بالتصريح إن أمره الأمر في تقدير السعادة والشقاء
ثم نظرت في حالي وأحوالي منذ ثلاثين سنة، فقد كان من أدبي أن أفرح علانية بطعام البيت، وكان فرحي فرحاً حقيقياً، لأن الطعام في تلك السنين كان غاية في نضارة المنظر وحلاوة المذاق، بحيث صح عندي أن يد زوجتي هي وحدها اليد الصناع في تأليف الصنوف الطريفة من أطايب الطعام المحبوب
ولكن يوماً صائفاً جاء بما لا أريد، فقدم إلي طعام لا أشتهيه في أيام الصيف، وكانت النتيجة أن أهم بالاعتراض، وعلى من أعترض؟
إن زوجتي تحتمل غضبي، ولا يصعب عليها أن تترضاني، فهل ألومها على الذي اختارت من الطعام في ذلك اليوم الصائف؟
في أقصر من لمح البصر تيقظ قلبي، وأدركت أن الاعتراض على رزق الله بداية الانخذال، وأني لو جحدت الرزق في أي صورة لذهب إلى غير معاد
أقبلت على الطعام كارهاً لأتقي غضب الله وإيذاء زوجتي، فرأيته طعاماً شهياً لم أتذوق مثله من قبل، وكانت العاقبة أن أحمد الله من صميم الوجدان
إن نعم الله تواجهنا من كل جانب، ويكذب من يزعم أن الله يتخلى عمن يتوكلون عليه في النعماء والبأساء
الله لا يتخلى عنا إلا حين ننساه
وهل يتخلى الله عنا حين ننساه؟
إنه يتركنا لما نريد بأنفسنا، فيجب إلى من نعتمد عليهم أن يشغلونا عنه بالجاه والمال، تأديباً للانحراف عن طريق الرشاد؛ والعقاب الصارم هو أن تستغني عن الله وتحتاج إلى الناس
الديدان الجاهلات في أجواف الأحجار والثلوج أصدق إيماناً بالله من أشباه العلماء
والشجرة اليتيمة في البادية القاسية ترى الله بأقوى مما تراه الأشجار المزودة بالأنهار الجارية
وهل حفظ تاريخ الملوك بقدر ما حفظ تاريخ الصوفية؟
إن الفاجرين الذين صدقوا في فجورهم كانت لهم مكانة في التاريخ القديم والحديث، فكيف يضيع من آمنوا بصاحب العزة والجبروت؟(535/7)
كن مع الله تر الله معك
صديقي العزيز
هل تذكر حديثنا منذ أيام ونحن نقطع الطريق في وهج الظهيرة من وزارة المعارف إلى ميدان باب الحديد، مع أننا نملك اجتياز المسافة بسيارة لا تكلفنا غير دراهم معدودات؟
هل تذكر أني قلت لك إني أحب أن أرى نعم الله على عباده ليزداد إيماني؟
وماذا رأينا في ذلك الطريق؟
أنت لم تر شيئاً، لأنك كنت مشغولاً بمحادثتي في شؤون لا ينقلها سمعي إلى قلبي، وسيطول بلاؤك بتلك الشؤون، فهي لا تخرج عن منصبك وراتبك، ولا تزيد عن شكواك من نظام الترقيات والعلاوات، يا عبد الوظيفة ويا عبد التراب!
أما أنا فقد رأيت ورأيت، فهل تحب أن تعرف بعض ما رأيت؟
لقد اقتنعت بأن الله لم يجعل القاهرة مدينة البؤس، كما يقول بعض الناس، فمن السهل أن ترى العيون ألوفا من المنعمين بالثروة والعافية والجمال
في كل لحظة يقع النظر على وجه أصبح، ويقع القلب على روح لطيف
وفي كل خطوة ترى طلائع من طلاب الرزق الحلال، ترى عمالاً يكدحون ليعودوا إلى أهليهم في المساء وجيوبهم عامرة وأنفسهم في ابتهاج
وهل قامت تلك البنايات الشامخات إلا بسواعد أولئك الفتيان الضاحكين برغم شظف العيش وخشونة الثياب؟
إن منظر ذلك البواب سرني، فقد أسند رأسه إلى الباب وغفا غفوة مريحة لن تظفر بمثلها في سريرك، يا مشغولاً بحظك الفضفاض من دنياك
ومن العجب العجاب أن ترى رجلاً يقرأ في مصحف وهو على كيس أحد المخازن التجارية، كأنه لم يسمع أن بدعة العصر توجب نسيان المصاحف والأناجيل!
وفي الشارع رأينا جنوداً يحتضنون زجاجات البيرة، وبالقرب منهم رأينا عمالاً يحتضنون القلل القناوية، فأين السعداء من أولئك وهؤلاء؟
صاحب الزجاجة يبتلعها ابتلاعاً قبل أن يحل عليه أمر الحاكم العسكري بانتهاء الوقت المحدد للشراب، وصاحب القلة يمتص منها رشفة بعد رشفة وهو في أمان(535/8)
هل رأيت ذلك الفتى؟
إنه غلام لم تظفر بمثله قصور الملوك في عصور الترف والطغيان، فكيف رضي أن يكون عاملاً فقيراً، وهو يستطيع بشبابه وجماله أن يكون زهرة بستان أحد الأغنياء؟
في مصر معنى اسمه الشرف، وهو معنى ظفرت منه مصر بأعظم نصيب
وهل رأيت تلك الفتاة؟
إنها ريحانة مطلولة، وهي تستطيع الاتجار بالقلوب لو أرادت، ولكنها لا تريد لأنها مصرية، والمصرية نموذج في التصون والعفاف، ويكذب من يزعم أن مخاطر الحرب غيرت أخلاق المصريات
نحن بنينا مدينة القاهرة بأخلاقنا قبل أن نبنيها بسواعدنا، والساعد المتين فرع عن الخلق المتين
إنك لا ترى جلال الله في أي مكان كما تراه في القاهرة، ولعلها أول مدينة ينتصر فيها الجد وينهزم الهزل
ألا ترى أن روح القاهرة ظل قهاراً برغم عوادي الحرب؟
والذي يعوزك يا صديقي هو أن تكون مصرياً مؤمناً بالله، لتنتصر على أوهامك، ولتكون من أعاظم الرجال
إنك تلومني على أن أظل بين أقلامي وأوراقي ساعات من كل يوم، فهل تعرف السبب فيما اخترت لنفسي؟
إني أؤدي زكاة العافية، وأنا أفهم كيف أراد الله أن يحميني من قضاء ليلة واحدة في سرير المرض، على طول ما شرقت وغربت في السنين العجاف
وأنت يا صديقي تنكر أن أضيع حظي ممن عرفت من أكابر الوزراء
وأقول إني أخشى أن يغضب الله علي إن اعتمدت على سواه
قال صاحبي: كن مع الدنيا لترتفع معك
فقلت: وأنا لا أنخفض ليرتفع أصحابي!
سخافات الأغاني الشعبية
تقدم محطة الإذاعة من يوم إلى يوم ومن ليلة إلى ليلة أشياء تسميها الأغاني الشعبية، وهي(535/9)
أغان يغلب عليها السخف، لأنها تحاول دائماً أن تجعل لغة الشعب المصري لغة بعض أبنائه من أهل الصعيد (!؟)
والخطأ ظاهر في هذه المحاولة، لأن اللغة العامية للشعب المصري هي لغة أهل القاهرة، كما أن اللغة العامية للشعب الفرنسي هي لغة أهل باريس
وقد كان للصعايدة لغة خاصة يوم كانوا لا يتصلون بالعاصمة إلا بعد سفر يطول حتى يحترم أسابيع وأسابيع، فكيف تكون لهم لغة خاصة بعد أن صارت المسافة بين القاهرة وأسيوط لا تزيد عن المسافة بين القاهرة ودمياط إلا بدقائق، والمسافة هنا وهناك يقطعها القطار في مدة أقصر مما بين باريس وليون؟
سمعت في مساء اليوم الثالث والعشرين من شهر أيلول مغنياً يقول:
(طال بعدك ولا ساجل عني)
و (ساجل) هي (سائل) فهل سمعتم في أي أرض عربية أن الهمزة تنطق جيماً إلا على ألسنة الجهلة من أصحاب الأغاني الشعبية في محطة الإذاعة المصرية؟
إن لغة الخرطوم هي لغة القاهرة بالضبط الصحيح، فهل ترون الخرطوم أقرب إلى القاهرة من أسيوط؟
اتقوا الله في مصر يا جماعة المتحذلقين من أنصار العامية، فما يقول (ساجل) وهو يريد (سائل) إلا سخيف بلغ سخفه حداً لا يطاق
(طال بعدك ولا ساجل عني)
ذلك ما هتف به مغنٍ في محطة الإذاعة ولي عليه شهود، فماذا يبتغي هذا الظريف؟ أيزعم أن الصعايدة يجعلون الهمزة جيماً، وذلك زعم سخيف؟
إن لغة المصريين ارتقت رقياً عظيماً، وصار في مقدور صغار العوام عندنا أن يفهموا ما تنشره أعظم المجلات الأدبية بأيسر مجهود
ولكن محطة الإذاعة لا تفهم هذا القول
وأين محطة الإذاعة؟ حدثوني فقد غاب عنوانها عني!
إن جاريت المطرب الذي فرحت به فهي محطة (القزاعة) بالقاف، ولن ألتفت إلى (سقالها) إن وجهت إلي (السؤال)(535/10)
الأغاني الشعبية في محطة الإذاعة هي ردة سخيفة إلى عهود لا نحب أن تعود
إن كانت محطة الإذاعة تريد أن تكون محطة بهلوانية فهي وما تريد، على شرط أن تصرح بأن أغانيها الشعبية عبث أطفال
الجد هو دستور الحياة ولو كان في صورة الهزل، فجدي يا محطة الإذاعة لتكوني صوت الحق في هذه البلاد
زكي مبارك(535/11)
مهمة تجديد الأدب العربي بين الشباب وبين الشيوخ
للأستاذ دريني خشبة
سألني بعض أصدقائي لماذا أومن بالشباب دون الشيوخ، ولماذا أرجو أن ينهضوا دونهم بعبء إنهاض الأدب العربي، وسد تلك الثغرات الشائنة فيه، تلك الثغرات التي تجعل مصر والشعوب العربية جمعاء تعيش في الماضي وتنجذب إليه أكثر مما تعيش في الحاضر وتتشوف إلى المستقبل. . .
وأريد أن أصحح لأصدقائي ما وقر في أذهانهم من أنني لا أومن بأدبائنا الشيوخ، إذ أنا، وقد جاوزت حد الأربعين، أكاد أنحاز إلى معسكرهم، منفتلاً من معسكر الشباب الذي يعز علي أن أفارقه، ويسرني أن أعيش فيه بقلبي ونشأتي وأفكاري وجهادي الأدبي المتواضع. . . أريد أن أصحح لأصدقائي هؤلاء ما وقر في أذهانهم من ذلك، إذ أنا أول من يجل أدبائنا الشيوخ، وأول من يعرف لهم حقهم الذي لا يماري في نهضتنا الفكرية والأدبية، وفي تبوء مصر تلك المنزلة الفريدة بين الأمم العربية. . . صحيح أنني أغضيت عن ذكر أحد من شعرائنا الشيوخ في سياق كلامي عن الدرامة المنظومة. . . وقد أغضيت كذلك عن ذكر أحد من الشعراء غير المصريين. . . أما لماذا أغضيت عن ذكر أحد من شعرائنا الشيوخ فليس سببه عدم الإيمان بهؤلاء الشعراء الإجلاء الأعزاء الذين سبقونا وعبدوا لنا الطريق وأبانوا معالم النهضة ووصلوا ماضي الأدب العربي بحاضره. . . إنما سببه تلك الروح الشؤمية السوداء المنتشرة في معسكر هؤلاء الشعراء الشيوخ. . . فأنت لا تكاد تتحدث إلى واحد منهم عن تخلف الأدب العربي على العموم والشعر العربي على الخصوص في مسايرة الآداب العالمية ومواكبة ما يجد فيها من مذاهب واتجاهات حتى يعبس وتحس بالضيق الذي يكربه، ويأخذ في الشكوى التي لا معنى لها من قلة التقدير في هذا البلد الذي قضى أن يعيش أدباؤه غرباء فيه. . . ثم يضرب لك الأمثال. . . فهذا العقاد لم يملك إلى اليوم قصراً ولم يقتن بعد ضيعة. وذاك المازني ما يزال يجالد بقلمه ويجاهد بدمه وبينه وبين شراء عزبة أو اقتناء أبعادية ما بين الأرض والسماوات. وهذا أحمد محرم لا تستحيي الدولة من أن تمن عليه بأنها رثت لحالته وأرادت أن تقدرها قدره فعينته أميناً لمكتبة دمنهور الإقليمية بهذا الراتب الضئيل النحيل القليل الهزيل من الجنيهات. ثم هذا(535/12)
أحمد الكاشف الذي لا أرى أن أجرح كبرياءه - هكذا يقول محدثي - فأذكر لك كيف يعيش. . . ثم ذاك طاهر الجبلاوي الذي يسهر الليالي في نظم درامته (ديك الجن)، تلك الدرامة الشائقة التي تعجب بها وزارة المعارف، ويقرها تفتيش اللغة العربية، وتكتب عنه إدارة التمثيل التقارير الشافية الوافية. . . ماذا كان جزاءه وماذا كانت مكافأته؟ هل رأت درامته ضوء الشمس؟ هل نفذت إلى أنوار المسرح؟ هل أحس بها إنسان؟ لقد نامت فيمن نام من أهل الكهف يا سيدي. . . ثم هذا الشاعر النابغة (رشاد راضي) ناظم درامة (جميل وبثينة)، ماذا لقي من زمانه وماذا لقي زمانه منه؟ أشهد لو أنك قرأت تلك الدرامة أو شهدتها على خشبة المسرح لفضلتها ألف مرة على مجنون ليلى للمرحوم شوقي بك؟! وذاك الشاعر النابه علي أحمد باكثير. . . لقد سهر المسكين عاماً وعاماً ثم عاماً ثالثاً فنظم درامة السماء أو إخناتون ونفرتيتي، ودرامة إبراهيم باشا بطل مصر الأول، ودرامة كذا وكذا وكذا. . . وفكر في الذي تفكر فيه من استحداث الشعر المرسل والشعر الحر في الشعر العربي، وابتدع في ذلك وأبدع، فهل أحس أحد به؟ هاهي ذي درامته (السماء) مطبوعة، وقد قامر بطبعها إبان جنون أزمة غلاء الورق، فهل تدري كم نسخة بيعت؟ وهل سمعت أن المسرح المصري شهد تلك الدرامة الشائقة الفائقة؟
وعلى هذا النحو أراد الشيخ أن يأكلني ويشربني لينتزع مني إقراراً بالموافقة على وجهة نظره التي تفيض بالشؤم - أقصد التشاؤم؟! - والتي تصدر عن روح كئيبة سادرة لم تعرف كيف تستهزئ بهذا الذي يسميه صاحبها قلة تقدير أو سوء إنصاف يقضيان أن تنحل أوصال الأدب وتفتر أعصاب الأدباء فلا يكون ثمة نشاط ولا يكون هنالك إنتاج، لأن الحكومة قاتلها الله لا تبيح خزائنها لهؤلاء الأدباء، ولأن الأمة صنع الله لها لا توليهم رعايتها، ولأنهم يأمرون فلا يطاعون، وينشدون فلا يجدون سميعاً. . . ألا رحم الله شاعر المعرة الذي اعتذر لقاضي قضاة مصر، أن يعيش في دنيا من ذهب، مؤثراً عيش الكفاف الذي جعل منه شاعر العربية وفيلسوفها الأكبر. ورحم الله دستونفسكي وولتر سكوت وكارل ماركس، ومئات الأدباء والشعراء الذين كانوا يذوبون جوعاً في حين تتخم آدابهم وأشعارهم وأفكارهم أدمغة العالم. . . إننا ما سمعنا قط أن أحدهم اتخذ من مسغبته حجة للانصراف عن الأدب أو التقاعس عن قرض الشعر. . . لقد رجوت محدثي أن يبحث لي(535/13)
عن شاعرنا الكبير عبد الرحمن شكري أين هو من عالم الشعر ودنيا الأدب. . . وهو والحمد لله - غير محسود ولا مغبوط - في سعة من الرزق، ولم يفرض عليه أن يجالد بقلمه أو يجاهد بدمه ليعيش. . . أين هو اليوم يا ترى؟ أين بلبله الصداح وشحروره المغني؟ أين قيثاره وأين نايه وأين موسيقاه؟ ثم رجوته أن يخبرني لماذا هجر المازني الشعر. . . فلما عجز عن الإجابة توليتها أنا فأكدت له أنه عز عليه ألا يستحدث جديداً في الشعر العربي، وهو أعرف الناس بما عليه الشعر الإنجليزي من سمو وثروة واتساع ويسر، فغثيت نفسه وضاقت بأوزان الشعر العربي التي لم تتجدد قط مدى ألفين من السنين، اللهم إلا قليلاً. . . ولو أن الأستاذ المازني احتفظ للشعر العربي بميزته الشخصية التي هي الترجمة لأفاده فائدة جليلة القدر. . . إلا أن الكسل قاتله الله صرفه عن ذلك أيضاً. . . أما العقاد العظيم فهو سيد شعراء المعاني غير مدافع، والذين زعموا أنه لا شأن له بالشعر هم قوم قليلو البصر بالشعر، بل ربما كان الأحسن ألا يكون لهم هم شأن بالشعر. . . ولو أن العقاد كان يعنى بديباجته وتجويد أسلوبه الشعري لخر أمامه أولئك النقاد جثياً. . . لقد كان لنا في العقاد أمل ضخم رددناه يوم أصدر ديوانه الضخم المشتمل على ملحمة (الشيطان)، وكنا ننتظر أن يغزو العقاد للشعر العربي ميادين جديدة في الملحمة والشعر القصصي والدرامة. . . إلا أن العقاد انصرف عن ذلك إلى القصائد والمقطوعات. ولسنا نبالي السبب الذي صرفه عن ذلك، إنما نبالي أنه أضاع أملنا فيه بعد إذ كان أملنا معقوداً به. . . على أننا لا نزال نعلل النفس بالأماني في العقاد، لأننا أعرف الناس بقدرته في الإنتاج وصبره على الكفاح الأدبي نحو المثل العليا. . . أما أحمد محرم فلسنا نعرف عن جهوده في النظم المثالي شيئاً بعد إسلاميته الرائعة الطويلة الجديرة بالإعجاب. ونحن نتوجه إليه بالرجاء أيضاً أن يستيقظ، إذ هو في نظرنا في مقدمة شعرائنا تجويداً وطول نفس وتفضيلاً لفخامة العبارة وإشراق الأسلوب. وبهذه المناسبة أذكر شاعرنا الجارم الشيخ. . . ذلك الشاعر الغزل الرقيق. . . ماذا صنع في دنياه غير تلك القصائد التي يوجد من أشباهها الشيء الكثير في الشعر العباسي والشعر الأندلسي. . . لعل المعاش الهانئ الذي يتمتع به الشيخ، بارك الله لنا فيه، أن يوفر له من الوقت ما يعينه على نظم ملحمة أو قصة وإن كنا نطمع أن ينظم ملاحم وقصصاً كثيرة. . .(535/14)
وأما الشاعر الكاشف فليس لدينا ما نقوله فيه، ولا نملك إلا الدعاء له بحسن الحال ورغد العيش. . . وأما شكوى صديقنا الجبلاوي من تعطيل درامته (ديك الجن) وما كان لهذا التعطيل من نكسة أدبية في نفسه، فأنا لا أقر وجهة نظره وأنا بالرغم مما سقته في مقالاتي عن المسرح المصري من لوم الوزارة، لا أرى أن يتكل أدبائنا على العون الذي يحلمون به من الدولة، بل أرى أن يثور الأدباء على طريقة الإنتاج الأدبي القديم - أدب القصيدة والمقالة والمقطوعة - وإغراق السوق الأدبية بأدب القصة والدرامة - المنظومة والمنثورة - والملحمة والقصة المنظومة. . . ثم أنا زعيم للصديق الجبلاوي بأن اليوم الذي يستطيع الأدباء أن يدووا بأصواتهم في آذان الوزارة فتصيخ لهم وتستجيب لندائهم قريب لا ريب فيه، وإن لم تستجب الوزارة طوعاً فثمة وسائل لا حصر لها لإغرائها بالاستجابة. ويجب أن نستعد لهذا اليوم بأن نملأ أيدينا بهذه الألوان من الأدب التي يفتقر إليها الأدب العربي. . . وفرصة الأدباء وافية مؤاتية، فزعيمهم وعميد الأدب العربي لن يملك إلا أن يمد يده لتلك الحركة بالعون والمساعدة، والعون والمساعدة إنما ينبغي أن ينحصرا أول الأمر في أن تطبع الدولة على نفقتها ثمرات قرائح أدبائها المجددين ثم مكافئتهم ولو في حدود (جهد المقل!). . . وقبل أن أفرغ من استعراض شعرائنا الشيوخ لا أرى بداً من التنويه بالأستاذ فريد أبى حديد وكيل دار الكتب الآن وناظم مقتل عثمان وغيرها وغيرها. . .، فلقد سألته مرة ماذا أعد لسوق الأدب، فتبسم ضاحكاً ثم قال مازحاً: (إن صواميله قد نعمت! وأن لا رجاء في عودتها للعمل!) وأنا أسأل الله أن تخشن هذه الصواميل ليعود دولاب أبى حديد إلى المساهمة في ثورة الأدب العربي من جديد
هذا هو موقفنا من شعرائنا الشيوخ صريحاً لا لبس فيه. . . أما شعراؤنا الشباب فهم بكل صراحة أملنا ومعقد رجائنا في مستقبل الشعر العربي. . . وقد بدأ كثيرون منهم يستجيبون لدعوتنا. . . وقد وصلتني (عينات) شائقة بالفعل تنبئ بتباشير نهضة رائعة. ولست أذيع سراً إذا بشرت القراء الأعزاء بأن صديقي الشاعر النابه الأستاذ محمود الخفيف قد فرغ بالفعل من نظم ملحمة باكية في مقتل الحسين رضي الله عنه. . . ولست أذيع سراً آخر إذا بشرتهم بما بشرني الأستاذ الخفيف من أن الشاعر المبدع علي محمود طه أوشك على الفراغ من نظم درامة رائعة سيفاجئ محبيه بها قريباً(535/15)
ولا يفهم القراء من هذا الكلام الطويل أنني أقصر نهضة الأدب العربي على ميدان الشعر فحسب، فهنالك أدب القصة الطويلة الذي لم يستو على سوقه بعد، وأن ظهر عندنا كتاب مبدعون قدموا لنا أقاصيص رائعة تبشر بمستقبل باهر لهذا اللون الهام من ألوان الأدب. . والظاهرة التي أحب أن أفتح عيون أدباء الشباب عليها وألفتهم إليها هي أن شيوخ الأدباء عندنا يملكون زمام هذا الميدان كله تقريباً، ولا سيما في القصة المتوسطة. . . فليلق شبابنا الأدباء بالهم إلى ذلك، وليتنبهوا له، ولتكن منهم فئة يعنون بأدب القصة الطويلة، حتى إذا آل إليهم زمام الأدب في المستقبل القريب كانت معهم مؤنه تكفي لبناء شهرتهم وتخليد ذكرهم. . . وليذكروا كذلك أن معظم روائع الأدب الغربي المترجمة هي من إنتاج الشيوخ دونهم، وعلى هذا، فينبغي عليهم أن يساهموا في الترجمة بنصيب
أما الأدباء غير المصريين فإلى مقال قريب إن شاء الله.
دريني خشبة(535/16)
قصة دائرة المعارف الإسلامية
للأستاذ صلاح الدين المنجد
الأنسيكلوبيدية الفرنسية، معجم شامل للمعارف الإنسانية؛ أخرجته طائفة من علماء قرن الثامن عشر وفلاسفته وضمنوه ثمرة دراساتهم الطوال، فبدت فيه روح العصر وعاداته، وطرائق أهله في المساجلات والمهاترات
لم ينشأ عن دائرة المعارف هذه، بعث أدبي أو علمي، فقد كانت نتيجة لعوامل شتى، لا سبباً لها، وكانت ملتقى تيارات تتعارض ونظريات تتضارب، ويلاحظ الأستاذ (أوبيرتان في كتابه: (روح القرن الثامن عشر) أن هذه التيارات تنحصر في الأمور التالية
1 - الانطلاق: وكان مدلوله في لقرن السابع عشر استقلال الفكر، وشنشنة ضد الدين. وكان معناه في القرن الثامن عشر تظاهراً بالدعة مع الجحود والكفران
2 - الروح العلمي. فقد هيمنت روح العلم على نفر كبير من الناس، فأضحوا يتعلقون بالحادثات الواقعة. نابذين وراء ظهورهم ما وراء الطبيعة، ثائرين على السلطان. وكانوا يفتخرون بالتقدم العلمي الذي رأوه آنذاك، ويعتقدون أن الوقت قد حان لوضع أسس جدد، ومناهج واضحة تسلكها الأجيال القادمة.
3 - الرغبة في الاستقلال السياسي، فقد مال الناس إلى احتقار سلطان الملكية، والثور عليه، والسعي في تحطيمه، ليتقوى سلطان الشعب
4 - الميل إلى تقليد الأجنبي وخاصة إلى تقليد إنجلترا؛ فقد كان الفرنسيون يرون في كل ناحية من نواحي السياسة والعلم والدين والأدب فيها مثلاً سامياً جديراً بأن يقتفى أثره، وأن يقلد
فهذه الميول المختلفة. كانت مظاهر عالم جديد يريد أن يحيى. وكانت هذه البيئة تحس في نفسها قوة وجلداً؛ وترى أنها قادرة على تحطيم ما خلفه لها الآباء والأجداد، ولا بد للناس أن يعلموا ما خلفته الأجيال الخالية، وما بذلته من جهود في سبيل رقي الإنسانية، ولابد لهم أن يدركوا كيف بدأ أجدادهم والى أية نقطة من طريق الإنسانية الطويل قد بلغوا. فدائرة المعارف كانت وسيلة إلى ذلك
ظهرت دائرة المعارف سنة 1745. فقد أذن لصاحب مكتبة آنئذ، أن ينقل إلى الفرنسية(535/17)
دائرة معارف العلوم والفنون ' التي ألفها الإنجليزي فاستشار، ذاك الكتبي عدداً من العلماء. وكانت هذه الاستشارات لا تجدي شيئاً. فعهد عندئذ إلى (ديدرو بهذا العمل، وكان ذا فكر ثاقب محيط. فرأى أنه يستطيع توجيه ذاك الكتبي نحو فكرة قد تكون أكثر جدوى، وأقرب نفعاً؛ فلماذا ينقل إلى الفرنسية معجم ذلك الإنجليزي؟ أليس من الخير لبلاده أن يكتب المعارف الإنسانية بفكر فلسفي ويقدمها للناس؟ لا جرم أن ذلك يساعد على انتشار آرائه، وتبيان ما يذهب هو والفلاسفة إليه، ويكون وسيلة لجمع شتات فلاسفة عصره. وزين ديدرو للكتبي فكرته فقبل. وعندئذ اتصل بدالامبير ' وانعكفا على وضع نهج العمل
على أن نهج العمل واضح لا يحتاج إلى جهد وتفكر، إنما الذي يدعو إلى التفكير هو الحصول على المال. فالمعجم سيكون كبيراً. وهو يحتاج إلى نفقات قد تثقل عاتق الناشر. وعمدوا إلى اكتتاب بالاشتراك. وساعد على ذلك محافل الماسونيين في العالم كله، واهتمت السلطات العامة بهذا الأمر. وتدفقت الأموال على الناشر وصاحبيه. وابتدءوا يعملون
وفي سنة 1750 أخرج ديدرو المجلد الأول، وفيه المنهج الذي سيكون المعجم عليه، وتبيان ما سيتضمنه ويحويه. ومقاله لدالامبير سماها:
ولم يكد يظهر المجلد الأول حتى تهافت الناس على شرائه؛ ونال رواجاً كبيراً، وأبدى كثير من الكتاب والعلماء رغبتهم في مساعدة ديدرو ودالامبير
وظهر المجلد الثاني؛ وفيه طعن ديدرو على القديم طعناً موجعاً، وثار الناس على مقالة كتبها الأب دبراد محرر دائرة المعارف في الإلهيات. وهب رجال الدين يطعنون على هذا المعجم الذي يسوق إلى الإلحاد ويدفع إلى الكفر، واضطربت السلطة، واضطرت إلى مصادرة الجزأين. وكاد ديدرو أن يسجن في الباستيل، ولكن الناشر ما زال يسعى حتى أذن له مرة ثانية بإخراجها
وما كادت سنة 1757 تطلع على الناس حتى حدث ما لم يكن بالحسبان. فقد أثرت الأحداث السياسية في فرنسة فكانت مؤامرة داميان الذي طعن لويس الخامس عشر بطعنة موسى، وكان فشل روسباخ مما سبب يقظة الشعور الوطني والأخلاقي. ودعا إلى شن هجوم شديد على أولئك الفلاسفة المخربين الهدامين. ومما ساعد على ذلك مقالة عن (جنيف) كتبها دالامبير، وكتاب (الفكر الذي كتبه (هيلفيتيوس فازداد الطعن على دائرة(535/18)
المعارف ورجالها، حتى اضطر الملك إلى إيقافها، ولكن الناشر استطاع بعون من مدام دبومبادور حظية الملك أن يصدرها. فصدرت وحمتها رجال الشرطة. وظلت تصدر حتى عام 1772 إذ انفض عن ديدرو، دالامبير وروسو، وبقي وحده
كانت دائرة المعارف كما ذكرت معجماً رتب على الحروف الهجائية. وكان يبحث في الرياضيات والطبيعيات والإلهيات. وكان مراسلوها يذكرون ما وصلت إليه الإنسانية في كل علم أو فن. ويلاحظ دوكرو في كتابه (رجال دائرة المعارف) أن ديدرو تنبأ بمستقبل الفنون الميكانيكية، فكتبه مقالات كثيرة عن كل صناعة وبين خططها وصورها
ولكن على رغم ذلك فإن دائرة المعارف ظلت خليطاً من أمور غامضة تارة ومضطربة أخرى. لا جرم أنه كان فيها الجيد، ولكن كان إلى جانبه الرذيل الرديء. وسر ذلك أن مباحثها كتبت بسرعة دون تأمل أو روية
على أن الذي يدهشني حقاً فيها تلك الروح المهيمنة عليها في كل صفحة من صفحاتها، بل في كل سطر من سطورها. فلقد استطاع ديدرو، بل وفق إلى انتقاء مراسليه من الفلاسفة الذين كان بينهم وبينه نسب في الفكر والمذهب. فإذا تصفحت دائرة المعارف بدا لك هذا الفكر الفلسفي الذي لا يؤمن بكل أمر خفي، ويسخر من كل أمر مطلق أو خارق، ولا يعتقد بما وراء الطبيعة، ويدعو إلى حرية الفكر والكلام والعمل
وما كانوا يصرحون بذلك تصريحاً تاما، ولكنهم كانوا يدسون السم في الدسم، ويحشون مقالاتهم أفكاراً تسوق إلى ما يريدون. وقد كان من أشد ما يدعون إليه أن يحاربوا المذاهب والآراء التقليدية الموروثة، وأن يسخروا منها فيصيبها التهديم
ومهما كان من أمرها، فلقد كانت وسيلة لاجتماع رجال كبار. فقد كتب فيها: مونتسكيو ورسو وفولتير، وكتب ديدرو ودالامبير ودجوكور وديبنتون ومارمو نتيل وغيرهم. . .
ويلاحظ روستان في كتابه (الفلاسفة والهيئة الاجتماعية في القرن الثامن عشر)
, أن مراسلي دائرة المعارف كانوا أشد حماسة من القائمين عليها. نرى ذلك عندما نقرأ مقالات كوندياك تلميذ لوك، وهلفيتيوس الذي دعا إلى المادية أجرأ دعوة، وغيرهما
وما زالت دائرة المعارف تتستر، حتى ظهر جلياً ما تدعو إليه. وعندئذ تركها روسو، وراح يطعن عليها وينعتها بأنها آلة تهديم، ويعتذر لنفسه بأنها كتب فيها عن الموسيقى، وقد خفي(535/19)
عليه ما يريدون
ولكن طعن روسو، ومن قبله طعن رجال الدين لم يفيدا شيئاً، فقد انتشرت انتشاراً سريعاً، فقرأها البرجوازيون المثقفون، وقرأها بعض الكهنة، وأعجب بها المحامون. ولئن انفض عنها رجالها، ثم توقفت، فلقد غرست في العقول الشك، وساقت الناس إلى حدث اجتماعي عظيم هو الثورة الفرنسية.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(535/20)
3 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
وكما أجاد المسلمون فن الخط، فقد بلغوا في الزخرفة شأواً بعيداً أقل ما يشهد به أن كلمة (الأرابسك) علم - في تاريخ الفن - على نوع معين من الزخرفة ابتدعه الفنان المسلم. حقاً إنه لم يبتكر وحدات زخرفية جديدة بل استعمل ما وجده بين يديه من مخلفات الفنون السابقة على الإسلام، إلا أنه لا سبيل إلى إنكار مقدرته في طريقة رسم هذه الوحدات الزخرفية وتوزيعها والتأليف بينها وتنسيقها تنسيقاً يجعلها تبدو كأنها اخترعت لأول مرة وما هي كذلك، ولكنه صهرها في بوتقته ومزجها بفلسفته وسلط عليها أشعة عبقريته فخرجت من بين يديه فناً جديداً لا يخفى عليك أصله ولكنك لا تستطيع أن تنكر عليه شخصيته القوية الواضحة
لم يخترع أشكالاً هندسية جديدة، ولكنه بالغ في تقسيمها وتحليلها، نراها تارة متشابكة، وأخرى متداخلة، وأحياناً متلاصقة وأحياناً متباعدة، حتى ليصح لنا أن نقول في اطمئنان إنه بعث في هذا النوع من الزخرف روحاً من لدنه فبدا في ثوب من الجمال قشيب لم يكن له قبل الإسلام
ولم يبتكر وحدات نباتية أو حيوانية بل رسم الأزهار والأشجار والأوراق والسيقان، والطيور والحيوان بعد أن حورها تحويراً كادت معه أن تفقد شخصيتها كوحدات نباتية أو حيوانية، ولكنها وإن بعدت عن الطبيعة فقد دلت على سعة خيال مبدعها وصفاء قريحته
ونفر من الفراغ، وكره أن يرى سطحاً عاطلاً من الزخرف فكرر الوحدات الزخرفية المذكورة تكراراً يمكن أن يستمر دون أن يقف عند حد
وهذه المظاهر الجديدة إتقان الزخرفة الهندسية، وتحوير العناصر النباتية والحيوانية، وتكرار الوحدات الزخرفية، والنفور من الفراغ، هي في الغالب نتيجة لبعض توجيهات في الدين الإسلامي: فقد كان التصوير - وسنتحدث عنه فيما بعد - أمراً غير مرغوب فيه عند كثير من المسلمين نظراً لما حام حول مزاولته من شك، فانصرف نشاط الفنانين إلى نواحي أخرى؛ ولعلهم كانوا متأثرين في بعض ما اتجهوا إليه بما روي في صحيح لبخاري (كتاب البيوع) عن سعيد بن أبي الحسن إذ يقول: (كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما(535/21)
إذ أتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً.
فربا الرجل ربوة واصفر وجهه؛ فقال ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشحر وكل شيء ليس فيه روح) فلا عجب إذا بلغت الزخارف الهندسية على يديهم ذروة الإجادة، وأصبحت الزخارف النباتية آية في الإبداع والإتقان وإن كانت بعيدة عن تمثيل الطبيعة تمثيلاً صحيحاً في معظم الأحيان، شأنها في ذلك شأن الزخارف الحيوانية التي ترخص في رسمها بعض الفنانين. على أن هذا البعد عن الطبيعة لم يكن نتيجة لضعف في الملاحظة أو نقص في المقدرة بل هو، في أغلب الظن، مقصود لذاته، ولعله ناشئ عن تلك العقيدة التي يؤمن بها كل مسلم أشد الإيمان: ذلك أن البقاء لله وحده، وأن العالم بمن فيه وما فيه مآله إلى الزوال (كل شيء هالك إلا وجهه) (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). وليس من اللائق وهذه العقيدة منقوشة في أذهان المسلمين جميعاً أن يخلد رجال الفن منهم بأعمالهم الفنية ما كتب الله عليه الفناء، لذلك نجدهم لم يعنوا بتصوير الشخصيات العظيمة في لوحات كبيرة أو تماثيل ضخمة تبقى على الدهر، أو تمثيل جمال الطبيعة بالنقل عنها نقلاً صحيحاً، بل يأخذون من عناصرها ما يرون، ويهذبون فيه ما شاءت لهم ميولهم ومواهبهم الفنية، ثم يكونون من هذه العناصر المهذبة زخرفة لا تمت إلى الطبيعة بصلة، قوامها أغصان نباتية متشابكة يتفرع بعضها من بعض، وأوراق أشجار مختلفة يخرج بعضها من بعض، وأزهار وفواكه تنبت من الأوراق أحياناً ومن الأغصان أحياناً أخرى، وهي في مجموعها تعطي منظراً ترتاح له العين ويسر به الفؤاد
ويعنى الفنان المسلم عناية واضحة بالتفاصيل الدقيقة، ويميل - بل ويسرف في هذا الميل أحياناً - إلى عدم ترك فراغ ملحوظ بين الوحدات الزخرفية، وربما كان مسوقاً إلى ذلك بفكرة كامنة في نفسه تجعله حريصاً على أن يخرج زخرفته بحيث لا يستقر النظر فيها على شيء معين يترك في الذهن صورة واضحة تحتل بؤرة الشعور. أما هذه الفكرة فهي رغبته في الحيلولة بين نفسه وبين الغرور الذي يملك الفنان أحياناً عند ما يتأمل في أثره الفني فيراه واضح المعالم والخطوط، ويدرك أنه استطاع أن يرسم بريشته ما يضاهي به(535/22)
خلق الله. كما أنه أيضاً قد أمن - في نفس الوقت بطريقته هذه - استغراق الناظر لذلك الأثر الفني في جمال الأثر فينسى مبدع الكائنات وهو يتأمل فيما صنع الإنسان
على أن هناك ظاهرة في الزخرفة الإسلامية تلفت النظر، تتجلى لنا في الوحدات الزخرفية التي نرى فيها طائراً ينبت من جناحيه وذيله أغصان تتصل بها أزهار، أو سمكة ينتهي ذيلها بفرع نباتي ويخرج من رأسها وجسمها أوراق أشجار، أو رأس آدمي مركب على جسم طائر ذيله عبارة عن غصن طويل ملتف على نفسه، أو قطعة من خشب على شكل قيثارة مثلاً يخرج من جانبيها الأيمن والأيسر رأسا حصانين في فم كل منهما لجام يتخلص من طبيعته هذه بالتدريج حتى يصبح فرعاً نباتياً تتصل به أغصان وأزهار، وينبت من أذن كل منهما فرع نباتي يدور حول نفسه أولاً ثم يتفرع إلى فروع عدة، أو غير ذلك من الوحدات الزخرفية التي يجمع فيها الفنان عناصر الطبيعة المختلفة من حيوان ونبات وجماد بحيث يخرج بعضها من بعض؛ وكأنه في عمله هذا يرى أن المخلوقات كلها سواء يستوي لديه الحيوان والإنسان والنبات والجماد باعتبار أنها لا تثبت على صورة واحدة بل تتغير من حالة إلى حالة وليس لها جميعاً إلا وجود زائل سائر إلى الفناء بينما الخالق وحده هو الحق الباقي الذي لا يعتوره تغير ولا يلحقه فناء. والغالب أن الفنان المسلم متأثر في اتجاه هذا بتلك الآية الكريمة التي نزلت في إبراهيم عليه السلام والتي تشير إلى أن الثبات وعدم التغير من صفات الحق وحده دون مخلوقاته التي من شأنها التغير. يقول جل شأنه: (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال إن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم أني بريء مما تشركون. أني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية(535/23)
الدين العام المصري
نشأته وتطوراته
للأستاذ أحمد صادق موسى
ليس الدين شراً كله كما أنه ليس خيراً كله، ولكنه لم يأخذ أية أمة مثلما أخذ في مصر طريقاً حافلاً بالحوادث، مليئاً بالاضطرابات، حتى أصبح تاريخه في مصر تاريخاً لفترة طويلة في حياتها السياسية والمالية، شهدت فيها البلاد ألواناً شتى من التدخل الأجنبي، وصوراً متعددة من التعسف، وضروباً كثيرة من التقلب والاضطراب. ولقد انتقل حكم مصر إلى سعيد باشا والبلاد لا تعرف طريقاً إلى القروض الأجنبية، حتى أحاط بالوالي الجديد بطانة من الفرنسيين وعلى رأسهم فردناند دلسيبس، فزينوا له فوائد الإصلاح ويسروا له سبل الاقتراض، فامتدت يد سعيد باشا إلى المصارف الأوربية للمرة الأولى، ثم إلى الأهالي، فاقترض عدة قروض كان منها الدين الثابت على المصارف الأجنبية ويقدر بمبلغ 3. 292. 800 ج. ك ومنها الدين السائر على الأهالي ويقدر بمبلغ 7. 867. 200 جنيهاً. فلما توفي سعيد باشا ترك البلاد وعليها دين يزيد على الأحد عشر مليوناً من الجنيهات
وتولى الخديو إسماعيل عرش مصر، وكان شاباً جريئاً طموحا، يفيض قلبه بالآمال، ويجيش صدره بأجمل ما يتمناه ملك يتفانى في خدمة بلاده، فأسرعت البطانة الأوربية وخاصة الفرنسية بالالتفاف حوله، كما التفت حول سلفه، تلتمس فيه نقط الضعف، فإذا بها، ويا لفخره. . . رغبته في الإصلاح وحبه للإنشاء. فراحت تزين له آفاق هذا المجال وتمده بالمال، فاندفع نحو الاقتراض مدفوعاً برغبته الصادقة في إصلاح حال مصر، وبحسن نواياه وثقته بمن حوله، وهم بطانة من الأجانب المرتزقة، أو المصريين الذين أعمى الطمع قلوبهم وأضل أفئدتهم، فصرفهم عن أن يخلصوا النصح لمولاهم، أو يتبصروا عواقب الأمور. . . وراحت القروض تتوالى على مر السنوات، وترتفع الأرقام في سرعة هائلة، فإذا الديون الثابتة تبلغ من سنة 1862 إلى سنة 1873 (أي مع دين سعيد باشا الثابت) 68. 497. 160 ج. ك. والديون السائرة 25 مليوناً من الجنيهات. وقد كان أكبر هذه القروض الثابتة قيمة قرض سنة 1873 بمبلغ 32 مليون جنيه إنجليزي، وكان سعر الفائدة(535/24)
7 %؛ على أنه إنصافا للحق لم تصل القيمة الاسمية من الديون الثابتة إلى الحكومة؛ إنما دخلها منها 47. 357. 461 ج. ك فقط، وضاع الفرق ما بين القيمتين الاسمية والحقيقية، ويقدر بمبلغ 21. 139. 699 في السمسرة والعمولة والمصروفات الأخرى، حتى سعر الفائدة 7 % كان لا يعمل به، بل كانت تتراوح الفائدة الحقيقية ما بين 12 % و26 %. وقد رهنت في مقابل هذه الملايين إيرادات بعض مديريات الوجهين القبلي والبحري، وإيرادات الجمارك والسكك الحديدية وجميع الثغور والعوائد المختلفة، وإيرادات أملاك الدائرة السنية، وكان يقدر الدخل في الجميع بنحو ستة ملايين من الجنيهات، وبهذا أصبح معظم إيرادات القطر رهناً لهذه الديون الأجنبية. ولم تزد الحالة إلا سوءا؛ فكان كل قرض يعقد يجلب معه الاضطراب الشديد والخلل السريع إلى المالية المصرية، حتى أقبل عام 1875 فإذا بالحكومة عاجزة عن تسديد فوائد هذه الديون ودفع الأقساط في مواعيدها، وقد استخدم إسماعيل صديق باشا (المفتش) وزير المالية يومئذ كل ما تفتق عنه ذهنه من أساليب شيطانية لابتزاز الأموال لتسديد الأقساط. ولما شعر الخديو بشدة وطأة الحال عرض على إنجلترا رغبته في أن تبعث إليه بمالي كبير يدرس الحالة المالية ويعاون الوزير المصري في إدارة شؤونها وعلاج أسباب اضطرابها، وجاء هذا الطلب في وقت كانت تطمع فيه كل من إنجلترا وفرنسا في بسط إشرافها المالي على البلاد بعد ما أصبها من سوء وانحلال ولذلك سرعان ما لبت إنجلترا رغبته وأرسلت (بعثة) يرأسها (ستيفن كيف) لبحث الحالة المالية، وقدم (كيف) مصر ووضع تقريراً مطولاً مستفيضاً عن الشؤون المالية استعرض فيه أسباب اضطرابها وخللها ودواعي عقد القروض وقدم مقترحات تتلخص في تسديد القروض القصيرة الأجال وتحويل الباقي من الديون الأخرى الطويلة الأجل إلى دين واحد قدره 75 مليون جنيه بفائدة سعرها 7 % يسدد في 50 سنة وأن تنشأ مصلحة مراقبة يعهد إليها تسلم متحصلات بعض أنواع الإيرادات؛ على أن لا تعقد الحكومة أي قرض جديد إلا بعد موافقتها عليه. غير أن الخديو إسماعيل أغضبه تقرير (كيف) فاتجه للمساعدة الفرنسية؛ وما لبث أن قدم المالي الفرنسي الذي حضر إلى مصر لدراسة شئونها المالية، مشروعاً يقضي بإنشاء صندوق الدين. ورأت إنجلترا أن فرنسا تنافسها في الميدان فأرادت أن تحمل الخديو على قبول مقترحات كيف، ولجأت إلى مناورة(535/25)
برلمانية في عهد دزرائيلي ونشرت تقرير كيف عن حالة مصر المالية فأغضب ذلك الخديو كل الغضب وانحاز بكليته إلى المشروع الفرنسي وأصدر أمراً عالياً في 2 مايو 1876 يقضي بإنشاء صندوق الدين على أن يؤلف من أعضاء أجانب يعينهم الخديو بناء على ما تعرضه الدول التابع لها كل منهم. ويستلم الصندوق إيرادات بعض مديريات الوجهي البحري والقبلي المخصصة لخدمة الدين، وعوائد الدخولية في العاصمتين، وإيراد الجمارك في جميع الثغور، والسكك الحديدية وغير ذلك، وحظر على الحكومة تخفيض أموال الأطيان المخصصة للدين بغير موافقة الصندوق، كما تقرر أن تكون المحاكم المختلطة هي المختصة بالنظر في النزاع بين الصندوق والحكومة. وأعقب هذا صدور أمر عال آخر في 7 مايو يقضي بتحويل ديون الحكومة الثابتة والسائرة إلى دين واحد قدرة 91 مليون جنيه إنجليزي بفائدة 7 % ويسدد في 65 سنة، وأن يخصص لتسديده الإيرادات التي ذكرنا أبوابها وتقدر بمبلغ 6. 745. 256 ج. ك ثم رأى الخديو زيادة في حسن الإشراف والإدارة إنشاء مجلس المالية الأعلى، فأصدر أمراً بتشكيله في 11 مايو من تلك السنة. بيد أن تنافس الإنجليزي الفرنسي كان يزداد شدة فدعا هذا إلى اتفاق الدولتين على المطالبة بوضع نظام يكفل لهما دقة الإشراف المالي على مصر، وذلك بتعين مراقب إنجليزي للإيرادات، ومراقب فرنسي للمصروفات. وقد تم لهما ذلك بإنشاء المراقبة الثنائية في الأمر العالي في 18 نوفمبر سنة 1876 على أن توضع السكك الحديدية وميناء الإسكندرية تحت إدارة لجنة أوربية. وبهذا اتخذ التدخل الأجنبي ثاني صوره الرسمية بعد إنشاء صندوق الدين. غير أن توحيد الديون جميعها أثار احتجاجات حاملي السندات القصيرة الأجل وسندات الدائرة السنية فدارت مفاوضات أعقبها صدور أمر عال في 18 نوفمبر أيضاً يفصل ديون الدائرتين السنية والخاصة عن الدين الموحد وإصدار سندات ممتازة للمرة الأولى بمبلغ 17 مليون جنيه إنجليزي بفائدة 5 % وتخفيض الدين الموحد بذلك إلى 59 مليون ج. ك، ثم عقد في شهر يونيه 877 اتفاقاً خاصاً بديون الدائرتين السنية والخاصة وأصبحت قيمتها الرسمية 9. 512. 900 ج. ك - وعلى الرغم من هذا ازدادت الأحوال اضطراباً، فأشار وزير المالية على الخديو بتشكيل لجنة للتحقيق فصدر أمر عال بها في يناير سنة 1878 يقضي بتعيين لجنة التحقيق العليا التي كان يرأسها اسماً(535/26)
دليسبس، وفعلاً السير ريفرز ولسون، وذلك للبحث في أسباب الخلل ووضع المقترحات اللازمة لعلاج الاضطراب المالي والضيق الشديد. وفي أثناء قيام لجنة التحقيق بعملها تدخلت إنجلترا وفرنسا بطلب تعيين وزيرين أوربيين في الوزارة المصرية وتحديد المسئولية الوزارية. وقد تم لهما ذلك، فتولى السير ولسون وزارة المالية، والمسيو دي بلينر وزارة الأشغال في الوزارة المختلطة التي تألفت في عام 1878، وبهذا أصبح ولسون يشغل منصبين خطيرين. ولكن تأليف هذه الوزارة ما لبث أن قوبل بامتعاض شديد من الوطنيين. وكان هذا العمل جرحاً عميقاً للكرامة المصرية القومية، فاتجهت الأفكار كلها إلى التخلص منها. وكان الخديو أكثر الناس رغبة في ذلك فما لبث أن انتهز فرصة وضع تقرير لجنة التحقيق العليا التي ذكرت فيه أن الحكومة المصرية في حالة إفلاس، وأنه يجب تشكيل لجنة لتصفية الحالة المالية والديون، حتى أسقط الوزارة المختلطة وعين شريف باشا رئيساً للوزارة الوطنية البحتة، وقوبل هذا العمل الجريء من الخديو باحتجاجات شديدة من الوزيرين الأوربيين ودولتهما ولجنة التحقيق وغيرهم، ولكن ظل الخديو وشريف باشا على سياستهما الوطنية وإن كانا قد فاوضا الدول في إعادة المراقبة الثنائية مرة أخرى
وفي ذلك الحين عقد قرض الدومين مع بنك روتشيلد بمبلغ 8. 5 مليون ج. ك في 26 أكتوبر سنة 1878، ثم صدر بعد ذلك مرسوم بالتصفية في 22 إبريل سنة 1879، غير أن الدول لم تقبله واحتجت عليه. واستمر النزاع قائماً بين الخديو إسماعيل والدول الأوربية التي نشطت في تألبها عليه؛ وأقنعت الباب العالي بضرورة عزله للعمل على الإصلاح المالي؛ وخضع السلطان العثماني وأصدر فرمانا بهذا السؤل في 26 يونية سنة 1879. ويبدأ مع عصر الخديو توفيق عهد جديد تضافرت فيه جهود الدول على العمل لتحقيق غرضين أولهما: البحث الجدي المنتج لتوطيد الحالة المالية المصرية، وثانيهما الوصول بالتنافس الإنجليزي الفرنسي إلى الاحتلال العسكري للبلاد
ولقد سار الغرضان معاً فبدأت الحكومة المصرية بإصدار قانون التصفية العام في 17 يوليه سنة 1880 ويقضي بإصدار سندات جديدة من الدينين الموحد والممتاز، كما خفض سعر الفائدة في الدين الموحد إلى 4 %، وضمت أملاك الدائرتين السنية والخاصة إلى(535/27)
الحكومة، وألغيت المقابلة على أن يسترد ما حصل منها على أقساط شهرية لمدة 50 عاما - وفي هذه السنة نشرت أول ميزانية رسمية للحكومة، ثم أدى الاتفاق الإنجليزي الفرنسي على احتلال البلاد احتلالاً مشتركاً إلى أن أسرعت إنجلترا بالاحتلال الفردي سنة 1882 متخذة من بعض الحوادث الداخلية، كالثورة العرابية وغيرها مبرراً لتنفيذ هذا الاحتلال السريع. وقد نتج عن هذا كله اضطراب مالي سياسي جديد، ورأت الحكومة أن تغطي عجز إيراداتها بعقد قرض جديد بضمان الدول، وقد تم لها هذا بالأمر العالي في 27 يوليه سنة 1885 الذي يقضي بإصدار سندات بقيمة 9. 424. 000 ج. ك. بفائدة 3 % وبضمان كل من إنجلترا وألمانيا والنمسا والمجر وفرنسا وإيطاليا وروسيا. وعقد الخديو توفيق ثم الخديو عباس فيما بعد ثلاثة قروض قيمها لا تزيد عن الخمسة ملايين من الجنيهات، كما حددها السلطان العثماني، وذلك لتسوية الحالة المالية. وبدأ الاستقرار المالي يدب بعد ذلك في الحياة المصرية، وعمل الإنجليز من جانبهم على التخلص من مشاركة فرنسا في الإشراف على الشئون المالية، فألغيت المراقبة العثمانية، واستبدلت بالمستشار المالي الإنجليزي. وكان من بوادر الاستقرار أن أخذت الحكومة في تكوين أموال احتياطية تحفظ في صندوق الدين، وأعقب ذلك تحويل الديون الممتازة والدائرة السنية والدومين إلى ديون جديدة بفوائد مخفضة. ولما كانت البلاد تحت السيادة العثمانية فقد لجأت تركيا إلى مصر لتكون ضامناً لها في القسط السنوي للقرض العثماني 4 % لسنة 1891، وذلك بتخصيص جزء من الجزية السنوية المستحقة لها لضمان القسط السنوي من هذا القرض الذي أصدره بنك روتشيلد بقيمة اسمية 6. 316. 920 ج. ك. وحدد له قسط سنوي قدره 273. 608 ج. م. ويستهلك في مدة 60 سنة تنتهي في سنة 1951؛ وفي سنة 1894 حدث تعهد مشابه حين قبل الخديو عباس الثاني أن تضمن مصر القسط في القرض العثماني 3. 5 % لسنة 1894، وكانت قيمته الاسمية 8. 212. 340 ج. ك.، ويستهلك في مدة 61 سنة تنتهي في سنة 1955، وحدد قسطه السنوي بمبلغ 321. 018
وقد ظلت مصر تدفع أقساط هذين القرضين العثمانيين باعتبارها خاضعة لسيادة التركية، حتى بعد أن رفعت عنها هذه السيادة في سنة 1914 إلى أن قرر مجلس النواب في سنة 1924 أن تتوقف مصر عن دفع هذه الأقساط التي لا مبرر لدفعها من زوال السيادة(535/28)
التركية وإعلان الاستقلال، ولكن معاهدة لوزان التي نفذت في سنة 1924 قررت إعفاء تركيا من كل التزامات القروض العثمانية ورفع النزاع إلى المحاكم المختلطة التي قضت في إبريل سنة 1926 بإلزام الحكومة المصرية بالاستمرار في دفع هذه الأقساط حتى نهايتها
ولما كانت فرنسا تناوئ إنجلترا مناوأة شديدة بعد فشل الاحتلال المشترك لمصر وتندد بسياستها، فقد عملت إنجلترا على أن تسعى للاتفاق معها، وقد تم هذا في الاتفاق الإنجليزي الفرنسي سنة 1904 الذي أطلقت فيه يد إنجلترا في شئون مصر مقابل إطلاق يد فرنسا في شئون مراكش. وبعد ذلك الاتفاق صدر قانون جديد في 28 نوفمبر سنة 1904 يقضي بتنظيم الدين العام وباستمرار صندوق الدين في عمله حتى ينتهي تسديد هذه الديون، وأن لا تخفض ضرائب الأطيان إلى أقل من 4 مليون جنيه إلا بعد موافقة الدول، وحددت التواريخ لبدء استهلاك هذه الديون
ولقد تمكنت الحكومة بعد ذلك من التخلص من بعض ديونها فسددت دين الدائرة السنية حتى 15 أكتوبر سنة 1905 وكذلك دين الدومين حتى أول يونيه سنة 1913
وقد شاع الاستقرار في المالية المصرية وانبعث الاطمئنان إلى النفوس بعد التعديلات والإصلاحات المختلفة السابق ذكرها إجمالاً وقامت الحكومة المصرية بعد ذلك بإصدار أذونات الخزانة في سنة 1933 بمبلغ 3. 5 مليون جنيه مصري استهلكت على دفعتين الأولى في سنة 1938 والثانية في سنة 1943، وكان الغرض من إصدارها تخفيف الأزمة الاقتصادية العالمية التي سببت هبوط أسعار المحاصيل الزراعية، ثم أصدرت بعد ذلك قرض القطن الأول في سنة 1941 بفائدة 4. 5 % وبمبلغ 17. 5 مليون جنيه مصري طرح منها للاكتتاب عشرة ملايين استهلك منها حتى الآن ستة ملايين، وأصدر بالباقي أذونات لمدة قصيرة. والثاني في سنة 1942 بفائدة 4 % وبمبلغ 12 مليون جنيه مصري طرح منها للاكتتاب مليونان من الجنيهات
هذا هو مجمل تطور الدين العام، ويضاف إليه ديون أخرى صغيرة استهلك بعضها والبعض الآخر في دور الاستهلاك
على أنه يجدر بنا ذكر العمل الجليل الذي قامت به الحكومة بإلغاء صندوق الدين في سنة(535/29)
1940 بعد مفاوضات مع الدول ونقل كل اختصاصاته إلى الحكومة التي يتولى البنك الأهلي - نيابة عنها - القيام بخدمة هذه الديون، وقد صدر بعد هذا مرسومان ملكيان رقما 68 و71 لسنة 1940 بتنظيم الدين العام على هذا الأساس الجديد
ويتضح مما تقدم أن الباقي من الدين العام هو: الدين المضمون 3 % وقيمته الاسمية 9. 424. 000 ج. ك وقسطه السنوي 307. 125 ج. م والباقي منه 785. 400 ج. ك والدين الممتاز 3. 5 في المائة وقيمته الاسمية 31. 647. 000 ج. ك وقسطه السنوي 1. 045. 384 ج. م والباقي منه بعد الاستهلاك 30. 633. 980 ج. ك؛ والدين الموحد 4 في المائة وقيمته الاسمية 60. 958. 240 ج. ك وقسطه السنوي 2. 154. 768 ج. م والباقي منه بعد الاستهلاك 55. 250. 460 ج. ك؛ وجملة الباقي من هذه الديون الثلاثة 86. 669. 840 ج. ك وأما القرضان العثمانيان فجملة الباقي منهما معاً هو 5. 357. 180 ج. ك
وقد تقرر منذ سنوات مضت أن تدفع الكوبونات والسندات في هذه الديون بالعملة الورق الأسترلينية؛ وقد بلغت قيمة ما تدفعه مصر سنوياً من فوائد لهذه الديون مع قسط استهلاك الدين المضمون أكثر من أربعة ملايين من الجنيهات المصرية. ولا ريب أن المشروع الجديد باستهلاك بعض هذه الديون وتحويل البعض الآخر إلى دين داخلي أخف حملاً، عمل جليل يرفع عن كاهل البلاد عبئاً ثقيلاً باهظاً من بعض ملايين الجنيهات كما يرفع عنها ذكريات أليمة تردد صداها في تاريخ مصر الحديث.
أحمد صادق موسى(535/30)
السامر الموحش
إلى الحبيب الذي أسا كلامي
وغنيته أعذب أنغامي
ونهل وعل من أحلامي
وعاطيته كأس أوهامي
فشربها ولم يذر بقيا
واليوم تناسته الدنيا
ولكن جرحي الغائر مات آسيه
وأنغامي لم تأنس إلى من تغنيه
وأحلامي لم تركن إلى من تساقيه
وأوهامي لم ترتح إلى من تعاطيه،
فهي تبعث الذكرى من بعيد والى بعيد
وأنا شقي بها، وإن شئت فقل سعيد
تَلَفْتُ لا شملي جميعٌ ولا الهوى ... قريبٌ ولا فرعُ الصِّبا عبقٌ نضْرُ
أَحِبَّايَ لو غيرُ الردى حال دونكم ... دنى البرُّ في عينَيَّ وانكشف البحر
بأسماعكم وقْرٌ وقد رُحْتُ شاكياً ... وحاشا ففي سمع الثرى وحده الوقر
تناسيتكم الدنيا وحالة عهودُها ... كأن لم يرنِّحْ عِطْفَها بكم الفخر
أنَزِّهُ آلامي عن الدمع والأسى ... فيؤْنمها مني الطلاقة والبشْرُ
وأضحك سخراً بالوجودِ ورحمةً ... وفي كبدي جُرْحٌ وفي أضلعي جمْر
يغالي بدنياه وَيجلو فتونها ... ودنياه في عينَيَّ موحشةٌ قفرُ
وما حاجتي للنورِ والنورُ كامن ... بنفسي لا ظلٌّ عليه ولا سِتْرُ
وما حاجتي للأفق ضَحْيانَ مشرقً ... ونفسي الضحى والأفق والشمس والبدر
وما حاجتي للكائنات بأسْرها ... وفي نفسيَ الدنيا وفي نفسيَ الدهر
أُهَدْهِدُ من أحزانها كلما وَنَتْ ... ويُسْلِسُ بصد الَمرْى للحالب الدَّر
إذا رَكدتْ بعد الهبوب فانَّها ... لكالبحر من أخلاقه المدُّ والجزر
ويا سامر الأحباب مالك موحشاً ... معاذ الهوى بل أنت يؤنسك الذكر(535/31)
أَدِيْمُكَ مِنْ حَبَّ القُلوبِ تمزّقَتْ ... عليه فَسَالَ الشوقُ وَالحب والطَّهرُ
إِذا ظمِئَتْ في قطعها البيدَ نَسْمَةٌ ... أَلَمْتْ به وهناً فَرَنَّحها السُّكْرُ
فيا للصَّبَا العجلى إذا عبرَتْ به ... تأَنَّتْ كما يَرْتاحُ في الواحَة السَّفْرُ
تمنَّيْتُ إجلالاً لَهُ وَمَحَبَّةً ... لَوَ أنَّ حَصَاهُ أنْجُمُ الفَلَكِ الزُّهْرُ
وأجزَعُ إنْ مَّرتْ به الريحُ زعزعاً ... وأَسْرَفَ حتَّى جاوز الحاجةَ القَطْرُ
فليْتَ الربيعَ الطَّلْقَ ساقاهُ كأسَهُ ... مَدى الدَّهْرِ لا بَرْدُ عليهِ ولا حَرٌ
ويا سامِرَ الأحبابِ طيفُ ولا كرىً ... وسُكْرٌ ولا راحٌ وَرَيَّا ولا زَهْرُ
كلانا على ما كَلّفَ النفس من رِضَى ... أضَرَّ به نأَيُ الأَحِبَّةِ والهَجْرُ
تَطُوفُ بِكَ الأحلامُ نشوى كعدِها ... وينطف من أفيائِكَ الحب والعِطْرُ
ويضحكُ لي وجْهُ نَدِيُّ مُنَوَّرُ ... كأَنْ لم يغيَّبْ من طلاقَتِه القَبْرُ
وَحَيّا. . . كأَن لم يَطوِهِ عَنِّي الرَّدى ... فَهلْ بُعِثَ الأمواتُ أم ردَّه السِّحْرُ
قُلِمُّ به الذكرى فَيَحْيَا كَبَارِقٍ ... طَواهُ الدُّجى عني ليُطْلِعُه الفجْرُ
وَيْبعَثُه حُبِّيْ وفي كُلِّ خافِقٍ ... صَحِيح الهوى بَعْثُ الأَحِبّةِ والنَّشْرُ
فَيا قَلْبُ فيك الرَّاحِلون وإن نأوا ... وفيك الندامى والرياحِيْنُ والْخَمْرُ
خَلَعْتَ على الموتى حَيَاةً قويَّةً ... وطَالعَهُمْ مِنْكَ القِيَامَةُ والْحَشْرُ
(سوريا - اللاذقية)
أحمد سليمان الأحمد(535/32)
البريد الأدبي
الإبهام والغموض في التصوف
يذكرني مقال ابن الفارض المنشور بالرسالة ببحث جريء لي لم ير النور بعد، لأن بعض الأذهان لم تتهيأ لقبوله، وصلت فيه إلى أن التصوف نتيجة اختلاف في النفسية الجنسية للفرد. وقد اهتديت إلى هذه النتيجة من مقارنة نفسية فجر الشباب حيث فورة الجنس على أشدها وما يصحبها من حالة نفسية لا تفرق عن التصوف إلا في كونها عابرة غير مستقرة، ففي هذه الطور من التطور البشري يشعر الإنسان أنه جزء من الكون، وكل ما في الكون يردد صداه في نفسه التي تتسع لقبول ما في الكون من إنسان وحيوان وأفلاك، ويمتاز تفكير هذا الدور بالإبهام والغموض والإيثار كالتصوف تماماً
وقد وجدت في تاريخ ابن الفارض مادة دسمة لتدعيم بحثي، فقد روى أن أحدهم استأذن في شرح قصيدته (نظم السلوك) فسأله عن مقدار الشرح فقال: إنه سيقع في مجلدين. فضحك ابن الفارض وقال: (لو أردت لكتبت مجلدين لكل بيت فيها) وروى أيضاً أن محيي الدين بن عربي بعث إليه في شرح هذه القصيدة فرد عليه الشاعر: (كتابك المسمى بالفتوحات شرح لها) والكتاب المشار إليه يقع في 3300 صفحة من الحجم الكبير
ففي هذا القول نجد معنى الإبهام والغموض، فإن أفكار المتصوفين ليست واضحة في جوهرها، وإن الشروح المقصودة هي تخريج لمعان لم تتبلور، ونحن نعلم أن ميزة الفكر البشري هي الوضوح وسهولة التأدية، ونجد حتى في الحيوانات العجم من تحسن التفاهم مع بعضها تفاهما عجيباً فاضت لوصفه مؤلفات علماء الطبيعة، ولولا سهولة الأداء التي امتاز بها الذهن البشري لما ترقى الإنسان وصعد إلى درجات الرقي التي وصل إليها
وقد أدعو أن هذا الغموض مقصود لحفظ أسرارهم، والذي وصلت إليه هو أنه نقص في التعبير من علل نفسانية
أما عن إقحام الحب وما يتبعه من معان وصور في رياضتهم فهذا هو الجانب المحرج الذي أشرت إليه في أول هذه الكلمة؛ ومجال هذا البحث في الصحف الطبية. وفي رأيي أنه هو الباعث الأول على الغموض والإبهام
كامل يوسف(535/33)
عضو معهد الأبحاث الفلسفية البريطاني بلندن
1 - مؤتمر الأدباء الشباب في البلاد العربية
إن أدبنا العربي اليوم، يمشي بخطوات سريعة، ولكن أكثر الأدباء لا يستهدفون غاية، فكل يسير على هواه. وإن هناك أموراً شتى يجب البحث فيها، ومشكلات معدودات ينبغي حلها. ولابد من هدف يسعى إليه الأدباء لتكون هناك وحدة أدبية عربية فيها توافق وانسجام، تدفع بالأدب العربي الوليد خطوات ومسافات. ويعود نفعها على أبناء البلاد العربية بالخير والوئام. وإني أقترح أن يعقد مؤتمر للأدباء في عيد الأضحى يدعى إليه أدباء الأقطار العربية كلها، يكون في القاهرة أو دمشق أو بغداد. فيعرف الأدباء بعضهم بعضاً، ويتحادثون فيما ينقصنا، وفيما يشوه أدبنا، وفيما نحن بحاجة إليه
هذا نداء لأرباب القلم والصحف الأدبية لعلهم أن يرحبوا به ويسعوا إلى تحقيقه. ويتبادلوا الآراء فيه.
2 - إلى الأستاذ دريني خشبة
قلت في مقالك الطريف عن نشأة الدرامة الإنجليزية (العدد 531) إن الدرامة قسمان، النوع الأول: الإنجيلي أو السمعي (؟) وهو يسمى والنوع الثاني القديسي أو الكرامي واسمه
وفي ترجمة هذين الحرفين، من التجوز، الكثير، وفي هذه الكلمات (القديسي، الكرامي، إنجيلي) من البشاعة ما يجعلها نافرة، لا يرضى عنها من أبدع في نقل أساطير الإغريق، والإبداع الكبير
فكلمة التي تقابل الفرنسية، كانت تطلق في القرون الوسطى على المسرحيات ذات الموضوع الديني أعني: وكانوا يدخلون فيها الإله والقديسين والملائكة والشياطين. فترجمتها بالإنجلية، أي غير صحيحة، لأن الإنجيلية نسبة إلى الإنجيل وهذا غير ال فإذا قلنا: الدرامة ذات الموضوع الديني، أو الدينية (تحاشياً من إنجيلي وسمعي) لكان أولى
ولو ترجمت بالخوارق، لكان أجلى وأصح فنقول درامة الخوارق لأن القديسي نسبة إلى قديس أي ومعنى الخوارق التي تخرق قوانين الطبيعة. فهي في الإنجليزية: وفي الفرنسية(535/34)
, هذا ولك شكري على دعوتك إلى الأدب المسرحي. وإعجابي بإنتاجك
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
المذاهب السياسية المعاصرة
لماذا أخص هذا الكتاب من سلسلة (اقرأ) الثمينة بالكتابة ولم أفعل ذلك من قبل، مع ما للكثير من كتب هذه السلسلة من القيمة الأدبية التي لا تنكر؟ هل ذلك لأن الأستاذ أدهم هو صديقي وزميلي؟ إن كان هذا فالأستاذ عبد الرحمن صدقي هو من أعز أصدقائي علي وأحبهم إلى نفسي، ومع ذاك فأنا لم أكتب عن كتابه كلمة، مع ما كان يستحقه كتابه من ثناء وإطراء ونقد. . . الحقيقة إذن هي أنني لم أقرأ في السنوات الأخيرة في مصر كتابا مركزا صغير الحجم كبير القيمة تشتد حاجة القراء العرب إليه مثل هذا الكتاب. . . إنه خلاصة لمائة كتاب على الأقل من مئات الكتب التي أعرف أن صديقي أدهم يقرأها ويضمها ويجيد استيعابها ونقل لبابها لقرائه الكثيرين المعجبين به. . . إنه ليس من هذه الكتب التي يؤثرها القارئ العجل الذي لا صبر له على المذاهب السياسية ونظرياتها العميقة التي تصدع الرأس وتكد الذهن وتحتاج إلى الصبر وطول الأناة: إن كتيب الأستاذ أدهم هو استعراض جميل لهذا الموكب الحافل من أفكار الإنسانية التي تنشد الضوابط وتتوق إلى المثل، وهو وكتاب الأستاذ فؤاد صروف (وعاءان ملئا علماً وتفكيرا) كما كان يعبر الأقدمون. . . لقد جهدت أن أتلقف بعض المؤاخذات لأجعل منها مادة لنقد الكتاب فلم أوفق إلا إلى الأخطاء المطبعية وإلا إلى بعض التعبيرات التي كانت في حاجة إلى المراجعة والتهذيب. . . على أنني أقترح على صديقي أدهم أن يعود إلى كتابه القيم فيضم إليه فصولا عن تاريخ نشأة تلك المذاهب وتراجم لزعمائها ورجال الفكر الذين ألهموا هؤلاء الزعماء مناهجهم وكانوا سبباً في قيام تلك الحركات الفعالة التي غيرت وجه التاريخ وانحرفت أو لم تنحرف بموكب الإنسانية. . . إن الكتاب إذا صدر على هذا النحو كان الأول من نوعه في المكتبة العربية. . . على أنه على حالته الراهنة هو الأول من نوعه في المكتبة العربية كذلك. . .
ثم ماذا عندي غير التهنئات بعد هذه الكلمة المقتضبة؟(535/35)
دريني خشبة(535/36)
العدد 536 - بتاريخ: 11 - 10 - 1943(/)
الأعياد اليومية والأعياد الموسمية
للدكتور زكي مبارك
خطبة سجلها في إذاعة القاهرة لتلقى في إذاعة فلسطين، أما
بقية الكلام فملاحظات كتبت عن أحاديث العيد
أيها السادة:
أقدم إليكم أصدق التحيات، راجياً أن يصل صوتي إلى أسماعكم وأنتم بخير وعافية، وآملاً أن تعيشوا إلى أمثال هذا العيد في رغد وطمأنينة وصفاء
أما بعد فلكل منا أعياد يومية، وأعياد موسمية، فما الفرق بين هذه الأعياد وتلك الأعياد؟
الأعياد الموسمية أعياد شرعها الأنبياء ليوقظوا روح السرور في الناس، عساهم يلتفتون إلى موكب الحياة من حين إلى حين
هل تعرفون السر فيما قضت به الشريعة الإسلامية من جعل الصوم حراماً في يوم العيد؟
كان ذلك لأن الرسول خاف على أمته أن تتنسك تنسك الأموات فلا تفرح ولا تبتهج في أي يوم، ولو كان يوم العيد
هل تعرفون السر في أن يقول القرآن: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)؟ إنه يدعوكم إلى لقاء الله في الصلوات وأنتم في أجمل ما تملكون من الثياب، لتفهموا أن الله يحب أن يراكم في نضارة النعيم لا في قساوة الشقاء
إن الأعياد الموسمية توحي بالسرور الشامل حين تصور الناس وقد احتشدوا للفرح والابتهاج، وحين تدعو كل فرد إلى التجمل، وحين تدعو كل بيت إلى إعداد الأطايب من الطعام والشراب، فمن تلك المظاهر المتجمعة يسري روح المرح في الجماهير، وتشعر النفوس بمعاني البشر والأنس، وتلتفت القلوب إلى حظوظها المنسية في دنيا السعادة والهناء
ولعل زكاة الفطر لم تشرع إلا لهذا الغرض، فالمراد منها أن تثور موجة من البر والإحسان، موجة رحيمة تقضي بأن يجد الفقراء والمساكين ما يغنيهم عن التفكير في هموم العيش أيام العيد(536/1)
تصوروا كيف تكون الحال لو أدى الموسرون جميعاً زكاة الفطر بإخلاص
تصوروا كيف يعم الفرح في مثل هذه الحال، فيفرح الغني بالتوفيق إلى أداء الواجب، ويفرح الفقير بأن يجد جاراً يواسيه باسم الشرع لا باسم الإفضال، فما كانت الزكاة إفضالاً وإنما هي واجب مفروض لا ينتظر صاحبه من الناس أي ثناء
في هذه الحال يكون الفقراء ضيوف الله في أيام العيد، لا ضيوف الموسرين من الجيران، ومع هذا تذيع القالة الجميلة فترتفع أقدار المزكين، وتزيدهم إيماناً بأن المعروف لا يذهب بين الله والناس
ومن مزايا الأعياد الموسمية أنها تذكر بحقوق ودية ينساها الأهل والأقارب في أكثر الأحايين، فما في كل يوم نسأل عن أقربائنا وأصدقائنا، ولا في كل أسبوع ولا في كل شهر أو كل شهرين، ولكننا نشعر بوجوب السؤال عنهم في أيام العيد، لنجازيهم لطفاً بلطف ووفاءً بوفاء
والأعياد الموسمية تقهرنا قهراً على تحية من يئسوا من التحية، لأنهم ذهبوا إلى العالم البعيد، عالم الموت، ولم تبق فرصة لتحيتهم غير فرصة العيد
أتدركون معنى الجمال الروحي في أن يكون أول من نحييهم في ليلة العيد هم الأموات؟
تلك التفاتة معنوية لها قيمة عظيمة، والوفاء الحق هو الوفاء لمن لا يملك الجزاء
أيها السادة:
إن فضائل الأعياد الموسمية أوضح من أن تحتاج إلى شرح، فتفضلوا بسماع كلمة وجيزة عن الأعياد اليومية، الأعياد التي تواجهنا في كل يوم، لو عرفنا كيف نروض النفس على إدراك الخفايا من نعم المنعم الوهاب، وهي نعم تتجدد في كل لحظة، فنحن بها كل يوم في عيد
تشرق الشمس والعافية في بدنك، والزاد في دارك، فيومك يوم عيد
تغرب الشمس وحولك أهلك، والنوم يداعب جفونك، فليلتك ليلة عيد
قد تطوف بك أحزان تثير دموعك وهذا يقع من وقت إلى وقت، ولكنه شاهد على أنك في عيد، فالدموع في عيون الباكين أدوية ربانية تصنع في طب العيون ما يعجز عنه أطباء العيون، والأحزان في صدور المكروبين مراهم روحية تصنع ما يصنع المرهم الواقي في(536/2)
شفاء الجرح البليغ
هل تعرف حكمة الله في الألم؟
إن الألم نعمة نفيسة، فهو بشير العافية، لأنه ينبه إلى المرض، والتنبه للمرض يدعو إلى العلاج وهو باب الشفاء
والآفة الخطيرة هي انعدام الإحساس بالآلام، فإن تألمت فعرف أنك في حيوية، وتذكر حكمة الله في الألم، لتعرف أنك في عيد
الحزن علامة قوة لا علامة ضعف، لأنه يشهد بإدراكنا لقيمة ما نفقد، ولا نكون كذلك إلا ونحن أصحاء، فإن حزنت فاعرف أنك بعافية وأنك في عيد
وكيف تكون العاقبة لو عشنا بلا أحزان وبلا دموع؟
إن الأحزان والدموع كانت ولن تزال من أنصبة الموهوبين والحزن العظيم لا يكون إلا من نصيب الرجل العظيم، ولو كان البكاء عيباً لنزه الله الأنبياء عن البكاء، فلم يبك يعقوب على يوسف ولم يبك محمد على إبراهيم، فإن بكيت فاعلم أنك بخير وأنك في عيد
إن كنت غنياً فتذكر أن الغنى من النعم السوابغ، فأنت كل يوم في عيد
وإن كنت فقيراً، فما عيدك؟ وهل تكون للفقراء أعياد يومية؟
افتح قلبك واسمع هذا الدرس:
الفقراء في كل زمان وفي كل مكان هم عماد المدنية، فبجهودهم تقام الصروح والشوامخ، وبأيدهم تحفر الأنهار، وتزرع الحقول، وتنشأ البساتين، فإن كنت من هؤلاء فمن حقك أن ترى أنك كل يوم في عيد
خزان أسوان من صنع يدك، كما كان برج بابل من صنع يدك، وكما كان سور الصين من صنع يدك، وما قام في الدنيا بناء وأنت غائب، يا فقيراً يعمل ليجد القوت، فأنت بجهادك مصدر العيد لمن ينعمون بالعيد، ولو عقلت لأدركت أنك كل لحظة في عيد
ولنفرض أنك كناس يكنس الشوارع ويملأ عينيه ورئتيه بالتراب في كل يوم، حتى يوم العيد، فهل تعرف نعمة الله عليك؟
تذكر أن الغبار يقذي العيون ولكنه ولا يقذي عينيك، لأن الله يحميك، وتذكر أن الغبار يقد يورث مرض السل، ومع هذا لم نسمع أن كناساً مات بالسل، فما يرضى الله بالمرض لمن(536/3)
يحاربون المرض، كما تحاربه بالمكنسة يا حضرة الكناس، فأنت كل يوم في عيد
أيها السادة
في ظلال هذا الفهم لنعم الله ندرك أننا كل يوم بعافية، وأننا كل يوم في عيد، وأننا مسئولون في كل لحظة عن إعلان السرور بما يجود به المنعم الوهاب
الطفل يطالب أهله بحلة جديدة في العيد، لأنه لا يعرف غير الجديد، فما حاجتنا إلى حلل من القطن أو الصوف أو الحرير ونحن في حلل من العافية للجهاد في سبيل الرزق الحلال
أنا لا أرى الله خص بالشقاء جيلاً من الناس
البصير في نعمة لأنه يرى محاسن الوجود
والضرير في نعمة لأنه لا يرى مساوئ الوجود
والأصم المحروم من لطائف الأنغام صانه الله عن سماع المرذول من الاغتياب
نحن جميعاً في رعاية الله، فنحن كل يوم في عيد
لقد غلا كل شيء في أعوام الحرب، إلا الماء، لأنه أنفس موجود، والله يجود بالنفيس قبل أن يجود بالخسيس، وليس في نعم الله خسيس
أيها السادة
إن الأعياد الموسمية أعياد العوام، أما الأعياد اليومية فهي أعياد الخواص، وأنا أدعوكم إلى التأمل في نعم الله عليكم لتكونوا كل يوم في عيد
نعم الله لا تعرف شعبان ولا رمضان ولا تلتفت إلى المواقيت.
نعم الله تساق مع الأنفاس فليس لها رسوم ولا حدود، والسعادة من نصيب من يؤمن بأن الله منعم ومتفضل في جميع الأحوال
ولكن هذه الغاية لا تبدو بوضوح في كل وقت، لأن قلوبنا معرضة لغشاوات من الجهل والغرض والطمع والإسفاف
نحن نبات ظهر فوق الأرض، وأغصاننا مع هذا أطول من جذورنا، لأننا مجذوبون إلى السماء لا إلى الأرض، فماذا تريد بنا يا فاطر السماء؟
نحن منك وإليك، ولن ننحط في أي حال، فما ينحط من يؤمن بك ولو عاش في ظلمات الأدغال(536/4)
سمعنا وقرأنا أن عندك نعيما وسعيراً، فلمن أعددت نعيمك وسعيرك؟
نحن لا نطالب بأن نكون من أهل رحمتك، فلسنا لذلك بأهل، وإنما نرجو أن تجعلنا من أهل عذابك، لنثق بالصلاحية لأن تضع أعمالنا في الميزان
العيد هو يومنا عندك، ولو في أسوأ الفروض، فمن السعادة أن نقف بين يديك مسئولين
والعيد الأعظم هو أن توقظ ضمائرنا في كل وقت لنعاني ألف حساب قبل يوم الحساب
لا عيد ولا جديد إلا إن رجونا رحمتك وخشينا عذابك، فامنح قلوبنا نعمة الخوف منك والاعتماد عليك لنشعر بأننا كل يوم في عيد
السماء في عيدك، والأرض في عيدك، والشمس في عيدك والقمر في عيدك، والنجوم في عيدك، وأنت العيد لما نجهل من المواجيد، فأنت في غضبك ورضاك عيدٌ وألف عيد، فهل تسمح يا إلهي بأن نكون بفضلك كل يوم في عيد؟
أحاديث العيد
لم نقل مع المتنبي: (عيدٌ بأية حال عدت يا عيد) فقد وصل ونحن بعافية، فلله الحمد وعليه الثناء، أدام الله علينا وعلى قرائنا نعمة الشعور بكرمه الموصول
1 - في يوم العيد وصل خطاب من الأستاذ حافظ محمود يقول فيه إن هجوم السيد حسن القاياتي مدسوس عليه، وأنه لم يخط بقلمه حرفا مما دار حوله الجدال في الأسابيع الماضية، ويدعوني إلى كتابة كلمة ترضية يطيب بها قلب ذلك الصديق
وأقول إن المعلومات التي تضمنتها الخطابات المنشورة باسم الأستاذ القاياتي معلومات مريبة لأنها متصلة بشؤون لا يعرفها سواه، فإن لم يكن هو الكاتب فلن ينكر أنه مصدر المكتوب، وبهذا يقع عليه شيء من المسئولية
ثم أقول إنه كان يستطيع تكذيب ما نشر باسمه لأول مرة فينحسم الخلاف قبل أن يطول، ولكنه سكت نحو خمسة أسابيع، ثم بدأ في التشكي من العدوان عليه، وهذا من أغرب ما يقع في معاملات الناس
وأنا مع هذا أعتذر للصديق عما بدر مني في مساجلته، وأعلن أني أعتز بصداقته كل الاعتزاز، وأني لن أسمع فيه كلاما ولو نشر بنفسه في مغاضبتي ألف خطاب
وهنا أذكر مذهبي في معاملة رجال الأدب ورجال السياسة، وهو مذهب يستحق التنويه(536/5)
ويصلح للاقتداء، فما ذلك المذهب؟
خلاصة هذا المذهب أني لا أتكلم عن أهل الأدب والسياسة بما يشبه النقد في أي مجلس، لأن الكلام عرضة للتزيد والتحريف، وإنما أكتفي بما يخطه قلمي في الجرائد والمجلات، إن طاب لي أن أناوش أحد الرجال
وأذكر أيضاً أني أعيش في عزلة بعد الرجوع من عملي إلى بيتي، فما يحتاج إلى غشيان الأندية غير من يعيشون بمنجاة من متاعب الواجبات، وأنا أحمد الله الذي تفضل فأكثر من أعبائي في حياتي، بحيث لا أجد فرصة لمسامرة المعارف والأصدقاء، فمن زعم أنه رآني وأني حدثته عن فلان أو علان بيكيت أوكيت فهو من الكاذبين
2 - من عادتي أن أزور قصر جلالة الملك في يوم العيد لأتشرف بتقييد اسمي، ولأرى من كبار الرجال من لا يتسع الوقت لرؤيتهم في غير ذلك الجناب
وقد تأخرت قليلا في هذه المرة فلم أصادف غير الدكتور هيكل باشا والأستاذ فؤاد باشا سراج الدين، مع حفظ الحق لبقية من رأيت هنالك من رجال الأدب والبيان
وضاعت الفرصة في لقاء النقراشي باشا، ولو رأيته لاعتذرت عن ضياع حظي من زيارة داره في رمضان، مع أنه من جيراني بمصر الجديدة، ومع أن زواره يتزودون بأكرم زاد من أطايب الأحاديث، بفضل المجلس الذي ينعقد بداره في أمسية رمضان، كما كان الحال في أكثر البيوت قبل الزمن الجديد، زمن السهر في الأندية والقهوات
3 - كان يجب أن أزور أهلي وأقربائي في سنتريس، ولكني رجعت غضبان، غضبان من شؤون لا تغضب إلا من يكون في مثل حالي من حب البر وبغض العقوق
وقضى الزحام باليأس من الظفر بمكان في إحدى السيارات، فتفضل صديق بتوصيلي إلى القناطر الخيرية لأركب القطار من هناك، ولكن القطار تحرك قبل وصولي بدقائق، ولا بد من الانتظار نحو ثلاث ساعات، فماذا أصنع؟
وقفت على قنطرة الرياح التوفيقي مع الواقفين وهم عشرات أو مئات في انتظار السيارات، فماذا أصنع؟
فكرت في مروءة أصحاب السيارات الخصوصية، وقد يكون فيهم من يعرفني، فكنت أقول كلما مرت سيارة خصوصية: (خذوني معكم) ولكن أين من يسمع؟(536/6)
واستمعت سيارة لندائي، وبدت منها يد لطيفة كأنها الغرام في ليلة عيد، فمضيت وركبت وأنا لا أصدق أنني وصلت!
ولكن أين صاحب السيارة؟
لقد نزل للبحث عني، ثم تاه في غمار تلك الخلائق، فهتفت صاحبة المعصم تعال تعال فالدكتور وصل!
وبعد التحيات المعروفة في مثل هذه الظروف مضت السيارة وأنا لا ألتفت إلى الوجه الذي يشع نوره بمثل ما تشع الشمس عند الأصيل، وهل يليق بي أن ألتفت إلى وجه سيدة قد تكون زوجة هذا الرفيق؟
- حيها يا دكتور بكلمة
- ومن أحي؟
- هذه نور
- أي نور؟
- نور الهدى بطلة (فلم جوهرة)
وألتفت فإذا فتاة لطيفة في لون الصهباء، لم يشعشع وجهها بطلاء، فعرفت كيف كان العرب يصفون المرأة الجميلة بأنها صفراء
هل رأيتم جمال الاصفرار في حيوية اللون؟
ودار الحديث حول التمثيل والممثلين فقلت: إحرصي يا بنيتي على الانتفاع بعبقرية الأستاذ يوسف وهبي، فهو أعظم فنان في هذا الزمان
قال صاحب السيارة: أهذا رأيك في الأستاذ يوسف وهبي؟
قلت: هو رأيي
قال: وتسمح بتدوينه في مجلة الرسالة؟
قلت: وفي جميع المجلات، وسأخصك بحديث
قال: أرجوك أن تغفل اسمي، لأسباب لا أملك عرضها عليك وصلنا إلى القاهرة لنفترق، ولأبحث عن الأسباب التي توجب أن أغفل اسم ذلك الصديق، فما تلك الأسباب؟
كانت هنالك وليمة عيدية في (عزبة الصباح)، وكان في الوليمة فنانون وفنانات، وكانت(536/7)
(نور الهدى) في العودة من نصيب سيارة هذا الرفيق
وعرفت بعد لأي أن مجلة الرسالة أثيرة عند زوجة صاحب السيارة، وأنها قد تغضب عليه إن عرفت من حديثي بمجلة الرسالة أنه رأى (نور الهدى) في يوم عيد
سأكتم اسمك يا صديقي، لئلا تثور زوجتك، فلن أقول أنك صاحب جريدة يومية، ولن أقول أنك كاتب من الطراز الأول، ولن أقول إنك المثال في هندمة الأسلوب، والأساليب تهندم كما تهندم الثياب
إن زوجتك لن تعرفك من حديثي، لأني أكره النميمة، فنم بعافية، وإن ارتابت زوجتك في بشاشة وجهك فحدثها أنك طوفت بسيارتك في شوارع (مصر الجديدة) يوم العيد
إن التلاميذ يخفون عن آبائهم خطابات نظار المدارس، فأخف عن زوجتك هذا العدد من مجلة الرسالة، وقل أنه ضاع في البريد، بسبب ازدحام الرسائل في أيام العيد، أحياكم الله إلى ألف عيد!
زكي مبارك(536/8)
4 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
3 - يقول النعمان لكسرى:
(. . . فأما عزها - يعني العرب - ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد، ووطدوا الملك، وقادوا الجند لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل. . .)
وهذا قول لا يقوله عامل لمعلمه، ولا وال لموليه. وكيف يلغو بمثله وجند كسرى في بلاده وفي اليمن يجوس خلالها، والدرفس يخفق فوق الرؤوس
إنما كان النعمان شرطيا عند كسرى يصد المدلغفين والقراضيب عن اجتياز التخوم. كان أمير (الحيرة) لا ملك (الجزيرة) يدعو - آمرا - هذا من اليمن وذاك من نجد وذلك من تهامة وغيرهم من غيرها فيبادرون إليه، ويمثلون بين يديه، ويقول: قد سمعت من كسرى كيت وكيت ففدوا عليه (فإذا دخلتم نطق كل رجل بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه)
لم يكن النعمان هناك - كما زوقه المزوق المنمق. ولما غضب عليه كسرى - والسبب الحق للغضب مجهول - ضاقت عليه الأرض، ولم ينفعه أو ينجده مثرثر من جماعة (الوفد) (وأقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد منهم يقبله) (وأراد طيئا على أن يدخلوه الجبلين ويمنعوه فأبوا ذلك عليه، وقالوا له: لولا صهرك لقاتلناك، فإنه لا حاجة لنا إلى معاداة كسرى، ولا طاقة لنا به) (غير أن بني رواحة بن قطيعة بن عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك، لمنة كانت له عندهم، قال ما أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى)، ثم (أتى هانئ بن مسعود فاستودعه ماله وأهله وألف شكة، ويقال: أربعة آلاف شكة، والشكة السلاح كله) وهذا قول أبي الفرج في الأغاني. والطبري في تاريخه يقول: (والمقلل يقول: كانت (400) درع، والمكثر يقول: كانت (800)) ومضى إلى سيده كسرى (فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى سجن كان له بخانقين فلم يزل فيه حتى وقع الطاعون هناك فمات فيه)، وقيل (بل مات في ساباط في حبسه) وقيل (ألقاه تحت أرجل الفيلة حتى مات)، وقيل (لم يزل محبوساً مدة طويلة، وإنما مات بعد ذلك بحنين قبيل الإسلام) (فلما قتل كسرى النعمان استعمل إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان(536/9)
عليه النعمان) قال أبو الفرج: (وغضبت له (أي للنعمان) العرب حينئذ، وكان قتله سبب وقعة ذي قار)
والعرب لم تغضب لمصير هذا الأمير المسكين، ولم يكن قتله سبب تلك الوقعة، وإنما سببها - إن ثبتت - (أن كسرى بعث إلى إياس: أين تركة النعمان؟ قال: قد أحرزها في بكر ابن وائل. فأمر كسرى إياسا أن يضم ما كان للنعمان، ويبعث به إليه، فبعث إياس إلى هانئ أن أرسل إلي ما استودعك النعمان من الدروع وغيرها، فأبى هانئ أن يسلم خفارته، فلما منعها غضب كسرى، وأظهر أنه يستأصل بكر ابن وائل، وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي، وهو يحب هلاك بكر بن وائل فقال لكسرى:
يا خير الملوك، أدلك على غرة بكر؟
قال: نعم
قال: أمهلها حتى تقيظ، فإنهم لو قد قاظوا تساقطوا على ماء لهم يقال له: (ذو قار) تساقط الفراش في النار، فأخذتهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم. فترجموا له قوله (تساقطوا تساقط الفراش في النار) فأقرهم
وبعث إلى هانئ وجماعته جنوداً عربيين وجنوداً فارسيين، وكانت تلك الوقعة، إن كانت
وقد عزوا إلى رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) هذا القول: (هذا يوم (أو ذلك يوم) انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا. أو اليوم انتصفت العرب من العجم) وهم الإخباريون وغير الإخباريين يصوغون كما يحبون ويشتهون
في الأغاني: كانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر، ورسول الله بالمدينة. فلما بلغه ذلك قال: هذا يوم الخ
وهنا شيء يقال: إذا كانت التركة (السابق ذكرها) كما أحصوا (400) درع أو (800) درع فنحن بين أمرين: إما أن يكون الراوون قد رأوا ما رووا في المنام، وكثيراً ما بنيت أشياء بل ديانات على المنامات - وقصة قسطنطين مشهورة - وإما أن يكون كسرى قد جن جنوناً كبيراً حتى يبعث تلك الجيوش وينفق المال الكثير للاستيلاء على حقير.
قلت من قبل: إن السبب الحق لغضب كسرى على عامله النعمان مجهول، ولكن صائغاً بارعاً (لله دره) صاغ لنا خبراً طريفاً غريباً في سبب الغضب، طرافته وغرابته تدعوان(536/10)
إلى روايته:
(كانت لملوك العجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، فإذا وجدت حملت إلى الملك، غير أنهم لم يكونوا يطلبونها في أرض العرب، ولا يظنونها عندهم، ثم إنه بدا للملك في طلب تلك الصفة، وأمر فكتب بها إلى النواحي، ودخل إليه زيد بن عدي وهو في ذلك القول، فخاطب فيما دخل إليه فيه، ثم قال: إني رأيت الملك قد كتب في نسوة يطلبن له وقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عارفاً، وعند عبدك النعمان من بناته وأخواته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. . . فابعثني وابعث معي رجلاً من ثقاتك يفهم العربية حتى أبلغ ما تحبه. . . فبعث معه رجلاً جلداً فهماً فخرج به زيد. . . حتى بلغ الحيرة، فلما دخل عليه (على النعمان). . . قال: إنه (يعني الملك) قد احتاج إلى نساء لنفسه وولده وأهل بيته، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك فقال: ما هؤلاء النسوة؟
فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها. . .
(معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء قمراء وطفاء كحلاء دعجاء حوراء عيناء قنواء شماء برجاء زجاء، أسيلة الخد، شهية المقبل، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاش المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، ضامرة البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح الإقبال، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المأكمتين، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموعاً للسيد، ليست بخنساء ولا سفعاء، رقيقة الأنف، غريزة النفس، لم تغذ في بؤس، حيية رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسب أبيها دون فصيلتها، تستغني بفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيع اللسان رهوة الصوت ساكنته، تزين الولي، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمر وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة إذا قمت، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست)
. . . فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان، فشقت عليه، وقال لزيد والرسول يسمع: أما في(536/11)
مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟
فقال الرسول لزيد بالفارسية: ما المها والعين؟
فقال له بالفارسية: (كاوان) أي البقر. فأمسك الرسول، وقال زيد للنعمان: إنما أراد الملك كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به. ثم كتب (النعمان) إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي. . . فلما رجعا إلى كسرى. . . قال للرسول: وما قال؟
فقال الرسول: أيها الملك، إنه قال: أما كان في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا. فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع؛ لكنه لم يزد على أن قال: رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا ثم صار أمره إلى التباب. وشاع هذا الكلام حتى بلغ النعمان، وسكت كسرى أشهراً على ذلك، وجعل النعمان يستعد ويتوقع حتى أتاه كتابه أن أقبل، فإن للملك حاجة إليك. فانطلق حين أتاه كتابه، فحمل سلاحه وما قوى عليه ثم لحق بجبل طي. . .)
وقد روى ما نقلناه مختصرين أبو الفرج في (أغانيه) في أخبار عدي بن زيد ورواه ابن جرير الطبري في (تاريخ الأمم والملوك) خبراً تاريخاً لا ريب عنده فيه. وهذه الأسطورة النعمانية مثل الأسطورة البراقية، أحدوثة أخت البراق القائلة أو المقولة: (ليت للبراق عيناً فترى) القصيدة المثيرة المشهورة
(ن)(536/12)
5 - نشأة المسرح الإنجليزي
(معلومات طريفة كثيرة عن نشأة هذا المسرح)
للأستاذ دريني خشبة
أشرنا في الفصل الأول من هذه الفصول عن نشأة الدرامة الإنجليزية إلى المسرح المتحرك (المتنقل) أو ال ونتكلم في هذا الفصل عن نشأة الفرق التمثيلية، ثم عن المسارح البدائية وأول ما عرفت إنجلترا منها. وقد قدمنا أن رجال الكنيسة هم الذين اضطلعوا أول الأمر بتمثيل الروايات الإنجيلية والدرامات القديسية، وأنهم أصحاب الفضل في تربية الذوق المسرحي وطبعه في وعي الجماهير حتى انتقل زمام التمثيل من أيديهم إلى أيدي رجال النقابات وما قامت به تلك النقابات من مجهود مشكور في تشجيع المؤلفين والممثلين المحترفين، ثم نوهنا بما كان لرجال البلاط الإنجليزي والأمراء والنبلاء وأعيان البلاد من فضل في الأخذ بيد هذا الفن الناشئ ومد رجاله بما يفتقرون إليه من المال الذي لا ينجح مشروع بدونه. ولقد نشأ الاحتراف في المسرح الإنجليزي من ناحيتين، الأولى هي ناحية صبيان الكنائس الذين كان يتألف منهم الخورس أو المنشدون - وقد عنى بتدريب هؤلاء الصبيان على التمثيل منذ نعومة أظفارهم لكي يتفرغوا لأداء الأدوار التمثيلية في مختلف الروايات خصوصاً بعد أن أصبح إقبال الجماهير على مشاهدة التمثيل إقبالاً رائعاً، وما حدث نتيجة لهذا الإقبال من استغلال التمثيل استغلالاً اقتصادياً كانت أول موارده تلك المزادات التي أشرنا إليها سالفاً، والتي كانت تدر على النقابات الأرباح الطائلة. من هنا رؤى انقطاع هؤلاء الصبيان لهذه الحرفة الجديدة التي جمعت بين شرف العمل وشرف الكسب مع صلتها المتينة بالأدب الإنجليزي الذي كان وما يزال نوط العزة على صدر كل أديب في إنجلترا. أما الناحية الثانية التي نشأ عنها الاحتراف فهي تلك النقابات التي تكلمنا عنها آنفاً. هذا، وقد تألفت بعد ذلك جماعات من أولئك المحترفين كانت باكورة (الفرق التمثيلية) في إنجلترا، وكانت كل جماعة تتمتع برعاية أحد النبلاء حتى لا تقع تحت طائلة قانون (المتشردين!) وذلك لكثرة تقلبهم في البلاد، وتنقلهم من قرية إلى أخرى، ولأن الحكومة الإنجليزية لم تكن قد اعترفت بعد اعترافاً رسمياً بهذه الحرفة الجديدة، فكان أفراد الفرقة من هذه الفرق يجيئون ويروحون تحت اسم: (خدم فلان من اللوردات أو الدوقات أو(536/13)
رجال البلاط!) حتى يكونوا بنجوة من معاكسات رجال الإدارة (!) ومشاكستهم، فهذه فرقة (خدم الأيرل أوف ليستر)، وتلك فرقة (خدم البلاط الملكي)، وهذه فرقة (خدم دوق أوف سومرست)، وهكذا. . . والحقيقة أنه لم تكن ثمة أية علاقة بين هذا الدوق أو ذاك الأيرل، وبين الفرقة التي انتحلت لنفسها رعايته انتحالا. ولقد كان المسرح الأول الذي تؤدي فيه الدرامة، هو إما بهو من أبهاء البلاط وإما رواق من أروقة قصور الأمراء أو النبلاء أو عظماء الشعب، فإن لم يوجد هذا أو ذاك ففي بهو من أبهاء الفنادق، أو في أحد أروقة جامعتي أوكسفورد وكمبردج. على أن أبهاء الفنادق كانت أحفل الجميع بالتمثيل المنتظم المستديم - في جميع أيام الأعياد بالطبع - لأنها لم تكن أبنية خاصة كقصور الملوك أو الأمراء مثلاً، ولذا كانت أقرب إلى الارتياد الحر وأيسر إلى أفراد الشعب من غيرها. وكانت فنادق المدينة تبنى كلها في موضع واحد منها حول ميدان، أو ساحة كبيرة تنتظر فيها العربات والدواب، وما إلى ذلك من وسائل النقل والحمل؛ فكانت شرفة الفندق الأوسط تستعمل مسرحاً، ويقف النظارة من أفراد الشعب في الساحة أو الباحة أو الميدان. أما السفر من نزال الفنادق فكانوا أسعد حالاً؛ إذ كانوا يجلسون في عظمة وإدلال وأبهة في شرفات غرفهم فوق الأرائك والكراسي الفخمة، حيث يطوف عليهم الخدم بالأطايب والأشربات. ولم تكن المناظر المسرحية قد عرفت بعد، بل كانت تحل محلها (سبورة)! يكتب عليها بالخط الكبير اسم المنظر الذي يجب أن يتوهمه النظارة توهما، فيكتب مثلاً: (هذه قلعة جلوم!) أو (هنا غابة آردن!) وهكذا. . .
أما كيف أنشئ المسرح الأول فلذلك سبب عجيب مضحك في آن معاً. . . ويجب قبل إيراده الرجوع قليلاً إلى التاريخ الاجتماعي لإنجلترا، وإلى هذه العصور التي كانت (مسز جراندي!) رمز الحفاظ والتمسك بأهداب التقليد والآداب المرعية تتحكم في المجتمع البريطاني تحكما جباراً لا يسهل الفكاك منه. . . ويجب كذلك أن ننذكر ذلك الروح الطهرى الذي كان يسود الحياة في المدن الإنجليزية عامة، ولندن - أم القرى! - على وجه الخصوص. . . ذلك الروح المتزمت الرجعي الذي كان يضيف التمثيل إلى شعبذات المهرجين ومساخر الحواة وأكلة الثعابين ومروضي الوحوش ومراقصي الدببة والقرود ومصارعي الثيران، ومن إلى هؤلاء جميعاً من سائر البهاليل (!!). . . هذا الروح الطهرى(536/14)
هو الذي دفع محافظ لندن إلى محاربة التمثيل والممثلين بالقوانين. . . فأصدر تشريعاً صارما يخطر على رجال النقابات والفرق التمثيلية غشيان أبهاء الفنادق إلا بتصريح خاص - قلما كانوا يحصلون منه على هذا التصريح - كما حضر عليهم التمثيل في الميادين والطرقات العامة أو المتنزهات التي ما جعلت في زعمه إلا للراحة والترفيه عن الشعب اللاغب المتعب من عناء العمل؛ وكذلك حضر عليهم التمثيل مطلقاً أيام الآحاد. . . ولم يشأ رجال الفرق أن يشاغبوا جبروت هذا التشريع التعسفي، بل آثروا السلامة، وانتقلوا بقضهم وقضيضهم إلى الضفة الجنوبية من نهر التيمس، حيث لا سلطان لهذا المحافظ الجاهل ولا لتشريعه الخانق عليهم. وهناك استأجر جيمس بربيدج قطعة من الأرض في بلاك فرايرز لمدة إحدى وعشرين سنة وأقام عليها (تركيبة!) من الخشب سنة 1576 أطلق عليها اسم (التياترو) فكان هذا أول المسارح الإنجليزية التي مهدت لأعظم مسارح العالم
ثم أنشئ قريباً من هذا المسرح فيما بعد مسرح الكرتين (الستار الذي اشتغل به الشاعر الكبير بن جونسون ممثلاً بسيطاً في صدر شبابه. ولم يكن الكرتين يتمتع بالسمعة الطيبة التي كان يتمتع بها المسرح الآخر، بل كانت العلية تصد عنه وتعتبر الذهاب إليه نقيصة أدبية. . . والظاهر أ، هـ لم يكن يعرض إلا الدرامات الثانوية (روايات الدرجة الثالثة!)، وذلك بالرغم من أنه أخرج درامة شيكسبير الخالدة (روميو وجولييت) سنة 1596. وكانت أجرة الدخول في هذا المسرح بنساً واحداً يضاف إليه بنس آخر لمن أراد كرسياً في الأبهاء أو فوق المسرح
ومن المسارح الأخرى التي أقيمت بعد هذين المسرحين الروز (الوردة) والسوان (البجعة)، قريباً من السوان كان يوجد ملعب البير جاردن حيث كان الناس يستمتعون بمشاهدة مروضي الوحوش، وتقاتل هذه الوحوش نفسها ضد بعضها. . . أما مسرح السوان فكان يمتاز من مسرح الجلوب العظيم (الذي سيلي وصفه) بما كان فيه من مسرح إيضافي لتمثيل الروايات التي من طراز (هملت)، وحجرة نوم للروايات الت يمن طراز عطيل حيث تنام ديدمونه، وكان به شرفة لتمثيل روميو وجولييت، كما استعملت فيه الستار لأول مرة لقسمة المسرح وذلك لتبديل المناظر. وكان يحتوي غرفة للممثلين خاصة تتصل(536/15)
بالخشبة بباب فلا يراهم النظارة حين ينتهون من أداء أدوارهم - ومن الظريف أن حجرة الممثلين هذه كانت بأعلى التياترو!، وكان لها سلم لولبي لكي لا يشغل حيزاً كبيراً، كما كانت إلى جانيها حجرة المؤذنين الذين يدقون الطبول إيذاناً ببدء التمثيل. وكان الصوان كبيراً جداً بحيث يتسع لثلاثة آلاف من المتفرجين!
ونعود إلى المسرح الأول - التياترو فنذكر أنه لما رفض صاحب الأرض تجديد عقد الإيجار، اضطر بربيدج إلى فك أخشاب مسرحه ونقلها مع جميع أدواته الأخرى إلى الشاطئ الآخر من النهر، في سوثوارك حيث أنشأ مسرح الجلب العظيم سنة 1598 - وكان عمر شيكسبير إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة بينما كان عمره عند إنشاء المسرح الأول اثنتي عشرة سنة فقط
أما هذا المسرح الثاني (الجلوب)، فقد كان من خارجه سداسي الأضلاع، أما من الداخل فكان مستديراً، ولم يكن مسقوفا إلا من فوق أبهائه التي كانت تذكر بأبهاء الفنادق، وكانت هذه مغطاة بنوع من القش المعروف عندنا بالسمار، وهو الذي تصنع منه الحصر؛ أما البت - أي خشبة المسرح، فقد كان موضعها في الوسط على ارتفاع أربعة أقدام، ولم تكن حولها مقاعد من نظارة الذين كان شيكسبير يسميهم وكان عليهم أن يقفوا طول وقت التمثيل - أما نظارة الأبهاء (البناوير والألواج) فقد كانت لهم مقاعد خشبية، كما كانت توجد مثل هذه المقاعد أيضاً فوق خشبة المسرح نفسها، وكان فرق ما بين الواقفين والجالسين هو أن يدفع هؤلاء ستة بنسات أكثر على أن يسمح لهم بشرب الجعة (البيرة) والتدخين بالغلايين. وكانت هذه الطبقة المنتفخة الممتازة تسمى طبقة ال وكان منها عدد من الشباب الظريف المثقف يجلس هناك مجلس الصحافي المسرحي، لينقد المناظر والإخراج وأداء الممثلين في فترات الاستراحة بين الفصول. وكان التمثيل يبدأ عادة حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، وكانت تسبقه ثلاث دقات تنبيهية بالطبلة النحاسية (الترمبيته) وكانت البرامج تطع بالمداد الأحمر إذا كانت التمثيلية مأساة، وإلا فبالمداد العادي. ولم تكن هناك أية مناظر في أول الأمر. ولم تكن ثمة أية عناية بالتوزيع الضوئي. وكانت السبورة أو لوحة الإعلانات تقوم مقام المناظر بكتابة أسمائها عليها كما ذكرنا. ولشارلز لامب في ذلك تسجيل أدبي رائع من شعره الظريف. وكانت الأدوار النسائية تسند إلى ولدان من(536/16)
ذوي الجمال في الجسم والوجه والصوت. وكان لكل فرقة بهلول (بلياتشو!) يشعبذ في فترات الراحة بين الفصول، فكان أحياناً يغني أو يشهر ببعض الشخصيات التي يثير التشهير بها كثيراً من الضحك بين النظارة، كما كان يعلق بأسلوب فكه على أهم حوادث اليوم. فإذا انتهى الممثلون من آخر فصول الدرامة اجتمع كل أفراد الفرقة في ركن من أركان المسرح، ثم ركعوا تحية للملك والملكة، وهو ما يشبه السلام الملكي اليوم. . .
هذا، وقد بدئ باستعمال المناظر المتحركة بعد النهضة الإصلاحية، وكان الفضل في استعمالها لسير وليم دافنانت وكذلك حل النساء محل الولدان في تمثيل الأدوار النسائية سنة 1661. ذاك وقد كان لكل مسرح من المسارح الإنجليزية علامة مسجلة؛ فعلامة الجلوب صورة للبطل اليوناني الخرافي الجبار هرقل حاملاً بيديه المريدتين كرة أرضية، وكان على مقربة من الجلوب مسرح البلاك فرايرز، وكان شكسبير يؤلف دراماته لهذين المسرحين خاصة، كما كان يساهم في التمثيل وفي الأرباح على السواء. وقد كان الجلوب هو المسرح الصيفي، أما الآخر فكان مسرح لندن الشتوي العتيد، وبذلك امتاز عن الجلوب الذي كانت المسارح الأخرى تنافسه منافسة شديدة، ولا سيما مسرح الفورشون (الحظ) الذي أنشئ سنة 1599 لمنافسة شكسبير. وكانت كل هذه المسارح الصيفية ما عدا الفورشون قائمة وسط مستنقعات كبيرة، وكان المتفرجون يصلون إليها فوق جسر طويل. وقد حدث في سنة 1613 أن شب حريق كبير التهم المسرح العتيد كله، ولم يلبث صاحبه أن جدده في السنة التالية. وقد انتهز الفرصة فاستبدل بالخشب الملاط، وبقش السار الإردواز، واصطنع خشبة المسرح من ألواح السنديان، كما خص الممثلين بغرفة كبيرة خلفية يستجمون فيها، وزاد في عدد الأبهاء (البناوير) فجعلها ثلاثة صفوف بدل صف واحد. وقد كلفه المسرح الجديد ثمانين وثمانمائة من الجنيهات قيمتها الآن ثمانية آلاف. ذاك وقد كثر عدد المسارح في أواخر عهد الملكة اليزابث داخل لندن نفسها، فكان ثمة مسرح الكوك بت أو الفونكسن ومسرح الردبول. . الخ. وقد أحصيت هذه المسارح فكانت أحد عشر مسرحاً. على أن المنافسة الشديدة الحق كانت بين اثنين منها فقط، وهما: الجلوب وكانت تحت رعاية اللورد تشمبرلن، والفرشون وكان تحت رعاية اللورد أدميرال؛ وكانا كلاهما يتمتعان برعاية الملك المباشرة. وكان من هذه المسارح ما هو خاص وما هو عام. وكانت(536/17)
الهيئة التي تشرف على المسارح الخاصة، مثل الكوك بت والسالسبري والبلاك فرايرز، هيئة منتقاة يراعى في اختيارها شرائط لا داعي لذكرها هنا. وكانت المسارح الخاصة على العموم أصغر بكثير من المسارح العامة كالجلوب والفرشون والردبول، كما كانت مسقوفة دائماً ليستمر التمثيل فيها طول العام، بعكس المسارح العامة التي كانت مكشوفة الوسط لاتساعها، ولم يكن يستمر التمثيل بها غير أشهر الصيف، من ثلاثة أشهر إلى خمسة. أما في الشتاء، وهو سبعة أشهر تقريباً، فقد كان الضباب الكثيف يحول دون التمثيل فيها، خصوصاً والمشاعل لم تكن قد استعملت بعد. وقد اقتبست المسارح الإنجليزية في أوائل القرن السابع عشر وسائل المسرح الفرنسي الآلي في إخراج المناظر المختلفة. وكانت وسائل فجة غير رائعة، وكانت تستعمل في إبراز الغابات أو القصور أو المدن، كما أخذت عن المسرح اليوناني القديم طريقة الستار الأسود في أقصى المسرح إذا كانت التمثيلية مأساة. . . على أن هذا النقص في الإخراج كانت تستره مكتبة المسرح، إذ كان لكل مسرح مكتبة محترمة تتألف من أصول الدرامات التي يقوم بعرضها، ثم من مئات من أمهات الكتب التاريخية والمسرحية والأدبية، ولم تكن المكتبة حبساً على الممثلين، بل كان الشعب ينال منها نصيباً لا بأس به من الاطلاع. وقد تضاعفت هذه المكتبات بعد نشاط الطباعة وتقدم وسائلها الحديثة، وصار المؤلفون المسرحيون يعنون بطبع دراماتهم والوقوف على طبعها بأنفسهم. ولم يكن أحسن مسارح لندن يشتري من أحسن هؤلاء المؤلفين حق تمثيل إحدى دراماته بأكثر من ثمانية جنيهات (تساوي الآن ثمانين!)، وكان أصحاب الفرق يستغلون المؤلفين استغلالا دنيئاً، فكان المؤلف الفقير يقترض من مدير إحدى الفرق مبالغ تافهة على أن يقدم بها درامة أو درامتين، فإن عجز عن السداد دخل الربا بين الطرفين، وظل المؤلف مستعبداً إلى الأبد. على أن عدداً قليلاً من المؤلفين استطاع أن يقف من هؤلاء المديرين موقفاً حازما، إذ استطاعوا أن تكون لهم حصتهم في ميزانية المسرح، وعلى رأس هؤلاء مارلو وبن جونسون شكسبير
وكان النساء محرومات من غشيان المسارح بادئ الأمر، فلما خفت وطأة المسز جراندي، أخذن في الاختلاف إليه حتى أصبحن عنصراً هاما فيه. . . ممثلات ونظارة!
(يتبع)(536/18)
دريني خشبة(536/19)
المشكلات
7 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لقد استغللنا ما استنبطناه من علم يتعلق بتعليم اللغة في تعليم اللغة العربية وفي تعليم اللغة الإنكليزية وفي تعليم اللغة الفرنسية وأصبح في استطاعتنا أن نتقي الإخفاق في تعليم اللغة الإنجليزية والفرنسية، وأن نتقي هذا الرسوب الذي يمني به تلاميذنا في آخر كل عام دراسي في هاتين اللغتين والذي يبلغ في بعض السنين 78 % ووهبنا للتلاميذ أعماراً بقدر الأعوام التي وقيناهم فيها الرسوب والتي كانوا يرسبون فيها لولا أخذهم بهذا المنهج الجديد، ونفينا عنهم وعن أهاليهم ذلك الحزن الذي كان يستولي عليهم في آخر كل عام دراسي بهذا الرسوب. ووفرنا على أهاليهم تلك الأموال التي كانوا ينفقونها في إعادة الأعوام التي رسبوا فيها. ومن ذلك يعلم أن الباب الواحد من العلم إذا استغله أهلوه كان عظيم البركة جليل النفع، وربما كان أجدى على الأمة والأفراد من كثير من الخيرات المادية
ولسنا نستغل هذا الباب من العلم في تعليم اللغات فحسب بل سنستغله في كثير من مشكلاتنا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية فيرى كيف يعظم نفعه، وتجل بركته، وكيف يجلب من الخير مالا يدركه الوهم، ولا يحصيه العد
وهذا وأمثاله هو الذي جعلني أومن بالعلم وأعظمه وأجله، وأرى أنه ما من خير للأفراد والأمم إلا وهو مصدره، وما من شر يصيب الأفراد والأمم إلا وللجهل يد فيه ظهرت أو خفيت
لعل قائلاً يقول: إنك آمنت بالملكة في كسب اللغة العربية إيماناً لا تزعزعه الشكوك، وظننت أنها تفيد في كسب العربية كما تفيد في كسب اللغة الإنجليزية والفرنسية، ولم تفطن إلى ما بين اللغة العربية وسائر اللغات من فارق
إن اللغة العربية كثيرة الأحكام، متشعبة الفروع، فلا تستقل الملكة بضبط هذه الأحكام(536/20)
الكثيرة، ولا يضبطها إلا العلم المفصل بالقواعد والقوانين، وسأضرب مثلاً (لا) العاملة عمل إن، فإن شرط عملها هذا العمل
1 - أن تكون نافية
2 - وأن يكون المنفي الجنس
3 - أن يكون نفيه نصاً
4 - ألا يدخل عليها جار
5 - أن يكون اسمها نكرة
6 - أن يكون متصلاً بها
7 - أن يكون خبرها نكرة - فإن كانت غير نافية رفع ما بعدها، وإن كانت لنفي الوحدة عملت عمل ليس نحو لا رجل قائماً بل رجلان، وإن دخل عليها الخافض خفض ما بعدها نحو جئت بلا زاد، وإن كان الاسم معرفة أو منفصلاً منها أهملت نحو لا الدار دار ولا الجيران جيران، ونحو لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون
هذه أحكام كثيرة ولا يسعف بها إلا معرفة القواعد، فأما الملكة فلا تستطيع الاهتداء إلى هذه التفاصيل
ونحن نقول لهذا القائل إنك أسأت الظن إذ ظننت أن الملكة لا تهتدي إلى الفروق الخفية والمداخل المتشعبة، أنها أهدى من القطا، وإن الإنسان يطمئن إليها في الهداية إلى ما يشتجر من الأحكام. إنها تهدي المرء إلى الصواب الجاري على القواعد وإن لم يعرف القواعد. أنظر إلى الهمزات في علم الرسم كيف يكتب المرء يئد على ياء، ويأمن على ألف، ويؤمن على واو، تهديه ملكته التي اكتسبها بالمرانة والتكرار وإن لم يعلم القاعدة أو لم يستحضرها
وكذلك الألفات ما يكتب منها ألفاً وما يكتب منها ياء، فيكتب المرء رمى بالياء ودعا بالألف كأن في منطقة اللاشعور فينا عالماً يعلم أن رمى أصلها الياء فتكتب ياء، ودعا أصلها الواو فتكتب ألفاً، ويكتب أغزى بالياء كأن عالماً فينا يعلم أنها وإن كان أصلها الواو إلا أنه لما قيل فيها أغزيته كتبت ياء
يعجب المرء كيف تهدي الملكة إلى الحق كأنما تستملي من قواعد مكتوبة، وتمتاز الملكة(536/21)
عن القواعد بالسرعة التي لا يبلغها الرجوع إلى القواعد. ولقد بلغ من اهتداء الملكة أنها تكتب المطرد على حسب القاعدة، والشاذ على ما قيل من شذوذ، فهي تكتب داود بواو واحدة، وتكتب بعمرو بواو بعدها، وتكتب مائة بألف زائدة وإن لم تكن في هجائها
فإذا كانت هداية الملكة ما ذكرنا في الكتابة فلا عجب أن تهدي مثل هذه الهداية في الكلام
قال أبو الفتح عثمان بن جني م392 في كتابه الخصائص: سألت الشجري يوما فقلت له: يا أبا عبد الله! كيف تقول: ضربت أخاك، فقال: كذاك. فقلت أفتقول ضربت أخوك؟ قال لا أقول أخوك أبداً. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك؟ فقال: كذاك. فقلت ألست زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً؟ فقال: إيش ذا؟ اختلفت جهتا الكلام. نقل أبو الفتح هذه الحكاية في باب عنوانه أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها. واستدل بها على أن العرب كانت تعرف قواعد النحو والصرف، ورأى أن ما قاله الأعرابي نظير قول النحاة: صار المفعول فاعلاً
وليس ما ذهب إليه ابن جني من الاستنتاج صحيحاً، فهذا العربي لم يكن يرجع إلى القواعد، وإنما كان يرجع إلى ملكته يستشيرها ويستهديها فنبت ملكته عن ضربت أخوك، ولم تنب عن ضربني أخوك، كما تنبو ملكة الكاتب عن كتابة الهمزة في يئد بالواو وفي يؤمن بالياء، وإن لم يعرف القاعدة ولم يستشرها
لعلنا بذلك قد طمأنا الذين يشفقون على اللغة من أن يكلوها إلى الملكة، ويرون أن الملكة لا تكفي هادية، لأن مذاهب العربية مختلطة متشعبة قريب بعضها من بعض، لا يفرق بينها إلا العقل الواعي والعلم البصير. وقدمنا من الأدلة ما يدل على أنهم إذا وكلوها إلى الملكة فقد وكلوها إلى حفيظ أمين
فليتأمل هؤلاء الذين يصدون - أو سيصدون - عن طريقتنا فيما نحاول، أننا نحاول كسباً جديداً للغة العربية، فبدل أن نقتصر على علم قواعدها تكون لنا ملكة وهيئة راسخة من هيئات نفوسنا وجزءاً من كياننا، وتكون هذه الملكة دعامة لفهم اللغة وتذوقها، ولفهم قواعدها وأصولها دون جهد أو عناء
ليعلم هؤلاء الذين يحبون النحو والصرف وقواعد البلاغة، أننا نحب النحو والصرف وقواعد البلاغة أكثر منهم حين ندعو إلى تعليم اللغة بأسلوب يكون ملكة اللغة في نفوس(536/22)
المتعلمين، لأننا نريد أن نجعل قواعد النحو والصرف والبلاغة فوق العلم بها ملكات لنا مختلطة بلحومنا ودمائنا غائصة في أعماق نفوسنا وداخلة في منطقة اللاشعور فينا
لقد ظفرت اللغة العامية مع عدم الاحتفال بها والعناية بتعليمها بأن صارت ملكة في النفوس، فغلبت اللغة العربية التي لم تظفر بذلك إلى الآن، وكانت لغة البيت والشارع والمدرسة ولغة الدرس والخطاب ولغة الأغاني والمسرح والخيالة، وليس للغة العربية حظ في شيء من ذلك إلا أنها لغة الكتابة، والذين يكتبون بها قليل، وهذا القليل لم يكتسب الكتابة من القواعد وتعلمها، إنما اكتسبها من طريق الحفظ والقراءة وتذوق الكثير من بليغ المنثور والمنظوم ومن مزاولة الكتابة والكلام بها، حتى اكتسب نماذج ذهنية في نفسه ومناطق اللاشعور فيه، يتكلم على مقتضاها، وينسج على منوالها، فلم لا نسعى لرفع اللغة العربية من مجالها الضيق المحدود إلى المجال الواسع غير المحدود؟
لم نتركها خافتة ضئيلة النفوذ محدودة السلطان بعيدة عن الجماهير وعن كثير من الخاصة لا تعرفهم ولا يعرفونها مقصورة على طبقة قليلة من خاصة الناس؟
إنما أريد بما أعرض من هذا التوجيه الجديد أن ننقذ اللغة العربية من سيطرة العامية وأن نوسع دائرة نفوذها في شؤون الحياة
يا سبحان الله! أيعلم كل صانع في الدنيا أنه لا يحذق المتعلم صنعته إلا بالمرانة والتكرار، فلا يكتفوا بإلقاء القواعد للمتعلمين وحفظها بل يأخذوهم بالدربة والمرانة على أعمال صنعتهم الجارية على حدود قواعدها، حتى يحذقوا صناعتهم، ولا يعلم ذلك رجال العلم في بلاد الشرق منذ آماد طويلة، فاكتفوا في تعليم اللغة بدراسة قواعدها ورأوا تلك السبيل المثلى في تعلمها، وأنها تفيد الطالب الناشئ، وتجعله قادراً على التعبير بها في صحة وإتقان! ومن عجب أن إخفاق القرون في هذا السبيل لم يصرفهم عنها ليبحثوا عن منهج أسد، وطريق أقوم.
محمد عرفة(536/23)
4 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
ولقد دفع الإسلام بمعتنقيه إلى العناية بفن العمارة بطريق غير مباشر، إذ وصف الله في كتابه العزيز جنات النعيم التي أعدها للمتقين من عباده وصفاً شيقاً لعله كان مبعث الوحي للمسلمين فيما شيدوه من عمائر: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، نعم أجر العاملين)، (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرفة من فوقها غرفة مبنية تجري من تحتها الأنهار. . .). فما كادوا يفتحون الأمصار ويرون ما بها من آثار حتى أقبلوا على البناء فأقاموا قصوراً شاهقة، رشيقة التكوين، موزونة الأبعاد، منمقة الجدران، ضاع معظمها، ونفضت معاول علماء الآثار الأكفان عن بعضها، وألفت منها من يد الدهر ذلك القصر العظيم الذي شيده بنو الأحمر في الأندلس، وهو بغرفه الفسيحة الرائعة، وقبابه الرشيقة العالية، ومياهه الرائقة الجارية، وجناته ذات القطوف الدانية، خير شاهد على ما تقدم
وما كان للمسلمين وقد سكنوا تلك القصور الرائعة ليقفوا بمساجدهم عن حد البساطة التي كانت عليها في أيام الإسلام الأولى، بل تذكروا قول الله عز وجل: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه). فأقبلوا على المساجد يشيدونها ويزخرفونها إجلالاً لها وتعظيماً لقدرتها، وبعداً بها عن مواطن الاستهانة إذا ما قورنت ببيوتهم أو بمعابد اليهود وكنائس المسيحيين. ولبس مسجد المدينة على يد الخليفة الثالث عثمان ابن عفان حلة فخمة خلعت عليها يد صناع الحسن والبهاء، وأقبل عمر بن عبد العزيز على تزيينه وتحسينه، وكذلك فعل خلفاء المسلمين من بعدهما، وكذلك فعل الأمراء والأغنياء في كافة العالم الإسلامي، إذ رصعوا جوانبه بمساجد هي آية من آيات الجمال الفني
ولقد كان من أثر ذلك أن سار المسلمون بفن العمارة إلى الأمام خطوات واسعة، ويكفي أن نذكر فضلهم على العالم أجمع في تحسين القبة - ذلك العنصر المعماري الذي يعتبر من المميزات البارزة في العمارة الإسلامية - فلقد ورث المسلمون القبة عن الأمم السابقة عليهم من مصريين وعراقيين ورومان، ورثوها صغيرة ساذجة بسيطة محدودة الاستعمال، وردوها إلى العالم كبيرة معقدة جميلة، وارتقوا بها في مدارج الرقي، وتجلت في إنشائها(536/24)
براعة بنائهم، وحذق مهندسيهم ومهارة فنانيهم، وأكثروا من استعمالها حتى لقد أصبحت من سمات العمارة الإسلامية.
رأينا إذن كيف أثر الدين الإسلامي ببعض توجيهاته الإيجابية في فنون الخط والزخرفة والعمارة، وننظر الآن فيما كان لبعض التوجيهات السلبية لهذا الدين من تأثير جلي في الفنون الجميلة، فنلمس أثر هذه التوجيهات واضحاً فيما نجم عن تحريم الربا، وعن كراهية التصوير، وعن الطريقة التي نظم بها الإسلام استعمال الذهب والفضة والحرير
وليس هناك من شك في أن تحريم الربا لم يكن له في صميم الفن أثر مباشر؛ ولكنه عون على تقدمه ونضوجه وازدهاره وانتشاره. ذلك لأن هذا التحريم الذي جاء صريحاً في القرآن (يمحق الله الربا. . .) قد دفع بالمسلمين إلى استخدام الفائض من أموالهم في توفير وسائل الترف المباح في حياتهم. ولقد فصلت كتب الأدب والتاريخ حياة البذخ التي كان يحياها الخلفاء والأمراء. ولا يتسع المجال هنا لتفصيل ذلك، إنما يكفي أن نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر بذخ العباسيين في بغداد و (سر من رأى)، وبذخ الطولونيين في مصر، والفاطميين في القاهرة، وبذخ الأمويين في قرطبة والزهراء. ولهذا البذخ أبعد الأثر في تقدم الفنون الجميلة، فالإقبال على اقتناء التحف والسخاء العظيم في بذل الثمن لها بعث في الفنانين والصناع روح المنافسة فأخذوا يتبارون في إتقان مصنوعاتهم ويغالون في زخرفتها وتجميلها. ومتاحف الفن الإسلامي في مصر وأوربا وأمريكا غنية بالكثير من هذه التحف التي هي لسان صدق لما بلغه أجدادنا من المسلمين من رقي الفن وسمو الذوق.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية(536/25)
منهج البحث الاجتماعي
للأستاذ إميل دوركايم
يقترن اسم إميل دوركايم بعلم الاجتماع؛ فهو الذي أخرجه في صورته الجديدة التي هو عليها الآن، وجعل منه علماً مستقلاً له منهج مستقل لا يعتمد على العلوم الأخرى، بعد أن كان العلماء يعتمدون في تفسيرهم للظاهرات الاجتماعية على أحد منهجين: إما المنهج البيولوجي الذي وضعه هربرت سبنسر في إنجلترا، وهو ينظر إلى المجتمع على أنه كائن حيوي يمكن تفسير ظاهراته تفسيراً حيوياً يعتمد على علم الحياة وعلم وظائف الأعضاء؛ وإما المنهج السيكولوجي، ومن أكبر أنصاره تارد الفرنسي الذي يفسر المجتمع بغريزة التقليد. أما دوركايم فقد جعل علم الاجتماع موضوعاً قائماً بذاته لا يعتمد في تفسير ظاهرات المجتمع على غير هذه الظاهرات نفسها، فجعله بذلك علماً في مصاف العلوم الأخرى من جهة الموضوع والمنهج؛ وقد كتب دوركايم كتابه الشهير (قواعد المنهج الاجتماعي يبين فيه طبيعة العلم والمنهج الذي يجب اتباعه في دراسته، ثم لخص ذلك كله في مقالته: (علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية التي نشرت في كتاب مناهج البحث في العلوم وهي التي نقدم لقراء الرسالة تلخيصها.
تناول دوركايم موضوعه من الناحية التاريخية مبيناً نشأة علم الاجتماع وتطوره، ثم قسم العلم إلى الأبواب التي يدرسها؛ وأخيراً بين المنهج المتبع في الدراسات الاجتماعية، وهو منهج يعتمد عند دوركايم على التاريخ والإحصاء؛ لا كعلمين بل كطريقتين للبحث العلمي
أولا: من الناحية التاريخية
إن أحسن وسيلة تتبع في دراسة علم من العلوم التي لا تزال حديثة مثل علم الاجتماع، لتوضيح طبيعته وموضوعه ومنهجه، هي الرجوع إلى الوراء لنبين كيف ابتدأ وكيف تطور. . . لقد كان أوجست كونت أول من وضع لفظ (سسيولوجيا في القرن التاسع عشر قاصداً به علم المجتمعات. . . فالاصطلاح إذن جديد والعلم جديد، وإن كان هناك دراسات نظرية عن الموضوعات السياسية والاجتماعية وجدت قبل كونت: في (جمهورية) أفلاطون و (سياسة) أرسطو، وكتابات كامبانيللا وهوبز وروسو وكثيرين غيرهم. ولكن هذه الدراسات كلها تختلف اختلافاً جوهرياً عما يصدق عليه الاصطلاح الجديد. إنها لم(536/26)
تصف ولن تفسر المجتمعات على ما هي عليه، ولكنها كانت تبحث عما يجب أن تكون عليه تلك المجتمعات؛ بينما علم الاجتماع يدرس المجتمعات على ما هي عليه في الواقع ليعرفها ويفهمها كما هي مثلما يفعل الفيزيقي، والكيميائي، والبيولوجي، في دراستهم للظاهرات الفيزيقية والكيميائية والحيوية. فعلم الاجتماع إذن لا يريد إلا أن يعين الظاهرات التي يتناولها بالبحث وأن يكشف عن القوانين التي تنتج بمقتضاها هذه الظاهرات دون أن يهتم بالناحية العملية أدنى اهتمام
وعلم الاجتماع الحديث ليفترض أن المجتمعات تخضع لقوانين معينة؛ وأن هذه القوانين تصدر بالضرورة عن طبيعة تلك المجتمعات وتعبر عنها. وكان تكوين هذا التصور بطيئاً، فقد كان الناس يظنون أن ليس ثمة شيء - حتى الجمادات نفسها والمعادن - يخضع لقوانين معينة، بل إن كل شيء يمكنه أن يتخذ أي شكل كان، وأن يكتسب كل الخصائص الممكنة ما دام هناك قوة كافية لذلك. ونفس هذا التفكير كان يسيطر على عالم الظاهرات الاجتماعية. والواقع أنه لما كانت تلك الظاهرات الاجتماعية معقدة تمام التعقيد، كان من الصعب أن ندرك النظام الذي يمثلها، وبذلك ظن الناس أن ليس ثمة نظام بينها، وأن كل شيء ممكن في الحياة الاجتماعية. أليست الظاهرات الاجتماعية تتعلق بنا نحن أفراد المجتمع، وبنا وحدنا؟ وإذن يمكننا بإرادتنا أن نعدل فيها وأن نصوغها في أي شكل نريد. ومن هنا انصرف التفكير إلى البحث عما يمكن أن نفعله كيما نصوغها في أحسن صيغة ممكنة. . . ولكن في القرن الثامن عشر ابتدأ الناس يرون أن (المملكة الاجتماعية) لها قوانينها الخاصة ككل (ممالك الطبيعة) الأخرى؛ فأعلن مونتسيكو أن (القوانين هي العلاقات الضرورية التي تستخرج من طبيعة الأشياء)، وقوله هذا ينطبق على (الأشياء الاجتماعية) انطباقه على جميع الأشياء الأخرى ثم جاء كوندرسيه فأراد أن يضع النظام الذي يسير على رأيه التقدم البشري، وأن يرسم أحسن حالة توضح أن ليس ثمة شيء يحدث عرضاً أو يأتي اعتباطاً، بل إن كل شيء يحدث حسب علل معينة. وفي نفس الوقت كان الاقتصاديون يرون أن ظاهرات الحياة الصناعية والتجارية يسيطر عليها قوانين خاصة تسير بحسبها مع أن هؤلاء المفكرين كانوا يمهدون السبيل للفكرة التي يرتكز عليها علم الاجتماع الحديث، فإن فكرتهم عن قوانين الحياة الاجتماعية كانت لا تزال غامضة(536/27)
مبهمة؛ فهم لم يقولوا - ولم يريدوا أن يقولوا - إن الظاهرات الاجتماعية تسير في تسلسل وارتباط وحسب علاقات علية - علاقة معلول بعلته - وأن تلك العلاقات محددة ثابتة لا تتغير كما هو الحال في العلوم الطبيعية. فكانوا يرون أن الإنسانية يمكن أن تنقلب من حال إلى حال بدون استثناء
ولكن في القرن التاسع عشر ظهر فهم جديد على يد سان سيمون أولاً ثم - على الخصوص - على يد أوجست كونت: فقد استعرض كونت في كتابه المعروف (دروس في الفلسفة الوضعية جميع العلوم في عصره، فرأى أنها تقوم على أن الظاهرات التي تعالجها تربطها علاقات ضرورية، وأنها ترتكز على مبدأ الجبرية فذهب إلى أن ذلك المبدأ الذي يتحقق في جميع ممالك الطبيعة من أول مملكة الرياضيات، حتى مملكة الحياة يجب أيضاً أن يتحقق في المملكة الاجتماعية، وبذلك ذهب المفكرون في أيامه عن النظر إلى المجتمعات كنوع من لمادة المائعة المطاطة التي يمكن للإنسان تشكيلها كيفما أراد؛ وإنما هي حقائق ووقائع لا يمكن تغيرها إلا بمقتضى القوانين التي تسيطر عليها وتوجهها. وعليه فإن نظم الأمم المختلفة مثلاً لا يمكن اعتبارها نتاجاً لإرادة الأمراء والحكام والمشرعين بل على أنها نتائج ضرورية لعلل معينة. فنحن نجد أنفسنا إذن أمام نظام للأشياء ثابت معين، وأمام علم يقوم لوصف هذا النظام وتفسيره وتبيين خصائصه وإظهار أي العلل تعتمد عليها هذه الخصائص. وهذا العلم نظري بحت ليس للجانب العملي فيه أي دخل؛ وهو علم الاجتماع. وكان أوجست كونت يسميه أولا بالفيزيقا الاجتماعية كما يبين العلاقات التي تربطه ببقية العلوم الأخرى
ولكن، لا يعني ذلك أن المجتمع خاضع لنوع من القدرية لا يمكن الإفلات منها، وأن الناس لا يمكنهم أن يعدلوا من مجتمعهم وبذلك لا يمكنهم أن يؤثروا قط في تاريخ بلادهم؟ الواقع أن لا؛ فإن العلوم الوضعية كلها تخضع لمبدأ الجبرية دون أن يمنع ذلك من وجود تغيرات في كل منها: فعلم الطبيعة مثلاً لا ينكر وجود تغيرات في ميدانه الخاص، ولكن تلك التغيرات تكون حسب قوانين موضوعه الخاصة. وعلم الاجتماع قبل كل شيء أعقد العلوم الوضعية كلها، وإذن فمجال التغيرات فيه أوسع من أي منها. وهو لا ينكر وجود تغيرات وتعديلات في المجتمع ولكن الذي ينكره هو ألا تكون هذه التعديلات متمشية مع طبيعة(536/28)
قوانين المجتمع. وهو يرفض الفكرة القديمة في أن المشرعين يمكنهم أن يغيروا المجتمعات حسب أهوائهم من نوع إلى نوع آخر مختلف عنه تماماً دون مراعاة العادات والتقاليد والبناء العقلي لأفراد المجتمع وهكذا.
وقد اعترض البعض على علم الاجتماع بأنه لا يتميز عن علم النفس، بينما كان من شرائط العلم الحقيقي أن يكون قائماً بذاته لا يختاط موضوعه بموضوعات العلوم الأخرى. ومادام المجتمع لا يتكون إلا من الأفراد، فعلم المجتمعات إذن لا يتميز عن علم الأفراد أي علم النفس، ولكن لو صح هذا الاعتراض لوجب توجيهه إلى علم مثل علم الحياة (البيولوجيا) فهو - حسب هذه النظرة - ليس إلا جزءاً من علم الطبيعة والكيمياء، لأن الخلية الحية مركبة من ذرات من الكربون والأزوت وغير ذلك، وهنا تدرسها الكيمياء العضوية. . . الواقع أن هؤلاء المعترضين ينظرون إلى الكل نظرتهم إلى الأجزاء التي يتكون منها، بينما الأجزاء متى تدخل في الكل تفقد خصائصها الجزئية وتظهر بدلاً منها خصائص أخرى لا توجد في الجزيئات. هكذا الحالة في الخلية التي يدرسها علم الحياة. وهكذا الحال في المجتمعات التي يدرسها علم الاجتماع؛ فإن من ارتباط الناس بعضهم ببعض تظهر حياة جديدة مختلفة بالمرة عن حياة الأفراد لو عاش كل منهم وحده إن الشرائع والمعتقدات الدينية والنظم السياسية والتشريعية والخلقية والاقتصادية، وعلى العموم كل ما يكون الحاضرة، لا يوجد إذا لم يكن تحت مجتمع ما، وبذلك فعلم الاجتماع غير علم النفس
هذا هو علم الاجتماع كما وضعه أوجست كونت
وقد اتسع نطاق العلم وتعددت ميادينه في السنوات الأخيرة وتخصص له عدد كبير من العلماء وخاصة في فرنسا، ولا زال العلم متحفظاً إلى الآن بمبدئه الأساسي: مبدأ الجبرية الكلية في المملكة الاجتماعية كما في بقية ممالك الطبيعة الأخرى. ويعزز من هذا المبدأ ما يذكره علماء الاجتماع من أن هناك نظماً خلقية أو تشريعية أو عقائد دينية معينة توجد مشتركة بين جميع المجتمعات التي تتشابه فيها شروط الحياة الاجتماعية وظروفها. ومهما كانت تلك المجتمعات متباعدة بعضها عن بعض، فإن تلك النظم تتشابه، حتى الدقائق والتفصيلات.
(البقية في العدد القادم)(536/29)
أحمد أبو زيد(536/30)
هلال شوال
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
مَنِ اْلأَحْدبُ النَّشْوَانُ طافَ الْعَوَالِما ... وأوْمُا إِلى الشَّرْق الْمُهِّلل باسِمَا!؟
تِدبُّ عَلَى ساقٍ مِنَ النُّورِ لَمْ تَدَعْ ... على الأَرضِ رُكْناً مُظْلِمَ اْلأُفْقِ وَاجِمَا
وَيَمشي كمَا يَمشْي نَبِيٌّ مُبَشِّرٌ ... بِوْحْيٍ يَزُفُّ الْخَطْوَ كالطَّيفِ حَالمَا
وَيَرْنُو كما يَرْنُو إِلَى اللهِ عَابِدٌ ... يَكادُ مِنَ الإصْغاء يُحْسَبُ نَائِماَ
لَهُ قَامةٌ أَحُنتْ يدُ الدَّهْرِ عُودهَا ... فَهلْ كانَ شيْخاً مِنْ حِمَى الْخلدِ قَادِمَا؟
تَحرّرَ، وَاسْتَعْلَى، وَأَقْبلَ، وَانْثَنى ... فَلوْ كانَ إِنْساً قُلتُ: حَيْرانَ، نَادِمَا!
يَشُقُّ عُبَابَ الْجوِّ. . . لاَ بحْرَ عِندَهُ ... وَلاَ شَطَّ! لكنْ يذْرَعُ النُّورَ هَائِمَا. . .
هَفَا طَرْفُةُ في الْغربِ وجْداً! كأَنَّهُ ... يُريدُ انْبِثَاقَ النُّورِ لِلشّرقِ دَائِمَا. . .
أَطَلّ رَخِيمَ النُّورِ تَحْسبُ ضوَْءهُ ... تَحمّلَ إِيقَاعاً مِنَ الطَّيْرِ نَاغِمَا
هِلاَلٌ يكادُ الْمسلمُونَ صَبَابةً ... يَطيرُونَ مِنْ شوْقٍ إِليْهِ حَمَائِمَا
أَشَارَ لِمَاضِيهِمْ بِكَفّ مُلألئٍ ... تَرَامَتْ حَوَالَيهِ النُّجُومُ حَوَائِمَا
يُعَاتِبُ مَنْ أَغْفَتْ عَنِ النُّورِ عَيْنُهُ ... وَكانَ لِشَرْعَ اللهِ في اْلأَرْضِ هَادِمَا
وَمَنْ رَاحَ يَسْتَجْدِي الْمسَاكِينُ قَلْبُه ... فَمَا كانَ وَهَّاباً، وَلاَ كانَ رَاحِمَا. . .
وَمَنْ يَسْمعُ الشكْوَى وَيَمضى كانَّهَا ... عَلَى سَمْعِهِ عَدْلٌ يُطَارِدُ ظَالِمَا. . .
وَمَنْ حفَّ ليْلُ العَاثِرِينَ لِصُبْحِهِ ... فَلمْ يَكُ إِلاَّ مُظْلِمَ النُّورِ قَاتِمَا
وَمَنْ جَاَءهُ البَاكي فَمرّ بِدَمْعِهِ ... وَخلاَّهُ مُنْهلَّ الْجِراحَاتِ سَاجِمَا
وَمَنْ هَزَّ وَسْوَاسُ النَّعِيمٍ فَضَاَءهُ ... وَخيّمَ في أَكْنَفِهِ الدَّهْرُ نَاعِمَا؛
وَمَدَّتْ له اْلأَيَّامُ كَفّا يَتِيمَةً ... فَكانَ لَهَا بَرْحاً يُعِيدُ الْمآتِماَ
وَمَنْ تَزْخَرُ الدُّنْيَا جَمَالاً وَعِفّةً ... وَيَعْمَى فَسُقَى مِنْ يدَيْهَا الْمآثِمَا
وَمَنْ كانَ مِثْلَ الشَّرْقِ تَغْلي جِرَاحُهُ ... فَيتْرُكُهَا لِلدَّاءِ تَغْدُو مَغَانِمَا
مَضَى كُلُّ شَعْبٍ لِلسماءِ مُوَحَّداً ... وَنَحْنُ عَلَى الْبلْوَى عَشِقْنَا التَّقَاسُمَا
حِمَانَا حَمَى الإسلام، وَالنُّورِ، وَالْهُدى ... فَكَيْفَ غَدَوْنَا لِلِعبَادِ غَنَائِمَا!
وَمَا نَحْنُ إِلاَّ مُهْجَةٌ، مَنْ أَثَارَهَا ... أَثَارَ بِجَنْبيْهَا اللظَى والسمائمَا(536/31)
نَمانَا ترابُ الخالدين، وضمناَ ... ثرى مشرقٍ ضم العلا والمكارماَ
إذا قلبُ (لبنانٍ) تنهد بالأسى ... سمعتَ حفيف الارزفي النيل جاحماَ
وإِن أرعشت موج الفُرَات كآبةٌ ... رأيت أساها في رُبَي مصر غائِمَا
وإن أسعدتْ مصر الليالي سمعتهاَ ... حديثاً بقلب الشرق رَيان فَغِمَا
فيا (نيل) خذ عنا الزمام وطر بنا ... ولا تخش ليلات الخطوب الغواشماَ
عهدناك في الأهوال تحمل رايةً ... عليها أغاني المجد تسبق (آدَماَ)
وَياماَ أُحَيْلَي موجة فيك حُرةً ... ترف فتهدي للعباد العظائِماَ!
وياما أُحَيْلَي جنةً فيك نضرةً ... تمنت شعوب الأرض منها النسائماَ
تغنيت رقراقاً، وأشجيت هادرًا ... كأَنك تشدو للزمان ملاحما
خفقت بصدر الشرق سراً مقدساً ... من السحر أعتَى رهبة وطلاسما
عَلَى شطك الميمون تاج وصولج ... يهز حجاب الشمس بأساً علاهما
تلفت تر الدنيا عرتها نفاثةٌ ... من الجن هدت قلبها والمعالما
غدتْ ملعباً للموت، هذا مجندل ... وهذا صريع، والجُناة كلاهما!
إذا كان هذا الهول يُدعى حضارةً ... فنحن عَلَى التجديد أرسى دعائِما
فيا شرق طال النوم، فانهض، فإنما ... يد الذل تجتاح الشعوب النوائما
تزود من الأخلاق إن سلاحها ... يفل حديد الظلم إن هب غاشما
ثراك مهاد الأنبياء، بشطه ... تدفق نور الكون كالسيل عارما
فأشعل رماد الهامدين، وقل لهم ... هنا جذوة الماضي تثير العزائما
وأصغ إلى بوق النشور، يهزه ... من النيل صداح عَلَى الأيك طالما
أتاك يناجي العيد فاهتاج قلبه ... فلم يدرِ أشعاراً شدا أم تمائما. . .
محمود حسن إسماعيل(536/32)
البريد الأدبي
أوراق متساقطة من (قصة الأدب)
قرأت في كتاب (قصة الأدب) للأستاذين أحمد أمين وزكي نجيب محمود ما يأتي:
(. . . ولئن كان المصريون الأولون ينقشون آثارهم على جلاميد الصخر، فقد كانت بابل تكتب آثارها على ألواح من الطفل وهي أيسر حملاً وأخف ثقلاً)
فإن كان ذلك حقاً فمن العجيب ألا نجد للبابليين أدباً أو شبه أدب
والجواب، كما ذكره الأستاذان: (أنه لم يحدث ذلك لأن القراءة الشعبية لم يكن لها وجود، ولم يكن يعرف القراءة والكتابة إلا نفر قليل من القساوسة والنساخ، وكانت الكتابة مقصورة على موضوعات الدين وأعمال الملوك)
وهل اقتصرت الكتابة حقيقة على موضوعات الدين وأعمال الملوك؟ فأين ذهبت ملحمة كلكاميش إذن؟
أنا ما كنت أعرف عن هذه الملحمة شيئاً إلى أن قرأت عنها في مجلة (الثقافة) في العدد الثالث والثلاثين، السنة الأولى، تحت عنوان: (أقدم شعر في التاريخ) ما يأتي بنصه:
(قد يظن القارئ أول وهلة أن أقدم شعر عرفته الإنسانية هو الشعر الهندي في أثرية المعروفين (الرامايانا) و (المهابهارتا) وكذلك الشعر الهوميري لأن كليهما يعود تاريخه إلى ما لا يقل عن عشرة قرون قبل الميلاد، ولكن الأستاذ جورج كونتنو أمين القسم الشرقي بمتحف اللوفر، بمجموعة الأشعار التي قدمها أخيراً مترجمة عن البابلية تحت اسم (ملحمة جلجاميش) يؤكد أن هذه المجموعة هي أقدم شعر عرفته الإنسانية لأن تاريخها يرجع إلى ما قبل التاريخ المعروف)
(وهذه المجموعة عبارة عن ملحمة شعرية تقص نبأ حياة جلجاميش بطل القصة، وكيف أنه مركب من جزء من الإنسان وجزأين من الآلهة على عكس خصمه انكيدو المركب من طبيعة حيوانية صرفه. وتفيض الملحمة بعد ذلك في وصف بطولة جلجاميش، وكيف أنه قاد أنكيدو المركب من طبيعة حيوانية إلى أرض خصبة وأكسبه صفات إنسانية، ولكنهما بعد ذلك اختلفا وتخاصما ونشبت بينهما معركة تشبه في كثير المبارزات التي وصفتها الإلياذة والمهابهارتا. ولكنهما خرجا أخيراً من هذه المعركة صديقين لا ينفصلان)(536/33)
(وهكذا تمضي القصة في سرد أنباء جلجاميش سليل الآلهة وأنكيدو ممثل الحيوانية حتى يموت أنكيدو، ويحزن عليه جلجاميش، ويصرف وقتاً باحثاً عنه، ومتحريا عن حقيقة الموت دون جدوى)
(وقد صدرت هذه الملحمة بالفرنسية منذ أسابيع قلائل مقدمة ببحث طريف عن تاريخ العصر الذي تصفه بقلم المسيو كونتنو مترجمها)
لقد قرأت كل هذا في مجلة (الثقافة)، وكلنا يعرف أنها للأستاذ أحمد أمين. . . فهل سها الأستاذ عن مثل هذه الملحمة عندما جاء مع الأستاذ زكي نجيب محمود يصنف الأدب القديم؟ وهل يسهو اثنان؟!
وهل اكتفى الأدب البابلي بهذه الملحمة؟ إن كان ذلك حقاً فأين ذهبت (أسطورة تميوز وعشتار) و (ترنيمة عشتار)؟
ولا أحسب المراجع قد أعوزت الأستاذين، فإن كان ذلك فهناك كتب عدة أحسب أن أجدرها بالذكر: (الأساطير البابلية والآشورية للأستاذ دي. أي. مكنري) وملحمة (كلكاميش) الآنفة الذكر
(بغداد)
نزار الحاج سليم
إلى الأستاذ الفاضل صلاح الدين المنجد
ليس أيسر على المترجم يا صديقي من أن يفتح القاموس فيعرف مرادف الكلمة التي يريد نقلها إلى العربية فيأخذه دون مشقة ولا عناء. غير أني أكره هذه الطريقة المرتجلة في الترجمة. ولما كنت آخذ نفسي هذه الأيام بالدعوة إلى سلك الأدب المسرحي في الأدب العربي، وبالتالي إلى تجديد الأدب العربي، وذلك في حدود التواضع الكبير (!) فقد مهدت في رأس الفصل الأول من فصول نشأة الدرامة الإنجليزية بأن لي غرضاً خاصاً من نشر هذه الفصول. . . على أنني لا أدري لماذا استثقل ذوقك الرفيع كلمة (السمعيات أو الإنجيليات مرادفاً لكلمة التي تعني الأسرار الغامضة بالترجمة الحرفية؟. . . لقد استعملت كلمة السمعيات بمعناها الديني الذي يعرفه المسلمون عن جميع الأسرار الغامضة التي لا(536/34)
يصح البحث فيها، أو التي يعجز العقل عن تعليلها؛ فماذا غير السمعيات يكفل أداء هذا المعنى؟ وقد فسرتها أيضاً بالإنجيليات لأن جميع مؤرخي الأدب والمسرح الإنجليزي يفسرون هذا النوع من أنواع الدرامة الإنجليزية، بأنه النوع الذي تؤخذ موضوعاته بحوارها من الإنجيل مباشرة دون تغيير أو تبديل. وهكذا أراني وفقت كل التوفيق في وضع هاتين اللفظتين لكلمة
أما ترجمة بدرامات الخوارق كما يقترح أخي فقد رأيتها ترجمة قاموسية لا تتفق والعلم المسرحي الذي نحن بصدده؛ فالخارقة تصدر عن أي إنسان؛ أما الكرامة فتصدر عن القديسين عند المسيحيين وعن الأولياء عند المسلمين؛ ولهذا آثرت النسبة إليها فقلت الدرامات الكرامية، ثم أردت أن أربطها في ذهن القارئ - وذلك من صناعة التعليم التي مارستها عشرين عاماً - فقلت، أو القديسية، وذلك لأنها درامات تتعلق بحياة القديسين أولاً وبما كان يصدر عنهم من (خوارق) - أو كرامات، ثانياً. فأي بشاعة يا أخي صلاح في هذا الذي آثره صاحب أساطير الإغريق؟!
وبعد، فلا عليك من ذلك؛ ولكن لي رجاء بودي أن تحققه مع الصفوة من أصدقائي أدباء الشام. إن باكورة أعمالك المسرحية التي تفضلت فأرسلتها إلي تشف عما يختبئ فيك من الروح الدرامي العظيم، فهل انتويت أن تتحف الأدب العربي بثمرة ثانية وثالثة. . . وعاشرة، أم أنت في حاجة إلى محاربة روح التشاؤم فيك، كما نحاربه في أدبائنا. . . أرجو أن تبدأ الشوط مع أدباء الشام الأعزاء، وإن كنت أسأل الله أن يوفق أدباء مصر إلى الفوز بقصب السبق. . . وتقبل تحيتي
دريني خشبة
إلى الأستاذ أحمد الصافي النجفي
وصلني اليوم هداياك الثلاث: قصيدتك، وتحاياك، وأشواقك؛ ففرحت بالأولى، ولم أنكر عليك كثيراً الهديتين الأخرين. . .
وكم أحب أن يتصل البريد الأدبي بينك وبين (الرسالة). وأكتفي منك بالبريد الذي يحمل الأشواق والتحايا. . .(536/35)
ومنذ أسبوعين حدثني الدكتور طه حسين بك أنه سيعنى بشعرك عناية خاصة بعد رجوعه من لبنان، وأعتذر بكثرة مشاغله التعليمية التي حالت من دون جوابه السريع. وكل ما أرجو ألا تغيب عن قراء (الرسالة) الذين طال شوقهم إليك
عبد القادر جنيدي
تصويب
وقعت أخطاء مطبعية في مقال (أعداء النساء) المنشور بالعدد (532) من الرسالة الغراء تصويبها فيما يأتي:
بَحَوْرَة - وصوابها: حبل الجورة
خصومة بهم - (خصوصة بهم
مما، وزل - (مما فرط من قول وزل
أو التي ينشرن - (أو اللاتي(536/36)
العدد 537 - بتاريخ: 18 - 10 - 1943(/)
المقترحون والمؤلفون
للأستاذ عباس محمود العقاد
بين جمهرة القراء في اللغة العربية طائفة لا ترضى عن شيء ولا تكف عن اقتراح، ولا تزال تحسب أنها تفرض الواجبات على الكتاب والمؤلفين، وليس عليها واجب تفرضه على نفسها
إن كتبت في السياسة قالوا: ولم لا تكتب في الأدب؟
وإن كتبت في الأدب قالوا: ولم لا تكتب في القصة؟
وإن كتبت في القصة قالوا: ولم لا تكتب للمسرح أو للصور المتحركة؟
وإن كتبت للمسرح والصور المتحركة قالوا: ولم لا تحيي لنا تاريخنا القديم، ونحن في حاجة إلى إحياء ذلك التراث؟
وإن أحييت ذلك التراث قالوا: دعنا بالله من هذا وانظر إلى تاريخنا الحديث فنحن أحق الناس بالكتابة فيه
وإن جمعت هذه الأغراض كلها قلوا لك: والقطن؟ وشؤون القرض الجديد؟ ومسائل العمال، ورؤوس الأموال؟ وكل شيء إلا الذي تكتب لهم فيه
وقد شبهت هذه الطائفة مرة بالطفل المدلل الممعود: يطلب كل طعام إلا الذي على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض
إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن قدمت له صنفاً من الحلوى رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه الأصناف تركها جميعاً وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر المبذول
سر هذا الاشتهاء السقيم في هذه الطائفة من القراء معروف. سره أن الجمهور القارئ في بلادنا العربية لم (يتشكل) بعد على النحو الذي تشكلت به الجماهير القارئة في البلاد الأوربية. وإنما نعد الجمهور القارئ متشكلا إذا وجدت فيه طائفة مستقلة لكل نوع من أنواع القراءة، وإن ندر ولم يتجاوز المشغولون به المئات.
وسنسمع المقترحات التي لا نهاية لها، ولا نزال نسمعها كثيراً حتى يتم لنا (التشكيل) المنشود، وهو غير بعيد(537/1)
ولسنا لهذا نستغربها كلما سمعناها من حين إلى حين لأنها مفهومة على الوجه الذي قدمناه
ولكن الذي لا نفهمه أن نتلقى تلك المقترحات من كاتب نابه يعرف حاجة الأمة العربية إلى كل نوع من أنواع القراءة، ولا سيما تاريخها القديم مكتوباً على النمط الحديث
فغريب حقاً أن يشير كاتب نابه إلى كتابة الدكتور هيكل وكتابتي عن أبي بكر وعمر؛ فيقول كما قال كاتب المصور: (. . . حسن جداً هذا السباق وقد أجدتما الجري في ميدانه، ولكن هل نسيتما أن أبا بكر وعمر كتب عنهما مائتا كتاب؟ وأن في عصرنا الحاضر موضوعات قومية ووطنية وتاريخية ومالية واجتماعية تستحق منكما نظرة ومن قلميكما التفاتة؟ وأن أكثر طلابنا لا يعرفون عن تاريخ بلادهم الحديث حرفا، وأن صدر الإسلام بحمد الله قد وفاه أئمته وأدباؤه وشعراؤه من العرب حقه فلم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وفوها وشرحوها وفصلوها، وبقى تاريخ مصر الحديث والقديم بغير بحث ولا تحليل؟. . .)
غريب هذا الرأي من (المسئولين) كما نسميهم في لغة السياسة وإن لم يكن غريباً من غير المسئولين
وتتم غرابته لأنه يجمع من الأخطاء في بضعة أسطر ما يقدر أن يجتمع منها في صفحات
فبالأمس سمعنا دعوة إلى انفراد كل جنس بالكتابة عن جنسه، فلا يكتب عن المرأة إلا المرأة، ولا عن الرجل إلا الرجل، ولا يسمح للرجال أن يكتبوا عن الحوادث التي تدور وقائعها بين الرجال والنساء
واليوم نسمع دعوة أخرى إلى انفراد كل جيل بالكتابة عن جيله الذي يعيش فيه ولا يتعداه إلى جيل آخر، فلا يسمح لنا نحن أبناء العصر الحاضر أن نكتب عن شيء يتجاوز القرن التاسع عشر راجعاً أو القرن العشرين متقدماً إلى الأمام
رأي غريب لو صحت مقدماته وأسبابه
وإنه لأمعن في الغرابة حين نرجع إلى المقدمات والأسباب فلا نرى مقدمة منها أو سبباً يقوم على ركن صحيح
إذ ليس بصحيح أن أبا بكر وعمر قد كتب عنهما مائتا كتاب إلى الآن، لأن الذي كتب عنهما إنما كتب عن الحوادث والأخبار في عصرهما، وهو مع ذلك لا يزيد على أصابع(537/2)
اليدين
أما (الصورة النفسية) التي تصور لنا كلا منهما على حقيقته الإنسانية فلم توصف قط قبل هذا الجيل. ومتى وصفت صورة نفسية عن إنسان في زمن من الأزمان فهي صورة عصرية تهم الإنسان حيث كان من أول الزمان إلى آخر الزمان
بل الواجب المفروض على كل أمة تنبعث إلى الحياة أن تجدد فهم تاريخها وتعقد الصلات الوثيقة ما بينه وبينها، ولا تقتصر على فهمه كما كانوا يفهمونه قبل مئات السنين
وعلى أنه لو صح أن المصنفات التي كتبت عن عظماء التاريخ العربي فيها الكفاية التي تغني عن المزيد من التصنيف والتصوير فليس في ذلك حجة تتجه إلينا وتسوغ الملامة علينا
لأننا لم نترك جيلنا الحاضر معرضين عن أبطاله وزعمائه وأصحاب الأثر في حياته القومية والوطنية؛ بل كتبنا عن (سعد زغلول مجلداً ضخماً يساير الحركة الوطنية من الثورة العرابية إلى اليوم الذي تمت كتابته فيه، وساهمنا بحصتنا في هذا الباب إن كانت هناك حصة مفروضة على كل كاتب في موضوع من الموضوعات
ولكننا في الواقع لا نعتقد أن هناك واجباً مفروضاً على الكاتب غير الإجادة في موضوعه الذي يتناوله كائناً ما كان
وليس هناك موضوع يكتب كتابة حسنة ثم لا يستحق أن يقرأ ولا يفيد إذا قرئ قراءة حسنة
فالبطل القديم الذي يدرس على الوجه الصحيح هو موضوع جديد في كل عصر من العصور
والبطل الحديث الذي يساء درسه خسارة على القارئ والكاتب والبطل المكتوب عنه؛ لأن العبرة بتناول الموضوع لا بالموضوع. والعبرة بأسلوب العصر الذي تتوخاه وليست بالسنة التي يدور عليها الكلام
فالكتابة عن سنة 1943 بأسلوب عتيق هي موضوع عتيق. والكتابة عن آدم وحواء بأحدث الأساليب العلمية أو النقدية هي موضوع الساعة الذي لا يبلى
وأولى من الاقتراح على الكتاب أن نقترح على القراء أن يقرءوا كل ما ينفعهم كيفما اختلفت موضوعاته، لا أن نشجع (الولد المدلل المعود) على رفض كل ما على المائدة(537/3)
وطلب كل ما عداه.
وقد قال الكاتب النابه في ختام كلمته: (سلوا الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي كيف راجت كتبه أدبياً ومعنوياً ومادياً وكيف انتفع بها النشء الحديث في دنيا تأليف مصرية صميمة كلها قحط وجدب وإملاق)
وقد يهم القارئ من هذا أننا نغري بالرواج للكتابة في الموضوعات التي اختارها الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك
ولا شك عندنا في أن الرافعي بك لم يكتب في هذه الموضوعات لرواجها، ولكنه كتب فيها لأنها تروقه ويحسنها. ومهما يكن من رواج الكتب في مصر، فإن المحامي الذي يبلغ في عالم المحاماة مكانة الرافعي بك يكسب من قضاياه أضعاف ما يكسبه من كتبه، ولا يحتاج في دراسة مائة قضية إلى الوقت الذي يشغله بمراجعة المصادر التاريخية لكتاب واحد
وكذلك نحن لم نؤلف (عبقرية محمد) لرواجه لأننا طبعنا منه في الطبعة الأولى أقل مما طبعنا من كتب أخرى ألفناها، ولم يكن في وسعنا بداهة أن نعدل عن تأليفه إذا لم تنفذ الطبعة الأولى بعد أسابيع معدودة!
وإننا لنعرف موضوعات شتى يقبل عليها عشرات من الألوف من القراء وتستغني عن الإعلانات والترويج
فرواية من الروايات المكشوفة تترجم أو تؤلف قد تطبع منها عشرات الألوف وقد تباع للصور المتحركة وقد تستهوي من القراء والقارئات من ليس يستهويهم تاريخ أمة أو سيرة عظيم. . .
وهذه الروايات أسهل في تأليفها أو ترجمتها من الكتب التي تراجع من أجلها المصادر الكثيرة بين عربية وأوربية ولا تخلو من عنت في التمحيص والتحضير
ولكننا نعدل عنها إلى الموضوعات التي هي أصعب منها وأقل رواجاً بين قرائنا
بل نعدل عنها ونحن نعلم أن المدجلين بالروايات المكشوفة يسوقونها مساق الفتوح العصرية والجرأة الفكرية ويعدونها من دلائل النزعة الحديثة والنهضة المقبلة والتحرر من التراث العتيق والطلاقة من القيود، وإننا لا نسلم من اتهام هؤلاء الأدعياء لنا بالجمود أو مصانعة الجامدين إذ نكتب في سيرة الصديق والفاروق(537/4)
فلو كان الرواج مغرياً لنا لكانت الكتابة في هذه الأغراض المقبولة أولى وأجدى
ولو كان الرواج مغرياً لنا لما حاربنا المذاهب التي وراءها دول ضخام تكافئ من يدعو إليها ويبشر بأناجيلها. ولا نظن أن الكاتب النابه ينكر علينا أن تلك الدول تعرف قيم الأقلام التي تستخدمها في دعوتها وتحب أن تستخدم منها ما ينفعها
فنحن نكتب ما نريده ولا يعنينا أن يروج أو لا يروج. وواجبنا الذي نلتزمه في الكتابة - ولا نعرف واجباً غيره - هو أن نعني بالموضوع الذي نتصدى له ونحس القدرة عليه
ولسنا نقترح على الكاتب النابه أن يعدل عن اقتراحه إذا كان مؤمناً بصوابه؛ ولكننا نقول إننا لو عملنا به لما عدمنا مقترحاً آخر يقول: ما هذه الحوادث اليومية التي تخوضون فيها وقد رأيناها أو سمعنا من رآها؟ ودعوا هذا واكتبوا لنا شيئاً من عجائب المجهول. . .
ويومئذ لا تكون حجته أضعف من حجة الكاتب النابه صاحب الاقتراح؟
عباس محمود العقاد(537/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الكتاب هو سر العظمة الأوربية - ماضينا في صحبة الكتاب
- الأستاذ الههياوي - بين المدارس والكليات
الكتاب. . .
إن الكتاب هو سر العظمة الأوربية، فما تفوقت أوربا إلا بفضل الحرص على مسايرة الحيوات العقلية في الشرق والغرب، وما ارتفع رجل في أوربا إلا وهو مزود بأصدق وأجود ما صدر في العقول في القديم والحديث
ويستطيع من يعرف إحدى اللغات الأوربية أن يطلع على أشهر ما جادت به القرائح في أكثر البلاد، وهذه حقيقة يعرفها من عاش زمناً في مدينة مثل لندن أو باريس أو برلين
الحق أننا لم نفهم أوربا فهماً صحيحاً، ولم نعرف السر في حيويتها العارمة، ولم نلمح من خصائصها غير أطياف
إن أوربا مزودة بأزواد عقلية لا تخطر لأكثر الناس في بال، وقد نعرف غداً أو بعد غد أن المستر تشرشل لم تصرفه مكاره الحرب عن صلاته بالمكاتب ودور التجليد، وقد نعرف أنه لم يخرج من بلد إلا وفي يده كتاب، على كثرة ما زار من البلاد في أعوام الحرب
أوربا المحاربة لا تخيفني، فقد هزمناها في الحرب الصليبية، وإنما تخيفني أوربا المفكرة، أوربا التي تؤلف وتقرأ وتستفيد من كل وقت بلا استثناء وقت الحروب
هل تذكرون كلمة كارليل حين قال إن إنجلترا تفضل آثار شكسبير على أقطار الهند، لو أكرهتها الحوادث على الاكتفاء بأحد هذين المغنمين؟
تلك هي العقلية الأوربية، وذلك هو الفهم الذي يمتاز به أولئك الناس
ماضينا في صحبة الكتاب
لنا ماضي مجيد حفظه التاريخ، فقد سبقنا أوربا إلى تمدين الشرق والغرب، وخلف أجدادنا آثاراً عجز من محوها الزمان فكيف ظفروا بذلك الحظ من الخلود؟
الكتاب هو السر في عظمة أجدادنا، فقد كان فيهم من يحج بيت الله وهو يرمي إلى غاية(537/6)
غير أداء فريضة الحج، كأن يقف في عرفات للسؤال عن كتاب
وعدوان المغول على بغداد لم تسجل فظائعه في غير ظاهرة واحدة هي تزويد أسماك دجلة بما كان في بغداد من نفائس المؤلفات
والحريق الذي صاول الفسطاط ستين يوماً لم يذكر المؤرخون من بلائه غير اجتياحه لذخائر المكتبات
وكان المسلمون حين يستنفرون إخوانهم للدفاع عن بلد من بلاد الأندلس يقولون أنه وطن النوابغ من المؤلفين والشعراء.
وحين تفرق شمل المسلمين في بعض العهود الماضية وجد النابهون لآثارهم العلمية والأدبية، والتشريعية ما يعمر مئات المكاتب، ويضمن الزاد النفيس للإفهام والعقول، بحيث لا تخلو مدينة من آثارهم الجياد
إن أساس المدينة يرتكز على العلم في جميع العصور، حتى عصور الظلم والاستبداد، ألم تروا أن مغامرات هتلر أوحى بها كتاب؟
إن المدافع والطيارات والأساطيل ليست إلا تعابير عن جانب من طغيان القوة الفكرية، كما أن الآداب والفنون تعابير عن جانب من ذلك الطغيان
لا تسمعوا لمن يثبطونكم عن الحياة الفكرية، بحجة أن هذا الزمن ليس زمن الفكر وإنما هو زمن القوة، فالفكر هو المصدر لكل قوة، ولو تمثلت في أبشع الألوان
ومصر تتمتع اليوم بسمعة طيبة من الناحية الفكرية، وهي تدعوكم إلى مواصلة الجهاد العلمي والأدبي، لتصلوا بها إلى ما تسمو إليه من العزة بين كبار الشعوب
أنا لا أكتفي بأن يكون حظ مصر من المجد القديم هو الأستاذية لفلاسفة اليونان في التاريخ القديم، وأكره أن يكون حظ مصر في العهد الإسلامي مقصوراً على رعايتها للحضارة الإسلامية بعد سقوط بغداد
انظروا إلى الأمام ولا تنظروا إلى الوراء، فالفكر من حظ مصر في جميع العهود، وسيكون لها في المستقبل تاريخ يفوق جميع التواريخ، وستعرفون صدق هذه النبوءة بعد حين.
الأستاذ محمد الههياوي
فجع الأدب وفجعت الوطنية في رجل كان من الأعلام بين رجال الأدب ورجال الوطنية،(537/7)
وهو أخونا الأستاذ محمد الههياوي، على روحه ألف تحية وألف سلام
مات الههياوي بعد أن كافح في سبيل الأدب وفي سبيل الوطن أعواماً نيفت على الثلاثين. والذين عرفوا الههياوي كما عرفته يؤمنون بأنه كان قوة وطنية وأدبية قليلة الأمثال
نشأ الههياوي نشأة أزهرية - وكان أبوه من كبار العلماء بالأزهر الشريف - ولكنه تمرد على الأزهر في وقت مبكر، وانطلق إلى ميدان الحياة الأدبية والوطنية بقوة وعنف، ومضى يصاول ذات اليمين وذات الشمال، إلى أن ظفر من قلوب عارفيه بمنزلة لا يظفر لا كرام الكاتبين
يجب أن نقول كلمة الحق في الأستاذ الههياوي، بعد أن رأينا أنه لم يرث إلا بكلمات قصار لا تنقل من شمائله غير ملامح غامضة المعاني، وبعد أن رأينا أصدقاءه يمنون على الوفاء بأنهم جازفوا براحتهم فشيعوا جنازته في عصرية وهاجة القيظ!
كان الههياوي يجد في كل ما يكتب، وكان جده أثراً من صدق العقيدة في الأدب والوطنية والدين، وكان مع جده الصارم غاية في حلاوة الدعابة، فهو المنشئ لأكثر دعابات (الكشكول) يوم كان لمجلة الكشكول سلطان
وفي الأعوام التي اشتد فيها الخلاف بين الحزب الوطني والوفد المصري كان الههياوي أخطر كاتب نافح عن الحزب الوطني، وقد أبلى بلاءً حسناً في مقاومة (مشروع ملنر)، ولم يتركه إلا بعد أن مزقه كل ممزق، ومجموعة (جريدة الأمة) تشهد بصدق ما نقول
اشترك الههياوي في تحرير كثير من الجرائد والمجلات، وكتب في الجد وفي الهزل، ولكنه في جميع أحواله كان قوي المنطق، متين الأسلوب وكان الههياوي شاعراً من الطراز الجيد، ولو جمعت قصائده الجدية لكان من مجموعها ديوان نفيس. أما قصائده الهزلية فهي غاية في اللطافة، وكانت توقع باسم (الشاعر إياه) في مجلة الكشكول
وإذا كان الرجوع إلى الجرائد القديمة يتعب من يريد معرفة القيمة الصحيحة لهذا الكاتب، فأنا أوصي بمراجعة كتاب (الطبع في الشعر) وقد نشرته (مكتبة النهضة)، وهو كتاب يشهد لمؤلفه بالبراعة الفائقة في شرح الدقائق من أسرار البيان
وللههياوي كتاب اسمه (مصر في ثلثي قرن)، وهو كتاب يصور آمال مصر وآلامها في العصر الحديث، وفيه وثبات من الفكر، وبوارق من الخيال(537/8)
وقالت إنجلترا بعد رفع الحماية (الكلمة الآن لمصر) فنشر الههياوي رسالة بعنوان:
(الكلمة لمصر، ولكن ليس لمصر أن تتكلم)
وهي رسالة شرح فيها ما كانت تعاني مصر بسبب الاحتلال
وكان المنفلوطي هدفاً للناقدين في أوج شهرته الأدبية، ولكن الهيياوي تفرد برسالة طريفة سماها (قصص المنفلوطي) وسيكون لها مكان حين يؤرخ النقد الأدبي في هذا الجيل
وأول كتاب نشره الههياوي هو (الفرائد) وهو مجموعة ما كتب في مطلع صباه، ولو رجعنا إليه لرأيناه على سذاجته صوراً تشهد بحيوية الإحساس ويقظة الوجدان
أخي الأستاذ الههياوي
أفي الحق أنك مت وأني لم أجدك إني حاولت أن أراك؟
لا يتعبني أن أتحيز لك فأختلق محاسن لم تكن فيك، وإنما يتعبني أن أبرز محاسنك الأصيلة على الوجه اللائق بمكانها الرفيع
أفي الحق أننا لن نلتقي في الدنيا مرة ثانية، ولن نقضي أياماً كالأيام التي قضيناها في سنتريس بين الزهر والقمر والماء؟ أفي الحق أننا لن نتصاول بالعقول كما كنا نصنع عند التلاقي؟
تلك أيام خلت، ولن تعود، فعليك وعليها تحية الشوق الذي لا يموت
لو رأيت فيك ما يعاب لخف حزني عليك، ولكني لم أرك إلا روحاً أرق من الزهر وأقسى من الزمان، وتلك هي الخصيصة الأساسية لأحرار الرجال
كنا صديقين، وكنت أنت الأكرم والأطيب، فكيف أجزيك وقد ضاعت فرص الجزاء؟
وهل تنتفع بكلمة في رثائك وقد مضيت إلى نعيم لا يعادله نعيم؟
أن موتك دليل على خلود الروح، فما يجوز في نظر العقل أن تكون نهايتك هي النهاية، وقد قضيت حياتك في شقاء بسبب الحرص على صدق الوطنية وصدق اليقين
هل تعرف (ههيا) أنك نقشت اسمها على جبين الزمان؟ وهل تعرف (مصر) أنها فجعت فيك؟ وهل تعرف قيثارة الشعر أنها فقدت وتراً كان غاية في حنان الرنين؟
هذا ما أملك في رثائك، أيها الصديق الغالي، وهو أقل مما يجب لك، وعلى عهد الله أن أشيد بذكراك إلى آخر الزمان(537/9)
بين المدارس والكليات
بدت في هذا العام ظاهرة تستحق التسجيل، لأنها لم تقع من قبل، وهي تأخر المدارس عن الكليات في العودة إلى استئناف الجهاد. ومحاربة الجهل أشرف ضروب الجهاد
أيكون ذلك لأن الطلبة أقوى من التلاميذ؟ أيكون ذلك لأن الأساتذة أحرص من المدرسين؟
لا هذا ولا ذلك، وإنما هي فرصة أتاحها القدر لنعرف كيف أسرفنا في استعجال الناشئين إلى ساحات النضال
الطالب في الكلية غير التلميذ في المدرسة، فالأول جاز دور التكوين الجسماني، فعليه أن يحمل الواجب في صدره وإن كان في إجازة رسمية. أما التلميذ فلا يزال جسمه في دور التكوين، وراحته من متاعب الدرس تعود عليه بالنفع الجزيل
الطالب يعود إلى الكلية وهو على بينة مما سيدرس، فهو يعود جذلان، أما التلميذ فيجهل ما سيعاني من مصاعب الدروس، لأنه تلميذ، والمنهاج يفرض فرضاً على التلميذ
والأستاذ بالكلية غير المدرس بالمدرسة، فالأول يضع بنفسه موضوعات الدروس كما يشاء، وفي حدود ما يطيق، أما الثاني فيواجه موضوعات يوجبها (الجدول)، وقد يكون فيها ما ألقاه بالنص والفص عدداً من السنين
أما بعد فماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص على أن الإجازات ليست من الأوقات الضوائع، كما يتوهم بعض الناس، وإنما هي مواسم لتكوين الأبدان والأرواح والأحاسيس، وتلاميذ المدارس أحوج إليها من طلبة الكليات، وما وقع في هذه السنة وقع بالمصادفة، ولكني أحب أن يكون واجباً نراعيه في الأعوام المقبلات
هل تذكرون أن إجازات المدارس الأولية زادت في هذا العام عن ثلاثة أشهر، وأن ناساً عدوها ترفقاً خرج عن الحدود؟
أنتم تذكرون هذا، ولكنكم تنسون أن الأطفال بالمدارس الأولية كانوا يعودون إلى الدروس في شهر أغسطس وهو (آب، اللهاب)، كما يسميه أهل الشام والعراق
ترفقوا قليلا بالأطفال، واذكروا أنهم في عهد التكوين، وأن راحتهم من الدروس غذاء يفوق كل غذاء(537/10)
ثم ماذا؟ ثم انتهز الفرصة فأتحدث عن مشكلة تعانيها المدارس ولا تعانيها الكليات، وسأفصل حديثها بدون إسهاب:
هذا مدرس عينته الحكومة بمدرسة ابتدائية وفرضت عليه أن يلقي أربعة وعشرين درساً في الأسبوع، فاحتمل العبء راضياً لا كارهاً لأنه في عنفوان الشباب
وهذا المدرس نفسه ظل يخدم العلم بالمدارس الابتدائية إلى أن شارف التاسعة والخمسين، فكيف يجوز أن يحمل من أعباء الدروس ما كان يحمل قبل أن يصل إلى الثلاثين؟
عليه أن يحتمل أو يعتزل، فالمدارس تعرف التلاميذ ولا تعرف المدرسين، لأن نتائج الامتحان هي العنوان! ولو أنها خففت العبء عن المدرس الذي تقدمت به السن لقدم لها منافع تفوق الحدود
المدرسة الفلانية هي أولى المدارس، لأن تلاميذها بلغوا حدود التفوق، ولم تكن أولى المدارس لأن مدرسيها ظلوا من نكد العيش في أمان
التلميذ هو المقصود بالعطف والرعاية، أما المدرس فهو جلمود لا يجوز عليه الإفضال
هو مدرس، ومهنة التدريس (مهنة بلا مجد) فليصبر كارهاً على جدول كان يطيقه قبل الثلاثين، وليقل (راضياً) إنه يطيقه في التاسعة والخمسين!
إلى من نوجه القول؟
نوجهه إلى المراقبين بوزارة المعارف وقد اكتوت أيديهم بالتعليم، ولطف الله بهم فلم يرهقهم بالجدول الكامل إلا أن يشارفوا سن المعاش
إني أنظر إلى أولئك المراقبين بعين الاحترام، لماضيهم الجميل في خدمة النهضة التعليمية، ولكني أعجب من سكوتهم عن مشكلة لا يجوز عنها السكوت، وهي اختلاف القدرة البشرية باختلاف الأسنان
ثم ماذا؟ هذا مدرس قاتل المتاعب حتى انتصر، فبلغ الستين وهو بعافية فكيف يحال إلى المعاش ليعاني الفاقة في أعوامه الباقية؟
أما بعد - وقد تعبت من أما بعد - فهذه ملاحظات أقدمها إلى معالي وزير المعارف، راجياً أن تظفر من اهتمامه بما هي له أهل، مع الاعتراف بأن مهنتنا قامت على أساس التضحية، وأن حظنا هو أجمل الحظوظ في أسوأ الفروض(537/11)
وهل يشكو من يستطيع القول بأن له تلاميذ هم الدرة الغالية في تاج الوجود؟
زكي مبارك(537/12)
على مكتب رئيس التحرير
للأستاذ دريني خشبة
كان ذلك في العشرة الأواخر من رمضان الماضي. . .
وكانت الساعة الثانية تكاد تنتصف. . . تلك الساعة التي يهمد فيها الجسم، ويخمد الذهن، وتفتر الأعصاب، ويستعد فيها الموظفون في جميع دواوين الحكومة للانصراف
وكنت قد انتهزت فرصة وجود مجموعة من الأدباء المعروفين جاءوا لزيارتنا فأثرت موضوع الشعر المرسل. . وكان الحوار قد استحر برغم همود الأجسام وخمود الأذهان وفتور الأعصاب، فهذا يرى أنه قد آن الأوان لإدخال هذا اللون من ألوان الشعر في القريض العربي، وذاك يستنكره ويضيق به، وهذا يعرف ما له من الخطر في آداب اللغات الأوربية ولا سيما في نظم الملحمة والدرامة والقصة، إلا أنه لا يتصور كيف يمكن إقحامه على الشعر العربي الذي تتحكم فيه القافية هذا التحكم السخيف الذي اختص به من دون أشعار العالم
ثم دعيت إلى التليفون فجأة، وإذا أخي محمد. . . مدير إدارة الرسالة يدعوني إلى الدار لكتابة مقال لأحد العددين اللذين يطبعان قبل العيد دفعة واحدة. . . فقلت له: ولماذا أحضر إلى الدار ولم أتعود الكتابة خارج منزلي؟ فذكر لي: إن هذا هو ما أشار به الأستاذ رئيس التحرير. ثم أردف هذا بأنه ينبغي أن يفرغ من طبع العدد كله مساء ذلك اليوم، ولذلك (فيجب) أن يبدأ الطبع في تمام الساعة الرابعة. . . أي ساعتين. . . والأستاذ في المنصورة (على فكرة!)
فتبسمت، وقلت له. . . إذن، سأحضر!
ولم يعد في ذهني منذ هذه اللحظة أثر للشعر المرسل، ولا للشعر الحر، ولا لتلك الفروق الواسعة بين الشعر المرسل والشعر الحر. . . بل نسيت موضوع الشعر كله. . . بل نسيت زائري الأفاضل، وأن كنت قد وضعت ذراعي في ذراع واحد منهم، ثم توجهت معه إلى الرسالة. . . سيراً على الأقدام. . .!
وكان صديقي هذا هو السبب في إثارة موضوع الشعر المرسل، فكان يحاول وصل الحوار في الطريق، ولكن هيهات. . .! لقد كنت عنه وعن الشعر المرسل في شغل. . . وكان أهم(537/13)
ما يشغلني هو الموضوع الذي تسهل الكتابة عنه في رمضان، وفي مثل هذا الوقت من النهار، وفي مثل حالتي من التعب وخمود الذهن وفتور الأعصاب،. . . ثم. . . في ساعة. . . ساعة واحدة! وأين؟ بعيداً عن الغرفة الهادئة التي تشرف على حدائق شبرا الغناء وحقولها الفيحاء، والتي تعودت أن أكتب فيها في سهولة ويسر، وفي غير مشقة أو عناء. . .
وكنت كلما صرفت صديقي عن موضوع الشعر المرسل أبى إلا أن يعود إليه. . . فقلت: إذن أشغله بما يشغلني، وأشركه في البحث عن الموضوع الذي تسهل الكتابة فيه بالرغم مما يحدق به من تلك الظروف. . . فقلت له:
افرض يا صديقي العزيز أنك عدت تلميذاً في المدارس الثانوية، لا طالباً في الجامعة. . . أو افرض أنك رأيت هذا فيما يرى النائم، وأنك تجلس الآن - أي في المنام - في لجنة الامتحان لشهادة الثقافة مثلا. . . مثلا. . . وأنك تسلمت ورقة أسئلة اللغة العربية، فوجدت في رأسها في المكان المخصص لأسئلة الإنشاء هذا السؤال: اختر موضوعاً من عندك يتعلق بمشكلة اجتماعية من مشكلات هذا العصر واكتب فيه من ثلاثين إلى أربعين سطراً (بشرط ألا تتعرض للأحزاب المصرية بخير أو شر!) فماذا عسيت كنت تختار؟
وافتر صديقي عن ابتسامة خبيثة طويلة عريضة وقال: كنت أكتب عن الشعر المرسل!
فقلت له: وهل للشعر المرسل علاقة بالمشكلات الاجتماعية الحاضرة! أتريد أن تشق علي أو تشق صدري يا أخي؟
فقال لي وهو ما يزال محتفظاً لفمه الهائل بابتسامته الصائمة الظامئة الجائعة: كلا. . . ولكنه الموضوع الوحيد الذي أستطيع أن أكتب عنه بحرية مطلقة، دون أن أتعرض للأحزاب المصرية بخير أو بشر!
وكنا قد بلغنا دار الرسالة فلم أرد عليه؛ فلما صعدنا إلى الإدارة استأذنته في ساعة أغيب عنه طوالها بعد أن شغلته بكتاب رجوت أن يتلهى به عن الشعر المرسل. . . ولم يفته أن يسألني فيما أصرف تلك الساعة من هذه الظهيرة القائظة فتبسمت ابتسامة أطول من ابتسامته وأعرض، وأشد جوعا وظمأ، ثم قلت له: حيث أجيب عن السؤال الأول من أسئلة الإنشاء في امتحان الثقافة يا صديقي، وسأجتهد ألا أخرج عن الموضوع كما خرجت. . .(537/14)
وسأجيب في اليقظة لا في المنام!
لست أفهم هل فطن أخي هذا إلى ما عنيت، ولكني فهمت من أخي محمد أنني سأجلس لكتابة المقال على مكتب الأستاذ رئيس التحرير!
عند ذلك تعاظمني الأمر جداً، ونظرت إلى مكتب الأستاذ رئيس التحرير نظرة عمقها خمس وعشرون سنة، وطولها حياة مليئة بالذكريات، وعرضها دنيا من الأدب والعلم والتلمذة. . .
أجل يا صديقي القارئ. . .
فلقد كنت تلميذاً للأستاذ الزيات منذ نحو من ربع قرن! وكنت قبل أن ألقاه في المدرسة قد اتصلت به عن طريق كتبه قبل ذاك. . . فلقد أعطاني ابن عم لي قصة (آلام فرتر) لأقرأها. . . أو لأحفظها. . . كما أعطاني صديق آخر كتاب (تاريخ الأدب العربي) ليكون لي نبراساً في مطالعاتي. . . في دنيا الأدب. . . ومنذ ذلك العهد وصلتي بالزيات أقوى صلاتي بالناس جميعاً، ولا أذكر أن الزيات كتب كلمة أو خط حرفا أو أصدر كتاباً لم أقتنه ولم أقرأه ولم أشتغل به
نظرت إلى مكتب رئيس التحرير إذن، وقد تعاظمني أمر المقال المطلوب الذي لم أهتد إلى موضوعه بعد، كما تعاظمني أن أجلس، أنا التلميذ المتواضع المهذب المؤدب - ولا مؤاخذة! - إلى ذاك المكتب العتيد، مكتب الأستاذ العظيم المهذب المؤدب، ذلك المكتب الذي جعلت أحملق فيه مسبوها مشدوها، وأنظر إليه تلك النظرة التي عمقها خمس وعشرون سنة، وطولها حياة مليئة بالذكريات، وعرضها دنيا من الأدب والعلم والتلمذة
كان علي أن أفرغ من المقال - الذي لم أهتد إلى موضوعه بعد - في ساعة، وقد كان أخي محمد يحسب أنه قد غلق علي أبواب الحجرة المقدسة، سيتنزل علي الوحي السريع المؤاتي فأدفع بالمقال في نصف تلك الساعة أو في ربعها، وعند ذلك يفرغ هو كما يفرغ عمال المطبعة الذين كانوا يرتقبون إجازة العيد بالصبر الذي يصفه البلغاء بأنه صبر فارغ - دون أدري لماذا؟
كان أخي محمد يمني نفسه بهذا كله، وكان تليفون الرسالة الموجود إلى يساري في الحجرة المقدسة يرن فيقدم السيد محمد مسرعاً ليتولى المكالمة، وكنت أراه يبعثر نظراته فوق(537/15)
الصحيفة التي أعدت للمقال المنشود فيراها لا تزال بيضاء. بيضاء ناصعة. أو بيضاء خاوية. . . وكنت أرى نظراته وقد ارتدت إليه حاسرة خاسرة فأرثي له، ولا أرثي لنفسي. . . ولماذا أرثي لنفسي، وقد كنت أستمتع بلحظات سعيدة هن من أعظم اللحظات في حياتي؟ ألم أكن جالساً أضرب أخماساً لأسداس فوق مكتب أستاذي العظيم؟ هذا المكتب الذي ربما كتب عليه الزيات فصولاً من كتابه الثمين في تاريخ الأدب العربي، أو ترجم فوقه فصلاً أو فصلين أو فصولاً كثيرة من آلام فرتر أومن رفائيل. . . أو دبج عنده خمسين أو ستين من افتتاحياته العجيبة التي جمعها في وحي الرسالة ولم يهدي إلي منها نسخة مع ما كان يعرف من مرضي وانقطاعي عن الدنيا إذ ذاك، ومع أنه أهدى منها إلى جميع الناس، بالرغم مما ذكر لي مرة أنه لا يهدي كتبه إلى أحد. . . ذكرت ذلك كله واشتغلت به عن موضوع المقال، وذكرت إلى ذلك كله عهود الصبا وشرخ الشباب. . . أيام أن كان الزيات العظيم آنق معلم معتم في مصر، والشيخ الذي يفتخر الطلاب بالتأدب عليه والتتلمذ له
بيد أن بعض الحوادث سيطرت على كل تلك الذكريات واستبدت بها، فقد كان الأستاذ يملي علينا يوماً تمريناً في البلاغة وكان يملي من ذاكرته دائماً. . . فلما أملى بيتي جرير المشهورين في العيون علق عليهما هذا التعليق التقليدي الذي تحشى به كتب الأدب، من أنهما أحسن ما قيل في العيون. . . وهنا بدا علي شيء من الضيق جعلني أبتسم كالذي يستهزئ بهذا الكلام، فلما سألني الزيات ماذا يضحكني أجبته بصراحة: هذا التعليق الذي تسمح به وبأمثاله كتب الأدب، فسألني: ولمه؟ قلت لأني أحفظ في وصف العيون شعراً هو في نظري أروع من شعر جرير وأنا مع هذا لا أعده أروع ما قيل في العيون، ولا أروع ما ينتظر أن يقال فيها، فسألني أن أتلو شيئاً مما أحفظ، فقلت:
نُجْلٌ تظل حواليها نواظرنا ... صرعى من الوجد فوق الخد والجيد
لهن إعجاز عيسى إن أردن بنا ... خيراً وفيهن أسرار العناقيد
وهنا سألني، أو أمرني، أن أكتبهما على السبورة، فاعتذرت برداءة خطي الذي يلقى منه عمال مطبعة الرسالة الأمرين، فكتبهما الزيات العظيم بيده، وكان خطه دقيقاً أنيقاً جيداً كعهده إلى اليوم، ثم التفت إلي وسألني عن اسم الشاعر صاحب البيتين، فقلت هما لمسلم(537/16)
بن الوليد. . . فقال، لا. . . إنني أحفظ ديوان مسلم ولا أعرف أنه قالهما. . . فقلت: هما إذن للعباس بن الأحنف. . . فقال: ولا للعباس يا خشبة. . . فقلت: هما لي إذن وأنا ناظمهما. . . وهنا ثارت في الفصل عاصفة شديدة من الضحك، وأصر إخواني الطلبة على أن يسمعوا القصيدة كلها، فأبيت، واستنجدت بالزيات العظيم. فلما سألني: وماذا يمنعك؟ أسررت إليه أن معظم القصيدة في الأدب المكشوف الذي أستحي أن أنشده. . . فاستطاع حفظه الله أن يصرف شياطين طلبة (الإعدادية!) عني
ولم تحصل طبعاً موازنة بين ما قلت وما قال جرير الخالد الذي لا يعقل أن يطاوله فتى في السابعة عشرة من عمره
ومما كانت ذاكرتي تضطرب به اضطراباً شديداً هذا الحادث الذي وقع لي مرة مع أحد أساتذة اللغة العربية بالمدرسة، فقد كان هذا الأستاذ يدرس لنا الأدب قبل أن يعوضنا الله منه بالأستاذ الزيات، وقد كنت دائم الاختلاف معه خصوصاً في كثير من تعبيراته العربية، وقد ظن الأستاذ أنني أستخف بمحصوله العلمي فرفع الأمر إلى ناظر المدرسة الذي تعجل فانتهرني على صورة من الصور. . . وقد لنت للناظر ولكن لا على حساب كرامتي؛ ثم رجوته أن يحكم في أوجه الخلاف الأستاذ الزيات وقد عرفت أنه أخذ باقتراحي، لأن المدرسة عهدت بعد أسبوع أو نحوه بالفصول (الصغيرة) إلى الأستاذ، وفوجئنا مفاجأة سارة بدخول الأستاذ الزيات ليدرس لنا مادة الأدب علاوة على المواد العربية الأخرى كلها
وكلفنا الزيات مرة بالكتابة عن المرأة المصرية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. ثم انتهت الحصة ولم أفرغ من الكتابة بعد وإن كنت قد كتبت اثنتي عشرة صفحة. فلما كانت الحصة التالية تقدمت إلى أستاذي الجليل بكراستين كاملتين في موضوع المرأة المصرية. ولما سألني متى كتبت كل هذا (الهراء!) عبست العبوسة الهائلة التي كان لابد لغرور التلميذ المراهق أن يعبسها، ثم قلت: ليس ما كتبت هراء، ولكنه ملخص دعوة قاسم بك أمين، وما رد به المحافظون والرجعيون عليه، وعلى رأسهم محمد طلعت حرب بك. . . ثم يلي ذلك رأيي، (أي والله قلت هذا بالفم الممتلئ المتهدج!) بصفتي مصرياً أولاً وبصفتي مسلماً ثانياً. . . وكنت أحبذ آراء المرحوم قاسم بك في ذلك الحين إلى حد الجنون، ولا أرى فيها ما ينافي الدين ولا الكرامة ولا الحشمة. ولكن الزيات تبسم في هدوء وسكينة ثم قال: لا بأس،(537/17)
لا بأس! ولكن ابحث لك عن معلم غيري يصحح لك كراستين كاملتين في موضوع واحد. فقلت. . . وهي قولة تفيض كبراً ويكاد يخنقها الغرور: على كل حال لقد كتبت في الموضوع الذي كلفتنا به، ولست أرى أن ما كتبت في حاجة إلى تصحيح (!!)
والمدهش أن الزيات - بعد كل هذه الوقاحة - لم يزدد لي إلا محبة، ولم يجزني إلا كل مودة، ولم يقابلني إلا بكل رعاية. . . مع أنني انتهزت فرصة تفتيش محمد بك الخضري على المدرسة بعد ذلك بأيام قلائل، وقدمت له الكراستين مباهياً. . . فشجعني الرجل عليه رحمة الله بكلمات، ووعدني بقراءة موضوعي الطويل، وبرد الكراستين حين يفرغ منهما. وأكبر ظني أنه لم يفتحهما خارج المدرسة، لأنني فقدتهما إلى الأبد. . . فيا ترى! ماذا كنت قد كتبت فيهما؟!
هذا بعض ما كان يهجس في روعي من ذكريات أستاذي رئيس التحرير الذي كنت أجلس على مكتبه مشتغلاً بماضي معه، عن الموضوع الذي يجب أن أفرغ من كتابته في نصف ساعة، وكان النصف الآخر قد مضى في استعراض هذه الذكريات. . .
ثم دخل أخي محمد فجأة لأمر ما من أمور الإدارة، فلما رأى الصحيفة بيضاء هذه المرة أيضاً، كآخر عهده بها، أربد وجهه، وشحب شحوباً شديداً. وكنت قد أخذت أحلم أحلاما أخرى من نوع آخر، غير أحلامي بالذكريات السالفة، فقد انتقل خيالي السابح إلى أدب الأستاذ الزيات شكلا وموضوعاً، وجعلت أستعرض (فرتر) و (رفائيل) استعراضاً هادئا. فها هو ذا (فرتر) يقبض على مسدسه لينتحر. . . وها هو ذا الدم يتفجر من جبينه بعد أن دوت تلك الرصاصة الطائشة. . . وهاأنذا أبكي - يوم قرأت فرتر لأول مرة بالطبع - متأثراً أشد التأثر. . . ثم ها هي ذي جوليا، حبيبة رفائيل، تموت مما بها من مرض، وهاأنذا أتلو على رفاتها قصيدة لإمارتين: البحيرة، ثم قصيدته: الوحدة، بقلم الأستاذ الزيات. . . وبعد ذلك أتذكر وصف الفتى رفائيل، ذلك الوصف الرائع في العربية بقلم الزيات، وفي الفرنسية بقلم لإمارتين، فأزداد انصرافاً عن الموضوع الضائع الذي لم أستطع أن أهتدي إليه بعد. . .
ونظرت فرأيت أخي محمداً ما يزال واقفاً أمامي. فقلت له: ما هذه الضجة التي أسمعها في الشارع. . .؟(537/18)
فقال: العمال. . .
فقلت، وقد خفت أن يكونوا عمال المطبعة: ما لهم؟
فقال: سيتناولون طعام الإفطار على مائدة مولانا!!
فقلت: حفظ الله مولانا، ومسح الله دموع الفقراء. . . عن إذنك يا أخي محمد. . . خذ المقال بعد ربع ساعة!
ثم كتبت في وسط السطر: يا دموع الفقراء!
وفرغت مما كتبت في خمسة عشر دقيقة، وخرجت فوجدت صديقي الشاعر ينتظرني لنصل ما انقطع من حديثنا عن الشعر المرسل، فأكملناه على أحسن وجه حتى وصلنا إلى ميدان الملكة فريدة، ومشيناه على الأقدام
دريني خشبة(537/19)
المشكلات
8 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لا أريد أن أضع منهاجاً مفصلاً للطريقة الجديدة لتعلم اللغة العربية، وإنما أريد أن أضع قواعد مجملة تتبع عند وضع هذا المنهاج، وهذه مبنية على ما تقدم بحثه.
يجب أن يحدث درس القواعد من لتعليم الابتدائي والأولي لأن القواعد كما قلنا لا تكسب ملكة اللغة وإنما هي فلسفة للغة وضوابط؛ فمن الواجب أن نسعى في أن نكون للناشئ ملكة اللغة أولاً.
يجب أن نستبدل بالقواعد المطالعة الكثيرة والحفظ الكثير والمحادثة والمحاورة.
ويجب أن يختار للتلاميذ ما يحفظونه بحيث يكون مناسباً لأذهانهم لا يعلو عليها، وتؤلف لهم محاورات يحفظونها ويتحاورون بها وتكون مما تكثر في الكلام ويحتاج إليها في الخطاب.
ويجب أن يعلم أن هذه المحفوظات تحفظ لتكون نموذجاً ذهنياً ليقيس عليه كلامه من حيث لا يدري فيجب أن يعنى بهذه النماذج فتحفظ صحيحة لا غلط فيها، ومعربة لا لحن فيها، فإنه إذا حفظها ملحونة ارتسم النموذج في ذهنه كذلك، فنسج على منواله، وأنفق مما اكتسب. ويجب على المدرس أن يراعي تلاميذه ويعلم موطن الضعف في لغتهم ويزودهم بما يزيل ضعفهم، ويقوم لسانهم، فإن رأى منهم أنهم يجرون الفاعل في أحاديثهم فليعلم أنهم بحاجة إلى أن يحفظوا كثيراً من المقطوعات فيها أمثلة كثيرة للفاعل، وليأخذهم بحفظها صحيحة غير ملحونة.
أما مرحلة التعليم الثانوي فيجب أن يظل التعليم بالحفظ والمطالعة فيها ويزاد عليه قواعد اللغة، ولكن ليست القواعد التي بين أيدي التلاميذ الآن، بل القواعد التي سأقدم مشروعها، والتي تجمع الصدق والوضوح والسهولة.
يجب ألا تقل العناية بالحفظ والمطالعة في هذه المرحلة بل يجب أن تزيد، ويجب كما قلنا(537/20)
أن تؤلف لهم روايات تمثيلية أخلاقية يحفظون أدوارها ويقومون بتمثيلها.
ويجب كما قلنا أيضاً أن يكلف التلاميذ بنخل دواوين الأدب واختيار أحسن ما يقرؤون، وأن تعطى درجات لمن قام بعمل ذاتي في أيام العطلة الصيفية في الحفظ والمطالعة.
أما مرحلة التعليم العالي فهي كمرحلة التعليم الثانوي في الحفظ والمطالعة والقواعد، ولكن يجب أن يتعمق في درس هذه القواعد، وفي بحث أصولها وفي الموازنة بين مذاهب العلماء فيها
فأما خلق جو عربي في المدرسة أو في دروس اللغة العربية خاصة لا يتكلم الطلاب والمدرسون فيه إلا باللغة العربية، وتكليف التلاميذ بكتابة موضوعات ينشئونها فقد سبقت الإشارة إليها فيجب أن تدخل في البرنامج الجديد لتعليم اللغة.
وينبغي أن يعلم أن تكليف التلاميذ بموضوعات ينشئونها ليس لغواً في طريقتنا كما هو لغو في الطريقة الأولى، لأن الطريقة الأولى كانت تكلفهم الإنشاء وليس عندهم معاني يكتبونها لقلة ما يطالعون وما يحفظون، وليست عندهم ملكة اللغة العربية - أما في الطريقة الحديثة فهي تكلفهم الإنشاء وعندهم معان خلقتها والحفظ والاطلاع على آراء العلماء، وهي تكلفهم وقد رسخت في نفوسهم ملكة اللغة بالحفظ والمطالعة والحديث، وسيسر ذلك المعلمين ويجعل الدرس لذيذاً لأنهم إذ يصححون كراسات التلاميذ في الإنشاء لا يطلعون على لغو من القول يقضي العين ويغثي النفس كما كان في الماضي؛ بل يطلعون على أقوال لها حرمتها ومكانتها إذ هي بنت المطالعة الكثيرة والدرس الطويل.
ذلك أسلوب نراه كفيلاً بكل ما نريد من رقي لغوي وبياني لأنه كفيل بتكوين الملكات في اللغة والبيان، وبهذه الملكات تفهم اللغة وتتذوق أولاً، وتفهم أصولها وقواعدها ثانياً، ونراه كفيلاً أيضاً بإمتاع المتعلم وإلذاذه، وكفيلاً بفائدته وخيره.
فأما إمتاع التعليم بهذه الطريقة فإنها تعلم اللغة بآداب السالفين، وحكم الماضين، وبالأشعار البليغة، والخطب الفصيحة، وتواريخ الأمم، وفي كل ذلك غذاء للعقل، وإرضاء للقلب، وإمتاع للعاطفة؛ والمرء يسر ويأنس للخبر الغريب، والنادرة الطريفة، والحكمة النافعة، والمثل السائر، والجواب المسكت، والقول السديد، والرأي الحميد، وهذا كل جعل في الطريقة الحديثة مادة لتعليم اللغة، يطالع فيه، ويحفظ منه، والقول إن كان بليغاً، والمعاني(537/21)
إذا كانت رائعة أنست بها النفوس، وهشت لها، ووجدت فيها المتعة واللذة
وأما الفائدة فأي فائدة أعظم من التأدب بآداب العلماء، والاطلاع على حكمة الحكماء، والانتفاع بتجارب ذوي التجارب، وهذا كله جعل في طريق تعليم اللغة، والكلمة الطيبة إذا نزلت بالنفس وعلقت بها واستوثقت منها، وأيقنت بها، فإنها تكون هادية ومرشدة، ينتفع بها المرء في غدوه ورواحه، وصبحه ومسائه، كما قال الله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)
والمرء ما عاش بحاجة إلى الأدب الذي به تعمر القلوب، وتزكو النفوس. قال عبد الله بن المقفع: (ولسنا إلى ما يمسك أرماقنا من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول. وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل. ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضرر والغلبة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا،) وإن المرء قد يفيده الحرف من الأدب ويكون أرد عليه من جيش عرمرم. قال معاوية: لقد رأيتني وأنا أهم بالفرار يوم صفين وما يمنعني إلا قول الشاعر
وقولي كلما جشأت وجاشت، مكانك تحمدي أو تستريحي فأين من هذا كله القواعد وليس فيها متعة ولا لذة، فليست عاطفية حتى تثير العاطفة والوجدان، وليس عقلية حتى تكون فيها لذة المعقولات لمن اعتاد المعقولات، إنما اللغة مواضعة واصطلاح، وقواعد اللغة شرح وتفسير لهذا الاصطلاح، وليس فيها إلا بعض علل عقلية، وهذا مغمور وسط علل مدخولة، وأسباب غير معقولة.
وكما أنها لا تثير لذة، ولا تبعث متعة، كذلك لا تحصل منها على فائدة. وما الفائدة منها وهي ليست حكمة ولا مثلاً ولا شرحا لقانون من قوانين الحياة، وهي تبعد عن الحياة وتجاربها وعن محيطها الواسع، وبحرها الجياش المضطرب، وأن الذي يقرأ كتاباً في القواعد كالأشموني أو المطول، يخرج منه ولم يستفد خبرة بالحياة، بخلاف من يقرأ كتاباً كالكامل لأبي العباس المبرد، أو البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ؛ فإنه يخرج منه بحكمة الدهور وعظة الأيام، ومهما فاته فلن تفوته حكمة أو تجربة، هي عصارة(537/22)
عصور، وخلاصة دهور.
وما أظن الأمم الإسلامية منيت بما منيت به، بعد العز والمنعة والقوة والصولة إلا من شغل علمائها وخاصتها طول عمرهم بكتب القواعد التي لا تكشف إلا عن طرف يسير جداً من هذا الكون الواسع، أو بالحرى لا تكشف عن شيء إلا عن مواضعة واصطلاح وتفسير لهذه المواضعة وهذا الاصطلاح، ومن انصرافهم عن هذا الكون الفسيح وعلومه، وعلل حوادثه وأسبابها، وشؤون النفوس وخواطرها، وتزكيتها وتدسيتها
ما هذا الحظ العاثر! قد جمع لنا المتقدمون أبواب الحكمة وتجارب الحياة، وكانوا أحرص الناس على حفظها حتى ينتفع بها من بعدهم، وكان حرياً بنا أن نغترف من هذه الموارد العذبة، ونستقي من هذا السلسبيل الصافي، فكان نصيب النافع منا الإعراض والنفور، ونصيب غيره الإقبال عليه، والكلف به
أي شيء أنفع وأجدى من حكم أفادها أصحابها بعد التجارب المرة، والعثار والخيبة، والتردي والسقوط، وبعد النيل تارة، والإخفاق تارات، وبعد أن ذاقوا حلو الحياة ومرها، وصفوها وشوبها، فأفادتهم التجارب علماً، فجمعوا هذا العلم في جمل قصيرة، وحروف قليلة، لتكون أقل كلفة، وأيسر مؤونة، يسهل حفظها وادخارها إلى وقت الحاجة لينتفع بها
وهنا شيء أرى من الواجب علي أن أنبه عليه، وهو أن اسم الأدب أطلق كذباً وزوراً على تلك الأبيات من النسيب والغزل المذكر والمؤنث، وعلى وصف الخمر ومجالس الشراب، وعلى أبيات البطالة والعجز، وعلى أخبار الفساق والمجان، فيجب أن يتحرز من هذه ولا تدخل في مطالعات التلاميذ ومحفوظاتهم لأن تأثيرها على الأخلاق شديد، وإفسادها للمروءات عظيم، فكم من مستقيم أخرجه عكوفه على هذا الأدب الزائف عن استقامته، وكم من جاد همه المعالي وعظائم الأمور صيره هذا الأدب الزائف مسفاً ضئيل الأمل. ولا يصح أن ينكر هذا كله؛ فإن تأثير القول في النفوس عظيم، ونقضه للأسباب المتينة قوي. ويجب إذ آمنا بتأثير الكلمة الصالحة في النفوس أن نؤمن بتأثير الكلمة السيئة فيها أيضاً؛ فإن المعاني إذا كسيت الألفاظ الرائعة، والنظم البارع كانت حبيبة إلى كل نفس، وكانت مداخلها إلى النفوس خفية، ونقضها للطبائع المحكمة عظيما. ولأمر ما حذر النبي (ص) من كل منافق جهول القلب عليم اللسان.(537/23)
وإذا دار الأمر بين تعليم اللغة من سبيل هذا الأدب الزائف وجهلها - اخترنا جهلها، لأنه خير لنا أن نعرب في أفعالنا ونلحن في أقوالنا من أن نعرب في أقوالنا ونلحن في أفعالنا
الآن أشعر بما يشعر به من كان يحمل حملاً ثقيلاً فمشى به أميالاً في صحراء محرقة حتى ارفض عرقاً، وتقطعت أنفاسه تعباً، ثم بلغ به مستراحاً ومقيلاً، فرمى بحمله وجلس بجانبه، فشعر بالراحة من ذلك الحمل الذي بهظه وأنقض ظهره.
أشعر بذلك لأنه كان حملاً ثقيلاً تلك الأمانة التي أخذ الله على العلماء ألا يدخروا نصحاً ولا يجدوا سبيلاً لرفع أممهم إلا أرشدوهم إليه، ونبهوهم عليه، وقد كان يحزنني أن تعلمني التجارب ما علمتني من قيمة القواعد في تعليم اللغة، وضرر الشغل بها عن علوم الحياة ثم أكتمه ولا أبوح به. والآن ولله الحمد قد خرجت من عهدة الكتمان، فبحت به، ولم أكتف بالبوح حتى أعلنته، ولم أكتف بالإعلان حتى دللت عليه. ولم أكتف بالتدليل حتى صرفت القول على وجوه شتى من التزيين والتقبيح والترغيب والتحذير. الآن وضعت الحمل وحمله آخرون.
محمد عرفة(537/24)
5 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
ولقد حرم القرآن الكريم الصور المجسمة التي تتخذ للعبادة (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والأنصاب هي الأصنام التي تعبد من دون الله كما ذهب إلى ذلك المفسرون. أما التصوير باعتباره أحد الفنون الجميلة، فلم يتعرض له القرآن بشيء بينما تناولته كتب السنة المعروفة بشيء من التفصيل إذ ورد بشأنه نحو مئة وسبعين حديثاً: طائفة منها تنص على لعن المصور، وطائفة تمنع بيع الصور، وطائفة تذكر أن أصحاب الصور يوم القيامة يعذبون، وطائفة تبين إثم من يصنع الصور، وطائفة تحظر استعمال ثوب فيه تصاوير، وطائفة تشير إلى أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وطائفة أباحت تصوير ما ليس فيه روح، وطائفة رخصت في التصوير على الوسائد وما أشبهها
ويجمع علماء الدين الإسلامي على حرمة الصور المجسمة ما لم تكن صغيرة تتخذ لعباً للأطفال أو ناقصة الخلقة لا تستطيع أن تعيش إن قدر ونفخت فيها الروح. أما الصور المسطحة، فقد انقسموا حيالها إلى قسمين: قسم يرى حرمتها، وقسم يرى إباحتها. ويشك المستشرقون في صحة الأحاديث التي تنص على حرمة التصوير ويرون أنها مكذوبة على النبي افتعلها فريق من الفقهاء تحت تأثير اليهود الذين اعتنقوا الإسلام - والتوراة تنهى عن التصوير كما بينا آنفاً - أو ترغيباً في التقشف والبساطة في العيش وتنفيراً من الإقبال على الترف، أو كراهتهم للتصوير نفسه باعتباره من أسلحة السحر. ويرى هؤلاء المستشرقون تبعاً لذلك أن النبي لم يكره الصور ولم ينه عن اتخاذها، وأن تحريمها لم يظهر إلا بعد وفاته بنحو قرن ونصف عندما أخذ الفقهاء يجمعون الأحاديث النبوية
ويقف علماء الآثار من هذا الموضوع موقفين متناقضين: فبعضهم يؤيد المستشرقين فيما ذهبوا إليه ويسوقون الأدلة على ذلك بوجود الصور على النقود التي كان يتعامل بها المسلمون مثل الدولة الأموية، وعلى السكة التي ضربها الأمويون والعباسيون، ثم بتلك الصور التي وجدت في بعض أبنية الأمويين والعباسيين والسلاجقة، وبعضهم يرى أن التصوير كان مكروها في الإسلام وهذه الكراهية ترجع إلى عصر النبي والواقع الذي لا(537/25)
شك فيه أن سواد المسلمين من شيعة وسنيين لم ينظروا إلى التصوير نظرة الارتياح؛ ولذلك لم يكن مجالاً لنشاط أغلب فنانيهم. على أن الذين ترخصوا فيه زاولوا رسم الأحياء في كل العصور الإسلامية تقريباً: في القرن الثاني بعد الهجرة في قصير عمرا، وفي القرن الثالث في قصور (سر من رأى)، وفي القرن الرابع في الحمام الفاطمي بالقاهرة، وفي القرن الخامس في مدينة الزهراء، وفي القرن السادس في قصر الحمراء، وفي القرن السابع في ديار بكر وقونية. وفي مثل هذه الأمثلة التي ذكرناها صور آدمية وحيوانية مسطحة ومجسمة تنطق بأن الفنان المسلم في هذه الناحية قد أجاد إجادة نسبية بالقياس إلى عصره.
على أن عبقريته الفنية لم تتجل في هذه الناحية بقدر ما تجلت في المخطوطات، فقد شغف المصورون المسلمون بتجميل المخطوطات وتزيين كتب العلم والدين والأدب والتاريخ والصناعة بصور تفسر ما تتضمنه من بحوث وحوادث وما تتناوله من الآلات والحيل الميكانيكية.
فكراهية التصوير كان لها أثر بعيد في الفن الإسلامي إذ كان عاملاً فعالاً في نضوج تلك الزخارف الإسلامية الرائعة التي لم ينتج مثلها فن من الفنون السابقة على الإسلام أو اللاحقة له.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق(537/26)
منهج البحث الاجتماعي
للأستاذ إميل دوركايم
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ثانياً - أبواب علم الاجتماع: العلوم الاجتماعية الجزئية
يميز كونت في علم الاجتماع بين قسمين: الاجتماع الاستقراري والاجتماع الديناميكي (التطوري). ويدرس الاجتماع الاستقراري المجتمع من حيث هو ثابت في وقت معين من حياته، ويبحث عن قوانين توازن المجتمعات؛ فإن الأفراد يحيون في كل لحظة حياة معينة، وتقوم بينهم علاقات معينة تكفل التماسك الاجتماعي. ويجب أن يكون هناك نوع من العلاقات المحددة بين جميع مظاهر الحضارة المختلفة في كل وقت، بمعنى أن حالة معينة من العلم مثلاً يتصل بها حالات معينة من الدين والأخلاق والفن والصناعة وما إلى ذلك؛ فالاجتماع الاستقراري إذن يبين هذه العلاقات والروابط التي يقوم عليها التماسك الاجتماعي. أما الاجتماع التطوري فإنه يدرس المجتمع في تطوره ويبحث عن قوانين ذلك التطور. ويرى كونت أن هناك قانوناً واحداً للتطور هو (قانون الحالات الثلاث تمر الإنسانية بمراحلها في تطورها؛ والإنسانية تتطور دائماً. وهذه المراحل أو الحالات هي: المرحلة اللاهواتية، فالمرحلة الميتافيزيقية، فمرحلة العلوم الوضيعة. ولما كان علم الاجتماع أعقد العلوم الوضيعة كلها فإنه يتناول، لا مشكلة واحدة فحسب، بل مشاكل ومسائل مختلفة ومتعددة بتعدد مظاهر الحياة الاجتماعية. فهناك إذن فروع لعلم الاجتماع، أو علوم اجتماعية جزئية بمقدار تلك المظاهر المختلفة للظاهرات الاجتماعية التي لم تحص بعد. ويرى دور كايم أن من سبق الوقت أن نضع تصنيفاً منهجياً للظاهرات الاجتماعية لتعقدها وتعددها، ولكن من الممكن، في نظره، أن نبين بشكل ما الأقسام الرئيسية التي ينقسم إليها علم الاجتماع
إن أول ما يتوجه إليه نظر الاجتماعي هو المجتمع من ناحية الخارجية، فيظهر له أنه تكون من كتلة من السكان لها عدد معين وكثافة معينة، وتسكن أرضاً معينة تتوزع عليها بشكل معين، وتربطه بما حوله من المجتمعات علاقات وصلات وروابط معينة، وفيه طرق(537/27)
ومواصلات تفرضها طبيعة الأرض، وهكذا. ولا شك أن ذلك كله من العوامل العامة التي لها أثرها في الحياة الاجتماعية، بل إنها أساس تلك الحياة. فكما أن الحياة النفسية في الفرد تتغير تبعاً للبناء التشريحي للمخ، كذلك تختلف الظاهرات الاجتماعية حسب اختلاف البناء الاجتماعي. فلا بد إذن من وجود علم اجتماعي يكون بمثابة علم التشريح، ويدرس التكوين المادي الخارجي للمجتمع. هذا العلم هو ما يسميه دور كايم (بالمورفولوجيا الاجتماعية) (أو علم تركيب المجتمع) ولا تصف المورفولوجيا الاجتماعية المجتمع وتركيبه فحسب، بل تحاول تفسير ما تراه، فتفسير مثلاً سبب تجمع السكان في موضع دون آخر، وهل التجمع يكون في المدن أكثر منه في الريف أو العكس وسبب ذلك، وتبين سبب نشأة المدن الكبرى وهكذا. فهي أشبه شيء بالجغرافية البشرية. . . وواضح من ذلك أن هذا العلم الجزئي يعالج بدون موضوعات ومشاكل مختلفة ومتعددة
ولئن كانت المورفولوجيا الاجتماعية تدرس الهيكل المادي الخارجي للحياة الاجتماعية، فإن هناك علماً آخر يدرس هذه الحياة نفسها، وهو ما يسمى بعلم الوظائف الاجتماعية (أو النظم الاجتماعية) وهذا العلم معقد أيضاً أشد تعقيد ومركب من عدة علوم جزئية مختلفة
فهناك أولا المعتقدات والنظم والشعائر الدينية. والدين ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تتمثل إلا في مجتمع، وتدعمه جماعة أو هيئة لها أصول ومراسيم تسير عليها دائماً؛ وهذه الهيئة هي الكنيسة في أوربا. وكثيراً ما يتدخل الدين في السياسة ويتصل اتصالاً قوياً بالسلطة السياسية. وللدين - ويدخل في ذلك الخرافات والأساطير وما شابهها عند البدائيين - سيطرة قوية على النفوس، ولابد للمجتمع أن يحترمه ويخضع له. ويرى دوركايم أن دراسة الدين هي أهم ناحية في دراسة المجتمع، وهي تكون ما يسمى بالاجتماع الديني ثم هناك الأخلاق والعادات، وهي أيضاً ظاهرة اجتماعية هامة، فلا يمكن تصور إنسان أخلاقي يحيا وحده، إنما تنشأ الأخلاق من اتصال الناس وتتعلق بمعاملات بعضهم لبعض في المجتمعات؛ وفرع علم الاجتماع الذي يدرس الأخلاق هو الاجتماع الأخلاقي ويتصل بالاجتماع الأخلاقي فرع آخر هو الاجتماع القانوني وهو يدرس النظم التشريعية، والقانون الذي يتصل أشد الاتصال بالحياة الاجتماعية وينظمها، ويحدد أفراد المجتمع. وهناك أيضاً النظم ويدرسها الاجتماع الاقتصادي وهو يبحث كل ما يتعلق بالإنتاج(537/28)
والمبادلة والثروات والتوزيع. هذه هي الفروع الرئيسية؛ ولكن هناك علمين جزئيين آخرين هما الاجتماع اللغوي الذي يدرس اللغة من حيث هي ظاهرة اجتماعية تعتمد في وجودها على وجود مجتمع ما بين أفراده معاملات وصلات، ومن حيث هي تحمل خصائص المجتمع الذي توجد فيه، بحيث يمكن الاستدلال من اقتراب اللغات على اقتراب الشعوب. ثم أخيراً هناك الاجتماع الجمالي وهو يدرس أعمال الفن؛ فإن الفنان - شاعراً كان أو خطيباً أو مثالاً أو نقاشاً - يظهر ذاتية مجتمعه الخاصة في أعماله، فهو يستمد معانيه الفنية من البيئة الاجتماعية في عصر معين فيعبر عنها ويخاطب بها أناساً غيره، مما لا يتيسر إلا في مجتمع
وقد درست بعض هذه الأبواب من قبل دوركايم وخاصة الظاهرات الاقتصادية التي كانت تدرس تحت اسم (الاقتصاد السياسي ولكن هذا العلم كان يهتم بما يجب أن يكون أكثر من اهتمامه بما كان أو بما هو كائن. ولا ينظر الاقتصاديون إلى الحقائق الاقتصادية نظرة العلماء إلى الحقائق العلمية الفيزيقية مثلاً؛ ولذلك لا يرون ضرورة دراستها دراسة نظرية قبل محاولة الإصلاح. ثم أنهم يظنون أن الناحية الاقتصادية بعيدة كل البعد عن بقية نواحي الحياة الاجتماعية أو أنها مستقلة بذاتها، بينما يرى دوركايم أننا لا يمكننا تفسير الظاهرات الاقتصادية إذا لم نعتمد ونلتجئ إلى بقية الظاهرات الاجتماعية؛ فأجر العمال مثلاً لا يتوقف فقط على العلاقة بين (العرض والطلب) بل على علاقات أخرى اجتماعية أخلاقية كنظرتنا إلى الشخص الإنساني واعتباره وفكرتنا عنه وتقديرنا له من حيث هو إنسان
فواضح إذن من التحليل السابق كيف أن علم الاجتماع لا يدرس مشكلة واحدة بل عدة مشاكل، بحيث لا يمكن لإنسان أن يلم بمشاكله جميعها، بل لابد من أن يتخصص في إحداها. وليس هذا يعني أن ليس هناك علم كلي تركيبي يجمع النتائج الهامة لكل فرع من هذه الفروع الجزئية؛ فإنه مهما كانت الظاهرات الاجتماعية مختلفة ومتعددة، فإنها ليست إلا أنواعاً لجنس واحد. ومن الممكن دراسة ما يؤلف وحدة الجنس وما يميز الظاهرة الاجتماعية في ذاتها. والعلم الذي يهتم بذلك هو علم الاجتماع العام الذي يستخرج القوانين العامة من الجزئيات. وهذا هو الجانب الفلسفي لعلم الاجتماع
ثالثا - المنهج الاجتماعي(537/29)
بعد ما سبق يجب علينا أن نبين المنهج المتبع في دراسة هذا العلم
إن المشاكل الرئيسية في علم الاجتماع تتلخص في البحث عن كيفية تكوين نظام سياسي أو قانوني أو ديني الخ. . . وعن أسباب وجود تلك النظم. والتاريخ المقارن هو أحسن وسيلة تساعد الاجتماعي على حل هذه المسائل. فالنظم الاجتماعية معقدة أشد التعقيد ومركبة من أجزاء عديدة، فلكي نفهمها لابد لنا من أن ندرس كلا من هذه الأجزاء على حدة، لأننا لن نفيد شيئاً من دراسة النظام كاملاً على ما هو عليه الآن، بل لابد من الرجوع إلى بداية نشوئه ومتابعة تطوره خلال التاريخ ملاحظين ارتباط هذه الأجزاء المنفصلة بعضها ببعض حتى يصل النظام الاجتماعي إلى شكله الحالي. . . لنأخذ مثلاً لذلك ظاهرة القرابة وهي من الظاهرات التي تبدو بسيطة؛ فإننا حينما نحاول دراستها تظهر لنا لأول وهلة فكرة القرابة الأبوية؛ ولكننا إذا نقبنا خلال التاريخ ظهرت لنا فكرة أخرى وتصور آخر عن القرابة وهي القرابة التي تنتمي إلى الأم؛ فهناك عائلات نعرفها خلال دراسة التاريخ لا تعرف إلا هذا النوع الأخير من القرابة، ولا تلعب القرابة الأبوية فيها إلا دروساً ثانوية. ولكن القرابة الآن مزدوجة، تعتبر الناحية الأبوية كما تعتبر الأم، فكيف وصل هذا النظام إلى ذلك؟ هنا أيضاً نتبع خلال التاريخ مرور هذه الظاهرة في كلتا الحالتين خلال حضارات مختلفة، حتى يندمجا معاً ويصلا إلينا على هذه الصورة الحالية المزدوجة. فبالتاريخ إذن نفسر ونبين علل الظاهرات الموجودة؛ والتاريخ يلعب في نظام الحقائق الاجتماعية دوراً يماثل الدور الذي يلعبه الميكروسكوب في نظام الحقائق الفيزيقية
وبذلك يمكن القول إن علم الاجتماع هو إلى حد كبير نوع من التاريخ. والمؤرخ أيضاً يعالج الظاهرات الاجتماعية، ولكنه يعتبرها من ناحية خاصة من حيث تعلقها بشعب من الشعوب في زمن معين وفي مرحلة معينة من مراحل تطوره. أما الاجتماعي فإنه يحاول الوصول إلى علاقات عامة وقوانين كلية عن المجتمعات المختلفة. نعم قد يدرس دراسة خاصة ظاهرة ما مثل حالة الدين أو القانون مثلاً في فرنسا أو إنكلترا أو روما أو الهند في هذا القرن أو ذاك، ولكن مثل هذه الدراسات إنما هي في الواقع وسائل فقط للوصول إلى بعض عوامل الحياة الدينية على وجه العموم؛ ولذا فإن الاجتماعي يقارن في دراستين مجتمعات من نفس النوع أو بين مجتمعات من أجناس مختلفة ليتأدى إلى ما يريد(537/30)
وهناك منهج آخر عند دوركايم غير التاريخ، وهذا المنهج نستخدمه حينما نبحث لا عن كيف تكون نظام اجتماعي ما، بل سبب تمثل هذا النظام أو هذه الظاهرة في هذه المجتمعات تمثلا متفاوتاً. مثلاً حينما نعرض لدراسة ظاهرة مثل جريمة القتل؛ فإننا بدلا من أن نبحث أين تأتي هذه الظاهرة، نتساءل عن أسباب تفاوت حظ المجتمعات المختلفة منها، فبعضها تشيع فيها بكثرة، وبعضها لا تظهر فيها إلا قليلاً. وكذلك الحال في ظاهرة تفاوت الزواج والطلاق كثرة وقلة في المجتمعات المختلفة وهكذا. ففي مثل هذه المسائل نلجأ إلى الإحصاء
ومهما يكن المنهج الخاص الذي يتبعه الاجتماعي في دراسته فإنه يجب عليه حين يدرس ظاهرة ما أن يتناسى تماماً كل فكرة قد يكون كونها لنفسه فيما سبق، وأن يتناول الظاهرة كما يتناول علماء الطبيعة والكيمياء والفسيولوجيا والسيكولوجيا موضوعات دراستهم، وإن كان من الصعب تحقيق ذلك في علم الاجتماع، لأننا نكون أثناء حياتنا اليومية بعض أفكار عن الأخلاق والقانون والمعاملات الاقتصادية وغير ذلك. ومن العسير نسيان هذه الأفكار.
(الإسكندرية)
أحمد أبو زيد(537/31)
الزهرة اليتيمة
(نبتت في طريق أحد المتنزهات بين الصخور والأحجار زهرة جميلة فقلت فيها)
للأستاذ أحمد الصافي النجفي
عرضت حسنها برغم الصخور ... زهرة لم تنل حظوظ الزهور
فهي تحيا على شفا الموت لما ... أن أقامت على طريق العبور
وهي تعطي للعابرين جمالاً ... وأريجاً ونفحة من سرور
إن تغاضوا عنها دعتهم إليها ... بلِسان الشذا ولحن العبير
تسأل العابرين عطفاً عليها ... والتفاتاً بحسنها المغمور
وهي من عين من يمر عليها ... لم تطالب بغير حق المرور
أصبحت زينت الطريق جديباً ... وترى الزهر زينة للصدور
فهي رغم الشحوب تبدي اختيالاً ... وابتهاجاً برغم صرف الدهور
تعصر الريح كي تصيب رواء ... وتبل الضما بلفح الهجير
وهي تحت الغبار تبدي جمالاً ... مثل خَوْدٍ تشع تحت الستور
كم دهاها في الساق كسر فقامت ... تتهادى بساقها المكسور
ولدت جنب قبرها فهي جذلى ... بحياة وعينها للمصير
يا لها من يتيمة فصلتها ... عن حمى أمها يد المقدور
ورماها القضاء مغمضَ عين ... وسط دار ليست بدار الزهور
لا رفاق لها ولا أخوات ... تعست بذرة لها في البذور
فهي بنت الطريق تحيا وتفنى ... تحت ركل ودهسة وعثور
وهي تحكي فقيرة في الطريق ... عرضت كف مقعد وأسير
جهلت دارها القديمة لكن ... علمت أنها غريبة دور(537/32)
من شعر الأطفال
للأستاذ علي متولي صلاح
1 - طفل يناجي أمه
أُمِّي: أُحبّك مثلما ... أهوى وأرغبُ في الحياةْ
أُمِّي: أُطيُعك دائماً ... لأنال رضوان الإله. . .
إني صغيرُك فاقبلي ... مني التحيّة والدُّعاءْ
إني فداؤك فاسألي=روحي أُقدّمْها فداءْ. . .
2 - تحية الشمس
أشرقي بالضياءْ ... يا حياة الوجودْ
أنتِ زيْن السماءْ ... أنتِ رمزُ الخلودْ
أشرقي أشرقي. . .
أشرقي للأَنامْ ... يا جمال الحياةْ
وابعثي الابتسامْ ... فوق كلَّ الشفاهْ
أشرقي أشرقي. . .
فيكِ معنى الجهادْ ... فيكِ معنى الكفاحْ
فاظهري للعبادْ ... يا شعار النجاحْ
أشرقي أشرقي
3 - المدرسة
دارُ علم وأدبْ ... وسرورٍ وطربْ
نقطُع اليوم بها ... بين جدٍ ولعبْ
ونغذِّي عقلنا ... ونؤدّي ما وجبْ
نحنُ فيها دائماً ... لا نبالي بالتعبْ
نحنُ فيها اخوةٌ ... ضَمّنا برٌّ وحُبْ. . .(537/33)
البريد الأدبي
1 - شعراء المهجر
ترددت كلمة شعر المهجر، وشعراء المهجر، في مقالات بعض الأدباء، وذلك بمناسبة السجال الأدبي الذي دار بين الدكتور محمد مندور، والأستاذ سيد قطب، حول (الشعر المهموس)، وقد رأيت بهذه المناسبة أن أذكر أشهر شعراء المهجر ومنتوجهم الشعري الذي أخرجوه لعالم الطبع. وغرضي من هذه الإشارة - ولو كانت خاطفة - إلى لون من الأدب العربي العصري يمتاز بطابع خاص، وسمة معروفة؛ تتجلى حين مقابلته مع آداب البلدان العربية الأخرى. فأشهر هؤلاء الشعراء هم: الأستاذ إيليا أبو ماضي، صاحب ديوان (الجداول) ومجلة (الناهل) الأدبية؛ والمرحوم جبران خليل جبران الكاتب الفنان، وله ديوان (المواكب)؛ والشاعر المفكر ميخائيل نعيمة صاحب قصيدة (النهر المنجمد) الرمزية؛ وهو قد جمع شعره، وسيطبع قريباً باسم (همس الجنون) على ما قالت مجلة (الأديب) البيروتية؛ والفيلسوف أمين الريحاني الذي أفرد معظم الجزء الثاني من كتاب (الريحانيات) للون خاص من الأدب، جاء به شعراء المهجر وهو (الشعر المنثور)؛ ورشيد أيوب الملقب (بالشاعر الدرويشي) وقد توفي في العام الماضي، بعد أن ترك مجموعاته الشعرية: (الأيوبيات) و (هي الدنيا) و (أغاني الدرويش)؛ والشاعر فوزي المعلوف وله ملحمة (على بساط الريح)، وشقيقه رياض المعلوف، وقد أصدر مجموعة من شعره بعنوان (الأوتار المتقطعة) وشفيق المعلوف صاحب ملحمة (عبقر) الشعرية؛ والشاعر إلياس فرحات الذي أصدر قبل سنين رباعيات باسم (رباعيات فرحات)، ونعمة قازان، وله (معلقة الأرز)؛ وهناك مجموعة جيدة من شعر الشاعر القروي؛ ومن شعراء المهجر المعروفين، نسيب عريضة، وإلياس قنصل، ولم يجمعا شعرهما بعد - على ما نعلم - ومما يجب ذكره، ونحن في معرض الإشارة إلى شعراء المهجر، أنهم يعنون بالمعاني الشعرية قبل الألفاظ، وهم قد خرجوا عن حدود الشعر العربي وعروضه المعروفة، إلى ضروب متباينة من النظم. وشعراء المهجر لا يعنون بالديباجة العربية، والبيان العربي؛ وقد تأتى ذلك من معيشتهم في بيئة غريبة عنهم؛ عدا الشاعر الكبير إيليا أبو ماضي الذي جمع إلى خياله الرائع وأفكاره العالية لغة حلوة، وبيانا مسلسلا؛ وقد اكتسب ذلك من إقامته في القطر المصري بضع(537/34)
سنين.
2 - شاعرية العقاد
أنكر الدكتور محمد مندور شاعرية الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في السجال الأدبي الأخير، وهذا الذي أعلنه الدكتور مندور لا يرضاه كل من تذوق شعر العقاد، وقرأ دواوينه الرائعة. والعقاد شاعر موهوب، ويمتاز شعره بالأفكار الفلسفية الناضجة المبثوثة في تضاعيفه. والحكمة التي تقرؤها في بيت للمتنبي مثلاً، تقرؤها في أبيات متسلسلة في قصيدة من قصائد العقاد؛ كما يمتاز بوحدة الموضوع، وموسيقى المعاني التي لا يعرضها الشعر العربي الحديث إلا في شعراء معدودين أبرزهم الأستاذ خليل مطران بك. والذي ينكر شاعرية العقاد يجب عليه أن يقرأ أول آثار العقاد الشعرية، وهو ديوان (العقاد)، وأن يعيد النظر في الطرفة الشعرية الخالدة (ترجمة شيطان) وقصائده: (البدر في الصحراء) و (أنس الوجود) و (طاس على ذكرى)، فسيرى أن العقاد من كبار الشعراء المعاصرين
3 - رباعيات الخيام
ذكر الأستاذ محمد عبد الغني حسن في العدد (528) من الرسالة الغراء، أسماء الشعراء العرب الذين نقلوا رباعيات عمر الخيام إلى اللغة العربية بمناسبة ظهور الطبعة الثانية من ترجمة الصافي الرائعة؛ ولم يذكر أن هناك ترجمة منظومة للأستاذ محمد السباعي نقلها عن الإنكليزية، كما لم يذكر المختارات التي انتقاها الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي من رباعيات الخيام، وترجمها إلى العربية نثراً. ثم أتبعها بترجمة شعرية، وهناك ترجمة شعرية لهذه الرباعيات قام بها الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، ونشر بعضها في مجلة (الرجاء) النسائية، وفي الجزء الثاني من (ديوان المازني). وقد ترجمها عن الفارسية نثراً الأستاذ حامد أحمد الصراف، جعلها في ختام كتابه عن (عمر الخيام): ومن التراجم التي لم تظهر في عالم الطبع، ترجمة الشاعر الأستاذ محمد مهدي الجواهري، وترجمة الأستاذ السيد محمد الهاشمي صاحب مجلة (اليقين) البغدادية. ومما أود ذكره في هذه المناسبة أن في ترجمة السباعي، وهي الترجمة الثانية، لرباعيات الخيام في اللغة العربية بيتين مسروقين عن الشاعر الشهير با (بن وكيع)،(537/35)
وهذان البيتان هما:
غرد الطير فنبه من نعس ... وأدر كأسك فالوقت خُلس
سل سيف الفجر من غمد الدجى ... (وتعري الصبح من ثوب الغلس)
ويلي هذين البيتين قول ابن وكيع من القصيدة نفسها:
وانجلى عن حلل وردية ... نالها من ظلم الليل دنس
(بغداد)
محمود العبطة
تعليم الإنشاء في المدرسة الثانوية
في مقطع 24 فبراير سنة 1928 أبديت رأياً صريحاً وجهته إلى حضرت صاحب المعالي وزير المعارف - إذ ذاك - علي الشمسي باشا، طلبت فيه: أن يختص معلم الإنشاء به، وأن يفرغ مدرس البلاغة لها، وأن يكون للأدب أستاذ خاص. وهكذا. . .
واليوم أرى وزارة المعارف تنهض لهذا الرأي، وإني لأرجو - مخلصاً - أن توفق للأخذ به. وهذا رأيي وعلي تبعته، (إني أريد إلا الإصلاح ما استطعت)
محمد مختار يونس
المفتش بالتعليم الثانوي
إيضاح
كتب الأستاذ مرزوق في مقاله العدد 535 من (الرسالة) قال إن الإسلام نهى الفنان عن ابتداع الصور، وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً) وعندي أن هذا الحديث وأحاديث أخرى أعتقد أنها غير صحيحة، وذلك لأن كتب الحديث لم توضع إلا بعد وفاة النبي بأكثر من مائتي عام تقريباً، وهذه الأحاديث الخاصة بتحريم التصوير بينها وبين تعاليم اليهود ارتباط؛ وما أكثر ما اختلقه من أحاديث نسبوها كذباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم! واليهود تنص التوراة التي يدينون بها (لا تصنع لك تمثال منحوتاً ولا صورة مما في(537/36)
السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء)
وعلى فرض صحة هذه الأحاديث، فأعتقد أنها لا ترمي إلى التحريم الذي اعتقده الأستاذ مرزوق في مقاله، فأنا أنزه الإسلام عن هذا والفن الجميل لا يتعارض مع الدين وكلاهما يدعو للفضيلة وإن كانت الفنون الجميلة في مصر فيها خروج عن الدين وتعاليمه وإباحة لرأيت أجساد النساء عاريات وهذا ليس من الفن في شيء. فرسالة الفنان اجتماعية وهي الدعوة إلى الفضيلة، ودينية هي إبراز محاسن الطبيعة التي تشهد بقدرة الله، والسياسية وهي التنفير من مذهب يضر بالأوطان. . . والإسلام يبح الفن الذي يدعو إلى الفضيلة. وهناك من الأحاديث (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) و (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)
ولكن المعنى الذي توهمه كاتب المقال وادعاه أعداد الدين ليس المقصود، إنما قصد الرسول صلوات الله عليه أولئك الذين نحتوا الأصنام، ثم أعدوها للناس يعبدونها ويتخذونها آلهة من دون الله أولئك يعذبهم عذاباً أليماً حتى ينفخ أحدهم فيها الروح. وإلا فكيف أتاح معاوية وهو من الخلفاء القريبي العهد ببدء الإسلام أن يضرب نقوداً في عصره عليها تمثال فارس متقلد سيفاً والروح الدينية على أشدها والعقيدة على قوتها! وبعد فأنا أستبعد التحريم وأقول إن المقصود هو المعنى الذي سقته. . . والفن مباح في حدود الدين والأخلاق
(منفلوط)
أحمد فتحي القاضي
المحامي(537/37)
العدد 538 - بتاريخ: 25 - 10 - 1943(/)
في المسجد الأقصى
للدكتور عبد الوهاب عزام
شهدت صلاة العشاء في المجد الأقصى في رمضان، فلا أنسى ما يستقبل الداخل من روعة التكبير ينبعث من جانب المحراب بعيداً كأنما ينبعث من عالم الغيب. وما أنسى القناديل الخافقة في أرجاء المسجد كأنما ترعد من جلال التكبير، ويأتلف تسبيح المصلين وخفقات الضوء كما تتآلف موسيقى من الأنغام والأشعة
وخرجت أمشي في الساحة الفسيحة الجليلة والرحاب الواسع في صحن الصخرة وحوله وأشهد الأسوار والأبنية تحدث أخبارها والفكر طيار بين الماضي والحاضر، والبصر حائر في هذه المشاهد الكثيرة المهيبة، والقمر يرسل أشعته تترقرق على قبة الصخرة الجميلة وتنساب بين الجدران والأشجار، والظلال تفصل الضوء فتكتب سطراً من الجمال رائعاً، أو تخط آية من آيات السجدة في هذا الحرم العظيم يقرأها كل ذي قلب فتسجد جبهته أو يسجد قلبه
تركت الحرم وملء نفسي هذا الجمال والجلال، وملء قلبي ذكر وعبر. ولما خرجت من باب العمود تأملت سور المدينة وقد علا البدر وراءه فتخللت شرفاته الأشعة وبدت كأنها فلول سيف قارع الحادثات طويلاً، وأبلى في الخطوب دهوراً
عدت إلى المسجد مرة أخرى يتلفت طرفي وقلبي وأتأمل هذه المشاهد مرة بعد أخرى كما يحرص القارئ على حفظ آية تروعه أو بيت من الشعر يعجبه، ثم جلست في رفقة كرام خارج باب العمود أتأمل السور الضيق، والقمر من ورائه مرة أخرى
قلت لا بد من زيارة في ضوء النهار يحيط فيها البصر والفكر بهذه الساحة العظيمة وما يتقسمها من أبنية؛ فكم دخلت إلى هذا المكان فما استوعبه فكري ولا أحاط بأرجائه نظري
ثم واعدت الأستاذ عبد الله المخلص، وهو من أعلم الناس بالحرم ماضيه وحاضره، واعدته أن نلتقي بعد صلاة الجمعة في معتكف السيد المجددي وزير الأفغان من الحجرات في صحن الصخرة
هذا يوم الجمعة لست بقين من رمضان عام اثنتين وستين وثلاثمائة وألف وقد اقترب الظهر وأنا منحدر في شارع باب العمود أحمد الإسراع الذي يدفع إليه الانحدار. دخلت من(538/1)
باب العمود إلى الطريق المدرج ذي الدرجات الواسعة الوطيئة التي تهبط أو تصعد بالسابل يكاد لا يحس الانحدار والصعود، ومررت بهذه العقود الجانبية على طريق التاريخ إلى البيت المقدس تحمل الأبنية العالية كأنها عقود السنين تنوء بما تحمل من أحداث وذكر. والسابلة ميممة شطر المسجد يهتدي بسيرها من لا يهتدي طريقه. شهدت في الحرم جمعة قبل هذه فإذا عيد إسلامي يشترك فيه الرجال والنساء والأطفال؛ الآباء والأمهات في صلاة، والأطفال في رحاب الحرم يمرحون؛ ولكن اليوم يوم جمعة اليتيمة وقد حرص على شهودها في المسجد الأقصى كثير من بيت أهل المقدس والبلاد القريبة، وهذه الوفود تتوالى في أزياء المدن والقرى، وقد تقسمت المصلين مصليات كثيرة في فناء الحرم رضى بها من أشفق من الزحام في المسجد الأقصى وقبة الصخرة. وسرت فرحاناً خاشعاً أتحرى طريقي إلى حجرة السيد المجددي فلما بلغت الحجرة أدركني عند بابها صديق عظيم لا يغيب وجهه عن مشهد من مشاهد الخير قلت: السيد ليس ها هنا الآن نعود بعد الصلاة. وأحسب المسجد مكتظاً فهلم إلى الصخرة. قال: نصلي هنا في جماعة من هذه الجماعات. فجلسنا وطرفي مقسم بين الجماعات التي تؤم مواضع الصلاة، والجماعات التي تبوأت أماكنها في هذا المحشر. استقرت بالمصلين المجالس زرافات لا يرى بينها إمام، وخيل إلي أنها جماعات المسجد الحرام تتجه وجهات مختلفة ولكنها كلها إلى الكعبة
وكبر إمام المسجد فتوالى التكبير بعيداً فانتفضت هذه الجماعات قياماً، وأحكمت صفوفها وتوالى تكبيرها. ما أعظم هذا مشهداً جميلاً رائعاً! وقفت أتلفت إلى الجماعات المتفرقة في أرجاء المسجد ثم أحرمت فلم يمنعني خشوع الصلاة من أن أجيل الطرف أمامي: هذه قبة المسجد الأقصى وأبنية أخرى تتخللها أشجار باسقات، وأمامي على بعد جماعة من النساء اصطففن عند حجرتين عليهما قبتان، والى اليسار جماعة أخرى من النساء وقفن مع عمد جميلة تعلو بئراً من آبار الحرم، وبعدها ذات اليسار جماعة أخرى عند العقود المشرفة على الدرج المؤدي من باب القبة القبلي إلى باب المسجد الكبير وبعدها جماعة من الرجال. ورأيت قبل الإحرام جماعة ذات اليمين في الفناء الأدنى، وأخرى خلفنا فوق صحن الصخرة المرتفع. فما زلت أراها بقلبي مع هذه الجماعات التي يدركها البصر أمامي. قلت لنفسي إنك في شغل عن الصلاة بهذه المشاهد. قالت: إني أشغل عن صلاة بصلاة، وأخرج(538/2)
من صلاتي المفردة إلى صلاة الجماعة. ودوى التكبير بعيداً فركعت هذه الجماعات وكدت أعجب لماذا لا تركع هذه الأشجار القائمة، وقد ركعت الصفوف كلها، وذكرت الآية: (ألم تر أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه)
صلينا ركعتين هما عندي سجدة واحدة متصلة. فلما سلمنا قلت للصاحب الكريم ائذن لي لأشهد الجمع خارجاً من المسجد وأعود. وسارعت أتخلل الجموع المنتشرة بعد الصلاة والصفوف المسبحة الجالسة التي لم ينتشر نظامها. وهبطت الدرج مسرعاً لأشهد السيل المتدفق من باب المسجد الأقصى وأتفرس الوجوه الخاشعة الفرحة، وأتأمل الأطفال حول آبائهن وأمهاتهن، وأرى هذا العيد العظيم في هذا الحرم المبارك وأسارير وجهي تنبسط ابتساماً، وتنقبض هيبة، وقفت على شاطئ هذا السيل البشري حيناً ثم رجعت أدراجي إلى صاحبي الكريم في مصلاه. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(538/3)
في محكمة الجن
للدكتور زكي مبارك
مع الاعتراف بأن القلم في يد الكاتب نعمة لا يماثلها شيء من نفائس الوجود، فأنا كثير الضجر مما يجني علي قلمي، لأنه يتيح الفرص لمن يسرهم إيذائي، ولأنه يجعلني دائماً على بال الناس، ويا ويح من يشغل به الناس!
زرت مرةً إحدى المدارس الثانوية فوجدت ناظرها رجلاً مجهولاً من الدوائر الأدبية والاجتماعية، مع أن المرء لا يصل إلى مثل مركزه إلا بعد ظهور وبروز في الأدب وفي المجتمع، فقلت في نفسي: (هذا هو الرجل السعيد. إن منصبه يضارع منصبي من الوجهة الرسمية؛ وقد يكون راتبه أضخم من راتبي، لأنه قديم العهد بخدمة وزارة المعارف. ولكنه أسعد مني، لأنه بعيد من المجتمع، ومجهول من الجرائد والمجلات، فلا يتحدث عنه متحدث، ولا يتزيد عليه قارئ لا يفهم أسرار البيان)
ثم قلت: (أين حظي من حظ هذه الزميل؟ إن مقالاتي تؤخذ منها قصاصات لتقدم إلى وزير المعارف، فأنا على بال الوزير من يوم إلى يوم، أو من أسبوع إلى أسبوع. ومعنى هذه أني أقدم سريرتي قبل السؤال عما فيها من مجاهيل)
وعلى من يقع اللوم؟ يقع علي وحدي، فمن حق أي وزير أن يتعقب ما يصدر عن مساعديه من أفكار وآراء، ومن واجبه أن يناقشهم فيما يستوجب النقاش
والآفة الفظيعة أني مكثر، وقلما يسلم المكثار من العثار. يضاف إلى هذا قلمي يجول في شجون من الأحاديث تمس طوائف من المعاني الشوائك، فأنا أعرض نفسي لمتاعب لن تنقضي إلا يوم أتوب من صحبة القلم، ولن أتوب!
هل أصدق كل الصدق فأذكر أني شعرت بدمعة تساور جفوني يوم زرت ذلك الناظر السعيد؟
لقد تحزنت وتوجعت، لأني عرفت أن القلم لا يغنيني في حياتي كما يغني أمثالي في الأمم التي يعد قراؤها بالملايين، فلم يبق إلا أن أكون من الموظفين!
أين أنا مما أريد؟
أنا أريد النص على أن قلمي ساق إلى متاعب أخطر مما كنت أعاني، فقد نقلني من معاداة(538/4)
الإنس إلى معاداة الجن، ونعوذ بالله من كيد الشياطين!
وخلاصة القصة أني تحدثت عن (جنية) سامرتها ليلة بالإسكندرية مسامرة الحبيب للمحبوب، وأنا أجهل أن حديثي عنها ستكون له عقابيل. . . فماذا وقع بعد ذلك الحديث؟
أطفأت النور بالغرفة التي تطل على الصحراء، لأستوحي القمر والنجوم في هدوء وسكون، ثم راعني أن أرى الغرفة تضئ، وأن أرى خلائق لم يكن لي بمثلها عهد، فهتفت: أتوا داري فقلت: منون أنتم؟
فقالوا: الجن، قلت: عموا مساء
- محكمة!
- أية محكمة؟
- محكمة الجن!
- وفي هذه الأنوار؟
- هذه أنوار لا يراها عابر، فلا عليك!
- وهذه الوجوه؟
- هي وجوه لا يراها غيرك
- وماذا تريدون؟
- نريد محاسبتك على ما وقع منك
- وماذا وقع مني؟
- هل نسيت ما نشرت بمجلة الرسالة
- عماذا؟
- عن الجنية المحبوبة!
- ذلك خيال في خيال
- ونحن نحاسب على الخيال، لأنه صورة مصغرة من الحقيقة الواقعية، فأنت محاسب على اقتراف الإثم بمغازلة جنية عذراء.
- من حديثي بمجلة الرسالة عرفت ما اقترفت؟
- عرفنا ما اقترفت قبل أن تنشر حديثك(538/5)
- وكيف؟
- لأننا نراكم ولا تروننا
- وما الذي منع من عقد المحكمة قبل نشر الحديث؟
- الإثم عندنا يحتاج إلى برهان مكتوب
- وحديثي هو البرهان؟
- نعم، ثم نعم!!
- أتسمعون كلمة الحق؟
- قد نسمع!
- يجب أن تسمعوا، فاسمعوا. أنتم تقفون من الحياة موقف المتفرجين، والمتفرج يرى الممثل ولا يراه الممثل، فالممثل آمر والمتفرج مطيع، أو هو كاتب والمتفرج قارئ
- أتقول إن الإنس أفضل من الجن
- هو ذلك، وإلا فأين نصيبكم من خدمة الآداب والفنون؟
- نحن الذين أقمنا عرش سليمان
- وأين عرش سليمان؟
- بقيت منه المعاني
- هي معان إنسية لا جنية، لأنها متصلة بالناس لا بالجان
- ونحن الذين ألهمنا شعراء الجاهلية
- وهم لهذا جهلاء!
- أنت تحاكم، فما هذه الغطرسة العاتية؟
- أنتم تحاكمونني، يا جماعة الجن، ولم يكن فيكم من يتسم بشجاعتي؟
- وما شجاعتك؟
- أنتم تعرفون شجاعتي، فما تنكرت ولا تلثمت كما تتنكرون وتتلثمون، ولا سمح ضميري بأن أرى الناس ولا يرونني لأني أحب أن تكون أعمالي في العلانية لا في الخفاء
- والجنية التي سرقتها منا؟
- لم أسرقها منكم، ولن أردها إليكم(538/6)
- أطع محكمة الجن
- وهل أطعت محكمة الإنس حتى أطيع محكمة الجن؟
- سنؤذيك إن تماديت في العصيان
- لا يستطيع مخلوق أن يؤذيني، إن حفظت الأدب مع الله في الترفق بنفسي
- حرر الجنية من حبك
- لن أحررها من حبي، فما أرضى بأن يضيع نصيبها من شرف الوجود
- لا نفهم شيئاً مما تقول
- أنا أقول بأن الإنس أفضل من الجن، لأن الإنس مجاهدون والجن رقباء، والمجاهد أفضل من الرقيب
- والجنية المخطوفة؟
- لن تكون لكم ولو عقدتم ألف محكمة
- وإن اغتصبناها منك؟
- لن تغتصبوها مني، بعد أن سمعت أشعاري، وهي أشعار نظمتها بدم القلب
- أطع محكمة الجن
- لن أطيع
- وإذا حكمنا عليك؟
- سيعييكم التنفيذ!
- وفي هذه المعمعة برزت الجنية وهي تصرخ: أنا الجانية على نفسي، إن كان من الجناية أن أخرج إلى الأنوار بعد طول القرار في غياهب الظلمات
- ماذا تقولين يا حمقاء؟
- معشوقي إنسي، يا سعادة الرئيس
- والإنس أفضل منا، يا شقية؟
- نعم، لأن أعمالهم في العلانية
- وأعمالنا؟
- أعمالنا في طيات الخفاء(538/7)
- لست منا ولا نحن منك
- أنا من معشوقي، ومعشوقي مني، فاذهبوا عني
- ونهزم أمام الناس
- كما ينهزمون حيناً أمام الجان، والجروح قصاص
ثم انفضت محكمة الجن بدون تعنت يحوج إلى الاستعانة بالمحامين فعرفت أن الجن لا يزالون على الفطرة الأولية في إدراك الحقائق البديهية، وعرفت أيضاً أنهم يخافون من الإنس، وكان معروفاً أنهم يخيفون ولا يخافون
ذهبت الأنوار المجلوبة بحضور الجن، وعادت الغرفة إلى الضوء المرسل من القمر في لطف، وبقيت الجنية بجانبي وهي لا تكاد تصدق أنها نجت من تعقب أولئك العماليق
- هل صرنا في أمان؟
- أنت صرت في أمان
- وأنت؟
- ألم تعلمي أني أقيم فوق جبل من البارود؟
- أتخاف وأنا معك؟
- أنا أخاف لأنك معي، فقومك لن يسكتوا عني، وقد يستنصرون بإخوانهم في الشام والعراق
- المعروف عندنا أن شياطين الشام والعراق من أصدقائك
- ومن هنا أخاف
- تخاف من أصدقائك؟
- وممن أخاف؟ هل أخاف من أعدائي وأنا أملك البطش بهم حين أريد؟
وانتقل الحوار إلى شؤون متصلة بالجمال فسألتني الجنية عما يستهويني من جمالها فقلت:
أنا أحب فيك هذه الصوت الناعم المبحوح، وأشتهي أن تتكلمي في كل وقت. . أشتهي أن تكون حياتك حديثاً في حديث، لا تسكتي، فما رأيت أندى على قلبي وروحي من بغامك الذي يشبه وسوسة الحبب عند اضطرام الكؤوس. تكلمي لأرى نعيم الفردوس ممثلاً في نبرات هن أعذب وأطيب من همسات الأماني في الصدر الحزين(538/8)
هذا الصوت يزلزل قلبي، وأنا أسمعه وإن اعتصمت بالصمت
- كيف؟ كيف؟
- هويتك الأصيلة هي هذا الصوت، فأنت كالبلبل، وهوية البلبل في الحلق، والله يزيد في الحلق ما يشاء
- لم تجب عن سؤالي!
- قلت إن هويتك في الصوت، وأنت دائماً في بالي، فأنا أسمعك في كل وقت، وإن غبت عني
- إلى هذا الحد يفتنك صوتي؟
- والى أبعد من جميع الحدود
- كنت تقول إني أفتنك باللون
- متى؟
- ليلة بتنا بالإسكندرية، هل نسيت!
- لونك يفتن، لأنه ينطق، وهو يتموج تموج النبرات العذاب. إن في قدميك خطوطاً نواطق، في قدميك، في قدميك، فماذا أقول في المرمر الناطق وهو صدرك الجميل؟
- زدني، زدني
- زيديني فتوناً لأزيدك جنوناً
- ماذا تريد مني بعد أن خاصمت فيك قومي؟
- أريد أن تتكلمي في جميع اللحظات
- وأين أجد ما أقوله في كل وقت؟
- تقرئين علي ما في المكتبة من مؤلفات أدبية وعلمية ولغوية، بالعربية والفرنسية والعبرية، والأمر سهل، فإن محصول مكتبتي لا يزيد عن عشرة آلاف، وسنعبرها ورقةً ورقة في أقل من عشر سنين
- إلى هذا الحد تحبني؟
- والى أبعد مما أحب العباقرة من الإنس والجن في جميع الأزمان
- أنا أرتعد من الخوف(538/9)
- ومم تخافين؟
- أخاف منك، فدعني أخرج لألحق بقومي
- لن تعرفيهم بعد اليوم، ولن يكون لأحد غيري عليك سلطان، فليجمع الجن جموعهم ليلقوني في ساحة القتال، ولتتمردي ما شاء لك الحمق والطيش، فلن يكون لك في غير هذا البيت مكان
- وتحميني من طغيانك؟
- إذا اعترفت علانية بأن سلطان الجمال أضعف من سلطان البيان
زكي مبارك(538/10)
5 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
4 - يقول عامر بن الطفيل العامري:
(. . . وبالحرى إن أدلت الأيام، وثابت الأحلام، أن تحدث لنا أموراً لها أعلام. قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر على أمر يذكر؟ قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟ قال: ما لي علم بأكثر مما خبرني به مخبر
قال كسرى: متى تكاهنت يا ابن الطفيل؟
قال: ليس بكاهن، ولكني بالرمح طاعن. . .)
في هذا القول شيء من علم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، وأقوال علماء ومؤرخين كبار مشهورين من المتقدمين في الكهانة والمتكهنين إنما هي تخاليط. روى أبو العباس في (كامله):
لا يعلم المرء ليلاً ما يصبّحه ... إلا كواذب مما يخبر الفال
والفأل والزجر والكهان كلهم ... مضللون، ودون الغيب أقفال
وروى صاحب (الكشاف):
لوى اللهُ علم اللهِ عمن سوَءاهُ ... ويعلم منه ما مضى وتأخرا
وقال شاعر صادق:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وأخبار مخبرين وأحاديث محدثين عن أناس كانوا يعلمون الغيب من الجاهلية أو من الصحابة والتابعين وغيرهم هي أباطيل وأضاليل (فقل: إنما الغيب لله). وإذا كان رسول الله سيد هذا الوجود ومعناه - وهو رسول الله وهو النبي محمد - لا يعلم الغيب فلن يعلم الغيب أحد. وفي المقالة (شق وسطيح) في الرسالة (249 ص 605 س 6) أوضحت الغيب الذي أطلع الله نبيه عليه، وذكرت آيات من كتاب الله بينات تنادي أن سيد البشر والأنبياء والمرسلين وصفوة النوع الإنساني لا يعلم غيباً. وذكرت هناك حديث (أم المؤمنين) - رضوان الله عليها - في مسند الربيع بن حبيب، وهو من أقدم كتب الأثر التي وصلت إلينا كما ذكرت قول الإمام علي القاري في الآية الكريمة: (وممن حولكم من(538/11)
الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم) قال: وهذا في (براءة) ومن أواخر ما نزل من القرآن، وهذا والمنافقون جيرانه في المدينة)
قلت: ومثل الآية في (براءة) قوله تعالى في (الأنفال) يخاطب النبي وأصحابه:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم. وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون)
ذلكم ما في كتاب الله ولم يزل مسلمون في كل وقت يصدقون المنجمين والمتكهنين فقد جاء في (الجامع لأحكام القرآن) ج 7 ص 3:
(قد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين والكهان لا سيما بالديار المصرية، فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال، فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال، وكل ذلك من الكبائر لقوله (عليه السلام): (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) فكيف بمن اتخذهم وأنفق عليهم معتمداً على أقوالهم. . .)
قلت: وفي غير مصر مثل الذي هو في مصر، والحال ما حال في هذا الزمان. ومن جنس الدجاجلة المتكهنين جماعة (التنويم المغناطيسي) الذين يعلمونك - كما تقول إعلاناتهم في الجرائد وإنها لكاذبة وإنهم لكاذبون - بماضيك وحاضرك ومستقبلك. . .
(ن)(538/12)
1 - الشعر المرسل والشعر الحر
للأستاذ دريني خشبة
(إلى الأستاذين الشاعرين، أبي الحديد وباكثير من رواد
التجديد في الشعر العربي، أهدي هذه الفصول)
الشعر المرسل هو الشعر الذي لا قافية له، واسمه بالإنجليزية
والشعر الحر هو الشعر الذي لا يتقيد بعدد التفعيلات في البيت الواحد، فقد يتركب البيت فيه من تفعيلة واحدة، وقد يكون تفعيلتين، وقد تصل تفعيلاته إلى ثمان أو عشر أو اثنتي عشرة، وذلك في القصيدة الواحدة. والشعر غير مقيد في أبياتها بعدد من التفعيلات يتمها في كل بيت، بل هو يرسل نفسه على سجيتها، فتارة يقول تفعيلة واحدة يودعها إحدى خوالجه، وتارة يقول خمس تفعيلات تعبر عن خالجة أخرى، وطوراً تصل التفعيلات إلى ثمان أو أكثر أو أقل، حتى تتم القصيدة أو الملحمة، وهذا هوال ويتفق الشعر الحر والشعر المرسل في التحرر من القافية، وهما في ذلك يختلفان عن الشعر الغنائي الذي لا تتم موسيقاه إلا بها
ولا يتقيد الشعر الحر بالأوزان العروضية الرسمية، فللشاعر أن يبتكر أوزاناً جديدة إن استطاع؛ وقد غلا شعراء الشعر الحر في ذلك حتى لا تلتفت إلا الأذن الموسيقية وحدها إلى (غنائهم المكتوب) كما يعبر مؤرخو الآداب الأوربية
وكان أول ظهور الشعر المرسل في إيطاليا في أوائل القرن السادس عشر، حينما كتب به الشاعر ترسينو مأساته سوفونسبا وذلك سنة 1505، ولا يعرف تاريخ الآداب العالمية شعراً مرسلاً أقدم من هذه المأساة. وقد أنشأ الشاعر جيوفاني روشلاي (1475 - 1525) منظومته (النحل) بعد ذلك، وهو الذي أطلق على هذا اللون من ألوان الشعر اسم (الشعر المرسل) أو كما سماه الإنجليز
وما كاد هذا النوع من الشعر يظهر في إيطاليا حتى قابل النقاد والمتأدبون بأعنف صنوف السخرية والاستهزاء. . . وكانت أخف صفات التحقير من شأنه هي: غث. . . كلام فارغ. . . هراء. . . هذا عبث. . . ذلك إجرام في حق الشعر الإيطالي. . . لا شك في أن(538/13)
ترسينو يهذي. . . إلى آخر تلك السلسلة الصارمة من ألفاظ الهجاء. . .
إلا أن ترسينو ما فتئ يلح على مزاج أمته ويغازل ذوقها حتى استجابت له، وحتى أقبلت على مآسيه تستخفها وتسيغها، ثم تنسى بها المآسي المنظومة بالشعر الغنائي المقفى وتنسخها نسخاً
ثم نظم بالشعر المرسل فحول الشعراء الإيطاليون بعد ذلك، وفي مقدمتهم أريوستو الذي نظم به ملاهيه الرائعة كلها، وتاسو وجواريني وغيرهم
وقبل وفاة ترسينو بقليل، انتقل الشعر المرسل إلى إنجلترا، وذلك في أواخر عهد هنري الثامن، حينما ترجم هنري هوارد جزأين من إنيادة فرجيل إلى الإنجليزية بهذا الشعر
ثم استعمل الشاعران ساكفيل ونورتون الشعر المرسل لأول مرة في الدرامة الإنجليزية حينما ألفا درامتهما المشهورة (جوربودك التي لخصناها للقراء في فصولنا السابقة عن نشأة الدرامة الإنجليزية. ولم يكد ينتهي القرن السادس عشر حتى كان الشعر المرسل يستعمل استعمالا عالمياً واسع النطاق - إلا في العالم العربي طبعاً! - وفي جميع الأغراض المسرحية، وذلك بعد أن لقي في كل دولة من الدول الأوربية نفس ما لقي في إيطاليا من السخرية والاستهزاء. . . إذ ناهض النقاد الإنجليز مناهضة قاسية، ومع ذاك فقد هيأ الله له فيها شاعراً شابا فخم الديباجة حسن السبك مشرق البيان نقي الأسلوب، لا يلتوي ولا يغمض، ولا يتعمل ولا يغرب، فاستطاع أن يكبح جماح النقاد، وأن يرغمهم على احترام الشعر المرسل. . . ذاك هو مارلو العظيم الذي ألمعنا إلى جهوده الأدبية في كلماتنا السالفة؛ مارلو صاحب القريض الفريد أو أل: كما دعاه النقاد الساخرون أنفسهم فيما بعد
ثم تهيأ للشعر المرسل شكسبير الخالد، وذلك عندما أشرفت حياة مارلو على نهايتها، فقد نظم (سيدا فيرونا): ثم أردفها بروائعه المسرحية التي بهر بها الدنيا جميعاً حيث تجلت فيها مزاياه التي أكسبت اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي والشعر الإنجليزي ذلك التفوق الذي سوف يخلد على وجه الزمان. أما هذه المزايا فأهمها الكمال والمرونة والتنوع أضف إلى ذلك الموسيقى التي لا تعرف القلق، ولا يعتريها النشوز أو (النشاز) بمعناها الاصطلاحي تلك الموسيقى التي لا غناء لأي نوع من أنواع الشعر عنها، لأنها روح الشعر ونظرته وجماله في الأذن وفي القلب معاً. . . ثم أضف إلى ذلك أيضاً افتنان شكسبير(538/14)
وتمكنه من اللغة، وبصره بألفاظها، وذوقه الرفيع الناقد الذي كان أقدر الأذواق على تنخل هذه الألفاظ وتخيرها في غير التواء أو تقعر. هذا إلى خيال خصب وبيان متدفق ومقدرة فائقة على التنقل، وإلمام عجيب بالأصول المسرحية التي تنبع أول ما تنبع من البديهة العبقرية قبل أن ترتكز إلى مواضعات علمية
وقد لا يسر القارئ، بل ربما يضايقه جد المضايقة أن نخوض به في شيء من معميات العروض الإنجليزي، ذلك العروض السهل البسيط الذي لا يصح أن نقيسه إلى عروض الشعر العربي، ذلك العروض الصعب المعقد، إلا على الشعراء.
وبحسبنا هنا أن نذكر أن العروض الإنجليزي، بل كل أنواع العروض في اللغات الأوربية، إنما أساسها التفعيلة وليس أساسها الأبحر كما في العروض العربي
وبحسبنا أيضاً أن نذكر أنهم حينما يبدأون الكلام عن العروض الإنجليزي، أو عروض أية لغة أوربية، يقولون إن أشهر التفعيلات عندهم أربع. . . أربع فقط، في حين أن التفعيلات التي تتركب منها بحور العروض العربي كثيرة لا حصر لها؛ فمنها مستفعلن ومتفاعلن وفاعلن ومفاعلن وفاعلاتن وفعلن وفعولن ومفاعيلن ومفاعلتن. . . إلى آخر هذه الثبت الطويل الذي ليس فيه شهير وغير شهير، والذي يمد الشعر العربي بموسيقى لا نظير لها في أي من عروض أية لغة من لغات العالم من حيث الدقة في ضبط الميزان والمحافظة على النغم؛ فلدينا ستة عشر بحراً غير مجزوءاتها ومشطوراتها كل منه له موسيقاه ورقته وعذوبته. ونستطيع أن نجعل هذه الستة عشر بحراً ألفاً وألفين إذا أردنا ذلك، وهذا بتأليف نغم أساسه بعض التفعيلات التي اتفق عليها عروضيو العرب بحيث تتم لنا بحور جديدة موسيقية إن كان لابد أن نزيد في عدد البحور الموجودة عندنا
ولسنا الآن بسبيل الموازنة بين العروض العربي وألوان العروض الأوربي، ولهذا نعود إلى العروض الإنجليزي فنقول: إن نقاد الشعر من الإنجليز يقررون أن اللغة الإنجليزية تجري سهلة لينة طيعة حينما تنظم شعراً في البحر الأيامبي (أنظر الحاشية بأسفل الصفحة) وهو ذلك البحر الذي يتكون من خمسة تفعيلات إيامبيت - وقد اختار الشعراء هذا البحر لنظم الملاحم والدرامات لأنه متوسط الطول فهو يتألف من عشرة مقاطع (5 تفعيلات مقطعين)؛ وقد فضلوه على البحور القصيرة التي تتألف من ثمانية مقاطع مثلاً(538/15)
لأنها تكون قصيرة النفس ولا تنهض بأعباء الحوار في الدرامة، ثم هي لا تسعف الشاعر في أداء المعاني الطويلة في الملحمة؛ وكذلك فضلوه على الأبحر التي تتألف من اثنتي عشر مقطعاً وعللوا ذلك بحاجة تلك الأبحر إلى القافية لتتم الموسيقى ويستقيم النغم ويسلم الميزان
وقد أثار الشاعر الأمريكي لنجفلو على هذا التقليد، فنظم قصته البديعة من أطول بحر عرفه العروض الإنجليزي (ستة عشر مقطعاً!)، كما أنشأ منظومته الطويلة الجميلة من أقصر بحور هذا العروض (ثمانية مقاطع فقط!)
وقد نجح لنجفلو في إفانجلين نجاحاً عظيما. ولن أنسى قط تلك الدموع التي ذرفتها بعد قراءة تلك المأساة الغرامية الباكية المليئة بالعواطف الجياشة والخيال الخصب والوصف الشائق الأخاذ
أما في هياراثا، فقد فشل الشاعر العظيم وانحط عن الأفق السامي الذي ارتفع إليه في درته السالفة. على أنني أحسب أن تفاهة الموضوع هي التي ذهبت بروعة القصة، وليس البحر القصير الذي يشبه المتدارك في العروض العربي، وللمتدارك موسيقاه الحلوة التي لا تنسى ومنه
(اشتدي أزمة تنفرجي) و (يا ليل الصب متى غده)
وبفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقاً وهو يتكون من اثنتي عشر مقطعاً (ست تفعيلات إيامبية مقطعين)
ولم يزل الشعر المرسل يتأرجح بعد شكسبير بين العلو والسفل حتى جاء ملتون العظيم فنظم به طرفته الخالدة (الفردوس المفقود) التي وصف فيها الحرب بين عيسى (الخير) وبين الشيطان (الشر)، وكيف تم الفوز للمسيح آخر الأمر. . . تلك الطرفة التي بلغ فيها الشعر المرسل قمة الإجادة. . . ومن العجب أن يفشل ملتون في منظومته الثانية (الفردوس المعاد) في المحافظة على ديباجته التي بلغها في الفردوس المفقود، ولعل للسن حكمه في هذا الانتكاس
ومما يؤثر أن ملتون استطاع أن يتجنب كثيراً من العلل التي كان يتورط فيها شعراء(538/16)
عصر إليزابث أو التي لم يكونوا يرون غضاضة في وجودها في أشعارهم، وقد أبت على ملتون بصيرته النقادة أن يقع فيما وقع فيه أسلافه، أو أن يبيح لنفسه تلك الضرورات الشعرية السخيفة التي لا يلجأ إليها كل شاعر لم تنضج شاعريته بعد
ثم ركد الشعر المرسل مرة أخرى بعد ملتون حتى عاد إليه شبابه - بعد النهضة - وذلك على أيدي أتواي ولي ودريدن
واستعمله في القرن الثامن عشر شعراء عظماء فأتوا فيه بالمعجز والمطرب، ومن هؤلاء طومسون وينج
ثم استعمله الشعراء المحدثون (شعراء القرن التاسع عشر) أمثال بيرون وشلي وسوبترن وكيتس وتنيسون، وإن لم يستحدثوا فيه شيئاً جديداً، إلا أنهم نظموا فيه الغرر المشجية وأمدوا الأدب الإنجليزي بثروة لن تبيد
وقد فهمت من حديث لي مع بعض الأدباء المصريين أنهم يعتقدون أن الشعر المرسل قد انتهى زمنه، وهذا رأي خاطئ، فقد نظم به رديار كبلنج نصف إنتاجه تقريباً كما نظم به برنردشو درامته العظيمة ' التي أعدها للمسرح عن قصته التي تحمل هذا الاسم، والتي اعترف هو نفسه بأنه إنما لجأ إلى نظمها بالشعر المرسل لأنه أيسر عليه أسهل من النثر!
وسنعرض في مقال آخر إن شاء الله لشعراء العصر الحاضر الذين لا يزالون يستعملون الشعر المرسل في تأليف قصصهم المنظومة ودراماتهم. وسنرى ما كان يلقاه بينرو المتوفي سنة 1934 والذي أتى في الدرامة المنظومة بما يضارع ما جاء به شكسبير إن لم يتفوق عليه أحياناً من عنت نقاد الأدب الإنجليزي الحديث وسخفهم
أما الشعر الحر فلم يقرر المؤرخون على وجهه التحقيق متى بدئ استعماله، ولم يهتدوا إلى مبتكره الأول. وقد حاول ملتون في منظومته عن شمشون محاولة بارعة في الشعر الحر، كما شاع استعماله بين الشعراء الفرنسيين. وقد نظم به لافونتين في القرن الثامن عشر، ولكن على قواعد العروض اليوناني، وكذلك استعمله ماثيو أرنولد كثيراً فأجاد
هذا، وقد تفنن الشعراء في ابتكار الأوزان الجديدة لهذا الضرب من ضروب الشعر فأتوا فيه بالأعاجيب. . . على أنه لم ينتشر انتشاراً عالمياً إلا قبيل الحرب الكبرى (الماضية)؛ وتسمى الشعراء الذين آثروه واستعملوه بكثرة باسم أي الذين يصورون صور الأشياء(538/17)
بالشعر الحر كما يصور الفنان صورها في ذهنه بألوان من نور، ومن هؤلاء عزرابوند وفلنت ولوول ود. هـ لورنس الشاعر والكاتب الروائي الماجن وريتشارد ألدنجتون، ونرجو أن نوفق للكتابة عن مذهبهم الشعري بتوسع قريباً
(يتبع)
دريني خشبة(538/18)
المشكلات
9 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لقد فاتحت كثيراً من رجال التربية والتعليم في مصر ممن يهتمون باللغة العربية في هذا الأسلوب الجديد في تعليم اللغة، فكانوا جميعاً يلقونني بشبهة واحدة قد اتفق الجميع عليها، وكأنهم تواطئوا على إيرادها، أوردوها من لا أحصي ممن يهتمون بشئون التعليم في مصر، ومن قبل ذلك أوردتها فيما بيني وبين نفسي
وهذا دليل على قوتها، وقرب تناولها؛ فإن استطعت حلها فقد ذللت عقبة كأداء في سبيل الإصلاح المنشود
يقولون جميعاً: مما يعوق ملكة تكوين اللغة العربية عندنا أن اللغة العامية سبقت إلينا فتكونت ملكتها فينا، واللغة العامية تحريف للغة العربية وخطأ فيها، فإذا تكونت فينا ملكة اللغة العامية فهذا معناه تكون ملكة الخطأ في اللغة العربية، وإذا سبق الخطأ وصار ملكة ثبت ورسخ، فإذا أريد بعد ذلك إصلاحه وصيرورة هذا الإصلاح ملكة تعذر واستحال
ومما يزيد الأمر تعذراً واستحالة أننا لا نزال نسمع من والدينا وإخواننا وأهلينا ومخالطينا وأصدقائنا اللغة العامية، يتكلمون بها ونكلمهم، ونتفاهم بها ونتساجل، فهي لغة البيت ولغة الشارع ولغة المدرسة ولغة الأغاني ولغة التمثيل ولغة الخيالة ولغة بعض المجلات، أينما توجهنا وجدناها، وحيثما أصغينا سمعناها، وهذا معناه أن الخطأ واللحن في اللغة العربية سبق فصار ملكة، وأنه لا يزال يتردد على أسماعنا ونردده فيزداد رسوخاً، حتى يختلط بلحمنا ودمنا، فمهما فعلنا للتخلص من ملكة اللحن والخطأ لم يفدنا، وكلما هربنا من هذه الملكة لحقتنا؛ فأين النجاء وأين المهرب؟ وهي قد سبقت فاستحكمت فينا، ثم أخذت تلاحقنا وتسابقنا وتتغلب علينا وتقهرنا. ولعل هذا هو الذي دعا العلماء الأقدمين إلى أن ييأسوا من تكوين ملكة العربية الصحيحة، فاكتفوا بالقواعد والقوانين التي تضبط أمرها مع التنبيه والمعالجة، ولم يسموا إلى ملكتها التي تعطي التعبير بها دون قصد ولا تنبه ولا تكلف ولا(538/19)
علاج
وإني أقول في جواب هذه الشبهة أن ذلك يبين عسر اكتساب ملكة العربية لا تعذره، والمشقة لا الاستحالة؛ فإنه لو استحال تكوين ملكة العربية مع سبق ملكة العامية لما وقع لأحد. وكيف وقد وقع للكثير من رجال اللغة والأدب؟ حقاً إن هذا دليل على التعسر لا على التعذر بدليل أننا نجد خلافه من نفوسنا وخلطائنا؛ فكثير منا قد سبقت إليه في صباه ملكة العامية، ثم عنى بكسب ملكة اللغة العربية بالحفظ والمرانة فاكتسبها، ولم تمنعه الملكة السابقة أن يكتسب الملكة اللاحقة؛ بل إني لأزعم أنه لا يكتب الكتاب، ولا يشعر الشعراء، ولا يخطب الخطباء باللغة العربية إلا بفضل الملكة التي اكتسبوها من القراء والحفظ والاعتياد والتي قاومت ملكات العامية في نفوسهم فغلبتها وظهرت عليها لا بفضل القواعد وحدها
لقد قام الدليل على أن لا سبيل إلى اكتساب اللغة إلا هذا السبيل وهو أن اللغة ملكة والملكة لا تكتسب إلا بالتكرار، فإذا تعين هذا السبيل بالدليل فلا معنى لتصيد الشبه من هنا ومن هنا للهروب مما أوجبه الدليل وعينته الحجة. وهل توقفت المدارس الأجنبية عن تعليم تلاميذها لغة غير لغتهم بطريق الحفظ والحديث بحجة أن لغتهم صارت ملكة فيهم فلا يمكن أن يكتسبوا ملكة لغة أخرى. والواقع أن من الناس من يجيد لغات كثيرة وكلها ملكات فيه، وقد اكتسبها بطريق المحادثة والحفظ، ولم تزاحم ملكة لغة ملكة لغة أخرى عنده، وإن كانت ملكة بعض اللغات عنده أقوى من بعض فذلك لا يعنينا لأننا في أصل تحصيل الملكة لا في جودتها والمفاضلة بين الملكات بعضها وبعض. إن علماء الأخلاق قد جزموا بإمكان تغيير الأخلاق وقالوا إنه يمكن أن يكون الجبان شجاعاً، والبخيل كريماً والشره عفيفاً، والأخلاق ملكات والخلق الذميم تحريف للخلق الفاضل، ورأوا أن التكرار كفيل بالتغيير، وما على الجبان إلا أن يتشجع ويعمل أعمال الشجعان، وما على البخيل إلا أن يتسخى ويعمل أعمال الأسخياء، ليكتسب الخلق الجديد، ويتخلى عن الخلق القديم
فإذا كانوا قد جزموا بذلك في الأخلاق غير متحفظين ولا مترددين فما أحرانا أن نجزم به في اللغة ولا نتحفظ ولا نتردد
وليس ما يتصيدونه من شبه مما يشفع لنا أن نترك الطريق الطبيعي لتعليم اللغة ونسلك(538/20)
طريقاً غير طبيعي في تعليمها
على أننا قد أخذنا بالحيطة والحزم، فلم نمنع القواعد إلا في الأقسام الأولية والابتدائية فجعلنا التعليم فيها بالحفظ والمحادثة فقط، أما في مرحلة التعليم الثانوي وفي مرحلة التعليم العالي فقد جمعنا بين الطريقين، طريق القواعد وطريق الحفظ، فإن لم يزدها قوة فليس يزيدها ضعفاً، وهذا ريثما يبين للناس بالتجربة صلاحية الطريقة الجديدة لتعليم اللغة، فإذا بان صلاحها رفعنا القواعد إلا من التعليم العالي ومن المعاهد التي تعد معلم اللغة العربية
إن ما يقال من الصعاب التي تعترض من يريد تكوين ملكة اللغة العربية، والتي تدفع بعض الناس إلى أن يظنوا أنها تجعل اكتساب هذه الملكة متعذراً ومحالاً إنما هو منبهة على مواضع العقاب في تحصيلها، وليس من المحال التغلب على شتى هذه العقاب والصعاب. فلنتلاف منها ما يمكن ملافاته، ولنبق للزمن ما عليه أن يتمه، وما دمنا نبذل الجهد المضني والزمن الكثير الذي هو رأس مالنا في تعلم العربية فعلينا أن نزيل من معوقات هذه الملكة كل ما تمكن إزالته، وإلا كنا نهدم باليسار ما نشيده باليمين
علينا أن نجعل أغانينا باللغة العربية ولا نسمح للغة العامية أن تكون لغة الغناء ما دام ذلك يعوق ملكة العربية ونحن نبذل الجهد والمال في اكتسابها، ولا يصح أن نتناقض في أفعالنا
علينا أن نجعل روايات المسرح باللغة العربية ولا نسمح للعامية أن تحتل المسرح لأن ذلك يعوق ملكة العربية فينا، ونحن قد ملأنا برامج تعليمنا باللغة العربية لنتعلمها، ولا نحب أن نكون كذلك الممثل الذي ظهر على المسرح وبيده اليمنى أوراق، وبيده اليسرى أوراق، فقيل له ما بيدك اليمنى؟ فقال قوانين. قيل له وما بيدك اليسرى؟ قال نسخ هذه القوانين
علينا أن نحتم أن تكون لغة المجلات هي اللغة العربية ولا نسمح للعامية أن تحتل مكاناً فيها للعلة نفسها، وهكذا الشأن في الإذاعة وفي الصحافة
وإذا كنا إذا بنينا بناء وشيدناه، وبذلنا المال في تشيده لا نسمح لغيرنا أن يهدمه، فحري بنا ونحن نبني ملكة اللغة العربية فينا، وننفق في سبيلها كرائم أموالنا، وزهرة شبابنا، وأعز جهودنا ألا نسمح للمسارح ودور التمثيل والمغنين والمغنيات أن يهدموا ما نبنيه
وعلينا أن نبكر في تلقين التلاميذ نماذج من المحفوظات العربية، وقد سهلت مدارس رياض الأطفال علينا هذه المهمة، فالتلاميذ يذهبون إليها في سن مبكرة، فعلينا نحن أن نبتهل هذه(538/21)
الفرصة فنعطيهم نماذج يحفظونها تناسب عقولهم، ولا تنبو عن إفهامهم، ما دامت الملكة السابقة لها القوة والسيطرة والغلبة
لقد غالى بعضهم وزعم أن تكوين ملكة عربية أسهل على الإنجليزي والفرنسي منها على من سبقت له ملكة العامية، وذلك مبالغة في اليأس والقنوط
إن العامية لا يمكن أن تقف في طريق تكوين ملكة العربية، بل إني أرى أنها عون على اللغة العربية، فمن السهل على من عرف العامية أن يتعلم اللغة العربية وتكون عونا له عليها، وتطيعه ملكة اللغة العربية بأيسر وأسهل مما تطيع من لا يعرفها ولا يتكلم بها كالإنجليزي والفرنسي، لأن معرفة العامية تعلم الكثير من العربية فتعلم كثيراً من مفرداتها كالأرض والسماء والسحاب والماء والثرى والهواء، تعلم كثيراً من أساليبها وتراكيبها، والنقص الذي دخل على ملكاته من تحريف العامية شيء سهل يمكن ملافاته إذا سار في الطريق المستقيم عكس من لم يعرف شيئاً من العامية، فبدأ في تعلم العربية من جديد كلمة كلمة، وحرفا حرفا، وأسلوباً أسلوبا، ونظماً نظما
قد بلغنا في نصرة الأسلوب الجديد في تعليم اللغة العربية المبلغ الذي وسعه الجهد، وإن كان قليلا، وبلغه الوسع وأن كان ضئيلاً، ولم نترك حجة تفيد نصرته إلا تتبعناها، ولا شبهة تدل على خلافة إلا أفسدناها. ولم يبق للمهيمنين على تعليم اللغة العربية في وزارة المعارف وفي الجامعة وفي الأزهر عذر في أن ألا يصطنعوا هذا الأسلوب؛ فقد وضح الحق، وانخذل الباطل، ولم يبقى عذراً لمعتذر
محمد عرفة(538/22)
بمناسبة العتاب اللبناني
الأخوة الأدبية بين البلاد العربية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كنت دعوت في البريد الأدبي للرسالة الأديب اللبناني (إلياس أبو شبكة) إلى رسم لوحة أدبية للشاعر اللبناني المعاصر نجيب إليان بمناسبة نجاحه في مسابقة الشعر العربي التي نظمتها محطة الإذاعة اللاسلكية في لندن. ولقد خصصت بالدعوة الأستاذ (أبو شبكة) لأنني أعرف من ريشته الفاتنة في تصوير الأشخاص ما لا يعرف الكثيرون. ولأن هذه المعرفة جاءتني من طريق كتاب له عنوانه (الرسوم) صور فيه طائفة من أدباء لبنان تصويراً يبرز التفاصيل على أصولها ويخرج الدقائق إخراجاً لا يخطئ كما لا تخطئ العدسة الطيبة في إخراج التفاصيل
وما عرفت (أبو شبكة) معرفة الجسم ولا مرأى العين، ولكنني عرفته من كتابه (الرسوم) ومن ديوانه (أفاعي الفردوس) الذي تفضل فأهداه إلي بتوقيعه الكريم في سنة 1938. ومن حينها انعقد بيننا ود روحي أكدته قراءتي له ومتابعتي لآثاره في صحف لبنان التي تحملها الأقدار السعيدة إلي
وما كنت أظن وأنا أقترح عليه هذا المقترح أن في صدره أموراً طوى كشحه على مستكناتها، وأن في نفسه كلاماً يريد أن يقوله؛ فإذا به في العدد 290 من مجلة (الجمهور) اللبنانية يرد علي رداً ينكر به قديم ودنا ويتجاهل (سامحه الله) (محمد عبد الغني حسن موقع القسم الأول من البريد الأدبي في الجزء ال 528 من الرسالة)
وإذا كان الأخ قد نسى ودي فأنا أجد من حقي عليه أن أذكره بتقدمة الإهداء التي كتبها على (أفاعي الفردوس)، حين أهداه إلي من لبنان البعيد
وفي رد أبي شبكة عتاب على الرسالة خاصة وعلى الصحافة المصرية عامة. ولكنه عتاب شديد مشى فيه صاحبه إلينا بالسيوف كما مشى الشاعر قبله إلى الملك الجبار حين صعر خده! ولكنه عتاب حبيب إلى النفس، لأنه عتاب الأخ الكريم والجار الجنب؛ ولأن فيه صراحة لأنه من شاعر لا يحب الكذب ولا المواربة، ولا يخرج الخبيث من القصد بصورة المجاملة أو اللياقة أو المرونة(538/23)
ويظهر لي أن العدسة الطيبة التي اختص الله بها الشاعر (إلياس أبو شبكة) قد استحالت إلى عدسة مكبرة مهولة تخلق القباب من الحبوب، وتجعل الجبال من النمال! فهو يثور على صحافة مصر في غير موضع للثورة، ويعتب على أدباء مصر في غير محل للعتاب، ويتهم الصحافة المصرية إجمالاً بإهمال الحركة الأدبية القائمة فيما يلي مصر من الأقطار العربية وخاصة لبنان. ويتهم الأستاذ أحمد حسن الزيات بالتعصب، ولكنه يجله ويقدر أدبه ويعرف مكانته هو وجميع أدباء لبنان (الذين لا يعرفون للأدب حدوداً ولا يقررون له مناطق)
وبالطبع لم تمر كلمة الأستاذ أبي شبكة من غير رد أو تعقيب. وكان أسبقنا إلى الكلام الأستاذ إبراهيم المازني في عدد 12 سبتمبر من البلاغ. وثنى الدكتور زكي مبارك بكلمة في العدد 533 من الرسالة اعترف فيها بإغفال المجلات المصرية للحركة الأدبية في لبنان وغيره من الأقطار العربية؛ ولكنه رد ذلك إلى إغفال عام للحركة الأدبية في مصر ذاتها. وهذا كلام في جملته صحيح ولكنه يحتاج إلى بعض التصحيح. . . فالحركة الأدبية في الأقطار العربية عامة ملحوظة في بعض الصحف المصرية (كالمقتطف) التي لا ينفي عنها مصريتها كونها من أصل لبناني. وعجيب جداً أن يتكلم الأستاذ في (لبنانية المقتطف) أو (مصرية الرسالة)؛ وهو كلام لا نحب أن نسمعه لأنه يوجع الآذان والقلوب، ولأنه يفسح المجال لمن يقولون: هذا مصري، وهذا لبناني
وكيف يا أخي أغفلت (الرسالة) وغيرها أدبكم، وأهملت إنتاجكم، وهي تنشر لشكري فيصل وسعيد الأفغاني وعلي الطنطاوي وطه الراوي وإنستاس الكرملي وأحمد صافي النجفي وحسين الظريفي وكوركيس عواد وميخائيل عواد، وفدوى عبد الفتاح طوقان ووداد سكاكيني وغيرهم وكلهم من الأقطار العربية القريبة والنائية؟
ثم ما وجه عتابك أنت بالذات يا أخي وأنت لا تكتب حتى في المجلات المصرية التي يديرها ويشرف عليها - كما تزعم - لبنانيون كالمقتطف والهلال؟ فما رأينا لك فيها من زمان بعيد أثراً، على حين قرأنا لأخينا اللبناني الأستاذ كرم ملحم كرم أخيراً قصة لبنانية رائعة في إحدى المجلات الشهرية
والحق أنك يا أخي أصابك نوع من ركود الإنتاج الأدبي فأخذت تتجنى على صحافة مصر(538/24)
البريئة وأدبائها البرآء. ودليلي على ذلك أن صحافة مصر الأدبية في هذا العام مملوءة بأسماء ميخائيل نعيمة اللبناني وعدنان مردم بك وعبد الوهاب الأمين البغدادي ونقولا زيادة الفلسطيني وأسعد طلس السوري وصلاح اللبكي وزكي المحاسني وخليل هنداوي وصلاح الدين المنجد وراجي الراعي وغيرهم من أدباء الأقطار العربية. فأين اسمك بينهم، وأين جولك في ميادينهم؟
أما كتبكم يا أخي فلم تغفلها الصحافة المصرية جملة ولا الأدباء المصريون. وإلا كنت في هذه الدعوى متجنياً علينا كعادتك. ففي مجلة مصرية شهرية باب للمكتبة العربية لا يفلت منه كتاب عربي خرج في سوق الأدب مهما ضؤل حجمه! حتى ديوان (خيوط الغناء) الذي نظمه الشاعر السوري الرقيق عبد الله يوركي حلاق، وكتب مقدمته صديقك كرم ملحم كرم. ولست أريد هنا أن أشق عليك وعلى القراء بالحديث عن نفسي وعن مكتبة مصر شهرية. فما أسمج أن يتحدث المرء عن نفسه!
على أن الصحف المصرية نفسها قد تسكت عما يصدر في مصر نفسها من الآثار الأدبية - كما قال ذلك بحق الدكتور زكي مبارك في رده عليك - فإن سلسلة (اقرأ) لم تظفر من (الرسالة) بكلمة واحدة على طرافة ما كتب في تلك وجدته. وخاصة تلك (الدجاجة الفلسطينية) التي وجدنا من حديثها عقلاً وعجباً.
وقد تلاحظ يا أخي رواج كتبنا في بلادكم وإملاق بلدنا من كتبكم. وتلك حقيقة يا أخي لا نحمل نحن مسئولية التقصير فيها. ولعل لتجار الكتب وموزعيها يداً في ذلك، فنحن قد تحفى أقدامنا في السؤال عن كتاب طبع في الشام فلا نجد له أثراً؛ حتى كتب الكبار من أدبائكم. فإن (ملوك العرب) لأمين الريحاني لم أجده في مصر إلى أن أهدانيه مؤلفه وحمله صديقي المرحوم الفريد الجميل. وكانت لنا مشاركة في مجلة المكشوف - حيا الله صاحبها - فلم نستطع الحصول عليها من مكتبات مصر. حتى كتابك الرسوم لم أعثر على نسخة منه إلا بقدر سعيد. . . ولولا هداياكم المتوالية ما عمرت مكتباتنا الخاصة بكتبكم التي نقرأها ونجلها
على أن المعاتبة بينكم لا تحملك يا أخي على أن تسكت عن دعوة دعوتك إليها في موضوع الكتابة عن الشاعر اللبناني نجيب إليان. فاكتب عنه في أية صحيفة شئت؛ وأرسمه في أية(538/25)
مجلة أردت، ولكن لا تنس أنك أسأت الظن (بالرسالة) التي لا ينكر فضلها في تمكين الروابط العربية إلا غير منصف. وحاشاك أن تكونه والسلام.
محمد عبد الغني حسن(538/26)
6 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
لم يرد في القرآن الكريم نص صريح يحرم استعمال الذهب والفضة والحرير، وجميع الآيات التي تتعلق بهذه الأشياء إنما تشير إلى أنها مما يستمتع به المتقون يوم القيامة عندما يسكنون الجنة ويلبسون الحرير ويتحلون بأساور من ذهب وفضة ولكن ورد في كتب السنة أحاديث عدة تنظم استعمال هذه الأشياء. بعضها يحرمها وبعضها يحللها بحسب الظروف المختلفة. والملحوظ في التحريم على كل حال هو الرغبة الصادقة في الحيلولة بين الرجال وبين الانغماس في النعيم، حتى يظلوا متمسكين بعادات البداوة والخشونة لا يفقدون شجاعتهم وحميتهم. ولقد كان في تلك الإباحة وهذا التحديد أو التحريم غنم كبير للفنون الجميلة يتجلى لنا فيما أبتدعه المسلمون من المنسوجات ومن الحلي والأواني
أما الحرير فله في تاريخ الحضارة قصة شيقة ساهم المسلمون فيها بأوفى نصيب، فقد كان إنتاجه سراً مغلقاً لا يملك مفتاحه غير الصينيين. واستطاع الإمبراطور جستنيان في سنة 556 م أن. يقف على هذا السر، وأصبحت بيزنطة منذ ذلك التاريخ من أهم مراكز إنتاج الحرير ونسجه. واقتصر استعمال المنسوجات الحريرية في أول الأمر على النساء؛ ولكن رجال الدولة الرومانية اتخذوا ملابسهم من الحرير. وعندما ظهر الدين المسيحي ورأى رجال الكنيسة أن في استعمال هذه الملابس ترفاً لا يقره الدين ولا سيما وقد كانت أثمان هذه الملابس مرتفعة إلى حد بعيد انبروا لمقاومة انتشارها وأعلنوا حرباً شعواء عليها، ولكنهم فشلوا في حملتهم، وتغلبت روح الترف على الناس فأقبلوا على اقتنائها. وجاء الإسلام فلم يشأ أن يقف جامداً أمام هذه المشكلة، بل نظم استعمال الملابس الحريرية تنظيماً كان له أبعد الأثر في الفن، إذ وردت في كتب السنة أحاديث عدة أباحت الحرير للنساء إطلاقاً من غير قيد ولا شرط، وحرمته على الرجال إلا لضرورة. أو كان الثوب مشتملاً على قدر إصبعين أو أربع أصابع من الحرير. وعلى أساس هذه الإباحة ازدهرت طريقة الزخرفة المسماة بالتابستري وكانت المنسوجات التي تزين بهذه الطريقة تنسج بالطريقة العادية للنسيج أي تقاطع خيوط اللحمة بخيوط السدي حتى إذا وصل النساج إلى النقطة المراد زخرفتها أوقف عملية الحشو بخيوط اللحمة وأخذ في عمل الزخرفة بخيوط من(538/27)
الحرير المختلفة الألوان فترى الثوب وقد ازدان بشريط من الحرير يتضمن زخرفة مدهشة تدل دلالة واضحة على مدى ما بلغه المسلمون من الخبرة الواسعة بالأوضاع الزخرفية والأساليب الفنية والمقدرة الفائقة على اختيار الألوان، حتى أن الإنسان لا يدري أموضع السحر في هذه المنسوجات دقة الزخرفة أم التناسق بين الألوان أم جمال الحرير وقد نسجه وسط الكتان؟ ولقد كانت هذه الطريقة متمشية مع ما أقره الفقه الإسلامي، وإن كان الفاطميون قد تسامحوا فيها في أواخر عصرهم فزادوا في مساحة أشرطة الزخرفة المنسوجة من الحرير عن النسبة المقررة شرعاً
وفي ظل الإباحة المطلقة للنساء تقدمت صناعة نسج الحرير وراجت رواجاً عظيماً، وأصبح في متناول معظم الناس بعد أن كان قاصراً على الحكام والأمراء قبل الإسلام، وتسلم المسلمون زعامة تجارته في العصور الوسطى، وكان لهم فضل إدخاله في صقلية والأندلس
أما الحلي المصنوعة من الذهب فقد نشط الصناع المسلمون في صياغتها، وتفننوا في صنعها، وأتوا فيها بالبدع المدهش، والأمثلة القليلة التي عثر عليها في أطلال الفسطاط - أقدم العواصم الإسلامية في مصر - من خواتم وأساور وأقراط خير دليل على ذلك. ولولا أن الحلي الذهبية من الأشياء التي تصهر ويعاد صنعها في العصور المختلفة لوصلت إلينا نماذج كثيرة تكشف عن مهارة المسلمين في هذه الناحية
أما اتخاذ الأواني من الذهب والفضة فقد حرم بنص الأحاديث المختلفة، ولكن هذا التحريم كان في الواقع سبباً مباشراً في اهتداء الفنان المسلم إلى طريقة استطاع أن يوفر بها للأواني الخزفية جمال الذهب وبريقه فتوصله إلى صنع الخزف ذي البريق المعدني. ولحسن الحظ قد وصلت إلينا من هذا الخزف أمثلة كثيرة تسابق إلى اقتنائها المتاحف والهواة في الشرق وفي الغرب. وفي الحق أن هذه الأمثلة قد امتزجت فيها دقة الصانع بعبقرية الفنان فأبدعا معاً هذه التحف التي يستمتع الآكل فيها بجمال الذهب ورونقه ويرتاح ضميره - إن كان مسلماً متمسكاً بالدين - إلى إتباع أحكام الدين وطاعته
هذا وقد اهتدى المسلمون تحت ضغط هذا التحريم إلى طريقة تطعيم أواني النحاس بالذهب والفضة فجعل من الأواني المنزلة بالذهب وبالفضة أو بهما معاً تحفاً رائعة لها من الجمال(538/28)
الفني والذوق السامي ما تتضاءل بجانبه الأواني المتخذة من الذهب الخالص أو الفضة الخالصة.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية(538/29)
وحي القرآن
للأستاذ محمود أبو رية
كتب الأستاذ محمود البشبيشي كلمة في العدد (534) من الرسالة جعلها رداً على سؤالنا الذي وجهناه من قبل إلى أئمة الدين والعلماء المحققين لكي يبلغوا لنا رأيهم في أمر وحي القرآن باللفظ، وكأنه حسب أن هذا الرد فيه بلاغ للناس وجواب عما سألنا
يقول الأستاذ (إن موضوع الوحي من القضايا التي فصلت فيها الأيام منذ عهد الرسالة، وموضوع خلق القرآن أو قدمه من المباحث التي توفر عليها علماء المسلمين في عهد المأمون والواثق (كذا) والمعتصم وما تركوا منها ناحية تحتاج إلى توضيح أو استيفاء)
ونحن إذا كنا لم نعرض بشيء لأمر خلق القرآن فإنا نجيب عن ذلك، أنه لم يكن لوحي القرآن قضية في عهد الرسول وصحابته ومن تبعهم حتى يبحثوا عنها أو يفصلوا فيها، وإنما كانوا يعلمون أن القرآن كتاب منزل يفهمونه ويعملون بما فيه. ولقد كان للسلف مذهب في فهم صفات الله التي وردت في القرآن ولم يكن منها صفة (المتكلم)؛ ذلك أنهم يرونها كما وردت بغير تمثل ولا تعطيل ولا تأويل. وظل الأمر على ذلك إلى أواخر الدولة الأموية حين ظهرت مسألة خلق القرآن، فكان العلماء يتولونها بالجدل والبحث حتى دخلت السياسة فيها زمن المأمون إذ حمل الناس على القول بخلق القرآن، واستمر الأمر على ذلك أيام المعتصم والواثق إلى أن تولى المتوكل فنهى الناس عن الخوض في هذا الأمر. ولما كفت السياسة عن تدخلها عاد البحث إلى العلماء يتناولونه فيما بينهم
وبهذا الذي بيناه ينتفي ما قاله الأستاذ البشبيشي من أن علماء المسلمين في عهد المأمون وما بعده لم يتركوا منه ناحية إلى توضيح أو استيفاء
وقال الأستاذ: (إن سلف العلماء وأئمة الفرق الإسلامية لم يختلفوا - أي كما قلنا نحن - على أن القرآن لفظاً ومعنى كلام الله) وهذا عجب منه لأني لم أقل ذلك ولم أعرض بشيء (لمعنى القرآن) وهذا نص كلامي (ووحي القرآن باللفظ أمر اختلفت فيه الفرق الإسلامية)
وقال (إنما الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة على قدم اللفظ وحدوثه) ونحن نذكر للأستاذ أنه لم يكن ثم خلاف بين هاتين الطائفتين على حدوث الكلام اللفظي وإنما كان خلافهم على (المعنى النفسي)، وأن فرقاً كثيرة قد شجر بينها الخلاف في كلام الله حتى قال ابن تيمية(538/30)
(والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعاً كثيراً والطوائف (الكبار) نحو ست فرق - وأن الناس في كلام الله مضطربون وقد بلغوا فيه إلى سبعة أقوال)
ولقد كان مثار خلاف العلماء في تحقيق كلام الله وحدوثه وقدمه، لأنهم رأوا قياسين متعارضين في النتيجة وهما:
1 - كلام الله صفة له وكل ما هو صفة فقديم، فكلام الله قديم
2 - كلام الله مركب من حروف وأصوات مرتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك فهو حادث، فكلام الله تعالى حادث. من أجل ذلك اضطروا إلى القدح في أحد القياسين ضرورة امتناع حقيقة النقيضين: فذهبت كل طائفة إلى صحة بعض المقدمات والقدح في الأخرى؛ فالأشاعرة والحنابلة ذهبوا إلى صحة القياس الأول، والمعتزلة قدحت في الصغرى منه، والكرامية قدحت في الكبرى. والمعتزلة والكرامية ذهبوا إلى صحة القياس الثاني، والأشاعرة قدحوا في الصغرى منه، والحنابلة قدحوا في الكبرى. وثم آراء متباينة لطوائف أخرى كالكلابية والسالمية وبعض الفلاسفة كابن سينا ومن على رأيهم من المتصوفة والشيعة، وهذا كله غير مذهب السلف الذي أشرنا إليه في أول كلمتنا. ومن يرجع إلى كتب الكلام الكبيرة وكتب الملل والنحل يجد تفصيل هذا الخلاف ومعترك هذا النضال
وقد كان من قول أبي الحسن الأشعري أن كلام الله يطلق إطلاقين، كما هو الشأن في الإنسان، فالإنسان يسمى متكلما باعتبارين، أحدهما بالصوت، والأخرى (بكلام النفس) الذي ليس بصوت ولا حرف)
وقد قال شيخنا الأستاذ الإمام محمد عبده: (ليس النزاع في (الكلام اللفظي فإنه حادث باتفاق)، وإنما النزاع في إثبات (الكلام النفسي))، وأبان أن الأشعري لم يثبت الكلام النفسي إلا لترويح ظواهر النصوص الدالة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن قوله هذا ليس إلا زيادة قول في المسألة من غير فائدة. ثم ناقش ما استندوا إليه في إثبات الكلام النفسي واستشهادهم بقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد الخ. فقال رضى الله عنه: (فليس الكلام لغة أو عرفا ما هو في الفؤاد كما زعموا في قول الشاعر أن الكلام لفي الفؤاد الخ. فالقرائن قائمة على أنه ليس المراد منه الإخبار بأن الكلام هو الصور الخيالية التي يعقبها(538/31)
النطق، بل الإفادة أن كل متكلم فإنما ينطق عن أخلاقه وأحواله الذاتية الكامنة، ولفظه إنما هو دليل على ما انطوى عليه كما يعطيه ذوق الكلام)
وجاء في المقاصد: (خالفنا جميع الفرق في إثبات الكلام النفسي وقالوا لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدالة على المعاني المقصودة، وإن (الكلام النفسي) غير معقول إذ يقيسون ما في نفس الله على ما في نفس الإنسان)
ومما أوضحناه يتبين أن موضوع خلق القرآن لم يكن - كما قال الأستاذ - من القضايا التي فصلت فيها الأيام، ومن أجل ذلك يكون سؤالنا لا يزال قائماً، والإجابة عنه ما برحت ديناً في عنق علمائنا
أما قول الأستاذ إن سؤالنا قد انطوى على شك واضح في (حقيقة وحي القرآن الكريم)، فهذا ما لا أناقشه فيه، لأن هذا السؤال كما يبدو لكل ذي فهم قد وقف عند حد (وحي القرآن باللفظ)، ولم ينفذ إلى ما وراء ذلك. . .
وما دام الأستاذ قد تقدم إلى ميدان هذا البحث وجال فيه بقلمه، فإنا نرجو منه أن يحقق للناس أمر لفظ القرآن، ويبين لهم كيف كان وحيه، وما معنى الكلام النفسي، وإنه لجد عليم؛ بأن البحث في (كلام الله) أمر مقرر في كتب تدرس بالمعاهد الدينية الإسلامية في جميع أقطار الأرض، وقد قالوا إنهم قد سموا علم العقائد (بعلم الكلام)، لأن أشهر مسألة وقع فيها الخلاف بين علماء القرون الأولى هي كلام الله المتلو، أهو حادث أم قديم؟
هذا ما نرجو منه، فإن لم يفعل فليقف في جانبنا وليستمع معنا ما يتفضل به أهل الذكر علينا
وما دام الأمر بعيداً عن عالم الغيب وعن أصل الوحي فإن البحث يقتضيه، وأنه لا ضرر من إثارته وتمحيصه ما دامت السياسة لا تعرض له ولا تتدخل فيه.
(المنصورة)
محمود أبو رية(538/32)
نداء الخريف
تعاليْ. أوشكت أيامنا تنفدْ
تعاليْ. أوشكت أنفاسنا تبردْ
بلا أمل، ولا لقيا، ولا موعدْ
تعاليْ. هذه الأيام لا ترجعْ
ولا تصغي لنا الدنيا ولا تسمعْ
ولا تجدي شكاة الدهر أو تنفعْ
كلانا ضائع في الكون مفقودُ
فلا هدفٌ له في الأرض مشهودُ
ولا أمل له في الغيب موعودُ
ألا ما أحمق اثنين غريبين!
إذا عاشا - مع الحب - فريدين!
وهذا الكون لا يدري الشريدين!
نعم قد أدمت الأشواك قلبينا
وسدت هذه الدنيا طريقينا
ولكن أين ماضي حبنا أينا؟
تعاليْ نحي بالأشواق ماضِينا
ونبعث في حمى الحب ليالينا
فهذا الحب إذ تحييه يحيينا
تعاليْ لم يعد في العمر متسعُ
تعاليْ لم يعد في الكون منتجعُ
وغولُ الدهرِ لا يبقى ولا يدعُ
تعالي. نحن بعثرنا السويعاتِ
وضحينا بأيام عزيزاتِ
فيا أختاه يكفينا حماقاتِ
أجل يا أختُ ما قد ضاع يكفينا(538/33)
فعودي. هاهو العش ينادينا
فلا نخربه يا أختُ بأيدينا
ربيع العمر يا أختاه قد مرّا
فلم نطعمه أو نغنم به ذخرا
وما عاد لنا منه سوى الذكرى
فلا نخسرْ هزيعين من العمر
فدفء العش قد يجدي لدي القر
وروح الحب قد يحيي لدي القبر
ويا أختاه زاد العش يغذونا
فإن الزاد قد قل بأيدينا
وجذب العمر يا أختاه يؤذينا
تعالي مقطع الباقي من العمر
رفيقين على الخير على الشر
حليفين على اليسر على العسر
تعالي أوشكت أيامنا تنفد
تعالي أوشكت أيامنا تبرد
بلا أمل ولا لقيا ولا موعد
(حلوان)
سيد قطب(538/34)
وداع المصيف
مرت عهود المصيفِ ... وكل شيء يمرُّ
مضت بكلَ طريفِ ... من الحياة يسرّ
نعم وراحت سريعة ... أيامه والليالي
وبات عرس الطبيعة ... من ذكريات الخيال
الصبح فيه حبيبٌ ... يفيض بالبشر فيضا
والليل ساج طروب ... كم سر نفساً وأرضى
بحر من الحسن طامي ... في البحر يخفى ويظهر
يروي به كل ظامي ... إلى الجمال ويسكر
وبسمة ونسيم ... في حيثما حل ناظر
يا حسنها لو تقسم ... تلك الرؤى والمناظر
يا بحر جئناك نسعى ... وفي القلوب نضوبُ
فراقنا فيك مرعى ... من الحياة خصيب
دنيا من الصيف تاهت ... على الربيع دلالا
أزهارها النضر فاقت ... نور الرياض جمالا
طفقت أرسل عينا ... والموج غادٍ وآتى
ورحت أمشي الهوينا ... مجمّعاً ذكرياتي
محُيياً كل حسنِ ... رأيته ومتاع
بنظرة أو بلحن ... يهدي جميل وداعي
قد كنت يا داري أنسى ... معنى جري في جناني
والآن يغمر حسي ... بالحب والتحنان
محمد طاهر الجبلاوي(538/35)
البريد الأدبي
بريد العراق
قيل أن الصداقة كالخمر يزيدها القدم عتقاً إلى عتق، وهذا هو حالي مع أصدقائي في العراق، فما يمر أسبوع بلا بريد يصل من هناك، فأعرف به أخباراً تزيد شوقي إلى إخوان الصفاء، أو تسوق حزناً يعذب الفؤاد، كالذي وقع حين قرأت نعي السيد صالح البدري في جريدة الزمان، رحمه الله وألهم أهله روح الصبر الجميل
هل يعرف الصديق الذي رثى هذا الأديب بكلمة. موجزة في جريدة الزمان أني كنت أحب أن يذكر ترجمة حياته بإطناب؟
لقد سألت آحاداً من العراقيين المقيمين بالقاهرة عن السيد صالح البدري فلم يعرفوه، فأدركت من جديد أن الآذان لا تسمع غير الصوت الضجاج، وقد تفوتها عذوبة الرنين اللطيف
الصلة بيني وبين السيد صالح البدري لم تزد عن تفضله بتشطير قصيدة بغداد، وهي في نظري أقوى الصلات، لأن مجاراة الشاعر للشاعر مساجلة بين روح وروح، فمن واجبي أن أودعه بكلمة ثناء، لا كلمة رثاء، لأن أومن بأن الفكر لا يموت
وهناك أخبار من العراق تمثلها الرسائل الواردة من بغداد والكرخ والبصرة والحلة والموصل والنجف، هي أخبار تشرح الصدر، لأنها تصور وفاء القلوب في تلك البلاد
وهناك رسائل طويت عني، بعد أن كتبت مرة ومرتين ومرات، لأزداد عذاباً إلى عذاب
سنلتقي يا غاضبين ولو بعد حين، وستذوقون ثمرات التجني طائعين أو كارهين
إن الرسائل وصلت، الرسائل التي طويتموها بعد أن كتبتموها، وسأقرأها عليكم يوم التلاقي، وهو بإذن الله قريب
وأنا أيضاً كتبت إليكم رسائل وطويتها عن عمد، فهل وصل إليكم منه شيء؟ بريد القلب هو البريد، ولكني أين من يعرف تناجي القلوب على بعد الديار؟
هل عندكم نية لحضور المؤتمر الطبي في العيد المقبل؟
سأشترك في هذا المؤتمر، وسأصنع مثل الذي صنعت منذ أعوام، فأنتظر في محطة باب الحديد إلى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ومعي الأستاذ عبده حسن الزيات راجياً أن(538/36)
يكون نصيبي منكم في هذه المرة أطيب من ذلك النصيب
تعالوا في العيد، أو في غير العيد، فرؤيتكم هي العيد
زكي مبارك
رد على إيضاح
طالعت اليوم (إيضاح) بقلم الأستاذ القاضي المحامي بمنفلوط المنشور في العدد 537 من مجلة الرسالة الغراء بشأن مقالي المنشور بالعدد 535
ولقد عجبت كيف ينسب إلي قولاً لم أذكره، وله أن يدلني على الصفحة والسطر الذي قلت فيه: (إن الإسلام ينهى الفنان عن ابتداع الصور)
وقد كنت أحب لو تريث قليلاً قبل أن يحكم على عقيدتي في التصوير عند المسلمين، ولا سيما وقد لفت النظر في نفس المقال. الذي يعلق عليه إلى أنني سأتحدث في هذا الموضوع بالذات، وتشاء المصادفات أن يظهر بحثي في هذا الصدد في نفس العدد الذي يظهر فيه هذا الإيضاح، ثم له بعد ذلك أن يناقش رأيي ويصدر حكمه على عقيدتي
ولشد ما كنت أحب له أيضاً - وهو بحكم ثقافته القانونية قد يجلس يوماً ما بين الناس للقضاء - ألا يتسرع في الحكم، ويتعجل في تكوين رأيه في عقيدة شخص قبل أن يقرأ بإمعان ما كتبه، وقبل أن يتوفر له من الأدلة ما يساعده على الحكم عليه، بل لقد بادر فساق رأيه فيما كتبه في سهولة عجيبة دون أن يسنده بالحجة أو الدليل
ولست في حاجة إلى القول بأن رأيي في التصوير عند المسلمين قد أوضحته جلياً - بما وسعني من علم - في هذه المجلة في العدد 537 قبل أن أطلع على (إيضاح) وقد نشر هذا الرأي أيضاً قبل ذلك بنحو خمسة أشهر في مجلة الهلال في البحث الذي عقدته عن (مجموعة رفعة صبري باشا من الصور الإسلامية) في العدد الذي صدر في شهر يونيو سنة 1943
وأظن أن فيما تقدم ما يكفي لكي ينفي المعنى الذي توهمه عني كاتب الإيضاح
محمد عبد العزيز مرزوق
الدقة اللفظية(538/37)
إذا كانت الدقة مستحبة في كل شيء على وجه العموم، فهي مستحبة في التعبير على وجه الخصوص. ولعل أول ما يميز التفكير العلمي الحديث انه تفكير دقيق لا يخلط بين المتشابهات ولا يعمى عن الفروق الصغيرة؛ فالدقة معيار هام في نظر العلم والفلسفة، والخلط مظهر لانعدام الروح العلمية. وقد نص المنهج العلمي على وجوب تحديد المعاني قبل البدء في الموضوع، وإقامة الفوارق بين الألفاظ قبل الشروع في استعمالها. ولكن الدقة اللفظية لا تتهيأ للكاتب إلا إذا أحاط بمعاني الألفاظ إحاطة وافية، فلذا يجدر بنا أن نأتي على ذكر معاني الألفاظ التي كثيراً ما يخلط بينها الناس، قبل أن نطالبهم بأن يفرقوا بينها تفرقة دقيقة محكمة
1 - فالناس كثيراً ما يخلطون بين النفس والروح، وفي هذا يقول التوحيدي: (وقد ظنت العامة وكثير من أشباه الخاصة أن النفس هي الروح، وأنه لا فرق بينهما إلا في اللفظ والتسمية، وهذا ظن مردود، لأن النفس جوهر قائم بنفسه لا حاجة بها إلى ما تقوم به، وما هكذا الروح، فإنها محتاجة إلى مواد البدن وآلاته) ((المقابسات)، 106، ص 372 373) (فالإنسان ليس إنساناً بالروح. بل بالنفس، ولو كان إنساناً بالروح، لم يكن بينه وبين الحمار فرق، بأن كان له روح ولكن لا نفس له. فليس كل ذي روح ذا نفس، ولكن كل ذي نفس ذو روح) ((الإمتاع والمؤانسة) الجزء الثاني ص 113)
2 - وكثيراً ما يخلط الناس أيضاً بين العلم والمعرفة، ولكن التوحيدي يفرق بينهما فيقول إن: (المعرفة أخص بالمحسوسات والمعاني والجزئية، والعلم أخص بالمعقولات والمعاني الكلية، ولهذا يقال في الباري: يعلم، ولا يقال يعرف. . .) (المقابسة 70، ص 272)
3 - ويفرق التوحيدي أيضاً بين لفظين يختلطان في الاستعمال العادي، وهما: الفعل والعمل. (فالفعل يقال على ما ينقضي، والعمل يقال على الآثار التي تثبت في الذوات بعد انقضاء الحركة) (المقابسة 75) ولهذا التفرقة نظير في الفرنسية لأن الفعل يقابل كلمة والعمل يقابل كلمة
4 - ومن الألفاظ التي يخلط بينها خلطاً ظاهراً، ألفاظ المشاركة وهي: المساواة، والمشابهة والمطابقة، والمجانسة، والمشاكلة، والمماثلة. وقد نص ابن سينا في (النجاة) (المقالة الأولى من الإلهيات) على الفروق القائمة بين هذه الألفاظ، فبين أن المساواة اسم المشاركة في(538/38)
الكم، والمشابهة اسم المشاركة في الكيف، والمطابقة اسم المشاركة في الوضع، والمجانسة اسم المشاركة في الجنس، والمشاكلة اسم المشاركة في الإضافة، والمماثلة اسم المشاركة في النوع
هذه بعض الفروق التي (تجب مراعاتها توخياً للدقة في القول، وهي تدلنا على حاجتنا إلى شيء أكثر من الدقة اللفظية، خاصة في بحوثنا العلمية والفلسفية.
زكريا إبراهيم(538/39)
العدد 539 - بتاريخ: 01 - 11 - 1943(/)
حول ما نكتب
للأستاذ عباس محمود العقاد
علقت صحيفة (البورس إجبسيان) على ما كتبناه في موضوع الشيوعية فقالت بعد تلخيص رأينا فيها: (. . . وأن الأستاذ العقاد لينظر إلى الشيوعية في لون قاتم وهي ما زالت على حسب سياسة ستالين في دور الكشف والظهور فلا تعرف على التحقيق إلى أي طريق تسير في تطبيقها العملي بعد تجاربها في السنوات الأخيرة؛ فقد أنشأ نظام الأسرة فيها يتكون ثم المدرسة ثم الأخلاق ثم الاعتراف بتفاوت الدرجات والرجوع أخيراً إلى الدين، وكل هذا معناه أن الشيوعية الحالية ليست إلا اسماً مسمى وإن هي في حقيقتها إلا اشتراكية مستنيرة)
وهذا التعليق في رأينا هو أقرب إلى التأييد والتوكيد، منه إلى المناقضة أو التفنيد
لأن معناه أن ستالين يخالف الشيوعية التي ننكرها ولا يدين بقواعدها التي بسطها كارل ماركس وشرع في تحقيقها لينين
ومعناه من جهة أخرى أن الشيوعية في تطبيقها تخالف الشيوعية في أصولها النظرية، وأنها من أجل ذلك مذهب لا يصلح للتنفيذ في الحياة العملية
وقد اضطر ستالين فعلاً إلى الاعتراف بتفاوت الدرجات والأجور، واضطر إلى التسليم للأسرة ببعض الحقوق وقبول الملكية في وضع من الأوضاع، ثم انتهى خلال الحرب الحاضرة بتعظيم فضيلة الوطنية التي كانت في عرف كارل ماركس وأصحابه لعنة من لعنات الاستغلال، وحيلة من حيل أصحاب الأموال، فهو وأعوانه سمون الحرب الحاضرة بالحرب الوطنية وحرب الدفاع عن الذمار، لأنهم علموا أن اسم الشيوعية وحدها لا يشحذ همة الشعب إلى النضال ولا يغني عن نخوة الوطن والعصبية القومية
فاضطرار الأقطاب الشيوعيين إلى العدول عن بعض قواعدها الأولية يؤيد ما نقول، ولا ينفي أنها مذهب غير معقول ولا مقبول
ولكننا مع هذا ندعو إلى الحذر من تصديق كل ما يروى عن التطبيقات الشيوعية في الوقت الحاضر؛ لأن الوصول إلى حقيقة النظم الروسية اليوم من أصعب الأمور، ولم يسمح قط لرجل مستقل الرأي منزه عن الغرض بالطواف في أرجاء روسيا على حريته(539/1)
بغير رقيب أو دليل، وإذا سمح له بالطواف في المواطن البعيدة عن الأسرار والخفايا، فلا ينقضي أسبوع على معاشرته لفرد من الأفراد أو فئة من الفئات إلا أسرع الحاكمون بتبديله وإحلال آخر أو آخرين في محله، حتى لا تنعقد بين السائحين المستقلين وبين أحد من الروسيين صلات وثيقة تطلق عقال الألسنة وتكشف كوامن الصدور
ولا حاجة بنا بعد هذا وذاك إلى ملاحظات السائحين المستقلين لإدراك هذه الحقائق الغنية عن الدليل، فحسبنا أن حرية الكتابة مكبوحة في روسيا منذ نيف وعشرين سنة لنعلم أن بواطن الأمور غير ظواهرها وأن رعايا الشيوعيين لا يملكون الإفضاء بما في ضمائرهم لأبناء وطنهم فضلاً عن الغرباء الطارقين الذين يحاطون بالرقباء والإدلاء من قريب وبعيد
ولا نزال نذكر الفكاهة التي رويت على لسان الفلاح الروسي حين سمح له بالتحدث إلى العالم الخارجي من محطة الإذاعة العامة على شريطة أن يفوه بكلمة واحدة ولا يزيد عليها فكانت كلمته التي جمعت كل ما أراد الإفضاء به إلى العالم الإنساني كله هي: (النجدة!) ولاذ بعدها بصمت الأموات
فحسبنا أن المذهب في أصول النظرية غير معقول وأن أقطابه لا يقدرون على تطبيقه إلا بعد الانحراف عنه والتعديل فيه، وأن الأقوال التي تصل عنه إلى العالم الخارجي لا تخلو من حجر ورقابة، وهذه كلها حقائق متفق عليها حسبنا كما قلنا أن نعلمها لنعلم أن الحذر من تصديق ما يقال هو أقل ما تقابل به تلك الأقوال
وليست كل التعليقات جداً كهذا التعليق الذي ألمعنا إليه من كلام (البورس إجبسيان)
فهناك تعليقات الأوشاب!
وهناك تعليقات عبيد المعدة!
وهناك تعليقات الماديين الذين يفسرون كل شيء بالماديات!
والأوشاب وعبيد المعدة والماديون هي كلمات مرادفة لكلمة الشيوعيين باعتراف هؤلاء الشيوعيين الفخورين!
وهؤلاء - أو أذناب هؤلاء - يقولون إنني لا أكره الشيوعية ولا أكتب ما أكتب عنها إلا لأنني قبضت من أعدائها خمسة آلاف جنيه للتشهير بها في بضع مقالات
ولكني أكتب ما أكتب اليوم عن الشيوعية منذ كانت الشيوعية، أو منذ عشرين سنة على(539/2)
التقريب
وأكتب عن جميع المذاهب التي تناقض الديمقراطية كما كتبت عن الشيوعية والشيوعيين
فما تفسير ذلك يا ترى؟ ولم لا تكون الكراهة هنا كراهة رأي ما دامت مطردة في جميع الأوقات وعلى جميع المذاهب وبين جميع الأحوال؟
كلا. لا يمكن أن يفسر كلام إنسان بالرأي والعقيدة في عرف الأوشاب وعبيد المعدة والمفسرين للتاريخ كله بالماديات
أفي الدنيا إنسان يحارب رأياً لأنه يؤمن ببطلانه؟ كيف يكون هذا؟ وكيف يكون الإنسان عبداً للمعدة إذن ويكون الرأي محور أقواله ومثار خصوماته؟
هذا مناقض (للمذهب) في الصميم
وهو كذلك مناقض (للخطط الحربية) التي أوصى بها ماركس أتباعه علانية ولم يتورع أن يزينها لهم في منشوراته على مسمع من الدنيا بأسرها؛ فهو القائل إن تشويه كل ديمقراطي حسن السمعة واجب مفروض على الدعاة، وهو الذي سن لهم هذه السنة حين أشاع أن (باكونين) جاسوس للروس والنمسويين وهو يعلم أنه لطريدة الروس والنمسويين!
ومن عقائدهم التي لا يخفونها أن (الحق) المطلق خرافة ليس لها وجود، وأن ما يسمى حقاً إنما هو جملة المصالح التي تنتفع بها الطبقة الغالبة في أمة من الأمم، وأن الكذب العمد على هذه الخدمة (الطبقة) أمر مشروع بل واجب مشكور
فلا عجب إذن أن يقرفني الأوشاب عبيد المعدة بما يعهدون في أنفسهم وفي عقائدهم من الخلائق والأدناس
بل عندي أنهم حيوني أكبر تحية في مقدورهم حين رفعوا سعر الرشوة التي أرشاها إلى خمسة آلاف من الجنيهات أجراً مقدوراً لبعض مقالات
نعم هي أكبر التحيات التي يملكونها وهم يعلمون أن سعرهم جميعاً وأجور مجهوداتهم جميعاً منذ خدموا الشيوعية إلى أن تستغني الشيوعية عن خدمتهم لن يقارب خمس هذه الآلاف
فلهم علي تحيتهم المغصوبة شكر بلائهم
ولهم فوق ذلك تبرع آخر ينتفعون به في كل لحظة إن وجد السبيل إليه(539/3)
فإنني لمتبرع لهم بهذه الآلاف الخمسة حيثما وجدوها في مصرف أو بيت أو ثمناً لعقار أو بضاعة أو إسناد تشترى وتباع
وحيثما وجدوا ذلك المال فليكتبوا إلى صاحب الرسالة بموضوعه، ولهم أن أتبع كتابتهم بعد يوم واحد بتحويل صريح يخولهم قبضه حلالاً مباحاً وفاقاً لكل شرط يقترحونه من شروط القانون
وليدعوا لي بالخير إذن كما يدعون للرفقاء أجمعين، فإنني سأعطيهم إن صدقوا ما لم يأخذوه - ولن يأخذوه - من رفيق!
وندع هذه الأضاحيك ونعود إلى الموضوع (المؤلفين والمقترحين) الذين كتبنا عنه في الرسالة مقالنا الأخير
فقد وردتني في هذا الموضوع رسائل شتى من مؤيدين ومناقشين، وخير ما وردني من رسائل التأييد رسالتان إحداهما يقول صاحبها (ا. زين العابدين): إن كل نسخة من كتاب يقتنيها قارئ مثقف هي رد مطول على أصحاب المقترحات على قلتهم، وإن كانوا من ذوي الثقافة والاطلاع
والأخرى يقول صاحبها (محمد عبد الهادي): إن رضى المؤلف عما كتب لقرائه هو العزاء الذي يرجح بكل جزاء ويغنيه حتى عن الإعجاب والثناء
وراقني فحوى هذه الرسالة على التخصص لأنني تلقيتها من محض المصادفة في بريد واحد مع مجلة (ورلد ديجست) الإنجليزية وفي صدرها خطاب معاد لمستر شرشل يتكلم فيه عن (غبطة المؤلفين) ويجعلها - كما يجعل كل غبطة من نوعها - عليا المطامح التي ترتقي إليها آمال الناس من هذه الحياة
فليس في الدنيا - كما يقول - سعادة أسعد من نجاحك في التوفيق بين موضوع عملك وموضوع سرورك، أو من اتخاذك العمل سبيلا من سبل الرياضة والرضاء، وهو يسأل ويطيل في سؤاله بما خلاصته:
ماذا يعنيك مما يحدث وراء الأفق الذي نعيش فيه بعملك وسرورك؟ ليصنع مجلس النواب ما بدا له، وليصنع معه مجلس اللوردات مثل هذا الصنيع، ولتضطرب الأسواق، وليثر من يثور، فلا ضير عليك وأنت منزو في تلك الساعات القلائل عن عالم يساء حكمه أو يساء(539/4)
نظامه
ثم ينتقل إلى الحديث عن الحرية والتأليف فيرى أن أداة التأليف هي أخف الأدوات مئونة وأقلها كلفة لأنها قلم وصفحات من الورق، وإن أبقى شيء يبقى من وراء أسداد الزمان والمكان هو الكلمات
قل إنه عزاء للمؤلفين يخلقونه من الخيال أو يخلق لهم من وقائع الأيام؛ فالمهم أنه قد خلق وأنه قد نزل من نفوسهم منزل العزاء الصحيح
عباس محمود العقاد(539/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الزواج بعد العشق - من هذه المحامية الحسناء؟ - قيمة
الصدق - بين الأدب والحياة - جزئيات! - سؤر الحديث
الزواج بعد العشق
في أحوال كثيرة ينتهي الزواج بعد العشق إلى الانفصال، ثم إلى العداء، بحيث لا يحب أحد الزوجين المنفصلين أن يسمع خبراً عن صاحبه في أي معرض من معارض الحديث. . . فما تعليل هذه الظاهرة وهي من الغرابة بمكان؟
كان المنتظر أن يكون الزواج المنبعث عن العشق أقوى وأمتن وأبقى من سائر أنواع الزواج، ولكن النتيجة تخالف ما انتظرناه، وتشهد بأن العشق يكون أحياناً من أسباب الطلاق. . . فما تعليل هذه الظاهرة، وقد قلت إنها من الغرابة بمكان؟
يجب أولاً أن تعرف موجبات العشق، لنرى كيف يمكن أن يصبح من منغصات الزواج، في أكثر الأحايين، فما تلك الموجبات؟
يخطئ من يقول إن العشق اتصال روح بروح، بغض النظر عما يساور حياة العاشقين الاختلاف الطارئ، وهو الاختلاف الذي تخلقه ظروف المعاش، وهي ظروف تتجدد في كل يوم بأشكال وألوان
أساس العشق أن يكون المعشوق صورة مثالية، صورة يراها العاشق نهاية النهايات في الجمال والجلال، صورة منزهة من كل ما يغض من نظارة الجسم وحلاوة الروح
ونحن نعرف أن العاشق لا يرى معشوقته ولا تراه إلا بعد تأهب وتهيؤ واستعداد، فيكون كل لقاء شبيهاً باللقاء المنشود في ليلة العرس، وتكون الأنفاس في حرارة محرقة لا يخمدها التلاقي، وتلاقي العشاق أقصر من طيف الخيال
وهذا البناء ينهدم حين يصبح العاشقان زوجين، ينهدم بسرعة، لأن المرأة لا تتجمل للزوج كما تتجمل للعاشق، ولأن الرجل لا يغازل الزوجة كما يغازل المعشوقة، وبهذا يضيع ما كان ينتظر الزوجان من سعادة الحياة، حياة العشق الذي لا يكدره فضول الرقباء، وهما لا(539/6)
يدريان أنهما بعد الزواج ينوبان عن الرقباء بالتجسس والسخافة والفضول!
العاشق لا يغفو أبداً، والمعشوقة لا تغفو أبداً، فأيسر انحراف من أحد الزوجين العاشقين يخلق متاعب لا تداوى بغير الفراق
أيكون معنى هذا الكلام أن ننهي عن الزواج بعد العشق؟
لا، فإننا نرجو أن يكون العشق من وسائل الزواج، وإنما ندعو إلى الفهم الصحيح لحياة الزوجية، وهي تختلف عن حياة العشق بعض الاختلاف أو كل الاختلاف
إذا تزاوج العاشقان فقد وجب أن ينتهيا عن دلال الحياة الغرامية، وأن يعرفا أنهما مقبلان على تكاليف ثقال يوجبها نظام البيت ونظام المعاش
الزوج الذي يصابح زوجته ويماسيها لا يطالب بما يطالب به العاشق الذي يلقى معشوقته من أسبوع إلى أسبوع؛ والزوجة في الأصل سكن للزوج، ومزية السكن أنه مأوى صاحبه في أوقات الفرح والترح، ولحظات التفتح والذبول، فمن واجب الزوجة أن تفهم أن الزوج لا يصلح في كل وقت للمطارحات الوجدانية، ولا يستطيع أن يبتسم في جميع الأحوال
إذا فهمت الزوجة المعشوقة هذه الحقيقة أمكنها أن تستريح من متاعب كثيرة، متاعب تخلقها الغيرة السخيفة، فقد ثبت أن الزوجة لا ترد سكوت الزوج عن الملاطفة إلى أسباب من اشتغاله بمتاعب الحياة، وإنما تردها إلى أسباب من اشتغاله بغيرها من النساء. والمرأة لا تدرك أن للرجال متاعب غير الاشتغال بالنساء!
وأنا لا أبتدع هذا الرأي، فقد التفت إليه أقطاب القصص الفرنسي، وعندهم عبارة يضيفونها إلى الزوجة عند معاتبة الزوج في أتفه الشؤون، وهي عبارة: (لم تعد تحبني)
'
وهي عبارة تعاد بحروفها في أكثر الأقاصيص، بحيث جنى عليها التكرار فلم تعد تثير الإحساس، برغم ما يصحبها من التوجع والأنين!
والظاهر أن المرأة تخلفت عن موكب الحياة، فهي لا تزال تنظر إلى النعيم بالعين الحيوانية، ولم تدرك أن النعيم صارت له ألوان من التطلع والتوثب والتسامي إلى مراتب لا تخطر للحيوان في بال
والحق أن الرقي العقلي والروحي والأدبي والمدني، الرقي الذي نقل الإنسانية من حال إلى(539/7)
أحوال بصورة تفوق أحلام القدماء بمراحل طوال طوال، هذا الرقي من صنع الرجال، وليس فيه للمرأة نصيب، وستظل في تأخر إلى الأبد، ما دامت تؤمن بأن النعيم في الحياة الزوجية هو نعيم الحيوان
ضعوا المرأة حيث وضعتها الطبيعة، ولا تدللوها أكثر مما فعلتم، يا أغبياء التمدن الحديث!
من هذه المحامية الحسناء
خصصت مجلة الشعلة صفحة لمقال دبجته إحدى المحاميات في تنفير الفتاة من الزواج، فما حجج تلك المحامية؟
لا حجج ولا براهين، وإنما هو دلال فتاة وجدت فرصة للتنويه بأنها ردت جماعات من الخاطبين، لتنعم بحياة الاستقلال، كأن الزواج عبودية لا ترضى بها غير الفتاة العاجزة عن الاستقلال!
نحن نعرف من سنن الحياة أكثر مما تعرف تلك المتمردة، نحن نعرف أن الفتاة لا تزهد في الزواج إلا إذا كان بها نقص في الحيوية، وهذا النقص يعتري بعض النساء وبعض الرجال، وهو السبب في شيوع العزوبية عند فريق من هذا الجنس أو ذاك، فلا موجب للتباهي بغنى هو أقبح من الإملاق
إن احتياج المرأة إلى الرجل دليل على كمال الأنوثة، كما أن احتياج الرجل إلى المرأة دليل على كمال الرجولة. وتباهي المرأة بزهدها في الرجل لا يقل قبحاً عن تباهي الرجل بزهده في المرأة. وإذا جاز للفتاة الجاهلة أن تقع في مثل هذا التباهي الأحمق، فصدوره عن الفتاة المثقفة إثم فظيع في نظر الطبيعة، والطبيعة تبغض الانحراف
وهنالك بدعة جديدة تمضغها بعض الفتيات، بدعة القول بأن الزواج يحكم على الزوجة بالتبعية للزوج، ونحن في عصر المطالبة بالتحرر والاستقلال!
وهذا كلام في غاية من الضعف، لأن تبعية المرأة للرجل تبعية طبيعية، وهي مجردة كل التجرد من معاني الاستعباد. وسيادة الرجل على المرأة سيادة تشريف، لا سيادة تكليف. وخضوع المرأة للرجل يزيدها جمالاً إلى جمال، ويؤيد رسالتها في تعمير الوجود
كنت ظننت أن تلك المحامية شخصية خرافية، ولكن محرر الشعلة أكد لي أنها شخصية حقيقية، وأني لو رأيتها لفتنتني بجمالها الوهاج(539/8)
وأقول إن الفتاة التي تنفر أترابها من الزواج لا تفتن أحداً، ولو كانت في جمال أفروديت، لأن سحر المرأة يرجع إلى الحيوية في الطبيعة الأنوثية، ولا قيمة للجاه المجلوب، جاه العلم والمال والجمال
جمال المرأة أنها مرأة، وجمال الرجل أنه رجل، فاتركوا هذه الحذلقة، وتجنبوا الجدال في شؤون يفسدها الجدال
قيمة الصدق
الصدق لا يقوم بأي ثمن، لأنه فوق التقويم وفوق التثمين، وما قال قائل في أي زمن أو في أي بلد إن الصدق آذاه بأية صورة من صور الايذاء، وما فاز فائز بغير الصدق، ولا خسر خاسر إلا بسبب مجانبة الصدق، فتدبر هذا القول ثم انظر أين أنت فيما اخترت لنفسك من مذاهب السلوك
إن اقترفت ذنباً فاعترف لتظفر بأول سبب من أسباب النجاة وهو الصدق، وتذكر دائماً أن الكذب لن ينجيك من غضب الله وإن صرف عنك غضب الناس. وأنا مع هذا واثق بأن من يبوء بغضب الله لن ينجو أبداً من طغيان الناس فالله يسلطهم على من يكذبون عليه أشنع تسليط، ليعرف أن الكذب على الله يلاحقه في كل مكان
لا تحوج القضاة إلى شهود، وكن أنت الشاهد على نفسك، فإن فعلت فسيصبح القاضي محامياً عنك، لتمسي وأنت من الناجحين
ومتى تقف أمام القضاء؟
إن الوقوف أمام القضاء الإنساني قد لا يصادفك في حياتك غير مرة أو مرتين على أسوأ الفروض، وقد لا يصادفك أبداً، لأن القضاء الإنساني لا يتعرض لغير من يتبجح بالاحترام، وأنت فيما أفترض تنزه نفسك عن مسايرة المجترمين والمتبجحين.
أنا أخاف عليك غضب المحكمة السماوية، لا لأنها قد تسارع إلى البطش بك، ولكن لأنها قد تملي لك إلى أن تفضح نفسك باقتراف الآثام الغلاظ، من أمثال الزور والبهتان
تعود الصدق مع الله في سرك قبل جهرك، وإن صدقت مع الله فستصدق مع الناس، ستصدق معهم صدق الترفق لا صدق التخوف، وستقضي دهرك وأنت من الأعزاء
لو سلطت إحدى الحكومات على أحد اللصوص ألف رقيب لاستطاع النجاة بأيسر مجهود(539/9)
من التحفظ والاختفاء، ولكن الهرب من غضب الله لن يتيسر، ولو اعتصم الهارب الأثيم بشعاب الجبال
اصدق مع الله لتذوق نعيم الصدق، ولتؤمن بأن كل شيء ما خلا الله باطل وأن رضاه أنفس من جميع الحظوظ
بين الأدب والحياة
كنت اليوم مقسم الفكر بين شجون من الأحاديث لا يتصل بعضها ببعض إلا برباط ضعيف، فأحاديث الصبحية كانت خاصة بمشكلات التعليم، وأحاديث الظهرية كانت تدور حول الزراعة، وأحاديث العصرية كانت حواراً بيني وبين أبنائي في مسائل منوعة الفنون، وأحاديث العشوية دارت في مكان لا تدور فيه الأحاديث إلا ممزوجة بالنجوى الرقيقة بين روح وروح. ثم كان الحديث مع الصديق الذي لقيني مصادفة وأنا راجع إلى داري، وهو حديث لم يطل، فقد انتهى في دقائق، ولكنه ترك في نفسي أشياء!
لو دونت هذه الأحاديث كلها لكانت ثروة أدبية، ثروة حية كل الحياة، لأنها مقبوسة من جمر الحياة، فمتى نجعل الأدب تصويراً لما نرى ونسمع وندرك في اللحظات التي تستيقظ فيها الحواس، أو الأيام التي تكثر فيها التجاريب؟
لو تحدثنا بصراحة عن المشكلات التي تحيط بنا في كل يوم لساد التجاوب المنشود بين القارئ والكاتب، ولأصبح الأدب تعبيراً صحيحاً عن المتاعب التي تساور هذا الجيل
إننا لا نملك الفرار من روح العصر، مهما تعالينا عليه، فلنا صلات يومية مع القصاب والخباز والبقال، ومن إلى هؤلاء من أصحاب الحرف والصناعات، ولنا صلات بمن نراهم في الطريق كل يوم، ولو كانوا في الظاهر من المجاهيل
جزئيات!
هي جزئيات مضحكة في نظر القارئ الذي لا يرى للأدب حياة في غير الحديث عن النجوم والأزهار والرياحين، ولكن لها مغازي تستحق الشرح والتوضيح، وتستأهل اهتمام الأديب الحصيف، وإليك طائفة من هذه الجزئيات
1 - من النادر أن يقدم راكب الترام ثمن التذكرة إلى التذكري بدون أن يحوجه إلى الباقي،(539/10)
ومعنى هذا أن الشخص الذي يركب الترام مرة أو مرتين في اليوم لا يفكر في إعداد ثمن التذكرة، وأنه لا يتأذى من رؤية التذكري وهو يحار في صرف النقود لعشرين أو ثلاثين من لركاب، مع أنه يقوم بهذه المهمة الثقيلة وهو على حافة الترام وفي قلق لا يحتاج إلى بيان
ولو كتبنا مقالة في استهجان هذه المعاملة لوجدنا من ينكر أنها مقالة أدبية، لأنها خلت من الحديث عن الأزهار والنجوم والرياحين
2 - هذا موظف يركب الترام في بدلة نظيفة وإن لم تكن جديدة، لأن العمل في الدواوين يوجب أن تكون الأثواب على جانب من القبول، وهذا عامل يركب الترام وثوبه مزيت، لأن شغله لا يمكنه من تغير الثوب في كل انتقال، وهو مع ذلك يرى من حقه أن يجلس بجانب الموظف غير مبال بما سيصنع ثوبه المزيت. . . هل نكتب مقال في النهي عن هذا الصنف من السلوك؟
وإن فعلنا فسنجد من يقول إننا نجسم الفروق بين الطبقات
3 - هذا فلاح يسئ معاملة المالك، فيأخذ خيرات الأرض، ويترك المالك في حيرة إلى أن يستنجد بالقضاء. . . هل نستطيع تأنيب الفلاح على هذه الألاعيب؟
إن فعلنا فسنجد كتاباً يبكون حظ الفلاحين بدموع التماسيح!
وخلاصة القول أن الأدب لا يحيا كل الحياة إلا إن عبر عما في الصدور تعبيراً يشمل جميع الألوان، ألوان الإحساس بما في الحياة من آلام وآمال، بلا استثناء للجزئيات الصغيرة في الحياة اليومية
سؤر الحديث
السؤر هو البقية، فما بقية هذا الحديث؟
حين أنست القاهرة بزيارة الوفد السوري، الوفد الذي تقبلته مصر بأحسن القبول، تذكرت أن الأستاذ محمد خالد حدثني أن جماعة من أدباء سورية ضاقت صدورهم بأدبي، فاعتزموا إرسال وفد يقنع مجلة الرسالة بوجوب التخفف من مقالاتي!
فمتى يجيء الوفد السوري الجديد؟ متى يجيء فتستريح (الرسالة) وأستريح؟
الحق أني لم أفكر يوماً في ملاطفة قرائي، وهل ألاطف نفسي حتى ألاطف قرائي؟(539/11)
أنا أمشي على الشوك في كل سطر أو في كل حرف، وما يعجبكم أو يغضبكم لا يخطه القلم إلا بعد أن يعتلج في الصدر أياماً وليالي وأسابيع
وما حاجتكم إلى كاتب لطيف لا يكتب في غير ما تحبون؟ ألم تروا كيف تقهرنا الحياة على الاعتصام بالرموز والتلاميح؟
إن الذي يغضبكم مني هو السر فيما بيني وبينكم من جاذبية يعجز عن إخمادها الزمان
زكي مبارك(539/12)
2 - الشعر المرسل والشعر الحر
للأستاذ دريني خشبة
وظيفة الشعر المرسل والشعر الغنائي - الشعر العربي غنائي كله - الأقصوصة القصيرة المنظومة أو ال محاولة التخلص من القافية العربية - تحكم القافية العربية في تفكير شعرائنا - القافية المطردة هي التي حرمتنا من الملاحم والقصص المنظومة - لماذا جدد الأندلسيون - هل مضى زمن الملحمة والدرامة المنظومة.
يجب أن نعرف وظيفة الشعر المرسل قبل أن نقرأه، ويجب أن نعرف أن هذا الضرب من الشعر لا قافية له، لا يمكن أن يستعمل فيما يستعمل فيه الشعر الغنائي الذي لا يمكن أن يستغني عن القافية، لأن القافية هي نصف موسيقاه
والشعر المرسل الذي ابتكره الإيطاليون واقتبسه عنهم شعراء الدول الأوربية، وفي مقدمتهم الشعراء الإنجليز، إنما يستعمل في نظم الملاحم الطوال، والقصص الشعرية، والأبداعية منها على وجه الخصوص، كما يستعمل في الدرامة المنظومة
أما الشعر الغنائي، فيستعمل في القصائد والمقطوعات والموشحات، وذلك لأنها أحوج إلى الجمال الشكلي، والكمال الموسيقي من الملحمة ومن الدرامة ومن القصة الإبداعية وذلك لأنها أيضاً، أو لأن القصيدة أو المقطوعة أو الموشحة منها، عبارة عن خلجات سائبة، يجمع الشاعر أشتاتها لتتم له منها وحدة القصيدة آخر الأمر. فالشاعر الذي يناجي ليلاه، أو يشكو بلواه، أو يبرح به الوجد في خلوته، أو يقدس لله في وحدته، أو يرثي للإنسانية الدامية، ويرى الشمس تبزغ فتغني لها روحه، ويهتف بجمالها لسانه. . . ويرى الزهرة تفتر عن ثغرها الأقحواني فيذكر ثغر معذبته، فيجلس هنيهة ليقول بيتاً أو بيتين، وينظم مقطوعة أو مقطوعتين، وكأنما يذرف عبرة أو عبرتين. . . هذا الشاعر العابر لا بد له أن يتأنى. . . إنه في حاجة ماسة إلى الفن الكامل. إنه لا يستطيع أن يتخلى عن وتر واحد من أوتار قيثاره الخمسة، إنه بحاجة شديدة إلى فتحات نايه الست. . . إنه لن يقدر عن الاستغناء عن مفتاح واحد من مفاتحه السبعة. . . إنه ينبغي أن يقف عند آخر كل بيت، لأن كل بيت إنما يحمل معنى مستقلاً بموسيقاه وإن لم يستقل كل الاستقلال بمعناه. . . إن شعره هو غناء قلبه وترجمان عواطفه، وألحان روحه، وهو إذا رثى أو مدح أو وعظ أو(539/13)
وصف، فهو يتغنى بفضائل المرثي وأفضال الممدوح، ويحبب في الخير ويبغض في الشر، ويردد أصداء الحديقة أو القصر، أو الجبل أو البحر، في نفسه
وكل الشعر العربي شعر غنائي لأن الشعراء العرب لم ينظموا ملحمة ولا قصة ولا درامة. والشعر القصصي الموجود عندنا هو نوع من أنواع ال أو القصة القصيرة الغنائية المنظومة، ونحوها بعض قصائد امرئ القيس والنابغة (في المتجردة مثلاً) والفرزدق (في الذئب وبعض القيان) وقصائد عمر بن ربيعة في غوانيه، وبعض وقائع أبي نواس في غيده وغلمانه، وما تفيض به يتيمة الدهر من حكايات الفضوليين والمخنثين ومن إليهم. . . ويلحق بهذا الضرب ضروب القصص بعض المدائح النبوية التي تعرضت بالشرح إلى معجزات النبي، ولعلها هي التي أوحت في العصر الحديث إلى حافظ وعبد الحليم المصري ومحمود المانسترلي بمنظوماتهم في عمر وأبي بكر وعثمان
ولسنا نعرف في تاريخ الأدب العربي أن أحداً من الشعراء العرب حاول التخلص من القافية أو حاول كتابة الشعر المرسل، على أننا نعتبر الرجز والموشحات والنظم من قافية الألف اللينة محاولة قديمة للتحرر على نطاق ضيق من أسر القوافي، وأقول أسر القوافي، وأنا أعني ما أقول وأقصده لأن هذه القوافي العربية الصارمة هي السبب المباشر في قصر قصائدنا وقصور شعرائنا على السواء، وهي السبب المباشر أيضاً في حرمان الشعر العربي من الملحمة الطويلة ومن القصة المنظومة ومن الدرامة المنظومة ومن الروائع القصصية بجميع أنواعها. . . لقد آن أن نعترف بأن فحول الشعراء العرب كانوا يضطرون، تحت أسر هذه القوافي، إلى استعمال ألفاظ حوشية مهجورة مغربة ما دامت داخلة في باب القافية التي ينظمون منها. ومن المؤلم أن نقرر أن هذه الألفاظ الحوشية المهجورة المغربة كانت تتعاون مع الألفاظ السهلة المستعملة المتداولة في التحكم أحياناً في سير القصيدة وفي رسم الطريق للمعاني. . . وأنا موقن أن الشاعر المطبوع والشاعر غير المطبوع مستويان في الخضوع لأسر القافية وتحكمها في جميع ما يريد كل منهما أن يقول، حتى في المقطوعات القصيرة، وحتى في الموشحات التي تتنوع القوافي في مقطوعاتها
وأذكر بهذه المناسبة ما يلاحظه بعض نقاد الآداب الأجانب على الشعر العربي من البطء الشديد في أداء المعاني التي تضطرب بها نفس الشاعر. ولا جدال في أن القافية وحدها(539/14)
هي سبب هذا البطء لتحكمها في تفكير الشاعر تحكماً سخيفاً مضنياً ينتهي إلى إجهاد قريحته وتجشيمها ما لا تطيق، وتكون النتيجة المحتومة التي لا مفر منها واحدة من اثنتين: فإما أن تعطينا هذه القريحة المجهدة المتعبة شعراً مجهداً متعباً، وإما أن يؤدي هذا الإجهاد إلى موت القريحة نفسها وانصرافها عن هذا الشعر المضني السخيف الذي لا خير فيه إلا تلك الموسيقى الكاملة وإلا الطنين والرنين
لذلك نرجح أن نظم الرجز والموشحات والنظم من قافية الألف اللينة كان محاولة للتخلص من ربقة القافية المتشاكلة المملة التي تتحكم في معظم الأحوال في كل ما يريد أن يقوله الشاعر وفي كل ما يفكر فيه، وفي كل ما يزخر فيه خاطره من خوالج، تلك القافية التي لا شبيه لها إلا في الشعر العربي
ولذلك أيضاً نجزم بأن القافية المتشاكلة المملة هذه، كانت السبب في حرمان الأدب العربي أو الشعر العربي على وجه التحديد من الملحمة والقصة الطويلة المنظومة، ثم من الدرامة وذلك لأن أثرها في توجيه تفكير الشاعر يكون أقصى من المنظومات الطويلة التي تحتاج إلى المرونة والتدفق ورقة التسلسل وعدم الإرهاق بالاطراد السمج الذي يقتضي حشد خمسمائة أو تسعمائة أو ألف لفظة متفقة الوزن وموحدة الحرف الأخير لمنظومة تتألف من مثل هذا العدد من الأبيات
لقد تعاظم هذا الحظر الشعراء الأندلسيين، كما تعاظمهم كذلك أن تظل ثقافتهم الشعرية ذليلة لعروض الشعر المشرقي؛ وتعاظمهم أيضاً أن يسمعوا إلى هذه المنظومات الرقيقة المشرقة التي يهتف بها شعراء الأسبان في غرناطة وقشتالة وطليطلة وغيرها من أمهات المدن الإسبانية، وأن يظلوا هم عاكفين على قوافي المهلهل والسليك والطرماح ومن إليهم من شعراء الجزيرة العربية منذ جاهليتها الأولى، فداروا مع الزمان الذي استدار، وقلدوا الأغاريد الجديدة التي سمعوا، فأمدوا الشعر العربي بتلك الموشحات الرائعة التي كانت خطوة بارعة في سبيل التخلص من القافية المطردة التي ما زال شعراؤنا أو معظمهم ينتصرون لها ولا يرون التخلص من أصفادها مع الأسف الشديد
قرأت في أحد كتب المستشرقين أن أدباءنا القدامى، أي أدباء العرب، الذين لم يستطيعوا أن يقرضوا الشعر اكتفوا بأن يسجعوا النثر، وعلل الكاتب هذه الظاهرة بتحكم سلطان القافية(539/15)
في الشعر العربي، واستهوائها لنفوس العرب والأمم المستعربة على السواء، وعلل بهذا ظهور السجع في كلام العرب القديم.
فإلى متى يا ترى يظل شعراؤنا عبيداً لهذه القوافي المطردة التي لم تتغير منذ عهد عاد!
وكيف يتفوق الأندلسيون على المصريين والشاميين والعراقيين وعرب المغرب وشعرائنا في المهاجر من حيث الاستجابة للصوت الجديد الغرد الذي كان يغني من حولهم فغنوا كما غنى وأنشدوا كما أنشد وشعروا كما شعر، ثم بزوه بموسيقى العروض العربي ذي الثروة الطائلة من الأنغام والموازين فتأثر هو الآخر بهم كما تأثروا به، وأذاع بتلك الموازين في العالم اللاتيني كله، وتأثر الشعر الغنائي هناك بما يطول ذكره في تاريخ آداب الأمم اللاتينية (أسبانيا وفرنسا وإيطاليا) مما نرجو أن نعرض له في فصل خاص إن شاء الله
فكيف لا يستجيب شعراؤنا اليوم لما يدوي حولهم من موسيقى هذا الوجود؟
إننا نقرأ شكسبير ونعجب به، ونشيد بذكر ملتون ونكب على فردوسه، ونتلو آثار الشعراء الفرنسيين والألمان والإيطاليين والأسبان، التي أنشأت بالشعر المرسل في الملاحم للمسرح، ثم نحن تسحرنا هذه الأشعار بسهولتها وسرعتها وموسيقاها الرائعة التي استغنت عن القافية واستعاضت منها بالنغم الحلو، والديباجة الناعمة المشرقة، والأسلوب الذي لا ينزل ولا يسف، ولا يلتوي ولا يتحذلق، فلماذا يا ترى لا نستجيب في شعرنا لهذه الأصداء الأوربية الرائعة كما استجاب العرب الأندلسيون؟
قد يقول قائل: لقد مضى زمن الملاحم، فما بالأدب العربي وما بالشعر العربي حاجة إليها، أما الدرامة المنظومة فقد فشل التنفيذ في مصر باللغة العربية، فهل يحيا بالشعر؟
قيل هذا الكلام في بعض المجالس التي دار فيها الحديث عن تلك الدعوة لتجديد الأدب العربي والدعوة إلى تجديد الشعر العربي كذلك والذين سمعت هذا الكلام منهم أدباء متصلون بشيوخ الشعراء المصريين الذين عبنا عليهم في غير كلمة جمودهم وعدم ثورتهم على القديم وتمسكهم بأهداب الماضي السحيق الموغل في القدم، لأنه يرتد إلى أكثر من ألفي سنة
منطق عجيب أن دل على شيء فهو إنما يدل على تجاهل لا جهل، وإصرار على الجمود دون محاولة بذل أي جهد نحو التجديد(539/16)
لقد مضى زمن الملاحم. . . هكذا يقول شيوخ الأدباء في مصر. وعلى هذا فقد قضى على اللغة العربية وعلى الأدب العربي، وعلى المتأدبين العرب ألا تكون لهم ملحمة ما، كالإلياذة والأوديسة لهوميروس، والإلياذة لفرجيل، والكوميديا الإلهية لدانتي، والشاهنامة للفردوسي، والفردوسي، المفقود لملتون. . . بل قضى على الأدب العربي، والشعر العربي، وعلى المتأدبين العرب ألا يكون لهم قصص طويل منظوم رائع مثل فينوس وأدونيس والكريس لشكسبير وسوردلو
وباراسلزوس والخاتم والكتاب لروبرت بروننج، وتشيلد هارولد ودون اجوان لبيرون، وأدونيس وثورة الإسلام والملكة ماب لشلي، والقرية المهجورة لجولد سمث، وسهراب ورستم لأرنولد، وملاحم تنيسون الموسيقية البارعة، وأنديميون ولاميا وإيزابيلا. هذه الملاحم أو ال الشعرية الرائعة التي كان يخلق بشعرائنا أن يتعلموا منها كيف يقرضون الشعر، وهي مع هذا من نظم كيتس الشاب الذي لم يعد الثالثة والعشرين!
أما أن زمن الدرامة المنظومة قد مضى، وأن التمثيل باللغة العربية الفصحى قد فشل في مصر، فهو كلام لا يقوله قوم يؤمنون بنهضة أو يوقنون بإصلاح. وسنترك إنجلترا وفرنسا وألمانيا في الرد على هؤلاء اليائسين المتشائمين ونتجه بهم نحو مصر نفسها، فنذكرهم بالفرق الإنجليزية والفرق الفرنسية التي كانت تزورنا منذ عامين لا أكثر لتمثل لنا درامات شكسبير وموليير وغيرهما من مسرحي الإنجليز والفرنسيين. ثم نذكرهم في الوقت الحاضر بكواكب هوليوود ونجومها الذين - واللائى - يزورون مصر الآن للترفيه عن جنود الحلفاء في الشرق الأدنى والأوسط، وقد سمعت منهم - عن طريق الإذاعة - أكثر من خمسين أوبريت وعشرات من المشاهد المختارة من أبدع ما أنشأ شعراء الشعر المرسل
لست أدري لماذا يستمر الإنجليز في تمثيل درامات شكسبير ودريدن وبيترو ما دام أن زمن الدرامة المنظومة قد مضى في نظر شعرائنا الشيوخ الأفاضل؟
على أنه إن كان زمن الدرامة المنظومة قد مضى فماذا صنع شعراؤنا الأفاضل في زمن الدرامة المنثورة؟ لقد دعوناهم إلى مد المسرح والسينما بالدرامات الرفيعة التي نحن أحوج إليها من ألف ألف مقالة أو قصيدة أو مقطوعة مما يكتبون وينظمون، فهل فعلوا. . . هل(539/17)
فكروا؟. . . لقد دعوناهم إلى أن يفكروا للعصر الحديث بعقول حديثة، كما ندعوهم اليوم لكي ينظموا للعصر الحديث على غير طريقة المهلهل منذ ألفين من السنين، فهل استجابوا لصوت العصر الجديد؟ لقد شكونا إليهم عدم مشاركتهم في رفع المستوى المسرحي والسينمائي المصري، هذا المستوى الذي ينحط برواياته وشعبذاته ويجعلنا ضحكة الدنيا وسخرية العالم، فهل نزلوا إلى الميدان؟
ولقد سمعت كذلك من أحد المتصلين بهؤلاء الشيوخ أن الشاعر إنما ينبغي أن يكون غنائياً فحسب، لأن كل نظم غير غنائي هو نظم مصنوع فحسب، وكل نظم مصنوع، ادرامي أو نظم ملاحم أو قصص أو لا يمكن أن يكون صادراً عن روح شاعرة تحسه وتنفعل به. . . وهذه في رأيي نظرة ضيقة أو حجة يراد بها الجدل الفارغ والدفاع الذي لا يستقيم لصاحبه. وإلا فأين تذهب تلك الصور البارعة التي تسلب الشاعر وتسحر القلوب من صور الإلياذة والأوديسة والإلياذة والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود. . .؟ ثم أين تذهب أشعار تاسو وأريوستو ودي فيجا وسرفنتس وراسين وكوريني القصصية الرائعة؟. . . أم أين تذهب المشاهد الساحرة المحشودة في هملت والأمير جون وعطيل ومكبث والملك لير وروميو وجولييت وتاجر البندقية وفاوست وتيمورلنك وغيرها وغيرها مما لا يكاد يستقصيه حصر ولا يقع تحت عدد؟
كم كان بودي أن أعرك أذن الشاعر الشيخ الذي أرسل هذا الهراء، ثم أصخ فيها بأعلى أصوات هومر وفرجيل ودانتي وملتون وشكسبير ومارلو والشعراء الطليان والأسبان واليونان والألمان، لكي يعلموا أن الشاعر الذي يغني لنفسه بقصيدة أو مقطوعة من بضعة أبيات أو من عشرين أو ثلاثين بيتاً هو شاعر أناني كسول. . . أما الشاعر الذي يعد آلام الناس من آلامه ومشاعرهم من مشاعره وقضايا قلوبهم هي قضايا قلبه، والدموع التي تنذرف من مآقيهم كأنها تنذرف من مآقيه. . . هذا الشاعر الذي يستجيب لأحزان الناس فيرددها قصة أو ملحمة أو درامة، إنما هو الشاعر الحق الجدير بالبقاء. . . هذا الشاعر. . . هو الذي أبحث عنه بين شعرائنا الشباب، ولن أفقد الأمل في أن أعثر عليه بين شعرائنا الشيوخ.
(يتبع)(539/18)
دريني خشبة(539/19)
جامع أحمد ابن طولون
(حديث ألقي في نادي النجادة في ليلة القدر)
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر في سورية ولبنان
أيها الحفل الكريم
أشكر لكم دعوتكم إياي، وأقدر عواطفكم نحوي. لقد اعتاد الناس والقراء أن يقدموا لأنفسهم بكلمة أولية يجعلونها كمدخل إلى الموضوع الذي سيكون محل حديثهم وسمرهم، وإني لا أملك نفسي دفع هذه العادة الطيبة المستملحة بل سأخضع لها فأقول، بأنني لم أستطع أن أختار موضوع حديث الليلة حتى أول أمس. فقد كنت مأخوذاً بين عدة واجبات وأمور لم يكن لي بد من أن تأخذ وقتي وتفكيري
والآن وقد خلوت لنفسي أعود إليكم، وقلبي مطمئن من ناحيتكم لأني واثق من أنكم ستولونني الكثير من التسامح فما أنا إلا فرد منكم وأنتم أيها السادة إخوان بل رفقاء لي، فلا تنتظروا المعجز من الكلام، ولا تطلبوا مني ما هو فوق المتناول
فما أنا إلا واحد من هذه الجماعة يريد أن يتحدث حديثاً يفيدني هذه الليلة المباركة الميمونة أعادها الله عليكم، وقد تحققت الآمال التي نصبو إليها جميعاً وأشرقت على العالم بأكمله شمس يوم الحرية والعدالة والديمقراطية الصحيحة
إنني مؤمن واثق بأن الأيام التي وعدنا بها وخطتها يد العناية في سجل القدر قد أصبحت حقيقة آتية لا ريب فيها، وحينما يأتي يوم النصر وتتحقق آمال الشعوب الحرة سنهتف جميعاً: الحمد لله الذي صدق وعده. . .
موضوع حديث الليلة قد نأخذه كموضوع واحد مكون من ثلاثة أشياء أو ثلاثة مواضيع تجمع بينها صلة الصلات. أما الفكرة الأولى التي تسيطر على فهمي تأريخ مسجد من مساجد الله هو مسجد أحمد بن طولون. فنحن في مصر قد أولع تاريخنا بإنشاء المساجد حتى أصبحت في عاصمتنا تعد بالمئات وهي لنا تراث للفن العربي في مختلف أدواره. ولقد اتجهت منذ حللت بهذه الديار إلى هذا النوع من الأبحاث فقلت لنفسي يوماً: لماذا لا(539/20)
يتجه الأدب لتمجيد هذه الآثار وجعل الأحجار تنطق فتعيد إلينا ذكريات الماضي
وأمامنا كتاب الفرنجة وقد عالجوا مثل هذه الأمور فمن في عشاق الأدب الإنكليزي من لم يقرأ ما كتبه (راسكين) عن آثار البندقية؟ إن منادمة الآثار قد حببت الآثار إلى العالم الغربي وحببت الشرق أيضاً لأهل الغرب
وما نحن إذا بقينا كما كنا ولم نعبأ بشيء من الماضي؟
ولماذا لا أكتب شيئاً يحبب إلى هذا الحفل الكريم زيارة القاهرة والتعرف إلى شيء من مساجدها وآثارها؟ وهل هي ملك لمصر وحدها؟ لا، لقد اشتركنا جميعاً في إنشائها فهي لنا ولكم. وهي عنوان التراث العربي والتفوق العربي أمام العالم بأجمعه. ولهذا كله قد فكرت أن أجعل حديث الليلة عن جامع ابن طولون؛ وليس من السهل أن نكتب عن جامع ابن طولون بغير أن نذكر كلمة عن صاحبه. وهذه هي الوصلة الأولى والشق الأول من هذا الحديث
وإني لا أعرف تاريخاً قد ظلمته الأيام وغيرته النزعات وأهمله أهله مثل تاريخ مصر العربية؛ ولا أعرف تاريخاً قديماً غنياً بمصادره ومؤلفاته كتاريخ مصر في طورها العربي الخالد. فإن ظلمت الأيام هذا التاريخ فقد ترك لنا أهله المطول من المراجع والكتب المطبوع منها والمخطوط
فما على أبناء هذا الجيل الواثب المتطلع نحو العلا والمجد إلا أن يقلب صفحاته ليتعرف إلى نفسه وليكشف عن قوته وهي قوة لو تعلمون عظيمة
إن تعهد الوعي القومي يستدعي الاعتزاز والتمسك بالشخصية؛ وإن الأمم التي تعرف شخصيتها وتتمسك بها وتعتز، هي التي تجعل العالم المتمدن يقر لها بالاحترام والبقاء
نظرة في تعريف أحمد ابن طولون
في القرن الثالث الهجري، كانت الدولة العباسية تسيطر على جزء من أقطار المعمورة. وكان عهد الخلفاء المجاهدين الذين يباشرون القتال بأنفسهم قد انتهى بوفاة المعتصم، وكان النزاع بين حزبي العرب والفرس قد أضعف الفريقين، وكان أن ظهر عليها عنصر إسلامي جديد هو العنصر التركي، وكان نفوذ العاصمة مضعضعاً لترامي الأطراف واتساع الملك. ولذلك أدخل نظام الأقطاع وتقاسم القواد والأمراء الولايات(539/21)
وكان عهداً تسوده المكائد والدسائس. وقد هبط المستوى الخلقي وماتت روح الكفاح والمقاومة أو انتقلت من المدن حيث بدأت تظهر عوامل الفوضى والفناء وانحلال إلى الثغور والحدود، حيث الجهاد الدائم يدعو إلى التضحية والمقاومة وجمع الشمل والكلمة
في هذا العصر نبغ أبو العباس أحمد بن طولون وظهرت شخصيته الجبارة تدعمها قوة من مكارم الأخلاق وشيم الرجولة، وشدة ذكاء وفراسة، أنف من حياة المدن حيث السفاسف والدسائس والحيل والخداع؛ حيث توضع الولايات والأمصار لتباع وتوزع على المحاسيب والأنصار، واتجه إلى الثغور حيث الرباط والعدة والدعوة لله وحده. حفظ القرآن وسمع الحديث، وفصح بالعربية فملك ناصيتها، كتابة وخطابة، فكان تركياً مستعرباً يجمع أحسن ما في العروبة من مزايا على أحسن ما لدى الترك من أخلاق. وإذا قدر للناس كشف دخائل التاريخ في القرن الثالث الهجري دراسة وتحليلاً، أمكن الحكم أنه بعد وفاة المعتصم لم يعرف التاريخ العربي رجلاً فذاً يداني ابن طولون في قوة شكيمته وسداد رأيه، ومضاء عزيمته ونفاذ بصيرته
ولقد بقيت شخصيته مجهولة، حتى قيض الله الظرف فنشرت سيرة أحمد بن طولون لمؤرخ عاش في عصره هو أبو محمد عبد الله بن محمد البلدي، وكشفت نواحي مجهولة عن حياته الحافلة بالجليل من الأعمال وعن صفاته ومزاياه وتفوقه. وستبعث هذه الحياة العظيمة الكثير من التنقيب في تاريخ مصر العربية، وتخرج ألواناً من الكتابة في المباحث والتراجم، لأنها حياة حافلة لرجل عبقري منتج رج ملك الدولة العباسية رجاً، وهز العالم العربي وأنشأ بذكائه ومقدرته على قيادة الرجال وقوة سيفه دولة وأسرة لها مكانتها ومنزلتها.
(للحديث صلة)
أحمد رمزي(539/22)
وحي القرآن باللفظ
للأستاذ محمود البشبيشي
هذا عنوان المقال الأول للأستاذ محمود أبو رية وعليه كان مدار كلمتي الأولى، وإني لألمح في اختصار الأستاذ في مقاله الثاني (المنشور بعدد الرسالة الغراء رقم 538) على كلمتي (وحي القرآن) ميلاً واضحاً إلى حصر النقاش في دائرة لا يتحاماه كل ذي قلب سليم ممن دعاهم الأستاذ إلى البحث في هذا الموضوع.
ويلوح لي من خلال مقاله الثاني حرص شديد على البراءة من شوائب الشك، وذلك عهدي به، وهو أدرى الناس بأن البحث في موضوع اليوم غير البحث في مسألة الكرامات وما إليها؛ تلك المسألة التي اشتد أوارها بينه وبين أستاذ فاضل منذ عامين بالمنصورة، وكان لنا فيها موقف ما أظنه قد نسيه وما أحسبه إلا مثنياً عليه
ولو كان الأستاذ يحسن الظن بي ويراني من أهل الذكر! لأحلته إلى كتاب (الفرق الإسلامية) الذي ألفته في نشأة هذه الفرق ومذاهبها وطبعته المكتبة التجارية منذ اثنتي عشرة سنة أو نحوها، ولكني أحيل على حاشية الجوهرة، أو على الخربدة (مع إعفائه من باب الكرامات)! أو على كتاب (الفلسفة العربية) لأستاذنا المرحوم سلطان بك محمد، أو على كتاب (التوحيد) للمرحوم الأستاذ الشيخ حسين والي، وهذه عدا كتاب ابن حزم في الملل والأهواء والنحل وهو الكتاب الذي قرأه الأستاذ وأشار إليه في المقال الثاني
وبعد فما ادعيت أن في كلمتي الأولى بلاغاً للناس! ولكني قلت وما زلت أقول: إن البحث في هذه المسألة أمر فات أوانه، ولن يكون من ورائه جدوى تعود على الباحثين بعد ما أشبعه العلماء بحثاً وتنقيباً وما دونوه من الآراء والحجج في كتب التوحيد والملل والنحل
وما زلت أرى أن (موضوع الوحي من القضايا التي فصلت فيها الأيام منذ عهد الرسالة). أو لم يثر المشركون في وجه صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ويتقولوا عليه ما تقولوا ويتهموه بأنه ساحر وأن الكتاب الكريم أساطير الأولين (اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا)؛ فما زال القرآن الكريم يبهرهم بنوره ويأخذ عليهم مناهج الحجة حتى آمنوا أنه ليس من كلام مخلوق، وبالتالي آمنوا بالوحي، ودخلوا في دين الله أفواجا، وما كان ذلك منهم إلا بعد تحد شديد ولدد في العداوة انتهيا بهم إلى تسليم مطلق؛ فكان هذا قضاء صريحاً(539/23)
من المعارضين وهم أرباب اللسن والفصاحة بأن القرآن من عند الله؛ وبذلك (فصلت الأيام في هذه القضية)، حتى أثارها الباحثون على وجه آخر عندما تفرقت مذاهبهم في البحث. ثم استبحرت العلوم العقلية في المحيط الإسلامي فكان من ذلك ما عده بعض الناس من مظاهر شك الباحثين، وما كان الشك منه في شيء، وإنما ينحصر الخلاف بين المسلمين في دائرة محدودة أشير إليها وأجملها فيما يلي:
لا خلاف بين الباحثين في أن القرآن الكريم دلالات (ألفاظ) ومدلولات (معاني)، والدلالات هي مثار ذلك الخلاف العنيف الذي استحكم بين العلماء وأوذي فيه بعضهم أذى كثيراً؛ أما المعاني فهي من متعلقات العلم الأزلي وهي قديمة قدم العلم، أو هي بعبارة أخرى من متعلقات صفة الكلام النفسي، وما اختلفوا في أن الله كلاماً وأنه كلم بعض الأنبياء. قال ابن حزم في كتابه: الفصل في الملل والأهواء والنحل (. . . أما علم الله تعالى فلم يزل، وهو كلام الله تعالى، وهو القرآن الكريم، وهو غير مخلوق وليس هو غير الله تعالى أصلاً، ومن قال إن شيئاً غير الله لم يزل - أي قديم - فقد جعل لله شريكاً) وهو بهذا يشير إلى مذهب أهل السنة ويرد على من نفوا صفات المعاني فراراً من شبهة تعدد القدامى، وفيه وفيما يلي تعريف الكلام النفسي الذي سأل عنه الأستاذ الشيخ أبو رية (وقد ذهبت المعتزلة إلى أن كلام الله صفة فعل مخلوق. وقال أهل السنة إن كلامة هو علمه، وإنه غير مخلوق وهو قول الأمام أحمد بن حنبل وغيره. وقالت الأشاعرة: كلام الله صفة ذات لم تزل - أي قديمة - غير مخلوقة وهو غير الله تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله) من كلام ابن حزم بتصرف
هذا محصل الخلاف في معنى الكلام النفسي، وهو بحث فلسفي في صفات الله، وما كان الاختلاف على أن القرآن كلام الله أوحي إلى النبي الكريم بطرائق الوحي التي تكفل بشرحها العلماء في مظانها المعروفة؛ وقد أجملها الأستاذ الإمام محمد عبده في (رسالة التوحيد) فقال: (الوحي عرفان يجده المرء في نفسه مع اليقين أنه من قبل رب العالمين بواسطة أو بلا واسطة) وهذا الرأي يتمشى مع قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء) ومسألة الوحي لا تستعصي على كل ذي رؤية، فالعلم الحديث وما كشف من عجائب، وما اتضح للناس من(539/24)
وجود الكهرباء، وما كادوا يجزمون به من عالم الروح وحركاته وسلطانه، كل ألئك يقرب معنى الوحي لمن كان يبتغي الحقيقة المجردة. وقد أستطيع التوسع في ذلك ولكني أوثر الإيجاز في انتظار حكم الأستاذ أبي رية أو ما يدلي به الباحثون من أهل الدراية
هذا وقد كانت الدلالات القرآنية (الألفاظ) مدار تلك المناظرات الحادة في عهد المأمون والمعتصم والواثق وهي تلك الظاهرة الفلسفية التي انبثت فروعها، وسميت بمحنة خلق القرآن. والخلاف في الألفاظ راجع إلى أن المعتزلة يرونها حادثة (مخلوقة) وغيرهم يتورع فيقول بقدمها. وما أراد الفريق الأول بالخلق والحدوث أن الألفاظ من كلام بشر، وإنما أرادوا أنها أعراض تقوم بالحادث وما قام بالحادث حادث؛ فالألفاظ على رأيهم حادثة. وما أراد الآخرون إلا التصون ضانين أن القول بحدوث اللفظ قد يسوق من لا بصر لهم بالموضوع إلى القول بحدوث المدلولات (المعاني) وهي قديمة بقدم العلم الأزلي
وهنا يقول العلامة ابن حزم: (اللفظ المسموع هو القرآن نفسه. . . وأما من أفراد السؤال عن الصوت وحروف الهجاء والخبر فكل ذلك مخلوق بلا شك)
وبما تقدم يصدق القول الأستاذ الإمام: (ليس النزاع في الكلام اللفظي فإنه حادث باتفاق). وأعود فأقرر أن المراد بالحدوث أن الله خلق وأحدث كما خلق الشمس والضوء، وأوحى إلى الرسول الأمين بطرق الوحي التي أجملناها. وأما قول الأستاذ الإمام (إنما النزاع في إثبات الكلام النفسي) فراجع إلى صفة الكلام لا إلى معاني القرآن الكريم وهو يشير إلى الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة في إثبات صفات المعاني لله تعالى وقد قدمنا بيانه. والآن نرجو من الأستاذ أن يبين للناس معنى قوله: (وحي القرآن باللفظ أمر اختلفت فيه الفرق الإسلامية) ويرينا وجوه ذلك الخلاف، ثم نسأله أن يبين لنا ما الذي أحرجه من رد المرحوم الرافعي عليه في هذا الموضوع. وأن يشرح لنا ما وقر في نفسه من قراءة ذلك الرد. لو تم هذا لاختصر طريق البحث وأراح المتكلمين فيه
وبعد فقد ألمع الأستاذ أبو رية في لباقة إلى ما عد خطأ تاريخياً وقع في كلمتين الأولى حيث قلت: (المأمون والواثق والمعتصم) ولا شك في أن المعتصم يتقدم بداهة على الواثق، ولكن أما كان يجدر بالأستاذ أن يحملها على سرعة الكتابة؟ على أني أبادر فأطمئنه على معنى (واو العطف) وحدودها؛ فأقول له: إن الواو هنا جاءت لمطلق الجمع فلا تفيد ترتيباً(539/25)
وهو رأي البصريين نقله ابن عقيل في شرحه وأطلق ابن هشام في (المغنى) عند بدء كلامه في الواو؛ قال تعالى: (يوحي إليك والى الذين من قبلك) وقال: (منك ومن نوح وإبراهيم وموسى) وقال جل شأنه حكاية عن منكري البعث (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) وبهذه الآية رد على الكوفيين القائلين بأن الواو للترتيب
وفي هذا القدر كفاية.
(الإسكندرية)
محمود البشبيشي(539/26)
7 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
رأينا كيف كان لبعض توجيهات الدين الإسلامي سواء ما كان منها إيجابياً أو سلبياً أثر واضح في إيجاد شخصية قوية للفنون الجميلة التي كان يزاولها المسلمون. على أن هناك عوامل أخرى تستمد أصولها من الدين الإسلامي قد تبدو لأول وهلة كأنها منقطعة الصلة بالفن ولكنها في الحقيقة ذات صلة بهذا الأمر، صلة غير مباشرة إلا أنها فعالة قوية الأثر نرى من الحق علينا أن نشير إليها وأن نبين كيف عاونت على نضوج الفن الإسلامي وساعدت على اطراد تقدمه. ولعل أهم هذه العوامل المساعدة ثلاثة: النقابات الإسلامية، والحسبة، والوقف. وسنبين أولاً ما هي هذه النظم ثم نعقب على ذلك بإيضاح أثرها في الفنون الجميلة
أما نظام النقابات فلا يعنينا هنا البحث في أصله أو ترجيح أحد الرأيين اللذين يحاولان الكشف عن ذلك، فسواء أكان يرجع في أصله إلى النقابات البيزنطية التي كانت موجودة قبل الإسلام، أو كان من ابتداع الفرق الدينية الإسلامية كالإسماعيلية وغيرها؛ فالأمر الذي لا يتطرق إليه الشك هو أن هذا النظام ازدهر وارتقى في ظل الإسلام، وساهم بأوفر نصيب في تقدم الصناعة، إذ كان لكل حرفة نقابة خاصة يرأسها شيخ الصنعة ويليه النقيب ثم الأساتذة ثم الأسطوات ثم المبتدئون. وكانت أسرار الصناعة تدرس عملياً في هذه النقابات وكان لها قانون يستمد سلطته من الحكومة في كثير من الأحيان ويدور حول حماية المستهلك والمنتج على السواء، فيضمن للأول جودة المصنوع وإتقان الصناعة وإتباع الأساليب المقررة فيها، ويضرب بيد من حديد على الغش والتدليس، ويضمن للثاني سهولة الحصول على المواد الخام اللازمة لصناعته، ويمنع الاحتكار الذي يضر بالعمل ويسعى لرفع مستواه الاجتماعي. ولقد قضي على نظام النقابات بعد أن تغيرت الأسس الاقتصادية التي تسير عليها الأمم الإسلامية في الوقت الحاضر. على أنه لم تزل هناك ظاهرة اجتماعية تذكرنا به هي حفلة إثبات رؤية هلال شهر رمضان إذ تسير نقابات الحرف المختلفة في موكب الرؤية بنظام خاص. ولعل هذه الصورة أوضح في الأرياف منها في القاهرة(539/27)
وأما الحسبة فوظيفة أوجدها الإسلام عند ما رأى أن الإنسان لا غنى له في حياته عن التعاون مع غيره، وأدرك أنه لكي يستقيم أمر الجماعة لابد من إيجاد سلطة تلزم كل إنسان حده، ولا تترك مجالاً لمن طبعت نفسه على الشر أن يعبث بمصالح الناس إرضاء لشهوة جامحة أو نزوة طارئة. وقد استمدت وجودها من آيات قرآنية عديدة نجدها مفصلة في كتب الفقه الإسلامي أو الكتب التي قصرت نفسها على موضوع الحسبة وحده. ويكفي أن نذكر هنا أن أول من أوجدها هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب المحتسب الأول الذي كان أول من شارف بنفسه الأسواق وراقب المكاييل والموازين وأمر بإماطة الأذى عن الطرق. على أن أعمال الحسبة لم تقف عند هذا الحد الذي وقف عنده عمر، بل اتسعت دائرتها حتى شملت جميع ما يتصل بحياة الناس المدنية والدينية من أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر. ويهمنا نحن بنوع خاص أنها تدخلت في شئون جميع الصناعات ورسمت لأربابها السبيل السوي الذي ينبغي عليهم أن يسلكوه؛ فالخزاف والنساج والنجار والحائك والوراق والصائغ وغير هؤلاء من الصناع لهم منهاج عليهم أن يتبعوه حتى يأمنوا عقاب المحتسب في الدنيا وغضب الله في الآخرة. وقوام ما هم مكلفون به إتقان العمل والإخلاص فيه وتجنب الغش والتدليس.
وأما الوقف فنظام نشأ في الإسلام استناداً إلى أحاديث عدة لعل أشهرها ذلك الحديث الذي ذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما كما ذكر أيضاً في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وفي مسند ابن حنبل وفي طبقات ابن سعد وملخصه أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلوات عليه يستأمره فيها، فقال له النبي إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. ومنذ عهد عمر ونظام الوقف مستمر حتى يومنا هذا وقد اتسعت أغراضه بحيث شملت معظم نواحي الإصلاح الاجتماعي فأوقفت الأعيان على المساجد والمدارس، والمارستانات والمدافن، وعلى المساكين واليتامى، وعلى الذين وهبوا حياتهم للعلم أو للدين، وعلى غير ذلك من الأغراض التي سطرها الواقفون في وقفياتهم ويضيق المجال عن ذكرها جميعاً. والذي يهمنا من هذا النظام أن أول قواعده وأهمها عمارة الأعيان المحبوسة سواء ما كان منها لاستخدامه في الأغراض سالفة الذكر أو لاستغلاله للانفاق عليها لضمان بقائها ودوام استغلال ريعها. وبفضل هذا العمل الجليل وصلت إلينا تلك(539/28)
الآثار الرائعة التي تزدان بها القاهرة اليوم من مساجد ومدافن، وأسبلة وأربطة، ومدارس ومنازل ومشاهد ووكائل، وتلك التحف النادرة الجميلة التي كانت تزين تلك الأبنية من محاريب وتوابيت ومشكوات وكراسي.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق(539/29)
غرفة شاعر!
للأستاذ أحمد صافي النجفي
أكافح البرد في سراج ... يكاد من ضعفه يموت
في غرفة. ملؤها ثقوبٌ ... أو شئت قل ملؤها بيوت
يسكن فيها بلا كراء ... فأرٌ وبقٌ وعنكبوت
للفأر من مأكلي غذاءٌ ... والبقُّ جسمي لديه قوت
واعتزل العنكبوت أمري ... وفي بقاه معي رضيت
فهو معي مثل فيلسوف ... معتزلٌ دأبه السكوت
مشتغلٌ بالنسيج عني ... يبني شباكاً بها حميت
فكم بها صاد من ذباب ... قد كنت في أمره عييت
أنعم به صائداً قديراً ... ذبابة منه ما تفوت
كم صاد في الصيف من بعوض ... قد كنتْ من لذعه خشيت
ينسج فوق الثقوب بيتاً ... به من الشمس قد وقيت
هذي نداماي في الدياجي ... عاد بهم شملي الشتيت
يوقظني الفأر حين أغفى ... بالقرض إن طاب لي المبيت
والبق بالقرض رام مزحي ... لكنه مازحٌ صموت
يشرب ما راق من دمائي ... والسمَّ في لذعه سُقيتِ
عليه لا يسمعون شكوى ... فيا لخصم به بليت
ضيفٌ ولا يبتغي طعاماً ... إلا دماً منه قد حَييتُ
أغرفةٌ للمنام هذي ... أم هي منفى له نفيت؟
أم تلك قبر الحياة فيه ... عذَّبتُ من قبل ما أموت
أبيتُ ليلاً بها كأني ... للبرد تحت السما أبيت
جمدت من بردها ولكن ... في الصيف من حرَّها شويت
ينُثَر من سقفها ترابٌ ... لولا غطائي به عميت
كأن ذاك التراب رزقٌ ... به من الله قد حبيت(539/30)
أمشي بها خائفاً لأني ... أخشي انخسافاً إذا مشيت
لها كشباكها ثقوبٌ ... أنظر من هنَّ حيث شبت(539/31)
من أزهار الشر
لشارل بودلير
هي هي. . .
(من أين حل بك هذا الأسى الغريب الذي يعلو كاللجة على الصخرة السوداء العارية؟)
حين تجني قلوبنا قطوفها من النشوة، تغدو الحياة شراً، كما تصبح ألماً بسيطاً لا خفاء فيه، يتجلى كمرحك الذي يبهر الأبصار.
فلا تبحثي بعد عن سريرتي أيتها المتطلعة الجميلة!
والزمي الصمت وإن كان صوتك حلوا.
الزمي الصمت أيتها الجاهلة، أيتها الروح الثملة بنشوة دائمة
وأنت أيها الثغر ذو الابتسامة الساذجة كف عن الكلام فالموت يجتذبنا بأسباب دقيقة خافية أكثر مما تتشبث بنا الحياة.
دعي قلبي ينتشي بسراب خادع.
دعيه يهيم في عيونك الجميلة كما يهيم في حلم جميل
دعيه يرقد في سبات طويل وتفيئا ظلال أهدابك!
ترجمة
عثمان علي عسل(539/32)
البريد الأدبي
تعقيب
قرأت ما كتبه الأستاذ مرزوق في العدد 538 ولمست استياءه مما كتبته في العدد 537 وأرجو أن يزول استياؤه بهذا الإيضاح
فأنا لم أقصد إلا الإبانة عن رأي خاص في هذا الموضوع الذي تناوله بالبحث الأستاذ مرزوق وكثيرون من علماء التفسير، والذي أتعبني اختلاف الآراء وتباين الأقوال فيه وهذا أثر اليهود في اختلاق الأحاديث. فكان الواجب أن أنزه الإسلام عن تحريم التصوير لما للفن الجميل من رسالة سامية لا تعارض الدين الإسلامي
أما مقال الأستاذ مرزوق فكان مشتملاً على تبرير رواج الزخارف دون غيرها من إبداع الصور، حتى قال الأستاذ ما نص. . . (وليس من اللائق وهذه العقيدة منقوشة في أذهان المسلمين جميعاً أن يخلد رجال الفن منهم بأعمالهم الفنية ما كتب الله عليه الفناء. لذلك نجدهم لم يعنوا بتصوير الشخصيات العظيمة في لوحات كبيرة أو تماثيل ضخمة تبقى على الدهر، أو تمثيل جمال الطبيعة بالنقل عنها نقلاً صحيحاً). قد يقال أين ما يدل على أن كاتب المقال يعتقد التحريم حتى أحكم عليه هذا الحكم السريع الخاطئ. . .؟ وأقول إنني لم أرد على الأستاذ مرزوق وإنما ناقشت الفكرة التي دار حولها مقاله وهي فكرة تحريم الإسلام ابتداع الصور. أليس ما سقته من كلام الأستاذ عن عقيدة المسلمين يفيد أن الإسلام قد ينهى الفنان عن ابتداع الصور؟
ثم ماذا؟ أنا لم أرد بالتعليق إلا إيضاح رأي حاسم في الموضوع مجمله أن الفن مباح في حدود الدين والأخلاق، وأن التصوير مباح ما دام المصور لم يقصد إعداد صورته (مجسمة أو غير مجسمة للعبادة من دون الله. . . ودليلي على ذلك أن القرآن لم ينص على تحريم التصوير وأن الأحاديث الواردة مشكوك في صحتها كما أوضحت
وبعد فلم أجد في مقال الأستاذ المنشور في العدد 537 إلا مجرد سرد للآراء المتباينة التي أتعبتني وأتعبت كثيرين والتي يجب أن يدلي فيها برأي حاسم حتى يتاح لنا النظر إلى الفن الجميل بعين الارتياح والإيمان. ولا زلت أنكر على الذين يعتقدون حرمة الصور المجسمة ما دام المصور لم يقصد إلا وجه الفن، ولم يقصد إعداد صورته للعبادة من دون الله، وإلا(539/33)
فما قولك في تماثيل عظمائنا. . . المقامة في الميادين!
أما أنني تسرعت في الحكم فعن حسن نية، ولم أقصد إلا الإيضاح البريء مخافة أن ينساق قلمك إلى الناحية الفنية البحتة دون التعرض لهذه الناحية الدينية
أما شخص الأستاذ مرزوق فمحل احترامي ومقالاته محل تقديري وله الشكر على كل حال.
أحمد فتحي القاضي
المحامي
رسالة إلى شاب
أخي الأديب الفاضل (و. ا. م)
لشد ما يعوزك أن تقدح عزيمتك وتشحذ همتك، فإن قوة الإرادة هي الدواء الوحيد لكل ما نعانيه من أدواء. . . ألا تذكر يا صديقي ذلك الكتاب الذي قرأنا سوياً، يوم كنت تحلق ببصرك في المستقبل البعيد؟ لقد كنت يومئذ طموحا لا يحصر أفقك بأس، ولا يحد أملك حد؛ أما اليوم فإنني أجد نفسي مضطراً إلى أن أكتب لك عن الإرادة، لكي أعيد على سمعك تلك الكلمات التي طالما رددتها من ذلك الكتاب أما الكتاب فهو (كما تعلم) موسوم باسم: (كيف تخط طريقك في الحياة): وأما الفصل الذي كنا نحب الكتاب من أجله، فهو موسوم باسم (الإرادة): وهاأنذا أروي لك طرفاً من ذلك الفصل الذي كنا نحفظه عن ظهر قلب: ليس ثمة شيء مستحيل: فإن هناك مسالك تقتادنا إلى كل شيء، ولو كان لدينا قدر كاف من الإرادة، لكان في استطاعتنا دائماً أن نجد ما يكفي من الوسائل. بيد أن الإرادة ليست منحة طبيعية أو هبة فطرية، بل هي صفة مكتسبة يحصلها الفرد كما يحصل غيرها من الصفات. والوسيلة الصحيحة لاكتساب الإرادة هي أخذ النفس بعض المبادئ، والعزم الأكيد على تحقيق بعض المقاصد. . . إن المعدن لا يعطيك ما فيه إلا بالكدح، والنار لا تظهر من الحجر إلا بالقدح، كذلك الغاية لا تبلغها إلا بالقصد؛ فعليك أن تنمي في نفسك قوة (الإيحاء الذاتي) التي من شأنها أن تعدل خلقك وتغير مزاجك. . . لتعمد في لحظة معينة من الصياح، إلى الاختلاء بنفسك، وجمع شتات أفكارك بعيداً عن ضوضاء المجتمع وصخب الناس؛ ولتفكر تفكيراً عميقاً في أمر إرادتك، ولتقل في نفسك: سيكون لي من قوة(539/34)
الإرادة ما أحطم به كل العوائق. أجل ستكون لي إرادة صلبة، ولن تقف في وجي الصعاب! وعند المساء، لا تذق عينيك طعم الكرى قبل أن تكون قد استعدت في ذاكرتك هذه الفكرة، وأدرتها على لسانك عدة مرات!. . . فإذا دأبت على التأمل في هذه الفكرة، وإذا أفعمت رأسك بصورها، فإن الأمر ينتهي بك إلى الانقياد لوحيها، والإذعان لقوتها. ولا يمكن أن يضيع أثر هذا الإيحاء الذاتي، إذا عمدت إلى ورقة بيضاء، فكتبت عليها بحروف كبيرة واضحة الكلمات التالية:
(إنني إنسان له إرادة.
(وأنا أفعل كل ما تمليه علي إرادتي.
(ولست أتملص من أي عهد من العهود التي أخذتها على نفسي.
(وكل ما أشرع في عمله، فأنا أتممه على أكمل وجه، خضوعاً لأحكام إرادتي.
(وستكفل لي الإرادة كل ما أصبو إليه من نجاح وتوفيق!
. . . هذا هو العهد الذي غاب عنك يا أخي، فهل تذكره معي اليوم فتقول: (إن الإرادة هي الاستطاعة)؟: , '
زكريا إبراهيم
تصويب
وقع خطأ مطبعي في مقال (الشعر المرسل المنشور بالعدد الماضي، وصحته فيما يلي:
ا - في صفحة (848): (1) (2) (3) وفي آخر الصحيفة: وهي وحدة البحر بذاته
ب - وفي صفحة (849): (1) وقد ثار (بأول سطر) (2) البحر الإسكندري يتركب من: ست تفعيلات إيامبيه مقطعين(539/35)
العدد 540 - بتاريخ: 08 - 11 - 1943(/)
2 - في المسجد الأقصى
للدكتور عبد الوهاب عزام
وقفت على شاطئ هذا السيل البشري حيناً ثم رجعت أدراجي إلى صاحبي الكريم في مصلاه، ودخلنا الحجرة التي تواعدنا اللقاء بها فرأيت على بعد خطيب المسجد الأقصى يمر إلى حجرته وهو في حلة خضراء وعمامة صلاحية، وهو زي يتوارثه خطباء المسجد الأقصى من عهد صلاح الدين؛ وهم من بني جماعة الكنانيين توارثوا هذا المنصب منذ القرن السادس إلى يومنا هذا، وإنه لشرف عظيم. كانت خطابة الجوامع الكبيرة منصباً مشرفاً في تاريخ المسلمين. وكثير من علمائنا يلقبون بالخطيب. وكانت هذه المناصب متوارثة يخلف فيها الأبناء الآباء وتحرص الأسر على شرفها، كما كانت في تاريخنا بيوت تعرف بالقضاء وأخرى بالفقه وهكذا. ذهبت إلى حجرة الخطيب فزرته وشرفت بمجالسته قليلاً ثم رجعت إلى حجرة الموعد ووافانا في موعدنا من الزمان والمكان الأستاذ المخلص فسرنا نطوف في أرجاء الحرم. بدأنا بقبة الصخرة ننظر ما كستها الصناعة والتاريخ من حلى أحدثها الرخام المجزع الذي فرغ منه المهندسون المصريون منذ سنوات قليلة. ولست أستطيع أن أحدث عن تاريخ هذه القبة العظيمة منذ شادها عبد الملك بن مروان إلى عصرنا هذا ولا أن أصف هندستها وجمالها وحلاها وأبهتها فقد ضمنت هذا كتب وصور كثيرة. وحسبي أن المقدسي يقول فيها بعد وصفها: (فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت ورئيت شيئاً عجيباً. وعلى الجملة لم أرى في الإسلام ولا سمعت أن في الشرك مثل هذه القبة) وكذلك أقول ما رأيت فيما رأيت من عجائب الأبنية في البلاد الإسلامية أجمل من قبة الصخرة. ويستطيع القارئ أن يرى مثالاً صغيراً ضئيلاً منها في القبة التي على ضريح السلطان قلاوون في القاهرة. ومن عجيب ما رأيت على جدران القبة من الخارج حجة وقف للسلطان برسباي وقف فيها بعض القرى على عمارة بعض الأبنية في الحرم. ولقد سجل وقفه في أطهر الصحف وأبقاها
وبجانب القبة قبة صغيرة ثمينة على مثالها غير أنها لا يحوط أعمدتها جدار. وقد قيل إن عبد الملك طلب أن يبني مثال للقبة قبل أن يشرع في هذا البناء الرائع العظيم النفقة، فبنى له هذا المثال فأعجبه، وبنيت القبة الكبرى على صورته. وقيل بل بنيت القبة الصغيرة من(540/1)
بعد
وهذه القبة الصغيرة مصلى رأيت النساء يصلين فيه يوم الجمعة. وعلى صحن الصخرة وهو الدكة العالية الواسعة التي تتوسط ساحة الحرم الفسيحة قبة أخرى صغيرة جميلة تحتها قبة صغيرة تسمى قبة المعراج. وهناك حجرات أخرى متفرقة في أطراف الصحن
هبطنا إلى الساحة المحيطة بصحن القبة على أحد السلالم المحيطة به. ولهذه الدكة تسع سلالم ذوات درج طويل على كل منها عمد تنتظمه عقود فوقه، ومشينا ذات اليمين نساير السور الغربي من أسوار الحرم وقد توالت بجانبه أبنية تنميها عصور مختلفة، وتخلد عليها ذكرى كثير من سلاطين المسلمين. وحول أسوار الحرم من الداخل والخارج أبنية كثيرة كانت مدارس عمرت بالأستاذين والطلاب زمناً طويلاً، ودرت على المعلمين والمتعلمين بها خيرات كثيرة. وما أحراها اليوم أن تكون مأوى لعلماء من المسلمين يؤمونها من أقطار الأرض فيتداولون الإقامة بها والتدريس بالحرم حيناً! وما أجدر هذا التاريخ بأن يحفظ، وما أخلق هذه الذكريات بأن توعى! وكم اتصلت بهذه المدارس من تواريخ العلماء والأدباء
رأينا فيما رأينا هناك المدرسة الأشرفية التي شادها السلطان الصالح المعمر الذي تشهد له اليوم آثاره في بيت المقدس ومكة والمدينة ومواضع كثيرة في القاهرة - ذلكم السلطان أبو النصر قايتباي رحمه الله. وقد عجبت إذ قرأت فيما قرأت من ألقاب السلطان المنقوشة على البناء لقب (الإمام الأعظم) وما عرفته قبل اليوم لأحد من السلاطين
وقد صعدنا منارة المدرسة على قدمها ونيل الإعصار منها فأشرفنا على مرأى جليل من الجبال والأبنية القديمة والحديثة كأنما أشرفنا على عصور من التاريخ. وعلى مقربة من المدرسة سبيل جميل للأشراف برسباي من سلاطين المماليك. وقد جدده السلطان قايتباي سنة ثمان وسبعين وثمانمائة، ثم السلطان عبد الحميد العثماني وقد سمي في الكتابة التي على السبيل بالخليفة الأعظم. وفي ساحة الحرم كثير من السبل والآبار الجميلة
وانتهى بنا السير مع هذه الآثار والذكر إلى التكية البخارية وهي التي اتخذت متحفاً إسلامياً، بعد أن ضم إليها قسم من مسجد النساء الذي يأتي ذكره. صفت في مدخل المتحف، وبداخل التكية، رءوس من العمد القديم التي كانت بالمسجد الأقصى ونقوش وحلى وكتابة من آثار العصور الماضية. وفي البهو الواسع الذي اقتطع من المسجد آثار قليلة جليلة(540/2)
صغيرة في العين كبيرة في القلب، هي كسلاح البطل المجاهد؛ عدة قليلة تحدث أخبار طويلة، وسيوف ورماح وهي عنوان لتاريخ من الكفاح. رأينا فيما رأينا المصحف الذي كتبه بخطه السلطان عبد الحق من سلاطين بني مرين بالمغرب. وقد كتب هذا السلطان التقي بيده ثلاثة مصاحف أهداها إلى المساجد الثلاثة في مكة والمدينة وبيت المقدس.
ورأينا في المتحف سيف الشيخ شامل المجاهد الذي أبلى أحسن البلاء في الدفاع عن البلاد الإسلامية في القوقاز. كما رأينا على الجدار عباءة بها خروق. فأما العباءة فعباءة البطل المقدام، والعربي الحر الأبي سلطان باشا الأطرش. وأما الخروق فآثار الرصاص من دبابة فرنسية هجم عليها هذا الأسد في إحدى ثوراته. فليت شعري أي خلة أشرف من هذه العباءة، وأي وسام أجل من هذه الثقوب. لقد أحسن الذي حفظوا سيف شامل وعباءة الأطرش في المتحف الإسلامي من المسجد الأقصى، وإنها لعبرة. ورأينا بعد مصابيح من الآثار الأيوبيين، وقدوراً عظيمة من آثار العثمانيين، ونفائس أخرى لا يتسع لذكرها هذا المقال
ثم اطلعنا على دفتر الزيارة فرأينا توقيعات كثير من الزوار بينها خط الملك فيصل رحمه الله، وقد كتب هذه الآية الكريمة (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله). وقد رأينا الآية نفسها على باب السكينة من آثار السلطان قايتباي.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(540/3)
من ليالي الفردوس
للدكتور زكي مبارك
لم يكن أول حب، فما مرت ساعة من نهار أو من ليل بلا وجد يعصف بقلبي فيزلزل وجودي، وإنما كان أخطر حب، لأن صادف قلبين كتب عليهما الشقاء بالهوى لأول لقاء
ولم يكن لهذا الحب مقدمات، على نحو ما تصنع الطبيعة في إرسال البشير بالغيث، أو النذير بالويل، وإنما صب علينا نعيمه وشقاؤه بلا وعد ولا وعيد، فأصاب قلبينا برجفة عاتية ستبقى لها ندوب، وإن قدر من بلواها الخلاص، ولا خلاص!
كنت أعرف أنها ملك يميني أصرفها كما أريد، فأنقلها من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، وكانت تعرف أنها ملأت قلبي فلا خوف من تعرضه لهوى جديد، ولو ساقته المقادير على يد جنية من جنيات باريس أو بغداد أو بيروت وطاب لنا في بداية الهوى أن نتكاتم، فقد كنا شببنا عن الطوق، وقد كانت لنا تجاريب تجعل البوح من أخلاق الأطفال. وكيف تأمن جانبي وقد (وصلتها أخبار) تشهد بأني لا أقيم على عهد، وأني أتخذ الحب وسيلة لدرس خلائق الملاح؟ وكان أمري في الهوى كما قدرت تلك البغوم، فما نظرت نظرة جارحة إلا لأقبس من أنوار الخدود شعاعاً ألون به مداد قلمي ولا تعرضت لمكاره الغواية إلا لآخذ من جحيم الفتك جمرة أذكي بها بياني
ثم كان حالي حال رائض الحيات في مدينة الأقصر، فما تاريخ ذلك الرائض؟
هو رائض تطايرت أخباره إلى (لورد كرومر) فأحب ذلك اللورد أن (يختبر) تلك الأخبار ليكون من أمرها على يقين، فقاده (الحاوي) إلى حية كان حبسها تحت حجر من الأحجار في رحاب (وادي الملوك)، وكانت تلك الحية تفهم عن (الحاوي) ما يريد، فتصحو أو تنام وفقاً لما علمها من الإشارات
ورفع الحاوي الحجر فثارت من تحته حية لم يرها من قبل، حية لم تتلقى عليه درساً من الدروس، ولا تفهم أنه في صحبة رجل كلفته الدولة البريطانية حراسة منافعها في مصر مفتاح الشرق!
وخاف الحاوي على حياته فلاذ بالفرار، ثم عظمت دهشته حين رأى لورد كرومر أقدر منه على الجري في طلب النجاة، مع أن في منطقته مسدسين، ومع أنه يمثل دولة لها في البر(540/4)
جيوش وفي البحر أساطيل!
كان حالي حال ذلك الرائض، كنت ألهو وألعب بالملاح كما كان يلهو ويلعب بالحيات، فكيف صار وكيف صرت؟
لقد هرب فنجا، أما أنا فثبت في مكاني لأصرع الحية أو تصرعني، وهل كانت حياتي إلا حومة نضال وصيال وقتال؟
وفهمت الحية وفهمت أننا لم نكن إلا أرقمين يتساوران، ثم كانت الحرب بيننا سجالاً فلم أنج منها ولم تنج مني
هي اطمأنت إلى أنها سيطرت على القلب الذي استطاب العبث بقلوب الملاح
وأنا رضيت بأن تكون تلك الحية من مرضاي، وهل من القليل أن تخضع الحية لحبك، الحية النضناض التي تقتل من تشاء بأيسر نظرة وأهون فحيح؟
كانت أنياب تلك الحية أشهى إلى فمي من (فرط الرمان) كما يعبر أهل سنتريس، وكنا نرضى ونغضب بلا اقتصاد ولا احتراس، فكان لنا في كل لحظة شأن أو شؤون، وكان وجهها يربد في وجهي من وقت إلى وقت، كما تصنع السماء مع المحيط، كانت ترضى فأظنها صارت ملكي إلى الأبد، وكانت تغضب فأتوهمها ضاعت من يدي إلى آخر الزمان
ولكن الشقية في جميع أحوالها جميلة فتانة إلى أبعد حدود الجمال والفتون، وكانت تعرف أن هواها أقسى وأعنف من القدر المكتوب، وكانت فوق هذا وذاك تفهم أني أول وآخر من يعرف خفايا الأسرار لحسنها المكنون، وكانت تفهم أني أدرك من أخطارها ما لا يدرك المصريون من أخطار قناة السويس، وكان يروعها أن تراني مبهوتاً أمام جسمها الفينان يبهت عابد الشمس وقد تجلت بطلعتها البهية عند الشروق
هل كان جمال هذه الشقية وهماً خلقه القلب الذي يطيب له التغريد فوق أفنان الجمال؟
وكيف وقد زاحمني إلى قلبها المتمرد مئات الفحول، فكنت بحمد الهوى أول سابق لا أول مسبوق، ومن زعم أن له ذراعين أقوى من ذراعي فقد أعتصم بحبل الزور والبهتان
كانت نخلة لا يميلها غير العواصف التي تثور عن وجداني. كانت امرأة وقوراً لا يستخفها غير الغزل الذي يصدر عن بياني
كانت في رزانة الجبال إلى أن رأيتها فعرفتني، وكنت قطعة من ثلوج الشمال إلى يوم(540/5)
البلوى بروحها المقبوس من عذاب السعير، فكيف صار الحب جدا من أعنف ضروب الجد، وكان مزاحاً من ألطف فنون المزاح؟
أنت يا شقية سبب شقائي، وأنت السر في بلواي بالدنيا وبالوجود
ولكنك مع ذلك أشبه الأشياء بنكت المداد الذي يتساقط حين أخلو إلى قلمي، فمن قطرات المداد الأسود دونت أدبي، ومن زفرات روحك الأهوج صغت روحي، وبين الأدب والروح نسب وثيق
أنا القمر وأنت السحابة في ليلة من ليالي دمياط، والنصر للنور ولو بعد حين
مالي ولهذا الحديث؟ أنا أريد وصف ليلة من ليالي الفردوس مع تلك الحورية السمراء، فكيف كانت تلك الليلة الفردوسية؟
يجب أولاً أن أقول كلمة وجيزة أبين بها بعض خصائص المرأة الجميلة حين تصبح على جانب من التهذيب والتثقيف، وحين يصبح في مقدورها أن تخوض بلباقة وبراعة في شجون من الأحاديث، فهذه المرأة تخلع على موضوع الحديث عطراً رقيقاً يسري أريجه إلى عقل المحدث فيزيده حيوية إلى حيوية، وهي تضيف إلى الحديث ألواناً لطيفة من الدعابة والدلال، وإن كانت لا تقصد إلى الدعابة والدلال، فالمرأة رقيقة بالفطرة والطبع، وقد تبلغ نهاية الرقة حين تساجل رجلاً تميل إليه بالقلب والوجدان
وهنالك ظاهرة نفسية تستحق التسجيل، فالمرأة تحاول الظهور باسم العقل، ويسرها أن تجد من يقول بأن النساء أعقل من الرجال
وهل قلنا بغير ذلك، يا ناس؟
المرأة أعقل من الرجال، بلا جدال، فلتطلب من المناصب ما تريد!
وصاحبة الليلة الفردوسية من هذا الصنف، فهي لا تكف عن المطالبة بمساواة النساء للرجال في جميع الميادين
ولكني أعارض. أعارض لأسمع صوتها البغوم وهي تجادل وتناضل. وأعارض لأرى كيف يتلون وجهها الجميل حين تنفعل وحين تصرخ؛ ولا غنى للمرأة عن الانفعال والصراخ
ما أجمل هذه الشقية حين تثور مطالبة بحقوق النساء!(540/6)
إنها ترفع ذراعها، وتلوي وجهها، ثم تحدق في لأقتنع!
وهل أقتنع إلا بعد أن أتمتع بهذه المجادلات ساعات وساعات؟
لن أقتنع أبداً، فلتحبسني في دارها لأسمع تلك الخطب اللطاف، إلى أن أمل من النعيم فأقتنع، ولن أمل ولن أقتنع!
إن كان من الخيانة للحق أن نساعد النساء على الطغيان، فأنا بإذن الهوى أول الخائنين!
ومن حسن الحظ أن خيانتي هينة الخطب، لأن المرأة بعيدة عن عملي، ولو تعرضت لي في عملي لدستها بقدمي، فللرجولة وثبات تزلزل الجبال
إذا جد الجد فلن أخضع لهذه الجنية ولو كانت من جنيات الأورمان
وما الجد وما الحق بجانب سحر الجمال؟
آمنت بك يا ربي وآمنت ثم آمنت، فلولا لطفك لردتني هذه الجنية إلى أهواء يعجز عن تصورها الخيال
أنا أحبها لأنها أصدق مني. . . تعرضت للموت في حبها فتعرضت للفضيحة في حبي، والفضيحة أفظع من الموت
ما أجملها حين تثور في المطالبة بمساواة النساء للرجال!
لو كان الأمر للهوى لمنحتها ما تريد، ولكن العقل يساجلني من وقت إلى وقت، فأثور على مطالب النساء
ما أنت أيها العقل؟ ومتى أنجو من شرك؟
مالي ولهذا الحديث؟ ألم أقل إني أريد وصف الليلة الفردوسية؟ طال الجدال حول حقوق المرأة فاقتنعت لأني شبعت من مجادلة الجنية السمراء، ولأني رغبت في تلوين الأحاديث، فدعوتها للمهادنة إلى حين
عند ذلك وقفت وقد احتضنت الكمنجة لتداعبها بأناملها اللطاف، وهي أجمل ما تكون حين تقف، لأن جمالها يرتكز في قامتها السمهرية:
أنا واللهِ هالك ... آيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
- ماذا تحب أن تسمع؟(540/7)
- أنا أحب أن أرى!
- أنت تعرف أني أبغض المزاح الثقيل
- وأنت تعرفين أني أبغض الجد اللطيف
- يظهر أننا أطفال
- نحن أطفال كبار، والطفل الكبير هو الطفل اللوذعي، لأن مطالبه مطالب رجال، لا مطالب أطفال
- وماذا تطلب أيها الطفل اللوذعي؟
- أطلب تغريدة تعبر بها الكمنجة عما أريد
ولكن الشقية رمت الكمنجة، ومدت يدها إلى المكتبة فأخرجت كتاب (ليلى المريضة في العراق)
- تصفح الكتاب، ثم اقرأ ما طوق بعلامة الخطر، وهي التأشيرة الحمراء
- اقرئي أنت
- أنا أحب أن أسمع صوت المؤلف، لأتفوق على من يتباهون بأنهم رأوا المؤلف
- كتاب ليلى لا يقرأ، وإنما يرتل، وصوتك أندى في الترتيل
- أنا أحب أن أسمع صوتك في مواقف الصبوات
عند ذلك تمثل ماضي الجميل، ماضي في ضيافة ليلى وظمياء، ماضي الذي لم يظفر بمثله أي عاشق في أي زمان
وعند ذلك تمثل شقائي في بغداد، وأي شقاء؟
كنت أرجع من دروسي بدار المعلمين العالية أو محاضراتي بكلية الحقوق فأرى العربات محملة بأقوام يمضون إلى سهرات المساء ضاحكين حالمين، وأراني أمضي إلى داري لأقضي الليل بين الورق والمداد
هل أنسى أني استهديت أحد أصدقائي عشاء في داره لأقول أني ذقت طعاماً في أحد بيوت العراق؟
البيوت العراقية مفتحة الأبواب لكل زائر، ولكني لم أهتد إلى هذه الحقيقة إلا بعد أن طال عذابي بالوحشة والانفراد في ليالي بغداد(540/8)
وفي تلك الأزمات القاسية سطرت كتاب ليلى المريضة في العراق.
تمثلت هذه المتاعب لخاطري وأنا أرتل كتابي، فانقلب الترتيل إلى نشيج، ثم رفعت بصري فرأيت دموعاً تجاوب دموعي، وهي الدموع الأبية العصية، دموع الخريدة التي قهرها الحب على البكاء، بعد طول التأبي والعصيان
- من صاحبة هذا الوحي إليك؟
- هي ليلى
- غريمتي في العراق؟
- عند القلب علم الغيب
- وماذا يقول قلبك؟
- يقول: (قلبي مات، قلبي مات)
- ولقلبك قلب؟
- ولدموعي دموع!
- وما نصيبي عندك؟
- هو أعظم نصيب، وهو أخطر من أن ينصب له ميزان، فذخائر الوجود لا تساري قطرة واحدة من دموعك الغالية
- يفتنك بكائي؟
- الدموع فوق الخدود أجمل من الأنداء فوق الورود
- ستنشر هذا الحديث في مجلة الرسالة؟
- وفي جميع المجلات
- وماذا يقول الناس؟
- وأين الناس؟
- أنت تخاطر بمركزك بالمجتمع
- وأين المجتمع يا طفلتي الغالية؟ لقد حاربت ألوفاً من الخلائق فحاربوني، فهل هزموني؟ أنا لا أخاف غير الله، وهو خوف منبعث عن الأدب، وليس له أية صلة بالخوف الذي يفهمه عامة الناس، ولو شئت لقلت إني آمن جانب الله فلا أتخوف منه أي عقاب(540/9)
- هات السند من الكتب الدينية
- حياتي هي السند، فقد تفردت بين أهل زماني بالثورة على الناس، ثم بقيت سيداً لا يمن عليه مخلوق
- ولكنك فقير، بالقياس إلى المرائين
- كيف أكون فقيراً وأنت في حيازتي، أيتها الجنية السمراء؟
- هل تبيعني لتغتني؟
- وأين أجد المشتري؟
- أنت تكايدني!
- المكايدة لغة جنية الأورمان، عليها غضبة الحب إلى آخر الزمان!
- ومن تلك الجنية؟
- هي روح لطيف، وإن لم أتمتع برؤية وجهها الجميل
- أتكون أجمل مني؟
- جمالها في الصوت، وبصوتها في الهتاف نقلت قلبي من مكان إلى مكان
- هي إذا غريمة جديدة؟
- إن آذتك الغيرة فلن تظفري مني بأي نصيب، لأن الغيرة تفسد ما بين المرأة والرجل فساداً لا يرجى له صلاح
- كنت أحسب أن الغيرة دليل على قوة الحب، وأنها منة نطوق بها قلب الحبيب
- غيرة المرأة أثرة وأنانية وتحكم وطغيان
- وغيرة الرجل؟
- غيرة الرجل رفق وحراسة ومروءة وإيمان
- أوضح ثم أوضح، لأن هذا الكلام يحتاج إلى إيضاح وإيضاح
- اسمعي يا طفلتي الغالية، إن الرجل يستطيع أن يصاهر من يشاء، ولو شهد ماضيه بأنه كان من أهل العبث والمجون. ولا كذلك المرأة، فإنها لا تجد خاطباً إلا إن شهد ماضيها وحاضرها بأنها من أهل التصون والعفاف
- هذا هو الظلم المبين(540/10)
- هو ظلم يا طفلتي الغالية، ولكنه ظلم لمن يرفع عن المرأة في أي زمان
- الفجور الصريح لا يؤذيكم، فكيف تؤذينا كواذب الشبهات؟
- كان الأمر كذلك، وسيكون لأننا أقوياء، وحق الأقوى هو الأفضل، ألم تقرئي قول لافونتين:
- وأنت أقوى منا؟
- الجواب حاضر، فبيني وبينك في السن عشرون سنة، وأنت مع هذا تعجزين عن مصارعتي، وأنا أشتهي أن تصارعيني
- ذوق هذا العصر لا يعترف بالقوة الجسدية
- القوة الجسدية هي الأساس في جميع العصور
- وهل حصنتكم القوة الجسدية من الضعف؟
- أي ضعف؟
- الضعف أمام رقة المرأة
- هذا الضعف من شواهد قوة الرجل، كما أن ضعف المرأة أمام فحولة الرجل من شواهد قوة المرأة
- أنت إذاً أضعف مني، لأن خضوعك لي أقل من خضوعي لك
- خضوع الرجل للمرأة خدعة من خدع الحرب، وأنا منتصر، والمنتصر لا يحتاج إلى الخداع
- والنتيجة؟
- النتيجة معروفة، وهي أن النساء لا يصلحن لمساواة الرجال
- أنت تعرف أني لا أرى هذا الرأي
- وأنت تعرفين أني أنكر على المرأة جميع الحقوق
- جميع الحقوق؟
- حتى حق الحب!
- إذن نفترق(540/11)
- إن طاب لك الافتراق
- ولا نتلاقى أبداً؟
- أبداً أبداً
- ولكني أرى هذه المعضلات تحتاج إلى حلول، فهل نلتقي في الأسبوع المقبل، على شرط أن نظل متخاصمين في الرأي؟
ثم انصرفت وأنا من تلك العيون على ميعاد، للمجادلة والاختلاف، وسنجادل ونختلف، ونجادل ونختلف، لأرى كيف ترفع ذراعها وتلوي وجهها، ثم تحدق في لأقتنع
آمنت بالحب والجمال، آمنت آمنت، فزدني اللهم إيماناً إلى إيمان.
زكي مبارك(540/12)
6 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
يقول عامر بن الطفيل: (وبالحري إن أدالت الأيام وثابت الأحلام أن تحدث لنا أمور لها أعلام. قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر على أمر يذكر. . .)
فمن يعني منشئ (المقامة) بما سطر؟ ومن ذا الذي ستلف الأحياء عليه، وتنقاد له؟
أغلب الظن أنه أومأ إلي ما أعلنه سطيح الذئبي وشق الأنماري وسيف بن ذي يزن. وإن قصد الصائغ عامر بن الطفيل استناداً إلى الروايات من نوع خبرة رويت فقد أبعد في ضلاله. وهذه نبذ مما زخرفوه لعامر تملى طرفا وأفاكيه:
(كان أبو علي عامر بن الطفيل من أشهر فرسان العرب بأساً ونجدة وأبعدها اسما حتى بلغ أن قيصر ملك الروم كان إذا قدم عليه قادم من العرب قال: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فإن ذكر نسبا عظم عنده، حتى وفد عليه علقمة بن علاثة، فانتسب له، فقال: أنت ابن عم عامر بن الطفيل؟ فغضب علقمة وقال: ألا أراني أعرف إلا بعامر؟ فكان ذلك مما أوغر صدره عليه وهيجه إلى أن دعاه إلى المنافرة. . .)
(قدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم. قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي. أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش. . .)
(قدم عامر بن الطفيل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم معه أربد بن قيس أخو لبيد بن ربيعة العامري الشاعر لأمه، فقال رجل: يا رسول الله، هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. فقال: دعه، فإن يرد الله به خيراً يهده. فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد، مالي إن أسلمت؟
قال: لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم
قال: تجعل لي الأمر بعدك
قال: لا، ليس ذاك إلي، إنما ذلك إلى الله (تعالى) يجعله حيث يشاء
قال: فتجعلني على الوبر، وأنت على المدر(540/13)
قال: لا
قال: فماذا تجعل لي؟
قال صلى الله عليه وسلم: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها
قال: أو ليس ذلك إلى اليوم؟ وكان أوصى إلى أربد بن قيس: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف. فجعل عامر يخاصم رسول الله ويراجعه، فدار أربد خلف النبي ليضربه، فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله (تعالى) فلم يقدر على سله. وجعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول الله فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: اللهم، اكفنيها بما شئت. فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، وولى عامر هارباً، وقال: يا محمد: دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتيانا مرداً. فقال رسول الله: يمنعك الله من ذلك وابنا قيله، يريد الأوس والخزرج، فنزل عامر ببيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضم عليه سلاحه، وخرج وهو يقول: واللات لئن أصحر إلى محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي. فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية؟ ثم مات على ظهر فرسه. . .
ذلك مما زخرفوه لعامر. ولقد كبر الرواة ابن الطفيل كثيراً، وأقعدوه فوق مرتبة عالية، وتنوقوا في صبغه وتلوينه ولكن الحق ينزله، التحقيق يزيل عن وجهه كل صبغ وتزويق، فقد أخبروا أن سبب المنافرة إنما هو مهاترة كانت بين عامر وعلقمة لا أن قيصر قال ما قال. ولما ذهبا إلى هرم بن قطبة بن سنان الفزاري ليقضي بينهما؛ قال هرم لعامر: (أتفاخر رجلاً لا تفخر أنت ولا قومك إلا بآبائه؟ فما الذي أنت به خير منه؟ فقال عامر: ناشدتك الله والرحم ألا تفضل علي علقمة، فوالله إن فعلت لا أفلح بعدها. هذه ناصيتي جزها واحتكم في مالي، فإن كنت ولابد فاعلاً فسو بيني وبينه)
وعلقمة إنما ذهب إلى الروم ودخل على ملكهم - إن صح الخبر - في زمن عمر (وقد كان شرب الخمر فضربه (رضى الله عنه) الحد، فلحق بالروم فارتد، ثم رجع فأسلم)، وعامر هلك في أيام النبي (صلوات الله وسلامه عليه)
وكان عامر فاجراً جائراً، وسماه مسهر بن زيد الحارثي (مبير قومه) وأراد يوم (فيف(540/14)
الريح) قتله، وأراحتهم منه، فوجأه بالرمح في وجهه، ففلق الوجنة، وانشقت عين عامر ففقأها، وترك مسهر الرمح في عينه. وقيل: إن عامراً وثب عن فرسه، ونجا على رجليه، وأخذ مسهر رمح عامر. وفي رائية عامر - وهي مفضلية -:
لعمري وما عمري عليَّ بهيّن ... لقد شان حرَّ الوجه طعنة مسهر
ولمسهر شعر في طعنته هذه رواه (العقد) في (يوم فيف الريح) وقد قال مسهر فيه: إنهم أخذوا امرأة عامر بن طفيل
(وقد كان بنو عامر أخذوا امرأة من بني عبس، فما لبثت عندهم إلا يوماً واحداً حتى استنقذها قومها، وفخر عامر بن الطفيل بذلك، وذكر أخذه إياها)
أبمثل هذه (البطولة) يفخر الفاخر، وهل لعامر أن يقول يقظان أو وسنان: (والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش) كما قص ابن إسحاق ونقل ابن هشام وابن جرير تقول (السيرة) لأبن هشام:
(. . . بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين. إلى أهل نجد فساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم - فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله،. . . واستصرخ عليهم قبائل من بني سليم من عصية ورعل وذكوان. . . فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قبلوا من عند آخرهم يرحمهم الله. . .)
فإذا صح ما نقل ابن هشام فكيف تجاسر عامر بن الطفيل أن يفد على رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) كافراً، لم يسلم، سافكاً دماء من سفك دماءهم من المسلمين، وقد دانت العرب للنبي، وقد ملك (الجزيرة) ثم يريد أن يقدم هو وأربد على ما نوياه، وحول رسول الله من هم حوله من أبطال الإسلام، ثم يطمع ذاك المطمع، ويغضب ويهدد، ثم يرجع وصاحبه في ذلك اليوم سالمين
لقد بالغ الصواغون في تزويق عامر وتلوينه وتشكيله وتكبيره، والتلوين حائل، والباطل زائل(540/15)
5 - بعث منشئ المقامة الحارث بن عباد من مرقده، وأصحبه الوفد، وقد درج الرجل قبل أن يؤمر النعمان قومه ويعمله سلطانه بخمسة عشر حولاً كما تحقق ذلك المحققون، فلم يقل الحارث لكسرى: (العرب تعلم أني أبعث الحرب قدما. . . حتى إذا جاشت نارها. . . جعلت مقادها رمحي وبرقها سيفي ورعدها زئيري، فأستمطرها دماً وأترك حماتها (جزر السيوف وكل نسر قشعم)) وجزر السيوف الخ مقتبس من الطويلة المنسوبة إلى عنترة بن شداد وقد استبدلت (السيوف) في (المقامة) بالسباع. وكانت وفاة الحارث المقتبس قبل وفاة عنترة بثلاثين سنة. وإن كانت تلك الطويلة الميمية إسلامية حمادية فبين الوفاتين دهر طويل. . .
(ن)(540/16)
3 - الشعر المرسل وشعراؤنا الذين حاولوه
للأستاذ دريني خشبة
بين يدي الآن وأنا أكتب هذه الكلمة بواكير من الشعر المرسل لا بأس بها للشعراء الأساتذة: محمد فريد أبى حديد علي أحمد باكثير وأحمد زكي أبي شادي وعبد الرحمن شكري وخليل شيبوب والمرحوم جميل صدقي الزهاوي، ثم قطعة للآنسة سهير القلماوي (السيدة الدكتورة الآن)
ولما كانت القطع التي نظمها الأستاذ عبد الرحمن شكري والمرحوم جميل صدقي الزهاوي، ثم القطعة التي نظمتها الآنسة سهير متشابه من حيث القصر، ومن حيث كونها أقرب إلى القصائد منها إلى ما وضع الشعر المرسل من أجل (النظم المسرحي ونظم الملاحم والقصص الكبيرة) فنحن مضطرون إلى صرف النظر عنها الآن، على أن نعود إليها في فرصة أخرى، ونرجو أن نوفق إلى ذلك بعد الفراغ من استعراض آثار الشعراء الأفاضل الباقين، لأنها أهم ما في الأدب العربي الحديث من الشعر المرسل. أما قطعة الأستاذ شيبوب فقد جمع فيها بين ستة أبحر وربما تناولناها في حينها
فللأستاذ أبي حديد:
1 - مقتل سيدنا عثمان (درامة كاملة)
2 - خسرو وشيرين
3 - ميسون الغجرية (أوبريت كاملة)
4 - زهراب ورستم (ملحمة نقلها بهذا الشعر عن الشاعر الإنجليزي ماثيو أرلوند)
5 - بعض المشاهد عن درامات مختلفة لشكسبير
وللأستاذ باكثير
1 - السماء أو إخناتون ونفرتيتي (درامة كاملة)
2 - إبراهيم باشا
3 - روميو وجولييت (ترجمة عن شكسبير)
وللأستاذ الدكتور أبي شادي:
1 - ممنون (اقصوصة منقولة عن فولتير)(540/17)
2 - ترنيمة أتون (منقولة بالشعر الحر عن العلامة برستد الذي ترجمها عن الهيروغليفية إلى الإنجليزية)
3 - مملكتي إبليس (شبه ملحمة للدكتور الفاضل)
4 - كثير من القطع القصيرة الأخرى
الرائد الأول:
لست أدري أي الرائدين فكر لأول مرة في موضوع الشعر المرسل في مصر خاصة وفي العلم العربي عامة، أهو الأستاذ الشاعر عبد الرحمن شكري، أم هو الأستاذ الشاعر محمد فريد أبو حديد؟ ليكن أيهما شئت، فالذي يهمني وأفرح به وأتعصب له هو أنهم أحرزا لمصر قصب السبق في هذا الميدان الجديد من ميادين النظم؛ ولن يمنعني تعصبي للشعراء المصريين من أن أكون أول المصفقين لشعراء الشعوب العربية العزيزة حينما يظهر من بينهم هذا الشاعر الأصيل المجلي الذي يبرز في الميدان ويأتي في موضوع الشعر المرسل بطرائف وغرر تبذ طرائف وغرر شعرائنا، ما دام هدفنا هو تجديد الأدب العرب، وتجديد الشعر العربي بوصف كونه فرعاً من فروع هذا الأدب، وإخراجه من حدوده الشكلية والموضوعية الضيقة التي وقفت عند النهضة الأندلسية الكبرى
على أنني لا أشك مطلقاً في أن الأستاذ أبا حديد هو الشاعر الثائر الأول الذي فكر في نظم درامة كاملة بالشعر المرسل الذي لا يخضع لسلطان القافية، فقد نظم درامة (مقتل سيدنا عثمان) سنة 1918 أي منذ خمس وعشرون سنة، عندما تخرج من مدرسة المعلمين العليا، وعندما وضعت الحرب الكبرى الأولى أوزارها
وقد نظمها الأستاذ أبو الحديد لنفسه كما يقول في المقدمة. . . أو على حد تعبيره هو: (. . . لقد كان أبعد شيء من تصوري أن تتلك الرواية سوف تقع عليها عين سواي، فإني ما كتبتها إلا لكي ألهو بكتابتها، أو إن شئت قلت أني لم أكتبها إلا للذة النفسية التي كنت أجدها في تأليفها، فلما أن أتممتها كما رسمت وضعتها في درج مكتبي، وكنت لا أعيرها بعد ذلك ألتفاتاً. . .)
وقد بقيت الرواية في هذا الدرج المظلم المكدس بالمسودات عشر سنوات تباعاً. . . ولم ترى الضوء إلا سنة 1927 حينما كان الأستاذ مدرساً بمدرسة الأمير فاروق الثانوية،(540/18)
فطبعتها المدرسة لحسابها الخاص ومثلتها فرقة التمثيل بها
ونحن يسرنا أن نسجل هذا كله لفائدة تاريخ الأدب العربي الحديث، وتاريخ الأدب المصري بنوع خاص
وقبل أن نتناول الدرامة بشيء من التلخيص أو التحليل أو النقد نثبت النادرة، أو الفكاهة الأدبية التاريخية التالية:
عندما فرغ الأستاذ أبو حديد من نظم روايته، أو كتابتها كما يقول هو، حملها معه، وانطلق بها كأنه وقع على لقية، أو اهتدى إلى الأكسير الذي أضنى كيمائيي العرب، حتى إذا بلغ جريدة الأهرام، دخل على الأستاذ الأديب المغفور له صادق عنبر فحدثه حديثها، الذي هو حديث الشعر المرسل، ثم استأذن الأستاذ في أن يتلو عليه بعض مناظرها. . . ثم انطلق في هذه التلاوة، وعنبر عليه رحمة الله مصغ له. منصت إليه. . . وقد خيل إلى الأستاذ أبي حديد أن الأديب الكبير غفر الله له ما تقدم من ذنبه - وما تأخر أيضاً - قد أخذ فعلاً بجمال هذا اللون الغريب من ألوان الشعر، واستولى على نفسه سحره؛ فلما فرغ الشاعر الشاب من تلاوته، التفت إليه الأديب العتيد وتبسم قائلاً أتدري يا أبا حديد؟ إن مصر لم تكسب من هذه الحرب الكبرى غير شيئين. . . الشعر المرسل. . . والحمى الإسبانيولية! وكانت الحمى الإسبانية قد تفشت عقب تلك الحرب في مصر حتى أذاقت أهلها الأمرين!
ولست أدري لماذا نجوت أنا من براثن تلك الحمى التي أشفيت بسببها على الهلاك إذ ذاك، ولماذا عشت إلى سنة 1943، لأدعو من جديد إلى الشعر المرسل، توأم الحمى الإسبانيولية وصونها في نظر المغفور له الأستاذ صادق عنبر؟!
ترى. . . ماذا كان وقع هذا اللقاء في نفس الأستاذ أبي حديد؟ ولكن لماذا نسأل؟. . . لقد مضى ينظم من الشعر المرسل الذي يتخلله بعض الشعر المقفى تلك الأوبريت الجميلة الرائعة (ميسون الغجرية) والتي طبعها على حسابه هو، لا على حساب مدرسة كذا أو معهد كذا أو لجنة كذا من لجان التأليف. . . ثم مضى يترجم ثم ينظم ملحمة زهراب ورستم التي استأذن القراء فأقول إني أكاد أحفظ أصلها الإنجليزي عن ظهر قلب لروعة أسلوبها وجمال تسلسلها وبهاء شعرها المرسل المنظوم بقلم ماثيو أرنولد الشاعر الناقد العظيم! وقد فرغ أبو حديد من نظمها شعراً مرسلاً سوف أعرض نماذج منه في حينه(540/19)
ونقف بعد ذلك لحظة. . . لقد ذكرت في الثبت الذي وضعته بين أيدي القراء في صدر هذا المقال للأستاذ أبي حديد، درامة خسرو وشيرين، ولست أدي لماذا صنعت هذا دون أستأذن الأستاذ في ذلك، إذ أنه نظم الدرامة وأعدها للطبع. . . ثم طبعها بالفعل. . . وأصدرها دون أن تحمل اسم مؤلفها!. . . إذن لماذا أذيع أنا هذا الاسم دون استئذان؟ هل صنعت ذلك دون وعي، أو أنا إنما صنعته خدمة لتاريخ الأدب المصري الحديث؟
ثم نتساءل بعد هذا لماذا لم يثبت الأستاذ أبو حديد اسمه على روايته؟ قد تجد من ذلك الذي نقتطفه من المقدمة جواب هذا السؤال: (. . . وأما إذا أنت صبرت أيها القارئ، فقرأت سطران أو سطرين أو ثلاثة من هذا المطبوع ثم قذفت به حيث أردت لم تكن في ذلك بالمعذور، بل كنت متفضلاً مضحياً من أجل مجاملتي، مع أنك لا تعرف من أنا، وفي هذا أدب عظيم وكرم مطبوع. وأما إذا كنت قد بلغت من قوة ضبط النفس ورياضتها على المكارة بحيث استطعت أن تثبت على القراءة حتى أتيت إلى آخر كلمة، ثم تركت لنفسك العنان بعد طول كبحها وحبسها فانطلقت تصخب وتشتم وتنادي بالويل والثبور - إذا فعلت ذلك كنت في نظري بطلاً من أبطال العزيمة وقوة الاحتمال. على أنك لو فعلت ذلك لم يمسسني منك أذى، وإن بلغت في ثورتك مبلغاً مخيفاً لأن قد توقعت مثل ذلك فأخفيت نفسي حتى لا تتحرج فيما تفعل. . . . . . فأفعل ما بدا لك أيها القارئ ولا تتورع فإن أحجارك أو سهامك لن تصل إلي!)
ولا بد لنا من أن نقتطف القطعة التالية أيضاً
(وأما إذا كنت يا أخي - ولا مؤاخذة - ممن في ذوقهم شذوذ عن المألوف مثلي فاستحليت من هذا القول ما يمر في الأذواق أو أعجبك منه ما يقبح في الأنظار فلك رثائي وعطفي، فالمريض يعطف على مثله! ومن آية رثائي لك وعطفي عليك أنني أنصحك نصيحة أرجو أن تقبلها. . . فقد تعرضت قبلك من جزاء شذوذي عما ألفه الناس لكثير من الألم والفشل؛ فأحذرك من إظهار رأيك - (أي في استحسان الشعر المرسل! - أمام أحد من الناس ولو كان من أعز أصدقائك، فالصداقة قد لا تقوى على الثبوت مع الشذوذ في الرأي والذوق. . .))
لماذا يا ترى يتحرج صاحب مذكرات جحا! - (وهذه غلطة عظيمة أخرى نغلطها من دون(540/20)
وعي) - كل هذا التحرج ويتأثم كل ذلك التأثم؟! هل يتحرج كل هذا التحرج، ويتأثم كل ذلك التأثم، لأنه كما يقول شذ عن مألوف الناس في نظم الشعر، وثار بقوافي العروض العربي، فتعرض لكثير من الألم والفشل؟. . . ولكنا نسائل أنفسنا عن هذا الألم وذاك الفشل أين هما؟ وإن كان أبو حديد قد تعرض للكثير منهما فما باله لم ينصرف عن هذا الشعر المرسل الثقيل الغث الذي يعرض ناظمه - أو كاتبه - لألوان مرة من الألم، وصنوف كثيرة من الفشل؟ ما باله لم ينصرف عن هذا البلاء الذي يؤمن بأن قراءة سطر أو سطرين منه كافية لأن تضع الحصى في يد القارئ فيحصب به الناظم أو الكاتب لو رآه؟ ما باله يطول جنينه إلى هذا النظم السمج النابي على الأذواق فيكتب به كل تلك الروايات وينظم منه هذه الملاحم التي يعترف بأن قراءة سطر أو سطرين منها تضحية من القارئ وأدب عظيم وكرم مطبوع السخاء نفس وتفضل. . . وإن القارئ إذا خرج بعد قراءة هذا وسطر أو هذين السطرين عن طوره فقذف بما نظم أبو حديد من حالق أو قذف به في نار جهنم أو نار المدفأة أو مزقه أو ألقى به من النافذة أو دفعه إلى الأطفال يعبثون به، فهو معذور لا تثريب عليه، لأن أبا حديد زعم له بأنه صاحب نظم جديد وصاحب رسالة جديدة - صاحب نظم جديد هو هذا النظم المرسل الذي لم يعرفه الذوق العربي فضلاً عن أن يألفه، وصاحب رسالة جديدة هي توسيع مودة الأغراض التي يجب أن يتسع لها أفق الشعر العربي والأدب العربي جميعاً فتكون لنا درامة عربية وتكون لنا درامة عربية منظومة، وتكون لنا درامة عربية منظومة كما ينظم الشعراء العباقرة في أوربا. . . إذا لم يكن من ذلك بد، فلا بد أن نقحم الشعر المرسل على الشعر العربي إقحام، ولا بد أن نصعر خدودنا للناس وأن نلح عليهم في قبول هذا الشعر المرسل حتى يعرفوه وحتى يألفوه وحتى يغرموا به كما عرفه الأوربيون وألفوه وأغرموا به من القرن السادس عشر إلى اليوم. . . لا بد أن نقحم الشعر المرسل على الشعر إقحاماً، ويجب أن نصعر خدودنا معشر الشعراء للناس، ويجب أن نتحمل أذاهم مهما يكن مبلغ هذا الأذى. فما حصوات نرجم بهن مرة أو مرتين، وما كلمات من سباب لن يمتلئ بهن الهواء قط توجه إلينا هنا أو هناك؟ سنلح عليهم كما ألح أبو حديد، فإذا بلغ سخطهم علينا حد القتل، لا قدر الله، فلنمكر بهم كما مكر، ولنمضي في سبيلنا من حيث كتابة الدرامات والملاحم المنظومة بالشعر المرسل ولنطبعها لهم(540/21)
ولنوزعها عليهم بالمجان. . . فلنحصيهم بها كما حصبونا بالحجارة ولا داعي مطلقاً لكتابة أسمائنا - نحن معشر الناظمين أو الكاتبين - عليها. ولتكن تضحيتنا في ذلك خالصة لوجه الوطن والأمم العربية ولوجه اللغة والأدب. الأدب العربي والأدب المصري على السواء. . . ولن نعدم كاتباً كصاحب هذا المقال يفاجئ الناس بالحق، ويذكر لهم أننا أصحاب هذه الدرامة والملاحم الضائعة. . . ومن يدري؟ فقد يأتي يوم يستسمح الناس فيه رجعتهم وتمسكهم بالقديم الرث. وقد يزيدون فينزعون عنهم ما نسج لهم المهلهل وذو الرمة وعلقمة النحل ليرتدوا أفوافاً من نسجنا نحن. . . وحينئذ لا نجد داعياً لهذا التخفي، بل ربما أصابنا طائف من الزهو والخيلاء فآثرنا ركوب الجمال ليرانا الناس جميعاً ويشار إلينا بكل بنان! وهل في ركوب الجمال شذوذ كشذوذ الشعر المرسل؟ وهل ركوبهن خروج على مألوف الناس كخروج الشعر المرسل على المألوف المعروف من قوافي الشعر العربي؟ ولماذا نعد ركوب الجمال شذوذاً وخروجاً على مألوف الناس مع أن المهلهل كان يركب الجمال، والمهلهل هو الذي هلهل الشعر فيما يهذمي مؤرخو الأدب العربي، وهو الذي جعل للشعر تلك القوافي المطردة إلى ما زال الناس في جميع العالم يستحلونها ولا يرون الفكاك من أغلالها، فلماذ لا نركب الجمال العالية كما كان يصنع المهلهل. . .
وندع المهلهل الذي لم يفرض على الناس شعره وقوافيه، ونعود إلى أبي حديد نسائله عن هذا الشعر المرسل، وعن طول حنينه إليه، وما باله يذكر النضال عن هذا الشعر عند ما تصدر مجلة الرسالة فينشر في سنتها الأولى استفتاء عاماً يجعل موضوعه ترجمة نثرية لخطبة أنطوني في درامة يوليوس قيصر لشكسبير - والترجمة بقلم الأستاذ الجليل محمد حمدي بك - ثم ترجمة للخطبة نفسها بالشعر المرسل بقلمه هو. . . فيما كان هذا الاستفتاء إذن؟ وفيم كانت محاولة إغراء الناس أو مغازلة أذواقهم بموضوع هذا الشعر؟ لقد كانت نتيجة الاستفتاء نصراً شبه كامل لشعر أبي حديد، فما الذي ثناه عنه يا ترى؟ وما الذي أقعده عن المضي فيه؟ ولماذا حرم أبو حديد أدبنا المصري الحديث من طرفه الرائعة، ومن روحه الدرامية الناضجة، ومن فكاهته العذبة السائغة، ومن فنه المسرحي المتفتح؟ لماذا تصدر درامته - (خسرو وشيرين) - دون أن تتشرف بحمل اسم صاحبها؟ صاحبها الثائر الأول الذي ينبغي أن يحفظ له تاريخ الأدب المصري هذا الجميل الخالد، وتلك اليد النقية(540/22)
المباركة،. . . والى متى تظل ملحمة (زهراب ورستم) حبراً على ورق؟ وكيف ينتصر ترسينو في إيطاليا سنة 1551 وينهزم أبو حديد وشعراء النظم المرسل في مصر في القرن العشرين؟
ولكن ما هو هذا الشعر العربي المرسل الذي من أجله عقد هذا الفصل؟
ذلك ما لا يتسع له مجال القول الآن.
دريني خشبة(540/23)
أوزان الشعر
1 - الشعر الأوربي
للدكتور محمد مندور
يخيل إلي أننا قد وصلنا الآن إلى مرحلة من نمو ثقافتنا يجب عندها أن نأخذ أنفسنا بالصرامة فيما نكتب، فلا نتحدث إلا عن بينة تامة وتحقيق لما نقول، بعد أن نكون قد عمقنا الفهم، وإلا فسنظل ندهم ونتوهم أننا نعرف شيئاً نافعاً، ونحن في الواقع نضرب شرقا بغرب ضالين مضللين.
وهناك مسائل لا يكفي للحديث عنها أن نقرأها في كتاب إنجليزي أو فرنسي ثم ننقلها إلى قرائنا حسبما نظن أننا قد فهمناها. هذا لا ينبغي. ونأخذ اليوم لتلك المسائل مثلاً من (أوزان الشعر)، كما تحدث عنها الأستاذ دريني خشبة فيما يحشد من أحاديث.
يريد الأستاذ أن يميز بين العروض الإنجليزي وغيره من الأعاريض الأوربية وبين العروض العربي، فيقول: (وبحسبنا هنا أن نذكر أن العروض الإنجليزي، بل كل أنواع العروض في اللغات الأوربية، إنما أساسها التفعيلة وليس أساسها الأبحر كما في العروض العربي). وهذا قول لا معنى له إطلاقا، لأن جميع أنواع الشعر الشرقي والغربي على السواء تتكون من تفاعيل يجتمع بعضها إلى بعض، فتكون الأبحر والشعر العربي في هذا كغيره من الأشعار. وإنما التبس الأمر على الأستاذ لأنه رأى الأبحر في الإنجليزية تسمى باسم التفعيلة المكونة لها، فيقولون. . الخ. وأما في العربية فقد وضعوا لها أسماء أخرى كالطويل والبسيط وغيرها. وإذا كانت في الشعر العربي أبحراً متجاوبة التفاعيل كالطويل أو البسيط مثلا حيث نجد التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع، فإن هناك أيضاً أبحر متساوية التفاعيل كالمتدارك والرجز والهزج والكامل وغيرها. وهذه وتلك كان من الممكن أن تسمى بأسماء تفاعيلها فالمسألة مسألة مواضعة. وإذا كانت في الشعر العربي زحافات وعلل فإن الشعر الأوربي أيضاً فيه ما يسمونه بالإحلال فتراهم يضعون مقطعاً سبوثدياً محل مقطع داكتبلي أو مقطع إيامبي، وفي الشعر العربي والشعر الأوربي معاً لا يغير هذا الإحلال من اسم التفعيل الأصلي. وإذن فكل الأشعار من هذه الناحية لا تختلف في شيء.(540/24)
وإنما تتميز الأشعار ببينة التفاعيل، وهنا نلاحظ أن الأستاذ خشبة لم يدرك بأذنه حقيقة الشعر الإنجليزي، وكان السبب في ذلك اعتماده فيما أرجح على قواميس اللغة الإنجليزية، فقد قرأ في أحد كتب العروض الإنجليزي أن هناك شعراً تتكون تفاعيله في الأيامب، وشعراً تتكون تفاعيله من الداكتيل. . . الخ. مما يجده القارئ في هامش مقاله، وبحث في القاموس فوجد أن الأيامب عبارة عن وحدة من مقطعين، أولهما قصير والثاني طويل وهكذا. وفاته أن هذه التعاريف لا تنطبق على الشعر الإنجليزي بسهولة، وإنما هي خاصة بالأشعار اليونانية واللاتينية، ففي هاتين اللغتين تتميز المقاطع بعضها عن بعض بالطول والقصر، وأما اللغة الإنجليزية واللغة الألمانية فتتميز مقاطعها قبل كل شيء بالارتكاز الصوتي فهناك مقاطع تنطق بضغط وأخرى بغير ضغط، وعلى هذا يكون الأيامب وحدة من مقطع لا يحمل ارتكازاً وآخر يحمله. ومن ثم لا يكون الشعر الإنجليزي (شعراً كمياً بل (شعر ارتكاز وهذا هو الرأي المعتمد.
وفي موضع آخر يقول الأستاذ: (ويفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري نسبة إلى الإسكندر الأكبر القصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقاً وهو يتكون من اثني عشر مقطعاً (ست تفعيلات إيامبية مقطعين). (وهذا القول أيضاً يدل على أنواع من عدم الدقة بل ومن الخطأ البين. فعدم الدقة نجدها في شرح سبب تسمية هذا البحر فهو ليس نسبة إلى الإسكندر الأكبر بل نسبة إلى رواية بالذات كتبت في القرن الثاني عشر بفرنسا (عن الإسكندر الأكبر) ' ومنها لأول مرة استعمل هذا البحر بدلاً من الأبحر الأقصر منه التي كانت مستعملة في القرون الوسطى. وأما الخطأ ففي ظن الأستاذ أن البحر الإسكندري في الشعر الفرنسي يتكون من ست تفعيلات إيامبية مقطعين، فهذا لا وجود له في الشعر الفرنسي ومن المعلوم أن اللغة الفرنسية قد فقدت منذ قرون: (1) الكم فلم تعد هناك مقاطع طويلة ومقاطع قصيرة إلا في حالات نادرة في أواخر الكلمات مثل ومن المسلم به عند الفرنسيين وعند جميع من كتبوا عن الشعر الفرنسي إن هذا الشعر لا علاقة له بكم المقاطع (2) الارتكاز فألفاظ اللغة الفرنسية لم تعد تحمل ارتكازاً وإنما يوجد ارتكاز في أواخر الجمل، فكل جملة فرنسية أو شبه جملة تنتهي بارتكاز نجس أنه ارتكاز شدة ارتفاع معاً إلا في حالة الوقف فإن يعتبر(540/25)
ارتكاز شدة فحسب. فمثلاً جملة لا نجد منهما غير ارتكازين اثنين أولهما على والآخر على والارتكاز الأول ارتكاز شدة وارتفاع في الصوت، وأما الثاني فشدة فقط لأن الارتفاع يسقط للوقف. وإذن الشعر الفرنسي ليس شعراً كمياً ولا شعراً ارتكازياً لسبب واضح هو أن مقاطع تلك اللغة لا تتميز بكم ولا ارتكاز. الشعر الفرنسي يسمونه بكل بساطة (شعر مقطعي)
من هذه الملاحظات يتبين لنا أن هناك ثلاثة أنواع من الشعر كما نحب من الأستاذ خشبة ما دام قد أراد أن يبصرنا بحقائق الأوزان أن يميز بينها لنحاول بعد ذلك أن نرى أين يقع منها الشعر العربي، وبذلك قد نستطيع أن نساعد على ظهور أنواع جديدة من الشعر العربي تمكن شعراءنا الكبار الذي يعجب بهم الأستاذ من إجادة فنهم حقاً. وعندئذ سنرى المسرحيات تكتب شعراً كما كانت تكتب منذ ثلاث قرون، ونكون بعملنا هذا قد أثبتنا للعالم المتحضر أنهم مخطئون في عدم استمرارهم على استخدام الشعر في المسرحيات
هذه الأنواع الثلاثة هي: (1) الشعر الكمي (2) الشعر الارتكازي (3) الشعر المقطعي
أما النوع الأول فهو الشعر اليوناني واللاتيني القديم، وأما النوع الثاني فهو الشعر الإنجليزي والألماني، وأما الثالث فهو الشعر الفرنسي
الشعر الكمي:
لنأخذ لذلك مثلاً بيت فرجيليوس في الإلياذة:
نجده مكوناً من ستة تفاعيل، وكل تفعيل مكون من مقطعين طويلين (سبونديه)، أو مقطع طويل ومقطعين قصيرين (داكتيل)، ما عدا التفعيل الأخير فمقطعه الأخير قد يكون قصيراً ويكتفي به لأن الوقف يعوض المقطع الآخر القصير الذي حذف. وإليك التقطيع مع رمزنا للمقطع الطويل بالعلامة - والمقطع القصير بالعلامة =
-=-== -=-
-
وأما الأساس الذي يعتبر به المقطع طويلاً أو قصيراً فيرجع إلى الحرف الصامت فإذ كان طويلاً بطبيعته كما هو الحال في بعض الحروف اليونانية، أو كان حرفاً مزدوجاً أو كان(540/26)
ناتجاً عن إضغام حرفين صامتين، أو كان متلواً في نفس المقطع بحرف صامت اعتبر المقطع طويلاً وإلا فهو قصير. وفي القواميس الجيدة نجد دائماً كم الحروف الملتبسة
ونحن لا نريد أن نطيل في تحليل موسيقى هذا النوع من الشعر. فهي لا شك لا تقف عند التفاعيل والمقاطع بل لا بد لها من إيقاع ينتج عن وجود ارتكاز شعري يسمى وهو يقع على مقطع طويل في كل تفعيل. كما أن هناك وقفاً هاماً في كل بيت يشبه الوقف على الشطر في البيت العربي. وهو في البيت السابق يقع بعد المقطع السابع كما وضحنا بالعلامة=والواقع أن أوزان الأشعار اليونانية واللاتينية معقدة صعبة حتى بالنسبة لمن يتقنون تلك اللغات وذلك لأن نطقها غير معروف على وجه دقيق، ومن باب أولى عناصرها الموسيقية. ولهذا نكتفي بما ذكرنا معتذرين عن اضطرارنا إليه تكملة للعرض
(للكلام صلة)
محمد مندور(540/27)
المشكلات
10 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لقد كان يكفيني ما قدمته من الأدلة على فساد الطريقة الرسمية في تعليم اللغة العربية، وعلى صحة الطريقة التي بينتها وأفضت الكلام فيها، ولكني أعلم أن المألوف شديد انتزاعه، وأن النفوس تكره العدول عما وجدت عليه الآباء والأجداد إلى شيء لم يكونوا عليه، وربما خيل إليها أن السلف الماضين لم يؤثروا هذه الطريقة على ما عداها إلا لفضلها وكفايتها، وأن العدول عنها إلى غيرها عدول عن الحق النافع إلى الباطل الضار، ولو كان في هذا الجديد خير لسبق إليه الأولون
وإني أريد أن أبين أن الطريقة التي ندعو إليها هي طريقة العصور الزاهرة لسلفنا الماضين، وأنها لم تتغير إلى الطريقة التي نشكو منها إلا في عصور الضعف والتأخر العلمي، وأريد أن أذكر من أقوال السلف ما يشهد بتفضيل هذه الطريقة على طريقة القواعد والقوانين لأونس القلوب بأن ما أدعو إليه ليس شيئاً أنا ابتدعته وإنما هو شيء كان يعلمه رجال العلم والتربية من آبائنا السابقين
وأريد بعد ذلك أن أذكر بعض أقوال رجال التربية من علماء الغرب في هذا الموضوع لأبين أن العقل والدليل ورجال العلم في القديم، ورجال التربية في الحديث وعلماء الشرق والغرب على أن اللغات إنما تكتسب بالتكرار والحفظ والتعهد والدربة وأن القواعد والقوانين لا تكسب ملكة اللغة أول كتاب وضع في نحو اللغة العربية وعكفت عليه الأجيال هو الكتاب لسيبوية، وهو كتاب مليء بالشواهد من كلام العرب، شعرها ونثرها، وكلام الله وكلام الرسول، وأبياته تزيد على الألف، وكان الدارس له يحفظ أبياته وشواهده ويدرس قواعده، فيكتسب ملكة اللغة بما يحفظ من المنظوم والمنثور، ويعلم قوانينها بما فيه من القواعد، ولم يكن النحوي هو من عرف القواعد فحسب، بل كان النحوي هو من عرف القواعد، وحفظ أشعار العرب، وعلم تخريجها، وحفظ أيامهم وخطبهم وحكمهم ومساجلاتهم؛(540/28)
ولذلك كان اسم النحوي مرادفا لاسم الأديب، وألف العلماء كتباً في تراجم النحويين سميت باسم طبقات الأدباء، كما فعل ابن الأنباري في كتابه نزهة الألباء في طبقات الأدباء - وإذا قرأنا ترجمة من تراجم أساتذة النحو في عصوره الأولى كالمبرد والكسائي والفراء وابن جني بهرنا ما نرى من حفظهم وإتقانهم واطلاعهم على شعر العرب والمحدثين واستيعابهم لغة العرب، والملكة التي جاءتهم من مزاولة هذه اللغة؛ فما من غريب إلا وهم به محيطون، وما من شاهد أو مثل إلا وهم به عالمون، وما من أسلوب إلا وهم عارفون بمعناه قادرون على تخريجه
ولم يكن الأمر كذلك في النحو فقط بل كان أيضاً في البلاغة، فأول كتاب ألف في البيان العربي وصل إلينا هو البيان والتبيين لأبي عمر وعثمان بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ وهو كتاب حوى من الأشعار والخطب والأحاديث والأمثال والمساجلات ما هو كفيل بتربية ملكة البيان، والكتب التي وضعت بعده كالبديع لابن المعتز، ونقد الشعر لأبي الفرج قدامة ابن جعفر، والصناعتين لأبي الهلال العسكري، كلها كتب ملئت بالشواهد والأمثلة، ومتنوع الأساليب، وقد عنوا بذلك ولزموه وحافظوا عليه ثقة منهم بأن كسب ملكة البيان إنما تكون بحفظ الأساليب التي استكملت شروط البلاغة، وابن الأثير في كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر حذر دارس كتابه أن يقتصر على القواعد التي في الكتاب، وأوجب عليه أن يكتسب الذوق الأدبي بالاطلاع على بيان العرب من منظوم ومنثور والإكثار من حفظه وممارسته ممارسة أساليبه؛ قال في مقدمة كتابه: ومع هذا فإني أتيت بظاهر هذا العلم دون خافية، وحمت حول حماه ولم أقع فيه، إذ الغرض إنما هو الحصول على تعليم الكلم التي بها تنظم العقود وترصع، وتخلب العقول فتخدع، وذلك شيء تحيل عليه الخواطر، لا تنطق به الدفاتر. واعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم، وهذا الكتاب وإن كان فيما يلقيه إليك أستاذاً، وإذا سألت عما ينتفع به في فنه قيل لك هذا، فإن الدربة والإدمان أجدى عليك نفعاً، وأهدى بصراً وسمعاً، وهما يريانك الخبر عياناً، ويجعلان عسرك من القول إمكاناً، وكل جارحة منك قلباً ولساناً، فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك، واستنبط بإدمانك ما أخطاك، وما مثلي فيما مهدته لك من هذه الطريقة إلا كمن طبع سيفاً ووضعه في يمينك لتقاتل به وليس(540/29)
عليه أن يخلق لك قلباً؛ فإن حمل النصال، غير مباشرة القتال
وإنما يبلغ الإنسان غايته ... ما كل ماشية بالرحل شملال
وكان كلما أفرط في درس القواعد والتعمق فيها ظهرت آراء تدعو إلى القصد في درسها والاقتصار منها على ما أقام الألسن. قال ابن السكيت: خذ من الأدب ما يعلق بالقلوب، وتشتهيه الآذان، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام، ودع الغوامض، وخذ من الشعر ما يشتمل على لطيف المعاني، واستكثر من أخبار الناس وأقاويلهم وأحاديثهم ولا تولعن بالغث منها
وقال الجاحظ في رسائله: (فصل في رياضة الصبي، وأما النحو فلا تشغل قلبه منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه، وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به، ومذهل عما هو أرد عليه منه، ومن رواية المثل للشاهد، والخبر الصادق، والتعبير البارع. وإنما يرغب في بلوغ غايته، ومجاوزة الاقتصاد فيه، من لا يحتاج إلى تعرف جسيمات الأمور، والاستنباط لغوامض التدبير لمصالح العباد والبلاد، والعلم بالقطب الذي تدور عليه الرحى، ومن ليس له حظ غيره، ولا معاش سواه. وعويص النحو لا يجدي في المعاملات، ولا يضطر إليه شيء)
وقد وجد شعور منذ زمن طويل بتفضيل تعلم اللغة بالملكة على تعلمها بالقواعد، عيب على عمار الكلبي بيت من شعره فامتعض وأنشد أبياتاً منها.
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قوم على إعراضهم طبعوا
فهذا الشاعر قد فاضل بين الطريقتين، وفضل الطريقة العملية على الطريقة العلمية التقريرية
وكان الناس يأخذون ألسنتهم بالإعراب ويلتزمون العربية في كلامهم. وكانوا يعيبون من يلحن ويحفظونه عليه ويتحدثون به. وما زال الأمر كذلك في النحو والبلاغة حتى نبتت في العصور المظلمة تلك الحماقة التي تقدس القواعد وتجعلها كل شيء في تعليم اللغة وتربية ملكتها؛ وأعطتها قوة العصا السحرية، فما هو إلا أن يضرب المرء بها حتى يستحوذ على لغة العرب فيكتب بها ويخطب ويساجل وينظم الشعر، فأكثروا من القواعد وأقلوا من عرض المثل والشواهد والأساليب، وورثنا نحن عنهم هذه الطريقة وسرنا عليها حتى الآن(540/30)
ورجال التربية في القديم والحديث والشرق والغرب طالما دعوا إلى تعليم اللغات بالحفظ والتكرار والمرانة والدربة، وبينوا أن القواعد والقوانين لا تعلم اللغة ولا تكون ملكتها، وطالما نددوا بهذه الطريقة التقليدية، وبهذا الأسلوب العقيم في تعليم اللغة؛ فابن خلدون الفيلسوف الاجتماعي م 808هـ بين في مقدمته أن اللغة ملكة، وأن الملكات لا تكتسب بالقواعد؛ إنما تكتسب بالحفظ والتكرار. قال في فصل عنوانه (أن اللغة ملكة صناعية) اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة؛ إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني. . . (والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة، أي صفة راسخة)، ثم بين أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم، وكان حرياً بأهل القرن الثامن وما تلاه من قرون أن ينتفعوا بآرائه وبما بسطه هذا العالم المجدد ودعا إليه من آراء في التربية، ولكن ابن خلدون رجل سبق عصره فلم تنتفع به أمم الشرق، ومن المؤلم أننا في عصرنا الحديث لم نفك قيود التقليد، وننفض عنا غبار الكسل، ونحرر أنفسنا من هذه الطريقة التي تلاحقنا نتائجها إخفاقا بعد إخفاق، وخيبة أثر خيبة
هذا حديث الشرق وحديث الغرب أعجب، فما من كاتب كتب في التربية إلا وأنحى على طريقة القواعد، ورأى أن اللغة لا تعلم إلا بالحفظ والمحادثة؛ فروسو رجل الفكر الفرنسي في القرن الثامن عشر نبه في صراحة على أن اللغات يجب أن تعلم بواسطة المحادثات لا بواسطة الصرف والنحو. والدكتور غوستاف لوبون المفكر الفرنسي ذكر في كتابه روح التربية أن الأمم الراقية لا تأخذ التلاميذ في تعليم اللغات بكتب النحو وإنما تأخذهم بالكلام المألوف. ثم قال وهذه الطريقة لا تحرم التلاميذ درس النحو. فهو يدرس النحو أحسن درس بهذه الطريقة اللاشعورية التي تحول النحو إلى ملكة راسخة لا إلى تكلف وتعمل. . .
ودعا سبنسر الفيلسوف الإنجليزي في كتاب التربية إلى تعليم اللغات بأسلوب أشبه بسنن الطبيعة التي يتعلم بها الطفل لغته الأصلية بلا معين ولا مرشد فيضمحل التعليم بواسطة القواعد ويعتاض عن ذلك بطرق ناجعة، وذلك ما أفضى إلى تأجيل تعليم علوم النحو والصرف والبلاغة للطلاب. واستأنس في ذلك برأي المسيو مارسيل الذي ذهب فيه إلى أن(540/31)
علوم النحو والصرف والبلاغة ليست مما يبتدأ به في تعليم الأطفال، ولكنها متممات ومكملات. ثم قال سبنسر: وقصارى القول أنه لما كانت علوم النحو والصرف والبلاغة إنما نشأت بعد تكون اللغة كان من الواجب أن يتلقاها التلميذ بعد تكون اللغة، وسوى هؤلاء كثير من رجال التربية في العصر الحديث
إن أساليب التعليم والتربية التي تسير عليها أمة من الأمم هي خير مقياس لعقليتها وثقافتها ومقدار نضوجها، فإن كانت تجري على قوانين العقل والوجود وتساير الرقي الإنساني العام، وتلائم روح طبائع الأشياء، استدللت بذلك على ثقافتها ورقيها؛ وإن كانت تخالف ذلك أمكنك أن تحكم على الأمة بالتأخر في مضمار الحياة. وبالضعف في شتى مناحيها العقلية والاجتماعية والسياسية، وإن الأمم الرابضة حولنا، والمتطلعة إلينا، والتي تخالطنا وتجاورنا لتحكم علينا بما نصطنعه من أساليب في التربية والتعليم؛ فلنأخذ بالأسلوب المطابق لطبائع الأشياء وقوانين الوجود في تعليم اللغة العربية، إن لم يكن لإتقان اللغة والتوفيق في تعليمها، فالاتقاء حكم الأمم علينا بالتأخر في مضمار الحياة.
محمد عرفة(540/32)
2 - جامع أحمد ابن طولون
(حديث ألقي في نادي النجادة في ليلة القدر)
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر في سوريا ولبنان
إنه لمن غير المستصعب والمستغرب أن يقيم رجل العصبية دولة بين أهله وعشيرته، ولكن أن يخرج رجل وحيد ينحدر من سلالة في أواسط آسيا، فيؤسس ملكا عريضاً يضم مصر والشام والثغور والعواصم، ويسيطر بذكائه وفطنته فيقود، وينتصر، وتخضع له الخاصة والعامة، وتدين له الرقاب ويقارع أكبر سلطة شرعية، ذلك أمر لا يتم إلا لرجل قد امتاز عن كافة الناس وخصته العناية بصفات من الأخلاق والمزايا النفسية لا تتوفر في غيره
ويذكرني ذلك بما كتبه أحد مفكري الغرب عن عظماء الرجال في القرن العشرين إذ قال: إن هناك قوات جامحة من قوى الطبيعة تسبح في فضاء هذا الكون، فتصيب الرجل العظيم الذي هيأته العناية لدور فاصل في تاريخ الإنسانية، فتراه قد استيقظ إذ لمسته وأفاق فقبض على هذه القوى بكلتا يديه، فدانت له الجماعات وخضعت لمشيئته، فإذا هو على رأسها يسخر هذه القوى ويدفعها إلى الأمام فيغير مجرى الحوادث ويكتب التاريخ كما يشاء، ذلكم هو أبو العباس أحمد بن طولون، رجل من عظماء التاريخ العربي ملك مصر وقاد وانتصر
ولسنا في موضوع الحديث عنه ولا عن أعماله لنؤرخ له، وإنما نحن في مقام التعريف لذلك الرجل الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وإذا كان لي أن أختم هذه الكلمة وما أصعب على النفس ختمها فما لي سوى ترديد قول شوقي في شعره الخالد عن الزعيم مصطفى كمال إذ ينطبق على أميرنا ابن طولون:
هو ركن مملكة وحائط دولة ... وقريع شهباء وكبش نطاح
وأنتقل الآن إلى الجزء الثاني من هذه المؤانسة فأحدثكم عن زيارتي لجامع ابن طولون
كان ذلك في خريف العام الماضي، حينما حللت بالقاهرة المعزية، وكان وقت الأصيل حينما توجهت إلى جامع ابن طولون وارتقبت ذلك لأرى أثر أشعة الشمس وقت غروبها،(540/33)
وما تلقيه من روعة، على منظر القاهرة، فإن رؤية مآذنها العالية وقباب مساجدها التي تعد بالمئات مما يدخل في قلبي رهبةً وإحساساً فائضاً وحنيناً إلى الماضي وعوداً إليه
ولما صعدت إلى قمة المنارة ونظرت إلى أطراف المدينة من مشهد السيدة نفيسة والإمام الشافعي، إلى القلعة فالسلطان حسن والرفاعي، ثم إلى جامع الجاولي حيث أعجبني هذا التناسق البديع الفائق الحد الذي يبدو بالنظر إلى القبتين المتجاورتين إذ هما قطعتان من قطع الفن العربي الخالد
ولا أحدثك عن الذكريات التي غمرتني ساعتئذ وإنما تساءلت كيف حفظت العاصمة كل هذا التراث العربي العظيم؟ وكيف خرج من كل أدوار التاريخ خالداً، وهو يدافع المحن ويسمو على طوفان الحوادث
ولا بأس من إيراد حديث دار مع سيدة من كبريات سيدات الغرب، وقت أن نزلت من المنارة واتجهت إلى صحن الجامع، فقد كانت جالسة على كرسي فحيتني أحسن تحية، ثم قالت لي كالمعاتبة لغيري:
(متى بلغ اهتمامكم بآثاركم العربية هذا الحد حتى أتيت من بيروت لتقضي إجازتك السنوية، ووقت راحتك في منادمة أطلال الماضي وما درس من آثاره؟)
قلت: بلى أحن إلى هذه الجدران، وأعرف نقوشها، وهذه المئذنة والمحاريب وهذا المنبر الذي وضعه حسام الدين لاشين، وما شعرت يوماً بأني غريب عنها، بل هي عندي صورة من صور الماضي الباقي الذي يفيض حياة، ويلازم فكري، واستمد منه قوة على قوة، وأسير في هداه، وأستعير منه الحجة لأقرع بها الحجة. . .
ولما تركتها متجهاً إلى الأروقة قلت يا لله! إن المساجد له، وهي مع ذلك تعلو علواً كبيراً، ليغمرها العز والسؤدد والمجد ثم تهبط إلى التدهور والتفكك والنسيان حتى يقيض الله لها من ينتشلها من وهدتها. فالنتعرف إلى بعض الشيء من عظمة هذه الجدران. . .
لقد حمل هذا الثرى الذي أسير عليه ابن طولون وملكه، وطالما ازدحم هذا الصحن بالأمراء والجند والعامة، ولو نطقت هذه الجدران لحدثتنا حديث رجال الفقه والتفسير والحديث الذين اجتمعوا هنا لسنين خلت. ولأعادت علينا آيات الكتاب الكريم التي رتلت أصوات المؤذنين والشيوخ والقراء التي ذهبت في أعماق الماضي البعيد. أين صناديق(540/34)
المصاحف الطولونية والشمعدانات التي وضعها الحاكم بأمر الله؟
أين القناديل المعلقة بالسلاسل التي وصفها المؤرخون؟
أين الأبسطة والفرش من عبدانية وسامانية التي أمر بها ابن طولون وخص بها المساجد؟
أين جماهير المصلين وحلقات الدرس والتلاوة؟
ووقفت أمام المحراب الكبير، وقلت هنا صلى بالناس، عندما كمل الجامع، القاضي بكار بن قتيبة إماماً، وهو مفخرة من مفاخر القضاء المصري في القرن الثالث، وهدية البصرة لمدينة مصر
وعلى منبر في مكان هذا قام أبو يعقوب البلخي يوم الافتتاح خطيباً؛ ثم جاء الربيع بن سليمان، وهو من تلامذة الشافعي رضي الله عنه، بل من أحبهم إلى قلبه، فافتتح دروسه في إملاء الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام
(من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة).
ففي أي ركن من هذه الأركان كان هذا الدرس؟
وأين اللوحة التذكارية لهذا اليوم؟
لابد أن يكون مكان هذا الدرس على مقربة من المحراب الكبير، فلنتمهل ولنترحم على صاحب الدرس وعلى شيخه وأستاذه.
(للحديث صلة)
أحمد رمزي(540/35)
البريد الأدبي
مسابقة الأدب العربي
سأثور على الكسل وأشرح الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي في هذه السنة، على نحو ما صنعت في السنوات الماضية، مع الثناء على من أثاروني يوم تجمهروا حولي من جمعية الشبان المسلمين، ومع الثناء على الخطاب الوارد من دمياط
والغاية واضحة، وهي أن أساعد فريقاً من الطلبة على انتهاب جوائز وزارة المعارف، وسينتهبونها بأيسر مجهود بعد إدراك ما أقدم إليهم من التوجيهات. والله هو الموفق
سأبدأ في الأسبوع المقبل بنقد كتاب (قادة الفكر) للدكتور طه حسين بك، ثم أمضي إلى نقد سائر الكتب المقررة في الحدود التي يسمح بها الوقت، وسيسمح الوقت لأن الامتحانات التحريرية ستقع في الرابع والعشرين من فبراير المقبل، ثم تقع الامتحانات الشفوية بعد ذلك بأيام أو أسابيع.
وسأسكت عن كتاب (المختار) للمرحوم الشيخ عبد العزيز البشري، لأني تكلمت عنه بإسهاب في العام الأسبق ويستطيع المتسابقون أن يرجعوا إلى حديثي عنه بمجموعة الرسالة في مكتبات المدارس الأميرية
ولا يفوتني أن أنص على أن الذين يختارون كتب المسابقة للأدب العربي - وهم رجال فضلاء - لم ينسوا في أي عام كتب الدكتور طه حسين، وكتب الأستاذ أحمد أمين، ولم يفتهم النظر إلى الكتب المودعة بمخازن لجنة النشر والترجمة والتأليف؟
أنا لا أعترض، وإنما أسجل ظاهرة أدبية، ولا حرج على من يصدق في تدوين التاريخ.
زكي مبارك
إلى الأستاذ محمد عرفة
أخي العزيز
قرأت فصولك في اللغة العربية بإمعان. وكلما تم فصل منها أترقب غيره بشغف حتى بلغت تلك الفصول التسعة عدداً. وهنا أشفقت ألا تطلع علينا بجديد منها فبادرت إليك لأبدي لك شعوري نحو هذا الإصلاح المنشود. وهو إحياء اللغة الفصحى وجعلها ملكة يلهج بها(540/36)
اللسان دون تكلف. . . إني أخاطبك الآن كأخ لأخيه أو بالحرى كانسان لنفسه.
أخي العزيز. . .
إن لغتنا هي من أبدع اللغات وأغناها؛ ولكنها كالكنز الدفين الذي لا يتمتع به أصحابه. إذا أشقينا النفوس بدراستها السنين تلو السنين فلن نفوز منها بطائل يشفي تلك النفوس وينعشها ويحررها من ذلك النقص الذي تشعر به أبداً وقد أورثها تلك الأدواء التي يصفها لنا علم النفس الحديث
إن لغتنا الفصحى سهلة؛ بل سهلة جداً؛ ولكن الصعب فيها كما بينت يا أخي في فصولك التسعة في الرسالة الغراء - أنها لم تصبح بعد ملكة عندنا. . . ولكن. . .
ألا ترى يا أخي أن الفصحى إذا تناولها الجمهور أفسدها. إن ما بين أيدينا اليوم من كتب وصحف ومجلات. أكثرها فصيح الأسلوب، ولكن هذا الفصيح كتب عليه الفشل. إنه لا يقوى على النهوض إذا خاطب عيون القراء. . . لماذا. . . لأن الخط الحاضر (الكتابة) هو الذي أفسد اللغة
فلو كان الخط أميناً لصور لنا الكلام بأمانة مطلقة تصويراً كاملاً واضحاً لا لغز فيه ولا إبهام. ثم لو كان الخط أميناً. . . لكانت الفصحى منتشرة على كل لسان
وكيف نكتب الفصحى بالمران والتكرار عن طريق القراءة التي لا نهاية لها لو ظلت هذه تقدم لنا صباح مساء بخط مبهم العلامات والضوابط. .؟
أتريد أن تنشر الفصحى يا أخي، قبل أن تحررها من سجن الخط الحاضر. إن الفصحى كادت تموت بين جدران الخط العربي الحاضر المبهم الذي لا ضابط له ولا شكل.
أراني وقد أطلت عليك الحديث مرغماً بعد العذر أن أرجو ملحاً ألا توصد ذلك الباب قبل أن تكمل فصولك الممتعة في هذه المجلة موجهاً عنايتك توجيهاً مخلصاً إلى حل مشكلة الخط أو الكتابة الحاضرة ولك مني وللرسالة - الغراء - ألف شكر
ا. . عكاوي
المهرجان الأدبي بالسودان
يسرني أن أزف إلى الناطقين بالضاد في كل قطر ومصر، والى أبناء العروبة أجمعين،(540/37)
والى المتحرقين شوقاً لمعرفة سير موكب النهضة الأدبية في السودان، أن المهرجان الأدبي الخامس قد تم بمعونة الله إخراجه للناس بنادي الخريجين بالخرطوم في ثاني وثالث أيام عيد الفطر المبارك في حلة زاهية قشيبة وبطريقة مبتكرة جذبت إليه الجمهور المثقف أمام تلك الدار الزاهرة. في ذلك اليوم المشهود خلق كثير أتوا من كافة أنحاء السودان لشهود هذا العيد الثقافي المجيد الذي أصبح الناس هنا يعدونه عيداً قومياً له دلالته ومعناه. والحقيقة أنه جدير بهذه العناية وهذا الاهتمام
أجل أقيمت تلك السوق الأدبية الحافلة فألقيت البحوث الأدبية والتاريخية والعلمية، وأنشدت القصائد، وعرضت اللوحات الفنية، وترنم المغنون بأغانيهم الشجية، كما أنشد نشيد المهرجان. ولا يفوتنا أن نذكر أن موسيقى الجيش المصري كانت تشنف الأسماع بحلو الأنغام وعذب الألحان فقوبلت تلك المساهمة من رجال الجيش المصري البواسل بالتقدير والحمد وهناك ملاحظة جديرة بالذكر وهي أن أدباء مصر لم يساهموا في هذا المهرجان ولم يبعثوا بأي إنتاج فكري كما اشتركوا في المهرجان الماضي؛ ولم نسمع صوتاً لباقي أبناء البلاد العربية. فعسى أن نسمع أصوات هؤلاء جميعاً في المهرجان المقبل بإذن الله
ولقد كان المهرجان الأدبي حدث المحافل والمجتمعات في أيام العيد، بل حديث القطر بأجمعه، لأنه حدث أدبي جليل الشأن في النهضة الحديثة في السودان؛ فللأدب الآن دولة بالسودان لها رعية وأنصار
ويلذ لي أن أذكر أن المهرجانات الأدبية تقام عندنا هنا في كل عيد فطر. ولقد أقيم المهرجان الأدبي الأول بمدينة واد مدني عاصمة مديرية الجزيرة، ثم انتقل المشعل إلى أم درمان العاصمة الوطنية، ولم يتم إخراج المهرجان الثاني لأسباب قهرية، ولكن المهرجان الثالث قد أقيم في نفس المدينة أي أم درمان، ثم سلمت المشعل إلى نادي الخريجين بالخرطوم في العام الماضي فدأب أشبال النادي يعملون لإخراج المهرجان الرابع؛ لكن الأمنية لم تتحقق لأسباب طارئة. وفي هذا العام تمكن النادي عينه من إخراج المهرجان الخامس الذي نحن بصدد الحديث عنه
ولعل من المفيد أن أذكر نادي الخريجين بواد مدني هو الذي أخرج المهرجان الأول وهو صاحب الفكرة نفسها، ونادي الخريجين بأم درمان هو الذي أقام المهرجان الثالث، كما أرى(540/38)
من الإنصاف أن أقول إن الخريجين في كل مدينة في السودان هم مصدر الحركة والنشاط والنهضة
أما المهرجان الأدبي السادس الذي يجب أن يقام في عيد الفطر المقبل فلم يعين بعد اسم النادي الذي سيتولى هذه المهمة السامية فنسأل الله التوفيق
(الخرطوم - السودان)
حيدر موسى(540/39)
العدد 541 - بتاريخ: 15 - 11 - 1943(/)
في الشعر العربي
للأستاذ عباس محمود العقاد
في العدد الماضي من الرسالة كلام عن (الشعر المرسل وشعرائنا الذين حاولوه) للأستاذ دريني خشبة يقول فيه بعد الإشارة إلى بعض الأدباء والشعراء: (. . . لست أدري أي الرائدين فكر لأول مرة في موضوع الشعر المرسل في مصر خاصة وفي العالم العربي عامة، أهو الأستاذ الشاعر عبد الرحمن شكري أم الأستاذ الشاعر محمد فريد أبو حديد. . .)
والذي نذكره على التحقيق أن الابتداء بالشعر المرسل في العصر الحديث محصور في ثلاثة من الشعراء لا يعدوهم إلى آخر، وهم السيد توفيق البكري، وجميل صدقي الزهاوي، وعبد الرحمن شكري.
ولكني لا أذكر على التحقيق من منهم البادئ الأول قبل زميليه. ولعلي لا أخالف الحقيقة حين أرجح أن البادئ الأول منهم هو السيد توفيق البكري في قصيدته (ذات القوافي)، ثم تلاه الزهاوي في قصيدته نشرت بالمؤيد، فعبد الرحمن شكري في قصائد شتى نشرت بالجريدة وجمعت بعد ذلك في دواوينه
وكانت مشكلة القافية في الشعر العربي على أشدها قبل ثلاثين سنة، ولم تكن هذه المشكلة قد عرفت قط في العصر الحديث قبل استفاضة العلم بالآداب الأوربية واطلاع الشعراء على القصائد المطولة التي تصعب ترجمتها في قصيدة في قافية واحدة، كما يصعب النظم في معناها مع وحدة البحر والقافية
وكان زميلنا الأستاذ عبد الرحمن شكري يعالج حلها بإهمال القافية ونظم القصائد المطولة من بحر واحد وقوافي شتى
وكنت وزميلي الأستاذ المازني نشايعه بالرأي ولا نستطيب إهمال القافية بالأذن. فنظمت القصائد الكثار من شتى القوافي ثم طويتها ولم أنشر بيتاً واحداً منها، لأنني لم أكن أستسيغها ولا أطيق تلاوتها بصوت مسموع، وإن قلت النفرة منها وهي تقرأ صامتة على القرطاس
إلا أننا كنا نفسح الفرصة لهذه التجربة عسى أن تكون النفرة منها عارضة لقلة الألفة(541/1)
وطول العهد بسماع القافية
وقد أعربت عن هذا الرأي في مقدمتي للجزء الثاني من ديوان زميلنا المازني، فقلت:
(. . . رأي القراء بالأمس في ديوان شكري مثالا من القوافي المرسلة والمزدوجة والمتقابلة، وهم يقرءون اليوم في ديوان المازني مثالا من القافيتين المزدوجة والمتقابلة، ولا نقول إن هذا هو غاية المنظور من وراء تعديل الأوزان والقوافي وتنقيحها، ولكنا نعده بمثابة تهيئ المكان لاستقبال المذهب الجديد، إذ ليس بين الشعر العربي وبين التفرع والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية وشعراء الوصف وشعراء التمثيل، ثم لا تطول نفرة الآذان من هذه القوافي لا سيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان، فتألفها بعد حين وتجتزئ بموسيقية الوزن عن موسيقية القافية الواحدة
(وما كانت العرب تنكر القافية المرسلة كما نتوهم، فقد كان شعراؤهم يتساهلون في التزام القافية كما في قول الشاعر:
ألا هل ترى إن لم تكن أم مالك ... بملك يدي إن الكفاء قليل
رأي من رفيقيه جفاء وغلظة ... إذا قام يبتاع القلوص ذميم
فقال أقلا واتركا الرحل إنني ... بمهلكة والعاقبات تدور
فبيناه يشري رحله قال قائل ... لمن جمل رخو الملاط نجيب)
إلى آخر الشواهد التي أتيت بها في تلك المقدمة
وكنت أحسب يوم كتبت هذه المقدمة أن المهلة لا تطول إلا ريثما تنتشر القصائد المرسلة في الصحف والدواوين حتى تسوغ في الآذان كما تسوغ القصائد المقفاة، وإنها مهلة سنوات عشر أو عشرين سنة على الأكثر ثم نستغني عن القافية حيث نريد الاستغناء عنها في الملاحم والمطولات أو في المعاني الروحية التي لا تتوقف على الإيقاع
ولكني أراني اليوم وقد انقضت ثلاثون سنة على كتابة تلك المقدمة ولا يزال اختلاف القافية بين البيت والبيت يقبض سمعي عن الاسترسال في متعة السماع، ويفقدني لذة القراءة الشعرية والقراءة النثرية على السواء. لأن القصيدة المرسلة عندي لا تطربنا(541/2)
بالموسيقية الشعرية ولا تطربنا بالبلاغة المنثورة التي نتابعها ونحن ساهون عن القافية غير مترقبين لها من موقع إلى موقع ومن وقفة إلى وقفة
والظاهر أن سليقة الشعر العربي تنفر من إلغاء القافية كل الإلغاء حتى في الأبيات التي تحررت منها بعض التحرير
فالأبيات الأربعة التي أتينا بها آنفاً قد اختلف فيها حرف الروي بين اللام والميم والراء والباء، ولكن الحركة لم تختلف بين جميع الأبيات، بل لزمت الضم وفيها جميعاً وهي حركة تشبه الحرف في الأذن وإن لم تشبهه في أحكام العروضيين والنحاة
والأمر كما نحسه في حكم الأذن يتفاوت بين مراتب ثلاث من الألفة والارتياح إلى السماع
فالقافية تطرب حين تأتي في مكانها المتوقع
وإهمال القافية يصدم السمع بخلاف ما ينتظر حين يفاجأ بالنغمة التي تشذ عن النغمة السابقة
والمرتبة التي تتوسط بينهما هي التي لا تطرب ولا تصدم، بل تلاقي السمع بين بين لا إلى التشوق ولا إلى النفور
فانتظام القافية متعة موسيقية تخف إليها الآذان
وانقطاع القافية بين بيت وبيت شذوذ يحيد بالسمع عن طريقه الذي اطرد عليه ويلوي به لياً يقبضه ويؤذيه
إنما التوسط بين المتعة والإيذاء هو ملاحظة القافية في مقطوعة بعد مقطوعة تتألف من جملة أبيات على استواء في الوزن والعدد، أو هو ملاحظة الازدواج والتسميط وما إليهما من النغمات التي تتطلبها الآذان في مواقعها، ولو بعد فجوة وانقطاع
وربما زاد هذا التصرف في متعتنا الموسيقية بالقافية ولم ينقص منها إلى حد التوسط بين الطرب والإيذاء
فالأذن تمل النغمة الواحدة حين تتكرر عليها عشرات المرات في قصيدة واحدة. فإذا تجددت القافية على نمط منسوق ذهبت بالملل من التكرار ونشطت بالسمع إلى الإصغاء الطويل، ولو تمادى عدد الأبيات إلى المئات والألوف
لهذا لا نحسب أن السنين التي مضت منذ ابتداء التفكير في الشعر المرسل قد مضت على(541/3)
غير طائل
لأننا عرفنا في هذه الفترة ما نسيغ وما لا نسيغ، فعدل الشعراء عن تجربة الشعر المرسل الذي تختلف قافيته في كل بيت وجربوا التزام القافية في المقطوعات المتساوية أو في القصائد المزدوجة والمسمطة وما إليها؛ فإذا هي سائغة وافية بالغرض الذي نقصد إليه من التفكير في الشعر المرسل، لأنها تحفظ الموسيقية وتعين الشاعر على توسيع المعنى والانتقال بالموضوع حيث يشاء
ومن ثم يصح أن يقال إن مشكلة القافية في الشعر العربي قد حلت على الوجه الأمثل ولم تبق لنا من حاجة إلى إطلاقها بعد هذا الإطلاق الذي جربناه وألفناه
ففي وسع الشاعر اليوم أن ينظم الملحمة من مئات الأبيات فصولاً فصولاً ومقطوعات مقطوعات، وكلما انتهى من فصل دخل في بحر جديد يؤذن بتبديل الموضوع، وكلما انتهى من مقطوعة بدأ في قافية جديدة تريح الأذن من ملالة التكرار. ويمضي القارئ بين هذه الفصول والمقطوعات كأنه يمضي في قراءة ديوان كامل لا يريبه منه اختلاف الأوزان والقوافي بل ينشط به إلى المتابعة والاطراد
وإذا كان الأوربيون يسغيون إرسال القافية على إطلاقها فليس من اللازم اللازب أن نجاريهم نحن في توسيع ذلك على كره الطبائع والأسماع، وبخاصة حين نستطيع الجمع بين طلبتنا من المتعة الموسيقية وطلبة الموضوعات العصرية. من التوسع والإفاضة في الحكاية والخطاب
وآية ذلك أننا نقرأ الشعر المرسل في اللغة الأوربية ولا نفتقد القافية بين الشطرة والشطرة أقل افتقاد
وقد خيل إلينا أننا ننساها ولا نفتقدها لأننا غرباء عن اللغة وعن مزاج أهلها. فلما سألنا الأوربيين في ذلك قالوا لنا إنهم لا يفتقدونها ويستغربون أن نلتفت إلى هذا السؤال، لأنهم هم لا يلتفتون إليه
وسواء رجعنا بتعليل ذلك إلى وحدة القصيدة عندنا وعندهم، أو إلى أصل الحداء في لغتنا وأصل الغناء في لغتهم، أو إلى غلبة الحسية في فطرة الساميين وغلبة الخيالية والتصور في فطرة الغربيين، فالحقيقة الباقية هي أننا نحن الشرقيين نلتذ شعرهم المرسل ولا نفتقد(541/4)
القافية فيه، وأننا ننفر من إلغاء القافية عندنا ونداريه بالتوسط المقبول بين التقيد والإطلاق. وأنهم ليتقيدون في بعض أوزانهم الغنائية بقيود تثقل علينا نحن حتى في الموشحات، فليس من اللازم اللازب أن نعتمد مجاراتهم أو يعتمدوا مجاراتنا في كل إطلاق وتقييد. ولهم دينهم ولنا دين!
عباس محمود العقاد(541/5)
مسابقة الأدب العربي
قادة الفكر (لطه حسين)
للدكتور زكي مبارك
تمهيد
كتاب (قادة الفكر) هو في الأصل بحث وجيز كتبه الدكتور طه بك حسين ليكون هدية لقراء مجلة الهلال، يوم كان لمجلة الهلال هدايا سنوية. والمؤلف يعتذر في ختام كتابه بأنه كتبه في ظروف منوعة الألوان، فلم يكن في جميع تلك الظروف مطمئن النفس فارغ البال. ومعنى ذلك أنه يرى محصول الكتاب دون ما يريد، ولهذا اعتذر بعبارات حزينة تثير الإشفاق
ونحن ننوب عن الدكتور طه في تقديم هذا البحث الوجيز، فنقول إنه تحفة أدبية وعقلية، وإنه يشهد بقدرته على تلخيص ما يقرأ من جيد التصانيف. وكلمة (تلخيص) كلمة مدح في هذا المقام، لأن المؤلف لم يرد أن يواجه المعضلات الفلسفية مواجهة الباحث المعتزم أخذ الفلاسفة بنقد ما خلفوا من حقائق وأباطيل
والدكتور طه نفسه يعترف بأنه ملخص: يعترف اعتراف العلماء، فلا يدعي أنه أجهد فكره في غير التلخيص، ولكن أي تلخيص؟ لقد قدم للقراء صوراً سريعة متلاحقة بأسلوب سريع لا يسمح للقراء بالوقوف لحظة من زمان
هل أبخل على المؤلف بكلمة ثناء فأشهد أني قرأت كتابه في سهرة واحدة، وأني عشت معه لحظات أمتع من لحظات الحوار الطريف بين الندماء؟
مزية الدكتور طه أنه يكتب كما يتحدث، وأنه ينقل إلى قرائه ما استقر في نفسه بلا تكلف ولا افتعال
لم يبتكر الدكتور طه كتابه هذا، إذا أردنا من الابتكار معناه المطلق، فلكتابه نظائر في الأدب الأوربي، وإنما ابتكره في الأدب العربي، فهو أول كتاب لخص آراء الباحثين في طوائف من قادة الفكر الذين سيطروا على العالم القديم والعالم الحديث
وتكاد تكذب الدكتور طه حين يقول إنه يلخص، لأنه يفترع الأبحاث بقوة توهمك أنه(541/6)
المفترع الأول، وأن كتابه سيكون المصدر لمن يتحدثون عن هوميروس أو سقراط أو أفلاطون
وهذا كلام أقوله لمنفعة قرائي، وأنا أحب لهم ما أحب لنفسي، ولو كان هذا الكتاب ضعيفاً لأخذت بخناق الدكتور طه بدون ترفق، لأني لا أجامل أحداً على حساب الفكر والبيان
آفة الإخلاص في التلخيص
التلخيص مطلوب، ولكنه لا يخلو من آفات، لأنه يصد المؤلف عن تعقب من ينقل عنهم نقل الواثق بأنهم على هدى في جميع الأقوال
وقد وثق الدكتور طه بمن نقل عنهم فلم يجادلهم في رأي من الآراء
وتوضيح هذه المؤاخذة أن الدكتور طه ساير الباحثين الأوربيين في القول بأن الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافة الإنسانية، وأن الناس في الشرق والغرب، وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان
والحق أن للدكتور طه عذراً في هذه المسايرة، فقد قرأ كتباً ترى هذا الرأي، ولو أنه تريث لعرف أن هنالك كتباً أجدر من تلك الكتب بالتلخيص، وهي الكتب التي ترى أن المعارف اليونانية منقولة عن المعارف المصرية، وأن فلاسفة اليونان القدماء لم يكونوا إلا تلاميذ لفلاسفة مصر القدماء
وأنا لا أسوق هذه المؤاخذة تعصباً لبلادي، فاليونانيون أنفسهم يعترفون بأنهم تلاميذ المصريين، وكانت زيارة مصر واجبة على كل يوناني يريد التفقه في درس أسرار الوجود
أستاذية مصر الفرعونية لليونان الوثنية ليست أسطورة من الأساطير، وإنما هي حقيقة من الحقائق. وإن أراد الدكتور طه أن يساجلني فأنا حاضر للسجال، ومعي العقل الذي ثقفه الدكتور طه يوم كان أستاذي بالجامعة المصرية
هدية نفيسة
كان من المألوف بيني وبين الدكتور طه أن نتقارض الهدايا العلمية والأدبية، قبل أن تدور الدسائس بيني وبين هذا الأستاذ الجليل، وأنا أريد اليوم أن أقدم إليه هدية أرجو أن يتقبلها مني(541/7)
قال في كتابه (مستقبل الثقافة): إن عقلية مصر عقلية يونانية، وإنه لابد من أن تعود مصر إلى احتضان فلسفة اليونان.
وأقول إن الأفضل أن يعترف الدكتور طه بأن الفلسفة اليونانية منقولة عن الفلسفة المصرية، وإذن يكون تقبل مصر لفلسفة اليونان ترحيباً بآراء مصرية رجعت إلى أهلها بعد طول الشتات
طفولة الإنسانية
أفي الحق أن العقل الإنساني لم ينضج إلا في القرن الرابع قبل المسيح؟ هذا سؤال لم يخطر للدكتور طه في بال
العقل الإنساني نضج ونضج قبل الوثنية اليونانية بأزمان وأزمان، وكان مصدر نضجه في مصر التي سبقت اليونان بأجيال وأجيال
وأقول مرة ثانية إني لا أتعصب لبلادي، فليقل من يعرف أكثر مما أعرف إن مصر سبقت إلى إذاعة الفكر والعقل عند القدماء، على شرط أن يقدم البراهين
أنا لا أوجب نظرياً أن تكون مصر أول أمة رفعت أعلام الحضارة الإنسانية، فمن المحتمل أن تكون سبقت بأمم سكت عنها التاريخ، ولكن التاريخ المكتوب يحدثنا أن مصر أول أمة رفعت أعلام الحضارة الإنسانية، فما الذي يمنع من أن يتلطف الدكتور طه فيقول كما تقول الوثائق بأن مصر سبقت اليونان إلى رفع قواعد المدنية في أقدم عهود التاريخ.
أنا لا أبتكر وإنما ألخص ما قرأت، بدون أن أزعم أني أقدر من الدكتور طه على التلخيص، وإن كان من حقي أن أزعم أني قرأت أكثر مما قرأ في تاريخ تلك العهود
اليونانيون تلاميذ المصريين، والبلاد المصرية في جميع الأزمنة أخصب من البلاد اليونانية، بدليل أن مصر كانت الملاذ لليونان في الفكر والمعاش، ولم يثبت يوماً أن مصر احتاجت إلى الاستظلال بظلال اليونان
والتاريخ القديم يؤيده التاريخ الحديث
لم تستطيع اليونان بعد ظهور الإسلام أن تكون أمة تسيطر على الشرق أو الغرب، وهي قد جهلت تاريخها القديم وجهلت مبادئ فلاسفتها القدماء، وجهلت أيضاً لغة سقراط، فمجدها رهين بتعصب أنصارها من الأوربيين(541/8)
أما مصر فقد وقفت وقفة أبية في رد الحروب الصليبية، وذلك موقف لن ينساه التاريخ
معذرة يا أستاذي، فقد بدا لي أن أرد إليك بعض ما أسديت إلي من جميل
بين الإيجاز والإطناب
أطنب الدكتور طه حين تحدث عن قادة الفكر في العصر اليوناني، ثم أوجز إيجازاً مخلاً حين تحدث عن قادة الفكر في العصر الإسلامي، فهل يرى أن الصراع الفكري في عهود الوثنية كان أقوى من الصراع الفكري في العهد التي احتدم فيها النضال بين الإسلام والنصرانية؟
يرجع السبب في الإيجاز والإطناب إلى الكتب التي كانت بين يديه وهو يؤلف كتابه اللطيف، وأهما كتاب ليون روبان في تاريخ الفكر اليوناني
ولو كانت الأقدار قضت بأن يظهر كتاب يؤرخ الفكر العربي لكان من المؤكد أن يصول الدكتور طه صولة القادر على شرح ما قام به العرب في رفع القواعد من الحضارة الإنسانية
لقد قرر أن الإسكندر غرس الفكر اليوناني في الهند، مع أن الإسكندر لم يلم بالهند إلا إلمامة الطيف، فما عساه يقول لو تذكر أن الفكر العربي تغلغل في أرجاء الهند، وما زال يتغلغل بفضل المذاهب الإسلامية؟
أهم فصول الكتاب
الفصل المكتوب عن هوميروس خفيف الوزن، ويقرب منه الفصل المكتوب عن سقراط، ثم تجلت قدرة المؤلف على البيان حين تحدث عن أفلاطون وأرسططاليس، وسيسأل الطلبة حتماً عن هذين العبقريين، لأنهما المنشئان الأصيلان للفلسفة اليونانية
أما الفصل المكتوب عن الإسكندر فهو غرة الكتاب، ولعله من أجمل ما كتب الدكتور طه حسين. وأهمية هذا الفصل ترجع إلى براعة المؤلف في تصوير قدرة الفلسفة حين تنتقل إلى الميادين العملية، وكذلك يقال في الفصل الخاص بجبروت يوليوس قيصر، وما استطاع أن يصنع في إيقاظ الرومان
والفصل الخاص بالعصر الحديث موجز جداً، ولكنه جيد ففيه لمحات فكرية على جانب من(541/9)
الجمال
أما بعد فكتاب (قادة الفكر) أوضح من أن يحتاج إلى توضيح، وأنا أوصي الطلبة بأن يقرءوه مرات لأن محصوله مبدد غاية التبديد، ولا يمكن إدراك مرامي المؤلف إلا بعد طول النظر فيما بعثر من المعاني هنا وهناك
وأنا حاضر لشرح ما يستغلق على الطلبة الذين يختارون هذا الكتاب للامتحان الشفوي.
زكي مبارك(541/10)
4 - الشعر المرسل
درامات الأستاذ أبي حديد وملحمته
للأستاذ دريني خشبة
قبل أن أعرض على القراء الأفاضل، وأصدقائي الشعراء منهم خاصة، نماذج مما نظم روادنا الأوائل في الشعر المرسل، وفي مقدمتهم الثائر الأول الأستاذ محمد فريد أبو حديد، ثم الأساتذة: علي أحمد باكثير، وأحمد فريد أبو شادي، وخليل شيبوب، ومن عسينا أن نعرض لهم من شعرائنا فيما بعد. . . قبل أن أعرض هذه النماذج أرجو أن أذكر القراء والشعراء على السواء أن الشعر المرسل لا يستعمل إلا في الروايات التمثيلية والملاحم والقصص الطويلة بأنواعها، وأرجو أن أذكرهم أنهم حينما يتفضلون بقراءته فواجب ألا يقفوا عند آخر البيت أو السطر يتلمسون الفقيد العزيز الذي ضحى به في هذا الشعر. . . هذا الفقيد الذي ما اخترع الشعر المرسل إلا لتخلص من شره. . . هذا الفقيد هو القافية
يجب ألا يقف القراء عند آخر كل سطر يتلمسون هذا الفقيد الذي يحسن ألا يعز عليهم مغيبه، بل يجب أن يقرأوا هذا الشعر المرسل على أنه كلام موزون لا ينتهي عند آخر البيت أو السطر، ولكنه ينتهي عندما ينتهي الغرض من الكلام أو الغرض من الحوار. . . فالكلام جارٍ ما جرى الحوار ولا يقف إلا عند نهاية المنظر، وليس يقف أجزاء أجزاء عند القافية كما هي الحال في الشعر الغنائي
وقد اتخذ الأستاذ أبو حديد - الشطر - وحدة له في شعره المرسل، وكذلك الأستاذ باكثير؛ أما الأستاذ أبو شادي فقد جعل البيت كله وحدته في أكثر ما نظم، ولذلك يضطر قارئ شعره إلى الوقوف آخر كل بيت، وعند ذلك يشعر القارئ أنه يبحث عن الفقيد العزيز أو الغير العزيز، وهو القافية، وعند ذلك أيضاً يشعر القارئ بخيبة أمل شديدة لاختلال الموسيقى واضطرابها. . . أما الأستاذ شيبوب فقد سلك طريق الشعر الحر، وذلك بعدم ارتباط بعدد التفعيلات في كل سطر، لكنه بالغ في تعدد البحور مبالغة شديدة، وفي ذلك من التنافر ما فيه، مما سوف نعرض له في فرصة أخرى إن شاء الله
مقتل سيدنا عثمان
ذكرنا في الكلمة السابقة أن الأستاذ أبا حديد نظم هذه الدرامة سنة 1918 وإنها لذلك أول(541/11)
أثر عربي كبير كامل في الأدب العربي - أو الأدب المصري - بالشعر المرسل، وأنها لهذا السبب جديرة بالدراسة وجديرة بحسن الالتفات. وموضوع الدرامة يتناول تلك المأساة الباكية التي يدمى لها فؤاد كل مسلم. . . المأساة التي غيرت وجه الإسلام وذهبت بحرية الشورى التي بشر بها محمد. . . المأساة التي قسمت المعسكر الإسلامي وشقت وحدة المسلمين، وجعلت من أعظم صحابة أعظم نبي فرقاً ممزقة، ولبستهم شيعاً وأحزاباً، وأذاقت بعضهم بأس بعض. . . فأغمد المسلم سيفه في صدر أخيه المسلم، وانتهى الأمر بأن أصبحت إمارة المؤمنين ملكاً عضوضاً وعهداً مفروصاً لا رأي فيه لأحد إلا ما تنتزعه القوة من بيعة تفرضها السيوف المصلتة، ويرفضها الدين المختنق، وتأباها الضمائر المكبوتة، ولا تباركها السماء
ويبدأ الفصل الأول من المأساة بحوار بين جماعة من المسلمين الحانقين على سياسة عثمان - رضي الله عن وغفر له - يشكون مما وصلت إليه الحال من استعمال أمير المؤمنين أهله وأقاربه على الولايات، وعزله عمال عمر وأبي بكر، ثم نزوله عن خمس مغانم الحرب لبعض الأفراد من بني أمية، نزولاً قال عنه عثمان أنه بيع وليس نزولاً. . . ثم يقبل مروان بن الحكم - هذا الداهية المسلط على عثمان - مع الشاعر عدي الأموي، فيدور بينهما حوار يغريه فيه مروان بإثارة العصبية القبلية الجاهلية التي محقها الإسلام وعفى على آثارها، ويمنيه مروان الأماني، فيعده عدي خيراً وينطلق، ويقول مروان:
أصبح الناس يداً واحدةً
كلهم يرمي إلى قلب أميةْ
إن للحاسد قلباً قلقاً
لا يرى الراحة ما دام يرى
أثراً للخير في كف سواه
ما يودون؟ أكنا هملا
ثم أصبحنا سراةً في قريش؟
فلئن بات لنا الأمر فقد
كان فينا مثله في الجاهلية(541/12)
إنما يسعون فينا عبثاً
وسيبقى مجدنا ما دام سيف
ثم يقدم خادم فيعطيه مروان بدرة من المال لينطلق بها إلى الشاعر عدي كي يمدح بني أمية في (نادي أسد)، ثم يقدم عثمان في بعض أصحابه ومنهم علي والزبير فيدور حوار نعرف منه أن علياً خبير بما كان يدبره مروان بن الحكم من حصر السلطة في أيدي الأمويين مستعيناً على ذلك (بسلامة نية!) عثمان، ويزجي علي النصح لعثمان، وينهي إليه خبر الشكاوي التي جأرت بها بعض الوفود القادمة من أطراف الإمبراطورية الإسلامية الناشئة فيعد عثمان بتدارك الحال، وينطلق علي والصحابة ويخلو مروان إلى نفسه فيبدي حنقه على إصغاء عثمان لعلي. . . ثم يأتي البشير بالفتح وقرب وصول خمس المغانم، ثم يلي هذا حوار بين نفر من الناقمين على مروان وعلى عثمان وعلى الأمويين أجمعين، وفي الحوار غمز شديد لاستسلام عثمان لمروان
وفي الفصل الثاني يحاول مروان إيغار صدر عثمان على علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف لما رأى من إقبال الشاكين من عمال عثمان الأمويين عليهم وتدخل علي والزبير وابن عوف عند عثمان فيما زعم مروان أنه لا شأن لهم فيه، وتؤثر وقيعة مروان في نفس عثمان، فهو يقول بعد ذهاب مروان:
إن في القول لحقاً ظاهراً
كان من قبلي على الناس عُمَر
فتولاهم بعنف، ورضوا
مثلما يسلس للحادي البعير
ولقد كنا نرى الرأي فلا
نحمل القول على غير المشورهْ
وأرى قومي مضوا في غير هذا
فيسير الناس بالشكوى إليهم
فيجيئون بشكوى وبلومْ
ولعمري إن من لان تدنّى(541/13)
ثم تصل جماعة من مصر تشكو عبد الله بن أبي السرح ومعهم علي بن أبي طالب الذي يظهر تبرمه لما ساد النواحي من ظلم عمال عثمان من بني قرابته، ويثور عثمان على علي الذي يشتد في نقده له:
كل يوم وافد من ناحيهْ
فبمصر أفسد الظلم البلاد
وعلى الشام أمير كخليفهْ
ويضج الناس من حكم العراقْ
وهنا دب الهوى وسط المدينهْ
فيقول عثمان:
ما الذي أسمع؟ هل كنت ترى
لك هذا الحق أيام عمر؟
فيقول علي:
أيّ حق؟ أتظن النصح حقاً؟
ما الذي أجنيه إلا نصبا
إنما أقصد خيراً، فإذا
كنت تأباه فلن أذكر شيئاً
فيضعف عثمان ويغلب عليه عامل الخير والوفاء والإيمان فيقول:
ليس قصدي كل ما هم بنفسك الخ فيقول علي قولة الحق الذي لا يبالي:
أنت قد أصبحت في بيت أُميهْ
مثلما كان ملوك الجاهليةْ
أفلا تبصر ما كان عمر؟
إنه ما كان يرضى درهما
يتولاه نسيب فوق حقه
ولقد أفسحت آمالاً كباراً
لبني جدك رغم المسلمين(541/14)
أترى هذا صلاحاً للخلافة؟
فيقول عثمان:
ذاك رأي، ولك ما يرى فيقول علي غاضباً:
إنْي لولا حفاظي لقطعتك
ستراني باعداً عن كل أمرك
ثم يخرج ثائراً فيقول عثمان حزيناً:
ساءه ما قلت - والله لقد
هاجني ما قال مروان بشأنه
قبح الله حياة الطامعين الخ. . .
وفي الفصل الثالث تجتمع فرق من الساخطين من كل صقع فيعزمون أمرهم على الشكوى لعبد الرحمن بن عوف، فإذا خرج أكثرهم دخل عثمان ومروان، ويسأل عثمان عن علي ثم يخبره أحد الحاضرين عما تم بنادي أسد من تفاخر كتفاخر الجاهلية وما انتهى إليه هذا التفاخر من إحياء العصبية الجاهلية التي أراد مروان بإحيائها التفاخر الكاذب بأمجاد الأمويين قبل الإسلام وستر تأخرهم في اعتناق الدين الجديد. وينصرف عثمان لزيارة علي. . . ويقبل عبد الرحمن بن عوف في جماعة من المتذمرين الذين يذكرون له أنه كان السبب في اختيار عثمان للخلافة برغم الإجماع على اختيار علي، فيهدئهم حتى يقبل عثمان ومعه مروان أيضاً فيلاحيه ابن عوف، فإذا سأله عثمان أجاب أنه لا يذكر شيئاً حتى تنصرف الجماعة. فإذا انصرفت بقي مروان كالذي لصق بالأرض فيأمره عثمان فينصرف متلكئاً وبعد أن يراوغ، ثم يقول ابن عوف لعثمان مثل الذي قال له علي من الانحراف إلى بني أمية، ويشتد الصاحبان، ثم ينصرف ابن عوف غضبان أسفاً. . . ويتألم عثمان بل يحزن لانصراف صاحبه على هذا الوجه
وفي الفصل الرابع يكون عثمان ومروان في مسجد النبي بالمدينة، ويشير عليه مروان باتخاذ الحيطة واستدعاء بعض الأجناد - أجناد بني أمية - من الشام ليكون له عدة ضد المتألبين - فيرفض عثمان - ثم يصل وفد كبير من مصر يشكو، فيصرفه عثمان بعد أن يعده خيراً، فإذا خرج عثمان لحاجة له عند سعد قال مروان:(541/15)
رب هل هذا أمير الأمم؟
لا! فما للأمر إلا رجل
شائك الحد شديد الساعد
إن عثمان ملاك زاهد
يصلح الأمر له لو أنه
حاكم في أمة من زاهدين
غير أن الناس ما زالو أُناسا
إنه لو ضاع عثمان فلا
يرجع الأمر لنا من بعده
وجب الآن علينا أن يرى
كيف نبقي الأمر في قضيتنا
ويهم بالخروج فيسمع لغطاً وضوضاء، وإذا عثمان يرتد ويذكر لمروان أن المتألبين أخذوا عليه الطرقات هاتفين متصايحين. ثم يدخل علي فجأة فيفرح به عثمان ويوسطه في إرضاء الأحزاب على أن يصلح من الأمر كل ما فسد ويتدارك كل ما يشكون منه
وفي الفصل الأخير تتم المأساة. فذان هما الحسن والحسين ابنا علي يذودان عن دار عثمان بسيفهما، وذلك وفد يجادل عثمان في أمر خطاب زائف ضبطه الثوار مع رسول الخليفة يأمر والي مصر بقتل رؤوس المتألبين وعلى الخطاب خاتم عثمان. . . لكن عثمان ينكر الخطاب ويخبرهم أنه إنما أمر بعكس هذا، فإذا أقنع رجال الوفد بأن هذا المنكر من صنع مروان وأنه لا بد من تسليمه إليهم رفض أمير المؤمنين رفقاً بمروان الذي لم يكن يستأهل ذرة من هذا الرفق - ثم هذا مروان يشير على الخليفة باستعمال الأناة والمكر حتى يقدم جيش الأمويين من الشام فيقضي به على جميع المتألبين فيرفض عثمان أن يقتتل المسلمون في عهده. ثم هذا نبل يسقط قريباً من عثمان فلا ينخلع قلبه. ثم هذا محمد بن أبي بكر صديق الرسول يقبل وقد قبض على سيفه يريد قتل عثمان، فإذا أخذ بلحية الأمير الشيخ ناقماً مستهزئاً ذكره بمقامه من أبيه أبي بكر فيرتعد فؤاد محمد، ثم يولي هارباً. ثم يدخل متآمر ثان فيهم بقتل عثمان وتدخل نائلة (زوج عثمان) فتحاول الدفاع عن أمير المؤمنين(541/16)
فيأمرها أن تكف، ثم يرفع كتاب الله. . . القرآن الكريم. . . في وجه الثائر ويقول له:
إن عندي شاهداً لا يكذبُ
أترى هذا الكتاب؟!
فترتعد فرائص الرجل ويولي الأدبار. . . ثم يدخل متآمر ثالث قائلاً:
لن أضيع الوقت في قول طويل
خوف أن تسحر قلبي بحديثك
ثم يهوي بسيفه فيتلقاه عثمان بيده فيقطعها، ثم يهوي عليه فيقتله غير حافل بدفاع نائلة. . . ثم يحاول قطع رأسه فتدفعه نائلة، فيمضي لشأنه، وتقف نائلة تبكي زوجها وترثي أمير المؤمنين هذه هي مأساة عثمان صفي رسول الله الذي جاهد في الله بماله وجاهه وروحه ويده. . . اختارها أبو حديد الشاب سنة 1918 ليفتح بها ثورته على تقاليد ألفين من السنين. . . أو عشرين قرناً من السنن العتيقة التي فرضها علينا القوافي العربية الصارمة. فهل وفق أبو الحديد في هذه المحاولة؟
لقد اختار أن ينظم من (الرمل): فاعلاتن فاعلاتن فاعلن - وهي التفعيلات السائدة في الشطر الأول لهذا البحر، ثم هو لم يستغن عن تفعيلات الشطر الثاني (العجز)، فكان يأتي في مكان فاعلن الأخيرة بكل التفعيلات التي يبيحها عروض هذا البحر، فهو يستعمل فاعلاتن وفاعلان وغيرهما مما لا يتنافر وموسيقى الرمل السهلة اللينة التي تيسر للناظم عمله في غير التواء ولا تعقيد. وسنرى عند عرض درامتيه الأخيرتين، ميسون - وخسرو وشيرين - أنه ترك هذا البحر ونظم من (الخفيف) =فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن: وسنرى كذلك إلى أي حد وفق في استبدال هذا البحر بذاك. على أننا نتساءل ما الذي منع أبا حديد من أن يلون في استعمال البحور العربية الأخرى. لماذا لم يستعمل المتقارب الموسيقي الجميل، ولماذا لم يجرب الطويل السهل الذي هو أقرب البحور إلى النثر مع امتيازه بطول النفس؛ ولماذا غض من قيمة الوافر والكامل والبسيط والسريع وغيرها من بحور عروضنا الفنية الموسيقية ذات الطنين وذات الرنين. إن الشعر المرسل في حاجة ماسة إلى ما يعوضه عن القافية موسيقى بموسيقى، وأنغاماً بأنغام
للأستاذ رأيه على كل حال، وإن كنت أوثر ألا يقطع شاعر في بحر برأيي حتى يجرب(541/17)
النظم منه، لا مرة واحدة، ولكن مرات متعددات، أما أن نقطع بأن هذا البحر خير من ذاك لأغراض الشعر المرسل دون أن نجري من التجارب ما يؤيد ما ذهبنا إليه فتصرف قد يضيع على الأدب المصري كثيراً من جهود المجاهدين. ولقد ذكرنا في الفصل الأول من فصول الشعر المرسل أن الشعراء الإيطاليين والشعراء الإنجليز قد انتهوا من تجاربهم على أن البحر الأيامبي ذي المقاطع العشرة هو اسلس البحور للنظم المرسل، فهل أجرينا نحن أيضاً تجاربنا على بحورنا كلها لنكشف أفضالها لهذا الغرض؟
وبعد، فهل تصلح مأساة سيدنا عثمان لمسرحنا المصري؟ وهل لا نزال نشفق على إظهار شخصياتنا الدينية، شبه المقدسة على خشبة المسرح؟ وهل عندنا الممثلون الصادقون الذين يصح أن نكل إليهم تمثيل هذه الشخصيات؟ وإن صح أن لدينا الممثلين، فمن منهم يؤدي دور سيدنا عثمان أحد العشرة الأولى من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عثمان. . . هذا الرجل (الطيب!) الذي أجاد أبو حديد تصويره، كما أجاد تصوير علي. هذا الناصح الحازم الأمين؟ ثم عبد الرحمن بن عوف! هذا الصحابي العظيم الصريح. . .
أما صلاحية المأساة لمسرحنا فأمر لا مراء فيه، فهي حافلة بالمشاهد الجليلة التي تزلزل القلب، والتي صورها أبو الحديد، فأحسن تصويرها، وإن يكن عجل في بعض المواقف التي كانت تقتضي الإطالة، وأوجز حيث كان ينبغي الإطناب
أما مظنة الإشفاق من إظهار شخصياتنا الدينية على المسرح فلم يعد هناك ما يبررها، وما دمنا نأخذ بأن الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى؛ وما دمنا، كما ذكرت في مناسبة سابقة، نستثني شخصيات الأنبياء استثناءً مؤقتاً. . . ولعل الجامعة الأزهرية التي أخذت تفهم روح العصر وتستجيب للنداء الجديد الذي هو في الأصل نداء الإسلام الحق، أن يكون لها مسرحها الديني في المستقبل القريب، فتكفينا شر الخلاف في هذا الموضوع
أما ممثلونا، فأنا شديد الإيمان بمقدرتهم خصوصاً إذا مثل معظمهم دور مروان بن الحكم والأدوار الأموية!!. . . على أن لدينا من المخرجين المثقفين الذين أشربوا الروح الإسلامي ما يضمن لنا خلق الملائكة من أولئك الشياطين!
بقيت كلمات عن لغة المأساة، وعن مطابقة وقائعها لما انتهى إليه المحققون من مؤرخي التاريخ الإسلامي، وعن الروح التي أملت على المؤلف اختيار هذا الموضوع بالذات(541/18)
فأما لغة المأساة فمتوسطة؛ ولن يضير أبا حديد الشاب الذي نظمها سنة 1918 أن يقال هذا في لغة مأساته. وسنقول إنه كتب خسرو وشيرين بأسلوب أحسن سنة 1933 ويسرنا أن نقرر مع هذا أنه لا يوجد في أسلوب أبي حديد الشاب إسفاف قط
وأما مطابقة وقائعها للحقائق التاريخية فقد حاك في نفسي شيء من ذلك، ولو أنني أكتب في غير موضوع الشعر المرسل لخضت في هذا الحديث. وقد يكون في كلامي على هذا النحو شيء من التشكيك أظلم به المؤلف. . . ولكن. ليطمئن. . . فلم ينته المؤرخون في أمر عثمان وعلي ومعاوية بشيء، ولا يزالون مختلفين. . .
أما الروح التي أملت المأساة، فهي من غير شك فخر الشباب المصري المؤمن المسلم الحديث. . . الشباب الذي يؤمن بأن مأساة عثمان هي مأساة العالم الإسلامي كله.
(يتبع)
دريني خشبة(541/19)
أوزان الشعر
2 - الشعر الأوربي
للدكتور محمد مندور
الشعر الارتكازي
نأخذ لهذا النوع بيتاً من الشعر الإنجليز وليكن مطلع (مرثية في مقبرة بالريف) لتوماس جراي.
نجده مكوناً من ست تفاعيل إيمابية وكل تفعيل مكون من مقطع غير مرتكز عليه ومقطع آخر مرتكز عليه وإليك وزنه مع رمزنا للارتكاز بالعلامة (-) وترك غير المرتكز عليه بدون علامة:
- ? -
وما على القارئ الذي يريد أن يحس بوزن البيت إلا أن يقرأه مع المرور بخفة على المقطع الغير المرتكز عليه والضغط على المقطع الذي يحمل الارتكاز
ومن البين أن ما يميز هذه المقاطع بعضها عن بعض ليس كمها كما قال الأستاذ خشبة بل الضغط الواقع على بعضها. وإما أن هذا الضغط قد يزيد من كم المقاطع التي يقع عليها فهذه مسألة تابعة لا يمكن أن تغير من طبيعة هذا الشعر الذي يعتبر إيقاعياً قبل كل شيء. ومن الملاحظ بوجه عام أن اللغة الإنجليزية بوجه عام لغة إيقاع إذا قيست بلغة سيالة كاللغة الفرنسية.
الشعر المقطعي
هذا النوع من الشعر خاص باللغة الفرنسية، وسبب وجوده هو ما أشرنا إليه من قبل. فاللغة الفرنسية كما هو معلوم تطور للغة اللاتينية على نحو ما تطورت لغتنا العامية عن اللغة الفصحى مع المحافظة على النسب. ولقد كانت اللغة اللاتينية كما رأينا لغة كمية تتميز مقاطعها بعضها عن بعض بالطول والقصر، ولكن اللغة الفرنسية فقدت هذه الخاصية كما فقدت الارتكاز أيضاً. فكل لفظة لاتينية كانت في العادة تحمل ارتكازاً على المقطع السابق(541/20)
للأخير، وذلك ما لم يكن هذا المقطع قصيراً فإن الارتكاز يسمو في هذه الحالة إلى المقطع الثالث من الآخر. ولكن هذا الارتكاز سقط من الفرنسية بسقوط الكثير من أواخر الكلمات اللاتينية الأصل
فقدت اللغة الفرنسية إذن الحكم والارتكاز. فعلى أي أساس يقوم إذن الشعر فيها؟ والواقع أن موسيقى الشعر الفرنسي ليست في جوهرها موسيقى إيقاع ولكنها موسيقى سيالة دقيقة، ومع ذلك فالأمر فيها ليس أمر مقاطع متشابهة. كل عشرة. أو اثني عشر أو غيرها تكون بيتاً من الشعر. بل لا بد أن يكون هناك تقسيم لهذه المقاطع في وحدات موسيقية إيقاعية إلى حد ما. فالوزن الإسكندري مثلاً ينقسم عند معظم الشعراء الكلاسيكيين إلى أربع وحدات كبيت راسين:
, '
وفيه ترى كل تفعيلة مكونة من ثلاثة مقاطع (حرف في أخر كلمة يحذف في القراءة). ولكن هذه المقاطع لا يتميز بعضها عن بعض بكم ولا ارتكاز، وإنما يأتي الإيقاع من وجود ارتكاز شعري على آخر مقطع من كل تفعيلة وقد رمزنا له بالعلامة (-). وهذا الارتكاز كما قلنا ارتكاز ضغط وارتفاع معاً في التفاعيل الثلاثة الأولى ارتكاز ضغط فقط في التفعيل الأخير لسقوط الصوت عند الوقف
هذا هو التقسيم الثالث عند الكلاسيكيين. وأما الرومانتيكيون فقد اعتزوا بالتقسيم الثلاثي، ففكتور هيجو نفسه قد افتخر بتمزيق أوصال الوزن الكلاسيكي لهذا البحر في بيت ثلاثي شهير هو:
, '
وهو مقسم كما ترى إلى ثلاث تفاعيل، كل تفعيل أربعة مقاطع، وأما عن الإيقاع فيأتي من الارتكاز على أواخر الجمل كما ذكرنا بالنسبة للبيت السابق
هذا والتفاعيل الفرنسية ليست دائماً متساوية في عدد مقاطعها. وقد كتب الأستاذ الكبير جرامو كتاباً هاماً جداً بعنوان , وفيه يظهر أن التفاعيل الفرنسية وإن لم تكن متساوية في الكتابة إلا أنه من الواجب أن نقرأها كأنها متساوية. فعدم التساوي هذا قد ساقت إليه غريزة الشعر عند الموهوبين من الشعراء عندما أحسوا بأنه لا بد من أن تسرع(541/21)
القراءة أو تبطئ لتترجم ترجمة صحيحه عن مشاعرهم المتباينة. وإذن فمن واجب القارئ أن يسوي بين التفاعيل في كمها الزمني ثم يبحث بعد ذلك عن العلة فيما اضطر إليه من إسراع أو تباطؤ
هذه أنواع الشعر الأوربي الثلاثة: كمي وارتكازي ومقطعي. ومن الممكن أن نستخلص منها عنصرين عامين يقوم عليهما كل شعر وهما 1 - الكم 2 - الإيقاع
أما الكم فنقصد به هنا كم التفاعيل التي يستغرق نطقها زمناً ما. وكل أنواع الشعر لا بد أن يكون البيت فيها مقسماً إلى تلك الوحدات. وهي بعد قد تكون متساوية كالرجز عندنا مثلاً، وقد تكون متجاوبة كالطويل حيث يساوي التفعيل الأول التفعيل الثالث والتفعيل الثاني التفعيل الرابع وهكذا
ولكن هذا الكم الذي يسمى في الموسيقى لا يكفي لكي نحس بمفاصل الشعر. فلا بد من أن يضاف إليه الإيقاع المسمى
ولكي نضمن تحديد الفهم نعرف الإيقاع؛ فهو عبارة عن رجوع ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة. فأنت إذا نقرت ثلاث نقرات ثم نقرت رابعة أقوى من الثلاثة السابقة وكررت عملك هكذا تولد الإيقاع من رجوع النقرة القوية بعد الثلاث نقرات الأولى، وقد يتولد الإيقاع من مجرد الصمت بعد الثلاث نقرات الأولى
لا بد إذن أن تكون هناك ظاهرة صوتية متميزة تحدث في أثناء نطق كل تفعيل وتعود إلى الحدوث في التفعيل الذي يليه. والأمر في الشعر الارتكازي واضح. فالارتكاز نفسه كما يميز بين المقاطع يولد كذلك الإيقاع. أما الشعر الكمي فقد أحس القدماء بأن مجرد عودة مقطع طويل بعد مقطعين قصيرين مثلاً لا يكفي لإيضاح الإيقاع فدلونا على أن هناك ارتكازاً شعرياً يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود في نفس الموضع تقريباً من التفاعيل الأخر. وكذلك الأمر في الشعر الفرنسي فهم لم يكتفوا بتقسيم البحر الإسكندري مثلاً إلى تفاعيل متساوية في الكتابة والقراءة معاً أو القراءة فحسب، بل أضافوا إليه وجود ارتكاز ضغط وشدة، أو ضغط فقط في آخر كل تفعيل وعودة هذا الارتكاز على مسافات زمنية محددة هو الذي يولد الإيقاع. ولكنه لما كان إيقاعاً قليل العدد خفيف الوقع، فإن الشعر الفرنسي لا يعتبر بالنسبة للشعر الإنجليزي مثلاً شعراً إيقاعياً بل شعراً سيالاً كما قلنا(541/22)
والآن أين يقع الشعر العربي من كل هذا؟ للجواب على هذا السؤال يجب أولاً أن ننقض مذهب الخليل من أساسه وهذا ما سنحاوله في المقال الآتي.
محمد مندور(541/23)
الفاكهة المحرومة
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
من هذه التي أتشهاها وهي مني قريبة، وأتمناها وهي على قيد خطوة، وأحلم بها وهي على مرأى ومسمع، وأدنو منها فلا أقترب، وأملأ منها يدي، فإذا يداي منها فارغتان؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 2 -
من هذه التي تلوح كالسراب، تظمئ الحس وتروي الخيال، وتطمع النفس ونيلها محال؛ وتتراءى قريبه مني أبداً، بعيدة عني أبداً، كأنها خارجة من قيود الزمان والمكان؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 3 -
من هذه الأسطورة الخرافية، التي لا تتجسم في حياتي فتريحني، ولا تنأى عن طريقي فتريحني؛ ولكنها تتخايل لي حيثما توجهت، تسد الطريق على سواها ومكانها خلاء، وتدعني هكذا في الحياة معلقاً بين الأرض والسماء؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 4 -
من هذه التي تبعد عني فأشتاقها، وتقرب مني فأشتاقها، وأهرب منها لأعوذ بها، وأبلغ نهاية السخط لأبلغ غاية الرضا، وتختلط أحاسيسي بها فتفقد أسماءها التي تعرفها اللغة ويتعارفها الناس؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 5 -
من هذه التي تزدحم نفسي بالخواطر حولها، فإذا تحدثت إليها تحدثت في تفاهات لا صلة لها بهذه الخواطر، فإذا هذه التفاهات مليئة ثمينة، وإذا في هذه التفاهات ري وشفاء، كأنما(541/24)
انسابت فيها تلك الخواطر، فأفعمتها نبضاً وحياة؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 6 -
من هذه التي أسمعها تضحك أو تقفز من بعيد، فيشع ذهني بالسنى، وتفيض نفسي بالحياة، وتطيف بي رؤى من السعادة. وأراها ذابلة أو هامدة، فأتهالك وأنهد، وأحس بوقر السنين على عاتقي؛ وأعجز عن مواجهة الحياة؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 7 -
من هذه التي لها حساب معلوم في كل ما أفكر وكل ما أقدر، وكل ما أرسم من خطة أو أتخيل من رجاء. فما أستطيع أن أتصور الحياة إلا وهي معي، وما أستطيع أن ألمح خطوي إلا وخطوها معي؛ فإذا حاولت أن أتخيل لها طريقاً غير طريقي تشتت الذهن واضطرب الخيال؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 8 -
من هذه التي أحس من أعماقي أنها خلقت لي وأنني خلقت لها، فإذا أنا حاولت تجسيم هذا الإحساس، قامت في وجهي العراقيل، واعترضت سبيلي الأشواك، وهتفت بي من اتجاه: مكانك!
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 9 -
من هذه النابتة في ضميري كما تنبت الزهرة في الغصن، الشائعة في كياني كما يشيع الدم في الجسم، المتغلغة في حياتي كما تتغلغل الحياة في الأحياء، المنتشرة في عالمي كما تنتشر الظلال والأضواء؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 10 -(541/25)
من هذه التي لا يؤذيني أن أراها تألم لأجلي، ويلذ لي أن أراها تألم لأجلي؛ وتتولى على حسي ضروب المشاعر التي تتوالى على حسها كالترمومتر الحساس، وتنعكس على نفسي ظلال خطراتها الخفية في شتى الأحوال؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 11 -
من هذه التي ينطلق في كياني تيار من الكهرباء حين أمسها في لمسة، أو ألتقي بها في نظرة، أو أحلم بها في خيالي؛ فإذا كياني كله يهتز، وتمتزج فيه الأحاسيس المتضادة، وتتوفر فيه المشاعر والجوارح، ويشتعل فيه الحس والوجدان؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 12 -
من هذه التي أكره الحياة من أجلها، وأحب الحياة من أجلها، واندفع في كل اتجاه ثم أعود في النهاية إليها، أستمد منها الحياة.
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 13 -
من هذه الصبية العجوز التي ترنو كطفلة، وتتحدث كقهرمانة، وتشهق بالدمع فتخالها تتطلب الحلوى، وتتعمق الحياة فتحسبها فيلسوفة، وتفرح بالجديد كالطفل الغرير، وتزهد في الدنيا كالراهب الشريد؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 14 -
من هذه التي يخيل إلي في بعض اللحظات أن أناغيها وأربت عليها لتنام، وفي بعض اللحظات ألتمس عندها العطف والحنان، وإنها لصادقة في الأولى صادقة في الأخيرة، وفية للحياة في جميع الأحوال؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .(541/26)
- 15 -
من هذه التي أضمها مرة فتخنس كالطفلة، وأضمها مرة فتنساب كالأفعى، وأضمها مرة فتنقلب كالغزال؛ وهي في كل حالة تفعمني بالحب والحنان، وتغمرني بالفيض والحياة؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 16 -
من هذه القديسة المغرية في آن، الطاهرة الساحرة في آن العبقرية القلب والجسد، المثيرة الحس والوجدان؛ التي يتلقى فيها الغي بالرشد والحيوان بالإنسان؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 17 -
من هذه الممشوقة كتمثال فتان، المنسقة كأنها فكرة فنان، الساكنة كأنها في خشوع، المتدفقة كأنها ينبوع، الهادئة العمات، الحارة الخلجات، التي تلتقي فيها الأضداد في انسجام؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 18 -
من هذه الأنثى بالحس، الفنان بالروح، الراهبة بالفكر، القديسة بالوجدان، المخلص لحواء في كل آن، حتى وهي تثور على حواء، وتسخط على بني الإنسان؟
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 19 -
من هذه التي لا أرتوي إلا بها، ولا أحيا إلا بإشعاعها؛ ثم يقتلني الظمأ وهي مني قريبة، وتخذلني الحياة ويداها إلي ممدودتان؛ فإذا أنا ثرت على هذا الحرمان، وتمردت على هذه الحواجز، قهقه القدر الساخر، ودوت بضحكه الأرجاء
إنها الفاكهة المحرمة. . .
- 20 -
أيها القدر. لماذا وضعتها في طريقي، ولماذا جعلتها فاكهة محرمة؟ إنني أسمع أيها القدر(541/27)
حكمك الصارم الساخر:
مكانك! إنها الفاكهة المحرمة. . . وكفى
سيد قطب(541/28)
أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي
الأميرة دكليف
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
كان الحب في القرن السابع عشر، قرين البطولة وخدين الشرف؛ فكان إذا هام فؤاد الفارس بمن أحب، ولذعه الشوق ودلهه الحب، عمد إلى البطولة يجعلها ثمناً لحبه ووسيلة إلى هواه؛ فإذا أوتي العزم الشديد والقلب الحديد، ونال طيب الأحدوثة وبراعة الفروسية وشرف النقيبة، وكان فحلاً لا يقرع أنفه ولا يطعن عليه، متع بالحب، وذاق مودة الحبيب
ولأميرة دكليف تمثل ما ذكرته وتبين ما وصفته. ولعل من الخير، قبل أن نقصها عليك، أن نتحدث عن مؤلفتها مدام دلافاييت لأن في حياتها من الطرافة، ما في روايتها من الجمال. والحق أنها كانت من نوادر النساء. تلقت في يفاعتها وصباها أرفع ثقافة يمكن أن تتلقى في ذلك الزمان، فتخرجت على الشاعر المشهور ميناج فثقفها وأدبها. سرعان ما ظهرت رهافة ذوقها، ورصانة عقلها ورشاقة كتابتها، وتخطت العشرين ولما تتزوج فاضطرت أن تبحث عن زوج لها فصادفت يوماً الكونت دلافاييت، وكان كريم المحتد، طيب العرق، ضئيل العقل، فتزوج بها وحملها إلى مزارعه في الضواحي، يبتغي معها عيشاً يقطعه بالنعيم. ولم يستطع أن يستهويها فلم ترض عنه، فهجرته وقصدت إلى باريس، وهناك صادقت هنرييت دانجلترة ' فأحبتها، فكانت تغشى بلاط لويس الرابع عشر وتقطع الأيام والليالي معها، حتى إذا قضت هذه، حزنت عليها، وجفت البلاط وأهله، واعتزلت الناس.
وذاع في باريس صيت مدام دلافاييت، وعرفت بذكائها وفطنتها. ولم تلبث أن أصبحت مهوى الأنفس، وبغية الشعراء والكتاب، أشباه (هويه و (ميناج و (لافونتين ولكنها كانت عزوفاً عن كل ضجة، أنوفاً من الظهور. كانت تحلم بالحب، وتعجب بالبطولة وكانت تحب الهدوء والسكينة، تستلقي على سريرها الأرجواني الموشي، فيتحلق أصدقاؤها(541/29)
ومطروها حوله تفتنهم بالسحر والذكاء، ويفتنونها بالثناء والإطراء
وعرفها (الدوق دلار وشفوكولد وكان مغامراً، تبع نساء. وكان الناس جميعاً يلهجون بذكره، وقليل منهم من رآه. فاتصل بها وهي تذرف على الخمسين. ترى أكان صديقها أم عشيقها؟ ومهما يكن من أمره، فقد قضى بقية حياته معها. فكان يزورها في قصرها كل يوم؛ وكان في هذا القصر بركة ينصب بها الماء، ونافورة تنفر منها إلى الفضاء، وخلوة مغطاة بالأعشاب والأزهار. فكانت تقضي الليالي والأماسي معه، تحت العشب والزهر. وقد تأتي، بعض الأحايين، مدام دسيفينيه فيجتمعون معاً، ويثرثرون على حفافي سريرها الأحمر الموشي تارة ويتحدثون في الخلوة المزهرة، أمام البركة تارة أخرى.
ومن العجب أنها كانت تنقد حكم عشيقها أو صاحبها أحد النقد. كان لديها نسخة منها. وكانت تعلق عليها وتكتب في الهامش (هذا حق، وهذا جيد) فإذا سخرت منه كتبت (هراء، خلط، كلام مبتذل!). ولقد قرأت يوماً قوله: (إن ما يسميه الرجال صداقة، ليس سوى تجارة يكون للأثرة مطمح فيها ومربح. . .). فكتبت بجانبها: (هذا يصح في الصداقة العامة، لا في الصداقة الحق). وقرأت مرة قولة: (مهما ندر الحب، فإنه أندر من الصداقة الصحيحة) فقالت: (أعتقد أنهما متساويان في الندرة، لأن في الحق حباً، ولأن في الحب الصحيح صداقة). وكتب (إن الذي يجعل كثرة النساء لا يتأثرن بالصداقة، هو أن الصداقة تصبح لا طعم لها عندما يذقن طعم الحب). فأجابته: (لا، بل لأن في الحب من كل شيء: فيه من العقل، ومن القلب، ومن الجسم)
لقد تصادقا وأثر كل منهما في الآخر. لقد قالت: (منحني الفكر، ولكني هذبت قلبه وأصلحته!)
ومن الطريف أن تتمثل هذا الدوق الحكيم، ذا الوجه الجهم، والعينين الذرافتين، وبجانبه تلك المرأة اللطيفة، يؤلفان الروايات، ويتجاذبان أطراف الأحاديث. يذكران أيام لهوهما، فيقص عليها مغامراته يوم كان ريان الشباب، وتحدثه عن سحرها يوم كانت في رونق الصبى
تلك هي قصة حياتها، وإنها لقصة تثير الأسى. لقد حلمت بالحب والبطولة فلم تذقهما. وأحبت صديقتها هانرييت ففجعها الموت بها؛ ثم هي تلقي لاروشفو كولد، وقد تقضى شبابه(541/30)
وذوى غصنه. شد ما تمنيا لو التقيا في ريعان صباهما. إذن لرواها الهوى ولأرته فعل السحر.
وفي عزلتها وبجانب لاروشفو كولد، كتبت مدام دلافاييت روايتها (الأميرة دكليف)
- 2 -
وقرأ الناس قصة الأميرة ولهجوا بذكرها، وصارت أحدوثة الكتاب والشعراء والنساء في المجالس والأنداء والأسمار. ولقد كانت خليقة بأن تشغل الناس، لأن الأهواء التي تتضافر فيها على قلب امرأة غض، فتخيرها بين زوجها وحبيبها، تثير الدهشة والعجب. فهنا زوجها جاف القلب كما تراه، وهناك حبيبها يبدو لعينيها غزلاً بطلاً جميلاً. وأخذ الأدباء يسألون (بوسي رابوتان نقادة ذلك الزمان عن رأيه فيها. فكانت الرسائل تسرع إليه يسأله أصحابها: (أقرأت الأميرة دكليف؟ كيف رأيتها؟ هل أعجبتك؟)
إن فيها نزاعاً قوياً بين الحب والواجب لا يقوى عليه النساء، ونضالا عنيفاً قد يتخاذل دونه الرجال، وشرفا لا يذود عنه إلا من كان ذا عزم ومضاء. وبرغم ذلك، فإن الأميرة دكليف تغلبت على هواها ولم تضعف في نضالها، وحافظت على شرفها ونبالتها.
هانحن أولاء في قصر الملك هنري الثاني، نجد آنسة صاغها وصقلها الترف، كان اسمها (شارتر)، وكانت ذات ذكاء وأناقة وجمال. يتزوج بها الأمير دكليف، وكان نبيلا مهذباً فيحبها. ولكنه كان يعجز عن إظهار حبه لها، ولا يبرع في إغرائها وإرضائها، وكانت جياشة العواطف ملتهبة الإحساس، تتحرق على ذواق الحب؛ هذا الحب الذي سمعت به، ولكنها لم تعرفه، ولم تدر كيف يكون ولا أين تجده. وتقام في اللوفر حفلة يرقص فيها النساء والرجال، تحضرها الأميرة، ويحضرها الفارس (دنيمور زين الفرسان، وحلية الشبان، وأكثر رجال البلاط لباقة وأناقة. ويلمحها فيشخص إليها بصره ويفتن قلبه، ثم يسعى إليها فيتراقصان. وينظر إليها نظرات كلهن شباك وإغراء؛ فتهتاج وتضطرب، ثم تسارقه النظرات، فيخفق قلبها وتحمر وجنتاها، فتفر منه وقد علمت أنه الحب
وشغل الفارس خاطرها، فسهرت الليل، (وليل المحب بلا آخر). وذرفت الدمع (ودمع العاشق لا ينفد). إنه فارس فتان، كيف تصل إليه، وكيف يضمها بين ذراعيه!
وكتمت الأميرة حبها، وسعت للقياه. ولقد دعيت ليلة إلى حفلة رقص أخرى فاعتذرت عن(541/31)
الذهاب، لأن فارسها لن يذهب إليها. واندفعت في الحب، ولكنها أجفلت ذات يوم، وقد بدا لها سوء ما صنعت. أتخون زوجها؟ إنه زوجها مهما كان من أمره، ولابد من الوفاء. وأفزعتها وخزات الضمير ولذعات الوجدان، وخافت العار، ولكن قلبها لج في شعاب الحب فظل وتاه. كيف ترضي قلبها الجامح، وكيف تفي لزوجها المطمئن؟ ولا تسل عن الأرق والسهاد، والأسى والبكاء، والحنين والأنين، والحسرات والآهات. لقد أحبته حباً صرفاً خالصاً. أفتجمع بين حبين، وكيف تغالب الوله وتدفع الشوق، وتفر من الحبيب؟
وقررت بعد عذاب ونصب، أن تحدث زوجها بحبها. وتسأله إن كان يرى في ذلك حرجاً
وتخلو الأميرة بزوجها. وإنه لمشهد من أروع مشاهد الحب. مشهد فيه من بطولة كورنيل ورقة راسين. إنها مفتونة بفارسها، والألم يفترسها، وإنه محب لها مطمئن إليها. هي تريد أن تخبره لئلا يمس شرفه، وهو يجهد كل الجهد لينجو من الوساوس، ويعلم أنها لن تخونه
لقد ظن أن صراحتها تدفعه إلى الإعجاب بها وإكبارها ولكن هذه الصراحة أنضجت في صدره الحقد والحسد والغيرة فما تكاد تحدثه بطرف خاشع، وقلب خافق، وعين دموع، حتى يشده ويبهت، ثم يصمت ولا يشكو، ويأس بعد أيام فيموت
وهاهي ذي الآن وحدها، قد خلا من كانت تخشى أن يعر شرفه. فلتسرع إلى فارسها الجميل، لتنعم بين ذراعيه؛ ولكن الأمر ليس كما ظنت. لقد سعى هو إليها، وتقرب منها فصدت عنه، وأراد أن يتزوج بها فطردته. لقد اعتقدت أن عليهما، هي وفارسها، التبعة في موت زوجها. وأن أحسن ما تكفر به عن ذنبها هو البعد عمن تحب. فاعتزلت الناس وعاشت وحدها. الحب في قلبها يهيج ويشتد، وهي تصبر وتتألم لا تستطيع أن تفرح القلب بالوصال. ثم تموت الأميرة حزينة، تحلم بالحب، وتفي للزوج
تلك هي قصة الأميرة دكليف تدور حول حب عنيف يبعثه الإعجاب بالفروسية والبطولة والجمال، ووفاء شديد يقتضيه الواجب وحفظ العهد؛ فيتغلب الوفاء على الحب، وتقضي الأميرة ينهشها الحزن ويذيبها الحنين، ويتحدث الناس عنها، ويتكلمون عليها، ولكنهم، جميعاً، يعجبون بها ويطرونها، ثم يرددون وهم يبتسمون: (ما أنبلها! لقد كانت أميرة شريفة)
(دمشق)(541/32)
صلاح الدين المنجد
المحامي(541/33)
8 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
ترى كيف أثرت هذه النظم الإسلامية الثلاثة - النقابات والحسبة والوقف - في الفنون الجميلة؟
أما نظام الوقف فنحن ندين له كما ذكرنا بمعظم ما وصل إلينا من روائع التحف والآثار الإسلامية، ويكفي أن نضيف إلى ما تقدم أن كثيراً من تحف دار الآثار العربية كانت موقوفة على المساجد. فهذا النظام ضمن استمرار نشاط المهندسين والصناع والفنانين، كما ضمن أيضاً اطراد حركة التطور في الفنون المختلفة لاسيما تلك التي تتصل بالمساجد من بناء وصناعة وزخرف. فلولا تلك الأموال التي وقفت على العناية بالمنشآت الإسلامية المختلفة لضاع هذا التراث الفني العظيم. على أن لنظام الوقف فضلا آخر لا يصح إنكاره، هو تلك الوقفيات التي حبست فيها الأعيان المختلفة فقد تضمنت وصفاً دقيقاً لهذه الأشياء يجد فيه اللغويون والمشتغلون بالآثار الإسلامية معيناً لا ينضب من الإصلاحات الفنية التي تنير لهم سبل الدراسة
وأما نظام الحسبة والنقابات فينحصر أثرهما في تحسين المنتجات الصناعية والعمل على رفع مستواها، والعناية بإخراجها في أحسن صورة ممكنة. ففي ظل النقابات وبإشراف (المحتسب) خطت الصناعات الإسلامية خطوات واسعة في سبيل الرقي، حتى بلغت الغاية القصوى، وعندئذ سمت في دائرة الصنعة المألوفة إلى مستوى الفن الجميل. ولكي يكون هذا التطور واضحاً نضرب له مثلاً بالآنية التي تصنع لتمسك الطعام أو الشراب فهي تظل وسيلة تستخدم في هذا الأمر ما لم يفتن الإنسان في صنعها وزخرفتها، ويبذل الوسع في تجميلها وتنسيق ألوانها؛ فإذا ما وصلت إلى الكمال في ذلك أو قاربته غادرت موائد الطعام لتتصدر قاعات الاستقبال متخذة مكانها بين التحف الجميلة. وعندئذ تتغير نظرتنا إليها فننسى وظيفتها الأولى ولا نذكر عنها إلا أنها شيء جميل يمنحنا التأمل في محاسنه لذة لا تعد لها لذة
رأينا إذن كيف أن الإسلام وقف من الفنون الجميلة موقفاً يختلف عن مواقف الأديان السابقة عليه، فهو لم يستخدمها في دعوته كما فعلت الوثنية والمسيحية، ولم ينكرها كما أنكرتها(541/34)
اليهودية؛ ولكن أثر فيها ببعض توجيهاته ونظمه. لقد وقف على طبيعة الإنسان، وعلى ما يضطرب بين جنبيه من النزعات وما ركب فيه من الغرائز والميول فلم يحاول كبتها بإلزامه الوقوف عند حد الضروري اللازم لبقائه، بل ترك يلبي ما تنطوي عليه نفسه من غرائز السمو دون أن يعترض سبيله أو يحد من نشاطه فمهد له بذلك سبيل الوصول إلى أقصى ما قدر له من التقدم المادي. لفت نظره إلى ما يحيط به من المخلوقات، وشحذ فيه قوة الملاحظة وهي عماد الفن الجميل، وذكره بالحياة الدنيا وما لها عليه من الحق (ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) وبصره بما في الوجود من زينة وحببها إليه (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق).
هذا التسامح الذي عرف عن الإسلام في كل ما يتصل بمباهج الحياة ومتعها، ما دامت لا تتعارض مع أصوله في شيء، وما دامت لا تخرج عن دائرة الاعتدال، دفع بالمسلمين إلى الإقبال على الفنون الجميلة بنفس راضية مطمئنة، وجعلهم يزاولونها بقلوب مثلوجة وأفئدة هادئة، فأخرجوا للعالم ذلك الفن الرائع الذي فيه للفكر متعة وللنفس لذة وغبطة ذلك الفن الذي أثر في الفنون المعروفة على عهده من شرقية، وغربية.
ولقد اعترف علماء الآثار من الغربيين بما ترك الفن الإسلامي في فنون بلادهم من آثار واضحة: فالحروف العربية والزخارف الإسلامية نباتية كانت، أو هندسية قد لعبت جميعها في فنون أوربا دوراً هاماً. ومصنوعات المسلمين: من خزف وزجاج، ومعادن، وعاج ومنسوجات، وسجاد كلها كانت مثلاً تحتذى في بلاد الغرب.
(انتهى)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية(541/35)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ ا. عكاوي
سلام الله عليك ورحمته، وبعد فقد كتبت (في الرسالة) تثير علي مشكلة جديدة وهي مشكلة الخط العربي، ولم نفرغ بعد من مشكلة تعليم اللغة العربية، ولكن مشكلة الكتابة العربية لما كانت تتصل بمشكلة تعليم اللغة كان الحديث عنها فرضاً لازماً على من يتكلم عنها
أراك تؤمن معي أنه لا سبيل إلى تعليم اللغة إلا من طريق تحصيل ملكتها بالقراءة والتكرار، ولكنك تستبعد حصول الملكة من طريق القراءة، لأن الخط العربي ليس أميناً أمانة مطلقة يصور لنا الكلام تصويراً لا لغز فيه ولا إبهام
وفي الحق أن الخط العربي بدون ضبطه بالشكل ليست فيه هذه الأمانة المطلقة لا في ضبط بنية الكلمة ولا في ضبط آخرها؛ فكلمة (بزر جمهر) يمكن أن تقرأ على وجوه بقدر ما فيها من حروف مضروبة في أوجه الحرف من ضم وفتح وكسر وسكون، ولا يعبر عن الواقع إلا وجه واحد، ولكن هذه الصعوبة تسهل بعض الشيء في طريقتنا الحديثة لأننا نوجب أن تكون كتب تعليم اللغة في القسم الابتدائي والثانوي مضبوطة بالشكل والإعجام وهي بذلك أمينة أمانة مطلقة على تصوير الكلمات على ما هي عليه، فإذا قرأ فيها التلميذ وحفظ منها فاكتسب ملكة اللغة اكتسبها صحيحة غير ملحونة ولا مغيرة، ولا عليه بعد أن يقرأ في الصحف والمجلات، والكتب التي ليست مضبوطة بالشكل، لأنه يقرأ فيها بما معه من ملكة
وإنما قلت تحل المشكلة بعض الشيء، لأنها تحل مشكلة أواخر الكلم التي وضع من أجلها علم النحو وتحل مشكلة الكثير من ضبط بنية الكلمة وهي الكلمات المستعملة الواردة في هذه الكتب
أما الكلمات الغريبة فهذه تحتاج إلى ضبط كما تحتاج في الغالب إلى معرفة معانيها فلا بد من الرجوع إلى القواميس والمعاجم اللغوية
ومن حسن الحظ أن المطابع أخرجت لنا كتباً مضبوطة بالشكل كالكامل للمبرد والكتاب لسيبويه، وهذه تعين على ضبط مفردات كثيرة من مفردات اللغة
فأنت ترى أن طريقتنا التي ندعو إليها ليست عظيمة البركة على اللغة وحدها بل هي(541/36)
عظيمة البركة على الخط العربي أيضاً تكمل نقصه وتذلل كثيراً من صعوباته
وإني أشكر لك عنايتك باللغة العربية المحبوبة واهتمامك بما ينشر عنها من إصلاح، وثناءك على جهد الرسالة الغراء في النشر والبلاغ
أسأل الله أن يعيننا على حل مشاكلنا تحت ضوء العلم، وأن يعين الأمة على قبول الحق من أهله، والانتفاع بما يبذله لها المخلصون من نصح وإرشاد، وأن يعين مجلة الرسالة على إبلاغ الحق، وتأدية الأمانة
محمد عرفة
فهارس مبوبة الآيات القرآن الكريم
يخطئ بعض الكتاب حين يستشهدون في عرض كلامهم بآياية أو آيات من القرآن الكريم؛ ويرجع ذلك إلى عدم حفظهم للقرآن أو لعدم إجادة الحافظين منهم لما يحفظون؛ وترى في الصحف والمجلات تصحيحاً لهذه الآيات التي وردت في أثار الكاتبين غير صحيحة أو محرفة
وقد كان يلتمس لهؤلاء الكتاب عذر لو لم تكن هناك كتب خاصة في ترتيب آيات القرآن. وقد كان ذلك مقبولاً قبل أن توضع هذه الفهارس القرآنية التي تسهل على الراغبين طريق الرجوع إلى الآية الكريمة في موضعها من الصحف. أما الآن وقد ظهرت فهارس منظمة لآيات القرآن، فما عذر هؤلاء الكتاب الذين لهم في كل يوم تحريف لكلام الله عن موضعه؟
وقد وضعت للتوراة والإنجيل فهارس منظمة، وانتفع بها كتاب المسيحيين حين يحتاجون إلى الاستشهاد بآيات العهدين القديم والجديد. فما بالنا لا نستعمل فهارس كتابنا الكريم؟ وما بال كل كاتب عربي لا يضع بجانب مصحفه كتاباً من كتب فهارس القرآن، حتى يورد الآيات إيراداً صحيحاً. وبذلك تسلم كتاباتنا ومقالاتنا من خطأ الاستشهاد وخلط الإيراد
ومن كتب الفهارس للقرآن (ترتيب زيبا) وهو مطبوع في استانبول. وكتاب (نجوم الفرقان في أطراف القرآن) وهو مطبوع في ألمانيا، و (كتاب فتح الرحمن لطالب آيات القرآن) وهو مطبوع في المطبعة الأهلية ببيروت منذ أربعين عاما. وهناك كتاب آخر للشيخ محمد منير الدمشقي الناشر المعروف(541/37)
وهناك من فهارس القرآن ما رتب بحسب الموضوعات لا بحسب الآيات كالفهرس النفيس الذي وضعه (جون لابوم) الفرنسي وترجمه إلى العربية الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.
وفي بعض هذه الفهارس عيوب (كترتيب زيبا) فإن الرجوع إليه لا يسهل إلا على حفظة القرآن، لأنه لا ينتفع به إلا من عرف أوائل الآيات، مع أن فكرة الفهارس القرآنية هي تسهيل الرجوع إلى غير الحافظين
أما (نجوم الفرقان) فقد أحاط بكلمات القرآن الكريم كلها، وأشار إلى موضع الكلمة من الآية وموضع الآية من السورة، ألا إنه جرى في الترتيب على غير طريقة المعاجم العربية، وكثيراً ما خلط بين مادة ومادة، فكلمة (مرضى) جمع مريض وضعت في مادة (رضى) والصواب وضعها في (مرض). وكلمة (استبقوا) وضعت في مادة (بقى) وصوابها (سبق) لأنها من الاستباق بمعنى السبق
أما فهرس محمد منير الدمشقي فهو - في الغالب - لأوائل الآيات فقط، فلم يحط بكل كلمات القرآن كما صنع السيد علمي زادة فيض الله المقدسي في كتابه القيم (فتح الرحمن لطالب آيات القرآن) وهو أوفى وأوسع وأكمل كتب الفهارس لآيات الذكر الحكيم.
محمد عبد الغني حسن
استدراك
نشرت الرسالة في عددها 512 الصادر بتاريخ 26 أبريل سنة 1943 تحت عنوان (الحديث ذو شجون) بحثا للدكتور زكي مبارك جاءت فيه العبارة الآتية في معرض الكلام عن جلالة المغفور له فيصل الأول: (وأصغيت بأذني وبقلبي إلى الصوت الذي قال: من غفلة العرب أن ينسوا الأهواز. مع أنها أحق بالعطف من فلسطين)
وقد اتصل بنا أن هذه العبارة لم ترق في نظر بعض إخواننا الإيرانيين.
ولسنا في حاجة إلى القول بأننا من أحرص الناس على شعور إخواننا الإيرانيين الذين نعتبرهم كأنفسنا، وإننا ممن يؤمنون بضرورة المحافظة على ما يربط القطرين الشقيقين مصر وإيران من علاقات مودة وإخاء، وعلى تدعيم هذه العلاقات
وقد أردنا بهذا الاستدراك وضع الأمور في نصابها وإثباتاً لحسن النية وإبعاداً لسوء القصد(541/38)
شعراؤنا والناقد العبقري
جاءنا رد من الأستاذ دريني خشبة، تحت هذا العنوان، على الدكتور محمد مندور، وقد ضاق نطاق هذا العدد عن نشره، وسيظهر في العدد القادم
تصويب
جاء في مقال (الشعر الأوربي للأستاذ محمد مندور بعض أخطاء مطبعية، ننشر صوابها فيما يلي: العمود الأول، الصفحة الأولى، السطر الرابع: وإلا فسنظل ندهم ونتوهم، صوابه: وإلا فسنظل نوهم ونتوهم العمود الثاني، الصفحة الأولى، السطر الرابع
صوابها:
ع 2 ص 1 س 6: (وإذا كانت في الشعر العربي أبحراً متجاوبة) صوابها: (. . . أبحر متجاوبة)
ع 2 ص 1 س 8: فإن هناك أيضاً أبحر، صوابها:. . . أبحرا
ع 2 ص 1 س 11: صوابها:
ع 2 ص 1 س 16: وإنما تتميز الأشعار ببينة التفاعيل، صوابها: وإنما تتميز الأشعار ببنية التفاعيل
ع 1 ص 2 س 8: صوابها:
ع 1 ص 2 س 19: ومنها لأول مرة، وصوابها: وفيها. . .
ع 1 ص 2 س 32: لا نجد منها غير. . . صوابها: لا نجد فيها
ع 2 ص 2 س 27:
-== -== -
-
ع 2 ص 2 س 29: فيرجع إلى الحرف الصامت، وصوابها: الصائت
ع 1 ص 3 س 1: حرفين صامتين، صوابها:. . . صائتين
ع 1 ص 3 س 1: صوابها:(541/39)
العدد 542 - بتاريخ: 22 - 11 - 1943(/)
3 - في المسجد الأقصى
للدكتور عبد الوهاب عزام
لبثت في المتحف الإسلامي حتى سمعنا النداء فخرجنا لنشهد صلاة العصر في المسجد. فلما قضيت الصلاة طوفنا في المسجد فرأيناه في جلاله ورونقه؛ وقد تمت عمارته هذا العام بعد أن لبث عليه الترميم والبناء سنين. دعم أحد المهندسين الترك القبة العظيمة التي أمام المحراب؛ ثم تولى المهندسون المصريون تجديد معظم الأروقة، وأقيمت عمد جميلة من الرخام مقام العمد القديمة المبنية. وقد حدثت أن المهندسين عجبوا كيف احتملت هذه العمد المبنية هذا السقف الثقيل وما عليه من طين وتراب قدر وزنهما تقديراً هائلاً
والمسجد اليوم سبعة أروقة تمتد مع طوله من الشمال إلى القبلة أوسطها الرواق الأعلى الذي ينتهي إلى قبة المحراب العالية الرائعة. وكان طول المسجد، فيما سمعت، من الشرق إلى الغرب، وكان امتداده من القبلة إلى الشمال اقل مما هو اليوم. وإذا أدخلنا في مساحة المسجد مصلى النساء ومسجد عمر كان طوله كما كان من قبل، ممتداً بين الشرق والغرب. والمسجد يشبه جامع بني أمية العظيم الذي في دمشق، ولكن جامع دمشق أضخم بناء وأعلى عمداً وأحكم صنعة، وعرض مصلاه قليل وطوله مفرط. ورحم الله بني أمية لقد بقى على الدهر بناؤهم، وثبتت على رجفات الزمان آثارهم فما تزال دمشق وبيت القدس وقرطبة تشهد لهم بما شادوا وما عمروا. وما يفخر المسلمون والعرب اليوم بعمارة هي أقدم وأضخم مما شاد بنو أمية. وقد قلت في جامع دمشق:
رأيت فيه خلال القوم ماثلة ... وللبناء من البانين أقدار
ورحم الله شوقي الذي يقول:
لولا دمشق لما كانت طليطلة ... ولا زهت ببني العباس بغدان
ويقول:
بنوا أمية للأبناء ما فتحوا ... وللأحاديث ما سادوا وما دانوا
ووقفت عند المنبر الجميل الذي دق صنعه، وجمل شكله، وأخرجه صانعان من حلب طرفة من الصناعة ليس فيها مسمار؛ ولكن دقائق من الخشب متماسكة ومتعاشقة. وقرأنا عليه اسم الملك الصالح نور الدين محمود وابنه(542/1)
وقد حدث التاريخ أن هذا المنبر صنع والمسجد في أيدي الصليبيين ليوضع فيه بعد الفتح. وما كان الفتح ليستعصي على هذه العزيمة وهذا الإيمان. ثم وضعه في موضعه الذي هو فيه اليوم الملك الناصر صلاح الدين
قال الإخوان: اصعد فتأمل أعلى المنبر فصعدت وكأنما احتشدت أمامي الجموع التي شهدتها هنا القرون، والحادثات التي داولتها العصور. قلت: ما أخطب هذا المقام وما أخطب هذا المنبر! قال أحد الرفاق: وإنك لجدير به. قلت: يوم نظفر بما نبغي لهذا المسجد وأهله من سلام وعزة، يوم تكون أقدامنا جديرة بمكانها من هذا المنبر منبر التاريخ والى جانبي المسجد من جهة القبلة مصليان متصلان به يمتدان مع جدار القبلة إلى الشرق والغرب ولا يتسعان إلى الشمال بل عرضهما يقارب عرض رواق واحد من المسجد، وهما يبدوان كأنهما جناحان لهذا المسجد المبارك الذي يصعد بالأرواح كل حين؛ فالذي إلى يمين المصلى مسجد النساء (وقد اقتطع قسم منه للمتحف الإسلامي)، ويصلي فيه النساء كل يوم. وقل أن يخلو المسجد الأقصى من مصليات قانتان يذهبن جماعات إلى الصلاة ومعهن أطفالهن أحياناً. وهي سنة إسلامية حميدة شهدتها في جوامع الشام واسطنبول أيضاً
وأما المصلى المبارك الذي إلى يسار القبلة شرق المسجد فيحمل الإسم العظيم والذكرى الخالدة، اسم أمير المؤمنين عمر فاتح بيت المقدس رضي الله عنه وأرضاه. ويقال إنه المصلى الذي أمر عمر باتخاذه حينما دخل المسجد الأقصى ورفع عنه الرجس والهوان اللذين جثما عليه عصوراً، وجعل مسجداً طهوراً
والذي أدركته من كتب التاريخ أن المساحة الفسيحة التي نسميها الحرم كانت كلها تسمى المسجد الأقصى؛ ولكن هذا الإسم يخص اليوم أحياناً بالمسجد الذي وصفت. قال ياقوت:
وأما الأقصى فهو في طرفها الشرقي (يعني طرف المدينة) نحو القبلة أساسه من عمل داود عليه السلام وهو طويل عريض وطوله أكثر من عرضه
وفي نحو القبلة المصلى الذي يخطب فيه للجمعة. وهو على غاية الحسن والأحكام مبني على الأعمدة الرخام الملونة وليس في الدنيا أحسن منه لا جامع دمشق ولا غيره
وقد نقل ياقوت عن المقدس أن طول المسجد ألف ذراع وعرضه سبعمائة وأن في سقفه من الخشب أربعة آلاف خشبة وسبعمائة عمود رخام وكان له ستة وعشرون باباً الخ(542/2)
ومن يقرأ ما ذكر المؤرخون عن هذا المسجد يعرف أن الذي نراه اليوم بقية الخطوب من هذا البناء العظيم الهائل. وإنما ذكرت من هذه البقية ما لا يشق على القارئ إدراكه مما أدركت العين في زيادة سريعة غير مستوعبة ولا مدققة
ثم انصرف الرفاق مشكورين، ولبثت في المسجد فذهبت إلى الجانب الشرقي فأشرفت من صحن الصخرة على ساحة واسعة بينه وبين السور الشرقي، سور المسجد والمدينة القديمة نفسها. وهي ساحة خربة ولكنها تصلح أن تكون بستاناً كبيراً أو حديقة واسعة أو مدرسة جامعة، أو ما يشاء التفكير والإصلاح لخير المسلمين
وضيفت الشمس للغروب فذهبت إلى حجرة الموعد معتكف الوزير التقي السيد المجددي للإفطار مع العاكفين. وصلينا المغرب في قبة الصخرة وعدنا فبسطت سفرة وضعت عليها ألوان من الأطعمة الشهية، وأحاطت بالمائدة وجوه مشرقة تتجلى فيها الطهارة الإسلامية طهارة الجسد والروح والظاهر والباطن قعدت بين هؤلاء الإخوان البررة الذين صفت قلوبهم ووجوههم واجتمعوا على البر والأخوة في هذه البقعة المطهرة. فخلت هذه المائدة صفاً للصلاة، وهذا الأكل الشهي أسلوباً من العبادة. وإن حظ الأجسام من هذه الغذاء ليس أعظم من حظ الأرواح. لقد تمنيت أني معتكف مع المعتكفين ووددت أن أظفر بهذه السكينة في حجرة من هذه الحجرات رمضان من العام القابل
قلت للاخوان مازحاً: إنكم لفي نعيم. وإن غير المعتكفين لا يظفرون بمثل هذه المائدة. وقال السيد المجددي وهو يضئ الكهرباء: هذا اعتكاف آخر الزمان. قلت: هذا اعتكاف إسلامي فيه الطمأنينة والعبادة والفكر، وليس فيه الحرمان والإرهاق (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق). وشربنا الشاي وتحدثنا قليلاً فسمعنا النداء للعشاء فسرنا إلى قبة الصخرة فدخلنا وقلوبنا تخفق مع هذه القناديل الخافقة. وانتظمت الجماعة في المصلى الخارجي وسمعت تسبيح النساء وراء السياج المحيط بالمصلى الذي تحت القبة فعرفت أن لهن جماعة من وراء هذا الحجاب. وأقبلنا على صلاة العشاء والتراويح. فلما قضيت الصلاة وسرت إلى الباب الشمالي رأيت جماعة أخرى يؤم بها السيد المجددي؛ وقيل لي إنها جماعة الحنفية يصلى بها هذا السيد العمري الأفغاني كل ليلة. ومما أجدر بالإمامة في مدينة عمر(542/3)
استأذنت المعتكفين وخرجت كارهاً أود أن يطول لبثي في هذه المشاهد على طول ما لبثت فيها. خرجت وأنا أجيل الطرف فيما حولي لأثبت ذكراه في نفسي وأود أن أسير سريعاً في ظلمات الليل فأطوف مرة أخرى بهذه الساحة الفسيحة التي أمضيت فيها معظم النهار وشطرا من الليل
ذهبت إلى التكية البخارية فلبثت ساعة في ضيافة شيخها الشيخ يعقوب البخاري، وما هذه التكايا والمساكن النظيفة الطاهرة المجملة والمزينة بالأوراق والإغلاق إلا مساجد صغيرة. فقد عددت هذه الساعة من ساعات المسجد الأقصى أيضاً
ومضت بنا السيارة إلى رام الله حيث الفندق الذي أنزل فيه، ولا تزال هذه المشاهد في عيني. وملئ فكري، تاريخ من المجد، وعصور من الخطوب، وصفحات من الغير، وملء قلبي آمال وآلام. ذكر ناظرة يتخللها الألم كما تقدح النار من الشجر الأخضر - رجعت إلى مأواي وقد طويت العصور في تلك الساعات، والأحداث العظيمة في تلك الآثار، ثم طويت تلك الساعات القليلة وتلك الآثار الجليلة في فكري وقلبي.
عبد الوهاب عزام(542/4)
مسابقة الأدب العربي
القيادة الفكرية بين الفلاسفة والأنبياء
للدكتور زكي مبارك
تاريخ لطيف!
في السبت الأول من نوفمبر سنة 1919 وقف ثروت باشا رحمه الله بقاعة المحاضرات في الجامعة المصرية وألقى كلمة طيبة قدم بها الدكتور طه حسين إلى الجمهور، وقد قال في تلك الكلمة إنه يود لو كان سعد باشا حاضراً ليقدم الدكتور طه على نحو ما صنع في العام الماضي وهو يقدم الدكتور أحمد ضيف (وكان سعد باشا يوم ذاك منفيا بأمر السلطة العسكرية)
ثم وقف الدكتور طه ليلقي محاضرته الأولى فشكر أعضاء مجلس الجامعة، ومن كان منهم في مصر ومن كان منهم خلف البحر (وهو بهذا يشير إلى سعد باشا زغلول ومحمد باشا محمود) واندفع بعد ذلك في محاضرته فحدثنا أنه عزم على إحياء التراث اليوناني، لأنه يؤمن إيماناً جازماً بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان
وما كاد الدكتور طه يفرغ من محاضرته حتى نهض أحد طلبة الجامعة واسمه زكي مبارك فرد على الدكتور طه ردا خطابيا أثار إعجاب الجمهور، فوقف الدكتور طه ورد على الطالب ردا ظفر بشيء من القبول
وبدا للأستاذ محمود عزمي أن يؤرخ وقع المحاضرة الأولى للدكتور طه بكلمة ضافية في جريدة الاستقلال، ولم يفته أن يوجه عبارة نابية إلى الطالب الذي ثار حين رأى من يقول بأن مرجع الفكر كله إلى مفكري اليونان
وفي المحاضرة التالية رأى الدكتور طه أن يبدأ بكلمة في التعقيب على مقال الأستاذ محمود عزمي، ليبين خطأ الطالب الذي ثار عليه، فنهض زكي مبارك وقال: لا تتعالوا علينا، ففي مقدورنا أن نساجلكم بالحجج والبراهين
وفي تلك اللحظة مال إسماعيل بك رأفت على أذن الدكتور طه فأسر إليه كلمات، فأنصرف الدكتور طه عن التعقيب، ومضى في المحاضرة الأساسية و (ليس) في نفسه أشياء(542/5)
بين تاريخ وتاريخ
هل تغير الرأي عندي في هذه القضية بين نوفمبر سنة 1919 ونوفمبر سنة 1943؟
وهل تغير الرأي عند الدكتور طه فيما بين هذا التاريخ وذاك التاريخ؟
لم يتغير رأيي ولا رأيه، وأنا موقن بأني على هدى وإن لم يكن الدكتور طه في ضلال
ولكن ما الموجب لإثارة هذه المشكلة وقد تقادم عليها العهد؟
والموجب هو إصرار الدكتور طه على القول بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان، وحرصه على إثبات هذا القول في الكتاب المقرر لمسابقة الأدب العربي، وكان قبل ذلك مقرراً للمطالعة في المدارس الثانوية، ونحن لا ندع أبنائنا يقرءون كلاماً يساق بلا بينة ولا يقين
يضاف إلى هذا أن الدكتور طه عقد فصلاً خاصاً بهذه القضية عنوانه (بين الشرق والغرب)، وقد أراد بهذا الفصل أن يجعل القيمة العقلية من حظ الغرب، وأن يجعل البوارق الخيالية من حظ الشرق، وانتهى إلى النص على أن الغرب وطن الفلاسفة وأن الشرق وطن الأنبياء
فماذا يريد الدكتور طه بهذا القول؟ وما حظه في أن يقرر أن العقل الشرقي انهزم أمام العقل اليوناني مرات في التاريخ القديم وأنه ألقى السلاح في التاريخ الحديث؟ وما الغرض من الإصرار على أن العقل الشرقي يذهب في فهم الطبيعة وتفسيرها مذهباً دينياً قانعاً، بدليل أنه خضع للكهان في عصوره الأولى وخضع للديانات السماوية في عصوره الراقية؟
لابد من نقض هذه الآراء قبل أن يفتن بها التلاميذ، لأنها صادرة من رجل ممتاز من الوجهة الأدبية، أو لأنها مسجلة في كتاب رقم عليه اسم وزارة المعارف العمومية
وما الذي يمنع من تبصير الدكتور طه بالصواب؟
هل نجا من شوق التعرف إلى الحق؟
وهل هان الشرق على أهله حتى نسكت عمن يرمون بالعقم والإمحال في الميادين العقلية؟
على الدكتور طه أن يسمع، وله أن يجيب إن كان يملك الجواب
نماذج من الأخطاء(542/6)
وقبل أن نواجه المشكلة الأساسية، نذكر نماذج من أخطاء الدكتور طه في تصوير الحياة العقلية
فمن أخطائه أن يتوهم أن أخذ اليونانيين عن الشرقيين نظام النقد ونظام المقاييس ليس إلا عملية مادية. ومن أخطائه أن يهون من فنون الحساب والهندسة فيجعلها فنوناً عملية لا عقلية. ومن أخطائه أن يقول بأن سيادة النظام الملكي في الحكومات الشرقية دليل على أنها لم تنضج من الوجهة السياسية
وهذه الأخطاء في الفكر لا تحتاج إلى شرح، فمن الواضح جداً أن نظام النقد كنظام المقاييس وثيق الصلة بالحياة العقلية. ومن الواضح جداً أن فنون الهندسة والحساب ليست فنوناً عملية إلا عند التطبيق، ولكنها في ذاتها فنون عقلية. ومن أوضح الواضحات أن نظام الحكومة وسيلة، لا غاية، فإن نجح النظام الملكي فلا بأس، وليس من الحتم أن تكون القلقلات الحكومية في التاريخ القديم دليلاً على أن اليونان كانوا أرقى الناس في الحياة السياسية
والخطأ الأعظم هو أن يقف الدكتور طه موقف المقرر المتحكم في قضية واهية الأساس، فما كان اليونان كما أراد لهم أن يكونوا، ولا كان هو نفسه بموقن أنه يملك توجيه مؤرخي الفلسفة من المحدثين، كما حاول أن يقول
فلاسفة وأنبياء
حجة الدكتور طه على قوة الغرب أنه وطن الفلاسفة، وحجته على ضعف الشرق أنه وطن الأنبياء، فما قيمة هذا الكلام إذا أقيمت له الموازين؟
لا يمكن فهم هذه المسالة فهماً علمياً إلا إذا غضضنا النظر عن الناحية الدينية، وجعلنا الأنبياء والفلاسفة رجالاً كسائر الرجال، وهم كذلك بالفعل، فقد صرح القرآن بأن الوحي هو الذي يميز الأنبياء عن الناس، فما كان الأنبياء ملائكة ولا آلهة، وإنما هم ناس
يجب أولاً أن نعرف من هو الفيلسوف؟
الفيلسوف هو محب الحكمة، هو رجل يريد أن يسمو بنفسه عن الجهل، ويهمه أن يتحرر من تقاليد الأغبياء، ولكنه في اكثر أحواله يؤثر السلامة، وقد يركن إلى الخمول، ومعنى(542/7)
هذا أن الفلاسفة لم تكن لهم فاعلية، بدليل أنهم عاشوا في عزلة عن المجتمع، ولم يفكروا في إقامة حكومة تحقق آمالهم في شرف الوجود
وسقراط أبو الفلاسفة لم يسلم عقله من الخضوع لمعبد أبو للون، وكان حاله عند الحكم عليه غاية في سوء المصير، فقد ظهر أنه لم يستطع خلق عصبية تحميه من القتل، ولم يكن تلاميذه وحواريوه إلا أنصاراً لا يجيدون غير البكاء
وكان هذا عيباً فظيعاً، لأن سقراط نشأ في عهود الفروسية، فلو كان فيلسوف متسقاً مع زمانه لجعل تلاميذه من الفرسان، في زمان لا ينتصر فيه غير الفرسان
أقول هذا وأنا أعرف أن استسلام سقراط للموت خلق صوراً شعرية قليلة الأمثال؛ فقد أوحى إلى أفلاطون ما أوحى، ثم كانت ترجمة فيكتور كوزان لأفلاطون موحية إلى الشاعر لامرتين بقصيد هو غاية في الروعة الجمال
الفلاسفة أصحاب فضل من جهة الفهم لا من جهة الفاعلية وبهذا ظلوا متخلفين عن قافلة الوجود
أنبياء ومرسلون
هنالك فرق بين النبي والرسول، والظاهر أن النبي رجل كامل من الوجهة الذاتية، بغض النظر عن المسئولية الاجتماعية، فبين وبين الفيلسوف الصادق تشابه في السلوك، مع فوارق سنفصلها بعد حين
أما الرسول فرجل مجاهد يرى من واجبه أن يستقتل في هداية المجتمع، وأن يرحب بالموت في سبيل الجهاد
وقد نجح الأنبياء المرسلون في هداية الشرق والغرب، فإليهم يرجع الفضل في إقامة الدعائم للحضارة الإنسانية
وهل من القليل أن يستطيع ثلاثة من الأنبياء المرسلين أن يسيطروا بالفكر والروح والعقل على الكثير من أقطار الشرق والغرب بأضعاف وأضعاف وأضعاف ما يسيطر الفلاسفة الثلاثة سقراط وأفلاطون وأرسططاليس؟
مثال(542/8)
نشأ النبي محمد في بيئة وثنية، فصعب عليه أن يهدي قومه بالمنطق إلى طريق الحق، وكان منافسوه من رهبان النصارى وأحبار اليهود يعيرونه بالعجز عن خلق آية تشهد بأنه رسول
وقد حار النبي محمد في إقناع خصومه بأن الآيات من عند الله، وأنه لا يملك تبديل الأنظمة الوجودية، لأنها من وضع واجب الوجود
وفي يوم من أيام الارتياب مات ابنه إبراهيم، وفي ذلك اليوم كسفت الشمس، فأقبل أعداؤه مبايعين، لأنهم وثقوا بأن الشمس لم تكسف إلا حزناً على موت ابن الرسول
عند ذلك تعرض محمد لمحنة أخلاقية، فهو بين أمرين: الأمر الأول أن يستغل جهل معاصريه فيوافق على أن الشمس كسفت لموت ابنه إبراهيم فيكون من أكابر الأنبياء، والأمر الثاني أن يصدع بكلمة الحق، ولو تعرضت نبوته للضياع
وقف محمد ينادي بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وأنهما لا يتأثران بمؤثر، ولو كان من الأنبياء
في تلك اللحظة تناظر أصدقاء محمد عاتبين، فقد ضاعت فرصة لا ينتظرون أن تعود
ولكن محمد لا يبالي غضب أصدقائه إذا خاصموا الصدق
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أقول إن محمداً هو القائد الأول في الفكر الإنساني، بهذه اللمحة الواحدة، بغض النظر عما سبقها ولحقها من اللمحات
وإذن يكون القائد الأول للفكر هو محمد لا سقراط ولو غضب الدكتور طه حسين
وما غضب الدكتور طه وما خطره وهو يستوحي جماعة من المؤلفين في تاريخ الفكر عند اليونان؟!
صيال الآراء
أراد الدكتور طه أن يغض من العقلية الشرقية، بحجة أنها خضعت للكهان وللأنبياء. وأنا لا أتزيد عليه، فذاك كلامه، وهو كلام مدون في كتاب طبع مرتين، وتبنته وزارة المعارف بعد مجلة الهلال(542/9)
والظاهر أن الدكتور طه يتوهم أن الكهانة ظاهرة شرقية لا غربية، وذلك توهم طريف، لأن الدكتور طه نفسه يشهد بأن سقراط قد استلهم الكهان، مع أنه في زعم الدكتور طه أول محرر للعقل الإنساني من أغلال الأضاليل
وأقول بعبارة صريحة إن الكهانة لم تصر مهنة مقدسة إلا في عهود الوثنية اليونانية، فقد كانت لها معابد، وكان لمعابدها سدنة وأمناء، وكان المصير لكل معضلة فردية أو قومية رهيناً برأي (الصوت المتنكر) في زوايا الظلام المنشور فوق معابد اليونان
أما كهان الشرق فكان مركزهم في المجتمع أيسر وأخف، لأن الشرق سبق الغرب إلى استيحاء العقل، وهل يستطيع مكابر أن ينكر فضل الشرق في السبق إلى رفع القواعد من الحضارة الإنسانية؟
ثم ماذا؟ ثم يجيء الكلام عن تفرد الشرق بالأنبياء، وهنا تثور المعضلة من جديد، معضلة الموازنة بين الشرق والغرب
وأقول إن النبوات في الشرق دانت الإنسانية بديون يراها الحاضر ويذكرها التاريخ، فالأنبياء الثلاثة موسى وعيسى ومحمد من أرومة عربية، وهم قد شرقوا وغربوا، وملئوا الدنيا ضجيجاً فكرياً وروحياً في أزمان لم تعرف سوى الذي ثاروا من صيال الآراء.
إن الصراع بين الإسلام والنصرانية هو أول وثبة جريئة لإيقاظ العقلية الإنسانية، ولا نستطيع أن نتصور مدنية حقيقية تقوم على الفكر والرأي قبل الصراع الذي ثار بين المسلمين في الشرق والنصارى في الغرب
ومع أن الديانة الموسوية قد هزمت منذ أجيال، فنحن نشهد كيف قاتلت قتال المستميت، وكيف استبقت أنصارها على وجوه التواريخ
الفكر الشرقي هو الذي زود الديانة الموسوية بزاد النضال، وهي لم تهزم إلا بقوة شرفية، فما جلا اليهود عن بلد بعد جلائهم عن الجزيرة العربية
وطغيان هتلر وأعوانه في طرد اليهود من ألمانيا لم يكن إلا نزعة عنصرية، وثورة هتلر وأعوانه على الديانة المسيحية صورة من ثورته على اليهود، لأن المسيح يهودي العرق، وله في بلاد العرب أخوال
ومن المضحك أن نرى النازيين في أوقات كروبهم يفزعون إلى الكنائس، مع أنها معابد(542/10)
شرقية لا غربية
الإسلام يحرر ألمانيا وإنجلترا
كانت دعوة (لوثر) دعوة جريئة في تحرير المسيحية من العبودية الرهبانية، فما مصدر تلك الدعوة التي حررت عقول الإنجليز وعقول الألمان؟
مصدر تلك الدعوة مصدر إسلامي، وأنا أتذكر أن الإسلام ظهر في الشرق!
(لوثر) قوة فكرية عظيمة، ولكنه لم يخطر على بال الدكتور طه وهو يتحدث عن قادة الفكر، لأنه لم يأخذ الفكر عن اليونان، مع أن (لوثر) أثر في الأخلاق الأوربية تأثيراً لا يقاس إليه تأثير سقراط وأفلاطون
وأعجب العجب أن اليونانيين لم يستجيبوا لدعوة (لوثر)، ولم يتركوا المذهب الأورثودكسي
قال هتلر في كتابه إنه لا يعترف بغير قوتين اثنتين: قوة ألمانيا وقوة إنجلترا، ولم يفته غير النص على أن ألمانيا وإنجلترا يتبعان الروح الإسلامي، وهو الروح الذي ينكر أن يكون بيننا وبين الله وسيط، ولو كان من أعاظم الرهبان
الشرق يؤثر في الغرب، ولا يزال يؤثر فيه من الوجهة الروحية والعقلية، فما هذا الذي يقول الدكتور طه حسين
هو ينقل كلاما، وناقل الكفر ليس بكافر، كما قال القدماء
بين الشرق والغرب
تجمع الغرب النصراني لمناضلة الشرق الإسلامي في أعوام الحروب الصليبية، فماذا وقع في تلك الحروب وقد طالت حتى جاوز مداها عشرات السنين؟
قهرنا خصومنا ودحرناهم، لأن أسلحة الحرب كانت واحدة، ولم يكن لخصم أن يتفوق على خصم بغير قوة العقيدة ورسوخ اليقين
وكان نصارى الغرب يهمهم أن يستولوا على مصدر النصرانية في الشرق، ومعنى هذا أنهم جاءوا مسلحين بعزائمنا الروحية، ولولا العقيدة التي نقلوها عن الشرق لعجزوا عن ملاقاتنا في أي ميدان
سيوف لله(542/11)
كان من المؤكد أن ينهزم الشرق الإسلامي في هذه الحرب، لأن أدوات القتال قد تغيرت وتبدلت، ولم يستعد الشرق لمنازلة الغرب، لأنه غير مزود بالأسلحة التي ابتدعها شياطين الغرب الجديد
لطف الله بالشرق الإسلامي ولطف. . . ألم تسمعوا أن الحرب في روسيا لم تمس الأقاليم المأهولة بالقبائل الإسلامية؟
عتاب!
هو عتابي على الدكتور طه، فهل يميل إلي بفكره لحظة واحدة لغير رأيه فيما بين الشرق والغرب؟ وماذا يقع إن لم يسمع؟ الشرق لن يتخلى عن السيطرة الروحية، وإن عجز عن السيطرة الحربية، ولن يوهن من قوة الشرق أن يقرأ أبناؤه كلاما منقولاً عن أحد الأجانب، ولو كان الناقل طه حسين
أما بعد فأنا أوصي طلبة السنة التوجيهية أن يثيروا هذه المشكلة أمام لجنة الامتحان، ليفوزوا بدرجات التفوق، على شرط يفهموا المرامي الدقيقة لهذه الرموز والتلاميح
لجنة الامتحان في مسابقة الأدب العربي ستؤلف من رجال يسرهم أن يجدوا فتياناً يجادلون ويناظرون، فالقوهم بما أدعوكم إليه، ليفرحوا بكم، وليطمئنوا إلى أنكم فاهمون لا ناقلون. . . أنا ضامن لكم النجاح إن لاقيتم الممتحنين وأنتم مزودون بالفكر والبيان. . . إنهبوا جوائز وزارة المعارف، لتفرح بكم فرح الآباء بنجباء الأبناء
زكي مبارك(542/12)
7 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
6 - يقول علقمة بن علاثة:
(. . . إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا والوفادة قربتنا فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك)
هذا تركيب مولد، ومثله قول الإمام مسلم بن الحجاج في مقدمة كتابه (الجامع الصحيح)
(فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر وتعاطي العلم يشملهم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار، فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم من الإتقان والإستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة.)
قال صاحب الكليات:
(الفاء في خبر المبتدأ المقرون بأن الوصلية شائع في عبارات المصنفين مثل زيد وإن كان غنياً فهو بخيل) وأورد أقوال نحاة أتعبوا أنفسهم في إعراب هذا التركيب. واعلم أن ما أصله مبتدأ حاله كحال المبتدأ
يقول عامر بن الطفيل:
(ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي)
دخول الباء على دون لم يجئ في كلام جاهلي أو إسلامي، وقول الأخفش في كتابه في القوافي وقد ذكر أعرابياً أنشده شعراً مكفئاً: فرددنا عليه وعلى نفر من أصحابه، فيهم من ليس بدونه) - مولد. ومثله قول ابن الفرضي:
إن الذي أصبحت طوع يمينه ... إن لم يكن قمراً فليس بدونه
وقد ورد مثل ذلك في كلام معزو إلى صاحبي وهو دليل على صوغ القول وتوليده
يقول قيس بن مسعود الشيباني:
(لم نقدم أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة)(542/13)
تعدية الانتساب بغير حرفه مولدة، وفي (المقامة. .) في قولها: (فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه) التعدية العربية القديمة
يقول عامر بن الطفيل:
(. . . ولبس القول أعمى من حندس الليل)
بناء (أفعل) من عمى غير جائز؛ قال الرضي: (لكون بعضها مما لا يقبل الزيادة والنقصان كالعمى)
والشاذ في هذا الباب معروف. وقول عامر يكاد يكون عصرياً. . .
وأما القول العربي الكريم: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً)
فالثانية فيه مثل الأولى، وليست بمعنى (التي تقتضي من) كما قال العكبري. وقال الزمخشري: (قد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل) وأنا لا أرى ذلك، والطبري يقول: (. . . عمى البصر لا يتفاوت فيكون أحدهما أزيد عمى من آخر إلا بإدخال أشد أو أبين. فليس الأمر في ذلك كذلك، وإنما قلنا ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت، فإنما عنى به عمى قلوب الكفار عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم فلذلك جاز ذلك وحسن)
ممن اطمأن في هذا العصر إلى كلام النعمان عند كسرى وأخذ قولاً عربياً جاهلياً خالصاً - العلامة اللغوي الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي، قال في مقدمة كتابه (نجعة الرائد):
(. . . إن من اطلع على المأثور من كلام العرب. . . أيقن أن هذه اللغة قد انفردت عن سائر اللغات فصاحة وبياناً، كما انفرد أربابها في مذاهب البلاغة تبسيطاً وإفتناناً. وحسب الناظر أن يسرح طرفه في بليغ منقولها، ويتأمل ما جاء من البدائع في محكم فصولها، من مثل مقالة النعمان في النضح عن أحساب العرب، وما ورد عن الإمام علي من نوابغ الأمثال وروائع الخطب، وما جاء بعد ذلك من أقوال مصاقع الخطباء في صدر الإسلام. . .)
وقال في المقدمة في مقالة النعمان:
(كان من حديث ذلك أن النعمان بن المنذر وفد على كسرى وعنده وفود الملوك من الهند والصين والروم وغيرها وتذاكروا أقوامهم وملوكهم، فتكلم الملك النعمان، وافتخر بالعرب، وفضلهم على سائر الأمم، ولم يستثن الفرس، فدخل كسرى منه شيء، وتكلم فطعن في(542/14)
العرب، فأجابه النعمان جواباً طويلاً. . .)
ثم نشر مقالة النعمان في مجلته (الضياء) في السنة (7) في الصفحة (460) أجابه الأدباء من قراء مجلته سألوه عنها
وإن كلاماً عربياً جاهلياً منثوراً ليحرص كل أديب أن يقف عليه ليعرف كيف كان الجاهليون - يا أخا العرب - ينثرون كما يحرص أن يقف على أقوال الصحابة (رضي الله عنهم أجمعين) وعلى أقوال التابعين (رحمهم الله)
أجتزئ من أدلة الوضع بما أوردت وأختم مكتوبي هذا بالثناء على (الرسالة) الغراء وعلى الشاعر الناثر الأستاذ محمد عبد الغني حسن الذي دعا أدبه وفضل فيها إلى تأليف هذه السطور.
(ن)(542/15)
بمناسبة افتتاح العام المدرسي
أمين سامي باشا ناظر ومدرسة
للأستاذ راشد رستم
(الخطبة التي ألقاها الأستاذ راشد رستم في الاحتفال بعيد
مدرسة الناصرية عن المتخرجين من أبنائها)
لأول مرة وفي أول يوم من أول حياتهم المدرسية صغار، لا يعرف بعضهم بعضاً ولم يجتمعوا في مثل هذا الحشد أبداً، ما تعودوا غير الحرية والانطلاق، واللعب على الدوام - إذا بهم وقوف في صفوف، مجمعين على مواعيد، مفرقين في مواقيت؛ وإذا بهم في فصول وفرق، وإذا بهم في غرف لا يؤذن لهم أن يجلسوا فيها كما يشاءون، وإذا ببعضهم في (عنابر الداخلية) يقضي لياليه بعيداً عن الأهل والإخوان، بعيداً عن الآباء والأمهات
هكذا تنتقل الحياة بهؤلاء الصغار بين ليل ونهار، من حال إلى حال، من فوضى محبوبة إلى تدقيق ونظام
ثم إذا بهم مطلب منهم ألا يلعبوا دون أن يعملوا، بل أن يعملوا دائبين، فسيحملون الأمانة من جيل ويحملونها إلى جيل. . .
تلك حال يواجهها كل تلميذ في سنيه الأولى إذا هو سلم منها في أولها سلست له إلى آخرها، وسار على بركة الله وسبحان الفتاح
وإن هو تعب منها في مبدئها، أتعبته طول وقتها، وهو إذن متبرم منها قلق بها وسبحان الحنان.
فما قولكم في ذلك الصغير الذي يواجه هذه العقبة، ولكنه يمر منها على ضوء طلعة صبوح، وفي صحبة روح يشع منها الاطمئنان إليها! وفي رحاب نفس طيبة تشعرك الرضا بها والسكون إليها!
سادتي
ذلك كان حالنا يوم أن اجتمعنا لأول مرة في رحاب الناصرية
لم يكن (أمين سامي) نبياً ولا ولياً، وما كان رسولاً ولا مبعوثاً إلهياً، ولكنه كان رجلاً،(542/16)
عاملاً، وطنياً. وكان أميناً وكان سامياً. . .
كان أمين سامي طبيعياً، يسير مع الطبيعة في بساطتها، كما يقف معها في دقتها، فلم يكن مرغماً ولا متعسفاً
لم يرغم تلاميذه على غير ما تسمح به طبيعتهم، بل يدرس تلاميذه ويدرس طبيعتهم، ثم يسوسهم ويرشدهم ثم يلقنهم ويوجههم
كان يهيئ لتلاميذه جواً مدرسياً محبوباً، يهيئ لهم نخبة من كرام الضباط والمدرسين، هم في مقام الآباء والمرشدين، يعرفون الفرق العظيم بين (ملف) من شهادات، وكنز من أخلاق
يعرفون أن الخلق مخلوق قبل العلم، وأن التلميذ أخلاق قبل أن يكون علوماً، وأن مصر في حاجة إلى أخلاق
يعرفون أن هؤلاء الشبان الصغار هم هؤلاء الرجال الكبار
يعرفون أن لهم نحو الوطن رسالة وأن عليهم واجباً
وإننا لنفخر إلى اليوم والى الغد والى الأبد بأننا تلاميذ لأولئك السادة الكرام - رحم الله الأولين الذاهبين وأطال الله حياة الحاضرين.
إن (المعهد) أمين سامي كان مخلص النية لتخريج الأبناء أعياناً لمصر، ورجالاً لمصر، ونجوماً في سماء مصر
هكذا كان الغرض وكان الإخلاص، فكان المطلوب وكان المراد
الواقع أننا كنا في مدرسة تشعرنا بأنها تهيئ لنا جميع وسائل العناية بنا
مدرسة نظيفة معنى ومبنى، لطيفة بكل من فيها وما فيها
مدرسة محترمة، تفرض علينا أن نتحلى بكل ما يجعلنا محترمين، تبث فينا الشجاعة والوطنية والإقدام، تشعرنا بأن لنا مستقبلاً وأن علينا واجباً، بل أن المستقبل لنا، وأنه مسؤول منا وأن البلاد تنتظرنا وتنتظر الخير منا.
كان أمين سامي (الرجل) مثالاً لنا بل ولغيرنا في هذا وذاك. كان نبيل الطبع نبيه التطبع، رجولة في أبوة، دقة في رحمة، مهابة في سماحة
كنا نترقبه ونتمنى أن نراه، ونغار منه (دار العلوم) إذا أطال هناك بقاه. . .
كان مثالاً لنا ولغيرنا في معنى النشاط ومداه(542/17)
لم يفارقه النشاط أبداً، فقد كان به مؤمناً؛ بل هو نشاط المؤمن
لم يفقد نشاطه برغم ما شدت عليه الحادثات من فقد العزيز وطول العمر
وكان كلما تقدم في السن سير النشاط وفق السن، فهو لم ينزل عنه وإن سلم بالدرجات فيه
فخره أنه لم يكن عجوزاً ولا عاجزاً، بل كان دائما قادراً ماهراً، ولقد جمعنا حوله في حياته؛ وهاهو اليوم يدعونا فيجمعنا لتخليد ذكراه مثالاً لنا لا ننساه.
هانحن أولاء، أبناء الناصرية، نجتمع اليوم من عهود مختلفات، وسنين متباعدات، ولكن ألا يجمعنا جميعاً ذلك اليوم الذي يرجع بنا إلى عهد جدول الضرب وحصة المحفوظات!
ألا عودوا بنا لحظة إلى تلك العهود
ألسنا نتمناها جميعاً برغم ما كان فيها من رجفات الامتحانات!
السنا نحيا بذكراها اليوم سعداء، وسط هذا العالم المضطرب، وسط هذه الألوان من حياة الانفعالات!
نعم
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار
إنما
من عنده لي عهدٌ لا يُضيِّعه ... كما له عهد صدق لا أُضيِّعه
نعم. إننا هنا اليوم مع أبناء اليوم ولكننا هناك في ذلك اليوم
أليس كذلك يا زميل التختة الواحدة؟
أليس كذلك يا زملاء المائدة الواحدة؟
أليس كذلك يا زملاء (العنبر) الواحد؟
أليس كذلك يا زميل (العيش الحاف، والحبس بعد الانصراف)؟
إن للناصرية طابعاً على كل من ورد عليها
وإن لنا لحنيناً إلى تلك الأيام الحلوة برغم (زنزانة) الحبس بالانفراد
إلى تلك الأيام الناضرة، وإن كانت قد ذهبت مع التاريخ في سجل الماضي البعيد، وإن كانت كذلك تنم لنا على ما دارت به معنا عجلات السنين من عدد السنين
وهل في الوجود معنى هو أحب إلى الرجل من عهد الصبا، ولا أسرع بالنفس ذهاباً إليه(542/18)
مهما بعد الحاضر عنه
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا. . .
وأما أنتم يا أولادنا الصغار بل يا اخوتنا الصغار، يا أبناء الناصرية فهي أمنا جميعاً، الآباء والأبناء سواء. أنتم أملها الجديد، ارتبطوا بها وحافظوا عليها
إنكم مخلوقون لزمان غير زماننا، وقد تهيأت لكم ظروف غير ظروفنا، نرجو أن تكون خيراً وأبعد أثراً
على أنه وإن كان لكل زمان ملابساته فإن جواهر الحقائق والفضائل باقية لم تتغير، فالاجتهاد لا يزال محموداً، والإخلاص لا يزال منشوداً، والجهاد لا يزال مفروضاً
أنتِ الغراس ومنك الخير ينتظر ... ما طاب أصل وخاب الفرع والثمر
احملوا الأمانة من جيل وسلموها إلى جيل
سادتي:
هذه هي الناصرية وهذا هو أمين سامي، وهذا هو المورد، وقد كنا ممن استسقى وورد، فشرب وارتوى وحمد
راشد رستم(542/19)
مداعبات
شعراؤنا والناقد العبقري. . .
للأستاذ دريني خشبة
لن أثور كما ثار الدكتور مندور يا حضرات القراء، ولن أسمح لأعصابي أن تتمزق على هذه الصورة المضحكة التي تعرض صاحبها لرثاء قراءه وطلبهم المغفرة له، وذلك لأنني دعوت الأدباء في مصر أن يضبطوا عواطفهم - في الصيف - وما كنت أظنهم يهملون صمامها ونحن على أبواب الشتاء
وقد قدح الدكتور مندور فينا بالذي قدح، غير أننا نثني عليه بما هو له أهل من أكرم الثناء. . . فقد سعدنا بصداقته قريباً، ودافعنا عن رجولته التي غمزها صديقنا الكاتب المعروف الذي أغضبه منا هذا الدفاع، وعزاه إلى خصومة قديمة توهمها بيننا وبينه، مع أننا أزهد الناس في الخصومات الأدبية وأحوجهم إلى معونة الأدباء بصدد الدعوة التي ندعو إليها
نثني على الدكتور مندور فنقرر أنه أعلم منا بالموضوع الذي أثرناه له ووجد فرصته فيه، فانطلق يكتب هذه الفصول القيمة التي سنقرأها وحدنا - أو مع خمسة أو عشرة على الأكثر من حضرات القراء الذين يعنيهم هذا الموضوع
الدكتور مندور يا حضرات القراء أعلم منا في موضوع أوزان الشعر الأوربي لأنها من ضمن ما تخصص حضرته فيه، ونال عليه الدرجات العلمية العلى، فهو إذا تكلم فيها، تكلم عن علم وبصيرة وخبرة
لكننا مع هذا لا نرى أن يمنعنا أحد من التكلم في أي موضوع نشاء، إلا في الطب والهندسة والصيدلة والكيمياء، وما إلى ذلك من الموضوعات التي لا تصلها بالأدب صلة، فهل أعاريض الشعر من هذا القبيل؟
سيقول الدكتور مندور، أجل، هي من هذا القبيل، بدليل أنك تكلمت في طرف ضئيل منها ومع ذاك فقد (أخطأت وأوهمت وتوهمت وضللت وضللت وموهت ولم تتحر الدقة بل ترديت في الخطأ البين في أبحاثك التي تحشدها. . .) إلى آخر هذه المجموعة الوافية من العبارات الشافية الكافية التي أسبغها علينا الدكتور الصديق محمد مندور، الذي كنا نتمنى أن نراه وهو يكتب هذا الفصل المنفعل الصاخب الظريف الذي صب حممه فوق رأسنا!(542/20)
وقبل أن نداعب أخانا مندور بما هو له أهل من المداعبة، وقبل أن نكشف الغطاء عما هاجه علينا وأحفظ صدره منا، نتناول تجهيلاته التي جهلنا بها، فنرى كيف أوقعتنا المقادير في ظلماتها حتى أعمتنا - والعياذ بالله - هذا العمى المطلق الذي لم تره غير عين صديقنا العزيز
عندما قلنا إن أساس العروض الأوربي هو التفعيلة لا البحر فهم حضرت صديقنا العروض المحترم أننا ننكر وجود البحور في الأعاريض الأوربية وعلى هذا بنى بحوثه القيمة، مع أننا ذكرنا كثيراً من هذه البحور في الحاشية التي أثبتناها في ذيل مقالنا وقلنا إن هذه التفعيلة هي أساس البحر (الفلاني!) ومن هذه التفعيلة ومن تلك يتكون البحر (الفلاني)، وإنما قصدنا بأن التفعيلة هي أساس العروض الأوربي أن الشعراء هناك أكثر حرية في استخدام هذه التفاعيل فلا يتقيدون بعددها في السطر (أو البيت) كما يتقيد شعراؤنا هذا التقيد الذي عبناه عليهم ولا نزال نعيبه عليهم. فمجرد (توهم) أننا ننكر وجود هذه البحور هو دليل الأعصاب الممزقة الموجدة التي تأكل قلب الصديق الحميم علينا للسبب الذي سنبينه بعد أن نرد ترهاته كلها. والمقال موجود أيها القراء بالرسالة (العدد 538)، فقوله إذن إن كلامنا لا معنى له مطلقاً وهو كلام يشبه الهوس، ونحن مع ذلك نعذره لأن معرفتنا بالدافع الذي أطلق لسانه فينا يفقد العقلاء عقولهم. وقد منعنا من تناول هذه البحور بالشرح الذي شمر له صديقنا الحميم عن ساعد الجد ما قلناه في صلب المقال من (أنه ربما لا يسر القارئ، بل ربما يضايقه جد المضايقة أن نخوض به في شيء من معميات العروض الإنجليزي). . . وربما أوهم اقتضابنا هذا لذاك السبب أننا (إنما نوهم ونتوهم أننا نعرف شيئاً. . .) إلى آخر هذا السفه الذي نمر به كراماً لأن صديقنا الحميم قاله في ساعة من ساعات الانفعال الذي سنذكر سببه كما قلنا
ويعيب علينا السيد مندور أننا قرأنا المعلومات التي سقناها في كتيب من كتيبات العروض ثم استعنا في شرحها بالقاموس؛ وهذا، لو أنه حصل، لا يضيرنا قط، ولكنه يضير الصديق الحميم كثيراً، لأنه يدل على أنه كان فاقداً لتوازنه وهو يكتب هذا الهذر، إذ كيف يقرأ الإنسان في كتاب من كتب العروض، ثم يحتاج إلى القاموس مع أن كتب العروض الإنجليزي لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا تناولتها بالشرح. . . على أنني أفهم لماذا يعيب(542/21)
السيد مندور الرجوع إلى القاموس أو الاعتماد عليه في شرح كلمة من الكلمات؟ هل ذلك لأن المعلومات التي في تلك القواميس تكون خطأ عادة؟ وكيف يا أخي يصح هذا؟ وكيف يا سيد العروضيين تغفل إنجلترا ويغفل الإنجليز عن هذا الخطر الذي جاء السيد مندور ليكتشفه لهم صبيحة يوم الأحد في السابع من نوفمبر سنة 1943؟! تالله لقد نبهتني إلى (قفشة) أقفشها لك، فقد أحسست من ثنايا كلماتك أنك رجعت إلى تلك القواميس كما لم يفعل العبد الفقير إلى الله، لتنظر في معنى بعض تلك (المعميات) كما سميتها أنا رفقاً بالقراء، فلما وجدت القواميس تنصر حقي على باطلك، وتواضعي على ادعائك العريض، عجلت فأردت توهين هذه الحجة التي أقذف الآن بها عليك لتدمغك، بالرغم من درجاتك العلمية الجامعية التي لا أنكرها قط، ولا أقدح فيها قط
اسمع يا صديقي الحميم ما جاء في قاموس القرن العشرين في مادة:
, ,
ومعنى هذا اللغو (في نظر الأخ مندور) أنه بحر (من بحور النظم) يتركب من اثني عشر مقطعاً، ست تفعيلات إيامبية، وقد سمي كذلك من أجل ما استعمل فيه في القصائد الفرنسية القديمة، عن الإسكندر الأكبر وهو البحر الشائع في المأساة الفرنسية
فهل قلنا نحن غير ذلك يا سيد مندور؟ إليكم ما قلناه أيها القراء، مما نقله الدكتور الفاضل بقلمه عن مقالنا: (ويفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري، نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقاً، وهو يتكون من اثني عشر مقطعاً (ست تفعيلات إيامبية مقطعين)
فأينا الذي لم يتحر الدقة ووقع في الخطأ البين كما قال الدكتور مندور الذي نال درجاته العلمية في هذا العلم؟ أينا المخطئ أيها القراء؟ أنا أم قاموس القرن العشرين، أم الدكتور مندور الذي تخصص في أعاريض الشعر قديمها وحديثها؟ على أننا نرجع إلى لاروس - القاموس الفرنسي المحترم - لنرى ماذا يقول هو الآخر: فهو بعد أن جاء بالرواية التي ذكرها السيد مندور، ويضيف إليها أنه يتركب من اثني عشر مقطعاً كما ذكرنا نحن وأنكره الأخ العزيز المتخصص في أعاريض الشعر، يقول:
' , ' , ,(542/22)
فأين الخطأ البين الذي وقعنا فيه يا عالم؟! لعل الأخ مندور - المتخصص في الأعاريض بأنواعها - أخذ علينا نسبة هذا البحر إلى الإسكندر من القصائد التي نظمت فيه من هذا البحر وعدم نسبته بالذات إلى أل ' فاسمعوا يا أصدقائي القراء - وأنا في حاجة إلى تملقكم بهذه النداءات الظريفة - ما تقوله دائرة المعارف البريطانية عن هذا البحر، فهي بعد أن تذكر أنه هو البحر الرئيسي في الشعر الفرنسي، وأنه يستعمل عادة في الشعر القصصي والمآسي والملاهي الرفيعة، تقول عن أصل تسميته:
, 13
ومعنى هذا: أنه يوجد بعض الشك بالنسبة إلى منشأ اسم هذا البحر إلا أن أكثرها احتمالا أنه مشتق من مجموعة من الروايات الشعرية ذاعت إبان القرن الثالث عشر، وكان الإسكندر المقدوني بطلها.
فما رأي الأستاذ مندور في هذا الهذيان الذي لغت به دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تصنيفها ساداتنا جميعاً من علماء الأمة الإنجليزية، والذين هم بلا شك أساتذتك وأساتذتي في العروض وفي العلم وفي الأدب وفي ضبط الأعصاب أيضاً! إنهم لم يقصروا تسمية هذا البحر كما فعلت أيها المتخصص في الأعاريض الأوربية التي ذكرت والتي ذكرها لاروس، بل قالوا كما قلنا - نحن الفقراء إلى الله الذين لم نتخصص في هذا العلم، لأنه، وحياة ذقنك، لا يحتاج إلى هذا التخصص أبداً، قالوا إن ثمة شكاً في أصل هذه التسمية، وإن أكثر الروايات احتمالا نسبته إلى ال التي نظمت في الإسكندر المقدوني
فأين إذن عدم الدقة، وأين إذن هذا الخطأ الفاحش الذي تردينا فيه، وأين هو التوهم والإيهام والظلال والتظليل، وما نتخيله من أننا نعرف شيئاً ونحن لا نعرف شيئاً قط؟! عفا الله عن مستر هايد الذي كان يلقي عليك هذه الوقاحات يا دكتور جيكل، في ساعة من ساعات عدم الوعي التي يذكر إخوانك أنها كانت تنتاب جيكل المسكين كلما طار أحد أبراج عقله الجبار. . .
أما تعبيري عن المقاطع بالطول والقصر وأنه لا ينطبق (بسهولة) على العروض الإنجليزي فقد آثرته ليفهمه الشعراء الذين اكتب لهم ممن درسوا أعاريض الشعر العربي ولم يلموا بلغة أجنبية، وسأجعلك تطير من الفرح حينما أنقل لك هنا تفسير أحد القواميس(542/23)
التي لا يعجبك النقل عنها لإحدى التفعيلات، كي تقول لقرائك ألم أقل لكم إن جل اعتماده على القواميس!
اسمع ما يقوله قاموس القرن العشرين في تفعيلة
- ,
أي:
فهل قلت أنا غير هذا الذي قاله هذا القاموس الجاهل أو دائرة المعارف التي ليس عندها علم السيد مندور؟ ولقد ضربت لذلك مثلاً لاحظت فيه أن يشمل الارتكاز الذي نبه إليه حضرة الناقد اللوذعي فقلت مثل: (ريعانه)، ولاحظت وجود الارتكاز في كل ما ضربت من أمثلة عربية
وبعد. فماذا بقي مما جهلنا به السيد مندور لم نرد عليه؟
وبعد أيضاً. . . فماذا يقول القراء في سائر الآفاق عن هذه اللهجة التي ينحط إليها أدب المناظرة في مصر؟
وبعد. وبعد؛ فما سبب هذا الموقف الذي يقفه منا فجأة هذا الدكتور مندور؟
اسمعوا إذن يا حضرات القراء
ليس صحيحاً أنه يقف هذا الموقف لأنني دافعت عن رجولته التي غمزها هو نفسه بالذي غمزها به صديقنا الكاتب المعروف، كما يتفكه أصدقاؤه وأصدقائي في القاهرة. . . وليس صحيحاً أننا نقتسم فيما بيننا تركة، فالدكتور ليس من أقربائي، وإن كان ذلك كان يسرني ويشرفني
ولكن المسألة أن الدكتور مندور يدأب منذ طويل في الطعن على شعرائنا المصريين بدون استثناء. وتجريحهم، والحط من شأنهم، بل في تجريدهم من شاعريتهم، وتفضيل شعراء المهاجر عليهم، أولئك الشعراء الذين نجلهم ونحبهم ونعرف لهم فضلهم ومعاونتهم في نهضتنا العربية الأدبية الكبرى. . . لكن أحداً لم يذهب إلى تفضيل هؤلاء الشعراء الأفاضل عامة على شعرائنا عامة غير الدكتور مندور، وهو يستشهد في هذه الدعوى بقطع تدل على مبلغ تذوقه للشعر، ومدى مقدرته على الموازنة بين الشعراء. وقد غضبنا لهذه(542/24)
الخطة الجائرة لا تعصباً أعمى لشعرائنا، وإن يكن التعصب البصير ديناً لهم في أعناق الكتاب المصريين جميعاً، ولكن لأن الدكتور قد جاوز حد الدعابة إلى حد الجد، وأقول حد الدعابة، لأنني حسبته إنما يداعب شعراءنا أول الأمر، ولأن الموازنات التي ذهب إليها كانت كثيراً ما تغثي النفس وتقبض القلب، وتتعمد الغض من أقدار الشعراء المصريين تعمداً باطلاً بلغ حد الخطورة على سمعة الأدب المصري والشعر المصري، الذي هو مع ضيق آفاقه التي نشكو منها دائماً، ألمع مظهر من مظاهر هذا الأدب
ففي مقالنا عن - تجديد الأدب العربي - بالعدد (535) من الرسالة، كتبنا كلمات ثناء في شعرائنا الشيوخ ننفي بها ما كان يحتمل أن يفهم من أننا نقصر الرجاء على شعرائنا الشباب في القيام بتجديد الشعر العربي شكلاً وموضوعاً، فلما بلغنا الكلام عن الأستاذ العقاد قلنا إننا كنا نضع فيه أملنا للنهوض بأعباء تلك الثورة، لكن أملنا هذا - خاب - بهذا التعبير، حتى لا يظن أحد إنما نحتمي بأحد من ردنا على صديقنا مندور. . . وذلك لأن العقاد آثر أن يسلك الطريق القديمة للشعر العربي شكلاً وموضوعاً. . . ولكننا قلنا قبل هذا في المقال نفسه. . . (أما العقاد العظيم فهو شاعر المعاني غير مدافع، والذين زعموا أنه لا شأن له بالشعر هم قوم قليلو البصر بالشعر، بل ربما كان الأحسن ألا يكون لهم هم شأن بالشعر، ولو أن العقاد كان يعنى بديباجته وتجويد أسلوبه الشعري لخر أمامه أولئك النقاد جثياً. . .)
هذا ما قلناه نثبته هنا لأنه هو الذي أحفظ علينا الأستاذ مندور وذلك لأنه هو قائل تلك القولة الجريئة التي تدل على قيمة أحكامه (المائعة!) كما عبر عنها مناظرة الأستاذ المعروف، والتي يصدرها في غير وعي ليهدم أمجاد شعرائنا والعقاد ومدرسة العقاد في مقدمتهم. . . الدكتور مندور هو الذي قال: إن العقاد لا شأن له بالشعر، وهو قول يكفي للرد عليه أن نقول ما قلنا، لأن الذين يقولون هذا هم قوم لا بصر لهم بالشعر حقاً، بل ربما كان الأفضل ألا يكون لهم شأن بالشعر على الإطلاق. . . نقولها اليوم صرحاء بعد إذ كنا نلمح بها تلميحاً عسى أن ترعوي تلك الطائفة من الكتاب الذين لا هم لهم إلا هدم شعرائنا الذين نعتز بهم جميعاً وبلا استثناء لأنهم أعز علينا من ألف كاتب فج من أمثالهم. . . ونحب أن نطمئن قراءنا وأن نطمئن الصديق الحميم الأستاذ مندور، فنحن لم نر العقاد في(542/25)
حياتنا إلا مرة واحدة في مأتم، ولسنا نطمع في صداقات جديدة بعد الذي بلوناه من صداقة السيد مندور، ولكننا مع ذلك نعرف العقاد ونقرأه من نحو ثلاثين عاماً وقد كتبنا عنه سنة 1930، إذ هو سجين في ذلك الوقت، مقالاً تجفل منه الأبالسة، بالمجلة الجديدة قدرنا فيه العقاد الشاعر والعقاد الكاتب، مما كان سبباً في الأخذ بتلابيبنا في ذلك العهد الرجعي الأسود لا أعاده الله. . . ومع ذاك فنحن ما زلنا نقول إن العقاد خيب آمالنا فيه، وعسى أن يسعدها إن شاء الله، أما أن نقول إنه لا شأن له بالشعر، فنكون مجانين - نحن فقط دون تعريض بأحد - إذا لغونا بذلك مع من يلغون به. . .
والعقاد على هذا من (الشعراء الكبار الذين يعجبوننا) كما زل قلم السيد مندور في مقاله ليسجل على نفسه الداعي الذي دعاه إلى كتابة ما كتب. وفرق بين أن يتفقه المرء في أعاريض الشعر، وبين أن يكون شاعراً، أو أن تكون له موهبة تذوق الأشعار وإصدار الأحكام عليها
وسنأخذ قريباً إن شاء الله في نشر دراسات هادئة لكثيرين من الشعراء المصريين شيبهم وشبابهم لنبصر الذين كفروا بأمجاد الوطن بما ضلت أعينهم عن إدراكه من آيات العبقرية المصرية
وبعد. . . فإني أعتذر للقراء عما فرط به قلمي من لغو القول في هذا الحديث ولن أرد على لغو آخر قط.
دريني خشبة(542/26)
أوزان الشعر
3 - الشعر العربي
للدكتور محمد مندور
ليس من شك في أن الخليل بن أحمد كان رجلا عبقرياً نفخر به مع من نفخر بهم من أجداد. ولكن العلم لا يعرف الوقوف، ولقد تقدمت الدراسات اللغوية تقدما يحملنا على أن نطمع إلى معرفة أدق من معرفة الخليل بالعناصر الموسيقية في شعرنا العربي.
والذي لا شك فيه أن الخليل قد وضح حقيقة أساسية في الشعر العربي لا نستطيع أن نغفلها، وهي انقسام كل بيت إلى تفاعيل متساوية، كما هو الحال في الرجز ولهزج وغيرهما، أو متجاوبة (التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع) كما هو الحال في الطويل والبسيط وغيرهما. وهذا التقسيم من أسس الموسيقى والشعر عند الأوربيين اليوم؛ فهناك وحدات موسيقية متساوية وأخرى متجاوبة كما وضح الخليل.
ولكننا لا نكاد نترك وجود التفاعيل إلى بنية تلك التفاعيل حتى نختلف مع الخليل، وذلك لأنه لم يدلنا على وحدة الكلام وهي المقطع. وأكبر ظني أن الخليل لم يعرف العروض اليوناني وإلا لفطن إلى المقطع، وإن يكن قد علم فيما نرجح بالموسيقى اليونانية بفرعيها: (علم الإيقاع وعلم الانسجام والعروض اليوناني كما هو معلوم يقوم على المقطع، والسبب الذي منع الخليل من الوقوع على المقطع مزدوج فيما أظن:
1 - عدم كتابة الحروف الصائتة القصيرة التي نسميها حركات (الفتح والضم والكسر) في صلب الكتابة العربية التي لا تزال إلى اليوم مقطعية إلى حد بعيد، بمعنى أننا نكتفي برسم الحروف الصامتة، وأما الصائتة فلا تكتب إلا الطويل منها (الألف والواو والياء). فكتابتنا وسط بين الكتابة الفينيقية والكتابة الإغريقية، ومن الثابت تاريخياً أن الإغريق عند أخذهم بالكتابة الفينيقية قد أضافوا إليها رسوما خاصة للحروف الصائتة كلها طويلة وقصيرة وأبني على ذلك أن الخليل لم يفطن إلى أن الحروف الصائتة القصيرة تكون مع الحروف الصامت الذي توضع فوق كحركة مقطعاً تاما مستقلا. ولهذا اكتفى في تقطيع التفعيل بالحروف التي تكتب مميزاً بينها بالحركة والسكون.
2 - السبب الثاني هو أن اللغة العربة كغيرها من اللغة السامية تغلب فيها الحروف(542/27)
الصامتة فيما يرجح، وتلك الحروف يقع معها عادة الوقف، أي السكون، ولهذا لاح للخليل أن التتابع إنما يقع في الحركات والسكنات، بينما نجد في لغة كاللغة اليونانية أن الحروف الصائتة هي الغالبة، ولهذا لا نحس فيها بالسكنات الموجودة في اللغة العربية، بل نحس فوق كل شيء باختلاف كم الحروف الصائتة في تتابعها.
هذان السببان لا يجوز أن يحجبا عنا الحقيقة اللغوية التي تصدق على كل لغة وهي أن المقطع هو وحدة الكلام. وفي اللغة العربية أربعة أنواع من المقاطع هي: (1) المقطع القصير المفتوح وهو المكون من حرف صامت وحرف صائت قصير (حركة) مثل المقاطع الثلاثة في كتب (2) المقطع الطويل المفتوح وهو المكون من حرف صامت وحرف صائت طويل (ألف أو واو أو ياء - حروف اللين) مثل (كا) في كانت (3) المقطع الطويل المزدوج وهو المكون من حرف صامت وحرفين صائتين مثل بي في بيت مع احتفاظنا بالمناقشة العلمية التي تدور حول طبيعة الياء في هذا المقطع أهي صائتة أم صامتة (4) المقطع المغلق وهو المكون من حرف صامت، ثم حركة فحرف صامت آخر نحو (تُن) في بيتٌ والحرف الصائت في هذا المقطع قصير دائماً؛ فهذا قانون هام من قوانين اللغة العربية وليس له استثناء إلا في حالات محصورة أهمها حالات الوقف على الاسم المنون مثل (نارْ)؛ فهي تتكون في هذه الحالة من مقطع واحد مغلق حرفه الصائت طويل، وكذلك الوقف في حالتي التثنية والجمع مثل محمدانْ ومحمدونْ، فالمقطع (دان) والمقطع (دون) كل منهما حرفه الصائت طويل، وإذن القانون العام هو قصر الحرف الصائت في المقطع المغلق؛ فهل نعتبره مقطعاً طويلاً أم قصيراً؟ الواقع أنه مقطع طويل ويأتيه الطول من الزمن الذي يستغرقه الحرفان الصامتان؛ فهذا الزمن لا بد من حسابه وإن لم يحسبه علماء العروض الإغريقي واللاتيني. ولقد أثبت البحث الحديث أنه من الواجب أن يحسب كم الحروف الصامتة في كافة اللغات ومن باب أولى في اللغات السامية حيث تغلب تلك الحروف. ثم إنه إذا كان في كافة اللغات حروف آنية كحروف الانفجار (باء وفاء مثلاً)؛ فإن هناك حروفاً متمادة كالسين واللام مثلاً، فهذه من الممكن أن نمد في نطقها كما نشاء. وإذن فالمقطع المغلق نعتبره طويلاً
ونخلص من هذا إلى وجود مقاطع في اللغة العربية. وهذه المقاطع تختلف في كمها. فهل(542/28)
نستنتج من ذلك أن الشعر العربي كمي بمعنى أن كل تفعيل فيه يتكون من مقاطع مختلفة الكم بنسب محدودة؟
ذلك ما رآه المستشرق إوالد فقد وضع للشعر العربي عروضاً على غرار العروض اليوناني وهو عروض مستقيم سهل الفهم مبسط عن عروضنا تبسيطاً كبيراً. ولقد درسناه في العام الماضي للطلبة بالجامعة فأجادوا فهمه. ويستطيع القارئ أن يجده في الجزء الثاني (من قواعد اللغة العربية) للمستشرق المشهور ريث ولكننا مع ذلك لا نقر إوالد ومن نحا نحوه من عامة المستشرقين في اكتفائهم برد العروض العربي إلى المقاطع الكمية كما هو الحال في العروض اليوناني واللاتيني، وذلك لأنهم لم يبصرونا بالإيقاع فالكم كما قلنا لا يكفي لإدراك موسيقى الشعر بل لا بد من الارتكاز الشعري الذي يقع على كل تفعيل ويعود في نفس الموضع على التفعيل التالي وهكذا. ولقد كان للخليل على المستشرقين ميزة الإحساس بهذا الإيقاع فتتابع الحركة والسكون على نسب محددة يوضح ذلك الإيقاع ولا كذلك تتابع المقاطع المختلفة الحكم.
(للكلام بقية)
محمد مندور(542/29)
3 - جامع أحمد ابن طولون
(حديث ألقي في نادي النجادة في ليلة القدر)
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر في سورية ولبنان
يذكر المؤرخون الشيء الكثير عن هذا الجامع، فيقولون: إن ابن طولون رأى الصناع يبنون في الجامع عند العشاء، وكان ذلك في شهر رمضان. فقال: متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطاراً لعيالهم وأولادهم؟ اصرفوهم العصر فصارت سنة بمصر معمولاً بها إلى اليوم
ويروى أنه في يوم الجمعة التي صلى فيها ابن طولون لأول مرة، قام الخطيب فدعا للخليفة العباسي وولده ونسى أن يذكر أمير مصر وعزيزها ثم تنبه لذلك فقال: (الحمد لله وصلى الله على محمد، ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزماً، اللهم وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون مولا أمير المؤمنين)
ثم انتهت دولة آل طولون، وزالت آثارهم، فما بقى لهم سوى هذا الجامع الخالد يذكر الناس بهم وبأيامهم، ومجدهم وهل كان مجدهم إلا مجد مصر؟
ذكر صاحب النجوم الزاهرة من حوادث سنة 292هـ (وزالت الدولة الطولونية وكانت من غرر الدول، وأيامهم من محاسن الأيام)
وقال أيضاً: ولقد بكى الناس والشعراء دولة آل طولون وقالوا من المراثي الشيء الكثير وذكر ما قال فيهم إسماعيل ابن أبي هاشم:
قف وقفة بفناء باب الساج ... والقصر ذي الشرفات والأبراج
وربوع قوم أزعجوا عن دارهم ... بعدَ الإقامة أيما إزعاج
كانوا مصابيحاً لدى ظلم الدجى ... يسري بها السارون في الأدلاج
كانوا ليوثاً لا يرام حماهم ... في كل ملحمة وكل هياج
فنظر إلى آثارهم تلقى لهم ... علماً بكل ثنية وفجاج
وقال سعيد العاص:(542/30)
وكان أبو العباس أحمد ماجدا ... جميل المحيا لا يبيت على وتر
كان ليالي الدهر كانت لحسنها ... وأشراقها في عصره ليلة القدر
وقال ابن أبي هاشم:
يا منزلاً لبني طولون قد دثرا ... سقاك صوب الغوادي القطر والمطرا
يا منزلاً صرت أجفوه وأهجره ... وكان يعدل عندي السمع والبصرا
بالله عندك علم من أحبتنا ... أم هل سمعت لهم من بعدنا خبرا؟
لبيك يا ابن أبي هاشم لقد سمعت لهم خبراً ولكن بعد ألف عام من شعرك: إذ في سنة 1890 بينما كانت لجنة حفظ الآثار العربية تنقل بعض الأنقاض للمحافظة على هذا الجامع العتيق، عثرت على بعض قطع من الرخام، جمعت ورتبت فتألف منها اللوح الموجود الآن وهو بالكتابة الكوفية جاء فيها بعد آيات قرآنية ما يأتي:
(أمر الأمير أبو العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين أدم الله له العز والكرامة، والنعمة التامة في الآخرة والأولى، ببناء هذا المسجد المبارك، الميمون من خالص ما أفاء الله عليه، لجماعة المسلمين ابتغاء رضوان الله والدار الآخرة، وإيثاراً لما فيه تسنية لدين، وألفة المؤمنين، ورغبة في عمارة بيت الله وأداء فرضه، وتلاوة كتابه، ومداومة ذكره، إذ يقول الله تقدس وتعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. . .)
(في شهر رمضان من سنة خمس وستين ومائتين)
وقد أجمع العلماء على أن هذه الكتابة أقدم كتابة تاريخها ثابت معروف من كتابات الآثار العربية
رحم الله صاحب الجامع وطيب ثراه
وتقلبت الليالي وتعاقبت الدول ودخل القائد جوهر على رأس جيش من إخواننا أهل المغرب في خدمة دولة ناشئة ذات صولة ومجد وقوة، وكانوا أهل دعوة واتباع مذهب وإمامة. وقد دانت لهم دنيا المغرب، ونزلت على أرادتهم الأمم. ألم ترفع ألويتهم على سردينيا وصقلية؟ ألم تدفع لهم مدن إيطاليا الجزية؟ ألم يمخر أسطولهم عباب البحار؟ وفي يوم الجمعة 18 ربيع الآخر سنة 359 هجرية، دخل القائد المنتصر بعسكر كثيف جامع(542/31)
ابن طولون فأقام الجماعة، وجهر المؤذنون بآذان: حي على خير العمل فكان أول آذان شجي جهر به في أرض الكنانة، وصلى بالقوم عبد السميع بن عمر العباسي، وخطب الناس وأطال. ويذكر المؤرخون أنه جاء وعليه قلنسوة وطيلسان دبسي، وأنه زاد عقب الخطبة المعتادة ما يأتي:
(اللهم صلي على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى وعلى فاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. اللهم وصل على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين. ودعا للقائد جوهر، وجهر باسم الله الرحمن، وقرأ سورة الجمعة، والمنافقين في الصلاة، وقنت في الركوع فكان يوماً تاريخياً خالداً في حياة مصر العربية التي دخلت في طور جديد بدأنه بجامع ابن طولون
هذه ذكريات توحيها وقفة أمام المحراب الكبير، بأعمدته الرخامية ذات التيجان الأربعة، والتي تملك النفس حينما تنظر إلى ما هو من جمال الرخام الملون والفسيفساء المذهبة، ثم الكتابة الكوفية الفاطمية الفائقة الجمال في تنسيق الخط وتزهيره. فإذا اتجهت إلى اليمين، فهناك محراب آخر من العهد الفاطمي، عليه اسم الأفضل والمستنصر، وهناك غير ذلك من آثار ذلك العهد، فإذا مررت بها فاذكر أياماً لهم، وترحم عليهم، فقد جد الفاطميون وأنشأوا وصانوا ولهم الأيادي البيض. وهم إن اختلف الناس فيهم وتباينوا في الحكم عليهم فنحن في زمن تعالى عن نزعات الماضي
(للحديث صلة)
أحمد رمزي(542/32)
الريف المصري
الأستاذ محمد طاهر الجبلاوي
اشرق الضوء على كوخي الصغيرْ ... في ظلال الريف والخلق نيامْ
فتنبهت على صبحِ نضير ... ناعم الأنفاس عذب الابتسام
كشف الستر عن الكون القرير ... بيد من فضة في عسجدِ
فتجلى وجه الصافي المنير ... يعد النفس بيوم مسعد
وصياح الديك من فوق اليفاعْ ... هاتفاً يبعث في الأفق الطربْ
يا له من شاعر هز البقاع ... حين حيا بالنشيد المقتضب
والعصافير على أشجارها ... صادحات بأفانين الغناءْ
أي روح حل في أوكارها ... فأشاع البشر فيها والصفاء
وخوار وثغاء وبغامْ ... باديَ البهجة في كل مكانْ
هي موسيقى نشوز وانسجام ... تُبعث الدنيا بها في مهرجان
ونباح الكلب من خلف الغنمْ ... في انتباهٍ ومراح واقتحامْ
هزه الوجد وأشجاه النغم ... فجرى في نشوة بين الزحام
منظر في الريف يستهوي الْجَنانْ ... أين منه ضجة في المدنِ
كل ما فيه جمال وحنان ... خالد الحسن خلود الزمن
وترى الفلاح رحب المنكبيْن ... باسطاً كفيه مثل الباشقِ
يرمق الزرع بعين أي عين ... وفؤاد كفؤاد العّاشق
هو في الحقل عزيز الجانب ... وله فيه مضاء وأملْ
ليس يغري بنعيم كاذب ... أو يرى حِلف خمول وكسل
فأسه تنبض في قبضته ... وهي في الحق حديد وجمادْ
عزمه الصادق في حدته ... بعث القوة فيها والجلاد
يبذر الحب ويرجو الثمراتْ ... في رضاء ووقار خالب
حيثما سار يبث البركات ... وهو يسعى في مشوح الراهب
فإذا الأرض سرى فيها النماءْ ... وكساها بالقشيب النَّضِر(542/33)
خالج النفس صفاء وبهاء ... وتجلت فتنةً للنظر
فتنة لا بل ضياء وهدى ... وجمال جل في إتقانه
ذلك المخضلُّ من تحت الندى ... كم أراح القلب من أشجانه
لو رأيت القطن في بهجته ... وهو يختال على الغصن المديدْ
قلت حلم الصب في نشوته ... يتوشى كل يوم بجديد
وكأن القمح في رَأْد النهارْ ... يتراءى في شذور الذهبِ
لجة الماء يغُشّيها النضار ... وتحلى من شعاع المغرب
والسواقي من قريب وبعيدْ ... صادحاتُ بالمياه الجارية
يتغنى خلفها طفل سعيد ... مستظلاً بالغصون الساجية
وبنات الريف يحملن الجرارْ ... في دلال يكتسي بالخجل
هن للقرية زين وفخار ... وعليهن صلاح المنزل
حبذا الزوجة تصفي ودها ... وتؤاسي الزوج بالقلب الأمينْ
تحلب الشاة وترعى ولدها ... وهي في الحقل له نعم المعين
خُلق يورق في ظل الربى ... ويروَّي من معين لا يشابْ
هو والنبت ونفحات الصبا ... فطرة تذكو بأرواح عِذاب
أيها الريف زهت فيك الحياة ... وتجلت صنعة المقتدرِ
كلما حدثت قلبي بمناه ... راعني فيك جمال الذِّكرْ
فإذا النفس تولاها الكرى ... ومضت تغفل عن دنيا الزحام
لحتَ في الخاطر حلماً مزهرا ... يتلاقى الصفو فيه والسلام
محمد طاهر الجبلاوي(542/34)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد
أشكر لك أيها الأستاذ الجليل بيانك الجيد عن الشعر المرسل، ولكني ما زلت ألح على ثقافتك الممتازة واطلاعك الواسع وشاعريتك السامية العالية ألا تؤثر على هذه الدعوة التي أدعو بها الشعراء كي يقوموا بتجاربهم في هذا اللون من ألوان الشعر قبل أن يحكموا عليه بمنافاته للذوق وعدم انسجامه وموسيقى الشعر لعربي؛ فهذه هي الاعتراضات نفسها التي صرح بها النقاد في إيطاليا في وجه ترسينو، وفي إنجلترا في وجه مارلو، وفي كل مكان في وجه الذين حاولوه المحاولة الأولى. . . التجربة وحدها هي التي تثبت صلاحية هذا الشعر أو فساده. وقد عرضنا - وسنعرض نماذج من شعر الأستاذ أبي حديد - وهي نماذج متوسطة، من نظم رجل لم يشتهر بالشعر، ولم يمارسه ممارسة المنقطعين للنظم، وهي مع ذاك لا تسف ذلك الإسفاف الذي يجعلها تنبو في الذوق، أو تصدم الأذن الموسيقية، فما بالك لو كان لدينا اليوم نماذج من هذا الشعر، وعلى الأسس التي ابتكرها أبو حديد، من نظمك الشائق الممتاز، أو من نظم مطران أو محرم أو الكاشف أو الجارم أو علي طه أو رامي أو ناجي أو الجبلاوي أو شيبوب، أو من نظم شعرائنا الشباب محمود حسن إسماعيل أو غنيم أو الصيرفي أو عتيق أو بخيت أو البحيري أو قطب أو فهمي أو العجمي أو جودت أو البشبيشي أو محفوظ أو فتحي أو الوكيل. . . إلى آخر هذا الثبت الطويل الذي تعتز به مصر الحديثة من شعرائنا الشباب والشيوخ على حد سواء. . . أظنك تتفق معي أيها الأستاذ الجليل على أن التجربة وحدها هي التي تكفل لنا الحكم الصادق على صلاحية هذا الشعر أو عدمها، وأن التجربة التي قام بها أبو حديد إنما ينبغي أن يقوم بها شعراء أقوى - ولن يضير أبا حديد هذا القول - شعراء مارسوا الشعر وامتازوا بالأسلوب القوي والديباجة المصقولة، شعراء يستطيعون أن يمنحونا هذا ال كما منحه مارلو وكما منحه شكسبير للأمة الإنجليزية
ونحن لا نرى أنه من اللازم اللازب أن يكب شعراؤنا على هذا اللون وحده من الشعر، في نظم الملاحم والمطولات، إذ يكون هذا هو التعسف بعينه، فقد تكون المقطوعات أو ال أجمع للرواية وللموسيقى من الشعر المرسل، خصوصاً إذا قام بنظمها الشاعر الفحل(542/35)
الممتاز؛ لكننا مع ذاك لا نستطيع أن نغض من قيمة الشعر المرسل المتدفق الذي انتشر في لغات الأرض قاطبة إلا في اللغة العربية مع الأسف الشديد. وأحب أن أؤكد للشعراء أنه لا اللغة العربي ولا طبيعة الشعر العربي هما السبب في عدم إساغتنا لهذا الشعر. بل السبب الحقيقي هو أننا لم نجد التجارب الجيدة فيه، التجارب التي يحسن أن يقوم بها كبار شعرائنا لا (متأففين) ولا مستنكرين
وبعد، فأنا أعيذ العقاد العظيم من أن يكون سبباً في انصراف شعرائنا عن محاولة القيام بتجاربهم في الشعر المرسل، بل أعيذه هو من أن يصر على الانصراف عن هذا الشعر.
دريني خشبة
حول أصل الحضارة اليونانية
عرض الدكتور زكي مبارك عند حديثه عن كتاب (قادة الفكر) لمناقشة الرأي القائل بأن (الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافة الإنسانية، وأن الناس في الشرق والغرب وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان). وقد انتهى الدكتور من حديثه إلى تقرير أن (الفلسفة اليونانية منقولة عن الفلسفة المصرية)؛ وهذه النتيجة التي انتهى إليها، وأن كانت صحيحة على وجه العموم، إلا أنها تحتاج إلى شيء من الإيضاح
أما بيان ذلك فهو أن أرسطو قد أرجع أصل الفلسفة إلى اليونان حين قرر أن طاليس هو الفيلسوف الأول الذي نشأت على يديه (في القرن السادس قبل الميلاد) أول فلسفة عرفها التاريخ؛ ولكن ذيوجانس اللائرسي - وهو من المؤرخين اليونانيين - عارض في هذا الرأي، فتحدث في مقدمة كتابه الموسوم باسم (حياة الفلاسفة) عن وجود فلسفة سابقة للفلسفة اليونانية عند الفرس والمصريين. وعلى ذلك فإن مشكلة أصل الفلسفة قد اختلف فيها من قديم الزمان، وتبعاً لذلك فقد تساءل الباحثون: هل كانت الفلسفة شيئاً استحدثه اليونان أم تراثاً انتقل إليهم من (البرابرة)؟
بيد أن النتائج التي انتهى إليها الباحثون أخيراً قد رجحت الرأي الثاني، إذ أن الكشف عن وجود حضارات سابقة للحضارة اليونانية، كالحضارة العراقية (فيما بين النهرين) والحضارة المصرية، والتحقق من أن مدن أيونيه - وهي مهد الفلسفة اليونانية - قد كانت(542/36)
على اتصال بهاتين الحضارتين؛ كل هذا قد ساعد على ترجيح الرأي القائل بأن الشرق هو أصل الحضارة اليونانية. ولا يمكن أن يكون التشابه القائم بين قول طاليس بأن الماء أصل الأشياء وبين العبارات الواردة في فاتحة (قصيدة الخلق) التي كتبت في العراق قبل ذلك بقرون كثيرة، راجعاً إلى مجرد الاتفاق والصدفة. هذا إلى أن البحوث المتأخرة في الرياضيات وتاريخ نشأتها، قد تأدت بالباحثين إلى نتائج مماثلة: إذ أن جاستون مليو في كتابه: (دراسات جديدة في تاريخ التفكير العلمي) قد انتهى إلى القول بأن (المواد التي استطاع الشرقيون والمصريون أن يجمعوها في الرياضيات، كانت بلا شك أكثر أهمية وأوفر غنى مما كنا نتوهم منذ نحو عشر سنين). وفضلاً عن ذلك فإن علماء الاجتماع الذين قاموا بدراسة (العقلية البدائية) قد وجدوا في الفلسفة اليونانية آثاراً تدلنا على أن المذاهب الفلسفية الأولى لليونان لا يمكن بحال ما من الأحوال أن تكون بدائية أولية، وعلى ذلك فإنها لا بد أن تكون صورة مهذبة ناضجة لتفكير أكثر من ذلك عراقة وقدما. وإذن فإن من المرجح أن تكون الفلسفة اليونانية قد نشأت عن أصل شرقي، وأن يكون الفلاسفة اليونانيون الأولون منظمين ومعدلين، لا مخترعين ومبتدعين
زكريا إبراهيم
حياة مي: للأستاذ محمد عبد الغني حسن
بين يدي الآن كتاب (حياة مي) دفعه إلى الأستاذ فتح الله صقال، لأنظر فيه، وأكتب
فتحت الكتاب لأقرأ (الآنسة مي) والفهرس، ثم أطبقه إلى أن تتاح لي فرصة لقراءته، فلما قرأت ترجمة الآنسة مي شاقني ما بعدها، وقادني حسن البيان، وسلاسة العبارة من صفحة إلى أخرى حتى رأيتني أفرغ له فلا أدعه حتى أتمه، ولا أتمه حتى أهم بالكتابة عنه، ولا أهم بالكتابة حتى يمضي بي الفكر إلى غايته. ولشد ما رغبت لو طال الحديث عن مي ليطول استمتاعي بتلك اللذة الساخرة التي لا يظفر بها المرء إلا في أمثال هذه الآثار الأدبية التي لا يحس المرء في تلاوتها ضجراً ولا تعباً.
لقد جنيت من هذا الكتاب ثمراً حلواً وظفرت منه بمتاع قيم، ووجدت فيه لنفسي غذاء كما وجدت في نفسي ترويحاً وعليها ترفيهاً. وأحب أن يشاركني القراء في هذه المتعة القوية.(542/37)
فالكتاب مشوق جذاب بموضوعه وطريقة وأسلوبه
أما موضوعه فمن أحب الموضوعات إلى النفس لأنه يبحث عن (حياة مي). وأنا أحب مياً وأكلف بها، وأحب التحدث عنها والاستماع للذين يتخذونها موضوعاً للحديث حين يخوضون من حياتها وأدبها. فهي من الشخصيات الجديرة بالدراسة حقاً من حيث أنها غذت نهضة الفكر العربي، والنهضة النسائية مدى ربع قرن، فكان لها في كل موضوع رأي، وفي كل مكتبة أثر
وأما طريقته فطريقة التحليل النفسي بصدقه ودقته، والعرض الروائي بطلاوته وحبكته. وأما أسلوبه فأسلوب أدبي قوي لا عوج فيه ولا التواء، ينساب في كثير من المواضع كالجدول الصافي. ولا ريب أن الأستاذ محمد عبد الغني حسن، قد بلغ أقصى ما أراد في الجهة التي اختارها أو اختارها له (المقتطف) شيخ المجلات العربية الذي يحسن أن نشير إلى ما كان بينه وبين الأديبة النابغة من مودة وثيقة دامت ردحاً من الزمن، فلا عجب إذا تولى المقتطف إخراج هذا الكتاب وفاء لصديقته وقياماً بالواجب الأدبي نحو إنتاجها الفني. وقد استوعب الكتاب ترجمة مي وثقافتها ومحافظتها على الروح الشرقية، وعطفها على الحياة الإنسانية، واحترامها للشرائع السماوية، وحبها للغة العربية، وطريقتها في الكتابة النثرية، وجهودها في النهضة النسائية، وتأسيس ندوتها الأدبية، وكل ما اتصل بحياة مي الثقافية من الأحاديث والأخبار التي حصل عليها الأستاذ محمد عبد الغني حسن، من قادة الفكر في مصر كدليل على صدق خدمتها للأدب ورفيع مكانتها في النهضة
لذلك أرى أن القارئ يصيب من مطالعة هذا الكتاب غرضين، معرفة الآنسة مي، والوقوف على آراء الأدباء والشعراء فيها. وكلاهما جليل الخطر، عظيم الأثر. وهو أثناء ذلك يستمتع بتلك الروح العذبة تطالعه من بين السطور، وروح الآنسة مي، تشع بالنور، وتنضح بالعطر. وتنبض بالحياة
جزى الله الكاتب الفاضل خير ما يجزى به العامل المخلص على جهده وتوفيقه. والشكر الجزيل للمقتطف على عنايته بتقديم هذا المجهود الأدبي إلى الأدب العربي الذي لا يستغني عنه أديب.
(حلب - سوريا)(542/38)
صبحي العجيلي(542/39)
العدد 543 - بتاريخ: 29 - 11 - 1943(/)
وجهات نظر
للأستاذ عباس محمود العقاد
كانت الملاحظات التي أبداها النقاد على كتابي (عبقرية الإمام) قليلة فيما كتب عنه حتى الآن
وأقل منها الملاحظات التي تشتمل على وجه نظر في التاريخ أو التحليل النفسي تقوم على الدرس وتستحق المناقشة
ومن هذه ملاحظات الزميل الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك في كلمته الموجزة بصحيفة (الثقافة)
وخلاصتها:
1 - أنني اعتمدت على بعض الروايات من غير كبير نقد، كاعتمادي على رواية نهج البلاغة في وصف الخفاش والطاووس ونحو ذلك
2 - وأنني اعتمدت على ما روي في حديث سوءة عمرو ابن العاص، وهي رواية لم يقرأها الأستاذ الفاضل في الطبري ويذكرها المؤرخون الإثبات بصيغة (التمريض). فيقول المسعودي: وقد قيل في بعض الروايات، ويشير إليها ابن عبد البر في الاستيعاب فيقول. . . (فيما ذكروا) وكلها عبارات تدل على التشكيك
3 - وأن تقسيم الكلمة الذي نسب إلى الإمام في علم النحو أشبه بالتقسيم المنطقي اليوناني. وهذا كله ناب عن طبيعة العصر
4 - وعلى الجملة كنت في (العبقريات) السابقة فناناً وقاضياً فمضيت في كتابي هذا على نهج أقرب إلى نهج المحامي والفنان، فتعرضت للدفاع عن الإمام في مواقف النزاع أكثر مما تعرضت لرسم شخصيته. ولعل جو الكتابة في علي نفسه قضى بذلك، لأنه حياته السياسية كانت نزاعاً لم ينته حتى بالموت
وهذه الملاحظات كلها يصح أن تلخص في أمر واحد وهو اختلاف مقياس الترجيح والنفي والإثبات
وخلاصة هذا المقياس عندي هو أن نجزم بدليل قاطع أو ننفي بدليل قاطع، وأما الترجيح فالمعول في قوته وضعفه على مشابهة القول المرجح للمعهود والمعقول، فإن كان هذا القول(543/1)
مشابهاً لهما فلا ضير من الأخذ به على أية حال، كأن نعلم أن فلاناً رجل محسن فلا يضير بعد ذلك أن يقال إنه أحسن بدينار في يوم من الأيام، وهو في ذلك اليوم نفسه لم يحسن بدينار ولا بدرهم، أو يقال إن آخر لص معروف فلا يضير أن يتهم بسرقة رجل بعينه وهو لم يسرق منه بل سرق من رجال آخرين
وعلى هذا المقياس نرجع إلى اختلاف وجهة النظر بيننا وبين الأستاذ الفاضل في موضوع الملاحظات التي أبداها، فلا نرى أننا تجاوزنا القدر اللازم من الترجيح، أو أننا قررنا شيئاً يحتاج تقريره إلى برهان أقوى من البرهان الذي اعتمدنا عليه
فأما نهج البلاغة فقد تشككنا في نسبة بعضه إلى الإمام كما تشكك غيرنا من قبلنا، ودعانا إلى الشك في تعض عباراته كما قلنا في عبقرية الإمام (. . . غلبة الصيغة الفلسفية عليها وامتزاجها بالآراء والمصطلحات التي اقتبست بعد ذلك من ترجمة الكتب الإغريقية والأعجمية، ولا سيما الكلام على الأضداد والطبائع والعدم والحدود والصفات والموصوفات)
ولكن لا يدخل في هذا ما جاء في نهج البلاغة من الكلام على الطاووس والخفاش وما إليه، لأنه لا يشتمل على شيء يستغرب صدوره من الإمام علي أو يستغرب صدوره من العصر الذي عاش فيه
لأن الإمام علياً عربي أصيل، والعرب مشهورون بوصف الأحياء الآبدة والأنيسة التي رأوها، ولهم في الخيل والإبل وبقر الوحش والظباء والكلاب والطير أوصاف لا يدق عنها دقيق من خلائق تلك الأحياء
ولأن الإمام علياً مسلم فقيه دارس للقرآن، والمسلمون مأمورون بالنظر في خلق الله، ولا سيما الفقيه الدارس المطيل للدراسة
ولأن الإمام علياً عرف بالنزعة الصوفية التي جعلت كثيراً من علماء الكلام ورجال الطريق ينسبون أنفسهم إليه
ولأن العبارات التي وصف بها الخفاش والطاووس في نهج البلاغة لا تنافر بينها وبين عبارات الإمام أو عبارات عصره
فترجيح نسبتها إليه لا ضير فيه(543/2)
وإذا بطلت نسبتها إليه بطلاناً جازماً - وهي لم تبطل قط - فالحقيقة المعهودة المعقولة باقية كما كانت قبل نسبتها إليه، وهي أنه كان ينظر في خلق الله وينزع في تأمله نزعة المتصوفين
أما حديث سوءة عمرو، فقد رواه ابن قتيبة في عيون الأخبار وابن عبد ربه في العقد الفريد، ورواه الذين ذكرهم الأستاذ الفاضل بصيغة التمريض
فإبطال هذه الروايات إنما يقوم على تنافر بين العمل وبين طبيعة عمرو بن العاص أو طبيعة علي بن أبي طالب
ولا تنافر بين العمل وبين طبيعة الرجلين
فعمرو بن العاص في عنفوان شبابه سمع رجلاً يطلب قبلة من امرأته فحقد عليه وأضمر الكيد له، ولكنه لم يمنعها أن تقبله بل أمرها بذلك قائلاً: (قبلي ابن عمك) ثم انتقم منه بعد أن خرج من المأزق الذي كان فيه
فليس بمستغرب من معهوده ومعقوله أن يخرج من مأزق الموت في وقعت صفين بمثل تلك الحيلة، وقد بلغ الشيخوخة التي تهدأ فيها عرامة النفوس
وليس بمستغرب كذلك من الإمام أن يعرض عنه، لأنه كان لا يتبع مولياً ولا ينظر إلى عورة، وكان ينهى جنده أن يتبعوا المولين ويهتكوا العورات
وليس بناقض لهذه الروايات أن الطبري لم يحفل بها ولم يثبتها، لأن الطبري في تاريخ عمرو بن العاص خاصة مخل أيما إخلال. وقد نبه إلى هذه الحقيقة كتاب بطلر الذي طبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر فقال بحق: (. . . ولكن من أكبر ما يدعو للأسف أن كتابه ناقص نقصاً عظيماً في أخبار فتح مصر، فإن روايته في ذلك قليلة قلة شديدة، وزيادة على قلتها قد دخلها خلط كبير في كل ما يتعلق بوصف البلدان وتواريخ الحوادث وذلك يدعو إلى كثير من التضليل)
فليس الطبري بالمرجع الوافي المقنع في تاريخ عمرو وما ينسب إليه، لأنه قليل الاحتفال بمعظم تفصيلات هذا التاريخ
ونعود إلى قاعدتنا في القياس الترجيح فنسأل: ترى لو لم يثبت حديث الرواة في هذه المسألة فماذا يبطل من صفاتنا للإمام؟(543/3)
إننا جئنا بها مع غيرها للدلالة على نخوة الإمام
ونخوة الإمام صفة ثابتة له على كل فرض من الفروض التي تحوم حول هذه الرواية
فهي إذن شيء لا يجزم بنفيه
وهي إذا جزم بنفيها لا تغير الحقيقة النفسية التي أثبتناها للإمام أقل تغيير
وقد عرضنا نحن لرواية من قال إن الإمام علياً وضع أساس علم النحو فقلنا: (. . . وتواتر أن أبا الأسود الدؤلي شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب فقال له: اكتب ما أملي عليك، ثم أملاه أصولاً منها أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف. . . إلى آخر ما جاء في تلك الرواية
والى هنا نحن نقرر الواقعة التاريخية ولا نزيد عليها، لأن المتواتر في كتب العرب هو هذا بلا مراء
ثم نعقب في عبقرية الإمام فنقول: (وهذه رواية تخالفها روايات شتى تستند إلى المقابلة بين اللغات الأخرى في اشتقاق أصولها النحوية ولا سيما السريانية واليونانية)
إلى أن نقول: (ولا يمنع عقلاً أن يكون الإمام أول من استنبط الأصول الأولى لعلم النحو العربي من مذاكرة العلماء بهذه الأصول بين أبناء الأمم التي كانت تخشى الكوفة وحواضر العراق والشام، وهم هنالك غير قليل، ولا سيما السريان الذين سبقوا إلى تدوين نحوهم وفيه مشابهة كبيرة لنحو اللغة العربية)
وفي اعتقادنا أن الحد الذي وقفنا عنده هو الحد المأمون في الشك والترجيح، وليس لنا أن نقول غير ما قلناه بغير دليل قاطع من الأسانيد الصحيحة
أما إذا اعتمدنا على المقاربة الترجيحية فالسريان أقرب إلى اللغة العربية والى الكوفة من اليونان، ومذاكرة الإمام لعلمائهم أقرب من مذاكرته لعلماء اليونان. ومن شاء بعد ذلك أن ينفي الروايات المتواترة نفياً قاطعاً فعليه الدليل
هذه أمثلة لمقياس الترجيح والتشكيك عندنا في مختلف الروايات وهو على ما نعتقد المقياس الوحيد المأمون؛ لأن الرواية التي نشك فيها لا تبطل شيئاً من الآراء التي نقررها سواء مضينا بالشك إلى التأييد أو إلى التفنيد. وليس لنا أن نتجاوز الشك إلى الجزم بغير برهان وثيق وسفد لا مطعن فيه(543/4)
وبعد فإننا نوافق الأستاذ الزميل على أننا قد اتخذنا موقف المحامي عن الإمام في كتابنا عن عبقريته، وأن جو الكتابة هو الذي قضى علينا باتخاذ هذا الموقف، لأن النزاع حول علي يوجب التعرض لوجوه هذا النزاع، كما يوجب إنصافه مما قيل فيه
ولكننا لا نوافقه على أن الدفاع يمنع (رسم الشخصية) على الوجه الأمثل، لأن تصحيح الأقوال التي يوصف بها رجل من الرجال هو المقدمة الأولى لتصحيح صفاته والتعريف بحقيقة شخصه، وليس من اللازم أن يكون حكم القضاء مخالفاً لبرهان الدفاع. بل كثيراً ما يعتمد عليه وينقله بنصه ويبطل كل ما عداه
وإن من الحق علينا لزميلنا الكبير أن نشكر له ملاحظاته القيمة، لأن الملاحظات التي تصدر عن وجهة نظر هي جلاء لوجهة نظرين بل لوجهات أنظار، ومنها الفائدة التي يبتغيها النقاد والقراء والمؤلفون.
عباس محمود العقاد(543/5)
مسابقة الأدب العربي
البهاء زهير
للدكتور زكي مبارك
تمهيد
ينص منشور وزارة المعارف على أن المتسابقين يمتحنون تحريريا في الكتب الآتية:
1 - ديوان البهاء زهير وديوان علم الدين المحيوي
2 - كتاب أخبار أبي تمام للصولي
ومعنى هذا أن الديوانين الأولين جعلا في حكم الكتاب الواحد، لأنهما لشاعرين عاشا في عصرٍ واحد وفي بيئة واحدة، ولأنهما يقتربان في المنازع الشعرية بعض الاقتراب، وسنعرف هذه الشؤون حين نوازن بينهما في الأحاديث المقبلات
حياة البهاء زهير
للأستاذ مصطفى باشا عبد الرازق بحث جيد عن (البهاء زهير)، وفي ذلك البحث كلام مفصل في حياة الشاعر، فمن الواجب أن يرجع الطلبة إليه، وهو يوجد في مكتبات المدارس الأميرية. وإنما أشير بالرجوع إلى هذا البحث، لأنه أوفى ما كتب في ترجمة البهاء زهير، ولأن الاطلاع عليه يقدم إلى الطلبة فوائد أدبية وتاريخية لا يظفرون بمثلها إلا بعد عناء
ومن طريف الحوادث أن وزارة المعارف كانت رأت توزيع هذا البحث على تلاميذ المدارس الثانوية، ولكن ناساً من أهل الإسكندرية ثاروا وطالبوا بسحه من مدارس البنات، بسبب قطعة وردت فيه، وهي أبيات من شعر البهاء تشبه ما يسمونه الأدب المكشوف، مع أنها لا تستوجب العنت في اللجاج، ومع أنه في كتاب عرف مؤلفه بالحرص على مراعاة الذوق في الكتابة والحديث
رأى الدكتور طه حسين
حين أظهر الشيخ مصطفى بحثه عن البهاء تفضل وأهداني نسخة، فحدثت الدكتور طه في تلك الهدية فقال: لقد أتعب الشيخ مصطفى نفسه في غير طائل، لأنه البهاء زهير لا(543/6)
يستحق هذا المجهود، ولن يكون من أعلام الشعر بأي حال، فمن الظلم أن نحله ذلك المكان
قلت: ولكن البهاء زهير تفرد بالرقة بالتعبير، وتلك ظاهرة أدبية تستحق الالتفات
فقال لدكتور طه: الشعر العربي مظلوم من هذه الناحية، فالوعورة لا تغلب إلا على الشعر الجاهلي والشعر الأموي، ثم غلبت السهولة بعد ذلك على أكثر الشعراء
القول الفصل
هو القول الذي نطق به التاريخ الأدبي، فقد ثبت أن ديوان البهاء زهير ظفر بقبول لم يظفر به ديوان، فقد طبع عشرات المرات في مصر وفي غير مصر، وترجم شعراً إلى اللغة الإنجليزية منذ زمان، وقال مترجمه إنه قريب الروح من شعراء الإنجليز في القرن السابع عشر، ومعنى ذلك أنه انتقل من الصبغة المحلية إلى الصبغة الدولية، وهذا مغنم ليس بالقليل
والواقع أن في شعر البهاء نفحة عطرية لا نجدها عند أكثر الشعراء، فقد كان مرهف الإحساس إلى ابعد الحدود، وكانت قدرته على التعبير قدرة عاتية، لأنه استطاع أن يعبر عن جلائل المعاني بعبارات هي غاية في اللطف والإيناس
مشكلة المشكلات
هي مشكلة التعبير، ويعز على أن أقرر أن هذه المشكلة سيطرت على تأريخ الأدب العربي، ولم تظفر إلى اليوم بما تستحق من الحلول
ومرجع هذه المشكلة إلى اعتبار الجزالة أساس البلاغة في لغة العرب، فالكلام الجزل هو الكلام البليغ، الكلام الجدير بالانتساب إلى العرب الصرحاء
أما الكلام الرقيق فهو من أفانين المولدين، لأن الحضارة هي التي أوحت بالرقة واللطف، ولهذا استباح الدكتور طه أن يرتاب في كل شعر رقيق ينسب إلى العصر الجاهلي، كما تشهد نصوص كتابه الذي أثار الناس قبل سنين
وأقول بأن الدكتور طه لم يفطن إلى مقامات الكلام عند شعراء الجاهلية، وهي مقامات لا تعترف بوحدة الأسلوب، وإنما تلون الأساليب وفقاً لما توحي به شجون الأحاديث، فترى الجزالة هنا وترى الرقة هناك(543/7)
وفي القرآن شواهد على صحة هذا القول، فهو يؤثر الرقة في مقام الوعد، ويؤثر الجزالة في مقام الوعيد، ونثر القرآن نثر جاهلي، كما بينت ذلك في كتاب (النثر الفني)، لأنه نزل على العرب وهم جاهليون لا إسلاميون
لحظة مع الشيخ مصطفى عبد الرازق
هي لحظة قصيرة أتعالم فيها عليه، لأزعم أني أعرف من أسرار البلاغة أكثر مما يعرف، وهيهات ثم هيهات!
هذا الشيخ صورة من أدب النفس، والتحامل عليه لا يليق،. لأنه يرحب بهجومي عليه، ويسره أن أسجله في أي ميدان، وأنا سأشرح صدره فأقدم إليه فائدة بلاغية لم تخطر في باله عند تأليف الكتاب
لقد نص في كتابه على أن الرقة في شعر البهاء زهير هي الطبع، وأن الجزالة هي التطبع، وأن البهاء لم يؤثر الجزالة إلا في الظروف التي يحاول فيها منافسة خصومه من أعيان الشعراء
وأقول بأن الجزالة في شعر البهاء قضى بها الطبع لا التطبع لأنه من وحي المقام لا من وحي التكلف، وإلا فما الذي يريد الشيخ مصطفى أن يقول البهاء وهو يذكر انتصار الملك الكامل، وإجلاءه الإفرنج عن ثغر دمياط؟
هل كان ينتظر أن يصطنع لغته في الغزل، اللغة التي يرق بها فيقول:
سِّلمْ عليّ إذا مرر ... تَ فلا أقلّ من السلامِ
الغدر في كل الطبا ... ع فلا أخصّك بالملام
ما أكثر العذّال في ... ولهي عليك وفي غرامي
هَبْني كتمتهمُ هوا ... كَ فكيف أكتمهم سقامي
هذه لغة في رقة الخد الأسيل، وهي هنا مقبولة لأنها أشبه بمناغاة الحبيب للمحبوب، ولكنها لا تصلح للتعبير عن اصطخاب القلوب عند انتزاع ثغر دمياط من أوشاب المغيرين
أمن التكلف أن يقول البهاء في مدح الملك الكامل:
بك أهتز عِطف الِّدين في حُلَل النصر ... ورُدَّت على أعقابها مِلّة الكفرِ
وليلةِ غزوٍ للعدو كأنها ... بكثرة من أرديته ليلة النحر(543/8)
فيا ليلة قد شرَّف الله قدرها ... ولا غرو إن سميتها ليلة القدر
سدَدْتَ سبيل البر والبحر عنهمُ ... بسابحةٍ دُهْمٍ وسانحةٍ غُرِّي
أساطيل ليست في أساطير من مضى ... بكل غرابٍ راح أفتك من صقر
وجيش كمثل الليل هولاً وهيبةٌ ... وإن زانه ما فيه من أنجم زُهرِ
وكل جوادٍ لم يكن قطّ مثله ... لآل زهير، لا، ولا لبني بدر
وباتت جنود الله فوق ضوامر ... بأوضاحها تُغنِي السُّراة عن الفجر
كفى الله دِمياط المكاره إنها ... لَمِن قبلة الإسلام في موضع النحر
وما طاب ماء النيل إلاّ لأنه ... يحلّ محل الريق من ذلك الثغر
فهذا الشعر يراه مصطفى باشا مجاراة للقدماء، لغلبة الجزالة عليه. ولكن الواقع أن الجزالة هنا ضرورية، لأن المقام لا يسمح بالرقيق
وعند مراجعة القصائد الموسومة بالجزالة نرى مقامات الكلام هي التي فرضت على الشاعر أن يختار الجزل، وهذا من دقائق الصناعة الشعرية، فلا موجب للحكم بأنه يخرج على الطبع ليساير القدماء
ولنذكر مثالاً ثانياً من الجزل هو قوله في مدح الملك الصالح نجم الدين أيوب:
ولقد سعيت إلى العلاء بهمةٍ ... تقضي لسعي أنه لا يُخفق
وسريتْ في ليلٍ كأنّ نجومهُ ... من فرط غيرتها إليَّ تحدَّق
متى وصلتُ سرادق الملِك الذي ... تقف الملوك ببابه تسترزق
فإليك يا نجم السماء فإنني ... قد لاح نجم الدين لي يتألق
الصالح الملِك الذي لزمانه ... حُسْنٌ يتيه به الزمان ورونق
ملأ القلوب مخافةً ومحبةً ... فالبأس يُرهَب والمكارم تعشق
فعدلت حتى ما بها متظَّلمٌ ... وأنلت حتى ما بها مسترزقُ
يا من رفضتُ الناس حين لقيتهُ ... حتى ظننت بأنهم لم يُخلقوا
قيدتُ في مصرٍ إليك ركائبي ... غيري يغرِّب تارةً ويشرِّق
وحللت عندك إذ حللت بمعقلٍ ... يُلقى إليه ماردٌ والأبلق
وتيقّنَ الأقوام أنيَ بعدها ... أبداً إلى رُتب العلا لا أُسبق(543/9)
فرُزقت ما لم يُرزقوا، ونطقت ما ... لم ينطقوا، ولحقت ما لم يلحقوا
فما عيب هذا المديح حتى يقال أنه دون سائر فنون البهاء في الطرافة والإبداع؟
وحب أن أذكر مثالاً ثالثاً يؤكد ما قصدت إليه من أن الجزالة في شعر البهاء طبع لا تطبع، لأن المقام يوجبها كل الإيجاب.
قال في مدح الملك الناصر يوسف:
ومذ كنت لم ترضَ النقيصةَ شيمتي ... ومثلُك يأباها لمثلي ويأنف
ولا أبتغي إلا إقامة حرمتي ... ولست بشيء غيرها أتأسف
ونفسي بحمد الله نفسٌ أبيةٌ ... فها هي لا تهفو ولا تتلهف
ولكنَّ أطفالاً صغاراً ونسوةً ... ولا أحدٌ غيري بهم يتلطف
أغار إذا هبّ النسيمُ عليهمُ ... وقلبي لهم من رحمة يترجّفُ
سروريُ أن يبدو عليهم تنعُّمٌ ... وحزنيُ أن يبدو عليهم تقشف
ذُخرت لهم لطف الإله ويوسفاً ... ووالله لا ضاعوا ويوسف يوسف
أكلِّف شعري حين أشكو مشقةً ... كأني أدعوه لما ليس يُؤْلَف
وقد كان معتاداً لكل تغزّلٍ ... تهيم به الألبابُ حسنا وتُشغف
يلوح عليه في التغزل رونقٌ ... ويظهر في الشكوى عليه تكلف
وما زال شعري فيه للروح راحةٌ ... وللقلب مُسلاةٌ واللهمْ مصرف
يناغيك فيه الظبي والَّظبي أحورٌ ... ويُلهيك فيه الغصن والغصن أهيف
شكوت وما الشكوى إليك مذلةٌ ... وإن كنت منها دائماً أتأنف
هذا أيضاً شعر جزل، وهو مع ذلك برئ من التكلف، وإن زعم الشاعر أنه تكلف!
وهل كان يمكن في مثل هذا المقام أن يرق على نحو ما يتفق له في شكوى الصدود؟
لكل مقام مقال، وقد كان البهاء من أعرف الناس بمقامات الكلام.
ولكن ما هي ذاتية البهاء؟ وما حياته في مصر والحجاز؟ وما مركزه بين معاصريه؟ وما وزنه الصحيح في تاريخ الشعر العربي؟
سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في الحديث المقبل والله بالتوفيق كفيل
زكي مبارك(543/10)
5 - الدكتور طه حسين
والشعر المرسل
اكتشاف عجيب في كتابه الأخير على هامش السيرة (الجزء
الثالث)
للأستاذ دريني خشبة
مصادفة عجيبة. . .
مصادفة وقعت عليها وأنا أقرأ الجزء الثالث من كتاب (على هامش السيرة) للدكتور طه حسين. . .
وقبل أن أسوق للقراء خبر هذه المصادفة أقرر أنني كنت أقرأ طه حسين هذه المرة (بنية سيئة!). . . نية سيئة جداً. . . بل هي أسوأ النيات جميعاً، وليؤول صديقي الفاضل (. . .) هذا الكلام على الوجه الذي يرضيه، فنحن في غنى عن أن نقاسمه أن كلامه الذي كتبه عنا بصدد شهرزاد لم يكن السبب في نقدنا للمستشار الفني، وصاحب كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) حين أخذنا عليه عدم اهتمامه بإحياء الترجمة في مصر، أو بتنشيطها على الوجه الأكمل الذي تقتضيه نهضتنا، برغم ما أثبته في كتابه الذي ذكرنا من أن كل نهضة فكرية أو أدبية تحاول إيجادها في مصر خاصة، وفي الشرق العربي عامة، إنما ينبغي أن تقوم قبل كل شيء على الترجمة. . . لما كتبنا ذلك لم يهتم الدكتور ولم يلق باله. . . ومع أن اللهجة التي كتبنا بها كانت مما يحتمل أن يؤاخذ عليها كاتبها في ظروفه الخاصة التي تشبه ظروفنا، فإن الدكتور أغضى ولم يحفل بشيء، وإن يكن قد شرع يمد إدارة الترجمة بوزارة المعارف بالأذكياء المقتدرين الأكفاء. وقد خيل إلينا أن الدكتور لم يقرأ ما كتبناه، فهيأ لنا غرورنا (والعياذ بالله!) أن عدم القراءة أوجع لنا من القراءة مع الإغضاء. . .
لهذا، أو لبعضه، قلت إنني كنت أقرأ الجزء الثالث من هامش السيرة بنية سيئة جداً. . . نية الناقد الذي تأثر بطريقة النقد الحديثة في مصر. . . النقد الذي يتسقط الهفوات، ويعد الغلطات، ويحصى الهنات. . . النقد الذي لا يملك أعصابه، بل يرسلها في ما ينقد إرسالاً. . .(543/12)
ومضيت في القراءة. . .
فهذه عشرون صفحة ليس فيها شيء! أقصد أن ليس فيها هفوات ولا غلطات، ولا هنات هينات! وإن كان كل ما كتب فيها كان حسبه من هذه الصفحات العشرين عشر صفحات أو خمس عشرة صفحة. . .
لا. . . ليس هذا عيباً. . . لأنك إن عددته عيباً فستضحك منك قراءك. . . ابحث عن شيء آخر. . . فالأسلوب جميل خلاب، والقصص مسترسل رائع، وحسب هذه الصفحات العشرين أو الثلاثين ما فيها من ذاك جميعه، فذاك جميعه هو الأدب. . . والأدب القصصي بنوع خاص
ما هذا؟ الدكتور طه حسين ينطق ناساً من عرب الجاهلية بما هو من القرآن، أو ما يقرب أن يكون من القرآن، ولما ينزل القرآن بعد؟! ما هذا الذي يقوله نسطاس لورقة بن نوفل: وظل الصبي يتيما عائلا ضالا. . . أليس في هذا الكلام (رائحة!) من القرآن في سورة الضحى؟. . . ومثل هذا شائع في الفصول التي تسبق مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. . . وعلى ذكر (صلى الله عليه وسلم) هذه. . . لماذا آثر الدكتور أن يختصرها هذا الاختصار الذي يذهب بجمالها. . . (تلك الكلمة حلوة المجرى على اللسان، حسنة الموقع في القلب، خالدة في الدهر ما بقي الدهر)! لماذا يختصرها الدكتور هذا الاختصار صلعم؟ لماذا لا يقولها كما يجب أن تقال عظيمة كريمة رخيمة! كما قالها بعد ذلك مرتين أو نحوهما
لا. لا. . . ولا هذه أيضاً. . . إنما يجب أن تترك فصل نسطاس وورقة فلا تعيبه بشيء، لأنه من أروع فصول هذا لجزء الثالث، وإن يكن أروع منه هذا الفصل الذي انعقدت فيه أواصر الصداقة بين عمرو بن هشام - أو أبو جهل كما سوف يذكر لك - وبين أبو مرة، أو زعيم الأبالسة. . . ونقول أبو جهل وأبو مرة في موضع الجر عامدين كما تعمدهما المؤلف، وندع التأويل لكل قارئ لبيب. . .
بل قل إن أردت أن تنقد الهامش بشيء إن انتقال الدكتور من الرواية إلى التاريخ، ومن القصص الشائق إلى التحقيق العلمي بعد الصفحة الثانية والثمانين هو عمل لا يتفق وما أعلنه وأذاع به من أنه لم يكتب كتابه للمؤرخين. وقل إن الدكتور هيكل قد ذهب بالتحقيق العلمي كما ذهب الدكتور طه بإحياء السيرة وتجديدها، فما باله يحاول أن يكتب للعلماء(543/13)
الذين لا يصدقون مطلقاً، أن ساق حمزة رضي الله عنه قطرت دماً حينما مستها الفأس خطأ بعد دفنه بسنين عددا. . .؟ ثم هذا الحديث الحلو عن زيد بن حارثه الذي يحيك في الصدر منه شيء غير قليل. . .
ولكن لا. . . فالدكتور لا يكتب للعلماء ولا للتحقيق العلمي ولكنه يقص علينا أحسن القصص وأبرعه وأروعه
إذا. . . فقل إن بالهامش أحاديث مكررة. . . إذ يحدثنا الدكتور عن سيد الشهداء حمزة عم النبي حديثاً حلواً طويلاً (ص 111)، ثم يعود فيحدثنا عن حديثاً طويلاً كذلك، بعبارات هي نفسها عباراته الأولى تقريباً في فضله عن (نزيل حمص) ص 179. وهكذا فعل في غير موضع من هذا الهامش. ولكن كيف تنكر أن هذه حسنة وليست سيئة؛ فالحديث الأول كن أكثره عن حمزة، أما الثاني فأكثره عن وحشي. مع هذا فالحديث عن الرسول وعن وأصحابه هو أعذب ما يتحدث به مسلم لمسلم، ولن يضر الدكتور شيئاً، ولن ينقص من كتابه شيئاً كذلك أن تفيض أعداد (الرسالة) الممتازة بمعظم أنباء ما تحدث إلينا به. إذ حسبنا أننا نقرأها اليوم بقلم طه حسين مبتكر هذا الأدب الديني والقصصي في مصر. . . الرجل الذي برهن بكتابه هذا على أن تصريفه لأمور وزارة المعارف لم يصرفه عن رسالته الأولى التي هي الإنتاج الأدبي القيم، كما وهم من وهم. وحسبه أن يخرج في أقل من سنة كتابين من هذا النسق القصصي الممتاز وأرجو أن يخرج الثالث قبل أن يتصرم العام، وهذا الثالث - إن لاق أن نذيع سراً ائتمننا عليه طه حسين - هو (أضياف شهرزاد)، الذي أوشك أن يفرغ منه، أو هو قد فرغ منه بالفعل. . .
ولكن الكتاب كله يوشك أن ينتهي دون أن تذكر لنا علاقة هامش السيرة بالشعر المرسل. . . فأقول. . . سوف أذكر لك تلك العلاقة بعد أن تتدبر معي هذه الأرقام، وهي التي يتألف منها معظم فهرس الكتاب:
(111 - 125 - 139، ثم 151 - 165 - 179 - 193 - 207 - 221 - 235؟؟)
فإذا قلت وما علاقة هذا بذاك، قلت لك: اطرح أي رقم سابق من أي رقم لاحق من هذه الأرقام، فإنك تحصل على الرقم (14؟) فما معنى هذا؟ أليس يعني أن الدكتور طه يؤلف وفي يده (ترمومتر) وإلا فما معناه أن يستغرق كل فصل من فصول كتابه أربع عشر(543/14)
صفحة بالتمام والكمال لا يزيد عليها ولا ينقص منها؟! أليس هذا تأليف ميكانيكياً؟ فإن قلت إن هذا ليس من النقد في شيء. . . بل إن هذا هو العبث، وإنك جعلت عنوان مقالك (الدكتور طه حسين والشعر المرسل) وأنت إلى الآن لم تذكر لنا من أمر الدكتور طه حسين والشعر المرسل شيء. . . قلت لك. . . إن هذا هو أسلوب النقد في مصر اليوم، ولن أذكر لك شيئاً من أمر الشعر المرسل في هامش السيرة حتى تقرأ تلك القطعة الشائقة التي أختارها لك لترى رأيك فيها، ولتعترف معي بأن الدكتور طه حسين هو كاتب من أرق كتابنا وأسلسهم، وأقواهم بياناً: إقرأ إذن:
(أقبلت تسعي رويداً رويداً مثلما يسعى النسيم العليل، لا يمس الأرض وقع خطاها، فهي كالروح سرى في الفضاء، نشر الليل عليها جناحاً فهي سر في ضمير الظلام، وهبت للروض بعض شذاها فجزاها بثناء جميل، ومضى ينشر عنها عبيره مستثيراً كامنات الشجون، فإذا الجدول نشوان يبدي من هواه ما طواه الزمان، ردت الذكرى عليه أساه ودعا الشوق إليه الحنين، فهو طوراً شاحب قد يراه من قديم الوجد مثل الهزال، صحب الأيام يشكو إليها بثه لو أسعدته الشكاة، وهو طوراً صاخب قد عراه من طريف الحب مثل الجنون، جاش حتى أضحك الأرض منه عن رياض بهجة للعيون، ونفوس العاشقين كرات يعبث اليأس بها والرجاء، كحياة الدهر تأتي عليها ظلمت الليل وضوء النهار.)
هذا يا أخي هو ما أردت أن ألفتك إليه من بيان الدكتور طه، الذي ربما تكون قد سمعت عنه أنه ينظم الشعر، ولكنك لم تقرأ له شعراً قط. . . ومن يدري. . . فربما تكون قد قرأت له شعراً في غير كتاب من كتبه، ولكنك مررت به وأنت لا تدري أنه شعر، كما كنت عسيت أن تقرأ - على هامش السيرة - كله، من غير أن تتنبه إلى أنك قد قرأت فيها شعراً. . . وشعراً مرسلاً. . . هو هذا الشعر الذي نقلناه لك هنا. . . والذي كان السبب في هذه المقدمة التي لم يكن لها (داعي!) كما نقول في كلامنا الدارج. . .
حقيقة لم يكن لمقدمتنا الطويلة التي سقناها (داعي!) مطلقاً. . . فنحن كما يعرف القراء من تلاميذ الدكتور المعجبين به، الأوفياء له. . . وليس حقاً أننا كنا نقرأ على هامش السيرة بسوء نية. . . وليس حقاً أن الدكتور يغضب من أحد إذا نقده في حدود النقد المعقول، فلا يعمد إلى الهنات الهينات فيجعل من (حبتها قبة) أو من نمالها جمالاً. . . ولا يقول كما(543/15)
تندرنا مثلاً. . . اطرح أي عدد سابق من أي عدد لأحق من هذه الأرقام، فأنك تحصل على الرقم 14 في كل الحالات! فما بال الدكتور طه يكتب عشرة فصول، فلا يزيد على أحدها ولا ينقص عن أربع عشرة صفحة؟ أليس يؤلف الدكتور طه وفي يده ترمومتر؟!
ليس حقاً إذن أي شيء من ذلك كان. . . ولكنا تعمدنا أن نمط هذه المقدمة مطاً، وأن ندس على القارئ هذا النموذج الذي اخترناه له اختياراً جاء عن طريق المصادفة ولم يأت عن طريق العمد. . . أردنا أن ندس هذا النموذج من بيان الدكتور المشرق، وأسلوبه المبين، وعباراته الشائقة. . . فلا يتنبه القارئ إلى أننا إنما وضعنا بين يديه شعراً. . . وشعراً مرسلاً. . . مما قاله عنه شاعرنا الكبير الذين نحبه ونمجده - الأستاذ العقاد - إنه ينبو في الأذن ولا يخف على السمع. . .
وقد لا يكون القارئ شاعراً فيعرف كيف يكون شعراً هذا الكلام الذي نقلناه من هامش السيرة (ج 3 ص 127) ولهذا فلا بأس من أن نعيد له هذا الكلام نفسه من نظامه الشعري الذي تعوده الناس:
أقبلت تسعى رويداً رويداً
مثلما يسعى النسيم العيلْ
لا يمس الأرض وقعُ خطاها
فهي كالروح سرى في الفضاء
نشر الليل عليها جناحا
فهي سر في ضمير الظلامْ
وَهبتْ للروض بعض شذاها
فجزاها بثناء جميلْ
ومضي ينشر فيه عبيراً
مستثيراً كامنات الشجونْ
فإذا الجدول نشوان يُبْدي
من هواه ما طواه الزمانْ
ردّت الذكرى عليه أساه(543/16)
ودعا الشوق إليه الحنينْ
فهو طوراً شاحب قد يراه
من قديم الوجد مثلَ الهزالْ
صحب الأيام يشكو إليها
بثه لو أسعدته الشكاه
وهو طوراً صاخب قد عراه
من طريف الحب مثل الجنونْ
جاش حتى أضحك الأرض منه
عن رياض بهجةً للعيون
ونفوس العاشقين كراتٌ
يعبث اليأس بها والرجاء
كحياة الدهر تأتي عليها
ظلمة الليل وضوء النهارْ!
فهذا إذن هو من نظم الدكتور طه حسين من الشعر المرسل الذي أورده في آخر كتبه - على هامش السيرة - الجزء الثالث - الصادر في أول نوفمبر سنة 1943، أي في الوقت الذي كنا نحسب ألف حساب ونحن ننشر فصولنا داعين شعراءنا لإجراء تجاربهم في هذا الشعر عسى أن يوفق أحدهم أو أكثر من واحد منهم إلى أسلوب رائع بخلو من العيوب التي يأخذها عليه النقاد المحترمون
ونحن لا يسعنا إلا أن نبدي أكبر إعجابنا بهذا المجهود المشترك الذي ساهم به زعيم النهضة الأدبية في مصر، وعميد الأدب العربي، في الثورة على القديم الذي ندعو إلى الثورة عليه وإن كنا نهتف بجميع شعرائنا أن في وسعهم أن يعطونا شعراً مرسلاً أجود بكثير جداً مما عرضنا عليهم من شعر الأستاذ أبي حديد ومن هذا الشعر الذي نقدمه إليهم اليوم فخورين من شعر الدكتور طه حسين
وبعد. . .
فأحسب أن الدكتور طه قد أعلن رأيه الآن بطريقة فعلية في الشعر المرسل، وأنه في جانبنا(543/17)
من قبل أن نبدأ دعوتنا. . . ونحن نقول هذا حتى لا يقعد أحد من أصدقائنا الشعراء الذين وعدوا بإجراء تجاربهم في هذا الشعر، متأثرين برأي الأستاذ العقاد، عن القيام بهذه التجارب، وذلك لما للأستاذ الكبير من أثر عميق في قلوبهم ولأن أكثرهم شعراء من مدرسته
وبقيت ملاحظة؛ فلقد كتب الدكتور طه شعره كأنه نثر فلم يوزعه شطراً شطراً كما فعلنا، ولا شك في أن غرضه من ذلك هو ألا ينبه القارئ إلى أنه يقرأ شعراً فينفر. خصوصاً إذا علم أنه يقرأ شعراً مرسلاً. . .
ولقد كنت ذكرت للقراء في إحدى مقالاتي ألا يقفوا عند آخر كل شطر، بل رجوتهم أن يصلوا القراءة حتى لا يعز عليهم الفقيد العزيز - الذي هو القافية، ويسرني بهذه المناسبة أن أقرر أن الأستاذ أبا حديد كان قد اقترح لي أن يكتب الشعر المرسل بهذه الطريقة الذي كتبه بها الدكتور طه. . . فهل هو توارد في الخواطر؟ أم أن الصديقين العزيزين كانا قد خاضا معاً مثل هذا الحديث من قبل؟!
هذا ولقد قرأنا لأستاذنا الزيات رأيه في الشعر المرسل في السنة الثانية من (الرسالة) العدد (37)، ولعله يلاحظ أن صديقه طه قد حرص في نظمه ذاك على كل المقترحات التي أشار بها صديقه الزيات منذ عشر سنوات.
دريني خشبة(543/18)
أوزان الشعر
الشعر العربي
للدكتور محمد مندور
(تتمة)
الواقع أن الارتكاز في اللغة العربية موضوع شاق لا يزال في حاجة إلى البحث، ونحن لا نظن أن المستشرقين يستطيعون بحثه، لأن معرفتهم باللغة مهما اتسعت لا يمكن أن تصل إلى الإحساس بمسائل موسيقية لغوية دقيقة كهذه. فهل مستطيعون نحن ذلك؟
ليسمح لي القارئ بأن أقول إنني قد حاولت حل هذا الإشكال في بحث طويل كتبته باللغة الفرنسية بعد دراسة وتحليل لثلاثة أبحر من الشعر العربي بمعمل الأصوات بباريس، وهي الطويل والبسيط والوافر.
ولنأخذ مثلاً من هذه الدراسة بيت امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فهو يوزن على مذهب أوالد كما يأتي، (مع رمزنا للمقطع القصير بالعلامة ب والطويل بالعلامة -):
ولكن هذا الوزن لا يبصرنا بالحقيقتين الكبيرتين اللتين يقوم عليهما الشعر في كافة اللغات، وهما: الكم والإيقاع.
الكم
نقصد بالكم لا كم كل مقطع منفردا، فذلك ما سبق أن أوضحناه، بل كم التفاعيل، فنحن هنا أمام تفاعيل متجاوبة (التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع)، ولكننا مع ذلك نسلم بجواز زحافات وعلل، فكيف يستقيم الكم برغم هذه الزحافات والعلل التي تنقص من التفعيل في الغالب.
هذه المشكلة حيرت المستشرقين، ولقد حاول العالم الفرنسي الثبت جويار أن يحلها في كتاب له بعنوان: وفيه يطبق مواضعات الموسيقى وأصولها على الشعر العربي، ولكنه لا يدخل في حسابه غير الحروف الصائتة كما يفعلون في الموسيقى، فيغطى تلك(543/19)
الحروف المختلفة قيما متفاوتة من نقطة بيضاء إلى نقطة سوداء إلى كروش إلى كروش مزدوج. . . الخ. ومن البين أنه قد أخطأ لسوء الحظ السبيل بإهماله كم الحروف الصامتة العظيمة الأهمية في اللغة العربية واللغات السامية عامة كما أشرنا.
والذي اهتدينا إليه بحساب الآلات الدقيقة هو ما يأتي، مقدرين كم كل تفعيل بأجزاء من مائة من الثانية:
7421 13221 77132 7721 11521 85 133
وهذه نتائج غريبة نلاحظ عليها:
1 - أن التفاعيل المزحفة كالتفعيل الخامس والسابع قد ساوى كمها في النطق كم التفاعيل الصحيحة بل زاد.
2 - أن هناك فروقا بين التفاعيل المتساوية كالتفعيل الثاني والرابع والسادس والثامن.
وتفسير ذلك هو أولاً: أن الفروق التي ظهرت في حساب
الآلات لا تدركها الأذن، لأنه من الثابت أن الفرق الذي لا
يزيد عنه 10016 من الثانية لا تكاد تدركه الأذن، وإذن هذه
نستطيع إسقاطها.
ثانياً: وأما عن المساواة التفاعيل المزحفة للتفاعيل الصحيحة فهذا يفسر بحقيقة هامة تحدث عند إنشاد الشعر، وهي عبارة عن عمليات تعويض تقوم بها آلياً. وهذا التعويض يحدث بطرق مختلفة، منها تطويل حرف صائت بشرط ألا ينتج عن ذلك لبس يأتي من قلب الحرف القصير بطبيعته اللغوية إلى حرف طويل، ومنها مد النطق في حرف صامت متماد كالسين أو اللام أو غيرهما، ومنها الصمت بعد لفظ أو عند حرف آني كحروف الانفجار مثل الياء والفاء وغيرها
وإذن فالزحافات والعلل لا تغير شيئا في كم التفاعيل عند النطق وهي لذلك لا تكسر الوزن
الارتكاز
الارتكاز عنصر أساسي في الشعور العربي بل عنصر غالب، ومن تردده يتولد الإيقاع،(543/20)
ولهذا بحثنا عنه في عناية. والذي يبدو لنا هو أن هناك ارتكازاً على المقطع الثاني من التفعيل القصير (فعولن)، وأما التفعيل الكبير فيقع عليه ارتكازان أحدهما أساسي على المقطع الثاني والآخر ثانوي على المقطع الأخير في (مفاعيلن)، وقد رمزنا للارتكاز الأساسي بالعلامة (وللارتكاز الثانوي بالعلامة). ومن المعلوم أن الارتكاز لا يقع إلا على مقطع طويل ومن ثم نلاحظ أن هذا الوزن لا بد أن يسلم منه دائماً مقطع طويل بعد المقطع الأول القصير؛ فإذا لم يحدث ذلك انكسر البيت؛ فالمجموعة (7 - ) الموجودة في أول كل تفعيل من البحر الطويل هي النواة الموسيقية للبيت وهي عبارة عن وتد مجموع في لغة الخليل
ومن عودة الارتكاز على هذا المقطع من كل تفعيل يتكون الإيقاع، لأنه كما قلنا عبارة عن عودة ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة
وإذن فاستقامة الوزن أو عدم استقامته لا يعود إلى الكم الذي تؤثر فيه الزحافات والعلل تأثيراً ظاهرياً فقط إلا إذا نتج عن هذه الزحافات والعلل فقدان للنواة الموسيقية التي تحمل الارتكاز
ولكن هل ينتج عن ذلك أن الشعر العربي شعر ارتكازي بمعنى أن مقاطعه تتميز بأنه تحمل ارتكاز ضغط أو لا تحمله؟ الجواب أيضاً بالنفي، في المقاطع العربية كما تحمل الارتكاز تتميز بالكم كذلك؛ وإذن فالشعر العربي يجمع بين الكم والارتكاز وربما كان هذا سبب تعقد أوزانه
ونلخص طبيعة الأوزان العربية بأنه تتكون من وحدات زمنية متساوية أو متجاوبة هي التفاعيل، وأن هذه التفاعيل تتساوى أو تتجاوب في الواقع عند النطق بها بفضل عمليات التعويض سواء أكانت مزحفة معلولة أو لم تكن، وأن الإيقاع يتولد في الشعر العربي من تردد ارتكاز يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود على مسافات زمنية محددة النسب، وعلى سلامة هذا الإيقاع تقوم سلامة الوزن
وهكذا ننتهي في هذا المقال إلى ما انتهينا إليه في المقال السابق من قيام كافة الأشعار على عنصري الكم والإيقاع؛ وأما موضع الاختلاف بين الأشعار المختلفة فهو في كيفية تحقيق هذين العنصرين.(543/21)
محمد مندور(543/22)
العلم في روسيا
للأستاذ خليل السالم
كان العالم في السنة الماضية يعجب ببسالة الروس واستماتتهم في الدفاع عن وطنهم؛ وهو اليوم يقف مشدوهاً أمام عظمة الجيش الروسي وقدرته على سحق قوى الألمان الهائلة وتدمير آلتهم الحربية الجبارة وإيقاع الهزائم المنكرة بهم في كل ميدان
ولنحاول رد تلك المقاومة الرائعة إلى أسبابها الأساسية وتفسير هذه الانتصارات الحاسمة، نجدنا مسوقين حتما إلى الحكم بأن انتشار الثقافة العلمية وتقدم معاهد العلم وتطبيق النواميس العلمية في دور الصناعة ووفرة الابتكار والاختراع كانت بين الأسباب القوية والعوامل الفعالة التي يسرت للجيوش الروسية أن تحرز هذا النصر الباهر وتطرد الغازي الغاشم من أراضيها
كان العلم في روسيا حتى ظهور النظام السوفيتي وتوليه الأمور زينة رسمية تنصيها الحكومة وتغدق عليها الأموال الطائلة دون أمل في الربح ودون تكليف العلماء جهداً مرهقاً لخدمة الناس ونفع المجتمع. وكانت البلاد منذ أيام بطرس الأكبر الذي أسس أكاديمية العلوم الروسية على النسق الفرنسي تعتمد في نشر النظريات العلمية الجديدة وشرحها على العلماء الذين يفدون من أوربا الغربية
فدعا بطرس الأكبر مثلاً دانيال برنيولي وليونارد يولر. وحذا خلفاؤه حذوه في استيفاد العلماء الموهوبين؛ إلا أن تخلف العامة وتكبيلهم بقيود الجهل لم يتيحا للثقافة العلمية أن تشيع وتزدهر. وقصرت أكاديمية العلوم في أداء واجباتها وتبليغ رسالتها فلم يكن على العضو الذي انتخب لمقدرته وكفاءته والشهادة له بالذكاء والنبوغ إلا أن يقبض الرواتب الباهظة ويتبع وحيه الخاص في البحث سواء كان مبتكراً مجدداً أو مزوقاً وجه المعرفة بشروح وذيول للنظريات العلمية الشائعة. فعجز العلم لذلك عن أن يغير من حياة الناس ويسمو بمستوى معيشتهم، ولم يظهر في سماء العلم إلا عدد ضئيل من النجوم المتألقة من أمثال مندلييف ولومونوسوف ولوباتشفسكي. . .
وبين عشية وضحاها أصبحت روسيا بلداً عامراً بالعلم والعلماء وركناً أساسياً في بناء العلم الخالد؛ فهي تقدم اليوم لفروع المعرفة أيادي بيضاء لا تقل أثراً عن غيرها من الأمم إن لم(543/23)
تزد
ومع أنها لا تستطيع في بعض الموضوعات اللحاق بالأمم التي يسر لها الحظ أن تعنى بالكشف والتحقيق قبلها إلا أن ما تسعى له من ترويج الثقافة العلمية وتشجيع البحث سيهيئ لها أن تبلغ الشأو العالي وتتربع على عرش القيادة العلمية من إنكلترا وأمريكا وألمانيا مثلاً: فقد فرضت الحكومة سلطتها في نشر الفكر المنظم بين طبقات الشعب، وهي تعمل على خلق البيئة العلمية الصالحة لأن يترعرع فيها العلم وينمو
وتنشر الصحف الكبيرة مقالات مسهبة في مواضع علمية وصناعية وفنية، كما تحتل أخبار البحث وتقدم الهندسة الآلية الصفحات الأولى منها. وتكثر المكتبات بشكل عجيب ويعم تداول الكتب؛ فقد بلغ ما بيع من طبعة روسية لأحد كتب الفيلسوف (كانت) سنة 1936 مائة ألف نسخة. وبكلمة موجزة نقول إن العلم في روسيا لقي من التشجيع أكثر مما لقي في أي قطر آخر سواء في تأسيس المعاهد أو تمويل المحترفين
لا يزيد عدد العلماء اللامعين الذين يحتلون مقاماً عالمياً على الأربعين، تثقف معظمهم على عهد القيصرية. فمما لا شك فيه أن الوضع القياسي الذي وجد علماء الروس الناشئون أنفسهم فيه قد أجبرهم على التهام الحقائق الجديدة والنظريات الواسعة بسرعة، فأعوزهم الاختبار الحصيف والنقد العنيف، نذكر من مشاهيرهم الأستاذ جوف مدير المعهد الطبيعي التكنيكي في ليننغراد، ومؤسس هذا المعهد تحت إشراف أكاديمية العلوم، ويكاد تكون بحق باني النهضة العلمية الحديثة؛ فمن معهده تخرج الأساتذة الذين يديرون المعاهد الأخرى في بقية البلدان الروسية. وميدان بحثه خواص الأجسام الموصلة توصيلاً جزئياً. وقد ألقت دراسته ضوءاً ساطعاً على كسر الأجسام العازلة. ويدرس أيضاً مقاومة الأجسام الصلبة، وكيف تزيد إمكانية الحد أو قوة المادة
ومن تلاميذه ستيبانو الذي ارتأى أن الاحتكاك بين سطوح البلورات المتجاورة الواقعة تحت ضغط عال يعقب ميوعة وقتية تفسر كيف تلتوي قطعة معدنية بسرعة ثم تبقى محافظة على الشكل الجديد الذي تأخذه
ومن تلاميذ جوف أيضاً برزلر وفينو جينوف اللذان
استخدما لأول مرة كرات الصلب الدقيقة الميكروسكوبية(543/24)
أخاديد في المكائن، وانتهيا إلى أن كرات قطرها (101) من
المليمتر ممزوجة بالزيت تنقص قوة الاحتكاك مرتين ونصف
المرة عما تكون عليه لو استعمل الزيت وحده
ومن الأعلام سكوبلتزن الذي اكتشف الدقائق السريعة في الأشعة الكونية. ففي سنة 1926 ابتدأ قياس سرعة الكهارب المنطلقة من مادة مشعة باستخدام غرفة ولسن القائمة المحاطة بمجال مغنطيسي. وفي سنة 1927 نشر صوراً فوتوغرافية لدقائق انبعثت بسرعة عجيبة حتى أن مساراتها لم تتضح وتظهر. وحصل سكوبلتزن على صور للبوزيترونات وكان حسن الحظ في سبقه كل العلماء في التعرف إلى طبيعتها
ودرس سيمنوف وجارتون التفاعلات السلسلية، وقدمت مدرستها معلومات هامة عن المتفجرات، وخصائص بعض الآلات
وقد بنيت مؤسسة (للمسائل الطبيعية) في موسكو ليشتغل فيها العالم الفذ كابتزا وهو مبتكر مسيلة هواء جديدة تستخدم ضغطاً جوياً ضئيلاً لتشغيل الهواء حتى يفقد طاقته ويبرد بنفسه
ومن العلماء الناشئين ليسنكو الذي استطاع أن يكسب لنفسه شهرة عالمية بالرغم من حداثة سنه. وقد نشر أول أبحاثه سنة 1928 وهو يبحث في الحياة النباتية ويدرس العلاقة بين الزرع والبيئة، والشروط الصحية التي يحيا فيه النبات ويسرع نموه، وساعد رازوموف وليبمنكو في أن يجعلوا سهول أكرانيا الفسيحة تنتج أضعاف ما كانت تنتج بانتخاب أنسب الأوقات لبذر الحبوب. وهو عالم نظري بالإضافة إلى أبحاثه الزراعية الحيوية. ويقول في مناسبة ما: (إن الشعب في روسيا المتحدة لا يولد؛ إن هي إلا أجسام حية تلك التي تولد؛ أما سائقوا الجرارات، وميكانيكو المحركات، والعلماء والباحثون فإنهم هنا يصنعون. إنني من أولئك الرجال الذين صنعوا ولم يولدوا. ويسعد المرء جداً أن ينتسب إلى مجتمع كهذا)
ومن العلماء النابهي الذكر رهبايندر درس خواص السطوح سواء الطبيعية والكيميائية منها. وله آراء جليلة حول وظيفة العلم في المجتمع، وهو يرى أن العلم لا يخدم الصناعة وإنما يسودها بخلق صناعات جديدة وإفساح مجالات أرحب للتطبيق العملي. وله مكتشفات رائعة عن قوة المعادن وتأثير الصفائح الرقيقة في قساوة الأجسام(543/25)
ومنهم فافيلوف وقد عني بدرس أصل الزراعة وتزاوج النباتات في أنحاء الاتحاد السوفياتي. وقد وجد أن هناك عشرين نوعاً من قمح الخبز في أوربا، واثنين وخمسين نوعاً في إيران، ولا أقل من ستين نوعاً في أفغانستان. ومنهم أيضاً العالم مسفسكي وقد درس قوة الأشعة الكونية في النفاذ من طبقات مائية كثيفة. وأجرى تجاربه في نهر نيفا قرب لننغراد في شمال روسيا، وأسفرت تجاربه عن نتائج أيدت نتائج ملكن العالم المشهور بدراسة هذه الأشعة
وعلى وجه العموم نرى أن علماء روسيا معنيون أول ما يكون بدرس المسائل العلمية المتعلقة بالصناعة والتطبيق والحياة. فقد فرضت السلطة سطرتها على العلم، ووجهت أكاديمية العلوم وجهة تقصد التجديد في الصناعة واستغلال القوى الكامنة في البلاد والعمل لرخاء الشعب، فنقلها إلى موسكو لتكون مؤسساتها في موقع حربي أمين، وتكون قريبة من الإدارة الحكومية. وجرى تبادل رجال العلم بين الجامعات ودور الصناعة، فأستاذ الجامعة يقضي وقتاً كبيراً في المصنع مشرفاً عليه محاولاً تحسينه وجودة إنتاجه. ويحاضر رجال الصناعة في الجامعة في مدى تطبيق العلم النظري، وعن المشاكل الراهنة التي تجابهها الصناعة والتي يتوقع من المختبر حلها. وكان لهذا التعاون الفريد نتائج باهرة في الناحيتين المهنية والتطبيقية.
ويقضي التنظيم الحديث أن يعني العالم بتطبيق ما يكتشف قبل أن يسير وراء نتائجه إلى ابعد الحدود النظرية. ولا يجوز له أن يصرف جهوده في بحث توفر عليه أحد علماء الآخرين. ويجب نشر آخر ما ينتهي إليه عالم ليوفر على آخر جهداً يقصد منه الوصول إلى تلك النتائج عينها. فيتوزع بذلك الاهتمام العلمي بين الأبحاث على وجه المستقيم، ولا يفر العلماء إلى ميادين كلاسيكية نظرية.
ولا يجوز للعالم أن يغير اختصاصه المقرر له إلا بعد مداولات طويلة مع رؤساء المعهد الذي ينتسب إليه، وندر ما لقيت رغبة العالم فيما يود الخوض فيه من أسرار الكون والحياة أدنى اعتبار.
وعند النظر في قيمة هذا التنظيم وانسجامه مع روح العلم ونجاحه في خلق العلماء والمبتكرين، نرى أن علماء أوربا الغربية وأمريكا لا يتفقون على وجهة نظر واحدة. فمنهم(543/26)
من يحبذ رسم الخطط العلمية، لأن غرض العلم الأساسي، كما يجب أن يكون، خدمة المجتمع وسعادة الناس. ويرى هذا الفريق أن إرشاد العلماء وحشدهم في فئات مستقلة تدرس كل فئة منها موضوعاً بعينه يتقدم بالعلم خطوات فسيحة، ويحول دون أن تضيع جهود كثيرة عبثاً.
والذين ينكرون هذه الطريقة يعتقدون أن ضغط السلطة وفرضها أوامر متحكمة على العلماء يؤذي العبقريات ويخمد جذوتها المشتعلة، ويحرمهم من اختصاصهم الذي يلذ لهم ويشفعون به، وحجتهم أن التاريخ العلمي يوضح بجلاء أن العلماء الذين أفادوا البشر وخدموا الصناعة لم يقصدوا ذلك قبل أن يقصدوا لذتهم الخاصة وكشف الحقيقة قبل أي شيء آخر. وقد انتقل هؤلاء من بحث إلى آخر، كما تنتقل النحلة بين أزهار الرياض. فيجب أن يكون لكل عالم تفرده في البحث وحريته في اختياره كحريته في النشر والكلام.
وتدور اليوم معركة حامية في الكتب والمجلات بين كبار العلماء من أنصار الرأيين. ولا ينكر أن العلم المنظم قد نجح في روسيا نجاحاً باهراً؛ فهل يعني هذا أن تنظيم العلم ضروري؟ لعلنا نعود للجواب على هذا السؤال في بحث قريب.
(السلط - شرق الأردن)
خليل السالم
ب. ع من الدرجة الأولى في الرياضيات(543/27)
عبقرية الإمام
للأستاذ محمود أبو رية
لم يؤت أحد من أصحاب رسول الله من العلم والفضل مثل ما أوتي علي رضي الله عنه، ولم يرد في حق أحد منهم بالأسانيد الجياد مثلما جاء فيه. وما ظنك برجل خرج هو والنبي من نبعة كريمة واحدة، ونشأ تحت جناح النبوة وتربي في كنفها وتولى رسول الله هدايته وتثقيفه وجعله أولى الناس به فقال له: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)، وعلي أنه كان بهذه المكانة فإن لم ينل أحد من الظلم مثل ما ناله، ولا لقي إنسان من المصاعب والمتاعب مثل ما لقي؛ فقد أحاط به ما نغص عليه عيشه وأفسد عليه أمره من أحقاد جاهلية وسخائم أموية وضغائن بدرية وإحن أحدية وغير ذلك. وإذا رجعنا إلى تاريخه ألفيناه قد ضاع بين متشيعين بالغوا في تشيعهم حتى ألهوه، ومبغضين أمعنوا في بغضهم حتى كفروه
فمثل هذا الإمام العظيم المؤتلف في نفسه المختلف في تاريخه كان جديراً ألا يتولى ترجمة حياته ودرس عبقريته إلا مؤرخ حكيم ينفذ إلى نفسيته بفكر ثاقب ونظر نافذ، ويدرس تاريخه بعقل القاضي العادل البصير الذي يبحث ويستقرئ فيرد الأمور إلى أسبابها والأحداث إلى عللها ليخرج هذا التاريخ صحيحاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فيعرف الناس منه فضله ويقدرونه قدره ويقبلون على سيرته يدرسونها وينتفعون بها.
ولقد سرنا أن يتولى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد درس تاريخ هذا الإمام وأن يجعل من هذا التاريخ فريدة في سمط عبقرياته النفيسة سماها (عبقرية الأيام)
قرأنا هذا الكتاب فرأينا كاتبنا الكبير يقول في تقديمه: (في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه الخطاب البليغ من سير الأبطال العظماء وتثير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقح العبرة والتأمل)، ثم نفذ إلى ما اتصف به الإمام مثل التقوى والزهد، والى ما ورث عن أسرته العربية من النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء، وبين الآثار العملية لكل ذلك مع أعدائه وأوليائه على السواء، وانتهى من هذا الفصل إلى (مفتاح شخصيته) ثم تناول هذا المفتاح ليفتح به كل مستغلق من(543/28)
شخصيته ويوضح كل مبهم من سيرته
كسر الأستاذ العقاد كتابه على عشرة فصول بعد التقديم ختمها بفصل عنوانه (صورة مجملة) جرى قلمه فيها كلها بما عهدناه من قبل في عبقرياته التي سبقت من حيث البحث العميق والدرس الدقيق مما كنا نود أن نعطيه حقه من البيان ونوفيه قسطه من الإشادة، ولكن المقام لا يتسع فلنجتزئ بكلمة صغيرة عن فصل البيعة الذي هو أروع فصول الكتاب
مهد المؤلف لهذا الفصل بفصل آخر عن عصر الإمام قال فيه إنه لم يكن عصر خلافة بل كان عصراً عجيباً بينما تقدمه وجاء في أعقابه؛ فلم يثبت كل الثبوت ولم يضطرب كل الاضطراب فكان في ناحية كل عوامل الرضا عن النظام الاجتماعي، وفي ناحية أخرى كل عوامل التذمر من هذا النظام، ومضى يبين أسباب استقرار النظام في الجانب الذي كان من نصيب معاوية؛ فذكر أن الشام كان أرضاً أموية من يوم أن لجأ إليها في الجاهلية أمية جد الأمويين وما جاء بعده من أبنائه متجرين أو مهاجرين إلى أن تولى إمارتها يزيد بن أبي سفيان من قبل أبي بكر الذي جاء بعده معاوية من قبل عمر ذلك الدرهي الذي قضى زمناً طويلاً لا يعمل عمل الوالي، ولكن يعمل عمل صاحب الدولة التي يقيمها لنفسه ولأولاده من بعده. وكانت وسيلته في ذلك أن يغمر الناس بالأعطية، السوقة منهم والشرفاء. وقد بلغ من دهائه أن طوى عقيلاً أخا علي بعطائه، أما المخالفون له فكان جزاءهم العقاب والنفي، ثم أخذ يصف الجانب الآخر الذي كان يتولاه علي؛ فقال إنه كان مصاباً بعلل التنافس بين العواصم والتبرم من العيش والتطلع إلى الخلافة وما تكنه العبيد والموالي لقريش بله ما وراء ذلك كله وهو المال الذي كان في يد معاوية وحده
ولما أنشأ يتكلم عن بيعة علي قال إنه بويع بالخلافة بعد حادثة من أفجع الحوادث الدامية في تاريخ الإسلام وهي مقتل عثمان؛ وأخذ يحلل الحوادث التي أفضت إلى قتل هذا الخليفة وموقف علي من هذه الجريمة، وناضل ببراهين قوية عن هذا الموقف، وانتهى من نضاله إلى أن علياً - لم يكن يقدر على اجتناب هذا المصير من معاوية أو من عثمان نفسه - وأنه صنع غاية ما يصنع رجل معلق بالنقيضين، مسئول عن الخليفة أمام الثوار، ومسئول عن الثوار أمام الخليفة، وإنه كان يعالج داء (استعصى دواؤه وابتلى به أطباؤه). ثم أخذ بعد ذلك يناقش الذين خرجوا في وجهه يطالبون - بزعمهم - بدم عثمان، فقال عن طلحة(543/29)
والزبير إنهما كانا يمهدان أثناء حياة عثمان لتولي الخلافة؛ أما عائشة فقد كانت تنادي بقتل عثمان وتود أن يتولى الخلافة طلحة لأنه من قبيلتها أو الزبير لأنه زوج أختها
وعلى أنه قد درس موقف هؤلاء الثلاثة الذين كانوا يتآمرون على عثمان قبل قتله، ثم خرجوا على علي بعد ما تولى وأبان وجه الحق في ذلك فإن قلمه كان رفيقاً بعائشة فلم يجر بشيء من مؤاخذاتها
وقد عرض المؤلف لما قام بين علي ومعاوية من خلاف فاستقصى أسبابه البعيدة والقريبة وانتهى إلى أن أمر معاوية لم يكن كما يبدو في ظاهره من أنه كان من أجل عثمان وإنما كان من أجل أبهة الملك وسلطان الحكم، وقضى بحق أن هذا الخلاف لم يكن بين علي ومعاوية وإنما كان (بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين، كان صراعا بين الخلافة الدينية كما تمثلت في علي، والدولة الدنيوية كما تمثلت في معاوية) ولا ريب في أن يكون الغلب للدولة الدنيوية، لأن هذه هو ما تقضي به طبائع النفوس وغرائز الأمم. ولقد صدق عمرو ابن العاص في قوله: (لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر)
وقد انتهى كاتبنا من دراسته لتاريخ هذا الإمام إلى أنه (هو الذي شاء القدر أن يجعله فدية للخلافة الدينية في نضالها الأخير مع الدولة الدنيوية) وأجمل صورته في أنه كاد (صورة المجاهد في سبيل الله بيده وقلبه وعقله أو صورة الشهيد)
ولنقف عند هذا الحد كما وعدنا إذ لا نستطيع أن نبين كل ما تناوله قلم العقاد من بحث وما نفذ إليه من استقصاء
بقيت أشياء لابد من ذكرها والإبانة عنها حتى نبلغ من كلامنا ما نريد، وذلك أني عثرت وأنا أقرأ ببعض ألفاظ كنت اقف عندها مثل لفظ (تعلاه ص 40) و (حانقين ص55) و (فشل ص81 و96 و110 و126) وقد رجعت إلى معاجم اللغة التي بين يدي في اللفظ الأول فوجدته من لغة طي، وإذن يكون استعماله جائزاً؛ أما اللفظان الآخران فإني أرجع فيهما إلى الأستاذ العقاد وأسأله:
هل يجوز استعمال كلمة (فشل) في معنى أخفق وخاب وإن يأتي اسم الفاعل من حنق على حانق هذا إذا لم تكن هذه اللفظة من أخطاء الطبع التي كثرت في هذا الكتاب على غير ما(543/30)
نعهد فيما يطبع بمطبعة المعارف التي عرفت بجودة الطبع ودقته
واستشهد بعبارة مشهورة وضعها شيوخ الدين وجعلوها حديثاً للرسول ليعلوا بها قدرهم، وهي (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)
وكنا نود من مؤلفنا وهو الأديب الكبير أن يطيل الحديث في بلاغة الإمام، وأن يعرض لأسلوبه وطريقته في الكتابة والقول فيدرسها ويبين هذا الأسلوب لكي يعرف الأدباء من هذه الدراسة ما لعلي في كتاب نهج البلاغة وما لغيره، لأن الأدب وتاريخه في حاجة إلى هذا العمل الجليل؛ ولعله يجعل من هذا الدرس بحثاً فنياً برأسه يضيفه إلى أبحاثه القيمة التي ينفع بها الأدب والأدباء.
(المنصورة)
محمود أبو رية(543/31)
باتوزيس يرثي أزمردا
أغنية الرياح الأربع
للأستاذ علي محمود طه
(باتوزيس وأزمردا من أبطال قصة أغنية الرياح الأربع التي تصدر بعد يومين للأستاذ الشاعر علي محمود طه، أولهما مصري وثانيهما فينيقي. كانا في بدء حياتهما صديقين يعملان في الملاحة ثم ضربت الأيام بينهما فإذا بالأول يهيم في الآفاق شاعراً منشداً يعيش ليومه قبل غده، وإذا بالثاني يصبح قرصاناً ذائع الخطر. وتجمعهما الأيام في ميناء ببلوس فيروع باتوزيس نوازع الشر والإثم من صديقه أزمردا، ويسخر أزمردا بمثل صديقه العليا وما هو فيه من فقر وتشريد. ويضيف صديقه في سفينته، وتسنح آلهة الرياح الأربع لأزمردا في صورة فتيات جميلات يتخطرن على شاطئ مصر فيدفعه الشر إلى إقنتاصهن لبيعهن في سوق الرقيق، ولكنه يعلم من أمرهن الحقيقة فيغلو في أطماعه فيفكر في اختطافهن للاستيلاء على الرياح الممثلة فيهن ليسخر قواها في غزواته الإجرامية. وتنتهي وقائع القصة في سفينته حيث تظهر معجزة آلهة الرياح الأربع وتقف دونها أروع الحيل التي لجأ إليها القرصان. فيخر أزمردا صريع غدره بالآلهة وطمعه فيما لا قبل لبشري به، فيغرق بسفينته المحطمة بينما تطير الرياح الأربع إلى الشاطئ ومعهن باتوزيس وقد وقف ذاهلا مما مر به، محدقاً في بقايا السفينة الغارقة وهو ينشد:
أثَرٌ ليس يُلْمَحُ ... وخيالٌ مُجَنَّحُ
وشراع مُحَطَّمٌ ... حوله الموتُ يسْبحُ
مُغْرَقاً لا تَهزُّهُ ... نَسْمةٌ أو تُرتَّحُ
يحتويهِ مزمجرٌ ... مظلمُ الغور أفيحُ
غرقتْ تلكم السفينةُ وانفضَّ مسرحُ
ما لرُبّانها الطمو ... حِ! أما عاد يطمح؟ ُ
ويحهُ وهو ذاهلٌ ... أغبرُ الوجهِ أكلحُ
يتكفّا رجالُه ... حوله وهو يَضبحُ
بعدْ ما كان بينهم ... يتغنَّى ويمرحُ(543/32)
غرَّهُ السيفُ مُصْلَتاً ... بالمنايا يُلوّحُ
لا يبالي إذا رمى ... كيفُ يثري ويذبح
خالني إذ دعوتُهُ ... دعوةَ الخير أمزحُ
عاشَ لو قَدَّرَ النصيحةَ أو كان يُنْصَحُ
يحسنُ الشتُر بالغريزةِ والخيرُ يقبحُ
صاحبَ الأمس لا رحيقَ ولا كأسَ تصدح
فاشربِ اليوم من إنا ... ئكَ بالموت يطفحُ
أمِنَ البحرُ مخِلبيكَ وشطٌّ وأَبطحُ
وعذارى كأنهنَّ ... الأقاحُ المُفَتَّحُ!
محصَناتٌ تصيدهنَّ ... وتُغوى وتفضحُ
أيها الصَّقْرُ لا تُغَرَّ ... فللرِّيحِ أَجْنُحُ!
يتلقّاكَ بأسُها ... صامداً لا يُزَحْزَحُ
هُنَّ من رحمةِ السما ... ء مقاديرُ تسنحُ
فإذا الطائرُ السَّجِينُ طليقٌ مُسَرَّحٌ
وإذا الصائدُ الغشَوم صَريعٌ مُطَرّحُ
من دم الغدر قَلْبُهُ ... سائلُ العرقِ ينضحُ
فامْضِ لا فرحةً بمو ... تكَ! ما الموتُ يُفْرِحُ
قد عفا عنكَ هالكاً ... قَدَرٌ ليس يصفحُ!
علي محمود طه(543/33)
البريد الأدبي
بين الفكر اليوناني والفكر المصري
ذهب الدكتور طه حسين بك إلى أن الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافات الإنسانية، وأن الناس في الشرق والغرب، وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان
والدكتور زكي مبارك يرى أن الدكتور طه قد قرأ في كتب تتعصب لليونان، ولم يقرأ في كتب ترد أصل الحضارات إلى مصر، وهو قد قرأ ما قرأ وهو مطمئن كل الاطمئنان إلى من ينقل عنهم في غير ما نقد ولا تحليل
فما هو وجه الحق في هذه المسألة؟
قد يكون من الحق أن العقل وجد مع الإنسان وبقى هو هو في جوهره، وقد اصطفته الأمم الشرقية في الماضي السحيق فاستحدثت الصناعات والعلوم والفنون ولقنها اليونان فحملت عنها عبء التفكير فيها وكفتها شر هذا الجهاد الذي كان لا بد أن تنفقه حتى تخلص إلى هذه النتائج التي انتهى إليها الشرقيون
نعم! لقد كانت القصص الدينية وبعض الأفكار في العالم والحياة معروفة؛ فقد كان هناك التوحيد والشرك، وكانت الثنائية الفارسية، وكانت وحدة الوجد عند الهنود
غير أنا إذا لحظنا صيغة القول ومنهج البحث عند الشرقيين لم ندع هذا الضرب من المعرفة فلسفة، لأن أفكار الشرق كانت تسيطر عليها النزعة الدينية الخيالية التي لا تمت إلى منهج البحث العقلي بأية رابطة
ومع ذلك فقد يمكن القول بأن البابليين والعبرانيين والمصريين قد جهلوا الفلسفة بالرغم مما بلغه علماؤهم من ثقافة عالية. ولعل في قصة أوزوريس وعبادة أمون ما يدل دلالة واضحة على أن المصريين لم تكن لهم فلسفة بالمعنى المعروف في الاصطلاح
هذا ما قصد إليه الدكتور طه وهو رأي لا يحتاج إلى توضيح
ماهر قنديل
المناقشة بعد المحاصرة نظام إسلامي قديم
منذ أيام كنا نستمع في القاعة الشرقية للجامعة الأمريكية إلى إحدى المحاضرات، وفي نظام(543/34)
هذه المحاضرات أن يعقبها أسئلة يوجهها السامعون للمحاضر مكتوبة على أوراق صغيرة؛ وهو يجيب على ما يستطيع الإجابة عليه منها
وقد قالوا إن نظام المناقشة بعد المحاضر على النحو السابق نظام ابتدعته الحضارة الحديثة، وكان للجامعة الأمريكية فضل استحداثه وتنظيمه في مصر والشرق
والحق أن نظام المناقشة بعد المحاضرة على الطريقة المذكورة نظام إسلامي كان معروفاً في البلاد الإسلامية منذ ستة قرون أو يزيد؛ والرحالة أبو عبد الله شمس الدين ابن بطوطة المتوفى سنة 1377 م قد أشار إلى مثل هذا النظام في رحلته وهو يتكلم عن مدينة (تستر) التي فتحها المسلمون على يد خالد بن الوليد، فيقول عن الشيخ شرف الدين موسى ما نصه:
(وهذا الشيخ هو من أحسن الناس صورة وأقومهم سيرة، وهو يعظ الناس بعد صلاة الجمعة بالمسجد الجامع. ولما شاهدت مجالسه في الوعظ صغر لدي كل واعظ رأيته قبله بالحجاز والشام ومصر، ولم ألقي فيمن لقيتهم مثله
حضرت يوماً عنده ببستان له على شاطئ النهر وقد اجتمع فقهاء المدينة وكبراؤها، وأتى الفقراء من كل ناحية، فأطعم الجميع، ثم صلى بهم صلاة الظهر، وقام خطيباً وواعظاً بعد أن قرأ القراء أمامه بالتلاحين المبكية، والنفحات المحركة المهيجة، وخطب خطبة بسكينة ووقار، وتصرف في فنون العلم من تفسير كتاب الله، وإيراد حديث رسول الله والتكلم على معانيه، ثم ترامت عليه الرقاع من كل ناحية. ومن عادت الأعاجم أن يكتبوا المسائل في رقاع ويرموها إلى الواعظ فيجيب عنها؛ فلما رمي إليه بتلك الرقاع جمعها في يده، وأخذ يجيب عنها واحدة بعد واحدة بأبدع جواب وأحسنه؛ وحان وقت صلاة العصر فصلى بالقوم وانصرفوا) أهـ
(كلية اللغة العربية)
أحمد الشرباصي
لبشار أم لكثير عزة؟
1 - كنت أطالع في قصة الأدب في العالم حتى وصلت إلى الباب الذي عقده الأستاذ (أحمد(543/35)
أمين بك) عن الأدب العربي في العصور الوسطى، فاستوقفني ما نسبه إلى (كثير عزة) (ص 374)، وهو يعرض أمثلة من شعر الغزل والتشبيب لإمام المحبين (جميل بن معمر) ومجنون ليلى:
فقد جاء ما نصه أن (كثير عزة) قال:
يزهدني في حب (عزة) معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى ... فبالقلب لا بالعين يبصر ذو (اللب)
وما تبصر العينان في موضع الهوى ... ولا تسمع (الآذان) إلا من القلب
وما الحسن إلا كل حسنِ رعا الصبا ... وألف بين العشق والعاشق الصب
فلو وضع (عبدة) موضع (عزة) - والأذنان مكان الآذان حتى يستقيم المعنى جيداً - لكانت أمامنا أبيات بشار المشهورة، وقد ذكرت هذه الأبيات في الأغاني منسوبة إلى بشار (ص 65، جزء ثالث - للشنقيطي)
2 - وبهذه المناسبة أيضاً أقول بأن الأبيات المشهورة التي رويت عن حمدونة الأندلسية تصف فيها وادياً - والتي نتخذها مثالاً بارعاً يشير إلى تأثير طبيعة الأندلس الخلابة في شعرائها:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم الخ
قد نسبت خطأ إلى (أبي نصر أحمد بن يوسف المغازي) في قصته مع أبي العلاء المصري.
(المنصورة)
عبد الحميد عثمان عبد المجيد
من الشعر المنسي لحافظ بك إبراهيم
نسى الأستاذان أحمد أمين والزين أن يوردا هذه القصيدة في ديوان حافظ فآثرنا نشرها في الرسالة الغراء:
أنا في يأس وهم وأسى ... حاصرُ اللوعة موصول الأننين
مستهين بالذي لاقيته ... وهو لا يدري بماذا يستهين(543/36)
سوَرٌ عندي له مكتوبةٌ ... ودَّ لو يسري بها الروح الأمين
إنني لا آمنُ الرسل ولا ... آمنُ الكتب على ما يحتوين
رضوان العوادلي
الخطايا السبع
نحن في حاجة ماسة إلى القصص المترجمة بنوعيها، القصيرة والطويلة، ونحن في حاجة ماسة إلى القصص المنقولة بأقلام قوية معروفة في عالم الأدب المصري الحديث لأنها الأقلام التي تضع لنا دعامة هذا الأدب وتغذيه وتواليه في نشأته الأولى حتى يقوى ويشتد ساعده. . . أما الأقلام المرتزقة التي تمسخ روائع الأدب الغربي وتسمي عملية المسخ هذه ترجمة فهي أضر شيء بنهضتنا. . . لأن القصص المترجمة تكون عادة نماذج يحتذيها كتابنا الناشئون ولا سيما الذين لا يعرفون لغة أجنبية؛ فإذا وضعنا بين أيديهم قصصاً ناضجة أحسنا اختيارها لهم وترجمناها ترجمة صادقة قوية أفدناهم بعملنا هذا أجزل الفائدة. . . والعكس. . .
أكتب هذا بمناسبة فراغي من قراءة هذه المجموعة الجميلة (الخطايا السبع) لصديقي الأستاذ على أدهم الذي أغبطه وأهنيه بما وفق إليه من اختيار هذه القصص القصيرة الشائقة لأحسن الكتاب العالميين وترجمتها هذه الترجمة الرائعة التي أكسبها ذوقه الفنان وقلمه المبدع ثوباً حبيباً قشيباً. . .
وإن كان لا بد من أن أتناول (الخطايا السبع) بشيء من النقد، فإني أحصر ملاحظاتي فيما يأتي:
1 - كان يحسن أن يشرح الأستاذ الكلمات التي تدق على فهم غالبية القراء في أسفل الصفحة. . . وإلا فكم من القراء يفهمون هذه الكلمات: وحف. فرعاه. ثغر شتيت. الجعافر. عقلة النفوس. . . وذاك في قصة واحدة
2 - كنت أوثر أن يهمل الأستاذ القصة المشهورة إلى غير المشهورة. . . وذلك مثل قصة تشيكوف (قصة بلا عنوان) فقد ترجمت غير مرة، وإن تكن من القصص الروسية الرائعة
3 - أوصاني الأستاذ أن أبدأ بقراءة قصة فرانس (في الصومعة) فلما فرغت منها عرفت(543/37)
أن الأستاذ أدهم - العالم الذي يهوى الفلسفة - هو الذي كان يوصيني أن أبدأ بهذه القصة. . . ولو سألني عن رأيي الصريح لأخبرته أنها ليست قصة، ولكنها مقالة أو فلسفي. . . ولم يكن موضوعها بين هذه القصص الشائقة
4 - كان يفيد الأستاذ قراءه جداً لو أنه سبق كل قصة بترجمة خاطفة لكل كاتب لا تزيد على نصف صفحة كما ترجم ل سينكوكز مثلاً
ومع هذا. . . فالخطايا السبع من أحسن مجموعات القصص المترجمة عندنا ونحن ننتظر من الأستاذ الصديق. . . المزيد.
دريني خشبة
جماعة نشر الثقافة - حفلة تأبين تقلا باشا
تقيم جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية حفلة لتأبين فقيد الصحافة (تقلا باشا) في تمام الساعة الرابعة والنصف من مساء يوم الاثنين الموافق 29 نوفمبر سنة 1943 بمسرح نادي موظفي الحكومة (المواساة) وخطباء المحفل وشعراؤه الأساتذة الأجلاء
1 - كلمة الافتتاح صاحب السعادة أحمد كامل باشا مدير بلدية الإسكندرية
2 - كلمة للأستاذ عبد الحميد السنوسي المحامي
3 - قصيدة الأستاذ خليل شيبوب
4 - الأهرام في خدمة الصحافة والأمة الأستاذ أحمد الطاهر
5 - قصيدة. الأستاذ عثمان حلمي
6 - تحية القارئ العادي للأهرام. الأستاذ إلياس بدوي
7 - قصيدة دمعة الإسكندرية. الأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن
8 - الابن سر أبيه. الأستاذ صديق شيبوب
9 - قصيدة. الأستاذ حسين البشبيشي
10 - كلمة الأهرام
استدراك
جاء في المقال الأول بالعدد 537 للدكتور عبد الوهاب عزام، وفيما يليه، بعض كلمات(543/38)
مبهمة، ننشر صوابها فيما يلي:
أتأمل السور الضيق. والصواب: السور العتيق
أتأمل الأطفال حول آبائهن. والصواب: حول آبائهم
وفي المقال الثاني:
قبة صغيرة جميلة تحتها قبة صغيرة. والصواب: تحتها حجرة صغيرة
صفقت في مدخل المتحف وبداخل التكية. والصواب: في مدخل المتحف وهو التكية
وفي الحاشية: وهذا التاريخ لا يوافق السلطان عبد الحميد. والصواب: السلطان عبد الحق.(543/39)
العدد 544 - بتاريخ: 06 - 12 - 1943(/)
تقرير معالي وزير المعارف
عن إصلاح التعليم في مصر
لأول مرة في تاريخ المعارف المصرية يصدر عن وزيرها تقرير كهذا
التقرير يجمع بين الرأي والعزيمة في تنفيذ خطة مرسومة لغاية
معلومة. ومن قبل كانت سياسة التعليم في مصر نمطاً من سياستها
العامة: سيراً على غير خطة، أو خطة إلى غير غاية. وكانت وزارة
المعارف على الأخص قد عاهت بالاستعمار فظل نباتها نكداً لا يغل
ولا يظل. وكان البانون على أثر دنلوب يحاولون أن يرفعوا البناء فلا
يرتفع، ويجهدون أن يدعموه بتقارير الخبراء ومباحث اللجان فلا
يندعم؛ ذلك لأنهم كانوا يبنون على أسس دنلوب وقواعده؛ وأسس
دنلوب وقواعده هي أولئك الموظفون المخضرمون الذين نشأهم
المستشار على آلية التعليم حتى صارت فيهم عقيدة، وأخذهم بروتين
النظام حتى أصبح لهم فطرة. فإذا كان القائم على أمور الوزارة قوياً
انطوت هذه الفئة انطواء القنافذ وتركوا النشاط للشباب ذوي العلم
والخبرة، فغيروا المناهج وقوموا الخطط ورسموا الغاية وبدلوا الكتب
وبدءوا التجربة. وإذا كان ضعيفاً بسطت سلطانها على كل إرادة،
ورجعيتها على كل تجديد، فاحتسبت الإرادات في الرءوس، واستقرت
الأنظمة في المكاتب، وعاد الدولاب القديم يدور دورانه البطيء
بالتأليف المريب لجواز الامتحان، والتعليم الفج لبلوغ الوظيفة. لذلك لم
يكن بد من قصور البنيان بين البناء والهدم، وتذبذب الإصلاح بين
الرأي والعزم، وعجز المدرسة المصرية عن تنشئة جيل يكون له مع(544/1)
العلم خلق، ومع العمل ضمير، ومع الشهادة إرادة. . .
ذلك إلى أن القائمين على ثقافة هذا البلد قد اتسموا بميسم السياسة العامة، فحصروا همهم في الديوان، وقصروا جهدهم على الشكل، ولم يشغلوا ذرعهم إلا بالتعيين والنقل والترقية والميزانية والدرجات والامتحانات والتقارير والتجارب والدسائس، ولم يكلفوا أنفسهم النظر من نوافذ المكاتب الرسمية إلى هذا الشعب الذي يعيشون عليه ويعملون له ليضعوا سياستهم على مقتضيات حاله، ويرسموا خطتهم على دواعي حاجته
نعم، لأول مرة في تاريخ المعارف المصرية يتولاها وزير يريد أن يعمل ويدري كيف يعمل. وهذا التقرير الذي نشره نجيب الهلالي باشا هو المقدمة الممهدة للتاريخ الذي سيكتب بعد الحرب لمصر العالمة العاملة. وليست قيمة هذا التقرير الخطير فيما اشتمل عليه من خلاصة الآراء الفنية لأساطين التربية في إنجلترا وأمريكا؛ إنما قيمته العظمى في الروح الذي أوحاه، والغرض الذي توخاه، والعزم الذي انطوى عليه: وهل كانت تقارير الفنيين أمثال (مان) و (كلاباريد) تعوزنا حين كنا ندور على أنفسنا دوران أبي رياح لا نتجه ولا نسير، ولا نعرف قبيلاً من دبير؟
نهج معالي الوزير في تقريره الخطة المثلى لإصلاح التعليم وتجديده، ولم يعتمد في نهجه كما قال (على الخيال والأماني، وإنما اعتمد فيه على تجارب مصر في نهضتها الحديثة، وتجارب الأمم الراقية التي سبقتها إلى النهوض في أوربا وأمريكا)
وهذه الخطة تعتمد (على أسس بلغت من الوضوح حد البداهة، لا في مصر وحدها، بل في العالم المتحضر كله، وهي أن التعليم حق للناس جميعاً. . . وأن المساواة ما دامت أساس الحياة الديمقراطية يجب أن تشمل حقوق الناس وواجباتهم كلها، والتعليم من أول هذه الحقوق لأبناء الشعب، ومن أول هذه الواجبات على الدولة. . . و (أن هذه المساواة تستلزم إزالة الفروق بين القادر والعاجز؛ وسبيل ذلك تيسر التعليم للناس جميعاً بإلغاء مصروفاته شيئاً فشيئاً حتى يصبح هذا الإلغاء عاماً. وتستلزم هذه المساواة كذلك أن يلاحظ المشرفون على التعليم مواهب المتعلمين وكفاياتهم، وأن يوجهوا كلاً منهم إلى أن ينفع وينتفع ويكون مواطناً عاملاً كريماً في وطن راق كريم)
وعلى هذه الأسس الثابتة أقام الهلالي باشا دستور التعليم المقترح. وأقوى مبادئ هذا(544/2)
الدستور (أن الديمقراطية لا يتحقق معناها الرفيع إلا إذا اعتمدت على أساس راسخ من التعليم الصحيح)؛ و (أن التعليم ضرورة من ضرورات الحياة للأمة، وليس شأنه في سنوات الشدة بأقل من شأنه في سنوات الرخاء؛ فعليه يتوقف مصير كل أمة ويتضح سبيلها وتحدد غايتها)؛ و (أن الغرض من التعليم هو أن تيسر للأبناء طفولة سعيدة، ويهيأ لهم أن يبدءوا حياتهم بدءا حسنا، وأن يوفر للشعب كله أوفى قسط ممكن من الخير والنعيم، وأن تدبر جميع الوسائل لتنمية المواهب المختلفة وحسن توجيهها، وأن يتاح للشباب كل الفرص الممكنة ليتعلموا ويتقدموا، وأن تبذل الجهود التي تفتح لهم أبواب العمل تأميناً لمستقبل الفرد ورفاهية الجماعة)؛ و (أن كل فرد يجب أن يتعلم التعليم الذي يؤهله لمواجهة تجارب الحياة العاملة ومشكلاتها)؛ و (أن الدولة محتوم عليها أن تسوي بين جميع طبقات الأمة فيما تتيح لهم من فرص التعليم)؛ (فلا يجوز بحال ما أن يعوق الفقر طالب علم عن إتمام تعليمه، ولا أن يحول بينه وبين المدرسة التي يهيئه لها استعداده العقلي)؛ (وأن الأمة لا يمكنها أن تحتفظ بمجدها الصناعي والتجاري إلا بالتوسع في التعليم الفني)
هذه الأسس والقواعد وما بني عليها أو استند إليها معلومة في بدائه العقل فلا سبيل عليها لناقد؛ إنما سبيلنا وسبيل المخلصين أن ندعو لها الله أن يبقى الوزير في الوزارة، والمستشار في الاستشارة، حتى تخرج إلى النور، وتصبح في حمى الملك والدستور
احمد حسن الزيات(544/3)
مسابقة الأدب العربي
2 - البهاء زهير
للدكتور زكي مبارك
مصرية البهاء
يقول الأستاذ مصطفى باشا عبد الرازق إن البهاء لم يكن طفلاً حين هاجرت أسرته من الحجاز إلى وادي النيل، لأنه وجد في شعره قصيدتين يذكر فيهما عهده بالحجاز، الأولى قصيدة:
أحن إلى عهد المحصَّب من مِنّى ... وعيشٍ به كانت ترفّ ظِلالهُ
والثانية قصيدة:
سقى اللهُ أرضاً لست أنسى عهودها ... ويا طولَ شوقي نحوها وحنيني
ثم يقول بعد إيراد هاتين القصيدتين: (وليست ذكريات طفل هذه الذكريات التي يحن البهاء زهير إلى عهدها بين المقام وزمزم، فلابد أن يكون شاعرنا جاء إلى قوص فتى مستكملاً)
وأقول إن القصيدتين تشهدان بأن البهاء كانت له ذكريات غرامية بالحجاز، فإن صدقناه فيما ادعى لنفسه من الصبوات بالبلاد الحجازية، فمن حقنا أن نسأل كيف خبت حرارة الذكريات لتلك الصبوات فلم توح إليه غير قصيدتين اثنتين؟
والأستاذ مصطفى باشا يحدثنا أن المؤرخين قالوا:
(وانتقل البهاء زهير من قوص بعد أن ربى فيها وقرأ الأدب وسمع الحديث وبرع في النظم والنثر والترسل)
ومعنى هذا أن البهاء بدأ حياته في قوص وهو في عهد التربيب، وأنه لم يجئ إلى قوص وهو فتى مستكمل الفتوة، كما حكم سعادة الأستاذ قبل لحظات وهو يدون بحثه الطريف
يجب أن نتذكر أن الكلام عن الحجاز وذكرياته الغرامية بدعة أدبية شرعها الشريف الرضي، وأتبعه فيها من تلاه من الشعراء، فكان من هوى كل شاعر قضى وقتاً بالحجاز أن يقول إن له حجازيات، كما كان للشريف حجازيات.
مشكلة لغوية(544/4)
لغة البهاء زهير لغة شاعر عريق في المصرية، ولولا إجماع المؤرخين على أنه ولد بالحجاز لكان من الحتم أن نفترض أنه ولد في قرية مصرية من قرى المنوفية، فكيف نصدق أن أهله حجازيون؟
لقد رأينا رجالاً نشأوا بالشام أو لبنان، ثم هاجروا إلى مصر فعاشوا فيها سنين وسنين، إلى أن استمصروا بحكم القانون، ومع هذا بقيت ألسنتهم وأخيلتهم شامية أو لبنانية، فكيف جاز أن يكون هذا الحجازي أعرق في المصرية باللغة والروح والخيال؟
أنا أرجح أن تكون أسرة البهاء زهير مصرية لا حجازية، وإن كانت عربية العرق، وأرجح أنها انتقلت من مصر إلى الحجاز للتجارة، بدليل أنها لم تنتقل من الحجاز إلا إلى قوص، وكانت مدينة قوص ملتقى القوافل الواردة من الهند والحبشة واليمن والحجاز، وملتقى الحجاج من المغاربة والمصريين
ويمكن أن نقول إن أسرة البهاء هاجرت إلى الحجاز لتنضم إلى جماعة المجاورين، والمجاور في الاصطلاح القديم هو من يجاور الحرم النبوي، وبه وصف المجاور للحرم الأزهري في القاهرة، أو الحرم الحيدري في النجف. وفي القاهرة مقابر تسمى (قرافة المجاورين) من باب التشريف، فما انحطت كلمة مجاور إلا في عصور الانحطاط
ويرجح هذا القول أن مصطفى باشا رأى في أحد المخطوطات أن والد البهاء وصف بـ (العارف محمد، قدس الله روحه) و (العارف) كلمة لم يكن ينعت بها غير المعروفين بالتنسك والتصوف
ولا يقدح في هذا القول ما صار إليه البهاء من الإقبال على المناصب الدنيوية، فالرأي الغالب عند أسلافنا أن طلب الدنيا لا يغض من قيمة التمسك بالدين، ما دام طالب الدنيا حريصاً على التحلي بمكارم الأخلاق
إن البهاء مصري اللغة والروح، مصري (ابن بلد) بلا جدال، فكيف نجعله من الحجازيين؟ وهل ينطبع الرجل على لغة بلد وعلى أوهامه وأحلامه وهو في الأصل غريب؟
وما هو الروح الحجازي في أشعار البهاء لو جعلنا أسرته حجازية الأصل، وأنها لم تعرف مصر إلا في أواخر القرن السادس؟
أنا أقدم هذا السؤال، وإن كان لا يخلو من ضعف، لأني أعتقد أن الحجاز لم تكن له قومية(544/5)
محلية في العهد الإسلامي، فقد صار الملتقى لألوان من اللغات والآداب، منذ اليوم الذي صار فيه ملتقى لألوان من الأمم والشعوب
وجملة القول أني أرجح أن أسرة البهاء أسرة مصرية أقامت مدة في الحجاز، ثم رجعت إلى مصر، ولغة البهاء تؤيد هذا الترجيح، وقد تظهر في المستقبل أشياء نعرف بها صدق هذا الترجيح
لو عرف المؤرخون أن هذه القضية ستشغل الباحثين بعد أزمان لحدثونا بالتفصيل عن المنابت الأصيلة لدوحة البهاء
ذاتية البهاء
البهاء زهير ذاتية واضحة جداً، ذاتية نفسية وذاتية فنية. ولننظر هذه الأبيات:
أحبّ من الأشياء ما كان فائقاً ... وما الدُّون إلا من يميل لدون
فأهجرُ شربَ الماء غير مصفَّقٍ ... زُلالٍ وأكلَ اللحم غير سمين
وإن قيل لي هذا رخيصٌ تركتهُ ... ولا أرتضي إلا بكل ثمين
فهذه البيات ليست من البدائع، بالقياس إلى ما يمتدح به أكابر الشعراء، وهي مع ذلك من الطرافة بمكان، لأنها تصور المصري المتأنق في اختيار المطعوم والمشروب والملبوس
وللنظر قوله في معاتبة الأمير مجد الدين:
فيا تاركي أنوي البعيد من النوى ... إلى أي قوم بعدكم أتيممُ
ألا إن إقليما نَبَتْ بيَ دارُهُ ... وإن كَثُر الإثراء فيه لمعدم
وإن زماناً ألجأتني صروفُهُ ... فحاولتُ بُعدي عنكمُ لمذَّممُ
وأعلم أني غالطٌ في فراقكم ... وأنكمُ في ذاك مثلي وأعظم
فلا طاب لي عنكم مُقامٌ بموطنٍ ... ولو ضمَّني فيه المَقام وزمزم
ومثلك لا يأسى على فقد كاتبٍ ... ولكن يأسى عليك ويندم
فمن ذا الذي تُدنيه منك وتصطفي ... فيكتُب ما توحي إليه ويكتم
ومن ذا الذي ترضيك منه فطانةٌ ... تقول فيدري أو تشير فيفهم
وما كل أزهار الرياض أريجةٌ ... وما كل أطيار الفلا تترنم
فهذا عتاب نرى مثله عند المتنبي والأرجاني وابن دراج، والمعاني فيه مألوفة، إن لم نقل(544/6)
مطروقة، ومع ذلك نجد فيها عذوبة بهائية زهيرية تشهد بأنها صادرة من شاعر خفيف الروح، رقيق الأسلوب
وهل رأيتم في تصوير (كاتم السر) وهو ما نسميه اليوم بالسكرتير أدق من هذين البيتين:
فمن ذا الذي تدنيه منك وتصطفي ... فيكتُب ما توحي إليه ويكْتُم
ومن ذا الذي ترضيك منه فطانةٌ ... تقول فيدري أو تشير فيفهم
هذا هو (السكرتير) المنشود، وكذلك كان البهاء
وإيمان البهاء بذاتيته إيمان متين، فهو يثق بنفسه وبفنه ثقة بصيرة، لا ثقة عمياء، ومن شواهد ذلك قوله في مخاطبة أحد الأمراء:
هذا زُهيرك لا زهير مزينةً ... وافاكَ هَرِماً على علاّتهِ
دَعْه وحولياته ثم استمع ... لزهَير عصرك حسن ليليّاته
لو أُنشِدَتْ في آل جفنة أضربوا ... عن ذكر حسّانٍ وعن جَفَناته
فهل رأيتم قبل البهاء من يعارض الحوليات بالليليات؟ هو شاعر الفطرة والطبع، فمن حقه أن ينتظر جود الخاطر في الليلة القصيرة بما لا يتيسر لغيره في الحمل الطويل
وللنظر كيف يمتدح بأخلاقه وأشعاره وهو صادق:
مذ كنت لم تكن الخيا ... نة في المحبة من خَلاقي
ولقد بكيتُ وما بكي ... تُ من الرياء ولا النفاق
برقيقة الألفاظ تح ... كي الدمع إلا في المذاقِ
لم تدرِ هل نطقت بها الْ ... أفواهُ أم جَرَت المآقي
لطُفتْ معانيها ورقَّ ... تْ والحلاوة في الرِّقاق
مصريةٌ قد زانَتها ... لطفاً مجاورة العراق
مصري ابن بلد
المصريون يسمون الفتى الحلو الفكاهة والدعابة (ابن بلد) وفي أشعار البهاء كثير من التعابير البلدية، وما نظرت في ديوانه إلا أيقنت أنه (من الناحية بلدنا) وهتفت:
يا زرع بلدي ... عليك يا وعدي
ويضيق المجال عن الإكثار من الشواهد، والمهم هو أن نرشد المتسابقين إلى هذا الجانب،(544/7)
لأنه سيرد حتماً في أسئلة الامتحان، لأهميته في الدلالة على الألوان المحلية
قال البهاء:
فيا صاحبي أما عليَّ فلا تَخَفْ ... فما يطمع الواشون في عاشقٍ مثلي
وعبارة (أما عليَّ فلا تخف) لا تزال على ألسنة المصريين (ما تخافش عليه)
وقال:
أتتْك ولم تبعُدْ على عاشقٍ مصرُ
وأولاد البلد يقولون: (مصر لا تبعد على حبيب)
وقال:
سيدي قلبيَ عندك ... سيدي أوحشتَ عبدك
و (قلبي عندك) عبارة بلدية نقولها في كل يوم، ومثل عبارة (أوحشت عبدك) فهي تدور على كل لسان، ومن (أدوار) الغناء عندنا هذا الدور
ياما انت واحشْني وروحي فيك
وقال:
أين مولاي يراني ... ودموعي فوق خدي
فمن الشطر الثاني عبارة بلدية مألوفة
وقال:
لنا صديقٌ سيئٌ فِعلهُ ... ليس له في الناس من حامِد
لو كان في الدنيا له قيمةٌ ... بعناء بالناقص والزائد
والمصري يقول حين يضجره السوق: (بناقص بزائد سأبيع) وقال:
سيندم بَعدي من يريد قطيعتي ... ويذكر قولي والزمان طويل
والخصم عندنا يقول لخصمه: (أنا وأنت والزمان طويل). وقال:
إياك يدري حديثاً بيننا أحدٌ ... فهم يقولون للحيطان آذانُ
ففي هذا البيت عبارتان مصريتان لا تحتاجان إلى بيان. وقال:
وكانت بيننا طاقٌ ... فها نحن سددناها
ففي هذا البيت عبارة بلدية صريحة. وقال:(544/8)
جاءني منه سلامٌ ... سلَّم الله عليه الله يسلّمك.
وقال:
له فصولٌ كلُّها فضولُ
يريد أن يقول إنها (فصول باردة).
وقال:
حاشاك أن ترضى بأن ... أموت في الحب غَلَطْ
كما نقول اليوم: (فلان مخلوق غلط)
وقد أكثر في شعره من عبارة: (يا ألف مولاي)
ونحن نقول للزائر: (يا ألف مرحب)
وأنا أكتفي بهذه الشواهد، وأترك للمتسابقين مراجعة نظائرها في ديوان البهاء
الشاعر العاشق
يظهر أن البهاء زهير فتن بالجمال فتنة دامية، فهو عاشق من الطراز الأول، ولم يمنعه منصبه في الدولة ولا مركزه في المجتمع من إعلان هيامه بالجمال، كأن يقول:
أروح ولي من نشوة الحب هزةٌ ... ولست أبالي أن يقال طَرُوبُ
محبٌّ خليعٌ عاشقٌ مّهتكٌ ... يَلذّ لقبي كل ذا ويطيبُ
خلعتُ عذاري بل لبست خلاعتي ... وصرّحُت حتى لا يقال مريب
وفَي ليَ من أهوى وصرّح بالرضى ... يموت بغيض عاذلٌ ورقيب
فلا عيشَ إلا أن تُدار مُدامةٌ ... ولا أُنس إلا أن يزور حبيبُ
وإني ليدعوني الهوى فأجيبُهُ ... وإني ليَثنيني التقي فأنيب
فيا من يحبّ العفوَ إنيَ مذنبٌ ... ولا عفو إلا أن تكون ذنوب
وكأن يقول:
لحا اللهٌ قلباً بات خِلواً من الهوى ... وعيناً على ذكر الهوى ليس تذرفُ
وإني لأهوى كلَّ من قيل عاشقٌ ... ويزداد في عيني جلالا ويَشْرُف
وما العشق في الإنسان إلا فضيلةٌ ... تُدمَّث من أخلاقه وتُلطّف
يعظِّم من يهوى ويطلب قربه ... فتكثر آدابٌ له وتظرُّف(544/9)
وهو يرى الموت في العشق حياة، كأن يقول:
ما لَهُ أصبح عني معرضاً ... تحت ذا الأعراض من مولاي شيّ
أنا من قد مِتّ في العشق به ... هنِّئوني: ميّت العشاق حيّ
وغزل البهاء غاية في الرقة والعذوبة واللطف، وما أحلاه وهو يصور غيرته على من يهواه:
وأنزّه اسمك أن تمرّ حروفه ... من غيرتي بمسامع الجلاّس
فأقول بعض الناس عنك كنايةً ... خوف الوشاة وأنت كل الناس
وأغار إن هبّ النسيم لأنه ... مُغرًي بهزّ قوامك الميّاس
ويروعني ساقي المدام إذا بدا ... فأظن خدّكُ مشرقاً في الكاس
وما ورد (المطمع الممتنع) في الشعر العربي بأكثر مما ورد في شعر البهاء. أليس هو الذي يقول:
سيدي قلبيَ عندكْ ... سيدي أوحشت عبدك
سيدي قل لي وحدِّثني متى تنجز وعدك
أترى تذكر عهدي ... مثل ما أحفظ ودك
قم بنا إن شئت عندي ... أو أكن إن شئت عندك
أنا في داريَ وحدي ... فتفضَّلْ أنت وحدك
وأشعار البهاء تفيض بالمطارحات الغرامية، مع خفة الدم، ولطف الروح، وأنا أرجو أن يعفيني المتسابقون من إيضاح هذه الناحية، لأنها أوضح من أن تحتاج إلى إيضاح
ومن سمع الغناء بغير قلب ... ولم يطرب فلا يَلُم المغنَّي
وقد غنى البهاء وأجاد، فاسمعوه بالقلوب.
زكي مبارك(544/10)
أنا. . . وتوفيق الحكيم
وجهاً لوجه. . .
للأستاذ دريني خشبة
ذهبت لأسلم على الأستاذ الزيات بعد عودته إلى القاهرة فوجدت إحدى الأديبات قد سبقتني إلى هذا الفضل. . . وهذا خبر لا يهم القراء في شيء. . .
إنما الذي يهم القراء حقاً أنني لم أكد أستقر في مكاني حتى فتح الباب ودخل الأستاذ توفيق الحكيم. . . فهل كنا على ميعاد؟
وعندما كنت أكتب فصولي في (شهرزاد) وأحلام (شهرزاد) أراد الأستاذ الزيات أن يعرفني إلى الأستاذ الحكيم. . . فاعتذرت. . . وقلت له حين سألني عن السبب: حتى أفرغ من هذه القضية بين الحكيم وبين طه حسين. . . وذلك لكي تصدر فصولي كلها بروح واحد. . .
ثم مضت الأيام، ولم أعرف الأستاذ الحكيم إلا من كتبه، ولم يعرفني الأستاذ الحكيم إلا من مقالاتي. . . حتى كان هذا اللقاء المفاجئ!
والعجيب أننا تصالحنا في لحظة خاطفة. . . ولم يكن هذا الصلح على حسابي. . . بل كان على حساب الأستاذ الحكيم الذي عاهدني وعاهد الأستاذ الزيات ألا يكتب كلمة واحدة ضد المرأة. . . ولقد رثيت له ورحمته وهو يوافقنا على ذلك، لأنه كان بحضرة الأديبة المهذبة فلك طرزي، فلم يكن في مستطاعه أن يدافع في قضيته بشيء
ثم دار الكلام في موضوعات شتى، حتى وصلنا إلى آخر كتب توفيق الحكيم، (زهرة العمر)، فلم أقطع فيه برأي لأنني لم أكن قرأته، بل لم أكن شهدته. . . وذلك أننا معشر الـ. . . أدباء (والسلام!) نفضل أن نشتري بنقودنا خبزاً لأولادنا هذه الأيام. . . على أن نشتري كتباً لأذهاننا، لأننا نجيد الاحتيال لقراءة هذه الكتب، حتى تسكت هذه الحرب فنشتريها كما يشتريها الأغنياء والعظماء، بل نعود كما كنا أحسن زبائن المكتبات
وكان الأستاذ الحكيم قد أهدى (زهرة العمر) إلى الأستاذ الزيات ولم يكن قرأه بعد، فوجدت من حسن الاحتيال أن أدعي أنني سريع القراءة جداً، وأنني أستطيع أن أفرغ من الكتاب قبل أن ينتهي الزيات من (تفتيح) صفحاته. . . فوافق الرجل. . . بشرط! أن أكتب عن الكتاب وطبعاً عن صاحب الكتاب!. . . كل هذا والأستاذ الحكيم يسمع وكأنه لا يعلم شيئاً.(544/11)
ثم خضنا في المسرح وفي التمثيل، وسألته لماذا لا يؤلف للمسرح المصري روايات تمثيلية، فسمعت منه الجواب الذي سمعته من خمسين أو ستين شاعراً مصرياً وكاتباً مصرياً. . . ليس عندنا مسرح. . . ويجب، إذا ألفنا، أن يكون تأليفنا على نوعين، فنوع للخاصة، ونوع للعامة. . . نوع للخاصة الذين يسعهم أن يفهموا القطع الخاصة الرفيعة وأن يتذوقوها، ونوع للعامة الذين لا يسعهم أن يفهموا القطع الخاصة الرفيعة ولا أن يتذوقوها. . . هكذا كان جواب الأستاذ الحكيم الذي لم تمض على معاهدة الصلح والسلام والمودة بيني وبينه غير دقائق. . . ولقد سكت على هذا الكلام لأني أردت أن أجعل منه مادة لهذا الحديث، لأني لا أحب مطلقاً أن ينعقد السلام بيني وبين هذا الرجل الذي أحبه جداً وأعجب به جداً، على حساب العامة. لأن تقسيم الجمهور المسرحي إلى خاصة وعامة هو أقتل سلاح نصوبه إلى صدر المسرح الذي نحلم بإنشائه، وكل محاولة لإنشاء هذا المسرح إن لم تعتمد على العامة - وهذا رأيي وعلي تبعته - قبل أن تعتمد على الخاصة، هي محاولة فاشلة، بل هي محاولة فيها إثارة لمشكلة الطبقات، بل هي محاولة للأزراء بسواد الشعب والانتقاص من ملكاته. . . على أن الأدب الذي يكتب للخاصة هو في رأيي أيضاً أدب لا يمكن أن يمثل أمة، بل هو أدب لا يمكن أن يمثل الخاصة نفسها، لأنها خاصة تتألف من عناصر متباينة، يتعاظل بعضها على بعض، ويبالغ بعضها في بز البعض الآخر في المظاهر الكاذبة التي ربما أخفت وراءها قدراً عظيماً من العقلية المقيدة التي ترسف في أغلال من الذهب. . . وفي وسع الأستاذ توفيق الحكيم أن يقول: إنما أنا أقصد الخاصة المتعلمة ذات المواهب، وأنا أرد عليه إذن بما قلته مراراً على صفحات هذه المجلة وهو أن التعليم وحده لا يستطيع أن يصنع الحاسة الفنية لشعب ما من الشعوب، فلقد كان العصر الذهبي للمسرح اليوناني في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في زمن لم ترتفع فيه نسبة المتعلمين في أثينا نفسها عن عشرة أو ستة عشر بالمائة، وكذلك الحال في رومة والحال في إنجلترا (في القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر) حينما كان المسرح الإنجليزي في أوجه إذ ذاك، وكان جل اعتماد المسارح اللندنية على الموارد التي تتدفق عليها من طبقات الشعب، وبالأحرى من سواد الشعب غير المتعلم. . . ومن الأمانة في نقل الحديث أن أذكر ما ذكره الأستاذ توفيق نفسه من أنه إنما يرى هذا الرأي لما لقيته(544/12)
مسرحيته (أهل الكهف) من مصير على يد الفرقة القومية وفي دار الأوبرا الملكية. . . لقد قالها الأستاذ توفيق في شيء يشبه المرارة. . . وهو مخطئ في زعمه هذا. . . فأهل الكهف كتبت لتكون من أروع آيات الأدب المصري الحديث، وقد أثبتت وجودها بالفعل، ولسوف تخلد على وجه الزمان قطعة فنية قوية أنشئت للقراءة وللترف الذهني، ولم تنشأ للتمثيل. . . والذين أشاروا بإخراجها للمسرح هم الذين كتبوا لها هذا المصير. وبهذه المناسبة أذكر أن الأستاذ توفيق أرسل إلي خطاباً يقول فيه:
. . . وجهتم إلي أمس سؤالاً التبس علي وهو: لماذا لم أوجه عنايتي إلى المسرح؟ ولعلكم قصدتم أني لم أعن بإخراج رواياتي على المسارح. . . وهذا حق. . . ذلك أن كتابة القصة التمثيلية نفسها والتأليف المسرحي في ذاته لمن القوالب الأدبية الفنية التي حرصت منذ نحو عشرين عاماً على العناية بها. . . ولقد كتبت ونشرت - كما تعلمون - نحو خمس عشرة قصة تمثيلية أو قوامها الحوار الأدبي. وهي (ثم أورد حضرته أسماءها). . . ثم قال. . . وكل هذه الروايات التمثيلية منشورة في كتب مستقلة وفي مجموعتي (مسرحيات توفيق الحكيم) في مجلدين. أما إذا كان قصدكم معرفة سبب عدم إخراج هذه القصص على المسارح حتى الآن (باستثناء أهل الكهف وسر المنتحرة)؛ فإن الجدير بالإجابة هم القائمون بأمر مسارحنا. . .) وأنا عندما وجهت هذا السؤال إلى الأستاذ كنت أفهم عنه وكان يفهم عني في غير لبس ولا عناء. وإذا كان يريد أن يقول لي إنه عني بالتأليف للمسرح المصري فإني أخالفه مخالفة تامة، مع أنني من اشد المعجبين بأدبه التمثيلي الذي يخرجه في الغالب في شكل حوار لذيذ ممتع، وهو مع هذه اللذة وذلك الإمتاع لم يخرج عن كونه قصصاً تمثيلياً أنشئ للقراءة ولم ينشأ للمسرح. وعندما أكتب فصلاً آخر أو فصولاً أخرى عن (فن توفيق الحكيم) بوصف هذا الفن ظاهرة هامة من أوضح ظواهر الأدب المصري الحديث، فسأفيض في شرح ما أريد الآن إجماله من الناحية التمثيلية في أدب هذا الأستاذ العظيم. . . هذا الأدب الذي شق طريقه بسرعة فائقة في حياة مصر الأدبية الحديثة، حتى احتل مكانه في جلالة وبهاء بين الطليعة من أدباءنا الأمجاد
لقد وجهت سؤالي إلى الأستاذ وهو يفهم عني أحسن الفهم ولا داعي مطلقاً إلى القول بأن هذه القطع الرائعة الخمس عشرة كتبت للمسرح، لأن الكتابة للمسرح شيء آخر غير(544/13)
الكتابة للقراءة المترفة، أو القراءة للذة الفنية التي يتقنها توفيق الحكيم إتقاناً عجيباً لا نعرفه لغيره من كتابنا المصريين. وإني حينما أقول إن الكتابة للمسرح شيء آخر غير الكتابة للقراءة المترفة، لا أعني أن ألقي درساً على أحد، أستغفر الله. بل أعني أنه يحسن ألا يغالط أحدنا الآخر على هذا النحو؛ فلقد سرني جداً ما ذكره الأستاذ توفيق في كتابه (زهرة العمر) الذي لم يتسع هذا الفصل للتحدث عنه، من أنه أخذ يعنى لقراءة (برنردشو) في لغته الأصلية، أي الإنجليزية، بدلاً من أن ينتظر ترجمته إلى اللغة الفرنسية التي كانت تيسر له قراءة هذا الرجل الذي يعتبر من غير شك (عاهل المسرح الحديث) في العالم قاطبة. . . وسوف يسرني أكثر أن يكون الأستاذ توفيق قد وازن بين (فن شو) المسرحي وما في قصصه هو من هذا الفن المسرحي. ولسوف يسرني أكثر وأكثر أن يكون قد وازن بين (مثل شو) العليا، ومثله هو، تلك المثل التي تعنى بالفن من أجل الفن، قبل أن تعنى بالفن من أجل الحياة.
هذا. . . ولست أوصي الأستاذ الحكيم بدراسة إبسن أو بجورنسن من كتاب الدرامة السكندنافيين، أولئك الكتاب الذين تتلمذ عليهم شو، ووفقه الله إلى استكمال نقضهم. وذلك أن إبسن مثلاً كان يشخص علل المجتمع الإنساني وأدواءه، ثم يكتفي بذلك التشخيص. لم يكن يعني قط بوصف العلاج الذي يكفل القضاء على تلك العلل، أما شو، الذي تشبه كثير من دراماته قصص الحكيم التمثيلية، من حيث صلاحيتها جداً للقراءة دون صلاحيتها للمسرح، فكان في نقده البارع وسخريته اللاذعة مشخصاً ومعالجاً في وقت معاً
أما لماذا أوصي الأستاذ الحكيم بعدم دراسة الكتاب السكندنافيين ومن إليهم من الكتاب الواقعيين، فذلك لخشيتي على فنه الجميل الخلاب من أن يتأثر بهم، ولأن الحكيم في ذاته رجل مشبع بمذهب (المودرنزم) الذي يفتتن به افتتاناً لا حد له ويجعل منه الإطار الذهبي الذي يعلق لنا فيه ترجمته كلها، وصورته الحقيقية التي فطره عليها خالقه الذي لا نحب أن نسميه الآن!
اسمع إليه يقول في كتابه (زهرة العمر) ص 36:
(. . . انتهى رأيي إلى استحالة المضي في روايتي التي كتبت منها قليلا وأنا في هذه البيئة الأوربية العاصفة. هذه البيئة الحديثة وما يسود فيها من جو (المودرنزم) يفسد حسن فهمي(544/14)
للأشياء ويحول دون تعرفي حقيقة شخصيتي في الفن والأدب. أنا أحب المودرنزم، وأخشى أن أقول لك إني أقلد أساليبه على الرغم مني. وهذا بالذات ما يخيفني ويدعوني إلى التريث حتى تهدأ عاصفة هذا الفن الحديث، ونعرف إلى أي حد يستطيع أن يثبت إلى جانب الأساليب التي اعترف بها التاريخ. لقد شاهدت في المسارح أخيراً قصصاً تمثيلية على طراز النزعة الحديثة، مثل قصة كما شاهدت قصص ما قبل الحرب مثل. . . وأطلعت على رأي النقاد في ذلك. أتدري ماذا فضل النقاد؟ إنهم فضلوا قصص (ما قبل موجة المودرنزم) ورأوها هي الخليقة بالبقاء
واسمع إليه يقول أيضاً ص 52: (. . . إن خيالي مع الأسف ليس من نوع الخيال المثمر الذي خدم الشعراء والكتاب، بل هو من نوع الخيال المهلك الذي أضاع في وديانه السحيقة كثيراً من عاثري الحظ الذين حسبوا أنفسهم شعراء زمناً طويلا وهم ليسو بشعراء. ثم هنالك شيء آخر أخالك لم تلتفت إليه هو طبيعتي التي تميل إلى عدم الأخذ بما يأخذ به الناس جميعاً من أوضاع، هرباً من الوقوع في الابتذال وشغفاً جنونياً بالتمييز والإغراب. ففي لبسي لا أرتدي كما يرتدي الآخرون، ولا أدخن لأن التدخين عادة عامة. وربما دخنت لو انقطع الناس عن التدخين لا أهدي إلى حبيبتي الأزهار الجميلة ولا العطور اللطيفة بل أهدي إليها ببغاء في قفص. ولا أكتب إليها مباشرة عن الحب، بل أتبع طرقا لن يتبعها عقلاء الناس. وتسألني بعد ذلك لماذا أحب (المودرنزم)؟ أليس لأنه أقرب الفنون إلى الخروج على المتبع المألوف؟ لقد قالها أحد النقاد الحاقدين على هذا الفن الحديث: (إن أهل هذا الفن يأتون كل سخيف مهجور بحجة حرية الابتداع والتفنن في الابتكار). الواقع أني وجدت في هؤلاء، لا مأواي ومعقلي، بل وجدت كل طبيعتي وما تنطوي عليه من حمق وجنون، لقد وجدت على الأقل سنداً وأساساً لرغبتي المحرقة في الخروج على ما أسميه (المنطق العام))
واسمع إليه أيضاً يقول في ص 97: (. . . إنك تعلم من غير شك أن لي منطقاً خاصاً يشط بي أحياناً عما اعتاده الناس، فإذا أنا في واد والناس في واد، ينظرون إلي ويقولون: إما أنه أبله وإما أنه فطن. لا أذكر في حياتي أن الناس حكموا علي غير الحكمين المتناقضين، ففريق ومنهم والدي يقول إنه أبله، وفريق ومنه والدتي يقول إنه فطن، ولم(544/15)
أسمع طول عمري حكما وسطاً بين هذا وذاك.)
وبعد أن نعتذر للقراء من طول هذا الاقتباس الذي لم يكن منه بد ولا عنه معدى، نشرع في الدفاع عن أديبنا المصري الكبير توفيق الحكيم ضد هذا الكاتب (المودرنست) توفيق الحكيم، الذي وصف توفيقنا هذا الوصف المؤلم في تلك العبارة الصارمة المؤلمة. . . فالصورة وإن تكن حقاً في جملتها، إلا أنها مكتوبة في عبارات لا نحب أن يكتب بها توفيق الحكيم عن توفيق الحكيم. . . حقيقة إن توفيق الحكيم كاتب يحب المودرنزم لدرجة أنه لا يدخن لا لشيء معقول، ولكن لأن الناس يدخنون. . . فإذا امتنعوا عن التدخين أقبل هو عليه، ولو أنفق فيه جميع ثروته. وحقيقة إن هذا المودرنزم يحول بين توفيق الحكيم وبين تعرف حقيقة شخصيته في الفن والأدب، بل هو يفسد حسن فهمه للأشياء. وحقيقة إن نقاد المسرح الفرنسي قد أجمعوا على تفضيل درامات ما قبل موجة المودرنزم، وأنهم رأوها أجدر من غيرها بالبقاء. . . فهل يسمح لنا الأستاذ توفيق الحكيم بأن نوضح له سؤالنا الذي وجهناه إليه فلم يفهمه على وجهه، أو أنه التبس عليه، حتى أسرع فأرسل إلينا خطابه تصحيحاً للموقف، لأنه أيقن أننا شارعون في الكتابة عنه لا محالة؟ إذن فاعلم أيها الأديب الذي اصبح علما في الأدب المصري الحديث أن جميع آثارك الخمسة عشر هي من مذهب المودونزم أو مذهب الشذوذ على العرف، ومذهب (خالف تعرف!)، ثم هي مكتوبة لتقرأ ولمجرد الترف الذهني. . . هي فن للفن. ولولا أنني لم أعد أحب إزعاجك بتذكيرك بعداوتك للمرأة - تلك العداوة المطلقة - لقلت لك إن أصل هذه العداوة ليس حباً خائباً كما يزعم أصدقاؤك أو كما تزعم أنت عندما لطمك الحب على خدك الأيمن، بل إن أصلها هو هذا المودرنزم المضمر في مزاجك الخاص، فكل الناس يحبون الكمثرى (ورحم الله حافظ إبراهيم!) ولكنك لهذا السبب تحب الحنظل؛ وإذا عكسوا عكست! وكل عباد الله يستحمون في الشتاء بالماء الدافئ، ونحن نستنتج من المذهب الذي تأخذ نفسك به أنك تستحم، بل تستنقع في الشتاء في حوض (بنيو) مملوء بالثلج والبرد! لهذا، لا لغيره. . . سألناك لماذا لا تعتني بالتأليف للمسرح المصري كما نفهم هذا المسرح، وكما يفهم المسرح برنردشو، وكما يفهمه إبسن وبجورنسن والنقاد المحترمون الذين لم تعجبهم الروايات التي ألفت على قواعد المودرنزم. والتي شهدتها فأغرمت بها، لأنها صادفت هوى في فؤادك(544/16)
هل عرفت إذن ماذا نقصد يا أحب الأدباء التمثيليين إلى نفسي؟ وهل رأيت كيف أن خطابك لم ينطل علينا؟
على أنني ضد السيد المحترم الوالد العزيز فيما ذهب إليه بشأنك. ولو فطن لعلم أنك أذكى البشر
واستودعك الله إلى الحديث المقبل.
دريني خشبة(544/17)
الضريبة الأدبية على الأدباء النابهين
للأستاذ محمد صادق رستم
كان المذهب الخيالي (رومانتيك) في إبان ازدهاره بفرنسا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر حين وضع الفريد دوفيني الكاتب الشاعر مسرحية سماها (شاترثون)، وإنما عنى بهذا الاسم فتى إنجليزياً شاعراً مطبوعاً كان يسكن في غرفة منعزلة عالية بدار تاجر مالي، ويقضي يومه ومعظم ليله في استنزال وحي الشعر السامي، رجاء أن يعرضه للنثر فينال الربحين الأدبي والمادي. فحدث أن طال عليه دلال ذلك الوحي وتجنت عليه القريحة، ومر شهر في إثر الشهر وفي عنقه أجرة الغرفة التي يسكنها، فأوعز التاجر المالي الذي لا يفهم غير لغة النقود والأرقام إلى زوجته أن تنذر الفتى نزيل الدار بوجوب الدفع العاجل وإلا فالمقاضاة والطرد. . . وكان فتانا الشاعر البائس قد ألف الائتناس بطفلي السيدة ربة الدار، وكثيراً ما كان يلاطفهما ويرسم لهما الصور المضحكة المسلية، فأشعرت السيدة العطف على هذا الفتى الأليف، وداخلتها الشفقة عليه فسوفت في إبلاغه إنذار زوجها، وجاءت تدبر له مخرجاً، وتجد له ما يسدد به ما عليه، لذلك الذي لا يعرف عذراً ولا يصبر على حق، ولكن الجدود العواثر رمت بالفتى في طريق هذا الجبار على باب الدار، فاستطال لسان الذهب على الديباجة الرقيقة من الأدب، فكبر الأمر على فتانا (شاترثون)، فلم يجد مخلصاً إلا في الانتحار بالأفيون، ولعله (قبر في صدره القصيد الخالدة)
تلك خلاصة وجيزة للمسرحية، والذي يعنينا منها أن (دوفيني) المؤلف قدم لها يوم طبعها بمقدمة بارعة فرق فيها بين الأديب والكاتب الكبير والشاعر. فذكر أن الأولين كثيراً ما يشقان طريقهما إلى الشهرة فيكفل لهما العمل رغد العيش وميسرة الحال، وقال المؤلف إن مثل هذين الرجلين يستطيعان أن يفهما الجمهور ويفهمهما الجمهور فيسهل عليهما انتزاع الرزق من يد القراء في أي وقت شاءا، أو شاء لهما جري القلم، أما الشاعر فشيء آخر. . .
ومضى دوفيني يصف الشاعر بأنه مخلوق خاص لا يكاد يحسن شيئاً من وسائل طلب العيش في غير دائرة الشعر ويزيد في طينه بلة أنه غريب في وسط الجماهير ندر من يفهمه، وأندر من ذلك من يعرف له قدره. ثم إنه يضن بوقته إلا على التماس الوحي(544/18)
الشعري. ويضاف إلى ما تقدم طبعه ومزاجه، ولعله كون كالساعة التي صنعت لتدور على غرار خاص. فمثل هذا العندليب الذي لم يخلق إلا ليتغنى، ولا يحسن إلا أن يتغنى، ألا ينبغي أن تسنده يد في زحام هذه الحياة التي ينحى الناس فيها بعضهم بعضاً عن سبل العيش والكسب بالمناكب. (لعل في صدر ذلك المستضعف القصيدة الخالدة) فكيف نصرفه عن مناجاة وحيه إلى الدأب المستمر وراء اللقمة، وفيما نحفل بالعندليب فنقتنيه ونتخير له القفص المزدان، ونتقدم إليه بالحب الخاص، ونقيه عاديات الجوارح، ونشفق عليه حتى من عوارض الطبيعة، وشاعرنا الإنسان العبقري في زوايا الإهمال ومطارح الإغفال!. . .
هذا ما كان يقوله دوفيني في عهد ازدهار دولة الأدب الخيالي، وهو عهد لم يطل؛ فقد ألح عليه أمثال فلوبير بالمذهب الحقيقي (ريالزم) وزولا بالمذهب الطبيعي (ناتوراليزم) فتوارى؛ بل لقد أفرد زولا لأمثال تواليف دوفيني كتاباً في النقد اسمه المذهب الطبيعي في المسرح (لوناتوراليزم أو تياتر) تناول فيه في جملة ما تناول، رواية شاترتون ومقدمتها بالذات وأبى على دوفيني وصفه للشاعر واستنكره وسخر منه. وجلي أن الناقد اميل زولا لم ينظر إلى الموضوع إلا بمنظاره الخاص، ولم ققسه إلا بمقياسه الذهبي فلندع له رأيه المحترم
ولقد عرفنا في بعض شعرائنا المطبوعين أن كثيراً منهم، وخصوصاً بعد عهد جوائز الأمراء والكبراء، بله الخلفاء، كان يعمل بيديه ليرتزق مثل الجرار وخابز الأرز والرفاء والسراج والوراق ونحوهم، ولكننا نذكر مع ذلك العهد الذي كان يعال، ولو شقة اللفظة، فيه الشاعر العبقري، أو بعبارة أخرى يكفي شيئاً من الكد وراء الرزق ليتوفر على التفكير والاستيحاء، فكان للأخطل مثلا مروانه، وللمتنبي سيف دولته، وللبحتري متوكله، كما كان لشوقي توفيقه ثم عباسه، ولحافظ الأستاذ الإمام. فقال في رثائه:
لقد كنت أخشى عادى الموت قبله ... فأصبحت أخشى أن تطول حياتي
وكانت في فرنسا على الأخص للمملقين من الشعراء حاميات أو راعيات يفتحن لهم (صالوناتهن)، وإلى جنب ذلك بعض الجمعيات التي تسدي العون الأدبي، وتجيز مادياً أحياناً فيجد الشاعر وخصوصاً الناشئ الذي لم يستجل بعد وجه الشهرة متكأ وظهراً ومؤازراً، أما المنكوب بالطبع الشعري اليوم، وبخاصة عندنا فأمره بيد البؤس إذا هو لم(544/19)
يعمل ليعيش قبل كل شيء، فهل لهذه الحال الشائنة في عصر النهضة الحديثة القائمة من دواء؟
لعل الذين يسألون هذا السؤال هم أدباؤنا وشعراؤنا النابهون الذين عبدت سبلهم ودنت قطوفهم واستقر ذكرهم، من أمثال الأساتذة: طه حسين، وزكي مبارك، والعقاد، والحكيم، والمازني، وعلي محمود طه، واضرابهم.
ثم لعل في حظ كل منهم من الاشتهار ما يجيز فرض ضريبة ولو أدبية عليه تقتضيه التفكير في حماية قرنائه في الفن إن لم نقل إن الوقت ملائم لتأسيس (جماعة أدب) يعتز بها الشاعر والأديب الخامل.
ولعلنا بعد ذلك نسمع رأياً أو مقترحا في هذا الموضوع من ذوي الشأن. وأكبر اليقين أن صفحات (الرسالة) ترحب بهذا وتفسح له خير صدر
محمد صادق رستم(544/20)
في التيه!
للأستاذ سيد قطب
شيطان الحقيقية
لا تقرب. لا تقرب. إنها هكذا جميلة!
ماذا تريد! أبتغي أن تحقق فيها، وأن تمتحن صدق النظرة البعيدة؟
كلا. كلا! إنني لأشفق أن تبديها النظرة القريبة شوهاء، أو أن تظهر بها بعض الندوب والخدوش!
هي جميلة هكذا ونحن من بعيد؛ فماذا نبغي غير أن نراها جميلة؟
الحقيقة؟! ويحك! ومن أدراك أنها تبدو دائماً على مقربة؟ ولم تكون الحقيقة هي التي نراها على هذا البعد البعيد؟ وهبها ليست كذلك، فماذا يضيرنا؟ ولماذا نصر على رؤيتها عن كثب إذا كانت من بعيد تبدو لنا جميلة؟
إن قصارى ما تستطيع الحياة أن تهبنا إياه أن تبدي لنا الأشياء جميلة. فلماذا نصر نحن على نبذ هذه النعمة بحجة البحث عن الحقيقة؟
ألا ويح هؤلاء الفانين في العالم الأرضي المحدود! إن الشيطان قد نفس عليهم نعمة الوهم التي منحتنها إياهم السماء، فجعل يوسوس لهم باسم الحقيقة، ليخرجهم من هذا النعيم، وهم يحسبون أنفسهم الرابحين!
جمال الظلال
هذا المخلوق الشائه القبيح. هأنذا أرى ظله جد جميل! إنه يقفز في رشاقة ويتراءى في رواء. إنه يتثنى ذات اليمين وذات الشمال كتمثال حي من تماثيل الجمال. إن هذا الظل ليبدو طليقاً من قيود التقاسيم والألوان
ألهذه الطلاقة يا ترى هو جميل؟
وهذه الشجرة الباسقة النامية، إنها جميلة ولا شك، ولكن ظلها أجمل! إن حركاته أرشق، وخطراته أشف، إنه يتمايل هكذا وهكذا في شبه حرية لا تتمنع بها الشجرة
ألهذه الحرية يا ترى هو جميل؟(544/21)
ما الجمال؟ إنه الحرية، إنه الطلاقة. إنه الانطلاق من الأوضاع والأشكال والتقاسيم والحدود
ألهذا يبدو الخلود جميلاً لأنه غير محدود. لأنه الظل الطليق لهذه الحياة المقيدة؟ ألهذا يخلق الناس الآلهة؛ ألهذا يركنون إلى الإيمان؟
من يدري؛ فربما كان خلق الناس للآلهة وركونهم للإيمان فما نفسهما الصلة الحقيقية بين الإنسان الفاني المحدود، والإله الباقي غير المحدود
الإله الطليق
أيها النور، أأنت طليق؟ أأنت تفيض حيثما تشاء، وتنطلق كيف ما تريد؟ أأنت تغمر الكون في سعة وفيض لا يخشى عليهما النفاذ، ولا تحد من طاقتهما الحدود؟
لقد كنت أحسبك كذلك، وكنت سعيداً بأن أحسبك كذلك، إلى أن قرأت وعرفت! عرفت أنك خاضع - ككل مظاهر الطبيعة - للقانون، عرفت أنك مقيد بالناموس
وا أسفاه! إنك أيها النور كائن محدود!
وا أسفاه! لقد تقصيت مظاهر هذا الكون، وحصرت أملي فيك - أيها النور، لأنك أنت الوحيد من بينهما الذي كنت تخيل إلي أنك طليق!
ثم ماذا؟ ثم هاأنت ذا غير طليق!
وا لهفتاه! أليس هنالك غير المحدود؟ ما أحوج القلب البشري إلى هذا اللانهائي. إنه يفقد أعز عقائده وأجمل أمانيه حين يفقده
ماذا؟ أليس هنالك عزاء؟
بلى، هنالك عزاء وحيد. هنالك الإله. الإله الذي لا أول لوجوده، ولا آخر لامتداده. الإله الطليق من جميع القيود
أبهذا الإله العظيم
إنني أحبك! أحبك لأنك (غير المحدود) الوحيد في هذا الوجود. أحبك لأنك لأمل الوحيد للقلب الإنساني حين يضيق بالحدود!
قيود الملك(544/22)
متى تستطيع الكائنات أن تكون شيئاً آخر غير (المالك) و (المملوك)؟
إن (الملك) قيد من قيود الفناء يتنزه عنه الخلود. إن المالك ليس أقل تقيداً بما يملك من المملوك المقيد بمن يملك، وإن نسبة الترابط بينهما لهي واحدة أو تكاد
إن الطبيعة حين ولدت أبنائها جميعاً، تسربت فيهم جميعاً فهم أجزاء متكاملة، كل جزء منهم يحمل جزءاً من الفكرة التي خلقوا ليعبروا عنها. إنهم متكاملون أو متداخلون، ولكنهم ليسوا مالكين ومملوكين!
كم بت أكره الملك المتحيز حتى في الحب. لا أريد أن تكون هذه (لي) أو تلك. أريد أن أكون عابداً. أن أنظر من بعيد إلى الهالات الإلهية المرتسمة حولها دون أن أمد يدي إلى شيء منها. أريد أن تغمرني غبطة شاملة. أريد أن أحس بالكمال الذي لا يحتاج، وبالرضى الذي لا يطلب، وبالإشراق الذي لا شعائر فيه!
تطهير الصنم
قال لي صاحبي - وقد رآني أدافع عنها بحرارة ضد نفسي وأدفع عنها كل ما قد رميتها به من قبل -: ويحك! أهي نكسة إليها بعد كل ما كان، وهل نويت الرجوع؟
قلت: كلا! لم أنو شيئاً، والرجوع - بعد - مستحيل. إنما أريد تطهير الصنم، كيما أتوجه إليه بالعبادة؟ فما أنا بمستطيع أن أعبده - وهو ملوث - وما أنا بقادر على البقاء بلا عبادة!
أنها يا صاحبي لم تخسر شيئاً بهذه الشكوك التي أحطتها بها، والتي حسرت عنها هالاتها المقدسة في نفسي؛ إنما أنا الذي خسرت: خسرت الإيمان وخسرت المعبود، وخسرت القبلة التي أتوجه إليها
أو تحسب يا صاحبي أن الآلهة يفيدون شيئاً من عبادة المؤمنين، أو يخسرون شيئاً من تولي الكافرين؟ كلا يا صاحبي إنما يكسب ويخسر أولئك الفانون الذين فطروا وفي قرارة نفوسهم ميل إلى الإيمان، وهو غذاء أرواحهم المعذبة، ومستقر قلوبهم الحائرة.
والرسل والأنبياء يا صاحبي! أتحسب أنهم ينشئون الإيمان في هذه القلوب إنشاء؟ كلا! إنما يحاولون فقط أن يردوا إليها الثقة والحرارة حين تخبو حرارتها ويتطرق الشك إليها، فيما كانت تعبد من قوة في السماء.(544/23)
آه يا صاحبي! لو أستطيع أن أغمض عيني مرة أخرى فلا ترى! ولكنها جناية المعرفة. جناية الوعي المتيقظ، جناية هذا العقل الإنساني الذي يسلبنا سعادة الإيمان، ثم لا يعوضنا إلى شقوة الشكوك.
لست ابغي الرجوع أيها الصديق؛ إنما أبغي قداسة الصنم المعبود. فهل فهمتني الآن؟ استغفر الإيمان. أعني هل أحسست ما يختلج في نفسي من أحاسيس؟
الانسياب
أتدري فيم أكتب إليك؟ إنه أمر غريب حقاً! إنني في حاجة إلى من يرد على إيماني بشعر (الحالات النفسية). إنني لفي شك مؤلم في هذا النوع من الشعر الذي أصبحت أراه محدود الآفاق.
أنني لا ألجأ إلى هذا الشك راضياً ولا مختارا. لقد أحببت (شعر الحالات النفسية) وآمنت به فترة طويلة؛ ولقد كان عندي لونا من ألوان المثل الأعلى للشعر الجديد.
فما عساي يا صاحبي أريد؟
أريد الانطلاق. أريد الانسياب في الطبيعة كأنني ذرة منها لا تحس لها كيانا مستقلا. أريد ألا أحس بالقصد والغاية، ولا بالحالات الواقعية المحدودة. إنني أكره (الوعي) لأنه نوع من الحدود!
أريد الهالات التي لا حد فيها بين الأضواء والظلال. أنكر شعري وشعر الكثيرين، لأنني لا أجد فيه ما أريد. وأخشى ألا يكون بين شعراء العالم من يلبي هذه الرغبة العميقة. من ينساب في إحساسه وفي تعبيره بلا حدود. أخشى أن تكون الموجة التي تغمرني ليست سوى شعور غامض غير قابل للتعبير عنه في لغة البشر المحدودة. إنها إذن تكون كارثة. ألا يوهب البشر نعمة التعبير عن هذا الشعور؟
(حلوان)
سيد قطب(544/24)
مصر والشام
للسيدة وداد سكاكيني
كنا إذا ولينا الوجوه شطر مصر كالعيس في البيداء، تتلهف ظمأ الماء وهو على ظهورها محمول. فيا عجبا لذاك الحنين الذي كان يطفو على جنبات نفوسنا كموج البحر وهو يمور ويفور، ثم لا يكاد موجه أن يندفع على الصخور حتى يحور يغور، فهو هباء منثور. كذلك كنا إذا هزنا الشوق إلى مصر هفونا إليها من ربوع غسان ودارات أمية، فكانت رياح الحنين غادية غير رائحة، ومقيمة غير مبارحة. ولقد مرت بالشام عهود وأحداث كانت من خلالها بمعزل عن غيرها، لا يبلغ مصر من هذه الديار إلا التجار ونزر من الأخبار ويتلقاها النسيب من النسيب، حتى تصرمت تلك القطائع وتواصلت بعدها أواصر ووشائج، كان وثاقها يشتد على ترادف الأيام؛ ولكن لم تبلغ مداها ولا أدركت مناها، فحنين العرب إلى مصر عريق في الدهر، ظهرت بوادره منذ تطامنت لوادي النيل مقاليد الحكم والسيادة من عهد الخصيب أميرها، وكافور الأخشيدي مليكها، فقد أتاها النواسي زائراً ومدح أميرها بقصيدته التي مطلعها:
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر
ثم ورد عليها أبو الطيب المتنبي منتجعاً وشاعراً فكان لها في نفسه أثر ما زال أروع طوابع شعره. كأنما أراد الله لمصر بعد أن هوى تاج العز عن رؤوس العباسيين أن يتألق على رأسها فكان لها من المجد والعلم ما كان لعواصم الغرب التي أفادت من علماء الروم بعد طغيان الحرب على بلادهم فكانوا حيثما توجهوا وأينما حلوا ينابيع معرفة وثقافة، فما أديلت العباسية وطوائف الملوك حتى كانت مصر مورداً عذباً لجماعة من العلماء والكبراء، ومثابة لطائفة من المؤرخين والفقهاء، وكأنها قبلة علمية توجهت إليها الأنظار والأفكار، وذلك قبل عهد الانحطاط الشامل الأخير. ولما امتدت يد الظلمة والخمول إلى أرجاء الشرق كانت مصر في البلاد الهاجعة فانطفأت تلك الشعلة الباقية من مصابيح العرب الأوائل، حتى كان البعث الحديث زمن الغزوة النابوليونية ثم أيام النهضة المباركة التي خلق فيها مصر من جديد محمد علي باشا الكبير
وفتح العالم العربي في عينيه بعد سبات عميق، وتلفت المستيقظون صوب البلاد الآمنة(544/25)
الخيرة، فلم يجدوا غير مصر مراحاً لأرواحهم وعبقرياتهم، وصورة لأمجادهم وذكرياتهم، فتوافدوا عليها شقين طامحين، وأكرمت هي وفادتهم ومودتهم، وقد عقدت بينهما وبينهم وشائج القربى والتاريخ وروابط اللغة والدين. وسبق اللبنانيون إليها مهاجرين فسكنوا وادي النيل وكأنهم بين أهل وعشيرة، فاستهوتهم بحفاوتها وخيراتها، وساهموا في نهضتها المعاصرة مساهمة لمعت آثارها في المرافق التجارية والحياة الأدبية، ومازالت مجاني ثقافتهم وصحافتهم دانية القطوف في المقتطف والهلال والمقطم والأهرام. على أن هؤلاء المستوطنين ما لبثوا أن تركوا طوابعهم السورية واللبنانية ما وراء العقبة واتسموا بمياسم مصر فتكلموا لهجتها العذبة واقتبسوا من عاداتها وتقاليدها، واكتسبوا من (جنسيتها) فشاركوا أهلها في التبعات والواجبات وصار لهم حق مراتب الدولة، وفي مجلسي الشيوخ والنواب
وشاءت الأحداث منذ الحرب الغابرة أن تفرق بين الإخوان والجيران في التخوم والإقليم، أما وحدة الشعور واللغة وعلائق المودة والهموم، فكانت تزيدها الأيام والآلام حدة وقرباً، وما ألمت بمصر حادثة أو دهمت بلاد الشام كارثة حتى كانت صيحات المواساة والمؤتمرات تعلن تبادل الولاء والوفاء بين القطرين المجاورين. وللشام كما قلت هوى بمصر عريق، ولكنه كان كميناً دفيناً فلم يجد له بثاً وبعثاً غير الأدب والثقافة، فكانت المنابر والأقلام مظاهر ذلك الشعور والإخاء، وأكب العرب في جميع أقطارهم على أدب المصريين وصحافتهم. بيد أن الشاميين كانوا أشد تعلقاً بأدباء الكنانة وشعراء النيل. ولا بدع إن اتجهت أنظارهم صوب مصر الشقيقة الكبرى وأعجبوا بآثار أدبائها وشعرائها ومآثر العروبة والإسلام فيها، فقد كان هذا القطر العزيز سباقاً إلى نشر الثقافة والمعرفة بما توافر لديه من أعلام الفكر والصحافة، وبما تكاثر فيه من دور التربية والتعليم ومعاهد اللغة والدين، فما يكاد يصدر عن مصر كتاب لأحد أدبائها حتى يتهافت كل مثقف في هذه الديار على قراءة هذا الكتاب واقتنائه، بل ما أحسب أن دار علم عندنا أو معهد فن أو مكتبة أديب أو متعلم تخلو من مؤلفات المصريين في ألوان الثقافة والأدب، وما تظهر مجلة مصرية أو جريدة حتى نتلقاها بشوق وترحاب، وقد عجب لهذا طابعو الكتب وبائعوها فعلموا أن جل هذه الأسفار والصحف تقرأ وتروج في بلاد الشام وسائر الأقطار العربية أكثر مما تروج(544/26)
وتنتشر في بلاد المؤلفين المصريين والصحافيين، وإن جمهرة العرب في هذا الشرق الأدنى يحلون علماء مصر وأدباءها وأهل الفن فيها من أنفسهم محلاً رفيعاً ما يكون له من المصريين أنفسهم، بل إننا لا نمن على إخواننا وجيراننا إذا كنا لا نغادر صغيرة ولا كبيرة من شئونهم إلا نحيط بها علماً، لأننا نجد في شعورهم وتفكيرهم صدى لشعورنا وتفكيرنا، وكما أن الشاميين عبروا بحفاوتهم وأقلامهم عن إعجابهم بالأدب والطرب يطرفانهم من نحو مصر، فإن شعراء النيل ما زالوا يرسلون قصيدهم في تحية الشام وبعث ذخائرها وأمجادها. ولقد زار دمشق في ماضيها القريب أمير الشعراء أحمد شوقي فملأ عينيه وروحه بمفاتنها ومباهجها، ورأى بتحديقة واحدة دنيا أمية راقدة تحت الثرى منبثة في هذه الربوع فبعثها في شعره الملهم إلى دنيا الحياة، ونظم فيها قصيدته الفريدة التي ناجى بها جلق وتغنى بماضيها الأغر المحجل، وفيها خلع على الشام أوصافاً لا تمحوها يد الحدثان. فيا لأمية في هاماتها وربواتها، في نيربيها وغوطتها! ويا لعظمة بردى مسلولاً كسيف من فضة يوزع الخصب والبركة، ويبدع الحدائق والظلال!
لقد كانت الشام مطوية المحاسن والمفاتن، كامنة الحنين إلى الأمجاد وعز الأجداد، حتى هاجها شوقي من مكامنها ورصع بها شعره الخالد، فهب الشاميون على شعر شوقي وترنموا به ورجعوه في مغانيهم، وفي مجالسهم ومدارسهم، واهتاجت مشاعرهم شوقاً إلى ضفاف النيل وحمى الأزهر وحصن الإسلام. وما اكتفى شوقي بشعره في وصف دمشق ومجاليها، بل سكب من قريحته بلسماً لجراحاتها فرثى من أجلها وبكى، وخلد ميسلونها؛ وحين تهدم بنيانها ناح شوقي على منازل العز وهي بأيدي البلى من أحياء دمشق
وما كان حافظ إبراهيم ضناناً بقريضه في مناقب الشام ومحامد أهليها وأنهم خير من رعى الجوار والإخاء. وقد أنشدهم بلهجته الساحرة قصيدته التي حيا بها من بالشام، حياه وتمنى أن تجري المودة طلقاً في أعراق الشرق كجريه الماء في الأفنان؛ وحدث سامعيه عن وجد النيل ببردى، وأهدى إليه أشواق ولهان وتحنان
ومن قبل هذه التحية الطيبة قال حافظ:
لمصر أم لربوع الشام تنتسب ... هنا العلى وهناك المجد والحسب
وقال:(544/27)
إذا ألمت بوادي النيل نازلة ... باتت لها راسيات الشام تضطرب
ولكن الأدب في هذه البلاد ما زال عاتباً على غفلة المصريين عن أهله، ولطالما تواترت الملامة من أدبائنا لتفاضي مصر عن أدبهم وتصانيفهم حتى عدوا ذلك منها إغفالاً وإهمالاً. وقد اعترف بهذا التفريط أعلام الثقافة والأدب في وادي النيل، فكتب الدكتور عبد الوهاب عزام: (وليس الأمر بيننا تشابك أقوام واتصال أوطان فحسب، ولكنه الحب المؤكد والود الصريح ينطق عن السنة القوم ويتجلى في أساريرهم ويبين في أعمالهم ويشهد به اهتمام القوم بكل صغير وكبير في مصر وتحدثهم عن علمائها وأدبائها وأحزابها وقادتها حديث المحب العارف الخبير، وحرصهم على قراءة ما تخرجه مصر من كتب ومجلات وجرائد، وكثيراً ما نرى في الشام والعراق من يعلم عن مصر أكثر من أبنائها. (ثم على مصر ألا تتردد في الاستفادة بما في هذه البلاد من مزايا؛ فلا ريب أن فيها من الآداب والأخلاق والصناعات ما يجب علينا أن نتلقاه عنها ونحتذيها فيه)، وقال الدكتور طه حسين في حديث له عن الشرق العربي نشرته صحف كثيرة منذ بضعة أعوام وأشارت إليه (فنحن مثلاً نزعم لأنفسنا ويتفضل إخواننا الشرقيون فيزعمون لنا إننا قادة الرأي في الشرق العربي وزعماء النهضة الأدبية في العصر الحديث، ونحن نتأثر بهذا الغرور ونرى لأنفسنا حقوقاً ولا نكاد نشعر بما علينا من واجبات، نرى أن على الشرقيين أن يقرئونا وأن يتأثرونا ولا نكاد نشعر بأن علينا أن نقرأهم دائماً وأن نتأثرهم أحياناً)
على أن الحكومة المصرية الجليلة شعرت بهذا الغفول عن أدب الإخوان والجيران فأعدت العدة لتوحيد الثقافة في جميع البلاد العربية، وقررت تبادل المؤلفات والمعلمين والمعلمات بين الأقطار الشقيقة والمجاورة. أما أمنية الأدب الغالية في ربوع الشام فلم تحقق، وما يزال أدباء مصر يجهلون أدباءنا وآثارهم، ولا تكاد تجد في إحدى المكتبات المصرية كتاباً لأديب سوري أو لبناني في غير بلادهم وشاءت الأقدار في هذه الأيام أن تؤلف الهموم والخطوب بين الأقطار العربية فتسعى بالتعاون والتضامن إلى خير الإنسانية ونصرة الديمقراطية، وتطلعت مصر إلى أخواتها بمحبة وبهجة تستجلي الأماني والآمال، ومدت يدها تصافح الإخوان أو الجيران، فوجدت أن الأحداث لم تنل منالاً من أهل هذه البلاد وهم المؤمنون بعطف مصر ومساعيها النبيلة لنهضة العرب وبسط حضارتهم ونشر ثقافتهم؛ فهل يقيض(544/28)
لأدب الشام أن يرى مصر مراعية لأمره ساعية إلى تحقيق التبادل في المؤلفات وفي الآراء التي تؤول إلى ازدهار الحياة الأدبية عندهم وعندنا؛ وإن علماء الاجتماع ليعلموا أن كل نهضة لا تقوم على الأدب مكتوب لها الخيبة والإخفاق. أما وقد لمسنا في المصريين الكرام مظاهر التعاون الثقافي في المعاهد العلمية والدينية في بعض البلاد العربية؛ فإن الأمل وطيد بأن نرى في القريب بشائر التضامن الأدبي في هذه الأقطار التي ترتقب عهداً جديداً أغر يصل طريفها بتليدها، ويحيى في مرافقها وآفاقها تراث الأجداد والأمجاد.
(دمشق)
وداد سكاكيني(544/29)
آراء للمناقشة
ختان البنات في مصر
للدكتور أسامة
تختص مصر في هذه العادة دون سائر بلاد العالم المتمدن، إذ لا يشاركها فيها سوى قبائل السودان وأواسط أفريقيا. ولم أهتد إلى أصلها؛ غير أن اقتصارها على هذه المناطق واختصاص نساء الغجر بإجرائها، ويشاركهن الدايات الآن، يحمل على الظن بأنها عادة مصرية قديمة انتقلت إلى مصر من الجنوب بواسطة هؤلاء الغجر الذين اتخذوا منها مورداً للارتزاق. ولست أعرف رأي القانون ووزارة الصحة في ممارسة هذه العملية إذ أنها عملية جراحية حقيقية لها أخطارها، ويجب أن يكون لها إجراءاتها وقيودها؛ غير أنني كطبيب أريد أن أوضح لأبناء وطني ما ينطوي عليه ممارسة هذه العملية من أضرار طبية ونفسية واجتماعية، بجانب ما يظن لها من فوائد أكثرها وهمي
وأول هذه الأضرار هو الخطر الجراحي الذي ينشأ من النزيف، والأضرار الأخرى لا تحدث أعراضها إلا بعد زواج الفتاة، ومنشأها أن الجزء الذي يقطع (البظر) هو عضو تناسلي أساسي، لأن به كل الحساسية الجنسية للأنثى، وليس هو كما يظن الشخص العادي يماثل الجزء الذي يقطع في ختان الذكور، فإن هذا قطعة من الجلد لا قيمة لها. فإزالة هذا العضو تماثل في نتائجها قطع الجزء الحساس من العضو التناسلي في الذكر. فالمرأة المتزوجة في هذه الحالة لا تحصل على الاكتفاء الجنسي الذي هو أساس لحياتها التناسلية، وينتج عن ذلك الإصابة بالنورستانيا والأمراض النفسية والعصبية المختلفة، كما وهذه الأمراض منتشرة بين النساء اللواتي يجب اعتبارهن جميعاً ناقصات جنسياً لهذا السبب. وإنني أعتقد أن في اقتصار حفلات الزار على البلاد التي تمارس هذه العادة وهي مصر وأواسط أفريقيا ما يوضح علاقة بينهما، كما يوضحها كثرة انتشار الخرافات المتعلقة بالاعتقاد في إصابة بعض النساء بالجن والمشايخ والأسياد وما يجده الدجالون من سوق رابحة بينهن باستغلال هذه المعتقدات
ومما ينشأ أيضاً عن عدم الاكتفاء الجنسي لدى المرأة أنها تظن ذلك بسبب عجز تناسلي من زوجها الذي يشاركها في هذا الاعتقاد لجهله، ويظن بنفسه نقصاً في رجولته أو مقدرته(544/30)
الجنسية (وليس به أي نقص في الحقيقة) فيحاول تعويضه أولاً بالإجهاد الجنسي (الإفراط)، وثانياً باللجوء إلى الوصفات البلدية الشائعة وهي لا تؤدي إلى أي نتيجة حقيقية، وأكثرها يتركب من الحشيش والأفيون والداثورة وبعض مواد أخرى قد تكون شديدة الإضرار بصحته وقد تؤدي به إلى الإدمان
وإن ما هو معروف من أن تعاطي هذه المكيفات إنما هو لغرض جنسي يحملني على أن أقرر أن أهم عامل في انتشار المخدرات في مصر يرجع إلى النقص الجنسي في النساء المصريات الناتج عن إجراء عملية الختان لهن
وفضلاً عن هذا فإن الشعور الجنسي للرجل يقل كلما ضعف هذا الشعور في زوجته. ولست أرى محلاً هنا للتبسط في هذا الموضوع وشرح نتائجه وصلته بنجاح الحياة الزوجية أو فشلها وبكثرة حوادث الطلاق وسواه
وقد يظن البعض في مصر أن هذه العملية عادة إسلامية، أو أن لها أصلاً دينياً، ولكن هذا الظن لا أساس له من الحقيقة ويكفي لإزالة هذه الفكرة أن نعلم أن هذه العادة لا يمارسها أهل الحجاز أو العراق أو اليمن أو سوريا أو تركيا أو إيران أو المغرب ولا أي شعب إسلامي آخر سوى المصريين. بل إن أعراب الصحراء الغربية في مصر لا يعرفونها، وفي مصر يمارسها المسلمون والأقباط على السواء، وأكبر الظن أن الأخيرين هم مصدرها وأنها انتقلت منهم لمواطنيهم المسلمين
بقى أن نقول كلمة عن الفوائد المزعومة لهذه العملية وبعضها قد يكون صحيحاً إلى حد ما، ولكنه كما سنرى لا يبرر إجراءها قط. وأولها ما يقال من أنها نظافة، والمقصود بهذا أنها تشبه النظافة التي تنتج من ختان الذكور وهذا خطأ، لأن المقارنة التشريحية للأعضاء التناسلية في الذكر والأنثى تبين لنا أن هذه النظافة حقيقية في الأولى ولا أثر لها في الثانية. ونظافة عضو لا تكون بإزالته. وهنا يجب أن أوضح أن ختان الذكر عملية سليمة من الوجهة الصحية ولا ينطبق عليها شيء من الاعتراضات المبينة هنا
وثاني الفوائد أو الحجج أن لهذا العضو شكلا بشعاً، والحقيقة أن شكل الأعضاء التناسلية منفر لكل ذي ذوق سليم من الجنسين؛ والمقرر علمياً أن الجاذبية الجنسية في الشخص المتمدين لا تحدث من الأعضاء التناسلية الخارجية؛ إنما تحدث من الصفات الجنسية(544/31)
الثانوية، وهي في الأنثى جمال الوجه والقوام والساقين والفخذين والذراعين ورقة الأنوثة والصوت والثقافة والشعر الخ
وثالثة الحجج وأهمها فعلاً وأحقها بالبحث هي العفة؛ والحق إن ضياع العضو الذي به الحساسية الجنسية في الأنثى يقضي على المنبهات التي كانت ترد منه؛ ولكنه لا يقضي على المنبهات التي ترد من المخ وباقي الجسم (من حواس النظر والسمع واللمس)، فإزالة البظر يحدث عفة جزئية للفتاة قبل الزواج مشكوكا في قيمتها، ولكنه بعد الزواج يحرم المرأة المتزوجة من الشعور الصحيح باللذة الجنسية. وقيمة هذا العضو لدى الفتاة الأجنبية كقيمة أي عضو أساسي آخر. وليس من شك في أن هذه العملية جناية على جسم الفتاة ليس من حق أي إنسان ارتكابها، وإنها كبتر العضو الجنسي في الذكر. أما الحرص على الشرف وتعليم الفتاة العفاف فيكون بالتربية الجنسية الصحيحة
ومما تجب معرفته أن الميل الجنسي ليس مصدرة الأعضاء الخارجية، ولكن المخ والغدد الجنسية الداخلية (المبيضين في الأنثى والخصيتين في الذكر)، وأن هذه الغدد تتأثر في وظائفها بالإفرازات الداخلية للغدد الأخرى التي تسمى الغدد الصماء مما لا مجال للإفاضة فيه الآن. فإزالة كل أو بعض الأعضاء التناسلية الخارجية لا يؤثر في الميل الجنسي الطبيعي من أحد الجنسين نحو الآخر، ولكنه يحدث في الأنثى اضطرابات نفسية شديدة على صحتها
وكثيراً ما عرضت لي حالات مرضية في السيدات لم أجد لها سبباً إلا النقص الجنسي المتسبب عن هذه العملية. وقد تبينت لهذا الموضوع من الأهمية ما دعاني للكتابة فيه أخيراً. وأرى أنه يستحق اهتمام الهيئات التي تعنى بأن يكون لمصر جيل جديد سليم. ولست اطلب تشريعاً جديداً إذ يكفي تطبيق القانون الخاص بتعاطي مهنة الطب على القائمين بممارسة هذه العملية مع بيان أضرارها للجمهور، حتى يقضى عليها سريعاً ونتفادى أضرارها في الجيل الجديد. وإلى هذا أوجه نظر وزارة الصحة ووزارة الشئون الاجتماعية، وكل حريص على مستقبل وطنه وصحة أبنائه.
دكتور
ع. أسامة(544/32)
أين أخي؟!
(مهداة إلى روح أخي الشاعر محمد أبي الفتح البشبيشي)
. . . كنت فيما مضى أهيم مع العط ... ر واسري مع النسيم لزهرِه
وأشق الفضاء كالضوء جيا ... شاً وأسعى مع الهزار لوكره
أين مني أخي وأين أخاء ... سكر القلب من أفاويق خمره
اين مني أخي فإن يد المو ... ت ترامت به لظلمة قبره
أين مني أخي؟ تُرى اليوم ين ... ساني وقلبي مقيد بين ذكره
كلما طالعت عيوني صبحاً ... ذكرتني الأنوار فتنة سحره
وإذا زهرة تهادت بحس ... نفحات؛ لمست نفحة عطره!
وإذا ظلمت تمادت بليل ... غامض يشمل الوجود بسره
كدت من لهفتي أراه حنيناً ... يتمشى به كومضة بدرهْ!!
وإذا موجة من الأبد النا ... تي ترامت على الوجود وصخره!
ذكرتني به خيالاً أبياً ... يرقص الكون من ألاحين شعره
طاف بالقلب من عهودك طيف ... بعث الشوق في الفؤاد الكسير
وبروحي رأيت روحك تهفو ... لعهود وضبئة ووكور
وبوهمي بعثتُ ومضةَ عيني ... كَ تبث المنى بميْت الشعور
وتخطيت ما أمامي من صب ... ح وليل ولجّةٍ وصخور
وتهاويل بثها الزمن العا ... تي هباء بعالم مسحور
كي أرى وجهك النبيل تجلّى ... من وراء الفنا وليل القبور!
آه إني أحس شوقاً ويأساً ... من جوىً عاصف وحزن مرير
أين مني أخي يرطب أيا ... مي بصفو المنى وصفو الضمير
أين مني أخي فقد صرت دوحاً ... راعش الظل مقفراً من زهوري
كنت تسعى إشراقة من شعاع الف ... ن تُزْجي الحياة للخامدات!
نمقتها رؤى الخيال فكانت ... فتنة لم تزل تضيء حياتي
كم ليال عبرتها يوم كنا ... فرحة صُوّرت لماض وآتي(544/34)
كنت فيها هدى لعقل شرود ... لم يزل سادراً مع الترَّهات
من ترُى غالها؟ ومن بدد الشم ... ل؟ ومن أيقظ الردى من سبات؟
إِن الداء. . . داء قلبك لم ير ... حم دموعي ولم يصخ لشكاتي
ما عسى تنفع الحزين دموع؟ ... هل ترى تقهر الأسى عبراتي؟
سأظل الحياة أعبد ذكرا ... ك وأطوي مع الدجى أمنياتي
(الإسكندرية)
حسين محمود البشبيشي(544/35)
إلى زهرتي
اسمعيني. . .
اسمعيني كلما غنيت في دنيا الأماني
اسمعيني واسمعي الأطيارَ تشدو بلساني
أنا قلبي جدول للشدو سلسال الأغاني
كلما غنيت ألقَى سمعه لي كل عاني
أنتِ إلهامي ووحيي، أنت روحي وَجنَاني
فاسمعيني قبل أن تذبُل في نفسي المعاني
كل ما في الكون يا زهرة بسّامُ المحيا
فابَسِمي يا زهرة الآمال أو حنِّي إليّا
أنا شعر في فم الأيام فاصغَيْ لي مليّا
ردّدتْني أنَّةُ الحائِرِ لحناً موصليّا
ورآني المدلج الساري شعاعاً عبقريا
فاسمعيني قبل أن تطويني الأوهامُ طيّا
لستُ يا زهرةُ مثل الناس لكني غريبُ
كلما أشجاهم التغريد أشجاني النعيبُ
لا تلوميني فهذي قسمة لي ونصيبُ
واسمعيني فأنا سر من الغيب عجيبُ
وذكريني وذكري عهدي عسى صفوي يؤوبُ
كيف يا زهرة يُنْسى العهد، والعهد قريبُ؟؟
ذاك عودي في يدي أشدو عليه فاسمعيني
ودعيني أملأ الدنيا بأنغامي دعيني
سلسل الغيب نشيدي ورواه للسنين
غير أن الحظ يا تعسي أراه للمجون
فإذا ما حطم العود بكفي فاعذريني(544/36)
واسألي لي الله أن يرحم شجوي وأنيني
عبد الرحمن الشربيني(544/37)
البريد الأدبي
ازدواج الطبيعة الإنسانية
استوقفني في كتاب (زهرة العمر) قول الأستاذ توفيق الحكيم: (إني أعيش في الظاهر كما يعيش الناس في هذه البلاد، أما في الباطن فما زالت لي آلهتي وعقائدي ومثلي العليا. كل آلامي مرجعها هذا التناقض بين حياتي الظاهرة وحياتي الباطنة.)، وقد أثارت في نفسي هذه العبارة تلك المشكلة الخطيرة المتعلقة بوحدة الطبيعة الإنسانية في الفرد: فإن الرأي الشائع بين الناس أن في النفس وحدة قوامها التآلف والانسجام، على حين أن التجربة الباطنة تشهد بأن النفس الإنسانية مزدوجة قوامها التناقض والاختلاف. والواقع أن الإنسان (نسيج من الأضداد): كما قال رينان؛ فإننا كثيراً ما نشعر بأن ثمة نوازع متعارضة تتجاذبنا، وكثيراً ما نعاني صراعاً عنيفاً يقوم بين النفوس المختلفة التي تتقاسمنا. ولا ريب أن فرويد كان على حق حين قال إن شخصية الإنسان تتركب من: النفس الشعورية (أو الذات) وللاشعورية: والنفس العليا فإن التناقض الذي طالما يشيع في أقوالنا وأفعالنا، مرجعه إلى أننا لا نصدر في جميع الأحوال عن نفس واحدة: إذ أننا في تصرفاتنا العادية نصدر عن النفس الشعورية، وفي نزعاتنا ورغباتنا المكبوتة نصدر عن اللاشعور. وأما في مثلنا العليا ومعاييرنا التقويمية، فإننا نصدر عن النفس العليا. ولعل هذا هو السبب فيما نراه من أن بعضاً من المجرمين الذين تحجرت في نفوسهم الطبيعة الخيرة، قد يتناقضون مع أنفسهم في بعض الحالات: فيندفع اللص الذي يستلب الناس أموالهم، إلى العطف على فقير معدم، وينساق القاتل الذي يسترق الناس أرواحهم، إلى الأخذ بيد شيخ هم محطم. ولعل هذا أيضاً هو السبب فيما قاله رينان عن نفسه في كتابه: (ذكريات الطفولة والشباب): (أن شخصيتي مزدوجة؛ فقد يضحك مني جانب، في حين يبكي الجانب الآخر) ; '
زكريا إبراهيم
إلى الدكتور عبد الوهاب عزام
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فقد قرأت مقالتيكم النفيستين (في المسجد الأقصى) المنشورتين في الرسالة عدد 538 و540، وقد استوقف نظري في مقالتكم الثانية في العدد(544/38)
540
1 - قولكم: (فرأيت على بعد خطيب المسجد الأقصى يمر إلى حجرته في حلة خضراء وعمامة صلاحية وهو زي يتوارثه خطباء المسجد الأقصى من عهد صلاح الدين وهم من بني جماعة الكنانيين توارثوا هذا المنصب منذ القرن السادس إلى يومنا هذا)
2 - وقولكم: (وانتهى بنا السير مع هذه الآثار والذكر إلى التكية البخارية وهي التي اتخذت متحفاً إسلامياً)
1 - أقول إن إسناد خطابة المسجد الأقصى لبني جماعة لم يكن في عهد صلاح الدين ولا في القرن السادس بل في أواخر القرن السابع؛ فإن أول شيخ من بني جماعة سكن بيت المقدس هو الشيخ إبراهيم بن جماعة قدمها من حماة سنة 675 هـ في عهد الملك الظاهر بيبرس، ولم يلبث إلا أياما حتى أدركته الوفاة بكرة عيد الأضحى سنة 675 ودفن بمقبرة ماملا بالقدس: النجوم الزاهرة ج 7 ص 251 والأنس الجليل ج 2 ص 494. أما أول من ولى خطابة المسجد الأقصى من بني جماعة كما يؤخذ من الأنس الجليل فهو القاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة وليها في سنة 687 هجرية في عهد الملك المنصور قلاوون بعد وفاة قطب الدين عبد المنعم بن يحيى الزهري النابلسي خطيب المسجد الأقصى، وقد مكث قطب الدين المذكور خطيباً في الأقصى أكثر من أربعين سنة: الأنس الجليل ج 2 ص 479 والنجوم الزاهرة ج 7 ص 378.
2 - إن مكان المتحف الإسلامي في المسجد الأقصى يعرف بجامع المغاربة. وهو مجاور للزاوية الفخرية وهي المعروفة قديماً باسم الخانقاه الفخرية أما التكية البخارية وهي المعروفة بالتكية النقشبندية؛ فهي خارج المسجد الأقصى ولم تتخذها متحفاً. قال في الأنس الجليل ج 2 ص 386 (الخانقاه الفخرية، وهي مجاورة الجامع المغاربة الذي تقام في صلاة المالكية من جهة الغرب وبابها من داخل المسجد عند الباب الذي يخرج منه إلى حارة المغاربة)، وهذا الوصف لجامع المغاربة ينطبق على مكان المتحف الإسلامي الحالي كل الانطباق
محمد صبري عابدين
مدرس بالمسجد الأقصى(544/39)
حول الإبهام والغموض في التصوف
استنتج الأستاذ كامل يوسف من أبحاثه في التصوف بأن أفكار الصوفية يشوبها الإبهام والغموض، وهو في نظره نقص في التعبير من علل نفسانية ولم يأتي لنا بدليل قوي يؤيد ما ذهب إليه في وصف تلك العلل وأثرها في عقلية المتصوفه
وأقوى دليل عندي على توضيح الغموض والإبهام في كلامهم هو: غيرتهم على طريق الله أن يدعي معرفتها أحد بالعبارة؛ فإن الكتاب يقع في يد أهله وفي غير أهله فقصدوا برمزها بقاءها في الوجود بعدهم تنوب عنهم في إرشاد المريدين. وقد هلك من لم يرمز كلامه من أهل الطريق ورماهم الناس بالكفر والزندقة؛ وأما أمر الحلاج والسهروردي بخاف علينا جميعاً. . .
قال بعض المتكلمين لأبي العباس بن عطاء: ما بالك أيها الصوفية اشتققتم ألفاظاً أغربتم بها على السامعين وخرجتم على اللسان؟ هل هذا إلا طلباً للتمويه وستراً لعوار المذهب؟ فقال أبو العباس: ما قلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه لعزته علينا كي لا يشير بها غير أهل طريقتنا
وقد كان الحسن البصري وبعده معروف والسري السقطي والجنيد رضي الله عنهم لا يقررون مسائل العلم بالله تعالى إلا بعد غلق أبواب بيوتهم وأخذ مفاتيحها ووضعها تحت وركهم خوفاً من إفشاء أسرار الله تعالى بين المحجوبين عن حضرته. فهل نقول إن هؤلاء السادة عندهم علل نفسية!
وبالجملة لا يسلم لهؤلاء القوم مواجيدهم إلا من أشرف على مقاماتهم. ومن لم يصل إلى هذا المقام فتارة يسلم أحوالهم على كره منه، وتارة يجحدها مجملة. ولا يزال هذا الأمر في الخلق إلى يوم القيامة، وما دمنا جميعاً رائدنا الوصول إلى الحقيقة من أي طريق فنحن في جهاد وكفاح حتى يظهر الحق واضحاً
محمد منصور خضر
إلى قراء الرسالة
اطلعت في مجلة قديمة على قصيدة قوية المبنى رائعة المعنى لشاعر مغمور لم أسمع به من قبل ولم أقرأ شيئاً عنه، يدعى حسن حسني الطويراني. والغالب على ظني أنه أحد(544/40)
شعراء مصر في القرن الماضي أو أوائل القرن الحالي. وإني لشاكر من يتفضل من قراء الرسالة الأكارم فيروي على صفحاتها قصة هذا الشاعر الموهوب وشيئاً عن حياته وأعماله الأدبية. والله أسأل أن يجزيه عن الأدب وأهله خير الجزاء.
(بغداد)
علي الشوكاني(544/41)
العدد 545 - بتاريخ: 13 - 12 - 1943(/)
بين التزمت والإباحة
في قواعد اللغة
للأستاذ عباس محمود العقاد
قرأت بالرسالة مقال الأستاذ الفاضل الشيخ محمود أبي رية عن (عبقرية الإمام).
وإني شاكر له ثناؤه على الكتاب وحسن تلخيصه لفصوله وأغراضه، ومعقب على ملاحظته الأخيرة في اللغة حيث يقول:
(بقيت أشياء لابد من ذكرها والإبانة عنها حتى نبلغ من كلامنا ما نريد. ذلك أني عثرت وأنا أقرأ لبعض ألفاظ كنت أقف عندها مثل لفظ (يقلاه ص 40) و (حانقين ص 55) و (فشل ص 81 و 96 و110 و126)؛ وقد رجعت إلى معاجم اللغة التي بين يدي في اللفظ الأول فوجدته من لغة طيء، وإذن يكون استعمالها جائزاً. أما اللفظان الآخران فإني أرجع فيهما إلى الأستاذ العقاد وأسأله: هل يجوز استعمال كلمة فشل في معنى أخفق وخاب، وأن يأتي اسم الفاعل من حنق على حانق؟)
وجوابي: نعم يجوز أن نأتي باسم الفاعل من حنق على حانق، لأنه لا يكون اسم فاعل إلا إذا كان على هذا الوزن
وجوازه ثابت بالنص وثابت بالقياس الذي لا يرد، وهو في بعض الأقوال أقوى من النصوص
فالزمخشري في كتابه (المفصل) يقول في باب الصفة المشبهة: (وهي تدل على معنى ثابت. فإن قصد الحدوث قيل هو حاسن الآن أو غدا وكارم وطائل، ومنه قوله تعالى وضائق به صدرك. . . الخ)
وجاراه موفق الدين بن يعيش شارح المفصل كما جاراه في هذا الحكم جلة النحاة
فإذا صح في (كرُم) التي تدل على الثبوت أن يقال كارم للدلالة على الحدوث، فذلك أصح وأولى في حنق التي ليس فيها معنى من معاني الثبوت
بل إذا كانت كلمة غداً أو الآن لا تكفي للدلالة على الحدوث ولا تغني عن الإتيان باسم الفاعل على صيغته الشائعة، فمن الحق ألا نستغني عن هذه الصيغة حين لا تقترن بلفظ يعين الحدوث في الحال أو الاستقبال(545/1)
على أننا نفرض أن النصوص في كتب النحو لا تقرر هذه القاعدة ولا تثبتها على الوجه الصريح الذي قدمناه
بل نفرض أن النصوص قد وردت بمنع (حانق) وما شابهها وجزمت بخطئها على طريقة النحاة أحيانا في تخطئة بعض الصيغ والأوزان، فمن الواجب في هذه الحالة على خادم اللغة العربية أن يخالف النحاة ويخالف السماع الناقص تكملة له بالقياس الصحيح الذي لا محيد عنه
إذ ليس من حق لغة من اللغات أن تضطر كاتباً بها إلى الأخطاء في معناه
وليس من حق لغة من اللغات أن تبطل الفارق بين معنيين مختلفين ثم تمنعنا أن ننشئ هذا الفارق لضرورة الصدق في التعبير
فهناك فارق بين من يحنق من حادث يعرض له وبين من يلازمه الحنق في طباعه وأخلاقه
فإذا قلت عن رجل إنه (حَنِق) وعنيت به أنه دائم الحنق كما تدوم الصفات المشبهة؛ فمن الواجب أن أقول: (هو حانق من كذا)، إذا كان الحنق يفارقه بعد ذلك، ولا يلازمه في طباعه وأخلاقه
وإذا قلت إنه (حنق) وعنيت به ما نعني باسم الفاعل وجب أن نقول شيئاً آخر إذا عنيت أنه متصف بطبع الحنق في عامة أوقاته
وليس في وسع لغة ولا في وسع اللغات جميعاً أن تفرض على كتابها الخطأ واللبس في التعبير، ثم تصدهم عن تصحيح الخطأ وجلاء اللبس بتصرف لا يخرج بهم عن قياسها ولا يخل بأصولها المرعية في أعم ألفاظها
فالنص يجيز الصيغة والقياس يوجبها عند منع النص وهو بحمد الله غير مانع
وإننا لخلقاء أن نغبط أنفسنا على أن اللغة العربية (منطقية) في إجراء القواعد على الأوزان حيث تتشابه المعاني وتتخالف أوزان ألفاظها
فقد يحمل الشيء على غيره في المعنى فيجمع كجمعه. وانظر مثلاً ماذا بلغ من هذه النزعة (المنطقية) في أوزان الجموع وهي التي لا تجري على وزن واحد كصيغة اسم الفاعل؛ فليس في اللغة (هليك) بمعنى هالك ولا جريب بمعنى أجرب أو جربان أو جرب، ولكنهم يقولون هلكي وجربي قياساً على قتلي وجرحي ولدغي، لأنه جميعاً تدل على داء أو بلاء،(545/2)
وهذا هو منطق النحو العربي الذي ينطلق أحياناً مع المعاني ولا يتحجر أبداً مع الحروف
أما (فشل) بمعنى أخفق فلها حكم آخر. فهذه الكلمة من الاستعمال الحديث الذي شاع حتى غطى على معنى الكلمة القديم، مع تقارب المعنيين حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر، لأن التراخي والضعف والخواء قريبة كلها من الحبوط والإخفاق
وتجد المعاني على حسب العصور سنة لا تحيد عنها لغة من اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية
فلو أننا أخذنا ألف كلمة من المعجم وتعقبنا معانيها في العصور المختلفة لما وجدنا خمسين أو ستين منها ثابتة على معنى واحد في جميع العصور
وربما غلب المعنى الجديد وبطل المعنى القديم وهو أصيل في عدة كلمات
خذ مثلاً كلمتي الجديد والقديم، وكيف ظهرا، ثم كيف تحولا إلى الغرض الذي نعنيه الآن.
فالثوب (الجديد) هو الثوب الذي قطع حديثاً من جده فهو جديد أو مجدود، وكانوا يقطعون المنسوجات عند شرائها، كما نقطعها اليوم، فيسمونها جديدة من أجل ذلك
ثم نسيت كلمة الجديد بمعنى المقطوع فلا ينصرف إليها الذهن الآن إلا بتفسير أو تعيين، وأصبحنا نعبر بالجدة عن أمور لا تقطع ولا هي من المحسوسات، فنقول: (المعنى الجديد) والفكر الجديد، وما شابه هذه الأوصاف
وكانوا يقولون تقدم فلان أي مشى بقدمه، ثم ضمنوا تقدمه بمعنى سبقه، فأصبح السابق هو القديم، وأصبح الزمن القديم هو الزمن السابق، كما نفهمه الآن
وقد نسى الناس (كتب البعير) بمعنى قيده، وأطلقوها اليوم على الخط في الورق، وهو في الأصل مستعار من التقييد ونسى الناس (خجل البعير) بمعنى تحير واضطرب، وأصبحوا يستعملونها (للحياء) الذي شبه بالخجل، لأنه يدعو إلى الحيرة والاضطراب
وكل أولئك لا ضير منه على اللغة كما رأينا، بل هو مادة إنشاء وابتكار وتنويع
والأستاذ الفاضل (أبو رية) يأخذ بالشيوع قاصداً أو غير قاصد حين يقول (المعاجم)، وهي جمع معجم بضم الميم، والمعجمات هي الجمع الذي يرتضيه المتزمتون ولا يرتضون غيره
إلا أنني هنا أنكر الإباحية العمياء، كما أنكر التزمت الأعمى
وعندي أنه لا يصح إلا ما أمكن أن ينطوي في قاعدة من القواعد المعروفة، أو أن يؤدي(545/3)
المعنى أداء لا يناقض العقل والقياس
ومن أمثلة ذلك أنني كنت أشهد منذ أيام رواية (قيس ولبنى) للشاعر المجيد عزيز أباظة بك، فأعجبت بسلامة اللغة وصحت العبارة، ولكني لاحظت أنه استعمل كلمة (تضحية) بمعنى فداء أو خسارة، كما نستعملها نحن الآن
والتضحية عند العرب هي ذبح الشاة أو غيرها في وقت الضحى
ثم أخذت معنى الفداء أو القربان، لأن الناس ينحرون ذبائحهم في الضحى يوم عيد النحر الذي عرف من أجل ذلك بعيد الضحية
فإذا كنا نحن المتكلمين - ونعني أبناء العصر الحاضر - فلا ضير من تضمين الكلمة هذا المعنى بعد أن أخذته باستعارة معقولة، وكسبته بالاستعمال المتفق عليه بيننا
ولكننا إذا جعلنا العرب في عصر (قيس ولبنى) يستعيرون هذا المعنى، وهم لم يستعيروه فذلك خطأ في التاريخ وليس بخطأ في اللغة وكفى
والاعتراف (بالتطور) في المعاني والاستعارات لا يقتضي أن نخالف الحقيقة التاريخية
على أنني حين استعملت كلمة فشل لم أكد أخرج بها عما اصطلح عليه الأولون
فقلت: (يحاول الغلبة من حيث فشل)، ولو جعلت فشل هنا بمعنى ضعف لكانت مقابلة للغلبة أحسن مقابلة
وقلت: (ولا طائل في البحث عن علة هذا الخذلان الصريح، أكان هو الطمع في الملك بعد فشل علي، أم النقمة على الأشتر). فلو أنك قلت بعد (ضعف) علي لاستقام هنا التعبيران القديم والحديث
وكذلك قولنا: (مني بالفشل لأنه عمل بغير ما أشار به أصحابه الدهاة)؛ فإن التعبيرين فيه يتلاقيان
كذلك قولنا: (ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل)
فليس المتزمت قديم أن ينكر موقع هذه الكلمة في حيث وضعناها من هذه العبارات كلها، إن كنا مع هذا لا نحرم إطلاقها على معنى الإخفاق الذي لا يحتمل تأويلاً بمعنى آخر؛ وكل ما ننكره أن نأتي بكلمة (فشل) فتطلقها على معنى القوة والنجاح، أو معنى يناقض الضعف(545/4)
والتراخي المقصودين بها قديماً؛ أو أن تأتي بهذه الكلمة فتضعها على لسان علي بن أبي طالب، أو رجل في زمان سابق لزماننا الذي أعارها ما نفهمه منها الآن على الشيوع والتواتر
وليس الخطأ في تجديد المعاني على حسب العصور، لأنه سنة لم تفلت منها كلمة في لغة من اللغات إلا وهي على موعد من تجديد يأتي بعد حين
إنما الخطأ هو إنكار هذه الحقيقة، وهي تصادفنا في كل ما نقرأ ونكتب بالعربية وبغير العربية
ونحن على طريق السلامة ما أبحنا مبصرين وتزمتنا مبصرين، وحينئذ لا نكون إباحيين ولا متزمتين؛ بل نجري على السواء الذي نسلكه مهتدين
عباس محمود العقاد(545/5)
مسابقة الأدب العربي
ديوان علم الدين المحيوي
للدكتور زكي مبارك
غرائب التاريخ الأدبي
إن تاريخ اللغة العربية أعجب من العجب، فقد مر بها عهد قدرت فيه على أن تغزو قلوباً من الجفاء بمكان. ونستطيع أن نحكم بأنه لم يتفق لأية لغة من اللغات الغنية أن تجتذب الغرباء كما اتفق ذلك للغة العربية. وصحة هذا الحكم في غاية من الوضوح والجلاء. فالإنجليز مثلاً سيطروا على كثير من بقاع الأرض، ومع هذا لم يتيسر النبوغ في الأدب الإنجليزي في البيئات الأجنبية لغير آحاد. وكذلك يقال في الأدب الفرنسي، فالنبوغ فيه مقصور على أهله، ولم ينبغ فيه من الأجانب غير أفراد
وقد قلت مرة إن الفرنسيين لا يعترفون بالأدب البلجيكي ولا يعدونه من الأدب الفرنسي إلا بتحفظ، مع أن البلجيك يتكلمون بلغة الفرنسيس منذ أجيال
فما هي الأسباب التي جعلت لغة العرب لغة محبوبة يتسابق إليها الأجانب؟ وكيف أمكن أن تكون الكثرة من أدباء اللغة العربية ترجع إلى أرومات عربية؟
السبب الظاهر هو الإسلام، وهو دين لا يعترف بالعصبية القومية، ولا يقيم لها أي ميزان، فمن حق المسلم في أي أرض أن يقول إنه من ورثة الرسول، ومن حقه أن يتسامى إلى المنازل العالية ما دام يعتصم بمبادئ الدين الحنيف
ولكني أعتقد أن هذا السبب الظاهر تؤيده أسباب خفية موصولة بروح اللغة العربية، فهي لغة خلقت للحياة ولم تخلق للموت، بدليل أنها لم تنهزم بانهزام الإمبراطورية الإسلامية، وهي إمبراطورية لم تسيطر على العالم سيطرة حقيقية أكثر من قرنين اثنين، فلو كانت اللغة العربية لم تعش إلا بحراسة الإمبراطورية لوجب أن تزول، ولكنها لم تزل، ولن تزول
للغة العربية خصائص ذاتية تستحق الدرس، فمتى ندرس تلك الخصائص؟ ومتى نعرف بالبراهين القواطع كيف استطاعت الانتصار على الموت، مع أنها تعرضت ألوف المرات(545/6)
للموت؟
هذه قضية تستحق الدرس، فمتى تدرس؟ ومتى تفهم أن هنالك أسراراً لحيوية اللغة العربية غير الأسرار التي تحدث عنها الأسلاف؟
فخر الترك
أكتب هذا بعد ساعات قضيتها مع فخر الترك، وهو علم الدين أيدمر المحيوي، أحد شعراء مصر في القرن السابع، وهو تركي الأصل بإجماع من تحدثوا عن شعره البليغ، وهم الذين سموه (فخر الترك) لأنه في نظرهم أشعر من عرفوا من الأتراك في ذلك الزمان
وقد سكت التاريخ الأدبي عن هذا الشاعر فلم يذكره إلا في مناسبات قليلة جداً، ولولا عناية (دار الكتب المصرية) بطبع المختار من شعره لظل من المجاهيل
وهل التفت أحد إلى هذا الشاعر بعد أن نشرت مختارات أشعاره في سنة 1931؟
الذنب يقع على رأس دار الكتب المصرية، فقد غلت في ثمن تلك المختارات فجعلته ثلاثة قروش، وبثلاثة قروش نشتري علبة سجائر، وهي أنفع من أي ديوان!
مؤلف مجهول
تعب الأستاذ أحمد نسيم رحمه الله في البحث عن ترجمة وافية لعلم الدين المحيوي، ثم انتهى إلى أنه شاعر نبغ في منتصف القرن السابع، وقرر أن ديوانه ضاع، ولم يبق غير مختارات دونها أحد الأدباء المجهولين
وأقول إن في هذه المختارات قطعة تشهد بأن المحيوي كان شغل نفسه بالتأليف، على نحو ما كان يؤلف عشاق الأدب في العصور الخوالي، فأين الكتاب الذي ألفه هذا الشاعر البليغ؟
لم يقل أحد إن المحيوي كان مؤلفاً، ولم يلتفت قارئو ديوانه إلى أنه كان من المؤلفين، وأنا قد التفت إلى هذه الناحية عن غير قصد، حين رأيته يقول في إهداء مجموع له إلى الصاحب محيي الدين محمد بن سعيد:
العبد أيدَُمرُّ تْطلَّب تُحفةً ... تُكسَى القبول لسيد الأصحاب
فرأى أجل هدية تُهدَى له ... ذَوْبَ النُّهى ونتائج الألباب
فأجال في روض القرائح فكره ... ثم انتقى منه لُباب لباب(545/7)
من طيب نادرة ولطف فكاهة ... وبديع بادرة وحسن خطاب
وسوائر الأمثال قد وشّحتها ... فيه بمعجز سنّةٍ وكتاب
ثم مضى فذكر أن كتابه جمع بين الجد والهزل، وجمع نوادر الحكماء والبلغاء الخطباء الشعراء والكتاب، جمع بين رقة الحضر وجزالة الأعراب. فأين ذلك الكتاب؟
نرجو البحث عن هذا الكنز الدفين
طيف البحتري
عن هذا التركي المستعرب أطياف بخترية، فله قصيدة تضاف إلى ديوان البحتري بدون عناء، لو كان البحتري زار الروضة ورأى المقياس، مقياس النيل
هي قصيدة قافية تقع على نحو مئة بيت، وهي من الشعر الجزل الرصين، وفيها لفتات في غاية من الجمال
الروضة والمقياس
نحن اليوم لا ندرك معنى شعرياً لهاتين الكلمتين، بسبب طغيان القاهرة على الفسطاط، وهل نعرف اليوم أين الفسطاط؟
لقد قضى شعراء مصر مئات من السنين وهم يتحدثون عن الروضة والمقياس، بفضل ما صنعت هاتان البقعتان في إذكاء العواطف، وإيقاد القلوب
كان الحديث عن الروضة والمقياس سنة شعرية. وأنا رحمت البارودي في دراسات السنة الماضية فلم أقل إنه تحدث عن غرامياته بالروضة والمقياس حديثاً هو المحاكاة لما قرأ من قصائد الشعراء القدماء
وأين القاهري الذي يسأل عن الروضة والمقياس، بعد أن انتهت حروب العيون والقلوب حول الروضة والمقياس؟
هل كانت للبارودي غراميات في هاتين البقعتين؟
أنا استبعد ذلك، وأرجح أنه بكى واستبكى فوق أطلال الذكريات الموهومة لقدماء الشعراء
يوم التخليق
كان للمصريين يوم كل عام يسمونه يوم التخليق، والتخليق وضع الخلوق على عمود(545/8)
المقياس، والخلوق هو أنواع من الطيب أشهرها الزعفران
وكان ملوك مصر في العهد الإسلامي يحرصون على أن تكون لهم آثار باقية بجانب الروضة والمقياس، وقد اهتم الملك الصالح نجم الدين أيوب فأقام الأبنية الشامخة في الروضة (وكانت تسمى جزيرة مصر) وجدد البرج القائم على المقياس، وانتهز فرصة الفراغ من هذه الأبنية ليحتفل بها في يوم التخليق
فأين الشاعر الذي يسجل مجد ذلك اليوم المجيد؟
قصيدة وقصائد
من المؤكد أن ذلك اليوم لم تنشد فيه قصيدة واحدة، وإنما أنشدت فيه قصائد، فقد كانت مصر تموج بأفواج من الشعراء
وهذا الحديث لا يتسع لأخبار ذلك المهرجان، فلنكتفي بقصيدة التركي المستعرب، أو العربي المستترك، فما نظن أن له تاريخاً عند الأتراك
هذا الشاعر عربي اللغة، وإن كان تركي العرق، وقد وصف بالعتيق، فهل كان مملوكاً لأحد الأمراء؟
إن تعقبنا هذه القضية فسنزعج التاريخ في مرقده، وسنثير حوله مضجرات لا تطاق
المهم أن نسجل أن الشاعر كان معروفاً بالجمال والظرف، وأنه قهر أحد الوافدين من حلب على أن يقول فيه هذه الأبيات:
وكنت أظن الترك تختص أعين ... لهم إن رنت بالسحر فيها وأجفان
إلى أن أتاني من بديع قريضهم ... قواف هي السحر الحلال وديوان
فأيقنت أن السحر أجمعه لهم ... يقر لهم هاروت فيه وسحبان
وعيون الأتراك لها في الشعر المصري مكان دل عليه ابن النبيه حين قال:
يصدّ بطرفه التركيّ عني ... صدقتم إن ضيق العين بُخلُ
والذين رأوا المحيوي لم يفتهم النص على أنه كان فتى خفيف الظل، ولطيف الروح، ويكفي أنه عاش في عصر البهاء زهير، فتحت يدي نص صريح بأن البهاء كان نهاية النهايات في دمامة الوجه وقبح الخلقة، واضطراب الملامح، ومعنى هذا أن البهاء ستر دمامته بحلاوة اللسان، كما صنع الجاحظ في قديم الزمان!(545/9)
القصيدة اليتيمة
هي قافية المحيوي في تهنئة الملك الصالح بالأبنية التي أقامها في جزيرة الروضة، والبرج الذي جدده حول المقياس. ويحسن أن نذكر قراءنا بأن الملك الصالح بقيت له ذكرى هناك، فأول جسر على النيل في مشارف الفسطاط اسمه (كوبري الملك الصالح) فليترحم عليه من يمر فوق ذلك الجسر في الصباح أو في المساء، وليتذكر كل عابر أن تلك البقعة كانت ملاعب صبابة ومدارج فتون، بأقوى وأعنف مما كانت حومل والدخول
بدأ الشاعر قصيدته بوصف أيام الربيع وصفاً لو ترجم إلى لغة من لغات الغرب لاعترف الغرب بأن وطن الشعر هو الشرق، ولننظر كيف يقول علم الدين:
الروض مقتبِل الشبيبة مونقُ ... خَضِلٌ يكاد غضارة يتدفقُ
نثر الندى فيه لآلئ عِقدهِ ... فالزهر منه متوج ومنطَّق
وارتاع من مرِّ النسيم به ضحَي ... فغدت كمائم زهره تتفتق
وسرى شعاع الشمس فيه فالتقى ... منها ومنه سنا شموس تُشرق
والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يصبح بالنعيم ويُغبق
والطير ينطق معربا عن شجوه ... فيكاد يُفهم عنه ذاك المنطق
غِرداً يغني للغصون فتنثني ... طرباً جيوب الظل منه تشقق
والنهر لما راح وهو مسلسل ... لا يستطيع الرقص ظل يصفق
فتملَّ أيام الربيع فإنها ... ريحانة الزمن التي تستنشق
إن الصياغة جيدة إلى أبعد حدود الجودة، بحيث يظن أنها لشاعر من صميم العرب لا من الترك، والمعاني مألوفة، فقد طاف حولها كثير من الشعراء، ولكنها مبتكرة مبتدعة، لأن إحساس الشاعر بها غاية في التوقد، فهو لا ينقل ما قرأ، وإنما يصور ما أحس. وهنا سر الابتكار والابتداع، وهل يمكن الامتراء في أصالة هذا البيت:
والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يُصبح بالنعيم ويُغبق
(والنعيم) هنا هو الخمر، وهي كلمة قليلة الورود في الخمريات، ولكنها لا تعظم على من ينافس أبا نواس فيقول في هذا القصيد:
وسلافة باكرتها في فتية ... من مثلها خلق لهم وتخلق(545/10)
قد عُتِّقتْ حتى تناهت جدَّةً ... وكذاك يصفو التبر حين يحرق
شربت كثافتها الدهور فما تُرى ... في الكأس إلا جذوة تتألق
يسعى بها ساق يهيج به الهوى ... ويُرى سبيل العشق من لا يعشق
تتنادم الألحاظ منه على سنا ... خد تكاد العين فيه تغرق
راق العيون غضارة ونضارة ... فهو الجديد ورق فهو معتَّق
ودنا كما لمع الحسام المنتضى ... ومشى كما اهتز القضيب المورق
لا غرو أن ثملت معاطفه فما ... ينفك في فيه الرحيق يصفق
وأظله من فرعه وجبينه ... ليل تألق فيه صبح مشرق
وكأن مقلته تردِّد لفظة ... لتقولها لكنها لا تنطق
فإذا العيون تجمعت في وجهه ... فاعلم بأن قلوبها تتفرق
وهذا والله من نفيس الكلام، كما يعبر محمد بن داود في كتاب الزهرة، على روحه اللطيف ألف تحية وألف سلام!
كان أبو نواس يشتري المعاني من الشعراء، يشتريها بالدنانير، ويهدد باغتصابها إن رفض البائع، وكانت حجته أنه الباقي وأن من يساومهم إلى فناء
فما الذي كان يصنع أبو نواس لو عاصر المحيوي وقرأ هذه الأبيات في وصف الخمر والتغزل في الساقي؟
كان يقدم أيامه لا دنانيره ليضيف هذه الأبيات إلى أشعاره في الخمريات
هذه أبيات نفيسة جداً، والشرح يفسدها، فنتركها بلا شرح، فهي كمقلة ذلك الساقي، تردد لفظه ولكنها لا تنطق!
ثم ماذا؟ ثم ينطلق الشاعر في مدح الملك الصالح بأسلوب يشتهيه البحتري المتفرد بإجادة المدائح فيقول:
إيهٍ مديحي لا خُطاك قصيرة ... يوم الرهان ولا مجالك ضيق
هذا مقام الُمْلك حيث تقول ما ... تهوى وتطنب كيف شئت فتصدق
في حيث لا شرف الصفات بمعوز ... فيه ولا باب المدائح مغلق
هذا شاعر كان له ملك يتذوق الشعر فأبدع في الغناء، وطاب له أن يقول:(545/11)
فالله نحمد ثم (أيوب) الذي ... أمن الغنيُّ به وأثرى المملق
والشطر الثاني من هذا البيت يصور المجتمع المصري في ذلك الزمان، فقد كانت الغاية أن يأمن الغني سطوات الناهبين، وأن يصل المملق إلى الإثراء
في وصف الأبنية يقول المحيوي:
شيدت أبنية تركت حديثها ... مثلاً يغرِّب ذكره ويشرق
من كل شاهقة تظل تعجباً ... من هول مطلعها الكواكب تشهق
لبس الرخام ملوناً فكأنه ... روض يفوّقه الربيع المغدِق
وَاختال في الذهب الأصيل سقوفه ... فكأنه شفق الأصيل المشرق
يا حسنها والنيل مكتنف بها ... كالسطر مشتملاً عليه المهرق
فكأنها طرف إليه ناظر ... وكأنها جفن عليه محدق
وافاه مصطفقاً عليه موجه ... فكأنما هو للسرور مصفق
وتّجاذبت أيدي الرياح رداءه ... عنه فظل رداؤه يتمزق
وسرى النسيم وراءهن برفقه ... فرفا الذي غدت الرياح تخرق
تلك المنازل، لاَ حديث يفترى ... مما سمعت ولا العراق وِجلّق
ويوم المقياس عند الشاعر هو ثالث العيدين ولكنه عيد لا يذهب الناس فيه إلى المساجد، وإنما يذهبون إلى ملاعب الصبوات
يومٌ تجلَّى الدهر فيه بزينةٍ ... لما غدا المقياس وهو مخلَّق
هو ثالث العيدين إلا أنه ... للهو ليس على العبادةُ يطلَق
جُمعتْ لمشهده خلائقُ غادرت ... فيه رحيب البَرّ وهو مضيّق
وعلى عُباب البحر من سُبّاحهِ ... أممٌ يغضّ بها الفضاء ويَشرقَ
كادت تَبين لهم على صفحاتهِ ... طرق ولكن يفتقون ويرتق
خفت جسومهم لفرط صبابة ... هزت إليك فما خشوا أن يغرقوا
متجردين عن المخيط لأنهم ... حجاج بيتك غير أن لم يحلقوا
طافوا به سبعاً على وجناتهم ... سعياً وأرخا ستره فتعلقوا
ومن هذه الأبيات نعرف أن الاحتفال بوفاء النيل كان يشترك فيه السباحون من فتيان(545/12)
القاهرة وفتيان الفسطاط، ونعرف أن (ثوب البحر) لم يكن معروفاً في تلك العهود، فقد حدثنا الشاعر أن السباحين كانوا يتجردون على المخيط، ومنها أيضاً نعرف أن العاب السباحة في ذلك الوقت لم تكن مقصورة على الفتيان المرد، فقد كان يشترك فيها الكهول، بدليل قوله إنهم لم يكونوا يحلقون، والحلق هنا لا يراد به شعر الرأس وحده، وإنما يشمل حلق الذقون، وكان حلق الذقن مما يعيب الرجال في ذلك الزمان
أما بعد فقد ضاق المجال عن تشريح هذه (القصيدة اليتيمة) فلينظر فيها المتسابقون بتحقق وتدقيق، لأني أرجح أن يسألوا عنها في الامتحان، لأنها أعظم أثر خلفه هذا الشاعر البليغ
ولكن مفهوماً عند المتسابقين أن اللجنة لن تسألهم إلا عن المسائل الأساسية، فمن البعيد أن لا يرد سؤال عن هذا القصيد لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا
زكي مبارك.(545/13)
صور من توفيق الحكيم
كتابه (زهرة العمر)
للأستاذ دريني خشبة
لو لم ألق توفيق الحكيم، ولو لم أقرأ كتابه (زهرة العمر) لظلت صورته التي صورتها له في خيالي هي هي لا تتغير. . . وهل يصدق القارئ أنني كنت أتصوره في هيئة سيدي العارف بالله السيد أحمد البدوي، مع أنني لم أر هذا العارف بالله إلا في صور تلاميذه وأتباعه ومريديه!
لا يتوهمن القارئ أنني كنت أخال أن لتوفيق الحكيم ذقناً ركبت فيه لحية مستطيلة على هيئة لحي أولئك المريدين الذين أحبهم وأعجب بهم. . . كلا. . . لقد كنت أتصوره بغير لحية، أو بلحية رباها في فوديه، تنبت بالدهن من رأسه الكبير!
ولقد ثبتت تلك الصورة التي تصورتها لتوفيق الحكيم في ذهني. . . ثم رسخت وزادت رسوخاً عندما قرأت له (عصفور من الشرق) لسبب واحد. ذلك أنه أهدى هذا الكتاب إلى
الست الطاهرة. . . السيدة زينب!!
لقد أكد هذا الإهداء العجيب صورة توفيق الحكيم في ذهني، ولولا ما أعرفه من تاريخ سيدي العارف بالله السيد احمد البدوي من أنه كان نظيفاً حسن السمت، لزدت في صورة توفيق الحكيم أشياء وأشياء. . . ولا داعي لذكر شيء منها، اللهم إلا (الشمروخ) الهائل، والعمامة الكبيرة الخضراء، والسبحة التي تزن كل حبة من حباتها رطلاً أو. . . أقة. . . ثم هذه (الفراجية) الكبيرة الفضفاضة!
ليتني إذن ما لقيت الأستاذ وما رأيته! وليتني ما قرأت زهرة العمر! ليتني ما رأيت الأستاذ الحكيم. لأن هذه الرؤية نسخت نصف الصورة التي تصورتها له، وليتني ما قرأت (زهرة العمر)، لأن هذه القراءة نسخت النصف الآخر لهذه الصورة التي كنت أحبها وآلفها، وأكبر توفيق الحكيم من أجلها. . . إن كل ما بقي من تلك الثورة هو هذا التثني الذي يجيده مريدو ولي الله البدوي وقت الذكر، أما (زهرة العمر) فإليك كيف مسخ الصورة الفقيدة الغالية الخالدة مسخاً:
(. . . لقد دخلت عليه الخادم في الصباح تحمل صينية الفطور، فوقع بصرها عليه في(545/14)
السرير، لا يبدو منه إلا رأس يطل من اللحاف الناصع كأنه رأس يوحنا المعمدان على صينية الفضة، ولكن. . . حاشا الله أن يكون هذا معمدانا! صاحب هذا الرأس لا يمكن أن يكون من الآدميين! ذلك ولا ريب ما جال بخاطر الخادم، وهي تنظر إلى شعري الذي هب قائماً إلى ما فوق مسند السرير في شكل دائرة، كأنه هالة من (الهباب) الأسود على حافة الوسادة البيضاء. . . ثم ذهبت الخادمة تقول لسيدتها مرتاعة: (أتدرين يا سيدتي ما حل بدارنا؟) فسألتها: من؟. فأجابت! ' إنه الشيطان!)
ويقول توفيق الحكيم بعد هذا: ولعلها صدقت! ولست أدري ما ذكرني الساعة بهذه الحادثة كدت أنساها. ولم يذكرني بها حتى خطابك الممتع الذي حدثتني فيه عن ذلك القسيس الذي ظن (توفيق الحكيم بملابسه السوداء) الشيطان أو المسيح الدجال!. . . ومن يدري؟ لعلي أخذت عن إبليس صورته وهيئته! لكن. . . هل تظن أن لي أيضاً قلبه؟ لا أظن. وبعد. فلتسكت الطبول، وليغسل (البلياتشو) وجه، فقد انتهى الفصل المضحك
فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك! نتصور الأستاذ الحكيم في صورة الأولياء والصالحين، وفي مسوح القديسين. . . ويصور هو نفسه في صورة الشيطان الذي له شعر فوق مفرقه كهالة من الهباب الأسود!
لقد أوشك أن يتفق معنا في صورة يوحنا المعمدان لأنه من القديسين والشهداء، كما تصورنا. . . أما الشيطان. . . فلا! وأما قلب الشيطان فمسألة فيها نظر، ونقول. . . مسألة فيها نظر للصورة الثانية التالية:
لقد كنا نؤمن بأن مؤلف أهل الكهف، ومحمد، وسليمان الحكيم، هو من خلق الله، أي من صنعه! ولكن. ليتنا ما قرأنا زهرة العمر! فتوفيق الحكيم يقول في كتابه هذا (. . . إن الله لم يخلقني! إنما هو الشيطان أراد أن يخلق طرازاً جديداً من الآدميين. أو (موديل!) من الإنسان، يضارب به الطراز الشائع المعروف، فجاء خلقه عجيب البناء غريب التركيب، به أثر من عبقرية الشيطان، ولكن به نقصاً ينم عن تخبط في شؤون الخلق والإبداع، ومع ذلك، حتى على فرض أن الله هو الذي خلقني لا الشيطان، فإنه كان لسوء حظي يضجر ويتبرم كلما جاءه جبريل بلوحي المحفوظ ليعين فيه خطوات حياتي. فقد كان يصرخ في وجه الملاك الأمين قائلاً: (اذهب عني الآن!) فيقول جبريل خاشعاً: (لكن يا إله السموات(545/15)
والأرض، المدعو توفيق الحكيم ولد وشب ونما وكاد يدنو من الثلاثين، وهو لم يزل يدب على الأرض ويعيش فيها بالمصادفة. وكلما جئت إليك بلوحه لأجل التعيين. . .) فيسمع كأن الصوت العلوي يصيح به: (قلت لك اذهب عني الآن ولا تشغلني بهذا المخلوق!)
ولا شك في أن الذي خلق جسم توفيق الحكيم ورأسه، هو الذي خلق قلبه، ولا شك في أن الشيطان كان يأوي إلى هذا القلب حينما أملي على توفيق الحكيم هذا التجديف! والعجيب أن ينسى الحكيم هذا اللغو فيقول عن نفسه (ص 248) إنه ملاك من ملائكة السماء! ثم يدعي (ص 255): (أن شخصي غير مفهوم الآن حتى لنفسي! على أني أعتقد أني خلقت للخير لا للشر، وإذا نفذ إلي الشر فمنكم أنتم يا أصدقائي ومعارفي!) هكذا يدعي بعد الذي وصم به خلقه أنه خلق للخير لا للشر!) ثم يختم كتابه هذا الجميل الذي تمنيت أني لم أقرأه، بتلك الوثنية: (إني أومن بأبولون. . . أومن بأبولون إله الفن الذي عفرت جبيني أعواماً في تراب هيكله. إنه ليعلم كم جاهدت من أجله وكم كافحت وناضلت وكددت. . .)
ثم اللهم لا حول ولا قوة إلا بك مرة ثانية وثالثة وألفاً وألفين حتى تغفر لعبدك وابن عبدك توفيق الحكيم! أحقاً إن صاحب هذا التجديف هو ذلك الرجل الذي كنت في سذاجتي القديمة أتصوره في صورة سيدي العارف بالله السيد أحمد البدوي، أو على الأقل في صورة يوحنا المعمدان كما صور هو نفسه؟
لا. لا. . . لا تثوروا أيها المؤمنون فأنا والله محاميه ولست جلاده! لقد قال المتهم هذا الكلام وهو في ظروف تضايق حقاً. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما معناه: أن الزاني لا يزني وهو مؤمن، وأن السارق لا يسرق وهو مؤمن. وكذلك إن توفيق الحكيم لم يقل هذا الكلام وهو مؤمن. وذلك هو السبب في بعض التناقض الذي كان يقع فيه وهو يقذف بخطاباته الكثيرة هذه على رأس (أندريه) صديقه الباريسي المسكين. ومن هذا التناقض أن يقرر أنه شيطان. ثم (يماحك!) فيقول إنه ملاك. ومنه أيضاً أن الإنسانية لم تخسر شيئاً إذا تمكن العلم الحديث من بتر الحب واستصاله. مع أنه يعود فيدعي أنه يحب الحب، وأن للحب عنده مقاماً كبيراً في الحياة. في كل حياة؛ ومن تناقضه أيضاً وقوعه في هوى (إيما) لا لشيء إلا لأنها عرفت كيف تعذبه بالتيه والدل والبعد وكل ما في معجم الهجران من هوان. ثم دلاله هو على ساشا الجميلة الجذابة التي اعترف بأنها أجمل من(545/16)
إيما وأكثر جاذبية، وذلك لأنها كانت مفتقرة إلى بره والى قليل من دريهماته، ثم إلى مقاسمته سريره وكتبه. . . ومن تناقضه أيضاً عداوته للمرأة (قبل المعاهدة التي أبرمناها معه بهذا الصدد) بسبب حبه لإيما. إيما الهيفاء التي كنت أحس لسع حبها ولفحه. بل اضطرامه يتأجج به فؤاده في ثنايا سطور (زهرة العمر)، وهو لا يزال يتلظى بناره حتى هذه الساعة. . . إيما - وكم في الدنيا من إيما التي تملك وحدها كما قلت له ذلك أمام قاضينا الزيات - أن ترده إلى الجنة التي طردته منها في ساعة من ساعات الجنون
آه يا ساشا المسكينة لو عرفت سر توفيق الحكيم! إنه عند ما رآك أول مرة نسى إيما ونسي ببغاءها ونسي باريس كلها، وطلب سكيناً لينتحر تحت قدميك الجميلتين الصغيرتين، ولكنك حينما جئت إليه وفي عينيك لمحة من أسى، وبلة من بكاء. عند ذلك انخفضت قيمتك في عينيه، وهبط ثمنك في سوق غرامه. آه يا ساشا المسكينة لو عرفت سر توفيق الحكيم، وعرفت تناقضه في الحب، وفي الفن، وفي الله، وفي الشيطان!
لقد عرفت إيما هذا السر فعبثت بصاحبك، وصاحبها، زمناً ليس بالطويل وليس بالقصير، فلما عرف سرها طارت عنه وتركته يناصبها العداء، ويناصب كل امرأة من أجلها العداء. ثم يحتج في تناقضه مع الدنيا نفسها ومع إخوانه البشر. بهذا المودرنزم، وذلك حين يدعي، برغم الحب الذي ينشب أظفاره في نياط قلبه، أنه لا يريد أن يعصي الله من أجل التفاحة التي هي الحب، والتي خيل إليه أنه لم يذق حلوها قط! فهل صدقت يا ساشا وهل صدقتم أيها المؤمنون أن توفيق الحكيم، رجل يقع أحياناً في التناقض الشديد الذي يجعل مؤمناً مرة، ويجعله كافراً مرات، ثم يجعله مغرماً طوراً، ويجعله رجلاً لم يقع في شراك الهوى قط! اسمعي يا ساشا واسمعوا أيها المؤمنون هذا الرجل المولع بالمودرنزم يقول: (إني لم أزل أحب إيما لأنها شيء بعيد، غير موجود في كل وقت. . . يرتفع إلي غناءها من نافذتها كأنه شعاع يأتيني من بعيد. إنها أعطتني بعض أسرار نفسها وجسمها. ولكنها مع ذلك ليست في يدي، شأنها شأن الطبيعة التي تعطينا وتستعصي علينا. إن الحب قصة لا يجب أن تنتهي. قصة إيما مستمرة لا تريد أن تنتهي. . . لو أن إيما قبلت أن تترك حجرتها كما عرضت عليها وتأتي لتقطن معي في حجرتي لكان حظها عندي حظ ساشا. هنا الفرق بين الغرام والزوجية!(545/17)
فتوفيق الحكيم لا يحب إلا المرأة التي تمزق قلبه بالهجر، وتؤرق جفنه بالسهد، وتذوي شبابه الفينان بحرق الغيرة ونيران الشك. . . لماذا لا يتزوج توفيق الحكيم؟ إليك جوابه بقلمه! (. . . إني أدرك لماذا يفتر الحب الملتهب بين الخليلين إذا تزوجا وقد يعود إلى سبق اشتعاله إذا عادا خليلين). . . (أندريه، أندريه، أخشى أن يحطمني المجتمع. . . يحطم الفنان في. . . ربما كان قد حطمني وكسرني. . . ولكني أقاوم. . . منذ أسابيع وأنا أتلقى من أهلي خطابات يغرروني فيها بالزواج. . . ويذكرون لي أسماء لامعة في الثروة والجاه. . . ويتهمونني بالحمق والغفلة والعته إذا خامرتني فكرة الرفض. . . لقد قلت لهم (لا) بأعلى صوتي، وهم مشدهون لا يعرفون السبب)
إنه يقول إنه لن يتزوج لأنه فنان. فهل جميع الفنانين غير متزوجين؟! كلا. . . ولكنه التناقض. التناقض والمودرنزم! هنا عيب توفيق الحكيم يا ساشا! عيبه الذي هيأ له أنه من صنع الشيطان لا من صنع الله، وعيبه الذي يجعله يجفل عن فكرة معصية الله من أجل التفاحة، ومن أجل هذه التفاحة نفسها يعصي الله
أيها المؤمنون لا تغضبوا! وفيم الغضب وهذه طبيعة الفنان! وفيم الغضب ونحن لا نؤمن بما كان يؤمن به اليونانيون القدماء. نحن لا نؤمن بربات الانتقام، أو ال. . ولذلك فلن يخشى توفيق الحكيم كيدهن، وحتى لو أنهن لاحقنه لأنقذه أبوللو منهن كما أنقذ (أورست) منذ ثلاثة آلاف سنة!! أليس أبوللو هو إله الفنون الذي يزعم توفيق الحكيم أنه يؤمن به، وطالما عفر جبينه بتراب هيكله؟
لا تصدقوا أن هذه هي عقيدة توفيق الحكيم، فهو رجل متناقض، لأنه رجل مؤمن. ألم يؤلف (أهل الكهف) وقد أخذ موضوعها من القرآن؟ ألم يكتب كتاباً طويلاً عن محمد؟ ألم يكتب قصة عجيبة عن سليمان أخذها من الكتب المقدسة! إن كنتم في ريب من هذا، فذاكم كتابه (زهرة العمر) الذي يفيض بالدفاع عن الأدب العربي، وعن ألف ليلة وكليلة ودمنة والجاحظ والإسلام. . . لا تراعوا إذا وجدتموه ينتقل فجأة من الكلام عن إعجابه بقصص القرآن إلى الكلام عن بنات الهوى في باريس، فكتبنا العربية قد سبقت إلى هذا الشيء من عدم مراعاة النظير، ففي العقد الفريد يأتي فصل عن المجون المكشوف وأخبار القيان بعد الفصل الذي فيه خطبة الرسول في حجة الوداع. . . وأمثال ذلك كثيرة فلا ضير على(545/18)
توفيق الحكيم أن يقع فيه مرة في حياته. . .
أيتها العزيزة ساشا:
لقد ابتدع توفيق الحكيم لوناً جديداً في الأدب المصري هو من فنه الخالص. . . هو من عصارة قلبه النابض، هو مزيج من الموسيقى والألوان وعبير الحدائق، وفي هذا المزيج كثير من دموعك، بل من دمك، ولكن فيه أيضاً الكثير من دموعه هو أيضاً ومن دمه
إن توفيق الحكيم هو أحد أولئك الذين يخلقون لنا مصر الحديثة. . . أدب مصر الحديثة، وذوق مصر الحديثة، وروح مصر الحديثة، وفن مصر الحديثة، وكلما تفتقر إليه مصر الحديثة من لغة وفلسفة وشعر وسمعة!
إنه تلك الابتسامة الحلوة التي رفت فجأة على شفاهنا حينما كنا نفتقد المجددين ذوي المواهب فلا نجد منهم ثلاثة أو أربعة!
إن روح توفيق الحكيم تتلألأ في كل سطر من سطوره (زهرة العمر) في خطوط الفنان القوية أحياناً وفي مسوح الراهب المتأمل أحياناً أخرى. . . وقد تظهر في ألف صورة من صور الأحياء الممتارين خصوصاً في صورة (البليادشو!) من غير حاجة إلى الدقيق على الوجه أو الطرطور على الرأس. . . لأن توفيق الحكيم يستطيع أن يضحك إلى حد الإغراب بدون هذه الوسائل الشكلية. . . إنه مضحك موضوعي ممتاز. . . ولو أنه عني بالتأليف للمسرح على النحو الذي يعرفه المسرحيون لأشرنا عليه أن ينقطع للملهاة. . . إنه إذا فعل يتيح للمسرح المصري فرصة مواتية ومركزاً عالياً ومكانة عالمية لا تعد لها مكانة. . . على أنه مع ذاك أقدر من يستطيع أن يؤلف المأساة في مصر. . . لأن الضحك الذي يصنعه توفيق الحكيم مصدره البكاء. . .
وبعد، فقد ذكرت أنني كنت أصوره في نفسي على صورة العارف بالله السيد أحمد البدوي، أفتدري يا سيدي القارئ أن سيدي المرسي أبا العباس قد صدر توفيق الحكيم إلى طنطا. إلى البدوي العظيم. . . وأن البدوي العظيم قد صدره بدوره إلى سيدي إبراهيم الدسوقي!! فما معنى هذا في تاريخ حياة أديبنا الألمعي! وما الصلة الروحية بيني وبين أقطاب الأولياء في مصر؟ وما الصلة بين هذا كله وبين إهداءه عصفور من الشر إلى (الست الطاهرة. . . السيدة زينب؟!)(545/19)
كل من رأى توفيق الحكيم ولو مرة واحدة. . . يفهم سر ذلك!
دريني خشبة(545/20)
4 - جامع أحمد ابن طولون
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر في سوريا ولبنان
ولا أجد حرجاً من إيراد نص اللوحة التذكارية التي كتبت بالخط الكوفي المزهر لذلك العهد وفيها:
(نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه معد أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، أمر بتجديد هذا الباب، وما يليه عند عدوان النار على أيدي المارقين، السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الأنام أبو النجم بدر المستنصري، أدام الله قدرته، وأعلى كلمته، ابتغاء ثواب الله، وصلب مرضاته وذلك في صفر سنة سبعين وأربعمائة)
وتدل تلك الكتابة على حوادث الثورة، التي جرت في عهد المستنصر حينما اعتصم بعض الثوار بالجامع وتحصنوا فيه، فحوصروا وأحرق بسبب ذلك جزء منه جدده الأمير بدر الجمالي وزير الدولة الفاطمية
في تاريخ مصر العربية، وقفات حزن وأسى ولوعة، اضطرب فيها قلب مصر كما قال أحد كتابنا في دفن الزعيم مصطفى كامل، ولقد قال شوقي يومئذ:
شقت لمنظرك الجيوب عقائل ... وبكتك بالدمع الهتون غواني
ولقد وقفت القاهرة صفاً صفاً، تودع الزعيم الشاب إلى مرقده الأخير، وأثر في هذا المنظر، أنا القاهري الناشئ، فصرت وطنياً وأنا في السابعة إلى نهاية ما يكون الوطني عليه في الحماس
وأثر في كرجل يميل إلى التاريخ والأدب، فصرت أتتبع أيام مصر التي اضطرب فيه قلبها، اضطراب يوم مصطفى كامل
وإني لأذكر بعد البحث، أن صفحات تاريخنا مملوءة، بمثل هذا اليوم، ولكني لا أجد حزناً ولوعة بنسبة حزن مصر وأهلها على زوال ملك الفاطميين
أن ما وصل إلينا من ذلك قليل من كثير، ولكنه يفيض حناناً. والحقيقة أن العصر الفاطمي قد ترك فينا معاشر المصريين أكبر الأثر، وصبغ حياتنا صبغة خاصة، فإذا أردت أن(545/21)
تدرس مصر العربية، لا تنسى أن تدرس الدولة الفاطمية بالتفصيل، فنحن لا نزال نسير على سنتهم ومراسمهم؛ فزيارة آل البيت فرض على كل من يؤم القاهرة من أهل الريف، والاحتفال بصلاة الجمعة اليتيمة والعيدين، والاهتمام بالقراء والتلاوة والتلقين كلها من آثار ذلك العهد
ومنذ أيام كنت أقلب كتاب الروضتين فجاء ذكر الشاعر عمارة اليمني بأنه من أتباع الدولة المصرية وأورد له شعراً رقيقاً يفيض حنواً على الإمام العاضد آخر خلفائهم إذ يقول:
أسفي على زمن الإمام العاضد ... أسف العقيم على فراق الواحد
لهفي على حجرات قصرك إذ خلت ... يا بن النبي من ازدحام الوافد
ولقد دفع عمارة الشاعر الثمن بحياته جزاء إخلاصه، وبشعره تطوى صفحة من تاريخ مصر، تصحبها نغمة من نغمات الحزن العميق والتقدير، لندخل طوراً من أطوار المجد والبطولة تغمره الحوادث والمعارك والنصر والغلبة
أنتقل إلى القسم الأخير من هذه الكلمة، فأعرض لوصف المسجد وصفاً مختصراً:
الجامع الطولوني هو الثالث في ترتيب المساجد الجامعة التي أقيمت فيها صلاة الجمعة في مصر، بعد الفتح التحريري العربي، بناه الأمير أحمد بن طولون على جبل يشكر في الجهة الجنوبية من القاهرة، بينها وبين الفسطاط، في حي السيدة زينب الآن، وهو أقدم مساجد مصر بلا نزاع، بل أقدم آثارها العربية، بعد مقياس النيل بجزيرة الروضة، وأول جوامع مصر هو الذي بناه عمرو بن العاص، ثم جامع العسكر. فلما قدم ابن طولون صار يصلي فيه الجمعة بجنده وسودانه، فشكا أهل مصر إليه، فعزم على بناء جامع، فأشار عليه جماعة من الصالحين أن يبنيه على جبل يشكر، وذكروا له فضائله فأخذ برأيهم.
ذكر ابن دفملق والمقريزي عن هذا المسجد من أن بناءه أقيم على مثال جامع سامرا أو سر من رأى
ولقد ذكر الأستاذ كريزول ما يأتي:
إنه على عهد بني أمية كانت الدولة عربية خالصة، وكان يغلب على العمارة التأثير السوري واستعمال الفسيفساء
ثم انتقلت عاصمة الخلافة إلى بغداد في عهد بني العباس، وصارت مركز التطور الدولي،(545/22)
فغلبت على العمارة المؤثرات الفارسية وأساليب العمارة الساسانية والعراقية
وابن طولون من مواليد سامرا وقد جاء إلى مصر يحمل معه كل تقاليد البلاط، وما من شك في أنه يميل إلى تقليد مولاه
كتب الكثيرون في وصف المسجد، ولقد أخذنا ما تقدم نقلاً عن الأستاذ محمود عكوش في كتابه المطبوع 1927، ولكن ظهر بين يدينا اليوم كتاب الأستاذ كريزول العظيم؛ ويتضح من أبحاثه التي قام بها في العراق والصور التي أخذها لجامع سامرا من الجو، أن التماثل بين المسجدين عظيم، وأن مسجد ابن طولون ما هو إلا صورة مصغرة للمسجد الذي بناه المتوكل في عاصمة ملكه سامرا بالعراق
فإذا كانت البوانك على صفين من الجانبين في مسجد مصر، فهي أربعة في مسجد المتوكل، وقس على ذلك السعة والأروقة والارتفاع والضخامة، ولقد كشفت صور الجو أن تحت الثرى مدينة بأكملها قد غطتها الفيضانات العالية، بدجلة تنتظر الكشف لتخرج مدينة سامرا القديمة بشوارعها ومبانيها كما كانت في أيام العباسيين
ولا شك في أن مسجد ابن طولون سيكون انموذجاً، قد حفظته مصر للعراق، إذا فكرت الحكومة العراقية في إعادة بناء مسجد المتوكل، إنه سيكون تحفة من تحف الدنيا، ومظهراً من أضخم مظاهر مدنية العرب، وجبروتهم في العمارة والإنشاء
ونعرض هنا إلى موضوع المنارة، فهي من أغرب ما يستوقف الأبصار، وتعد من الألغاز لأنها مبنية على شكل لا نظير له في المنائر بجميع الأقطار العربية والإسلامية. ولقد انقسم العلماء واختلفوا كعادتهم هل هي لاحقة لبناء المسجد، أم بنيت معه وهل هي صورة من منارة سامرا الحلزونية؟ والعلماء وهم كعادتهم قد جزموا بأن الأثر البيزنطي ظاهر واضح في كل شيء، وأن العرب لم يأتوا بجديد، فكبر على نفوسهم أن تأتي الحفائر والاكتشافات فتظهر أن المسجد صورة من مسجد عربي، أكبر من هذا هو جامع سامرا، وأن الأسطورة البيزنطية لا شأن لها اليوم وقد وضعت العناية الحق على لسان الأستاذ كريسول فدعمه بعلم وتمحيص دقيق يعجز عنه المتصدرون لاستعمال العلم لغايات في أنفسهم هي الإقلال من شأن العرب والعروبة والمنارة حديث طويل، وفي أواخر القرن السابع الهجري لجأ إليها الأمير حسام الدين لاجين المنصوري، وكان المسجد مهجوراً، ويوقد به سراج واحد(545/23)
ويدخله خادم، وقد تعطلت الشعائر الدينية فيه
(البقية في العدد القادم)
أحمد رمزي(545/24)
من أدب التاريخ
شاعر ومنجم. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
العهد عهد الخليفة المستعين أبي العباس أحمد بن محمد بن المعتصم، ذلك المتولي في الخامس من ربيع الآخر عام 248هـ، إثر وفاة الخليفة المنتصر ولي عهد أبيه المتوكل وقاتله. والشاعر هو الوليد بن عبيد الله البحتري المكنى أبا عبادة؛ أما المنجم فهو جعفر بن محمد البلخي، المكنى أبا معشر
ولم يكن أبعد من هذين الرجلين على عهدهما صيتاً، ولا أثبت منهما في فنيهما مقاما؛ ومع ذلك فقد لقيا أيام المستعين من المجافاة والإعراض وقلة المبالاة ما ضاق معه عيشهما، وانسدت به مسالك الحياة الهنيئة دونهما
فقد كان الأول شاعر المتوكل الأثير. . . شهد بعينيه مصرعه الرهيب على يد ابنه وولي عهده، وسمع بأذنيه - بعد حين - قصة نقض البيعة الموثقة التي عقدها المتوكل لولده المعتز من بعد أخيه؛ فكان حزن الشاعر على الخليفة المصروع لا يوازيه إلا عطفه على الأمير المخلوع
ولما عجلت بالمنتصر ميتته المريبة فلقي بها أول ما يلقاه كل عاق ناكث للعهود، بادر نصراؤه من قواد الأتراك إلى تنصيب المستعين بالله على عرش الخلافة؛ إمعاناً منهم في إقصاء المعتز الذي طال بتدبيرهم حرمانه، وتنزت بسبب ذلك في صدره السخائم والأحقاد عليهم
وزادوا على هذا أن ألقوا بالمعتز في غيابة السجن، مع أخيه المؤيد ثالث أولاد المتوكل وأولياء عهوده؛ فلم يكن الشاعر كالبحتري أن يظهر في مثل هذه الفترة، أو أن يؤمل عند المستعين وشيعته جاهاً. . .
ذلك موجز حديث أبي عبادة؛ أما صديقه أبو معشر فأيسر ما نقول فيه أن المستعين كان يعتد له من الإحسان ذنباً، وينحي عليه ببالغ العقوبة أشد ما يكون ترقباً منه للإحسان والمثوبة؛ حتى لقالوا إنه ضربه مرة أسواطاً على ما صح من حدسه في أمر أخبر بوقوعه قبل حينه، فكان أبو معشر يعجب الناس من ذلك ويقول: أصبت فعوقبت!(545/25)
أمضى الصديقان عاماً من خلافة المستعين وهما أبأس ما يكون حالاً، وقد انعقد واهي أملهما على سجين قصر الجوسق بسامراء، أبي عبد الله المعتز، وكان معتقلاً هناك مع أخيه إبراهيم المؤيد. ولقد كان من حقهما أن يستمسكا بهذه الآمال التي عقداها على الأمير المسجون لما كان يشهدانه من اضطراب حبل السياسة في يد المستعين؛ إذ راح الأتراك يقتتلون بدافع أطماعهم حول دعائم العرش التي أقاموها بأذرعهم، وبلغ من ضعف نفوذ الخليفة يومئذ أن امتدت أيديهم إلى وزيره (أتاش) وهو قائم بين يديه في قصره، فسلبوه الحياة مع كاتبه (شجاع)، وقد حدث ذلك يوم السبت رابع عشر ربيع الآخر عام 249هـ
ومن الطريف أن نرى البحتري - وقد قرت عينه بهذا الحادث دون شك - يبعث إلى المستعين بهذه الأبيات مادحاً ومهنئاً في موضع كانت السخرية فيه أقرب إلى لسانه، والتشفي أعلق بفؤاده:
لقد نُصر الإمام على الأعادي ... وأضحى الملك موطودَ العماد
وعرفّت الليالي في (شجاع) ... و (تاشٍ) كيف عاقبة الفساد
تمادى منهما غيٌّ فلجَّا ... وقد تُردى اللجاجة والتمادي
وضلا في معاندة (الموالي) ... فما اغتبطا هنالك بالعناد!
وما نشك في أن البحتري كان أصدق في شعوره، وأبلغ بالإبانة عن وليجة نفسه، حين انكفأ غب ذلك إلى بيته يناجي خادمه (نائلا) يخفي أمانيه فيقول:
ألا هل يحسن العيش ... لنا مثل الذي كانا؟
وهل ترجع يا نائ - لُ بالمعتز دنيانا؟
عدمت الجسدَ الملقَى ... على كرسي سليمانا. . .
فقد أصبح لِلَّعْن - ةِ نقلاه ويقلانا!
ازداد نفوذ المستعين بين رعاياه تقلصاً، حتى لأصبح (الجسد الملقى) حقيقة كما وصفه البحتري. وانتهى الأمر بأن انحازت إليه شعبة من الأتراك على رأسها وصيفٌ وبُغا؛ وراحت شعبة أخرى يقودها باغر تدبر له الكيد وتمشي حوله الضراء من كل سبيل. ثم قتل باغر بتدبير من حزب الخليفة، فثارت ثائرة أنصاره حتى لم يجد المستعين بدا من الانحياز إلى بغداد (في المحرم عام 251هـ)(545/26)
وتناهت هذه الأخبار إلى البحتري وأبي معشر وهما في معتكفهما، فأقبلا يتداولان في الأمر ملياً، ويجددان من قديم أمنيتهما، وقد أملا أن تطرد الحوادث في طريقها حتى تفضي بهما إلى كل ما يسر ويرضي. . . ثم انبعثا يقولان: وماذا علينا والحال كما نرى، أن نمضي إلى المعتز بالله في محبسه فنتودد إليه ونؤصل عنده أصلاً؟
وطابت لديهما الفكرة فجدا في إنفاذها، واحتالا حتى توصلا إلى لقيا الأمير في معتقله. ولم يكن البحتري قد أعد لهذا اللقاء شعراً، وأي شعر يقال لسجين يترقب الموت في كل لحظة!
على أنه فكر هنيهة حتى استرجع في ذهنه أبياتاً له قديمة كان قد واسى بها أبا سعيد الثغري وهو في معتقله أيام المتوكل، فأعاد تحريرها في رقعة لطيفة، وكان أبو معشر قد هيأ صحيفة في أحكام النجوم سهر على ضبطها وتصحيحها الليالي الطوال
وفي إحدى غرف الجوسق مثل الرجلان أمام المعتز فواسياه بما تهيأ لهما من كلام. ثم استأذن البحتري في الإنشاد، وتلا أبياته من رقعتها. . . كأنه نظمها من يومه:
جُعلنا فداك، الدهر ليس بمنفكِّ ... من الحادث المشكوِّ والنازل المُشكي
وما هذه الأيام إلا منازل ... فمن منزل رحب ومن منزل ضنك
وقد هذبتك الحادثات، وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبْك
أما في نبي الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الجور والإفك؟
أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
على أنه قد ضيم في حبسك العلا ... وأصبح عزالدين في قبضة الشرك
وأصغى المعتز إلى الشعر في تأثر، ثم تناول الرقعة ودفعها إلى خادمه وقال: احفظ هذه وغيبها، فإن أفرج الله عز وجل عني فذكرني بها لأقضي حق هذا الرجل الحر
وتقدم أبو معشر فقال: إني جئتك والله أيها الأمير بأعظم البشرى وأصدقها. كنت قد أخذت مولدك يوم عقد لك العقد، ويوم عقدت البيعة للمستعين، فنظرت في ذلك، وصححت الحكم لك بالخلافة بعد فتن وحروب تجري. وصح عندي الحكم على المستعين بالقتل، وهاك صورة مما عملت
فتناول المعتز الصحيفة مستبشراً، وشكر للرجلين نبلهما ووفاءهما، ثم وعدهما ومناهما. فخرجا وهما أكثر الناس رضاء وأرحبهم أملاً. . .(545/27)
وانقضى شهر على حادث المستعين إلى بغداد جرت أثناءه مداولات غير مثمرة، ثم آب الثائرون إلى سر من رأى فأخرجوا المعتز من الجوسق وبايعوه بالخلافة. واضطرمت نار الفتن والحروب عاماً كاملاً خلع في نهايته المستعين، ثم نقل مخفوراً إلى (واسط) حيث قتل بعد أشهر. واستقر أمر الخلافة للمعتز. . . وهكذا صدق فأل البحتري وصحت نبوءة أبي معشر
ومثل الصديقان بعد حين أمام المعتز فهش لهما وبش، ورفع من مجلسهما حتى رمقتهما العيون بالغبطة، ثم قال لأبي معشر: لم أنسك منذ لقيتني، ولقد صح حكمك، وأنا مجر لك في كل شهر مائة دينار رزقاً وثلاثين مزلاً، وجاعلك رئيس منجمي دار الخلافة. ثم قد أمرت لك عاجلاً بإطلاق ألف دينار صلة. . . فقبض أبو معشر ذلك كله من يومه
أما البحتري فقد أنشد في ذلك اللقاء بائيته المشهورة:
بجانبنا في الحب من لا نجانبه ... ويبعد عنا بالهوى من نقاربه
وفي القصيدة مدح للمعتز وهجاء للمستعين؛ ونحن ندع للقارئ أن يراجعها بتمامها في ديوان البحتري، ولكنا نختص مع ذلك بالتسجيل هنا قوله:
بكى المنبر الشرقي إذْخارَ فوقه ... على الناس ثور قد تدلت غباغبه
تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطوراً ينازيه وطوراً يشاغبه
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ... ليعجزوا (المعتز بالله) طالبه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعُرِّي من بُرد النبي مناكبه
وقد سرني أن قيلُ وجِّه عارياً ... من الشرق تُحدّى سفنه وركائبه
إلى (واسط) حيث الدجاج ولم يكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه!
وكان رضى الخليفة بالغاً غايته عن شاعره الأول وشاعر أبيه من قبله، فاستحضر الرقعة القديمة بعينها وفيها أبياته الستة؛ ووهبه على كل منها ألف دينار، فأعطي البحتري ستة آلاف دينار كملا
ثم نصح إليه المعتز ألا يبادر بإنفاقها في شراء ما قد يروقه من غلام أو جاريه أو فرس. . . وقال له: (إن لك فيما تستأنف معنا في أيامنا، ومع وزرائنا وأسبابنا إذا عرفوا موضعك عندنا، غناءً عن ذلك. . .)(545/28)
ثم حسن له شراء ضيعة ينتفع بغلتها، ويبقى عليه وعلى ولده أصلها. وكذلك صنع البحتري. . . فعاش إلى انتهاء خلافة المعتز في رفاهة من الحال ورغد من العيش.
(جرجا)
محمود عزت عرفة(545/29)
من حضارة الإسلام
دور التحف العربية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
المتاحف أمكنة لحفظ التحف والألطاف والآثار. وهي الآن سبيل من سبل المعرفة. وقل أن تجد عاصمة غربية من غير دار للتحف تضم أشتاتاً من الآثار. فالمتحف البريطاني بلندن معروف مشهور. وهو مؤسسة قومية تضم كثيراً من الكتب والمخطوطات والمطبوعات والرسوم والآثار القديمة وقطع النقود. وقد أسس سنة 1700، ولم تفتح أبوابه للزائرين إلا سنة 1759
وفي باريس مجموعة من المتاحف أشهرها متحف اللوفر الذي يضم مجموعة ثمينة من الآثار المصرية القديمة والآشورية واليونانية والرومانية، وطائفة كبيرة من آثار العصور الوسطى والعصر الحديث.
وفكرة إنشاء المتاحف وفتح أبوابها لإفادة الجمهور فكرة أوجدتها النهضة الأوربية الحديثة المعروفة بالرينسنس. وكانت إيطاليا أسبق الأمم إلى العمل بها. ومنها تسربت إلى بقية الدول. وقد بدأ الإيطاليون بها في القرن الخامس عشر، وهو ذلك القرن الذي شهد مصرع الإسلام في الأندلس وسقوط دولة بني الأحمر
ويظهر أن الإيطاليين أخذوا فكرة المتاحف عن العرب الذين نقلت معارفهم وعلومهم وألوان ثقافتهم إلى أوربا عن طريق الإيطاليين. ولقد مهد لذلك وجود طائفة كبيرة من الآثار والتحف والألطاف التي أخذها الأسبانيون من خزائن ملوك غرناطة المسلمين. فكانت تلك الأسلاب والنهائب النواة لإنشاء المتاحف العامة التي تزدحم الآن بكثير من الآثار العربية وغير العربية.
ولم يكن عند العرب نظام المتاحف العامة حتى يقال إن الغربيين أخذوه عنهم. ولكن الحق أن العرب كان عندهم نظام المتاحف الخاصة والخزانات العامرة في قصور الخلفاء والأمراء والوزراء التي تحوي كل نفيس. وتضم كل ثمين. فرأى الغربيون أن يجعلوا ميدان الانتفاع بهذه الفكرة أوسع، ومجال الاستفادة منها أعظم؛ فنقلوها إلى بلادهم، وأخرجوها من ملكية الأفراد إلى ملك الأمة وتراث الوطن حتى يضمن لها البقاء، وتسلم(545/30)
من الضياع والتعرض للنهب والحريق وغيره.
وكان الخاصة يجمعون التحف على سبيل المباهاة والافتخار، لأنهم أقدر الناس على جمعها. فقد حكموا أن أحشوبرش الآشوري كان عنده خزانة خاصة افتن في جمع آثارها، كما افتن البطالسة في مصر في جمع التحف وأقاموا لها المتاحف في مدينة الإسكندرية التي كانت زاهرة في عهدهم.
ولم يعن النبي عليه السلام وخلفاؤه الراشدون بجمع التحف لأنهم لم يكونوا أهل مادة ودنيا، ولكن أهل تقية وعفاف وتحرج. وقد كان عمر بن الخطاب يتحرج من مزاولة التجارة.
ولم يهتم خلفاء بني أمية بجمع التحف حتى على تشبههم بالأعاجم في اتخاذ التيجان على رؤوسهم. وهذا عمر بن عبد العزيز كان قبل الخلافة مفرطاً في النعيم، حتى لم يجد فيه حساده عيباً إلا هذا. فلما ولى الخلافة تزهد.
فلما جاء العباسيون مالوا إلى الاهتمام بجمع التحف والآثار، وكان لكل خليفة من جامعي آثارهم هوى خاص. فهذا الخليفة الراضي ابن أخي الخليفة القاهر اتخذ في داره خزانة خاصة لجمع البللور حتى قال فيه الصولي: (ما رأيت البللور عند ملك أكثر منه عند الراضي، لا عمل ملك منه مثل ما عمل، ولا بذل في أثمانه ما بذل حتى اجتمع له من آلته ما لم يجتمع لملك قط)
وكان في ملوك بني بويه شغف بجمع التحف، وخاصة عضد الدولة بن بويه؛ فقد ذكر ابن الصابي ونقل عنه المستشرق السويسري آدم متز أنه خلف من الجواهر واليواقيت واللؤلؤ والماس والبللور والسلاح وضروب المتاع شيئاً كثيراً. ويقول ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن بهاء الدولة بن بويه جمع من المال والتحف والألطاف ما لم يجمعه أحد من بني بويه.
على أن بعض خلفاء العباسيين قد غالوا في الجمع إلى حد الترف والبذخ مما يصح أن يكون موضع مؤاخذة لهم. فقد روى الثعالبي صاحب لطائف المعارف أن المكتفي - وهو قريب من عصر المأمون - ترك من الكراع والسلاح والأثاث والجوهر وعمائم مرو والحلل الموشاة اليمانية المنسوجة بالذهب وبطائن كرمان في أنابيب القصب والأبسطة الأرمنية - ترك من ذلك كله ما يعد بالآلاف.(545/31)
وقد حاكى كثير من الأمراء الخلفاء في جمع التحف، فهؤلاء البرامكة روى عنهم سهل بن هارون، وكان خازن دار الحكمة في عصر المأمون، كثيراً من مغالاتهم في الجمع قائلاً: (فإنه لا يصف أقله، ولا يعرف أيسره إلا من أحصى الأعمال، وعرف منتهى الآجال)
ولا شك أن كثيراً من متحف العباسيين قد ضاعت فيما ضاع بسبب غارة التتار عليهم. فقد حدث ابن الفوطي البغدادي - وكان معاصراً لسقوط بغداد سنة 656 - : (أن السلطان هولاكو وصل بغداد في جيش لا يحصى عدده ولا ينفد مدده. فخرج الخليفة المستعصم وزيره مؤيد الدين العلقمي ومعه جمع كثير إلى السلطان. ثم دخل الخليفة بغداد ومعه جماعة من أمراء المغول، وخوجه نصير الدين الطوسي. وأخرج إلى التتار من الأموال والجواهر والحلي والزركش والثياب وأواني الذهب والفضة والأعلاق النفيسة جملة عظيمة).
أما بلاد الأندلس فقد جمع كثير من ملوكها وأمرائها الأعلاق والنفائس في دورهم الخاصة. ولا شك أن الزهراء وهي المدينة التي بناها أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر غربي قرطبة كانت تزخر بدور التحف الخاصة. فقد نقل صاحب نفح الطيب عن ابن الرقيق: أن الناس لما اقتحموا الزهراء أسقطوا هشاماً وأزالوا دولة بني عامر، ونهبوا قصور الخلافة فيها، حتى أن بعض ما نهب في هذه الثورة وصل إلى بغداد وسائر بلاد المشرق وبيع في أسواقها.
وكان لهذه التحف والألطاف - كما هو الشأن اليوم - أسواق تباع فيها وسماسرة يتجرون بها. وقد روى ابن الفقيه أن تجاراً من اليهود كانوا يأتون من مقاطعة بروفنس بفرنسا، ويحملون معهم الديباج والخز الفائق والفراء الثمينة، كما ذكر ابن خرداذبة أن تجار الروس كانوا يحملون جلود الخز وجلود الثعالب السود والسيوف. كما كانت تحف الصين وألطافها تأتي مع التجار الذين ذرعوا البحار في تلك الأزمان.
ولقد أسرف خلفاء الفاطميين في ذلك الباب إسرافاً عظيماً، ولم يكتفوا بوضع هذه الألطاف في قصورهم، بل أقاموا لها قصوراً خاصة، وكانوا يسمونها الخزائن جمع خزانة، ولم تكن تلك الخزائن - كما يفهم من اسمها - أمكنة للخزن، وإنما كانت معارض خاصة توضع فيها التحف على نظام خاص ونسق معين، فهي بعينها دور التحف التي نراها اليوم، وفرق(545/32)
ما بين الاثنين أن الأولى كان يملكها ملك أو أمير والثانية ملك عام للأمة، فهي من منافعها العامة التي تتولى الإشراف عليها وتقوم على توسيعها وتزويدها لتكون ميراثاً وطنياً خالصاً لا يختص به حاكم ولا سلطان.
كان عند الفاطميين خزانة للأسلحة تعادل الآن المتاحف الحربية العامة التي عنيت الأمم حديثاً بإنشائها. ونستطيع أن نقول إن فكرة التخصيص في المتاحف كانت عند الفاطميين. ولعلهم أول من استعملها فيما نعرف من التاريخ. فكان عندهم للجواهر دار، وللأسلحة دار، وللفرش دار، وللطرائف دار، وللسروج دار، وللخيم دار، وللشراب دار. وكان بعض هذه الخزائن أشبه بمصانع لإنتاج ما يحتاج إليه الأمراء والجند والحاشية، كما يفعل (سلاح الصيانة) الآن في الجيوش الحديثة، ويدل على ذلك ما رواه المقريزي في الجزء الثاني من خططه. فقد ذكر أن خزائن السلاح كان من محتوياتها ذو الفقار سيف علي وصمصامة عمرو بن معد يكرب، وسيف كافور الأخشيدي، وسيف المعز ودرعه، وسيف الحسين بن علي عليه السلام، ودرقة حمزة، وسيف جعفر الصادق.
أما دار الطرائف فقد جمعت النفيس الرائع في العصر الفاطمي من البسط والستور والتعاليق وآنية البللور. التي كانت تصنع باسم الخلفاء ورسمهم. فقد روى المقريزي عمن يثق بقوله أنه رأى بطرابلس قطعتين من البللور الساذج الغاية في النقاء وحسن الصنعة إحداهما خردادي، والأخرى باطية مكتوب على جانب كل واحدة منها اسم العزيز بالله (تسع الباطية سبعة أرطال مصرية) ويسع الخردادي تسعة)، وأنه عرضهما على جلالة الملك ابن عمار فدفع فيهما 800 دينار. فامتنع من بيعهما، وكان اشتراهما من مصر من جملة ما أخرج من الخزائن. ووجد أكثر من مائة كأس بادزهر ونصب وأشباهها على أكثرها اسم هارون الرشيد وغيره، كما وجد للسيدة رشيدة ابنة المعز لدين الله حين ماتت ما قيمته الآف الآلاف من الدنانير. ومن جملة ذلك بيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، كما وجد للسيدة عبدة بنت المعز الأخرى ما لا يحصى من النفائس، ومن ذلك حصير من الذهب وزنها 18 رطلاً ذكر أنها الحصير التي جليت عليها بوران بنت الحسن بن سهيل على المأمون - إلى غير ذلك مما أفاض المقريزي في وصفه وسرده.
وقد يكون في ذلك كثير من المبالغة، إلا أنها على كل حال لا تعدم من الحق سبيلاً.(545/33)
وكان المماليك يهتمون بجمع التحف والألطاف وتزيين قصورهم بها. وقد روى المقريزي في الجزء الثالث أن الأمير تنكز الأشرفي عين من قبل قلاوون أميراً على الشام، وظل كذلك إلى أن تنكر له السلطان وجهز له من قبض عليه، وصادر أمواله وكان من جملتها الجوهر واللؤلؤ والزركش والنفائس. فإذا كانت هذه حال أمير من أمرائهم؛ فما بالك بالسلاطين أنفسهم، وقد كان المال في أيديهم كثيراً؟
ومن سوء الحظ أن كثيراً من هذه التحف قد ضاع، ولا يبلغ ما جمع منها في متاحف العالم إلا قدراً ضئيلاً. وقد تكون أيدي الجهال عبثت بها فأحالتها إلى غير حالتها، فأسالت ذهبها وفضتها وهشمت زجاجها وبلورها.
ومن عجائب الأقدار أن مصائر ما بقي من التحف أو سلم منها كمصائر بني البشر أنفسهم. قد فرقتها الأقدار وبعدتها الأدهار وأنزلتها في غير أوطانها، وأحلتها في غير بلدانها. ففي لندن منها قطع، وفي باريس أشتات. وفي مدريد وروما وبرلين والقسطنطينية وغيرها.
لقد نشطت الأمم العربية وانتبهت إلى الاحتفاظ بآثارها وجمعها في دور عامة. فأنشأت دار الآثار العربية في مصر سنة 1881، وإن كان أمر إنشائها صدر في عهد إسماعيل سنة 1869، وأنشئ المتحف الأهلي في الجزائر سنة 1897، وأنشئ المتحف العلوي في تونس، ودار الآثار العربية في العراق في تاريخين غير متحققين عندي.
ولعل البلاد العربية جميعاً تضاعف الهمة حتى تحتفظ بالكثير من تراثها المفقود.
محمد عبد الغني حسن(545/34)
من الشعر الحر
الحديقة الميتة والقصر البالي
للأستاذ خليل شيبوب
أمر عليها كل يوم فأبصر
أشجارها مهشومة الأغصان
ويأخذني حزن عليها فأشعر
باليأس يعقل خاطري ولساني
تهدم السور حولها فبدا
للعين عُرْيُ الحديقة
كأنها ملحية
قد خلعت جمالها
فأصبحت قبيحة
كاسية أسمالها
مرهاء غيرت الليالي حالها
تطلب عند الناس عطفاً وجَدَي
من القلوب الشفيقة
رقص البِلَى في ساحها عريانا
وشدا الفناء لرقصه ألحانا
بهما اهتدي
عادي الردى
فعدا
ومحا معالمها كأن لم تعلم
وكأن فيها الطير لم يترنم
وكأن فيها الزهر لم يتبسم
وقفت الأشجار ولهي(545/35)
والعشب فيها جف كرها
فهو مصفر سقيم
وهو موطوء هشيم
ذبل النبت الدميث
ونما فيه أثيث
هائج السوق خبيث
شائه غطى مظنات المسالك
فهو فيها بعد ذاك اللين شائك
أين وضاح الزهَرْ
أين معقود الخَمَر
أين مسرى الحور
أين مجرى الماء كالنور
كلها صارت عِبَر
ألقصر في جانبها واقف
ذاهلُ
رسم محيل بالأسى واجف
سائلُ
يا جنة كان النعيم بها يشدو
لحن أطيارك
والحسن فيها كان صفحته تبدو
في وجه أزهارك
ألشمس تخشع حين تبصرك
ثكلى
ولذاك مالت عنك تغرمك
ظلا(545/36)
والريح عاثرة تمر بك
خجلى
لفك الليل بالسواد جلالا
وزوى عنك حين لاح الهلاك
وأراك النجوم لا تتلالا
يا من رأى القصر قد أقْوتْ ملاعبه
وطلقته بلا رجعى كواعبه
غربت أقمارهُ
واُمحت أنوارهُ
فطويت مفاتن المجالس
واُنتهبَت ذخائر النفائس
وأصبحت فيه كرسم دارس
فماد ركناه واُزورَّت جوانبه
أين رجالاته وجودهم
كان شِفاءَ المنى وجودهم
زين الرجالات
محققو الغايات
ومقصد العفاة
ما أخلفت راجياً فضلاً وعودهم
عزاء أيها الحسن
فإنك لا تذل ولا تهونُ
إذْا فقدت مباهجك العيونُ
رآك القلب أبهج ما تكونُ
وعين الحب هادية أمونُ
عزاء أيها الحسن(545/37)
إيه يا جنة جفاها النعيم
هكذا العمر أُنسه لا يدوم
كأنك نفس مات فيها غرامها
فلم يبقى إلا بؤسها وسقامها
حليةُ النفس الهوى
فإذا توى
عادت كغصن قد ذوى
أو ظِلِّ نجم قد هوى
على قدر ما في النفس من خالص الجوى
يكون لها قدر ويسمو بها اللب
فإن فقدته فالفناء بها ثوى
وما قيمة النفس التي ما لها حب
يا روضة ذبلت
وخميلة خملت
أنت مثال السعد إذ فاتا
بل أنت رمز الحب قد ماتا
هكذا تصبح الحياة رفاتا
أقول للغادين لو يسمعون
هنا الهدى لو كنتمُ تبصرون
هلمو انظروا كيف تبلى القصور
وكيف تموت الحديقهْ
كذلك فيكم يجف الشعور
وتخفى الأمورُ
ويعمى البصير
وتموت الحقيقةْ(545/38)
خليل شيبوب(545/39)
القصص
صديق همام. . .
لأنطون تشيكوف
وجدت (فاندا) الساحرة، أو كما جاء وصفها في جواز السفر (المواطنة الشريفة ناستاسيا كانافكن) وجدت نفسها بعد خروجها من المستشفى في حال لم تصادفها في حياتها من قبل، لا مأوى لها ولا مال عندها؛ فماذا يمكن أن تفعل؟
كان أول شيء عملته هو ذهابها إلى مصرف الرهائن، حيث أودعت خاتمها الفيروزي، الحلية الوحيدة التي كانت تملكها، وأخذت جزاء ذلك روبلاً واحداً
ولكن ماذا يفيدها هذا الروبل؟ إنها لا تستطيع أن تشتري بهذا المبلغ معطفاً أنيقاً، أو قبعة واسعة، أو حذاء من ذي اللون الفضي اللامع وهي - بدون هذه الثياب - تشعر بأنها عريانة. يخيل إليها أن كل من حولها حتى الكلاب والحمير ترمقها وتضحك من بساطة ثيابها. وكانت الثياب كل ما يشغل تفكيرها. لم يثر اهتمامها قط التفكير في ماذا تأكله ولا أين تنام؟
(آه لو أتيح لي لقاء صديق همام! إذن لحصلت على بعض المال. ما من صديق يمكنه أن يرفض لي طلباً كهذا. إني واثقة)
كان هذا اتجاه تفكيرها، ولكنها لم تلق هذا الصديق المنشود. إن من الأيسر أن تلقي أمثاله في المساء في ملهى، (الرينيسانس) ولكنهم لن يسمحوا لها بالدخول في هذا الملهى، وهي ترتدي هذه الثياب الحقيرة، ورأسها عار. ماذا يمكن أن تفعل؟
وبعد تردد طويل، وبعد أن أنهكها طول السير والجلوس والتفكير، استقر رأي فاندا على أن تلتمس ملجأ فتذهب لتوها إلى منزل صديق همام وتطلب مقداراً من المال
وأخذت تفكر فيمن تقصد. (لا يمكنني أن أذهب إلى ميشا، إنه رجل متزوج. . . والرجل العجوز ذو الشعر الأحمر سيكون في مكتبه في مثل هذا الوقت من النهار)، وتذكرت فاندا طبيب أسنان يدعى فينكل، هو يهودي اعتنق المسيحية وكان قد أهدى إليها سواراً منذ ستة أشهر. وكانت في يوم من الأيام قد صبت كأساً من الخمر فوق رأسه وقت العشاء في النادي الألماني. عمها السرور إذ فكرت في فينكل وقالت:(545/40)
(لابد أنه سيمنحني مقداراً من المال إذا وجدته في المنزل؛ وإذا لم أجده فسأحطم كل مصابيح الكهرباء التي في منزله)
كان هذا اتجاه تفكيرها وهي في طريقها إليه
وقبل أن تصل إلى منزل طبيب الأسنان رسمت خطتها للعمل. إنها ستصعد السلم قفزاً وهي تضحك عابثة، ثم تندفع إلى حجرة الطبيب وتطلب منه خمسة وعشرين روبلا. ولكنها ما كادت تلمس الجرس حتى أحست بهذه الفكرة تتبخر من ذهنها. وبدأت فاندا تحس بالرهبة والضيق، مما لم تعهده من قبل. لقد كانت دائماً جريئة في حلقات الشراب، ولكنها الآن وهي تلبس هذه الثياب الحقيرة تشعر كأنها شخص يطلب إحساناً؛ وقد لا يسمح لها حتى بالدخول. وشعرت فجأة بالذلة والمسكنة، وأحست بالخجل والاضطراب
أخذت تفكر وهي لا تجد من نفسها الشجاعة الكافية لأن تغمز الجرس وقالت في نفسها: (ربما يكون قد نسيني. كيف يمكنني أن ألقاه في هذه الثياب وأنا أبدو كمتسولة حقيرة أو عاملة فقيرة؟) ودقت الجرس في ضعف. وسمعت وقع أقدام تقترب: إنه البواب. (هل الطبيب موجود؟) وجهت السؤال وهي ترجو أن يكون الرد (كلا) ولكن البواب بدلاً من أن يجيب صحبها إلى القاعة وساعدها على خلع معطفها
وبهرتها القاعة بفخامة مظهرها وروعته، ولكن نظرها علق بمرآة ضخمة، فواجهتها لترى فتاة رثة الثياب، لا تلبس معطفاً أنيقاً، ولا تضع فوق رأسها قبعة واسعة، ولا تنتعل الحذاء ذا اللون الفضي
ورأت فاندا أنها في ثيابها البسيطة هذه، تبدو كحائكة
أو غاسلة ثياب؛ واستغربت أنها تحس بالخجل ولا تجد في نفسها أثراً لتلك الشجاعة، بل الوقاحة التي اعتادتها. بل إنها لم تعد تفكر في نفسها أنها فاندا (الساحرة) فما هي إلا ناستاسيا كانافكين كما كانت في الأيام الخالية
وتقدمتها الخادم إلى حجرة الكشف قائلة لها: (تفضلي بالدخول. سيأتي الطبيب بعد دقيقة واحدة. اجلسي)
وجلست فاندا على مقعد مريح وأخذت تفكر: (سأطلب منه أن يعيرني هذا المبلغ. ليس في هذا أقل حرج. إن معرفتي إياه قديمة. آه لو أن هذه الخادم تخرج. إني لا أميل إلى(545/41)
مصارحته أمامها. ما الذي يدعوها للبقاء هنا؟)
وبعد خمس دقائق انفرج الباب عن فينكل. كان يهودياً طويلاً، أسمر اللون، ذا خدين متهدلين وعينين منتفختين. كان منظر عينيه، وخديه، وصدره، وجسمه، بل منظره كله يمجه الذوق ويثير الكراهية. كان في ملهى (رينيسانس) والنادي الألماني يبدو ثملاً، ويبذل نقوده للنساء عن سعة. وكان واسع الصدر، صبوراً على ألاعيبهن (فمثلاً عندما صبت فاندا كأس الخمر فوق رأسه، لم يزد على أن ابتسم ورفع أصبعه في وجهها منذراً)، أما الآن فهو يبدو جامد الحس، جاداً، ثقيل الدم كرئيس الشرطة، وهو يفتأ يلوك شيئاً بين شدقيه
قال مخاطباً فاندا دون أن ينظر إليها: (هل من خدمة أستطيع أن أقدمها إليك؟). ونظرت فاندا في وجه الخادم الصارم ومظهر فينكل، الذي كان من الواضح أنه لم يعرفها، واحمرت وجنتا فاندا
- (هل من خدمة أستطيع أن أقدمها إليك؟) ردد الطبيب سؤاله في ضيق مكتوم، فهمست فاندا: (أحس ألماً في أسناني)
- (حسن. . . أين موضع الألم؟)
وتذكرت فاندا أن بإحدى أسنانها تجويفاً، فقالت:
- (في الفك الأسفل. . . على اليمين. . .)
- (هيه! افتحي فمك). وقطب فينكل جبينه، وأمسك أنفاسه، ثم أخذ يكشف عن السن. وسأل فاندا: (هل تؤلمك؟). ثم وضع آلة معدنية فوقها. وأجابت فاندا كذباً: (نعم)، وهي تتساءل في نفسها: (هل أذكره؟ إنه من المؤكد سيذكرني. ولكن هذه الخادم! ما الذي يدعوها للبقاء هنا؟)
وفجأة انطلق فينكل قائلاً (لا أنصحك بمعالجة هذه السن. إنها لا تستحق العلاج). وبعد فحص السن مرة أخرى ملوثاً شفتي فاندا ولثتها بأصابعه الملوثة بلفائف التبغ، أمسك أنفاسه مرة أخرى، ثم وضع شيئاً بارداً في فمها. وأحست فاندا فجأة بألم حاد، فصرخت، وقبضت على يد فينكل
فقال الطبيب: (كل شيء على ما يرام. لا تنزعجي. ليس لهذه السن فائدة. . . يجب أن تكوني شجاعة)، وأخرج أصابعه من فمها ملوثة بالدماء وممسكة بالسن. . . وتقدمت الخادم(545/42)
ووضعت إناء تحت فم فاندا. وقال فينكل: (عليك أن تغسلي فمك بالماء البارد عند عودتك إلى المنزل، فإن هذا سيمنع النزيف)
ثم واجهها في مظهر الرجل الذي ينتظر انصرافها لتدعه في سلام. فقالت: (نهارك سعيد. ثم اتجهت إلى الباب منصرفه. وتساءل فينكل في لهجة ضاحكة: (هم! وما رأيك في أجري؟)
(آه! حقاً!) وتذكرت فاندا فمدت يدها إلى اليهودي بالروبل الذي أخذته رهناً على خاتمها
وعندما خرجت فاندا إلى الطريق تضاعف إحساسها بالخجل، ولكنه في هذه المرة لم يكن الفقر سبب خجلها. إنها لم تعد تجد الحاجة إلى قبعة واسعة أو معطف أنيق، وإنما أخذت تجوب الطرقات والدم ينزف من فمها، وهي تفكر في حياتها الكريهة، حياتها المؤلمة، والإهانات التي عانتها والتي سوف تعانيها في الغد، وفي الأسبوع القادم، بل طول عمرها حتى نهاية أجلها
(آه! كم هذا مؤلم! رباه كم هذا مخيف!)
وعلى كل حال ففي اليوم التالي، عادت فاندا الساحرة إلى ملهى (رينيسانس) لترقص هناك، وكانت ترتدي قبعة حمراء واسعة، ومعطفاً أنيقاً، وحذاء ذا لون فضي لامع. وقد صحبها للعشاء تاجر شاب جاء أخيراً من قازان.
صلاح الدين التهامي(545/43)
العدد 546 - بتاريخ: 20 - 12 - 1943(/)
عيد اللغة العربية
للدكتور زكي مبارك
اخترت هذا الموضوع لأنبه إلى حقائق أدبية ولغوية واجتماعية أرى في التنبيه إليها فائدة تنفع الأمم العربية أجزل النفع، لأنها تزيد في ثقتها بوجودها الأدبي، ولأنها تنير الطريق أمام المهتمين بالوحدة العربية، وهي فكرة يمكن تحقيقها بسهولة، إن تعاونا على رفع ما يعترضها من العقبات والأشواك
ولأجل أن يتضح موضوع هذا الحديث أرجو أن تتذكروا ما كنا عليه قبل أعوام قصار لا طوال، فقد كان في كل قطر عربي جماعة يدعون إلى إيثار اللهجة العامية المحلية في الخطابة والكتابة والتأليف، ومع أن هذه الدعوة واهية الأساس فقد كانت تجد سبلاً إلى بعض الأسماع والأذهان، وكان العقلاء يخشون أن تنخدع بها الجماهير هنا أو هناك
والدعوة إلى اللهجة المحلية دعوة سهلة القبول، لأنها تبشر سامعيها بالإعفاء من تكاليف الفصاحة العربية، وهي تكاليف لا يقوى على حملها غير الأقوياء من أهل البيان
كانت هذه الدعوة تجد من يسمع وتجد من يجيب، ثم خفت صوتها بعد أن جلجل وصلصل عدداً من السنين، فما الذي أسكت ذلك الصوت؟
يرجع السبب إلى النهضة الأدبية الحديثة التي ظهرت طلائعها في الديار المصرية والسورية واللبنانية والعراقية، ولم يكن لهذه النهضة غنى عن لغة قوية تستطيع التعبير عن الدقائق والجلائل من المعاني والأغراض
عند ذلك انهزمت اللغة العامية، لأنها لغة العوام، والعوام لا يحتاجون إلى لغة غنية، لأن مطالبهم في التعبير لا تزيد عما تحتاج إليه الحياة اليومية في المنازل والأسواق
ومما يثير الضحك أن الذين دعوا إلى اللغة العامية لم يشرحوا قضيتهم إلا باللغة الفصيحة، وهذا شاهد ناطق بأن العامية أضيق وأعجز وأفقر من أن تعين أنصارها على التعبير عن أغراضهم بإسهاب وإطناب
اقترحت مرة أن يصدر قرار وزاري يجعل اللغة العامية لغة المصريين، لنرجع جميعاً إلى اللغة الفصيحة بعد أسبوع أو أسابيع ولكن كيف؟
كنت أنتظر أن يفكر كل كاتب وكل شاعر وكل خطيب في تجميل لغته العامية، ليتفوق(546/1)
على النظراء، وليمتاز بالأناقة في البيان، ولا يتم له ذلك إلا إذا استعان بذخائر اللغة الفصيحة، وقد تحمله الرغبة في التفوق على أن يعود طائعاً مختاراً إلى اللغة التي مجدتها الأمم العربية في عشرات الأجيال، وبذلك ينهزم دعاة العامية إلى آخر الزمان
وما الذي منع دعاة العامية من أن يجعلوها لغتهم في الشعر والكتابة والخطابة والتأليف؟
هل صدر قرار يحرم عليهم أن يكونوا عاميين؟
هل حاربتهم الحكومة؟ هل حاربتهم الأمة؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما أوحت إليهم عقولهم وأذواقهم أن يسموا بأنفسهم عن الابتذال، واللغة العامية كالثوب الذي نلبسه في البيت، ونحن نعرف أننا لا نتأنق في الملبس بين جدران البيوت
إن اللغة سلاح من الأسلحة، وهي في يد الخطيب كالسيف في يد المحارب، ولا يجوز للعاقل أن يدخل الميدان وفي يده سيف مفلول
نحن لم نهزم دعاة اللغة العامية بالقوة، وإنما انهزموا بأنفسهم لأنهم خاضوا غمار المعركة بغير قلب، ولا عزم لمحارب لا يؤازره القلب.
وهل انهزم دعاة اللغة العامية حين حرصوا على التسلح باللغة الفصيحة؟
إن مكرهم أغرب من مكر الشياطين، فقد رأوا أن يسابقونا الإفصاح، وأن يحاولوا نزع راية الفصاحة من أيدينا ليتفردوا بغنيمة المجد الأدبي، فلنكن أول جيش يسلم وهو فرح جذلان
لقد أراد خصومنا أن يرفعوا أنفسهم فيكونوا خلفاء لأكابر المفصحين، لا خلفاء لعوام المتحدثين في الشوارع والقهوات والبيوت
أقول هذا وأنا أعترف بلغة الشارع والقهوة والبيت، لأنها أماكن يجوز فيها التحلل من التأنق، والتأنق حلية بيانية لا نفكر فيها إلا حين نقف موقف المحاربين بلسان البيان
اللغة العامية هي ثوب البيت عند رفع التكليف، ومن هنا جاز أن تكون لكل أمة لغتان: لغة عامية ولغة فصيحة. وهذه قضية لا تحتاج إلى براهين ولا محامين
وأين خصومنا في هذه القضية؟ أين؟ أين؟
للنوابغ منهم أغراض أدبية واجتماعية، فهم يحاولون أن يصلوا إلى أسماع العرب في(546/2)
المشرق والمغرب، وهذا لا يتيسر بغير الأسلوب الفصيح، لأن الأسلوب العامي يعجز عن تخطي الحدود
ولم يبق إلا الجهالة من دعاة اللغة العامية، وهم أطفال يهمهم أن يتحذلقوا بمضغ الحديث عن فكرة نبتت على شواطئ الجهل، كما تنبت البقلة الحمقاء على مدارج الغدران
نحن في هذه القضية بين صورتين اثنتين: صورة العواطف وصورة المنافع، فما موقف خصومنا من هاتين الصورتين؟
إن فرضنا أنهم لا يبالون ما صنع آباؤهم وأجدادهم في إعزاز اللغة الفصيحة إعزازاً حماها من الاندحار في عصور كانت كلها ظلمات في ظلمات، فكيف نفرض أنهم لا يبالون منافعهم وهي من الصميم في وجودهم الحيوي؟
أيستطيعون الاستغناء عن الشرق؟
هذا ممكن، إن أرادوا العيش في ظل الخمول، ولكنه مستحيل إن أرادوا الاتصال بالشرق، في الحدود التي توجبها أواصر الأدب ومنافع الاقتصاد
لو انتصرت دعوة خصومنا - ولن تنتصر - لكان من الحتم أن يحتاج المصري إلى مترجم حين يزور فلسطين أو الشام أو لبنان، وقد يحتاج إلى مترجمين حين يزور العراق، لأن الدعوة إلى العامية قد تحيي في العراق عدداً من اللغات
وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقرر أن العصبية المحلية قد تحوج القاهريين إلى مترجمين حين يزورون بلاد الصعيد، بغض النظر عن بلاد النوبة والسودان ودار فور وكردفان!
يجب حتماً أن نترك هذا السخف الممقوت، سخف الدعوة إلى اللغة العامية، لأنه من شواهد الانحطاط، ونحن في طريق الاستعلاء
ويجب أيضاً أن نقتدي بما تصنع الأمم القوية، وهي تفكر في توحيد اللغة قبل أن تفكر في توحيد الأقاليم، لأن وحدة اللغة هي حجر الأساس في بناء القومية
يجب أن تكون للعرب والمسلمين لغة واحدة في المشارق والمغارب، لغة يتلاقون عندها كما يتلاقون في جبل عرفات، وكما يتلاقون في توحيد الله عند الصلوات
فإن لم يفعلوا - وسيفعلون - فستضيع جهودهم في الدعوة إلى الوحدة العربية والوحدة الإسلامية، ولن يضيعوا أبداً، لأنهم أعقل من أن يتعرضوا إلى مخاطر الضياع(546/3)
لقد استقر الرأي في البيئات الفنية المصرية على أن من حق لغة المسرح والسينما أن تتحرر من القيود التي تثقل اللغة الفصيحة مادام موضوع القصة المسرحية أو السينمائية موضوعاً خاصاً بالمجتمع المصري الحديث، وتلطف الفنانون المصريون مع اللغة الفصيحة فجعلوها لغة الروايات المنتزعة من حوادث التاريخ
فما الذي وقع بعد ذلك؟
رأينا أولئك الفنانين يقبلون على اللغة الفصيحة في المواقف التي تحتاج إلى روعة البيان، وهذا ما يصنع الفنان يوسف وهبي وما يصنع زملاؤه من المؤلفين المسرحيين والسينمائيين
وأنتم في غنى عمن يدلكم على تلك المواقف، فما خلت رواية مسرحية أو سينمائية من مشاهد لا يستطيع الممثل أن يؤدي فيها واجبه الفني بغير الأسلوب الفصيح
كانت (الفرقة المصرية) تلتزم اللغة الفصيحة، وقد نجحت كل النجاح، ولكن ناساً قالوا إنها عجزت عن غزو الأوساط الشعبية، واقترحوا أن تتحرر من قيود الإفصاح
وقد غير نظام تلك الفرقة إجابة لصراخ الصارخين من عوام الناس، وألقى الأستاذ محمد بك صلاح الدين خطبة قرر فيها أن المسرح ليس مدرسة لتعليم اللغة الفصيحة، وأنه لا بأس من أن يجري الحوار باللغة التي يتكلم بها الناس فيما يتصل بموضوع المسرحية
ولكن الأقدار قضت بغير ما قضى به هذا الرجل الأريب، فقد بدأت الفرقة موسمها في هذه السنة بمسرحية شعرية، هي قصة قيس ولبنى، وأقبلت الجماهير على شهود هذه القصة أكثر من عشرين ليلة، مع أن المفهوم أن الشعر الفصيح أصعب من النثر الفصيح
فما تفسير هذه الظاهرة الأدبية؟
تفسيرها سهل، فالجمهور المصري يؤمن بأن اللغة الفصيحة هي لغته الأصيلة في المواقف الجدية، بدليل أنه لا يتصور صحة صلاة الجمعة إذا ألقى الخطيب خطبة الجمعة باللغة العامية
ومن أغرب ما يقع في هذا العصر أن يجهل بعض رجال الآداب والفنون روح الشعب المصري، فهم يتوهمون أنه شعب يستريح إلى المطالب الهينة، ويثقل عليه الجد الصريح
وبسبب هذا الفهم المنحرف ضاعت جهود ذلك من الأدباء والفنانين(546/4)
أتحداكم أن تقيموا مباراة في حديقة الأزبكية بين شخصين أحدهما خطيب فصيح، وثانيهما مهرج ظريف
إن أجبتم دعوتي فسترون أن الجمهور يقبل على الفصاحة وينصرف عن التهريج
كان في عصر شوقي وحافظ ألف زجال وزجال، فإلى من استمع الشعب المصري؟ استمع إلى الزجالين وتصام عن شوقي وحافظ!
اتقوا الله في وطنكم يا دعاة العامية بهذه البلاد، فإن لم تتقوا الله في وطنكم فاتقوه في أنفسكم، قبل أن تحل عليكم عواقب الإهمال
وما أقوله عن المصريين أقوله عن إخوانهم في سائر الأقطار العربية، وهي أقطار تنتظر من يسمو بها إلى أرفع منازل البيان
لقد جدت بنا الأيام، والأيام لا تعرف الهزل، فلينصرف الهازلون عن إفكهم المرذول، إن كانوا يعقلون
اللغة الفصيحة هي لغة العرب في هذا العهد وفيما يليه من العهود، فليعرف من لم يكن يعرف أن اللغة العامية لغة العوام لا لغة الخواص، وأن العرب قد برئت عيونهم من غشاوة الإسفاف والابتذال
أنا أدعوكم إلى الاحتفال بعيد اللغة العربية، فقد انتصرت على أبنائها، لا على أعدائها؟ فما كان للغة العربية أعداء غير أولئك الأبناء
في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا إذاعات عربية لا تعرف غير اللغة الفصيحة، لأنها تريد أن تخاطب العرب بلغتهم الدولية لا المحلية، واللغة الفصيحة هي لغة العرب الدولية، كما يفهم الأوربيون والأمريكيون، وهم أهل الخبرة بطبائع النفوس في هذا الجيل
اسمعوا صوت الزمن، إن لم تسمعوا صوت الحق، واحتفلوا معي بعيد اللغة العربية في عيد القمر، وهو عيد التضحية، وعيد الوفاء.
زكي مبارك(546/5)
توفيق الحكيم
بين الأدب والفن
للأستاذ دريني خشبة
لا فرق مطلقاً بين أن تقرأ توفيق الحكيم وبين أن تقف في متحف للفنون الرفيعة، أو أن تسمع إلى قطعة موسيقية، أو أن تجلس هادئاً ساكناً في مسرح عظيم تشهد مأساة تشجيك أو ملهاة تسليك. . .
تقرأ توفيق الحكيم فتنظر إلى التماثيل الرائعة تتحرك وتتكلم وتنظر وتبتسم وتمتلئ بالحياة وتفيض بالجمال. . . ثم ترى إلى الصورة التي انسجمت ألوانها وأحكمت خطوطها وأبدع فيها توزيع المنظر، وأكسبتها (اللمسات) الأخيرة سر المصور، وجرت في أركانها بعبقريته. . . فإذا أفقت من ذلك سمعت (أزاميل) المثالين ومطارقهم تدق. . . كأنها تشترك في تأليف لحن موسيقي. . . فإذا أدرت عينيك شهدت أبهاء المتحف وردهاته قد امتلأت بالدمى والتماثيل والصور. . .
ومن الظريف اللطيف في متحف توفيق الحكيم أنك ترى به التمثال الكامل والتمثال النصفي. . . كما ترى فيه حطاماً من تماثيل لم ترقه فأهوى عليها بمنحته ومطرقته فجعلها هشيما، ثم عزت عليه فلم يلق بها خارج المتحف، بل تركها فيه. . . لأنها وإن فقدت ذراعاً أو ذراعين، أو نقصت ساق أو ساقين، فأنها تمثل في ذهنه فكرة مقدسة. . . الفكرة التي أوحت إليه (مشروع) التمثال، ولهذا تحتفظ المتاحف بالتماثيل المهشمة!
وقل مثل هذا في صور الرسام الفنان توفيق الحكيم، فإلى جانب الصور الكاملة البارعة، التي أخذت حظها الموفور من حسن التوزيع والعدل بين الألوان، ترى صوراً لم يتقن (طبخ) ألوانها حسب الأصول الفنية، ومع هذا فقد احتفظ بها في المتحف كما احتفظ بتماثيله المهشمة للسبب الذي أسلفنا
أما موسيقى توفيق الحكيم فهي من هذا النوع الصامت الذي يخامر القلب ويجري مع الدم ويرهف الأعصاب. . . وقد تكون موسيقاه (زائطة) أحياناً، وهي لا تكون (زائظة) إلا إذا أفاق من سكرة الأدب والفكر والفن، واستسلم إلى هذا الإله الطفل المعربد (أمور!) أو (كيوبيد) ذي الجناحين والكنانتين، يصيبه منها بسهم ذهبي فيخفق فؤاده بحب إيما؛ يريشه(546/6)
بسهم (رصاصي!) فيلعن جميع بنات حواء! عند ذلك تأتي موسيقاه (زائطة) أو (نشازاً)، ويكاد الإنسان يفضل عليها موسيقى (المزمار البلدي!)
ترى. . . لو أن الأستاذ الحكيم كان قد فرغ إلى فنون التصوير والنحت والموسيقى كما فرغ اليوم إلى (فن الأدب) فأي ثروة كان يستطيع أن يمد بها هذه الفنون النائمة اليوم في مصر، وأي حياة كان يشيعها فيها؟
لقد نشأ الحكيم ذوقه الأدبي في أبهاء متحف اللوفر بفرنسا، ولا داعي مطلقاً لأن نكتب ما كتبه هو عن ذلك في (زهرة العمر) ذلك المفتاح السحري الذي يسلك بك إلى جنة توفيق الحكيم، وإلى جحيمه أيضاً. . . فاسمع إليه يقول لصديقه أندريه، أو يدعي أنه يقول له، وذلك بعد أن أخبره أنه ذهب إلى اللوفر كعادته، وأنه ينفق اليوم بطوله هناك، وأنه يخصص يوماً كاملاً لكل قاعة من قاعاته، لأنه ليس سائحاً متعجلاً. . . (إني أبحث أمام كل لوحة عن سر اختيار هذه الألوان دون تلك، وعن مواطن برودتها وحرارتها، وعن رسم أشخاصها وبروز أخلاقهم واتساق جموعهم وحركتهم وسكونهم؛ كل لوحة في الحقيقة ليست إلا قصة تمثيلية داخل إطار، لا داخل مسرح، تقوم فيه الألوان مقام الحوار. إني لأكاد أصغي إلى أحاديث الأبطال وهم على الموائد في أفراح (قانا) لوحة (فيرونيز)، وأكاد أسمع ضجيج الحاضرين وصياح الشاربين ورنين الكؤوس وخرير النبيذ يفرغونه من دن إلى دن. إن طريقة إبراز كل هذه الحياة بالريشة لقريب من طريقة إبرازها بالقلم. إن أساس العمل واحد فيهما. . . الملاحظة والإحساس ثم التعبير بالرسم والتلوين، بل إن الروح أحياناً ليتشابه. لطالما وقفت عيناي طويلاً على صفحات ناثر أو شاعر، وأنا كالمأخوذ، أفحص السطور بيدي لأتبين إن كانت من مداد أو من أثير. . .)
وهذا تعبير صادق عن طريقة توفيق الحكيم التي يتناول بها قطعه الأدبية الرفيعة. إنه يصنع بها ما يصنع المثال أو المصور، يتناولها من كل جانب، وينظر إليها من جميع نواحيها، فإذا لم ترقه بعد ذلك كله، سهل عليه أن يمزقها: ففي أكثر من موضع من كتابه يحدثك عن القصص الحوارية التي أتمها ثم لم تعجبه فمزقها. . . كما يحدثك عن هذه الاختبارات التي كان يجريها على بعض تلك القصص، بإعطائها بعض الأدباء الفرنسيين ليروا رأيهم فيها، ومن هؤلاء هذا المسيو (هاب) الذي كان يعذب الحكيم دائماً بهذه القولة:(546/7)
(نعم. . . نعم. . . لديك موهبة الحوار. . . ولكن. . .!) وكانت. . . لكن. . . هذه تعصف بنفسه كما تعصف يد الطفل بعنق الكتكوت!. . . وقد قالها ناقد آخر غير المسيو هاب بعد أن قرأ قصة أبلغها الحكيم إلى خمسمائة صفحة، حيث قال: (أفكار كثيرة وموهبة في الحوار. . . لكن. . .!) فما كان من صاحبنا إلا أن مزق هذه القصة أيضاً!
هكذا كان الحكيم ينشئ فنه وأدبه. . . وكان له أستاذ في الفن، هو رجل فقير كان يقنع منه بأجر تافه لا يعدو الأكل والشرب (من أوسط ما يطعم هو ويشرب!) على أن يصحبه إلى المتاحف والميادين والمتنزهات، حيث يشرح له دقائق الفن ويبصره بأسراره،. . . وهنا تتحشرج الكلمات في صدر قلمي. . . لقد قتل الحكيم أستاذه هذا بعد أن استغنى عنه. . . لقد جاءه الرجل في ليلة عاصفة شديدة البرد وهو يرتجف. . . ويطلب دثاراً يقيه القر. . . (فلم أرد عليه بكلمة. . . ولكني أخرجت له ورقة مالية صغيرة وضعتها في كفه كأنه شحاذ، فرفع الشيخ قبعته شكراً وانصرف صامتاً. . .!) وإذا أحببت يا صديقي القارئ أن تدخل جحيم الحكيم فاقرأ هذه المأساة (ص 74)، لأني لا أوثر أن أدخلها معك!
بصر هذا الرجل الفنان الذي كان يربي على الثمانين أديبنا العظيم بدقائق الفن، وأطلعه على أسراره، كما بصره المسيو هاب بالأدب الكلاسيكي كله، أو أحسن روائعه. . . فهل تدري من بصره بالموسيقى؟. . . إنها عجوز شمطاء. . . إنها أم المسيو أندريه الذي يقول لنا الحكيم إن هذا الكتاب الكبير الجميل هو الرسائل التي كتبها إليه من فرنسا إلى فرنسا. . . ومن الإسكندرية إلى فرنسا، ومن طنطا ومن دسوق إلى فرنسا أيضاً. فلقد كان الحكيم يجرها من المطبخ بفوطتها لتجلس إلى البيانو حيث تغني له من (كارمن) ومن (فاوست) ومن (أجراس كورنفيل). . . إلى أن عرف طريق دار الأوبرا والأوبرا كوميك ثم قاعات الكونسير (كولون) و (جافو) و (بادلو) فلم يعد إليها بعد ذلك قط! أي كما صنع مع الشاعر الفنان البرناسي تماماً. . . وهنا أيضاً تتفتح أبواب جحيم الحكيم، فاختر لنفسك أيها القارئ!
ولست أدري لماذا لا نشبها جذعة بين موسيقيينا وبين توفيق الحكيم بمناسبة جزاء سنمار الذي لقيته هذه الأستاذة العجوز على يديه بعد أن كانت السبب في معرفته الأوبرا والأوبرا كوميك والسيمفونيات وبتهوفن! أيها الموسيقيون المصريون اعلموا أن الأستاذ توفيق الحكيم لا يطرب لكم، بل هو يضيق بكم، فهو يقول، وتستطيعون أن تجدوا هذا الكلام في كتابه(546/8)
زهرة العمر ص 166 (. . . أغالط نفسي؟ أخشى أن يكون حبي للموسيقى الأوربية مصدره أنها قبل كل شيء بناء ذهني. ذلك أن موسيقانا، وهي قائمة على الطرب والتأثير المادي، لا تسترعي مني اليوم أي التفات. والواقع أن الموسيقى الأوربية بناء فني ذهني، شأنها في ذلك شأن القصة التمثيلية، والهندسة المعمارية. . . بل شأن المذهب الفلسفي والتفكير الرياضي!.) فما قول الأساتذة محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي والقصبجي وفاضل الشوا في هذا الكلام العجيب عن الموسيقى؟! ومتى يحظى منكم الأستاذ الحكيم بشيء من المعادلات الجبرية وحساب المثلثات والجذور التكعيبية وقوانين طورشيلي وفيثاغورس، وجابر بن حيان والبيروني تبثونها له في ألحانكم لترتفعوا بها عن الطرب والتأثير المادي؟! لست أدري كيف تكون الموسيقى التي لا تطرب؟ ولست أدري كذلك كيف يكون تأثير الموسيقى مادياً؟! أعترف أولاً أنني لا علم لي مطلقاً بالموسيقى كعلم. . . بيد أني أطرب، وهذا ما يعيبه الأستاذ الحكيم على الموسيقى الشرقية - كموسيقى عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وفاضل الشوا، وكثيراً ما أكتفي بالإصغاء إلى المقدمات الموسيقية عن الغناء، لكنني ما أحسست مرة أن يدي أو رجلي أو ظهري مثلاً أو أي عضلة من جسمي هي التي وقع عليها التأثير الموسيقي؛ بل الذي كان يتأثر في كل مرة هي روحي:. . أي أعصابي. . . والذي أعرفه أن المخ هو مركز الأعصاب كما أنه مركز الذهن. مع علمي بأن جدلاً كثيراً يدور حول هذه الحقائق النسبية. . . فكيف إذن يريد الأستاذ الحكيم أن تقوم موسيقى على غير التطريب؟ وماذا يعني بقوله إن الموسيقى الشرقية تقوم على الأثر المادي؟! أنا أفهم أن يقال إن الموسيقى الشرقية ما تزال متأخرة بل جامدة برغم ما أنشأ فيها عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وفاضل الشوا وغيرهم من كرام الموسيقيين، ولكنها تستطيع مع هذا، أن تقف على قدميها إلى جانب الموسيقى الغربية، وتستطيع أن تفاخرها بميزات (روحية) ليست لها. . . أخشى يا حضرات الموسيقيين الشرقيين عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي والشوا أن يضحك الأستاذ الحكيم ملئ شدقيه من كلامي هذا عن الموسيقى الشرقية التي ابتدعتم فيها الأعاجيب فماذا أنتم صانعون؟
على أنني أحب أن ألفت نظر سائر الفنانين المصريين إلى ثورة الأستاذ توفيق الحكيم(546/9)
عليهم وإزرائه بهم. . . الأستاذ الحكيم الذي يرى. . . (أن الفنان هو الكائن العجيب الذي يجب أن يلخص الطبيعة كلها بمادتها وروحها في ذاته الضئيلة المحدودة. . . ذلك الكائن الذي يعيش في داخله الحيوان. . . والإله جنباً إلى جنب!. . .)
لله ما أبدع هذا الكلام وما أروعه! لقد عاد توفيق الحكيم إلى مصر من فرنسا، فزعم أنه عاد إلى الصحراء! الصحراء التي لا تعرف الحياة الفكرية. لقد تعب من كل شيء، ومن كل إنسان، ويئس من أن بلداً كمصر يصبح في يوم قريب ذا حياة فكرية؛ لأنه لا حياة في مصر لمن يعيش للفكر. إنه يريد تحطيم كل شيء، ليهيم على وجهه في بلاد الأرض، لا تحده غاية ولا توقفه غاية، ولا يوقفه غرض! إنه يطلب إلى صديقه أن يحدثه عما عنده في الشاطئ الآخر المائج بأضواء الحياة الفكرية، وهو يخبره أنه حينما عاد إلى الشرق - أي مصر - أصابه بادئ الأمر ذهول، ذهول عن أندريه وعن كل شيء، كمن وقع من السحاب حقيقة، ثم أخذ يتصفح الوجوه والأشياء حوله. يا لها من حقيقة مؤلمة! لقد رأى نفسه في شبه عالم نائم. لقد شعر بما قد يشعر من يهبط سطح القمر الأجرد المعتم، وعاش بضعة شهور بغير نفس ولا إدراك. وحينما ألقى إليه خطاب من أندريه أفاقه من (أفيون الشرق!) فرأى أنه في حاجة إلى شخص يهز له المصباح من الشاطئ الآخر، لأنه يعيش في صحراء يصيح في أرجائها. وأنه يتألم آلام من يعيش في غير عصره. (قد تسألني أليس في مصر طبقة المستنيرين؟ نعم في مصر طبقة مستنيرة فيها كثيرون عاشوا في أوربا وعرفوا الثقافة الأوربية، وفيهم من يعرف الفن الأوربي ويتكلم عن المصورين والتصوير، ومن يتكلم حتى عن برامس وباخ وهاندل. ولكن النادر أن تجد بين هؤلاء من عرف أن الثقافة الحقيقية شيء والكلام فيها شيء آخر. . . إن هؤلاء المتكلمين في الموسيقى والتصوير والفنون يعرفونها برؤوسهم ولا يدركونها بحواسهم. إن المطلوب للثقافة ليس مجرد المعرفة بل الإحساس والتذوق والتغذي بمختلف الفنون. . . الثقافة ليست كلاماً نملأ به الرؤوس ولكنها يقظة الملكات كلها والحواس. إذا سلمت بقولي هذا فلا أبالغ إذا قلت لك أن ليس في مصر عدد أصابع اليدين من المثقفين)
ولست أدري إذا أردنا أن نحصي هؤلاء التسعة أو الثمانية المثقفين في مصر فكم منهم يكون من فئة المصورين وكم يكون - أو يكونون - من فئة الموسيقيين، ثم من المثالين(546/10)
والممثلين ورجال الأدب والفكر والصحافة والمسرح (مؤلفين ومخرجين ومهندسين. . .)
ولست أدري ماذا يريد الأستاذ توفيق من النزول بمصر العزيزة والشرق الناهض إلى مراتب البيد، وبعدد المثقفين في نظره إلى ما دون العشرة مع أن مصر والشرق بخير، وهما يعجان بالمثقفين الذين تنطبق عليهم شروطه الثقافية انطباقاً تاماً ومع أن عدد المصورين وحدهم يربي في مصر وحدها على الثلاثة أو الأربعة، وعدد المثالين يزيد على الأربعة أو الخمسة، وعدد الموسيقيين يزيد على الاثنين أو الثلاثة، وعدد الأدباء يزيد وحده على الثمانية أو التسعة - والأستاذ الحكيم منهم بالطبع بل في مقدمتهم، وعدد المخرجين المسرحيين يقارب الثلاثة، وعدد الممثلين والمغنين والمغنيات يزيد على الستة. . . وإن كان عدد المؤلفين المسرحيين لا يصح أن يتجاوز الواحد. . . وذلك عندما يؤلف توفيق الحكيم للمسرح
لولا مغالاة الحكيم في التشاؤم. . . لكان كل ما قاله في زهرة العمر حقاً. . . ولا سيما هذا الكلام الذي قاله عن الأدب العربي واللغة العربية وأساليب الكتابة العربية، مما يحتاج حديثاً آخر، وليتأخر الكتاب على الأستاذ الزيات أسبوعاً ثالثاً، فما أكثر الهدايا التي تصل إلى الرسالة من المؤلفين اليوم
دريني خشبة(546/11)
من سير الرجال
حسن حسني الطويراني
الصحافي الكاتب الشاعر
1850 - 1897 ميلادية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
سأل الأديب على الشوكاني من بغداد في العدد (544) من الرسالة عن الصحافي الشاعر حسن حسني الطويراني، ورجا من قراء الرسالة أن يتفضل أحدهم بأن يروي قصة هذا الشاعر المغمور (في نظر السائل المحترم)
وعجيب جداً أن ينسى أديب عربي مشهور، وصحافي ذائع الصيت، وشاعر قوي العبارة، ولما يمض على وفاته نصف قرن كامل؛ فكيف إذا خب المطى به عشرات القرون؟
ولعل للسائل عذراً في ذلك، فنحن هنا - أعني في الشرق - ننسى ونمعن في النسيان حتى يفتح الله علينا برجل عربي مستشرق ينبهنا ويوقظنا من غفلاتنا الطوال، ويأخذ بأيدينا - أو بيده هو - على مواضع من تاريخنا وسير رجالنا. . . والأمثلة على ذلك كثيرة
على أن للسائل الفاضل فضلاً في سؤاله؛ فقد أتاح لي فرصة للتعريف برجل كاد النسيان يطوي مساحبه على ذكره، لولا أشتات جمعتها من هناك ومن هنا، وتعبت فيها راجعاً أكثر من كتاب ما بين (تاريخ الصحافة العربية) للكونت فيلب طرازي (والأعلام) للزركلي، (وتاريخ آداب اللغة العربية) لجورجي زيدان (وديوان ولي الدين يكن)، (وفارس الشدياق) للشيخ بولس مسعد (ديوان العقد) للشيخ إبراهيم اليازجي وغيرها
والمترجم له مصري بمولده تركي بأصله؛ ويرجع إلى أسرة تركية كريمة تنتهي إلى علي باشا الكبير أحد أمراء الأتراك في مقدونية. ولقد شهدت القاهرة مولده سنة 1850، كما شهدت القسطنطينية وفاته سنة 1897 فعاش في هذه الدنيا سبعة وأربعين عاماً ملأها بالبحث والتحصيل في أول حياته، والتأليف والتصنيف في بقية عمره، وهو فيما بين ذلك يتنقل من أرض إلى أرض وتسلمه بلد إلى بلد؛ لا تثنيه مشقة في سفر، ولا يصده عناء في رحلة. فطاف في كثير من بلاد آسيا وأفريقية وأوربا الشرقية، ويعبر هو نفسه عن تطوافه(546/12)
بقوله:
شرَّق النسر وغرَّبْ ... وتتركْ وتعرَّبْ
فتحرى وتدرب ... وتناءى وتقرب
ولئن أطري وأطرب ... فهو نصاح مجرب
وهو إن أعرب أغرب ... وهو إن أعجم أعرب
وهو في ذلك يذكرنا بالأعشى في قوله:
وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوريشلم
أتيت النجاشي في أرضه ... وزرت النبيط وأرض العجم
وفي سن الثلاثين كانت قد انعقدت له شهرة لا بأس بها في الشعر والأدب والكتابة، فأقام في القسطنطينية وأخذ يحرر في صحفها المشهورة ما بين عربية وتركية؛ فلقد كان بارعاً في اللغتين متفوقاً فيهما حافظاً للكثير من روائع أدبهما
وكان في الرجل نزعة دينية قوية فأنشأ في العاصمة التركية مجلة (الإنسان) سنة 1884، وكانت تصدر في كل شهر مرتين في أربع وعشرين صفحة لخدمة الإسلام أولاً، ولخدمة العلوم والفنون والزراعة والصناعة ثانياً؛ ولكن الحوادث دعتها إلى الاحتجاب بعد أن ظهر منها 19 عدداً؛ ولكنها عادت بعد سنة تقريباً إلى الظهور في شكل جريدة أسبوعية، وظلت إلى سنة 1890، حينما عطلها صاحبها بنفسه مختاراً ليعود إلى مصر مستأنفاً جهاده في سبيل الصحافة العربية
ومن الصحف التي حررها المترجم له في القسطنطينية جريدة (الاعتدال)، وخاصة في أول إنشائها، وجريدة (السلام). والأولى كان يملكها أحمد قدري المترجم العربي للسلطان عبد الحميد؛ والثانية كانت للحاج صالح الصائغي، وهما عربيتان. أما الجرائد التركية التي اشترك في تحريرها، فأهمها (ارتقا) و (زمان)
وكان للمترجم له نشاط عجيب في إصدار الصحف وتحريرها كما كان نشاطه في التأليف أعجب، وما ظنك برجل صحافي يشتغل بالسياسة والتحرير ومشكلات عصره، ويطالع قراءه كل يوم أو كل أسبوع أو أسبوعين بمقال في الصحيفة التي يعمل فيها أو يملكها؛ ثم يجد من الوقت ما يتسع لتأليف ستين كتاباً في اللغة العربية وعشرة في اللغة التركية؟(546/13)
وبعض هذه الستين مطبوع وبعضها مخطوط، وبعضها في مجلد واحد وبعضها في ستة مجلدات، مثل كتابه (صولة القلم في دولة الحكم)
ومناحي الرجل في التأليف تظهر عليها الروح الإسلامية القوية، فقد كان مستقيم العقيدة متين الدين، وكان فيه حكمة مضيئة ونظرة إصلاحية صحيحة. أليس من كتبه (النصيح العام، في لوازم عالم الإسلام)؛ ثم ألا يذكرنا هذا الكتاب بكتاب الأمير شكيب أرسلان (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم)؟. وله فوق ذلك كتاب (الصدع والالتئام، في أسباب انحطاط وارتقاء الإسلام)، وكتاب (الإخاء العام، بين شعوب أهل الإسلام). ولكن هذه الأخوة التي سعى إليها صاحبنا كانت في ظل الحكم التركي حتى على قساوته وظلامه. فقد كان داعية له في كل ما يكتب مدافعاً عنه في كل مناسبة
فلما قام الشيخ إبراهيم اليازجي اللغوي المشهور في الثورة العربية المصرية داعياً إلى تنقص الترك والإشادة بذكر العرب في قصيدته السينية المشهورة قام حسن حسني الطويراني يرد عليه بقصيدة من البحر والقافية يقول فيها:
دع عنك خائنة الوساوس ... فالذل عاقبة الدسائس
واخش الكلام فكم جنبت ... حرب البسوس وسبق داحس
ماذا تريد بشِّنها ... دهياء توحش كل آنس؟؟
ولكن قصيدة اليازجي كانت قاسية على الترك شديدة اللهجة ففيها يقول:
قوم لقد حكموا بكم ... حكم الجوارح في الفرائس
كم تأملون صلاحهم ... ولهم فساد الطبع سائس
ويغركم برق المنى ... جهلاً وليل اليأس دامس
أو ما ترون الحكم في ... أيدي المصادر والمماكس
وعلى الرشى والزور قد ... شادوا المحاكم والمجالس
وكان اليازجي في أثناء الثورة العرابية واقفاً للترك بالمرصاد يحط من أقدارهم ويصف من أفعالهم ما يبغضهم إلى العرب. ولعل أعنف قصائد اليازجي - والشيء بالشيء يذكر قصيدته البائية التي يقول فيها:
أقداركم في عيون الترك نازلة ... وحقكم بين أيدي الترك مُغتصبُ(546/14)
فليس يدري لكم شأن ولا شرف ... ولا وجود ولا اسم ولا لقب
فيا لقومي؛ وما قومي سواء عرب ... ولن يضيَّع فيهم ذلك النسب
والقصيدتان في ديوان العقد لإبراهيم اليازجي ص 56، 59
وكانت في أخلاق الطويراني شدة وحدة في المزاج؛ ولعله رحمه الله كان قليل البقاء على حال واحدة؛ فكنت تراه اليوم في جريدة وتراه غداً في غيرها؛ لا تقلباً منه في مبدئه، ولكن تعصباً منه في رأيه أو ترفعاً منه في الزلفى لحاكم أو الخضوع لذي جاه؛ ذلك هو السر في تعطيل بعض الصحف التي أصدرها
ولا يزال سجل الصحافة المصرية - إن كان لها سجل! - يذكر لصاحبنا جريدة (النيل) ومجلات (الشمس) و (الزراعة) و (المعارف) والأولى أنشئت في القاهرة في أواخر سنة 1891 أي بعد عودته إلى مصر من القسطنطينية بعام واحد؛ أما الشمس والزراعة فقد أنشأهما سنة 1894 والثانية أسبق من الأولى ببضعة أشهر في الظهور
كان لصاحبنا علاقات طيبة مع أفضل الرجال في زمانه كما كان له صلات ود مع أعظم الأدباء في عصره، ولم يكن في قلمه تلك الصرامة والسلاطة التي امتاز بها رجل كأحمد فارس الشدياق صاحب مجلة الجوائب. إلا أن العلاقة بين الرجلين الكبيرين كانت أمتن ما تكون الصلة، وأحكم ما تكون ارتباطاً. فقد رثى الطويراني أحمد فارس الشدياق حين وفاته سنة 1887م بقصيدة بائية من البحر البسيط وأرخ في الشطر الأخير منها وفاته سنة 1305 من التاريخ الهجري. كما نعاه في مجلة (الإنسان) التي كان يصدرها في القسطنطينية يومئذ في عبارات من السجع الذي كان طابع الكتابة العربية في ذلك الحين. إلا أنه في بعض مواضع من النعي عاد إلى الكلام المرسل (غير المسجوع) كقوله فيه (حكيم السكوت وقور الكلام متواضع الجانب عميق الفكر قوي الحجة كبير الهمة. . . إذا رأيته رأيت علماً متجسما، ومكارم أخلاق قد حلت فاستحالت إنساناً كاملاً)
ولما مات حسن حسني الطويراني باشا رثاه الشعراء، ولم يرثه أمير البيان شكيب أرسلان مع أنه رثى فارس الشدياق قبله ورثاه الشاعر الرقيق ولي الدين بك يكن بقصيدة تبلغ سبعة عشر بيتاً قال فيها:
يا قبر عندي طية عرضت ... لمن استضفت فزحزح السترا(546/15)
قد كنت قبل اليوم أقصده ... أهدي إليه النظم والنثرا
لا تطرحنَّ وإن ثوى (حسن) ... بعد المداغ فوقه الصخرا
أبكيك ما ذكر الورى أثراً ... ووعى الخلود لفاضل ذكرا
أبكيك ما جرت البراعة في ... ميدانها واستطردت سطرا
والقصيدة في ديوان ولي الدين يكن ص 69؛ وفي البيت السابع منها نقص وصحته:
قال النعاة طوى الردى حسنا ... قلت اندبوه فقد طوى الدهرا
وبعد هذا البيت بيت ثامن لم يرد في الديوان؛ والتصويب عن الكونت فيليب طرازي. وهو:
وطوى الطبيعة بعده وطوى ... ما بعدها حتى طوى النشْرا
هذه لمحة خاطفة عن حياة حسن حسني الطويراني باشا، وفي العدد الآتي من الرسالة أرجو أن يتسع المقام لدراسة شعره بشيء من التفصيل.
محمد عبد الغني حسن(546/16)
اضطراب التعليم في الأزهر
بين القديم والحديث
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لم تعمل اللجنة التي ألفت للبحث في أسباب فساد التعليم في الأزهر شيئاً، بل لم تكد تجتمع حتى اختلف أعضاؤها خلافا شديداً، لأن النظام الحديث الذي قضى فيه الأزهر ما يقرب من نصف قرن لم يعمل شيئاً في توحيد آرائنا في الإصلاح، وتكوين الانسجام الواجب بين أهل البيت الواحد، بل تركنا كما كنا قبله كثرة ترى الجمود على القديم فرضاً، وقلة تمقت القديم وتبغض الجمود، وترى أن آثاره الباقية في الأزهر هي السبب في فساد التعليم فيه
وبهذا تزعزع الإيمان بين الطلاب بصلاح التعليم في الأزهر، حتى تملكتهم الحيرة، واستولى عليهم اليأس، فهم لا يزالون يرون القديم آخذاً بخناقهم، ولا تزال أساليبه في التعليم مفروضة عليهم، ولابد لهم من الأخذ بها في دروسهم وامتحاناتهم، لأن الطالب إذا لم يأخذ بها لم يمكنه أن يمضي في التعليم، ولا يلبث أن يرسب في الامتحانات ويطرد من الأزهر وفروعه، ولكنهم يسمعون كل يوم نقد هذه الأساليب القديمة، يلقيه عليهم أنصار الإصلاح في دروسهم، ويقرءونه في بعض الكتب الحديثة المقررة عليهم، وفيما يطالعون من الكتب والجرائد والمجلات، ويسمعون فيما يلقى عليهم من المحاضرات، وقد تأثروا بكل هذا، حتى صاروا لا يؤمنون بفائدة هذه الأساليب القديمة، وأصبحوا لا يستسيغونها بعد أن تغيرت أذواقهم بما يطالعون من الأساليب الحديثة، لأنها تختلف كل الاختلاف عن الأساليب القديمة، فمن يتذوق إحداهما لا يمكنه أن يستسيغ الثانية، ولا شك أن النجاح في شيء من الأشياء إنما يقوم على أساس الإيمان به، فإذا فقد الإيمان به كان المضي فيه عبثاً، ولم يكن الحصول منه على ثمرة نافعة
وقد كان الطلاب في الأزهر قبل النظام الحديث يؤمنون بالقديم كل الإيمان، لأنهم لم يكونوا يسمعون شيئاً من نقده، ولم يكن الكلام على الإصلاح الحديث قد وصل بعد إلى أسماعهم؛ وكانوا يقضون كل أوقاتهم بين جدران الأزهر، فلا يختلطون بغيرهم ممن تربوا تربية حديثة، ولا يستمعون إلى محاضرات علمية أو أدبية تلقى في ناد أو محفل، وكانوا لا يعرفون إلا أساليبهم القديمة في التعليم، ولا يدرسون إلا العلوم القديمة وكتبها، فألفوا(546/17)
أساليبها وألفتهم، وامتزج حبها بنفوسهم ودمائهم، وآمنوا بفائدتها إيماناً لا يشوبه شك، لأنهم لم يطالعوا من آثار الحديث ما يزعزع عقيدتهم في القديم، أو يؤثر على أذواقهم التي تألفه وتستسيغه
وقد كان لإيمانهم بالقديم على فساده ثمرته فيما أخرجوا لنا من كتب تدل على براعتهم في قديمهم، وأنهم كانوا يتقنونه كل الإتقان، ويجيدون أساليبه كل الإجادة، وقد أخرجوا لنا من تلك الكتب ما لا يحصى ولا يعد، ما بين مختصرات بلغوا الغاية في اختصارها إلى حد التعقيد الذي كانوا يعشقونه، ويتنافسون في طلب فهمه وحل رموزه، وما بين مبسوطات بذلوا فيها كل جهودهم في التعليق على تلك المختصرات. وقد بلغ من عنايتهم بذلك أنهم كانوا لا يكتفون بشرح واحد على مختصر، بل كانوا يضعون على المختصر الواحد ما لا يحصى من الشروح، ثم يضعون على تلك الشروح ما لا يحصى من الحواشي، ثم يضعون على تلك الحواشي ما لا يحصى من التقارير، حتى ملأوا دور الكتب بمؤلفاتهم، وضاقت رحابها على سعتها بآثارهم
وليت الأمر وقف بطلابنا الآن عند تلك العوامل التي زعزعت إيمانهم بالتعليم في الأزهر، بل هناك عامل آخر قضى عليه كل القضاء، وهو عامل له خطره على الأزهر وأهله، لأنه قد حدا ببعض طلابنا أن يجعلوا من الأزهر وسيلة تعدهم لمعاهد أخرى لا صلة لها به، وتجعله في منزلة مدرسة ثانوية تعد الطلاب لما بعدها، فيصبح وليس هو الأزهر الجامعة الكبرى للمسلمين، وليس هو الأزهر الذي يجب أن يخرج لنا فطاحل العلماء، وأئمة الدين
فقد رأى طلابنا بعد أن أخذوا بالنظام الحديث أنهم صاروا أهلاً لوظائف الدولة، لأنهم درسوا فيه العلوم الحديثة التي تؤهلهم لهذه الوظائف، ولكنهم حينما يقصدون من بيدهم أمرها يجدونهم ينظرون إليهم كما كانوا ينظرون إلى أهل الأزهر القديم، ولا يسمحون لهم بشيء منها إلا بشق الأنفس، وبعد شفاعات ووساطات تذهب بكثير من كراماتهم، وتجعلهم يسخطون على التعليم الذي يزهد الناس فيهم، ولا يجعلهم يرغبون فيهم كما يرغبون في غيرهم، وتذهب بهذا البقية الباقية من إيمانهم به، وقد بدا أثر هذا العامل عليهم فيما يطلبه أبناؤنا في كلية اللغة العربية من فتح باب معهد التربية لهم، ليتخلصوا في نهاية أمرهم منا، ويصيروا إلى من بيده أمر تلك الوظائف، وهذا أمر له ما بعده، وستكون نهايته إن صبرنا(546/18)
عليه سعي الطلاب جميعاً في التخلص منا
فيا قوم إذا كنتم تريدون الوصول إلى سبب فساد التعليم في الأزهر فهذا بيانه، وإذا كنتم تريدون إصلاحه فاعملوا على وضع تعليم يؤمن به الطلاب، ويؤمن به من يتصلون بهم من الذين تربوا تربية حديثة، ويوفق بين آرائنا المضطربة، ويقرب بين أذواقنا المختلفة، ويجعلنا كلنا نؤمن بالإصلاح والتجديد، ونتفق على كره الرجعية والجمود
ودعونا من هذا الترقيع بين القديم والحديث، فإن الثوب القديم يألف الناس لبسه ولو كان بالياً، أما الثوب المرقع من القديم والحديث فإنه لا يألف لبسه أحد، ومن يلبسه يكون ضحكة بين الناس، وقد مضت علينا أزمان ألفنا فيها القديم خالصاً، وكنا في عزلة عن الناس لا يروننا ولا نراهم، ولا نطلب منهم أن يولونا عملاً من أعمالهم؛ فكنا في راحة منهم، وكانوا في راحة منا، ولم يضطرب أمرنا هذا الاضطراب الذي يلفت الناس إلينا، ويجعلهم يتطلعون إلى أحوالنا، ولا يرضيهم إلا أن تكون مألوفة لهم
وما هذا الترقيع بين القديم والحديث؟ لقد صار بنا إلى أن ندرس في القديم ما ينقضه الحديث، وندرس في الحديث ما ينقضه القديم، فندرس مثلاً في تاريخ الفلسفة على الأسلوب الحديث أن الفلاسفة كانوا رجالاً من أرباب الفكر الحر، ونعد هذا مفخرة من مفاخرهم، فإذا تركنا تاريخ الفلسفة إلى علم التوحيد درسنا فيه على الأسلوب القديم، أن الفلاسفة أعداء الدين، ونفرنا الناس بكل وسيلة من فلسفتهم. وهكذا ندرس في تاريخ الأدب العربي على الأسلوب الحديث أن كتابة التدوين والتصنيف بدأت في الانحطاط من أوائل الحكم العثماني، فاخترع تأليف الحواشي والتقريرات والرسائل الخاصة بشرح قاعدة أو جملة أو قصيدة، وضعفت عباراتها وازدادت تعقيداً وغموضاً، حتى أصبح ذلك مما يتنافس فيه، ويظن في صاحبه العلم والدقة؛ فإذا تركنا تاريخ الأدب العربي وجدنا الكتب التي يذمها لا تزال هي الأساس الذي يقوم عليه التعليم في الأزهر
ولا شك في أنه لا يوجد تعليم في الدنيا أسوأ من هذا التعليم الذي ينقض بعضه بعضاً، ويوقع الطلاب في حيرة لا يدرون فيها شيئاً، ولا يوجد فيه من الانسجام ما ينسجم به بعضهم مع بعض، وما ينسجم به جميعهم مع الناس جميعاً.
عبد المتعال الصعيدي(546/19)
أزاهير على قبر (وزير)
موت الأديب!
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
(ليس التحديق في لوح القدر بأسهل من التحديق في الشمس)
هنري باربوس
توفي منذ عهد قريب الأستاذ عبد المسيح وزير الذي لا يجهله قراء (الرسالة) الأفاضل، والذي كان في ربع القرن الأخير يوالي عمله بشكل متواصل لتغذية اللغة العربية بدم جديد، فأنشأ في خلال هذه المدة من عمله مفردات خاصة، وسبك تعبيرات ذات أثر فعال في الناحية العسكرية والفنية والأدبية في هذا الدور المهم من تاريخ تطور اللغة العربية الحديث، كما أضاف ثروة لا تفنى إلى المفردات التي تصاغ الآن في الحياة اليومية، وجلا عن فن الترجمة وأظهره بأحسن مظهر
مات هذا الرجل في بغداد، فكأنه ورقة سقطت في خريف! سكتة قلبية! أو ضنى أورثه طول الكد وقلة الراحة! أو غير ذلك مما يعتور حياة الأديب في بلاد الرافدين!
فماذا ترك وراءه؟
لقد ترك أهله ومعهم لا شيء!
وما أكثر أن يخلف الإنسان لا شيء!
ليست حياة الأديب في العراق ولا في غيره من البلاد العربية التي لا تفضله كثيراً في هذا المضمار بمجهولة السيرة. فإن أبخس ما يمكن أن يلقاه رجل الفكر والأدب في حياته وما يكابده رجال الأدب في بلاد الرافدين
هذه حقيقة واضحة تذكر في كل مناسبة، وأخص المناسبات لها بالذكر صوت أديب!.
والعجب في حياة العزبة التي يحياها الأديب في العراق أنها تتكرر في الأفراد بهذا الشكل من جهة وتؤكدها من الجهة الأخرى معاملة الجمهور لأولئك الأفراد في حياتهم وبعد موتهم
فقد عاش المرحوم عبد المحسن الكاظمي الذي كان أعجوبة دهره في السليقة الشعرية في مصر، منكور الحق مهملا من العراق والعراقيين، حتى مات، فعرف عندئذ حقه المهضوم(546/21)
وأقيمت الحفلات التأبينية على روحه الكريمة ولذكراه التي لم يأبه لها أحد في حياته!
فهل هو (الموت) الذي يقيم لهؤلاء الأدباء شأنهم؟ وهل هو (جواز السفر) لتقدير أدبهم؟
ليس الموت وحده فيما نظن هو الذي يسبغ على الأدباء قدسيته، بل هو غرض الأحياء من (المنتفعين) في أن ينتفعوا - بعد - من موت الأموات!
فقد مات (الزهاوي) الشاعر الذي تعدت شهرته حدود العراق والعالم العربي إلى أوربا ونسي بعد موته مباشرة
ومات (محمود أحمد) القصاص الأديب، فلم يذكره أحد
ومات (خلف شوقي الداوودي) فلم يشعر به أحد!
وسيموت غير هؤلاء كما مات عبد المسيح وزير على حين فجأة، فلا تقوم في أنفس الناس عليهم سوى بعض ما يتكرم به المتكرمون ويكون أبعدهم في الكرم من يقول: رحمة الله عليه!
هذا الرصافي: وهو الشاعر الذي كانت البلاد العربية بأجمعها تردد أناشيده وأغاريده في وقت من الأوقات:
ما هي حياته الآن وما محصولها؟
إنه يعيش كما يعيش النبات، ولا يجد من يذكره، ولعله يعد أيامه عداً!
وهذا (الصافي) أمثولة البؤس الحي، تنطق أشعاره به، ولعله هو الآخر يحسب ما بقي من أيام حياته
هل يعجز العراق كله بأن يمد في حياة هذين الأديبين - مثلاً - وأن يساعدهما على مد اللغة العربية ببعض الروائع؟
كلا! على التحقيق
ولكنه يفضل أن يموت كلاهما لكي يقول عنه: رحمة الله! لقد كان أديباً فذاً!
لا يملك الأديب أن يكتب في رثاء (وزير) دون أن يكون في طبيعة هذا الرثاء شيء من رثاء نفسه، فالواقع أنه - كان - أمثولة حية للأديب العراقي في بلاد الرافدين!
فقد كان موظفاً أفنى في وظيفته ربع قرن بدون أن يحصل على إجازة يوم واحد، ومات بعد كل ذلك فقيراً!(546/22)
وحاول أن يقوم بأعظم خدمة يستطيع أن يقوم بها فرد نحو أمته ولغته، وتجاهل جميع الصعوبات، وانكب على تهيئة أعظم قاموس إنكليزي - عربي، ولكن الصعوبات لم تتجاهله. بل انكبت عليه بأجمعها حتى اضطر أن يبيع ملازم الجزء الأول من قاموسه العظيم إلى باعة الجبن!
وكم كان يكسب لو أنه انصرف في حياته إلى شيء غير الأدب في هذا البلد؟ وكم كان يسعد هو وأهله لو أنه وضع نصب عينيه - مثلاً - أن يقتني سيارة لوري بدلاً من أن يكون الأول في دراسة نظرية النسبية لأنشتين؟
لقد كان (وزير) رمزاً حياً - حتى بعد وفاته، للأديب العراقي في كل صفاته المثلى
طاب ثراه، وطابت ذكراه
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين(546/23)
جامع أحمد بن طولون
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر في سوريا ولبنان
(تتمة)
سبب ذلك الفتنة التي قامت بمصر، وانتهت بمقتل الملك الأشرف، خليل بن المنصور قلاوون، فقد بدأت تلك المؤامرة في جبال كسروان، حينما عاد منها الأمير بيدا منصوراً أتابك العساكر المصرية، والتقى بالسلطان في دمشق فأكرمه، ثم تغير عليه فأسمعه القارص من الكلام فعقد النية مع بعض القواد على الفتك به ولم تسنح الفرصة إلا في إقليم البحيرة، عند عودة السلطان من الإسكندرية وقت انفراده بالصيد، وقد ترتب على وفاة الأشرف المناداة بأخيه الناصر محمد في العاشرة من عمره فقبض على بيدا، وعلى من يميل إليه، واتجهت الشكوك إلى حسام الدين لاجين، من أمراء الألوف وقواد الدولة، فلجأ هذا إلى المنارة الحلزونية، وأعطى الله عهداً - إن سلم من هذه المحنة ومكنه في الأرض أن يجدد عمارة الجامع - وقد استجاب الله دعاءه، فأناب الأمير علم الدين الداوداري، وجعل إليه شراء الأوقاف التي على الجامع الطولوني، وصرف إليه كل ما يحتاج إليه في العمارة وأكد عليه ألا يسخر فاعلاً أو صانعاً، وألا يقيم مستحثاً للصناع، ولا يشتري لعمارته شيئاً مما يحتاج إليه من سائر الأصناف، إلا بالقيمة التامة، وأن يكون ما ينفق على ذلك من ماله وأشهد عليه بوكالته
وقد أقام عمارة بالجامع وبالمحراب وبالقبة وبلطه وبيضه، وخلد ذلك في لوحة مكتوب عليها:
(أمر بتجديد هذا الجامع مولانا السلطان المنصور حسام الدنيا والدين لاجين)
ورتب فيه دروساً للفقه ودرساً للحديث، ودرساً للطب، وقرر للخطيب مرتباً وجعل له إماما، ومؤذنين وفراشين وخدما، وبلغت النفقة على العمارة عشرين ألف دينار
وفي المقريزي والسيوطي وابن إياس ما يدل على بقاء الأوقاف جارية والدروس وأسماء من تولى النظر عليه حتى نهاية الدولة المصرية، وفي خطط علي باشا مبارك ما يدل على(546/24)
ذلك في أوائل العهد العثماني.
ولقد استعمل المسجد آناً كملجأ للمغاربة، وأخرى كمخزن لحفظ القمح، وفي عهد الملك السعيد أقام المأتم بمناسبة مرور السنة الأولى على وفاة والده الشهيد الملك الظاهر، فكان جامع ابن طولون من المساجد التي اجتمع فيها الناس للعزاء آلافا.
ولو شئنا أن نعود إلى ما ذكرنا من كتب التاريخ رأينا أنه صلى في هذا المسجد على بعض من مات من خلفاء العباسيين بالقاهرة الذي لا تزال قبورهم محفوظة بجوار السيدة نفيسة، وكان آخرهم المتوكل على الله يعقوب الذي توفي في آخر عهد السلطان الغوري.
ثم بدأ عهد تدهور للمسجد حتى وصل إلى درجة خيف من سقوط سقفه، وجار الناس على أطرافه حتى أصبحت المنازل تطل عليه، وأخيراً توجهت إرادة المغفور له ملك مصر فؤاد الأول لإقامة الشعائر الدينية في الجامع، فصلى فيه صلاة الجماعة يوم الجمعة 23 رجب سنة 1336
ثم صدر النطق الكريم بوضع برنامج لإصلاح الجامع وتبليط الأروقة وتجديد البوائك التي اندثرت، وإصلاح الطاقات، ثم أعقب ذلك نزع ملكية المباني التي شغلت جزءاً من الأروقة المحيطة به حتى يصبح المسجد خالياً من جهاته الأربع في وسط ميدان عرضه من كل جهة عشرون متراً غير الميادين التي ستفتح أمام أبوابه
وفي سنة 1926 فتحت الحكومة اعتماداً قدره 45 ألف جنيه مصري، ثم أعقبها بأخرى؛ فكان ما صرف على إعادة المسجد مبلغ 90 ألف جنيه مصري
والآن وقد تمت هذه الإصلاحات للجامع الطولوني، فقد ظهر أهم الآثار العربية بالديار المصرية وأقدمها بمعالمه الحقة وأعيدت إليه الشعائر الدينية، وأدعو كل من قرأ هذه الكلمة إلى زيارته كلما توجه إلى مصر، فهو أثر خالد لا تشبع العيون من رؤيته، وفي العام الماضي من أوائل المحرم، وقد خرجت من المسجد بعد صلاة الجمعة، وتقدمت من الخطيب. قلت: ألا تذكر صاحب الصرح العظيم بكلمة. قال: إن شاء الله سأجعل في كلامي كل يوم جمعة رحمة، أسأل الله أن تنزل على الأمير العظيم في مرقده.
وإني لأختم كلمتي بترديد شعر للمعتمد العباسي يرثي صاحب المسجد:
إلى الله أشكو أسى ... عراني كوقع الأسل(546/25)
على رجل أروع ... يرى فيه فضل الرجل
شهاب خبا وقده ... وعارض غيث أفل
شكت دولتي فقده ... وقد كان زين الدول
وذكر ابن خلكان: (وزرت قبره في تربة عتيقة من الباب المجاور للقلعة على الطريق المتوجه إلى القرافة الصغرى بالمقطم).
عسى أن توفق مصر للعثور على قبر أول عاهل استقل بها في عهدها العربي.
أحمد رمزي(546/26)
كل شيء قد خبا
للدكتور إبراهيم ناجي
ماذا انتظاري! كل شيء قد خبا ... لم يبق لي في الليل ما أتلمّس
قدستُ حبك مُسْعَداً ومعذبا ... والآن جرحك في الجراح مقدس!
حالت معالم حبنا وتنكرت ... من ذا الذي يا قلب لم يتغير
نادى الرحيلُ فما اسِتطعت وسّمرتْ ... قدمي المقادر في المكان المقفر. . .
قدمي تشبث بالبقاء وناظري ... فيما كتبتُ على أديم رمال
ما كان يجري قبل ذا في خاطري ... أني خيالٌ عالقٌ بخيال
ذُبح النهار ففي السماء موسدٌ ... بسطت عليه الغاشيات ظلالها
طويت يد الراحات وامتدت يدٌ ... حمراء تنشر في الغروب نصالها
سفك الخريف دماءه فغمائم ... حُمرٌ وأخرى في الرياض أراقها
وكأنما الورق الشريد حمائم ... هتك الذي صبغ السما أطواقهاَ
يرنو له قلبي فيدمي ليثني ... لما استعان على هداكِ أعنته
الذنب ذنبي لا أماري إنني ... مالت علّى رحى الهوى فطحنته(546/27)
تحية ضائعة
للأستاذ صالح جودت
خَمسةُ أعوام وقلبي حزينْ ... يحن للوكر الذي تعرفينْ
تخطر بي رُوحُكِ فيه كما ... تخطر رُوحُ الله بالطائفينْ
وكلما أقبلتُ أَلْفَيْتُني ... أعود للماضي فأنسى السنين
كأننا بالأمس منا هنا ... ما بيننا والأمس غير اليقين
تسلل اليأسُ لخدر المنى ... فخلّفا الوهم شَقي الجنين
فكل شيء هاهنا قائم ... كأنما كنتِ هنا منذ حين
وكل شيء عَدَمٌ هاهنا ... إِن لم تكوني أنتِ في الحاضرين
يا ليت شيئاً هاهنا لم يكن ... إلاَّك يا فرحة قلبي الحزين
في ذلك الوكر وفي ظله ... يهيج بي الشوق ويصحو الحنين
أشم في عطرك المفتدى ... مستلقياً فوق وسادٍ أمين
وتلك مرآةٌ لها قصة ... لو قالها الزئبقُ تستغربين
خلفت في بللورها صورةً ... من المِثال القُدُسي المبين
تنكرها الأبصار إلا أنا ... تحسبها عيناي في الخالدين
وهذه زهرية طالما ... نَدَّيْتِها أمس بعطف اليمين
ثار لهيب الورد من شوقها ... فاحترقتْ فيه مُنَى الياسمين
وهاهنا كأسان نجواهما ... تحيةٌ في حُلُم الشاربين
كأنني منكِ على موعد ... أناشد الغيبَ متى تحضرين
واسأل الباب أَمَا طارقٌ ... وأنظر الساعة في كل حين
فترسل الأحلامُ همس المنى ... وترسل اليقظة همس الأنين
كأنني في قبر أحلامنا ... وكل شيء فيه حي دفين
يمشي إله الحب في ركنه ... مهدم الروح شقي الجبين(546/28)
أغنية الرياح الأربع
أخرج شاعر اللذة والجمال الأستاذ علي محمود طه روايته المصرية الشعرية (أغنية الرياح الأربع) في ثلاثة فصول تتسم بسمات الفن الرفيع الذي عرفه القراء في كل ما صدر عن هذا الشاعر المبدع. وقعت حوادث هذه الرواية منذ أربعة آلاف عام على شواطئ البحر الأبيض من السواحل الفينيقية إلى السواحل المصرية. ولهذه المسرحية الباسقة الفروع الدانية القطوف نواة من أصل تاريخي عثر عليه الأثري الكبير الأب (دريتون) عام 1942، فنقله من اللغة المصرية إلى اللغة الفرنسية؛ ثم نشره في كتيب صغير قدم له بكلمة شارحة نقتطف منها ما يأتي:
(أغنية الرياح الأربع تقوم على الحوار، فبعد. أربع مقطوعات تغني كلا منها فتاة، يدخل رجل فيحييهن ويشرع في خطفهن ليستولي على الرياح الممثلة فيهن، فيغريهن بإثارة الفضول في نفوسهن، وذلك بأن يعرض عليهن زيارة سفينته (وتلك كانت خطة البحارة الفينيقيين في عهد هذه الأغنية يلجئون إليها عندما يريدون اقتناص الجواري من بلاد البحر الأبيض)، ولما قوبل طلبه بالرفض، لم يستسلم للهزيمة كما هو واضح من المقطوعة الأخيرة في الأغنية (إن وسائلي لا تنفد)، ولكن لسوء الحظ لم نعثر على تكملة الأغنية والوسائل التي لجأ إليها الرجل، وأكبر الظن أنها مما يثير الشراهة التي تكشف مواطن الضعف في النساء.
ويبدو من قراءة هذه الأغنية أنها لم تصل إلينا كاملة، بل امتدت إليها يد التغير، تشهد بذلك مقطوعتها الثالثة التي تتغنى بريح الشرق فإنها تزيد على المقطوعات الأخرى، وربما تعمد ذلك الذي قام بجمع أجزائها حتى تبدو هينة سهلة.
ومهما يكن من أمر هذا الحذف فإن هذه الأغنية قد وسعت من آفاق معارفنا عن أقدم نصوص الأدب المصري وأضافت إلى معلوماتنا شيئاً جديداً جديراً بالتقدير.
ولسنا مغالين إذ نقول إنها أثبتت وجود شعر غنائي ملئ بالخيال والعذوبة في مثل هذا العهد البعيد).
ونص أغاني الرياح كما عثر عليه الأب دريتون:
تقول الفتيات أنهن أُعْطِينَ هذه الرياح(546/29)
فهذه ريح الشمال التي تُطوِّق بحر إيجه
والتي تمد ذراعيها فتبلغ أطراف مصر
والتي تخلد إلى النوم بعد أن تترك في نفس الصديق البهجة التي يأنس إليها كل يوم
إنها ريح الحياة أُعْطِيْتُها وبها أحيا
تقول الفتيات: (لقد أُعطينا هذه الرياح)
وهذه ريح الشرق التي تُفتِّح طاقات السماء
والتي تهبَ الشرق أنفاسَه
والتي تَهبُّ مع الشروق وتصحب الشمس إلى ضحوتها
أمسكت الشمس بيدي
وهيأتْ لي في ساحتها مكانا
حيث أقبل على الطعام بشغف كما يقبل أبيس
وألتهمه في نهم كما يفعل (سيت)
إن ريح الشرق هي ريح الحياة أُعطيتها وبها أحيا
تقول الفتيات: (أعطينا هذه الرياح)
وهذه ريح الغرب شقيقة (ها) وسليلة (ياوٌ)
والتي جعلت من جسد الآلهة موطناً لها تعيش فيه
قبل أن تكون في هذا الوادي مملكتان مختلفتان
إنها ريح الحياة أُعطيتها وبها أحيا
تقول الفتيات: (لقد أعطينا هذه الرياح)، وهذه ريح الجنوب، ريح زنجية تسوق الماء
الذي يبعث الحياة في كل شيء
إنها ريح الحياة أعطيتها وبها أحيا
الفاتن:
تحية لكُنَّ يا رياح السماء! ألا تحدثنني عن أسمائكن واسم من وهب هذه الأسماء! هل لي
أن أعرف من منحكن هذا السلطان!
إحدى الرياح:(546/30)
لقد وجدنا قبل مولد الناس، بل قبل وجود الآلهة، وقبل أن يقع طير في شرك، أو يوثق
ثور في حبل، وقبل أن يتعرض جسد (هاتريت) بنت الآلهة للضم والعناق، وقبل أن تُشْبَع رغبة الإله الأزلي سيد السموات والأرض. لقد طلبتها إلى آلهة الريح فأجابتني ومنحتني إياها
الفاتن:
تعالي معي أرك سفينتي، هلا نزلت
إحدى الرياح:
لا، أن لي سفينة أروح بها إلى الثغر؛ وعنده أتزود بسفينة طولها ألف ذراع، فأصعد بها
إلى دارة الشمس
الفاتن: إن وسائلي لا تنفد
هذه هي النواة أو جزؤها الذي استنبتته قريحة الفنان علي طه، فجاء كما شاء أيكة فينانة باسقة. وقد تخيل الشاعر وسائل القرصان لإغراء الفتيات، فصورها تصويراً نفسياً عجيباً، لم ينجهن منها إلا ذكاء (حروازا) وعناد (باتوزيس). والرواية بأصلها القديم وفروعها الحديثة من مآثر الأدب المصري ومفاخر علي طه.(546/31)
البريد الأدبي
عبد المسيح وزير
قراء (الرسالة) يذكرون القصة العذرية المنقولة عن اللغة الكردية بقلم الأستاذ عبد المسيح وزير، والذين زاروا بغداد يذكرون أنهم رأوا في هذا الرجل حلاوة الدعابة، ولطف الذوق وكرم النفس، فمن العزيز علي أن أتلقى من أحد أدباء كربلاء خطاباً أعرف به أنه مات، وأن الجرائد العراقية لم توفه حقه من الرثاء، وهو يدعوني إلى نعيه بمجلة الرسالة، رعاية لحقوق الأخوة الأدبية بين مصر والعراق
كنت أتمنى أن أسمع عن الأستاذ عبد المسيح وزير خبراً غير هذا الخبر الأليم، فقد كان من أعز أصدقائي، ولعله كان لجميع من عرفوه خير صاحب وأعز صديق
كان عبد المسيح وزير تحفة أدبية، وكانت نفسه على جانب من الصفاء، ولهذا اهتم اهتماماً عظيماً بآثار طاغور، فأوحى إلى مريديه معنى الإعجاب بشاعر الهند، كما تشهد المجموعة التي نشرها الأستاذ فخري شهاب السعيدي، وهي أوفى ما نقل من آثار طاغور إلى اللغة العربية
وقد اشترك عبد المسيح وزير في نقل مصطلحات الجيش في اللغة التركية إلى اللغة العربية، كما حدثني يوم شهدنا مباراة الطيران في بغداد
من العزيز علي أن أفجع بموت صاحب لم أجد منه غير الجميل ولم تكن اللحظات التي قضيتها في صحبته غير أقباس من الصفاء
وأنا بعد هذا أستبعد سكوت الجرائد العراقية عن رثاءه، كما جاء في الخطاب الوارد من كربلاء، فمن المؤكد أن محنة الجرائد بغلاء الورق وضيق الصفحات هي المسئولة عن هذا العقوق
أما بعد، فهذه كلمة وجيزة نؤدي بها واجب التوديع لأديب عرفناه فأحببناه، وستلوح فرصة ثانية نتحدث بها عنه بإسهاب. . . وسلام عليه، وعلى روحه اللطيف.
زكي مبارك
حول بيت لعلم الدين المحيوي(546/32)
في مقال الأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك عن الشاعر التركي (أيدمر المحيوي)، ورد هذا البيت:
والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يصبح بالنعيم ويُغبق
وقد نص الدكتور على أن (النعيم) هنا هو الخمر. قال: وهي كلمة قليلة الورود في الخمريات، ولكنها لا تعظم على من ينافس أبا نواس
وأقول إنه يبدو لي أن تصحيفاً طرأ على هذه الكلمة، وصحتها (النسيم) لا النعيم، فيكون البيت:
والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يُصبح بالنسيم ويغبق
ومعناها أن الغصن يتمايل كالنشوان، ولكنه لم ينتشي من اصطباحه واغتباقه بالخمر، كما يفعل النشاوي من الناس، وإنما هو مصطبح مغتبق بالنسيم الذي يغاديه ويراوحه
فنائب الفاعل ليصبح ويغبق هنا هو (الغصن) لا (نشوان) وتلك زيادة في المعنى لا تحسبها قد فاتت الشاعر. ونحن نرفض كلمة (النعيم) هنا، لأنها تحرمنا من هذا المعنى الذي ذكرناه، ثم لأننا لم نسمع بأن النعيم من أسماء الخمر، وأخوف ما نخافه أن يستطرد شعراؤنا فيلقبوها بالسعادة أيضاً، وبالهناء والسرور. . .
وقد رجعت إلى (حلبة الكميت) لشمس الدين النواجي، فوجدته يورد البيت بلفظ النعيم لا النسيم؛ وكذلك فعل البهاء الدمشقي صاحب (مطالع البدور). والتصحيفات - كما قلت مرة - هي آفة الآفات في مطبوعاتنا ومخطوطاتنا. وإنها لكثيرة - وسخيفة أحياناً - إلى الحد الذي تستوجب معه الإهمال وترك التصحيح، ولكني أردت بهذه الكلمة أن أستطلع أستاذنا الجليل زكي مبارك، ولعله يقتنع برأيي فأكون سعيداً.
هذا وقد راقني حديثه الموجز عن الروضة والمقياس ومكانتهما من نفوس الشعراء في أزمانهما. وأنا مثبت هنا تأييداً لرأيه ما قال بعض الشعراء (المجهولين) في المقياس:
إن مصرا لأطيب الأرض عندي ... ليس في حسنها البديع قياسُ
ولأن قستها بأرض سواها ... كان بيني وبينك (المقياس)
(جرجا)(546/33)
محمود عزت عرفة
ختان الأنثى في الإسلام
نفي دكتورنا الفاضل (أسامة) في بحثه (ختان البنات في مصر) بالعدد 544 من الرسالة الغراء وجود أصل لختان الأنثى في الإسلام معتمداً في نفيه على: خلو بلاد إسلامية كالحجاز والعراق والشام وغيرها منه، واستئثار مصر وحدها به - لا ينفك عنه مسلموها وأقباطها على السواء - ويرجح لهذا، تقدم الأقباط في العمل به، وانتقاله إلى المسلمين بالوراثة
أما صلته بالإسلام فقد نص الأئمة في أحكامهم المستنبطة من السنة، على الختان في حق الأنثى: فقال الشافعي وكثير من العلماء إنه واجب، وقال مالك وأبو حنيفة إنه سنة. ومأخذ هذه الأحكام أحاديث كثيرة منها (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء). ومنها: (يا نساء الأنصار اختضبن غمساً واختفضن - من الخفض وهو ختان المرأة. ولا تنهكن - أي لا تبالغن - وإياكن وكفران النعمة).
دسوقي إبراهيم
تأريخ الأخلاق
(تأليف محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين -
الطبعة الثانية 317 صفحة)
الأستاذ محمد يوسف موسى عالم فاضل جمع بين الثقافتين، ثقافة الأزهر القديمة، وثقافة الغرب الحديثة، ويسرت له معرفته باللغة الفرنسية الاطلاع على المراجع الأجنبية في أصولها. وهو إلى جانب ذلك يبغي الحق لذاته شأن طلاب الحكمة. قلت له: قد لا يروقك ما أكتب، قال: إني لا أخشى النقد. ولعمري هذه هي روح العلماء، من الاعتراف بالخطأ، والسعي إلى الصواب. وإنما الكمال لله وحده
وكتاب (تاريخ الأخلاق) هو الأول من نوعه في اللغة العربية، ويعتبر بذلك سداً لفراغ(546/34)
عظيم في تاريخ الفلسفة على اعتبار أن الأخلاق فرع من فروعها
وفي الكتاب دراستان: إحداهما منقولة، والأخرى أصيلة: أخذت المنقولة عن المصادر الأجنبية وذلك فيما يختص بالأخلاق عن أمم الشرق القديم وعند اليونان وعند الأوربيين بعد عصر النهضة. والجزء الأصيل هو الخاص بالأخلاق الإسلامية. وهذا فضل للمؤلف غير منكور، وجهد مشكور
ولا أحب أن أعرض للأجزاء المنقولة بشيء، لأن نقدها يعتبر نقداً للمراجع الأولى التي استسقى منها المؤلف، ولكني أقول من حيث الشكل إنه عرض للسائل عرضاً سريعاً لا يشبع النهم، وعذره في هذا هو طول الموضوع وضيق الورق. وما بالك بكتاب يريد أن يحيط بتاريخ الأخلاق من يوم أن ظهرت الحكمة الإنسانية حتى الآن، في بضع مئات من الصفحات
ونقف قليلاً عند الجزء الأصيل، وهو تاريخ الأخلاق عند المسلمين. قال المؤلف في مستهل الكلام عن الأخلاق في الإسلام ص 159: (إن الضمير، وإليه المرجع في بيان الخير والشر، فطري في جرثومته وأصله. . .). وهذه القضية، وأعني بها فطرة الضمير، موضع خلاف بين العلماء والفلاسفة، ولم يكن ينبغي أن يقطع فيها المؤلف برأيي كما يقتضي التحقيق العلمي الصحيح
وتقسيم الأخلاق الإسلامية غير واضح، فهو يضع في القسم الأول الذين سادت كتاباتهم النزعة الدينية والأخلاق العملية كما فعل الماوردي في أدب الدنيا والدين. وفي القسم الثاني الذين سادتهم النزعة الدينية والصوفية مشوبة بالنظر الفلسفي كالغزالي. وفي القسم الثالث الأخلاق الفلسفية كما نجدها عند الكندي والفارابي وغيرهما. والتقسيم على هذا النحو يعتبر غير جامع ولا مانع كما يقول المناطقة
ويرى المؤلف أن القرآن والحديث لا يكونان مذهباً أخلاقياً وفي ذلك يقول: (إلا أنه حذار من المبالغة والقول بأن ما في القرآن والحديث من أخلاق يكون مذهباً أخلاقياً، فإن هذا لا يعدو، كما نعرف جميعاً، طائفة لها قيمتها من المواعظ والحكم تدل على الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. أما أنا فأعرف أن في القرآن فلسفة وأخلاقا وتشريعاً وقصصاً كأغلب الكتب السماوية. والجانب الخلقي في القرآن عملي يصف ألوان السلوك(546/35)
الواجب اتباعها، على أن هذا السلوك العملي يستمد كيانه من قواعد نظرية نستطيع استخلاصها. والمجال لا يتسع لبسط هذه النظريات، وأكتفي بضرب مثل بإحداها وهي نظرية أن الفضيلة وسط بين طرفين، فهي سائدة في أغلب السور مثال ذلك: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط)
والأخلاق عند إخوان الصفا كسبية لا فطرية، لا كما ذكر المؤلف من أن منها (ضرب جبلي وآخر كسبي) ص 180. وفي ذلك يقول إخوان الصفا ج1 ص 236 (والمثال في ذلك أن كثيراً من الصبيان إذا نشأوا مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح وتربوا معهم تطبعوا بأخلاقهم وصاروا مثلهم. وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق والسجايا التي ينطبع عليها الصبيان منذ الصغر) والسبب في اعتناق إخوان الصفا مذهب الكسب في الأخلاق، لأنه يخدمهم في نشر عقيدتهم التي يريدون تغليبها في الأمصار. ولو قالوا بالفطرة ما كانت هناك جدوى من نشر مذهب جديد
والغريب أن المؤلف أخرج الغزالي من زمرة المتصوفة حيث قال ص 197: ولسنا في حاجة للقول أن الغزالي أصاب الحق بمجانبته للمتصوفة وموافقته للنظار والفلاسفة. ونقول أن الغزالي يقصد بالنظار أولئك الذين يسلكون طريق التصوف عن نظر لا عن تقليد أعمى
هذه النقدات لا تنقص من قيمة مجهود موفق جليل، نرجو أن يتابعه بمؤلفات أخرى في القريب.
الدكتور
أحمد فؤاد الأهواني(546/36)
العدد 547 - بتاريخ: 27 - 12 - 1943(/)
كتب السياحة
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب السياحة كانت توفيقاً ونجاحاً يوم كانت السياحة نادرة عسيرة
بل هي كانت يومئذ أكثر من توفيق ونجاح: كانت واجباً إنسانياً أو (فرض كفاية) يقوم به قليل من الناس عن جميع الناس
فقد كان الانتقال من قطر إلى قطر عملاً مقصوراً على التجار أو المقاتلين، وربما ساهم فيه من حين إلى حين شاعر يقصد ممدوحاً وتلميذ يحج في طلب أستاذ. وكل هؤلاء يعنيهم ما طلبوه وتعمدوه، وقلما يعنون بالمشاهدة أو بتسجيل ما يشاهدون
إنما كان يعني بالمشاهدة والتسجيل أفراد معدودون في كل جيل، يخرجون في مسوح الزهاد أو حباً للرحلة بين أرجاء البلاد، ويعمد واحد منهم في كل جيلين أو ثلاثة أجيال إلى تسجيل ما رآه ووصف الأقوام التي عاشرها والأقاليم التي عاش فيها، فيؤدي (فرض الكفاية) الذي أشرنا إليه، ويدل الأمم على الأمم والعصور على العصور
وكان هذا العمل لازماً في زمانه، ولا يزال كذلك لازماً لنا في هذا الزمان
ففي زمانه كان كل قطر غريباً عن كل قطر غيره وإن قاربه مقاربة الجوار، فالسائح على ثقة من حمل الغرائب التي تشوق وتروق، وهي كذلك تعلم وتفيد
وفي زماننا هذا نقرأ الرحلات لنعرف بلادنا كما نقرأها لنعرف البلاد الأخرى، فالقاهرة في القرن الرابع عشر غريبة عن أبناء مصر الحديثة كغرابة الصين في زمانها أو في هذا الزمان، ونحن نود أن نسمع عنها كما نود أن نسمع عن توكيو وبكين وستالنجراد، لأنها خبر شائق وعلم مفيد
وقد نحيط بعادات الأمم الخالية فنصحح بعض الغرور الذي يركب أبناء العصر الحاضر فيخيل إليهم أنهم هم السابقون إلى كل طرافة وأن المتقدمين في باب الطرائف هم اللاحقون
نحن اليوم نغرق في العملة الورقية ونعلم ما نعلم عن سبائك الذهب والفضة في المصارف والخزانات الدولية، فيسبق إلى وهمنا أنها حال طريفة وأنها عرض من أعراض الحروب في الآونة الحاضرة، ولكننا نفتح ابن بطوطة فنراه يقول عن أهل الصين في القرن الرابع عشر للميلاد: (وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا بدرهم، وجميع ما يتحصل ببلادهم من(547/1)
ذلك يسبكونه قطعاً كما ذكرناه، وإنما بيعهم وشرائهم بقطع كاغد: كل قطعة منها قدر الكف مطبوعة بطابع السلطان، وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها بالشت وهو بمعنى الدينار عندنا، وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا، فأخذ عوضها جدداً ورفع تلك، ولا يعطي على ذلك أجرة ولا سواها، لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان، وقد وكل بتلك الدار أمير من كبار الأمراء. . .)
فقد كان أهل الصين إذن (عصريين) في ناحية من النواحي يوم كان العصريون في ظلمات القرون الوسطى، يجهلون أنفسهم كما يجهلون أهل الصين!
ونحن اليوم نحسب أننا قد أحطنا بالقاهرة خبراً، وذرعنا أحياءها شبراً شبراً، وجعلناها امتحاناً للريفي الذي يضل فيها، ويخطئ الطريق إلى معالمها وضواحيها، فإذا نحن غرباء في القاهرة نسوح بين بقاياها التاريخية كما نسوح بين بقايا المدن التي لم نطأها بأقدامنا، لأن ابن بطوطة يرينا قاهرة أخرى، وإن شابهت قاهرتنا في بعض المشابهة، حين يقول في بعض أوصافها: (. . . ويقال إن بمصر من السقائين على الجمال أثني عشر ألف سقاء، وإن فيها ثلاثين ألف مكار، وأن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفاً للسلطان والرعية، تمر صاعدة إلى الصعيد، ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط، بأنواع الخيرات والمرافق. . . وأهل مصر ذو طرب وسرور ولهو: شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده، فزين كل أهل سوق سوقهم وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أياماً. . . وأما المدارس بمصر فلا يحيط أحد بحصرها لكثرتها، وأما المارستان الذي بين القصرين - عند تربة الملك المنصور قلاوون - فيعجز الواصف عن محاسنه، وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر، ويذكر أن مجباه - أي مورده - ألف دينار كل يوم)
فكتب السياحة التي بهذه المثابة تصيب توفيقاً لا ينقضي بانقضاء زمانه، لأنها تتلقانا بالغرائب من بلادنا ومن بلاد غيرنا، ولولاها لاحتجبت هذه الغرائب عنا وجهلنا أموراً لا يخلق بنا أن نجهلها
أما السياحة في زماننا هذا فالتوفيق فيها يقل على قدر سهولتها وتيسر أسبابها، وكأنما تزداد صعوبة الكتابة عن الرحلات كلما تمهدت الرحلات وقلت صعوباتها.(547/2)
فالأرض اليوم دار واحدة أو يوشك أن تصبح داراً واحدة: لا ينقضي اليوم حتى تعم أخباره جميع أنحائها، ولا تنقضي الأيام المعدودات حتى يشاهد هذا الخبر رأي العين بشخوصه ومواقعه ومشاهد أرضه وسمائه حيثما طابت رؤيته لساكن من سكان البلاد المعمورة. فلا غنى للسائح عن جهد في تمثيل ما يراه على الصورة التي تستغرب أو تشوق أو تنم على طرافة، ولا سبيل له إلى الإتيان بالجديد إلا أن تتسنى له الوسائل التي لا تتسنى لغيره، أو المكانة التي تقترن بكلامه ولا تقترن بكلام الآخرين من السائحين.
ألقيت من يدي كتاب دنيا واحدة لمؤلفه السياسي المشهور مستر وندل ويلكي فلم أتمالك بعد الفراغ منه أن أستحضر هذه الخواطر في خلدي جملة واحدة
فالرجل لا شك جم الذكاء جم الحصافة جم الدراية
ولا شك أن وسائله إلى الاطلاع على دخائل الدول أوفر من وسائل السائحين من الصحفيين والمتفرجين، أو أشباه الصحفيين والمتفرجين
ولا شك أنه قد جاء بالمفيد الشائق فيما أحاط به من طريق هذه الوسائل الخاصة بمقامه ومقام دولته في السياسة العالمية
ولكنه كلما تجاوز هذا وقف حيث يقف غيره بين مآزق السياحة العصرية، فهو قد يبحث عن الغرائب حيث لا يجدها، وهو قد يصادف التوفيق مصادفة أو يعدوه التوفيق كما يعدو كل سائح غيره في بلاد هو غريب عنها
والخطأ في هذا خطؤه من جانب، وخطأ من يلقونه ويلقاهم بالأسئلة والأجوبة من جانب آخر
إليك مثلاً كلامه عنا وعن أحاديثه مع بعضنا حيث يقول: (إن السحر الذي كان لأفكارنا الغربية في شئون السياسة قد قوبل بالتحدي في عقول العرب واليهود والإيرانيين، وقد راقبونا الآن عن كثب زهاء جيل كامل كنا خلاله نختصم فيما بيننا وفيما بين أبناء الأمة الواحدة منا، ونتساءل في قيمة الأسس التي قامت عليها عقائدنا)
فهذا كلام رجل مستعد لأن يتلقى وجهة النظر من غيره لو أجابه الذين سألهم عنها، ولكنه كان يسأل فلا يجاب، أو كان يسأل فيجاب بالتحفظ والمراوغة كما قال: (حيثما ذهبت لقيت أناساً مؤدبين ولكنهم شكوكيون أو متوجسون يقابلون أسئلتي عن قضاياهم بأسئلة من عندهم(547/3)
عن قضايانا نحن فيها تهكم لا يخفى، وكثيراً ما كانت مسألة الأجناس وسوء وضعها ببلادنا تبرز إلى الأمام في أحاديثنا، كما كان كل عامل في حكومة يعجب لموقفنا من حكومة فيشي. ويود العرب واليهود معاً لو يعلمون أهذه التصريحات التي تهتف فيها باسم الحرية إنما تعني كما عنت في الماضي توسعاً في الانتداب والوصاية؟). . . إلى آخر ما قال من هذا القبيل
وعندي أن الصراحة المطلقة في جواب رجل يقابل الأمور هذه المقابلة المفتوحة للنقد والاستطلاع قد كان أنفع وأجدى، وأن المراوغة أو الشكوكية هنا ليست من أمانة الفهم والوطنية وإن عدت من أدب الخطاب، بين السائل والمسئول
ويشبه هذا قوله بعد ذلك: (لقيت باشوات في كل استقبال حضرته، ومنهم كثيرون متزوجون بأجنبيات، وهم من الوجهة الاجتماعية جذابون مرحون، ولهذه الطبقة تماثيل تمتلئ بها الميادين
(ولقب الباشا تراث متخلف من العصور العثمانية، وكان يخلع من قبل على القادة العسكريين أو حكام الأقاليم الذين أبلو في خدمة الدولة، فأصبح اليوم عنوان تشريف
(. . . ولكني حين سألت مضيفاً لي - وكان شاباً مصرياً صحفياً - عن هذا اللقب هل يخلع على أحد لأنه ألف كتاباً عظيماً؟ أجابني: يجوز أن يخلع. . . لولا أنه في مصر قل أن يحفل أحد بتأليف الكتب!
(وسألته: أينال الرجل لقب الباشا لأنه يشتغل بتصوير الصور؟
(فأجابني: ولم لا؟ إلا أن الذين يصنعون الصور في مصر لا يوجدون
(وسألته أيضاً: هل استطاع مخترع عظيم قط أن ينال لقب الباشوية؟ فكان جوابه مرة أخرى أن ليس لدينا مخترعون ولا علم لي بأحد منهم منذ عهد الفراعنة)
فالخطأ هنا من جانبين لا من جانب واحد
لأن المستر وندل ويلكي لا يسأل عن الخطأ في فهم هذه الأمور كما يسأل عنها ذلك الصحفي (المصري) الذي جرد مصر من التأليف والتصوير والثقافة تجريداً يحق لمن يسمعه من (مصري) أن يسبقه في المضمار، وهو غير متهم النيات
ويلوح لنا أن الرجل كان حسن النية باحثاً عن الحقيقة غير متعنت في إنكارها، ولكنه سأل(547/4)
من لا يحسن أن يجيب فكان في ذلك عذره، أو كان مشاركاً في اللوم إذا اتجه إليه ملام
وقد ننصفه حين نقول إنه جمع في كتابه الصغير أوفر عدد من الحقائق وأقل عدد من الأخطاء. فقال في مائة وسبعين صفحة صغيرة ما يقوله غيره في ألوف الصفحات، وذلل صعوبة الصناعة - صناعة الكتابة عن الرحلات في الزمن الحديث - تذليلاً يشهد له ببراعة صحيفة وملكة قصصية ليست موفورة الشيوع بين الكبراء من رجال السياسة
وقد ذكر في الفصل الأول من كتابه أنه عبر في سياحته واحداً وثلاثين ألف ميل ولم يقض في الهواء أكثر من مائة وستين ساعة، وهذا عنده - وعندنا - دليل صادق على أننا نعيش اليوم في (دنيا واحدة) كما اختار أن يسمي كتابه، ولكن الدنيا الواحدة، بل الدار الواحدة، بل النفس الواحدة، تحتاج إلى أكثر من مائة وستين ساعة، بل مائة وستين يوماً لفهمها على جليتها، وتصويرها في ظواهر أحوالها وبواطن حقيقتها. ولعل الرجل الذي يستطيع أن ينظر إلى الدنيا نظرة واحدة مستطيع أن يستدرك من أخطائه ما تتفرق به الأقوال وتتشعب حوله الآراء.
عباس محمود العقاد(547/5)
مسابقة الأدب العربي
2 - ديوان أيدمر المحيوي
للدكتور زكي مبارك
حياة الشاعر
في الأخبار التي جمعها الأستاذ أحمد نسيم - وهي على قلتها كل ما يمكن الوصول إليه في هذا الوقت - سكوت عن العمل الذي كان يتعيش منه هذا الشاعر المجيد، فلم يكن كاتب إنشاء كما كان البهاء، ولا كان يتولى إدارة أحد الدواوين، كما كان يتفق لبعض الشعراء
والظاهر أنه كان يتكسب بشعره، كما تدل الأبيات الآتية، وهي من قصيدة يمدح بها الملك الكامل، ويذكر ظفره بالفرنج يوم قصدوا دمياط:
أشكو الخمول إلى علاك فإنني ... فيما أقول لمحسنٌ ومجوِّدُ
أُبدي البديع ولا يزال ظلهُ ... ظلي ومنه ما يسوء ويكمد
إن القريض وإن تكاثر ساكنوِ ... أفيائه للعبدُ فيه الأوحد
لكنه أدناهمُ قدراً إذا ... وردوا وأغلاهم إذا ما أوردوا
ومعنى هذا أن الشعر نفع من ليسوا في مثل منزلته من الفصاحة والبلاغة، وأنه برغم براعته ظل من الخاملين
وهنالك أبيات حزينة نص فيها على رضاه بالمقسوم له من دنياه، مع أنها في قصيدة مديح، وهي قوله بعد التشبيب:
لم تعطني الأيام مطلب همتي ... من رفدها فأخذت ما تعطيني
ورأيتُني سخطي يدوم إذا أنا ... لم أرض إلا بالذي ترضيني
حالٌ لعمرُك دون قدري إنما ... أرضى بها نظراً إلى من دوني
وهي أبيات في غاية من النفاسة، ومنها نعرف أنه كان مقلقل الحياة بين العطاء والحرمان
الغزل والتشبيب
المختارات التي بقيت من ديوان أيدمر تدل على أمرين: الأول أنه لم يكن يبدأ جميع قصائده بالنسيب، كما كان يصنع اكثر الشعراء، وهو مذهب حاربه المتنبي حين قال:(547/6)
إذا كان مدحٌ فالنسيب المقدَّمُ ... أكلُّ فتىً قد قال شعراً متيّم
والأمر الثاني أن النسيب عنده كان في الأغلب من فواتح المدائح، كالذي رأينا في قصيدته القافية، وهو يذكر يوم التخليق بالمقياس
ولو ظفرنا بديوان أيدمر كاملاً لعرفنا مذهبه في التشبيب، فمن المحتمل أن يكون خصه بقصائد طوال أو قصار، كما فعل البهاء
أقول هذا لأني أستبعد أن يكون الغزل نافلة عند من يقول:
ومُضْنَي الخصر لا يدري يقيناً ... أوردٌ وجنتاه أم حُمَيّا
أتاني زائراً من غْير وعدٍ ... وقد مالت لمغربها الثريا
فوفَّى دَين شوقي حين وافى ... وأحيا مَيْتَ أنسى حين حيّا
وبتُّ أرى يقين الوصل شكا ... وقد ملأ الهوى منه يديّا
أفكّر في الجفا أنّى تقضَّى ... وأعجب للرضا أنَّى تهيّا
والمعاني هنا مألوفة أو مطروقة، كما قلت في مثلها من قبل، ولكنها في حيوية قوية تشهد لصاحبها بالابتكار والابتداع
وأين من يلاحظ كلمة (يقيناً) في البيت الأول، وهي من القوة بمكان، مع أنها لو وقعت في غير هذا الموقع لكانت من المبتذلات، وسر قوتها يرجع إلى حيرة المحبوب في إدراك سحر وجنتيه الورديتين أو الخمريتين، وهل يعرف الورد أنه ورد؟ وهل تعرف الخمر أنها خمر؟
والبيت الثالث أعجب وأغرب؛ فالعاشق يرتاب في اليقين، لأنه فوق ما تسمح به الأوهام والظنون، وقد أوضح ارتيابه بهذا البيت:
أفكر في الجفا أنّى تقضّى ... وأعجب للرضا أنَّى تهيّا
ولهذا الشاعر لوعة أفصح عنها حين قال:
ذُكِر الحِمَى فأطال رجع أنين ... وغدا يواصل زفرةً بحنين
واعتاده وَلَهٌ يقَسِّم لبَّهُ ... ما بين حالة حيرةٍ وجنون
وجَرَتْ محاجرُهُ دماً فكأنما ... شرقت بذوب فؤاده المحزون
وَلها يكفكف دمعه بشماله ... أسفاً ويمسك قلبه بيمين(547/7)
يا منزلاً قضت الصبابة لي به ... ذمم الصبا ومآرب العشرين
أيام البس للغواية ثوبها ... وأجر ذيل خلاعة ومجون
وأجيب داعية التصابي ملقياً ... رَسَني إليه يضل أو يهديني
ليت الذين ولعت من كلَفٍ بهم ... حفَلوا بحرّ تلهفي وحنيني
قد كان يضحكني الزمان بقربهم ... فاليوم عاد ببعدهم يبكيني
وأقول من جديد إن المعاني ليست جديدة، فقد طاف بها كثير من الشعراء، ولكنها في نظري جديدة ومبتكرة، لأن الشاعر يحسها بأقوى ما يكون الإحساس، أليس هو الذي يقول في مطلع إحدى المدائح:
طاف بنا والليلُ في ثوب خَلَق ... يلمع من خلاله نور الفَلَق
والنجم يخبو تارة ويتألق ... مثل عيونٍ كابدت طول الأرق
خيالُ من أسكنَ جنبيَّ القلق ... جبينهُ الشمس وخدُّه العَبَق
يبدو فما أرمقه فيمن رمق ... يأمرني الوجد وينهاني الفَرَق
وهنا أقول إن هذا خيال لم أجده عند غيره من الشعراء، وهو بهذا الخيال وثب وثبة تطرب الإنس والجان
وعلى المتسابقين أن يتأملوا في معاني هذه الأبيات، فقد يكون فيهم من يعرف من أسرارها مالا أعرف، والشعر كالحسن تتفاوت في فهمه الأذواق
شاعر مبدع
هو أيدمر الذي أراد أن يأتي في المديح بالطرب والرقص، فهو الذي يقول في ممدوحه بعد ذلك النسيب:
ألذَ من وصف الغزال المنتطقْ ... ومن مناجاة الخيال إن طرَقْ
مدحُ فَتًى ذكراه مِسكٌ ينتَشَقْ ... لكنها في حلق شانيه شَرَق
صدرٌ بهىُّ الخَلق مرضىَّ الخُلُق ... خوَّله الله تعالى ورَزَقْ
من المعالي كل ما جلّ ودقّ ... سابقَ أرباب المساعي وسبقْ
مشياً وهم بين ذميلٍ وعَنَقْ ... لو قذف النجم بعزم لاغترق
أو ضرب البحر بكفّ الفَرَق ... أو رجم الطود بحلم لصعق(547/8)
وهذا شعر، بل سحر، وهو في ديباجة أيدمريه، لا بحترية، لأن الشاعر هنا مفترع لأبكار المعاني وهي مدثرة بأفواف الخيال
الموشحات
نترك للمتسابقين مراجعة ما ألمعنا إليه بإيجاز، لأن الغرض هو التوجيه إلى ما سيرد في أسئلة الامتحان، وهي لم تخرج عن العناصر الأساسية، العناصر التي نشير إليها في هذه الأحاديث
ونواجه مسألة جديدة هي اهتمامه بالموشحات، كالذي صنع في معارضة الموشح الذي مطلعه:
أيها الساقي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمع
ولم يذكر جامع المختارات صاحب هذا الموشح، ولكن الأستاذ أحمد نسيم نص في الهامش على أنه من نظم أمير المؤمنين ابن المعتز العباسي
وما قاله الأستاذ أحمد نسيم هو ما كان يقوله جميع مؤرخي الأدب في العصر الحديث، وهو أيضاً ما قلته في الطبعة الأولى من كتاب مدامع العشاق، ولكني بعد ذلك ارتبت في نسبته إلى ابن المعتز فقلت في الطبعة الثانية إنه لأحد الشعراء
ثم اهتديت إلى صاحبه فيما بعد فكتبت عنه كلمة في جريدة البلاغ سنة 1934، وهو محمد بن زهر الأندلسي، ومثله موشح ابن بقي القرطبي وأوله:
غلب الشوق بقلبي فاشتكى ... ألم الوجد فلبّتْ أدمعي
أيها الناس فؤادي شِغُف
وهو من بَغْي الهوى لا ينصف
كم أداريه ودمعي يكف
أيها الشادن من علمكا ... بسهام اللحظ قتل السَّبُع
ولا أعرف في هذه اللحظة أي الشاعرين أسبق: ابن زهر أو ابن بقي، لأني أكتب هذا المقال في ليلة مطيرة وفي مكان بعيد من المراجع الأدبية، فليسأل المتسابقون أساتذتهم عن المبتكر والمعارض في هذين الموشحين
والمهم هو النص على أن أيدمر فاز وهو يعارض ابن زهر، فقد استطاع أن يقول:(547/9)
عَهِدَ البينُ إلى عيني البكا ... ثم أوصاها بأن لا تهجعي
وسقى قلبيَ من خمرته
فهو لا يعقل من سكرته
فمتى يُنقَذُ من غمرته
في سبيل الحب قلب هلكا ... شيَّع الركبَ ولما يرجع
هزّ عِطف الغصن من قامتهِ
مُطلعاً للشمس من طلعته
ثم نادى البدر في ليلتهِ
أيها البدرُ تغيّبْ ويحكا ... ما احتياج الناس للبدر معي
ثم مضى الشاعر فقال في ممدوحه ما شاء، ولكن الفن غلب عليه، فختم الموشحة بهذه الأقباس:
فاقتدحْ بالمزْج نار القَدَحِ
نصطلي إنْ نحن لم نصطبح
وأغنَّيك ولم تقترحِ
أيها الساقي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمعِ
أفانين طريفة
قد عارض أيدمر بعد ذلك موشحة ثانية، ولا يتسع المجال للكلام عن الموشحات الأندلسية وتأثيرها في الآداب المصرية، ومن السهل أن يرجع المتسابقون إلى كتاب (بلاغة العرب في الأندلس) لأستاذنا الدكتور أحمد بك ضيف، فقد وفى هذا الموضوع حقه من البيان
والفنن الذي أقصد إليه هو موشحه الذي وصف به الخمر والرياض:
دع الصبا يمرّ في التصابي ... قبل تحلي سكرة الشباب
وانتهز اللذات فالعيش فُرَصْ ... رُبَّ سرورٍ كامنٌ فيه نَغَصْ
قم يا غلامُ هاتها وهاكا ... واعص هوى العاذل في هواكا
أما ترى ظل السرور سابغا ... ومشرب العيش هنيئاً سائغاً
فيْ روضة قيد النظر ... تشكر آلاء المطر(547/10)
ترنو بأحداق الزهر ... تحسبها بعد السَّحَر
قد انتثرْ ... فيها دُررْ
أو انتشرْ ... فيها حَبَرْ
تجلت الشمسُ عليها سافره ... فقابلتْها بنجوم زاهرهْ
ترمقها حين دنا طلوعُها ... بمُقلٍ ترقرق دموعها
تبكي وفي الأوجه بشر الضحك ... فأعجب لها تضحك وهي تبكي
تمايلت تمايُل السقيم ... لما أحست بسُرى النسيم
فأشفقتْ على حَذَرْ ... وفَرقَتْ من الخفر
من قبل أن يُقضى وطرْ ... نود لو كان استمرْ
ذاك العَطَرْ ... لما خطرْ
على الزهَرْ ... ساء وسرْ
بات الندى يُشربها نعيما ... كما يغذِّي والدٌ فطيما
فأصبحتْ ودرعها بليلُ ... تكاد من قطارِه تسيل
وأهدت الصَّبا لها كافورا ... فملأت أردانها عبيرا
كأنما نوّارها المستحسنُ ... ألسنةٌ تنطق فهي أعينُ
تفصح في بث الخبر ... عن الحديث بالنظر
بمقلة فيها صور ... حسناء من غير حور
فمنْ نظرْ ... فقد خَبَرْ
ما قد ظهرْ ... وما استترْ
قد تقولون إن الغزل والوصف هما اللذان منحا هذه الموشحة هذا اللطف، ولكن المدح فيها لا يقل طرافة عن هذا الغزل
وقد أثنى الشاعر على نفسه في ختام هذه الموشحة، وهو فرح جذلان، لأنه يؤمن بأنه من أكابر أهل البيان
الشعر التاريخي
وأريد به الشعر الذي ينظم حوادث التاريخ، وقد نظم أيدمر قصيدة طويلة سماها (الوسيلة(547/11)
المشفعة، في مناقب الخلفاء الأربعة)، وقد يرد عنها سؤال، لأنها تصور فهم هذا الشاعر للعهود الأولى من التاريخ الإسلامي، فمن واجب المتسابقين أن يلتفتوا إليها كل الالتفات أو بعض الالتفات، وموضوع هذه القصيدة مفصل في الكتب المؤلفة عن عصر النبوة وعصر الخلفاء
زكي مبارك(547/12)
الأدب العربي واللغة العربية
في كتاب (زهرة العمر)
للأستاذ دريني خشبة
غرق الأستاذ توفيق الحكيم في الأدب العربي - على حد تعبيره - بعد عودته من فرنسا ليدرس قضيته من أساسها، محاولاً أن يعيد النظر في أمر اللغة العربية، وأن يكشف أسرارها ويضع إصبعه على مواطن ضعفها وقوتها. . . وهو قد شرع يفعل هذا بعد أن أخذ من مختلف الآداب العالمية بنصيب، فهو يقرأ نصوص الأدب العربي في عصوره المتعاقبة بعين جديدة، عين عامرة بالصور، حافلة بالمقارنات، وبنفس رحيمة عادلة. . .
هذه لمحة من المقدمة التي مهد بها الأستاذ الحكيم لفصله أو لفصوله، التي كتبها عن اللغة العربية، وتعليم اللغة العربية، ومعلمي اللغة العربية، وأساليب الكتابة العربية، وعن ماهية الشعر، ثم عن الأدب العربي، ونقص تكوينه من حيث هو خلق فني، وعن العلاقة بين الفنون الكبرى والآداب الكبرى، وعدم محاولة الأدب العربي أن يزيد في نثره بالرغم من ازدهار الفنون الإسلامية، وما ابتلعته المدنية الإسلامية في جوفها من المدنيات الكثيرة، وعناية الأدب العربي الإنشائي باللفظ أكثر مما يجب، وأنه لم يشأ أن ينزل عن تكلفه الذي يعتبره فصاحة وبلاغة. . . وما حدث من جراء ذلك من: (أن روح الشعب قد تعطش للون جديد من الأدب غير لون البداوة الأولى. لون من الأدب مستمد من إحساسه هو بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة. . . أدب جديد قائم على فن مشابه ومسايرة للفنون الزاهرة المعاصرة، التي يراها بعينه ويهيم في مراميها بخياله. . . فلما لم يشأ أدباء الفصحى أن يمدوا الناس بحاجتهم، لجأ الناس إلى أدباء من بينهم لا يملكون أداة اللغة ولا جمال الشكل، ولكن يملكون السليقة الفنية وروح الخلق. . . وهنا ظهر الأدب الشعبي. . . فما ظهور الأدب الشعبي أحياناً إلا علامة قصور أو تقصير من الأدب الرسمي، أو صرخة احتجاج على جمود الفصحاء. . . هكذا ظهر القصص الشعبي في صورة عنترة ومجنون ليلى وكثير عزة. . . وسارت الحضارة الإسلامية، فسار معها الأدب الخيالي الاجتماعي الشعبي، فإذا نحن أمام عمل فني رائع هو (ألف ليلة وليلة)، ثم نبت في كل شعب من شعوب الإسلام قصصه الذي يطبعه بطابع عصره. فكان في مصر قصة أبى زيد الهلالي،(547/13)
وسيف بن ذي يزن، والظاهر بيبرس. . . ومن الغريب أنك إذا تأملت (التصميم) الفني والبناء الروائي لهذا الأدب الشعبي وجدته من حيث الفن لا اللغة هو السائر في الطريق الصحيح. . . فلقد كان من المستغرب حقاً للباحث أن يرى حضارة إسلامية عظيمة ذات فنون زاهرة وعلوم راقية، ولا يجد في أدبها أثراً إنشائياً مثل (الشاهنامه) أو (الرمايانه) أو (الإلياذة) أو (كليلة ودمنة) حتى كادت تتهم العقلية الإسلامية بعقمها. ولكن الأدب الشعبي الإسلامي صحح الوضع أمام التاريخ العلمي. . .)
وبعد، فما أريد أن ألفق مقالاً من كلمات الأستاذ الحكيم، وإن كنت أتمنى أن يكون كل متأدب في مصر، بل كل أديب في الشرق العربي، قد قرأ هذه الفصول القيمة التي دبجها قلم فنان، أديب فنان لا يرى حرجاً في أن يقول إنه أخذ من مختلف الآداب العالمية بنصيب، ثم غرق في الأدب العربي فوجده أدباً فقيراً شاحباً؛ أدباً يعني بالزخرف اللفظي، ولا يمتاز بأثر خالد مما امتازت به اليونانية أو اللاتينية أو الفارسية، أو لغات أوربا الحية من آثارها الأدبية الخوالد. . . أدباً غير مستمد من روح الشعب المتعطش إلى ألوان جديدة غير ألوان البداوة الأولى. . . ألوان مستمدة من إحساسه هو بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة
هذا كلام نوافق الحكيم عليه، لأننا رددناه، ولسوف نردده، ولن نسأم من ترديده، حتى نحيله رجاء إلى أدبائنا بل توسلاً، إن كان لا بد من الرجاء أو التوسل لكي يخلقوا لنا أدباً جديداً صادراً عن روح الشعب المتعطش إلى ألوان جديدة مستمدة من إحساسه بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة
نحن نوافق على هذا كله لأنه أمنية كل رجل يحب الخير للأدب العربي، وكل رجل شدا شيئاً - ولو قليلاً - من الآداب الأوربية، واستطاع أن يقارن بينها وبين هذا الأدب العربي الذي لم يعد يصلح بحالته التي هو عليها لشفاء روح العصر الجديد ومجاوبة الحياة الجديدة التي تغمر العلم بأسره. على أننا مع ذاك نريد أن نناقش بعض ما جاء من الآراء في زهرة العمر عن أساليب الكتابة العربية، وعن الفنون الكبرى والآداب الكبرى، وعدم محاولة الأدب العربي أن يزيد في نثره بالرغم من ازدهار الفنون الإسلامية، وعن تاريخ القصص العربي. . . ثم هذه السخرية التي صبها الأستاذ الحكيم على رؤوس معلمي اللغة العربية(547/14)
أولئك المعلمون الذين نظلمهم بتوجيه نقدنا إليهم وهم لا جريرة عليهم ولا ذنب لهم، فهم يعلمون كما أعدوا لهذه الطريقة من التعليم، وقد صبوا في قوالب من صنع الدولة لم يصنعوها بأنفسهم بل صنعت لهم ثم خرجوا على غرارها، وقد أصبح معلم اللغة العربية كالقاطرة التي لا تستغني عن شريط السكة الحديدية، وهي تجر ورائها جميع العربات - أبناءنا التلاميذ - على الشريط نفسه والى المحطة نفسها، والويل للمعلم الذي تحدثه نفسه بالخروج عن هذا الشريط! الويل للمعلم الذي يخالف عن سنة المنهج. . . تلك الشريعة المنزلة التي ترتبط بحسن تنفيذها التقريرات والعلاوات والدرجات. . . والفصل من الوظيفة والبقاء فيها أحياناً. . . الويل للمعلم الذي لا يجيد أن يعلم تلاميذه أن (نون) العاقلون هي نيابة عن التنوين في الاسم المفرد! وما إلى ذلك من اللغو الذي تركنا المدارس ونحن لا نحسن أن نفهمه، بله أن نعلله. . . لا نحن ولا معلمونا المساكين. . . ماذا يصنع المعلم يا أخانا الجليل مؤلف كتاب زهرة العمر بعد أن صبته وزارة المعارف في هذا القالب الشاذ؟ هل قرأت ما كتبه عنه صديقك طه حسين وشريكك في القصر المسحور؟ لقد كتب طه حسين فصولاً قيمة في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) عن تعليم اللغة العربية ومعلم اللغة العربية والمعاهد التي تعد هذا المعلم في مصر. . . ذلك المعلم الذي تقول عنه إنه كان، سواء في المدارس الابتدائية أو المدارس الثانوية يجهل، لا معنى اللغة العربية وحدها، بل معنى اللغة على الإطلاق! ترى من كان معلمك في المدارس الابتدائية، ومن كان معلمك في المدارس الثانوية ليسمعا إلى هذا الكلام الجريء الذي ترسل به لسانك فيهما الآن بعد أن أصبحت كاتباً نابهاً من كتاب العربية؟ أكبر الظن أنهما كانا يفهمان معنى اللغة العربية، بل معنى اللغات جميعاً إنما أسطورة القاطرة العربات وشريط السكة الحديدية هي التي أظهرتهما في نظرك على هذا النحو من الجهل. . . بل من العمى. . . أسطورة المنهج، وشريعة وزارة المعارف المنزلة التي لا يحيد عنها إلا كل مجازف. . . وأرجو أن أتحدث إليك حين نلتقي كيف كان صديقك الزيات يجعل من مادة اللغة العربية التي كان يعلمنا إياها أحب مواد التعليم إلى نفوسنا. على أن أستاذاً جليلاً قد نشر في هذه المجلة فصولاً عظيمة عن تعليم اللغة العربية فأرجو أن تراجعها إن لم تكن قد فعلت
أما أساليب الكتابة العربية وعناية معظم الكتاب المنشئين باللفظ دون المعنى، فهذا لم يحدث(547/15)
إلا في عصور انحطاط اللغة العربية. على أن الكتاب الذين عنوا باللفظ أكثر مما عنوا بما ورائه قد خدموا اللغة خدمة جليلة بانتخالهم الألفاظ انتخالاً، وبتجويدهم استعمالها على النحو الذي قربها إلى أفهامنا وجعلها ذخيرة لنا نرجع إليها كل ما أعوزتنا الكلمات أو التعابير، فكان عمل كتاب المقامات والرسائل مثل عمل أصحاب المعجمات والقواميس من حيث تنظيم تلك الثورة اللفظية الهائلة تنظيماً قصصياً أو تنظيماً استعمالياً أفدنا منه في استحداث تعبيرات جديدة لا حصر لها. . . وأنا ألاحظ أن انصراف الأستاذ الحكيم إلى دراسة الأدب العربي وإكبابه على قراءة نصوصه كما ذكر قد أفاده فائدة كبيرة، فقد جود أسلوبه وصقل لغته وأسلس له عنان البيان العربي، آية ذلك هذا الفرق الكبير بين أسلوبه القديم في أهل الكهف وشهرزاد وعودة الروح وبين أسلوبه الحديث في بجماليون وسليمان الحكيم وزهرة العمر. . . على أنني لا أرى أن العناية بالأسلوب وصقله وتجويده تكون سبباً في الانصراف عن تجويد الموضوع والسمو بأهدافه ما دامت للكاتب القدرة على أن يجود عبارته عفواً وطبيعة من غير تعمل ولا إعانات. وقد استحدث جون للي أسلوب (اليوفوزم) في الكتابة الإنجليزية فبهر ألباب القراء الإنجليز بعنايته بتجويد عباراته مما كان له صدى كبير في أساليب الكثيرين من الكتاب الإنجليز وفي روائع شتى من النثر الإنجليزي نفسه
ولست أقصد أن أدافع عن أسلوب الحريري أو البديع أو عبد الحميد أو أبي العلا الكتابي، بل لا أطيق أن أرى الناس يكتبون بأسلوب الجاحظ الذي أعجب به الأستاذ الحكيم وأثنى عليه ووضعه في رأس الثائرين من كتاب العربية على أوضاع الكتابة المتعارفة. وصديقي الأستاذ الدكتور زكي مبارك هو المسئول الأول عن رأي الأستاذ الحكيم في أسلوب الجاحظ العظيم، فلو أنه أهدى نسخة من كتابه الخالد (النثر الفني) إلى الأستاذ الحكيم لما رأى في الجاحظ هذا الرأي. ويحسن أن أثبت هنا رأي الدكتور زكي، وإن كنت ألح على الأستاذ الحكيم أن يراجع (النثر الفني) كله، وإن لم يكن قد فعل إلى الآن:
(وقد شاع هذا الأسلوب في القرن الثاني والثالث (أسلوب الإطناب وبسط المعاني وتأكيدها بتكرير الجمل المتقاربة في مغزاها ومدلولها لدرجة الأثقال) واتخذه الجاحظ خاصة اسلوباً مختاراً له لا يحيد عنه. . . وفي رأيي أن الجاحظ وصل إلى درجة من الغلو والإملال، ولولا أنه كان يخلط في كتابته بين الهزل والجد والحلو والمر لانصرف الناس عنه)(547/16)
إنما أريد أن أذكر أن النثر العربي، وخصوصاً النثر القصصي وهو الذي يهمنا هنا، كان نثراً زاهياً مزدهراً، وذلك منذ صدر الإسلام، وكان الفضل في إيجاد للقرآن أولاً، ثم للأحاديث الطوال ثانياً، ثم للقصاص (الذين كانوا يجلسون إلى الناس في المساجد، يفصلون ما في كتاب الله من قصص الأنبياء، ويسرفون في تهويل هذه الأنباء، ابتغاء للعبرة والتماساً للموعظة. ولما ازداد إقبال الناس على هذا الضرب من القصص، وكثر إفك القصاص فيه، طردهم أمير المؤمنين علي من المساجد ما خلا الحسن البصري). . . وقد كان أشهر القصاص الذين فرغوا لتفصيل قصص القرآن تميم الداري ووهب ابن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام وغيرهم. . . وبغض النظر عن قيمة قصصهم من حيث التحقيق العلمي، فقد كانت أساليبهم شائقة، وعباراتهم سليمة لا تعمل فيها ولا التواء. وفي كتاب (أصول الأدب) أن معاوية عرف للقصص قيمته في الدعاوة السياسية فولى عليه رجلاً كان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله ورسوله، ثم دعا للخليفة وحزبه، ودعا على أهل خصومته وحربه، وكان هو (أي معاوية) إذا انفتل من صلاة الفجر جلس إلى القاص حتى يفرغ من قصصه، وكان ولاته وقواده يقدمون القصاص في بعض حروبهم ليقصوا على المقاتلة أخبار الشهداء وما وعدوا به من حسن الجزاء، فعل ذلك الحجاج في العراق، وجاراه فيه من حاربهم من زعماء الفرق
وفيه أيضاً (أن أول من تولى القصص الرسمي في مصر سليمان بن عنتر التجيبي سنة 38هـ تولاه مع القضاء، ثم تعاقبت القصاص من بعده في مصر.) وقد اشتد الإقبال على القصص في عهد الفاطميين)، فقد كان يعقوب بن كلس وزير المعز يعتمد على المناظرات في فقه الشيعة، وعلى القصص في جذب القلوب لأهل البيت، وكان مقتل الإمام (علي) ومأساة الإمام (الحسين) موضوع المنابر والسوامر في شهر رمضان والمحرم. . .)
وقد صدق الأستاذ الحكيم في استنتاجه من حيث نشأة الأدب الشعبي في مصر، إذ (حدثت ريبة في قصر العزيز فتناقلتها الأفواه، ورددتها الأندية، فطلب إلى شيخ القصاص يومئذ يوسف بن إسماعيل أن يلهي الناس عنها بما هو أروع منها، فوضع قصة عنترة ونشرها تباعاً في اثنين وسبعين جزءاً)
أما في العراق، في القرن الرابع الهجري أيضاً؛ فقد جمع فن القصص بين روعة الأسلوب(547/17)
وجمال الفن. . .) فما جمعه ووضعه الجهشياري وابن دلان وابن العطار من الأقاصيص في الحب الطروب والترف المسرف، وما وضعه من قبل هؤلاء سهل بن هرون وعلي بن داود وأبان بن عبد الحميد من الأسمار. . . وما صنعه من قبل هؤلاء عيسى بن دأب وهشام الكلبي والهيثم ابن عدي من الأخبار في الهوى العذري والسخاء العربي في الإسلام والجاهلية)
وهكذا نرى أن هذا اللون من ألوان الأدب الرسمي، أو أدب العربية الفصحى قد ساير نهضة الفنون الكبرى في العراق، كما سايرها في مصر إلى أيام الفاطميين. وإن كنا نعترف أنها مسايرة ليست من نوع ما حدث في اليونان أو الرومان أو أوربا، وموضع الأسف هنا هو انقطاع القصصيين: العربي الفصيح في العراق، والشعبي الراقي في مصر، بعد غزوة التتار والحروب الصليبية، ونشوء صنف من القصص الوضيع في مصر في عصر المماليك هو اضعف ما نجد من القصص التي تغازل الشهوات في كتاب ألف ليلة وليلة
أما رأي الأستاذ الحكيم في الشعر شكلاً وموضوعاً، فهو رأينا الذي جاهرنا به، والذي لا نزال نجاهر به وندعو شعراءنا إليه. . . (فما من فن عظيم بغير شعر، أي بغير تلك المادة السحرية التي تجعل الناس يدركون بالأثر الفني ما لا يدركون بحواسهم وملكاتهم. . .)
وأما التمثيل والروايات التمثيلية، وانعدام ذلك كله في الأدب العربي، فماذا أقول فيه؟! وعلى كل فما بح صوتي بعد، ولن أتعب أبداً من مناشدة الأستاذ الحكيم أن يؤلف للمسرح المصري، لأنه كاتب الحوار الأول في مصر، بل في الشرق العربي كله
وبعد. . . فها هو توفيق الحكيم يفرغ لما خلقه الله له. فماذا هو صانع؟ وهاهو ذا يكتب في زهرة العمر آراء، فهل دري أنها تصلح أن تكون برنامجاً مفصلاً لحركة إنهاض واسعة النطاق؟
متى يضيء المصباح في شاطئنا ويشع كما يضيء في الشاطئ الآخر ويشع؟
متى يكون لنا أدب مصري وفن مصري ومسرح مصري وشعر مصري وشخصية مصرية؟
متى يعود توفيق الحكيم من فرنسا إلى مصر فلا يقول إني عدت إلى الصحراء؟!(547/18)
إن في عنق توفيق الحكيم ديناً للوطن فليؤده كاملاً. . . وإني أختم كلماتي فيه بما قلته عنه من قبل من أنه أحد بناة مصر الحديثة فليرهف قلمه وليتوكل على الله. . .
دريني خشبة(547/19)
كتب وشخصيات
للأستاذ سيد قطب
1 - على هامش السيرة. . . . . . لطه حسين
2 - إبراهيم الثاني. . . . . . للمازني
3 - زهرة العمر. . . . . . لتوفيق الحكيم
4 الصديقة بنت الصديق. . . للعقاد
مدرسة طه حسين وفنه
للدكتور طه حسين مدرسة - على معنى من المعاني - له فيها تلاميذ كثيرون، كلهم يحاول أن يتأثره ويتشبث بخصائصه وينسج فيها على منواله، ولكن وأحداً منهم لم يحقق هذه الخصائص على الوجه المطلوب. ومن بين هؤلاء التلاميذ من يبذل جهداً مضنياً يثير الإشفاق في أن يصبح نسخة أخرى من طه حسين، فتكون قصاراه أن يخرج نسخة (مشلفطة) كالصورة التي تنطبع على ورق (النشاف)!
وأوضح مثال لهذه المحاولة الأستاذ شوقي ضيف، وبخاصة في كتابه (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) الذي نال به الدكتوراه أخيراً من كلية الآداب، ونال عليه فوق الدكتوراه شكر الجامعة أيضاً!
ونستطيع أن نطلق على مدرسة الدكتور طه حسين اسم (مدرسة الأسلوب التصويري؛ فالدكتور في خير حالاته يرسم لوحات متتابعة، أدواته فيها الكلمات والجمل. لوحات للمناظر، وللحوادث، وللمعاني، وللخطرات النفسية، والالتفاتات الذهنية، على السواء. وتلك مزيته الكبرى كصاحب شخصية أدبية
والدكتور طه صاحب موهبة في هذا وصاحب طريقة، فأما تلاميذ مدرسته فقد أخطأتهم الموهبة واتبعوا الطريقة. أخطأتهم موهبة التصوير واتبعوا طريقة التعبير. ولهذا يجوز أن نعود فنستدرك شيئاً، وهو أن مدرسة الدكتور طه حسين، هي الدكتور طه حسين نفسه؛ ثم محاولات لم تبلغ بعد حد النضوج، ولم يوجد فيها صاحب الطبيعة الموهوبة هذه الهبة الخاصة؛ بل لم يوجد فيها من يدرك سرها الأول وهو طبيعة التصوير، لأنهم جميعاً يفهمون أن هذا السر كامن في طريقة التعبير!(547/20)
بقى أن نعرف شيئاً عن نوع هذا التصوير في مدرسة طه حسين، أو بتعبير أصح في طبيعته. فهو التصوير الحسي الذي يرد المعنى والخواطر صورا حسية، أو كالحسية - بله المناظر والحوادث - فهذه يعيدها كما بدأت أول مرة توشك أن تكون مجسمة.
وهو يخلع على هذه الصور الحسية ألواناً من ألوان الحياة والحركة؛ ولكنها الحياة اللطيفة والحركة الوئيدة التي تدب على هينة، وتخطر في رفق. فالسرعة النابضة والحيوية الدافقة ليستا من مطالب هذه الصور في يوم من الأيام.
وقد يكون المثال هنا أوضح من مقال:
(هذه شهرزاد قائمة منه غير بعيد، تنظر إليه نظرات فيها الحنان والمكر؛ وهي مغرقة في ضحك هادئ عذب يرتفع له صدرها وينخفض، ويغشى وجهها بغشاء من الجمال الرائع ليس إلى تصويره من سبيل. وهذا الملك ينظر إليها مسحوراً مبهوراً وهي تضحك من ذهوله وحيرته، ولكنه ينهض خفيفاً ويسعى سريعاً، إذا بلغها أو كاد جثا أمامها غاضباً بصره إلى الأرض، رافعاً يده إلى السماء، كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال؛ وهي تضع يدها على رأسها ضاحكة، كأنها تبارك عليه، ولكنها لا تلبث أن تستحيل إلى حنان خالص، وإذا هي تميل إليه مترفقة، فتضع على جبهته قبلة حلوة حارة طويلة. ولو أنها تحدثت في تلك اللحظة لأحس شهريار في صوتها تهدج العبرات التي تريد أن تندفع من العيون، ولكنها الإرادة القوية تمسكها فيظهر أثر هذا الصراع في الصوت المحتبس والألفاظ التي لا تبين. ولكنها لم تقل شيئاً، وإنما استقام قدها المعتدل، وامتدت يدها الرخصة إلى الملك فأنهضته صامته، واستجاب لها الملك صامتاً طيعاً فمضت به خطوات إلى نشز من الأرض قريب يكسوه العشب، فأجلسته وجلست بجانبه، وأحاطت عنقه بيدها؛ ثم أمالته في رفق حتى وضعت رأسه على كتفها، وظلت تنظر إليه وهو ينظر إليها، وهما مغرقان في صمت عميق. ثم يسمعها شهريار تتحدث إليه في صوت هادئ وادع، وهي تقول له: (ألم يأن لنا بعد أن نهبط من السماء، وأن ننزل إلى الأرض فنعيش فيها مع الناس؟)
(ولكن شهريار لا يجيبها، وإنما تنحدر من عينيه دمعتان هادئتان تمسحهما شهرزاد في رفق، ثم تنعطف إلى الملك فتقبل جبهته مرة أخرى؛ ثم تقيمه حتى إذا استوى في مجلسه(547/21)
جعلت تمر أصابعها في شعره رفيقة به باسمة له مطيلة النظر إليه صامته مع ذلك لا تقول شيئاً. وكأن هذا العطف الصامت الحار قد بعث الحياة والنشاط في قلب الملك وجسمه، وفي عقل الملك وإرادته، فهو يرفع رأسه إلى شهرزاد ويسألها في صوت كأنه يأتي من بعيد: ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟)
ولقد أطلنا في هذا المثال لأنه يجمع كل ألوان التصوير الحسي في طبيعة الدكتور: فيه المعاني الذهنية والخواطر النفسية، وفيه الحركات والحوادث والمناظر وكلها مرتسمة مصورة متحركة هذه الحركة اللطيفة المتتابعة في يسر وتؤدة
فمن شاء أن يرجع إلى أمثلة خاصة لكل نوع فليرجع إلى كتب، الأيام، وأديب، وأحلام شهرزاد، وهدية الكروان، والحب الضائع. ثم ليرجع إلى هامش السيرة. كتابنا اليوم الذي جرنا إلى هذا الكلام! واقرأ في الصفحة الأولى من الجزء الثالث
(كان الشيخ مهيباً رهيباً، وكان فخماً ضخماً، قد ارتفعت قامته في السماء، وامتد جسمه في الفضاء؛ وكان وجهه جهماً عريضاً، تضطرب فيه عينان غائرتان بعض الشيء، ولكنهما على ذلك في حركة متصلة لا تكاد أن تستقران؛ وهما متوقدتان دائماً ينبعث منهما شيء كأنه الضوء المشرق على هذا الوجه الجهم الغليظ، فإذا لحظتا شيئاً أو أطلنا النظر إليه فكأنما تقذفانه بالشرر، أو تسلطان عليه شواظاً دقيقاً قوياً من النار. وكان الشيخ فوق هذا كله ذكياً حاد الذكاء نافذ البصيرة، يتعمق ما يعرض له من الأمر دون أن يحس الناس منه تعمقاً لشيء. يسأله الناس فيجيبهم لساعته جواب من فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير، فيعجبون منه ويعجبون به. وكان بعد هذا كله بطيء المشي، ثقيل الحركة، وقوراً في كل ما يصر عنه، وكان صوته يلائم هذا كله من أمره، فكان صوتاً ضخماً عميقاً، يسمعه السامع فيخيل إليه أنه يخرج من غار بعيد القاع. وكان الناس يهابونه ويرهبونه كما كانوا يجلونه ويكبرونه. فإذا سألتهم عن مصدر ذلك لم يعرفوا كيف يجيبون، إنما كان هذا الرجل يبهرهم ويسحرهم ويملأ نفوسهم إكباراً وإعظاماً، فإذا ذكر الوليد بن المغيرة فقد ذكر سيد من أروع سادات قريش ورجل عظيم من رجالات البطحاء). . . الخ
هذه اللوحات المرسومة في بحبوحة، وهذه الصورة التي تخطر في وناء وتدب في رفق، هي مزية الدكتور الأصيلة، مزيته التي يتجلى فيها فنه ويؤدي بها رسالته. ولقد يخطئك في(547/22)
بعض ما يكتب أن تجد الفكرة الكبيرة أو المعنى المتكبر؛ ولكنك لن تخطئ اللوحة الهادئة والصورة الحية، هذا اللون من الحياة المريحة المستريحة. نعم قد تبطؤ الحركة في بعض الأحيان إلى حد الخمود فيدركك نوع من الاستبطاء تهم أن تغمر به الكاتب ليسرع فيه خطواته بعض الشيء؛ ولكن ذلك قليل على كل حال
ومن هنا كان إعجاب الدكتور بلبيد ثم زهير خاص من شعراء الجاهلية لأنه يلبي حاجته من هذا التصوير.
وبعد فما قيمة كتاب على (هامش السيرة)؟
قيمته من الوجه الذاتية أنه - وبخاصة الجزء الخير - يجمع أفضل خصائص الدكتور طه وأحسن مزاياه، وينجو من كل عيوبه التي توجد في بعض الكتب الأخرى
وقيمته من الوجهة الموضوعية أنه الكتاب الأول في اللغة العربية الذي يجعل في بعض حقائق السيرة وبعض أساطيرها فناً حياً جذاباً؛ ولكنه لا يقف عند هذا الحد بل يحيل هذا الفن الحي الجذاب، صورة (علمية) صادقة للجزيرة العربية وأطرافها في الفترة بين قبيل مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجزء الأول وبين رسالته وانتصار دعوته في الجزء الثالث. صورة للحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وصورة لما يهجس في الضمائر والأخلاد، وما يبدو من الاتجاهات والآراء وصورة للبيئات والأفراد في تلك الحياة. . . وذلك كله حسب كتاب ليكون عملاً يستحق التقدير. وإنه للكتاب الأول في أعمال الدكتور - حسبما أعتقد - لا يوازيه في هذا الميزان إلا كتاب الأيام
(حلوان)
سيد قطب(547/23)
دراسة نقدية
شعر الطويراني
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أسلفت القول في العدد الماضي من (الرسالة) عن ترجمة حسن حسني الطويراني باشا الشاعر الصحافي المصري المولد، والتركي الأصل، واليوم أكتب هذه الكلمة - وفاء بالوعد - في شعره الذي جمع في ديوانه (ثمرات الحياة)
وديوان الطويراني ضخم الحجم مملوء بكثير من القصائد الطوال والمقطوعات والموشحات والأدوار والزجل، وقد طبع بمطبعة إدارة الوطن سنة 1300هـ، ثم سافر الشاعر إلى الآستانة في العام نفسه، ووكل أمر الإشراف على طبع الديوان إلى نائب له، فلم يعتن بتصحيح الجزء الثاني، فحصلت غرائب في التحريف والتصحيف والسهو، وفقدت أصول الديوان حين وصل الطبع إلى صفحة 216؛ وهنا علم الشاعر بما حصل فبعث بنسخة أخرى من الأصول لتتميم الأبيات. وبقي في الآستانة ثماني سنوات والديوان لم يكمل طبعه. فعاد إلى الإسكندرية في 20 ذي الحجة سنة 1308، ووصل إلى القاهرة في الثاني والعشرين من الشهر نفسه، ولما استراح من السفر أخذ يصحح الديوان استنجازاً لإخراجه (ولكنه وجد أن تصحيح الأخطاء يستلزم صرف الأوقات المديدة وتحمل المشاق العديدة، وأن الاهتمام بتصحيح ما وقع فيه من الخطأ الخطل، شيء زائد على الأمل والعمل)، فختمه بمعذرة إلى القراء، وأنجزه وأخرجه في 20 محرم سنة 1309 هـ
ويظهر في شعر الديوان والإمعان في مطالعته أن الشاعر متأثر بالمذهب التقليدي إلى حد كبير، فهو يحذو حذو شعراء عصره الذين كانوا أصداء بالية للشعر العربي القديم، فأغراضهم أغراض السابقين، وأبوابهم ومذاهبهم هي أبواب الأولين، ومذاهبهم مع اختلاف الأحوال وتباين المقتضيات
ولم لا يكون شعراء عصر الطويراني كذلك، وأمامهم محمود سامي البارودي باشا كان مقلداً إلى حد بعيد حتى في مطالعه ومواقفه وتشبيهاته بل في عباراته؟ ولكن البارودي كان يمتاز عليهم جميعاً بالطبع العربي الأصيل في قرض الشعر؛ فهو بارع في المحاكاة، حتى ليخيل إليك وأنت تقرؤه أنك تقرأ شعراً قديماً لم تفسده لوثة الأعاجم وفساد الملكات(547/24)
ويظهر المذهب التقليدي في شعر الطويراني واضحاً، حتى في طريقة تبويبه للديوان؛ فقد قسمه إلى أربعة وعشرين باباً: الأول منها في الإلهيات، وقدمه لشرف موضوعه، وهو الحمد والثناء على الله تعالى مفيض هذا الوجود. ولم يعد في هذا الباب أن يكون (نظاماً) لا شاعراً؛ فلم يصل إلى أعماق الوجود ولم تتجل عليه فيوض الحكمة وإشراقاتها، ولم تزد إلاهياته على أن تكون خطوات عابرة نظمها في قالب من قوالب عصره. وقد حاولت أن أعرض أحسن ما في هذا الباب، فلم أجد غير هذه الأبيات:
يا مالك الروح يشقيها ويسعدها ... وحافظ الجسم إفناء وإبقاء
أوجدت من عدم روحي وكنت لها ... أوقات لم أدر فيها الطين والماء
متعتني في صفاء النفس منفرداً ... مطهراً لم أخف رجساً وبأساء
أما الباب الثاني ففي المدائح النبوية وسماها (النبويات)، كما سميت قصائد الكميت (بالهاشميات)، وهي قصائد ليس لها في الشعر من شرف إلا أنها صنعت للرسول عليه السلام! فلا نجد فيها قوة حب الكميت ولا متانة البوصيري وحكمته في ثنايا المديح
والباب الثالث في الحماسة والفخر، وقدم هذا الباب (لعلة وفاء حقوق النفس التي لا تعرف حق غيرها إلا بعد معرفة ناموسها؛ فإن النفس إذا جهلت حقها جهلت حقوق غيرها بالطبع فلم تقم بها)، وهذا تعليل لطيف لشعر الفخر، ولكن يشترط ألا يغالي فيه، وإلا صار إسرافاً وكذباً. ولقد أسرف الطويراني في هذا الباب إسرافاً كثيراً ووضع فيه ما ليس منه، كالأبيات التالية التي هي أشبه بشعر الحكم منها بشعر الحماسة:
الناس في الدهر أنباء وأخبار ... والكون كونان أعيان وآثار
لا خير في العيش إن لم يصطحب شرفاً ... ولا اقتحام الردى دون العلا عار
اعمل مع الصبر ما يرضى الكمال به ... وكتم مصابك إن الدهر دوار
لا يرغم الدهر إلا من يطيش له ... فاعتز بالنفس إن خانتك أنصار
وقد يكون في هذا الكلام فخر خفي، فهو يأمر الناس بما كمل هو به نفسه من اصطحاب الشرف واقتحام الردى والصبر وكتمان المصاب والاعتزاز بالنفس حين يخون النصير
وأكثر ما يفتخر الطويراني في هذا الباب بآبائه الترك، فهو يتعصب لهم على العرب الذين حفظ لغتهم وآمن بنبيهم؛ وقد يصل به التعصب إلى إنكار كل فضيلة للعرب وتجريدهم من(547/25)
كل مكرمة. ولا شك أن الأحوال السياسية في عصره، والخلاف بين العرب والترك، ومحاولة الأولين التخلص من حكم الآخرين، وقيام الشعراء من العرب بمهاجاة الترك؛ لا شك أن ذلك كله كان حافزاً للطويراني على الاجتراء على العرب وتنقصهم. ووجد في صحفه ومجلاته التي أنشأها أو اشترك في تحريرها مجال الكلام واسعاً؛ فأحفظ ذلك عليه كثيراً من الشعراء العرب كالشيخ إبراهيم اليازجي
ولقد نقل الطويراني الخلاف بين العرب والترك إلى خلاف بين الأصل السامي والأصل اليافثي. فهو يقول:
أرى الفخر للأتراك من عهد يافث ... ومن عهد افراسياب ليس مرسغاً
فلا شهم في الدنيا كجنكيز قاهر ... ولا ثأر أغلى من طغا جار إذ طغى
ويقول من قصيدة أخرى:
فإنا بنو عثمان لا الضيم عندنا ... يعان ولا يوماً على جارنا يقضى
وهو هنا يرد على ما رماهم به العرب من الظلم ونقض الجوار، ولما استفزه اليازجي بالشعر المر الموجع في تعداد مظالم الترك رد بقصيدة ميمية طويلة خانته فيها لباقته، فرمى العرب بما لا يليق أن ترمى به أمة كريمة عزيزة من دولة كان يرتفع فوقها علم الخلافة الإسلامية، حيث قال:
ملكناكم حيناً سوائم جهلا ... تتيهون في دوِّ الهوان نعائما
فلما اكتسى العاري وأشبع جائع ... وأصبح مخدوماً فتى كان خادماً
جهلتم حقوق الترك وهي جليلة ... ولم تحفظوها، شيمة الحر، أنعما
وشوهتم الحسنى بما قد بدا لكم، ... وقلتم كذا كنا وكنتم وبئس ما. . .
وقد طالت هذه القصيدة وجمح القلم من يد صاحبها، ولكنه عاد في النهاية فلطف الكلام بقوله: -
وقد أنزل الله المؤاخاة بيننا ... فلا تجعلوها أخوة تسفك الدما
وأنا بكم حقاً كما أنتم بنا ... كلانا أخ في الدين يبغي التلازما
ولا فضل إلا بالتقى وهو بيننا ... سواء وفضل الله خص وعمما
وكل أبوه في الحقيقة آدم ... فمن شاء تذليلا لأصل فآدما(547/26)
وأما نبي الله فالكل قومه ... وأكرمه من لم يسئه وأكرما
نصحت بني مصر وحذرت كلهم ... وقلت المقال الحق لكن تجرما
ولو سلك الطويراني هذا المسلك الرقيق من أول الأمر ما تأججت نار المهاجاة بين شعبين أخوين مسلمين، يرجى من تآلفهما للإسلام خير كثير
أما قصيدته السينية التي رد بها على سينية الشيخ إبراهيم اليازجي، ففيها من الفخر كثير، ولكن فيها على العرب تجنياً صارخاً. ومنها هذه الأبيات: -
والترك نيران اللظى ... فاقدم ورم إن كنت قابس
والترك قد تركوا أبا - ك ومثله بالخزي ناكس
ولولا بنو عثمان ما ... نبست لشرقي نوابس
سهروا ونمتم والتقوا ... وحشا وأمسيتم أوانس
برزوا لساعرة الوغى ... وهمامكم كالظبي كانس
ولكن هذه الأيام قد ولت وانتهى زمان الملاحاة، ونرجو أن يكون المسلمون، على اختلاف أجناسهم، قوة يعمل حسابها ويخشى بأسها. ولعلهم فاعلون ذلك إن شاء الله.
أما فخر الطويراني بنفسه، لا بجنسه، فكثير في شعره وقد أعانه على ذلك نفس أبيه وهمة قوية، فقد تنقل في البلاد وطوف في الآفاق، ولقي الخير والشر، وشرب الحلو والمر، ولكنه ظل عزيز النفس. اسمعه يقول: -
على أنني إن لان قومي ظالم ... وإن طالبوني بالتذلل ظالم
وأني لأستلقي الكريهة باسما ... وأجهل عقباها وأني لعالم
إلا أنه قد يغرق في الفخر ويغالي فيه على عادة شعراء عصره.
فترى الإسراف فيه واضحاً، والكذب فيه ظاهراً كقوله:
خلقت للسيف والقرطاس والقلم ... فالدهر عبدي وأهل الدهر من خدمي
والشطر الثاني سخيف مرذول وما أشبهه في السخف بقول ابن سناء الملك
وأنك عبدي يا زمان وأنني ... على الرغم مني أن أرى لك سيداً
وسبحان من غير نظم شعراء اليوم إلى الفخر، فلو أن واحداً منهم قال مثل هذا القول لقال الناس: هذا ناظم كذاب!(547/27)
أما باب المديح فيشمل جزءاً كبيراً من الديوان. فقد مدح السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحميد والخديو إسماعيل باشا، والخديو توفيق باشا، كما كانت له مدائح وصلات أدبية ومكاتبات ومساجلات مع إسماعيل بك عاصم والأديب الشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري والشاعر الأديب عبد الله فريح
أما غزله فيظهر فيه التصنع والتقليد للقدماء حتى في الوقوف على الأطلال والبكاء عليها وذكر المرابع والعيس والأماكن العربية كمنعرج اللوى. فيقول:
تعرفت أطلال الحمى بعد مجهل ... فأوقفت عيسي بعد طول الترحل
ويقول:
سقى الله صوب القطر منعرج اللوى ... وحسبي به دار الشبيبة والهوى
ويقول:
أمن دار سلمى دراسات المعاهد ... بكيت طلولا بَعْدَ بُعْدِ المعاهد
ويقول:
بانت سعاد فرغد العيش منكود ... وودعت فجليد القلب مكمود
وشتان بين المحاكاة والطبع، وبين الصوت والرجع!
وشعر الطويراني لم يسلم من الزحافات والعلل والضرورات الشعرية التي لجأ إليها لجوءاً كثيراً. فهو يمد المقصور ويقصر الممدود ويجزم المرفوع، ويسكن أواخر الكلمات فلا يعربها، ويقطع همزة الوصل، ويصل همزة القطع، ويأتي بعيوب السناد ويمنع المصروف من الصرف كقوله في صفحة 242
والورق تسجع في الغصون كأنما ... هاتيك غيد وتلكم الأوتار
فمنع من الصرف كلمة غيد وحقها التنوين
وقوله في ص 9
لأن التلازمْ بين ذات وعارض ... من الكون لا يخفى لمن يتبصر
بإسكان الميم من كلمة التلازم
وقوله في ص 17
يا نبي الهدى عليك سلام ... لا ابتداء له ولا انتهاء(547/28)
بقطع همزة الوصل من كلمة انتهاء
وقوله ص 8
يا إله الخلق ارحم عاجزاً ... مد للألطاف نحو الباب يد
بقطع همزة الوصل من الفعل ارحم
وقوله:
ولا والله لا في العلم خير ... ولا في الجهل شرُّ ولا مخاوف
فمنع كلمة شر من التنوين وذلك قبيح، ولو قال (ولا في الجهل شرٌّ أو مخاوف) لسلم من الضرورة القبيحة
والطويراني نسبة إلى طويران وهي بلد وكان يكاتب ابن عمه علي بك عطا الله وهو فيها
وبعد فقد أتاح لي الأديب الفاضل علي الشوكاني ببغداد كتابة مقالين عن الشاعر الصحافي التركي المصري حسن حسني الطويراني باشا؛ فله الشكر على ما أتاح؛ ولصديقي محمود بك نصير نائب المنصورة أجزل الشكر على تفضله بإعارتي ديوان الشاعر. فلولا ذلك ما ظهر هذا المقال.
محمد عبد الغني حسن(547/29)
البريد الأدبي
بين الدين والعلم ختان الأنثى
نشر الدكتور الفاضل أسامة في مجلة الرسالة الغراء مقالا له قيمته الطبية في ختان الأنثى، وقد ذكر بعد أن أثبت ضرره أنه ليس من الدين في شيء وإنما هو عادة خاصة بأهل مصر مسلميها وأقباطها. وقد رد عليه بعض الفضلاء بأن ختان الأنثى من الدين، لأن الأئمة نصوا عليه في أحكامهم المستنبطة من السنة، فقال الشافعي وكثير من العلماء إنه واجب، وقال مالك وأبو حنيفة إنه سنة، ومأخذ هذه الأحكام أحاديث كثيرة منها: الختان سنة للرجال مكرمة للنساء. ومنها: يا نساء الأنصار اختضبن غمسا، واختفضن ولا تنهكن. والخفض في هذا الحديث هو ختان المرأة
وإني أرى أن الدين لا يخدم بهذه الطريقة، لأنها تخلق بينه وبين العلم من العداء ما تخلق، وليس من مصلحة الدين معاداة العلم، وقد قرر سلفنا الصالح في مثل هذا أنه إذا تعارض دليل النقل ودليل العقل وجب تأويل دليل النقل بما يوافق دليل العقل. وهذه قاعدة جليلة توفق دائماً بين العلم والدين، ويجب أن نجعلها دائماً نصب أعيننا، وألا نحيد عنها في كل ما يعرض من خلاف بين الدين والعلم
فلنقل للدكتور (أسامة) دعك الآن من التعرض لختان الأنثى من ناحية الدين، فالتعرض له الآن من هذه الناحية سابق لأوانه، لأنه يجب أولا أن نصل إلى قرار إجماعي في هذه المسألة من الأطباء، وبهذا نكون أمام دليل قاطع من العلم والعقل، ويمكننا أن نبحث هذه المسألة على ضوئه من ناحية الدين، والأحاديث التي وردت فيها من أحاديث الآحاد، وأمرها في ذلك أسهل من غيرها من أدلة النقل
عبد المتعال الصعيدي
الإبهام والغموض في التصوف
قرأت كلمة الأستاذ محمد منصور خضر في عدد الرسالة 544 تعليقاً على كلمتي عن الإبهام والغموض في التصوف، وهو في دفاعه عن التصوف يؤيد فكرة الغموض صوناً لأسرار المتصوفين؛ على أن المنطق السليم يأبى أن يكون معرفة الحق احتكار الفئة(547/30)
مخصوصة تلجأ إلى طرق معوجة لإدراك كنهه، وقد قامت الديانات الكبرى اليهودية والنصرانية والإسلام برسالة الحق بأسلوب صريح سهل كان عاملا قوياً في سرعة قبولها. وإني أعيذ الإنسانية أن تكون وسيلتها في تعرف الحق الإلهي طرق المتصوفين، إذ لو كان الأمر كذلك لبات الحق مجهولا إلا من أفراد معدودين.
وقد لاحظت أن الغموض طبيعة في المتصوفين، وأنه غير معتمد، وإذ يرون أنفسهم قد بعدوا عن الطريق السوي، يعمدون إلى تعليل هذا الغموض بأنه مقصود لذاته يصون أسرارهم، وقد وجدت أن كل متصوفي العالم تتخذ للتعبير عن إرادتهم في الحق أسلوب العشاق لا عن مران سابق أو تعمد، بل عن سجية خاصة بهم، وهذا يسقط حجة القائلين بأن الإبهام وسيلة مقصودة لحفظ الأسرار
ويذكر القراء أن المتصوفين لا يتفقون في تأويل لغتهم الملتوية، وحسبي أن أذكر البيتين اللذين نشرتهما الرسالة منذ أكثر من عام؛ وكيف اختلف كل شارح في تأويل معناهما وعارض بعضهم، وكلهم يدعي العلم بالتصوف. وبتنا نحن القراء في حيرة من أمر الشعر الصوفي الذي لم يهتد لمعرفة ما يضمره قائله.
ولنعتبر بكلمة الحق التي تلوكها ألسنة المتصوفين، والتي أطاحت برأس الحلاج عندما قال كلمته المشهورة (أنا الحق)؛ فإن من ينشد الحق لا بد له من الصدق والصراحة والوضوح، ومن يلتمس الحق عن طريق الغموض والإبهام فإنه يناقض نفسه
وقد ذكرت في كلمتي السابقة أمثلة من غموض المتصوفين، وإن بيتاً من شعر ابن الفارض لا تكشف مخابئه آلاف من الصحف. ولعل قولة الحلاج (أنا الحق) مثل من أمثلة الغموض حمل الناس على اعتباره زنديقاً فقتلوه، ولو كان يحسن التعبير عما يضمره لنجا من الخاتمة المشئومة التي جره إليها الإغراق في الغموض.
وختاما أسائل الكاتب الفاضل ماذا يريد المتصوف عندما يذكر الحب والحبيب والدلال والوصال والهجر، ومن اصطناع لغة العشاق في معرض الكلام عن الحق الإلهي، أيعد هذا تنزيهاً لهذا السر الرباني، أم يعد إفلاسا وفقرا في الإيضاح والبيان له سيئات كل قصور؟
أما عن البحث في نفسية المتصوفين فليس هذا مجاله كما قلت
(أسيوط)(547/31)
كامل يوسف
عضو في المعهد البريطاني للأبحاث الفلسفية بلندن
جماعة النهضة العلمية
أنشأ بعض الجامعيين جماعة صغيرة غرضها نقل الثقافة الأوربية إلى اللغة العربية، حتى تكون مادة يمكن استغلالها في تلقيح الثقافة العربية وتزويدها بالعناصر اللازمة. والكتب التي رأت هذه الجماعة أن تنقلها إلى العربية في هذا الموسم هي الكتب التالية:
1 - (الإنسان هذا المجهول) ' لألكيس كارل:
2 - (المتطور الخالق) (أو المبدع) لبرجسون
3 - (لغز الكون) لإرنست هيكل
4 - (إميل أو التربية) ' لجان جاك روسو
5 - (ذكريات الطفولة والشباب) ' لإرنست رينان
6 - (العالم كما أراه) لإينشتين
7 - (الأفكار) لبسكال
8 - (الانتحار) لدور كايم
9 - (الضحك) لبرجسون
10 - (أول الأشياء وآخرها) لويلز
ونحن إذا نظرنا إلى هذه القائمة نجد أن الجماعة قد أحسنت الاختيار، (وإن كان التنويع محدوداً في دائرة صغيرة). . . وكل ما نرجوه لهذه الجماعة الناهضة أن تمضي في تحقيق مشروعها دون أن تتخلف، فإن محك كل شيء هو التنفيذ لا التشريع، التحقيق لا التصميم.
زكريا إبراهيم(547/32)
العدد 548 - بتاريخ: 03 - 01 - 1944(/)
الرسالة
في عامها الثاني عشر
في بصيص من الأمل يلمع في دياجي الآفاق استهل عامنا الوليد!! وهذا البصيص قد لاح من الشرق أيضاً من صحراء لوبيا! ولصحاري الشرق أسرار يبوح بها القدر كلما قضى الله أن يخرج العالم من ظلمة إلى نور! ولرب السموات والأرض نظام يدبره على مقتضى أمره. فلا الزلزال ولا الإعصار، ولا الحديد ولا النار، ولا الدمار والموَتان، ولا الجبروت والطغيان، ولا النارَّية النازَية، ولا الفاشيَّة الفاشِيَة، تستطيع وإن تظاهرت أن تعقب على حكمه، ولا أن تبدل ما سبق في علمه.
كان العالم كله في النصف الأول من العام الذاهب يتيه في يِدٍ قواتم الأعماق من مجاهل الأرض، نجومها رجوم، وآفاقها غيوم، ورياحها سموم، ومسالكها لغوم، وهواتفهاِ جنة. وكانت الوحوش النازية تزأر في جنباتها السود فتردد زئيرها الرعود، وتنزل بوعيدها الصواعق. ثم أراد مالك الملك ألا يشركه في ملكه أحد، فبدا في غياهب (العلمين) ودياجي (ستالنجراد) شعاع من نوره، فإذا الظلام يشف والطريق يستبين وإذا اليأس يتحول رجاء، والزئير ينقلب عواء، والمارد الجبار يعود إلى القمقم، والتنين الخرافي يرتد مثخناً بالجراح إلى قفصه الهائل، وقد شرع مخالبه الكثيرة بين قضبانه الطوال الغلاظ ليعوق القدر الهاجم ويؤخر الأجل المحتوم!
في هذا الشعاع الإلهي الذي هدى المجوس ليلة ميلاد المسيح، وضلل المشركين يوم هجرة محمد، ثم عاد فبين للإنسانية نسم الطريق في معامي هذه الحرب، تستقبل (الرسالة) عامها الثاني عشر، وهي باعتبارها لساناً من ألسن الإصلاح الإنساني تجد بهذا التحول الحربي والسياسي روحاً وغبطة: ترتاح لأن تباشير النصر تكاد تنبئ عن سلام رخي يرد الوئام على الناس ويعيد النظام إلى الدنيا؛ وتغتبط بعقبى هذه الحرب التي لا نعت لها في لغات الناس إذا استطاعت نارها التي لم تخب ساعة في أربع سنين أن تنفي خبث الغرائز عن العصر السماوي في ابن آدم المسكين. وما أسعد الإنسانية جمعاء إذا عوضها الله من ملايين الأنفس التي أزهقت، ومن قناطير الذهب التي أنفقت، ومن آلاف المدن التي أحرقت، تلك الأماني العذاب التي اشتمل عليها ميثاق الأطلسي، وعبرت عنها حريات رزفلت!(548/1)
لقد ظلت هذه المنى دعوة الدين ورسالة الحكمة منذ هبط هذه الأرض آدم؛ فكانت تقص كالأحلام، وتسمع كالأنغام، فتهدهد الغرائز العارمة ساعة الشبع والغفوة، فإذا انتبه الإنسان على وخز الحاجة كثر عن الناب وشمر عن المخلب، ثم يفعل ما يفعل كل حيوان من كل جنس. فلما جاءت المدنية لم تزد على أن جعلت للناب غطاء من الذهب الوهاج، وللظفر غشاء من الصبغ القاني! فهل آن لعقول الناس أن تفهم عن وحي الله؛ وللخلائق المكسوبة بالتهذيب أن تتغلب على الغرائز الموروثة بالفطرة؟ لا نظن ذلك. إنما هي القوة التي تحولت بتأثير الكثرة والثروة إلى تهديد مستمر: وهي الحرب التي تطورت بتسخير العلم والفن إلى فناء عام! فإذا فكر قادة الإنسانية اليوم أن يحسموا أسباب الحرب فيما بقى من عمر الدنيا، فذلك لأن الحرب المقبلة معناها انفطار السماء وانفجار الأرض وقيام الساعة. والنزاع الدولي مهما اختلفت دواعيه نزاع على مادة الحياة. فإذا كان يؤدي إلى الفناء المطلق، وجد في أصل الفطرة الإنسانية ما يمنعه. والأصل في طبيعة الحرب أن تنتج النصر من قوة وضعف. فإذا تكافأت القوى بطل عملها أو تفانت. وكل دولة من الدول التي تمتاز اليوم بكثرة الأرقام في عدد الأنفس والأموال ومعاهد العلم ودور الصناعة، تستطيع أن تعبئ الجيوش وتهيئ الأسلحة، ولكنها لا تستطيع أن تضمن الغلب؛ فلا مناص إذن من تحالف دولتين أو ثلاث منها لتبطل التكافؤ وتثقل الكفة. ولا يدوم هذا التحالف الحتمي بين الدول المختارة لحفظ السلم إلا إذا انقدعت نفوسها عن الطمع والأثرة. لذلك كنا متفائلين بنتائج هذه الحرب إذا دارت دوائرها على المحور؛ فإن جنوح الأحلاف إلى تحكيم العقل المسلح في النزاع، وتوخي العدل الممكن في القسمة، وإيثار التبادل الحر في المعاملة، هو حلم الأمم الضعيفة بطبعها في العدد والعدة.
على إن سلطان العقل والعدل وإن قوى أثره في نظام العالم المرجو لا يضمن وحده سلامة شعب اجتمعت على أهله القلة والذلة والفرقة والجهالة؛ فإن لهذه الصفات الخسيسة أثرها قي تخفيف الموازين وتخفيض القيم. ولن تستطيع ولو حرصت أن تعدل بين متفاوتين في العقلية والحرية المدنية والقوة. ولا يستوي في طلب الحق أو الدفاع عنه واحد وجماعة. والدول الصغيرة كالآحاد قوتها في أن تجمع. ودول البلطيق والبلقان والشرق الأدنى قوى متفرقة؛ فلو تجمعت المتجاورات منها لكان لها في الحرب والسلم شأن غير هذا الشأن. وإن(548/2)
العروبة التي فرقتها المطامع ومزقتها الأحداث قد أدركت فضل تعاونها في حادث لبنان القريب فأخذت تعمل على أن تكون يوم يجتمع الناس للصلح وحدة سياسية قي أي صورة من الصور نرجو أن تنتظم دولها جمعاء من المحيط إلى المحيط
اللهم رحماك ورضاك! هذا خامس شتاء يقضيه عبادك في زمهرير جهنم! ونار الطاغين يا أعدل الحاكمين غير نارك، يصلاها البر والفاجر! لم يبق في العالم المحروب صدر من غير بلبلة، ولا بلد من غير زلزلة، ولا أمة من غير أزمة! فاجعل اللهم هذا العام حداً لهذا البلاء الشامل!
ربنا اصرف عنا العقاب إنا براء، وخفف عنا المصاب إنا ضعفاء، واكشف عنا العذاب إنا مؤمنون
احمد حسن الزيات(548/3)
قصر أنطونيادس
للدكتور زكي مبارك
هو أنطونياذس، بالذال لا بالدال، في النطق اليوناني، ونحن ننطقه بالدال على أسلوبنا في المراوحة بين هذين الحرفين، كما نقول: دا، في مكان ذا، وكما نقول: دي، في مكان ذي، وكما نقول: خد، في مكان خذ. . . وكان ذلك لأن الدال أخف في النطق من الذال، لا تحوجنا إلى بروز اللسان بين الأسنان.
أترك هذه الفائدة اللغوية لأواجه الموضوع فأقول:
كانت أيام الصيف الماضي أيام أعياد لقصر أنطونياذس، فقد ورد اسمه مرات ومرات في الجرائد المصرية والسورية والحجازية والعراقية، إلى آخر ما هنالك من الجرائد التي تصدر باللسان العربي، ثم ورد اسمه أيضاً مرات ومرات قي الجرائد التي تصدر بالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية واليابانية والصينية، إلى آخر ما هنالك من الألسنة التي يهتم أصحابها بالمشكلات الدولية
ونحن نعرف الأسباب التي جعلت لقصر أنطونياذس هذه المنزلة التاريخية، فقد كان المكان المختار لمشاورات الوحدة العربية، المشاورات التي اشترك فيها رجال يمثلون العراق والشام والحجاز. . . ولو تمهلت الحوادث لاشترك فيها رجال يمثلون لبنان قبل أن ينتهي ذلك الموسم الجميل
وأنتم رأيتم الصور التي سجلت بعض المناظر لأولئك المتشاورين، ففي الجانب المصري يجلس رفعة النحاس باشا ومعالي الهلالي باشا وسعادة الأستاذ محمد بك صلاح الدين، وفي الجانب العراقي أو السوري أو الحجازي يجلس من اختارتهم أمتهم لتلك المشاورات، ثم يكونون ضيوف الحكومة المصرية في قصر أنطونياذس، إلى أن تنتهي مهمتهم الرسمية
فما هو قصر أنطونياذس الذي شغل الجرائد والمجلات والإذاعات والبرقيات عدداً من الأسابيع في الصيف الذي سلف؟
أعترف بأني ما كنت رأيت ذلك القصر من قبل، فما كان يهمني من الإسكندرية غير الشواطئ، ولا كنت أتصور أن فيها مكاناً أبهج من محطة الرمل. عليها تحية الحب!
الصورة التاريخية هي التي دفعتني إلى رؤية قصر أنطونياذس لأكتب عنه كلمة توضح(548/4)
بعض ملامحه لمن يجهل من أحواله ما كنت أجهل، وما أكثر ما أجهل من أحوال بلادي!
منطقة شعرية
أخذت العربة طريقها بمحاذاة نادي سبورتنج، ثم اتجهت شرقاً إلى ناحية خفق لها قلبي، القلب الذي تذكر أنه زار تلك الناحية في الليالي البواسم قبل أن تولول أبواق الحرب!
نعم، هذا كازينو النزهة، وهذي موسيقا الرقص في ضحوات الآحاد، بعد أن امتنع فيه الرقص بالليل
وتلك طيوف الماضي تعاودني برفق أو بعنف، فقد كان لي في ذلك الكازينو ذكريات
متى تعود أيامي؟ متى تعود؟
من حق الأيام أن تنتقم مني، فقد أكرهتها على أن تكون في مذاقي رحيقاً في رحيق، وهي بلؤمها تريد أن تكون غسليناً في غسلين
وهل استطاعت الحياة أن تنتقم مني؟
وكيف وهي مثقلة بالديون لقلمي؟
نحن نبتدع الحياة بأفكارنا وأحلامنا، لنجد ما نصوره بأقلامنا، فإن فكرت الحياة في أن تمن علينا فلتنزجر ولترتدع فليس لها في أعناقنا جميل، وإنما نحن أصحاب الجميل
إن الإنسان خليفة الله في الأرض، ونحن لا نخترع هذا القول، فقد جهر به القرآن المجيد، فما مصير الحياة لو عاشت بلا أبناء، ونحن وحدنا الأبناء الأصلاء؟
إن خطيئة أبينا آدم كانت نعمة على هذه الأرض، فما كان للأرض تاريخ قبل أن يهبط إليها من الفردوس، وما صنع إلا لأنه مجموعة نفيسة من الآراء والأهواء، والحقائق والأباطيل
بإرادة إلهية خلقناك خلقاً يا هذه الأرض، وصيرناك مؤتمرات سلام وميادين حروب
حديقة الورد
هي حديقة نموذجية تذكرنا بالجوانب الوردية من حديقة لكسمبورج في باريس، وقد هجعت الورود بسبب قسوة الشتاء
الآن عرفت ما لم أكن أعرف
عرفت أن البرد يؤذي أهل الرقة واللطف، وينفع أهل القسوة والعنف(548/5)
الآن عرفت كيف كان العرب يصفون المرأة الرقيقة بأنها (تؤوم الضحى)، ومعنى ذلك أنها لا تستطيع الاستيقاظ في برد الصباح، لأنها في رقة الورد، والورد لا يستيقظ في ساعات البرد
هل تذكرون حياة النمل؟
إن النمال تكون من العمالقة في الصيف، ثم تأوي إلى مساكنها المطمورة في الشتاء
ولا كذلك بنو آدم، فقوتهم في الشتاء لا في الصيف، ومن هنا جاءت فكرة (عيد الميلاد)، وهي تعبير عن نزعة إنسانية قبل أن تكون تعبيراً عن نزعة مسيحية، فما يعرف أحد بالضبط في أي شهر ولد المسيح، لأنه ولد قبل أن يلتفت الناس إلى تقييد المواليد
البرد هو الذي نفع روسيا فنصرها على نابليون، وقد ينصرها على هتلر بعد حين.
وتأخر البرد في هذه السنة آذى المزارع المصرية بعض الإيذاء، لأن في الدفء حياة للديدان، وحياة للنمال، وحياة للذباب، وفي حياة هذه المخلوقات جور على أرزاق الناس
البرد هو الذي يعلمنا كيف نستعد لمقاومة التقلبات الجوية، وهي تقلبات لا ينتصر عليها غير من يتدثرون بالأثواب والقلوب
وآية (يا أيها المدثر) تدل على أن الرسول تفتح قلبه للوحي في ليلة شاتية، وسنجد دليلاً على صحة هذا الافتراض، إن كان يحتاج إلى دليل
وهل تهجع الأرض في الشتاء كما يتصور الناس؟
إن الحرارة تتحول إلى جوف الأرض فتعدها إعداداً صالحاً للإنبات والإيراق والإزهار والإثمار، وسبحان من لو شاء لكشف الحجاب عن حكمته العالية في مداولة الأيام بين الصيف والشتاء.
وهل تهجع شجيرات الورد كما تصورتها وأنا أجول في حديقة الورد؟
إنها تستجم، ولعلها تدير في نفسها الصور المنتظرة للربيع المقبل، كما يستجم الفنان ليدير في نفسه الصور المنتظرة لربيع الفكر والخيال
لا نوم ولا موت في هذا الوجود، لأن الله خلقه لليقظة والخلود.
لو زحزح الحجاب لحظة واحدة لرأينا جميع الموجودات في اقتتال أو اعتناق، وإن ظهر للعيون أنها غافيات(548/6)
لم يرحم الشتاء غير طائفة قليلة من الازاهير، فرأينا ما تصنع النحل، وتذكرنا أن النحل تمنح وهي تنهب، لأنها تشعر الزهر بمعاني الحنان، والحنان غذاء الجمال
تدخل النحلة إلى جوف الزهرة فتعتصر ما فيها من رحيق، ثم تنتقل بسرعة إلى زهرة ثانية وثالثة ورابعة، ولا تكف إلا حين تغلبها النشوة فتميل إلى القرار والاطمئنان
والنحل تترك الخلايا من وقت إلى وقت، وتسافر في طلب الرزق، ثم ترجع بدون أن تضل الطريق، فسبحان من أوحى إلى تلك الخلائق اللطيفة ما أوحى، سبحانه سبحانه، وإن كان غنياً عن الثناء
التمثال
دخلنا الروضة النائمة بسب البرد، فراعنا التمثال، وأي تمثال؟
ذلك وثن أقيم لفتاة عارية تتلقى شآبيب المطر، أو أكواب الشمس، في لحظة صفاء
تلك فتاة قتلت صباها وهي تخضع لصانعي التماثيل، وإلا فأين هي اليوم؟
بعشرين جنيهاً أو بثلاثين سمحت الفتاة المسكينة بالجلوس على تلك الصورة أسابيع وأسابيع، ليصاغ منها ذلك التمثال
قلت للجنان: افتح صنابير النوافير لأرى كيف تغتسل هذه الشقراء
لقد كادت الفتاة تستيقظ لتتعلق بعنقي، فما تحدث عنها شاعر قبل أن تراني كان الماء على شفتيها، وكأنها عروس في ليلة حمراء أين النموذج؟ أين؟ إنه فتاة ذهبت إلى غير معاد، فما يعمر مثل هذا الجمال، وهل تطول أعمار الورود؟
ركعت هنالك طفلة ظريفة، وهي تقول في بغام يشبه الحنين:
فما عرفت أي الروحين أرق وألطف، الروح الناطق، أم الروح الصامت!
النموذج مات، بدليل أنه سكت عن مطالبة البلدية بحقوقه في روضة الورد، ولأن زيارته ميسورة بنصف قرش، وما أهون الجمال الذي يزار بأنصاف القروش!
أين أنا مما أريد؟
كان الغرض أن أصف قصر أنطونيادس، فشرقت وغربت، واتهمت وأنجدت، ولم أقل شيئاً عن القصر ذي الشرفات والروضات، القصر الذي سمع نجوى القلوب الصوادق(548/7)
بأماني الأمم العربية، حقق الله تلك الأماني
وهل كان يجوز أن أتحدث عن ذلك القصر قبل أن أصف ما يحيط به من رياض هي ملاعب أهواء، ومراتع ظباء؟
كل شيء ينبض بالحياة في تلك المنطقة الشعرية، وإليها تهفو الأرواح في ضحويات الشتاء، وعصريات الربيع، ولا ينافسها، إلا رمال الشواطئ حين يقبل الصيف!
ما هو قصر أنطونيادس؟ إن له عندي شجوناً من الحديث، وموعدنا المقال المقبل، والله هو الموفق
زكي مبارك(548/8)
1 - أغنية الرياح الأربع
لشاعر اللذة والجمال علي محمود طه
للأستاذ دريني خشبة
هكذا أصبح الشاعر المبدع (علي محمود طه) أغنية في فم الجيل الجديد. وهكذا أصبح شعره إحدى أناشيد مصر الحديثة التي تهتف بها في جنات الجمال، وتتغناها في بساتين الحب، وتغازل بها روح الفن، وتحفز بموسيقاها همم الشباب، وتعطر بأريجها أجواء المجتمع، وتثبت بها شخصيتها في دنيا الشعر العالمي
انتظروا يا أصدقائي الشعراء!
انتظروا. فو الله إني لأعرف لكل منكم فضله، ومسجل، إن عشت لكل من بلابلكم يده، وما بدأت إلا بواحد منكم كنت أنتظر أن يفي بوعده الذي وعد منذ سنوات عشر حتى أنجزه، وأرجو أن يأخذ قي إنجازه إلى ما يشاء الله
أما كيف أنه وعد وعداً ولم ينجزه إلا بعد سنوات عشر، فمرجعه إلى وفاة شوقي أمير الشعراء رحمه الله وغفر له، وذلك أنه كان قد ألقى قصيدة من نظمه في رثاء الشاعر الخالد، في حفلة أقامتها ممثلة الشوقيات الأولى (السيدة فاطمة رشدي) في يناير سنة 1933، يقول فيها الأبيات التالية التي علقت بذاكرتي طول هذه السنوات العشر:
أيها المسرح الحزين عزاَء ... قد فقدت الغداة أقوى دعامهْ
ذهب الشاعر الذي كنت تستو ... حي وتستلهم الخلود كلامهْ
واهب الفن قلبه وقواه ... ومصافيه ودَّه وهيامهْ
رب ليل بجانبيك شهدنا ... قصة الدهر روعة وفخامهْ
أسفر الشعر عن روائعه في ... ها وألقى عن الخفاء لثامهْ
فأعد عهده، وأحي ليا ... ليه، وجدد على المدى أيامهْ
(ولك اليوم همة في شباب ... ملئوا العصر قوة وهَمامهْ)
نزلوا ساحه يشيدون للمج ... د وشقوا إلى الحياة زحامه
فاذكروا نهضة البيان بأرض ... أطلعت في سمائها أعلامه
إنها أمة تغار على الف ... ن وترعى عهوده وذمامه(548/9)
(لم تزل مصر كعبة الشعر في ال ... شرق، وفي كفها لواء الزعامه)
إن يوماً يفوتها السبق فيه=لهو يوم المعاد، يوم القيامه!
كنت أردد هذه الأبيات ثم أبحث عن علي محمود طه فلا أجده إلا في قصيدة أو مقطوعة تسفر بها إلينا جريدة أو مجلة، حتى لقيته في المقتطف ذلك اللقاء الكريم المفاجئ، في منظومته الطويلة (الله والشاعر). . . فقلت: نفحة أرجو أن تتلوها نفحات. . . وكان علي محمود طه في هذه المنظومة الرائعة عاصفة مكبوتة تريد أن تنطلق. . . أو تريد أن تحاج الأرض والسموات
ما أثمت روحي ولا أجرمت ... ولا طغى جسمي ولا استهترا
عناصر الروح بما ألهمت ... أوحت إلى الجسم فما قصرا؟
فلما أتيت على آخر المنظومة
فابتهلي لله، واستغفري ... وكفري عنك بنار الألم
وقدمي التوبة، واستمطري ... بين يديه عبرات الندم
رثيت له وأعذرته
ثم ملأ أيدينا الممدودة (بالملاح التائه) فبادرت إلى (الله والشاعر) أستعيدها، وأستغفر الله لهذا البلبل الشادي. ثم ذكرت رثاءه لشوقي فطويت الصفحات إليه، ووقفت عند هذا البيت:
أيها المسرح الحزين عزاء ... قد فقدت الغداة أقوى دعامه
فطويت الملاح التائه، وجلست مسترخي الأعصاب شارد اللب، لا أفكر لا في مسرحنا هذا الحزين، وأدبنا ذاك الشاحب؛ فلما عدت إلى نفسي، أو عادت إلي نفسي، أخذت أقرأ حتى استوقفني هذا البيت:
ولك اليوم همة في شباب ... ملئوا العصر قوة وهمامهْ
فوجدتني أردد بيت شوقي.
شباب قنع. . . . . .
رددته مرتين ثم أمسكت، فلما قرأت هذا البيت:
لم تزل مصر كعبة الشعر في ال ... شرق، وفي كفها لواء الزعامه
ذكرت وفود الشرق التي بايعت شوقي في بيت حافظ، فطويت الملاح التائه وانصرفت عنه(548/10)
زمناً طويلاً. . . ووالله ما انصرفت عنه قالياً أو سالياً، لكنني ذكرت ما وعدنا به علي محمود طه ولما ينجزه. . . فتجدد حزني على شوقي. . .
ومضت سنون سبع، وطلع علينا شاعر اللذة والجمال بليالي ملاحه التائه، وبه تلك المجموعة الشائقة من روائعه التي قرأناها كلها في الصحف، ثم ذكرت وعده الذي وعد، وأنه لم يف لكعبة الشعر في الشرق بشيء من هذا الوعد، فرحت أردد الذي رددته من قبل من شعر علي محمود طه:
أيها المسرح الحزين عزاء ... قد فقدت الغداة أقوى دعامه!
ثم طلع علينا الملاح التائه (بأرواحه الشاردة)، فقلت: لا بأس. . . روح الشاعر تعانق أشباح أشباهه! ومن يدري؟ لعله لا يزال يستعد. . .
ثم فاجأنا (بأرواح وأشباح) فلما قرأتها فغمني فيها أريج من دانتي. . . إنها رحلة الشاعر إلى السماء، حملته إليها ربة الشعر:
إلى قمة الزمن الغابر ... سمت ربة الشعر بالشاعر
يشق الأثير صدى عابرا ... وروحاً مجنحة الخاطر
مضت حرة من وثاق الزمان ... ومن قبضة الجسد الآسر
وأوفت على عالم لم يكن ... غريباً على أمسها الدابر
فلما فرغت منها، وأفقت من حلمها اللذيذ، سمعت رجع أصدائها تملأ أذني من منظومته القديمة (الله والشاعر)، فعدت أستغفر له الله. . . وأشبهه بالدهر الذي يقول فيه أبو العلاء:
يا دهر يا منجز إيعاده ... ومخلف المأمول من وعده!
لولا هذا الجمال الذي عوضنا به مؤقتاً، والذي أودعه أشباحه وأرواحه
ثم حيانا علي محمود طه بزهر وخمر، وكنا ننتظر البشرى الثمينة التي كان قد زفها إلينا صديق عزيز، ثم ملأ أيدينا بالبشرى نفسها. . . لقد أنجز علي محمود طه ما وعد. . . لقد أصدر أغنية الرياح الأربع! ولقد أصدرها باقة يانعة من السحر والشعر والجمال والخيال
حانة جميلة على شاطئ فينيقية الساحر في ثغر ببلوس حيث وجدت إيزيس جثمان أخيها وزوجها أوزيريس، في ميثولوجيا المصريين القدماء، يملكها ويديرها خمار يوناني يدعى أرسطفان، لا يهمه من الحياة إلا حطامها الفاني. . . وله زوجة رائعة الجمال لا يهمها من(548/11)
الدنيا إلا أن تملك منها جلباباً أو تزهي فيها بحلية. وقفت تساعد زوجها في تنظيف الحانة وتنظيمها، ووقف زوجها يداعبها ويلاعبها. وراحت هي تدل عليه وتتيه، وتستنجزه ما وعدها من جميل النعم، فإذا مد يده يداعب خدها الناضج أو فمها المفتر، اقتحم الحانة شاعر مصري جواب آفاق يدعى باتوزيس، يحمل على كتفه كل ما يملك من عرض دنياه. . . قيثاره و. . . قلبه و. . . أمانيه. . . تلك الأماني التي لا تزيد على كأس يشعشع بها أحلامه، أو أغنية يسكن بترديدها آلامه، أو قينة يريق تحت قدميها أنغامه؛ وما أرخص هذه الأماني في حانة أرسطفان هذا الببلوسي!
ويرى باتوزيس زوجة الخمار، فيعتمد القيثار ويتغنى أعذب الأشعار؛ إلا أن أرسطفان يضيق به وبأشعاره، حتى إذا قال باتوزيس
لو كنت في طيبة يوماً معي ... رأيت باتوزيس في المجلس
يسقيك من خمرة كهَّانها ... مصرية عذراء لم تُمسس
انتفضت زوجة الخمارة الحسناء لذكر طيبة، ولذكر مصر، وتسائل الشاعر عن ملاعب صباها في وادي النيل، فيجيبها ودموعه تترقرق قي عينيه شوقاً إلى مراتع حبه وجنة قلبه
أي صدى هزَّني ... وأي حلم عجاب
هل لي إلى موطني ... يا ربّتي من إياب؟
يا ربتي رددي ... هذا النداء الجميل
اليوم أم في غدٍ ... أرى ضفاف النيل؟
وتقدم الزوجة الحسناء بيدها البضة وأناملها الغضة كأساً من الخمر إلى باتوزيس، ويأخذ الخمار وزجه والشاعر المصري في حديث طلي طويل عن مصر، تقطعه ضجة يسمعونها من بعد، وهي تقترب، فيخبرهم باتوزيس أن اليوم عيد البحار، وأن البحارة المقبلين نشاوى قدموا ليحتفلوا بعيدهم
ربابنة السفن المواخر أقبلوا ... يحيّون عيد الماء عيد السفائن
يلوحون من أقصى الطريق بموكب ... تصايح فيه كل نشوان ماجن
ألا حبذا عيد البحار وحبذا ... شرابيَ فيه أو شجيُّ ملاحني!
ويخشى أرسطفان على زوجته من هؤلاء السكارى العزابيد:(548/12)
حبيبي أخشى عليك سكرهم في حانتي فاجتنبيهم واذهبي
فتسأل زوجها:
مم تخاف؟ فتنة؟ أم غَيْرةً؟ ... تظن بي سوءاً؟ أما وثقت بي!
فيضحك أرسطفان، ويخبرها أن هؤلاء البحارة إنما يغشون الشواطئ لخطف الحسان
إني أخاف عليك وسوسة الطلي ... في كأس عربيد الصبا نشوان
أرسى سفينته هناك كأنها ... مقصورة العشاق في بستان
إن يَدْع زائرة له فسبيلها ... سوق الرقيق وعالم النسيان
(للكلام بقية)
دريني خشبة(548/13)
كتب وشخصيات
2 - إبرهيم الثاني. . . للمازني
للأستاذ سيد قطب
خصائص المازني وفنه
أخيراً يهتدي المازني إلى نفسه ويمضي على نهجه، ويستغل أفضل مزاياه.
و (أخيراً) هذه تعني سنة 1929 يوم أخرج المازني كتابه (صندوق الدنيا)، وإن كان قد نشره متفرقاً من قبل في صورة مقالات.
وإذا علمنا أن المازني بدأ ينشر سنة 1910 أو حواليها، فإننا نسأل: وفيم إذن أنفق أكثر من خمسة عشر عاماً قبل أن يتجه اتجاهه الأصيل؟
والجواب أنه أنفقها أولاً قي التمهيد والتحضير لدوره الأخير، وأنفقها ثانياً في التهيئة العامة للأذهان والأذواق، متابعاً في هذا وذلك زميله العقاد، مع بعد ما بين الرجلين في الطبيعة والاتجاه.
والواقع أنني لم أعجب لشيء عجبي لاقتران هذين الاسمين في الأذهان فترة طويلة من الزمان، وهما يكادان يتقابلان تمام التقابل في الطبيعة الفنية والإحساس بالحياة
فالعقاد موكل بالفكرة العامة والقاعدة الشاملة، والمازني موكل بالمثال المفرد والحادثة الخاصة؛ وبينما يضع العقاد يده مباشرة على مفتاح القضية أو الفكرة يمضي المازني في استعراض أجزائها ودقائقها مستلذاً هذا الاستعراض مشغولاً به عن كل ما عداه. وفي العقاد ثورة وزارية وسخط على النقائص والعيوب الكونية والاجتماعية والنفسية (وإن أدركه العطف على الضعف البشري)، ومع ثقته وتفاؤله بالحياة، وفي المازني قلة مبالاة وسخرية واستخفاف، وشيء من التشاؤم يبطنه بالفكاهة والشيطنة.
ومن هنا احتفال العقاد واهتمامه وجده فيما يأخذ وما يدع من الأمور حتى في فكاهته وسخريته؛ واستخفاف المازني وسهولة أخذه للمسائل والأشياء، وإن لم تنقصه الفطنة لما فيها من متناقضات
ومن الأمثلة الحاسمة التي يهيئها الاتفاق فتصور الفارق الأصيل بين اتجاهي التفكير(548/14)
وطريقتي النظر والتعبير، إجابتا المازني والعقاد على سؤال في مجلة، كان عنوانه: (هل أخلاقنا في تقدم)؟
فأما العقاد فقد سارع بوضع القاعدة ونصب الميزان، وهو يقول:
(نعم الأخلاق المصرية في تقدم، أو أن الرجاء في تقدمها أقرب من اليأس، وربما منعنا أن نرى دلائل التقدم أن الرجة عنيفة، وأن الغبار كثير حول الأقدام وفوق الرءوس. فإذا انجلى غداً عرفنا ما خطوناه، وما لا يزال أمامنا أن نخطوه
(ومن الواجب أن نعرف مقياس التقدم قبل أن نقيس ونضبط القياس فمقياس التقدم عندي هو احتمال المسئولية لأنه الفارق بين كل متقدم وكل متأخر بلا استثناء
(. . . وإذا كانت المسئولية مقياس التقدم الأوحد، فالحرية إذن هي شرط التقدم الذي لا غنى عنه بحال من الأحوال، لأنك لا تفرض المسئولية على إنسان مكتوف اليدين، ولا بد من حرية حتى تكون مسئولية، ولا بد من مسئولية حتى يكون تقدم في الحاضر أو المستقبل
(هذه الفوضى التي نراها في أخلاقنا هي مظاهر الحرية الأولى، أو هي أول مفاجأة من مفاجأتها. . . الخ
وقد تخالف العقاد أو توافقه، ولكنك مضطر أن تنظر أولاً في (مقياس التقدم) أو في (مفتاح الفكرة) الذي يلخص الرأي ويبلور التفصيلات
وأما المازني فراح يستعرض المظاهر الخلقية ويحكم عليها واحداً بعد الآخر حسبما رآه. فقال:
(كيف تصلح أخلاق أمة والبيت فاسد والتفاوت بين الرجل والمرأة شديد، والتربية سيئة، والمدرسة عقيمة النهج، والقدوة العامة على أسوأ ما يمكن أن تكون، ولا تقدير للتبعات والمسئوليات، ولا احترام للحقوق، ولا اعتراف بوجود حدود، ولا ثقة بإنصاف. . .) الخ
ويلاحظ أن المازني ذكر (تقدير التبعات والمسئوليات) التي ذكرها العقاد ولكن هذا جاء هنا عرضاً ومظهراً، بينما جاء هناك قاعدة وأصلاً
وعلى هذه الوتيرة تسير طبيعة العقاد وطبيعة المازني في عملهما الفني بل في حياتهما كذلك. والفرق كما ترى بين الطبيعتين بعيد(548/15)
وبينما كان العقاد يسير على نهجه الأصيل منذ نشأته في النقد الأدبي والدراسات الفلسفية والعلمية، وفي دراسة الشخصيات والسير؛ ويتهيأ للمكانة الملحوظة التي بلغها فيما بعد في دراسة التراجم والمذاهب الفنية، ويقطع مراحل التحضير إلى مرحلة النضوج الأخيرة على بصيرة واستواء. كان المازني يتنكب عن نهجه ويسير في غير طريقه وهو يتناول هذه الموضوعات التي يتناولها العقاد يومذاك، إلى أن اهتدى إلى أفضل مزاياه في عام 1929 وقبله بقليل. وكان ذلك لخير الأدب بلا جدال
وقد أخرج المازني - وهو في التيه - كتاب حصاد الهشيم وكتاب قبض الريح، والقارئ يعجب لتشابه الموضوعات في هذين الكتابين مع موضوعات كتابي الفصول والمطالعات للعقاد ولتشابه الاتجاه في الرأي كذلك، وإن بقى الفارق الكبير بين الطبيعتين والطاقتين حتى في هذا الطور المختلط، الذي لم يكن المازني فيه يفطن إلى حقيقة مزاياه؟
ولا نحب أن نظلم المازني فنغفل عن عوامل الزمن والبيئة التي كانت تحتم عليه هذا الاتجاه في ذلك الزمان. فأغلب الظن أن الحالة الفكرية وفهم الأدب وتقدير الفنون في هذا الوقت لم تكن تسمح بظهور أديب يكتب على نهج المازني الأخير الذي بدأه بصندوق الدنيا سنة 1929 أو قبلها بقليل
وحسبنا لمعرفة هذه الحالة ولتقدير الجهد الذي بذله المازني بجوار العقاد في تصحيح مقاييس الأدب والفنون عامة، أن نعلم شيئاً عن المشكلات التي كانا يعانيان شرحها وهي اليوم في حياتنا الأدبية من البديهيات. فمسائل مثل: وحدة الشعر هي القصيدة لا البيت؛ اللغة وأساليبها تتطور بتطور الزمان؛ التصوير (الفتوغرافي) في الفنون لا يعد عملاً فنياً. . . إلى آخر هذه البديهيات، كانت في ذلك الحين من أعوص المشكلات!
ولقد قرأت بعطف كبير قول المازني في (الحصاد الهشيم)
(ما مصير كل هذا الذي سودت به الورق وشغلت به المطابع وصدعت به القراء؛ إنه كله سيفنى ويطوى بلا مراء. فقد قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن يأتون من بعدهم. ومن الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض ومهدوها ورصفوها؟ من الذي يعنى بالبحث عن أسماء هؤلاء المجاهيد الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد؟(548/16)
(وبعد أن تمهد الأرض وينتظم الطريق، يأتي نفر من بعدنا ويسيرون إلى آخره، ويقيمون على جانبيه القصور شاهقة باذخة، ويذكرون بقصورهم، وننسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها سامقة رائعة، والذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد!
(فلندع الخلود إذن، ولنسأل: كم شبراً مهدنا الطريق؟) أدركني عطف كبير وأنا أقرأ هذه السطور، وأراجع جهد المازني وجهد العقاد في التمهيد نحو ربع قرن من الزمان، ووددت لو كان المازني بجانبي حينئذ، لأقول له:
(لا يا مازني! إن نصيبك ونصيب زميلك الكبير أكبر جداً من مجرد التمهيد، فلقد بنيت بعد ذلك - على طريقتك - بنايات جميلة نابضة بالحياة في (إبراهيم الكاتب، وإبراهيم الثاني، وفي صندق الدنيا، وفي الطريق. كما أٌقام هو - على طريقته - بنايات سامقة معمورة الأركان. وفي التراجم الأخيرة على الخصوص)!
اهتدى المازني إذن إلى خصائصه وسار أخيراً على نهجه. فما هذا النهج وما تلك الخصائص بالتفصيل بعدما تقدم من الإجمال؟
والمازني فكاهة ودعابة وسخرية. وقد يفهم بعض الذين تصدوا للنقد بلا عدة وافية أنها غاية خصائصه ومزاياه. وهي منها ولها قيمتها في تلوين أدبه بلونه الخاص؛ ولكني لا أراها في مجموعها خير ما في المازني الفنان. فكثيراً ما تقوم دعابات المازني على نوع من سوء التفاهم المتعمد والمفارقات الكثيرة في الحركات الذهنية التي تقابل مفارقات الحركات الحسية في بعض أدوار (لوريل وهاردي) المشهورة، ولو عدل هذا (التوليف) الخاص لفقدت كل مزيتها، وليس هذا من الدعابة العميقة الأصيلة. ولا يمنع هذا أن يصل بعضها إلى القمة حين يلاحظ المفارقات الإنسانية والنفسية وينسي العبث بالحركات الذهنية والمغالطات اللفظية، وأبرز ما يكون ذلك حين يضبط نفسه أو نفس سواه؛ وهي تغالط نفسها لتهرب من مواجهة موقف أو تتوارى من الكشف في وضح النهار، أو تدعي فضلاً ليس لها وتنكر سيئة عملتها. وللمازني في هذا نماذج قليلة نسبياً، ولكنها من أمتع وأقوى ما تحويه الآداب.
أما مزية المازني الكبرى فهي طريقة إحساسه بالحياة.
إذا كان بعض العيون يأخذ الحياة جملة، فعين المازني تأخذ الحياة بالتفصيل، وهي عين(548/17)
مفتوحة واعية فاحصة، لا تفوتها حركة ولا يند عنها لون؛ وهي تستعرض الحياة والمناظر والنفوس والأشياء، ولا تشبع من النظر ومن التقاط هذه الدقائق في يقظة وانفعال.
وليس كل كائن في الحياة موجوداً بالقياس إلى النفس الإنسانية؛ إنما تملك النفس ما تفطن له وما تنفعل به. واللحظة القصيرة تطول وتضخم إذا هي امتلأت بالأحاسيس وأفعمت بالانفعالات، والتقطت العين والنفس كل أو معظم ما تنطوي عليه من الدقائق والتفصيلات.
وكذلك يصنع المازني باللحظات، وكذلك يملؤها حتى يكظها ويزحمها بالانفعالات. وقد لا يبلغ أغوار الحياة ولا قلالها؛ ولكنه يذرعها طولاً وعرضاً، ويلحظ كل دقيق لا تأخذه العيون، فإذا هو في حفل من الصور والحركات والتصورات، إذا هو يعيد إليك هذه الصور المتحركة في حرارة فائرة كأنها حية حاضرة.
تلك مزية المازني التي لا نظير له فيها في اللغة العربية كلها، إلا ما قد يقع لابن الرومي في بعض قصائده مع الفارق بين قيود النظم وضروراته، وانطلاق النثر وحريته.
وبعد فما قيمة (إبراهيم الثاني) التي كنا ننوي الحديث عنها، فأعدانا المازني في هذا الاستطراد!
هي قصة قلب إنساني يضطرب في عواطفه اضطراباً طبيعياً حياً صادقاً تجاه ثلاث من النساء، كل منهن نموذج من المرأة يلتقي مع الأخريات في الجنس ويفترق في الطراز. وكل منهن امرأة طبيعية في هذا الاتجاه
وهو قلب إنساني حافل بالتجارب مثقل بالقيود - وفي أولها قيد المعرفة الثقيل - ولكنه فائض بالحيوية، زاخر بالعواطف، يضطرب بين الأثقال ويتفلت من هذه القيود. والمؤلف الواعي يسجل كل حقيقة وكل اختلاجة في دقة كاملة ويبطن ذلك كله بالدعابة الساخرة التي لا تنجو منها شخصية من شخصيات القصة جميعاً!
وهي من حيث كونها قصة تقف في أواسط الصف؛ ولكن من حيث مزية المازني التي أسلفت الحديث عنها تقف في أول الصف بلا جدال
والذي أريد أن أقوله: إن (الحدوتة) في ذلتها قد لا تكون خير ما في القصة، ولكن الفطنة للمواقف والمشاعر، والدقة في رسم اللحظات والانفعالات، والانسياب الطبيعي الذي يشعرك أن الحياة تجري في الورق كما تجري في الواقع اليومي. . . كل هذه مزايا ذات(548/18)
شأن في تقويم القصة وتقديرها وكلها تتفق (لإبراهيم الثاني) أحسن اتفاق. فالحركة والملاحظة والوعي لأدق الخلجات وأخفى التصورات، وخلع الحياة الفنية على الفتات التي لا يعنى به الكثيرون، يشيع الحيوية واللذة والانفعال.
ويصعب في مثل هذه الأعمال الأدبية - الاجتزاء بالمثال، فليقرأها من يريد التطبيق على هذا المقال!
ولا بد من الاعتذار في النهاية عن هذا البيان المقتضب السريع المحدود بهذا المجال.
(حلوان)
(سيد قطب)(548/19)
حرية أحرار. . . وحرية عبيد
(إلى الإنسان الحر عباس محمود العقاد)
للأستاذ نظمي لوقا جرجس
هل رأيت حماراً سعى يوماً إلى غير طعام أو شراب أو ضراب؟ لا أظن!
فما لغير هذا (تسوقه) طبيعته وضرورات حياته! وهو لا حياة له وراء هذه الضرورات، ولا مذهب له غير أن تقضي من أقرب سبيل وعلى أيسر وجه
هكذا جميع الحمير من جميع الأجناس. . . ذوات الأربع منها وغير الأربع على السواء!. . .
يعضه الجوع، أو ينخسه في الحين بعد الحين. . . ولكنه مركوب للجوع في جميع الأحيان؛ فهو حين ينقصه الطعام مشغول بالبحث عنه، وهو مشغول وقت حضوره بالإقبال عليه بالقلب والسمع والبصر. ولا شغل بعد هذا ولا انشغال، إلا أن يكون انتظار فراغ جديد يملؤه في غير فتور ولا ملال. فهو جائع حين تخلو معدته من الطعام فتطالبه به، وهو جائع كذلك والطعام ملء معدته وبين يديه. إنه جائع على الدوام، ولا ذنب له في قلة الخلاء أو ضيق الأمعاء! هذا مخلوق، الجوع محور حياته وفلكها الذي فيه تدور!
وغير جائع - وإن جاع حياته كلها! - من تتلوى أحشاؤه، لأنها لم تحظ منذ أيام بما يقيم الأود، لأنه إذا حضر الطعام وسكتت المعدة كانت له في الحياة أشواط ليست كلها قضاء ضرورات ولبانات، وإن كانت كلها إرضاء نفس تطلب الكمال في تحقيق ذاتها، باعتبارها معنى قائماً بذاته في الحياة، ونغمة مستقلة في الوجود
فالنفس الحية بمعنى الكلمة هي التي لها معنى خاص لوجودها. وهي التي تحس في أعماقها دوافع ذاتية مستقلة عن دوافع الحياة الخارجية وموانعها
الحجر بغير (حركة) ذاتية. . . لأنه لا يتحرك بذاته وإنما بحركة غيره
والحيوان (حركة) ذاتية. . . لأنه يتحرك بذاته وليس بحاجة إلى غيره كي يتحرك
والحمار بغير (دوافع) ذاتية. . . لأنه لا يريد وإنما تريد له خلقته الشائعة بينه وبين أفراد نوعه
والشخص ذو دوافع ذاتية، لأنه يريد بوجه خاص بخلاف الطبيعة الشائعة بين جميع الأفراد(548/20)
ودوافع الحياة الشائعة أن تطلب منك القوت واللذة وما في حكمها مما يطلب من جميع النظراء في النوع. وهذه هي كل الدوافع التي تحرك الحمار، فإذا فرغت أو كفيت لم يخرج مع هذا عن تكرارها والانحصار فيها، لأنها هي وحدها الموجودة بالنسبة إليه
فالحمار ليس بذي وجود شخصي أو (عالم نفسي) مستقل بدوافعه الذاتية بعيد عن ضرورات الحياة الشائعة في النوع
ولكنه - وككل حيوان بغير تخصيص - مجرد مدفوع بدفعات الحياة ودوافعها. وليس بذي دفعة في الحياة إلى جانب ذلك الاندفاع. فهو نسخة شائعة أو رقم في نوع. . .
أما النفس التي لها وجودها الخاص، فهي النفس التي لها مطالبها وغاياتها التي تتميز بها عن بقية أفراد جنسها الذين يطابقونها في تلقي دفعات الحياة الشائعة، ولكنهم لا يطابقونها في دفعات حياتها الخاصة. . . التي هي عالمها النفسي الخالص لها بغير شريك. . .
تلك النفس ليست نفس جائع أو معدة مبطان، لأن الجوع ليس كل ما لديها من علامات الحياة. . . ويستوي بعد هذا أن يجهل الجوع صاحب تلك النفس، وإن يعوزه الطعام طيلة أيامه. والحمار بعد جائع أو صاحب جوع، ولو لم يغب عن فمه المذود طرفة عين!
ولكن هذا وذاك قد يتشابهان في السمت أو في الاسم، وقد تضمهما - بغير تفريق - رتبة واحدة في مملكة الحيوان!
افترى حياة المعدة وحياة النفس بعد هذا سواء؟
افترى الاسم الواحد يحمل معنى واحداً عند هذه وتلك؟
افترى الحرية واحدة بعد هذا، لا في معسكرين متقابلين، بل عند أصحاب الفريق الواحد، لأن الفارق فارق الطبائع لا فارق الأوضاع؟
إن اللقمة الواحدة يأكلها اثنان على مائدة واحدة، ولكنها عند هذا غيرها عند صاحبه. . .
فهي في هذا الجانب من المائدة أصل المسعى وغاية الطلاب. وهي في الجانب الآخر منها عارض يجب رفعه من الطريق التي ليس هو من غايتها في كثير ولا قليل. . .
وحساب اللقمة بعد كحساب كل شيء يشترك في مظاهره اثنان في هذه الحياة. لأن الحياة نفسها بمعناها الأصيل مختلفة كل الاختلاف خلف تشابه المظاهر والسمات
فهل الحرية بعد هذا يمكن أن تكون واحدة خلف وحدة اللفظ على لسان هذا وذاك؟(548/21)
كلا!
فكما أن هناك جوعة عارض وجوعة مبطان، فكذلك هناك حرية أحرار وحرية عبيد!
أما الأحرار، فالحرية لديهم هي عين حياتهم النفسية: تفيض نفسهم بالدوافع الذاتية، فإذا بالحياة من خارج تنازعها الميدان، ولا تتركها طليقة تأخذ مداها كما تريد. فتحس النفس - لأنها حرة أصلاً وبطبعها وحكم وجودها الشخصي - أنه محال بينها وبين الاستمتاع بحريتها. فتطلب لذلك الحرية كمال موجود طبيعي، لا قضاء مطلب مطلوب من الخارج طلب فرض واضطرار!
أما العبيد فالحرية عندهم أن يطلبوا الطعام - حاشا! بل أن تطلبهم معداتهم بالطعام - فلا يحال بينهم وبين الطعام. وهم - إلى هذا - تطالبهم غريزة (هي معدة من نوع آخر لا أكثر ولا أقل) أن ينفلتوا من القيد انقلات البهيم يأنف العقال إذا نسى الشبع وأحس البطر. أو حين يعضه الجوع فيدفعه إلى السعي وراء القوت
آية الحرية عند الحر ألا يرغم على ما لا يريد، وأن تترك إرادة حياته الفردية أو النفسية بغير حد يقيد مداها. ويحول دون كمال وجودها، سواء أكان ذلك من صنع المخلوقات أو كان من طبيعة الخلقة الشائعة.
فهو يرفض كل إرادة على الإطلاق، لأن له إرادته الخاصة التي يسعى لتحقيقها بغير قيد
وآية الحرية عند العبد ألا يرغم على مالا تريده له طبيعة خلقته الشائعة بين أفراد نوعه. .
إنه بغير إرادة خاصة - إذ هو بغير عالم نفسي - فهو لهذا لا يفهم أن تكون لأحد إرادة، وبالتالي أن تسيطر عليه إرادة أحد. . .
ولكنه يحس إرادة الحياة الشائعه وهو كله لها. . . فيكره لهذا أن يشارك تلك الإرادة مريد
الحر صاحب نفسه، والعبد ملك خلقته
وكل يذود بعد هذا عن ملكه: فالنفس تأبى الشريك في إرادتها وعالمها. . . والخلقة الشائعة تأبى الشريك في مملوكها المسخر. . . وهو يكره أن يتقاسمه سيدان، فيكافح الدخيل ليخلص للأصيل. . .
والكفاح هنا وهناك يقال إنه في سبيل الحرية!
فمن ينكر كل إرادة، لأن عالمه لا يتسع لغير حياته الخاصة وإرادتها، فهو طالب حرية(548/22)
ومن ينكر كل إرادة - لا لأنه صاحب إرادة خاصة تريد أن تأخذ مداها من السلطان، بل لأنه بغير إرادة على الإطلاق غفل في الحياة مسخر لها، لأن إرادتها وحدها كافية لديه ومعقولة - فهو كذلك طالب حرية. . .
أهذا كلام أيها الناس؟ بلى محض كلام! فما كل حرية بحرية أحرار
وليس المعول على طلب الحرية، ولكن المعول على الحرية نفسها وكيف تكون. . .
ولنا إلى مقوماتها رجعة بعد هذا أو رجعات
(أسوان)
نظمي لوقا جرجس(548/23)
روسيا والثقافة الإسلامية
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
كبر على الأستاذ راشد رستم أن يقول الأستاذ إخناتي كراشوفسكي أحد علماء روسيا المستعربين: (ولا يزال بعض سكان داغستان يتكلمون بلغة عربية قديمة إلى جانب لغتهم الأصلية، ويستخدمونها في التخاطب والكتابة حتى في نظم الشعر وفق الأوزان العربية القديمة) فقال في مقال له: (والواقع أن للغة العربية مكانة بين هذه الشعوب لأنها لغة الدين ولغة القرآن غير أن الذين يدرسونها هم العلماء والمتفقهون الخ)
وأرجو أن يسمح لي الأستاذ راشد رستم أن أوجه نظره إلى أن الأستاذ إخناتي كراشوفسكي ليس أول من قال: إن بعض الداغستانيين يتكلمون العربية ويستعملونها في التخاطب والكتابة ونظم الشعر على وفق الأوزان العربية
فقد قال ذلك من قبله سعادة رشاد بك رئيس محكمة مصر سابقاً في كتابه (سياحة في روسيا) إذ يقول: (ولغاتهم (يعني القوقازيين) أكثرها لا تقرأ ولا تكتب ما عدا الداغستان فإن لغتهم لها قراءة وكتابة خاصة بها، وحروفها هي نفس حروف الهجاء العربية. ولكن من ضمن هذه الحروف حرفا لام وكاف تحت كل واحد منهما ثلاث نقط. وهذه اللغة لا تشبه أية لغة من اللغات الشرقية ولا غيرها بل هي لغة قائمة بذاتها وفيها كلمات عربية كثيرة. وفي العهد الأخير أسسوا مطابع عديدة في (تيمور خان شورا) مركز ولاية الداغستان تطبع فيها كتب ومجلات باللغة العربية الفصحى، وباللغة الداغستانية. . . وكل معاملاتهم وصكوكهم تكتب باللغة العربية، وعلماؤهم وأئمتهم يعرفون هذه اللغة قراءة وكتابة لأنها لغة دينهم. وزيادة على ذلك فإن الداغستان يقرءون ويكتبون بالعربي ويتكلمون). وليس هذا فقط فقد قال الأمير شكيب أرسلان في حاضر العالم الإسلامي (ج 1 ص 79 - 83) من الطبعة الأولى: (. . . وبلاد الداغستان متعددة اللغات. . . ولكن لسان العلم في جبال الداغستان هو اللسان العربي، وهو اللسان الذي يتكاتب به أعيان تلك الأمة. وقد صادفت سنة 1919 الوفد الداغستاني الجركسي في (برن) قاعدة سويسرة، ولزمتهم مكاتبات إلى رؤساء بلادهم فكلفني حيدر بك بامات بتحريرها لهم بالعربية الفصحى، وكثير من علماء الداغستان معدودون من علماء العربية.(548/24)
وجاء في الطبعة الثانية من الكتاب المذكور (ج 3 ص 368) (أما الداغستان، فهي قسمان: داغستان لزكي والثاني داغستان التركي. فاللزكيون يتكلمون ويكتبون بالعربية، ومحاكمهم لسانها العربي)
ولعلي إلى هنا استطعت أن أثبت للقارئ الكريم أن اللغة العربية لغة العلم والثقافة العامة في الداغستان وليست خاصة بالعلماء والمتفقهين فقط كما يقول الأستاذ راشد رستم
ولكن بقى أن نقول في أي عصر من عصور التاريخ انتشرت اللغة العربية في تلك الربوع؟. . وما الذي جاء بها من وراء الحدود حتى أصعدها الجبال وأنزلها الوهاد في الداغستان؟
وفي هذا يقول الأستاذ راشد رستم: (ويرجع الفضل في انتشار اللغة العربية في القوقاز وخاصة في بلاد الداغستان واللزكي والششن إلى إحدى الطرق الصوفية المعروفة باسم المريد)
وأبادر فأقول: إنه ليس في الداغستان، ولا في أي بلد من بلاد الله طريقة صوفية معروفة باسم (المريد)، إنما المريد كلمة عربية فصيحة واضحة المعنى جلية المبنى اسم فاعل من أراد يريد، وتطلق كلمة المريد في عرف الصوفية على كل سالك طريق من طرق الصوفية. وأما الطريقة التي يشير إليها الأستاذ وكانت موجودة في الداغستان فعلاً؛ فهي الطريقة النقشبندية المشهورة؛ ولكن هل هذه الطريقة هي صاحبة الفضل في انتشار اللغة العربية في الداغستان؟ وما شأن الطريقة النقشبندية؟ ومشايخ النقشبندية قوم بخاريون؛ وليسوا من الحجاز ولا من نجد؟
لا. . . لا. . . الواقع أن اللغة العربية في الداغستان قديمة عريقة دخلت البلاد مع سراقة بن عمرو وبكر بن عبد الله، وعبد الرحمن بن ربيعه القواد الفاتحين في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 22 ومع إخوانهم الغزاة المجاهدين من كبار الصحابة والتابعين الذين اندفعوا كالسيل يجاهدون ويرابطون.
ثم استقرت واطمأنت وألقت عصاها يوم وطد مسلمة ابن عبد الملك الحكم العربي في تلك الأصقاع في خلافة أخيه هشام سنة 105هـ، وكان يؤيدها على مر الأيام ذلك السيل الذي لا ينقطع من المرابطين الذين كانوا يقصدون إلى (دربند) - وهي ثغر من ثغور المسلمين(548/25)
- للمرابطة في سبيل الله
بقى أن نقول كلمة عن مدى انتشار اللغة العربية وحدود استعمالها في بلاد الداغستان
فالأستاذ راشد رستم حاول أن يصورها لغة الأسرار والأحاجي (الشفرة) يلجأ إليها المحاربون والقواد إلى إخفاء شئونهم. ونشر للتدليل على ذلك رسالة بعث بها أحد نواب الشيخ شامل إلى الشيخ شامل نفسه وقال: (ننشر نصها للدلالة على قدر معرفة بعضهم بهذه اللغة)
وهو يريد بهذا الإشارة إلى ضعف أسلوب تلك الرسالة وغموض موضوعها بعض الشيء
وأنا أكتب هذه الأسطر وبين يدي عشر رسائل مختلفة كتبت في الشئون العامة من شئون الناس في الحياة، وفيها الطويل المسهب والقصير الموجز، وليس فيها ما هو أدنى أسلوباً من الرسالة التي نشرها الأستاذ. بل إن فيها رسائل كتبت بأسلوب أدبي عال إلى حد ما. وكنت أريد إثبات بعضها لولا ضيق نطاق الصحف في هذه الأيام
وأمامي أيضاً قصيدتان إحداهما للشيخ غازي محمد الكمراوي في تسعة أبيات، والأخرى للشيخ اسحق المشهور بجمال القرباني في نحو أربعين بيتاً، والقطعتان من الشعر الذي لا بأس به، إذا لوحظ العصر الذي قيلت فيه، وهو القرن التاسع عشر الميلادي، والبلاد التي نشأ بها الشاعران وهي بلاد انقطعت صلتها بالحكم العربي من نحو ألف عام تقريباً
وفي مكتبة رواق الأتراك في الأزهر الشريف قصيدة في نحو ألف بيت من الشعر القوي الرصين للشيخ نجم الدين الداغستاني
وهكذا إلى ما لا يحصى من الآثار النثرية والشعرية والعلمية التي خلفها الداغستانيون في اللغة العربية، مما يثبت أن اللغة العربية في الداغستان كانت أوسع مدى وأكثر انتشاراً مما يبدو لأول وهلة. بل يثبت إلى حد ما أنها كانت لغة الثقافة العامة والثقافة الدينية بصفة خاصة. ومما يزيد هذا القول أنه كانت تصدر في الداغستان صحيفة عربية إلى وقت قريب؛ أصدرها أحد العلماء قبل الحرب العالمية الماضية باسم (الداغستان)
فإذا كان لا يفهم العربية في الداغستان إلا العلماء والمتفقهون - كما يقول الأستاذ راشد رستم - فهل في الداغستان من العلماء والمتفقهين تلك الكثرة التي تكفي لحياة صحيفة عربية ليس لها من القراء إلا هؤلاء العلماء والمتفقهون؟(548/26)
الواقع أن التعليم في الداغستان كان إلى حين قريب أهلياً محضاً ودينياً خالصاً، يقوم به أئمة المساجد في القرى والمدن، فكان على الإمام في مسجده أن يعلم الطلبة الوافدين إليه العلوم الدينية والعربية. وكان الإقبال على هذا التعليم شائعاً بين الداغستانيين؛ وقلما من يحسن القراءة والكتابة من غير هؤلاء الذين تعلموا في مدارس المساجد
على أنه قد أنشئت في العهود الأخيرة بعض المدارس المنظمة الحديثة، وكانت عنايتها باللغة العربية شديدة إلى جانب العلوم الأخرى
فاللغة العربية في الداغستان هي لغة العلم والثقافة الدينية العامة ولغة الكتابة الغالبة.
وليس معنى ذلك أن الداغستانيين انسلخوا من قوميتهم، لغتهم الأصلية وتركوا عاداتهم وتقاليدهم وانقلبوا عرباً خالصين؟ لا. فالقوم لا يزالون محافظين على مقومات قوميتهم من لغة وعادات وتقاليد، ولكنهم مع ذلك مسلمون أشد ما يكون المسلمون تعلقاً بدينهم وحباً للغة القرآن.
برهان الدين الداغستاني(548/27)
في الثرى
للأستاذ محمود عماد
كل شيء قد انتهى ... وانقضى العرسُ يا عَروسْ
والذي كان يُشتهى ... صار تشقى به النفوس
صار ما كان مقصفا ... لك يا قلب معبدا
ثم هدوه فاختفى ... فكأنْ لم يكن بدا
أقلع الركبُ وامدثرْ ... بعده واضحُ الأثرْ
هل لدى الحيّ من خبر ... أنّ ركبا هنا عَبَر
لم يَعد ثم من شهود ... بعدهم غير واحدِ
والقضايا لدى الوجود ... لا تزكي بشاهد
هم إذن فِريةُ ثوتْ ... صعبة الفهم شائكه
مثل أحدوثةٍ حوت ... جِنةً أو ملائكه
ما دليلي عليهمو؟ ... طاحت الدار والنزيلْ
أنت يا قلب تقسِم؟ ... حسبهم أنت مِن دليل
هاهنا إنّ هاهنا ... نهرَ نُعمَى لنا جرَى
موهنا ثم موهنا ... بعده غاب في الثرى
احفروا الأرض حفرة ... واضغطوا تُربَها الندِي
علّ في الترب قطرة ... تنفع الهائمَ الصدِى
اعصروا النبت ربما ... فيه من نهرنا وشلْ
واسألوا الريح أين ما ... قد روت عنه من بلل
اسألوا السحب هل ترى ... نهرنا عندها رُفعْ
كل ماء تبخرا ... في سحاب سيجتمع
إن في ذلك الثرى ... عهدنا مات واندفنْ
ويحه كيف لا يُرى ... منه عَظمٌ ولا كفن؟
بئسَ ما يفعل التراب قد حوَى أيَّ كيمياء؟(548/28)
كل جسم به يذاب ... دون نار ودون ماء
كل جسم به يصير ... غير جسم على الزمن
راجح الرأي والغرير ... والذي شاهَ والحسَن
إن في القفر مقبرة ... من بترب بها درَى
اهو من جسم عنتره ... جاء أو جسم قيصرا؟
كل من قد تباينوا ... شأنهم في الثرى سواءْ
ذاك عدل مطمئِن ... لو ثوى العدل في الفناء
ليت لا ينقضي النعيمْ ... أو تراءى لدى الخَبرْ
لا كما خبَر الهشيم ... عن مدى نضرة الشجر
ليتنا حين نشتهي ... أيَ عهد لنا نأى
جاءنا ثم ينتهي ... مثلما تنتهي الرؤَى
قد عرفناك في المآلْ ... يا جسوما لدى الثرى
والأحاديث والخصال ... أين يذهبن يا ترى؟
هل لها داخل الفضا ... من قبور نزورها؟
أو مضت حيث قد مضى ... مِن رياض عبيرها؟
يحبس العلم باحتيالْ ... في قناِنيَه العبيرْ
ليته يحبس الجمال ... في حبوس فلا يطير!
ليته سجل الهناء ... في شريط له يذاعْ
مثلما سجل الغناء ... أو حديثاً لنا يشاع
سوف تبقى لنا العلوم ... معلنات غباءها
أو نرى ميتاً يقوم ... مستجيباً نداءها
انتهت قصة الشباب ... وانطوت شاشة النجوم
غير نجم هنا عجاب ... أرهقت ضوءه الغيوم
بينما المخرج الكبيرْ ... من يسمونه القدرْ
لم يزل يخرج الكثير ... من رواياته العِبَرْ(548/29)
هاهو النجم في المُحاق ... ساربُ وحده كليلْ
أفسحوا الجو يا رفاق ... واتركوا عابر السبيل
محمود عماد(548/30)
من أزهار الشر
لشارل بودلير
الشرفة
يا نبع ذكرياتي، يا أحب الحبيبات
أنت يا كل لذاتي، أنت يا من لك حياتي
ستذكرين يوماً جمال مداعباتي
وعذوبة مثوانا وسحر الليالي
يا نبع ذكرياتي يا أحب الحبيبات
والليالي الساطعة بسعير المجامر
وأمسياتنا في الشرفة في ظلام تغشاه غمائم وردية
فكم كان في نهدك من عذوبة! وكم كان في قلبك من حنان
وقد تبادلنا عهوداً لا تزول مع الزمن
في الليالي الساطعة بسعير المجامر
كم كانت الشمس جميلة في الآصال الدافئة!
وكم كان الفضاء عميقاً والقلب قديراً
وكنت حين أميل إليك يا ملكة المعبودات
إخال أنني أشم رائحة دمائك العاطرة
كم كانت الشمس جميلة في الآصال الدافئة
حين كان الليل يرخى سدوله بيننا كحجاب
كانت عيناي تتمثلان عينيك في الظلام
وكنت أحتسي أنفاسك فيا لها من عذوبة! ويا لها من سم!
وكانت قدماك ترقدان على يديَّ الأليفتين
حين كان الليل يرخى سدوله بيننا كحجاب
أنا أعرف فن إحياء اللحظات الهانئة
وكيف أبعث زماني الغابر الجاثم بين ساقيك(548/31)
فما الجدوى من البحث عن محاسنك الفاترة
في جسد غير جسدك المحبوب، وفؤاد سوى فؤادك الوديع
أنا أعرف فن إحياء اللحظات الهانئة
هذه العهود، وهذه العطور وهذه القبل الخالدة
هل تعود مرة أخرى من أعماق هاوية، حزم علينا سير غورها
كما تعود الشمس، إلى الأشراف فتية
بعد أن تطهرت في أغوار اللجج العميقة
إيه أيتها العهود! إيه أيتها العطور! إيه أيتها القبل الخالدة ترجمة
عثمان علي علي(548/32)
البريد الأدبي
غصن المحيوي
قرأت كلمة لحضرة الأستاذ محمود عزت عرفة في الاعتراض على بيت المحيوي:
والغصن ميّاس القوام كأنه ... نشوانُ يُصبَح بالنعيم ويُغَبقُ
والاعتراض وارد على كلمة (النعيم) وقد فسرتها بالخمر، وهو يقول إنها مصحفة عن النسيم، ويأسف على أن يرى التصحيف مثبتاً في كتابين آخرين، هما حلبة الكميت ومطالع البدور
وأقول إن ورود الكلمة بصورة واحدة في ثلاثة مصادر يبعد التصحيف، وأقول أيضاً إن ترنح الغصن بالنسيم ليس فيه صبوح ولا غبوق، لأن النسيم يراوح الغصن في كل حين
أما استبعاده أن يكون (النعيم) من أسماء الخمر فهو مستبعد عندي، لأن الحمر سميت (الراح) وهو في معنى النعيم، وبيت المحيوي نص صريح في تأييد ما أقول
وأنتهز هذه الفرصة السانحة فأذكر أن للأستاذ محمود عزت عرفة أبحاثاً تشرح الصدر، وما قرأت له كلاماً إلا رأيته يعني ما يقول بفهم وبيان
زكي مبارك
الاختزال كفن قديم
أشار الأستاذ الكبير عباس العقاد في مقاله عن (كتب السياحة) إلى بعض ما نفيده من مطالعة المؤلفات القديمة في مثل هذا الموضوع؛ فذكر أننا قد نحيط بعادات الأمم الخالية (فنصحح بعض الغرور الذي يركب أبناء العصر الحاضر فيخيل إليهم انهم السابقون إلى كل طرافة، وأن المتقدمين في باب الطرائف هم اللاحقون). وقد أذكرتني عبارته هذه، ثم إشارته إلى قدم استعمال العملة الورقية في الصين، بما وقعت عليه مما يتصل بفن الاختزال - وتاريخ ابتداعه في الصين قديماً رغم ما يعتقده أكثر المعاصرين من أنه فن غربي حديث. . .
فقد ذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) أن للصين كتابة يقال لها (المجموع) كانوا يأتون بها على المعاني الكثيرة في القليل من الحروف؛ (فإذا أرادوا أن يكتبوا ما يكتب في مائة(548/33)
ورقة كتبوه في صفح واحد).
وذكر قصة رجل من الصين أقام سنة بحضرة محمد بن زكريا الرازي يتعلم العربية وفنونها؛ ثم أزمع الرجوع إلى بلده، فجاء قبيل سفره يستملي الرازي كتب جالينوس الستة عشر. وكان لضيق وقته يكتب بالمجموع، فلا تكاد يد المملي تجاري لسانه سرعة وانطلاقاُ! وقد زعم الأستاذ (أن الإنسان الذكي السريع الأخذ والتلقين لا يمكنه أن يتعلم ذلك في أقل من عشرين سنة)
وذكر ابن النديم في موضع آخر أن للروم قلماً يعرف بالساميا، يحيط الحرف الواحد منه بالمعاني الكثيرة. قال: (وجاءنا من بعلبك في سنة ثمان وأربعين - يعني بعد الثلاثمائة - رجل متطبب زعم أنه يكتب بالساميا، فجر بنا عليه ما قال فأصبناه إذا تكلمنا بعشر كلمات أصغي إليها، ثم كتب كلمة، فاستعدناها فأعادها بألفاظنا)
وهكذا نرى أن القدماء من أهل الأمم المتحضرة لم يسبقوا في زمنهم، بأكثر مما سبقونا في دقة تفكيرهم وبراعة مخترعاتهم.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
تنبيه لغوي
الفعل ساح يسيح سيحا وسياحة أي ضرب في الأرض، ومنه قوله تعالى في سورة التوبة (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي وان الله مخزي الكافرين) وليس من الصواب (نسوح بين بقايا القاهرة التاريخية. فعين هذا الفعل بائية قطعاً من غير خلاف. وقد نبه اليازجي إلى ذلك من زمن طويل
وبناء على هذا نقول مثلاً: إن المستر وندل ويلكي والأمريكي من السياح لا من السواح، كما يقول العوام.
(م. ع)
الصديقة بنت الصديق(548/34)
طالعت كتاب الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد - الصديقة بنت الصديق - فوجدته خير كتاب أخرج عن عائشة رضي الله عنها، وقد سلك الأستاذ الكبير طريقة الباحث الذي يحكم العقل قبل النقل في مسائل التاريخ، ولكني وجدته حاد عن هذه الطريقة في موضعين: أولهما ما ذكره من قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد حمل إليها ابنه إبراهيم لترى ما بينهما من عظيم الشبه، فأنطقتها الغيرة بما رأى الأستاذ أن يترك مكانه بياضاً، لأن فيه نفياً لما بينهما من شبه، ومقام السيدة عائشة ينبو عن تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء، فكيف بهذا الأمر الذي يثير الريبة في مارية القبطية، وفي نسبه إبراهيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟
وثانيهما ما ذكره من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في حديث الإفك: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألمحت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه - فمثل هذا لا يصح أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يعرض لمن أقر بالزنا عنده أن يرجع عن إقراره، فكيف يخالف ذلك مع عائشة، ولأن حديث الإفك لم تلكه إلا ألسنة المنافقين المعروفين بعدائهم للإسلام، فلا يمكن أن يكون له أثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من جهة براءة عائشة، وإنما كان منه شيء من الإعراض، لأنها أتت من التصرف ما أدى إلى هذا الإفك. ولو أنها حين ذهبت لبعض حاجتها تركت في الركب خبراً بذهابها لما تحرك الركب وتركها ليأتي بها صفوان بن المعطل.
عبد المتعالي الصعيدي
حول ختان البنات في مصر
اطلعت بالعدد 546 من مجلة الرسالة الغراء على تعليق حضرة الأستاذ دسوقي إبراهيم على البحث (ختان البنات في مصر) ولما كانت الناحية الدينية للموضوع ليس لي فيها مجال فقد استعنت بأحد الأساتذة الإجلاء فأطلعني على فتوى للمرحوم السيد محمد رشيد رضا نشرت في 25 أكتوبر سنة 1904 في الجزء السادس من المجلد السابع من المنار، وفي المقطم في 13 أكتوبر سنة 1936 وقد جاء فيها ما يأتي:(548/35)
(قال ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع. واحتج القائلون بأنه سنة بحديث أساسه عند احمد والبيهقي: (الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء) وراوية الحجاج بن أرطأة مدلس. والذي لا نزاع فيه هو ما قلناه من أنه سنة عملية كانت في العرب وأقره النبي صلى الله علية وسلم وعده من خصال الفطرة وهو من ذرائع النظافة والسلامة من بعض الأمراض الخطرة)
وكانت هذه الفتوى عن ختان الذكور فقط. وأذكر أنني اطلعت على فتوى رسمية في هذا الموضوع صدرت من دار الإفتاء بطلب جماعة من فضلاء الهنود بمناسبة زيارة البعثة الأزهرية للهند وهي بنفس هذا المعنى. ولعل الأستاذ الفاضل أقدر مني على الاهتداء إليها. والموضوع قبل كل شيء علمي اجتماعي صحي وليس فيه نزاع أوشك من هذه الوجهات، وليس في شيء منها ما يقر هذه العادة الخطرة وهي ختان البنات التي استأثرت بها مصر دون سائر أقطار العالم.
دكتور
ع. أسامة
إلى الدكتور الأهواني
تفضلت أيها الأخ الجليل بنقد كتابي (تاريخ الأخلاق) في طبعته الثانية بالعدد 456 من الرسالة، وكنت أود بعدما كان منك من ثناء لا أراني مستحقاً له كله أن أتقبل جميع ما أخذته عليّ من غير تعقيب، ولكن طلبي الحق الذي وصفتني به يجعلني أتقدم بهذه الكلمات أرد بها على بعض ما جاء بالنقد
1 - لم أخرج يا أخي الغزالي من زمرة المتصوفة، بل ذكرت فقط أنه لم يكن معهم فيما رأوه من سبيل السعادة وهو العمل وحده، واليك نص ما قلته
باشتراط (أبي حامد) العلم لبلوغ السعادة القصوى يكون مخالفاً للصوفية الذين لا يأبهون للعلم ولا يعدونه من أدوات السعادة، بل يرون أن سبيل السعادة هو العمل وحده. كما قلت بعد هذا: (ولسنا في حاجة للقول بأن الغزالي أصاب الحق بمجانبته للمتصوفة وموافقته للنظار والفلاسفة، في اشتراط العلم للسعادة الحقة، وجعله العمل مقدمة ضرورية لها، لا(548/36)
طريقاً يكفي وحده للوصول)
وإذاً فليس غريباً إخراج الغزالي من طائفة المتصوفة في هذه الناحية، وإن كان متصوفاً في نواحيه الأخرى وفي طابعه العام
2 - أما الأخلاق عند (إخوان الصفا) فمنها بلا ريب كما ذكرت جانب فطري، ومنها جانب كسبي، وإليك الدليل من أقوال الإخوان أنفسهم
يذكر إخوان الصفاء في بيان أن من الأخلاق ما هو مركوز في الجبلة، وما هو كسبي يكون بمجهود ومعاناة: (إن الأخلاق المركوزة في الجبلة هي تهيؤ ما يسهل به على النفس إظهار فعل من الأفعال من غير فكر ولا روية. مثال ذلك متى كان الإنسان مطبوعاً على الشجاعة، فإنه يسهل عليه الإقدام. وهكذا متى كان مطبوعاً على السخاء يسهل عليه بذل العطية. وعلى هذا المثال والقياس سائر الأخلاق والسجايا المطبوعة في الجبلة المركوزة فيها، إنما جعلت ليسهل على النفس إظهار أفعالها بلا فكر ولا روية)
وأصرح من هذا ما قرروه في فصل آخر بعد ما تقدم، إذ يقولون: (الأخلاق كلها نوعان؛ إما مطبوعة في جبلة الناس مركوزة فيها، وإما مكتسبة معتادة من جريان العادة وكثرة استعمالها)
أما النص الذي أتيت به أيها الأخ الجليل فهو - كما تعلم - قد جاء في أثناء كلامهم في أثر التربية، ليؤكدوا به ما للدرس والمران من أثر كبير في بلوغ كرتبة الحذق والأستاذية في الصنائع واكتساب الأخلاق والسجايا. وذلك أن الدرس ونحوه كالنشوء في بيئة خاصة، وجه من الأربعة التي ذكروا أن الأخلاق تختلف من أجلها
وأخيراً، فللأخ الفاضل المحقق، وللأستاذ الكبير صاحب الرسالة، خالص تحيتي وشكري وتقديري.
محمد يوسف موسى
ختان الأنثى بين الدين والرأي
قرأت مقال الدكتور الفاضل أسامة وانتظرت ما يكتب في موضوعه، فكتب الأديب الفاضل دسوقي إبراهيم ينبه الدكتور إلى خطئه في قوله إن الختان ليس له أصل ديني ذاكر قي(548/37)
ذلك ما ذكر من الدليل. وعقب عليه الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي يرى أن الدين لا يخدم بمثل ما كتب الأديب الفاضل، لأن ذلك يخلق عداء بين الدين والعلم، وأظهر الاستعداد إلى التوفيق بين الدين والعلم في هذه المسألة عن طريق التأويل، إذا كان هناك قرار إجماعي من الأطباء
ولست أدري ما وجه الخطأ في ما كتب الأديب الفاضل الذي نبه إلى حكم الدين في ختان الأنثى ما دام قد نبه إلى واقع وقرن قوله بالدليل. إن الدكتور أسامة كتب في هذه الناحية كتابة من لا يعرف حكم الدين في الموضوع، فنبهه الأديب الفاضل إلى حكم الدين. ولو لم يفعل لكان حقاً على أحد شيوخ الدين أن يفعل بدلاً من أن يأتي منهم من يلوم الذي فعل خوفاً من خلق عداوة بين العلم والدين. فهل يا ترى يكتم حكم الدين كلما ادعى مدع أنه يخالف العلم في قليل أو كثير؟
إن قراراً إجماعياً لو صدر من الأطباء بالفعل بتأييد الدكتور الفاضل أسامة لا يغير من الحكم شيئاً في هذه المسألة بالذات؛ لأن الدكتور من ناحية يقر بحكمة أخلاقية لختان الأنثى إذ أقر بأنه ادعى للعفة واعون عليها عند الأنثى، والدين من ناحية أخرى ينهى عن الإنهاك في الختان أي عن استئصال الزائد التي يدعو الدكتور أسامة إلى الإبقاء عليها كاملة. فالدين قد أيد عادة تعين على عفة الأنثى، ونبه فيها إلى الطريق القصد الذي يبقى من تلك الزائدة ما يحقق من وظيفتها مما يكفي لإسعاد الزوجين في غير جموح. فماذا يراد من حكم الدين وراء هذا الجمع بين المصالح للإنسان؟
ومن العجيب أن الحديث الشريف قد نص على الوظيفة الفسيولوجية للزائدة قبل مقال الدكتور أسامة بثلاثة عشر قرناً ونصف. وكان الرجاء في مثل الأستاذ الصعيدي أن يكشف لمثل الدكتور أسامة عن هذا. والحديث الذي أشير إليه هو حديث (يا أم عطية) - وكانت تخفض - (إشمى ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج). فأما أنه أحظى عند الزوج، فقد تنبه إلى ذلك العلم. وأما أنه أسرى للوجه فيظهر أن العلم لم يتنبه إليه إذا كان مقال الدكتور أسامة يمثل كل ما وصل إليه العلم في هذا الموضوع.
أما الحالات المرضية التي أشار إليها الدكتور في مقاله فمردها إما إلى الإنهاك الذي نهت عنه السنة الشريفة، وإما إلى تبديد للقوة العصبية ببعض عوامل التبديد الكثيرة في هذه(548/38)
المدنية، وعلى أي حال فليست هي مما يبنى فليه حكم أو مما يدعو إلى العدول عن عادة أيدها الدين.
محمد أحمد الغمراوي
في عبقرية الإمام
لقد بلغ العقاد العظيم الذروة في (عبقرية الإمام) فجاء كتابه على خير ما تجئ، الكتب من قوة الأسلوب ونضج البحث وعمق التحقيق والنفاذ إلى أغوار الأشخاص. غير أن لنا على الكتاب بعض الملاحظات التي نرى لزاماً أن يتوجه بها إلى المؤلف الفاضل بعد أن رأينا الحقائق وحدها كانت هدفه ومبتغاه
يقول المؤلف في الصفحة 157 في معرض بحثه عن حكومة الإمام: (وكان أنصار الإمام أبداً من الفرس والمغاربة والمصريين أكثر من أنصاره بين قريش خاصة وبين بني هاشم على الأخص وبين قبائل العرب جميعاً على التعميم)
ولا ندري إذا كان حفظه الله يعني بذلك أنصار الإمام في حياته وخلال خلافته، أم يعني أنصار الإمام بعد وفاته وانقضاء زمانه. فإذا كان الأول فلا نحسب أنه كان بين جيوش الإمام من هو غير عربي؛ بل الذي نعرفه أن جيشه من أكبر قائد إلى أصغر جندي كان جيشاً عربياً خالصاً قوامه تلك القبائل العربية الشهيرة التي ما خالطتها عجمة ولا شابتها هجنة، وأن مؤيديه كانوا صفوة المهاجرين والأنصار، وخلاصة المسلمين الأقحاح الذين أنبتتهم رمال الجزيرة العربية وغذاهم نخيلها. فهمدان ومضر وربيعة وتميم وكندة والأوس والخزرج وطئ وعبد القيس ومذحج وبكر بن وائل والنخع وخزاعة وفزارة وأسد وكنانة وقضاعة وبجيلة وذهل وغيرها كانت عدة علي في حروبه وجنوده في قتاله. وهذه كلها قبائل عربية صريحة، وإذا كان المصريون من أشد أنصاره حماسة وأكثرهم في تأييده اندفاعاً، وإذا كانت مصر هي البلد الذي هتف باسمه بين لدد الخصوم وتصبح الأهواء، ورشحه للخلافة دون هوادة ولا لين، فلا شك أن مصر كانت بلداً عربياً، والمصريون فيها كانوا - كما هم اليوم - من العروبة في الصميم. وأما المغاربة فما سمعنا لهم بين تلك الصيحات صيحة لنعرف أين كانت وجهتهم ومن كان رجلهم المرموق بقى أن يكون ما(548/39)
عناه المؤلف أتباع الإمام بعد وفاته وانقضاء زمانه. والإمام وغيره سواء في هذا الشأن؛ فإذا كان في أتباعه الفرس وغير الفرس ففي أتباع غيره الترك وغير الترك مثلاً. وإذا شايعه غير العرب فقد شايعته كثرة من لباب العرب. ولا أختم القول قبل أن أتقدم إلى المؤلف العبقري بكل إكبار وتقدير.
حسن الأمين
حاكم النبطية
رابطة فكرية بين مثقفي البلاد العربية
الواضح أن الدعوة لتحقيق الوحدة العربية آخذة في التطور والانتقال من عالم النظريات إلى دنيا الحقائق والواقع
والنجاح الشكلي المنتظر لتحقيقها عامل مهم للتشجيع ولكنه ليس كل العوامل لأنه ظاهري أسمى
وإن أمتن معاني الوحدة: هو التفاهم العقلي، والتقارب الشعوري، والكيان المشترك بكل الوسائل الممكنة وهي كثيرة
وإني أعرض إحداها ليس لأنها أفضلها بل أنها أسهلها وأسرعها تنفيذاً. وسأعرضها كاقتراح قابل للتهذيب والتعديل
أقترح إيجاد رابطة فكرية بين مثقفي البلاد العربية بواسطة الاتصال الشخصي بالمكاتبة والتزاور. وليتم هذا تخصص الصحف والمجلات في مختلف الأقطار العربية قسماً منها للبحث في هذا الموضوع، وتنشر أسماء الراغبين في دخول هذه الرابطة مع شيء من المعلومات عن كل منهم ليسهل على الآخرين انتخاب من يرون فيه من الصفات الثقافية والفكرية ما يشجعه على التعرف والاتصال الشخصي به بالمكاتبة
ويمكن إيجاد مراكز أو نواد خاصة في كل بلد عربي لمؤازرة هذا الاقتراح وتوجيهه إلى الغاية السامية من هذه الوحدة وهذه الرابطة. ويمكن أيضاً بواسطة هذه المراكز أو الأندية تسهيل الرحلات والتزاور بين شباب كل قطر وآخر
فهذا الاحتكاك الفكري والتعارف الشخصي وما ينتج عنهما من تآلف شعوري صحيح وكيان(548/40)
روحي واحد نصل إلى معرفة حقيقة المشاكل الأساسية في كياننا فنراها ونقترب بسرعة من حلها.
(الرملة - فلسطين)
أبو أكرم
الأستاذ صلاح الدين المنجد
ورد القاهرة فيمن وردها من رجال الأدب والفضل الكاتب السوري المعروف الأستاذ صلاح الدين المنجد. فعلى الرحب والسعة.(548/41)
العدد 549 - بتاريخ: 10 - 01 - 1944(/)
خلاف يستحق الاختلاف
للأستاذ عباس محمود العقاد
ذلك هو الخلاف الذي أشار إليه الفاضلان: الأستاذ عبد المتعال الصعيدي، والأستاذ حسن الأمين حاكم النبطية في العدد الأخير من (الرسالة): أولهما فيما يرجع إلى كتابي عن (الصديقة بنت الصديق)، والثاني فيما يرجع إلى كتابي (عبقرية الإمام)
فالعالم الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي يقول: إنني حكمت العقل قبل النقل في مسائل التاريخ إلا في موضعين: أولهما ما ذكرته من قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد حمل إليها ابنه إبراهيم لترى ما بينهما من عظيم الشبه، فأنطقتها الغيرة بما أشرت إليه، ومقام السيدة عائشة ينبو عن تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء
وثانيهما ما ذكرته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في حديث الإفك: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه. ومثل هذا - كما يرى الأستاذ الصعيدي - لا يصح أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يعرض لمن أقر بالزنا عنده أن يرجع عن إقراره فكيف يخالف ذلك مع عائشة؟. . . إلى آخر ما ورد في كلمة الأستاذ
ورأيي كما قال الأستاذ أن العقل مقدم على النقل، ولكن النقل لا يبطل إلا بالبرهان أو باستحالة القبول
وليس فيما لاحظه الأستاذ الصعيدي موضع لبرهان، ولا لاستحالة عقلية تقوم مقام البرهان
فالصحيح أن السيدة عائشة لا تكذب النبي عليه السلام في شيء من الأشياء، ولكن الذي حدث في أمر إبراهيم ليس فيه من تكذيب ينبو عنه مقام السيدة عائشة
رأى النبي عليه السلام شبهاً بينه وبين ولده إبراهيم وسأل السيدة عائشة في ذلك فقالت: إنها لا ترى شبهاً
فالتكذيب هنا إنما يكون إذا قالت: (إنك يا رسول الله لا ترى شبهاً بينك وبين إبراهيم)
أما أن تقول عن نفسها إنها ترى الشبه - وهي لا تراه - فذلك هو الكذب الذي ينبو عنه مقامها(549/1)
ومن السهل جداً أن تفشي الغيرة عين المرأة المحبة فلا ترى في ابن ضرتها المحاسن التي تحبب تلك الضرة إلى رجلها العزيز عليها، فإذا غاب هذا الشبه عن عين عائشة فلا غرابة في الأمر ولا مخالفة فيه للطبائع الإنسانية والطبائع النسوية على التخصيص، وإذا قالت إنها لا ترى الشبه - وهي لم تره فعلاً - فقد صدقت في مقالها ونطق لسانها بما تادى إلى نظرها ولم تزد عليه
وقد ورد في الخبر أن السيدة عائشة كانت تغاضب النبي وتقول له (اقصد) في مقالك أمام أبيها، فيلطمها أبوها عقاباً لها. وليس كلام المغضبة أو الغيور بالكلام الذي يصدر عن تكذيب أو بغضاء.
أما أن النبي عليه السلام لا يصح أن يقول للسيدة عائشة: إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه)
فهذا ما نخالف الأستاذ فيه كل المخالفة
إذ هذا المقال هو الذي يصح أن يقوله النبي عليه السلام في هذا المقام. وماذا فيه إلا أنه عليه السلام يدعو من ألم بذنب إلى الاستغفار؟ وأي عجب في ذلك وقد صحت فيه آيات من القرآن فضلاً عن الأحاديث النبوية؟
ويلاحظ أن النبي عليه السلام قال للسيدة عائشة: (إن كنت ألممت ولم يقل لها إن كنت اقترفت ذنباً) ولا يخفى أن الإلمام يناسب اللمم الذي هو دون كبائر الإثم والفواحش، وفيه يقول القرآن الكريم: (ولله ما في السموات والأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين حسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة)
وفي كلام النبي موافقة لهذه الآيات. وفي القرآن الكريم أن نبياً هم بأمر وعدل عنه. والهم والإلمام قريبان: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)
فدعوة النبي للسيدة عائشة أن تستغفر عن لمم ليست بالدعوة التي ينكرها العقل ويجزم باستحالتها، وليس فيها ما يناقض الآيات ولا الأحاديث. ومقطع القول بعد هذا كله في حديث الإفك أنه كما قلنا في كتاب الصديقة بنت الصديق (سخف لا يقبله إلا من يفتري بوشاية أو بغير وشاية، وسواء فيه منافقو المدينة ومن يصنع صنيعهم من المؤرخين في(549/2)
العصر الحاضر لأنهم لا يؤمنون بنبي الإسلام. بل هؤلاء أنذل وأغفل لأنهم يؤمنون بمريم والمسيح وكان عليهم أن يعصمهم عاصم من هذا الإيمان)
أما الأستاذ حسن الأمين حاكم النبطية فقد عقب على قولنا في عبقرية الإمام أن أنصاره من الفرس والمغاربة والمصريين أكثر من أنصاره بين قريش خاصة وبين بني هاشم على الأخص وبين قبائل العرب جميعاً على التعميم)
فأحصى في تعقيبه أسماء القبائل العربية التي كان منها أناس في جيش الإمام، ثم قال: (بقى أن يكون ما عناه المؤلف اتباع الإمام بعد وفاته وانقضاء زمانه، والإمام وغيره سواء في هذا الشأن، فإذا كان في اتباعه الفرس وغير الفرس ففي اتباع غيره الترك وغير الترك مثلاً، وإذا شايعه غير العرب فقد شايعته كثرة من لباب العرب)
والقول الأخير هو الذي نخالف فيه الأستاذ الفاضل، مع شكرنا إياه على جميل تحيته وكريم ثنائه
فالمقصود بالأنصار هم شيعة الإمام الذين يشايعونه خاصة ولا يشايعون غيره
إذ العرب الترك والأمم الأخرى التي شايعت كل خليفة في زمانه ليسوا بأشياع ذلك الخليفة على التخصيص، ولكنهم أشياع الدولة ومن يقوم عليها من الخلفاء واحداً بعد واحد، وليسوا مع ذلك بأعداء لعلي كعداوة بعض الشيعة لمن ينازعهم الرأي في حق الإمام وتقديمه على جميع الحقوق
ومتى كان هذا هو شرط الأنصار الذين يختص بهم الإمام ولا يختص بهم غيره فلا جدال في كثرتهم بين العرب والشعوب الأخرى، ورجحانهم على شيعة الإمام من العرب ولا سيما أقرب الناس إليه من بني هاشم ومن قريش
وهذا موضع العبرة في تلك الملاحظة:
موضعها أن الإمام قد ظفر بهؤلاء الأنصار ممن لا يشايعونه عصبيته، لأنه قام بالأمر على الخلافة الدينية، ولم يقم به على العصبية الجنسية أو النزعة الوطنية
وهذه هي الخصلة التي ينفرد بها الإمام بين الخلفاء من قديم وحديث، فليس في الأئمة جميعاً من كان الانتصار له مذهباً في الدين، وكان الدائنون بهذا المذهب أرجح عدداً من الدائنين به في الشعوب العربية على اختلاف الأقطار، فيما خلا الإمام(549/3)
وليس بين الأئمة جميعاً من له نصراء في الشعوب الأخرى يساوون نصراء علي بين المسلمين من غير العرب، سواء في الزمن القديم أو الزمن الحديث
وهذا الذي عنيناه، وهو جدير بالتقدير والتعليل
وربما استتبع الكلام في هذه الكتب أن نشير إلى الذين ذكروها فقالوا عنها إنها لم تأت في التاريخ الإسلامي بجديد
فإن كان الذي يعنونه بهذا القول أن موضوع الكتب ليس بجديد، وأننا لم نخلق حوادث العصر النبوي ولا حوادث عصر الخلفاء، فنحن معهم فيما يقولون
ولكن على هذا الاعتبار لا يوجد في الدنيا ولن يوجد فيها أبداً كتاب جديد أو رأي جديد أو علم جديد
فالكيمياء الحديثة ليست بالجديدة، لأن الأجسام التي هي موضوع الكيمياء اليوم وموضوعها بالأمس لم تخلق في هذا العصر، ولم تزل على وصفها الذي رآه الأقدمون
والجغرافية الحديثة كذلك ليست بالجديدة، لأن القارات والبحار والأنهار والكواكب والرياح والأمطار ليست من صفة الجغرافيين المتأخرين، وليس أحد منهم بأقدر على خلقها من الجغرافيين السابقين
وقل مثل ذلك في علم الفلك وعلم الطبيعة وعلم الطب وعلم القانون وسائر العلوم والفنون
أما إن كان الذي يعنونه بقولهم إننا كررنا في كتبنا ما تقدم في كلام المؤرخين قبلنا فدون ذلك وتقصر الألسنة، ودون ذلك ويفتح الله ثم يفتح الله. . . إنهم يقولون إذا أراحهم القول، ولكن لن يريحهم يوماً أنهم مسموعون أو مصدقون!
عباس محمود العقاد(549/4)
2 - أغنية الرياح الأربع
لشاعر الحب والجمال علي محمود طه
للأستاذ دريني خشبة
تنطلق الزوجة الحسناء داخل الحانة برمة، ثم يقبل البحارة، فيأخذون في هرج ومرج، تزيدهما النشوة ضجة واصطخاباً، فإذا سألوا من صاحب الحانة وقدم لهم أرسطفان نفسه، عبثوا به وضحكوا منه:
أنظر إلى وجهك في المرآة ... وصف لنا عجيبة الحياة
من أي غاب يا وحيد القرن ... وما اسمك الصحيح؟ لا تكنى
فيقول لهم: أرسطفان. . . فيقول أحدهم
. . . علَمُ مغلوط ... صحته وشكله المظبوط
تنبئ عنه هذه الخيوط ... أرسطفان أنت أخطبوط!!
وهكذا يستغرق الجميع في ضحك متصل، تزيده القيان الحسان اللائى صحبن البحارة بهجة وإيناساً ومرحاً. ثم تأخذ إحداهن في رقصة بارعة يدخل بعدها بطل الدرامة الرهيب (أزمردا) فيأخذ مكانه في ناحية، ويسود الحانة جو من الوجوم لا يفيقون منه إلا على إنشاد باتوزيس الذي يتغنى لهم قصة تلك الآشورية التي تعشقها فتى ملاح، ووقع هو الآخر من نفسها فدعته إلى سفينتها وانطلقا يذرعان البحار عامين سعيدين حتى فرقت بينهما يد الأقدار حين نزل الفتى إلى الشاطئ للصيد فأتي قرصان فصاد حبيبته وذهب بها إلى حيث لا يدري العاشق المسكين. . . وروى أن هذه الحسناء قد تزوجت من بعض الآلهة فأنجبت منه (ربات الرياح الأربع)
فإن سمعتم في صدى الأمواج ... أو لحن شاديكم
أغنية تهفو على الأثباح ... حيرى تغاديكم
فهي لها، وهي تناديكم
فإذا سأله البحارة عن هذا القرصان الفاجر أين مقره، قال باتوزيس إنه يجلس بينهم كواحد منهم. . معرضاً بأزمردا. . . أزمردا القرصان الهائل الذي دوخ أطراف البحر، وزلزلت سطواته جزائر إيجة وشطئان مصر، وأحرز من خطف الحسان ثروة طائلة وبأساً شديداً. .(549/5)
فيظن البحارة أن باتوزيس يمزح، ثم ينصرفون من الحانة إلى ملذاتهم ومعهم حظاياهم بعد أن ينقدوا الخمار ثمن شرابهم. . . ويقبل أرسطفان على الشاعر المصري مسروراً باشاً لأنه كان روح هذه الليلة بشعره وغنائه وموسيقاه، ويقدم إليه كأساً راوية فيأمر له (أزمردا) بأخرى، ثم يأخذان في حديث طويل نعرف منه انهما كانا صديقين منذ زمن طويل يعملان في البحر ثم افترقا، وأن أزمردا يعمل الآن في القرصنة والاتجار في سوق الرقيق الأبيض، ثم يعاتبه لتعريضه به بين أولئك السكارى، وما غمره به في قصته التي رواها لهم. . . ويحدثه باتوزيس حديث (ربات الرياح الأربع) الذي سمعه في آخر زيارة له في طيبة المصرية:
فتيات أربع يظهرن في ... كل عام صوراً مختلفات
رائعات يتخطرن على ... هذه الأمواج مثل النسمات
فوق شط رمله من ذهب ... لؤلؤي الماء درّي الحصاة
من يحزهن يحز ملك الثرى ... ومقاليد البحار الطاغيات
فإذا جادله أزمردا في أمرهن أكد له باتوزيس حقيقتهن، فيعرض عليه أزمردا أن يعيش معه في سفينته
تعال في سفينتي وكن أخي وساعدي
وذق مباهج الحياة عذبة الموارد
ثم تسمع ضجة عند باب الحانة، وتدخل جماعة من الشذاذ وعلى رأسهم زعيمهم أزيرو ومعه حظيتان من حظاياه لا تلبثان أن تخرجهما حميا الخمر عن رشدهما، فتشاجر إحداهما الأخرى فيصفع أزيرو إحداهما ويطرحها أرضاً فينتصر لها أزمردا ويرفعها بيديه إلى كرسيها فتثور ثائرة ازيرو ويمتشق حسامه ليغمده في صدر ازمردا. . . فينتفض ازمردا كالأسد، ويكشف عن نفسه ويضرب بسيفه سيف أزيرو فيكسره. . . ويذهل الجميع حين يعرفون أنهم في حضرة القرصان الأكبر، وترتفع صيحة من جوانب الحانة يرددها الجميع مشدوهين:
أز. . . مر. . . دا
وينزل ستار الفصل الأول!(549/6)
ويتألف الفصل الثاني من منظرين. . . من أروع ما وصل إليه خيال شاعر - لا في مصر وحدها، بل في الدنيا قاطبة! وهكذا أقولها غير عابئ بجميع الابتسامات التي أراها الآن ترقص على شفاه الكثيرين من قرائي، وعلى أرنبات أنوفهم!! ومن الخطر الأدبي تلخيص هذا الفصل. . . فهو وحدة فنية كاملة يجب ألا تشوه بالتلخيص. وحسبك أن تعلم أن سفينة أزمردا ترمي في ميناء رفح المصرية قبيل الشروق، وأن أزمردا ينزل إلى الشاطئ وحده فيلقى ربات الرياح الأربع يتواثبن راقصات على الرمال النائمة، فيغريهن بزيارة سفينته ويمنيهن الأماني، فإذا طلبن إليه برهانه أبرز لإحداهن وهي حروازا، ربة ريح الشرق، ياقوتة حمراء تبهر العين وتذهب باللب. . . ثم ينتصر بيان أزمردا، فيرضين بزيارة سفينته آخر الأمر. . .
ونرى في الفصل الثالث جانباً من سفينة أزمردا، فهنا مخدع الشاعر باتوزيس، حيث يوقظه العبد ماتوكا ويقدم إليه طعام الإفطار، ويأخذ معه الشاعر في حديث عن حظوظ بني الإنسان، ندرك منه أن ماتوكا لا يبغي بحياة الرق بدلاً
سفينتي هي الحياة والغد المؤمَّل
قد طاب لي في ظلها العيش وطاب المنزل
ومن كساء سيدي الربان هذا المخمل
ومن شرابه أعل هانئاً وأثمل
أي حياة لي من هذى الحياة أجمل؟
وينصرف العبد، ويدخل أزمردا إلى بهو مجاور وفي صحبته ربات الرياح الأربع فما يلبثن أن يوجسن خيفة ويستربن فتطمئنهم حروازا وتذكرهن أنهن آلهة. . . ويمضي أزمردا ليخبر باتوزيس الذي لا يصدق إلا بعد لأي. . . . فإذا سأله عم يصنع بهن وهن آلهة، قال:
أسخرهن قوى ينتظمن ... شراعي ما قادني مطمعُ
وأغزو بهن منيع الثغور ... وأجني الثراء وأستمتع
فيسأله باتوزيس: أتطمع في ملكوت السماء؟ فيقول أزمردا. . . أو يقول علي محمود طه. . . بيته الخالد الذي هو أثمن من ديوان:(549/7)
خُلقنا غرائز منهومةً ... فليست تروَّي ولا تشبع!!
ويوشك باتوزيس أن يجن جنونه لهذا القرصان الجريء المغامر الذي لا يبالي أن يخطف حتى الآلهة. فيثور على أزمردا ويثور أزمردا به، فينطلق باتوزيس، ويسمع أزمردا أصوات ربات الرياح الأربع فيقصد إليهن ليسري عنهن، ثم يدخل ماتوكا العبد ليدعو سيده لتسكين ثائرة إحدى المخطوفات فيذهب معه، ويبرز باتوزيس، فإذا سألنه من هو قال:
لا وقت للسؤال من أنت هنا ومن أنا
أنتن في سفينة القرصان، لا وقت لنا
ويخبرهن خبر أزمردا فيطمئنه، ويدخل أزمردا متقلداً سيفه فيرى باتوزيس ويدرك أنه قد فضح سره فيهم بقتله لولا أن تحول الربات بينهما ويأخذن في السخرية بأزمردا، نيهم بقتل باتوزيس ثانية فتمد حروازا ذراعها السحرية فيجمد الدم في عروق أزمردا ويسقط السيف من يده، ثم يرجف بدنه رجفاً شديداً وتغرورق عيناه بالدموع التي تخنق عبراتها صوته ويطلب الصفح على أن يكون خير عباد الله براً وصلاحاً واستقامة. ثم ترق الربات له ويسمعن ضجة، وإذا الحسناء التي كانت ثائرة بالداخل مقبلة، فتلتفت إليها حروازا ويبطل سحر ذراعها فتدب الحياة في أزمردا الذي يتناول سيفه مرة ثانية ويهم بالغدرة مهدداً الربات وكل الحاضرين بالقتل، فتمد حروازا ذراعها ثانية فيجمد الدم في عروق حروازا من جديد، ويسقط السيف من يده، ثم ترفع الربات أيديهن وينفخن. . . فإذا ريح صرصر عاتية تحمل أزمردا فتقذف به في أعماق اليم
وبعد. . . فهذا سحر وشعر وجمال وفن!
(يتبع)
دريني خشبة(549/8)
كتب وشخصيات
زهرة العمر. . . لتوفيق الحكيم
للأستاذ سيد قطب
مدرسة توفيق الحكيم الفنية
ترددت قبل أن أكتب (مدرسة توفيق الحكيم) فالواقع أن كلمة (مدرسة) تعني في نفسي شيئاً كثيراً؛ وليست هي مجرد الأسلوب الفني وطريقة التعبير؛ إنما هي هذا وشيء آخر، هي طريقة الإحساس والتفكير؛ بل هي طريقة حياة حين تؤخذ بمعناها الواسع الأصيل.
وليس من الضروري أن يكون هناك أتباع وتلاميذ، كي يتحقق معنى (المدرسة)، فتلك مسألة تأتي مع الزمن؛ إنما المهم أن توحد العالم الواضحة المستقلة التي يلتقي عليها التلاميذ والأتباع حين يوجدون في زمن قريب أو بعيد.
هذه المعالم هي سمات إنسانية وفكرية ونفسية تجتمع أصولها لتلاميذ المدرسة الواحدة ثم تفترق ألوانها وأنماطها حسب الأمزجة الخاصة والملكات الفردية. وتتبعها طريقة التعبير، أي الأسلوب الفني الجامع لتلك السمات.
فهل نستطيع بعد هذا البيان أن نقول: إن لتوفيق الحكيم مدرسة؟
نعم نستطيع! ولكننا نحتاج بعدها إلى التحفظات المحددة لحقيقة ما نعنيه. فتوفيق صاحب أسلوب فني واضح السمات - هذا ما لا جدال فيه - وهو كذلك صاحب طريقة في الإحساس والتفكير، ولكن هذه الطريقة ترجع إلى مزاجه الشخصي وتكوينه النفسي، أكثر مما ترجع الطبيعة العامة وهذا كلام يحتاج إلى التوضيح!
يجنح توفيق الحكيم إلى أن يعيش في داخل نفسه أكثر مما يعيش في خارجها، فلا تهمه الحياة المنطلقة في الخارج كما تهمه الحياة التي يصورها خياله كما يريد، وهنا تولد وتعيش تلك المخلوقات الفنية التي يرسمها على هواه من أمثال شهرزاد وشهريار وبيجماليون وعنان ومختار. . . الخ.
فما منشأ هذا؟ منشؤه هو إشفاق توفيق من الحياة، وضعف الحيوية في كيانه الجسدي. وقد يكون هذا الضعف علة ذلك الإشفاق، ولكن مما لا شك فيه أن هناك أسباباً أخرى في نشأته(549/9)
الأولى، يمكن أن يقف عليها من يقرأ كتابه (عودة الروح)، وإلا فالضعف الجسدي كثيراً ما يكون سبب دفعة حيوية في الفكر، كما في (نيتشة) مثلاً
وليس بنا في هذا المقال القصير أم نقوم بدراسة جسدية ونفسية؛ ولكن حسبنا أن نشير إلى هذه الأسباب لتوضيح ما قلناه من أن طريقة توفيق في الإحساس والتفكير مردها إلى مزاجه الشخصي وتكوينه النفسي.
فالذين يشبهون هذا الفنان في مزاجه وتكوينه هم الذين سيكونون أتباعه وتلاميذه في هذه الحياة الفكرية الباطنة التي ترسم الشخوص رسماً فنياً خاصاً. ولا بد لكل فنان من قسط من هذه الحياة الباطنة ينقص أو يزيد. ولكن يبقى أن يوهب هؤلاء التلاميذ - كما وهب - أسلوباً قوياً فنياً في التعبير، وأداة فنية ناضجة في الحوار، ليكونوا تلاميذ حقيقيين. وهو سالم يوجد بعد، على الرغم من المقلدين الكثيرين في مصر وفي بلاد الشرق العربي الذين حسبوا الحوار هو كل موهبة توفيق الحكيم، وحسبوا استيحاء الأساطير هو كل ما يميزه بين الفنانين!
نعم إن الطاقة محدودة، وقد يأتي - في هذا المجال - من هو أكبر طاقة وأبعد غوراً من توفيق الحكيم؛ ولكن سيبقى له فضل السبق، وابتداع الطريقة وإكمال الأداة
في هذه الحدود نستطيع أن نقول: إن لتوفيق الحكيم مدرسة؛ ولكننا نعود فنرد إليه حقه كاملاً حين نثبت له النضوج الكامل في أسلوبه الفني عامة والقوة البارعة في حواره على وجه الخصوص. هنا موهبة متفردة لا شك فيها، مهما قيل في الطاقة التي يعمل بها وفي الموضعات والتي يتناولها وبعد فما العنوان الذي يمكن أن نضعه لتلك المدرسة أو لهذه الطريقة؟
هو عنوان (التنسيق الفني)
يقول توفيق الحكيم في إحدى رسائله إلى (أندريه) في كتابه (زهرة العمر)
(إن فن الإغريق هو تجميل الطبيعة إلى حد إشعارها بنقصها. . . لكأنهم يريدون أن يقولوا للطبيعة: انظري. . . كان ينبغي أن تصنعي هكذا!. . .)
ثم يقول: (إن فن مصر القديمة هو تحد صارخ للطبيعة؛ فكأنهم يقولون للطبيعة انظري. . لا شأن لنا بك ولا بمخلوقاتك، إننا نستطيع من مخيلتنا ومن تفكيرنا أن نخرج مخلوقات(549/10)
أخرى غريبة عجيبة لم تخطر لك على بال. . .)
ويخيل إلى أن فن توفيق الحكيم هو تنسيق للطبيعة وتهذيب، بالنقص هنا وبالزيادة هناك، حتى يستوي له خلق فيه من الطبيعة مشابه ولكنه منسق على نحو خاص يرضي مزاجه الفني الذي يجد مجاله في مخلوقات الفن المنسقة على طراز مطلوب. . . وكأنه يقول للطبيعة: إنك في منتصف الطريق، ولا تزالين تخلطين بين الجمال والقبح وبين الرذيلة والفضيلة وبين الفكر والغريزة. . . إلى آخر هذه الأمشاج؛ فدونك مخلوقات أخرى مصفاة على نحو خاص، ذات اتجاه موحد لا اضطراب فيه ولا اختلاط. . .!)
وهذه المخلوقات التوفيقية يتفق لبعضها الجمال الفني فيغنيها عن جمال الحيوية ويضعها أنداداً مقابلة لمخلوقات الطبيعة؛ ويخطئ بعضها التوفيق فتبدو باردة هامدة، ولكنها لا تهبط إلى الموت أو الابتذال
وهنا نجدنا ملزمين بأن نرد لتوفيق حقه مرة أخرى فننص على أن هذا الاتجاه لا يستغرق جميع أعماله؛ فهناك أعمال تنبض بالحياة الطبيعية والحركة الحيوية - على نحو من الأنحاء - كيوميات نائب في الأرياف، ورصاصة في القلب، وعودة الروح، والزمار، والعوالم، وراقصة المعبد، وعصفور من الشرق؛ وهي تؤلف جانباً كبيراً من أعماله الفنية المطبوعة بطابعه الخاص
وفي بعض هذه الأعمال تتهيأ الحبكة الفنية والحركة الحيوية، إلى جانب الدعابة الفكهة والسخرية العميقة. وبخاصة (يوميات نائب في الأرياف والزمار) وفيهما معالم واضحة للفن القومي المنشود!
ثم نعود إلى اصطلاح (التنسيق الفني) الذي جعلناه عنواناً لمدرسة توفيق الحكيم فنقول: إننا نعني به معنى آخر بجانب (تنسيق الشخصيات) نعني به معنى في طريقة العرض، في الأسلوب الذي تعرض به الشخصيات والحوادث والأفكار، فهذه الطريقة موحدة سواء كان المعروض قصة أو تمثيلية أو فكرة في مقالة. ولسنا نعني به ما يعبرون عنه بالحبكة، فهو أوسع من ذلك مدى. إنه (التصميم الهندسي) للعمل الفني كله، بحيث يبدو متساوقاً منسقاً مطرداً، وبحيث يتهيأ هذا العمل الفني كله في ذهن الفنان قبل أن يبدأ اللمسة الأولى، كما يضع المهندس تصميم مشروع كامل من المشروعات، ثم ينفذه بعد ذلك حسب التصميم.(549/11)
وما قرأت عملاً من أعمال توفيق إلا كان هذا (التصميم الهندسي) واضحاً فيه كل الوضوح
ولعل أوضح ما يوضح ذلك هو (زهرة العمر). فهذا كتاب مكون من مجموعة رسائل إلى صديقه أندريه؛ وليس مطلوباً في (رسائل) متفرقة أن تؤلف موضوعاً متناسقاً. فإذا هي كانت كذلك، كان هذا دليلاً على أصالة ملكة (التنسيق الفني)، وظهورها حيث لا يرتقب منها الظهور
وتقرأ هذه الرسائل في تتابع فتلحظ عملية التنسيق الداخلي، وتحس شيئاً فشيئاً أنك أمام قصة: قصة مخلوق حقيقي أو روائي، يسير في الحياة وكأن يداً خفية تسوقه إلى مصير مرسوم، وكلما أراد لنفسه أو أراد له أهله أو أرادت له ظروفه أن يحيد عن هذا المصير ردته هذه اليد الخفية إلى طريقه المرسوم!
شاب يريد له أهله الوظيفة بعد الليسانس فلا يوفقون، ويبعثون به إلى أوربا للحصول على الدكتوراه، فيجاهد في سبيلها بما يستطيع - بعد أن يغرق في الدراسات الفنية إلى أذنيه -
ولكن تخونه ذاكرته في الامتحان، وتقيض له الحياة متع المرأة الحية جميعاً - مع ساشا الجميلة وسواها - فيمل هذا المتاع ويتعلق بالمرأة الأخرى التي طردته من جنتها بعد أسبوعين وتتركه يتعذب ويتلظى (لأن تعلقه بها جزء في الطريق المرسوم طريق الفن الملعون) ويعود فيوظف وينجح في وظيفته ويأخذ أهله أو يأخذ المجتمع في تكبيله بقيد النجاح العملي ثم بقيد الزواج. . . وهنا يستجمع المؤلف كل قوته الروائية في المشهد الأخير وهو يستعد للوثبة النهائية وللخلاص من جميع القيود؛ فيجمع هذه القيود في مشهد واحد في الرسالة الأخيرة، قيد الوظيفة على أتمه، وقيد الزوجية في إبانه، وقيد المجتمع في احتقار الفنون؛ وفي اللحظة نفسها يبدو كأنه نضج للفن واهتدى إلى سره وأمسك بالأسلوب الذي طال بحثه عنه. . . ثم يسدل الستار بين الهتاف والتصفيق! وبطل القصة أشبه بأبطال الروايات، بل هو أشبه ما يكون (ببجماليون)!
هذا تنسيق يدل على أصالة في فن التنسيق، وهو ظاهره ملحوظة في (زهرة العمر) كل الظهور، وهي كذلك ملحوظة في (يوميات نائب في الأرياف) بمثل هذا الوضوح. وقد اخترت هذين العملين لأنهما ليسا قصة وليسا تمثيلية. فإذا توافر لهما هذا التناسق الكامل، فما أولى القصص والتمثيليات بأن يتوافر لها من أيسر سبيل. وفي (زهرة العمر) رسائل(549/12)
تحوي كل منهما قصة صغيرة كاملة مثل (قصته مع ساشا) يبدو فيها التناسق في أعلى مستواه
ومعنى ثالث نعنيه (بالتنسيق الفني) هو إحالة الحوادث والملاحظات إلى مواد فنية خامة في (الأستوديو) الدائب العمل! فالناس يعيشون الحياة وتوفيق الحكيم يشفق أن يعيشها وينزوي عنها مرتداً إلى نفسه ليحولها إلى عمل فني هناك، وكلما لحظت عينه أو نفسه مشهداً من مشاهدها لم يكن همه أن يستمتع بهذا المشهد وأن يزاوله ويضطرب فيه، ولكن كان همه التقاطه لأنه مادة صالحة (للأستوديو) اللعين! ومرد ذلك إلى مزاجه وتكوينه كما سلف. وكثيراً ما يكون انحراف المزاج مزية للفنان الذي يعرف كيف يحيل كل ما يصادفه إلى مادة فنية. وتوفيق من خذا القبيل. وقصة (ساشا) في (زهرة العمر) من الأمثلة على ما نقول. وغلطة هذا المزاج هي اعتبار الفن مقابلاً للحياة لا متفاعلاً مع الحياة؛ ولكن ليس من الضروري أن توافق توفيق في مزاجه لتستسيغ فنه فقد تخالفه في الرأي والإحساس، ولكنك تجد المتعة في الأثر الناشيء عنهما في الفنون
ثم نلخص إلى الحديث الخاص عن (زهرة العمر) فما قيمة هذا العمل الأخير؟ إن هذا الكتاب يستمد قيمته التي ترفعه إلى مستوى أحسن أعمال توفيق الحكيم من ثلاثة أصول
من اللهجة الإنسانية الأليفة التي صيغت بها معظم الرسائل من الألم والشك والجهاد والقلق والاضطراب والتذبذب المستمر بين الحالات النفسية المختلفة. . . هذه اللهجة التي تعقد أواصر الصداقة بين المؤلف وبين القارئ، وتشعرهما معاً أن بينهما صلة إنسانية، وأن الإنسان ضعيف أمام القوى الخفية التي تسيطر على أقدار الناس وخطواتهم في هذا الكون الكبير!
ومن (التنسيق الفني) الذي يجعل من هذه الرسائل الواقعية وحدة مطردة في سياق روائي، والواقع حين يكتسب التنسيق الروائي تجتمع له بساطة الصدق وجمال الفن، وهذا واضح في (زهرة العمر) لمن يقرؤه متنبهاً إلى التنسيق الفني الخفي الملحوظ!
ومن البيان الحي لمرحلة التكوين الفني الصحيح، حتى ليصح أن يطلق على الكتاب (سفر التكوين). فالطريق إلى النضوج الفني طويل، ووعر، ومليء بالأشواك، والفن عسير، والذي يثبت إلى النهاية هو الذي يحق له أن يتطلع إلى النجاح بعد الجهد الجهيد. . . هذه(549/13)
خلاصة ما يشير إليه المؤلف في (زهرة العمر) وبدلاً من أن يلقيه نصائح وعظات، عرضه مصوراً في حياة إنسانية، فكان أقرب إلى النفوس
وإذا اجتمعت هذه المزايا الثلاث لعمل أدبي كانت حسبه ليعد عملاً فنياً ذا قيمة. ولكنها لا تجتمع وحدها في هذا الكتاب، فهناك الومضات الفكرية والإشعاعات الشاعرية التي لا بد منها لكل عمل حتى تسلكه في عالم الفنون
وعيب هذه المقالات المحدودة المجال أنها لا تتسع للنموذج والمثال، فليعد القارئ إلى أعمال توفيق الحكيم وبيده هذا المفتاح الذي قصرنا عليه المقال!
(حلوان)
سيد قطب(549/14)
الهوى تحت النجوم
للأستاذ صلاح الدين المنجد
(نَشْوى) يا حبيبتي الجميلة!
يا فراشة مزركشة فرَّت من الفردوس
يا قطرة ندى تتأرجح حالمة فوق ورق الورد
انظري! فالنجوم الزُّهر يسبحن في البحر، كالحسان يتغامزن ويتضاحكن، ويتراشقن
بالنور والسناء
وعبدُنا الزنجي يختلس إليهن النظرات
ووادينا يضحك بالأنس، ويندى من العطر، ويشرق بالضياء!
والنسيمات رشيقات يرفرفن كالعصافير، ويقبلن الأزاهير!
فاقتربي، نلذ الهناءة والنعيم
لعلك ترأبين الصدع، وتواسين الجرح، وتخففين الهموم
اقتربي، فالهوى حلو الجني، تحت النجوم!
نشوَى يا عبقة الروض الجني، وحُلُمَ العمر السعيد
شفتاك ذابلتان، ونداهما في شفتي
عيناك فاترتان، والهوى في غَزَلي
أرأيتِ عصفور الحقول، يغدو مع الفجر الضحوك، ليسرق القوت الهني
إن شئتِ كنتُ اليوم عصفور الحقول
وقطفتُ من فمك الشهي زهر الثغور
لهّابة كالنار، تحيي الهوى، تنسى الهموم.
اسمعي همسات الرمان اسمعي
تعالي نجعل هوانا دماً كزهراته، أخضر رفافاً كورقاته، متصلاً كالليالي والأيام، ناغماً
كترانيم الحمام، صافياً كدموع الغمام
اقتربي، فعبدنا الزنجي يحرس الوادي، ويرعى الجبال
والهوى حلو الجني، في ليلك العطري يا ذات الدلال(549/15)
نشوىِ! ياُ حلما زوّقته بالفتون
ودميةً صنعتُها من الوهم والظنون
لمَ يشحب الوجهُ البهيّ، ويَرْعش الثغر الشهيّ، إذا رأيتني؟
مالك مرعوبة يا نشوى؟
أهذا حفيف الصنوبر الحزين، في الغاب، أم آهات صدرك؟
وتلك ومضات البرق الجريح، فوقنا، أم خفقات قلبك؟
لقد تمنينا المنى حتى مللناها
فتعالي نسحقها بالوصال، ونقتل الخوف باللقاء، فنصبح أقوياء كالظفر، بسامين كالنور، تياهين كالأبطال
اقتربي
فيا هناء من ارتوى من حبَّه تحت النجوم!
اذكري ليلة الكرم يا نشوى
ليلة كنا نعد النجوم
وكلما قلتِ هذى نجمة
قلتُ هذى قبلة
وضممتُك إلى صدري، وروَيتك من حبي
لقد كنت ترعشين بين ذراعيَ وتبسمين، وتتلهين عن قُبَلي وتحُلمين
وكان قلبي يعربد تارة ويرتجف ساعة
فهمست في أذنك الرهيفة: (سيبقى حبنا متوقداً كهذه النجوم يا نشوى، فإذا غيّبني الثرى
يوماً، فاذكري حبي إذا زرتِ الكروم، واذكري قبَلي إذا رنوت إلى النجوم)
فرقرقت في عينيك الدموع، وقلتِ: (سأذكر حبك، وقبلك، كلما نظرت إلى النجوم أو
وطئت الكروم)
فمالك الليلة صامتة يا نشوى؟
لا ترعبي، فالهوى حلو الجني، تحت النجوم!
أين قلبك الشارد يا نشوى؟(549/16)
أيضل، وهنا يرف النور؟
اقتربي، ويحك اقتربي
عمرنا شعلة، الفجر يطفئها وهوانا ومضة، القبر يرعشها
فَلِمَ تبكين وبم تحلمين؟
اقتربي نلذ لذة عاصفة، فنطيش بها كالفراش بين الزهور، ثم نلفظ الروح، ونرتمي
كالصدفات الفارغة، على حفافي النهور
يا هناء من ارتوى من حبه تحت النجوم!
(القاهرة)
صلاح الدين المنجد(549/17)
دراسة ومقارنة
الطبيعة توحي
والشاعر ينطق
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
الطبيعة مصدر إلهام عظيم في الأدب، وللشعر فيها مجال فسيح. افتن بها الشعراء، وتردد إليها الملهمون من أهل الفنون، فوجدوا بين أحضانها منفسحاً من القول ومتسعاً من الكلام. ووجدوا في مختلف مظاهرها صوراً تستحق التسجيل؛ فانتضوا أقلامهم، وجردوا ريشتهم، يجمعون الألوان من هناك وهناك. ويؤلفون بين الظلال، ويوانمون بين الأضواء، ويخرجون من ذلك لوحات شعرية تمتاز من لوحات المصريين.
ولاشك أن اللوحة التي يخرجها الشاعر الموهوب يكون فيها من صدق الأداء وبراعة الوصف وإظهار الدقائق والتفاصيل وحرارة الإحساس ما لا يكون في لوحة يخرجها رسام أو مصور
ولقد اولع الشعراء من قديم بالطبيعة؛ فأووا إليها وصوروها في شعرهم تارة باسمة، وأخرى عابسة ساخطة. ووصفوها على اختلاف الحالين كما فعل هوميروس في الإلياذة، فلم يجعلها ملحمة فقط للحروب والغارات؛ ولكنها كانت معرضاً لألوان شتى من الطبيعة.
ولم يغفل شعراء العرب في الجاهلية وصف الطبيعة؛ ولكن اللوحات التي خلفوها لنا ليست من التنوع والكثرة وخصب الألوان وغناها بحيث تستحق أن نطيل الوقوف عندها والتحدث عنها. ولكنها على كل حال لوحات صادقة التصوير لتلك البيئة.
ولو قد أطال الشاعر الجاهلي تأملاته إلى الطبيعة، وأمعن التفكير في ظواهرها، وعود نفسه السكون إليها والأنس بها والتحديق فيها لأخرج لنا صوراً رائعة من تلك الفيافي الممتدة، والرمال المتناثرة والصخور العارية، كما فعل الشاعر (توماس هاردي) في بعض قصصه وفي كثير من أشعاره. فقد صور منطقة (المور) في جنوبي إنجلترا تصويراً صادقاً؛ وهي إقليم مملوء بالصخور الموحشة، والأشواك الجافة، والوحشة الرهيبة. ولكن ريشة (هاردي) استطاعت أن تقلب وحشة هذا الإقليم أنساً، وأن تخرج من تلك الطبيعة(549/18)
الجافة الخشنة ألواناً تعجب النفس. لهذا تهافت السياح والزوار على مشاهدة هذا الإقليم بعد ما قرءوا رواية هاردي التي عنوانها (عودة المواطن)
وقد ترتبط ذكريات خاصة ببعض الأمكنة أو ما دار فيها من حوادث، ويحن إلى الماضي الذي انطوى في غبار اليوم، كما فعل (امرؤ القيس) في يوم الغدير بدارة جلجل. فقد أشار إلى ذلك في بيت واحد من معلقته التي تبلغ الثمانين بيتاً. والبيت هو:
ألا رُبَّ يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل
وكان حق امرؤ القيس أن يقف طويلاً عند هذا الغدير، لا أن يمر عليه مروراً عابراً سريعاً؛ ولكن شاعراً فرنسياً كان له مثل هذا الموقف فصنع قصيدة عنوانها (البحيرة). والبحيرة هي بحيرة ليمان بسويسرا، والشاعر هو (لامارتين)
والبحيرات والغدر والبرك كانت وحياً وإلهاما للشعراء في كل أمة وجيل؛ فامرؤ القيس يشير إشارة سريعة إلى دارة جلجل وغديرها؛ والبحتري يصف بركة المتوكل على الله العباسي في قصيدة واحدة، ويطول فيها نفسه ويجود فيها وصفه،
فيقول:
تنصبُّ فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها
فحاجب الشمس أحياناً يضازحكها ... وريّق الغيث أحيانا يباكيها
إذا المجوم تراءت في جوانبها ... ليلاً حسبت سماء ركبت فيها
والسرى الرفاء الموصلي الذي خرج من الموصل إلى حلب واتصل بسيف الدولة بن حمدان له شعر جميل في وصف الغدر والبرك والمياه. وقل أن تجد لشاعر عربي ما للسرى من الشعر في البحيرات كثرة إجادة.
ولعبد الله بن المعتز الشاعر الحسن التشبيه الكثير الوصف شعر في البحيرات، إلا أن الصنعة تغلب عليه وتعمل التشبيه يلوح فيه. ولو أنه أطلق الوصف على سجيته، وأرسله على فطرته لكان شعراً تصويرياً للطبيعة التي أولع ابن المعتز بتصوير كثير من مظاهرها. فإذا سمعته يقول:
غدير ترجرج أمواجه ... هبوب الرياح ومر الصَّبا
إذا الشمس من فوقه أشرقت ... توهمته جوشنا مذهبا(549/19)
بدا لك أثر الصنعة. وأين هذا من قول البحتري في المعنى نفسه:
كأنما الفضة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصبا أبدت لها حُبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها
ولقد أوحت بحيرات سويسرا الجميلة إلى كثيرين من الشعراء أمثال (لامارتين الفرنسي) (واللورد بيرون)، (وشيلي) الإنجليزيين. واللورد بيرون له في رحلته الأولى إلى جنوبي أوربا أشعار طبعها ما بين سنتي 1812، 1818. وفيها إشارات جميلة إلى ذكرياته السعيدة على بحيرات سويسرة
وفي هذه المناسبة أستطيع أن أذكر اسم الكاتب الأمريكي (هنري دافيد ثورو) الذي نزح من المدينة الصاخبة سنة 1845 إلى غدير (والدن) وغابته الفيحاء؛ ووجد في زقزقة الطيور، وطنين الحشرات، وخرير المياه وحفيف الشجر أنساً لنفسه الظامئة إلى رحيق الطبيعة. وله في ذلك كتاب اسمه والدن) كتبه بالنثر إلا إنه يفيض بالشعور والأحاسيس والفناء الكلي في الطبيعة وتقديسها كما تقدس الآلهة
ولا تجد شاعراً - فيما نعرف من الأدب العربي والإنجليزي والفرنسي - أعطى من نفسه وشعره للبحيرات والغدر ومساقط المياه ما أعطاه الشاعر الإنجليزي (وليام وردسورث) لمنطقة البحيرات الإنجليزية المعروفة باسم
كان (وردسورث) شاعر الطبيعة في أي مظهر من مظاهرها، وكان يعتقد أن الطبيعة تحمي الإنسان من الشرور، وتجعل الخير أليفاً عنده حبيباً لديه، كما أشار إلى ذلك في ديوانه المعروف (الفاتحة) قضى حياته جوالاً في منازه أوربا وإنجلترا. وعاش في قرية (جراسمير) بين البحيرات الإنجليزية التي ألهمته ديوانه المعروف باسم (شعر البحيرات) ودفن هناك في الأرض التي ألهمته، وأوحت إليه أسرار جمالها. وقد أتيح لي أن أزور قبره وقبر شقيقته في تلك البقعة الجميلة الهادئة من بقاع شمالي إنجلترا
ومنطقة البحيرات الإنجليزية مدينة في التعريف بجمالها للكاتب النقاد (جون رسكين) الذي أدرك (وردسورث) وعاش بعده زماناً؛ فقد أبان للإنجليز جمال هذه المنطقة مما جعل أغنياءهم يشدون إليها الرحال بدلاً من زيارة بحيرات سويسرة. ولهذا أقام له الإنجليز في تلك المنطقة تمثالاً اعترافاً بفضله ووفاء لحقه(549/20)
أما وصف السماء والنجوم والسحاب والمطر والرعد والبرق والليل، فقد ورد كثيراً في شعر العرب. وهو وصف مجرد لا تمسه عاطفة، ولا تدخله خوالج النفس ولا هزات الحس. ولكنه على كل حال تصوير صادق، كثير الإحاطة للتفاصيل. ومن فرسان هذا الميدان ابن خفاجة الأندلسي والسري الرفاء الموصلي وأبو تمام الذي أكثر من وصف الغيث والسحاب، وابن الرومي، وابن المعتز الذي يقول في وصف سحابة
وموقرة بثقل الماء جاءت ... تهادي فوق أعناق الرياح
كأن سماءها لما تجلت ... خلال نجومها عند الصباح
رياض بنفسج خضل نداه ... تفتح بينه نوْر الأقاحي
ولأبي تمام هذه الأبيات الرائعة في وصف الغيث:
لما بدت للأرض من قريب ... تشوقت لو بلها المسكوب
تشوق المريض للطبيب ... وطرب المحب للحبيب
وفرحة الأديب بالأديب ... وخيمت صادقة الشؤبوب
فقام فيها الرعد كالخطيب ... وحنت الريح حنين النوب
والشمس ذات حاجب محجوب ... قد غربت من غير ما غروب
والأرض من ردائها القشيب ... في زاهر من نبتها رطيب
ومن شعراء الإنجليز في هذا الباب (شيلي) وله قصيدة عنوانها (إلى الليل)، وهي من النوع العاطفي؛ والشاعر (جراي) وله (أغنية الربيع)، والشاعر (كيتس) وله (أغنية الخريف)، والشاعر (كامبل) وله (أغنية الشتاء). وهو شعر يذكرنا بما قاله البحتري في وصف الليل والربيع. ويذكرنا كذلك بقصائد رائعة للسري الرفاء وأبي تمام والبحتري وابن الرومي في وصف الربيع والخريف والشتاء والسحاب، وهو شعر منثور في مواضع من دواوينهم ومن السهل الرجوع إليه.
أما البحر ذلك الخضم الواسع الذي يقصر الطرف عن إدراك مداه، وتعجز السنون عن سبر أغواره، فقد كان له من الشعر العربي نصيب، إلا أنه ضئيل، وقد أشار إليه امرؤ القيس إشارة عابرة في معلقته وهو يشبه الليل بموجه، كما وصفه ابن خفاجة الأندلسي بثلاثة أبيات. ووصفه الشاعر الأندلسي يحيى ابن الحكم البكري المشهور بالغزال في(549/21)
قصيدة طويلة قالها يصف رحلته إلى القسطنطينية موفداً من قبل الخليفة عبد الرحمن ابن الحكم بن هشام سنة 225 هـ إلى قيصر إمبراطور الروم في مهمة سياسية، والقصيدة لطيفة البحر والتصوير، ومنها:
قال لي يحيى وصرنا ... بين موج كالجبال
وتولتنا رياح ... من دبور وشمال
شقت القلمين وانبت ... َّت عرى تلك الحبال
وتمطَّي ملك المو ... ت إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأي ال ... عين حالاً بعد حال
ولن يذكر نفح (الطيب) من القصيدة إلا أحد عشر بيتاً اخترنا منها هذه الخمسة. وهي في الجزء الأول ص 444
وللدكتور جورج صوايا من شعراء المهجر في أمريكا الجنوبية قصيدة في البحر المتوسط تجدها في الصفحة التاسعة وما بعدها من ديوانه (همس الشاعر) المطبوع في (بونس أيرس) ألا إنها ضعيفة الصياغة، على الرغم من حفولها ببعض المعاني التي توحيها وقفة أمام هذا البحر الذي شهد ازدهار حضارات ومصارع دولات
وأحجم شاعر أو - ناظم - عن ركوب البحر خشية أن يذوب فيه، لأنه من طين. . .! ولكن شوقي وحافظ ركبا البحر ووصفاه. ولحافظ رائيته التي مطلعها:
عاصف يرتمي وبحر يغير ... أنا بالله منهما مستجير
ألا إن ذلك قليل على الشعر العربي، وأين ذلك من قصيدة (وردسورث) التي عنوانها (على شاطئ البحر)؟
أما الرياض والأشجار والأزهار، فلم يترك شعراء العرب نوعاً مبها إلا وصفوه، فابن خفاجة له في شجر النارنج والأراك والريحان شعر كثير. والسري الرفاء له شعر كثير جداً في وصف الرياض والبساتين والنرجس وشجر الليمون وزهر السوسن والورد وشقائق النعمان والأترج والنخيل ورياض الموصل ومتنزهات الشام
وتلك ناحية في الشعر العربي تذكرنا بشعر (هربك) في النوار والبراعم، وبقصيدته الفاتنة في زهرة (الدافودلس) التي يفتتحها ويختتمها بهذين البيتين:(549/22)
أيتها الزهرة الجميلة! نحن نبكي لأن نراك
تسرعين الخطوات إلى الذبول
مثل أمطار الصيف أو قطرات الندى
التي تمضي إلى غير رجوع
كما تذكرنا بقصيدة (مارفل) الإنجليزي التي عنوانها (أفكار في حديقة)
ولقد أخذ الشعور بوصف الطبيعة يزداد عند نفر من شعراء المشرق، وشاع عند شعراء المغرب؛ وظهرت الطبيعة مجلوة في شعر أمثال ابن خفاجة وابن حمديس وابن جهور وابن زيدون وابن عبدون وابن سهل. وهذا الأخير كان يمزج في شعره بين وصف الطبيعة ووصف العواطف وخلجات النفس كما يفعل الفرنسيون أمثال: هوجو، ولامارتين، والكونت دي ليل، وألفريد دي موسيه. ولكن الفرق بعيد. .
ولقد ظهر في مصر في أيامنا هذه (الشاعر الهمشري)، الذي عني بتصوير الطبيعة المصرية في مختلف صوره. تسمع وترى وتحس وتشم في شعره كل شيء في الطبيعة، حتى رائحة الكلأ. وكان يرجى له في هذا الباب مجال، وتناط به آمال لولا أن الموت عاجله وهو نضير الشباب
ولعل قراء العربية يجدون في (شاعر البراري) مثالاً لشاعر الطبيعة المصرية البحت الذي يغنى على قيثارتها في كل مكان.
محمد عبد الغني حسن(549/23)
شلي
(سيبقى شعرك ينبوع الأرواح الظامئة، لأنك روح ظامئ)
للأستاذ محي الدين السامرائي
بعض العباقرة لا تكاد نفهمهم الفهم الدقيق النافذ، إلا إذا فهمنا أطوار حيواتهم فنربطها بتجاربهم الميتافيزقية الخفية، والاختلاجات النفسية، لندرك ما وراء الحس في حياة كل عبقري من صدام وصراع
وشلي أحد أولئك الذين تعيننا ترجماتهم على كشف البواعث والولائد في أطباق نفوسهم القصية إذا ما أراد أحدنا درس واحد منهم دراسة عميقة، يقوم أساسها على الفهم الحي للعنصر الوحداني الدفين المستتر في قرارة كل نفس، ليخرجه إلى عالم النور
وإذاً، فقد ولد هذا العبقري الثائر في الرابع من أغسطس عام 1792 في ورشهام، بين الأجراج النضرة والمراعي الجميلة؛ فنشأ في أحضان الطبيعة القروية الساذجة، فاستشف مكامن الروعة من الكون بعينين ناعستين (كأنما أثقلهما وسن حالم عميق)، كما يقول أحد نقاده المعاصرين. ثم سافر حدثاً ليلتحق بكلية (إتون) باكسفورد، فبرم من تقاليدها المدرسية الرتيبة، وحاول مراراً التخلص منها، ولكن إرادة والده حالت دون ذاك؛ إلى أن نشر رسالة عن (ضرورة الإلحاد) وذلك عام 1811، هاجم فيها العقائد والأديان، وسخر من جميع المثل السائدة في عصره، وبشر بضرورة تحطم اللاهوت المسيحي وسحقه؛ فما كان من الجامعة إلا أن أقصته عنها، فغادرها وفي نفسه حز عميق من السخرية والسخط اللذين أثارهما بيديه من الأساتذة ورفاقه الطلاب. وهنا فعل الكبت فعله العجيب في مطاوي هذه النفس الحساسة النزوع. ومنذ هذا الوقت مضى طليقاً ينظم الشعر ويقرأ المثولوجيا اليونانية والآثار الكلاسيكية، ولا سيما أفلاطون وأسخيلوس اللذين أعجب بهما كثيراً، وصاحبهما طوال حياته؛ فأشربت روحه هذه الثقافة الحية المفعمة بدوافع الفن والحياة. وبقى يتنقل بين أقطار أوربا بعد أن ودع إنجلترا إلى غير رجعة، حتى وطئت قدماه أرض إيطاليا الجميلة، فاتخذها مقراً له، بصحبة زوجه ابنة الفيلسوف الإنجليزي وليم كودون؛ وهنالك استكمل تكوينه الفني المدهش فبقى يبدع الروائع الشعرية السامية دراكاً حتى وافته المنية غريقاً في ليجهورن على شاطئ سبيزا وذلك في الثامن من (يولية) عام 1822 وقيل(549/24)
بل مات منتحراً أثر اضطراب نفساني أصابه، يأساً من حياته المترعة بالآلام والأوصاب. فأحرقت جثته في حضرة صديقه العظيم بيرون، ودفنت بقاياه، حيث كتب على قبره باللاتينية:
(هنا يرقد قلب القلوب الشاعر بيرسي بيش شلي) وفي أسفل منها بيت من شعره يقول: (لقد عاش ومات وغنى وحيداً)
وهكذا انتهت حياة خذا الشاعر الستوحد الغريب بفاجعة من أعنف الفواجع التي عرفها تاريخ الأدب الحديث
ما كان شلي ممن يأخذ بدخيلات عصره، وتوافه بيئته؛ فقد عاش ما عاش هائماً في أجواء نفسه، وأقطار أوهامه، (مأخوذا بالسماء المكوكبة الساطعة بالأنوار) وبكل مظهر من مظاهر هذا الوجود الرحيب. فأثر ذلك تأثيراً عميقاً في روحه الفنية، وطبعه بتلك الانطباعات المتسعرة التي اعتصرت روحه العبقري على أساس من الثورة والألم، إلى جانب تشاؤم في الحساسية عميق، أشعره بالآم العصر الذي يضطرب فيه، وشاع في جوانب نفسه ميولاً متدفقة قوية، ولكنها تتأرجح بين (الشؤاطئ الزرق البعيدة الحالمة)، وبين (الجروف الصخرية الصماء)
فملخص ما يقوله الأستاذ الفيلسوف هوايتهيد فيه: أنه مؤمن بالعلم التجريبي يعالج الطبيعة ومظاهرها تحت ضوئه، في الحين الذي يستند فيه إلى المذاهب المثالية الأخرى مثل: كانت، بركلي، أفلاطون
فهو مزيج من نوازع متباينة تتجاذبه، فمن الناحية الواحدة نزعة إغريقية قوية تؤمن بالطبيعة وتقدسها، ومن الناحية الأخرى إحساس ديني عميق يربط مظاهر الوجود في وحدة كيانية واحدة
(عندئذ اتحد الجسم بالروح
وعرت كيان (أيانث) رعشة رقيقة
فأطقت جفنيها المحتقنين بهدوء
وعند ذاك توقفت الأجرام المعتمة الزرقاء. . .)
ومن هنا كانت ابتداعيته الطامحة، القلقة، المشرئبة إلى مثل إنساني يحرر النفس ويعتقها(549/25)
من ربقة المادة، وهدآته النفسانية المحلقة في عالم الأحلام: عالم المثل الرفيعة، حيث الحقائق متلاحمة يعروها الغموض. فشعره صورة صادقة للرومانتيكية التي تغلب الإبهام على الوضوح، ولو أنها لا تمت إلى الرمزية بصلة ما. فهي تسبغ صفة الجلال على كل شيء، وتنصر الباطن من الظاهر؛ فهي (رومانتيكية صوفية) بالمعنى الدقيق. وأكبر مظاهرها، ذلك الطرب الساذج - الذي يقرب من العبادة - لغرائب الطبيعة، والتمجيد العنيف لصور الوجود، الذي يذهب بنا إلى حالة انقياد روحي شديد، هي من أسرار الطلاقة الفنية في شعره. ويظهر هذا الأثر واضحاً في قصائده الأخيرة: القبرة، وانتصار الحياة، وأبيسكديون التي حار النقاد فيها، ومنظومتي هيلاس وبرمنيوس، التي يصور فيها الجبروت الإبليسي في شخصية البطل الخرافي بريشة تفوق ريشة ملتون في تصوير إبليسه
وفي الطور الأخير من حياته تأخذ (صوفية شلي الرومانتيكية) شكلها الأخير؛ إذ يخضع للقوى اللاواعية السلبية في النفس، فيستشعر الألفة والإنجسام في صلب الوجود العام، ويدرك أن هناك عقلاً سامياً وراء كل شيء، تتوقف السعادة الدائمة بالاتحاد الحبي به - كما يعبر الصوفيون - بعد أن أنكر ذلك من قبل. وتحت تأثير هذا الشعور الجديد في كيانه، نظم أغنيته الفذة أبيسكديون، التي هي (نشيد باطن) لتلك الروح التواقة لذلك الحب المثالي السامي، ولو أن فيها بعض الأثر من شلي القديم. وقد يخطئ من يظن أن شلي هنا، يبحث عن الحب الحسي الأرضي؛ فما الحب الذي يفتقده إلا الحب الروحي المغرق في المثالية الزاخرة بأحفل العواطف والأشواق، حيث العناق المكين بين الزائل الفاني والخالد الباقي. . . (كل شيء يحول إلا إياك أيها الحب. . .)
والآن استمع لشلي صاحب (ضرورة الإلحاد)، ينشد في آخر سنيه على لسان (النبي محمد) في افتتاحية منظومته السامية هيلاس إذ يقول:
أسرعوا واملئوا الهلال الباهت
بالأنوار الحادة، كتلك التي شقت عتمة ذلك
الليل المسيحي الذي انسحب إلى الغرب
حيث امتطي القمر المشرقي صهوة النصر. . .(549/26)
ألا فلتحل اللعنة على أولئك الذين ديدنهم الإشراك وتقسيم الإله الأعلى المتعالي. . .
فشعره - كما يبدو لأول وهلة - مزيج من الرومانتيكية الجامحة والتصوف الرزين، مزيج من الأنوار والظلال، ومن العقل والجنون؛ فحيالة المحلق النفور قد عصف بكل الفواصل الأرضية، فانقطعت الصلة بينة بين أكثر القراء. حتى أن النقادة الكبير (ماتيو أرنولد) أطلق عليه لقب
(الشاعر السماوي المجنون)، إذ عاش حالماً بعوالم أثيرية قصية، مفعمة بأنفاس المحبة والجمال، (محدقاً تشفق الحياة الغائم) - وقد كرر هذا المعنى في شعره كثيراً -
ألا نهيم يا حبيبتي
نحو غابة الشفق.
حيث يتعالى القمر الوضئ؛
وهناك سأهمس إليك
في هواء الليل البارد
ما لست قادراً على البوح به في النور؟)
ولقد اختلف النقاد في تقدير ملكة شلي الفنية اختلافاً كبيراً، فهاجمه كثير منهم، أمثال صديقه الخائن (هوج) و (بيكوك) وغيرهما. بينما انتصر له النقادة الكبير ماتيو أرنولد وأنصفه من أعدائه. كما أن الكاتب الكبير لورد ماكولي كتب عنه يقول: إن شعر شلي لم يكن فناً وحسب، إن هو إلا وحي. أما البروفسور إيفور إيفانس أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة لندن، فقد رفعه إلى رتبة النبوة في شعره، واعتبره من أصحاب الرسالات المثلى في تاريخ البشرية
ومهما يكن من رأى النقاد فيه، فالحقيقة. أن فيه عنصراً غبر عادي، هو الذي حمل معاصريه على أن يروا فيه - على رأى ستيفن سبندر - رجلاً هستيري المزاج، منحرف السريرة، مزيجاً من الغول والإنسان، حتى أن رفاقه في المدرسة زروا عليه شذوذ سلوكه واندفاعاته الطائشة، فلقبوه بـ (شلي المجنون)، كما أن مؤسسة (شانسري) قررت حضانة ابنته من زوجه الأولى، بحجة أنه رجل متهوس مخبول، ليس أهلاً لإعالة إنسان. وفي ذلك - كما يبدو لنا - مظهر من مظاهر العبقرية السامقة التي لا تخضع لمقاييس الناس(549/27)
وموازينهم. أو ليست العبقرية - قبل كل شيء - انطلاقاً من كل قيد، وشروداً عن كل مصطلح ومألوف؟
أما عقيدة شلي الفلسفية ورسالته التي بشر العالم بها فلها قصة طويلة لا يستطيع جلوها ناصعة إلا عن طريق الدراسة الدقيقة لشعره في مختلف أطواره الروحية. مع أنه - بالحقيقة ليس صاحب فلسفة متبلورة ناضجة ذات حدود، إن هي في مجموعها إلا تجارب نفسية متباينة ذات أصباغ مشوشة غامضة
فشلي يرى ظواهر الوجود سيلاً مندفعاً من أزل الآزال إلى أبد الآباد لأي لحظة واحدة من الزمان. فهو - إذا شئنا الدقة الفلسفية - خلق مستمر، وامتداد من عالم الحرية إلى عالم الحتمية والضرورة.
(الكون السرمدي لهذه الأشياء
يتراكض خلال العقل. ويضرب بأمواجه الخاطقة.
آونة قائمة. وآونة ملتمعة؛ حيناً تقبض النفس،
وحيناً تنيرها. . . . . .
كجدول رقراق يأخذ سمته، خلال الغاب الكثيف
وبين الجبال، حيث الشلالات المتدافعة حولها إلى الأبد،
وحيث الغاب والريح يتصارعان؛ يندفع النهر الكبير
دائباً على الصخور بلا انقطاع، وهذه الكائنات - وفيها الإنسان - (كسحب تغشى القمر الليلي،
وسرعان ما تنقشع، فتلتمع، ثم ترتعش،
فترى الظلام بلألأئها! ثم يطبق الليل
ثانية. . . فتضيع هاتيك السحب إلى الأبد.
. . . ألا إن أمس الإنسان لا يشبه غده
فهو لن يعاني غبر التغير المستديم.)
أما حيال ذلك السر المحجب القديم: سر هذا الوجود ماذا يحول؟ وأيان منتهاه؟ فكثيراً ما وقف واجماً مبهوتاً لا يرى غير ظلمات يركب بعضها.(549/28)
(يا أشباح الموتى! ألم أسمع عويلك المرتفع مع أنفاس الليل الدائرة، حيث تشتد العاصفة على الأثير المظلم
وعلى الريح الرخية تيلاشى هزيم الرعد؟
ألا ما أكثر ما وقفت على قمة جورا المظلمة العابسة فوق الوادي المنفرج في الحضيض.
وما أكثر ما صمدت أمام ثورة إعصار الليل القارس إذ يحوطني، كما يبدو لي، رجع أصداء الموت الهامسة!
فالموت يطارد جميع الكائنات (بأقدام لاهبة وأنفاس بارد صفراء)، حتى الشموس والأفلاك يصيبها الخمود والاندثار
(أخبرني أيها الكوكب ذو الأجنحة النورانية
المسرعة بك في دورانك المشتعل،
في أي من كهوف الليل ستنطوي أجنحتك
وأنت أيها القمر الأشيب الهزيل
في أية أعماق من الليل أو النهار
تطلب الراحة والسكون؟. . .)
لا! لن يقوى أمام ناموس الفناء غير (ذلك النور السماوي المؤتلق إلى الأبد)؛ أما الظلال الأرضية (فتتناثر بدداً تحت وطئ الموت. . . بينما تبقى روح أدونيس مشتعلة في أعمق أطباق السماء ككوكب هاد حيث الخالد الباقي.)
. . . وأخيراً طوته ظلمة الموت بعد أن ترك للعالم تجربة حية صادقة، وسجل لنا اعترافاً روحياً طويلاً مكتوباً بدم القلب
(بغداد)
محي الدين السامرائي(549/29)
على ضفاف الجحيم
(إلى ذلك الروح الذي نفث القدر في دمي معناه فأخرس كبريائي ومزق رغباتي وصرب على مشاعري جواً من الضباب، تخبط فيه حكمتي وتتعثر أشواقي)
علام أبعث للدنيا بأنغامي ... لا الظل ظلي ولا الأنسام أنسامي
// لا الشمس في ضحوتي أسعى بموكبها ... ولا الحقيقة في آفاق إلهامي
هيمان أطوي الليالي البيض في سَغَب ... تُفَلسِفُ الوزر والحرمان أوهامي
حيران تصطرع الأهواء في خلدي ... وساوس الشك في صحوي وأحلامي
مروّع العقل والوجدان ذو أمل ... مشترد الرأي أفّاق الخطى ظلمي
موزَّع الحسِّ مخدور المنى شَرِقُ ... مفزع القول هّدامٌ لأصنامي
دنياي خلوُ من الأفراح يا عجباً ... علام أبعث للدنيا بأنغامي
هنا ذوت حكمتي وانهار إيماني ... وعربد الشك في عقلي ووجداني
بالأمس كنت هنا قديس حانتهم ... أحدو الجنون وأحدوها بألحاني
أجامل الزور في أفواه من شربوا ... وآخذ القول بهتاناً ببهتان
جُنَّ الجميع فهذا عبد شهوته ... وذاك تاجر زهدِ بين رهبان
باقة الراح هاجت إفك مسرحهم ... كلُّ وفي يده مصباح شيطان
حقيقتي فوق ما في الكأس من سَكَرٍ ... فلم أُجَنَّ ولكن جُنَّ حرماني
من لي بسبعة أيقاظ لأنشدهم ... هنا ذوت حكمتي وانهار إيماني
يا وحدتي بين نادي الصحب والآل ... كلُّ بمثل ولم أظفر بأمثال
أنا الغريب ونفسي في مجاهلها ... حيرى تلَفَّتُ عن قومي وآمالي
تهفو إلى النور في جوع وفي ظمأِ ... كأنها ذلة في وجه رئبال
تمضي على الشوك لا تشكو تعثرها ... ولا يفزَّعها تحويم أهوالي
مضى الشباب سدىً ما كان أجمله ... لو لم أُقَضِّ سنيه بين أغلالي
طويت أيامه إِثماً وسخريةُ ... أصانع الإفك في حلي وترحالي
من يفهم النفس إن أفضت بقولتها: ... يا وحدتي بين نادي الصحب والآل
أخرجت من معبد الأوهام خفَاقي ... وعشت في حكمتي مجنون آفاق
هدمت محرابي الأسمى وكم سجدت ... على قداسته روحي وأشواقي(549/30)
أحرقت إنجيله كفراً وكم خشعت ... نفسي لما فيه من نور وإشراق
ماتت صلاتي وكانت آيُها سكناً ... لما أكابد من يأس وإملاق
خلا المصلى وطافت حول هيكله ... معالم المجد في صمت وإطراق
وأطفأ المعبد الوضاء راهبه ... وودع القدس في زيغ وإشفاق
وأرسل الحكمة الهوجاء هاتفة: ... أخرجت من معبد الأوهام خفاقي
(كلية الآداب)
محمد العلائي(549/31)
البريد الأدبي
بين الدين والعلم في ختان الأنثى
قرأت كلمتين في العدد - 548 - من مجلة الرسالة الغراء: إحداهما للدكتور أسامة، والثانية للأستاذ محمد أحمد الغمراوي، فأما الدكتور أسامة فقد عاد إلى بحث ختان الأنثى من الناحية الدينية، ونحن لا نريد هذا منه، وإنما نريد منه أن يبين لنا رأي غيره من الأطباء في هذا الختان، لأن رأيه وحده فيه لا يفيد القطع في هذه المسألة من الناحية الطبية، ولا بد من الوصول إلى رأي قاطع فيها من هذه الناحية قبل بحثها من الناحية الدينية
وأما الأستاذ الغمراوي فلا أدري ما يأخذه علي وقد مضى يعالج مسألة الختان على طريقتي من التوفيق بين الدين والعلم، وخالف طريقة من رددت عليه حين يريد أن يثبت أن هذه المسألة من الدين، ولا يريد أن يعالجها من ناحية العلم، بل يرى دكتوراً فاضلاً يريد أن يوفق بين الدين وبين ما يراه مخالفاً له في الطب، فيقطع عليه طريق هذا التوفيق، ولا يقول له إلا أن مسألة الختان من الدين؛ فإن معنى هذا أن حكم الطب فيها لا يعبأ به، وهذه هي الطريقة التي قلت إن الدين لا يخدم بها، وقلت إنها تخالف ما اعتمده سلفنا الصالح في تعارض دليل العقل ودليل النقل
ومن العجيب أن يقول الأستاذ الغمراوي: إن قراراً إجماعياً لو صدر من الأطباء بتأييد الدكتور أسامة لا يغير من الحكم شيئاً في هذه المسألة بالذات، ثم يمضي بعد هذا في محاولة التوفيق بين الطب والدين في مسألة الختان، وهذا تناقض لا أدري كيف وقع فيه. وقد يعقل أن يأخذ الإنسان في هذه المسألة بحكم الطب ولو خالف الدين، وأن يأخذ فيها بحكم الدين ولو خالف الطب، ولكنه لا يعقل أن يضرب بإجماع الأطباء فيها حصل عرض الحائط ثم يمضي في محاولة التوفيق فيها بين الطب والدين، ولكن الأستاذ الغمراوي يريد أن يمسك بذيل الرجعية والتحديد معاً، وأن يجمع بين إعجاب الرجعيين به والمجددين، وهو في هذا كمن يحاول الجمع بين الضدين
عبد المتعال الصعيدي
ختان البنات بين الطب والدين(549/32)
فائدة الختان تتلخص طبياً فيما يأتي:
أولاً - الإفراز الدهني المنفرز من الشفرين الصغيرين وجزء من البظر إن لم تقطع في الختان تتجمع وتتزنخ ويكون لها رائحة غير مقبولة وتحدث التهابات قد تمتد إلى المهبل بل إلى قناة مجرى البول، ورأيت حالات كثيرة بهذه الالتهابات في بعض السيدات سببها عدم الختان
ثانياً - هذا القطع يقلل الحساسية الجنسية للبنت، حيث لا شيء لديها ينشأ عنه احتكاك جالب للاشتهاء، وحينئذ لا تصير البنت عصبية من صغرها
وإن عملية الختان لا تقطع البظر من جذره بل تقطع جزءاً منه؛ فهي تقطع الحشفة وجزءاً من العضو، وهذا الجزء الأعلى هو ذو الحساسية الشديدة، ثم يبقى جزء منه توجد فيه أيضاً الحساسية ولكنها أقل أثراً
ويقول الدكتور الفاضل أسامة (إن إزالة البظر يحدث عفة جزئية للفتاة قبل الزواج مشكوكاً فيها، ولكنه يحرم المرأة المتزوجة من الشعور الصحيح باللذة الجنسية) ولكن الحقيقة التي لا مرية فيها أن الفتاة التي استهدفت لعملية الختان قلت فيها حساسية الشهوة بخلاف التي لم يحدث لها الختان فإن أي احتكاك (بالبظر) حتى بثوبها يحرك فيها حساسية شديدة ربما لا يؤمن جانبها في الفتيات. وأما قوله إن المتزوجة تحرم من الشعور الصحيح باللذة الجنسية، فهذا غير صحيح؛ فالشعور لا يزال فيها لكنه شعور غير فياض رزين غير عابث، مضبوط زمامه غير منفلت
ثم إن حضرة الدكتور يقول إن الجاذبية الجنسية لا تحدث من الأعضاء التناسلية الخارجة، وإنما تحدث من الصفات الجنسية الثانوية، وهي في الأنثى جمال الوجه. الخ.
إذاً فالتأثير الجنسي لم ينعدم في المرأة بعد ختانها إنما وجد بمقدار إن زاد أضر بها
هذا هو رأى الطب في ختان البنات فانظروا إلى رأى الدين: يقول صلى الله عليه وسلم (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء). وأية مكرمة للنساء أفضل من هذه المكرمة التي تضبط شهواتهن وتقلل من اشتهائهن، وفي الوقت نفسه لا تحرمهن لذاتهن.
ثم انظروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجرت النساء، وكان فيهن امرأة يقال لها أم حبيبة، وكانت تختن الجواري؛ فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(549/33)
لها يا أم حبيبة، هل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ فقالت نعم يا رسول الله إلا يكون حراماً فتنهاني عنه، قال بل هو حلال، فادني مني حتى أعلمك. فدنت منه فقال يا أم حبيبة إذا أنت فعلت فلا تنهكي، فإنه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج.
فانظروا إلى كلمة (لا تنهكي) أي لا تستأصلي. أليس في هذا الحديث معجزة تنطق عن نفسها، وتدل بوجهها، فلم يكن الطب قد أظهر شيئاً عن هذا العضو الحساس (البظر) ولا التشريح أبان عن الأعصاب التي فيه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي علمه العليم الخبير، عرف ذلك فأمر ألا يستأصل العضو كله حتى لا يفقد الحساسية جميعها
فأي تعارض بين الطب والدين في هذا؟ أما عن قول الدكتور عن أضرار الخطر الجراحي كالنزيف، فهذا أيضاً في ختان الذكور وإن كان حضرته لا يمانع فيه في الذكور فما كان هذا الضرر الممكن منبعه ليمنع هذه الفائدة. وهانحن نرى هذه العملية تعمل يومياً بين نساء جاهلات ولم نر أضراراً كثيرة بل قل أن تنزف منها فتاة
وختاماً أخالف الدكتور أسامة في رأيه، وأرى أن ختان البنت مكرمة لها، وأقول إنني ما رأيت الدين يدعو إلى شيء إلا وجدت الطب يتبعه في ذلك، ولمن يريد التثبت من ذلك أن يقرأ كتابي (الطب الحديث يترسم خطى الإسلام) وكتابي (الحمل وخلقته الإنسانية بين الطب الحديث والقرآن) فيرى صدق ما أرمي إليه والسلام.
الدكتور حامد البدري الغوابي
طبيب أول رعاية الطفل ببني سويف
نبغاء الأقزام في رسالة الغفران
في أكثر اللغات مثل سائر أو كلمة مأثورة أو اطروفة ضاحكة تؤكد للأقزام وقصار القامة من الناس الذكاء والنبوغ وحدة الذهن والحيوية. حتى لتكاد كلمة قصير تصبح بنفسها علماً على العبقرية أو مرادفة لها. والإحصاء نفسه يبرهن عليه. وفي ذلك بحث طريف لم يتنبه له الكتاب بعد ولم يقيموا له بحثاً بذاته على ما فيه من سعة وعمق وإمتاع
دعاني إلى هذا التقديم كتاب ظهر منذ أيام باللغة الإنكليزية مترجماً عن العربية تعاون على إخراجه أقزام ثلاثة مشهورون، بدأه أولهم قبل ألف سنة وأتمه الآخران منذ أيام. هؤلاء(549/34)
الأقزام الثلاثة هم: أبو العلاء المعري وكامل كيلاني ومستر براكنبوري. وضع أبو العلاء رسالة الغفران وقذفها في تيار الفكر الإنساني تنحدر مع الأيام وطال بها حلك الليالي عصوراً مديدة حتى جاء الكيلاني فتناولها بالتحقيق والتهذيب ونشرها في الفكر العربي الحديث نوراً قوياً ساطعاً. والكيلاني يعشق أبا العلاء عشقاً عنيفاً ويرى فيه صورة العقل العربي الجبار ويبرهن على أن في كل جملة منه توجيهاً جديداً، وأنه أسمى تفكيراً وأسلم منطقاً من كثير من مشهوري الغرب قدمائه ومحديثه. وهذا ما حثه فتعاون والمستشرق الإنكليزي جيرالد براكنبوري على ترجمة رسالة الغفران إلى الإنكليزية. وقد تم طبعها الأنيق منذ أيام فجاءت تحفة ممتازة من تحف العقل العربي في المكتبة الإنكليزية. ولئن كان الإنكليز قد اطلعوا على شيء من أدبنا القديم فإنما اطلعوا على أضعف ما فيه غالباً وهو ما يمثلنا في عصور الأنحطاط كمقامات الحريري مثلاً؛ على أنها في حقيقتها لا تمثل إلا القدرة اللفظية وألاعيب التراكيب مما لا يروق العقل المفكر. أما رسالة الغفران ففخر لنا نباهي به؛ وأنا على مثل اليقين أنها ستستحوذ على الشهرة التي نالتها ترجمة فيتر جرالد لرباعيات الخيام. وترجمة الرسالة هذه تكاد تكون حرفية لكنها قوية لا تحس فيها موضع ضعف أبداً ونقل فيها الشعر إلى الإنكليزية شعراً. وساعد براكنبوري على ذلك سعة اللغة الإنجليزية نفسها وليونتها وتعدد الألفاظ الدينية وترادفها بمعانيها نفسها أو بمعان أخرى قريبة منها مما لا نجد له مثيلاً في سائر اللغات غير العربية. أضف إلى هذا كله قدرة براكنبوري الفائقة في لغته وفي العربية والتشابه القوي في حياة المؤلف والمترجم وطراز التفكير، ثم إمداد الكيلاني وتحقيقه وجهوده
فأبو العلاء المعري وكامل الكيلاني وجيرالد براكنبوري؛ هؤلاء هم الأقزام الثلاثة الذين تعاونوا على تقديم رسالة الغفران إلى الإنجليز. ومن أجدر في القيام بهذا العمل الجبار من هؤلاء النبغاء الثلاثة؟
(القاهرة)
ممدوح حقي
الشيخ عياد الطنطاوي(549/35)
في تاريخ الأدب العربي الحديث شخصية عملت على نشر الأدب العربي خارج نطاق مصر، وهي تكاد تكون مجهولة من المعاصرين. تلك هي شخصية الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810 - 1861) الذي كان يقوم بتدريس الأدب العربي في مدرسة لازاروف بمدينة موسكو ومؤلف كتاب (أحسن النخب في معرفة لسان العرب)
ورجائي ممن يعثر على تاريخ هذا الرائد المجهول أن يدلي على صفحات الرسالة بالمصادر التي يمكن الرجوع إليها عن شخصيته
محمد أمين حسونه
حفلة تأبين الشيخ إبراهيم باكير عالم طرابلس الغرب
أقيمت في طرابلس الغرب حفلة تأبين لشيخ علمائها المغفور له الشيخ إبراهيم باكير دعا إليها الأفاضل أبناء المشيرقي وفريق آخر من الأدباء. فافتتحت بآي الذكر الحكيم، ثم قام سماحة المفتي فشكر للداعين سعيهم وذكر مآثر الفقيد، ثم تتابع بعده الخطباء والشعراء فعددوا مناقبه ومواهبه.
وقد ولد رحمه الله عام 1273، ونشأ في بيت علم وفضل شهر منذ الفتح العثماني بالقضاء والفتيا والخطابة؛ فكان نموذجاً سامياً في الأخلاق الكريمة والخصال النبيلة والآداب العالية. وكان معروفاً بتواضعه وعزة نفسه ورقة عاطفته وصدق عزيمته ونزاهته وجده في كل شيء وتقديره واحترامه للغير
وكان يعتبر بحق شيخ مشايخ القطر وخاتمة المحققين. فقد كان حجة في كل العلوم، وثقة يرجع إليه في المشكلات. ولم تكن منزلته العلمية ومكانته الأدبية وشهرته قاصرة على وطنه ومواطنيه؛ بل كان فضله مذكورا بين علماء دمشق وأدبائها حيث تسنى له أن يؤدي رسالة العلم والأدب في العاصمة الأموية زهاء ثماني سنوات كان فيها موضع الإجلال والتقدير
وله عدة تأليف ورسائل تذكر منها:
1 - فتاوى على الذهب الحنفي
2 - فتاوى في الوقف على الذهب الحنفي(549/36)
3 - منظومة في الحكمة والأدب
4 - رسالة في علم البيان
5 - منظومة في علاقات المجاز المرسل
6 - رسالة في المنطق
7 - منظومة في المقولات مع شرح لها
8 - ديوان شعره
وقد تولى من المناصب في العهد العثماني: عضوية الاستئناف، ورآسة المحكمة الاتهامية من سنة 1206 إلى 1324. ثم الفتوى ورآسة الأوقاف من سنة 1324 إلى الاحتلال الإيطالي. ووكالة رآسة مجلس الإًدارة قسم المحاكمات والجنح من سنة 1325 إلى 1328 عن أربعة ولاة. وفي دمشق حين هاجر إليها عرض عليه إفتاء طرابلس الشام فلم يقبل، وخصص له معاش باعتباره من هيأة كبار علماء المشيخة. ثم رأس بعثة أثناء الحرب العالمية وفدت إلى المدينة المنورة فقام بها خير قيام. ورجع إلى طرابلس بعد الاحتلال الإيطالي فعين حاكما بالمحكمة العليا وظل فيها 15 عاماً إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة 1362
الهوى العذري
لا يؤمن كثير من أهل الرأي بما دونه مؤرخو العرب من القصص الغرامي الملتهب (كقيس ليلى) (وقيس لبنى) بل لقد يذهب بعضهم إلى الضحك منه، والسخرية به، ويعتقدون أن هذا القصص تصوير روائي، وخيال شعري
وأحسب أن الذين يعتنقون هذا الرأي بنوا عقيدتهم على خبرتهم الصادقة بالطبيعة البشرية فهذا العشق الذي يهيم له الرجل على وجهه، ويدخل الضيم على مروءته ليس من طبيعة الرجل، وهو الذي يجري بفطرته وراء النفع والطمع، ويسعى بغريزته إلى النضال في معارك الحياة وتكاليف العيش، إنما الحب زخرف من زخارف صباه وزينة من زينات شبابه، بل هو أغنية من أغانيه يتطرب بها في مجال نضاله في الحياة، ويتغنى بها في خلال جهاده للعيش
من طبيعة الرجل أن يسعى إلى الشهرة والثروة، وأن يتبوأ مكانها ملحوظاً في رأى الدنيا،(549/37)
وقم التاريخ، ومن أظهر ميوله حب السيطرة والسيادة وبسط السلطان
هذا الرجل قد يحب، وهذا طبيعي أيضاً، وقد يحدث الإخفاق في حبه لوعة ومرارة تجرح شعوره وعواطفه، لكنه مخلوق نشيط تشغل مخه أفكاره متباينة في دائرة الحوادث المختلفة، وفي مناحي القرص المتعددة التي تسنح بين حين وآخر في ميدان النضال الحيوي، فإذا كانت الفجيعة أليمة، مفعمة بالهواجس والخيالات والأحزان، فقد يجد من وسائل الكسب ومباهج الأفراح والملاهي، وحزم الإرادة القوية ما يتلهى به فينسى
هذا شأن الرجل إذا أحب، وهو كثير المشاهدة بين الناس تجري الحوادث فيه على ما رسمته الطبيعة البشرية، أما هيام الرجل على وجهه، وتدلهه وإغفاله تكاليف الحياة ومسئوليتها جرياً وراء امرأة، على الوصف الذي دونه مؤرخو العرب في (قيس ليلى) (وقيس لبنى) فهو بعيد حتى عن الذوق الإنساني
ومن عجب أن يهيم الرجل ويذهب، وتصبر المرأة وتتسلى فلا تهيم على وجهها، ولا يذهب بها التدله شتى المذاهب، فتأنس إلى الغزلان في مسارحها، وإلى الوحوش في مساربها إلى غير ذلك من مؤثرات التأليف المسرحي
كيف يكون هذا والمرأة كلها قلب، وحياتها تاريخ كامل للعاطقة؟ هي، عمرها، أسيرة أفكارها، رقيقة عواطفها، فإذا تسلط على هذه الأفكار والعواطف حكام من الخيبة والفشل، فأين تجد التأسي؟ لاشيء؛ إلا أن تكون كالقلعة المقتحمة قد انهارت أسوارها
كم من عيون براقة خبا بريقها، وكم من خدود متوردة ذبلت حمرتها، وكم من قوام معتدل هصره الأسى فأماله، كل ذلك والحب فيها خجول صامت لا يجري في الطرقات، ولا يتسكع في الصحاري. قد تمتص الفجيعة دمها ولكن في صبر وتجلد
هل كان قيس يحب ليلى وليلى تكرهه؟ لا. إنما كان بقلب ليلى من العشق والوله ما بقلب قيس. إذن ففيم يهيم الرجل ويذهل، وهو أقوى عزما، وتتجلد المرأة هي القلب المتفجع؟
هذا وضع مقلوب للطبائع البشرية لم يجنح إليه المؤلفون إلا للقصة والرواية
ولم اختص بالجنون عشاق المرأة وحدها؟ ومن الناس عشاق متدلهون في المال، ومنهم عشاق الشرف والمروءة والرجولة الكاملة، وقد أصيب كثير من هؤلاء في مالهم ورجولتهم فما هاموا على وجوههم، ولا فقدوا رجولتهم، ولكنهم عالجوا الحياة من جديد بما وهبوا من(549/38)
المزايا الطبيعية لينالوا نصيبهم منها
ومن أظهر ما يدل على أن هذا القصص موضوع ما يشاهد في طبيعة البشر من أن الرجل إن استحلف بالله رب كل شيء وبرسله وكتبه سهل عليه الحلف ولم يأنف منه، فإن استحلف بطلاق امرأته تربد وجهه واستطاره الغضب وعصى وامتنع حتى لو كان الحلف سلطاناً مهيباً، هذا وإن لم يكن يحبها وكانت هي قبيحة المنظر، فكيف يسوغ عقلاً أن يطلق قيس ليلى وهو يحبها؟ وهي جميلة الخلق والخلق، لمجرد أن أبويه طلبا إليه هذا الطلاق وكفى؟ لقد خير ملك عظيم بين عرشه وبين زوجة ارتضاها، فنزل عن العرش ولم يفترق عن زوجته
ألا أن العرب لم يكونوا بدعاً من الناس. . .
عز العرب علي(549/39)
العدد 550 - بتاريخ: 17 - 01 - 1944(/)
عبقرية الإسلام
عبقرية الإسلام عنوان وضعته لكتاب اشتغلت بإعداده منذ اشتغل العالم بهذه الحرب. وكان الذي وجه فكري إلى هذا الموضوع ما وقع فيه الناس كافة من هذا التفاني الذريع لأسباب لا يصعب حسمها على العقل الأصيل. وبداهة الرأي أن نرجع إلى ما شرع فاطر الأرض وواهب الحياة ومنزل الوحي، بعد أن عجز الذين طاولوه في ملكه من دهاقين الحكم واساطين العلم عن قسم رزقه بين أشتات خلقه. وما كان لبشر سليم الفطرة ليرتاب في أن الذي برأ الخلق على اختلاف في القدرة والحيلة، وأنشأ الغرائز على اتفاق في الطمع والغيلة، هو أعلم بما سينشأ في كونه من تصادم القوى وتعارض الأهواء؛ فلا جرم أن يكون شرعه دستوراً كاملاً تصلح عليه شؤون الفرد وأحول الجماعة من كل جنس وفي كل عصر وعلى كل أرض
ولقد كانت إدامتي النظر والفكر مدى هذه السنين الأربع في مصادر الإسلام الصافية مصداقاً لهذه الفكرة؛ فإن غير الله لا يملك أن يضع في الإسلام هذه الأسس والقواعد التي تضمن نظام العالم وسلامه. وهل كان - لولا وحي الله - في مقدور رجل أمي نشأ ربيب اليتم والعدم في قرية جاهلة من قرى الحجاز الجديب أن يعلن في أوائل القرن السابع حقوق الإنسان وحرياته، وهي التي أعلنت بعضها بالأمس فرنسا نتيجة لتلك الثورة، وتمنت بعضها اليوم أمريكا غاية لهذه الحرب؟!
عبقرية الإسلام هي ذلك الإشراق الإلهي الذي انبثق من غار حراء فكشف للرسول عن أطوار النفس البشرية في طوايا الغيب فدعا دعوته الخالدة إلى تكريم الإنسان وتنظيم العمران وتعميم الخير وتحقيق السعادة، من طريق التوحيد، والمؤاخاة، والمساواة، والحرية، والسلام. فالتوحيد سبيل القوة، والمؤاخاة سبيل التعاون، والمساواة سبيل العدل، والحرية سبيل الكرامة، والسلام سبيل الرخاء. وتلك هي الغايات التي ترجو الإنسانية بلوغها عن طريق العلم والمدنية فلا تتكشف أماليها بعد طول السري وفرط اللغوب إلا عن سحاب خلب وسراب خادع
هذه المبادئ المثالية التي تضمنتها دعوة الإسلام معلومة من القرآن بالنصوص الصريحة، فلا موضع فيها لتأويل أو تحميل أرتعسف. فالتوحيد ركن من أركان الدين وعنوان من عناوينه وهو من الكلم الجوامع التي وعت جوهر الإصلاح وسر النجاح لكل مجتمع وأمة.(550/1)
هو توحيد الله، وتوحيد العقيدة، وتوحيد الغاية، وتوحيد اللغة، وتوحيد الحكم، وتوحيد التشريع، وتوحيد الدين والدنيا. وشواهد التوحيد في أشتات معانيه مذكورة في كتاب الله لا يختلف في مدلولها أحد
وفكرة الوحدة الإنسانية هي مزية الدعوة المحمدية على كل دعوة. وفي سبيلها صدق الإسلام بكل دين أنزل، وبكل نبي أرسل، ودعا الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً إلى خطة واحدة وكلمة سواء. ثم وصل الدين بالدنيا، وكانت اليهودية والنصرانية تفصل بينهما؛ فالأولى كان همها الصفق والاجتراح، والأخرى كان سبيلها الرهبانية والتنسك. ولكن الإسلام جعل الدين للدنيا كالروح للجسد، فلا تعمل إلا بوحيه، ولا تسير إلا بهديه. ثم آخى بين المؤمنين ليجتمعوا على صدق المودة، ويتعاونوا على لأواء العيش، فلا يبغي قوي، ولا يبخل غني، ولا يظلم متسلط. بدأ ذلك بالتأليف بين الأوس والخزرج، والمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين؛ ثم توثقت عرى الإخاء بين المجاهدين في سبيل الله حتى صار المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأصبح هؤلاء الإخوان القلال الضعاف في بضع سنين أئمة للناس وورثة لكسرى وقيصر!
كذلك في سبيل الوحدة الإنسانية والأخوة الإسلامية فرض الإسلام الزكاة، وشرع الحج، وأمر بالإحسان والبر، ثم سوى بين الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في الحقوق والواجبات، بمحو العصبية الوطنية، وقتل النعرة الجنسية، وجعل التقديم والتكريم للتقوى، فقال الرسول الكريم في خطبة الوداع: (إن ربكم واحد، وأن أباكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)
في هذه الأصول الإسلامية كما ترى أفضل ما في الديمقراطية، وأعدل ما في الاشتراكية، وأجمل ما في المدنية، فهي حرية أن تصلح ما فسد من أمور الناس، وتقيم ما اعوج من نظام الدنيا. ولقد كانت كذلك يوم كان لحماتها دولة ولدعاتها صوت ولمعتقديها يقين. فلما دالت الدولة، وخشع الصوت، وأراب اليقين، تمزق المسلمون قطعاناً في فدافد الأرض لا مرعى يجود، ولا راع يذود، ولا حظيرة تؤوي. ثم كانوا بتخلفهم عن ركب الحياة حجة على الإسلام في رأي السفهاء من مرضى الهوى أو الجهل، فصموا عن دعائه، وعموا عن ضيائه. فليت شعري متى يتاح لدعوة محمد من يجدد حبلها، وينشر فضلها، ويقول لأولئك(550/2)
الذين يحاولون أن يرفعوا قواعد العالم على أساس جديد: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)
احمد حسن الزيات(550/3)
الروحانية بين الأنبياء الثلاثة
للأستاذ عباس محمود العقاد
الأديان الثلاثة: الإسرائيلية والمسيحية والإسلام، ظهرت كلها بين السلالات السامية وكان أنبياؤها جميعاً من الساميين
والإجماع منعقد على هذا بين المؤرخين كافة، نعني انتساب موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام إلى هذه السلالة، يشذ عنهم (فرويد) العالم النفساني الإسرائيلي المشهور، فهو ينسب موسى إلى الجنس المصري القديم. وبعض الباحثين يقولون إن الجنس المصري القديم منحدر من الأصول الأوربية
ويشذ عنهم في أمر المسيح أولئك الدعاة الجرمانيون الذين يعتسفون الأنساب لكل عظيم فيردونه إلى الأصل الجرماني أو السلالة الآرية على التعميم. فهؤلاء الدعاة يزعمون أن صفات المسيح المتواترة أقرب إلى الملامح الآرية الشمالية، وينظرون من جهة أخرى إلى الملامح الفكرية أو الأدبية فيزعمون أن الروحانية التي تظهر في أقوال السيد المسيح أكبر وأرفع من طاقة (السلالة السامية) التي يحسبونها مقصورة على الماديات الملموسة والمطالب الأرضية القريبة
وكلا القولين - قول فرويد وقول الدعاة الجرمانيين - لا يؤيده دليل قاطع ولا يتعدى الأخذ بالظنون
فمن المستبعد أن يكون موسى مصرياً ثم تجتمع له زعامة الإسرائيليين من جميع القبائل والبطون في الديار المصرية؛ ومن السخف أن يكون المسيح (آريا) تطبيقاً لقاعدة يخترعها دعاة الجرمانية، ثم يسندونها بالظنون ويعودون فيسندون الظنون بتلك القاعدة المخترعة
وعلى هذا يصح أن ينعقد الإجماع - كأصح ما انعقد في مسألة من المسائل - على أن البيئة السامية هي البيئة التي ظهرت فيها الأديان الثلاثة، وأن موسى وعيسى ومحمداً جميعاً من سلالات الساميين
ألهذه المزية الجنسية دلالة عامة! وهل نشأت الأديان الكبرى الثلاثة بين أبناء الجنس السامي لسبب عنصري يخص هذه السلالة، أو لسبب نفساني يرجع إلى طبيعة العقيدة الدينية؟(550/4)
تكلم في ذلك المتكلمون فأثبتوا وأنكروا كما يحبون أو يكرهون. فمن قائل إن العقل السامي بفطرته مستعد للاعتقاد غير مستعد للتفكير أو الخلق الفني والنظرات الفلسفية المجردة؛ ومن قائل إن العقيدة الدينية نفسها طور من أطوار الزعامة العنصرية التي تطور فيها الساميون إلى مداها الأقصى، قبل أن يخرج الآريون الشماليون من نظام القبيلة الأولى
ولا يتسع المقام للتقصي في أقوال المثبتين والمنكرين، فحسبنا أن نقف في أول الطريق على بر الأمان، فنقول إن العقائد الدينية ظهرت في السلالات السامية يوم كانت تظهر فيهم جميع المعارف الكونية والنهضات الثقافية، فلا محل لتخصيص الأديان هنا بالعنصر السامي أو اتخاذ هذه الخاصة دليلاً عنصرياً من تلك الأدلة الكثيرة التي تختلط بالعصبيات
كانت الدول الكبرى كلها قائمة في الرقعة الغربية من القارة الآسيوية، وهي الرقعة التي أقام فيها الساميون منذ مئات الأجيال. فشاعت المعارف الكونية من هذا الوطن القديم، ولم ينحصر الأمر يومئذ في ظهور العقائد دون غيرها من النهضات أو الفتوح في عالم الروح
نحن لا ننكر الفوارق العنصرية ولا نستخف بآثارها في اختلاف الأمزجة والأخلاق وتباين المشارب والميول، ولكننا لا نحب أن نعزو إلى الفوارق العنصرية إلا الذي يثبت ثبوتاً قوياً أنه راجع إليها. فلا نقول إن (العقائد) سليقة سامية إلا إذا تبين أن الآريين بمعزل عن العقائد، وأن الساميين لا يمتازون بغيرها، وأن المسألة محصورة فيهم على مدى العصور وليست مسألة عصر ومناسبة زمانية أو مكانية
كذلك نرجع إلى الروحانية بين الأديان الثلاثة فلا نجعل العنصرية حكما فيها قبل أن نستنفد العوامل الأخرى جميعاً، وإن جاز أن يذكر الاستعداد العنصري بين عوامل شتى يحسب لها حسابها في هذا الموضوع
فالذي يقال مثلاً إن السيد المسيح عليه السلام كان صاحب دعوة روحانية لا تشتغل بشئون الدنيا ولا بالمطالب العملية التي تحتاج إلى وضع النظم وفرض الشرائع، وأن علة ذلك في رأي بعض الباحثين أن المسيحية تشابه العقائد الآرية التي جعلت الدين للروح والضمير ولم تجعله لمطالب الجسد أو مطالب الحياة الاجتماعية والنظم السياسية
وهذا الذي يقع فيه الخلاف الكثير
فاهتمام السيد المسيح عليه السلام بالجانب الروحي من الدين لم يصرفه أولاً عن الجوانب(550/5)
الأخرى التي تناولتها سائر الأديان، ولم يكن لفارق عنصري بين الذين خوطبوا بالدعوة المسيحية والذين خوطبوا بالدعوة الإسلامية أو الدعوة الموسوية
واهتمام السيد المسيح بالجانب الروحي ليس معناه - من الوجهة الأخرى - أن هذا الجانب لم ينل حظه من الاهتمام في دعوة محمد أو دعوة موسى عليهما السلام؛ وإنما معناه أنه جانب من الجوانب الكثيرة التي عني بها الإسلام خاصة، وكان لها سهم في العناية من وصايا الأنبياء الذين ظهروا في بني إسرائيل
وقبل أن نحصر الأمر في علة (الاستعداد العنصري) نعود إلى العلل المختلفة فنسأل: ألم تكن هنالك علل أخرى جعلت رسالة السيد المسيح أقرب إلى الروحانيات منها إلى العمليات والشئون الدنيوية؟
فإذا سألنا هذا السؤال لم نستطيع أن نقول إن السامية أو الآرية هما الحد الفاصل في هذا الموضوع
فقد كانت هنالك علل كثيرة خليقة أن تقصر الدعوة المسيحية الأولى على مواعظها الأخلاقية التي أوشكت أن تقتصر عليها
فمن تلك العلل أن بني إسرائيل كانوا أصحاب شريعة دينية مفصلة في شؤون الحقوق والمعاملات قبل أن تتجه إليهم دعوة السيد المسيح، وكانت آداب القائمين على تلك الشريعة هي موضع العهدة أو موضع الحاجة إلى الإصلاح، فلا جرم تتجه إليهم الدعوة من هذه الناحية ولا تتجه من ناحية التشريع المفصل في شئون الحكم وشئون المعيشة، بل كان من قول السيد المسيح الصريح أنه لا ينقض الناموس ولكنه يثبته ويزكيه
ومن تلك العلل أن السيد المسيح ظهر في بلاد يحكمها الرومان ويتولى إدارتها أولئك القوم الذين اشتهروا بالنظم والشرائع وتبويب الأوامر والقوانين، وما لم تكن الدعوة المسيحية ثورة سياسية معززة بقوة الجند والسلاح فلا سبيل في بدايتها إلى تفصيل الشرائع وانتزاع سلطان الحكم من أيدي القابضين عليه، وإنما السبيل لأوحد أن تنصلح الأخلاق والضمائر بالعظة والهداية الروحية على السنة التي اختارها السيد المسيح ويختارها في مكانه كل داع إلى دين جديد يتذرع إلى دعوته بالإقناع لا بالسلاح والصراع
فهذه العلة كافية لتعليل الصبغة الروحانية التي غلبت على المسيحية، وإنها لأقرب إلى(550/6)
تعليلها من الرأي القائل باقتباس المسيحية من العقائد الهندية أو الآرية في جملتها، لأن هذا الرأي يلجئنا إلى إقامة فاصل بين ساميين وساميين، ولا يبطل الاعتراض الذي يرد في هذا الصدد حين يسأل السائل: وماذا كانت الدعوة المسيحية صانعة إذا هي فرضت الشرائع بغير حكومة وبغير ثورة مسلحة وبغير موافقة من أصحاب الأمر بين الرومان أو بني إسرائيل؟
أما الإسلام فلم يكن معقولاً أن ينحصر في المواعظ الروحانية دون غيرها، لأن العرب لم يدينوا بشريعة عامة مفصلة قبل الإسلام تغنيهم عن تشريع جديد، ولأن الإسلام قد تولى الحكم كما تولى الهداية النفسية، فلا مناص هنا من إقامة الحدود وبيان الحقوق وتقرير الحكم في كل شأن من شئون المعيشة تتولاه الحكومات
وكذلك موسى عليه السلام في قيادته للقبائل الإسرائيلية، لأنه كان في مقام الزعيم الذي يسوس تلك القبائل بالشرائع المرعية في زمانه والشرائع التي اقتضاها خروجه من ديار مصر إلى ديار كان فيها لبني إسرائيل موطن قديم. فاهتم بتسجيل الشرائع المصرية والإسرائيلية والموسوية، واهتم إلى جانب ذلك بمصالح قومه، لأن العمل الأكبر الذي تصدى له إنما هو إنقاذ إخوانه في العنصر والعقيدة، فهو عمل (وطني) مقدم في زمانه على الوصايا الإنسانية العامة التي تشمل الأمم كلها كما تشملها كل نصيحة أخلاقية أو موعظة روحية
وهذه العلة كافية أيضاً لتعليل الصبغة العملية التي غلبت على الدعوة الموسوية فأصبحت شيئاً غير المسيحية في الروحانية أو البشارة الإنسانية التي تخاطب جميع الأمم كما تخاطب بني إسرائيل. ولا حاجة في هذا المقام إلى التفريق بين ساميين وآريين، أو التفريق بين طائفة من السلالة السامية وطائفة أخرى، إذ لو كان موسى آرياً وكان أبناء إسرائيل آريين لما سلك غير مسلكه معهم في شئون التشريع والمصالح الوطنية أو المصالح العنصرية
ونعود فنقول إننا لا ننكر الفوارق بين العناصر والأقوام، ولكننا ننكر الفوارق التي يفرضها بعض الباحثين المتعسفين بغير دليل ولا قرينة راجحة، ونحب أن نقيم البحث في أسرار العقائد وأسرار نجاحها في زمانها ومكانها على العلل الكونية التي جرى عليها نظام(550/7)
الوجود، لأن الأسرار الإلهية التي توحي بها الأديان لن تناقض المعقول من سنن الكون وفطرة الأشياء.
عباس محمود العقاد(550/8)
فقه عمر
للأستاذ محمود شلتوت
(عمر بن الخطاب هو أول من كتب التاريخ بالهجرة، فأحيا
بذلك مجدها، وخلد على الزمان ذكرها، فحق على الذين
يحتفلون بهذا العيد أن يذكروا عمر!)
للرسالة المحمدية جانبان: جانب التلقي عن الله رب العالمين، وهو خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد من أمته، وجانب الفهم والبيان، والدعوة والإرشاد، والعمل على توسيع نطاق الإسلام ومد رواقه، وتنظيم الشئون بأحكامها، وإلى هذا الجانب ترجع عزة الإسلام وبقاؤه على الدهر فتياً لا تزعزعه العواصف ولا تنال منه الأحداث. ويشارك الرسول من أمته في هذا الجانب من آتاه الله العلم والحكمة، وقذف في قلبه النور والهداية، وكشف له عن سر تشريعه، وبصره بمواقع الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، ووهبه غيرة تحمله على الجهاد في ذلك كله، وعلى الصدق والإخلاص في هذا الجهاد!
وإذا كانت عزة الإسلام ترجع إلى الجانب الثاني، وإلى قيمة ما يتصل به من جهود موفقة مخلصة صادرة عن الإيمان واليقين، فإن من يقرأ سيرة عمر، ويقف على جهاد عمر، ويعرف مواقفه المجيدة أثناء خلافته وقبلها، وأفكاره السديدة في حياة الرسول وبعدها، يدرك بوضوح: لماذا كان عمر على رأس الذين أعز الله بهم شريعة الإسلام، وركز أصوله، وأرسى قواعده، كما كان على رأس الذين أعلى بهم كلمته، وأعز سلطانه، ووسع ملكه، ويدرك سر هذه الدعوة النبوية التي توجه بها محمد صلى الله عليه وسلم إلى ربه حين أنكره الناس، وتألبوا عليه، وتحالفوا على الكيد له ولرسالته: (اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك) وقد ضمن الله لنبيه إعزاز دينه، ونصرة شريعته، فأجاب دعوته وهدى أحب الرجلين إليه، فكان إسلام عمر تنفيذاً للإرادة الإلهية، وتحقيقاً للدعوة النبوية، وكان إعزازاً لدين الله برجل العزة والسلطان، ونصراً لشريعة الله برجل الفهم والبيان!
لعمر رضي الله عنه نواح كثيرة: فهو رجل حرب وجلاد، ورجل حكم وسلطان، ورجل تقى وإيمان، ورجل عدل ونصفة، ورجل إشراق ونور، ورجل فقه وقانون، ولسنا(550/9)
بمستطيعين في مثل هذا المقال أن نلم بشواهد تلك النواحي من عظمة عمر، فحسبنا أن نلم ببعض تلك الشواهد في ناحيته الفقهية التي هي أبرز نواحيه، وأخص ميزاته، فقد كان عمر في هذه الناحية نسيج وحده: شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفها فيه أصحابه رضي الله عنهم:
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) وقال: (بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب) قيل: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم!
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن عمر كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله) (ولو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم. ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم!)
وقد سئلت عنه عائشة فقالت: (كان والله أحوذياً نسيج وحده)
لم يكن فقه عمر من هذا النوع الذي أودعه الناس بطون الكتب. لم يكن من هذا النوع الذي تجلت فيه روح العصبية الحادة، ولوته الاتجاهات الطائفية، والنزعات المذهبية، لم يكن من النوع الذي جافى الحياة الواقعية في كثير من صوره ومسائله، ولا من النوع الغامض الذي التوت مسالكه، وتعقدت أساليبه، فصار بعيد المنال على من يريده أو يلتمس الانتفاع به من غير أهله. لم يكن من هذه الأنواع التي زعم الناس أنها فقه، بل التي اغتصبوا لها كلمة الفقه لتدل عليها، وإنما كان فقهاً ناصعاً واضحاً صافياً تستريح إليه النفوس، وتطمئن إليه القلوب، وتقضي به روح هذه الشريعة السمحة!
إن الفقه هو الفهم والفطنة والإدراك لما يريده الله تحقيقاً لمصالح عباده، وتنظيماً لشئونهم، وتيسيراً عليهم، وإسعاداً لهم برغد العيش وطيبات الحياة
هذا هو الفقه، هذا هو فقه عمر!
كان أساس الفقه عنده هو المصلحة، يقدرها قلب امتلأ بالإيمان والإخلاص، ويزنها عقل راجح منصف لا يميل به الهوى، ولا يفسده الغرض؛ ذلك بأنه رأى الكتاب الكريم يعلل الأحكام بالمصالح، ويربط بينهما وجوداً وعدماً، وبقاء وانتهاء، وأدرك ذلك في جميع تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم(550/10)
وقد ظهرت أثار هذا الفقه من عمر في صنفين من الحوادث:
أحدهما: الحوادث التي كانت تنزل بالناس وليس فيها وحي يتبع، فيقول الناس فيها ويقول عمر، فينزل القرآن على نحو ما قال، فكأنما ألهم به إلهاماً، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر)
وقد ذكر العلماء الوقائع التي وافق فيها الوحي رأي عمر، وأوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين، نذكر منها على سبيل المثال والتطبيق رأيه في أسرى بدر، ورأيه في الحجاب، ورأيه في الصلاة على من مات من المنافقين
فأما رأيه في أسرى بدر فإنه لما تم النصر للمسلمين في هذه الغزوة، ووقع كثير من المشركين أسرى في أيديهم، عرض النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم على أصحابه، فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار وعسى الله أن يهديهم للإسلام. وقال عمر: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة) ثم ضرب إبراهيم وعيسى مثلاً لأبي بكر، وضرب نوحاً وموسى مثلاً لعمر، وأخذ برأي أبي بكر فحكم بالفداء، فأنزل الله قوله: (ما كان لنبي أيكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)
قررت الآية رأي عمر، ونعت عليهم فكرة الفداء مبينة أن سنة الأنبياء الداعين إلى الله، المنشئين للأمم، ألا يأخذوا الأسرى طلباً للفداء إلا بعد أن يكونوا قد أثخنوا في الأرض، وظهرت لهم القوة والغلبة على أعدائهم، وتمكنوا من إبادة جراثيم الشر والعدوان التي من شأنها أن تقف دون نجاح الدعوة وتكوين الدولة. ولا ريب أن هذا هو الفقه الذي يرمي إليه عمر بقوله (إن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) وإنه لخير للمجاهدين قبل أن يتمكنوا من خصومهم أن تجرد نفوسهم من كل غرض مادي، وأن تملأ قلوبهم بالروح المعنوية التي تحملهم على بذل النفس والتضحية بها في سبيل الله ابتغاء لما عنده وإيثاواً لعقبي الدار
ولذلك نهى عن الفداء أولاً، ثم شرع أخيراً بعد أن استقرت دولة المسلمين، وقويت شوكتهم(550/11)
وأما رأيه في الحجاب فأنه يؤخذ من كثير من الروايات أن عمر كان شديد التطلع إلى أن يحتجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم تمييزاً لهن عن سائر النساء، وحفظاً لجلال الرسالة وتوفيراً للهدوء النفسي على النبي صلى الله عليه وسلم، وإبعاداً لأسباب الأذى عنه، فكان يقول: (لو كنت أطاع فيكن لما رأتكن عين) ويقول (يا رسول الله: لو اتخذت حجاباً، فإن نساء لسن كسائر النساء)
فنزل القرآن في ذلك تقريراً لما أشار به عمر، وتأييداً لفقهه الذي بني عليه (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
(إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق) (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)
وأما الصلاة على من مات منافقاً، فقد روى كثير من المحدثين عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: (لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فلما أراد الصلاة قلت: أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا، ورسول الله يبتسم، حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عني إني قد خيرت، ثم صلى عليه ومشى حتى قام على قبره، قال عمر فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فقد وجهت الآية منع الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم بمثل ما وجه به عمر رأيه: قالت (إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) وقال عمر (أتصلي على عدو الله القائل كذا وكذا؟)
والصنف الثاني من الحوادث التي تجلى فيها فقه عمر، هو الحوادث التي عرف فيها حكم، واتخذت صورة عملية بين المسلمين، وقد كان عمر يغلب في هذا الجانب أيضاً روح الشريعة وعدالتها وتقديرها للمصالح على الصور التي عرفها الناس من قبل، وكما حفظ له العلماء موافقاته حفظوا له كثيراً من هذه المسائل التي كان له فيها رأي غير ما كان معروفاً، واتخذ رأيه صورة عملية أقرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقة منهم بفقهه وعدالته، وأنه لم يحد قيد شعرة عن الحق(550/12)
وحسبنا اليوم لضيق المجال أن نشير إلى رأيه في المؤلفة قلوبهم، وفي صلاة التروايح، وفي الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وفي توزيع العطاء، وفي الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة، وفي متعة الحج ومتعة النكاح، وفي حد شارب الخمر، وفي السرقة عام المجاعة، وفي قتل الجماعة بالواحد، ونحو ذلك من المسائل التي تدل على أن عمر كان فقيهاً بروحه وطبعه، وعلى أن فقهه كان مبنياً على إدراك المصالح التي انبنى عليها التشريع، وأرشد إليها القرآن الكريم، حيث يقول (والله يعلم المفسد من المصلح) (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) إلى غير ذلك من الآيات
أما بعد: فإذا كان هذا المبدأ قد عمل به عمر، ونزل به الكتاب، وأيده الرسول ورضى به الأصحاب، فجدير بالعلماء أن يجعلوه مبدأهم، وأن يبنوا عليه فقههم، فذلك أجدى عليهم وأدعى إلى أن يتقبله الناس عنهم، وأقوى أن يدفعوا به في صدور أعداء الفقه الإسلامي، وأجمع لكلمة المسلمين، وأنفى لهذا التفرق المذهبي الذي جعلنا شيعاً وأحزاباً ونزع هيبتنا من صدور أعدائنا. أسأل الله الكريم أن يهدينا إلى الصواب، ويبصرنا بالرشاد، ويجمع على الحق كلمتنا إنه سميع مجيب.
محمود شلتوت(550/13)
عظة العيد وعبرة الذكرى
لصاحب العزة الأستاذ أنطون الجميل بك. .
إذا كانت (الهجرة النبوية) من (مكة) إلى (يثرب) قطب الدائرة في انتشار الرسالة المحمدية واستطارة الدعوة إليها من المشرق إلى المغرب في حقبة قصيرة من الزمن، فإنها إلى جانب هذا حادثة من أعظم حوادث التاريخ وأبلغها أثراً في تغيير اتجاهات الإنسانية. وقد صار يوم الهجرة أو التاريخ الهجري بداية تاريخ جديد إلى جانب تاريخ الخليقة والتاريخ الميلادي. فلا بدع أن ينصرف الباحثون والمنقبون من جميع الأمم منذ ثلاثة عشر قرنا، إلى درس ذلك اليوم التاريخي، فيتناولوا بالبحث والتحليل ما سبقه من المقدمات، وما صاحبه من الحوادث، وما أعقبه من النتائج، حتى أنه ليخيل أنه لم يبق من زيادة لمستزيد.
ولكن الحوادث الكبرى في تاريخ البشرية كنز عبر لا يفنى، ومعين فوائد لا ينضب، يرجع المرء إليها كلما تعقدت حوادث حاضره، والتبس عليه مصيره في مستقبله.
والشرق اليوم، في صبره على الحاضر وانتظاره المستقبل، أحوج ما يكون إلى استخلاص الفوائد والعبر من عظائم الحوادث الغابرة. والإنسان أمام المستقبل المجهول يبحث في الماضي عن قبس ينير له الطريق: فالسياسي يعود إلى السوابق، والقانوني يرجع إلى العرف والتقاليد، والاجتماعي يذهب منقباً في ثنايا التاريخ.
أما العبرة التي نحتاج إليها من هذه الذكرى في حاضرنا فهي ما اكتنف الهجرة من اضطهاد؛ وأما الفائدة التي ينبغي أن نستخلصها لمستقبلنا فهي ما قضت به على ذلك المهاجر المقدام من تضحية. فنفهم حينئذ حق الفهم أن كل دعوة تقوم على يقين صادق وإيمان راسخ لا يستطيع أحد أن ينال منها. فهي كالحرية: كل ما يصنع ضدها يعود بالخير عليها. والإرادة الثابتة لا غالب لها، فهي تتخذ من كل ما يقوم في وجهها من العقبات درجات ترتقيها إلى هدفها الأسمى.
فالالتجاء إلى الهجرة انتهى بتآلف المهاجرين والأنصار، والعودة إلى الديار تحت رايات الانتصار
والاضطرار إلى الاختباء في ظلمات (الغار)، مهد الظهور في وضح النهار
ومن السكون الموحش الذي خيم في تلك الليلة الليلاء، انطلق ذلك الصوت المدوي في(550/14)
جميع الأرجاء.
كل فكرة لا تضطهد لا تعيش. وكل دعوة لا تقاوم لا تقوم على أساس. وكل صاحب رسالة لا يضحي في سبيلها بأعز ما لديه يفشل وينكص على الأعقاب.
تاريخ الأنبياء والرسل شاهد على ما تقول. بل هذا تاريخ أبطال العالم وعظمائه يدل من الوجهة الإنسانية البحتة على أن الفكرة الكبيرة تحتاج إلى مقاومة، وإلى اضطهاد، وإلى تضحية، لترسخ وتقوى وتنتشر، كالشجرة تعمل فيها الفأس قطعاً فتزداد نمواً، أو كالأرض لا تخرج أحشاؤها خيراتها إلا إذا ذهب المحراث فيها شقاً.
وفي الشرق اليوم (فكرة) تجتمع حولها أماني الأفراد، وتتلاقى نزعات الجماعات - في السياسة وفي الاقتصاد وفي الثقافة. إذا كان المقام لا يتسع للتفصيل، وإذا كانت صبغة هذه الصحيفة الغراء لا تسمح بالتصريح، فإننا لا نتعدى النطاق المرسوم إذا قلنا إن هذه (الفكرة) تلاقي مقاومة من أهوائنا وغاياتنا المتنازعة في الداخل، ومن المطامع والمصالح المتضاربة في الخارج. وهذه المقاومة نفسها كفيلة بتحقيق هذه الفكرة في يوم يقاس قربه أو بعده بمقياس استعدادنا للتضحية في سبيلها.
فيا رجال السياسة والاقتصاد، ويا رجال القانون والاجتماع، أيها المهيمنون على مقدرات هذا الشرق، المسؤولون عن مصايره، اتخذوا اليوم من ذكرى هذا الحادث التاريخي العظيم - التي يحتفل بها مئات الملايين من المسلمين ويشاركهم فيها مواطنوهم من سائر المذاهب - اتخذوا لنا ولكم من هذه الذكرى عظة، ومن هذا العيد عبرة!
أنطون الجميل(550/15)
بركه خان
أول مسلم من ملوك التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
انقسمت مملكة جنكيز خان بين بنيه الأربعة: جوجي وجقتاي وأوكتاي وتولوي، وذرياتهم. تسلط تولوي أصغر أبنائه على مغولستان الشرقية، فورث ملك أبيه في مملكته الأصيلة.
وكان من أولاده الذي فتحوا إيران والعراق، وأزالوا الخلافة العباسية من بغداد. وتولى أوكتاي على جونغاريا في أواسط آسيا. وماك جغتاي فيما وراء النهر. وحكم بنو جوجي وهو أكبر بني جنكيز في صحراء القفجاق (دشت قبجاق) وما يجاورها.
- 2 -
وكان جنكيز أعطى ابنه الأكبر جوجي الأرض التي شمالي نهر سيحون حيث قامت من قبل مملكة قراختاي، ولكن جوجي سار صوب الغرب فاتحاً ثم خالف على أبيه، ومات في حياة والده، فورث ملكه ابنه الأكبر أوردا
وكان لجوجي أربعة أبناء آخرين: باتو وتوقاتيمور وشيبان ونوغاي، تولوا هم وذرياتهم الملك في شرقي أوربا، صحراء القفجاق وما يتصل بها كما تقدم، وقد دام الملك في شعبة منهم حكمت في القريم حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري (1783م). وفي شعبة أخرى ملكت في بخارى وخيوه إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)
وكان أعظمهم شأنا وأوسعهم سلطانا باتو وذريته؛ ودام الملك لهم زهاء قرن ونصف (612 - 760 ق). وكانت دار ملكهم مدينة سراي على نهر إتل (نهر الفلجا)
- 3 -
توفى باتو سنة 653 فخلفه ابنه سرتاق سنة واحدة، ثم تولى بركة (بركاي) عشر سنين بين سنتي 654و664 بركاي حفيد جنكيز وسليل هؤلاء المغول الذي دمروا الحضارة الإسلامية، دخل في أخوة الإسلام، وصار من بناة الحضارة الإسلامية، وحماة علمائها، فلم يعرف بعد باسم بركاي، ولكنه صار (أبا المعالي ناصر الدين بركة خان)، وحالف المسلمين(550/16)
ولاسيما ملوك مصر على ابن عمه هلاكو ليرد عدوانه عن المسلمين، ويكف يده عن تدمير حضارتهم.
كان إسلامه من بركات الشيخ نجم الدين كبرى الصوفي المعروف؛ فقد بث دعاته في الأقطار للدعوة إلى الإسلام. وكان من تلاميذه الشيخ سيف الدين الباخرزي فأرسله إلى بخارى وأرسل سيف الدين أحد تلاميذه إلى بركاي فدعاه إلى الإسلام، وبين له عقائده وشرائعه، فاستجاب له وأسلم، ثم ذهب إلى الشيخ الباخرزي، فأكرمه وأجله وجدد إسلامه ورجع إلى دار ملكه يدعو إلى الإسلام، ويعظم شعائره، ويبر علماءه، فأسلمت زوجه ججك خاتون واتخذت مسجداً من الخيام يحمل معها إن سارت
وكاتب ناصر الدين بركة الخليفة المستعصم وبايعه وأرسل إليه الهدايا. يقول ابن عربشاه وهو عليم بأحوال بركة وأمور مملكته؛ أقام في مدينة سراي دار الملك سنين وتزوج بها وولد له فيها أولاد:
(ولما تشرف بركة خان بخلعة الإسلام، ورفع في أطراف الدشت للدين الحنيفي الأعلام، استدعى العلماء من الأطراف والمشايخ من الآفاق والأكنان، ليوقفوا الناس على معالم دينهم، ويبصروهم بطريق توحيدهم ويقينهم. وبذل على ذلك الرغبات، وأفاض على الوافدين منهم بحار الهبات، وأقام حرمة العلم والعلماء، وعظم شعائر الله وشعائر الأنبياء. وكان عنده في ذلك الزمان وعند أوزبك خان بعده وجاني بك خان، مولانا قطب الدين العلامة الرازي، والشيخ سعد الدين التفتازاني، والشيخ جلال الدين شارح الحاجبية، وغيرهم من الفضلاء الحنفية والشافعية، ثم من بعدهم مولانا حافظ الدين البزازي ومولانا أحمد الخجندي رحمهم الله تعالى. فصارت سراي بواسطة هؤلاء السادات، مجمع العلم ومعدن السعادات، واجتمع فيها من العلماء والفضلاء، والأدباء والظرفاء، ومن كل صاحب فضيلة، وخصلة نبيلة جميلة ما لم يجتمع في سواها، ولا في جامع مصر ولا قراها)
ويقول ابن بطوطة عن مدينة سراي: (وفيها ثلاثة عشر مسجداً لإقامة الجمعة أحدها للشافعية. وأما المساجد سوى ذلك فكثيرة جداً.)
أسلم بركة فشملته أخوة الإسلام الجامعة، وهدته سننه الرشيدة، وتبنته الحضارة العظيمة التي اجتمعت عليها عقول المسلمين وأيديهم منذ قرون. وتقطعت الأسباب بينه وبين قرابته(550/17)
من المغول، وانفصمت بينه وبينهم الأواصر، ووقعت العدواة بينه وبين ابن عمه هلاكو، وثارت الحرب بينهما. فأمر بركة جنده الذين كانوا في جيوش ابن عمه أن يخذلوه ويرجعوا فإن لم يستطيعوا فليتوجهوا تلقاء الشام ومصر ليعينوا الملك الظاهر بيبرس على هلاكو. فانظر إلى أمراء المغول الذين شاركوا في تدمير البلاد الإسلامية، وقاتلوا المصريين في عين جالوت وغيرها، يقودهم الإسلام إلى مصر نجدة للمسلمين على حرب هلاكو وأشياعه
بلغ أمراء بركة دمشق في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ستين وستمائة، وهم زهاء مائة معهم نساؤهم وأولادهم، وأخبروا بانتصار بركة على هلاكو فشاعت البشرى في الشام ومصر، وسر الملك الظاهر بقدومهم، وكتب إلى نوابه في الشام فأكرموا وفادتهم وأرسل إليهم الأقوات والخلع. ثم ساروا إلى مصر، فبلغوا القاهرة يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة، وخرج السلطان للقائهم يوم السبت، وخرج أهل القاهرة والفسطاط لرؤيتهم، واحتفوا بهم حفاوة عظيمة، وانزلوا في دور بنيت لهم في اللوق، وأرسل إليهم السلطان الأموال والخيل والخلع ولعب معهم الكرة وأمر أكابرهم على مائة فارس. وأسلموا وحسن إسلامهم. ولما بلغ التتار ما نال هؤلاء من الكرامة في مصر وفدوا جماعة بعد أخرى. وقدم البريد من حلب في ذي القعدة سنة إحدى وستين بأن جماعة من التتار يزيد عددهم على الألف ومعهم ثلاثمائة فارس من المغل قادمون إلى مصر؛ فأمر السلطان بالحفاوة بهم، ثم استقبلهم حين قدموا كما استقبل إخوانهم من قبل ولحقت بهؤلاء جماعات أخر
وتوالت الرسائل بين الملك الظاهر بييرس وبين الملك بركة خان وحرضه الظاهر على جهاد هلاكو ومحاربة التتار ولو كانوا أهله (فأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل عشيرته الأقربين وجاهد قريشاً، وليس الإسلام قولاً باللسان، والجهاد أحد ما له من الأركان)
كذلك سبق بنو باتر إلى الإسلام وشرع الدين الحنيف يفتح قلوب التتار، ويدخلهم في اخوته وينظمهم في جماعته ويطبعهم بحضارته. وهزم بالدعوة الظافرين بالسيف، وغلب في السلم الغالبين في الحرب، ولم تستعص قسوة التتار على هدى الإسلام ولا كبرياؤهم على عزته، ولا عداوتهم على مودته، ولا إفسادهم على إصلاحه، ولا تخريبهم على تعميره. وإنها لآية من آيات هذا الدين، وحجة على من زعم أن الناس دخلوا في الإسلام كارهين(550/18)
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(550/19)
هزيمة الشيطان
للأستاذ علي محمود طه
ألاَ ما لهذا الليلِ تَدْجَي جوانُبهُ ... على شفَقٍ دامِ تَلَظّى ذوائبَهْ!؟
وما ذلك الظَّلُّ المَخُوفُ بأُفِقِه ... يُطِلُّ فترتَدُّ ارتياعاً كواكبُهْ!؟
أَأَيتها الأرضُ انظري، وَيْكِ! واسمعي! ... توثَّبَ فيك الشُر حُمْراً مخالبهْ
أرى فتنةً حمراء يلفظُها الثَرى ... دُخاَناً تُغَشِّى الكائناتِ سحائبهْ
وأشتمُّ من أنفاسها حَرَّ هَبْوَةِ ... كأنَّ هجيَر الصيف يلفحُ حاصبهْ
أرى قبضةَ الشيطان تستلُّ صارماً ... توَهَّجُ شوقاً للدماء مضاربهْ
تسلَّلَ يبغي مَقْتَلاً من (محمدٍ) ... لقد خُيِّب الباغي وخابت مآربهْ
تقدَّمْ سليلَ النار! ما الباب مُوصَدٌ! ... فماذا توقَّاهُ، وماذا تُجانِبهْ؟
تأمَّلْ! فهل إلاَّ فتَى في فراشه ... إلى النور تَهفُو في الظلام ترائبهْ!؟
يسائلك الأشياعُ زاغتُ عيونهم ... وأنت حسيرٌ ضائعُ اللُّبِّ ذاهبهْ:
ترَانا غَفَوْنا أم تُرَى عَبَرَتْ بنا ... نُفاثُة سِحْرِ خدَّرتْنا غرائبهْ!؟
وما زال منا كلُّ أَشْوسَ قابضاً ... على سيفِه لم تَحْلُ منه رواجبه
ترَى كيف لم تُبْصِرْ غريمك سارياً ... وأين تُرى يمضى؟ وتمضى ركائُبهْ؟
تقدَّمْ، وجُسْ في الدار وَهنْاً؟ فما تَرَى؟ ... لقد هجر الدارَ النبيُّ وصاحُبهْ!!
يحثان في البيداء راحَلَتيهما ... إلى جبلٍ يُؤْوى الحقيقةَ جانُبهْ
فقف وتنظَّرْ حائراً نَصْبَ غارهِ ... تَحدَّاكَ فيه وُرْقُهُ وعناكبهْ
لتعلم أن الحق رُوحٌ وفكرةٌ ... يذلُّ لها الطاغي وتَعْنُو قواضبهْ
فطِرْ أيها الشيطانُ ناراً أو انطلق ... دُخَاناً، فَأَخسِر بالذي أنت كاسبهْ!
خَسِأتَ! ولو لم يَعْصِمِ الحقَّ رُّبه ... طوى الأرضَ ليلٌ ما تزول غياهبهْ(550/20)
الطريقة المثلى
في دراسة الفقه الإسلامي
للأستاذ محمد محمد المدني
كلما أقبل عيد من أعياد الإسلام أو أظل الناس موسم من مواسمه، ذكرت الفقه الإسلامي فجعلت الحديث عنه هديتي إلى العيد، واحتفالي بالموسم، ذلك بأني رأيت الكفاح في هذا العالم مهما تنوعت أشكاله، وتعددت صوره إنما يبدأ من الفكرة: لكل أمة في الحياة شرعة ومنهاج، وكل أمة تكافح لتسمو فكرتها، ويسود منهاجها، وهذا الفقه هو برنامج الإسلام العملي لهذه الحياة، فهو فكرتنا ومنهاجنا، ويجب أن يبتدئ منه كفاحنا، وأن يعتمد عليه جهادنا، وأن تصدر عنه جميع دعوات الإصلاح والتقدم فينا
يجب أن نستقبل هذا الفقه بعناية، وأن نديم النظر فيه، والتأمل في أصوله ومصادره، وأن نخلصه من الشوائب، ونلائم بينه وبين العصر الذي نعيش فيه
يجب أن ندرسه دراسة جيدة تكون الغاية منها تخريج أعلام أئمة ذوي بصر وإدراك وملكات فقهية يرجع إليها في المشكلات، وينتفع بها في المعضلات
الفقه نوعان: فقه الفروع، وفقه الأصول، ولكل منهما كتب تهتم به، وتبحث فيه، ولكن النوع الأول قد فاز بالحظ الأوفر فعكف عليه الناس، وأمعنوا فيه بحثاً ودرساً، واختصاراً وشرحاً، بينما ظل النوع الثاني مهملاً، وظلت كتبه في زوايا المكتبة الإسلامية لا يكاد يشعر بها أحد
والسر في هذا الاهتمام بالنوع الأول، وفي هذا الإهمال للنوع الثاني، يرجع إلى الفكرة القائلة: بأن باب الاجتهاد قد أغلق، وأن عهد المجتهدين قد انقضى فلن يعود. هذه الفكرة هي أصل الداء في كل ما أصاب الفقه الإسلامي، مما أوقف نموه، وأظهره بمظهر الجمود والتخلف ظلماً وزوراً. راجت هذه الفكرة بين أهل العلم فصرفتهم عن فقه الأصول إلى فقه الفروع، فقصروا هممهم على نوع معين من الكتب، ولم يكتفوا بأن يمنحوا هذه الكتب تقديرهم واعترافهم، وأحياناً تقديسهم حتى ساروا في دراسة الفقه على طريقتها شبراً بشبر وذراعاً بذراع: فالفقه في هذه الكتب أبواب بعضها في المعاملات وبعضها في العبادات، وكل باب من هذه الأبواب هو في جملته وتفصيله مجموعة من الأحكام الفرعية تجمعها(550/21)
رابطة واحدة هي أنها أحكام الصلاة أو أحكام الزكاة أو البيع أو نحو ذلك، ولهذا تعد هذه الكتب سجلاً واعياً لكثير من الفروع الفقهية التي تكونت بمرور الزمن من فتأوي المفتين واجتهاد المجتهدين وأحكام القضاة ونحو ذلك، وكثيراً ما تجد فيها أحكاماً هي وليدة الفرض والتقدير لا وليدة الحس والوقوع والمولعون بهذه الكتب يسيرون على نمطها لا يعدونه، ولا يسمحون لأنفسهم بالانحراف عنه، بل إنهم ليضعون مناهجهم الدراسية على أساس فهارس الكتب، وربما نقلوها نقلاً حرفياً إلى هذه المناهج!
وليتهم يتمون قراءة هذه الكتب، أو يقطعون في دراستها شوطاً بعيداً، ولكنهم يكتفون منها بالقليل الذي لا يعد تحصيلاً وجمعاً ولا يحسب درساً وفحصاً
ليست هذه الطريقة في نظر المصفين دراسة للفقه، ولو عكف عليها إنسان مدى عمره لما كان - إن نجح فيها - إلا محصلاً للفروع، جامعاً لكثير من صور المسائل الجزئية وليس هذا هو الفقيه الذي نبتغيه!
إن هذه الطريقة تقضي على الفقه بالركود والجمود، وتقضي على روح التفكير والإنتاج العلمي، ولا تثير في نفس الباحث شعوراً باللذة الفكرية، ولا تغريه بالاسترسال مع البحث وتذليل صعابه، وهي تعتبر السبيل على الذين يريدون مجاراة التقدم العلمي والعملي في هذا العصر، ويدعون إلى تيسير وسائل الانتفاع بالفقه الإسلامي
نحن ندعو إلى العمل بالشريعة الإسلامية وجعلها أساساً للقانون والتشريع، فكيف نقدم هذا الفقه لرجال القانون الذين ألفوا النظام والترتيب والمبادئ الواضحة؟ كيف نقدمه لهم في هذا الثوب المهلهل، في هذه الكتب المضطربة، في هذه المسائل المبعثرة؟ بل كيف نقدم للمحاكم قاضياً ليس عنده روح الفقيه المتصرف المرن البصير بمبادئ التشريع وأصول الأحكام؟
إن هذه الطريقة تفرض علينا عناية بعرف المتقدمين، وعادات السابقين لا تحظى بمثلها عاداتنا وأحوالنا وما جد من نظمنا ووسائل حياتنا: نحن نعرف جيداً من هذه الكتب أحكام النقد الإسلامي فيما يتصل بشركات العنان وشركات الوجود وشركات المضاربة، ولا نعرف شركات التضامن، ولا شركات التوصية ولا الشركات المساهمة! إننا نعرف أحكام الفقهاء على المزابنة والمراطلة، وبيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب والدراهم الناقصة(550/22)
بالدراهم الكاملة والمغشوشة بالصحيحة ولا نعرف معرفة شافية حكم أوراق (البنكنوت)، ولا نظام القرض المضمون، ولا كيف تغطى أوراق النقد، ولا كيف يتم البيع والشراء في أسواق الأوراق، ولا ما هو نظام القطع ونحو ذلك!
ونحن نقول أن شركات التأمين على الحياة أو على المصانع والمتاجر تتعامل مع الناس تعاملاً محرماً مع أننا لا نعرف التفاصيل الكافية لتكون الحكم الصحيح على هذا النوع من التعامل بالحل أو الحرمة!
ونحن نقول: إن قضاة المحاكم الأهلية لا يحكمون بما أنزل الله حين يقضون على هذا بالسجن ويقضون على هذا بالغرامة، ويحكمون على بعض الأموال بالمصادرة. . . الخ ولعلنا لو تأملنا أحكامهم لوجدناها غير متعارضة مع الشريعة، ولا مختلفة مع المبادئ الفقهية السليمة! ونحن نشغل أنفسنا ونضيع أوقاتنا في الفروض الفقهية التي لم تقع، فنبحث عن الحكم (فيما لو غربت الشمس، ثم عادت هل يعود الوقت أولا يعود) وفيما (لو أحيا الله ميتاً بعد موته وتقسيم تركته، فهل له أن يأخذ ما بقى من ماله في أيدي ورثته) وفيما (لو تزوج شرقي بمغربية ولم يدخل بها وبينهما مسيرة عام وجاءت بولد لستة أشهر من وقت العقد، فإنه يكون من الزوج لولاية أو استخدام)
نحن نشغل أنفسنا بمثل ذلك، بينما رجال القانون والتشريع في البلاد وعلى رأسهم معالي وزير العدل يطلبون إلى كل مشتغل بالفقه والتشريع في حفل عام أن يدلي برأيه في مشروع تنقيح القانون المدني، ويتحدى خطيبهم من يدله على حكم فيه أو مادة تتعارض مع الشريعة الإسلامية، فلا يغرينا ذلك ببحثه ولا النظر فيه مع أننا رجال البحث والنظر والنقاش والجدال
إن الفقه الذي ينبغي أن يعكف عليه أهل العلم ويشتغلوا بخدمته ودراسته، ولا سيما في أقسام الدراسات العليا هو فقه الأصول لا فقه الفروع، ولست أقصد بالأصول هذا النوع من البحوث التي ترجع إلى معرفة الأدلة وكيفية الاستفادة منها وأحول الألفاظ من حيث ما يعرض لها من النسخ والتعارض والترجيح. . . الخ ولكني أريد معرفة القواعد الكلية المشتملة على أسرار الشريعة وحكمها، أريد النظر في المبادئ العامة، ودراسة النظريات الفقهية الجامعة التي تتفرع عنها أحكام الجزئيات في شتى نواحي الحياة، كأن ينظر الباحث(550/23)
في (قاعدة الملكية) مثلاُ فيدرسها درساً وافياً، ويعرف ما يتصل بها من التصرفات، وما هو اتجاه الشريعة في شأنها، ومن الذي يثبت له هذا الحق، وما مدى حرية المالك في تصرفه، وهكذا يتتبع آثارها، ويسجل فروقها، ويعرف آراء العلماء وأصحاب المذاهب فيها معرفة البصير الناقد المتخير الذي يعرف ما يعرف وينكر ما ينكر عن بينة وفحص وروية وإعمال فكر وإدمان نظر، ثم ينظر في قاعدة أخرى على هذا النحو، وقد ذكر العلماء كثيراً من هذه القواعد كقولهم: (المشقة توجب التيسير)، (الضرر يزال)، (العادة محكمة)، (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)، (الخراج بالضمان)، (الوسيلة والمقصد)، ما يؤثر فيه الغرر وما لا يؤثر)، (اليقين لا يزول بالشك). الخ
وقد دعا إلى هذه الطريقة الفقيه المصري (شهاب الدين احمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684) فبث كثيراً من القواعد الفقهية في كتابه (الذخيرة) ثم ألف كتابه الجامع المعروف (بالفروق) وفي مقدمته يقول:
(وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف. ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلرلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره)
والأستاذ الأكبر المراغي يرى هذه الطريقة واجبة فيقول في مذكرته التي جعلها برنامجه لإصلاح الأزهر منذ 1928 لم ينفذها:
(يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة، والأحكام المجمع عليها، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم كما كان يفعل السلف من الفقهاء)
وإني في مطلع هذا العام المبارك أسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يوفق الأزهر(550/24)
الذي هو حصن الدين والعلم والفقه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين
محمد محمد المدني(550/25)
ذكرى الهجره
للأستاذ محمد فريد وجدي
إننا إن ذكرنا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب في العام الثالث عشر من الرسالة المحمدية، وجب علينا أن نذكر أنها كما كانت فاتحة عهد جديد للدعوة الإسلامية، كانت كذلك مقدمة لقيام أمة عالمية، تألفت من طريق الإعجاز على غير السنن الطبيعة، أمة نموذجية لما يجب أن يكون عليه العالم تحت سلطان الأصول الخلقية، ولآداب النفسية، لا تحت حوافز الحاجات المادية والضرورات المعاشية
إن اجتماع القبائل لأجل أن تقوم من مجموعها أمة، ليس بالأمر الشاذ في تاريخ البشر، وإن كان يستدعي مقتضيات كثيرة، وآماداً طويلة، فإن الحاجات الحيوية، والمطالب المادية كثيراً ما تدعو إليه وتحتمه. فالعوامل التي اضطرت الأفراد إلى الاجتماع على هيئة قبيلة لتأمين حياتهم، وضمان معاشهم، هي نفسها التي تضطر تلك الجماعات الصغيرة إلى التآلف والتضامن لتأليف أمة. وإذا كانت هذه العوامل تضطر بعض الحيوانات لتأليف جماعات منها لتتعاون على تدليل العقبات التي تحول بينها وبين ما هي في حاجة ماسة إليه، فلا محل للتعجب من حدوث ذلك في العالم الإنساني، ولكن العجب كل العجب أن تتألف أمة تحت سلطان أصول خلقية، وآداب نفسية، ومبادئ عالمية، لم تقم عليها أمة من قبل حتى ولا في عهد الرسالات الدينية في مثل هذه البرهة القصيرة التي تألفت فيها الأمة الإسلامية
إن كل العوامل التي عملت لتأليف الأمة الإسلامية، ليست من جنس العوامل التي دفعت لتأليف الجماعات البشرية، فقد جرت السنة الطبيعية في تآلف الجماعات العظيمة، أن تنتدب قبيلة كبيرة تحت قيادة زعيم معترف به، لدعوة القبائل المجاورة تحت حافز قوي من مطلب أو مطالب مسلم بضرورتها لدى الكافة للقيام بتحقيقها، فتحدث أولاً بينها اتفاقات جزئية مع حفظ كل منها لاستقلالها الذاتي، ثم تأخذ هذه الاتفاقات في التطور تحت تأثير الحوادث الاجتماعية، فتسقط موجبات التخالف بين هذه الجماعات الجزئية شيئاً فشيئاً حتى ينتهي الأمر باندماج بعضها في بعض، بعد مرور آماد طويلة.
ولكن الأمة الإسلامية قامت على غير هذه السنة الطبيعية فبدأت بدعوة رجل واحد إلى عقائد ومبادئ غير مسلم بها من الكافة، بل كان قومه وعشيرته الأقربون أشد معاداة لها من(550/26)
غيرهم، وتبعه أفراد منهم لا يغنون عنه ولا عن أنفسهم شيئاً. ثم اتفق أن تأثر بدعوته أفراد من قبيلتين في مواطن بعيدة عن موطنه، تولوا دعوة ذويهم فقبلها كثيرون منهم. وهنا يجب أن يعلم أن العرب الجاهدين لم يكونوا يأبهون بتمحيص العقائد، ولم يعتادوا أن يقتبسوا شيئاً من غيرهم، بل كانوا يأنفون أن يخضعوا لزعيم من غير قبائلهم، بله أن يعينوه على قومه ويستجلبوا بذلك على أنفسهم عداوة قبيل ليس بينهم وبينه ثأر قديم، ولا سخائم موروثة
فلما هاجر النبي إلى موطن هؤلاء الذين قبلوا الدخول في دينه، احتفلوا به أيما احتفال، وخولوه الزعامة عليهم، وعاهدوه على أن يحموا دعوته وينافحوا عنها بأموالهم وأنفسهم. وانتشر الإسلام في تينك القبيلتين بيثرب وهما بنو الأوس وبنو الخزرج، حتى لم يبق بيت فيهم لم يصبأ أهله إليه
تطور غريب لم يعد له شبيه في عالم الاجتماع البشري: جماعتان كانتا بالأمس على الوثنية تقبلان ديناً ليس بين دينهما وبينه أقل شبه، ومناقض لما نشأنا عليه كل المناقضة. وليس ذلك فحسب، بل يدعو إلى أصول ومبادئ كان يمقتها العرب قاطبة، ولا تتفق وما طبعوا عليه، وأشربوه من العصبية الجاهلية، كمبدأ التوحيد في العقيدة، ومبدأ المساواة بين الأجناس البشرية، ونبذ التفاخر بالآباء، والمباهاة بالمغامرات الحربية، ويصرفها إلى العمل على تطهير القلوب بالمجاهدات النفسية!
هذا تطور عجيب في ذاته، وأعجب منه أن يكون في بيئة كل ما فيها يدعو إلى التعويل على الوسائل المادية، والإخلاد إلى الحياة الأرضية؛ وأدعى للعجب منهما أن يتم ذلك التطور طفرة، وهو لا ينشأ عادة إلا بعد تطورات متوالية، وظروف مواتية
قلنا في مقدمة هذه المقالة أن تأليف هذه الجماعة كان مقدمة لقيام أمة عالمية جعلت نموذجاً لما يجب أن تكون عليه الأمم، بعد أن تبلغ من التطور حداً يسمح لها أن تقوم على مثل ما قامت عليه من الأصول الأدبية، والمبادئ الخلقية. فإذا صح ما يقال من أن الحياة الإنسانية أصبحت في حاجة إلى مقومات اجتماعية غير التي تقوم عليها اليوم، تتفق ومقررات العلم، وتتلاءم وما هدى إليه البشر من الأصول الإنسانية، بحيث تبطل بالقيام عليها الحروب، ويتم بينها التعاون على توفير الخير لجميع الشعوب، فلا سبيل إلى ذلك إلا باستبدالها(550/27)
الأصول الأدبية، والمبادئ الخلقية، بالأصول المادية البحتة التي تقوم عليها. وقد آنسنا في غضون هذه الحرب العالمية المستعرة أن التفكير أخذ يتجه صوب هذا التطور العظيم، بإقامة الصلح على قواعد إنسانية تسمح لكل شعب أن ينال حظه من المواد الأولية، وأن يعيش على قدم المساواة مع غيره من سائر الشعوب الأرضية. وهذه من مبادئ الدولة النموذجية التي كانت الهجرة النبوية فاتحة لإقامتها
فإذا احتفل المسلمون بيوم الهجرة وجب أن يذكروا معها أن هذا اليوم كان بدء إقامة الدولة الإسلامية التي بلغت من امتداد السلطان، ورونق المدينة، وزعامة العلم والسياسة إلى ما لم تبلغه أمة قبلها، وشيدت للمبادئ الإنسانية صرحاً لن يزال قائماً ما دامت الحياة الأرضية.
محمد فريد وجدي(550/28)
في الرفيق الأعلى
للأستاذ دريني خشبه
لن أعفيك يا قلمي الحبيب من أن تذرف دموعك صلاة خالصة على فخر الكائنات، بعد هذه القرون الطوال التي غبرت منذ أذرفت عيون المؤمنين حينما لحق الروح الكريم بالرفيق الأعلى
ما كان أجلها لحظات تتصل فيها الأرض بالسموات!
إن لم يكن بد من رفيق في هذا السفر الطويل فما أختار لك! إلا قلبي ودموعي!
لا عليك يا قلمي الحبيب، فقد تستطيع أن تصم أذنيك عما يجلجل في تيه الزمن، من هتاف المجد، أو أنين الهزيمة. . . في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، فما أريد لك إلا أن تصل سالماً إلى ما وراء هذه السنين الألف والثلاثمائة والخمسين والإثنتين، لتشهد فخر الكائنات محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فوق ناقته بأرض عرنة يخطب المسلمين، بل يخطب البشرية كلها، قائلاً فيما يقول:
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا!)
لشد ما وجفت قلوب المؤمنين لدى هذه الكلمة التي أرسلها فخر الكائنات بأرض عرنة في حجة الوداع التي كره بعضهم أن يطلق عليها هذا الاسم فدعاها حجة الإسلام وحجة البلاغ!
لقد نظر المسلمون بعضهم إلى بعض وقد غشيهم من تلك المبادأة بالوداع غاشية. . . ألا ترى إلى الرسول الكريم يتلو عليهم بعد صلاة العصر في اليوم نفسه ما أوحي إليه ثمة من قول الله تعالى:
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فيسمعها أبو بكر فيبكي، لأنه يضيفها إلى الكلمة التي قالها الرسول حينما زالت الشمس وهو قائم مقام إبراهيم يخطب، فيعلم أنهما أمارتان من أمائر الفراق!
ثم ما هذه النوق الثلاث والستون ينحرها فخر الكائنات بمنى يا رفاق؟! أتكون عدد الدرج إلى الرفيق الأعلى؟ أليس قد بلغ الرسول الكريم عامه الثالث والستين من التقويم الهلالي؟ أليست هذه هي الأمارة الثالثة؟ ليبك أبو بكر إذن، ولتبك الأجيال كلها معه. . . فوالله لقد(550/29)
ظهرت الإشراط قبل هذا كله. . . لم يكن النبي قد حج قط، فأمر هذه السنة أن يحج ليبين للناس مناسكهم؛ وكان يعرض القرآن على صاحبه جبريل مرة واحدة كل سنة في رمضان، لكنه عرضه عليه مرتين في هذه السنة؛ وكان يعتكف العشرة الأواخر من رمضان لا يكلم الناس إلا رمزاً، فلأمر ما اعتكف عشرين هذا العام؟ أليس لأنه العام الأخير؟
ويحك أيها الرجل محمد بن سيرين فيم رجوت أن تكون قراءتك هي العرضة الأخيرة؟ أكان قلبك يحدثك كما حدث ابن عباس قلبه حينما نزلت: إذا جاء نصر الله والفتح، فقال: داع من الله ووداع من الدنيا!. . . أجل. . . فهي العلامة التي حدث الرسول عنها عائشة، قال: إن ربي كان اخبرني بعلامة في أمتي فقال إذا رأيتها فسبح بحمد ربك واستغفره، فقد رأيتها. . . وقرأ إذا جاء نصر الله. . .
لله هذا المدلج إلى البقيع متكئا على ذراع مولاه أبي مويهبة حتى إذا بلغ مراقد السابقين إلى الجنة، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، توقف قليلاً ثم قال يكلمهم: السلام عليكم أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. . . ثم أقبل على مولاه يقول له: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، خيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة؛ فيقول أبو مويهية: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فيقول له فخر الكائنات: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة!
ثم يأخذ في الاستغفار للنائمين في التراب، أستغفر الله، بل للنائمين في روضات الجنة، أولئك الذين استجابوا لنداء السماء الذي يسره الله بلسان محمد! فيا للوداع ويا للوفاء يا رسول الله!
أهذا فقط؟ كلا يا رفاق، القلم والقلب والدموع! فقد حدث عقبة بن عامر الجهني قال: إن رسول الله صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم اطلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها(550/30)
ففي هذا الكلام معنى مما خاطب به رسول الله شهداء البقيع فقد هنأهم بما أصبحوا فيه مما أصبح الناس فيه. . . وذكر إقبال الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها. . . وهو بعد صلاته على شهداء أحد يخطب الناس فلا يخشى عليهم أن يشركوا، بل يخشى عليهم الدنيا أن ينافسوا فيها!
كان الرسول عند زوجة ميمونة عندما بدأ بالرسول شكوه الذي توفى فيه، فذهب إلى زوجه عائشة، وكأنها رأت أثر ما به من وعكة، فقالت مداعبة: وا رأساه! فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال مداعباً: وددت أن ذلك يكون وأنا حي فأصلي عليك وأدفنك. فقالت عائشة غيري: أو كأنك تحب ذلك؟ لكأني أراك في ذلك اليوم معرساً ببعض نسائك في بيتي. فتبسم النبي أيضاً، وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استعز به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فأستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر تخط قدماء الأرض عاصباً رأسه حتى دخل بيتي.
وقد سئل ابن عباس عن هذا الرجل الآخر من هو فقال: إنه علي بن أبي طالب ولكنها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع!
وذهب الرسول إلى الفضل بن عباس فأخذ بيده حتى جلس على المنبر وهو معصوب الرأس ثم قال: نادٍ في الناس، فاجتمعوا إليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني احمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من اخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني، فلقيت الله وأنا أطيب النفس، وقد أرى أن هذا غير مغنٍ عني حتى أقوم فيكم مرارا
أي والله يا رفاق، القلم والقلب والدموع، إن رسول الله وفخر الكائنات يخشى أن يلقى الله ولأحد عنده حق لم يأخذه منه، فهو يعطي ظهره لمن يرى أن يستقيد منه، وهو يريد أن يحلله من لا يريد أن يأخذ حقه حتى يلقى الله وهو أطيب النفس. ثم هو يرى أن ذلك كله غير مغن من الله شيئاً. . . فوا رحمتاه لنا نحن يا رفاق!
ثم صلى النبي الظهر وعاد على المنبر ليحاسبه الناس، فقال له واحد منهم: يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم، فأمر النبي الفضل أن يعطيه إياها؛ ثم قال النبي: يا أيها الناس(550/31)
من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة. فقام رجل فقال يا رسول الله عندي - أي في ذمتي - ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال ولم قال ولم غللتها، قال كنت إليها محتاجا، قال خذها منه يا فضل. . . ثم قال الرسول يا أيها الناس من خشي من نفسه شيئاً فليقم أدع له، فجعل الناس يقومون يعترفون بذنوبهم بين يدي رسول الله يدعو الله لهم، حتى قام أحدهم فقال: يا رسول الله إني لكذاب وإني لمنافق، وما من شيء إلا قد جنيته. فقام عمر بن الخطاب فقال: فضحت نفسك أيها الرجل! فقال رسول الله يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيماناً وصير أمره إلى خير، فقال عمر كلمة، فضحك رسول الله ثم قال: عمر معي وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر حيث كان!!
فهل عرفتم هذا يا رفاق؟ رسول الله يجلس ليحاسب نفسه وليحاسبه الناس وليحاسب الناس على ثلاثة دراهم، لأن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة! ورسول الله لا يدع لليأس من رحمة الله سبيلاً إلى نفوس الؤمنين؛ فهو يعرض على من يخشى من نفسه شيئاً أن يقوم فيدعوا له! وهذا عمر بن الخطاب يتميز على الرجل من الغيظ فيضحك رسول الله ويداعبه، كما داعب عائشة من قبل. فمن منا حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله؟ ومن منا عمل حساباً لفضوح الآخرة الذي ينكشف بين يدي الله لا فضوح الدنيا الذي ينكشف بين أيدي الناس؟!
رب أين نحن اليوم؟!
أسمعوا إلى الرسول الكريم وهو يناجي ربه ويسأله الشفاء يا رفاق!
واسمعوا إلى أزواجه يداعبنه لما يرين من شكواء فنقول إحداهن: لقد اشتكيت في شكوك شكوى لو أن إحدانا اشتكته لخافت أن تجد عليها، فيتبسم ويقول: أو لم تعلمي أن المؤمن يشدد عليه في مرضه ليحط به خطاياه؟
واسمعوا إليه وهو يطلب ماء يصب عليه من سبع آبار عسى أن تخف عنه برحاء الحمى كي يدخل فيخطب الناس موصياً بأسامة وبعث أسامة لما سمعه من لغط الناس عن تأمير أسامة!
واسمعوا إليه وهو في المسجد يوصي المهاجرين بالأنصار ويأمر (بسد هذه الأبواب(550/32)
الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر؛ فإني لا أعلم امرأ أفضل في الصحابة من بكر)
واسمعوا إليه يأمر أن يصلي بالناس أبو بكر، فتراجعه عائشة في ذلك، متذرعة بشتى الحجج، مشيرة أن يصلي بالناس عمر، فيغضب رسول الله ويذكر صواحب يوسف! ويصلي بالناس أبو بكر. فإذا سئلت عائشة بعد عن سبب مراجعتها رسول الله قالت: (وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً. ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر!)
وهذا هو أبو بكر يصلي بالمؤمنين الصبح في هدأة الفجر. . . وهذا هو رسول الله قد خرج عاصباً رأسه لينظر إلى أمته وليفرح بها واقفة بين يدي الله فيتفرج المصلون ليمر رسول الله وقد أوشكوا أن يفتتنوا من الفرح بفخر الكائنات، فيعرف أبو بكر أن الناس لم يفعلوا ذلك ولا يصح أن يفعلوه إلا لرسول الله فينكص عن مصلاه، فيدفع رسول الله في ظهره ويقول: صلَ بالناس، ويجلس إلى جنبه فيصلي عن يمين أبي بكر، فإذا قضيت الصلاة أقبل رسول الله على الناس رافعاً صوته وهو يقول: أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علىّ بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن)، ويفرح المسلمون بصحة وهموها في رسول الله، ويفرح معهم أبو بكر، ويستأذن أن يلحق أهله بالسنح. فاليوم يوم بنت خارجة!)
إلا أن واحداً من المؤمنين فحسب لا تخدعه صحوة الموت في أمر رسول الله! ذلك هو ابن عباس الذي يقول لعلي وقد فرح بشفاء محمد: (والله لأرى رسول الله (ص) سوف يتوفى من وجعه هذا. إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت)
وعاد رسول الله إلى بيت عائشة فاضطجع بين سحرها ونحرها. . . (ودخل عبد الرحمن بن أم رومان، أخي، وفي يده سواك رطب، وكان رسول الله (ص) مولعا بالسواك، فرأيته يشخص بصره إليه، فقلت يا عبد الرحمن اقضم السواك فناولنيه فمضغته ثم أدخلته في فم رسول الله فجمع بين ريقي وريقه)
وأخذت عائشة تعوذه بعد ذلك بدعاء كان من عادتها أن تعوذه بها إذا مرض. لكن رسول الله رفع رأسه إلى السماء وقال:(550/33)
(في الرفيق الأعلى. . . في الرفيق الأعلى. . .)
يا رفاقي الأحباء الأعزاء الأوداء، القلم والقلب والدموع! أين نحن الآن من هذا الرفيق؟ أين نحن الآن من رسول الله ومما ترك لنا رسول الله!
دريني خشبة(550/34)
الله. والإنسان. والحياة
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
- 1 -
جددوا الإيمان بالله رب الوجود واهب الحياة كما وصفه القرآن القديم، وحدثنا عن أعمال يده العلم الحديث! فروا من طنين لشكوك والفلسفات الحائرة حول (الموجود الأول) الذي صدرت عنه جميع الموجودات وأنشئت بتدبيره واختراعه، ونسقت بفنه وابتداعه، ودامت بحفظه ورعايته!
واعلموا أن مفتاح الشر وباب الضياع هو الشك في تلك الحقيقة الأولية العظمى، والانفلات من قيودها وهي قيود أمانات الحياة كلها!
ابدءوا حياتكم الفكرية بالحديث النفسي والقلمي عن تلك الحقيقة لتتعرفوا إلى جلالها وجمالها، ولتطردوا عن أذهانكم وسوسة الشر وشوشرة الباطل
ابنوا أساس حياتكم على صخرة تلك الحقيقة الراسية، وقاعدتها العريضة الواسعة؛ لتطمئنوا على أن وجودكم مستند إلى وجود اعظم! وليس وهما طائراً في أجواء هذه القوى العمياء التي يزخر بها الكون المادي.
اضربوا في رحاب الحياة ومتاهاتها ثم عودوا إلى مكانكم الأول في أحضان تلك الحقيقة مهتدين بالنور الذي يشع من هيكلها بالعرى الوثقى التي تمتد منها في كل اتجاه إلى الغرقى والضائعين والشاردين!
املئوا وجودكم بهذه الحقيقة واجعلوها تستبد بخواطركم؛ فستكونون سعداء بهذا الاستبداد، لأنه استبداد أساس البناء بالبناء كله إن يحدث نفسه بالبعد عن دعامته الأولى؛ فينهار ويذهب هباء تذروه الرياح
إنها حقيقة تبعث ذلك الشعور الصادق العجيب بالانسجام مع الكون كله، وحسبكم به من سعادة! وبالاستناد إلى دعائم الكون كله، وحسبكم به من حماية! وبالوصاية على أماناته كلها وحسبكم بها سيادة! وبارتفاع العقل والقلب إلى مستوى رفيع يعلو بنظراتهما ويرحب بخطراتهما ويعمق بأسرارهما؛ وحسبكم بها كرامة!
وعلى الباحثين عن مصادر السعادة الفردية والجمعية وعن المسرات الأصيلة في الحياة أن(550/35)
يفتحوا عيونهم وعيون الناشئين في الجيل الجديد على هذه الحقيقة دائماً ويمسكوا بعرى أسبابها، ويعرفوها معرفة الرأي في عقولهم والدم في قلوبهم
وعبث لا طائل وراءه، بل عناء ضائع، بل جريمة موبقة أن يتجه محبو الإصلاح بقلوب الناس إلى قطب غير قطب تلك الحقيقة، فإنه لا حق ولا طهر ولا عدالة ولا أمانة إلا في محيطها
فليعرف ذلك الذين يدعون إلى تأسيس حضارة نفسية جديدة ويريدون أن يلائموا بين سياسة الاجتماع الإنساني والسياسة التي تتجلى في الطبيعة كلها
وحسب الإنسانية ما مضى من تجارب الشرود والجحود واللعب بالألفاظ. والانطلاق وراء خداع الفلسفات الشاذة وافتنان أرباب (الترف العقلي) الذين يتشهون كل غريب من الآراء يقدم إليهم على موائد الفكر، كما يتشهى أرباب الترف المادي كل غريب يقدم إليهم على موائد البطون
- 2 -
آمنوا بالإنسان الذي تحملونه في أجسادكم، وتستوحونه في أفكاركم، وتبادلونه ما صح وما فسد من شئونكم!
آمنوا به لتؤمنوا بالكون ورب الكون. . . فلن يؤمن بهما من لم يؤمن به؛ لأن عقله هو المنظار الذي ترون به كونكم وربكم. فإذا أهدرتم قيمة الإنسان أهدرتم عقله، فلم يبق لكم ما تدركون به وجودكم وربكم!
ولكي تدركوا اللمحات التي تتراءى في أعماق معنى الإنسانية حاولوا أن تتحروا وتتجردوا وتخرجوا من نفوسكم ونوعكم وترصدوا الإنسان بعيون غريبة عنه وتروه بنظرات الملأ الأعلى ممن هو فوقه، والملأ الأدنى مما هن دونه!
فأيقظوه لنفسه، ونبهوه إلى امتياز وضعه، وأقروه ما يكتبه الآن على صفحة الأرض
واتركوا الجدليات القديمة حول قيمته فقد هدرت شقاشقها حين كان عاجزاً عن شق الطريق أمام فكره
اخرجوا من غبار التاريخ القديم، وافتحوا عيونكم على العالم كمخلوقين الآن، تفكيرهم ابن زمانهم هذا، ومنطقهم من وقائع الحاضر(550/36)
انظروا إلى الإنسان في نصابه الأعلى دائماً، ولا تنظروا إليه في حضيضه الأدنى، فإن من طبيعة كل كائن حي أرضي أن يكون له جذر في الطين والعفونات، أو أصل في الدم وبعض القاذورات
وإن النطفة التي خلق منها الإنسان أخلاط وأمشاج أخذت من العناصر الحادة والقوى العمياء، ما يجعله منها على اضطراب وابتلاء. . . وإن الفرد يحمل في مجاري طعامه وفي أحشائه أوضاراً وأقذاراً نجسه تشمئز منها نفس حاملها، ومع ذلك هو يقنع من نفسه بتقدير الوجه والرأس الذي يحمل الشخصية وقوى الفكر. . .
فلا تنظروا دائماً إلى الذين هم فضلات في جسم الإنسانية، وتتخذوا منهم (مقطع) النظر إليها جميعاً. فيحملكم ذلك على التشاؤم والسخط والشك في الخير والجمال الذي فيها
هم كالثمار الفجة المعطوبة عطبت وتلوثت، لأنها سقطت لضعف روابطها بفروع الشجرة التي تسمو
إننا نحمل اقباساً منيرة مطهرة من عالم الحق والطهر والجمال ولكنها وضعت في أجسامنا: تلك الأوعية الطينية السريعة التعفن. فمن الناس من يدوم على تطهير وعائه وصقله حتى يستحيل إلى زجاجة شفيفة رائعة تساعد ذلك القبس على السطوع والإشراق
ومنهم من يتركه كما هو من غير تطهير وصقل بالعلم والتهذيب فيظل معماً ويحول بين ذلك القبس وبين السطوع الكامل. . .
ومنهم من يضع في ذلك الوعاء ما يزيده عتمة وكثافة تطغي على ذلك القبس وتمحق شعاعه وتجعله منيع ظلام
فلأجل النور! نبهوا كل مصباح إلى رسالته، وحولوا بين الظلام وبين زجاجته. . .
ولا تحملنكم حياة الظلام الراهن على أن تتشاءموا وتسخطوا وتحطموا ما بقى لكم من مصابيح، فتعيشوا في عمياء نهارها كليلها. . .
وصدقوا الحياة وكذبوا المتكلمين الذين يعارضونها، ويزعمون أنهم أصدق منها، ويغرون الناس بسبابها وتحقيرها، ويملئون قلوب فتيانها الناشئين بأحاسيس السخط عليها قبل أن ينالهم منها ما يبرر ذلك، ويخلقون لأنفسهم عوالم خيالية منفصلة عن الحياة ومنطقها العملي، ويقذفون بكلمات جوفاء على كلمات البداهة والطبع فيحجبونها عن أنظار(550/37)
القاصرين الذين ينظرون نظراً سطحياً، فيذهبون ضحايا الانخداع بزخارف القول الغرور وأوهام الفكر الشرود
والحياة بالغة الحجج مفحمة المنطق جارفة التيار، تدفع الإنسانية دائماً إلى مجراها الذي يعب عبابه وتتضرب أمواجه على رغم هؤلاء المتكلمين المتشائمين. فلا سبيل إلى الوقوف في وجهها وتحويلها. وكل من زعم أن منطقه أصدق من منطقها فله ما شاء من زعمه. أما أبناء الحياة الذين سادوا فيها فلا يعرفون إلا وجه أمهم الواضح القسمات المعروف السمات. . .
واعتقادي أن الذي جنى على التدين أن الناس حسبوا منطقة الدين منفصلة عن الإحساس العام بالحياة، وزعموا الدين لغير الحياة الدنيا، فجابهوهما بقلب موزع وفكر حائر بينهما، وحاول المتعبدون منهم الفرار من الدنيا قبل أن تستوفي ضرائبها منهم ويستوفوا تجاربهم فيها، وظنوا العبادة فترات انسلاخ من الحياة بالطقوس والرسوم وما إليها من المظاهر التي هي مواقف (استعراض) للمؤمنين لا أكثر. . . مع أن لب العبادة هو أن تشعر دائماً في نفسك بفيض الحياة: ذلك الشأن الإلهي العجيب! وأن تتيقظ لفعله في ضربات قلبك وخطرات فكرك، ونبضات خلاياك وهمسات نفسك ولمحات عينك. . . وألا تنسى أنك دائماً نتلقى ذلك الفيض من ينبوعه الأعظم إلى أجل. . . فيحملك ذلك الشعور الملازم على أن تحافظ على وجودك الذي هو مظهر تلك الأسرار ومشكلة تلك الشعلة، فلا تعطل قوة من قواه، ولا تطمس رسماً من رسومه، ولا تقعد به عن الزحام في مجالات العمل الكريم الذي يذكي شعلة الحياة ويلقى إليها حطباً يشب ضرامها. . . والوجود الإنساني الكامل الصحيح هو الذي ينتج الشعور الصحيح
والفكر الصحيح والخلق الصحيح والعمل النافع الدائم؛ وهو الذي أنتج وسائل التغلب والسيادة على عقبات الطبيعة، والقدرة على تمهيد الأرض للإنشاء والتعمير، وتخفيف المشقات والآلام؛ وهو الذي حقق تلك (الكرامات) العجيبة الدائمة التي أكرم الله بها الإنسانية على أيدي علمائها الذين جعلوا همهم البحث عن أسرار صنعة الله وقراءة كلماته الظاهرة والباطنة في الآفاق وفي الأنفس ومحاكاة نماذجها.
وإذا كانت كرامات الأولياء أمراً مؤقتاً خاصاً بهم، فأن كرامات علماء الطبيعة أمر دائم(550/38)
مشاع للإنسانية جميعها. . .
فلنعرف ذلك جيداً ليحملنا على الاعتراف بصدق الحياة والإقبال على الكشف عن أسرارها، والإيمان بأن جميع أحلام الإنسانية في السيطرة على شئون الأرض ستحقق قبل انقضاء رحلتنا على سطحها
وينبغي ألا نخلط بين شرور الإنسان وبين آلام الحياة التي لا دخل للإنسان فيها حين نتحدث عن صدق الحياة. فإن الحياة من يد الله بريئة صحيحة قليلة الشر والألم، ولكن الذي يضاعف الشر ويمحو بشاشة الحياة هو الإنسان القاصر الجاهل الناشئ في أحضان السفاهات والجرائم والإهدار لقيمته. . . ومن هنا وجب الإيمان بالإنسان وإيقاظه لنفسه أولاً على نحو ما قدمناه في هذا الصدد لكي يحتجب شره وينمو خيره فيظهر وجه الحياة الجميل البرئ، ويظهر وجه الإنسان الكامل المنشود، ويظهر وجه الله الرحمن ذي الجلال من خلالهما حتى يراه كل فكر جحود وقلب كنود!
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق!)
وتلك نبوة الحياة الصادقة، يبعثها سر الإنسان الذي نفخ الله من روحه وجعله خليفة في الأرض ليظهر غيوبها ويثير دفائنها، ويلبس بروحه الحية موادها الميتة فيجعلها تحيا بروحه وتفكر بعقله وتخطو بسرعة فكره!
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم! فسجدوا. . .)
ذلك هو حديث الزمان يرسله هامساً في أذن الإنسان خلال صيحات وحوش الحديد والفولاذ الرابضة والسائرة والسابحة والطائرة، وبين دوي الآراء والمذاهب الهدامة والفلسفات الشاردة الحائرة. وأعتقد أنه نداء يجب أن يكون عنوانا لتجديد الدعوة الدينية في هذا العصر الحائر المتهافت، وأساساً فكرياً صالحاً لوصل العقول والقلوب بأعناق الكون ولباب الإنسانية وصدق الحياة!
عبد المنعم محمد خلاف(550/39)
هجرة الروح
للأستاذ زكي نجيب محمود
قال صاحبي وهو يحاورني: ما أنا بمؤمن بما زعمت لي من رأي
فقلت أي رأي تريد؟ فما أكثر ما جادلتني مذ أخذت فيما أنت آخذ فيه هذه الأيام من قراءة الفلسفة
فقال: ألا تذكر إذ كنت تسايرني وتسامرني في مماشي حديقتك الغناء ليلة الهجرة؟ ألست تذكر حين أخذت تقص علينا كيف أوذي النبي في مكة فهاجر إلى المدينة، وكيف نشب القتال بين المسلمين والكافرين، حيث اضطرمت نفوس المؤمنين بحماسة الإيمان فاندفعوا يريدون: إما نصرة الدين وإما الخلود في دار النعيم؟. . . وعندئذ أبصر زميلنا (م) المتفلسف الشكاك بزهرات متناثرات هنا وهناك، فقهقه ساخراً وهو يقول: (خلود!) ثم أدار عينيه ناحية الجدار فإذا هو يرى جماعة من النمل عركتها قدم فلبثت جامدة على الأرض صرعى حيث كانت، فارتفعت قهقهة الزميل مرة أخرى، ورنت فيها نبرات السخرية التي عهدناها في ذلك الزميل الساخر. . .
فقلت: نعم، إن لما تقول لأثرا خافتاً كادت تنمحي من صفحة الذهن معالمه فلا أكاد أتبينه في وضوح، فما الذي أضحك (م)؟
فقال أضحكه أن يرى منثور الزهر ومبتور النمل راقداً كأنما هو جثث القتلى في حلبة القتال يوم المعركة، وقد علق بقوله: أليست الحياة هي الحياة حيثما تبدت في بشر أو حشر أو زهر؟ أي فرق ترى بين زهرات تطأها فتذويها، ونمال تعركها بقدمك فترديها، وجماعة الجند في حومة الوغى تصفعهم بالحديد والنار فتوردهم موارد الحتوف؟ لكنه الإنسان المغرور ظن بنفسه الامتياز فاختص روحه بالخلود والبقاء، وطوح بسائر الأحياء في مهاوي البلى والفناء. . .
ولست أكتمك الحق يا صديقي، فقد أخذت أعيد قول زميلنا (م) بيني وبين نفسي، وأديره مرة بعد مرة في رأسي، حتى ارق الفكر جنبي في غير طائل؛ فبعد طول التفكير لم أجد في قبضتي غير ريح، ولم يكن حصادي سوى هشيم! ولجأت إلى كتبي أقلب صفحاتها، أنزع كتاباً وأضع كتاباً، فما صادفت غير الحيرة والشك المميت؛ فما زلت أسائل نفسي بما(550/40)
سأل (م) أي فرق ترى بين زهرات تطأها فتذويها، ونمال تعركها بقدمك فترديها، وفرقة من الجند تصفعها بالحديد والنار يوم الوغى فتوردها موارد الحتوف. . .؟ فلا بأس يا صديقي أن نعيد الحديث بعد عام كامل، في مماشي حديقتك وفي ليلة الهجرة؛ أفيكون غرور الإنسان حقاً هو الذي. . .
فقاطعت صديقي قائلاً: كفى، كفى، فلم أعد أميل إلى مثل هذا الجدال وإنه لعقيم، فلقد قرأت في صدر شبابي كل ما أتت به اليوم معجب مفتون، واجتزت عهداً أراك تجتاز مثله الآن، عانيت فيه ما عانيت من كرب وضيق. وكم قرأت وقرأت، فكنت أتلون بما أقرأ كأني حشرة حقيرة تدب على ظهر الأرض وتسعى، فتصفر إن كانت تحبو فوق الرمال، وتحضر إن كانت تزحف فوق الحقول. كنت أقرأ الشكاك فأشك، ثم أقرأ المؤمنين فأومن. . . هذا كتاب متشائم أطالعه فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي. وذلك كتاب متفائل أطالعه فإذا أنا الهاش الباش المرح الطروب؛ لكن أراد الله بي الخير فأفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة تعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني، وهداني الله سواء السبيل. أتريد أن تسمع مني - إذن نصح الخبير؟
فقال: أحبب إلى نفسي بما تقول!
فقلت: إني منتزع لك القول من هذا اليوم الخالد؛ فنصيحتي أن تهاجر كما هاجر الرسول
قال: وكيف وأنت أعلم الناس بأمري، فمالي بغير هذا البلد مأرب ولا عيش
قلت: لئن هاجر الرسول الأمين في عالم المادة، فهاجر أنت في عالم الروح
قال: وماذا تريد بهجرة الروح
قلت: لقد هاجر النبي الكريم بمعنى الرحلة من بلد إلى بلد، فهاجر أنت بمعنى الرحلة في مكتبتك من رف إلى رف! لقد أوذي النبي الكريم في مكة فهاجر إلى المدينة، فجاءه نصر الله والفتح، ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وهاأنت ذا تؤذيك أباطيل العقل في بعض الكتب فدعها إلى سواها، لعلك بذلك منتقل من ضلال العقل إلى إيمان القلب حيث السكينة والقرار. ولقد كانت هجرة النبي مولداً جديداً لرسالته، فأرجو أن تكون هجرتك من كتب إلى كتب بعثاً جديداً لروحك المعذب الظمآن. إن من ابتل جسمه بالماء وهو في البحيرة مغمور لا بد له من الخروج إلى الشاطئ المشمس إن أراد لنفسه الدفء والجفاف.(550/41)
أما أن يثب من البحيرة إلى البر فقد ازداد بلة على بلة، وذلك ما صنعته أنت حين أرقتك فلسفة صديقنا (م) فطلبت النجاة في كتب الفلسفة!
إني مذ أراد الله لي الهداية أكره أن أناقش مسائل الدين بمنطق العقل، ولكني لا أزال ألمح في عينيك حيرة الشك، مما سمعته من سخرية صديقنا بروح الإنسان وخلودها، فدعني لحظة أخاطب فيك الفطرة والبداهة، فأقول: أليس أمل الإنسان في خلوده بعد الموت دليلاً على خلوده؟ إن رغبة الإنسان في الطعام ما كانت لتوجد لو لم يكن الطعام موجوداً، ورغبة الإنسان في زمالة الأصدقاء يستحيل أن تنشأ إن لم يكن إلى جانب الإنسان الواحد ناس يزاملونه ويصادقونه؛ فالزهرة والنملة فانيتان وهما لا تنشدان خلوداً، أما الإنسان فراغب فيه ساع إليه، ويستحيل أن يكون له ذلك ما لم يجد في فطرته وجبلته ما يوحي إليه أنه خالد؛ فلماذا لا يستوحي صديقك (م) فطرته بدل أن يلقى بسمعه وفؤاده إلى هذا وذاك؟ أإذا اهتدى بوحي البصيرة إلى الحق أنكره، لأن غيره لم يجد السبيل إلى الهدى؟ إنه إذن كمن يحدج ببصره في الشمس ساطعة فينكرها لأن زميله المكفوف لم يرها!
ألم تقرأ عن (مذهب الذرائع) الحديث الذي يصور آخر ما بلغه العقل الفلسفي؟ إنه يقيس صدق الفكرة أو بطلانها بمقدار نفعها؛ وذلك لأن الحق المطلق في رأيه معدوم، فإن أدت الفكرة إلى نجاح الحياة الإنسانية وازدهارها فهي الحق، وإلا فهي كذب وباطل. فلنسأل صديقنا المتفلسف: أيهما أنفع للحياة الدنيا نفسها أن يعتقد الإنسان في خلوده أو في فنائه؟ أي العقيدتين يؤدي إلى الفضيلة والخير؟ فإن كانت الأولى فحسبنا ذلك وليس بنا بعدئذ حاجة إلى لجاجة وجدال. . .
كلا يا صديقي، لا تلق بنفسك في هذه الشكوك التي قد تغري بها غاشية الحرب، فيتجهم أمام ناظريك الأفق وإنه لمشرق وضاح؛ بل هاجر كما هاجر الرسول الأمين، ولتكن الليلة موعداً لهجرتك
هل جاءك حديث الإمام الغزالي وهو (حجة الإسلام وزين الدين)؟ لقد قرأ إبان نشأته ما قاله الحكماء والفلاسفة، فارتجت له نفسه وأخذه الشك من كل جانب. اقرأ له (المنقذ من الضلال) لتستمع إلى قصته عن نفسه يروي لك ما قاساه في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق، مبتدئاً بعلم الكلام، ومنتقلاً بعد ذلك إلى دراسة الفلسفة، ومنهياً بطريق(550/42)
الصوفية، خائضاً في كل ذلك بحر الخلاف، متوغلاً في كل مظلمة، متهجماً على كل مشكلة، فاحصاً عن عقيدة كل فرقة ومذهب؛ وهو يقول إن التعطش إلى درك حقائق الأمور كان دأبه وديدنه من أول عمره، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلته من غير اختيار منه؛ فلما أدت به دراسته الطويلة العميقة إلى حيرة الشك، (حزن قلبه، وانحطت صحته، ثم التجأ إلى الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، فأجابه. . .) وعاد إلى الإمام المؤمن يقينه (ولم يكن ذلك بنظم دليل، وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة)
ثم هل جاءك نبأ (تولستوي) ذلك الأديب الفحل، والفيلسوف العظيم؟ إنه غاص في أغوار الفكر وغاص، ثم انتهى به الأمر أن يفرغ مكتبته من كل ما فيها على أنه باطل وهراء، ولم يبق على رفوفها سوى الكتاب المقدس وبعض الكتب الدينية! لقد جثمت على صدره أزمة نفسية، كالتي ألمت بإمامنا الغزالي، فأحس كأن شبحاً مخيفاً يطارده، واسودت الدنيا في عينيه، وبلغ به اليأس والقلق حداً بعيداً، فأخفى عن نفسه (بندقية) الصيد خشية أن يصوبها إلى صدره في ساعة من ساعات القنوط؛ وقال عن نفسه على لسان شخص من أشخاص قصصه: (لم يعد لدي شك في أني - ككل كائن حي - لن أصيب في هذه الدنيا غير الألم يعقبه الموت والفناء)، وشرع (تولستوي) يقلب صفحات الكتب الفلسفية ذات المذاهب المختلفة، فيستطلع آراء أفلاطون وكانت وشوبنهور وباسكال لعله واجد فيها ما يرد له الطمأنينة بعد حيرة وقلق، لكنه تبين أن آراء هؤلاء الحكماء - كما يقول - (واضحة جلية دقيقة حينما تبتعد عن مشاكل الحياة المباشرة، ولكنها لا تهدي الحائر سواء السبيل، ولا تبعث الطمأنينة إلى القلوب الضالة القلقة) ولم يلبث (تولستوي) أن هجر الأدب ثم الفلسفة، واتجه إلى الدين لعله يجد في نوره الهداية واليقين؛ فلئن عجز العقل عن هداه فليلجأ إلى القلب، ودعا ربه قائلاً:
(اللهم هبني إيماناً قوياً أملأ به قلبي، وأهد إليه غيري)
هاجر يا صديقي كما هاجر الرسول الأمين. لقد هاجر النبي الكريم بمعنى السفر من بلد إلى بلد، فهاجر أنت بمعنى الرحلة في مكتبتك من رف إلى رف. لقد أوذي النبي الكريم في مكة(550/43)
فهاجر إلى المدينة، وهاأنت ذا تؤذيك أباطيل العقل فهاجر إلى القلب وانعم بإيمانه تنعم بالسكينه والقرار. لقد كانت هجرة النبي لرسالته مولداً جديداً، فلتكن هجرتك في مطالعاتك بعثاً جديداً لروحك المعذب الظمآن
هاجر يا صديقي كما هاجر الرسول، ولئن هاجر النبي في عالم المادة فهاجر أنت في عالم الروح.
زكي نجيب محمود(550/44)
خيبة سراقة
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(وقف (سراقة) مبهوتاً في طريقه إلى غار ثور متقفياً أثر
المصطفى وصفيه الصديق. . . ساخت قوائم فرسه في
الرمال، وردته معجزة العنكبوت حيران الضلال. . .)
سراقة يحدث نفسه:
وَيلاهُ مما سَطَّرْتهُ الرمالْ ... آثارُ وَهمْ في مَغاني خَيالْ. . .
أرَكْبُ جِنٍّ حين مَلَّ السُّري ... في عالم الناس، تَوارَى ومال!
أَمْ موْكبٌ للنور أَقْدامُهُ ... خَلّفْنَ فوق الأرض رؤيا زوال!
أّمْ قافلاتُ الريح كانت هُنا ... تمشى، وألقت رَحلها في الجبال!
أَمْ حُلُمٌ مَّر، وَهذا الثرى ... وَادِي كَرىً نامت عليه الليال!
أَمْ نغم سارَ وَأَشْبَاحُهً ... مَسَسْنَ صَدْرَ البِيِد مَسَّ الظلال!
أَمْ فارس للغيب عاتي الخُطْا ... جَواده المسحور تلك التلال!
جرى عليها وَهْيَ تجري به ... كما جرى بالروح عصف الملال
سُبحان من علم أَرْساَنُه ... تخَطُّفَ الوحيِ، وَبُعْدَ المحال
هذِى هواديه، وَذا خَطْوُهُ ... زَفْزافُ ريح طاردته النمال
عدا جوادي خلفه، فانظري ... يا خَيْبتي: كيف حططنا الرحال!
قوائم ينهش منها الثرى ... ما دسه لله غدر الرجال
مغروزة في الرمل تلهو بها ... طرائد الوحش، وريح الشمال
ناحت عليها صهوة طهِّمَتْ ... وَطُعِّمَتْ باليأس قبل النضال
تذِيبُ سَاقَيَّ بأَفْوافِها ... كأنها مَحْشوَّةٌ بالنِّضال
أحَرَّ تحتي من جحيم اللظى ... وَوَخزةِ الذُّلِ، وَفَحِّ الصِّلال
كأنما قمنا بِعُرْض الْفَلاَ ... تمثالَ خزي عبقريَّ المثال
رباه ما هذا؟ جواد سرى ... أم لعنة، أم خيبة، أم ضلال!(550/45)
(سمفونية) الغار
يسمع الغار حديث سراقة لنفسه فيتلاقى هتاف العنكبوت والحمامتين والثعبان في هذا النشيد:
سَماء الْبِيدِ بُشْرانا ... (سُراقَةُ) عادَ حَيْرانا
أَتى وَالكفر يرعاه ... ونور الله يرعانا
أتى ليصد أنوارا ... فَجَرْنَ الْبِيدَ أَنهارا
فصد الله مسعاه ... وَذَاقَ الذُّل والعارا
بِسَيْفٍ كافر ظَلاَّمْ ... جَرَى ليطَارِدَ الإسلام
هَتَفْنَا إذ رَأَيْناهُ ... رَماك اللهِ بالإْظْلاَمْ
فَعادَ يُقَلِّبُ الْكَفّينْ ... كفيفَ القلب والعينين
تَرى الأشباحَ عيناه ... وَيَسْأَل أَيْنَ نفْسي أَيْنَ؟
وَلاذَ نَبِيُّنا بالغارْ ... فَحامَتْ حَوْلَه الأقْدار
وَصَانَ ضِياَءهُ اللهُ ... ليَسْطَعَ مَشْرِقُ الأدْهار(550/46)
الإسلام بين العقل والروح
للدكتور زكي مبارك
قلت مرة: إن النضال بين الإسلام والنصرانية أتاح فرصاً كثيرة لمباحث نفيسة تغذي القلوب والعقول، وتكشف عن آفاق ما كان ينتظر أن تكشف لو أراد الله أن لا يقع ذلك النضال والمجادلة لا تذم إلا إن صدرت عن سوء نية، لأنها عندئذ تكون عملاً من أسوأ الأعمال، أما إن صدرت عن رغبة في الفهم والتحقيق، فهي عمل مقبول دعا إليه جميع الحكماء في جميع البلاد
وأنا ماضٍ في تبديد شبهة وجهت إلى الإسلام ألوف المرات، وسأقضي على تلك الشبهة قضاء مبرماً. سأقتلع جذورها فلا تنبت بعد اليوم، وسأقوض جدرانها فلا يقوم لها بناء إلى آخر الزمان
فما هي تلك الشبهة، ولا أقول التهمة، ترفعاً بالمجادلين؟
هي قولهم إن الإسلام شريعة مدنية، وليس عقيدة دينية، فهو في نظرهم مجموعة قوانين، وليس ديناً يهتم بتأصيل المعاني الروحية في صدور المؤمنين
وزادوا فقالوا: إن الإسلام لم تشع فيه الروح إلا حين عرف التصوف، والتصوف في رأيهم نزعة مسيحية العرق، وليس لها في الإسلام أصول
وأسارع فأقرر أنه لا يضير الإسلام أن يكون مجموعة قوانين، فسترى بعد لحظات معنى هذا من الوجهة الروحية، وهي مثار الاعتراض
وأقرر أيضاً أن المعاني الإسلامية المقبوسة من المسيحية ليست سرقات، حتى يعيرنا بها فريق من الناس، وإنما هي ميراث أخذناه باستحقاق، لأن الإسلام بنص القرآن هو الوارث لجميع الشرائع السماوية، والمؤلفون المسلمون ينقلون أقوال سيدنا موسى وسيدنا عيسى باحترام، تقرباً إلى الله، لأن الله أوصى سيدنا محمداً بإعزاز جميع الأنبياء والمرسلين
وإذا كان التصوف الإسلامي منقولاً عن أصول مسيحية - ولنسلم جدلاً بهذا - فما كان التصوف مما اتفق عليه جميع أئمة المسلمين، فقد ثار عليه رجال من أقطاب الباحثين، وعدوه خروجاً بالإسلام عن صبغته الأساسية، وهي الصبغة التشريعية
ومعنى هذا أن الهدية مردودة إلى مهديها الأول، على فرض أن التصوف هدية، وعلى(550/47)
فرض أنه بعيد من الروح الإسلامي
أسمعوا يا أيها المجادلون بلا بصيرة وبلا يقين
أنتم اعترفتم بأن الإسلام يعرف العقل ولا يعرف الروح، بدليل أنه في نظركم ليس إلا مجموعة قوانين
وهنا الخطر كل الخطر، الخطر عليكم لا عليه، فالخطأ في الحكم المدني أو الجنائي لا يحتمل الجدال، لأن نقضه أسهل من السهل، بسبب ارتكازه على العقل، فلو كانت القوانين التي أذاعها الإسلام واهية الأساس، لثار عليه المشرعون في جميع بقاع الأرض، وعدوه أسطورة بدوية منقولة عن سراب الصحراء
ولا كذلك الخطأ في الحكم الروحي لأن الحكم الروحي غير محدود بحدود، فمن حق كل روحاني أن يسفه من يخرجون عليه، بحجة أنهم محجوبون عن الروح، وذلك باب يدخل منه الدخلاء والأصلاء على السواء
وإذن يكون الإسلام تحدي جميع الديانات، تحداها بالعقل قبل الروح، تحداها بما لا يجوز فيه الخطأ، وهو التشريع، تحداها بالنبي الأمي، ليعرف من لا يعرف أن وحي السماء فوق إيحاء الكتاب
ماذا أقول؟ هل بددت الشبهة؟ وكيف والكلام إلى هنا يؤيد القول بأن الإسلام دين العقل، وليس دين الوجدان؟ أقترع الحديث فأقول:
إن التهمة صحيحة، تهمة الإسلام بأنه لا يقصر اهتمامه على الشؤون الروحية، وإنما يوزع اهتمامه على كثير من الشؤون العلمية والاجتماعية والمعاشية، وهنا المطعن الذي لا ينفع فيه علاج (؟!)
إسمعوا، ثم اسمعوا، يا أيها المجادلون
كل ما يعرف المسلمون من العلوم والفنون والآداب والقوانين ليس إلا وسائل لغاية صريحة هي خدمة القرآن، والقرآن وحي من الله، وبخدمة القرآن نتقرب إلى الله
علوم النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع علوم تساعد على فهم القرآن، فهي وسائل أدبية لغاية دينية، فنحن نتقرب بها إلى الله
وعلم الفقه ينظم المعاملات بين الناس، ليعرفوا سبيل النجاة من غضب الله، فنحن بعلم(550/48)
الفقه نتقرب إلى الله
وعلم الحساب يساعد على تحديد الأغراض الاقتصادية بين الناس، فنحن بعلم الحساب نتقرب إلى الله
وعلم الفلك يساعد على تحديد المواقيت، فنحن بإدراك دقائقه نتقرب إلى الله
وعلم التاريخ يخلق العظة بالحوادث، وقد رآه القرآن من وسائل الترغيب والترهيب، فنحن بعلم التاريخ نتقرب إلى الله
لا موجب للإطناب، ففي أول كل كتاب نجد الراجز يقول:
إن مبادئ كل فن عَشرَهْ ... الحد والموضوع ثم الثمرهْ
إلى آخر ما قال، ولا موجب للنص على أن علماء المسلمين لم يدركوا للعلم غاية غير خدمة الشريعة الإسلامية، فذلك واضح في جميع مؤلفاتهم، حتى علم الحساب. وقد راعى هذا المعنى أستاذنا محمد بك إدريس فنص عليه في مقدمة كتاب الحساب لطلبة الأزهر الشريف
جميع العلوم والفنون وسائل لخدمة الدين الإسلامي، والتكسب أو التسبب له في الإسلام آداب، مع أن الظاهر يوهم أنه بعيد من الروح
كل خطوة تخطوها في صباحك أو مسائك، لها في حياتك المعاشية صلات بحياتك الدينية. . . بهذا يوصيك الإسلام، لأنه دين العقل والروح
إن الحج وهو فريضة دينية، أبيحت فيه المنافع المعاشية، لأن الله يرى أن جميع الفضائل وسائل إلى رفاهية المعاش
وهل ننسى أننا نطيع الله لننعم بالفردوس؟
المزية الصحيحة للإسلام هي دعوته إلى أن نسيطر على جميع بقاع الأرض، لنحقق الصلة بيننا وبين الله بإقامة دعائم العدل فوق جميع البقاع، ولنحقق إرادته السامية في أن تكون الكلمة العليا لله وللمؤمنين
مزية المسلمين أنهم لا يقابلون الله وجهاً لوجه، كما يتوهم المسيحيون، وإنما يقابلونه في مخلوقاته من الأنهار والبحار، والجنة والناس، والحقائق والأباطيل
وأين الله؟ هل رآه من يدعون أنهم أبناؤه، صادقين أو كاذبين؟(550/49)
المسلم هو الصورة الحقيقة للمؤمن
المسلم هو خليفة آدم، وقد جعل الله آدم خليفة على الأرض، وللأرض آداب لا تعرفها السماء، لأن فيها تكاليف لم يسمع بها سكان السماء
المسيحي يخاطب الله في ذاته فيستريح، والمسلم يخاطب الله في مخلوقاته فيتعب، والتعب شارة الرجال
وأنا مسلم، لأن الإسلام يوجب على أبنائه أن يذكروا الله في جميع الشؤون
أنا مسلم بالرغم مني، لأني لا أرى ديناً يفوق ما في الإسلام من تكاليف، والتكاليف هي الأساس لتجربة أخلاق الرجال
أنا مسلم بالعقل وبالروح، والدين عند الله هو الإسلام، لأنه الصورة النهائية للحسن والصدق في التشريع
حاولت أن أرتاب في الإسلام فلم أستطع، حاولت بالعقل وبالروح في حدود ما أطيق، وأين أنا مما أطيق؟ الآن آمنت بأن الإسلام دين العقل والوجدان.
زكي مبارك(550/50)
من مذكرات ابن أبي ربيعة
جريرة ميعاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر ابن أبي ربيعة. . .):
ركتني الحمى ثلاثاً حتى ظننت أن الله قد كتب على أن أذوق حظي من نار الدنيا قبل أن أرد على نار الآخرة. وكنت أجد مسها كلذع الجمرات على الجلد الحي، وأجدني كالذي وضع بين فكيه ضرساً من جبل فهو يجرشه جرش الرحى، وظللت أهذي وابن أبي عتيق يتلقف عني ما كنت أسر دونه، حتى إذا فصرت عني وثاب إلى عقلي قال ابن أبي عتيق: ويلك يا عمر! والله لقد فضحتها وهتكت عنها سترها؛ أما والله لو قد كنت أخبرتني قبل الساعة لاحتلت لها ولوقيتها مما عرضتها له. قلت: ويبك يا ابن أبي عتيق! من تعني؟ قال: من أعني؟ وأنت مازلت منذ الساعة تهذي باسمها غير معجم! إنها الثريا واليوم ميعادها، ولقد مضى من الليل أكثره وما بقى منه إلا حشاشة هالك!
ووجم الرجل واعتراني من الهم ما حبب إلى الحمى أن تكون خامرتني وساورتني قضت علي، وطفقت أنظر بعيني في بقايا الليل نظرة الثكلى ترى في حواشي الدجى طيف ولدها وواحدها. وتمضي الساعات علي كأنما تطأني بأقدم غلاظ شداد لم تدع لي عضواً إلا رضته. وابن أبي عتيق يذهب ويجئ كأنما أصابه مس فهو يرميني بعينه صامتاً يتحزن لما يرهب من فجاءات القدر بي وبها. ثم أقبل على يقول: خبرني يا عمر أين واعدتها من دارك هذه؟ فوالله لكأنما ألقى في سمعي لهباً يتضرم، فلم أسمع ولم أبصر ودارت بي الأرض، فما أدري بم أجيب، فلقد واعدتها منزلاً كنت أحتفي به لميعادها، قد استودعته سري وسرها، فما أدري ما فعل به أهل الدار، وقد ربضت بي الحمى بمنأى عنه. ولا والله ما شعرت أن الفجر قد صدع حتى سمعت الأذان كأنه ينعى إلي بعض نفسي فما تماسكت أن أنتحب، وابتدر إلى صاحبي يكفكف غرب أحزاني. وقال: خفض عليك يا عمر، فإن هذا يهيضك إلى ما بك. وما تدري لعل الله يحدث بعد عسر يسرا. قم إلى وضوئك أيها الرجل، واستقبل بوجهك هذه البنية، وادع الله جاهداً أن يستر ما هتكت، فإنهن النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه(550/51)
فما كدت أفرغ من صلاتي حتى جاءت جارية صغيرة تعدو قد أنزفها الجري، ورمت إلي كتاباً في سدقة من حرير يفوح منها العطر، وقالت: سيدتي تقول لك: في هذه شفاء من داء. واستدارت وانطلقت تسعى. فنظرت وشممت ونشرت الحريرة المطوية عن كتاب المطوي طي العجلة، وإذا فيه: (جئنا لميعادك، فإذا شبح نائم في بردك فرميت نفسي عليه أقبله فانتبه وجعل يقول: اغربي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله. ودفعني فعدوت أقر بنفسي من فضيحة تنالني فيك. وما شعرت أنك محموم حتى أنبأتني بذلك أختي، فويلي عليك وويلي منك يا عمر!). فألقيت الكتاب إلى ابن أبي عتيق واستعفى به أن يدبر منذ اليوم ما أتقي به خبء الليالي، فنظر إلي بعينين زائغتين من سهر وسهاد وقال: والله يا عمر لكأني بك قد ركبت إلى بلائك وبلاء الثريا حين قلت:
تشكَّي الكميت الجَرْيَ لمّا جهدته ... وبّين لو يستطيع أن يتكلما
وما أدري كيف أحتال لك في أمر قد انفلتت من يديك أعنته، فدع الأمر لله يدبره، ووطن نفسك على الثقة، ولا تجزع لبنية إن جاءتك، والق من يلقاك بالفضيحة كأتم ما كنت بشاشة ورضى وسكينة؛ فأنت خليق أن تنقذها مما ورطتها فيه. وإياك والتردد، فإنه مدرجة النكبات. ولقد عهدتك صنع اللسان فإن لم ينفعك اليوم لسانك فلا والله لا نفعك. قلت: جزاك الله عني خيراً يا ابن أبي عتيق، ما ضرني كتماني دونك ما أكتم إلا اليوم، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. ويلي من نفسي ثم ويلي منها! واعلم أنه ما يكربني أن يلقاني من أحتال له وأصرفه، وإنما يكربني أمر الثريا وهي تقضي الساعات قد ألقى الهم في دمها ناره وفي فكرها ظلمته، ولا والله ما أستطيع أن أحتال لرسول يلم بها فيقول لها بعض ما تسكن إليه
قال ابن أبي عتيق: فهلا حدثتني عنها يا عمر؟ فلقد صحبتك ما صحبتك وما أدري من خبر الثريا وأمرها إلا ما أتسقطه من حديث الناس. قلت: وما تبغي إلى ذلك؟ أما كفاك ما تعرف من أمر سائرهن. وإني لأراك كالمهوم الذي لا يشبع؛ فلو كنت مثلي لقلت عسى أن تكون لك في نفسك حاجة، ولكن الله عافاك مما ابتلاني به، فدع عنك الثريا وأخبارها. فورب السموات والأرض وما فيهن ما أمنت على سرها نفسي، فكيف بي إذا بحت لك؟ قال: إذن فصفها لي كيف تراها؟ قلت: أما إنك على ذلك، لشديد الحرص شديد الطمع. وما تبغي إلى(550/52)
امرأة من النساء تسمع من نعتها وحليتها وصفاتها؟ لولا أن كنت اليوم شاهدي لما حدثتك بحرف. يقول الناس: ما فعل الله بابن أبي ربيعه؟ ما زال يمد عينيه إلى كل غادية ورائحة حتى أفضى إلى الثريا، فتعلق منها بنجم لا يناله وإن جهد. وإنها لعرضة ذلك جمالاً وتماماً، وإني لخليق أن أفنى فيها نور عيني وقلبي. ويقول الناس: ما الثريا؟ إن هي إلا امرأة دون من نعرف من النساء حسناً وبهاء. وقد والله كذبتهم أعينهم، وإني لبصير بالنساء خبير بما فيهن، ولئن كنت قد عشت تبيعاً للنساء أنقدهن نقد الصيرفي للدينار والدرهم فأنا أهل المعرفة أحقق جيادها وزيوفها بأنامل كالميزان لا يكذب عليها ناقص ولا وافٍ
ما يضيرك يا ابن أبي عتيق أن ترى الثريا أو ولا تراها، فإنك لا تراها بعيني، وإنما أنت من الناس تضل عن جمالها حيث أهتدي إليه، وتسألني كيف أراها؟ فوالله إن رأيتها إلا ظنت أني لم أرها من قبل، فهي تتجدد في عيني وفي قلبي مع كل طرفة عين، ولئن نعتها لك فما أنعت منها إلا الذي أنت واجده حيث سرت عن النساء: غادة كالفنن الغض يميد بها الصبا وسكر الشباب، لم ترب ربوة الفارعات، ولم تدف جفوة البدينات، ولم تضمر ضمور الهزولات، ولم تمسح مسحة الضئيلات، ولم تقبض قبضة القصار القميئات، فتم تمامها بضة هيفاء أملوداً خفاقة الحشا هضيمة الكشحين مهفمفة الخصر، تتثنى من اللين كأنها سكرى تترنح. فلو ذهبت تمسها لمست منها نعمة ولياناً وامتلاء قد جدلت كلها جدل العصب، فهي على بنانك لدنة ترعد من لطفها واعتدالها. وانظر بعيني يا ابن أبي عتيق، تبصر لها نحراً كذوب الفضة البيضاء قد مسها الذهب؛ فلا والله ما ملكت نفسي أن أعب من هذا الينبوع المتفجر. إلا تقي لله أن أدنسه بشفتين ظامئتين قد طالما جرى عليهما الكذب والشعر. أما وجهها فكالدرة المصقولة لا يترقرق فيه ماء الشباب إلا حائراً لا يدري أين ينسكب إلا على نحرها الوضاء، يزينه أنف أشم دقيق العرنين لطيف المارن؛ فإذا دنوت إليها فإنما تتنفس عليك من روضة معطار أو خمر معتقة، فاذهب بنفسك أيها الرجل أن تزول عن مكانك كما يقول صاحبنا جميل:
فقام يجرُّ عطفيه خُماراً ... وكان قريب عهد بالممات
ودع عنك عينيها يا رجل، فلو نظرت إليك نظرة لوجدتها تنفذ في عينيك تضئ لقلبك في أكنته مسارب الدم في أغوار جوفك، ولتركتك كما تركتني أسير بعينين مغمضتين ذاهلتين(550/53)
إلا عما أضاءت لك في الحياة عيناها. فإذا دنت إليك فكن ما شئت إلا أن تكون حيا ذا إرادة تطيق أن تتصرف، وذر كل شيء إلا عطر أنفاسها وضياء وجهها، وغمامة تظلل روحك النشوى طائفة عليك بأطراف شعرها المتهدل كحواشي الليل على جبين الفجر، وخذ بناناً رخصاً مطرفاً كثمار العناب تغذوها يد بضة بيضاء يحار فيها مثل ماء الصفا، فلقد قبلتها يوماً ظننت أن قد أطفأت بها غليلي فزادتني غلة وصدى، فما نفعني في نار هذه الحمى إلا ما لم أزل أجد من بردها وطيبها وعذوبتها على شفتي حتى اليوم. ولا والله إن رأيت كمثلها امرأة إذا حدثت، فكأنما تسكب في روحي سر الحياة يهمس عن شفتين رقيقتين ضامرتين كأن الدم فيها مكفوف وراء غلالة من النعمة والشباب. فآه من الثريا! لقد حجبت عني كل نجم كان يلوح لي في الدياجي يلهمني أو يغويني. . . وي، ما دهاك أيها الرجل؟
ورأيت ابن أبي عتيق يتخطاني بعينيه ينظر إلى الباب من ورائي، قد انتسف وجهه وغاض من الدم كأنما يرى هؤلاًء هائلاً قد أوشك أن ينقض عليه، وما كدت أرد الطرف حتى سمعت من يقول: السلام عليكما يا عمر! وأنت يا ابن أبي عتيق مالك تنظر إلي كالمغشي عليه لا ترف منك عاملة ولا ساكنة؟ وما بك يا أبا الخطاب! أترى الحمى كانت منك على ميعاد؟ لقد أقبلت أمس من سفري، وكان الليل قد أوغل فتلقاني ولدك جوان فأنباني أن الحمى قد وردتك فأردعت عليك أياماً فنهكتك حتى خيفت عليك برحاؤها. وأن ابن أبي عتيق جزاه الله عنا وعنك خيراً أبي إلا أن يتعهدك بمرضك حتى تبرأ وتستفيق، وإني لأراك بارئاً يا أبا الخطاب.
فوالله لقد سكنت نفسي لما أتم كلامه وسكت، وأدنى يده يجسني جس المشفق. ورأيت ابن أبي عتيق يثوب كأنما كان في كرب يغته ويعصره ثم أرسله فعاد إليه الدم. فهذا أخي الحارث (هو الحارث بن أبي ربيعة أخو عمر) سيد من سادات قريش شريف كريم عفيف دين، ما رآه امرؤ إلا دخلته الرهبة له حتى تتعاظمه. فما زاده أن كانت أمه سوداء من حبش إلا رفعة ومكاناً. ولقد كان عبد الملك بن مروان ينازع عبد الله ابن الزبير أمر الخلافة، وكان ابن الزبير قد ولى الحارث بعض الولايات، فلما جاءه النبأ بولاية الحارث قال: أرسل عوفاً وقعد! ولا حر بوادي عوف. فابتدر من المجلس يحيى بن الحكم وقال: ومن الحارث يا أمير المؤمنين؟ ابن السوداء! فقال له عبد الملك: خسأت، فوالله ما ولدت(550/54)
أمة خيراً مما ولدت أمه!
ثم صرف الحارث وجهه إلى ابن أبي عتيق وهو يبتسم له وقال: أما زلت يا ابن أبي عتيق بحيث قال صاحبك فيما بلغني من شعره إذ يقول لك؟
لا تلمني عتيقُ حسبي الذي بي ... إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني
إنَّ بي داخلاً من الحب قد أب ... لى عظامي مكنونُه وبراني
لا تلمني وأنت زيَّنتها لي ... أنت مثل الشيطان للإنسان
فقال ابن أبي عتيق: هديت الخير، فوالله إن أخاك لشاعر يقذف بباطله، ولقد وقعت في لسانه ولقيت من دواهيه. ثم نظر إلي الحارث وقال: أما وقد لقيتك بخير يا عمر، فإني منصرف إلى وجهي، وبالله إلا ما تقدمت إلى أهل بيتك أن يعدوا لي المنزل الذي نزلته بالأمس حتى أعود، وإني أرى الريحان قد ذبل فمرهم أن يستبدلوا به، وأن يطيبوا الفراش ويجمروه. وقل لطائف الليل أن لا يلم بنا؛ فلسنا من حاجته ولا هو من حاجتنا. فما تمالكت أن قلت له: ويحك! أفهو أنت؟ قال: أجل هو أنا أيها الفاسق! قلت: إذن فوالله لا تمسك النار أبداً وقد ألقت نفسها عليك وقبلتك. فقام مغضباً يفور وقال: أعزب، عليك وعليها لعنة الله!
وانطلق الحارث واستفقت من غشية الحب وما نزل بي من الغم لما فاتني من الثريا وقال ابن أبي عتيق: قد والله أسأت فما تراني كنت أحدثك من جوف الليل أنهاك أن تجزع لبغتة إن جاءتك، فوالله لشد ما جزعت وخانتك نفسك وأرداك لسانك! ولبئسما استقبلت به أخاك! ولقد كنت أقول لك إن التردد مدرجة النكبات فإذا جرأة لسانك مدرجة إلى كل بلاء، وإلا والله لا تفلح أبداً أيها الرجل
فلقد اضطرب علي أمري حتى ما أدري ما أقول، ثم سكنت نفسي وقلت له: أفرخ روعك يا ابن أبي عتيق، ولتعلمن اليوم دهاء عمر، فأرسل في طلب ابنتي (أمة الوهاب) والحق أنت الحارث فرده علي. وانطلق ابن أبي عتيق، ولم ألبث حتى جاءتني أمة الوهاب فقلت لها: يا بنية! أشعرت أن عمك الحارث قد نزل بنا الليلة؟ قالت: كلا يا أبه! قلت إذن فانطلقي إلى هذه الغرفة التي إلى جواري وتباكي وانتحبي ما استطعت حتى أنهاك. ففعلت، وجاء الحارث وابن أبي عتيق فقلت له: جعلت فداءك! مالك ولأمة الوهاب ابنتك؟ أتتك مسلمة عليك فلعنتها وزجرتها وتهددتها، وها هي تيك باكية فقال: وإنها لهي! قال: ومن(550/55)
تراها تكون؟
فأنكر الحارث كأنما اقترف ذنباً لا يعفو الله عنه إلا رحمة من عنده، وقال: فما بالك وما كنت تقول؟ فقال ابن أبي عتيق: ذاك هذيان المحموم يا ابن أخي، ولو أنت كنت الليلة إلى جانبه لسمعت من بوائق لسانه ما تصطك منه المسامع. وإني لأظن الحمى هي التي خيلت له حتى أنطقته ببعض تكاذيبه. قال الحارث: والله لشد ما يغمني أن يدع عمر كل خير في الدنيا، وكل ثواب في الآخرة، وأن يحبط أعماله بما يسول له شيطان نفسه وشيطان شعره، فيهتك عن الحرائر ما ستر الله. ولقد طالما نهيتك يا عمر عن قول الشعر فما زلت تأبى أن تقبل مني، أتراك فاعلاً لو أعطيتك الساعة ألف دينار ذهباً على ألا تقول شعراً أبداً. قلت: قد رضيت! قال: فهي منذ الساعة في ملكك
قال عمر بن أبي ربيعه: فما أخذتها منه إلا لأهديها إلى الثريا عطراً ولؤلؤاً وثياباً من تحف اليمن. أما الشعر فوالله لا أتركه لأحد، رضى الحارث عني أو غضب.
محمود محمد شاكر(550/56)
القضايا الكبرى في الإسلام
قتل الهرمزان
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
روع المسلمون بقتل عمر رضي الله عنه بيد فارسي أثيم يسمى فيروز، ويكنى أبا لؤلؤة، ووقف العالم ينتظر أثر هذا الحادث في نفوس المسلمين من جهة الفرس الداخلين في حكمهم. أيجعلونها قضية شخصية كسائر القضايا، أم يتناولون بها غير القاتل من قومه، فيقضون فيها بحكم القوة الذي كان يقضي به في الجاهلية، وتقوم به الحروب بين القبائل والشعوب، ويخرجهم السلطان عن حكم القرآن في قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) فلا فرق بين أمير وحقير، ولا بين عربي وغيره من سائر الشعوب
وقد تفرعت عن هذه القضية قضية أشد منها امتحاناً للمسلمين في الحكم الذي يأخذون به فيها، فوقف العالم مرة ثانية ينتظر فيها حكمهم، فهل يقضون بالعصبية التي كانوا يقضون بها في الجاهلية، أو يقضون بالعدل الذي لا يفرق بين القبائل والشعوب، وتلك قضية قتل الهزمزان الذي روع المسلمين كما روعهم قتل عمر، وأظلمت به المدينة على أهلها ثلاثا
خرج عمر بن الخطاب يوماً يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة - وكان نصرانياً - فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجاً كثيرا. فقال له عمر: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم. فقال عمر: وإيش صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد. فقال عمر: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال. قد بلغني أنك تقول لو أردت أن أعمل رحاً تطحن بالريح فعلت. فقال: نعم. فقال عمر: فاعمل لي رحاً. فقال: لئن سلمت لأعملن لك رحاً يتحدث بها من بالمشرق والمغرب. ثم انصرف عنه. فقال عمر: لقد توعدني العبد آنفاً. فلما كان بعد ثلاثة أيام خرج إلى صلاة الصبح، وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا استوت جاء هو فكبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وفي يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته، ثم خرج يريد الفرار فتبعه رجل من تيم فقتله وأخذ منه الخنجر، ومضى ذلك المجرم الأثيم بسر فعلته، ولو أنه بقى لأمكن أن يؤخذ منه اعتراف عن السبب الذي(550/57)
دفعه إليها، وأن يسأل هل الذي حمله عليها أن عمر لم يعده على المغيرة بن شعبة، أو أنه أراد الانتقام لدولة الفرس التي أسقطها عمر؟ وهل كان له في ذلك شركاء، أو لم يكن له شركاء فيه؟
وقد شاع عقب ضرب عمر أن قتله لم يكن عمل أبي لؤلؤة وحده، وأنه كان هناك أشخاص شركوا في دم عمر، ففتح باب التحقيق في هذه القضية الغامضة، وجاء عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق غداة طعن عمر: فقال: مررت على أبي لؤلؤة أمس ومعه جفينة والهرمزان وهم نجى؛ فلما رهقتهم ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فانظروا بأي شيء قتل؟ فجاءوا وبالخنجر الذي ضرب به أبو لؤلؤة فإذا هو على الصفة التي وصفها عبد الرحمن بن أبي بكر
ولم يتقدم أحد بعد عبد الرحمن بشهادة تلقى ضوءاً على هذه القضية الغامضة. ولا شك أن شهادة عبد الرحمن إنما تثير شبها فقط في جفينة والهرمزان، والشبهة لا تكفي في إثبات جناية من الجنايات، لأن أمور الدماء أجل من أن تهدر بشبهة من الشبه، بل إن الشبهة لا تكفي في إثبات حق في الدماء وغيرها، ولابد من دليل واضح تثبت به الحقوق، وتبنى عليه الأحكام.
وقد سئل القماذبان بن الهرمزان عن أمر ذلك الخنجر فقال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمر فيروز (أبو لؤلؤة) بأبي ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: أبس به فرآه عبد الرحمن بن أبي بكر، فلما أصيب عمر قال: رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز
فلما لم يجدوا في هذه القضية الغامضة غير تلك الشهادة طووا التحقيق فيها، ولم يروا في هذه الشهادة ما يدين جفينة والهرمزان، وكان في طي التحقيق بهذا الشكل أكبر دلالة على سمو الإسلام، لأنه أبى مع تلك الشهادة التي تثير شبهة قوية في أن قتل عمر كان بمؤامرة فارسية أن يجعل لشهوة الانتقام أثراً في حكمه، وأن تأخذه عزة السلطان فيستهين بدم شعب خضع له، ويجعلها مذبحة تشقي النفوس الثائرة لمقتل ذلك الخليفة الذي نشر لواءه في الخافقين
ولكن طي التحقيق بهذا الشكل لم يرض بعض آل عمر، وكان ابنه عبيد الله لا يزال فتى(550/58)
يجري فيه دم الشباب، ويعد من شجعان قريش وفرسانهم، فخرج مشتملاً على السيف حتى أتى الهرمزان فقال: اصحبني ننظر إلى فرس لي. وكان الهرمزان بصيراً بالخيل، فخرج بين يديه فعلاه عبيد الله بالسيف، فلما وجد حر السيف قال: لا إله إلا الله، ثم فقتله. ثم أتى جفينة وكان نصرانياً من أهل الحيرة، أقدمه سعد بن أبي وقاص إلى المدينة ليعلم بها الكتابة، فلما أشرف له علاه بالسيف فضربه فصلب ما بين عينيه، ثم أتى ابنه أبي لؤلؤة جارية صغيرة تدعى الإسلام فقتلها، ثم أقبل بالسيف صلتاً في يده وهو يقول: والله لا أترك في المدينة سبباً إلا قتلته وغيرهم، وكأنه يعرض بناس من المهاجرين، فجعلوا يقولون: ألق السيف، فيأبى ويهابونه إلى أن أتى عمرو بن العاص فقال له: يا ابن أخي أعطني السيف. فأعطاه إياه، ثم ثأر إليه عثمان بن عفان فأخذ بناصيته حتى حجز الناس بينهما، وأرسل صهيب الرومي القائم مقام الخليفة من أتى به إليه، فسجنه حتى يتم الاستخلاف وينظر في أمره
فلما تولى عثمان الخلافة جلس في المسجد لينظر في هذه القضية التي وقف العالم ينظر ما يفعله الإسلام فيها، فدعا بعبيد الله من سجنه، ثم قال لجماعة المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فنصب علي ابن أبي طالب نفسه محامياً عن الهرمزان ومن قتل معه، وقال لعثمان: أرى أن تقتل عبيد الله. وهو في هذا يرى أن النص صريح في القصاص من القاتل، ومتى كان هذا أمر النص وجب الحكم به، ولا يصح أن يراعي معه شيء آخر، ولا أن يغلب على حكمه ما يقترن بحادث القتل من مثل ما أقترن به في هذا الحادث، لأن أمر النص فوق كل شخص، وحكمه يعلو على كل اعتبار، وهو في هذا يتمسك في عصرنا بألفاظ القوانين، ولا يبيح العدول عنها في حال من الأحوال. وقد وضع علي بهذا أول حجر في أساس تشيع الفرس له
ونصب جماعة من المهاجرين أنفسهم للدفاع عن عبيد الله، فقالوا في الدفاع عنه: قتل عمر بالأمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم! أبعد الله الهرمزان وجفينة! وكأني بهم يخالفون علياً في ذلك النظر إلى النص، ويرون أنه قد يطرأ من الأحوال ما يجب معه التساهل في أمر النصوص، وتغليب الاعتبارات التي تمنع من الأخذ بها، فلا يجب أن يتقيد القاضي بها دائماً، بل يجب أن يترك الأخذ بها وعدمه لتقديره واجتهاده، ولحكم الأحوال التي تقترن(550/59)
بالحادث الذي يريد الحكم فيه
وكان عمر بن العاص ممن نصب نفسه للدفاع عن عبيد الله، وقد ذهب فيه مذهباً غريباً يخلصه من القصاص، ولا يكون فيه عنده خروج على نص الشرع في قتل العمد، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر ولك على الناس من سلطان، وإنما كان هذا الأمر ولا سلطان لك، فاصفح عنه يا أمير المؤمنين. وعمرو يذهب في هذا كما ذكر ابن حزم إلى إهدار القود عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر، وهو مذهب غريب لا يصح الأخذ به، وإلا انتظر الناس ذلك الظرف فاستباحوا فيه الدماء، لأنهم يرون أنه لا ينالهم فيه قصاص. وانتهت بدفاع عمرو مرحلة الدفاع في القضية، وهو دفاع يدل على أن الصحابة كانوا يتمتعون بقسط وافر من حرية الاجتهاد، وأنهم كانوا لا يقفون جامدين أمام دلالة النص إذا حزب الأمر، اقتضى مرونة تحل ما يوقعهم فيه من إشكال. وقد تشعب الخلاف بينهم في دفاعهم حتى بلغ أقصى ما يبلغه خلاف، فلم يحمل أحداً منهم على الطعن في دين الآخر، ولم يرمه بالإلحاد الذي نترامى به في عصرنا في كل خلاف يحصل بيننا
ثم جاءت مرحلة الحكم فقال عثمان: أنا ولي الهرمزان وجفينة والجارية، وقد جعلتها دية. وفي رواية إنه قال لعلي حينما قال له اقتل عبيد الله: كيف أقتل رجلاً قتل أبوه أمس، لا افعل. ولكن هذا رجل من أهل الأرض، وأنا وليه أعفو عنه وأؤدي ديته. وقد اختلف العلماء في توجيه هذا الحكم الذي جاء مخالفاً لنص القصاص، فقال صاحب البدائع: أراد بقوله: أعفو عنه وأؤدي ديته، الصلح على الدية. وللحاكم أن يصالح على الدية إلا أنه لا يملك العفو، لأن القصاص حق المسلمين بدليل أن ميراثه لهم وأن الحاكم نائب عنهم في الإقامة. وفي العفو إسقاط حقهم أصلاً، وهذا لا يجوز. وله أن يصالح على الدية كما فعل عثمان رضي الله عنه. وذكر ابن حزم أن عثمان أخذ في ذلك بما ذهب إليه عمرو في دفاعه من إهدار القوَد عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر. وقيل إن عثمان لم يحكم بذلك إلا بعد أن دعي القماذبان بن الهرمزان فأمكنه من عبيد الله ثم قال له: يا بني! هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله. فخرج به وما في الأرض أحد إلا معه؛ إلا أنهم يطلبون إليه فيه، فقال لهم: إلى قتله؟ قالوا نعم، وسبوا عبيد الله. فقال: أفلكم أن(550/60)
تمنعوه؟ قالوا: لا؛ وسبوه. فتركه لله ولهم؛ فاحتملوه حتى بلغوا به المنزل على رؤوسهم وأكفهم. وقد حكم ابن حجر بضعف هذا الخبر، لأن علياً استمر حريصاً على أن يقتله بالهرمزان. وقد قالوا إنه هرب لما ولي الخلافة إلى الشام فكان مع معاوية إلى أن قتل معه بصفين. وإني أرى أن هذا لا يقطع بضعف هذا الخبر، لأنه يجوز أن علياً رأى أن القماذبان قد حمل من الناس على هذا العفو، على أني أستبعد أن يستمر علي حريصاً على قتل عبيد الله بعد حكم عثمان بذلك؛ فلكل حكم قداسته، وعلى أكبر من أن يستهين بالأحكام إلى هذا الحد. ولا أنكر مع هذا أنه لم يكن راضياً عنه، وأنه كان هناك فريق من الصحابة يشاركه في عدم الرضا به، ومن ذلك الفريق زياد ابن لبيد البياضي، وكان إذا رأى عبيد الله ينشده:
إلا يا عبيد الله مالك مهربٌ ... ولا ملجأ من ابن أرْوى ولا خَفَرْ
أصبت دماً والله في غير حِلَّه ... حراماً وقتل الهرمزانِ له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل ... أتتهمون الهرمزان على عُمر
فقال سفيهُ والحوادث جمةٌ ... نعم أَتهمْهُ قد أشار وقد أمَر
وكان سلاح العبد في جوف بيته ... يقلَّبها والأمر بالأمر يعتبرْ
فشكاه عبيد الله إلى عثمان فدعا به فنهاه، فقال في عثمان:
أبا عمرِو عبيد الله رهنٌ ... فلا تشكك بقتل الهرمزان
فإنك إن غفرْت الجُرْم عنه ... وأسباب الخطأ فرسار هان
أتعفو إذ عفوت بغير حقٍ ... فما لك بالذي تحكي يَدان
فدعا به عثمان ثانياً فنهاه وشذبه، وكان حقيقاً بما فعل عثمان به لأن الطعن في الأحكام بهذا الشكل يدعو إلى الفوضى، والقاضي إذا حكم باجتهاده كان لحكمه قداسته كائناً ما كان حكمه
عبد المتعال الصعيدي(550/61)
من روائع الرسول
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يمر الزمن وتزداد عظمة الرسول وضوحاً وجلاء، وكلما تعمقنا في دراسة روائعه وجوامع كلمة تجلى صفاء المعنى وسمو المرمى والحكمة الزاخرة والحق المبين
وحين نستعرض بعض روائعه نجتلي محاسن أغراسها، ونمتع النفس بنفائس أزهارها، ونغذي الروح بما فيها من حكمة وخير وجمال - أقول حين نستعرض هذه نجد أن من الأحاديث ما يعبر أروع تعبير عن حقيقة الظواهر الكونية وعن القوانين الطبيعية التي تسيطر على هذا العالم، فهي وإن قلت عدد كلمات، فقد حوت من الحكم والمعاني ما يبهر العقل والقلب والعاطفة؛ يهتدي بها الضال في الفلوات، ويرنو إليها الخابط في الظلمات، تنير الفكر وتهدي إلى الغاية، كما ترشد إلى الحقيقة الخالدة. فيها الهدى، وفيها الموعظة، وفيها العبرة.
كان إبراهيم قرة عين الرسول يسر بمداعبته ويطمئن إلى رؤيته، يرمقه بعطف ليس بعده عطف، ويخلع عليه ألواناً من الحب والحنان تتمثل فيها الرحمة الأبوية في أقوى صورها، والعاطفة الإنسانية في أسمى معانيها.
لقد فقد محمد أبناؤه وبناته ولم يبق له غير فاطمة وإبراهيم. لهذا لا عجب إذا طفح بشراً عند مشاهدتهما، وامتلأ غبطة وسروراً في لقياهما، ولكن شاءت الحكمة الإلهية أن لا تطول تلك الغبطة وذلك السرور، أن يفجع النبي في ولده إبراهيم، وهنا (انطفأ بموته ذلك الذي تفتحت له نفس زمنا وزادت عينا محمد تهتانا وهو يقول: يا إبراهيم لولا أنه أمر حق ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك بأشد من هذا. . .)
كسفت الشمس في يوم الوفاة، ورأى المسلمون في ذلك كرامة. فقال بعضهم: لقد انكسفت الشمس لموته. وهم على ما يظهر على حق فيما يقولون؛ فلقد وافق موت إبراهيم كسوف الشمس؛ فلماذا لا يرى بعضهم في هذا معجزة؟
أليس الله بقادر على كل شيء؟
أليس الرسول كريماً عند مولاه؟
لقد حسبوا أن الله أراد أن يكون في هذه الظاهرة العزاء والسلوى لنبيه الكريم. . .(550/62)
وهنا. . . يتجلى في محمد - على فرط حبه لإبراهيم وشدة حزنه عليه وجزعه لموته - إخلاصه للرسالة، ويرى في القول خروجاً على الدعوة التي بعث من أجلها، ولا يرضى أن يرى الناس في هذا معجزة فينسى أن إبراهيم، ولده وينسى أن إبراهيم كان رجاءه وأمله، وينسى أن إبراهيم مات ولما تتفتح نفسه له. . . وينسى فجيعته وهذا الهول الذي نزل به، ويقف خطيباً ويقول: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)
صلى الله عليك. . . وهل بعد هذا من عظمة؟ ففي أحرج المواقف، في أدقها، لم تنس رسالتك، ولم تغفل عن الحق الذي أتيت به، وأبيت إلا أن تكون مخلصاً لدعوتك ولحقائق الوجود، وجئت بدستور كوني وضع حداً لسخافات المنجمين وأقوالهم، ولاعتقادات الناس في الظواهر الطبيعية والكونية، وبأن ما يجري في الكون لا يتقيد بأحد، ولا يسير إرضاء لبشر، بل إن هناك قوانين تسيرها، وأنظمة تسيطر على حركاتها، أوجدها الخالق منذ الأزل لا تحيد عن الطريق الذي رسمها، وقد تزهها عن الشذوذ والتناقض
ومن يبحث في هذا الكون ويسع في الوقوف على أنظمته والقوانين التي تسيطر عليه يجد أن لا شيء فيه إلا يسير ضمن دائرة من القوانين لا يتعداها، وأن ما يسيطر على أصغر وأجزاء المادة يسيطر على أكبرها، وأن الكون متسق في نظامه، متناسق في أجزائه، متشابه في تركيبه، وأن النظام الموجود في السيارات والشموس هو بعينه في الجوهر الفرد، في الكهارب وفي النوايا. ومن الغريب أن الإنسان كلما تقدم في الكشف عن القوانين الطبيعية وكلما حاول تفهم أسرارها، رأى نفسه أمام أسئلة عديدة لا يستطيع الإجابة عنها، وقد زاد اعتقاداً بضآلته وجهله، وبأنه لم يكشف شيئاً، وأنه لا يزال في فجر يقظته العقلية وفي مراحل التفكير الأولى في الوقوف على أسرار الوجود. وكلما قلب بصره في هذا الفضاء وزاد معرفة به شعر بأن الوداعة تقترب منه، وأن من الواجب عليه أن يكون في الذروة من التواضع وسمو الخلق. ولا عجب، فحسبه أن يعرف أن الأرض إزاء الأجرام السماوية التي لا عد لها أشكالاً وأنواعاً كذروة من الغبار سائرة إلى الفناء لا تأبه للحياة. . . ولقد ربط مبدع هذا الكون أجزاءه بعضها ببعض ربطاً وثيقاً لا يستغني أحدها عن الآخر ولا يستطيع أي جزء أن يسير دون غيره، فالإنسان مرتبط بالإنسان، وهذه كرته التي(550/63)
يعيش عليها وما فيها من حيوان ونبات وجماد لها علاقة مباشرة وغير مباشرة مع غيرها من الكواكب والنجوم، فلولا الشمس لما عاش النبات والحيوان والإنسان، ولولا القمر لا ختل نظام التجارة، ولولا الكواكب والنجوم وجذب بعضها لبعض لما استطاع أن يحفظ كل نجم أو كوكب مركزه في هذا الوجود ولسادت الفوضى وعم البلاء
وعلى هذا فالعالم مترابطة أجزاؤه تسيطر عليها أنظمة وتتولاها قوانين لا تتعداها ولا تشذ عنها: والذي لا ريب فيه أن هذا الكون لم يوجد من تلقاء نفسه إذ لو كان كذلك لما رأينا فيه هذا النظام وهذا التنسيق. بل إن هناك قوة (خارقة) منسقة منظمة لا يحيط بها عقلنا، بل هي تحيط بنا وبهذا الوجود من جميع نواحيه فلا تتحرك هباوة في الأرض والسماء من جماد أو نبات أو حيوان، ولا فلك ولا نجم ولا كوكب إلا والله هو محركها والمسير لها في دائرة من النواميس تشهد على عظمته وحكمته وبديع أمره في خلقه، وتنطق بكمال علمه ونفاذ مشيئته، وتدل على قدرته وجلاله وكبريائه. ومهمتنا نحن البشر أن نزيد معارفنا عن هذه النواميس ونبحث في أصولها. وكلما زدنا معرفة بها زدنا اعتقاداً بقدرة الله الخارقة المنظمة وإيماناً بقوة إبداعه، وظهر لنا بجلاء أن هذا الكون لم يخلق باطلاً
هذا الاعتقاد وهذا الإيمان، إذا رسخا عن طريق الدرس والبحث والتفكير في آيات الله فإنهما يسموان بالإنسان إلى عالم أسمى من عالمنا، وفي هذا لذة روحية ومتاع فكري ليس بعدهما لذة أو متاع. وهذا ما جعل الرسول المفكر يقول عند حدوث الظواهر الكونية: اذكروا الله وتفكروا في آلائه وعجائب صنعته، ففي هذا آيات لأولي الألباب، وفي هذا عبادة هي أسمى العبادات وأفضلها
(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك)
(نابلس)
قدري حافظ طوقان
تحية الهجرة(550/64)
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
يا دياراً طيب الله ثراهَا ... طلع الحق عليها فهداها
إنه النور الذي أخرجها ... من عَشَي الظُّلْمِة واجتاح دُجاها
لم يُرِدْ مجداً ولم يسع إلى ... زُخُرفِ الدنيا ولم يبتغ جاها
لم يرد في الحق إلا غايةً ... لا ولم يدع مع الله إلاها
السفاهات عليه اجتمعت ... فمضى لم يخش في الحق سفاها
والضلالات عليه ائْتَمَرتْ ... إِنها لم تثنه. . . لكن ثناها
غُلبَ الشِّرك على دولته ... والهوى قُوِّضَ والباطل شاها
أيها الداعي إلى السِّلم أعِنْ ... أمماً قد ضاع في السلم رجاها
نزغ الشيطان فيهم فمشى ... كل شيطان بأرض يتباهى
مَلئَوا أشداقهم سلماً كما ... تملأ الضفدع بالأصوات فاها
مُلْتَوي الغابات. . . لم نعرف لهم ... وِجْهةٍ تُبْغَي ولم ندر اتجاها
كل يوم جشع لا ينتهي ... كل حين طمع لا يتناهى. . .
أيها الهادم أصنامَ مِنَي ... عادت اليومَ كما نحن نراها
أين منها (اللاَّتُ) في طاغوتها ... والقرابينُ تُضَحَّي لثراها؟
كل أرض بدلت من ربها ... صنماً يمتص بالبَغْي دماها
ساقها للحرب شعواء وقد ... دارت الحرب على قطب رحاها
دولة الأصنام قد ولت فمن ... عاد بالدنيا قروناً فدعاها؟؟
نزهَ الله عن الشرك. . . لقد ... تِخَذَ من الناس إلاها
أيها الخارج من مكة لم ... يلق منها العطف أو يأمن أذاها
أَهْلُكَ الأدنون عَادَوْكَ وقد ... تجد النفس من القربى عِداها
هذه أرضك فَأَرَقْتَ لكي ... تنشد الأمن عَلَى أرض سواها
هكذا الأحرار لا تقعدهم ... جذوة الظلم ولا لفح لظاها
لا تضيق الأرض في أعينهم ... عن أماني النفس أودرك مداها
كل أرض ظللتهم وطن ... ما هي الأوطان إن ضاع حماها؟(550/65)
هِجْرَةٌ لله لم تبغ بها ... كلا رطباً وأرضاً ومياها
هذه مكة قد غَضَّتْ بها ... أعُينُ القربى وآذتك يداها
أجمعوا - والله أقواهم يداً - ... وعلَوْا - والحق أعلاهم جباها
فإذا الباطل أعيا أمره ... وإذا الأصنام قد خارت قواها
لم تكن إلا رُؤًى خادعةً ... طلع الصبح عليها فمحاها
أسالوا الإسلام عن دولته ... من أشاع السلم فيها من بناها؟
من عَلَى القوة أرسى أرضها ... وعلى العزة قد أعلى سماها؟
قرشي من بني هاشم ما ... دل بالسلطان أو بالحكم تاها
مهد الأمر لدنيا أقبلت ... وزمان ببني قحطان باهَى. . .
فتحوا الأرض فما غلوا يداً ... سَفَهاً منهم ولا كمُّوا شِفاها
ضمنوا حرية الفكر وما ... ضيقوا يوماً على الناس مداها
كان للرأي لديهم ساحة ... كالميادين وأرجاء وَغَاها
اسألوا بغداد عما شهدت ... من جدال سطرته صفحتاها
الثقافات لديهم مثلت ... بعدما ألقت من السير عصاها. . .
يا دياراً ألَّفَتها وَحْدَةٌ ... تسع الدنيا جميعاً في جماها
بين وادي النيل في رقته ... وَرُبَى لُبنانَ في شُمِّ ذُرَاها
والهضابِ الخضر من أندلُس ... والعراقين وأعلام قراها
هذه الأوطان من فرقها ... وبأَحداث الليالي من رماها
لم يعد فيها سوى مئذنة ... ضاع في الغارات مرجوع صداها. .
فمتى يرجع يوماً مجدها ... وَمَتَى يُشرق بالشمس ضحاها!
وَمَتَى يهتف فيها هاتف ... بالمودات وأنغام لُغاها؟؟؟
محمد عبد الغني حسن(550/66)
على عتبة رسول الله
للشاعر التركي إبراهيم صبري
للأستاذ عثمان علي عسل
هذا مقام أحمد محمود المجتبئ، هذا هو حب الله قد تجسد تراباً وإنه لكحل للعيون. ألا فلتحمل أيها القلم قلبي إليه وقطعه إرباً إربا وعلق به فلدة منه لتكون بلسماً لجراحه
قبل ثراه ساجداً وابسط تضرعي وابتهالي فههنا حرم سيد المرسلين باب المصطفى
بشر الأنبياء بالحباة في الآخرة غير أنك يا رسول الله أسبغت على الدنيا حباة أيضاً
هدمت عصور الجهل وحكمت على الظلم بالهلاك
فأنت عطية من الله للأحرار يا رسول الله. فتاريخ البشر لم يسجل حدثاً أكبر شأناً من رسالتك، فمن ذلك اليوم كان التوحيد لله وحده
حين أستمع إلى دعوات التكبير التي تنبعث من أغوار العصور الغابرة يستولي على جناني الدوار ويخر مع سجودي على الأرض في استغراق من الحيرة
وحينما أعود بأفكاري القهقرى إلى أسلافي وأرسل خيالي إلى هؤلاء الصحابة والأشراف الذين دانت لهم أمصار الأرض أتمثل (يا محمد) هذا النداء الذي يتردد في صلوات أرواح لا تحصى
وحينئذ يذكرني الذل الذي ترسف فيه شعوب الإسلام بذلك الماضي المجيد الذي أصبح تاريخاً؛ فتنزف روحي دماً ويستحيل إحساسي وأفكاري ألماً. لم يبق للإسلام من ذلك المهد الجليل سوى هذه القفار الجرداء
وإني لأبحث عن حقوق الإنسان التي أشرقت في المغرب ثم أشعلت النار في المشرق ثم غابت؛ فلا أجد لبزوغها أثراً في هذه الفيافي التي لا يسمع للصوت فيها صدى. لا رجاء في هذه النظم التي سنتها البشرية. . . وليس من نفاق أصدق من الحقوق المزعومة والحقائق الباطلة
أما أنا فقد فتنت بحق من فيض هداك، ومن احتراقي لليلاه أمزق ثيابي كالمجنون
ليلاي ليس من شيمة حبها ظلم فمحبتها للجميع سواء
والذين وقعوا في شراك غرامها لا يشعرون بالندامة، لأن هناك أمامهم يوم القيامة(550/67)
وكأنما القرآن رسالة غرام تنثر السلوى للعشاق المعاميد
ألا كيف يشرب ذو الحجى خمرة الذهول من يد الساقي ما دام الصحو من سكر الدنيا هو النوم
سكبت من مآقي جرعات وانصرفت من مجلس لهوي على حداد. وبودي أن أتناول كأس الوصال من يد ليلاي لأنقع به صداي. . .
أنت لحب ليلى رسول تكرمت فبعثتك في تواضع ليس من طبيعة المعشوق، ومن أنا يا رسول الله حتى تحمل إلي الرسالة؟ لهذا جئت إليك متضرعاً في خشوع وخضوع
أنا شاعر صغير من شعراء الروم هاجرت من دياري وقد تحجر يراعي فضممته إلى أحشائي، كما يشد الساغب الحجر على بطنه ليمسك رمقه
ولقد تحطم خيالي من فيض الإلهام الذي انهال عليه من مقام المصطفى ولا يدركه عقل. . . ومن ذكريات حبيب الله التي لا أدري كيف استوعبها الثرى
وقفت مطرق الجبين حاسر الصدر باسطاً يدي أسأل الرحمة ومنتظراً منك المعونة على باب سخائك
وسأستمد الجرأة من شأنك الذي رفعه الله بقسمه (لعمرك) كما ألتمس من شفاعتك الرحمة والهداية لأمتك العاصية ما دامت قصيدتي ستمضي إلى الأبد في تقبيل تراب روضتك الطاهر.
عربها
عثمان علي عسل(550/68)
العدد 551 - بتاريخ: 24 - 01 - 1944(/)
في التأني السلامة
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلنا في كتاب (الصديقة بنت الصديق) أن السيدة عائشة رضى الله عنها كانت تروي كثيراً من الشعر. . . (وكانت تحفظ من شعر عروة بن الزبير نفسه وتسوق الشاهد منه في موقعه، كما قالت وهي ترى النبي عليه السلام يتندى عرقاً في يوم قائظ وقد جلس يصلح نعله: لو رآك عروة لكنت المعنى بقوله:
فلو سمعوا في مصر أوصاف خده ... لما بذلوا في سوْم يوسف من نقد
لواحى زليخا لو رأين جبينه ... لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي
إلى آخر ما جاء في ذلك الكتاب
وقد رأينا في العدد الأخير من مجلة الثقافة كلاماً بتوقيع (أحمد محمد شاكر) يقول فيه:
(أما هذه القصة فقد أطلت البحث عنها في المصادر المحترمة من كتب الحديث والسير والتاريخ حتى أتعبني البحث، ثم لم أجدها. وهذا النوع من الكاتبين لا يتورعون عن تكذيب الأحاديث الصحيحة المروية في كتب السنة الصحاح والتي رضيها أهل العلم بالحديث: يكذبونها إذا لم توافق أراءهم وما يدعون إليه من نظريات يتناولون فيها قواعد الإسلام، ويزعمون أنهم يتبعون بذلك ما يسمعونه طرق النقد الحديث، ثم يحكون عن رسول الله وعن أصحابه الأكاذيب لا يرون بحكايتها بأساً وينسبونها إليهم نسبة جازمة، كأنها من الحديث الصحيح لا يتحرون ولا يبحثون، إنما هو سواد في بياض، يضل به الناس وهم يشعرون أو لا يشعرون. . . أنا لا أجيز لنفسي أن أتهم الكاتب الجريء بأنه اخترع هذه القصة من عند نفسه، ولكني أظن أنه رآها في كتاب من كتب السمر. . .)
إلى أن يقول:
(الذي نعرفه من التاريخ الصحيح في أمر عروة بن الزبير أنه ولد في آخر خلافة عمر سنة 23 وقيل بعد ذلك. . .) إلى غير ذلك من أشباه هذا الكلام الذي يتم قليله على كثيره
وكان بودنا أن ننقل هنا كلمة الكاتب بحذافيرها لتشهد عليه وعلى طويته وبواعث نقده، لولا أننا نطيل في غير طائل. وإن الاجتزاء بما نقلناه كاف للدلالة على دخائل الصدور وكوامن النيات.(551/1)
فأوجز ما نقول وأصدقه أن الجرأة كل الجرأة هي في إقدام الكاتب على مثل هذا الكلام وهو يضع نفسه موضع الحكم الفصل في أخبار السيرة ومراجع الأحاديث والمحدثين مع قصور المراجع التي عنده وقصوره في البحث عنها، واستيفاء مواضع الاستقصاء منها، في مسألة بعينها هي معروضة له ومبسوطة بين يديه
ولا معابة على أحد أن يفوته بعض المراجع التي لا تفوت غيره، ولكن المعابة أن يبحث عنها عامداً فلا يهتدي إلى طريقها، وهو يتحدى ويناجز ويتهم ويعاجز، وبه ما به من هذه اللهفة على إظهار العلم الغزير وإغلاق موارد البحث دون الباحثين
تلك معابة معابة على من يحسب أنه يتحرى وحده ويبحث وحده مكتفياً بما في يديه غير مستزيد مما عنده. ثم هو يبسط يديه معاً إلى أقصى مداهما فلا تبلغان ميسور ما في الأيدي من المراجع في باب السير وكتب المحدثين
فليعلم هذا الكاتب - الجريء - إذن أننا لم نخترع هذه القصة من عندنا، وأننا لم نرها في كتاب من كتب السمر ولا في كتاب من الكتب التي يعوزها الاحترام؛ لأن شرح شمائل الترمذي ليس اختراعا لمؤلف (الصديقة بنت الصديق) ولا حكاية من حكايات الأسمار، ولا هو مهزلة يعوزها احترام مثله، وهو لا يرتقي إلى منزلة التلميذ المستفيد بين أصغر شراح الترمذي في أخبار السيرة وعلم الحديث
فشمائل الترمذي وشروحه من أشهر كتب السيرة التي يتسامع بها العلماء الواصلون والشداة المبتدئون، وهذه القصة مذكورة في شرح الشمائل للعلامة محمد بن قاسم جسوس يراجعها في الجزء الأول صفحة 29 من الطبعة المصرية وفي صفحة 40 من الطبعة الخارجية، ليعلم أننا لا نخترع ولا نعتمد على كتب الأسمار، وأنه لا يزال يتهجى في مراجعة فهارس المكتبات ليعلم أين يكون البحث وكيف يكون الاستقصاء، ودع عنك المطولات والمبسوطات، ودع عنك الشروح والأصول
وظاهر من كلام هذا الكاتب الجريء الذي نقلناه والذي لم ننقله أنه يتتبع ما ألفناه من كتب (العبقريات) واحداً بعد واحد، وأنه على اللهفة التي ما بعدها لهفة للعثور على هفوة هنا أو نقيصة هناك، ثم يطلق عقال الحفيظة ليثور ويفور، ويبلغ قصاراه من الثوران والفوران
فإذا كان قد أضنى نفسه بحثاً في خمسة كتب أصدرناها من سلسلة العبقريات وما إليها فلم(551/2)
يخرج منها - مع تلك اللهفة وذلك التجني - بغير تلك القصة، فهل في وسعه أن يشهد لباحث في المشرق أو في المغرب بتحقيق أوفى من هذا التحقيق، وفضل أشرف من هذا الفضل، وعناية أكبر من هذه العناية؟
أين هو الباحث الذي كتب في السيرة أو غير السيرة، وبين المتقدمين أو غير المتقدمين، ثم تعقبه المغيظون المتلهفون على الأخطاء فعصموه عن حكايات فضلاً عن حكاية، وعن مخالفات لآرائهم فضلاً عن مخالفة واحدة؟
صفحات تتجاوز المئات إلى الألوف كلها تنزيه للنبي وتعظيم لأصحابه وأنت في لهفتك على المعابة تجحظ عيناك في كل سطر منها فلا تقع على غير تلك القصة التي لا تضير ولو كذب رواتها جميعاً ثم تخرج بها إلى الناس نافخاً في الصور، متشدقاً بعظائم الأمور، ناسياً لصاحب تلك الصفحات كل ما أصاب فيه، ولو كنت على يقين وأنت كما رأيت لست على أقل يقين!
هب العلامة ابن قاسم الذي شرح شمائل الترمذي قد روى ما رواه خطأ من شعر عروة بن الزبير، وهب عروة لم يقل هذا الشعر ولم تنشده السيدة عائشة، فماذا في الرواية مما لا ينبغي للسيدة عائشة أو مما لا ينبغي للنبي عليه السلام؟
هل فيها إلا أن السيدة عائشة كانت تثني على جمال النبي وأن النبي كان يسره هذا الثناء؟
أهذا الذي لا ينبغي لعائشة رضى الله عنها ولمحمد صلوات الله عليه؟ كلا بل هذا الذي ينبغي لهما دون غيره، ومن أنكره فهو الكاذب الذي لا يفقه ما يقول
وهأنذا أعيدها جهرة بغير سند ولا رواية من شاعر أو فقيه: لقد كانت عائشة تثني على جمال محمد وكان محمد يرضى عن هذا الثناء
أسمعت يا هذا؟
مرة أخرى أعيدها لك ولغيرك ممن يشاء أن ينكرها، فأقول ثم أعيد أن عائشة أثنت على جمال محمد غير مرة وأن محمداً رضى عن هذا الثناء في كل مرة، فإن كانت قد بلغت أذنيك فاذهب إلى صورك فانفخ فيه ما بدا لك، وادع من يستمع لك أو يستجيب
فليس في القصة ما يدعو إلى الاستنكار والتردد من وجهة الأدب في حق النبي عليه السلام، ويجوز من الوجهة التاريخية أن يكون عروة قد ولد بعد العهد الذي ذكره الرواة(551/3)
ولكن يستبعد جداً أنه ولد في سنة 23 التي اعتمدها خضرة البحاثة المتحري البارع في تحري الأعمار والأوقات، لأن أم عروة أسماء بنت الصديق ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة وليس هو بآخر أولادها، ويندر جداً أن تلد المرأة بعد الخمسين
ومع كل هذا لا نرى نحن أن نجعل رواية من روايات السنوات والأعمار مبطلة لمقال أو قصيد على سبيل الجزم الذي لا مراجعة فيه؛ فعمر بن الخطاب نفسه مختلف في عمره بين خمس وخمسين سنة كما يقول ابن قتيبة، وثلاث وستين كما يقول الواقدي ومن جاراه وحديث الإفك نفسه مختلف في سنته مع اتصاله بتنزيل آيات من القرآن في موضوع البراءة وموضوع الحجاب، وتواريخ الآيات أولى بالتمحيص من تواريخ الأحاديث أو تواريخ الأشعار
وقد طبعت لجنة التأليف والترجمة التي تصدر (الثقافة كتاباً اسمه إمتاع الأسماع جاء فيه صفحة 215 (أن غزو بني المصطلق التي قال أهل الإفك فيها ما كانت في شعبا من السنة السادسة) ثم جاء فيه بالصفحة التالية: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكر يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة سنة خمس، وقيل كانت في شوال منها، وقال موسى ابن عقبة: كانت في سنة أربع، وصححه ابن حزم، وقال ابن إسحاق في شوال سنة خمس، وذكرها البخاري قبل غزو ذات الرقاع واستعمل على المدينة ابن أم كلثوم)
أفبعد هذا الاختلاف في تواريخ القوم للمناسبات التي هي أجل من شعر عروة بن الزبير وأولى بالإثبات يريد صاحب أن نطيل الوقوف على عمر عروة لأنه قال كلاماً يجوز أن يقول كل إنسان، بل هو معنى كل ما قيل في عرضه وفحواه على ألسنة جميع المسلمين
إننا أطلنا الوقوف حيث ينبغي أن يطول وقوف الباحث الحريص على كرامة محمد وذويه
أطلنا الوقوف حيث كان أمثال هذا الناقد الحاقد يتقبلون الروايات وهي أغرب ما يروي وأيآه عن المعقول وأولاه بإنعام النظر ودفع الشبهات
كانت روايات من أقوال الأقدمين تذكر أن النبي عليه السلام خطب السيدة عائشة وهي في السادسة وبني بها وهي في التاسعة. وكان هذا مجالا لأعداء الإسلام وأعداء نبي الإسلام يبدؤون فيه ويعيدون، ويجدون المستمعين والمتشككين حتى بين المسلمين. فهنا مجال لإطالة الوقوف يعبره أمثال هذا الناقد الحاقد مهرولين ويجهلون ما وراء من الزور الأثيم(551/4)
والبهتان المبين. وهنا وقفنا لنثبت بالعقل والنقل أن محمداً عليه السلام لم يبن بالسيدة عائشة إلا وهي في السن الصالحة للزواج بين بنات الجزيرة العربية؛ فأثبتناه على رغم الأقاويل والسنين
أما عمر بن الزبير فهو (الفارغة) التي يتصدر فيها أمثال ذلك الحاقد الناقد حديثاً قصاراه أن عائشة كانت تثني على النبي وأن النبي كان يتقبل منها الثناء، ولا ممسك في ذلك لأصدقاء ولا لأعداء
فإن طاب الموقف هنا فليقف فيه من يشاء كما يشاء
وتتمة الجواب بصدد ما تقدم أن نعرج على تعقيب للأديب الذي يكتب في الثقافة بتوقيع (قاف) يقول فيه عن الشعر (إنه نسج ضعيف لا يقع في نفس أحد أنه من لغة العصر الأول، أو ما يجري به لسان شاعر من شعرائه، وأحسب هذين البيتين - إن صح حدسي - لو أحد من شعراء الخلاعة بعد القرن السابع، قالهما في أوصاف خد غلام رقيق من غلمان الترك أو الروم يلتمس قربه أو يطلب وده)
فنقول: إن الضعيف حقاً هو هذا النقد الذي ينزه العصر الأول كله عن مواضع النقد وفيه عشرات من قالة الشعر الذين لا يبلغون هذا المبلغ من التجويد والتشبيه، وفيه من قالة النثر من وهموا أنهم يناظرون القرآن بكلام يزري به هذيان الأطفال
وقد ينسب ذلك الشعر إلى ناظم فقيه فنصدق النسبة إليه ونصدق أنه يذكر قصص القرآن في أبياته ليفضل جمال محمد علي جمال يوسف. ولأبعد من ذلك جداً عن التصديق أن ينظمه فقيه أو غير فقيه ليذكر بآيات القرآن التي يشير إليها أن غلامه أجمل من الأنبياء!
فإن كان فرض هذه الخلاعة كلها أسهل وأدنى إلى التقدير عند (قاف) الثقافة فله دينه، وللأبجدية جمعاء دين.
عباس محمود العقاد(551/5)
القصيد المرسل
لأستاذ جليل
أبو علي أحمد شوقي لما (أصم به الناعي وإن كان أسمعا) أملي الشعور على اليراعة هذا الرثاء. وما كنت أنوي واليراعة تكتب أن أبني شعراً مطلقاً أو مقيداً أو نثراً مسجوعاً أو مرسلاً. وما كنت وقتئذ في حال تفكر أو تقصد. كتبت ما أوحى إلي، وحين تم الكلام لم أنكره. وما كنت علمت أو قرأت شيئاً مما ذكره العلامة الأستاذ العقاد والكاتب البارع المتفنن الأستاذ دريني. وما فكرت في هذا الشأن أدنى تفكير. والقريض تركته أو تركني منذ أكثر من ثلاثين سنة
قال قائلون: هذا شعر لم يقيد بالقوافي، ووجدت بحثاً في الشعر المرسل في (الرسالة) الغراء فرأيت إملاء قطع من رثائي شاعر العرب العظيم. والعربية لا تنكر تفننا في المقال، ولا تصد عن التنويع؛ فقصيد مقيد، وقصيد مرسل، وموشح وغير ذلك. ولكل مقام يقتضيه، وزيادة الخير في الفنون خير، والعالم في تبدل، والدنيا تطير. وإذا تفنن قائل أو أبدع وأجاد فلا تقل له (يا هذا) ضللت أو أخطأت
(شاعر العرب قضي، يا فتاة العرب، فالبسي ثوب الحداد!
وابرزي بين الملا حاسرة واندبيه.
زحزحي هذا النقاب لنرى وجه الحزين
أعرضي عن خَفَرٍ عُوِّدْتِه، فعيون القوم غرقى في الدموع
شيعي دمعك هذا قانئاً بنحيب ونشيج وعويل
وابذلي الدمع رخيصاً؛ إن من تبكين غالِ
بلبل (الكرمة) ولَّي، أين غاب البلبلُ، أين غاب البلبل؟!
غادر الطير ثكالى في حنين وأنين وشجن
زهَر (الكرمة) يبكي بدموع ظاهرات في الصباح
فنن (الكرمة) آس، لا اهتزاز، لا ارتياح، لا طرب!
بهجة زالت وجاءت وحشة، وعرا (الكرمة) حزن لا يريم!
مِدْره العُرب قضى يا فتاة العَرب، فالبسي ثوب الحداد!(551/6)
مَن لشغب قد بدا من مِشغب يرتجي شراً لإحياء العرب.
من يبيد البُطْل في الناس مشى، ويبين الحق يهدي الحائرين؟
أين شهباً حجج قد درأت لدد الخصم عنيفاً فخنع؟
أين صوْال على الظلم ضحى، قدع الظلم شباه فانقدع
من لغرب عاسف مغتصت لَصَّ حق العُرب في الصبح المبين
يا حليفا والعاً ما إن له، أبد الآباد عهد أو يمين
جيت كذاباً وجينا عرباً، ومشى اللؤم مع الخِيم الكريم
خاس هذا الغرب بالعهد، ولم يئتب من دنس الغدر الذميم
أيها الظالم، أرهق سادراً؛ سيرى الظالم عقبى الظالمين
قد هدانا (أحمد) منهاجها، سنلبي (أحمد) في كل حين
علم الأقوام قول بّين، خطة الأعتاق من رق مهين
عبقري الشعر ولى يا فتاة العرب، فالبسي ثوب الحداد
طرفة الدهر التي ضن بها ألف حول ثم جاد
(أحمد) عاد وعاد (البحتري) ورأى القوم (حبيباً) يبدع
مبدع في كل قول قاله، في قصيد ونشيد ورواية
نوَّر القرآن قولاً فعلاَ، وسما صاحبه في القائلين
إنما القرآن هدْى الناطقين، إنما القرآن نور العالمين
غثَّ قول لم يهذبه (الكتاب)
عبقريات بجلت للورى، يالها من فاتنات ساحرات!
فاتت الحسن، ولاحت عجباً، هل رأيت الحور في دار النعيم؟
هل رأيت الحور في جنة عدن؟
ابنة الدهر ثباتاً وخلوداً، ونشيد الدهر حزناً وحبوراً
رقية، سحر، نعيم، ولظى؛ جنة العرب، جحيم الغاصبين!
إنه الإعجاز قسم الأحدين، إنه الإبداع حظ المبدعين!
رب أحقاب تقضت ما رأت عبقرياً في شؤون أو فنون(551/7)
آه من دهر خبيث ناقد، باخل بالعبقريين ضنين
ويكأن الدهر يخشى النابغين، فقليلاً في الدجى ما يسفرون
ويكأن الدهر يخشى الخالدين، فهو لا يبدئهم في كل حين
إنما الدهر خصيم العبقري
غادة (الضاد) رزاها رازيْ وهي في سلطانها
بزها أوحى بنيها نجدة، وفتى فتيانها
ما رأى الرائي كشوقي فارساً قد جال في ميدانها)
إن فقدنا في مصر (أبا عليّ) فالعزاء في (عليّ) - علي محمود طه - والرجاء أن يسير في الطريقين: طريقه وطريق (أحمد)؛ و (أبو محمود) هو الأديب المقتدر بما أعطاه الله لم تزل مصر كعبة الشعر في الشرق (م) وفي كفها لواء الزعامه
(ن)(551/8)
علي محمود طه
شاعر الفن والجمال
للأستاذ دريني خشبة
1 - عبقريته في إكمال أغنية الرياح الأربع
2 - مشخصات أسلوبه
3 - بعض صور كتبه
4 - لقب شاعر اللذة
ليس فرحنا بأغنية الرياح الأربع أنها لشاعر مصري قديم يرجع زمنه إلى أربعة آلاف من السنين، بل لأنها نظمت بالعربية بعد زمان هذا الشاعر المصري القديم بأربعة آلاف من السنين؛ وقد نظمها شاعر مصري تسلمها منقوصة فسواها كاملة، وجعل منها آية فنية مشرقة البيان، حسنة السبك، فياضة بالحياة التي تملأ جميع جوانبها
فمن المقدمة القصيرة التي وضعها الأستاذ دريتون للأغنية والتي يقول فيها: (تقوم هذه الأغنية على الحوار فبعد أربع مقطوعات تغنى كلا منها فتاة يدخل رجل فيحييهن ويشرع في خطفهن ليستولي على الرياح الممثلة فيهن، فيغريهن بإثارة الفضول في نفوسهن، وذلك بأن يعرض عليهن زيارة سفينته. . . ولما قوبل طلبه بالرفض، لم يستسلم للهزيمة كما هو واضح من المقطوعة الأخيرة في الأغنية (إن وسائلي لا تنفد). ولكن لسوء الحظ لم نعثر على تكملة الأغنية والوسائل التي لجأ إليها الرجل. وأكبر الظن أنها مما يثير الشراهة التي تكشف مواطن الضعف في النساء). نستنتج أن الفصل الأول والفصل الأخير من تمثيلية الأستاذ علي محمود طه هما من ابتكاره. وأن الفن الرائع الذي لون به الفصل الثاني - وهو الفصل الذي تضمن الأغنية المصرية القديمة كلها تقريباً - هو من إنتاج قريحته الخصبة المبدعة. . . أثمره خياله المتجدد، وسرت فيه بالحياة شاعريته النابضة، ودوت فيه موسيقاه بألحان الجمال.
وقد يسأل بعض القراء: وما قيمة هذه الأغنية وماذا تتناوله من مشكلات الحياة؟ وليس أيسر من الرد على هذا بما ختمنا به مقالنا الأول عنها من أنها سحر وشعر وفن وجمال. . . إنها من قبيل هذه الدرامات الرائعة التي نظمها شيكسبير في صدر حياته. و (العاصفة)(551/9)
هي أقرب أمثلة ذلك؛ إذ ترتكز على السحر الذي كان يجيده بروسبيرو، والذي سخر به الريح فأغرقت سفينة ملك نابلي وسلط عليه وعلى أخيه الخائن الروح آريل يسيمها من العذاب ألواناً، حتى تنتهي الرواية بصلح عام تكون ثمرته زواج ابن ملك نابلي من ابنة بروسبيرو وعودة بروسبيرو إلى ملكه في ميلان. فالموضوع في (العاصفة) موضوع شعري ساحر تجلت فيه عبقرية شيكسبير، وظهرت في عرضه وتناوله مواهبه التصويرية العالية. وكذلك موضوع أغنية الرياح الأربع. والعجيب أن تكون هذه أولى روايات علي محمود طه المسرحية ويتمها مع ذلك على هذه الصورة الرائعة من الحبكة والحركة والتسلسل والإبداع المتناهي في التصوير واختيار المناظر الخيالية الراقصة. . . هذا فضلاً عن بيانه المشرق وديباجته العالية وقوافيه المنتقاة وقوة تدفقه في الحوار وحرصه على موسيقية الأوزان، بل موسيقية الألفاظ. . . فقلما تعثر على لفظة نابية، أو كلمة قلقة، أو جملة لم يحسن الشاعر اختيارها وصقلها وتجويدها. . . وأنا متعمد أن أسوق كل هذا الكلام الذي يشبه الإطراء، بل هو الإطراء نفسه، لأذكر سببه. . . حقاً إن لهذا الإطراء سبباً طريقاً أرى أن أسوقه هنا، لأن هنا موضعه. . . ذلك أنني تعودت كلما فكرت في الكتابة عن شيء أن أسأل هذا النفر من إخواني الأدباء الذين أتوسم فيهم إلماماً بالموضوع رأيهم فيما أنا بسبيله منه. وقد سألت هذه المرة كثيرين من إخواني الشعراء رأيهم في علي محمود طه أولاً، وفي تمثيليته أغنية الرياح الأربع ثانياً؛ فعجب إذ وجدت الغالبية منهم تجمع على مآخذ يأخذونها على هذا الشاعر، منها أنه مولع بألفاظ وعبارات بعينها يرددها في الجزء الأكبر من شعره. فمن هذه الألفاظ (شعشع) وما يتفرع منها، و (عبقري) وما تصفه من خيال وخمر وموسيقا وجمال، و (لؤلؤ) وما إليه من لألأ ولآلاء ولؤلؤى، و (تذويب القلب) في الدموع وفي القبلة وفي النظرة وفي الابتسامة، و (مرح)، فالمجداف مرح، والحبيب مرح الأعطاف، والجيد مرح، والقلب مرح، والشباب مرح؛ و (مجنح) فالخيال مجنح والطيف مجنح والسفين المجنحات، وللريح أجنحة
أي روح خفية أي ريح ... حملتنا بأجْنُحٍ في الخفاء؟
و (سلسل) وما يصرف منها، ومثلها، (ضوأ) و (ناسم ويناسم) و (الأصائل العسجدية) و (الخلجان المسحورة) و (حدائق النسيان) و (الكنوز المرصودة) إلى آخر هذا الثبت الطويل(551/10)
من الألفاظ والعبارات التي تركتهم يحصونها ولا يكادون يفرغون منها لكثرتها. وقد كنت أكتب ما يذكرون منها في ورقة بسرعة فائقة؛ فلما سكتوا سألتهم رأيهم في هذه الكلمات، أشر هي؟ وهل فيها كلمة لم يعمل الدوق السليم فيها عمله؟ وعلام تدل هذه الكثرة العجيبة من تلك الألفاظ والعبارات المنتقاة؟ أهي دليل فقر في محصول الشاعر الأدبي واللغوي، أم هي دليل شئ آخر غير الفقر؟ والمعاني التي تساعد هذه الألفاظ في أدائها؟ ألغو هي؟ أم هي من أدق المعاني وأحلاها وأكثرها طلاوة؟ وهل نسينا أن لكل كاتب ولكل شاعر أسلوبه الخاص، وأن لهذا الأسلوب الخاص مشخصات تشبه علائم الطريق؛ فهي تميزه وتعرف به. . . فالدكتور طه حسين مثلاً يلتزم عبارات تعينها يرددها في كل كتبه أو في معظم كتبه؛ وهو يرددها أكثر مما يرددها أي كاتب آخر، بل لعل معظم الكتاب في مصر وفي العالم العربي لا يرددون من عبارات الدكتور طه حسين شيئاً، تلك العبارات التي يعرف بها أسلوبه بين مائة أسلوب أو أكثر من ذلك لو أنه وضع بينها. وكذلك أسلوب الأستاذ العقاد، ذلك الأسلوب القوي الذي يفيض بفحولة تتعب إفهام القراء أحياناً، وهو تعب تنتج عنه لذة ذهنية عجيبة إذا استطاع القارئ أن يدرك المعنى الحقيقي الذي يرمي إليه الكاتب الكبير، فإذا لم يستطيع القارئ إدراك هذا المعنى أحس عند تلك الفقرة أو ذلك السطر من كتابة الأستاذ العقاد بمرارة، لكنه مع ذلك يمضي في القراءة مأخوذاً بالجمال الكلي عن هذه الجزيئات الهينة. وللأستاذ المازني مشخصات عجيبة في أسلوبه، تميزه من جميع أساليب الكتاب المصريين والكتاب العرب على حد سواء، فهو دائماً (يمط بوز) أبطال مقالاته و (يمط شفاههم!)، وهو مولع بترديد (حملاق العين) في جميع كتاباته أو في أكثرها، وفي قصته الجميلة (إبراهيم الثاني) تردد هذا (الحملاق) أكثر من أربعين أو خمسين مرة كما ترددت هذه العبارات مراراً:
(أي نعم، ليس إلا، لا تجعل بالك إلى كذا، من الحزامة أن تصنع كذا، التبات والنبات، باسها، الحب الآخذ بالكليتين؟)
ولست أدري كيف يأخذ الحب بالكليتين، والذي أعرفه هو الحب الذي يأخذ بمجامع القلوب مثلاً. ولأسلوب الأستاذ (المازني) مشخصات أخرى عجيبة سنعود إليها في موضع آخر إن شاء الله(551/11)
وللدكتور زكي مبارك مشخصات أسلوبية معروفة لقراء هذه المجلة. وقد ظلمه الأستاذ العقاد حين جرد أسلوبه من (مقومات الشخصية)، ومشخصات أسلوبه أكثرها (أنماط) جامعية.
فهو يكثر من (على التحقيق) و (النص على كذا)، و (هذا معناه) و (هل يمتري منصف في كذا) و (الحقائق الأدبية) و (في الأثر) و (الوارد هو كيت). . . هذا إلى ما تفيض به مؤلفاته من روح الاعتداد بالنفس والزهو الذي أعجب به من زكي مبارك ولا أعيبه عليه. . . ولله ما أطرف ما يجيب به حين يسأل عن هذا فيقول: زمان لا يريد أن ينصفني فلماذا لا أنتصف منه لنفسي!
ولكل من شعرائنا أسلوبه الخاص كذلك، ولولا خشية الإطالة لضربنا الأمثال الكثيرة لذلك، وحسبنا أن نشير إلى اشتراك رجلين من أقطاب شعرائنا الشيوخ في فخامة العبارة وقوة النسج وتخير الألفاظ التي تأتي في قصائدهما كأنها خارجة من كفى لأل؛ أما هذان فهما الجارم ومحرم، وإن لم يصعب على الناقد البصير أن يميز كلا منهما عن الآخر مع اشتراكهما في هذا السبيل.
ومن شعرائنا الشباب عدد كبير يستطيع الناقد كما يستطيع القارئ العادي أن يدل عليهم من أشعارهم وإن لم تحمل أسماءهم، ومن هؤلاء الشعراء الشباب من أغرم بألفاظ خاصة وعبارات بعينها تشيع في معظم منظوماته، وهي مع هذا لا تنقص من قيمة شعره شيئاً، إن لم تكسبه ميزة جديدة فوق ميزاته الكثيرة الرائعة.
(للكلام صلة)
دريني خشبة(551/12)
أعوذ برب الفلق
من شر ما خلق
للكاتب المجهول
صحوت مع الفجر بعد ليلة حمراء، وهي الليلة التي ولد فيها هذا العام الجديد، صحوت ظمآن، ولكني لم أستسغ الماء، فقد شعرت أنه ذوب من ثلوج الشمال، وعند ذلك هتفت:
(أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق)!
ولكن ما هو الفلق؟
أهو الصبح؟
وكيف وما كان ليلي إلا صبحاً في صبح؟
هو إذن (واد في جهنم)، كما قال بعض المفسرين، وبالله أعوذ، فما يدافع شر غير من خلق جهنم
وجهنم التي أخاف هي الجنية التي أرادت أن تأسرني إلى آخر الزمان، بالعقد الذي لا ينقضه الأحرار وهو عقد الزواج
في عصرية الأمس قال خالها الفرنسي وهو يراني أضحك معها وألعب:
? ' 42
وقد اعتصر الحزن قلبي في تلك اللحظة، لأني كنت اعتزمت فسخ الخطبة، بعد أن رأيت خطيبتي تنقلني إلى وطن غير وطني، وبعد أن رأيت أهلها صاروا أعز علي من أهلي
ومن حالي معها أدركت السر في أن تحرم الدولة المصرية علي سفرائها أن يتزوجوا من أجنبيات
وهل أنسى أني رفضت المشاركة في الاحتجاج على ما صنع الفرنسيون في لبنان؟
من أجل حبها أبيت أن أكتب حرفاً واحداً في تقبيح ذلك الصنيع، فقد بدا لي غير قبيح، لأنه صدر عن أهل سوزان، وصدق شاعرنا العربي حين قال:
ومن بينات الحب أنْ كان أهلها ... أحبَّ إلى قلبي وعينيَّ من أهلي
إن الدرس الذي تلقيته عنها يفوق جميع الدروس، فقد بدأت أومن بتعلم لغة أجنبية يهاجر عن وطنه بطريقة خفية، وبدأت أفهم كيف صارت الوطنية شريعة عند الفرنسيس(551/13)
والإنجليز والألمان واليابان
أولئك أقوام لا يعرفون غير لغاتهم، فهم في أمان من احتلال الأفكار والآراء
وهل كان من العبث أن يقول جماهير المشرعين من المسلمين بعدم جواز الصلاة بغير اللغة العربية؟
من المؤكد أنهم كانوا يعرفون أن الله يقبل الصلاة بأية لغة وبأي صوت، ومن المؤكد أنهم كانوا يعرفون أن الله يسمع دبيب النمال كما يسمع قعقعة الرعود
فكيف أوجبوا أن بكون الصلاة باللغة العربية؟
إنهم أرادوا إنشاء قومية لها لغة واحدة، ودين واحد، لتأمن احتلال الأفكار والآراء
ذلك درس تلقيته عن خطيبتي، الخطيبة التي ودعتها عند انتصاف هذا الليل، وإن لم تتلق مني أي جزاء
قالت ونحن نفترق: لن تراني بعد هذا الليل!
فقلت: سنلتقي بأقرب مما تظنين، فلابد للجمر من وقود، وأنت الوقود
وماذا تريد أن تأخذ مني؟
ألا يكفي أنها صيرتني أشهر الدعاة لوطنها الغالي. الغالي على وحدي من أجل حبها. فما تألم روحها يوم سقوط باريس كما تألم روحي. ولا هفا قلبها على فرنسا الجريحة كما هفا قلبي
وأنا برغم بخلها مثن على روحها اللطيف؛ فقد علمتني كيف أدرك قيمة الصورة التي ساقها شاعرنا العربي حين قال:
تعطيك شيئاً قليلاً وهي خائفة ... كما يمس بظهر الحية الفَرِقُ
لن ينقضي عجبي من الفروق بين الأرض والناس
أرض فرنسا هادئة من قديم الزمان، وهي قليلة التعرض للزلازل والبراكين، وقد رأيت بعيني كيف جلدوا عِرقاً نبض من نهر السين وهم يمرون من تحته قطار المتروبوليتان، فكيف يكون أبناء تلك الأرض الهادئة الثابتة ثواراً ومتقلبين في أكثر الأزمان؟
وأرض اليابان معرضة في كل وقت للزلازل والبراكين، ومع هذا عرف اليابانيون بالقرار والاطمئنان، على اختلاف الأحداث والأزمان فما هذا الذي نرى من الفروق بين الأرض(551/14)
والناس؟
ولكن كيف عرفت أن اليابانيين أهل قرار واطمئنان؟
كيف فرفت ذلك ولم أزر اليابان، لم أعرف من أوصاف أهلها غير أشياء لا تتصل بأعماق النفوس؟
لو كان لي حظ التعرف بصديقة يابانية لأدركت شيئاً من السريرة اليابانية، على شرط أن أتكلم لغتها الأصلية
اللغات أنفاس، فلا تصدقوا من يزعم أنه صافح روح شاعر وهو يقرأ شعره مترجماً إلى إحدى اللغات، ولا تصدقوا من يتحدث عن بلاد زارها وهو يجهل لغتها كل الجهل أو بعض الجهل، وإنما نصصت على (بعض الجهل) ليفهم ناس من خلق الله أن الذي لا يتعمق في لغة من اللغات لا يجوز له أن يقول إنه يعرف تلك اللغة، فالمعرفة الناقصة أخطر من الجهل لأن الجاهل يقف عند حده فلا يتزيد ولا يستطيل، أما ناقص المعرفة فقد يوهمه الغرور أنه أعلم العلماء، فيؤذي نفسه قبل أن يؤذي الناس
وخطيبتي التي فارقتها بالأمس هي إحدى بنيات لطيفات من اللواتي عرفت في القاهرة أو في باريس، وحالي معها كان عجباً من العجب، فقد رضيت عنها ورضيت عني، مع أن حياتنا سلمت من جميع الأسواء الروحية والوجدانية، في زمان لا تأنس فيه روح إلى روح بمعاقرة الأهواء
كان الزواج هو الغاية التي نريد، وقد كان يجب أن نسارع قبل أن تفضحنا الأقاويل، فما الذي وقع في تلك الليلة الحمراء، وقد سبقته تماهيد؟
بدا لي أن لجاجة العاطفة وصلت إلى أبعد حدود العنف، فرأيت أن أستعير خيالاً من العقل الذي عشت به سنين. وهل بقى لي من العقل إلا طيف من خيال؟
فكرت فيما تمناه لنا خالها العزيز، وقد عاش اثنين وأربعين عاماً وهو سعيد بالزواج. ثم افترضت أن سعادته الزوجية دامت لأنها بنيت على الهدوء، والعاطفة الهادئة تبنى برفق؛ فمالي أتعرض لعاطفة مجنونة الجموح؟ وكيف أسمح لهذه الجنية بأن تزلزل الخيال الباقي من عقلي!
لقد راعني بكاؤها فبكيت(551/15)
قالت بصيغة الاستفهام لا التقرير:
?
فأجبت بالصمت
ومن قال إني سأرجع؟ ومن قال إني سأراجع؟
ذلك فراق، ليس بعده تلاق
لن يؤذيني أن تخرجي من سمائي، فإني واثق بأني سأجد هواي حين أشاء، وإنما يؤذيني أن أتصور أنك يئست من وفائي، وأنك صرت يتيمة بعد أن خمدت نيران أشواقي، ولن تخمد نيران أشواقي
لن يصلح ما بيننا إلا إن سمعت شكواي: هذا الصدر يسير عارياً في كل يوم، كسائر صدور النساء في هذا الجيل، فكيف يهادن جميع الرجال، ويحاربني وحدي؟ وهذه العيون توجه نظرات وغمزات، ولا تأسر أحداً، مع أنها تخاطب جميع الخلائق، فكيف تأسرني وحدي؟
قلبي هو القلب، وجمالك هو الجمال، والناس ما عدانا خيال في خيال
لا تسأليني عن حالي، فأنت حالي وأحوالي، وأنت ماضي وحاضري ومستقبلي، وأنت ضميري المركوز في ضمير الوجود
لن أيأس منك، ولن تيأسي مني، ولن يقول قائل إني فارقت هواي في لحظة من لحظات الغضب أو العناد أو العتاب
أنا حاربت فرنسا وهي صحيحة، وسالمتها وهي جريحة، وأنت الخيال الزائر من ذلك البلد المحبوب
لن أشمت بفرنسا مع الشامتين، ولن أذكرها بغير الجميل، وإن جانبت الجميل
قال الجنرال دي جول: لبنان وديعة في يدي وسأسلمه لفرنسا
يقول هذا القول وهو مغلوب، وتلك غاية الغايات في صدق الوطنية، وأنا أمجد هذه الوطنية، وأتمنى مثلها لنفسي
إن الاستعمار من أنصبة الأمم القوية، فمتى نكون من المستعمرين، كما كان الآباء والأجداد؟(551/16)
آفة الاستعمار هي التسلط الغاشم، تسلط الحاكم الجاهل الذي يقول كما قال بعض حكام فرنسا في الهند الصينية:
ولا بد لنا من استعمار نجرب فيه أخلاقنا السياسية، وفي السياسة أخلاق، إذا تولاها عظماء الرجال
والاستعمار لم يعد صعباً كما كان قبل أعوام قصار لا طوال، كان الاستعمار يحتاج إلى جيوش برية وبحرية، وهو بعد اليوم سيكون في ميدانين اثنين: ميدان الأدب وميدان الاقتصاد، وسلاح الأدب هو الصدق، وسلاح الاقتصاد هو الأمانة، فلنحرص على أن نكون الصادقين الأمناء
أما بعد، فأنا لا أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، وإنما أعوذ برب الفلق من خير ما خلق، وهو الجمال
ومعنى هذا أني سأراجع خطيبتي الغالية، وهي الفتاة الملثوغة الراء
إنها تحاول أن تنقلني إلى وطنها، وأنا أحاول أن أنقلها إلى وطني، وسنرى بعد قليل من الغالب ومن المغلوب
للشعر في وأسها بريق سرقت شعاعه من نيران قلبي والتموج في خدودها مسروق من نموج أشعاري
وسحر عينيها الزرقاوين منهوب من سحر عيني الخضراوين وتبارك الذي تفضل فجعل لون عيوني مما يهيج الحيات السود سنفترق؟ سنفترق؟
هو ذلك إن جاز أن تزهد العيون في الضياء
يا بنت فرنسا الغالية، تذكري ليالي وأيامي، وارحمي من يصعب عليه أن تجرحيه، وهو الصديق الأوحد لوطنك الجريح
لن نفترق، لن نفترق، وهل نستطيع أن نفترق؟
وإذا أرادت الطبيعة أن نكون خائنين، فلنكن خائنين، لتتحرر من مواثيق الجهلاء، وما هي الطبيعة التي يتحدثون عنها جاهلين؟
الطبيعة هي الصدق في تلوين ما خلق الله من حقائق الوجود وسيكون هوانا تعبيراً أبديا(551/17)
عن ضمير الوجود. . . ومقالتي هذه تصوير لمحنة روحية لن تخمد قبل أن تخمد النيران الصواريخ في ضمائر الجبال.
(الكاتب المجهول)(551/18)
كتب وشخصيات
4 - الصديقة بنت الصديق. . . للعقاد
للأستاذ سيد قطب
مدرسه العقاد
في الأدب والحياة
كل ما قلته عن (حدود المدرسة الأدبية) في كلمة سابقة من هذه الكلمات، يمكن تطبيقه بلا تحفظ على (مدرسة العقاد)؛ فهي مدرسة في الأدب كما أنها مدرسة في الحياة، يلتقي منها تلاميذها على سنن واضح ونهج صريح، ويجدون فيها تفسيراً معيناً للحياة والفنون، يشتمل نوع الإحساس ولون التفكير، وطريقة التعبير، بل يشتمل فوق ذلك قواعد المنطق والسلوك، وتقوم الأشياء والأشخاص، وتقدير الحوادث والأعمال!
وهي مدرسة متبلورة، واضحة السمات، لا يجد الناقد مشقة ولا عسراً في اختيار عنوان لها، يمثل ويلخص أكبر ما تستطيع العنوانات تمثيله وتلخيصه
هي مدرسة (المنطق الحيوي)
والنسبة هنا إلى (الحياة) وإلى (الحيوية) جميعاً. . . إلى (الحياة) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو ما تقوله الحياة وما تصنعه، ومنطقها هو المنطق المطاع في جميع الأحوال.
كل ما تصنع الحياة يُرجَّى ... من بنيها قبوله واغتفاره
فإذا أنكروا قبيحاً، ففي القبـ ... ح من الموت لونه أو شعاره
وإلى (الحيوية) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو باعثه، ومدى الحيوية في هذا الباعث. وقد تتشابه مظاهر الأقوال والأعمال ولكنها تتفق في (الرصيد) المكنون لها من الباعث الحيوي ليتوحد الحكم عليها، وقد تتفق مظاهرها ولكنها تختلف في الرصيد فيكون ذلك مناط الاختلاف
أستاذ هذه المدرسة الأعظم هو الحياة ذاتها، لا الفكر المجرد، ولا المنطق الذهني، ولا مواضعات المجتمع الاصطلاحية، ولا قواعد الخلق المتعارفة، ولا المذاهب الفنية المعنونة.(551/19)
إنها ترجع إلى النبع الأول تستقى منه، وإلى الناموس الخالد تتوخاه، ترجع إلى الحياة الطبيعية فتتلقى عنها مؤثرات الإحساس، وقواعد المنطق، وطرائق التعبير، كما تتلقى أصول السلوك ونواميس الآداب وقوانين الأخلاق سواء بسواء
ولكن عدداً من المدارس يمكن أن يتتلمذ على الحياة ثم يختلف في مناهج الدراسة. وهنا تسعفنا نسبة المدرسة العقادية إلى (الحيوية) في تحديد المنهاج. فالحيوية الفائضة المتدفقة، الحيوية الظاهرة والباطنة، حيوية الحس والوجدان، حيوية الطبع التي تفيض على الحواس والذهن والضمير في آن. . . هي السمة التي تعجب بها مدرسة العقاد، والتي تصدر عنها في السلوك والاعتقاد، وفي الفنون والآداب
ولما كانت الحياة هي الأستاذ الأعظم للمدرسة، فلا عجب أن يكون طابعها هو الاستقلال في التلقي عن هذا الأستاذ - في حدود السمات العامة لها - وأن يكون عمل العقاد فيها هو عمل الرائد الذي يكشف النبع، ويمهد إليه الطريق. وهناك يلتقي تلاميذه ومريدوه - وهو معهم - بين يدي الأستاذ الأعظم. وفضله عليهم هو فضل السبق والإجادة، وعملهم معه هو عمل المتذوق الفاهم المريد، لا عمل المقلد الناقل المقود. فليس بتلميذ أصيل في مدرسة العقاد من يغفل عن نفسه ليقلده، ومن يسلك طريقه ولا يستمد من النبع الخالد معه، لأنه إنما يضيع في هذا السلوك سمة المدرسة الأصلية، وهي سمة الاستقلال في الأخذ المباشر عن الحياة.
والعقاد - رائد هذه المدرسة - هو ابن الحياة البار. ابن هذه الحياة القائمة على هذا الكوكب، لا أية حياة أخرى في أي كوكب آخر، هذه الحياة بقيودها وضروراتها، وبآمالها وأشواقها. الحياة الظاهرة للحس واللمس، والمكنونة في القلب والضمير. وهو - قبل كل شئ - إنسان حي، ملء إهابه حياة، بل هو رسول من رسل الحياة المفوضين، وداعية من دعاتها المخلصين
وما عن ضيق في آفاق النفس والحس تستغرق الحياة حس العقاد ونفسه، ولكن عن سعة وضخامة في هذه الحياة تستغرق الحس والشعور
يا طالباً فوق الحياة مدًى له ... يسمو عليها، هل بلغت مداها
ما في خيالك صورة تشتاقها ... إلا وحولك لو نظرت تراها(551/20)
على أننا لا نعتمد في تقرير هذه الحقيقة على ما يقول، فقد يستوحي الأديب قراءاته أو أفكاره ثم يقول! ولكننا نعتمد على الإنسان الحي في العقاد، وعلى سلوكه في حياته الشخصية والسياسية والفنية، وعلى انتباهه الحاد لكل نيضة حية في نفوس الآخرين وسلوكهم، ولكل التفاتة منهم إلى الحيوية النابضة في الكون والحياة. وذلك هو البرهان الحي الصحيح في فهم الطبائع والخصائص والاتجاهات.
وأدوات الاتصال بالحياة عند العقاد هي حواس يقظة متفتحة، تؤدي إلى حس متوفر مكتمل، يفضي إلى وجدان زاخر عميق، ولهذه الأدوات كلها مدد من بداهة الطبع وومضات الفكر، وسبحات الروح، في توازن وانسجام وإن الاتصال بينه وبين الحياة ليتم تارة من الخارج إلى الداخل، وتارة من الداخل إلى الخارج (إذا لم يكن بد من هذا التجسيم). . . حاسة توقظ حساً فيذكو ويتوهج، وحس يثير وجداناً فيشع ويفيض. أو وجدان ينفعل ليوقظ الحس فيفتح الحواس. وهذا وذلك على حسب الحالات النفسية وعلى حسب المؤثرات المختلفة. وإن المنافذ لمفتوحة علواً وسفلا، بل لا علو ولا سفل، إنما هي قوة واحدة متعددة المنافذ مشتبكة المسالك، متصلة بالحياة، تلتقي فيها الأرض بالسماء، بل لا أرض هناك ولا سماء، إنما هو عالم واحد والروح والمادة مظهران لحياة واحدة و (الدنيا جمال نصل إليه من طريق الضرورة، وروح نلمسها بيد من المادة)
وهذا العالم الواحد هو الذي ندرك الظاهر منه بالحس والحواس، وندرك المكنون منه بالبداهة والوجدان، أو ندركه ظاهراً وباطناً في لمحة واحدة بجميع هذه الأدوات؛ فما ظاهره إلا رمز لمكنونه. وقيمة هذا الظاهر مستمدة مما يرمز إليه من مكنون وكلاهما حق وصدق لأنهما شيء واحد في النهاية!
قالوا الحياة قشور ... قلنا فأين الصميم
إن الحياة حياة ... ففارقوا أو أقيموا
ولقد كان العقاد - بما فيه من يقظة الحس وقوة الحواس - وشيكا أن يبذل إعجابه كله للحياة المحسوسة الظاهرة وللحيوية المتدفقة في الحس والغريزة، لولا قسط من (الصوفية) - ولا يعجب أحد لهذه الكلمة - ففي العقاد إيمان عميق بقوة مجهولة تصرف الحياة وتسيطر على أقدار الفرد والنوع (والصوفية في أساسها البسيط هي هذا الإيمان(551/21)
بالمجهول). ولكن هذه القوة المجهولة التي يؤمن بها العقاد إنما تصرف الحياة وتسيطر على أقدار الفرد والنوع، لمصلحة هذه الحياة نفسها وللرقي بالإنسانية في معارج الكمال، لا لغرض آخر من الأغراض التائهة المجهولة!
هذا القسط من الصوفية - بهذا المعنى - يمتزج بالحيوية الحسية، فيخرج منهما مزاج جديد فيه من هذه وفيه من تلك على غير بينهما ولا انفصال
ولقد كان العقاد كذلك - بما فيه من صحو الذهن، ويقظة الوعي وشيكا أن يبذل قواه كلها للفكر والمنطق، لولا فيض من حيوية الطبع يجرف قوى الذهن والوعي لتستحيل جنوداً لهذا الطبع الحي، تضرب بسلاحه، وتستمد منه القوة وله عليها السيطرة في النهاية!
وكثير من الفنانين يقوم في نفوسهم صراع بين مثلهم العليا وبين سلوكهم في الحياة. بين ما يصطرع في كيانهم من غرائز يستقذرونها وما يحلق في أرواحهم من أشواق يهفون إليها؛ فأما العقاد فقد عقد صلحاً مبكراً بين غرائزه ووجداناته فهو لا يفعل ما يستقذره ولا يستقذر ما يفعله، وبين ذلك قوام! وللحيوية عند العقاد شفاعتها الحاضرة فيما تأخذ وما تدع من الأمور. . . أأقول شفاعتها؟ ألا إنها ليست في حاجة إلى الشفاعة؛ فهي نفسها الشفيع الذي لا يرد له كلام، والمقوض الذي لا يسأل حتى عن أوراق الاعتماد! وليست هي إذن في حاجة إلى الشفاعة والاعتذار بقدر حاجتها إلى الثناء والإطراء. هكذا يعجب بمحمد في الأنبياء، وعمر وأبي بكر والإمام في الخلفاء، وبالصديقة بنت الصديق في النساء، كما يعجب بالمتنبي وابن الرومي في الشعراء، وبنيتشه وجيته في الأدباء، وبسعد ومصطفى كمال في الزعماء. . . وهؤلاء وأولئك وسواهم ممن نالوا إعجابه، إنما يلتقون أولاً في صفة الحيوية، ثم يختلفون في مدى هذه الحيوية ونوعها، وفي اتجاهها ومظاهرها كل حسب وظيفته في الحياة
وإن إعجاب العقاد بالحيوية ليطرد فتنشأ عنه آراؤه في الحياة والأخلاق، وفي الانفعال والسلوك، وفي الأحداث والأشخاص، وفي الفن والنقد. وما من رأى له في المدارس الأدبية وفي طرائق الأدباء، وفي الفن والسياسة وفي الارتياء والاعتقاد، يبهم أو يستغلق إذا عالجه الناقد بهذا المفتاح!
أعمال العقاد الفنية لتؤلف جميعها نشيداً واحداً مطرداً في تمجيد الحيوية بكل معانيها(551/22)
وأشكالها، منذ الجزء الأول من ديوانه إلى الجزء الأخير، ومنذ (خلاصته اليومية والفصول) حوالي سنة 1914 إلى مؤلفاته الأخيرة سنة 1944. وتلك علامة الصدق بلا جدال
وإنه ليسير في فلسفته الموحدة، في طريقه المستقلة، فيلتقي بالكثير من الأدباء والفلاسفة والمفكرين في الشرق والغرب، ولكنه لا يساير أحداً منهم إلا إلى المدى الذي يتفق مع فلسفته الخاصة، ثم يفترقان فيمضي هو على نهجه بطريقته، ويدع صاحبه يمضي لطيته، في سلام أو في خصام! وهنا يقول من لا يلتفتون لغير الظواهر: إنه يأخذ من هذا أو من ذاك على معنى غير معنى الدراسة والالتقاء
ولابد قبل أن تختم هذه الكلمة أن نلاحظ بحق سعة في النفس والفكر تجعل هذا الرجل ذا الشخصية الواضحة والفلسفة الخاصة يستمع ويهش ويتجاوب مع جمع حاشد من أنماط الشخصيات والفلسفات
من المعري الذي يقول:
تسريح كفك برغوثاً ظفرت به ... أبر من درهم تعطيه محتاجاً
إلى المتنبي الذي يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روَى رمحه غير راحم
ومن ماكس نوردو إلى شوبنهور، ومن تاجور إلى نيتشه، ومن جيتي إلى توماس هاردي، ومن خالد بن الوليد إلى عمرو ابن العاص، ومن مصطفى كمال إلى غاندي، ومن عمر بن أبي ربيعة إلى جميل بثينه. . . إلى آخر هذه الشخصيات التي لا تقل الفوارق بين كل اثنتين منها وبين كل واحدة منها والأخرى عن الفوارق بين المعري والمتنبي في شتى الاتجاهات
ولا بد أن نلاحظ بحق كذلك تلك المقدرة التي تقيم عظمة أبي بكر أمام عظمة عمر الندين المتقابلين في نوع العظمة، والتي تفسر تصرف عمر مع خالد، وتصرف عائشة مع علي، والتي تنصف الإمام من الصديقة، وتنصف الصديقة من الإمام
وليس هذا عن منطق لبق، ولا عن مهارة ذهنية، إنما هي سعة في النفس، ورحابة في الفكر، وانفساح في الإحساس، لرؤية جميع الجوانب، وتحليل وجهات النظر، وتفسير جميع(551/23)
النزعات
هذا ولم يتسع المجال لأن نذكر شيئاً عن خصائص العقاد الفكرية، خصائص التحليل والتعليل، تلك التي تطرد في كل ما يكتب، وإن كان اعتماده الأكبر في التعليل والتحليل على المنطق الحيوي لا المنطق الذهني. وخلاصة ما يقال في دراساته التحليلية أن (برهانه المفصل تابع لاعتقاده المجمل، وليس اعتقاده تابعاً لبرهانه في كل حين، كما يقول هو في إحدى مقالاته عن نموذج من الناس يستحسنه ويؤمن على طريقته في الاستدلال
ولم نجل كذلك طريقته في العرض، وأسلوبه في التعبير، ولعل القارئ يجد شيئاً من هذا فيما كتبناه عند الموازنة بينه وبين المازني، وفيما كتبناه في العام الماضي عن (عبقرية محمد) وهي نموذج كامل لدراسة الشخصيات.
وبعد! ألا كلمة عن (الصديقة بنت الصديق) صاحبة المقال؟! إن قلة السطور الباقية لتعجلني عن كثير، ولكنني أملك أن أقول: إن عائشة المرأة، وعائشة الأنثى، وعائشة المسلمة، وعائشة زوج النبي، وعائشة الإنسانة تبدو على أوضح ما تكون في هذا الكتاب الأخير
ولقد وقع اتفاق عجيب في موعد هذه الدراسة. ذلك هو التوافق بين السن التي كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يهش فيها لعائشة ويستروح ويتقبل بسرور ونشاط مقتضيات سنها وصباها وبين السن التي بدرس فيها العقاد شخصية عائشة (رضى الله عنها)،
وإنه ليخيل إلي أن هذا التوافق كان واضح الأثر في انفعال العقاد لهذه الشخصية الحلوة الكريمة وصحة فهمه لحوالجها وتصرفاتها
وهذا الكتاب الجديد امتداد وتكملة لعبقرية محمد، كما كانت عائشة امتداداً وتكملة لحياة محمد، وقد جمعهما أسلوب العقاد الفنان على نسق اجتماعهما في الحياة قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمان.
سيد قطب(551/24)
إلى الأديب (محمد العلائي)
للدكتور عزيز فهمي
(ذكرى أول لقاء على صفحات الرسالة، وقد نشرت له (على ضفاف الجحيم) في العدد 549 صفحة 36 قصيدته)
أنَرْتَ كامنَ أشجاني وآلامي ... وَضَجّ جنبي على (خَفّاقِه) الدامي
يا أيها الشاعرُ المحزومُ لا سَعَبا ... - كما تقول - ولكن روحُك الظّامي
إن (عربد الشكُ) - والتعبير مُبْتكرُ - ... في ساعِة اليأسِ عَرْبدْ بعض أنغام
في نور قلبكَ من شمس الضحى عِوَض ... فاقْبِسْ من النور أو أشرق بإلهام
إن (الحقيقة) ظظِلٌّ حائل أبدا ... يحومُ والناسُ في ماخور آثام
دون (الحقيقة) سدُّ هائل عَرِم ... من التقاليد محفوفُ بأوهام
وما الحقيقةُ إلا ما يزُوِّرُهُ ... خيالُ مُتَّجِرٍ أو عْجُز أقزام
غرائز الناس تأْباها مجردة ... وَيُدْعِمُ الزورَ منهم كُلُّ هدام!
(خلا المُصلَى) ولا محراب تنظره ... وعسعس الليل في بيداء أحلام
وَطُفْتَ بالمعبد المجزون تسأَله ... أين المسيح وأين المبدأ السامي؟
وتمتم الكاهن الدجال أُغنيةً ... وأطفأَ الشمع إلا حول أصنام
كَفَرْتَ بالإثم واجتاحتك عاصفةٌ ... في لجة الشك حول الساحل الطامي
وَهْمتَ في الأرض (مخدورَ المُنى شَرِقا) ... تقول (يا وحدتي) في ليل إحرامي!
أخي! وإن لم تصلنا بعدُ رابطةٌ ... من الوداد ولم نوصل بأَرحام
عَظَّمْتُ شعرك عذباُ في فحولته ... قبل الأوان فلم يُخْطِئْكَ إعظامي
ورق قلبي وراق اللحن في أذني ... - أنا العنيد - كما يحتج لَوَّامي
يصيب سمعيَ وقْرٌ من مباذِلهم ... إذ يُقحمون ركيكا شر إقحام
كذلك الشعر فاصدح في خميلته ... أعوذ بالشعر من أنغام نظَّام!
عَصَرْتَ من كَرْمَهْ الحرمان خَمْرته ... ففاحت الكأس في (جَوِّى وأنسامي)
وفي البواكير طعم لا يَلَذُّ به=إلا عليم بطعم الخمر والجام
نزحتَ دمعي فليت الدمع يشفع لي ... وليت نفسك ترضى بعد إحجام(551/25)
عزيز فهمي(551/26)
البريد الأدبي
حول خلود الروح
عقيدة خلود الروح من العقائد الغامضة المغلفة بالأسرار، ولذلك فقد لقيت على مر العصور نقداً عنيفاً، وطعناً جارحاً. ولعل أقسى ما وجه إلى هذه العقيدة من حملات، تلك الحملة الشديدة التي شنها عليها الفيلسوف الألماني أرنست هيكل في الفصل الحادي عشر من كتابة (لغز الكون) وقد انتهى هذا الفيلسوف من نقده إلى القول بأن (الإيمان بخلود النفس الإنسانية إنما هو عقيدة تتناقض تناقضا صارخاً مع الحقائق التجريبية الثابتة للعلم الحديث). ولكن خلود الروح - على الرغم مما أدلى به هيكل وغيره من الفلاسفة - لا يزال حقيقة عزيزة على الإنسان. وحسبنا أن نقرأ ما كتبه الأستاذ زكي نجيب محمود بعدد الرسالة الممتاز تحت عنوان (هجرة الروح) لنتحقق من أن الإنسان لا يسعه أن يطلق هذه العقيدة، ولو قام على بطلانها ألف دليل! وإذا كان فولتير يقول لنا (إننا إذا فكرنا في البرغوث لم يخطر ببالنا أن له نفساً خالدة؛ فلماذا إذن أعتقد أن لي نفساً خالدة؟ لماذا يتملق الناس أنفسهم ويغترون بأنهم هم وحدهم الموهوبون بعنصر الخلود والروحانية؟ لعل السبب في ذلك زهوهم المفرط. وإني أشعر أنه لو كان الطاووس يتكلم لأعرب عن إعجابه بنفسه، وادعى أن مكان النفس من جسمه هو ذنبه الجميل!) إذا كان فولتير يقول هذا؛ فإن في استطاعتنا أن نرد عليه فنقول: (أليس أمل الإنسان في خلوده بعد الموت دليلاً على خلوده؟ إن رغبة الإنسان في الطعام ما كانت لتوجد لو لم يكن الطعام موجوداً. فالزهرة والنملة فانيتان وهما لا تنشدان خلوداً، أما الإنسان فراغب فيه ساع إليه، ويستحيل أن يكون له ذلك ما لم يجد في فطرته وجبلته ما يوحي إليه أنه خالد)
أجل، إن العقائد لا تبنى فقط على العقل، ولكنها تبنى أيضاً على الشعور، وقد فطن إلى هذا أحد الباحثين - وهو سترلانج - فقال: (إنني أعلم علم اليقين أنه ليس يكفي أن أرغب في امتلاك القمر، لكي ينعطف إلى هذا القمر، كما أنه ليس يكفي أن أصبو إلى مجد نابوليون لكي يسعى إلى هذا المجد، ومع ذلك فإني أقول إنه يكفي أن أرغب في خلود النفس لكي يكون هذا الخلود حقيقة ثابتة لها وجود. فما هو الفارق إذن؟ إنه لفارق كبير، وبيان ذلك أن الرغبة في نيل القمر، والطموح إلى مجد نابليون، لا يعدو كل منهما مجرد(551/27)
تهاويل شخصية ليست نتيجة لطبيعتي إن في كثير أو قليل. أما رغبتي في الخلود فهي ظاهرة أولية عامة لها أساس في الطبيعة الإنسانية كلها)
أما الاعتراضات التي تثار ضد عقيدة خلود النفس فقد تكفل بالرد عليها الكاتب الفرنسي شاتوبريان في كتابه: (عبقرية المسيحية) (القسم الأول، الكتاب السادس، الفصل الرابع). وهذه الاعتراضات كلها يمكن أن تنحل بسهولة، إذا عرفنا أنه لا يجب علينا أن نتخذ من جهلنا لبعض التفاصيل والجزئيات ذريعة للقول بفساد العقيدة كلها. ويعجبني في هذا الصدد قول ترتليانوس (أبن لي الحالة التي أنت عليها، أقل لك الحالة التي ستصير إليها)
زكريا إبراهيم
حول ختان البنات في مصر
كتب الدكتور الفاضل (ع. أسامة) في هذا الموضوع الهام مقالاً ممتعاً في رقم544 من مجلة (الرسالة) الغراء، وقد ورد فيه بعض نقط دفعتني إلى ما يأتي:
يقول الدكتور الفاضل: (تختص مصر بهذه العادة دون سائر بلاد العالم المتمدن، إذ لا يشاركها فيها سوى قبائل السودان وأواسط أفريقيا). والواقع أن الشعب السوداني كله مختص بهذه العادة، ولم يستطيع الخلاص منها رغم الجهود العظيمة التي يبذلها شبابه وشيوخه بين حين وآخر أملاً في أن يقلع هذا الشعب المسلم عن هذه العادة الضارة
وقد كتب الدكتور السوداني سيد أحمد عبد الهادي مقالا عام 1939 في جريدة النيل السودانية مشابهاً لما كتب الدكتور أسامة عن هذه العادة، وبناء على ما جاء في مقال الدكتور سيد أحمد أفتى فضيلة مفتي السودان بما يحرم ختان البنات بهذه الطريقة التي كتب عنها الدكتوران. وتسمى عندنا (الفرعونية). والمعروف أنها انتقلت إلى السودان من مصر. وقد كان لإثارة هذا الموضوع آنذاك آثار حسنة ظاهرة، ولكنها ما لبثت أن اختفت مع مرور الأيام. وأكبر الظن أن الدافع إلى الدكتور السوداني إلى الكتابة في هذا الموضوع كان ما تتكبده المرأة السودانية من ألم وصعوبات عند الوضع. الأمر الذي يترتب عليه كثير من حوادث الوفيات بين النساء
أما سكان أواسط أفريقيا الوطنيون فهم قوم ما زالوا على الفطرة، ولم ينتشر بينهم ختان(551/28)
البنات والأولاد على أية طريقة ما إلا في اندر الحالات التي لا تبرر ذكرهم في كلام الدكتور أسامة. ومع ذلك فقد لا ينعدم بينهم (الخرافات المتعلقة بالاعتقاد في إصابة بعض النساء بالجن والمشايخ والأسياد، وما يجده الدجالون من سوق رائجة بينهن باستغلال هذه المعتقدات)، ولهذه المعتقدات في أواسط السودان وشماليه أثر ظاهر يماثل أثرها في مصر، ولكنها في جنوبيه لا يوجد لها أثر مرتبط بهذه الناحية
هذا ما عن لي أن أذكره شاكراً للدكتور أسامة جهوده وغيرته، وأرجو أن يوفق فيما دعا إليه. خصوصاً في هذا الظرف الذي يحتم على أبناء الشرق أن يصلحوا من حالتهم الاجتماعية التي هي أساس كل تقدم يرمون إليه
(وادي حلفا)
سليمان نجيت
في الصديقة بنت الصديق أيضا
كان الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد منصفاً كل الإنصاف في اختيار العنوان لرده على المآخذ التي وجدتها أنا وبعض الفضلاء في كتابيه: (الصديقة بنت الصديق) و (عبقرية الإمام)، ولكن ما أجاب به عن الأمرين اللذين أخذته بهما لم يصب عين ما أردت منهما، لأنه جرى فيما أجاب به عن الأمر الأول على مذهب ضعيف للنظام في الصدق والكذب، وهو أن الصدق مطابقة الخبر للاعتقاد، والكذب عدم مطابقته له. والصحيح مذهب الجمهور في الصدق والكذب، وهو أن الصدق مطابقة الخبر للواقع والكذب عدم مطابقته له. فالنبي صلى الله عليه وسلم حين رأى شبهاً بينه وبين ابنه إبراهيم يرى أنه يشبهه في الواقع، وعائشة حين قالت له إنها لا ترى شبها بينهما، ترى أنه لا شبه بينهما في الواقع، وفي هذا تكذيب له غير لائق، ولا سيما أن ألسنة المنافقين كانت تلوك في أمر مارية حين سأهم ولادة إبراهيم ما لاكوه في عائشة، وهي أكبر من أن تقابل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول الذي يرتاح له أعداؤه من المنافقين. وقد قال الأستاذ العقاد: (فالتكذيب هنا إنما يكون إذا قالت إنك يا رسول الله لا ترى شبهاً بينك وبين إبراهيم. أما أن تقول عن نفسها إنها ترى الشبه وهي لا تراه، فذلك هو الكذب الذي ينبو عنه مقامها). وإني أقول إن هذا(551/29)
هو مذهب النظام في الصدق والكذب بعينه، ومؤاخذتي للأستاذ العقاد في ذلك الأمر لا تقوم على أسامة
وأما جوابه عن الأمر الثاني فقد خرج فيه عن الذنب الذي قذفت به عائشة، وطلب منها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الخبر أن تعترف به وتستغفر منه إن كانت ألمت به، فالذنب الذي قذفت به هو الزنا، وهو يخالف سائر الذنوب في انه يندب للحاكم إذا أقر به شخص عنده أن يعرض له بالرجوع عن إقراره، فكيف بطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن تعترف به إن كانت ألمت به. على أن الاعتراف بالذنب ليس من أصول الإسلام في شيء، وإنما هو أصل من أصول المسيحية. وقد جاء في بعض الأحاديث أن الله يحب من العبد إذا ارتكب ذنباً فلم يفضحه أن يستره عن الناس. فالذي أنكره من ذلك الخبر هو ما فيه من طلب اعتراف عائشة بذنب لا أساس له، وما فيه من إفادة شك النبي في براءتها مما قذفت به، وفي جواب عائشة عن ذلك أكبر دليل على ضعف ذلك الخبر.
عبد المتعال الصعيدي
لبشار أم لكثير عزة؟
في الرسالة (543 - 959) كتب الأديب عبد الحميد عثمان عبد المجيد كلمته تساءل فيها: كيف أورد مؤلفاً قصة الأدب في العالم الأبيات البائية المشهورة التي نسبها صاحب الأغاني إلى بشار - تساءل كيف نسبا هذه الأبيات إلى كثير عزة؟. . .
ويظهر أن الخلاف في قائل هذه الأبيات قديم جداً، وأن الخلاف في القائل واسع لا يقف عند بشار وكثير عزة. والظاهر أن بعض الكتاب القدماء نسب هذه الأبيات إلى ذي الرمة أيضاً؛ فقد ذكر صاحب مصارع العشاق أن كثير عزة خرج مرة للقاء عزة واشتدت به الحال فأنشد:
يزهدني في حب (مية) معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبي الخ
ثم قال: (هكذا رواه ابن اسحق، وقال الشهاب محمود بذلك ونقل في الطبقات الأبيات إلا أنه قال:
يزهدني في حب (عزة) معشر. ثم قال هذه الأبيات لكثير عزة، وقد توهم قوم أنها لذي(551/30)
الرمة بدليل قوله:
يزهدني في حب (مية) معشر، وليس كذلك. وإنما كان سهواً
هذا كلامه بالنص ومنه يعلم أن هناك من نسبها إلى ذي الرمة، ولكنه رحمه الله يجزم - كما ترى - أنها لكثير عزة، وهذا الجدل والدفع والجذب يقوم، مع أن الأصفهاني ذكر الأبيات في شعر بشار بغير خلاف!
وليس هذا بأول خلاف ولا بآخر جدل يقوم على بيت من الشعر وتعيين صاحبه. والقطع برأي في مثل هذه المسائل يحتاج إلى شيء من الدقة وشيء من التريث. ولا بد من الرجوع إلى كل ما يكن الرجوع إليه من المراجع والموسوعات
برهان الدين الداغستاني(551/31)
القصص
الاعتراف. . .
للكاتب الفرنسي جي دي موبسان
بقلم الآنسة درية رستم
كانت مرجريت دي تيرول تعاني سكرة الموت وهي بعد في الواحدة والخمسين من سني حياتها؛ إلا أنها كانت تبدو لرائها على الأقل في الخامسة والستين. . . وراحت تتنفس وهي أشد أصفراراً من أدثرتها. . . تخالج جسدها رعشات هائلة. . . شاحبة الوجه. . . زائغة البصر، كما لو كان شيئاً هائلاً يلوح لها. وراحت شقيقتها الكبرى (سوزان) تنتحب، وهي تكبرها بعشر سنوات، وكانت جالسة بالقرب من السرير، وكان بالقرب من فراش المحتضرة منضدة عليها مفرش من فوقه شمعتان مشتعلتان. . .
كانتا في انتظار القس الذي كان من واجبه أن يقوم بمباركتها البركة الأخيرة ويقدم القربان المقدس. وكان للمسكن ذلك المنظر المشؤوم لحجرات الموتى، منظر الوداع الذي لا لقاء بعده. . . زجاجات الدواء على كل قطعة من الأثاث. . . والملابس ملقاة في كل ناحية من نواحي الغرفة. . . مدفوعة بركلة قدم أو بضربة مكنسة. . . حتى الأرائك كانت في غير أماكنها المعدة لها. نعم فقد كان الموت المروع ثم مختبئاً منتظراً. . .
كانت قصة الشقيقتين تستدعي رحمة القلوب وإشفاقها. . . وراح القوم يروونها من زمان بعيد وهي بعد تستدر عبراتهم
كانت سوزان في ميعة صباها يحبها فتى إلى حد الجنون. . . وكانت تبادله الحب. . . وإذ لم يعد على زواجهما غير أيام معدودات مات (هنري دي سابير) فجأة. . .
ولقد كان يأس الفتاة قاتلاً حتى لقد أقسمت ألا تتزوج أبداً. . . والحق أنها برت بقسمها وعاشت عيشة العوانس، ولم تشذ عن عادتها مطلقاً
. . . وذات صباح جاءتها شقيقتها. . . شقيقتها الصغرى (مرجريت)، ولم تكن بعد قد تعدت الثانية عشرة وألقت بنفسها بين ذراعي شقيقتها الكبرى وقالت لها:
يا شقيقتي الكبرى. . . إنني لا أريد أن تكوني تعسة. . . لا أريد أن تبكي طول حياتك. .(551/32)
أبداً لن أغادرك أبداً. . . وأما عن نفسي فلن أتزوج، وسأظل دائماً إلى جوارك دائماً. . . دائماً. . . واحتضنتها سوزان متأثرة بهذا الإخلاص من طفلة. ولكن الطفلة عملت بقولتها، وعلى الرغم من توسلات أبويها وتضرعات شقيقتها لم تشأ أن تتزوج. . . ولقد كانت جميلة بارعة الجمال، وردت كثيراً من الشبان الذين كانوا يلوحون أنهم يحبونها. . . لم تغادر أختها مطلقاً!
وعاشتا معاً طيلة إقامتهما دون أن تفترقا مرة واحدة. وظلتا متعاشرتين تربطهما عروة وثقى. . . إلا أن (مرجريت) كانت تبدو دائما حزينة مهمومة. . . أكبر حزنا من أختها، كما لو كان من المحتمل أن تكون تضحيتها الغالية قد قوضت حياتها، وراحت تدلف في طريق الشيخوخة بخطوات حثيثة، ووخط الشيب شعرها وهي لا تزال في الحلقة الثالثة من عمرها. . . دائماً تعاني، كما لو كان خطراً هائلاً يهددها.
وهاهي ذي الآن تموت قبل أختها! ولم تنفرج شفتاها عن كلمة منذ أربع وعشرين ساعة. . . فقط قالت عند الومضات الأولى للفجر: هيا ابحثي يا أختاه عن القس؛ فإنني مشرفة على الهلاك. . .
وبقيت بعد ذلك مستلقية على ظهرها. . . تنتفض انتفاضاً مرتجفة الشفتين، كما لو كانت كلمات هائلة تصعد من أعماق قلبها، ثم تقف حائرة على شفتيها!
وراحت أختها، وقد أرمضها الألم، تبكي بحرقة من خلف السرير، وهي تردد:
يا مرجو. . يا مرجو التعسة. . . يا صغيرتي، وكانت دائماً تناديها بيا (صغيرتي)، كما كانت مرجريت تناديها دائماً بيا (أختي الكبرى). . .
وسمعنا وقع أقدام على الدرج. . . وفتح الباب ولاح طفل من الكنيسة، ومن خلفه قس كهل في لباسه الكهنوتي. وما إن وقع بصر المحتضرة عليه حتى انتفضت وفغرت فاها، وتمتمت بكلمات غير مفهومة. . . وتقدم منها الأب (سيمون) وتناول يدها وقبلها في وجنتها، وقال لها في صوت حلو النبرات:
- إن الله ليعفو عنك يا طفلتي. . . تشجعي. . . هاهي ذي اللحظة قد دنت. . . تكلمي
. . . وتمتمت مرجريت التي راحت تنتفض من فرعها إلى قدمها. . . وراح مهادها يهتز بتأثير حركاتها العصبية(551/33)
لتجلسي يا شقيقتي الكبرى. . . ولتسمعي. . . وانحنى القس يأخذ بيد (سوزان) وهي قابعة كعادتها عند قدم السرير وأجلسها على الفوتيل وأخذ بكل يد من يديه يد كل من الشقيقتين، وقال:
رباه. . . لتبعث فيها القوة. . . ولتنزح عليها رحمتك. . .
وشاءت مرجريت أن تتكلم، فخرجت الكلمات من حلقها الواحد بعد الأخرى جزئية متقطعة
عفوك. . . عفوك يا أختاه. . . لتصفحي عني. . . آه لو أنك تعلمين كم كنت أشفق على نفسي من هذه اللحظة. . . طول حياتي. . . وتمتمت سوزان من بين عبراتها. . .
عم أصفح عنك يا صغيرتي. . . وقد منحتني كل شيء. . . وضحيت بكل ما تملكين. . . إنك ملاك
ولكن مرجريت قاطعتها قائلة:
خلي عنك
دعيني أتكلم ولا تقاطعيني. . . هذا مريع. . . دعيني أقل كل شيء حتى النهاية. . . دون تتحركي. . . أصغي. . . إنك تذكرين. . . تذكرين هذي. . .
وانتفضت سوزان ونظرت إلى شقيقتها التي استطردت قائلة: يجب أن تنصتي لتفهمي. . . كنت في الثانية عشرة من عمري حياتي. . . في الثانية عشرة فقط وإنك لتذكرين ذلك جيداً أليس كذلك؟ ولقد كنت مدللة؛ كنت أعمل كل ما أريد عمله. . . أتذكرين جيداً كيف كانوا يدللونني؟ أصغي. . حينما جاء لأول مرة كان يحمل باقات نضيرة ونزل من فوق جواده أمام الدرج
ولكنه كان يحمل نبأ إلى والدي. . . إنك لتذكرين. . . أليس كذلك؟ لا تقولي شيئاً، أصغي. . . حينما رأيته. . . شعرت كأنني أسرت، فقد كان جميلاً، فاتن الجمال. . . وظللت واقفة في ناحية من الصالون طوال الوقت الذي كان يتكلم فيه
وزارنا مرات عدة، فكنت أحدق فيه، بكل عيني. . . من كل قلبي. . . فلقد كنت أكبر من سني!
وعاد بعد ذلك كثيراً. . . ولم أكن أفكر إلا فيه. . . وكنت أقول في صوت خافت:
هذي. . . هذي دي سامبير. . . وبعد فقد قيل إنه سيتزوج منك. . . فأصابني ألم. . .(551/34)
أواه!
لشد ما تألمت. . . لشد ما تألمت!
وظللت ثلاث ليال متتاليات دون أن يزورني الكرى، وشرع يزورنا كل يوم، وبعد الظهر. . . بعد أن يتناول طبعاً الغداء. . . إنك لتذكرين. . . أليس كذلك؟ لا تقولي شيئاً. . . أصغي. . . كنت تعدين له (الفطير) الذي كان يحبه كثيراً من الدقيق. . . أواه. . . إنني لأعرف تماماً، كيف كنت تقومين بذلك!
وبعد أن كان يرشف قدحاً من الخمر. . . يقول: كم هو شهي! وإنك لتذكرين كيف كان يقول ذلك. . . لقد غدوت حقودة. . . حقودة. . . وكان يوم زواجكما. . . يقترب حتى لم يبق عليه إلا خمسة عشر يوماً. . . غدوت مجنونة. . . فكنت أقول فيما بيني وبين نفسي
سوف لا يتزوج من سوزان. . . كلا، لا أريد ذلك. . . إنه سيتزوج مني حينما أكبر. إنني لم أجد أبداً من أحبه هذا الحب. . . ولكن. . . ذات مساء قبل عقد زواجكما بعشر أيام كنت تسيرين معه. . . في ضوء القمر. . . هناك تحت شجرة السرو. . . شجرة السرو السامقة. . . ضمك. . . ضمك. . . بين ذراعيه طويلاً. . . إنك لتذكرين. . . أليس كذلك؟. . . وكان ذلك محتملاً أول مرة. . .
لأنني رأيتك شاحبة الوجه حينما عدت إلى الصالون. . . ولقد استطعت أن أرى كل شيء، ذلك لأنني كنت واقفة هناك على الرصيف، فتملكني الغضب. . . حتى لو كان في استطاعتي آنئذ أن أقتلكما. . . لما ترددت في ذلك. قلت فيما بيني وبين نفسي: سوف لا يتزوج من سوزان أبداً، ولا من أية فتاة أخرى. . . غدوت تعسة. . . وفجأة وجدتني أندفع في طريق الحقد. . . الحقد المروع!
أتعلمين ما الذي فعلته إذن؟. . . أصغي. كنت رأيت البستاني يعد كرات صغيرة ليقتل بها الكلاب الضالة. . . فكان يسحق الزجاج بحجر. . . ثم يضع الزجاج المسحوق في كرة صغيرة من اللحم. . . أخذت من غرفة والدتي زجاجة صغيرة من زجاجات الدواء وجعلت أحطمها
وأخفيت الزجاج في جيبي وهو لا يعدو أن يكون مسحوقاً لامعاً. . . وفي اليوم التالي. . . عند ما قمت كعادتك بعمل (الكعك)، شققتها بسكين ودسست الزجاج فيها. . . وأكل هنري(551/35)
منها ثلاثاً. . . وأكلت أنا واحدة. . . وألقيت بالست الباقية في الغدير. . . ولقد ماتت الأوزتان بعد ذلك بثلاثة أيام. . . إنك لتذكرين ذلك. . . أواه لا تقولي شيئاً. . . أصغي. . . أصغي. . . أنا وحدي التي لم تمت. . . ولكنني كنت دائماً مريضة مدنفة. . . أصغي، لقد مات. . . إنك لتذكرين جيداً. . . إنه ليس في ذلك شيء حتى الآن. . . بل إنه بعد ذلك. . . بعد ذلك بكثير غدت حياتي كلها مفعمة بالشقاء، كفنت أقول فيما بيني وبين نفسي: سوف لا أغادر شقيقتي، سوف أقول لها كل شئ. . . عندما يدهم أحدنا الموت
ولقد كنت أفكر دائماً في تلك اللحظة المرتقبة. تلك اللحظة التي أعترف لك فيها بكل شيء. . .
وهاهي ذي قد حانت! هذا مريع. . . أواه. . . يا شقيقتي الكبرى. . . كنت دائماً أفكر. . . في الصباح وفي المساء، في النهار وفي الليل. . . أنه يجب علي أن أكاشفك بكل شيء. . .
لشد ما تألمت! أنصتي. . الآن يتملكني الخوف. . . خوف مروع، أواه. أخشى أن أراه برهة. . . حينما أموت. . . أتدركين ما أعني؟ أتدركين. . . هاأنذا وقد أشرفت قبلك على الهلاك، أتضرع إليك أن تصفحي عني، لأنني لا أستطيع أن أموت دون أن أتقدم بعفوك إليه. . .
اسأله أيها الأب أن يعفو عني. . أتضرع إليك. . . لا أريد أن أموت قبل ذلك
أخفت سوزان وجهها بين يديها، ولم تأت بحركة، وراحت تفكر في فتاها، وكيف كان من الممكن أن تتعهده بحبها طويلاً، وأية حياة جميلة تلك التي كانت لهما، وومض خياله لحظة في ذهنها ثم لم يلبث أن اختفى في الماضي البعيد. . . مات فتاها وشقيقتها العزيزان. . كم يمزق موتهما قلبها. . . أواه. . . صورته. . . صورته الحبيبة. . . إنها لتحتفظ بها في أعمق نفسها. . . ثم لم يبق شيء من حياتها كلها. . .
وفجأة قام القس، وصاح في صوت جهوري واضح:
يا آنسة سوزان، إن شقيقتك تحتضر
وفتحت سوزان ذراعيها، ووضح وجهها المخضل بالدموع واندفعت إلى شقيقتها وراحت تقبلها بكل قوتها وهي تتمتم. . . إنني أعفو عنك، أعفو عنك يا صغيرتي!(551/36)
درية رستم
معهد التربية بالزمالك(551/37)
العدد 552 - بتاريخ: 31 - 01 - 1944(/)
فجيعة مصر في أميرها
نعم، فجعت مصر في أميرها، وقلما تفجع مصر في أمير! وعمر باشا طوسون أحق أنداده - إن كان له أنداد - بأن نقول مصر فيه: اليوم فقدت أبني البار وأميري الحق! ذلك لأنه أعزها وأجلها، وعاش فيها وبها ولها، ووقف على خدمتها حياته كلها؛ فلغتها لغته، ودينها دينه، وقومها قومه، وتقاليدها تقاليده، وأمجادها أمجاده. وما يمتري اثنان في أن حفيد محمد علي وصهر إسماعيل كان على جلالة منبته وضخامة ثروته فلاحاً متواضع النفس لين الجانب، يهبط مختاراَ إلى مستوى الحياة العاملة فيلابس سواد الجمهور، ويتمرس بمختلف الأمور، ويأخذ بالنصيب الأوفر من الرأي الموجه والعمل المثمر. ولم تسول له نفسه مرة أن يقف على قمة الشرف الموروث ثم ينظر من علياء إلى رزق الله وخلق الله بشطر عينه ويقول بلهجة المتغطرس المزهو:
أولئك ضياعي، وهؤلاء عبيدي!
رحم الله الأمير عمر! لقد كان في حياته ومماته مثال الأمير الديمقراطي الصالح. وأريد بالصالح معناه المدني الرفيع من صلاح للدنيا وللدين. ولعله بهذا المعنى يوشك أن يكون رجل وحده في الأمراء والأغنياء كافة!
كان أشبه بالعصاميين في تدبير ملكه وتنمية ثرائه. ورث اكثر ضياعه من غامر الأرض فلا زرع ولا مرعى. فلو كان من أولى الجسد البض والعظم الخرع والطبع المدلل لأجاب الخبير الذي قال له: (إن إصلاح أرضيك يحتاج إلى مال قارون وصبر أيوب): دعني لخيول سباقي وكلاب صيدي وخلاك ذم! ولكن الأمير الشاب شمر للأمر تشمير الرجل، واستعد للعمل استعداد المضطر، وأقبل على سبخات الأرض ومناقع الماء يقذف فيها الخصب، ويسبغ عليها النماء، ويغري بها الربيع زهاء نصف قرن، حتى أصبحت الأجادب منازه نعيم، وصار (الخزان) خزائن نعمة!
من ذلك اشتد حبه لأراضيه لأنها ثمار جهده، وقوى عطفه على فلاحيه لأنهم رفاق جهاده. ثم اتسع حبه لضياعه حتى وسع وطنه، وانتشر عطفه على أتباعه حتى شمل أمته. حينئذ أخذ يوزع نشاطه على حركات الإصلاح في الأرض وفي الناس، فنهض بالإنتاج الزراعي نهضة موفقة بما أمد به الجمعية الزراعية من علمه وعمله وماله وجاهه. ثم كان له في كل وجه من وجوه الخير نفحات ظاهرة وباطنة. وامتد أفقه إلى الأمور السياسية والقومية(552/1)
فشارك فيها مشاركة المؤمن بحقوق الشعب، المذعن لسلطانه، فأيد دعاة الدستور، وعضد قادة الأمة، وبسط من لسان مصطفى كامل، ومد في يد سعد زغلول. ولو ذهبت تستقصي دوافع العمل ودواعي الخير في حياة الأمير ثم رددتها إلى مصدر واحد، لكان ذلك المصدر حبه العارم لمصر والسودان وما يمت إليهما بسبب، من جوار أو نسب. فمن أجلهما عطف على طرابلس وفلسطين والحبشة، وفي سبيلهما عقد الأواصر ومتن الأسباب بين الأهل والجيرة
ثم اتجه نشاطه إلى العلم والتأليف فلم يجد أعلق بخاطره ولا ألصق بهواه من البحث في تاريخ مصر والسودان، وتقويم بلداتهما، ومناقب سكانهما، فكتب في هذه الموضوعات واحداً وعشرين كتاباً أكثرها بالعربية وبعضها بالفرنسية، أشهرها:
الجيش المصري البري والبحري في عهد محمد علي، مصر والسودان، كلمات في سبيل مصر، مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن، رسالة المصانع والمدارس الحربية في عهد محمد علي، الأطلس التاريخي الجغرافي لمصر السفلى منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم، ضحايا مصر في السودان وخفايا السياسة الإنجليزية، يوم 11 يوليو سنة 1882، وادي النطرون ورهبانه وأديرته، المسألة السودانية، فتح دارفور سنة 1916 تاريخ مديرية خط الاستواء المصرية من فتحها إلى ضياعها، تاريخ خليج الإسكندرية القديم وترعة المحمودية، الجيش المصري في حرب القرم. وهذا الثبت المختصر كاف وحده للدلالة على مهوى فؤاد الأمير ومتجه مساعيه.
كان الأمير عمر، جاد الله بالرحمة تراه، نازه النفس لم تحم حول مروءته ولا سمعته ريب الحسب الموروث ولا دنايا الغنى الطافح. وكان صاحب وقار وجد، فلم يشغل ذرعه بسفساف الأمور ولا حقير الملاهي. وكان في دقته كدورة الشمس تضبط على حركاته ساعتك؛ فهو ينام ويستيقظ ويأكل ويعمل ويقيل ويقرأ ويستريح ويستريض في مواعيد لا تتقدم لحظة ولا تتأخر. وتلك خصيصة العزم الثابت، والنفس المطمئنة، والطبع المستقيم. ولقد كان وهو في هذه السن العالية يدبر أعماله الزراعية والمالية بنفسه، فيفض البريد، ويعلق على كل رسالة، ويطلع على كل أمر، ويقضي في كل مسألة. وكان الظن بمثل هذه الحياة العاملة الحافلة الموزونة أن تنبو على أعراض الترف وأمراض البطالة؛ ولكن أجل(552/2)
الله إذا جاء لا يؤخر
هذه خطوط وظلال لصورة الأمير الراحل رسمناها على التقريب ليكون فيها للشباب قدرة وللشيب عبرة. وإنا لنرسمها ولذعات الحسرة ترمض الفؤاد على حال الوادعين في ظلال أمنه يوم يفتقدونه فلا يجدونه. على أن الناس في شبليه صاحبي المجد النبيلين الجليلين (سعيد) و (حسن) خير العزاء عن فقده، فإن حياتهما امتداد لحياته، وعملهما استمرار لعمله.
أحمد حسن الزيات(552/3)
مدينة الخيرات
للدكتور زكي مبارك
بالأمس حضرت مع الأخ الزيات حفلة وزير الأوقاف لشرح تخطيط (مدينة الخيرات) بدعوة كريمة من معاليه، واليوم قرأت جميع الجرائد الصباحية والمسائية من عربية وفرنسية لأستروح بعبير الحديث عن المدينة الجديدة، ثم تأملت الخريطة المنشورة في جريدة المصري وجريدة الأهرام، ودرستها مع أحد أبنائي، ليتخير مكانا نبني فيه بيتاً هناك، بإذن الله، وبعون الله، فما نقدر على شئ، إلا إن أعانتنا رعايته السامية، وأظلنا ظله الظليل.
مدينة الخيرات
الوزير سماها في حديثه معنا (مدينة الزهور)، ثم قرأت في جريدة الأهرام أنه قال إن اسمها محل بحث في الوقت الحاضر، وأنا أقترح أن نسميها (مدينة الخيرات) للمعنى الذي أشار إليه الوزير في خطبته، فقد قال إن الذي يبني قصراً في هذه المدينة يضمن قصراً في الجنة، لأن الأموال التي ستحصل من إنشائها ستكون أزواداً باقية للفقراء والمساكين
والخيرات كلمة قوية في اللغة العربية، فهي جمع خَيْرة مؤنث خَيْر، والخير في لغة العرب يتضمن وصفين: الوصف بالخُلُق والوصف بالجمال والرسول عليه السلام سمي (المختار) لهدا المعنى، وقد وردت (الخيرات) في الشعر القديم بمعنى الخصال الشريفة، قال النمر بن تولب:
أعامرُ مهلاً لا تلمني ولا تكن ... خفياً إذا الخيراتُ عُدَّت رجّالها
فمدينة الخيرات هي مدينة الأخلاق الفاضلة، والشمائل الكريمة، والجمال الرائع، وإذن يكون اسمها في معناه من أشرف الأسماء
أرجو معالي الوزير أن يتفضل بإقرار هذا الاسم الجميل، وأرجو حضرات الكتاب والشعراء أن يذكروه فيما يكتبون وما ينظمون، ليسير على الألسنة في أقرب وقت، ولهم مني أطيب الثناء
عبد الحميد عبد الحق(552/4)
هذا فتى من اماجد الفتيان، فتى طيب القلب، صافي الروح، واشتراكه في الوزارة الحاضرة دليل جديد على براعة النحاس باشا في اختيار الرجال
تولى عبد الحميد وزارة الشؤون الاجتماعية وهي وهم من الأوهام، فصيرها وزارة رئيسية، صيرها وزارة يرضي بها وزير مثل فؤاد باشا سراج الدين
وحين نقل هذا الوزير المبتكر إلى وزارة الأوقاف كان مفهوماً للجمهور أنه نُقل إلى ميدان لا يصلح للجهاد، ثم كانت النتيجة أن يبتكر أشياء لم تخطر لمن سبقوه في بال
الأوقاف الخيرية
حدثنا الوزير في خطبته أن الوقف الخيري كاد ينقرض، فلم نعد نسمع شيئاً من أخبار المحسنين الذين يحبسون الأطيان والعقارات على الفقراء والمساكين، وذلك باب من (التأمين الاجتماعي)
وإذن يكون من الواجب أن ننمي الأوقاف الموجودة، وهي لا تزيد عن خمسة وأربعين ألفاً من الفدادين. . . وقد تعجبت حين سمعت هذا الرقم الهزيل، وجال في الخاطر أن الأراضي الموقوفة تعرضت للسرقات، والأرض تُسرق كما تُسرق النقود، وإذا كانت الأراضي التي يسهر عليها أصحابها تُسرَق منها مساحات فليس من المستغرب أن تسرق أراضي الأوقاف، ولم يكن لها حراس فيما سلف من السنين
وقد وجد الوزير أبواباً لتنمية الأوقاف الخيرية، منها بيع الأراضي القريبة من المدن لينتفع بأثمانها العالية، وأهم هذه الأبواب هو إنشاء (مدينة الخيرات) في الأراضي الواقعة على الضفة الغربية للنيل
ارتفع السعر من اللحظة الأولى، فاشترى حلمي باشا عيسى فداناُ وصل ثمنه إلى نحو تسعة آلاف من الجنيهات، وكان الفدان هنالك لا يجد من يشتريه بأبخس الأثمان
أنا متفائل بما صنع حلمي باشا، فهو من جيراني في المنوفية، وسأصنع كالذي صنع فأشتري بضعة قراريط بجوار ذلك الفدان، لنظل جيراناً هنا وهناك!
اللهم آمين!
سيعد وسنان(552/5)
الأراضي التي ستقام عليها مباني المدينة الجديدة هي من أوقاف سعيد باشا وسنان باشا، فمن هذان الرجلان؟
أرجو أن يتفضل أحد أصدقاء الرسالة فيكتب كلمة في هذين المحسنين العظيمين، جعلهما الله من سكان الفردوس
شارع الأهرام
الشارع الأعظم في المدينة الجديدة عرضه ثمانون متراً، ومزيته أنه يواجه الأهرام من بدايته إلى نهايته، ومعنى هذا أن السائر فيه يرى الأهرام كلما مدْ بصره إلى الأمام
أتاح هذا الشارع فرصة لخطبة وجيزة عقبت بها على خطبة الوزير، فقد تحدثت عن حرمان القاهرة من مثل هذا الجمال، تحدثت عن شارع الأزهر وهو بدعة البدع في الاعوجاج، وكان يجب أن يسمح لمن يقف بميدان الملكة فريدة أن يرى منارات الأزهر الشريف
وقلت أيضاً إنه كان يجب أن يتمتع من يقف في ميدان الإسماعيلية أو باب الحديد برؤية الواجهة الجملية لقصر عابدين
ارحموا القاهرة
ثم اندفعت فتحدثت عما أخشاه من إهمال القاهرة، وهي عروس الشرق، فالعمران الجديد يتجه إلى الضفة الغربية ويترك الضفة الشرقية، يتركها لأن تنظيمها صعب، أو لأنها من ميراث الأجداد، وهذا هو العذر الذي وصف بأنه أقبح من الذنب؟
أين كان مهندسونا يوم أقيمت إدارة الأزهر بوضعها الجديد؟ وكيف جاز أن تشوّه الجمال المنشود بوصل ميدان الأزهر بميدان الحسين؟ وأين كان مهندسونا يوم أقيمت معسكرات الحرس الملكي كان يجب أن يتصل الميدان بالساحة التي تقع في شمالي تلك المعسكرات، ليزيد في الرونق والبهاء
وكيف جاز السكوت عن تنظيم شارع الخليج حتى يصل إلى مداه من الشمال؟
وإلى متى نسكت عن التلال التي تحيط بالقاهرة من الشرق فتملؤها بالغبار والأقذاء؟
وزير الأوقاف يَعِدنا بغابة تحمي المدينة الجديدة من الرطوبة والغبار، فمتى نسمع أن(552/6)
وزارة الأشغال أقامت غابة تحمي القاهرة من الأتربة والرمال التي تثور من الشرق؟
وعند هذه الكلمة قام الوزير ليقول: إن لوزارة الأوقاف أملاكا في (تل زينهم)، وإنه سيحاول تحويل تلك التلال إلى رياض
ولم يسمح المقام بمعارضة الوزير، فأنا أريد تلال الدرَّاسة لا تلال زين العابدين؟
عثمان محرم باشا
وقف الأستاذ محمد الصباحي ليرد على خطبتي فقال: إن صاحب المعالي عثمان محرم باشا معنيٌّ برفع التلال التي تؤذي القاهرة من الشرق، ومضى فقال كلاماً جميلاً في الدفاع عن وزير الأشغال
وأقول إني معتزمٌ رفع قضية على عثمان باشا، قضية طريفة يعرف بها أن الأديب مهندس يفوق المهندسين، وسأترفق به، فلا أُطالبه بغير عشرين ألفاً من الدنانير الصِّحاح
كتبت في (الرسالة) مقالات كثيرة عن تخطيط القاهرة ولم يستمع وزير الأشغال، بدليل أنه لم يَدْعُني ليسمع أقوالي
وسأقدم للمحكمة وثيقة عجيبة، هي مقالة قدمتها لجريدة المصري في العام الماضي، ثم ردّتها إلىَّ برفق، لأني اقترحت أن يسير وزير الأشغال على قدميه أو يركب الترام عند خروج الموظفين من الدواوين، فإني أعتقد أن راكب السيارة الخصوصية أو الحكومية لا يشعر بما يعاني القاهريون من صعوبة المواصلات
وقد تعب السكرتير العام لوزارة الأشغال، وهو الأستاذ حامد القصبي، في ترضيتي، ليضمن سكوتي عن رفع القضية، ولكنه لن يصل إلي ما يريد، وإن كان أعز صديق
سأقاضي وزير الأشغال بعد أيام أو أسابيع، وهل يكون أعز على من القاهرة وهي الغرة اللائحة في جبين الشرق؟
اعتذرَ عنه أحد أصدقائه بأنه لم يقرأ مقالاتي في تخطيط القاهرة، وأنا لا أقبل هذا الاعتذار بأي حال، فقد كان يجب أن يقرأ الضمائر قبل قراءة المجلات
غرِّبوا كيف شئتم، وابنوا ألوف القصور في الضفة الغربية فستحتاجون إلى ألف سنة ليكون لكم بعض ما للقاهرة من تواريخ
أنت يا قاهرة قاهرة، فلا تحزني ولا تخافي، وأنا الكفيل بأن برجع إليك وديعتك الغالية(552/7)
وهي الجامعة المصرية في دار جميلة هي دار وزارة الأوقاف، يوم تنتقل هذه الوزارة إلى مدينة الخيرات، والله هو الكفيل بالتوفيق.
زكي مبارك(552/8)
لامية شعية بن غريض أخي السموءل
لأستاذ جليل
أطالع كتاب (النظم الإسلامية) تأليف العالمين الفاضلين الدكتور حسن إبراهيم حسن والأستاذ علي إبراهيم حسن فأجد في الصفحة (156) هذه الأبيات:
أنا إذا قلت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل
واصطرع القوم بألبابهم ... نقضي بحكمِ عادل فاضل
لا نجعل الباطل حقاً ولا ... نلفظ دون الحق بالباطل
نخاف أن نُسفَّه أحلامنا ... فيحمل الدهرُ مع الحامل
وقد نقلها المؤلفان من كتاب (الأحكام السلطانية) للإمام الماوردي، وهي فيه في الصفحة (22) وإن احتفال الأستاذين بمباحث كتابهما المهمة، واطمئنانهما إلى تدقيق العالم الفاضل الأستاذ محمد بدر الدين النعساني (رحمه الله) صرفاهما عن الاهتمام بهذا الشعر
لم تُعَز الأبيات في (النظم والأحكام) إلى قائلها، وهو (شعية بن غريض) أخو السموءل لا (سعيد بن عريض) كما ورد في طبعة الخزانة للعلامة البغدادي، ولا سعية كما جاء في (الأغاني). وقد نُسب الإمام الزمخشري في (الأساس) بيتاً واحداً منها إلى الربيع بن الخُفيق، وهو من شيعة شعية، وليس البيت يتيماً، وصاحبه قارضة أولى به. ومن روايات هذه الأبيات:
إنَّا إذا جارت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل
واعتلج القوم بألبابهم ... في المنطق الفائل والفاصل
لا نجعل الباطل حقاً ولا ... نلطُّ دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفُه أحلاُمنا ... فنخمل الدهرَ مع الخامل
وهي من شعر التمثيل والمحاضرة. روى في (الأغاني والخزانة) أن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان كان يتمثل كثيراً إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر (الأبيات الأربعة)، وكان أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، إذا جلس للقضاء بين الناس أقام وصيفاً على رأسه ينشده (هذه الأبيات)، ثم يجتهد عبد الملك في الحق بين الخصمين
والشعر من قصيدة أولها:(552/9)
لباب، يا أخت بني مالك ... لا تشتري العاجل بالآجل
لباب، هل عندك من نائل ... لعاشق ذي حاجة سائل
عللِته منك بما لم ينل ... يا ربما عُللّتُ بالباطل
لباب، داويني ولا تقتلي ... قد فضل الشافي على القاتل
وإذا سلب متقدمون أخاه السموءل المسكين (لامينه):
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
كلها أو جلها أو بعضها على اشتهار نسبتها إليه، وأعطوها دُكينا الراجز، وعبد الملك بن الرحيم الحارثي، وعبد الله ابن الرحمن أو الرحيم الأزدي، ولحلاحا الحارثي وشريحا بن السموءل، وقالوا ما قالوه، فمن النصفة - إن كان في الدنيا إنصاف - ألا يحرم شعية (لاميته) هذه، حسبه رزء أخيه
وروى الإمام المرزباني في (معجم الشعراء) لشعية مقطوعة ختامها هذا البيت:
واجتنب المقاذع حيث كانت ... واترك ما هويتُ لما خشيتُ
(ناقد)(552/10)
4 - علي محمود طه شاعر الفن والجمال
للأستاذ دريني خشبة
مما يأخذه بعض أصدقائنا الشعراء على زميلهم علي محمود طه الذي يُكبرهم ويعزهم ويعرف لكل منهم قدره حرصه على (تزويق!) دواوينه بهذه الصور الملونة وغير الملونة، وتلك الرسوم التي يوحيها إلى الفنان بيت أو أبيات من شعره فيمثل فيها فكرة أو خيالاً من أخيلة الشاعر المتمردة أو. . . المتجردة!
فأما ما يسمونه (تزويقاً) فأنا أعده تجنياً منهم على زميلهم، لأن إبراز مؤلفاتنا على هذا النسق الذي يربي أذواق القراء بما يمتزج فيه من خيال الشاعر ودقة الفنان، وما يتساند فيه من البيان الناصع وتأثير الألوان. . . هو عمل يسد فراغاً موحشاً في طباعتنا العربية، وكان الأولى أن نستزيد منه لا أن نصرف المؤلفين والفنانين عنه. إلا أن المغالاة في إبراز المعاني التي تجول في روع الشاعر والمبالغة في تصويرها على هذا النحو الذي صورت به في (أشباح وأرواح) مثلاً، هو الجدير بالملاحظة، وهو ما يجب التنبيه إلى خطره على نفوس الشباب الغصة، وقلوبهم الرطبة؛ فلقد كان الفن اليوناني فناً وثنياً، وكان الفنانون اليونانيون مع ذلك يحرصون على إبراز دقائق الجمال الجسماني من جميع نواحيه التي تتصل بفضائلهم المثالية متجنبين النواحي التي تغازل غرائز الإنسان الدنيا، والأوضاع التي تُلمع إلى مغازلة هذه الغرائز، وهاهي تماثيلهم وتصاويرهم على (الأمفورات) الشائقة والجرار الجميلة وأفاريز المعابد والدور العامة لا ترى بينها شيئاً يدني إلى مغازلة الغرائز الدنيا مطلقاً. . . بل هذا تمثال أفروديت ميلوس الذي ينبض كل عضو من أعضائه وكل عضلة من عضلاته بأسمى ألوان الجمال الحي، لا يملأ عين رائيه إلا بروعة الفضائل العليا للجمال الخالص، مع أن أفروديت في الميثولوجيا اليونانية - فينوس - هي ميدان العواطف الملتهبة والغرائز الجياشة، ومعظم الأساطير التي رويت عنها تمثل (العاصفة) في الحب الآثم؛ ومع ذلك لم يفكر فنان يوناني في نحت تمثال لربة الجمال والحب يودع فيه أسرار فينوس إلا رَمْزاً، ولم يحاول أحدهم كشف هذا الأسرار قط. جميل جداً أن يستعين الأدب بالفن وأن يستعين الفن بالأدب في أن يجلو أحدهما الآخر، وأن يُبرز أحدهما للآخر تلك الدقائق التي لا يغني في إبرازها التمثال أو الصورة إذا كان لا غناء عن القلم،(552/11)
أو القلم إذا كان لا غناء عن التمثال أو الصورة. . . والأجمل من ذاك أن يكون هذا التعاون في ناحية الخير الذي يرتقى بالغرائز، لا في ناحية الشر الذي يسفل بها. وإذا كان فنانو اليونان الوثنيون قد أخذوا أنفسهم بتلك التقاليد الصارمة في فنهم عندما كان يتصل بأخلاق القوة، فأحرى بفنانينا أن يلقوا بالهم إلى ذلك في كل ما يغدون به نهضتنا الفنية التي لن تستطيع أن تتجاهل أنها تنمو في كنف أعظم ديانتين على وجه الأرض، لا في كنف الوثنية اليونانية مثلاً!. . .
فلا بد إذن من (مؤاخذة) شاعرنا الفنان الموهوب على هذا، لأن شعره العالي الجميل المصقول لم يكن بحاجة إلى هذا اللون من الفن (المكشوف) ليجلو منه شيئاً، وإن كان لابد من تعاون بين شعره هذا العالي الجميل المصقول وبين الفن، فقد كان أحجى أن يتم هذا التعاون على منوال آخر يعرفه شاعرنا الرقيق النابه ولا بجهله، كما يعرفه الفنان الذي كان سبب لومنا هذا ولا يجهله أيضاً. وأخشى أن تكون ثمة علامة بين الفن المصور والفن المكتوب (في أشباح وأرواح) التي لم يكتب هذا المقال في نقدها، وأخشى أن يكون لقب (شاعر اللذة والجمال) الذي يضفيه أُستاذنا الزيات على شاعرنا الرقيق النابه، والذي وضعه بيده في رأس مقالنا السابق، يعني من اللذة والجمال شيئاً غير الذي نعرفه ويعرفه أستاذنا الزيات وشاعرنا علي محمود طه من اللذة البريئة. . . لذة الطهر. . . اللذة التي لا تثور بعرف ولا تعصف بخلق. . . ويحلو لي جداً بهذه المناسبة، أن أدافع عن الشاعر الكبير بكلامه هو، لا بكلامي أَنا، وما يعرفه هو، لاما أعرفه أنا، عن اللذة الآثمة، (التي دفعت إليها تاييس شاعر (أرواح وأشباح) فلم يلبث أن أفاق منها، وقد رأى مدى انهيار روحه وفنه)
فهذه كلمات قدم بها الشاعر لمقطوعة جيدة يقول في أولها
ولفّتْ ذراعين كالحيتين ... علىّ وبي نشوة لم تطرْ
وقد قربت فمها من فميِ ... كشقين من قبس مستعرْ
أَشم بأنفاسها رغبةً ... ويهتف بي جفنها المستعرْ
تَبَيَّنتُ في صدرها مصرعي ... وآخرة العاشق المنتحرْ
ويختمها بقوله:(552/12)
دعيْنيَ حواء، أو فابعدي ... دعيني إلى غايتي أنطلقْ
أخمر ونار؟ لقد ضاق بي ... كياني وأوشك أن أختنقْ
أرى ما أرى؟ لهباً؟ بل أشم ... رائحة الجسد المحترق
فيالك أفعى تشهيتها ... ويالي من أفعوان نزقْ!!!
فاعتراف الشاعر الناظم في المقدمة المنثورة بانهيار روح شاعر الملحمة وانهيار فنه، لأن تابيس قد دفعته إلى اللذة الآثمة ثم اعترافه في المنظومة بأنه تبين في صدرها مصرعه - وآخرة العاشق المنتحر؛ وأن حواء أفعى تشهاها أفعوان نزق. . . كل هذا ينفي عن علي محمود طه، الشاعر الرقيق النابه، ذهابه مذهب اللذة، وأعني اللذة الآثمة. . . ولله شاعرنا حيث يقول في الكرمة الأولى: صهباء ما كانت=من غرس إبليس
بل كرمة زانت ... خلق الفراديس
تسمو بها الأرواحْ ... عن عالم الإثم
شفافة الأقداحْ ... في رقة الحُلم
فهل رأيت الخمر التي تسمو بها الأرواح عن عالم الإثم؟
رحم الله ابن الفارض الذي يقول:
وقالوا شربت الإثم قلت لهم بلى ... شربت التي في تركها عنديّ الإثم
فتلك لذة علي محمود طه التي تعرف الإثم والتي لا تعرف إلا الطهر. . . الخمر التي يقول فيها:
خمرة ما قَبْلتْ غير شفاه الأنبياء
خمرة في الغيب كانت قطرت من ضياء
خُتمت بالشفق الوردي في أصفى إناء
جُبلت فخّارتاه من صفاء ونقاء
لشد ما أكره أن يلقب شاعرنا الرقيق النابه بشاعر اللذة! وما أحب أن ندعوه جميعاً إلا: بشاعر الفن والجمال!
لست أدري لماذا لا أنتهي من هذا الثناء الطويل على الشاعر علي محمود طه لأفرغ إلى جانبه الآخر. . الجانب الجدير بالنقد. . أو الجانب المظلم الذي لا يتراءى في جانب غيره(552/13)
للكثيرين ممن حاوروني فيه. . . أولئك الذين يظنون أن علي محمود طه لا يملك كتفين عريضتين قويتين تحتملان النقد، ما خف منه وما ثقل، وما جاء منه ممن يفهمون وممن لا يفهمون، وما صدر منه عن إعجاب بالشاعر ومحبة له، وما صدر منه عن موجدة عليه وضيق به
ولست أدري لماذا لا أصارح أصدقائي الشعراء خاصة، وأصدقائي القراء عامة، بأن (الهدم المطلق) ليس من مذهبي، بل ليس من النقد في شئ أن نظلم الأديب من الأدباء، أو الشاعر من الشعراء، في تسعة أعشار إنتاجه، لأن العشر الباقي لا يرضيك، أو لأنك لا (تستظرفْ!) هذا الأديب من الأدباء، أو ذلك الشاعر من الشعراء؛ فهذا اللون من النقد هو الذي يصدر عن هوى لا يعرف العدالة ولا يعرف الاتئاد ولا يعرف الفطنة. والمؤلم في هذا كله أنه يصدر عن قراءة سطحية للأديب أو الشاعر. . . قراءة خاطفة. . . لا تعدو مقالة أو قصيدة في مقهى أو في ترام
وللحديث في هذا الموضوع ظرفه الخاص. . إنما هي إشارة (خاطفة) تشغلني عنها هذه المفاتن التي عرفتها في شعر علي محمود طه منذ أخذت أقرأ شعره
ومفاتن شعره تأتي من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع، فمن ناحية الشكل، تروقني منه تلك القوافي المتخيرة الشائقة التي تدل على ذوق مُروِّئِ فنان، ومزاج موسيقي مفتتن بالغناء مولع بالألوان. فهو إذا اختار أن يقول من قافية واحدة اختار القوافي الراقصة التي تميس فيها الكلمات وتتلألأ. . . وتكاد تغني. . . وتستطيع أن تتناول دواوينه كلها وتقرأ منها ما شئت، فلن تجد قافية عليلة أو قافية ثقيلة، أو قافية تنبو في سمعك أو تستأذن على هذا السمع. وعلي محمود طه نفحة في هذه الناحية من شاعرنا الخالد شوقي أمير الشعراء عليه رحمة الله. . فإذا اختار أن يقول في المنظومة الواحدة من قواف عدة، وجدت موهبته في ذلك تتدفق. . كدت أقول تتبرَّج. . فهو يتنقل بك، كما يتنقل بك الموسيقي العبقري من لحن إلى لحن، ومن نغمة إلى أخرى، من غير أن يصدم سمعك، أو ينبو على ذوقك. والعجيب أنه يجيد هذا التنقل في منظوماته القصيرة وفي منظوماته الطويلة على السواء. وقد أجاد بوجه خاص في درامته الرائعة (أغنية الرياح الأربع) وكأنما كان يعنيني من دون الناس جميعاً بتجويده قوافيّه حينما كنت أقف وحدي في الشاطئ الآخر، داعياً جهدي إلى(552/14)
استعمال الشعر المرسل في الدرامة المنظومة، تلك الدعوة التي أستمسك بها وأُصر عليها، بالرغم من هذي القوافي المذهبة التي بهر بها علي محمود طه ألباب قرائه، ولبى الفقير في مقدمة هذه الألباب!
(للحديث بقية)
دريني خشبة(552/15)
المجمع اللغوي والوحدة العربية
للأستاذ عبد القادر المغربي
لم يكن يدور في الخَلَد، وقد فارقنا هذا البلد، أن الزمان سيُقصينا عنه أربع سنوات فاتت بين هم لا يُنسى، وحذر لا يُحصى، وإشفاق، من مفاجأة إرهاق، بعد ست سنوات قضينا دوراتها في مجمع مصر بين إخوان لا يُنسى أنسهم، ولا يُحصى فضلهم، ولا يُفْرَىَ فَرِيهم
نعم لم ننس ذلك كله، لكنا نسينا قرارات وضعها المجمع، شهدنا مصادرها، ثم غابت عنا مصايرها، وأعمالاً شاركنا الزملاء في غراسها، ثم لم ندر ماذا كان نتاجها، عدا شؤوناً أخرى قام بها المجمع خلال غيابنا كنا بها أجهل، وعن معرفتها أبعد
أقول هذا أيها السادة اعتذراً عن كلمتي التي أنا في صدد إلقائها بين أيديكم؛ فقد جاءت كما يُريد جهلي بما ذكرت، لا كما يريد الواجب، ويقتضيه المقام
لكني مع هذا إذا عجزت عن استخراج موضوع كلمتي من القرارات والمناقشات، فلن أعجز عن استخراجه من موضوع المجمع وأغراضه التي أنشئ من أجلها
يكاد لا يفهم الجمهور من وظائف المجمع إلا أن عليه أن يتتبع الكلمات الدخيلة والأعجمية المتفشية في لغته اليومية، وأن يستبدل ألفاظاً عربية بها، حتى كأن هذا العمل أو هذا الغرض هو كل ما يُرتجى من المجمع. وقد نسوا ما للمجمع من فضل في توفية الأغراض حقها، ولا سيما وضع ألوف الكلمات لِلُغة الدراسة أي لغة العلوم والفنون
لما عاد رئيس وزارتنا السورية دولة سعد الله بك الجابري من مصر زرناه مسلَّمين فكان مما أطرفنا به من أخبار رحلته أنه سأل أحد وزراء مصر عن مجمعهم اللغوي، فأجابه معاليه: يكفي من حسنات مجمعنا أنه زوَّد وزارتي وحدها بنحو ألفي كلمة جديدة يتداول استعمالها الموظفون فيها وفي سائر المصالح التابعة لها
ينسى الجمهور هذا ويتساءلون: ماذا صنعت مجامعنا اللغوية بما تجدد وفشا من الألفاظ الأعجمية خلال هذه الحرب الماضية في سبيلها، والتي ما زلنا نقاسي من عقابيلها؟
ماذا صنع حُماة اللغة، الغُير على سلامتها بكلمات: براشوت، شتوكا، جستابو، كوماندوس، ستراتيجية، ستوديو، برازيت، كورس، وكلها أعجميات؟ وهل أقر المجمع كلمات عربية حديثة الوضع يكثر استعمالها في لغة الراديو والصحافة، ولم تعرفها معاجمنا بمعناها(552/16)
الاصطلاحي الجديد مثل: ذبذبة، وقطاع، وسجّل إصابتين، وقدم عروضاً. وكانت المبادهة في الحرب هذه المرة للروس، وحملة أميركية برمائية
وهل يقر المجمع أبناء الضاد إذا قالوا: كان الفتيان في تلك الحفلة مسرولين بالشورت، والفتيات ملثمات بالأيشارب؟ وبالجملة أين تقع تلك الألفاظ والتراكيب من معاجمنا العتيدة؟ هل يفسح لها فيها مكان يا ترى أولا؟
وعهدي ببعض الزملاء أنهم يرون قبول ما يطرأ على اللغة من أمثال تلك الكلمات الأعجمية، وبعضهم يمنع ذلك ويعدّه مفسداً للغة، منافياً لسلامتها
وهما رأيان بدءَا يتصاولان منذ الشيخ رفاعة الطهطاوي، أو نقول منذ عهد الترجمة الأول. وما زالا في الصيال حتى أسلما أمرهما أخيراً إلى مجمع فؤاد ونزولا على حكمه
حقاً إن مسألة التعريب أو نقول: إن التردد في قبول الكلمات الأعجمية وعدم قبولها أخل بنهضتنا اللغوية وأخرها إلى الوراء أكثر من نصف قرن. ولذا كان التعريب من أعظم الأغراض التي ينبغي أن تُعنى بها المجامع اللغوية. وهو فوق ذلك موضوع معقد خطير. ولم ننس بعد ما كان من اختلاف الرأي حول وضع اصطلاحات عربية للجيش المصري مكان اصطلاحاته القديمة، وكم عالم غيور من رجال نهضتنا الحديثة قضى نحبه وبقلبه شئ أو حسرة من التعريب
ومن أكبر الأدلة على خطورة أمره وتعقد مشكلته أن زميلنا وفقيد مجمعنا الشيخ حسين والى كان قدم إلى المجمع تقريراً مسهباً بعنوان (المعرَّب) أودعه كل ما قاله علماء العربية بشأنه. افتتحه بقوله: (قال الجوهري: إن تعريب الاسم هو كذا وكذا) إلى أن اختتمه بقوله: (وفي القاموس. النرد معرب وهو فارسي) هكذا ابتدأ وهكذا انتهى. ولم يجرُؤ رحمه الله - وهو بطل العلم الجريء - على إبداء رأي من عند نفسه في مشكلة هوابن بجدتها، وقد اصطنع تقريره من أجل حلها
بَلَى جرأ المجمع نفسه فأجاز التعريب، وقال في جملة قراراته التي أصدرها في سنته الأولى ما نصه: (يُجيز المجمع أن تُستعملَ بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم) 1هـ. لكن عاد الخلاف فاحتدام حول كلمة (الضرورة) وتحديد معناها والقدر المراد منها، حتى أصبحت الحيرة فيها أشد من الحيرة في التعريب نفسه،(552/17)
وظلت الكلمات الأعجمية سادرة في غُلَوائها، مُرخية من عنائها، تسرح وتمرح في جنبات امتنا، وأجواء صحافتنا، وفي أحاديث الراديو التي يُذيعها بصوته الجهوري وسحره العبقري.
ما لنا ولهذه الكلمات وفي موقف مجمعنا منها، ولنُقبل بشراشر قلبنا على موقف جديد للمجمع يرفع شأنه، ويضاعف عمله، ويوسع نطاق رسالته
ذلك ما يكون حينما يتحقق المشروع الأعظم أعني مشروع اتحاد الممالك العربية الذي يعمل له، ويتقرب إلى الله به جلالة الملك الصالح فاروق الأول، وينفَّذُ إرادته فيه عضد دولته رفعة النحاس باشا
تعلمون أيها السادة أن وحدة أمة من الأمم لا تتحقق ما لم يتحقق استقلال لغتها. قال بعض فضلاء الكتاب المصريين: (يجب أن نفكر في توحيد اللغة قبل أن نفكر في توحيد الأقاليم، ونجتهد في أن يكون للعرب كافة لغة واحدة يتلاقون عندها، كما يتلاقون في جبل عرفات)
ولا يخفى أن الغرض الأول من مجمع فؤاد الأول إنما هو وحدة اللغة العربية وسلامتها. فمن وظائف المجمع إذن مشاركة العاملين من طريق غير مباشر في تحقيق أمر الوحدة العربية الشاملة التي يضطلع بأعبائها جلالة المليك المحبوب
إذا تحقق اتحاد الأقاليم العربية كان المجمع لهذه الأقاليم كلها لا لمصر وحدها، وكان عليه أن يتصل بها اتصالاً يشمل اللغة من جميع نواحيها: فيدرس لغاتها، ويعمل المقارنة بين لهجاتها، ويستفيد من مزاياها وخصائصها، ويرسل إليها من مطبوعاته ما يساعد على توحيد تلك اللغات واللهجات أو التقريب بينها على الأقل
لا جرم أن المشروع الفاروقي، سيخلق للمجمع الفؤادي وظيفة جديدة وعملاً مستأنفاً
وفي جزيرة العرب مجال واسع للعمل: من ذلك مثلاً بعثة إلى نجد، وأخرى إلى الحجاز، وثالثة إلى اليمن، وهلم جرا.
نحن في ذلك اليوم السعيد، وإذا رئيس مجمعنا المصري يعلن أنه تلقى من رئيس بعثة اليمن تقريراً قال فيه: إن البعثة زارت جبل (عكاد) فرأت أهله كما وصفهم به ياقوت والفيروز ابادي والزبيدي:
قال القاموس وشارحه الزبيدي: (عكاد كسحاب جبل باليمن قرب زبيد أهله باقون على(552/18)
اللغة الفصيحة إلى الآن ولا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاث ليال خوفا على لسانهم. اهـ)
والزبيدي يمني نشأ في اليمن قريباً من جبل عكاد وتوفي بمصر منذ مئة وخمسين سنة. وقال ياقوت في معجم البلدان: (جبلا عكاد فوق مدينة الزرائب وأهلهما باقون على اللغة العربية من زمن الجاهلية إلى اليوم لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من أهل الحضر في مصاهرة، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه. اهـ)
وحدثني العلامة المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري في إحدى جلسات مجمعنا هذا قال: إن السيد عبد الرحمن الكواكبي المعروف في القاهرة أخبره أنه في أثناء سياحته في جزيرة العرب مرَّ بجبل عكاد المذكور فوجد أهله كما وصفهم ياقوت والفيروز ابادي والزبيدي. قال الكواكبي: ولكن العكاديين يسكّنون أواخر الألفاظ ولا يُلحقون بها حركات الإعراب. وعقب الإسكندري على هذا بقوله: يظهر من قرائن الأحوال ومن طروء الشذوذ على الأفكار أن اللغة العربية ستفقد في المستقبل مزيتها هذه. فقلت للشيخ الإسكندري، وقد بدأنا العمل بتلك الرخصة حينما نقرأ (الأنساب) و (أرقام الحساب) فنقول في الأنساب مثلاً: جاء الشيخ محمدْ بنْ يوسفْ بنْ خالدْ بنْ عبد الله، هكذا من دون إعراب. ونقرأ أرقام الحساب، فنقول غيرَ ملومين: سافر فلان إلى أوربا سنةَ ألفْ وثلاثمائةْ وثلاثْ عشرةْ مثلاً. على أن بعض علماء العربية رخّص في تسكين الأعداد وحدها.
ثم إن الشيخ الإسكندري رحمه الله حوقل وتعوذ إلى الله من هذا المصير، وتمنى ألا يعيش إلى ذلك الزمن الذي تفقد فيه اللغة حِليتها. وتتعرَّى من أعلاق زينتها
حقاً إن تعوّذ المرحوم الإسكندري من هذا المصير للغة في محله، لأن التفريط بحركات الإعراب تفريط بها نفسها وإضاعة لمزية من أكبر مزاياها. وهو فوق ذلك يحدث بلبلةً في تفهم آيات القرآن ونشر تعاليمه بين الناطقين بالضاد إن بقيت الضاد ضاداً. ونحن نشاركه في الحوقلة والتعوّذ. ونسأل الله أن يصون لغتنا، وأن يُبقي مجمعنا (مجمع فؤاد الأول) حارساً لها، عاملاً على سلامتها، في كنف المليك المعظم فاروق الأول، كما نضرع إليه سبحانه أن يجعلَ القرآنْ تعويذة لجلالته من صروف الزمانْ، ويزيدَه توفيقاً في ما يروم من إسعاد العرب، وجمع شملهم وتوحيد كلمتهم، إنه سميع مجيب.(552/19)
عبد القادر المغربي
عضو مجمع فؤاد الأول(552/20)
مرسلات مع الريح
أُسامة
للأستاذ إسماعيل مظهر
وأقبل الشيخ عُمران ذات صباح يجرْ رجليه جرَّا فيثير عجاجةَ من تراب الثرى، فبادرني بالتحية، ثم ارتمى على المصطبة كأنما ينفض عن كاهله حملاً ثقيلاً ينوء به. وكان في عينيه حزن عميق، رغم ابتسامة افترَّ عنها ثغره، ولكنها كانت تعبر عن حزن أعمق من ذلك الذي لاح في نظراته وشاع في تقاسيم وجهه. وكثيراً ما يكون الابتسام عن حزن دفين، تجمد معه العين ولكن القلب في بكاء. ثم أطرق ومضى يحرك أصابعه الهزيلة فوق حبات مسبحته الكبيرة، ويتمتم بكلمات غير بيِّنة كأنه يناجي نفسه بالمعاني التي كانت تجيش في صدره
- كيف بي لا أرى الدنيا كما كنت أراها منذ أيام؟ لقد تَغَّيرت فيها كل شئ وانقلب فيها كل مَعَنى! فالوجوه التي أراها ليست هي الوجوه التي كنت أعرفها؛ والكلمات التي تطرق سمعي لا تؤدي في نفسي ذات المعاني التي كانت تؤديها من قبل؛ والزمان والعمر والحياة! تلك التي مضت تغمرني بالأمل وتشيع في نفسي معاني الحسن وأفانين الجمال، كيف حالت تلك الألوان الزاهية الغَضَّة؟ وكيف انتهى الأمل ومات الحُسن وذهب الجمال؟ في لحظة واحدة ماتت الدنيا في نفسي بكل ما غرست فيَّ من المعاني الأولى! والناس والمجتمع ونظام العيش! كيف أصبح الناس في عيني كأنهم القُرود الزُّعر يهيمون في أودية الأحلام! وكيف بالمجتمع وقد انقلبت نظرتي فيه، فإذا به موكب من الناس ليس فيه إلا التزوير على الطبيعة، والتدليس على الفضائلَ. وكيف بنظام المعايشة وقد بانت لي في لحظة واحدة خفاياه، فإذا به الكفران بكل ما كنت أتخيل من المعاني التي لا تزدهر الحياة إلا بها
وكان يتكلم وناظراه إلى السماء، كأنه يأنف أن يخاطب أهل الأرض. كنت تظن أنه يناجي أشباحاً وخيالات تراءت له في الأفق البعيد، أو أنه يقرأ هذه المعاني من كتاب صفحاته السماء
كان قد مضى بضعة أسابيع والشيخ عمران بعيد عن ندوتنا الريفية، فلم نسأل عنه ولم نبحث وراءه. لأن هذا الشيخ المحنك له وقفات عن الاتصال بالناس، وغيبات قد تطول(552/21)
وقد تقصر، يخلو فيها بنفسه، بعيداً عن جلبة القرية، فيظل أياماً أو أسابيع يخرج من بيته مع الغراب، ويأوي إليه بعد أن يموت أهل القرية تلك الميتة الصغرى. وكنا نحترم في هذا الشيخ الوقور نزعته تلك، فلا نحاول أن نقطع عليه خيط أحلامه. رأيته مقبلاً، فتوقَّعْت أن أرى تلك الابتسامة الفلسفية التي عوِّدت أن أراها مرتسمة على شفتيه، وذلك البريق الواضح الذي ينبعث من عينيه. ولكن الابتسامة كانت عن حزن، وذلك البريق عن ريبة من أمر الدنيا. ولكن ما وراء ذلك؟
هذا شيخ قد رمته الدنيا بأرزائها، فسلبت منه الثراء وسلبت مع الثراء هدوء النفس، فثار على الدنيا وعلى أهل الدنيا، وعلى أهل اليسار منهم خاصة. فإذا كلمك فيهم، فإنما أنت تسمع لزعيم من زعماء الاشتراكية، أو لصعلوك متطرف من صعاليك الدولية الثالثة
ورابني منه أن يبادرنا بتلك الكلمات بعد تحية قصيرة من يديه المُرْعَشتين، فتوقعت أن داهية أُخرى حلت بذلك الشيخ لعله فقد البقية من ماله، أو اعتدى عليه أحد المفاليك، أو أغتصبه سرى من السّراة شيئاً من طينه القليل. غير أن ذلك كله لم يكن شيئاً جديداً عليه، وتعابير الحزن الشائعة في ملامحه كانت ولا شك تنم عن سبب أعمق من جميع هذه الأسباب، وأمعن في الإيلام، وأعمل في تحريك هواجس النفس
- ما وراءك يا شيخ؟ لقد طالت غيبتك، ولم نشأ أن نعكر عليك صفو تأملاتك التي تسعد بها في حقلك إلى جانب ساقيتك وأشجارك؛ فكيف أنت وكيف أولادك؟
وكأن السؤال عن أولاده قد حرك جميع أوتار نفسه، فتطلع نحو السماء وقال: (حمداً لك يا رب!)، ولكن دمعتان أطلنا من حدقتيه، فدل بريقهما على كارثة لم يألفها عمران وقد حطمته السنون
- أولادي كما تعهدهم، لم يحدث بهم حدث غير مألوف في هذا الحياة. شاءت الطبيعة أن تستأثر بواحد منهم، فانتزعت من قلبي في يوم وليلة أسامة الصغير، فقمت نحوه بالواجب الذي يقوم به الأحياء للموتى في العادة، وأسلمته للتراب، إلى سفر اللانهاية، إلى القرون ثم القرون تتوالى عليه في حفرته تلك، في ظلام الأرض، وراء تلك الحجارة الباردة المرطوبة؛ بل وراء الأبد والأزل، وراء السعادات والشقاوات، وراء الأحقاد والضغائن، وراء الآلام والأحزان، وراء الجهالات والحفائظ، بل وراء كل شئ، حتى وراء الأقدار. ثم(552/22)
ودعته بقلبي لا بشفتيَّ، وعدت أدراجي مشتت النفس خائر القوى مضطرب الوجدان، أضرب في فلوات الوهم: أسائل نفسي ما الموت وما الحياة؟ ولكن. نعم ولكن. . .
ثم أمسك عن الكلام، ودموعه تنهمر قطرات من الحزن والأسى البالغ العنيف
- ولكن ماذا؟ لقد أثرت شجوني أيها الشيخ، وحركت كوامن نفسي، وأثَرْتَ في صدري ذكريات كانت نائمة
- ولكن. نعم، ولكن ليست البلوى في الموت، ولا المصيبة في ترك الدنيا. الداهية كل الداهية في الحياة
ومضى ينكث في الأرض بمخصرة كانت في يده، ويرسم فوق الثرى رسوماً، أشبه بتلك التي يرسمها الأطفال على رمال الشاطئ، لا تلبث أن تمحوها الأمواج. ثم قال:
- ولأي شئ تثور شجونك وتتحرك لواعج نفسك؟ إنما الشجن شجني، والحزن حزني، والبلوى بلواي؛ والعزاء بالزمن، والسلوى بالاستسلام للقضاء. فلست في حاجة لأن أسمع تلك الكلمات الجوف التي اعتاد الناس أن يُعَزُّوا بها عن المصيبة، فإن إثمها أكبر من نفعها، فتزويرها واضح لا يحتاج إلى دليل، والتدليس فيها بيِّن لا يعوزه البرهان. والناس هم الناس، والدنيا هي الدنيا، والأقدار تسِّيرنا في ليل معتم من الحوادث، لا نستطيع أن نرجع إلى ما فات منه، ولا أن نَرسو فيه بأرض. لجٌ مائج، والسفينة تحملنا كرهاً، فتسير رخاء حيناً، وحيناً تلاطمها الأمواج
- إن هذه لفلسفة جديدة، بعث الحزن معانيها في نفسك، وأثار الشجن تفاصيلها في وعيك. فإني عهدتك على غير ما أنت، صباراً غير بئوس، جلداً غير متخاذل، مرحاً عند الخطب قلَّ أو جلَّ
وكانت مخصرته ما تزال في حركتها ترسم في الثرى دوائر ومربعاتَ، وزوايا ومنحنيات، ولوالب وإهلجات، فكانت تلك الرقعة المتخاذلة المعاني، المتداخلة الصور، صفحة كاملة تقرأ فيها دخيلة نفسه، وحركات وجدانه، ولواعج قلبه. ومضت المخصرة ترسم ثم ترسم، ومن ورائها لسانه يتحرك:
- كلا يا بني هذه الفلسفة قديمة، ولكن معرفتنا بها جديدة. تعلمنا إياها المصيبة إذا جلت، والقارعة إذا نزلت. فمن فطن لها فطن للحياة، ومن ضل عنها عاش العمر معتم البصيرة(552/23)
أعمى القلب. هذه الفلسفة يا بني قطعة من الحياة ذاتها، فكيف تكون جديدة علينا؟ وإنما تكون معرفتنا بها أدق، ووقوفنا عليها أتم، كلما كانت فوادحنا أعظم، وكوارثنا ألأم وأشأم. إن كل مرائي الحياة ومجاليها ومناظرها، أشياء إذا مضى عليها قليل من الزمن مرت على خواطرنا كالأحلام، لا يبقى منها إلا الحقائق المريرة؛ وكل الحقائق مرة أليمة، والآلام أشد حقائق الحياة مراراة؛ تبقى في النفس آثارها، فإذا غيَّب الزمن بعضها وعملت فيها دورة الليل والنهار حتى كادت تنضاف إلى وادي الأحلام، فإنها بطبعها تكون أوضح أحلام الحياة، وأشدَّها بياناً وأعمقها أثراً، وأبقاها مع التذكر أطول الزمن. والحقيقة كالجبل السامق تتسلقه على درج من الألم والحزن والنصب، وكلما صعَّدت فيه زادت آلامك، وتضاعفت أحزانك، حتى إذا بلغت القمة أشرفت منها على محيط الدنيا، فالسماء من فوقك تجوبها ذكاء بكل عظمتها، والأرض بوديانها وشعابها وغاباتها منبسطة تحت قدميك، ولكن الأسف كل الأسف أن الحقيقة طريقها الألم، طريقها الحرمان، طريقها الأحزان تمزق نياط القلب، وتبدد قوى النفس وتهد من بناء العمر. . . ما أجلها وما أقساها
- أما الزمان، فذلك المجهول الذي نعامله، كما يقول فيلسوفنا المعاصر. هو ذلك التيار الهادئ المنحدر إلى لا نهاية. هو ذلك العقد النظيم من الحركة الدائمة. هو ذلك الكائن الموهوم الذي لا يشعر بوجودنا ولا يأبه بآلامنا. ونحن لجهلنا نعامل هذا الزمان، نعتب على الزمان، ونغضب من الزمان، ونتبرم بالزمان. وما الزمان في مفهومنا العادي سوى الظرف الذي نعيش فيه. وما الظرف الذي نعيش فيه إلا تصرف القدر وتصرف ذلك الناس الذين نعايشهم. أما القدر فذلك الذي لا نعرف، هو ذلك العالم المغيب. أما الناس فهم الناس، أولئك الذين يعيش سوادهم دسيسة عليك في الحياة، والدسيسة كما يقول شكسبير تجد حماها ومستقرها في شيئين: بشاشة الوجه، ومعسول اللفظ فقال:
فأمَّا إن أردت حًمِى أميناً ... فخلف بشاشة المُتَبَسِّمينا
وتحت اللفْظ يقطر منك وُداً ... هنالك تكمنين فتختفينا
- تنزل بك الكارثة، وتحل بك القارعة، فيواجهك الناس وعلى ألسنتهم تلك الألفاظ المحفوظة عن ظهر قلب، تتحرك بها شفاههم، ولا تعيها قلوبهم وقد تفجع في مالك أو عرضك، فتسمع منهم جملاً وقفت على ذلك الظرف. وقد يموت لك ولد كما مات ولدي،(552/24)
فيعزونك بجمل أخرى نقشت على قلوب من حجارة وهي جميعاً صلوات ودعوات بالرحمة وطلب الصبر. وإنما هي من الألسنة لا من القلوب والصلاة التي لا تصدر من القلب لن تجد إلى الله طريقاً. وإذا ضلت الصلاة طريقها إلى الله فما جدواها؟
- لقد مات ذلك الصغير، ففي ذمة الأزل، وفي ذمة اللانهاية، وفي الزمان ينساب عليه انسياب الماء اللين الهادئ إلى لا غاية. وما موته إلا ظروف الزمان. وما أظلمنا إذ نعتب على الزمان وعلى ظروف الزمان. وإنما أعبر بالزمان عن أولئك الذين كنت أتوقع أن أرى في أعينهم دمعة واحدة تترقرق على فراقه؛ فإذا بهم ينظرون في وجهي بعيون جامدة النظرات، وقد عقدت ألسنتهم حتى عن لوك تلك الجمل المحفوظة. وما آسف على شئ، إلا أن ذلك الظرف قد حرك في في نفسي تلك الأفعى الجبارة، وكانت ما تزال لحسن حظي وسنانه نائمة: حرك الحقد والضغينة والقطيعة. كانت نفسي كالبركة الهادئة النائمة في أحضان طبيعة وادعة، إذا مسها النسيم تحركت أمواجها حركة لطيفة تمر بخاطري كحلم لذيذ؛ فلما هبت عليها هذه العاصفة تعالت أمواجها وتلاطمت حتى كدر ماؤها، واحتمل زبداً رابياً تهدر من تحته براكين الألم فتزيد ثورتها عنفاً وشدة، وذلك هو الأجر الذي ربحت بموت قطعة من نفسي: ألم القلب، وقطيعة الناس، وفراق الأبد!
أمنتك يا فراق وربَّ يوم ... حذرت لو أنه نفع الحذار
أخذت فلم تدع شيئاً عليه ... يخاف أسى ولا يرجى اصطبار
حبيب خنتني فيه ودار ... وللناس الأحبة والدِّيار
- والعمر ما هو؟ هو على التحقيق مقياس الزمن بين ساعة مولدك وساعة مصرعك، ولكن الواقع الصحيح أن عمرك قد يطول وإن قصر مقياسه الزماني، وقد يقصر وإن طال مقياسه ذاك. فليس العمر هو الأيام والسنون، بل هو اللحظات والساعات، تقيس عليها آلامك ومسراتك.
فإن طال ألمك فأنت قصير العمر وإن امتد زمنك، وإن اتصلت مسراتك فأنت طويل العمر وإن قصرت أيامك. ولكن ماذا جنبنا من اللحظات والساعات
وكم ساعة آلمني مسها ... وأزعجتني يدها القاسيه
فتشت فيها جاهداً لم أجد ... هنيهة واحدة صافيه(552/25)
وكم سقتني المر أخت لها ... فرحت أشكوها إلى التاليه
فأسلمتني هذه عنوة ... لساعة أخرى وبي ما بيه
ويحك يا مسكين هل تشتكي ... جارحة الظفر إلى ضاريه
- والحياة ما هي؟ لجهلنا في الظاهر، ولغرورنا في الحقيقة، نزعم أنها ذلك القبس الذي هبط من نور السموات إلى سواد هذه الأرض. ولو أنها كانت من السماء لما دنست ذلك الدنس، ولا كدرت تلك الكدوة. بل لكانت نوراً صرفاً وحباً محضاً، ولرجعت دوماً إلى أصولها السماوية، فكانت صفواً زلالاً، وسحراً حلالاً
- الحياة. هي تلك المأساة العظمى التي يمثلها القدر على مسرح سعته الأرض. نأتيها كرهاً، ونزاولها كرهاً. نشعر بأن لنا اختياراً هو إلى الجبر. ونعلم بأن فينا جبراً هو إلى الاختيار. ونأبى إلا أن تكون مختارين إذا لذ لنا أن نختار، ونأبى إلا أن نكون مجبرين إذا طاب لنا الجبر. وهذه الفلاة، فلاة الجبر والاختيار، هي إحدى مصائب الحياة العظمى، فإذا أضفتها إلى كارثة الوجود ذاته، رأيت طرفاً من نقائض هذه الحياة التي تدعى أنها من أقباس السماء وما أبعدنا عن السماء أصولاً
- نولد رغم أنوفنا ونموت رغم أنوفنا. وبين المولد والممات. تتوالى الصور وتتالى الأحداث؛ فنمضي ناظرين إلى المسرح، وأفواهنا مفغورة مشدوهين عجباً. وكأننا نسأل لم المولد ولم الممات ولم ما بينهما؟ ونشعر بالعجز عن الجواب فنمضي مع الماضين نغذ السير ساعة وندلف أخرى. ولكن إلى الهاوية. . . إلى اللانهاية. . . إلى سفر الأبد الطويل. . . إلى الفوهة التي تبتلع ثم تبتلع، نهمة غرثانة جائعة
ولمَّ الشيخ عمران فضل ردائه والتف بعباءته وحيانا بيده. ثم شرع يمشي بقامته المديدة وخطواته الوئيدة المتزنة، ووجهه في هذه المرة نحو الأرض، كأنما مل مخاطبة السماء. فخيل إلى أنه يبحث في منكب من مناكبها عن تلك الفوهة الغرثانة الجائعة، يمضي نحوها ثابت القدم. . . مطمئن القلب. . . راضي النفس. . . فيلقي بها عبء شجونه، ويودعها قلبه بأسراره وآلامه وأحزانه، ولسان حاله يقول: يا ابن الأرض: إنما إلى الأرض تعود. هذا أول السفر وآخر المعاد.
إسماعيل مظهر(552/26)