أكنت في الحكم أم خارج الحكم، وقد خطوت إلى ذلك خطوات واسعة صادفها التوفيق، فاتجه نظام الحكم في بعض الأقطار العربية الاتجاه الشعبي الصحيح
ومنذ أعلن المستر إيدن تصريحه فكرت فيه طويلاً، ولقد رأيت أن الطريقة المثلى التي يمكن أن توصل إلى غاية مرضية هي أن تتناول هذا الموضوع الحكومات العربية الرسمية، وانتهت من دراستي إلى أنه يحسن بالحكومة المصرية أن تبادر باتخاذ خطوات رسمية في هذا السبيل، فتبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية المختلفة فيما ترمي إليه من آمال، كل على حدتها ثم تبذل جهودها للتوفيق والتقريب بين آرائها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ثم تدعوهم بعد ذلك إلى مصر معاً في اجتماع ودي لهذا الغرض حتى يبدأ المسعى للوحدة العربية لوجهة متحدة بالفعل، فإذا ما تم التفاهم أو كاد، وجب أن يعقد في مصر مؤتمر برئاسة رئيس الحكومة المصرية لإكمال بحث الموضوع واتخاذ ما يراه من القرارات محققاً للأغراض التي تنشدها الأمم العربية(561/15)
هذه خير السبل للسير بالموضوع سيراً يكفل له النجاح ويضمن التوفيق
والواقع أن رفعته قام بعد ذلك بمشاورات الوحدة مع سائر الدول العربية المستقلة لأجل خير العرب وتحقيق أمانيهم.
ولا يسعنا في هذا المقام إلا القول أن مصر تولت بحق زعامة القضية العربية فرعتها باهتمام وقوة، وأن هذه المشاورات للوحدة التي قام بها زعيم العرب الأكبر رفعة النحاس باشا الذي تخطت جهوده الآفاق الإقليمية الضيقة إلى الوطن العربي الكبير هي خير وسيلة للوحدة، والنحاس باشا بما يكنه قلبه من الإخلاص لفكرة العروبة والإيمان بالقضية العربية، يعتبر خير من يقوم بتوجيهها الوجهة الصحيحة التي ستنمو وتزدهر وتتطور مع الزمن تطوراً يؤدي إلى تحقيق الأمل المنشود والأماني العذبة التي ينتظرها العالم العربي بأجمعه
على أن هذا الدور الذي يقوم به رفعة الرئيس المصري كجندي أمين في تطور الوحدة العربية واتجاهاتها، وانتقالها من الطور التجريبي الذي سارت فيه متعثرة متلكئة مدة ربع قرن، إلى الدور الإنشائي الإيجابي الصحيح المثمر المستند إلى حقائق التاريخ والواقع والمنطق، والذي يمكن أن تقبله عقول الأجانب ويستقر في أعماق نفوسهم ويشعرون معه بالسرور بالتسليم بحق العرب في التضامن والتآزر والتكتل والتعاون، نقول إن هذا الدور الذي يقوم به الرئيس المصري له أثره لا في بلاد العرب فحسب بل في العالم الشرقي بأجمعه. ولمصر الفضل الكبير بالدعوة إلى الوحدة العربية دعوة عملية. وقد نشر النحاس باشا بعمله هذا صفحة جديدة لامعة ستجعل البلاد العربية في وقت قريب بلاداً واحدة تخضع لنظام واحد، وتشريع واحد، وتنسجم فيها المناهج الثقافية، والأساليب الاقتصادية، وقد خلقتها الطبيعة موحدة فيأبى العقل والتفكير أن تكون هذه الحواجز الضيقة الوهمية التي فصلت بين أجزائها
وليس من شك في أن مصر الخالدة ستقود العالم العربي في تطوره السياسي العتيد، خلال المرحلة الجديدة فتسير في طليعة الشعوب العربية وتكون واسطة عقدها، وقطب رحاها، فتؤلف بينها وتقودها إلى ما فيه خيرها وسعادتها في الجامعة العربية، ولا غرو فإن مركز مصر الجغرافي، ومقامها الثقافي والاقتصادي ومكانتها العلمية الممتازة تضمن لها هذا التفوق وهذه الزعامة الصحيحة، فهي من الناحية الواحدة واقعة في وسط بلاد العرب،(561/16)
فالشام والحجاز واليمن والعراق ونحن وجميع هذه الأقطار تقع في شرقي مصر، كما تقع برقة وطرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش في غربها، والسودان يقع في جنوبها؛ وتقوم سواحلها على البحرين الأحمر والأبيض، وللعرب فيهما أوسع المصالح وأكبرها، ثم إن لها مقاماً علمياً وثقافياً وأدبياً لا يجاري ولا ينافس، كل ذلك يجعل مصر زعيمة العرب، فتقود شعوب الشرق العربي إلى المثل العليا
وأجد نفسي قد أطلت القول، لذلك أرى أن خير ما أختم به حديثي اليوم هو أن أنقل إلى القراء خلاصة وجيزة عن مقال لجريدة التيمس الكبرى عن أطوار الوحدة العربية قالت: (إن تجدد المساعي لتحقيق الوحدة العربية بما يجري في هذه الآونة من مباحثات جدية بين حكومات الشرق العربي ليس في الواقع إلا ترديداً لصدى التصريح الذي أدلى به المستر إيدن في (مانشان هاوس) بشهر مايو عام 1941 وقطع فيه عهداً بتأييد أي مشروع يظفر بالاتفاق التام ويرمي إلى تعزيز الروابط الاقتصادية والثقافية والسياسية بين الدول العربية
وليس هنالك ما يحول دون تحقق مشروع الاتحاد العربي إذا استطاع العرب تسوية المسائل التي تعترض سبيلهم، ولاسيما وإن المشروع يتألف من أقطار تجمع بينها روابط تاريخية وجغرافية وجنسية ولغوية، ولم تفقد هذه الأقطار في الماضي روابطها واتصالها برغم الصحاري البعيدة التي تفصل بينها. وقد زاد تقاربها وقويت صلاتها بعد ظهور السيارة، وأصبحت الصحراء كالبحر تجتازها السيارات دون مخاطرة) هذا ما يقوله الأجانب عنا، وسنتحدث في الأسبوع المقبل عن مشاورات الوحدة العربية مع العراق
(دمشق)
نسيب سعيد
المحامي(561/17)
محاورات الموتى
المحاورة الرابعة
للكاتب الفرنسي برنار بوفيه دفونتنيل
بقلم الأديب يوسف روشا
سقراط ومونتين
سقراط: ولد في أثينا حوالي 470 قبل المسيح وأشهر تلاميذه أفلاطون وإكزانفوف وألسيبيادس. ولقد هاجمه أرسطوفان هجوما عنيفا وسخر منه في قصته (السحاب). اتهم ظلماً في سنة 399ق. م بإفساد الشبيبة بتعاليمه وقدم للمحاكمة فدافع عن نفسه بخطبة شهيرة أحنقت القضاة فحكموا عليه بالموت
مونتين: أديب فرنسي شهير ولد سنة 1533 ميلادية، وقد اشتهر بمقالاته التي تناول فيها رجالات المجتمع في عصره بالدرس والتمحيص. وإنك لتجد آراءه وتأثيره بأدبه في أغلب كتاب فرنسا في العصرين السابع عشر والثامن عشر. على أن تأثيره لم يقتصر على فرنسا بل تعداها إلى إنجلترا، حيث تأثر به الكاتبان الإنجليزيان (شكسبير) و (بيكن)
المحاورة
مونتين: أأنت سقراط النبيل؟ ما أسرني بلقائك! لم يمض على قدومي هذه المدينة غير يسير، ومنذ قدمت ما برحت أبحث عنك. وأخيراً، وبعد أن ملأت كتابي باسمك وبالثناء عليك أستطيع أن أتكلم الآن معك وجهاً لوجه لأعرف شيئاً عن تلك الفضيلة الساذجة التي اتصفت بها والتي لا نظير لها حتى في ذلك العصر السعيد الذي عشت أنا فيه
سقراط: يسرني جداً أن أرى شبحاً كان فيما يظهر فيلسوفا. ولما كنت قد هبطت إلينا منذ قريب ولم أجتمع بأحد هنا منذ بعيد، لأني أعيش في عزلة تقريباً؛ فهل تسمح لي أن أسألك. كيف حال العالم؟ هل تغير؟
مونتين: لقد تغير العالم إلى حد أنك لا تعرفه إذا عدت إليه
سقراط: أنا مغتبط بهذا جداً. لقد كنت على يقين دائم بأن من الحتم أن يصبح عالمكم أحسن وأعقل من عالمي الذي عشت فيه(561/18)
مونتين: ماذا تعني؟ لقد أصبح العالم أحمق وأفسد مما كان عليه من قبل. ذلك هو التغير الذي إياه عنيت وإليه قصدت. وإني كنت منتظراً أن أسمع منك وصف العالم الذي عشت فيه وعاصرته وكان يسود فيه العدل والاستقامة
سقراط: وأنا أيضاً كنت منتظراً منك أن تصف لي عجائب العصر الذي عشت فيه وصفاً شاملاً. يا للداهية الدهياء! أحق أن الناس لم يقلعوا حتى الآن عن تلك الحماقات التي كانت سائدة في قديم الزمان؟
مونتين: يغلب على ظني أن انتسابك لذلك العهد هو السبب في احتقارك إياه وتصغيرك من شأنه. ولكني أعلمك أن ضياع تلك العادات والأخلاق لمما يبعث الأسى والأسف، ذلك أن الأمور تزداد سوءاً يوما بعد يوم
سقراط: أممكن هذا؟ إن الأمور في زماني كانت تبدو لي سيئة جداً؛ ولكن لم يساورني شك في أنها ستتحسن على تعاقب الأجيال، وأن الناس سينتفعون من تجاريب هذه السنين الطويلة
مونتين: أينتفع الناس حقاً من تجاربهم؟ إنهم لا يختلفون عن الطيور التي تقع دائماً في الأشراك التي وقع فيها مئات الألوف من جنسهم قبلهم. كل امرئ يدخل الحياة مستقلاً، فلا يستفيد الأبناء حماقات الآباء
سقراط: ماذا لم يكن هناك من تجارب يستفيد منها الناس. وكنت أظن أن سيكون للعالم شيخوخة أقل سخفاً وعناداً من شبيبته
مونتين: الناس في أي زمان شئت تحفزهم نفس الميول والأهواء التي لا سلطان للعقل عليها، وحيثما كان الناس كان الطيش والحمق اللذان لا يتغيران أبدا
سقراط: إذا كان الأمر كذلك فلماذا تتصور أن الأقدمين كانوا خيراً من المحدثين؟
مونتين: تلك طريقتك التي انفردت بها يا سقراط والتي أعرفها جيداً. . . طريقة في المحاورة والمداورة بارعة تشوش بها مناظريك وتقودهم إلى حيث شئت. وإني لأعترف بأني قد رأيت هنا رأياً يخالف ما كنت رأيت من قبل ولكني مع هذا لن أسلم لك لأن رجالاً ذوي حزم وعزم وثبات كأرستيد وفوسيون وبركليس ولا سيما سقراط لا تجد لهم نظراء اليوم(561/19)
سقراط: ولماذا؟ وهل استنفدت الطبيعة قواها ولم يعد في إمكانها أن تخرج رجالاً عظاماً؟ ولماذا يصيبها العقم فيما عدا ذلك؟ لم ينحط عمل من سائر أعمال الطبيعة فلماذا قدر للرجال وحدهم أن ينحطوا؟
مونتين: يبدو لي أن الطبيعة في بداية أمرها أخرجت لنا نماذج من الرجال الممتازين لتقنعنا بأنها تعرف جيداً كيف تخلقهم إن هي أرادت ذلك ثم أهملت فيما بعد شأن الباقين فانحطوا وتدهوروا
سقراط: كن على حذر من هذه، الناحية فلا تشتط. إن القديم في ذاته شئ فريد؛ وإن تقادم العهد يضفي عليه شيئاً من الروعة. ولو قدر لك أن تعرف أرستيد وفوسيون وبركليس وتعرفني، ما دمت تحب أن تعدني منهم، لوجدت في زمانك رجالاً يماثلوننا. ولكننا عادة نميل إلى القديم ونتعصب له لأننا نكره زماننا ونمقته. فنحن نعظم القدماء لنحط من قدر المحدثين. ولقد كنا في زماننا نذهب في تقدير أسلافنا إلى أبعد حدود الغلو والإسراف، واليوم يمجدنا أحفادنا أكثر مما نستحق ولهم كل الحق. وأكبر ظني أن النظر إلى العالم من ناحية واحدة خليق أن يبعث في نفوسنا السأم؛ لأن العالم لا يتغير ولا يتبدل
مونتين: لقد كان يخيل إلي أن كل شئ في العالم يتغير وأن لكل جيل طابعه الخاص الذي يتميز به، وذلك كالناس، فهناك أجيال اشتهرت بالعلم وأخرى بالجهل. أفلا يوجد ثمة أجيال كان طابعها الجد وأخرى كان طابعها الهزل؟
سقراط: بلى
مونتين: إذن ما هو المانع من أن يكون هناك أجيال أكثر صلاحاً وأخرى أكثر طلاحاً من غيرها؟
سقراط: ذلك لا يطرد ولا يستقيم مع ما نحن بصدده. فالملابس تتغير بتغير الأزياء ولكن ذلك لا يعني أن شكل الجسم يتغير أيضاً. فالدماثة أو الخشونة، والعلم أو الجهل، والجد أو العبث، ليست إلا مظاهر خارجية للرجل وكلها تتغير، ولكن القلب لا يتغير، وما الرجل إلا قلبه. فقد يشيع الجهل في جيل ما ثم تعقبه نهضة علمية فتحل محله. ولكن الأنانية لن تزول من العالم مهما بذلنا في سبيلها من جهد، ذلك لأنها تصدر عن القلب. وأن من بين ملايين الرجال الضعاف القلوب لا تجود الطبيعة في كل مائة عام إلا بعشرين أو ثلاثين(561/20)
من الرجال الواسعى العقول، الكبيري القلوب، فتضطر إلى توزيعهم على جميع أنحاء العالم. ومن هذا تستطيع أن تحكم بأنه لا يمكن أن يوجد منهم في أي مكان عدد لنشر بذور الفضيلة والعدالة
مونتين: ولكن هل روعي العدل في توزيع هؤلاء الرجال العقلاء النوابغ؟ ألم يكن نصيب بعض الأجيال منهم أوفر من نصيب البعض الآخر؟
سقراط: قد يكون هناك بعض الاختلاف؛ ولكن الطبيعة على العموم تبدو منتظمة متسقة.
(بغداد)
يوسف روشا(561/21)
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها
للأستاذ سعيد الديوه جي
(تتمة)
(ج) الاعتقاد بيزيد وعدي
ولليزيدية آلهة أخرى غير الآلهة السبعة الذين ذكرناهم؛ فهم يؤلهون (يزيد بن معاوية) ويعتقدون أن معاوية تزوج من امرأة ولدت إلههم (يزيد) وهذا نتج عن الغلو في حب يزيد كما مر الكلام عن هذا، ولكننا لا نجد عملاً لهذه الإله في الدنيا والآخرة سوى أنه تسلم السناجق (الأعلام) السبعة من سليمان الحكيم وسلمها للأمة لليزيدية، وهذه السناجق محفوظة عندهم. وفي مصحف رش يسميه (يزيد البربري) في موضع واحد
والإله الثاني هو (الشيخ عدي) ويسمونه (الشيخ عادي) وتأليهه كان من نتيجة المغالاة في حبه حتى صار إلهاً يعبد. ويدعون أنه ذهب إلى مكة مع (الشيخ عبد القادر الكيلاني) ومكث هناك أربع سنين ظهر لهم خلالها (طاووس ملك) وادعى أنه (الشيخ عدي) علمهم بعض الأمور الدينية وحذرهم إذا جاء غيره وادعى أنه (الشيخ عدي) أن يرفضوه. فلما رجع الشيخ عدي رفضوه ورذلوه فمات حزيناً
ثم ظهر لهم (طاووس ملك) وأخبرهم بحقيقة الأمر فندموا على ما فعلوا ودفنوه في زاويته (بجبل لالش) وجعلوا قبره حجاً لهم
وبعضهم يدعى أن (عدياً) وزيراً لله أو مشيراً أو هو مشارك له أو أن حكم السماء بيد الله وحكم الأرض بيد (الشيخ عدي). وربما كان ما يملكه (عدي) أكثر مما يملكه الله جل وعلا، ومن ذلك أن الله زار الشيخ (عدياً) في (لالش)؛ فقام بحق ضيافته خير قيام. ثم زار (الشيخ عدي) الله في السماء فذهب هو وأتباعه ومزيدوه؛ ولما حلوا في السماء لم يكن عند الله علف لخيولهم، فأمر الشيخ أتباعه أن يذهبوا إلى بيادره في (لالش) ويأتوا منها بالعلف، ففعلوا وسقط التبن في السماء، فكان منه (المجرة)، ويسمونها (درب التبانة) إلى غير ذلك من الحكايات. وبينما يدعون أن (الشيخ عدياً) هو مشارك لله في الحكم لا نجد له تصرفاً في هذا العالم أو نفوذاً أو سلطة سوى: أنه في الآخرة يضع الأمة اليزيدية في طبق(561/22)
ويحملهم على رأسه ويدخل بهم الجنة، بينما تعاني بقية الطوائف أهوال الموقف والحساب. وزيارة قبره فرض على كل يزيدي. وجبل (لالش) الذي به قبره أفضل من مكة والقدس. وزمن حجهم إلى هذا الجبل وزيارة قبر (الشيخ عدي) هو من اليوم الخامس عشر من شهر أيلول إلى اليوم العشرين منه. ومن تمكن من زيارته ولم يزره فهو كافر
3 - ويعتقد اليزيدية أنه سيظهر نبي من العجم في آخر الزمان ينسخ الأديان جميعها ويؤيد عقائد اليزيدية. وهذه العقيدة تسربت إليهم من إحدى فرق الخوارج وهم (اليزيدية) أتباع (يزيد بن أبي أنيسة الخارجي) فإنه كان يدعى هذا
4 - واليزيدية يقرءون القرآن، ولكنهم لا يصومون ولا يصلون ولا يرون أنفسهم مكلفين بهذه القيود؛ فهم يصومون ثلاثة أيام من الصباح إلى المساء من شهر كانون الأول الشرقي. جاء في مصحف رش: (أما الصوم والصلاة فإن الله لا يشابههما لكن يريد الخير وفعل الصدقة)، وهم يعتقدون أن الشيخ (عدياً) أفضل من محمد ومن سائر الأنبياء؛ بل هو وزير لله أو شريكه - كما مر - وهذه العقائد مشابهة لعقائد (البابكية) الذين يزعمون أن (شرون) أفضل من (محمد) ومن سائر الأنبياء. وقد بنوا في جبلهم مساجد للمسلمين يؤذن فيها المسلمون وهم يعلمون أولادهم القرآن. لا يصلون في السر ولا يصومون شهر رمضان
5 - الحلول: مذهب الحلول وتناسخ الأرواح قديم اعتنقه كثير من الأقوام الوثنية، وكان منتشراً في فارس بكثرة. واليزيدية يعتقدون به. وقد جاء في الفصل الثاني من كتابهم (الجلوة): (لا أسمح لأحد بأن يسكن في هذه الدنيا أكثر من الزمن الذي حددته له وإن شئت أرسلته مرة أخرى ثانياً وثالثاً إلى هذا العالم أو إلى غيره بتناسخ الأرواح)
وهم يعتقدون أن روح (منصور الحلاج) حلت في أخته. وذلك أنه بعد أن قتله الخليفة (المقتدر) وأحرق جثته ورماها في النهر جاءت أخته لتملأ جرتها فدخلت الروح فيها. ولما شربت أخته حلت روحه بها فحملت وولدت ولداً كان أخاها وابنها. ولما رمى رأس (منصور الحلاج) في النهر سمع له صوت كالهدير، ولهذا فإن اليزيدية لا يشربون الماء من الأكواز الضيقة الأفواه، لأن صوت الماء أثناء خروجه منها يشبه هدير الماء عند رمى رأس منصور الحلاج في النهر
ومنصور الحلاج فارسي رحل إلى بغداد وأظهر الزهد والعبادة، والناس في أمره مختلفون؛(561/23)
فمنهم من ادعى كفره ومنهم من رأى أن لكلامه ظاهراً وباطناً
وقد ثبت كفره في مجلس عقده الخليفة وحوكم واعترف بذلك، فحكم عليه بالإعدام. وأثناء تنفيذ الإعدام صرح بأن روحه ستحل في غيره ولذلك يدعى أتباعه بأنه لم يمت وأن روحه تنتقل بالتناسخ. وانتقلت هذه الفكرة من أتباع منصور الحلاج) إلى اليزيدية
6 - ويعتقدون أن الله خلق جهنم على عهد آدم الأول في الوقت الذي ولد ابنه (إبريق شعوتا) وابتلى الله هذا الولد بالدمامل الكثيرة في جميع جسده فأخذ يبكي ويجمع دموعه سبع سنين حتى امتلأ الإبريق فصبه على نار جهنم وطفأها وخلص الأمة (اليزيدية). وهذه العقيدة مبنية على أساس العقيدة المسيحية وهي أن (المسيح) تحمل آلام الصلب ليكفر عن خطيئة البشر. وكذا (إبريق شعوثا) تحمل آلام الدمامل ليطفئ نار جهنم ويخلص اليزيدية منها
وهم يعمدون أولادهم كالمسيحين، ويختنونهم كالمسلمين، ويسجدون للشمس والقمر كالوثنيين وغير ذلك
هذه هي أهم عقائد اليزيدية وقفنا عليها من الكتب الإسلامية ومن كتابيهم المقدسين (الحلوة) و (مصحف رش). ولهم معتقدات أخرى كثيرة مبنية على أساطير وخرافات أكثرها إسرائيلية سنعرض لها في بحث آخر
(الموصل)
سعيد الديوه جي(561/24)
القضايا الكبرى في الإسلام
قدامة بن مظعون
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذه القضية تبين أصلاً مهماً من أصول التشريع، اشتبه أمره على قدامة بن مظعون رضى الله عنه، فأقيم عليه بسبب هذا حد الخمر، وهو صحابي بدري من السابقين إلى الإسلام، وممن حاز شرف الهجرتين، وكان زوج صفية بيت الخطاب أخت عمر رضى الله عنه، وهو خال حفصة وعبد الله ابني عمر، فإذا اشتبه عليه ذلك الأصل التشريعي وهذا أمره فغيره أجدر بذلك الاشتباه، وإذا لم ينجه ذلك الاشتباه من حد الخمر لم ينج أحداً منه ولا من غيره من أنواع الحدود والتعازير
لما ولى عمر الخلافة استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، وكان في قدامه نزعة إلى الشذوذ في الاجتهاد، ومن ذلك أن أخاه عثمان بن مظعون لما توفى أوصى إليه بعد موته، وكان لعثمان بنت من خويلة بنت حكيم، فخطبها إلى قدامة عبد الله ابن عمر بن الخطاب، فأجاب خطبته ورأى أن يزوجها له، ولكن أمها خالفته في ذلك، ودخل عليها المغيرة بن شعبة فأرغبها في المال، فرغبت فيه زوجاً لبنتها، وكان رأي الجارية مع أمها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى قدامة فسأله، فقال: يا رسول الله، هي ابنة أخي ولم آل أن أختار لها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها. تم انتزعها من قدامة وزوجها المغيرة بن شعبة
وقد أوقع قدامة شذوذه في الاجتهاد في مخالفة ظاهرة للشرع، فشرب الخمر بعد استعماله على البحرين، وقد رآه الجارود سيد عبد القيس، فقدم من البحرين على عمر بالمدينة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قدامة شرب فسكر، وإني رأيت حداً من حدود الله حقاً على أن أرفعه إليك. فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال: أبو هريرة. فدعا أبا هريرة وسأله: بم تشهد؟ قال: لم أره شرب، ولكني رأيته سكران يقيئ: فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة. يعني أنه تأنق فيها وأظهر أنه يتحرى الحق، ولكنه أتى في ذلك بضد ما يقصد، لأن رؤيته إياه سكران لا يقطع في إقامة الحد عليه، ولهذا اختلف الأئمة في هذه الشهادة، فذهب بعضهم إلى أن من تقيأ الخمر يحد حد شارب الخمر. وذهب بعضهم إلى أنه لا يحد بذلك،(561/25)
لأنه يجوز أن يكون شربها جاهلاً أنها خمر أو مكرهاً على شربها، إلى غير هذا من الأعذار المسقطة للحدود
وقد رأى عمر مع هذا أن يستقدم قدامة من البحرين، فكتب إليه أن يقدم عليه فقدم، فلم يلبث الجارود أن رآه حتى ذهب إلى عمر فقال له: أقم على هذا كتاب الله. فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال: شهيد. فقال: قد أديت شهادتك. فصمت الجارود ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حد الله. فقال عمر: ما أراك إلا خصما، وما شهد معك إلا رجل واحد. فقال الجارود: أنشدك الله. فقال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنّك. فقال الجارود: يا عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني. وقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فاسألها، وهي امرأة قدامة. فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها، فأقامت الشهادة على زوجها، وثبت عليه بذلك شرب الخمر، ولا شك أن في موقف عمر مع الجارود أكبر دلالة على أن الغيرة على الدين يجب أن تكون في اعتدال واتزان، ألا يكون معها تحامل ولا شهوة انتقام، فإذا لم تكن الغيرة الدينية بهذا الشكل لم يكن لها قيمة في الدين، واستحق صاحبها أن يردع بما ردع به عمر الجارود. وما أحوج كثيراً ممن يصيحون بالغيرة على الدين في عصرنا إلى من يردعهم ذلك الردع، ليقفوا عند حد الاعتدال في غيرتهم على الدين، ولا يصلوا في ذلك إلى حد التهور الذي يضر الدين ولا ينفعه، ويجعلهم كالصديق الجاهل الذي يضر صديقه من حيث يريد النفع له، وقد آثر القدماء في ذلك العدو على الصديق، وذهبت فيه حكمتهم المشهورة: عدو عاقل خير من صديق جاهل
وإنما سقطت شهادة الجارود بطلبه أقامة الحد بعد تأدية الشهادة، لأن طلب الحكم من حق المدعي لا الشاهد، فإذا طلبه الشاهد بعد تأدية شهادته وأصر عليه كما أصر الجارود بطلت به شهادته، وكان ذلك مما يدعو إلى الشك في أمره
ولكن ذلك التأويل الخاطئ إذا لم ينفع قدامة في إسقاط الحد عنه، فإنه لم يتخذ وسيلة للتشهير به وقد أخطأ فيه خطأ ظاهراً، ولم يطعن به أحد عليه في دينه وقد خالف فيه إجماع أهل عصره. وما كان لمثله أن يخفى عليه ذلك النص المحكم في تحريم الخمر، بل بقى له دينه صحيح الأديم، وبقى له شرف هجرته وبدريته وسبقه إلى الإسلام. وقد غاضب(561/26)
عمر لأنه أقام الحد عليه ولم يسقطه عنه، وهجره إلى أن أتى موسم الحج فحج عمر وحج قدامة وهو مغاضب له، فلما قفلا من حجهما ونزل عمر بالسقيا نام، فلما استيقظ من نومه قال: عجلوا بقدامة، فوالله لقد أتاني آت في منامي فقال لي سالم قدامة فإنه أخوك، فعجلوا علىّ به. فلما أتوه أبى أن يأتي، فأمر به عمر إن أبى أن يجروه إليه، فكلمه واستغفر له
فرحم الله ذلك السلف الصالح الذي كان يزن أموره بالحكمة ولا يأخذ فيها بتفريط أو إفراط، فيأخذ قدامة بالحد الذي يستحقه من غير تفريط، ولا يضيق صدره بتأويله الخاطئ الذي خالف الإجماع، وأنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، لأنه لم يكن في ذلك سيئ القصد، ولم يقصد به إلى عناد أو كفر. وإنه ليجب الأخذ بالتسامح في خطأ الرأي وإن وصل إلى ذلك الحد، لأن الخطأ من طبيعة الإنسان، وما من أحد وأن علا قدره إلا وهو عرضة لأن يقع في مثل ذلك الخطأ الظاهر، فلو ضيقنا الأمر في خطأ الرأي ولم نتسامح مع من يصل فيه إلى ذلك الحد لتهيبه كل من هو أهل له، وآثر عليه السلامة لدينه وعرضه، فيسود الجمود بين الناس، ويحرم الأمة من الآراء النافعة لأصحاب الرأي فيها
فليتعظ بهذا الذين أصبحوا حرباً على أصحاب الرأي في عصرنا وضاقت صدورهم بكل جديد ولو كان صواباً، وليس لهم سند في ذلك إلا الصخب واستفزاز العامة باسم الدين، والسعي في إيذاء أصحاب الآراء في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ولم يجن المسلمون من صخبهم إلا ذلك الجمود الذي خيم على الأفكار، ووقف عقبة في سبيل الإصلاح، فتقدمت الأمم وتأخرنا، وضعف الدين وفشا الإلحاد في بلادنا، وقد استعصى الداء، وعز العلاج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عبد المتعال الصعيدي(561/27)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
543 - في بيت واحد
لما ادعى إبراهيم بن المهدي الخلافة أتى إليه المعتصم بابنه الواثق فقال: هذا عبدك هرون. ولما استخلف المعتصم قبض إبراهيم بيد ابنه ودخل عليه وقال: هذا عبدك هبة الله
قال أصحاب التواريخ: وكانت الوقعة في بيت واحد!
544 - إلا جعلك سببا لردها عليك
في (المحاسن والأضداد): قالت حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاص: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة! ولا زالت لكريم إليك حاجة! وعقد لك المنن في أعناق الكرام! ولا أزال بك عن كريم نعمة! ولا أزالها بغيرك إلا جعلك سبباً لردها عليه!!
545 - لا يبصر الكلب في أرجائها الطنبا
ابن حجة الحموي: حكى عن القاضي فخر الدين لقمان والقاضي تاج الدين أحمد بن الأثير أنهما كانا صحبة السلطان على تل العجول ولفخر الدين مملوك اسمه (الطنبا) فاتفق أنه طلب مملوكه المذكور وناداه: يا طنبا، فقال له: نعم ولم يأته، وكانت ليلة ممطرة مظلمة، فأخرج فخر الدين بن لقمان رأسه من الخيمة فقال: تقول: نعم ولم أرك. فقال القاضي تاج الدين:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب في أرجائها الطنبا
546 - أسد متعلم غراب متكلم
في نفح الطيب:
قال عبد الله بن عمر السرخسي: بلغني أن قوماً من الغرباء قصدوا السلطان يعقوب المنصور ومعهم حيوانات معلمة، منها أسد وغراب، أما الأسد فيقصده من دون أهل المجلس، ويربض بين يديه، وربما أومأ بالسجود ومد ذراعيه. وأما الغراب فكان يقول: (النصر والتمكين، لسيدنا أمير المؤمنين) وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
أنس الشبل ابتهاجاً بالأسد ... ورأى شبه أبيه فقصد(561/28)
انطق الخالق مخلوقاته ... شهدوا والكل بالحق شهد
أنك الخيرة من صفوته ... بعدما طال على الناس الأمد
فأعطاهم وكساهم، وأحسن حباءهم. وبلغني أن قوماً أتوه بفيل من بلاد السودان هدية فأمر لهم بصلة ولم يقبله منهم. وقال: نحن لا نريد أن نكون أصحاب الفيل(561/29)
العزلة. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
في روضة مِعْطارْ ... تَخْضَلُّ بالَّتذكارْ
هاجت بها الأفكارْ ... ناراً على قلبي!
فيها جَناحٌ طارْ ... وعطُر أَيْكٍ ثارْ
وجدول هدَّارْ ... يجري بلا سَكْبِ
صَلَّتْ بها عيدانْ ... لا تعرف الأديانْ
واسْتَغْفَرَتْ أغصانْ ... لكن بلا ذنبِ
خَمِيلُها حَرّانْ ... ونبعها ظمآنْ
وصمتها ولهانْ ... شوقاً إلى الغيبِ
تفجرت أنهارْ ... فيها من الأسرارْ
يجري بها إعصارْ في عالمي الرَّحْبِ
دارت سواقيها ... تبكي لتسقيها
من دمع ماضيها ... ما فاض من هُدْبيِ
مشى بها الماضي ... يدوس أنقاضى
كمرهف ماضِ ... يُغْمَدُ في جنبي
ولاحت الأيامْ ... مشلولة الأقدامْ
كأنها أوهامْ ... مصلوبة الركْبِ!
من أين لا أغصانْ ... سرباً إلى سربِ؟!
وكيف لا حاناتْ ... فيها ولا كاساتْ
طافت بها الآهاتْ ... سكرى بلا شرب
وهذه أفواجْ ... من خاطري الوهاجْ
تجيش كالأمواجْ ... جنباً إلى جنب. . .
وهذه أنفاسْ ... في صمتها الوسواسْ
تدق كالأجراسْ ... في معبد القلبِ(561/30)
وهذه أنغامْ ... مغلولة الإلهامْ
كأنها أنسامْ ... قُيِّدْنَ بالعُشْبِ. . .
وهذه أصفادْ ... للِحَّنِ والأعوادْ
تضج كالأجنادْ ... في غمرة الحربِ
وهذه أشواقْ ... مجهولة الآفاقْ
مقتولة الإشراقْ ... مسدولة الحُجْبِ
وهذه رُكْبانْ ... للغدر والبُهتانْ
تنسلُّ كالثعبانْ ... في الْمَزْحَفِ الرطْب
وهذه أكوابْ ... مما سقى الأحبابْ
بالسُّمِّ والأوصابْ ... تدور في قلبي. . .
وهذه رنَّاتْ ... ممدودة الراحاتْ
كأنها قُبْلاتْ ... ظمآى إلى الحبِّ
تنهيدة من عودْ ... في مهجتي مشدودْ
معذَّبٍ مكدودْ ... من قسوة الضربِ
أم نغمة خرساءْ ... مسحورة الأصداءْ
أشهى من الإغضاء ... في ساعة العتْبِ؟!
وهذه صحراء ... في وحدتي السوداء
مرت بها الأنواء ... تبكى من الرعب
وهذه حيات ... تسعى من الساعات
كأنما الأوقات ... غابٌ نما قُرْبى. . .
وهذه جنَّاتْ ... رفَّتْ بحوريّاتْ
ينثُرن بالهالاتْ ... زهراً على جَدْبي
سرْبٌ من الآمال ... يدب كالمحتال
مُرَقَّشَ الأسمالْ ... بالزيف والكِذْب
أكعَبةٌ أم حانْ؟ ... أم مخدع النسيانْ؟(561/31)
أم موئل الإيمانْ؟ ... أم مَعْقِلُ الريبِ؟
وهذه أطيارْ ... يا نفس أم أوكارْ
لاذت بها الأسرارْ ... من روعة الخطْبِ؟
وهذه أكوان ... للروح أم أكفانْ
يا حادي الأزمان ... تهنا عن الدربِ. .
ياُ عزْلة الأرواحْ ... لا تظمئي! فالراحْ
وهاجة الأقداحْ ... من دمعيَ العَذْب!
أبكي كما أبكي ... من ظُلمة الشك
فدمع عينيك ... أهْمى من السُّحْب
ربيعك الرفرافْ ... خريف حبْ طاف
مُلأَلأ الأفوافْ ... كأدمع الصب
أطلقت فيكِ الروحْ ... كطائر مجروح!
فعاد كالمذبوحْ ... مُلْقَى على التُّرْب
عمري غريبٌ تاهْ ... ضلت به دنياهْ. . .
من سجنه الأوَّاهْ ... أطلقْه يا ربي!!(561/32)
جراح!!
تعالى هنا نحيا سعيدين لا نرى ... على الكون إلا ما يسر ويفُرح
تعالى نعش فوق الحياة فإننا ... خلقنا كهذا الطير نشدو ونمرح
تركت فؤادي نهبة لشجونه ... وإن كان عن أشجانه ليس يفصح
هنا في فؤادي. . . آهة كم حبستها ... فظلت به مجنونةَ العصف تلفح
كثيب. . . أجل! لكنني من كآبتي ... أغنى ألا حين الحياة وأصدح
وصوتك لحن صاغة الله فتنة ... لقلب مع الآلام يمسي ويصبح
إذا سمعت أذناي ترجيعه انطوى ... زماني. . . وظلت مهجتي تترنح
ترف على كون من النور ساحر ... وتسبح في دنيا بعطرك تنفح
على وجهك الفتان تسبيح راهب ... وألحان أيك بالصبابة ينضح
دعيني فلي في ظلمه السمح سجدة ... أظل بها في باحة النور أسبح
حييت على الدنيا شجياً معذباً ... وأنت بكفيك الصفاء المجنح
وما ضرني أن كنت وحدك فرحتي ... وغيرك إعصار لنفسي ومذبح
سخرت بأفعال البريات كلها ... فسيان عندي من يذم ويمدح
فهيِّا بنا يا أخت نلهو فإننا ... خلقنا كهذا الطير نشدو ونمرح
عبد العليم عيسى(561/33)
البريد الأدبي
شعراء الشباب والأستاذ الجليل (أ. ع)
لست أدري ما علة هذه الحملة التأديبية المفاجئة التي يأبى أستاذنا
الجليل (أ. ع) إلا أن يشنها على شعرائنا الشباب الذين يضطلعون
بمهمة تجديد الشعر العربي والنهوض به ونفض هذا الثرى المتراكم
عليه والذي يوشك أن يخمد أنفاسه. . . لقد تذرع أستاذنا الجليل بكلمة
نشرها الوالد الأغر والأستاذ الأكبر إسعاف النشاشيبي عما سماه
(الشعر الخذروفي!) فشمر عن ساعد الجد، وانطلق يوسع شعراءنا
الشباب غمراً ولمزاً وتجريحاً. . . وكل ذلك من وراء حجاب كان
الخير في كشفه ما دام الأستاذ يريدها حرباً وليس يريدها سلاماً! لقد
أنكر الأستاذ جميع الشعر العربي بعد البارودي وشوقي وحافظ. . .
وأشفق من الشعراء الشيوخ الإجلاء الذين لا يزالون على قيد الحياة.
والذين يعتز بهم الشعر العربي، والذين لا ينكر إلا ظالم أن منهم من لا
يقل مرتبة عن البارودي وشوقي وحافظ، فرأى أن يشملهم بإشارة
عطف ورحمة ورثاء وهو يحسب أنه بهذا قد اتقى سخطهم، ثم خلص
من إشارة العطف والرحمة والرثاء إلى صب جام سخطه على
الشعراء الشباب الذين ثاروا على المذهب القديم، وراحوا يواكبون قافلة
الحياة، ويوسعون آفاق الشعر مطرحين نظم المناسبات، جاعلين
لعواطفهم وقلوبهم ودموعهم وآلامهم وقضايا جيلهم الحق الأول في كل
ما ينظمون، هازئين بالهودج والعيس والريم الواقف على القاع بين
البان والعلم، تتشوق أرواحهم إلى المستقبل ولا يتباكون على الماضي،(561/34)
يبتدعون ويفتنون ولا ينبشون قبور الموتى ويسرقون أكفان النائمين
تحت التراب. يمشون في جنات الفكر ويتغنون ألحانهم الخاصة غير
مقلدين ولا متأثرين بأشباح الماضي السحيق
ماذا ينقم أستاذنا الجليل من شعراء الشباب؟! أمن العدل أن يحدثنا عن قصيدة لم نرها لنحكم إن كان إنكاره منها ما أنكر حقاً أو ليس من الحق في شئ؟ وهل من العدل أن يجحد أستاذنا الجليل شعر الشباب عامة لأن تلك القصيدة المجهولة لم ترقه؟ وهل من العدل أن ينكر الأستاذ هذه العشرات من شعراء الشباب وهم أثمن قلادة يتحلى بها جيد مصر الحديثة والشعر المصري الحديث؟ هل من العدل أن يجحد علي محمود طه وناجي والخفيف ومحمود حسن إسماعيل ورامي وجودت وغنيم وعبد الغني حسن وعبد الغني سلامة ونجا والعجمي والنشار وشيبوب والبشبيشي وقطب وغيرهم ممن لا تحضرني الآن أسماؤهم اللامعة في سماء شعرنا الحديث؟ أمن العدل هذا يا أستاذنا الجليل والذين تنكرهم هم تلاميذك وأبناؤك؟ فماذا تقول؟ هل فشلتم في إنشاء هذا الجيل الجديد؟ أليس من الخير أن ندفع العربة إلى الأمام لا أن نقف في سبيلها فتحطمنا أو ندفعها إلى الوراء؟
دريني خشبة
النسب إلى أم وأمهة
اطلعت في عدد الرسالة (559) على رد للكاتب الكبير الأستاذ العقاد يرديه على من انتقده في استعمال لفظ (الأموية) نسبة إلى الأم. وخلاصة الرد أن النسبة الصحيحة، وأن أصل أم أمة وأمهة، فقلبت الهاء واواً، كما تقلب في سنة وسنوي وشفة وشفوي وعضة وعضوي للدلالة على عواطف الأمومة والنسبة إلى أحد الأبوين فرقاً بين هذا المعنى وبين معنى أمي، للدلالة على الجاهل بالقراءة والكتابة
وأقول: ورد في اللغة عن الأثبات الثقات، أن في لفظ الأم أربع لغات، هي؛ أم بضم الهمزة وكسرها، وأمة وأمهة. وجمع الكل أمات وأمهات. قال:
إذا الأمهات فبحن الوجو ... هَ فرجت الظلام بأماتكا(561/35)
والنسبة إلى أم (أمي) وإلى أمهة (أمهى) وهذا هو القياس الصرفي
ثم إن قياس أم من أمهة على سنة ونحوها في النسب ليس بصحيح لوجهين:
الأول: أن الهاء من سنة لم تقلب واوا في النسب - كما قد يتوهم - لأن هذه الهاء مبدلة من تاء التعويض المشوب بالتأنيث وهي تحذف من المنسوب إليه ألبتة، والواو في سنوي ونحوه أصل من أصول الكلمة كانت حذفت وعوض عنها التاء (الهاء)؛ ولما كان النسب يرد المحذوف في مثل هذا الموضع حتما ردت الواو كما ردت في الجمع فقيل سنوات. ويقال في النسب سنهى بالهاء، لأن (لام سنة) المحذوفة ذات وجهين عند العرب، كما هو مبين في متن اللغة. وإذا ثبت بالدليل أن الواو في سنوي غير مبدلة من الهاء في سنة ثبت أن الهاء في أمهة لا يصح قلبها واوا؛ إذ لا يعرف هذا النوع من الإبدال في لغة العرب
الثاني: أن الداعي إلى عودة الواو في النسب هو تكميل اللفظ برد ما حذف من أصوله إليه؛ ليكون ذلك جبراً لما فاته من تاء التعويض التي تحذف وجوباً عند النسب. فكان - لولا الرد - يبقى من الكلمة حرفان فقط، وهذا إجحاف ببنيتها من غير داع إليه. وكلمة (أم) ليست كذلك؛ لأنها لفظ ثلاثي تام غير محتاج في النسب إلى تكميل. فكما يقال في النسب إلى در درى، يقال في النسب إلى أم أمي، ولا التباس حينئذ؛ لأن التمييز بين المعاني المختلفة يكون بقرائن الأحوال.
عبد الحميد عنتر
أخطاء في الأعلام
كتاب الأعلام للأستاذ الزركلي هو عند الباحث كأقرب الموارد. وكثرة أغلاطه اضطرت مؤلفه المخلص إلى أن يقول في مقدمته (فما على لتكون الخدمة خالصة للعلم إلا أن ألتمس ممن حذقوا التاريخ ومازوا لبابه من قشوره وكان لهم من الغيرة عليه ما يحفزهم إلى الأخذ بيده أن يتناولوا الكتاب منعمين مفضلين بنقد خطأه وعدل عوجه وبيان ما يبدو لهم من مواطن ضعفه، وقديماً قال إبراهيم الصولي: المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل فيه من منشئه)
وقد مضى على طبعه ست عشرة سنة ولم نر من عرض لنقده، فأمسى من الواجب أن(561/36)
أذكر القوم بالتنبيه على النزر من أخطائه:
في ص 17 لم يذكر المؤلف في ترجمة البقاعي أعظم آثاره وهو تفسير المناسبات
في ص 37 لم يشر في ترجمة البيهقي إلى أن كتابه (الأسماء والصفات) مطبوع كما شرط على نفسه، ومثل هذا كثير لا تتسع الرسالة لتقصيه. وفي ص 105 نص على أن الجوهري توفى سنة 393 مع أن في ذلك اختلافاً، لأنه وجد خطه أثر بعد هذا التاريخ. وفي ص 143 في ترجمة برقوق (ولى سلطنتها سنة 884)، والصواب 784 على ما في الضوء اللامع للسخاوي. وفي ص 154 في ترجمة الكاشاني (بدائع الصنائع أربع مجلدات) والصواب سبعة مجلدات
وفي ص 482 (ابن العماد العكري) بفتح العين، والصواب ضمها، وهو مؤلف (شذرات الذهب في أخبار من ذهب). وفي ص 488 في ترجمة السيوطي (لب الألباب) صوابه (لب اللباب) وهو مختصر (اللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير) وفي ص 582 (البطليوسي) بضم الياء، صوابها بفتح الياء وإسكان الواو
وفي ص 652 من مؤلفات ابن جني (المنهج) صوابه (المبهج) في تفسير شعراء الحماسة، وهو مطبوع
وفي ص 652 ترجم لعلوان بن علي بن عطية الحموي، ثم ترجم له أيضاً في ص 682 باسم علي بن عطية
وفي ص 661 (الهيتمي) والصواب (الهيثمي) بالثاء المثلثة. وذكر من مؤلفاته: غاية المقصد في رواية أحمد. والصواب غاية المقصد في زوائد أحمد، على ما في ذيول تذكرة الحفاظ وغيرها
وفي ص 849 قال إن وفاة الأبيوردي سنة 557 مغتراً بما في وفيات الأعيان. والصواب 507 كما في شذرات الذهب وغيره. وفي ص 873 ذكر في ترجمة ابن زريق أن من مؤلفاته (الأعلام بما في مشنبه الذهبي من الأعلام) و (عقود الدرر في علوم الأثر) و (تذكرة الطالب المعلم بمن يقال إنه مخضرم) و (التبيين لأسماء الأندلسيين) والصحيح أن الكتابين الأولين هما لابن ناصر الدين، والثالث والرابع هما لسبط ابن العجمي. وقد طبعا، و (الأندلسيين) محرفة عن (المدلسين) لأنه يذكر فيه من عرف بالتدليس. وفي ص 916(561/37)
قال إن السخاوي توفى بمكة؛ والصواب أن وفاته كانت بالمدينة على ما فصله ابن العماد في (شذرات الذهب). وعد الزركلي في مؤلفات شمس الدين السخاوي (الذيل على طبقات القراء لابن حجر) والصواب (الذيل على طبقات القراء لابن الجزري) و (تحفة الأحباب) والصحيح أنها لسخاوي آخر
وفي ص 1088 وهم في متابعة ابن خلكان في تأريخ وفاة أبي منصور الجواليقي في سنة 539، والتحقيق أنها في سنة 540 على ما في (شذرات الذهب) وغيرها
وفي ص 1156 قال إن (الإفصاح عن شرح معاني الصحاح) مطبوع، والمطبوع جزء واحد منه.
محمد غسان
صعوه ومعيه
يقول الأستاذ أحمد عنبر: (قد ورد في كتب اللغة: (عيه الزرع: أصابته العاهة فهو معيوه). ويظن أن الأفضل أن تكون الكلمة (المعيه) بدل المعوه)
وتقول: جاء في أقرب الموارد مادة (عوه) (عيه الزرع والمال مجهولاً أصابته العاهة فهو معيوهٌ ومعيهٌ ومعوهٌ) والفعل وارى العين ويائّيها(561/38)
العدد 562 - بتاريخ: 10 - 04 - 1944(/)
في الأدب والفن
للأستاذ توفيق الحكيم
قرأت في هذا الأسبوع رأيين في الأدب والفن أحدهما يمسني والآخر يهمني. فأما الأول فهو رأي صديقنا الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في تقريظه لقصتي السينمائية (رصاصة في القلب) الذي نشره في جريدة البلاغ تحت عنوان (بين الأدب والسينما)، وقد تحدث فيه عني حديثاً مستفيضاً، ورحب بالتفاتي إلى الفن السينمائي ترحيباً نم عن نفس نبيلة وزمالة شريفة. ثم تطرق من ذلك إلى الإسهاب في صلتي بالأدب العربي قائلاً: (وليس لصديقي الحكيم عيب فيما أرى سوى قلة عنايته بالأدب العربي. ولست أزعم أنه لا يقرأ من الأدب العربي شيئاً، والعياذ بالله، فإن هذا يكون شططاً لا يغتفر ولا يقبل ولا يعقل، وإنما أقول إنه لا يعني به كعنايته بالأدب الغربي من فرنسي على الخصوص، وإنجليزي وألماني وروسي على العموم. . . وهنا موضع التحرر من خطأ قد يقع فيه القارئ أو وهم يركبه، فلست أقول إن صديقي الحكيم لا يحسن العربية، أو أن لغته ركيكة أو واهية البناء، فما إلى شيء من هذا أقصد. . . فإن لأسلوبه العربي لجمالاً ورشاقة وحلاوة وطلاوة. . .) الخ
هكذا قال صديقي المازني. وإذا تأملنا هذا القول ومثله لتكشف لنا عن نتيجة عجيبة: هي أن أمثال تلك الروايات التي تشاع عن إغفالي للأدب العربي ليس فيها ما يضيرني بقدر ما فيها من إساءة إلى الأدب العربي نفسه. فإن القارئين لأسلوبي الذي تكرم المازني فأسبغ عليه تلك الصفات لا ريب قائلون: (هاهو ذا كاتب قد استطاع أن يجعل لأسلوبه (جمالاً ورشاقة وحلاوة وطلاوة) دون أن يحتاج في ذلك إلى الأدب العربي. ففيم الاهتمام بهذا الأدب، وما نفعه إذن؟!) ماذا يكون الحال إذا قالها الناس أيها الصديق المازني بينما الحقيقة غير ذلك؟ فالحق الذي يجب أن يقال هو أني ما وصلت إلى هذا إلا بعد اطلاع على الأدب العربي وتأمل له ونظر فيه. وكل ما في الأمر أني أتناول هذا الأدب تناول رجل الفن لا رجل العلم ولا رجل البحث. وإني آخذ منه ما ينفعني وأمضي به صامتاً إلى فني الذي أمارسه. والفنان يحتاج من مادة اللغة إلى قدر غير القدر الذي يحتاج إليه العالم المحقق للنصوص المفسر للمتون المستخرج للوثائق. وإن الفنان ليعرف بغريزته الفنية ما يلزم(562/1)
لفنه وما لا يلزم، كالدوحة تدرك جذورها بالفطرة طريقها إلى موارد الماء ومواطن الغذاء. أما ذلك الذي يقال ويحكى عن الجلد والصبر على مشقة أدبنا العربي، فهو توهم ساذج، أو مفاخرة تعرفها ممن لا محصول عندهم غير هذا، فما أظن الغوص في كتب الأدب العربي أشق من الغوص في بحار العلوم والفلسفة والآداب والفنون لمختلف الأمم والحضارات. وأنا الذي طالب الأديب بأن يكون (موسوعياً) على قدر الإمكان، يلم بكل علم وبكل أدب وبكل فن (راجع كتاب زهرة العمر) لا ينتظر مني أن أستهول تلك المشقة المزعومة في مطالعة أدبنا العربي!! على أن الصديق المازني خليق بالشكر على كل حال؛ فقد رأى من واجب الزمالة أن يكون مخلصاً في الرأي. وما أجمل هذا الموقف منه! وما أحرى بي أن أبادله إخلاصاً بإخلاص ونصحاً بنصح، فأكشف له عن مخاوف طالما ساورتني وساورت اليقظين من محبيه. فهو قد أراد التقريب بين العامية والفصحى فتبسط في أسلوبه ومعانيه، وهذا ما يحمد عليه؛ ولكن الذي نخشاه هو أن يكون جريه في طريق التبسيط داعياً إلى أن يجر معه الفكر من عليائه إلى مستوى غير المستوى الذي ينبغي له. ولعلنا واهمون! ولعلها مخاوف الصداقة! فالمحبة خوف ورجاء. وكلنا يرجو للمازني أن يحلق إلى جلال الفكرة كما برع في جمال العبارة. وليس هذا بعزيز على الصديق العزيز.
وأما الرأي الآخر فهو رأي أخي أحمد أمين بك في الأدب الأمريكي الذي تحدث عنه في العدد الماضي من مجلة (الثقافة) قائلاً: (وهذا هو الأدب الأمريكي يحمل لواءه اليوم رجال مارسوا الحياة العملية في شتى شئونها، ثم لم يكتبوا في خيال وأوهام وأحلام، إنما يكتبون أكثر ما يكتبون في مشكلاتهم الحالية ومسائلهم اليومية وحياتهم الاجتماعية، وأكثر هؤلاء لا يستوحون أساطير اليونان والرومان، وإنما يستوحون مجتمعهم وما فيه وما يصبو إليه. فللأديب العربي أن يستوحى امرأ القيس أو (شهرزاد)! ولكن يجب أن يكون ذلك نوعاً من الأدب لا كل نوع، ولا هو النوع الغالب ولا هو الأرقى. . .)
مع الأسف أراني مضطراً أن أقول للصديق المبجل أن استيحاء أساطير اليونان والرومان وامرئ القيس و (شهرزاد) هو النوع الأرقى في الأدب. . . في كل أدب. . . لا في الماضي وحده ولا في الحاضر. . . بل في الغد أيضاً وبعد آلاف السنين، ما دام الإنسان إنساناً، وما دام رقيه الذهني بخير لم يصبه نكاس. فالإنسان الأعلى هو الذي يصون(562/2)
(الجمال الفني) عن الاستغلال الأرضي في أي صورة من صوره؛ ويحتفظ به لمتعته الذهنية وثقافته الروحية. وإن اليوم الذي نرى فيه (الأدب) قد استخدم للدعايات الاجتماعية، و (التصوير) استغل في معارض الإعلان عن السلع التجارية، و (الشعر) جعل أداة لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية، لهو اليوم الذي نوقن فيه بأن الإنسان قد كر فانقلب طفلاً يضع في فمه تحف الذهن وطرف الفكر، لأنه لا يدرك لها نفعاً غير ذلك النفع المادي المباشر. والأدب الأمريكي الذي يعجب به أحمد أمين بك هو في أغلبه صحافة راقية أكثر مما هو أدب حقيقي. والأدب الحقيقي فيه هو ما استند إلى أساطير اليونان والرومان، أي مخلوقات الإنسانية التي أبدعتها أحلامها الجميلة وخيالها الرائع. فالخلاف بيني وبين صديقي الأستاذ أحمد أمين هو على معنى (الرقي)؛ فأنا لا أسلم أبداً بأن رقي الإنسان هو في تقدم أسباب معاشه المادية. هذا حقاً هو الرقي بالمعنى الأمريكي، ولكن الرقي بالمعنى الإنساني المثالي شيء غير ذلك. إن الإنسان الأعلى ليس ذلك الذي يضع كل شيء في فمه. . . ولكنه ذلك الذي يشعر بحاجته إلى متع معنوية وأغذية روحية وأطعمة ذهنية لا علاقة لها من قرب أو بعد بضرورات حياته المادية أو الجثمانية. هذا هو الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان. فالحيوان لا يحتاج إلى أن يطرب لبيت من الشعر أو لصوت من الغناء أو لتمثال من الرخام، ولا يمكن أن يخطر له على بال وجود عالم آخر غير عالم الأكل والشرب والمأوى. ولو نشأ أدب بين فصيلة من الحيوان لكان هذا الأدب في رأيي قائماً في جملته على مشكلات العراك على صيد الفريسة. . . ولاقتصر خياله على الحلم بأن في بطن كل سبع غزالاً سميناً، وفي فم كل حيوان في الغاب صغر أو عظم غذاء موفوراً بغير وثب ولا بحث ولا تربص. بل فلنأخذ مثلاً جماعة النحل أو النمل وقد بلغت من الدقة والتناسق وروح التضامن في نظامها الاجتماعي ما أثار الدهشة. . . هذا المجتمع الذي شيده النحل على هذا الأساس من (الوعي الاجتماعي) لا (الوعي الفردي) لو قامت فيه نحلة شاعرة أو أديبة، أو ظهر فيه أدب وشعر، فما يكون نوعه واتجاهه ومراميه؟ لا شك عندي أن هذا الأدب أو الشعر سيكون له عين المرامي التي ينزع إليها الأمريكان ويتمناها لنا أخي أحمد أمين. سيتحدث أدب النحل وشعره عن الأزهار من حيث كمية عسلها، ونصيب كل عامل من عمال النحل في نقله وإعداده والانتفاع به في الخلية، وعن(562/3)
حقوق الطوائف العاملة وواجباتها، ومشكلاتها اليومية وشئونها الحيوية. أما الذي لن يحدث أبداً فهو التفات النحل في أدبه أو شعره إلى حسن الأزهار في ذاتها، وإلى بهائها في ألوانها، وإلى تمايلها اللطيف مع النسيم كأنها تراقصه، وإلى تفتحها ابتساماً للفجر وهي تعانقه، وإلى نداها بدموع الليل وهي تفارقه. . . لن يفطن النحل إلى هذا أبداً. . ولو فعل لانقلب إنساناً في لحظة واحدة. كل فضل الإنسان على غيره من المخلوقات أنه ارتفع إلى العناية بأشياء معنوية لا تتصل مباشرة بطعامه وشرابه ومقومات حياته المادية. وهذه الأشياء سماها فيما سماه: الفن والأدب. وحرص على أن تبقى على قدر المستطاع بعيدة عن تفاهاته الأرضية، لتذكره من حين إلى حين أنه ليس حيواناً. وهنا عظمة الفن والأدب. ولكن مطامع الناس شاءت أن تمد أيديها الفاتية إلى هذا الجوهر السامي لتسخره في شئون الأرض؛ فرأينا الشعر والأدب يتجهان إلى غايات نفعية؛ فاستخدم الشعر أحياناً لمدح الملوك والأمراء من أجل المال والثراء، أو لنشر الدعوة في الدين أو السياسة من أجل الثواب أو الجزاء. ولكن كلمة الفن هي العليا دائماً؛ وحكمه هو النافذ وحده. وهاهو ذا قد حكم لامرئ القيس الجاهلي فرفعه وقدمه على داعية الإسلام حسان. وفي هذا الدليل على أن الفن الخالص لوجه الجمال الفني هو الأرقى والأبقى. وذلك ما لا يسلم به الأستاذ أحمد أمين. فهو يعتقد أن الفن المسخر لخدمة الضرورات اليومية في المجتمع هو الفن الأرقى، متأثراً ولا ريب بتلك النظريات الحديثة في السياسة والاقتصاد التي ترمي كلها إلى تملق الجماهير ومداهنة الدهماء ومصانعة الجماعات والنقابات والهيئات ومسايرة الكتل والسواد من الناس والشعوب، موهمة إياهم بجعل كل شيء في خدمتهم. وخدمة الجموع معناها خدمة مصالحهم الأرضية المادية من مأكل ومشرب ومأوى؛ لأن السواد والكتل لن يطلبوا أبداً ولن يقبلوا ولن يعرفوا غير هذا النوع المادي من المطالب. فإذا أردنا تسخير الفن في هذه الأغراض فمعنى ذلك الهبوط به إلى ذلك اللون من أدب النحل. . . أو على الأقل إلى ضرب من أدب الدعاية والوعظ والهداية
أما إذا كان في الإمكان وجود فن يخدم المجتمع دون أن يفقد ذرة من قيمته الفنية العليا فإني أرحب به وأسلم من الفور بأنه الأرقى. ولكن هذا لا يتهيأ إلا للأفذاذ الذين لا يظهرون في كل زمان. فمن أين لنا في شعرنا بأمثال (المتنبي)؟ لقد أعدت قراءة ديوانه منذ أسابيع(562/4)
لأنظر كيف بقى ذلك الشعر الذي خرج من وحي الدنانير. الحق أن المال كان باعثه ولكن الفن كان غايته. ذلك الذهن الذي أبدع صوراً ترى لها أحياناً حركة ويبصر لها بريق ويسمع لها رنين كما في قوله:
وأمواه تصلْ بها حصاها ... صليل الحلي في أيد الغواني
ماذا يعنينا منه أن يكون حافزه استجداء مال أو مدح ذي سلطان أو خدمة مجتمع أو تملق شعب؟ المهم أن يكون هنالك فن قبل كل شيء. بغير هذا ما عاش لنا المتنبي حتى اليوم؛ فالسلطان يذهب والدولة تدول والشعوب تتغير؛ ولكن الفن باق. . .
أما بعد، فليتجه الأدب العربي حيث شاء له أخي المبجل أحمد أمين بك. وليخدم الجماعات ومشكلاتها الحالية ومسائلها اليومية ومطالبها المادية، وليبتعد عن (الفردية) التي هي أساس كل فن، والتي بغيرها لا يقوم فن؛ وليتجنب (تراجم الأفراد أو ترجمة الكاتب لنفسه أو تحليل الأديب لبعض الشخصيات أو روايات الغرام) أو نحو ذلك مما يراه صديقي من قبيل النزعات الفردية؛ ولننكر الحقيقة القائلة إن (الفنان إذا لم يقل (أنا) فهو ليس بفنان، كما أن العالم الذي يقول (أنا) ليس بعالم) لننكر ذلك مؤقتاً ولننتظر. . . عسى أن يخرج لنا أثر فيه الفن وفيه منفعة السواد. . . والله لا يخيب رجاء المصلحين.
توفيق الحكيم(562/5)
برناردشو والحروف اللاتينية
لأستاذ جليل
قالت مجلة (المستمع العربي) منذ نحو من حولين في الجزء (17) من سنتها الثانية - وهي مجلة القسم العربي في دار الإذاعة البريطانية - في حديثها عن كتاب (معجزة نشأة اللغة) للأستاذ ويلسون
,
(. . . وتمتاز الطبعة الجديدة من هذا الكتاب بمقدمة ضافية كتبها (برناردشو) الأديب الإنكليزية المعروف عالج فيها موضوعاً لا يخلو من أهمية لقراء الشرق الأدنى. إذ يرى هذا الكاتب الألمعي أن حروف الهجاء الإنكليزية لا تناسب اللغة الإنكليزية نظراً لأنها وضعت في الأصل من أجل اللغة اللاتينية التي تختلف في مخارج ألفاظها عن لغة أبناء التاميز. وعلى ذلك فهجاؤها يبعد كل البعد عن وقعها على السمع. ولا شك أن هؤلاء الذين يرغبون في حذق الهجاء الإنكليزي يقرون نقده هذا. وهو نقد لا شك سيهم القارئ العربي أيضاً لاتصاله بالتغيير الذي يقترحه بعضهم بشأن كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية. إذ يحق لنا أن نتساءل بعد ذلك إذا كان من الحكمة الاستغناء عن حروف الهجاء العربية التي تمتاز على الأقل بأنها وضعت خصوصاً للغة العربية واستبدال حروف بها، وإن كانت شائعة الاستعمال إلا أنها لا تناسب حتى هذه اللغات التي دأبت على استعمالها منذ أول عهدها بالكتابة)
ذلكم قول المجلة العربية الإنكليزية، وأغلب ظني أن الكاتب هو الأستاذ (بابار) العرباني المعروف في الغرب الأقصى (مراكش) ومصر وفلسطين وغيرها، وهو رجل مثقف مهذب طيب، عرف العربية ونقل إلى لغته كتباً منها.
والحروف اللاتينية التي نقدها كاتب القوم العبقري (برناردشو) وأيدت تلك المجلة نقده إياها - إنما هي الحروف العربية غير المهذبة كتبها كاتبوها من الشمال مكثرين من حروف المد فيها - والبركات في تلكم الحركات قد خفت وسهل النطق بأحرفها - مطيلين الكلمة بتسطير حروفها جميعها - والعربية قد أبدعت حين اختزلت - متعبين عيون القارئين بما(562/6)
صوروا وطولوا. وشتان ما حرفان أحدهما يريح البصر وآخر يرهقه، فسم الحرف اللاتيني بالحرف المتعب تنصفه. ولقد بالغ إخواننا الترك في الإساءة إلى أنفسهم باستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير وتفضيل الشمال على اليمين. وفي مقالتي (الحرف العربي والإفرنجي) في الرسالة الغراء قد نعيت عليهم ضلالهم هذا، وبينت في تلك المقالة ما بينت. وإني لموقن اليوم أن القوم سيستيقظون من سنتهم بعد سنين، وسيندمون وسيرجعون إلى حروف لسانهم عاملين بالقول الحكيم: (الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). وفي الأتراك - يا أخا العرب - عقلاء حكماء مخلصون، فلا تيئس من عودتهم
وأما مقترح تصوير العربية بالحروف اللاتينية الذي أشارت إليه مجلة (المستمع العربي) فهو كمقترح استعمال تيك العامية - ولكل إقليم عربي عامية بل بلية - والاقتراحان هما من بنات ليل المرء في وقت المرض. والأمم العربية قد أجمعت على أن تكون في هذه الدنيا في الكائنين لا أن تبيد مع البائدين. وإن وعوعة الباطل متلاشية، ودعوة الحق هي الباقية. وكتاب الدهر كتاب العربية يقول:
(. . . فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. . .)
ما أشقى أولئك الإنكليز المساكين بحروف تهجيهم! إنهم إذا قصدوا التلفظ بالحرف الذي يحاكى (الذال) أو (الزاي) عندنا اضطروا أن يجلبوا حرفين وهما والحرف وإذا أرادوا أن ينطقوا بالحرف الذي يشاكل (الشين) في العربية جلبوا كذلك حرفين وقس على ما ذكر ما لم يذكر. إن بلايا الإنكليز في حرف لغتهم لكثيرة مساكين!
أيها الإنكليز، اتركوا الحروف اللاتينية أو اللاطينية - كما يقول الأقدمون وابن خلدون - وخذوا الحروف العربية كما فعلت الأسبان في وقت من الأوقات. إنهم (خطوا لسانهم الأسباني بالحرف العربي) وما كانوا مخطئين. ولولا سلطان الدين أو الكنيسة، لولا القسيسون والرهبان ما انفكوا يكتبون به حتى يوم الناس هذا
(ن)(562/7)
معهد التمثيل المصري
للأستاذ دريني خشبة
1 - بعد أيام قليلة يفتتح معهد التمثيل المصري فتتحقق إحدى أمانينا التي لم نيأس من الدعوة لها والكتابة فيها، صادرين في ذلك كله عن إيمان لا يتزعزع بأن التمثيل هو ركن من أقوى الأركان في ثقافة أمة تفهم معنى الثقافة الحقة، وتدرك روح العصر الجديد، فيجب أن تتخذ وسائل هذا العصر الجديد
بعد أيام قليلة تأخذ مصر الحديثة في تعليم عدد متواضع من أبنائها أصول هذا الفن الرفيع ليأخذوا على عواتقهم حين يتخرجون تلك المهمة الخالدة. . . مهمة خلق المسرح المصري بكل دعائمه. . . من ممثلين ومخرجين ومؤلفين وناقدين، ومن إلى الممثلين والمخرجين والمؤلفين والناقدين من مهندسين ومصورين وإداريين وعمال وصانعي ملابس وعلماء أزياء، وكل من يستطيع أن يضع مشكوراً لبنة في صرح هذا المسرح الذي نريده مسرحاً مستنيراً لا يعرف الشعبذة ويأنف أن يتخذ التهريج وسيلة إلى قلوب الجماهير، مسرحاً يسمو بجمهوره ولا يهوى بنهضتنا إلى حضيض الهمجية. . . نريد أن يكون لنا مسرح يخدم سمعتنا ويسوى خلقنا ويجدد أدبنا ويهدي الشباب المصري إلى أرفع المثل، فيجافي بينهم وبين تلك الرخاوة التي توشك أن تسمم رجولتهم، ويسلك بهم إلى الفضيلة والفكر الحر تلك السبل التي سلكها شباب أوربا في عصر إليزابث ولويس الرابع عشر. . . ونحن حين نريد هذا نشكر الله الذي هيأ للمسرح المصري هؤلاء الرجال الثلاثة الذين يجاهدون من أجله لأنهم يفهمون وسائله وأغراضه على وجهها الصحيح. . . فأولهم وكيل وزارة عظيم لا يمنعه مركزه الكبير من أن يتزعم حركة الإصلاح المسرحي في مصر، بل هو يرى في تزعمه هذه الحركة ما يزيد مركزه الكبير رفعة لأنها جهاد شريف في سبيل حركة شريفة لخدمة البلاد وخدمة الفكر واللغة والأدب، فهو لا يرى بأساً في أن يحاضر الناس عن طريق الراديو في تاريخ المسرح المصري، وضرورة خلق الدرامة المصرية وجعلها هدفاً من أهداف الأدب المصري. وهو يشجع الفرق المصرية التي تعمل لرفعة الفن فيلخص للناس رواياتها ويزكي مؤلفي هذه الروايات ويظهرهم على عبقرياتنا المسرحية الجديرة بالعطف. . . وثانيهم مراقب للفنون الجميلة قد أشرب قلبه محبة هذه(562/8)
الفنون، فهو يضحي راحته ويسهر الليالي الطوال ليشرف بنفسه على تلك الفرقة الناهضة المتواضعة التي نرجو أن تكون نواة طيبة للمسرح المصري الذي نصبو إليه. وثالثهم بطل من أبطال المسرح القومي مولع بفنه، قد وهبه قلبه ولسانه وبيانه ودمه، قرأنا له منذ أكثر من ربع قرن شهدناه ممثلاً وشهدناه مخرجاً وشهدناه عالماً فما شهدنا في أية ناحية من نواحيه ضعفاً يزري به، وهاهو ذا يعمل مديراً لهذه الفرقة الناهضة المتواضعة فلا يدعي أنه عاهل لمملكة في الخيال، بل ينادي بأعلى صوته أن مسرحنا يفتقر إلى أشياء كثيرة وأن لابد من إدراك هذه الأشياء الكثيرة أو إدراك بعضها ليكون لمصر الحديثة الناهضة مسرحها ولتكون لهذا المسرح شخصيته. . . هؤلاء الأبطال الثلاثة هم الجنود الأوفياء الذين تدور حولهم اليوم آمالنا في خلق مسرحنا المصري، عن طريق هذا المعهد الذي هو آية من آيات الإصلاح التي تنشط اليوم في حياتنا العامة
ولن تمر فرصة إنشاء هذا المعهد، أو إعادة إنشائه، دون أن نسجل هذه الملاحظة الجديرة بالالتفات، فما كاد الإعلان عنه يذاع في الصحف حتى توالت عليه طلبات الالتحاق، ولم تزل تتوالى حتى زادت على الألف. . . وأكثر من نصف هذه الطلبات من حملة الشهادات الراقية، ومن بينها عدد كبير من حملة الشهادات العالية. . . وقد تقدمت أكثر من ستين فتاة من أرقى الأسر المصرية للالتحاق بالمعهد
3 - ولكن المعهد بطبيعة الحال لن يتسع لهذا العدد الضخم، والقائمون بالأمر فيه لا يريدون قبول أكثر من أربعين طالباً وعشرين طالبة، وهو عدد نستقله على المعهد الناشئ الذي نطمع أن يضطلع بخلق نهضة تمثيلية في مصر وفي الأقطار العربية تكون سبيلاً إلى تجديد ناحية مظلمة في الأدب العربي المفتقر إلى الأدب المسرحي. لهذا نرى لزاماً علينا أن نشغب على القائمين بأمر المعهد، وأن نصيح بملء قوتنا أن اقبلوا مائة أو مائتين ليكونوا طلاباً أصليين، واسمحوا لثلاثمائة أو أربعمائة ليكونوا طلاباً منتسبين، واشرطوا عليهم أن يحضروا نسبة معينة من الحصص لا يصح أن يتقدموا إلى الامتحان النهائي إن لم يحضروها؛ فإذا احتججتم بضيق المكان وبقلة المدرسين الصالحين فلا ضير أن تستنجدوا بحضرتي صاحب المعالي وزير الشئون ليهيئ لكم المكان الفسيح الصالح، ووزير المعارف لييسر لكم المعلمين الصالحين المقتدرين. . . وليذكر صديقي الأستاذ مدير(562/9)
المعهد أن له زميلين قديرين تخرجا مثله في أوربا، وأنهما يستطيعان مشاركته في تعليم الفنون المسرحية بأنواعها وبذلك يسهلان عليه دروس الإلقاء وما إليها. . . أما الدروس الأخرى فحسبها المحاضرات التي تتسع لمئات الطلاب، أصليين ومنتسبين وزائرين!
4 - وليذكر القائمون بأمر المعهد أنهم أملنا الذي نرجو ألا يخيب خلق المسرح المصري، وليذكروا أننا لا ننشئ المعهد لإمداد فرقة واحداة أو فرقتين اثنتين بالممثل الصالح والمخرج الصالح والناقد الصالح والمؤلف الصالح وغير هؤلاء من المسرحيين الصالحين. . . كلا، كلا. . . إننا نريد فرقاً كثيرة إقليمية ومدرسية غير فرقة العاصمة. . . لقد أنشأت معظم البلديات المصرية دوراً فخمة للتمثيل، فواجبكم أنتم أن تعمروها بالفرق التي تبعث فيها الحياة. . . واذكروا تلك الحرب التي كانت تنشب بين فرق لندن التمثيلية وفرق الأقاليم، أيها يكون لها الشرف في النهوض بالمسرح الإنجليزي، وما كانت تبذله مسارح لندن من العون للمسارح الإقليمية مما تناولناه في عشرات المقالات على صفحات هذه المجلة
5 - ولابد من التذكير هنا بأن المسرح المصري لا يحسن النظر إليه باعتباره مورداً من موارد الدولة الاقتصادية، بل يجب اعتباره منشأة ثقافية لا تستغني عنها نهضتنا، فهو لا يقل قيمة عن مجمع اللغة ودار الكتب والمتحف الزراعي وإحدى كليات الجامعة، ولهذا وجب على الدولة أن تسخو عليه وأن تدبر له في ميزانيتها كل ما هو خليق به من مال. . . وخليق بنا ألا نقدر نجاحه بمقدار إقبال الطبقات على شهود رواياته، فقد فسد مزاج كثير من هذه الطبقات بسبب عوامل شتى تسربت إليها عن طريق السينما وعن طريق التمثيل الوضيع الذي راجت سوقه بينها مع الأسف الشديد. . . ولهذا لم نر بداً من التذكير بأنه لا يحسن النظر إلى المسرح الذي سوف ننشئه باعتباره مورداً اقتصادياً. ورأيي أن يكون شهود رواياته في أول أمره بالمجان، ورأيي أن تتنقل فرقه في المدارس الثانوية والعالية لتمثل بالمجان أمام الطلبة وأمام الأهالي - على أساس الدعوة المحدودة - كي نطب لهذا المزاج السقيم الذي أمرضته السينما الوضيعة والتمثيل الوضيع.
6 - ويجب أن تواكب الدراسة في المعهد دراسات في مدرسة الفنون الجميلة وفي معهد الموسيقا الشرقي، فينشأ في مدرسة الفنون الجميلة قسم خاص لتصوير المناظر المسرحية(562/10)
ولهندسة المسرح، على أن يدرس في هذا القسم علم تاريخ الأزياء والإضاءة المسرحية. . . أما في معهد الموسيقا الشرقية فتنشأ مادة خاصة بالموسيقا المسرحية، على أن يتولى تدريسها الأخصائيون المصريون ممن درسوا الموسيقا الأوربية وثقفوها علماً وعملاً
7 - هذا. . . ولا ينبغي أن نختم هذه الكلمة دون أن نرجو الحكومة أن تعمل شيئاً لضمان مستقبل رجال المسرح على نحو ما أصلحت به حال المعلمين والمحامين ومستقبلهم، فالمسرحيون بطبيعة حياتهم الفنية قوم مسرفون يبسطون أيديهم ولا يستطيعون أن يغلوها، وقل منهم من يستطيع أن يدخر لغده المظلم الباكي، قرشاً من يومه المشرق الضاحك، وتيسير العيش لهذه الطائفة المجاهدة هو تيسير لقيام المسرح المصري على أسس قوية قويمة، ثم هو واجب على الدولة لا يسعها إلا أن تقوم به في صدق وإخلاص.
دريني خشبة(562/11)
الحرف اللاتيني والعربية
للأستاذ محمود محمد شاكر
رب رجل واسع العلم، بحر لا يزاحم، وهو على ذلك قصر العقل مضلل الغاية، وإنما يعرض له ذلك من قبل جرأته على ما ليس فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصراره إصرار الكبرياء التي تأبى أن تعقل. وإن أحدنا ليقدم على ما يحسن، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجب عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدم عليه فينقضه نقض الغزل.
ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحمل صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزه، ثم لا يلبث أن يفسده طول التمادي في إعجابه بما يحسن من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرأي فيما لا يحسن، ثم لا تزال تغريه عادة الإعجاب بنفسه حتى ينزل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يصر ثم يغالي ثم يعنف ثم يستكبر. . . ثم إذا هو عند الناس قصير الرأي والعقل على فضله وعلمه.
فمن ذلك أني قرأت في عدد مجلة (المصور) 1015 بتاريخ 29 ربيع الأول سنة 1363 حديثاً لصاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا عن (الإسلام والحروف العربية) فرأيته يفتتح حديثه بهذه الكلمة، إذ يقول لسائله:
(أني لا أعني نفسي البتة بالاطلاع على ما قد يقال من هذا الهراء الذي هو أهون عليّ من الغبار الذي يمس ردائي وحذائي، فما بالك أنت تهتم بما لا أكترث له؟)
وعبد العزيز فهمي رجل كنا نعرفه بالجد والحرص والفقه وطول الباع في القانون، وكنا نظنه رجلاً محكم العقل من جميع نواحيه، لا يتدهور إلى ما ليس له به عهد، ولا يرمي بنفسه في غمرات الرأي إلا على بصيرة وهدى. فلما قال ما قال عن الحروف العربية في المجمع، ونشرت الصحف قوله ورأيه، قلنا: عسى أن يستفيق الرجل ويعود إلى سالف ما عهد فيه من الحكمة والمنطق، وأن يكون ما قال خالصاً لخدمة العربية، فإن يكن في رأيه شيء من الصواب فسيحقق الجدل الذي يدور بينه وبين الناس فضيلة رأيه على الآراء، وإن يكن أخطأ فهو خليق أن يرجع إلى صواب الناس غير معاند ولا لجوج
كان هذا ظننا فيه، فلما قرأت فاتحة حديثه التي رويتها قبل، علمت أن الرجل لن يستفيق،(562/12)
ولن يعود، ولن يعقل ما يقول الناس - وما ظنك برجل من رجال القضاء - رجل مارس العقل والفهم وتقليب الرأي، والتثبت من الحجج المتضاربة الموهمة، والحرص على أدق الصغائر لا تخدعه عن عدله وإنصافه؟ ما ظنك برجل هذه صفته يزعم أنه لا يطلع، بل لا يعني نفسه بأن يطلع على آراء خصمه! ثم ماذا؟ ثم ترى هذا القاضي العادل، بعد أن شهد على نفسه وأقر أنه (لا يعني نفسه البتة بالاطلاع على ما قد يقال)، يصف هذا الذي لم يطلع عليه ولم يقرأه ولم يتعب فيه، بأنه (هراء)!؟ فمن أين علم؟ وكيف حكم على شيء لم يقرأه؟ ثم يزيد فيقول إن هذا الهراء الذي لم يقرأه، أهون عليه من الغبار الذي يمس رداءه وحذاءه! ثم يبالغ فيعنف سائله ويتعجب له ويسخر منه، ويقول له: ما بالك أنت تهتم بما لا أكثرت له؟
وهذا التسلسل العجيب الذي كنا لا نظنه مما ترضى عنه بصيرة رجل مفكر، فضلاً عن قاض حريص، فضلاً عن رأس من رءوس القانون، فضلاً عن نابغة من نوابغ مصر، قد كان، ورضى عنه عبد العزيز فهمي باشا، وجعله حجته ومنطقه في حومة الرأي والجدال. ولعل الغضب هو الذي احتمله حتى أضله عن مواطئ حجته، ثم تركه يتضرب في كلامه، حتى اقترف من اللفظ والمنطق ما لا يليق به
ونحن سنرضى أن نكون في الغبار الذي يمس رداء الباشا، وفي الغبار الذي يمس حذاءه! ونسأل الله أن يجعله بركة للناس وخيراً، وأن يسبغ عليه من نعمه ما هو له أهل، وأن يسدد خطاه حيث ذهب، فحيثما اهتدى الباشا كنا من الغبار الذي يهتدي بهدي حذائه! وسواء علينا بعد ذلك أقرأ هذا الهراء أم لم يقرأه!
نحن نسلم للأستاذ الجليل بما يقول عن صعوبة الحرف العربي المكتوب، وبأنه يعوق القراءة، وأنه يجعل العربية أبعد متناولاً عن عامة الناس، نسلم له بهذا، ثم ننظر كيف يكون الرأي الذي اعتسفه مظنة للتسهيل، ومدعاة لنشر العربية! وكيف يكون هو الذي يخرج الحرف العربي الغامض إلى البيان والوضوح، فلا يكون مضللاً ولا معوقاً، فإنه زعم أن: (ليس لدى المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية وقت فائض يصرفونه في حل الطلاسم)! هذا هو محصول رأيه فما هذا التضليل الذي زعم؟ لقد قال من قبل إن الذي دفعه إلى هذا الرأي هو تيسير الكتابة العربية، (لأن حروف هذه اللغة ليس بينها حروف(562/13)
حركات! وكثيراً ما يحدث فيها التصحيف والتحريف لهذا النقص. فمهما تعلمها الإنسان فلابد أن يخطئ في قراءتها، وقد عالج الأقدمون هذا المشكل الكبير بوضع الشكل، ولكن هذا الشكل قد أفلس، بل كان مجلبة لزيادة التحريف والتصحيف)
ودليل الاضطراب لم يزل يظهر في هذا المنطق كما ظهر في حديث محرر المصور، وهو سؤال وجواب لا عنت فيهما، فأول الوهن وأول الفساد في هذا المنطق أننا رأيناه في اقتراحه قد أبقى الحروف المعجمة (المنقوطة)، وقصر ما ادعاه من التضليل والعسر على (حروف الحركات). وهذا عجب فالإعجام (النقط) هو في التصحيف والتحريف بمنزلة الشكل أو أقل منه قليلاً، فكان لزاماً عليه أن يبحث مسألة الحروف المعجمة، ويخلص العربية منها ليدرأ عنها التصحيف والتحريف! ولكنه لم يفعل، ولم؟ لا ندري!
ومع ذلك، فلنفرض أننا أدخلنا ما سماه (حروف الحركات) في كلام عربي مكتوب باللاتينية، ثم لنفرض بعد ذلك أنه قد أجدى ونفى التضليل من هذا الوجه. ولكن يبقى أن ننظر: أينتفي التضليل البتة، أم هناك نوع آخر من التضليل يجره هذا العمل؟ وأي التضليلين أهون شأناً؟ فإذا تساويا بطلت الحجة المرجحة، وإذا غلب أحدهما كان الانصراف إلى أخفهما ضرراً هو الوجه الذي لا معدل عنه. أليس هذا هو منطق الناس يا صاحب الحروف اللاتينية، أم تراه ينبغي أن نسير على هدى منطقك؟!
فخذ إليك مادة من العربية مثل (قام)، ثم اجعلها فعلاً، ماضياً ومضارعاً وأمراً، وألحق به ما يلحقه من الضمائر، وأدخل عليه ما يدخله من قبل أوله وآخره مثل (فليقمهنّ) وفي التثنية والجمع، والخطاب والغيبة، ثم أخرج جميع مشتقاته من الأسماء، وألحق بها ما يلحقها، وضعها في حالة الإضافة إلى الاسم الظاهر والضمائر، في التثنية والجمع أيضاً، ثم اجمع الأسماء على اختلاف صور الجموع الممكنة فيها، ثم افعل ذلك بالمادة حين يزاد فيها ما يزاد مثل (أقام وقوم واستقام)، وصرفها في الوجوه التي ذكرناها، وتبين حركات الإعراب في سياق الكلام، وضع كل ذلك أمامك مكتوباً بالحرف العربي، ثم بالحرف اللاتيني ذي الحركات التي تجعل الكلمة مرسومة كمنطوقة. ثم انظر إليهما، فهل تستطيع، غير معاند ولا لجوج، أن تميز بين كلمة وكلمة، وأن تتبين الشبه بين هذه المتقاربات من مادة واحدة في اللغة؟ ونحن قد جرينا على أسلوب صاحب اللاتينية، فجربنا ذلك بأنفسنا فما اهتدينا ولا(562/14)
أدركنا، وصارت الكلمة الواحدة التي لا تخطئها العين في العربية، ولا تخطئ الشبه بينها وبين صواحباتها، كلمات لا يدري ما هي! وهذا شيء قائم على الحس والتجربة والعيان
فإذا عرف، من لا يستكبر عناداً ولجاجاً، أن ذلك مما يضل ويعمي، نظر فإذا هو يرى أن أول التضليل في رسم العربية باللاتينية، أن يضيع على القارئ تبين اشتقاق اللفظ الذي يقرؤه، فإذا عسر عليه ذلك صار اللفظ عنده بمنزلة المجهول الذي لا نسب له، وصار فرضاً عليه أن يعمد إلى رسم المادة الواحدة من اللغة في جميع صورها التي تكون في السياق العربي، ثم عليه أن يحاول تقريب الشبه بالذاكرة الواعية، ثم عليه أن يحفظ معاني ذلك كله. فإذا كان هذا شانه في المادة الواحدة فما ظنك باللغة كلها؟ يومئذ تصبح العربية أجهد لطالبها من اللغة الصينية. نعم، وإذا ضل عن تبين الاشتقاق والتصريف، فقد ضل عن العربية كلها، لأنها لم تبن إلا عليهما. وهي من هذا الوجه مخالفة لجميع اللغات التي تكتب بالحرف اللاتيني، لأن الاشتقاق والتصريف يعرضان لها من قبل بناء الكلمة كلها، حتى تختلف الحركات على كل حرف في كل بناء مشتق أو مصرف، ثم يزيد على ذلك ما يدخل على الكلمة من جميع ضروب الحروف العاملة وغير العاملة، ثم علل الإعراب والبناء والحذف. . . إلى آخر ما يعرفه كل مبتدئ في العربية
فإذا كان هذا هكذا، كان التضليل كائناً فيه، وكان هذا التضليل واقعاً في أصول الاشتقاق والتصريف، الذي يرد القارئ إلى أصل المادة اللغوية، وإذا كان الضلال عن أصل المادة ضلالاً عن معناها، فأي السبيلين أغمض وأضل: سبيل عسر القراءة لعدم (حروف الحركات)، أم سبيل امتناع الفهم لامتناع الاهتداء إلى أصل الاشتقاق؟ ونحن لا نشك في أن كل رجل ذي بصيرة حسن المنطق، سيجد في هذا وحده من المشقة والعسر، ما لا يدع اختياراً في الاعتراف بالضلال المطبق الذي تجلبه الكتابة بالحرف اللاتيني، وأن التصحيف والتحريف الذي يدخل الحرف العربي أهون بكثير من الاختلال والفساد والمضلة والعبث التي يجرها الحرف اللاتيني
وإذن فغاية المشروع الذي انتحله، أن ييسر نطق الكلمة المكتوبة في حال إفرادها، غير ناظر إلى سهولة الاهتداء إلى الاشتقاق الذي هو أصل العربية، وأراد أن يأمن الخطأ في الإعراب، والتحريف في ضبط الكلمة، فنسى كل شيء، ولم ينظر ماذا يجلب مشروعه من(562/15)
التضليل والتشويه والتعسير والاستحالة، والغموض الأعمى الذي لا يهدي إلى شيء في هذه اللغة العربية! وهذا وحده عجب أي عجب
هذه واحدة، ثم زعم الباشا أن الحروف العربية تعوق القراءة، فمهما تعلمها الإنسان فلابد أن يخطئ! وأن هذا المشكل قد عالجه الأقدمون بوضع الشكل، ولكن هذا الشكل قد أفلس، بل كان مجلبة لزيادة التحريف والتصحيف!
هما علتان، ثم علتان ملفقتان قد غلغل فيها البطلان، ونخرتهما المغالطة في الصميم وفي المنطق. ونحن لن نناقش اليوم هاتين العلتين إلا من وجه واحد يظهر به فسادهما، أما سائر الوجوه فندعها حتى يحين وقتها ومكانها من الكلام. فالخطأ عندنا لا يعود إلى صعوبة الحرف المكتوب، وإنما يعود إلى القارئ المخطئ نفسه، وهذا هو وضع القضية عندنا: إذا كان المتكلم حين يتكلم يستطيع أن يسوق كلامه على العربية الصحيحة غير مخطئ، فمحال أن يخطئ فيها عند القراءة مهما اختلف الخط عليه سهولة وصعوبة، لأن النطق سابق للقراءة، فالذي لا يخطئ وهو يتكلم (أي كأنه يقرأ من حرف غير مكتوب)، لا يتأتى له أن يخطئ وهو يقرأ حرفاً مكتوباً ظاهراً مميزاً ببعض الدلالات. وإذا عولج بعض العسر بوضع الشكل على الحروف، فالخطأ عندئذ أشد استحالة لوجود دلالات صريحة لا تقل في إفصاحها وبيانها عن حروف الحركات التي أرادها صاحب هذا المشروع اللاتيني، ومن ثم فهي ليست مجلبة لزيادة التصحيف والتحريف كما زعم. أما قوله، في خلال ذلك، إن الشكل قد أفلس، فهذا حكم باطل في قضية باطلة بطبيعتها، وما دامت القضية في أصلها لا تصح على الوضع الذي لفقه، فالحكم نفسه لم يدخل إلا زيادة في التلفيق. لقد نسى صاحب الحروف اللاتينية أن الإعراب في العربية شيء يختلف اختلافاً كبيراً عن سائر اللغات المكتوبة بالحروف اللاتينية، وأن الخطأ فيه لن يكون من قبل الكتابة سهلة أو صعبة، بل هو راجع إلى المتكلم أو القارئ من قبل الضعف والقوة والعلم والجهل ليس غير
وأما ثالثة الأثافي، كما يقولون، فهو زعمه أن (ليس لدى المسلمين، وغيرهم من أهل البلاد العربية، وقت فائض يصرفونه في حل الطلاسم)! فأي طلاسم؟ أهي الطلاسم التي تدخل على كل حرف من الحروف في المادة الواحدة، ألواناً من الحركات تكتب بين كل حرف وحرف، وفي أواخر كل كلمة، وتقف فواصل متباينات بين حروف مادة واحدة من لغة(562/16)
بنيت على الاشتقاق وعلى الاختصار، وجاء فيها الجموع المختلفة، والصفات والأبنية ذوات المعاني، والبناء للمجهول، وأحكام المعتل في التصريف، واختلاف المصادر وأسماء الزمان والآلات، وللترخيم والنسبة، والإضافة والتقاء الساكنين، وأحكام الإعلال والإبدال والإدغام، إلى آخر هذا كله، مما يغير الأبنية والأطراف والأوساط، هذا إلى كثير من أحكام النحو الأخرى التي تفزع من يتتبعها إذا هو أراد جدال صاحب الحرف اللاتيني! أهذه هي الطلاسم أم تلك؟ وأيهما أفسد لوقت المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية؟ بل أيهما أضرى وأشنع فتكاً وشراسة؟ بل أيهما الذي يغول العقل لا الوقت وحده!
ولكنها فتنة! فتنة اغتر بها شيخ صالح، فاستغلها من لا يرى للعربية حقاً ولا حرمة، ولولا بعض حسن الظن لقلنا:
لا تأمنوا قوماً يَشبُّ صبيُّهم ... بين القوابِل بالعداوة يُنشعُ
فضلَت عداوتهم على أحلامهم ... وأبتِ ضباب صدورهم لا تنزع
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفى غليل صدورهم أن تُصرعوا
وأي مصرع يا صاحب المعالي! علمك الله الخير وهداك إليه وسددك وحفظك.
محمود محمد شاكر(562/17)
كتاب نفيس
آراء وأحاديث في التربية والتعليم
للأستاذ ساطع الحصري
بقلم الأستاذ محمد عبد الغني حسن
مؤلف هذا الكتاب ليس غريباً عن أسرة (الرسالة)، ولا غريباً عن رجال التفكير والثقافة في الشرق العربي عامة، أو في مصر خاصة، وهو نفسه لا يعد نفسه غريباً على مصر إذا عالج مسألة من مسائل الفكر أو تناول قضية من قضايا التعليم فيها. فإن نظراته الصائبة في التربية والتعليم لا تضيق في حدود وطن واحد، ولا تتضاءل في مساحة بقعة واحدة؛ ولكنها تمتد إلى ما وراء التخوم السياسية فتتسع لسورية والعراق ومصر وغيرها من البلاد العربية
وبهذا الاعتبار يمكن أن يفسر اهتمامه البليغ بأمور التربية والتعليم في مصر، ويدفع هو عن نفسه ما قد يرمي به من الكلام في أمور لا تتصل بوطنه؛ فيقول في عزة عربية نسجلها له مع الفخر: (وأرجو أن لا يعتبرني أحد متطفلاً على مصر بهذه الملاحظات؛ فإني عربي صميم، أدين بدين العروبة بكل جوانحي، وأهتم بمصر بقدر ما أهتم بسورية والعراق). وهذا دفاع بليغ يقطع الطريق على أمثال من يقولون:
إنما نسكر من أموالنا ... فسلوا الشرطي ما هذا الغضب!
لأن غضبة الأستاذ الجليل ساطع الحصري ليست غضبة (الشرطي) ولكنها غضبة المضري التي يجب أن يحسب لها حساب. . .
ولهذا لا نظن أحداً من الناس في مصر أو في غير مصر يضيق صدره بآراء ساطع الحصري في التربية والتعليم، لأنه مخلص في إبدائها، ولأنه عربي قبل أن يكون مصرياً، والعروبة تقتضيه حقوقاً كثيرة، وخاصة في هذه الأوقات التي نسمع فيها كثيراً عن الوحدة والاتحاد والتعاون واليقظة العربية والوعي القومي. ولأنه هو نفسه قد أبان في كتابه نوازع اهتمامه بمصر (لأنها أصبحت القدوة المؤثرة على العالم العربي بأجمعه)
لا نظن أن أحداً من المفكرين والمثقفين والمربين في مصر يغضب لأن مفكراً عراقياً(562/18)
وسورياً نشر كتاباً نفيساً في التربية وفيه مقالات حول نظام التعليم في مصر. لأننا نرى الخبراء يستقدمون إلى بلادنا، وتغدق عليهم الأموال، وتفتح لهم الأبواب ولكن ساطع الحصري زار مدارس مصر - قادماً لا مستقدماً - في سنتي 1921، 1936، وكشفت له الزيارتان عن أمور رأى من الإخلاص للوطن العربي الأول أن لا يكتمها، ورأى من الخير أن ينشرها
ونحن نرى أن بعض (الزوار) قد ينشرون كلاماً له خبئ أو يذيعون آراء لها خواف. ولكن الأستاذ ساطع واضح المقصد بين الغاية حسن النية. ونرجو أن تكون تلك حاله التي ينطق بها لسان المقال
ليس هذا الكتاب كتاباً (فنياً) في أصول التدريس وطرق التعليم، وليس كتاباً (مدرسياً) في (الدرس) وأجزائه (والمقدمة) وشروطها. (وملخص السبورة) (ووسائل الإيضاح) وما إليها من الموضوعات الجافة التي يحفظها (المعلم الجديد) ويضحك منها المعلم المتمرس أو يبتسم لها. ولو كان كتاباٌ كذلك ما استحق أن نطيل الوقوف عنده، وأن نعرضه على القراء عرضاً يحملهم على الاطلاع عليه والظفر به، لأن فيه نظرات في التربية والتعليم جمعها المؤلف من هنا ومن هناك. ولا شك أن هذه النظرات وليدة تجارب بلاها المؤلف بنفسه، وهداه إليها اطلاع وسيع، وبحث عميق، ومتابعة لكل جديد من الرأي في آفاق التربية والتعليم
والقسم الأول من الكتاب فيه مشاهدات وملاحظات في التربية والتعليم. وهذا القسم يجمع إلى صحة الفكرة التربيبية طرافة الأسلوب وحسن العرض، والخلوص من المثال أو المشاهدة إلى القاعدة التي يقررها. ولهذا لا تحس وأنت تقرؤه الجفاف الذي يصادفه من يقرأ كتب التربية البحت، و (الطفل المعاكس) (وإثبات الذات) (والتربية بالثقة) (والحرية) وغيرها نصيب في هذا القسم من الكتاب
أما القسم الثاني فهو محاضرات ومقالات في التربية والتعليم ألقى بعضها في نادي التضامن وبعضها في نادي المعلمين ببغداد. ويمتاز هذا القسم من سابقه بالدراسة الفنية وعرض النظريات التربيبية عرض المربي الفني لا عرض المشاهد المتنقل كما في القسم الأول(562/19)
وفي هذا القسم فصل ممتع عن التربية الاجتماعية. وقد نجح المؤلف في محاولة رد تربيتنا الاجتماعية أو بالأجدر مشاكلنا الاجتماعية في الشرق العربي إلى تغلب الإيثار. وإلى أننا لم نتعود التفكير في غيرنا تفكيراً اجتماعياً، كما أننا لم نتعود العمل مع غيرنا عملاً
وهذا كله كلام جميل، وفيه كثير من الحق وكثير من الصدق، فإن ذلك كله ينقصنا. ولكن ينقصنا شيء آخر لم يشر إليه الأستاذ ساطع؛ ولكن أوضحه البروفسور كامبانياك الأستاذ بجامعة ليفربول في كتابه النفيس:
المطبوع في إنجلترا سنة 1925
يقول هذا الأستاذ الإنجليزي في كتابه ص 33 (إذا شاء المواطن أن يتمتع بميزات، فواجب عليه أن يقبل تلك المزايا بشروط. فما هي الشروط التي يمكن أن يتمتع بها الرجل بمزايا الجماعة؟ إنها شروط يمكن التعبير عنها في سهولة ويسر في جملة واحدة: يجب أن يتعلم الرجل أن يفعل ما يطلب منه، يجب أن يطيع قواعد الجماعة إذا أراد أن يحتفظ بعضويته فيها)
وهذا التوضيح يفسر لنا كثيراً مما يحدث في مجتمعاتنا ومجامعنا الشرقية. فكثيرون من لا يفعلون ما تطلبه قواعد الجماعة ومواضعاتها منهم؛ كالذين أشار إليهم الأستاذ ساطع في مقصورات أحد المسارح ببغداد حين علا صوتهم وضوضاؤهم؛ فلما نبههم إلى خطئهم أجابه أحدهم: إننا أحرار، لا حق لأحد أن يتدخل في أمرنا. . .
لقد رد الأستاذ الحصري هذا السلوك الشائن إلى أننا لم نتعود العمل مع غيرنا عملاً (معشرياً) وذلك صحيح. وصحيح كذلك أن نرده إلى الطبيعة العصيان والتمرد على قواعد الجماعة كما فسره الأستاذ كامبانياك
أما الفصل الذي كتبه الأستاذ الحصري عن (تيارات التربية والتعليم) فهو فصل معنى به مسهور عليه. وهو يشهد باطلاع المؤلف على اتجاهات التربية الحديثة ومراميها، والعوامل التي أثرت فيها؛ والمراحل التي مرت بها. وهنا تظهر طريقة المؤلف في حسن العرض العلمي عرضا متسلسلاً يدل على الفكر المتسق. . . ولقد أشار في خلال هذا الفصل إلى وجوب تقوية علاقة الطلاب (بالطبيعة) التي طغت عليها حياة (المدن). إلا أننا نأخذ على(562/20)
الأستاذ ساطع إيجاز الإشارة إلى هذا الموضوع الهام، وكان المقام يتطلب منه إطالة واهتماماً أكثر. وللبروفسور كامبانياك في كتابه المشار إليه سابقاً فصل رائع (عنوانه العودة إلى الطبيعة)
كما أن الأستاذ (نيومان) عالج هذا الموضوع معالجة علمية في كتابه القيم (فكرة لجامعة): ص 133، 143
ومن عبارات كامبانياك الرائعة في ذلك الفصل قوله في صفحة 95 (يمكننا أن نلجأ إلى عالم الطبيعة مرات ومرات، لإنعاشنا وتطهيرنا وتقويتنا) وقوله: (أن مشروعاً تربيبياً يوجه عقولنا وحواسنا إلى قوى الطبيعة ومختلف مجاليها، لهو مشروع حكيم الخطة)
أما الفصل الذي عنوانه (تعليم التاريخ) فلنا عليه استدراك، فالأستاذ ساطع يختم أن نعيد النظر في تاريخنا العربي بنزعة تربيوية قومية، وينادي بأن دروس التاريخ يجب أن ترمي إلى (التربية القومية) قبل كل شيء. وتلك دعوة طيبة تقابل من الأستاذ الحصري بالقبول الحسن من كل البلاد العربية التي تنشد الوحدة في عالم اتحدت فيه أمم مختلفة النزعات واللغات، فكيف بأمم وحدت بينها اللغة والجنس والعادات؟ إلا أن الهدف من تعليم التاريخ ليس تنمية القومية (قبل كل شيء). فمن الغبن أن نغمط الأهداف الأخرى ونبخسها قدرها. فقد ينفعنا تعليم التاريخ على وجه صحيح في إدراك صورة واضحة لمعنى (الخير) للجماعة وأعضائها؛ وقد ينفعنا تعليم التاريخ العربي على وجه صحيح في إيقاظنا من سبات عميق طال عليه الأمد. . . وقد ينفعنا تعليم التاريخ العربي على وجه صحيح في تجريد الدين من كل ما علق به من أوشاب القرون وغبار السنين. . .
وقد ينفعنا التاريخ في العمل على تحسين حالتنا الصحية التي أصبحت مرضاً عضالاً وداء قتالاً. فلو اعتنى في مدارسنا بتدريس تاريخ الأوبئة والحميات والأمراض، ولو اعتنى بدراسة تاريخ ما اتخذ من وسائل لمقاومة المرض وتحسين الصحة وإنشاء البلديات وكشف الجراثيم، لاجتمع لأبنائنا ثقافة صحية تقوم إلى تربيتهم القومية
وقد كان ذلك من أغراض تعليم التاريخ في إنجلترا بناء على الرسالة التي نشرتها الحكومة البريطانية سنة 1934 بعنوان: (مطبعة الحكومة الإنجليزية لندن - ص 64)
أما الفصل الممتع الذي كتبه الأستاذ ساطع حول تعليم اللاتينية واليونانية فهو يستحق عليه(562/21)
التهنئة. فقد عرض القضية عرضاً لا يدع فيها مقالاً لقائل. وهو هنا يتكلم دائماً والدليل بين يديه والحجة بيمينه؛ فيحملك على الاقتناع بكلامه وقد أثار في نفسي شهوة إلى قراءة (التحقيق البرلماني الفرنسي) الذي يذكره أستاذنا وصديقنا توحيد السلحدار بك
بقى أن في الكتاب نسباً يستعملها الأستاذ ساطع (كالفردانية) (والأنوية) نسبة إلى أنا. (والقبمدرسية) نسبة إلى (قبل مدرسي) وهي طريفة في هذا الكتاب وأطرف منها المصادر التي يستعملها. وهي صحيحة ولكنها لا تستعمل عندنا في مصر (كالتمديد) (والترفيع) (والاقتياس) بدلاً من المد والترقية والقياس التي نستعملها هنا
وبعد فإن كتاب الأديب المربي الأستاذ ساطع الحصري يعد محاولة ناجحة في عرض الاتجاهات التربيبية عرضاً يرتاح إليه الأديب، قبل أن يرتاح إليه المربي. وهو من هذه الناحية كان خليقاً بأن يقرأه الأدباء والمفكرون والمثقفون قبل أن يقرأه المربون والمعلمون
وكفاه قيمة أنه - فيما نعلم - أول كتاب عربي غير مصري يتناول مسائل التربية والتعليم في مصر بصراحة وإخلاص يستحقان الشكر والإعجاب.
محمد عبد الغني حسن(562/22)
القرآن الكريم في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
تمهيد
شكا الدكتور زكي مبارك في العدد 557 من الرسالة من أني كتبت فيه كلمة مؤذية سبقتها كلمات مؤذيات، وزعم أني أبحث عن فرصة جديدة تؤيد غرامي باتهامه في إسلامه، وأن الباعث على محاربتي إياه ليس هو الدين، ولكن غرامي بأن يقرن اسمي باسم الدكتور زكي مبارك
وتأذى الدكتور زكي مبارك بما كتبت ليس لي فيه من فضل، فالفضل - أو الذنب - فيه راجع كله إلى الدكتور المفضال. فهو الذي لا يفتأ يتعرض للدين بما لا يمكن أن يقره عليه عقل ولا دين، وبما يخالف الكتاب والسنة والإجماع عند المسلمين. يتعرض لا لجزئية من الجزئيات يجوز فيها الخلاف، ولكن للأصول التي يقوم الدين بقيامها، وينهدم بانهدامها، كأصل إعجاز القرآن، وأن القرآن كتاب الله لا كتاب محمد ابن عبد الله
والخصومة التي بيننا ليس منشؤها ما يعتقد الدكتور زكي مبارك، ولكن ما يعلن الدكتور ويدعو إليه. فاعتقاده ودينه أمر بينه وبين ربه، أما ما يعلن ويكتب فأمر بينه وبين الناس. هو حر فيما يرى ويفكر وفيما يعتقد ما اقتصر ذلك على ذات نفسه، أو ظل سراً بينه وبين خلصائه. لكنه يفقد تلك الحرية في اللحظة التي يحاول فيها أن يتخذ من الأدب وسيلة لبث آرائه ومعتقداته بين الناس. إنه في تلك اللحظة يصطدم بما يعتقد الناس، إذا كان ما يعتقد يخالف ما يعتقدون، خصوصاً إذا كان ما يعتقدونه هو الحق وما يدعو إليه هو الباطل. أفيعجب الدكتور عندئذ أن يرتد عليه الاصطدام فيتأذى به كما آذى به الناس؟ أم هو يظن أن الحرية له في الهجوم، وأن ليس لغيره حرية في الدفاع؟
وللدكتور في الخصام حيل كتلك التي تكون في القتال، منها أن يلقي إلى خصومه أقوالاً يرجو أن يشغلهم بها وأن يشكك الناس فيهم. ولا بأس من أن ننخدع له هذه المرة فننظر فيما ألقى
يقول إننا نحاربه لا للدين، ولكن ليكون لاسمنا ذكر مع اسمه الكريم. ولو وجد الدكتور شيئاً غير هذا يقوله لقاله، ولكنه نظر فوجد أننا لا نتخذ الأدب صناعة فيأتينا من ناحية المنافسة،(562/23)
ولا يجوز عنده أن تكون محاربتنا له لوجه الله، فلم يبق إلا أن يقول أننا نلتمس الشهرة عن طريق التعرض له والطعن فيه
إن كل ذلك كذلك، فلماذا تركنا الدكتور كل هذه السنين يبدي ويعيد في الأخلاق وغير الأخلاق مما يتصل بالدين اتصالاً وثيقاً أو غير وثيق، من غير أن نتعرض له إلا مرتين يفصلهما خمس سنين: الأولى حين ختم كلمة له في نعيم الجنة بذلك الدعاء الماجن: (اشغلني عنك يا رباه بأطايب نعيم الجنة، فإن نظري لا يقوى على نور وجهك الوهاج). والثانية حين كتب مقاله: (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) الذي أنكره ابتداء، حين حوسب على بعض ما فيه، ثم أقر به لما أيقن أن لن يصدقه أحد في الإنكار، كالرجل الذي يتبرأ من ولده الجاني وينكره ثم يستلحقه إذا وجد عار الإنكار أكبر من عار الإقرار. . . مناسبتان اثنتان بينهما خمس سنوات لم نتعرض للدكتور إلا فيهما في عمر الدكتور المملوء بما يؤاخذ عليه في الأدب والأخلاق والدين. فهل لم يكن بنا حاجة إلى الشهرة طوال تلك الأعوام لنلتمس التحليق في جوها على جناحه المتين؟
وقد وقع الرجل على حيلة أخذها عن صديقه الشيطان هي أن يسمى المسميات ضد أسمائها ليدخل على بعض النفوس عن طريق الإيحاء. فستر الإنسان جسمه بالثياب رياء واعوجاج في الضمير؛ والدعوة إلى تعريته دعوة إلى الحياة؛ واحتضان الفتاة للفتى هو مثال الفرح النبيل؛ وهجوم الفتاة على الفتى طاعة لغريزة كريمة؛ وانتهاب الجمال هو في ذاته شكران لواهب الجمال؛ والشيطان مخلوق شريف؛ والأديب الحق يستبيح في عتاب الأقدار ما لا يباح؛ وبعض الكفر إيمان ولكن أكثر الناس لا يفقهون؛ إلى آخر ما هنالك
ولست في شيء مما كتبت أو أكتب عن هذا الرجل متجنياً عليه أو مبالغاً، فتلك المعاني التي نسبتها إليه آنفاً ليست من عندي ولكن من عنده. هي بعض عباراته تشهد عليه، وبعض بضاعته ترد إليه
وحيلة أخرى لهذا الرجل أن يلقى إليك المعنى الذي يعرف أنك تأباه مقروناً بمعنى أنك ترضاه ليسهل عليك بهذا قبول ذاك، أو على الأقل ليوقفك موقف المرتاب. فتراه مثلاً يقول لك: (انتفع الصوفية بسماحة الإسلام، وهو دين يأبى أن يكون بين المسلم وربه وسيط، فقرروا أنهم أرفع من الأنبياء. وهذا كفر بظاهر القول، ولكنه في الجوهر غاية الإيمان)!(562/24)
فانظر كيف رتب على المعنى الذي يعرف أنك ترضاه معنى يعرف أنه لو ألقاه إليك مجرداً لا بيت عليه، ولنبذت إليه. والمعنى الذي ألقاه معنى ذو نتوء كرأس إبليس. ظاهره أن الصوفية يضعون أنفسهم فوق مرتبة النبوة، لأنهم أعرف بالله وأرعى له من الأنبياء، وباطنه أن ليس بهم ولا بك إذا ارتقيت مثلهم إلى الأنبياء حاجة، وإلا كان بينك وبين الله وسطاء، والإسلام يأبى أن يكون بين المسلم وربه وسيط؛ فتلك هي في رأي زكي مبارك سماحة الإسلام وبها انتفع الصوفية! والرجل يكذب في الحالين على الصوفية وعلى الإسلام. فلا الإسلام يهدم نفسه بسماحة حمقاء كالتي نسبها إليه زكي مبارك، ولا الصوفية بلغ بهم الغرور أن يروا أنفسهم فوق الأنبياء
ومثل آخر من نفس الباب قوله: (وفي طلب السلامة من أذى السفهاء. قال الرسول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة). . . والعدل يوجب أن يكون ما يترك الأنبياء ميراثاً حلالاً لأبنائهم، ولكن الحرص على قطع ألسنة المتزيدين هو الذي أوجب أن يحرم الأنبياء أبناءهم من ذلك الميراث. وذلك ظلم جميل!) هكذا يقول زكي مبارك، وهكذا يقدم لقرائه في هذا الكلام قنبلة ملفوفة تكفي لنسف أي إيمان
دعك مما في كلامه هذا من مثل (جميل) و (رسول) (وأنبياء) و (قطع ألسنة المتزيدين) وتأمل ما وراء ذلك تجده يريد أن يدخل في نفسك أن ترك الأنبياء أموالهم كلها صدقة شيء فعلوه من عند أنفسهم لا بأمر ربهم، وأنهم بذلك خالفوا العدل ووقعوا في أقبح الظلم، ظلم الأنبياء. ومن أجل ماذا؟ من أجل السلامة من أذى السفهاء وقطع ألسنة المتزيدين، أي من خوف الناس! وماذا يبقى من مبدأ عصمة الأنبياء بعد هذا؟ لا شيء عند من يقبل من زكي مبارك هذا الكلام، وعلى دينه العفاء!
وإذا رجعت إلى حديث الرسول صلوات الله عليه - وزكي مبارك حرف المعنى ولم يحرف اللفظ - تجده يحتوي على الحجة المبطلة لكل ما ذهب زكي مبارك إليه، وهي قول الرسول (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) بصيغة التعميم لا بصيغة التخصيص. فلو صدق ذلك على بعض الأنبياء دون بعض لما كان من سنن النبوة، ولكن من رأي ذلك البعض، ولجاز ولو من بعيد ما زعمه زكي مبارك. أما وهو صادق على الأنبياء أجمعين فلا بد أن يكونوا فعلوه عن أمر الله لا أمر أنفسهم، لاطراده فيهم على اختلاف الأزمان - والاطراد(562/25)
على اختلاف الزمن هو طابع الفطرة التي هي دين الله - ثم لاستحالة معرفة الرسول صلوات الله عليه أن الأنبياء أجمعين كانوا يفعلون ذلك إلا بإخبار وتوقيف من الله
لكن زكي مبارك لا يلتفت إلى مثل هذه الدلالات في كلام النبوة، لأنه مشغول بترويج ما له من مذهب ورأي؛ يتلطف للدخول به على الناس حيناً، ويتقحم به عليهم حيناً؛ تارة يلمح وتارة يصرح، وطوراً يجمع لهم الأضداد ويرميهم بالمتناقضات تلهياً وتشفياً، كأن بينه وبين الناس ثأراً لا يشفي نفسه منه إلا أن يبلبل منهم الفكر ويزلزل منهم العقيدة ليكون أدبه قوة تقتل الخصوم وتزلزل الزمان
محمد أحمد الغمراوي(562/26)
من نداء القلب
الإناء. . .
للأستاذ إلياس أبو شبكة
أصدر الشاعر اللبناني المطبوع الأستاذ إلياس أبو شبكة ديواناً لطيف الحجم سماه (نداء القلب)، وهو - ما عدا القصيدة الافتتاحية - مجموعة من الشعر الغنائي الرقيق؛ يقرأه الخلي في ساعة إذا شاء، ولكن الرجل ذا القلب الشاعر لا يستطيع أن يفرغ منه ولا أن ينفصل عنه؛ فهو في كل بيت من أبياته لا ينفك بين ذكرى تعاوده، أو أمل يراوده، أو شعور لذيذ يحس انبثاقه فيه، أو وجد أليم يجد أبلغ العبارة عنه. وكان الأشبه بما قلنا أن نسمعك لحناً من ألحان هذا الغزل المشبوب، لهذا الشاعر الموهوب، ولكننا آثرنا أن نسمعك القصيدة الأولى منه، لأنها أبلغ ما يصور حال الأدب الرفيع، في هذا الزمن الرقيع
عصرت فؤادي في إناء من الهوى
وأدنيتهُ من مرشف الفقراء
فقالوا: (خمور ما تبرد غلة)
فتمتمتُ: (واهاً أكبد الشعراء!
أينكر حتى البؤس ما فيك من غنى
وأيّ غذاء أنت للبؤساء؟!)
وذوِّبتُ قلبي في إِناء من الهوى
وأدنيته من مرشف الرؤساء
وقلت لهم: (هذا هو العدل فاشربوا
لعلكمُ تصغون للضعفاء!)
فمالوا جميعاً عن إنائي وغمغموا:
(إناؤك محظور على الزعماء)
وذوبت قلبي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف السجناء
وقلت لهم: (هذا غراءٌ قلوبكم(562/27)
فللأبرياء التاعسين دمائي)
فقالوا: (دماءٌ ما تحلْ قيودنا
فهاتِ قوانيناً لغير قضاء)
وذوبت قلبي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف الحكماء
وقلت لهم: (هذا هو النور فاشربوا
فآراؤكم في حاجة لضياء)
فقالوا، وقد هزوا الرؤوس شماتةَ:
(ضياؤك هذا خدعة الجهلاء)
وذوبت قلبي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف الأمراء
وقلت لهم: (هذا هو النبل فاشربوا
وطوفوا بأقداحي على النبلاء)
فقالوا: (أتحقير لطغراء جَدِّنا
وما تنسل الأصلاب من شرفاء؟)
وذوبت قلبي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف الشعراء
وقلت لهم: (هذا هو الحب فاشربوا
فأزياؤكم مرهونة لفناء
إذا الحب لم يضرم لهيب قلوبكم
بَشِعتم ولو جئتم بألف رداء)
وما زلت في الدنيا أطوف بخمرتي
وحوليَ شعبٌ هازي بوفائي
إلى أن دهاني اليأس فاخترت عزلة
أفتش فيها عن حُطام رجائي(562/28)
وذوبت خمري في إناء من الهوى
لأشربها ممزوجةً ببكائي
فشاهدت قلبي في إنائيَ ضاحكاً
به دعة عذراء في خُيَلاء
فأدنيته من مرشفي وشربته
وما زال ماءُ الحبْ ملء إنائي(562/29)
البريد الأدبي
5 - الشعر الجديد
وضعنا أمام القارئ في كلمتنا السابقة وصفاً إجمالياً لمنظومة من (الشعر الجديد) حاولنا أن نكشف به عن الطابع العام لهذا الشعر. فإذا هو - كما يمكن أن يتخيل القارئ - مجموعة من التفكك والاضطراب، والبرقشة والأغراب. ولولا خشية الإملال لوصفنا غيرها وغيرها، فلدينا من هذا الشعر أكداس. وقد وعدنا أن نزيد في هذا الكشف في أثناء حديثنا كلما عنت مناسبة. ونجد الآن الفرصة سانحة للإشارة إلى مظهر آخر من مظاهره البارزة: ذلك هو الإسراف في بث المجاز والاستعارة في تضاعيفه، وتحميل الكلام منهما أحمالاً ثقيلة، والغلو في ذلك غلوا شديداً. ولا تحسبن أن هذا عن بصر بهما، أو علم بأصولهما، أو إحاطة بأساليبهما، فذاك مطلب جد عسير عليهم؛ فقد أزحنا بعض الستار عن ماهيتهم، وأبنا شيئاً من طرائق تزييفهم، ووسائل تمويههم. وإنما الذي يصنعون صور منهما افتعلت افتعالاً، وصيغت على أمثلة صاخبة متراكبة، وصبت في قوالب غثة، مما نراه في الأدب الرخيص الشائع الآن بين العامة وأشباه العامة
ويضطرني هذا المقام أن أقول - والأسف يملأ نفسي - إن بلية هذا (الأدب) ليست مقصورة على هؤلاء الشعراء وغيرهم من صغار الكتاب، بل تجاوزتهم إلى الطلاب ممن لم يزايلوا بعد مقاعد الدراسة الثانوية. فعملت فيهم عمل السوس، وأفسدت من سلائقهم، وشلت من ملكاتهم، ولوثت من نفوسهم.
وطالما جهرت - بقلمي وبلساني - بأن هذا الضعف الملحوظ في منشآت الطلبة الآن إنما مبعثه قلة ما يقرءون من مستجاد الكلام وشريف الأفكار، ثم ذيوع هذا (الأدب) بينهم، وتهافتهم عليه؛ لما به من مغريات الشباب وعوامل استمالته ومخادعته. (والفتى آلف لما يستعيد). فضع ما شئت من مادة بين يدي الحدث، وخذه بها، وأدمه عليها، يطبع عليها لا محالة.
ولقد كنت أرى ممن خالطتهم من الإنجليز في بلادهم، أن الوالدين يحرصان كل الحرص على انتقاء ما يطالعه الأبناء في أوقات فراغهم، ويحولان بينهم وبين ما يمس أخلاقهم، أو يضعف لغتهم، ويبذلان في ذلك أعظم الجهد(562/30)
فللولد هناك مكتبة، وللبنت مكتبتها، حافلة بما يقوي العقل، ويقوم الخلق، ويغذي اللسان
والنشء من أبنائنا محرومون كل هذا، مهملون إهمالاً يكاد يكون شاملاً. وقد انصرف أدباؤنا وشعراؤنا عنهم، وأمعنوا في نسيانهم، وكتبوا وألفوا للكبار وحدهم؛ اللهم إلا محاولات لا تنقع علة، ولا تبل صدى
أعود - وقد استطردت مرغماً - إلى ما كنت بسبيله من الكلام في المجاز والاستعارة، فأقول: إن الأساليب العربية النقية قد اقتصدت فيهما اقتصاداً، فلا تلجأ إليهما، ولا إلى التشبيه أو غيره من طرق البلاغة إلا لغرض حافز، لا للزينة وحدها أو التهويل. يستبين ذلك في كلام الأبيناء من أئمة الترسل قديماً وحديثاً، لا الذين احتفلوا بالتنميق والتزويق، وتعملوا وتكلفوا، وجعلوا الكلام بضاعة تزخرف كما تزخرف السلع المعروضة للأنظار
وهذا كتاب الله، وهو في الذروة من البيان، لا ترى فيه - إذا تجوز - إلا السهل الممتنع الذي حيكت مادته من المألوف السائغ، والبسيط المستعذب
وللعربية مناهجها في التعبير، وروحها في التصوير، ومهايعها في التفكير. ويفهم عنها هذا من تمرس بها وكابدها وتوفر عليها - ولها فوق ذلك - مرانتها ولينها وسلاستها
فعبروا - في هذا النطاق - عما تدعون من غريب مبتكراتكم، وبديع تجديداتكم، ثم دعونا نفهم عنكم، إن استطعتم
ولقد كنت عمدت إلى طائفة من هذا (الشعر) فنثرت ما أمكنني أن ألم شعثه منها، بعد جهد وعناء، فحصل لدي صفحات كنت أبغي عرضها في كلمة من كلماتي ابتغاء التمثيل
فلما عدت إليها بعد ذلك ألفيتها تمثيلاً غير صادق لمذهبهم؛ إذا أن ألفاظهم وحدها هي - في الحقيقة - التي تكشف عما أوضحت من خصائصهم. ومتى بدت الألفاظ، تكشفت عنها الأشخاص. وقد آثرنا - كما قلنا من قبل - أن نكون عن هذا بمنأى
حاشية:
بعد أن فرغت من مقالي هذا، جاءتني الرسالة (عدد 561) وفيها كلمة موجزة للكاتب الفاضل الأستاذ دريني خشبة، ينقد بها آرائي في (الشعر الجديد)، وسأجيب عنها إن شاء الله
(للحديث بقية)(562/31)
(ا. ع)
حول شعراء الشباب
الأستاذ (دريني خشبة) رائد لهذا الجيل، في جميع فنون الأدب بلا استثناء، ومن ذلك فن الشعر بلا مراء!
وهو يحمل المشعل لشعراء الشباب؛ فآناً يجندهم تجنيداً للتمثيلية الشعرية، وآناً ينافح عنهم منافحة الراعي الذي يشملهم بالعطف والحماية، إذا عنّ لأحد من الشيوخ أن يهاجمهم، كالأستاذ (ا. ع)
ولأن الأستاذ رائد من رواد الجيل، ولأنه راع للشباب بوجه خاص، فإن عطفه يتسع ويتسع حتى ليشمل الكثيرين، فيسلكهم في عداد الشعراء
والحمد لله والمنة على أنني كنت في مرتين أو أكثر ممن وسعهم عطف الأستاذ الذي وسع كل شيء. . . حتى لقد وسع شعراء بحكم الوظيفة، وشعراء بحكم الأقدمية، وشعراء بحكم النظم، وشعراء بحكم محاولة النظم، وشعراء بحكم برقشة النظم؛ وسلك هذه الكثرة الكثيرة مع تلك القلة القليلة التي تستحق لقب الشعراء. وهذا عطف سابغ ولا شك. ولكن ما رأي الأستاذ المفضال، لو رجوته في ألا يشملني بعطفه الوسيع؟ ولو أنهيت إليه كذلك أن بعض من حشدهم في كلمته يرجونه مثل هذا الرجاء في خاصة أنفسهم. . . مع خالص الشكر، وموفور التحية
سيد قطب
فلم رصاصة في (القلب)
طغى على الأفلام المصرية - وهي في طور النشأة - نوع من الفن الغليظ يعمد إلى استدرار الدموع بتلفيق الحوادث المروعة، وافتعال المواقف المثيرة، أو إلى إثارة الضحك بالحركات المبتذلة والنكات المكشوفة. وكان هذا الأسى العنيف، أو هذا اللهو السخيف، طبيعياً أول الأمر لعجز الكتاب والممثلين والمخرجين عن إدراك الفن الصحيح، فكانوا يتوخون التأثير من جوانبه السهلة وطرقه القريبة، كتمثيل ما يؤثر بطبيعته من نكبات الفاقة(562/32)
والبؤس والمرض والموت، أو تصوير ما يضحك بذاته من شخصيات الحشاشين والفلاحين و (البرابرة)، وكل ذلك في إخراج ينسجم في قبحه واضطرابه مع سخف الرواية وضعف التمثيل
أما فلم (رصاصة في القلب) لواضعه الأستاذ توفيق الحكيم، وممثله الأستاذ محمد عبد الوهاب، ومخرجه الأستاذ محمد كريم، فشيء آخر يختلف في لهوه وجوه وفنه. هو قطعة من المرح الرقيق الرفيق العذب، فيه الفكاهة وليس فيه الإسفاف، وفيه النشوة وليس فيه العربدة. رواية طريفة الموضوع فنية الوضع مطردة الحوادث هادئة السياق؛ وتمثيل طبيعي الحركات منسجم الأشخاص بارع المواقف؛ وإخراج قام على فهم روح المؤلف وإدراك طبائع الممثلين، فرتب المشاهد، وحرك الأشخاص، وسلسل العمل، على نظام عجيب من الفن جعل كل شخص وكل شيء في هذا الفلم قائماً بعمله المطلوب، وموضوعاً في موضعه الحق
ولعل أعجب ما في هذا الفلم أن عبد الوهاب الممثل كاد يطغى على عبد الوهاب الموسيقار! فقد كان الجمهور مفتوناً برشاقة حركاته وعذوبة كلماته وصدق تمثيله، حتى كان انتظاره للقطع الغنائية على روعتها وجمالها في هذا الفلم أقل منه في الأفلام السابقة. وربما كان مرجع ذلك أيضاً إلى أن روح الفنان التمثيلية غلبت على روحه الموسيقية، فمذهبه الحديث في التلحين يغلب فيه تمثيل العواطف والمواقف بالنغم المعبر، دون أن يكون للقرار تلك النغمة الخاصة التي كانت تشق الحناجر بالهتاف وتدمي الأكف بالتصفيق.
وجملة القول أن (رصاصة في القلب) فصل جديد في تاريخ النهضة السينمائية المصرية يسمح للذين قاموا على إنتاجه وإخراجه أن يضعوه يوم المنافسة بجانب الأفلام الأمريكية من غير تهيب ولا تردد.(562/33)
الكتب
الأدب يعرض التاريخ
عمرو بن العاص
للسيدة وداد سكاكيني
كان لي عجب أن رأيت الأستاذ عباس محمود العقاد، على غير ما خيل إلي ونعت، فلما لقيته تهيبت جانبه وتحيرت في تحيته فوجدتني أدير على لساني كلاماً أستل به ملامة وقرت في نفسه يوم دفعت عن المرأة ما شاء الأستاذ الجليل أن يصمها به من الفثاثة في الفن والضآلة في العبقريات، وقد كنت في سوالف الخيال أحسبه قد بسط على منكبيه من أدبه المتين بردين من العنجهية والخيلاء؛ ولكن حين أتيت مصر سألت عنه من يعرفه فوصف لي بغير ما حسبت، ولما سمعته صغر الخبر الخبر
رجل حبار القامة، رفيع الهامة، وديع الطلعة، يفيض حديثه من علم عقله وشعور قلبه ووحي ضميره، ويمد ببصره إلى أغوار الكلام فيتناول لآلئ المعاني، ويجول في آفاق الفكر تجوال الأديب المكين. قلت له لا تتريث على أن يكون أول ما أرى من مآثر مصر أدبها الحي ووثبتها المرموقة في نوابغها وقادة الفكر فيها، ونحن وإن اختلفنا في الرأي والمقالة؛ فإننا نرجع إلى الحرية. فتبسم عن رضى وتألقت فيه نفس الأديب الكريم
وسرعان ما عكفت بعد لقياه على كتابه الجديد (عمرو بن العاص) فقرأته بإعجاب نسيت فيه ما كنت أحسه من كآبة الاغتراب في نفسي، وألفيتني أستمع للتاريخ وأتدبر الأحداث، فإذا أنا بين دفتي كتاب على نسق العبقريات، وسمه ناشروه بأعلام الإسلام، فكان فاتحة لجهدهم المحمود. جلا فيه العقاد عمراً في شخص فذ عظيم من شخوص العرب الذي صمدوا للدهر
وتركوا في الدنيا دوياً، فقرب المؤلف بلباقته وبراعته ما تناءى من التاريخ على القارئين. ومن للناس في كل حين بالطبري والدميري والطبقات والسير وكتب التراجم والأخبار، فهم إن عركوا أوراقها ومزقوا جلودها من طول البحث فيها والتنقير ما حصلوا منها على طائل ولا نالوا من نائل، حتى كانت منالة الأدب الحديث، فأورد القراء بكرام الكاتبين موارد(562/34)
السهولة في التاريخ والسير، إذ سكبوا بيانهم على الحادثات الغوابر، فردوها نواضر وبعثوا أمجادها للأجيال لتكون لهم فيها أسوة ومنفعة
وكذلك فعل العقاد في كتابه الجديد، فارتديت رداء امرأة من نساء العرب وخلطت نفسي بنسوة من قريش يعجبن بصنع عمرو وخليقته، ويرين إلى أبيه العاص بن وائل وهو في الذروة من بني سهم فيشفقن مما يخوض به الرجال من ملامز عمرو بن العاص وضعة نسبه لأمه السبية، وأنها كانت كبرى المغنيات في مكة وآخذهن لأجرة. فقلت لله هؤلاء العرب الأشداء الذين عبدوا أنسابهم فتنافسوا فيها وناشدوا بها الرجال والنساء، وأرادوها في الخيل والسيوف! ثم رأيت عمراً وقد أفضت مضجعه هذه الفرحة الدامية، وأنداده في صحة منها وعافية، صليبتهم نقية وحسبهم معروف، فكانت مغامز الحساد لابن العاص حوافز مرهفة لتعاليه ونشدانه البسطة في الوجاهة والثروة. وقد أعدته المواهب والشمائل لبلوغ ما صبا إليه في زهو الشباب، وكان يرى بلحظ الغيب نصيباً من المجد والسلطان أدركه في عنفوان الرجولة وفي عهد الفتح المبين
لقد عرض الأستاذ العقاد عمراً في معاريض الدهاء المبكر؛ إذ كان يحل خلافاً قد استحكم بين طلحة بن عبيد الله والزبير ابن العوام. وإذا بالإسلام يظل العرب فيندبه الرسول عليه السلام ليحكم بين جماعة من قومه يهددون المسلمين فيكسر ابن العاص شوكة الظالم ويفل جمع الباغين بدهائه وفطنته، فتتطامن له الشجاعة والحيلة، ويزكو ذكاءه مع الأيام القابلة وهو ما يزال يحس بين جنبيه هذه الشوكة الناخزة في نسبه لأمه التي يجهر بخبرها الناس إذا خلا بعضهم إلى بعض، ويسرونها كلما رأوه فيزداد طموحه وتغريه وثبات هذا الطموح بالتماس الأسباب للغلاب بالأمارة والرئاسة على من يفاخرونه بشرف الأمومة
ويموت أبو عمرو، وكان من سراة السهميين، فأخو عمرو يرث أباه ويكون ذا مال، وعمر مقل فقير، فأين ماله من أبيه؟ هاهنا يقلب الأستاذ العقاد وجوه الرأي ومدار البحث حول هذه المسألة، فيرينا عمراً وقد بقى محافظاً على رضى أبيه. ولم يسلم حتى مات أبوه الذي رغب عن الإسلام، وأنه لا يبعد أن يكون عمرو قد أصاب شيئاً من الميراث فأنفق منه ما أنفق بعد يأسه من تجارة الحبشة والشام، ولم يبقى له عند ولايته على مصر إلا اليسير. على أني أجد تعليلاً لفقر عمرو سهلاً هيناً، أفلم تقل أمه: انظروا من يشبه فألحقوه به.(562/35)
وكان عمرو في صغره يرعى غنما لأبيه، ثم صار جزاراً. وما ظنك بشيخ من أقوام العرب كالعاص بن وائل أبي عمرو يبلغه هذا المطعن في نسب ولد يعزى إليه ولم يكن للعرب يومئذ حكومة يدفعون بها عن أنفسهم ما لحقهم من سوء الأنساب بأولاد يعزون إليهم كرهاً، وكيف حاول أبو سفيان إخفاء نسب ابنه زياد، فلا يبعد أن يلجأ العاص بن وائل إلى حرمان عمرو من ماله وهو عنده شيء مادي مقدر ومقوم بالدينار والدرهم. وكان من خصال بني سهم المطال في الدين وكم كانوا له يلوون! ولعله قال يكفى عمراً أن ينتمي ويدعي إلى العاص
ولا جرم أن مثل هذا الخاطر مر ببال الأستاذ العقاد، ولكن ما كشفت عنه نصوص الرواية. وكان جهده في حقائق التاريخ أسد الآراء وأبلغ الحجج، فإذا علل الأستاذ المؤلف سر طموح ابن العاص وتعاليه بفقدان نسبه الطيب لأمه، فما أحرى التعليل بميله للمال وتكالبه عليه لحرمانه الميراث
أما نفس ابن العاص فقد حلل العقاد تفاريقها وألوانها من وجهات عدة؛ فآونة عرضها في نفس متهالك على الثراء، وجاء بالبرهان على ذلك في أقوال عمرو وأفعاله منذ عهد الرسول إلى وفاته بمصر بعد فتحها الثاني. وآونة يشرح بديهته ودرايته واضطلاعه بالحكم والولاية، وظفره بالثقة والخبرة اللتين مكنتاه من الفتح والنضال، فهو في حضرة البطريق ينجو من مكيدة، وهو في مبارزته للإمام عليّ ينجو بالحيلة والدهاء
وهذا عمرو كهلاً يدلف إلى أعز العمر بأساً وحصافة، فهو فاتح فلسطين ثم فاتح مصر مرتين. وهذا عمرو شيخاً منهوماً يتلهف شوقاً إلى المال وله ضيعة وحشم، ويكون من همه بعد أن عزت عليه الخلافة أن تكون له مصر ولاية جامعة، فينال ما يبتغى ويموت فيها ويدفن في ثراها
قلت ما أحسن كتباً يطرف بها الناس أديب الكنانة الأستاذ العقاد، فهو بعد أن طوف طويلاً في آفاق فنه بالأدب الصرف، تلفت صوب الماضي الأغر واتصل بمآثره الخالدة، فعاد منها بما غاب عن القارئين وزودهم بعبقريات وهاجة في تاريخ الإسلام تضيء في محمد بن عبد الله وصحبه وأبطاله، وهذا لعمري أجل فضل يؤديه الأديب للسيرة والتاريخ.
وما انتهيت من كتاب العقاد (عمرو بن العاص) حتى قلت: يا لله لمصر الخيرة، ويا لمجد(562/36)
العرب فيها! لقد ملكوها ردحاً من زمان في عهد الفراعنة، وكانوا رعاة إبل وغنم يسمون (الهيكسوس)؛ وفتحوها في عهد الإسلام، وهم أهل دين وحضر، وكانوا يسمون صحابة رسول الله!
(القاهرة)
وداد سكاكيني(562/37)
العدد 563 - بتاريخ: 17 - 04 - 1944(/)
بين التخطئة والتصويب في اللغة وغيرها
للأستاذ عباس محمود العقاد
عاد بنا الأستاذ (عبد الحميد عنتر) إلى قواعد الصرف في النسبة إلى أم وأمه وأمهة التي تحدثنا عنها في مقال سابق
فالأستاذ يقول (إن الهاء في سنة لم تقلب واواً في النسب كما قد يتوهم، لأن هذه الواو مبدلة من تاء التعويض المشوب بالتأنيث. . . والواو في سنوي ونحوه أصل من أصول الكلمة كانت حذفت وعوض عنها التاء. . .)
إلى أن يقول: (وإذا ثبت بالدليل أن الواو في سنوي غير مبدلة من الهاء في سنة ثبت أن الهاء في أمهة لا يصح قلبها واواً. . .) إلى آخر ما جاء في مقاله تخطئة (للأموية) في النسبة إلى أمه وأمهة
ورأينا أنه لم يثبت بالدليل أن الواو في سنوي أصل من أصول الكلمة محذوف، وإلا لجاز على وجه من الوجوه أن يقال سنة وسناء وشفة وشفاء وعضة وعضاء، كما يقال فرو وفراء ودلو ودلاء وجرو وجراء وحقو وحقاء، إلى آخر هذا الباب
ومن الطريف في إضعاف الدليل الذي عليه الأستاذ عنتر أن بعض العلماء بالعبرية يردون سنه إلى أصلها العبري وهو (شنه) المؤلفة من ثلاثة حروف مجموعها بحساب الجمل 355 وهو عدد الأيام في السنة القمرية. فالشين في هذا الحساب تساوي ثلثمائة والنون تساوي خمسين والهاء تساوي خمسة، ولا محل هنا للواو ولا للتاء
فقول الأستاذ (ثبت بالدليل أن الواو في سنوي غير مبدلة من الهاء) لا يؤيده شيء وتنفيه أشياء، وفي تعليلات النسب التي يعتمد عليها الصرفيون ما هو أضعف جداً من التعليل الذي اخترناه للنسبة إلى أمه وأمهة على اختلاف القول في أصل حروفها
بل نحن لو ذهبنا إلى القول بأن الأموية والأبوية جائزة على الجوار لما كنا في قولنا أغرب عن المألوف من القول بالغدايا والعشايا لهذا الجوار بعينه، أو للاتباع الذي هو أغرب من الجوار
لكن الخطر على اللغة في هذه الكلمة هين - بالغ في الهون - إلى الخطر الأكبر الذي نحن متهمون بتعريض الإسلام له في كتابنا (الصديقة بيت الصديق)(563/1)
أيدري القارئ ما هو هذا الخطر الأكبر الذي يقوم له بعض الأناسي من أنباء آدم ويقعدون؟
خطر لا يخطر على بال، ولا نظنه بعد ذلك يثبت في بال
ذلك الخطر هو اجتهادنا في إثبات سن السيدة عائشة عند زواجها بالنبي عليه السلام، لاستبعادنا أن نكون خطبتها في السادسة والبناء بها في التاسعة كما جاء في بعض الروايات، فقلنا إنها ربما تجاوزت الثانية عشرة عند البناء بها، معتمدين على الأسباب التي سردناها في الكتاب
والظاهر أن بناء النبي بفتاة تتجاوز التاسعة خطر لا تنام عنه بعض العيون التي تنام عن كل شيء
فلهذا يقوم بعض الأناسي من أبناء آدم ويقعدون ليدرأوا هذا الخطر الأكبر ويثبتوا جهدهم أن عائشة لم تتجاوز السادسة وهي مخطوبة، ولم تتجاوز التاسعة وهي زوجة في بيت محمد عليه السلام
والبديع حقاً أن الغاضبين - أو الغاضب - لارتفاعنا بسن السيدة عائشة إلى ما فوق الثانية عشرة عند زواجها هو قاض شرعي، فهو لا يقبل من مسلم من عامة الناس أن يتزوج بمن لم تبلغ السادسة عشرة ثم يثور ليؤكد أن محمداً عليه السلام بنى بزوجة في التاسعة أو ما دونها، مع قيام القرائن التاريخية التي تدحض هذا التقرير
إن حقدك علينا لا يغض منا لأنه مقياس نعمة الله التي خصنا بها على رغم أنفك، وإذا كان حقدك علينا فوق غيرتك على واجبك فأي مقياس لنعمة الله أبلغ في الدلالة من هذا المقياس، وأحق بالشكران منا فوق هذا الشكران؟
فالحمد لله. وزادنا الله، وزادك، مما أوجب هذه الهيجة التي لا تنام عنها عيناك
وقد كانت السيدة عائشة في الثانية عشرة على أقل تقدير، ولم تكن قط في السادسة أو التاسعة كما تقول
واصرخ في واديك بعد هذا كما تشاء
ويظهر أن هناك معركة أخرى تشملني في حومتها خلال هذا الأسبوع، كما نمى إلى من أسئلة بعض الأدباء
فهؤلاء الأدباء على ذكر مما كتبت أخيراً عن غرض الأدب وعلاقة الفنون بالمشكلات(563/2)
الاجتماعية، وهو موضوع يختلف فيه اليوم كاتبان كبيران كلاهما له حق الرأي والتوجيه في هذه الشئون، وهما الأستاذ أحمد أمين والأستاذ توفيق الحكيم
فالأستاذ أحمد أمين يقول: (إن الأدب العربي إلى الآن تغلب عليه النزعة الفردية لا النزعة الاجتماعية، فالغزل والمديح والعتاب والرثاء والفخر والهجاء ونحوهما كلها في الأدب القديم نزعات فردية طغت على الأدب العربي ولو نته اللون الذي نراه. . . وأرى أن العربي يجب أن يتجه من جديد إلى النزعة الاجتماعية. . . أعنى نظر الأدباء إلى مجتمعهم الحاضر يشتقون منه رواياتهم وأقاصيصهم وشعرهم ومقالاتهم الأدبية. . . وهذا النوع من الأدب يجب أن يكون أسلوبه سهلاً واضحاً جميلاً جهد الطاقة، لأنه لا يؤدي رسالته حتى يصل إلى آذان أكبر عدد ممكن في الحقيقة الاجتماعية)
والأستاذ توفيق الحكيم يقول: (إن استيحاء أساطير اليونان والرومان وامرئ القيس وشهرزاد هو النوع الأرقى في الأدب. . . في كل أدب. . . لا في الماضي وحده ولا في الحاضر. . . بل في الغد أيضاً وبعد آلاف السنين. . . وإن اليوم الذي نرى فيه الأدب قد استخدم للدعايات الاجتماعية والتصوير استغل في معارض الإعلان عن السلع التجارية، والشعر جعل أداة لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية - لهو اليوم الذي نوقن فيه بأن الإنسان قد كر فانقلب طفلاً يضع في فمه تحف الذهن وطرف الفكر، لأنه لا يدرك لها نفعاً غير ذلك النفع المادي المباشر. . . هذا هو الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان). . . وقد سألني أدباء فضلاء من قراء الرسالة: ما الرأي بين المذهبين؟ وأي القولين فيه الخطأ وأيهما فيه الصواب؟
وأقرب الوسائل عندي إلى الوجهة القصوى من هذا الاختلاف أن نعود إلى الماضي البعيد لنرى على التحقيق الذي لا تردد فيه - على ما نعتقد - إن وجهة الأدب والأخلاق والشريعة جميعاً إنما تتقدم من الاجتماعية إلى الفردية، لا من الفردية إلى الاجتماعية، كما يؤخذ من مقال الأستاذ أحمد أمين
ولهذا كانت أغراض الأدب العربي فيما مضى هي الأغراض التي تعني القبيلة ولا تعني أفرادها على استقلال، وهي الفخر والحماسة والمديح والهجاء والغزل والرثاء
فالفخر بالأنساب والأحساب سنة من سنن القبائل البدوية التي تتفاضل بعراقة الأجداد(563/3)
والآباء
والحماسة مطلب لا غنى عنه في حالة الصراع بين القبائل التي تتقاتل أبداً على المرعى والماء ومظاهر الجاه والغلب
والمديح والهجاء سلاح للقبيلة يرتبط به العز والهوان، وتنظر إليه القبائل نظرتها إلى سلاح؛ فتحتفل بظهور الشاعر كما تحتفل بالفرس الكريم والغارة الموفقة
وليس الغزل من المسائل الفردية التي تنفصل عن النوع والأمة والقبيلة، وليس الرثاء كما عرفه العرب مطلباً فردياً، لأنهم قلما نظموه في غير السادة الذين ترثيهم القبيلة قبل أن يرثيهم الأقربون، وليس ما نظم في رثاء أخ أو صديق أو زوجة يبالغ عشر ما نظم في الرثاء القبلي الذي يهم من الوجهة الاجتماعية مرات، قبل أن يهم مرة واحدة من الوجهة الفردية
هذا في الأدب جملة
أما في الأخلاق والشريعة فحسبنا أن نذكر الرجل كان يقتل في التراث لأنه فرد من أفراد القبيلة، لا لأنه هو القاتل بيديه، وحسبنا أن نذكر سنة الخلع لنعلم أن الخروج على حظيرة القبيلة هو بمثابة الخروج على حظيرة الشريعة والأخلاق
فاتجاه التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية، أو من التبعات والحقوق العامة إلى التبعات والحقوق الخاصة، ومناط التقدم عندنا هو قدرة المجتمع على إخراج أكبر عدد من الأفراد لهم استقلال في الحق والتبعة يعترف به العرف والقانون
كذلك نرى من جانب آخر أن الاهتمام بالحاجة المادية هو أقدم المطالب التي شعر بها الناس، وليس هو بأحدثها وألزمها للإنسان في عصور التقدم والارتقاء
وأن أمل الإنسانية الأكبر لهو أن تصبح على توالي الأيام أقل اشتغالاً بالطعام والكساء، وليس أكثر اشتغالا بهما كلما ارتفعت في معارج الحياة، وأن تنتقل من الشيوع إلى التخصص الذي يجعل بعض الناس مشغولين بعمل لا يشتغل به الآخرون، ولا يجعلهم من كتاب وشعراء وفلاسفة واقتصاديين وتجار وزراع مشغولين بشؤون المعيشة في عالم الواقع وعالم الفكر وعالم الخيال وعالم الأحلام
ومناط الفن الأعلى أن يتذوقه أرفع الناس ذوقاً وأدقهم حساً وأغزرهم علماً، وليس أن(563/4)
تشترط فيه الملاءمة لأقل الناس في جميع هذه الصفات
وقد أحسن الأستاذ الحكيم حين شبه المجتمع الذي يستخدم الفن للرغيف بالطفل الذي يضع الحلية في فمه، لأنه لا يحسن أن يتملاها بنظره
فلا بد من شيء في الفن لا ينتهي إلى المعدة ولا يتوقف على الذين يعيشون للمعدات
لكن هل يفهم من ذلك أننا خطأنا الأستاذ أحمد أمين في حرصه على المصالح الاجتماعية والمطالب المعيشية؟
كلا. بل نحن مثله في حرصنا على تلك المصالح والمظالب، ولكننا نقول إن ظهور الفنون الخالصة في بنية الأمة ضرورة حيوية لسلامة تلك البنية، فإذا وجدت الفنون الخالصة في الجو الذي يلائمها كان ذلك دليلاً على استكمال المطالب التي دونها في مراتب الكمال، كأنما هي الزهرة التي لا تؤكل ولا تشرب، ولكنها إذا غابت عن الشجرة كان ذلك دليلاً على مصاب أحاط بالثمرات والقشور والأوراق والأحطاب
فالفنون الخالصة زهرة الأمة التي تنم على حياتها، ولن تحيا أمة يكون فيها اختلال يعوق مصالح الأكثرين ومطالب المعدات والأجسام.
وعلى هذا نتفق جميعاً إذا اتفقنا على أن الفنون علامة صحة ونماء، وليس من الضروري بعد ذلك أن نطالب حمرة الخدين بفائدة مادية غير الدلالة على الجسم الصحيح
عباس محمود العقاد(563/5)
الميل إلى الهدم
وصراع الديكة بين الأدباء والفنانين
للأستاذ دريني خشبة
يحيا الأدباء والنقاد ورجال الفكر والموسيقيون وسائر الفنانين في مصر كما تحيا الديكة. . . يعدو بعضها على بعض، ويحاول أحدها أن يمزق جلد الآخر إن لم يستطع أن يقتله. . . والناس مغرمون بهذا بالرغم مما ينطوي عليه من شر، وما يفسر ما في غرائزنا من نقص، بل نكسة إلى الحيوانية. . . فهم يقفون ليلتذوا صراع الديكة التي يدمى بعضها بعضاً، وكلما ازداد هذا الإدماء ازداد التذاذ المتفرجين على حساب الآلام القتالة التي يألمها الطائر المسكين، وقل في الناس من يحمل قلباً يأنف أن يلتذ آلام الغير
ويلذ الناس في مصر أن يشهدوا هذا الضرب من صراع الديكة بين الكتاب والنقاد ورجال الفكر والموسيقيين وأبطال المسرح وسائر الفنانين. . . ثم بين المشتغلين بسياسة البلد العليا من رجال الأحزاب بوجه خاص. على إنه إن جاز شيء من صراع الديكة بين رجال الأحزاب السياسية، فلست أدري لماذا يشتد هذا النوع من الصراع بين رجال الفكر والفنون؟ هل قال أحد إن الحكومة ستنشئ وزارة للأدب، فالأدباء يصطرعون عليها؟ أم زعم زاعم أن الدولة سوف تنشئ للنقد المناصب العوالي فالنقاد يستعدون ويستعدون ويشرعون الأسنة والرماح؟
1 - كتبت مرة كلاماً في المسرح المصري أدعو فيه إلى الوحدة والتعاون من أجل الخير العام، ثم جعلت أشيد بالجهود الكبيرة التي بذلها فلان وفلان من أبطالنا المسرحين، فما أصبحت حتى زارني بعض رجال أحد المعسكرات المسرحية، ثم شرعوا يعاتبونني معاتبة شديدة لأني عددت هؤلاء الأبطال المسرحيين أبطالاً حقيقيين جديرين بأن تذكر أسماؤهم في صفحات الرسالة، بله أن يشاد بجهودهم فيها؟!. . . ولقد كانوا يتدفقون حماسة وهم يقذفون في وجهي بهذا العتب، حتى كددت أركن إليهم شيئاً قليلاً لو لم يعجلوا بالانصراف. فلما انصرفوا، لم يزد دهشي إلا إقبال نفر من المعسكر المسرحي الآخر، جاءوا للسبب نفسه الذي جاء من أجله إخوانهم السابقون! وبالطبع لم يكن قدح هؤلاء في أولئك أهون من قدح أولئك في هؤلاء! وبالطبع، كدت أركن إلى هؤلاء كما أوشكت أن أركن إلى أولئك. .(563/6)
وقلت في نفسي: هذا سبب أليم من أسباب انحطاط المسرح المصري!
2 - وكتبت مرة كلاماً أدافع به عن الموسيقيين المصريين مما رماهم به الأستاذ توفيق الحكيم من جمود وعقم، ثم ذكرت بعض أسماء هؤلاء الموسيقيين، ولاحظت أن تمثل هذه الأسماء المدارس أو المذاهب الموسيقية المختلفة في مصر. . . فما أصبحت حتى زارني بعض الأساتذة الأفاضل المشتغلين بالموسيقا ليخبرني أنه يوشك أن يغير رأيه في، لأني أعد فلاناً وفلاناً وفلاناً من الموسيقيين أو الذين يعرفون شيئاً في الموسيقاً؟!. . . ثم انطلق، حفظه الله، يبرهن لي على جهل هؤلاء الزملاء، إن صح أن يتشرفوا بزمالة الأستاذ العظيم، ثم انتهى إلى التصريح بأن الذين ذكرت هم سبب نكبة الموسيقا المصرية، وأن فلاناً هذا صفته كيت، وأن فلاناً ذاك نعته كيت وكيت، وأن فلاناً الثالث دعي ولا وزن له ولا. . . ولا. . . وقد كدت أيضاً أن أركن إلى الأستاذ المتحمس شيئاً قليلاً أو شيئاً كثيراً. وذهبت في المساء إلى بعض من ذكرت في كلامي الذي أثار صاحبي، وانطلقت أعدد له الكثير من المآخذ التي حفظتها من أحد؛ لكنه ابتسم ابتسامة عريضة هادئة، ثم قال: كلا يا صديقي، عهدي بك جاهلاً بالموسيقى من حيث هي فن وعلم وتطبيق؛ ولكنه كلام أحد غيرك قذفه في أذنيك فأتيت تغيظنا به. . . فمن ذا الذي زارك اليوم؟ واعترفت له أن كلاماً ألقى في أذني عن الموسيقا وأنني ربما لم أفهمه. فلما ضاق بي لأنني لم أبح له باسم الصديق الكريم، انطلق يسفه آراء القائلين بإلغاء الموسيقا الشرقية جملة، وإحلال الموسيقا الغربية محلها، ثم انتقل من التسفيه إلى التجهيل، ومن التجهيل إلى السب. . . يوجهه إلى أسماء بعينها. كان ظريفاً أن يحي اسم الصديق الجليل بينها، وأن يناله من غضبة الموسيقى المنفعل قدراً طيباً
فعجب في نفسي وقلت: وهذا أيضاً سبب أليم من أسباب انحطاط موسيقانا!
3 - ويؤلف السادة من رجال الفكر فينا كتباً قيمة يسدون بها في المكتبة العربية أركاناً خاوية في كل علم وفن وأدب، وهي كتب ثمينة قضى في تأليفها هؤلاء السادة الكتاب أخصب ما ينفق المؤلفون من أعمارهم. . . فهم مؤرقون والناس نيام؛ يحبسون أنفسهم في مكتباتهم أو في دور الكتب يبحثون ويقرئون ويكتبون وينفقون المال والجهد في سبيل حقيقة علمية أو طرفة أدبية؛ بينما الناس يملأون الحدائق ودور اللهو البريء وغير(563/7)
البريء، حتى إذا صدرت مؤلفاتهم تلقفها السادة النقاد أو بعض السادة النقاد، وأقبلوا عليها، كما يقبل الغريم على غريمه، واقتعدوا منها مقاعد الأستاذية والمعرفة المتبججة التي تدعى علم كل شيء والإحاطة بكل شيء، حتى إذا تصفحوها عجلين شمروا عن سواعدهم المفتولة، وشرعوا أقلامهم المسنونة، ثم أخذوا في الحط من أقدار المؤلفين والتأليف، وبكوا أو تباكوا على هذا الزمن اليائس التعس الذي رخصت فيه أقدار العلم، وهانت منازل الأدب. وذهبوا في المبالغة إلى حد أن يتمنوا إن لم يكونوا قد شهدوا هذا الزمان العابث الذي يجسر فيه سادتنا الكتاب المؤلفون على إصدار ثمار قرائحهم، غير عاملين حساباً لهؤلاء السادة النقاد المحترمين. وقد شهدنا في الشهرين المنصرمين غير مأساة من مآسي النقد، اضطر فيها المؤلفون إلى صراع الديكة إزاء النقاد الجائرين الذين جعلوا وكدهم كشف العورات وغض النظر عن الحسنات
ولا شك أن هذا السلوك من النقاد سبب أليم في تأخر فن النقد في مصر
4 - وأطلعني الأستاذ صاحب (الرسالة) على كتب يحملها إليه البريد من مصر ومن الشرق العربي فيها قدح شديد في بعض كتاب هذه المجلة - والله المحمود على أن كان نصيبي من هذا نصيباً طيباً - وقد هالني ما تناول به أحد القراء أحدنا نحن الكتاب المظلومين من ثلب وانتقاص وتجريح، لأنه غفل عن محاربة كذا وكذا من أفكار المؤلفين الغربيين التي يبشرون بها في كتب وضيعة تقدح في الشرق وفي أديان وعادات الشرق، ثم ذكر حضرة القارئ المتحمس طائفة من أسماء هذه الكتب، وأخذ على الكاتب المسكين عدم اطلاعه عليها. . . كأنما يظن أن لنا وكالات لتسقط أخبار هذه الكتب في البلاد الأوربية فهي تصلنا بانتظام لكنا كسالى أو سيئو النية لأننا نعلم ما في هذه الكتب ولا نأخذ أصحابها بالرد العنيف الذي يؤدبهم ويردهم إلى محجة الصواب
ألا ما أظلم الكثيرين من القراء! حقاً إن القراءة فن لا يحسنه إلا الأقلون!
5 - وخامسة الأثافي، أو داهية الدواهي، ما وقعت فيه من أسبوعين من الخطأ الشنيع. . . فقد ذكرت في كلمتي إلى أستاذنا الجليل (ا. ع) طائفة غير قليلة من الشعراء الشباب في مصر على أنهم بعض من يمثل شعرنا الحديث، وكان هذا الخطأ سبباً في إثارة بعض هؤلاء الشعراء الشباب أنفسهم، فقد ساءهم أن تحشر أسماؤهم على هذا النحو الزرى في(563/8)
ذاك الثبت الطويل من أسماء الشعراء
وما زالت عند رأيي من استجادة شعر هؤلاء الشباب، وربنا كنت أعرف بهم من حضرات زملائهم الناقمين، لأن كثيرين منهم يتفضلون على فيرسلون إلى طرفاً رفيعة من أشعارهم تدل على ما سيكون لهم من أثر في الأدب المصري عامة والشعر المصري الحديث على وجه التخصيص. . . ولكن المضحك في هذا الأمر غلو بعض من نقموا مني ذكر أسمائهم في ثبت الشعراء هؤلاء! لقد أقبل أحدهم ثائراً كالعاصفة و (نكش) شعر رأسه (نكشة) أفزعتني، ولست أقول إلا الحق! ثم راح يتهمني بأنني أناقض نفسي حين أعلن استجادتي لشعر هؤلاء (ال. . .) - على قرب عهدي بالدعوة إلى تجديد الشعر العربي، وما أطلت في الكتابة عن وجوه هذا التجديد
فانظر أيها القارئ كيف انصرف هؤلاء الشعراء الشباب الأفاضل عن أستاذنا الجليل (ا. ع) الذي شوى جلودهم فلم ينبس منهم أحد بحرف، إلى هذا القلم الضعيف الذي شرع نفسه للدفاع عنهم فرفضوا هذا الدفاع أو جحدوه لأنه أخطأ فذكر أسماءهم بين أسماء متواضعة، غير لامعة. . .
والظريف أن الذين أنكر عليهم صديقي (العاصفة) شاعريتهم كانوا شعراء من الطبقة الأولى عند صديق آخر سعى إلى ليعلن احتجاجه للسبب نفسه. . . وقد حرت والله في أمر هؤلاء الشعراء الشباب، كما حرت من قبل في أمر المسرحين والموسيقيين والفنانين والكتاب والنقاد والقراء. . . وأخشى أن أحار أخيراً في أمر نفسي. . .
يا رجال الفكر والفنون في مصر، بعض هذا الهدم، ولا تكونوا: كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله!
دريني خشبة(563/9)
التفاؤل. . .!
للأستاذ عمر الدسوقي
واحسر تاه على هؤلاء الذين حرموا سعادة التمتع بالوجود، ورأوا الدنيا دار شقوة وعذاب، وأن العالم يغص بالشر يكمن لهم في كل ثنية، ويطالعهم في وجه كل إنسان، ويرددون مع ابن الرومي قوله:
لما تؤذن للدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد
ويتندمون على أنهم تنسموا هواء هذه الحياة فيما فيها إلا إفك وبهتان، وخب وخداع، وأمراض وآلام، لا يحقق فيها رجاء، أو تصفو فيها مسرة، ويقولون مع أبي الطيب أولاً:
وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
ومع أبى العتاهية ثانياً:
ما زالت الدنيا لنا دار أذى ... ممزوجة الصفو بألوان القذى
إن أصابهم خير قالوا: ضحك القدر الساخر، يمد في أسباب النعمة الزائلة، لتكون جراحاته أشد إيلاماً أنكى وقعاً، وأمض للنفوس لا تؤمن غواثله، ولا تكف عواديه. وإن مسهم شر ظاهر برموا بالحياة وودوا لو عجلتهم المنية؛ وطففت ألسنتهم تقذف بالسباب للدهر، والسخط على القدر والناس طراً، وتنم عن قلوب مشحونة بالغيظ والحسد واليأس، والناس عندهم أحلاس مكر ونفاق، فليس الحديث إلا أحبولة طامع وشرك منافق، والاقتصاد في زخرف القول خشونة معتد واعتداد قوي
إذا ما الناس جربهم لبيب ... فإني أكلتهمُ وذاقاً
فلم أر فيهمُ إلا خداعاً ... ولم أر بينهم إلا نفاقاً
هكذا يقول المتنبي في بعض سخطاته على العالم لأنه لم ينله طلبته ويبلغه أمنيته، بل نراه يحرص على الانتقام من البشرية:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
فليس بمرحوم إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
والأرض وما فيها من زهر فواح، وبحر رقراق، ونسيم عليل، وسماء صافية، وشمس(563/10)
ضاحكة، وطبيعة متبرجة، لا تدخل على نفوسهم مسرة، أو تقلل من نكدهم وعبوسهم، بل إنهم ينكرون هذا الجمال، فالسماء شوهاء، والأرض جرداء
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مُرُّا به الماء الزلالا
إذا بدا لهم أن يقدموا على عمل تملكتهم الرهبة، وتوقعوا الخيبة، وأوجسوا خيفة من كل شيء فيقدمون وقلوبهم مزعزعة وعقولهم مضطربة، وقلما يصيب النجح من يمشي وتمثال الإخفاق والشر نصب عينيه
وما أدرى إذا يممت أمراً ... أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني
ولذا نراهم يلجئون إلى الخرافات والتطير يتخذون منها نذراً لما عساه يصيبهم من مخبآت القدر الذي ضعف إيمانهم به وثقتهم فيه، وهذا عنوان العقول التعبة والنفوس الخوارة العيابة
أحقاً أن الحياة نقمة لا نعمة، وأن نظام العالم مختل، وقانون الطبيعة معتل، وأن ليس في هذا الوجود ما يحببنا في الحياة؟ إن العالم بنظامه الحاضر - بشموسه وأقماره، وأرضه وبحاره، وما فيه من انسجام ونظام، أبدع عالم يمكن أن يوجد ما في ذلك ريب. وحسبنا أنه هيئ ليعيش فيه الإنسان ويسخر كل ما يحيط به من بحار وشموس وجبال وحيوان، وأنه الحي المفكر يلمسها ويستخدمها ويتغلب بما أودع فيه من ذلك النور الرباني على الطبيعة العاتية، ويجتلى به أسرارها ليبرهن بحق على أنه خليفة الله في الأرض، وأنه أهل لأن يحمل الأمانة التي أشفق غيره من حملها
ألا يرى هؤلاء المتشائمون أن صغار الأحياء من حمل في الحقل، وطائر على الفنن، وطفل في الملعب، تنهل كلها وتعل من نبع الوجود الصافي، وتغدو طربة وتروح مرحة، وأنها لا تشعر بأن الحياة شقوة بل تراها نعمة سابغة جديرة بأن يستمتع بها، ويحرص عليها؟
وإذا كان هناك من الكبار من لا يرى وجهها الفتان إلا نكداً مشوهاً، فذلك لأنهم لم يحيوا الحياة الطبيعية، أو أنهم حرموا في طفولتهم الحب والعطف والحنان، فتأصل في نفوسهم سوء الظن بالعالم، أو أنهم أخفقوا في نيل مآربهم فخارت منهم العزائم وألقوا السلاح(563/11)
مفلولاً، وضجروا بمن حولهم وضاقوا بالدنيا ذرعاً، لما في قلوبهم من أثرة مكينة رانت عليها، فأفسدت هناءتها وطوحت بطمأنينتها وجعلها لا ترى العالم إلا ظلاماً دامساً
ألا يحمد هؤلاء الله على أنهم لم يخلقوا حجارة على قارعة الطريق تحطم وتقذف وتداس، أو حيواناً أعجم يتألم ولا يستطيع الشكوى، كل أمله في الحياة أن ينال ما يشبع بطنه، محروماً نعمة التفكير. إننا نبصر ونسمع، ونجرى ونتكلم، ونفكر ونضحك، ونمثل دورنا في مأساة العالم التاريخية، وهذه نعمة خليقة بالشكران إلى الله واهب النعم، ولكن صدق الله حيث يقول: (وقليل من عبادي الشكور)، ورحم الله المتنبي حيث قال في ساعة رضاه:
ولذيذ الحياة أنفس في النف ... س وأشهى من أن يمل وأحل
وإذا الشيخ قال أفّ فما مَلًّ (م) ... حياة إنما الضعف ملاَّ
ألا يعلم هؤلاء أن الحياة يجب أن تلبس على علاتها، وأنها كفاح وجهاد، وصراع وجلاد، يفوز فيها من قويت منته وعظمت عدته، ومن لا تطير نفسه شعاعاً ساعة الإخفاق، بل يجمع الهمة، ويشحذ العزيمة ليعاود الكرة، حتى تسير الدنيا إلى غايتها، فتعمر وتؤتى أكلها، وتسير حثيثاً في سبيل الكمال
دون الحلاوة في الزمان مرارة ... لا تحتظى إلا على أهواله
وأولى بهم أن يقولوا مع الأخطل:
وكان قوى الهموم إذا اعترتني ... زَمَاعاً لا أريد به بدالا
إن المتفائل هو الذي يبسم للحياة في سخطها ورضاها، وهو الذي يرى في الظلمة المطبقة عليه شعاعاً من الأمل ينير جنبات فؤاده، ويغمره بالثقة والإيمان. وليس من التفاؤل ادعاء أن كل شيء يسير على خير ما نرجوه بينما المصائب متحفزة أو غاشية، فتلك بلاهة لا تفاؤل، ومثل من يفعل ذلك مثل النعامة تخفى رأسها حتى لا ترى الخطر المحدق بها، ولكن المتفائل حين يرى الكارثة مقبلة يقدرها كالمتشائم تماماً ويحذرها حذره، بيد أنه يختلف عنه بشجاعته، وابتسامته، وتفكيره السريع المنتظم لتفاديها أو التغلب عليها، أما المتشائم فيجزع من هولها، وينكص على عقبيه فراراً منها وهيهات
يقول روبرت بروننج
(إن المتفائل من لا يولى ظهره للحياة بل يسير في شرعتها قدما(563/12)
هو من لا يرتاب في أن السماء ستمطر بعد جدب
ومن لا يحكم بانتصار الباطل وإن رأى الحق منهزما
ومن يعتقد أننا نكبو لنقال من عثرتنا، وتنام لنستيقظ)
إن الإنسان يخلق نفسه بنفسه، فإذا اعتقد أن الحياة شقاء وتعس فهي كذلك؛ والفقير يعزى نفسه بالجنة، والغني ربما اعتقد أن الله ساخط عليه فنغص ذلك عيشه. ويقول الدكتور جونسون: (إن نظرتك إلى الجانب المشرق من الحياة تساوي ألف جنيه في العام)
إننا لا نجيد عمل شيء نرغم عليه، بل نتقن ما تحفزنا إليه الرغبة والشوق والحب، وما دمنا نعتقد أننا دفعنا إلى هذه الحياة دفعاً لا حيلة لنا فيه، وأنها فرضت علينا فرضاً ونحن لها كارهون، وأننا نسير فيها على الرغم منا فلن نكون أبداً سعداء في الحياة، ولن يصيبنا منها إلا الخيبة والإخفاق والشر
إذا اعتقد الإنسان أن الحياة مغامرة تتطلب العزم الثابت، والإرادة الصارمة، والرأي الحصيف، والثقة الحافزة - دع جانباً جمال الأرض الطبعي، وما تفيض علينا به الأسرة والأصدقاء من سعادة - نجح الإنسان في فن الحياة وجنى أحلى ثمارها.
أما النكس الرعديد الذي يفرق منها، ويعتصم بالاستكانة والخنوع فلن ينال إلا فتاتها.
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صبّا
فحب الجبان النفس أوردة التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
إن واجبنا نحو أنفسنا ونحو غيرنا أن نكون متفائلين. إنك إذا طردت الوساوس والأوهام، واقتحمت طريقك في الحياة متذرعاً بالحب، والشجاعة والإيمان سائراً وفق قانون الطبيعة السمح، جليت لنفسك السعادة. وإذا أفضت من بشر نفسك وتفاؤلك على غيرك كنت ملاك الرحمة. يقول سدني يشعر بعض الناس بالسعادة لأنه ذاقها مرة، فإذا استطعت أن تجعل من حولك سعداء اليوم فسيشعرون بالسعادة عشرين عاماً، إذ تغذيهم بها الذكرى الطيبة). فعلى المتفائلين ألا يضنوا بالبشر والمرح الذي تفيض به نفوسهم على من يتصل بهم. ويقول: إن فرح الإنسان لا يكمل إلا إذا شاركه فيه سواه
لقد أصبح التفاؤل نظرية فلسفية خلاصتها: (اعتقاد أن الحياة خير، ومن الممكن جعلها أحسن مما كانت، وأن طريق ذلك هو الإيمان والأمل والحب). أما المتشائم فيعتقد أن العالم(563/13)
يسير نحو الانحلال والشر، وأن الحياة مقبرة الآمال والسعادة؛ والمتشائم الذي ينشر آراءه هذه بين الناس يساعد إبليس في إضلاله.
إن هؤلاء الذين يخافون المستقبل، ويتأسفون على الماضي يخلقون جواً فاسداً لغيرهم من الناس، جواً خانقاً لهم قائلاً لصحتهم مطوحاً بطمأنينتهم إلى الهاوية
ومن الممكن أن نصير متفائلين بالعادة والمران؛ فالتفاؤل عادة السعادة والشكر. لماذا نكره الحياة وهي كما يقول ستيفنسن: (الحياة تغص بكثير من الأشياء التي تجعل الناس كلهم سعداء). لو فكر الإنسان أنه دون غيره في هذا الوجود يجد في القراءة والموسيقى وفي الصور وفي الفنون، وأن حديثه ليس عن الطعام والشراب فحسب، ولكن حول الطبيعة والعلم والدين والفلسفة والتاريخ، وأنه طلعة المعرفة الماضي، والكشف عن المستقبل، وأنه مهتم بالحاضر، وجب عليه أن يقول:
مهما كنت فعندي من أسباب السرور والفرح ما يوجب عليَّ الشكران لله. من أنا حتى أغمر بفضل الوجود؟ وما الذي جعلني أستحق هذه النعمة أن أنظر الشمس في الربيع الطلق أو السماء في الليلة الصافية، أو البحر العريض، أو الجبال تكسوها الغابات الخضر وتحلى قممها الثلوج، أو أتمتع بوجه أمي وطلعة أولادي؟ لا شيء!
إن المتشائم لا يعتمد على العقل في حل مشاكله، بل يعتمد على الغرائز البهيمية، لأن العقل مشلول من الجزع والرعب وسوء الظن والنظرة الحالكة إلى العالم. إن اليأس يملك عليه لبه، والخطيئة يقول: (ولا ترى طارداً للحر كاليأس) إن المتفائل لا يعتقد أن حياته تنتهي بالموت، ولكن هناك حياة أخرى، وما الموت إلا باب الخلود، وإن النفس خلقت لتعرض يوماً على الله، ولهذا لا يجزع المتفائلون من الموت بل هو حادث طبعي، وإذا كان ثمت ألم فلفراق ما ألفناه، ولكنه لا يوجب اليأس، ورحم الله أبا الطيب حيث يقول:
إلف هذا الهواء أوقع في النف ... س أن الحمام مُرُّ المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق
ما أحوجنا في هذه السنين المدلهمة، وقد طغت الخطوب، وفاضت الكوارث على العالم، أن نستعصم بالإيمان والأمل والحب، فنخفف عن أنفسنا ومن حولنا آلام المحنة العالمية، حتى تنجلي الغمة ويشرق وجه الحياة في ظل السلام والدعة!(563/14)
عمر الدسوقي(563/15)
وظيفة المرأة
للأستاذ حسين غنام
تلخيص بعض آراء للكونتيس أف أكسفورد في كتابها (من
السجلات)
من أقوى غرائز المرأة طموحها. . .
ومن أقوى غرائزها كذلك حبها الإطراء والإغراء والتملق والرياء. . .
وكثيراً ما كان التقرب إلى المرأة بالكذب والتغرير سبباً في سقوطها أو حيدتها - على الأقل - عن طريق الصواب
وفي مصر بعض المجلات الأسبوعية لا تفتأ تتعالى المرأة وتضرب على ذلك النغم الذي يحبه النساء ويغرمن به، وهو محاولة دفعهن في طريق الرجال، وإن تكن تلك المحاولات فاشلة من بداءتها، إلا أن المرأة لا تلبث أن يأخذ منها الغرور مأخذه. . .
وأكثر هذه المجلات دعوة إلى تملق النساء، هي مجلة أسبوعية تخرج كل أسبوع بجديد من هذا النوع
وآخر محاولة لها في هذا السبيل طلبها للمرأة المصرية ما لم تفكر فيه المرأة في أرقى الأمم الغربية، بل ما تخجل من التفكير فيه، بله المطالبة به!
وكأن هؤلاء الكتاب لم يكفهم مزاحمة المرأة للرجل في كل عمل، حتى كانت سبباً في بطالة الآلاف بل الملايين من الرجال، وحتى خلقت مشكلة لبحاث السياسة والاقتصاد يحاولون حلها بعد هذه الحرب؛ لأن المرأة سترفض أن تنكمش في بينها الذي خلقت للعمل فيه، والانصراف إلى العناية به. وستطالب بما اكتسب في هذه السنين وما ظنته حقاً من حقوقها!
وطالب هؤلاء الكتاب عن طريق خفي، وهو طريق الإغراء في أسلوب مستور أن يكون للمرأة نصيب في حكم البلد عن طريق الوزارة!
وقد كان من نتائج مثل هذه الدعوات أن أسست بضع سيدات مصريات حزباً سياسياً نسائيا في مصر. وكأنما لم يكفهن ما في مصر من أحزاب الرجال السياسية العديدة، التي حاول(563/16)
الكثيرون حلها أو الإقلال منها، فقمن أيضاً بهذا العمل الجريء، ولكني لا أرده إلا إلى دعوة هؤلاء الكتاب وأمثالهم
ويبدو أن هؤلاء الكتاب لم يعرفوا واجبهم. . . وفي مصر تكاد أغلبية الشعب لا تعرف واجبها، ما لها وما عليها، وعذرها في ذلك الجهل. أما هؤلاء الكتاب فليسوا جاهلين وإن تجاهلوا. . . فنحن المصريين - مهما كابرنا - لا يمكننا إلا أن نعترف بأننا متخلفون عن غيرنا من الشعوب الراقية، وخاصة الشمالية منها. . . فإذا قامت المرأة المصرية في هذا الوقت تطالب بما تسميه حقها في الانتخاب، وفي مجلس النواب، وفي الوزارة، أضحكنا الشعوب الراقية منا. . .
سيضحك بعض هؤلاء الكتاب من كلامنا هذا، وسيرموننا بالرجعية ولاشك، وقد لا يفهمون أن ما يدعون إليه هو الرجعية بعينها، لأنه لا يتفق وناموس الطبيعة، ولا يساير أي عصر من العصور، ولا نهضة من النهضات، اللهم إلا في حالات نادرة جداً. . . فهل يمكن أن نقيس حضارتنا الراهنة بحضارة الإنجليز اليوم؟ لا أظننا نكابر في هذا؛ ولكن الإنجليز - رجالاً ونساء - يفهمون واجبهم على وجهه الصحيح
وقد قامت إحدى كبيرات السيدات في المجتمع البريطاني، وهي الكونتس أوف أكسفورد واسكويث، بوضع كتاب سمته (من السجلات)، رسمت فيه دستوراً للمرأة الإنجليزية الحديثة؛ بعد أن رأت انصرافها بالتدريج عن شئون منزلها وسعيها وراء الوظيفة ومزاحمتها الرجال، حتى في كبار الوظائف
فهي في كتابها هذا تقول إن واجب المرأة هو أن تتفرغ لشئونها التي خلقت لها، ولوظيفتها الطبيعية، وهي الزوجية
فالزوجين فن؛ وفاتحة هذا الفن هي ممارسة الحب بين الزوجين. فالحب، وإن لم يوجد بين الزوجين، لاختلاف بينهما في الميول والعادات والمشارب والطباع، تستطيع الزوجة الذكية العاقلة أن تخلقه، وأن تمارسه، وأن تجعل بينها وبين زوجها رابطة متينة إن لم تكن حباً حقاً كانت صداقة عظيمة وعشرة صادقة وألفة متبادلة؛ لا تقوم على الرياء، ولكن على صفاء، لأن الحب يتولد مع الزمن ما دامت الرغبة فيه موجودة
وهذه الزوجة تستطيع أن تجعل من بينها جنة. مهندسها هذا الفن الجميل العظيم، فن(563/17)
الزوجية
والمرأة لم تخلق للوظيفة أو لعضوية البرلمان أو لرآسة الوزارة ولكنها خلقت لما أهلتها له الطبيعة
وقد شرحت هذه الآراء في كتابها، ونحن نلخص بعضها فيما يلي:
(لقد كتب الكثير من الهراء حول جنس النسوي، وعندما ادعى النساء مساواتهن بالرجال لم أباينهن في رأي كهذا الرأي؛ فالنساء لا يختلفن عن الرجال في تكوين الجسم فحسب، ولكن في عقولهن كذلك، وأكاد أضيف إلى هذا أخلاقهن أيضاً. ولعل هذا القول يبدو غريباً على القراء، ولعلهم يقولون إنه بينما يرون معظم النساء مهذبات فإن أغلبية الرجال على النقيض من ذلك، ولكني أعجب من هذا، ولا أظنه حقاً
إن الرجال وحشيون، ولكن النساء أغلظ قلباً من الرجال وأقسى، وإني لأعرف كثيرات من النساء جعلن من بيوتهن جحيما لا يطيقه أزواجهن، وذلك بثرثرتهن وتفيهقهن الذي لا يكاد ينتهي. فإذا عاشر زوجة لا تفتأ تفحمك بمثل هذه الأسئلة دائماً: أين كنت؟ ماذا صنعت؟ من رأيت؟ وغيرها من آلاف الأسئلة الجافة العجيبة، فإن حياتكما ستنتهي بالطلاق الحتم
ولكن إذا فطنت سيدة إلى زوجها على وشك أن يحب امرأة أصغر منها، وربما كانت أكثر جاذبية منها، فيجب أن تختلف أسئلة الزوجة وتتغير حتى لا تشعر زوجها بمثل ما يشعر به عند إلقائها الأسئلة السابقة، كأن تقول له مثلاً: لقد أخبرتني أنك ربما خرجت من عملك اليوم مبكراً، فسررت لهذا كل السرور، فقد كنت تبدو هذه الأيام منهوكا تعباً، والرجال المرهقون في أعمالهم لا يسرون بها ولا يحبونها
فيرد الزوج: هذا حق؛ إنهم لا يحبونها
الزوجة: لقد أملت أن تكون بصحبة (السيدة أو الآنسة فلانة) وقضيت معها أصيلاً سعيداً. إني لم أرها إلا لماماً، ولكنك عندما قدمتني إليها رأيتها ساحرة جميلة! وظني أن من حقك أن تراها كلما استطعت إلى ذلك سبيلاً. لماذا لا تدعوها لتقضي معنا بعض الوقت في الريف عندما نترك لندن أيام عطلتنا؟ أليست هذه فكرة جميلة؟
الزوج: أمتأكدة أنك ستحبين ذلك؟
الزوجة: طبعاً سأحب ذلك. فإذا أحببت أن تكون سعيداً، فهذه أمنيتي كذلك. إن زواجنا لم(563/18)
يكن ما يسميه الفرنسيون زواجاً نفعياً، ولكن زواجنا بني على الحب
وسيؤخذ الزوج بهذه الفكرة، وعندئذ يدعو صديقته لقضاء عطلاتها في الريف معهم، والزوجة العاقلة ستتركهما ولا شك معاً في أغلب الأحيان، وكلما وجدت فرصة لذلك. فإذا مر بعض الوقت عليهم هكذا بدأ الزوج يمل هذه الخلوات وأخذ يحن إلى الانفراد بزوجته فقط
(البقية في العدد القادم)
حسين غنام(563/19)
2 - القرآن الكريم
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ألف زكي مبارك كتابة النثر الفني كأنما أراد أن يزلزل به الزمان فخرج فيه على الإجماع في أمر القرآن
وعلماء العربية - والأئمة المجتهدون منهم - مجمعون طوال تلك القرون على أن القرآن معجز. وأول شرائك الإعجاز التنزه عن كل ما يمكن أن يعد عيباً في الكلام، وإلا لأمكن لبليغ أن يستدرك على القرآن. من أجل ذلك لم يؤثر عن عالم من علماء العربية الذين تعرضوا لنقد الكلام الفصيح أن ذكر شيئاً يكمن أن يعد عيباً حين تكلم عن القرآن؛ لكنك حين تأخذ في أول فصل من فصول كتاب زكي مبارك، فصل نقد النثر الفني، تجده في أول صفحة منه يعيب على علماء العربية أنهم حين تعرضوا لنقد القرآن لم يذكروا إلا المحاسن، فنقدهم من أجل ذلك ليس في رأيه بالنقد الصحيح! اقرأ له إن شئت قوله من صفحة 17:
(وليس في اللغة العربية كتاب منثور شغل به النقاد غير القرآن. على أن شغل النقاد لم يكن عملاً فيناً بالمعنى الصحيح للنقد الأدبي؛ فقد كان مفروضاً في كل من يكتب عن القرآن أن يظهر عبقريته هو في إظهار ما خفي من أسرار ذلك الكتاب المجيد، وليس هذا من النقد في شيء. وإنما النقد أن يقف الباحث أمام الأثر الأدبي موقف الممتحن للمحاسن والعيوب. من أجل ذلك وسم أكثر ما كتب عن القرآن باسم الإعجاز لأن النقاد اطمأنوا إلى أن القرآن هو المثل الأعلى الذي تقف عنده حدود الطبيعة الإنسانية في البلاغة والبيان)
فما رأيك في مذهب صاحب هذا الكلام في القرآن؟ أتراه يطمئن إلى ما اطمأن إليه النقاد، أم تراه مخالفاً لهم يرى في القرآن عيوباً لم يروها ولا يمكن أن يراها بصير منصف لأنها غير موجودة في القرآن، فعابهم بأنهم لم يذكروا إلا المحاسن، وأن نقدهم من أجل ذلك غير فني ولا صحيح؟ وعبارته تلك فيها أكثر من مأخذ من ناحية الدقة ومن ناحية الخروج. فهو غير دقيق في حكاية مذهب النقاد في تقدير بلاغة القرآن، فإن مذهبهم أعلى كثيراً مما نسب إليهم وحكى عنهم، لأنهم يجعلون القرآن فوق طاقة البشر ووراء حدود الطبيعة(563/20)
الإنسانية في البلاغة والبيان، وهو يجعله في مذهبهم عند حدود الطبيعة الإنسانية، وما كان عند الحدود أمكن بلوغه وإن احتاجت الطبيعة الإنسانية إلى أقصى غايتها وأقصى مداها كي تبلغه. وهو معنى لم يقصد إليه النقاد طبعاً، كما لم يقصد زكي مبارك بنسبته إليهم أن يظلمهم، وإنما هي قلة دقة منه في التعبير عنهم، فالقرآن عندهم هو المثل الأعلى الذي تقف دونه - لا عنده - حدود الطبيعة الإنسانية في البلاغة والبيان
كذلك هو غير دقيق في قوله إن أكثر ما كتب عن القرآن وسم باسم الإعجاز، ولو قال باسم إعجاز القرآن لأصاب الدقة والصحة التاريخية معاً، لأن إعجاز القرآن عندهم من الثابت المسلم، فمن المعقول إذا كتبوا في بلاغة القرآن أن يبينوا ذلك الإعجاز ودلائله، وأن يطلقوا على ما يؤلفون في ذلك في الكثير الغالب باسم إعجاز القرآن
أما خروجه في تلك العبارة على علماء العربية وعلى الإجماع فكما رأيت. فالنقد عنده أن يقف الباحث أمام الأثر الأدبي موقف الممتحن للمحاسن والعيوب. وهذا صحيح ولكن في نقد كلام الناس لا كلام الله. لو كان القرآن كلام بشر لكان أثراً أدبياً لصاحبه، ولجاز أن يكون بازاء المحاسن عيوب يبحث عنها النقد. أما وهو من كلام خالق البشر أنزله سبحانه معجزة لرسوله وتحدي به الجن والإنس على اختلاف العصور، فكيف يمكن أن يقف الناقد أمامه إلا كما يقف العالم أمام آية من آيات الله في الأرض أو في السماء؟
إن العلم حين يقترب من آيات الله في الخلق يقترب اقتراب المنقب عن سر مودع، لا الباحث عن عيب. يقترب اقتراب العابد لا اقتراب الناقد، فإذا وقف على ما يعقل ويفهم عد ذلك من التوفيق واتخذه نبراساً ودليلاً في بحثه عن سر ما لا يفهم، ولا يخطر له مطلقاً أن يحسن الظن بنفسه ويسيء الظن بالفطرة إذا تعارض رأى مع شيء من الواقع في الفطرة، فهو يأخذ الواقع كما يجده، وينبذ من الرأي ما لا يتفق معه وإن عز. ومن هنا ينتقل العلم من ظفر إلى ظفر ويكشف عن سر بعد سر ويزداد قوة على قوة. ولو فعل غير ذلك واقترب من الفطرة يفترض عيوباً فيها يتطلبها لوقف ولفسد ولضل، ولأصبح فصلاً من فصول الأدب الذي يريد الدكتور زكي مبارك. والفطرة هي الفطرة في عالم المادة أو في عالم الروح، وفاطرها هو هو سبحانه، يتقرب إليه عباده بدراسة آياته، أينما وكيفما تكون، بروح الخاشع الملتمس الهدى المبتغى الوصول. فإذا كانت حكمة الله ورحمته قد اقتضت(563/21)
أن يجعل للإنسان بازاء الآيات التي لا نهاية لها في عالم المادة والعلم آية واحدة عظمى في عالم الروح والأدب، ألا وهي كتابه المنزل على خاتم رسله وصفوتهم، أفيكون من المعقول أن يقترب الإنسان من آية الله هذه بغير الروح التي يقترب بها من آيات الله تلك، وينظر في كلمات الله المودعة في قرآنه بغير روح الخشوع والإجلال وطلب الهدى التي ينظر بها في كلمات الله المودعة في خلقه؟
إن القرآن كلام الله كما أن النبات والحيوان والكواكب من كلماته، وإن اختلف في كل الخطاب. بكل خاطب الله عباده، ومن كل أعجز الله خلقه أن يأتوا بمثله، بعضه أو كله، ليكون عجزهم دليلاً لهم وحجة عليهم، وعن كل عجزوا. أفيدرس الناس آيات الله في النبات والحيوان والكواكب لا يتوقعون عيباً ولا يرون إلا كمالاً يتفاقم ويزداد فلا يجد زكي مبارك في ذلك ما يلمزهم به، ولا يعد علمهم لذلك علماً غير صحيح، حتى إذا درسوا آيات الله في القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم يتوقعوا نقصاً ولم يروا عيباً ولم يجدوا إلا كمالاً وجلالاً وإعجازاً، لمزهم وهمزهم وقال لم يذكروا إلا المحاسن كأن هناك يجنب المحاسن عيوباً كان عليهم أن يذكروها وإلا كانوا غير نقاد؟
إن العهد الذي كان ينظر فيه في القرآن نظر تطلب للعيوب قد مر بالفعل، مر إلى غير رجعة. والذين نظروا في القرآن تلك النظرة التي يدعو إليها الآن الدكتور زكي مبارك كانوا أقدر من منه ألف مرة على إدراك عيب لو وجدوه، وأبصر بنقد الكلام، لأنهم كانوا أهل العربية الفصحى رضعوها ودرجوا عليها ونشئوا فيها وأحكموها شباناً وشيباً رجالاً ونساء، فكانوا يصدرون فيها عن بصيرة وفطرة، كما لا يمكن أن يصدر الدكتور زكي مبارك أو يبصر مهما تكلف واجتهدوا واحتفل. وما منهم من أجد إلا ونظر - قبل أن يسلم - في ما بلغه من القرآن نظرة ناقد خبير فاحص يلتمس الوهن والعيب، فلما لم يجد عيباً ولم ير إلا كمالا باهراً وإعجازاً ظاهراً سلم وأسلم. فكل عربي كان مشركاً ثم أسلم شاهد صدق على أن القرآن فوق القوى والقدر، مبرأ منزه في جملته وتفصيله عن النقص والعيب. فأي كتاب أو أي كلام لقي من النقد ما لقي القرآن، وعرض من أهل العلم والفن على مثل من عرض عليهم القرآن كثرة ومقدرة وخبرة، وفاز ببعض ما فاز به القرآن من التسليم له والإيمان به الجهاد بين يديه؟ أفيقال بعد ذلك إذا أقبل علماء العربية عليه(563/22)
يتطلبون أسرار كماله كما يتطلب علماء الفطرة أسرارها، أن فنهم لم يكن بالفن ونقدهم لم يكن بالنقد، لأن كلا منهم كان يظهر عبقريته في إظهار ما خفي من أسرار ذلك الكتاب المجيد؟
أظن النص الذي قدمته من صدر أول فصل في النثر الفني كافياً في إثبات دعواي على صاحب النثر الفني أنه يدعو إلى نقد القرآن. وليس هو بالنص الواحد الذي في الكتاب في هذا الباب؛ فهناك في الجزء الثاني في ترجمة القاضي أبي بكر الباقلاني نصوص لا تقل دلالة عن النص السابق. ففي صدر ذلك الفصل يقول مؤلف النثر الفني (ص61):
(إن الباقلاني ومعاصريه رأوا أن في الإمكان أن يوازنوا بين قصيدة من الشعر وسورة من القرآن وإن لم يتحد الموضوع) وهم لم يفعلوا ولم يوازنوا بين قصيدة وسورة، لأنهم كانوا أبصر بالنقد وأرعى لحرمة القرآن من هذا، ولكنهم تعرضوا للشعر ونقدوا بعض عيون قصائده، مبينين عيوبها غير مغفلين محاسنها، كما فعل القاضي رحمه الله، وكما ينبغي أن يفعل الناقد البصير حين يتعرض لما فيه محاسن وعيوب. أما القرآن فقد كانوا يعلمون عن بصيرة ويقين أن محاسنه فوق أن يحيط بها علم عالم أو نقد ناقد، فكانوا يكتفون بالبحث العام في وجوه الإعجاز موضحين آراءهم بالأمثلة يضربونها من بعض الآيات وبعض السور من غير قصد إلى مقارنة أو موازنة حيث الفرق هائل والبون شاسع بعيد
ثم يقول صاحب النثر الفني في نقد الباقلاني وأمثاله:
(وهذا النحو من النقد يعد من المحاولات البارعة في الأدب العربي ولا عيب فيه إلا التحامل والإسراف)! ثم يحاول أن يوهم القارئ أنه هو يصدر عن غير تحامل وإسراف وأنه يحكم بالعدل بين فريقين، فيمضي يقول: (فإن خصوم القرآن كانوا يأبون إلا الوصول إلى شواهد يحكمون لها بالفضل، والباقلاني كان يعمد إلى القصائد التي يعرف فيها الضعف ليصل دائماً إلى الحكم للقرآن بالفضل) ص62
وهو لم يأت بمثل لما كان يفعل خصوم القرآن، كما أنه يعلم أن الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن لم يتعرض إلا لما أجمع أهل الأدب أنه من عيون الشعر كمعلقة امرئ القيس، لكن صاحب النثر الفني في سبيل مذهبه لا يبالي أن يفتري على الباقلاني، ولعله افترى على من سماهم خصوم القرآن(563/23)
ثم يمضي الدكتور زكي مبارك فيقول: (إن الذي يوازن بين قصيدة من الشعر وسورة من القرآن يجب أن يكون مستعداً للحكم بالعدل. وهذا لا يتيسر لناقد يرى من همه أن يبحث عن مساوئ القصيدة ويطمس محاسنها أو يتجاهلها أو يغض من قيمتها، وهو في مقابل ذلك يجد في البحث عن محاسن السورة القرآنية وإبراز مزاياها، ولا يستبيح لنفسه التفكير في وضع ألفاظها أو معانيها أو أغراضها أو أسلوبها موضع النقد. وهذا كاف في تجريح ما هموا به قديماً من الموازنة بين أثرين أحدهما من الشعر وثانيهما من القرآن)
وهذا أيضاً كاف في إثبات ما ادعيناه على الدكتور زكي مبارك من دعوته إلى نقد القرآن، وهو أول أدلتنا على ما اتهمناه به في أمر القرآن
محمد أحمد الغمراوي(563/24)
من روائع (دكنز)
مطاردة. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
تقديم
عاش تشارلز دكنز في إنجلترا بين عامي 1812 و 1870 م. وكان كاتباً روائياً مبدعاً؛ ومصلحاً اجتماعياً ثابت القدم في ميادين الإصلاح، شديد العارضة في التنديد بمساوئ المجتمع، وكشف مواطن الشر والرذيلة فيه
قصر أعظم جهوده على كفاح الفقر والبؤس والتشرد والجهالة وما إليهن، وحمل المجتمع ونظمه الجائرة وزر تفشيء هذه الأدواء الموبقة على عهده
وروايته: مغامرات أوليفر تويست - وقد نشرت عام 1838 - تعد نموذجاً كاملاً لحملته في هذا الاتجاه، ففيها يعالج مشكلة الأطفال المتشردين علاج الطب الخبير. وأوليفر - في نظرنا - هو النموذج التام للإنسان البائس، الذي تلفظه الحياة ويأبى عليه المجتمع إلا حياة التشرد والذلة. ولكنه - على حد قول بعض النقاد الإنجليز - (يجتاز هذه العوالم من الرذائل والشرور دون أن يقع فريسة لها، أو يروح ضحية لمغرياتها وتجاربها)
وهذا الفاصل شبه المستقل الذي نترجمه من الرواية، يرينا أوليفر أول مقدمه إلى لندن (وهو غلام في مبدأ العقد الثاني من عمره) وقد وقع في شرك عصابة من اللصوص يحرك أفرادها من الغلمة الطرادين، يهودي عجوز يدعى فاجين
ونأمل كثيراً أن يلحظ القارئ مبلغ الشبه بين حوادث هذا الفصل ونظائره مما يمثل حتى اليوم على مسارح الشوارع في بعض مدائننا الكبرى!
وإذا كنا نعالج الآن بقايا مشكلات كتلك التي عالجها الغربيون منذ مائة عام، فأملنا وطيد في أن نحلها كأحسن ما حلوا، وأن نغير من أثرها فينا كأفضل ما غيروا، والله يتولانا بهديه وتوفيقه. . .
الترجمة
انطلق الفتيان الثلاثة مهطعين: المراوغ في إزاره الكميش وقبعته مثلثة الإطار، كما هو(563/25)
شأنه دائماً. ومستر باتس يسير الهوينا وقد دس يديه في جيوبه. ثم أوليفر يتوسط الفتيين وهو يسائل نفسه عجب عن وجهتهما
وكان الثلاثة يدلفون من طريق ضيق إلى الميدان الرحيب المسمى (ذي جرين) - قرب كلر كنوبل - عندما توقف المراوغ فجأة، معترضاً بسبابته فمه، مجتذباً إليه رفيقيه في حرص وحذر
وهتف أوليفر: ماذا جرى؟!. . .
فأجاب المراوغ: صه، أما ترى هذا العجوز الواقف لدى المكتبة؟
قال أوليفر: آلسيد الهرم الذي هنالك؟. . . نعم أراه
- إنه طلبتنا!
فقال مستر تشارلي باتس: يا لها من ثمرة مبكرة!
وأدار أوليفر نظره بين الفتيين في عجب بالغ، ولكن لم يتح له أن يشفى غليله بسؤال؛ إذ سرعان ما رآهما يعبران الطريق فيتسللان خلف الرجل مقتربين منه. وتبعهما أوليفر عن كثب وهو موزع القلب بين إقدام وإحجام
كان السيد شيخاً وقور الهيئة أشيب الرأس ذا منظار ذهبي، يرتدي سراويل بيضاء وسترة دكناه الخضرة موشاة بنيقتها بالمخمل الأسود، وقد تأبط عصاً أنيقة من الخيزران الهندي
وكان قد ابتاع كتاباً من الحانوت ثم توقف منهمكا في قراءته كما لو كان مستقراً على مقعده الوثير في قاعة مطالعته الخاصة!
ومن المحتمل كثيراً أن يكون قد توهم نفسه كذلك؛ إذ كان من الواضح أنه لم يعد يعير الحانوت ولا الشارع ولا الصبية التفاتاً. وبالجملة لم يكن يحس وجود شيء إلا الكتاب نفسه؛ وقد أقبل على مواصلة النظر فيه، فما يفرغ من صفحة إلا ليستأنف القراءة في أخرى. . . وعلى وجهه سمات واضحة من الشغف والاهتمام
وبدت رهبة أوليفر وذعره بالغين حدهما - وهو واقف على مدى خطوات مشدوه العينين - حينما أبصر المراوغ يدس يده في جيب السيد فيستل منه منديلاً يدفعه إلى تشارلي باتس، ثم ينطلق الغلامان صوب أول منعطف من الطريق في سرعة هائلة
وفي لحظة واحدة تكشف أمام عينيه سر هذه المناديل والساعات والجواهر التي طالما شهد(563/26)
الصبية يقدمون بها على (فاجين) في مسكنه
ووقف برهة وقد تنزي الدم في عروقه رعباً وفزعاً، حتى أحس كما لو أن ناراً تلتهمه. ثم استدار على عقبيه في ارتباك ووهل، وراح يطلق ساقيه للريح حتى ما تكادان تلمسان الأرض، دون أن يعرف حقيقة ما يأتي أو يتبين عاقبته
جرى كل هذا في آونة قصيرة. وفي اللحظة التي بدأ فيها أوليفر يجري، كان السيد قد دس يده في جيبه فافتقد منديله. وأدار فيما حوله نظرة ثاقبة، وما إن رأى الغلام يركض في هذه السرعة حتى قر في نفسه أنه السارق فصاح بملء حنجرته: (أوقفوا اللص!) ثم انطلق خلفه مهرولاً والكتاب في يده
ولم يكن السيد وحده مثير هذه المطاردة: ذلك أن المراوغ ومستر تشارلي باتس كانا قد توقفا لدى مدخل أول بيت بعد المنحنى، كيلا يلفتا إليهما الأنظار وهما يجريان عبر الشارع العريض؛ فما إن سمعنا الصيحة وأبصرا أوليفر يجري راكضاً حتى تصورا ما حدث تماماً. فبرزا من مكمنهما في تأهب وإعجال وأقبلا يصيحان: (أوقفوا اللص) مشتركين في المطاردة كسادة كرماء ذوي أريحية. . .
ولم يكن أوليفر متأهباً لتطور الموقف على هذا الوجه، فرهب واستطير، ومضى في جرينه كالريح العاصف، ومن خلفه السيد العجوز يقفوه الغلامان، وهم يتصايحون جميعاً في صرخات تشبه الزئير
(أوقفوا اللص. . . أوقفوا اللص) شد ما يسحر الناس هذا النداء!
لقد ترك له البائع حانوته والحوذي مركبته؛ وطرح القصاب والخباز واللبان أوعيتهم التي يحملون؛ وتخلى الشيال عن حمله، والتلميذ عن دفتره، وممهد الطرق عن معوله، والطفل الصغير عن لعبته. . . وجرى أولئك جميعاً في هرج ومرج، متدافعين متصايحين؛ يصدمون السابلة عند كل منعطف طريق. . . ويهيجون الكلاب. . . ويفزعون الدواجن. . . وقد دوت الشوارع والميادين والرحبات مرددة صدى صيحاتهم: أوقفوا اللص، أوقفوا اللص. . . كانت الصيحة تنطلق من أفواه مائة، والحشد يزداد كثافة عند كل مفترق طريق، وقد ثارت الهبوات والأوحال تحت أقدامهم، وارتفع لنعالهم فوق الأرصفة خفق شديد(563/27)
وانفتحت النوافذ على مصاريعها، وهرع الناس من مساكنهم وتدفعت الغوغاء في طريقها لا تربع على شيء، وانطلق رواد مسرح (بنش) برمتهم - والرواية في أدق مواقفها - فالتحقوا بالجموع المتدفقة، وضاعفوا من صدى الصيحات المتصاعدة، وأمدوا الصرخة الرهيبة: (أوقفوا اللص!) بقوى ناشطة جديدة
أوقفوا اللص، أوقفوا اللص! يبدوا أن هنالك رغبة في (مطاردة شيء ما) متغلغلة في نفس كل إنسان! وهاهو ذا طفل بائس مبهور الأنفاس يلهث من فرط الإعياء، قد ارتسم الجزع في نظراته، وبانت سكرة الموت في عينيه، وسالت قطرات من العرق كبيرة على وجهه - يرهق كل عصب من أعصابه ويستدر كل وتر من أوتار قوته، لينجو بحياته من براثن مطارديه
ولكنهم، في تعقبهم إياه وازدلافهم نحوه في كل لحظة، كانوا يبتعثون بصياحهم مذخور نشاطه ويستنهضون بهتافاتهم مخذول قواه وهم يصيحون من خلفه في حماسة ومرح: أوقفوا اللص!
أجل أوقفوه - نستحلفكم بالله - فذلك عين العطف عليه والرحمة به
وأخيراً وقف! ويالها من لطمة بارعة! لقد انكفأ على الإفريز ساكناً لا يختلج، وأحاطت به الجموع في لهفة وتطلع؛ وكان كل قادم جديد يزاحم الآخرين ويدفعهم كيما يحظي بنظرة
(تنحوا جانباً). . . (دعوه يتنفس قليلاً). . . (هذيان! ما هو بجدير أن يشم هذا الهواء). . . (ألا أين السيد؟). . . (هاهو ذا قادم من أقصى الطريق). . . (أفسحوا الطريق يا من هنالك للسيد!) (أهذا هو الغلام يا سيدي؟) (نعم)
وكان أوليفر مطروحاً على الأرض وقد لطخه العثير والطين وانبثق الدم من فمه غزيراً. وراح يجيل عينيه فزعاً مرعوباً في كتلة الوجوه التي أحدقت به من كل صوب. وتقدم رؤساء المطاردين بالسيد شاقين له دائرة الجمع الحاشد، حتى أوقفوه في المقدمة، فعاد يقول: نعم، أخشى أن يكون هو
وهمهم الواقفون: تخشى؟ عجيب منك هذا القول. . .
وعاد السيد يقول: يا للطفل المسكين، لقد أصاب نفسه!
فقال شاب ضخم متبلد - وهو يخطو إلى الأمام قليلاً - بل أنا الذي أصبته يا سيدي، لقد(563/28)
تحطمت بناني من عظم ما ارتطمت بفمه. أنا أوقفته يا سيدي
ولمس الشاب قبعته وهو يبتسم، مترقباً الجزاء على ما تعرض له من ألم. ولكن السيد حدجه بنظرة قاسية وأدار بصره فيما حوله حيران قلقاً، كما لو كان يراود نفسه على الفرار. ولم يكن من المستبعد أن يحاول ذلك فيكلف القوم مطاردة أخرى، لولا أن قدم الشرطي في هذه اللحظة (وإنه لآخر شخص يظهر عادة في مثل هذه المناسبات) فشق طريقه بين المجتمعين وجذب أوليفر من طوقه وهو يصيح به في جفاء وغلظة: تعال. . . قم. . .!
وأطبق أوليفر راحتيه في توسل، وشرد ببصره فيما حوله وهو يقول:
لست أنا بالحقيقة يا سيدي! الحق؛ الحق أنهما غلامان آخران، وهما هنا من غير شك في مكان ما. . .
فقال رجل الشرطة: آه. . . كلا، ما من أحد هنا. . .
حاول الرجل أن يتهكم بهذا الجواب، ولكنه كان يقرر الحقيقة دون أن يعرف؛ ذلك أن المراوغ ومستر تشارلي باتس كانا قد استدارا عند أول منعطف مرا به وذهبا ناجيين
وكرر الشرطي صيحته: هيا. . . انهض! فقال السيد وقد استشعر الرأفة: لا تحاول إيذاءه
وأجاب الشرطي - وهو يقد سترة الغلام من فوق ظهره ليبرهن على صدق قوله -:
كلا لست أوذيه. أنهض! إني لأعرفك فلا تجوز عليَّ ألاعيبك. أما تنهض على قدميك بعد أيها الحرامي الصغير؟!
وجهد أوليفر في النهوض حتى استوى على قدميه، ثم اقتيد من طوقه خلال الشوارع في خطوات سريعة، وكان السيد يمشي إلى جانب الشرطي؛ أما المتفرجون فلم يغب عن أكثرهم أن يقوم بهذه المناورة البارعة: كانوا يوجفون إلى الأمام في خطوات قليلات سراع، ثم يديرون وجوههم ليحدقوا النظر إلى أوليفر بين حين وحين!
وكان الصبية يتصايحون في نشوة عارمة من الظفر والانتصار وهكذا انطلق الجميع ميممين ديوان الشرطة
(جرجا)
محمود عزت عرفة(563/29)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
547 - المسلم لا يحارب المسلم
في (مروج الذهب) للمسعودي:
الغالب في هذا البلد - آمل: دار مملكة الخزر - هم المسلمون لأنهم جند الملك، وهم يعرفون في هذا البلد باللارشية، وهم ناقلة من نحو خوارزم، وكان في قديم الزمان بعد ظهور الإسلام وقع في بلادهم جدب ووباء فانتقلوا إلى ملك الخزر. وهم ذوو بأس وشدة، وعليهم يقول ملك الخزر في حروبه، وأقاموا في بلاده على شروط بينهم:
أحدها إظهار الدين والمساجد والأذان. وثانيها أن تكون وزارة الملك فيهم، والوزير في وقتنا هذا - سنة 332 - أحمد ابن كوبه. وثالثها أنه متى كان الملك الخزر حرب مع المسلمين وقفوا في عسكره منفردين لا يحاربون أهل ملتهم، ويحاربون معه سائر الناس من الكفار
ويركب منهم مع الملك في هذا الوقت شخوص منهم سبعة آلاف ناشب بالجواشن والدروع والخوذ، ومنهم رامحة أيضاً على حسب ما في المسلمين من آلات السلاح، ولهم قضاة مسلمون
548 - تقبيل المصحف
قال عبد الوهاب السبكي صاحب (طبقات الشافعية): سمعت الوالد (تقي الدين السبكي) - رحمه الله - في درس الغزالية يقول - وقد سئل عن الدليل على تقبيل المصحف -: دليله القياس على تقبيل الحجر الأسود ويد العالم والوالد والصالح، ومن المعلوم أن المصحف أفضل منهم
549 - القصة في الكتاب فاقرأها
مرض الأعمش (سليمان بن مهران) فأبرمه الناس بالسؤال عن حاله، فكتب قصته في كتاب، وجعله عند رأسه؛ فإذا سأله أحد قال: عندك القصة فاقرأها. . .
550 - إنا قصدنا ذلك(563/31)
في (النفح): كان إبراهيم بن الفخار اليهودي قد تمكن عند الأذفنش ملك طليطلة النصراني، وصيره سفيراً بينه وبين ملوك المغرب، وكان عارفاً بالمنطق والشعر. قال إبراهيم: أدخلوني إلى بستان الخليفة المستنصر، فوجدته في غاية الحسن كأنه الجنة، ورأيت على بابه بواباً في غاية القبح. فلما سألني الوزير عن حال فرجتي قلت: رأيت الجنة إلا أني سمعت أن الجنة يكون على بابها رضوان، وهذه على بابها مالك. . . فضحك وأخبر الخليفة بما جرى، فقال: قل له: إنا قصدنا ذلك، فلو كان رضوان عليها بواباً لخشينا أن يرده عنها، ويقول له ليس هذا موضعك، ولما كان هناك مالك أدخله فيها، وهو لا يدري ما وراءه، ويخيل إليه أنها جهنم. . . فلما أعلمني الوزير بذلك قلت (الله أعلم حيث يجعل رسالاته)!(563/32)
أين الطريق؟
(إلى أبي وأمي أسوق الحديث)
للأستاذ علي شرف الدين
ملَّ الرَّحيلَ معفَّرٌ أودَى به حظٌّ الأديبِ
لم يَبْلُغ الأملَ البَعيدَ، فمالَ لليأس القريبِ
سِيَّان يا شمْسي، أنيرِي لي حَياتِيَ أوْ فَغِيبي
وخُذِي من الأفلاكُ برْحَ السَّعدِ أو بُرْجَ الخُطوب
لن تشهدي مني السرورَ على الشروق، ولا البكاءَ على الغروب
وترفَّقي كبِدِي - إذا أخْفَقتُ يوماً - أو فَذُوبي
نَفَّضْتُ كفَّى من حَياةٍ - بعد تجْريبي - كَذُوبِ
وعًدتْ، وما برَّتْ، فكانَ الوعْدُ كالبرق الخَلوبِ
وسئمتُ من ليْلَ الشَّبيبِة، وانتظرْتُ سَنَا المشيب
وتمرَّدتْ نَفْسي زماناً، ثمَّ ثابتْ من لُغُوب
مات الشُّعورُ بها، فما أنا بالحزينِ، ولا الطّروب
لا يَلْمَحُ الرائي بها سخط المُشِيحِ، ولا القَطوب
إلاً بَقايا مأتمِ في الوجْهِ يبُديه شُحوبي
أشلاءُ آمال تلوحُ كأنها صَرْعى الحُروب
وجِراحُ أنَّاتٍ تلاشتْ، واندمَلْنَ على نُدوب
ورفات آهاتِ تضمَّن قبرَها صدْر الغُيوب
وقناةُ دمعٍ، لم تزلْ بالخدِّ من عهْدِ النحيبِ
وحنين قلبِ مُلْجَم الدْقَّاتِ، مكبوحِ الوجيب
نزَّاعِ شجٍو، دونه في ناره شجوُ الغَريب
وقصيدُ عُمْرِ، داميَ الأوزانِ مجروحَ الضُّروب
سِفْرٌ من الحِكم الغوالي، هُنَّ فلسفةُ الكروب
أُمِّي، أبي، أدْعو، وعند كلِيْكما خير المجيب(563/33)
اشكو أساي، وإنها شكوى الحبيب إلى الحبيب
مَاِلي تهبُّ صَبَا الشمال علىَّ من صوْب الجنوب؟
مالي فَنيتُ، وأقفَر المخضَلُّ من قلبي الخصيب
لا البشر يدعوني، ولا أّهتز للمرحِ اللعوب
لا الكأس تُغريني، ولا البسمات من ثَغر شنيب
أصبحت رسماً حافلاً باليأس، والصمتِ الرَّهيب
وبلغت - من زهدي - الثمانين التي هدت جنوبي
أغضبتما فكبا جواديَ، أم ترى كثرت ذنوبي؟
مَنْ لي بأيام الطفولةِ في حِمى الصَّدر الرَّحيبِ
ومَلاعب الأولاد في كنفِ المنازلِ والدُّروبِ
كانتْ أرقَّ من الصَّبا، وأحبَّ من نجوَى القلوبِ
رفَّافة كالرُّوح، أو كالنُّور، أو طَيْفِ الحبيبِ
ريَّا كنُّوارِ المُروجِ يَضوع في أرَجِ وطيب
مرَّتْ ولم تتركْ سِوى جفْنٍ على الذكرى سَكوبِ
ومُتوَّج بالثَّلجِ مَرْهوبِ المغاِوِر والجُيوب
أمْلَي الشَّباب علىَّ أنْ أرقاهُ في الزمن العَصيبِ
زَمَنٌ به حِفظُ الكرامة والإباءِ من العيوبِ
فصعدت لا زادٌ سوى الأعصابِ والفُصحى العَروبِ
فتمزَّقتْ كَّفي، وأدْمَى صَخْرُه العاتي كُعوبي
والشمس تلفح جَبْهة تنفضُّ عن ماء صبيب
وأدور حولي، لا أرى غير الموامي والسهوب
وتكشفت لي مِحنَةُ الأكْفاء في البلد العجيب
فرجعت مكلومَ الفؤاد بحظِّ منشىَ سليب
وكأنما للغَمْطِ والحرمان - من أبنائها - حظُّ الأديب
علي شرف الدين(563/34)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ سيد قطب
ألا تستطيع يا أخي أن تكتب دون أن تغمز أو تلمز؟ أكلما كتبت شيئاً فأنت تفهمه أسوأ الفهم، وتؤوله أفسد التأويل؟ بعض هذا العجب وبعض تلك الكبرياء يا نابغة الزمان! وماذا تعنى بقولك إن بعض من ذكرت من الشعراء هم شعراء الوظيفة؟ أخشى أن أكون قد أضعفت جبهة شعراء الشباب بذكرك، وأن أكون بذلك قد مهدت لانتصار أستاذنا الجليل على أمثالك. . . ثم هل هذا هو الذي يجب أن نهتم له؟ ألا تعرف من هو أستاذنا الجليل! إنه رجل يستطيع أن يقضي على الجهود التي بذلتموها يا معشر الشعراء الشباب في سبيل تجديد الشعر العربي. . . وهاهو ذا قد أخذ يأتيكم من نواحيكم الضعيفة التي تجلت إحداها في كلمتك المتهافتة. . . عنك هذا الغرور إذن. . . وأقنع الأستاذ بنماذج من شعرك أو شعر غيرك لنكون إيجابيين في ردودنا. . . ولأكن قد أسأت التمثيل، وهذا ما لا يدور في خلدي أنني وقعت فيه، فلماذا لم تتول أنت الرد؟ أو لماذا لم تشترك فيه؟ لقد كان في وسعي أن أقول إن ميدان الشعر لم يقفر بعد البارودي وشوقي وحافظ، لأنه لا يزال يزخر بمطران والجارم والعقاد وشكري ومحرم، وقد يكونون خيراً ممن توفوا إلى رحمة الله. . . ولكني أثرت التباهي بكم لأن المستقبل لكم، فكيف نصل عن اللباب وتأبه بالسفساف؟ تفضل أنت فكن رائد الجيل واملأ شدقيك بما شئت؛ فإذا أصبت شيئاً من التوفيق فلن يكون أحب إلى من أن أصفق لك
دريني خشبة
إلى الناقد الأستاذ دريني خشبة
أحسست يا صديقي، من الكلمة التي نشرتها في عدد (561) من الرسالة، وعنوانها شعراء الشباب والأستاذ الجليل (ا. ع) أنه لا يطيب لك سماع رأي يخالف رأيك، سواء أكانت المخالفة كلية أو جزئية، بدليل تسميتك الكلمة البريئة التي وجهها الأستاذ (ا. ع) إلى الشعراء الشباب (حملة تأديبية)
الحق أولى، يا صديقي، أن يقال، أنه صار من اللازم اللازب أن تجرد حملات نقدية على(563/36)
الناقدين الذين يأخذون بناصر العجزة المهازيل من النظامين
فإنك تعرف يا صديقي، أن الشعر روح، وأن الحياة الشعرية التي لا تفيض بالنعمة، ولا تشيع السرور بالنفوس والفرحة بالوجود ليست بحياة. هل شعرت بشيء من ذلك حين قرأت ما نظم أكثر من ذكرت من أصدقائك شعراء الشباب؟ ليس بين معظم الشعراء الذين ذكرت من يطير بجناحين، بل فيهم من يمشي ويتسكع ولكن أكثرهم يزحف
لا فارق، يا صديقي، بين ما قلته عن شعراء الشباب أنهم (أثمن قلادة يتحلى بها جيد مصر الحديثة، والشعر المصري الحديث، وبين ما كان يقوله كتاب مقدمات الكتب قبل عشرين أو عشرة سنين
وفي ختام، أحيي باحترام الأستاذ الجليل (ا. ع) الذي أثار هذه المسألة وأطالبه المزيد، لا حباً في النقد لذاته، بل حرصاً على نقاء تاريخ أدب هذا الجيل.
حبيب الزحلاوي
شعراء الشباب
أشكر الأستاذ دريني خشبة ويشكره معي شعراء الشباب - والمتواضعون منهم خاصة - على وقوفه دونهم في كل مسألة تثار أو قضية تقام
وأقل ما يملكه شعراء الشباب له اعترافاً بالجميل وحفاظاً على الصنيع - أن يتفقوا جميعاً على الثناء عليه في مجلة (الرسالة) التي نعرف من صاحبها ومن كاتبيها الجليلين (ا. ع)، (ن) حسن النية، وشرف الأمنية للشعر العربي الحديث
ومهما يكن بين الأستاذ خشبة وبين الأستاذ الجليل (ا. ع) من خلاف فنحن الشعراء نعد من الخير لقضية الشعر المعاصر أن يكثر الناقدون له، المتبرمون به، المتكلمون فيه، حتى يمضى إلى الغاية التي يرجوها له كل غيور عليه
وأنا سعيد كل السعادة لأن الأستاذ دريني سلكني مع طائفة من الشعراء أرجو أن أسمو إلى نباهة شأنهم، على الرغم من أنه نبه شأني بذكرى في عدادهم. وهي طائفة اختص الله كل واحد منها بمزية لم تتح لغيره: - ما بين إشراق فكرة، وسريان فرحة، وحلاوة تعبير، وأصالة طبع، ورقة عاطفة، وحسن تصوير، وغزارة شعور، وصدق إحساس، وتسجيل(563/37)
لأحداث العصر ومناسباته الكبرى
وموضع التباين بين مذاهب شعرائنا اليوم هو بعينه موضع الجمال في اختلاف الأزهار التي تتألف منها الطاقة الجميلة
فلا يحق للوردة الناضرة أن تغضب، لأن البستاني الأنيق وضع بجانبها النرجسة الغضة، ولا يحق للنرجسة الغضة الفواحة أن (تتأفف)، لأن الزهار المتذوق وضع بجانبها الأقحوانة التي لا تفوح بالعبير. . . فلكل زهرة جمالها. . . حتى الزهرة المتسلقة على الجدران وكذلك لكل شاعر جماله. وعلى الأستاذ مني السلام
محمد عبد الغني حسن
الدرزي لا الطرزي
ينشر الدكتور (زكي مبارك) في جريدة المصري خواطر وهواتف مما توحي به (حياته اليومية) سمى فيها (خائط الثياب) طرزي - بدل ترزي - حاسباً أن تحريف النطق هو الذي حول الكلمة - وكثيراً ما يكون ذلك في الكلمات التي تتحد أو تتقارب مخارجها - وغاب عن الكاتب الفاضل أن الأصل والتحريف كليهما خطأ، وأن الصواب أنها (الدرزي) ودرز الثوب خياطته. وأولاد درزة السفلة والخياطون والحاكة والغوغاء. . . أما الطراز أو الطرز أو التطريز التي يراد إرجاع الكلمة إليها فبعيدة كل البعد، لأن الطراز علم الثوب والهيأة والنمط. والطرز بإسكان الراء الشكل. وفي اللسان أن أم المؤمنين (صفية) قالت لزوجات النبي: من منكن مثلي؟ أبي نبي، وعمي نبي، وزوجي نبي. . . فقالت لها عائشة رضى الله عنها: ليس هذا من طرازك. تقصد من نفسك. . . لأنه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم إياها. . .
إبراهيم علي أبو الخشب(563/38)
إن الغناء زاد الراكب
أورد الأستاذ الجليل (محمد إسعاف النشاشيبي) في العدد (555) من الرسالة تحت عنوان (إن الغناء زاد الراكب) من (نقل الأديب) هذه الفقرة:
(قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا سعيد؟ فقال: نعم العون الغناء على طاعة الله؛ يصل الرجل به رحمه ويؤاسي صديقه)
فكيف يكون الغناء عوناً على طاعة الرب، وكيف يصل الرجل به رحمه، ويؤاسي صديقه؟ وهل هذا الوصف ينطبق على الغناء بالمد، أم على الغنى بالقصر كما فهمت؟
(مكة المكرمة)
عبد العزيز الرفاعي
كتب
1 - الفلاحون
كتاب عن فلاح المصري ألفه الدكتور الأب عيروط اليسوعي، ووصف فيه مصر البلد الزراعي وحياة الفلاحين فيها وأعمالهم ومواسمهم وعاداتهم وصفاً دقيقاً صادقاً وإن جاز أحياناً. . . وقد نقل الكتاب إلى العربية الدكتور الفاضل محمد غلاب أستاذ الفلسفة بالأزهر. . . ولسنا ندري ما نقول عن هذه الترجمة التي كنا نجل صديقنا الدكتور غلاب عن وضع اسمه عليها. . . إنها ترجمة ركيكة كثيرة الأخطاء اللغوية، يميل أسلوبها إلى العامية ويجافى العربية السليمة، بله العربية الفصحى، ونأمل أن يتدارك الأستاذ غلاب هذا كله في الطبعة الثانية
2 - روح التربية والتعليم
الأستاذ محمد عطية الأبراشي من خيرة المشتغلين بالتربية علماً وعملاً في مصر، وهو رجل منتج، وإنتاجه مثمر قيم دائماً، وقد ألف، أو اشترك في تأليف كتب كثيرة في التربية وعلم النفس وفي اللغة العبرية، وهو يؤلف للكبار وللصغار على السواء، وقد انتفع بكتبه التي ألفها للصغار آلاف التلاميذ في مصر وفي الشرق العربي، وكتبه التي ألفها للكبار لا(563/39)
تقل عن كتبه الأخرى انتشاراً وذيوعاً. وكتابه - روح التربية والتعليم - هو من خيرة الكتب في موضوعه وقد كسره على أربعة عشر فصلاً، يصلح كل فصل منها أن يكون كتاباً مستقلاً؛ فهو يتناول الطفل والمدرسة والمنزل ولعب الأطفال والمدرسين وإعداد الدروس ومهمة المدرس الحديث، وكيفية تدريس المواد المختلفة والعيوب الشائعة في التدريس وآفة الامتحانات ومصيبة مدرسينا في قلة اطلاعهم. . . الخ؛ ولعل هذا الشمول وحده هو نقطة نقدنا لهذا الكتاب القيم، إذ لو صدر في أربعة أجزاء مثلاً مستقلة بعضها عن بعض لأمكن أن تنتفع به طوائف مختلفة ممن يهمهم تنشئة الطفل والعناية به سواء في ذلك رجال التربية والآباء والأمهات. على أن من الصعب جداً في هذه اللمحة الخاطفة عن الكتاب الإحاطة بحسناته، وإن أقحمت بينها في الوقت نفسه بحوث كان الأفضل أن تستقل بكتاب خاص. . . مثل ذلك ما جاء في الكتاب عن تاريخ التربية عند بعض الأمم التي لا تربطها بمصر رابطة تربيوية تاريخية، كالصين مثلاً. . . مع غض النظر عن التربية في فرنسا التي تنغمس في تقليدها إلى أذقاننا
وبعد فالمدرس أو رجل التربية الذي يهمل قراءة هذا الكتاب ومناقشة آرائه يخسر ولا شك خسارة ذهنية
3 - حدائق الأمثال العامية
هذا كتاب من أمتع الكتب التي توفرت على تأليفها السيدة فائقة حسين راغب، وقد جمعت في جزأيه الأول والثاني الأمثال العامية الشائعة في مصر، والمناسبة التي يضرب كل منها فيها، ثم المثل العربي أو بيت الشعر الذي يطابق المثل العامي روحاً ومعنى. وقد دل الكتاب على ما لقيت مؤلفته الفاضلة من عناء وجهد، كما دل على اطلاع واسع وذوق دقيق وملاحظة عميقة. وسينتفع بحدائق الأمثال العامية العلماء المشتغلون بعلم الأساطير والأمثال الشعبية أو ما يسمى علم (الفولكلور). والرسالة تهنئ السيدة الفاضلة بهذا السفر النفيس وترجو أن يقدره عارفو فضلها
4 - من ميونخ إلى وارسو
هذا كتاب أذاع فصوله من فلسطين أحد أشبال أسرة النشاشيبي، بيت العلم والأدب في(563/40)
القطر الشقيق، وتتناول موضوعات الكتاب أدق سنة في تاريخ الإنسانية. السنة التي سبقت الحرب المشئومة الحاضرة. السنة التي سبقت العاصفة واضطرب فيها الجو الدولي، وتتابعت الحوادث الجسام التي أدت إلى كارثة بولندة، ثم إلى كارثة الدنيا بأجمعها من بعد. . . لقد كما ننتظر أحاديث الأستاذ أنور النشاشيبي المذاعة من فلسطين لنسير معه في دورة الفلك ولنتحسس يد المقادير متى تبطش بهذا الكوكب السيئ الطالع. واليوم، وهذه الأحاديث مجموعة في كتاب مطبوع، وبعد إذ أوشكت الحرب أن تضع أوزارها، نرى من واجب المؤرخ ألا ينسى سجله الأول من مؤلف الأستاذ أنور النشاشيبي، هذا المؤلف لشامل الذي حققت الحرب الحالية كثيراً جداً مما هب إليه من آراء.
(د. خ)
جريدة الإصلاح في عامها الثامن
دخلت زميلتنا الإصلاح في عامها الثامن وهي على عهدها المعهود من اطراد الرقى وسمو التحرير ونبل الغاية، وستصدر في خلال هذا الشهر لهذه المناسبة عدداً خاصاً محلي بصور أبناء الدقهلية البررة البارزين من الأدباء والشعراء والفنانين لتكون صلة تعارف بينهم وأداة تعريف بهم. وسيشترك في تحريره صفوة من كبار الكتاب
استدراك
سقط من المقال الذي نشر في العدد 562 من الرسالة عن كتاب (آراء وأحاديث في التربية والتعليم - للأستاذ ساطع الحصري) اسم الرسالة التي نشرتها الحكومة البريطانية سنة 1934 بعنوان:
عبد الغني(563/41)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/42)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/43)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/44)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/45)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/46)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/47)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/48)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/49)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/50)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(563/51)
العدد 564 - بتاريخ: 24 - 04 - 1944(/)
الفن والإصلاح
للأستاذ توفيق الحكيم
لم يزل موضوع الأدب العربي ومستقبله في حاجة إلى كلام، على الرغم من الأدلة القوية التي ساقها أخي أحمد أمين بك في رده على كلمتي السابقة. وأخشى أن يتبادر إلى الذهن أننا نتجادل في قضية لنا فيها مصلحة. فالواقع المعروف أن أكثر مؤلفات أحمد أمين مثل (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) و (قصة الفلسفة) الخ. بعيدة في الاتجاه القومي أو الاجتماعي الذي يرجوه لأدبنا العربي؛ كما أن بعض كتبي مثل (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) قد رمت بالفعل إلى هذا الهدف منذ زمن. فالقصة الأولى (عندما نشرت بالفرنسية في باريس عام 1937) كتب عنها ناقد يقول: (لو كان بريس حياً واطلع عليها لنعتها بقصة النشاط القومي). كما أن الكتاب الآخر يرمي كما هو معلوم إلى نقد المجتمع الريفي بحكامه ومحكوميه؛ فأنا إذن أقرب إلى تلك الدعوة ولي في نجاحها مصلحة أكثر مما لصديقي أحمد أمين. ولكن العقيدة الأدبية والإيمان الفني أقوى فيما يبدو عند كل منا وأرفع من المصالح الخاصة والغايات الشخصية. فمنا قشتنا اليوم تقوم في جوهرها إذن على الرغبة المجردة في الوصول إلى غرض واحد: هو كيف نبلغ بأدبنا العربي الكمال؟ الغاية واحدة ولا ريب ولكن السبل مختلفة؛ فأحمد أمين يرى أن أدبنا لن يصل إلى مرتبة الآداب الأوربية إلا إذا خاض مثلها في طريق الحياة العامة، فنقد الفاسد من أوضاع المجتمع، وقوم المعوج واقترح وسائل الإصلاح، ونادى بالنافع من العلاج، والمستحدث من النظم. وكان له من أعلامه قادة للرأي العام يبصرونه بمواقع خطاه في طريق التقدم الاجتماعي. واتخذ من أناتولل فرانس وبرنارد شو وتولستوي مثلاً يحتذي
وهنا يجدر بنا أن نسأل: هل من الحق أن الأدب الأوربي بلغ مبلغه هذا بفضل نزوله معترك الحركات الإصلاحية، أو بفضل قيمته الفنية ومزاياه الأدبية؟ وهل نزعات الإصلاح الاجتماعي هي اللون الغالب في الآثار الأوربية، أو إنها لون ليس بالغالب حتى في آثار المؤلف الواحد؟
الذي أعلمه هو أن أناتول فرانس أديب، وأن برنارد شو مؤلف مسرحي، وأن تولستوي قصصي. وتلك هي صفاتهم التي تؤخذ على سبيل الجد. أما ميول فرانس وشو الاشتراكية(564/1)
ونزعات تولستوي الإصلاحية، فهي نواحي ينظر إليها تارة بغير احتفال، وتارة أخرى على أنها توابع أو ظواهر ودلائل قد تفسر على ضوئها بعض أعمالهم الأدبية وآثارهم الفنية
إن الآداب الأوربية لم تحترم يوماً فناً أو أدبياً لأنه مصلح؛ ولكنها قد تحترم المصلح إذا كان أدبياً أو فناناً. ولعل أبرز مثل لذلك هو (إبسن)؛ فقد هزته أحداث بلاده السياسية والاجتماعية فكتب تمثيليات مفعمة بروح الإصلاح مثل (براند) و (عدو الشعب) و (بيت العروس) الخ. ومات إبسن وتغير مجتمعه ونظر الناس في أعماله. . . وكاد يهزأ النقد به وبآرائه في السياسة والمجتمع، لولا فنه. وهكذا مات المصلح في إبسن وبقى الفنان
نحن الشرقيين تبهر عيوننا دائماً كلمة (مصلح) بقدر ما نستهين بكلمة (فنان). وإني لا أنسى دهشي يوم قرأت في مجلة (ماريان) الباريسية نقداً للطبعة الفرنسية من (يوميات نائب في الأرياف) للناقد المعروف (رامون فرنانديز) يقول فيه: (إن القارئ لهذا الكتاب ينسى في أغلب الأحيان المقاصد الإصلاحية التي حركت المؤلف لوضع كتابه، بل إن القارئ يتمنى ألا يتغير شيء في عالم هذه المخلوقات الإنسانية) صدمني هذا القول لأني كنت أعتقد أن مقاصد الإصلاح لها الاعتبار الأول في مثل هذا النوع من الكتب، وأن صفة المصلح هي التي يجب أن توضع موضع التقدير
لقد تحدث الأستاذ أحمد أمين في أكثر من موضع عن الروايات الغرامية وعرامة الحب بما ينم عن الازدراء. . . فذكرني ذلك من فوري برواية شكسبير (روميو وجولييت)؛ وقلت في نفسي: هاهي ذي قصة ليس فيها إصلاح لمجتمع ولا نهوض بشعب، وكل ما فيها عرامة الحب. ومع ذلك فقد خلدتها الإنسانية حيث طرحت ومزقت كثيراً من صفحات المصلحين وكتابات الهادين والمرشدين. إن الإنسانية لأدرى بما يسرها وأعلم بما يسعدها مني أنا ومن أخي أحمد أمين. كم من المؤلفات المملوءة بالإرشاد والإصلاح قد نشرت وظهرت ولم تحتفظ بها ذاكرة الزمان. . . ولكنها احتفظت بقصة غرام وقصيدة غزل ورواية حب عارم. . . وإذا كان حقاً أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، فماذا نقول في بقاء (روميو وجولييت) وفناء الكثير من القصص الإنكليزي الذي قصد به إصلاح المجتمع؟ بل ماذا نقول في خلود قصة (غادة الكامليا) لدوماس الصغير(564/2)
وموت أكثر رواياته الأخرى التي عالج فيها موضوعات اجتماعية كلها جد وحسن قصد. . .
كلا. . . لا ينبغي أن نملي على الفن اتجاهاً بعينه. ولا يجوز لنا أن نوصيه بارتداء لباس الحكمة الرزينة أو رداء الإصلاح الوقور. . . إلا أن يشاء هو ويرضى. . . لأننا إذا أرغمناه سخر منا وجعل من أردية رزانتنا ووقارنا أثواب مساخر، وقلب بسحره أثواب الهزل خلوداً تنحني أمامه الجباه على الرغم منا. لقد أصاب (أندريه جيد) إذ قال إن الفن لا ينبغي له أن يثبت شيئاً ولا أن ينفى شيئاً. إن الفن العالي ليس أداة للجدل. إنما هو شيء كالسحر ينفذ إلى النفوس فيحدث فيها أشياء. إن الفنان ليس مصلحاً ولكنه هو صانع المصلح. كل أولئك المصلحين من ملوك وزعماء وساسة ما كونهم وهيأهم لرسالات الإصلاح غير أدب الأدباء وشعر الشعراء وفن الفنانين. إن الفنان هو مصلح المصلح ولا شيء غير ذلك. أما أن ينزل الفنان بفنه إلى الميدان يناقش ويدافع ويهاجم وينافح. . . فهذا ما لم نره حتى الآن في فن استحق البقاء في أي أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات. من الحق أن بعض أهل الفكر والفن قادوا الرأي العام في بلادهم وبلاد العالم، ولكنهم كانوا في الواقع يفعلون ذلك باعتبارهم شخصيات عظيمة مفكرة من واجبها أن تبدى آراءها في المسائل الكبرى. لا باعتبارهم فنانين يقحمون فنهم في ميادين الشئون اليومية. لطالما تحدث الشاعر (فاليري) عن المشكلات الإنسانية التي تمس المجتمع العالمي الحاضر، ولكن هل رأيناه وضع ذلك في قصيدة واحدة من قصائد؟ إن قيادة الرأي العام واجبة على الأديب. ولا ينسى أحمد أمين ندائي إلى الأدباء أن يتسلموا القيادة الروحية والفكرية في أول هذه الحرب وما لم قام حول هذا النداء من جدل؛ ولكن الذي أراه خطراً على الأدب هو قهر الأديب على أن يتجه اتجاهاً بعينه في صميم فنه. وحسبنا أن نتأمل حال الأدب في البلاد الدكتاتورية التي كبلت وحي الأدباء بالقيود فلم تخرج من قلوبهم إلا كتابات مفتعلة تفوح برائحة واحدة كأنها خارجة من مطبخ واحد. إن الفن هو الحرية. حرية الفكر والشعور. ولا منبع له إلا فكر الفنان وقلبه. هما وحدهما الهاديان له. إن الوعي الفردي هو روح الفن. فإذا أردنا إبادة الفن واستئصاله من الأرض فلنقتل فيه ذلك الوعي الفردي. ولقد أصاب صديق الطرفين الكاتب الكبير العقاد إذ قال في تعليقه على مناقشاتنا هذه: (إن اتجاه(564/3)
التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية). وهذا حق؛ إذ الفردية هي عنوان الكرامة الإنسانية. هي شعور الإنسان بقيمة فكره وإحساسه لا بفكر الجماعة وإحساسها. إن الحيوان لا يفكر بفكره ولا يحس بإحساسه. إنما هو يفكر ويحس بغريزة الجماعة كلها والنوع كله. ولن يرقي الحيوان إلى مرتبة الإنسان إلا إذا استقل في تفكيره وإحساسه. إن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعل الحيوان حيواناً، والفردية أي الحرية هي التي جعلت الإنسان إنساناً. على أنه لا ينبغي الخلط بين الفردية والأنانية. فإني حينما قلت إن (الفنان الذي لا يقول أنا ليس بفنان، كما أن العالم إذا قال أنا ليس بعالم). إنما قصدت إلى المعنى الفني لا المعنى الخلقي. قصدت أن الفنان هو الذي يقول (إن الطبيعة جميلة لأني أراها جميلة). أما العالم فلا ينبغي له أن يقول ذلك. ولكن عليه أن يقول: (الطبيعة جميلة أو قبيحة، ساكنة أو متحركة، لأن البحث والتحليل والبرهان والدليل تؤدى إلى هذه النتيجة). الفنان هو الذي يكشف عن الطبيعة من خلال نفسه. والعالم هو الذي يكشف عن الطبيعة من خلال المجهر. وكلاهما يكمل الآخر في بناء المعارف الإنسانية. ولا ينبغي لأحدهما أن يلجأ إلى وسائل الآخر في استجلاء الحقائق واستكناه الطبائع. إن الفن مصدره الشخص، والعلم مصدره الموضوع. الفن شخصي والعلم موضوعي. الفن يقول (أنا) أي (نفسي)؛ والعلم يقول (هو) أي (الشيء).
أما أن يخدم الفنان والعالم أمته وقومه فهذا واقع بالبداهة والضرورة، لأن آثار الفن والعلم لا تبقى ولا يمكن أن تبقى إلا إذا رأى الناس في بقائها منفعة. فلا ينبغي أن نقول للفنان والعالم: (اصنعا شيئاً نافعاً للناس) بل يجب أن نقول لهما فقط: (اصنعا فناً وعلماً).
وبعد فأراني قد أثقلت على القراءة وعلى أخي الجليل أحمد أمين بك، وإني لأشكره إذ أتاح لي هذه الثرثرة التي تريح النفس أحياناً، كما أحمد له ويحمد له القراء هذه الموضوعات التي يقع عليها بعين بصيرته النافذة ويعالجها بما عرف عنه من إشراق ذهني ينير للناس غوامض الأشياء. وله من أخيه المعجب بفكره وأدبه أخلص التحية.(564/4)
نونية أبي تمام في رثاء ولده
لأستاذ جليل
للدكتور محمد صبري أن يرى في مقالته (الحكم على الشعر وأساليب النقد والتحليل) في الرسالة الغراء (561) أن نونية أبي تمام في رثاء ولده قد فاتت رائيته في محمد بن حميد الطوسي التي يقول فيها:
فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ... ولكن كبرا أن يقال به كبر
وللأستاذ عبد الرحمن شكري أن يستعجب في إحدى مقالاته في الرسالة كيف أن حبيباً - وهو في رثاء ما هو - لم يجد في النونية إجادة ابن الرومي في الدالية رثى بها ولده. غير أن تلك القصيدة فائقة كانت أو مقاربة ليست لأبي تمام وإن جاءت في ديوانه المطبوع وفي المخطوط في دار الكتب المصرية (عمرها الله)؛ فإن أبا بكر الصولي يقول في مصنفه (كتاب الأوراق) في سيرة (أبي محمد القاسم بن يوسف): (وقال - يعني القاسم هذا - يرثي ابنه أبا علي محمداً) وأورد القصيدة بتمامها، وروى بعدها دالية للقاسم في رثاء ابنه محمد وبنين آخرين له تجانسها كل المجانسة. والصولي هو المشغوف بحبيب. وهو صاحب أخباره وجامع أشعاره فيستبعد أن يأخذ منه ليعطى غيره كما يستبعد أن يضل في الرواية، وهو الراوية العظيم. وما حدثتنا (أخبار أبي تمام) له ولا (هبة الأيام) للبديعي ولا مؤلفات كتبت سيرة حبيب أن له ابناً، كنيته أبو على، فجع به فرثاه بشيء، ولا أن له ابنا اسمه محمد درج وأخوة لأبي تمام في عام واحد فبكاهم بمقطوعة (أربعة أبيات فقط) ختامها:
تتابع في عام بِنىَّ واخوتي ... فأصبحت إن لم يخلف الله مفرداً
ولا نعرف لحبيب ولداً إلا (تماما) ذكره الأنباري في (نزهة الألباء) في سيرة أبيه، والصولي في كتابه (أخبار أبي تمام) وأورد له هذه الحكاية: (لما ولى محمد بن طاهر خراسان دخل الناس لتهنئته، فكان فهم تمام بن أبي تمام الطائي فأنشده (وروى الصولي ثلاثة أبيات ركيكات) فاستضعفت الجماعة شعره، وقالوا: يا بعد ما بينه وبين أبيه! فقال محمد لعبد الله ابن اسحاق، وكان يعرفه الناس وهو على أمره: قل لبعض شعرائنا أجبه، فغمز رجلاً في المجلس، فأقبل على تمام فقال وروي ثلاثة أبيات ثالثها:
فهاك إن شئت بها مدحة ... مثل الذي أعطيت أعطاكا(564/5)
فقال تمام: أعز الله الأمير! إن الشعر بالشعر رياء؛ فاجعل بينهما رضخاً من دراهم حتى يحل لي ولك. فضحك محمد وقال: إن لم يكن معه شعر أبيه فمعه ظرف أبيه. أعطوه ثلاثة آلاف درهم. فقال عبد الله بن إسحاق: ولقول أبيه في الأمير عبد الله ابن طاهر:
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت: كلا ولكن مطلع الجود
ثلاثة آلاف أخرى، قال: ويعطي ذلك)
وأما صاحب النونية التي وهبها الوراقون أو غير الوراقين لغنى، عنده قناطير - هو القاسم بن يوسف بن القاسم بن صبيح القبطي، وهو أخاه أحمد بن يوسف وزير المأمون. قال الصولي: (لما ولى أخاه القاسم خراج السواد، فجباه فضلاً مما جباه غيره في سائر أيام المأمون، وكان أحمد بن يوسف إذا عرض على المأمون النفقات قال: يا أحمد، القاسم يجمع، ونحن نفرق. . .)
وقد اشتهر القاسم بمدح البهائم (أعنى الحيوانات) ومراثيها. قال المرزباني في (معجم الشعراء): القاسم شاعر، حسن الافتنان في القول، وهو أشعر من أخيه أحمد وأكثر شعراً، وهو أرثى الناس للبهائم
وقال أبو الفرج في الأغاني في أخبار أخيه أحمد: شاعر مليح الشعر، وكان قد جعل وكده في مدح البهائم ومراثيها، فاستغرق أكثر شعره
وقال الصولي في كتاب الأوراق: القاسم أسن من أحمد، وأحسن شعراً منه، وأفصح في شعره، وأشعر في فنه الذي أعجبه من مراثي البهائم - من جميع المحدثين حتى إنه لرأس فيه، متقدم جميع من نحاه، وما ينبغي أن يسقط شيء من شعره، لأنه كله مختار، وللناس فيه فائدة) ثم روى له طائفة كبيرة من مراثيه في الجماعة. . .(564/6)
رأى الأستاذ توحيد السلحدار
في كتابي: (الوعي القومي) و (دراسات عن مقدمة ابن
خلدون)
أهدي أحد الفضلاء في لبنان هذين الكتابين القيمين إلى صديقنا
الأستاذ الكبير محمد توحيد السلحدار، فلما قرأهما كتب إليه
كتاباً جاء فيه:
ذكرت في بعض ما كتبت (للرسالة) أن من أصحاب الفكر والذوق للمعاني من قال: إن الثقافة وعي أطراف صالحة من أثمار العقول، العلمية والفنية والأدبية، بها يلتفت المثقف إلى المبادئ والأسباب والقوانين، ويرشد قومه إلى الأصلح لحالهم، والأنقع لترقيتهم، والأخلق بالإنسانية
وكتاب (الوعي القومي) لبادعه الفاضل، الدكتور قسطنطين ذريق، أستاذ تاريخ الشرق بالجامعة الأمريكية في بيروت، ثمرة شهية من أثمار الثقافة الجدية، ومثال رائع يتجلى فيه معناها
هو كتاب يبين حال الشرق العربي الحاضرة بعجرها وبجرها، ويعرف وسائل التخلص منها، ويهديه - إذا هو أراد أن يهتدي - سبل الأهداف والمثل العليا والحياة بين الأحياء، وبحثه على سلوكها
ولقد جمعت أجزاءه ووحدت توجيهاته الحكيمة فكرته الأساسية مركزة في عنوانه المحكم البليغ، مرفرفة على كلامه السهل الممتنع الرفيع من أول البحث إلى آخره، حيث هدأ القلم، وحيث تفجرت من سنه حرارة وطنية وعاطفة إنسانية
قواه صاحبه بروحه العلمي ووضوح حجته، وجمله بنور بصيرته وبراعته الكتابية الفنية وبكياسته في التمهيد للنقد وبيان العلل، ولطف مدخله في النصيحة. وقد شف كلامه عن عمق إيمانه بحقائق دعوته، وحبه البين لأثمار العقول، حبا يكسب تلك الثقافة التي وصف، وكلما أحرزنا حظاً منها تكشفت لنا الأهداف القومية والمثل العليا التي لم يتورط في(564/7)
تعريفها الآن، لحكمة لم يرد بعض النقاد أن يدركها
أضف إلى ذلك فضل أخلاقه الكريمة من عفة لسانه في صراحته، ومن نزاهته عن التعصب والتحزب، وصدقه وإخلاصه في الدعوة للوعي القومي، وكرامته وتواضعه تواضعاً يهبه العلم والأدب والتربية
استقصي واستوعب، وشخص الداء ووصف الدواء، شارحاً دعوته في إيجاز نير، حتى يرى من لا يرى، ويعلم من لم يعلم، ويفهم من لم يفهم، ويعمل من لا يعمل على مصلحة قومه
(في الوعي القومي) آية للزمان ومدعاة إلى الاطمئنان على مستقبل نتمناه، سواء أكان بعيداً كل البعد أم قريباً كل القرب
من أجل ذلك كله قد لا أكون مبالغاً إذا أنا زعمت أن هذا الصنيع الأساسي النفيس، المبتكر بوحدته ومميزاته ومرماه وظهوره في الشرق العربي في إبان الحاجة إليه، هو أجل كتاب بين الكتب العربية التي وضعت منذ أطفأ الدهر نور هذا الشرق
أما الأستاذ الكبير، ساطع بك الحصري، فقد أبدع كذلك في (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) إذ جاءت مصداقاً لتقريره (أن الطرافة في الدراسات لا تتأنى من جدة الموضوع وحده، بل قد تتولد من طرافة الطريقة والاتجاه أيضاً)، فإنه خدم قومه باتجاهه العلمي، وعرف الأصول التي اهتدى بنورها في دراسة المقدمة، وكان البادئ في العربية بدراستها على الطريقة العلمية فيما أعلم
ذكر، مثلاً، أن كل عالم ومفكر يشاطر بوجه عام معاصريه أكثر أخطائهم، ولذا فإن منزلته (لا تتعين بملاحظة جميع الآراء الصائبة والخاطئة المنبثة في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، بل تتقرر بملاحظة الآراء المبتكرة التي يسمو بها على معاصريه، والحقائق الجديدة التي يضيفها إلى المكتسبات الفكرية البشرية، والخدمات التي يقوم بها بهذه الصورة في سبيل تقدم الأفكار والعلوم)؛ وعرف طرائق النقد الداخلي والنقد الخارجي والنقد التفسيري؛ ولاحظ أن مباحث المقدمة قسمان: (المباحث الأساسية. . . تحوم حول علم العمران وأسس التاريخ مباشرة)، و (المباحث الاستطرادية التي تأتي تمهيداً للأبحاث الأصلية أو إتماماً لها)؛ وأن عمل ابن خلدون في هذه (لا يتعدى حدود النقل والجمع، والعرض والتلخيص،(564/8)
والترجيح والتسجيل؛ أما تلك فتظهر فيها قدرته الابتكارية وعبقريته الحقيقية)
وضع الأستاذ (أبو خلدون) دراساته على أصول الطريقة التي ذكر أسسها في شرح نظراته في آراء ابن خلدون ونظرياته. فنبه، مثلاً، إلى أن صاحب المقدمة استعمل كلمة العصبية (لغير معناها في المعاجم والاستعمالات الحالية)؛ واستعمل كلمة العرب (بمعنى البدو الأعراب)، فأدى ذلك إلى (أخطاء عظيمة) في فهم مقاصده، وأظهره (بمظهر التحامل على العرب، وحمل بعض الشعوبيين على الاستشهاد به، كما دفع بعض القوميين إلى الهجوم عليه)
وكشف الأستاذ المفضال خطأ الذين (ظنوا أن ابن خلدون يعزو أهمية كبيرة إلى البيئة الجغرافية، كما زعموا أنه يعتبر الدين أهم عوامل الاجتماع)؛ وأيد بالبحث والموازنة أن ابن خلدون أحق من الغربيين (باسم مؤسس فلسفة التاريخ أو علم التاريخ) و (بلقب مؤسس علم الاجتماع)؛ وأظهر مكانة هذا العالم العربي في نظر علماء الغرب
جمع المؤلف التحرير أشتات كل رأي لابن خلدون من أبواب المقدمة وفصولها بعد أن نظر في الفصول المنسية في الطبعات المصرية والبيروتية للمقدمة، وهي موجودة في الترجمتين التركية والفرنسية المطبوعة في باريس؛ وقابل هذه الآراء والمبتكر منها بما سبقها وبما جاء بعدها من آراء تتعلق بفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، وعين ابتكارات ابن خلدون وبين (كنه نظريته في العصبية، وآراءه الأساسية في الحياة الاجتماعية البدوية والحضرية)؛ فجاءت نظرته في المقدمة نظرة ناقد مثقف بصير
ألا إن فضل ساطع بك الحصري هو، على الخصوص، في الطريقة العلمية التي اتبعها في دراساته، وفي اتجاهه وأسلوبه الفني في الإحياء الثقافي، وفي قدرته على القيام بهذا العمل الدقيق النافع الذي توخاه، وصنيعه النفيس دليل على تقديره وإجلاله لتراثنا العربي العظيم، وعلى تحقيقه النظر فيه واجتهاده في تفهيمنا إياه ونحن في حاجة ماسة، ليست تنتهي في زمن قريب المدى، إلى مثل هذا النوع من الكتابة والتأليف. وذلك وجه من أوجه الإحياء الذي يدعو إليه (الوعي القومي) لإيقاظنا من سباتنا العميق.
محمد توحيد السلحدار(564/9)
شعر ناجي
للأستاذ دريني خشبة
لا يلبث الإنسان حين يقرأ شعر ناجى أن يستمع إلى نبضات قلب كبير، ولا يلبث حين يفتح ديوانه أن يرى حوله جنات معروشات كلهن ألوان وكلهن صور وكلهن حياة، وفيهن جمال وفيهن حب دعة؛ وبين أولئك جميعاً قلب ناجي الفنان ينبض ويلون ويبتسم، وينبت في فردوسه الأعاجيب
وقلب ناجي هو باب شعره العذب، بل هو معينه الذي لا ينضب. . . وقليل من الشعراء من يودعون شعرهم قلوبهم، وقليل منهم من تحس أن لهم قلوباً تقول هذا الشعر المنمق الذي ينظمون أو تدين به. . . لأنهم ينظمون الشعر صنعة ولا يهزجون به طبيعة، والشعر إن لم يكن في الدم فلن يكون في الألسن إلا كما يكون الصفير في فم الببغاء
وقلب ناجي قلب وادع تبغ في الحب، وفاض بالرحمة، ومسه الألم، وانطبعت في صفحته الحياة بصورها المختلفة. فالحب والرحمة والألم تفيض صوراً حية في شعر ناجي، والعجيب أنه أكثر شعرائنا ترديداً لقلبه في شعره، حتى ليوشك أن يذكره في كل قصائده، ولعله لا يعلم ذلك، بل لعله لم يعرفه إلا الآن، لأنه لا يتعمد شيئاً في شعره، إذ كل هذا الشعر أو أكثره غناء ردده ذلك القلب، وهتف به ذاك اللسان، ودونه هذا القلم. وأعجب من ذلك كله أن الصداقة بين ناجي وبين قلبه قد أنتجت لنا تلك الصور الخالدة في وصف هذا القلب الوادع. فحب ناجي:
يشهد الليل عليه والنهارْ ... والشهيد المتواري في الضلوعْ
وناجي:
يشرب من روعة السماء ... شعراً ويسقى الفؤاد وحياً
ويقول مناجياً:
وحرقت قلبي من سنا ... ك على جمال يضطرمْ
كفراشة حامت علي ... ك وأي قلب لم يُحمْ!
ويذكر قلبه وهو يصف مغرب الشمس عند شاطئ البحر فيقول:
نقول: هل الشمس قد خضِّبته ... وخلت به دمها المهْرَقا(564/10)
أم الغرب كالقلب، دامي الجراح ... له طلبة عز أن تُلحقا
لنا الله من صورة في الضمير ... يراها الفتى كلما أطرقا
يرى صورة الجرح طيّ الفؤا ... د مازال ملتهباً محرقاً!
ويخاطب حبيبه ساعة الغروب فيقول:
قد جعلت النسيم زاداً لروحي ... وشربت الظلال والأضواَء
مَرِّ بي عطرها فأسكر نفسي ... وسرى في جوانحي كيف شاَء
نشوة لم تطل، صحا القلب منها ... مثل ما كان أو أشد عناء!
ويناجي حبيبه الهاجر قائلاً:
أيُحرَم حتى وهم حبك من رمي ... بمهجته في ناره دون إحجامِ
وأنفق فيه قلبه وشبابه ... فلم يبق إلا الجرح والشفق الدامي
ومن عجب أحنو على السهم غائراً ... ويسألني قلبي: متى يرجع الرامي؟
وأسرى بوهمه ينشد الآمال فلم يصحب إلا قلبه، فهو يقول:
انفردنا، أنا والقلب عشيِّا ... ننسج الآمال والنجوى سويِّا
فركبنا الوهم، نبغي دارها ... وطوينا الدهر والعالم طيَّا
فبلغناها، وهلَّلنا لها ... ونزلنا الخلد فيناناً نَديِّا
ولقينا الحسن غضِّا والصبا ... وتملِّينا الجلال الأبديا
قال لي القلب: أحقاً ما بلغنا؟ ... كيف نام القدر الساهر عنا؟
أتراها خدعة حاقت بنا؟ ... أتراها ظنِّة مما ظننِّا؟
قلت لا تجزع فكم من منزل ... عَزَّ حتى صار فوق المتمني
أذن الله به بعد النوى ... فثوينا، واسترحنا، وأمنا!
وينتظر حبيبه مرة في ظلام وريح وبرد فيصف هذا ويشرك في الوصف قلبه قائلاً:
ولما لم تفز بلقاك عيني ... لمحتك آتياً بضمير قلبي
فأسمع وقع أقدام دوان ... وأنصت مصغياً لحفيف ثوب
وأخلق مثلما أهوى خيالاً ... وأستدني الأماني والحبيبا
وأبدع مثلما أهوى حديثاً ... لناء صار من قلبي قريبا(564/11)
أمد يديّ في لهف إليه ... أشاكيه بمحتبس الدموع
فيسبقني إلى لقياه قلبي ... وثوباً. . . ثم يبرد في ضلوعي. . .
ويزكيه حبه ويطهره، ويدنيه من منازل الملائكة:
سموت كأنما أمضي ... إلى رب يُناديني
فلا قلبي من الأرض ... ولا جسدي من الطين!
ويقول وقد نعم بلقاء:
نحن أرواح حيارى افترقت ... ثم عادت فتلاقت في شجاها
سوف ينسى القلب إلا ساعة ... من رضاً في وكرك الحاني قضاها
هتف القلب وقد حدثني ... أي ماض كشفت لي شفتاها
همست في خاطري فاستيقظت ... روحيَ الحيرى وأصغت لنداها
فأنا إن لم أكن توأمها ... فكأني كنت في الغيب أخاها
نحن أرواح حيارى ثملت ... وانتشت سكرى على لحن أساها
ويقول معاتباً على طول الهجر:
لقد أسرفت فيه وجُرْتِ حتى ... على الرمق الذي أبقيتِ فينا
كأن قلوبنا خلقت لأمرٍ ... فمذ أبصرن من نهوى نسينا
شُغلن عن الحياة ونمن عنها ... وبتن بمن نحب موكلينا (!)
فإن ملئت عروق من دماء ... فإنا قد ملأناها حنينا
وتؤلمه الوحدة فيقول:
تلفت القلب مطعوناً لوحدته ... وأين وحدته؟ باتت كما باتا
حتى إذا لم يجد ريّا ولا شبعا ... أفضى إلى الأمل المعطوب فاقتاتا
ومن شعره وهو يافع:
عجباً لقلب هيض منكَ جناحُه ... وجرى به نصل الندامة بذبح
ومضى الحِمام يدب فيه، فإن جرت ... ذكراك طار إليك وهو مجُنَّح
لهفي على الناقوس بين جوانحي ... وعلى بقية هيكل لا تصلح!
وهكذا نسرف هذا الإسراف في عرض تلك النماذج العالية من أشعار ناجي في القلب(564/12)
عامدين. . . لأننا مهما قصدنا في إطراء هذا القلب النابض الذي أبدع لنا ذلك الشعر دون أن نعرض تلك النماذج القليلة، فربما ظن ظان أننا نغلو فيما يذهب إليه من أحكام. . .
والعظيم في هذا الشعر أن أكثره مما سبق إليه ناجي وابتدعه ابتداعاً. . . فالشهيد المتواري في الضلوع، والقلب الذي يحرقه الشاعر من سنا حبيبه على جماله المضطرم، فهو كالفراشة تحو إلى هذا الحبيب؛ وهذه الشمس الغاربة في اليم بين السحب شبه الجرح في القلب الوامق؛ ثم هذا البيت الفريد:
ومن عجب أحنو على السّهم غائراً ... ويسألني قلبي متى يرجع الرامي!
هو ما يعدل ألف بيت من جيد الشعر عند من يقدرون الشعر؛ ثم هنا المحب الذي ينتظر حبيبه فيلمحه آتياً بضمير قلبه؛ ثم هذا الأحاديث التي يتحدثها القلب، ثم هذا القلب الذي يسبق صاحبه للقاء الحبيب:
أمد يديّ في لهف إليه ... أشاكيه بمحتبس الدموع
فيسبقني إلى لقياه قلبي ... وثوباً. . . ثم يبرد في ضلوعي!
ثم هذا القلب الذي يطهره الحب حتى لا يكون من هذه الأرض؛ وامتلاء العروق بالحنين بدل الدماء التي تتدفق من القلب؛ واقتيات القلب بالأمل المطعون وقد خاب رجاؤه. . . ثم هذا الفؤاد الذي هيض جناحه ومضى الحمام يدب فيه حتى إذا جرت ذكرى الحبيب طار إليه بجناحين قويين فتيين!
كل هذا وذاك من ثروة الشعر التي ينطوي عليها قلب ناجي والتي يجود بها سهلة هينة لينة في غير تكلف ولا تعقيد
وللدم من حب ناجي ومن خياله وشعره نصيب عظيم. ألم نقل إن الشعر إن لم يكن في دم الشاعر فلن يكون في لسانه إلا كما يكون الصفير في فم الببغاء؟
اسمع إليه يقول وقد صافح حبيباً:
أهاب بنا فلبِّينا ... مناد ضمِّ روحينا
كأنا إذ تصافحنا ... تعانقنا بكفيْنا
كأن الحب تيار ... سرى ما بين جسمينا
يؤجج في نواظرنا ... ويشعل في دماءينا!(564/13)
ويخاطب القمر فيقول:
قمر الأماني يا قمرْ ... إني بهمٍ مُسْقم
أنت الشفاء المدْخرْ ... فاسكب ضياءك في دمي!
ويخاطب الجمال الضنين:
كأنك النسَّم النشوان منطلقاً ... أظل كالنفس الحيران أتبعه
تعال وادْنُ بيوم لا نحس به ... أجسادنا، في صفاء لا نضيَعه
لكن أُحِسُّك تجرى في صميم دمي ... أنت الحياة، وأنت الكون أجمعه!
ويسائل حبيبه متى يلتقي؟
متى يرق الحظ يا قاسي؟ ... ويلتقي المنسيُّ والناسي؟
متى! وهل من حيلة في متى؟ ... وفي خيالات وأحداس
هدَّ قراري جريها في دمي ... وهمسها في كر أنفاسي!
وهكذا يتدفق شعر ناجي من قلبه في دمه، وهكذا تروي به روحه وحواسه، فيكون فيها حباً ورحمة وألماً، وسترى كيف ينطبع هذا الشعر الجميل الوادع في قلب ناجي صوراً تشمل الحياة كلها. . .
(يتبع)
دريني خشبة(564/14)
3 - القرآن الكريم في كتاب النثر الفني
إنكاره إعجاز القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
الإعجاز إعجازان، إعجاز معنى وإعجاز أسلوب. والإجماع منعقد عليهما في القرآن، لكنه إذا أطلق لا ينفك عن إعجاز الأسلوب، لأن الأدب أسلوب قبل أن يكون معنى، إذا المعنى للعقل والقلب، فهو مشترك أو يمكن أن يكون مشتركاً بين اللغات. أما الأسلوب فخاص غير عام، لكل لغة أساليبها، بل لكل أديب أسلوبه. فمن ينكر الأسلوب فقد أنكر الأدب في الواقع
وموقف الدكتور زكي مبارك من قيمة الأسلوب موقف عجب. فهو يجعل الأسلوب فصلاً بين لغة ولغة، ولكنه لا يجعله فصلاً بين أديب وأديب أو بين بليغ وبليغ. فالفصاحة والبلاغة عنده للمعنى، لا للفظ ولا للأسلوب. اقرأ له إن شئت في صفحة 68 من الجزء الثاني قوله: (ونحن نرى أن سر الفصاحة والبلاغة يرجع إلى ما في المعنى من قوة وروح). وبعد أن أورد القطعة المعروفة التي أولها: لو كنت من مازن لم تستبح أبلى بنو اللقيطة. عقب عليها بقوله (وهذه القطعة من بدائع الشعر العربي. وهي قطعة خالدة ستظل قوية بارعة ما بقي في العالم ناس يفهمون سر العربية. ومع هذا لا تستطيع أن تجد فيها ألفاظاً يغز على غير قائلها الوصول إليها، أو أسلوباً في التعبير يتميز عن غيره من الأساليب. وجمالها كله يرجع إلى دقة المعنى وطرافته وتخير الألفاظ تخيراً يجعلها تتمثل مع المعنى كتلة واحدة)
ثم اقرأ له بعد ذلك (وقد تجد من الشعر ما تخلو معانيه وألفاظه من الروعة الظاهرة ولكن قوة الروح تصل به إلى أسمى غايات الإبداع. ومثال ذلك قول حطان بن المعلي يشكو فقره وما وضع القدر في رجليه من قيود الأهل والذرية:
أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخ عال إلى خفض
وبعد أن استوفى القطعة المعروفة قال: (وقوة هذا الشعر ترجع إلى الشاعر لا إلى اللفظ ولا إلى الأسلوب). وهو في تفريقه هذا بين الشاعر وأسلوبه كمن يفرق بين المرء ووجهه أو بين الوجه وقسماته، فالأسلوب هو الشاعر والكاتب، والشاعر والكاتب هو الأسلوب. أو بعبارة أدق، الأسلوب هو مظهر الأديب ومعبره سواء عبر عن كل ما في نفسه أو عن(564/15)
بعضه، فهو كل ما يعرفه الناس من الشاعر أو الكاتب، ولعل التفاوت في الأدب هو بقدر التفاوت في تعبير الأسلوب عن صاحبه، فأقدر الأدباء هو أكثرهم تمثلاً في أسلوبه. لكننا نترك هذه المسألة للمشتغلين بالأدب يتنازعونها بينهم، يوافقون الدكتور أو يخالفونه، لكن الذي يهم فيما نحن بسبيله هو إنكار الدكتور في الظاهر كل قيمة للأسلوب، واضطراره في النهاية إلى الإقرار له بكل قيمة حين جعله هو والمعنى كتلة واحدة كما رأيت في تعليقه على القطعة الأولى، وكما ترى له فيما يأتي:
(ولا جدال في أن الألفاظ والأساليب تتلون وتتشكل بلون الفكرة التي تسيطر عليها. وعلى هذا الأساس وجد والأسلوب الجزل والأسلوب الرقيق. فالرقة والجزالة من مقتضيات المعاني لا الألفاظ. فالمعنى الجزل له لفظ جزل، والمعنى الرقيق له لفظ رقيق. فإذا غلبت الرقة على شاعر مثل إليها زهير فمرجعها إلى الفكرة لأنه شاعر وديع يعبر عن معان وديعة يلهم أمثالها أصحاب الوداعة والرقة من الشعراء المترفين. وإذا غلبت الجزالة على شاعر مثل المتنبي فمرجعها أيضاً إلى الفكرة لأنه شاعر طامع في أسمى ما يطمح إليه فحول الرجال. . .) ص71 وهو في هذه القطعة يجعل المسألة مسألة ألفاظ ولا يجعل للتركيب شيئاً، ثم يجعل اللفظ هو والمعنى شيئاً واحداً، كأن المعنى إذا قام بالذهن، والشعور إذا قام بالنفس، جاء اللفظ طائعاً، جزلاً أو رقيقاً حسب المعنى أو الشعور. وهو لا يلتفت إلى ما يستلزمه هذا الرأي من وجوب اتحاد الأساليب باتحاد المعاني عند الأدباء، مما هو باطل بالبداهة، بل يزداد إغراقاً وأغراباً إذ يقول: (ثم نقرر أن الألفاظ ملك للجميع يجدونها حيث أرادوا في المعاجم والدواوين! (والتعجب من عندنا) ولا يبقى موضعاً للجهد والعنت أو العبقرية إلا المعاني والأغراض
. . . إن الألفاظ في مقدور كل شاعر وكل كاتب وكل خطيب، ولكن المعجز حقاً هو الفكرة. وليس معنى هذا أننا لا نقيم وزناً للصناعة الفنية. ولكن معناه أننا نقرر أن الفكرة تجيء أولاً ويجيء الورق ثانياً كما يقول الفرنسيون). وهو يريد بالورق فيما يبدو الألفاظ والأسلوب الذي سيبدو على الورق، فإذا كان ذلك كذلك فقد رجع بعد طول الحوار والخلاف إلى ما عليه جمهرة الأدباء من أن المعنى أهم من الصناعة الفنية ولكن الصناعة الفنية لها قيمتها ووزنها. والأمر إليك الآن في أن تجد اسماً لهذه الظاهرة في كلام صاحب النثر(564/16)
الفني: سمها تناقضاً، أو سمها اضطراباً وتبلبلاً، أو سمها رجوعاً عن مذهب ظن أنه ابتكره إلى مذهب الناس، وإن شئت فسمها رجوعاً إلى الحق إن كنت ممن يحسنون به الظن
ولكن - وهذا هو لب الموضوع وروحه - هل نظنه حكم القرآن بشيء من ناحية الأسلوب؟ سأترك صاحب النثر الفني يعبر عن نفسه بقدر الإمكان. قال متمهاً لكلامه السابق:
(وقد رأى ناس قول البلاقلاني (ليس القرآن من جنس كلام العرب) فقرروا خاطئين أن القرآن يخالف ما درجت عليه البلاغة العربية من حيث الأسلوب. ولو سألتهم عن تحديد معنى الأسلوب لعجزوا عجزاً مبيناً، لأن الأسلوب في رأينا هو الصورة الظاهرة لعقل الكلام أنه قد هدم كل ما قاله من قبل، وجعل الأسلوب هو كل شيء ما دام هو الصورة الظاهرة للعقل والروح والفكرة والغرض، وهذه عنده هي كل شيء، فلعله يحكم للأسلوب القرآني بشيء - (وليس في مقدور أحد من المتفوقين في علوم البلاغة أن يحدد الأسلوب تحديداً منطقياً بجمع خصائصه وبمنع ما يتطرق إليه من غريب الأوصاف، أو أن يدلنا على خواص أسلوب القرآن دلالة واضحة بريئة من عوارض اللبس والغموض، فإن ألفاظ القرآن كألفاظ كل كلام عربي مبين لا تمتاز باللفظ ولا بالأداء وإنما تمتاز بالمعنى والغرض والروح)!
أترى صاحب هذا الكلام يعقل ما يقول؟ إنه يطالب غيره بتحديد الأسلوب تحديداً منطقياً. ألا يتعلم أولاً من المنطق كيف يكون التفكير؟ ألفاظ القرآن لا تمتاز باللفظ! طيب! ولا بالأداء! طيب أيضاً! فهذا هو مذهب الدكتور. وإنما تمتاز بالمعنى والغرض والروح! ألم يقل هذا الرجل قبل ذلك بأسطر إن الأسلوب في رأيه هو الصورة الظاهرة لعقل الكاتب وروحه وفكرته ومرماه؟ أليس معنى ذلك أن الأسلوب يمتاز بامتياز ما يمثله من روح وفكرة ومرمى؟ فكيف استقام عنده أن يمتاز القرآن بالمعنى والغرض والروح ولا يمتاز باللفظ ولا بالأداء؟ ألم يقرر من قبل أن المعنى الجزل له لفظ جزل، والمعنى الرقيق له لفظ رقيق، وأن الألفاظ والأساليب تتلون وتتشكل بلون الفكرة التي تسيطر عليها؟ فكيف جاز في تفكيره أن يكون للمعنى القرآني امتياز لا يكون مثله للفظ القرآني والأسلوب؟ إن هذا الرجل لا يدري أنه بقوله هذا يجمع على نفسه إنكار إعجاز المعنى إلى إنكار إعجاز(564/17)
الأسلوب!
والعجيب من أمره أنه بمضي على وجهه بضرب الأمثال لرأيه ذلك من القرآن إذ يقول: (فإن أراد أحد شاهداً على ما نقول فإنا تفتح المصحف عرضاً بدون تخير، ثم ننقل آيات لنسأله أن بعين ما جاء فيه غريباً عن الأساليب العربية. ولنختر خمس آيات من مطلع سورة الأنبياء: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون. ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون. لا هية قلوبهم، وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون. قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم. بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون))
ومن قبل أن يستتم المعنى بالآية السادسة على الأقل (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها، أفَهُم يؤمنون) جعل يسأل القارئ (فأين تكون غرابة الأسلوب في هذه الآيات الخمس؟ وأين يكون السياق الفني الغريب عن الأعراب؟ أليس مرجع الروعة في هذه الآيات إلى المعنى والروح؟ أترونها تمتاز بالسجع؟ وكيف والسجع كان معروفاً قبل القرآن؟ أترون ألفاظها متخيرة منتقاة؟ هو ذلك ولكن كيف يدور اختيار الألفاظ؟ أترون لاختيار الألفاظ مداراً غير موجبات المعاني والأغراض؟) أسئلة يرسلها على القارئ كأن القارئ حكم في الموضوع، وليس كل قارئ يستطيع الحكم فيه. ومع ذلك فإن صاحب النثر الفني قد دل بتلك الأسئلة على أنه ليس من الأدب ولا من صحة التفكير في شيء، وإلا فأين في اللغة العربية كلها يجد خارج القرآن أسلوباً كأسلوب تلك الآيات الخمس؟ ليدل قراء العربية عليه إن كان يستطيع. وأمامه الآيات قد عرف معناها - إن كان قد عرفه - فليعبر عن المعنى، وليحتفل، ولينظر أين يصل به الجهد. بل ليختر آية منها، أيها شاء، وليقصر محاولته عليها ولو بتغيير لفظ، أو تغيير حرف، أو تغيير ترتيب، ثم لينظر هل يمكن أن يأتي بشيء يقبله منه أهل العربية أنه عدل الآية، أو قرب منها، أو يمكن أن يوضع وإياها في ميزان. إنه التحدي القديم أطرحه في أبسط صورة عليه الآن من جديد
ويزعم زكي مبارك أن السياق الفني في تلك الآيات ليس غريباً عن الأعراب. فمن أين له ذلك وهو يقول أن: (ما نقله الرواة من النصوص لا يكفي لتعيين أساليب النثر في العصر(564/18)
الجاهلي. وهو على قلته مما وضع في العصر الأموي وصدر العصر العباسي لأغراض دينية وسياسية)؛ فمن أين له تعيين أسلوب الحواضر فضلا عن أسلوب البوادي حتى استطاع الحكم؟
ويقول الدكتور زكي مبارك إن السجع كان معروفا قبل القرآن، جواباً على ما افترض على لسان القارئ من امتياز الآيات بالسجع، كأنه يظن مجرد وجود السجع هو الامتياز. فإن كان هذا هو المراد فقد أنطق القارئ بجواب غير معقول ليأتي عليه برد معقول! أم هو يرى أن ما سماه في الآيات سجعاً هو سجع من السجع لا فضل له على ما سواه. هذا هو لازم رده على ما أنطق به القارئ من جواب، إن كان يرى أنه أحسن الرد. وإذن يكون رده ذلك دليلا على تسويته في التقدير بين سجع القرآن وسجع غير القرآن
ثم يمضي الدكتور زكي مبارك في استشهاداته يقول: (فإن كانت هذه الآيات الخمس لا تكفي فإلى القارئ شواهد أخرى من القرآن المجيد. يقول الله غز شأنه (ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا) وأنا أشهد صادقاً أني ما فكرت في هذه الآية إلا دهشت من سمو هذا النصح النبيل. فأين يكون جمال هذه الآية؟ أترونها من جنس غير جنس كلام العرب كما زعم البلاقلاني؟ هيهات! إن ألفاظها تشبه جميع الألفاظ وتركيبها لا يتميز بشيء عن غيره من التراكيب). ثم يستكمل الاستشهاد بقوله: (على أنه من الخير أن نسوق الآية كاملة لنتبين كيف يكمن أن تكون بعض أجزاء الآية الواحدة أقوى من بعض: (ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). ألا ترون إن أنصفتم أن كلمة (اعدلوا هو أقرب للتقوى) تقل في قوتها عن كلمة (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا). فما هو سبب التفاوت؟ لا يظن أحد أن مرجع التفاوت هو الأسلوب؛ فإن القرآن تفرد في رأي مخالفينا بوحدة الأداء والتعبير. فلم يبق من فرق بين صدر الآية وعجزها غير تفاوت المعنى. والتفاوت هنا جاء من أن صدر الآية معنى بكر لا يجري إلا على ألسنة الحكماء والأنبياء، على حين نرى عجز الآية يؤدي معنى مفهوماً لدى جميع الناس)!
فهل ترى هذا الرجل يفهم قوله تعالى (اعدلوا، هو أقرب للتقوى)؟ لو كان يفهمه ما قال أنه مفهوم لدى جميع الناس. وأي ناس يا ترى؟ الناس الآن الذين ألفوا القرآن، أم الناس في الجاهلية، أم الناس في صدر الإسلام؟ وبأي ميزان يا ترى تبين له التفاوت بين جزئي(564/19)
الآية؟ إنه لا يفهمهما رغم تحمسه لأولهما، وإلا ما افترض أن الإنصاف يقضي بالاعتراف بأن ثاني الجزءين دون الأول؛ بهتاناً يلقيه بغير دليل. إنه يرمي الكلام جزافا، وإلا ما قال إن المعنى الأول بكر لا يجرى إلا على ألسنة الحكماء والأنبياء والثاني غير بكر، مع أنه هو الذي لا يمكن أن يجري إلا بوحي على ألسنة الأنبياء
ثم إن الرجل يكذب حين يزعم لك أنه أورد الآية كاملة. فهو لم يورد إلا نحو ثلث الآية، على جلال ما أورد. فالآية هي من سورة المائدة: (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون)
بقى شاهد من عدة شواهد لا يتسع لها المقال: (ثم لننظر قوله جل ثناؤه: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) هذه من غرر الآيات القرآنية فأين يقع منها الحسن؟ أترونه في اللفظ؟ أترونه في الأسلوب؟ وكيف وهي ألفاظ يجدها من يريد، في أسلوب واضح يدركه جميع المخاطبين ويستطيعه جميع الكاتبين؟ إن الجمال هنا في الروح العالي، حيث يخاطب الله الآثمين وقد ألقى بهم في نار الجحيم). ولو كانوا في نار الجحيم لجاز أن يشغلهم العذاب عن سماع الخطاب، ولكنهم في موقف الحساب قبل أن يحكم عليهم بالنار، وشتان بين وقعي الكلام في المقامين. ولكن صاحب النثر الفني لا يدرك من دقيق الإعجاز ولا جليله شيئاً، لا في المعنى ولا في الأسلوب، ولا في مقتضى الحال. فسيان منه الإنكار والإقرار. فإقراره - لو أقر - إقرار مخطئ، وإنكاره إنكار مغرور
محمد أحمد الغمراوي(564/20)
دجلة في الليل
(تهدى إلى أخي الأستاذ علي الطنطاوي شقيق القلب والروح،
والرفيق في الغربة والسفر)
للأستاذ أنور العطار
الليل في بغداد لا ينام سهران تصبى روحه الأنغام ويستبيه
الوجد والهيام واللهو والإيناس والمدام والشعر والأوهام
والأحلام
أنور العطار
أُسكُبِ النور يا قمرْ ... واغمُرِ النهرِ بالصورْ
وأذِعْ فرحةَ الهوى ... وشعْ لذة السمر
واتركِ القلبَ حالماً ... ناسياً روعةَ الغِيَر
يجمَعُ النفسَ كلّيها ... منْ تَشَهِّيهِ في النظر
هاهنا الليل شاعر ... مُلهَمٌ خَيِّرُ الفِكَر
مُستطارٌ إذا انتشى ... مُستثارٌ إذا اذَّكَر
ملْءُ أَفياِئِه السنا ... مِلْءُ أَعطافِهِ الدُّرَر
في وشاحِ مُنَمْنمٍ ... ساحرٍ فتنةِ البصر
والنسيمُ الذي يُطَوِّ ... فُ شِعرٌ لمِنْ شَعَر
ونشيدٌ مُسلسلٌ ... في العَشِيَّاتِ والبُكَر
ما أُحَيْلاَهُ شاجياً ... ما أُحَيْلاهُ إن فَتَر
طافَ بالأعينِ الرُّقادُ ... وما شفَّني السهر
يَتصبُّانيَ النخيلُ ... ويغُرينيَ النهَر
في ثناياهُ صورةٌ ... حُلْوَةٌ كلُّها سِيَر
بأني أَنتَ مَوْرداً ... ليسَ في وِردْهِ كَدَر(564/21)
يتشهَّاك خاطري ... وتسلَّى بكَ الذَّكَر
إن تثنَّيْتَ فالندى ... أو تأوَّدْتَ فالطَرر
أو تَسلسلتَ صافياً ... فأخو الدَّلِّ والخَفَرْ
مرَّ بي طَيْفُكَ الحبيبُ ... وكم طائف سَحَر
في أَساريره فتونٌ ... وفي طَرْفهِ حَوَر
المنى طَوْعُ أَمره ... ما تمنَّى وما أَمَر
والشَّذا منه عابِقْ ... فّاغِمُ العطر منتشر
فعلى الشمسِ عرشُهُ ... وعلى هاِمها استقر
هو ريحانةُ العُلى ... فيه مِنْ عبْقَرٍ أَثر
عُدتُ للغابر البعيدِ ... أُناجى الذي غبر
أَتأسّى بما انطوى ... أَتعزى بما استتر
هاهنا تخشع القلوب ... وتصبو وتنفطر
هاهُنا سيرة الزمان ... وعاها الذي ذكَر
هاهنا الكونُ سابحٌ ... في خِضَمَّ من العِبَر
أَنتَ لي الحبُّ والمنى ... أنت لي القصدُ والوطر
ليسَ لي عنكَ مُبتغُي ... ليس لي عنك مُصطَبَر
أَتناسى بكَ الأسى ... غَمَرَ النفسَ ما غمر
وَاَحنيني إلى الضفافِ ... تزاحَمْنَ بالشجَر
وتسابقنَ بالرُّؤَى ... وتساجلْنَ بالصور
وتلامسْنَ بالهوى ... وتهامسنَ بالسير
وروينَ الذي انقضى ... وأَذعنَ الذي استتر
أَنتَ يا نهرُ عاشقٌ ... منْ صباباتكَ القمر
مَرَّ بالماءِ صورةً ... فَتنتْ كلَّ مَنْ نظر
وينابيعَ حُفَّلاً ... باللآلئ وبالدُّرَر
والنجومُ التيِ ترِفُّ ... إطارٌ منَ الزَّهر(564/22)
وربيعٌ من المنى ... ورياضٌ من الثمر
يتوهْجنَ كاللظى ... يتراقصن كالشرر
فيكَ ما يملأ النُّهَى ... فيك ما يبْهَرُ البشر
آيةٌ أَنتَ للِعُلَى ... رايةٌ أَنتَ للظَّفَر
يَتَثَنَّى بكَ الزمانُ ... ويُزْهى بكَ العُصُر
ويباهِي بكَ الجلاَ ... لُ ويَنْدَي ويَزْدهر
رُبَّ ماضٍ بَعَثْتَهُ ... مثلما يُجْمَع النَّشَرْ
رَفَّ كاُلحلْمِ خاطفاً ... وتوارى وما انتظرْ
لمْ يَنلْ منكَ غابرٌ ... لَمْ يَعبْ حُسنكَ القِصَرْ
أنت كالحبِّ ساربْ ... أنتَ كالعُمْر مختصرْ
أنتَ كوْنٌ من الشُّمو ... ش سنا ضَوْئها بَهَرْ
بِتُّ أَسْتَلهِمُ الرُّؤَى ... بِتُّ أَسْتَقْرئُ الذَّكَرْ
والهوى طائف يجد ... وكم يركب الغَررْ
لا يخاف الرَّدَى الرهيب ... ولا يعرفُ الَحذَرْ
مَرنَ الخوضَ والدُّجى ... أَلِفَ الشَّدْوَ والسَّحَرْ
ليسَ تَثْنيهِ غَمْرَةٌ ... طالَ ذا العُمْرُ أو قصُرْ
هو تِرْبُ المدَى الخفيِّ ... أخو الدَّهر والقَدَرْ
طاف بالغابر الفَصِيَّ ... لياليه والنهُرْ
في تضاعيفه النَّعيمُ ... وفي طيِّهِ سَقَرْ
يا له من مُتَيَّم ... يعشق النأي والسفر
أيها الهاجر الذي ... عذَّب القلب مُذْ نَفَرْ
أَنتَ وحيٌ أُحِبُّهُ ... وَرَدَ الفكرَ أو صَدَرْ
كلُّ ذَنْب جنيته ... هو في الحب مغتفَر
لا تكلني إلى الأسى ... لا تكلني إلى الضجر
حسب روحي الذي مضى ... حسب قلبي الذي عبر(564/23)
قْم نُعدْ سكرةَ الهوى ... فالهوى كله سكَرْ
ونُحَوِّم على الخلودِ ... ودَارَاتهِ الأُخَرْ
فهنا الكون عابق ... أًرجٌ زهوه عَطِرْ
سامح الحِب إن هفا ... واعْف عَنه إذا هَجَرْ
المنى طوع من رعى ... والهوى حظ من صبر
والهوى سلوة النفوس ... وبُحبوحةُ العُمُرْ
كل من ذاقه استعا ... د صباه الذي غَبِّر
وتروَّي من الحياة ... ومن روضها النِضر
لذة العيش في الصبا ... راحة البال في الصغر
كل أحلامه سناً ... كلُّ أًطيافه غُررْ
وأَراجيحُ طُفَّحٌ ... بالألاعيبِ والأكرْ
وأَساطير عُكَّفٌ ... يتمرغن بالسُّررْ
نَذَر القلب أن يحنَّ ... ويا صِدْق ما نَذَرْ
بعثَ الشِّعر سَلسلاً ... كالينابيع تنفجر
أو كما يحَفلُ الغمامُ ... وينهلُّ بالمطرْ
فإذا اهتاجَ فالحمامُ ... وإن حنَّ فالوترْ
فامرحي يا خواطري ... واغنمي الأُنسَ إن حضرْ
وسَلى (دِجْلةَ) الرِّضا ... عن محبٍ بها فَكَرْ
خيرتي أنتِ في الدُّنا ... ليتها تصدق الخِيَرْ
وهوايَ الذي طغا ... والهوى طامعٌ أثِرْ
قد تفرَّدت بالجمالِ ... وبالمجدِ والخطرْ
حبذا منكِ رشفةٌ ... كلُّ منْ عَبَّها سَكِرْ
خطرتْ فَاَّمحي الأسى ... وبدَتْ فانجلىِ الكدرْ
ومشى الحبُّ بي إلى ... عالمِ كله سَمَرْ
جُنَّ شوقي إلى الحِمى ... فهمي الدمع وانتثرْ(564/24)
يا لَقلْبِ مُوَلهٍ ... شفَّه الوجد فاستعرْ
ذِكرياتٌ هي الحياةُ ... وماضٍ هو العُمُرْ
مَنْ رعاه فقد وفى ... مَنْ قَلاهٌ فقد كفرْ
ليس في شِرعَةِ الهوى ... هائم إن نأى غَدَرْ
وأخو الحُبِّ ثابتٌ ... ليس يلويه مُزْدَجَرْ
رُبما عاش بالُمنى ... ربما عاش بالفِكَرْ
هو ذا الزَوْرَقُ الحبيبُ ... على مائِكِ انحَدَرْ
حمل الأُنس والرِّضا ... والمسرَّاتِ والبُشرْ
واستفاضت لحُوته ... تغمر البدْوَ والحَضرْ
هاهنا يَطربُ الثرَّى ... هاهنا يشعر الحجرْ
هاهنا تسلس الطِّباع ... وتستأنس الفِطَرْ
غَنِّنِي أطيب الغناء ... وناجِ الذي خَطرْ
فلقد يثملُ الهوى ... ولقد يَسْكَرُ الوَترْ
إيه (بَغْدادُ) هل يعودُ ... الجلالُ الذي اندثرْ
فأرى تاجكِ النّضيرَ ... على الكون يَنضفرْ
وأرى الأرض كلها ... وهي مهدٌ ومستقرْ
آيةٌ أنتِ فَذَّةٌ ... كل ما فيكِ مبتكرْ
مَنْ تلاها فقد تَلا ... مصحف المجدِ والسُّوَرْ
حَفِظَ الدَّهُر ذِكْرَها ... وروى للغَدِ الخَبْر
(دمشق)
أنور العطار(564/25)
مستقبل العلم
للأستاذ خليل السالم
إن التطلع إلى الأمام، وبحث المستقبل وتصويره ميزات يتسم بها الرجل الحصيف أو الدولة الواعية أو الحضارة العاقلة. ومهما يتضمن هذا البحث من سعة الخيال، وأحلام الشعراء، وظوبيات الفلاسفة فإنه دون ريب يجعل من المستقبل صورة مثالية حية في فكر الإنسان، تتكيف حسب آماله ورغباته وتفرض على الواقع، يقترب منها ويسمو إليها
والعلم اليوم يجتاز مرحلة قاسية عصيبة من مراحل تطوره تدخل إلى نفسه شيئاً غير قليل من الحيرة والقلق على. مصيره؛ فبعض المفكرين يصبون عليه نقمة السماء ولعنة الأرض، ويدعون أنه علة الشقاء والويلات التي تحيق بالبشر وتفسد حياتهم. لقد سخر الأرض لتدب عليها جبال الحديد ملؤها الموت والدمار، وسخر الهواء لتركيب متنه نافثات اللهب وقاذفات القنابل وحاملات الجراثيم والغازات، وسخر الماء لتمخر عبابه مدن النار وألغام المغنطيس التي تلقى في اليم بملايين الأرواح دون أن تقيم للحياة أي وزن؛ وأتاح لنار الحرب أن تمتد وتأكل اليابس والرطب لا يسلم من أخطارها وفظائعها قطر أينما كان موقعه على وجه الأرض. وبوجه عام لقد وضع العلم في يد الشر والعدوان معاول الهدم التي تدك صرح الحضارة وتطمس معالمها
وفشل العلم في أيام السلم أيضاً، فالآلة التي قدمها لتعزز الصناعة وتضاعف الإنتاج وسعت نطاق البطالة وتركت ملايين العائلات تتضور جوعاً وترتجف عرياً وتعمى جهلاً. وحرم العلم ملايين العمال أي متعة وأي هناء بينما كدس لأصحاب العمل المال الطائل والربح الوافر. فالنظام الاقتصادي الذي تمخضت عنه الصناعة العلمية جائر سيئ لا ييسر لجميع الطبقات أن تستفيد من الإنتاج وتأخذ قسطها العادل من الثروة، فكان الفقر المدقع وكانت الأزمات المروعة، وكانت الثورات الدامية
ومن جهة أخرى ينظر رجال السلطة الذين استفادوا من العلم أولاً إليه كلغم خطر يضعه الفكر تحت مناصبهم وعروشهم، فإنه إن قوى وامتد وعم جميع الطبقات كما تبشر الحركات العلمية الناشطة فإن هذا اللغم سيشتعل بالاحتكاك المباشر وينسف تلك الكراسي، وينزع السلطة من أيديهم، ويقلب النظام القائم فتتغير القيم الأخلاقية، وتتعدد أنماط الحياة(564/26)
تتعقد
وفشل العلم في دراسة طبائع الناس، فبينا العلم الفني التطبيقي يعدو ويطفر، إذا العلم النفسي الاجتماعي يتسكع ويدور حول نفسه؛ فالقوانين المسنونة لا تمنع الجريمة، ونوازع الشر والإثم تساور الأخيلة، والنفس البشرية لا تزال متخلفة إلى الوراء تحمل في طياتها بقايا الوحشة التي تشحذ أظفارها وتكشر عن أنيابها كل عقد من السنين في الحرب الضروس. وهاهي ذي الإنسانية تتجرع غصص حرب طاحنة شاملة، وإذا تساوت الأمور فسيبقى شبح المرعب مهدداً حلم الأمن والطمأنينة في نفوس الناس
قال رئيس معهد تقدم العلوم البريطاني في فرصة سابقة: (إن سعادة البشر ورفاهته لا يتأثران بكبت جذوة العلم، وإغلاق جميع المختبرات الكيميائية والطبيعية ولو لمدة عشر سنوات) ترى أيأخذ العالم بهذا الاقتراح ويعمل بموجبه في المستقبل؟
لعل أسئلة كثيرة تتردد على شفة القارئ الآن، واعتراضات عنيفة تدور في خلده، وهي لو انطلقت بحرية لصاحت قائلة: والآلة البخارية، والمحرك، والمولد، والتلغراف، والنور الكهربائي، والسينما، والطائرة، والأسمدة، والأصبغة، والراديو، والتلفاز، أشعة إكس، والبنيسيلين، وغيرها. . . كيف تنسى؟ أليست هذه دعائم المدنية الإنسانية التي نعتز بها ونسعى للمحافظة عليها؟ ألم يقدم العلم كل هذه لترفه عن الإنسانية وتسمو بها إلى السعادة والكمال؟
حقاً إن الحضارة ما كانت لتزدهر، وإن الطبيعة البشرية ما كانت لتبلغ بعض تطوراتها لولا إرشاد العلم وقيادته الحازمة. إن شجرة العلم الباسقة تؤتي ثماراً يانعة حلوة طوراً، وتؤتي حنظلاً وعلقماً في طور آخر. ترعى العلم ملائكة الرحمة حيناً وتستغله مردة الأبالسة حيناً آخر. أفلا يستحق هذا المخلوق الفكري العجيب وقفة قصيرة نتأمل فيها مصيره؟ أينبذه العالم ويعود إلى الخرافات المرقعة القديمة، أو يعتمد عليه في حل مشاكل الحضارة الراهنة؟ وكيف يتسنى بناء عالم سعيد يشعر الأفراد فيه بالحرية والرخاء؟
علمنا التاريخ أن ندرس المستقبل على ضوء الماضي، فتيار النشاط البشري واتجاه الحوادث العام يوحيان باتجاه المستقبل وحوادثه. وأصلح السبل للنجاح في المستقبل ستكون هي السبل التي نجحت في الماضي مع أي تعديل يفرضه الوضع الجديد. والنتائج القادمة(564/27)
المتوقعة تبنى على المقدمات المعلومة المفروضة. وبناء على هذا يمكننا رسم صورة لمستقبل العلم لها حظ غير يسير من الصدق والحقيقة والقرب من واقع الحياة. ولعل القارئ لا ينتظر مني أن أتنبأ بالاكتشافات الجديدة في لباب العلم، أو النظريات التي ستوضع في المستقبل، فهذا يكون اكتشافاً لها أو وضعاً وأنا أعجز عن مثل هذا. ويطول بي البحث إن عرضت كل مجالي التقدم في علم الطبيعة مثلاً بفضل المكرسكوب الألكتروني (الكهيربي) أو تلسكوب الأشعة تحت الحمراء، أو التلفزة أو الكهرباء المتموجة، أو حاولت التعليق على آفاق الكيمياء التي سيفتقها علم الطيف وتحليل الأشعة السينية وعلم البلورات الجديد، أو ذكرت ما يتوقعه العلماء نتيجة درس الأفعال الكهرطيسية في الأجسام الحية وانقسام الكروموسومات في الخلية، ومدى تأثير ذلك على الوراثة والعمر أعني تطور الإنسان وخلوده. فبحسبي إذن أن أشرح التفاعل بين العلم المنظم والمجتمع، وعلى أي وجه ستكون العلاقة بينهما.
لقد كشف العلم كثيراً من أسرار الكون والحياة، وبرع في استخراج الطاقة من مكانها الطبيعية. تدخل في الصناعة فتضاعف الإنتاج، وتدخل في الزراعة فارتفعت الغلة في روسيا والولايات المتحدة إلى عشرة أمثال ما كانت عليه. وتدخل في الطب فقمع معظم الأمراض السارية وأتقن سبل الوقاية فارتفع معدل العمر في الأوساط الراقية علمياً ارتفاعاً بيناً (متوسط عمر الإنسان في الهند 26 سنة وفي إنجلترا 55 سنة). وتدخل في مسائل الفكر فحرر العقل من قيوده وعبوديته للخرافات والشعوذات العامية. والإنسان لم يشتعل ذكاء وحيلة في المائتي سنة الأخيرة، مع أن منحنى التقدم في كل ناحية من نواحي الحياة خلاها قد أسرع في الارتفاع. ولكن الطريقة العلمية الحديثة وراء هذا التقدم السريع ما تمكننا من أن نحكم ببساطة أن العلم وحده يستطيع أن يضمن للبشرية حياة رغدة هنيئة، وإن شلل العالم لا يشفيه أي نظام لا تسوده نواميس العلم ومخترعاته. وهو بالإضافة إلى أنه يضمن التقدم الآلي الذي يضمن التقدم العقلي، فالإنسان الذي لابد أن يؤمن بشيء يركن إليه في حل مشاكله وابتداع أسلوبه في الحياة، يحد من الأسس العلمية الثابتة المنطقية المنسقة ما يرتكز عليه ويطمئن له ويحيا به. ولو عدنا إلى تلك الجرائم التي ألصقناها بالعلم لوجدنا أنه لم يكن سبباً مباشراً لها، فسدنة العلم وخدامه لم يتطوعوا الخلق المشاكل(564/28)
ولم يقصدوا في نضالهم التخريب والتدمير. ولكن النواميس التي تجلت لهم في لحظات الإلهام والعبقرية تطبق على وجه فاسد. وهذا التطبيق هو الذي أفسد الأرض. ولذا أعتقد أن العلم في المستقبل سيبدأ من هذه النقطة إصلاحه للمجتمع، فلن يسمح بعد الآن لرجال غرباء عنه تسوقهم الأثرة الجشع والنهم المادي أن يشوهوا وجهه باستغلال مبتكراته على وجه فاسد لئيم، بينما يقصد بها أن تكون نافعة مجدية، يتبعها العلماء بالملاحظة اليقظة فلا تستغل إلا في سبل الخير العام. وكي يتسنى للعلماء تنفيذ هذا القصد النبيل يجب أن تلقي إليهم مقاليد السلطة ومقدرات الحكومة. قد يذكر الآن فشل أفلاطون في نقل جمهوريته الفاضلة من حيز المثل إلى حيز العمل، ولكن فرقاً واحداً سيجعل من العلماء حكاماً صالحين لإدارة دفة المجتمع. وأحب أن أحترس أولا خشية أن يساء فهمي. بأني لا أقصد وضع (أينشتين) و (بلانك) و (بندهام) و (ادنفتن) و (مشرفة) وغيرهم ممن لف لفهم في مناصب الحكم والسلطة، وإنما أرى أن مقاليد الأمور لن تسلم بعد الآن لأشخاص لا تكفي مؤهلاتهم العلمية الاختصاصية لجعلهم في الطليعة. وقد رأينا بوادر هذا في روسيا حيث يدير كل مصلحة رجلها الفذ المختص. وفي إنكلترا عند تدبير اقتصاديات الحكومة المتحدة والإشراف عليها، أو عند وضع مشروع خطير كمشروع (بفردج)، وفي أمريكا حيث يطبق هذا المبدأ على نطاق واسع، فالاعتقاد بأن المشاكل لا تحل إلا بالاختصاص العلمي والتفكير العلمي أصبح جازما أكيداً
وسبب آخر يجعلنا نؤمن بأن العلماء سينجحون في مهمتهم هذه هو أن جميع الأفراد في المجتمع سيتثقفون بالثقافة العلمية الصحيحة، ويتبينون وجهة النظر العلمية في تدبرهم الآراء والأشياء. وهم بهذا سيرتفعون إلى مستوى ينظرون منه إلى المتفوقين نظرة التشريف والاحترام والاعتراف بالسبق والفضل. ومن هنا نستنتج أن الخطوة التالية هي نشر الثقافة وشيوع العلم بشتى الوسائل كالمدارس والجامعات وقاعات المحاضرات المجانية والصحف والمجلات والأفلام السينمائية. ففائدة المجتمع تتطلب إتاحة الفرصة ليتعلم كل الأفراد، وتتطلب استخدام النابغين بنسبة مواهبهم، وتوزيع المناصب على الشعب دون أن تقصر على فئة محدودة لها مصالحها ورغباتها المحصورة فيها
وستضبط هذه الحكومة الواعية مسالك الإنتاج والاستهلاك فيقوم العلم بالشق الثاني من(564/29)
واجبه في خدمة المجتمع، فقد نوع الإنتاج أولاً وضاعفه، ولكنه سينشد في المستقبل العدل كل العدل في توزيع المصنوعات. ولن يكون استغلال رأس المال في المشاريع التي تدر أوفر الأرباح، وإنما يكون في المشاريع التي تدر المغنم على أكبر عدد من الناس. ولذا توحي الحكومة أو تأمر بتنفيذ بعض المشاريع بينما تحرم غيرها. ولن يسرف في استنفاد المواد الخام الضرورية. وعندما تجدب مناجمها رغم التدبير؛ فسيعسى العلم في أن يعوضها بما يسد مسدها فتحل الأغذية والألبسة والزيوت الصناعية محل ما تقدمه لنا الطبيعة منها. وربما تضطر الحكومة لتحديد النسل أو إكثاره، لأن عدد السكان إن زاد أو نقص عن معدل معلوم سيزعج اقتصاديات البلاد وينغص عيش الأفراد. وهي في محاولاتها هذه ستحسن النسل، فتكون الأجيال القادمة أصح جسما وعقلاً. وربما لا تحتاج الحكومة إلى أن تضع يدها على المصانع والمنشئات ولكنها بأي طريقة مناسبة ستقمع الاحتكار والمضاربة واللعب بالأسعار والتضخم المالي وتوزيع الثروة السيئ؛ وسترفه عن العمال، لأن الآلة تقوم بالعمل الرتيب الممل، وتراقب هذه الآلة العين الكهربائية، وتحس بها الأنسجة التركيبية بدل اليد، وتستخدم الأذن الصناعية فيما تستخدم فيه الأذن الطبيعية، فتقل بذلك ساعات العمل ويتسع الفراغ. وأوقات العمل نفسها ستكون شقية لذيذة. أنا أصعد للمدرسة مبكراً عندما يصلح الراديو فيها للاستعمال، وأتركها متأخراً عندما ألعب كرة الطاولة؛ وعلى هذا القياس سيولع العامل بمصنعه لزيادة وسائل التسلية والترفيه وتنوعها، وسينتظر الذهاب إلى المعمل بفراغ صبر أو برغبة عادية؛ ويخرج منه لإزجاء الفراغ في تنمية مداركه وتوسيع اختباراته وتبليغ رسالة خاصة نبيلة للمجتمع. فالفرد لا يعيش في المجتمع على الهامش ويموت كغلطة في حضن الأبدية، وإنما يكسب المجتمع من الصفات التي تشعره بعزة الانتساب إليه، فتتجه الحيوية الكامنة في الشباب نحو غايات مخصوصة يرسمها أعلام العلم. فالمجتمع لن يتطور اعتباطاً وبدون قصد
وسيكون للدين والفن مقام كبير في نفس الرجل العلمي. وسيعتنق فلسفة الدولة ويؤمن بها غير مكره كما هو الحال في بعض الحركات الفكرية السياسية المعاصرة، بل لأنها فلسفة صادقة قيمة مستقاة من وحي العصر والبيئة. وستلغي المعتقدات الموروثة التي لا تقوم على أسس علمية واضحة بنفسها، فيفتر الشعور بالعائلة والقربى مثلاً، ويتضاءل أمام(564/30)
الشعور بالدولة، وقد يتطور هذا فيصبح إيماناً بخير الإنسانية جمعاء، فلا أكتم هنا أنني أومن أعمق الإيمان بأن وحدة العالم ستكون الهدف الأبعد الذي تتجه إليه جهود الشباب في المجتمعات العلمية. وسيلقى النور الجديد على غرائز النفس ونزواتها فيهذبها ويشذبها وينشط الصالح ويخفى الطالح منها، فحب السيطرة والحيازة سيفني ويمحي، وعندما يترفع الناس عن مغريات المادة، ويزول تكالبهم عليها ينزاح كابوس الحرب الجاثم على الصدور وتأمن النفوس، وترصد الأموال التي كانت تستنفدها الاستعدادات الحربية لبناء المدارس والمعاهد والمستشفيات المجانية. ولجعل دوائر الصحة والبريد وشركات الكهرباء والمادة والغاز والسكك الحديدية وغيرها مصالح عمومية تديرها الحكومة كخدمة مجانية للشعب
سيطول هذا البحث ويتشعب إن وصفت أسلوب الحياة في العالم الجديد من حيث الغذاء والملبس والمسكن والعلاقات الجنسية والاجتماعية ووسائط النقل والمواصلات، فأكتفي بما فات عن علاقة العلم بعقبتين كؤودتين تعترضان سبيل الحضارة والتقدم أعني الحرب والتوزيع الاقتصادي. ولا أشك أن معظم أحلام هذا المستقبل ستحقق بالضرورة بعد الحرب، وقسم آخر سيؤجل تحقيقه عاملان: أولهما قوة الاستمرار في عقليات الناس، ومحافظتهم على القديم؛ ولكن تاريخ العلم يقطع بأن العلم لم يستنفد طاقة وجهداً كبيرين في تحويل الرأي العام عن المذاهب الفاسدة التي تطوي في تضاعيفها عوامل هدمها واضمحلالها. والعامل الآخر مقاومة العناصر المنتفعة التي ترى في بقاء النظام القائم بقاء لسلطتها واستئثارها بأطايب الأرض، وهذه فئة قليلة ضئيلة في المجتمعات لن تستطيع تحويل التيار الجارف أو الوقوف في وجهه وهو ينحدر من عليائه
وقبل أن أنتهي أحب أن أقول كلمة قصيرة عن مستقبل العلم في البلاد العربية خاصة. فلا يدري أحد متى يكون هذا المستقبل الذي صورته حقيقة واقعة واضحة المعالم شاملة التفاصيل في العالم أجمع؛ ولذا يكون من واجب العالم العربي أن يستعد في فترة الانتقال هذه، ويعي كل الأوضاع والنظريات العلمية الحديثة التي سيبنى عليها العالم الجديد. إن البلاد المتأخرة علمياً لا تنال تقدماً ذاتياً سريعاً، فلا بد للحكومات أن تبذل الجهود في هذا السبيل وتشرف على نشر الثقافة العلمية، وخلق البيئة الصالحة لأن يسمو العلم فيها ويترعرع. وقد نشرت في (الرسالة) سابقاً بحثين أجملت في أحدهما خصائص البيئة(564/31)
العلمية، وفي الآخر شرحت كيف عممت روسيا الثقافة العلمية وبنت المختبرات ونظمت ميادين البحث والتحقيق فبلغت في غضون عشرين عاماً مستوى علمياً مشرفاً. ولعلنا نحسن صنعاً إن درسنا تلك السبل القويمة ووضعنا خطط التقدم التي تناسبنا. والواقع أن أغلب الحكومات العربية بما تولى العلم من بعض التشجيع والتنشيط تشعر بضرورته لبلوغ التحرر الفكري والتحرر الاقتصادي والتحرر السياسي. ولكنها في المستقبل القريب ستضاعف هذا الاهتمام وتعز العالم وتنيله حقه الكامل من الرعاية والتشجيع.
(ثانوية السلط)
خليل السالم
ب. ع. الدرجة الأولى في الرياضيات(564/32)
البريد الأدبي
6 - الشعر الجديد
قد يكون مما يدخل في أحاديثنا هذه ويتعلق بأطرافها، أن أعرض لبعض ما يدور من آراء حول (الشعر الجديد). فالناس لا بد متحدثون فيما تطالعهم به الصحف، ولا سيما حديث الشعر والشعراء، والكتابة والكتاب، فهذا ميدان يجول فيه كل جائل، ويصول كل صائل.
ولقد سمعت كثيراً في موضوع هذا الشعر، وقرأت كثيراً. ولكن الكثرة الغالبة ممن قرأت لهم، أو سمعت منهم، يرمون الكلام على عواهنه، غير داعمين قولاً، أو قاطعين بحجة؛ وإنما هي أحكام تسرد سرداً وتلقى جزافاً. وكثيراً ما تكون غير مستندة مطلقاً إلى قراءة، أو راجعة إلى دراسة. . . وما أكثر الثناء والإطراء بيننا! وما أعظم ما يتحكم الهوى، ويستبد الغرض! وتقارض المديح داء عياء في بيئتنا الأدبية؛ فاضمحل النقد وصوح، بعد أن كان يوماً مزدهراً مونعا. وخلا الجو للبغاث فاستنسر، وللباطل فران على الحق؛ فإن رأيت نقداً فقوامه همز ولمز، وتعريض وتجريح
وإني نكتف هنا برأيين اثنين علقا بذاكرتي لغرابتهما، ولكثرة ما يتداولهما ناس من الناس
فقد قالوا إن هؤلاء المجددين - سواء أكانوا شعراء أم كتابا - إنما ينهجون مناهج الإفرنج في أخيلتهم وتصوراتهم، ويحتذون فنهم، ويستعيرون منهم، ويحاكونهم في تشبيههم ومجازهم؛ فقد طال عهدنا بالقديم، ونالتا منه السأم. . . وما ضر لو أرسلنا في شعرنا من شعرهم دما جديداً، وبعثنا في نثرنا من نثرهم حياة جديدة، فنجاري الزمن في حركته، ونساير العصر في تطوره؟
هكذا قالوا
وإن تعجب فعجب أن يصدر مثل هذا الكلام عمن يعقلون؛ فهم بلا شك مقلدون، يرددون ما لا يفهمون. أيجرؤ ملم بلغة أجنبية راقية أن يلغو هذا اللغو؟ أمامنا الأدب الرفيع من أدب الغرب، وهذا شعرهم وهذا نثرهم، فليقرءوا وليحكموا
فهل مما يعقل أن يكون ثمة صلة أو شبه صلة بين لغط هؤلاء المتشاعرين وأشباه الكتاب، وذلك الأدب الغض، والبيان الرائع، والقول المبين؟ إنهم لأعجز من أن يردوا هذا المورد، أو ينهلوا من ذلك المنهل، وإنهم لأقصر باعاً من أن ينالوا ذاك المنال(564/33)
ولا عليكم - إذا أعوزتكم لغة الإفرنج - أن ترجعوا إلى ما ترجمه أعلام أدبائنا عنهم. فهذا حافظ في (بؤسائه)، ومطران في شكسبيرياته، والزيات في (آلام فرتر)، والمنفلوطي في رواياته، وغير هؤلاء ممن نقلوا فأجادوا النقل وفهموا فأحسنوا الفهم
فارجعوا إلى هذه التآليف البارعة، تروا كيف يفكر الإفرنج، وكيف يتخيلون ويتصورون، وكيف ينقشون ويصورون؛ وتروا أيضاً نصاعة العربية في أقلام هؤلاء الأفذاذ وصفاءها ونقاءها؛ وتميزوا الفائقة من العجز الفاضح، والديباجة المشرقة من العي الواضح
والرأي الثاني أصوره في حوار وجيز في مجلس من أصحابنا، وقد تذاكرنا (الشعر الجديد) فقد اندفع من بيننا رجل فقال: إن ما ترونه يا قوم في بعض هذا الشعر من التعمية والخفاء إنما هو قصد إلى الرمز والإشارة. ألا ترون إلى بعض المتصوفة كيف يعمى في شعره، أو يغنى في حديثه، وهو يشير من طرف خفي إلى ما لا يتبين من ظاهر ألفاظه؟ فهكذا الحال هنا. فقلت له: وإلام يرمز شعراؤنا هؤلاء يا سيدي؟ فقال: إنهم يختلفون في نزعاتهم وأغراضهم، فيتغايرون - تبعاً لذلك - في مراميهم البعيدة. فقلت: أمؤمن أنت بما تقول؟ وهل اكتنهت شيئاً من هذه الرموز؟ هات - رحمك الله - فأطرفنا بعضها، وفك لنا مستغلقه
فسلك يده في جيبه فأخرج دفتراً، فتلا منه أبياتاً لأحدهم ثم أخرى لغيره، ثم مقطوعة لثالث، ثم كر راجعاً، وطفق يشرح. فلا وربك ما وهي مما قال شيئاً وما وعينا، وما فقه وما فقهنا!
فقمت عن المجلس وأنا أقول في نفسي: لقد خبنا بالأمس في حل طلاسم (الكاتب المجهول) فإذا نحن في حل هذه الطلاسم أخيب!
(للحديث بقية)
(ا. ع)
خصومة لا عداوة للنقاد والشعراء
صديقي صاحب (الرسالة)
مهدت السبيل لصديقنا ناقد الرسالة أن يصول في موضوع (الميل إلى الهدم وصراع الديكة بين الأدباء والفنانين) ومنحت نفسك سلطة الدفاع المستتر عن ناقد الرسالة بحذفك شطراً من كلمتي التي وجهتها إلى صديقي ناقد (الرسالة)(564/34)
فعلت ذلك، يا صديقي، إرضاء لطبيعتك الهادئة، ونحيزتك التي تأبى الخصومة، لا اندفاعاً مع غرض أنزهك عنه. وكم أتمنى أن يحزبك الغرض النبيل فتسمع قراء الرسالة غضبه كتلك التي أطلقتك على سجيتك يوم كتبت (فلاحون وأمراء)، فعرفوا فيك منها، كيف يكون الكفاح الحق عن الحرية، وكيف تكون تنقية الطبقات وتمييز البر منها من الزوان، وكيف تكون صولات النقد في حلبة الخصومة، ولا فرق عندي بين النقد الاجتماعي والنقد الأدبي إلا في الصيغة
إذن لا محيد لنا يا صديقي في كل بناء للحياة، من خصومة هادئة كانت أم صاخبة، لا تبلغ في حال من الأحوال حدود العداوة. أقول لا محيص لنا من خصومة تكون الرسالة منبرها العام، وتكون أهدافها كتابها ومن يتصل بهم وبها من العاملين في حلبة الحياة
يريدنا صديقنا ناقد الرسالة، تمشياً مع خطة الرسالة المستمدة من طبيعة صاحبها أن يتخذ من اللين أداة يستحث بها الشعراء على شحذ قرائحهم، وجلاء بصائرهم، وصقل شعورهم وأحاسيسهم ليرسموا بأقلامهم صوراً واضحة الخطوط والمعالم لطبيعة ما يصورون ويرسمون. فإذا ما أنف أستاذ كبير كالأستاذ (ا. ع) وتأفف من سماع أصوات هؤلاء الشعراء قيل له إنك تجرد عليهم (حملة تأديبية) وإذا ما قلت لصديقي ناقد الرسالة، إننا في حاجة إلى القذف بطائفة من شعراء الشباب إلى النار، نار النقد تنقيهم وتطهرهم، وإلى (تجريدة) تأديبية نشنها على النقاد، وقفت أنت يا صاحب الرسالة تصد عنهم الهجمات شفقة بهم ورثاء لحالهم بسلاح قاطع من اللطف والذوق والروح الإنساني النبيل
وبعد هذا، أزعم أن الفرق بيني وبين ناقد الرسالة، وبيني وبينك يا صاحب الرسالة يتلخص في أن القسوة في النقد - في اعتقادي - أجدى وأنفع للشاعر الناشئ وللشاعر الذي أدركته الكهولة ولم ينضج بعد، لأن الصراحة في النقد - في اعتقادي أيضاً - هي الحد الفاصل بين الإقدام على الحياة بروح المتوثب المتحدي، وبين الإحجام عنها. أما أنت يا صديقي وناقد الرسالة أيضاً تريان عكس رأيي في القسوة في النقد وصراحته، وبذلك يتوهم المهازيل من شعراء الشباب أنهم عباقرة سبقوا جيلهم، وأن الواحد منهم هو إله الشعر وحده وسواه العدم وهذه هي الطامة الكبرى.
حبيب الزحلاوي(564/35)
لقد ظلموا شعراء الشباب!
أكاد ألمح في أكثر ما قرأت غمطاً لحق شعرائنا الشبان، وتثبيطاً لعزائمهم؛ فأكثر ما أقرأ يدور حول الزراية بأسلوبهم، والغض من أخيلتهم، ورمى كثير منهم بالغموض تارة، وبالمروق من مألوف العرب تارة أخرى؛ وما انصرف كاتب منصف لبيان فضل أولئك الشباب في شق طريقهم إلى المجد بين مختلف العثرات، ومسايرتهم النهضة الحديثة في طرائق التفكير، وتساميهم بأساليبهم بين أمواج الدخيل وعواصف العجمة وظلمات العامية المطبقة التي تأخذ على الغربي سبيله في المسارح والمجالس وكثير من المجلات المغرمة بإرضاء العامة؛ وأستاذنا الكبير (ا. ع) قادر بما له من واسع الثقافة، وطويل الخبرة، وأسلوب الحليم على أن يجعل من بحثه الرائق معهد نقد (بمعناه الأعم) يصف الداء، ويتبعه الدواء، والأستاذ دريني خشبة في استطاعته وهو المواكب لنهضة الشباب أن يجلو محاسن شعرهم، ويبرز للقراء لمعات العبقرية في أشعارهم، ومواطن الرجاء عند أكثرهم؛ إذا يجد القارئ قضية الشباب مبسوطة جلية ويستمع لأنصارهم كما يستمع للزارين عليهم. أما أن نبسط في أمر هؤلاء الشباب صحيفة السيئات ونطوي ما عداها وهم خلفاؤنا - رضينا أو سخطنا - على تراث الأدب فإن ذلك ليس في شرعة الإنصاف، وقد يكون له عواقب بعيدة المدى في تثبيط العزائم
إذا كان في أسلوبهم ضعف فأين مواطنه؟ وكيف يستطيع بعضهم أن يرضى قراء البحتري والمتنبي وأبي فراس وابن هانئ وأمثالهم؟ كيف يستطيع بعضهم - ممن لم تيسر لهم دراسة أدبية خالصة - أن يظفروا بإعجاب أولئك السادة وما وجدوا أمام أعينهم في أكثر مراحل التعليم إلا مختارات ضئيلة وتراجم قليلة تعني بفلسفة البحث أكثر من عنايتها بطرائف الأدب؟ عدلوا أساليب الدراسة الأدبية، ويسروا على شبابنا سبل الوصول إلى كنوزها، وزودوهم بمراجع الشعر مجلوة مسفرة، ثم وجهوا درس الأدب إلى تذوق الجمال الفني قبل غيره من بحوث فلسفية قليلة الجدوى؛ وإذاً لا يكون للشعراء الناشئين إلا أن يجودوا أو يتعرضوا للنقد اللاذع الصريح
وإن كان في أخيلة بعضهم شيء من الغموض وجنوح إلى التهاويل فهل خلا شعر هؤلاء(564/36)
من نفحات الشاعرية، وومضات العبقرية؟ وهل خلا شعر أبي تمام والمتنبي والمعري وابن هانئ وشوقي والزهاوي من عقد في الخيال، ودقة في التصور حيرت الباحثين أزماناً؟ أليس الزمن وحده والنقد الرفيق الموجه أجدى على شعر الشباب من هذه القسوة التي لا يبررها نبل أصحابها وشرف مقاصدهم؟
(الإسكندرية)
م. ع البشبيشي
حول شعراء الشباب
أخونا الأستاذ (دريني خشبة) رجل طيب ما في ذلك شك. وآية ذلك أن يفهم أنه يمنح أحداً من الناس شيئاً، أو يسلب أحداً من الناس شيئاً، بشيء يكتبه على تسق ما يكتب في هذه الأيام. وسبحان من أودع في كل قلب ما أشغله!
وآية ذلك كذلك، أن يشفق على الشبان من الأستاذ الجليل (ا. ع) هذا الإشفاق، وأن يأرق منه هذا الأرق. وأن يفهم (أنه رجل يستطيع أن يقضي على الجهود التي بذلتموها يا معشر الشعراء الشباب في سبيل تجديد الشعر العربي). . .
وإنه ليعز على أن يساور الأستاذ (دريني) كل هذا القلق على (شبانه!) الذين يشملهم برعايته، ويجد من بعضهم - المتواضع - البر والشكران، ومن بعضهم - المتكبر - العقوق والكفران. فأحب أن أرد إلى قلبه الطمأنينة، وإلى عينه الكرى. فلا - وحق طيبته علينا - فما الأستاذ الجليل (ا. ع) بصانع شيئاً في شعراء الشباب، يمثل هذا الكلام (العايم) الذي قصاراه أن يندب شعراء الجيل الماضي، أن يزري بشعراء هذا الزمان. وما الأستاذ الجليل أيضاً (دريني خشبة) بصانع شيئاً لشعراء الشباب بمثل هذا الذي يكتبه
ونحن - مع كل هذا - أميل إلى (مفهوم) رأي الأستاذ الجليل (ا. ع) في معظم ذلك البهرج الزائف الذي يفتن به الكثيرون من الشبان. وإذا احتجنا يوماً إلى توسيع آفاق الشعر عن مدى ما يستطيع أن يفهمه الأستاذ الجليل منه، فإننا سنكون أحوج إلى إنقاذ الشعر من مثل هذا البهرج
وإني لأرجو في النهاية ألا أكون قد أزعجت طيبة مولانا الأستاذ (دريني) وإنني لصادق(564/37)
حين أقسم له أن لا شيء أعز عليَّ من طمأنينة هذه الطيبة المبروكة.
سيد قطب
الصداقة والأدب والنقد
قرأت في إحدى المجلات ما كتبه الدكتور زكي مبارك عن تأثره البالغ مما كتبه أحد الأدباء عن كتابه (النثر الفني) في مجلة (الرسالة)، وكنت أظن الدكتور المبارك أكثر احتمالاً لهجمات النقد أكثر مما رأيت اليوم، لأن الاحتمال والمرابطة من شأن من يصاولون وينازلون، وما أكثر ما صاول ونازل الدكتور لمناسبة ولغير مناسبة! أما مأخذه على صاحب (الرسالة) من العقوق للأصدقاء، فهو حجة على الدكتور لا له، لأن من يخدم الأدب الرفيع يجب أن يكون على هذه الرفعة من الأخلاق العالية لا يحابي صديقاً، ولا يناصر فريقاً، إنما العيب كل العيب أن ينشر الناشر نقد الدكتور (مبارك) وهو أمشاج وأخلاط من الإغلاظ والإفحاش. ومثل الرجل (الزيات) كمثل ذلك الأبي العربي الذي يقول: (إن قوله الحق لم تدع لي صديقا)
أكتب هذا بمناسبة طلب إحدى المكتبات إلى أن تنفرد بنشر كتاب لي في النقد الذي يعمل برسالته الزيات جاهداً، فعندما مثل الكتاب بين يدي مدبرها قال: ألا تظن أن نشر هذا الكتاب يغضب كثيراً من كبار الكتاب؟ قلت: وما يهمك من غضب الناس ما دمت تريد خدمة الأدب بنشر كتاب للنقد؟! قال يحرمون نشر كتبهم علينا! قلت: إن الأدب لا يخدمه (التجار) وإنما يخدمه أبناؤه الأبرار، واعتزمت طبع كتابي ثم بدأت
هذه يا دكتور قصة (كتاب وتاجر). فهل كنت تأمل أن تخلق من الزيات تاجراً يعق الأدب ولا يعقك، أو تمنع عنه كتبك؟! هذا ما أرجو أن تتدبره ويتدبره الكتاب والقراء جمعياً، فليست العبرة في أن يفقد الإنسان أصدقاءه في سبيل رسالة الحق، وإنما العبرة في أن يصبح الأديب بعد حياة حافلة أداة للإرضاء والإبقاء على الأصدقاء
(ع. س)(564/38)
العدد 565 - بتاريخ: 01 - 05 - 1944(/)
الأعمار والتواريخ في الجاهلية
للأستاذ عباس محمود العقاد
روى صاحب الطبقات الكبرى روايات كثيرة عن سن النبي عليه السلام يوم وفاته. فروى عن أنس بن مالك أنه عليه السلام توفى وهو ابن ستين سنة
وروى عن الأسود بن عامر بسنده أنه عليه السلام بعث وهو ابن أربعين ومات وهو ابن ستين وتعددت الروايات التي تقول بهذه السن كما تعددت الروايات التي تقول بثلاث وستين سنة. وجاء في رواية عن ابن عباس أنه توفى في الخامسة والستين
وعرض المؤرخون لسن عمر بن الخطاب فذكر ابن قتيبة أنه رضي الله عنه مات في الخامسة والخمسين. وروى عامر بن سعد أنه مات في الثالثة والستين
وعرضوا لسن عمر بن العاص فقال النواوي إنه مات في السبعين، وقال الليث بن سعد والهيثم بن عدي والواقدي وابن بكير أنه مات وسنه مائة سنة. وقال أحمد العجلي وغيره تسع وتسعون سنة. وقال السيوطي وغيره تسعون!
هذه روايات المؤرخين الثقات لتواريخ الميلاد في الجاهلية، وأي ميلاد؟
ميلاد صاحب الدعوة الإسلامية التي بدلت وجه الدنيا بعد أن بدلت وجه البلاد العربية؛ وميلاد خليفة من أشهر خلفاء الإسلام وأشهر حكام العالم كله على إطلاقه؛ وميلاد قائد كبير وسياسي خطير فتح مصر وفلسطين وأقام مع بني أمية أول دولة ذات عرش في تاريخ الإسلام
وذلك هو مبلغ اليقين من تواريخ ميلاد هؤلاء الأعلام، ومن تقدير أعمارهم جميعاً في يوم الوفاة: فرق خمس سنوات في عمر النبي! وفرق ثماني سنوات في عمر الخليفة! وفرق ثلاثين سنة في عمر القائد الكبير
ونقترب من وجهتنا فنروي أقوال المؤرخين عن سن السيدة أم رومان زوج أبي بكر الصديق وأم السيدة عائشة رضى الله عنهما
جاء في الإصابة: (قال أبو عمر كانت وفاتها فيما زعموا في ذي الحجة سنة أربع أو خمس عام الخندق. وقال ابن الأثير ست. . . . والخبر الذي ذكر ابن سعد وأخرجه البخاري في تاريخه عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة. . . . عن علي ابن زيد بن جدعان(565/1)
عن القاسم بن محمد قال: لما دليت أم رومان في قبرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى هذه. . . وقال أبو نعيم الأصبهاني قيل إنها ماتت في عهد رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم وهو وهم. . . وقال إبراهيم الحربي سمع مسروق عن أم رومان وله خمس عشرة سنة، ومقتضاه أن يكون سمع منها في خلافة عمر، لأن مولده سنة إحدى من الهجرة، إلى آخر ما جاء في ترجمة أم رومان)
وذلك هو مبلغ المؤرخين من تحقيق سن سيدة أصبحت زوج الخليفة الأول وحماة النبي عليه السلام
ونقترب أيضاً من وجهتنا فنروى ما جاء في الاستيعاب عن سن السيدة فاطمة الزهراء إذ يقول:
(كانت هي وأختها أم كلثوم أصغر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف في الصغرى منهما. وقد قيل إن رقية أصغر منها، وليس ذلك عندي بصحيح. وقد ذكرنا في باب رقية ما نبين به صحة ما ذهبنا إليه في ذلك، ومضى في باب زينب وباب خديجة من ذلك ما فيه كفاية. وقد اضطرب مصعب والزبير في بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيتهن أكبر وأصغر اضطراباً يوجب أن لا يلتفت إليها. . .)
ونروى ما جاء في الإصابة حيث يقول: (واختلف في سنة مولدها فروى الواقدي من طريق ابن جعفر الباقر قال العباس: ولدت فاطمة والكعبة تبنى والنبي صلى الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثين سنة وبهذا جزم المدائني. ونقل أبو عمر بن عبيد الله ابن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي أنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مولدها قبل البعثة بقليل نحو سنة، وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين)
ومعنى هذا أننا إذا أخذنا بقول العباس، وهو أولى الناس أن يؤخذ بقوله في ذرية النبي عليه السلام، فهناك فرق يبلغ ست سنوات بين سن عائشة كما يرويها بعضهم وسنها كما تخلص لنا من هذا الحساب
وجاء في ترجمة زينب رضى الله عنها كما رواها صاحب الإصابة: (هي أكبر بناته وأول(565/2)
من تزوج منهن، ولدت قبل البعثة بمدة قيل إنها عشر سنين. واختلف هل القاسم قبلها أو بعدها. وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن ربيع العبشمي. . .)
فقد بلغ الاختلاف إذن في ترتيب الأعمار أن لا يعلم على التحقيق من السابق ومن التالي من البنين والبنات، وفي ذلك ما يأذن بفرق سنتين أو ثلاث سنوات
رأينا هذا التفاوت البعيد في رواية أعمار النابهين والنابهات فوقفنا موقف الحذر من كل رواية تخالف المعقول والمألوف ولا داعي للجزم بها دون سائر الروايات
ورأينا أن التفاوت على هذا النحو في سن السيدة عائشة غير بعيد بل هو أقرب من ذلك إلى الاحتمال، لأن مولد السيدة عائشة ليس أولى بالتحقق من مولد النبي أو مولد عمر أو مولد أبناء النبي وبناته، ولأن الرواة هنا لا يفضلون الرواة هناك، ولأن الاختلاف واقع فعلاً بين سبع وتسع سنوات عند الخطبة. وجاء ابن هشام فقال: (وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة وهي بنت سبع سنين، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين أو عشر)
واخترنا رواية العباس التي يضاف فرقها إلى هذه السن فترتفع إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة
وقابلنا بين الأعمار وبين مناسبات الزواج فعلمنا أن السيدة خولة بنت حكيم اقترحت الزواج على النبي صلوات الله عليه بعد وفاة السيدة خديجة لأنها رأته في بيته على حال وحشة فقالت: (أي رسول الله! ألا تزوج؟ فسألها من؟ قالت إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً). . . وهي بالبداهة لا تقترح عليه في تلك الحالة خطبة بنت في السادسة أو ما دونها ليتم الزواج بعد حين
وعلمنا أيضاً أن السيدة عائشة كانت مخطوبة قبل ذلك لجبير بن مطعم وهو مشرك، فلما خطبها النبي عليه السلام قالت أم رومان زوج أبي بكر: إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه، فدخل أبو بكر على مطعم ابن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت:
يا ابن أبي قحافة! لعلك مصبئ صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك؟) فانفسخت الخطبة على أثر هذا الحديث(565/3)
علمنا هذا فأضفناه إلى ما تقدم وخلصنا منه إلى أن السيدة عائشة كانت أكبر من سنها المروية يومذاك (لأنها إما أن تكون قد خطبت لجبير بن مطعم بعد أن بلغت سن الخطبة وهي قرابة التاسعة أو العاشرة، وبعيد جداً أن تنعقد الخطبة على هذا التقدير مع افتراق الدين بين الأسرتين، وإما أن تكون وعدت لخطيبها وهي وليدة صغيرة كما يتفق أحياناً بين الأسر المتآلفة، وحينئذ يكون أبو بكر مسلماً عند ذلك، ويستبعد جداً أن يعد بها فتى على دين الجاهلية. . .)
قلنا ذلك لم يخف علينا حين قلناه إن الزواج قد جمع بين المسلمات والمشركين في أوائل عهد الدعوة المحمدية
ولكننا كنا نعلم مع هذا أنه الاستثناء وليس بالقاعدة الشائعة المحمودة، وأنه حصل في أحوال خاصة لا يقاس عليها. وسرعان ما تبدل الموقف فيها حين تبدلت تلك الأحوال. فزينب بنت النبي عليه السلام قد تزوجت ابن خالتها وكانت أول من تزوج من بناته؛ ولعلها تزوجت قبل الدعوة قياساً على الخلاف المتقدم في الأعمار والتواريخ، وما هو إلا أن تيسر للنبي أن يفرق بينها وبين زوجها حتى بادر إلى التفرقة بينهما بعد جهد جهيد
والظاهر الواضح من المناسبة التي نزلت في صددها آيات التحريم القاطع لنكاح المشركين والمشركات أن هذا الزواج كان بغيضاً إلى نفوس المسلمين ولما تنزل بعد هذه الآيات. فقد جاء في رواية أنها نزلت في أبي مرثد الغنوي وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سراً. فسمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق كانت خليلته في الجاهلية، فأتته فقالت: ألا نخلو؟ فقال: ويحك يا عناق! إن الإسلام حال بيني وبين ذلك؟ فقالت له: هل لك أن تتزوج بي؟ قال: نعم. ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استأمره فلما قضى حاجته بمكة وأنصرف إلى رسوا الله أعلمه بما كان من أمره ومن أمر عناق وسأله: أيحل لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية)
وورد في قول آخر أنها نزلت لأن عبد الله بن رواحة تزوج أمةَ له وفضلها على المشركات ذوات ألاحساب، فلغط بزواجه من الأمة بعض أصحابه فنزل القرآن ينصفه من لائميه (. . . ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم)
وظاهر واضح من كلتا المناسبتين أن زواج المسلم بالمشركة كان موضع تردد وتساؤل قبل(565/4)
نزول الآيات فضلاً عن زواج المسلمة بالمشرك، وفضلاً عن السعي إلى زواج المسلمة بالمشرك قبل بلوغ السن بسنوات كأنه غنيمة يخشى أن تفوت!
ومع هذا لو كانت خطبة جبير بن مطعم قد تمت بعد ظهور الدعوة المحمدية فما الذي جد حتى عادت أمه تخاف من دين أبي بكر على دين ولدها؟ ألم يكن أبو بكر مسلماً وكان الخوف على الخطيب أولى وأحرى وهو طفل صغير؟ أليس هذا وحده كافياً لترجيح الخطبة قبل الدعوة كما قلنا في كتاب (الصديقة بيت الصديق). . .؟
لذلك كله رجحنا أن السيدة عائشة تجازوت الثانية عشرة ولم تنقص عنها يوم زفت إلى النبي عليه السلام
وكان في وسعنا أن نقف عند الأرقام المترددة ونريح أنفسنا فلا نفند شيئاً من المزاعم التي بناها بعض المبشرين والمستشرقين على تقدير السن عند الزواج بالتاسعة أو ما دونها، وقد كان لها من الأثر في عقول أبناء هذا الجيل ما يعلمه كل ذكي لبيب
كان ذلك في وسعنا ولا جهد فيه علينا، ولكننا وصلنا بالقرائن المعقولة والمقابلة السائغة إلى تصحيح السن على وجه لا يأذن لأحد بالتمحل والانتقاد، ولم نتوسل إلى ذلك بإنكار آية أو حديث أو أصل من أصول الدين، ولكننا تناولنا السنوات والتواريخ بالشك الذي تستحقه، وهي تتسع في أشيع الروايات لفرق السنة والسنتين والعشر والثلاثين. . . فماذا في هذا كله من دواعي التهويل والصريخ؟ وما سر الاستماتة في تخطئة هذا التصحيح والإصرار على أن السيدة عائشة تزوجت في السابعة أو التاسعة ولم تتجاوزها، مع أن النص المكتوب - ولا نذكر القياس والاستنتاج - قد زادها إلى عشر سنين؟
أما دواعينا نحن فهي تلك الأسباب وتلك القرائن وكلها مما يوافق التنزيه الواجب لمقام الرسول
وأما دواعي المنكرين التي دعتهم إلى تسجيل تلك السن دون غيرها فعليهم هم أن يبينوها وينظروا أينا أقرب إلى البر بالإسلام، وأحرص على تعظيم نبيه عليه السلام.
عباس محمود العقاد(565/5)
الحكم على الشعر وأساليب النقد والتحليل
للدكتور محمد صبري
كتب (أستاذ جليل) في الأسبوع الفائت يقول: (للدكتور محمد صبري) أن يرى في مقالته. . . أن نونية أبي تمام في رثاء ولده قد فاتت رائيته في محمد بن حميد الطوسي التي يقول فيها:
فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ... ولكن كبراً أن يقال به كبر
(وللأستاذ عبد الرحمن شكري أن يستعجب في إحدى مقالاته كيف أن حبيباً - وهو في الرثاء ما هو - لم يجد في النونية إجادة ابن الرومي في الدالية التي رثى بها ولده. غير أن تلك القصيدة فائقة كانت أو مقاربة ليست لأبي تمام وإن جاءت في ديوانه المطبوع، وفي المخطوط في دار الكتب. . .)
ودليل حضرة الكاتب على أن النونية ليست لأبي تمام هو (أن أبا بكر الصولي روى القصيدة بتمامها في (كتاب الأوراق) لأبي محمد القاسم بن يوسف، وروى بعادها (دالية للقاسم في رثاء ابنه محمد وبنين آخرين له تجانسها كل المجانسة) والصولي مشغوف بحبيب، وهو الرواية العظيم. . . وما حدثتنا (أخبار أبي تمام) ولا المؤلفات التي كتبت سيرة حبيب أن له ابناً، كنيته أبو على. . . ولا أن له ابناً اسمه محمد ولا نعرف لحبيب ولداً إلا (تماما) كان هنا محمد بن طاهر حين وليَ خراسان الخ)
قد يكون الصولي راوية عظيما في عصره؛ ولكن كتبه في اعتقادي ينقصها التحقيق العلمي وكلها حلقات من روى فلان عن فلان، وحدثنا. . . هذا من ناحية الرواية؛ أما ناحية الأدب فيه فلا أظنها كاملة من حيث الذوق والصقل، ولذلك فإن كتبه وكتب غيره لم تستوعب أخبار أبي تمام ولم تدقق فيها. وإننا لا نعرف إلا القليل من حياة حبيب ومعاصريه بل من حياة العصر العباسي نفسه، فالطبري وابن الأثير والمسعودي يكررون نفس الروايات، والنساخ يمسخون أسماء الأعلام، فترى الاسم الواحد يختلف باختلاف المؤلف والناسخ. ومن الصعب أن نهتدي إلى تاريخ قصيدة أو إلى تاريخ موت وزير كبير رثاه الشاعر بقصيدة معروفة. بل إن البحتري تكلم عن حوادث حربية هامة لا تتفق مع رواية تواريخنا الكبرى إذا ذكرت فيها. . . بينما تذكر الحوادث التافهة بإسهاب وفي غضونها الشعر(565/6)
السقيم. . .
ولو دقق حضرة الأستاذ الفاضل النظر لتبين له أن الصولي لم يكن من المدققين لأنه روى دالية للقاسم (في رثاء ابنه محمد وبنين آخرين) ولتبين له أن هذه القصيدة الدالية لا تجانس النونية كل المجانسة!
روى الصولي في كلامه عن شعر القاسم (وقال يرثي أولاده) فلم يذكر لنا أسماء أولئك البنين، بل إن المتأمل في القصيدة يرى عجباً، يرى أن البنين، إذا كان هناك بنون، هم محمد ومحمد ومحمد!
هلك البنون محمد ومحمد ومحمد
واستأثرت بهم المني ... ة والمنية موعد
وبعد أن استطرد الشاعر إلى ذكر الأحبة والقرناء الذين يطويهم الموت في أبيات معدودات عاد إلى رثاء ابنه محمد الذي يكنى بأبي علي:
أسفاً عليك أبا عل ... ي والمنايا رُصَّد
أسفاً عليك أبا عل ... ي يوم ضمك ملحد
كالبدر فارقه النحو ... س وقارنته الأسعد
والقسم الأكبر والأخير من القصيدة لم يذكر فيه الشاعر إلا ابنه محمداً، وظاهر أنه كان ابنه الوحيد:
هل لي على الحزن الطوي ... ل سوى (لبابة) مسعد
ثكلى بواحدها فلي ... س لها عليه تجلد
أُلباب إن الصبر أب ... قى للإله وأرشد
والواقع أنه لا تجانس بين هذه الدالية وبين نونية أبي تمام؛ فالدالية قصيدة فقيه زاهد، والنونية قصيدة شاعر. والواقع أنه لم يكن هناك بنون بل ابن واحد هو أبو علي محمد، والقاسم حين يقول في بدء القصيدة:
هلك البنون محمد ومحمد ومحمد
فإنما أراد التهويل من شأن مصابه بطريقة أقل ما يقال فيها إنها لا تدل على (شاعرية) كبيرة(565/7)
والواقع أن أبا تمام كان له ابن اسمه محمد وكان للشاعر اخوة؛ وقد رثى الجميع بأربعة أبيات من الشعر الذي تتجلى فيه شخصيته:
فلا يشمت الأعداء بالموت إننا ... سنخلى لهم عن عرصة الموت موردا
ولا يحسبُنَّ الموت عاراً فإننا ... رأينا المنايا لم يدعن (محمدا)
ولا يحسب الأعداء أن مصيبتي ... أكلت لهم مني لساناً ولا يدا
تتابع في عام بُنَيَّ واخوتي ... فأصبحت إن لم يخلف الله مفردا
ففي نونيته يقول أبو تمام:
بني يا واحد البنينا ... غادرتني مفرداً حزينا
وفي هذه الأبيات يقول: (فأصبحت إن لم يخلف الله مفرداً)
وقد أخلف الله عليه فرزقه (تماما) الذي ورد ذكره في تهنئة محمد بن طاهر عند ولايته خراسان، فمعلوم أن أبا تمام ولد سنة 192 هـ ومات سنة 231. ويمكننا أن نفرض أنه تزوج في سن العشرين تقريباً أي في سنة 212 أو 215 وأن ابنه محمداً مات صغيراً قبل العاشرة أو حواليها أي في سنة 222 أو 225، وفي هذه السنة عينها مات اخوته (تتابع في عام بني وأخوتي)
وإني أكرر أن نونية أبي تمام من رائع الشعر. وإني أدع جانباً الأبيات التي ذكرتها من قبل والتي صور فيها ابنه وهو على فراش الموت، وأجتزئ هنا بذكر أربعة أبيات أخرى من آخر القصيدة تطل من أسلوبها وكلماتها روح حبيب:
تصرف الدهر بي صروفا ... وعاد لي شأنه شؤونا
وحز في اللحم بل براه ... واجتث من طلحتي فنونا
أصاب مني صميم قلبي ... وخفت أن يقطع الوتينا
فالمرء رهن بحالتيه ... فشدةً مرة ولينا
ولم يرو الصولي البيت الثاني
وقد نظم أبو تمام الأبيات الدالية التي رثى بها اخوته وابنه محمداً بعد النونية، ويظهر أنه عند نظمها كانت امرأته (تحمل) تماما. . . الذي مات عنه صغيراً، وقد ولى محمد بن طاهر خراسان في سنة 248 فتكون سن تمام وقت تهنئته ابن طاهر 25 سنة تقريباً، ولا(565/8)
أظن تماما روى عن أبيه شيئاً، لأنه لم يكن يتجاوز الثامنة أو التاسعة عند موته
ولعل فقدان حلقات كثيرة في حياة الشعراء وعدم وجود ملكة التمحيص والتحقيق هما اللذان دفعا الصولي إلى نسبة نونية أبي تمام إلى القاسم لاشتراك ابنيهما في الاسم والكنية
ولنعد الآن إلى الأبيات التي صور فيها الطائي ابنه وهو صريع الموت والداء:
آخر عهدي به صريعاً ... للموت بالداء مستكينا
إذا شكا غصة وكربا ... لأحط أو راجع الأنينا
يدير في رجعه لسانا ... يمنعه الموت أن يبينا
يشخص طوراً بناظريه ... وتارة يطبق الجفونا
ثم قضى نحبه فأمسى ... في جدث للثرى دفينا
وقد جاء في الديوان بعد ذكر القصيدة النونية ما يأتي:
وقال في أخ له وحضر وفاته
لله مقلته والموت يكسرها ... كأن أجفانه سكرى من الوسن
يرد أنفاسه كرهاً وتعطفها ... يد المنية عطف الريح للغصُن
فملكة التصوير واحدة في القطعتين؛ وملكة التصوير هذه لا تجدها إلا عند فحول الجاهليين والإسلاميين، وهي خاتم الجلال العتيق الذي يزين ملامح الشعر العربي وميسم الحسن والروعة والجمال.
محمد صبري(565/9)
2 - شعر ناجي
للأستاذ دريني خشبة
وميزة ناجي الثانية هي قدرته على التصوير. . . وهو يصور في يسر ورخاء وخصب؛ وهو يصور الصورة الكاملة التامة بالكلمة الواحدة أحياناً يضعها في مكانها من البيت فتحار إذ ترى أنها لا تصلح إلا فيه. . . وقد يصور الصورة الرائعة بالكلمتين أو بالشطرة أو بالبيت الكامل أو بالبيتين أو بالمقطوعة أو بالمنظومة كلها، فيضع بين يديك ألواناً جيدة حسنة المزج، خالية من الصنعة والتكلف. ويحافظ ناجي على طبيعة ألوانه هذه، ويحافظ على إلا يجعلها صارخة مبتذلة، وقد يؤثر اللمس الخفيف على الخطوط القاطعة القوية، وكثيراً ما يكتفي بالرمز، بل كثيراً ما يصور بالوهم، فيجعلك تتوهم مثله لتخلق معه الصورة التي يريد
ومما يزيد في بهاء صور ناجي جودة الأداء، أقصد جودة انتقاء الألفاظ التي تحمل الصورة، وحسن سبكها، في غير مشقة ولا عسر. . . ومما يجمل التفات إليه أن جودت الأداء وحسن السبك لم يبلغا أوجهما في الشعر العربي إلا بعد ابتداع الموشحات، ومما نحمد الله عليه أن شعراءنا الشباب قد استغلوا نظام الموشحة استغلالاً حسناً ساعدهم في الثورة على القصيدة المطردة القافية فافتنوا في معانيهم وأبدعوا. . . والظريف من ناجي أنه يطبق ذلك في صمت تطبيقاً عملياً. . . ومنذ أخذنا نقرأ ناجي لم نره قط يطيل في قصائده، بل كان يؤثر لها البساطة والبحر الساذج القصير دائماً؛ فإذا كانت منظومته من طراز الموشحات رأيناه يطيل إطالة عجيبة، ورأينا مقطوعاته تحمل من الصور والبراعات ما يفتن به القلوب ويخلب الألباب
ولعل من أجمل صور ناجي تلك التي حمل إلينا فيها قلبه، والتي قدمنا منها النماذج الكثيرة في الكلمة السابقة. . . فقلبه: الشهيد المتواري في الضلوع. . . صورة رائعة فيها سحر وفيها فتنة وفيها حب وأنين وألم. . . وكلمة الشهيد وحدها حين تصف القلب تحمل إلى أذهان المحبين صور تلك الساعات الحلوة التي ألتذوا فيها آلام الصبر والتشوف والحنين والانتظار وخلف المواعيد، وهي آلام إذا أحست الجوارح الإنسانية منها شيئاً، أحس منها القلب الإنساني كل شيء. . . فما أبدع كلمة الشهيد في تصوير القلب يدمى ويألم ويتوجع(565/10)
فهذه صورة رائعة من صور ناجي في كلمة واحدة!
ويقول ناجي:
رفرف القلب بجنبي كالذبيح ... وأنا أهتف: يا قلب اتئد!
رفرف القلب! كلمتان جميلتان تصوران القلب في صورة الطائر الذي يحرك جناحيه حول الشيء كما يقول القاموس. . . ورب قائل يعترض بأن هذه صورة قديمة مأخوذة من قول من قال مثلاً: كما انتفض للعصفور بلله القطر. . . وهو اعتراض لا يكاد يقف على قدميه، فرفرفة القلب رمز جميل وتلميح، وانتفاض العصفور بلله القطر إفاضة وتصريح، ولكل من الصورتين بعد ذلك بهاؤها وروعتها، فإذا أخذنا الصورة الثانية التي يرفرف القلب فيها بجنب الشاعر كالذبيح، رأينا لوحة شاملة فيها كثير من التفاصيل الغنية. . . ثم تتغير هذه اللوحة حينما نقرأ البيت كاملاً. . . لأننا نرى الشاعر، أو روح الشاعر، تقف في جانب من الصورة الرائعة وهي تخاطب القلب هذا الخطاب الرقيق، وتهتف به مشفقة عاتبة؛ يا قلب اتئد! فرفرف القلب صورة، ورفرف القلب كالذبيح صورة ثانية، والبيت كله صورة ثالثة. . . وهنا قوة ناجي المصور الفنان الذي يجيد مزج ألوانه. . .
وانظر إلى الصور الكثيرة المتتالية في المقطوعة التالية:
هل رأى الحب سكارى مثلنا؟ ... كم بنينا من خيال حولنا!
ومشينا في طريق مقمر ... تثب الفرحة فيه قبلنا!
وتطلعنا إلى أنجمه ... فتهاوين وأصبحن لنا!
وضحكنا ضحك طفلين معاً ... وعدونا. . . فسبقنا ظلنا!
فيا للفرحة التي تثب في هذا الطريق المقمر قبل المحبين؟ ويا لهذه الأنجم التي يتطلع إليها المحبون فترثي لهم وتترفق بهم فتتهاوى وتصبح لهم! ويا للمحبين حين يسعدون فيضحكون ويعدون. . . ويسبقون ظلالهم! أما كيف يسبق الإنسان ظله فصورة روحية قد لا يفهمها إلا من صحب دانتي الليجييري في مطهره، وفرجيل يقوده وسط أشباح وأرواح!
ويودع حبيبه فيقول:
حان حرماني فدعني يا حبيبي ... هذه الجنة ليست من نصيبي
آه من دار نعيم كلما ... جئتها أجتاز جسراً من لهيب(565/11)
وأنا إلفك في ظل الصبا ... والشباب الغض والعمر القشيب
أنزل الربوة ضيفاً عابراً ... ثم أمضي عنك كالطير الغريب!
وفي أول هذا الوداع يقول:
حان حرماني وناداني النذيرْ ... ما الذي أعددت لي قبل المسيرْ
زمني ضاع وما أنصفتني ... زاديَ الأول كالزاد الأخير
رِي عمري من أكاذيب المنى ... وطعامي من عفاف وضمير
وعلى كفك قلب ودم ... وعلى بابك قيد وأسير!
والصورتان اللتان يحملهما البيت الأخير من أخلد الصور في الشعر العربي!
وإليك هذه الصورة:
يا مناجاتي وسري ... وخيالي وابتداعي
ومتاعا لعيوني ... وشميمي وسماعي
تبعث السلوى وتنسى الموت مهتوك القناع:
دمعة الجزن التي تسكبها فوق ذراعي!!
فما أبدع هذا التصوير الرمزي في البيت الأخير أيضاً
ويصور الحنين فيقول:
أبغي الهدوء ولا هدوء وفي ... صدري عباب غير مأمونِ
يهتاج إن لح الحنين به ... ويئن فيه أنين مطعون
ويظل يضرب في أضالعه ... وكأنها قضبان مسجون!
ويقول فيه أيضاً:
ويح الحنين وما يجرعني ... من مُرْه ويبيت يسقيني
ربيته طفلاً بذلت له ... ما شاء من خفض ومن لين
فاليوم لما اشتد ساعده ... وربا كنوار البساتين
لم يرض غير شبيبتي ودمي ... زاداً، يعيش به ويفنيني!
كم ليلة ليلاء لازمني ... لا يرتضي خلاًّ له دوني
ألفى له همساً يخاطبني ... وأرى له ظلاً يماشيني(565/12)
ويستطيع القارئ أن يعد صوراً شتى في هذه الأبيات التسعة وهاك صورتين عجيبتين صور بهما ناجي حبيبته: أما الأولى فهذه:
وأنت مثل النجم في المنتأى ... وفي السنا الخاطف كألماسِ
يرنو له الناس ويبغونه ... وما يبالي النجم بالناس
وهي صورة مركبة في البيت الأول، أما الثانية فهي:
وأنت كأس الحسن لكننا ... مثل حباب حام بالكأس
طفا وقد قبَّل أنوارها ... ورف مثل الطائر الحاسي
وجف أو ذاب على نورها ... كما يذوب الطلَ بالآس
وهذه صورة مركبة أيضاً، لأنها تتألف من صور خلابة شتى، تذكرنا بصور ابن المعتز وذي الرمة والبحتري. . . ولست أبالي أن أذكر أن صور ناجي هذه تفوق صور هؤلاء بالرقة واللمس الدقيق!
وانظر كيف يحيي لنا ناجي سنة الأولين في الوقوف بالأطلال:
آها مما صنع الدهر بنا ... أو هذا الطلل العابس أنتِ!؟
والخيال المطرق الرأس أنا؟! ... شد ما بتنا على الضنك وبتِّ!
أين ناديك وأين السمَرُ! ... أين أهلوكِ بِساطاً وندامى؟
كلما أرسلت عيني تنظر ... وثب الدمع إلى عيني وغاما!
موطن الحسن ثوى فيه السأمْ ... وسرت أنفاسه في جوِّهِ
وأناخ الليل فيه وجثم ... وجرت أشباحه في بهوه
ولا بأس من نقل الصور التالية من تلك المنظومة الخالدة من شعر ناجي:
والبلى! أبصرته رأى العيانْ ... ويداه نتسجان العنكبوت
صِحت: يا ويحك تبدو في مكانْ ... كل شيء فيه حي لا يموت؟
كل شيء من سرور وحَزَنْ ... والليالي من بهيج وشِجى
وأنا أسمع أقدام الزمن ... وخُطى الوحدة فوق الدرج
فمن من الشعراء القدامى أو الشعراء المحدثين وقف على طلل حبه فبكاه هذا البكاء واستطاع أن يصوره هذا التصوير؟ أنظر إلى هذا الخيال المطرق كلما أرسل عينيه في(565/13)
دمنة حبه وثب إليهما الدمع. . . وغاما!. . . وانظر إلى الليل كيف ينيخ في هذا الطلل ويجثم، وكيف تجرى أشباحه في عرصاته وتهوم! وانظر إلى البلى كيف تنسج يداه العنكبوت في هذا الرسم الدارس، والمحب الباكي واقف يسمع إلى أقدام الزمن تدب في أركان هذا المكان الذي كان نادي حبه وجنة قلبه، وإلى خطى الوحدة الموحشة نازلة صاعدة فوق الدرج. . .
وإليك هذه الصورة من منظومة في حبيبه المريض الذاوي:
ذهب الصبا الغالي، وزالت دوحة ... مدت لنا ظل الوفاء ظليلا
أيام يخذلني أمامك منطقي ... فإذا سكت، فكل شيء قيلا!
ويثور بي حبي فإن لفظ جرى ... بفمي، تعثر بالشفاه خجولا!
فهذه صورة عادية رددها الشعراء في شعرهم طويلا، إلا أن موضع السحر فيها كامن في عجز البيت الثاني: فإذا سكت فكل شيء قيلا! كما يكمن الكثير من هذا السحر في ذاك اللفظ الذي إن جرى بفم المحب تعثر بالشفاه خجولاً!
ومن تصوير ناجي بالوهم الذي رأينا منه صورة قوية في وقوفه بطلل حبيبه، الصورة التالية:
يا طالما أَدْنتك أوها ... م كواذب كالحلم
فلمحت صبحك في السوا ... د وخلت روحك في النَّسَمْ
وشفيت وهمي من رضا ... ك ورُبَّ ذي بأس وهَمْ
ورويت أذني من حديثك وهو معبود النَّغم
وحرقت قلبي من سنا ... ك على جمال يضطرمْ
كفراشةٍ حامت ... عليك وأي قلب لم يحم!
لك حُسْنُ نوار ... الخميلة طُلّ صبحاً فابتسم
لك نضرة الفجر ... الجميل على الذوائب والقمم
لك طلعة البرء ... المرجيّ بعد مستعصي السقم
وسؤال دمعك حين يس ... ألني، ومن لي بالكلم
لم يا أنيس خواطري ... غفتِ العيون ونحن لمْ!؟(565/14)
أكاد أنقل الديوان كله، لأنه يفيض بتلك الصور، بتلك الغرر!. . .
(يتبع)
دريني خشبة(565/15)
وظيفة المرأة
للأستاذ حسين غنام
(تلخيص لبعض آراء الكونتس أف أكسفورد في كتابها (في السجلات))
(تتمة ما نشر في العدد 563)
ولماذا أنشئت المنتديات؟
إن النساء لا يقصدن المنتديات إلا نادراً، وأظن - وقد أكون على خطأ في هذا الظن - أن هذا السبب يرجع إلى تفضيل متوسط الرجال صحبة الرجال على صحبة النساء، أو لأنه يريد فترة راحة يقضيها بعيداً عن زوجته. وإذا سألت عن أحد الرجال في منتدى (بالتليفون) قيل لك هذا الجواب: إنه لم يترك عنواناً. أو نحن لا نبعث بمراسلات لأعضاء هذا النادي.
وقبل أن تمنح المرأة هذه الحرية كانت حياتنا مهددة ليلاً ونهاراً، حتى اضطرت إدارة (بوليس سكوتلانديارد) إلى استخدام رجلين من رجال الحفظ السريين ليبسطا حمايتهما علينا حيثما كنا في لندن أو في الريف
ولقد حصلت المرأة على ما أرادت، فماذا صنعت به؟ لعلك قائل إنها حتى الآن لم تتعلم السياسة تعلما كافياً حتى تبرز في مجلس النواب. وأقرر أنه لن يكفي المرأة أكبر مقدار من التعليم حتى يجعلها سياسية في المنزلة الأولى
وهل تستطيع أن ترى امرأة صائرة إلى منصب رئيس وزارة؟ إني لن أستطيع أن أتصور نكبة أعظم من وضع هذه (الجزر البريطانية) تحت قيادة إحدى النساء في (شارع داوننج رقم 10)
إن النساء لا يحسن حتى الكلام! وإذا استثنيت ابنة زوجي (فيوليت بنهام كارتر)، فإني لم أسمع مطلقاً سيدة يكمن أن تقول عنها إنها خطيبة!
لقد وجد الكثيرون من رؤساء الوزارات الرجال لم يكونوا خطباء ممتازين، ولكن كانت لهم صفات أخرى ارتفعت بهم إلى هذا المنصب
وليس من الضروري لكي تصير رئيس وزارة عظيما أن تكون خطيباً عظيما، ولكن الخصائص الأخرى التي يجب أن تتحلى بها، يجب أن تعدل تلك الخصيصة أو ترجحها،(565/16)
وأهمها: العدل والروية والتبصر بالأمور، ورحابة الصدر، والقدرة على المناقشات والجدال. وقبل كل شيء التزام العدالة؛ فهل تستطيع امرأة ماهرة حاذقة أن تفعل شيئاً من هذه الأشياء؟
إنها بالتأكيد لا تستطيع إذا كانت ماهرة، بل على النقيض، فكلما كانت المرأة أحذق أو أمهر، فهي لا تلتزم العدل
وهل كانت المناقشة والحجة من أقوى خصائص المرأة العقلية؟ ربما. . . ومنها كذلك الإجحاف والميل في جانب دون الآخر؟ غالباً. . . والشجاعة أيضاً؟ دائماً. . .
لست حكما جيداً على جنسي النسوي، لأني لم أقابل امرأة تستحق الاعتبار إلا نادراً. على أنني صادفت كثيراً من الرجال الخليقين بالاعتبار والتبجيل. وقد أكون سيئة الحظ في هذه الناحية، فيجب أن يكون هناك كثيرات من هذا النوع من النساء، ولكني أكتب عن تجاربي الخاصة، فإذا كانت هناك نساء مبرزات فإني لم أقابلهن
كتب بليك عن (زواج الجنة والجحيم) فقال: (إن الفطنة عذراء غنية شوهاء عجوز، يتودد إليها العجز والقعود)
وقد تكون الفطنة حكيمة. ولكنها آخر شيء يكمن أن يسترعي نظري لو أنني كنت رجلاً!
ولماذا أوصي شيكسبير بفراشه الثمين الثاني لزوجته؟
إن هناك نساء كثيرات كان حبهن وحياً لرجالهن مدى حياتهم؛ ولكي تكون محبوباً يجب أن تكون إنساناً. ولكن هذه الإنسانية هي الشيء الذي أفتقده في النساء، فلا أجده. إنهن أقل إنسانية من الرجال، وقد فشلت زيجات عديدة، لأن الزوجة كانت تأخذ حب زوجها كفرض عليه حيالها أو قضية مفروغ من أمرها
على أن ممارسة الحب هي فن آخر من أهم الفنون وأعظمها؛ وحسبك أن سعادتك وشبابك يتوقفان عليه
فلماذا ينقطع هذا الحب بانقطاع صلصلة أجراس الخطبة، أو بانقضاء شهر العسل؟
فإذا تزوجت امرأة زيجة في غير محلها، أي تزوجت رجلاً لم يوائمها، فهذا شأنها وحدها، ولكن إذا حدث هذا، وكانت الزوجة صاحبة هذا الحظ قوية الملاحظة والتخيل، بعيدة النظر، فباستطاعتها أن تجعل عشرتها لذلك الزوج أبهج وأمتع مما تستطيع امرأة أخرى قد(565/17)
توافقه مزاجاً وروحاً
ولست هنا بصدد الكتابة عن الزيجات الشقية، ولكني أكتب عن السعيدة منها. . .
أنظر إلى زوجين في مطعم، فهل تراهما يحادث بعضهما بعضاً حديثاً نابضاً بالحب والحياة؟
لم أجد شيئاً يصدمني في مثل هذا كرؤيتي ما يبدو على وجهي مثل هذين الزوجين عندما يجالسهما شخص آخر ممتلئ حركة وحياة؛ فهو يغير جلستهما الرتيبة الثقيلة
وعندما يعود زوج من عمله مكدوداً، هل تلبس زوجته أبهى ثيابها وأبهجها؟
إنها لن تفعل ذلك إذا كانت مع زوجها لا ثالث لهما!
وإذا لم يلاحظ الزوج ثوب زوجته، فهل تعيب عليه ذلك؟
وهل هي تقرأ الكتب التي يقرأها زوجها؟ أو هل هي تحاول طرقاً جديدة قد تبهجه وتدخل السرور إلى نفسه؟
إني أشك في ذلك. . .
وربما قيل في تعليل هذا، وانتحال عذر له، أن النساء، وخاصة من لهن تجارب سابقة في الحب وأسراره، لا ينظر إليهن المجتمع نظرة راضية عنهن
وفي اعتقادي أن (المجتمع) كلمة يجب أن تبعدها الزوجة من تفكيرها إذا كانت ستؤثر في حياتها الزوجية أو توجهها توجيهاً آخر. . .
إن البيت هو الكلمة المقدسة - ولا تترجم هذه الكلمة إلى أية لغة أخرى مما أعرف - وإذا كان البيت منهاجاً، فباستطاعة المرأة حينئذ أن تطفئ الأنوار. . .
(الإسماعيلية)
حسين غنام(565/18)
رسائل الأصدقاء
من بركات الأدب
. . . عدت أمس صديقاً أنهكه رس المرض حتى أذواه. فما ترى إذا رأيت، سوى أعظم ناتئة تهم أن تخرج، ولا تسمع إذا سمعت غير أنين خافت موجع كأنه ودع الجسم للروح. فتلقاني بابتسامة كأنها الزهرة الذابلة، وبدمعة كأنها اللؤلؤة اللموع، وأدناني من سريره وبكى، فواسيته بالأحاديث، وخففت عنه بالأهازيل، فلم يسكن اضطرابه، ولا خفت آلامه.
ثم رأيته يتململ في فراشه حيران، ويشير إلى صدره أسوان، ويقول: (إني لأحس ههنا سكيناً تمزق وتخرق. أفلا ترقيني؟. . .)
فقلت لنفسي: (هذا أول الهذيان ثم يتبعه الجنون!) وقلت له: (ومتى عهدتني، عافاك الله، صاحب رقية، أرقي بها الناس لتسألني ما سألت، وتسترقيني؟)
قال: (سألتك بالله وبودك بي أن ترقيني. لقد كان أبوك شيخ المقرئين، وكان رجلاً مباركاً كأنه ملك كريم؛ وجدك كان شيخاً صالحاً، لم تشغله تجارته الواسعة عن التقوى ثم إن الولد سر جده وأبيه!)
وارتبكت، ورأيته يمسك بيدي فيذرف دمعة، فتساقط عليها فتلذعني، ثم يضعها على صدره ويغمض عينيه
وتكلفت الجد والوقار، وهممت أن أقرأ له، ولكن مرت على خاطري خطرة بارعة، فوجدتني أردد على مهل قطعة لصديقي (الزيات) عن الربيع، كنت حفظت فقرأ منها:
(. . . هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة، ويا طفلتي الجميلة: صفاء من سلام النفس يفيض بشراً في العين وطلاقة في الوجه؛ ورواء من ألق الشباب يشع نوراً في السماء وسروراً في الأرض؛ وخاء من نعيم الطبيعة ينشر عطوراً في الجو وزهوراً في الروض؛ وانتشاء من رحيق العيش يشيع لذة في الحس وبهجة في القلب؛ وهدهدة على أرجوحة الحب تذهب مع الأمل الباسم وترجع مع الرضى السعيد؛ واتحاد الجمال البشري بالجمال الإلهي الماثل في وشاء الحقول وأفواف الخمائل وأعطار النسيم وألحان الطير وأنفاس الأحبة. فأين بالله ربكما أجد الفرق بينكما وبين ملكين يعتنقان في نشوة الخلد ويأتلقان في وضاءة الفردوس؟ أفي النظرة الساهمة، أم في البسمة الحالمة، أم في الفتنة النائمة، أم في الحنو الخليق(565/19)
بالأمومة، أم في الصبا الذي يضوع تريح الجنة. . .)
وإني لماض في ترداد ما أذكره، أهمهم تارة، وأبين مرة، وأخفي أخرى، وأغمض عيني تارة، وأحدق في صاحبي طوراً، حتى رأيته قد فتح عينيه وصحا؛ وإذا بالبسمة ترف على ثغره الذابل، وبالرضى يشيع في وجهه الجاهم، وبالهدوء يسري في جسمه النحيل، وإذا به يقول بنبرة حنون: ما أبرع رقيتك! أخبرني بربك ماذا قرأت لي، وأي رقية هذى؟ كان قلبي خافقاً فهذا، وكان جسمي مضطرباً فسكن، وكان عقلي ساهماً فثاب. ألم أقل إنك صالح وفيك صلاح؟ علمنيها أرق بها نفسي!. . .
وانفجرت ضاحكا ضحكاً يدوي، وحرت فما أدري ما أقول. فنظر إليّ دهشاً وسألني: ماذا يضحكك؟ ولم لا تضن علي بها؟. . .
قلت هذى رقية لا يعلم سرها أحد، ولا يرقى بها أحد، ولا أعلمها أحداً!
وأخذت أعتذر، وأخذ يلح، وأنا أضحك في نفسي، وأضحك منه. فلما رأيته قد ضاق صدره قلت: اكتب رقيتي:
(هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة، ويا طفلتي. . .)
فحدق بي وقال: (فتاتك وطفلتك! ماذا أصابك؟ لكأني أنا المعافى وأنت المريض، أبهذا رقيتني؟)
قلت: (نعم! ألححت علي فلم أجد ما أرقيك به غير رقية من رقى (الزيات) جرت على لساني. . .)
فضحك ضحكا متواصلاً، ونهض من فراشه واثباً، وأخذ يقول: (ارقني. . . فما أحب هذه الرقية إلي. إن فيها سحراً. . . وإن من البيان لسحراً!)
وكانت رقيتي مبدأ شفائه، فلعل الله أن يمن عليه بالصحة والعافية. . . ببركات (الزيات)!
(دمشق)
(الربيع)(565/20)
القضايا الكبرى في الإسلام
نسب زياد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان من أنكحة الجاهلية أن الجماعة يباشرون البغي، فإذا ولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم فيلحقه، وكانت سمية أم زياد لدهقان فارسي، فمرض فدعا الحارث بن كلدة الطبيب التقفي فعالجه فبرئ فوهبه سمية، وقد ولدت عند الحارث أبا بكرة واسمه نفيع، فلم يقربه، ثم ولدت نافعاً فلم يقربه أيضاً، فلما نزل أبو بكرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين حاصر الطائف قال الحارث لنافع أنت ولدي، وكان قد زوج سمية من غلامه عبيد الرومي، فولدت زياداً بعد زواجه بها، فكان يدعى له إلى أن استلحقه معاوية في ملكه بنسب أبيه
وذلك أن أبا سفيان بن حرب كان قد صار في الجاهلية إلى الطائف، فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي، وقد أسلم بعد هذا وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو سفيان: التمس لي بغيا. فدله على سمية فجاءت بزياد في السنة الأولى من الهجرة
فلما كبر زياد ونشأ كان امرءاً حازماً خطيباً فصيحاً، فاتخذه أبو موسى الأشعري كاتباً له في ولايته على البصرة، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زياداً أمراً، فقام به على أحسن وجه فلما عاد إليه حضرو عنده وجوه المهاجرين والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها، فقال عمرو بن العاص: لله هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف أباه. فقال علي: يا أبا سفيان اسكت، فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعاً
وقد كان هذا من أبي سفيان أول خطوة في استلحاق زياد به وإنما تأخر بها إلى هذا العهد لأنهم كانوا يكرهون استلحاق أولاد الإماء بأنسابهم، ولا سيما إذا كان على ذلك النوع من الأنكحة فإذا أنجب ولد الأمة لم يروا بأساً في استلحاقه بأنسابهم، ولكن أبا سفيان حين فكر في ذلك وجد أن أمره قد نسخ بالإسلام، لأنه حرم ذلك النوع من النكاح، وقضى بأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولكنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، لأن كل تشريع لا يجري إلا على الحاضر. ولا يجري على الماضي إلا في رفع ظلم قائم، أو نحو ذلك مما يجوز الأخذ به فيه، فسكت(565/21)
أبو سفيان على مضض، لأنه لم يكن له من الشأن في الإسلام ما يمكنه من التصرف في ذلك الأمر، وكان شأنه في ذلك شأن كل من تأخر في الإسلام من أشراف الجاهلية
وقد نبه شأن زياد في خلافة علي، وتولى له فارس فضبطها وحمى قلاعها؛ فلما اتصل خبره بمعاوية ساءه وكتب إليه يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان، فجمع الناس وقام فيهم خطيباً فقال: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد، ورأس النفاق، يخوفني بقصده إياي وبيني وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمر. مخشياً ضراباً بالسيف
ولما بلغ ذلك علياً كتب إليه: إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلاً، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس، لا توجب له ميراثاً، ولا تحل له نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فأحذر، ثم أحذر، والسلام
وكان بعد هذا أن استتب الأمر لمعاوية بعد قتل علي وتنازل الحسن له، فأبقى زياداً في فارس وصالحه على ألفي ألف درهم، وسكت عن استلحاقه بنسب أبيه لأنه لم يبق له حاجة فيه فصار زياد هو الذي يسعى في أمر ذلك النسب، ويجتهد في استمالة معاوية إليه، حتى جعل لمصقلة بن هبيرة الشيباني عشرين ألف درهم على أن يذهب إلى معاوية ويقول له: إن زياداً قد أكل فارس براً، وبحراً، وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلا حقاً. فإذا قال: وما يقال؟ قال له: يقال إنه ابن أبي سفيان: ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً ويستصفي مودته باستلحاقه، فانفق معاوية وزياد على ذلك الاستلحاق، ثم أحضر معاوية الناس، وحضر من يشهد لزياد بذلك النسب، وكان فيمن حضر للشهادة أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بما تشهد يا أبا مريم؟ فقال أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً، فقلت له: ليس عندي إلا سمية. فقال: ائتي بها على قذرها ووضرها، فأتيته بها فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن أسكتيها ليقطران منياً. فقال له زياد: مهلاً أبا مريم، إنما بعثت شاهداً، ولم تبعث شاتماً
فاستلحقه معاوية بعد هذا بنسب أبيه، وصار يدعى زياد بن أبي سفيان، وكان يدعى زياد بن عبيد. وقد اختلف الناس في هذا الحكم اختلافاً كبيراً، فرأى كثير منهم أنه أول ما ردت(565/22)
به أحكام الشريعة علانية، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى للولد للفراش وللعاهر بالحجر، وقد عظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة، وكانت عائشة ممن لم يرض عن هذا الحكم، فكتب زياد إليها: من زياد بن أبي سفيان. وهو يريد أن تكتب له: إلى زياد بن أبي سفيان. فيحتج بذلك، فكتبت إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد
وكان عبد الله بن عامر من بني أمية ممن أنكر أيضاً ذلك الحكم، وهو عامل لمعاوية على البصرة، فلما وفد زياد على معاوية كان معه رجل من عبد القيس، فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته. فأذن له على أن يحدثه بما يجري بينهما، فلما أتى ابن عامر قال له: هيه هيه، وابن سمية يقبح آثاري، ويعترض لعمالي، لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية. فلما رجع إلى زياد سأله فلم يخبره، فألح عليه حتى أخبره، فأخبر زياد معاوية بذلك فقال لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب. ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيد فشكي ذلك إليه فركب معه حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: أجلس، فكم عسى أن يقعد في البيت عن غير مجلسه. فلما أطالا خرج معاوية وهو يتمثل:
لنا سياقٌ ولكم سياقُ ... قد علمت ذلكم الرِّفاقُ
ثم قعد فقال: يا ابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت، أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية، وأن الإسلام لم يزدني إلا عزا، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه.
فقال ابن عامر: يا أمير المؤمنين، نرجع إلى ما يحب زياد
فقال: إذن ترجع إلى ما تحب. فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه
وقد دخل الشعر والسياسة في هذا الحكم فغلوا فيه غلواً فاحشاً، وكانت هناك خصومة بين بني زياد ويزيد بن مفرغ الشاعر الحميري، فقال في ذلك شعراً كثيراً مقذعاً، هجا به زياداً وبنيه، من ذلك قوله:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفٌ ... وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان(565/23)
وأشهد أنها ولدت زياداً ... وصخر من سُمَيَّة غير دان
ومنه أيضاً:
إذ أودى معاوية بن حرب ... فبشر شعب قلبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لَبْسٌ ... على وجل شديد وارتياع
وذكر ابن الأثير أن من اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحة الجاهلية كانت أواعاً لا حاجة إلى ذكر جميعها، وكان منها أن الجماعة يباشرون البغي، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، فرأى معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام
ثم ذكر أن هذا مردود لإنفاق المسلمين على إنكاره، ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة
وإني أرى أن هذا الحكم كان أهون مما ظن أولئك القوم، وأن معاوية كان أكبر من أن يكون استلحاقه لزياد أول ما ردت به الشريعة علانية، فهو من أكبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ممن اختاره لكتابة الوحي فأتمنه على أمر السماء، فبعيد على مثله أن يقصد إلى أمر يخالف الشريعة علانية كما زعم أولئك القوم، وقد كان له في ذلك اجتهاد مقبول سنبينه، ولا يهمنا بعد ذلك أن يكون أخطأ فيه أو أصاب، لأن مثله إذا اجتهد فأخطأ عذر في خطئه، ولم يكن لذلك مطعن في حكمه، لأن مسائل الاجتهاد يرجع أمرها إلى الظن، ولا يعلم الخطأ فيها بيقين
ولو رجعنا إلى ما ذكره أولئك القوم لوجدنا أن منهم من ينكر ذلك الحكم لأنه يرى أن أبا سفيان لم يجتمع بسمية، وهذا تعنت ظاهر، لأنه لم يكن ما يدعو أبا سفيان إلى أن يكذب في دعوى اجتماعه بسمية، وفي دعوى أنها علقت بزياد من اجتماعه بها، وقد كان زياد في عهد عمر فتى ناشئاً لا خطر له، وكان لأبي سفيان من الأولاد من هو أجل منه خطراً، ولو لم يكن له منهم غير معاوية لكفى، وقد صدقه علي في اجتماعه بسمية وأن زيادا من نطفته، ولكنه رأى أن ذلك كان فلتة لا توجب ميراثاً ولا تحل نسباً. والحق أن رأيه في ذلك(565/24)
صحيح فيما كان منه في الإسلام، لا فيما كان منه في الجاهلية
ومنهم من ينكر ذلك الحكم لأنه يخالف قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وللعاهر بالحجر. وهذا خطأ ظاهر، لأن رسول الله صلى عليه وسلم قضى بذلك في زنا الإسلام لا في زنا الجاهلية، ولهذا أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها. وقد ولد عمرو بن العاص بمثل ما ولد به زياد، فألحقته أمه بالعاص، ثم جاء الإسلام فأقر ذلك الإلحاق. ومنهم من ينكره لاتفاق المسلمين على إنكاره، ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة. ودعوى الاتفاق في ذلك ظاهرة البطلان، وعمل معاوية مما يحتج به ولو لم يسبق إلى مثله، ولا يبقى بعد هذا إلا أن يقال إن حق زياد في ذلك قد سقط بطول المدة، وبنسخ الإسلام لذلك النكاح الذي قام الاستلحاق على أساسه. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن طول المدة قد اختلفت الشرائع في تحديده وبأن الإسلام حين نسخ ذلك النكاح لم ينسخ آثاره
عبد المتعال الصعيدي(565/25)
4 - القرآن الكريم
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
وكتاب النثر الفني - أو النثر الفني في القرن الرابع إذا لم يختصر اسمه - بحث قدمه الدكتور زكي مبارك لينال به الدكتوراه من جامعة باريس، ولم يجد سبيلاً إلى جديد يقدمه في بحثه إلا أن يبدي ويعيد وينقص ويزيد في تاريخ اللغة العربية وآدابها، وتاريخ الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها، ليثبت أن نشأة النثر الفني جاهلية لا إسلامية. والنثر الفني الذي يريد ليس هو نثر الخطب والأمثال والمحادثة، ولكن نثر الرسائل والكتب. فهو يزعم أن العرب في جاهليتهم كانوا يكتبون الرسائل ويؤلفون الكتب، ودليله في هذا (أن القرآن يشير إلى أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية لم يطلع عليها النبي عليه السلام حتى يتهم بأنه لفق القرآن مما نقل إليه من علوم الأولين) ذاكراً آية سورة العنكبوت (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لارتاب المبطلون) التي جعلها من سورة القصص. واحتج عليه المسيو مرسيه، فيما حكى في كتابه عنه وعن نفسه، بأنه لو كانت هناك مؤلفات نثرية لدونت وحفظت ونقلت إلينا كلها أو بعضها كما هو الشأن في آثار الهند والفرس والروم، فأجابه (بأن فقدان تلك الآثار لا يكفي لإنكار أنه كان لها نصيب من الوجود، ثم زاد زكي مبارك بعد ذلك (على أن في القرآن الكفاية وهو أثر جاهلي كما سنبينه بعد قليل)
وقد أنفق هذا القليل في إنكار أن تكون النصوص النثرية المروية عن العصر الجاهلي صحيحة زاعماً أنها (مما وضع في العصر الأموي وصدر العصر العباسي لأغراض دينية وسياسية) فأنكر مثلاً خطبة قس بن ساعدة الأيادي في قوله: (وهي الخطبة التي زعم الرواة أنه تنبأ فيها بظهور الرسول، وهي بلا شك خطبة وضعت لإيهام الجمهور أن نبوة محمد كانت مما يجري على ألسنة الخطباء الموفقين من أصحاب الحكمة في عهد الجاهلية) وبعد أن مضى ينكر وينفي ويتهم بغير دليل قال (فكيف يستقيم مع ذلك ما نراه من أنه كان للعرب نثر فني قبل الإسلام؟ فليعلم القارئ أن لدينا شاهداً من شواهد النثر الجاهلي يصح الاعتماد عليه وهو القرآن) ص 38، ثم عقب على ذلك بقوله: (ولا ينبغي الاندهاش من(565/26)
عد القرآن أثراً جاهلياً، فإنه من صور العصر الجاهلي، إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره وهو - بالرغم مما أجمع عليه المسلمون من تفرده بصفات أدبية لم تكن معروفة في ظنهم عند العرب - يعطينا صورة للنثر الجاهلي، وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكتاب والخطباء). تأمل كلامه هذا جيداً وافهمه في ضوء ما قدمنا لك في المقالين السابقين وفي التمهيد قبلهما، ثم تأمل قوله (وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكتاب والخطباء) فإن لازم هذا الكلام أنها كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند النبي. وهذا تلميح كتصريح في الوضوح. ثم مضى يتمم حكايته عن نفسه فقال:
(وقد قدمت هذا الشاهد للمسيو مرسيه الذي يرى أن النثر الفني يبتدئ بابن المقفع، فأخذ يبحث عن مخرج ولكنه لم يهتد إلى الآن. أما الدكتور طه حسين فقد اهتدى إلى مخرج لطيف وذلك إعلانه أخيراً في دروسه بالجامعة المصرية أن القرآن لا هو شعر ولا هو نثر، وإنما هو قرآن)، وأنت ترى في كلامه هذا مثلاً من شروده وعوج تفكيره، لأنه كان يتكلم عن القرآن كنثر جاهلي في زعمه، فانتقل إلى الكلام عن القرآن هل هو نثر أو غير نثر، كأنه لا يرى الفرق الهائل بين الأمرين. ثم استمر يتحدث عن رأي الدكتور طه حسين فقال: (وقد بلغتني عنه هذه الكلمة وأنا في باريس فحسبته يمزح. . . فلما عدت راجعته فوجدته يصر على أن الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شعر ونثر وقرآن. وقد حسب الدكتور طه أنه ينجو بهذا التأويل! وكان الظن به أن يؤيدنا فيما رأيناه من قدم النثر الفني عند العرب، وأن لا يستكثر علينا أن ننقض بعض ما يرى المستشرقون، وهم يرون بلا حق أن العرب لم تكن لهم ذاتية أدبية، وإنما أخذوا طرائق النثر الفني عن الفرس واليونان)!
فهل رأيت أو سمعت بحمق كهذا الحمق الذي يريد أن ينفي عن العرب تهمة أخذ النثر الفني عن الفرس واليونان فلا يرى سبيلاً إلى هذا إلا أن يسلبهم القرآن كتاباً من عند الله ليرده أثراً جاهلياً يثبت لهم به ذاتية أدبية؟! افترى هذا الرجل يرى القرآن من عند الله أم من عند العرب؟ إذا كان من عند الله فكيف يمكن أن يثبت به للعرب؟ ذاتية أدبية كالتي أراد وليس فيه لعربي منهم حرف؟ وإن كان أثراً جاهلياً يثبت قدم النثر الفني أي نثر(565/27)
الرسائل والكتب، عند العرب، فكيف يمكن أن يكون من عند الله؟ إن هذا الرجل بين أن ينكر القرآن أو أن ينكر (نظريته) في نشأة النثر الفني، كما يسمي فرضه الذي افترض، ليس له عن أحدهما محيص
وإن أردت مثلاً آخر فاقرأ له قوله بعد ذلك: (القرآن شاهد من شواهد النثر الفني ولو كره المكابرون. فأين نضعه من عهود النثر في اللغة العربية؟ أنضعه في العهد الإسلامي؟ وكيف والإسلام لم يكن موجوداً قبل القرآن حتى يغير أوضاع التعابير والأساليب!) ارأيت استدلال الدكتور البحاثة على وجوب وضع القرآن في العهد الجاهلي؟ الإسلام لم يكن موجوداً قبل القرآن حتى يمكن أن ينسب القرآن إلى العهد الإسلامي، وإذن فالقرآن كان موجوداً قبل الإسلام ما دامت نسبة القرآن إلى العهد الإسلامي غير ممكنة! هذه هي نتيجة منطق الدكتور. وهذا طبعاً يستلزم أنه يفرق بين القرآن وبين الإسلام، إذ لو كان القرآن والإسلام شيئاً واحداً عند الدكتور لكان القياس الذي بنى عليه حجته السابقة هو أن القرآن لم يكن موجوداً قبل القرآن، وإذن فلا يمكن أن ينسب إلى العهد القرآني! وهو قياس كما ترى لا يليق أن ينسب إلى دكتور
وللدكتور دليل آخر على أنه (لا مفر إذن من الاعتراف بأن القرآن يعطي صورة صحيحة من النثر الفني لعهد الجاهلية) ذكره في قوله عقب ذلك (وفي القرآن نص صريح على أن الرسول لا يرسل (إلا بلسان قومه ليبين لهم) وتلك إشارة نلوح بها لمن لا يكفيهم المنطق، وإلا فكيف يعقل أن يحدث النبي قومه بما ينبو عن أذواقهم وإفهامهم، وهو رجل مسئول لا يستطيع أن يقصد إلى الأغراب في الألفاظ والتعابير، أو قهر اللغة على الالتواء عما ألف العرب من طرائق البيان) ص 39
وملخص هذا الدليل أن القرآن صورة صحيحة لنثر الجاهلية الفني لأن المشركين كانوا يفهمونه ويستسيغونه. ولازم هذا إن صح، أن الجاهليين لم يكونوا ليفهموا ولا ليستسيغوا نثر ابن سلام والجاحظ، ولا نثر سهل بن هارون وعبد الحميد وابن المقفع، ولا نثر الخوارزمي وابن عباد وابن العميد؛ بل ولا شعر جرير والفرزدق والأخطل وبشار وابن الرومي والبحتري، لأن شعر هؤلاء ونثر أولئك إسلامي لا جاهلي، فإذا هم فهموه واستساغوه كان في منطق الدكتور جاهلياً لا إسلامياً، كأن تعريف الأدب الإسلامي عند(565/28)
الدكتور هو ما لا يمكن أن يفهمه أو يستسيغه الجاهليون!
لكن عد عن هذا وارجع إلى تلك القطعة من كلام صاحب النثر الفني ففيها ما هو أهم من هذا كله في ما نحن بصدده. اقرأ قوله: (وإلا فيكف يعقل أن يحدث النبي قومه بما ينبو عن أذواقهم وإفهامهم)، وامض إلى آخر القطعة، ولاحظ استبعاده أن يقصد النبي إلى الأغراب أو قهر اللغة على الالتواء عما ألف العرب، واذكر أن هذا كله قاله صاحب النثر الفني في مقام الكلام عن القرآن وموافقته لغة العرب. ألا ترى أن ذلك القول منه أقرب ما يكون إلى التصريح بأن القرآن من كلام النبي، حدث قومه به وتجنب فيه الأغراب عليهم في الألفاظ والتعابير ولم يقهرها عما يألفون؟ إن الرجل صاحب رأي في القرآن، ويأبى هذا الرأي إلا أن يظهر فيما يكتب وما يسوق من استدلال
ويمضي الرجل إلى آخر الشوط في استنتاجه من فرضه الذي افترض من أن القرآن (أثر جاهلي) فيزعم للعرب في الجاهلية (نهضة علمية وأدبية وسياسية وأخلاقية واجتماعية وفلسفية) كان الإسلام تاجاً لها، أي أن الإسلام كان نتيجة وتماماً لتلك النهضة لا سبباً لها. اقرأ تعليله بعد إن شئت: (لأنه لا يمكن رجلاً فرداً مثل النبي محمد عليه السلام أن ينقل أمة كاملة من العدم إلى الوجود ومن الظلمات إلى النور ومن العبودية إلى السيادة القاهرة، كل هذا لا يمكن أن يقع من دون أن تكون تلك الأمة قد استعدت في أعماقها وفي ضمائرها وفي عقولها بحيث استطاع رجل واحد أن يكون منها أمة متحدة وكانت قبائل متفرقة، وأن ينظم علومها وآدابها بحيث تستطيع أن تفرض سيادتها وتجاربها وعلومها على أجزاء مهمة من آسيا وأفريقيا وأوربا في زمن وجيز. ولو كان يكفي أن يكون الإنسان نبياً ليفعل ما فعله النبي محمد لما رأينا أنبياء أخفقوا ولم يصلوا، لأن أممهم لم تكن صالحة للبعث والنهوض)! فانظر إلى صاحب هذا الكلام كيف يسوي بين الأنبياء في كل شيء وبين الأديان، وكيف يرد نهضة العرب بعد الإسلام لا إلى النبوة والرسالة وما أنزل الله على الرسول من دين، ولكن إلى علوم وآداب وتجارب كانت عند العرب كل ما فعله النبي هو أن نظمها حتى استطاع أهلها أن يسودوا في القارات الثلاث في زمن وجيز! وتاريخ نشأة العلوم والآداب في الأمة العربية بعد الإسلام معروف، كما أن مقاومة العرب للنبي ودعوته ومحاربتهم له ولها معروفة، لكن الرجل ينكر التاريخ، ويفتري تاريخاً آخر، ويزعم زعماً لا يجوز ولا(565/29)
يستقيم في منطق أو تفكير إلا إذا كان القرآن كلام النبي، كلام محمد العربي لا كلام الله. عندئذ فقط يعقل أن يكون العرب على ما وصف الدكتور زكي مبارك من نهضة وعلم وأدب، لأن القرآن أكثر من نهضة وعلم وأدب، ولا يعقل إن كان كلام بشر أن يأتي به صاحبه في أمة جاهلة كالتي أجمع على وجودها قبل الإسلام مؤرخو اللغة العربية من شرقيين ومستشرقين، ومؤرخو الإسلام.
(يتبع)
محمد أحمد الغمراوي(565/30)
من ربيع قديم
بقايا نغم. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
. . . ظَلَلْتُ أَطوفُ بالألحانْ ... على أرض من النِّسْيانْ
أُغَنِّيها ولا آذان ... ولا عُشٌّ، ولا أَغْصانْ
ولا طَيْرٌ يُسَلِّيني!
وإذْ بِخَمِيلَةٍ خَضْراءُ ... تَرَاعَشُ فَوْقَها الأضواءْ
كأنْ سُقِيَتْ من الَّصهْباءْ ... ومنْ غَزَلٍ، وَسِحْرِ غِناءْ
وإلْهامٍ، وتلقين
وفيها أنتِ يا لَيْلايْ ... سُلوٌّ يانِعٌ لِبُكايْ
وفَجْرٌ رائعٌ لِدُجايْ ... وخُلْدٌ سلمِعٌ لِغِنايْ
يُعَلِّلُني، ويُوحيني!
خَطَرْتِ على ضفاف النيلْ ... كرُؤْيا تَطْلُبُ التأويلْ
خُطاكِ بِمَسْمعي تَرْتيلْ ... وصوْتُكِ في دَمي تنزيلْ
بلا شرع، ولا دين!
وكان الأفْقُ كالمحرَابِ ... وركْبُ الرِّيح كالأوَّابْ
يطوفُ مُدَندنَ الأسرابْ ... كصوفَّيٍ يَدُقُّ البابْ
على سِرِّ النَّبِيينِ
وكانتْ غُنوةُ الملاحْ ... صلاةً جمةَ الأتراحْ
كأن لها صدًى وجَناحْ ... ترفُّ بهِ عَلىَ الأرْوَاحْ
وتهتفُ للمساكين
وكان الموْقدُ الحيْران ... يَؤجُّ لبُؤسه النيران
ولاذ شِراعهُ النعسان ... بسارية من الأكفان
تَلَفَّعُ كالشياطين!
محمود حسن إسماعيل(565/31)
البريد الأدبي
الشعر القديم بين الفطرة والفن الجميل
(كتاب من الأستاذ خليل بك مطران إلى الدكتور محمد صبري بمناسبة ظهور كتابه (الشوامخ))
حضرة الصديق الكريم. . .
الداء الذي ساورني في هذه الأيام عاقني عن أداء واجب الشكر لما أتحفتني به من التحفة الغالية، أعني بها النسخة من كتابك (الشوامخ)
وما زلت إلى هذا اليوم غير قادر على بذل مجهود فكري يعتد به. غير أنني بوجه إجمالي موجز أرى أن الشعر كلما اتصل بالفطرة كان من الفن الأصيل، وكلما بعد عنها أفضى إلى التعمل، وهو فن آخر، أي فن الصناعة. وشتان بين الأصل والنقل وبين الإبداء والمحاكاة
ألم تر إلى شعر هوميروس كيف بقى عند الفرنجة بمنزلة الينبوع الصافي الذي استقى منه جميع أدبائهم على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم وأهوائهم ونزعاتهم
ولقد تكلف الفرنجة ما تكلفوا ليفهموا هوميروس وليقتبسوا من لغته القديمة المجهولة ما اقتبسوا، ونحن لم نتكلف ولا تنكلف شيئاً لنفهم امرأ القيس وإضرابه من أيام الجاهلية، فيغيبون عنا فنحكم عليهم لا لهم
ولولا أنك جئت تفهمنا معاني امرئ القيس، ولولا الدكتور طه حسين بك وما جهد ليشرح آيات الشعر الجاهلي الصادق النسب، ولولا آخر كتاب للأستاذ عباس محمود العقاد في (جميل بثينة) لبقيت كنوز الشعر الجاهلي بعيدة عنا أصلاً كريماً جديراً بأن نعنى به
بعد كتابة ما تقدم على علاته أوجه إليك بعض أبيات جرت على قلمي وهي:
بعد ألف وبعد بضع مئات ... أُنصفت عبقرية الضلَّيل
نُضيء السِتر عن جلال امرئ ال ... قيس بسفر من البيان جليل
رد صبري ألواحه فتجلت ... من خفاءٍ آيات فن جميل
وإذا الحسن ندّ عنه حديث ... طُلب الحسن في العتيق الأصيل
آفة الفن جهله، كيف والأ ... علام تُطوى ما بين جيل فجيل
إنما الرأي ما أبنت وهل أب ... لغ مما أقمته من دليل(565/33)
خليل مطران
في الفصول والغايات وفي اللزوميات
لأبي العلاء في (الفصول والغايات) وفي (اللزوميات) رميات - من رام - علميات مقرطسات. منها ما ذكرته في كلمتي (المخترعات وكتاب الفصول والغايات) في (الرسالة الغراء) 250 ص 655 س6 وأعاده مفرقاً الأستاذ كامل كيلاني في مقالته (على هامش العيد الألفي لأبي العلاء) في الرسالة 560 ص 263 س 12
ومن رمياته أو آياته قوله في تلك العبقرية النثرية:
(أحج وأحر أن تعود لجة البحر كساحة اليد لا ماء بها ولا حال إذا قضى ذلك خالق البحار)
ومنها قوله في (اللزوميات) عبقريته الشعرية:
يجوز أن تُطفأ الشمس التي وقدت ... من عهد عاد وأذكى نارها الملك
فإن خبت في طَوال الدهر جمرتها ... فلا محالة من أن يُنقض الفلك
قلت: لا حياة يومئذ لأحياء في هذه الكرة الأرضية ولا في تابعة للشمس من أخوات دارنا هذه وإن لم ينقض الفلك. والذي جوزه أبو العلاء فإنه سوف يكون (إنا لله وإنا إليه راجعون)!
والشمس ذات الضياء والوهيج واللهب وحياة هذه الأرض هي كما قال الشيخ في (اللزوميات):
والشمس تغمر أهل الأرض مصلحة ... رّبت جسوماً، وفيها للعيون سنا
طهت لك الشمس ما يفني أخادعة ... عن أن يكون له في الأرض طاهونا
وقد ذكرني مقال أبي العلاء في البحر والشمس بقول للضعيف كاتب هذه الأسطر في تضاعيف كلام، أرويه في هذا المقام:
. . . وإن من يتلو كتب الأستاذ الأكبر (أرنست هيكل) يدهش ويستعظم روايته وتبحره في العلوم والفنون. وعلمه (لله هو) علم إحاطة. وإنه ينس قطين الأرض أكابر العلماء بعد أحقاب. فأمثال ذلك (الأستاذ) في نعيم الذكر خالدون ماكر الفتيان، وما دام في البحر ماء، وفي الشمس ذكاء. لأنه إن رسخت أمواه البحر، وسوف ترسخ، وهمدت نيران الشمس،(565/34)
ولابد أن تهمد، هلك الناس، ففقدت الأرض ذلك الفكر المدرك المضيء في ظلمات لياليها، وهو (لعمرابيك) خير ما فيها، لا بل هو كل ما فيها كما يقول العلامة (بوانكاريه). وإنه ليعزى الحكماء (يا فتى) أن الأجل بعيد جد بعيد، وأن حياة تستمر في غير الكرة الأرضية في سيارة من هذه السابحات في الفلك. ولكل قطين سيارة أجل، والدنيا دول.
الفلاحون
قرأنا في عدد 17 أبريل من مجلة الرسالة الغراء تحت هذا العنوان كلمة نقد جد مقتضبة وجهها الأديب (د. خ) إلى كتاب (الفلاحون) الذي ألفه حضرة الأب المحترم الدكتور هنري عيروط ونقلناه ونحن أخيراً إلى العربية. وقد رمى هذا الناقد مؤلف الكتاب بأنه يجور أحياناً ووصف الترجمة بأنها ركيكة وأن أسلوبها يميل إلى العامية ويجافي العربية السليمة، بله العربية الفصحى
فأما عن المؤلف فقد كنا نحب أن ينبئنا كاتب الكلمة بمواضع جوره وعلى من وقع هذا الجور، أعلى الفلاح وقد بذل قصارى جهده في الدفاع عنه؟ أم على بقية الطبقات الأخرى التي تشقى الفلاح أو لا تنقذه من شقائه وهو في الحقيقة لم يوفها ما تستحقه من لوم وتعنيف؟
على أنه قد قرظ هذا الكتاب أربعة وثمانون من أفاضل العلماء والكتاب في أربع وثمانين مجلة وصحيفة محترمة في أوروبا وأمريكا والشرق فلم يلاحظ عليه أي واحد منهم أنه كان جائراً على أحد. ولسنا في هذا نغالي أو نلقى الكلام على عواهنه، بل لدينا جميع هذه المقالات، وهي تحت تصرف من يريد الاطلاع عليها
وأما عن الترجمة والتجائنا فيها أحياناً إلى استعمال بعض الكلمات العامية مما قد يبدو أمام بعض القراء أنه انعطاف نحو الأسلوب العامي أو مجافاة للغة السليمة، بله الفصحى كما يعبر حضرة الكاتب، فهذا مسلك فرضته علينا طبيعة الموضوع الذي عالجه كتاب (الفلاحون) على نحو ما كان موليير يفعل في مسرحياته إذا روى أحاديث الخدم والعوام. وليعلم حضرة الكاتب أن هذه الطريقة كانت إحدى دعائم مجد ذلك الشاعر الفرنسي العظيم كما أنه ينبغي أن يعلم أيضاً أن ذلك الأسلوب الذي صغنا فيه ترجمة ذلك السفر هو ما يدعى بروح الانسجام أو مطابقة مقتضى الحال(565/35)
ومن آيات صحة هذه الدعوى أننا لم نسلك هذا النهج في أي كتاب من كتبنا الأخرى، لأن موضوعاتها لا تمت إلى العامة بأية صلة
نحن إذاً، قد استعملنا الجلبية واللبدة والطاقية والملاية والبلغة وما شاكل ذلك عامدين ونزلنا إلى مستوى الفلاح وجارينا أسلوبه قاصدين. ولهذا لم تكن تلك العبارات أخطاء لغوية ولا مجافاة للغة السليمة كما خيل إلى الكاتب
على أننا نعود فنصرح بأن إطلاقنا على تلك السطور لفظة نقد فيه شيء يسير من التجوز، لأن النقد يجب أن يكون مدعماً بالبراهين والحجج. أما أن يسمع حضرة الكاتب أن المؤلفين الذين يكتبون باللغات الأجنبية عن مصر أو عن الشرق يجورون في كتاباتهم فيرمي مؤلف كتاب (الفلاحون) بأنه جائر، وإما أن يقرأ الولولة التي ترجمناها بالعامية قصداً في آخر ذلك السفر، ويلمح بعض العبارات التي تعمدنا أن تكون كذلك فيحكم بأن الأسلوب متجاف عن العربية السليمة، فهذا نسق لا يسير بالنقد إلى الأمام ولا ينتج في الحركة الأدبية خيراً يرجى.
محمد غلاب
أدب ثالث
إن صح أن في مصر أدباً للشيوخ الذين رسخت مكانتهم في النفوس واستفاضت شهرتهم في الآفاق حتى جثموا كالقشاعم في القنن الشواهق، وأن فيها أدباً للشباب وقد هبوا إلى مجاني الأدب ومغانيه كالفراش على الأزاهير حالمين ببعد الصيت مرفرفين على الأغصان كالعصافير - فإني لأرى بين هؤلاء وأولئك أدباً طريفاً قد توسط فلم يشب فوداه كالشيوخ، ولا لأن عوده كالشباب، وعند هذا الضرب من الأدب ينبغي أن تتألق نهضة وتقوم للفن مدرسة بعيدة عن الشطط وسليمة من الغلط لأنها من خير الأمور
والأستاذ عبد الرحمن صدقي يمثل اليوم هذا الأدب المستحب. عرفت قلمه من عهد بعيد، يجول بلا صخب وينساب بغير تحبس. لقد استهواه أدب الغرب فثافن إلى صحفه وأسفاره ونهل من موارده العذاب، ثم أخذ يمتاح منها طرفاً جلاها في معارض عربية، لم يتكلف في ترجمتها أسلوباً ولا تصنع لفظاً، بل انطلق فيها على نسق من السهولة والسلاسة فاستطاع(565/36)
بما أوتى من تضلع في اللغتين العربية والفرنسية أن يعرب عن الدقائق فيهما. قرب (أزهار الشر) إلى شميم العرب وقد استعصى بودلير على أبناء جلدته فكيف حاله عند أهل الضاد؟ لقد جاءهم الأستاذ عبد الرحمن بمآخذ شاعر الرمز في فرنسة، لكنه نعته بالرجيم وحق له هذا؛ فهو شاعر بالزهر وراجم بالشوك. عقد معانيه وضيق مبانيه، حتى خرج على المألوف، وكانت أشعاره كجوز الهند لا يوصل إلى ذوب مائه وحلاوة طعمه إلا بعد كسر قشره. وبعد أزهار الشر طلع الأستاذ صدقي على قرائه بألوان من الحب ترجم فيها إحدى عشرة أقصوصة لأعلام هذا الفن في الغرب مما يستهوى خيالنا الشرقي ولا تنبو عنه أذواقنا. وقد كشف فيها عن اختلاف المزاج والخصائص بين قوم وآخرين؛ فكانت ترجمته المختارة ناهضة على بصيرة نفاذة إلى ما وراء السطور في هذه التلاوين التي أعرب عنها
لقد وسم الأستاذ صدقي كتابه الجديد من اسم الأقصوصة الأولى. ولا جرم أنها على إيجازها تبين فن بلاسكو إيبانيز الذي يطبيه زهو الشباب وأناقة الجمال، ويبدو اللون الأول من الحب في نفس أوديت التي روعت وفجعت حين رد إليها زوجها من ساحة الوغى مبتور اليدين والرجلين مفقود العين، وكأنه شق أنمار الذي حدثتنا عنه أساطير الجاهلية، فتولى عنه جزعة فزعة ويشركها بهذه النفرة الكلب الذي وصفه الفلاسفة والشعراء بالمحبة وصدق المودة، وينكشف في أعقاب هذه الأقصوصة لون آخر يثمل أشرف ألوان الحب وأبقاها، ذلك هو حب الأم التي جنت على ابنها الجريح فضمته بروحها وواسته بعينها أما قصة (الصمت) فكأن زينون الإيليائي فيلسوف الحركة والسكون أفرغ عليها من روح سكونه صمتاً رهيباً سادراً في عمقه، وقد نجم هذا الصمت من بنت كاتمت أباها القسيس وأمها سراً في نفسها حتى انتحرت فمات معها هذا السر، ولم يحاول القصصي أندرييف الروسي اكتناه السر وإنما تركه لحيرة القارئ الذي يشفق على ذلك الكاهن الشيخ وقد فتحت له على كرسي الاعتراف مغالق النفوس ولكنه عجز عن استجلاء السر في نفس بنته حتى زار قبرها في ليلة ساجية وأخذ يناديها: - فيروتشكا. بوحي بسرك. . .
فسمع الكاهن صوتاً رهيباً بغير كلام هو صوت الصمت العميق الذي بقى يعلو مرهفاً مستدقاً، حتى ملأ سمعه(565/37)
وكانت أقصوصة بلقيس خاتمة المطاف في هذه الألوان جعلها كاتبها فاتحة قصصية تبشر بموهبة كانت كمينة في أدبه
أما وقد أفلحت تجربة الأستاذ صدقي في فن القصة، فإن موهبته لتريده على أن تظهر وتظفر في هذا الفن عندنا فينتزع أقاصيصه من الحياة المصرية وليس ببعيد أن يكون مطلع القاص الجديد في سماء القصص بين النجوم اللوامع
(القاهرة)
داود سكاكيني
قيس ولبنى
أصدرت الغرفة المصرية هذه الطرفة الأدبية الشعرية النادرة للأستاذ عزيز أباظة بك في طبع أنيق وخصصت المتحصل من ثمنها (للمشروعات الخيرية) وقد تفضل الأستاذ عزيز أباظة بك فأهدى إلينا نسخة من مسرحيته البارعة التي هيأت لنا ساعات من القراءة كانت متعة لأرواحنا لا تعد لها متعة. . . حقاً لقد كسب الأدب العربي شيئاً عظيما. . . ونحن نكتفي الآن بتهنئة الشاعر الكريم على أن تكون لنا عودة.
(د)(565/38)
العدد 566 - بتاريخ: 08 - 05 - 1944(/)
17 - دفاع عن البلاغة
9 - التلاؤم في الأسلوب
بقى الكلام في الصفة الأخيرة من صفات الأسلوب الجامعة وهي: التلاؤم أو الموسيقية أو (الهرمونية). وإذا بلغنا هذه الصفحة من قضية البلاغة، فقد بلغنا موضع التهمة التي تريب المتهِم، وتعتسف الدليل، وتنكر الذوق، وتنزل القيم الفنية منزلة العبث. تلك هي تهمة اللفظ بالأناقة، والتركيب بالموسيقى، والأسلوب بالرفعة. ولو كانت هذه التهمة الجريئة تقصد المجال المزيف والحسن المجتلب لما حكَّ في الصدور من ناحيتها شئ؛ ولكنها تقصد التعبير الجميل الذي يتميز به كلام الأديب عن كلام الناس، وصوت المغني عن صوت الحمار، ورسم المصور عن تناشير الطفل. والزراية على الجمال اللفظي بهذا التعميم وهذا الإطلاق بدعة من بدع هذا العصر الذي اعتلت به الأذواق واختلت فيه المقاييس. وليس لأكثر البدع مسوغ من الفطر السليمة والفكر الصالحة. إنما هي نزوات في بعض الرءوس، أو نزعات في بعض النفوس، تصدر عن شذوذ في الفكر أو حَثَر في الذوق أو عجز عن الكمال. وإلا فكيف تعلل إنكارهم تجميل الأسلوب وهم لا يفتأون كسائر الناس يطلبون الجمال في شتى ضروبه ومختلف صوره؛ لماذا يثورون على تنميق الكلام بدعوى أن الغرض منه الفهم والعلم، ولا يثورون على تزيين الطعام وتحلية الهندام وتزويق المسكن، والغرض الأصيل منها الغذاء والوقاء؟ لم لا يقفون موقف الحيوان عند حدود الضرورة من مآرب العيش ومطالب الجسد، فلا يتفننوا في تلاؤم الأجزاء في اللباس المهندم، ولا يتأنقوا في تنضيد الألوان على الخوان الموشى، ولا يتنافسوا في تنجيد الأثاث للبيت المزخرف؟ وإذا كان أحدهم لا يحب أن يلبس الثوب المرقع، ولا أن يسكن الكوخ النابي، ولا أن يتزوج المرأة المسيخة، ولا أن يسلك الطريق الوعر، ولا أن يركب المركب الخشن، فلماذا يكره أن يسمع الكلمات العذبة والفِقر المتسقة والجمل الموزونة والأصوات المؤتلفة، والنظر والسمع في هذا المقام سواء (فإن هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب) (وجميع جوارح البدن وحواسه تسكن إلى ما يوافقه، وتنفر عما يضاده ويخالفه. والعين تألف الحسن وتقذى بالقبيح؛ والأنف يرتاح للطيب وينفر للمنتن؛ والفم يتلذذ بالحلو ويمج المر؛ والسمع يتشوف للصوت الرائع وينزوي عن الجهير الهائل؛ واليد تنعم باللين(566/1)
وتتأذى بالخشن، والفهم يأنس من الكلام بالمعروف، ويسكن للمألوف، ويصغي إلى الصواب، ويهرب من المحال، وينقبض عن الوخم، ويتأخر عن الجافي الغليظ. ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب والروية الفاسدة)
الحق الصريح أن الذين يدعوننا أن نكتب كما نتكلم إنما يزورون حقيقة الفن فيهم بنقيصة العجز منهم، بدليل أنهم يجدون في أنفسهم حلاوة الرضا إن وقعت في كلامهم عفوا كلمة أنيقة أو جملة رشيقة أو سجعة محكمة. ذلك لأن الإنسان يتميز من سائر الحيوان بأن أحاسيسه التي تصل إليه عن طريق المشاعر، وعواطفه التي تنشأ فيه من فعل الغرائز، إنما تتوالد في ذهنه وتتكاثر في خياله حتى تزيد على ما تقتضيه طبيعة وجوده أضعافاً مضاعفة. هذا القدر الموفور المذخور من العواطف والأحاسيس لم يزل يطلب متنفساً ينبثق منه ومفيضاً ينسرب فيه حتى وجد الفنون الجميلة الأربعة فاستفاض مخزونه واستعلن مكنونه بتسجيع القلم وترجيع القيثار وتلوين الريشة وتمثيل المنحت. فالإنسان كما قال طاغور فنان في الكثير الغالب من أمور دنياه؛ فهو يجمِّل الهيئة ويحسِّن الشارة وينمق العبارة ويهندس الدار ويرّقش الغرف ويزخرف الأثاث وينمنم الحديقة إعلاناً لشعوره وإبرازاً لشخصه وإثباتاً لوجوده
وهو يشيد المعابد الفخمة، وينصب فيها التماثيل الرائعة، ويرسم عليها الصور البارعة، تعبيراً عن مكنون عواطفه لربه ودينه
وهو كذلك يخطط المدائن الجميلة، ويعبّد الشوارع الظليلة، وينسق الحدائق العامة، تنفيساً عن مكظوم عواطفه لأمته ووطنه
من ذلك نعلم أن جمال العبارة وجلال الأسلوب من الصفات المشتركة في جميع الناس، تتفق في الوجود والمظهر، وتختلف في الطاقة والدرجة. فالعامة يستعملون الوزن والسجع والجناس متى جاشت في صدورهم عاطفة أو جرت على ألسنهم حكمة، فمواويلهم وأناشيدهم وأغانيهم موزونة أو موقعة، وأمثالهم وحكمهم وضوابطهم مزدوجة أو مسجعة. وكلما سمت الطبقة واتسعت الثقافة وصدق الشعور وصفا الذوق وأرهفت الأذن سما الأسلوب من الجميل إلى الأجمل، ومن الجليل إلى الأجل، حتى يبلغ الأوج عند كلام الله. إن جمال اللفظ وطلاوة التعبير تابعان لقوة العاطفة وجلالة الموضوع، لا فرق في ذلك بين(566/2)
أدب العامة وأدب الخاصة؛ فلغة القضاء بين البدو لا تزال إلى اليوم في بوادي العروبة تجرى على سننها المتبع في الفصاحة وإن كانت عامية؛ فالمتهم يتهم بالسجع، والمدافع يدافع بالسجع، والقاضي يحكم بالسجع. والأصل في سجع الكهان الجاهليين ذلك السمو الذي كان يحسه الكاهن في نفسه وفي مقامه؛ فقد كان كهان العرب ككهان الإغريق يزعمون أنهم مهبط الإلهام وأنجياء الأرباب، فكانوا يسترحمونهم بالأناشيد، ويستلهمونهم بالأدعية، ويخبرون الناس بأسرار الغيب في جمل مختارة الألفاظ مسجوعة الفواصل لتكون أسمى من كلام الناس وأجدر بصدورها عن الآلهة
أريد أن أقول إن توخى الجمال المطبوع في الأسلوب أصل في طبائع الناس امتد منها إلى تكوين اللغة وإنشاء الأدب. فإذا سلمت في المنشئ الفطرة وواتته الملكة وساعده الاطلاع، وكان قد تضلع من علوم اللسان وأحاط بأسرار اللغة، صدر عنه الكلام رقيقاً من غير قصد، أنيقاً من غير كلفة
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(566/3)
السلك السياسي
للأستاذ راشد رستم
(أنشر هذا الحوار تسجيلا لصورة عن جانب من جوانب
التفكير في المجتمع الحديث)
الكاتب
أ - ما هذا الحذاء؟
ب - ماذا. . . ألا يعجبك؟ إنه من الصنف الغالي، دفعت ثمناً له خمسة جنيهات. . .
- لا. لا أقصد ذلك
- ماذا تقصد؟
- أقصد لماذا اخترته من هذا الشكل ذي الرقبة؟
- ولم لا!
- إنها (مودة) قديمة
- ولماذا إذن يعرضونها الآن للبيع؟
- ليشتريها أهل (المودة) القديمة. . . ثم. . .
- ثم ماذا؟
- ثم ليشتريها أولئك الذين يلبسون الجوارب التي من الصنف الرخيص. . .
- وما دخل هذا في ذاك؟
- كيف! ألا تدري؟ أتقول حقاً؟
- نعم. لا أدري. لأني ألبس أجود أنواع الجوارب
- ولكن ألا تدري أن رقبة الحذاء تحجب الجوارب عن الأنظار. . .
- وماذا في ذلك!
- لا يا أستاذ. لابد أن تكون جواربك ظاهرة يراها كل من يجالسك. ولا يتم ذلك إلا بلبس حذاء لا رقبة له. . .
- أو ترك الحذاء بالمرة. . .(566/4)
- لا تهزأ. . . فهذه ملاحظة في محلها. . .
- حينئذ إذا كانت هذه القاعدة لها خطورتها فأرجو أن تدلني على طريقة لإظهار جميع ملابسي الداخلية، فإنها في الواقع من أجود الأصناف. . .
أ - هذا له ظرفه الخاص، ويلوح لي أنك تقتنيها من أجود الأصناف لهذا الظرف الخاص. . . ومع ذلك فإن ظروف الإظهار تختلف باختلاف المواقف. ولا أظن أنك تجهل ذلك يا سيد العارفين. . .
ب - إن هذه الملاحظات جديدة في نظري، برغم أني نشأت على أن أعرف مواضع الأشياء، ولكن أنت أعلم منى في ذلك لأن سلككم يقضى عليكم بمعرفة أشياء كثيرة لا يعرفها الكثيرون الآخرون كما ظهر لي الآن. . .
- هذا حقيقي، ولكنه لا يمنع أن يعرف غير رجال السلك كيف يلبسون وكيف يظهرون وكيف يتظاهرون. . .، وها أنت ذا واحد من هؤلاء الراسخين في اللبس. . .
- أشكرك. ولكن رجال السلك بدون شك هم النموذج الذي يحتذى في كل المناسبات وكل البلاد
- بهذه المناسبة أتعرف ما هي أحسن طريقة لإظهار القميص الأفرنكي إذا كان من أجود الأصناف؟
- لا. . .
- هي أن تلعب البلياردو. . .
- البلياردو. . .! وما هي الصلة بين القميص والبلياردو. . .؟
-. . . تدخل صالة اللعب، وهي عادة كبيرة وفيها ناس كثيرون، وتأخذ في الاستعداد للعب مع زملائك، وتتظاهر بعدم تحملك حرارة الصالة وحرارة الحركة، فتخلع الجاكتة فيظهر القميص فيراه الجميع. . .
- عظيم. والجهل باللعب؟!
- أمر ثانوي. غير مهم. وكذلك المكسب أو الخسارة. وكذلك (الغشومية) غير مهمة لأن الأغلبية لا تعطى بالا لهذه الاعتبارات. . . حتى أنك إذا أتلفت جوخ الخوان، وهو كما تعلم ثمين جداً،. . . كل ذلك يهون في سبيل إظهار القميص. . .(566/5)
- أمازج أنت أم جاد، أم أنك تهزأ بمن ليس من سلككم؟!
- حاشا لي أن أقول غير ما أقصد
- أو تقصد غير ما تقول. . .
- وما الفرق؟
ب - فرق بسيط. غير مهم. هذه كلمة خاطفة، لا تعطها بالا كمّل. كمّل. . .
أ - نعم خذ أنت بالك ودعك من التلاعب بالمعاني وبالألفاظ. فهذا زمانه مضى. وأما الوقت الحاضر فيدعو إلى الكشف والوضوح. والذي أريد أن أقرره من كل الذي جرنا إليه الحديث الآن هو أن المظهرية، نعم المظهرية، مسألة هامة جداً
ب - هذا واضح جداً جداً. ولكن هل معنى ذلك أنك تفضل المظهرية على الحقيقة؟
- اسمع يا صديقي. إن الحقيقة تعرف شأنها، وهي موجودة. ولكن المظهرية لابد لها ممن يخدمها ويعمل لها وفي سبيلها، وإلا ضعت يا أستاذ بين الحقيقة والناس. . .
- ولكن ألا ترى أنه خير للعاقل أن يفنى في سبيل الحقيقة من أنه يعيش في رداء المظهرية!
- اسمع كلامي واعمل بفلسفتي، مع العلم بأنها فلسفة شاملة للجميع. دع أفلاطون الذي كان يبحث عن الحقيقة. ثم دع الحقيقة كذلك آمنة في خدرها. إنها إن أرادت الظهور فهي ظاهرة ظاهرة. . .
- وأما المظهرية فهي لا شك في حاجة إلى من يعمل لها أمثالكم. . . أليس كذلك؟
- هو كذلك لا شك. . .
- ولكن خبرني. أليست الحقيقة أولى بهذا المجهود!
- قلت لك إن الحقيقة قوية بذاتها وهي ليست في حاجة إلى أمثالنا
- أو أن أمثالكم ليسوا في حاجة إليها!
- هذا وهذا. . .
- وخبرني كذلك، هل يوجد كثير من أمثالك على هذا الرأي؟
- الدنيا كلها. . .
- أقصد في سلككم الخاص. . .(566/6)
- الجميع يا أخي. هذا أمر مفروغ منه
- ولكن هل يتعلم الشخص فلسفة المظهرية بعد أن يلتحق بالسلك، أم هو لا يقبل ضمن السلك إلا إذا كان يعلمها من قبل؟
- هذا سؤال طيب. نعم الأوفق أن يكون الشخص عالماً بفلسفة المظهرية مستعداً لها قبل أن يدخل السلك، على أن السلك يعلمه بعد ذلك الدقة فيها وحسن التسرف وحسن السبك. . .
- أفادك الله. . . إذن سأفكر فيما يصلح لي. . .
- أتريد أن تلتحق بالسلك؟
- لا. لا. أبداً أبداً. إنما أريد أن أفكر في شأني وشأن أمثالي وشأن هذه الأفكار. . .
أ - وإلى أن تفكر وتهتدي إلى حل أنظر إلى حذائي وخبرني عن نوع جلده
- هو جلد ثعبان
- برافو! وجلد هذه الحقيبة؟
- جلد ثعبان كذلك
- برافو!
- ولكني لا أدري إن كان جلد الحقيبة وجلد الحذاء هو من الثعبان ذاته
- هذا لا يهم
- ولكن بالله اشهد. أليست هذه ملاحظة تدل على الدقة وحسن السبك؟
- أتريد أن تقول إنك تصلح للسلك؟ وهل في هذا شك يا صديقي؟
- ولكن اسمح لي. . .
- ماذا؟
- ملاحظة أخرى وإن كانت، على ما أظن، لا تجعلني صالحاً للسلك. وعلى الأقل في نظرك أنت
- قل. قل. ما هي؟
- هل تظن أن من العقل أو من الذوق أو من كليهما معاً ومعهما غيرهما. . . أن يلبس الرجل حذاء من جلد ثعبان، في حين أن أحق الناس بذلك هو الجنس اللطيف؟(566/7)
وما المانع يا أخي!
- والله إذا كانت المسألة مسألة مانع، فإن الموانع كثيرة. هذا إن أردت الحقيقة. ولكن لا. لا. لا تؤاخذني فإن الحقيقة في خدرها. . .
- أنا لا أرى مانعاً مادمت تملك المال الذي تشتري به جلد ثعبان وتصنع منه الحذاء وحقيبة السفر وحقيبة الورق وحقيبة الجيب الخ. . .
- وهل المسألة مسألة فلوس؟ وليس للاعتبارات الأخرى أي تقدير؟!
- أي اعتبارات أخرى! مع العلم بأن جلد الثعبان ثمين جداً وهو (مودة) حديثة جداً
- لا أقصد كل هذا
- إذن أنت تقول ما لا تقصد. . . أو تقصد ما لا تقول.
- دعنا من هذا المزاح السياسي. . . ولنترك مسألة الجلد وخبرني عن نوع الجورب الذي تلبسه. . . .
- من الحرير. ثم انظر إليه وإلى رباط الرقبة وإلى المنديل والقميص
- شئ جميل جداً. كلها من نوع واحد. وهكذا تكون ملابسك مكونة من مجموعات
- حقاً. إنني أميل إلى هذا الشكل من الملابس
- ولكن هذا يتطلب تعباً وتفكيراً ومجهوداً ووقتاً ونقوداً. فهل عملك يسمح بذلك!
- من غير شك. مع العلم بأن كل هذا هين في سبيل. . .
- المظهرية. . .
- برافوا!. . وهذه هي الحقيقة. . .
- نعم. لقد ظهرت من خدرها. . .
- ألم أقل لك إنها قوية لا تحتاج إلى أحد
- نعم نعم. ولكن قل لي، لماذا أنت تلبس كل هذا اللبس العالي الفخم مع أنك على سفر؟
كان هذا الحديث في القطار بين بور سعيد والقاهرة. وكان أن الصديقين التقيا في محطة بور سعيد. وكانت مصادفة أخوية نادرة إذ يلتقيان على هذه الحال بعد غياب أحدهما في الخارج غياباً طويلاً. لذلك أسرعا فاتخذا مكانهما في القطار معاً، ثم كان ذلك الحديث الطريف. . . على أن الصديق (ب) لحظ على صديقه (أ) شيئاً من القلق وعدم الاستقرار،(566/8)
فسأله الخبر فكان (يتظاهر) أيضاً بأن ذلك من متاعب السفر. . . ومع ذلك قام يمشي في دهليز العربة يفحص الجالسين كمن يبحث عن شخص بالذات. ولما عاد إلى مجلسه من طوافه سأله صديقه عمن يبحث؟
أ - عن صديق كان معي بالباخرة وسمعته يقول إنه سيسافر في هذا القطار
ب - وهل وجدته؟
- للأسف لا. . .
- ربما تخلف
- ولكن كان يهمني جداً أن يكون موجوداً في هذا القطار
- هل لي أن أسأل عن سبب اهتمامك به!
- نعم بكل سرور. اسأل. . .
- لقد سألت. . .
- آه. . . نعم. . . بالطبع يكون حسناً لو كان معنا. . .
- وإذا لم يكن معنا فهل في هذا ضرر عليك؟
- لا. ولكن كنت أود أن يكون معنا
- هل أعرفه؟
- لا. . .
ثم جعلا ينتقلان من حديث إلى حديث إلى أن بلغ القطار محطة الإسماعيلية. ولما تحرك لمواصلة السفر قام الصديق (أ) من مكانه مذعوراً
أ - ها هي. . . ها هي. . . يا للخسارة!. .
- ما بالك يا أخي؟ من هي؟ وما هذه الحركات؟ اجلس اجلس
أ - يا للخسارة! ولكن لا تزال الفرصة موجودة. بل لقد سنحت الفرصة
- ما هي الحكاية؟ خير! خير إن شاء الله
- الحكاية طويلة. وهناك في الإسماعيلية إن شاء الله ستكون نقطة التحول في الموقعة. . .
- خير إن شاء الله. . . هل وجدت صديقك؟
- نعم. نعم. وجدتها. . .(566/9)
- من هي؟ أصديقك هذا سيدة؟
- سيدة بالطبع. . .
- ما أكثر سيداتكم يا (رجال) السلك!
- وهل ظننته رجلاً؟
- بالطبع. لأنك قلت صديقي ولم تقل صديقتي. . .
- لا. لم أكن أعرف. . .
جلس الصديق (أ) حائراً سارحاً بعد الذي رأى على أفريز محطة الإسماعلية، وتولاه شئ من التفكير والوجوم، ثم أخرج سيجارة من علبة مصنوعة كذلك من جلد ثعبان. ثم أشعلها بولاعة ذهبية بديعة كان ينقصها أن تكون مغطاة بجلد ثعبان. . .
ثم تذكر أنه لم يعرض على صديقه سيجارة، فأخرج العلبة مرة أخرى وقدم منها سيجارة لصديقه (ب)
ب - (وقد أراد تغيير مجرى الحديث) إنها سيجارة مصرية فاخرة. لا شك أنك بمجرد وصولك أرض الوطن أسرعت فاشتريتها
- لا. لا. إنها معي من أوربا
- من أوربا؟ كيف؟
- لأني أدخن السجاير المصرية هناك
- شئ جميل! ذلك لأنها مصرية
- نعم. ولأن لها ميزة الأفضلية
- (مداعباً) قل الحق. لها ميزة المظهرية. . .
- (مبتسما) ها هي ذي الحقيقة يا سيدي برزت من تلقاء نفسها. أمسرور أنت إذن؟
ب - بل إن للسلك السياسي لسحراً
راشد رستم(566/10)
3 - شعر ناجي
للأستاذ دريني خشبة
1 - فصول غير مكتوبة
2 - قليل عن حياة ناجي وثقافته
3 - ماذا نرجو من ناجي
4 - بعض ما يؤخذ على ناجي
لولا خشيتنا ألا ننتهي من الكتابة عن ناجي ومن الثناء عليه، لعقدنا فصولاً طوالاً عن غزله الرقيق العذب، وعن فكاهته الحلوة الهادئة، وعن سخريته اللاذعة اللافحة، وعن فلسفته الضاحكة المتفائلة التي تبطن قليلاً من الشك لا يلبث أن يضفي عليه أضواء إيمانه العميق فيمحقه، وعن وطنيته التي تبشر وتهدى وتتفتح بالآمال في غير بكاء ولا إعوال. . . وعن فهم ناجي لهذه الحياة الجديدة الصاخبة التي تحترب من حولنا وتتفاعل في دؤوب وجد. . . وفي بحار من الدماء أحياناً. . . ولولا خشيتنا ألا ننتهي من الكتابة عن ناجي لعقدنا فصلاً طويلاً عن حياته ونشأته وتعلمه، لنعلم مثلاً أنه ولد في آخر ليلة من ليالي سنة 1897 وأنه يكره أن يجعل هذه الليلة تاريخاً لمولده، وأنه يرى من العدل أن يؤرخ لمولده بأول يناير سنة 1898، لأنه لم يعش في القرن التاسع عشر إلا عامين اثنين على حد قوله، وثلاثة أعوام حسب أصول الطرح الصحيح. ثم لنعرف أنه كان تلميذاً نابغاً ذكياً، مثله الآن، لأنه لا يزال تلميذاً نابغاً ذكياً، وإن تغيرت مدرسته فأصبحت مكتبة كبيرة، أو ثلاث مكتبات كبيرات حشد فيها خمسة أو ستة آلاف من كتب الأدب والفكر. . . والطب. . . وأنه حشد فيها تلك الآلاف من الكتب لا للزينة والتباهي، ولكن للقراءة العميقة المنظمة. . . وإن من هذه الكتب، كتباً إنجليزية - وهي الكثرة الغالبة وأن منها كتباً فرنسية، وكتباً ألمانية، لأن ناجي، كما أخبرني، كان مولعاً بالحصول على الشهادات العلمية، ولذلك فهو قد ثقف الإنجليزية والفرنسية والألمانية ليحصل على عدد من الدرجات العلمية من إنجلترا ومن ألمانيا. وبعد أن شفى ظمأه من شهادات هذه البلاد الطبية، شرع يروي من آدابها بلغاتها الأصلية، ولعلي لا أبالغ إن ذكرت أن ناجي يجيد الإيطالية إلى حد(566/11)
ما، وأنه يستطيع أن يقرأ الأدب الإيطالي بلغته الأصلية
كان ينبغي أن نعقد فصلاً عن ثقافة ناجي التي ترتوي بكل هذه الثقافات، وتنهل من مناهل الآداب العالمية التي تتصل بها اتصالاً منظماً؛ وربما كانت قد أتيحت لنا فرصة نذكر فيها طريقة ناجي في تنظيم ثقافاته هذه كلها، ووضع بينها حتى لا تصير خليطاً يشحب إلى جانبه لون خاصته الأولى وأعني قرضه للشعر؛ فقد كلمني أحد الأصدقاء عن ناجي فرأيته يزعم أنه أوشك أن ينقطع عن نظمه بالفعل. والذي أعرفه أن ناجي لا يزال يعنى كعادته، وإن يكن قد انقطع بالفعل عن النظم الكثير بين عامي 1934، 1938، وذلك لأسباب لم يحن الوقت لذكرها، أما بعد سنة 1938، فقد أخذ ملك الكنار يعود إلى شدوه الأول وشجوه القديم. وليس صحيحاً أن شعر ناجي في صباه خير من شعره الحالي، وإن كنت قد أوردت جميع الأمثلة التي ذكرتها في مقالي السالفين من ذلك الشعر؛ فقد آثرت أن أفعل ذلك لكي يستطيع من يريد الرجوع إلى شعر ناجي أن يجده مجموعاً في ديوان مستقل، لا متفرقاً في عشرات المجلات، أو مختزناً في رأس الشاعر (!!). . . وذلك أن ناجياً لا يقيد شعره في ديوان أو كراسة، كما يصنع عباد الله الشعراء، وهو حين ينظم المقطوعة أو القصيدة فهو إنما ينظمها في رأسه. . . أي في ذهنه، وهولا يتناول قلماً وقرطاساً، ثم يخلو إلى نفسه كما يستوحي معظم الشعراء ملائكتهم - أو شياطينهم - ولكنه ينظم شعره كلما هاجته دواعي الشعر وهواجسه، فهو ينظمه في الخلوة، كما ينظمه بين يدي الحبيب. وهو ينظمه في الحدائق، كما ينظمه في زحمة الترام. وهو ينظمه نائماً أو مستيقظاً. . . ونحن نأسف لأن ناجياً لم يجمع شعره منذ سنة 1938 إلى الآن في ديوان يكون بأيدي محبي فنه والمفتونين به من قرائه الكثيرين في الأمم العربية. وليس يخفف من هذا الأسف أن ثلاثة أرباع هذا الشعر مسجل في صفحات الرسالة، لأن هذا التسجيل لا يسعف إلا الأقلين بالرجوع إلى هذا الشعر
وبعد. . . فماذا في جنة ناجي الوارفة الظلال من حسك وسعدان وأشواك؟ وماذا ينقص هذه الجنة الدانية القطوف مما في جنات أولئك الشعراء الأمجاد: شلي، وبيرون، وكيتس، ووردذورث، وسكوتس، وتنيسون، وبوب، وشيكسبير، وبروننج وغيرهم وغيرهم من شعراء الإنجليز والفرنسيين والألمان والإيطاليين والأسبان وقدماء اليونان ممن كانت(566/12)
أرواحهم تهمهم حولنا وتغمغم، وتطل علينا من خزائن كتب ناجي، وتكاد تغني لنا وأنا أحدثه عنها جميعاً؟ لقد أوشكت أن أترك هذا السؤال بين يدي ناجي، ثم أفرغ من نقده! لقد رأيت فوق مكتبه ديوان الشاعر الإنجليزي الشاب كيتس، فتناولته ثم ضحكت. . . ثم أخبرته، وقد سألني، أنني كنت أقرأ في هذا الديوان قبل أن ألقى ناجي بدقائق، منظومته الرائعة الخالدة (أنديميون). . . وأنني كنت أقرأها لأهيئ من مأساة تأليفها ونقدها ردّا صامتاً على نقاد هذا الزمان، الذين يحلو لهم أن يقضوا على شعرائنا لشباب كما قضي نقاد كيتس على كيتس، فمات في ريعان الصبا وشرخ الشباب ضحية هؤلاء العلماء الظالمين الذين لا يرضيهم إلا أن يقذفوا في نار الجحيم بشعرنا وشعرائنا ونقدنا ونقادنا ممن يعرضون أقلامهم وكراماتهم لدفع أذى أولئك العلماء العتاة الظالمين عن جنود أدبنا ومعقد رجائنا في مستقبل هذا الأدب
فهل يخشى ناجي أن ينظم لنا غرة مثل أنديميون، أو درة مثل أدونيس؟ ألا يذكر ناجي أي أثر تركته في نفسه أدونيس التي نظمها شلي تخليداً لذكرى كيتس، بمناسبة موته من جراء الحملة الظالمة التي شنها عليه حضرات النقاد الظالمين؟
لقد جرب ناجي النظم، وقد أعطانا مثالاً شائقاً في ديوانه الصغير المتواضع تحت عنوان: قلب راقصة. . . تلك الأقصوصة التي تؤكد ما ذهبنا إليه من نبل مشاعر ناجي وجمال تصويره للحياة وتفجر الشعر من قلبه وتدفقه في دمه، وقد جرب ناجي نظم الملاحم، فأنشأ ملحمتيه الرقيقتين اللتين لم تطبعا بعد: الأظلال، وليالي القاهرة، وكل منهما في حوالي ألف بيت. . . فهل يحسب ناجي أنه أدى واجبه نحو الشعر العربي، والأدب المصري الحديث، بهذا القدر الضئيل من الجهد المشترك؟ أليس يروع ناجي ما يرى من الفراغ المفزع في دواوين شعرائنا شيباً وشباناً؟ أيستطيع أن يقارن بين هذه الدواوين وبين تلك المئات من دواوين الشعراء الأوربيين الذين كانت أشباحهم تشرف علينا من خزائن كتبه؟ أخشى أن يكون ناجي شاعراً أنانياً، يقرأ كل هذا القدر من الشعر، ولا يعطى الناس غير تلك الصباباث من القصائد والمقطوعات. . . إنما نريد تجاوباً بين ناجي وبين أصدقائه من أولئك الشعراء المحبوسين في خزائنه. . . لقد أنجبت مصر ناجياً ليكون بلبلاً من بلابلها التي تأسو بغنائها أضعاف ما تأسو بطبها. . . لقد أردنا أن نكتب عن ناجي فبدأنا بالكتابة(566/13)
عن قلبه. . . فأين قصة ذلك القلب؟ أين هذه القصة الكبيرة الطويلة ذات الصور والتهاويل التي يجيد ناجي إبداعها؟ إن بيرون حينما أنشأ دون جوان أو تشيلد هارولد، وشلي حينما نظم روزاليند وهيلين وقصصه الباكيات الأخر، وشيكسبير حينما نظم فينوس وأدونيس. . . وشعراء الغرب حينما نظموا قصصهم البارع العالي، إنما كانوا ينظمون قصص قلوبهم الفتية الكبيرة النابضة. . . فأين قصص قلوب شعرائنا في غير البيت أو البيتين أو القصيدة أو المقطوعة؟ ومن غير ناجي ومن هم من طراز ناجي ممن ثقفوا أساليب الأدبي الأوربي، ونهلوا من معينه يستطيعون أن يسدوا تلك الثلمة في الشعر العربي؟
ولا يستطيع بعد هذا أن ألاحظ شيئاً على أشعار ناجي يمكن أن يؤبه له أو يعتد به. وإن كان لا بد من ملاحظة شئ والتصريح به، فهو هذا التهافت القليل الذي ينتاب بعض أبيات ناجي. . . وهو تهافت مادي في غالب الأمر، أي من ناحية التركيب والأسلوب. ولا شك في أن السبب في ذلك هو ما يأخذ به ناجي نفسه من طريقته العجيبة في قرض شعره، وبالأحرى. . . نظمه أشعاره بتلك الطريقة الغيبية التي لا يستعين فيها بقلم أو قرطاس. ونحن نعرف من علوم النفس والتربية أن الشيء الذي يستعمل الإنسان فيه أكثر من حاسة واحدة تكون دراسته ووعيه أكثر إتقاناً مما إذا اقتصرنا فيه على حاسة واحدة أو حاستين في الوقت الذي نستطيع أن نستعمل فيه أكثر من ذلك. فلو أن ناجياً كان يتناول قلماً وقرطاساً ليدون أشعاره وقت نظمها لاستطاع أن يعيد فيها نظره ويجيل عليها عينيه، ولأجرى عليها عملية التجويد. وإذا هو أشرك مع عينيه أذنيه، ثم لسانه، أي جعل يرددها، أو (يدندن!) بها، إن صح أن نستعمل هذا التعبير المصري لجاءت كل أشعاره مصقولة على غرار واحد وتجنب ما يندُّ به ذهنه من الانحراف النحوي أحياناً: كقوله في رثاء المرحوم طانيوس عبده:
إجمع الآن طاقةً ... غَضَّةَ النور تبتسمْ
أهدها روح شاعر ... خالدٍ بالذي نظمْ
فقد عدّي أهدى بغير لام أو إلى وهي لا تتعدى إلا بهما. وكقوله في الشك:
تغلو الحياة بها إلى أن تنتهي ... عند التراب رخيصة كتراب
يا هيكل الحسن المبارك ركنه ... الساحر النور الطهور رحاب(566/14)
فقد جرّ رحاب في غير موضع للجر، وإن احتج بالضرورة الشعرية، فليس يعيب الشاعر الناضج إلا أن يحتج بها. ومن ذلك استعماله دوى مكان دوّى بالتشديد
وعلى ذكر رثاء طانيوس عبده. . . لقد ذكر ناجي أبياتاً لم يكن (يليق!) أن يذكرها قط في ديوانه وإن يكن قد ذكرها في الحفلة، ولن أزيد الطين بلة فأذكرها هنا
وإلى أن يصدر ناجي الجزء الثاني من ديوانه فنحن نحييه ونعقد عليه أحسن الآمال
دريني خشبة(566/15)
1 - الألغاز في الأدب العربي
للأستاذ محمود عزت عرفة
اللغز. . . ومرادفاته
قد يبدو لأول وهلة أن الألغاز فن مستحدث تسرب إلى أدبنا العربي في عصوره المتأخرة، فلهج به المتخلفون من الأدباء حتى أصبح فناً قائماً بذاته، وغرضاً في النثر وفي الشعر تنصرف إليه الغاية، وتصاغ فيه الرسائل والمقطعات، كما نرى ذلك في العصر التركي وما تلاه من عهود الانحطاط
على أن النظرة الشاملة تنفى عن أذهاننا هذه الفكرة الخاطئة، وتكشف لنا عن مدى تسلسل هذا الفن مع العربية منذ أقدم عصورها
والواقع أن الألغاز - وما يجرى مجراها - لا تعدو أن تكون ضرباً من التعبير عماده اللقانة والفهم وحسن التأني والفطنة من القائل ومن المستمع جميعاً؛ وتلك نفحات ذهنية كان للعقل العربي منها منذ نشأته أوفر نصيب. واشتقاق (اللغز) في اللغة يشير إلى قدم هذه التسمية أو قدم مدلولها على الأقل، إن لم يمكن التثبت من إطلاقها على هذا الفن نفسه منذ العهد الجاهلي
يقول قدامة في كتابه نقد النثر: أما اللغز فأنه من ألغز اليربوع ولغَّز إذا حفر لنفسه مستقيماً ثم أخذ يمنةً ويسرة، ليعمى بذلك على طالبه، وهو قول استعمل فيه اللفظ المتشابه طلباً للمعاياة والمحاجاة
وأورد ابن الأثير قريباً من هذا ثم أضاف: وقيل - يعني في الألغاز - جمع لغز بفتح اللام، وهو ميلك بالشيء عن وجهه. . .
هذا وللغز مرادفات كثيرة يوردها أكثر المصادر من غير تفرقة ولا تحديد، فيقال له (اللحن) وهو التعريض بالشيء من غير تصريح، أو الكناية عنه بغيره. ومن ذلك قوله تعالى في صفة المنافقين: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفهم في لحن القول) قال الزمخشري: أي في نحوه وأسلوبه، وقيل اللحن أن تلحن بكلامك أي تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية. . .
ويطلق على اللغز أيضاً المعمي والمترجم والأغلوطة، والأحجية والمحاجاة (لدلالة الحجا(566/16)
عليه)، والأدعية مثل الأحجية. . . وأنشد الجوهري في الصحاح:
أُداعيكَ ماُ مستصحَباتٌ مع السُّرى ... حِسانٌ وما آثارهُن حسان!
وقال يعني السيوف. ويقال للغز أيضاً (الألقية) وهي ما يلقي بقصد الاختبار وطلب التعجيز، و (المعاياة) ولعلها من تطلب الإعياء أو إثبات العي. وكل هذه ألفاظ تتقارب معانيها حتى لكتاد تومئ إلى مدلول واحد. ولقد حاول ابن الأثير في (المثل السائر) أن يفرد من بين ذلك ما سماه (المغالطات المعنوية) فيجعله نوعاً، ثم يضم الأحاجي والأغاليط والألغاز والمعميات فيجعلها نوعاً آخر
تقسيم ابن الأثير
وهو يقول عن النوع الأول الذي سماه المغالطات المعنوية: حقيقته أن يذكر معنى من المعاني له (مثل) في شئ آخر أو (نقيض)، والنقيض أحسن موقعاً وألطف مأخذاً
ويقدم كنموذج لما له (مثل) قول المتنبي في وصف رمح:
يعادر كلَّ ملتفت إليه ... ولَبَّته لثعلبِهِ وجارُ
فمعنى الثعلب المقصود هنا سنان الرمح. ولكن إمكان انطلاق هذا اللفظ على الحيوان المعروف أيضاً، أتاح للشاعر أن يثبت لفظ (الوجار) على سبيل الجمع بين المثلين: الثعلب الحيوان ووجاره
أما ما يأتي على سبيل (النقيض) فذلك كقول الشاعر - محاجياً في الدواب -:
وما أشياء تشْريها بمال ... فإن نفقَتْ فأكسد ما تكون؟
إذ يقال نفقت السلعة أي راجت، ونفقت الدابة إذا ماتت
قال ابن الأثير: وموضع المناقضة ههنا في قوله إنها إذا نفقت كسدت، فجاء بالشيء ونقيضه، وجعل هذا سبباً لهذا. . .
ويخطئ ابن الأثير من يدخل هذا الضرب من المغالطات المعنوية في باب الألغاز؛ ويعيب ذلك على أبي الفرج في أغانيه والحريري في مقاماته
واللغز عنده - بعد ذلك - هو كل معنى يستخرج بالحدس والحزر، لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازاً، ولا بفهم من عرضه. ويمثل لذلك بقول الشاعر ملغزاً في الضرس:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهدِ(566/17)
لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد!
على أنه يعود فيتمثل بقول الآخر ملغزاً في (خلخال):
ومضروب بلا جرم ... مليح اللون معشوق
له قدُّ الهلال على ... مليح القد ممشوق
وأكثر ما يُرى أبذاً ... على الأمشاط في السوق!
وواضح أن من السهل إدراج هذا المثل في باب المغالطات المعنوية؛ إذ الأمشاط والسوق المقصود هنا هي تلك المواضع المعروفة من الجسم، ولكن الشاعر غالط في معنى الكلمتين جميعاً، وأتاح له هذه المغالطة المعنوية (المزدوجة) ما يكون من اقتران سوق البيع والشراء في الأذهان عادة بأمشاط الشعر التي تباع فيها، حتى لكان مما أضافه ابن الأثير إلى ذلك قوله: بلغني أن بعض الناس سمع هذه الأبيات فقال: لقد دخلت السوق فما رأيت على الأمشاط شيئاً!
هذا وإن المغالطة المعنوية في البيت الأخير - بذكر الشيء ومثله - لشبيهة بما سلكه المتنبي من المغالطة في معنى الثعلب بذكر (مثل) له وهو الوجار. فنرى من ذلك أن اللغز ومرادفاته - ومن بينها المغالطة المعنوية - تدور جميعها حول مدلول واحد أو يكاد يكون واحداً. فمحاولة التفرقة بين معاني هذه المترادفات توشك أن تكون تعسفاً لا محصل منه مجهوداً لا طائل تحته
لماذا يلغزون؟
استعمل الفصحاء من قديم هذا الضرب من التعبير الدقيق ناظرنين إلى فوائد فيه، منها رياضة الفكر على تصحيح المعاني واستنباط دقائقها من بطون الألفاظ. ومنها إظهار البراعة في التلبيس والتمويه بتجلية الحق في معرض الباطل وإلباس الممكن ثوب المستحيل. ومنها توليد المعاني الغريبة والتزيد فيها، وابتكار ما يستثير العجب منها في غموضه، والإعجاب بعد تجلينه وإيضاحه. ومنها صون ما يراد صونه من معاني الكلام وحجبه إلا دون من يرغب في بذله إليه؛ وذلك ما يقال له (الرمز) وأصله في اللغة الصوت الخفي الذي لا يكاد يفهم، ثم أطلق على ما خفي من الكلام وأريد طيه عن سائر الناس مع الإفضاء به إلى بعضهم. قال قدامة في نقد النثر: (وقد أتى في كتب المتقدمين من الحكماء(566/18)
والمتفلسفين من الرموز شئ كثير، وكان أشدهم استعمالاً للرمز أفلاطون
يضاف إلى هذه الأغراض الدنيوية جميعاً غرض آخر متعلق بالدين، هو ما يكون من تجنب الكذب الصراح أو اليمين الكاذبة، مع سلوك سبيل المداراة والإرضاء بالظاهر من القول. وقد جاء في الحديث: رأس العقل بعد الإيمان بالله عز وجل مداراة الناس. وإنما يكون ذلك عند التقية ومخاطبة من تخشى بادرته من حاكم غاشم أو سفيه متهجم. ويسمى ابن دريد ذلك (الملاحق) وقد ألف فيه كتاباً فيما سنشير إليه. ويسميه قدامة (المعارضة) وتعريفها عنده أنها المقابلة بين الكلامين المتساويين في اللفظ. قال: وذلك مثل قول بعضهم وقد سأله بعض أهل الدولة العباسية عن قوله في لبس السواد فقال: وهل النور إلا في السواد! وأراد نور العين في سوادها، فأرضى السائل ولم يكذب
وضرب قدامة مثلاً من المعارضة في القرآن قول مؤذن يوسف: (أيتها العير إنكم لسارقون) وهم لم يسرقوا الصواع، وإنما عني سرقتهم إياه من أبيه
قلت: وشبيه بهذا قوله تعالى على لسان إبراهيم: (بل فعله كبيرهم هذا) يعني أن الصنم الأكبر كان أشدها إغاظة له لما رأى من زيادة تعظيمهم إياه وأقوها - تبعاً لذلك - حملا على التحطيم (والفعل كا يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه) - ففي الآية أسلوب تعريضي جمع بين تبكيتهم، والتبرؤ من الكذب بإسناد الفعل ظاهراً إلى الصنم
وليس بعد هذا النوع من المعارضة كذباً بوجه، إذ كان من مأثور قولهم: (في المعاريض مندوحة عن الكذب). والصدق في اللفظ غير مراد لذاته، بل لدلالة فيه على الحق، ومعونة منه على بلوغه. وقد أزال الغزالي ما لعله يتبقى من الشبهة في استعمال (المعاريض) بقوله في شأنها: (الصدق ههنا تيحول إلى النية فلا يراعى فيه إلا صدق النية وإرادة الخير؛ فمهما صح قصده وصدقت نيته وتجردت للخير إرادته، صار صادقاً كيفما كان لفظه)
هذا لم يتفرد متصوفة المسلمين بالأغراب والتعمية في أقوالهم - تقية منهم ومداراة للعامة وظلمة الحكام - وإنما شاركهم في ذلك أهل التصوف من سائر الملل. وسبق هؤلاء جميعاً أهل التفلسف من قدماء الأمم. وقد مرت عبارة قدامة في رموز أفلاطون، والقفطى في كتابه: (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) يقول عن أفلاطون هذا إنه ألف كتباً كثيرة مشهورة في فنون الحكمة وذهب فيها إلى الرمز والإغلاق(566/19)
وكان هيرقليس اليوناني يسمى (الفليسوف المعمى) لأنه كان لا يتكلم إلا بالألغاز. وينسب مثل هذا إلى أبيذقليس. قال القفطي: ومن الفرقة الباطنية من يقول برأيه، وينتمي في ذلك إلى مذهبه - يعنى مذهب الشك في المعاد - ويزعمون أن له رموزاً قلما يوقف عليها وهي في غالب الظن إيهامات منهم هـ.
(جرجا - يتبع)
محمود عزت عرفة(566/20)
5 - القرآن الكريم
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ويلتحق بزعمه الذي زعم لعرب الجاهلية من نهضة علمية سياسية اجتماعية الخ زعمه أن نشأة علوم العربية كالنحو والبلاغة والعروض قديمة، أي إنها نشأت قبل الإسلام لا بعده وهو يبنى هذا الزعم أيضاً على ما افترض من أن القرآن أثر جاهلي
وفي الحق أن جميع ما ارتأى وما افترض في كتابه هذا متصلاً بالقرآن لا يتسق ولا يستقيم في بحث باحث إلا على فرض أن القرآن من كلام عربي من العرب. وهو لم يصرح بهذا كما صرح بإنكار إعجاز القرآن من ناحية الأسلوب، إلا أن وصفه القرآن بكل ما لا يصدق إلا على نتاج البيئة دليل قاطع في الموضوع
اقرأ له زيادة على ما قدمنا قوله عن القرآن من صفحة 45 (فلننظر إذن أهو كتاب طبيعي، أم هو كتاب مملوء بالزخرف والصنعة المحكمة) وقوله (فمن الواجب أن يترك الباحثون ذلك الميدان الذي أولعوا بالجري فيه وهو عصر الدولة العباسية، وأن يجعلوا ميدان النضال عصر النبوة نفسه، وأن يحدثونا ما هي الصلات الأدبية والاجتماعية التي وصلت إلى العرب من الخارج فأعطت نثرهم تلك القوة وذلك الزخرف اللذين نراهما مجسمين في القرآن. هنالك نعرف بالبحث أكان القرآن صورة عبقرية أم تقليدية). فهذا نص لا يقبل شكاً ولا يحمل تأويلاً في أن صاحب الكتاب يرى القرآن من كلام العرب تأثر بما تأثروا أو يصح أن يكونوا تأثروا به من صلات أدبية اجتماعية جاءتهم من الخارج، وأن ما امتلأ به في زعمه من (الزخرف والصنعة المحكمة) ليس طبيعياً كالذي تراه في الزهر والشجر والشفق والسماء، ولكنه مكتسب مجلوب من الخارج! ونسى أنه لم يقل بأن القرآن أثر جاهلي إلا لينفى عن العرب أن يكونوا (أخذوا طرائق النثر الفني عن الفرس واليونان)، فهو يسلبهم كل ما أعطاهم، بل يشكك حتى في عبقرية القرآن لو كان من صنع عربي ووضعه، كما ترى من قوله (هنالك نعرف بالبحث أكان القرآن صورة عبقرية أم تقليدية). والتقليد هنا ليس هو تقليد عربي لعربي، ولكن تقليد عربي لأعجمي، لأن الصلات الخارجية التي يتساءل عنها في النص السابق هي صلات بين العرب ومن حولهم من(566/21)
الأعاجم. فتشكيكه في العبقرية وتجويزه التقليد على القرآن قاطع في أنه لا يرى القرآن من كلام واهب العبقرية وفاطر الإنسان، ولكن من كلام بشر مشكوك حتى في عبقريته
وصاحب الكتاب يعرف هذا الرأي من نفسه، ويعرف بعد ما بينه وبين ما عليه المسلمون، كما ترى من قوله بعد ذلك النص (ولكن مثل هذا البحث في رأيي خطر على الباحثين المسلمين في الوقت الحاضر: لأن الرأي العام في مصر والشرق الإسلامي لا يسمح بدرس القرآن درساً تحليلياً يبين ما فيه من العناصر العربية الصميمة والعناصر الدخيلة. والمستشرقون أيضاً لا يهتمون بمثل هذا البحث، لأن أكثرهم مقتنع بأن العرب لم يكن لهم وجود أدبي قبل الإسلام). فإذا صح ما نقله هذا الرجل عن المستشرقين فالمستشرقون أقرب منه إلى الإسلام إذ ليس بينهم وبين الإسلام إلا أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، ويتبعوا النتيجة الحتمية لوجود القرآن مع ما اقتنعوا به من أن العرب لم يكن لهم وجود أدبي قبل الإسلام. أما هو فقد رأيت ما قال
وليس ذلك كل ما قال، فقد قال أيضاً في صفحة 46 (وليس أمامنا أي دليل على أن القرآن متأثر تأثراً محسوساً بآداب أخرى أجنبية وإن كان هذا ممكناً لأن العرب قبل الإسلام كانوا على اتصال قليل أو كثير بمن جاورهم)
وقال أيضاً من صفحة 47 (ويمكن الحكم بأن اللغة الأدبية التي سبقت الإسلام لم تكن تخالف كثيراً لغة القرآن، لأن التطور الكبير الذي ينقل اللغة من أسلوب إلى أسلوب ومن روح إلى روح لا يتم في خمسين سنة مثلاً، وإنما يتطلب مدة طويلة، خصوصاً في أمة بدوية محافظة قليلة الاختراع والتبديل في لغتها وأسلوبها). اقرأ هذا واحكم ما رأى صاحبه في القرآن، أأنزله الخالق معجزة للخلق على الدهر، أم هو من كلام الناس تطور روحه وأسلوبه كما يتطور الروح والأسلوب في كلام البشر؟
ثم اقرأ له من صفحة 51: (وإنما ينبغي أن نعتقد أنه كان لهم أدب قوي متين يقرب في روحه وأسلوبه من روح القرآن وأسلوبه، فإن البيئة واحدة، واللغة واحدة، والعصر واحد) فإذا قرأت له عقب ذلك (ولم يكن محمد إلا بشراً ألهم هداية قومه كما صرح القرآن غير مرة) عرفت أن صاحب الكتاب يرى القرآن من كلام محمد، وعرفت أيضاً أنه يفتري على القرآن فإن القرآن وإن قال إن محمداً بشر لم يقل إنه ألهم هداية قومه، فإن مادة (ألهَم) لم(566/22)
ترد قط في القرآن
فإذا قرأت له من صفحة 60 (فإن القرآن يسجع أحياناً ولكنه لا يلتزم السجع، لذلك نجا من التكليف والابتذال) عجبت لهذا الكاتب المدعي البصر بالفصاحة والبيان، كيف لم يجد ما يقوله في سجع القرآن إلا أنه نجا من التكلف والابتذال! وهو ثناء يشبه الذم لو أنه قيل في سجع أحد الفصحاء مثل ابن العميد الذي يستحسن صاحب الكتاب سجعاً له كل الاستحسان (صفحة 157)، فكيف به وقد قيل في القرآن
ولعلك لاحظت أنه حين (نجى) القرآن من التكلف والابتذال في السجع رد ذلك إلى أنه يسجع أحياناً، أي إلى قلة السجع لا إلى السجع نفسه. فإذا قرأت له قول من صفحة 65 (ولو تركنا المشكوك فيه من الآثار الجاهلية، وعدنا إلى نص جاهلي لا ريب فيه وهو القرآن، لرأينا السجع إحدى سماته الأساسية) لعجبت لهذا الرجل كيف يكتب. ألم يقل قبل إن القرآن يسجع أحياناً؟ فكيف يجعل السجع الآن إحدى سماته الأساسية؟
ومثل آخر من إنزاله القرآن منزلة كلام البشر قوله من نفس الصفحة (والقرآن نثر جاهلي، كما أوضحنا ذلك من قبل! (والتعجب من عندنا لأنه لم يوضح بأكثر مما قدمنا لك) والسجع فيه يجري على طريقة جاهلية حين يخاطب القلب والوجدان. ولا ينكر متعنت أن القرآن وضع للصلوات والدعوات ومواقف الغناء والخوف والرجاء سوراً مسجوعة تماثل ما كان يرتله المتدينون من النصارى واليهود والوثنيين ولا تنس أن الوثنية كانت ديناً يؤمن به أهله في طاعة وخشوع، وكانت لهم طقوس في هياكلهم. وكانت تلك الطقوس تؤدي على نحو قريب مما يفعل أهل الكتاب من النصارى واليهود)!
أفترى هذا الكلام يحتاج إلى تعليق؟! أم هل تريد كلاماً أوضح وأدل على رأى هذا الأفاك؟ إذن فاقرأ له ما قال بعد ذلك: (والقرآن وضع لأهله صلوات وترنيمات تقرب في صيغتها الفنية مما كان لأهل الكتاب من صلوات وترنيمات، والفرق بين الملتين يرجع إلى المعاني ويكاد ينعدم فيما يتعلق بالصور والأشكال. ذلك بأن الديانات الثلاث الإسلام والنصرانية واليهودية ترجع إلى مهد واحد هو الجزيرة العربية. فاللون الديني واحد، وسورة الأداء تكاد تكون واحدة)! فقد رأيت الآن! لقد صارحك صاحب النثر الفني بذات نفسه، لا عن القرآن فقط وتقليده حتى الوثنيين في الصورة والشكل، ولكن عن الأديان الثلاثة كيف أنها كلها(566/23)
بنت البيئة، بنت الجزيرة العربية، ولك أنت أن تعلل لماذا أغفل الوثنية فلم يجعلها رابعة البنات!
الرجل بقوله هذا قد وضع بين أيدي الناس المفتاح إلى مذهبه في القرآن والدين، وليس النص السابق فلتة فاتت الرجل، فقد ذكر رأيه في الدين وفي القرآن فيما كتب بعد النثر الفني بما يتفق مع هذا الذي كتب في (النثر الفني) وأين؟ سأخبرك ببعض ذلك، وفي البعض بلاغ
كان الأستاذ أحمد أمين علل فقدان الملاحم والمنظومات الطويلة في الشعر العربي بتقيد الشعراء بعد العصر الجاهلي بقيود الشعر الجاهلي، فرد الدكتور زكي مبارك عليه يقول في صفحة 1393 من العدد 315 من الرسالة (إن عبقرية العرب ليست في القصص وإنما عبقرية العرب في الغناء والتعبير عن الأنفاس الروحية. وفي بلاد العرب نشأت الديانة الموسوية والديانة العيسوية والديانة المحمدية؛ فإن امتازت لغات الشرق والغرب بالمنظومات الطويلة في القصص والتاريخ، فقد امتازت لغة العرب بأكرم أثر عرفه الوجود وهو القرآن. وهو حجة اللغة العربية يوم يقوم التفاخر بين اللغات بالأحساب) والأستاذ أحمد أمين كان يتكلم عن أدب العرب مقارناً إياه بأدب غيرهم من الأمم والشعوب؛ فهذا الرد من زكي مبارك لا يصلح رداً إلا أن تكون الديانات الثلاث من وضع العرب؛ وإلا أن يكون القرآن من أدب العرب كذلك
وبعد، فقد كنت أسندت إلى زكي مبارك تهماً ثلاثاً: أنه يدعو إلى نقد القرآن، وأنه ينكر إعجاز القرآن وأنه يكاد يصرح بأن القرآن من كلام البشر، وطلبت إليه أن يتبرأ أو أثبت، فأجاب إني لا أفهم كتابه، وأنه لا يتبرأ منه ولو ذهب معه إلى جهنم الحامية، فكان لابد من الإثبات. وقد فعلت، وإن لم أستقص ما في كتابه وما كتب بعده من دليل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
محمد أحمد الغمراوي(566/24)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
551 - ومخبر النساء بعد المنظر
عيّرت امرأة حكيما بقبح المنظر. فقال لها: يا هذه، إن منظر الرجال بعد المخبر، ومخبر النساء بعد المنظر. . .
552 - ثلاثون خاتما وثلاثون عكازاً
في (تاريخ بغداد للخطيب: قال عبد الله بن محمد بن شهاب: كان لخلف بن عمرو العكبري ثلاثون خاتماً وثلاثون عكازاً، يلبس كل يوم خاتماً وعكازاً طول شهره. فإذا جاء الشهر المقبل استأنف لبسها. وكان له سوط معلق، فقلت له: ما هذا؟ فقال: ما روى: (علق سوطك يرهبك عيالك)؟ وكان ظريفاً. . .
553 - خطبة في الصلح
في (محاضرات الراغب): خطب رجل في الصلح، فقال: أما بعد، فإن الصلح بقاء الآجال وحفظ الأموال، والسلام
554 - عجائب
في (الأغاني): أحمد بن الطيب السرخسي: حضرت مجلس محمد بن علي بن طاهر، وحضرته مغنية (يقال لها شنين) مشهورة فغنت (قول دعبل):
لا تعجبي يا سلمَ، من رجل ... ضحك المشيبُ برأسه فبكى
ثم غنت بعده (والشعر لدعبل):
لقد عجبتْ سلمى وذاك عجيب ... رأت بي شيباً عجّلته خطوبُ
فقلت لها ما أكثر تعجب سلمى هذه! فعلمت أني أعبث بها لأسمع جوابها، فقالت متمثلة غير متوقفة ولا متفكرة:
فُهلكُ الفتى ألاّ يَراحَ إلى نَدًى ... وألاَّ يرى شيئاً عجيباً فيعجبا
فعجبت والله من جوابها وحدته وسرعته، وقلت لمن حضر: والله لو أجاب الجاحظ هذا الجواب لكان كثيراً منه مستظرفاً(566/25)
555 - اخترت استعمال الصواب فيك
في تاريخ بغداد للخطيب: قال قال المأمون لأبي حفص عمر بن الأزرق الكرماني: أريدك للوزارة
قال: لا أصلح لها يا أمير المؤمنين
قال: ترفع نفسك عنها
قال: ومن رفع نفسه عن الوزارة، ولكني قلت هذا رافعاً لها وواضعاً لنفسي عنها
قال المأمون: إنّا نعرف موضع الكفاة الثقات المتقدمين من الرجال، ولكن دولتنا منكوسة، إن قومناها بالراجحين انتقصت، وإن أيدناها بالناقصين استقامت؛ ولذلك اخترت استعمال الصواب فيك. . .
556 - أفتانا به الإمام أبو اسحق
قال محب الدين بن النجار في تاريخه: قال شعيب بن الحسين القاضي أنشدني الشيخ أبو اسحق الشيرازي هذين البيتين لنفسه:
جاء الربيع وحسنُ وردهْ ... ومضى الشتاء وقبح بردهْ
فاشرب على وجه الحبيب ... ووجنتيه وحسن خدهْ
ثم بعد مدة كنت جالساً عنده فذكر بين يديه أن هذين البيتين أنشدا عند القاضي عين الدولة حاكم صور (بلدة على ساحل بحر الروم) فقال لغلامه: أحضر ذاك الشان فقد أفتانا به الإمام أبو اسحق. فبكى الشيخ الشيرازي، ودعا على نفسه، وقال: ليتني لم أقل هذين البيتين! ثم قال لي: كيف تردهما من أفواه الناس؟ فقلت: يا سيدي، هيهات! قد سارت بهما الركبان(566/26)
نحو أدب قومي
الوادي المقدس
للأستاذ سيد قطب
على ضفافِ الخلودْ ... وفي شِعابِ الزمنْ
والدهر يحبُو وليدْ ... قد كان هذا الوطنْ
يا فجرُ مَنْ ذا رآكْ ... تجولُ تلكَ السماءْ
وليسَ حَيٌّ سِواك ... تُهدِي إليه الضياءْ؟
رأتْك تلك الضِّفافْ ... رأتكَ تلك البُرورْ
رأتْك قبل المطافْ ... وأنتَ طفلٌ غريرْ
وشبتَ والدهر شابْ ... وحنِّكَتْك الحياةْ
والنيلُ بادي الشبابْ ... والزهر يَقْفو خُطاهْ
ينسابُ مثل النَّغَمْ ... في عزف نايِ طروبْ
وكانسيابِ الحُلُمْ ... تُضْفِي عليه الغيوب
خريرهُ صَلَواتْ ... معطّرَاتُ النشيدْ
وموجُهُ أُغنياتْ ... مرتَّلاتُ القصيدْ
يا نيل كم من شِراعْ ... يا نيل كم من سَفينْ
أسْلَمْتَها للوداعْ ... على مدار السَّنِين
يا نيل كم من جموع ... ماجَت بتلك الضفاف
يا نيل كم من زروع ... وذِي وذِي للقطاف
وأنتَ صِنوُ الخلود ... وفي يدْيك الزِّمام
وكل عام تعود ... مُجدَّدَ الأيام
تجرى فتجرمي الحياة ... ويُمْرِعُ الشاطئان
ويستفيقُ الرُّعاة ... وتمرح القُطْعان
ويَنْشطُ الزرزور ... يجمْع العيدان
لِعشه المعْمُور ... بفرخه الوسنان(566/27)
أكادُ خلفَ القرون ... أحس رِكْزَ الجموع
أراهُمُ مُهطعين ... في موكب للربيع
قد شمروا للحصاد ... وخَلَّفوا أمشير
في فرحة الأولاد ... تسابقوا للبكُور
وموكب للرَّواح ... في كل يوم يؤوب
يزُّفه الفلاح ... على مدار الغروب
من الحقول المَرِيعه ... إلى الحمى والديار
تضم فيه الطبيعة ... أبناءها الأبرار
لُحُونُه من صياح ... ومن رُغاءِ النَّعَم
ومن رجيع النُّبَاح ... ومن ثُغاءِ الغنمْ
على مدار القرون ... يسير فيه الرُّعاة
كأنهم خالدون ... ما بُدِّلُوا في الحياة
أحبُّ فيكَ الخلود ... يأيُّها الوادي
أحبُّ فيكَ الصمود ... للْقاهر العَادي
تَصبُّ فيكَ الوفود ... وأنت يقظانُ ساهر
تصوغهم من جديد ... كأنما أنت ساحر
يا مهبط الأسرار ... من الغيوب العميقة
يا موطن الأسحار ... من القرون السحيقة
تأوي إليك الزمان ... خوف البِلَى والفناءْ
يأوي لحصن الأمان ... فيستمدُّ البقاء
ووجهك الفتان ... بِلونه الأسمر
يا طالما يزدان ... بزرعك الأخضر!
ترنُو له عيناي ... في فتنة العاشق
يا أرض يا دنياي ... يا آية الخالق
يا أرض كم تحلمين ... بالزهر أحلام شاعر(566/28)
رُؤاكِ طولَ السنين ... يا أرض، تلك الأزاهر
وريحك المعروف ... يشمه أنفي
في خاطري مألوف ... مميزُ العَرفْ
يا أرض، هذا الصعيد ... مقدس في ضميري
سرى عليه الجدود ... وأخلدوا للقبور
يكاد فرطُ الحنين ... إليهمُ في شعوري
يردهم شاخصين ... إلىَّ خلف الدهور
يا أرض سرٌّ دفين ... مُغَّيبٌ في ثراك
يَرُدُّنا موثقين ... إليكِ أسرَى هواكِ
هذا الثرى المنثور ... في صفحة الوادي
عرفته في الضمير ... رفات أجدادي
يا أرض. هذا النشيد ... من وحيك العبقريِّ
فَاقْضي له بالوجود ... بسرَّك القُدُسِيِّ
(حلوان)
سيد قطب(566/29)
البريد الأدبي
7 - الشعر الجديد
يلحق بالشعر الجديد ما يدعونه اليوم (الشعر المنثور). ويكاد النوعان يتطابقان في جميع المظاهر والخصائص التي ألممت بها في هذه الأحاديث. وغالب ما قرأت من (المنثور) منشأ إنشاء؛ ومنه ما هو مترجم. وما يستجاد من هذا أو ذاك لا يكاد يذكر
ولقد كنت أحسب بادي الرأي أن رحب (المنثور) وانفساح جنباته، وأنَّه غير منحصر في وزن أو قافية - مما يأذن لسلامة التعبير ومتانة الأداء. ولكني وجدت الحال هي الحال. فإن كان لهم شئ مما يزعمون من المقدرة، فهنا مجاله. وإلا فأين نتلمس (نضارة الزهر، وعبق الريحان، وفتنة الألوان)؟
وعلى ذكر (القافية) يعن مظهر آخر - سوى ما أسلفنا - من مظاهر (الشعر الجديد): ذلك هو قلق القوافي فيه ونبوها، حتى إنك لتحس أنها تحشر حشراً، وتساق سوقاً، وتضغط في أماكنها ضغطاً، فتأتي واهنة خائرة، أو باردة فاترة
ورصانة القافية تنبئ بالفحولة ورسوخ القدم. وقديماً اعتبرها النقاد من أسس الموازنة، ومقومات المقايسة بين الشعراء. وقد عنى بها (العروضّيون) فبسطوا فيها القول، ونسقوا لها القواعد، وأفردوها بالتأليف؛ حتى وصلوا من ذلك إلى تفصيلات دقيقة، وتفريعات عجيبة. وذلك لمكانتها من القصيد، وأثرها في النفوس، متى اكتملت فيها شرائط الحسن، واستحكمت لها أصول الفن
ولسنا بصدد طرق هذا الباب؛ وإنما نريد أن نقول لهؤلاء النظامين: رويدكم؛ فإن الأمر ليس من الهون كما تظنون؛ فإحكام القافية وإنزالها منزلتها، مما يتطلب تحصيلاً عظيماً، وحسا مرهفاً، ومعاناة طويلة للجزل من الكلام، والمحكم من القريض
فلا غرو إذا أن ندرك سر تبرم القوم بالقوافي فقد تواترت اليوم صيحات تدعو إلى (كسر هذا القيد، وخلع ذلك النير). قالوا: وما للتقفية والشعر؟ لئن كانت التقفية سبيل القدماء ومنبت عصورهم، لخير لنا في عصرنا هذا أن نطرحها، لنكون في التفكير أكثر سداداً، وفي الخيال أبعد مرمى، ولنكون سراعاً ككل شئ
قالوا هذا، وقالوا كثيراً غيره، وأوغلوا في الاحتجاج، فأصبحنا نرى من القصائد ما لا تقفية(566/30)
له مطلقاً، وما نوعت فيه التقفية على أوضاع وأشكال شتى، وصور لا تكاد تنحصر
فالسر - فيما أرى - ليس فيما زعموا. وإنما السر كل السر فيما يقوم في سبيل التقفية - ولا سيما إن طالت في القصيدة - من عقبات، وما يعترض من شدائد. فكيف النجاة إلا فيما يتمحّلون وما يفتعلون من أسباب؟
وبينما أنا أهم باختتام هذه الكلمة، إذ خطر لي حوار كان بين أديبين - منذ قريب - حول ما يسمى (الشعر المهموس) وهو ما يمكن أن تتسع له أحاديثنا هذه. وكان في نفسي منه شئ. وهو فن ابتدع حديثاً، فيما أظن
ولقد كنت جهدت في تبين مدلول (الهمس) في ذاك الحوار، مستأنساً باللغة، فلم أوفق كل التوفيق. فانصرفت إلى الشعر الذي ساقاه للتصوير، وتأملته وأمعنت فيه
وكان أحد المنافسين يتعصب لشعراء (المهجر) أشد التعصب ويقدمهم في هذا الباب، وينكر على المصريين - فيما أذكر - استعدادهم فيه. وساق كل من المتناظرين مقطوعات مختلفة. وطال النقاش
إلا أني لم أتذوق في الشعر المصري مذاقاً خاصاً، لم ألمح فيه لوناً أو طعماً خاصاً - أما الشعر المهجري فكان من صفته الوَنَى والفتور والتهافت، وإن حاول الأستاذ - جاهداً - أن يحمله من المعاني ما لا يحتمل، وأن يعتصر منه ما ليس فيه. ولقد عجبت من هذا الاختيار، وفي (المهجر) شعراء ذوو مكانة سامية، ولهم فن مستملح، وتجديد عذب
فليت شعري ما (الهمس) في الشعر وما مرماه؟
(للحديث بقية)
(ا. ع)
كتابة الإسبانية بالحروف العربية
أورد حضرة الأستاذ الجليل (ن) في العدد 562 من الرسالة خبراً حول كتابة اللسان الإسباني بالحروف العربية استحدثه من أستاذنا الدكتور باول كراوس
وكأني بكثير من الناس لا يعرفون عن هذه الحقيقة التاريخية إلا اليسير؛ لذلك أحببت أن أقدم إلى أصدقاء (الرسالة) لمحة سريعة عن الظروف التي أحاطت بهذه الكتابة راجياً أن(566/31)
تتاح لي الفرصة للتحدث عن أدب المورسكيين الذي كان جله يكتب بالحروف العربية
بعد أن استرد الإسبانيان غرناطة - آخر معقل لدولة الإسلام في الأندلس - ظل كثير من المسلمين يعيش في كنف الدولة الجديدة المنتصرة. ولكن سرعان ما اشتدت وطأة محاكم التفتيش عليهم، فحملوا - أمام هذا الضغط - على استعمال اللغة الأعجمية في حياتهم الاجتماعية. ولم يكن في وسعهم حينئذ أن يكتبوها بالحروف اللاتينية؛ فلجأوا إلى حروف لغتهم العربية
وفي سنة 1609 أقصى المورسكيون عن إسبانيا واندثرت لغتهم التي استحدثوها، فقضى بذلك على آخر مظهر من مظاهر الأدب الإسلامي في الأندلس
والأدب الأعجمي ككل أدب، له ناحيتان: النثر، ويتمثل في كتب الدين والشريعة وسير الرسل والشعر، وقد نظمت به المدائح النبوية وقصة يوسف
وهاهي ذي بعض الأبيات من قصة يوسف نظمها باللغة الأعجمية شاعر مجهول عاش في القرن الثالث عشر والرابع عشر:
حديث دا يوسف عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
لُوَ مياْ نتُ أدَ الُّله أَلَلْتُ يَاشْ إبارْ دَادَار
أُنْرَّدُ إقُنْبِلِدُ شاُّنرْ دَارَايتُرَارُ
ثم يسترسل في ذكر الصفات الإلهية حتى يصل إلى قول يوسف لأبيه:
أكاشْتُ فُوَا كابِيُ أُنْزَ أشْترَالَّشْ
كامرَّشْ لفَرَّارَ تَيايَ كُنَالَّشْ
كاْلشُلْ إَللُنَ أَرَكا أَنْدَبَ أَنْتَرَالَّشْ
ومعناه: (إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)
ولا تزال خزائن المورسكيين مدفونة لم يكشف في القرن التاسع عشر إلا على القليل منها. ولعل في استخراجها من مدافنها ما يوضح مدى النشاط الفكري الذي بلغه هؤلاء القوم المعذبون.
أحمد مدينة(566/32)
البيت الذي يعدل ألف بيت
قرأنا في العدد الأخير من (الرسالة) رأي الأستاذ دريني خشبة في بيت للدكتور إبراهيم ناجي وهو يعدله بألف بيت من جيد الشعر
ونحن نرى أن البيت الذي يعدل ألف بيت من جيد الشعر هو بيت الرئيس أبي منصور علي بن الحسن (صردر):
ناضلننا بنوافذ مسمومة ... وودت لو قبلت سهم الرامي
من قصيدته:
يا ماء (لينة) لو نفعت أوامى ... كانت حياضك لي كؤوس مدام
أما البيت:
ومن عجب أحنو على السهم غائراً ... ويسألني قلبي متى يرجع الرامي
فيعدل بيتاً واحداً، لأنه مأخوذ عن الرئيس أبي منصور بتصرف
محمد علي خليل
بقايا نغم
نشر الأستاذ محمود حسن إسماعيل قصيدة في العدد الماضي من (الرسالة) الغراء بهذا العنوان ورد فيها ما يأتي:
وفيها أنت يا ليلايْ ... سلوٌ يانعٌ لبكايْ
وفجر رائع لدجايْ ... وخلد سامع لغِنايْ
يعللني ويوحيني
أما أنت ياليلاي سلو يانع لبكاي، فهذا كلام جميل وإن كان السلو لا يوصف بأنه يانع، وأما قوله (يعللني ويوحيني)، فذلك خطأ محض إذ ليس من اللغة الصحيحة أن أقول (يوحيني) بمعنى (يوحى إلى أو لي) ولو قال (يحييني) لكفى نفسه هذا الاضطرار الذي أوقعه في خطأ واضح
هذا وللأستاذ تقديري وثنائي على أي حال.
عبد القادر محمود(566/33)
(كتاب الفلاحون) والدكتور غلاب
طالبنا الدكتور غلاب بالأدلة على جور الأب عيروط أحياناً وعلى ركاكة أسلوب الترجمة، فإليه بعض هذه الأمثلة بلا تعليق:
1 - جاء في ص 158: إن الشدة القرآنية تلين أمام الضرورة والتقاليد
2 - وجاء في الصفحة نفسها: إن جرائم القتل بسبب العرض التي هي لا تزال مألوفة إلى حد كبير والتي هي مجندة من الإسلام، إن لم تكن من أوضاعه تلقى رحمة العدالة الرسمية (أي في المحاكم!)
3 - وجاء في ص 160: أن الأم التي تلد تلحقها نجاسة شرعية مدة (أو إبان كما يقول السيد غلاب) أربعين يوماً إن كان المولود ولداً أو ثلاثين إن كان بنتاً!
4 - وفي ص 161 يقول بعد أن شنع كثيراً على عادة إطالة مدة الرضاع: ونحن نشاهد نفس هذا التعيين في مدة الرضاع عند قدماء المصريين وفي أفريقيا السوداء وفي أوامر القرآن!
5 - وجاء في ص 125: إن الفلاحين يقومون بطقوس الصلاة بعد الوضوء مساء!. ويوم الجمعة مرات عديدة! وأنهم يصلون جماعة، أو على الأقل يصورون هيكل حركات الصلاة!
6 - وفي ص 133: (إن النساء الباكيات على الميت (يؤنين الإله على دعوته إياه!) ويسائلن الميت وزوجته وأولاده بل والموت نفسه) وينتهي الكلام بلا معنى عند هذه العبارة! فعم التساؤل؟
7 - وفي ص 124: ينفى عن الفلاحات ملاحظة شئ من قواعد الإسلام حتى الشهادتين أو الصوم أو الزكاة
8 - وفي ص 156: رمى الفلاحات المصريات جميعاً بالعهر والدعارة وعدم الصون!
9 - وفي ص 18 يتهم الفلاحين بأنهم يقدسون الحيوان، كما كان يصنع قدماء المصريين!
10 - وفي ص 125: إن المسلمين لا يفهمون عربية القرآن الأدبية!
فهذه عشرة مآخذ من عشرين أعددناها في مقال أشفقت (الرسالة) من نشره. فهل يأبى(566/34)
المترجم إلا أن نزيد؟! وهل يرضيه هذا اللون المكشوف من النقد؟ أما ركاكة الأسلوب فالكتاب كله شاهد على ذلك، وفي نشر شئ منه تضييع لوقت القراء
(د. خ)(566/35)
القصص
عمي حسن
للأستاذ نجيب محفوظ
رحماك اللهم! ماذا فعلت؟. . . أين جلدي وأين رشادي؟. . . وكيف أداري خجلي حيال هذه الشعيرات المحترقة؟. . . وكيف أستمع لنجوى هذا الرأس الكبير الذي ظل - ستة وأربعين عاماً - ملتقى لتجارب الحياة، يحتفظ منها بما يشاء ويعتبر بما يشاء؟!. . . فهل حقاً خانني البصر وهل حقاً خانتني الإرادة؟. . . أو إن عمق إحساسي بالخجل والخيبة هو الذي كبر الهفوة لناظري وضاعف من أثرها في شعوري؟. . . والحق أني لم آت أمراً أشذ به عن سنة الطبيعة، بل لو كنت ذا فطنة لأيقنت من زمن طويل أنه ما من هذا المصير مفر. . . ألم ألق في مرتع الحسن الصبيح والشباب النضير أشهد نضجه واستواءه؟. . . فمن أين كانت لي قوة أصد بها نزوع القلب عن أن يجني من حصاد الهوى ما يروى به غلة فؤاد أضناه الترمل وعناه التوق إلى الأليف
وقد عرفت (فيفي) وهي في المهد بعد أن نورت الدنيا بأسبوع واحد، وكنت في ذاك الوقت في الثلاثين وأنتظر مولودا أيضاً. وأذكر أني كنت أوصى زوجي - ضاحكاً - أن تكثر من النظر إلى وجه طفلة جيراننا عل مولودنا المنتظر يقبس من روائها حسناً. ولم يكن يفصل بين الشقتين سوى ردهة قصيرة فجعلت الصغيرة - حين دعاها الداعي إلى تعلم الحبو والمشي - تقطعها حبواً ومشياً، فنمت رويداً رويداً تحت سمعي وبصري، لها منتهى ودي وحبي وحناني، بل لكأنها ما كانت تتحرك وتنمو إلا بالحرارة التي يسكبها حبي على قلبها الصغير. وزاد هذا الحب وتضاعف حين ابتلاني الدهر فسلبني زوجي ثم ابني الصغير، فعلقتها بجنون ووجدت فيها سلوه وعزاء. وأحبتها أختي - وكانت تقيم معي - فصرنا لها أباً وأماً. كان حسبي أن أنظر في عينيها الخضراوين أو أعابث شعرها الكستنائي أو ألبي نداءها فرحاً مسروراً إذا نادت (عمي حسن)، وكان أبوها يضاحكني فيقول: (ما عرفت كفيفي طفلة تحب عمها أكثر من أبيها!)
فيفي الصغيرة تلك هي التي أحببت فيها بعد حباً غير الحب الأبوي الأول. وإني لأتساءل متحيراً متى أحببتها هذا الحب الجديد؟ أو كيف تحول حناني إلى عاطفة قوية وشغف(566/36)
جنوني وهيام حق؟. . هل تولد فجأة ذاك اليوم الرهيب الذي لا ينسى؟ هذا بعيد. ففي مثل حالتي لا يأتي الحب فجأة؛ بل كيف أقول فجأة وقد ترعرعت عمرها السعيد البالغ ستة عشر عاماً بين يدي وفي متناول أنفاسي! إنما يمكن أن يقال إن بذرته ذرت في فؤادي منذ استوى العود الغض وارتوى بماء الشباب، وامتلأ الصدر والخدان بالأنوثة، وومض في العينيين بريق الفتنة والملاحة، فلم أعد أرى طفلة تلثغ باسمي أو تلهو بسلسلة ساعتي، ولكن شابة حسناء ريا الشباب ناضرة الحسن تنفث الفتنة والهيام. هنالك بهرني الحسن وملأني الإعجاب. وكنت كلما دب دبيب الفتنة في قلبي تعوذت بالله وأنكرت مشاعري. ثم جفلت من مداعبتها، فلم أعد أربت على خدها أو أعابث ذؤاباتها، وهمت في أجواء من الغموض واللهفة والشوق المكتوم والحيرة القاتلة والشغف والخوف، ولولا أني ممن يندر أن يفكروا في أنفسهم أو ينظروا في باطنهم لفطنت إلى حالي، ولكني رحت أقنع نفسي بأن ما انتابني من اضطراب ما هو إلا أثر من إعجابي بالأنوثة الناضجة يتحد في قلبي بحبي الطاهر القديم. هكذا خادعت نفسي. على أني لم ألبث أن صحت يوماً وقد بلغت بي الوحشة حد الجنون - وكانت غابت أسبوعاً في بيت جدها - (رباه إن الحياة لا طعم لها بدون فيفي واعتراني شجن وكمد ووجوم
وجاء يوم فرأيت قلبي على ضوء الشمس الساطع وبرح الخفاء، وكنت أعبر فناء البيت إلى الطريق، وكانت فيفي تلهو كمحبوب عادتها بركوب الدراجة في الفناء. فلما رأتني مقبلاً اتجهت نحوي بدراجتها في رشاقة حتى صارت على بعد أذرع مني ثم رفعت يمناها تحييني، فاختل توازنها، واضطربت بها الدراجة فهرعت نحوها حتى حاذيتها، فاعتمدت بيسراها على كتفي الأيسر متفادية السقوط، ونظرت إليها مؤنباً فطالعتني بعينين ضاحكتين، وقد شدت راحتها على كتفي وأنغرست ركبتها في قلبي ولم أسترد نظرتي فأدمت إليها النظر وقد لانت أساريري. ثم ما لبثت أن ابتلعني تيار عارم من الوجد والهيام فوددت بكل ما أوتيت من قوة وشغف لو ضممتها إلى قلبي. وجعل هذا القلب ينتفض كان ركبتها مفتاح كهربائي يسلط على شعافه تياراً عنيفاً هكذا انقطع الشك وبرح الخفاء. وبعد لحظات كنت ماضياً في طريقي وقد انشغلت عن الدنيا جميعاً، فلم أعد أشعر إلا بنفسي التي نبضت بحياة جديدة كدوامة ثائرة، فأثملني طرب دفين، ولكن لم يزايلني شعور بالتبعة(566/37)
والخوف والحزن. وجعلت أتساءل (إلى أين تمضي بي يا قلبي؟) نعم إلى أين؟. . . فهذا طريق غير مأمون العثار، فأين مني خطى الشباب وقلوب الفتيان؟. . . وهل أنا إلا (عم حسن) فماذا يقول والداها العزيزان لو علما بما جد في قلبي؟. . . كيف يريان جارهما الرزين الوقور وقد انقلب عاشقاً ولهان؟. . . بل مالي أثقل على قلبي بالتردد والمخاوف، فلأقل مع قلبي إن هذا الحب شئ طبيعي لا غرابة فيه، وإنه لن يكون الأول أو الأخير من نوعه؛ بل سأفرض أن جاري العزيز بارك بعطفه ما يختلج في صدري، فكيف لي بعد ذلك أن أحولها من ابنة إلى زوجة! وكيف أجعلها تنظر إلى عمها حسن فترى فيه حبيبها حسن؟ وضاق صدري والتهب جبيني وذكرت الصلعة اللامعة التي أتوج بها هامتي، والشيب الذي يحرق فؤادي، وثلاث أسنان قد قلعت، وسنة جديدة قد نغضت، فأكملت مسيري ممتلئاً شجناً وكآبه.
ولكن هل ارعويت؟. . . كلا. . . ففي اليوم الثاني جاءتنا إلى البيت خفيفة نشيطة كعادتها - وكانت أختي تصلي العصر - فأقبلت نحوي وجلست إلى جانبي يتألق ثغرها بالابتسام، فأحدث مجيئها شفاء لما كنت أكابد من أوجاع الانتظار، وهيج أسقاماً أنكي من هاتيك الأوجاع وأمر. وجدتنا منفردين فخلت أني أنفرد بها لأول مرة، وداخلني اضطراب وقلق وهيام. ولم تكن أول مرة تخلو إلي وأخلو بها، ولكن أجدت لي الخلوة هذه المرة شعوراً لا عهد لي به، ووجدت في أعماق نفسي حسيس أمنية يهمس لي لو تخلو لنا الدنيا كما تخلو هذه الحجرة!. . . لو تخلو فلا أخت ولا أب ولا أم ولا مخلوق سواها وسواي. هنالك تؤاتيني شجاعتي وتنجاب عني الوساوس وتنحسر عن ناظري غشاوة القنوط. . . فمن لي بأن أطير بها إلى تلك الدنيا المقفرة؟. . . وحولت إليها عيني فرأيت المرح والبراءة، فثبتهما على وجهها المحبوب. وما كان أسعدني رجلاً في تلك اللحظة لو جثوت - أنا والأعوام التي أحملها على عاتقي - عند قدميها الصغيرتين مادا راحة راغب ضارع. . . وشعرت بتحديق عيني فرشقتهما بنظرة صافية حتى أحسست الأرض تميد بي، وتعمدت ما وسعتني الحيلة أن أجعل لنظرتي معنى جديداً غير ما عهدت، وأن أحمل عيني رسالة من أعماق الفؤاد لأجذبها من عالمها البريء إلى دنيا آمالي وأحلامي. ولكن هل أدركت شيئاً؟. . . هل بلغت الرسالة؟. . . أما لو كان ذلك كذلك لتولاها الارتباك وخضبها الخجل. . .(566/38)
فهل تعثرت في الارتباك أو غض من طرفها الحياء؟ اختلط على عيني الأبصار والتوهم واصطرع في مجال إحساسي قوى الإدراك ونوازع الأمل. وعطفت رأسها عني برشاقتها الحلوة فاستقر بصري على خدها الوردي. وفي نشوتي وهيامي تجمعت وثبة الحياة الجارية في كياني في رغبة واحدة لا تقاوم. . . أن ألثم هذا الخد. وهوى عنقي نحوها في ذهول الوجد فلثمتها! والتفتت نحوي كالفزعة. ثم ضحكت ضحكة عالية ملأ رنينها أذني ومشاعري جميعاً؛ ثم طوقت عنقي بذراعيها وقبلتني في خدي! هل نلت المرام؟. رباه! كانت قبلة اقشعر لسريان برودتها جسدي، فجمد دمي في عروقي، وسكت قلبي عن الخفقان، واحترق وجهي خجلاً. كانت الطفلة المرحة البريئة تقبل عمها حسن، وكان مثلي كمثل مجنون عاد إليه رشاده فجأة فوجد نفسه متجرداً وسط قوم عقلاء. ألا ما أبعد الشقة بين الأفعال والنيات! ألم تلتفت إلى في رشاقة الغزلان؟ ألم تطوق عنقي بذراعيها؟ ألم تطبع على خدي قبلة؟ ولكن أين من هذا كله الحب والولع؟! وشق على الخجل وشقت على الخيبة، وبينما راحت هي، وكأنها نسيت كل شئ، تروى لي ما شاهدت في السينما أمس، جعلت أحادث نفسي: رحماك اللهم! ماذا فعلت؟ أين جلدي وأين رشادي؟ وتساءلت محزوناً: ألا يجمل بي أن أشد الرحال إلى بيت غير هذا الحي؟!
نجيب محفوظ(566/39)
العدد 567 - بتاريخ: 15 - 05 - 1944(/)
ردود وحدود
للأستاذ عباس محمود العقاد
تناول الباحث الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك موضوع الفردية والاجتماعية في مقال آخر بمجلة الثقافة فانتهى منه إلى قوله:
(. . . ومجال القول في هذا الموضوع فسيح، ولفظ الفردية والاجتماعية يطلق على معان كثيرة ينشأ بسببها الخلاف بين الكتاب الأفرنج والعرب على السواء. فالفردية التي عنيتها في مقالي السابق هي الأنانية أو الأثرة، والاجتماعية هي الغيرية والإيثار. ولا شك أن الأستاذين معي بعد هذا التحديد في أن الرقي الأخلاقي والاجتماعي سائر نحو الاجتماعية لا الفردية. فمن أسباب رقي الغربيين على الشرقيين وعيهم الاجتماعي أو بعبارة أخرى شعورهم بوطنهم وأمتهم بجانب شعورهم بشخصهم. ومن هذا الوعي نظمت الجمعيات والنقابات، وبذلت الدماء في الحروب دفاعاً عن الوطن. . .)
ثم استطرد قائلاً: (على أن الفردية قد تطلق أيضاً على نوع النظام الحكومي الذي يتمتع به الفرد بحريته وملكيته وتجارته وما إلى ذلك من غير أن تتدخل الحكومة في شأنه إلا عند الضرورة القصوى، وضده الاجتماعية أو الاشتراكية، وفي هذا المعنى أيضاً أخالف الأستاذين، وأزعم أن العالم سائر إلى الاشتراكية على نحو ما، ومصداق ذلك أن أعظم الأمم الفردية كإنجلترا أو أمريكا تصطبغ نظمها من حين لآخر بما يقربها من الاشتراكية، فتتدخل في تنظيم الاقتصاد وتأخذ من الغني لتعطي الفقير)
وأحسب أننا متفقون بعد هذا في أكثر مراحل الطريق: فنحن نعيب أدب الأنانية المحدودة كما يعيبه الأستاذ، وهو على ما نرى يوافقنا على أن الأدب المحض مطلوب غير معيب، وكل منا يقدر الفائدة الاجتماعية ويحب أن يكون للأديب سهم كبير فيها
وإنما الخلاف على ما يظهر في تقدير الدرجات
فنحن نعطي الدرجة الكبرى للأدب المحض ونقول إنه يخدم المجتمع ولا يستغني المجتمع عنه بحال من الأحوال، لأن التعبير عن خوالج النفس علامة صحية يدل وجودها على سلامة البنية الاجتماعية، كما يدل فقدها على نقص أو عطب في تلك البنية. وليس على الأديب حرج أن يكتفي بالأدب المحض الذي يقترن بتلك السلامة؛ لأنه إذا أهمله لم يقم به(567/1)
أحد غيره. أما البحث في شئون المعيشة ومسائل الأسعار والموارد والأجور فهو بحث يحسنه الاقتصادي والسياسي وكاتب الصحف الخاصة إذا قصر فيه الأدباء
ولكن الأستاذ أحمد أمين يعطي الدرجة الكبرى للأدب الذي يبحث في تلك الشئون، ويرى أن تاريخ الإنسان يتقدم من الفردية إلى الحاسة الاجتماعية أو الوعي الاجتماعي الموكل بمسائل المعيشة وما إليها، ويستدل على ذلك بأمم الغرب واصطباغ النظم الإنجليزية والأمريكية بصبغة تقربها من الاشتراكية وفي هذا نحن مختلفون
لأننا نرى أن العبرة التي خرجنا بها من الحرب بين الأمم المتحاربة هي عبرة (الحرية الفردية) في مقاومة الدعوة العنصرية التي يمحى فيها الأفراد
فقد تبين حتى الساعة من مجرى الحرب العالمية أن أقوى الأمم دفاعاً عن نفسها هي الأمم التي تبلغ فيها الحرية الفردية مداها، أو هي الأمم التي تعترف للفرد بحقوقه في جانب حقوق الدولة فالأمم العنصرية - وهي النازية والفاشية - قد استعدت كل الاستعداد للحرب فلم تبلغ من غايتها بعض ما بلغته الأمم الديمقراطية على قلة استعدادها في بداية أمرها. وهذا مع نكران الفرد الشديد في الأمم العنصرية، ومطالبتهم كل فرد في الدولة بالفناء في مشيئة الأمة كما يمثلها حكامها المطلقون
فالصراع القائم اليوم هو أصدق امتحان للفردية في مكافحتها للعنصرية العمياء التي تمحو حقوق الأفراد
أما أن الأمم الديمقراطية (تصبغ نظمها اليوم بصبغة تقربها من الاشتراكية وتأخذ من الغني لتعطي الفقير) فهذا في اعتقادنا أكبر تسليم للفردية من قبل العنصرية، وأكبر انتصار لحقوق الفرد إلى جانب حقوق الدولة
فمعنى هذا كله أن الفرد يجب أن يعرف جزاءه على خدمة وطنه، وأن نسيان حقوق الفرد في إبان الصراع القومي أمر غير عادل وغير مشكور، إذ الوطن الحقيق بالدفاع عنه هو الوطن الذي ينصف فيه الأفراد من جميع الطبقات ولا يظلمون
ونقابل بين هذا وبين (السخرة الوطنية) في الحروب الماضية فنرى جلياً أن (الحقوق الفردية) هي التي انتصرت في الحرب الحاضرة إلى جانب الحقوق الدولية، وأن تاريخ الإنسان متجه لا مراء إلى تعظيم حرية الفرد وحقوق الفرد وترجيح المجتمع على المجتمع(567/2)
بمقدار ما يتفاضلان في تلك الحرية وتلك الحقوق
وتقرير هذه الحقيقة مهم فيما نرى لمصلحة الدعوة التي يدعو إليها الأستاذ أحمد أمين. إذ نحن خلقاء أن نعرف الآن هل نحن محتاجون إلى مطالبة الدولة برعاية حق الفرد أو محتاجون إلى مطالبة الفرد بحق الدولة؟ وهل التقصير الآن آت من الفرد في رعاية الحقوق القومية أو من الأمم في رعاية الحقوق الفردية؟
ويبدو لنا أن الأستاذ أحمد أمين يطالب الأمم برعاية حقوق الأفراد، فهو إذن أقرب إلينا أو نحن إذن متقاربون
وسبيلنا إذن أن نعظم إحساس الفرد بحريته وحقوقه وديونه على المجتمع حين يطالب بديونه عليه
ولا خسارة في هذا على الأمم ولا على الأفراد
ولعلم الكلام نصيبه في مناقشاتنا اليوم مع نصيب علم الاجتماع أو فلسفة الآداب والفنون
فقد كتب إلينا الأديب الدمياطي الأستاذ طاهر أبو فاشا يعقب على ما نقلناه عن المعري في بعض فصولنا الحديثة إذ نقول: (ونستبعد التخيل الذي ينتظر المذياع ورسائل البرق وركائب الهواء ونكاد نجزم أن أبا العلاء لم يذكر السماع من بعيد والانتقال في لمح البصر وسريان النار مئات الفراسخ إلا ليقول إنها مستحيل من المستحيلات الكثيرة التي تتعلق بها قدرة الله كما يتعلق بها وضع الجسمين في مكان واحد، وهو أبعد الإحالات في أقوال الفلاسفة ومنهم أبو العلاء الذي لا يخلو أسلوبه من الأغراب والتبسط حين يتحدث إلى غير الفلاسفة من الفقهاء)
وقرأنا في مجلة (دمياط) تعقيباً يشبه تعقيب الأديب الدمياطي جاء فيه: (إن قدرة الله يستحيل أن تتعلق بالمستحيل - إلا العادي طبعاً - لأنها إن تعلقت به فإما أن تتعلق به لتوجده أو لتعدمه. فإن كان الأول فهو يستحيل لأنه لو وجد المستحيل لما كان مستحيلاً، ولا نقلب واجباً أو جائزاً كما يقول إخواننا علماء الكلام، وإن كان الثاني فهو مستحيل أيضاً لأنه معدوم بنفسه ولزم تحصيل الحاصل كما يقول المتكلمون)
وتعقيبنا على هذا التعقيب أن مراجعة كلامنا مرة أخرى تغني عنه، لأننا (أولاً) لم نكن نتكلم عن رأينا بل عن رأي العرب في رسالة بعينها و (ثانياً) لم ننس أن الفلاسفة - ومنهم(567/3)
أبو العلاء - يقولون إن وضع الجسمين في مكان واحد أبعد الإحالات و (ثالثاً) حرصنا بأن المعري يكتب بأسلوب الأغراب والتبسط حين يتحدث إلى الفقهاء. أي إنه يعني غير ما يقول، وأن رأيه الصحيح غير رأيه في هذه الرسالة بعينها.
ومذهبنا نحن بعد أن (إمكان ما لا يمكن) شئ لا يقبله عقل الإنسان
ولكن الإنسان قد يحكم باستحالة أمر وهو مخطئ في حكمه لبطلان الأسباب التي يبني عليها الاستحالة
ومثال ذلك من كان يؤمن بأن الأرض مسطحة تحدها آفاق السماء، فإنك لو قلت له: هل يمكن أن يذهب الإنسان غرباً ويعود شرقاً لقال لك على اليقين إنه مستحيل وليس في الإمكان
ولكنه مخطئ في فهم الاستحالة، لأن الأرض ليست مسطحة محدودة بآفاق مطبقة عليها. بل هي كرة مستديرة تذهب إلى مغربها فتعود من مشرقها، كما يحدث هذا كل آونة في هذه الأيام
وكذلك وضع الجسمين في مكان. فإن استحالته قائمة على أن الفضاء ثلاثة أبعاد، فإذا ثبت أن الفضاء أربعة أبعاد أو خمسة أو ستة تحيط بالأجسام من غير جوانبها المحسوسة، أو إذا ثبت قول أينشتين إن الزمان بعدٌ رابع يحيط بالأجسام في التقاءات كثيرة، فهنالك يتغير النظر إلى استحالة وضع الجسمين في مكان واحد، ويصح أن (يكون فيها قولان) على لسان الجادين لا على لسان الهازلين في فض المشكلات!
وللنحو نصيبه كذلك مع نصيب علم الكلام أو علم الاجتماع وفلسفة الآداب والفنون
فقد ظهر من العراق خازن آخر من أولئك الخزنة الواهمين الذين يحسبون أنهم قابضون على مفاتيح اللغة جميعاً ليفتحوا ويغلقوا ويصرفوا ويمنعوا ويقولوا بما يجوز وما لا يجوز وما يقال وما لا يقال، وليس لهم من محصول اللغة ما ينغلق عليه قفل واحد!
فهذا الخازن الواهم يقول في خلط كثير (إن المقابلة بين الكفتين) لا يجوز، ومثل هذا لا يرد عليه. وكفى
ويقول وهو يرد علينا: (احتج أولاً بالمراوحة أو الروح لا من الرواح ثم وثب إلى التراوح. وفي كليهما كان مسقطاً في القول واهماً، وهذه عاقبة من يخطئ الصواب ويريد(567/4)
الخلاص من الإفراد بالخطأ، فالمراوحة عمل فاعل واحد والترواح عمل فاعلين أو أكثر منهما. فالاختلاف واحد لا يتراوح وحده، وكذلك لا يقال هذا الشيء لا يتساوى ولا يتماثل ولا يتشابه) إلى آخر هذا اللغط العجيب
وجوابنا على (لا يقال) هذه بسيط جداً، وهو بل يقال ويقال ويقال، ولا يقال غيره في هذا المعنى، وإليه المثال
فيقال مثلاً: (لا يتساوى القمر في ليلتين وقد تتساوى الشمس في برجين)
ويقال مثلاً: (لا يتشابه الرجل في عمرين، وقد يتشابه العمر في رجلين)
ويقال على هذا المثال: (لا يتماثل المرض في الإنسان والحيوان، وقد يتماثل في الإنسان)
ويقال أيضاً: (لا يتراوح الاختلاف بين عصرين، ولكنه قد يتراوح بين يومين أو سنتين)
ويقال تقاضيا وتقاضاه، وتجاوبا وتجاوب الصدى أو تجاوب المكان بالأصوات، وتراميا وترامى السحاب، وتدانيا وتدانى منه، وغير ذلك كثير مما فيه قصد المفاعلة وليس فيه قصد التعاقب والترقي
وليعلم ذلك الخازن الواهم بعد هذا أن الاختلاف مفرد ولكنه يدل على جميع المختلفين، فإذا قلنا تراوح الاختلاف فهو القياس كما يقول تراوح المختلفون وتقاتل الناس وتباينت الأمم وتعانق الأصحاب، ولا نهاية لما يقال من هذا القبيل
أفيقال هذا إذن أو لا يقال يأيها الجواد، بلغة العامة لا بلغة الضاد؟ يقال ويقال، وإن استطعت فقل خيراً منه في معناه، وما أنت بمستطيع.
عباس محمود العقاد(567/5)
الغناء
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
أنا (والله) لست من علماء (الغناء) ولا من التلامذة فيه؛ ولا أغشى اليوم دوره حتى أسمعه، ولست عراقياً ولست حجازياً. . . (فما أشرب ولا أطرب. . .)
ولو كنت هناك لتمثلت بقول محمد جار الله (رحمه الله):
سهري لتنقيح العلوم ألذُّلى ... من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طرباً لحل عويصة ... أشهى وأحلى من مدامة ساق
وصرير أقلامي على أوراقها ... أحلى من الدوكاه والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها ... نقرى لألقى الرمل عن أوراقي
وما روايتي قول الحسن البصري في السماع - وقد نظمه ابن عبد ربه في عقده - وسائر ما أرويه في (نقل الأديب) إلا زلفى، تزلف إلى هذه اللغة التي شاء الله أن أكتب في ديوان خدامها ووسيلة لتحبيها إلى بنيها في هذا الزمان العجيب. فلما اطلعت في الرسالة الغراء (563) على مكتوب الفاضل السيد عبد العزيز الرفاعي في (مكة المكرمة) في الحجاز موطن الغناء في القديم ودار محلليه، خفت أن أجيب، فأخطئ ولا أصيب. وأنا في البحث فيما أعرفه المعرفة الصالحة وجل القلب، فكيف تكون حالي في الذي أجهله؟ فليس لي - وقد قلت الحق - إلا اتباع هدى الله والعمل بقوله تعالى في (النحل والأنبياء): (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
رحت إلى ابن عبد ربه وقلت له: أنت رويت قول الحسن في كتابك (العقد) - واسمه اليوم العقد الفريد - فكيف يكون الغناء عوناً على طاعة الرب، وكيف يصل الرجل به رحمه ويؤاسى أخاه؟ فتلقيت منه هذا الكلام:
(إن الصوت الحسن يسرى في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتنمي له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات. . . وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الرحم والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب. وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويرقق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويتمثله في ضميره. . . وبعد(567/6)
فهل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب. . . من الصوت الحسن. . . وهل على الأرض رعديد مستطار الفؤاد يغني بقول جرير:
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناج؟!
إلا ثاب إليه روحه، وقوى قلبه؟ أم هل على الأرض بخيل قد تقفعت أطرافه لؤماً ثم غنى بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه؟ أم هل على الأرض غريب نازح الدار بعيد المحل يغني بشعر علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد النازح ماذا ... بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
إلا انقطعت كبده حنيناً إلى وطنه؟. . .)
وناقشت صاحب (العقد) في التحليل والتحريم فقال لي: عِ هذا الخبر:
(قال إبراهيم بن سعد الزهري قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء.
قلت: من أمتعه الله بخزيته!
قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه
قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمك محمد (صلى الله عليه وسلم) إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ ولو سمعت مالكاً يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. . .)
وجيت إلى ابن خلدون وفاتحته بما قصدته لأجله، فمما أملاه على:
(إن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل معها الصعب. . . ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة. . . لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة)
وقلت في نفسي: (الحكمة ضالة المؤمن) فغدوت إلى أصحاب (رسائل إخوان الصفاء) واسترأيتهم - طلبت رأيهم - في الغناء، فمن جواباتهم:(567/7)
(من الألحان والنغمات ما تسكن سورة الغضب، ويحل الأحقاد، ويوقع الصلح، ويكسب الألفة والمحبة. فمن ذلك ما يحكى أنه في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان وكان بينهما ضغن قديم، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد، والتهبت نيران الغضب، وهم كل واحد منهما بقتل صاحبه، فلما أحس الموسيقار بذلك منهما وكان ماهراً في صناعته غير نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما، وداوم حتى سكن ثورة الغضب عنهما، وقاما فتعانقا وتصالحا. ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد. وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحاناً من الموسيقى تسمى (المخزن) وهي التي ترقق القلوب إذا سمعت وتبكي العيون وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب، وإخلاص السرائر، إصلاح الضمائر. وكانوا قد استخرجوا لحناً آخر يقال له (المشجع) كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب، يكسب النفس شجاعة وإقداماً. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر كانوا يستعملونه في المارستانات يخفف ألم الأسقام عن المريض. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر يستعمل عند المصائب والأحزان يغرى النفوس ويسكن الحزن. واستخرجوا لحناً آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبنائون وأصحاب المراكب يخفف عنهم كد الأبدان وتعب النفوس. ولكل أمة من الناس ألحان ونغمات يستلذونها لا يستلذها غيرهم مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفرس والروم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والعادات. . .)
وقد وجدت عند صاحب كتاب (إنسان العيون) المعروف بالسيرة الحلبية هذه المقالة وهي جديرة بالرواية:
(قد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار. . . ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع. وعن أبي بشر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر مرا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون فلم ينكر عليهم. وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن التكسر. وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه (صلوات الله وسلامه عليه) بالأصوات الطيبة مع الدف ويغيره. وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف، ولو فيه جلاجل، لما هو سبب لإظهار السرور)(567/8)
تلكم أقوال جماعة في الغناء، وحيا الله أخانا الفاضل المكي وحيا ربعه، وحيا مواطن عظيمة كريمة بهر الدنيا منها ذلك الضياء!(567/9)
قيس ولبنى
مسرحية الأستاذ الشاعر عزيز أباظه بك
للأستاذ دريني خشبة
خرج من منزله بظاهر المدينة لبعض شأنه، فمر بخيام لبنى كعب فاستسقى، فبرزت إليه بالماء ابنة شيخ القبيلة، وسيد الحي، الحباب الكلبي، فما كذب أن سبقت القطرة الأولى التي أطفأت حر ظمئه، النظرة الأولى التي أشعلت دمه، وأججت في فؤاده ذلك الهوى المبرح، والتي أصابت روحه بهذا الظمأ، بل بذاك السعار. . . إلى العيون النجل، والفم الباسم، والوجه المغازل، والقد الفاره، والصبا المجتمع، والجمال الفينان!
ومضى قيس وقد أبرمت عيناه وعينا لبنى الوثيقة المقدسة بين قلبيها الخاليين، في تلك السرعة الخاطفة التي لا تكون إلا بين العيون والعيون!
ثم تعدد اللقاء، وصرح الحب، وغنت البيد بالهزج الحلو الذي كان يرسله قيس من أعماق قلبه شعراً موجعاً حزيناً
ومضى قيس إلى أبيه، ذريح بن ليث بن بكر، فباح له بحب لبنى وسأله أن يخطبها عليه، فأشاح ذريح، وأشار على ولده بخطبة إحدى بنات عمه، فهن أولى به. . . وكان ذريح ذا مال واسع وثراء ضخم، ولم يكن له ولد غير قيس، فخشي أن يدخل في ماله ناس ليسوا من أهله. فانطلق قيس إلى أمه يستعين بها على أبيه؛ غير أنه كان كالمستعين على الرمضاء بالنار، فانطلق إلى أخيه في الرضاع، الحسين بن علي، وكان معه ابن أبي عتيق، فشكا إليهما بثه، فطمأنه الحسين، وانطلقا به إلى الحباب والد لبنى فخطباها منه على قيس، فنسى الرجل تقاليد البادية إكراماً لفخر شباب الجنة، وإجلالاً لابن بنت رسول الله، ولم يشترط شيئاً إلا أن يسعى إليه ذريح والد قيس لتمام الخطبة، حتى لا تكون فضيحة من جراء ما رددته كثبان الجزيرة من أشعار قيس. . . ولم ير الحسين فيما طلب الحباب تعسفاً، فمضى إلى ذريح فأقسم عليه إلا أن يخطب لبنى على ابنه قيس، فخضع الرجل ولان عاصيه، وتمت الخطبة، وزفت لبنى إلى حبيبها. . . وأوى الألف إلى إلفه، ورقأ الدمع وسكن الوجيب، وتهلل وجه الحياة
وغبرت سنون. . . ثم كان ما لم يخش أحد أن يكون! لقد أحزن ذريحا ونغص عليه عيشه،(567/10)
أن لبنى عقيم لا تلد. . . لقد أرسل الرجل عينيه في ظلمات المستقبل الكريه، فرأى ثروته الواسعة تؤول إلى أيد من غير صلبه، فأقسم ليكونن له من قيس ولبنى موقف، وليكونن له في هذا البلاء رأى ومنه مخرج!. . . وإذن فلتبن لبنى. . . وليتزوج قيس فتاة غيرها ولوداً غير عقيم. . . ولتكن الحياة في دار ذريح من أجل هذا جحيماً لا تحتمل، وليشن ذريح وزوجه الحرب الداخلية على قيس وزوجه، وليتهماه بالتقصير والعقوق والانشغال عنهما بلبناه، وليطلبا إليه تطليق لبنى على مسمع منها، فإن أبي فليتسر، وليتخذ من الإماء من يضمن له الولد، فإن أبي فليسلط عليه ذريح عذاباً لا قبل له به
. . . وقد رفض قيس كل هذه الحلول. . . فكان ذريح يخرج وقت الظهيرة فيعرض رأسه للنار التي تصبها الشمس، فإذا رآه قيس أقبل عليه ووقف يظله حتى يفئ الفيء فينصرف. ولما طال هذا الأمر، وكان ذريح يستعين على قلب قيس بدموعه كي يطلق لبنى، ضعف هذا القلب، وفي ساعة من ساعات الذهول أرسل قيس كلمة الطلاق التي كان يشترطها ذريح ليريحه من هذا العذاب الذي استمر عاماً بأكمله!
ولم يلبث قيس أن ذهب بعقله، وانقلبت الحياة في بيت ذريح مأساة لا تطاق. . . ولما انقضت عدة لبنى، أقبل أبوها وأهلها لاحتمالها. . . وحيل بين قيس وبين الإلمام بخبائها فهام على وجهه. . . ثم اتبع رحلها مليا. . . وهنا يقول صاحب الأغاني: وعلم أن أباها سيمنعه، فوقف ينظر إليها ويبكي، حتى غابوا، فكر راجعاً، ونظر إلى خف بعيرها، فانكب عليه يقبله ورجع يقبل موضع مجلسها وأثر قدمها!)
ولم يلم قيس على ما أصابه إلا نفسه
وأشار عليه أبوه بالتقلب في أحياء العرب عسى أن يجد فتاة تسلبه أو تنسيه، فأبى أولاً. . . ثم فعل. . . ورأى فتاة حسناء فسألها عن اسمها فأجابت: (لبنى!) فخر مغشياً عليه، ولما أفاق عرض عليه أخوها الصهر، فقبل بعد طول امتناع. . . فلما زفت إليه زوجه الجديدة لم ينظر إليها ولم يهش لها ولم يدن منها ولا خاطبها بحرف!. . . وأخبره صديق له أن لبنى حينما علمت بزواجه بعدها غمها ذلك وقالت: (إنه لغدار، ولقد كنت أمتنع عن إجابة قومي إلى التزويج فأنا الآن أجيبهم!)
ولم يفتأ قيس يشبب بلبنى ويرسل نفسه في إثرها حسرات يؤجج بها شعراء الحزين الباكي(567/11)
حتى اضطر الحباب إلى أن يشكوه إلى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، فكتب معاوية إلى نائبه بالحجاز يهدر دم قيس إن تعرض للبنى، وأمر أباها أن يزوجها رجلاً من كندة، فزوجها من كثير بن الصلت
وتلهي قيس بالاتجار في الإبل، وذهب بقطعة منها إلى المدينة فلقيه زوج لبنى ووقف يشتري منه ناقة وهو لا يعرفه، وذكر له أن يأتي إلى دار كثير بن الصلت ليقبض الثمن إذا أصبح. وذهب كثير إلى منزله، وأمر أن تعد لبنى غداء يتناوله مع أحد أضيافه. . . فلما كان الغد، وأقبل قيس، وصوت بالخادم لتخبر سيدها أن صاحب الناقة بالباب، سمعته لبنى وعرفته، فلما دخل لقيته، وكشفت قناعها، فبهت ساعة لا يتكلم، ثم نشج نشيجاً مؤلماً، واستخرط في البكاء، وانصرف من فوره محزوناً محطماً. . . وأرسلت وراءه لبنى من يسأله فيم تزوج، فقال: أقسم ما اكتحلت عيني بالمرأة التي تزوجتها ولو رأيتها ما عرفتها ولا مددت إليها يداً ولا كلمتها ولا كشفت لها عن ثوب! فكانت إجابة جددت هوى لبنى وفجرت قديم حبها!
وسافر قيس إلى الشام ليلقى معاوية، فلقيه ابنه يزيد فشكا إليه حاله، فرثي يزيد له، وأزال ما كان كتب أبوه من إهدار دمه
وأكثر الرواة بعد ذلك على أن قيساً ولبنى قد توفيا مفترقين. وذكرت قلةٌ أن ابن عتيق قد توسل إلى كثير، زوج لبنى، بالحسن والحسين وجماعة من أهل البيت في حاجة لم يذكرها له حتى وعد أن يقضيها مما له من ملك أو مال أو أهل، فقال ابن أبي عتيق: إذن تهب لي لبنى زوجتك وتطلقها! ففعل كثير، واستحيا الحسن والحسين ومن معهما لأن ابن أبي عتيق لم يطلعهم من ذلك على شئ من قبل. . . وأبقى ابن أبي عتيق لبنى عنده حتى قضت عدتها، ثم زوجها قيساً، فنعما بما كان لهما من سابق حب وسعادة حتى ماتا!
فهذه إذن قصة قيس ولبنى كما أوردها أبو فرج في الأغاني، لخصناها على هذا النحو المضغوط، لنقابل بينها وبين تلك القصة الشعرية الجميلة التي نظمها الشاعر الكبير المتفنن عزيز أباظة، للمسرح المصري أولاً، وليزيد بها في ثروة الأدب العربي، وليساهم في تجديد هذا الأدب أولاً وقبل كل شئ!
فماذا صنع هذا الشاعر الكبير بتلك القصة الفريدة؟ ومن أي نقاطها آثر أن يبتدئ، وعند أي(567/12)
طرفيها آثر أن ينتهي؟ وأي قدر من التوفيق أصاب في تقسيم فصولها، وتوزيع المناظر على تلك الفصول، وبعث الحياة والحركة في مناظرها بتعدد مشاهدها المختلفة؟ وماذا من رواية أبي الفرج آثر أن يثبت، وأن يحذف؟ وهل وفق كل التوفيق في كل ما أثبت وكل ما حذف؟ وماذا ابتدع من المناظر الجديدة التي ليست من صلب الرواية الأصبهانية؟ ولغة التمثيلية وفرق ما بينها وبين لغة قيس ومن إلى قيس من عرب الحجاز قبل ثلاثة عشر قرناً. . .
كل هذه أسئلة ينبغي أن تجد أجوبتها في المقارنة بين قصتي مؤلف الأغاني والشاعر المصري؛ ونعجل فنقول إنها أجوبة سترفع رأس الأدب العربي الحديث، وستفتح أعين الشعراء العرب عامة، والشعراء المصريين بوجه خاص، على كنز من الكنوز التي نفتقدها في آدابنا، والتي لن يعمر ديوان من دواويننا إلا إذا شمل شيئاً منها أو مما يشبهها من الشعر القصصي الطويل. هذا كلام لن نفتأ نردده، وسوف نردده ما ترددت أنفاسنا
ألف الشاعر درامته فجعلها في خمسة فصول:
1 - فالفصل الأول يتألف من ستة مشاهد، ويتضمن وفود ابن أبي عتيق من قبل الحسين بن علي الحباب، أبي لبنى، ومعه قيس وذريح، لخطبة لبنى، فتتم الخطبة ويزول ما بين الحيين من البغضاء التي سببتها أشعار قيس في التشبيب بلبنى
2 - ويتألف الفصل الثاني من خمسة مشاهد، ويبدأ بعد زواج قيس من لبنى بخمس سنوات، ويكون قيس مريضاً أو متماثلاً للشفاء، ويتضمن مخاصمة ذريح وزوجه لقيس ولبنى، وطلب ذريح تطليق لبنى أو ضم زوجة ثانية إليها أو تسرى قيس ببعض الإماء. . . وتكون حجة ذريح وزوجه انصراف ولدهما عنهما بسبب لبنى، ثم يصرح الرجل بالحقيقة وهي عقم لبنى. ويرفض قيس جميع ما عرض عليه وينتهي الفصل بذلك. . . دون أن سلم علام استقر الرأي:
3 - أما الفصل الثالث فيتألف من منظرين، أولهما قصير ويتألف من مشهد واحد، ونسمع فيه إلى راع يتغنى ببعض شعر لقيس، ثم نرى قيساً يناجي نفسه، ثم يناجي المغنى، ونعلم أنه طلق لبنى، وأنه لا يلوم إلا نفسه لما أصابه بسبب ذلك من وجد وحزن ولوعة
ويتألف المنظر الثاني من ثلاثة مشاهد، ويتضمن منظر ارتحال لبنى بعد قضاء عدتها في(567/13)
بيت ذريح، وما كان من محاولة قيس الإلمام بخيامها، وما أوشك عمله هذا أن يحدث من قتال بينه وبين فتيان الحباب لولا تدخل أبي لبنى. . . وتبدو لبنى فجأة فيرتجف قيس. . . ثم يمضي بها الركب بين حنين قيس وأنينه. . .
4 - ويتألف الفصل الرابع من خمسة مشاهد، ويتضمن عفو أمير المؤمنين عن قيس، ومنحه الحرية يغدو ويروح كيف يشاء، وهياج آل الحباب لذلك، كما يتضمن زواج قيس، وحزن لبنى لهذا الخبر، مما يؤكد ما كان لا يزال في قلبها من إعزاز لقيس، ثم تقدم مالك، بن عم لبنى، لخطبتها، وكان يحبها من قبل، ثم تمام هذه الخطبة، ورضاء لبنى بها بعد الذي عرفته من زواج قيس
5 - أما الفصل الخامس، أو الفصل الأخير، فيتكون من منظرين، يتألف أولهما من أربعة مشاهد، ويتضمن لقاء مشحباً بين قيس بن ذريح، وقيس بن الملوح، أو مجنون بني عامر، وفيه عتاب بين القيسين، ثم إعتاب؛ ثم يقبل ابن أبي عتيق - حبيب المحبين، والسفير بين المغرمين، باحثاً عن المجنون فيغتبط بلقاء المجنونين! ثم يجوز بالوادي كثير زوج لبنى فيرى إبلاً وأينقا هي إبل قيس وأينقة قد عرضها للبيع، فيكلمه في مهر، فيبيعه له وهو لا يعرفه، على أن يقبض الثمن غداة غد في منزل كثير. . . ويذهب الجميع بعد انصراف كثير إلى خيمة ابن أبي عتيق ليسمروا ثمة
أما المنظر الثاني فيتألف من مشهد واحد طويل، ويتضمن ذهاب قيس والمجنون وابن أبي عتيق إلى دار كثير - زوج لبنى - ليقبض ثمن المهر. فيكون ثمة لقاء مشج عنيف بين قيس ولبنى. . . لقاء مفاجئ تتفجر فيه العواطف، وتذوب فيه روح قيس وقبله فيغشى عليه، وتحمل لبنى إليه الماء الذي يسعف به، فإذا أفيق، كان عتب وكان عذل. . . يقبل في إثره كثير، فتقدم إليه لبنى أضيافه كلا منهم باسمه، حتى إذا بلغت قيساً عرفه كثير قبل أن تذكر منهم باسمه. . . ثم يتدخل ابن أبي عتيق فلا يزال يعمى على كثير ويكني، ثم ينتهي إلى تأكيد ما بين قلبي قيس ولبنى من عقود وعهود، مع وفائها لزوجها الثاني، حتى ينتهي إلى أن يطلب من كثير أن يخير لبنى بينه وبين قيس. . . فإذا أثنت عليه لبنى وقالت كلاماً يفهم منه محبتها لقيس. . . أرسل الكلمة الهائلة. . . وتم تسريحها. . . ثم ينبض القلبان الحبيبان بالأغنية القديمة الخالدة.(567/14)
(يتبع)
دريني خشبة(567/15)
وليم شيكسبير
هل كان ملكا؟
للأستاذ حسين غنام
(ولد شيكسبير في أبريل عام 1564، وتوفى في أبريل عام 1616؛ وفي ذكر ميلاده وموته نكتب هذا الكلمة الطريفة تحية للشاعر العظيم في قبره)
توطئة
ظلت المسرحيات الخالدة المنسوبة إلى وليم شيكسبير، شغل العلماء والأدباء والباحثين، قرابة قرن من الزمان، في ناحية واحدة، لأن العالم شغل بها منذ أن وجدت، من نواحيها الأخرى
فلم يكن شاغلهم هذا القرن إذن هو قوتها الخارقة، فلا يختلف اثنان في عبقرية كاتبها وقوته التي لا تجاري، والذي يقدم على بحثها يتهيبها قبل الإقدام على دراستها وفهمها، وشيكسبير علم: أي مادة قائمة بذاتها تدرس في المدارس الإنجليزية جميعاً، ابتدائيها وعاليها
حتى فن (السينما)، على ما بلغه من شأو عظيم في الإخراج والحيل الخارقة للطبيعة نفسها، يتهيب الإقدام على هذه المسرحيات لإعدادها للسينما، وقد أخرجت السينما روايتين من مسرحياته، هما: حلم ليلة صيف، وروميو وجولييت. وقد بلغت الأخيرة من الجودة والإتقان في الإخراج حدا كبيراً. أما حلم نصف الليلة فقد سقطت في الإخراج، ولهذا ينظر فن السينما إلى أعمال شيكسبير خجلاً!
وهاتان المسرحيتان ليستا من أحسن أعمال شيكسبير، فماذا تكون النتيجة لو أقدم فن السينما على إخراج بعض مسرحياته الممتازة مثل مكبث، والملك لير، وعطيل، وسمبلين، ويوليوس قيصر، والعاصفة، وكما تريد؟
خذ مثلاً كاتباً مسرحياً آخر، هو برناردشو، فقد اعترف بنفسه أن فيلم (بجماليون) المأخوذ عن مسرحيته التي تحمل هذا الاسم، بلغ درجة من النجاح لم تبلغها المسرحية على المسرح. . .
وقل مثل هذا في فيلم (ميجور باربارا) المأخوذ عن مسرحيته بهذا الاسم، فقد نجح نجاحاً(567/16)
كبيراً. . .
وقد عادت (السينما) إلى أعمال شيكسبير في محاولة أخرى، هي مسرحية هنري الخامس، تخرجها بالألوان الطبيعية، وهي محاولة جدية عساها تنجح!
أما أن أعمال شيكسبير شغلت العلماء والباحثين قرابة قرن من الزمان، فلم يكن مبعثها قوتها وعظمتها، ولكنه البحث في حقيقة كاتبها ومنشئها، وهل هو الممثل المغمور وليم شيكسبير، أم
هو شخص غيره؟
وقد ظهرت كتب عديدة في هذا الموضوع، إلى جانب المئات والمئات من الكتب التي تبحث هذه الأعمال وتشرحها وتحلل عبقرية شيكسيبر. . . وعلى الرغم من قيام هذه الحرب التي تكاد تستنفد جهود الشعوب جميعاً، أفراداً وجماعات، بمن فيهم من علماء وأدباء وشعراء وصحافيين، فإن الكتابة عن شيكسيبر لم تنقطع عاماً واحداً. . . ومن الكتب التي ظهرت عنه أخيراً - في نحو عام سابق من هذا التاريخ - كتاب للأستاذ هسكث بيرسون عن حياة شيكسيبر، وقد قال عنه برناردشو إنه عمل طيب لم يقرأ له نظيراً في التراجم القديمة التي وصفت عن المترجم له العظيم. . .
وكتاب ثان بقلم الدكتور تليارد عنوانه صورة عالم اليزابث، وآخر بعنوان طوالع فولستاف للأستاذ دوفر وليم
والكتاب الثاني يختص شيكسبير بالقسم الأكبر منه، في كلامه عن تأثير الأدب في العالم، وعمل الكتاب والأدباء والشعراء في سبيل الإنسانية والحضارة
أما الثالث فهو يدافع عن شيكسبير من الناحية الإنسانية فيما صور به هنري الرابع في تخليه عن صديقه فولستاف، ويدافع عن إنسانية شيكسبير المتطرفة وحبه للخير العميم، ضد آراء موريس مورجان. . .
وكتاب رابع بقلم إديت ستول عنوانه مفكرة شاعر، وهو يبحث في نظم سيكسبير وقوته على التعبير البعيد البليغ
وكتاب خامس، وهو موضع حديثنا في هذا المقال، وهو من الكتب الكثيرة التي شغلت الباحثين قرناً من الزمان في تلك الناحية الواحدة، والتي يتلخص بحث العلماء والأدباء في(567/17)
محاولاتهم ومجادلاتهم منها في: هل هذه المسرحيات كتبت بقلم شيكسبير أم بقلم فرنسيس بيكون وكيل الملكة اليزابث، وظلت تنسب إلى شيكسبير مئات من السنين؟
الكتاب الجديد
هذه المسألة حيرت عديداً من العلماء والأدباء. . .
وهذا الكتاب آخر ما ظهر عن هذا الموضوع، وقد وضعه الأديب الأمريكي المعروف إدوارد مورجان، الذي توفر على دراسة شيكسبير مدة عشرين عاماً متوالية، وخرج من هذه الدراسة بنظرية جديدة إذا صحت قلبت تاريخ شيكسبير ومسرحياته رأساً على عقب، بل غيرت كثيراً من تاريخ إنجلترا المتوسط
وقد سببت هذه النظرية الجديدة حيرة جديدة، واستحدثت حدثاً ضخماً في تاريخ الأدب الإنجليزي. وقبل أن نتكلم عن هذا الكتاب ونناقشه يجب أن نضع أمامنا ما قاله أحد نقاد الإنجليز أخيراً بصدد الكتب التي تخرجها المطبعة عن شيكسبير وأعماله: (إن الكتب التي توضع عن شيكسبير شتيت مختلف، فبعضها دون، وبعضها جنون، على أن غالبيتها تحدث عن الناقد نفسه لا عن شيكسبير وأعماله، ولكنها جهود مشكورة على أية حال!)
يدعى مورجان أن الإجابة الصحيحة لكل المحاولات والمناظرات والبحوث السابقة يتلخص فيما يلي من الحقائق التي ضمنها كتابه، ونحن نأتي على بعضها ونناقشه فيما يلي:
1 - هل مات إدوارد السادس صغيراً؟
يقول مرجان إن فرنسيس بيكون كتب المسرحيات المعزوة إلى شيكسبير، ولكن بيكون كان في نفس الوقت، هو ملك إنجلترا إدوارد السادس الحقيقي!
فالمعروف في تاريخ إنجلترا أن هذا الملك المعجزة، الخارق الذكاء، مات فجأة وهو فتى في السادسة عشرة من عمره. ولكن مورجان، على ذلك، يدعي أن ادوارد الصغير لم يمت في هذه الباكرة ولكنه اختفى فجأة اختفاء غامضاً مريباً
2 - الرسالة الخفية
يعلم كل الأدباء الذين درسوا شيكسبير جيداً، أن هناك دلائل وقرائن تثبت أن مؤلف روايات شيكسبير حاول أن يحمل أعماله رسالة خفية بين سطورها. . .(567/18)
ولكن هؤلاء الذين يعتقدون أن شيكسبير حاول أن يلمح إلى أنه بيكون نفسه تجابههم هذا الحقيقة: لماذا كان بيكون، وهو ذو الشخصية القوية الممتازة في البلاط، والقاضي الفاضل رفيع الشأن والفيلسوف العظيم، يحاول، أو يرغب في إخفاء حقيقة شخصيته، ويمنح الخلود لممثل وضيع مجهول اسمه شيكسبير؟
هذه المسألة المعقولة تهلهل ما نسجه هؤلاء الذين يقولون أن شيكسبير هو بيكون. فقد كان من السهل على بيكون أن يكشف عن نفسه كمؤلف لتلك المسرحيات وهو ما تقدم من تلك المكانة الأدبية، لو لم يكن في المسألة سر أعظم من هذا وأمر أشد خطراً. . . يبدو لنا من النقطة التالية. . .
3 - هل كان الملك وكيل الملكة؟
وهذا الرأي المعقول يؤيد وجهة نظر مورجان تأييداً قوياً. فهو يعتقد أن فرنيس بيكون كان أكثر من كاتب متحجب. لقد كان شخصية متحجبة أيضاً؛ فهو شخص فر من الجلوس على عرش خطير، محاط بالدسائس والمؤمرات، إذ لم يجرؤ على الكشف عن شخصيته الحقيقية خوفاً من (نصف أخته) القوية، إليزابث، التي نصبت على عرش إنجلترا عام 1558، حتى لا تقتله
ويعتقد مورجان أن اليزابث عرفت أن وكيلها في الملك، فرنسيس بيكون، كان ابن والدها نفسه، هنري الثامن، من زوجته الثانية جين سيمور، وإنه سيكون - تبعاً لذلك - خطراً شديداً على عرشها، إذا طالب به
ولكن، هل هناك سبب معقول يجعلنا نعتقد أن هذا الغلام، صار قادراً فيما بعد من سنيه المتأخرة، على أن يكتب هذه الأعمال التي نحلها وليم شيكسبير؟
بالتأكيد هناك سبب معقول!
كان هذا الملك، وهو طفل صغير، مشهوراً في البلاط أنه طفل عجيب معجز، مفرط في الذكاء والقوة العقلية، حتى سموه سليمان الثاني!
فقد كان وهو في السابعة من عمره، شاعراً ورساماً، وقد حذق اللغة اللاتينية حذقاً تاماً. . .
ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره كان يترجم اللغة اللاتينية! ويحتمل بل يرجح، أنه اتفق مع (نصف أخته) أي أخته من أبيه، الملكة اليزابث، على أن يكتب أعماله الأخرى تحت اسم(567/19)
فرنسيس بيكون. . . ومن الناحية الثانية، باستعماله اسم الممثل المجهول شيكسبير لمسرحياته. . . ولا يكون بذلك خطراً على عرش (نصف أخته) حتى في تلميحاته الخفية بين سطور كتاباته فماذا يكون دخل هذا الممثل المجهول المدعو شيكسبير في عرش إنجلترا، وما هي علاقته به؟
في عام 1553، أعلن أن إدوارد الصغير مات فتربعت على عرش إنجلترا اللادي جين جراي، ولكنها قتلت بعد تسعة أيام من حكمها. وعندئذ حكمت ماري تيودور مدة قصيرة، ثم خلفتها اليزابث عام 1558
وكانت هذه الفترة من التاريخ الإنجليزي فترة دموية من دسائس ودماء
وإذا كان إدوارد حياً، ومختفياً كان لديه من الأسباب ما يجعله يخشى على حياته إذا ظهر وطالب العرش فآثر السلامة الشخصية على العرش
على أن اختفاءه المفاجئ، وإن ظل سراً مكتوباً، جعل كثيرين من الناس يشكون في أنه مات حقاً
ويقول مورجان. إن الأوراق الرسمية في سنة 1599 تثبت أن عدداً كبيراً من الناس ألقى عليهم القبض، لأنهم أعلنوا أن إدوارد السادس حي لم يمت. وكان حينئذ عمره يقرب من الستين عاماً. . .
وكثير من الكتاب والشعراء لمحوا في كتاباته إلى أن الملك الصغير إدوارد لم يمت، فهذا الشاعر (مايكل دريتون) يقول من قصيدة:
(إن الملك إدوارد السادس، المفضور في حياته القصيرة، (مع الربية في هذا) ولكنه ترك المملكة)
4 - في منزل بيكون
ويستمر مورجان في كلامه فيقول ثانياً:
إن هناك برهاناً آخر، وهو أن المنزل القديم، الذي كان يعيش فيه بيكون، في سانت البان، كان مكتوباً على باب الحجرة الخاصة التي ينام فيها أسماء جميع الملوك الإنجليز من وليم الفاتح إلى جيمس الأول الذي ارتقى العرش بعد الملكة اليزابث. وبين اسمي اليزابث وجيمس يوجد اسم آخر يكاد يكون مطموساً ولكنه يبدأ بحرف. . . وهو أول حرف من(567/20)
اسم إدوارد
ومن المحتمل جداً أن يكون بيكون في نزوة تهكمية ساخرة كتب اسم إدوارد هناك، وهو يعني به نفسه!
5 - طغراء
وهنا يذكر مورجان برهاناً قوياً على صدق نظرياته. ويبدو معقولاً إلى حد بعيد. . . يدلل به على أن شيكسبير وبيكون، لم يكونا غير شخص واحد هو إدوارد السادس. . .
وهذا هو البرهان:
في بعض مسرحيات شيكسبير توجد هذه الطغراء. . .
فالأولى نعني الحرف الأول من إدوارد، والحرفان السادس
والثانية تعني إدوارد ركس
والثالثة تعني إدوارد تيودور
وهذه الطغراء نفسها وجدت بالذات في بعض أعمال فرنسيس بيكون
6 - القرد في اللحية
ويلفت مورجان أنظارنا إلى صورة زيتية لفرنسيس بيكون، وجدت في كتابه المعروف
فإذا قلبت هذا الرسم وجعلت رأسه إلى أسفل، وجدت في لحية الرسم الغربية شكلا لوجه قرد!
وتذكر سجلات التاريخ أن إدوارد السادس كان مغرماً بقرد يعتز به إلى درجة بعيدة، وكان هذا القرد يجلس دائماً على كتف نديم هذا الملك. . . كهذا الرسم:
7 - نقش في الخشب
ودليل أخر. . .(567/21)
فقد وجد كتاب اسمه بقلم مؤلف مجهول باسم هنري بتشام، ويظهر في هذا الكتاب رسم عليه نقش في الخشب يحمل هاتين الكلمتين اللاتينيتين ومعناها ساكون مرئياً في العقول، ولكن الغريب في أمر هذا النقش أن نقطة وضعت وضعاً شاذاً بين الكلمتين، لأن هذه النقط لا توضع في اللغات الإفرنجية إلا في آخر الجمل، ولكنها موضوعة بين الكلمتين، فتجعل من أخر الكلمة الأولى، وأول الكلمة الثانية هذه الحروف:
وهذه هي الحروف الأولى من اسم: تيودور إدوارد السادس، كما في هذا الرسم، والكاتب يخفى نفسه خلف ستار!
(البقية في عدد قادم)
حسين غنام(567/22)
3 - الألغاز في الأدب العربي
للأستاذ محمود عزت عرفة
ملاحق العرب
كلف العرب من قديم بهذا الضرب من التعبيرات الغامضة، وعرفوا قيمته. وكانت تسعدهم على ذلك فطنة ولقانة وسرعة بديهة طبعوا عليها؛ حتى لتؤثر عنهم في هذا الصدد أقاصيص معجبة لا تخلو في نظر المدقق من المبالغة والتهويل - وإن بقى لها كامل دلالتها على تأصل هذا الفن فيهم - كالذي يروى عن العنبري الذي أسر في بكر بن وائل، فسألهم يوماً رسولاً يبعث به إلى قومه فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا. . . والقصة مشهورة جاء فيها قول الرجل للرسول: (قل لهم - يعني قومه - أن العرفج قد أدبي، وقد شكت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معهم حيساً، واسألوا الحارث عن خبري. . .) وسأل قومه الحارث بعد أن أعياهم فهم كلامه، فأوقفهم على مرامز رسالته، وأنذرهم قرب وقوع أعدائهم عليهم وغزوهم لديارهم، فاتخذوا للأمر أهبته. . .
ومثل هذه القصة في الأدب الجاهلي كثير. ولقد فتن الرواة بترديد هذا النوع من الملاحن وجمعه والتزيد فيه، وتجدد بظهور الإسلام الغرض الديني - الذي أشرنا إليه - من المعارضة عند التقية، وتجنب الكذب الصراح بإضمار غير الظاهر من القول. واقتحم الأدباء واللغويون باب التصنيف والجمع في ذلك. ومن أشهر ما انتهى إلينا فيه (كتاب الملاحن)، وهو مؤلف لطيف لابن دريد (أبي بكر محمد بن الحسن البصري الأزدي، المتوفي عام 321هـ) وقد طبع حديثاً في مصر
ويعلن ابن دريد الغرض من تأليف الكتاب في مقدمته فيقول: هذا كتاب ألفناه ليفزغ إليه المجبر المضطهد على اليمين، المكره عليها، فيعارض بما رسمناه، ويضمر خلاف ما يظهر، ليسلم من عادية الظالم ويتخلص من جنف الغاشم؛ وسميناه (الملاحن)، واشتققنا له هذا الاسم من اللغة العربية الفصيحة التي لا يشوبها الكدر ولا يستولي عليها الكلف. . . الخ
وقد سجل لنا ابن دريد جمهرة من ألفاظ اللغة التي تصلح للتعمية والمعارضة في الكلام.(567/23)
منها أن تقول: والله ما سألت فلاناً في (حاجة) قط والحاجة ضرب من الشجر له شوك، وما (رأيته) أي ما ضربت رئته ولا (كلمته) أي جرحته. . . وتقول ما أنا بصاحب (بكر) وهو ضرب من النبت، ولا أخذت لفلان (فروة) وهي جلدة الرأس، ولا كشفت لفلانة (قناعاً) ولا عرفت لها (وجهاً) فالقناع الطبق والوجه القصد. . . وتقول (ما لعبت) أي ما سال لعابي وما (جلست) من قولهم جلس فلان إذا دخل الجلس وهو نجد وما والاه، وما عرفت لفلانة (بعلا) وهو النخل يشرب ماء السماء، ولا (زوجاً) وهو النمط يطرح على الهودج. . . الخ
فتيا فقيه العرب
من ضروب الألغاز ما وضعه الرواة قديماً تحت عنوان (فتيا فقيه العرب) بقصد المحاجاة والمعاياة. وقد نقل السيوطي عن التبريزي في تهذيبه أن فقيه العرب هو الحارث بن كلدة. لكن المشهور من لقب الحارث أنه حكيم العرب أو طبيبها، ولم يشهر بين القوم باسم الفقيه. على أن السيوطي يوضح هذه الشبهة فيقول: أطلق على طبيب العرب لاشتراكهما في الوصف بالفهم والمعرفة. . .
والحارث بن كلدة ثقفي من الطائف حذق الطب في بلاد فارس ونال هنالك الشهرة البالغة، ثم رجع إلى الحجاز. وكانت وفاته في أوائل عهد الرسول عليه الصلوات ولم يثبت إسلامه، وإن كان من الثابت أن النبي استشاره غير مرة، وكان يأمر أصحابه باستشارته. ولم يجزم أحد بنسبة هذه الفتاوى إلى الحارث، وإنما يبدو أن شهرته، وما أثر عنه من الفطنة وجودة الطبع هو ما جر إلى إدراج اسمه في هذا المقام. ثم أصبح فقيه العرب فيما بعد شخصاً خيالياً تسند إليه كل فتوى دقيقة أو جواب لغز بارع. يقول السيوطي في وصف ما تطورت إليه التسمية: ليس مراد ابن خالويه والحريري بفقيه العرب شخصاً معيناً؛ إنما هم يذكرون ألغازاً وملحاً ينسبونها إليه، وهو مجهول لا يعرف ونكرة لا تتعرف. . .
ومن الجلي أن هذا النوع من الألغاز مقصود به التعجيز وإظهار البراعة في عمق التفكير ودقة العبارة. وأكثر من فتن به الفقهاء في مجالسهم وحلقات دروسهم وتناظرهم. . . فمن ذلك قولهم إن فقيه العرب أفتى بجواز السجود على الخد أن كان ظاهراً (والخد هنا بمعنى الطريق). وسئل فقيه العرب عن الوضوء من الإناء المعوج فقال: (إن أصاب الماء تعويجه لم يجز، وإلا جاز) والمراد بالمعوج المضبب بالعاج(567/24)
ولأبي محمد الحريري طرائف معجبة من الألغاز والأحاجي، ومقامته الثانية والثلاثون - وتسمى الطيبية أو الحربية - تدور جميعها حول فتاوي فقهية ملغزة ينسبها إلى فقيه العرب، وفقيه العرب عنده هو بطل مقاماته المشهور - وشيخ المكدين - أبو زيد السروجي. . . وضع على لسانه جواب مائة مسألة ملغزة ألقيت إليه في علم الفقه، ما بين طهارة وصلاة وصيام وحج، ومعاملات مختلفة من بيع وشراء وقضاء وأحكام وزواج وطلاق. . . والمقامة مشهورة يتيسر للقارئ أن يراجعها في مصدرها
وهنالك مقامات ثمانٍ أخر تدور جميعها حول الألغاز والكنايات وما يجرى مجراها، وهي بحسب ترتيب موضعها وأرقامها من الكتاب: الثامنة المعرية، 15: الفرضية، 19: النصيبية، 24: القطيعية أو النحوية، 35: الشيرازية، 36: الملطية، 42: النجرانية، 44: الشتوية أو اللغزية
وقد سبق الحريري أستاذه بديع الزمان بمقاماته الثلاث في فن الألغاز وهي: الصفرية التي وصف فيها الدينار إلغازاً، ثم العراقية والشعرية في الألغاز عن أبيات من الشعر
ضروب أخرى من اللغز:
إذا تركنا الملاحن والمعاريض وفتيا الفقيه جانباً، ثم نظرنا إلى اللغز من وجهة طرائق الأغراب فيه، وجدناه ضروباً. . . قال ابن الأثير: منه المصحف ومنه المعكوس، ومنه ما ينقل إلى لغة من اللغات غير العربية. وضرب مثلاً للأخير يقول القائل: اسمي إذا صحفته بالفارسية (آخر). فهذا شخص اسمه تركي وهو دنكر - بالدال والنون - و (آخر) بالفارسية (ديكر) بالياء، فإذا صحفت هذه الكلمة بجعل يائها نوناً صارت (دنكر) وهو الاسم المطلوب
وقد وجدت قريباً من ذلك في كتاب الله ما قصه عن بني إسرائيل في قوله تعالى: (وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون)
فقد أمروا بأن يقولوا حطة - أو ما في معناها - من كلمات التوبة والاستغفار؛ والمعنى حط عنا ذنوبنا حطة. فأبدلوها ظالمين مستهزئين وقالوا (حنطة) وقيل قالوا بالنبطية (حطا(567/25)
سمقاثا) أي حنطة حمراء، وهذا ضرب من التعمية والإلغاز حملهم على التشدق به حمقهم واستهزاؤهم، وما فتئوا يرددونه حتى فضح الله مكرهم. ونرى تسجيلاً آخر للقصة نفسها في آيتي الأعراف: وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية إلى قوله تعالى: بما كانوا يظلمون
وفي سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم)
قال الزمخشري: كان المسلمون يقولون لرسول الله (ص) إذا ألقى عليهم شيئاً من العلم: راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه. وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي (راعينا) فلما سمعوا بقول المؤمنين (راعنا) افترصوه وخاطبوا به الرسول (ص) وهم يعنون به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بما في معناها وهو (انظرنا) فذلك تعريض آخر لمحدثي اليهود من معاصري الرسول، يسجله الله عليهم ويكشف سترهم فيه
ويبدو أن ولوع القوم بهذه التعمية والألغاز كان لا ينتهي عند غاية؛ فقد روى عن عائشة رضى الله عنها أن رهطاً من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك فقال النبي: عليكم! قالت عائشة رضى الله عنها: فقلت بل عليكم السام واللعنة! فقال عليه السلام: يا عائشة إن الله يحب الرفق في كل شئ. قالت عائشة: ألم تسمع ما قالوا؟ قال فقد قلت عليكم!
(يتبع)
محمود عزت عرفة(567/26)
كتاب الوعي القومي
تأليف الدكتور قسطنطين زريق
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
البلاد العربية الآن في سبيلها إلى التنبه والوعي الذي يسبق النهضات ويدلها على المهيع الواضع، ويأخذ بيدها إلى الطريق الواجب أن يسلك. فإن المسالك متشعبة دائماً في إبان هذه الأوقات، ولابد من إدلاء ماهرين من رجال الفكر الناضج والثقافة الصحيحة يقفون بجانب رجال السياسة والحكم في البلاد العربية الصاحية من سباتها الطويل ليوجهوا البلاد وجهة صحيحة خشية أن تطغى عليها تيارات مختلفة فتصرفها عن سواء القصد واعتدال الجادة
هؤلاء الأحرار (الوعاة) من رجال الفكر هم الذين نحتاج إليهم اليوم فيما نحن بسبيله من يقظة قومية. وإذا كان عددهم قليلاً لا يتناسب مع خطورة القضية التي تواجهها البلاد العربية، فقد ظهرت من قلائلهم (آثار واعية) تبشر بأن الوطن العربي بدأت فيه طلائع التفكير المنظم والدرس المتسق، وتبشر كذلك بأن ضآلة العدد ليست بمانعة من جودة النوع. وتبشر كذلك بأن البلاد العربية ظهر فيها قوم لا يؤمنون بقيمة الأمشاج المختلطة من الأدب والشعر إيمانهم بالقيم العالية للعلم الصحيح الذي يعبر عنه الغربيون بكلمة لا العلم الذي كان يجعل من الفقيه عالماً ومن النحوي عالماً ومن العروضي عالماً
ولقد ظهر في المكتبة العربية ثلاثة كتب قيمة تتصل بموضوع الثقافة والتربية القومية وما إليها: الأول كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) للدكتور طه حسين. الثاني كتاب (آراء وأحاديث في التربية والتعليم) للأستاذ ساطع الحصري مستشار المعارف في الجارة العربية الشقيقة سورية، والثالث كتاب (الوعي القومي) للدكتور قسطنطين زريق أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية ببيروت
أما الكتاب الأول فموضعي يختص بموضوع الثقافة في مصر، وقد لقي في حينه ما يستحقه من النقد ومكن الله لمؤلفه من الأمر ما يعينه على تحقيق برامجه الطويلة
أما الكتاب الثاني فيتناول مسائل في التربية والتعليم والقومية، وكان من حظي أن أقدمه لقراء (الرسالة) من عهد قريب. أما الكتاب الثالث - الوعي القومي - فكان من حظه أن(567/27)
يقدمه إلى قراء الرسالة تقديماً موجزاً بليغاً أستاذنا وصديقنا توحيد بك السلحدار الذي كان له الفضل في إذاعة بعض نسخ منه بين أصدقائه الذين يحبهم ويحبونه ويجب أن يناقشهم كثيراً في مسائل تتعلق باليقظة القومية والنهضة الحقيقية لبلادنا
وليست (الرسالة) بباخلة على مثل هذا الكتاب أن يطول الكلام فيه، فإننا نعرف من أهداف صاحبها النبيلة؛ واضطلاعه بحمل رسالة الفكر الصحيح في الوطن العربي ما يطمعنا في إطالة الكلام، فإن قيمة مثل هذا الكتاب (التوجيهي) لا تعرف ما دام مطموراً في رفوف المكاتب، أو منحى في زوايا الخزائن؛ وإنما تظهر قيمته ويعرف قدره متى ما نبه إليه منبه أو ذكر به مذكر. والذكرى تنفع المؤمنين
يشترط الدكتور زريق لاستكمال النهضة القومية العربية ثلاث خطى رئيسية: الأولى: بناء الأساس الفكري الذي تقوم عليه النهضة بدراسة الغايات والوسائل دراسة بعيدة عن الارتجال
والثانية: تحويل هذه الدراسة المنظمة إلى عقيدة قومية تتجه بالأفراد إلى الأهداف الصحيحة
والثالثة: تنظيم: الأمة العربية وضبط نوازعها وإخضاع إرادتها لإرادة وحيدة منبعثة من عقيدة واحدة، وتعنى هذه الخطوة العمل المنظم الصادر عن فكر منظم يدرب عليه الرجال والنساء على السواء
والدكتور زريق حين يدعونا إلى البحث في غايات نهضتنا لا يحرم علينا دراسة نهضات الأمم الأخرى ودرس غاياتها؛ فإن مثل هذه الدراسات تكون كالقبس على شرط أن نكيفها لحياتنا الخاصة
والعربي الواعي قومياً هو الذي يعرف من أي المنابع يفيض هذا الوعي، وإلى أي الأهداف يتجه. أما التشدق بألفاظ اللغة والجنس وجلال التاريخ القديم من غير فهم حقيقي لمعانيها فذلك نوع من الشعور الذي لم يرتفع إلى قمة الفكر؛ ولم يكتسب مع الفكر نعمة الحياة
والعربي الواعي يحس إحساس فهم وإدراك بعوامل الضعف في الشخصية العربية الحاضرة ويواجه مشكلاتها مواجهة واقعية صريحة لا عوج فيها ولا التواء(567/28)
ولما كان الغرب بوصفه الحاضر عاملاً فعالاً مع شخصيتنا العربية الحاضرة، ولا مناص لنا من تفاعل هذين العاملين، فقد وجب علينا أن نفهم الغرب حق فهمه وندرك كنهه حتى نحسن مواجهته ونأخذ له أهبته ويكون اتصالنا به على ضوء وبصر وعلم لا عن صدف طارئة. ومن الخطر أن تأخذ البلاد العربية روعة وتعروها هزة بمظاهر الغرب الخلابة حتى ولو كان ذلك في سرعة السيارات وعجيب صنع الأدوات. . . فإن وراء ذلك نظاماً اقتصادياً لا شك سيبقى في جوهره النظام السائد في المستقبل. والدكتور زريق يدعونا إلى إدراك هذا النظام الذي يمتاز بالتنظيم الدقيق الذي يؤلف بين أجزائه، وأخذنا من محاسنه وتجنبنا عيوبه التي كانت تحت اختبار الغربيين
والحق أن الدكتور زريق متأثر بهذا (التنظيم) حتى في طريقة تأليفه. . . فكتابه - كما يقول أحد المعجبين به - لا يعدو أن يكون مسائل متفرقة يعرفها الرجل الواعي منا، وتخطر على باله حين يغشى مجتمعاً أو يركب سيارة أو يقرأ كتاباً أو يشاهد أحوالاً. . . ولكن الدكتور زريق جمع هذا المسائل (ونظمها) تنظيماً جعل منها وحدة متماسكة الأطراف، وأخرج منها كتاباً لا تحس فيه تفككاً أو تصيداً لفكرة أو اجتلاباً لمعنى ولكنك تراه مترابطاً محكما متسلسلاً
وليس مثل هذا التنظيم في الدرس سهل المأتاة على كل من حاوله. فكثيرون منا تضطرب الأفكار في خواطرهم وتزدحم على نفوسهم، ولكنهم يستطيعون أن يؤلفوا بينها ويصنفوها في كتاب يفضي كل سطر منه إلى تاليه، ويؤدي كل فصل منه إلى تابعه، كما في كتاب (الوعي القومي)
ولم يجعل المؤلف مهمة الإيقاظ للوعي القومي حبساً على رجال السياسة وأصحاب الحكم. بل كل فرد من أفراد الأمة يستطيع أن يساهم في الألفاظ مهما كان عمله، ومهما كان مركزه، وذلك جميل من المؤلف، فإذا كان الأفراد جميعاً يحملون ألم سوء الأحوال، ويشتركون في التنبيه على ما يعود عليهم بأحسن الفوائد وأجزل العوائد؟
فاشتراك أفراد الأمة في الإيقاظ جائز بل واجب على شرط أن تنعدم الأثرة كما يردد الأستاذ ساطع الحصري، وينعدم التمرد والعصيان على رأي البروفيسور كامبانياك
وللدكتور زريق على أستاذيته الجليلة في جامعة بيروت هو معلم من الطراز الأول؛ فهو لا(567/29)
يحاول في كتابه أن يكون مبدع ألفاظ أو منشئ عبارات أو مخاطب عواطف. . . ولكنه رجل اختمرت عنده فكرة نبيلة فقام يدعو إليها في عبارة تتفق مع جلال فكرته. فلا ترى عنده مبالغة أو سرفاً في القول أو حشداً للألفاظ، ولكنه مع ذلك قد عرض الفكرة عرضاً بليغاً، لا يتزيد في لفظة ولا يهول في عبارة ولكنه يلقى الكلام على ضوء من صدق الأحكام. وبعد النظر واتساع الثقافة وإدراك لحقائق التاريخ مع وزن لقيم الألفاظ التي يستعملها وقدر حقيقي لها
إلا أن أغلاطاً قليلة وقعت في الكتاب نرجو من الكاتب الفاضل أن يتدارك أمثالها في المرجو المنتظر من تأليفه. ومن هذه الأخطاء: ص 11 (يبقى الأستاذ شيبوب وأمثاله محقون) والصواب محقين، والواو التي بعد النفي والاستثناء في قوله (وما من أحد يلمس الحياة العربية الحاضرة ألا ويشعر) لا لزوم لها والفصيح تركها؛ وقد كرر هذا الخطأ في ص 48 وص 79، والفعل عاقه بتعدي بغير همزة فلا يقال أعاقه ويعيقه ص 49
والآية التي أوردها المؤلف في آخر مقدمة الطبعة الثانية ص 16 محرفة وصحتها: (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) والمؤلف لم يشر إلى أنها آية، إلا أن وضعها على تلك الصورة قاطع على أنها اقتباس من القرآن الكريم
وعلى الأستاذ سلام الله ورحمته.
محمد عبد الغني حسن(567/30)
أذان الفجر
للدكتور عزيز فهمي
الله أكبرُ هذا الذكرُ توحيدُ ... الله أكبرُ هذا اللحنُ تجويدُ
ترنم الكونُ في رفق وفي دَعة ... وسبح الطير والتسبيح تغريد
وأرَهفَ الليلُ أَذْنا جِدَّ صاغية ... والبدر معتكف والأفقُ مخضودُ
وكادُ يطرق ما في الكون من حجَرٍ ... فللجماد كما للحيِّ تهجيدُ
بلالُ أَذَّنَ في أعلى منابره ... وردَّد الذكرَ والمزمارَ داودُ
لله صوتٌ سرى والليل منهزمٌ ... كما تراجعَ بعد العزم رعديدُ
تطير كالعِهن أشتاتاً غياهبه ... كما تناثر بركانٌ وجُلمودُ
ويزحف الصبحُ في أعقاب جَحْفله=فينجلي ولواء النور معقودُ
لله صوتٌ سرى وهْناً على وهَن ... حتى تجاوبَ بعد الكبْتَ محدودُ
بينا يُجَلْجِل في الآفاق منطلقا ... يردُّه الذكر فالممدود مشدودُ
الله أكبر يا نُوَّامُ فانتبهوا ... جَدَّ المعاد ولمُ تنجز مواعيد
إن تُنجزوه فتكفير ومعذرةٌ ... أو تُنسِئوه فكفران وتجديد
هذا المؤذن يسرى صوته نغما ... لحن رهيب له في الصدر ترديد
يُطهر النفس من أدران عالمها ... فالنفس صاعدة واللحن تصعيد
كأن تَعْويذَةً في الجو عابرةً ... تَمَسُّها فإذا بالإثم مردود
لحنٌ حبيب يجوب الكونُ مخترقا ... مع الأثير حدوداً دونها البيدُ
لحن شجيُّ يجوب الليل هاتفه ... وأين إذا أسرى الأغاريد
وأين منه لحون الطير ذَكَّرَها ... وكر الحبيب بأن الإلف مفقود
وأين منه المثاني في تلهفها ... تبوح بالشوق أو يُفضي به العُود
الله أكبر! مات الليل وانبلجت ... أشعة الصبح. . . هذا الفجر مولود!(567/31)
على قبر أخي
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
آه يا قبر، هنا كم طاف روحي ... هائماً حولك كالطير الذبيحِ
أَوَ ما أبصرته دامي الجروح ... يتنزى فرط تبريح ويأسِ
مرهقاً مما يعنّيه الحنينْ
وهنا يا قبرهُ أشواقُ نفسي ... يا لأشواقٍ على تربك حُبْس
وهنا قبلة أحلامي وهجسى ... قرَّبتني الدارُ أو طال نزوحي
فخيالي بك وهن كل حينْ
إن نأى بي البعد ردتني إليكْ ... لاعجات ماتني، وجداً عليكْ
لستَ تدري أيُّ دنيا في يديكْ ... من حنان وبشاشات وأنسِ
يا لقلبي، أصبحت في الهامدينْ
آه يا قَبْرُ له إشعاعُ نورِ ... لا أرى أجمل منه في القبورِ
فيك أحبابي، وفي قلبي الكسيرِ ... مأتمٌ ما انفك مذ باتوا لديكْ
قائماً بأخذ منه بالوتينْ
وإذا يُنزفُ دمعُ المقلِ ... يجهشُ القلبُ أسىً، ما يأُتلى
نادباً عندك أشهى أمل ... باكياً فيك نصيري وظهيري
ساكباُ من ذوْبه غيرَ ضنينْ
أوحش السامر من ذاك السميرِ ... غيرَ أَصْداء فؤادٍ وشعورِ
نغمٌ أفعم أمواج الأثير ... بالأماني والهوى والغزلِ
وترامى بين أحضان السنين
زهرة عطرت الدنيا بنشْرِ ... ثم مالتْ بين أحلام وشعرِ
وذوت عن عُمُرٍ للزهر نضْر ... هكذا تنفَدُ أعمارُ الزهورِ
والشذى باقٍ بروح ألعابرينْ
كلما أشرق في الليل القمرْ ... مُتَرعاً بالنور أعصابَ الزَهرْ
أظلمت نفسي وهاجتني الذِّكر ... كيف غيبتُك في ظلمة قبْرِ(567/32)
كيف أسلمتك للترب المهينْ
وإذا ران على الدنيا هجودُ ... وغفا فيها شقَيٌّ وسعيدُ
لم يزل يهتف بي صوتٌ بعيدُ ... من وراء الغيْب وافى وظهرْ
ومضى يهمسُ همسَ العاتبينْ
عتبه أَخْذِى بأسباب البقاءِ ... أتملى من وجودٍ وضياءِ
وعديل الروح في وادي الفناءِ ... السَّنى ضنَّ عليه والوجودُ
فهو بالحرمان لم يبرح رهينْ
أيها الهاتف من خلف الغيوبِ ... ما ترى نبع حياتي في نضوب
لم أزل أضرب في عيش جديب ... موحش كالقفر موصول الشقاءِ
منذ أمسى نجمه في الآفلين
أين إبراهيم مني أين أيْنْ ... حبة القلب ونور الناظرين
أنا من عيش وموت بينَ بينْ ... فلعلَّ الحيْنَ موف عن قريب
يمسح الجرح وآلام الحنين(567/33)
البريد الأدبي
أغنية (الرياح الأربع)
أهدى الأستاذ الشاعر (علي محمود طه) مسرحيته الفاتنة
(أغنية الرياح الأربع) إلى صديقة الشاعر (محمد عبد الغني
حسن) فحياه بهذه الأبيات:
ما زلتَ تُطرب في البيان وتُبدعُ ... وتَصُبُّ لحنكَ في القلوب وتُتْرعُ
لك كلَّ يوم آيةٌ شعريةٌ ... لله ما هذا الخيال الطيِّع؟!
وَتَظَلُّ ترتاد الغيوبَ محلِّقاً ... وتجوب آفاق المحيط وتذْرع
الناس في سجن الخمودِ وقيْدِه ... حُبسٌ وأنتَ لك الفضاءُ الأوسعُ
صور تُجلِّيها بريشة ماهر ... ينقاد في يده البيان ويخضع
تلك المعاني النافرات ذلولةُ ... بيدْيكَ لا تأبَى ولا تتمنع
وتكادُ تبرزُ كلَّ خافية الهوى ... فكأنها شئٌ يحَسُّ ويسمع
يا أيها الملاح مالك تائهاً ... لا يستقر على شراعك موضع؟
والبحر مضطرب الأواذى هائج ... والريح عاصفةُ المهبةِ زعزع
في كل ثغر مشهد لك رائع ... وبكل ميناءٍ حديثٌ أروعُ
تلك الرواياتٌ الفصاحُ جليلةٌ ... وأجلُّها عندي (الرياح الأربع)
شعر ناجي
حينما أصدر الدكتور ناجي ديوان شعره (وراء الغمام) كتب الأساتذة الأعلام العقاد وطه والمازني، وكتب غيرهم من أدباء الشباب الشيء الكثير في شعر ناجي. وقد اتفقت آنذاك أو كادت تتفق أقوال الشيوخ والشباب في طبيعة ذلك الشعر. والذي يخيل إلى الآن - وقد أتم الأستاذ دريني خشبة دراسته في شعر ناجي أنه لم يطلع على ما قيل في هذا الشعر. فعاد ما قال أولئك الأعلام والعقاد في شعر ناجي يناقض ما قاله فيه الأستاذ دريني خشبة مناقضة صريحة(567/34)
أما المآخذ الشعرية فقد ذكر بعضها الأستاذ حافظ جلال والمرحوم معاية نور وسواهما فقد أعادوا أكثر عيون شعر ناجي إلى الأستاذين العقاد ومطران وبعضها إلى شعراء المهجر نعيمه ومعلوف. واللطيف في هاتيك المآخذ، أنها هي بعينها التي اقتبسها الأستاذ الناقد دريني خشبة للتدليل على سمو شعر ناجي!
حبيب الزحلاوي
القرآن في كتاب النثر الفني
الأستاذ الغمراوي يرى فيما يرى أن الدكتور زكي مبارك يذهب إلى أن القرآن الكريم من عند محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد صرح الدكتور بما ينفى هذا الزعم في كتابه (الموازنة بين الشعراء) ص 226 إذ يروى بيتي البوصيري
ما حوربت قط إلا عاد من حرب ... أعدى الأعادي إليها مُلقى السلم
ردت بلاغتها دعوى معارضها ... رد الغبور يد الجاني عن الحرم
ثم يعقب قائلاً: (كلمة صدق؛ ويكفي أن تقرأ القرآن بحيدة ونزاهة لتلمس هذه الحقيقة؛ فالقرآن كتاب خطر رهيب يحمل عدوه على الإيمان به والخشوع لديه، ولو صحت - لا صحت - أراجيف الملحدين من أن القرآن من إنشاء محمد بن عبد الله لكان محمد أعظم رجل شهد هذا الوجود (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون)) طبعة ثانية سنة 1936م، وأنا أرى أن قول الدكتور ولو صحت إرخاء العنان للخصم. وأقول للدكتور أيضاً إن محمداً أعظم رجل شهد الوجود، لأن صاحب العزة والجبروت علمه أهلاً - والله أعلم حيث يجعل رسالته - لأن يحمل عبء تلك الرسالة العظيمة، ولأن ينزل عليه ذلك الكتاب العظيم، فمن البدائه أن الدكتور لا يرضى لرأيه أن يكون من أراجيف الملحدين!
هذا ومن بعض الإلزامات التي ألزم بها الأستاذ الغمراوي الدكتور مبارك قوله في الرسالة (565) (إذا كان - يعني القرآن - من عند الله فكيف يمكن أن يثبت للعرب ذاتية كالذي أراد وليس فيه لعربي منهم حرف)، ويمكننا أن نرد هذا الإلزام قائلين: إن القرآن الكريم -(567/35)
وهو من عند الله يدل على أن العرب لهم ذاتية باعتبارهم مخاطبين به وهو أجدر من يراعى مقتضى الحال
إبراهيم السيد عجلان
إلى الأستاذ الكبير (ا. ع)
تصديت - مشكوراً - للأخذ بيد شباب الشعراء إلى النهج السوي، فشكرنا لك صنيعك وحمدنا لك كريم نهضتك، وانتظرنا منك - وأنت الأستاذ والوالد - أن توضح لهم معالم الطريق في رفق وأناة، شأن المربى القادر يغضي عن العيب، ويدل على الصواب
ولكننا يا أستاذنا رأيناك - وقد كتبت إلى اليوم سبع كلمات - تحمل عليهم حملة التأديب والزجر والتشهير دون توجيه صالح، أو رغبة صادقة مخلصة في تقويمهم وإصلاحهم وهدايتهم
أين يا سيدي الأمثلة والنماذج تشرحها لهم وتقفهم على مواضع الحسن والقبح فيها؟
أين الشرح والتعليم الذي يفعله الأساتذة مع تلاميذهم الذين يريدون بهم خيراً؟
ألا ترى يا سيدي الأستاذ الجليل أن كلماتك هذه ربما كان من نتائجها تثبيط بعض العزائم التي نريدها على أن تنشط، وإماتة بعض الهمم التي نريدها على أن تحيا وتعيش وتنمو؟
إن شعراء الشباب هم الرجاء المرموق، والأمل المرجى، وإن لهم لجهداً مشكوراً، وأثاراً حميدة، وإن (الرسالة) الكريمة هي مؤازرتهم ومناصرتهم ومعينتهم، وهي سلمهم إلى المجد الذي يبغون ونبغي لهم ويحبون ونحب لهم
فإما أن تكون - يا سيدي الأستاذ - هادياً ومرشداً وموجهاً له وإما أن تدعهم يشقون طريقهم إلى المجد أو يهلكوا دونه. والسلام
(المنصورة)
علي متولي صلاح
إلى الدكتور زكي مبارك
إن مما أحزن كل معنى بالأدب هذه الخصومة التي قامت بين الزيات ومبارك وهذه القطيعة(567/36)
التي وقعت بين المبارك والرسالة
وإنني كواحد يعني بالأدب ويعجب بالزيات والمبارك ويحب الرسالة من حقي أن أحزن وأتألم وأتأذى لما حصل، ومن حقي أن أنتصر لصاحب الحق في هذا الخلاف
إن السبب الذي إليه يعزو الدكتور مبارك هذه الخصومة هو أن الرسالة نشرت لأحد خصومه كلاماً آذاه وآلمه وأغاظه
ولا أخال أحداً ممن يعرفون الأستاذ الزيات على حقيقته - لا كما عرفه الدكتور مبارك أخيراً - يجاري الدكتور في اعتقاده ويقره على رأيه؛ لأن الزيات كما نعرفه ويعرفه غيرنا وكما عرفنا به الدكتور مبارك نفسه في أكثر من مناسبة أديب رضى الخلق كريم النفس سليم القلب نبيل القصد لا يخاصم إلا الباطل ولا يناجز إلا الضلال ولا يناصر إلا الحق. يعتز بأصدقائه ويعتز أصدقاؤه به ولا يختلف مع أحد منهم إلا على حق
ولعل الدكتور مبارك يذكر قوله في الأستاذ الزيات في حديث له مع الأستاذ طه الراوي نشر في الرسالة بعددها 530 الصادر بتاريخ 30 أغسطس 1943 وهو (أن الزيات صديق مضمون) ولما سئل عن معنى مضمون أجاب (أن لها معنى ومعاني، فالصديق المضمون هو الصديق الذي لا يخشى تغيره بأي حال)
وكيف يكون الصديق (المفطور على العقوق) والذي لا ينفع معه عتاب) (والذي حرم نعمة الفهم لمعنى الصديق) صديقاً مضموناً؟ وهل حقاً أن الزيات مفطور على العقوق يا دكتور؟
إن كان تلفيقاً ما نشر في الرسالة من كلام أغضبك فأدحضه بما يتوفر لديك من براهين؛ أما أن تسكت عمن آذاك وآلمك وتنحي باللائمة على الأستاذ الزيات وحده فهذا ظلم؛ لأن الزيات بنشره ما نشر إنما يؤدي واجبه كواحد لا يحابي ولا يمالئ أحداً
والرسالة كما يعرفها كتابها وقراؤها وأنت منهم يا سيدي الدكتور ميدان تتصاول فيه الأفكار وتتبارى فيه القرائح وتتسابق فيه الأقلام فمن حقها أن تؤدي رسالتها الأدبية وفق الخطة التي وضعتها لنفسها
فكيف ترضى يا سيدي الدكتور أن تسلبها حريتها في التصرف بهذا الحق وتحرمها حقها في استعمال هذه الحرية فتطالبها بمراعاة صداقتك وهذا مما لا يتفق ومنهجها الذي تسير عليه(567/37)
(بغداد)
يحيى محمد علي
تجول تلك السماء
جاء في قصيدة الأستاذ سيد قطب المنشورة في العدد الماضي
يا فجر من ذا رآك ... تحول تلك السماء
فاستعمل كلمة (تجُول) بمعنى تطوف متعدية بذاتها
مع أن الفعل (جال) لم يرد في كتب اللغة عامة متعدياً بنفسه بهذا المعنى فقد جاء في المصباح والمنجد ما يأتي: (جال يجول في البلاد طاف يطوف) (وجال جولاً وجولة وجولاناً في المكان) طاف به ودار وجاء أيضاً: (جال بمعنى اختار) وهذا ليس المعنى المقصود في البيت
فلو أن الأستاذ قطب استبدل بكلمة (تجول) (تجوب) لما وقع في هذا الخطأ
محمد عبد الفتاح إبراهيم(567/38)
العدد 568 - بتاريخ: 22 - 05 - 1944(/)
18 - دفاع عن البلاغة
10 - التلاؤم في الأسلوب
أثبتنا بحجة العقل ودليل الوجدان أن التألق في الأسلوب أصل في طباع الناس، وسر في كيان اللغة، وركن من أساس البلاغة؛ وأن الجمال اللفظي المطبوع منية كل لسان ينطق، وبغية كل أذن تعي؛ فالناس خاصتهم وعامتهم يحبون أن يسمعوه، والكتاب قادتهم وساقتهم يتمنون أن يستطيعوه. وإذا كان في حملة القلم من يقدح فيه وينفر منه كان ذلك من باب الكذب على النفس مرده إلى أسباب يعرف بعضها ذلك الثعلب الفاضل الذي
رام عنقوداً فلما ... أبصر العنقودَ طالَه
قال: هذا حامضٌ لما ... رأى أن لا ينالَه!
فلندع ذلك الآن ولنسدد القول إلى الغرض المقصود من التلاؤم. فما التلاؤم في حقيقة معناه وطبيعة مداه؟ التلاؤم كلمة جامعة لكل وصف لابد منه في اللفظ ليكون الكلام خفيفاً على اللسان، مقبولاً في الأذن، موافقاً لحركات النفس، مطابقاً لطبيعة الفكرة أو الصورة أو العاطفة التي يعبر عنها الكاتب أو الشاعر
فالتلاؤم من حيث القبول في الآذان والخفة على اللسان، يكون في الكلمة بائتلاف الحروف وتوافق الأصوات وحلاوة الجرس. ويكون في الكلام بتناسق النظم وتناسب الفقر وحسن الإيقاع. ومن هنا تنشأ السلاسة والعذوبة والطلاوة والرخامة، وانسجام التراكيب، ومتانة الحبك، وكل صفة تنفي عن الكلام التنافر والنبو والقلق والتعسف والتعقيد والهلهلة والركاكة والغثاثة والحوشية والجفوة. ومدار ذلك على الذوق الفني السليم، والأذن الموسيقية المرهفة. ففي هاتين الحاستين وضع البارئ المصور البديع - جل وعلا - سر الفن كله. وبهاتين الحاستين هذبت الدهور اللغة، وصقلت العبارة، وتنخلت الألفاظ والتراكيب، فتخيرت منها. للأساليب الرفيعة لغة خاصة يعبرون عنها في تاريخ الأدب بالألفاظ الكتابية والتراكيب الشعرية
وإلى هاتين الحاستين يعزى التفاضل بين كاتب وكاتب، والتفاوت بين شاعر وشاعر، والتباين بين ناقد وناقد؛ وإليهما كذلك يرجع تقديم كلمة على كلمة، واختيار لفظة دون لفظة، وقصور الكلام عن مداه، أو بلوغه إياه، سواء أكان هذا البلوغ أو ذلك القصور من جهة(568/1)
تأثير الكاتب أو الشاعر، أم كان من جهة تأثر القارئ أو السامع
وعلى هاتين الحاستين يجري نظم الكلام متسقاً كحبات العقد، مؤتلفاً كنغمات اللحن، منسجماً كسلاسل النهر، مصقولاً كمن السيف، مونقاً كأفواف الوشي؛ وتلك خصائص الطبع الموهوب لا حيلة فيها لمحتال، ولا قدرة عليها لمقلد. وتفاوت الفضل كما قال ابن الأثير (يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها؛ لأن التركيب أعسر وأشق)
وتمييز اللفظ الحسن من اللفظ القبيح يحصل بأدنى كلفة، لأن المرجع في ذلك إلى الحاكم المطلق وهو السمع، فما استخفه كان حسناً، وما استثقله كان قبيحاً. (وحسن الألفاظ وقبحها ليس إضافياً إلى زيد دون عمرو، وإلى عمرو دون زيد، لأنه وصف ذووي لا يتغير بالإضافة) فالقراح والنقاح وصفان مترادفان للماء ولكن حسن الأول وقبح الثاني لا يختلف فيهما أحد
وأما التلاؤم من حيث موافقة الكلام لحركات النفس، ومطابقته لصور الذهن، فيكون بتقطيعه فقراً وفواصل تقصر أو تطول تبعاً لحالات النفس والفكر. فلكل عاطفة درجتها من الإبطاء أو الإسراع، ولكل فكرة مداها من الضيق أو الاتساع، ولكل صورة طبيعتها من الظهور أو الضمور، ومن القوة أو الضعف. قد تكون أشعة الإلهام كومضات البرق تتعاقب على الذهن بسرعة؛ وقد تكون عواطف النفس فائرة تجيش بالألم أو تضطرم باللذة؛ وحينئذ تكون الفقر القصيرة أنسب الصور للتعبير عنها؛ كما ترى في السور المكية من كتاب الله؛ فإنها لاشتمالها على أصول الدين تتصل بالعاطفة، فجاء لذلك أسلوبها قصير الآي كثير السجع رائع التشبيه قوي المجاز. وقد تكون المعاني رزينة بطبيعة موضوعها لتوخيها الإفادة أو الإقناع أو الشرح، فتقتضي الأسلوب المرسل أو المفصل، كما ترى في السور المدنية من القرآن الكريم؛ فإنها لاشتمالها على أصول الأحكام تتجه إلى العقل، فنزل أسلوبها هادئ البيان طويل الجمل مفصل الآيات واضح الغرض. أما إذا كانت الفكرة متشاجنة الأصول متشابكة الفروع فالابلغ أن تفصل بالاستدارة. والاستدارة صورة من صور التعبير في اللغات العليا، تحدث عنها أرسططاليس وترجمها مترجموه إلى العربية بهذا الاسم، ولكن البيانيين من علمائنا لم يحفلوا بهذا النوع ولم ينبهوا إليه في أساليب العربية على كثرة وروده في النثر والنظم، حتى وقع عليه بعض المتأخرين فسموه (القول(568/2)
بالنظم) أو (حسن النسق). والاستدارة جملة متوسطة الطول تشتمل على فاتحة وخاتمة، وتتألف من فواصل ترتبط بإحكام، وتتساوق في انتظام، وتحمل كل فاصلة من فواصل الفاتحة جزءاً من المعنى بحيث لا يتم المراد إلا بذكر الجملة الأخيرة وهي الخاتمة
مثالها من الشعر قول النابغة:
فما الفرات إذا هب الرياح له ... ترمي غوار بُه العِبْرين بالزَّبد
يمده كل وادٍ مترعِ لَحبِ ... فيه ركام من الينبوب والخضد
يظل من خوفه الملاح معتصماً ... بالخيزرانة بعد الابن والنَّجد
يوماً بأجود منه سيبَ نافلةٍ ... ولا يحول عطاء اليوم دون غد
ومثالها من النثر قول الجاحظ: (فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه، وكان منزهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة)، والاستدارة كثيرة الدوران في طريقة ابن المقفع وطريقة الجاحظ
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(568/3)
2 - قيس ولبنى
للشاعر المجدد الأستاذ عزيز أباظة بك
للأستاذ دريني خشبة
وضعنا بين أيدي القراء - وذلك في العدد السابق من الرسالة - خلاصة مضغوطة لقصة هذا الهوى اللافح، والحب المرمض الممض، الذي ملأ حياتي قيس ولبنى بمأساة من أروع مآسي الأدب العربي القديم، أو الأدب العربي في صدر الإسلام، وذلك وفق ما أثبت القصة أبو الفرج في أغانيه، ثم أردفنا الخلاصة بموجز جاف لمسرحية الشاعر المجدد عزيز أباظة بك، رجاء أن نشرك معنا القراء في استعراض القصتين، والموازنة بينهما، وإدراك ذلك الجهد الشاق الموفق الذي بذله الشاعر المصري البارع في استغلال قصة الأغاني والتصرف فيها، دون تقيد برواية، ودون تقديس لتاريخ، فالأغراض الأدبية، ولاسيما إن كان المسرح هو طريق إبرازها، لا يلزم أن تتقيد بما ورد في سجلات الماضي، حتى وإن كان ما ورد في تلك السجلات هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي نواحيه. . . ولا داعي لأن نضرب مثلاً بالطريقة التي تنوولت بها مأساة مثل مأساة كليوبطرة على أيدي شيكسبير وشوقي مثلا. . .
وقد كان شيكسبير نفسه لا يحفل كثيراً بدقائق التاريخ وحقائقه، بل كان يضحي كل شيء في سبيل الهدف الذي كان يضع من أجله دراماته، مع أنه كان يغترف الحوار أحياناً من سجلات هذا التاريخ
1 - فلقد استغنى الأستاذ عن شخصيتي الحسن والحسين، واكتفى بأن يكون ابن أبي عتيق رسول الحسين إلى الحباب أبي لبنى، وللشاعر رأيه في هذا الاستغناء. . . والكلام عن ذلك لا بد أن يكون كلاماً شائكا، لأنه يتناول مسألة إبراز الأشخاص الذين نحيطهم بهالات مقدسة على المسرح. . . وقد كان الشاعر لبقاً في وسيلة هذا الاستغناء، إذ جعل سببه اشتغال الحسين بموضوع تلك البيعة التي فرضها معاوية على المسلمين لابنه يزيد، ولم يجعل سببها إكبار الحسن أو الحسين عن المشاركة في هذه القضية الغرامية. . . التي كانا فيها رسولي رحمة وحنان وعطف بين قلبين، وبين أسرتين كريمتين من أسر المدينة والبطون القريبة منها في سرف(568/4)
2 - واستغنى الشاعر أيضاً عن قصة بزوغ هذا الحب بين قيس ولبنى، كما استغنى عن مرات اللقاء المختلسة الأولى، التي تذكى الحب عادة وتؤكده، والتي تصور ما كان يتجشمه المحبون في سبيل هذا اللقاء في البيئة العربية القديمة من أخطار وما كانوا يستهدفون له من هول وروع
3 - واستغنى كذلك عن هذا المشهد المؤثر الذي توسل به ذريح للتأثير على قلب قيس الغض كي يطلق لبنى. . . مشهد قيامه، في الظهيرة عاري الرأس والشمس تصب لهبها على يافوخه، ومجيء قيس ليظلل أباه حتى يفئ الفيء. . .
4 - ومنظر وداع لبنى في قصة أبي الفرج! هذا المنظر الذي لا يكاد أن يضارعه مثيل في أدب أمة من الأمم! اسمع إلى الأصفهاني حيث يقول: (فوقف ينظر إليها ويبكي حتى غابوا. فكر راجعاً ونظر إلى خف بعيرها، فأكب عليه يقبله. ورجع يقبل موضع مجلسها وأثر قدمها! فلما جن الليل، وانفرد، وأوى إلى مضجعه لم يأخذه القرار، وجعل يتململ فيه تململ السليم، ثم وثب حتى أتى موضع خبائها، فجعل يتمرغ فيه ويبكي. . .!!)
ولست أدري لماذا لم يسجل شاعرنا الكبير هذا المشهد الرائع في نهاية الفصل الثالث؟ لعلنا نوفق إلى كشف السر في المقال الباكي الذي سوف يتلو هذا الفصل
5 - ولم يشأ الشاعر لمسرحيته أن تنتهي إلى مأساة، ولذلك لم يأخذ في ختامها بأقوال الجمهرة من الرواة الذين قرروا أن قيساً ولبنى لم يجتمعا بعد الطلاق، وأنهما ماتا على هذا الفراق المر. والبعد الوبيل، وأخذ بأقوال القلة التي لا يؤبه لها من الرواة الذين زعموا سعي ابن أبي عتيق والحسن والحسين، أو ابن أبي عتيق وجاه الحسن والحسين لتطليق لبنى من كثير، وردها على قيس. وهكذا آثر النهاية السعيدة التي تجبر ما انشعب من تلك القلوب الكسيرة وترد الآمنة إلى عيون المؤرقين، على النهاية الباكية القاسية التي تفرق بينهم أبد الدهر. وللشاعر مطلق الحق في أن يتصرف هذا التصرف، وسنترك تعليل اختياره هذا إلى الفصل الباكي الذي سوف يتلو هذا الفصل كما ذكرنا من قبل، والذي سوف نطلع فيه القراء على الأهوال النفسية التي يضطرب بها فؤاد شاعرنا العزيز فتوزه أزّا. . . هذا الفؤاد الذي أصبح في ذاته ملحمة حزينة آسية، مشرقة بالدمع، من أروع ملاحم شعرنا الحديث. . . ملحمة تحترب فيها الذكريات وتتضرم بالآلام والأوجاع(568/5)
ولو قد أراد الشاعر أن تكون مسرحيته مأساة، لأحببنا له أن يخلق من ضعف القصة الأصبهانية قوة، وأن يثور فيها على التاريخ وعلى الرواة ثورة كاملة شاملة. . . فقد أحب قيس لبنى، وبادلته لبنى هذا الحب الجارف الذي خالط قلبيهما وامتزج بدمائهما، وربط بينهما الرباط المقدس الذي لا يعقل أن ينفصم على هذا النحو الزري المضحك، لأن ذريحاً أراد له أن ينفصم، ولأن ذريحا وزوجه أصرا أن ينفصم، بحجة أن قيساً قد آثر عليهما زوجه أولاً، ولأن لبنى أنثى عقيم ثانياً. . . فيظل قيس يخالف من أمرهما عاماً بأكمله، إبقاء على زوجه التي لا بد لها في هذا العقم، ثم ينهزم هذا النبل كله فجأة، وينهزم هذا الحب العارم الصارم كله فجأة، وتنحل الأواصر المقدسة فجأة، فيرسل قيس زوجه وحبيبة قلبه ومنية نفسه إرسالاً سهلاً هيناً ليناً، لأنه لم يعد يحتمل أن يعذب أبوه المأفون نفسه، ولم يعد يحتمل أن يرى تلك النار المشبوبة في دار المجانين الذين يظلون عاماً طويلاً وأكثر من عام طويل يشاكسون زوجين سعيدين حبيبين، وينغصون عليهما صفو الحياة. . . لوددنا إذن لو أن شاعرنا قد ثار على التاريخ وعلى الرواة وعلى أبي الفرج ثورة كاملة شاملة، فرفض قصة هذا الفراق وذاك الطلاق الذي أضحك الدنيا بأسرها على سذاجة قيس لبنى، وأشمت به قيس ليلى، وعرضه لزراية المحبين وازدرائهم في عالم الإخلاص والوفاء.
6 - ولكن ماذا عست أن تكون ماجريات الحوادث لو ثار الشاعر هذه الثورة؟ هنا يترك الأمر كله للعبقرية التي برهن الشاعر الكبير على أنه يدخر منها الشيء الكثير
7 - ثم طلاق كثير للبنى. . . هذا الطلاق الذي تم في جلسة واحدة ما خطبه؟ أبهذه السهولة يتم الطلاق في البيئة العربية المحافظة الصارمة؟ ومتى طلب إلى عربي، بله المسلم، أن يعطي حرية التصرف في أحد من أهله. . . ولا سيما إن كانت الزوجة هي الغرض من إعطاء تلك الحرية؟ ثم كيف تتم تلك الخدعة التي لا يجيزها عرف ولا دين في حضرة الحسن والحسين، سبطي رسول الله، وسيدي شباب أهل الجنة؟ وإن فوجئا بها مفاجأة؟!
ولكن هذه هي الرواية التي أثبتها أبو الفرج، وأبو الفرج راوية ماهر يستعين على أذهاننا بإثارة مشاعرنا، فلا يدعنا مستطيعين أن نسأل ما خطب كذا وما خطب كذا. . . ولكنه(568/6)
يتركنا نتألم في غير استنكار لهذه القلوب الرطبة التي أنهكها الحب، وأنهكتها الرحمة للمحبين. . . الرحمة التي لا تدع لسائل أن يسأل، ولا لمستدرك أن يستدرك
وبعد، فقد كانت قيس ولبنى نجاحاً كاملاً على مسرح الفرقة المصرية، وقد تلفت الشعب فجأة فوجد آذانه تمتلئ ببيان عربي فصيح، وشعر بدوي فيه جزالة وفيه فخامة وروعة، وفيه موسيقا تلين عاصيه، وتتدفق به في القلوب ميسراً مفهوماً. . . بل محفوظاً في كثير من رقائقه، محبباً في كثير من قوافيه، مدهشاً في كثير من كلماته التي تخيرها ذوق دقيق كأنه ذوق لال، أغرم بالعربية الفصحى فوهبه الله سرها، يجلو من غررها ودررها ما يشاء. . .
لقد كانت قيس ولبنى، برغم ما حاك في القلب من قصة أبي الفرج، قطعة من الحياة يختلط فيها جد الواقع بروعة الشعر، وتدفق الحوار بهدوء النجوى، وحرارة الحب بصلابة الواجب!
لقد كان فرحنا بها لا يعدله فرحنا بأية طرفة أدبية صدرت عن المطبعة المصرية هذا العام. . . وكيف لا نفرح بها وقد صدرت بعد الدعوة الطويلة التي دعت إليها الرسالة، من وجوب عناية الشعراء بالدرامة المنظومة التي آن الأوان لكي تسد فراغاً مخيفاً في الأدب العربي. . . وليس معنى هذا، قبل أن يعقب علينا معقب، أو أن يسئ تأويل كلامنا مسيء. . . أن قيساً ولبنى كانت ثمرة لهذه الدعوة، ولكنها كانت آية من آياتها. . .
لقد سألت ناظمها الشاعر الجليل: ماذا أوحى إليك بنظم مسرحيتك؟ فأجاب حفظه الله: لقد اقترحتها علي زوجتي. . . ظللها الله برحمته ورضاه!
ولهذا حديث غير هذا الحديث، ومقام غير ذاك المقام. وسوف أتحلل مما وعدت الأستاذ به من عدم التحدث عن هذه الأشياء، لأنها من حق التاريخ والأدب لا من حقه.
دريني خشبة(568/7)
بحث نفسي اجتماعي
لماذا لا تكون سعيداً؟
للأستاذ عبد العزيز جادو
كثيراً ما يتوق الناس إلى ما ليس في متناول أيديهم، لا لأنهم يريدون هذا الشيء بذاته، ولو أنهم يظنون بأنهم سيكونون سعداء إذا حصلوا عليه، ولكن لأن هناك شيئاً يفتقرون إليه في تركيبهم العقلي والروحي
ومن أوهام الجنس البشري أن يعتقد أن السعادة رهينة بشيء أو مكان أو زمن؛ أو بأنه يمكن الاستحواز عليها بالمال، أو بأنها توجد في جهة دون أخرى، أو بأنها ستأتي حتما على أجنحة الزمان، وكل أولئك - لعمر الحق - من بعض الترهات التي تعتري الناس في طفولة التفكير
السعادة لا يمكن أن تشرى بمال لأنها حالة من حالات العقل - الحالة المستمدة من الداخل موجهة إلى الخارج - وستتبعك إلى كل مكان، وفي كل وقت وفي كل حالة إذا أنت نظرت إلى الأشياء والحالات التي تحيط بك بعين مميزة فاحصة، وعندئذ تعرف أن التمييز والتقدير هو الحب، وأن الحب هو أن تكون سعيداً
وبعد، فما الأشياء التي تجعلك سعيداً أو شقياً؟ أنت اليوم تقول إنك سعيد لأن لديك ما كنت تريد. وبعد شهر ستكون شقياً وتود أن تحصل على شيء آخر، وستكون سعيداً مرة أخرى عندما يضئ أمامك أمل الحصول على رغبتك الجديدة؛ وشقياً عندما ينهار بسبب نكبة ما. والفقر الحقيقي أو الشقاء ليس في أن تمتلك القليل بل هو في أن تشتهي الكثير، فلكي يكون المرء سعيداً عليه أن يكون قنوعاً فالقناعة كنز لا يفنى
السعادة التي تترجح من خيط واه إنما هي كرغبات محسوسة معرضة للسقوط والضياع. هذى السعادة مثلها في الخداع كمثل السراب
الرغبة، والطموح، والتأميل فيما هو أحسن، كل أولئك ضروري للتقدم الإنساني ولاسيما إذا فسرت كما يجب أن تفسر فهي مبعث السعادة. ولكنه التفسير الذي يخفف كفة الصواب أو كفة الخطأ في الميزان. فإذا رغبنا في شيء صائب يستحق الاهتمام وجدنا طريقة أو أخرى نحصل بها عليه ويمكننا أن نعيش في الأمل سعداء. وعلى ذلك، يجب علينا أن(568/8)
نذكر أن ليس هناك شيء مادي يستحق أن نزن كل سعادتنا به؛ فإذا كانت رغباتك تهدر سعادتك، فغربلها جيداً وانظر كم منها غير مجد، ورض نفسك على أن تقذف به بعيداً
لا تكن متتبعاً لأولئك الأغرار الواهمين لأنه ينقصهم العقل، إنهم يرون قشور الأشياء لا لبابها، والشيء الذي يعوزهم هو المقدرة على التغلغل في أعماق الأشياء، أي التفرس والتبصر والاستشفاف
إن المغنطيس الكهربي يجذب الحديد عندما يسري التيار في وحداته، كذلك تجذب الشخصية السعادة عندما يتدفق تيار عقل ثاقب في شعوره الداخلي. ربما يكون المرء محبوباً من شخص ومكروهاً من آخر، والاتجاهات العكسية ما هي إلا محض رد فعل لفكرة فردية تتبعها مقارنة للشخص المعين طبقاً للفكر والمقاييس المعينة لرجل بعينه. والمرء يحتمل أن يكون في الحقيقة غير مستحق حب أحد له أو كراهية أحد؛ أو ربما يستأهل حب كل منهما. ولكن شعورهما المحدود يمنعهما رؤية الحقيقة كاملة واضحة.
وهكذا يواجه الناس الحياة. وغالباً ما تكون التأويلات الشخصية هي التي ترقى بالعقول التي لا تتسع لإدراك الأشياء إدراكاً شاملاً، وبغير ذلك يضيع الكثير من الجمال والسعادة. فإذا أمكن الفرد أن يرى السعادة في شيء فلم لا يمكن أني يراها الجميع؟ ألم يكن الفرق غالباً في عقل الفرد؟
أنت لا يمكنك أن تكون سعيداً لأن عندك ما عندك، ولكن لأنك تحب ما عندك. وقوة الحب والكراهية كامنة في نفسك، واتجاهك الفردي نحو شيء وصلتك الشخصية به هي التي يعتد بها
ربما تكون هنا، أو هنالك، أو في أي مكان، فإذا أضاء قلبك وسما عقلك ستشعر بالسعادة تغمر نفسك. أما إذا فكرت بأنك عوملت بإجحاف، أو إذا ظننت أنه لا يمكنك الحصول على ما ترغب، أو إذا لم يبد لك الجو جميلاً، فلا يمكن أن تملك إلا الحزن
عندما تمطر السماء ويكفهر الجو وتتلبد السحب بالغيوم يشعر الكثيرون بالتعاسة إذ يقولون (أين هي الشمس؟ يا له من يوم عبوس!) ويفهم آخرون - وهم أسمى روحاً - أن هناك وراء تلك السحابة المليئة بالمياه الغدقة شمساً لا تزال تشع. أليس من الخرق أن يخدع بمثل نقاب رفيع كهذا أناس عقلاء ذوو حس؟ ومع ذلك فالحد الذي يفصل بين الفرح(568/9)
والحزن دقيق كما أنه خداع؛ مبهم لمن يميلون للظاهر، وواضح لمن أوتوا الإيمان والذكاء فيرون الحق من خلالهما
إذا كان حب شخص هو ما تظن أنه سيجعلك سعيداً فلا تعتمد على ذلك الحب. أحبب بقوة ما استطعت ولكن لا تطلب الحب إن لم تر هناك استجابة. الحب الصادق القوي هو المثل الأعلى، ولكن إذا كان هناك تفاوت كبير في الطبع وأنت نفسك الشخص الذي لا يميل إلى التبادل فيحسن بك كثيراً أن تنقل انتباهك - مع إرادتك - إلى شخص آخر أكثر تلبية
والحب في صدق وإخلاص ورزانة يمكن أن نطلق عليه بسهولة مسألة انتباه انقل انتباهك، فينتقل حبك. وأنت لا تحب كل الملايين من الناس المحبوبين لأنك لا تعيرهم انتباهك، ولأنك لا تعرفهم معرفة ألفة، ولذلك لا يمكنك أن تفهم حياتهم. سيأتيك الحب بأخذك الاتجاه الإيجابي نحو الشخص الذي تحب واهباً لا سائلاً، معطياً خطتك الحكيمة الاعتبار والانتباه الضروريين. . .
ثم إن التعاسة ناشئة معظمها عن أننا نتصور غيرنا أسعد حالاً منا، وعن أننا نريد أن نكون دائماً أسعد من سوانا. . .
والشخص إذا أضاع كل شيء فعليه ألا يفقد الأمل وحب العمل. فالعمل المنتج يرفع القلب ويعلي الفكر ويشرف الشعور ويؤله النفس. وهل هناك سعادة فيما عدا ذلك أو في شيء غير ذلك؟
عبد العزيز جادو
دبلوم علم النفس وعضو نادي المتكلمين بإنجلترا(568/10)
في دنيا الأحلام
للأستاذ توفيق حسن الشرتوني
لا أمن بالأحلام ولا أعيرها اهتماماً جدياً، لأني أعتبر أكثرها ناتجاً عن عوامل الغريزة المكبوتة والعقل الباطن، غير أني أقف حائراً أمام بعض الأحلام التي حلمتها وأصبحت بعد قليل حقيقة راهنة لا أحلاماً طارئة لا تتجاوز مخيلة النائم ولا تعدو فراشه
وكم تساءلت: أهي المصادفة تقضي بصحة بعض الأحلام أم هو الإلهام؟ ولكن ما هي المصادفة وما هو الإلهام؟ وكيف أعلل حدوثهما؟ لا أدري
وكل ما أدري أنني رأيت أربعة أحلام صح ثلاثة منها والرابع ما يزال غامضاً؛ وأرجح أنه سيظل غامضاً إلى ما شاء الله
حلمت وأنا في عهد التلمذة أن المفتاح الذي كنت قد أضعته وكان يهمني أمره كثيراً مطمور في التراب قرب شجرة قديمة العهد في قلب الملعب الشرقي في مدرسة الحكمة. وكنت قد فتشت عنه في كل مكان هناك دون جدوى، ثم وجدته في المكان نفسه الذي هداني إليه الحلم
أما الحلم الثاني فهو: كنت ذات ليلة جالساً في داري أطالع إحدى الصحف اليومية فجاءني ولد لا يتجاوز الثالثة من عمره وضرب الجريدة التي في يدي وطرحها أرضاً. ثم أخذ يداعبني مقهقهاً ويلاعبني راكضاً من كرسي إلى كرسي، ومن ناحية إلى ناحية. والغريب في الأمر أنني حلمت أن هذا الولد هو ولدي مع أني ما كنت أباً في ذلك الحين ولا متزوجاً
وبعد سنوات صح هذا الحلم بحذافيره، إذ كنت صباح يوم جالساً في المكان نفسه أطالع بعض الجرائد، فخرج ولدي من غرفته وهو دون الثالثة من عمره وتقدم نحوي وضرب الجريدة وأوقعها من يدي. ثم شرع يلاعبني ويركض مقهقهاً من مكان إلى مكان. وكان في لباسه وكامل هيئته يشبه تمام الشبه الولد الذي عاينته في الحلم
أليس من الغريب المدهش أن يشاهد المرء ولده في الحلم قبل مجيئه إلى العالم؟ أإتفاقاً كان ذلك أم وحياً أم ماذا؟
أما الحلم الثالث فهو: حلمت منذ أعوام أن أحد الأنسباء وهو شاب في ريق العمر ونشاطه قد قضى نحبه في أحد المستشفيات؛ وبعد أيام قليلة جاءني رسول يبلغني خبر وفاته في(568/11)
المستشفى نفسه الذي حلمته ممدداً فيه على فراش الموت
وأغرب من ذلك أن الشاب كان يتمتع بصحة يحسد عليها فلم يدر بخلدي أدني خوف على حياته. ولم يكن لدي من داع لحدوث هذا الحلم الذي أوحى إلي بموته
أنا لا أدعي معرفة الغيب ولا ما يخبئه المستقبل في طياته، ولست من مدعي النبوة، أنا رجل من طلاب الأدب والعلم لا من طلاب المعجزات والخوارق. لكني لا أنكر وجود قوة في الإنسان تستبق معرفة الحوادث. هذه القوة ما تزال مستترة على العلم لم يسبر غورها بعد ولم يتح له تحديدها
فكم مرة يفكر المرء في أحد أصدقائه ولا يلبث حتى يراهم أمامه. وكم مرة يتخيل أمراً فيتحقق لساعته، وقد قيل: (اذكر الذيب، وهيئ له القضيب)
أما الحلم الرابع فهو على جانب عظيم من الغرابة، لا يمت بصلة إلى الشهوات المكبوتة التي يقال إنها تستيقظ في العقل الباطن في خلال النوم، ولا يتعلق أيضاً بموت أو ولادة أو كسب أو خسارة أو ما شاكل ذلك مما يكثر حدوثه بين الأحياء فيعلق بمخيلاتهم ويشغل أذهانهم، فيأتيهم في الحلم
لا أزال أذكر أنني ليلة الحلم أويت إلى مخدعي قبيل منتصف الليل، وبقيت أتقلب على فراشي إلى ما بعد الساعة الثانية دون أن يغمض لي جفن من تكاثر قصف الرعود وتواصل هدير الزوابع والأمطار، لأن الليلة كانت هائلة من أروع ليالي الشتاء برقاً ورعداً ومن أشدها برداً وزمهريراً
لم يتملكني النعاس إلا في الهزيع الأخير من الليل ولم أكد أستسلم إلى سلطان الكرى حتى نزل علي هذا الحلم، فشعرت ساعة نزوله كأنني لست بالنائم ولا بالمستيقظ بل بينهما، وما بينهما سوى عالم الرؤى - عالم الأنبياء والأولياء - ولا شأن لي في هذا العالم
فحلمت أن صديقاً لي توفاه الله منذ عدة سنوات هبط مخدعي وانتصب أمامي قائلاً: أنتم معاشر الأحياء تعتقدون أن المرء الذي تغادره الحياة تغادره المعرفة ويبرحه الشعور، فتنقطع كل صلة له بكم وبعالمكم، فيعود لا يدري ما يحدث بأوساطكم ولا يشعر بأعمالكم ولا بسرائكم وضرائكم؛ وهذا خطأ فاضح، فالميت لا يفقد غير الحركة والنطق اللذين كان بهما يظهر لكم معرفته وشعوره، ولا يعني فقدانهما فقدان المعرفة والشعور، بل فقدان(568/12)
الواسطة التي كان بها يتصل بكم
أجل ليس لدى الأموات ألسنة تتكلم ولا أجسام تتحرك لتعرب لكم عن معرفتها وإدراكها وشعورها بل هم بقوة الحياة الكلية - وقد أصبحوا جزءاً منها - غدوا أقوى منكم معرفة وأسمى إدراكاً وأشد شعوراً
كنت في الحياة الدنيا أعد نفسي ويعدني الناس من فطاحل العلماء، ومن أعاظم الدهاة الذين لا تخفى عليهم خافية، وبعد الموت تبينت جهلي وجهل الناس تقدير إدراكي ومعارفي
فأنا الذي كنت أحسب عالماً لم أكن إلا على يسير من العلم، وأنا الذي كنت أعد مدركاً لم أكن إلا على ذرة من الإدراك لأنني لم أعرف من شجرة الحياة طيلة حياتي إلا قشورها
كنت على جانب عظيم من الجهل لأنني لم أتمكن في الحياة من معرفة أقرب المقربين إلي، الذين كنت أساكنهم أو كانت تربطني بهم صلة من الصلات. أما اليوم فقد حررني الموت من الجهل، فغدت علومكم التي كنت أتبجح بمعرفتها بمثابة ألاعيب صبيانية أمامي، وصارت دنياكم الحافلة بالرموز والأسرار والأحاجي مضيئة عن ظهر قلبي، وبواطنكم المستترة التي لم أدرك كنهها في الحياة أصبحت اليوم واضحة حيال ذهني وضوح شمس الظهيرة
لقد كنت مخدوعاً حقاً في كثير من الأمور. مخدوعاً في معرفتي لنفسي ومعرفتي للناس. فجاءني الموت يعرفني بنفسي مبيناً لي مقدار قصورها وعجزها في المعرفة خلال الحياة. ويعرفني بالناس كماهم لا كما كنت أتوهم معرفتهم. لأنه أظهر لي ما تكنه طبائعهم من خفايا الغرائز والنزعات التي كانت غامضة عليّ كل الغموض
لقد كنت مخدوعاً بالمظاهر الخارجية إلى أقصى حد. فكم رجل كنت أحسبه صديقاً فكان عدواً. وكم إنسان كنت أعده مخلصاً فكان مخاثلاً. وكم رجل دين كنت أعتبره جم الفضائل فكان جم الرذائل. وكم امرأة كنت أعتقد بها الطهر والورع فكانت على غير ذلك
أما الآن فقد تجاوزت عالم الغش والخداع والتمويه إلى عالم الحقائق فأصبحت أرى كل شيء واضحاً جلياً. إني أطل عليكم من كوة هذا العالم - عالم الحياة الكلية وأرقبكم من نوافذها المشعة في دخائل أذهانكم وقلوبكم: وأتفقد أعمالكم وكل ما يصدر عنكم من خير أو شر. وإني لعالم بكل ما تظهرون وما تكتمون(568/13)
ولست وحدي أعلم ذلك بل يعلمه مثلي كل من حرره الموت من قيود دنياكم وأصبح متحداً بالحياة الكلية التي تسبغ عليه نعمة المعرفة الكاملة
فالأموات يرونكم دائماً وأنتم لا تشعرون برؤيتهم إياكم، ويتفقدونكم دائماً وأنتم لا تعلمون بتفقدهم لكم، لأنهم اصبحوا أرقى منكم معرفة وأسمى روحاً وأنفذ بصيرة
فكم من رجال حولي يتطلعون إلى دنياكم ويرقبون فيها أبناءهم وأحفادهم ويرون ما آلوا إليه من الضنك والفقر على الرغم من كثرة ما أورثوهم من مال وعقار. فهم يشاهدون أموالهم التي اكتسبوها بعرق الجبين وادخروها لأبنائهم كيف تتبدد في الحانات والمواخير وأندية الميسر والخلاعة، ويأسفون لضياعها في بؤرة الفساد ويتألمون لأنهم لم يعملوا بها عملاً مفيداً للجنس البشري بدلاً من توريثها لمن لا يستحقها
أما دنياكم هي دنيا الحروب والمطامع - دنيا الرياء والأباطيل - دنيا الأخطاء والفواحش - دنيا الخوف والجهل والضعف. ولهذا نحن نشفق عليكم بالرغم من كثرة شذوذكم وتهربكم على الأخص من معرفة الحقيقة - حقيقة نفوسكم وحقيقة غرائزكم. كأن الحقيقة هي غول دنياكم تخشونها كما تخشون الموت، والحقيقة وحدها هي رجاؤكم العتيد. فخير لكم أن تظهروا على علاتكم بدلاً من أن تتقنعوا بأقنعة الغش وتتستروا بها، فهي لا تستركم عن وجه الحق، فالأقنعة فانية والحقائق باقية.
انتهى الحلم فاستيقظت فور انتهائه وأنا أردد عبارته الأخيرة. فقلت في نفسي هل الأقنعة الفانية هي أجسامنا التي نتعارف بها في هذا الكون، والحقائق الباقية هي جوهر الحياة الذي لا يدركه الفناء. ثم عكفت على نفسي أسألها: كيف جاءني هذا الحلم؟ وهل يحلم المرء بما لا يدركه وما لا يقع تحت حواسه؟
ألا تبلغ المخيلة شأواً لا تبلغه الحواس ولا يصل إليه الإدراك؟ أليس للدين الذي يلقن الإيمان بالحياة الأخرى ضلع أيضاً في هذا الحلم المرتكز على الإقرار الصريح ببقاء الحياة بعد الموت؟
أليس لمعضلات الحياة الدنيا ومشاكلها أو بالأحرى، أليس لتعطشي لمعرفة أسرارها وحل رموزها وأحاجيها يد في إلهام هذا الحلم الذي يعللني بكمال المعرفة بعد الموت ويشبع رغباتي وتمنياتي ولو في العالم الآخر بالوصول إلى ذروة الإدراك: إدراك حقائق الحياة(568/14)
وخفايا الكائنات؟
(بيروت)
توفيق حسن الشرنوتي(568/15)
3 - الألغاز في الأدب العربي
للأستاذ محمود عزت عرفة
ألغاز الفقهاء والنحويين
(1) كان الفقه الإسلامي في نموه، وانشعاب فروعه من أصوله، أشبه شيء بالدوحة العظيمة أنشبت في الأرض جذورها ثم تطاولت إلى السماء بهيكلها، وأرسلت أفنانها مكتسيات بالورق النضر في كل متجه فلم تدع تحتها مكاناً ضاحياً أو موضعاً غير ظليل
وفي العصر العباسي وما تلاه من عصور التدوين والتصنيف توسع الفقهاء في دراسة الفروع توسعاً لم يتركوا معه شاردة ولا واردة إلا أثبتوها؛ وراحوا يفتنون في افتراض مواطن الشبه، ثم الإفتاء فيها بما يزيل لبسها، افتناناً ولجوا به باباً من التكلف والصنعة لم يحمد الكثيرون لهم مغبته لما قد صرفهم إليه من الحفول بالتوافه واستنفاذ قوى التفكير فيما لا تعظم جدواه أو ينفع كثيراً علمه
وقد أشرنا فيما قبل إلى ذيوع ما أسموه فتيا فقيه العرب؛ ونذكر هنا أن جلة العلماء ورؤساء المذاهب منذ القرن الثاني لم يسلموا في مجالسهم وحلقات دروسهم ممن يتعرض لهم بأسئلة يرمي بها إلى تعجيزهم، ويذهب فيها مذهب التعمية والإلغاز على نهج فتاوى فقيه العرب
ولم يكن بد لهؤلاء الأئمة من أن يجيبوا وإن صرفهم ذلك لحظة أو لحظات عما هم بسبيله من البحث المجدي والتحقيق المفيد
قال الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي - المتوفى سنة 606هـ - في كتابه مناقب الإمام الشافعي: اعلم أنه نقل أن الشافعي سألوه في بعض المسائل بألفاظ غريبة، فأجاب عنها في الحال بألفاظ عربية ونحن نذكر بعضها. أحدها: قيل له: كم قرء أم فلاح؟ فأجاب على البديهة: من ابن ذكاء إلى أم شملة. والمراد بالقرء الوقت، وأم فلاح الفجر وهو كنية الصلاة. والسؤال واقع عن مدة وقت صلاة الفجر؛ وقول الشافعي رضي الله عنه من ابن ذكاء أي من وقت الصبح وهو كنيته، إلى أم شملة وهي كنية الشمس أي إلى طلوع الشمس. . . وسئل: هل تسمع شهادة الخالق؟ قال: لا ولا روايته. والخالق الكاذب قال تعالى: (إن هذا خلق الأولين) وأورد الفخر الرازي أمثلة أخرى، ثم ختم بقوله: فلنكتف بهذا القدر، إذ لا يمدح الشافعي بمثله!(568/16)
(ب) وقريب من ألغاز الفقهاء وفتاويهم - وإنهن لكثر - ألغاز أئمة اللغة
على أن هؤلاء لم يكتفوا بابتداع الألغاز ابتداعاً، أو جمع ما قيل منها مقصوداً به التعمية حقيقة، وإنما أضافوا إلى ذلك أشياء من كلام العرب فطنوا إلى إمكان إيجاد التعمية فيها، وإن لم يقصد قائلوها ذلك. وأكثر هذا أبيات من الشعر القديم (لم تقصد العرب الألغاز بها وإنما قالتها فصادف أن يكون ألغازاً. وهي نوعان: فإنها تارة يقع الألغاز بها من حيث معانيها وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب). ويسمى القسم الأول أبيات المعاني، ومن أقدم أمثلتها قول الشاعر - يصف عقاباً صعد إلى موضع وكرها في يوم عاصف الريح:
ومحجوبة أزعجتها عن فراشها ... تحامي الحوامي دونها والمناكب
وخفاقة الأعطاف باتت معانقي ... تجاذبني عن مئزري وأجاذب
ومن جياد أبيات المعاني في شعر المتأخرين قول النواسي يصف الكرم:
لنا هجمةٌ لا يدَّري الذئب سخْلها ... ولا راعها غضُّ الفِحالة والحظرُ
إذا اختبرت ألوانها مال صفُوها ... إلى الحوِّ إلا أن أوبارها خُضُر
وقوله من قصيدة يمدح فيها الفضل بن يحيى:
إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحْضَرميَّ الملسَّنَا
قلائصُ لم تعرفْ حنيناً على طَلي ... ولم تدْرِ ما قرعُ الفنيق ولا الهِنا
قال ابن رشيق: (فذكر أن قلائصهم التي امتطوها إليه نعالهم، فأخرجه كما ترى مخرج اللغز، واتبعه أبو الطيب فقال:
لا ناقتي تحمل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها، ومشفرها ... زمامها، والشسوع مِقْودها
ومن أبيات المعاني قول شاعر يصف أيام الزمان ولياليه (وهي الأسبوع):
سبعٌ رواحلُ ما ينخْنَ من ألونا ... شيمٌ تُساق بسبعة زُهْر
متواصلات لا الدؤوبُ يملُّها ... باقٍ تعاقُبها على الدهر
ولأبن اسحق الجرمي (توفى 225هـ) في دودة القز:
وبنات جيب ما انتفعت بعيشها ... ووأدتُها فنفعْننَى بقبور(568/17)
ثم انبعثن عواطلاً فإذا لها ... قرن الكباس إلى جناح طيور
وقال صرّ در ملغزاً بجرة (توفى عام 465هـ):
ذاتُ أيدٍ ثلاثة أبدَ الدهْ ... ر ترى فوق رأسها أيديها
شربتْ ما سقيتهَا من شراب ... ثم تسقيك مثل ما تسقيها
خَرْتُ آذانها مَغابنُ أيدي ... ها ويافوخُها مقرٌّ لمفيها
ولأبن الخشاب بلغز في كتاب (توفى سنة 567هـ):
وذي أوجه لكنه غير بائح ... بسر، وذو الوجهين للسر مظهر
تناجيك بالأسرار أسرا وجهه ... فتفهمها ما دمت بالعين تنظر
وقال شاعر يلغز في (الإبرة):
سعت ذات سَمّ في قميصي فغادرت ... به أثراً، والله يشفي من السمِّ!
كست قيصراً ثوب الجمال وتبَّعاً ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم
وللحاتمي في الباب (توفى عام 388هـ):
عجبت لمحرومين من كل لذة ... يبيتان طول الليل يعتنقان
إذا أمسيا كانا على الناس مرصداً ... وعند طلوع الفجر يفترقان
ألغاز في اللفظ والتركيب والإعراب
مرت بنا أمثلة مختلفة لأبيات المعاني قديمها ومحدثها. . . أما الضرب الثاني من ضروب الألغاز وهو ما يستعان فيه بالأغراب في (اللفظ أو التركيب والإعراب) فذلك ما تتضاءل جودته أمام النوع الأول ويصغر قدره دونه
وإن أثر التكلف والصنعة ليظهر فيه ظهوراً لم تعرفه العربية في عصورها المتقدمة. وهو لا يعدو أن يكون - في أكثر أمره - تمويهاً لفظياً سهل الإدراك قليل العمق، لا يصعب على السامع فهمه، ولا على المنشئ إيراد مثله
ومن أقدم نماذجه التي تلمسها اللغويون في شعر الأوائل. قول الفرزدق:
يفلِّقنَ هاماً لم تنله سيوفنا ... بأسيافنا هام الملوك القماقم
قال ثعلب: ها حرف تنبيه ومن استفهام. قال مستفهماً: من لم تنله سيوفنا؟ وتقدير البيت: يفلقن بأسيافنا هام الملوك القماقم. قلت: فيكتب البيت هكذا:(568/18)
يفلقن (ها، من لم تنله سيوفنا؟) =بأسيافنا هامَ الملوكِ القماقم
وقال آخر:
عافت الماء في الشتاء فقلنا ... برديِّه تصادفيه سخينا
قال السيوطي: جوابه أن الأصل (بل رديه) ثم كتب على لفظ الإلغاز
ومن ذلك قول الآخر:
لما رأيت أبا يزيد مقاتلاً ... أدع القتال وأشهد الهيجاء
قال: يقال أبن جواب لما؟ وبم انتصب (أدع)؟ ثم أوضحه بما خلاصته أن يكتب البيت هكذا. لن - ما رأيت أبا يزيد مقاتلا - أدعَ. . . الخ
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
معنى البيت: أقول لعبد الله - لما سقاؤنا وهي أي ضعف ونحن بهذا الوادي - شم، أي شم البرق عسى يعقبه المطر. . .
ونلاحظ أن هذا الضرب الأخير من الألغاز اللفظية لقي أنصاره والمتشيعين له منذ القرن الخامس الهجري فما بعده؛ وراج على ألسنة النظامين والسجاعين ممن آثروا جانب اللفظ على جانب المعنى، وأنفقوا مجهودهم في المحسنات البديعية والحلي اللفظية يرصعون بها صفحات منثورهم ومنظومهم. وكأنما الضرب الأول من أبيات المعاني قد ذهب بذهاب المطبوعين من أدباء اللغة، وذوي القرائح المبتكرة فيها. وبقى هذا الضرب الأخير من التلاعب بالألفاظ يتمم الصورة الباهتة لحالة الأدب في عصور انحطاطه، وهو كما قلنا أيسر تأليفاً وأقل عمقاً من سابقه. ومن أمثلته المتأخرة قول ابن نباته ملغزاً في (القطائف):
أحاجيك، ما حلو للسان وإنه ... لأبكم إذ تعزى إليه المعارف
يُرى جالساً في الصدر ما كان كاملاً ... فإن نقصوه فهو في الحلْقِ (طائف)
وللشريف فتح الدين القنائي يلغز في (كمون):
يأيها العطار أعرِبْ لنا ... عن اسم شيء قل في سوْمكْ
تبصره بالعين في يقظة ... كما يرى ب (القلب) في (نومك)
وذلك أن مقلوب أحرف (نومك) هو (كمون). . .(568/19)
وقال صلاح الدين الصفدي ملغزاً في (الفيل):
أيما اسم تركيبُه من ثلاث ... وهو ذو أربع، تعالى الإله!
حيوان و (القلب) منه نباتٌ ... لم يكن عند جوعه يرعاه
(فيك) تصحيفه، ولكن إذا ما ... رمت عكساً يكون (في) ثلثاء
وقال آخر ملغزاً في (بلبل):
وما طائر نصفُه كله ... له في ذرى الدوح سير ولبث
رأينا ثلاثة أرباعه ... إذا صحفوها غدت وهي (ثلث)
وكانوا ربما يهوى أحدهم إلى درك من السخف بعيد فيقول:
يا من له الطول في المعالي ... وبالمعاني لنا يبصِّرْ
إني كما قلت في سؤالي ... ما مثل قولي نعم مقصِّر!
و (نعم مقصر) يرادفها (إي وان)؛ فذلك لغز في (إيوان) بعث به علي بن الحسين الموصلي إلى صديقه ومعاصره صلاح الدين الصفدي
وقريب منه قول شهاب الدين بن حجر ملغزاً في (صهباء):
يا فاضلاً هو في الأحا ... جي ليس يخلو من ولع
ما مثل قولك للذي ... يبكى الحبيب: (اسكتْ رجَع!)
(يتبع)
محمود عزت عرفة(568/20)
القضايا الكبرى في الإسلام
5 - قتل حجر بن عدي
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذه القضية من أكبر القضايا الإسلامية، وقد قام المسلمون وقعدوا لها، وعدوها على معاوية بن أبي سفيان في أربع عدوها عليه. روى ابن الجوزي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال: أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة، وهي أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلاف ابنه يزيد وكان سكيراً خميراً، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي، فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر
وهذا إلى ما بلغه عدد الشهود في هذه القضية، فقد بلغوا فيها سبعين شاهداً، ولم تصل إلينا قضية إسلامية بلغ الشهود فيها مثل هذا العدد، وكل هذا يدل على ما لهذه القضية من الشأن في الإسلام، وسنقوم بدرسها غير متأثرين فيها إلا بما يقضي به الشرع، لأن حكمه فوق كل شخص، ويجب أن يكون نافذاً في الناس كلهم، كبيرهم وصغيرهم، ورفيعهم ووضيعهم
كان حجر بن عدي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد القادسية في خلافة عمر، وشهد بعد ذلك الجمل وصفين وصحب علياً، فكان من شيعته، وكان من أعظم الناس ديناُ وصلاة وعلماً، ولكنه كان مغالياً في تشعيه، حتى إنه لم يسترح لما استراح له الناس جميعهم من تسليم الحسن بن علي لمعاوية ابن أبي سفيان. واجتماع كلمة المسلمين بعد ذلك الخلاف الذي كاد يقضي عليهم
وقد تم ذلك الصلح سنة إحدى وأربعين من الهجرة، فاستعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة، وأوصاه فيما زعم المؤرخون ألا يترك شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم، فأقام المغيرة عاملاً على الكوفة وهو أحسن شيء سيرة، ولكنه كان لا يدع شتم علي والوقوع فيه، والدعاء لعثمان والاستغفار له، فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال: بل إياكم ذم الله ولعن، ثم قام وقال: أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولى بالذم؛(568/21)
فيقول له المغيرة يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته. فإن غضب السلطان يهلك أمثالك. ثم يكف عنه ويصفح، فلما كان آخر إمارته قال في علي وعثمان ما كان يقوله، فقام حجر فصاح صيحة بالمغيرة سمعها كل من بالمسجد، وقال له: مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك. فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق حجر وبر، مُر لنا بأرزاقنا، فإن ما أنت فيه لا يجدي علينا نفعاً. وأكثر من هذا القول وأمثاله، فنزل المغيرة ودخل عليه قومه فقالوا: علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك في سلطانك؟ فقال لهم: إني قد قتلته، سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي، فيصنع به ما ترونه يصنع بي، فيأخذه ويقتله
ثم توفى المغيرة فضم معاوية الكوفة إلى زياد بن أبي سفيان، فقدم إليها من البصرة، ثم قام في الناس فخطبهم، وترحم على عثمان وأثنى على أصحابه، ولعن قاتليه، ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، فبلغه أن حجراً يجتمع إليه شيعة علي، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص إلى الكوفة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه - وحجر جالس - ثم قال: أما بعد فإن غب البغي والغي وخيم، إن هؤلاء جموا فأشروا، وأمنوني فاجتروا علىّ، والله لئن لم تستقيموا لاداوينكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر، وأدعه نكالا لمن بعده
ثم أرسل إلى حجر يدعوه وهو بالمسجد، فقال له أصحابه لا تأته ولا كرامة، فرجع الرسول فأخبر زياداً بذلك، فأمر صاحب شرطته أن يبعث إليه جماعة، ففعل فسبهم أصحاب حجر، فجمع زياد أهل الكوفة وقال لهم أتشجون بيد وتأسون بأخرى، أبدانكم معي وقلوبكم مع حجر الأحمق، هذا والله من دحسكم، والله لتظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم. فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأي إلا طاعتك وما فيه رضاك. فقال لهم: فليقم كل رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله، ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه، ثم بعث زياد صاحب شرطته إلى حجر وأمره أن يشد عليه وعلى أصحابه بالسيوف إن لم يتبعوه، فأتاه صاحب الشرطة يدعوه فمنعه أصحابه من إجابته، وحصل بين الفريقين قتال لجأ بعده حجر إلى داره، ثم انتقل منها إلى دور بعض أهل الكوفة يحتمي بها، ولما ضاق عليه الأمر أرسل إلى محمد ابن الأشعث الكندي ليأخذ له من زياد أماناً حتى يبعث به إلى معاوية، فجمع محمد جماعة ودخلوا على زياد فاستأمنوا له على أن(568/22)
يرسله إلى معاوية فأجابهم، فأرسلوا إلى حجر فحضر عند زياد، فلما رآه قال: مرحباً بك أبا عبد الرحمن، حرب في أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس، على أهلها تجني براقش. فقال حجر: ما خلعت طاعة، ولا فارقت جماعة، وإني لعلي بيعتي. فقال زياد: هيهات هيهات يا حجر، تشج بيد وتأسو بأخرى، وتريد إذا أمكن الله منك أن ترضى، كلا والله. فقال حجر: ألم تؤمني حتى آتى معاوية فيرى في رأيه؟ فقال زياد: بلى قد فعلنا، انطلقوا به إلى السجن
ثم بعث زياد إلى أصحاب حجر حتى جمع منهم أثنى عشر رجلا في السجن، ودعا رؤساء الأرباع وهم عمرو بن حريث وخالد بن عرفطة وقيس بن الوليد وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وقال لهم: اشهدوا على حجر بما رأيتم منه، فشهدوا أن حجراً جمع إليه الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه وأمره
وقد نظر زياد في شهادتهم فقال: ما أظن هذه الشهادة قاطعة، وإني لأحب أن تكون الشهود أكثر من أربعة. فكتب أبو بردة شهادة غيرها قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة، وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء. فقال زياد: على مثل هذه الشهادة فاشهدوا، أما والله لأجهدن على قطع خيط عنق الخائن الأحمق. فشهد عليها سبعون شاهداً من وجوه أهل الكوفة
ثم بعث زياد بحجر وأصحابه إلى معاوية ومعهم الشهادة، فحبسهم بمرج عذراء، وكتب إلى زياد: أما بعد فقد فهمت ما اقتصصت به من أمر حجر وأصحابه، وشهادة من قبلك عليهم، فنظرت في ذلك، فأحياناً أرى قتلهم أفضل من تركهم، وأحياناً أرى العفو عنهم أفضل من قتلهم، والسلام
فكتب إليه زياد: أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت رأيك في حجر وأصحابه، فعجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم، وقد شهد عليهم بما قد سمعت من هو أعلم بهم، فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردن حجراً وأصحابه إلي(568/23)
فلما قرأ معاوية كتابه أمر بقتل حجر وسبعة من أصحابه، وعفا عمن بقى منهم بشفاعة بعض أصحابه من قومهم، وكان مالك بن هبيرة السكوني قد قال لمعاوية: يا أمير المؤمنين دع لي ابن عمي حجرا. فقال له معاوية: إن ابن عمك حجرا رأس القوم، وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصرى، فيضطرنا غداً إلى أن نشخصك وأصحابك إليه بالعراق. فلما قتل معاوية حجرا اعتزل مالك معاوية في منزلة، فأرسل إليه معاوية أن يأتيه فأبى فبعث إليه بمائة ألف درهم، وقال له: إن أمير المؤمنين لم يمنعه أن يشفعك في ابن عمك إلا شفقة عليك وعلى أصحابك أن يعيدوا لكم حرباً أخرى، وإن حجر بن عدي لو قد بقى خشيت أن يكلفك وأصحابك الشخوص إليه، وأن يكون ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر. فقبلها وطابت نفسه، وأقبل إليه من غده في جموع قومه حتى دخل عليه ورضى عنه
ولكن كثيراً من الناس لم يقبلوا هذا العذر من معاوية في قتل حجر وأصحابه، وأنكروا عليه هذا الحكم إنكاراً شديداً، وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لولا أنا لم نغير شيئاً إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر، أما والله إن كان ما علمت إلا لمسلماً حجاجاً معتمراً. وقد رثته هند بنت زيد الأنصارية وكانت تشيع فقالت في رثائه:
ترفع أيها القمر المنير ... تَبصَّر هل ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير
تجَبَّرتْ الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق والسدير
ألا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير
فإن يهلك فكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير
والذين لا يعذرون معاوية في قتل حجر يرون أن ما حصل منه لا يحل به سفك دمه، لأن دم المسلم حرام ما لم يرتد عن دينه أو يسفك دم غيره، وقد حملوا في ذلك آية الحرابة على خلاف ظاهرها، وهي قوله تعالى في الآية - 33 - من سورة المائدة (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فذهبوا إلى أن أوفى هذه الآية للتفصيل لا للتخيير، وعلى هذا يكون جزاء أولئك(568/24)
المحاربين أن يقتلوا إذا قتلوا، وأن يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، وأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا، وأن ينفوا من الأرض إذا أخافوا الناس ولم يأخذوا مالاً ولم يقتلوا
ولا شك أن هذا كله خلاف ظاهر الآية، ولهذا ذهب كثير من السلف إلى أن أوفيها للتخيير لا للتفصيل، فيكون ولي الأمر مخيراً في هذه العقوبات يجتهد فيها على ما تقتضيه مصلحة الدولة، ولا يتقيد فيها بتلك القيود السابقة، وقد أخذ معاوية بهذا في حكمه على حجر، ورأى أنه أمام فتنة إذا لم يأخذ فيها بأقصى العقوبة استطار شرها، ويكون في ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر وأصحابه، وقد كان له أن يأخذ في ذلك بأخف هذه العقوبات وهو النفي من الأرض، ولكنه استعمل فيه حقاً أباحه له الله تعالى، وله في ذلك اجتهاده الذي يعذر فيه ولو كان خطأ، ولو أنه استعمل في ذلك أخف هذه العقوبات لكان أولى وأحسن
وكان على حجر وأصحابه أن يتعظوا بتلك الفتن التي ذهبت فيها دماء من لا يحصى من المسلمين، وقتل فيها خليفتان من الخلفاء الراشدين، وأن يسعهم في ذلك ما وسع من كان أعلى منهم مقاماً، وأعظم شأناً، وأقوى كلمة، من كبار المهاجرين والأنصار، وزعماء قريش وغيرها من القبائل، وما كان لهم أن يتكلموا وقد سكت الحسن والحسين وابن عباس وابن الزبير وابن عمر وغيرهم ممن يجب أن يرجع إليهم في ذلك الأمر، ولا يذكر حجر وأصحابه بجانبهم، لأنه لم يكن لهم فيه ناقة ولا جمل
وقد يقال إن حجراً وأصحابه كانوا على حق في ثورتهم للعن علي رضي الله عنه، ولكن حقهم في ذلك يضيع بما كانوا يذهبون إليه من لعن عثمان ومعاوية، وقد كان منهم عمرو بن الحمق الذي كان يزعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص معه، على أم كثيراً من المؤرخين ينكرون ما روى من أن بني أمية كان يلعنون علياً على المنابر، وقد ذكر من روى ذلك أن الحسن طلب إلى معاوية في صلحه معه أن يكف عن شتم علي فلم يجبه إليه، فطلب ألا يشتم وهو يسمع فأجابه إلى ذلك ولكنه لم يف به، ولا ادري كيف يعقل هذا مع أن معاوية كان قد جعل الأمر بعده للحسن، وما أطن الذي كان يتلى على المنابر يتعدى لعن قتلة عثمان، فكانت شيعة علي ترى أنهم يقصدونه بذلك، وكان يؤلمهم ذلك اللعن، لأن كثيراً(568/25)
منهم اشترك في ذلك القتل
عبد المتعال الصعيدي(568/26)
على هامش النقد
من الشعر الجديد
للأستاذ محمد محمود رضوان
يأبى شعراء الشباب الذين يحمل عليهم الأستاذ الكبير (ا. ع)، ويأبى الذي ينافحون عنهم من الشيوخ أن يقروا هذه الحملة إلا أن تكون مدعومة بأمثلة من هذا الشعر توضح نهجه وتكشف عواره إن كان فيه عوار
والأستاذ (أ. ع) يأبى ذلك ولا يرضاه، ولعل عذره أنه لا يهاجم أشخاصاً، بل يريد إصلاحاً فما به من حاجة إلى إثارة شاعر بعينه أو تجريحه
وللأستاذ في ذلك رأيه، ولكن هاهو ذا شاعر من شعراء الشباب يقدم نفسه، ويعرض على الأستاذ الكبير قصيدة من شعره - لعلها من أحسن بضاعته - ثم يسأله رأيه في هذا الطراز من شعر الشباب
وما على الأستاذ الكبير لو أجابه؟ إنه لم يفعل. حينئذ رأيت - وأنا ممن يضيقون بهذا الشعر الجديد - أن أكفيه الجواب، وأتولى عنه بعض ما أشركه فيه من رأي في هذا الشعر
أما هذه القصيدة فهي (أين الطريق)، وصاحبها هو الشاعر الشاب الأستاذ علي شرف الدين
- 1 -
وقبل أن نناقش القصيدة يجدر بنا أن نتساءل، أهي من الشعر الجديد حقاً حتى يمكن أن نتخذها أنموذجا ننتهي من دراسته إلى الحكم لهذا الشعر أو عليه؟ أو بعبارة أخرى هل يرضى شعراء الشباب الذين يحوم حولهم النقاش أن تمثل هذه القصيدة مذهبهم الجديد؟
أما أنا فأرى أنها جمعت القديم والجديد معاً. أخذت من القديم شيئاً ومن الجديد أشياء، هي من القديم في وحدة موضوعها، ومن النادر أن ترى قصيدة في هذا الشعر الجديد تدور حول موضوع مؤتلف تتسلسل أفكارها وتتواكب معانيها لبلوغ هدف واحد، بل إنك ترى القصيدة - من هذا الشعر - فجوات لا اتساق بينها، يطرق الشاعر معنى ثم يوغل فيه بأنماط من التشبيهات والاستعارات المعتسفة والأخيلة البعيدة حتى لتخرج منه بفكرة مشوهة غير محدودة، ثم ينتقل بك إلى آخر لا يمت إلى سابقه بوشيجة وهكذا دواليك، حتى(568/27)
تنتهي من القصيدة، التي قد تبلغ المائة من الأبيات - وما ظفرت منها بهدف أو عرفت بين أفكارها نسباً
أما قصيدتنا فهي إلى القديم أقرب من هذه الناحية، تفهم من عنوانها (أين الطريق) ما في نفس الشاعر من حيرة. يبدؤها بيأس من الحياة جره عليه احترافه الأدب، ثم يمضي في وصف هذا اليأس وكيف أدرك قيمة الحياة فنفض منها كفه ومات شعوره فما يحس فرحا أو حزناً، ثم يخاطب أمه وأباه فيشكو إليهما أساه وحاله اليائسة، ويتساءل أذلك من غضبهما عليه أم لكثرة ذنوبه؟ ويذكره ذلك بأيام الصبا في كنفهما فيتحسر على تلك الأيام الذواهب، كما كان يتحسر عليها الأقدمون من الشعراء، ثم يذكر همته التي طمحت إلى المجد فكبا دونه سالكا في ذلك سبيل الاستعارة، فإذا المجد جبل مرهوب المغاور أملى الشباب عليه أن يرقاه ولا زاد له إلا الأعصاب والفصحى فتمزقت كفه ودميت قدماه، ولكن لا عجب فقد تكشفت له محنة الأكفياء ونكبة الأدباء في هذا البلد العجيب
- 2 -
ولو أنك نظرت إلى هذه المعاني التي طرقها الشاعر لم تجد فيها شيئاً جديداً يمكن أن نعده من سمات الشعر الجديد إلا انتحاءها ناحية اليأس المرير يطالعك في مطلع القصيدة ويصاحبك في كل بيت من أبياتها حتى تأتي على آخرها
عافى الله الأستاذ حبيب الزحلاوي إذ يقول (إن الشعر روح وإن الحياة الشعرية التي لا تفيض بالنعمة ولا تشيع السرور بالنفس والفرحة بالوجود ليست بحياة)
وأي أمل نرجوه في شعر يدعو إلى اليأس ويثبط الهمة ويجعل الدنيا ليلاً حالكا
لم يبلغ الأمل البعيد ... فمال لليأس القريب
أصبحت رسماً حافلاً ... باليأس والصمت الرهيب
هذه النغاصة التي تفيض على القصيدة من أولها إلى آخرها هي من أبرز سمات الشعر الجديد. كأن الشاعر لا يعرف قدره إلا أن شاع في شعره اليأس والحزن والأسى
نعم. . . لقد ردد القدماء بؤس الأديب وشقاء من أدركته (حرفة الأدب) ورأينا هذا المعنى كثيراً في شعر الخريمي وأبي تمام وأبي العلاء ولكننا لم نر منهم شاعراً يناقض شعره حياته ويقول غير ما يحس، لم نر منهم من كان في حياته راضياً وفي شعره ساخطاً كما(568/28)
نرى في هذه الأيام. بل رأينا من كان في حياته وشعره راضياً كأبي نواس، أو فيهما ساخطاً كأبي العلاء. أما التلفيق بين رضا الحياة وسخط الشعر فبدع لم نره إلا عند سادتنا شعراء هذا الزمان
إنك لترى الشاعر في أيامنا هذه وحياته كلها مرح ولهو ومجون وانبساط، فإذا أمسك القلم لينظم رأيت الدموع والحسرات واليأس المر كأنه لا يكون شاعراً إلا إذا ركب زورقاً من الأحزان في بحر من العبرات
إن شاعراً كعبد الحميد الديب - رحمه الله - إذا شدا في شعره بالبؤس والشقاء فلا بدع، لأنه كان بائساً شقياً فهو يصور حاله التي يعانيها، ويصف حياته التي يقاسيها - وهذه هي مهمة الأدب
أما شاعر كطاهر أبو فاشا - وهو معروف بمرحه ولهوه وازدحام حياته بأساليب المزح والدعابة - فلن نقبل منه هذا الشعر القاتم الحزين الذي تلمحه حتى في عنوان ديوانه (الأشواك) فتحس منه الوخز وتلمس الدماء. . . وما أحسب هذا الشعر إلا أثراً من آثار التقليد بين شعرائنا المحدثين من الشبان. سرى فيهم فسموا دواوينهم (ألحان الألم) و (الدماء) وغير ذلك من الأسماء
نعود إلى قصيدتنا فنقول إنها خالفت الشعر الجديد أيضاً في وضوحها. فليس فيها فكرة غامضة كهذه الأفكار التي يكتظ بها هذا الشعر، وعجيب من الأستاذ البشبيشي أن يضع هذا الغموض بجانب ما في شعر أبي تمام والمتنبي والمعري وابن هاني وشوقي والزهاوي من عقد في الخيال حيرت الباحثين أزماناً
شتان يا سيدي ما بين غموض منشؤه عمق الفكرة ودقة التصور، وغموض منشؤه خطأ الفكرة وفسادها. هذا غامض لأنه يحتمل كيت وكيت من أوجه التأويل والتخريج وكلها صائب. أو لأنه عميق بعيد الغور حتى إذا كشفت عن معناه وأسفر لك وجهه هششت له وانشرح صدرك
أما ذاك فغامض، لأنه لم يبن على أساس من الفكر الصحيح فهيهات أن ينكشف لك فيه وجه - لنه لا وجه له - إلا مع تعسف لا يحتمله اللفظ ولا تطيقه العبارة
هل قرأ أستاذي البشبيشي بيت أبي تمام في الخمر:(568/29)
جهمية الألفاظ إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياء
وهل الفكر أي مذاهب يريد؟ وهل قرر ما يحتمله البيت من تأويل وتخريج؟ وهل تذوق النشوة التي يتذوقها من يتكشف له وجه يرضيه من قصد أبي تمام بهذا البيت؟
وهل قرأ قوله:
هن عوادي يوسف وصواحبه ... فعزماً فقدما أدرك النجح طالبه
وفكر في هذا الغموض ما مصدره؟ وهل بنى على أساس صحيح أم فاسد؟
ومع هذا فإن أبا تمام لم يسلم من الملامة بسبب هذا الغموض الذي له وجه، فكيف تريدنا على أن نرضى من شعرائنا الجدد غموضاً ما له وجه؟ بل ولا عين!
(البقية في العدد القادم)
محمد محمود رضوان(568/30)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
553 - أحق الناس بستر هذا الشعر أنت
قال أبو الفرج: تقدم رجل إلى عبيد الله بن الحسن ابن الحصين بن أبي الحر وهو قاضي البصرة مع خصم له، فخلط في قوله، فتمثل عبيد الله بقول أبي الأسود:
يصيب وما يدري ويخطي وما درى ... وكيف يكون النوك إلا كذلكا
فقال الرجل: إن رأى القاضي أن يدنيني منه لأقول شيئاً فعل، فقال له: ادن. فقال له: إن أحق الناس بستر هذا الشعر أنت، وقد علمت فيمن قيل (وكان قد قيل في جد عبيد الله) فتبسم عبيد الله وقال له: إني أرى فيك مصطنعاً فسر إلى منزلك وقال لخصمه: رح إلى فغرم له ما كان يطالب به
554 - اعتاد بدني ما نعتاد وجوهكم
في (الكامل): يروي عن الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزير في يوم قر في مشيته، فقال له: ممن أنت يا مغرور؟ فقال أنا ابن الوحيد أمشي الخيزلي، ويدفئني حسبي. وقيل لآخر في هذه الحال: أما يوجعك البرد؟ فقال: بلى (والله)، ولكني أذكر حسبي فأدفا. وأصوب منهما قول العريان الذي سئل في يوم قُر عما يجد، فقال: ما على منه كبير مئونة، فقيل: وكيف؟ فقال: دام بي العرى فاعتاد بدني ما تعتاد وجوهكم.
555 - إذا شكر انصرف
كان الزمخشري في جوف الكعبة مشغولاً بتأليف الكشاف، فجاء الإمام عمر النسفي، وقرع باب الكعبة. فقال الزمخشري: من على الباب؟ فقال النسفي: أنا عمر
فقال الزمخشري: إذا نُكرَ صُرف
556 - فلسنا نتكلم لوجه الله خالصا
قال أبو حيان التوحيدي: سمعت الشيخ أبا حامد (الأسفرايني) يقول لطاهر العباداني: لا تعلق كثيراً لما تسمع مني في مجالس الجدل، فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته، فلسنا نتكلم لوجه الله خالصاً، ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى(568/31)
الصمت أسرع من تطاولنا في الكلام، وإن كنا في كثير من هذا نبوء بغضب الله (تعالى) فأنا مع ذلك نطمع في سعة رحمة الله(568/32)
من خريف الربيع
(إلى حمامة أبريل!. . .)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ذَهَبْتُ للرَّوضِ في صَباحِ
مُقيِد اللَّحن، والجناحِ
وفيه ما فِيَّ من أَغانٍ
مَطلُولةِ الشدو بالجراحِ
أَوتارُ أَطياره سُكارَى
يَعْزِفنَ وَجْدَ المحب نارا
سعيرُها خمرةُ الحيارىَ!
حَثَّتْ إليه الرُّؤَى خُطاها
وخلفها انسابت الدُّموعُ!
سِيَّانِ في قَبضةِ الريِّاحِ
شوْكُ الجلاميدِ، والأقاحي
فكم رحيقٍ بلا دِنان!
وكم دتان بغير راحِ!
وكم رَبيع لنا تَوارَى
تَوَدُّ لو كانت العذارَى
لِسِحْره الغائب انتظارا
ماتتْ لياليهِ في صِباها
فهل لأحلامها رُجوعُ؟!
وكم خريف بلا زهور
ولا أغان، ولا طيور
يلوحُ مُسْتَيقْظ الشُّعور
كأن، فجراً عليه سارا(568/33)
مُتَيَّمَ النُّور مُستطارا
كمشوة حَلَّتِ العِذارَا
ونغمة رقرقت شجاها
ومالها في الرُّبى سميعُ!
رأيتُ عُشا على خميل
كمهجة جَمَّة الغَليل
رَيَان بالنوْحِ والعَويل
هديله في الصباح طارا
فضج للدوح واستجارا
ناحَتْ بأشواقه جِهارا
حمامة مَزَّقَتْ حشاها
وخان أحلامَها الرَّبيع!
وأنَّ تحتَ الظلال جدولْ
يجري. . . ولكنه مُكبَّلْ
كخاطر في دمي تَنقَّل
إن قلت: أقبِلْ! أرى نفارا
أو قلت: أبعِد! دنا مَزارا
كطائر في الشِّبَاك ثارا
وأنَّه في الحشا طواها
سجن يُسمونه الضلوع!
حزينةٌ أنت يا ظلالُ؟
أم فيك نفسٌ بها ملالُ؟
أحاطَنا الحَبُّ والجمالُ
وأنتِ مثلي كَتمتِ نارا
وتنُفضينَ الأَسى عِطارا(568/34)
لبستِ من حَيْرَتي دثارا
ولُحتِ ثَكلَى تُريدُ فَاها
يبكي به قَلبها الصديُع!
وأنتَ يَأُّيها الحزينُّ
يا شاعراً شَفَّه الحنينُ. . .
ألْقَى مَزَاميرَكَ الأنين
في ظُلْمة لم تجدْ نهارَا
فَدَفَّ إنشادُها ودَارَا
كَغُرْبة ضلَّت الدِّيارَا
فَطَنبتْ في الِرُّبى أساها
والرَّوض من حولها خليعُ!!(568/35)
البريد الأدبي
8 - الشعر الجديد
أوضحت في هذه الأحاديث آرائي في (الشعر الجديد) مطلقة صريحة. وكانت قد تجمعت لدي من مطالعات طويلة. وكنت أهم أحياناً بتقييدها، وأنساها أحياناً، حتى كان أن فتح (الأستاذ الجليل) هذا الباب. فلممت شعث ما تفرق منها في ذاكرتي، وجهرت بها مستهدفاً وحدي لغضب الغاضبين؛ فإن جلة النقاد آثروا العزلة، واعتصموا بالسكوت، لما قدمت في كلمتي الأولى. ولقد وددت لو كنت قد خرجت من الإجمال إلى التفصيل؛ ولكني جانبت الأشخاص، لما أسلفت، وعمدت إلى (المدرسة) - كما يعبر الآن - وهي تجمع ما تفرق من خصائهم، وتضم شتات مميزاتهم
ولا شك عندي أن الذين تتبعوا كلماتي وتأملوها في إنصاف وعدل، قد أدركوا أي صنف أعني من الشعراء، وأي نوع تنظم هذه الصفات التي عنيت ببسطها، وجهدت في تحديدها - فلا يغالطن معالط بعد هذا - أني أعني فلاناً أو فلاناً من شعرائنا ذوي المكانة فينا، أولئك الذين أجمعنا على تمجيدهم، لا الذين يتلمسون شهرتهم بين فئة قليلة من المعجبين
والآن آن أتحدث إلى الكاتب الفاضل الأستاذ دريني خشبة في بعض نقداته، كما وعدت أن أفعل
قال الأستاذ: (لقد أنكر الأستاذ جميع الشعر العربي بعد البارودي وشوقي وحافظ. . . وأشفق من الشعراء الشيوخ الإجلاء الذين لا يزالون على قيد الحياة، والذين يعتز بهم الشعر العربي. . . الخ)
أقول: يشير الأستاذ إلى مقالي بالرسالة. فقد قصرته على هؤلاء العلية الأمجاد، وضممت إليهم صبريا - وإن كان كثير غيري لا يذكرونه في حلبتهم - لأوجه من الشبه كثيرة بينه وبينهم. وقد رجعت إلى هذا المقال، فإذا هو خلو من هذا الإنكار. ولعله توهمه من قولي: (فلما خلا الميدان من هؤلاء الفرسان، ودالت أيامهم، سدلت على المسرح الستارة. ثم عادت فارتفعت. فإذا مشهد عجب، وإذا الحال غير الحال، وإذا نحن أمام فوضى النظم والنظام. . . الخ) فهذا يا سيدي لا يدل بمنطوقه ولا بمفهومه - فيما أدرك أنا - على أنه لم يكن بيننا إذ ذاك شعراء من الطبقة الأولى، بدليل قولي: (فوضى النظم والنظام)؛ فإن كلمة (النظام)(568/36)
إنما تطلق في العرف العام على القارضين الذين ينظمون ولا يشعرون؛ فهذه الفوضى لا نعرفها في أثناء حقبة شعرائنا هؤلاء. وإنما شاعت بعدهم هذا الشيوع الذي نلمسه الآن. أما قولي: (إن تلك الحقبة لا تعبر إلا عنهم وحدهم، وإن نجم بينهم من يعترف لهم بالاقتدار رسمو الشاعرية)، فدليل آخر يشهد لي. ومعنى كون تلك الحقبة لا تعبر إلا عنهم وحدهم، أن لهم ميزات اشتركوا فيها جميعاً، فأفردتهم بين شعراء جيلهم. فهم فصل قائم برأسه في تاريخ الشعر الحديث. وهكذا يجب أن يكون في تاريخ الأدب المصري
على أني مع ذلك عند عقيدتي الثابتة فيهم - وهي عقيدة جمهرة المتأدبين في العالم العربي - تلك هي أنهم لا يزالون يتسنمون المكانة الأولى بين الشعراء لهذا العهد. والفلك الدوار قد يجود بأمثالهم وبأعظم منهم. فليرقب الفلك الدوار
وقال الأستاذ الفاصل: (أمن العدل أن يحدثنا عن قصيدة لم نرها، لنحكم إن كان إنكاره منها ما أنكر حقاً، أو ليس من الحق في شيء؟ وهل من العدل أن يجحد شعراء الشباب عامة، لأن تلك القصيدة لم ترقه؟)
أقول: ليرجع الأستاذ إلى مقالي الأول خاصة، ومقالاتي بعد ذلك، ليرى أبان أنا أحكامي جميعاً على تلك القصيدة وحدها؟ وليراجع سيدي المقال الذي تعرضت فيه لهذه القصيدة، ولينظر ما قلت هناك. وإذا كان الأستاذ يحكم هذا الحكم من غير أن يقراً كلامي حق القراءة، فما حيلتي؟ وما حيلتي أيضاً أن يسيغ أن يكتب مثلي سبعة أحاديث مستنبطاً آراءه فيها من قصيدة واحدة؟
وهل في كلامي ما يشير أو يدل على أني (أجحد شعراء الشباب عامة؟) لا يا سيدي. إني حكمت على فئة كبيرة تسنى لها - بعوامل مختلفة - أن تنشر شعرها بين ظهرانينا. وهو شعر هزيل في ألفاظه وتراكيبه ومعانيه. فليس معنى هذا ألا يكون من بين شعراء هؤلاء الشباب ما يستجاد أو يستملح. ولولا أني لزمت الصمت عن الأشخاص في هذه الأحاديث لمثلت
أما (نبش قبور الموتى) و (سرقة أكفان النائمين تحت التراب). . . الخ. فهذه ألفاظ معادة، نسمعها دائماً في معرض الازدراء بالقديم أو التنفير منه. فنضرب عنها صفحاً
وقال الأستاذ أيضاً من مقال آخر: (وخامسة الأثافي، أو داهية الدواهي، ما وقعت فيه من(568/37)
أسبوعين من الخطأ الشنيع فقد ذكرت في كلمتي. . . طائفة غير قليلة من الشعراء الشباب في مصر، على أنهم بعض من يمثل شعرنا الحديث. وكان هذا الخطأ سبباً في إثارة بعض هؤلاء الشعراء أنفسهم، فقد ساءهم أن تحشر أسماؤهم على هذا النحو الزري في ذلك الثبت الطويل من أسماء الشعراء). ثم قال: (ولكن المضحك في هذا الأمر غلو بعض من نقموا مني ذكر أسمائهم في ثبت الشعراء هؤلاء! لقد أٌقبل أحدهم ثائراً كالعاصفة، ونكش شعر رأسه (نكشة) أفزعتني، ولست أقول إلا الحق! ثم راح يتهمني بأني أناقض نفسي حين أعلن استجادتي لشعر هؤلاء (أل. . .). ثم قال: (والظريف أن الذين أنكر عليهم صديقي (العاصفة) شاعريتهم، كانوا شعراء من الطبقة الأولى عند صديق آخر سعى إلي ليعلن احتجاجه للسبب نفسه. . . الخ.)
هذا ما رأينا اقتباسه ضرورياً من كلامه
فانظر إلى هؤلاء الشعراء كيف ينكر بعضهم شاعرية بعض على هذه الهيئة الغريبة!
وهل بعد تصوير الأستاذ دريني خشبة لهذا المنظر البديع، تحتاج إلى شرح أو تعليق؟
(انتهى الحديث)
(ا. ع)
جائزة أدبية
في عدد المقتطف الصادر في شهر مايو نشر الشاعر بشر فارس قصيدة عنوانها (إلى زائرة)
قرأت القصيدة، ثم قرأتها مرات، ثم أعدت قراءتها في أوقات متفاوتة، وكنت، عقب كل قراءة، أعود بالخيبة من عدم الفهم؟! ولكن هل في أداة تفكيري عطب أو تلف، وقد قرأت وفهمت أكثر ما نشر في ذلك العدد من المقتطف من بحوث في العلم والفلسفة والأدب؟
يحسن بي إذن أن أشرك قراء الرسالة معي في قراءة هذه القصيدة وأتعهد بجائزة مالية قدرها خمسة جنيهات مصرية، أدفعها إلى من يستطيع فهم معاني تلك القصيدة وشرحها، ولا أستثني قراء العربية في سوريا ولبنان وفلسطين والحجاز والعراق، وقد أودعت المبلغ في إدارة الرسالة. وهذه هي القصيدة:(568/38)
إلى زائرة
لو كنتِ ناصعة الجبين ... هيهات تنفضني الزياره
ما روعة اللفظ المبين؟ ... السحر من وحي العباره
ظِلّ على وهَج الحنين ... رَسمته معجزة الإشاره
خطٌّ تساقط، كالحزين، ... أرخى علىِ العزم انكساره
ماذا بوجّد المحصَنين؟ ... صوت شجٍ خلف الستاره
غيَّبتِ في العجب الدفين ... معنى براعتِه البكاره
درَّا يفوت الناظمين ... ونهضت تهَديني بحاره
خطوات وسواس رزين: ... وهبٌ تُعمِّيه الطهاره
(بشر فارس)
حبيب الزحلاوي
حول مزايا الخط العربي
مما رزئت به هذه اللغة الكريمة بتأثير من ضعف حماتها، أن أصبحت حسناتها سيئات تعتد عليها
ومن عيوبها عند الكثيرين أنها أهملت في خطها حروف الحركة مستعيضة عنها بالشكل الجزئي، أو الشكل الكامل لمن لا يجيد القراءة، وحجة من يفضلون الكتابة اللاتينية أنها برئت من هذا (العيب) الذي أورث كتابتنا اللبس والغموض
وإن من الطريف المضحك أن يكون صدى هذه الصيحة عندنا، صيحة تقابلها هنالك، يتنادى فيها القوم بحذف حروف الحركة من كتابتهم ضنا بالزمن والورق والمجهود
وإلى القارئ نص عبارة وردت بإحدى المجلات الأمريكية عن هذا الموضوع
(لقد كتب الشيء الكثير حول التهجية المنقحة كوسيلة من وسائل التوفير في المساحة. ومن المحتمل أن تكون هذه خطة جيدة، على أنها ستكون أجود إذا نحن تقدمنا بها إلى مدى أكثر؛ باتخاذ نهج من الاختزال يتوفر به نحو أربعين في المائة من مساحة المكتوب. ولن يكون هذا شاقاً إلى الحد الذي تعتقد، لأنك تستطيع بلا شك أن تتلو هذه العبارة. أليس(568/39)
كذلك؟) وكتبت المجلة العبارة على هذا النسق من الهجاء:
. .)
وهذا نص الجزء الأول مما ترجمناه؛ وإذا نحن أعدنا كتابته على الوضع الذي يكتب به في الإنجليزية اليوم، جاء هكذا:
ويرى القارئ مبلغ الاقتصاد في الطريقة الأولى؛ ويتضح من الإشارة باستعمالها أن القوم قد بدءوا يتلمسون أسلوباً في التهجية كأسلوبنا، يحذفون منه حروف الحركة. أفلا يحق لنا بعد كل هذا أن نستمسك بما نحن عليه، وندع القوم وكتابتهم يبقون عليها أو يصلحونها. وحسبنا من شر سماعه؟
(جرجا)
محمود عزت عرفة
شعر ناجي
في العدد السابق كلام عن شعر ناجي هو صدى لذلك التطاحن القديم الذي لا نؤثر له أن تشب ناره بعد أن خمدت بين الشعراء والشعراء وبين الشعراء والنقاد وبين النقاد والنقاد. . . وأبغض شيء إلي أن أكون من موقدي تلك النار أو أن أتسبب في إيقادها. . . ورجائي أن يتقي الله الذي يحاولون - قاصدين أو غير قاصدين - إيقاد تلك الفتنة من جديد، لأنها تضر الأدب ولا تنفعه، فرب نقد أو اتهام لا يعدو أن يكون تجنياً، يقضي به الناقد أو المتهم على روح الأديب. . . أما الاتهام بالسرقة في مثل تلك السهولة وفي مثل ذلك اليسر فهو من الظلم الصارخ الذي يحسن أن نجنب أنفسنا الوقوع فيه. . . وقد تفضل أحد الأدباء في العدد الأسبق، فرد أحد أبيات ناجي التي راقتنا حتى عدلناها بألف بيت من جيد الشعر إلى الشاعر صر در حيث يقول:
ناضلنا بنوافذ مسمومة ... وودت لو قبلت سهم الرامي
وبيت ناجي هو:
ومن عجب أحنو على السهم غائراً ... ويسألني قلبي متى يرجع الرامي!(568/40)
ولو ألقى الأديب الفاضل باله إلى أن لحاظ الحبيب لا يحسن بل لا ينبغي أن توصف بأنها مسمومة (!) لأن السم والعياذ بالله لا يكون إلا في رؤوس الأفاعي وأذناب العقارب واليعاسيب والزنابير والنمل، لفطن إلى ناحية الضعف في بيت صر در
ولو أراد الأديب الفاضل أبياتاً أقرب إلى بيت ناجي، وهو مع ذاك يفضلها جميعاً، لوضعنا بين يديه الأبيات الآتية: لابن الرومي:
فيسبيك بالسحر الذي في جفونه ... ويصيبك بالسحر الذي هو نافثه
يحن إليه القلب وهو سقامه ... ويألف ذكراه الحشي وهو فارثه
وللبحتري:
أين التي كانت لواحظ طرفها ... يصبو إليها القلب وهي سهام
إن مت من أسف لشط مزارها ... فالموت روح والحياة حمام
وللسري الرفاء:
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية والسلام
وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حد الحسام
وله أيضاً:
وقد فوقن بالألحاظ نبلاً=قلوب العاشقين لها رمايا
تمنينا اللقاء فكان حتفا ... وكم أمنية جلبت منايا
وكنا قد أعددنا مائة بيت أو تزيد كلها تدور حول معنى بيت ناجي فإن أحب الأديب الفاضل أرسلناها إليه. . . وسيفضل معنا بيت ناجي عليها جميعاً، لأن ناجياً في غنى عن أن يسرق من أحد، لأنه يصور بروحه ودمه، وله ثقافة وحسن اطلاع يغنيانه عن صر در القديم وصرر درر العصر الحديث. وقد آن لنا أن نعدل.
(د. خ)(568/41)
العدد 569 - بتاريخ: 29 - 05 - 1944(/)
الشعر والدبابات
للأستاذ عباس محمود العقاد
الآراء في الأدب والشعر كثيرة يضل القارئ المبتدئ بينها فلا يدري أيها المصيب وأيها المخطئ ولا يسهل عليه الفصل بين الأصيل منها والدخيل
ولكنني - على تبعتي كما يقولون في لغة السياسة - أقرر هنا قاعدة مضمونة الصواب، يستطيع أن يعتمد عليها من شاء فيصون وقته ويريح نفسه من العناء، وهي: أن أقرب الآراء في الأدب والشعر إلى الخطأ هو الرأي الذي يفرض على الأديب موضوعاً لا يعدوه، ويوجهه إلى مطلب ينحصر فيه، كائناً ما كان ذلك الموضوع من جلالة القدر، وبالغاً ما بلغ ذلك المطلب من سعة الأفق
فالأدب تعبير عن الحياة
والحياة أكبر من أن تنحصر في غرض واحد أو تعتكف على سنة واحدة، فليس أوسع من شعور الأحياء بالحياة، وليس أوسع من تعبير الشعراء والكتاب عنها
خطأ أن يقال للأديب أنك مطالب بالكتابة في شئون السواد الجاهل ومحرم عليك أن تخط شعراً أو نثراً لا يفهمه هؤلاء، لأن صعود الجاهل إلى طبقة العارف أكرم وأجدى على بني الإنسان من نزول العارف إلى طبقة الجاهل
وخطأ أن يقال للأديب إن مسائل العيش هي موضوع الكتابة الوحيد في هذا الزمان أو في أي زمان. لأننا نكرم الأديب ولا نرحم الفقير بهذا المذهب. فليس من الكرامة للأدب أن يكون فرعاً ملحقاً بالمطاعم والأفران، وليس من الرحمة للفقير أن يقضي نهاره في الكدح للعيش ثم يتناول كتاباً ليقرأه فإذا هو أيضاً كدح للعيش من طريق البصر والبصيرة
وخطأ أي يقال للأديب إنك مقيد بأقاليمك فلا تكتب حرفاً يخرج بك من نطاق ذلك الإقليم. لأن غارس البصلة - ودع عنك الأدب - لا يقول لها وهو يغرسها: كوني إقليمية ولا تشبهي البصلة التي تنبت في خارج هذا الإقليم. ولكنه يغرسها وتخرج هي على ما تشاء لها التربة والنور والهواء، ولا نظن البصلة أقدر على الاستقلال (بالتكيف) الإقليمي من الفكرة الإنسانية. فمن كتب في مصر فلن تكون كتابته إلا مصرية ولو كان موضوعها قطب الشمال أو قطب الجنوب، ولن يصبح الأدب الذي يكتبه النرويجي المصري الإقليم(569/1)
ولو أجراه كله على النيل والأهرام والصحراء
ومنذ مدة شاعت في مصر والشرق العربي بدعة ببغاوية من تلك البدع التي لا يدري قائلها نفسه ماذا يفهم منها وماذا عسى أن ترمي إليه
فقالوا إن العصر عصر مخترعات وحروب فلا موضع فيه للشعر والغزل ولا لتواريخ الشعراء والغزلين!
وتشاء المصادفات أن يلغط اللاغطون بهذه البدعة ومطابع الغرب تلقى بين حين وحين بالدواوين الجديدة والنخب الكثيرة من أشعار القدماء والمحدثين!
هذا وهم أصحاب المخترعات وأول المصابين أو المصيبين بحروب الطيارات والدبابات
بل تشاء المصادفات أن نرى العشرات من هذه الكتب في مكتباتنا الشرقية، وأن يتصدى المجندون في الجيوش الأوربية بيننا لطبع النشرات الدورية، فإذا هي حافلة بالحديث عن الشعر والأدب والجد والفكاهة، وإذا هي خالية أو تكاد تخلو من تلك الموضوعات التي يخيل إلى أصحاب البدع الببغاوية أنها دون غيرها موضوعات الكتابة في عصور الحروب والمخترعات
ولكن المصادفات قد شاءت في هذه الأيام مشيئة لم تكن تخطر لببغاء من تلك الببغاوات المسكينة على بال
ففي بريد الشهر الماضي وصل إلينا من لندن كتاب يقول كثيراً بلسان المقال ويقول أكثر من ذلك جداً بلسان الحال.
أي كتاب؟ كتاب مختارات شعرية سماء صاحبه (أزهار أناس آخرين) '
ومن صاحبه يا ترى؟
لتتعب الببغاوات أدمغتها إن كانت لها أدمغة تتعب فما هي بقادرة على تخمينه ولا المقاربة منه
ولكننا نعفيها ونعفي غيرها من جهد التخمين فنقول لهم: إن صاحب هذه المختارات هو المارشال ويفل حاكم الهند العام وقائد الميادين الذي عرفه المصريون وأبناء الأمم العربية في الشرق الأدنى
أي والله هو القائد الكبير بعينه! هو الرجل الذي لا يصنع شيء في ميدان من ميادين(569/2)
الحرب إلا سئل عنه وسمع له رأي فيه، هو الرجل الذي يحرك من الدبابات والطيارات والمدافع أضعاف ما تراه تلك الببغاوات رأي العين من بعيد
تكبره وقعة (النبيوة) في أعين الناس
وتكبره فوق ذلك هذه المختارات التي يرتضيها الأديب الناقد ولا عمل له غير القراءة والكتابة والاختيار
لأن نبوغ القائد في فنه عمل عظيم، ولكنه غير عجيب
أما العظيم والعجيب حقاً فهو نبوغه في الذوق الأدبي ومساهمته فيه بالنصيب الراجح واتساع وقته له في أحرج الأحوال
وذلك هو النبوغ الذي لا تفهمه الببغاوات ولا يفهمه أصحاب البدع ممن لا يصلحون للعمل ولا للكتابة ولا للقراءة، ولكنهم يجلسون في مقاعد المعلمين ليقسموا الأعمال بين الكتاب والقراء والساسة والقواد، وكل من خلق الله وما خلق الله في ملكوت الله!
بين قصائد الكتاب نماذج يقرأها الجندي، ونماذج أخرى يقرأها محب الطبيعة ومحب الأسفار، ونماذج يقرأها العاشق ويقرأها الفتى والعذراء، ومنها في الكتاب مئات تمتلئ بها صفحاته التي تربى على الأربعمائة، وواحدة منها تكفي لسؤال الببغاوات عن مكانها من زمان الطيارات والدبابات، وهي قصيدة توسون عن رسالة الفتاة المحتضرة إلى حبيبها حيث يقول:
(ماذا أقول لحبيب فؤادك الصدوق أيتها الفتاة التي تودع هذه الغبراء؟
(ماذا أقول للحبيب يوم تنضين عنك كساء الحياة؟)
(قولي له: في هذا الجانب من وراء القبر نحن العذارى لا ندري كيف تكون الحياة مرة التناول، ثم تكون بعد ذلك مرة الفراق)
ماذا أقول لحبيب فؤادك الصدوق حين أراه؟
ماذا أقول له وقد أطبقت عينيك على الظلام؟
قولي له حين تفارقين سرير العذراء الذاوية: إنها الآن تراك بنور الضمير وقد عميت العينان
ماذا أقول لحبيب فؤادك الصدوق وأنت تضعفين عن نزر الكلام؟ ماذا أقول له أيتها المقبلة(569/3)
على وادي الحمام؟
قولي له وأنا أجاهد الشفتين بختام كل كلام: إن التي أحبتك أمس بكل ما فيها من حياة تحبك اليوم بكل ما فيها من موت!)
هذا نموذج من نماذج مختلفات في الكتاب، لا حاجة بنا أن نسأل عصر الطائرات والغارات الجوية عنها أو نلتمس لها جواز الدخول فيه، لأن الرجل الذي اختارها له على الأقل حقوق في الطيارات توازن أضعاف الحقوق التي تدعيها الببغاوات الآدمية، لاسيما وهي بحمد الله ببغاوات لا تطير!
وقد جاءنا في البريد نفسه كتاب دوري يسمى (أوربا) يعني بنشر الأنباء الثقافية والاجتماعية عن القارة الأوربية في إبان الحرب الحاضرة، فإذا في صفحاته المختارة صفحة عنوانها (قارة من الشعراء)، ومطلعها يغنى عن سائرها، حيث يقول مقدمها في بضعة سطور:
(إحدى الظواهر البارزة - والمعزية - في هذه الظلمة الدموية أنها حفزت القرائح من كل طراز إلى معالجة القريض. . . وهذه صحف الجيوش المتحالفة تزدحم بشعر الهواة كما تنتشر الصحف السرية في القارة بين الأمم المقهورة، وفيها قصائد لا تحصى يترنم فيها أصحابها بما طلب لهم من نغمات التحدي والصبر على البلاء)
هذه الحقائق التي نلفت إليها الأنظار من حين إلى حين هي أنفع الحقائق الأدبية لقراء العربية في هذه الآونة
لأننا قد برمنا بعصر الجمود ورجونا أن تسرع الخطى في عصر الطلاقة والتجديد
وما هو الجمود في لبابه؟
هو ضيق الأفق أو هو حصر الحياة في نطق محدود
وهذا الجمود بعينه هو الذي يتخبط فيه ببغاوات البدع، وهم يحسبون أنهم مجدون وأنهم يخرجون بالشرق المسكين إلى زمان غير زمان الجمود
هذا الضيق الوبيل هو الذي يستقرون فيه أو يرجعون إليه حين يقولون ويعيدون: نحن في عصر العلم فدعونا من الأدب! نحن في عصر النار والحديد فدعونا من الفن والجمال! نحن في عصر الطيارات فدعونا من القصائد والشعراء! نحن في عصر الحقيقة فدعونا من(569/4)
الخيال!
وحقيقة الحقائق الكبرى أن العصر الذي يحصر الحياة في نطاق واحد هو أخبث العصور وشر العصور وأسخف العصور، وأن الهمجية في عصرها لأصدق وأشرف منه لأنها صادقة في اندفاعها ولو في الظلام، وهذه العصور التي يصفونها تضيق بفسيح الطرق وهي في النور
إن الغرب لم يغلبنا لأنه قال بالعلم دون الأدب أو بالمخترعات دون الأخيلة والخواطر النفسية، ولكنه غلبنا لأنه وسع نطاق الحياة
فليكن هذا شعارنا في نهضتنا فهو آمن شعار وأنبل شعار. وسعوا أفق الحياة ولا تضيقوه وأنتم على ثقة من صواب ما تعملون وجدوى ما تعملون. أما (خذوا هذا ودعوا ذاك)، فهو كلام كسالى مهزولين لا يصلحون للعلم ولا للأدب، ولا يفلحون مع الطيارات ولا مع الحمير والبغال، ولا يزالون يجهلون ما يقولون ثم لا يتوارون بجهلهم عن العيون بل يتحلون به حلية الفخار ويبرزون للتعليم والتنديد!
عباس محمود العقاد(569/5)
الهوى العذري بين جميل وبثينة
للأستاذ نقولا الحداد
كثيراً ما يكون أن تؤدي الحوادث إلى أمور جسام، ما من أحد إلا رأى ثمرة تسقط عن شجرة فلم يبال. ولكن السير اسحق نيوتن رأى يوم تفاحة تسقط من شجرتها فتنبه إلى سبب سقوطها. وكان من جراء تفكيره فيه أنه اكتشف ناموس الجاذبية واستنبط (حساب التفاضل والتمام) الذي يعد في قمة العلوم الرياضية
والحب غريزة في الأحياء حتى في الجماد. وكل إنسان يحب ويعشق. على أن الآدميين متفاوتون في سورة الحب. وجميل بثنية لا يعد نادرة الزمان في العشق والغرام. فمثله كثيرون: كقيس ليلى وقيس لبنى وكثير عزة ومثالهم ممن كناهم الناس بأسماء معشوقاتهم أو لم يكنوهم. ولكنهم اشتهروا بشغفهم وافتتانهم وغرامهم المضني
والأستاذ عباس العقاد اتخذ عشق جميل بثينة (تفاحة نيوتونية) لكي يتوسل به إلى أبحاث سيكولوجية وأخلاقية واجتماعية في الحب والعشق. فأوغل في صميم هذه الأبحاث في كتابه جميل بثينة حتى استخرج منها نواميس الحب العليا كما استخرج نيوتن من سقوط (تفاحة) ناموس الجاذبية الكونية). ولا بدع فكلا الحب والجاذبية نبضة واحدة في الطبيعة وعند التحقيق تجد أن لهما ناموساً واحداً
إنما جاذبية الكون حبٌّ ... وكذا الحب في الورى جاذبية
وعندي أن أقوى ما يسترعى الأذهان في مباحث العقاد إصابته موضوع (الهوى العذري). وهو بالحقيقة موضوع سيكولوجي ليس بالهين الخوض فيه والغوص إلى قرار بحره؛ لأن: الهوى العذري ظاهرة نفسية إنسانية تناقض سنة الغريزة النسلية في خط مستقيم. وفي الطبيعة البشرية الآن كثير من الظاهرات الأخلاقية التي تناقض الغرائز الطبيعية في الأحياء حتى العليا منها. وأظهرها سنة التنازع، (تنازع البقاء وبقاء الأنسب). تقوم تجاهها في العالم الاجتماعي (سنة التعاون والتضامن) فهذه طبيعة اجتماعية أخلاقية تناقض على خط مستقيم سنة تنازع البقاء البيولوجية
والمسألة التي هي موضوع التحليل والتعليل في الناحيتين هي: إلى أي حد يند الهوى العذري عن الحب الطبيعي الغريزي. ففي فصل عشق جميل وبثنية بحث مستفيض في(569/6)
هذا
ولى في تعليل الهوى العذري كلمة أبسطها فيما يلي تمشياً مع الأستاذ في بحثه:
إذا كان المعشوق على منال اليد من العاشق كان الحب غريزياً لا يخيل فيه ولا تصور. الذات حاضرة فلا لزوم للصورة ولا وظيفة لها. والحقيقة قائمة فلا سبيل للخيال. ومتى طلعت الشمس اختفى الظلام، وإذا تفتحت العينان أمحى الطيف من المخيلة
الحب الغريزي هو المبدأ الأول، هو لهب الشهوة. فإذا انطفأت هذه الشهوة خمد الحب، ومتى تيقظت احتدم. فإذا كان الحبيب بعيد المنال تولى الخيال العمل في دولة الحب بإيعاز الشهوة. حينئذ تخترع المخيلة الجمال وتبدع في تصويره إلى أن تصبح صورة الحبيب في صفحة التصور أجمل من الحبيب نفسه في هيكل المادة. حتى إذا استعرض الصب حبيبه رآه كما صورته المخيلة لا كما ترى عيناه هيكله المادي. ولهذا قد تستغرب إذ ترى معشوقاً لا مزية له على سائر الناس يفتن عاشقه دون سائر الناس، ويفتتن به عاشقه دون سائر الناس. فتستغرب هذا الافتتان وتندهش من وله هذا العاشق وهيامه بحبيب لا يتفوق بشيء عن سائر المعاشيق. ولا يزيل دهشتك هذه إلا آية الغرام الذهبية وهي (الجمال في عين الرائي)
فإذا تعذر اتصال المحب بالحبيب تحول غرامه إلى طيف الحبيب وخياله. يصبح عاشقاً خيالاً قائماً في مخيلته وهو ما نسميه (الحب الروحاني). يرتفع الحب في نفس الإنسان من حضيض المادة إلى سماء الروح. ويحلق في أعالي تلك السماء حتى يصبح العاشق وهو يبتغي تمتعاً نفسانياً لا جسدياً. حينئذ يتواري الحب الغريزي وراء الحب الروحاني. وهذا قابل دون ذاك للتعاظم إلى ما لا نهاية له. يتعاظم الحب الروحاني ويتضاءل الحب الجسداني، إلى أن يصبح ذاك برجا هائلاً، وهذا حصاة في أسفل البرج. يصبح العاشق كله روحاً تطوف في سماء الوجود، بل تكاد تمدد خيال المعشوق حتى يشمل الكون كله، أو تقلص الكون كله حتى ينطوي في خيال المعشوق. حينئذ يقنع العاشق بنسمة من أنفاس المعشوق، وبنظرة في صورته، ويسمع كلمة رضى منه، كما قال ابن الفارض:
عديني بوصل وامطلي بنجازه ... فعندي إذا صح الهوى حسن المطلُ
وما دام هوى العاشق. يتجسم على هذا النحو، والعاشق يتلذذ بهذا الوهم، ولا يمكنه أن(569/7)
يحصل على الحقيقة. فهواه هذا هو الذي نسميه (الهوى العذري). ونعني بالهوى العذري الحب الذي خلا من نبضة الغريزة النسلية وتوارت فيه الشهوة الجنسية
هو العنب الذي أعرض عنه الثعلب لأنه عال لا يمكنه أن يثب إليه، فقال: (إنه عنب حامض)
فإذا قدرت ما تقدم من التعليل فلا تستغرب أن يعظم هذا الحب الروحي إلى حد يطمس أن الحب الغريزي، ويتمادى العاشق في تولهه وهيامه حتى يتراءى له أن اللذة الجسدية أصبحت ثانوية عنده
ولكن متى زالت موانع الاتصال بالحبيب ارتد الهوى الروحاني إلى الوراء، وبرز الهوى الغريزي إلى الأمام وقضى على عذرية الحب
على أن الهوى الروحاني لا تذهب قوته سدى بل تضاعف قوة الهوى الغريزي، لأنه كلما حلق الحب في جو الخيال وسبح في فضاء الروحانيات انقض إلى حضيض الحب الغريزي متى زالت موانع الاتصال بالحبيب. وكلما كان ارتفاعه عظيما كان انقضاضه قوياً
وفي رأي مارى ستوب مؤلفة كتاب (الحياة الزوجية) أنه يحسن بالزوجين أن يفترقا حيناً بعد حين ويعيشا منفردين لكي يتعاظم في قلبيهما الحب الروحاني العذري حتى متى اشتد شوقهما التقيا بقوة حب شديد
ولذلك ما نسميه هوى عذرياً ليس إلا فرقاً أثيرياً وهمياً يزول بزوال الموانع من لقاء الحبيبين
أما الموانع فلا يجهلها أحد. فمنها ما هوة شرعي كارتباط أحد المتعاشقين بزواج آخر. أو ما هو شبه شرعي كتفاوتهما في المقام والشرف والنسب الخ. أو ما هو عرفي كالحشمة الفائقة التي تأبى عليهما اتصالاً بلا مسوغ شرعي. وهذا المانع الأخير كان قوياً عند العرب وله أشكال مختلفة. ومنها عند العرب تشبيب الشاعر بعشيقة يحرم عليه الزواج منها. وكنا نود أن يشرح لنا الأستاذ العقاد هذه الشريعة العرفية عند العرب ويفسر لنا سببها وفلسفتها
والمرأة عند الأمم العريقة في الحضارة ولا سيما الأمم العربية متصونة كل التصون. وفي كثير من العصور كانت في الخدور والعرض مقدس بعد قداسة المعبود. ولذلك كان الحب(569/8)
الغريزي محتبساً في نطاق ضيق من الأدب ولا يجد له منفذاً إلا من نافذة التخيلات الشعرية. فمتى عز على العاشق لقاء محبوبه جنح إلى التأمل العقلي حتى تسنى له أن يتمثل لقاءه بحبيبه ويشاهد جماله الفتان وبهاءه اللامع ولطفه الأثيري فيتمتع به تخيلياً
إذن فهذا الهوى العذري الذي هو منطق الحب الروحاني الخيالي هو موحى الشعر الغزلي. ولولاه لما كان ثمت شعر، لأن الحب الغريزي لا يوحي بشيء سوى طاعة الطبيعة فقط. والإنسان والحيوان فيه سواء
بهذا الحب الشعري يتلذذ المحب ويترفع عن الشهوة البهيمية. وفي هذا الفردوس الغرامي الذي تبتدعه المخيلة ينشأ إله الشعر أجل، في هذه الخلوة العقلية التي يحتكر فيها الحب القوي العقلية ويحصرها في التأملات الغرامية تتيقظ في نفس العاشق غريزة الشاعرية. فكل عاشق شاعر بحكم الحب. ولكن ليس كل شاعر ينظم
بناء على ما تقدم لا يمكن أن يكون حب جميل لبثينة عذرياً إلا حين يكون جميل ممنوعاً عنها، وكان إنه إذا اتصل بها عاد حبه غريزياً كما فهم من سيرة حياته التي تخللت كتاب الأستاذ العقاد، ولا ريب أن ذلك المنع الذي منى به جميل تارة من قبل أهله وتارة من قبل أهل بثينة عظم فيه الهوى الروحي الشعري، ثم الهوى العذري في حين الصد والمنع
بقيت كلمة في باب من أبواب الحب طرقه الأستاذ العقاد وناقش فيه الأستاذ الدكتور طه حسين بك وهو غدر المحب بالحبيب وتعريضه للفضيحة. ولذلك قصة رواها الدكتور وهي:
(زعموا أن أهل بثينة أذاعوا في الناس أن جميلاً لا يشبب بابنتهم بل بأمة لهم. فغضب جميل لهذه القالة وأراد أن يكذبها فواعد بثينة والتقيا ذات ليلة وتحدثا. ثم عرض عليها جميل أن تضجع فما نعت، ثم قبلت. وأخذها النوم. فلما استوثق جميل من ذلك نهض إلى راحلته فمضى، وأصبح الناس فرأوا بثينة نائمة في غير بيتها فلم يشكوا في أنها كانت مع جميل وقال جميل في ذلك شعراً)
قال الدكتور: (أتظن أن مثل هذا الخبر يمكن أن يكون حقاً؟ وأن رجلاً كجميل كان يحب بثينة حباً كالذي نجده في شعره يستطيع أن يعرض حبيبته لمثل هذه الفضيحة!) اهـ
وفي رأي الأستاذ العقاد (أن حب جميل لا يمنع أن يعرضها لتلك الفضيحة، لأنها لا تتجاوز(569/9)
معنى قصيدة من القصائد الكثيرة تغنى فيها بحبها ولقائها ومناجاتها، ثم أرسلها في أفواه الرواة تطوف البادية والحاضرة حيث يقدر لها المطاف)
فالدكتور يعتقد أن العاشق الذي يحب ذلك الحب العذري لا يمكن أن يغدر بحبيبته ذلك الغدر، والأستاذ لا يحسب تعريضها للفضيحة غدراً بها ينقض حبه لها فهو يمكن أن يحبها حباً جماً ولا يبالي بفضحها على ذلك الشكل
وإني لأستأذن حضرة الأستاذين الكبيرين أن أقول: إن تصرف جميل مع بثينة في ذلك الحادث وفي قصائده التي تمس سمعتها ليس قاعدة لتصرف العشاق جميعاً. على أن تصرفا كهذا لا يتوقف على الحب وشدته أو ضعفه، وإنما يتوقف على أخلاق العاشق ونوع تربيته، فقد يتورع عاشق غير جميل عن أن يعرض حبيبته لفضيحة، وجميل لا يتورع، لأن لذلك خلقاً نبيلاً ليس لجميل، فيتحاشى أن يعرض حبيبته لملامة أو فضيحة بل يمكن أن يكون أنبل من ذلك فيعرض نفسه دون حبيبته لفضيحة لكي ينقذها منها أو من مثلها، وفي الروايات كثير من أمثلة ذلك. والروايات تمثل على الغالب حقائق لا مثلاً عليا وهمية فقط. ولا بد أن يكون بعض القراء قد وقعت لهم أو لذويهم حوادث من هذا القبيل. فالمسألة مسألة أخلاق لا مسألة حب. بل هي مسألة أنانية أو غيرية
والغالب أن الهوى العذري يعصم العاشق عن أذى معشوقه أو فضحه. وجميل لم يهو هوى عذرياً، لأنه لم يكن ممنوعاً من بثينة. أو أنه كان يتخطى المنع فيتصل بها على الرغم ممانعة أهله وأهلها وأراجيف الناس. وإن كان في شعره أو قوله ما يدل على أنه عذري الهوى فهو من قبيل الدعوى الكاذبة بالنزاهة والتعفف كما يفعل كثير من الناس حرصاً على سمعتهم وكرامتهم ومقامهم وهم كاذبون
نقولا حداد(569/10)
بين (أنات حائرة) وبين (قيس ولبنى)
من دموع الشاعر الجليل عزيز أباظة بك
للأستاذ دريني خشبة
ترى، هل كانت هذه الزوجة الكريمة الملهمة تدري أنها تقترح على زوجها إنشاء رثائها هذا المؤلم الحزين الخالد، وهي لا تزال على قيد الحياة، حينما اقترحت عليه نظم (قيس ولبنى؟)
ويا ترى، هل فطن هذا الزوج الكريم، وقد شرع ينظم (قيس ولبنى) أنه إنما شرع ينظم رثاء أعز الناس عليه، وهي بعد لا تزال تنبض بحياة حافلة سعيدة؟
يا للمأساة التي أنتجت لنا كل هذا الأدب، وكل هذا الشعر!
فوجئت بهدية الأستاذ الكريم على غير سابق معرفة، ففرحت بها، لأنها ملأت يدي بأملي المنشود الذي كنت أرسلهما من أجله في الأدب العربي فلا تفوزان منه إلا بالوشل الذي لا يشفى غلة، ولا يبل ظمأ. . . فلما قرأتها، عرفت فيها ريح ذلك الفؤاد المحزون الذي نفس عن أشجانه (بأناته الحائرة) أو هذه الباقة العبقة من زهرات الألم والأسى، التي نظمها الشاعر تحية لروح أعز الناس وذكرى! وجدت في المسرحية ريح هذا الفؤاد المحزون، وكنت قد تصفحت (أنات حائرة)، فلشد ما راعني أن صدق حدسي! لقد وقعت فيها على زفرة من ذاك الأنين الموجع الذي وصف به الشاعر في إحدى مراثيه تلك الليلة الخالدة في حياة كل زوج، الليلة الأولى التي تربط بين قلبين، وتحقق حلمين، وتستفتح في تاريخ كل عش هادئ طوبى من السعادة والمحبة والتوفيق. . .
لقد أجرى الشاعر على لسان قيس، في ليلته السعيدة الأولى، حينما لم الله شمله بلبنى، نغماً من تلك الموسيقا الباكية التي ترددت في أطرافها أناته الحائرة، والتي ذرف بها دموعه وروحه، وجدا على شريكه حياته وحرقة والتياعا. . .
اسمع إلى الشاعر الجليل يرثى إلفه في ليلة ذكرى عرسه:
يا ليلة جمعتنا بعد طول نوى ... ذكراك هاجت لنا الأشجان ألوانا
ذكرت ما كان من عرس جلوت به ... عليَّ أكرم خلق الله إنسانا
بيضاء هيفاء تحكي الصبح مؤتلقا ... والروض متسقاً والبان ريّانا(569/11)
بتنا تضئ ظلام الليل نشوتنا ... وتستثير شجون الليل نجوانا
قالت وقلت، فلم تفرغ مقالتنا ... إلى الصباح ولم تفرغ شكاوانا
واسمع إلى قيس يكمل هذا اللحن:
وحولنا الليل يطوى في غلائله ... وتحت أعطافه نشوى ونشوانا
فتتم لبنى اللحن قائلة:
نكاد من بهجة اللقيا ونشوتها ... نرى الربى أيكةً والرمل بستانا
ونحسب الكون عش اثنين يجمعنا ... والماء صهباء، والأنسام ألحانا
ونحسب العمر فيضاً من صبا وهوى ... والغيب ملآن بالإشراق ريانا
فيشدو قيس:
لم نعتنق والهوى يفرى جوانحنا ... وكم تعانق روحانا وقلبانا
نغضي حياء، ونغضي عفة وتقي ... إن الحياء سياج الحب مذ كانا
ثم انثنينا وما زال الغليل لظى ... والوجد محتدماً والشوق ظمآنا
وتختم اللحن لبنى وهي قائلة:
ففي سبيل الهوى ما ذاب من مُهَج ... وانهلِّ من مقل زلفى وقربانا
خضنا اللياليَ نشكوها وننكرها ... حتى التقينا، فقد لذت لنا الآنا
حتى التقينا فقد لذت لنا الآنا! لله ما أوجع تلك الذكرى! اسمع إذن إلى بقية اللحن يرسل فيه الشاعر الجليل روحه دموعه:
يا ليلة شبْت الذكرى بعودتها ... في دورة العام ماذا هجت لي الآنا؟
قد كنت فيما مضى أنساً نطيب به ... نفساً، فأمسيت أوصاباً وأشجانا
أضنيت أسوان ما ترقى مدامعه ... وهجت فوق حشايا السهد حيرانا
يبيت يودع سمع الليل عاطفة ... ضاق النهار بها ستراً وكتمانا
ويرسل الشجو في سر الدجى حُرقاً ... لو الدجى قُدَّ صخر إذن لانا!
إلى آخر هذه الأنات الحائرة بين الديوان الوفي الخالد، وبين المسرحية الوفية الخالدة
لقد كنت أقف عند كل شعر يقوله قيس، فأحس فيه قلباً يحترق وروحاً تتململ من الوجد، في ديباجة قوية، ونفس مرسلة، لا تتفق كثيراً لمن ينظمون شعراً لا تصله بقلوبهم صلة(569/12)
وليس لأرواحهم بموضوعه شأن، فلما وقعت على هذا الشعر الذي يقبسه الشاعر من مراثيه، ليجريه على لسان قيس ولبنى، عرفت سبب هذه الحرارة التي تشيع في كلمات قيس ولبنى خاصة فلما قرأت في خطابه إلى أنه إنما شرع ينظم مسرحيته باقتراح من هذه الزوجة الوفية، عرفت أن المقادير قد شاءت أن تكون المسرحية كلها أخلد المراثي في ديوان الأنات الحائرة
ولكن. ما دام الأمر كذلك، فلماذا آثر الشاعر الجليل أن تنتهي منظومته هذه النهاية السعيدة، ولماذا لم ينته بها إلى المأساة، والمأساة أوجع في القلب، وأنكأ للنفس! ولاسيما أن كثرة الرواة على أن قيساً ولبنى لم يجتمعا بعد افتراقهما؟
وأحسب الإجابة على هذا سهلة هينة. . . فالشاعر المحزون رجل مؤمن عامر القلب بالإيمان. . . وهو قد نظم المسرحية لتكون رثاه ووفاء. . . وهو قد اتخذ قيساً ولبنى رمزين خالدين له ولألفه. . . وهو قد كره لهذا السبب أن ينتهي حبهما إلى هذا الفراق الكريه الذي قال به معظم رواة أبي الفرج، والذي لا لقاء بعده. . . حتى في عليين. . . وهو لهذا السبب آثر أن يجمع بينهما في هذه الحياة الدنيا. . . وأظنه. . . بل أؤكد أنه رمز بذلك إلى لقاء الدار الآخرة
وبعد. . . فنحن نريد أن نتجه بأمانينا إلى هذا الإيمان الذي يعمر قلب عزيز أباظه بك. . . الرجل الذي وفى لشريكته في الحياة ما لم يف أحد لأحد. . . الرجل الذي كان يملك هذه الذخيرة من الشعر والشعور وقوة التعبير، ثم لا يطمع في شهرة أدبية، ولا يحاول منافسة أحد من جبابرة الأدب، حتى كان الذي قضى الله، فسعت إليه الشهرة التي تحفى أقدام غيره وهو أزهد الناس فيها، لأنه إنما كان يبكي لنفسه، ولم يطلب قط أن يسعده أحد، أو أن يعده بالإسعاد على ما ألم به. إنما هو حسن حظ الأدب المصري الحديث الذي أظفره الله بأدمع ذاك القلب الكبير وأناته، منظومة في سموط من الألم. أراد الله أن يرسلها الشاعر تفريجاً لهمه، وتنفيساً عن قلبه. . . وإلا فأين كان كل ذلك الأدب وقد بلغ الشاعر الخامسة والأربعين؟
فنحن إذن نتجه إلى قلب الشاعر العامر بالإيمان. بأمانينا، بأماني الأدب المصري الحديث. . . بهذه الآمال التي رددناها، ولن نمل من ترديدها، حتى يعمر شعرنا المصري الحديث(569/13)
بهذه الثروة الزاخرة التي شهدنا بعض أقباسها في مجنون ليلى، وكليوبطره، وقمبيز، وكثير عزة، وأغنية الرياح الأربع. . . وأخيراً. . . في قيس ولبنى. . . وفيما لا أذكر الآن من روائع شعرائنا المجددين
نتجه إلى قلب الشاعر العامر بالإيمان إذن. راجين أن يسير بالشعر المصري الحديث في تلك الناحية الموضوعية التي سار بها في مسرحيته الخالدة، والتي سار بها في روائعه (في بطحاء مكة) و (على قبر خديجة أم المؤمنين) و (أحد) و (ذكريات) وليؤد كل منا الدين الذي في عنقه للوطن واللغة والأدب. وينبغي ألا تحول آلامنا بيننا وبين واجبنا
دريني خشبة(569/14)
مع نفسي. . .!
للأستاذ سيد قطب
(1) كتاب الحياة
هذه الحياة الدنيا عجيبة: صفحة منها تعرض كأنما هي وجه الجحيم، فإذا الدنيا كلها آلام، وإذا الطريق كله أشواك؛ وإذا النفس الإنسانية في يأس لا رجاء لها فيه، وضيق لا مخرج لها منه. وصفحة منها تعرض، كأنما هي طلعة الفردوس؛ فإذا النفس الإنسانية تطلع على هذه الحياة، وكأنما ترتادها أول مرة، وفي رحابها الفسيحة آفاق للأمل لا تأخذها الأبصار
وليس بين هذه الصفحة وتلك، إلا بمقدار ما تتحول النظرة من صفحة إلى أخرى في كتاب!
فأين هو الحق والباطل في هذا الكتاب العجيب؟
(2) لحظة سعيدة
كم في هذه الدنيا من أشياء جميلة، نفقدها كل يوم لأننا لا نلقى إليها انتباهنا في اللحظة المناسبة
بالأمس كنت في حجرتي منفرداً، كانت أبوابها مغلقة علي، لأنني في أعقاب توعك زال. وفجأة نظرت إلى النافذة المغلقة، فرأيت الشمس من روائها توصوص لي بأشعتها
لقد أحسست إحساساً - غير كاذب - أنها تستأذن عليَّ في لهفة. إنها تود لو أسمح لها بالدخول. كانت كالصبية الغريرة في مطلع الربيع. . .
وما كدت أفتح لها النافذة حتى أشرق محياها الوضئ بابتسامة عريضة. وراحت تلقي في فرح وشوق على أرضية الحجرة المتواضعة، كأنها ملكة تتخفف من التقاليد
وما لبثت أن أخذت تتجاذب مع كل شيء في الحجرة أطراف حديث شهي، كنت أصغي له بكل جوارحي؛ ولقد وعيت في لحظات قصار أشياء كثيرة، لا أملك أن أبوح بها. لقد ذابت في دمي وأحاسيسي، واندست هناك بعيداً عن متناول الألفاظ
ورويداً رويداً جعلت أشعر أن كل ما في الحجرة يؤلف (جوقة) راقصة توقع (سيمفونية) عذبة. ورأيتني أشترك مع هذه الجوقة في الرقص والتوقيع. وقد غاب عن حسي كل ما في(569/15)
العالم الخارجي من شخوص وأحداث، وكل ما في عالمي النفس من مشاغل ومنغصات
لقد كانت لحظة جميلة. حقيقة لم تدم. ولكنها كسب لا شك فيه، يضاف إلى رصيدي المتواضع من السعادة العميقة في هذه الحياة
(3) الحلم الضائع
حينما كنت أحلم مغمض العينين، كنت أتسخط على أشواك تؤذيني في هذه الأحلام
فلما استيقظت وتفتحت عيناي، رحت أتحسر على تلك الرؤى بكل ما فيها من آلام
عندئذ حاولت أن أغمض أجفاني مرة أخرى، وأن أستعيد الحلم الذاهب مع الكرى
هنالك سمعت هاتفاً من الأعماق:
هيهات أيها الواهم هيهات
أنه حلم واحد في هذه الحياة
(4) الفتى المفقود
لست أنت التي أريد يا فتاة، ولا عليك آسى في هذه الحياة إنما أريد ذلك الفتى الحالم الذي كان يحيل حقيقتك المجسمة، إلى رؤيا مجنحة
ذلك الفتى الذي كان يلقاك في عالم الأجسام، كأنما يلتقي بأسطورة في عالم الأوهام
ذلك الفتى الذي كانت تضطرب أنفاسه وتتلاحق لأن كفه لامست كفك، أو لأن نظرته التقت بنظراتك
ذلك الفتى الذي كان الدم يطفر في شرايينه والبهجة ترقص في خاطره، لأن شفتيك أو عينيك قد همستا إليه ابتسامة سريعة
نعم! أريد ذلك الفتى المغمض العينين، الذي كان يراك بخياله حورية ساحرة. فإذا فتحهما مرة فرآك إنسانة عابرة، أغمض عينيه فاستطاع أن يلقاك في الفردوس المسحور
أريد ذلك الفتى الذي أفتقده في نفسي اليوم فلا ألقاه. وعليه آسي كل الأسى لا عليك أنت يا فتاة!
(حلوان)(569/16)
المرأة في حياة المتنبي وشعره
(إلى المرأة التي ألهمتني كل حديث عن المرأة)
للأستاذ حسن الأمين
هل كان للمرأة في حياة المتنبي أثر من بعيد أو قريب، وهل كان لها في شعره توجيه خاص، وهل بدت على هذا الشعر صبغة لها مساس أو بعض مساس بها؟
لا بد لنا قبل التوغل في الجواب من أن نفرق في موضوعنا بين المرأة أماً وبينها زوجة أو حبيبة، إذ لكل أثره الخاص وناحيته التي لا تشبه ناحية الآخر. فماذا كان تأثير الأم على المتنبي؟ كل ما عرفناه عن أم المتنبي أنها كانت همدانية صحيحة النسب من صلحاء النساء الكوفيات ومهما أراد الدكتور طه حسين أن يحيط بمولد المتنبي من الشذوذ ومهما أردنا أن ندفع هذا الشذوذ فلا ريب أنه لم يكن لأم المتنبي أي أثر لا في حياته ولا في شعره، بل إن المتنبي الذي تغنى بجدته لم يشر إلى أمه إشارة ولم يولها ذكراً. والدكتور طه حسين محق حين يقف طويلاً أمام هذه الظاهرة فيتساءل عن السر فيها. ولكننا لا يمكن أن نذهب معه إلى النتيجة التي وصل إليها من أن ذلك إنما كان لأن مولد المتنبي كان شاذاً! ولماذا كان شذوذ المتنبي هو السر في ذلك، ولا يكون السر فيه هو أن المتنبي لم ينعم بتلك الأم ففقدها قبل أن يعرف المجتمع وينغمس في الحياة؟ أكبر الظن أن أم المتنبي قد فارقت الدنيا قبل أن يقدر لابنها التعرف عليها والتمتع بعطفها وحنانها فتركته لأمها، فكانت أمها له أماً، وكانت عاطفة البنوة ملتهبة فيه لجدته، لأنه لم يعرف غيرها أماً، وإذا لم يذكرون شوق أمه، ولماذا يعنى برثاء جدته ولا يعني برثاء أمه؟
ومهما كان مولد المتنبي شاذاً - على رأي الدكتور طه حسين - فإن هذا الشذوذ لن يحول دون شوق الوالدة إلى ولدها
ولن يحول بين رثاء المتنبي لأمه لو كانت هذه الأم حية عندما كان ابنها شاعر العرب، ومهما يكن من أمر فالذي لا ريب فيه هو أن أم المتنبي بعيدة عن كل أثر في حياته وشعره، وقد حلت محلها في هذا الأثر أمها فكان من تأثيرها في شعره تلك القصيدة الرثائية الخالدة التي قيل عنها: (أنه ورد عليه كتاب من جدته تشكو شوقها إليه وطول غيبته عنها فتوجه نحو العراق ولم يمكنه وصول الكوفة فانحدر إلى بغداد، وكانت جدته قد يئست منه(569/17)
فكتب إليها كتاباً يسألها المسير إليه فقبلت كتابه وحمت لوقتها سروراً به وغلب الفرح على قلبها فقتلها)
ونحن لا تهمنا العلة التي ماتت بها الجدة ولا فرق لدنيا إذا كانت هذه العلة هي الفرح أو الحزن أو أية علة أخرى ما دامت قد ماتت قبل أن يراها ابن ابنتها وبعد أن أوشك أن يراها، وقد كان المتنبي وهو الشاعر الحساس الملتهب الشعور المتأجج القلب كان حرياً به أن يخلد هذا الموقف الرائع بمثل ما خلوه به من الشعر الذي لا نزال نحس فيه أحزان المتنبي وآلامه، والذي لا يزال على تطاول العهد به مضرب المثل في الأسى العميق والشجن الدامي، ومن ذا الذي لا يهزه هذا القول:
أحن إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوى لمثواها التراب وما ضما
وإذا كان المتنبي ينادي بأنه نحن إلى الكأس التي شربت بها جدته فما كان ذلك لأن هذه الجدة قد ماتت وملكه عليها الحزن فحسب، بل كان ذلك لأن نفس المتنبي كانت في ذلك الحين قد امتلأت هموماً، ولأن الزمن كان قد جرعه أمر الغصص، ولأنه كان قد رأى بعينيه انهيار آماله في الحياة وأهل الحياة، ولأنه كان قد وصل إلى حال أصبح يحن معها إلى ورود كأس المنية، ثم فوجئ بموت القلب الذي كان يرى أنه وحده يخفق بحبه، وأنه وحده الذي يستروح إليه ويعتمد عليه فصاح من أعماق قلبه في ساعة يائسة (أحن إلى الكأس التي شربت بها)
وهاهو نفسه يزيد هذه الفكرة وضوحاً وجلاء فيقول:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
فهو قد قاس من صروف الليالي ما جعله سيئ الظن بها وما جعله لا يترقب منها إلا الشر، فلما أتته هذه الداهية لم يفاجأ بها ولم تزده علماً بما يحمله له الزمن من خبايا المصائب والمحن. ثم هو ذا يمعن في الإيضاح والجلاء فيصور خيبة أمانيه وتلاشى أحلامه، فلا ولاية ولا سلطان ولا حشم ولا اتباع بل حظ عاثر ويأس قائل:
طلبت لها حظاً ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت بها قسماً
وهكذا بعد أن طوف في البلاد وراء (الحظ)، فاته هذا الحظ وفاتته كذلك هذه الجدة الرؤوم ونحن نلمس في عجز البيت خساً من الندم الخفي على تلك المغامرات والضرب في(569/18)
الفلوات وراء الحظ المنشود وتلمس روحاً من الأسف المكبوت على أن لا يكون قد قنع فلم يجازف ورضى فلم يندفع، وعلى أن لا يكون قد عاش إلى جانب تلك الجدة خلى البال من المطامح بدلا. من أن يعيش إلى جانب أولئك الذين لم يعرفوا حقه ولم يجيبوا سؤله، ولا أدل على هذا الندم والأسف من البيت الذي يليه:
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها ... وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
ولا نريد أن نسترسل في النظر بهذه القصيدة، وإنما نكتفي بالقول إنها صورة حية لما كانت عليه نفس المتنبي من الحزن والكمد، وإنها مظهر واضح لما كان فيه من التبرم بالناس والحياة وأن وفاة جدته كانت مفجراً لعاطفته، فأرسل نفسه على سجيتها فبكى فيها بكاء مراً:
حرام على قلبي السرور فإنني ... أعد الذي ماتت به بعدها سما
وما انسدت الدنيا على لضيقها ... ولكن طرفا لا أراك به أعمى
فوا أسفا أن لا أكب مقبلا ... لرأسك والصدر الذي ملئا حزما
وتحدى الناس تحدياً صارخاً:
لئن لذ يوم الشامتين بيومها ... فقد ولدت مني لا نفهم رغما
تغرب لا مستعظما غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالفه حكما
يقولون لي ما أنت في كل بلدة ... وما تبتغي، ما أبتغي جل أن يسمى
كأن بنيهم عالمون بأنني ... جلوب إليه من معادنه اليتما
واستهتر بالدنيا وما فيها:
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ... ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
هذا هو أثر المرأة الأم، أو على الأصح المرأة الجدة، في شعر المتنبي، فما هو أثر المرأة الزوجة والمرأة الحبيبة في حياته وشعره؟
إذا كان قد وجد بين المؤرخين من يذكر أم المتنبي فيقول إنها همدانية من صلحاء نساء الكوفة، فإنه لم يوجد بينهم من يذكر زوجته أو يتحدث عنها بشيء، فنحن لا نستطيع أن نعرف في أي زمن تزوج المتنبي، ولا في أي طور من أطور حياته، ولا في أي بلد من البلاد التي نزلها، بل إن الغموض ليكتنف هذه النقطة من تاريخه كل الاكتناف، وليس لدينا(569/19)
شيء واضح عنها، غير أنه كان له ولد سماه (محسداً)، أما من هي أم محسد، وكيف اتصل بها المتنبي، وأين اتصل، وكيف كانت حياته معها؟ فإنا لا نستطيع الإجابة على شيء من هذا. فهل عاشت معه في بلاط سيف الدولة؟ وهل انتقلت معه إلى مصر؟ وهل ذهبت إلى أرجان وشيراز؟ وهل امتدت بها الحياة بعده أم ماتت قبله؟ كل ذلك لا يجيبنا عنه التاريخ بشيء، ولكن أمراً واحداً يستوقف النظر، هو أن الذين ذكروا مقتل المتنبي ذكروا أن محسداً قتل معه، فنحن نعرف من ذلك أن محسداً كان يصحب أباه في عوده من فارس إلى العراق، ولكننا لا نعرف السن التي كان فيها محسد، كما إننا لا نعرف أين كانت أم محسد في ذلك الحين. على أننا نستطيع التأكد من أنها لم تكن تصبحه في تلك الرحلة القانية، لأنها لو كانت تصحبه وقتل زوجها وولدها لسمعنا عنها خبراً، ولروى أبو نصر الجبلي للخالدين عنها شيئاً؛ فيا ليت شعري هل كانت لا تزال على قيد الحياة تنتظر أوبة زوجها وولدها وتستعد لاستقبالهما بعد الغياب الطويل؟ هل كانت أم محسد في الكوفة تترقب عودة أبي محسد ومحسد فتبثهما لواعج الوجد والشوق وتفضي إليهما بما في الصدر من هوى وحنين؟ أم كانت في مكان آخر تستطلع أخبار الغائبين العزيزين متوقعة ما يحملانه لها من مجد ورفاه ومال؟ أجل هل كانت حية تنتظرهما أم كانت ميتة من عهد بعيد أو قريب فلم يفجعها موتهما الدامي؟
كل ذلك سر في ضمير التاريخ لم يكشف عنها لأحد. ولكننا نتساءل: هل يمكن أن تموت في حياة زوجها، ثم لا يرثيها بكلمة ولا يبكيها بقصيدة بعد أن رأينا شدة تفجعه على جدته وطول حرقته لموتها، ونحن يعنينا في مقالنا هذا أن نعرف مدى تأثيرها في حياة المتنبي وفي شعره، وبعد كل الذي مر ندرك أننا لا يمكن أن تجد لها أي أثر في حياته ولا في شعره
أما ما كان من تأثير الحبيبة في المتنبي فذلك ما سنجيب عليه في مقال تال.
(البناطية - بلاد الشام)
حسن الأمين(569/20)
التناقض
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
تقدم فيما أسلفنا من كلمات مثل من تناقض صاحب النثر الفني، لكن المقام في تلك الكلمات لم يكن يسمح بالتنبيه إلى ذلك التناقض إلا عرضاً. فلعل من الخبر الآن أن ننبه إلى بعض ما فاتنا التنبيه إليه هناك
وأول ما نحب التنبيه إليه من هذا تناقضه في موقفه من المأثور من النثر الجاهلي. فبينا هو ينفيه ويغالي في موقف، إذا هو يثبته ويؤكده في موقف، فهو ينفيه نفياً بتاً في قوله:
(وما نقله الرواة من النصوص لا يكفي لتعيين أساليب النثر في العصر الجاهلي. . . وهو على قلته مما وضع في العصر الأموي وصدر العصر العباسي لأغراض دينية وسياسية) ص35: أول: ثم يؤكد ذلك في صفحة 37 إذ يقول:
(وإذا كان الشعر الجاهلي مهدداً بمثل هذا الرفض مع اتفاق الباحثين على أنه كان وحده موضع عناية الرواة والحفاظ والناسخين، فكيف يمكن الاطمئنان إلى صحة ما نسب إلى الجاهليين من النثر مع أن عناية الرواة به قليلة، ومع أن من خطباء الإسلام نفسه من ضاعت آثارهم لقلة التدوين) لكنك تقرأ في صفحه 52 ما ينقض هذا من أساسه إذ يحدثك:
(فأنا من الذين يرون أنه كان هناك أدب جاهلي واسع النطاق. . .
يقولون: وأين آثار ذلك الأدب الجاهلي؟
وأجيب: بأن ذلك الأدب قد ضاع أكثره حتى ليصعب أن تتخذ منه أداة لوصف ما كان عليه الجاهليون من أنظمة أدبية وسياسية واجتماعية ودينية
وهنا يبتسم المنكرون قائلين ومن يدرينا أنه كان هناك أدب ضاع؟
وعند هذه المفاجأة نجد الجواب، لأن الأدب الجاهلي لم يضع إلا عند المتأخرين، أما المتقدمون من رجال القرن الأول والثاني والثالث فقد عرفوه وتدارسوه)!
ثم يعود فيؤكد هذا في صفحة 53 إذ يقول: (أنا أقول بأن الأدب الجاهلي لم يضع إلا عند المتأخرين، أما المتقدمون فكانوا يعرفونه ويروونه ويتجرون به الأسواق الأدبية وعلى أبواب الملوك(569/21)
فصاحب النثر الفني يثبت هنا ما كان قد نفى وأنكر هناك من وجود نثر جاهلي صحيح عرفه القدماء الإسلاميون وتدارسوه، واستنتجوا منه ما استنتجوا، وحكموا عليه وله بما حكموا. وهو بهذا يهدم كل ما بنى ورتب على فقد النثر الجاهلي من نحو إهماله آراء القدماء وحكمهم في نثر الجاهلية، واضطراره إلى الرجوع إلى القرآن لاستنباط صفات ذلك النثر، بقطع النظر عن رأى صاحب النثر الفني في القرآن. أما كيف، وقد كان ذلك النثر موجوداً مدروساً في القرون الثلاثة الأولى، أمكن أن يندثر ويضيع في القرن الرابع والقرون بعده، فذلك ما لا فائدة في التسآل عنه أو النظر فيه عند صاحب الكتاب
وموقف صاحب الكتاب من أمية العرب في الجاهلية يشبه موقفه من النثر الجاهلي، فهو يقضي فيها بما يلائم غرضه في كل مقام. إذا أراد أن يهدم ما بناه الأقدمون على أمية العرب شكك فيها ثم نفاها، حتى إذا أراد أن يحتج لبعض مزاعمه التي ينقضها نفيه الأمية عن عرب الجاهلية أثبتها وأشاعها
فهو يشكك فيها حين يريد أن يثبت لهم أدباً مكتوباً في الجاهلية إذ يقول: (وهذا الذي أقوله يحملنا على الشك في التقاليد التي جرى عليها الباحثون من أن العرب كانوا أميين بدرجة خطيرة، وأنهم لذلك لم يحفظوا عن طريق الكتابة شيئاً يستحق الذكر من قصائدهم وخطبهم ورسائلهم)
وهو ينفيها عنهم حين يثبت لهم في الجاهلية علوماً ونهضة لا تقوم إلا على الكتابة والكتاب كما ترى في قوله: (وظهور كتاب كالقرآن في أي لغة يدل على أنها تعدت طور الطفولة منذ أزمان، واللغة حين تصل إلى عهد القوة والفتوة لا تخلو من باحثين يهتمون بتقييد ما يعرض للأساليب من القوة والضعف والوضوح والغموض) ص 48 وفي قوله: (وإنما أرجح أن يكون العرب في جاهليتهم عرفوا النحو وعرفوا غيره من العلوم الأدبية. ألسنا نرى القرآن يجري على نمط واحد في أوضاعه النحوية لا يختلف في ذلك إلا باختلاف رواته من القبائل المختلفة) ص 55
وفي قوله: (ونتيجة ما سلف أن العرب في جاهليتهم اهتموا بالنثر الفني اهتماماً ظهر أثرء وعرفت خواصه في خطب الخطباء ورسائل الكتاب) ص 56
فاقرأ له واعجب إذ يقول بعد ذلك مباشرة: (ولكن ما عرف عن العرب من إهمال التقييد(569/22)
والتدوين لشيوع الأمية فيهم أضاع علينا معرفة من اهتموا اهتماماً جدياً بتدوين البديع، فكان من ذلك أن شاع الاعتقاد بأن ابن المعتز هو أول الكاتبين في هذا الفن الجميل) هذا يقوله في مقام يريد فيه أن يجعل البديع كالنحو علماً معروفاً في الجاهلية كما هو صريح كلامه في صفحة 56، فلما لم يجد دليلاً أو شبه دليل على ذلك علله بإهمال التقييد والتدوين لشيوع الأمية في عرب الجاهلية، ناسياً ما كان ادعاه لهم من قبل من وجود علماء كاتبين يهتمون بتقييد العلوم
ومثل آخر من اضطرابه وتناقضه ما كتب في القرآن وأثره في أهل العصر الأول؛ فهو في صفحة 58 يروي في الهامش ورأى المسيو مرسيه من أن العرب كانوا يتجنبون محاكاة القرآن وأن القرآن لذلك لم يؤثر في نثرهم الفني تأثيراً بذكر. وقد وافقه بحق على تجنبهم المحاكاة وخالفه بحق كذلك في إنكاره تأثرهم بالقرآن إذ يقول: فإن ذلك - أي تجنبهم المحاكاة - لا ينافي تأثرهم به وتأثيره فيهم، فإن هناك عدوى روحية تمس القلب والعقل وتصبغ الآثار الأدبية بصبغة ما يقرأ المرء أو يسمع وإن تكلف الهرب وحسب نفسه بمنجاة من المحاكاة والتقليد) فهذا صريح في أنه يرى أن تأثرهم بالقرآن كان غير مباشر، أي كان رغم تكلفهم الهرب عن المحاكاة والتقليد. لكنه يرجع بعد ذلك في صفحة 60 فيقول توصلاً إلى تخطئة بعض مخالفيه (والقرآن أساس المنهج الكتابي لذلك العصر - عصر الصدر الأول - بلا شك) فينقض بهذا ما وافق وما خالف به مرسيه، إذ كيف يمكن أن يكون القرآن أساساً للمنهج الكتابي من غير أن يقلد أو يحاكي، أم كيف يتكلفون الهرب من محاكاته ثم يكون عندهم أساساً للمنهج الكتابي؟
وأعجب من هذا وأصرح في تناقضه أنه بعد أن رجح معرفة الجاهليين علم النحو بناء على جرى القرآن على نمط واحد في أوضاعه النحوية، رجع فنفى ذلك في الهامش في نفس الصفحة (ص 55) إذ يقول تعليقاً على دعواه تلك:
(عدم اختلاف الأوضاع النحوية لا يدل على أن العرب لذلك العهد كانوا عرفوا النحو، ولكنه دليل على أن اللغة كانت موحدة في طرائق التعبير، وهذا كاف للاقتناع بأنهم فكروا في ربطها بقواعد النحو وأصول البيان)! فانظر إلى استدلاله على معرفتهم النحو في الجاهلية بعدم اختلاف الأوضاع النحوية في القرآن، ثم نصه على أن عدم اختلاف(569/23)
الأوضاع النحوية لا يدل على أن العرب لذلك العهد كانوا عرفوا النحو، واحكم هل هذا بحث باحث أو عبث عابث؟ أما كيف أن توحد اللغة في طرائق التعبير كاف للاقتناع بأنهم كانوا فكروا في ربطها بقواعد النحو وأصول البيان في الجاهلية، أم كيف أنهم فكروا في ربطها بقواعد النحو مع أن العرب لذلك العهد لم يكونوا عرفوا النحو، فأمر لا يقدر على فهمه إلا من قدر على قوله: صاحب الكتاب ومن على غراره في البحث والتفكير.
محمد أحمد الغمراوي(569/24)
من الشعر الجديد
للأستاذ محمد محمود رضوان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ونعود بعد ذلك إلى قصيدتنا فنكشف ما فيها من سمات الشعر الجديد بقدر ما يطيقه قلمي الضعيف. فمنها:
اضطراب الوزن
وشعراؤنا المجددون لا يأبهون بأوزان الشعر كثيراً. . . هم ينظمون كما تهديهم الفطرة فإن جرى نظمهم على أوزان الشعر فيها. وإن حادوا عنها ووجدوا من يلومهم أخذتهم العزة فراحوا يعنفون هذا الأسلوب العتيق - مراعاة الوزن وينادون بتحرير الشعر من هذه القيود الثقيلة التي اصطنعها الأقدمون
وإذا كان الشاعر - علي شرف الدين وهو من الذين درسوا العربية وراضوا عروضها وقافيتها يهمل الوزن فأحر بسائر شعرائنا الشبان أن يكونوا أكثر منه إهمالاً له
مطلع قصيدته (أين الطريق)
ملِّ الرحيل معفَّرٌ ... أودى به حظ الأديب
وهي كما ترى من (مجزوء الكامل) ووزنه (متفاعلن) أربع مرات. وقد اختل الوزن فيها مرتين. الأول في قوله:
لن تشهدي مني السرور على الشروق ولا البكاء على الغروب
فإنه كرر (متفاعلن) خمس مرات. والأخرى كذلك أيضاً في قوله:
كأنما للغمط والحرمان من أبنائها حظ الأديب
تناقص المعاني
ويحدث هذا في أشعار القوم، لأنهم لا يقصدون إلى هدف في نظمهم. وإنما هي أفكار تروح وتجئ، وتشرق وتغرب على غير هدى. ولقد يخيل إلى أن الشاعر منهم يشرع في نظم قصيدته وما في نفسه غاية أو هدف فما يزال يلفق البيت والأبيات من الشرق ومن الغرب حتى تستوي له قصيدته. ولئن سألته ماذا يعني وأيا يريد لتسلل لواذاً ما يلوى على شيء.(569/25)
فهل تنتظر من مثل هذا إلا أفكاراً متناقضة ومعاني متباينة؟
وهذا شاعرنا يحدثنا عن برمه بالحياة لكثرة نوازلها حتى لقد مات شعوره
وتمررت نفسي زماناً ... ثم ثابت من لغوبِ
مات الشعور بها فما أنا ... بالحزين ولا الطروب
وإذن فقد مات شعوره فما يحس حزناً ولا طرباً، ولكنه بعد ذلك يحدثنا عن قلبه الذي ينزع بالشجو ثم يشكو أساه إلى والديه، ثم يرجع في آخر قصيدته (مكلوم الفؤاد بحظ منسي سليب)، ولست أدري كيف يتفق الشجو والأسى والفؤاد المكلوم لإنسان فقد الشعور؟. . .
وتراه يقول إنه لم يبق منه بعد أن أرهقه الزمان
إلا بقايا مأتم ... في الوجه يبديه شحوبي
أشلاء آمال تلوح ... كأنها صرعى الحروب
ولست أدري كيف يتفق لمثل هذا المحطم الذي لم تبق له الأيام إلا أشلاء من الآمال أن يرقى الجبل مزوداً بأعصاب قوية
فصعدت لا زاداً سوى ... الأعصاب الفصحى العروب
ثم ما رأيك في كلمة (الأعصاب) في هذا الشعر؟
ومن تناقضه أيضاً أنك تراه ساخطاً على الشباب آملا الخير في المشيب:
وسئمت من ليل الشبيبة ... وانتظرت سنا المشيب
ولكنه - وقد بلغ الثمانين من وهده وشاب بخياله - ساخط أيضاً على المشيب:
وبلغت من زهدي الثمانين ... التي هدَّت جنوبي
عثرات اللغة والنحو
وهذا شائع في شعر القوم ولا سبب له إلا جهلهم باللغة وأساليبها، وفقرهم في الاطلاع على كنوزها ودقائقها. وارتضاخ ألسنة الكثير منهم بلكنة أعجمية يزهون بأن تظهر في تعبيرهم، وأخيراً عدم مبالاتهم بنا يفشو في أساليبهم من اللحن وتهوينهم من شأنه. يقول شاعرنا:
وتكشفت لي محن ... ة الأكفاء في البلد العجيب
والأكفاء هم النظراء، وإنما يريد الأكفياء جمع كفى أو الكفاة جمع كاف. . . ويقول:(569/26)
وقصيدُ عمرٍ داميً الأوزان مجروحَ الضروب
ولست أدري بم نصب نعت المرفوع. ولا معنى للتعلل بالقطع هنا
ازدحام الاستعارات وفسادها
ولعل فساد الاستعارة من أشهر عيوب القوم. فالمعروف أن للاستعارة أصولا ودقائق يزل من يحيد عنها، وأنه لا بد من أن تكون مشابهة بين المستعار والمستعار له حتى تصح. . . على هذا جري كلام العرب، ولكن سادتنا لا يحفلونه، هم يستعيرون ما شاءوا لما شاءوا من غير اكتراث بعلاقة. وحسبهم ما في الألفاظ من بريق ولمعان
ثم إن الاستعارة في كلام بلغاء العرب كانت بمقدار، وقد تقرأ القصيدة من شعر امرئ القيس أو الفرزدق فلا يقع لك إلا استعارة أو اثنتان أو ثلاث أو ما قرب من ذلك، وقد عاب النقاد على شعراء بني العباس إيغالهم في الاستعارة والتجنيس، وقضية الاستعارة في شعر أبي تمام استغرقت أكثر كلام الآمدي في كتاب الموازنة. فما بال شعرائنا يغرقون فيها - إلى فساد في التشبيه وانقطاع في العلاقة - إغراقاً بعيداً يجعل كل شعرهم استعارات وصوراً متراكمة، وما هكذا يكون البيان. وقديماً قالوا إن الشيء إذا زاد عن الحد انقلب إلى الضد. اقرأ لشاعرنا هذه الأبيات:
أشلاء آمال تلوح كأنها صرعى الحروب
وجراح أنات تلاشت واندملن على ندوب
ورفات آهات نضمن قبرها صدر الغيوب
وقناة دمع لم تزل بالخد من عهد النحيب
وحنين قلب ملجم الدقات مكبوح الوجيب
نزاع شجو دونه في ناره شجو الغريب
وقصيد عمر دامي الأوزان مجروح الضروب
أرأيت أشلاء الآمال، وجراح الأنات، ورفات الآهات وقبرها، وصدر الغيوب، وقناة الدمع، والدقات الملجمة، وقصيد العمر، والأوزان الدامية، والضروب المجروحة؟ أرأيت إلى هذه الزحمة المرهقة؟ ثم اسمع إليه بعد ذلك يصف أيام الطفولة بأنها رفافة كالروح أو كالنور أو طيف الحبيب وأنها ريا كنوار المروج، ثم إني أؤكد لك أن شاعرنا - على ما رأيت -(569/27)
مقتصد في استعاراته وتشبهاته بالنسبة لما عودناه شعراؤنا المجددون، فهل هذا هو التجديد يا معشر الشعراء؟
لقد مرت عصور كان الجناس فيها آفة الأدباء، فهل يحق لنا أن نقول إن الاستعارة والتشبيه اليوم آفة الشعراء؟
سوء المقابلة
والمقابلة من محسنات البديع، ولكن لها دقائق. قديماً عابوا على الشاعر مقابلته المحب في قوله (سرور محب أو إساءة مجرم)، لأن مقابل المحب هو المبغض لا المجرم مع أن المبغض مجرم
وشعراؤنا يقابلون فيخلطون، وشاعر اليوم يقابل السرور بالبكاء وبرج السعد ببرج الخطوب وإنارة الشمس بغيابها، وقد يكون له في كل هذا تأويل ولكنه على كل حال مما يضعف الشعر ويشوه جماله
ضعف الأسلوب
وهذا الموضوع يطول شرحه في شعر القوم، ولكن لن يفوتنا أن نمثل له بقول شاعرنا
أمي أبي أدعو وعند كليكما خير المجيب
وقوله يخاطبهما
أغضبتما فكبا جوادي أم ترى كثرت ذنوبي
وقوله:
وبلغت من زهدي الثمانين التي هدت جنوني
فما رأيك في (عند كليكما خير المجيب) و (أم ترى كثرت ذنوبي) وجمع الجنب في (هدت جنوبي)؟
أما بعد. . . فهذه نظرات سريعة لم يملها علينا إلا رغبتنا في خير الشعر الجديد. ولدينا - فوق ذلك - مزيد.
(بني سويف)
محمد محمود رضوان(569/28)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
557 - أنا آكل الكبش بصوفه
قال الطبري: كان للفصل بن الربيع (وزير الأمين) خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم ودخل في حبس الزنادقة فرأى فيه أبا نؤاس - ولم يكن يعرفه - فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة؟ قال: معاذ الله قال: فلعلك ممن يعبد الكبش
قال: أنا آكل الكبش بصوفه. . .
قال: فلعلك ممن يعبد الشمس
قال: إني لأتجنب القعود فيها بغضاً لها
قال: فبأي جرم حبست؟ قال: حبست بتهمة أنا منها برئ، قال: ليس إلا هذا
قال: والله لقد صدقتك. فجاء إلى الفضل فقال له: يا هذا لا تحسنون جوار نعم الله (عز وجل) أيحبس الناس بالتهمة؟
قال: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى (أبو نؤاس) من جرمه فتبسم الفضل، ودخل على محمد (الأمين) فأخبره بذلك، فدعا به وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر؛ إن قال نعم، قيل له: فبعهد الله، قال: نعم، فأخرج
558 - غريم وقاض كريم
في (جمع الجواهر في الملح والنوادر) لأبي اسحق الحصري: قال الصولي: كنت يوماً بين يدي (أمير المؤمنين الراضي بالله) إذ دخل عليه بعض الخدم برقعة دفعها صاحب الخبر الملازم لمجلس أبي عمر القاضي: يذكر أن رجلاً أحضر خصما للقاضي، وادعى عليه مئة دينار، فألزم القاضي الغريم اليمين إذ لم يجد الخصم بينة، فأخذ الدواة، وكتب بيتين، ودفعهما إلى القاضي، فأمر القاضي غلامه فأحضر مئة دينار، ودفعها إلى الرجل، والبيتان هما:
وإني لذو حلف كاذب ... إذا ما اضطررت وفي الأمر ضيق
وهل من جناح على مسلم ... يدافع بالله ما لا يطيق؟(569/30)
فعجب الراضي من الرجل وديانته، وعجب من كرم القاضي وحسن ما فعله
559 - بما رضى به لنفسه ولأنبيائه
كان لشريك القاضي جليس من بني أمية، فذكر شريك في بعض الأيام فضائل علي بن أبي طالب، فقال ذلك الأموي: نعم الرجل علي! فأغضبه ذلك وقال: ألعلي يقال: نعم الرجل، ولا يزاد على ذلك. فأمسك حتى سكن غضبه، ثم قال: يا أبا عبد الله، ألم يقل الله تعالى في الإخبار عن نفسه (فقدرنا فنعم القادرون)، وقال في أبوب (إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب)، وقال في سليمان (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد) أفلا ترضى لعلي يما رضى الله به لنفسه ولأنبيائه؟
فتنبه شريك منذ ذلك لوهمه، وزادت مكانة ذلك الأموي في نفسه.(569/31)
ميت بين الأحياء
للدكتور عزيز فهمي
أنا حَيٌّ غيرَ أني لستُ حيْا ... إنما أطوي بقايا العمِر طَيَّا
ذَبُل القلب فأذْوى مُقْلَتَيِّا ... وأراني ضاحكاً طَلق المُحَيّا
وأراني ناعَم البالِ رضيّا
ليتني اليومَ كما كنتُ شقيّاّ!
يوم كُنا في أَتون العمر نُصلَي ... حَرَّهُ هْجراً وتعذيباً ووصلا
إن دنا منا حبيبٌ ثمَّ مَلاّ ... بَدَّلَ القلبُ حبيباً وتَسَلى
لا نُبالي من تَجنَّى أو تولى
إن دعانا الحبُّ لم نعدم حَفِيّا
يوم كان الشعر وحياً وهديلا ... يوم فَجَّرناه نبعاً سلسبيلا
يوم كان العيش سهلاً وذلولا ... يوم كان الجِدُّ لهواً وفضولا
يومَ عَّلمْنا القَمارىَّ المُثولا
يوم علمنا القمارىَّ الرَّويا!
يوم كنا نُرْهقُ الجسم شبابا ... يوم كنا نَرْشُفُ العمر حبابا
كيف أضحى ذلك القلب خرابا ... كيف حال الكرْمِ غسلينا وصابا
كيف حالت جذوة القلب ترابا
كيف أمست بعدها صفراً يُدَيّا!
ما لعيني لا ترى رأياً جديدا=أغَشتها غشوة عادت صديدا؟
ما لقلبي خافقاً خفقاً وئيدا ... ذلك القلب الذي كان عنيدا!
كل شيء جامد حولي جمودا
ليس في دنياي ما يوحي إلَيّا!
كلما لاح بريق في سمائي ... أو بدَا آلٌ تَلَفّتُّ إزائي
فإذا بالبرق وَمْضٌ كسًناءِ ... وإذا بالآل إظلال تُرائي
وأنادي والصّدى رجع ندائي(569/32)
ليتني لم ألْف في الأوهام شَيَّا!
ويروح الناس أو يغدون حولي ... وأنا راض بحالي وَبِحِلي
ويَجِدِّون لِلَهْوِ أو لِشغل ... وأنا حيرانٌ مشدوهٌ، وعقلي
عاجز عن درك ما يشغل مثلي
من رآني ظن بي مَسْا خفيّا
شاب هذا الروح واليأس احتواه ... مذ أفاق الروح من حلم شجاه
وأفاق الصب من ماضي هواه ... عبثاً تنشد يا قلبي سواه
قد كَبُرْتَ اليوم فاقنع بشذاه
عش جماداً أو فعش مثلي خليا!
أيُهَذا البلبل الشادي بلحن ... ما لهذا اللحن لا يُطرب أُذني
أيها البلبل! ما هذا التجني؟ ... هاتِ صوتاً غير هذا أو فدعني
يا أمير الدوح لُمْ أو لا تَلمْني
كان هذا الصوت في الماضي شجيا!
عزيز فهمي(569/33)
صديقي الربيع
للأستاذ العوضي الوكيل
شجرُ (المشمش) ازدهرْ ... وغداَ أبيض الغُرَرْ
وسَرَى البِشْرُ في الغُصو ... نِ نُضاراً وفي الزَّهَرْ
تلكَ بُشرَى الربيع قدْ ... سبقت ركْبَةُ النَّضِرْ!
يا صديقي الربيع عُدْ ... تَ، فَجَدَّدْتَ ما غَبَرْ
كم فؤاد لحسْنِكَ الرَّ ... ائع الفاتنِ انتَظَرْ!
شاعر خالدِ النشي ... دِ وَلَوْلاَكَ ما شَعَرْ!
ناقل عنك ما استطا ... عَ سبيلاً وما قَدَرْ!
يا صديقي الربيع قَدْ ... لَجَّ بي الشوقُ واستَعَرْ
لَمرَاءٍ نَضِيَرَة ... فِيكَ يُرْوَى بها النَّظرْ!
ومعان وضيئَةٍ ... فيك تسمو على الفِكرْ
ونسيم لشهر آذا ... ر عذب السرى، عطر
العوضي الوكيل(569/34)
البريد الأدبي
حول شعر الشباب
قرأت مقال الأستاذ محمد محمود رضوان في العدد الأخير من الرسالة الغراء؛ وقد تصدى فيه لاحتمال ما تركه الأستاذ الكبير (ا. ع) من سوق الأمثال لمواضع النقص في شعر الشباب. وعجيب من الأستاذ رضوان أن يتنصل من طابع الشباب مبكراً، ويحاول أن يقود الحملة على شعر إخوانه الشبان! على العجب قد يقل أو يضمحل إذا علمنا أن الأستاذ قد خلص من متاعب العام الدراسي، واستقبل فترة الراحة والاستجمام، فهو يأبى أن يدع الطير في أوكارها، ويرمي بسهامه هدفين من زملائه، ويمعن في البأس والتحدي فيرمي غرض ثالث بعيد!
لقد أخذ على الأستاذ طاهر أبي فاشا ميله إلى شكوى الزمان، ورأى
في ذلك اللون من الشعر تناقضاً مع ما يعرفه عن (طاهر) من
الدعابة. . . وفاته أن الشاعر يعلم من أسرار نفسه أكثر مما يعرفه
خلطاؤه! فقد يهزأ بالحياة ظاهراً، ويخوض عبابها مع الخائضين، حتى
إذا بلغ منه يأس الزمان، نفس عن نفسه، وسجل على الحياة عدوانها،
وهو في كل ذلك فطري النزعات، لا يمت إلى التناقض بسبب، وإنما
هو الشاعر: يسخر حيناً، ويجد حيناً:
أعاتب نفسي أن تبسمت خالياً ... وقد يضحك الموتور وهو حزين!
ومن ينكر على الأستاذ (علي شرف الدين) غرامه بشكوى الزمان، وهو الشاعر الأبي النفس، الذي قعد به حظه العاثر، وسلك إلى غايته السهل والوعر، فلم ينل من الحياة ما يرضى نفسه الطموح! وهل يؤخذ على قصيدته الرائعة أنها قوية النسج، جزلة الأسلوب، موحدة الفكرة، وتلك صفات نلتمسها في كثير من الشعر فلا نظفر بها؟ أفيصح بعد هذا أن ننظر إليها على أنها من الشعر القديم؟! لقد ظلمتم شعراء الشباب! إذا أخطئهم النسج القوي، وصفتم شعرهم بالسخف والفتور، وإذا راعكم منهم البيان الجزل قلتم: هذا من الشعر القديم!(569/35)
كنت أود أن تنقد القصيدة - وأنت الشاعر - من حيث الوزن، فتشير إلى هنة جاءت من الأستاذ سهواً، يراها القارئ المدقق في البيت الخامس منها. . . وإني أدعك لألمعيتك - وأنا بها جد خبير - وسأرى ما أنت صانع
ثم إن الأستاذ (رضوان) يفرق بين غموض بعض الصور في شعر الشباب، وغموض كثير من الصور في شعر القدامى! ويسألني! هل تبينت معنى قول أبي تمام:
جهمية الأسماء، إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياء
وقوله:
هن عوادي يوسف وصواحبه ... فَعزْ ما، فَقِدْماً أدرك النجح طالبه
وقد فات الأستاذ أن الغموض غموض حيث كان، وأنه مخل بالبلاغة على أية حال، وأن الشاعر القدير لا يكد ذهن قارئه في الوصول إلى ما تنطوي عليه أساليبه، وبقدر ما يتوافر له من أسباب الوضوح يكون حظه من البيان، ومنزلته بين الشعراء. ولأمر ما وصف المتنبي وأبو تمام بالحكمة، وانفرد البحتري بصفة الشاعرية المطلقة!
وهل ضرب النقاد الأمثال للتعقيد اللفظي والمعنوي من قول القدامى ظالمين أو عابثين؟
وبعد فإني أوثر أن يتولى الشباب الدفاع عن شعرهم، وأقف من هذه القضية عند هذا الحد، وأعتقد أن عناصر النبوغ كثيرة في شعر الشباب، وأن التوجيه والإرشاد أجدى على الأدب، وأليق بالناقدين والسلام
(الإسكندرية)
(م. ع البشبيشي)
القرآن الكريم في كتاب النثر الفني
كتب الأديب إبراهيم السيد عجلان في العدد 567 من الرسالة كلمة ذات شطرين: شطر يتعلق بنص ذكره من كتاب الموازنة بين الشعراء وشطر يتعلق بإلزام ذكره مما كتبنا
أما الشطر الأول فالدكتور زكي مبارك موجود ليدفع عن نفسه إن استطاع، ومع ذلك فقد اعترف حديثاً بأن ما أسندناه إليه هو بالفعل رأيه
وأما الشطر الثاني فيكفي أن ننبه الأديب الفاضل إلى كلمتين أغفلهما تحددان الذاتية الأدبية(569/36)
التي هي مدار الإلزام، وهما كلمتا (كالتي أراد) أي ذاتية كالتي أراد زكي مبارك. وهو لم يرد إلا ذاتية أدبية تستلزم كتابة الرسائل وتأليف الكتب في الجاهلية، أي ذاتية أدبية غير التي أشار إليها الأديب وأجمع عليها جميع العلماء والمؤرخين.
محمد أحمد الغمراوي
حول شعراء الجديد!
ليس بغريب أن تفسح الرسالة (وصاحبها من رسل التجديد في الأدب العربي عامة) صدرها لمناقشة الجديد والقديم من الروح الشعري؛ بل إن فترة الانتقال والتقلقل التي نجتازها لتفرض علينا هذا النضال، وتاريخ الأدب حافل بأمثاله. ولكن الغريب حقاً أن يكون حماة القديم والداعون له دائماً من رجال اللغة والنحويين (وإني لأحبهم، فقد أشربت تقديرهم عن والدي وأستاذي الزيات والمبارك) لم أفهم لهذه الثورة سبباً ولن أفهم حتى أجد لهذه الأسئلة جواباً:
ما معنى التجديد عند دعاة القديم؟ هل هو عرض الفكرة القديمة في لفظ جديد؟! وكيف يكون اللفظ جديداً واللغة واحدة أو ليس من الطبيعي أن تتجدد الفكرة والصورة دون اللفظ، لأن البيئة تتجدد فالأحاسيس التي تثيرها تتجدد، والتعبير الذي يصورها يتجدد. ومن التعبير تكون الفكرة. ماذا جناه شعراء الشباب - وأنا منهم - سوى أنهم جددوا في الفكرة مع حيوية في التعبير وقوة التصوير وسلامة في اللغة؟
إن التجديد - بمعنى افتراع ما لم يكن - بدأ في اعتقادنا بالتمثيلية الشعرية؛ وستجد هذه والملاحم أيضاً - كما يدعو الناقد المجدد الأستاذ دريني خشبة - سبيلها إلى الكمال عندنا؛ فقد أوشكنا أن ننتهي من ملحمة كبيرة عنوانها (ملائكة وشياطين)، وعند إخواننا الملهمين الأفاضل محمود إسماعيل وقطب وجودت وعبد الغني حسن ومحمود شعبان والخميسي وفؤاد كامل والدكتور فهمي ومحي الدين صابر ومخيمر والوكيل
هذا في الشعر أما في النقد فإن رسل التجديد فيه هم شبابنا الأفاضل مندور وخشبة وقطب والعريان، وفي القصص الأساتذة ذهني وجوهر ويا كثير والمسيري والمصري والسحار ومحفوظ.(569/37)
هؤلاء هم حملة رسالة التجديد من الشباب؛ وإن الحياة لتسير؛ وليس منا من توهم أن رسالتنا يمكن أن تتأثر بمقال، وهيهات أن يكتمل النقد من غير مثال
حسين محمود البشبيشي
(الفوضى) في المجمعين
رأيت الأستاذ الكبير (ا. ع) بك عضو (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) يستعمل في نقد (الشعر الجديد) المنشور في مجلة (الرسالة) لفظة (الفوضى) بمعنى الاضطراب والعبث، ورأيت زميله في المجمع أيضاً الأستاذ أحمد أمين بك يستعملها كذلك في اقتراحه الذي قدمه أخيراً للمجمع المذكور، وكذلك زميلهما الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر حسين في نقده لهذا الاقتراح
ويقول الدكتور مصطفى جواد في (مجلة المجمع العلمي العربي) - ج 10 م 18 - : (الفوضى جمع مفرد، ووصف لا اسم جامد، واستعمالها وإن شاع لا يدل على بصارة بلغة العرب. فالفوضى كالمرضى والقتلى والشتى والصرعى وما أشبه ذلك. فاستعمال (الفوضى) بمعنى الاضطراب والاختلاط والعبث والانتشار والمرج والاختلال خطأ مبين). وهو موافق لما نص عليه بعض ثقات اللغويين، ولكن في كلامهم أيضاً وكلام غيرهم من الإثبات ما يؤيد صحة الاستعمال المشهور: ففي المخصص (صار القوم فوضى أي متفرقين) وفي اللسان (قوم فوضى: مختلطون. . . والوحش فوضى متفرقة تتردد. . . ونعام فوضى أي مختلط بعضه ببعض. . . التهذيب: كل ما كان في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إلا عن تفرق أو كثرة) وفي الجمهرة (جاء القوم فوضى إذا جاءوا وذهبوا مختلفين) وفي التاج (قال أو زيد: أمرهم فيضيضي بينهم وفيضوضى ويمدان وفيوضى بالفتح أي فوضى. وذلك إذا كانوا مختلطين يلبس هذا ثوب هذا، ويأكل هذا طعام هذا، لا يؤامر أحد منهم صاحبه فيما يفعل من أمره. وذكر اللحياني أيضاً مثل قول أبي زيد)
محمد غسان
من خريف الربيع
جاء في قصيدة الأستاذ محمود حسن إسماعيل المنشورة في العدد الماضي من الرسالة(569/38)
الغراء ما يأتي
وأنة في الحشا طواها
سجن يسمونه الضلوعُ
ويلاحظ القارئ أن في هذا البيت إقواء؛ إذ ضم الشاعر كلمة (الضلوع) مراعاة للقافية مع وقوعها مفعولاً ثانياً (ليسمُّونه). . . وهذا غير سائغ عند العروضيين. فضلاً عن النحويين
محمد عبد الفتاح إبراهيم
تصحيح
جاء في مقال شيكسبير المنشور بالعدد 567، بالفقرة رقم 3 ما يأتي: (ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره كان يترجم اللغة اللاتينية)، والصواب: ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره كان يترجم اللغة اليونانية القديمة إلى اللغة اللاتينية)(569/39)
العدد 570 - بتاريخ: 05 - 06 - 1944(/)
19 - دفاع عن البلاغة
11 - التلاؤم في الأسلوب
رأيت معي أن تقطيع المنثور من الكلام جملاً أو فقراً أو فواصل عمل بلاغي تقتضيه حالة النفس وحركة الذهن وطبيعة التنفس. وهذا التقطيع - وإن نشأ في اللغة على مقتضى الطبع - له فلسفة وهندسة وموسيقى هن عناوين علم البلاغة، وبراهين فن البليغ. فأما الفلسفة فقد أشرت إليها في مقالي السابق إشارة توجه أو تنبه. وأما الهندسة والموسيقى فملاكهما التلاؤم بين أجزاء الفقر وفواصلها. فإن كانت الفواصل متعادلة فهو التوازن، وإن كانت متماثلة فهو السجع. مثال الأول: وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم. ومثال الآخر: إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم. فبين المستبين والمستقيم تعادل، وبين نعيم وجحيم تماثل. بله التوازن بين آتيناهما وهديناهما، والكتاب والصراط، والأبرار والفجار
والتوازن ويسمى الازدواج موسقةٌ فطرية في نفوس العرب جعلوا بها النثر أشبه بالنظم في جمال الرصف الأسلوب لا تكاد تنفك عنه في جميع أغراضه ومختلف صوره. وهو في ذلك يخالف السجع فإن للسجع موضوعات ومواضع لا يطلب إلا لها، ولا يحسن إلا فيها: ولذلك يقبل في غرض دون غرض، ويجمل في صورة دون صورة. قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير: (كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإن كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، وفصولهم متقابلة. وتلك طريقة الإمام علي ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هرون والجاحظ). وقال أبو هلال في الصناعتين: (لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجاً. ولا تكاد تجد لبليغ كلاماً يخلو من الازدواج. ولو استغنى كلام عن الازدواج كان القرآن؛ لأنه في نظمه خارج عن كلام الخلق. وقد كثر الازدواج فيه حتى حصل في أوساط الآيات فضلاً عما تزاوج في الفواصل منه). وقال في موضع آخر: (واعلم أن الذي يلزمك في تأليف الرسائل والخطب هو أن تجعلها مزدوجة فقط. ولا يلزمك فيها السجع. فإن جعلتها مسجوعة كان أحسن ما لم يكن في سجعك استكراه وتنافر وتعقيد).(570/1)
فالازدواج على إطلاقه، والسجع على تقييده، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ منذ كان للعرب ذوق وللعربية أدب. فليست الحال فيهما هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة ونمت بالترف وسمجت بالفضول وفسدت بالتكلف. فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات، والمزاوجة بين الكلمات، والمجانسة بين الفواصل، إنما ينكرون جمال البلاغة وجميل البلغاء في دهر العروبة كله. وإذا أقررناهم على ذوق العصر لا يسيغ ذلك البديع الذي أولع به كتاب العصر الخامس ومن خلف من بعدهم، فذلك لأننا لا نقحم في ذلك البديع تلك الأنواع التي تحسب في عناصر الأسلوب وتنسب إلى خصائص اللغة؛ كصحة المقابلة، وحسن التقسيم، وائتلاف اللفظ مع المعنى، واتفاق الفقرة والفقرة في الوزن، واتحاد الفاصلة والفاصلة في الروي
وأقطع الحجج على أن الازدواج والسجع من لوازم الأسلوب العربي أن القرآن وهو (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) قد تجوز في بعض الألفاظ والصيغ محافظة عليهما. قال شمس الدين بن الصائغ في كتابه: إحكام الرأي في أحكام الآي: (وتتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرت منها على نيف وأربعين حكما) نذكر نحن منها على سبيل المثال: تقديم ما هو مؤخر في الزمان نحو: ولله الآخرة والأولى. وتقديم الصفة الجملة على الصفة المفرد نحو: ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. وتقديم الضمير على ما يفسره نحو: فأوجس في نفسه خيفة موسى. وتذكر اسم الجنس مرة وتأنيثه أخرى نحو: أعجاز نخل متفعر، وأعجاز نخل خاوية. والإفراد في موضع التثنية نحو: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، بدلاً من (فتشقيان). وتغيير بنية الكلمة نحو: طور سينين، بدلاُ من طور سيناء. ووضع اسم المفعول موضع اسم الفاعل نحو: حجاباً مستوراً، بدلاً من ساتراً. . .
كذلك تجد في كلام أفصح العرب وسيد البلغاء مثل ذلك. فقد كان صلى الله عليه وسلم يغير الكلمة لتلائم أختها في مثل قوله: (أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة) وإنما أراد ملمة. أو في قوله: (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، وإنما أراد موزورات من الوزر. فلو كان الازدواج نافلة والسجع فضلة لما كان لهما هذه المنزلة من كتاب الله وحديث رسوله. ولقد زهقت صناعة الحريري زهوق الباطل، وذهبت بضاعة الحموي ذهاب(570/2)
الزبد، فلم يبق حياً قوياً على فشو العجمة وشيوع الجهالة غير هذين النوعين الأصيلين، يجريان على الأقلام الموهوبة مجرى الطبع، ويفعلان بالنفوس الشاعرة فعل السلاف، ويحفظان للأسلوب العربي روحه الذي عاش عليه وفنه الذي خلد به. والناس لا يكرهون السجع لأنه سجع، ولا البديع لأنه بديع، وإنما يكرهون التكلف والتمويه والبهرج وتنميق الألفاظ على المعنى التافه، وترصيع الأسجاع في الكلام الغث، كل يكرهون الزخرف المنمنم على الجدار المنهار، والحلة الموشاة على الجسد المسلول. لكنك إذا تدبرت ما كتبناه في حد البلاغة وتعريف الأسلوب، ووعيت ما قلناه في معنى الأصالة ومدلول الوجازة، وكان لك الطبع الذي صقله الأدب، وجلته الفطنة، وأسعفته الملكة، أمنت الكلمة التي لا تقع في موضعها من الجملة، والصناعة التي لا يقوم على أساس من الطبع والذوق، والحلية التي لا تساعد الأسلوب على التأثير والإبانة. وإذن يكون ما تنتج هو الجمال، وما تنتج هو الفن.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(570/3)
مكانة العرب بين الأمم
للدكتور عبد الوهاب عزام
تخلد الأمم على وجه الأرض وتحيا على مر الدهور وتثبت في صفحات التاريخ بأسباب وقوانين. ويختلف حظها من الخلود ومن المجد باختلاف هذه الأسباب المؤاتية والقوانين السارية، قوة وضعفاً، وإبطاء وإسراعاً، وضيقاً واتساعاً. وهي أسباب متصلة متشابكة يؤدي بعضها إلى بعض ويمسك بعضها بعضاً. من هذه الأسباب صلاحية الموطن، والقوة الحسية والمعنوية، والثبات للحادثات، والاحتفاظ بالخصائص، والاعتداد بالنفس والثقة بها، وحضارة الأمة وأثرها في العالم، وقدرتها على الأخذ والإعطاء في معترك الأمم، والمكانة بين الناس، وعظم التاريخ على مر الدهور
فأما الوطن فقد منح الله العرب موطناً فسيحاً وسطاً بين المواطن، فياضاً بالخيرات بعيداً من الآفات الطبيعية المدمرة. موطن العرب جزيرتهم التي ولد فيها تاريخهم ومثواهم القديم الذي عرفهم فيه التاريخ منذ تحدث عن البشر بين نجد إلى إيران وجبال طوروس والبحر الأبيض، ثم متقلبهم الذي نشرهم فيه الإسلام إلى بحر الظلمات وأواسط أفريقية. وهو موطن شاسع الأرجاء يقع معظمه في الإقليم المعتدل، وقليل منه في الإقليم الحار، وتجرى فيه ثلاثة من أعظم أنهار العالم: النيل ودجلة والفرات، وتتقسمه السهول الخصبة، والبراري والصحارى والجبال، وتمتد سواحله على بحر العرب والبحرين الأحمر والأبيض. هذا الموطن العظيم يكفل الحياة القوية والعيشة الغنية، والثبات على الخطوب، والبقاء على الزمان. وقد جعل الله مهد العرب جزيرة ممتازة محدودة بالبحار من معظم جهاتها فحفظت هذا الجنس القوي بمعزل من تقلب الجماعات، بعيداً من طرق المهاجرات فبقى يطبع الأجسام القوية والطباع السليمة، والفطر الخالصة، ثم يمد أجزاء الموطن العربي الكبير، كلما نالت الخطوب من أهلها أو أترفتهم الحضارة. وما يزال يقذف بهم موجة بعد موجة كالنهر العظيم المتدفق من قنن الجبال، بعد ينبوعه من الشوائب، واطرد مجراه إلى الغاية المقدورة له، ونبتت على عبريه الزروع والأشجار، وحيّت الأمم
ما تزال جزيرة العرب خلاقة ولادة فياضة ممدة لأقطار العرب بالقبيل بعد القبيل. فإن بليت الأمم فهذه لا تبلى، وإن أفنت الأقوام الحوادث فالعرب لا تفنى، وإن نضب معين(570/4)
الأمم فلن يغيض الدم العربي الخالص ما دامت أنهار الله جارية في أرض الله، وما دامت شمسه وهواؤه وأرضه تنمى الأجسام وتطبع الأقوام
وأما الثبات للحوادث الطبيعية والإنسانية، فما دام هذا الوطن العظيم يعرف بعضه بعضاً، ويتصل بعضه ببعض، فستجد كل ناحية في النواحي الأخرى ما يسعفها بمطالبها إن قحطت، وما يدرأ عنها الأحداث إن طغت عليها. ومحال أن تعمها كلها الحوادث إلا أن يكون حادث القيامة حين يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما احتفاظ الأمة بخصائصها فعلى قدر ما في أجسامها وعقولها من قوة، وعلى قدر ما فيها من اعتداد بالنفس وثقة بها، والعرب من أقوى الأمم أجساماً وعقولا، وأكثرها أنفة وإباء وعجباً وفجراً. والعربي منذ العصور الأولى يغلو في الاعتداد بنفسه ويأبى أن يسويها بالأمم، ويربأ من مصاهرتها. وقديماً أبى النعمان أن يزوج كسرى، وحديثاً قال أحد مجاهدي العرب في طرابلس الغرب، وقد عقد صلح بين أهل طرابلس والطليان وامتن هؤلاء على العرب بأن سووهم بأنفسهم في الحقوق. قال هذا العربي المجاهد وهو ليس رئيساً ولا زعيما: (واسوأتا! أأسوّى أنا بالرومي. . . إنه لذل عظيم). بل كان من آفات العرب الغلو في هذه الكبرياء فصعب أن ينقادوا ويسلسوا القياد. فبهذا الشعور بالعلاء والعظمة يعتزون بأنفسهم، ويمتازون بخصائصهم، ويتمسكون بأخلاقهم. وقديماً قال شاعرهم:
وإني لن قوم كأن نفوسهم ... بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وقديما وهن حاجب بن زرارة التميمي قوسه لملك الفرس ضماناً لما التزم من خراج. وحارب بنو شيبان الفرس إباء أن يسلموا سلاح النعمان بعد أن قتله كسرى. وقال أبو تمام يمدح بني شيبان:
إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها ... وزادت على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
والمثل أكثر من أن تذكر في هذا المقام، وأبين من أن تبين
إذا أحاطت الأمة القوية أنفسها وخصائصها بأخلاق قوية كفلت دفع الخطوب عن حوزتها. ولا سيما الأخلاق الإنسانية العزيزة التي تأبى للأمة أن تخضع فتذل فتفنى. والعربي في(570/5)
جاهليته وإسلامه أبى حر، يأنف أن يَستعيد أو يُستعيد، وقد أمده الإسلام بفضائل سيرته على وجه الأرض كالنجم لا يضل ولا يكل، وجعلته قانوناً من قوانين الله يسير إلى غايته مسير الشمس والقمر في حبك السماء
وكلما أخرجت الأمة من عمل أيديها، وأظهرت من نتاج عقولها، ونشرت من ثمرات أخلاقها وآدابها، زادتها صناعاتها وعلومها وآدابها رسوخاً على الأرض وثباتاً على مجرى الخطوب. ولا يعرف التاريخ أمة أثرت على وجه الأرض، وشادت في الآفاق وفي الأنفس أكثر من العرب. لا يعرف التاريخ أمة حملته أكثر مما حملوا، أو جملته أحسن مما جملوا، أو سيطرت عليه أعظم مما سيطروا، أو سطرت على صفحاته أجل مما سطروا. فإذا تركنا التاريخ القديم من معين وسبأ وحمير ومن بابل وأشور، فهل يحدثنا التاريخ عن أمة طلعت على العالم بمثل ما طلع العرب؟ همةً ذللت المشرق والمغرب في سنين، ونيةً تريد الخير للناس أجمعين، وعدلاً يسوى بين الجبارين والمستضعفين، بل يمحو من الأرض كل جبار ومستضعف ويقف الناس جمعياً أخوة على سنن من العدل المطلق، والمساواة الكاملة، والأخوة الشاملة.
هل يعرف التاريخ أمة جمعت في سلطانها ما جمع العرب من أمم وأقطار، ثم آخت بينهم وحفزتهم إلى الفضائل والآداب والعلوم والصناعات، فإذا معظم العالم المتحضر متعاون على نسج حضارة واحدة عظيمة، كل أمة على قدر مواهبها وقواها؟ فوصلت ما انقطع من سير الحضارة، وقطعت ما اتصل من سير الجبروت والاستعباد والشر والفساد. وما فعلوا هذا كله إلا ابتغاء وجه الله، وقصداً إلى إصلاح الناس، وعمران الأرض. وقد ربط التاريخ ذكر العرب وتاريخ العرب بهذه المآثر وتلك الفضائل والأخلاق والمكارم، وضمن لهم الخلود ما بقي للناس سيرة في الفضائل والمعالي. لا أقول إن الإسلام صنع العرب فالإسلام صنع الله، ولكن العرب كانوا أول من حملوا هذه الأمانة فحملوها، ودعوا إلى هذه المعالي ففقهوها، وكلفوا نشرها فنشروها، فكأنما خلقت لهم أو خلقوا لها، وكانوا أحق بها وأهلها، وللأمم الإسلامية بعد هذا فضل لا ينكر. ثم أدب العرب هل يعرف العالم أعظم منه سعة رقعة، وطول مدة، وحمالاً وجلالاً؟
إذا ثبتت الأمم بنيانها على كر العصور بالسير المجيدة، والمثل العالية، فعند العرب سير(570/6)
رجف بها الزمان، وأقر لها الحدثان. وإن مكنت الأمم لأنفسها بالصناعات والعلوم والآداب فعند العرب ما يكفل لهم التمكن في الأرض والخلود في سجل التاريخ. وحسب المجادل أن يسير فكره بين هضب إيران وبحر الظلمات وجبال البرانس وغابات أفريقية، ويعبر التاريخ في هذه المواطن كلها أربعة عشر قرناً ليرى مجد العرب ويبصر حجة العرب
ولا نقول إن العرب خلقوا ولم يقلدوا، وابتدعوا ولم يتبعوا، وأعطوا ولم يأخذوا، وأعاروا ولم يستعيروا، ولكنا نقول إنهم أحسنوا الخلق والتقليد، وأجادوا الابتداع والاتباع، والأخذ والعطاء، والإعارة والاستعارة. والأمم تدل على فضلها بالأخذ كما تدل عليه بالعطاء، وتثبت حياتها بالمحاكاة كما تثبتها بالخلق. وإنما حياة الأحياء على قدر ما تؤثر في غيرها وتتأثر. الذي لا يأخذ ولا يعطى جماد، والنبات يأخذ قليلاً ويعطي قليلاً. وانظر بعد هذا الحيوان الأعجم والإنسان، ثم اعتبر هذا في تاريخ الأمم يصح الاعتبار ويطرد القياس
تخلد الأمم بأفعالها وآثارها، ويقينها في أنفسها، ويزيدها مكانة وتمكيناً في الخلود أن يزيد على مر العصور مجدها، وتعظم على كر الدهور بين الأمم مكانتها، حتى تعلو على أحداث الزمان ومطامع الإنسان، فتقر لها الأمم بالفضل وتخلى لها سبيلها في الحياة
وللعرب من هذا كله نصيب موفور، وسعى بين الأمم مشكور، إلا من ضل به الهوى أو جار به الحسد. وهم جديرون اليوم بتاريخهم، حقيقون بسيرتهم. ولن يكونوا إلا كما كانوا من قبل دعاة حرية وأخوة، وهداة مدنية وعمران، وأئمة أخلاق وآداب، وأنصار فضيلة وحق. ولن يكون نهوضهم اليوم إلا خيراً للبشر وسلاماً للناس أجمعين
ولهذه الأمة الكريمة الخالدة لغة كريمة خالدة أنضجها الزمان المتطاول في البقاع الشاسعة من الجزيرة، وأخرجتها الفطرة السليمة والإحساس المرهف، والإدراك النافذ، لغة كاملة معجبة عجيبة تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس. تكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، وتتمثل في نبرات الحروف، كأنما كلماتها خطرات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة، فالمعاني المحسة والمعقولة مبينة في ألفاظ تدرك الفروق الدقيقة بين الأشياء المتشابهة، فتضع للشبيه لفظاً غير ما وضعته لشبيهه إدراكا للفرق الدقيق بينهما. فإذا وضعت بعض اللغات للضرب مثلاً كلمة واحدة وضعت العربية كلمات تختلف باختلاف آلة الضرب وموضعه من الجسم. وإذا دلت اللغات على صفات(570/7)
الوجه الإنساني مثلاً بكلمات مركبة لكل صفة، دلت العربية على كل حلية في الإنسان وكل صفة في عينيه وحاجبه وأنفه وفمه وأسنانه وغيرها بأسماء خاصة. وليس هذا مقام التمثيل والتفضيل
ثم هذا الإحساس الحاد الدقيق المتمثل في المفردات يتجلى في التركيب مدهشاً. فكل كلمة لها في الجملة مكانة يحس بها المتكلم أو تحس بها الكلمة نفسها فتعطى صوتاً مكافئاً لهذه المكانة. فالكلمة الأصيلة لها أقوى الأصوات وهو الضم، والأخريات لها الفتح والجر، وما أرى هذا إلا ضرباً من الحياة في الألفاظ والتركيب يبين عن أدق الإحساس وألطفه
وإذا اشتملت اللغات على كلمات هي مادتها، ففي اللغة العربية مادة وقوالب يستعملهما صاحبها حين الحاجة، فيها مادة ووزن. فخذ المادة أو استعرها من لغة أخرى، ثم صبها في قالب من قوالب الأسماء. والأفعال وصورها بالقوالب أو الأوزان ما تشاء. فلغتنا تدل بالمادة والوزن وبالصيغة والهيئة. فمن سمع فاعلا أو مفعولا أدرك أن هذا الوزن في حركاته وسكناته له معنى يلازمه في المواد كلها. وبهذا حدت اللغة واستبانت خصائصها، حتى نفت عن نفسها كل كلمة أجنبية ما لم تخضع لأوزانها وقوانينها. للأسماء أوزان والأفعال أوزان، فما لا تزنه هذه الأوزان فهو أجنبي. وبهذا بقيت على الدهر المتطاول خالصة نقية، صحيحة قوية
قيل إن لغتنا صعبة بهذه المفردات وبهذه التراكيب والأوزان، وإنها تكاد تأبى على دارسها، وتعجز طالبها. وهذا حق لا تدفعه، وإن عيباً فلا ننكره. ولكنه ليس من نقصان في خلقها أو اختلال في بنيتها أو عجز في موادها وأوزانها. ولكنه نتيجة التطور الكامل والنمو التام. فأدنى الأشياء في هذا العالم أيسرها وأقلها تركيباً. والكمال يصحبه التركيب والتفصيل والأشكال والإعضال. اعتبر هذا في النبات والحيوان، في الحيوان ذي الخلية والواحدة بالإنسان، ثم انظر المراتب بينهما. واعتبر هذا في البداوة والحضارة وفي أنواع الحضارات تجد النقص بساطة ويسراً، والكمال تركباً وصعوبة. الكمال في هذا العالم لا ينال إلا بتطور تلده الأحقاب بعد الأحقاب، وتنوء به العزائم بعد العزائم، فلغتنا صعبة، ولكنها كاملة حية دقيقة مواتية، حية حساسة موسيقية متلائمة
وقد امتحنت هذه اللغة الحضارة الواسعة، واختبرها التاريخ الطويل، فلم تعجز ولم تضق(570/8)
بكل ما أدركه الإنسان من علم، وثقفه من صناعة، بل وسعت حضارة القرون المتطاولة والأمم المختلفة غير كارهة ولا مكرهة
وقد أراد الله لها أن تكون لغة كتابه وترجمان وحيه، وبلاغ رسالته، فاشتملت على العالم الحسي والعقلي مصورا في كلمات وآيات، وجزيت على هذا خلوداً ما خلد للإنسان عقل وقلب، وما استقام له إحساس وإدراك. وتقلب الزمن، وتوالت المحن، وثارت الفتن وهي ثابتة ناضرة رائعة ثبات قوانين الله وروعة كواكبه. خمسة عشر قرناً محت لغات وخلقت لغات، وبدلت لغات وحرفت لغات، والعربية هي العربية لم تمح ولم تغير ولم تبدل، وما آية الخلود بعد هذا؟
ولم تبق هذه العربية لغة العرب وحدهم بل ثقفتها الأمم الأخرى، وأولتها من الحفاوة والعناية أكثر مما أولت لغاتها أحياناً، فصارت لغة العلوم والآداب للعرب وغير العرب حقباً طويلة ما بين أقصى المغرب وأقصى المشرق. ولا تزال على تبدل الأحوال وتوالي الغير لغة أدب وعلم في الأمم الإسلامية غير العربية. ولا تزال هذه اللغات مترعة بألفاظها ولا تزال تستمد العربية
وقد حوت على مر العصور أدباً لا تحويه لغة أخرى. أدب موطنه ما بين الصين إلى بحر الظلمات، وزمانه أربعة عشر قرناً، ولا نعرف في آداب العالم قديمها وحديثها أدباً اتسعت به المواطن هذا الأتساع، وامتدت به الإعصار هذا الامتداد
فالعربية بأهلها وموطنها وخصائصها وآدابها وتاريخها، والعربية بقرآنها، خالدة باقية على الخطوب والعصور لغة دين وعلم وأدب وحضارة وإنسانية. فهل تنصرها همم أبنائها وتستجيب لها عزائمهم؟
عبد الوهاب عزام(570/9)
مصر الإسلامية
للدكتور محمد مندور
ليس من شك في أن الحضارة المصرية القديمة قد خلفت رواسب بعقليتنا الراهنة، ولكننا نتركها الآن ما دام مظهرها العام اليوم أننا أمة عربية، ونقف عند مصر الإسلامية، ونعني بها تاريخياً مصر منذ الفتح العربي إلى الحملة الفرنسية، ولهذه الفترة أهميتها في كل محاولة جادة لإدراك مقومات حياتنا الثقافية، وذلك لأن دراستها ستنتهي بنا إلى حقيقة كبيرة، هي أن مصر المعاصرة ليست استمراراً لمصر الإسلامية. وبيان ذلك هو أن الحضارة العربية والثقافة العربية لم يطرد تقدمهما ببلادنا ولا اطرد جانب الخلق فيهما، بل غلبت عليهما المحاكاة والصنعة بدلاً من الإبداع والأصالة، حتى أنه عند بدء الحملة الفرنسية نستطيع أن نقول إن مصر الإسلامية كانت تحتضر في معظم نواحي نشاطها الروحي بل والمادي. ولم يكن بد عندئذ إذا أريد لبلادنا أن تنهض من أن تقوم نهضتها على أساسين جديدين: هما بعث التراث العربي القديم الذي خلفه صدر الإسلام ببلاد الشرق العربي من جهة، والأخذ عن الحضارة الأوربية مباشرة أو عن طريق الترجمة من جهة أخرى
وظاهرة اضمحلال الثقافة العربية بمصر في تلك الفترة من الظواهر التاريخية الكبيرة التي تستحق الدرس. ونحن لا نريد اليوم أن نقف عند تقلب الحكم ببلادنا بين العباسيين والطولونيين، والأخشيديين والفاطميين، والأيوبيين والمماليك، والأتراك العمثانيين وما كان في عهد كل منهم من ضعف بلادنا السياسي أو قوتها، وتأثير ذلك في حياتها الروحية، وإنما نريد أن نفسر الظاهرة على أساس ثقافي بحت
والذي يبدو لنا هو أن هذا التفسير لا يمكن أن يستقيم إلا إذا حددنا العلاقة بين الثقافة العربية في مصر والثقافة العربية في جزيرة العرب والعراق والشام حيث نبتت تلك الثقافة
وثمة حقيقة عامة في تاريخ الثقافة العربية لها نظائرها في تاريخ الثقافات الأخرى القديمة، وهي أن تلك الثقافة قلما ازدهرت إلا حيث توجد السلطة السياسية ويوجد الأمراء الذين يرعون تلك الثقافة
ومصر في عهدها الأول بالحكم العربي لم تكن منفصلة عن الخلافة لا في عهد عمر(570/10)
وعثمان وعلي، ولا في عهد الأمويين أو العباسيين، بل كانت تابعة تبعية محكمة؛ ولهذا لم تقم بها سلطة سياسية مستقلة تستطيع أن ترعى الحياة الأدبية والعقلية ببلادنا وتحوط نفسها برجال الأدب والفكر كما كانت تفعل الخلافة. ومن هنا لم تنشأ ببلادنا بيئة ثقافية قوية كما نشأت ببلاد الشرق. وهناك مثل بسيط ولكنه دال على هذه الحقيقة هو مثل الليث ابن سعد، فقد نبغ هذا العالم الكبير في علوم الدين حتى شهد له الإمام الشافعي بالتفوق على الإمام مالك نفسه، ومع هذا لم يستطيع عالمنا المصري أن يكون مذهباً. ولقد علل الشافعي ذلك بقوله: (إن أصحاب الليث لم يقوموا به) وفي الحق أن التفسير الصحيح هو نشأة الليث بمصر وتبعية مصر عندئذ لبلاد الشرق العربي وعلماء الشرق العربي، وعدم استقلالها سياسياً وروحياً
وفي القرن الثالث الهجري انفصل الطولونيون بمصر، وأخذت بلادنا تستقل بحياتها الروحية، كما استقلت بحياتها السياسية وكان من المنتظر أن تنشأ عندنا حضارة إسلامية لها طابعها الخاص أو على الأقل لها قوتها على الأصالة والخلق. ومع ذلك نستطيع أن نقول بوجه عام إن هذه الظاهرة أيضاً لم تتحقق
والسبب في ذلك هو أن وقت انفصال جاء مع الوقت الذي أخذ فيه الأدب العربي ينقلب انقلاباً خطيراً نحو المحاكاة والصنعة بدلاً من الابتكار والطبع، وجارت مصر هذا التيار العام الذي انتهى بتجفيف ينابيع الخلق الأدبي الأصيل في بلاد الشرق العربي وفي بلادنا على السواء
وانقلاب الأدب العربي نحو المحاكاة والصنعة ابتداء من القرن الثالث الهجري من الظواهر التي أفقرت الأدب العربي، وكان لها في تاريخ الأمم العربية كلها أسوأ الآثار
فالذي نلاحظه هو أنه منذ ذلك التاريخ أخذ علماء اللغة والنقاد ينظرون إلى الأدب الجاهلي والأموي وأدب الصدر الأول من العباسيين نظرة تقديس دفعهم إليها دخول الأعاجم بين العرب وتطرق اللحن إلى اللغة وشعورهم بالحاجة إلى المحافظة على صحة تلك اللغة حتى لا يدب الفساد في لغة القرآن والحديث أو تنحرف مدلولاتها عن وضعها الأول. وطغت نظرة العلماء والنقاد على الأدباء والشعراء فاضطروا أن يحاكوا القدماء لا في اللغة فحسب، بل وفي موضوعات القول وبناء القصائد، وهكذا استقرت ظاهرة المحاكاة حتى(570/11)
أصبح هؤلاء الشعراء وأولئك الأدباء عبيداً للقديم وكأني بهم يرقصون في السلاسل
وإلى جانب هذا التيار العام - تيار محاكاة القديم المسمى في تاريخ الأدب العربي بتيار عمود الشعر - أخذ يظهر تيار آخر معظم رجاله من الشعراء الأعاجم حاولوا أن يجددوا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتحرروا تحرراً تاماً؛ فحافظوا على بناء القصائد كما حافظوا على موضوعات القول ولم يجددوا إلا في الصياغة وكونوا مذهباً هو المعروف بمذهب البديع أي المذهب الجديد. ورأس مذهبهم هو مسلم بن الوليد وبشار وأبو نواس وأخيراً أبو تمام فهو الذي وصل بمذهبهم إلى غايته
مذهب البديع هو مذهب الصنعة. ومن هنا لم يلبث هذا اللفظ أن تطور فأصبح يدل على علم بذاته هو علم المحسنات اللفظية كما فصل موضوعاته أو هلال العسكري في كتابه المعروف (بالصناعتين) صناعة الشعر وصناعة النثر
والصنعة في الشعر والنثر من أخطر الآفات التي تهدد الفكر والإحساس عند التعبير عنهما، حتى لأخالها تعمي الرأي وتذهب بصدق الإحساس، وذلك لأمر بين هو أن الشاعر أو الناثر الصانع المتكلف بفكر ويحس مرتين: مرة ليدرك الإحساس أو الفكرة، ومرة ليحتال عليهما حتى يسكنا إلى اللفظ وفي هذا إفساد لهما
وهكذا ظهرت المحاكاة كما ظهرت الصنعة في الأدب العربي، وصادف ذلك بدء نشوء أدب مصري مستقل، فغلبت المحاكاة وغلبت الصنعة على أدبنا نحن أيضاً كما قلنا؛ واستمرت الأمور تسوء برغم فترات الانتعاش التي اهتزت فيها بلادنا بأحداث ضخام بددت المحاكاة أو مزقت الصنعة لوقت ما كالدعوة العلوية أيام الفاطميين والحروب الصليبية أيام الأيوبيين
وجاء حكم الأتراك العثمانيين بما صحبه من ظلمات ومظالم جففت منابع الحياة الروحية ببلادنا، حتى إننا عند بدء الحملة الفرنسية نبحث عن أدب مصري عربي فلا نجد إلا شعراً متكلفاً سخيفاً أو نثراً مسجوعاً يدعو إلى الضحك، أو كتابة مهلهلة كتاريخ الجبرتي الذي تكاد لغته تمس اللغة العامية
وانتهت الحملة الفرنسية وجلس محمد علي على عرش مصر فأدرك بفطرته السليمة أنه لابد لإنهاض هذه البلاد من أن يقطع التيار؛ فيعود إلى التراث العربي القديم يبعثه، كما يتجه ببعثاته إلى أوربا حيث كانت الحضارة الحقة كما سنرى(570/12)
محمد مندور(570/13)
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
الفن والإصلاح
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كلما ثار الجدل في مصر حور تقدير الفن وإطلاق حريته أو تقييدها بقيود صالح الجماعة والمحافظة على دعائم حياتها، استحضرت في نفسي صوراً من الطبيعة ومن حياة الأمم التي تمثل النزعتين لأجد القول الفصل الذي يقرب نفسي من الصواب؛ فإني أرتاح دائماً إلى أحاديث الطبيعة الأستاذة، وإلى أحكام الحياة الصادقة الناجحة، وأتخذهما أساسين لصحة الأفكار والأعمال غير عابئ بعد ذلك بما يرسله المنطق اللفظي والجدل النظري
وأنا الآن بسبيل تحكيم هذين الأساسين في القضية التي أثارها الأستاذ الكبير أحمد أمين بك، وجادلها وعلق عليها الكاتب الفنان توفيق الحكيم، هي: الفن للفن؟ أم الفن للحياة؟
فأما الطبيعة توهي أستاذتنا التي أورثتنا عقولنا وعلومنا وفنوننا وتجاربنا، وعرضت لنا نفسها عرضاً مكشوفاً لنراها ونعرف أسرار علم بارئها وفنانها الأعظم. . . فقد أرشدتنا - لو كنا نسترشد بها - إلى أن الفن فيها إنما هو وسيلة للنفع والمصلحة لا للترف ولا لإطلاق عبقرية الخلق والتجسيم والتكشيل والتلوين على هوى طليق غير منسجم مع الاتجاه العام في الطبيعة كلها
وقد أرشدتنا كذلك إلى النسبة التي يجب أن يكون الفن بها في الحياة وإلى ترتيب وجوده وظهوره في كائناتها. والذي لا شك فيه أن في كل شئ في الطبيعة عملاً ضرورياً وعملاً فنياً. والعمل الضروري هو الذي يضمن حسن إخراجه، ولفت الأنظار إليه وحمل الأحياء على الانتفاع به والمحافظة على استمرار نوعه وحمايته. ومن وراء ذلك الظاهر الفني نظرة علمية دقيقة مدركة لغاياتها ووسائلها جادة مقتصدة غيرها هازلة ولا مسرفة فوجود (الكيان) المادي (وتجسيمه) وإقامة (هياكله) الضرورية وتهيئة أسباب نفعه واستمرار وجوده هي محاور العمل الطبيعي الدائم في عالم الجماد والنبات والحيوان، وهي الجهد المبذول في دؤوب واستمرار في جميع الفصول والمواسم، ثم يأتي بعد ذلك دور التجميل والإخراج
فالجذور في النبات مثلاً لا جمال فيها ولا زينة وإنما هي عاشقة للظلمات والعفونات،(570/14)
ساربة أبداً بين الصخور والعقبات، جاهدة باحثة عن الضروريات. فهي تقوم بأعظم العمليات وأدومها وأشقها وأنفعها لحياة الشجرة. ومع ذلك لا تخطى من تقدير السطحيين من الناس بما تخطى به زهرة خادعة فانية محدودة النفع والعمر من الزهرات التي هي من فن تلك الشجرة والتي هي في الواقع خدعة من خدع تلك الشجرة لجلب اللقاح وتكثير النوع وحفظه
ولا جدال في أنه خير للشجرة ولصاحب الشجرة أن يحافظ على جذرها الأعوج القبيح ساكن الظلام ليحفظ أوليات حياتها ويرفدها بعوامل النماء، من أن يعني بكثرة زهرها الجميل في فترة من فترات حياتها ويهمل جذرها حتى يمرض ويصيبه العجز والكلال عن السعي لغذائها. فإن بقاء الجذر صحيحاً عاملاً كفيل ببقاء الأمل في حياتها واستمرار وجودها وإنتاج ثمارها وأزهارها. وإن في الأشجار منافع كثيرة قد يكون جمال الأزهار أقلها عند من يقدرون العناصر الأساسية للحياة. واسألوا جانيات الشوك وجامعي الأحطاب من البراري والقفار والوديان: أليسوا يمرون على الأزهار البرية الجميلة الفواحة العطر لا يعبئون بها كما يعبئون بالأشواك والأحطاب يجمعونها ليوقدوا النيران ويقيموا الجدران، طلباً للدفء والمأوى بين الأهوال القاسية التي تهدد حياتهم الضرورية؟
كذلك البؤساء مادياً ومعنوياً، المجهودون المنهوكون من السعي في سبيل القوت والحق والعدالة يمرون بالتحف الفنية والآثار الأدبية التي أنتجت للترف العقلي وألاعيب الذكاء وإزجاء حياة الفارغين الهانئين كما تمر جانيات الشوك وجامعو الأحطاب بالأزهار البرية التي لا توقد ناراً ولا تقيم مأوى!
وينبغي ألا تجعل هوايات المترفين مادياً أو عقلياً مقياساً للأحكام حين نتحدث عن المسائل الكبرى التي تمس إصلاح مجتمع لا تزال أكثر آلامه ناشئة من التفاوت الفاحش مادياً وعقلياً بين طبقتيه العالية والسافلة، المترفة وهي قلة، والمجهودة المنهوكة وهي الكثيرة؛ فإن الإنصاف يقضي أن تكون المقاييس منتزعة من حياة الكثرة التي هي أشد التصاقاً بضروريات العيش، وأرهف إحساساً بمشكلاته، وأعظم تعرضاً لآلامه ونكباته، وأقوى اضطلاعاً بخدماته
ومن هنا أخطأ الأستاذ توفيق الحكيم حين هون من شأن الجهود الأدبية الإصلاحية لما(570/15)
وازنها بالآثار الفنية الخالصة متخذاً حجته من ضياع كثير من نتاج الأولى وبقاء كثير من الثانية في ذاكرة الزمان، وحين قرر أن الأدب الأوربي لم يبلغ مبلغه العظيم بفضل نزوله معترك الحركات الإصلاحية، وإنما بفضل قيمته الفنية، وأن الآداب الأوربية لم تحترم يوماً فناناً أو أديباً لأنه مصلح، ولكنها قد تحرم المصلح إذا كان أدبياً أو فناناً، وأنه ينبغي للنقاد والمصلحين أن يملوا على الفن اتجاهاً بعينه ولا يجوز لهم أن يوصوه بالحكمة والإصلاح إلا أن يشاء هو ويرضى. لأن الفنان صانع المصلح، ومصلح المصلح. . . وحين قرر مع الأستاذ الكبير العقاد أن اتجاه التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية وقرر أن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعل الحيوان حيواناً
إن المصلح هو الذي يمهد للجماعة أن تحيا وتستكمل عناصر نموها وكمالها حتى يكون فيها فنانون وعلماء وقادة وصناع وزراع. . . حتى يكون فيها جذور الحياة وثمارها وأزهارها. . . وعمله هو السابق المهيأ لنضج الملكات الفنية والكفايات الأدبية التي ترد في عهود الجمود والجهالة موارد محدودة ومشارع آسنة. ولا جدال في أن الكفاية الفنية والأديب تتسع وتعمق كلما كثرت أمامها منابع الوحي وجداول الأفكار والأعمال والمشاهد. ومن الذي يهيأ لها هذا كله غير المصلح الذي تستهوي نفسه دائماً حياة النفع العام التهذيب العام والكمال العملي، ويأخذ نفسه من نفوس أمته ويتسع قلبه لمؤثرات الحياة والاجتماع ويدرك أكثر أسرارها؟
وقد يكون الفنان - وهو في الغالب محدود الهواية - يهوى جانباً معيناً من الحياة ويغلبه وجدان واحد يستولي عليه ويصبغ إنتاجه بصبغة واحدة، فلا يستطيع أن يدرك جوانب الحياة الأخرى إلا إذا كان فناناً عبقرياً موسوعياً واسع الثقافة متعدد الأوتار؛ فإنه حينئذ يلتقي بالمصلح بل يكون هو المصلح. . . إذ أن المصلح في واقع الأمر فنان ولو لم ينتج أثاراً فنية. بل هو أعظم من فنان. . . هو (مخرج) يخرج حياة أمته وينسقها وينظم شؤونها ويعرضها عرضاً جميلاً. والمخرج كما يعلم الأستاذ الحكيم أصبح الآن هو الكل في الكل في إبراز الفنون العليا في الحياة الحاضرة. ولولاه لم يستطع الفن أن يغزو الحياة الآن هذا الغزو الشامل، ولم يكن لكثير من الفنانين الفرعيين إلا ذكر ضئيل
المصلح هو رائد (فن الحياة) وهو لا شك أعظم الفنون! لأن الحياة يجب أن (تعاش) أولاً(570/16)
في طمأنينة وسعادة وعدالة يشعر بها الجميع. ثم يأتي بعد ذلك دور (فلسفتها) التي تحلو للمترفين عقلياً من الفلاسفة والفنانين والأدباء الطلقاء الفارعين
وللمصلح بما له من هذه الوصاية الشاملة أن يقول للفنان: إنك (نشاز) في جوقة أمتك. . . أو هادم لوحدتها، أو خارج على حدود مجتمعها، أو مفسد لمثلها الأعلى، أو مبلبل لخواطرها. وله أن يقترح عليه عملاً بعينه يراه لازماً لكمال الإخراج في حياة أمته، وله أن يقتضيه (الضريبة الأدبية) في مستوى معين ليردها على الفقراء في الإحساس الذاتي بالفن والجمال
إن حياة الاجتماع الإنساني شأن عظيم! بل هي أعظم شؤون الإنسان: فمنها تفجرت ينابيع فكره ولغته وراحته وعلومه وفنونه وصناعاته، ومنها أدرك قوة نفسه بين غمرات القوى العمياء، بل منها أدرك (فرديته) وحريته وحقوقه، ومنها ظهرت تفاعلات نفسه مع جنسه هذا التفاعل الذي أخرج كوامن نفسه وخصائص جنسه. فليس من الحق أن تهدر حقوقها في سبيل حقه ولو كان فناناً. . . وليس من الصحيح أن يقرر أن الإنسان سائر من الاجتماعية إلى الفردية حتى في الفن إلا أن يكون هذا انتكاساً. وليس من الصحيح أن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعله حيواناً. وأنه بالتالي كلما كثر الإحساس بالجماعة في جماعة ما، كان هذا دليلاً على أنها أدنى إلى الحياة الحيوان. . . كلا! هذه أحكام لا أدري كيف أرسلها الأستاذ الحكيم؟!
فالواقع أن نسبة الغيرية والإيثار والإحساس بالجماعة وبالجنس البشري كله والتضحية بالنفس في سيبلهما - وهي دعائم الاجتماع - تنمو نمواً عظيماً. وليس من هذه الصفات شئ في جماعات الحيوان إلا في حدود الغريزة الضيقة في الأمومة والأبوة في بعض الحيوانات العليا، ولم تنتج حياة الاجتماع في جماعات الحيوان نتائج تزيد على حاجات هذه الغريزة المحدودة. بينما تنتج حياة الاجتماع في الإنسان نتائج كثيرة جداً جعلت أمام العالم الطبيعي عالماً آخر صناعياً، وجعلت الوعي الاجتماعي في الفرد مبنياً على عقل الفرد وفلسفته لا على غريزته وحدها. إن الجماعة البشرية سائرة من الفردية في الأمة إلى الجمعية الدولية، وبوادر هذا واقعة الآن في هذه الحرب. وبذورها وجدت من قبل في المجموعات السياسية الكبرى. ولا شك أن هذا يستتبع كتباً للنوازع الفردية في كل أمة من(570/17)
الأمم التي تشترك في هذه المجموعات، ونزولاً عن بعض خصوصياتها وحرياتها وحقوقها التي كانت لها وهي فريدة، كما استتبعت حياة الجماعة في الأمة الواحدة نزول الأفراد عن كثير من حقوقهم وحرياتهم التي كانت لهم قبل حياة الجماعة. فالقانون واحد مطرد: وهو السير من فردية الأسر إلى اجتماعية القبيلة ثم إلى الأمة ثم إلى الإمبراطوريات واتحاد الولايات. ومن هذه إلى جمعية الأمم التي هي أمل العالم
وليس ذلك في السياسة وحدها، فإن ما في السياسة ينتقل إلى الثقافة والفن الذي ثار حوله هذا الجدل. فالآثار الفنية الأولى في الأدب العربي مثلاً لم تكن غير مقطوعات شعرية غنائية هاج بها وجدان قائلها في مناسبات الحب والفراق والفخر والحماسة والمدح والرثاء وغيرها من أغراض الشعر الغنائي، وهو لا شك شعر فردي يستجيب للأحاسيس والوجدانات الخاصة. ثم أخذت هذه المقطوعات تطول وتتسع للأغراض الاجتماعية فتذكر فيها الحروب والوقائع والمفاخر العامة للقبيلة حتى انتهت بالمطولات والمعلقات التي اهتم بها غير قبيلة قائلها من العرب. ثم ابتدأ ذكر الأمة العربية كلها يسطع في الشعر العربي حين وضعها الإسلام وضعاً واحداً أمام الأمم الأخرى التي احتكت بها في النضال والفتوح. أفلا يقال بعد ذلك إن الفردية في الفن العربي كانت تقل نسبتها تبعاً لنمو الوعي الاجتماعي بين العرب؟
(للكلام بقية)
عبد المنعم خلاف(570/18)
رسائل التعليقات للرصافي
للأستاذ دريني خشبة
لم يكن أحب إلي من أن أكتب عن الرصافي الشاعر الذي أحبه كما أحب هذه النخبة الكريمة من شعراء العراق الشقيق، لا الرصافي الفيلسوف الذي يدعونا إلى دين جديد!
ولم يكن أحب إلي من أن أترك القلم للصديق الأعز، أخي الدكتور زكي مبارك، لأن القضية قضيته، والموضوع موضوعه، وهو الذي فتح علينا باب هذه الفلسفة الجديدة التي أخذ الرصافي يدعونا إليها من دار السلام
لكن الدكتور زكي مبارك يخاصم الزيات اليوم تلك الخصومة التي لا سبب لها، ويخاصم الرسالة تلك الخصومة التي لا سبب لها كذلك. . . إنه مخاصم الزيات ومخاصم الرسالة لأنهما أطلقا العنان لحرية النشر وحرية الفكر وحرية المجادلة، وأرادا أن يسجلا هذه الصفحة الخالدة من صفحات حرية البحث التي كان الدكتور علماً من أعلامها، بما أثبت في كتبه الكثيرة الجريئة من أفكار وآراء، وهي أفكار وآراء تمس ديننا وتمس لغتنا، بل هي تخوض فيهما خوضاً. . . أفأن رأى أحد مفكرينا من ذوي الغيرة على الدين واللغة أن بعض هذه الآراء قد جار عن القصد، وجاء مالئا يديه بالبرهان وبالدليل، أو بما يؤمن هو أنه البرهان وأنه الدليل، على بطلان ما ذهبنا إليه، غضبنا. . . وتركنا مجادلنا يقول كل شئ، ولا نقول نحن شيئاً؟
إن الدكتور زكي مبارك غاضب لأنه لم يكن ينتظر أن يهاجم في ميدانه الذي هو الرسالة. . . ولقد كنت أغضب مثله حينما أراني أهاجم، بل أتهم، في الرسالة التي أعدها ميداني. . . وكانت حجة الأستاذ صاحب الرسالة أنه كثيراً ما نادى بأن الرسالة:
تعبر بإخلاص عن روح النهضة المصرية
وتجمع على وحدة الثقافة أبناء البلاد العربية
وتصور مظاهر العبقرية للأمة العربية
وأن مجموعة أعدادها ديوان العرب المشترك، وكتاب الشرق الجديد، وسجل الأدب الحديث، ودائرة معارف عامة. . .
وأنه لذلك يؤثر أن تكون الرسالة دائماً سجلاً صادقاً لاحتراب الأفكار في مصر وفي الشرق(570/19)
العربي بحيث يجد فيها مؤرخو العالم بعد ألف سنة صورة حقيقية لما كان يجري في هذه الأقطار من جدل يدل على الحياة، ونضال يثبت الشخصية. . . وكانت حجة الزيات الأخرى أن الرسالة تناولت بالنقد كل كتابها الأماثل، وأن الدكتور زكي مبارك نفسه كان أحد مغاوير هذا النقد، فلم يكد يسلم من قلمه أحد ممن لهم في تحرير الرسالة الجهاد المشكور. لكن النقد الذي كان الدكتور يشب ناره لم يكن نقداً يمس الدين ويمس العقائد، كهذا النقد الذي وجهه إليه أخيراً أحد الكتاب الأفاضل الغير. والذي كان سبباً في تنكر الدكتور للرسالة ولصاحب الرسالة
ويعد. . . فحسبنا خروجاً على موضوع هذه القضية التي تسبب في إثارتها الدكتور زكي مبارك بكتابيه العظيمين اللذين لم يؤلف مثلهما كثيراً لا في مصر، ولا في الشرق العربي ألا وهما:
1 - في التصوف الإسلامي
2 - النثر الفني
ولعلي لا أثير سخط أحد بوصف هذين الكتابين بالعظمة، وبالرغم مما يحملانه من أوجه النقص التي أشار إليها غير واحد من الكتاب والتي وصفتها لأخي الدكتور زكي مبارك أول ما لقيته بالقاهرة في العهد الأخير بأنها - أي أوجه النقص هذه (بقع!) كبيرة كان يحسن بالأستاذ أن يتحاشاها حتى لا تقلل من قيمة كتابيه الجليلين. . . وكان هذا قبل عامين على ما أذكر. على أنه ليس هنا - أو ليس الآن - موضع التحدث عن آيات الخلود في هذين الكتابين. . . لأننا نكتب هذا الكلام بمناسبة ذلك الكتاب المفاجئ الذي وصل إلى مصر من العراق الشقيق، والذي ألفه الشاعر الفاضل معروف الرصافي، وسماه: (رسائل التعليقات) (مطبعة المعارف ببغداد سنة 1944) وجعل ثلثيه في نقد كتابي الدكتور زكي مبارك في التصوف الإسلامي والنثر الفني. . . والعجيب أن الدكتور زكي لم يطلع بعد على الكتاب الذي ألف في نقده، ولو لم أكن مشغولاً بقراءته ومناقشة ما فيه لدفعت إلى صديقي ليسمعنا رأيه فيما رماه به شاعر العراق من تهم أشهد بين يدي الله أنه برئ منها، وإن خانه التعبير فكتب ما يشتم منه هذا الذي أخذه عليه ناقدوه
وقبل أن نعرض آراء الأستاذ الرصافي نعلن أننا نقدس حرية الفكر ما لم ترم إلى شر، وما(570/20)
لم تكن نتيجتها بلبلة أفكارنا والعصف بمعتقداتنا، وهدم المعايير الأخلاقية الكريمة التي زودنا بها ديننا الذي هو أعز علينا وأكرم من فلاسفة العالم
وقبل أن نعرض آراء الأستاذ الرصافي نعلن أننا نؤمن بالله هذا الإيمان الفطري الساذج الذي قذفه الله في قلوبنا، وأنار به بصائرنا. وأن الله هو خالق تلك الأكوان كلها، فالله شئ والأكوان كلها شئ آخر. وليس الله مجموعة من القوانين الطبيعية كما يقول الفلاسفة. وإيماننا هذا الساذج الفطري هو الذي يصحبنا في تفكيرنا دائماً وهو لسهولته ويسره لا يشغلنا كثيراً، ولا يقذف بنا في تلك المهامه التي تورث الخبال، ولا تثمر إلا الضلالة، وهو لسهولته ويسره يصرفنا إلى ما هو أجدى من أمور هذه الحياة التي يملأها الجد. . . ونحن بهذا الإيمان الساذج الفطري الذي نطيع به الله ونحب به رسوله، والذي ندعو الله أن يزيده في قلوبنا رسوخاً أكثر تمدينا من الذين يرموننا بالجمود، فما أرسل الله رسله إلا لمحاربة الجمود وهداية الناس إلى الحق واليقين
وقبل أن نعرض آراء الأستاذ الرصافي أيضاً، نذكر ما أخذ على الأستاذ من الجرأة في العقيدة، والتحلل مما جاء به النبيون أو تأويله بما يلائم أفكاره، ولا يزال القراء يذكرون هذا الذي نشرته الرسالة عن عقيدته سنة 1935 (8 يوليو العدد 105 - السنة الثالثة) نقلاً عن الأستاذ أمين الريحاني الذي يقول:
(إن للرصافي رأياً في الوحي الشعري غريباً: هو لا يؤمن بالوحي، أو بالحري الوحي المنزل، إنما يعتقد أن القوة الشعرية في الإبداع، تتعلق بقوة الباه في الجماع! وأن الضعف الذي يعتري القوة الواحدة يتصل بالأخرى، إذن لابد من التوازن بينهما. . . بل هو ضروري. . .
(. . . ثم ذكر (أي الرصافي لأمين الريحاني) النبي محمداً وهو في نظر معروف شاعر عظيم. . . على أن أجمل قصائد النبي، أي أجمل السور القرآنية، إنما هي التي جاء بها في عهد الاعتدال الجنسي، يوم لم يكن له غير خديجة زوجاً، أما بعد وفاة خديجة، فقد أصبح محمد مزواجاً، وكانت قصائد - السور - في هذا العهد مثل نسائه، أي دون ما تقدم ومنهن
(فقد كتب الرصافي سيرة النبي محمد، وأطلعني عليها مخطوطة بيده، في سبعة دفاتر من(570/21)
الدفاتر المدرسية، فما أدهشني منها ما فيها من العلم والتحقيق، لأن مصادر الموضوع متوفرة لمن شاء معالجته، وأحسن البحث والموازنة، إنما أدهشتني القوة النافذة والمقدرة على التحليل والاستخراج، والتفلسف في عقائد لا تستقم بغير الإيمان والجرأة والصراحة مع الاتكال على العقل والعلم فيهما
(فقد استخدم في سيرته المصباح الذي استخدمه العلماء الأوربيون في نقد التوارة - أي مصباح النقد الأعلى الذي ينير العلم بنور العقل والمقارنات التاريخية. ومما يزيدك إعجاباً بالرصافي أنه لا يحسن لغة أجنبية، فقد ركن في كل ما حلل وأول واستخرج واستنتج إلى اجتهاده الخاص، وإلى علومه الواحدة العربية
(وإنك لتدرك الروح في مصنفه هذا إذا علمت رأيه بالله، فقد قال لي مرة: إن الآية: لا إله إلا الله، لا معنى لها، ويجب أن تبطل، أو تبدل بالآية: لا إله إلا الوجود، أي أن الكون هو الله، هي عقيدة البانيتزم، أي الحلول، وهو فيها على اتفاق والزهاوي. وقد يهمل وينسى كثير من شعر الرصافي في المستقبل، وتظل سيرته النبوية من الكتب التي تقرأ وتكتنز
وقد علقت الرسالة على هذا اللغو تعليقاً كريماً، فذكرت أن حكومة العراق صادرت كتاب الريحاني لمثل هذا الهتر، وأن الرصافي قد يقول شيئاً من هذا الكلام في ساعة لهوه ليطوى في بساط الشراب، لا لينشر على الناس في كتاب. . . الخ)
لقد تعمدنا أن نطيل الاقتباس لأن الرصافي عاد فردد هذه الأراجيف في كتابه الجديد الذي لم يصادر، وينبغي ألا يصادر، فالمصادرة سلاح رث لا يجمل استعماله في هذا العصر الذي يأخذ بحرية الفكر. . . وسترى كيف تبطل هذا اللغو بعد عرض آراء الأستاذ الكبير. . .
(يتبع)
دريني خشبة(570/22)
من اقتصاديات ما بعد الحرب
مستقبل القطن المصري
للأستاذ زكريا بك حجاج
مدير مراقبة القطن ومنع خلطه
1 - تأثير السعر على الإنتاج
تأثير السعر في الإنتاج الزراعي - شواهد من الماضي - خطورة انكماش الأسعار - الدعوة إلى تثبيت أسعار السلع الزراعية في الحرب والسلم - مقترحات لتسهيل ذلك - اقتراح إنشاء صندوق للقطن.
مشكلة الإنتاج الزراعي هي مشكلة السعر؛ فكل منها يتأثر بالآخر تأثراً كاملاً دائماً. والخطأ في تدبير مشكلتهما في دولة ما قد يفضي إلى خرابها، ولقد أطاحت هذه المشكلة في إنجلترا قبل الحرب الحالية بثلاثة وزراء للزراعة
وتذبذب قيم واضطراب الأسعار كانا السبب المباشر للتدهور الزراعي الذي مني به العالم بين سنتي 1920، 1940، إذا استثنينا الفترات القصيرة التي تحسن الإنتاج فيها لعوامل عارضة قصيرة الأجل
ومثل تلك الحالة ما وقع بعد الحروب النابوليونية، وما حدث غب الحرب الأمريكية الأهلية (1873 - 1880)
ونصيب مصر من ويلات تدهور الأسعار فيما بين الحربين الماضية والحاضرة كان نصيباً كبيراً. فقد كانت أسعار بعض المحاصيل المصرية لا تفي بنفقات زراعتها، وكان بعضها يظل ملقى في الحقل حتى يدركه التلف ولا يجد من ينقله إلى الأسواق لأن تكاليف النقل كانت - على ضآلتها - تثقل المنتج وتجر عليه خسارة محققة
وما زالت في الأذهان ذكريات قاسية عن التدهور الذي أصاب أسعار القطن في موسم 1931 - 1932 والقمح والذرة في سنة 1932 والبصل في سنة 1937
عاش الفلاح خلال تلك الفترة معيشة ضنكا، وأصبح المار بالقرى لا يكاد يرى الجنيه إلا مع آحاد، بل لقد حدث بعضهم صادقاً أنه إبان اشتداد الأزمة سنة 1931 لم تقع عينه على(570/23)
أية عملة مدة ثلاثة أشهر
وقد ثقل على الفلاح دفع ضرائب الأطيان، وآدته الديون، فانتزعت منه المصارف والمرابون أطيانه، وبيعت بالمزاد الجبري مواشيه وآنية بيته؛ ولولا صدور تشريعات صيانة الثروة العقارية لوقع أغلب فلاحينا في الإفلاس التام
وكان من جراء ذلك أن ضعفت القوة الشرائية لدى الفلاح وهو الذي يكون 80 في المائة من مجموع الشعب، فكسدت أسواق المطالب الزراعية من آلات وأسمدة وغيرها، وخلت أسواق الملابس والحاجيات البيتية من روادها الفلاحين الذين كانوا يفيضون عليها الحياة. فنضب النشاط التجاري، وتعطلت بالتالي الأيدي العاملة، ومن ثم انتشر الفقر، وفاض القلق والاستياء في النفوس. وتطلع الناس إلى إصلاح النظم الاجتماعية أو تبديلها. وفي غمرة العوز والسخط ود بعضهم لو اشتعلت الحرب لعلها تأتيهم بخير، أو لعلها تكون أرحم بهم ذبحاً، أو لعلها تأكل الناس جملة فيستريحوا.
وحالة انخفاض الأسعار أو انكماشها أو إقامة النقد على قاعدة الذهب تقع غالباً كلما وضعت الحروب أوزارها
فالفلاح إبان الحروب يشتري ما يلزمه من بذور وأسمدة وآلات ووقود بأسعار مرتفعة جداً هي وليدة التضخم النقدي وهو يدفع أجور الأيدي العاملة على هذا الأساس، وإذا اقترض أموالاً فإن فوائدها - على الأرجح - تكون مرتفعة تبعاً للحالة
فإذا دخلت الدول المتحاربة في السلم هبطت أسعار المحاصيل هبوطاً بالغ الشدة حتى لتعجز عن تعوض بعض مصاريف الإنتاج
فلو أن فلاحاً مصرياً اقترض مثلاً في سنة 1944 مبلغ 1200 جنيه لكفاه وقت الاقتراض للوفاء بهذا الدين 150 قنطاراً، ولكن هذا القدر من القطن لن يفي بالدين إذا جاءت السلم، بل قد لا يفي ضعفه؛ وهنالك يعمد الفلاح إلى إنقاص الأجور، ويعمل على خفض قيم الإيجار. يفعل ذلك ابتغاء تفادي الخسارة أو تخفيفها، ولكن عبثاً ما يحاول، إذ يتقرر عندئذ زيادة قيمة العملة إلى ما يوازي ضعف أو ثلاثة أمثال قيمتها في وقت الحرب فيتلاحق التدهور، ويقع الفلاح في أزمات عصبية تهدم كيانه المالي، ولا يجد سبيلاً إلى سداد ديونه التي تكون قيمتها الشرائية قد زادت كثيراً عما كانت عليه وقت الاستدانة(570/24)
هذه الحالة الخطيرة يجب أشد الوجوب اتقاؤها حتى لا ينخفض مستوى المعيشة بعد الحرب، وتقع في حالة الانكماش التي بسطنا آنفاً مظاهرها السيئة. والذي أعتقده أن لابد لذلك من وضع نظام تثبيت الأسعار للسلع الزراعية في الحرب والسلم على السواء بحيث تكون مجزية للفلاح، أي بحيث تكفل له الربح المعقول، على أن يقترن هذا النظام بحماية الإنتاج الأجنبي أسوة بما يصنع غيرنا من الدول من مثل إنجلترا التي ظلت تحمي صناعة سكر البنجر زمناً غير قصير حتى أمكن وقوف هذه الصناعة على قدميها بلا سند
وبالنسبة للقطن المصري بالذات أقترح أن تضمن الدولة لمنتجه سعراً يحقق له الربح المناسب. ولإمكان ذلك يجب العمل على زيادة الصناعات القطنية، وذلك بتشجيعها وحمايتها من الصناعات القطنية الأجنبية كما ذكرت، مع تخفيف الضرائب عنها تخفيفاً يطرد باطراد الزيادة في الإنتاج، أي مع مراعاة (القلة التصاعدية) في فرض الضرائب
وظاهر أن هذه الحماية ستكفل امتصاص مقدار وفير من قطننا في مصانعنا، ولذلك أثره الأدبي والاجتماعي الباهر في حياتنا. بيد أن الأخذ بهذه المقترحات لا بد له من رأس مال يكفي لتمويل ثلث المحصول على الأقل، فكيف السبيل إلى هذا المال وأبواب الصرف في ميزانيتنا تكاد تلتهم كل ما يجئ من أبواب الإيراد؟
أقترح أن ينشأ لهذا المشروع صندوق خاص يدعى صندوق القطن على نمط صندوق الفرنك الذي أنشئ في فرنسا عام 1928، وتؤدي إلى صندوق القطن هذا كل المبالغ التي تمت إلى هذه السلعة بأية صلة، مثل أموال التأمين الإجباري على القطن، وجملة الرسوم الجمركية على الأقطان المصدرة، وضريبة الأرباح الاستثنائية التي تحصل من المغازل المحلية ومن بيوت التصدير، وفروق أسعار الاستيلاء على البذرة. . . الخ.
وأرى أن تبادر وزارة المالية بإنشاء هذا الصندوق من الآن ورب معترض يقول إن تدبير المال اللازم للأخذ بهذه الفكرة ليس بالأمر الهين، فنجيب هؤلاء بأن لا ضير أبداً من توفية ما يستلزمه الصندوق من مبالغ مهما تكن الوسيلة. ذلك أن الأمر أمر المحصول الأول للبلاد الذي هو عماد الاقتصاد فيها والمال - على غير ما كان يظن الاقتصاديون القدامى - يجب أن يسخر لخدمة المصالح الاقتصادية وليس العكس. وما النقد - كما يعبر - إلا خادم للبشرية وليس سيدها(570/25)
ومما يفيد كثيراً في حماية الأسعار من الانخفاض اتباع نظام الإنتاج والبيع التعاونيين. وقد أخذت بهذا النظام فعلاً بعض الجمعيات التعاونية فجنت منه ثمرات طيبة
هذا التثبيت لأسعار القطن - لو تم - رواج الفلاحين، ومن ورائهم باقي الأمة، وعندئذ سيجد الفلاح السبل المادية والمعنوية لزيادة إنتاجه من القطن، والمضي في تحسين نوعه، حتى يفي بحاجات الصناعة القطنية الرفيعة ومن ثم تزداد قيمة المحصول فتزداد البلاد خيراً
(2) تصريف القطن
اقتراح قيام الحكومة بوضع نماذج للقطن المصري - فوائد
وضع هذه النماذج
تدع مصر منذ قديم مهمة تصدير القطن إلى بيوت التصدير التي تتولى الاتصال بالمغازل الأجنبية، وعرض نماذج الأقطان عليها. ولسنا نعدو الحق إذا قلنا إن المنتج المصري قد يغبن كثيراً بسبب الصلات المعنوية والمادية بين هذه البيوت وتلك المغازل، ولاعتبارات أخرى غير خافية
ورأيي أن تقوم الحكومة نفسها بوضع نماذج لكل نوع من أنواع القطن المصري وفق ما تستلزمه حاجات الصناعة، ملاحظةً في ذلك درس الخصائص الإقليمية للمناطق الزراعية المختلفة في مصر ودراسة خصائص قطن كل منطقة من الناحية الصناعية أيضاً، وسيعينها على الدراسة الأخيرة أن في بلادنا الآن مغازل يستطاع بوساطتها تعرف حاجات صناعة الغزل وإجراء مختلف التجارب
وسيفيد وضع هذه النماذج في تحديد القيمة الصناعية للقطن المصري بالضبط، وسيتيح للمنتجين أن يبيعوا أقطانهم بأسعار موحدة لا غبن فيها، وسيرد عليهم هم أنفسهم النفع الذي كان يجنيه الوسطاء، وسيرفع عن القطن المصري الآصار التي كان هؤلاء يضعونها عليه. وفوق هذا فسيجلو للمصانع حالة الأقطان المصرية ويسهل عليها الحصول على حاجاتها المنوعة من مختلف الأقطان، وسيكشف الغطاء عن أسرار طلبات المغازل، تلك الأسرار الخافية إلا على بيوت التصدير الأجنبية(570/26)
وأرى ألا تسمح الحكومة بإنتاج أصناف من القطن تخالف النماذج التي تضعها، أي أن تمنع إنتاج أي نوع لا يستوفي مطالب المغازل. وتحقيقاً لذلك لا بأس - إذا اقتضت الحال - من قصر الزراعة القطنية عندنا على بيئات معينة.
(البقية في العدد القادم)
زكريا حجاج(570/27)