هلا هلا هيَّا، إطوى الفلاطيا، وقربي الحيا، للنازح الصب جلاجل في البيد، شجية الترديد، كرنة الغرِّيد، في الفنن الرطب هلا هلا سيري، وامضي بتيسير، طيري بنا طيري، للماء والعشب طيري اسبقي الليلا، وأدركي الغيلا، العهد من ليلى، ومنزل الحب بالله يا حادي، فتش بتوباد، فالقلب في الوادي، والعقل في الشعب
(شوقي)
ولما سمع المجنون الحادي يردد في أنشودته ذكر ليلى والتوباد، صرخ صرخة مدوية وخر مغشياً عليه. واجتمع عليه قومه، وأبوه باك حزين، وجعلوا يروحون له ويرشون على وجهه الماء إلى أن أفاق مصفر اللون وأنشأ يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... إطار بلى طائراً كان في صدري
دعا باسم ليلى أسخن الله عينه ... وليلى بأرض الشام في بلد قفر
عرضت على قلبي العراء فقال لي ... من الآن فاجزع لا تمل من الصبر
وفشا أمر المجنون بين الحجاج، فلامه بعض قومه وطلب منه أن يستشعر الصبر ويستبقي مودة الحبيب بكتمان الحب، فكان من جوابه أن قال:
إن الغواني قتَّلت عشاقها ... يا ليت من جهل الصبابة ذاقها
في صدغهن عقارب يلسعننا ... ما من لسعن بواجد ترياقها
إن الشقاء عناق كل خريدة ... كالخيزرانة لا تمل عناقها
زانت روادفها دقاق خصورها ... إني أحب من الخصور دقاقها
إن التي طرق الرجال خيالها ... ما كنت زائرها ولا طراقها
ثم انسل من بين أهله، ومزق ملابسه، ولجأ إلى جبل التوباد، حيث جعل يخطط بإصبعه في التراب، ويجمع العظام حوله، ويعاشر الظباء والوحوش.
وفي (شكل2) نرى الناس وقد أحاطوا بالكعبة الشريفة رافعين أيديهم بالدعاء لقيس أن يمن الله عليه بالفرج. بينما تعلق قيس بأستار الكعبة وهو يقول:
أتوب إليك يا رحمن مما ... عملت فقد تظاهرت الذنوب
فأما من هوى ليلى وتركي ... زيارتها فإني لا أتوب(517/27)
وقد صور المصور الإيراني الكعبة الشريفة بأستارها كما هيأها خياله، وجعل الحمام يطير حولها عليها في أمن وسلام. وهذه الصورة من تصوير المصور حيدر قولي في أسلوب المصور الشهير رضا عباسي. وهي في مخطوط من المنظومات الخمس للشاعر الكنجوي كتب حوالي سنة 1034هـ (1624م) في مدينة أصفهان. وهذا المخطوط محفوظ في المكتبة الأهلية بباريس.
(يتبع)
محمد مصطفى
مساعد فني دار الآثار العربية(517/28)
من تحت الأنقاض
(. . . . . .)
للأستاذ محمد محمود شاكر
حَسْرةٌ وَلَّتْ، وَأُخرَى أَقْبَلَتْ، ... كَيْفَ؟ مِنْ أَينَ؟ مَتَى؟ لم أَعْلَمِ!
مَوجةٌ سوَدَاءُ تَنقضُّ عَلَى ... مَوجةٍ في بَحْر لَيْلٍ مُظْلِم
تَتَفَانى وَهْيَ لاَ تَفْنى، وَكَمْ ... رَدَّهَا تَيَّارُهَا كالضَّيْغَمِ!
صَمّمَتْ، حَتَّى إِذَا مَا الْتهَمَتْ ... نُورَ أَيَّامِي طَاشَتْ في دَمِي
فَهْوَ أَموَاجُ ظَلامٍ: لا تَرَى، ... لا تُبَالِي، لا تَعِي، لا تَحتَمِي
زَهرةٌ حَنَتْ، فبَاحَتْ فَذَوَت ... أذْبَلَتْهَا نَفْحةٌ لم تُكْتمِ
شَكتِ الُبثَّ لِنَجمٍ سَاطِعٍ، ... ثُمَّ ظَنَّتْ في شُعَاعٍ مُلهِمِ
شَعْشَعْت عِطراَ، فَلَم يَعبأْ بِهِ ... لَثِمَ الْمَوطِئ أَمْ لَمْ يَلثَمِ
فَضَّ سِرٌّ سِرَّها، فَاننفَضَتْ، ... فَهوتْ سَاجدةً لمْ تُرحمِ
وَرَمَى النَّجمُ شُعاعاً وسَناً. ... ثُمَّ ضاعَ النَّجمُ بَيْنَ الأَنْجُمِ
قَدْ جَلا الوَهمُ عَرُوساً زُينَتْ ... لبَسَتْ حِليتَها للِمأتَمِ
إنَّما أثْواَبُها أكَفَنهُا، ... والأَغَانِي لَحْنُ قَبرٍ مُعتمِ
وَوُجُوهٌ أشْرقَتْ مِنْ نَشْوَة ... لمْ تَكْد. . . ثُمَّ هَوَت لم تَسلم
شَهَواتٌ أَشْعَلَتْ ثُمَّ خَبَت: ... لَمْ تكنْ إلاشَكَاةَ المُغْرَمِ
نَظرةٌ، ثُمَّ هَوى، ثُمَّ مٌنى، ... ثُمَّ. . . وانْفَضَّ كأنْ لم تَحْلُم
لاَ أرَى إلا فَنَاء أوْ سُدًى، ... فَبَصِيرٌ في ضَلالٍ أَو عَمِ
وَلَيَالٍ أَضْلَمَتْ أَنْوَارُهَا، ... وَلَيالٍ نُورُها لم يُظْلِمِ
وَهُما الدَّهرُ. . . فلا لَيْلَ ولاَ ... صُبحَ، بَلْ وَالِدةٌ لم تَعقمِ
وَحَيَاةٌ منْ فَنَاءٍ فُجِّرتْ ... لِفَنَاءٍ في حيَاةٍ يَرْتَمِي
كُلُّهُ لَمْحُ وَميضٍ خَاطِفٍ ... ثُمَّ. . . لا شَيَء. . . فَجَاهِد أَوْنَم
محمود محمد شاكر(517/29)
2 - الأحلام
للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون
بقلم الأستاذ ألبير نادر
سبق أن ذكرت حلماً مشهوراً، وهاكم حلما آخر ربما رآه الكثير منكم. موضوعه أن يشعر الإنسان بأنه يطير ويرفرف ويمر بالفضاء دون أن يلمس الأرض. فإذا ظهر هذا الحلم مرة ففي الغالب يحاول أن يظهر مرة أخرة، وفي كل مرة تقول: (كثيراً ما حلمت أني أطير فوق الأرض، ولكنني في هذه المرة مستيقظ تماماً - الآن أعرف وسأبين للآخرين - أنه يمكننا أن نتحرر من قانون الجاذبية. فإذا استيقظت فجأة أظن أنك تجد الآتي: تشعر بأن قدميك فقدتا نقطة ارتكازهما، بما أنك كنت متمدداً فعلاً. ومن جهة أخرى اعتقادك بعدم نومك هو عدم شعورك بالنوم. كنت تقول في نفسك إنك لم تلمس الأرض بالرغم من أنك كنت واقفاً. هذا هو الاعتقاد الذي كان يزيده فيك حلمك في الحالات التي تشعر فيها أنك تطير. لاحظ أنك تظن أنك تقذف بجسمك إلى الجانب يميناً أو شمالاً وأنت ترفعه بحركة ذراع فجائية كأنها ضربة جناح، ولكن هذا الجانب هو نفسه الجانب الذي كنت نائماً عليه، استيقظ تجد شعورك بمجهودك لتطير هو نفس الشعور بضغط الذراع والجسم على السرير، وضغط الذراع والجسم هذا إذا فصل عن سببه لم يعد إلا شعوراً غامضاً ناتجاً عن التعب وسببه المجهود. وإذا ارتبط هذا الشعور بالضغط باعتقادك بأن جسمك ترك الأرض، يتحول هذا الشعور إلى شعور واضح بمجهود للطيران
من المهم أن نلاحظ كيف أن احساسات الضغط عندما تصعد إلى الحقل البصري وتستفيد من الغبار المضيء الموجود فيه يمكنها أن تتحول حينئذ إلى أشكال وألوان. حلم ذات يوم ماكس سيمون أنه أمام كومتين من قطع الذهب، وأن هاتين الكومتين غير متساويتين، وكان يحاول أن يسويهما ولكن عبثاً. فشعر بانقباض شديد، وازداد هذا الشعور من لحظة إلى أخرى حتى أيقظه. فلاحظ حينئذ أن ساقاً من ساقيه كانت معاقة بثنايا الغطاء، وأن قدميه لم تكونا في مستوى واحد، وكانت كل واحدة تحاول عبثاً الاقتراب من الأخرى، فبدون شك نتج عن ذلك شعور مبهم بعدم المساواة، وانتشر في الحقل البصري حيث قابل (وهي النظرية التي أقدمها) نقطة صفراء أو أكثر، وظهر على شكل بصري بواسطة عدم التعادل(517/31)
هذا بين كومتي قطع الذهب. فيوجد إذاً في باطن الاحساسات اللمسية أثناء النوم استعداداً لكي تتحول إلى احساسات بصرية وتدخل على هذه الصورة في الحلم
وأهم من هذه الاحساسات الخارجية احساسات اللمس الداخلي الناتجة من جميع أجزاء الجسم، لا سيما الحواشي. فالنوم يمكنه أن يمنحها، أو بالأحرى أن يهبها دقة وحدة فريدتين، أن هذه الاحساسات موجودة بدون شك زمن اليقظة، ولكننا نكون غافلين عنها بسبب الحركة لأننا نعيش حينئذ خارجاً عن أنفسنا، ولكن النوم يجعلنا نعود إلى أنفسنا
يتفق أن بعض الأشخاص المعرضين لالتهاب الحلق أو الغدد يشعرون بأن هذه النوبات انتابتهم ضمن حلم، ويشعرون حينئذ بوخزات مؤلمة جهة الحلق. وعند ما يستيقظون يقولون إنها وهم وحسب؛ ولكن مع الأسف سرعان ما يتحقق هذا الوهم. يذكرون أن أمراضاً وعوارض خطيرة مثل ذبحة صدرية ونوبة قلبية. . . كانت قد ظهرت وتنبأ عنها في الحلم. فلا نندهش إذا رأينا فلاسفة مثل شوبنهور يقولون إن الحلم يشخص أمام الوجدان اهتزازات صادرة من الجهاز العصبي السمبثاوي، وإذا رأينا علماء نفس مثل شرنر يقولون إن كل عضو له مقدرة خاصة لينتج أحلاما نوعية تمثله تمثيلاً رمزياً، وأخيراً إذا رأينا أطباء مثل أريتج يكتبون مجلداً عن (قيمة الأحلام وما تنبئ به)، وعن طريقة استعمال الحلم لمعرفة نوع الأمراض، وحديثاً بين تيسيه: كيف أن خللاً في الهضم، أو في التنفس، أو في الدورة الدموية، يظهر في أحلام معينة
خلاصة ما تقدم: أننا أثناء النوم الطبيعي لا تكون حواسنا مقفلة تماماً للتأثيرات الخارجية. نعم إنها حينئذ لا تكون على نفس الدقة التي لها زمن اليقظة، بل عوضاً عن ذلك تصادف كثيراً من التأثيرات الشخصية التي لم نكن نشعر بها أثناء اليقظة عندما كنا نتحرك في عالم خارجي مشترك لجميع الناس، ولكنها تظهر أثناء النوم حيث أننا لا نعيش عندئذ إلا لأنفسنا فقط. ولا يمكننا أن نقول إن إدراكنا يتقيد عندما ننام بل بالعكس فالإدراك يوسع حقل عمله في بعض الاتجاهات على الأقل. نعم إنه يفقد دقة ما يكسبه في التوسع لأنه يأتي إلا بالمسهب والمبهم مما يدل على أننا نصنع الحلم بواسطة إحساس حقيقي
كيف نصنع الحلم؟ إن الاحساسات التي نستخدمها كمادة تكون مبهمة وغير معينة. لنأخذ مثلاً الاحساسات التي تبدو في الصف الأول أي البقع الملونة التي تتطور أمامنا عندما(517/32)
يكون جفنانا مغلقين - ترى سطوراً سودا على مسطح أبيض يمكنها أن تمثل سجادة أو صفحة مخطوطة أو عدة أشياء أخرى أيضاً. من الذي سيجري الاختيار؟ أي شكل سيعين هذه المادة غير المعينة؟ هذا المشكل إنما هو التذكر - لنلاحظ أولاً أن الحلم عادة لا يخلق شيئاً. نعم يذكرون بعض الأمثلة عن عمل فني أو أدبي أو علمي نفذ أثناء الحلم، ولا أذكر هنا إلا المثل الأكثر شيوعاً: كان تارتيني - وهو موسيقي عاش في القرن الثامن عشر - يجد في تأليف قطعة موسيقية، ولكن قريحته كانت عاصية، فنام. وهاهو الشيطان قد ظهر له بنفسه واستولى على القيثارة وعزف القطعة المنشودة. ولما أستيقظ تارتيني سطر هذه القطعة من ذاكرته ووهبها لنا تحت أسم (أنشودة الشيطان). ولكن لا يمكننا أن نستخلص شيئاً من قصة مختصرة كهذه. يجب أن نعرف هل كان تارتيني جاداً في إتمام هذه الأنشودة عندما كان يتذكرها؟ إن مخيلة النائم الذي يستيقظ تضيف في بعض الأحيان شيئاً إلى الحلم وتبدله بمقتضى فاعلية رجعية وتسد ثغراته التي يمكنها أن تكون عديدة. بحثت عن ملاحظات أدق وخصوصاً أكثر صدقاً فلم أجد سوى ملاحظة الروائي الإنجليزية استيفنسن في كتاب عنوانه (فصل في الأحلام): يخبرنا استيفنسن أنه ألف أو بالأحرى رسم في الحلم قصصه الأكثر غرابة. لنقرأ بإنغام الفصل نجد أن المؤلف عاش فترة من حياته بحالة نفسية لم يتمكن أثناءها أن يعرف ما إذا كان نائماً أو مستيقظاً. إني أعتقد أنه ليس هناك نوم عندما ما تخلق (تبدع) النفس شيئاً، وعندما تقوم بالمجهود الذي يتطلبه تأليف عمل أو حل مسألة. وعلى الأقل جزء النفس الذي يعمل ليس هو الجزء الذي يحلم. فالجزء الأول يعمل في ثنايا الوجدان الخفية (العقل الباطن) باحثاً ولكن بدون أي تأثير على الحلم، وهذا البحث لا تظهر نتيجته إلا عند اليقظة. . . أما بخصوص الحلم ذاته فما هو إلا إحياء الماضي. ولكن هذا الماضي يمكننا أن نتعرفه، فيكون في غالب الأحيان حدثاً قد نسيناه، أو ذكرى بدت لنا كأنها زالت ولكنها في الحقيقة كانت متوارثة في أعماق الذاكرة. وفي الغالب تكون الصورة المتذكرة صورة شيء أو حدث نظرناه ونحن غير مبالين وبدون أن نشعر به تقريباً وقت اليقظة. وتوجد خصوصاً أجزاء ذكريات مشتتة تجمعها الذاكرة من هنا وهناك وتقدمها إلى وجدان النائم على شكل غير متماسك. فأمام هذه المجموعة التي لا معنى لها يبحث العقل عن معنى (والعقل يستمر في التعقل مهما قيل في ذلك) والعقل ينسب(517/33)
عدم التماسك هذا لثغرات يسدها بمناجاة ذكريات أخرى تبدو غالباً بدون نظام، وتتطلب بدورها تعبيراً جديداً، وهكذا دواليك. ولكني لا أريد الشرح الآن وإنما أقول إجابة عن السؤال الموجه منذ لحظة: أن التذكر هو القوة التي ترشد إلى المواد الصادرة عن أعضاء الحس، والقوة التي تحول إلي أشياء واضحة ومعينة تلك التأثيرات المبهمة الصادرة عن العين والأذن وعن كل مدى الجسم وعن داخله
(يتبع)
ألبير نادر(517/34)
البريد الأدبي
النسل وصفاته المتوارثة
أشار الأستاذ الجليل الدكتور زكي مبارك في مقاله عن: أخطار الطعام الواحد؛ إلى وصية الرسول عليه الصلوات بالزواج من غير القريبات
وهذا الحديث المشهور: (لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا) قد أصبح - رغم الشك في صحة نسبته إلى الرسول - منبع حقيقة اعترف بها القدماء جميعاً وسجلوها في غير موضع من مؤلفاتهم؛ ثم جاءت علوم الأحياء الحديثة ودراسة طبائع أجسام الحيوان والنبات، مؤيدة لصحتها تمام التأييد
وقد عقد الغزالي في باب النكاح من كتابه (إحياء علوم الدين) فصلاً تحت عنوان: الخصال المطيبة للعيش التي لا بد من مراعاتها في المرأة. . . فجعل ثامنة هذه الخصال ونهايتها: ألا تكون من القرابة القريبة؛ وأورد الحديث الذي ذكرناه، ثم علل لذلك بضعف الشهوة بين المتقاربين. . .
وقد أورد الدكتور في مقاله مثل هذا التعليل؛ ثم زاد على ضعف النسل بسببه جسمياً، آفة أخرى نفسية فقال: إن الاكتفاء بالقريبات يضيع فرصة الموارد الجديدة من الطبائع والأذواق. . .
ونقول أننا مع اعترافنا بالعلاقة الوثيقة القائمة بين الأجسام - في قوتها وضعفها - والطبائع والأذواق - في رقيها وانحطاطها - نحب أن نسجل حقيقة استرعت نظرنا أثناء مطالعتنا المختلفة حول هذا الموضوع
فقد أشار الدميري صاحب حياة الحيوان عند حديثه عن (البغل) إلى تركبه من الفرس والحمار؛ ثم قال: لذلك صار له صلابة الحمار وعظم آلات الخيل. . . وهذا يؤيد الحقيقة التي ألمعنا إليها. ولكنه عاد فوصف هذا الحيوان برداءة الأخلاق والتلون (لأجل التركيب)، ثم قال: وشر الطباع ما تجاذبته الأعراق المتضادة، والأخلاق المتباينة، والعناصر المتباعدة. . . وذكر في موضع آخر أن (أكثر الحيوانات المركبة من نوعين من الحيوان أخبث طبعاً من أصولها التي تتولد منها وأشد شراسة، كالسمع والعسبار ونحوهما) - وكلاهما يتولد بين الضبع والذئب -(517/35)
وظاهر من هذا أن تحسن (النسل المتولد من متباعدين) في صفاته الجسمية، لا يستتبع تحسنه في صفاته النفسية، أو فيما ركب فيه من طبائع وأذواق. . . بل على العكس من ذلك، ينشأ النسل الجديد أخبث في الطبائع من أصوله، أو هو يكتسب أسوأ ما في أبويه من صفات نفسية؛ وهذا متحقق - على الأقل - في أنواع الحيوان المركب من نوعين، وفقاً لما قاله الدميري
بقى أن ننظر في نسل الآدمي المتولد من متباعدين. . . أي الصفات النفسية يجتمع فيه؟ وهل هو في اكتسابه أحسن الصفات الجسمية من أبويه، يكتسب أيضاً أفضل ما فيهما من صفات عقلية وخلقية؟
وإذا كان الأمر كذلك، فلم هذا التفريق - من هذه الوجهة - بين الإنسان والحيوان؟
على أنه إذا نفينا هذا التفريق، فماذا يبقى من الثقة بكلام الدميري في طبائع الحيوان المركب، وهو قد ضرب لإثباته الأمثلة المحسوسة من طبائع البغل والسمع والعسبار وغيرها من هذه الأنواع؟
(جرجا)
محمود عزت عرفة
نظرات في مهرجان الربيع
أمسى ثغرنا السكندري على حقل أدبي كبير زفت فيه تحايا الربيع في أثواب من النغم الشعري البديع، وآيات من الكلم النثري الرفيع. . . ولعل السر في هذا يتمثل في اشتراك نفر من أسرة (الرسالة) الغراء في هذا المهرجان، فقد مثلها من شيوخها الأستاذ الكبير محمود البشبيشي، والأستاذ الفاضل خليل شيبوب؛ ومثلها من شبابها الأستاذان: حسين البشبيشي، ومصطفى علي عبد الرحمن. وكان لا بد للناقد من التأثر فالتأمل فالتعبير. . . وكان لا بد لتعبيره أن يتناول الهنات قبل المحاسن، ويحق لنا أن نقول إن بعض الخطباء قد أصاب، وبعضهم قد تردد في النطق واضطراب في الإبانة. . . وزل لسان بعضهم بلحنات يجدر بالخطيب الحق أن يتفاداها. ولكن الذي يخفف من تلكم الهنات ويذهب بها ذلكم البيان الدافق والقدرة الخطابية العجيبة التي غمر بها الحفل أستاذنا القدير محمود(517/36)
البشبيشي، الذي عرض فيها لمجهودات الجماعة في بيان جامع، وحيا الربيع بأسلوب رائع!
وقد كان جميلاً من الأستاذ البشبيشي ذلك الوفاء لإخوانه القاهريين (أعضاء رابطة العروبة) الذين ذكرهم بكل خير
أما عن الشعر فقد أوشك أن يحتكر المهرجان لذاته، إذ رأينا فيه اتجاهين من الشعر يعرضان لونين مختلفين: الشعر الذي يحفظ على الديباجة ويلمس المعاني بهوادة. ثم الشعر الذي تغلب روعة معانيه على حيوية ألفاظه، وينطلق في جواء من الخيال الوضئ. ولقد مثل النوع الأول الأستاذ خليل شيبوب، ومثل النوع الثاني الأستاذان مصطفى علي عبد الرحمن وحسين البشبيشي
ومن قصيدة الأستاذ شيبوب قوله:
عيد الطبيعة والشباب كأنه ... فطر يعيد بعد صوم شتائه
والشاطئ المسحور دار كأنه ... أفق الجمال حنا على دأمائه
ومن قصيدة الأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن قوله:
على الشاطئ المسحور دنيا رحيبة ... عليها الجمال العبقري تجسما
أرى الموج فيها والرمال تعانقا ... ولم يعبآ بالناس ترنو إليهما
وحولك جنات تفيض عيونها ... وتندى بشاشات وتورق أنعما
ولقد كانت ربيع الحفل، ودرة القصائد بحق، قصيدة الأستاذ حسين البشبيشي الذي وفق فيها إلى مقارنة ربيع الطبيعة بربيع قلبه إذ قال:
ربِّ هبني الحياة كي أصحب الدني ... اإلى مولد الربيع الثاني
آه. . .! عاد الربيع وانطلق الح ... ب وراء المنى بكل مكان
يا ربيعي الذي انطلقت ولم تر ... جع بقلب ممزق حيران
أنت دنياي والربيع الذي يه ... فو إلى ورده فؤادي الفاني
عبد العزيز البيسي
عضو جامعة نشر الثقافة بالإسكندرية(517/37)
عثرات:
جاء في المقال الأول من الرسالة:
(هبني سألت حضرة القاضي المحترم: ألا تزال تضرب امرأتك؟ فبماذايجيب؟ إن كان لم يضربها قط ثم قال (لا) ففي هذا النفي معنى الاعتراف بالضرب فيما مضى وإنكاره الآن، وإن قال (نعم) فقد خالف الحقيقة. . . الخ)
والصواب أن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي كان الجواب بالحرف (بلى) إثباتاً وبالحرف (نعم) نفياً. أما (لا) فلا موضوع لها هنا
وأما الثانية ففي كلامه أيضاً:
(فلا نخالنا ننسى شيئاً كثيراً إذا حصرناها في ثلاث مسائل كبريات)
وصواب الكلام (ثلاث مسائل كبار) إذا لم يرد التفضيل؛ فإن أراده قال (مسائل أكبر) وذلك لأن (كبريات) جمع (كبرى) مؤنث أكبر، فهي أسم تفضيل؛ وهو يجب إفراده وتذكيره إذا كان مجرداً من (أل) والإضافة، فإذا أضيف إلى المعرفة جازت المطابقة والإفراد مع التذكير.
وأما الثالثة ففي كلام الأستاذ سهيل أدريس (وأيقنت أن ذلك سيعود على تاريخ الأدب العربي بفوائد جمة إن يسرع في تحقيقه)
والصواب (إن شرع في تحقيقه) لأن جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل الشرط ماضياً، وما عدا ذلك فهو شاذ لا يقاس عليه.
محمد محمود رضوان
المدرس ببني سويف الابتدائية
من شعر الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا
حدثنا صديقنا الأستاذ الزناتي عن عطار يمنى لقيه بالفشن أن الشيخ (شعيب) عمدة هليه من بلاد الصعيد مدح صاحب السعادة الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا بقصيدة فرد عليه بهذين البيتين:(517/38)
أبديتَ من خِدْر فكِر ... سامي المقام عروسا
هي ابنة لشعيب ... فأين في الناس موسى
وقصة زواج الرسول موسى من ابنة النبي شعيب معروفة.
1(517/39)
العدد 518 - بتاريخ: 07 - 06 - 1943(/)
11 - دفاع عن البلاغة
3 - الأسلوب
أجل، إن الذين آمنوا بالصياغة ودعوا إليها، كانوا أفهم لمعنى البلاغة من الذين كفروا بها وزرَوْا عليها. ذلك لأن تجويد الصور يستلزم تجويد الفِكرَ وليس كذلك العكس. والعناية الدقيقة بالعبارة سبيل إلى إجادة التفكير وإحسان التخيل كما يرى فلوبير. وفلوبير هذا كان إمام الصناعة في فرنسا، أخذ نفسه بالتزام ما لا يلتزم غيره، فكان لا يكرر صوتاً في كلمة، ولا يعيد كلمة في صفحة. وكانت أذنه هي الحَكم الأعلى في صوغ الكلام، فلا تسيغ منه إلا ما حسن انسجامه وتعادلت أقسامه وتوازنت فقره. قال فيه تلميذه ومواطنه موباسان: (كان يرفع الصحيفة التي يكتبها إلى مستوى نظره وهو معتمد على مرفقه، ثم يتلو ما كتب جاهراً بتلاوته، مصغياً لإيقاعه؛ فكان في نَبره وإرساله يوفق بين السكنات والحركات، ويؤلف بين الحروف والكلمات، ويضع الفواصل في الجملة وضعاً دقيقاً محكماً فكأنها الاستراحات في الطريق الطويل).
وقال هو لبعض أصحابه: (تقول إنني شديد العناية بصورة الأسلوب، والصورة والفكرة كالجسد والروح هما في رأيي شيء واحد. وكلما كانت الفكرة جميلة كان التعبير عنها أجمل. إن دقة الألفاظ من دقة المعاني، أو هذه هي تلك).
وقد غالى علماؤنا البيانيون فزعموا أن المعاني شائعة مبذولة لا يملكها المبتكر ولا السابق، وإنما يملكها من يحسن التعبير عنها. فمن أخذ معنى بلفظه كان له سارقاً، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالخاً، ومن أخذه فكساه لفظاً أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدمه. على أن هذا الرأي الجريء لم يكن رأي العرب وحدهم، وإنما يراه معهم (بوفون) وأشياعه من كتاب الفرنج؛ فقد قرر في خطبته عن الأسلوب التي ألقاها يوم دخل الأكاديمية الفرنسية، أن الأفكار والحوادث والمكتشفات شركة بين الناس، ولكن الأسلوب من الرجل نفسه.
نعم قال بوفون: إن الأسلوب من الرجل نفسه ' ولم يقل: إن الأسلوب هو الرجل ' ' كما شاع ذلك على الألسنة. ولم يرد بما قال أن الأسلوب ينم عن خلق الكاتب ويكشف عن طبعه كما فهم أكثر الناس، وإنما أراد أن الأسلوب، ويَعني به النظام والحركة المودعين في الأفكار، هو طابع الكاتب وإمضاؤه على الفكرة. ومعنى ذلك أن الأفكار(518/1)
تكون، قبل أن يفرغها الفنان في قالبه الخاص، من الأملاك العامة؛ فإذا عرف كيف يصوغها على الصورة اللازمة الملائمة تصبح ملكاً خاصاً له، تسير في الناس موسومة بوسمه، وتعيش في الحياة مقرونة باسمه. فالأسلوب وحده هو الذي يملكك الأفكار وإن كانت لغيرك. ألا ترى أن أثر الأخلاق في بقاء الأمم وفنائها معنى من المعاني المأثورة المطروقة؛ فلما أجاد شوقي سبك اللفظ عليه في بيته المشهور أصبح بهذه الصيغة من حسناته المعدودة وأبياته المروية؟
على أنك مهما استقربت لا تجد امرأً سليم الملكات ينكر ما لحلاوة الجرْس وطلاوة العبارة من الأثر الفعال في بلاغة الكلام. وعلماء البيان مجمعون على أن (الكلام إذا كان لفظه غثاً، ومعرضه رثاً، كان مردوداً ولو احتوى على أجل معنى وأنبله). ومنذ تنزلت الشياطين بالسجع والقصيد على كهان الجاهلية الأولى لم يقل أحد غير كتاب آخر الزمان أن البلاغة هي الفكرة وأن البليغ هو المفكر. وفيما سلف من العهود التي صحت فيها القرائح وسلمت الأذواق كان الرجل ينصرف عن الكتابة أو الشعر إذا لم يجد في طبعه براعة الأداء ولا في نفسه ملكة الفن. إنما يحاجُّك في العناية بالأسلوب من اضطر إلى مزاولة الكتابة وهو مدفوع عن البلاغة بوهن سليقته وجفاء طبعه. ولهم في الحِجاج رقاعات سبيلك أن تُسَلم بها لتسلم منها. يقولون مثلاً: إن الناس يتكلمون ليفهم الشاهد، ويكتبون ليفهم الغائب؛ فلماذا لا نكتب مثل ما نتكلم؟ لماذا نؤثر أن يقال: وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً، على أن يقال: كبرت سني وشاب رأسي، والجملتان الأخيرتان أخصر لفظاً وأيسر فهماً؟
على أن من أعداء العناية بالأسلوب قوماً جادّين ليسوا من أبناء العربية ذات الأناقة الذاتية والتلاؤم المطبوع، ولكن لهم آثاراً تُقرأ وآراء تناقش، أولاهم بالذكر الكاتب الفرنسي إميل زولا. فلقد مكن الله لهذا الكاتب في دولة الكتابة وآتاه أسباب النبوغ، ولكنه ابتلاه بشيء من خشونة الطبع وفجاجة الذوق فلم يستطع مجازاة البلغاء من أنداده ومعاصريه في رونق البيان وروعة الأسلوب، فأخذ يهوّن من شأن الصور الفنية في العبارة بمثل قوله: (ليس من مطلق الحق - وإن عارض بوفون وبوالو وشاتوبريان وفلوبير - أن الكاتب يكفيه أن يعنى كل العناية بأسلوبه ليشق له في الأدب طريقاً يبقى على الأبد. إن الشكل عرضة للتغيير(518/2)
والزوال بسرعة. ولابد للعمل الكتابي قبل كل شيء أن يكون حياً؛ ولا يمكن أن يكون حياً إلا إذا كان حقاً. والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات أحياء) ثم يقول بعد ذلك: (وهل نستطيع أن نتبين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرأهما مترجَمين؟) وهذا القول ظاهر البطلان، لأن المخلوقات الحية التي يلدها ذهن الكاتب لا يتسنى لها البقاء على توالي الأعقاب والأحقاب إلا بالأسلوب كما فال شاتوبريان. ومن هنا قل اهتمام الناس بكتب زولا بعد موته، وإن ظلت في تاريخ الأدب هرما شاهقاً ضخما يدل على جبروت الذهن وقوة القريحة، لأنها فقدت النبل في الموضوع والبلاغة في الأسلوب، وبغير هاتين الصفتين لا يخلد كتاب. . .
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(518/3)
السنة وثبوت العقيدة
للأستاذ محمود شلتوت
منشأ ظنية السنة - التواتر والآحاد - الآحاد لا تفيد اليقين - ندرة المتواتر - الإسراف في وصف الأحاديث بالتواتر وأسبابه - تطبيق
بينا فيما سبق أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة ظن برفع عيسى أو نزوله فضلاً عما يفيد اليقين) وتمت بذلك النظرة الأولى من النظرات الثلاث التي وعدنا بها
وسنعرض في هذا الفصل للمبادئ التي تنبني عليها (قطيعة السنة أو ظنيتها) ثم نطبق هذه المبادئ على الأحاديث التي زعموا أنها تدل دلالة قطعية على نزول عيسى، وهذه هي النظرة الثانية
وأول ما يجب التنبه له في هذا المقام أن (الظنية) تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة: فقد يكون في اتصال الحديث برسول الله صلى الله عليه وسلم شبهة فيكون ظنيّ الورود، وقد يلابس دلالته احتمال فيكون ظني الدلالة، وقد يجتمع فيه الأمران: الشبهة في اتصاله، والاحتمال في دلالته، فيكون ظنياً في وروده ودلالته. ومتى لحقت (الظنيةَ) الحديثُ على أي نحو من هذه الثلاثة فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديثُ العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعياً في وروده وفي دلالته
ولكي يتضح مناط (القطعية والظنية) في ورود الحديث ينبغي أن نبين ما قرره العلماء في (التواتر والآحاد) ليكون مناراً يهتدي به من يريد الوصول إلى الحق:
قسم العلماء (السنة) إلى قسمين: ما ورد بطريق التواتر، وما ورد بطريق الآحاد. وضابط التواتر أن يبلغ الرواة حداً من الكثرة تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب. ولابد أن يكون ذلك متحققاً في جميع طبقاته: أوله ومنتهاه ووسطه، بأن يروي جمع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يروي عنهم جمع مثلهم، وهكذا حتى يصل إلينا، وهو عند التحقيق رواية الكافة عن الكافة
ويقول بعض علماء الأصول: (الخبر المتواتر هو الذي اتصل بك من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتصالاً بلا شبهة حتى صار كالمعاين المسموع منه، وذلك أن يرويه قوم لا يحصى عددهم، ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم، ويدوم(518/4)
هذا في وسطه وآخره كأوله، وذلك مثل: القرآن والصلوات الخمس، وأعداد الركعات، ومقادير الزكوات)
هذا هو التواتر الذي يوجب اليقين بثبوت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما إذا روى الخبر واحد، أو عدد يسير ولو في بعض طبقاته، فإنه لا يكون متواتراً مقطوعاً بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون (آحاديا) في اتصاله بالرسول شبهة فلا يفيد اليقين
إلى هذا ذهب أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وقد جاء في الرواية الأخرى خلاف ذلك، وفيما يقول شارح مسلم الثبوت (وهذا بعيد عن مثله فإنه مكابرة ظاهرة) وقال البزدوي: (وأما دعوى علم اليقين - يريد في أحاديث الآحاد - فباطلة بلا شبهة لأن العيان يرده؛ وهذا لأن خبر الواحد محتمل لا محالة، ولا يقين مع الاحتمال. ومن أنكر هذا فقد سفه نفسه وأضل عقله)
وقال الغزالي: (خبر الواحد لا يفيد العلم وهو - أي عدم إفادته العلم - معلوم بالضرورة. وما نُقل عن المحدثين من أنه يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علماً، ولذا قال بعضهم: خبر الآحاد يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن)
وقال الأسنوي: (وأما السنة فالآحاد منها لا يفيد إلا الظن)
وقال البزدوي تفريعاً على أن خبر الواحد لا يفيد العلم: (خبر الواحد لما لم يفد اليقين لا يكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد لأنه مبني على اليقين، وإنما كان حجة فيما قصد فيه العمل)
وقال الأسنوي: (إن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين)
وهكذا نجد نصوص العلماء من متكلمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين، فلا تثبت به العقيدة، ونجد المحققين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروري لا يصح أن ينازع أحد في شيء منه، ويحملون قول من قال: (إن خبر الواحد يفيد العلم) على أن مراده العلم بمعنى الظن كما ورد، أو العلم بوجوب العمل. على أن الكلام إنما هو في إفادته(518/5)
العلم على وجه تثبت به العقيدة، وليس معنى هذا أنه لا يحدث علماً لإنسان ما، فإن من الناس من يَحدث العلمُ في نفسه بما هو أقل من خبر الواحد الذي نتحدث عنه، ولكن لا يكون ذلك حجة على أحد، ولا تثبت به عقيدة يكفر جاحدها، فإن الله تعالى لم يكلف عباده عقيدة من العقائد عن طريق من شأنه ألا يفيد إلا الظن. ومن هنا يتبين أن ما قلناه في الفتوى من (أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات) قولٌ مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء!
وإذ قد عرفنا الفرق بين مناط القطعية في الورود وهو التواتر، ومناط الظنية وهو الآحادية، فهناك بحث آخر يتصل بالتواتر ولابد من النظر فيه، هذا البحث هو: هل يوجد المتواتر في الأحاديث المروية في الكتب المدونة؟ وقد اختلف العلماء في الجواب عن ذلك: فذهب قوم إلى أنه لا يوجد حديث متواتر فيما روي لنا من الأحاديث ودون في الكتب، ولعل هؤلاء بنوا رأيهم هذا على اشتراط عدم الإحصاء في رواة المتواتر، وهو مذهب لطائفة من العلماء كما تبين مما نقلناه في تعريف المتواتر. وقال ابن الصلاح: (لا يكاد يوجد المتواتر في رواياتهم، ومن سئل عن إبراز مثال له فيما يروى من أهل الحديث أعياه تطلبه، وحديث (إنما الأعمال بالنيات) ليس من ذلك السبيل وإن نقله عدد التواتر وزيادة، لأن ذلك طرأ في وسط إسناده ولم يوجد في أوله. نعم حديث (من كذب علي) نراه مثالاً لذلك، فإن رواته أزيد من مائة صحابي وفيهم العشرة المبشرون بالجنة، ولا يعرف حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا الحديث الواحد)
وذهب آخرون إلى أن المتواتر كثير في هذه الكتب. قالوا: (إن هذه الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً مقطوع بصحة نسبتها إلى مصنفيها، فإذا اجتمعت على إخراج حديث، وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد ذلك العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب كثير)
وليس بنا حاجة إلى أن نعرف مدى هذه الكثرة التي يراها هؤلاء، ويذكرونها في مقابلة القول بالعدم، أو في مقابلة القول بالندرة وإعياء تطلب المثال، وإنما يهمنا أن نلفت النظر إلى أنه لا يحكم لحديث بالتواتر - حتى على أكثر هذه المذاهب توسعاً - إلا إذا اجتمعت في الشروط الآتية:(518/6)
1 - أن تخرجه جميع كتب الحديث المشهورة المتداولة
2 - أن تتعدد طرق إخراجه تعدداً تحيل العادة معه التواطؤ على الكذب
3 - أن يثبت هذا التعدد في جميع طبقاته: أوله وآخره ووسطه
وإذن: فالحديث الذي لم تخرجه جميع الكتب المتداولة المشهورة، أو أخرجته جميعها ولكن لا بطرق متعددة، أو أخرجته بطرق متعددة ولكن لا في جميع الطبقات، بل في بعضها دون بعض، لا يكون متواتراً باتفاق العلماء أجمعين!
ويجدر بنا بعد هذا أن نعرض لظاهرة غريبة شاعت في الناس، وإن الحق ليتقاضى فيها واجبه من العلماء المسئولين أمام الله وأمام الرسول: تلك الظاهرة هي أنه على الرغم مما قرره العلماء في شأن المتواتر تحديداً ووجوداً، وعلى الرغم من هذا التحفظ الشديد في الحكم لحديث مما دون في الكتب بالتواتر، نرى بعض المؤلفين قديماً وحديثاً يسرفون في وصف الأحاديث بالتواتر، وقد يقتصدون فيخلعون عليها أوصافاً أخرى كالشهرة والاستفاضة والذيوع على ألسنة العلماء، وتلقي الأمة إياها بالقبول والثبوت في كتب التفسير وشرح الحديث، أو في كتب التاريخ والمناقب. . . الخ. وقد يشتط (أناس) في سلوك هذه السبيل، فتراهم يتتبعون مع هذا أسماء الصحابة والتابعين والأئمة والمؤلفين الذين جرى ذكرهم على ألسنة النقلة في رواية الحديث، وهم يعلمون أنها روايات ضعيفة لا تصبر على النقد، وأن هذه الأسماء التي يحرصون على جمعها توجد في كل حديث حتى في الأحاديث الموضوعة، ولكنهم مع ذلك يجمعونها، ويجتهدون في عدها وإحصائها وذكر الكتب التي اشتملت عليها لأنهم يريدون أن يخطفوا أبصار العامة، ويستغلوا عاطفتهم الدينية، ويزعموا لهم أن هذا الحديث أو تلك الأحاديث قد وردت عن نبيكم في هذه الكتب الكثيرة وعلى لسان هذا الجم الغفير من الرواة بين صحابة وتابعين فهي متواترة لاشك في تواترها، وهي متصلة بالرسول لاشك في اتصالها، ومن حاول الطعن فيها، أو الحط من درجتها، فقد ضل ضلالاً بعيداً، وحاد عن سبيل المؤمنين!
ولهذه الظاهرة أسباب:
منها، وقد يكون أقلها خطراً، اشتهار الحديث في طبقة أو طبقتين فتسحب الشهرة على جميع طبقاته، ويحكم عليه حكماً عاماً بالتواتر أو الشهرة من غير تحقيق ولا تمحيص، وقد(518/7)
لا يصل الحديث إلى حد الشهرة في طبقة ما، ولكنه جاء في (الخلافيات) فقهية أو كلامية فتعصب له أتباع المذاهب وخلعوا عليه وصف الشهرة أو التواتر تأييداً لمذهبهم، وتناقلته الكتب، موصوفاً بذلك منسوباً إلى جمع من رجال الرأي والمذهب فيخاله الناس مشهوراً أو متواتراً وهو ليس بمتواتر ولا مشهور!
ولقد كان للقائمين (بالترغيب والترهيب) ونقل الملاحم والفتن وغرائب الأخبار التي تميل النفوس إلى التحدث بها والاستماع إليها، أثر عظيم في خلع أوصاف الشهرة والتواتر على أنواع خاصة من الأحاديث التي ليست بمشهورة ولا متواترة بل ربما كانت غير صحيحة، وقد تأثرت بذلك طبقة من الخاصة لم تعن بتحقيق الرواية، ولا بمعرفة درجة الحديث، واكتفت بنقل ما يقوله هؤلاء وإجرائه على ألسنتهم وفي كتبهم حتى شاع واشتهر
وإنما استباحوا ذلك معتمدين على ما قرره بعض علماء المصطلح من (جواز التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما، وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب مما لا تعلق له بالأحكام والعقائد)
وبذلك رووا الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة، ثم توسعوا فوصفوا الآحاد بالتواتر، والضعيف بالصحيح، وتناسوا مقاييس التواتر والآحادية، ومقاييس الصحة والضعف، ومن هنا رأينا من يصف (المعجزات الحسية) كانشقاق القمر وتسبيح الحصى وكلام الغزالة وحنين الجذع بالتواتر مع أنها غير متواترة، وإنما هي آحادية كما قرره علماء الأصول. وكذلك رأينا من يصف أخبار المهدي والدجال ويأجوج ومأجوج وما إلى ذلك مما يذكر باسم (أشراط الساعة) بالشهرة أو التواتر
ولعل أحقر ما رأينا من أسباب الإسراف في وصف الأحاديث بالتواتر أن قوماً من المرتزقة باسم الدين وباسم الغيرة على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم استباحوا لأنفسهم في سبيل أغراضهم الدنيا أن يصطنعوا كل أساليب التلبيس والتمويه في شأن أحاديث عيسى التي لا يمكن أن يكون منها متواتر حتى على أوسع الآراء في تحققه، وهي مع آحاديتها يكثر ويشتد في معظمها ضعف الرواة واضطراب المتون ونكارة المعاني،(518/8)
فتراهم يقولون هي متواترة قد رواها فلان وفلان من الصحابة والتابعين، وذكرت في كتاب كذا وكتاب كذا من كتب المتقدمين، فإذا رأوا في بعضها ضعفاً أو اضطرابا أو نكارة حاولوا التخلص من ذلك فقالوا: إن الضعيف فيها منجبر بالقوي، وأن العدالة لا تشترط في رواة المتواتر. وهكذا يخلعون عليها ثوباً مهلهلاً من القداسة لا رغبة في علم ولا غيرة على حق، ولكن مكابرة وعنادا، وإصراراً على التضليل، وليقال على ألسنة العامة وأشباه العامة إنهم حفاظ وإنهم محدثون!
بقي بعد هذا أمر لابد من تقريره: وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل حتى تكون قطيعة الدلالة، فقد تناولتها إفهام العلماء قديماً وحديثاً ولم يجدوا مانعاً من تأويلها. وقد جاء في شرح المقاصد بعد أن قرر مؤلفها أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحادية ما نصه: (ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة. . . وأول بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلم والهداية سيما الفقه الحجازي، والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك، وفتنة الدجال بظهور الشر والفساد، ونزول عيسى صلى الله عليه وسلم باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح. . . الخ.). ومن ذلك نرى أن السعد لا يقرر وجوب حملها على ظواهرها حتى تكون من قطعي الدلالة الذي يمتنع تأويله، وإنما يقرر بصريح العبارة (أنه لا مانع من حملها على ظواهرها) فيعطى بذلك حق التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل، ثم يحدث عن بعض العلماء أنهم سلكوا سبيل التأويل في هذه الأحاديث فعلاً، ويبين المعنى الذي حملوها عليه، ولا شك أن هذا لم يكن منه إلا لأنه يعتقد - كما يعتقد سائر العلماء الذين يعرفون الفرق بين ما يقبل التأويل وما لا يقبله - إن ما تدل عليه ألفاظ تلك الأحاديث ليس عقيدة يجب الإيمان بها، فمن أداه نظره إلى أن يؤمن بظاهرها فله ذلك، ومن أداه نظره إلى تأويلها فله ذلك، شأن كل ظني في دلالته
ومما تقدم يتبين جلياً (أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطيعة ما، لا من ناحية ورودها ولا من ناحية دلالتها). والسلام على من اتبع الهدى
محمود شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء(518/9)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
في دار المفوضية الأفغانية - مع النحاس باشا - مع الدكتور طه حسين - مع الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا - نفحات عراقية
في دار المفوضية الأفغانية
كانت عصرية الخميس الماضي موعد الاحتفال بعيد استقلال أفغانستان، فأقبل على دار المفوضية الأفغانية بالزمالك جمهور من رجال السياسة والأدب والدين، وشعر الزائرون جميعاً بأنهم في دارهم، بفضل المودة التي يضمرها سعادة السيد محمد صادق المجددي لأهل هذه البلاد، وبفضل ما يكنه المصريون لهذا الرجل من الإجلال
ولكن ما القيمة الصحيحة للسيد المجددي، القيمة التي توجب أن يبقى في مصر مدة لم تتفق لغيره من السفراء؟
التوفيق بيد الله، ومع هذا فمن الواجب أن نحاول وزن الرجل من الوجهة الأخلاقية، فقد يكون في ذلك ما ينفع بعض الديبلوماسيين من رجال الشرق
المجددي ذكيٌ جداً، ولكن ذكاءه يشبه النبع الذي يترقرق تحت الرمال، فهو يرى الأمور على ما هي عليه من قُرب أو من بُعد، ثم يؤدي واجبه بلا جَلَبة ولا صياح
والمجددي سفيرٌ مسلم في أمة إسلامية، مسلم صادق إلى أبعد حدود الصدق، وقد يُعَدْ من النوادر في بعض السِّمات، وإلا فمن يصدِّق أن وزيراً مفوضاً ينزل من سيارته ليساعد على حمل نعش، عساه يظفر بموعود الثواب؟
والمجددي يقيم حفلات موسمية متصلة بالأعياد القومية في أفغانستان، ولكنه لا يُلقي خطبة إلا في الحفلة التي يقيمها بمناسبة المولد النبوي
وهو يعتكف أياماً من كل سنة في أحد المساجد اعتكافاً لا يسمع به غير الخواصّ. وأين من يصبر على الاعتكاف بالمساجد في هذا الزمان؟
وإسلام المجددي إسلام لطيف فهو يحيا حياة ذوقية قليلة الأمثال
دخلت المفوضية الأفغانية مع السيد خالد الشوربجي، فلما جاء السيد المجددي لاستقبالنا قدَّم إليه الشوربجي سبحة، فقال المجددي: وأين القرنفلة؟(518/11)
وكان ذلك لأن المجددي نسِي في المفوضية العراقية سبحة وقرنفلة، ولم يفته حين ترّد إليه السبحة أن يذكر القرنفلة، كأنها أُهديتْ إليه في ساعة صفاء
ويظهر ذوق المجددي في أحاديثه الإخوانية، الذوق المطول بندى الوجدان، فهو يحادثك بروحه وقلبه حديث الرجل المفطور على صدق الطوية، ولا تلمح في بشاشته أي تكلف أو افتعال
وقد ربى أبناءه في مصر تربية عربية إسلامية، ليكون اتجاههم إلى المشرق لا إلى المغرب، وليضمن انتفاعهم بالإقامة في وطن الأزهر الشريف
لم تكن لمصر مفوضية في أفغانستان، فسعى السيد المجددي لحمل الحكومة المصرية على إنشاء مفوضية هناك، ثم لاحظ أنها تتردد، فأعلن أن هذا التردد قد يقهره على مفارقة مصر بعد أن أحبها أصدق الحب. وبهذه اللمحة الوجدانية وصل إلى ما يريد
أما بعد فهذه كلمة نكتبها لوجه الله في تحية رجل من المؤمنين بالله
مع النحاس باشا
كانت مصادفة جميلة في ذلك اليوم الجميل، فقد جلست مع رفعة النحاس باشا على مائدة واحدة وتجاذبنا أطراف الأحاديث والنحاس باشا يترسل حين يتحدث، ويحرص على أن يقدم لمحدثه أطايب من المعاني اللطاف
مرَّ اسم (عباد الشمس) بالحديث فقال إن اسمه بالفرنسية لأنه يدور مع الشمس، وهو رمز الرياء
فقلت: إن عباد الشمس يدور مع الشمس بإرادة لا تعرف التقلب، فمن الظلم أن نضيفه إلى زمرة المرائين، وإن سمح رفعة الرئيس فأنا أذكر أن رمز الرياء هو (أبو رياح) لأنه يدور مع الرياح بلا إحساس، وبهذا الوصف عرفه العرب، وكان له مكان فوق أبواب القصور وأسوار البساتين
وعند ذلك قال عبد الفتاح باشا الطويل، ولا يزال أبو رياح معروفاً عند باعة الحلويات، ويكثر وجوده في الموالد والأسواق
وسأل أحد الحاضرين من الأجانب رفعة الرئيس عن موعد اصطياف الحكومة بالإسكندرية فأجاب: سيُحدد الموعد بعد استئذان جلالة الملك في أن يكون انتقال الحكومة إلى هناك(518/12)
بصفة رسمية، فقال السائل: وما الفرق بين الصفة الرسمية وغير الرسمية في الاصطياف؟ فأجاب رفعة الرئيس: الاصطياف الرسمي يوجب انتقال الهيئة الديبلوماسية إلى هناك
فقلت في نفسي: هذا بعض ما كنت أجهل من تأثير الرسميات
ثم اعتذر الرئيس بأن عليه أن يحضر حفلة يونانية وانصرف قبل نهاية الاحتفال
مع الدكتور طه حسين
والتفت فرأيت الدكتور طه بك قريباً مني فمضيت للتسليم عليه، ودار الحديث:
- هل يعرف سيدي الدكتور أن ورق الطباعة قد انعدم أو كاد؟
- إنها فرصة ثمينة جداً
- انعدام الورق فرصة ثمينة جداً؟
- بالتأكيد، لأنه يريح الناس من مؤلفات زكي مبارك سنة أو سنتين!
- ولكن ما رأيك في الكتب المدرسية؟
- هذا ما نفكر فيه؛ وقد نصل إلى شيء، فليس من الصعب أن نقنع الحكومة بأن استيراد السماد لا يغني عن استيراد الورق
- وهل يعرف سيدي الدكتور أن إرسال المطبوعات المصرية إلى الشرق قُيِّد بقيود ثقال؟
- أعرف ذلك وقد انتهينا إلى حَل
- ما هو ذلك الحل؟
- قيدنا إصدار المؤلفات القديمة، وأبحنا إصدار المؤلفات الحديثة بلا قيد ولا شرط، تشجيعاً للتأليف الحديث، فليس من الرفق ولا من العدل أن تصد المواهب المصرية عن الاتصال بأمم الشرق، ويكفيها ما تعاني من أزمة الورق وغلاء المطبوعات
- ولكن ما الموجب لتقييد التصدير بالنسبة للمؤلفات القديمة، ولبعضها أهمية لا تحتاج إلى بيان؟
- المؤلفات القديمة موجودة في أكثر بقاع الشرق، فمن واجب كل أمة عربية أو إسلامية أن تنشر ما تحتاج إليه من تلك المؤلفات. وهل تظن أن الجاحظ مثلاً يحتاج إلى تشجيع الحكومة المصرية؟ إنما يحتاج إلى التشجيع جماعة المؤلفين من الأحياء، وقد نشأوا في زمن لا ينقل فيه الفكر بغير الطباعة والتوزيع.(518/13)
وما كدنا نفرغ من هذا الحوار الهادئ حتى رأينا رجلاً يقول: يا دكتور طه بك، عندي مؤلفات عميقة جداً لا يفهمها أحد غيرك، فمتى أعرضها عليك، لأعرف رأيك؟
فقلت: اسمع يا حضرة المؤلف العميق، إن الدكتور طه مشغول في هذه الأسابيع، فانتظر إجازته الصيفية ليَفرُغ لك ولأمثالك من أهل العمق العميق!
وتفضل حضرة المؤلف فمنح الدكتور طه بطاقته الغالية ليذكره حين يستريح في إجازة الصيف!
قال الجراح الدكتور محمد كامل حسين وهو يتأمل تلك البطاقة المزخرفة: يجب على وزارة المعارف أن تؤلف لجنة لدرس مؤلفات هذا المؤلف العميق!
فقلت: ومن أجل هذا المؤلف توصد الأبواب في وجه الجاحظ!
وأسرع الدكتور طه فانصرف قبل أن يتم الحديث
مع الشيخ مصطفى باشا
ولقيت فضيلة الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرازق باشا عند الباب فرجعت معه لآنس بحديثه لحظات، ولم أكن رأيته منذ شهور طوال فاقترحت عليه أن يقيم في كل سنة موسماً دراسياً بالرواق العباسي، إحياء لذكرى الشيخ محمد عبده، فقال إن ذكرى الشيخ تقع في يونية. فقلت ليس المهم ذكرى الوفاة وإنما المهم ذكرى الدرس، وهي مقيدة بالعام الدراسي
- في النية أن تقام في مباني الأزهر الجديدة قاعة محاضرات باسم الشيخ محمد عبدة
- أهم من هذا أن يقترن الرواق العباسي باسم الشيخ محمد عبده، ففي ذلك الرواق تألق نجم الشيخ، وفيه دارت المساجلات بين طلاب الحق واليقين
- ما الذي يمنع من أن تقدم هذا الاقتراح لفضيلة الشيخ المراغي؟
- الشيخ المراغي يرحب كل الترحيب، فاستعد أنت، وليستعد من انتفعوا بآراء الشيخ محمد عبده، عساكم تحيون ذكراه بأبحاث متصلة بالمعضلات العقلية في هذا الجيل
ثم تحدثنا في تأثير الشيخ عبده في زمانه، فقال الشيخ مصطفى: كان السلطان حسين كامل يحمل المصحف دائماً. وكان يقول: أنا مسلم على مذهب الشيخ عبده
وتحدثنا عن صنيع الشيخ رشيد رضا في نشر مؤلفات الأستاذ الإمام فقال الشيخ مصطفى: خدمات الشيخ رشيد لا تنكر، ولكنه ظل بعيداً عن روح الشيخ عبده، فقد كان يسرع إلى(518/14)
تكفير المسلمين لأقل الشبهات، مع أن الشيخ كان يحكم بأن الرأي الذي يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ويحتمل الإيمان من وجه واحد يجعل صاحبه من المؤمنين
وعرفت من حديث الشيخ مصطفى أن أوراق الشيخ عبده قدمت إلى الشيخ رشيد لينتفع بها في تدوين تاريخه بعد أن اعتذر الشيخ عبد الكريم سلمان، وأن تاريخ الشيخ عبده روعيت في تدوينه أشياء، فلم يدوَّن على الوجه الصحيح فيما يمس تلك الأشياء
ثم ماذا؟ ثم أذكر أن المستر بلنت قال في مذكراته: لقد وجب عليَّ أن أسجل شعوري نحو الشيخ محمد عبده، فهو في نظري أصدق رجل عرفته في الشرق
وأنا أشعر بمثل هذه العاطفة نحو الشيخ مصطفى عبد الرازق فهو في نظري أصدق الاوفياء، وهو معي في كل وقت، وإن كنا لا نلتقي إلا في القليل من الأحايين
الصديق الحق هو الذي يجعل الصداقة في مكانة من القدسية لا تتأثر بالقرب أو البعد، ولا تختلف باختلاف الظروف، ولا يزيدها تقادم العهد إلا صفاء إلى صفاء
نفحات عراقية
أصدرت مجلة (الغَرِيّ) عدداً خاصاً بالوفد العلمي، وفد الأساتذة المصريين إلى النجف، وهو مجموعة من الخطب النفيسة والقصائد الجياد، وفيه ذُكِرتْ مصر بالخير على ألسنة فصاح، وأفئدة صحاح
قرأت تلك المجموعة حرفاً حرفاً، ومتعت خاطري بذكريات النجف والموصل والبصرة والحلة وبغداد، وهي بلاد الأهل والاحباب، ثم سرني أن أرى خطباء النجف وشعراء النجف بعافية، وإن لم أر اسم السيد عبود شلاش بين الخطباء
وتذكرت الصديق الذي زرت معه النجف، فمن ذلك الصديق؟
لن أنسى أبداً أني زرت النجف مع السيد صادق الوكيل، ولن ينقضي حزني عليه، وكان أكرم صاحب وأكرم أليف
لو عاش هذا الفتى لوصل إلى خفايا الدقائق من التاريخ الإسلامي
ولو كنت أعرف أنه سيُخْتَضَر لأديت إليه بعض حقوق الوفاء
كان طيِّع القلم في الرسائل الإخوانية، فكنت أتلقى منه خطاباً في كل أسبوع، برغم تقصيري في الجواب، لأنه كان يعرف أن الوقت لا يوافيني بما أريد، والصديق الذي(518/15)
يعتذر عن أخيه نادر الوجود
إن زرت العراق بعد حين أو أحايين فسأمر على كربلاء، لأقرأ الفاتحة على قبرك يا صادق، ولأعزي أهلك، إن جاز لمن يفقدك أن يجد العزاء
أترك هذه اللواعج وأشكر لمجلة الغَرّي لطفها مع الأساتذة المصريين، راجياً أن تلوح فرصة قريبة نجزي فيها العراق لطفاً بلطف، وجميلاً بجميل
زكي مبارك(518/16)
موسيقى. . .
للأستاذ دريني خشبة
كلما جلست وحدي تحت قبة السماء، لا يمضي غير قليل حتى تملأ أذني موسيقى الأفلاك. . . الأفلاك العلوية. . . التي تسبح فوقها الملائكة!
ما أطيب الوَحدة في هذا الزمن! إنها تصلنا بالأول والآخر، والظاهر والباطن. . . إنها تصلنا بالله!
ما أجمل موسيقى هذا الوجود المشرق بنور ربه! النور الذي يُدَوي بأعذب الألحان في قلوب الشعراء والمؤمنين والمحبين! النور الذي يفيض على الخمائل فيغني الورد، وتصدح البلابل، وتسقسق العصافير، ويهتز الأيك، ويستيقظ الوادي النائم، ويصحو النهر الوسنان، وتهرول الأنجم الحَيْرى، ويقف البدر الخجول مستأذناً عند أبواب المغرب الفضية!
غَنِّ يا قلبي فكل ما في الوجود يغني!
هات ألحانك فكل ما في الوجود ألحان!
ألحان صامتة هنا، وألحان مُدَوِّية هناك؛ وألحان من ألوان الزهر الضاحك، والفَنَنِ المورق، والبلبل الشادي، والخرير المترقرق، والنسيم العاشق، وعبير الحب في القلوب اليافعة، وابتسام الأمل في قلوب العذارى، وبراءة الحَمَل وهو يقضم الكلأ، ثم يحسو جرعة من صفحة الغدير!
تلك موسيقى الخلود أيها الفؤاد المعمود!
ألست ترى إلى قطرات الكد التي تتحدر فوق جبين العامل! وتفيض ملء أسارير الفلاح؟. . . إنها صلوات الرجاء الذي لا ينقطع، وأدعية الأمل الذي لا يخيب. . . إن لها بين يَدَي الله لغِناء تردده الملائكة من حول العرش، كما تردده الأطفال من حول الأم. . . أما في قلوب العمال والفلاحين، فهي موسيقى الإيمان الذي لا ينقم، والرضى الذي لا يسخط، والقناعة التي لا تضيق، والتسليم الذي لا يعرف الحسد
كل ما في الكون ألحان فتغن يا فؤادي
ليست ألحان الرياح في أوتار الدوح، ولا هديل الحمائم في ضحى القرية، ولا موسيقى الكروان في هدأة الليل، ولا تنهدة الحسناء في ضوء القمر، ولا تناجي المحبين في غفلة(518/17)
الرقباء، ولا هَمْس القُبَل المذعورة في أول لقاء، ولا رعشة الشفاه الظامئة وهي تعترف، ولا المعاني الراقصة وهي تغازل خيال الشاعر، ولا مس فم الأم وهي تسجل أسرار قلبها فوق جبين الطفل، ولا قطرات الندى وهي تُفتح أكمام الورد، ولا آراد الشمس وهي توشي أذيال السحاب عند ما يتنفس الصبح، ولا حفيف الريشة في يد المصور وهي تجمش اللوحة، ولا صلاة الناسك وقد فني في الله في سكون الخَلْوة، ولا تبرج الموج وهو يعانق حِسان الصيف قريباً من الشاطئ، ولا براءة الطفلة وهي تضم القُطَيطَة إلى صدرها النابض، ولا غناء القلوب الملتاعة حين تلتقي، فتتماس، وتخفق ثم تهدأ. . .
ليس هذا كله إلا موسيقى الوجود المتحد، فغن مع القافلة يا قلبي!. . .
اتحد بالأغنية الكبرى التي تصغي إلى موسيقاها العذبة الحنون ترددها قرائح الشعراء، وتصدح بها أسراب الطير، وتنفخ في نايها أنفاس الريح، وتستروح إليها قلوب المدنفين، ويستجيب لها بيان الأديب الذي يغدو لها مزماراً، ويقدم من روحه لجرسها قيثاراً، فيجعلها دموعاً في أعين المحبين، أو رحمة في جوانح الحزانى، أو حمرة في شفة كل عذراء، أو سحراً في أهداب كل حورية، أو نفحة في فؤاد كل مبتئس. . . أو ما شاء له فنه الذي جعله الله مرآة هذه الحياة الدائبة، ولسان هذا العالم الشادي
لله ما في حناياك من حناياي يا وتر!
تعال أسمعك أناتي التي هاجت حَرّها أناتك. . . أنت أيها المعجب المطرب، إن عندي ما يشجي وما يبكي!. . . إن هذا النغم الحلو النحيل الذي يمس المشاعر المترنحة كما يمس الفراش أفواف الزهر. . . إن هذا النغم الذي يشبه الأهداب الطويلة الناعسة، هو نغم ضحوك طروب ثمل، يصدر عنك ولا يرتد إليك. إنه يمس القلوب مساً خفيفاً ثم يمضي كما تمضي الذكريات السعيدة، ويتبدد كما تبدد الأحلام الفضية، وقلما يبقى منه شيء في السويداء تستعين به على تخفيف آلامها وتلطيف مآسيها. . . وإن بقي منه شيء فإنما يكون أطيافاً. أطيافاً من آهات ولوعات ولهفات، تزيد الشجا في صدر الشجي، وتؤجج اللظى في قلب المشتاق. إنها تزيد المواجع ولا تشفيها، وتثبتها ولا تنفيها، إنها تفجر دموع الضعفاء الذين يعتزلون الدنيا من أجل غادة، ويلبسون المسوح من أجل حب خائب، وغرام تعس
أما موسيقاي يا وتر! فمن لي بكلمات أعصرها من قلبي دماً، إذا جعلته سطوراً على أديم(518/18)
طروسي، وقرأها الناس، ملأت قلوبهم، قبل أن تملأ أسماعهم. . .!
هذاك قلمي يا وتر! إنه أشبه اليراعات بالناي الذي يبكي معك ليبكي الناس! أليس ينفث من شباته ما تتغنى به الإنسانية من ألحان هذا الزمان المضرج بالدماء، مثل ما ينفث نايك من ألحانه الخمرية التي يتغنى بها السهاة اللهاة العرابيد!
اسمع إلى موسيقاي يا وتر، تحملها الصبا من جوانح الأمهات والأيامى والمنكوبات في جنبات الفستولا وحفافي اليانج وضفاف الروهر. ثم من مغاور الأولمب وكهوفه، وليس من شعافه ومشارفه التي كان يصدح فوقها أبوللو، إذ تهدهد مركبته أورورا الوردية فوق السحب مطلع كل شمس
هَلُمَّ أسمعك موسيقاي يا وتر!
هلم أسمعك دقات القلوب النابضة. . . القلوب المجروحة. . . قلوب العذارى البولونيات اللائي لَدَيَّ من همس عيونهن، ومشبوب ضلوعهن، ما لا يدور لك في خلد! تعال. . . أرهف آذانك التي يملؤها الشدو دائماً بما تتشكى هذه الفتاة التي تقول لي وهي تبكي: (لقد كان لي أب. . . لقد كان لي أم. . . لقد كان لي حبيب. . . والآن هاأنذي جائعة. . . هاأنذي ظمأى. . . ظمأى إلى كل شيء. . . إن صدري يمزقه الظمأ، وتشويه الحُرَق، وتقتات به الآلام. . . وإن جمالي الذي كان العالم يفتتن به، قد ذبل، إنه يدمى الآن في أسمال الفاقة، وفي وادي الموت والتشريد. إنه يبكي على الآباء والأمهات والأخوة , , , وعلى كناره الذي كان يملأ جنة حبه بالشدو، ويغسل أرضها بالدمع، ويورق أغصانها بالتغريد. . . يا رب أين ذهب كناري. . . لم لم يفرد جناحيه للريح حين هبت زوابع الهون؟ هل ظن أنه يحول بيني وبينهم بأغنياته؟ ما كان أرق فؤاده يا ربي؟. . . ولكن ما لي أذكر كناري الحبيب ولا أذكر بيانكا. . . بيانكا الصغيرة ذات العامين، التي ظلت تحت الردم يومين، ولما أُخرجت في الثالث سألتني بصوتها النحيل الباكي الذي يتحشرج: ماما. . . أين ماما؟ فلما أنبأتها أنها تنتظرها في الجنة. . . تلك الحديقة الكبيرة اليانعة التي غرستها يد الله، تبسمت، وأطبقت جفنيها وأسلمت آخر أنفاسها وصعدت إلى الله القادر اللطيف لتقابل أمها في الحديقة الكبيرة اليانعة. . . ولعلها تتذكر حينما تلقي البستاني فتروي له ما صنع الهون(518/19)
ولأترك لك بقية القصة، قصة البولونية تلحنها أنت وتغنيها أنت. . . وتزفر بها أنت. ثم تبكي بها ملء عيون الإنسانية وملء قلوبها يا وتر!
تعال. . . تعال أسمعك من أناشيدي الباكية يا وتر!
هل سمعت ما قالت كيتي اليونانية، عذراء كوريتزا، وهي تبكي؟! إن أنين القيثار كله يذهب في بعض أنينها يا وتر. . . لقد كانت تذيب روحها قطرات من الدمع المختنق ترسله قطرة فقطرة من عينيها الثرتين، إذ هما ترويان مأساتها. . . مأساة أفروديت ويالَّلا وسيرز وبندورا. . . بل مأساة الجمال والحكمة والخير والأمل!!
اسكبي دموعك يا ورود الحديقة على فينوس الجميلة التي أثخن الأعداء جسمها البض بجروح الوحشية المتبربرة المزهوّة بالطائرات والدبابات والغواصات والطرابيد!
اسكبي دموعك يا ورود الحديقة على أدونيس الغُرانِق الذي جند له الخنزير البري وراح يلغ في دمه، ويسلب القوت من أطفاله العُراة الظِّماءِ الجياع الذين هبوا يردون من عرينهم الضبع، فهب الخنزير البريُّ إلى معونة ابن عمه. . . لكنه ذاده آخر الأمر عن الجثة التي غرز فيها أظافره، ووقف على رمتها يُقهقه ويُغني
اسمع إلى كيتي عذراء كوريتزا يا وتر، وهي تروي مأساتها:
(لقد كان لي أب. . . لقد كانت لي أم. . . لقد كان لي كِنارٌ حبيب يملأ حديقة حياتي ترجيعاً وتسجيعاً. . . يبتسم لي وأبتسم له. . . ويملأ قلبي بالمُنى البيضِ، وأفعم حياته بغُر الأماني. . . ثم جاءت القائمة السوداء تنعيه من ميدان المجد والشرف. . . فلبست عليه البياض الذي ترى يا وتر. . . لأنه قَدَّم قلبَينا قرباناً للوطن. . . ولما مضيت في إثره أقتل الهون البرابرة الذين قتلوا كناري، قبض عليَّ سفّاحهم في طريق الحومة، ولما أقتل من كلابهم غير عِلْجَيْن. . . فوا أسفاه على أن لم أُروّ الأولمب بدمائهم جميعاً. . .)
اسمع إلى لحن الإنسانية المجنونة يا وتر!
الإنسانية التي أصابها هذا السُّعار المحزن الذي جَرح القلوب وقَرح العيونَ وبرِّح بالقافلة. . .
ألا أيها الليل الطويل متى ينبلج الفجر؟
ألا أيتها العِير الضالة متى تطلع الشمس؟(518/20)
ألا أيها الوتر الماجن متى تجد فتسمع قومي هدير الموج الصخاب وهزيم الريح الصِّر وانفطار قلب الإنسانية الباكية. . .
الإنسانية التي تدفن أطفالها تحت الردم، وتهوي جواريها في بطن اليم، وتبث ألغامها في البحر واليَبَس. . .
الإنسانية التي تضحك وتبكي، وتنوح وتغني، وتلبس السواد وتلبس البياض، وترقص في العُرس كما ترقص على المقبرة، وتتحمس في الخندق كما تتيه في الحانة. . .
ما هذا؟
ماذا تسمع يا وتر؟
ما هذا الصوت العذب الجميل الذي يقول:
أيها الخفاق في مسرى الهواء؟
ولمن هذا اللحن الخلاب:
يا شباب النيل!
يا عماد الجيل؟!
يا للموسيقى؟!
أين هو اللواء الخفاق؟ وأين هم شباب النيل عماد الجيل؟
اصدقي يا موسيقى. . . اصدقي. . . اصدقي فقد جد الجد، وآن أن يزهق الباطل!
دريني خشبة(518/21)
على هامش النقد
الأدب (المهموس) والأدب الصادق
للأستاذ سيد قطب
قلت في كلمتي السابقة عن اللون المفضل من ألوان الأدب الذي يدعو إليه الأستاذ مندور
(من جميع النماذج التي اختارها حتى الآن - والنموذج كما قلت أكثر دلالة من الشرح العام - أستطيع أن أسمي هذا اللون باللون (الحِنَيّن) حسب تعبير أولاد البلد من القاهريين! الذي تحس فيه (بالحنية) أو بالهمس والوداعة الأليفة حسب تعبيره هو)
ولست أحب أن أظلم الأستاذ (مندور) ولا أن أشوه صورة اللون الأدبي المفضل لديه. فليس في الأمر ما يدعو إلى هذا العناء، أو هذا الالتواء. فأنا أسجل له هنا - في الرسالة - بعض الشرح لما يريده نقلاً عن (الثقافة). قال في أحد الأعداد:
(الهمس في الشعر ليس معناه الضعف، فالشاعر القوي هو الذي يهمس، فتحس في صوته خارجاً من أعماق نفسه في نغمات حارة؛ ولكنه غير الخطابة التي تغلب على شعرنا فتفسده، إذ تبعد به عن النفس، عن الصدق، عن الدنو من القلوب)
ثم قال في عدد آخر:
(وبعد، فهناك شعر صادق جميل، وهناك نثر صادق جميل، سميتها مهموسة لأعبر عما يثيره التعبير الفرنسي - الذي نستطيع ترجمته حرفياً بـ (نصف الملفوظ) والمعنى في نفسي ليس واضحاً تمام الوضوح، لأنه في الحق إحساس أكثر منه معنى، وإنما أستطيع أن أوحي للقارئ بشيء منه. إن قلت إنني أقصد إلى ذلك الأدب الذي سلم من الروح الخطابية التي غلبت على شعرنا التقليدي منذ المتنبي)
ثم يقول في نفس المقال:
(لست أدري أأفصحت أم لا. ولكني في الحق أعتمد على نفاذ روح القارئ، لأني يائس من أن أحمل إليه ما في نفسي حملاً تاماً، ولهذا أترك له دائماً مشاطرتي التفكير والإحساس. عليه أن يصل ما أقطع، وأن يفصل ما أجمل، وأن يضفي على الإشارة كل ما خلفها. . .
وقد عنيت أن أسجل هذه الفقرات، ولعلها أقوى وأوضح ما يصور فكرة الأستاذ مندور - أو إحساسه بتعبير أصح - وهذا اللون الذي يدعو إليه في الأدب، لون حبيب، ما في ذلك(518/22)
شك؛ ولكنه ليس اللون الوحيد الذي نعادي كل ما سواه، لأنه ليس الصورة الوحيدة للحياة
ولم يكن خطأ الأستاذ مندور في هذا التضييق وحده - عند رسم آفاق الأدب - ولكنه كان كذلك في رسم صورة واحدة لهذا اللون الواحد عند اختيار نماذجه - والنموذج الواحد هو الذي يكشف عن الصورة الباطنة في نفس المتحدث - فإذا جاز لي أن أعد النماذج التي جاء بها صورة اللون الذي يدعو إليه، لم أكن حينئذ ظالماً له، ولا مشوهاً لغرضه حين سميت الأدب المهموس بالأدب (الحنين)!
وأحب أن أطمئن الأستاذ مندور على أنني أحس ما في نفسه مما لا يستطيع أن يحمله إلى القارئ حملاً تاماً - كما يقول - ولا أرى في استنجاده بإحساس القارئ لتكملة ما يريد وتفصيله، عجزاً ولا قصوراً - كما رأى البعض - فالحس الفني لا تستطيع الألفاظ دائماً أن تحمل معانيه كاملة بوضوح، وحسبها أن تشير إليه وأن تستثير في نفوسنا المعاني والأحاسيس والذكريات الخاصة به
وهو في شرحه للأدب المهموس، كان أوسع أفقاً وأرحب صدراً، من الأمثلة التي جاء بها جميعاً من لون واحد، ولو كانت المسألة مسألة علمية أو فكرية لكان هذا الشرح هو كل شيء. ولكنها مسألة فنية، فالمثال هو الأصدق والأصح في تصوير الشرح العام
وإذا قلت: كان أوسع أفقاً وأرحب صدراً، فإنما أقيسه إلى نفسه في فهم الأدب. ولا أحتاج أن أقول: إن ذلك الأفق ليس وسيعاً، وهذا الصدر ليس رحيباً، بالقياس إلى الفهم العام الذي يجب أن تعنيه جميع الألوان الصادقة من الفنون، لا لون واحد قد يكون أفضل الألوان، وقد لا يكون!
وقد قلت في الكلمة السابقة: (إنه كان موفقاً في اختيار بعض النماذج، غير موفق في اختيار بعضها، فقصيدة (يا أخي) لميخائيل نعيمة، وقصيدة (ترنيمة سرير) لنسيب عريضة يعدان نموذجاً طيباً لهذا اللون بذلك القيد. ولكن ماعداهما من مختاراته كان نماذج رديئة للشعر عامة، ولهذا اللون من الشعر كذلك، لا في الأداء وحده، ولكن في حقيقة الشعور)
فأحب أن أفصل هذا القول بعض التفصيل
يقول الشاعر (نسيب عريضة) بعنوان (ترنيمة سرير):
ظلام الليل قد جنا ... وبوق الهمِّ قد رنَّا(518/23)
فنم يا طفل لا يهنا ... غني بات شبعانا
قتام اليأس غطَّانا ... فَنمْ، لا عين ترعانا
إذا ما صبحنا حانا ... حسبنا الصبح أكفانا
ألا يا همُّ يكفينا ... لقد جفَّتْ مآقينا
لو أن الدمع يغذونا ... أكلنا بعض بلوانا
فتنال هذه القطعة إعجاب الأستاذ (مندور) وحبه، وهي حقيقة أن تنال هذا منه، ومنا نحن أيضاً - بوصفها لوناً من ألوان الأدب، لا بوصفها اللون الوحيد الذي يحب -
ولكن الشاعر يقول قطعة أخرى بعنوان (يا نفس) لا تبلغ أن تكون في هذا المستوى، ولا أن تكون نموذجاً شعرياً، فتنال إعجاب الأستاذ مندور كذلك لأسباب سنذكرها بعد. وهذه بعض مقطوعاتها:
يا نفس مالك والأنين ... تتألمين وتُؤلمين
عذبت قلبي بالحنين ... وكتمته ما تقصدين!
قد نام أرباب الغرام ... وتدثروا لحف السلام
وأبيت يا نفس المنام ... أفأنت وحدك تشعرين؟
والليل مر على سواك ... أفما دهاهم ما دهاك
فلم التمرُّد والعراك ... ما سور جسمي بالمتين
ولا يعلو مستوى بقية القصيدة عن هذا المستوى، الذي لا شعر فيه ولا حرارة. وأحسب أن وضع القصيدتين متقابلتين - وهما لشاعر واحد - يكفي للإحساس القوي الواضح بما بين مستواهما من فروق. ولكن الأستاذ مندور يصب إعجابه عليها جميعاً، ورائده في ذلك أمران:
الأول: أن القصيدتين لشاعر من شعراء المهجر. وهو يحب شعراء المهجر، لأنه حين ذهب إلى أوربا كان يحمل بعض أدبهم، وبعد أن عاد إلى مصر لم ينفسح له الوقت ليقرأ الشعراء المصريين المحدثين!
والثاني: أن في كلتا القصيدتين نغمة أسى دفين متهالك. وهو لا يحوجنا في هذا إلى التخمين إذ يقول عن القصيدة الأولى: (أعود أنصت إليه - أي إلى نسيب عريضة -(518/24)
يهدهد طفله في (ترنيمة سرير) حزينة بموسيقاها المطردة!) وكان قد قال عن المقطوعة الثانية: (وهانحن منذ المقطوعة الأولى في جو الشعر فالنفس تئن)
يكفي إذن عند الأستاذ (مندور) أن تكون القصيدة لأحد شعراء المهجر، وأن يكون فيها حزن وأنين، لتنال منه الحب والاستحسان! ومرد هذا كما قلت إلى (مزاج خاص) هو إلى الحالات المرضية أقرب فيما أعتقد
هناك عقدتان نفسيتان لعلهما تلتقيان عند عقدة واحدة. فالأستاذ - كما لمحت في أحاديثي القصيرة معه - حاد المزاج، سريع التأثر، شديد الحنين والألفة، وهي صفات إنسانية تحب، ولكنها لا تصلح للناقد ولا يستقيم معها النقد. وهو يقول في إحدى مقالاته:
بلغني أن (أمين مشرق) قد قتلته سيارة بأمريكا، فحزنت وراجعت نفسي في سر ذلك الحزن، وهذا رجل ما رأيته قط، ولا حدثني عنه أحد، وإنما هي مصادفات الحياة ساقتني وأنا طالب، إلى كتاب به مختارات لشعراء المهجر، فتفتحت لنغماتهم نفسي، واصطحبت الكتاب إلى أوربا سنوات، وعدت (بكتابي) القديم كما ذهبت به، وإن تكن جلدته قد ضاعت، وأوراقه الأولى قد تآكلت، وأصبحت لا أعرف له عنواناً. ولكنني أفرغ إليه كلما ضاق الصدر أو عض الألم، فأجد بين صفحاته من عبير الروح ما يحيي الإيمان
(أمين مشرق، بين من يضمهم (كتابي). له فيه صفحات من الشعر والنثر. كم آنست من وحشتي ورفعت من قلبي. إنه صديق قديم)
هكذا كتب الأستاذ (مندور) وأنا (أحب) هذه النغمة منه. ولكني من أجلها لا أثق بأحكامه الأدبية - وبخاصة في الشعر - ومن أجلها كذلك أحذر القراء من الاطمئنان إلى هذه الأحكام!
في (مندور) حنان وألفة، وهو قد (هاجر) إلى أوربا وحمل معه إلى المهجر كتاباً يضم مختارات لشعراء (المهجر) وكان هذا وحده يكفي لأن يحب هذا الكتاب وشعراء هذا الكتاب. ولكنه كان كذلك كتاب الصبا الذي رافقه وهو (طالب)، وجلدته قد ضاعت، وأوراقه قد تآكلت. ولكنه عاد (بكتابه) القديم كما ذهب به، فزاده ذلك إعزازاً لديه وأثارة عنده. وصار يفزع إليه كلما ضاق الصدر أو عض الألم. وكان (أمين مشرق) بين من يضمهم كتابه فاستحق لقب (الصديق القديم) وكان سواه من شعراء المهجر كذلك. فكل منهم(518/25)
إذن هو (صديق قديم)!
ولقد قلت إنني (أخشى أن تكون حادثة ما أو عدة حوادث كامنة في ماضي الأستاذ مندور، تتحكم في نفسه دون شعور) فهذه حادثة من تلك الحوادث التي افترضتها ومن يدري فلعل وراءها من نوعها الكثير!
على أن هناك عاملاً آخر تتأثر به أحكام صاحب (الميزان الجديد)؛ فقد عاد إلى مصر قريباً، ولم يتسع له الوقت بعد ليقرأ الشعراء والأدباء المصريين؛ إذ كان مشغولاً في الوقت القصير الذي تلا عودته بكتابة رسالة يتقدم بها إلى الجامعة. فهو - كما فهمت من حديث سريع معي - كان يحسب الشعر المصري هو ذلك الذي تنشره الأهرام في بعض (المناسبات)، فأصدر عليه حكماً جازماً سريعاً. كما أنه عندما تحدث عن (بيجماليون) لتوفيق الحكيم، لم يكن قرأ كل مؤلفاته فأصدر عليه حكماً جازماً سريعاً. وهكذا كان أمره - فيما أحسب - مع شعر العقاد وشعر سواه: نظرة خاطفة سريعة، وحكم جازم سريع! وليس هكذا يصنع (أصحاب الموازين)!
وبعد فلقد كان اليوم موعدي مع القراء لعرض نماذج من الشعر الهامس الصحيح؛ فمعذرتي إليهم أن الفرغ المتاح قد استغرق كله. والى اللقاء القريب
(حلوان)
سيد قطب(518/26)
إنشاء معهد لفنون التمثيل
ضرورة لا غنى عنها
للأستاذ زكي طليمات
المدير الفني للفرقة المصرية للتمثيل والسينما
(تحية للأستاذ دريني خشبة الذي يعنى بشئون المسرح المصري ويفسح لها من علمه وأدبه)
إن ما تجري عليه الحكومة من وسائل ترقية فن التمثيل وتشجيع القائمين به - وأبين مظاهرها قيام الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى - إنما هو علاج مؤقت لحالة يجب أن يشملها إصلاح واسع يرتكز على سياسة إنشائية ترسم الوجهة التي يجب أن يولي المسرح المصري وجهه شطرها، ويكون من أول ما تسعى إلى تحقيقه إنشاء معاهد لفن التمثيل تعلم فيها فنونه وصناعاته على حقيقتها، وتكفل نشر ثقافة حقة لهذا الفن الجميل
وإنا إذ نقرر هذا ونشير به لا ننسى اعتباراً آخر له أهميته في تدعيم أساس لفن التمثيل وأدبه، وأعني به المسرحية المحلية ومؤلفها، بيد أن إيجاد هذا المؤلف النابه لا يتم بمجرد استشعارنا الحاجة إليه والبحث عنه، إذ أنه من فعل البيئة الثقافية وصنع الواعية الباطنة للمجتمع، وهذه أشياء تخرج على طوقنا لا حيلة لنا في السيطرة عليها. غير أنه مما لا شك فيه أن إذاعة ثقافية منظمة لهذه الفنون وتنظيم فرق تمثيلية تتسامى في عملها على الارتجال والجهل والتهويش والعرض الزائف لمما يساعد على خلق البيئة الفنية الصالحة التي قد ينجم منها المؤلف المسرحي الذي يسجل سمات الإنسانية العامة في معالم جيله، ويكشف عن القلب البشري في مسرحياته. لهذا نتجاوز عن هذا الاعتبار على أهميته، لنعالج عنصراً آخر له أيضاً أهميته لأنه مما يقوم عليه المسرح في كل زمان ومكان، ألا وهو الممثل والمخرج
إن إنشاء معاهد للتمثيل ضرورة ملحة مأتاها أن فن التمثيل باللسان العربي ليس أصيلاً في الأدب العربي، ولا هو من مرائي الحياة الاجتماعية في مصر، بل هو لون من الفن والأدب منتحل من الغرب، دخيل على المجتمع المصري منذ أن تفتحت أبواب من الأدب(518/27)
العربي على الأدب الغربي في أواسط القرن الماضي، فتقاليده غير ممتدة في التربة المصرية، وفنونه وصناعاته غير مستبطن دخائلها، والقائمون بأمره ليسوا كلهم مما يرتفع بهم هذا الفن ويسمو، وذلك لخفة مؤونتهم من التعليم العام والثقافة الفنية. وإن ما انتهى إليه المسرح المصري في شتى نواحي هذا الفن، ولا سيما فن الأداء التمثيلي والإخراج، إنما هو ثمرة الجهاد الذي يقوم على الموهبة العاجزة والميل الشديد أكثر مما يقوم على الموهبة المثقفة والدراية الكاملة بمعارف هذه الفنون ولمقاليدها، وهو جهاد كان يسفر ولا شك عن مستوى أرفع مما انتهى إليه لو أنه أحيط بالدراسات التي تنمي مواهب القائمين به وتوسع في آفاق تفكيرهم وتردهم دائماً إلى الموثوق بصحته من التعاليم الفنية، إذ أن كل فن جميل إنما يقوم على عمادين: الدراسة والميل، ولا يقوم على واحد منهما
ولا أغالي إذا قررت أن فن التمثيل في مصر يتفرد بين جميع الفنون بأنه قائم من غير مدرسة ولا خطة تعليمية ما، وهذه حال تثير العجب والأسف في وقت واحد
وليس فن الأداء التمثيلي وصناعات المسرح وفن الإخراج مما يرتجل ارتجالاً بدفعة الميل والرغبة، وإمداد الجرأة، ومواتاة المدارك فحسب، وإنما هي فنون تقوم على التثقيف النظري الواسع والممارسة السليمة من الزيف، بعد أن تناولها العلم بالصقل والتوليد، فقعّد لها القواعد وأصّل الأصول
نقرر هذا من غير أن نجحد ما للمواهب التي تركبها الطبيعة في الخلق من أثر كبير في نتاج الفنان، فقد وعت حافظة المسرح في مختلف الأقطار أسماء ممثلين اتسم عملهم بالنبوغ من غير أن يخضعوا لتعاليم معهد أو كتاب فن، ولكن هذا النبوغ قليل، يكاد يخرج على كل قاعدة وتعليم، فهو أمر خارق وشاذ لا يؤخذ به في وضع النظم التعليمية العامة
وفن الأداء التمثيلي وفن الإخراج، عنصران لهما خطرهما وأهميتهما في هذا الفن. وذلك باعتبار أنهما أداة الاتصال بين المسرحية والجمهور. المخرج والممثل: الأول يرسم وينشئ، والثاني يؤدي ويطالع الجمهور، فبطريقيهما يجري التأثير وتتم الفائدة من حضور الرواية
وقد سبق لوزارة المعارف العمومية أن أخذت بوجهة النظر هذه بعد أن سجلتها في تقريري الذي قدمته إليها مفصلاً معززاً بأقوال الثقاة من رجال الفن المسرحي في أوربا، وهو تقرير(518/28)
قدمته عام 1929 عقب عودتي من البعثة الفنية في مسارح أوربا ومعاهدها، فكان أن أنشأت معهداً حكومياً للتمثيل عام 1930، ولكن هذا المعهد لم يقطع من سني حياته غير العام الأول، ثم ذهب ضحية المنازعات الشخصية التي كان يختلج بها صدر الوزارة في ذلك الوقت، فأغلقت أبوابه بدعوى أنه مخالف للتقاليد الشرقية!
وكان من جراء هذا أن انهار ركن كبير من سياسة إنشائية مرسومة، وحرم المسرح العربي من أن تعمل فيه وجوه جديدة لها مستواها الثقافي العالي ومواهبها الممتازة، فكان ذلك القصور المشهود في فنون المسرح، وكانت هذه المعاناة في سبيل إصلاحه. وها قد مرت اثنتا عشرة سنة منذ أن أغلق المعهد الحكومي أبوابه، بذلت أثنائها جهود مختلفة للارتقاء بمستوى المسرح، ولم تسفر عن شيء في سبيل تحقيق هذه الغاية، وبقيت الفرق العاملة تشكو ما كانت تكابده من ضعف في وسائل الأداء، وما تعانيه من افتقار إلى وجوه جديدة تحمل المشعل بأيد فتية وتواصل الجهاد إلى جانب ذلك النفر العزيز من الممثلين والممثلات المقتدرين، وهم نفر قليل عددهم قد برزوا في فنهم بخصب مواهبهم وفيض مؤهلاتهم. وإنني أتساءل ماذا يحل بالمسرح المصري في ناحية فن الممثل لو أن هذا النفر العزيز تنحى عن خدمة المسرح مختاراً بدافع الشبع والزهد، أو مجبراً بعامل المرض أو الوفاة؟.
إن إنشاء معهد للتمثيل أصبح ضرورة لا مندوحة عن مواجهتها لوزارة الشؤون الاجتماعية التي آل إليها أمر الفرقة المصرية وإعانات التمثيل والموسيقى
وما دامت الوزارة قد أولت المسرح المصري هذه العناية المأثورة إذ تتعهد الآن بنفسها أمر توجيهه وتقويمه ورعاية القائمين بأمره، فما أظن أن رعايتها تقصر عن إنشاء معهد للتمثيل يكون حجر الزاوية لمرحلة جديدة ينتقل إليها المسرح وقد رسخت له قدم ثابتة فيها هي جوهر له وأساس.
زكي طليمات(518/29)
الصديق أبو بكر
بين العقاد وهيكل
للأستاذ محمود أبو رية
كانت هذه الكلمة في أصلها ستخرج خالصة لكتاب (عبقرية الصديق) الذي أخرجه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، ولكن عرض ما غير وجهة القول، وجعلني أتناول بالحديث كتاباً آخر معه، ولعل الخيرة فيما وقع.
ذلك أن أحد الأدباء واجهني بسؤال قال فيه: ترى ماذا بقي من تاريخ أبي بكر بعدما أتى به هيكل باشا في كتابه، فيجري به قلم غيره؟ وأني أجيبه هنا فأقول: إن هيكل باشا قد عنى في كتابه بذكر الأخبار وإيراد الوقائع التي حدثت في عهد أبي بكر متبعاً في ذلك سَنن من قبله من المؤرخين الذين ينقل بعضهم عن بعض
وعلى أنه قد أطال في النقل حتى خرج عمله في سفر ضخم، فإنه - كما قال صديقنا الكاتب السيد محب الدين الخطيب - قد فاته الاطلاع على مراجع وثيقة واعتمد على مصادر واهية لا يصح التعويل عليها (المقتطف والفتح)
ومن أجل ذلك ترى كتابه قد حمل أخباراً ما كان لمؤرخ محقق أن يأخذ بها، مثل ما روي أن علياً حمل فاطمة على دابة وخرج بها يطوف على الناس يجر هذه الدابة وهي تناشد الرجال وتتوسل إليهم أن ينصفوا بعلها وهم يعتذرون آسفين. وقد عجب الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني في البلاغ من إيراد هيكل باشا لهذه القصة وقال (إن المرء لا يحتاج إلى ذكاء أو علم ليدرك أنها مختلقة من أولها إلى آخرها)
ومن الأخبار التي نقلها هيكل باشا إلى كتابه وهي إلى الخرافات أدنى منها إلى الحقائق أن العنكبوت خيمت على الغار لتحجب النبي وصاحبه عن الناس. ومن العجيب أن ما أتى به في كتابه من مثل هذه الخرافة قد عابه على الدكتور طه حسين يوم أن نشر الجزء الأول من كتابه (على هامش السيرة) وكان مما قاله في ذلك: (إن هذه الأمور إنما وضعت لإفساد العقول والقلوب من سواد الشعب ولتشكيك المستنيرين ودفع الريبة إلى نفوسهم في شأن الإسلام ودينه) (السياسة الأسبوعية)
هذا هو كتاب هيكل باشا ونحن بما أظهرنا من نقد - لنا ولغيرنا - لا نغض منه، وإنما(518/30)
نقول إنه قد أصبح مصدراً من المصادر التي يجد فيها الباحث تاريخ الإسلام في عهد أبي بكر وبخاصة تاريخ حروب الردة
أما العقاد فقد اتخذ في تأليفه منهجاً جديداً يباين ما ذهب إليه رجال التاريخ الإسلامي جميعاً، ذلك أنه جعل وجهته دراسة شخصية أبي بكر وتحليل ملكاته. وقد بين هذا المنهج بقوله: (إنني لا أكتب ترجمة للصديق رضي الله عنه، ولا أكتب تاريخاً لخلافته وحوادث عصره، ولا أعني بالوقائع من حيث هي وقائع، ولا بالأخبار من حيث هي أخبار، فهذه موضوعات لم أقصدها. . . ولكنما قصدت أن أرسم للصديق صورة نفسية تعرفنا به وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله كما تجلو الصورة ملامح من تراه بالعين، فلا تعنينا الوقائع والأخبار إلا بمقدار ما تؤدي أداءها في هذا المقصد. . . وهي قد تكبر أو تصغر فلا يهمنا منها الكبر أو الصغر إلا بذلك المقدار، ولعل حادثاً صغيراً يستحق منا التقديم على أكبر الحوادث إذا كان فيه دلالة نفسية أكبر من دلالته، ولمحة مصورة أظهر من لمحته) (ص 3)
وهذا المذهب لذي اتخذه لدراسة أبي بكر هو ما نحتاج إليه ولا ريب في هذا العصر وما يجب على كل كاتب مجيد أن يسلكه، لأنه كما يقول العقاد: (أوجب مما كان في الأزمان الغابرة لأن الأسباب التي تغض من وقار للعظمة لم تزل تتكاثر منذ القرن الثامن عشر إلى الآن. . . وأن الإنسانية لا تعرف حقاً من الحقوق إن لم تعرف حق عظمائها، وأن الإنسانية كلها ليست بشيء إن كانت العظمة الإنسانية في قديمها أو حديثها ليست بشيء) (ص 6 و 7)
ولكي يُحكم التصوير ويُوفى بعمله على الغاية جعل من عقله وفكره وعلمه مجهراً جعله أمام شخصية أبي بكر ثم أجرى قلمه على القرطاس ليرسم ما يستعلن في هذا المجهر حتى خرجت هذه الشخصية في صورة (صادقة كل الصدق في جملتها وتفصيلها)
وإذا كانت الصورة الجميلة التي تغترق العين لا يمكن لواصف أن يجلوها على حقيقتها فإنا نشير إلى بعض ملامح تلك الصورة التي أبدعها قلم العقاد إشارة عابرة تومئ ولا تغنى
لقد جعل العقاد من مذهبه إذا ما ترجم لعظيم أن يستقصي في الدرس ويمعن في التحليل حتى يقبض بيده على مفتاح شخصيته ثم يعطيه لكل باحث لكي ينفذ به إلى سر عبقريتها،(518/31)
ويكشف عن دخائل ملكاتها. وقد كشفت له دراسته لأبي بكر عن مفتاح شخصيته فإذا هو (الإعجاب بالبطولة) وقد تحدث عن هذه البطولة فقال: إن البطولة التي أعجب بها أبو بكر هي البطولة التي ليس أشرق منها، بطولة تعرفها النفس الإنسانية، هي بطولة الحق وبطولة الخير وبطولة الاستقامة؛ وهي بعد هذا وفوق هذا بطولة الفداء يقبل عليها من يقبل وهو عالم بما سيلقاه من عنت الأقوياء والجهلاء، تلك هي بطولة محمد) ص 68
ولما عرض إلى ما بين أبي بكر وعمر من تقابل قال: (كان أبو بكر نموذج الاقتداء، وكان عمر نموذج الاجتهاد) ص 84 وبعد أن بين ما بينهما من اختلاف في الصفات قال تلك الكلمة الحكيمة: (وموضع العبرة بل موضع الإعجاز هو تلك الدعوة التي شملت هذه القوى كلها في طية واحدة، وضمت هؤلاء الرجال حول رجل واحد، وجذبت إليها أكرم العناصر التي تأتي بالعظائم وتصلح للخير وتقدم على الفداء) ص 95
وإذا كان مما لا ريب فيه أن أهم الأحداث التي نجمت بعد وفاة الرسول إنما هو أمر الخلافة وأمر الردة، فإن العقاد بعد أن استقصى الأمور كلها - في الأمر الأول - وقلبها على جميع وجوهها قال: (ومصلحة المسلمين في ولايته راجحة في كل حساب؛ لأن المسلمين كانوا يومئذ أحوج إلى عهد يكون امتداداً لعهد النبي حتى يحين وقت التوسع والتصرف الخ ص 33
ولقد أصاب العقاد في ذلك، إذ ما كان أحد يصلح للخلافة أو ينهض بأعبائها بعد رسول الله غير أبي بكر، لا لأنه أفضل الصحابة - فما ذلك قصدنا - ولكن لما كان عليه العرب حينئذ عامة، وبنو أمية خاصة، هؤلاء الذين كانت عصبيتهم المكبوتة تنتهز الفرصة للوثبة. فإذا أتيح لها أن تتولى الأمر بعد وفاة الرسول لأعادتها جاهلية، ولصار أمر الإسلام إلى زوال. وناهيك بما فعلوه بعد أن تولى عثمان أمر المسلمين، وكانت الدعوة قد استقرت والأمور قد تمهدت! وإذا كان عهد أبي بكر كما قال العقاد آنفاً امتداداً لعهد النبي فإنه كان كذلك عهد تمحيص وتثبيت. وكذلك ما كان يَصْلح للأمر بعد أبي بكر غير عمر ولا يتولى بعده إلا من يكون في مثل قوته وصرامته حتى يكون أمر المسلمين بعيداً عن أعاصير الأهواء وعواصف الفتن
أما أمر الردة فبينا ترى هيكل باشا يكتفي بأن يقول فيه عن الذين ارتدوا (إن كثيراً منهم(518/32)
راجعهم الحنين إلى عقائدهم الأولى فلم يلبثوا حين علموا بوفاة رسول الله أن ارتدوا عن دين الله) ص 14. ويقف في التعليل عند ذلك، إذ بك تبصر العقاد قد أرجع هذا الارتداد إلى علل منطقية ودلائل عقلية لا نطيل بذكرها. ص 141 وهذا هو الفرق ما بين من يأخذ الأمور من ظواهرها وبين من يوغل في دراستها إلى أن يصل إلى بواطنها
بقي أمر لابد من أن نقول فيه كلمة صريحة، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة بنت الرسول رضي الله عنها وما فعل معها في ميراث أبيها. وهذا أمر نخالف فيه الأستاذ العقاد وكل من يرى رأيه؛ لأننا إذا سلمنا معهم بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وأنه قد ثبت أن النبي قد قال إنه لا يورث. وإنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر، فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة رضي الله عنها بعض تركة أبيها كأن يخصها بِفَدك، وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخص من شاء بما شاء؛ وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي. على أن فَدَك هذه التي منعها أبو بكر من فاطمة لم تلبث أن أقطعها (الخليفة) عثمان لمروان
هذه لمحات قصيرة من ملامح صورة أبي بكر التي صورها العقاد؛ أما هذه الصورة على حقيقتها فإنه لا يغني القول فيها عن الاطلاع عليها
ولعل القارئ قد أدرك بما بيناه بعد ما بين عمل هيكل باشا وعمل العقاد؛ فذاك قد آثر حشد الأخبار وسوق الأحداث فِعل الإخباريين، وهذا قد أبدع مذهباً جديداً في التأليف أعانه عليه أنه لم يتوله إلا وهو مستحصد المِرَّة من عقل وفكر، مستكمل الأداة من اطلاع وعلم. وقد خرج هذا النحو من التأليف في عبارة محكمة السرد لم يستلهم فيها وحي الخيال، وإنما استعان بمنطق الفيلسوف الذي يفتح من آفاق الحقائق ما لا يبلغه خيال الشاعر أو الكاتب
وإذا كانت مؤلفات العقاد تعمل على تربية العقل وتنمية الفكر فإن ما يكتبه عن عباقرة الإسلام يربى على ذلك بأنه خير دعاية للدين الإسلامي وأنجع وسيلة لإظهار فضل رجاله الذين هم أهل لكل تعظيم
(المنصورة)
محمود أبو رية(518/33)
حصاد القمر. . .!
(وحي سياحة قمرية في ليلة من ليالي الحصاد بين حقول
القمح، والنخيل. حيث كان الشاعر ضيف القمر بقرية (أم
خنان) الهاجعة في مروج الجيزة الخضراء)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
سِيَّانِ في جَفْنِهِ اْلإغْفَاءُ وَالسَّهَرُ ... نَامَتْ سَنَابِلُهُ وَاسْتَيْقَظَ القَمَرُ!
نَعْسَانُ يَحلُمُ وَاْلأَضْوَاءُ سَاهِدَةٌ ... قَلْبُ النَّسِيم لَهَا وَلْهَانُ يَنْفَطِرُ
مَالَ السَّنَا جَاثِياً يُلْقى بِمَسْمَعِهِ ... هَمْساً مِنَ الْوحْي لاَ يُدْرَى لَهُ خَبَرُ
وَأَطْرَقَتْ نَخْلَةٌ قامَتْ بِتَلْعَتِهِِ ... كأَنَّهَا زَاهِدٌ في اللهِ يَفْتَكِرُ
إِنْ هَفَّ نَسْيم بها، خِيلَتْ ذَوَائبُهَا ... أَنَامِلاً مُرْعَشاَتٍ هَزَّهَا الْكِبرُ!
كأَنَّماَ ظِلُّهَا في الحَقْلِ مُضْطَهَدْ ... صَمْتُ السَّكِينَةِ عَنْ جَانِيهِ يَعْتَذِرُ
الدَّوْحُ نشوَانُ! فَاخشَعْ إِنْ مَرَرتَ بِهِ ... فَضَيْفُهُ الْباطِشاَنِ: الّليْلُ، وَالْقَدَرُ!
كأَنَّ أَغْصَانَهُ أَشبَاحُ قاَفِلَةٍ ... غَابَ الرَّفِيقَانِ عَنَّهَا: الرَّكْبُ، وَالسّفرُ
مّبْهوُرَةُ شَخَصَتْ في الجَوِّ ذَاهِلَةً ... كأَنَّهَا لحَبيبٍ غَابَ تَنْتَظِرُ!
أوْ أَنَّهَا نَسِيَتْ عَهْداً، وَأَنْعَشَهَا ... شَجْوُ الرِّياح فَهَاجَتْ قَلْبَهَا الذِّكَرُ
أَوْ أَنَّهَا وَاْلأَسَى الْمَكْبوُتُ في فَمِهَا ... بَنَاتُ وَعْدٍ بها عُشقُهَا غَدَرُوا
عَجْمَاَء تَنْبِسُ كالتمْتَامِ عَاتِبَةً ... وَمِلْءُ أَفْوَاضهَا التَّهْوِيمُ وَالْحدَرُ!
يَا سَاكِبَ النُّورِ لا يَدْري مَناَبِعَهُ ... لأَنْتَ قَلْبٌ يُشِعُّ الْحُبَّ، لا قمرُ!
هَيْمَانُ تَحْمِلُ وَجْدَ الّليْلِ أَضْلُعُهُ ... وَالّليْلُ تقْتُلُهُ اْلأَشْجَانُ وَالْفِكَرُ
كأَنَّهُ زَوْرَقٌ في الخُلْدِ رحْلَتُهُ ... تَيَّارُهُ مِنْ ضِفَافِ الْحُورِ مُنْحَدِرُ
ياَ طَائِراً في رُبَى اْلأَفلاَكِ مُخْتَفِياً ... يَمْشِي عَلَى خَطْوهِ الإِجْفَالُ والْحَذَرُ
أََرْخِ الِّلثَامَ، فمهْمَا سِرْتَ مُحْتَجِباً ... نمَّتْ عَلَى نُورِكَ الأسْدالُ وَالسُّترُ
عَلاَمَ ضَنُّكَ بالأنْوَارِ في زَمَنٍ ... إِليْكَ يَظْمأُ فِيهِ الرَّوح والْبَصَرُ!
اْلأَرضُ مُظْلمَةُ الأسْرَارِ سَاخِرَةٌ ... كأَنَّهَا شَيْخَةٌ بالنَّاس تَتَّجِرُ!(518/35)
تَقَبَّلَتْ كلَّ مَوْلُودٍ بِقَهْقَهَةٍ ... وَقَهْقَهَ الّلحْدُ لَّما جَاَء يَنْدَثِرُ!
ياَ طَائِفاً لم يَنَمْ سِرٌّ عَلَى كَبِدٍ ... إّلا وَحَفَّكَ مِنْ أَحْلامِهِ أَثَرُ
تمْشِي الْهُوَيْنَا، كما لو كُنْتَ مُقتْفِياً ... آثاَرَ مَنْ دَنَّسُوا مَغْناَكَ وَاسْتَتَرُوا
ليْلاَتُكَ الْبِيضُ وَاْلأَيَّام تَحْسُدُهَا ... عَرَائِسٌ عَنْ صِبَاهَا انْحَلَّتْ اْلازُرُ
سَمِعْتُ سِحْرَكَ في الأضْواءِ أَغْنِيَةً ... حَيْرَى تَأَوهَ عَنْهَا الرِّيحُ وَالشَّجَرُ!
وَعَيْتُها وَنَقلْتُ السِّرَّ عَنْ فمها ... لِمنْ أَبوُحُ به وَالنَّاسُ قد كَفَروا؟!
آمَنْتُ باللهِ! كلُّ الْكَوْنِ في خَلَدِي ... هَادٍ إلَيْهِ. . . الْحَصَى، والذَّرُّ، وَاَلْحَجَرُ!
ذرَتْ عُيُونكَ دَمْعاً لَيْسَ يَعْرفُهُ ... إلا غَرِيبٌ بصَدْرِي حَائِرٌ ضَجِرُ!
قلْبٌ، كَقَلْبِكَ مَجْرُوحٌ. . . وَفي دَمِهِ ... هَالاتُ نورٍ إليهَا يَفْزَعُ الْبَشَرُ!
إِنَّ الْعَذَابَ الَّذِي أَضنَاكَ في كَبِدِي ... مِنْ نَارِهِ جَذْوَةٌ تَغْلِي وتَسْتَعِرُ
سَرَى كِلاَناَ وَنَبْعُ النُّورِ في يَدِهِ ... أَنْتَ السَّناَ! وَأَناَ الإنْشَادُ وَالْوَتَرُ!
وَأَشْرَبَتْناَ اللّيالِي السُّودُ أَدْمُعَناَ ... وَأَنْتَ سَالٍ وَنَفَسِي غَالَهَا الشَّرَرُ!
كأَنَّ وَجْهَكَ في الشُّطْآنِ حِينَ غَدَا ... إليْكَ يُومِئُ مِنْ أَدْوَاحِهَا نَظَرُ. . .
مُبَشِرٌ بِنَبيٍّ. . . ذَاعَ مُؤْتَلِقاً ... عَلَى الْعَوَالمِ مِنْ أَضوَائِهِ الْخبَرُ!
اللهُ أَكْبرُ! يا ابْنَ الّليْلِ. . . يا كَبِداً ... لم يُضْنِ أَسْرَارَهَا التِّطْوافُ وَالسَّهَرُ!
بَكَى الْحَيارَى عَلَى الدُّنْياَ مَوَاجِعَهُمْ ... وَصَرَّعَتْهُمْ بَلاياَ الدَّهْرِ وَالْغِيَرُ
وَأَنْتَ حَيْرَانُ مُنْذُ الْمَهدِْ. . . لا وَطَنٌ ... وَلا رَفِيقٌ، وَلا درْبٌ. . . وَلا سَفَرُ!
لكن طَرفَكَ نَشوانُ السنا، ذَهَبَتْ ... منابِعُ السِّحْرِ من بلواهُ تنهَمِرُ!
قِفْ مرةً في سماء النيلِ واضْعَ إِلى ... محيرينَ سَرَوْا في الحَقلِ وانتشروا
قومٌ. . . هُمُ الدَّمْعُ والآهاتَ تحمِلُها ... أقفاصُ عظمٍ لَهُمْ مِنْ خَطوِها نُذُرُ!
كادتْ مناجِلَهم والله مُشرِبُها ... بأس الحديدِ من البأساءِ تنصهِرُ!
مَشوا بها في مغاني النورِ تحسَبُهُمْ ... جَنائِزاً. . . زُمَرٌ أنتْ لها زُمَرُ!
جاسوا الحقولَ مساكياً جلائِبُهُمْ ... توراةُ بُؤْسٍ عليها تُقرأُ العبَرُ
يجنونَ أيامهُمْ ضَنكاً ومسغبةً ... مِما أفاَء لهم وأدبهُمُ النَّضِرُ!
ساءلْتُ سُنبُلَهم: ما سِرُّ شقوتِهِمْ ... ومِنْ غُبارِ يديهم مَرْجُكَ العَطِرُ؟(518/36)
فمالَ واسترجَعَتْ عيدانُهُ نغَماً ... يلغُو من الموتِ في أصدائِهِ سَمَرُ!
وإذ بها في تُرابِ الحقلِ نائمةً ... تحكِي توابيتَ لم توجد لها حُفَرُ
بكى الحصيدُ على أحزانِ غارِسِهِ. . . ... متى سَيُحْصَدُ هذا الدمعُ. . . يا قَمَرُ؟!(518/37)
البريد الأدبي
من شعر الأستاذ مصطفى عبد الرازق باشا
نشرت الرسالة في العدد الماضي بيتين من الشعر لسعادة الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا، وقد يحسب بعض القراء أن هذين البيتين يتيمان ليس له غيرهما ولكنا نقول لهم إن لسعادته أشعاراً كثيرة ولكنه لم يُعن بنشرها، ونحن نذكر هنا بضعة أبيات من قصيدة مدح بها الأستاذ الإمام محمد عبده عند عودته من أوروبة وتونس والجزائر سنة 1903 (أي منذ أربعين سنة) وهاهي ذي:
أقبل عليك تحية وسلام ... يا ساهراً والمسلمون نيام
تطوى البلاد وحيث جئت لأمة ... نشرت لفضلك بينهم أعلام
كالبدر أنَّى سار يشرق نوره ... والحق أنَّي حل فهو إمام
إن يقدروا في الغرب علمك قدره ... فَلَمصْر أولى منهم والشام
فيك الرجاء لأمة لعبت بما ... يُلهى الصغار وجدت الأيام
لا زلت غيظاً للضلال وأهله ... والله يرضى عنك والإسلام
وقد كان جزاءه من شيخه أن كتب إليه كتاباً رقيقاً هذه نسخته:
ولدنا الأديب. . .
خير الكلام ما وافق حالاً، وحوى من النفس مثالاً، تلك أبياتك العشرة رأيتني والحمد لله متربعاً في سبعة منها كأنها الكواكب تسكنها الملائكة وما بقي كله كأنه الشهب، نور للأحباء، ورجوم للأشقياء، ما سررت بشيء سروري بأنك شعرت من علم حداثتك بما لم يشعر به الكبار من قومك. فلله أنت ولله أبوك! ولو أذن لوالد أن يقابل وجه ولده بالمدح لسقت إليك من الثناء، ما يملأ عليك الفضاء، ولكني أكتفي بالإخلاص في الدعاء، أن يمتعني الله من نهايتك، بما تفرسته في بدايتك، وأن يخلص للحق سرك، ويقدرك على الهداية اليه، وينشط نفسك لجمع قومك عليه
محمود أبو رية
وزير سوري يؤلف معجماً زراعيا(518/38)
عرف الأمير مصطفى الشهابي وزير الدولة في حكومة سورية المؤقتة بأنه من الأعلام الثقات في وضع مصطلحات عربية للعلوم الزراعية، وقد شرع معاليه الآن يطبع معجمه المسمى (معجم العلوم الزراعية) بالفرنسية واللاتينية والعربية وهو معجم يضم نحو عشرة آلاف كلمة
إلى فضيلة الأستاذ الكبير محمود شلتوت
ملكتْ قلوبنا بحوثك الممتعة في: نزول عيسى عليه السلام وتقرير العقيدة الدينية على أساس من العلم كما هو متفق وأصول الدين: وإيماناً بما أفاضت علينا الرسالة الغراء من سامي تحقيقك وخالص نصحك أرجو إفادتي عن:
1 - قول بعض العلماء المتقدمين كالنووي والقاضي عياض بصحة الأحاديث الواردة في نزول عيسى واستدلالهم عليه بأهل السنة
2 - إذا ثبتت صحة الأحاديث الواردة في نزوله، ولكن لم تنهض دليلاً لاعتقاد ذلك لأنها لم تبلغ حد التواتر الذي تبنى عليه عقائدنا، فما موقفنا إزاء تلك الأحاديث الصحيحة؟
دسوقي إبراهيم
دفع لاعتراض
أخذ الأستاذ محمد محمود رضوان على الأستاذ العقاد أنه استعمل الحرف (لا) جوابا لسؤال هو (ألا تزال تضرب امرأتك؟) وحقيقة أن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي كان الجواب بالحرف (بلى) إثباتاً وبالحرف (نعم) نفياً. ولكن العبارة التي معنا لم تدخل فيها الهمزة على نفي، بل دخلت على إثبات، لأن لا للنفي وتزال للنفي، ونفي النفي إثبات، فهي في قوة قولك (أتضرب امرأتك إلى الآن) فكيف تكون الإجابة بعد ذلك بنعم ويكون المراد بها نفي الضرب؟ لعل هذه القاعدة مقيدة بما إذا كان النفي لم ينتقض
محمد أبو سريع حسين
بمعهد القاهرة
ذكرى السيد جمال الدين(518/39)
بهذا العنوان قرأت أول ما قرأت بشوق ولهفة مقال الأستاذ محمود شلبي في عدد الرسالة 506
فهو لعمر الحق مقال ممتع قوي التعابير، محكم التراكيب تعلوه موجة أدبية لا يشعر بها إلا من منحه الله ذلك الإحساس الفني والشعور الأدبي
وكيف نستكثر على الرسالة واتجاهها هذا اللون الإنشائي وهي قد مهدت الطرق لرفع مستوى الأسلوب الفني في مصر والأقطار العربية؟ وإني لازلت أتذكر جيداً كلمة أستاذنا محمود البشبيشي في موضوع الرسالة، وقد كان يدرس لنا الإنشاء إذ قال إن الرسالة حملت عبء مدرس الإنشاء في المدارس العالية، وقد كان المدرس ينوء بحملها
وقد استرعت تفكيري أمور في مقال الأستاذ شلبي لا يحسن السكوت عليها، فقد ذكر أن السيد جمال الدين ولد في قرية (أسعد أباد من قرى كنر) ولا أعلم من أين أخذ الأستاذ هذه المعلومات في حياة هذا الفيلسوف العظيم. وعلى فرض أنه استند إلى جريدة أو مجلة فإن قراء الرسالة لا يغتفرون له هذا الاستناد بل يرجون منه ومن غيره تحقيقاً وتمحيصاً فإن آذانهم مرهفة، وأبصارهم شاخصة لكل ما يكتب في الرسالة
وكان الجواب على الأستاذ أن يطلع على الكتاب الذي أصدره منذ سنيهات عن السيد جمال الدين ومحمد علي الكبير مساعدُ أستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت باللغة الفارسية واسم الكتاب (مودان نامي شرق) فهذا الكتاب منجم ثري لمن أراد الكتابة عن السيد جمال الدين وفيه مراسلات جميلة وطريفة بينه وبين العالم السيد مرزا حسن الشيرازي
أما ولادته ففي قرية (أسداباد من قرى همدان) لا في قرية (أسعد أباد من قرى كنر) وفي هذه القرية اليوم مدرسة اسمها (الجمالية) تخليداً لذكرى السيد جمال الدين
ودراسته الأولى كانت على والده ثم رحل إلى النجف، وله فيها حتى الآن أصهار وأقارب. وإذا أراد الأستاذ التعرف إلى أقاربه فإني أحيله على الأستاذ المحامي السيد صادق كمونة في النجف فهو خير من يعرف عنهم
أما قبره ففي تركيا وقد كان مهجوراً دارساً إلا أن المستر كراين الأمريكي تبرع لبنائه لما زار تركيا. وللأستاذ شلبي مني ألف تحية.
(بغداد)(518/40)
عبد الكريم الدجيلي
المدرس بدار المعلمين الابتدائية(518/41)
العدد 519 - بتاريخ: 14 - 06 - 1943(/)
المرأة والفن
للأستاذ عباس محمود العقاد
ليس أكثر من المرأة في هذه الدنيا
وليس أخطأ ولا أضل مع هذا من الكلام عنها بين الرجال والنساء على السواء
كأنهم يتكلمون جميعاً عن (عينة) نادرة في بقعة من بقاع الأرض النائية، أو عن بقية من مخلفات العصور الأولى في قارورة مغلقة عليها، أو كأنما هذه المرأة التي نحسبها آدمية - كما قال بعض العلماء - إن هي إلا أنثى حيوان داثر تغلب عليه الإنسان وانتزعها منه لفاقة أصابته في نسائه. وليست هي في النوع الإنساني بالأنثى الأصيلة فيفهمها الرجل وتفهمه كما يتفاهم الزوجان من جنس واحد
وسر هذا الخطأ والضلال فيما نرى هو أن المرأة خلاصة الحياة الحسية كلها، فلا محيص من الخطأ فيها إذ لا محيص في الحياة الحسية من التجدد والتناقض، ومن رؤية الشيء الواحد على شتى الوجوه، حسبما تعرضه لنا المناسبات والطوارق التي لا يضبطها عنان
ومن أكثر الأهداف عرضة للخطأ في موضوع المرأة كلام الناس عن نصيبها من الفنون الجميلة ونصيب الفنون الجميلة منها. نلمح ذلك كلما كتبنا عن المرأة ووحي الفن، أو المرأة وحقيقة الجمال، أو المرأة والشعر والشعراء، ولمحناه في العهد الأخير بعد مقالنا في الرسالة عن (بيفردج والمرأة) حيث نقول إن النساء روائيات مجيدات وشاعرات مقصرات؛ لأن الشعر ابتكار واقتدار على الإنشاء، وليست المرأة مشهورة بالابتكار حتى في صناعاتها الخاصة بها كالطهي وصناعة الملابس والتزيين، وزدنا فقلنا: إن الشعر وأساسه الغزل (هو وسيلة الرجل لمناجاة المرأة، وقد تعودت المرأة بفطرتها أن تكون مطلوبة مستمعة في هذا المجال. فهي لا تحسن الشعر كما يحسنه الرجل، وعلى هذه السنة تجري جميع الذكور في أنواع الحيوان حين تسترعى أسماع الإناث بالغناء أو الهتاف والنداء
قلنا هذا فلم نر أكثر من المستغربين أن تكون المرأة عالة على الشعر وهي مصدر وحيه إلى الشعراء فيما يقولون. مع أن المسألة هنا مسألة واقع محسوس وعلة معقولة، وليست مسألة فروض أو مذاهب تفكير. فنحن نقول: إن إجادة المرأة للشعر نادرة في آداب الأمم قاطبة، فمن شك في ذلك فعليه أن يذكر أسماء الشواعر الكثيرات اللوائي يكذبن ما نقول من(519/1)
ندرتهن في الآداب العالمية. فأين هن أولئك الشواعر الكثيرات المجيدات؟
لا يزدن على الأربع أو الخمس عدًّا في آداب العالم من قديمها وحديثها. وفي إجادتهن للشعر مع هذا شك كثير يطول فيه الخلاف، وإن بطل الخلاف في إجادتهن فأيسر الأشياء أن ترد هذه الإجادة إلى شذوذ في بعضهن يلحقهن بالرجال، ولا يقصرهن على طبائع النساء
ونحن نقول إن علة القصور الذي يلاحظ على المرأة في ميدان الشعر أنها لا تحسن الابتكار والإنشاء حتى في صناعاتها الخاصة بها كالطهي وصناعة الأكسية والزينة. فمن شك في ذلك فعليه أن يقول لا: بل تحسن المرأة هذه الصناعات ولهذا تتقدم الطاهيات على الطهاة، وتتقدم مخترعات الأزياء على مخترعيها، وتتقدم المشتغلات بالتجميل على المشتغلين به، ولا سيما في العصر الحديث
فهل يقول ذلك القول أحدٌ وله سند من الواقع الذي نراه كل يوم؟
إن الواقع الذي نراه كل يوم هو أن الطهاة المقتدرين أكثر جداً من الطاهيات المقتدرات، وإن اختراع الرجال للأزياء وأدوات الزينة أكثر جداً من اختراع النساء، وإن معاهد التجميل لا تعتمد على فنون النساء كما تعتمد على فنون الرجال. ولو انعكس الأمر لما كان عجباً للوهلة الأولى مع المتبادر إلى الأذهان من اختصاص المرأة بهذه الصناعات.
ونحن نقول إن الشعر أساسه الغزل، وإن الغزل من عمل الرجل وليس من عمل المرأة. لأن المرأة خلقت مطلوبة تستمع النداء فتجيبه، وسنتها هذه هي السنة التي تجري عليها جميع الذكور في أنواع الحيوان حين تسترعي أسماع الإناث بالغناء أو الهتاف والنداء
فمن شك في ذلك فسبيله أن يقول لا: بل هناك باب من الشعر هو أحق من الغزل بأن يكون أساساً للشعر كله، وهو أقرب إلى ملكات المرأة منه إلى ملكات الرجل
وسبيله أيضاً أن يقول لا: بل الإناث هي التي تدعو الذكور وليست الذكور هي التي تدعو الإناث
فأما والقول بذلك بعيد التصديق بعيد المرجع والبرهان فليكن الواقع إذن عمدتنا من نصيب المرأة من الفنون، ولا يكن عمدتنا الفرض والظن والجدل الذي يحيط بالفروض والظنون
والواقع ينتهي بنا إلى حصر الفن الأنثوي في مجالين اثنين نصيبهما من التقليد والمحاكاة(519/2)
أكبر من نصيب الابتكار والإنشاء، وهما مجال الرواية ومجال التمثيل
أما الرواية فالذي نرجو كما قلنا: (إن المرأة تحسن كتابتها لأنها مطبوعة على الفضول والاستطلاع والخوض في أسرار العلاقات بين الرجال والنساء والإطالة في أحاديث هذه الأسرار مع الاشتياق والتشويق، وهذا كله معدن الرواية الذي تصاغ منه، وهو جوهر من جواهرها قد يغنيها عن المزايا الأخرى من تحليل وتعليل وإبداع، في الوصف والتمثيل)
وأما التمثيل فالإجادة فيه قائمة على قدرتين أو على نوعين من القدرة لا على نوع واحد: قدرة الخلق والإنشاء كأنما يخلق الممثل حياة بطله مستمداً لها عناصر الخلق من حياته. فهو لا يحاكي رجلاً بعينه رآه أو قرأ وصفه وعرف سيماه من الصور والتماثيل، وإنما يعمد إلى صفات هذا الرجل فيفرغها في بوتقة من حسه وخياله ويخرجها من هنالك إنساناً حياً جديداً لا موضع فيه للمحاكاة والتقليد
والقدرة الأخرى هي قدرة التقليد والتصنع وسهولة اتخاذ المظاهر والألوان على حسب الدواعي والبيئات، وهذه القدرة في المرأة على أوفى نصيب، فهي مطبوعة على التصنع والمداراة وإظهار الحب في موضع البغض والتمنع في موضع الإقبال، وهي تتلقى الأحاسيس التي توائم طبيعة الأنوثة لأنها مستغرقة في الحس طوال حياتها فلا يجهدها كثيراً أن تحضر على المسرح إحساساً من الذي جربته أو تقدر على تجربته في عالم الحقيقة
ولهذا نبغ في العالم روائيات وممثلات، وإن لم يعرف عن ممثلة نابغة أنها خلقت دوراً من محض خيالها وتفكيرها كما يتفق لنوابغ الممثلين من الرجال
أما الشعر فلم يكثر فيه نبوغ النساء لما قدمناه من الأسباب، بل هن لم ينبغن فيه حتى فيما هو أقرب إليهن وأحرى أن يتفوقن به على الرجال
خذ مثلاً لذلك شعر الرثاء وهو أقرب إلى المرأة التي تطيل الندب والعويل على موتاها. فهل في آداب العالم كله شاعرة راثية تفوق بالرثاء طاقة الشعراء من الذكور!
الخنساء التي يضربون بها المثل بين الشواعر لا تخرج من ديوانها بأكثر من أبيات متفرقات في بكائها على أخيها قلما ترتقي إلى منزلة الشعر الجيد السيار، وما عدا ذلك من قصائدها العديدة فكله تكرير وترديد وإعادة وإبداء في معنى واحد، بل في ضرب من القول(519/3)
واحد لا يصح أن يقال عنه إنه معنى من معاني القريحة والخيال
وعلى إدمان المرأة البكاء والرثاء لم توجد قط راثية بلغت في هذا الباب ما بلغه رجل كالشريف الرضي في رثاء أمه، أو رجل كابن الرومي في رثاء أولاده، أو رجل كالمعري في رثاء أصدقائه، سواء رجعنا إلى وصف الشعور أو إلى معاني الحكمة ومعارض الاعتبار
وإذا كان هذا شأن البكاء والرثاء فما بالك بالمطالب الأخرى التي لا تقترب من طبائع المرأة هذا الاقتراب
وقد يظن أن التصوير مخالف للفنون الأخرى في هذا القياس لأن النقش والتطريز من معدن واحد على ما يخيل إلى بعض الناظرين، وللمرأة حظ من إجادة التطريز والوشي قد تضارع به حظوظ الرجال في هذه الصناعة الآلية
ولكن الحقيقة بعيدة مما يتخيله هؤلاء الناظرون، لأن التصوير كالتمثيل يعتمد أيضاً على نوعين من القدرة لا على نوع واحد، وهما الخلق والتقليد
فأما التقليد فهو لا يعدو صبغة الألوان وظاهر الأشكال، وقد يتاح للمرأة أن تجيد نقل الألوان ومحاكاة الأشكال فيقال إذن إنه تطريز بالريشة يجري على منوال التطريز بالإبرة ولا يزيد
وأما الخلق فهو صوغ المرئيات في بوتقة النفس والخيال ثم إعادتها على اللوحة صورة نفسية خيالية ليس نصيب العين منها إلا نصيب الأداء والإبلاغ
وهذا هو الجانب الذي لم تنبغ فيه المرأة بين المصورين، ولا نحسب أننا عرفنا مثلاً هاماً من الأمثلة الدالة على إجادتها فيه
وفحوى هذا جميعه أن المرأة موضوع حسن للفن وأهله، وأنها قد توحي إلى أهل الفن معاني يرتفعون بها إلى مراتب النبوغ، ولكن الموضوع لا يخلق شيئاً إلا بخالق، ولو جاز أن يكون إيحاء المرأة للفن حجة على نبوغها الفني لجاز كذلك أن تنبغ البساتين والبحار وكواكب السماء مثل هذا النبوغ
واستحضار هذه الحقيقة لازم جد اللزوم في عصرنا هذا، لأننا نسمع المذاهب الاجتماعية حولنا تمارى على حسب أهوائها ومراميها في تقويم الجنسين بين قائل بالتشابه الكامل(519/4)
وقائل بالفوارق والمزايا التي يقتضيها توزيع العمل واطراد الخلق في طريق التخصيص والامتياز، ورأينا نحن أميل إلى هذا المذهب القائل بالفوارق والمزايا، لأنه الحق الواضح أمامنا، ولأنه العدة التي ندرع بها أذهاننا للقاء فوضى المذاهب التي فيها الضير أكبر الضير على المجتمع الإنساني وخلائق الإنسان
عباس محمود العقاد(519/5)
الإجماع وثبوت العقيدة
للأستاذ محمود شلتوت
آراء العلماء في الإجماع: حقيقته وحجيته وما يكون فيه - شيوع حكاية الإجماع في المسائل الخلافية وسببه - الإجماع عند المحققين - تطبيق
نظرنا - على ضوء المبادئ العامة لثبوت العقيدة - نظرتين في الآيات والأحاديث التي زعموا أنها تدل دلالة قاطعة على حياة عيسى الآن ونزوله آخر الزمان، وبينا مدى ما تفيده الآيات والأحاديث في ذلك، وبقي أن ننظر النظرة الثالثة فيما زعموا من إجماع في هذا المقام
ويحسن بنا - جريا على ما اتبعناه في هذه البحوث - أن نقدم للقراء العلميين مقدمة إجمالية تصور لهم موقف العلماء من الإجماع: حقيقته، وحجيته، وما يكون فيه من أحكام، ثم نتبع ذلك بما نريد من إبطال زعمهم الذي يزعمون
إني لا أكاد أعرف شيئاً اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام، ثم تناولته الآراء واختلفت فيه المذاهب من جميع جهاته كهذا الأصل الذي يسمونه (الإجماع)
فقد اختلفوا في حقيقته: فمنهم من رأى أنه (اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي)، ومنهم من رأى أنه (اتفاق أكثر المجتهدين فحسب) ومنهم من ذهب إلى أنه اتفاق طائفة معينة) فلا يعد اتفاق غيرها إجماعا. ثم اختلف هؤلاء في هذه الطائفة مَنْ هي؟ فقيل (الصحابة) وقيل (أهل المدينة) وقيل (أهل البيت) وقيل (الشيخان: أبو بكر وعمر) وقيل (الأئمة الأربعة) الخ
واختلف الذين قالوا بالجميع: هل الإجماع بهذا المعنى ممكن متصور الوقوع، أو هو غير ممكن لأن الاجتهاد ليس له مقياس بارز متفق عليه بين العلماء، ولأن المجتهدين غير محصورين في بلد واحد أو إقليم واحد؟
واختلف الذين قالوا بإمكانه وتصور وقوعه: هل يمكن معرفته والاطلاع عليه أو لا؟ وممن روى عنه المنع الإمام أحمد رضي الله عنه إذ يقول في إحدى روايتين عنه: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب
واختلف الذين قالوا بإمكان معرفته والاطلاع عليه: هل هو حجة شرعية فيجب العمل به(519/6)
على كل مسلم أو ليس حجة شرعية فلا يجب العمل به؟
واختلف الذين قالوا إنه حجة شرعية: هل ثبتت حجيته بدليل قطعي يكفر مُنكره، أو بدليل ظني فلا يكفر؟ وهل يشترط في وجوب العمل به أن ينقل إلينا بالتواتر أو يكفي أن ينقل ولو بالآحاد؟ وهل يشترط أن يبلغ المجمعون عدد التواتر أو لا يشترط؟ وهل يشترط أن يصرح الجميع بالحكم مشافهة أو كتابة، أو لا يشترط فيكفي تصريح بعضهم وسماع الباقين مع سكوتهم؟. . . الخ
وكما اختلفوا في حقيقته وفي حجيته اختلفوا فيما يكون فيه من أحكام: فقال قوم: إنه حجة في العلميات والعمليات جميعاً. وقال غيرهم: إنه حجة في العمليات فقط. ومن ذلك كله يتبين أن حجية الإجماع في ذاتها غير معلومة بدليل قطعي فضلاً عن أن يكون الحكم الذي يثبت به معلوماً بدليل قطعي فيكفر منكره
ولعل اختلاف العلماء في الإجماع على هذا النحو يفسر لنا ظاهرة منتشرة في كتب القوم وهي حكاية الإجماع في كثير من المسائل التي ثبت أنها محل خلاف بين العلماء، وذلك من جهة أن كل من حكي الإجماع في مسألة هي محل خلاف قد بنى حكايته على ما يفهمه هو أو يفهمه إمامه أو الطائفة التي ينتمي إليها في معنى الإجماع وما يكفي لتحققه
وعلى الرغم من ظهور السبب في تلك الظاهرة قد تأثر بها كثير من المتأخرين فخضعوا لها، وتوسعوا فيها تأييداً لآرائهم في المسائل الخلافية: فتجدهم في علم الفروع يحكون الإجماع على إلزام الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وعلى تحريم لحم الخيل، وعلى حل أكل الضب، وغير ذلك. وتجدهم في علم أصول الأحكام يحكون الإجماع على العمل بخبر الواحد، وعلى تقديم الإجماع على النص عند التعارض، وعلى العمل بالقياس. وتجدهم في علم الكلام يحكون الإجماع على رؤية الله بالأبصار، وعلى ظهور المهدي والدجال ونزول عيسى، وما إلى ذلك من المسائل العلمية والعملية التي ثبت فيها الخلاف ولم تكن محل قطع وإجماع. ولقد كان في وسعهم أن يقيدوا ذلك بالإجماع الطائفي أو المذهبي ولكنهم قصدوا أن يرسلوا كلمة الإجماع ليسجلوا على المخالف لوازمها الشائعة بين الناس: من مخالفة سبيل المؤمنين، ومشاقة الله ورسوله، وخرق اتفاق الأمة، إلى غير ذلك مما يتحرجه المسلم ويخشى أن يعرف به عند العامة. وكثيراً ما نراهم يردفون حكايتهم للإجماع بقولهم:(519/7)
(ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج) أو (بمخالفة أهل البدع والأهواء) أو (بمخالفة المعتزلة والجهمية) ونحو ذلك مما يخيفون به، وبهذا امتنع كثير من العلماء عن إبداء رأيهم في كثير من المسائل التي هي محل خلاف ضناً بسمعتهم الدينية، فوقف العلماء، وحرمت العقول لذة البحث، وحيل بين الأمة وما ينفعها في حياتها العملية والعلمية. ونحن معشر الأزهريين لا ننسى شيوع القول بحرمة الاشتغال بالعلوم الرياضية والكونية والحكم بالزندقة والإلحاد على من شذ فتعلمها أو أباح تعلمها!
وفي مثل هؤلاء الذين يحكون الإجماع في مواضع الخلاف يقول ابن حزم: (ويكفي في فساد ذلك أنا نجدهم يتركون في كثير من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماع، وإنما نحوا إلى تسميته إجماعاً عناداً منهم وشغباً عند اضطرار الحجة والبراهين إلى ترك اختياراتهم الفاسدة)
وقد كشف جهابذة العلماء عن حقيقة الإجماع التي تسمو عن الخلاف والتي هي حجة ملزمة عند الجميع؛ قال الشافعي: (ولست أقول، ولا واحد من أهل العلم: هذا مجمع عليه، إلا لما لا تلقى عالماً أبداً إلا قاله لك، وحكاه عمن قبله، كالظهر أربع ركعات وكتحريم الخمر وما أشبه هذا). وقال ابن حزم: (وصفة الإجماع هو ما تُيقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الإسلام ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز واليمن ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأن بني أمية ملكوا دهراً طويلاً ثم ملك بنو العباس، وأنه كانت موقعة صفين والحرة وسائر ذلك مما يعلم بيقين وضرورة)
ولا يخفى أن معنى ما ذكره الشافعي وابن حزم أن الإجماع لا يكون إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفيما كان طريق العلم به هو التواتر الذي يفيد قطعية الورود وانتفاء الريب، فهذا هو الإجماع الذي تتم به الحجة ولا يصح أن يخالف، ولا ريب أن العمل في مثل هذا لا يكون عملاً بالإجماع من حيث هو إجماع وإنما هو عمل بما تلقته الكافة عن الكافة مما لا شبهة في ثبوته عن صاحب الشرع، وأن الإجماع فيه لم يكن إلا أثراً من آثار الثبوت على هذا الوجه فلا يكون مصدراً له ولا أصلاً في ثبوته
ومن هنا قرر العلماء أن منكر حجية الإجماع لا يكفر في حين أنهم حكموا بالكفر على من(519/8)
أنكر المجمع عليه
هذا وقد رأى بعض الباحثين أن الإجماع الذي كان يرجع إليه ويجرى على الألسنة في الصدر الأول حيث لا نص هو إجماع بمعنى آخر غير هذا الإجماع الذي اصطلح عليه الأصوليون واشتهر بين الناس أنه حجة شرعية، واعتمدت عليه عصور التقليد في سد باب الاجتهاد، وعصور التعصب في الرمي بالتضليل والتفسيق والخروج عن سبيل المؤمنين. ونرجو أن تهيأ لنا فرصة قريبة نشرح بها نظرية هؤلاء الباحثين ونبين ما لها من الآثار الطيبة المباركة على الشريعة وعلى الأمة الإسلامية
نعود بعد هذا إلى موضوعنا فنقول: إن الذين ذهبوا إلى حجية الإجماع لم يتفقوا على شيء يحتج به فيه سوى الأحكام الشرعية العملية، أما الحسيات المستقبلة من أشراط الساعة وأمور الآخرة فقد قالوا: (إن الإجماع عليها لا يعتبر من حيث هو إجماع لأن المجمعين لا يعلمون الغيب، بل يعتبر من حيث هو منقول عمن يطلعه الله على الغيب، فهو راجع إلى الإخبارات فيأخذ حكمها، وليس من الإجماع المخصوص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الحسي المستقبل لا مدخل للاجتهاد فيه، فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع، وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه) وعلى هذا تخضع جميع الأخبار التي تتحدث عن أشراط الساعة ومن بينها نزول عيسى إلى مبدأ القطعية والظنية في الورود والدلالة، وقد سلف بيان ذلك في موضوع (السنة وثبوت العقيدة)
وعلى فرض أن أشراط الساعة مما يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه نقول: إن نزول عيسى قد استقر فيه الخلاف قديماً وحديثاً:
أما قديماً فقد نص على ذلك ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع) حيث يقول: (واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبداً، إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه السلام: أيأتي قبل يوم القيامة أم لا؟ وهو عيسى بن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل قبل مبعث محمد عليه السلام) كما نص عليه أيضاً القاضي عياض في شرح مسلم، والسعد في شرح المقاصد، وقد سقنا عبارته في البحث السابق وهي واضحة جلية في أن المسألة ظنية في ورودها ودلالتها!
وأما حديثاً فقد قرر ذلك كل من الأستاذين المغفور لهما: الشيخ محمد عبده والسيد رشيد(519/9)
رضا، وفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي:
فالشيخ عبده رضي الله عنه يذكر وهو بصدد تفسير آية آل عمران (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ) (أن للعلماء هنا طريقتين: إحداهما وهي المشهورة أنه رفع بجسمه حيَّاً وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى. . . والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر منه وهو الإماتة العادية وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح. . . الخ) ثم يذكر (أن لأهل هذه الطريقة في أحاديث الرفع والنزول تخريجين: أحدهما أنها آحاد تتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما تأويل النزول) بنحو ما سبق نقله عن شرح المقاصد
وقد ورد على المغفور له السيد رشيد رضا سؤال من (تونس) وفيه (ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسمه من روحه؟ وما قولكم في الآية (إني متوفيك ورافعك). وإن كان حيًّا يرزق كما كان في الدنيا فمم يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم حيواني كما هي سنة الله في خلقه؟) فأجابه السيد رشيد إجابة مفصلة عما سأل عنه نقتطف منها ما يأتي:
قال بعد أن عرض للآيات وآراء المفسرين فيها (وجملة القول أنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء حيا حياة دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى غذاء فيتوجه سؤال السائل عن غذائه، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثها في المسلمين) ثم تكلم عن الأحاديث وقال: (إن هذه المسألة من المسائل الخلافية حتى بين المنقول عنهم رفع المسيح بروحه وجسده إلى السماء)
أما فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فقد كتب بمناسبة السؤال الذي رفع إلى فضيلته وكان سبباً في فتوانا، إجابة جاء فيها: (ليس في القرآن الكريم نص صريح قاطع على أن عيسى عليه السلام رفع بجسمه وروحه، وعلى أنه حي الآن بجسمه وروحه. وقول الله سبحانه: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا) الظاهر منه أنه توفاه وأماته ثم رفعه، والظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رفع درجات عند الله كما قال في إدريس عليه السلام: (ورفعناه مكاناً عليا) وهذا الظاهر ذهب إليه بعض علماء(519/10)
المسلمين فهو عند هؤلاء توفاه الله وفاة عادية ثم رفع درجاته عنده فهو حي حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء. لكن جمهور العلماء على أنه رفعه بجسمه وروحه فهو حي الآن بجسمه وروحه، وفسروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردت كان لها عندهم المقام الذي يسوِّغ تفسير القرآن بها) ثم قال فضيلته: (لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي توجب على المسلم عقيدة، والعقيدة لا تجب إلا بنص من القرآن أو بحديث متواتر) ثم قال: وعلى ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى عليه السلام حي بجسمه وروحه، والذي يخالف في ذلك لا يعد كافراً في نظر الشريعة الإسلامية)
هذه نصوص صريحة يقرر بها هؤلاء العلماء قديماً وحديثاً أن مسألة عيسى مسألة خلافية، وأن الآيات المتصلة بها ظاهرة في موته عليه السلام موتاً عادياً، وأن الأحاديث الواردة فيها أحاديث آحاد لا تثبت عقيدة وهي مع هذا تحتمل التأويل، وأنه لا تكفير لمسلم بإنكار رفع المسيح أو نزوله، فأين مع هذا كله ما يدعونه من إجماع؟
ولعلنا، يعد إظهار فتوى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، نستريح من لغط بعض العلماء الرسميين الذين عرف عنهم أن تمسكهم بالرأي وما يزعمون أنه دين ليس إلا بمقدار جهلهم برأي فضيلته (وهو شيخ الجامع الأزهر) فإذا ما عرفوا رأيه وهو شيخ الجامع الأزهر خلعوا أنفسهم من ربقة رأيهم الأول وسارعوا إلى اعتناق رأيه بل تسابقوا في توجيهه وتأييده (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعلمون محيطا)
محمود شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء
حاشية: لعل الأستاذ الفاضل (دسوقي إبراهيم) قد وجد في
بحثنا السابق (السنة وثبوت العقيدة) وفي بحثنا هذا جواب ما
سألنا عنه في بريد الرسالة بالعدد الماضي، وله منا الشكر
والتحية.(519/11)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
هنا تقرأ الرسالة - تمثال سعد باشا - منارة أبي العباس - عهود ومواثيق
هنا تقرأ الرسالة
بهذه الجملة هتفتُ حين سمعت النداء بالرسالة صباح الأحد في شاطئ ستانلي، وحين رأيت مع بائع الجرائد كمية من أعداد الرسالة لم أكن أنتظر أن أراها في ذلك المكان. وقبل ذلك بيوم رأيت في مكتب (بريد سيدي جابر) جماعة من أفاضل الموظفين يحدثونني عن مقال أسيوط. ومن هذا وذاك فهمت أن المجلات التي تُعنى بالأدب الصِّرف أخذت تسيطر سيطرة روحية على أكثر الميادين، وكانت فيما سلف مقصورة على طوائف قليلة من الخواص
إن وصول المجلات الأدبية إلى الشواطئ له دلالة معنوية، فهو شاهد على رقي الذوق، ودليل على أن روّاد الشواطئ ليسوا جميعاً من اللاهين، فقد ظهر أن فيهم من يتخير المكان الذي يقرأ فيه، كما يتخير الكاتب المكان الذي يكتب فيه. والقراءة كالكتابة تحتاج إلى جوّ يسود فيه الجمال
أقمت بالشاطئ ساعتين مع جماعة من رجال الأدب ومحبيه، فدار الحديث حول كثير من المعضلات، ودار أيضاً حول اللآلئ المنثورة فوق الرمال. . . وأُخِذْت صور، وأُنشِدتْ قصائد، وتجاوبتْ عيونٌ وقلوب
ثم أنظر فأرى رجلاً ملء العين والقلب يشرِّف الشاطئ، وهو سعادة الأستاذ الجليل محمد العشماوي بك، فيقع هذا السجال:
- ماذا تصنع هنا يا دكتور مبارك؟
- جئت أحاول إتمام التصنيع الذي بدأته قبل أربع سنين
- وما ذلك الصنيع؟
- هو تأليف كتاب عن (أدب الشواطئ)
- وما أساس الفكرة في ذلك الكتاب؟
- أساس الفكرة أن المصريين أنشأوا فناً جديداً في الأدب العربي هو أدب الشواطئ، وقد(519/13)
يكون ابتكارهم لهذا الفن جديداً بالنسبة لسائر الآداب
- تريد أن تقول إنه فنٌ لم يوجد في الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً؟. . .
- هو ذلك، مع الاعتراف بأن لشعراء فرنسا وإنجلترا أفانين متصلة بالحياة البحرية، ولكنها تخالف إحساس المصريين بالشواطئ في مواسم الاصطياف
- وهل تفردت الشواطئ المصرية بخصائص؟
- هذا مؤكد، فأنت لا تستطيع أن تحدد موعد لقاء على شاطئ فرنسي أو إنجليزي بعد أسابيع ولا بعد أيام، لأن الطبيعة هنالك مفطورة على التقلب، أما في مصر فتستطيع أن تحدد موعداً على أحد الشواطئ بعد سنة أو سنتين، لأن جو مصر مفطور على القرار والاطمئنان
- إن كان الأمر كذلك فكيف تأخر أدب الشواطئ في مصر، ولم نر له بوارق فيما مضى من العهود؟
- بدعة الاصطياف على الشواطئ بدعةٌ حديثة العهد في الشرق والغرب
- تعني أنها لم توجد قبل أن يوجد الشيخ أبو العيون؟
- الشيخ أبو العيون وجد قبل قرون!
- متى؟
- وُجد باسم السخاوي
- وكيف؟
- كان السخاومي مولعاً بعدّ هفوات ابن خلدون، فطاب له أن يدون في كتاب (الضوء اللامع، في أعيان القرن التاسع) أن ابن خلدون كانت له جولات في الشاطئ السكندري أيام الصيف
وما معنى هذا؟
- معناه أن شواطئ الإسكندرية كانت مراتع صبوات في ذلك الزمان
- وهل قال ابن خلدون شعراً أو نثراً في الشواطئ؟
- حكاية ابن خلدون غريبة جداً
- وما وجه الغرابة في حكاية ابن خلدون؟(519/14)
- حدثنا الأستاذ محمد المهدي بك في إحدى محاضراته بالجامعة المصرية سنة 1917 أن السفينة التي أقلت ابن خلدون من تونس إلى الإسكندرية غرقت وهي مشرفة على الشاطئ، فهلك أهله وأصحابه، ونجا بعد أن كاد يمسي من المغرَقين
- وإذن تكون جولات ابن خلدون على شواطئ الإسكندرية مناجاة لتلك الأرواح، وهذا معنى جهله السخاوي ولن يجهله أبو العيون
- في هذا الكلام لواعج ذاتية، فهل كان لك مع شواطئ الإسكندرية تاريخ؟
- كان ذلك أيام الاعتقال
- هل اعتُقِلْتَ يا دكتور؟
- قال ناسٌ إني كنت من خطباء الثورة المصرية، وإنني استصبحت بغياهب الاعتقال
- وأنا أيضاً لم أسمع به قبل اليوم
- تلك إذن دعابة من دعاباتك؟
- هي دعابة من دعاباتي، بلا جدال، ولكن لها عقابيل
- لا تؤاخذني يا دكتور في جهل هذا الجانب من حياتك
- أي جانب؟ أنا أمزح!
- وأنا أحب أن أسمع هذا المزاح
- دخلت الإسكندرية أول مرة في سيارة مغلقة من سيارات الجيش البريطاني، دخلتها بعد انتصاف الليل وفي أعنف وقت من قسوة الشتاء، فاجتهدت في زحزحة الأحجبة عساني أرى وجهاً من وجوه الحياة فوقع نظري على غابة من النخيل
- وأين كان المعتقل في الإسكندرية؟
- لا أدري أين! كنا في (سيدي بِشْر)، ولكن أين؟
- هل فكرت في التعرف إلى مكان الاعتقال؟
- فكرت وفكرت، ولكني لم استطع الاهتداء إليه، برغم الشوق إلى المكان الذي أودعت فيه ذخائر شبابي
- هذه رموز تحتاج إلى تفاسير
- كنت بطل البحر في ذلك العهد، ولعلني أول سابح عرفته البحار على نحو ما كنت(519/15)
- وكيف؟
- كنت أثبتُ قدميّ في الماء بصورة لا تختلف عمن يثبت قدميه فوق الجبال، وكان من المستحيل أن أتزحزح ولو صارعني أمهر السابحين، فأين الماضي الجميل لعهد فتوّتي وشبابي؟ أنا اليوم أزور الشاطئ زيارة الطيف، وكل ماضيّ فيه أنني أنقذت من الغرق جماعة فيهم فلان، وهو مخلوق لا يؤذيه أن يُذكر فضلي عليه وبعض الناس يكربهم الوفاء!
- وبمثل هذه الخواطر تزور هذا الشاطئ؟
- ينبغي أن أقول كلاماً من هذا الطراز، لينسى الناس أنني قلت فيه:
رعاه الحب من شطٍّ جميل ... خفيف الروح مصقولٍ أنيقِِ
بهيّ الرمل تحسبهُ سُجُوفا ... مطرَّزةً بحبات العقيق
أطوف به فيغلبني خشوعي ... كأني طفت بالبيت العتيق
- هذه شيطنة الشعراء!
- وماذا يصنع الملائكة لو طافوا بهذه الشواطئ؟ هل ينسون أن الله هو الذي جمَّل هذه الخلائق؟ هل ينسون أن أعظم نعمة من نِعم الله هي نعمة الجمال الوهّاج؟ هذه الشواطئ كنوزٌ أتحف الله بها هذه البلاد، فلنشكر لله هذه التحفة الغالية، ولنسأله أن يجعل أيامنا مواسم لشيطنة الشعراء
ثم انتقل الحوار إلى مسائل سأعود إليها بالتفصيل بعد حين
تمثال سعد باشا
أعجب ما يقع في مصر أن يفاجأ الجمهور بأشياء لم يؤخذ فيها الرأي، كالذي وقع في تمثال سعد باشا زغلول، وإلا فمن يذكر أن تمثال سعد أُخذت فيه الآراء قبل أن يقام في القاهرة والإسكندرية على ذلك الوضع الغريب؟
قاعدة التمثال يعاب عليها ما يعاب على قاعدة التمثال القائم بميدان باب الحديد، فهي مرتفعة بطريقة لا تخلو من عُنُجهية
والتمثال نفسه سيئ التعيير في أكثر نواحيه، فعزيمة سعد باشا تتمثل في يده الشمال، وقد أُرخيتْ يمناه بصورة لا تليق
وهنالك لوحة جانبية تَفْرض على سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي أن(519/16)
يقدموا مطالب الأمة إلى رجلٍ قاعد وهم وقوف، فهل كان السير وِنجتْ قاعداً وهو يستقبل أولئك الرجال؟
وفي هذه اللوحة يقف عبد العزيز فهمي وقفة غير مقبولة، فما الموجب لذلك؟
وهنالك لوحة ثانية جانبية حُمِل فيها سعد على أعناق مريديه، وقد برز نعلاه بروزاً يأباه الذوق
أعيدوا النظر فيما رُسِم على جوانب ذلك التمثال
منارة أبي العباس
قلت مرةً إن منارة أبي العباس المُرسى ستشهد بإسلام الإسكندرية حين تنار بعد الحرب، وستكون على الشاطئ المصري نظيرةً لبُرج (نوتردام دي لاجارد) على الشاطئ الفرنسي. والتنافس بين الإسلام والنصرانية سيمتد إلى آخر الزمان
واليوم أذكر أن سعادة الأستاذ عبد الهادي الجندي باشا أسدى خدمة جليلة إلى الإسكندرية الإسلامية قبل أن يترك وزارة الاوقاف، فقد كلَّف الأستاذ حسن السندوبي تأليف كتاب تُفصَّل فيه أخبار أبي العباس وأخبار مريديه من الصوفية، ليوزع على المصلين يوم يتفضل جلالة الملك بافتتاح ذلك المسجد البهيج
فما مصير ذلك الكتاب، وقد راعني ما فيه من تفاصيل؟
أيُهْمَل باستقالة الوزير الذي أشار بأن يؤلَّف؟ أيوضَع عليه اسمٌ جديد إن كُتبَ له البعث من مَرقَد وزارة الأوقاف؟
إن معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق في غِنىً عمن يُذكِّره بأن الإسكندرية الإسلامية منسية في عالم التأليف، فليس من الكثير أن يذاع كتابٌ يؤرخ عهداً يفوق في الروحانية عهود اليونان والرومان، وهو أيضاً في غِنىً عمن يذكره بأن إسلام الإسكندرية ينتظر الإحياء
عهود ومواثيق
لم أسمح لنفسي يوماً بالراحة باسم المرض، ولم أَشْكُ لغير الله ما يعتريني من التعب في بعض الأحايين، فكيف جاز أن أفكر في الرجوع إلى القاهرة قبل أن أقضي في الإسكندرية(519/17)
لحظات بين هدير البحر وظلام الليل؟
وماذا يقول أبنائي حين أرجع إليهم بعد يوم وأنا مكروب؟
بيني وبين الله عهود ومواثيق، والعهد بيني وبينه أن أقضي العمر ساجعاً فوق ما أبدع من أفنان الجمال، فأنا واثقٌ بأن العافية لن تضيع من يدي، وهل يُرضي الله أن أسجع سجع الجريح؟
سأفارق الإسكندرية حزيناً هذه المرة، وسأجد في أصدقائي بها من يعتذر عني، فما عندي بسمات ولا ضحكات ألقاهم بها لقاء الحبيب للمحبوب
سنلتقي حتما يا أحبائي، وسنلهو معاً بمصارعة الأمواج، وسنُسِرُّ أحاديث تُصغي إليها ضمائر السماء، فمن المستحيل أن ينفصم ما بيني وبين الله من عهود ومواثيق
زكي مبارك(519/18)
لكي ننتفع بتجاريب غيرنا
1 - المسرح في أوربا
بين حربين
للأستاذ دريني خشبة
(تحيتي وشكري للأستاذ الصديق زكي طليمات أحد الذين
تدخرهم مصر لنهضتها المسرحية)
لم تمض سنوات قلائل بعد إذ وضعت الحرب الكبرى أوزارها حتى أخذ النقاد المسرحيون - ولا سيما في أمريكا - يتلفتون حولهم، ويتساءلون ماذا أصاب المسرح بعد الذي أصاب العالم من تقتيل وتخريب؟ وقد ذهب كثير من النقاد الأمريكيين إلى أوربا يجوبون أطرافها ويدرسون أحوال المسرح فيها، مارين بإنجلترا بادئ الأمر، حيث هالهم ما أصاب المسرح الإنجليزي من الانتكاس المؤلم، وما عراه من الشعبذات التي لم تكن قط مما يروج في سوقه، أو ينفق في ناديه. . . ثم ذهبوا بعد ذلك إلى فرنسا ثم إلى إيطاليا، فإلى بلجيكا، فإلى ألمانيا وروسيا. . . ثم عادوا أدراجهم إلى أمريكا ليكتبوا، ولينقدوا المسرح الأوربي، ولينشروا في ذلك المؤلفات القيمة وغير القيمة، ثم ليثنوا على هذا المسرح، وليقدحوا في ذاك، مما أوجد في أوربا رد فعل عظيم أرهف الآذان وفتح الأعين، وكان سبباً في حركة إصلاحية مباركة تضافرت جميع القوى في القيام بها بالاشتراك بين الهيئات الحرة وجهات الاختصاص الحكومية
ولقد كان الناقدان الأمريكيان: كِنثْ ماك جَوَانْ - و - روبرت إدموند جونس في مقدمة الذين ألفوا في هذا الموضوع، إذ أصدرا كتابهما الفذ المسمى: (البراعة الأوربية في الإخراج المسرحي - صرحا فيه بانحطاط المسرح الإنجليزي وتخلفه عن المسرح في القارة الأوربية واضطرارهما إلى تجنب الكلام عنه وتناول الإخراج فيه تبعاً لذلك في حين أنهما أثنيا الثناء العطر على المسرح الأوربي فيما عدا إنجلترا من الممالك الأخرى. وقد جاء إلى أوربا ناقد أمريكي آخر هو الأستاذ ستارك يونج فجاب معظم ممالكها، متفقداً حالة المسرح في كل منها، ثم عاد ليكتب فصوله البارعة في مجلة أمريكا الشمالية وهي تلك(519/19)
الفصول التي أقامت إنجلترا وأقعدتها لما صرح فيها بمثل ما صرح به الناقدان الأسبقان من مر القول عن المسرح الإنجليزي الذي انحط بكل عناصره جمهوراً وروايات وإخراجاً وغرضاً، عن سائر المسارح في أوربا. وقد انبرى للرد على هؤلاء النقاد الأمريكيين عدة كتاب من المشتغلين بالمسرح الإنجليزي وفي مقدمتهم الأستاذ جون ألف كتابه جمع فيه ما ألقاه من المحاضرات عن المسرح الإنجليزي في إنجلترا رداً على المستر ستارك يونج وأضرابه، ودفاعاً عن المسرح الإنجليزي وتاريخه العتيد. والذي حدا بنا إلى الاهتمام بما كتبه المستر أرفن هو انطباقه على المسرح المصري انطباقاً يوشك أن يكون كاملاً مع أنه ألقى محاضراته سنة 1923 ونشرها في كتابه سنة 1924 وقد تكلم فيه عن:
1 - المسرح الإنجليزي والمسرح الأوربي إجمالاً
2 - جمهور النظارة من الإنجليز
3 - انحطاط الدرامة الإنجليزية بعد الحرب الكبرى وتعليل ذلك
4 - المسارح التجارية واضطرارها إلى النزول إلى مستوى الجماهير، وعدم محاولتها إطلاقاً أن ترتفع بهم حتى لا يختل ميزانها الاقتصادي
5 - نتائج الحرب الكبرى الاقتصادية والأخلاقية والفنية وأثر ذلك في المؤلف والنظارة، ومديري المسارح والإنتاج المسرحي وفي الذوق العام للشعب الإنجليزي
6 - موازنات طريفة بين الذوق الزراعي والذوق الصناعي والثقافة الزراعية والثقافة العمالية. . . أي بين الريف والمدن
7 - تطبيق هذه الموازنات على إنجلترا في عصر إليزابث وإنجلترا في القرن التاسع عشر إلى اليوم
8 - العوامل التي تتحكم في حياة المسرح بعد الحرب الكبرى غير العوامل التي أنتجت العبقريات الخالدة في عصر إليزابث
9 - نفقات الإخراج وإيجار المسارح وأجور الممثلين وأثمان الملابس والمناظر والإضاءة والدرامات مما يبهظ عاتق المديرين ويضطرهم إلى اعتبار العامل الاقتصادي قبل أي اعتبار فني آخر
10 - واجب الحكومة، وواجب الشعب، وواجب الفرق التمثيلية.(519/20)
وقد تناول الكلام عن مئات من الأسباب والنتائج غير هذه القضايا العشر حيث عرض الموضوع عرضاً عادلاً ووفاه حقه من البحث بطريقة تبدأ في نظر القارئ خطأ في خطأ، وشروداً عجيباً عن الموضوع الذي زعم لنا أنه بسبيله، ثم لا يفتأ أن يدخل بنا في الحقائق التي مهد لها بالمقدمات التي وهمنا أنها شاردة، فإذا هي تبدهنا، وإذا نحن منها في النور الساطع.
1 - ولقد تناول المستر أرفن تاريخ المسرح في أوربا قديماً وحديثاً، وقبل الحرب الكبرى ثم بعدها، فقرر ما سبق إلى تقريره مؤرخو الأدب المسرحي من ازدهار المسرح في الأمم التي تشتغل غالبية سكانها بالزراعة، حتى إذا بدأت هذه الغالبية تتحول إلى غالبية صناعية أخذت دورة الفلك تتبدل، وأخذ الانتكاس المسرحي يعمل عمله، ولا سيما في الأمم التي أخذت نفسها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بالصناعات الكبيرة التي ترمي إلى سرعة الإنتاج وكثرته والتي تخصص من أجل ذلك الأيدي العاملة آلافاً آلافاً لصنع جزء من ألف جزء من السلعة بحيث يقضي العامل كل حياته وهو لا يدري من الصناعة شيئاً غير عمل رأس دبوس أو خرم سَمِّ الخياط (عين الإبرة) أو تلوين جزء خاص من صورة من صور الشوكولاته بالأزرق أو الأحمر، أو عملية بعينها من مئات العمليات في مصنع للنسيج أو الغزل، أو تركيب مسمار بعينه في مدفع يتركب من مئات الأجزاء في مصنع للأسلحة المختلفة. . . إلى آخر ما هنالك من أمثال هذه الصناعات المركبة. . . ويقيم المستر إرفن الدليل على أن أمة تشتغل الكثرة الساحقة من أبنائها في مثل هذه التفاهات هي بلا شك أمة من الأميين الفقراء في ثقافتهم، الفقراء في أمزجتهم، الفقراء في صحتهم، الفقراء في تقديرهم للحياة الفنية، الفقراء في مساكنهم التي يتراكم فوقها الدخان ويزيدها الضباب واكفهرار الجو المستديم بلاء على بلاء. . . أما الأمة التي تكون غالبية أفرادها من الزراع - كاليونان القديمة وإنجلترا في عصر إليزابث، وفرنسا في القرن الثامن عشر، وروسيا وإيطاليا. فهي أمة ذات مزاج رفيع وذوق سامٍ وتقدير متئد للفنون بكل أنواعها وإن كانت غالبية سكانها أميين كذلك، لأن الزارع الأمي أوسع ثقافة من غير شك من الصانع الذي شدا هذا اللون الفقير من ألوان التعليم الإجباري حتى إذا بلغ سنا معينة وابتلعه المصنع، لم يبق في رأسه شيء مما شداه في المدرسة، خصوصاً بعد أن يصبح عبداً للآلهة(519/21)
على النحو الذي أسلفنا. . . أما لماذا يكون الزارع الأمي أوسع ثقافة من مثل هذا الصانع، فذاك لأنه نشأ على حسن الملاحظة في الريف الزراعي الجميل، فهو لا يحبس نفسه في المصنع طول حياته ليثقب إبرة أو ليصنع رأس دبوس، بل هو ينطلق حراً في فردوسه الشاسع الواسع يشق الأرض بمحراثه، ثم يخططها بالسليقة تخطيطاً يعجز عنه الهندسيون، ثم يقسمها أحواضاً ليس فيها حوض أوسع من حوض، ثم هو يلاحظ خروج الشطء من البذر، ويعرف متى ينبغي سقي الزرع، ويقوم بالحصاد حين يأتي الزرع أُكله، فيبدأ الدرس. . . إلى آخر هذه السلسلة من الأعمال التي يلاحق بعضها بعضاً. . . ثم هو يربي الماشية ويتخذ من ألبانها صناعات مختلفة، كما يربي الشاء والخنازير ويعرف من طباع الطير ما لا يعرف أهل المدن، بله الصناع، ثم هو يستمتع في كل ذلك بالصحة الكاملة والحرية المطلقة، ولا يعيش في جنته عبداً لآلة نجعل الصناع بعد قليل قطعة منها لا قيمة لها لأنها ربما استطاعت الاستغناء بنفسها عنهم. . . وليس المسرح وحده هو الذي يرقى في الأمم الزراعية وينحط في الأمم الصناعية، بل سائر الفنون والآداب، فها هو ذا فن النحت في مصر القديمة واليونان القديمة، وهو ذا فن التصوير فيهما وفي إيطاليا، وهاهو ذا الشعر اليوناني القديم والشعر الروماني القديم. . . شعر فرجيل وهوراس وأوفيد وكاتولوس، وهاهي ذي الفلسفة اليونانية القديمة، وفلاسفة النهضة الأوربية الذين نشأوا في حمى الأستقراطيين الزراعيين. . . وهاهي ذي روائع الفن القديم التي لا يسمو إليها شيء من شوائه النحت الحديث أو التصوير الحديث. ثم هاهي ذي موسيقا القرنين السابع عشر والثامن عشر الزراعيين. . . تلك الموسيقى العلوية التي نشتفي بها ونسكن إليها في القرن العشرين. . .
ومن أجمل ما قرره المستر إرفن هو إقبال الشعوب ذوي الثقافات الزراعية على المأساة المسرحية في حين لا تقبل الشعوب الصناعية إلا على الملهاة. . . والملهاة الخفيفة المرحة التي ترتكز على الشعبذة والنكات الطائرة التي تحلقها المناسبات إن لم تقحم هي نفسها في تلك المناسبات إقحاماً. . . والعجيب أن تروج المأساة في العصور الذهبية للأمم، كعصر بركليس العتيد وعصر إليزابث البهي، حتى إذا أخذت الشيخوخة تحل محل الفتوة في حياة الأمة من الأمم، أخذت المأساة تنزل عن عرشها، متخلية عنه للملهاة الخفيفة الطائشة التي(519/22)
تنخذ مادة تهريجها من شخصيات العظماء والمصلحين. . . فقد ارتفع المسرح اليوناني إلى الذروة في أعظم فترة من فترات القوة في التاريخ اليوناني الحافل بالأمجاد، وكانت المأساة هي مادة ذلك المسرح في هذا العهد، فلما أخذت الروح اليونانية تفسد، وتسرب الضعف إلى روح الشعب، بدأت الملهاة تنتعش، وأخذ أرستوفان يكتب ملاهيه الساخرة، متخذاً من يوريبيدز فخر المأساة اليونانية، ثم من غيره من المصلحين، مادة لتهريجاته. . . أما في عصر إليزابث فقد كتب شيكسبير وبن جونسون وأضرابهما عدداً كبيراً من المآسي والملاهي، إلا أن الشعب أقبل إقبالاً منقطع النظير على المآسي ولم يقبل ذاك الإقبال على الملاهي، مع أنها كانت من الملاهي الجميلة العميقة التي ترتفع درجات فوق ملاهي أرستوفان. . . وقد علل إرفن ذلك بأن روح الشعب الزراعي أقوى من روح الشعب الصناعي، وأعصابه أقوى من أعصابه، فهو يستطيع أن يتفرج بالآلام ويصبر على مشاهدتها تمثل أمامه ويتسلى بذلك جميعاً كما يحلو له أن يتأسى أيضاً، ويشعر خلال ذلك بأضعاف اللذة التي يشعر بها المتفرج بالملهاة. . . أما الشعب الصناعي فهو مركب من كثرة منهوكة الأعصاب مختلة التوازن الفكري، ومن قلة من أصحاب المصانع والتجار رفعتها المضاربات فجأة فوق أكداس من الثروة الطائلة ومن أوساط عجماء عادة، إن صح هذا التعبير. . . فالكثرة تريد الترويح الخفيف عن أعصابها المتعبة، وذلك إنما يكون بالملهاة ذات البهرج الزائف من مناظر الرقص والافتنان في الشعبذة، والنكات التي تداعب الأسماع وتثير أعصاب الضحك، كما تثير حركات (البهلوان) أعصاب الضحك عند الأطفال. أما القلة من الأغنياء فهي فقيرة بثقافتها وأسلوب حياتها عن أن تسيغ المأساة؛ وهي تحمل عقلية وضيعة لا تسمو كثيراً فوق عقلية الكثرة من الصناع. ولذلك فهي تشاطرها ميولها وأهواءها
أما في فرنسا، فقد أوشك تاريخها في المائة سنة الأخيرة أن يكون حلقة متصلة من الحروب المستمرة، ولذلك أصبحت الأعصاب الفرنسية أكثر تأثراً وأشد نصباً من غيرها، ولذلك أيضاً أصبح لا يمثل على المسرح الفرنسي إلا نوع واحد من الدرامات المتشاكلة التي تتناول موضوع الحب غير الشرعي. ولعل إرفن نسي أن يعلل ذلك بكثرة الأزواج الذين فقدوا في حروب الثورة وحروب نابليون وحرب السبعين والحرب الكبرى، مما كان سبباً(519/23)
في كثرة الأرامل وكثرة العوانس وقلة الأزواج. . . هذا وإن يكن الإخراج في المسرح الفرنسي قد بلغ الأوج الذي لم يبلغه قط في أيٍ من مسارح العالم
أما في ألمانيا فقد ظهرت جماعة (التعبيريين) التي تدعو إلى أن تكون الدرامة من مناظر كثيرة متعددة، لا من فصول، كما أصبحت الحال في السينما، على أنه لا في ألمانيا ولا في روسيا كان المسرح أحسن حالاً منه في إنجلترا أو فرنسا فقد خرجت ألمانيا المهزومة من الحرب كما خرجت روسيا بروح جديدة ونظام من الحكم جديد حور مرافق الدولة جميعاً وأخضعها لأغراضه واستعان بكل شيء، ولا سيما بالمسرح، في تثبيت دعائمه والوصول إلى أهدافه. والاشتراكية في ذاتها تنكر الفنون والآداب كما تجحد الأديان والأخلاق، وذاك أنها لا تعترف إلا بالعلم، وهي تعتبر هذه الأشياء آخر ما يشغل العالم به نفسه. كما تفسرها على أنها ألوان من الخبز واللحم حتى أن الألمان ليقولون في أمثالهم (يكون الناس كما يأكلون!). والاشتراكية في إنكارها للفنون والآداب والأديان والأخلاق لا تغض من قيمتها، ولكنها تتركها في مؤخرة برنامجها لتأتي من نفسها طائعة مختارة كما يدعون، وعلى كل فلم تنتج النازية كما لم تنتج الشيوعية بطلاً من أبطال الدرامة أو المسرح يعتد به، ولعل هذا راجع إلى أنهما لم تسلخا في التجربة أكثر من ربع قرن بعد. وهاهي ذي تلك الحرب العالمية القائمة قد أخذت تحصد الأرواح الفينانة التي أبقت عليها الحرب السالفة، كما أخذت تضاعف آلام الإنسانية وأحزانها في كل مكان، ولم تتوحش هذه الحرب بعد كما توحشت في الأعوام الثلاثة الماضية بين النازية والشيوعية. أليس كل من النظامين إنما يؤمن بالعلم وحده ويريد أن تأتيه الفنون والآداب والأخلاق والأديان طائعة مختارة؟
(يتبع)
دريني خشبة(519/24)
عبد الحميد الديب
شاعر البؤس والفاقة والحرمان
للأستاذ علي متولي صلاح
من أراد أن يلتمس حظ الأديب في الشرق، وما يلاحقه من فاقة وحرمان، وما تضطرب به حياته من أوجاع وآلام، فيلتمس ذلك كله في حياة عبد الحميد الديب
ذلك شاعر قطع حياته غريباً عن هذا العالم الذي يعيش الناس فيه، لم يكن يدري أنه حي، لأنه لا يُرزق والأحياء يرزقون!
صدفتْ عنه النعم جميعاً، وحلّتْ به النقم جميعاً. عاش لا يعرف السكن، ولا يعرف الأهل، ولا يعرف الوطن
حاول مرةً أن يتخذ لنفسه سكناً كما يفعل الناس، وأن يعيش مثلهم ذلك العيش الرتيب المريح، فجمع كل عزمه، واستأجر غرفة في أحد الأحياء الوطنية بالقاهرة، وأقام بها أياماً يفترش أرضها ويلتحف سماها، ثم تأمَّل حياته فيها، ومُقامه بها فقال:
أراني بها كلَّ الأثاث فمعطفي ... وساد لرأسي أو وقاءٌ من البرد!
وهجرها إلى غير رجعة وعاد إلى ضلاله وتيهه!
عاش هذا الفنان البائس لا يعرف المال إلا من فضل ما يمنحه إخوانه من دراهم معدودات يسد بها بعض رمقه، ويقضي بها بعض لبانته، ولكنها لا تكاد تفي له بشيء، فعاش على الجوع والطوى، إنْ أصاب طعام يومه ففي ذمة الحظ والمصادفة طعام غده، وأخيراً جداً أرادوا به خيراً، فوظفوه في وزارة الشؤون الاجتماعية براتب هو جنيهات خمسة! فقبل الوظيفة راضياً شاكراً، وذهب إلى (الديوان) نشوان فرحاً، حامداً الله على نعمته، والتمس كرسياً يجلس اليه، ومكتباً يعمل عليه فلم يجد، فأرسل إلى الوزير يقول:
بالأمس كنت مشرّداً أهليًّا ... واليوم صرت مشرداً رسميَّا!
وبعد ثلاثة أشهر من توليه هذه الوظيفة، لفظ الشاعر آخر أنفاسه، وقضتْ عليه علة طارئة لم تجد العلاج النافع
كانت هذه المحن التي ألمت بهذا الشاعر، وطاردته طول حياته لا يكاد يفر منها إلا إليها، وهذه النكبات التي انصبت على رأسه لا يعرف عنها منصرفاً. كان كل ذلك مُلهباً لنفسه،(519/25)
مثيراً لحفيظته. رأى الحرمان الشامل يحيط به ويُلازمه فحقد على المجتمع ووجد عليه، وهو الأديب الفنان ذو الحس المرهف، واستحال الشاعر جحيماً من العداوة والكره والبغضاء للناس، تغنّى آلامه وأوجاعه بالبليغ الجزل مما عرفت العربية من شعر الشكوى والأنين، كنتُ - وأنا بعدُ في صدر الشباب - أغشى مجالس الأدباء والشعراء في العاصمة فما رأيتُ - علم الله - مصدوراً يُنفس عن كربته إلا بشعر عبد الحميد الديب، ولا مُؤلماً يشكو آلامه، ولا متعباً يشكو أوجاعه إلا بشعر عبد الحميد الديب وهو هو النكرة المجهول المحروم المقصيُّ عن الناس بفقره وخصاصته
لك الله أيها الأديب، ولكم الله أيها الأدباء، أنتم بحقٍ جنود هذا المجتمع المجهولون، تحترقون أيها الأدباء لتنيروا للناس، وتجوعون أيها الأدباء لتشبعوا الناس، وتعروْن أيها الأدباء ليكتسي الناس، وأنتم - بعد - لا تنالون منهم جزاءً ولا شكوراً
شدَّ ما مَنَّى غروراً نفسه ... تاجر الآداب في أن يربحا!
أما أنت يا عبد الحميد، فهيات أملك وصفك الحق للناس - وقلَّ فيهم من يعرفك - هيهات يا عبد الحميد أن أعطيهم عنك صورة صادقة صحيحة سليمة لنفسك ولمتاعبك وشقائك، فلأعرض عليهم بعض شعرك ليعرفوا يا عبد الحميد من أنت
1 - دمع المنازل
بِوَاد كدار الخلد برِّ المنازل ... حييتُ فمالي لا أفوز بنائل؟
أقاسي به في ليله ونهاره ... معيشة أفَّاق ووحدة ثاكل
وكم سألوني كيف تشقى مع الحجى ... وفي شعرك الهامي عذاب المناهل؟
فقلت بهذا الشعر بؤسي وشقوتي ... كما قتل الصدَّاحَ زهر الخمائل
فلا تسألوني عن دمائي وسفكها ... سلوا بدمي الغالي جريمة قاتلي
فكم مرَّت النعمى عليَّ بسيمة ... فأبعدني عنها وضيع الوسائل
ورفض لئيم كاشح القلب حاقد ... منالي أرزاقي بهمة عامل
بكت بلدتي حزناً عليّ وحسرةً ... وأحزن ما أبصرت دمع المنازل
وكم ندبتني في حماها ضريرةٌ ... تنوح بصوت خافت الصوت ذابل
وشيخ أبيَّ الدمع إلا بمحنتي ... وفي ثوبه مجد الكرام الأماثل(519/26)
هما والداي الصالحان: كلاهما ... على شدة البأساء موئل سائل
فيا ربِّ إما نعمة من حصافتي ... وإما حياةٌ في حماقة جاهل!!
2 - الطلل الباكي
لو أستطيع البكا يأيها الطللُ ... بكيت حتى شكت من دمعي المقل
أرى الحوادث ذؤباناً مقذفةً ... عليَّ دون الورى تعدو وتقتتل
فكم تصوَّح عودي بعد نضرته ... وكم خبا في دياجي عيشي الأمل
وكم دعت لي أمي وهي باكيةٌ ... وكم دعا لي أبي يقظان يبتهل
وأجلس الليل في صحبي أسامرهم ... وكلهم بمجالي رقتي حفل
حتى إذا سلموا للعود وانصرفوا ... سريت جوعان يفرى عزمي الطلل
جوعان! يا محنةً أربت على جلدي ... كأن ليلي بيوم البعث متَّصل
كأن حظي رحيق الدهر يشربها ... بكراً معتقة فالدهر بي ثمل
فإن تطلبت عيشي مت من كمد ... وإن تطلبت حيني يبعد الأجل
3 - البائس
أذله الدهر لا مال ولا سكن ... فتى تزيد على أنفاسه المحن
إذا سعى فجميع الأرض قبلته ... وإن أقام فلا أهل ولا وطن
مهاجر بين أقطار الأسى أبداً ... كأنه بيد الأرزاء مرتهن
كأنه حكمة المجنون يرسلها ... من غير قصد فلا تصغي لها أذن
ثيابه كأمانيه ممزقةٌ ... كأنها وهو حي فوقه كفن
هو الهدى صرفتكم عنه محنته ... إن العزيز مهين حين يمتحن
ألا فصونوه من عزائه كرماً ... ولا تخلوه يوري شره الزمن
فرب عزم يثير البؤس فيصله ... فينبري لسبيل الشر لا يهن
4 - مصرع الحظ
حظي ومصرعه في لين أخلاقي ... وفيض عطفي على قومي وإشفاقي
ومن حبته الطلى أخلاف نشوتها ... عدا على الكأس طوراً أو على الساقي(519/27)
بين النجوم أناس قد رفعتهمو ... إلى السماء فسدُّوا باب أرزاقي
وكنت نُوح سفين أنشئت حرماً ... للعالمين فجازوني بإغراق
وكم وقيت الردى من بتُّ مضطرباً ... في أسره المر لم أظفر بإطلاق
يا أمة جهلتني وهي عالمةٌ ... أن الكواكب من نوري وإشراقي
أعيش فيكم بلا أهل ولا وطن ... كعيش منتجع المعروف أفاق
وليس لي من حبيب في ربوعكمو ... إلا الحبيبين: أقلامي وأوراقي
ريشت لحظي سهام من نميمتكم ... فصارعتني ومالي دونها واق
لم أدر ماذا طعمتم في موائدكم ... لحم الذبيحة أم لحمي وأخلاقي
قالوا: غويٌّ شقيٌّ قلت يا عجبا ... قد امتُحنت بكفار وفساق
وما تألمت من خطب ضحكت له ... كما تألمت من خطبي بعشاقي
أنا على القرب منهم كل متعتهم ... وإن نأيت حبوني فيض أشواقي
فما لهم قد أشاعوا كل مخجلة ... عني، وقد أعلنوا بؤسي بأبواق
كصاحب الطير لا ينفك يسجنه ... سجنين من قفص مضن وأطواق
حظي هو الأيكة الخرساء ذابلة ... هو النسيم سموحاً غير خفاق
هو السحاب جهاماً والندى أسفاً ... هو الضياء لهيباً حين إحراقي
كأنه أذرع شلاء راحتها ... أو أنه أعين من غير أحداق
لا تسألوني عن بؤسي وعلته ... سلوا به الحظ ميتاً فوق أعناق!
والسلام عليك يا صديقي ما انبعث أنين، وصرخت شكوى والتهبت صدور.
(المنصورة)
علي متولي صالح(519/28)
3 - الأحلام
للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون
بقلم الأستاذ ألبير نادر
التذكر!
في حالة اليقظة تمر بنا ذكريات تظهر وتغيب متطلبة انتباهنا على التوالي وعلى الدوام. ولكنها ذكريات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحالتنا وعملنا. إني أتذكر في هذه اللحظة كتاب المركيز درني في الأحلام لأني أبحث في موضوع الحلم وأنا الآن في معهد الدراسات النفسية ومحيطي ومشاغلي وما أراه وما أنا قائم به من عمل، كل هذا يوجه نشاط ذاكرتي نحو اتجاه معين. إن الذكريات التي نناجيها وقت اليقظة، مهما تبدو غريبة عن مشاغلنا الوقتية فإنها تمت إليها دائماً بصلة ما. ما هي وظيفة الذاكرة عند الحيوان؟ هي أن تُذكره في كل مناسبة العواقب النافعة أو المضرة التي سبق أن تلت حوادث متشابهة للحوادث الحاضرة، وتخبره عندئذ بما يجب عليه عمله. - عند الإنسان - اعترف بأن الذاكرة تكون في حالة تحرر عن العمل أكثر مما هو الحال عند الحيوان؛ ولكنها لا تزال مرتبطة بالعمل، فإن ذكرياتنا في وقت ما تكون كلاً متماسكا. قل إذا شئت هرماً قمته في حركة مستمرة ومتفقة مع وقتنا الحاضر وتغوص معه في وقتنا المستقبل. ولكن خَلف الذكريات التي ترتكز هكذا على مشاغلنا الحاضرة وتظهر بواسطتها، توجد ذكريات أخرى - آلاف وآلاف أخرى - موجودة في الأسفل، خلف المسرح المضاء بواسطة الوجدان. أجل أظن أن ماضينا موجود هناك محفوظ حتى أقل جزء منه، وأننا لا ننسى شيئاً، وأن كل ما أدركناه، وكل ما فكرنا فيه وأردناه منذ أول فجر وجداننا فإنه يدوم أبداً. ولكن الذكريات التي تحافظ عليها ذاكرتي هكذا في أظلم أعماقها موجودة هناك على شكل أشباح خفية - ربما تتشوق إلى النور ولكنها لا تحاول أن تصعد نحوه فهي تعرف أن هذا من المستحيل - وإني أنا الكائن الحي الفعال لديَّ مشاغل أخرى تنهاني عنها. ولكن لنفرض أنه في وقت ما أكف عن حالتي الحاضرة، عن العمل الملح أي عن كل ما كان يحصر في نقطة واحدة كل نشاط ذاكرتي. لنفرض باختصار أني نائم - فحينئذ تتحرك تلك الذكريات الثابتة عندما(519/29)
تشعر بأني نزعت العائق ورفعت الحاجز الذي كان يجعلها ملازمة قاع الوجدان، فتنهض وتهب وتضطرب وتقوم برقص قبري عظيم في ظلمات الوجدان - وجميعها تتجه نحو الباب الذي انفتح، تريد أن تمر كلها ولكنها لا تقدر لكثرة عددها. فما هي الذكريات المختارة من هذا الحشد المدعو؟ أنكم تدركونها بسهولة. منذ لحظة، عندما كنت في حالة اليقظة، كنت أختار فقط الذكريات التي تمت بصلة قرابة إلى الحالة الحاضرة، أعني مداركي الحالية. وإنها الآن لأشكال أكثر إيهاماً ترتسم أمام عينيَّ وأصوات أقل وضوحاً تؤثر في أذنيَّ؛ ولمس أقل وضوحاً مبعثر على طول مساحة جسمي ولكنها أيضاً احساسات أكثر عدداً تأتيني من داخل أعضائي. ولكن من بين هذه الذكريات الشبحية التي تحاول أن تكتسب ثقلاً بواسطة اللون والرنين والمادية، فقط تظهر تلك التي يمكنها أن تمتثل الغبار الملون الذي أشاهده، والأصوات الخارجية والداخلية التي أسمعها الخ. والتي تتفق أيضاً والحالة العاطفية العامة التي تكونها التأثيرات العضوية، ومتى حصلت هذه الصلة بين التذكر والإحساس ينتج الحلم.
في صفحة شعرية من صفحات كتاب التساعيات يشرح لنا الفيلسوف أفلوطين - مترجم أفلاطون ومتممه - كيف يولد الناس وينالون الحياة - يقول: تبدأ الطبيعة في صنع الأجسام الحية ولكنها تبدأ فقط، وإذا تركت الطبيعة وشأنها فلا يمكنها أن تصل إلى النهاية. ومن جهة أخرى تسكن الأرواح في عالم المُثل حيث لا يمكنها أن تعمل، وهي لا تفكر في العمل فترفرف مرتفعة عن الزمن خارجة عن الفضاء - ولكن بين الأجسام ما يكون أكثر ملاءمة بفضل أشكالها لأغراض هذه الأرواح أو تلك - ومن بين الأرواح ما يجد نفسه أكثر ملاءمة ليحل في هذه الأجسام أو تلك - والجسم - وهو لا يخرج حياً تماماً من بين أيدي الطبيعة - يرتفع نحو الروح التي تهبه الحياة الكاملة. والروح تنظر إلى الجسم الذي تظن أنها ترى فيه صورتها فتنجذب وتنخدع كأنها أمام مرآة وتترك نفسها تندفع نحوه وتنحني وتسقط - وسقوطها هو ابتداء الحياة - إني أشبه الذكريات التي تنتظر في ثنايا الوجدان الخفية بتلك الأرواح المنفصلة - وهكذا احساساتنا الليلية فإنها تشبه هذه الأجسام في بداية تكوينها. الإحساس حار ملون رنان، وتقريباً هي كذلك ولكنه غير مستقر - والتذكر واضح معين ولكنه فارغ وبدون حياة. يبحث الإحساس عن شكل يثبت فيه خطوطه المتقلبة.(519/30)
والتذكر يبحث عن مادة تملأه وتعطيه ثقلاً حتى يتحقق فيجذب الواحد الآخر، والتذكر الشبحي يتخذ شكلاً مادياً في الإحساس الذي يقدم له الدم واللحم ويصير كائناً يعيش عيشة خاصة أي حلماً
فتولد الحلم ليس بأمر غريب. إن أحلامنا تتكون تقريباً مثل ما تتكون رؤانا للعالم الواقعي. إن آلية العملية واحدة بالإجمال. فما نراه من أشياء أمام أعيننا، وما نسمعه من كلام أمام أذننا، ما هو إلا الشيء القليل بالنسبة إلى ما تضيفه الذاكرة. عندما تطالع جريدة أو تتصفح كتاباً أتعتقد أنك ترى فعلاً كل حرف وكل كلمة أو كل كلمة ضمن كل جملة؟ إذا كان الأمر كذلك فلا يمكنك أن تطالع الكثير في جريدتك - في الحقيقة أنت لا ترى من الكلمة أو من الجملة سوى بعض الأحرف أو بعض العلامات المميزة، وهو ما يلزم حتى تخمن الباقي. يبدو لك أنك ترى كل الباقي ولكنك في الواقع تتوهمه - هناك اختبارات عديدة ومتفقة لا تترك أي مجال للشك في هذا الصدد
ولا أذكر هنا سوى اختبارات جلوشيدر وموللر: إنهما كتبا أو طبعا صيغة دارجة عادية وهي مثلاً (ممنوع الدخول بتاتاً) أو (مقدمة الطبعة الرابعة) الخ. ولكنهما أخطآ بتبديل الحروف أو بحذف بعضها. ثم يوضع الشخص الذي سيعمل بواسطته الاختبار أمام هذه الصيغة في الظلام، وهو يجهل طبعاً ما كتب على اللوحة أمامه. ثم تضاء هذه الصيغة المكتوبة مدة قصيرة من الزمن حتى لا يتمكن المشاهد لها من أن يرى جميع الحروف. وفعلاً كانا قد توصلا إلى معرفة الوقت اللازم لمشاهدة حرف من حروف الأبجدية وذلك عن طريق التجربة. فمن السهل إذاً عمل الترتيب اللازم حتى لا يتمكن المشاهد من أن يميز أكثر من ثمانية حروف أو عشرة مثلاً من الثلاثين أو الأربعين حرفاً التي تكوِّن الصيغة. ففي غالب الأحيان يقرأها بدون صعوبة، ولكن ليست هذه النقطة هي المهمة في الاختبار - إذا سألنا المشاهد ما هي الحروف التي شاهدها بكل تأكيد، فالحروف التي يذكرها يجوز أن تكون موجودة فعلاً ولكنه سيذكر أيضاً حروفا كانت ناقصة أو استبدلت بحروف أخرى. هكذا يبدو له أنه شاهد الحروف الناقصة ترتسم في الضوء لأن الحس يتطلب ذلك. فالحروف التي شاهدها فعلاً ساعدت على تذكره شيئاً ما. ووجدت الذاكرة الباطنية مرة أخرى الصيغة التي بدأت تحققها هذه الحروف فتبعث بها التذكر إلى الخارج(519/31)
على شكل وهمي. فالمشاهد رأى هذه الذكرى بقدر ما رأى وأكثر ما رأى الصيغة المكتوبة نفسها. فالمطالعة العادية باختصار عمل تخمين ولكنها ليست مجرد تخمين. إنها انبعاث ذكريات إلى الخارج أي مجرد تذكر إدراكات غير واقعية تنتهز فرصة تحقيق جزئي تصادفه هنا وهناك حتى تتحقق بأكملها
هكذا في حالة اليقظة تتطلب معرفتنا لشيء ما عملية مشابهة للعملية التي نقوم بها في الحلم. إننا لا ندرك من الشيء إلا ابتداءه؛ وهذا الابتداء يتبعه تذكر الشيء بأكمله. والذكرى الكاملة الكامنة في عقلنا والتي كانت في الباطن مجرد نكرة تنتهز هذه الفرصة لتندفع إلى الخارج. ونحن عندما نرى الشيء نتوهم هذا النوع من الوهم المحاط بحاجز واقعي. ويمكننا أن نقول الكثير في تصرف الذاكرة أثناء هذه العملية. لا يجب أن نعتقد بأن الذكريات الموجودة في ثنايا الذاكرة تبقى فيها ساكتة جامدة وغير مكترثة، لا بل إنها صاغية وفي انتظار. إذا كان عقلنا مشغولا بعض الانشغال وفتحنا جريدة يقع بصرنا صدفة على كلمة تتفق تماماً ومشغلتنا؟ لكن ترى الجملة عارية عن كل معنى وسرعان ما نلاحظ أن الكلمة التي قرأناها لم تكن الكلمة المطبوعة. فقط توجد بينهما بعض العلامات المشتركة أو تشابه ضئيل بين شكليهما. فالفكرة التي كانت تشغل بالنا أيقظت في خفايا شعورنا جميع الصور المتجانسة وجميع الذكريات عن الكلمات المتشابهة، وعللتها، بنوع ما، بالعودة إلى الوجدان، والذكرى التي تعود إلى حقل الوجدان هي التي بدأ في تحقيقها إدراك وقتي لشكل من أشكال الكلمة
هذه هي آلية الإدراك الحقيقي وآلية الحلم - يوجد في الحالتين تأثير حقيقي على أعضاء الحس من جهة ومن جهة أخرى توجد ذكريات تنضم إلى التأثير وتنتفع بحيويته لكي تعود إلى الحياة
(يتبع)
ألبير نادر(519/32)
البريد الأدبي
روسيا والثقافة العربية
روت وكالة الأنباء العربية أن الأستاذ أجناني كراشوفسكي - العضو في المجمع العلمي، ومن أنصار العرب المعدودين - تلا بياناً عن الجهود التي بذلها أنصار الشؤون العربية، أمام معهد اللغات لشعوب الجمهوريات السوفيتية في موسكو، متحدثاً فيه عن مبلغ العناية التي وجهت إلى دراسة لغة العرب وثقافتهم وتاريخهم، مسترعياً أنظار المستشرقين الروسيين إليها قائلاً: إنها أساس الثقافة الإسلامية القديمة الفنية التي تعتنقها شعوب كثيرة تستوطن آسيا الوسطى كالقوزاق والتتر الذين يؤلفون جزءاً من جامعة الأمم السوفيتية وإن آثاراً عديدة عن الثقافة العربية تقوم في آسيا السوفيتية والقوقاز. وما زال بعض سكان داغستان وشيستو ينجوشتيا يتكلمون بلغة عربية قديمة إلى جانب لغتهم الأصلية، ويستخدمونها في التخاطب والكتابة، حتى في نظم الشعر وفق الأوزان العربية القديمة. ويعتبر قسم أنصار العربية في معهد الدراسات الشرقية وفي جمعية أنصار العربية التي تضم بين أعضائها علماء من كافة أنحاء روسيا دليلاً على الاهتمام الكبير الذي تبديه روسيا بشأن مسائل الثقافة العربية. ورغماً من ظروف الحرب لا يزال العمل مستمراً في تنفيذ مشروعات عربية أدبية وتاريخية. وقد تمت في الأعوام الأخيرة أعمال كثيرة بفضل دراسة الموضوعات العربية باعتبارها من الموارد التي يستقي منها تاريخ الشعوب الروسية
ولم تكن الحرب عائقاً كبيراً لتطور هذه الأبحاث العربية، بل اقتصر أثرها على إرجاء صدور بعض المؤلفات التي تم وضعها وبخاصة في ليننجراد؛ ولم يفقد أو يضع منها أي مؤلف برغم أخطار الحياة ومتاعبها في هذه المدينة وقت الحصار الذي كان مضروباً حولها، فقد حفظت هذه المؤلفات جميعاً بعناية كبرى
ولا يزال يواصل أنصار العربية في روسيا عملهم في هذه الأبحاث
مشكلة النظافة في مصر
أعجبني وأثار تفكيري استطراد الأستاذ الجليل أحمد أمين بك إلى مسألة - النظافة عند المصريين - وهو يسوق حديث المرحوم الشيخ رفاعة الطهطاوي في إعجابه بنظافة(519/33)
(الفرنساوية) وقد امتطى ظهر سفينتهم إلى أوربا، واستنكاره لقذارة المصريين وهو يعترف بها في حديثه على مضض
والحق أن للمصريين شهرة بعيدة بقلة النظافة لا يفيدنا في شيء أن ننكرها أو نتصام دون سماعها. وقد رد الأستاذ ذلك إلى سببين: أولهما (الفقر المنتشر والبؤس الشائع) اللذان يحولان بين عامة الشعب واستكمال وسائل نظافته؛ وثانيهما تقصير الحكومة في الدعوة الصحية و (عدم تدخل أولي الأمر في نظافة الشعب وتعويده أن يقوم النظافة قيمتها الحقة)
والواقع أن كلا السببين ينقصه الوجاهة، ويعوزه شيء من صدق التأييد. فالفقر والبؤس لا يغرسان عادة القذارة في نفوس طبعت على حب النظافة، وليس صحيحاً هذا الارتباط الذي نتوهمه بين الفقر والقذارة أو بين الغنى والطهارة!
بل إن الأستاذ لينقض رأيه هذا في نفس الكلمة حين يقول: (ومن نعم الله أن تكاليف النظافة رخيصة إذا وجدت نفوساً تأنف القذر) أما الحديث عن مهمة الحكومة في تنظيف الشعب فحديث عجيب، حتى لكأننا - نحن أفراد هذه الرعية - من طينة، ورجال حكومتنا من طينة أخرى
وهب الأمر كذلك، فما قيمة الشعرة الواحدة البيضاء في أديم الثور الأسود؟ ما أثر دعوة الحكومة إلى النظافة إذا صح أن نرجع بالقذارة إلى أسباب طبيعية أقوى من أن تخضع للإرشاد أو تتأثر بتزجية المقال؟
ولتوضيح هذا نقول: إن جذور القذارة عندنا أعمق مما يبدو في كلام الأستاذ؛ ومنبعها - فيما أرى - يرتد إلى أسباب طبيعية ثابتة قوامها البيئة والمهنة، أكثر مما يرتد إلى هذين السببين المعارضين اللذين ساقهما خلال حديثه
فطبيعة الطقس في مصر، بين شدة حرٍ وندرة مطر، مما يلوث الجو ويوبئه، ويهدم سياج النظافة، بل ويضاعف المشقة على من يتحرى ذلك في ملبسه أو في جسمه، بله المسكن وسائر الأدوات والمرافق الأخرى. ولو راقبنا الأجنبي عندنا في صيف أو شتاء لرأيناه راضياً لنفسه بمستوى من النظافة يقل عما يألفه في بلده، وإلا فهو مرغم على بذل مجهود أكبر، ليصل إلى الدرجة التي كان يبلغها هنالك بأيسر المجهود
هذا ولمهنة المصريين الطبيعية أثر لا يقل عما ذكرناه وضوحاً؛ فالفلاحة لا تترك لدى(519/34)
الزارع المخلص مجالاً للتحرز من أوساخ الأرض. وليس صميما في مصريته من يكره الخوض في الأوحال أو يضيق ذرعاً بهذا الطمي العالق بماء النيل، وإنه لسبب حياتنا ونعمتنا، بل سبب الرزق الذي يتحدر من أيدينا إلى لهوات شعوب وشعوب
وإن قولتنا المشهورة - أرض مصر من ذهب - لحقيقة صادقة لا يعلق بها مجاز، أو يقلل من تصريحها كناية. فليس بضائر فلاحنا أن يوشي ثوبه بالطين والغبار، إذا توشت ثياب غيره بخيوط الذهب، وتزين صدره بقلائد النضار
وأخلص من كل هذا إلى تقرير أمرين: الأول أن النظافة - كخلق أو عادة أو سمها كيف شئت - تخضع في كل أمة إلى ظروف من بيئتها ومن طبيعة عملها خضوعاً تقف معه عند مقاييس خاصة، وتضطرب بسببه في مجال محدود وأفق معين، يختلفان ضيقاً وسعة عن مثلهما في الأمم الأخرى. والثاني: أن إهمال الحكومة وتفشي الفقر. . . هما داعيان - فقط - من دواعي استدامة هذه الحال التي نشاهدها من قذارة أغلب العامة من أهل مصر؛ ولكنهما ليسا العلة الأساسية في وجود هذه الحالة التي قد ترتقي في بعض الأحيان إلى مستوى (العادة) المتأصلة؛ ولكنها تزول مع ذلك - في سهولة ويسر بالغين - إذا نحن هيأنا لأقذر من نختار من المصريين شيئين اثنين فقط: هما الجو اللطيف، والعمل النظيف
(جرحا)
محمود عزت عرفة
ديوان زهر وخمر
إن من عرف ديوان الملاح التائه فقد عرف الأستاذ علي محمود طه على حقيقته: ذلك لأن روح القلق المشوب بالمرح تغلب على شعر صاحب الجندول حتى لتكاد تجعل منه نغمة واحدة تجمع بين الحيرة والفرحة، وهذه الروح التي تعبِّر أصدق تعبير عن طابع الحياة العام، يلمسها قارئ ديوان (زهر وخمر) في سهولة ويسر؛ فإن ثمة موجة هائلة تغمر بفيضها كل شيء في الوجود، عند صاحب هذا الديوان؛ إذ ينظر المرء فيرى المجداف يمرح، والزورق قد رنحته الأمواج، والأضواء ترقص مع الموج، والشعاع يمرح مع الأمواج الخليعة. . . إلى آخر تلك التعبيرات التي تضفي على كل شيء روحاً من البهجة(519/35)
والمرح. . . وما عسى أن يكون هذا إلا صدى لروح الملاح التائه الذي يستعذب القلق والحيرة، ويجد فيهما الفرح والبهجة؟
إن الأستاذ (علي محمود طه) ليصور لنا في ديوانه الجديد روح الملاح التائه، فيعرض لنا في قصيدته (سارية الفجر) صورة جميلة لغادة فاتنة عبرت به في الصباح الباكر؛ وهنا نراه ينظر إليها نظرة الملاح التائه أيضاً، إذ ينبئنا بأنها عرضت له عند الفجر حتى لقد عجب لهذه الغادة وقال:
هذه الساعة تسعى امرأةٌ ... حين لم يخفق جناح الطائر!
وهو لا يقف عند هذا الوصف، وإنما يضيف إليه وصفاً جديداً تكتمل به صورة الحيرة والقلق، فيصور تلك الغادة وقد أخذت تقطع الإفريز كالأسير الهارب من الأسر، وهي تتقي الأعين أن تبصرها، وتلتفت إلى العابرين التفات الحائر، ولا تعبأ بالمطر الذي يصيبها والبرد الذي يلفحها. . . الخ. وينظر المرء مرة أخرى فلا يرى في هذه الصورة غير طيف لتلك الصور التي عرضت لصاحب (الجندول) حين كان يلتقي بغادات أوربا الجميلات فلا يستطيع أن يظفر منهن بغير اللفتة العاجلة والنظرة العابرة! وهل كان الحب عند الملاح التائه غير هذا القلق المغَلَّف بالمرح والبهجة؟
إني لأكاد أجزم بأن الحيرة والمرح هما كل شيء في (شاعرية) الأستاذ علي محمود طه؛ ومن أجل ذلك فإننا نراه يعنف حيناً في تصوير موقف الإنسان أمام الطبيعة، ونراه يفرط حيناً آخر في تصوير متعة الإنسان التي يجدها في الطبيعة. وهو في كلتا الحالتين يعبر عن روح الملاح التائه التي قد يطغي عليها القلق حيناً فتعنف وتشتد، ولكنها لا تلبث أن تعود إلى مرحها فتطرب وتبتهج. والظاهر أن المرح أغلب على تلك الروح، فإن الحيرة تمتزج بالحب فتذهب مرارتها في عذوبته. والحب عند الملاح التائه ينزع إلى أن يصبغ كل شيء في الوجود بصبغته الجميلة المستحبة. وهل ننسى أن صاحب الجندول هو الذي يقول:
كل نجم مهجة تهفو ... وعينٌ لا تنامْ
وشعاع البدر معش ... وق به جُنَّ الغمامْ
يا حبيبي كل عَيْشٍ ... ما خلا الحبَّ حرامْ(519/36)
أجل! هذا ما يقوله صاحب (زهر وخمر)؛ ومن قبله قال جيته شاعر الألمان: (ليس ثمة نعمة في هذه الحياة، أعظم من أن يَعشِق المرء ويُعْشَق)
زكريا إبراهيم
محمد بن عبد الوهاب
أصدر صديقنا الأستاذ الفاضل أحمد عبد الغفور العطار الأديب الشاعر الحجازي المعروف كتابه الجديد عن هذا الزعيم العربي المصلح، فسد في كتب التراجم فراغاً ملموساً وأسدى به إلى الزعيم المسلم الصادق يداً سيذكرها له المعجبون بمحمد بن عبد الوهاب في جميع الآفاق. والكتاب برغم المآخذ القليلة التي يمكن تداركها في الطبعة الثانية هو مصدر نافع يفيد كل من يريد الإلمام بالمصلح النجدي كما يلقي الضوء على هذه الشخصية العربية التي جددت سنة الرسول الكريم ودعت إلى العود بدينه إلى الفطرة التي صدر عنها ويشر بها، واتخذ من رسول الله أسوته الحسنة في كل ما تجشمه بسبيلها. ونحن في مصر نرحب كل الترحيب بالكتاب الجديد ونتمنى له الذيوع والانتشار فإنه لهما أهل
دريني خشبة(519/37)
العدد 520 - بتاريخ: 21 - 06 - 1943(/)
12 - دفاع عن البلاغة
4 - الأسلوب
أما قول إميل زولا: (وهل نستطيع أن نتبين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرأهما مترجمين) فمرماه أن روائع اليونان والرومان لم تخلد على الدهر إلا بمعانيها المبتكرة، ووقائعها المشوقة، وعواطفها الصادقة، وشخوصها الحية، بدليل أننا نقرأها اليوم بمعانيها لا بمبانيها، وبفكرَها لا بصورها. فلو كان خلودها منوطاً بدقة الصياغة وجودة الصناعة لما عاشت بالترجمة. ثم يترتب على ذلك خطأ القول باتحاد الصور والأفكار في الأسلوب؛ لأننا حين نقرأ الإلياذة مثلاً في الفرنسية أو في العربية لا نقرأ منها غير الموضوع
والحق الذي تؤيده الدلائل أن جمال الأسلوب وحده هو الذي ضمن الخلود لهذه الروائع؛ فإن الثابت بالسند المتصل والخبر المتواتر أنها كانت آية عصرها في البلاغة، ولولا ذلك ما روتها الرواة ولا ترجمتها التراجم. واللفظ كما يقول الجاحظ: (إذا لم يكن رائعاً والمعنى بارعاً لم تصغ له الأسماع، ولم تحفظه النفوس، ولم تنطق به الأفواه، ولم يخلد في الكتب)
والترجمة الصحيحة لا تنقل أفكار الكاتب أو الشاعر وحدها عن الاصل؛ إنما تنقل مع ذلك إشراق روحه، وسمو إلهامه، ولطف شعوره، ونمط تفكيره، وخصائص أسلوبه. فلو أن ترجماناً ضعيف العربية من تراجم المحاكم حدثته نفسه أن يعرض لإحدى روائع شكسبير فنقلها نقلاً لفظياً بأسلوبه الذي يترجم به عُروض الأحوال أو أصول الاحكام، فهل تقول إذا استطعت أن تقرأ ما كتب إنك قرأت شكسبير، أم ترى أنك قرأت ألفاظاً كالعظام المعروقة المبعثرة لا تمثل من أي حيوان معنى من معانيه ولا صورة من صوره؟ إن بلاغة التوراة والإنجيل في العبرية لا مساغ للشك فيها، ولكنك تقرأهما في العربية فلا تجد أثراً لهذه البلاغة؛ ذلك لأن الذين ترجموها إلى لغة القرآن لم يكن لهم بآدابها علم، فوضعوا لفظاً مكان لفظ، ولم يضعوا أسلوباً مكان أسلوب؛ فجاءت الترجمة كما ترى موضوعية عجماء لا تشبه لغة من لغات الناس في لون ولا طعم ولا شكل
فأنت ترى أن الترجمة التي يسوقونها دليلاً على أن الروائع الأدبية تحيا بصدق موضوعها، وأن الأفكار تنفصل عن الصور وتنتقل بدونها، هي نفسها الدليل الناهض على(520/1)
أن الموضوع لا تتحرك الهمم لنقله، إلا إذا راع النفوس بشكله، وأن الترجمة لا تكون صحيحة إلا إذا نقل المترجم أسلوب الكاتب أو استبدل به مثله
إذا حَلِيَ في صدرك بعد ذلك أن تذهب إلى ما ذهبتُ إليه من أن تجويد الأسلوب يتضمن تجويد الفكرة ويضمن خلودها؛ فدعك من أولئك الذين عادَوا الكمال الفني بطبائعهم فآثروا جانب التسمح والتجوز والمجازفة والمعافاة: كزولا، وبلزاك، واستندال، وسائر الذين رآهم فُلتير يحاصرون (معبد الذوق) ثم لا يستطيعون أن يَظهَروه ولا أن ينقبوه ولا أن يمنعوه. ولا تبال أولئك الذين نزلوا بقصورهم عن طبقة البلغاء فتنطعوا بركيك الألفاظ، وتكثروا بسخيف التراكيب، كهذه الكثرة الكاثرة من كتاب العربية وشعرائها في هذا العصر، فإنهم كما قال ابن قتيبة في أهل زمانه: (قد استطابوا الدعة، واستوطأوا مركب العجز، وأعفوا أنفسهم من كد النظر، وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدرك بغير سبب، وبلغوا البغية بغير آلة). دعك من هؤلاء وأولئك وانظر أنت في الأسلوب الذي ارتضيته لنفسك فتعهده بالتصحيح والتنقيح ما استطعت، ولا تحفل الزمن الذي تنفق فيه؛ فإنك تخلق الخلق ليعيش، وتبدع الأثر ليخلد. والزمن لا يُبقي على عملٍ يتم بدونه. وما العبقرية كما يقول بوفون إلا صبر طويل. ولا عليك أن يقال عنك إنك بطيء بكيء؛ فإن زهيراً لم يعبه أحد بحولياته، وابن المقفع لم يغض من عبقريته قلة مؤلفاته، وأبو نواس شهر بالتخير والتفكير، كما شهر أبو العتاهية بالارتجال والاقتضاب، فجاء شعره كله من حر الكلام ومختاره، كما جاء شعر الآخر على رأي الأصمعي (كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى). وللابرويير كتاب واحد، ولفلوبير كتابان؛ ولو كان لبلزاك كتاب من طراز (الشمائل)، أو كتابان على أسلوب (مدام بوفاري) و (سلامبو) لما قلت شهرته بهما عن شهرته بمجلداته الخمسين
والروية والعمل والتهذيب والتأنق تشف عنها العبقريات الخالدات للعباقرة الخالدين. فهنا تجد الفرزدق ومسلم بن الوليد وأبا تمام وأبا العلاء وسهل بن هرون وأحمد بن يوسف والجاحظ وابن العميد والحريري؛ وهناك تجد بوالو ولافونتين وتين ولابرويير وبسكال ومنتسكيو وفلوبير وشاتوبريان وإدمون رستان!
كان لافونتين ينظم المثل ثم ينظر فيه عشر مرات، وفي كل مرة يحرر ويغيِّر، ويحذف(520/2)
ويضيف. وكان شاتوبريان يبديء الصفحة ثم يعيدها على نحو ما كان يفعل لافونتين. ويقول بسكال إنه حرر بعض فصول (البروفنسيات) خمس عشرة مرة. ولو كشف أفذاذ الكتاب عن عاداتهم في الكتابة لما وجدت فيهم من يرسل الكلام كما يجيء، ويقيد الفكر كما يَعِن
ومعاذ الله أن تحمل هذا الكلام الواضح على محمل العجزة الكسالى من مفاليك الأدب وصعاليك الصحافة، فتفهم من الروية التكلف، ومن العمل الجهد، ومن التهذيب الصنعة المكشوفة، ومن التأنق الزخرف الكاذب. تلك عيوب سيجيئك الحديث عنها فيما يجيء. ولسنا اليوم بصدد الإفاضة في تحليل الصفات الفنية التي تميز كلاماً من كلام، وتقضي لأسلوب على أسلوب. ذلك موضوع الحديث المقبل، وإنما كان ما ذكرناه من ضرورة المعالجة والمراجعة والتخير، تذييلاً لابد منه لمناقشة الخلاف بين أنصار الجمع بين الفكرة والصورة، وبين أنصار التفريق بينهما على الوجه الذي رأيت؛ فإن من لوازم الجمع التروية والتجويد والعناية، ومن لوازم التفريق التساهل والإهمال والارتجال ومجافاة القواعد؛ وكلها من أعراض السرعة التي جعلناها في حديثنا الأول إحدى البلايا الثلاث التي تكابدها البلاغة في هذا العصر.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(520/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بين الحب والإعجاب - شبهة لغوية - غناء وغناء
بين الحب والإعجاب
الصلة بين الكاتب والقارئ منوَّعة الألوان، فهنالك كاتب يحبه القارئ، وكاتب يعجب به القارئ، وكاتب يظفر بالحب والإعجاب
ومَرَدُّ الأمر إلى ذاتية الكاتب، فإن كان أدبه أدب وجدان فهو جدير بالحب، وإن كان أدبه أدب ذكاء فهو خليق بالإعجاب، وإن جمع بين الوجدان والذكاء فهو الكاتب المنشود، وهو الذاتية الكاملة فيما يرى أصحاب الأذواق وأرباب العقول
والظاهر أن الأدب الحق يأخذ زاده من الذكاء ومن الوجدان، فإن خلا من أحد هذين الزادين فهو عُرضة للضعف، وإن خلا منهما معاً فهو إلى فناء
وقد يظن بعض الناس أن الذكاء والوجدان من المواهب الثوابت، وأن من حق الموهوبين أن يتكلموا حين يريدون. وهذا توهم، فما يستطيع أعظم عقل أو أكبر قلب أن يجود بالمعاني في كل وقت، وإنما هي بوارق تَصدُر عن العقل والقلب من حين إلى أحايين
ومع هذا فمن المؤكد عندي أن العقول تُراض وأن القلوب تُراض، ولكن كيف؟
هنالك أغذية لا يعرفها مؤتمر الأغذية، وهي التأملات في دقائق الفروق بين الحيوات الحسية والمعنوية، وهي فروق لِطاف لا يدركها غير قلب الأديب وعقل الفيلسوف
والظاهر أيضاً أنه لابد من التزود بما سميته (الحاسّة الفنية) وهي حاسة لا توهب لجميع الناس، وإنما يختص الله بها من يشاء، وإلا فكيف جاز أن يكون النوابغ في كل أمة آحاداً وإن زاد أبناؤها على عشرات الملايين؟
إن الوجود كتابٌ مفتوح، ولكنه لا يُقرأ بسهولة، ولا يجتلي أسراره غيرُ أفراد، فكيف نصل إلى لُبابه المكنون؟
أعتقد أن مسئوليتنا نحو أنفسنا خطيرة، فنحن نضيع فرص التأمل، ونحن نتهيَّب ما يُغضب المجتمع، ونحن نجعل السلامة شارة النصر المبين(520/4)
الأصل في الأدب أن يكون ثورة عقلية وذوقية، والأصل في طبيعة الأديب أن تكون قوة موحية، قوة تُعطى وتَمنح، وعنها تصدر أقباس الفكر وألوان الخيال
وليس معنى هذا أن يعيش الأديب عيش المحادة للمجتمع، فالمحادة المقصودة عناد بغيض، ولكن معناه أن يستقل الأديب عن الموحيات الخارجية، موحيات الظروف، بصورة تجعل أدبه من وحي الخلود
ويظن ناسٌ أن الكاتب المحبوب هو الذي يحدّث قراءه عما يألفون، وهذا خطأ في خطأ، وإنما الكاتب المحبوب هو الذي يمضي بقرائه إلى شِعاب من الفكر والروح والوجدان لا يصلون إليها بغير دليل. فمن غفلة بعض الكاتبين أن يأنسوا إلى العامية الفكرية، عامية الرأي المبذول بغير حساب على اختلاف عهود التاريخ. وما قيمة الكاتب إن لم يُشعر القارئ بأنه هداه إلى أفق جديد من آفاق العقل والروح، ولو بلمحة سانحة في أثناء الحديث؟.
يجب أن تكون للكاتب ذاتية عقلية وروحية، عساه يخلُق في القارئ وجداناً يحس به حقائق الوجود. فليس بكاتب ولا مفكر من يكون محصوله نُفاضة من أضابير زهد فيها العنكبوت
والأدب عند كل أمة وفي كل عهد سموٌ وعَلاء، أو هو التعبير الصحيح عن المطامح الكريمة في السمو والعلاء، ولهذا كان من أساسه الأصيلة أن يكون طريف الفكرة جميل الأسلوب
وليس المراد من طرافة الفكرة أن تكون رأياً لم يسمع بمثله الناس، لا، وإنما المراد أن يكون تعبير الكاتب عنها تعبيراً ذاتياً يجعلها من الطريف، بحيث لو تحدث عنها غيره لعُدت من الحديث المعاد
أما جمال الأسلوب فله عندي مقياس يخالف المعروف من المقاييس، والكاتب صاحب الأسلوب في نظري هو الكاتب الذي يشغلك بنفسك حين يوجه إليك الحديث، ومعنى هذا أن تبرز الفكرة بصورة قهارة ينسى فيها القارئ أنه في صحبة كاتب، ولا يدرك إلا أنه يواجه معضلات يعترك فيها العقل والوجدان. وهذه البراعة لا تتفق للكاتب ولا تنصاع إليه إلا بعد أن يكون إماماً في لغته، إمامة صحيحة كونتها الرياضات الطوال على الأداء المبين بالأسلوب الرشيق(520/5)
شبهة لغوية
هي شبهة من يتوهمون أن اللفظة الفصيحة هي اللفظة المخدَّرة ويريدون بها اللفظة التي لا يعرفها سواد الناس، فالكاتب العظيم في نظر هؤلاء هو الكاتب الذي يتحامى المأنوس من الألفاظ، ويؤثر الألفاظ التي عاشت في المعاجم بقوة التحنيط وإن حُرمت الحياة منذ أزمان
وأنا لا أقيم وزناً لهذا الرأي، وأضيف أصحابه إلى الجهلاء، ولا يؤذيني أن يتهموني بالتسامح في اللغة، كما طاب لأحدهم أن يقول ذلك في إحدى المجلات
الألفاظ تتقاتل في سبيل العيش كما يتقاتل الناس، فينتصر فريق وينهزم فريق، ثم يجيء الكاتب الحصيف فيعانق اللفظ المنتصر، ويتقدم الكاتب المخذول فيعانق اللفظ المخذول
كان أحد أعضاء المجمع اللغوي - وهو السيد حسن القاياتي - أنكر عليَّ في مقال نشره في جريدة البلاغ منذ سنين أن أستعمل لفظة (يستأهل) بمعنى (يستحق) فكتبت في الرد عليه مقالاً بعنوان: (والله تستأهل يا قلبي)
واستعملت مرة كلمة (شافَ) بمعنى (رأى) فثار خلْقٌ من خلق الله وعدوني من المتسامحين في اللغة، فسألتهم عن (تشوَّف) وهي كلمة كثيرة الورود في قصائد التشبيب، ثم أكدت لهم أن العرب في جميع الأقطار يقولون: (شافه) بمعنى (رآه) وقد (شفتهم) بعيني!
أتريدون الحق؟
الحق أن النقد اللغوي غلبت عليه الصبغة الببغاوية، واليكم هذا المثال:
قضى علماء البلاغة نحو عشرة قرون وهم يقولون في مؤلفاتهم وفي دروسهم بأن المتنبي أخطأ في جمع بوق على بوقات حين قال:
فإن يك بعض الناس سيفاً لدولةٍ ... ففي الناس بوقاتٌ لها وطبول
وكان العجب كل العجب أن يتحامل علماء البلاغة على المتنبي نحو عشرة قرون، ولا يجدون من يهديهم إلى الصواب.
وأثني على نفسي (للمرة الأولى بعد الديشيليون) فأقرر أني تفردت برفع الظلم الذي عاناه المتنبي في تلك القرون، ولكن كيف؟
ليست البوقات جمع بوق، كما توهموا، وإنما هي جمع بوقة، والبوقة هي اللفظة الاصطلاحية في موسيقا الجيش العربي، كما تشهد نصوص رأيتها في بعض كتب التاريخ(520/6)
وهنا أسوق فائدة لا أذكر أني رأيت من نبه إليها في كتب الصرف، وهي جعل التأنيث من صور التصغير، فالبوقة أصغر من البوق، والطبلة أصغر من الطبل، والبحرة أصغر من البحر، وقد بولغ في تصغيرها فصارت بحيرة
و (طُونس) الساقية في عُرف أهل الريف له وصلة يسمونها (الفرخ) إن كانت طويلة، ويسمونها (الفرخة) إن كانت قصيرة
وفي شوارع القاهرة نجد بائعاً يتغنى:
(حَبِّ العزيز الرُّبعة بقرش)
فما الرُّبعة؟ هي مصغر الرُّبع، بلا جدال
إن الصفة الببغاوية في النقد اللغوي أضرت باللغة وآذتها أعنف الإيذاء، فقد كتب كاتب في الرسالة ينقد استعمال كلمة (مَرِير) بمعنى مُر، وحجته أن المرير هو الحبل المحكم الفتل، ثم اتفق أن رأيت الشريف الرضي يستعمل كلمة المرير ويريد بها المر، فنظرت في أساس البلاغة فوجدت الزمخشري نص عليها بوضوح لا يحتمل الخلاف
وأنكر قومٌ جمع صناعة على صنائع، وألحوا إلى أن حملوا وزارة المعارف على تغيير اسم مدرسة الصنائع، مع أن لهذا الجمع شواهد تفوق العدَّ، وعلى أقلام كبار البلغاء
وأنكروا أن تنسب إلى الطبيعة فتقول طبيعي، مع أن العرب لم يقولوا طبَعي، ومع أن (فَعَلي) في (فَعِيلة) هو في ذاته شذوذ
والجرائد تقول (القتيل) وهي تريد القتيلة، لأن قائلاً قال بأن (فعيل) يستوي في التذكير والتأنيث، وهذا خطأ، إذا كان فعيل بمعنى مفعول، وهل أخطأ صاحب لساب العرب حين قال: رجل دفين وامرأة دفينة؟
ولم يفهم النحويون علة التذكير في آية (إن رحمة الله قريب من المحسنين) فعدوه تذكيراً أوجبته المجاورة ونسوا أن (قريب) في معنى الفاعل لا معنى المفعول
والمراد من الصفة الببغاوية في النقد اللغوي هو أن يحكي بعض الناس ما يقرءون حكاية الببغاوات. فأكثر ما نرى من اعتراض هو ألفاظ منقولة عن ناس تعرضوا للنقد اللغوي بلا بصيرة ولا يقين
لغة العرب لغة آبائنا وأجدادنا، فليعرف من لم يكن يعرف أن خطأنا فيها أفصح من(520/7)
الصواب. وإننا لن نستمع لأي اعتراض بعد أن ركزنا الراية فوق ناصية الخلود
غناء وغناء
في مكان يستبق إليه ضياء الشمس، ونور القمر، وهدير الأمواج، وقفت أنتظر وفاءً بميعاد هو الميعاد
وأقبلت الروح الملائكية في سِمة إنسانية، كما يطيب للملائكة أن تتشكل بصور الناس في بعض الأحيان
ودار حديثٌ أعذب من رنين الكؤوس، وأرق من وسوسة الحلي، في لحظات الصفاء
ثم دار عتابٌ كعتاب القلوب للعيون، فماذا قلت وماذا قالت تلك الروح، وقد أصغى البحر واستمع الوجود؟
لو تجمع ما أثار البحر من عواطف على اختلاف الأجيال، ولو اعتصرت الحياة ما يجري في أعوادها من رحيق الحب، لكان هذا وذاك دونَ ما أضفينا على الكَون من بهجة النعيم. . . ولو دُعينا لأداء الزكاة عن تلك اللحظات لكان من القليل أن نقضي العمر في شكران من قضت حكمته أن يجعل الحب سيطرة روح على روح، وانجذاب روح إلى روح
كان ضجيج المدينة أضعف من أن يحجب سرار القلوب، وكان القمر بفضل عليائه أشرف من أن ينمِّ عن خلوة حبيب بمحبوب
في شهر يونية تقوم غمامة تحجب القمر في لحظة لا تنتظر ظلال السحاب، فنفهم أن للحب والشعر آلهة، كما تقول أساطير القدماء
كانت الدنيا كلها في يدي، وكان هواي هو الهوى، وزماني هو الزمان، وكانت لغة الوجد فوق الأصوات والحروف، وهل يعرف أحدٌ ما لغةُ الأنفاس الحِرار؟ وكيف وما كانت اللغات إلا تعابير عما يجوز البَوْح به من سرائر الأرواح؟
وأين اللغة التي تعبِّر عن فرحنا بالحب في تلك اللحظة الوجدانية؟
أين أين. . . وهي لحظة ما ظفر بمثلها عاشق في قديم ولا حديث؟
هي زاد العمر كله، فليتمرَّد الهجر كيف شاء بعد ذلك الوصال.
لو مرت تلك اللحظة بالناس في ماضيهم البعيد لظفرت اللغات بألفاظ وتعابير تفوق الوصف، ولكان من السهل أن أشرح ما يوحي به ذَرْع (الرمل) على نغمات الموج في(520/8)
صمت الليل
ثم نفترق، فمتى نلتقي، يا روحاً لا يحيا بدونه روحي؟
للوجود كله غِناء، ولنا وحدنا غناء، وروحك هو غَريد البلبل، وحفيف النسيم، وهدير الموج، وعربدة الكهرباء
ثم نفترق وقد تحيرنا بين النور الأحمر والأزرق، وهذه إشارة لا يفهمها غير أسارى هذين النورين في (دار الوجد والمجد)، عليها أطيب التسليمات!
فمن فاته أن يعرف سر هيامي بوطني فليقرأ هذه السطور بروحانية وإخلاص
الإسكندرية هي المثال المصوِّر لسرائر النعماء، ومن لم يزر الإسكندرية فليس من حقه أن يزعم أنه عاش لحظةً من زمان
ولي في الإسكندرية دارٌ تشكو جفائي، ولم أكن من الجافين، دارٌ أساورها بلا استئذان حين أريد، كأنها دار الهوى في سنتريس أو بغداد أو باريس
في الصبح قرأت مقالاً في جريدة الأهرام عن إيطاليا بعد ثلاث سنين، وفي الظهر قرأت مقالاً في جريدة الريفورم عن إيطاليا بعد ثلاث سنين، فتذكرت أني عرفت تلك الروح في اليوم الذي أعلنتْ فيه إيطاليا الحرب قبل ثلاث سنين
وما أبعد الفرق بين إيطاليا وبيني!
مرَّت بها موجاتٌ هزمتها، ومرت بي موجات نصرتني
أفي الحق أننا لم نتعارف إلا قبل ثلاث سنين؟
أنت يا جِنِّية الشاطئ رفيقة روحي منذ أزمان وأجيال، وأنت مُناي من الهوى قبل أن يتنفس صبح الوجود
لابد للإسكندرية من حبيبين، فلنكن هذين الحبيبين، ولتفرح بنا الإسكندرية فرح الأليف بالأليف
يا مثال الحُسن ومثال اللطف، ويا ريحانةً مطلولة في صباح من أصبحة آذار!
يا تلك الروح في تلك المدينة، تذكري ثم تذكري، تذكري (سبعة أَبحُر) في لغة العراق و (سبعة أرادب) في لغة السودان، وتذكري الأبيات التي أمليتها عليك من لغة الفرنسيس. والى اللقاء في شِعاب الوجدان(520/9)
زكي مبارك(520/10)
لكي ننتفع بتجاريب غيرنا
2 - المسرح في أوربا
بين حربين
(في إنجلترا)
للأستاذ دريني خشبة
رأينا في الكلمة السابقة كيف علل إرقن عوامل الرقي والانحطاط في المسرح الأوربي بوجه الاجمال، وعرفنا وجهة نظره في جمهور النظارة؛ وسنرى كيف يربط وجهة نظره تلك بتأخر الدرامة بعد الحرب الكبرى في أوربا عامة وفي إنجلترا على وجه الخصوص، ثم ما نشأ عن انحطاط حاسة هذا الجمهور الفنية من قيام المسارح التجارية التي أجهزت على البقية الباقية من السمو المسرحي الذي ورثته أوربا عن جهابذة كتاب الدرامة وشعرائها قبل تحول هذه القارة من الزراعة إلى الصناعة، ثم ما صنعته الحرب الكبرى من التحلل في أعصاب الأوربيين وما أفسدت به أرواحهم من انتشار الخلاعات في معظم شعوبهم ولاسيما في شعوب البحر الأبيض المتوسط أو الشعوب اللاتينية على وجه التخصيص
لم تعد تروج المأساة في مسارح هذه الشعوب المحتاجة إلى ما يرفه عنها. . . لقد فقدت إنجلترا قرابة المليون من زهرة شبابها المثقف اليانع، وقل الرجال في فرنسا التي فقدت في تلك الحرب المشئومة أكثر من مليونين، وكان لقلتهم أوخم العواقب الاجتماعية والأخلاقية، فقد فشت الخلاعة، وانتشرت الرشوة، ونفقت السوق السوداء، وخربت الأمم، واختلت معايير الفضيلة، وأصبحت الخيانة الوطنية أبسط الجرائم التي تقترف دون مبالاة. أما في إيطاليا فقد خنقت الحريات باسم الإصلاح الفاسستي، ذلك الإصلاح المادي الذي ملأ روح الأمة بالخيلاء والزهو الكاذب وأفسد فيها مثُل غاريبلدي العليا. . وفي أسبانيا حدثت القلاقل التقليدية في تاريخها المفعم بالأعاجيب، فطاح عرش ألفونسو، وشبت الحرب بين الاشتراكيتين اللتين تصطرعان الآن في روسيا وألمانيا، وانصرف الجمهور عن المسرح بعد إذ كان يشارك الجمهور الإيطالي في الذهاب إليه (بالجملة) حيث كانت العائلات تقصد(520/11)
بكامل هيئاتها لشهود الروايات التمثيلية حاملة معها عشاءها أو غداءها فلا تجد بأساً من تناوله أثناء التمثيل. أما في روسيا وألمانيا فقد عرفنا رأي الاشتراكية في الفنون والآداب والأخلاق والأديان في الكلمة السالفة، وعرفنا كيف خضع المسرح فيهما لخدمة الدعاوة السياسية مما حاد به عن الجادة
فمن غير المعقول أن ير في التأليف المسرحي في شعوب هذه حال الكثرة الساحقة من أفرادها، وإذا قدر لنوع من التأليف أن يروج فيها فلابد أن يكون النوع الذي ينحط إلى مغازلة هذه الأذواق المريضة والأعصاب المنهوكة والأرواح المتعبة؛ ومؤلف الدرامة مضطر إلى أن ينصاع للخطة التي تمليها عليه الظروف المسرحية والتي ترسمها وتتحكم فيها نقود ذلك الجمهور، تلك النقود التي أتلفت الدرامة الفنية وخلقت المسارح التجارية في طول أوربا وعرضها ولاسيما في فرنسا وفي إنجلترا. إننا نردد في مصر دائماً أن واجب رجل المسرح سواء أكان مؤلفاً أو مخرجاً أو ممثلاً هو أن يرتفع دائماً بالجمهور لا أن ينحط إلى مستوى الجمهور، ثم ننسى أن ذلك الارتفاع بالجمهور الذي ننادي به هو عمل شاق يتعرض دائماً لظروف تجعل المهمة تنتهي دائماً إلى الفشل الذريع، لأننا نتعامى عن عيوب جمهورنا الذي كان ينبغي إصلاحه وتهيئته لشهود الروائع المسرحية. إن جمهورنا بثقافته التي لا نجهلها غير مستعد لشهود الدرامة الهادئة التحليلية ذات القضايا التي تنتهي إلى نتائج ترضي العقل ولا تستفز القلب، وتقنع التفكير ولا تحرك العاطفة. ولقد حاولت الفرقة القومية المنحلة القيام بهذا العمل الجليل، فماذا كانت النتيجة؟. . . إنها لم تجد جمهوراً. . . لأنها نسيت طبائع هذا الجمهور فلم تعالجها العلاج المعقول ولم تزخرف له من المغريات ما تجذبه بواسطته إليها. . . ولو أننا الآن بسبيل الكلام عن المسرح المصري لخضنا في الحديث عن الفرقة القومية التي أدى إلى حلها، كما أدى إلى إلغاء معهد التمثيل، تفكير أمي مرتجل يدل على قصر النظر إن لم يدل على العمى المطلق الذي يصيب سياستنا الإنشائية دائماً. . . ولما كان لهذا الحديث حينه إن شاء الله فنحن نرجئه لوقته. . .
تحكم العامل الاقتصادي إذن في خلق المسرح التجاري في أوربا جميعها، وفي إنجلترا خاصة، ولكي نعذر مديري المسارح التجارية في الانزلاق بالدرامة وبالمسرح في هذه(520/12)
الهوة التي لم تكن تليق بأسمى الأعمال الفنية الثقافية. نذكر أن متوسط نفقات المسرح العادي في إنجلترا في الأسبوع الواحد هو أربعمائة جنيه، ويقفز هذا المبلغ في مسارح الوست إند الإنجليزية إلى 1200 جنيه أو 1300 جنيه في الأسبوع، إذ يقدر إيجار المسرح بما يتراوح بين 250 و 600 جنيه في الأسبوع الواحد، ومتوسط إيجار أحد المسارح اللندنية اليوم هو 400 جنيه في الأسبوع، وبإضافة أجور الممثلين والإداريين ومصممي المناظر ومهندسي الإضاءة والخدم والمستخدمين الآخرين ورجال الأركسترا وأجور الإعلان والنور والتدفئة الصناعية وثمن الدرامة وضريبة الملاهي (وإن تكن محتسبة على النظارة) يقفز المنصرف على المسرح أسبوعياً إلى ما ينيف على الألف جنيه بكثير. وإذا علمنا أن ثمن تذكرة الكرسي الممتاز هو ستون قرشاً (12 شلناً)، وأن ثمن الكرسي العادي هو تسعة قروش عرفنا أن إيراد المسرح متوقف إلى حد بعيد على ثمن الكراسي الممتازة (الألواج والبناوير والكراسي الأمامية) وهي الكراسي التي يدفع ثمنها الأغنياء من الجمهور الذي وصفنا، فإن لم يعمل مدير المسرح حساباً لذوق هؤلاء الأغنياء انصرفوا عنه بطبيعة الحال وتكون النتيجة المنطقية هي الخراب والإفلاس إذ تسقط الرواية من الوجهة الاقتصادية، والمدير محتاج - كي يغطي مصروفات الإخراج فقط - إلى أن تباع جميع كراسيه في حفلات شهرين على الأقل، لأن فترة الإخراج لا تدر عليه إيراداً، وهي عادة تكلفه ثلاثة أسابيع، أي أنها تكلفه حوالي أربعة آلاف أو خمسة آلاف من الجنيهات. ومن أظرف ما يورده إرفن بهذه المناسبة أن جميع المديرين في مسارح لندن، بل في جميع المسارح الإنجليزية هم رجال مثقفون ثقافة ممتازة، وهم لهذا يخجلون من أنفسهم كلما بالغوا في الإسفاف بالدرامة إلى حضيض التهريج والشعبذة ليضمنوا إقبال الطبقة الخاصة من هؤلاء الأغنياء التي تشتري التذاكر ذات الأثمان المرتفعة
(وليس أحب إليهم، لهذا السبب، من أن يقدموا للجمهور درامات من عصارة الفكر ولباب الفلسفة لو ضمنوا جمهوراً من الأغنياء الفلاسفة؛ إذ لو تأخر الزمن بشكسبير وأقبل بعد الحرب الكبرى وفي يده روايته الخالدة هملت ليعرضها على أحد هؤلاء المديرين لألقوه جميعاً من نوافذ مسارحهم، إن لم يلقوه في شيء آخر داخل هذه المسارح (!!) وذلك لأن في رواية هملت ثلاثين بطلاً يقتل معظمهم، ثم منظر هذا الشيخ المفزع كفيل بتمزيق(520/13)
أعصاب المترفين من جمهور النظارة. . . فما لهم ولهذه المهلكات التمثيلية، وما جاءوا إلا ليلهوا هذا اللهو الخفيف الظريف الذي لا يسيل دموعاً ولا ينكأ في القلوب أوجاعاً!! ولا شك في أن شكسبير كان يرتد على عقبيه كسير الفؤاد كاسف البال فينطوي إلى الأبد على نفسه، وتضيع عبقريته التي تألقت في عصر إليزابث هباء منثوراً)
وقد عولج هذا الخطر في إنجلترا علاجاً جميلاً، إذ أنشئ في كل مدينة إنجليزية هامة مسرح من المسارح باسم أو المستودع - إن جازت هذه الترجمة السقيمة - أو مسرح الروايات التي سبق تمثيلها. وتمتاز هذه المستودعات بقلة النفقات، إذ لا يتجاوز مصروفات أحدها المائة من الجنيهات كما تمتاز بتفاهة أجور الممثلين وثبات ما تنفقه على المناظر لأنه لا يتكرر إلا كلما رث وأصبح غير صالح للاستعمال، ثم هي معفاة تقريباً من مصروفات الإخراج. فمن أشهر تلك المسارح مسرح برمنجهام الذي يدين ببقائه لكرم المستر باري جاكسون؛ ثم مسرح منشستر الذي كان يدين بوجوده للمِنح الكبيرة السخية التي تنفحه بها الآنسة تلك الإنجليزية العجيبة التي كانت تنفق من حر مالها على مسارح كثيرة حفظاً لها من الإنحلال؛ فمن تلك المسارح التي كانت تنعم بأعطياتها مسرح دبلن بإيرلندة أما مسرح هو الآخر يعتمد في مواصلة أعماله على كرم اثنين من أسخياء الإنجليز. . . وقد كانت معظم هذه المسارح تستمد قوتها من مسرح الكورت بلندن الذي كان يأذن لها جميعاً في تمثيل رواياته بل كان يمدها ببعض ممثليه. . . على أن مسارح المستودعات كثيراً ما كانت تحيد عن تقاليدها فتخرج روايات جديدة للمؤلفين المبتدئين. ومن هنا كانت فائدتها الجزيلة في إظهار عبقريات إنجليزية لم تكن لتبرز إلى الوجود لولا هذه المسارح. وحسبك أن تعلم أن برمنجهام كان الحقل الأول الذي نما فيه جون درنكووتر حيث أخرج له روايته المعروفة (أبراهام لنكولن)، كما نما فيه أيضاً شاعر الأوبرا المشهور (رتلاند باوتن)؛ وأن مسرح دبلن كان الحقل الأول الذي ازدهر فيه العاهل الدرامي الكبير جون. م. سينج والمستر لِتكس روبنسَن والليدي جريجوري. والذي يهمنا من هؤلاء الثلاثة هو سينج الذي يسمو إلى مرتبة شو في المسرح الإنجليزي الحديث؛ ولولا مسرح دبلن لما ظهر في الوجود. وفي مسرح منشستر: الـ ظهرت عبقرية ستانلي هاوتن، شارلز ماك إفوي ومستر الآن منكهوس. وفي ليفربول تألق نجم المستر رونالد جينس(520/14)
الناقد المسرحي اللامع. . . أما في مسرح الكورت بلندن فقد وثب إلى قمة المجد مستر شو وجولذ ورثي وجرانفيل باركر وجون هانكن. . . وكما كانت هذه المسارح وسيلة لإظهار هذه الطائفة الضخمة من كبار المؤلفين فكذلك كانت سبباً لظهور أكابر الممثلين الإنجليز. وقد كان مسرح ليفربول أعظم مدرسة إنجليزية لتخريج أحسن ممثلي الطراز الأول كما بدأ نبوغ الممثلة الذائعة الصيت سيبيل ثورنديك في مسرح منشستر وهي التي أصبحت درة مسارح الوسْت إند فيما بعد. . . وكذلك أخرجت تلك المسارح طائفة عظيمة من كبار المخرجين وعلى رأسهم المستر باسل دين كما أخرجت الكثيرين من مصوري المناظر وفي مقدمتهم المستر جورج هارِسْ
أما ما كان يعاب على مسارح المستودعات هذه فجملة أمور أهمها ضآلة أجور الممثلين وضآلة المكافآت التي كانت تمنحها للمؤلفين الناشئين - وكثيراً ما كانت المس هورنيمان وغيرها من أسخياء الإنجليز هم الذين يشترون الروايات الجديدة ويمنحونها للمسارح على سبيل الهدايا ومن باب التشجيع، - وكانت هذه المسارح كلها متقاطعة فيما بينها، فلا يتصل أحدها بالآخر، ولا تقوم فرقها بزيارات إقليمية، وكانت عنايتها بالروايات الجديدة تافهة كما قدمنا. ولعل هذا كان سبباً في تخليد تلك الثروة العتيدة الضخمة من الروائع المسرحية القديمة التي لولا مسارح المستودعات لاختفت إلى الأبد أو لأصبحت محبوسة في بطون الكتب لمن شاء أن يقرأها لا لمن يحاول أن يمثلها أو يشهدها على خشبة المسرح قطعة فنية حية تتحرك بأشخاصها ومناظرها وعنصرها وموضوعها. على أن أكبر عيوب تلك المسارح هو الملل الذي يتسرب إلى نفوس النظارة من كثرة ما يشهدون ممثليها، إذ يتفق للمتفرج أن يشهد الممثل ثلاثين أو أربعين مرة (هذا في إنجلترا!) في السنة الواحدة، وفي ذلك من الإملال لنفس المتفرج ما فيه، والمتفرج - بل كل نفس بشرية - محتاجة إلى التشويق بالأشخاص الجدد حاجتها إلى الهواء الجديد والمناظر الجديدة والموضوعات الجديدة. ولعل هذا الركود في وحدة أشخاص الممثلين هو الذي أوشك أن يقضي على تلك المسارح بانصراف الجمهور عنها - ولعل هذا أيضاً هو أحد العوامل التي هونت على الجمهور المصري شأن المسرح وسببت انصرافه عنه. وهم يقترحون لاستدراك هذا الخطر - في إنجلترا طبعاً - تسهيل تزاور هذه الفرق ليعرض كل منها رواياته في(520/15)
مسارح البلدان الأخرى، على ألا تتحمل الفرق مصروفات الانتقال أو أجور المسارح التي تزورها ما دام التزاور سيكون على قاعدة التبادل المنفعي. . . ومن عيوب مسارح المستودعات أيضاً سرعة تغيير البرنامج الذي يقتضيه الفرار من إملال الجمهور المتشوق إلى رؤية الجديد دائماً. . . وسرعة تغيير البرنامج تؤدي إلى أخطار كثيرة منها عدم عناية الممثل بدوره لكثرة إرهاقه بالعمل. وكان المسرح الألماني يتخلص من نتيجة ذلك بتمثيل الرواية الواحدة في أكثر مسارح الـ في وقت واحد ولمدة طويلة معينة ربما امتدت إلى أكثر من خمسة عشر أسبوعاً، وبذلك يضمن ربحاً معقولاً للمؤلف الذي تخصص له حصة معلومة من جميع المسارح، كما يضمن الراحة لجميع أفراد الممثلين الذين يتمكنون بذلك من أداء أدوارهم على خير وجه مضمون. على أن الألمانيين، قبل الحرب الكبرى، كانوا يعرفون للمسرح قدره، وقد ضاقوا ببطء الأساليب المسرحية الإنجليزية فأنشأوا مسارحهم الخاصة على منوال جديد وذلك بتشييد المسارح الشعبية الحرة ' التي كانت بلديات المدن الكبرى تمدها بإعانات على جانب كبير من السخاء كما كانت هي تتألف عن طريق الاشتراك من آلاف الأعضاء الذين كانوا يمنحون امتيازات عظيمة لشهود الروايات، وكان أجر الدخول لا يتجاوز الخمسة قروش قط، كما كانوا، مقابل جنيه واحد في السنة، يحصلون، يحصلون على مجلة مسرحية ثقافية ويملكون الحق في شهود عدة محاضرات ثقافية تلقى عليهم بانتظام، هذا إلى حضور أربعين حفلة تمثيلية بالمجان موزعة على الفصل التمثيلي السنوي. والعجيب في ألمانيا أن برلين نفسها كانت متخلفة في الحركة التمثيلية وراء جميع المدن الألمانية الكبرى فلم تكن تفرض هذا الذوق الـ أو العاصمي الذي تفرضه العواصم الأخرى على المدن الأقل شأناً في المملكة؛ فكان لمدينة كولونيا مسرحها الشعبي العتيد الذي كانت بلديتها تمنحه سنوياً مبلغ خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات؛ وكذلك كان لمدينة ثورن، وهي من أصغر المدن الألمانية، مسرحها الشعبي الذي كانت تمنحه بلديتها مبلغ ألف جنيه سنوياً. وقد مثل مسرح كولونيا رواية المعركة لجولذورتي الإنجليزي فربح منها أضعاف ما ربح في إنجلترا.
دريني خشبة(520/16)
على هامش النقد
الأدب (المهموس) والأدب الصادق
للأستاذ سيد قطب
أرجو أن تكون هذه الكلمة هي الكلمة الأخيرة عن (الأدب المهموس). وبرنامجها يتناول ثلاثة أغراض:
فأما الغرض الأول: فهو أن الأدب المصري لم يخل من صور ذلك اللون المحبب إلى الأستاذ (مندور)، وهي صور منوعة وأكثر سلامة من النماذج التي استهوته هناك. ولكن عجلته فيما يصدر من الأحكام، وعدم انفساح الوقت أمامه ليدرس قبل أن يحكم، وتشيعه الواضح المفهوم لشعراء المهجر. . . هذه الأسباب جميعها جعلته ينادي بأن الشعر المصري متخلف قروناً عن الشعر المهجر، وأنه شعر خطابي لا يستهويه
وأما الغرض الثاني: فهو أن هذا اللون من الأدب، ليس هو اللون الوحيد الذي يستحق الإعجاب، وقد لا يكون أفضل الألوان؛ فالتشيع له إلى أقصى الحدود، وإنكار ما عداه من ألوان الأدب الأخرى، مسألة (مزاج) خاص، له دوافعه الخاصة، وليس حكماً أدبياً يرتكن إليه النقد الفني
وأما الغرض الثالث: فهو الحديث عن (النماذج البشرية) الحبيبة إلى الأستاذ مندور وعلاقتها في (مزاجه) بحكاية (الأدب المهموس) من بعض النواحي. وهو ما أرجو أن ينفسح له المجال في هذا المقال
ليس من الضروري أن يستتبع الهمسُ الأسى، وليس من الضروري أن يكون الأسى متهالكاً ليكون حبيباً إلى النفوس. ولكننا - مع هذا - نعرض للأستاذ مندور صورة من صور الشعر الهامس فيها الأسى وإن لم يكن فيها التهالك، لشاعر مصري كبير تحت عنوان (السلو)
أذن الشفاء. فما له لم يحمد؟ ... ودنا الرجاء وما الرجاء بمسعدي
أعدوت أم شارفت غاية مقصدي؟
برد الغليل اليوم وانطفأ الجوى ... وسلا الفؤاد فلا لقاء ولا نوى
وتبدد الشملان أي تبدد(520/17)
قذفت بنا الأيام في غمراتها ... ورمت بنا في التيه من فلواتها
فردين لم يتلاقيا في موعد
لا أنت أكرم من أحب ولا أنا ... سلواك دون الناس في هذي الدنى
تفدين حبي بالحياة وأفتدي
ما كنت أحسب أن أبيت عشية ... أبَدَ الزمان ولا أراك نجية
تحت الظلام ولا أضيق بمرقدي
يأتي الأصيل ولا نراقب وعده ... وبلى الظلام ولا نحاذر سهده
وإذا انقضى يوم فليس: إلى غد
وإذا رأيتك في الطريق فعابر ... يجتاز عابرة، وطرف ناظر
يرنو لناظرة تروح وتغتدي!
عجباً لغابرنا وحاضر أمرنا! ... أكذا تمر بنا معالم عمرنا
وتزول حتى لا دليل لمهتد؟
هذي الشفاه فهل على بسماتها ... أثر يشف اليوم عن قبلاتها
في ذلك الماضي الذي لم يبعد؟
هذي العيون فأين من نظراتها ... لمسات رحمتها ووحي هنائها
لم يبق من خبر ولا من مشهد!
ذكرى تردد في الحياة سقيمة ... وتعيش في كنف الهوان يتيمة
وتمر ذاهبة كأن لم توجد
ترى يستطيع الأستاذ مندور أن يحس بهذه القطعة وما يغشي جوها كله من أسى شفيف وهمس عميق؟ ثم تراه حين نقلب الصفحة الأخرى على صورة هامسة ذات لون آخر، يستطيع كذلك أن يحس بالصفحتين المتقابلتين؟
إذن فليسمع هذه المقطوعة الأخرى لنفس الشاعر الكبير! تحت عنوان (الكون جميل)
صفحة الجو على الزر ... قاء كالخد الصقيل
لمعة الشمس كعين ... لمعت نحو خليل
رجفة الزهر كجسم ... هزه الشوق الدخيل(520/18)
حيث يممت مروج ... وعلى البعد نخيل
قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل
ونلمح هنا (ألفة) عميقة بين الشاعر وبين الطبيعة، هي ألفة الحبيب العاشق المتفتح الحس والنفس، المنهوم القلب والجوارح؛ ونكاد نلمحه متسع الحدق مفغور الفم، متوفز الاحساس، وهو ينشق بل يلتهم ما في الطبيعة الحبيبة من روح وجمال
قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل
قلها وأنت تستنشق ملء رئتيك ما فيه من روح وحلاوة، ثم تستريح بنفس طويل!. قلها فإنها لحظة تجلٍ لروح ذلك الكون الجميل
وقصة ثالثة ذات لون ثالث، لا هو يا لأسى الشفيف، ولا هو بالحس المنهوم؛ ولكنها اللهفة الآسفة، والحيرة الخاطفة في (الحلم الضائع) لشاعر من شعراء الشباب المصريين:
أين حلمي وغرامي ونشيدي؟ ... أين آماليَ في الأفق المديد؟
أين دنياي التي جسَّمتها ... في خيالي، فتوارت من بعيد!
ومضة كالبرق مرت في حياتي ... أيقظت قلبي وحثَّت أمنياتي
وكما يخبو شعاع بارق ... لم أجد حوليَ إلا الظلمات
أين عش كان في نفسي دفيئاً ... أين أفق كان في قلبي وضيئا
وحياة عشتها في خاطري ... قبل أن تولد، نشوان هنيئا؟
أهو حلم أم ترى كان عيانا ... عشنا النائم في دفء هوانا
وسياحات لنا في عالم ... نحن أبدعناه في الحلم فكانا؟
أين يا أحلام واديك الجميل؟ ... أين ظل عند واديك ظليل؟
أين؟ فالجدب يغشى عالمي ... وخريف العمر والصمت الثقيل
أين أين؟ كل ما قد كان فات ... لم تعد في النفس إلا الذكريات
وحنين في الحنايا موغل ... وظلام غارق في الظلمات
ولدي من هذه الصور عشرات، ولكن الفراغ محدود، فبحسبي هذه الصور الثلاث من الشعر المصري المتخلف قروناً، لأنه ليس من عمل شعراء المهجر لسوء الحظ!
وبعد. فليس هذا اللون من الشعر - على تعدد صوره - باللون الوحيد الذي يعجب الناقد(520/19)
الفني ذا الآفاق الوسيمة، والنفس الرحيبة. وقد لا يكون أفضل الألوان حين يكون المقياس هو صدق التعبير عن الحياة، لا إرضاء الأمزجة الخاصة المتأثرة بماض خاص
ومن الذي يقول: إن الهمس والوسوسة في الطبيعة أصدق من الجأر والجهر؟ إن بغام الظباء ليس آصل في الحياة من زئير الآساد؛ وإن خرير الجدول ليس أعمق في النفس من هدير الشلالات؛ وإن وسوسة النسيم ليست أوقع في الحس من زمجرة العاصفة
والموسيقى؛ ما شأنها في هذا المجال، (وهو خاطر جال في نفس الموسيقي المصري المبدع الأستاذ الشجاعي بهذه المناسبة) انقضى مثلاً على موسيقى (واجنر) وكثير من سيمفونيات بتهوفن وسواه في سبيل الهمس الذي تلجأ إليه الطبيعة مرة، كلما لجأت إلى مختلف النغمات والطبقات مرات!
كل مقاييس الفنون تنكر أن يكون الهمس أجمل أو أصدق أو أعمق. وإن هو إلا (حالة) من حالات، بل حالة لا تلجأ إليها الطبيعة والحياة إلا في فترات الراحة من عناء الضجيج! وليست الحياة كلها راحة إلا أن تكون حياة مزاج خاص يرى الدنيا من زاوية واحدة صغيرة!
ألا وإن الدنيا لحفية بالهامسين والجاهرين وإنهم لأبناؤها المخلصون في جميع نغماتهم وطبقاتهم ما داموا صادقين. وإن هذه النغمات والطبقات لكثيرة منوعة تنوعَ النفوس، بل تنوعَ الحالات النفسية في الإنسان الواحد. وإننا لنعجب بالمتنبي مثلاً حين يجهر بأعلى صوته:
أفكر في معاقرة المنايا ... وقوْد الخيل مشرفة الهوادي
زعيم للقنا الخطى عزمي ... بسفك دم الحواضر والبوادي
إلى كم ذا التخلف والتواني ... وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل النفس عن طلب المعالي ... يبيعْ الشعر في سوق الكساد
كما نعجب به حين يهمس في حنين:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
أو حين يهمس في ألم مرير:
وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا أعوز المطلوب قل المساعد(520/20)
فهو هو المتنبي في جهره وهمسه، ذو الطابع الواضح، والصدق الأصيل
وبهذه الرحابة يجب أن ننظر إلى أنماط الفنون، وأنماط النفوس في هذه الحياة التي تتسع للجميع، وتحفل بالجميع، ولا تتطلب منهم إلا التعبير الجميل عن الشعور الصادق، وليكن في هذه الحدود الرحيبة ما يكون
فأما النماذج البشرية، التي يهفو إليها الأستاذ (مندور) وبعض زملائه في هذه الأيام، فيمهلني القراء أسبوعاً آخر لإدارة الحديث عليها، بعد أن استغرق المقال كل المجال!
(حلوان)
سيد قطب(520/21)
الشعر الخطابي
للدكتور محمد مندور
يريد الأستاذ السيد قطب أن يجعل مما سميته الهمس في الشعر نوعاً من الأدب يتميز بالإحساس الذي يغذيه فهو شعر الحنين أو (الحنية) كما يقول، وهو يحذر القراء من آرائي لخضوعها لطبع خاص أقرب إلى المرض منه إلى الصحة، ولكنني بحمد الله لست مريضاً، ولا أذكر أنني مرضت يوماً ما، وأنا على العكس سليم الجسم صلب البناء متمتع بكل قواي الجسمية والعقلية، وشخصي بعد ليس موضع الحديث، والهمس في الشعر ليس (الحنية)، ولا هو خاص بنوع من الإحساس، وإنما هو مذهب في الفن، مذهب عام لا يتقيد بمادة
أما تحذير القراء من آرائي فهذا ما أدعو إليه أنا أيضاً لأنني أمقت مبدأ (السلطة) ' وأعرف ما أصاب الإنسانية من أضراره المميتة خلال القرون الوسطى يوم كان الناس يؤمنون بآراء أرسطو لأنها صادرة عن المعلم الأول، لا لما تقوم عليه من بينات. ونحن في الشرق أحوج ما نكون إلى تحطيم هذا المبدأ الذي يشل عقول الناس فتستسلم لآراء هذا أو ذاك، والأمر في المسائل الفنية أشد خطورة، وذلك لأن الأذواق الفنية لم تتكون بعد لسبب واضح هو جهلنا بالآداب الأجنبية أو معرفتنا بها معرفة أضر من الجهل بها، وليس من سبيل إطلاقا إلى الادعاء بأن أدبنا العربي يكفي لتكوين ذوق أدبي صحيح
وإذن فأنا لا أريد أن أملي ذوقي على أحد؛ وذلك لأن الذوق وإن يكن من أعمق ملكاتنا البشرية في إدراك مواضع الجمال والقبح، إلا أنه لا يمكن أن يصبح وسيلة مشروعة للمعرفة التي لدى الغير، إلا إذا علل بأسباب عقلية وفنية ونفسية تستطيع أن توحي بمثل ما نحس به، وإلا أصبح ما نقول ادعاء كاذباً إن لم يكن نصباً.
ولقد حاولت تمييز (الشعر المهموس) بمعارضته (بالشعر الخطابي)، ولكنني فيما يظهر لا أزال محتاجاً إلى مزيد من الإيضاح. وهاأنا اليوم أتناول قصيدة للأستاذ محمود حسن إسماعيل، وجدتها مصادفة في عدد 7 يونية سنة 1943 من (الرسالة) بعنوان (حصاد القمر)
الأستاذ محمود حسن إسماعيل يذكرني دائماً بالمتنبي، ففي شعره رنين قوي تجده في بسطة(520/22)
أوزانه وضخامة ألفاظه بل في بعض صوره الشعرية المجتلبة على نفس النحو الذي كان المتنبي يصطنعه متتلمذاً لأبي تمام. ولكني أبادر فأقرر أن شعر المتنبي غير شعر محمود إسماعيل في معدنه النفسي وفي رؤيته الشعرية
شعر المتنبي كشعر محمود إسماعيل من النوع الخطابي ولكن شاعر الحمدانيين كان شاعراً كبيراً. وأما صاحب (هكذا أغني) فشاعر يعيبه أمران خطيران:
1 - أولهما أن المتنبي نفس قوية عاتية متماسكة. عاطفة المتنبي مغلقة مركزة عميقة ولهذا قلما تلوح كاذبة. عاطفة المتنبي نار داخلية لا تراها وإن ألهبت اللفظ أو أوقدت الصورة. وأما إحساس محمود حسن إسماعيل فمفضوح؛ ويأبى شاعرنا إلا أن يزيده افتضاحاً بقصاصات النثر التي يعلقها فوق قصائده. وفي هذا ابتذال، للنفس عنه نفرة. عاطفة محمود إسماعيل (مطرطشة) حتى لتلوح (سراباً عاطفياً) كما يقول نقاد الإنجليز
2 - ثانيهما اضطراب الرؤية محمود إسماعيل، بل إنني لأخشى ألا يكون له حقل شعري على الإطلاق، وهذا أمر يتضح لمن يراجع صوره في أية قصيدة من قصائده، فإنه لابد واجد بينها من التنافر ما يقطع بأنه لا يرى الأشياء رؤية شعرية صحيحة. تراه يجمع بين صور لا يمكن أن تكون وحدة للموصوف، ولو أنه حرص على الرؤية الشعرية الصادقة لرأيت التجانس الذي يعوزه. وأنا بعد أرجح أنه يلتمس الصور من ذاكرته لا مما يراه ببصره أو يدركه بحسه
ونحن عندما لا نجد لدى الشاعر العاطفة المتماسكة والرؤية الشعرية لا نستطيع أن نحكم بتفوق فنه؛ وذلك لأن الرنين الخطابي مهما بلغت قوته لا يمكن أن يسمو بالشعر. فلغيري إذن أن يعجب بقوة أسر محمود إسماعيل واستحصاد لفظه وغرابة صوره. وأما أنا فما دمت لا أستطيع أن أدرك ببصري حقيقة ما يصف ولا أن أسكن إلى نوع إحساسه، فإنني لا أتردد في رفض شعره وتفضيل (نعيمه) أو (عريضة) عليه وذلك لصدق شعراء المهجر في فنهم
وأنا بعد مؤمن بأن محمود إسماعيل يستطيع أن يصبح شاعراً كبيراً جداً وذلك لأنه يملك هبتين لا شك فيهما
1 - أولاهما روح الشعر. روح غفل ولكنها قوة من قوى الطبيعة. قوة تحتاج إلى التثقيف(520/23)
الصحيح. ولو جاز لي أن آمل من هذا الشاعر الإصغاء إلى موضعي النقص الكبير اللذين أشرت إليهما فيما سبق لرجوت أن نجد فيه شاعراً يعتز به عصرنا
2 - وثانيهما قدرته على الانفعال، وفي هذا ما يلهب الحس فيدرك المرء بقلبه ما لن تدركه العقول. وما يحتاج إليه محمود إسماعيل لاستغلال قدرته إنما هو نوع من النظام يركز به إحساسه ويرد ما فيه من فضول
ثم إنني أريد أن يطمئن الأستاذ قطب إلى أن أحكامي على أدباء المهجر ليست سريعة ولا هي عن جهل، فقد قرأت الكثير مما كتب وإن لم أتحدث عنه؛ وأمر اشتغالي بالدكتوراه حدث عارض لم يستوعب قط كل وقتي، وأنا لازلت عند رأيي في أدب الحكيم ومحمود طه وغيرهما مع تحفظ واحد هو أنني اقتصرت في مقالاتي على كتب بعينها ليكون النقد موضعياً ومن ثم منتجاً. ولقد قرأت لكل كاتب معظم كتبه الأخرى فوجدت الخصائص التي ذكرتها واضحة وإن تكن ثمة اتجاهات أخرى تحتاج إلى علاج خاص كتصوير الحكيم لبعض الشخصيات تصويراً ناجحاً في (عودة الروح) وكاستخدامه للهيومر في (أهل الفن)، ولكن أدبه كما قلت في جملته أدب فكرة، أدب رمزي
وكذلك الأمر في حديثي اليوم عن محمود إسماعيل هذا الحديث الذي لا أبغي من ورائه لجاجة وإنما أبغي الخير، خير الشاعر وخير أدبنا الجديد. فأحكامي عنه تستند إلى قراءة شبه شاملة لما كتب، وإن كنت سأكتفي اليوم بنقد قصيدة واحدة من قصائده حرصاً على الدقة
القصيدة كما يقول الشاعر في بطاقته وحي سياحة قمرية في ليلة من ليالي الحصاد. . .) وهاهو شاعرنا يبدأ بوصف الحقل: (سيان في جفنه الإغفاء والسهر) وإذن فنحن في حالة هيام شعري تستوي فيه اليقظة والنوم. نحن إن أردت في حلم يقظة (نعسان يحلم والأضواء ساهدة) وهذا لا ريب جو الإلهام الشعري، ولكنه جو قد قيد الشاعر؛ ونحن لا يعنينا منه صدقه أو تصنعه، فالشاعر يدعونا إلى هذا الجو وقد أعاننا على أن نحيط أنفسنا به لنخلق فيها جواً مشابهاً وننظر مع الشاعر فماذا نرى: نرى أن السنابل قد نامت واستيقظ القمر فإذا بنا أمام مقابلة مصنوعة، لأننا لا نرى نوم السنابل بوضوح ولا يقظة القمر. القمر الذي ينشر الأحلام. وهذا يسلمنا إلى ملاحظة عامة خطيرة على شعر محمود(520/24)
إسماعيل وهي مصدر ما فيه من تنافر وأعني بها (تشخيصه) للأشياء؛ والتشخيص لا ريب من وسائل الفن القوية، ولكنه لا يمكن أن يكون مجرد عبث أو مهارة، بل من الواجب أن تمليه الأشياء إملاء يقربه الفن وقد مسه بجناحه فإذا به كالحقائق. والفن إلى حد بعيد إيهام، إيهام بالخلق، خلق واقع شعري، فهل نجح الشاعر في ذلك؟
إنني أنظر فأرى (قلب النسيم ولهان ينفطر للأضواء) وأرى (السنا قد مال جانباً) وأرى (نخلة قد أطرقت بتلعة) وأرى ظل النخلة كأنه (مضطهد)، ثم أرى (الدوح نشواناً) ومع ذلك يدعونا الشاعر إلى أن نخشع إن مررنا بالدوح النشوان. ما هذا التنافر؟ (لماذا ينفطر قلب النسيم ولهاً بالأضواء)، أهذا تجسيم لإحساس الشاعر؟ أهو تصوير لرقة النسيم تصويراً مجتلباً؟ و (لماذا يجثو السنا) وهو يحنو على الشاعر وينساب إليه من السماء؟ ثم إن الجو كله جو أحلام هادئة فيها لا ريب حزن خفيف ومع ذلك فجأة نرى الدوح نشواناً. وكل هذا تخبط في الرواية الشعرية أو انعدام لها. ومن عجب أن تجد وسط هذا التنافر الكاذب البيت الرائع بتصويره:
إن هب نسم بها خيلت ذوائبها ... أناملاً مرعشات هزها الكبر
وأن يجاور هذا التصوير الجميل تشبيهه لظل النخلة (بمضطهد) وأغصان الدوح بأشباح قافلة غاب عنها الرفيقان (الركب والسفر) وقد نزل على الدوح ضيفان (الليل والقدر) ليتم الازدواج الكاذب: الليل والقدر والركب والسفر. أما الليل فنستطيع أن نفهمه، ولكن ما شأن القدر هنا، وما الرأي في (غياب السفر) كناية عن ثبات الدوح وعدم تحركه. قد يكون في غياب الركب ما يشعر بالوحشة ولكنني في الحق لا أدرك العبارة عن السكون بغياب السفر. والأغصان (مبهورة ذاهلة) ولكنها مع ذلك قد تكون (منتعشة بشجو الرياح) وما أريد أن أدركه هو وضع تلك الأغصان. كيف كانت أو كيف رآها الشاعر. (ذاهلة أم منتعشة) أنني لا أطيق ما يلقيه الشاعر في نفسي من عجز عن إدراك ما رأى
ثم إن القمر (هيمان يحمل وجد الليل أضلعه) وقديماً قاتل النقاد أبا تمام لقوله (ماء الملام) وثار به الآمدي إذ وصف حمرة الخدين بـ (ملوطة الخدين بالورد) فماذا يقول المسكين الآمدي لو سمع محمود إسماعيل يتحدث عن (أضلع القمر)
وأنا لا أريد أن أطيل فقد أبنت بالأمثلة السابقة عما أريد من (الرواية الشعرية)؛ وأما(520/25)
(طرطشة) العاطفة فليست واضحة في هذه القصيدة الوصفية وضوحها في قصائده العاطفية وهي كثيرة بديوانه (هكذا أغني) ومع ذلك نجد في هذه القصيدة أيضاً كثيراً من (التأوه) و (الآهات) و (الكبد) و (كبدي) و (يا كبدا) وما إليها
أنظر مثلاً إلى قوله يخاطب القمر:
(قلب كقلبك مجروح). وقوله لنفس المخاطب: (إن العذاب الذي أضناك في كبدي) ثم حدثني عما تستطيع أن ترى من جروح في قلب القمر الهادئ البارد الحالم الحزين حزناً رفيقاً لا يعرف الدماء. ثم ما هذا الضنا الآخذ بكبد الشاعر وكيف يوحي به القمر؟ أليس هذا إسرافاً معيباً ووضعاً للإحساس في غير موضعه؟
(الله أكبر! يا ابن النيل. . . يا كبدا). أو ما تحس بنفرة نفسية من (يا كبدا) هذه. وكيف تخاطب القمر (بيا كبدا)
وبعد فأنا لا أدري كيف يجوز لنا أن نضع هذا الفن الذي نرده اليوم في مستوى فن شعراء المهجر المرهف القوي المباشر. كيف نقارن هذا الضجيج بهمسهم الفني؟ وأما عن النثر فما أظن القراء في حاجة إلى أن أدلهم على أن (رثاء أحد الشبان لأمه) الذي أورده الأستاذ قطب لا يمكن بحال من الأحوال أن يقارن (بأمي) لأمين مشرق. فرثاء الشاب المذكور لا إيقاع فيه ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في الاختيار للتفاصيل. وكيف تريد من شاب يؤلمه من موت أمه أنهم لم يعودوا يعرفون (بأسرة) أن يصل في فن الكتابة إلى مشرق الذي يذكر (فستانها العتيق) و (يديها اللطيفتين) (ووقع قدميها حول سريره) و (غابة السنديان) وما إلى ذلك من فتات الحياة التي يعرف كبار الشعراء - كما قلت - كيف يلتقطونها بأنامل ورعة فيصلون من التأثير في نفوسنا إلى ما لا تصل إليه (الأبواق والطبول).
محمد مندور(520/26)
تشارلز دكنز
مواهبه وخصائص فنه
للأستاذ محمود عزت عرفة
حلم. . . يتحقق
كان جمال الطبيعة وفتنة المناظر في الطريق بين بلدتي شاتهام وجريفسِند مما يملك لب الصغير (تشارلي) ويستثير عنده أدق الأحاسيس بالجمال. وكان أحب شيء عنده أن يقف ويستوقف أباه لدن هذا الصرح الممرد القائم على قمة الربوة. . . صرح جادْزْهيل؛ حيث كان يربض فيما مضى قاطع الطريق فالسْتاف مع رجال عصابته ليسلب المسافرين والمنقطعين؛ وحيث تنبسط اليوم على مدى البصر السهولُ الآمنة الخضر والمروج الأواهل الفيح
قال الوالد الفقير المثقل بأعباء الحياة لطفله ذات يوم، وهو يحاول أن يبعث في قلبه الصغير بصيصاً من الأمل:
أترى هذا القصر الأنيق يا تشارلي؟ إنك لتستطيع أن تكون مالكه يوماً ما، إذا أنت أخذت نفسك منذ اليوم بالجد والدأب، وسلكت في حياتك مسلكا ناجحاً شريفاً حتى تنال ما ينبغي لك من الجاه والثراء جميعاً. . .
وما من شك في أن الأب كان يرتاب في إمكان تحقيق هذا الأمل الذي داعب به مشاعر غلامه؛ ولكن مشيئة القدر، وانطواء الزمن تلو الزمن كانا كفيلين بتحقيق هذه الأمنية النفيسة، في جملتها وفي تفصيلها. فقد جد تشارلز ودأب، وسلك في حياته سبيلاً ناجحاً شريفاً، ونال الجاه والثراء جميعاً. . . ثم امتلك قصر جادزهيل بمروجه ومزارعه، وقضى في رحابه أجمل أيام حياته. ولكن لم يتم له ذلك إلا في أعقاب أربعين سنة كاملة تجرع فيها كؤوس الآلام مترعة دهاقا. . .
لم يكن تشارلز من مواليد شاتهام وإنما انتقل إليها مع والده وهو في الرابعة من عمره؛ وكان مولده في لاندبورت بجزيرة بورت سي يوم الجمعة السابع من فبراير عام 1812 م.
وكان والده - وهو كاتب ببعض خزائن الأسطول - رجلاً ممتلئ النفس بالعطف البالغ(520/27)
على أسرته، وتلمس أسباب السعادة والنعيم لها، إلى الحد الذي لا يفي به دخله، أو تتسع له ذات يده، فأقبل يستدين ويستدين حتى اضطرب ميزان حياته، وحتى جنى بهذا التصرف على أسرته أكثر مما أفادها! ولم تُتح بذلك أدنى فرصة لتشلرلز يتلقى فيها من العلم ما يشبع بعض نهمه أو يُروى القليل من غلته
وبلغ العاشرة من عمره دون أن ينتظم في سلك مدرسة أو يتلقى دروساً بالمعنى المفهوم؛ ولكنه كان قد لقن من الحياة دروساً نافعات، واستنبط من الإهمال والجهالة اللذين اكتنفاه علماً ولقانة قل أن أتيحا لغيره؛ وكان أثر هذه السنوات الست التي قضاها في شاتهام بالغ الوضوح في تفكيره وإنتاجه الأدبي فيما بعد. ففيها ثقب فكره وتفتحت مداركه، وفيها اكتسب دقةً في النظر وقوة في الملاحظة شعَّ سناهما على سائر تآليفه، وفيها عرف من بأساء الحياة وذاق من مرارة العيش ما أجداه ذوقه ومعرفته كثيراً، وتقلب في أحضان الفاقة والضر إلى الحد الذي مكَّن له من أن يصف ذلك في رواياته أبلغ الوصف وأصدقه؛ حتى لأصبح البؤس مادة لفنه والبائسون أبطالاً لقصصه، يفصح في التعبير عن أشجانهم، ويجلِّي في الإبانة عما دق أو عظم من أحداث حياتهم.
من شاتهام إلى لندن
انتقل تشارلز وهو في العاشرة من عمره مع أسرته إلى لندن. وكان الجو من حوله يزداد قتاما، ومشاكل الأسرة المالية تهدد بقية نعمتها بالزوال؛ فألحقه قريب له بمخزن لبعض معامل الصباغة لقاء أجر أسبوعي يقل عن ثلاثين قرشاً!
وبدأ تشارلز يتذوق نوعاً من الشقاء لم يألفه من قبل؛ ولقد كتب مرة يقول وهو يسترجع ذكريات هذه الفترة من حياته: إني لأعجب كيف كنت مطرحاً منبوذاً بمثل هذه السهولة وفي مثل تلك السن. أعجب كيف أن إنساناً واحداً لم تحركه دواعي الشفقة والرحمة فيرى تدارك ما فات من أمري بإرسالي إلى أية مدرسة عامة!
. . . وقبض على والد تشارلز بعد قليل وأُلقي به مع زوجه في معتقل المدينين؛ فتقوضت بهذا الحادث دعائم الأسرة الصغيرة، وقطن تشارلز بالكراء في بيت عجوز لم تكن لتعنى به في كثير ولا قليل
ولقد رسم لنا تشارلز فيما بعد صورة صادقة لهذه المرأة في روايته الموسومة بعنوان:(520/28)
دومبي وولده!
كان في هذه الفترة من حياته يعتمد على نفسه اعتماداً تاماً، ولا يكاد يحظي بكلمة عطف من مخلوق، إذا استثنينا هذه الفترات المتباعدة التي كان يُسمح له فيها بلقاء أبويه
وإن من المؤلم حقاً أن نتصور طفلاً في الحادية عشرة من عمره يعاني وحده أعباء مثل هذه الحياة الشاقة المريرة؛ ولكن يبدو أن أباه في معتقله كان يحاول تسوية مشاكله المالية، ولم يكن النظام في معتقلات المدينين يحول بينهم وبين محاولة ذلك. . . ويبدو أيضاً أن تشارلز كان يتلقى من عطف أبويه ومن معونتهما ما يخفف عنه أعباء المسكن ويعفيه من مؤونة الكسوة. وكان يزورهما في نهاية كل أسبوع فيقضي بينهما سحابة يوم الأحد سجيناً مختاراً. . .
ويصف تشارلز بعد سنين ما ألم به في هذا الطور من حياته فيقول: لذا أعتمد على نفسي في تهيئة طعام إفطاري الذي لا يعدو خبزة بلدية بأربعة مليمات وبمثل هذه القيمة لبناً. وكنت أحتفظ بخبزة أخرى مع ثلاث أواق من الجبن فوق رف لي من خزانة خاصة، ليكون ذلك عشائي عندما أعود ليلاً. وكان هذا القدر الضروري من الإنفاق يستغرق جانباً كبيراً من شلناتي الستة التي ينبغي أن أعتمد عليها طوال الأسبوع. وأحسب أن أجر المسكن كان يدفعه أبي، لأني لم أكن أسأل عنه ألبتة. ولم أكن أتلقى أي مساعدة أخرى كيفما كانت - عدا ملابسي على ما أذكر - من صبيحة الاثنين إلى مساء السبت من كل أسبوع. وما أذكر أني حظيت من أي مخلوق بأيسر شيء من الترفيه أو الإرشاد أو المعونة، أما أيام الآحاد فكنت أقضيها إلى جانب أبويَّ في السجن
ولقد طالما تسكعت في الطرقات والجوع يقض أحشائي؛ وأعرف أنه لولا رحمة من الله تداركتني لكان من أيسر الأمور أن أتحول على يد من يريد، لصاً متمرداً أو عياراً متشرداً. . .
انتقل تشارلز بعد حين إلى مسكن قريب من سجن مارشالسي حيث كان هو أول الدالفين من الباب صبيحة كل يوم، لينعم بلقاء أبويه ويتناول معهما إفطاره، وكان في هذا أكبر العزاء لنفسه المحرومة المستوحشة
حياة جديدة(520/29)
على أن هذه الحياة المؤلمة انتهت عند حد، وكأن طبيعة دكنز كانت قد صهرت في بوتقة الآلام إلى القدر الكافي، وتهيأت لأن تتجلى في عنصرها المشرق الوضاء، فهاهو ذا والده يغادر السجن وقد سوى مشاكله المالية. وهاهو ذا تشارلز يجد نفسه في الثانية عشرة من عمره تلميذاً بإحدى المدارس بعد أن كان عاملاً في مخزن صباغة! واستمر به الحال على ذلك سنتين
وإنه ليصور لنا، فيما بعد، هذه الفترة من حياته تحت عنوان (مدرستنا) ويصف لنا شخصياتها وحوادثها وقد استقر عليها غبار ربع قرن كامل من الزمان
. . . والآن وقد بلغنا تلك المرحلة من حياة دكنز لا نجدنا بحاجة إلى الإطناب في تتبع بقية المراحل لسبب واضح: ذلك أن خصائص دكنز الأدبية وعناصر تفكيره، وكل مقومات حياته الفنية إنما تكونت في هذه الفترة التي ألممنا بها من سيرته؛ أما ما تلا ذلك من أحداث فهو أشبه شيء بالحاشية تحت المتن، أو الإطار حول الصورة. ولكن الإشارة إليه مع ذلك أمر محتوم لإتمام هذه الهالة المشرقة التي نريد أن نرسمها لدكنز غير مباهين كي تتسنى لنا رؤيته على وضعه الحقيقي وهو في عنفوان مجده وقمة شهرته. . . فها هو ذا يغادر مدرسته بعد عامين ليعمل في مكتب أحد المحامين عاماً وبعض العام. ثم تتجه به نزعته الأدبية إلى الصحافة فيعمل مندوباً برلمانياً لبعض الصحف، وتتفتح أمامه في هذه الفترة من حياته آفاق جديدة. فهو يدرس فن ليستعين به على أداء مهمته الصحفية ويتعرف إلى بعض الشخصيات البارزة بحكم عمله وطبيعة مهنته، ولكن أهم ما يستحق التسجيل في نظرنا هو انصرافه في ذلك العهد إلى التزود بأنواع العلوم والمعارف المختلفة، وتردده الطويل على قاعة المطالعة بالمتحف البريطاني. ويبدو أن هنا كانت مدرسته الحقيقية التي اضطلع فيها بمهمة المعلم والتلميذ معاً. . .
وفي عام 1831 - وكان في التاسعة عشرة من عمره - أصبح مندوباً لصحيفة , وبعد سنيَّات قليلة كان المحرر الدبلوماسي للمورننج كرونكل. . . منصبٌ وثب به إلى الأمام وثبات بعيدة!
وكان أول إنتاج دكنز الأدبي مجموعة مقالات نشرها في (المجلة الشهرية) بتوقيع ثم ضمنها كتاباً في مجلدين أصدره في ربيع عام 1836م(520/30)
وقد أعجب الناس من هذه المقالات بروح التهكم اللاذع الذي يسيطر عليها، وبالفكاهات الرقيقة الحلوة يرسلها دكنز خلال عباراته من غير تصنع ولا كلفة، ثم بقوة ملاحظته التي تجلو له الحقائق فيبسطها أمام القارئ بسطاً رفيقاً دقيقاً
وكانت هذه خصائص دكنز وسماته الفنية في سائر ما كتب، يضاف إليها خبرته الدقيقة الواسعة بحياة الطبقتين الوسطى والفقيرة من أبناء وطنه، وتسجيله البارع لآلامهم وآمالهم، وكفاحه الدائم في سبيل النهوض بهم ورفع أعباء الحياة ومظالم المجتمع عن كواهلهم، مما صير لأدبه قيمة اجتماعية وأخلاقية كبرى، قد تساوي قيمته الفنية لدى الكثيرين إن لم تفقها.
(للكلام بقية)
محمود عزت عرفة(520/31)
من الغرب
أغاريد بليتيس
لشاعر الهوى والغزل بيير لويس
(إلى شادية الأغاني!)
بقلم الأستاذ عبد العزيز العجيزي
(بليتيس)
فتاة غيداء فاتنة، مزملَّة بالصوف، وكاعب حسناء ساحرة، مدبَّجة بالدمقس والحرير، وغادة زهراء شائقة، متشحة بالكروم والأزهار، وغانية هيفاء رائعة ملتفة بأوراق الأشجار. . . أما أنا، فسافرة المحيا، عارية الجسد، خالعة العذار، حاسرة الإزار، ممزقة الغُلف، هاتكة سادل الحجب، متجردة من الحلي والذهب، ومن نعل يقي قدمي. هاأنذا بليتيس يا حبيبي! خذني بين أحضانك، عارية بلا ثياب تستر غصني المعتدل الفارع، ولا دثار يغطي قوامي الممشوق البارع.
حبيبي إن ليل شعري ظلال حلكته، ودجى غدائري منساب حول قدي، مسترسل على جسدي كأبهى الرياش. . . وثغري الدقيق، يقطر الشهد والرحيق، من بين فصي عقيق! حبيبي؛ خذني بين ذراعيك، وضمني إليك، واهصر عطفي بساعديك، ثم انهل رحيق ورودي، واقطف جنى ثماري، وارشف خمر أزهاري. . .
هاأنذا عارية كما جاءت بي أمي في نزوة من نزوات الهوى الجامح والهيام الدافق. . . فاشد بالأغاني إذا فتنك هيف قوامي، واصدح بالأماني إذا سحرك أضحيان جمالي، وترنح بالألحان والأنغام، ترنح النشوان بالمدام!
(تسابيح الليل)
امتدت ظلال الأشجار القاتمة، وأشباحها القائمة، كما يمتد الطود الراسخ. وانتشرت الكواكب متألقة في مساري الأفلاك ومسابح الأملاك؛ ولاطف النسيم الحالم أهداب الجفون الناعسة، وداعب العبير اللافح ورود الخدود الزاهرة. . . بينما الليل ساج، يوحي الأشعار(520/32)
بسكونه، ويلهم الأفكار بصمته، والدجى ساهر يردد ترانيم قيثاري، ونسيمه الرقراق هائم يداعب غدائري، والظلام ناشر على قدمي غلالة من السحر والفتون. . . فتأخذني روعة جلاله، وتهيجني فتنة جماله. هنالك. . . يجود سنا محياي الباهر، بربيع موفق زاهر، تتفتق فيه الورود، وتتفتح الأزهار، ويفوح النسيم معطراً من شذى نسماتي، وعبير نفحاتي؛ وتذيع نسمات الروض همسات شوقي وحنيني، ويرتل هزار الأيك شكاة تأوهي وأنيني؛ ثم تسطع النجوم، وتأتلق الكواكب من سنا عينيّ، وضياء محياي!
واهاً حبيبتي! أترانيم صوتك العذب الندي، من شدو خرير المياه المترقرقة، أم من سكون الطبيعة الصامتة؟! واهاً لصوتك الحلو الرنين! واهاً لنغمك الشهي الرخيم! واهاً لغنائك الذي يهزّ أحاسيس نفسي وحياً وإلهاماً، ويثير أهازيج قلبي طرباً وإعجاباً. . .
(آهات)
علت وجهي حمرة الخجل، ولم ألب نداء الغزل، لرشف سلاف القبل. . . فارتعشت كزهرة بللتها حبات الندى، واضطرب قلبي؛ وخفق لخفقان فؤادي صدري ونهداي. . . وبعد دلال يثير الوجد، وإعراض يذيب الكبد، قلت: أواه. لا. لا!. . . ثم أسندت رأسي إلى الوراء. ولكن لم تغادر قبلة الحب شفتيّ، ولم تفارق رعدة الهوى ساقيَّ!
حينئذ، عانق رأسي مستعطفاً، طالباً عفوي وصفحي. . . فتنسمت شذى أنفاسه، ونشقت عبير أنسامه، وتأرج النسيم بنفح زفراته؛ ثم مضى عني وارتحل. . .!
أواه! هاأنذا وحيدة حزينة، أبكي ربيع حبي الراحل، وأندب زهر عمري الذابل، بعد أن طوح بي البعد في بيداء الهجر، بين تأوهات الحسرات، وتناوح العبرات!
أواه! هاأنذا راسفة بين أكداس آلامي وأحزاني، غارقة في خضم أسقامي وأشجاني؛ شاكية لوعة هواي، باكية هوى صباي! وقمت أنشد حبي الثاوي في الغاب المهجور، والربع المقفر؛ ورحت أناجي شبابي الهاوي في الرياض الموحشة، والمسالك الواجمة التي كتمت سر غرامنا مذ وطئتها أقدامنا! فلم أر من الأطياف إلا أشباح الذكريات، ولم أسمع من الأصوات إلا أصداء التأوهات!
أواه! لقد نفشت كظيم لوعات حيري حزينة، وزفرت أليم آهات حري كليمة، تهاوت بين الحشائش متهالكة، يذيبها الجوى، وتوارت بين الأعشاب غضبي كسيفة، يدميها الضنى!(520/33)
(أمطار)
ترقرق المطر فبلل الكون برذاذه، ولا مس الأرض بقطراته، ثم جاءت السماء بماء منهمر؛ وطاب لي السير تحت وابله وطله، متفيئة بوارف الشجر وظله.
واهاً للمطر في الربيع! ما أرقه وأعذبه! ما أروع الأغصان الدانية، وقد كللها الزهر الزاهي، وتهاوت عليها ظلال النوّار الضاحي، وماء المطر الضافي؛ فانتشر منها أريج يفوح بالعطر الزكي، والعرف الندي؛ وطاف بالنفس الولهى فأطربها، وحلق فوق الروح الحيرى فأنعشها. ولاح سنا محياي مشرق الضياء، ساطع اللألاء!
واحسرتاه! كم من الأزهار النضرة مبعثرة في الفضاء؟ كم من الورود العبقة ملقاة في مدارج الفناء؟ فرحمة بها يا حبيبتي ورفقاً! إدخريها للنحل، كي لا تهب عطرها للريح، وتذهب أدراجها برياها وجناها، ملوثة بطين الأرض وأقذارها.
عبد العزيز العجيزي(520/34)
البريد الأدبي
من رسائل الرافعي - دراسة الأدب العربي
عنَّ لي أن أعرف رأي الرافعي في دراسة الأدب، فكتبت إليه خطاباً في ذلك كان الجواب عنه هذا الكتاب:
طنطا في 30 ديسمبر سنة 1912
أيها الفاضل
إن أعمالي كثيرة في هذه الأيام، ولذا أراني أبطأت في الرد على كتابك، وإني مجيبك عنه بإيجاز لأن ما سألت عنه يصعب التبسط فيه على وجه واحد
إنك تريد امتلاك (ناصية الأدب) كما تقول، فينبغي أن تكون لك مواهب وراثية تؤديك إلى هذه الغاية وهي مما لا يعرف إلا بعد أن تشتغل بالتحصيل زمناً، فإن ظهر عليك أثرها وإلا كنت أديباً كسائر الأدباء الذين يستعيضون من الموهبة بقوة الكسب والاجتهاد، فإذا رغبت في أقرب الطرق إلى ذلك فاجتهد أن تكون مفكراً منتقداً. وعليك بقراءة كتب المعاني قبل كتب الألفاظ، وادرس ما تصل إليه يدك من كتب الاجتماع والفلسفة الأدبية في لغة أوربية أو فيما عرب منها. واصرف همك عن كتب الأدب العربي بادئ ذي بدء إلى كليلة ودمنة والأغاني ورسائل الجاحظ، وكتاب الخبران، والبيان والتبيين له. وتفقه في البلاغة بكتاب المثل السائر؛ وهذا الكتاب وحده يكفل لك ملكة حسنة في الانتقاد الأدبي وقد كنت شديد الولوع به
ثم عليك بحفظ الكثير من ألفاظ كتاب نجعة الرائد لليازجي والألفاظ الكتابية للهمذاني، وبالمطالعة في كتاب يتيمة الدهر للثعالبي والعقد الفريد لابن عبد ربه وكتاب زهر الآداب الذي بهامشه
وأشير عليك بمجلتين تعنى بقراءتهما كل العناية (المقتطف والبيان). وحسبك (الجريدة) من الصحف اليومية، والصاعقة من الأسبوعية، ثم حسبك ما أشرت عليك به فإن فيه البلاغ كله. ولا تنس شرح ديوان الحماسة وكتاب نهج البلاغة فاحفظ منهما كثيراً ورأس هذا الأمر بل سر النجاح فيه أن تكون صبوراً وأن تعرف أن ما يستطيعه الرجل لا يستطيعه الطفل إلا متى صار رجلاً؛ وبعبارة صريحة إلا متى انتظر سنوات كثيرة(520/35)
فإن دأبت في القراءة والبحث وأهملت أمر الزمن طال أو قصر انتهى بك الزمن إلى يوم يكون تاريخاً لمجدك، وثواباً لجدك، والسلام عليك ورحمة الله.
(الرافعي)
(المنصورة)
محمود أبو ريه
معنى قوله تعالى: يخرج الحي من الميت
إن الله تعالى جعل أساس الخلقة في مختلف أنواع الحيوان والنبات هو حفظ النوع. ولحفظ النوع يجب أن تتوافر جملة عوامل أهمها المحافظة على الجنين حتى ينمو ويقوى، ومنها إيجاد نسل قوي يصلح لهذه المحافظة وهذا النمو. وهذان العاملان جليان في الحيوان - أما في النبات فيحتاج الأمر إلى بعض الشرح. فخذ مثلاً شجرة النبق تجد أن ثمرتها فاكهة صغيرة داخلها نواة تحتوي على جزأين أحدهما غلاف صلب متين يحتاج في كسره إلى مجهود، والجزء الآخر داخل هذا الغلاف الصلب وهو حبة صغيرة مستديرة هشة ضعيفة تسمى الجنين؛ وهذا الجنين وما يحيط به من غلاف صلب متين يشابه الجنين في بطن أمه في عالم الحيوان؛ لأن الله تعالى خلق حوله هذا الغلاف للمحافظة عليه من يد عابث أو أسنان آكل أو أن تهضمه معدة الطيور إذا ابتلعته لأنه لا يتأثر بعصيرها الهضمي. أما الحكمة في خلق الجزء الفاكهي فهي تبادل المنفعة، فيأكله الآكل هنيئاً ثم تنتفع النواة من هذا الآكل بإلقائها في الأراضي النائية لتنبت فيها، وكذلك الطيور تبتلعها ثم تتبرز النواة سليمة في جهات نائية لتنبت فيها؛ وهذا سر من أسرار الكون، لأنه إذا سقط كل حب الشجرة تحت غصونها وحول جذعها ولم يفرق بهذه الطريقة الحكيمة هنا وهناك فإنه يتراكم بعضه فوق بعض ويفقد قوة إنباته، وإذا نبت البعض منه فإنه ينبت ضعيفاً إلى حين ثم يموت
ولنفكر فيما يحدث في هذه الثمرة الصغيرة بعد أن تنزع من الشجرة؟ الذي يحدث هو أن يموت بها الجزآن: الفاكهة وغلاف النواة الصلب، ويفقدان الخواص الحيوية كالإنبات والتمثيل الضوئي وامتصاص الغذاء وما إلى ذلك، بدليل أنهما إذا وضعا في الأرض(520/36)
للإنبات بعد تجريدهما من الجنين يصيبهما التعفن. أما الجنين فيبقى حياً وفيه كل معاني الحياة النباتية ولكنه ضعيف ومحاط بغلاف قوي صلب متين؛ فإذا استمر الحال على هذا المنوال استحال الإنبات؛ ولذا شاءت إرادة الله تعالى أن يتشقق هذا الغلاف الصلب من تلقاء نفسه بعد مدة معينة من وضعه في الأرض ليسمح بنمو الجنين إلى خارج النواة. وهذا يفسر ما جاء بالشطر الأول من الآية الشريفة (أي يخرج الجنين الحي من الغلاف الصلب المحيط؛ وهو ميت وذلك بقدرته وإرادته) أما الشطر الثاني فهو مكمل لهذه العملية، لأن هذا النبات بعد أن ينمو الجنين خارج هذا الغلاف الصلب يتخلص منه نهائياً إذ يصبح لا فائدة منه بعد أن قام بمهمته (أي ويخرج الغلاف الصلب الميت من الجنين النابت الحي بدون أن يعيق نموه) وقس على ذلك في عالم النبات على اختلاف أشكاله وأنواعه. والذي يؤيد ذلك ما جاء في نفس السورة وبعد بضع آيات من الآية التي نحن بصددها قوله تعالى: (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء، فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكما. . . انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه، إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) ففي هذه إشارة صريحة إلى الإنبات بعد أن يفلق الحب والنوى ويخرج الحي منها من الميت فيها فينبت الحي بالماء فيينع ويثمر ويأتي من كل الثمرات وهذه قدرة بالغة
أما ما جاء بقول السائل من أن الحي يخرج من الحي فهذا لا علاقة له بهذا الموضوع. والذي أوجد هذا اللبس هو أن المفسرين قد تركوا الشطر الأول من الآية الشريفة وهو (إن الله فالق الحب والنوى) وراحوا يفسرون الجزء الثاني على حدة ويطبقونه على نظريات بعيدة كل البعد عن القصد المطلوب. أما الذي ينطبق هنا على نظرية العلماء هو الجنين الذي بالحبة فإنه حي ولا يتكون طبعاً إلا من شجرة حية.
دكتور
عباس محمود حسين
كبير أطباء منطقة التعليم بأسيوط
بنو إسرائيل والطعام الواحد
جاء في مقال الدكتور زكي مبارك (أخطار الطعام الواحد) هذا الكلام: (وقد صرخ اليهود(520/37)
لعهد موسى من الطعام الواحد، كما قص القرآن، فأوصاهم موسى بهبوط مصر، لأن مصر منوعة الفواكه والحبوب والبقول، وهذا سر القوة التي جعلت المصريين بأمن من طغيان الأمراض الفواتك على اختلاف الأجيال). والآية المشار إليها هي قوله تعالى: (اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم). وظاهر أن (مصراً) في الآية مرادفة لكلمة (بلد). والمعنى: اهبطوا أي مصر من الأمصار تجدوا طلبتكم. أما (مصر) النيل المبارك فهي علم ممنوع من التنوين وليس مراداً في الآية. وظاهر أيضاً أن الدكتور مبارك قد سها في فهمه الآية وبنى على هذا السهو النتائج التي تقدمت
(دمشق)
(س)
في الأدب المصري (فكرة ومنهج)
صدر أخيراً هذا الكتاب، لأستاذنا الفاضل أمين الخولي، وكتب مقدمته تلميذ من تلاميذه في الجامعة اقتداء بسنة السلف من العلماء
وفي الكتاب دعوة حرة إلى دراسة الأدب المصري دراسة خاصة وبيان للمنهج الذي يجب أن يتبع في هذه الدراسة
فهو إذن قسمان: فكرة ومنهج. أما الفكرة، فقد أملتها اعتبارات قومية مصرية خاصة وأخرى فنية أدبية عامة
يقول المؤلف في الاعتبار القومي الخاص (إن حياً لن يفكر بنفسه وهو حي، لأن إيمان الحي بنفسه سر وجوده الفطري، ومصر لم تكفر بنفسها لحظة ما، فكيف لا تؤمن بشخصيتها في الفنون بعامة ثم في الأدب بخاصة. وفي هذا العصر الإسلامي الذي ظلت فيه كدأبها شاعرة بنفسها يقظة لذاتها، فهي لهذا تصر على أن تدرس وجودها الأدبي في العصر الإسلامي)
ثم تناول المؤلف الاعتبارات الفنية العامة فبين الخطأ الشائع في تحديد العصور الأدبية تحديداً زمنياً كالأموي والعباسي دون نظر إلى المكان الذي يشغله هذا الأدب كالعراق أو مصر، فذلك إخلال بالتحديد والضبط وإهمال للمؤثرات الطبيعية القاهرة مع الاهتمام بحالة(520/38)
أيسر الأثر وهو الحكم السياسي وزمنه. فالبيئة الطبيعية لها أثرها القوي على ما يعيش فيها من ماديات ومعنويات والأدب من أشد هذه المعنويات تأثراً بالبيئة والإقليم.
ويقول المؤلف إن مصر بوصفها الطبيعي الفطري قد تميز كيانها الاجتماعي واستقر ماضيها التاريخي فتوافرت لها مقومات البيئة المتفردة الواضحة. فدرس أدبها عمل علمي صحيح الأصول.
وأنكر الأستاذ وحدة الثروة الأدبية العربية وحدة تامة، وبيَّن ما يتميز به أدب أمة عن أدب أخرى، وأوضح كيف تكون الإقليمية منهجاً واضحاً صحيحاً مع الطموح إلى دعوة أدبية إنسانية عامة، ومشاركة الأمة في الحياة الأدبية العالمية مع وضوح مشخصاتها الأدبية المميزة لها
والقسم الثاني من الكتاب رسم للمنهج الصحيح في دراسة الأدب المصري. فبين المؤلف معنى الأدب وتاريخه وما بينهما من صلة، ثم قسم منهجه إلى خطوات ثلاث: (ما حول الأدب) وهو ما يتيسر به درس النص الأدبي حتى يفهم المتن فهماً مجدياً له أثره في تكوين الذوق الأدبي ومعاونته الهامة في تحقيق تاريخ الأدب، ثم (المتن الأدبي) وهو فهم النص بهداية الأضواء التي تحف به مع الاعتماد على وسائط هذا الفهم من علوم العربية وفنونها الأدبية
ثم ندرس (تاريخ الأدب) فنستطيع أن نلمح على مصور الحياة مناطق متميزة وفوارق واضحة، نستطيع بها تأريخ الحياة الأدبية ووصف أدوارها وبيان مسالك الحياة الأدبية فيها وسبيل تطورها وموقع حاضرها من ماضيها؛ وأي مستقبل فني وراء ذلك ينتظرها
ذلك بيان لما ورد في الكتاب من آراء جريئة سديدة لم أشأ أن أنقدها، لأني أوافق عليها جملة وتفصيلاً. ولن يكفي هذا العرض السريع عن قراءة الكتاب، فهنالك قضايا تستحق اهتمام الباحثين، لأنها تتصل بدعوة فنية قومية من جهة، وتتصل من جهة أخرى بما ينادي به الناس الآن من ضروب الوحدة.
محمود عبد المنعم مراد
ليسانس في الآداب من جامعة فؤاد(520/39)
العدد 521 - بتاريخ: 28 - 06 - 1943(/)
عرض واحد
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان خلاصة ما قلناه في مقالنا السابق عن المرأة والفنون أن نصيب المرأة من الفنون محدود لا يرتقي بها إلى مراتب النبوغ العليا بين الشعراء والمصورين والموسيقيين، وختمناه بقولنا: (إن استحضار هذه الحقيقة لازم جد اللزوم في عصرنا هذا، لأننا نسمع المذاهب الاجتماعية حولنا تمارى على حساب أهوائها ومراميها في تقديم الجنسين بين قائل بالتشابه الكامل وقائل بالفوارق والمزايا التي يقتضيها توزيع العمل واطراد الخلق في طريق التخصيص والامتياز. ورأينا نحن أميل إلى هذا المذهب القائل بالفوارق والمزايا، لأنه الحق الواضح أمامنا، ولأنه العدة التي ندرع بها أذهاننا للقاء فوضى المذاهب التي فيها الضير أكبر الضير على المجتمع الإنساني وخلائق الإنسان)
أما المذهب القائل بالتشابه الكامل بين الرجال والنساء فهو مذهب الشيوعية، وهو ينزع هذا المنزع في تقديم الجنسين لأن فلسفة كارل ماركس تقتضيه ولا تستقيم بعضها مع بعض إلا إذا فرضنا أن الجنسين متماثلان متشابهان في الواجبات والحقوق. وآفة كارل ماركس وأتباعه أنهم يريدون أن تتحول الحقائق ليصبح مذهبهم صحيحاً قابلاً للتنفيذ، ولا يريدون أن يتحولوا هم في آرائهم وفروضهم وتقديراتهم لتصبح الحقيقة هي الحقيقة بمعزل عن المذاهب والفلسفات
فالعائلة عندهم هي أساس الاستغلال
وقيام المرأة بشؤون البيت هو أساس العائلة
والتفرقة بين الرجل والمرأة في الواجبات والحقوق إنما تنشأ من قيام المرأة بشؤون البيت وانصراف الرجل وحده إلى الأعمال الخارجية
لهذا يجب أن تكون المرأة مساوية للرجل، وألا يكون بينهما فارق في كفاءة من الكفاءات، لأنهم مضطرون إلى هذا القول في طريق إلغاء العائلة
فلتكن الحقيقة إذن هكذا لأنهم هكذا يريدونها، لا لأن قوانين الخلق والتكوين منذ وجدت الذكور والإناث في الحياة الحيوانية والنباتية تشهد بالتفرقة بين الجنسين، وتشهد بأن الحياة ماضية في طريق تقسيم العمل والاختصاص ولا تمضي في طريق التشابه وإلغاء الفروق(521/1)
وبلغ من سخف الغلاة منهم في هذا الباب أنهم يسمحون للمرأة بالإجهاض ولا يرون فيه وجهاً للعقاب، لأن الرجال والنساء متساوون
وأنت تسأل: وما شأن هذه المساواة في إباحة الإجهاض؟ فيقولون لك نعم؛ إن الرجل لا يكرهه أحد على إنتاج النسل فلماذا يفرض على المرأة أن تحمل على غير إرادتها؟
حقارة في التفكير هنا لا تقل عن الحقارة في الشعور، لأن هؤلاء الشيوعيين ينسون أساس مذهبهم وهم يلغطون بهذا اللغو السخيف: ينسون أن مذهبهم كله قائم على تغليب المجتمع على حرية الفرد في تصرفاته العامة. فكيف يتفق مع هذا المذهب أن تكون حرية الفرد غالبة حتى على حفظ النوع وتجديد الحياة؟
وليس هذا كل ما هنالك من حقارة التفكير وحقارة الشعور، لأن القياس العقلي معدوم هنا لا يستند إلى برهان. إذ الإكراه وعدم الإكراه إنما يكونان في دور الإرادة والرغبة ولا يكونان بعد خلق الجنين ووجود هذه الحياة الجديدة. والمرأة تستطيع كما يستطيع الرجل أن تمتنع عن العلاقة الجنسية فلا فرق في هذا بين الرجال والنساء، ولكن المسألة إذا وصلت إلى جنين يخلق وحياة جديدة تظهر فلا الرجل ولا المرأة يملك هنا أن يريد أمام إرادة الحياة وأمام القانون الطبيعي والقانون الإنساني اللذين يحميان كل حياة
وهكذا تلتقي في كثير من الآراء الماركسية حقارة الفكر وحقارة الشعور
وهكذا ينبغي أن نحرس عقول الشبان ونفوسهم من هذه الحقارة في شعورهم وهذه الحقارة في تفكيرهم، وأن نضع أيديهم على موطن الداء الذي ليس به كثير خفاء
وموطن الداء فيما نعتقد إنما هو الكسل والحسد
وصدق (فرويد) وأصحابه حين قالوا إن المرتبة الأولى من مراتب الشقاء في العقد النفسية إنما هي كشف العلة الحقيقية لعين المريض المصاب بها
والعلة الخفية التي تجنح ببعض الشبان عندنا إلى التفكير الشيوعي هي أنهم يحسدون وأنهم يكسلون، وأنهم يريدون من المجتمع أن يعطيهم جميع حظوظ الحياة؛ ويخيل إليهم أن المجتمع الشيوعي كفيل بتحقيق هذا المطلب، وإذا لم يكن كفيلاً بتحقيقه
فاقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي
على حد قول الشاعر العربي، أو (عليَّ وعلى أعدائك يا رب) كما قال شمشون الجبار(521/2)
وكلمة وجيزة تفتح عيون هؤلاء المخدوعين على الحقيقة التي تبدو من وراء ستار رقيق
هذه الكلمة الوجيزة هي أن المجتمع الشيوعي لا يدعي أية دعوى في الإصلاح الاجتماعي إلا سمعنا دعوى مثلها من ناحية الفاشيين والنازيين
فمحاربة البطالة وإسعاد المرأة وإنصاف الفقراء وما شابه هذه الدعاوى ذائعة بين الفاشيين والنازيين ذيوعها بين الشيوعيين، والإحصاءات التي يسردها هؤلاء تشبه الإحصاءات التي يسردها هؤلاء، وكلها في الواقع تمثل حالة طارئة أمكن فيها تشغيل معظم الأيدي من الذكور والإناث، وهي حالة الإنتاج الحربي التي تتعلق بعوارض الحرب ولا تتعلق بنظام السلام والاستقرار
ومما يؤسف له أن تسري هذه الخدعة إلى نفوس نفر من الشبان الأدباء فيغتروا بالدعاوى الطوال العراض التي يروجها الشيوعيون عن الحياة الأدبية أو الحياة الفنية بينهم، ويحسبونها الفردوس الموعود لكل أديب أو كل مشتغل بفن جميل
والآفة هنا كالآفة هناك هي الأخذ بالسماع وقلة الاطلاع على حقائق الأمور من وراء الدعاوى والأقاويل
ولو اطلعوا على تلك الحقائق لعلموا أي جو خانق هو ذلك الجو الذي يعيش فيه الأدباء الملهمون من الشيوعيين
ولا ضرورة للإطالة في هذا الصدد لأن كلمة وجيزة قد تغني فيه غناء الإطالة في البحوث والفروض. وما حاجتنا إلى بحث أو فرض بعد أن نعلم أن ثلاثة من فحول الشعراء عندهم قد انتحروا في فترة واحدة، وأن شاعراً آخر هو أكبرهم وأفحلهم قد مات في عنفوان الرجولة ميتة تحيط بها الشبهات؟
أما الشعراء الثلاثة الذين انتحروا فهم مايكوفسكي
وأما الشاعر الذي مات في عنفوان الرجولة فهو ألكسندر ولعله الشاعر الوحيد الذي يقارب في أفقه شعراء النهضة الأولى بين الروسيين
ولو كان هؤلاء الشعراء من أعداء الشيوعية لقلنا إنهم برموا بالحياة لاختلاف العقائد والأمزجة والآمال
ولكنهم جميعاً من الغلاة في الدعوة الشيوعية، وممن ظهروا واشتهروا بعد الانقلاب الأخير(521/3)
كذلك لو كانوا من طبقة واحدة لأمكن أن يقال إن الشيوعية تلائم طبقة ولا تلائم طبقة أخرى، ولكنهم متفرقون في النشأة، منهم العامل الذي يبشر بالمدينة، والفلاح الذي يبشر بالقرية والمعيشة الريفية، وكلهم كرهوا الحياة في المصانع وفي الحقول. وأصدق ما يقال في هذا أن الشيوعية جو خانق لكل قريحة ملهمة، ولو كان صاحبها من دعاتها الغلاة
ونعود فنقول: (فتش عن الحسد والكسل) لأنهما على التحقيق علة كامنة وراء كثير من الظواهر الغريبة التي تلاحظ على بعض الناشئين في الجيل الحاضر، وبهذه العلة نستطيع أن نهتدي إلى تفسير نزعات كثيرة غير الجنوح إلى الشيوعية وما شاكلها من المذاهب الاجتماعية، ومنها تلك النزعة - أو تلك الضجة - التي ترتفع ثم تخفت آونة بعد أخرى باسم أدب الشيوخ وأدب الشباب
فهي ضجة غير مفهومة إلا أن تكون حسداً معيباً مقروناً بكسل ضعيف
وكل ضجة تساق في تسويغها لا تؤيدها بل تنقضها وتكشف عن الباعث الخفي من ورائها وهو باعث الحسد المعيب والكسل الضعيف
سئلت أخيراً رأيي في بعض الأدباء الكبار من المصريين فقلت عن الدكتور طه حسين إن قدرته في تأريخ العصور الأدبية (تأتي بعد قدرته في القصة أو الكتابة القصصية، فهو يحسن إقامة الحدود بين العصور ويحسن تمييز كل عنصر بمزية عامة، ولكنه أقرب إلى حدود العالم منه إلى حدود الفنان، ويأتي طه حسين الناقد بعد طه حسين المؤرخ وبعد طه حسين صاحب القصة؛ لأن المدار في النقد كله على مقاييس الشعر والبلاغة الشعرية، وليس نصيب الدكتور طه حسين في هذه المقاييس بأوفى نصيب)
كتبت هذا الرأي فعقب عليه بعض الحانقين على شيوخ الأدب يقول: (ونحن إذ ننشر هذا الرأي نوجه إلى الأستاذ العقاد السؤال الآتي: كيف تحتفظ بأمارة الشعر التي خلعها عليك طه حسين ونصيبه من مقاييس الشعر والبلاغة الشعرية ليس بأوفى نصيب؟ رجعة إلى الحق يا عميد الأدب ويا أمير الشعر ويا. . . أدباء الدعاية. . .)
هذا هو التعقيب العجيب
فهل ركب على كتفي إنسان رأس يفهم مما كتبناه عن الدكتور طه حسين أننا أدباء دعاية لو كانت المسألة مسألة رؤوس تفهم وبراهين تساق؟(521/4)
إن الذي كتبناه لينقض صفة الدعاية خاصة دون غيرها من الصفات
لأنه يدل على أن أدباء الشيوخ لا ينسون آراءهم من أجل دعاية بعضهم إلى بعض، وإنني لا أنسى الحق من أجل الدعاية لنفسي، وإلا لقلت عن الذي سماني أميراً للشعراء أنه الحكم الوحيد في قيم الشعر وأقدار الشعراء
فهل هي إذن مسألة فهم وصدق، أو مسألة حسد وكسل؟
كلا. إنما هي مسألة حسد وكسل ولا زيادة! ولولا الحسد والكسل لخجل هؤلاء المساكين من أنفسهم إذ يهجعون في مراقدهم وينعون على الكتاب المشهورين شهرتهم ولا ذنب لهم إلا أنهم يصدرون الكتاب بعد الكتاب وأولئك المساكين يقلبون شهادة ميلادهم ولا يزيدون
إنه عرض واحد هذا الحسد وهذا الكسل اللذان يفسران النزوع إلى الشيوعية، ويفسران استعجال الشهرة، ويفسران كل انتقاد مريض لا يصحبه عمل ولا تصحيح
عباس محمود العقاد(521/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
نفحة اليمن - مكانة مصر بين الأمم العربية - محاسبة النفس - معادن الأرواح والعيون
نفحة اليمن
منذ أعوام لا أدري كيف مضت وانقضت كان في الديار المصرية كتابٌ اسمُه (نفحة اليَمن، فيما يزول به الشَّجَن)، وهو كتاب في المواعظ كان له في نفسي تأثير. ولو شئت لقلت إن إحدى المواعظ التي وردت فيه كانت دستوراً لحياتي في البيت، ولأسلوبي في معاملة الأهل. فأين من ينشر هذا الكتاب من جديد، عساه يؤدي خدمة يحتاج إليها الناس في هذا الجيل؟
ومنذ أعوام لا أدري كيف مضت وانقضت كان اسم (حَسان اليماني) هو اسم الحكيم الذي ألهمته الغيوب مصاير الناس في أواخر الزمان، وكانت أحكامه المنظومة تُنشَد على (الربابة) في سهرات الريف
ومنذ أعوام لا أدري كيف مضت وانقضت كانت رحلة مُعاذ بن جبل إلى اليمن مما يتداوله أكثر الناس، وكانت فيها عظات قليلة الأمثال
واليوم تلقيت نفحة جديدة من نفحات اليمن جاد بها أحد أعضاء (نادي الإصلاح العربي) في عَدَن وهو السيد محمد بركات، فهل تصل مجلة الرسالة إلى عدن كما تصل إلى السيد عثمان شبيكة في ملكال بالسودان؟
كانت أخطار الحرب أوهمتنا أن الصلة انقطعت بيننا وبين اليمن والهند، وأن التخاطب مع سكان تلك البلاد لن يتيسر إلا بعد حين أو أحايين
فيا فرحة القلب لخطاب يصل من عدن بعد أن قيل إن وسائط النقل البري والبحري والجوي قُصِرتْ قصراً على معدات الحرب!
لليمن تاريخ في العمران يجهله أكثر الناس، فلنفصله في كلمات:
أهل اليمن هم أول أمة في التاريخ نظّمت الرّي، بفضل ما عملوا في سَد مارِب
ومن أبناء اليمن كان من نظموا الريّ في الأندلس، والأوربيون يعترفون بأن تنظيم الريّ في بلادهم منقول عن عرب الأندلس(521/6)
وأول من فكر في إقامة خزان أسوان هو الحسن بن الهيثم، وهو عربيٌّ وَفَد على مصر من العراق منذ نحو عشرة قرون، ولعلهُ يمنيُّ الأصل
واليمنيون هم أقطاب الفاتحين لجُزر البحر الهندي، ولهم أيادٍ في مد لغة العرب إلى الهند والصين
والظاهر أن التنافس بين أبناء الجزيرة كان له صدىً في العالم القديم، فكان أبناء الشمال وهم الفينيقيون يهتمون بتحضير أوربا الشرقية، وكان أبناء الجنوب وهم الحضرميون يهتمون بتحضير آسيا الغربية، ومن هذا الجهاد وذاك رسخ السلطان الحضري لعرب ذلك الزمان
والمفهوم أن قصة السندباد البحري هي أغرب قصة روتها السياحات البحرية، ولعلها أظرف وألطف من بعض قصص الإغريق، فهل تكون إلا من إنشاء حضرمي مفطور على مقارعة الأمواج فوق ألواح هي بالنسبة إلى بواخر اليوم خيوط من العنكبوت؟
وهنا لطيفة من اللطائف لم يتحدث بها متحدث، وهي ديباجة الشعر في مصر لآخر أيام العهد الفاطمي وأوائل العصر الأيوبي، وهي ديباجة أذاعها الشاعر عُمارة اليمني، وعن هذا الشاعر أخذ شاعرنا أحمد شوقي عبارة أو صورة سأذكرها يوم يجيء مكانها في هذه الأحاديث
ثم ماذا؟ ثم كان اليمن يد مصر في التعرف إلى الشرق البعيد، فبفضله وصلت السفائن المصرية إلى آفاق لا نعرف مداها اليوم إلا بأجنحة الخيال
ثم ماذا؟ ثم أعتذر لأستاذنا أحمد زكي باشا، فقد عبت عليه أن يقول في محاضراته بالجامعة المصرية إن صنعاء كانت في قوة باريس أو برلين
وهل حفظنا حق اليمن في التاريخ؟
قيل وقيل إن سقوط بغداد بأيدي المغول أوجب رحلات علماء العراق إلى مصر فكانت النهضات العلمية والأدبية بالديار المصرية
فأين من يذكر أن سقوط سد مارب أوجب رحلات العلماء من الجنوب إلى الشمال فكانت النهضات الأدبية والعلمية بالديار العدنانية؟
أجمع مؤرخو الأدب على أن امرأ القيس هو فاتحة الشعر العربي في العهد الجاهلي،(521/7)
ونصُّوا على أنه يمنيّ العِرق، فأين من يذكر أنه من كِنْدة؟ وأين من يذكر أن كندة كان لها محلة بالكوفة نُسِب إليها المتنبي فكان الكِندي؟
لنا في اليمن كلام يضيق عنه هذا المجال، وسنرجع إليه بتفصيل وتفاصيل
مكانة مصر بين الأمم العربية
في جرائد سورية وفلسطين ولبنان والعراق كلام كثير عن مكانة مصر بين الأمم العربية، وجرائد تلك البلاد تذكر بالخير مؤازرة مصر لفكرة الحِلف العربي
ويجب أن نذكر جميعاً أن ما يدور حول الوحدة العربية ليس إلا تمهيدات، ولا يعرف أحد متى تتحقق تلك الوحدة على الوجه المنشود
محاسبة النفس
بدأت أشعر بضجر في هذه الأيام، وأخذت أشعر بانقباض الصدر من حين إلى حين، فما سبب هذه الحال؟ وما هو الدواء؟
يخيل إلي - ولعل هذا هو الواقع - أني لا أؤدي حقوق القلم كما يجب، فأنا أتحامى شؤوناً كثيرة، وأسكت عن آراء لو دونتها لكان لها في عالم الفكر مكان
ويزيد في الضجر أن لحياتي ألواناً جديرة بأن تقدم أثمن الغذاء لقلمي، فكيف يفوتني أن أنتفع بتلك الألوان؟
قد يقال أن ظروف الحرب لها دخلٌ في الحدّ من الحرية القلمية، لأنها تقهرنا على مراعاة أمور لم يكن من الحتم أن نراعيها في أيام السلام
وهذا عذر غير مقبول، لأن الشؤون التي تمس الحرب ليست كل ما يعتلج في صدور الرجال، فهنالك معضلات إنسانية تساور العقول والقلوب في كل زمان، وهي معضلات لا تهادن الناس ولو كانوا في ميادين القتال
وربما قيل إن الشؤون التي تعفيها ظروف الحرب لا تعفيها ظروف المجتمع، فقد تكون الرقابة التي يفرضها الجمهور على الأقلام أقسى من الرقابة التي تفرضها الحكومات في أيام الحروب
وهذا أيضاً عذر غير مقبول، ففي مقدور المفكر أن يعالج شؤون المجتمع بأسلوب يخلق(521/8)
الحب ويبعد العِداء
يظهر أن الآفة هي في طريقة الطب للمجتمع، الطريقة التي تلبس ثوب السيطرة بأقلام الناصحين، ونحن في الأغلب ننسى أن في فطرة الناس ميلاً إلى الدفاع عما يتورطون فيه من ضروب الانحراف، ونجهل أن العنف في النصح قد يخلق للعيوب أنصاراً يجعلون سيئاتها حسنات
أنا موقن بأن سياسة القلم تعوزنا في أكثر ما نكتب، وسياسة القلم معنًى لم نلتفت إليه. ألا ترى كيف نقضي العمر في شقاق مع القراء؟
أين الذي حاول أن يقدم النصيحة المرة في كلمة مغلفة بمجاج النحل؟
وأين الذي واجه الجمهور بأسلوب منزه عن الاستعلاء؟
هذه الحال تشبه أن تكون مرضاً من الأمراض القلمية، وللأقلام أمراض
وأعترف بأن تحرير القلم من الآفات النفسية يحتاج إلى رياضات لا نقدر عليها في جميع الأحايين، لأن الرجل قد يقدر على محاسبة الجمهور ثم يعجز عن محاسبة النفس
وهنالك آفة أخطر وأفظع، وهي آفة المبالغة في تصوير الكمال الذي ننشده للإنسانية، كأن ننتظر أن يعيش الناس بلا أحلام ولا أوهام، وكأن نرجو أن يسلموا جميعاً من طغيان الأهواء، كأن الناصحين سلموا جميعاً من طغيان الأهواء!
أيكون من الخير أن ندعو إلى تجفيف البحار والأنهار ليأمن الناس الغَرَق؟
أم يكون من الخير أن نعلِّم الناس السباحة ونسكت عَن تجفيف البحار والأنهار؟
هنا مَناط المعضلة الأخلاقية، المعضلة التي حيَّرت كرائم الألباب
الشخصية اُلخلقية هي الشخصية المزوَّدة بموجبات الجذب والدفع، وهي الشخصية السليمة من الضعف، ولن تكون كذلك إلا حين تحارب في ميدان من ميادين الأهواء
ولهذه الفكرة شروح سنعود إليها يوم نستطيع محاسبة النفس على التهيب والترقب، ويوم يكون الصدق هو أشرف ما نسمو إليه في عالم البيان
معادن الأرواح والعيون
لكل روح معدن أو جوهر أو عنصر، إلى آخر الألفاظ التي تعبر عن الأصول
والأرواح توحي بأساليب لا تعرفها العيون، وهل كانت العيون إلا وسائل الأرواح في(521/9)
الإيحاء؟ أستغفر الحب، فقد قلت من قبل إن للعين وجوداً ذاتياً يستقل عن الروح بعض الاستقلال في بعض الأحيان
وما سِرُّ العيون على التحقيق؟
هل يعرف أحد كيف كُوِّنت تلك الخلائق اللطيفة بهذا الوضع اللطيف؟
الوجود كله مدين للعيون، فهي التي شهدت بما فيه من جمال وجلال، وهي التي قالت إنه وجود
وما هذا الصُّنع العجيب، صنع الله في إبداع العيون؟
ينقضي الدهر ولا ينقضي العجب من القدرة المطوية في سريرة مخلوق رقيق اسمه العين؛ وستمر أزمان وأزمان قبل أن يُعرف سر هذه الجارحة الظَّلوم
وما قدرة الطب في تعليل هذه القوة الصمدانية؟
هل يعرف كيف تنظر حتى يعرف كيف توحي، وهي أعجوبة الأعاجيب في النظر والإيحاء؟
ومع هذا فقدرة الأرواح أعجب وأغرب، فهي ترسل السهام من إقليم إلى إقليم، وقد تصادق وتعادي وأصحابها أموات في عرف الناس
ذلك المفكر الذي يعبر الآفاق لغزو العقول بعد أن تمر على موته آلاف السنين. ما سر قوته الروحية؟ ما سرُّه وقد اجتاز أسوار روما بعد ألفي سنة ليقتل أحد تلاميذي بالقاهرة؟
وذلك الشاعر الذي قال:
إذا نُشرَتْ ذَوائبُه عليه ... حسبتَ الماَء رفَّ عليه ظلُّ
هل كان يتوهم أن المطربة فتحية أحمد ستنقل خياله بالمذياع إلى جميع الأقطار العربية بعد أن نسيه القاهريون؟
سمعت هذا البيت مع الأستاذ سعد كامل فعجبنا من قدرة الأرواح على اختراق الأزمان
وقال الشريف الرضي:
سهم أصاب وراميه بذي سَلَم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماكِ
فهل كان يخطر في بال الشريف أن هذا المعنى سيكون حقيقة لا مجازاً فيما سيخلف عصره بأجيال طوال؟(521/10)
وقال شاعرٌ قديم:
غَنَّتْ سُلَيمى بالحجا ... زِ فأطربتْ من في العراق
فهل كان ينتظر ذلك الشاعر أن تصح نبوءته فأسمع من القاهرة صوتاً يغزو روحي وأنا في سهرة بمدينة النجف؟
لقد قضى ذلك الصوت بأن تكون ليلتي ليلاء، وأن أعود إلى بغداد وأنا مفطور الفؤاد
وما معنى قول البهاء زهير شاعر الفطرة المصرية:
إن حالي لعجيبٌ ... ما يُرى أعجب منه
كلُّ أرض لي فيها ... غائبٌ أسألُ عنه
أليس شاهداً على استبداد الأرواح بالقلوب، وإن تباعدت البلاد؟
أما بعد فهذه الكلمة تحية للروح التي يئست من وفائي، الروح التي ضَنَنتُ عليها بإعلان حبي، لتعيش في أمان من سفاهة الرقباء
يا مصدر الوحي، على رغم البعد واليأس، ويا روحاً هي الروح، ويا تحفة فنية صاغها الفنان المعبود، ويا من لا أسمِّي ولو سُئلتُ يوم الحساب في حضرة صاحب الجبروت، سلام عليك وألف سلام
أنت أمامي حيثما توجهت، وغضبك عليَّ أعذب من الرضوان يا مهاة لا تخطر إلا في البال
ثم أما بعد فأنا مؤمن باختلاف المعادن في الأرواح والقلوب، وروحك يا شقية هي الروح، وسبحان من لو شاء لجعلني من عينيك في أمان!
متى نلتقي على الشط، بالرمل، لأقول مع الشريف:
ولو قال لي الغادون ما أنت مشتهٍ ... غداة جزَعنا (الرمل) قلت أعود
قال بديع الزمان في المقامات على لسان أبي الفتح الإسكندري:
إسكندرية داري ... لو قرَّ فيها قراري
ويرى الأستاذ إسعاف النشاشيبي أنها إسكندرية مصر في مقال نشره بالرسالة وهو يحيي الشواربي باشا. ويرى الشيخ محمد عبده في شرح مقامات البديع أنها بلد بالأندلس، ورأيت بعيني وقلبي أن إسكندرية أبي الفتح بلد بالعراق(521/11)
فمتى نلتقي في إحدى الإسكندريات الثلاث، بغض النظر عن اختلاف الأقوال؟
إن رمل الإسكندرية هو (الرمل) الذي عناه الشريف، وسنلتقي هناك بعد أسابيع.
زكي مبارك(521/12)
لكي ننتفع بتجاريب غيرنا
3 - المسرح في أوربا بين حربين
(في ألمانيا والنمسا)
للأستاذ دريني خشبة
ألمعنا في الكلمة السابقة إلى انتشار المسارح الشعبية الحرة في ألمانيا، وعرفنا ما يدخل في صناديق هذه المسارح من الإيراد الضخم بطريق الاشتراك بين الأعضاء، ويبلغ عددهم في أحد مسرحي برلين حوالي ستين ألفاً معظمهم من العمال! أي أن المبلغ المتحصل من الاشتراك فقط يربو على ثلاثة آلاف من الجنيهات شهرياً - إذ يدفع العضو شهرياً خمسة قروش أو نحوها - أضف إلى ذلك مثل هذا الإيراد من غير المشتركين، وأضف إليه أيضاً إعانة البلدية للمسرح؛ وقد عرفنا أن بلدية كولونيا تُعين مسرحها الشعبي بخمسة وعشرين ألفاً سنوياً، كما أن مدينة ثورن، أو بالأحرى قرية ثورن، تعين مسرحها الصغير المتواضع بألف جنيه كل عام. . . وقبل أن نتكلم عن المذهب يسود المسرح الألماني والذي ارتفع به إلى الأوج قبل قيام الاشتراكية الوطنية لا نرى محيصاً من الرجوع قليلاً. . . إلى ما قبل الحرب الكبرى، وربما إلى ما قبلها بخمسين سنة أو يزيد. . . إلى هذا الوقت الذي كانت فيه فينا - عاصمة النمسا - هي مركز المسرح الألماني العتيد، حينما كان الأدب المسرحي في شمال ألمانيا ما يزال في المهد، وما يزال أدباً رومانتيكيا (إبداعياً) يقصد به التلهي وإشباع غريزة التشوُّف الأدبي فحسب. . . وقد كنا نؤثر أن نرجع إلى أكثر من ذلك. . . إلى أيام عاهل الدرامة النمسوي الأكبر فرانز الذي بدأت تباشير عبقريته تظهر في مشارق القرن التاسع عشر، لولا ما ننتويه من إفراد فصول مستقلة لكتاب الدرامة في الأمم الأوربية المختلفة وذلك بعد الفراغ من هذا الاستعراض السريع لحالة المسرح الأوربي بعد الحرب الكبرى، والذي نريد به استخراج العبرة التي نهتدي بنورها في تشييد دعائم المسرح المصري وخلق العنصر المسرحي المنعدم في الأدب العربي
فحسبنا إذن أن نبدأ من تلك السنة اللامعة ذات البريق في التاريخ الألماني، ألا وهي في سنة 1871، تلك السنة التي تم فيها تكوين الإمبراطورية الألمانية، بعد الانتصارات(521/13)
السبعينية على الجيش الفرنسي. والعجيب أن تلك الانتصارات، بالرغم مما صحبها من الزهو العسكري، لم تستطع أن تمحو من نفوس الشعب الألماني روح التشاؤم الذي أشاعته فيها فلسفة شوبنهاور، والتي تمكنت من ألباب الخاصة المثقفة تمكناً كان يوشك أن يؤدي إلى اليأس المطلق، لولا ما اضطلع به أدورد فون هَرْتمان من تلطيف تلك الموجة من الشعور الأسود، ولولا أن أصاخ إليه شباب الجامعات وأساتذتها الذين رسموا الطريق للنهضة الذهنية الألمانية، فانحرفوا بها عن طريق الأدب - إلى حين - إلى طريق العلوم، فازدهرت الفلسفة وفقه اللغات والتاريخ والعلوم التجريبية، حتى إذا أينع هذا الشباب ودّوت في أسماعه الصيحات الآتية من خارج ألمانيا. . . تنبه إلى صوت كَنْت العظيم فترك هيجل الألماني وراءه، ولم يلبث أن أتاه الصوت العظيم الآخر من داخل ألمانيا نفسها، فتلفت فرأى قيثارة الشعر والأمل ترقص في يدي جوته الخالد، كما رأى فيلسوف القوة الألمعي فردريك نيتشه ينهض جباراً مرعداً ليهدم شوبنهاور، وليهدم تقاليد الماضي العتيق الذي كان يجثم كابوسه المخيف فوق الذهن الألماني، ثم ليخاصم في سبيل ذلك صديقه الأعز رتشارد ثم لينشر إنجيله الجديد: هكذا تكلم فيقلب به الفكر الألماني ويجعله عدواً لكل قديم؛ ثم ليطلع على الناس بهذه الطوبى الجديدة، طوبى الإنسان الأعلى - أو السبرمان - الذي يعد الناس بالنسبة إليه (حبلاً ممتداً بين الحيوان وبين السبرمان) ثم ليجدف ضد أديان السماء تجديفاً هداماً لا يعرف القيود، ثم ليحدد وظيفة الرجل ووظيفة المرأة، فيجعل الأول للحرب والثانية لتكون متعة لرجل تلك الحرب، فإذا رأى أحداً يقصد إلى زوجه أوصاه ألا ينسى سوطه!؛ ثم ليبرر تسلط القوي على الضعيف وتحكمه فيه، لأن الذي لا يستطيع القيام على شأنه ينبغي عليه أن يسلم قياده للغير. ثم ليعتبر هذه الطائفة من الفضائل المتعارفة بين الناس، كالرحمة واحترام العهود وخفر الذمم والتواصي بالضعفاء، رذائل نشأت عن ضعف كامن في سويداء هذا الحيوان الذي نسميه الإنسان. . . الخ ويفتتن أدباء الشباب بهذا الإنجيل الجديد ويبشرون به ويصفقون له، لأنه في زعمهم جعل الأدب الألماني أدب (أفكار) جريئة حرة لا تعرف هذا الإله التنين الذي يقول: هذا كفر فدعوه، وذاك إلحاد فلا تخوضوا فيه. . . هذا الإله (الشرقي!) الذي يلوح بالنار ويغري بالجنة لا لشيء إلا ليشل تفكير الإنسانية. . . إلى آخر هذا الضلال. . . وقد ترددت(521/14)
أصداء هذا الصوت الجديد في المسرح الذي أخذ بدوره يتحلل من الدرامة الإبداعية (الرومانتيكية) متأثراً بالدرامة الواقعية التي نفذت إليه من فرنسا وسكنديناوه (النرويج والسويد) وأول ما ظهر هذا التأثر في روايات إرنست فون الروايات التاريخية التي هاجم فيها كاتبها روح التشاؤم على هدى من تعاليم نيتشه. على أن معاصراً نمسوياً لهذا الكاتب وأعظم منه نشاطاً وأغزر فناً وأوفره مقدرة، اسمه لدفج قام يخلص الدرامة الألمانية من الإسفاف الذي تردت فيه بالمبالغة التي لا مبرر لها، واستثارة عواطف الجماهير (بالبهلوانيات!). . . استبدل لدفج بهذا النوع المستهتر المألوف - روايات واقعية مستمدة من صميم الحياة الريفية الهادئة وإن تكن لم تخل من التأثر بنيتشه - وفي سنة 1888 افتتح برلين المسرح غرار المسرح وذلك برواية إبسن النرويجي (الأشباح) التي أثرت تأثيراً كبيراً على المؤلفين الثوريين الشباب، ونخص بالذكر منهم جرهارت هوبتمان، ثم هرمان ألفا لمسرح برلين المستقل كثيراً من الروايات التي كانت نواة الأدب المسرحي الألماني الحديث. ولقد كان سودرمان يتأثر الدرامة الواقعية الفرنسية ويجري دائماً في أذيال دوماس، وقد بلغ من ظهور طابعه على المسرح الألماني أن اعتبره النقاد المثل الأعلى الذي يقاس عليه، ولا يجوز أن يحاد عنه حتى انتهى الأمر إلى تفشي الروايات المتشابهة ذات الموضوع كأنما صبت جميعها في قالب بعينه، وهو نفس المآل الذي انتهت إليه الدرامة الفرنسية الـ التي كانت تؤلف دائماً في موضوع الحب الخاطئ مما أشرنا إليه في الفصول السابقة. وقد فطن سودرمان إلى هذا الخطر فحاول هجر ميدان الدرامة الواقعية إلى المأساة السيكلوجية، ثم إلى تقليد شيلر في دراماته الكلاسيكية إلا أنه فشل في ذلك. أما هوبتمان فكان أضعف شخصية وأوهى استقلالاً من سودرمان. . . كان يقلد كل من تدخل سمعته في المسرح الألماني من الخارج على حد ما عبر بعض نقاده. وكان تأثره بكتاب سكنديناوه أوضح من غيره، على أنه بتجاوب أصداء المسرح في أوربا عن طريقه داخل ألمانيا قد خدم المسرح الألماني من غير شك. فهذان هما أشهر مؤلفين واقعيين ظهرا في ألمانيا في تلك الفترة من فترات الانتقال الهامة هناك. على أن الحركة الواقعية لم تلبث أن انكمشت ثم أخذت تختفي جميع المسارح الألمانية، وحلت محلها الدرامة الغامضة الرمزية المجازية. وقد سبقت النمسا كعادتها جميع الشعوب الجرمانية،(521/15)
ولا سيما شمالي ألمانيا إلى الأخذ بهذا النوع الجديد من الروايات الرمزية، حيث ظهر فيها مؤلفون أحيوا درامات القطولة القديمة التي اشتهرت في المسرح الفرنسي في القرن السابع عشر مع فارق واحد، هو أن أبطال هذه الدرامات لم تظهر على المسرح الألماني كأنصاف آلهة منزهة، ولكن كرجال ونساء ذوي عواطف مشبوبة ولهم مشكلاتهم التي يعرفها الإنسان في كل زمان ومكان. وهكذا لم يلبث المسرح الألماني أن استقل بأدبه عن جميع المسارح الأوربية، وأصبح له مذهبه الدرامي الخاص الذي يتفرد به بين هذه المسارح حتى صار في مقدمتها افتناناً من وجهتي الشكل والموضوع، وحتى صار معهداً دائب الحركة، محتفظاً بجمهوره المشغوف بكل جديد وبكل شاذ. ولا جرم أن مذهب (التعبيرية قد ينشأ من مذهب الرمزية إن لم يكن هو نفسه هذه الرمزية بعينها، وربما اضطر إليه المؤلفون ليخفوا وراءه ما أشربت به قلوبهم من فلسفة نيتشة الكفرية، وذلك اتقاء مجابهة الجمهور المتدين إلى حد ما بأفكارهم الثورية ضد (الشرق) بأديانه وتقاليده، وضد الضعف الذي شقيت به ألمانيا قبل أن تتوحد، وليستطيعوا بذلك أن يبثوا فيه تلك النُّعرة الجرمانية التي تدعى أن الألمان هم أقرب الأجناس البشرية إلى (السبرمان) وأنهم أولى الأمم بالتحكم في بقية القافلة الإنسانية. . . والدرامة التعبيرية لا تصرح بأسماء الأعلام في فصولها - أو في مناظرها بتعبير أدق - فلا تسمي أبطالها زيداً أو عمراً أو إدورد أو شرلوت بل تسميهم الرجل الأول والرجل الثاني والخادم والصانع والمرابي والحبيب والحبيبة والقاتل. . . الخ وهي في ذلك تشبه الدرامة الأخلاقية التي نسخت الطورين الأولين من أطوار نشوء الدرامة الإنجليزية والفرنسية، ألا وهما طور الدرامة السمعية أو الإنجليزية والطور النقابي إذ لا نسمع في الدرامة الأخلاقية أسماء أعلام قط، بل تحل محلهم أسماء الفضائل المجردة والرذائل المجردة، فهذا ممثل يمثل الأمانة وذاك ثاني يمثل الشر وهذا ثالث يمثل الصدق، وذاك يمثل الكذب وهكذا
ويأخذ النقاد الإنجليز والفرنسيون على هذه البدعة من بدع الدرامة الألمانية أنها إحياء لمذهب قديم ثبت فساده، لأن الأسماء المجسمة - أي أسماء الأعلام - أثبت في الذهن من هذه الرموز التي لا تؤثر في الجمهور، حتى ولا في الخاصة، كما تثبت وتؤثر أسماء الأعلام. . . فشخصيات هملت وعطيل وشيلوك ورومير ولير وطرطوف وما إليها من(521/16)
الشخصيات الخالدة لم يكن من الممكن أن تكسب هذا الخلود لو سميناها الشباب والغيرة والربا والحب. . . الخ أو لو سُمِّيت الشاب والأسود واليهودي والعاشق. . . الخ
وذلك لأن الرابط التذكري في أسماء الأعلام أقوى منه في الصفات والمصادر. ويتساءل النقاد الذين ذكرنا فيما كانت النقلة من الدرامة الأخلاقية التي لا نذكر فيها أسماء الأعلام والتي استوعبت الطور الثالث من أطوار نشوء الدرامتين الإنجليزية والفرنسية إلى المأساة التي استوعبت الطور الرابع العظيم من تأريخ تلكما الدرامتين؟ لابد أن التجربة قد دلت على فساد تلك الرموز التي كانت تطلق على شخصيات الدرامة الأخلاقية، ولابد أن الجمهور قد مل هذه الألغاز الذي لا مسوغ له ولا ضرورة تلجئ إليه ولا خبر يرجئ فيه إلا أن يكون وسيلة لذلك الغرض الخفي المستتر الذي أشرنا إليه، وهو الخوف من مجابهة الجمهور بالحقائق السافرة، وإيثار اللف والطرق الملتوية على الجادة الواضحة والنهج السوي. ولو فطن مبتدعو المذهب الرمزي - والتعبيري - ممن يدينون بنيتشه، لآثروا الصراحة على الالتواء، لأن فيلسوفهم دعا إلى الشجاعة قبل أن يدعو إلى فضيلة أخرى من الفضائل. . . وأي شجاعة، بل أي تهور، أشد من الدعوة إلى الثورة على الله!
يتساءل هؤلاء النقاد: لم لم ترتفع أية درامة تعبيرية - درامة واحدة - إلى الأفق السامي الذي ارتفعت إليه درامات شيكسبير وبن جونسون وسنج وشو وشريدان وإبسن ومترلنك وشيكوف وموليير وساردو وسارسي وبيراثدلو وجاكنتو بينافنت إلى آخر هذا الثبت الحافل العظيم من مؤلفي الدرامة الأوربية الخالدة من غير المؤلفين الرمزيين؟. . . وهذا في الواقع سؤال له وجاهته. ويزيد في دلالته على أنه الحق، أن مسارح المستودعات ما تزال قائمة في ألمانيا وما تزال تعرض درامات هؤلاء المؤلفين الذين سمينا هنا وغيرهم فيقبل عليها الشعب الألماني إقبالاً عجيباً يترجم عما يكنه هذا الجمهور من النظارة من الشغف بتراث الإنسانية العظيمة النيرة و (لسنا نقول هذا غضاً لقيمة الدرامة الرمزية في ألمانيا؛ إذ أن لها جمهورها الراقي المثقف الذي يتألف من خلاصة رجال الفكر الألماني. . . إلا أننا نرى أنها ليس مما يلائم جماهير النظارة ممن يقصدون إلى المسارح الشعبية)
دريني خشبة(521/17)
الخطابة
بين الحرب والسياسة
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
تستند الخطابة إلى الإقناع والتأثير، فلها سبيلان العقل المقتنع والقلب المتأثر. وهي في كل أمة وعصر أتخذها الرومان في دور القضاء وساحات العدل دفاعا عن مظلوم، أو تبرئة لمتهم، أو إدانة لمسيء. واتخذها تاعرب في الجاهلية سجعاً لكاهن، أو عدة لواعظ، أو نصيحة لحكيم. كما فعل قس بن ساعدة الأيادي في خطبته المروية في كثير من كتب الأدب. تلك الخطبة التي ذكر الناس فيها بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج. وكما فعل أكثم بن صيفي في خطبته التي اشتملت على الموعظة الحسنة والحكمة البالغة.
واتخذها الإسلام في أول أمره نشراً لدعوة وتشجيعاً للجنود المقاتلة، وتأليفاً للقلوب، وتذكيراً للغافل، وتنبيهاً للخامل.
وتروج سوق الخطابة في المنازعات والخصومات عند اختلاف الرأي وتنوع الفكر وتعدد المذاهب، كما حدث بين العلويين والأمويين والزبيريين والخوارج، وكما حدث في إنجلترا بين المحافظين والأحرار، وكما حدث في أمريكا بين أهل الجنوب وأهل الشمال.
ومن الطبيعي أن يظهر عند احتدام الفكر واصطراع الرأي قوتان متعارضتان تمثل كل منهما رأياً معيناً. وهنا يظهر الخطيب في جانب، ويبرز في الجانب المقابل من يبطل دعوته ويبطل حجته.
ففي القرن التاسع عشر كان في إنجلترا غلادستون زعيم الأحرار وخطيبهم الذي لا يجارى. وأمامه في الخصومة بيكونسفلد لسان المحافظين ومدرههم.
ولا تجد الخطابة فرصة أكثر صلاحا لها وأحسن ملاءمة من الثورات العنيفة والتيارات القوية الشديدة. وقد تصنع الأقوال في خلال الثورات مالا تصنع الفعال. وأصدق شاهد على ذلك المجر في منتصف القرن التاسع عشر. فقد كمت النمسا الأفواه وألجمت الألسن إلا لساناً واحداً تأبى على القيد وامتنع على المقاومة؛ هو لسان كوشوت الزعيم المجري؛ فرحل عن وطنه مجاهداً في سبيله بجنان فتى ولسان عضب قوي. فأكرمت إنجلترا وفادته،(521/18)
كما أحسنت أمريكا ضيافته. فكان فيهما حر اللسان طلق البيان، حلو العبارة صريح الإشارة. وأقام متنقلاً بين الأمتين زماناً أسمع الشعوب الحرة خلاله صوت أمته المهضومة وبلاده المظلومة. ولم يطل على الأمة المجرية أمر الكفاح حتى استعادت قوتها واستردت حقوقها، وأصبحت شريكة في مملكة النمسا والمجر.
وقد تساعد الثورات نفسها على تقدير خطباء لم يتح لهم من مواهب الخطابة ما يسمو بهم إلى مراتب التقدير. فهذا كرومويل زعيم الثورة الإنجليزية في عصر الملك تشارلس الأول ملك إنجلترا. كرومويل هذا كان ثائراً أكثر منه خطيباً. إلا أن روح الثورة واتجاهها وعنفها جعلته من الخطابة في المحل الأول. وجعلت الشعب يجد في الاستماع إليه لذة وميلاً. مع أن كارليل الناقد المشهور يقول عنه في إحدى مقالاته: (إن خطب كرومويل لا تجري على أساليب صحيحة من البلاغة أو قواعد مرتبة من التفكير المنطقي. فهي تخالف كل أسلوب معروف في الخطابة إلا أنها أتيح لها من الشأن في حينها ما لا يقل شأناً عن خطب ديموستين في أثينا)
وقد تتمخض بعض الثورات العنيفة عن زعماء يؤثرون العمل على الكلام أو يفضلون النضال على المقال وطعن السنان على وخز اللسان. والثورة الفرنسية أصدق دليل على ما نقول. فلقد كان من زعمائها دنتون وروبسبير ومارا الذين ضج الناس مما سفكوا من دم وأزهقوا من روح. وكانوا يعتمدون في الثورة على القتل أخذاً بالظنة ورمياً بالشبهة؛ حتى شك الناس في أخيرهم مارا ورموه بالتهم فدافع في إحدى خطبه عن نفسه. إلا أن ذلك لم يجد عليه فقتلته فتاة في الحمام وأراحت الناس من شره
ولقد قالوا إن الأمة العربية لم تنكب بخطيب مثل الحجاج ابن يوسف الثقفي في حبه لسفك الدماء وإذلال النفوس وإرادتها على القسر والإرغام، وفي شراسة الطبع وغلظ الكبد. وهذا كلام ينطبق على مارا في الأمة الفرنسية، وفرق ما بينهما أن الثقفي كان يرتكب جرائمه باسم الاستبداد، ومارا الفرنسي كان يرتكبها مع صاحبه باسم القانون
والخطيب السياسي يعتمد على الشجاعة والجرأة الأدبية في كل ما يصدر عنه، سواء أكان حاضاً على ثورة أم حاثاً على جهاد أم مدافعاً عن رأي، أو مبطلاً لبعض الرأي. ولقد تتحرج أمام الخطيب السياسي الساعات ويحزب الأمر فلا يزيده ذلك إلا شجاعة وجراءة(521/19)
وإليكم مثالين:
1 - وقف الحجاج على منبر الكوفة فقال: (والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل)
2 - ووقف مارا الفرنسي يدافع عن نفسه بعض التهم التي جزاؤها الإعدام فقال في شجاعة نادرة لهيئة القضاة التي تحاكمه: (لقد كان هذا رأيي يعرفه من اتصل بي أو قرأ لي، ولقد كنت أصدر الآراء مشفوعة بتوقيعي، مصحوبة بإقراري. وما أنا ممن يخشون الجهر بآرائهم. وإذا كنتم أنتم لا تفهمون ذلك ولا تعرفونه عني فتباً لكم وسحقاً)
وإذا اقترنت شجاعة الخطيب الأدبية بحسن القريحة وسرعة البديهية وحلاوة النادرة كان ذلك أوقع في نفوس السامعين وأشد تأثيراً فيهم. وللمستر لويد جورج الخطيب الإنجليزي المشهور في ذلك الميدان مجال أي مجال
حدثوا أنه كان يخطب مرة في الحكم الذاتي فقال: سنعطي الحكم الذاتي لكندا وسنعطيه لايرلندا وسنعطيه لـ. . . ولم يكد يكملها حتى قال رجل من السامعين. . . لجهنم فرد عليه لويد جورج قائلاً: هو ذاك. يعجبني أن يتذكر كل إنسان وطنه
وقد يكون في بعض السامعين للخطباء من يغمزهم بكلام أو يتعرض لهم بملام. وهنا تظهر مقدرة الخطيب على سرعة الرد وحسن الدفاع ومواتاة الجواب. فقد حدثوا أنه وفد جماعة من العرب على كسرى وفيهم من السادة الخطباء من انتهى إليه الشرف وبلغ السيادة في قومه والمنزلة في قبيلته. وأخذ كل منهم يتكلم بما يعرف لإبانة ما للعرب من فضيلة. حتى انتهى الدور إلى الحارث بن ظالم فأجاد الكلام وأحسن الدفاع. فقال له كسرى: من أنت؟ قال: أنا الحارث بن ظالم. قال كسرى: إن في أسماء آبائك لدليلاً على قلة وفائك وأن تكون أولى بالغدر وأقرب من الوزر! قال الحارث: إن في الحق مغضبة، والسرو التغافل. ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة. فلتشبه أفعالك مجلسك
وخطب الوفود هذه من الخطب السياسية التي لا يغفل شأنها. وقديماً استعملها النعمان بن المنذر ليدفع عن العرب ما رماهم به كسرى وما تجناه عليهم، وليعلمه أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه. فاختار جماعة من خيارهم فيهم أكتم بن صيفي وحاجب بن زرارة والحارث بن عباد وقيس بن مسعود والحارث ابن ظالم. فتكلموا ودافعوا عن مآثر(521/20)
صالحات، وحموا عن نسب صحيح
وكان الروم والهند والصين يفدون على كسرى وفيهم الخطباء المصاقع فيذكرون من بلادهم ما يدخل اليوم في باب الدعاية السياسية. ولاشك أن هؤلاء الرسل كانوا يختارون من أحسن الناس كلاماً وإلا ضاعت الحكمة من إيفادهم وذهبت المزية من اختيارهم
والخطابة تروج في زمن الحروب وتصادف من الآذان سمعاً واستجابة. وسيسجل تاريخ الحرب الحالية أسماء صفوة من الخطباء من أنصار الديمقراطية ومن أعدائها. وكم يكون الأدب سعيداً لو أن هؤلاء الخطباء أنجبتهم ظلال السلامة ومنابت الأمن والطمأنينة. ألا إن الدفاع عن الحرية يتطلب دائماً ثمناً غالياً.
وقد يكون القائد المحارب نفسه خطيباً مفوهاً ومتكلما فصيحاً؛ فيمسك قائم سيفه بيده ولسانه بفمه يحض الجنود على القتال ويشجعهم على المصابرة كما فعل خالد بن الوليد في معركة أجنادين بين الروم والعرب حين قال فيما قال: (اقرنوا المناكب، وقدموا المضارب، ولا تحملوا حتى أمركم بالحملة، ولتكن السهام مجتمعة إذا خرجت من القسي كأنها تخرج من كبد قوس واحدة. فإنه إذا تلاحقت السهام رشقاً كالجراد لم يخل أن يكون فيها سهم صائب)
أو كما فعل طارق بن زياد حين عبر العدوة من الأندلس وبلغه دنو (الذريق) فخطب خطبته المشهورة التي أولها (أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر)
ومن الخطب السياسية خطب الفتوح وتلقى عادة عند إتمام فتح أو إكمال غزو. والغرض منها بالطبع الدعوة للفاتح الجديد وتهنئته وإدخال الناس في طاعته. وضمهم إلى حوزته. وأشهر الخطب من ذلك النوع خطبة القاضي محيي الدين بن علي المعروف بابن الزكي التي ألقاها في مسجد القدس مهنئاً صلاح الدين بأخذ بيت القدس من الصليبيين. وهي خطبة تاريخية طويلة تمتاز بقوة عبارتها ألا إن السجع يفشو فيها جريا على طريقة عصرهم وأسلوب زمانهم
وهناك طائفة من الخلفاء تغلب الصنعة الخطابية عليهم؛ فلقد كان الخلفاء الراشدون خطباء فصحاء كما كان معاوية وعمر بن عبد العزيز الأمويان والمنصور المهدي والرشيد العباسيون(521/21)
وقد يجتمع الشعر والخطابة في واحد كما كان ذلك عند العرب في قطري بن الفجاءة شاعر الخوارج وخطيبهم وعلي ابن أبي طالب. وعند الفرنجة في لامارتين وفكتور هوجر. ومن الوزراء الخطباء وليم بت واللورد جون رسل أكبر زعماء الأحرار في القرن التاسع عشر، وغلادستون، ولويد جورج وتشرشل
ولابد للخطيب على كل حال من الصوت الحسن وحلاوة الألقاب وحسن النغم. وممن أوتوا تلك الموهبة جون برايت الإنجليزي مناصر غلادستون، وأنجرسول الأمريكي الذي كان يستهوي سامعيه بحسن إيقاعه وحلاوة صوته؛ وغلادستون الذي له في السياسة الإنجليزية في القرن التاسع عشر مواقف مأثورة
محمد عبد الغني حسن(521/22)
أدباء عالميون
1 - موريس ماترلنك
للأستاذ صلاح الدين المنجد
ماترلنك من الأدباء الذين فتنوا بآثارهم القلوب ولذّوا العقول، بلغ من شأنه أن خُصَّ بآثاره نُهاد المئة من الدراسات الطوال الجِياد في لغات مختلفات. فقد أوتيت آراؤه من الأصالة والواقعية والخيال ما جعلها تأسر وتُعجب، فهي سحر من السحر لا يقاومه إنسان
ولد ماترلنك في (غاند) من أسرة قلامندية. فشدا طرفاً من العلم على الآباء اليسوعيين. وكان له هوى شديد إلى القراءة فكان لا يدع كتاباً وقع في يديه حتى يفرغ منه، غير آبهٍ بموضوعه، ولا حافل بجودته وغثاثته. ولم يستطع الآباء اليسوعيون أن يؤثروا فيه فنشأ عزوفاً عن الدين ضعيف الإيمان. فلما فرغ من دراسة الإنسانيات، انصرف إلى دراسة القانون، لا رغبة منه فيه، ولكن ابتغاء مرضاة ذويه. على أنه لم يُرافع أمام المحاكم إلا مرات معدودات. ثم صدف عن القانون ويمم وجهه إلى باريس (1886) فأقام بها وعرف أدبائها. فاجتمع (بسان بول رو وو (إفرام واستطاع (فيلير دُليل ' أن يملك قلب هذا الفلمندي الشاب بقوة شخصيته وخصب قريحته. وكان فيلير من أدباء المذهب الرمزي، فنحا ماترلنك نحوه، ونشر في مجلة (البلياد قصة سماها (مذبحة الأبرياء) فأعجب بها الناس، وتطلعوا إلى هذا الأديب الجديد
وقضى ماترلنك في باريس سبعة شهور، ثم مضى إلى الفلاندر فكان يقطع الشتاء في (غاند) ربع ميلاده، والصيف في (أوستاكر في مزرعة ريفية، حيث يعنى بغرس الأزاهر وتربية النحل، وهو يصف لنا حياته فيها بصفحات ممتعات من كتابه (حياة النحل ويظهر أثر الطبيعة الفنانة في تأريث وحيه الأدبي
أخذ يكتب ماترلنك لمجلة بلجيكا الفتاة فنشر فيها مأساته الأولى (الأميرة مالين ولم تثر هذه المأساة اهتمام الناس، عند نشرها، حتى أتيح لها ناقد ينقدها، وإذا بماترلنك يسمو إلى ذروة المجد، وإذا بصيته يذيع وبشهرته تستفيض. فلقد كتب عنها آنئذ الروائي أوكتاف ميربو هذا الهجاء اللاذع، والأديب الذي أخرج أروع المآسي الحديثة. رأى ميربو ما في مأساة ماترلنك من جمال وكمال، فتكلم عليها بمقال ظهر في (الفيفارو) سنة 189. وما(521/23)
ظهرت المقالة حتى تردد اسم ماترلنك، وإذا بالناس يقبلون على مأساته يقرأونها ويناقشونها، ويجعلون كاتبها من العباقرة الخالدين
لقد كتب ميربو يومئذ يقول: (وما أدري إن كان هذا المؤلف شيخاً أم شاباً، غنياً أم فقيراً، ولكني أعلم أن ليس بين الأدباء رجل مغمور مثله، وأعلم أنه أتى بمأساة رائعة، تضمن له الخلود، وتضمن له إعجاب أولئك الذين يتتبعون الجمال، وأعلم أنه أخرج لهم مأساة فتانة كتلك التي يحلُم بها الفنانون الملهمون في ساعات الحماسة، وكالتي لم يكتب أحد مثلها حتى اليوم. لقد قدّم لنا موريس ماترلنك أعظم أثر عبقري في زماننا، لا أغالي إذا قلت إنه يسمو في جماله على ما في آثار شكسبير من جمال، هذه المأساة، هذا الأثر يسمى (الأميرة مالين)، فهل في هذا العالم عشرون رجلاً يعرفها. . .؟)
ولم يصرف هذا النجاح المتألق ماترلنك، عن طريقه التي سار فيها، وشعر بدافع يدفعه نحو الصوفية. . . ودأب على إصدار درامات طريفات، ليس في أدب من آداب الأمم مثلها، وسنلخصها ونبين ما فيها من سحر وجمال
ولابد من الإشارة قبل المضي في تحليل آثار ماترلنك، إلى أن قليلاً من الكتاب مَنْ يستطيع أن يجاري ماترلنك في سلاسة أسلوبه وصفائه، وخصوبة ألفاظه وبراعته، وسحر الجو الذي يحيط به دراماته. وقد يكون من العسير أن أبين لك صفات الأشخاص نفسها، فهي مخلوقات، فوق المخلوقات البشرية لا تحس إحساسنا ولا تشعر بما نشعر به من عواطف دنيا. بل تهزها أبداً عواطف نبيلة سامية، أكثر رفعة، وأكثر صفاء من العواطف التي تغمرنا. ومع ذلك فإنك لترى ألفاظاً عميقة تصف هذه العواطف النبيلة لا تجدها عند غيره. ولقد استطاع أن يصور الحب والقلق والحسد والألم والرعب والطمأنينة بما لم يصفه بها أحد. وهو في أكثر دراماته يحاول أن يبين تلك القُوى العلوية التي تؤثر في مصيرنا وأعمالنا وحياتنا، وهو لا ينصح ولا يدعو إلى الأخلاق. . . عمداً، فقد يضحي من أراد ذلك بجمال المأساة أو القصيدة الفني (ولكن ما على الشاعر أو الأديب من حرج إذا أوصلنا إلى حقائق أخلاقية مقبولة دون أن يُفقِد القصيدة شيئاً من زينتها في شكلها وفكرتها)
وإذن، فنحن إلى جانب عنايتنا بتبيان الناحية الفنية في آثار ماترلنك سنعنى بتبيان آرائه الفلسفية التي يسوقها عن تلك القوى العلوية، عن العالم المجهول(521/24)
كانت أولى دراماته، كما ذكرنا، الأميرة مالين. فهي التي دفعت به إلى قمة المجد، بعد أن كتب عنها ميربو ما كتب. في هذه الدرامة تشعر بجو غريب لا عهد لك به. . . بلاد واسعة لا نهاية لها، تحسبها في آن واحد، بلاداً خرافية، وحقيقية. . . وفيها يدع ماترلنك الإنسان والطبيعة يقدمان الأدلة على الشك في قوتهما وضعف إرادتهما، وعبوديتهما. في هذه البلاد، ترى بحيرات راكدة محاطة بالغابات، وقصوراً شماً ذات دهاليز مظلمات، وأقبية سوداً مخيفات؛ وترى بروجا مهدمة تريد أن تنقض تحت ثقل القرون الطوال. وترى حدائق غُلباً لا تطأها قدم إنسان، وقد ألفها الحزن والظلام. هذه القصور التي تجثم فوقها ذكرى الجرائم الخاليات، والآلام الدائمات، هي في آن واحد عظيمة وحقيرة، مأهولة ومقفرة. يروع أهلها ذات يوم خوف شديد، فيجتمع شبانها وشيوخها يتبادلون الرأي، ويبحثون في الأمر ويتحاورون محاورات يظهر فيها ماترلنك البعد الساحق بين هؤلاء وهؤلاء في أفكارهم وأعمالهم ومصائرهم
ويبقى القارئ في جو غامض لا يدري أنى يخرج منه. وفجأة تبرز له المشكلة التي بنيت عليها الدرامة. لقد وقف الموت: هذه القوة التي لا ترى أمام الحب والسعادة، لأن هذه القوة الفاجعة، تبغض هذه السعادات؛ هي تبغض الحب، والأمن والهدوء، فهي أبداً تسعى لتهديمها. وهنا يظهر ماترلنك متشائماً، فأي سعادة ترتجيها والموت حيال عينيك لا يزول؟
والحق أنه ليس أدعى إلى التشاؤم واليأس من قدَر مالين. لقد كانت تحب. وكانت تُحَب. لقد سميت على ولي العهد؛ حبيبها وخطيبها. ولكنها، وهي في فوران الهناءة والسرور، تسمع بخيانة خطيبها؛ فتجن وتموت بالخناق دون أن تتثبت مما سمعت؛ ويعلم خطيبها (هجالمار) بما فعلت حبيبته فينتحر
والفكرة بسيطة كما رأيت؛ ولكن ماترلنك يوقظ فيك وأنت تقرأها أدق المشاعر، وأخص العواطف؛ ويؤثر فيك تأثيراً بالغا. ًوهي لعمري درامة شكسبيرية بكل ما في هذه الكلمة من معنى
(للبحث بقية - دمشق)
صلاح الدين المنجد(521/25)
4 - الأحلام
للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون
بقلم الأستاذ ألبير نادر
أين الفرق بين الإدراك والحلم؟
ما هو النوم؟ إني لا أتساءل طبعاً ما هي الشروط الجسمية للنوم - هذا أمر يبت فيه الأطباء ولم يفصل فيه بعد. أتساءل كيف يجب أن نتصور الحالة النفسية لرجل نائم لأن النفس تستمر في العمل أثناء النوم. فالنفس - كما سبق أن ذكرنا - نائمة كانت أو يقظة، تربط الاحساسات بالذكريات التي تدعوها - وآلية العمليتين تبدو واحدة في الحالتين: حالة اليقظة وحالة النوم - ولكن يوجد الإدراك الطبيعي من جهة والحلم من جهة أخرى - فآلية العملية لا تقوم بنفس العمل في الحالتين، فأين الفرق إذاً؟ ما هي الميزة النفسية للنوم؟
دعونا، لا نثق كثيراً بالنظريات. يقولون إن النوم عبارة عن انفراد عن العالم الخارجي، ولكننا بينا أن النوم لا يمنع الحواس تماماً من التأثيرات الخارجية، لكنه يستمد منها مادة الكثير من الأحلام. ثم بينا أن وظائف العقل السامية أثناء النوم تستريح ويتسبب عن ذلك توقف في التعقل. لا أظن أن الأمر كذلك. إننا أثناء الحلم نصبح غير مكترثين بقوانين المنطق؛ ولكننا لا نكون عاجزين عن كل منطق، وأكثر من ذلك، وهنا أخشى أن أدهشكم، أن ذنب النائم هو أنه يعقل أكثر من اللازم. والنائم يتجنب المحال إذا كان مجرد مشاهد لاستعراض رؤياه - ولكنه عندما يريد، بقدر المستطاع أن يعبر عنها، يكون منطقه المخصص لربط الصور المبعثرة بعضها ببعض غير قادر إلا على تقليد منطق العقل، ويتلمس حينئذ المحال. نعم إن وظائف العقل السامية تنحل أثناء النوم؛ وإن ملكة التعقل تلهو أحياناً بتقليد التعقل الطبيعي ولو لم تشجعها على ذلك الصور المتماسكة. ويمكننا أن نعمم هذا القول فيما يخص الملكات الأخرى. إننا لا نعلل الحلم بانعدام التعقل ولا بإغلاق الحواس ولنترك جانب النظريات ونتصل مباشرة بالواقع
يجب أن نقوم باختبار حاسم في أنفسنا. عندما نخرج من الحلم سنراقب انتقالنا من حالة النوم إلى حالة اليقظة، إذ أننا لا نستطيع أن نحلل حالتنا أثناء الحلم نفسه. ولنتتبع هذا(521/27)
الانتقال بقدر المستطاع - لنوجه التفاتنا إلى حالة عدم انتباه عندنا، ولنأخذ على غرة الحالة النفسية لإنسان لم يزل نائماً، ولكنه في طريق اليقظة. نعم إن هذا العمل عسير ولكنه ليس بالمستحيل لمن مرن نفسه عليه بكل صبر. اسمحوا لي أن أقص عليكم حلماً من أحلامي وأقول لكم ماذا ظننت عندما استيقظت. ظننت أني على منبر أخاطب حشداً من الناس، فصعدت تمتمة مبهمة من مؤخرة المستمعين، ثم أخذت في الوضوح؛ وأصبحت رعداً، ثم نباحاً، ثم ضجيجاً فضيعاً - ثم دوى من كل جانب وعلى وتيرة منظمة صراخ يقول: إلى الباب إلى الباب. استيقظت فجأة عندئذ - وكان كلب ينبح في الحديقة المجاورة، وكلما كان يعوي كان الصراخ القائل: إلى الباب يمتزج بكل عوية من عواء الكلب - هذه هي اللحظة التي يجب انتهازها. فشخصية اليقظة التي ظهرت الآن تتحول نحو شخصية الحلم التي لم تزل موجودة وتقول لها: (أقبض عليك متلبسة بجرمك؛ تظهرين لي حشداً يصرخ وليس هناك إلا كلب يعوي! لا تحاولي الهروب. إني قابضة عليك. ستدلين لي بسرك وأمرك - ستدعينني أرى ماذا كنت تصنعين) وشخصية الحلم تجيب قائلة: انظري! إني لم أكن أفعل شيئاً؛ ولأجل ذلك كانت شخصيتانا مختلفتين، فتقول لها شخصية اليقظة: أتظنين أنك لا تفعلين شيئاً وأنا أسمع كلباً ينبح وأفهم أن من ينبح هو كلب؟ إنه لضلال مبين. . . أنت تبذلين مجهوداً كبيراً بدون أن تشعري بذلك - يجب أن تجمعي كل ذاكرتك وكل تجاربك المتراكمة وتقوديها بواسطة حصر مفاجئ حتى لا نقدم للصوت الذي تسمعينه سوى جزء من هذه الذاكرة أعني الذكرى التي تكون أكثر شبهاً بهذا الإحساس والتي يمكنها أن تعبر عنه أحسن تعبير: فحينئذ إذ تغطي الذكرى الإحساس. ثم يجب أن تكون هناك الموافقة التامة حيث لا يترك أي فرق بين الذكرى والإحساس (وإلا فستكونين في حالة حلم).
لا يمكنك أن تضمن هذه المطابقة وهذه الموافقة التامة إلا بواسطة الانتباه أو بالأحرى بواسطة مجهود مشترك من قبل الإحساس والذاكرة. هكذا يفعل الخياط عندما يجرب لك رداء قصَّه فقط، فهو يضع الدبابيس ويشد بقدر الإمكان القماش على الجسم حتى ينسجم عليه تماماً. وحياتك في حالة اليقظة هي حياة عمل وإن ظننت أنك لا تعملين شيئاً. وذلك لأنه يجب عليك في كل لحظة أن تختاري وأن تعزلي. إنك تختارين بين احساساتك لأنك تبعدين عن الوجدان آلاف الاحساسات الشخصية التي تعود إلى الظهور حينما تنامين. إنك(521/28)
تختارين بكل دقة وتأن من بين ذكرياتك بما أنك تبعدين كل ذكرى لا تنسجم وحالتك الحاضرة. هذا الاختيار الذي تقومين به بلا انقطاع، وهذه المطابقة (بين الذكريات والحالة الحاضرة) المستمرة والدائمة التمدد هما الشرط الأساسي لما يسمونه الصواب. ولكن المطابقة والاختيار يجعلانك في حالة إجهاد غير منقطع أنت لا تشعرين به في الحال كما أنك لا تشعرين بالضغط الجوي ولكنك تتعبين إذا ما طال. والصواب متعب جداً.
(لقد قلت لك تواً: إني أتميز عنك لأني لا أفعل شيئاً. والمجهود الذي تبذلينه بدون انقطاع أنا أمتنع فقط عن بذله. أنت تتمسكين بالحياة وأنا أنفصل عنها. لم أعد أكترث بشيء ولا أهتم بشيء. النوم عدم اهتمام ونحن نيام بقدر ما نكون غير مبالين. الأم النائمة بجانب طفلها يمكنها ألا تسمع قصف الرعد، بينما تنهدة واحدة من تنهدات طفلها توقظها. فهل كانت غافلة (نائمة) حقاً بالنسبة لطفلها؟ إننا لا نغفل عما يزال يهمنا
(تسألينني عما أفعل عندما أحلم؟ سأقول لك ماذا تفعلين أنت أثناء اليقظة. تأخذينني أنا شخصية الأحلام، أنا مجموعة ماضيك وتقودينني، مضيقة على الخناق، حتى تحصريني داخل الدائرة الضيقة التي تخطينها حول عملك الحالي، هذه هي حالة اليقظة: الحياة النفسية الطبيعية، الجهاد، الإرادة. أما الحلم فهل أنت بحاجة لأن أعبر لك عنه؟ إنها الحالة التي تلاقين فيها نفسك في حالتها الطبيعية عندما تتركينها على غاربها، عندما تهملين حصرها في نقطة واحدة، عندما تكف الإرادة عن العمل. وإذا ألححت أو أصررت في طلب شرح أي شيء فسلي كيف تعمل إرادتك في أي وقت من أوقات اليقظة حتى يمكنها أن تحصر كل تحمله فيك في نقطة واحدة تهمك وذلك بدون أن تشعري واسألي فجأة حينئذ حالتك النفسية وقت اليقظة، ووظيفتها الأساسية أن تجيبك لأن اليقظة والإرادة شيء واحد)
هذا ما تقوله شخصية الأحلام، وإنها لتقص علينا أشياء أخرى كثيرة إذا تركنا لها المجال لذلك. لكن لقد حان الوقت للوصول إلى النتيجة. ما هو الفرق الجوهري بين الحلم واليقظة؟ سنلخص ما سبق قائلين إن القوى نفسها تعمل سواء كنا في حالة اليقظة أو في حالة الحلم. فقط في الحالة الأولى تكون هذه القوى منحصرة وفي الحالة الثانية تكون منطلقة
الحلم هو الحياة العقلية بأكملها ينقصها مجهود الحصر. فلا نزال ندرك ولا نزال نتذكر ولا(521/29)
نزال نعقل. والحالم يمكنه أن يدرك ويتذكر ويعقل كثيراً. والإكثار في هذه العمليات لا يعني أن النفس تبذل مجهوداً لأن ما يتطلب المجهود إنما هو الدقة والتأني في الانسجام. فنحن لا نعمل شيئاً ولا نبذل أي مجهود ليرتبط نباح الكلب صدفة بذكرى حشد متضجر، ولكن يجب بذل مجهود فعلي حتى يتصل هذا النباح بذكرى نباح الكلب وحتى يمكننا التعبير عنه أنه فعلاً نباح. ولكن لم تبق عند الحلم أي قوة لبذل هذا المجهود، فبذلك وبذلك فقط يتميز الحالم عن اليقظان
هذا هو الفرق ونحن نعبر عنه بطرق مختلفة. وإني سأتجنب التفصيلات؛ فقط ألفت نظركم إلى نقطتين أو ثلاث وهي: عدم استقرار الحلم، والسرعة التي يمكنه أن يسرد بها، والأفضلية التي يعطيها للذكريات التافهة
من السهل التعبير عن عدم الاستقرار، إذ أن الحلم من خاصيته ألا يجعل الإحساس ينطوي تماماً على الذكرى، بل يترك في ذلك مجالاً للعب، فعليه يمكن لذكريات مختلفة تمام الاختلاف أن تنطبق على الحلم. إليك مثلاً بقعة خضراء منتشرة عليها نقط بيضاء، وذلك في حقل البصر - فيمكنها أن تحقق ذكرى جزء مزدهر في حديقة أو ذكرى مائدة لعب الكرات مع كراتها، أو أشياء أخرى كثيرة. وجميع الذكريات تريد أن تعود إلى الحياة في هذا الإحساس وكلها تعدو وراءه. ففي بعض الأحيان تبلغه الواحدة تلو الأخرى، والجزء المزدهر في الحديقة يصبح مائدة لعب الكرات، ونشاهد حينئذ تطورات مدهشة. وفي بعض الأحيان تبلغه جميعها فيصير الجزء المزدهر مائدة لعب الكرات، ويحاول الحالم أن يرفع عنه هذا التناقض بواسطة تفكير يزيد في دهشته
(البقية في العدد القادم)
ألبير نادر(521/30)
المؤلفات العربية القديمة
وما طبع منها في سنة 1942
للأستاذ كوركيس عواد
في غير موطن من هذه المجلة، نشرنا قوائم بالتصانيف العربية القديمة التي طبعت في السنوات 1939 و1940 و1941 مما كنا وقفنا عليه بالذات أو ما كان اتصل بنا خبره. وهانحن أولاء نواصل ما بدأنا به سابقاً، مع علمنا بصعوبة إدراك ما نتمناه في هذه السبيل وهو الوقوف على كل ما يطبع منها وحصره حصراً تاماً. ولعل ذلك التقصير راجع في أغلبه إلى الظرف الذي يلابسنا، فقد تعسر فيه سير البريد بين بعض الأقطار وتعذر في غيرها، ذلك بعد أن كان فيما مضى من أيام السلم مضرب المثل في انتظامه وسرعته
وعلى كل حال، فإننا نذكر فيما يلي ما انتهى إلينا من مطبوعات سنة 1942، ثم نردفها ببعض المستدركات على مطبوعات سنة 1941، متبعين في سياقتها الترتيب الهجائي لعناوين الكتب، شأننا فيما فعلناه في القوائم السالفة.
أولاً: مطبوعات سنة 1942
1 - الأشباه والنظائر في النحو لجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911هـ. نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد في أربعة مجلدات، صحائفها على التوالي 340 و334 و303 و253
2 - الأفعال: لأبي القاسم علي بن جعفر السعدي اللغوي المعروف بابن القطاع الصقلي المولد، المتوفى بمصر في سنة 515 وقيل 514هـ نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد. ظهر منه مجلدان (398 و491 ص) فيهما ذكر الأفعال المبدوءة بالهمزة فالباء إلى الفاء. وسيظهر المجلد الثالث وبه يكون تمام الكتاب
3 - الألحان واختلاف الناس فيه: هو قسم من كتاب الياقوتة الثانية في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربة المتوفى سنة 328هـ. نقله إلى الإنكليزية المستشرق فارمر وطبعه في مدينة برسدن باسكتلندة ضمن المجموع الموسيقي الموسوم
5 ; 27(521/31)
وقد ظهرت الرسالة أولاً في المجلة الآسيوية البريطانية
4 - الإمتاع والمؤانسة: لأبي حيان التوحيدي، المتوفى بعد سنة 400هـ الجزء الثاني، صححه وضبطه وشرح غريبه الأستاذان أحمد أمين بك وأحمد الزين (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 205 + 26 ص) الجزء الأول صدر سنة 1939
5 - بلاغات النساء وطرائف كلامهنَّ ومُلَح نوادرهن وأخبار ذوات الرأي منهن وأشعارهن في الجاهلية وصدر الإسلام: لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المعروف بطيفور، المتوفى سنة (280هـ). نشرته المكتبة المرتضوية ومطبعتها الحيدرية في النجف في 226 صفحة
6 - التاريخ الكبير: للإمام البخاري المتوفى سنة 251هـ. القسم الثاني من الجزء الرابع، نشرته دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد في 465 19 ص. وفيه تراجم رجال الحديث من باب (مدرك) إلى باب (يونس). القسم الأول من الجزء الرابع ظهر سنة 1941 ولم يطبع شيء مما قبله
7 - التصوير عند العرب: للمغفور له العلامة أحمد باشا تيمور، المتوفى سنة 1347هـ. أخرجه وزاد عليه الدراسات الفنية والتعليقات الدكتور زكي محمد حسن (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 15 324 ص منها 114 ص للمنن الأصلي والباقي للناشر. والكتاب مزدان بصور عديدة
8 - تفسير سفر هُوْشع (أحد أسفار التوراة). تأليف يافث بن عليًّ القرًّائي (من أهل المائة العاشرة للميلاد) نشره المستشرق برنبام إلى ثماني نسخ خطية لهذا الكتاب، ومضيفاً إليه تعليقات ومقدمة بالإنكليزية. (فيلادلفية (الولايات المتحدة) 62 + 274ص)
9 - الجرح والتعديل: لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، المتوفى سنة 327هـ، الجزء الثالث، نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، في قسمين صحائفهما 435 و340. أما سائر الأجزاء فلم تطبع
10 - ديوان أبي تمام: لأبي تمام الطائي الشاعر المشهور، المتوفى سنة 228هـ. باب الهمزة منه، شرحه ودرسه الأستاذ أحمد عثمان عبد المجيد (طبع في القاهرة)
11 - رسالة في اتصال العقل بالإنسان: لابن باجة الفيلسوف الأندلسي الشهير، المتوفى سنة 533هـ، خاطب بها بعض إخوانه. نشرها المستشرق أسين في مجلة الأندلس(521/32)
الإسبانية 1 - 47 - , , 1942 بعنوان:
12 - السلوك لمعرفة دول الملوك: لتقي الدين المقريزي، المتوفى سنة 845هـ القسم الثاني من الجزء الثاني، عني بتحقيقه الدكتور محمد مصطفى زيادة على غرار الأجزاء السابقة. وهو يشتمل على بقية عهد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، 250 ص)
13 - ضوء الصباح في مدح الوزير عبد الفتاح: وهو ديوان شعر محمد بن مصطفى الغلامي الموصلي (من أبناء المائة الثانية عشرة للهجرة)، أهداه إلى الوزير عبد الفتاح باشا بن إسماعيل باشا الجليلي سنة 1183هـ، نشره الأستاذ محمد رؤوف الغلامي في آخر كتاب (العلم السامي في ترجمة الشيخ محمد الغلامي) (مطبعة أم الربيعين بالموصل الصفحة 298 - 360)
14 - علم البيان: رسالة صغيرة كتب على غلافها أنها (تأليف العلامة أبي بكر) نشرها الأستاذ عبد المجيد الملا. (مطبعة الفرات، بغداد 32 ص)
15 - كتاب الكنى: هو جزء من التاريخ الكبير للأمام البخاري (256هـ) نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد في 98 صفحة
16 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها: لجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911هـ عني بشرحه وتصحيحه الأساتذة محمد أحمد جاد المولى بك ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي نشرته دار إحياء الكتب العربية (مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بالقاهرة، في 651 صفحة)
17 - المعَرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم: لأبي منصور الجواليقي، المتوفى سنة 540هـ. حققه وشرحه الأستاذ العلامة أحمد محمد شاكر (مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 40 + 456 ص)
18 - المفضليات: جمعها أبو العباس المفضل الضبًي، المتوفى سنة 168 أو 170هـ. الجزء الأول، حققه وشرحه الأستاذان أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون. (مطبعة المعارف ومكتبتها بالقاهرة، 200 ص)(521/33)
19 - المفضليات الخمس: للمفضل الضبي (168 أو 170هـ) حققها وشرحها الأستاذ عبد السلم محمد هارون (مطبعة المعارف ومكتبتها بالقاهرة، 48 ص)
20 - من شعر أبي تمام: فيه نصوص من شعر أبي تمام والقصائد الخمس الأولى من المفضليات. ضبطه وشرحه وعلق عليه الأستاذ محمد محمد رضوان (طبع في القاهرة)
21 - نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة. للقاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي المتوفى سنة 384هـ الجزء الثاني بتحقيق المستشرق في (مجلة المجمع العلمي العربي) بدمشق، في أعداد المجلد 12 منها (سنة 1932 - والمجلد 13 (سنة 1933 - 1935) والمجلد 17 (سنة 1942) إن الجزء الأول من هذا الكتاب النفيس، نشره مرجليوث (القاهرة 1921)، والجزء الثامن منه نشره المستشرق المذكور والمجمع العلمي العربي (دمشق1930) ولا يعلم اليوم من أجزاء النشوار، التي تبلغ أحد عشر مجلداً، غير هذه الثلاثة، الأول والثاني والثامن
22 - همزيات أبي تمام: شرحها وحققها الأستاذ عبد السلام محمد هارون (مطبعة المعارف ومكتبتها بالقاهرة 79 ص)
23 - وجائب الضمير: تأليف يحيا بن يوسف بن بقواد (المتوفى نحو سنة 1050 م) نقله من أصله العربي إلى اللغة العبرية يهوذا بن تبون ونقله إلى الإنكليزية هيامسن وقد نشرت الترجمتان معاً في نيويورك، في 5 + 156 ص
ثانياً: المستدرك على مطبوعات سنة 1941
1 - الإباتة في أصول الديانة: لأبي الحسن علي بن إسماعيل البصري الأشعري (قيل إنه توفي سنة 324هـ) نقله من العربية إلى الإنكليزية المستشرق بمقدمة وتعليقات، في المجلد 19 من (نيوهافن 13 + 143 ص)
2 - أزهار الرياض في أخبار عياض: لشهاب الدين المقري التلمساني، المتوفى سنة 1041هـ الجزء الثاني، نشره وعلق عليه الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ شلبي، طبع على نفقة بيت المغرب (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 430 ص) الجزء الأول ظهر سنة 1939
3 - أنباط المياه الخفية: لأبي بكر محمد بن الحسن الحاسب الكرخي (من أهل المائة(521/34)
الخامسة للهجرة) نشرته مطبعة المعارف العثمانية بحيدر آباد بعناية الأستاذ السيد هاشم الندوي (74 صفحة فيها أشكال توضيحية)
4 - أولياء حلب في منظومة الشيخ أبي الوفاء الرفاعي (1765 - 1847م) نشرها الأب فردينان توتل اليسوعي، بمقدمة وتعليقات وفهارس (المشرق 38 (بيروت 1940) ص 321 - 422). وقد وضع الناشر ترجمة أبي الوفاء في المشرق (39 (1941) ص 164 - 184).
(بغداد)
كوركيس عواد(521/35)
البريد الأدبي
معنى قوله تعالى (يخرج الحي من الميت)
لقد اطلعت في مجلة الرسالة الغراء على تفسير لهذه الآية الكريمة،
ولما كنت قد فسرتها في كتابي (الحمل وخلقة الإنسان بين الطب
الحديث والقرآن) تفسيراً آخر رأيت أن أدلي به على صفحات هذه
المجلة
فالمقصود من قول الله تعالى (يخرج الحي من الميت) أي أنه تعالى يخرج الإنسان الحي من الطين الميت؛ ويشير إلى ذلك قول الله تعالى: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين) ثم يجعله يتكون وينمو من أشياء ميتة؛ فالإنسان الحي يقتات من المواد النباتية وهي غير حية كما يقتات من لحوم الحيوانات بعد ذبحها وموتها وموت خلاياها موتاً كلياً، فيحول الله تعالى هذه الأشياء الميتة في جسم الإنسان إلى جسم حي فينمو الإنسان ويكبر. فالإنسان يستمد حياته من الحيوان والنبات، والحيوان يبنى جسده من النبات، والنبات ينمو من مواد الأرض فلا شك أن جسم الإنسان كله ينمو من الطين. وهذه معجزة الله الخالق العظيم الذي بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل بناء جسمه من الطين
فالمواد التي تدخل في تركيب أجسامنا موجودة في حفنة من تراب أو في حثوة من طين، ولكنا لا نستطيع الانتفاع بها مباشرة وإنما ننتفع بها عن طريق النبات. فعلى ذلك يحول الله تعالى المادة غير الحية إلى مادة حية في أجسامنا، وهذا هو إخراج الحي من الميت
وإما إخراج الميت من الحي فهو مثل خروج الإفرازات كاللبن وهو شيء ميت من جسم حي
أما قول كثير من المفسرين من إن إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي هو إخراج الإنسان من النطفة وإخراج النطفة من الإنسان على اعتبار أن النطفة شيء ميت، فأعتقد أن ذلك لا يساير الحقيقة وقد ثبت أن النطفة جسم حي بحيواناتها المنوية الحيّة.
(بني سويف)
الدكتور حامد البدري الغرابي(521/36)
من رسائل الرافعي. ألفاظ العلوم. الترادف في السجع
الشعر الجاهلي
منع الجاحظ أن يستعمل الخطيب - إذا كان متكلماً - ألفاظ المتكلمين إلا إذا عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفاً أو مجيباً؛ وحرم العسكري على الأديب استعمال تلك الألفاظ في أي غرض؛ وأوجب ابن الأثير على الكاتب أن يعرف مصطلحات كل صناعة وأن يلم بكل علم وفن. فسألت الرافعي رحمه الله عن هذه الآراء الثلاثة وسألته كذلك عما أخذه ابن الأثير على الصابي من أنه يرادف السجع في المعنى الواحد؛ ثم طلبت بعد ذلك أن يفضي برأيه فيما ذكره المنفلوطي رحمه الله من أن الشعر الجاهلي شعر ساذج. فجاءني هذا الجواب الشامل:
(أيها الأخ: السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فإنه يسرني أن أعرف لكم هذه العناية بالأدب والتوفر عليه، ولعلكم واجدون فيه شيئاً من التعزية عما ترونه في حادثات الدهر من سوء الأدب. . . أما الأسئلة فإني مجيبكم عنها بإيجاز. . ولو أعان الله على إظهار ما بقي من أجزاء تاريخ آداب العرب لرأيتم فيها الجواب مطولاً مبسوطاً
أما كلام الجاحظ فصحيح؛ لأنه يريد (بالمتكلم) الرجل من أهل الجدل وعلماء الكلام؛ وهذا إذا هو استعمل ألفاظ صناعته في مخاطبة الناس من أهله وجيرانه، أو الكتابة إلى من هو في حكمهم والخطابة عليهم، كان ذلك مرذولاً منه وعُدَّ متكلفاً ودخل في باب الغريب الذي يسمونه العي الأكبر؛ ولكن الجاحظ لم يمنع أن يفيض المتكلم مع المتكلمين بمثل تلك الألفاظ بل هو نبه على أن ذلك محمود منه
والأصل هو ما ورد في الحديث: خاطبوا الناس على قدر عقولهم. وصاحب المثل السائر لا يرمي في كلامه إلى ما أراده الجاحظ بل هو يريد أن يلم الكاتب بمصطلحات كل صناعة ويشارك في كل علم وفن، إذ يجد في ذلك مادة ربما احتاج إليها في توليد معنى، أو في الكتابة عن واحد من أهل تلك الصناعات أو في ديوان من دواوين الإنشاء القديمة التي كانت تتناول أكثر أمور الدولة يومئذ، ففيها كاتب الرسائل وكاتب الخراج وكتّاب آخرون، وكانت تلك أغراض الكتابة من حيث هي صناعة. على أن ألفاظ العلوم الخاصة بها مما(521/37)
يصطلح عليه لا يجوز أن يستعان بها في الإنشاء إلا لغرض يستدعيها وإلا كانت من العي والفهاهة ونزلت منزلة الحشو ووقعت أكثر ما تقع لغواً. وهذا هو غرض العسكري
وأما عيب صاحب المثل علي الصابي في ترادف السجع فأنا أراه في موضعه من النقد، لأن السجع صناعة لا سجية، والترادف قد يحسن الأسلوب المرسل لمتانة السياق وقوة السرد كما تجده في كتابة الجاحظ وغيره، ولكن الذي يسجع لا يضطر إليه لأن كل سجعة فاصلة فهو من باب الحشو لا غير. والصابي علي قوته في الترسل ضعيف في السجع لا يبلغ فيه منزلة البديع، ولا جرم كان ذلك من ضعفه فيه
وأما شعر الجاهلية وسذاجته فلم أقرأ ما كتبه المنفلوطي في ذلك، ولكن شعر الجاهلية كشعر غيرهم إنما يصف أحوال الحياة التي شهدوها فيقع فيه ما يقع في سواه من القوة والضعف ويكون فيه الجيد والسخيف. على أن شعر فحول الجاهلية لا يتعلق به شيء من شعر غيرهم في صناعة البيان لا في صناعة الشعر إذ هم أهل اللغة وواضعوها
وفي الجزء الثالث من تاريخ الأدب زهاء أربعمائة صفحة في تاريخ الشعر العربي وفلسفته وأدواره الخ
على أني أحب لك ألا تحفل كثيراً بأقوال المتأخرين وكتاباتهم ومحاوراتهم فيما يختص بالأدب العربي وتاريخه لأنهم جميعاً ضعاف لم يدرسوه ولم يفكروا فيه، فابحث أنت وفكر واجتهد لنفسك فهذه هي السبيل. . .
كتبت على عجلة ساعة الانصراف، ففكر في الجواب واستخرج من قليله مالا يكون به قليلاً. والسلام عليكم ورحمة الله
14 أكتوبر1916
(المنصورة)
(مصطفى صادق الرافعي)
محمود أبو رية
تصحيح اسم طبيب
كتب صديقنا القديم الدكتور باول كراوس المدرس بكلية الآداب مقالين نفيسين في الثقافة(521/38)
الغراء عن (هبة الله بن جميع الإسرائيلي المصري طبيب الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب. وضبط الدكتور الفاضل اسم الطبيب المصري هكذا (ابن جميع أو ابن جُميِّع)
وعجبت جداً كيف يغفل صديقنا المحقق عن صحة اسم هذا الطبيب الإسرائيلي المصري فيرويه على وجهين، مع أن النصوص والأخبار جميعها متفقة على رواية واحدة وهي ابن جميع بفتح الجيم لا غير. فلا حاجة بنا إلى تشديد الياء
قلت إن الأخبار الأدبية والتاريخية تؤيد هذا الوجه ولا تعرف غيره وخاصة أن هذه الأخبار لأعلام عصر المؤلف وشعرائه المشهورين
ودليلنا على ذلك ما قاله ابن المنجم المصري الشاعر المشهور في عصر صلاح الدين وكان معاصراً لابن جميع في عجائه:
دعوا ابن جميع وبهتانه ... ودعواه في الطب والهندسة
فما هو إلا رقيع أتى ... وإن حل في بلد أنحسه
وقوله من أبيات أخرى.
لابن جميع في طبه حمق ... يسب طب المسيح من سببه
وقوله من أبيات أخرى
كذبت وصحفت فيما ادعيت ... وقلت أبوك جميع اليهودي
فهذه النصوص كلها تدل على أن اسمه ابن جميع بفتح الجيم لأن الشعر لا يستقيم وزنه على الوجه الثاني (ابن جميِّع) الذي ذكره الدكتور
بقي أن هذه الأبيات التي أوردتها هي في هجاء ابن جميع، وقد صدرت عن شاعر خبيث اللسان كما يعترف بذلك ابن أبي أصيبعة صاحب طبقات الأطباء ج 2ص113، ولكنها على كل حال لا تغض من قيمة ابن جميع العلمية ولا تنقص من قيمة رسالته الصلاحية النفيسة التي أورد الدكتور كراوس نبذاً منها في عدد الثقافة الأخير
محمد عبد الغني حسن
(إبليس يغني) للأستاذ صلاح الدين المنجد(521/39)
الأستاذ صلاح الدين المنجد في طليعة الشباب السوري الممتاز بالجمع بين الثقافتين العربية والغربية. وقلما تجد هذا الجمع على نسبة عادلة في غير هذه الفئة الصالحة التي تنتج الأدب السوري اليوم وتجدد فيه وتقوم عليه؛ فهي تمتاز من غيرها بإشراق الديباجة وسلامة البيان من جهة التصوير، وبشمول الثقافة وجدَّة الفكرة من جهة التصوُّر. والمتتبع لمقالات الأستاذ المنجد في الرسالة يلاحظ هذه المزايا واضحة جلية. وقد أصدر اليوم بعنوان (إبليس يغني) ثلاث روايات قصيرة هي: إبليس يغني، وإبليس يلهو، وحسناء البصرة. نقلها عن حكايات قديمة (كتبت في عصر يباين عصرنا فأصبح يعوزها أن تعرض برشاقة، وتهذب بذوق، وتصقل بفن، وتثقف بدقة. . .) وقد قال الأستاذ: (فوضعت حوارها على طراز تمثيلي حديث، ولم أشأ أن أبدل في جوهرها، ولكن تصرفت بعض التصرف في ترتيبها وتفصيلها وتبويبها، فجاءت كتاباً خاصاً ما أحسب أن أحداً أفرد مثله لمثلها. . . أقدمه رياً للقلب الرغيب في التماس الجمال في أدب القدامى، ومتاعاً للنفس العطوف على الفن أنى كان، ووسيلة لتحبيب الشباب في أدبنا القديم). والكتاب مطبوع في مطبعة الترقي بدمشق طبعاً جميلاً على ورق جميل. فللأستاذ المنجد الشكر على كتابته، ولجمهور القراء التهنئة بقراءته
بنو إسرائيل والطعام الواحد
قرأت ما رد به الأستاذ (س) على الدكتور زكي مبارك في فهم الآية الكريمة: (اهبطوا مصراً. . .) فراعني منه أن يبنى على وجه التخطئة على ما يأتي:
أن (مصر) النيل المبارك فهي علم ممنوع من الصرف. . . كيف هذا وصاحب الكشاف يقول ما نصه. . . ويحتمل أن يريد العلم وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث لسكون وسطه كقوله: نوحاً ولوطاً. . . وأن يريد مصراً من الأمصار. وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش: اهبطوا مصر بغير تنوين كقوله: ادخلوا مصراهـ
وعندي لتعليل تنوين مصر مع كونه علماً وجه آخر ذكره النحاة في كتبهم، وأظنه لا يغيب عن مثل حضرة الأستاذ، وهو أن العلم إذا أريد به البقعة لم يصرف لأنه اجتمع فيه التأنيث مع العلمية، وإن أريد به المكان صرف(521/40)
والذي يرجح أن المراد بمصر مصر النيل قوله سبحانه (فإن لكم ما سألتم) إذ المعنى أنهم إذا نزلوا هذا البلد المعين فإنهم سيجدون سؤلهم، وسيكون المعنى على فهم الأستاذ الجليل أنهم إذا نزلوا أي مصر من الأمصار وجدوا ما يطلبون. فأي المعنيين أليق بعظمة القرآن وجلال التبيان؟!
إبراهيم السعيد عجلان(521/41)
العدد 522 - بتاريخ: 05 - 07 - 1943(/)
13 - دفاع عن البلاغة
5 - الأسلوب
خلص لنا من مخض هذه الأحاديث أن الأسلوب الفني يتكون من الصورة والفكرة كما يتكون الماء القراح من الهدروجين والأوكسجين. وكما استحال في فن الطبيعة أن يتكون الماء من أحد عنصريه، فقد استحال في فن الإنسان أن يتكون الأسلوب من أحد جزئيه. ولا أقصر وجه الشبه بين الأسلوب والماء على أن تركُّب هذا وذاك من عنصرين ضربة لازب؛ إنما أمد الشّبه إلى أن نسبة الصورة إلى الفكرة في الأسلوب يجب أن تكون كنسبة الهدروجين إلى الأوكسجين في الماء. وإذن لا يعد من الأساليب الفنية تلك المعاني الحكيمة التي تُعرض في معرض بشع من الركاكّة والغثاثة والتعقيد والخطأ ولا تلك الصور المموهة التي تنتفخ انتفاخ الفقاقيع، وتبرق بريق الشرر، ثم لا يكون من ورائها غير فراغ وظلمة. قال ابن رشيق: (ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح. فان اختل المعنى كله وفسد، بقى اللفظ مواتاً لا فائدة فيه وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأى العين إلا أنه لا يُنتفع به ولا يفيد فائدة. وكذلك إن اختل اللفظ وتلاشى لم يصحّ له معنى، لأنا لا نجد روحاً في غير جسم ألبتَّهَ)
على ذلك نستطيع أن نتحدث إليك اليوم عن صفات الأسلوب الذي عرَّفناه وآثرناه. وحاشاك أن تفهم مما قدمتُ أن في ذهني أسلوباً معيناً جعلته النموذج، وأن في بالي نموذجاً خاصاً جعلته المقياس؛ فأني ذكرت لك من قبل أن الأساليب تختلف باختلاف الذهن والثقافة والنوع والغرض والحال والشخص الذي يتحدث. فأسلوب القصة غير أسلوب الرواية، وأسلوب العتاب غير أسلوب الشكر، وأسلوب التأثير غير أسلوب الإقناع، وأسلوب العالم غير أسلوب العامل؛ وكل أسلوب بليغ في بابه، مقبول من أصحابه. ومن العسير عليَّ في هذه اللمحات أن أستوعب الصفات الخاصة بكل أسلوب لكل نوع؛ فإن موضع ذلك عند تفصيل القول في الأنواع الأدبية وقواعدها الثابتة وشروطها المميزة؛ ولكن لهذه الأنواع مهما تعددت واختلفت صفات مشتركة من جهة الأسلوب، كما أن لها ملكات مشتركة من جهة الذهن، هذه الصفات المشتركة هي التي تعنينا ونعنيها، وهي التي سنحاول بسط الكلام(522/1)
فيها
تقرأ في كتب النقد والبلاغة فتجد من صفحه إلى صفحه سلاسل من الوصف الجزاف تتلاحق على الكلام البليغ فلا توضحه ولا تحدده. ذلك لأن أكثرها من الألفاظ التي أشاعها الكتاب في الناس من غير تقييد ولا تحديد فظلت معانيها مبهمة ودلالها شائعة. من ذلك قولهم: الجزالة والسهولة والعذوبة والرقة والدقة والخفة والقوة والسلاسة والرصانة والنصاعة والوضوح والصدق والحلاوة والرونق والمائية والطبيعية والسبك والحبك والشرف والسمو والجلال، إلى آخر هذه النعوت المتداخلة التي لا تعين حداً ولا تبين مزية
وأنت إذا تدبرت هذه الصفات على علاتها ثم عرفتها وصنفتها لا تجدها تخرج عن صفات ثلاث هي جملتها وجماعها: تلك الصفات الجامعي هي الأصالة والوجازة، والتلاؤم. ويقابلها في الفرنسية ' , , ' وسنفيض القول في كل صفة منها ما وسعنا البيان والجهد
يراد بالأصالة في الأسلوب بناؤه على ركنين أساسيين من خصوصية اللفظ وطرافة العبارة. وتلك هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق. وملاك الأصالة ألا تكتب كما يكتب الناس. ملاكها أن تكون أََصيلاً في نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك، فلا تستعمل لفظاً عاماً ولا تعبيراً محفوظاً ولا استعارة مشاعة. ولعلك قرأت فيما قرأت كلاماً يرضي اللغويين ويعجب النحاة، ولكنه مضطرب الدلالة مختلط الألوان تفه المذاق لا تستقله روح ولا تمثله صورة. ذلك هو الأسلوب الذي صدر عن الذاكرة ولم يصدر عن الذهن، ونقل عن الناس ولم ينقل عن النفس، وعبر بالجمل لا بالكلمات، وأبان بالتقريب لا بالدقة، وصور بالسوقي المبتذل لا بالأصيل المبتكر أما خصوصية اللفظ فدلالته التامة على المعنى المراد ووقوعه الموفق في الموقع المناسب. وآية مطابقته لمعناه ومبناه أنك لا تستطيع أن تُبدله ولا أن تَنقله. والخصوصية في اللفظ أصل الدقة في التعبير والوضوح في المعنى والصدق في الدلالة؛ لأن الكلمة إذا تمكنت في موضعها الأصيل دلت على المعنى كله؛ فإذا حُشرت فيه حشراً، أو قسرت عليه قسراً، دلت على بعض المعنى أو أبانت عن غيره
وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخَلق؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم؛ فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة،(522/2)
دبت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر علية اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة، إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة. وللكلمات أرواح كما قال (موباسان). وأكثر القراء، وإن شئت فقل أكثر الكتاب، لا يطلبون منها غير المعاني. فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها ولا عوض منها، ثم وضعتها في الموضع الذي أعد لها وهندس عليها، ونفخت فيها الروح التي تعيد لها الحياة وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبيعّة والوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والإعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة. وذلك في الجهاد الفني فوز غير قليل.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات(522/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الحياة والموت في الآية القرآنية - احترسوا من الأموات - الغصن الوريق
قرأت السؤال الموجه إلى الأستاذ محمد أحمد الغمراوي من أحد أفاضل الفراء، وقرأت إجابة حضرة الدكتور عباس محمود حسين وإجابة ضرة الدكتور حامد البدري الغرابي، ثم رأت أشترك في الإجابة، لأن عندي آراء ترفع اللبس عن الآية القرآنية، وتلقي على الموضوع بوارق من الضياء
القرآن يقول (يُخرج الحيّ من الميت) والعلم يقول إن الحيّ لا يخرج من الميت، فكيف نوفق بين قول العلم وقول القرآن؟
إن هذا الخاطر حير البرية منذ أزمان، فقد قال أبو العلاء:
والذي حارت البرية فيه ... حيوانٌ مستحدثٌ من جماد
وأسارع فأقرر أن مصدر الحيرة يرجع إلى عدم فهم المراد من الميت، وعدم فهم المراد من الجماد
وبيان ذلك أن الموت في الآية القرآنية ليس هو الموت الذي ينافي الحياة كل المنافاة، وإنما هو الحالة التي لا تتمثل فيها خصائص الحيوان والنبات من الإحساس والنماء، وكذلك يقال في الجماد وهو الطين في بيت العلاء، فالطين ليس له في الظاهر إحساس ولا نماء، ولكن فيه حيوية تظهر في قدرته على تحويل البذور إلى نبات، فهو يحتضنها بحرارة تشبه احتضان الطير للبيض، وتلك الحيوية متفرعة عن أسباب جوية، ولكنها أصيلة في الطين بدليل قدرته على اجتذاب وسائل الإنضاج، فإنه لا يمكن تصور الفاعلية بدون بدون تصور القابلية، والقابلية استعداد يشهد بالحيوية
يروي أن أستاذنا الروحي في التصوف وهو أبو الحسن الشاذلي قال (نحن كالسلحفاة تربى أبناءها بالنظر) وهي عبارة في غاية من الجمال
ومع أني لم أفكر في تحقيق هذه الظاهرة الطبيعية فقد سمعت أن النعامة تحتضن بيضها بالنظر فقط، لأنها لا ترقد علية وطريقتها في الاحتضان أن تنظر إلى البيض باستقامة لا يعروها التفات إلى اليمن أو الشمال، فإذا تعبت جاء الظليم فوقف مكانها وصوب نظرة إلى(522/4)
البيض بنفس الأسلوب، لأنه إذا انحرف يمنة أو يسرة خفت الحرارة فبرد البيض
وعن هذه الصورة نقلت بعض الكنائس وضع بيضة الناعمة في المحراب، لتوحي إلى المصلين أن الصلاة لا تقبل إذا اعترى المصلي أي انحراف
فنظرة السلحفاة للتغذية ونظرة النعامة للاحتضان، هاتان النظرتان فيهما حيوية لا يرتاب فيها مرتاب، وهما تشبهان احتضان الطين لبذور الشجر والنبات
قلت مرة إني أنكر أن يكون في الوجود شئ ميت، وهذا رأى كونته بعد تجارب، وهو في يقيني صحيح صحيح، وعندي على صحته براهين
ما رأيكم في الغبار الذي يثور فيسد مسام الأجسام ويقذي العيون؟
في ذلك الغبار حيوية تسبب ذلك الإيذاء، وأن سكت عنها الباحثون، وبرهاني على هذا القول أن القابلية لا تتأثر بدون فاعلية ومعنى ذلك أن الغبار من الأحياء لأنه فعال
يقول الدكتور حامد البدري:
(الإنسان الحي يقتات من المواد النباتية وهي غير حية، كما تقتات من لحوم الحيوانات بعد ذبحها وموتها وموت خلاياها موتاً كلياً)
وأنا لا أقول بهذا القول، فالنباتات التي نأكلها حيةُ وليست بميتة، ولحوم الحيوانات لا تموت خلاياها موتاً كلياً بذبحها وموتها، كما يقول هذا الطبيب، وإنما هي لحوم حية وإن أنضجناها بالنار، وإلا فكيف يمكن أن تعود على أجسامنا وعقولنا بالنشاط والأريحية؟
إن حياة الدجاجة، حياتها الطبيعية، لا تقاس إلى حياتها المعنوية بعد أن تذبح وتؤكل، فقد يكون آكلها قائداً فينتصر في موقعة، وقد يكون شاعراً فينظم قصيدة بليغة، وقد يكون باحثاً فينشط ذهنه لحل أصعب المعضلات
هل تعرفون شيئاً عن طمى النيل، وإلى ذلك الطمي يرجع خصب الأرض المصرية؟
ذلك الطمي ليس غباراً تسفيه الرياح كما يقول جماعة من المهندسين، وإنما هو محصول حيواني ونباتي تنظمه خلائق صغيرة لم يتحدث عنها العلم ولا التاريخ، ولهذا السبب نجد في الفلاحين من يأكل طمي النيل بشهية، لأنه في الواقع طعام من لأتراب، وهو لدسامته المفرطة يؤذي الأمعاء، ويصيب الفلاحين بمرض الرهان
والفلاح بطبعه يترك الماء المقطر، ويقبل الماء المعكر لأن عكارة ماء النيل غذاء، وهي(522/5)
السبب فيما نتمتع به من الخيرات. لا تنسوا أن العكارة هي في الأصل عناصر نباتية والحيوانية، وإن سكت عنها الأطباء في القديم والحديث
ثم ماذا؟ ثم أمضى إلى نهاية الشوط فأقول:
ما الذي يوجب أن تكون الرسوم الهوامد من أسباب الإيحاء، إلى الشعراء؟
وتذكروا الفاعلية والقابلية، لتعرفوا أن الرسم الهامد لا يخلو من حياة، وهل يوحي الأموات إلا وهم في بعض أحوالهم أحياء؟
الناس في جميع العهود يؤمنون بالعين، أو يخافون العين، وتلك أسطورة معروفة عند بني إسرائيل، وعنهم نقلها أكثر شعوب الشرق، وما سميتها أسطورة إلا تلطفاً مع العلم الحديث وإلا فهي حقيقة من الحقائق، فعين الحاسد يصدر عنها شعاع محرق، شعاع يحسه الحاسد نفسه، كما نص بعض القدماء، وهذا الشعاع يسلم الرجل إلى القبر، والجمل إلى القدر، كما جاء في بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول
قال يعقوب لبنيه عند دخولهم عاصمة مصر لذاك العهد: (يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد، وأدخلوا من أبواب متفرقة) فما معنى هذه الوصية؟ قال جماعة من المفسرين: إنه خاف عليهم عيون الحاسدين
ولنفرض أن الحسد خرافة في خرافة، وأن الجاهلين افتروا على النبي محمد والنبي يعقوب، فكيف تفشت تلك الخرافة في اكثر الشعوب؟
هل تصدر الخرافات بدون أصل؟
إن كان ذلك فحدثوني عن سر التوافق بين المصريين والفرنسيين في هاتين العبارتين:
إن خاف المصري الحسد قال: عين الحسود فيها عود. وإن خاف الفرنسي الحسد قال: إلمس الخشب
فما معنى هذا التوافق العجيب في الفكرة والصورة؟
هل كان المصريون والفرنسيون يدركون قيمة الخشب في دفع باس الكهرباء؟
هذه والله إحدى العجائب
المهم هو أن أقرر بصراحة أن ليس في الوجود شئ ميت، وأن القرآن حين قال: (يخرج الحيّ من الميت) لم يكن يريد الموت المطلق، وإنما كان يريد الموت الاصطلاحي، وهو(522/6)
الحالة التي لا تتمثل فيها خصائص الحيوان والنبات من الإحساس والنماء
وما هو الموت إذا أريدت حقيقة الموت؟
إن كان الموت هو الفناء فلا فناء
قال القرآن المجيد: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) ومع هذا فالله لن يتركنا أبداً، فالكتب السماوية صريحة في أنه سيردنا إليه، للثواب أو العقاب، وعلى هذا لن يكون الموت لغير غفوات قصار أو طوال
ثم ماذا؟ ثم أسأل عن التفسير الصوفي لعبارة (يخرج الحي من الميت) وهو تفسير سكت عنه أساتذتي في التصوف، ومن حقي أن أتأدب بأدبهم فأدير الحديث بالرمز والإيماء
الميت في التصوف هو الإنسان الفاني، والحي في التصوف هو الإنسان الباقي، ومن فضل الله على عباده الفانين، أن يجعل منهم عباداً خالدين
فإن قيل: وكيف يخرج الله الميت من الحي على الطريقة الصوفية؟ فأنا أجيب:
الحي في هذه المرة هو الدنيوي المفتون، وسينتقم الله منه فيجعل ميتاً بالعقاب يوم الحساب
أما بعد فهذه كلمات لم أرد تفنيد ما قال ذانك الطبيبان الفاضلان، وإنما أردت أن أقدم إلى قرائي حقائق تعتلج في صدري، وهي حقائق متصلة بالشروح التي أيدت بها نظرية وحدة الوجود
لا موت ولا فناء
فاسمعوا كلامي واعتقدوا أن في مقدور كل مخلوق أن يظفر بالخلود إن أراد جاهدوا لتحيوا، فلا حياة بدون جهاد
لا تكونوا صحراوات لا يترقرق فيها غير السراب، وإن كان للصحراء حياة تتمثل في قدرتها على تفويت ألوان السراب كل شئ حي، حتى الصحراء التي تبدع السراب، فأين من سمع قبل اليوم أن الصحراء تؤيد غناها الموهوم بتلك الأحابيل؟
وكيف يكون غنى الصحراء غنى موهوماً وهي لا تقل في الثروة والمناعة عن البحر المحيط؟
أنا لا أخاف عليكم الموت ولا الفناء، لأني أنكر الموت والفناء، وإنما أدعوكم إلى التسلح بسلاح الفاعلية لا القابلية(522/7)
لا تكونوا مقابر توحي فكرة الخوف والخذلان، وكونوا آساداً توحي فكرة السيطرة والافتراس
القبر يوحي والأسد يوحي، فاختاروا الأفضل والاشرف من الوحيين
لا موت في الوجود ولا فناء
ولكن الميت قد يحيا، والحي قد يموت
أموركم بأيديكم، فاصنعوا بأنفسكم ومصايركم ما تريدون، فقد بلغت في نصحكم غاية ما أملك من عافية الروح وصراحة البيان
احترسوا من الأموات
وراء كل إنسان حي إنسان ميت يسوقه بعنف إلى مصاير فيها المقبول والمردود، تبعاً لما يملك الميت من آراء وأهواء
ومن غرائب ما يقع في القدوة الفكرية أن الناس في الأغلب لا يحترمون رأي المفكر إلا بعد أن يموت. هل التفت الناس إلى آراء الشيخ محمد عبده إلا بعد أن مات؟
إن الشيخ عبده كان يتندر بمعاصريه فيقول إنهم لا يحترمون غير الرأي المنصوص عليه في كتاب قديم بعد عهد صاحبه بالحياة ولأحياء
وغفلة بني آدم من هذه الناحية أوضح من أن تحتاج إلى بيان، فقد أشاع أبو نواس وأصحابه أن الخمر لا تجود إلا إن قدم عهدها بالوجود، ولهذا نجد تجار الخمر يعفرون الزجاجة بالتراب ليوهموا الغافلين أن جوهرها عتيق، كما كنا نرى في بعض مخازن الخمور بمدينة باريس
والقديم في الأدب هو الأصل، فقد مرت أزمان والناس يعتقدون أن أشعار الجاهليين أقوى وأبرع من أشعار الأمويين والعباسيين
القدم في عرف بني آدم يمنح صاحبه قدسية تفوق الوصف، وهو شارة من شارات النضج العبقري في الأشخاص وفي المعاني بسبب ما درج عليه الناس من احترام الأموات
أي العبارتين أقوى: عبارة قال القدماء، أو عبارة قال المعاصرون؟
وازنوا بين هاتين العبارتين من الوجهة النفسية لتصدقوني
وأي الحفظين أنفع في نظر المتأدبين: حفظ ديوان المتنبي، أم حفظ ديوان شوقي؟(522/8)
إن الأموات يسيطرون على الجماهير سيطرة روحية وعقلية لا يرتاب فيها إنسان، ولو كان من أكابر الحكماء
فكيف ننكر أن يخرج الحي من الميت، وهذا هو الحال في تصورات الأفهام والعقول؟
للموت قدسية رائعة، فهو يرفع الأموات إلى آفاق لم تخطر لهم في بال، ألم تسمعوا أن كلمة الموت أصبحت مرادفة لكلمة الخلود؟
تبارك من يخرج الحي من الميت، وعفا عن صاحب ذلك الاعتراض!
الغصن الوريق
هذا الغصن هو مصدر الوحي، وهو أنضر فنن من أفنان الجمال جمالة عندي ليس جمال الشراب المعتق، وإنما هو جمال الماء الصابح في بحر سنتريس
أهفو إليه وهو سرحة ناشئة لم يغرد فوقها غير شعري وخيالي، وأشتاق رؤيته لأحميه من رقة النسائم في لطائف الآصال
فوق أوراقك أيها الغصن الوريق تراق دموع الهوى، وهي أرق من قطرات الندى، ومن أجل الوفاء لهواك يفتضح من يكره الافتضاح
وهل عرف أحد هويتك، أيها الغصن الوريق؟
أنت نفسك لا تعرف أنك المعنى بما يهتف به روحي في رسائلي وأشعاري، يا أجمل جاهل في هذا الوجود
هل تعرف أيها الغصن رفقي بك في القريب من أيامك ولياليك؟
كان بيدي أن أصيرك صرخة لا يترنم فوقها بلبل، ولا يفرح بمداعبتها نسيم، ولا يتطلع إليها نور الصباح
كان بيدي أن أهصرك، أيها الغصن الوريق، فكيف جاز أن أسلك مسلك الزهادة فيك؟
رأيت أن أجعلك فوق مشتهيات العيون والقلوب؛ يا أجمل وأظرف ما تشتهيه العيون والقلوب
كان رأيك أنني ترفقت بنفسي فلم أقل إنك هواي، وكان رأيي أني أرحمك فلا أقول إنك هواي، لأني أقدر منك على مقاومة الرقباء
فيا أنضر غصن في أجمل شجرة تتخايل في أعظم بستان، ما رأيك فيمن يكتم هواك؟ ألا(522/9)
يكفي أن الغناء بحبك صيرني أشقى الأشقياء بالحب في زماني؟
سكت فقال العاذلون أنت، ونطقت فقال الكاشحون أنت، فمن أنت؟
آفتي في زماني أني أحب الغصن الوريق، فليعرف من لم يكن يعرف أن هواي مقصور على الأغصان الوريقة بحديقة داري في سنتريس، مع الأدب في حق من زار تلك الدار وكأنه طيف من أطياف الخلود
زكي مبارك(522/10)
ألف ليلة. . .
للأستاذ دريني خشبة
كلما تعبت الإنسانية أو جثمت على صدرها الهموم والآلام، لجأت إليك يا ألف ليلة الحبيب تخدر بك أعصابها المنهوكة، وتحسو من نهر أحلامك تلك الجرعة السحرية العجيبة، فتستسلم للأحلام. . .
أنت أيها الأغنية الخالدة التي تترقرق في أرواح المحزونين ما أبدع شاديك وما أملأ بالفتنة ناديك!
لله حورياتك التي تثب كالقطا نحو أبواب الشرق بعد إذ فتحت أكمام الورد، وغسلت بالندى أحداق النرجس، ووسوست في صدر العرائس، وأيقظت الحياة في القرية الحالمة، وداعبت كل أم بالأماني، وجمشت الديكة فأطلقت حناجرها للريح تتأذن للشمس أن تشرق، وللبدر أن يغيب، وللأنجم الظالمة أن تغرق في فيض الضوء الذي يفتر عنه فم الصباح!
لله عذاراك يا ألف ليلة الحبيب! إن في عيونهن كحل الشرق، وفي وجوههن صباحته التي لا تعرف الدمام! إنهن يسبحن فوق السحاب الموشى بأجنحة من ذهب لا ثقل له. . . لأنه ذهب مما تصب سبائكه أخيلة الشعراء والحالمين والظامئين، تلك الأخيلة التي تصنع الطوبى، وتنبت الجنان، وترسل الألحان الصامتة، وتنحت التماثيل الحية، وتفرش أديم الأرض الطيبة بأوراق الورد والبنفسج، وتفجر فيها أنهار المعرفة، وتعطر نسيمها بعبق الزنبق، وتملأ أرجائها بألسن الموسيقا، وتبنى فيها القصور للعشاق والمحبين من البلور واللؤلؤ المنثور. . .
أملأ كأسك السحرية يا ألف ليلة الحبيب لتشرب الإنسانية المتعبة نخب أحلامك. . . إنها تود أن تنام فلا تصحو. . . إن الأشباح الكريهة الشائهة قد ملأت عليها عالم الحقيقة، وهجمت عليها فجأةً من الغابة المظلمة الفاحمة أفاعي الأحقاد. . . هاهي ذي الضباع الجائعة التي أصابها السعار تنوشها من كل فج، وتتلقفها في كل مكان. . . في البحر. . . في البحر. . . في الهواء. . . تحت الماء. . . في المخابئ. . . في الخنادق. . . في البروج المشيدة. . . في البيداء. . . في القرية. . . في المدينة. . . في كل مكان يا ألف ليلة الحبيب تجد الإنسانية الأشباح ذات الظفر والناب. . . أشباح السباع والضباع(522/11)
وعفاريت الجن والسحراء والأفاعي والرخاخ الهائلة التي تحمل فراخها الفيلة، والتنانين الطائرة التي تنزع الأشجار وتحطم المدن وتجعل العامر يباباً داثرا
لشد ما تفزع الإنسانية يا ألف ليلة الحبيب بهذه الرؤى التي زحمت حولها عالم الحقيقة، فهبها كأسك السحرية مترعة لترسل بها إلى وادي أحلامك. . . وادي البدور والحور والعطور والبخور. . . وادي الأشجار والأزهار والأثمار والأطيار. . . الوادي الجميل الذي لا لغوب فيه ولا كروب ولا حروب. . . الوادي الأخضر السندسي الذي يستطيع كل شئ فيه أن يبتسم وأن يغني وأن يتكلم بلغة الموسيقا. . . لأن كل شئ فيه يستطيع أن يحب. . .
الوادي الذي تبتسم شطئانه، وتبغم غزلانه، وتغازل الأرواح ألوانه، وثلج الصدور ريعانه. . . نضر ريان، حلو فينان؛ حينما تدخله الإنسانية الباكية تطرح أشجانها، وتنسى عند بابه أحزانها، فتمشي فيه بقدميها الورديتين، اللتين أرهقهما المشي في تلك الطريق الجافة الجافية المضرجة بالدماء، تبكي أطفالها، وتضحك من رجالها. . . ولا من يرثي لحالها.
حينما يداعب الحب قلوب العشاق، لا يقنع إلا أن يترك فيها ندوباً يجري منها الدم. فتارة يلون هذا الدم خدود العذارى وثغورهن، إن كن رقيقات رحيمات. . . أما إن كن قاسيات عاتيات، لا قلوب لهن، فإنهن يتركن الدم الشهيد المسكين يسقط ليروي الأرض. وقد يمشين فيه ويتلاعبن فيه حتى يخضب أقدامهن وبنانهن، فيخيل للمخدوعين أنها وردية
ومن حسانك يا ألف ليلة الحبيب من يملأن دنياك مباهج ومسرة. إنهن أرأف بالمدنفين من النسيم الغزل بالزهرة الظامئة؛ حين يبل صداها بالرذاذ النحيل الذي تحمله أجنحته ذات الزغب فيطبعه كالقبل فوق أوراقها التي ترتعش
أولئك المحصنات المحسنات المحسنات يا ألف ليلة، اللائي يمهدون للإنسانية طريق الخير، ويبتن فيها الورود والرياحين وأفواف الزهر
ومن حسانك يا ألف ليلة من يشببن حرب الحياة جذعة. هن جميلات ذاك الجمال الفائز المتأجج الذي كل من مسه يحترق وجميع من دخل تيهه يضل، ولا بد لمن يضرب في بيدائه من التعاويذ والطلسمات والرقي. . . تلك البيداء المسبعة المحواة التي تعزف جنباتها الجن، وتفح الأفاعي، وتعربد الغيلان والسعالي. . .(522/12)
الجمال الخطر المتبرج الذي صنعته يد الشيطان، وباركه إبليس الأكبر، فقصر من ذيله، وحسر عن ساقه، وأرسل شعره كالزوابع الهوج تعصف بالقلوب الرطبة، وتزيغ العيون الجائعة، وتحرق العواطف المحرومة. ثم جعله سائباً طليقاً في الطرقات ليهدم ما تبنيه الآداب والأديان والمدارس وليثير غرائز الحيوان فيعود بالإنسانية إلى الغابة
هات يا ألف ليلة الحبيب من جرعتك السحرية فقد طال الانتظار بمعروف المسكين الإسكاف!
لقد ضاق بالشدتين: صنعته وزوجه، فابعث إليه بهذا العفريت من الجن يحمله إلى بلاد الصين، حيث يتزوج من ابنة الملك! وحيث يحمل علاء الدين مصباحك السحري إلى أمه فيرد بأساءها رخاء، ومتربتها هناء وفقرها غني. . . ويطلب إليها أن تخطب عليه ابنة الملك! بالضبط كما تتهيأ الفرصة لمعروف الإسكافي. ولكل بائس محروم يفكر في الناحية الأخرى المقابلة، حيث الفرج والسخاء والرضا، حيث طاقية الإخفاء وخاتم الملك والعصا السحرية ومصباح علاء الدين، حيث الأرض الطيبة، وجنة الأحلام، والطوبى السعيدة الخالية من الآلام. ألا ما أحوج الإنسانية إلى طاقيتك اليوم يا ألف ليلة الحبيب! ما أبدع أن تلبسها لتستخفي من الطائرات والغواصات والطرابيد ومدافع الهاون ومدافع الميدان والمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية وقنابل الثمانية آلاف رطل!
إنك إن تفضلت بها اليوم فحملتها على رأسها الذي يضطرب داخله ذلك البركان الأحمق، فإنك تريحها من أبنائها الحمقى، وأطفالها السكارى العرابيد!
إنها تستطيع إذن أن تتخلص من مارس المتوحش الدموي وعماله المتوحشين الدمويين، ومن تلك المجزرة المجنونة التي صنعت في معمل الأبالسة، وأُعدت في جب الشياطين! اخلع عليها تلك الطاقية يا ألف ليلة وليلة لتصل إلى خزائن الأسرار الحربية، فتريحنا من اختراعات الأبالسة، ولتضع مكانها أشباح تيمورلنك وجنكيز خان وهولاكو وأتالاكي تصيح في أوجه الجبارين: (مكانكم، ما هذا الدمار وما ذاك التخريب؟ لقد دمرنا من قبل، وخربنا من قبل، وحرقنا المدائن والقرى. . . ثم دمرنا الزمان وأحرقنا التاريخ، فلم نك شيئاً)
اخلع عليها طاقيتك يا ألف ليلة الرحيم لتصل إلى خزائن البخلاء والمنهومين ومختزني الأرزاق والأقوات، أولئك الذين تركوها تتضور جوعاً وترتعد عرياً،. . . وتذوب من(522/13)
الاستحياء والتعفف لا لشيء. . . إلا لتمتلئ بطونهم بنار الذهب الوهاج. . . ليقتنوا الدور ويشيدوا القصور. . . وليضاعفوا بعد من آلامها. . . تلك الآلام التي يشربونها في كؤوسهم خمراً لذة، وسلافة مزة، وشرباً لا بارداً ولا طهوراً!
لقد طال بكاء معروف ومسغبته يا ألف ليلة، فامنحه طاقيتك ليستخفي بها قليلاً من عصا زوجه وثقلها. . . فما جنى شيئاً؛ ولكن جنت عليه تلك الحرب التي لم يشعل نارها وهو يصلى بأوارها
أين الخاتم يا ألف ليلة؟ خاتم الملك العجيب الذي يملك الدنيا من ملكه؟ أين خادمه الجبار لينقل الإنسانية إلى كوكب غير هذا. . . كوكب بعيد قصي. . . كوكب غير قريب من المريخ فلا يراها مارس وأعوانه المردة الذين لا ري لهم إلا من دماء الأبرياء، ولا شبع إلا. . . بأكباد الأمهات والأيامى والمساكين وقلوب اليتامى والحزانى
أين خبأت هذا الخاتم يا ألف ليلة؟ لماذا تبخل به علي إصبع الإنسانية المرفوع إلى السماء، والدم يقطر من بنانها؟ من به عليها لتكتم أنفاس المدافع، ولتوزع على الجائعين أرغفة بدل هذه القنابل والمنشورات التي تلقيها عليهم الطائرات؟
لقد ضلت الإنسانية سبيلها في تلك المفازة، فألق إليهم بالخاتم يا ألف ليلة. . . ولقد اشتد الظلام الذي تضرب فيه على غير هدى؛ فأشعل لها مصباح علاء الدين لحظات حتى تتبين سبيل الرشد، وحتى تفئ إلى الحق، وحتى تعود لها نعمة الحياة التي يعدها المردة من سخافات الماضي
(لماذا هذا الحديث الطويل عن الدم والآلام والحلبة؟
أليس في الدنيا ركن أختبي فيه بهذا الناي الذي في يميني، وذاك القرطاس الذي في شمالي، حيث أخلو إلى أناشيدي التي أملأ بها أسماع الرياح وآذان الآرام؟
لماذا يعوزني التحدث إلى الإنسانية ذات الأسمال، وها هو ذا الورد يصغي إلى ألحاني، ويعطر الحديقة الضاحكة بعبير بياني؟)
هكذا وقفت شهر زادك تسأل نفسها يا ألف ليلة:
(سأمشي على ثبج هذا البحر بقدمي الجميلتين، فنهرع إلى جنياته وعرائسه. . وسأسبح على رؤوس الآكام في الهواء فتثب إلى بنات الغاب وعذارى الخمائل. . . ثم أسبح فوق(522/14)
السحاب. . . في صميم الأثير، فتقبل إلى ملكات العلالي. . . أما جنيات البحر وعرائسه فتقبل قدمي وتتلقى أوامري. . . فوجمالي ومفاتني لا يأذن لغواصة أن تلج فيه ولا لبارجة أو ملقية طوربيد أو نحوها. . . ولتمخر فيه الجواري المنشئات كدأبها من قديم آمنات مطمئنات
وأما بنات الغاب وعذارى (الخمائل) فتقبل بناني، ثم لا يأذن لمدفع أو دبابة أن يشوه جمال دنياي الخالدة. . . لن تصعد الآهات المكروبة من خرائب المدن الباكية بعد اليوم. . . ولن تكون هناك أطلال تذكر بتلك المجزرة المجنونة
وأما ملكات العلالي فتقبل يدي، وتنثر على الأرض المتعبة لآلئ الحكمة، وتنشر في الهواء لواء السلام، وترد إليها المحبة والإخاء)
ما أجمل ما تغني شهر زاد يا ألف ليلة الحبيب؟!
شهر زاد! روايتك الخالدة! مخترعة الطاقية والخاتم ومصباح علاء الدين والعصا السحرية. . . مسخرة الجن، وصانعة التعاويذ والطلسمات والرقى
شهر زاد! حلم الإنسانية الجميل!
متى تصحو شهر زاد يا ألف ليلة الحبيب؟!
دريني خشبة(522/15)
على هامش النقد
النماذج البشرية المهموسة!
للأستاذ سيد قطب
حينما يذكر هذا التعبير (نماذج بشرية) تتواكب على النفس، وتخطر في الخيال، عشرات أو مئات أو ألوف من السحن المتمايزة، والملامح المتغايرة. سحن الأجسام والطبائع، وملامح النفوس والجوارح، من هؤلاء البشر الذين نلتقي بهم في الحياة اليومية، أو نسمع عنهم في القصص والتاريخ، أو نستشرف إليهم في الأساطير والخيال
وكل نموذج من هذه النماذج (أصيل) في بابه - حين ننظر إلى الحياة بعين فنان - وكلها جدير بأن (يسد خانته) ويؤدي دوره على المسرح الحافل الرحيب الذي تعرض فيه الحياة شتى النماذج وشتى الأدوار.
فإذا أردنا أن نضيق من هذه النظرة، فننظر بعين الفرد الإنساني ورغباته وميوله وما يحب في هذه الحياة وما يكره من الطبائع والأشكال؛ فلنا حينئذ أن نحب نموذجاً ونؤثره على نموذج؛ ولكن ليس لنا أن نطلب من النماذج الأخرى جميعاً أن تستحيل إلى المثال الذي نحبه؛ لأن في هذا تضييقاً لمسرح الحياة!
ولكن الأستاذ (مندور) كما يستهويه لون واحد من ألوان الأدب، لا يفرق بين الجيد والرديء من أمثلة، ما دام الجيد والرديء فيه ملونا بهذا اللون الخاص الأثير عنده المحبب لديه. يستهويه كذلك لون واحد من ألوان النماذج البشرية، وهو (الشخصيات المهموسة) التي لا تجهر مرة واحدة في حياتها، والتي تنزوي دائماً وتتضاءل وتتفانى وتخنس، والتي يتوافر فيها الحنان أو الحنين في همس واستخفاء
ولقد كتب في مجلة الثقافة بضع مقالات يستعرض فيها أعمالا في القصة والرواية لأدباء مصريين وأوربيين. والقارئ لهذا الاستعراض لا يحتاج إلى كبير عناء ليعرف أن آثر شخصية من شخصيات القصص قد أنس إليها وأحبها، وأطنب في عرضها والتذ هذا الإطناب. هي شخصية (فيليستيه) التي صورها الروائي الفرنسي الكبير (فلوبير) في قصة بعنوان: (قلب ساذج)
تلك الشخصية التي يقول عنها هو: (في عنوان القصة، وفي اسم البطلة ما يشخص هذا(522/16)
الأنموذج المؤثر. ولو أنك طلبت إلي أن أترجم هذا الاسم وكان ذلك من حقي لما وجت خيراً من (أم السعد) فإنا نحس في هذا اللفظ سذاجة القلب وطيبته.
(فليستيه) خادمة من خدم الريف. عقل محدود وقلب رحب. وعن هذه المفارقة يشع نبل حياتها المتواضعة الحزينة. . . مثلها كمثل كلب أمين لأن الأمانة من طبعه، يقاتل دون سيده، ولقد يمسه الأذى ويعود من المعركة لا يذكر إلا ما به من جراح يحيها ألمه. . .)
ولا علاقة لي هنا بقيمة هذه القصة من الناحية الفنية ولا بمقدار إجادة المؤلف في رسم هذه الشخصية. وإنما يعنيني فقط إعجاب الأستاذ مندور بشخصية معينة
إنها ليست مصادفة عارضة أن تكون شخصية (فيليستيه) أو (أم السعد) هي أحب شخصية من شخصيات القصص إلى الأستاذ مندور بما فيها من (سذاجة وطيبة) و (بحياتها المتواضعة الحزينة) وبما فيها من شبه بالكلب الجريح (تحيى آلامه جراحه). وأن يكون آثر ألوان الأدب لديه هو (الشعر المهموس) والنماذج التي اختارها خاصة من هذا الشعر بما فيها من (نفس تئن) و (موسيقى حزينة). وأن تكون دعوته إلى الأدباء، هي الهمس والتواضع والاختفاء. وأن يكون المتنبي والعقاد بما فيهما من فحولة وضخامة وجهارة من الشخصيات التي لا تقع بينه وبينها ألفة في الأدب أو الحياة! إنما هي تلبيه لمزاج خاص يهفو إلى الحنان والحنين، ويستنيم إلى الهمس و (الوشوشة) والتهويم!
ولم تكن كذلك ملاحظة عابرة تلك التي لاحظتها على (مزاجه) فاجتماع هذه المصادفة، إنما يوحي بدلالة خاصة واضحة!
ولا أعيد هنا ما سبق لي تقريره من حاجة الذي يتصدى للنقد إلى أن يوسع آفاقه فينظر إلى ألوان الأدب والى نماذج الشخصيات وأنماط الطبائع من زوايا كثيرة مختلفة، لا من زاوية واحدة صغيرة
فشخصية (فيليستية) بصفاتها تلك، قد تكون شخصية محبوبة تستدعي العطف والرثاء، ولكن الحياة ليست مطالبة أن تحيل الناس جميعاً (فيليستيهات)! لتعجب الأستاذ مندور فهناك شخصيات جهيرة جاهرة، وشخصيات عظيمة شاعرة بما فيها من عظمة، وشخصيات ضخمة جبارة، وشخصيات طاغية عاتية؛ بل هناك شخصيات مريدة شريرة، وشخصيات دعية داعرة. وكلها جديرة بريشة الفنان. وليس نموذج آخر في عرف الفن ولا(522/17)
في عرف الحياة. ولم يقع أن التذ الأستاذ مندور نموذجاً آخر من هذه النماذج البشرية الكثيرة أو عني باستعراضه فيما كتب ولهذا دلالته بلا جدال!
و (الأدب المهموس) قد يكون لوناً محبوباً من ألوان الأدب - مع وجوب التفرقة بين الصحيح منه والمريض - ولكن الحياة ليست مطالبة كذلك أن تحيل الفنون جميعها همساً، لأنها لا تستطيع أن تحيل الطبيعة كلها همسات خافتة أو حشرجات لاهثة لتعجب الأستاذ مندور، فالحياة أرحب من ذلك وأكبر وأعرف بقية الأنماط المختلفات!
وتشاء المصادفات أن يكتب الأستاذ مندور في عدد الرسالة الماضي كلمة في الرد عليّ، فتنضح بدليل جديد على هذا المزاج الخاص حين يقول:
(وأما عن النثر فما أظن القراء في حاجة إلى أن أدلهم على أن (رثاء أحد الشبان لأمه) الذي أورده الأستاذ قطب لا يمكن بحال من الأحوال أن يقارن (بأمي) لأمين مشرق. فرثاء الشاب المذكور لا إيقاع فيه ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في الاختيار للتفاصيل. وكيف تريد من شاب يؤلمه من موت أمه أنهم لم يعودوا يعرفون (بأُسرة) أن يصل في فن الكتابة إلى مشرق الذي يذكر (فستانها العتيق) و (يديها اللطيفتين) و (وقع قدميها حول سريره) و (غابة السنديان) وما إلى ذلك من فتات الحياة)؟
وأريد أن أتجاوز عن شئ من الالتواء في اختيار الأستاذ مندور لإحساس واحد من أحاسيس الشاب المصري في رثاء أمه ليس هو أبرز أحاسيسه تجاه الفاجعة، وحشده في مقابل هذا الإحساس الواحد خلاصة أحاسيس أمين مشرق كلها ليصل إلى غرض خاص في الموازنة!
أريد أن أتجاوز عن هذا الالتواء في العرض، وأكتفي بأن أضع بإزائه تصرفي في عرض رأيه هو، وعودتي في المقال الثاني من مقالاتي إلى توضيح هذا الرأي كاملاً بفقرات ونصوص حين أحسست أنني في مقالي الأول لم أعرضه العرض الكافي لتحقيق الأمانة الأدبية!
أتجاوز عن هذا لأتحدث في لب الموضوع فأثبت أولاً للقراء ذلك النص الذي يعنيه من رثاء الشاب المصري لأمه:
(من نحن اليوم يا أماه؟ بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا، ما عنواننا الذي نحمله في(522/18)
الحياة ونعرف به؟ إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان، بل أصبحوا يقولون: هذا فلان، وهذا أخوه، وهاتان أختاه!)
هذا هو الإحساس الذي لا يعجب الأستاذ مندور: شعور الأبناء - بعد أمهم - بأنهم فقدوا عنوانهم في الحياة أمام أنفسهم وأمام الناس، وأنهم لم يعودوا يعرفون من هم، بل لا يعرفون ما هم!
وفي هذا الرثاء أحاسيس أخرى صادقة عميقة. تجاوزها ولم يشر إليها؛ ففيه الإحساس بالتناثر، والإحساس باليتيم، والإحساس بالغربة في الحياة كلها. وفيه الأسى على صور الأمومة الحية النابضة حين يقول:
(من ذا الذي يقص علي أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب. ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود)
وحين يقول:
(عندي لك أنباء كثيرة. كثيرة جداً ومتزاحمة. تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد بغيبتك، وإنه ليخيل إلي في لحظات ذاهلة: أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدثك بما جد لنا في غيبتك من أحداث، وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها. . . وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه، ولن تدب فيها الحياة يا أماه إلا حين أقصها على سمعك. . . ولكن هيهات فسيدركها الفناء. وستغدوا إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى)
هذه الأحاسيس، وهذه الصور لا تعجب الأستاذ مندور: (ولا إيقاع فيها ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في الاختيار للتفاصيل) ولا تدل بحال من الأحوال ذكر (الفسطان العتيق) ولا (اليدين اللطيفتين) ولا (وقع القدمين حول السرير) ولا (غابة السنديان)
لماذا؟ لأن في القطعة الأولى معاني كبيرة وأحاسيس عميقة، وليس فيها (فتات). ولهذا دلالته القوية فيما نحن بصدده. فهنا مزاج موكل بالأحاسيس الصغيرة الهامسة والمظاهر التافهة الساذجة، لا يستقل حسه بإحساس ضخم، ولا بصورة مركبة، ولا يطيق أن يرى في الحياة إلا الأطياف الباهتة، ولا أن يسمع في الطبيعة إلا الهمسات الخافتة. وتلك الجزيئات المفردة تستلفت نظر المرأة بشدة في الحياة، ونظر ذوي الأمزجة الخاصة كذلك(522/19)
والأستاذ مندور كرجل ذي مزاج خاص مطلق الحرية في أن يختار ما يطيق حمله وما يستطيع أن يقله، ولكنه لا يصلح حكما يشرع للآخرين من أقوياء البنية القادرين على حمل ما يؤوده حمله، وعلى إدراك ما يقصر عنه حسه!
أما ما قاله عن الأستاذ محمود حسين إسماعيل فليس اليوم مجال الحديث فيه؛ وحتى التسليم به لا يؤثر في الحكم على الشعر المصري كله
سيد قطب(522/20)
أدباء عالميون
2 - موريس ماترلنك
للأستاذ صلاح الدين المنجد
وأخرج ماترلنك، بعد (الأميرة مالين) درامته المسماة: (بالدخيل وهي ذات فصل واحد، تجري حوادثها في بهو مظلم، من قصر قديم. أما أشخاصها فقلال: جد أعمى، وأب، وعم، وثلاث فتيات. كما رأيت أن أشخاص الأميرة (مالين) هما الملك والملكة. . . فالملكة تجن، والملك يموت. . . ولكنهما يخفيان وراء شخصيهما أمراً، ذلك أن الناس كلهم أمام تلك القوة الخفية التي تؤثر فينا متشابهون، سواء أنسبوا ذلك للمصادفة أو الحظ أو الشقاء أو الموت. . . لأن أشد الناس اختلافاً وتبايناً يصبحون متساوين متشابهين أمام العدم. . .
إذن فأشخاص الدرامة الثانية قليلون. وهاهم أولاء في غرفة يكاد مصباحها لا يضئ. . . يتكلمون وأصواتهم لا تسمع. . . يقطعون الليل قلقين مظطربين وفي غرفة مجاورة تنام تلك التي يقلقون عليها ويظطربون. . . تلك المرأة المشرفة على الموت. لقد كانت تجود بنفسها، في حين كان الأب والعم، والفتيات يطمئن بعضهم بعضاً:
- لقد تكلمت هذه الأمسية
- (إنها تنام نوماً عميقاً
- (هذه أول ليلة تشعر براحة فيها. . .
- (أحسب أن لنا الحق بالضحك أيضاً بلا خوف. . .)
ولكن الجد العجوز، لا يزول اظطرابه ولا قلقه؛ ولا يخفف من قلقه واظطرابه هذا الهراء الذي يسمعه، لأن عينيه لا تريان هذه المظاهر الخارجية التي تمنع الروح من الجولان، فهو متصل بالكون بروحه، يلتقط بها الأشياء ويدركها. هي كلاقطة المذياع. . . يعلم بها ما سيقع وسيكون. لا جرم أن لدينا جميعاً هذه اللاقطات، ولكنها تختلف في قوتها؛ فكلما كانت الروح قوية كان هذا الإدراك أو ذاك الشعور قوياً. ولكننا لا نفيد منها جميعاً. . . لأن بصرنا يقف عند ظاهر الأشياء. فالواقع الذي نشاهده يمحو الحق وهذه الفكرة ملازمة لآثار ماترلنك يعرضها ويفصلها ويشرحها. وإن ما نعتبره أدوات كشف وفهم كالبصر والنطق، لهي عاهات. . . فالأعمى في هذه الدرامة يرى ببصيرته، يرى ما لا يراه أولئك(522/21)
الذين يثرثرون من حوله. . . ويتكلمون
ويمضي ماترلنك في درامته هذه، فيصور لنا وساوس الجد المسكين وقلقه. إنها لم تشعر بالروح والنشاط كما زعموا. . لا. . ولكن ماذا حدث. . .؟ فلقد هب الهواء. . . وخرست العنادل، وهاهو ذا خفق أقدام البستاني يرتفع. لقد بدأ عمله. . ويثرثر الفتيات؛ ويضطرب الشيخ، فقد شعر بدخول مخلوق لا يستطيع أحد أن يراه. . . إنه يرى. . . يرى ما لو تكلم به لسخروا منه. . . دخل هذا المخلوق الرهيب. . . إنه هنا، في الدار، يحس به ويضطرب قلبه له. ويطرق الشيخ الأعمى لحظة، وتدخل الراهبة فترسم الصليب. . . لقد ماتت المرأة. . .
وجهد ماترلنك في إفهام القارئ أن الموت دخل إلى غرفه أولئك الأحياء، وكان بينهم، كما أنه في كل ساعة، وفي كل مكان، يستطيع أن يدرك المخلوقات كلها
وماترلنك يدخل الموت في جميع مسرحياته، فالموت يسدد ضرباته دائماً للشباب والنعيم والحب، لا لأن السعادة أو الحب تصبان بما لا يصاب به الحقد والألم والبغض، بل لأن ضرباته شداد في السعادة والحب. . . خفاف في الشقاء والحقد.
وينحو النحو نفسه في درامته (العميان فمن هم هؤلاء الإثنا عشر أعمى: ستة عميان، وست عمياوات، التائهون في غابة من غابات أفريقية الاستوائية، تحت سماء صافية مزدانة بالنجوم. ينتظرون عودة الكاهن الذي قادهم إلى تلك المناطق البعاد، فتركهم فيها ومضى. هؤلاء العمى رمز الإنسانية القلقة الحائرة، التي تجهل الطريق الواجب اتباعها، وترتقب نجدة خارجية من دين أو فلسفة، فتنقذها مما هي فيه. إن أولئك العميان وهم في تلك الغابة، لا يجهدون ولا يتحركون لأشد ضعفاً من الأطفال. . . ماذا يفعلون وقد غاب الدليل. . . إن صخوراً شما، وهوى سحاقاً تحيط بهم. لقد حكم عليهم أن يبقوا في هذا السجن وسلط عليهم الموت، فهم يشعرون به عندما يفقد بعضهم بعضاً ولكنهم لا يجدون إلى رؤيته سبيلاً.
على أن درامته المسماة (بيلياس وميليزاند أشد سحراً ورقة، وأقرب ما كتب ماترلنك من الواقع. وقد افتن الموسيقيون في وضع ألحانها، فجلتها موسيقى شعبية ذائعة. حتى أن سلطان النغم أكسبها قوة ورقة، وأن كانت هذه الموسيقى قد أوضحت بعض ما كان ينبغي(522/22)
أن يبقى غامضاً، كالأم والقلق والخيبة. . . هذه الأشادي التي يجب أن تضل كالضلال. . . وراء الأقوال. . . يدركها المرء بروحه ويستخرجها بنفسه. . .
لقد تزوجت (ميليزاند) الحسناء (جالود الأمير وكان هذا صياد ماهراً، ذا بأس وقوة. وكان أخوه بيلياس فتى غرانقاً، فأحبته ميليزاند، وأحبها. وأنهما لفي خلوة من خلوات الحب، إذ يفجؤهما خولود. . . فيثور ويغضب ويشهر سيفه ويطعن ميليزاند فتخرج، ويحاول أن ينتحر. . . ويفر بيلياس فيرى بنفسه في هوة سحيقة. . . فتتناثر قطع جسمه في جنباتها. وتموت ميليزاند بعد أن تضع غلاماً. . . وهنا تزداد الدرامة رفعة بالموسيقى. . . على أن بيلياس وجولود وميليزاند ليسوا أشخاص الدرامة الأوائل. . . وإنما كان صاحب (الدور) الأول، ذالك المجهول الذي لا يرى، رغم وجوده
كان ماترلنك، عندما كتب هذه الدرامة، متشائماً. فهو يصور القدر يسير الكون، فلا يستطيع أي مخلوق أن يقف في وجهه. فالقدر هو الذي سلط على ميليزاند الآلام القتالة بعد فرارها من زوجها؛ وهو الذي وصل بين قلبيها وقلب بلياس بالحب. . . هذا الحب العنيف الذي لا يقاوم، وهو الذي دفع جالود إلى القتل، وحال دون سعادة مخلوقين بريئين، ثم هو الذي ضرب العاشقين ضربات مؤلمات على جريمة لم يرتكباها. . . فهذه القوة التي لا ترحم. . . هي التي فعلت هذا كله. العقيدة المسيحية (تبرر) الأم بأنه عقاب أو تكفير عن ذنوب. ولكن بلياس وميليزاند لم يرتكبا جريمة، إنهما بريئان، وإنما تحابا. . . فكان الحب جريمة لا تغفر.
(دمشق - للبحث بقية)
صلاح الدين المنجد(522/23)
مناهضة أزياء النساء قديماً
للأستاذ كوركيس عواد
بلغت النساء في عصرنا مبلغاً عظيماً من التفنن في ضروب الملبس وابتكار صنوفه. فأضحينا نرى أو نقرأ بين الفينة والأخرى عن زي جديد يشيع بين طبقات منهن، ثم لا يلبث أن ينقلب أمره فيصبح قديماً مستهجناً في أنظارهن، فيهمل استعماله ويعدل عنه إلى غيره
ومثل هذا التقلب بين الأزياء لا يمكننا عده بدعة جديدة أو أمراً مستحدثاً؛ فإن من يتصفح الأسفار القديمة، لا يعتم أن تستوقفه أخبار من هذا القبيل. وما يلفت الأنظار إليه بوجه خاص، ما كانت تلقاه بعض الأزياء من معارضة واستنكار ممن كانت بأيديهم مقاليد الحكم والتدبير. وقد وجدنا أحد المؤلفين الأقدمين، وهو ابن الأخوة القرشي الشافعي، المتوفى سنة 729 للهجرة (1328م) ينعى على نساء عصره ما انتهين إليه من سوء الحال في الأزياء المتكلف فيها والتصنع الممقوت في المظهر، كما يبدو من عبارته التالية:
(والنساء في هذا المقام أشد تهالكا من الرجال، ولهن محدثات من المنكر أحدثها كثرة الإرفاه والإتراف، وأهمل إنكارها حتى سرت في الأوساط والأطراف. فقد أحدثن الآن من الملابس ما لا يخطر للشيطان في حساب، وتلك لباس الشهرة التي لا يستتر منها اسبال مرط ولا أدنى جلباب. ومن جملتها أنهن يعتصبن عصائب كأمثلة الأسنمة، ويخرجن من جهارة أشكالها في الصورة المعلمة)
وكانت بعض أزياء النساء قد أصابت مقاومة عنيفة، لما كانت تنطوي عليه من غرابة وتبذل، فعمد أكابر القوم إلى إبطالها بما وسعته طاقتهم وأسعفهم سلطانهم. ومن الشواهد على ذلك ما رواه ابن إياس في حوادث سنة 751 هـ (1350 م) من أن السلطان الملك الناصر أبا المحاسن حسن بن الملك الناصر محمد بن المملوك المنصور قلاوون (أبطل ما أحدثه النساء من القمصان التي خرجت في كبر أكمامها عن الحد، وأبطل ما أخرجوه من الأزر الحرير والأخفاف الزركش؛ فأشهروا المناداة في القاهرة بإبطال ذلك، فرجعت النساء عن ذلك)
ونظير ذلك ما حكاه ابن كثير في أحداث سنة 762 هـ (1360م) أن (في العشر الأوسط(522/24)
من جمادي الآخرة، نادى مناد من جهة نائب السلطنة حرسه الله تعالى في البلد (دمشق)، إن النساء يمشين في تستر، ويلبسن أزرهن إلى أسفل من ثيابهن، ولا يظهرن زينة ولا يداً. فامتثلن ذلك)
ومثله ما رواه شمس الدين محمد بن طولون، عن ناصر الدين ابن شبل المحتسب أنه في سنة 830 هـ (1426 م) (أنكر على النساء لبس الطواقي، ومنعهن، وبالغ حتى أحرق بعض القصع على رؤوسهن بما عليها من المناديل، فامتنع النساء من الخروج)
وكانت بعض النساء ينتهزن الفرص للخروج إلى المتنزهات والظهور بأزيائهن المختلفة، بما لا يكون مرضياً في بعض الأحيان؛ فكن يلقين ممانعة من أولي الأمر وامتعاضاً من مسلكهن البعيد عن الاحتشام. فمن ذلك ما نقله المقريزي في بعض كتبه، واليك كلامه بحرفه:
(وقال جامع سيرة الناصر محمد بن قلاوون: وفي سنة ست وسبعمائة (1306)، رسم الأميران بيبرس وسلار بمنع الشخاتير والمراكب من دخول الخليج الحاكمي (خارج القاهرة) والتفرج فيه بسبب ما يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات اللأتي تجمع الخمر، وآلات الملاهي، والنساء المكشوفات الوجوه، المتزينات بأفخر زينه من كوافي الزركش والقنابيز والحلي العظيم، وينصرف على ذلك الأموال الكثيرة، ويقتل فيه جماعة عديدة. ورسم الأميران المذكوران أن لمتولي الصناعة بمصر أن يمنع المراكب من دخول الخليج المذكور، إلا ما كان فيه غلة أو متجر أو ما ناسب ذلك. فكان هذا معدوداً من حسناتهما ومسطوراً في صحائفهما)
ومثل هذا الإنكار والمنع شئ كثير في كتب التاريخ والأدب لا يسعنا استقصاؤه في هذه النبذة. وقد اكتفينا بذكر بعض الأمثلة، لما فيها من فائدة بكونها تطلعنا على بعض أصناف ملابس وأزياء النساء كانت شائعة بين القوم في المائتين السابعة والثامنة للهجرة
ولا نريد أن نطيل الكلام الآن على الأوامر الجائرة التي أصدرها الحاكم بأمر الله في هذا الصدد. فهي في جملتها إجحاف بحقوق النساء وإرهاق لهن، ولم يكن فيها ما يستند إلى عقل ويحتكم إلى منطق، إنما كان ذلك دأبه في غالب أوامره ونواهيه. من ذلك ما رواه ابن تغرى بردى في حوادث سنة 404 هـ (1014 م) أنه (منع النساء من الخروج من(522/25)
بيوتهن. وقتل بسبب ذلك عدة نسوة)
(بغداد)
كوركيس عواد(522/26)
تشارلز دكنز
مواهبه وخصائص فنه
للأستاذ محمود عزت عرفة
(تتمة ما نشر في العدد 520)
ضحك. . . وبكاء
قد تعجب للكاتب الواحد يجمع بين الجد الصارم والفكاهة المرحة، أو يمزج في حديثه بين ضحكات الهتانة: ولكن هكذا كان ديكنز! فهو في ثاني كتبه (صحائف بكويك) يرتفع بأدب الفكاهة إلى القمة حتى لتكاد تلمح روحه المرح خلال كل حادث، ومن وراء كل حوار. بل لقد أصبحت تلك الأساليب ذوات المعاني الطريفة الافتراضية التي أجراها دكنز على لسان بطله سامويل بكويك رمزاً أو معنى ينضوي تحت هذا النوع، مما يطلق عليه اليوم اسم ولقد كان انسجام هذه العبارات دقيقاً وتواؤمها طريفاً مع فكاهات سام ويلز - بطل الرواية الثاني - التي جرت في أعقاب ظهورها على كل لسان، وأبهجت بطرافة معانيها نفس كل قارئ. حتى لقد قال أحد نقاد الإنجليز في وصف هذا الكتاب: (أن الهدف الأسمى لصحائف بكويك إنما هو الفكاهة لذاتها، وما نشك في أن هذا الكتاب قد ابتعث في صدور قرائه من الضحكات المرحة البريئة أكثر مما ابتعثه أي كتاب آخر في لغتنا. . .)
أما رواية (حانوت الطرف العتيق) فإنها تعرض علينا صوراً محزنة من الحياة يسترعي التفاتنا، من بينهما قصة (نل الصغيرة) تلك التي أثارت أشجان الكثيرين وهي تطالعهم كل أسبوع بحوادث حياتها في حلقات متتاليات
ويذكرون أنه عندما اتضحت خاتمة القصة، وظهر للقارئين أن (نل) على وشك أن تموت، بعث أحد أصدقاء دكنز إليه بكتاب يرجوه فيه أن يبقي عليها ولو إلى حين. ولكن عبثاً كان هذا الرجاء، فقد تقرر مصير البطلة المسكينة، وظهرت بعد قليل حلقة وفاتها، فاستدرت الدموع، واشجت قلوب الآلاف من القارئين
الواقع أن مفارقات دكنز ومضحكاته. . . وصوره المؤلمة وأحزانه، إنما هي سلاح واحد ذو حدين يرمى به إلى غاية بعينها، ويهدف به إلى غرض واحد لا يبغي سواه(522/27)
فهو قد نصب لأخطاء هذا المجتمع وأغرى بعيوبه؛ وإنه ليحارب هذه الأخطاء والعيوب في كل ما يكتب؛ يتهكم منها أحياناً فيكشف عن سوآتها، ويذيل بسخريته اللاذعة ستارها البراق بحالة تقزز منها النفوس؛ ويصورها بصورة قاتمة محزنة أحياناً فيستثير عليها أعمق مشاعر البغضاء والكراهية. وهو في كلتا الحالتين يعمل على هدمها ويجاهد في تبرئة المجتمع من وصمتها. ومن يقرأ رواية (مغامراة أوليفر تويست) ير كيف يضرب دكنز بسلاحه ذي الحدين في مقتل واحد!
فعوامل البؤس التي ألمت بأوليفر من مبدأ طفولته تحلق في جو الرواية كالسحابات القواتم، وتغمر نفس القارئ بصور من الوحشة والإشفاق والألم تطالعه خلال كل سطر، وتبرز إليه من وراء كل عبارة
فيتم أوليفر الباكر، وحياته البائسة في الملجأ، ثم تحت مسز مان (تلك العجوز التي كانت تتخذ من تربية الأطفال تجارة مربحة!) وانتقاله بعد ذلك للعمل في حانوت مستر سوربري، وسوء المعاملة التي لقيها هنالك مما حمله على الهرب إلى لندن تحت جنح الظلام، ووقوعه ثمة في أيدي عصابة اللصوص التي أوشكت أن تقضي على آخر نوازع الخير في نفسه. . . كل هذه مشاهد أليمة محزنة تملأ النفس بالحسرة، وتثقل على القلب بأشجانها، فلا يخفف من وقعها إلا بعض تلك الجوانب المشرقة التي يعرضها دكنز خلال حديثه فينفس عن القارئ بعض التنفيس. . . كشخصية مسز سوربري - عنوان - وابنتها شارلوت، ومشهد اشتباكهما في معركة مع أوليفر المسكين قبيل هروبه بهيئة تختصب منا الابتسام وإن كانت القلوب مفعمة بالألم؛ ثم منظر القبض على أوليفر في لندن عندما (نشل) زميلاه منديل المستر براونلو، واندفاع المارة خلفه وهم يتصايحون بإيقافه وفي مقدمتهم اللصان الأصيلان؛ وخروج جمهور مسرح بنش برمته والرواية في أدق مواقفها للاشتراك في مطاردة اللص المزعوم. . . إلى آخر ما هنالك. فهذه كلها مواقف مرحة طريفة تستجلب الضحك وتقلل من عنف المأساة التي تمثلها حوادث القصة، فيسير القارئ خلال فصولها وقد اعتدل مزاجه أو كاد، وتوازنت دواعي القلق والارتياح في نفسه
هذه الفكاهة
على هذا النحو البارع يجمع دكنز في حديثه بين الجد القابض والفكاهة المرحة، وفي(522/28)
وسعنا أن نتصور مبلغ الوحشة التي كانت تبدو فيهما رواياته لو أنها خلت من هذا الروح الممتع الذي يتألق خلال حوادثها، كما تتألق النجوم اللوامع في ظلمة الليل البهيم
على أن ثمة علاقة وثيقة بين الفكاهة والألم يجتمعان لها في أكثر الأحيان
فقد ذكرنا أن جهاد الرذيلة إنما يكون بأحد سلاحين؛ عرض سورها المشوهة المؤلمة لتأليب النفوس عليها وحشد عوامل الكراهية والبغضاء فيما حولها؛ أو غمزها والسخرية منها ومن مرتكبيها، وإثارة روح التحقير والازدراء بها وبهم. وقد يكون السلاح الأخير أشد نكاية وأعمق أثراً، فضلاً عن سلامة عقباه وسهولة متناوله. والأستاذ (العقاد) كلام نفيس قرأته له في الرسالة منذ سنوات في تعليل انتشار الروح الفكاهي بمصر في فترات الانحطاط السياسي وقيام المظالم الاجتماعية. على أني لست أحاول هنا أن أفترض أن دكنز كان من أهل التقية في محاربة المظالم التي نصب لها، فقد كان له من طبيعة نفسه، ومن حال بيئته ما يؤديه إلى أتم الصراحة ويحمله على أبلغ الجرأة؛ ولكني أقول إنه اجتمعت في نفسه عوامل السخرية وبواعث الألم جميعاً، وإنه استغل هذه الموهبة الفذة التي أوتيها: موهبة الذوق الفكاهي، والقدرة على التهكم اللاذع القاسي، استغلالاً أتاح له أن يخرج نوعاً من الأدب قل أن أتيح لغيره أن ينتج مثله
أهداف وإصابات
كان دكنز يهدف بكل كتاب يخرجه إلى غاية إصلاحية يضعها نصب عينيه، ويتجه في الوقت نفسه نحو رذيلة من الرذائل يحاول أن يهدم كيانها ويجتث أعمق أصولها. فهو يحمل معول الهدم في يد ومواد البناء والتجديد في أخرى؛ أو هو يهدم، يخطط الأوضاع - على الأقل - لمن يقوم بعده بمهمة البناء
ففي صحائف بكويك يعالج - فيما يعالج - مشكلة السجون، ويكشف عن بعض مثالب النظام فيها. وفي مغامرات أوليفر تويست يندد بقسوة المجتمع على الأطفال المتشردين، ويحمل أنظمته الجائرة تبعة انحدارهم إلى مهاوي الرذيلة والفساد.
وفي (حياة ومغامرات نكولاس نيكلباي) يكشف عن مساوئ التعليم الأهلي في إنجلترا، ويوجه النظر إلى أشهر عيوبه كما أنه يعالج مشاكل الأسرة في روايات (عيد الميلاد) ويحاول أن يضع نموذجاً عالياً لمجتمع فاضل قوامه التعاطف والتواد، وملء أفقه السعادة(522/29)
والرضا وحب الإحسان، مع الشعور بآلام الغير وبأفراحه ومشاركته في بأسائه وفي ضرائه
ولقد عاش دكنز حتى شاهد بعيني رأسه جل نظراته يتحقق، وأكثر أمثلة العليا يصبح أمراً واقعاً ونهجاً في الحياة مسلوكاً
وهو يعد - إلى جانب ذلك - أول من رفع من شأن الروح (الفكاهي المرح) في إنجلترا واحله في الأدب مكاناً مرموقاً. فلقد كانت الشخصيات الفكاهية قبل دكنز أمثلة تامة للخيبة والجهالة، ووسائل مصطنعة للإضحاك والترفيه ليس غير. . . حتى جاء دكنز فنفض عن هذا الروح غبار الإهمال والتخلف. وهو ذلك لم يبتدعه من نسج خياله أو يخلق به شيئاً من العدم؛ وإنما وجده بأتم أوضاعه في أزقة لندن، واقتبسه من صدور أبنائها - بل من صدره هو نفسه - ثم أظهر للناس قيمته في تذليل مصاعب الحياة ومواجهة أحداثها
ويقول الإنجليز إن هذا الروح المرح، روح أبناء لندن الصميمين، أو ما يسمونه: هو سر نجاحهم ودعامة انتصارهم في كل معترك. وإنه - إذا حللناه - لمزيج عجيب التركيب من الهدوء والسخرية والصلابة والاستسلام والتصميم جميعاً وذلك شئ قديم في طبائع القوم، ولكن جاء دكنز فأعطى منه أمثلة روائع تنبض بالحياة، فأدبر بذلك من قيمة، ورفع من قدره كخلق اجتماعي نافع، وسلاح في معترك الحياة لا يفل له أو حد أوتنبو عنه ضريبة.
مراحل أخرى
نشر دكنز جل رواياته في حلقات أسبوعية متتابعة، فكان لا يرى أكثر وقته إلا منهمكاً في تحرير أو غارقاً في تفكير. . . ولقد أثر فيه هذا المجهود المضني فألم به المرض غير مره خلال عام 1841م
ثم رحل إلى أمريكا طلباً للاستشفاء والراحة فقوبل هناك بأجل مظاهر الحفاوة. ولما عاد اصدر كتابه (مذكرات أمريكية) ويبدو أنه كان فيه صريحاً إلى الحد الذي أثار عليه عاصفة قوية من الاحتجاج في سائر مدن الولايات المتحدة!
ومرت فترة قصيرة ظهر بعدها بقصته (أغنية عيد الميلاد) فكانت الحلقة الأولى من سلسلة روايات عيد الميلاد التي دأب على إصدارها في مثل هذه المناسبة من كل عام
وفي سنة 1846م تولى رئاسة تحرير الديلي نيوز، ولكنه تخلى عن هذا المنصب بعد قليل ليمضي في رحلة إلى سويسرا، وهناك كتب رواته: دومي وولده(522/30)
وبدأ ينشر في عام 1849م فصول أشهر رواياته على الإطلاق: دافيد كوبر فيلد، وأنشأ في الوقت نفسه مجلة أسبوعية تحت عنوان: وصايا منزلية. واستبدل بها فيما بعد صحيفة أخرى سماها، دورة العام الكامل
وقد استنفذ هذا المجهود الهائل قواه ولكن لم يزده ذلك إلا تهالكاً على العمل
وبدأ في عام 1853م يلقي فصولاً من رواياته في مجتمعات عامة. . . بدأ ذلك في برمنجهام بروايته: أغنية عيد الميلاد، واستأنفه في سائر المدن الإنجليزية إجابة لدعوات ملحة، ولقد درت عليه هذه المحاضرات فيما بعد أرباحاً وفيرة
وفي عام 1856م تيسر له - كما أشرنا من قبل - أن يشتري بيت أحلامه منذ الطفولة (قصر جادز هيل) حيث أنشأ في رحابه كوخاً على النسق السويسري أتم بين جدرانه تأليف كثير من رواياته الخالدة. ولقد ارتفعت أرباح دكنز من قراءاته العامة خلال فترة ما إلى نصف ألف من الجنيهات كل أسبوع؛ ولكن أوهن هذا المجهود المتوالي من صحته وأذال من قواه حتى اقتضب حبل حياته، لا سيما وأنه كان يوالي إلى جانبه إصدار رواياته في فصول متلاحقة
وفي عام 1866م شد رحاله مرة أخرى إلى أمريكا ليحاضر القوم برواياته، ثم عاد إلى إنجلترا مستأنفاً مهمته الشاقة حتى صرفه عنها المرض وفرط المجهود فأمسك مرغما.
النهاية
أقبل خريف عام 1869م فاعتكف دكنز في جادز هيل ليكتب روايته الأخيرة (سر إدوين درود ولكن تقطعت به أسباب العيش قبل تمامها. . .
وكان موته فجائياً، فقد أصيب بنكسة شديدة في اليوم الثامن من يونية سنة 1870م وتوفي في مساء اليوم التالي
وكان لنعيه وقع شديد في كل مكان، ورنة حزن قوية
زلزلت قلوب المعجبين به. . . وما أكثرهم
ولم يكن عجيباً أن تصل تعزية الملكة فكتورية في أوائل الرسائل التي تدفقت من سائر الجهات تدفق السيل العرم، وهي التي دعته في أخريات أيامه إلى التشرف بلقائها في قصر بكنجهام وتقبلت هديته التي رفعها إليها من مؤلفاته بأحسن قبول(522/31)
وكان طبيعياً أن يكون مقر دكنز الأخير بين جنبات كنيسة وستمنستر مثوى الأبطال والزعماء والنابغين في كل فن
وقد احتفل بدفنه في بساطة وهدوء وفق وصيته الأخيرة، ولم يخط على صفائح قبره إلا هذه الكلمات القصيرة:
(تشارلز دكنز: ولد في 7 فبراير عام 1813، وتوفي في 9 يونيه 1870).
(جرجا)
محمود عزت عرفة(522/32)
قطرة دمع
(إلى روح صديقي شهيد الواجب. . المرحوم أحمد شلبي)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
أَسْكَنتْهُ بَغْتَةُ الْمَوْتِ الرّغَامَا ... أَيْقِظُوهُ، فَهُوَ يَأْبَى أَنْ يَنَامَا!
أَيْقِظُوهُ، فَهُوَ يَأْبَى أَنْ يَرَى ... هَامِدَ التَّرْبِ لجَنْبَيْهِ مَقَامَا
أَيْقِظٌوهُ! فَهُوَ فَجْرٌ رَاقِدٌ ... لَمْ يُعَوَّدْ نُورُهُ هَذَا الظَّلاَمَا
لم يَكَدْ يُشْرِقُ حَتَّى انْدَفَعَتْ ... رَاحَةُ التَّابُوتِ تَسْقِيِهِ القَتَامَا
كَيْفَ لم يَعْصِفْ بِهاَ وَهْوَ الذَّي ... لم يَكُنْ إِلاّمَضاََء وَاعْتِزَامَا؟
في شَبَابِ الْعُمْرِ يَغْليِ أَمَلاً ... وَحَيَاةً، وَانْبثاقاً، وَاَحْتِدَامَا
لم يَكُنْ يَدْرِي الصِّبَا إِلاّ خُطىّ ... أَرْخَتِ الرُّوحُ لِسَاقيْهَا الزِّمَاما
في سَماَءِ الْمَجْدِ يَمضْيِ طَائِراً ... يَهتْكُ الرِّيحَ وَيَجْتاَحُ الْعَمَامَا
لاَ هُدُوه، لا وُقُوفٌ، لا هَوّى ... يَلْفِتُ الإِعْصَارَ أَنْ يَمْضِي أَمامَا
لاَ كَلاَلٌ، لاَ مَلاَلٌ، لا دُجَيّ ... يُوقِفُ السَّارِيَ أنْ يَخْشَى الزحَاما
وَإِذَا الْكأسُ التي مِنْ فَمِهَا ... تَشْرَبُ الأقدارُ آجَالَ النَّدَامَى
فَاجَأَ الْغَيْبُ بِهاَ أَحْلاَمَهُ ... فإِذَا هِي بَيْنَ كفّيْهِ حُطَامَا
وَإِذَا آمَالُهُ فَوْقَ الثّرَى ... رَكْبُ أَزْهَارٍٍ عَلَى قَبْرٍ تَرامَى
ذَا بِلاَتِ النُّورِ تَبْدُو مِثْلَمَا ... قَرَّحَ الإْثْكاَل أَجْفَانَ الأيامى
باَكِياَتٍ. . . أَنَا أَدْرِي دَمْعَهَا ... وَأَرَاهُ بَيْنَ جَنْبَيَّ ضِرَامَا!
وَإِذَاهُ جَذْوَةٌ هَامِدَةٌ ... وَصِباً في مَضْجَعِ الْهَلْكَى أَقاَمَا
لا تَلُومُوهُ عَلَى رَقْدَتِهِ ... غَفْوَةُ الأكْفاَن لا تَدْرِي الْمَلاَما
وَاسْأَلوا الْغَيْبَ فَإِنَّي عَاجِزٌ ... لم أَجِدْ إِلاّ قُبُوراً وَرمامَا. . .
أَيْنَ مِنْ دُنْيَاكَ قَلْبٌ ضاَحِكٌ ... أَتْرَعَ الأيام صًفْواً وَابْتِسَاما؟
أيْنَ آمَالٌ وَنَفْسٌ رَفْرَفَتْ ... كَصَبَاحِ الصَّيْفِ نورَاً وَسَلاَما
أَيْنَ؟ لاَ أَيْنَ. . فَماَذَا بَعْدَهَا ... غَيْرُ دَمْع فاَضَ مِن قْلَبْي كلامَاً!؟
أنتَ أخْرَسْتَ بَيَانِي مِثْلمَا ... يُخْرسُ الإعْصَارُ في الدَّوْح اليَمامَا(522/33)
مَزَّقَ النَّعْمُى سُكُوني وَمَضَى ... أتُرى أغمَد في الصَّمْت حُسَاما؟!
جِئْتُ أَرْثِيكَ فَماَلِي مُلْجَمٌ ... تَزهَقُ اْلأَنْغاَمُ في عُودِي إذا ما. .
يَا رَبِيعَ الْعُمْرِ، يَا نَشْوَتَه ... كَيْف أَطْلَقْتَ بِوَادِيه الْحِمَاما؟
وَهْوَ فَجْرٌ مِنْكَ مَطْلُولُ الرُّبى ... وَأدُهُ كاَنَ عَلَى الْمَوْتٍ حَرامَا(522/34)
كانت لنا أيام
للأستاذ حسن كامل الصرفي
كانت لنا أيام ... يا طيِبَ ما كانت!
لو هانت الأعوامْ ... بالله ما هانت!
مرَّت بنا أحلامْ ... حتى إذا حانت
إِشراقةُ الإلهامْ ... وَلَّتْ فما بانت
كانت لنا. . كانت!
كُنَّا مع الأطيارْ ... نَغْشَ البسَاتينَا
يُهَدْهِدُ الأزهارْ ... شَدْوُ أغانينا
وَيَفْتِنُ النَّوّارْ ... سِحْرُ أمانينا
تحبسُ الأسحارْ ... هَمْسَ تَنَاجينا
وتكتمُ الأشجارْ ... سِرَّ تلاقِينا
وكانت الأنوارْ ... تَغْمُرُ وَاديِنا
نَغْفُو عَلَى القِيثارْ ... وهو يغنَّينا
في غفْلَة الآلامْ
أَغْنَيِةَ الأحلامْ
كانت لنا أيام
يا طبيب ما كانت!
متى يفقُ النورْ ... من غَشْيَةِ الإظْلاَمْ
وَتستعيد الدُّور ... عهد المنى البسَّامْ
وتزْدَهي بالحورْ ... معارض الأجسامْ
ويهتف العصفورْ ... بأعذب الأنغامْ
ويُطْلِقُ المأسورْ ... سُجَّانُهُ الظُّلاّمْ
متى؟ متى يا نُورْ ... تُعَدِّدُ الأوهامْ
وتهزم الدَّيْجُورْ ... فتمَّحِى الآثامْ(522/35)
وتنقضي الآلامْ!
لو صحَّت الأحلامْ!
وعادت الأيام
تَصْفو كما كانت!(522/36)
البريد الأدبي
من شاعر إلى شاعر
تناولت أمس بالبريد مجموعة (زهر وخمر) للشاعر الساحر علي محمود طه فصار عندي من مجموعاته الخمس اثنتان: الملاح التائه وزهر وخمر. أما ليالي الملاح التائه، وأرواح وأشباح فستصلني بالبريد حالما يقع نظر أخي الشاعر على هذه الكلمة، فأنا أحبه وأحب شعره، ولن أكلف نفسي مشقة إفهام خصومه لماذا أحب شعره ولماذا أحبه، فإذا كان شعره لا يستطيع أن يضع في عيون أولئك الخصوم نوراً، وفي أنوفهم عطوراً، وفي قلوبهم فلن يستطيع لساني
فيا خصوم علي محمود طه؛ ستموتون ويبقى هو حياً. فغراب الموت البشع يقعقع في سطوركم، وعروس الحياة الجميلة تحلم في قصائده
ألا تعرفون حكاية الضفدع والحباحب؟ إذن فاسمعوها: رأى ضفدع يوماً حباحباً يلمع على حافة غدير، فخرج إليه قذراً ساخطاً وراح يبصق عليه. فقال الحباحب: (ماذا فعلت بك؟ من أين جاءك هذا الغضب؟) فأجابه الضفدع: وأنت من أين جاءك هذا اللمعان؟)
على أن ما يعزيني ويطربني ويملأ نفسي رجاء أن الإقبال على شعر علي محمود طه كبير، وفي هذا دليل كاف على أن الشعور بالجمال مطرد النمو في مصر كما هو في لبنان
فيا أخي الشاعر علي محمود طه! أنا أقطن أجمل بقعة في الأرض: ورائي شيخ الجبال، وأمامي وحولي أروع وأعذب ما مهرت به الطبيعة بلداً من بلاد الله: شاطئ كشعرك ذهب وفضة: فضة حين أتركه في الصباح إلى المدينة، وذهب حين أعود إليه في المساء، وخليج كله فتنة كشعرك في (الجندول) أو في (كليوباترا) (فاتنة الدنيا وحسناء الزمان)، ورواب كشعرك شماء وادعة، وسماء. . . سماء كأنها شعرك: جمال وحب وإلهام، وجو كله كشعرك غناء؛ وماذا أقول بعد؟ في هذه البقعة الطيبة في هذا الإطار الساحر قرأت شعرك أو قل تغنيت به وأحببتك. ويقيني أنك ستجيء يوماً إلينا، فأصعد بك إلى الشيخ صنين وننحدر معاً إلى الروابي فالخليج فشاطئ الذهب والفضة. ويقيني أيضاً أن هذا الشاطئ سيظفر منك بأغنية أشجى من أغنية لا مرتين في شاطئ سرنته، أو (سرنت) على قافية (برلنت)(522/37)
إلياس أبو شبكة
تصويبات شعرية في كتاب السلوك للمقريزي
يقوم الدكتور محمد مصطفى زيادة بنشر كتاب (السلوك في دول الملوك المقريزي) نشراً علمياً مضبوطاً بالغاً غاية الجودة في التحقيق والتعليق. وحبذا لو نشرت كتبنا وتراثنا الأدبي العلمي بمثل هذه الدقة والتوفر على الضبط وحسن الإخراج، حتى لو بعث المؤلف نفسه ما تمنى أن يخرج كتابه على خير من هذه الصورة. غير أنني لاحظت في الكتابين الأول والثاني من الجزء الثاني بعض هفوات في الشعر المروي أرجو أن يتسع لها صدر الناشر الفاضل لما أسمع عن رحابة صدره وحسن قبوله جاء في القسم الأول من الجزء الثاني ص 263 س 16 هذا البيت:
يا قاضياً شاد أحكامه ... على تقى من الله وأقوى أساس
والبيت مكسور، وبحره السريع. وكلمة (من) في الشطر الثاني زائدة والفعل (شاد) بكسر الشطر الأول. ولعل الرواية الصحيحة التي يستقيم بها الوزن هي:
يا قاضيا شيد أحكامه ... على تقى الله وأقوى أساس
وذكر الدكتور زيادة في هامش صفحة 29 (أن الموشحات يلتزم فيها اللفظ العربي الصحيح) وهذا كلام جرى فيه الناشر على رأي غير المحققين من الأدباء. وللمغفور له العالم الثبت الشيخ حسين والي كلام في هذا الموضوع من مخطوط له نفيس اسمه (عصا موسى) وهو تحت يدي الآن. ولعل الله يوفق أقارب الشيخ الجليل وهم من أفاضل العلماء لطبع هذا المخطوط
وفي القسم الثاني من السلوك ج 2 ص 441 س 13 هذا المصراع
واردعه ردع كل مفسد وهو مصراع مكسور، لأن المخمسة التي هو منها من بحر الرجز، فهنا كلمة ناقصة ولعلها (باغٍ) أو عاتٍ أو ما إليهما فيكون المصراع هكذا: واردعه ردع كل باغ مفسد
وفي صفحة 476 سطر 7 من هذا القسم خمسة أبيات وردت كأنها قصيدة واحدة، والواقع أن فيها قافيتين، فالبيتان الأولان قافيتهما الياء والثلاثة الأخر قافيتها الشين، وليست الهاء(522/38)
في الخمسة الأبيات قافية. والبيت الأول منها هو هذا:
يا ملكا أصبح في نشوة ... من نشوة الظالم في نشيه
وعلى كلٍ، فالأول من السريع ولأربعة الباقية من بحر الكامل وإيراد الأبيات الخمسة على هذه الصورة فيه هذه الأخطاء:
1 - الهمزة في أول البيت زائدة في الطبع أو النسخ
2 - البيت الأول بعد حذف الهمزة وزنه السريع
3 - البيت الأول من بحر والأربعة الباقية من بحر آخر؛ ولكن إيرادها على هذه الصورة يوهم أنها كلها من بحر واحد
4 - البيتان الأولان من قافية والثلاثة الباقية من قافية أخرى. وأرجو أن لا يفوت الدكتور الفاضل تصويب هذا الشعر وتصحيحه في الجزء القادم خدمة للعلم واعترافاً بالحق وصوناً لجهده العظيم أن يرمى بالتهاون في التحقيق
محمد عبد الغني حسن
إلى الأستاذ العقاد
يدل رأيكم عن الرواية والشعر في مقاليكم الأخيرين على أنكم ترون الفن الروائي لا يقوم - كالشعر - على الإنشاء والابتكار، وهذا رأي جديد، والعهد بالفن عامة أنه يرجع إلى قوة الخلق والابتكار، أو إلى الخيال الإبداعي، لا فرق في ذلك بين قصة وقصيدة، أو صورة وسيمفونية. وبتلك النظرة يعالج بها فلاسفة الفن وعلماء الجمال فصل الخلق أو الإبداع الفني فيستشهدون بأنواع الفنون على السواء ومنها الرواية والقصة. فكيف لا تعدون التركيب الروائي وتصوير الشخوص وتحليلها من الإنشاء والابتكار؟ بل كيف فاتكم أن رواية كالأرض الطيبة أو الفندق الكبير وكلتاهما من تأليف امرأة - لا تقل منزلتها عن أية منزلة شعرية؟!
حافظ. . .
إلى الأستاذ الدكتور محمد مصطفى
قرأنا على صفحات الرسالة مقالاتكم الرائعة (عن ليلى والمجنون) وقد كانت كلمة طيبة(522/39)
وتعبيراً جميلاً وتصويرا ساميا، وكنا نأمل أن نقرأها حتى انتهاء القصة؛ غير أنكم انقطعتم عن الكتابة. فنرجو أن تعاودوا النشر وأن تجمعوها متى انتهت في كتاب، والله يوفقكم.
(جنين - فلسطين)
ابن الطاهر(522/40)
العدد 523 - بتاريخ: 12 - 07 - 1943(/)
عيد ميلاد
للأستاذ عباس محمود العقاد
لم يكن لي عيد ميلاد
ولكنني لم أنس قط أنني ولدت، ولم أشعر قط بحاجة إلى تذكير؛ فهذه الحادثة التي لا تتكرر، وتقادم العهد بها وتعاقبت الأيام والسنون عليها، ولا يلوح لي أنني نسيتها أو أستطيع نسيانها
فما حاجتها إلى تذكار؟ وما حاجتها إلى احتفال؟ ومالي وقد أغفلتها سنين وسنين أبتدئ اليوم بإحيائها، وأحصيها ولات حين إحصائها؟
إنها العدوى
ولأعياد الميلاد عدواها كحوادث الميلاد. ألا يقول المعري في النسل والولادة:
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد ... بعدوى فما أعدتني الثوَباء؟
بلى. ولكنني أنا عُديت بعد طول التعرض والممانعة، فاحتفلت بعد الخمسين بأول ذكرى، واستغنيت عن إعادة الدرس خمسين مرة لأحفظه كما يحفظه المحتفلون به بعد طول التكرار
كنت أدعى إلى عيد ميلاد بعد ميلاد
وأكثر ما دعيت إلى أعياد الأبناء الذين يخمسون سنواتهم أو يسدسونها أو يسبعونها أو لا يزالون فيها بين التثنية والتثليث
درس جديد لهم العذر أن يثبتوه في الواعية وأن يستذكروه ويراجعوه. . . ولكني رأيتهم يكبرونني ويتقدمونني في هذا المجال لأنني أبتدئ الآن وقد سبقوني مرتين أو ثلاثاً أو أربع مرات. فأنا أسأل حيث لا يسألون، وأراجع حيث لا يراجعون، وأستخرج من الأضابير تذكرة جديدة هي عندهم أقدم ما يملكون!
في أي يوم ولدت!
لم أكن أدري؛ لأنني أذكر السنة على التحقيق، وأذكر الشهر على الترجيح؛ ولكنني لا أذكر اليوم بعد أن قرأته آخر مرة في وثيقة الاستخدام، ثم تركت الوثيقة وتركت الخدمة، ووددت لو محوتها من عداد الذكريات(523/1)
فأنا اليوم في موقف من يكتب له شهادة جديدة بالميلاد، وكأنني بهذه المثابة على عتبة الحياة
خير إن كانت الحياة خيراً. . .
وليس بشر إن كنا غارقين من الحياة في شرور
ونويت أن أسأل في أول فرصة للسؤال، ولكن في غير اكتراث ولا استعجال، فقصاراه أنه شئ في البال، ولقد تمضي عليه الأعوام وهو في مكانه من البال!
وسنحت الفرصة على غير ما اشتهيت، لأنها اقترنت بتشييع أخ إلى مثواه الأخير، في موطني الذي درجت فيه خطواتي الأولى
وعند موقف الموت يسأل الإنسان عن موقفه من الحياة
فسألت، وعلمت، وطلبت المزيد من العلم، فظفرت بالعلم اليقين من أضابير المحفوظات
بل ظفرت في حياة واحدة بشهادتين للميلاد!
وكانت نوبة من نوبات الذكريات التي تساق إلينا على غير اختيار منا، فكثيراً ما ذهبت إلى أسوان دون أن تعرض لي دواعي الإياب إلى معاهد الطفولة، وتآلف الشباب. أما في هذه المرة فندر معهد من تلك المعاهد لم أقف ساعة عليه، ولم تجذبني داعية من الدواعي إليه
ومنها المدرسة التي قضيت بها ما بين التاسعة إلى الثالثة عشرة، ولا تزال في جملتها على حالها المعهود
ذهبت إليها وأنا أحسبني في الطريق ذاهباً إلى دار كسائر الدور، ولا أخالني سأهجم فيها على لجة من أعمق اللجج النفسية، ومفاجأة من أعنف مفاجآت الشعور
حتى وقفت عند الباب، ونظرت إلى البواب
فإذا هو البواب الذي كان يستقبلنا هنالك قبل أربعين سنة في ساعة الحضور
هو بعينه بوابنا الأول لم يتغير منه إلا قليل في صورته ومعناه، وإلا النظرة التي كان يعرفنا بها لأول وهلة، وهي الآن لا تعرفنا إلا بعد تثبت واستغراب
قال: من هذا؟ فلان؟ لقد شبت كثيراً يا بني!
وفي لمحة عين لا تتسع لقلب صفحه من كتاب، تنقلب في أعماق النفس صفحات من العمر تضيق بها أسفار كبار(523/2)
لقد شبت كثيراً يا فلان!
ملاحظة صادقة وثبت إلى لسان الرجل كأنه لا يلفظها بل تلفظ نفسها بنفسها، وكم تأخر بها الزمن مع هذا الوثوب السريع!
ولا أعرف في الحياة شعوراً كثيراً أشبه به شعوري عند باب المدرسة التي كنت أدخلها عدواً وأنا الآن جامد لديها كأنني تمثال
ولكنني أذكر شعوراً موصوفاً أحسبه أقرب ما يكون إلى هذه المفاجأة العاصفة، وهو شعور الطيار في طوائر الانقضاض السريع، وقد هبط إلى الأرض وارتفع منها صعداً في خلال لمحات
يختلف ضغط الهواء عليه، فيتفجر الدم من قلبه ويطغى على عينيه، فيوشك أن يحجب عنه الأرض والسماء
ولم يختلف هنا ضغط الهواء بل ضغط السنين!
أربعون سنة ترتفع عن كواهل النفس في خفقة جناح، وغشية كتلك الغشية التي تعصف بالطيار عصفت بي صعداً فارتفعت إلى أجواء الثالثة عشرة، وطرحت عن كتفي أعباء اربعين سنة، كانت ترين هناك
وجلست في إحدى الحجرات أتحدث كما يتحدث المنوم يتقهقر به منومه مرحلة بعد مرحلة من عهود العمر حتى يبلغ به سنة معلومة من السنين فيقول له: قف لديك، وصف ما تراه!
فإذا وصف فهو لا يقول لنا: كان هنا وكان هنا قبل أربعين أو قبل كذا من السنين؛ بل يقول: إني لأرى الساعة وإني لأسمع في أذني ما أروي، وإني هنا الآن، ولا أعرف ما وراء ذلك من مشهود ومسموع.
وانقضت على ذلك خمسة أشهر وجاء موعد اليوم الذي كان في حياتي أول يوم. فلم أحتفل بشيء واحد حين احتفلت به، بل كان أعجب العجائب أنه كان موعد ذكريات يضيق بها الإحصاء، كلها من أخطر الذكريات وأكبر المواقف في الحياة، وآخرها في السنة الماضية ذكرى العلمين!
في هذا اليوم بعينه وصلت جيوش روميل إلى العلمين، وأوشكت أن تعبرها إلى طريق العامرية فالقاهرة والإسكندرية(523/3)
وهو الهوان على أيدي أناس هم أخبر الناس بالهوان، ولا فرار من الموت إن وجب، ولكن البقاء للهوان إخلال بكل واجب يحرص عليه إنسان
وإلى أين الفرار؟ إلى وادي التيه الذي يرجع منه الغائب أو لا يرجع، ولكنه لا يدري أين يذهب ولا كيف يكون الرجوع
وليس هذا أفجع ما في الصفقة الفاجعة
بل أفجع من الليلة التي قبلها، أو هي ليلة المذبحة كما سميناها لأنها جرأة على الماضي تهون معها الجرأة على المستقبل، وعلى المجهول!
كل ما أتركه بعدي لا أباليه
الكتب يصنع الله بها ما يشاء. وما أكتم القارئ أنني على خطوة من إحراقها في كثير من الأوقات، غضباً على تكاليف المعرفة حيث يسعد الجهل بغير تكليف
وماذا اترك غير الكتب مما أباليه إن كنت أترك الكتب ولا أباليها!
هباء أو كالهباء!
إلا أوراقاً متفرقات فيها ودائع العمر التي يموت عنها الإنسان ولا تسخو نفسه بأن تموت قبله
وهي لا تنقل إلى حيث تفتح وتقرأ في مدخل كل أرض مطروقة، وهي لا تودع عند أحد كائناً من كان
فلا موئل لها أكرم من التمزيق، ثم نار الحريق
وانقضت ساعتان قبل تمزيق الورقة الأولى
ولم تنقض إلا دقائق قبل تمزيق الورقة الأخيرة، كالذي يأخذه التردد عند الضربة الأولى ثم يهيم به سعار الضرب بعدها فلا يبقي ولا يذر، ويضرب ويضرب حتى بكل ساعداه وتخلو كفتاه؛ ثم يستريح من فرط الإعياء وبهر السعار
وانجلت الثورة عن كومة من الورق كل قطعة منها موصولة بعرق ممزق، وشعل من النار لم تكن من قديم عهدها إلا شعلاً من النار، ولكنها حارت إلى رماد!
ويلك يا هتلر!
النار التي أشعلتها في العالم لا تنسى، ولا تنسى لك عندي هذه النار التي أشعلتها أنا بيدي(523/4)
تلك أقرب ذكرى من ذكريات اليوم الذي كان في حياتي أول يوم
وقبل ذلك نظائر لهذه الذكرى موزعة في سنوات متباعدات يوشك أن تقنعني بصدق ما يقال من أن للنفس صيحة كصيحة الإهلال في كل موعد ذكرى من ذكرياته!
أفما كان خيراً لي إذن أن أنسى ذلك اليوم في سنتي هذه كما نسيته في السنوات الماضية؟
وأن يكون لي ميلاد، وليس لي عيد ميلاد؟
عباس محمود العقاد(523/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
عصارة المتاعب - الإنتاج والاستهلاك في الحياة الأدبية - عتاب!
عصارة المتاعب
من عصارة المتاعب يصاغ إكليل المجد، ومن عصارة المتاعب يرفع ناس من التراب إلى السحاب
كذلك قلت وأنا أدفع وهماً رسخ رسوخ الحقائق، بحيث صار الأمل في زعزعته من أخيب الآمال، وهو الوهم الذي يزعم أن الحياة السعيدة هي خالية من التكاليف، وهذا الوهم يحيط بنا من كل جانب، ويملا حياتنا بالمنغصات، لأنه يفرض علينا أن نفهم أن الراحة هي الغرض المنشود، وأن كلمة التعب تماثل كلمة الشقاء في المدلول
ما هو الفرق بين الرئيس والمرءوس في وهم بعض الناس؟
الفرق هو أن الرئيس يملك من الراحة ما لا يملك المرءوس، فهو لا يسأل عن رعاية المواعيد، ولا يطالب بالسرعة في إنجاز ما لديه من الأعمال (؟!)
وفي الأمثال المصرية كلمات تؤيد هذا المعنى، فالرجل السعيد هو الذي لا يستطيع أحد أن يقول له: (قم من الشمس واقعد في الظل)، وهو الذي لا يسأل عن (ثلث الثلاثة)، كأن المسئولية تكليف يكدر صفو الهناء
ولنفرض أن الراحة هي الغاية، وأن كل رئيس يتمتع بها إلى أقصى حدود التمتع، فما السبب في أن تكون هذه المزية من حق بعض الناس لا كل الناس؟ وما هو السبب في أن يقضي فلان عمره وهو مرءوس وقد أصبح نظراؤه من الرؤساء؟
الجواب حاضر: فكل تقدم يسبق بتزكية من عصارة المتاعب، ومن لم يقدمه جهاده فلن يتقدم، ولو كان أبوه أقدر الرجال على إحياء الأرض الموات!
هل كانت الراحة من أنصبة الملوك، مع أنهم ملوك
وهل ظفر عظيم بالراحة في أي يوم؟
إن الراحة متعة حقيرة لا يرغب فيها غير الحقراء
لقد امتلأت كتب الأدب بأخبار الملاهي التي كانت تقام في قصور الملوك. فهل فكر أحد في(523/6)
أسباب تلك الملاهي؟ وهل قال قائل إنها ضجيج يراد به ستر المتاعب؟
التعب هو المقياس للقيمة الذاتية، والعمل المتعب هو الذي يرشح صاحبه لجلائل الأعمال، والذي لا يرحب بالتعب ولا يفرح به لن يصل إلى شئ. . . والطمع في الراحة هو طمع الأموات لا الأحياء. . . وهل يثق بك أحد وهو يعرف أن الراحة من التعب هي غايتك، وأن التحرر من التكاليف هو مبتغاك؟
عصارة المتاعب
احفظ هذه اللفظة جيداً، واكتب منها لوحات يزدان بها مكتبك، وانظر إليها في صباحك وفي مسائك، واعلم علم اليقين أنها مسطورة فوق كل قلب من قلوب المجاهدين الفائزين
عصارة المتاعب نقلت خلائق من التراب إلى الحساب، فلا يخطر في وهمك أن إنساناً ارتفع بلا متاعب، ولا تصدق أن المناصب العالية تمنح كما تمنح الصدقات للمعوزين، ولا تتصور أن نظام الوجود يسمح بان يرتفع طائر بلا جناح أو يرتقي رجل بلا جهاد
يقول الكسالى من حولك بان لا نهوض بلا وسيط، وهم يردون كل فوز إلى قوة الوساطات والشفاعات
ولنسلم بان هذا القول صحيح في المطالب الهينة، كأن يكون غرضك أن تكون موظفاً يأكل العيش بأحد الدواوين، فمن الذي يرشحك لأن تقوم بعمل عظيم ولست له بأهل؟ من الذي يوصي بان تكون قوة مسيطرة على زمانك وهو يدرك أنك تعجز عن السيطرة الفكرية أو الروحية في أي ميدان؟
وكيف تصل إلى توصية من رجل عظيم وأنت مجرد من الكفاية الذاتية؟
أقم الدليل أولاً على صلاحيتك للأعمال التي لا يقوم بها غير فحول الرجال، ثم أنتظر نصيبك الحق، فقد تصل إليه بلا وسطاء ولا شفاء
هل جال بخاطرك أن توازن بين رجلين أحدهما في مركز فوق ما يستحق، وثانيهما في مركز دون ما يستحق؟ فأي الرجلين أعظم في نفسك؟ وأي حظ من هذين الحظين تريد لنفسك؟
وهل فكرت يوماً في غضب الله على من يأخذ أجراً بحق؟
أنا أخشى أن يكون رزقك أكبر من جهادك، فيكون في طعامك شئ من الحرام، والطعام لا(523/7)
يسمن إلا إن كان حلالاً في حلال
ثم؟ ثم ماذا؟
هل فكرت في منافع الأعضاء؟
كل عضو يعرض للعطب إن لم يؤد أعماله الأساسية، فالعين تضعف إن صرفت عن النظر، والرجل تثقل إن كفت عن المشي، فما رأيك في عزيمتك وهي جارحة معنوية؟
أنا أعرف أنك تشتهي أن يحمل عنك الناس جميع أعبائك، وأن تركب فرساً ركبة الإعزاز لا ركبة الفروسية، وما أبعد الفرق بين الركبتين!
الراكب الأول مخلوق مدلل تراض له الفرس، والراكب الثاني فارس يروض الفرس، فانظر أين أنت بين هذا وذاك؟
كن رجلاً فعالاً يصنع العجائب في تصريف دنياه، كن رجلاً يفرح بالتعب، فالتعب أعظم رزق من أرزاق الرجال
لم يتقدم فرد على فرد ولا شعب على شعب إلا بفضل عصارة المتاعب، ولا جاز أن يتقدم متخلف أو يتخلف متقدم إلا بسبب تفاوت الجهاد
والأقدار التي سمحت بأن يكون فلان وزيراً في المملكة الفلانية - وكان في صباه بائع جرائد - هذه الأقدار لم تحابيه بأي لون من ألوان المحاباة، وإنما احترمت عصارة المتاعب في الأعوام الشداد فصيرته من الوزراء
ولتعرف جيداً أن لا نهاية لفضل الله على المجاهدين، فعند طيبات تفوق الوصف والإحصاء، وهو لا يتخلى عنك إلا يوم تتخلى عن نفسك بإيثار الراحة من عناء الجهاد
افرح بالتعب، واسأل الله أن يكثر متاعبك في أعمالك لا في أوهامك، فما شقي الناس إلا بالتعب في الأوهام لا الأعمال
افرح بالتعب، قبل أن لا تفرح بالتعب، فما يعاني التعب غير الأقوياء
وتذوق عرق الجبين من التعب قبل أن تعانيه من المرض
وأحذر ثم أحذر أن تمر عليك ساعة وأنت مستريح من هموم الرجال
هل سمعت باسم (الغرازة) في عرف أصحاب البساتين؟
هي عود من الخشب تسند به الشجرة الهيفاء، ومن الهيف في الأشجار، جاء الهيف في(523/8)
النساء
ومزية الغرازة أنها تغني الشجرة عن الجهد في مقاومة الرياح إلى أن تستطيع المقاومة بعد حين؛ وقد لا تستطيع بفضل هذا التدليل
والغرازة للشجرة كالمشاية للطفل، وفي الناس من يعيش طفلاً طول عمره، لأنه لا يعيش بغير سناد
كن أنت أنت، وقف على قدميك، واستفت ضميرك في مصيرك، ولا تجعل لغيرك فضلاً في نقلك من حال إلى أحوال
لا تخف من التوحد. فما يتوحد غير الآساد، واذكر دائماً أن الله جعل أمرك بيدك، وانه فتح لك خزائن الأرض والسماء من هؤلاء: تشرشل وروزفلت وستالين؟
هم ناس أمثالك، ولكنهم اعتمدوا على عزائمهم فجعلهم الله من العظماء
وهل كانت البداية الأولى لهتلر وموسليني تبشر بأن ستكون لهم فاعلية دولية في السلم أو في الحرب؟
وهل كانت البداية الأولى للمسيو بونابارت توحي بأن سيكون الإمبراطور نابليون؟
عصارة المتاعب هي التي صنعت الأعاجيب فحولت الأطفال إلى رجال، وعصارة المتاعب هي التي نقلت هؤلاء من التراب إلى السحاب
اتعب قبل أن لا تتعب، فالتعب أمضى من السيف في اختراق المصاعب والأهوال
الراحة سم زعاف، وهي شؤم على الأعضاء، والشرايين والأعصاب
لا تبتسم للراحة، فلا راحة إلا بالتحرر من المسئولية، وهذا حظ المجانين
إن آذاك نصحي فأنا أوجهه إلى نفسي لا إليك، لأني أحوج منك إلى هذه الكلمات، بعد أن كدت أرتاب في المنهاج الذي اخترته لحياتي
الإنتاج والاستهلاك في الحياة الفكرية
المنتج في عالم الاقتصاد هو الذي يصنع ويورد إلى عملائه هنا وهناك. والمستهلك هو الذي يشتري ما تنتج المصانع من صنوف البضائع. والصلة بين المنتج والمستهلك صلة طبيعية عرفها الناس من قديم الزمان، وإن لم تخل من الشعور بأهمية الفرق بين الإنتاج والاستهلاك في وزن أقدار المتعاملين(523/9)
والمنتج هو أيضاً مستهلك، فمصانع (المحلة) بالديار المصرية، ومصانع (لنكشير) بالديار الإنجليزية، هذه المصانع تنتج الأقمشة، وهي مع ذلك تستهلك الخيوط فتحتاج إلى الأقطان التي تخرجها المزارع المصرية والأمريكية
ومن الواضح أن المنتج أقوى من المستهلك، لأنه المتحكم الأول في الأسواق، ولأن المستهلك يعجز عن مقاومته في أغلب الأحيان
فمد الرأي في الإنتاج والاستهلاك في الحياة الفكرية؟
وما مركزنا الصحيح بين المنتجين والمستهلكين؟
قضينا زمناً ونحن عملاء أمناء للثقافات المجلوبة من بلاد غير البلاد، فمتى ننتج بأكثر مما نستهلك؟ ومتى نحاول غزو الأسواق الأجنبية بالفكر والبيان؟
قد يقال إن الفكر المصري منتج بالنسبة لكثير من أمم الشرق العربي والإسلامي
وأقول إن هذا ميدان غير جديد، فالعرب والمسلمون اخوة لنا بالشرق، وما بيننا وبينهم من الجاذبية الروحية قد يوجب أن يرضوا منا بالقليل، وإن لم ندخر جهداً في أن نلقاهم بأقوى مما يلقاهم به أقطاب الفكر من أهل الغرب
والحق أن الأديب المصري غاية في الحرص على التسلح بالجدية في الحياة الأدبية، وقد يكون جهاده في الأدب أقوى من جهاد نظرائه في الأمم الأوربية والأمريكية، بدليل ما نشاهد من سيطرته الروحية في الشرق، مع أنه لا يعتمد على أي سناد، ومع أن الأدب في مصر لم يصبح أداة من أدوات المجد، في حدود ما يستحق من التبجيل
فماذا نصنع لنكون منتجين لا مستهلكين بالنسبة لأهل الغرب؟
ماذا نصنع؟
هل نترجم لهم ما يصدر أدباء مصر من الروائع؟
هل نستجديهم الثناء على ما عندنا من الآداب والفنون؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما الرأي أن نعتز بالذاتية العربية، وأن نحاول خلق جبهة أدبية من قراء العرب، وهم يزيدون على الثمانين من الملايين
إن صنعنا - وسنصنع - فسيلتفت الغرب إلى الشرق، وسيكون لنا في حياة الفكر والرأي تاريخ جديد(523/10)
ما هذه الغطرسة التي يتمتع بها بعض أدباء الغرب؟
وما هذه الهالة التي يحيطهم بها بعض المترجمين؟
أنا أنتظر مساجلة دولية يشترك بها أدباء مصر مع أدباء الفرنسيس والإنجليز والأمريكان والألمان
أنا أنتظر هذه المساجلة في أقرب وقت، ليعرف العالم القديم والجديد مكانة مصر في فردوس الأحلام والعقول
مصر تجد، وأدباؤها يجدون، وهي تؤمن بأن مكانها في الفكر أعظم مكان، فإن كنتم في ريب من عظمتها الفكرية فتعالوا إلى السباق في ميدان الرأي والبيان
عند أوربا وأمريكا مدافع وطيارات وأساطيل، وتلك قوى أنعم الله بها على الأوربيين والأمريكان، والله يخص بالقوة من يشاء
ولكن مصر السلمية لا الحربية تقول إن مكانها في الأدب لا يدانيه مكان، وأنها مستعدة لأعظم سباق في ميادين الروح والوجدان
في مصر اليوم عشرون أديباً من العظماء، على أقل تقدير، فأين الأمة التي تقول إنها تملك من عظماء الأدب عشرين؟
مصر اليوم هي الفكر والرأي، وهي صلة الوصل بين الشرق والغرب، وإليها المرجع في الفصل بين الحقائق والأباطيل
أنا أنتظر مساجلة دولية تقول فيها مصر إنها مصر، ويقول فيها النيل إنه النيل
فتعالوا يا هؤلاء، إلى كلمة سواء!
عتاب!
هو عتاب الطبيب الذي يذكر عند المرضى وينسى عند العافية
هو عتاب الصديق الذي يذكر في البأساء وينسى في النعماء
هو عتاب النهر الذي يشتاق الأرض في الصيف وتنساه في الخريف
هو عتاب من لم يبق له منكم غير العتاب!
وكيف اعتب على من يستغني عن نور القمر بشعاع السراج جربوا حياة العقوق، جربوها، بعد أن جربتم حياة الوفاء لتعرفوا ما طعم الشهد وما طعم الصاب!(523/11)
إن كان غركم الصفح فلا صفح، إن كان غركم الدمع فلا دمع، فقد صيغ قلبي من ضمائر الجبال
تلك أيام خلت، وأنا أضن عليها بأن تضاف إلى التواريخ، ولن أعترف بأنكم أسرتم روحي لحظة من زمان
فإن راعكم وفائي لدار الهوى بالمرور عليها في الغدو والرواح، فلا تعجبوا ولا تظنوا أني أستهديكم تحية يجاد بها على عابر الطريق، وإنما هي لفتة أريد بها أن تفهم الحجارة أني لم أكن في هواي من العابثين
إن دار الهوى لن تعرفكم بعد اليوم، ولن تراكم إلا أبدانا بلا أرواح، ولن تجود عليكم بالسعادة والصفاء، يا جيرة آدهم حفظ الجميل
سيصنع الدهر ما يصنع، وسيفعل الغدو ما يشاء، وستفترون علي بقدر ما عندكم من كيد وجحود، ثم يبقى وفائي لكم ولدار الهوى، يا جيرة أطغاهم الجمال فتاهوا في صحراوات الدلال
لن تضيعوا من يدي ولو فررتم إلى آفاق المريخ، فارجعوا طائعين قبل أن ترجعوا كارهين، فسرعة الظبي في الجري تنبهر حين يلمح وجه الأسد الصوال
زكي مبارك(523/12)
القلب الشاعر
للأستاذ دريني خشبة
جميع هذا العالم الأثيري الذي لا نهاية له، بكل ما يطن فيه من سدم وأنجم وأفلاك، وكل ما يروح في كواكبه ويجئ من خلائق وكل ما يسبح في أجوائه من ملائك، ويصدح ملئها من طير. . . كل ذاك، كل ذاك قطرة من بحرك الزاخر أيها القلب الشاعر!
أنت أكرم خلق الله على الله. . . لأنك تتسع لكل ما لا يتسع له غيرك مما صنعت يداه
تتسع لما تضيق به العقول الضالة التي تتعالى فتنكره، لأنها تحصي عليه كل ما عمى عليها فتجعله في منطقها تضارباً. . . وما دام هنالك تضارب فثمة جحود ونكران
تتسع لهذا كله لأنك لا تعرف الحدود، وهي مقيدة بالحدود. . . أنت حر طليق، وهي ذليلة مستعبدة ترسف في الأصفاد والقيود. . .
أنت أكرم خلق الله على الله، لأنك تلجم هذه العقول دائماً حينما تطلق عليها عواطفك فتلسعها كما يلسع النحل، ثم تسائلها ساخرة: ما الحياة وما الجمال وما الحب؟! وما وراءك أيتها العقول؟ منذ الذي يمسكك فلا تكوني هراء وجنوناً؟
منذ الذي يمسك الأرض والسموات أن تزولا؟ وما سر هذا الجمال الذي يبهرك ويورث منطقك البكم، والذي يملأ الأرض والسموات؟ ما سر هذه الألوان التي تذهب الشفق، وتفضض السحب، وتموه صفحة اليم، وأديم السماء بأصباغ البنفسج، وتزخرف بالدمام ثغور الزهر، وتغازل بالسحر خدود العذارى، وتملأ بالفتنة عيون الحسان، وتنضد بالجسمان ثنايا الغيد، وتطبع بخاتم الحسن ثدي الكواعب؟!
ما سر هذه الألوان يا عقول؟
وما سر الجاذبية التي تربط الدنا بالدنا، والعوالم بالعوالم؟! الجاذبية التي هي سر الحياة وبقاؤها، واستمرار الوجود وقيامه؟! الجاذبية التي تشد بين العيون والعيون، وتعاطف بين القلوب والقلوب، وتربط الأرواح بالأرواح؟!
ما سر تلك الجاذبية التي تسيطر على سكان المدينة وسكان الخميلة وما تعج به الغابة، وما يأوي إلى الكهف، وما يخفق بجناحيه في الهواء، وما يتخذ سبيله سرباً تحت الماء؟
وإلى أن تجيبي فاعزبي، ودعي القلب الشاعر يغني!(523/13)
أي القلوب يحب كما تحب يا مستودع الشعر، وأيها يرحم كما ترحم، وأيها يضطرب كالعاصفة كما تضطرب حين يحز بك أمر، أو حين تتحرق أسى على الإنسانية الضالة؟
أي القلوب يفيض بالخير والنبل كما تفيض، وأيها يبتسم لما يصيب الناس من سعة كما تبتسم، وأيها يعبس وينقبض لما يؤودهم من شدة كما تعبس وتنقبض؟
إنك تود حينئذ لو استطعت فسحرت لهم الجبال ذهباً، والتراب فضة. . . أو سخرت لهم الريح فأمطرتهم دنانير ودراهم، أو أمرت البحر فحار ماؤه لبناً وعسلاً مصفى!
إلا أنك تعجز أيها القلب النبيل. . . يا أكرم المخلوقات. فيذهب بك صاحبك ليجلس فوق ربوة، أو في منعزل من الناس، لتخفق له، وتغني له؛ وتنظم له ألحانك كي يهديها بعد إلى الناس. إلى الجائعين الظامئين الذين أضرت بهم المسغبة وأذاب أبدانهم الطوى، وأضرت بهم تلك الريح العاصفة التي تلفح الإنسانية الضاوية وتتلقفها بالموت في كل مكان
بيد أنك تعود أدراجك لتبكي يا أكرم المخلوقات، لأن ألحانك لا تخفف من ألم الجوع، ولا تروي من حر الظمأ، ولا تستطيع أن تنسج نفسها ثوباً يرد عادية البرد، أو يصد لفح الشمس؛ ولا تستطيع الأم الفقيرة المعذبة أن تشتري بمعظم قصائدك قدحاً من اللبن لطفلتها الباكية التي يصهر الجوع أمعاءها؛ ولا أن تبتاع بالباقي أرغفة من نخالة هذا العصر الأسود تملأ بها معدات أطفالها الآخرين
طالما يضحك العلماء من أحلامك، والأغنياء من فقرك، وطالما يستهزئ الخبراء في الأرقام بعواطفك التي لا عدد لها، لأنها عداد كل شئ. . .
غير أنك تضحك منهم جميعاً، وتستهزئ بهم جميعاً؛ لأنك تعرف أنهم يعيشون اليوم ثم يموتون غداً، فلا يذكرهم أحد. . . فهم ينتهون كما انتهى ألف مرة الطعام الذي طعموا، والشراب الذي شربوا، والملابس الزاهية التي طالما تاهوا بها ودلوا. . . وكما انتهت الأرقام الضخام التي طالما زحموا بها السجلات
أما أنت فتعيش اليوم، وتعيش غداً، ولسوف تعيش إلى الأبد. تعيش اليوم في أفئدة المعجبين بك، أولئك الذين تواسيهم دائماً بأناشيدك، وترأب جرحهم بأغاريدك، وجفف دموعهم بألحانك، وتبدل جحيم الحياة من حولهم جنات تجري تحتها أنهار - حنانك، وتتفجر فيها أمواه عطفك، وتصدح في أفنانها بلابل شدوك، ويحمل إليهم نسيمها عذب(523/14)
غنائك فترد إليهم السعادة، وتحيي في نفوسهم الرجاء، وتنعش في قلوبهم خامد الأمل، وتصلهم بعد القنوط بحبل من الله، فتستنير بصائرهم، وتهدأ أعصابهم، وتفيق أرواحهم الخافتة من سكرات الجوع والظمأ والعرى بذكر الله. . .
وأنت تعيش غداً بمثل هذا، ولسوف تعيش إلى الأبد بمثل هذا. ستعيش في قلوب القافلة التي يجد بها السير. القافلة التي ركبها المئون، فيتصل به المئون والمئون حتى يجئ أمر الله. . . ستعيش كما يعيش الصديقون والشهداء وقادة الإنسانية. قادتها إلى الطوبى التي طالما غازلت خيالك، وعمرت أحلامك، ورفت كما ترف الجنة تحت شباة قلمك وفي صميم سويدائك
ألا ما أسفه الذين ضحكوا منك، واستهزءوا بك عند ذاك!
لقد فرغت الدنيا منهم، بقدر ما امتلأت بك، وهبطوا إلى التراب وسموت إلى عليين!
يمشي صاحبك أيها القلب الشاعر كما يمشي الناس في الحدائق والطرقات، ويقف كما يقفون عند شاطئ النهر، وحفافي الغدير، ويرى كما يرون بعينين، ويتكلم بلسان وشفتين، ويسمع بأذنين، وله يد كما لهم أيد تمتد إلى طعام والى شراب والى. . . كتاب
إلا أن صاحبك حينما يمشي في الحديقة يكلم الورد، ويكلمه الورد بلغة قد لا يعرفها الناس وقد لا يسيغونها؛ لأنها لغة صامتة تتفاهم بها الأرواح التي من قبيل روح الوردة وروح الشاعر. . .
ثم هو يكلم كل ما هو في الحديقة، ويفهم عنه ما لا يفهم الناس
إن الحديقة أغنيته الكبرى الخالدة، التي يتنفس فيها كل شئ، ليجاوب نبضاتك، ويرقص على خفقاتك، وليتحد بك
فإذا مشى صاحبك في الطرقات، وثبت إلى عينيه أيها القلب، يا أكرم المخلوقات، وكما تثب إلى مسمعيه، كي تنطبع على شغافك آلام القافلة المتعبة، وتستقر في جوانبك أدعيتها، فتطب لها بما ترقرق من غناء وحداء
أما إذا وقفت عند شاطئ النهر أو حفافي الغدير، فإنك تسبح لله وتثني عليه، فتقبل قطرات الماء لتصلي معك، وتنشد إنشادك، وتتمنى لو تقبل قدميك، أو تقبل فمك، لتمتزج بروحك العلوية التي هي بضعة من الروح الأكبر، وقبس من نور الخلود، ونفس من أنفاس(523/15)
الرحمن. . .
وإنما تتمنى قطرات الماء أن تصنع ذلك لأنها تحس كأنما تنبع من أعماقك، وتنسكب من نفسك، كما نبعت من السحاب الذي باركته يد الله. . . وانسكبت من القمة الشامخة التي يداعبها البرد ويغسلها الثلج. . .
ألست المرآة الصافية التي تجلو جمال هذا الكون للناس، والعندليب المجلجل الذي يفتح آذانهم على ألوان من مباهجه لم يكونوا يفقهونها لولاك؟!
ألست الناي الخالد الذي يسكب في أسماع الزمان ألحانه فينشط الركب، وتتجدد عزمات القافلة، وتغني السنون، وترقص الأيام!
ألست الطبيب النطاسي الذي يأسو جراحات الحزانى، ويعالج لواعج المحبين. . .
وقد تظمأ مع ذاك يا أكرم خلق الله، فإن اشتد بك حر الظمأ فاشرب ما شئت من سلافة العيون. . . العيون الخضر الرمادية، والعيون الزرق اللازوردية، والعسلية الصافية التي فيها من مغناطيس الكهرمان. . . واشرب ما شئت من العيون السود التي فيها ذاك المزيج العجيب من الدعج والحور والوطف ما تسكر به وتسحر وتأمر. . . العيون الجميلة النجل التي تغمزك في هوادة ورقة ورفق مرة، وفي عنف وقسوة مرات. . . وهي في الحالتين أمواه حياتك، وحدائق أحلامك، ومشارق خيالك، ومهابط وحيك، ومراتع فتونك، وملاعب هواك
العيون الموسيقية التي لا يتسع غيرها لملكوتك الرحب الذي لا يعرف الحدود!
إشرب منها ما شئت، ثم تصدق بما تنبته تلك المدامة في جناتك ذوات الجنا من موسيقى وألحان. . .
تصدق بهما على المدنفين والمكلومين والمحرومين
تصدق بألحانك على العيون المشهدة، والجوانح المشبوبة، والحدق الباكية، والأنفاس المحترقة، والفم الظامئ، والمهجة الغرثى، والروح الصادية. . . على كل حمامة تنتظر، وعلى كل ظبي غاب عنه أليفه. . . فألحانك غذاء هذه الأرواح جميعاً، وهي عصارة العيون التي شربت، والخدود التي رعيت، والأنفاس الطاهرة التي اختلطت بأنفاسك، وشاعت حمياها في أعطافك(523/16)
أيها القلب الشاعر! يا أكرم المخلوقات وأنبلها! لن أفرغ اليوم منك، لن أفرغ منك غداً ولا بعد غد، فإلى صلاة قريبة، وإلى لقاء قريب!
دريني خشبة(523/17)
من أدب التراجم
الخليل بن أحمد
للأستاذ طه الراوي
إذا افتخرت الأمم بالأفذاذ من رجالها الذين رفعوا مشعل العلم عالياً فأناروا للعقول مناهجها، وضاعفوا لذاتها ومباهجها؛ حق للعرب أن يكونوا المجلين في هذه الحلبة؛ ولهم من تأريخ المعارف الإنسانية شواهد خوالد تسطع أنوارها وتتجدد على الزمن آثارها. فتأريخ النتاج العقلي يفيض بما للعقل العربي من خصب في الإنتاج، وبراعة في الاختراع، ودقة في الإبداع، وسعة في التحقيق، وإنعام في التدقيق مع صدق في القول وأمانة متناهية في النقل
ومن بين أولئك الأفذاذ الذين أقاموا للعلم مناره ورفعوا لواءه في سماء الرافدين الخليل بن أحمد البصري. وقد رأيت أن أترجم له بمقال مسهب أرسل به إلى مجلة الرسالة الغراء؛ وبعد أن تم المقال رأيت من الأصلح اختصاره رغبة في دفع الملل عن القارئ لأني أعلم أن الكثير من قراء المجلات في هذه الأيام العصيبة يرغبون عن المطولات ويملون المسهبات
نسب الخليل
من أشهر قبائل اليمن قبيلة الأزد التي منها غسان، والأوس والخزرج اللتان عرفتا بعد الإسلام بالأنصار؛ ومن بطون هذه القبيلة الفراهيد، وكان الكثير من أفخاذها يقطن عمان والبصرة. وقد أنجبت عدداً كبيراً من المشاهير كان في الطليعة منهم المترجم وهو: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمر بن تميم البصري الفراهيدي اليحمدي، وبعضهم يقول الفراهيدي، قال الأصمعي: سألت الخليل بن أحمد ممن هو؟ فقال: من أدعمان من فراهيد. قلت: وما فراهيد؟ قال: جرو الأسد بلغة عمان. أهـ
مولده ونشأته
ولد الخليل في البصرة حوالي سنة 100هـ ونشأ بها، وترعرع فيها وهي يومئذ مهد العربية ومطلع أقمارها، فياض بالمعارف ولا سيما الأدبية منها، فشب بين مربدها الذي أصبح عكاظ العرب بعد الإسلام، وحلقات أدبائها الذين كانوا مصابيح الدجى ونجوم الهدى،(523/18)
فاقتطف من أزاهير المعارف ما شاء أن يقتطف، واجتنى من يانع ثمارها ما راق منظره وطاب مخبره، وبرز على أقرانه أيما تبريز. ومن أشهر مشايخه في الأدب أبو عمرو بن العلاء. ولما آنس من نفسه الكفاية رأى أن أخذ العربية عن الحضريين من العلماء والمترددين إلى الحواضر من الأعراب الذين لانت سلائقهم وضعفت طباعهم لا يوصل إلى اليقين ولا يهدى إلى مهيع الصواب، وعلم أن التبحر في هذا الشأن لا يتيسر إلا بمشافهة الأعراب الخلص الذين توقحت سلائقهم، وصفت عربيتهم، ومعايشتهم في ديارهم، فشد الرحال، وضرب في كبد الجزيرة، وطفق يفلي ناصية الفلاة ويتنقل في الأحياء التي حلت في سرة البادية ولم يكدر صفاء لغتها مخالطة حمراء الأمم وصفرائها كقيس وتميم وأسد وغيرهم ممن خلصت عربيتهم، فكان يلتقط ما يعثر عليه من درر كلامهم وفرائد خطبهم ونوادر أخبارهم وعيون أشعارهم وجليل آثارهم، فما عاد إلى وكره حتى وعى في حافظته أدباً وعلماً جماً، كما أوقر راحلته رقاقاً وطروساً ومهارق حشد فيها شوارد النثر وفرائد النظم فكانت تلك المنقولات عدته في استخراج المسائل وبناء القواعد، وتبويب اللغة، وتصحيح القياس والإكثار من الشواهد والتوسع في إبداء البراهين.
عقله
كان الخليل آية من الآيات في الذكاء ودقة التصور، وتوقد الفطنة، وصدق الحدس، وسعة الحافظة، وقوة الذاكرة، ورجاحة العقل، حتى كانوا يقولون: (لا يجوز على الصراط أحد بعد الأنبياء أدق ذهناً من الخليل) ولا حاجة بنا إلى برهان أنصع من هذه المبتكرات التي أخرجها للناس كما سيمر بك بعد. وقد نقل أهل العالم عنه حكايات من هذا الشأن تتجاوز حد التصديق لولا ثقة رواتها وتكاثر نقلتها. من ذلك أنه جاءته رسالة عربية مكتوبة بالحرف السرياني فقرأها وهو لا يعرف شيئاً عن الحرف السرياني ولكنه استعان بما عرف أنها تصدر عادة بالبسملة والحمدلة ونحوهما
قال الرواة: اجتمع الخليل وعبد الله بن القفع ليلة يتحدثان إلى الغداة فلما تفرقا قيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع؟ فقال: رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله. وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ فقال: رأيت رجلاً عقلة أكثر من علمه
وقال حمزة بن الحسن الأصفهاني:(523/19)
(إن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل. ليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذ، ولا على مثال تقدمه احتذاء. فلو كانت أيامه قديمة، ورسومه بعيدة لشك فيه بعض الأمم لصنعته ما لم يصنعه أحد منذ خلق الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره، ومن تأسيس بناء كتاب العين الذي يحصر لغة أمة من الأمم قاطبة، ثم من إمداده سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه الذي هو زينة لدولة الإسلام. م
مبتكراته
لقد أبدع الخليل بدائع لم يسبق إليها، واخترع علوماً أعجزت المتقدمين كما بهرت المتأخرين، فلا عجب إذا سميناه (شيخ المبتكرين من العرب)
(علم العروض): لو لم يكن للخليل من المبدعات إلا هذا العلم لكفاه منقبة، فإنه - لعمري - أبدع في تنسيق قواعده، وضبط أبوابه، كما بهر الألباب باختراعه. فقد حصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحراً على كيفية أدهشت الفطن، وحيرت الأفئدة. ونحن نعلم أن كل مبتكر يعتريه في بادئ الأمر الاضطراب، ويحف بالنواقص، فلا تستقيم قناته ويلبس الحلة التي تليق به إلا بعد أن تختلف العقول على صقله وتثقيف أوده حيناً من الدهر؛ سنة الله في خلقه. ولكنا رأينا علم الخليل بلغ الرشد يوم ولادته، فلم يستدرك عليه من جاء بعده باباً أهمله، أو قاعدة أخل بها، أو فصلاً ذهل عنه، أو اصطلاحاً غيره خير منه - إلا ما كان من أمر البحر الذي زاده تلميذه الأخفش وسماه (الخبب)، ولا يعسر رد هذا البحر إلى واحد من بحور الخليل
(الشكل): كان الخط في صدر الإسلام خلواً من الشكل والإعجام؛ فوضع أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ علامات للحركات الثلاث، فجعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، والكسرة تحته، والضمة بين يديه، وجعل التنوين نقطتين، كل ذلك بمداد يخالف مداد الحرف. فلما وضع نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر بأمر من الحجاج نقط الإعجام اضطرب الأمر واشتبه الإعجام بالشكل فتصدى الخليل لإزالة هذا اللبس فوضع الشكل على الطريقة المعروفة اليوم، وبنى ذلك على مقاييس مضبوطة وعلل دقيقة بأن جعل للفتحة ألفاً صغيرة مضطجعة فوق الحرف، وللكسرة رأس ياء صغيرة تحته، وللضمة واواً(523/20)
صغيرة فوقه؛ فإذا كان الحرف المحرك منوناً كرر الحرف الصغير فكتب مرتين فوق الحرف أو تحته. ذلك لأن الفتحة جزء من الألف، والكسرة جزء من الياء، والضمة جزء من الواو؛ ووضع للتشديد رأس شين بغير نقط (ّ)، ووضع للسكون دائرة صغيرة وهي الصفر من الأرقام العربية القديمة؛ وذلك لأن الحرف الساكن خلو من الحركة، ووضع للهمزة رأس عين (ء) لقرب الهمزة من العين في المخرج. هكذا قالوا. والذي أراه أن هذه الشكلة إنما هي الميم المتوسطة في لفظ (همزة) لأنك إذا كتبت هذا اللفظ وحذفت الهاء من أوله والزاي والتاء من آخره ظهرت هذه الشكلة واضحة. ووضع لألف الوصل رأس صاد هكذا (ص)، توضع فوق ألف الوصل مهما كانت الحركة فيها؛ وللمد الواجب ميماً صغيرة مع جزء من الدال هكذا () فكان مجموع ما تم له وضعه ثماني علامات: الفتحة والكسرة والضمة والسكون والشدة والهمزة والصلة والمدة، كلها حروف صغيرة أو أبعاض حروف بينها وبين ما دلت عليه أجلى مناسبة وأوضح صلة، بخلاف علامات أبي الأسود وأتباعه فإنها مجرد اصطلاح لم يبين على مناسبة بين الدال والمدلول. وألف الخليل في هذا الموضوع كتاباً نفيساً فلم يزد أحد على طريقته هذه شيئاً ولا أصلح منها رأياً فكأنه ابتدأها وبه ختمت
(الموسيقى) لم يكن الخليل يعرف لغة أجنبية وليس فيه ميل إلى اللهو والقصف ولكنا رأيناه ألف كتاباً في الموسيقى جمع فيه أصناف النغم وحصر أنواع اللحون، وحدد ذلك كله ولخص وذكر مبالغ أقسامه ونهايات أعداده فصار الكتاب آية في بابه. ولما وضع اسحق بن إبراهيم الموصلي كتابه في النغم واللحون عرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: أحسنت!. . . فقال اسحق: بل أحسن الخليل لأنه جعل السبيل إلى الإحسان. فقال بعض أهل العلم: إن مهارة الخليل في علم الألحان هي التي أعانته على إبداع علم العروض.
(البقية في العدد القادم)
طه الراوي(523/21)
أدباء عالميون
موريس ماترلنك
للأستاذ صلاح الدين المنجد
(تتمة)
إن درامة ماترلنك (بلياس وميليزاند) لتقطر سحراً وجمالاً. . . وفيها مشاهد مترعة متعة ولذة؛ تمثلهما وهما يتناجيان هذه النجوى:
- أنت لا تعلمين لم يجب علي أن أبتعد. . . أنا أحبك!
- وأنا أحبك أيضاً. . .!
- آه. . .! ماذا تقولين يا ميليزاند؟. . . لم أسمع، لم أسمع ما تفوهت به، كأنما حطم الجليد بالحديد المحمر. . . أأنت تقولين هذا بصوت كأنه آت من اللانهاية. . . لم أسمعك يا ميليزاند. أتحبينني. . .؟ تحبينني أيضاً. . .؟ منذ كم وأنت تحبينني يا ميليزاند. . .
- منذ بعيد. . . منذ رأيتك!
- آوه! أنت تقولين هذا. . . كأنما مر صوتك فوق البحر، في الربيع، كأن غيثاً هطل على قلبي. . . بصراحة تقولين هذا؟ أنا لا أصدق! ميليزاند لم تحبينني؟ ألا تخدعينني بقولك، ألا تكذبين لا سر؟
- لا، لا أكذب أبداً عليك، ولكن أكذب على أخيك. . .
- يا لصوتك، يا لصوتك! إنه ندى مبلل، أندى من الماء، كأن الماء يجري بين شفتيك
أفرأيت إلى هذه السذاجة الحلوة، وهذا الطهر الناعم، وهذا السحر الأخاذ. إنها نجوى واحدة من النجويات!
وأخرج ماترلنك بعد ذلك درامة المسماة وقد بلغت هذه الدرامة الصغيرة الكمال، فهو يصور لنا فيها حياة أسرة برجوازية تصاب بالمصائب، ويسلط عليها الرعب والخوف. . .
وقد تجد في هذه الدرامة من الطرفة ما لا تجده في غيرها. فأشخاصها خرس مجتمعون في غرفة تكاد تكون مظلمة، وهم أب وأم، وبنتان وطفل. (أما الأب فجالس إلى النار يشيعها بالحطب، وأما الأم فقد ارتفقت الطاولة، وأخذت تنظر من خلال النافذة ساهمة في حين(523/22)
ارتدت البنتان ثوبين أبيضين، وجلستا تطرزان)
كل شئ يبعث في النفس الطمأنينة، ولكن لا. . . أنظر، فها هو ذا عجوز يدب في الحديقة، يتبعه جمهور من الناس يمشون بحزن ووجوم. إنهم يعلمون ما كان يجهله أولئك المطمئنون الهادئون.
أتدري ماذا وقع؟ لقد غرقت الأخت الثالثة في النهر. وهاهم أولاء يحملونها جثة هامدة. ليت شعري كيف يطلعون عليهم بهذا النبأ الفاجع وهم ينتظرون عودتها؟ ويمعن ماترلنك في تصوير أولئك الوادعين الذين كانوا يفعلون في هذه الليلة ما فعلوه ليلة أمس، ويظهر الفرق بين ما هم فيه، وما هم آتون عليه، بين الواقع الذي يجهلونه ولا يحسبون له الحساب، وبين ما هم مطمئنون إليه
ويتقدم الموكب، ويراه الجيران، وتثرثر جارتان:
- آوه. . يا لكثرتهم. . إنهم يسرعون
- سيأتون. . وأنا أراهم أيضاً، إنهم يقربون!
لقد كانت المصيبة تسعى. . . (فالقدر يمشي. . . لا يتعب ولا يمل. . .)
والحق أن هذا المنظر الفاجع ليبعث في الأنفس القلق. هذا مصيرنا نحن أيضاً. إننا نستسلم جميعاً للطمأنينة والراحة. وإننا لنفرح ونضحك. . . بل نعتقد أحياناً أننا سعداء، ولكن الموت والألم والمصائب، تسعى نحونا مسرعة لا يوقفها إنسان، ونحن غافلون مطمئنون
لقد كانت هذه الفكرة تهيمن على آثار ماترلنك حتى مطلع هذا القرن. . . ولقد حاول في روايته (أجلافين وسيليزيت أن يجعل الألم والموت يتراجعان أمام الحياة والفرح. ولكنه لم يدرك ما ابتغاه، ووجد نفسه مجبراً على أن يصور هذه المصائب التي تنغص عيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا
هذه أشهر آثار ماترلنك في الحقبة الأولى من تفكيره الفلسفي. فلما طلع هذا القرن، كان لماترلنك وجهة أخرى سنعود إلى التكلم عليها بعد حين
(انتهى البحث - دمشق)
صلاح الدين المنجد(523/23)
الأحلام
للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون
بقلم الأستاذ ألبير نادر
السرعة التي تسرد بها بعض الأحلام تبدو لي كأنها نتيجة أخرى لنفس السبب: الحلم يمكنه أن يقدم لنا في بضعة ثوان مجموعة حوادث تتطلب أياماً عديدة لتتحقق في حالة اليقظة. كتب الفريد موري في هذا الصدد يقول: (كنت نائماً في حجرتي ووالدتي على قمة السرير. حلمت بالثورة وكنت أشاهد حوادث الذبح ثم مثلت أمام محكمة الثورة، ورأيت روبسبيير ومارا وفوكييه تنفيل. . . أخذت أجادلهم، ثم حكم علي بالإعدام وقادوني في عربة إلى ميدان الثورة - صعدت إلى المقصلة وربطني الجلاد على اللوح ثم دفعه والمقصلة هبطت علي؛ فشعرت بأن رأسي قد انفصل عن جسمي واستيقظت وأنا في حالة بأس شديد وشعرت بسهم السرير فوق عنقي، وكان هذا السهم قد انفصل من موضعه ووقع على فقرات عنقي مثل ما تقع مقصلة المشنقة على العنق - حصل هذا في الحال كما أثبتته لي والدتي. فأنا اتخذت هذا الإحساس الخارجي بداية لحلم تعاقبت فيه حوادث متعددة. أهـ (من كتاب موري: النوم والأحلام). ومهما يقل عن ملحوظة موري هذه في أيامنا الأخيرة فأنا أراها ممكنة التحقيق، لأني وجدت حوادث مماثلة لها في أدب الأحلام - وتوالي الصور السريع هذا ليس بأمر قريب، فإن صور الحلم تكون بنوع خاص صوراً بصرية. والمحادثات التي يظن الحالم أنه سمعها تنظم وتتم وتتضخم غالباً عند اليقظة. وربما لا تكون صور الحلم سوى فكرة المحادثة فقط أو معناها الكلي الذي صاحب الصور. فجمع كبير من الصور البصرية يمكنه أن يبدو دفعة واحدة على شكل منظر، وبذلك لا يحتاج إلا لبضع لحظات. فلا تدهش إذا جمع الحلم في بضع لحظات ما يتطلب عدة أيام أثناء اليقظة. إن الحلم يرى الشيء مصغراً فهو يعمل كما تعمل الذاكرة. في حالة اليقظة يلزم الذكر البصرية التي تعبر عن الإحساس البصري؛ ومن ذلك ينتج سرد الحوادث وهو يدوم بقدر الزمن الذي يدومه هذا الانطباق. وبالاختصار يدوم إدراك الحوادث الخارجية تماماً قدر ما تدوم هذه الحوادث. لكن في الحلم تكتسب الذكرى المعبرة عن الإحساس البصري حريتها، وعدم استقرار الإحساس البصري يجعل الذكرى لا تنطبق عليه. ووتيرة الذاكرة المعبرة لا(523/25)
يعد لها أن تختار وتيرة الحقيقة. والصور يمكنها إذا شاءت أن تندفع بسرعة جنونية كما تتعاقب الصور السينمائية إلا إذا نظمنا تعاقبها. فلا التدفق ولا الغزارة يبرهنان عن قوة في محيط النفس، إلا أن الضبط والدقة في الانسجام يتطلبان مجهوداً. أما إذا تمردت الذاكرة المعبرة والتفتت إلى الحياة وخرجت عن حالة الحلم فالحوادث الخارجية تقسم حينئذ مجراها وتخفف وطأتها مثل رقاص الساعة يقسم أجزاء ويوزع على عدة أيام تمدد الزنبرك مع اللم بأن هذا التمدد يصير في الحال إذا ترك وشأنه
بقى لنا أن نبحث لماذا يختار الحلم هذه الذكرى أو تلك مفضلاً إياها على الذكريات الأخرى التي يمكنها أن تنطبق أيضاً على الإحساسات الحالية. لا يمكننا أن نعبر عن خاطر الحلم ولا يمكننا أن نعبر عن خاطر اليقظة، لكن يمكننا أن نشير إلى اتجاههما البين. ففي النوم الطبيعي تعيد لنا أحلامنا في الغالب الأفكار التي مرت بنا كالبرق، أو الأشياء التي أدركناها بدون أن نعيرها انتباهاً. وإذا حلمنا أثناء الليل بحوادث النهار فالحوادث التافهة لا الحوادث المهمة هي التي يكون لها حظ الظهور. وإني أؤيد نظريات دلاج وروبرت وفرود في هذا الصدد. أنا في الطريق أنتظر الترام ولا يمكنه أن يمسني لأني واقف على الرصيف؛ ولكن إذا طرأت علي فكرة خطر ممكن عندما يمشي الترام. لا بل أكثر من ذلك: إذا تراجع جسمي بدون انتباه وبدون أن أشعر بأي خطر فيمكن أن أحلم في الليلة السابقة أن الترام قد دهمني. أعود أثناء النهار مريضاً حالته تدعو إلى اليأس، ويكفي أن يمر شعاع أمل بسيط ولمدة لحظة وجيزة - شعاع أكاد أشعر به - حتى يظهر لي حلمي أثناء الليل أن المريض قد شفى، وعلى كل حال سأحلم بشفاء لا بمرض أو موت، بالاختصار ما لم نعن بمشاهدته له الأفضلية في الرجوع والعودة. ولا غرابة، فالشخصية التي تحلم هي شخصية ساه تتمدد. والذكريات التي تتفق أحسن اتفاق مع هذه الشخصية هي ذكريات السهو التي لا تحمل معها علامة المجهود
هذه هي الملاحظات التي أردت أن أقدمها لكم في موضوع الحلم. أنها غير وافية. فهي لا تبحث إلا في الأحلام التي نعرفها اليوم وفي الأحلام التي نتذكرها والتي ترجع إلى النوم الخفيف؛ ولكن إذا كان النوم عميقاً فربما تحلم أحلاماً من نوع آخر ولا يبقى منها شئ عند اليقظة(523/26)
وأنا أميل إلى الاعتقاد وخصوصاً لأسباب نظرية ومحض اقتراح بأن رؤيانا حينئذ تكون أكثر تمدداً وأكثر إيضاحاً لماضينا. فعلى علم النفس أن يوجه مجهوده نحو هذا النوم العميق، لا ليدرس فيه فقط كيان الذاكرة الباطنية وعملها، بل ليفحص العوامل الخفية التي تتعلق بالبحث النفساني. أني لا أريد المغامرة في هذا المضمار ولكن لا يسعني إلا أن أهتم بالملاحظات المتجمعة بفضل مجهود (جمعية الأبحاث النفسية) الذي لا يعرف الكلل، فالتنقيب عن العقل الباطن والبحث عن أعماق النفس بواسطة طرق مخصوصة هو عمل علم النفس الأساسي في فجر هذا العصر. ولا أشك أن هناك اكتشافات بديعة تنتظره وأهميتها تضاهي أهمية العلوم الطبيعية في العصور الماضية، وهذا ما أتمناه لكم في ختام حديثي هذا.
(تم)
ألبير نادر(523/27)
الساعة. . .!
عزيزي الدكتور طه حسين بك
في المحاورات الممتعة الطريفة التي دارت بينك وبيني - في خريف السنة الماضية بالقدس - والتي استمع إليها جمهور من نخبة أدباء فلسطين كنت ثائر على الشعر العربي الحديث منكراً الإبداع الفني في الصورة وتهاويله، فاسمح لي اليوم أن أقدم إليك - على أسبوعين أو ثلاثة - طرائف من شعر أحمد الصافي النجفي لم تنشر بعد لأرى رأيك الجديد. .
القدس - عبد القادر جنيدي
يا ساعةً أتبعها النظام ... عليك كل راحة حرام
تجرين لا يوقفك الزحام ... مسرعة كأنك الحمام
هذي الليالي لك والأيام ... تفنيها كأنها أخصام
النوم من أعمارنا انحسام ... ألا تنامين كما ننام
أسقيك لو تسكرك المدام ... فتسكر الشهود والأعوام
وتهجعون إن غفا الأنام ... وترقد الخمر ويغفى الجام
والليل والنهار إن تناموا ... هما لكم في نومكم أحلام
ونحن في أحلامكم أوهام
أحمد الصافي النجفي(523/28)
من أدب الشاطئ
شكاة المغيب!
(إلى العروس النائية)
لشاعر الوجدان جان ريشبان
للأستاذ عبد العزيز العجيزي
أين مني الليالي الزُهر، والسنا النشوان! أين مني بهجة الدنيا وابتسامة الزمان! أين مني يا ليلاي أيامك الخوالي، ومغانيك الحسان! أين مني الهوى، والصبا، والمنى، وروضك الفينان؟
آه لقد كدر الفراق صفو المعاني، وأشقى البعد مهجة العاني! وبقيت وحيداً أعاني الشوق والأشجان، وأقاسي الهجر والحرمان!
أين الزمان الذي قد كنت ناعمة ... مهلةً بدنوِّ منك يا سندي
هاج شوقي لو كر إلهامي وروض إنشادي، وزاد حنيني لمهد أحلامي وظل ودادي. وفررت من عيش كئيب تكتنفه أكدار وتمازجه آلام. . . وسرت بقلب يذوب جوى، ونفس تتأجج لوعةً، وكبد تتلظى كمداً. . . إلى أطلال حبي الغابر! فلاحقتني أطياف الأسى المتفجر، وأشباح الجوى المتسعر، وقد أهلكها ا ? نحيب وأزهقها الوجيب، من ضناها وتوجعها، وأساها وتفجعها!
طليحُ شوقً بنار الحب محترق ... تقتاده زفرات إثر لوعات
واحسرتاه على شباب نضب معينه هو في غضارة الإهاب، وذوى زهره في ربيع الصبا! وا لهفي على أمسيات ساحرات ولت تشيعها أنين الحسرات وكمين العبرات! وا أسفاه على ضياء خبا سناه من تفجع الذكريات ثم ما لبث أن عاد النور إلى الظلمات! واشجني على نفس ترسف في أغلال همومها، ومهجة حرى تذوب من سعير خطبها، وروح صرعتها أهوال القضاء، وأنشبت فيها أظفار الشقاء!
فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما لم يكن بلغ الهجر
لقد أبلى السقام جسدي النحيل، وأضنى الهيام بدني العليل! فأين مني رحمتك وحنانك، وأين(523/29)
مني سحرك ودلالك؟!. . .
لقد كنت يا ليلى أستشفي بوصالك وأستهدي بجمالك، فأنت شفاء العاني الموله، ورواء المحب المدله!
وما عبد العزيز طبيب قلبي ... ولكن الطبيب هو الحبيب
فوا حزناه على معذب محروق أذابه لهيب الشجون، وأضنته أسقام المنون!
أواه ليلاي! لقد أدمى البعد فؤادي، وذهب الجوى برشادي، وقضيت أيامي حليف سهادي. . . ونأيت بنفسي بعيداً عن صخب الحياة ولغوب الناس حتى. . . . . . . . . . . .
أخلو بذكرك لا أريد محدثاً ... وكفى بذكرك سامراً وسروراً
فلا يقع بصري على إنسان، وأكون بنجدة من همسات الحسان، وخلوة في ذكر، وحنان، وأمان!
واهاً لذكرى المجالي بين أفنان الجمال، تتابعني أشباحها أينما سرت، وتلاحقني أطيافها أنى حللت بين زفرات التأوه وحسرات التوجع!
أُرْدد سعادُ على حيران مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتذكار
واهاً لمحب عربيد عربيد، ترك حبه صريع الجوى، شهيد الهوى، تنزف منه دماء قلبه المكاوم، ثم يفر هارباً كجبان رعديد دون أن يرحم جرحاً دامياً، أو يغيث قلباً عانياً!
لقد فررت بنفسي إلى جزيرة نائية كي أكون بمناجاة من سخر الرجال وأضاحيكهم، وبمأمن من رياء النساء وأكاذيبهن! فيطمئن القلب ويهدأ الجنان؛ في عالم قدسي موفور الأمان!
دلفت كابياً في سكينة هذه الجزيرة الوادعة، وأقمت فيها كاسفاً بين وحشة الصمت ورهبة الموت كبوم لفه البؤس والوجوم والوجوم في وادي الآلام والهموم!
واهاً لوحدتي، وسهدي، وانفرادي! ها قد جلست منعزلاً وللحياة معتزلاً. لا أرى إلا بحراً مضطرب الأمواج، ولا أسمع إلا إعصار ثبج يصارع الأنواء صراعاً رهيب الأصداء، واصطفاق لجج على ثنايا الشاطئ في إزباد وإرغاء!
ولا مُؤنس إلا شهيق وزفرة ... ولا مسعدُ إلا دموع وأشجان
أطلق النسيم أنفاسه العذاب، وسرى يختال في أردية العباب، وسجن البحر، وترفق الموج ناثراً رذاذاً كحباب الصهباء وشدت قيثارة الريح ألحان الصفاء. ولكن، ما أسكرتني خمرة(523/30)
الألحان، ولا أنعشتني لذة الوجدان، وما أطربني صداح الأغاني ولا هاجني لماح الأماني: إذ
كيف السرور وأنت نازحةُ ... عنّي وكيف يسوغ لي الطرب
أجل. لا شئ في الحياة يسري عني هموم الوصب إلا ورقاء حزينة هي مسلاة غرامي ومتنفس آلامي، تؤنسني في وحدتي، وتسليني في عزلتي، وشدوها سلوان خاطري وألحانها عزاء شاعر
فكأنها صاغت على ... شجوى شجا تلك اللحون
أواه! لقد جنت التأوهات من فرط جواها، وهامت اللهفات من فيض ضناها، ورفرفت أحلام الهوى العذري على الرمال الشقراء. فتغنى البحر بأنين الزفرات، وأنشد الموج على الصخر أناشيد العبرات. أخذت صخور الشاطئ تبكي وتنتحب رحمة بي وشفقة علي، وترقرقت القطرات على خدها كحبات لؤلؤ وضاح. فغاض الأسى بجفوني، وفاضت مدامعي عقيقاً وتهللت على الخدين والنحر. . .
علّ ماء الدموع يخمد ناراً ... من جوىّ الحب أو يبل غليلاً
أجل إنه لسراب يخدع النظر، وعبث لا ينيل الوطر! حقاً إنه خداع كاذب ووهم باطل اعتراني في حمى قطيعة لا تجدي نفعاً إذ علام الحياة في خراب مقفر، وباب موحش، أمل امتلاك ناصية ضالة خادعة!؟
أسجناً وقيداً، واشتياقاً وغربة ... ونأي حبيب إن ذا لعظيم
لكن! كيف المفر من ذكريات أضنت صباي وأضاعت مناي؟! كيف النجاة من طيفك يا قاسية؟ إنك قد نزلت من مهجتي في كل مكان؛ وغداً خيالك يتمثل لناظري ويسبح في خاطري، ويسطو على مشاعري ويهيج سرائري!
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
(شاطئ رأس البر)
عبد العزيز العجيزي(523/31)
1 - (أعاصير مغرب) للعقاد
للأستاذ علي متولي صلاح
عندما شرعت القلم لأكتب عن ديوان العقاد الفذ (أعاصير مغرب) قرأت مقالاً للدكتور مندور في مجلة الثقافة عن (ترنيمة السرير) يقول في نهايتها: (لقد تصفحت (أعاصير مغرب) فعجبت لمن يجرؤون على تسميتها شعراً وهي نثرية في مادتها، نثرية في أسلوبها، نثرية في روحها. ونثريتها بعد مبتذلة سميكة، حتى الإحساس فيها شئ لا تطمئن إليه النفس، شئ ناب. الأدب الجيد لا بد أن يلونه الإحساس، وصاحب (أعاصير مغرب) من الكتاب الذي قد تبهرك مهارتك العقلية في التخريج، ولكني لا أذكر إلا في النادر الذي لا يذكر أنه قد استطاع يوماً أن يحرك في نفسي إحساساً فكيف له بقول الشعر؟ وكيف لنا أن نقارن شعراً كالأعاصير ونحوها بشعر المهجر الحي)
فعجبت بدوري من الدكتور مندور كيف يمسك سيفه بيده ويضرب في الهواء عن يمين فيحسب أنه قتل ألفاً، ويضرب في الهواء عن يسار فيحسب أنه قتل ألفاً! الدكتور مندور شاب نرجو منه الخير الكثير للأدب إن فارقته نزعة التعقب والرغبة في الهدم بلا استقصاء ولا روية، ولا تأن ولا دراسة شاملة لمن يتعقبهم ويحسبه قادراً على هدمهم! ذم أدباءنا وشعراءنا جميعاً: العقاد والزيات والحكيم ومن إليهم عنده طبول وأبواق؛ وعلي طه ومحمود حسن إسماعيل ومن إليهم خطباء منابر لا شعراء يصدحون! اللهم إلا شعراء المهجر؛ فهم عنده في القمة والذؤابة ومن خلاهم هباء!
وأعاصير مغرب ابعد هو - عندي - أعظم وأرق وأجمل دواوين العقاد جميعاً. قرأت كل ما قال العقاد من شعر فما اجتمع لديوان من دواوينه القديمة والحديثة ما اجتمع لهذا الديوان - في رأيي - من روعة ورونق وصدق عاطفة، وجمال أسلوب وإشراق ديباجة
ولم أفهم بعد لماذا سماه العقاد (أعاصير مغرب) ولو أنه شرح ذلك بعض الشرح في مقدمته إلا أنه لم يقنعني ولم أسترح إليه إلا في نصفه الأول (أعاصير) فالديوان في مجموعة أعاصير عاتية عارمة، نظمه العقاد إلا أقله وعالم الدنيا مضطرب بأعاصيره، وعالم النفس مضطرب بأعاصيره. بيد أنها ليست أعاصير (مغرب) إن كان العقاد التمس الغروب من (توماس هاردي) الذي ينظر إلى المرآة فيرى بشرته الذابلة تتقبض فيتوجه إلى الله مبتهلاً(523/32)
يقول: (أسألك يا رب إلا ما جعلت لي قلباً يذبل مثل هذا الذبول، إنني لأحس برد القلوب من حولي فلا آلم ولا أحزن، وإنني لأظل في ارتقاب راحتي السرمدية بجأش ساكن، وسمت وقور. غير أن الزمن الذي يأبى لي إلا الأسى قد شاء أن يختلس فلا يختلس كل شئ، ويترك فلا يترك كل شئ. ولا يزال يرجف هذه البنية الهزيلة في مسائها بأقوى ما في الظهيرة من خلجة واضطراب). . . أو كان التمسه عند (بيرون) الذي نظم قصيدة (عيد ميلاد أخير) وهو في السادسة والثلاثين من عمره وقال: (آن لهذا القلب أن يسكن مذ عز عليه أن يحرك سواه؛ ولكني وقد حرمت من يهوى إلي، حسبي نصيباً من الحب أن أهوى. إن أيامي لمكتوبة على الورقة الذابلة الذاوية. إن زهرات الحب وثماره ذهبت إلى غير رجعى، إنما السوس والديدان وحسرة الأسى هي لي. . . لي وحدها تحيي. . . تلك القدرة على الهيام والهوى ليس لي منها حصة تبقى، فما لأغلالها في عنقي لا تنزع ولا تبلى؟. . .)
ما هاردي ولا بيرون بشبيهين للعقاد في هذا الذي يقولان. العقاد ذو قلب شاب فتى قوي متفتح للحياة، مقبل عليها، نهم بها، كلف بألوان الجمال وأنماط الحسن فيها، فأين يكون الغروب منه؟ العقاد يسير قلبه دائماً إلى الشباب حيث تسير قلوب الناس إلى الهرم والشيخوخة، ويصبو قلبه إلى الحياة حيث تزهد القلوب الفانية في متاعها. العقاد يصغر حيث يكبر الناس، والشاعر - بعد - طفل كبير!
لو أنه سماه (أعاصير قلب) لكان أدنى إلى الصدور وأقرب إلى الحق من اسمه الذي اختار اللهم إلا أن يكون استطراداً لفظياً مع دواوينه السابقة: يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، ووحي الأربعين، التي يعبر بها عن الزمن والأيام والسنين لا عن القلب وما به من صبى وشباب أو كهولة وفناء، وهل غرب قلب الذي يقول:
هي قبلة ضمَّتْ عرى ... عامّين فاتّصلا اتّصالا
ومُنى الخواطر في غد ... عام كسابقه مآلا
لا تعجلنّ به فما ... أقسى الحياة على العجالى
لا لا فهذا يومنا ... وغد وبعد غد خفاء
أنا مغمض عيني ... ومستمع إلى حادي الرجاء(523/33)
فإذا سمعت حداءه ... فدعيه يمضي حيث شاء!
والذي يقول:
أهلاً بعام ثالث ... يتلوه عام رابع
بل خامس فيما عهد ... ت وسادس أو سابع
ما ضاقت الدنيا وفي ... جنبيْك قلب واسع!
أو الذي يقول:
سنةٌ كان لها نجم فريد
هات منها أيها النجم وهات
سنة ثانية بل سنوات
ولنا منك مزيد المستزيد. . .!
أو الذي يقول:
وفي كل يوم يولد المرء ذو الحجي ... وفي كلَّ يوم ذو الجهالة يُلحد!
بل إني لألمح بين سطور الديوان غراماً حقيقياً وقع فيه العقاد! ولعله وقع أخيراً في (فخ) جعل هذا الشعر الغزلي الرائع ينساب من قلبه انسياباً
والعقاد إذ يكتب الشعر إنما يكتبه بعاطفته وبعقله معاً، وتلك ميزة تفرد بها العقاد، فهو يكتب مدفوعاً بعاطفة أصيلة صادقة دفاعة، فإذا بدأ يكتب جاء عقله من وراء الستار فصقل الفكرة وهذب الرأي، وأخرجه للناس في رواء بهيج من الفلسفة والشعور معاً، وما أحسب ذلك قد توفر لغير العقاد. خذ مثلاً شعره الغنائي في هذا الديوان، فهو جماع من اللفظ الصادح، والعقل الراجح، والقلب المحب الولهان، وإنك لواجد في هذا الديوان مجموعة طيبة جداً من شعر العقاد مثل قصيدة (عمر زهرة):
فريدة في روضها ... أخيرة في الموسم
عيشي وأهدي غيرها ... في كل عيد واسلمي
ألست أنت مثلها ... علمَت أو لم تعلمي
هدية الخلاق لي ... وقدرٌ أن تنسمي
زهرتك البيضاء هلا ... تذكرين نشرها؟(523/34)
حفظتها في خدرها ... هل برحت مقرها؟
حفظتها حفظتها ... فهل حفظت سرها؟
قصصتُ منها عقدة ... لكي أطيل عمرها؟
ولا أدري ما الهمس الذي يقولون به إن لم يتوفر كله في هذه الأبيات، أو تلك القصيدة الأخرى (الطير المهاجر) التي غناها الفلسطينيون في محطتهم فكانت بحق درة الغناء عندهم:
علمتني مواسم الروض أن الطير ... سر شتّى: مهاجر ومقيمُ
أتراني لا أسمع الطير إلا ... في رياض معشعشاً لا يريم
رب شاد في هجرة يتغنى ... وعليه السلام والتسليم
من جنوب إلى شمال وحيناً ... من شمال إلى جنوب يحوم
فله حين يستقل وداع ... وله حين يقبل التكريم
خذ من الطير كل يوم جديداً ... فسواء جديده والقديم
كم مولٍ وصفوه لا يولي ... ومقيم وصفوه لا يقيم!
وأنا - بعد - أسأل الأستاذ الدكتور محمد مندور أمثل هذه القصيدة نثرية في مادتها، نثرية في أسلوبها وروحها، ونثريتها مبتذلة سميكة؟؟
(المنصورة)
على متولي صلاح(523/35)
البريد الأدبي
جبرائيل تقلا باشا
في ليل الأربعاء الماضي روعت الصحافة العربية بفقد رجلها وعميدها المأسوف عليه (جبرائيل تقلا باشا) صاحب (الأهرام). وقد أجمع الذين لابسوا هذا الرجل من قرب أو عاملوه من بعد أنه كان أصدق المثل الشريفة للعقلية اللبنانية العاملة المثابرة الثابتة، وأنه كان فضلاً عن ذلك موصوفاً بالتواضع الجم والحياء الكريم والسمت الحسن، وذلك بالطبع سر أبية في تكوينه، وأثر أمة في تربيته. وأسرة تقلا من الأسر اللبنانية القليلة التي غذت عروقها في التربة المصرية بالخلق الكريم والعمل الدائب. وإن في حياة الأهرام الطويلة الحافلة بالجد والصدق والعفة والشجاعة في بلد من أشد البلاد اضطراباً بالمنافع المختلفة والأهواء المتباينة لشاهداً على أن الفرد متى توفر له رأس المال الطبيعي من العمل والخلق والقدوة قام بما لم يقم به حزب، وقوى على ما لم تقو عليه أمة
وفي الحق أن الأهرام الخالصة بطبيعتها للجهاد الصحفي القومي هي من عمل الخلق المتشابه والغرض المتحد في تقلا وبركات والجميل. وذلك توفيق من الله نرجو أن يديمه على هذا العمل الجليل، ما دام على السبيل القصد والغرض النبيل.
إلى الأستاذ دريني خشبة
أخي الأستاذ دريني خشبة
أحييك الطف تحية. وبعد فأني قرأت ناشطاً ما سطرته بحذق في قصة المسرح الإفرنجي. وإني لأهنئك بهذه الوجهة فلا يكتب عندنا في ذلك الفن إلا الأقلون. وقد وقفتني أشياء فيما سطرت، وفيها شئ لم أر معدلاً عن الكتابة إليك في شأنه، وهو قولك في خاتمة المقال الثالث: (يتساءل هؤلاء النقاد. . . الرمزيين). فإني معرض عن الغرابة التي في ترتيب الأسماء لأسألك من أين استقيت (تساءل هؤلاء النقاد، ثم من هم؟) فإني والله ليدهشني أن يقحم (ساردو) على وجه التخصيص في الثبت الحافل العظيم من مؤلفي الدرامة الأوربية) وقد التصق في ترتيبك بالعظيم حقاً: موليير، واساه الله! وليدهشني بعد هذا أن يسل (ميترلنك) من الرمزيين. وأما بيرندللو فقد شرحت سنة 1938 في الرسالة كيف يدخل في الطور الثاني من الرمزية الباحثة عن حقائق النفس لا عن خفايا العالم. ثم إني ما عرفت(523/36)
من هو (سارس)؟ هي هفوة من هفوات الطبع وقعت على غرار (شيكوف) بدلاً من (تشيكوف)
في هذه الأيام الفاترة المفترة أحببت أن أثاقفك، وأن أكاشفك بعد ذلك بتقديري وودي
بشر فارس
معنى قوله تعالى (يخرج الحي من الميت)
اطلعت على ما نشر في الرسالة الغراء عدد (521) وملاحظاتي على ذلك ما يلي:
1 - الآية خاصة بالحب والنوى بدليل النص الصريح
2 - لفظة يخرج تؤدي معنى استخلاص شئ من آخر ولو أراد الله تعالى غير ذلك لقال يخلق أو ينشئ أو أي معنى آخر يفيد الحدوث فقارن بين جلال المعنى في قوله تعالى: (إني خالق بشراً من طين) بما لو قال إني مخرج بشراً من طين
3 - إذا أكل إنسان أو حيوان طعاماً أو امتص نبات مواد من الأرض فليس معنى هذا خلق حياة جديدة في هذه المواد الأولية التي يتحلل إليها الطعام في الجسم لتدخل في تركيب الخلايا في عملية النمو أو التعويض. ولو كان الأمر كذلك لأمكن. لهذه المواد التي تنشئ حياة إذا وضعت في درجة الحرارة المناسبة، مثال ذلك البيضة الغير ملحقة بذكر الدجاج
4 - يحدث النمو والتجديد والتعويض في الأجسام بواسطة انقسام الخلايا الحية الوحدة إلى اثنتين ثم إلى أربعة، وهكذا تتضاعف، وفي الجنين تتضاعف إلى علقة ثم إلى مضغة الخ
5 - الحياة شئ والمادة شئ آخر، فالمواد الأولية التي تنتج من تحليل الغذاء في الجسم تساعد على تكوين المادة بخلايا الجسم ولكنها لا تخلق فيها حياة
6 - إفراز اللبن وكل الإفرازات الأخرى من الجسم كالدمع والعرق والبول والبراز والعصير الهضمي يمكن تطبيق الجزء الثاني من الآية عليها، إلا إن ذلك على سبيل التوسع في الشرح والمجاز في التعبير.
(أسيوط)
دكتور عباس محمد حسين
إلى الدكتور زكي مبارك(523/37)
1 - أخالفك كل المخالفة في قولك: إن (شاف) بمعنى (رأى) يستعمل في اللغة، بدليل (تشوف) بمعنى نظر، أن العرب في جميع الأقطار يقولون (شافه) بمعنى (رآه)، وقد (شفتهم) بعينك. وأقول: الحق أن العرب العرباء لم تستعمل شاف بمعنى أبصر لا في شعر ولا في نثر، ولو كان ذلك لنقل إلينا في معاجم اللغة؛ أما الذين سمعتهم يلفظون هذه اللفظة فهم عرب في النسبة لا في اللغة الصحيحة الفصيحة!
وفي قولك: إن علماء البلاغة منذ عشرة قرون أخطأوا في تخطئة المتنبي حين جمع بوق على بوقات في قوله:
فإن يك بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقاتٌ لها وطبول
وأنك تفردت برفع الظلم عن المتنبي، وجعلت البوقات جمع (بوقه) مصغر بوق، وهي لفظة اصطلاحية في موسيقى الجيش العربي، كما يؤخذ ذلك من نصوص في بعض كتب التاريخ. وأنا أقول: إن كتب التاريخ ليست متون لغة يعتمد عليها في إثبات الكلمات العربية. وأضيف إلى ذلك أن لفظة (بوقة) بمعنى مذكر (البوق) لم ترد في كلام العرب بهذا المعنى
بقي يا دكتور أنك سقت فائدة صرفية لم تر أحداً من الصرفيين نبه عليها في كتب الصرف. وهي (جعل التأنيث من صور التصغير. فالبوقة أصغر من البوق، والطبلة أصغر من الطبل، والبحرة أصغر من البحر، وقد بولغ في تصغيرها فصارت بحيرة. وما الربعة إلا مصغر الربع بلا جدال
ولكن ما قولك في أن الأمثلة التي سقتها لما فيه التأنيث غير صحيحة؟ فليس في لغة العرب (بوقة ولا طبلة ولا بحيرة ولا ربعة) بالمعنى التي تريدها، حتى يحتاج الصرفيون إلى التنبيه على أن التأنيث قد يكون من صور التصغير. أما لفظ (بحيرة) فهو من الكلمات التي لم تستعمل إلا مصغرة كقولهم: كميت للفرس، وكعيت وجميل لطائرين صغيرين
ثم قلت: وأنكر قوم جمع صناعة على صنائع، فحملوا وزارة المعارف على تغيير أسم مدرسة الصنائع، مع أن لهذا الجمع شواهد تفوق العد. والواقع يا دكتور أن صناعة لم تجمع في لسان العروبة على (صنائع) لا في منثور الكلام ولا في منظومة.
وليعلم أن (صنائع) في كلام العرب جمع صنيع أو صنيعة وفنه الحديث (صنائع المعروف(523/38)
تقي مصارع السوء) على أن لفظ (صناعة) من مصادر الحرفة، وهي لا تجمع في اللغة على (فعائل). فكما لا يقال في تجارة (تجائر) لا يقال في صناعة (صنائع).
عبد الحميد عنتر(523/39)
العدد 524 - بتاريخ: 19 - 07 - 1943(/)
14 - دفاع عن البلاغة
6 - الأسلوب
سمع ابن هرمة أديباً ينشد قوله:
بالله ربك إن دخلت فقل لها ... هذا ابن هرمة (قائماً) بالباب
فقال له: لم أقل (قائماً). أكنت أتصدق؟ قال: قاعداً؟ فقال: أكنت أبول؟ قال: فماذا؟ قال: واقفاً. وليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى!
ذلك مثال من أمثلة كثيرة تريك كيف يميز الفنان اللفظ ويختاره. وتمييز اللفظ واختياره شديدان على من لم يؤته الله العلم بمعاني الألفاظ، والبصر بفروق المعاني. ولم يقع صاغة الكلام في الهرج والزيف إلا بمجافاة الذوق ومخالفة اللغة. فإن اللفظة الحوشية أو السوقية أو الطفيلية أو النابية أو الركيكة أو المبهمة أو العليلة لا تسقط في الكلام إلا إذا كان العلم الذي يميز قد فقد، والذوق الذي يختار قد فسد. إذاً تكون الكلمة التي انتخبت بذوق، واستعملت بحذق، هي الكلمة الضرورية الطبيعية التي تتحقق بها خصوصية اللفظ وهي الركن الأول لأصالة الأسلوب. أما الركن الآخر وهو طرافة العبارة فأسه الابتكار في حكاية الخبر وتصوير الفكر وتقويم الموضوع. وهيهات أن تجد الجملة المبتكرة التي تثير الإعجاب، وتحدث الأثر، وتحرك الفتنة، إلا إذا وجدت الكلمة الخاصة التي تحدد الفروق، وتجد العلاقة، وتبعث الحركة. والأسلوب كما قلت من قبل خلق مستمر: خلق للفكر بطرافته، وخلق للترتيب بتنسيقه وتشويقه، وخلق للأداء بألفاظه ولهجاته وصوره. وعلى قدر ما يتضح الخلق في الكتابة، تتضح العظمة في الكاتب. أما القوالب الموضوعة والرواسم المصنوعة فقد كانت في ما مضى قطعاً من أعصاب الذين صاغوها، ثم قطعت بهم وبها أسباب الحياة فضمنتهم القبور وضمنتها الكتب. فكما لا ينفعك أن تستعير أعضاءهم لجسدك، لا ينفعك أن تستعير تراكيبهم لأسلوبك. ولكن أدعياء الكتابة يعيشون على هذه الرواسم كما يعيش أدعياء التصوير على نقل الروائع الفنية باليد، أو تصويرها بالآلة. وكثيراً ما يسرفون على أنفسهم فينتحلون القصيدة بنصها أو المقالة بلفظها. ولا أزال أذكر صعقة الأستاذ إبراهيم. . . وقد دعي ذات ليلة إلى حفلة زفاف. وأبى ولاؤه للعريس ووفاؤه للفن إلا أن يسجل اسمه بين خطباء العرس. وذهب إلى كتاب (أبدع الأساليب، في(524/1)
إنشاء الخطب والمكاتيب) فحفظ منه خطبة رنانة فيها السجع المرصع، وفيها الشعر البديع. ثم أخذ مكانه المرموق فوق المنصة. وتعاقب الخطباء والشعراء على المنبر المزدان بالرايات والثريات والرياحين. حتى إذا لم يبقى بينه وبين الكلام غير خطيب واحد، تبحبح وتنحنح، ثم تجهز وتحفز؛ ولكنه لم يكد يصغي إلى الخطيب الذي قام قبله حتى حملق إليه وقد انتسف لونه، وانفغر فمه، وارفض عرقه، وتمنى لو ساخت به الأرض! لقد كان الخطيب السباق قد اقتنى الكتاب نفسه، وانتقى الخطبة عينها، ثم سبق الأستاذ إبراهيم إلى القول فانطلق يلقيها عن ظهر الغيب لا يتلعثم ولا يتوقف ولا يخرم منها حرفاً! وبينما كان المنبر يهدر بالأسجاع، والسرادق يدوي بالتصفيق، والبيت يلعلع بالزغاريد، كان الأستاذ إبراهيم قد أخذ بطنه بيديه، ومشى مشية الشيخ الأحدب، يتأوه ويتلوى ويسأل الذين فجئهم بهذه الوعكة الغريبة عن بيت (الأدب)!
ثم نعود فنقول إن الأصالة هي الكلمة الخاصة والعبارة الجديدة. وبخصوصية الكلمة وجدة العبارة تتحقق الطبيعة في الأسلوب. وليست الطبيعة أن ترسل الكلام على سجيتك من غير روية ولا تنقيح، إنما الطبيعة نتيجة النظر الطويل والجهد المتصل. فهي على الرغم من اسمها تكسب ولا توهب وشرطها الذي لابد منه أن يختفي فيها الفن كما تختفي دودة القز في الشرنقة فإن من الفن ألا يظهر الفن، كما قال شيشرون. ومن اختفاء الجهد البالغ في سراح الطبع، وكمون الصنع الدقيق في سهولة العبارة ينشأ ما يسمونه بالسهل الممتنع والأصل فيه قول ابن المقفع لمن سأله عن البلاغة: (هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها، فإذا حاول عجز)
ومن كلام بسكال أنك (تقرأ الأسلوب المطبوع فتعجب منه وتعجب به، لأنك تتوقع أن تجد فيه الفنان، فإذا بك لا تجد إلا الإنسان)
ومن الطبيعة بمعناها الفني تكون الدقة. وما الدقة إلا ترك فضول الكلمة وتوخي صواب اللفظ. وهي تختلف في أسلوب الشاعر والخطيب عنها في أسلوب الفيلسوف والمؤرخ. ولكن القدر المشترك منها في أساليب هؤلاء هو أن يعرف كل منهم كيف يمضي قدماً إلى الغاية. وكل ما يجعل الفكرة نيرة مؤثرة، والصورة حية قوية، والعاطفة أخاذة نفاذة، هو في الحقيقة داخل في القدر المشترك لكل كاتب(524/2)
والدقة المشتقة من الطبع سبيل الوضوح. لأن غموض الكلمة ينشأ من غرابتها أو اشتراكها، وغموض الكلام ينشأ من تعقده أو فساده. والغرابة والاشتراك والتعقد والفساد هي الأضداد الطبيعية لمعاني الأصالة
ومن بدئه العقل أنك تفهم لتكتب، وتكتب لتُفهم. ولكن من الكتاب من ينسج قبل فرز الخيوط، ويكتب قبل درس الفكرة، فيلتاث عليه الأمر. وإن منهم من يحسب أن الوضوح ينافي العمق، والبساطة تجافي الدقة، فيغرب ولا يعرب، ويجمجم ولا يترجم؛ ثم يسمي هذا الغموض فنا وذلك العجز رمزاً. على أننا لا نقصد بالوضوح أن يسفر لك الكلام عن معناه كله لأول وهلة؛ إنما نقصد به الوضوح الفني الذي يتراءى خلال النقاب الشفاف والظلام المضيء والعمق الصافي؛ وهو بالطبع أكثر دلالة وأشرق بياناً وأروع جمالاً وأطول وحياً من ذلك الوضوح الساذج الذي يعرفه الكاتب الجاهل، ويطلبه القارئ الغبي.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات(524/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
جبرائيل تقلا باشا - مصادر الثروة اللغوية - محاكمة العقاد!
جبرائيل تقلا باشا
قرأت أكثر ما كتب في رثاء الصحفي الكبير جبرائيل تقلا باشا، ورأيت كيف ختمت حياته بتبجيل وتعظيم وإجلال، فماذا بقي من القول بعد تلك الصحائف من جميل الرثاء!
لم يبقى إلا أن أشير إلى بعض السر في نجاح ذلك الرجل، لأن حياته تصلح قدوة لرجال الأعمال
أذكر أولاً أن الرجل جعل الغاية من حياته أن يكون صاحب أكبر جريدة في الشرق، وهي غاية تمثلت له بوضوح، وبدت له في عظمة تستحق بذل العمر كله في صيانتها من عوارض الضعف والاضمحلال
وأذكر ثانياً أن الرجل رأى أن الأعمال العظيمة لا تنهض بغير معاونين أمناء، فجعل من خطته أن يكون الاشتراك في تحرير (الأهرام) ضمانة من المتاعب المعاشية بحيث لا يحتاج من يعمل معه إلى التفكير في صحبة غيره، ولو كان ذلك الغير شخصية تحمل أضخم الألقاب
وأذكر ثالثاً أن الرجل نزه جريدته عن الأذى بجميع صوره فعاش بلا أعداء، وهذا الجانب من الحياة الصحفية يوجب ألواناً من جهاد النفس لا يصبر عليها غير كبار القلوب
والذي يتصور ما صنع هذا الرجل لجريدته يعجب من براعته وقدرته على التصرف، فللأهرام مكاتب كثيرة في الغرب والشرق، وما كان يمكن أن تقوم تلك المكاتب بدون أن تكون الثقة بهمته وكفايته وأمانته مضرب الأمثال
وهنالك جانب سكت عنه من رثوا هذا الرجل، فما ذلك الجانب؟
هو فهمه الدقيق للأحوال الجوية، فكان يعرف ما يُلبس. لكل وقت، فلم يتعرض للحر ولا للبرد، وكانت الحكومات المتعاقبة تعجب من فهمه ذاك، ولا يؤذيها أن يكون في مصر صحفيٌّ يعرف اتجاهات الرياح قبل هبوبها
ومع هذا قتلته مروحة غزت صدره بهواء عجز عن دفعه الأطباء، ولكل أجل كتاب.(524/4)
وسبحان من تفرد بالبقاء
مصادر الثروة اللغوية
من الكلمة التي نشرتها (الرسالة) لحضرة الأستاذ عبد الحميد عنتر فهمت أنه يقصر المحصول اللغوي على المأثور عن (العرب العرباء) وهي الأمة التي شهدت العصر الجاهلي وصدر العصر الإسلامي، وفي هذا القول رجعة إلى أقوال كانت ترى أن اللغة ختمت بالأقفال بعد هذين العصرين، وهو قول كان يجد من يطمئن إليه قبل أن تتفتح العقول إلى النظر الصادق في العصر الحديث
وأقول أن مصادر الثروة اللغوية عندنا هي ما نطق به العرب في جميع العصور وفي جميع البلاد، ولو كان فيه دخيل، وأقول أيضاً إن وجود الألفاظ الدخيلة في أي لغة يشهد لها بالحيوية، لأنه يدل على أنها أخذت وأعطت، واللغة التي تسلم سلامة تامة من الألفاظ الدخيلة لا توجد إلا في قبائل المحصورة بين جدران الجهل والركود
وعندي أنه يمكن الحكم بأن شعراء الجاهلية لم يكونوا يملكون من الثروة اللغوية مثل الذي نملك، لأنهم عاشوا في آفاق محدودة، ولأن التفوق اللغوي لم يكن من المقاصد التي يشغل بها الناس في القديم على نحو ما يشغلون في هذا الزمان
فكلمة (العرب العرباء) كلمة طنانة، ولكنها لا تنفع بشيء، فمجد العرب الحق، المجد الذي بجله التاريخ، وهو مجدهم بعد الفتوحات الإسلامية، وبعد أخذهم ما استطابوا من مواريث الشعوب
وهنا حقيقة لم تأخذ قسطها من الالتفات، وهي فضل الدخيل في إمداد اللغة العربية بالثروة لعهد الجاهلية. وبيان ذلك أن جاهلية العرب الملحوظة هي جاهلية قريش، وقريش لم تعرف حياة العزلة بسبب (البيت)، فقد جمع حولها الناس، وعرفها ما لم تكن تعرف من طرائق المعاش، وطرائف الخيال
كان للعرب في الجاهلية ما يزيد عن سبع لغات، وكان من الصعب أن يتفاهم أهل الشمال مع أهل الجنوب، فكيف ضعضعت تلك اللغات وبقيت لغة قريش؟ يرجع الفضل إلى (البيت) أولاً والى الإسلام ثانياً، ولكن كيف اتفق ذلك ولم تكن مهمة البيت مهمة لغوية ولا كانت رسالة الإسلام رسالة لغوية؟ يرجع السبب إلى أن الضجيج الاجتماعي والجدال(524/5)
الديني والسياسي مما يزيد في ثروة اللغات. ومن هنا نجد في القرآن وفي الأحاديث ألفاظاً أجنبية منقولة من اللغات الفارسية والعبرانية واليونانية والحبشية والمصرية، لأن ذلك الضجيج وذلك الجدال قضيا باقتباس تلك الألفاظ من تلك اللغات. وكذلك الحال في كل لغة تعرف أهلها إلى طوائف من الشعوب
قولوا الحق، أيها الناس
هل كان العرب الذين تلقوا القرآن يلتفتون إلى أن كلمة (سندس) كلمة فارسية وأن كلمة (اليم) كلمة مصرية؟
إن تنقية اللغات من الدخيل فكرة حديثة العهد بالوجود في أكثر بقاع الأرض، ولعلها لم تعرف إلا بسبب العصبية العنصرية، كالذي وقع حين رأى الفردوس أن تخلو (الشهنامة) من الألفاظ العربية فيما قبل، وكالذي وقع من الأتراك فيما بعد، وهذه وتلك من النزعات الشعوبية، وهي نزعات تزيد في نفرة الأمم بعضها من بعض، بلا نفع ولا غناء
وإذا جاز هجر الألفاظ المنقولة من لغات أجنبية فكيف يجوز هجر الألفاظ الأصيلة في اللغة العربية؟
أنا أشوف أن الأستاذ عنتر يجانب الصواب حين ينكر كلمة (شاف) بمعنى (أبصر) مع أن العرب قالوا تشوف بمعنى تطلع
أنا أشوف أنه أخطأ حين قال: (إن كتب التاريخ ليست متون لغة يعتمد عليها في إثبات الكلمات العربية)، فأكثر المؤرخين أدباء فضلاء، ومؤلفاتهم تعد من المراجع اللغوية
قال ابن مسكويه (وخرج الجند بالبوقات والطبول) وهو كاتب فحل يكاد يعاصر المتنبي، أفلا يكون كلامه شاهداً على أن (البوقات) كانت كلمة اصطلاحية في ذلك الحين، وهل كان يصعب على المتنبي أن يقول (أبواق) لو كانت هي الكلمة التي يريد؟
وهل نخطئ المتنبي لنصوب من نقدوه عن جهل، ولنصوب من نقلوا ذلك النقد المنحرف بلا بصيرة ولا يقين؟
وما الرأي في كلمة (مستشزرات) التي عابوها على امرئ القيس منذ اشتغلوا بعلم البلاغة إلى اليوم؟
ما الرأي وهي أفصح الكلمة في هذا البيت:(524/6)
غدائره مستشزراتٌ إلى العُلا ... تضل المدارى في مثَّنى ومُرسَل
ثَقُلت عليهم الكلمة فعابوها، مع أن ثقلها مقصود، لأنها بهذا الوصف تمثل ما أراد أمرئ القيس
ولو طاوعناهم لحذفنا من اللغة كل لفظة تعوزها النعومة واللين، وهذا مطمح لن يصلوا إليه، لأن اللفظ الوعر في موطنه مقبول ومنشود
وأنكر الأستاذ لفظة بحرة وقال إنها لفظة لا تعرفها لغة العرب، فليرجع إليها غير مأمور في القاموس المحيط
وأنكر كلمة طبلة. فهل يرى الاستغناء عنها بكلمة طبل؟
وأنكر كلمة بوقة، فهل يرجع إليها في تاج العروس؟
وأنكر كلمة ربعة، فهل يضع مكانها الربع وهي أصغر من الربع؟
وقال إن جمع صناعة على صنائع لم يرد في منظوم الكلام ولا منثوره، فهل يدفع ديناراً على كل شاهد لأظفر منه بمائة دينار أطبع بها كتاب (أدب الشواطئ)؟
أما بعد فإن مصادر الثروة اللغوية عندنا هي ما نطق به العرب في جميع العصور وفي جميع البلاد، ونحن نكره أن يكون محصولنا اللغوي محصول جيل أو جيلين، ونحن مع هذا لا نرحب إلا بالكلمات المأنوسة التي صارت نصاً في الدلالة على أشياء لا يدل عليها بغير تلك الكلمات
الكاتب البليغ والشاعر المجيد هما أعرف الناس بسرائر اللغة، وإليها يرجع الفضل في إقرار الحقائق اللغوية والأدبية ولا يجوز لمن حرم ذوق الشعر والكتابة أن يتعرض للنقد اللغوي والأدبي، فهذا مجال الذوق لا مجال النقل، وبين الذوق والنقل مراحل طوال
ومن علماء البلاغة الذين استباحوا التطاول على المتنبي وامرئ القيس؟
هل قرأتم مقدمات الكتب البلاغية لتعرفوا ما يملك بعض معلمي البلاغة من القدرة على الإنشاء البليغ
قال قائل: إن كتب التاريخ ليست متون لغة، فما رأيه في كتب الفقه الإسلامي؟
أنا أشوف أن كتب الفقه تحوي ذخائر لغوية نفسية جداً، ولعلها أدت للغة خدمات لم تؤدها كتب الأدب الصرف، لأنها أذاعت مرونة التعابير في كثير من البيئات، ولأنها حوت(524/7)
الدقائق من محاورات الناس في الأسواق
وخلاصة القول أني لا أعترف بما يسمونه عهد (العرب العرباء) ولا أدير بالاً لمن يدعو إلى الاكتفاء بما عرفت العرب العرباء، فلو بعث عرب الجاهلية لعجبوا من الثروة اللغوية في هذه الأيام، واعترفوا بأن أحفادهم نجباء نجباء
ثم ماذا، يا حضرات الأفاضل بالأزهر الشريف؟
أنتم توجبون أن يطبع المصحف بالرسم العثماني، فما حجتكم وهو رسم هجر منذ أزمان؟
أكان الخليفة عثمان بن عفان يختار ذلك الرسم لو عاش في هذا الوقت؟
وهل ترضون أن نرجع فيما نكتب إلى الخط العربي في عهد عثمان؟
كان يكفي أن تكون للمصحف نسخة تسمى النسخة التاريخية، ثم ترسم جميع المصاحف وفقاً للرسم الحديث، الرسم الذي اصطلحت عليه جميع البلاد العربية، لتسهل تلاوة القرآن على جميع الناس
ثم؟ ثم أقول إن الأدب لن يلتفت إلى حذلقة اللغويين المتكفلين، لأن الأدب هو مبدع اللغة، وهو المهيمن على تراثها الثمين.
اللغة ملك لكتابها وشعرائها وخطبائها، وليس لقراء المعاجم منها خلاق
ملكة اللغة تسمى شأن من يناقش في اللغة وليس له فيها عاطفة ولا وجدان؟
كونوا كتاباً وشعراء وخطباء قبل أن تكونوا ناقدين وإلا. . . وإلا. . . عندكم جواب هذا السؤال
محاكمة العقاد
دعتني المجلة الفلانية إلى محاكمة الأستاذ العقاد بالأسلوب الذي أريد، فقضيت بتأجيل الحكم إلى حين!
والحق أني لا أستسيغ مذهب المجلات التي ترى من البراعة الصحفية أن تؤرث الخصومات بين رجال الأقلام ليتفرج القراء، كأن الصحافة صارت ملاعب لا تكلف المتفرجين غير ملاليم!
إن الخصومات الأدبية لا تُقْتَرح، وإنما تخلقها الظروف، فليصبر المتفرجون قليلاً. ألم يسمعوا أن الله مع الصابرين؟(524/8)
نحن لا نختصم لنقدم الغذاء لأهل الفضول، وإنما نختصم لنؤدي خدمة للفكر والرأي والوجدان، وسأخاصم العقاد ويخاصمني حين تسنح فرصة يكون فيها الخصام من أوطار العقول
ما هذه الشهوة التي لا يغذيها غير عدوان بعض الأقلام على بعض؟ وما هذا الشوق السخيف إلى رؤية مناظر الحرب في غير ميدان؟
لا قيمة للخصام الأدبي إن لم ينته إلى نتائج صحاح، فإن لم يكن بد من خصومة بيني وبين الأستاذ العقاد فسأبحث عن مجال يحترب فيه المنطق، ويتصاول البيان
ولكن متى؟
ذلك إلينا لا إليكم، يا جماعة المتفرجين بملاليم لا قروش!
النقد الأدبي لن يرخص إلى الحد الذي تصورتموه، ولن يكون إلا نضالاً في ميادين ترفرف عليها أعلام الآراء والأذواق
زكي مبارك(524/9)
وفود العرب على كسرى
لأستاذ جليل
الشاعر الناثر الأستاذ محمد عبد الغني حسن في مقالته اللطيفة (الخطابة بين الحرب والسياسة) في الرسالة (521) ص (510) يشير إلى قصة (وفود العرب على كسرى) ويستشهد بكلام للحارث بن ظالم دليلاً على حذق الخطيب وسرعة خاطره. ولا ريب في أن الأستاذ قدر في نفسه صحة الحكاية. والحق - والحقيقة إن ساءت سرت - أن هذا الخبر الذي أورده ابن عبد ربه في (العقد) وصاحب (تحفة الإخلاء في كتابه أسطورة مصوغة. وقد كان هذا الضعيف أول من عالن بصوغ الخبر فقال سنة (1343):
(. . . وإن كتب العلم لتنبئنا بأن الرواة كانوا يتقربون إلى الخلفاء والسلاطين والنبهاء في الدولة برواياتهم، فكانوا يضعون الأحاديث، ويختلقون ما لم يكن ابتغاء خير يأملونه عند من يحملون سلعتهم الأدبية إليه أو أجل تبريزهم على أقرانهم برواية قول أو شعر استبدوا هم بمعرفته. وربما صاغ العلماء والأدباء الحديث لينصروا مقالة لهم أو نحلة. . . وعُدَّ من الموضوع أيضاً مقالة النعمان في النضح عن أحساب العرب وكلام الذين أوفدهم ابن ماء السماء إلى سلطان فارس فإنه مزور مختلق لم يقله النعمان ولا جماعته ولن يستجرئوا على مثله، ولن يجوز العقل أن يقعد ابن الأكاسرة لاستماع ثرثرة كل مهذار نفاج ويفرغ لشهود عجرفة المتعجرف وعنجهيته. ومن الموضوع أيضاً كلام وفود قريش على سيف بن ذي يزن، وحديث عبد المطلب بن هاشم، وحديث عبد المسيح بن نفيلة مع خاله سطيح، وحديث خنافر الحميري مع رَئِيه شُصار فإن هذه الأحاديث أعرق قول في الاختلاق. والدليل على ذلك علمي عقلي فليرجع إلى كتاب العقد والأمالي من أحب وليتأمل ذلك بعين العقل، ولا يسألنا سرد الأدلة فالموقف حرج، واللبيب تكفيه اللمحة الدالة، و (من لا يعرف الوحي (الإشارة) أحمق)
ثم جاء عالم من علماء القاهرة مشهور فأيد في مصنف له القول في اختلاق تلك الحكاية، حكاية الوفود، ولن يضير - إن شاء الله تعالى - تلك الأخبار من الوجهة اللغوية والأدبية ضائر. ومما يسر أنها لفقت والعربية بليغة فصيحة صحيحة قوية. وإن خيل أن أولئك الصواغين أو الصياغين قد أحفظوا طلاب الحقائق التاريخية بما وضعوا، فقد أحسنوا بما(524/10)
صنعوا، إذ خدموا - والحق يقال - لغة (الكتاب) وهل كان لنا هذا التراث، هذه الثروة اللغوية الثمينة لولا تلكم المصوغات المزخرفات؟
وإنا لموقنون أن القوم ما قصدوا في كثير مما لفقوا إساءة و (إنما الأعمال بالنيات) وإن أساءوا وأحسنوا فـ (إن الحسنات يذهبن السيئات)
وبعد فمن مبدع ذلك الخبر؟
ابن عبد ربه وصاحب (تحفة الأخلاء) نقله. وقد روى ياقوت في سيرة (الزبير بن بكار بن عبد الله القرشي) أن من تصانيفه كتاب وفود النعمان على كسرى
فهل صاحب هذا الكتاب هو (الصائغ) المحسن؟
قال الذهبي في (الميزان): الزبير بن بكار الإمام صاحب النسب، كان ثقة من أوعية العلم، لا يلتفت إلى قول أحمد بن علي السليماني حيث ذكره في عداد من يضع الحديث، وقال مرة: منكر الحديث
(قلت): لا يضير أن يلتفت إلى ما ذكره السليماني، وإذا ثبت قوله في ابن بكار فمن يضع الحديث النبوي يضع الحديث الأدبي
وذكر ابن خلكان وياقوت هذه القصة وخلاصتها أن الزبير دخل على محمد بن عبد الله بن طاهر فأكرمه وعظمه، وقال له إن باعدت بيننا الأنساب فقد قربت بيننا الآداب. ولما ودعه قال: إن رأيت يا أبا عبد الله أن تفيدنا شيئاً نرويه عنك
قال: أحدثك بما سمعت أو بما شاهدت؟
قال: بل بما شاهدت
قال: نعم، بينما أنا في مسيري هذا أبصرت جماعة مجتمعة، فأقبلت إليهم، وإذا برجل كان يقنص الظباء، وقد وقع ظبي في حبالته، فذبحه فانتفض في يده فضرب بقرنه صدره فنشب القرن فيه فمات، وإذا بفتاة كأنها المهاة، فلما رأت زوجها ميتاً شهقت ثم قالت أبياتاً منها:
أضحت فتاة بني نهد علانية ... وبَعلها في أكف القوم محتمل
ثم شهقت فماتت. فما رأيت أعجب من الثلاثة: الظبي مذبوح، والرجل جريح ميت، والفتاة ميتة. فلما خرج قال الأمير محمد بن عبد الله: أي شيء أفدنا من الشيخ؟(524/11)
قالوا: الأمير أعلم
قال: قوله (أضحت فتاة بني نهد علانية) أي ظاهرة، وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل اليوم
(قلت): إنها لقصة كيسة وإن فيها لفائدة وإن لم يكن مما خرف الشيخ به شيء
(ن)(524/12)
المسرح المصري
وكيف نشيده على دعائم ثابتة
للأستاذ دريني خشبة
لابد أن يكون لنا مسرح إذا أردنا أن نُدخل الأدب المسرحي في الأدب العربي، وسوف يظل الأدب العربي في مؤخرة آداب العالم ما لم يدخله الأدب المسرحي، ذلك الأدب الذي يشغل النصف وأكثر من النصف من آداب الأمم الحية التي تفرض نفسها وثقافتها وفكرها على غيرها من الأمم، وهي إنما تتم لها تلك السيطرة الذهنية بما يبذل أدباؤها المسرحيون من إنتاج عجيب لا يعرف الكسل، ويأبى إلا أن يعطي أكثر مما يأخذ، بل هو في الغالب يعطي كثيراً ولا يأخذ شياً. . .
وإن لم يكن بد من أن يكون لنا مسرح فليس الشعب وحده هو الذي يضع دعائمه، وليست الحكومة وحدها هي التي تضطلع بكل شيء فيه، وليست جهود الأفراد المتواضعة هي التي تكفل قيام هذا الصرح الذي نريد أن يكون رمز نهضتها كما هو رمز نهضة تلك الأمم التي تكتسح آدابها - عن طريق السينما والمسرح والكتب - حياتنا المصرية خاصة، وحياة الأمم العربية على وجه العموم. . . بل يجب أن تتضافر الجهود جميعاً في إنشاء هذا المسرح، على أن تكون القيادة العليا بيد الدولة مؤقتاً، وعلى أن تكون تلك القيادة العليا قسمةً بين وزارتي المعارف العمومية والشئون الاجتماعية. . . قسمةً في الاختصاص، وليست قسمة في الهدف؛ فتنشئ وزارة المعارف المعاهد الكثيرة للتمثيل لتمد وزارة الشئون بمن تحتاج إليهم من الممثلين والمخرجين ومصوري المناظر ومهندسي الإضاءة وغيرهم ممن تفتقر إليهم مسارحها التي يجب أن تنشئها في طول البلاد وعرضها لتثقيف الشعب وتهذيبه، ولنشر الدعايات الوطنية والأخلاقية التي ينبغي بثها في طبقاته
لقد آن الأوان لإصلاح الغلطة الكبرى التي وقعت فيها إحدى الوزارات الانقلابية الرجعية السابقة. . . تلك الوزارة التي سوغت لها التقاليد التي كانت تحرص عليها في جهل هو أقبح من العمى فألغت معهد التمثيل، وحرمت بذلك نهضتنا من الممثل المثقف الذي هو المادة الأولى للحياة المسرحية
لقد آن لنا أن ننظر إلى المسرح نظرة فيها جد وفيها احترام وفيها تقدير للرسالة التي يقوم(524/13)
بها بيننا رجاله الأوفياء المجاهدون
يجب أن تكفل الدولة العيش الهانئ الرغيد لكل المسرحيين من مؤلفين ومخرجين وممثلين ومهندسين حتى تضمن إخلاصهم لفنهم، وحتى لا تسلمهم آخر المطاف للفقر والفاقة، وتسلم أبناءهم للجوع والعوز
التمثيل فن ومهنة ورسالة. . . وهو لم يعد تلك المتعة الرخيصة المبتذلة التي كانت تبحث عن أبطالها بين الطبالين والزمارين والراقصين
التمثيل من أشرف المهن إن لم يكن أشرفها جميعاً، وهو لم يعد يهدف إلى إمتاع الناس فحسب، بل هو يعمل على رفع مستواهم وإصلاح حالهم بطرق لا يستطيع غيره أن يحسنها. . . فالمسرح يستطيع أن يؤدي من الخير للأمة مالا تستطيع المدرسة أن تؤديه. . . ولتكن هذه المدرسة أية المدارس شئت. . . ورب دراسة تشير من بعيد إلى أحد الأمراض السرية، تقي الناس من تعريض أنفسهم لهذا المرض، فتنجو الأمة من شروره، وتوفر على كلية الطب جهوداً تستطيع أن تصرفها إلى ميادين أخرى
ورب درامة تؤدي لأمن هذه البلاد وسلامها مالا تستطيع مائة كاملة من دور البوليس أن تؤديه؛ لأن الدرامة تعالج الجرائم قبل وقوعها، فإما أن تمتنع امتناعاً تاماً فلا يقع منها شيء، وإما أن يقع العدد القليل منها في صور مخففة. أما دور البوليس ومحاكم القضاء فتعالج الجرائم بعد وقوعها، ثم هي تعالجها علاجاً سلبياً قد ينتهي إلى شرور مضاعفة تزيد في متاعب الأمة وتعقد أمورها تعقيداً شديداً
ورب درامة ترفع من مستوى الأمة الصحي بما لا تستطيعه تلك المئات من المكاتب الصحية المنتشرة في البلاد، وذلك بما توحي به من العناية بالنظافة وإنقاذ الطبقات من عاداتها المستهجنة
ورب درامة تبث من روح الجندية والاستبسال الوطني أضعاف ما تستطيعه تلك الأناشيد الببغائية التي يرددها الجنود ترديداً أصم دون أن يفقهوا لها معنى
ومن المؤلم حقاً أن نورد هذه البراهين التي هي بالموضوعات الإنسانية أخلق لكي نقنع أنفسنا بقيمة المسرح. . . ولكن ما الحيلة وقد أشرنا في كلمة قديمة إلى انحطاط المستوى الثقافي بين رجال المسرح المصري، وما ينتهي إليه انحطاط هذا المستوى الثقافي من(524/14)
انحطاط الممثل في أخلاقه وسلوكه وعدم تقديره لملكاته أو انخداعه في تقدير تلك الملكات، وما يؤدي ذلك إليه من زراية الناس به وإزرائهم عليه وهوانه عندهم، وما يصيب المسرح من جراء ذلك من التأخر والانتكاس، بل الموت والفناء، فجادلنا بعض الأصدقاء في حقيقة المسرح، وأنكروا وجوده على الإطلاق،. وذهبوا في عدم اعترافهم به إلى أبعد حدود المغالاة. ونحن ما زلنا عند ما أثنينا به على الكثيرين من القائمين بأمر المسرح المصري، لأننا نعدهم أبطالاً شهداء استطاعوا أن يقفوا في تيار الزراية بهم حتى فتحوا أعيننا على حقيقة المسرح، وما ينبغي له من عناية وإصلاح. . . أو تجديد كامل إن اقتضى الأمر التجديد الكامل، لأن هذا لا يضيرهم في شيء، ما دامت الدولة ستعرف لهم سابقة الفضل وأولوية الجهاد، والبدء بالتضحية التي بخلت بها العائلات المحافظة فضنت بأبنائها وبناتها على المسرح الناشئ جهلاً منها وعدم عرفان بقيمته، وإن خرج بعض الشباب من أبناء أرقى الأسرات المصرية على هذا التقليد، فأقدموا إقدام الأبطال على الاحتراف المسرحي، فأعلوا من قدر المسرح، وارتفع بهم شأن التمثيل
ولقد عرضنا على القراء في كلمات سابقة بعض الخطوات التي خطاها المسرح في عدد من الممالك الأوربية بين الحرب الكبرى والحرب العالمية الحاضرة، وكان عرضنا لها بقصد الانتفاع بها في تجديد المسرح المصري، وأقام دعائمه على ضوء التجارب التي نضح بها المسرح الأوربي حتى نوفر على أنفسنا مشقة الوقوع في أخطاء لا داعي للوقوع فيها ما دام في مستطاعنا أن نهتدي بما تم من ذلك في الممالك الأخرى. وقد اتفقت الآراء على وجوب إنشاء أكثر من معهد واحد للتمثيل لتخريج الممثل المثقف الذي يجيد لغة أجنبية واحدة على الأقل، والذي له نصيبه من الثقافة العامة التي ينبغي ألا تقل عن القدر الذي يتم به الطالب علومه الثانوية، يضاف إلى ذلك ما يلقاه في المعهد من تاريخ المسرح وفن الإلقاء، وما يمارسه فيه من أداء عدد من (الأدوار) في مختلف العصور المسرحية، ومن مختلف أنواع الدرامة، إلى ما يحسن أن يعرفه أو يتقنه من أصول الموسيقى والإنشاد وما إلى ذلك مما لا تكمل ثقافة الممثل إلا به، وما ينبغي له من الرياضة البدنية والتمرن على إطلاق النار والمبارزة مما تتم به مرونة الجسم ويتفادى به ذلك الاستكراش والترهل الذي يعيب جسوم الكثيرين من ممثلينا(524/15)
ولا يعقل أن ننتظر حتى تنشئ وزارة المعارف معاهد التمثيل هذه وحتى يتخرج الممثل المثقف الذي نريده لنهضتنا المسرحية لا يعقل أن ننتظر حتى يتم ذلك وغيره لنشيد مسرحنا الجديد. . . بل ينبغي على وزارة المعارف أن تسارع فتنشئ اتحاداً للممثلين الحاضرين - ولنسمهم القدامى مع تقديم اعتذارنا - على أن تقدم لهذا الاتحاد داراً فخمة تصلح أن تكون نادياً لهم، كما تصلح أن تكون معهداً تلقى عليهم فيه محاضرات منظمة في كل ماله علاقة بفنهم وكل ما من شأنه أن يضمن لهم قدراً من الثقافة التي حرم أكثرهم منها - وفي مصر ولله الحمد عدد لا بأس به من رجال المسرح المثقفين ثقافة عالية يستطيعون أن ينظموا هذه المحاضرات، أو الدروس، وأن يلقوها على فترات متقاربة مقابل مكافئات طيبة، (ويجب أن تكون طيبة!). . . ولا بأس مطلقاً، من سبيل التشجيع للمثلين على الاهتمام بتلك المحاضرات، أن يعقد لهم امتحانات بعد مدة معينة، فمن جازها منهم منح شهادة فنية تحميه في المستقبل من كبرياء الخريجين الجدد في معاهد التمثيل، حتى يقف معهم حين يجد الجد على قدم المساواة، وبذلك لا تقع الدولة فيما وقعت فيه من قبل مع المحامين الذين لم يحصلوا على شهادة الحقوق القديمة والذين حصلوا عليها، ثم مع المدرسين الذين لا يحملون مؤهلات فنية والمدرسين الذين يحملون هذه المؤهلات
ولا محيص أيضاً من تشجيع الإقبال على معاهد التمثيل بربط درجات في ميزانية الدولة لخريجي هذه المعاهد، ولا بد من أن تكون تلك الدرجات مساوية على الأقل لدرجات الشهادات العالية، على أن ينال الممثلون القدامى ممن منحوا الشهادات الفنية الحق في التمتع بتلك الدرجات وعلى أن يمتازوا أيضاً بفرق الأقدمية تكريماً لهم وتعويضاً عن جهادهم الشاق الطويل
ولا يحق لوزارة الشئون أن تعتبر المسارح منشئات تجارية تدر الربح، بل يجب أن تعتبرها مدارس شعبية ينفق عليها وتربط لها الميزانيات الضخمة كما تنفق وزارة المعارف على التعليم الإلزامي والتعليم الأولي، وكما تساهم في نفقات التعليم العام والتعليم العالي بأكثر مما يدفعه الطالب وبأضعافه في بعض كليات الجامعة. . . مما يبلغ الملايين الضخمة سنوياً. . . يجب أن تتناول وزارة الشئون مسألة المسرح على هذا النحو من الوجهة الاقتصادية، ولتذكر أن دولة أثينا القديمة كانت تعتبر المسرح هو المدرسة الشعبية العامة،(524/16)
وكانت تخفض أجرة الدخول إلى الحد الذي لا يرهق أحد حتى أفقر أفراد الشعب، إذ كانت تلك الأجرة لا تتجاوز ثلاثة أوبولات أي ما يساوي قرشين تقريباً، وكان من حق العمال جميعاً أن يأخذوا من خزانة الدولة هذه الأجرة على ضآلتها، وذلك لكي يتسنى لهم شهود درامات آلهة المسرح الإغريقي العتيد من أمثال: سخبلوس وسوفوكليس ويوريبيدز وأرسطوفان. وكان بركليس يباهي بذلك قائلاً: (إننا هنا، وبتلك الوسيلة، نستطيع أن نخلق شعبنا على المثال الذي نريد!) ومن رأينا أن نحتذي حذو أثينا ونقتدي بما كانت تصنع، فنخفض أجور المسارح إلى الحد الأدنى، على أن يكون للعمال حق الدخول مجاناً أو بنصف الثمن أما من أين توفر الدولة ما يقتضيه ذلك من الأموال الضخمة فأمامها بلديات المدن المصرية جميعاً. لتفرض على ميزانيات تلك البلديات دفع إعانات خاصة، وعلى حسب مقدرة كل منها، لتشجيع المسرح، ولنتخذ من ألمانيا قبل الحرب الحاضرة مثالاً نحتذيه، فلقد ذكرنا في مقالاتنا السابقة أن بلدية كولونيا كانت تعين مسرحها المحلي بخمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات سنوياً، وأن قرية ثورن كانت تعين مسرحها المحلي المتواضع بألف من الجنيهات سنوياً، وقس على ذلك جميع المدن والقرى الألمانية؛ فإذا ساهمت بلديات المدن المصرية بمبلغ إجباري تدفعه سنوياً لوزارة الشئون لتوفر لديها مبلغ ضخم يربى على الملايين يفعل الأعاجيب في نهضتنا المسرحية، إذ تسدد منه جميع النفقات، كما تضمن للممثلين علاوات كبيرة، وللمجيدين منهم منحاً عالية ويسعها في الوقت نفسه أن تجزي المترجمين الذين ينقلون الدرامات الأجنبية إلى العربية، ثم المؤلفين المصريين والمؤلفين العرب الذين يمدون المسرح بثمار قرائحهم، عاملين جهدهم على خلق الدرامة المصرية أو العربية وسلكها في الأدب العربي الذي لا يعرفها. . . ولتذكر وزارة الشئون بهذه المناسبة - مناسبة المؤلفين - أن حكومة أثينا كانت تعقد المباريات بين المؤلفين اليونانين في العصر القديم - القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد - وأنها كانت تجزي الفائزين بمكافآت سخية تربى الواحدة منها على المائتين من الجنيهات عداً ونقداً
وقد يلاحظ بعضهم أن ما نقترحه هنا يدور كله عن المسرح الحكومي، وإننا لم نشر إلى وجوب وجود المسرح الحر الذي تنطلق في جوه الحرية بأوسع معانيها. . . ونحن بالطبع لم نغفل ذكر هذا المسرح إلا ونحن نعمد هذا الإغفال الآن، حتى يكثر عدد خريجي معاهد(524/17)
التمثيل، وحتى تأخذ القاعدة الاقتصادية الخاص بالعرض والطلب مجراها، فتضيق المسارح الحكومية بالخريجين وتوجد الفرصة بالضرورة لقيام المسرح الحر على مثال الـ في فرنسا والـ في ألمانيا والنمسا والمسرح الحر الإنجليزي بكل أنواعه، ثم تنشأ المنافسة البريئة بين المسرحين على أن تكون منافسة ترعاها الحكومة وتتولاها حتى لا تنتهي إلى ما انتهت إليه في أوربا من قيام المسرح التجاري الذي ينحط بجمهوره ولا يحاول الارتفاع به، لأن أقصى ما يعنيه هو الربح والربح وحده - ويستطيع المسرح الحر حين يقوم أن يعتمد على موارد ثابتة وموارد متقلبة يغطى بها نفقاته ويضمن لأصحابه أرباحاً ضخمة يسيل لها لعاب أصحاب رؤوس الأموال. أما الموارد الثابتة فتتألف من الإعلانات الحكومية ومن اشتراكات أعضاء المسرح المحليين، وذلك على نحو ما كان حاصلاً في ألمانيا قبل الحرب الحاضرة وقبل قيام الحكم النازي على وجه التحقيق. وينبغي ألا تكون الإعلانات الحكومية هبة تمنح في كثير من التردد والمن، بل يجب أن تكون شيئاً مقرراً لا تملك الحكومة رفض صرفه أو قطعه لغير أسباب لها وجاهتها، كما يجب أن تكون هذه الإعلانات ضماناً لحسن سير العمل بالمسارح في أول الأمر، فلا يتحكم المديرون في الممثلين ولا ينصبوا من أنفسهم طغاة عليهم. . . أما نظام الاشتراك المسرحي الذي يجب أن يأخذ به مسرحنا الحر عن المسرح الألماني، فهو نظام عتيد يضمن للمسرح إيراداً ضخماً يتجدد من اشتراكات ضئيلة لا ترهق الأفراد، فلقد ذكرنا أن أحد مسرحي برلين يضم أعضاء من العمال يبلغ عددهم ستين ألفاً يدفعون ستين ألفاً من الجنيهات سنوياً - أي أن العضو يدفع جنيهاً سنوياً على أقساط - مقابل شهود أربعين رواية في كل موسم تمثيلي، ومقابل امتيازات أخرى عالية منها حضور محاضرات ثقافية منظمة والحصول على مجلة شهرية تعنى بأمور كثيرة أهمها المسرح والرياضة. ونحن نستطيع أن نعدل في النظام الاشتراك المسرحي ما نشاء بحيث نبقي على روحه لينفع مسرحنا الحر من الوجهة الاقتصادية. أما الموارد المتقلبة فأهمها (إيراد الشباك) والإعلانات التجارية التي نشهد منها نماذج في دور الصور بالقاهرة اليوم، وهي تدر أرباحاً لا بأس بها تضيف إلى إيراد المسرح.
(يتبع)(524/18)
دريني خشبه(524/19)
إيضاح أخير
للدكتور محمد مندور
الحنية:
قلت أنني لا أحب اللجاجة فكيف إذا انقلبت مزيجاً من المهاترة والمغالطة. وها هو الأستاذ سيد قطب يعود إلى (مزاجي) الخاص فيدعي أن آثر شخصية لدي من شخصيات القصص التي حللتها في سلسلة (النماذج البشرية) بالثقافة، هي شخصية (فيلستيه) للكاتب الفرنسي (فلوبير)، وذلك لما بها من (حنية) كما يقول
ولكنني لم أوثر شخصية على أخرى إلا أن يريد الأستاذ قطب حملي على ذلك الإيثار. و (فلستيه) بعد ليست النموذج الوحيد الذي تحدثت عنه، فثمة (فاوست) يمثل الإقبال على الحياة والنهم إلى المعرفة عن سبيل المغامرات؛ و (دون كيشوت) الساخر من الحياة، المجالد للشر رغم إيمانه ببطلان جهاده. و (هملت) العقل النافذ نفاذاً يشل الإرادة. و (جوليان سوريل) الثائر على مواضعات الحياة الاجتماعية. و (الست) الناقم على البشر انحلال أخلاقهم. و (فيجارد) المنتقم من الحياة بالسخرية. و (إبراهيم الكاتب) الذي تعلق بالحياة حتى مجها و (جفروش) الطفل الباسم عن جسارة قلب وغيرهم ممن لا صلة لهم (بالحنية) والمزاج الخاص
لقد حللت هذه النماذج مظهراً ما فيها وهي عندي سواء، فلا محل إذن لمغالطة الأستاذ قطب وإصراره على زعمه أني لا أوثر إلا لوناً واحداً من الإحساس
ويأبى الأستاذ قطب إلا أن يضيف إلى المغالطة المهاترة بحيث لا أرى بداً من أن تكون هذه الكلمة آخر حديث لي في هذا الموضوع:
يرى الأستاذ قطب أن نوع الإحساس الذي أوثره في زعمه خاص بالنساء وبذوي الأمزجة الخاصة. وأنا لا يرهبني أن يكون إحساسي على هذا النحو، ويعصمني من تلك الرهبة جهل نفضته عن نفسي وبربرية لا يزال يسدر فيها الفطريون من الناس
لقد سمع الأستاذ قطب أستاذه العقاد يكتب مقالات يثبت فيها أن المرأة غير رجل، وأن بينهما اختلافاً سحيقاً في الطبيعة؛ وسمع الغفل من الرجال يزدرون المرأة ويعتبرونها مسبة أن يشبه الرجل المرأة في شيء، فلم ير سبيلاً للمهاترة خيراً من أن يرد إحساسي إلى(524/20)
المرأة والى ذوي الأمزجة الخاصة
وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان؛ وليس بصحيح أن بين الرجل والمرأة اختلافاً في الطبيعة. وقديماً زعم اليونان - وزعمهم الحق - أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة، بل خلقت أعضاء مختلفة ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة أو نقاء المرأة من عنصر الرجل. ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها، فليست هناك امرأة كاملة الأنوثة، وليس هناك رجل كامل الرجولة، ومن يدعي غير ذلك إنما يصدر عن عقل باطن أمرضته سخافات العقلية الاجتماعية التي نحيا بينها
واليونان لا ريب كانوا في خرافتهم هذه أنبه مني ومن العقاد، وطبعاً من الأستاذ قطب. وإنه لمن الحمق أن نحاول تنقص الرجل برد إحدى أحاسيسه إلى المرأة، والشعوب المتحضرة ترى على العكس من ذلك أن في إحساس الرجل كالمرأة موضع فخار لكبار رجال الفن والأدب. ولعل الأستاذ قطب قد سمع من العقاد أن رينان قد وصف بأعظم الصفات كفنان عندما قيل عنه (أنه كان يفكر كرجل، ويحس كامرأة، ويتصرف كطفل)
الفتات
وأما فتات الحياة (التي يعرف كبار الأدباء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة) فالظاهر أن الأستاذ قطب لم يدرك ما أردته منها. وهاأنا أبسط القول. والأستاذ قطب لابد قد فهم عن الأستاذ الكبير العقاد أن كل فن اختيار للتفاصيل الدالة. فالمصور يختار من الألوان والأضواء وتفاصيل المنظر أقدر الجزئيات على الإيحاء، وكلما سما الفنان في فنه ورهف في وسائله عرف كيف يختار تلك الجزئيات الصغيرة، وليس ثمة علاقة بين (فتات الحياة) التي يختارها (وضخامة الإحساس) الذي يريد أن يثيره، فالإحساس من الواجب طبعاً أن يكون قوياً؛ وموضع الإعجاز هو أن يثير الفنان هذا الإحساس القوي (بالفتات) التي لن يدركها الأستاذ قطب؛ بل أن جميع المثقفين في حقائق الفن والأدب ليعلمون لخبرتهم الطويلة بكافة الفنون في العالم المتمدن أن إثارة الاحساسات القوية لا يمكن أن تكون بغير فتات الحياة الأليفة الوثيقة الصلة بالبشر؛ وأما الطنطنة وأما تضخيم التوافه وأما عجيج(524/21)
الألفاظ وأما التبجح بالقوة الجوفاء فهذه وسائل العجز والادعاء والجهل
أضرب للأستاذ قطب مثلاً بسيطاً أختاره من السينما لنبعد عن الأدب العسير الفهم
في أحد الأفلام أراد مؤلف القصة أن يحمل المشاهدين على إدراك ضيق بطل الرواية لطول انتظاره أمراً يهمه فلم ينطقه بخطبة، ولم يعبث بملامحه، ولم يحمله على تمزيق ملابسه أو شد شعره، ولا حمله على الصياح في أجواز الفضاء، بل عرض على الشاشة بطلنا وأمامه منفضة سجاير خالية، ثم غير المنظر وعرض الرجل في نفس الجلسة، وأمامه المنفضة وقد امتلأت بأعقاب السجاير حتى فاضت. هذه المنفضة المليئة بأعقاب السجاير لا شك من فتات الحياة بل من هيناتها، ولكن أو ما يرى الأستاذ قطب أنها وسيلة قوية من وسائل الأداء وأنها قد حملتنا على إدراك نفسية البطل إدراكاً لن تبلغه قصيدة طويلة من قصائد الأستاذ قطب أو قصائد غيره؟
هذه هي (فتات الحياة) التي يجب أن نعرف قدرها في الفن؛ ولكننا قوم فطريون نظن الفن ألواناً فاقعة وضجيجاً خاوياً. نعم يا أستاذ قطب أنا أوثر (الأطياف الباهتة) لأنها نسيج كل فن رفيع؛ وأما (الأطياف الزاهية) فلا تسر غير البدائيين من الناس. أو لا ترى إلى زنوج أفريقيا كيف يستهويهم الأحمر القاني والأصفر الكركم؟
وأعود فأكرر أننا في سبيل الحديث عن طرق الأداء في الفن؛ وأما قوة الإحساس المثار فلا دخل له بالفتات إلا أن تكون هذه الفتات مبعث ذلك الإحساس القوي
وأما أنني أستطيع أن أستقل بالمشاعر الضخمة وبالفحولة والجهارة أو لا أستطيع فهذه دعوى لا أحب أن أناقشها لأنها صغيرة، ولسنا في مجال مبارزة أنحدر إليها ورحم الله من قال:
(أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار). ونحن نناقش مسائل فنية يدور حولها الأستاذ قطب. يدور من الخارج.
مختارات الأستاذ قطب
قلت: إنني أحب المتنبي وأرى فيه شاعراً كبيراً ويأبى الأستاذ قطب إلا أن يقول ويكرر أنني لا أحبه؛ وهو يقرن العقاد إلى المتنبي، وفي هذا ظلم للمتنبي وللعقاد، فالمتنبي شاعر والعقاد لا شأن له بالشعر، ولا أدل على ذلك من مختارات الأستاذ قطب نفسها(524/22)
لقد أتى الأستاذ قطب بنموذج للنثر المصري الجيد رثاء أحد الشبان لأمه؛ والشاب صاحب الرثاء هو الأستاذ قطب نفسه؛ واحتجاج الإنسان بنثره الخاص شيء سمج؛ وأمعن في السماجة أن يتحدث المرء عن نفسه في مناقشة الغير فيدعي أن في نثره (معاني كبيرة وأحاسيس عميقة) هذا الأسلوب ليس من آداب المناقشة، ولهذا أهمل نثر الأستاذ قطب كله وأترك له مهمة الحديث عن نفسه
وأما مختاراته الشعرية فهي أولاً لشاعر مصري كبير، وثانياً لشاعر من شعراء الشباب المصريين. فأما شاعر الشباب فهو أيضاً الأستاذ قطب ولهذا أهمله وأهمل شعره لأنني لا أطيق هذه الصفاقة، ثم أنني لا أرى من اللياقة أن أناقش أشعار التلميذ بينما لدي أشعار الأستاذ نفسه، لدي أشعار الشاعر المصري الكبير العقاد فالشعر له والأستاذ قطب في ركابه
ولنأخذ من الصور الشعرية التي أوردها الأستاذ قطب للشاعر الكبير العقاد قصيدته (الكون الجميل) (رسالة عدد 520). قال الشاعر:
صفحة الجو على الزر ... قاء كالخد الصقيل
لمعة الشمس كعين ... لمعت نحو خليل
رجفة الزهر كجسم ... هزه الشوق الدخيل
حيث يممت مروج ... وعلى البعد نخيل
قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل
وقال الأستاذ قطب معلقاً على جمال هذه الأبيات أن فيها ألفة وأنه يكاد يلمح الشاعر (متسع الحدق مغفور الفم وهو ينشق بل يلتهم ما في الطبيعة) وأنا لا أدري أي ذوق أدبي ذلك الذي يحمل الناقد على تصوير الشاعر (متسع الحدق مغفور الفم)، وهل يستطيع القارئ أن يتصور هذه الصورة القبيحة دون أن يملكه الاشمئزاز والضحك. تصور شاعراً مفتوح العينين فاغر الفم. هذه صورة أبله لا صورة شاعر
ثم أين الجمال في هذه الأبيات؟
يا لله! ما هذه الصفحة؟ أهي السحب؟ أهي الأثير؟ وهل هذه الصفحة غير الزرقاء؟ وهبها كانت غيرها أهي كالخد هذا الفضاء الرحب، الفضاء المترامي الذي تسبح فيه الروح فلا تنتهي إلى غاية. هذا الفضاء خد. وكيف تصقل الأثير، الأثير اللين الشفاف الخفيف؟(524/23)
لمعة الشمس كعين ... لمعت نحو خليل
هل يرى القارئ عين الحبيب وهي تلمع نحو الخليل فتشبه لمعة الشمس؟ لابد أنها عين حمراء تقدح الشرر وترسل اللهيب
رجفة الزهر كجسم ... هزه الشوق الدخيل
أنا أعلم أن الدخيل معناه الطفيلي فما هذا الشوق الطفيلي؟ أهو الشوق الداخلي؟ وهل ترى الجسم يهتز كرجفة الزهر؟ لو أن كانت في القلب لقلت شاعر يشارك الطبيعة بإحساسها ولكنه الجسم كله. يخيل إلي أنني أرى فيلاً يهتز بجوار وردة تتمايل على غصنها
حيث يممت مروج ... وعلى البعد نخيل
مروج ونخيل لا تخصيص فيها ولا اختيار. أين الفن في يممت نحو المروج وعلى البعد نخيل. هذا نثر لا روح فيه
وأما غاية العجب فتأخذك من قوله:
قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل
تسمع قل ولا تحفل بشيء، فتتنبه حواسك، ويستيقظ إحساسك، ويصحو عقلك لهذا التحدي القوي وتلك الشجاعة النادرة، وتحسب أن الشاعر سيخرج على قانون من قوانين الوجود أو على حقيقة من الحقائق الإنسانية الثابتة، ثم تنظر فإذا به لا يأتيك بغير هذه الجملة المبتذلة (إنما الكون جميل). وأنت تتساءل عن سر هذا القصر وذلك التأكيد فلا تهتدي إلى شيء.
هذا هو شعر الشاعر الكبير فما بالك بشعر الشاعر الصغير؟
محمد مندور(524/24)
من أدب التراجم
الخليل بن أحمد
للأستاذ طه الراوي
(تتمه ما نشر في العدد الماضي)
كتاب سيبويه من وحي الخليل
الخليل أول من فتق معاني النحو وضبط أصوله، وبسط فروعة، واستخراج علله وأسبابه، ووسع فصوله وأبوبه، وأوضح سبله، وعبد مناهجه حتى بلغ أقصى غاياته؛ ولكنهم ترفع عن التأليف فيه لأنه منهل كثر وراده فأوحى إلى تلميذه وخريجه (سيبويه) من دقائق مسائله وبنات أفكاره وأبكار تصوراته ما جعله حرياً بأن يشار إليه بالبنان، وجديراً بوضع كتابه المشهور الذي أصبح للنحاة إماماً يقتدون به ويهتدون بهديه، فمعظم ما في الكتاب مغترف من سلسال علم الخليل، ومقتبس من مصباح ذكاءه. وكلما قال سيبويه: (سألته) أو (قال) من غير أن يذكر أحداً فإنه يعني (الخليل)
كتاب العين أو (أبو المعاجم كلها)
علمنا أن الخليل قد طالت صحبته لخلص الأعراب وكثرت إقامته بين ظهرانيهم، ثم إنه كان يحج بين العام والعام، وكان يقابل في طريقه إلى مكة فصحاء العرب وأقطاب بلغائهم فاجتمع لديه كثير من مفردات اللغة وفرائد دررها، فعزم على جمع ذلك في كتاب لم يسبق إلى مثله، فرسم الخطة ورتب الأبواب على طريقة ابتدعها، وأسلوب لم يسبق إليه، وكان قد افتتح بحرف العين فسماه (كتاب العين) على عادة الكتاب في ذلك العصر، فإنه يسمون الكتاب بأول أبوابه ككتاب الجيم وكتاب الميم وكتاب الغين وكتاب الحماسة وغيرها. وهذا الكتاب أول كتاب ألف في متن اللغة مرتباً على الحروف جمع فيه الخليل 12. 305. 412 كلمة، بعضها مستعمل وأكثرها مهمل. والذي حدا به لذكر المهمل استيفاء التقاسيم العقلية لكل كلمة، فمثلاً كلمة (كتب) يحتمل في الكاف الفتح والضم والكسر ويحتمل في التاء الحركات الثلاث والسكون وثلاث في أربع اثنتا عشرة صورة فيذكر الاثنتي عشرة صورة ويقول هذه الصورة مستعملة لمعنى كذا، وهذه الصورة لم تستعملها العرب. وقد(524/25)
جمع الخليل في كتابه هذا من غرر الشواهد، ونوادر الفوائد، وضروب الحصر، ورصين القواعد، وجليل المسائل ما يعز وجوده في معجم غيره. على أنه تضاربت آراء العلماء في نسبة هذا الكتاب إلى الخليل أو إلى بعض تلاميذه أو إلى الليث. وقد ألف ابن درستويه كتاباً خاصاً في شرح هذا الخلاف واستقصى الجلال السيوطي في المزهر جميع ما دار في هذا الموضوع من أقوال. ولكن نحن لا نرتاب في أن الخليل هو الذي رسم خطط هذا الكتاب ورتب أبوابه ووضع حجر الزاوية بيده، أما أن غيره أكمله وزاد فيه فذاك أمر محتمل، ولكنه لا يدفع الخليل عن كونه المجلي في هذه الحلبة وأنه أول واضع لمعاجم اللغة مرتبة على حروف المعجم، وأن من جاء من بعده إنما اقتبس من مصباحه واهتدى بمناره. ولم يزل جمهور الأدباء وأرباب البحث لهذا العهد يظنون أن هذا المعجم الجليل اغتالته أيدي الأيام فيما اغتالت من نفائس الأسفار وجليل الآثار؛ ولكن من يمن الطالع أن عثر على نسخ منه أحد أدباء الحاضرة الهاشمية، فسعى البحاثة المشهور صاحب (لغة العرب) بمقابلة تلك النسخ وتصحيحها باذلاً الجهد في تحري الصواب على عادته، ثم شرع في طبعه ولكن بعد أن أنجز منه بضع كراريس حالت الحال، وعرضت دون ذلك أهوال. ولا ندري هل بقى لتلك النسخ من أثر بعد أن تفرقت كتب الرجل أيدي سبا ومزقت كل ممزق؟
جرى كل ذلك قبل نحو بضع وعشرين سنة
وقد سلك الخليل في ترتيب حروف الهجاء مسلكا لم يسبق إليه، ذلك أنه رتبها حسب المخارج مع تغيير طفيف فجاءت على هذا الوجه: ع ح هـ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م وا ي
قال الخليل: لم أبدأ بالهمزة لأنه يلحقها النقص والتغيير والحذف ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة، ولا في أسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين ولحاء فوجدت أنصع الحرفين فابتدأت بها ليكون أحسن في التأليف. أهـ
هل كان الخليل يقرض الشعر؟
قالوا: كان ينظم البيتين والثلاثة كما سيأتي. وروي الإثبات أنه سئل لماذا لا تقرض الشعر(524/26)
مع سعة علمك بالعربية وتبحرك في علومها؟ قال: (يأباني جيده وآبى رديئه) وهذا الجواب على إيجازه غاية في البلاغة وآية في الحكمة وحصافة الرأي
مؤلفاته
للخليل مؤلفات أبدع فيها أيما إبداع ولم يحتذ في تأليفها وتبويبها حذو من سبقه من أهل العالم. والذي يجيل النظر في سيرة هذا الرجل يتبين له أنه كان يربأ عن سلوك المناهج المبعدة في كل ما يكتب ويصنف، ولذلك كان يسلك في التأليف طرقاً خاصة يؤم فيها الناس ولا يأتم بأحد. فمن تصانيفه:
1 - كتاب العين. وقد مر بك بعض أوصافه
2 - فائت العين
3 - كتاب الإيقاع. وهو في الموسيقى العربية ويظهر من مراجعة فهارس المؤلفات في هذا الباب أن الخليل يعتبر مجلي الحلبة في هذا المضمار
4 - كتاب النغم. وهو في الموسيقى العربية
5 - كتاب الجمل
6 - كتاب الشواهد
7 - كتاب العروض
8 - النقط والشكل وقد أشرنا إليه آنفاً. وذكر الفاضل جورجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية ما نصه: (في المكاتب الكبرى في أوربا مما ينسب إلى الخليل
1 - كتاب في معنى الحروف في مكتبة ليدن ومكتبة برلين
2 - (شرح حروف الخليل في مكتبة برلين قطعة منه
3 - (جملة آلات العرب في مكتبة أياصوفيا في الآستانة
4 - قطعة من كلام عن أصل العقل في مكتبة اكسفورد (بودليان). . .)
زهده وورعه
كان الخليل من أولئك الفلاسفة الذين نظروا إلى هذا العالم نظر الازدراء، ولم تخدعهم بهرجته، ولا غرتهم زخارفه. أجل كان الخليل أحد زهاد الدنيا المتبتلين إلى الله تبتيلا.(524/27)
ومن أنصع البراهين على ذلك أن أمير الأهواز (سليمان بن علي) أرسل إليه يلتمس منه الشخوص ليقيم بحضرته ويؤدب أولاده فأخرج الخليل للرسول خبزاً يابساً وقال: كل فما عندي غيره. وما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه؟ فقال له؛
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
وكان سفيان بن عيينة يقول: من أحب أن ينظر إلى رجل من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل. وقال تلميذه النضر ابن شميل أقام الخليل في خص بالبصرة لا يقدر على فلسين وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال الطائلة
ومن أوابد حكمه:
وقبلك داوى المريض الطبيب ... فعاش المريض ومات الطبيب
فكن مستعداً لدار الفنا ... ء فإن الذي هو آت قريب
وبالجملة فقد كان الخليل إحدى حسنات هذه الأمة وقمراً من قمارها، ودرة في تاج مفاخرها
وفاته
اختلف المؤرخون في السنة التي انتقل فيها الخليل إلى جوار ربه، فذهب جمهورهم إلى أنه توفي سنة 170هـ. وقال آخرون سنة 175هـ وقال بعضهم سنة 160هـ وأغرب خطأ وقع في ذلك هو قول ابن الجوزي في كتابه شذور العقود أنه مات سنة 130هـ وهو منقول عن الواقدي. قال المحقق ابن خلكان أنه خطأ قطعاً والصواب ما أثبتناه أولاً
وكانت وفاته في البصرة مسقط رأسه فكانت البصرة مشرق هذا الكوكب الوقاد ومغربه. وقد ضمته تربتها إلى من ضمت من أعلام العلم وأقمار الفضل ونجوم الهدى ورجال التقى الذين حلوا الآداب بأنفس الحلي، ونهضوا بالمعارف الإنسانية إلى مراتب العلا، فكانوا للعلم جمالاً، وللتأريخ أبهة وجلالاً، رضى الله عنهم ورضوا عنه ولقاهم في دار رضوانه تحية وسلاماً
(بغداد)(524/28)
طه الراوي(524/29)
كتب التراجم
بمناسبة كتاب روزفلت
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
قد تستهوي الإنسان سيرة عظيم من العظماء، أو أديب من الأدباء، أو عالم له في ميدان البحث العلمي مجال، أو مغامر له في الكشف مصاولة، فيقرأ عنه ويتتبع حياته، ويجد في مثله العالي ما يستحق العرض والتجلية. ثم يحمله الإعجاب به والاتصال به - من قريب أو بعيد - على الكتابة عنه والترجمة له ووصف الظروف التي كونته، والأقدار التي أحاطت به، والأحداث التي ألمت بعصره، والمبادئ التي تحدرت عنه
وقد يكون ذلك العظيم - موضوع الترجمة - شرقياً فيجد الكاتب الشرقي فخراً في الكتابة عنه والترجمة له، مدفوعاً إلى ذلك بعامل الاشتراك في الجنس أو اللغة أو الدين. ويجد الكاتب الغربي في الترجمة له إنصافاً لعظمته وإظهاراً لفضله. وقد يكون ذلك العظيم غريباً فيجد الكاتب الشرقي لذة وفائدة لبلاده ومعرضاً لعرض المثل الصالح والأسوة الحسنة
وكتابة التراجم المطولة، والدراسات الشخصية المعتدلة المنصفة لا تتقيد بوطن ولا جنس، ولا شرق ولا غرب، ولا دين ولا مذهب
فأميل درمنجهم كتب عن حياة النبي محمد، وأميل لدويج كتب عن حياة المسيح، وفيليب جوادالا كتب عن حياة نابليون الثالث، وماريوس أندريه كتب عن حياة خريستوف كولمب ومغامراته فوق أثباج المحيط، والسير والتر سكوت كتب عن حياة نابليون بونابرت، وتوماس كارليل الإنجليزي ترجم لفردريك شيلر الشاعر الألماني، وآرام سترونج كتب عن الذئب الأطلس أتاتورك، وكربيتس كتب عن إبراهيم باشا وإسماعيل باشا المصريين
لهذا ليس عجيباً في باب التراجم أن يكتب مصري عن غير مصري، أو يترجم عربي لحياة غير عربي كما صنع الدكتور محمد حسين هيكل مع جان جاك روسو؛ وعبد الرحمن بدوي مع نيتشة واشبنجلر وغيرهما من أعلام الفكر والفلسفة؛ وحسن محمود مع ديستويفسكي، وفؤاد صروف مع روزفلت
وقد يقال أن كتاب الأستاذ فؤاد صروف عن فرانكلين روزفلت هو من قبيل السياسة. وهو كلام فيه كثير من الحق. ولكن ما أحوجنا نحن قراء العربية إلى كتب من هذا الطراز فإن(524/30)
الفقر يضرب على مكتبتنا العربية في هذا الباب لولا ما أخرج العقاد عن سعد زغلول، وما أخرج عبد الرحمن الرافعي عن الزعيم الوطني مصطفى كامل، وما وصنعه محمد فريد أبو حديد مع السيد عمر مكرم، وما كتبه كريم ثابت عن فؤاد الأول
إلا أن هؤلاء استوحوا وطنهم واستمدوا من تاريخ بلادهم وترجموا الأعلام رجالهم، ولكن فؤاد صروف استشرف إلى ما وراء العباب، واستكف ما خلف السحاب، فكتب كتابه الأول عن تشرشل (وقد كتبت عنه في حينه بالرسالة الغراء) وأخرج كتابه الثاني عن روزفلت. ولكن ذلك لا ينقص من شأن كتابه، بل على الضد من ذلك يرفع من قيمته ويغلي من بضاعته. لأن حياة روزفلت وسيرته وقصة كفاحه هي شطر من حياة الديمقراطية وقصتها. ومن منا اليوم لم تشغله قضية الديمقراطية ولم تفتنه قصتها؟ ومن منا لم تذهب نفسه اليوم حسرات على المحنة التي تبتلي الحرية اليوم بها وتصلى بنارها؟
ولا يرجع إعجاب فؤاد صروف بشخصية روزفلت إلى زمن اشتراك أمريكا في الحرب، ولا إلى اندلاع الشرارة الأولى لها حتى يقال إنه حب طارئ وإعجاب عارض؛ ولكنه حب متمكن وإعجاب قديم دفين يرجع إلى أكثر من عشرين عاماً حين رشح الرئيس روزفلت نفسه لوكالة الجمهورية. فقد تابعه المؤلف منذ ذلك الحين وشغف به وتحمس له وتقصى كل نبأ عنه أو خبر له، وطوى نفسه على متابعته والقراءة عنه حتى تهيأ له اليوم أن يخرج كتاباً قيماً في مائتين وأربعين صفحه من القطع الكبير
ولقد كانت تجري كتابة التراجم في اللغة العربية على نسق محدث ممل يعني بالسرد والقص والحكاية والجمع والترتيب والتأريخ ولا يعنى بالدراسة السيكلوجية والتحليل والنظرة العامة أو المقارنة. وكتب المؤرخ ابن الجوزي عن العمرين (ابن الخطاب وابن عبد العزيز). وكتاب يوسف بن شداد عن صلاح الدين الأيوبي خير مثال لهذا النسق العتيق
أما اليوم فقد تغير المجرى واستقام النسق وتأثر كتاب العربية بكتاب الفرنجة في هذا الباب، وأخذ عنهم طرق الدرس ومناهج البحث، وظفرت المكتبة العربية بما كتب هيكل عن النبي محمد وأبي بكر، وبما كتب العقاد عنهما وعن عمر وسعد زغلول، وبما كتب الرافعي عن مصطفى كامل؛ وفؤاد صروف عن روزفلت(524/31)
وكتابة التراجم لها في الآداب الأوربية اعتبار أي اعتبار، ولا يكاد يخلو إنتاج أديب ملحوظ من ترجمة شخصية أعجب بها وتوفر على درسها، مهما كان لون هذه الشخصية ومزاجها ومجالها الحيوي في السياسة أو العلم أو الفن. فلويس ديمييه يكتب عن ديكارت الفيلسوف، وهنري بيرو يكتب عن روبسبيير، وفرانسوا مورياك عن راسين، وراؤول أرنو عن كاميل ديمولان، وأميل لدويج عن روزفلت
ومن كتب التراجم ما يتحدث فيه المرء عن نفسه ويترجم لذاته. وهذه التراجم غير كتب المذكرات التي يدون فيها رجل ممتاز حوادثه اليومية كمذكرات اللورد جراي. وقد تكون هذه التراجم الذاتية قطعاً أدبية ممتازة كترجمة (لي هانت) لنفسه وهو من كتاب الإنجليز في القرن التاسع عشر، وترجمة دي كوينسي التي كانت سابقة على كتابه المشهور (اعترافات آكل أفيون)، وترجمة جيبون المؤرخ الإنجليزي التي حكم لها النقاد بالامتياز في نوعها وأسلوبها الذي يعد بحق مزية ذلك المؤرخ العظيم
والترجمة للأناس تتطلب فناً غير ترجمة الحيوان الأعجم. لأن ترجمة الناس تقتضي الاختلاط بهم أو السماع عنهم أو القراءة لهم أو رؤية آثارهم. أما الترجمة للحيوان فتقتضي ملاحظة أقوى وجلداً أكثر، وعلماً أغزر، وإحساساً أعمق. وتوفر الكثير من هذا في موريس مترلنك، فترجم لحياة النحل وحياة النمل بما لا يتهيأ لكاتب عادي أن يصنعه. ولكن لدويج ترك ترجمة الحيوان إلى ترجمة الذوات. . . فكتب عن (النيل) كتابه الذي جسد فيه هذا النهر الخالد كأنما كان يترجم لإنسان
ولكتابة التراجم سبيلان: سبيل الاتصال الشخصي بالمترجم له والاختلاط به والعمل معه أو تحت ظله وفي ذراه؛ وسبيل القراءة عن المترجم له وذلك لبعد الزمان بين الكاتب وبينه كما صنع ارفنج ودرمنجهم عن النبي، أو لبعد المكان كما صنع فؤاد صروف مع روزفلت اليوم
وإذا جمع كاتب التراجم بين قرب الزمان والمكان من المترجم له كان ذلك أقرب إلى الصدق وأدنى إلى الحق، وخاصة إذا كان الكاتب غير ميال إلى الهوى في حكمه أو الغرض في رأيه. ولكن بعد الزمان وحده خير ضمان للاعتدال في الحكم لبعد الكاتب عن المؤثرات والمغريات(524/32)
فسيرة ابن شداد عن صلاح الدين هي أقرب السير زماناً ومكاناً من المترجم له. فالمؤلف معاصر لصلاح الدين وقاضي عسكره وناظر أوقاف بيت المقدس في عهده. وهي سيرة صادقة إلا أن فيها بالطبع بعض الميل
جرت عادة القراء أن يبدءوا الكتب من أول فصولها. ولكنني قرأت (روزفلت) من الفصل الثالث. وهو عندي خير فصول هذا الكتاب القيم. فهنا سيرة زكية من النضال والكفاح. هنا قوة تسري من الكتاب إلى القارئ فتوحي إليه أن الضعف ليس عدة الرجال ولا أداة الأبطال. هنا جسد اصطلح عليه المرض ومشى فيه الشلل، ولكن عزيمة صاحبه كانت أقوى من أن تخضع للحوادث. هنا سيرة يقرؤها المريض فيصح، والضعيف فيقوى، والهيابة النكس فيتقدم
وقد تمد فصول الكتاب الخمسة عقل القارئ بألوان من العلم والسياسة والمعرفة بأحوال العالم الجديد ونظمه ودستوره ومجلسيه التشريعيين وحكومته ونظام اقتصاده؛ ولكن الفصل الثالث يمد قلب القارئ بالشجاعة ويملؤه بالقوة ويجعله موصول الآمال، حتى في الساعات الحرجة واللحظات العصيبة، لأن الإرادة القوية تغلب كل حرج؛ وتتحكم في كل شدة. فهذا الرجل المشلول لا ينطوي على نفسه كمن تقعدهم الأدواء ولكنه طلعة دءوب، فكيف تصده آفة جسدية عن تحقيق مطامعه القوية؟
ومزية كتاب (روزفلت) أنه ليس من الأدب المحض وحده أو الفن الصراح وحده، فليس من نوع النثر الفني المقصود لذاته؛ ولكنه فكرة قبل أن يكون كتاباً، ومعنى قبل أن يكون لفظاً، فهو طراز عال من كتب السياسة الأدبية التي اتجه إليها الكتاب في العصر الحديث. فلم يحاول فؤاد صروف فيه أن يكون عالماً فحسب أو سياسياً فحسب أو أديباً فحسب، ولكنه كان مزيجاً من ذلك كله. فهنا علم بالنظم الأمريكية، وهنا معرفة بتيارات السياسة الدولية؛ وهنا إحاطة واسعة بأشتات التاريخ الذي وعاه المؤلف في صدره؛ وهنا أدب يتجلى في تعبير مترسل مستقيم المنطق صحيح التسلسل؛ وهنا ريشة مصور لا أقول إنها عنيفة ولكنها صادقة ترسم الحدود وتوضح المعالم في بيان وجلاء
وهو كتاب يذكرني بكتاب أندريه مورواه الفرنسي في تاريخ إنجلترة
محمد عبد الغني حسن(524/33)
اليتيم. . .
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
هَاضَه الوهْنُ وَأَعْيَاهُ الأَلَمْ ... وَسَطاَ الضَّعْفُ عَليهِ وَالسقَمْ
خاشعُ الأطْرَافِ من إِعْيَائِهِ ... ما به يقْلِبُ كَفَّا أو قَدَمْ
مُتَدَاعٍ جِسْمُهُ مُنْخَذِلٌ ... لَجَّت الحمَّى عليه فاضطَرَمْ
سَاكِنُ الأوْصَالِ إِلاّ بَصَراً ... زَائِغاً يَطْرُفُ حِيناً ويَجُمْ
ابْنُ سَبْعٍ بَرَّحَ الْيُتْمُ بِهِ ... رَحْمَهُ الله لَهُ نِضْوُ يَتَمْ
كَسَرَتْ مِنْ طَرْفِهِ مَسْكَنَهٌ ... لَبِسَتْ هَيْئَتَهُ مُنْذُ فُطمْ
وَاحَنَانَاهُ لأُمٍٍ أَيِّمٍ ... طَوَتِ النَّفْسَ عَلَى خَوْفٍ وَغَمْ
فَنَضَتْ عَنْهَا الثِّيَابَ السُّودَ، لاَ، ... تظنوا جُرحَهَا الدَّامي الْتَأَمْ
بل لِدَفْعِ الشُّؤْمِ عن وَاحِدِها ... يَا لَقَلْبِ الْأُمِ إِنْ أُشْعِرَ هَمْ
وَبدَتْ في البيضِ من أثوابهاَ ... مَن رَأَى إِحدى حمامات الحرمْ
عَطَفَتْ من رَحْمَهٍ تَحْضُنُهُ ... إِنِّمَا دُنْياً الْيَتَامَى حِضْنُ أُمْ
وَمَضَتْ تَمْسَحُ بالْكَفِّ على ... جَبْهَةٍ رَهْنِ اشْتِعَالٍ وَضَرَمْ
وَلَقَدْ تَنْدَى فَتَخْضَلُّ له ... وَفْرَهٌ مِثْلِ الظَّلامَ المُدْلَهِمْ
نظَرَ الطَّفْلُ إِليهَا صَامِتاً ... وَبَعْينَيْهِ حَدِيثٌ وَكَلمْ
ليْتَ شِعْرِي مَا بهِ؟ مَا يبْتَغِي؟ ... أَبِنَفْسِ الطِّفْلِ سُؤْلٌ مُكْتَتِمْ
لو أرادَ النَّجْمَ لاحْتاَلَتْ له ... كلُّ سُؤْلٍ هَيِّنٍ مهما عَظُمْ
وَحَنَتْ تَسْأَلُ عَنْ طِلْبَتِهِ ... فَرَنَتْ عَيْنٌ لَهُ وَافْتَرَّ فَمْ
قَالَ: يَا أُمِّي، أَلاَ أَيْنَ أَبي ... لِمَ لاَ يَرْجِعُ من حَيْث ِاعْتَزَمْ
نَاشِدِيهِ وَاسْأَلِيهِ رَجْعَةً ... فَلَكَمْ يَفْرَحُ قَلْبِي لو قَدِمْ
لا تَسَل عَنْ جُرحِهَا كَيْفَ مَضَى ... مِنْ هُنا أَوْ مِنْ هُنَاَ يُنْزَفُ دَمْ
ضَمَّتْ الطِّفْلَ إليُهَا بِيَدٍ ... وَبِأُخْرَى مَسَحَتْ دَمْعاً سَجَمْ
عَزَّ مَا يَطْلُبُهُ وَاهاً لها ... كَيْفَ تَأْتِي برِفُاَتٍ وَرِمَمْ؟
قَلِّبِ الْبُؤْسَ عَلَى أَوْجُهِهِ ... لَنْ تَرَى كالْيُتْمِ بُؤْساً مُحْتَكِمْ(524/35)
يَنْشَأُ الطفلُ ولا ركْنَ له ... ركنُهُ من صغر السِّنِ انْهَدَمْ
خائضاً في لجج العيْشِ علَى ... ضَعْفِهِ، وَالْعَيْشُ بَحْرٌ مُحْتَدِمْ
تَائِهاً في ظُلَمٍ مَا تَنْتَهيِ ... حَائِراً يَخْبُطُ في تلك الظُّلَمْ
ليس في الدنيا ولا في ناسِها ... فهْوَ يحْيَا في وُجُودٍ كالْعَدَمْ
أَخَذَ اللهُ بِأَيْدِي مَعْشَرٍ ... كلُّهم سبَّاقُ غَايَاتٍ عَلَمْ
جعَلوا شأْنَ اليتامى هَمَّهُمْ ... فَالْيَتاَمَى مِنْهُمُ في مُعْتَصَمْ
أَدْركوا منهم جناحاً واهياً ... هُوَ لَوْ لَمْ يُدْرِكُوهُ لَمْ يَقُمْ
رَأَبُوا صَدْعٌا إِذَا أُهْمِلَ في ... أُمّةٍ يوَمًْا تَدَاعَتْ في اْلأُمَمْ(524/36)
أغنية
عودة إلى الوكر
للأديب حسين محمود البشبيشي
هاهنا كنا وكانت أُمنيات الحب تسري
وهنا عينك أجرت فتنة الدنيا بشعري
ما لعيني اليوم لا تشهد أوكاري وزهري
أطواها من طواني؟ أم تراني لست أدري؟
يا حبيبي عدت للوكر وأحلام الأماني
مثلما كانت وفي عينيك أسرار الزمان
تسكب الخلد بروحي وفؤادي وبياني
وتذيب الحب نجوى من معان وأغان
الندى النشوان يهفو فوق زهري لجمالك
والشعاع السمح يسري من ضميري لظلالك
والنشيد العذب يجري فوق ثغري لدلالك
وفؤادي زورق بالشوق يسري لخيالك
هاهنا المحراب يهفو للتصابي والتنادي
هاجه الشوق إلى نجوى فؤاد لفؤاد
وصلاتي لعيون ألهمتني أن أنادي
يا حبيبي لك روحي وضميري وفؤادي. . .
أيها الوكر أتنساني وتنسى ذكرياتي
حين جن الشوق في قلبي وجنت قبلاتي
وحبيب القلب هل يذكر يا وكر صلاتي
وفنائي بين عينيه كهمس في فلاة(524/37)
البريد الأدبي
إلى الدكتور بشر فارس
أخي الأعز الدكتور بشر فارس
لك حق يا أخي في تساؤلك عن هؤلاء النقاد من هم. . . ولست أدري
لماذا لم تتول الرسالة الرد وهي التي حذفت فقراً من مقالي لتوسع على
مقالات أخرى. . . أضف إلى ذلك اختلافي كل أسبوع مع رئيس
العمل بالإدارة من جراء الأخطاء المطبعية التي أخذت تضايقني
مضايقة شديدة. وكنت ألمح وأنا أراجع مقالاتي بعد صدور المجلة
نظرات أمثالك من القراء الحنابلة المحترمين الذين لا يرحمون، وهي
تهزأ بي مرة وترثي لي مرة أخرى، وأنا والله لا ذنب لي مطلقاً لو
فطنت هذه النظرات
أما سؤالك عن ابن المنجد العبقري موليير فلم أفهمه على وجهه. . . لقد وضعته في ثبت الدراميين فهل هذا خطأ؟ وهل عفا الزمان على روائعه الكوميدية الخوالد التي تجعل منه نداً لشكسبير في المآسي؟. . .
وما سؤالك عن السيد المحترم مترلنك؟ هل ظننت أنني نزعته من ثبت الرمزيين إطلاقاً؟ كلا يا أخي. . . فمعظم مقالي منصب على الذين هم أقرب أصحاب المذاهب إلى الرمزيين كما نوهت في المقال الثالث، ولو أنني قصدت إلى الرمزيين إطلاقاً لما وضعت - أو لما حشرت - بينهم إبسن زعيم المذهب الواقعي وقد كانت معظم دراماته رمزية. . .
وأما أكتبه سارس على نحو ما جاء في كلمتك، وأما تشيكوف فضم تحريفه إلى الخمس عشرة غلطة المطبعية الواردة في صلب المقال نفسه
وأما الكتب التي أعتمد عليها فلن أذكرها لك الآن حتى أنتهي من مقالاتي. وحسبك أن تتفضل بزيارتي لأكسب كنز اخوتك الثمين، أو تتفضل بزيارة دار الكتب المصرية ومكتبة الجامعة - ثم مكتبتي - لتلمس العناء الشديد الذي نلقاه في كتابة هذه المقالات وهو ما(524/38)
جربته أنت وبلوت منه الشيء الكثير. . .
أما الحر الشديد، وأما المثاقفة. . . فلست أدري كيف نسيت أيامك ببطن خبت، وكيف ما زلت تحن إلى لقاء الأسود لتقد من ضلوعها عشرات وعشرات؟
يا أخي الهزبر الأغلب، اعلم أن الزمان قد تغير، وأن وسائل الحروب قد تبدلت. وهاهي ذي أصوات الطرابيد والقنابل لا تبالي ببطن خبت وسكان بطن خبت. . . ولم يعد المحاربون يمتطون ظهور الجياد ولا ظهور البوادي إلا نادراً، فقد وجدوا ظهور الدبابات أثبت ظهراً من كل ذي ظهر. . .
ثم السلام عليك من المشوق إليك.
دريني خشبة
بوق وبوقات
يقول الدكتور زكي مبارك: إن علماء البلاغة قضوا عشرة قرون يخطئون المتنبي في جمعه (بوقاً) على (بوقات) في بيته المشهور.
ثم يقرر أنه انفرد برفع الظلم عنه بجعل بوقات جمعاً لبوقه لا بوق الخ
وأقول: إنه لا حاجة بالمتنبي الشاعر الثبت الحجة إلى من يرفع الظلم عنه بعد هذه القرون المتطاولة، لأنه لم يظلم السماع ولا القياس في جمعه هذا (بوقات)، إنما ظلم البلاغيون أنفسهم في تخطئته لقلة نصيبهم من اللغة. وأخطأ المدرسون حتى اليوم في السير على هذا الخطأ لأنهم لم يتحرروا من أسر التقليد
أما السماع فقد جاء في مادة (بوق) من المصباح المنير (البوق) بالضم معروف والجمع بوقات وبيقات بالكسر
وأما القياس فقد جاء في مادة (ابن) من المعجم نفسه. قال ابن الأنباري: واعلم أن جمع غير الناس بمنزلة جمع المرأة من الناس. تقول فيه: منزل ومنزلات ومصلى ومصليات.
علي الجندي
مثال من تداعي الأخطاء
في ترجمة المعري بالجزء الثالث من معجم ياقوت (طبع دار المأمون) إشارة إلى القاضي(524/39)
أبي المجد محمد بن عبيد الله (حفيد أخي المعري) ورد فيها من حديث الأمير أسامة بن منقذ عنه، قوله:. . . ولما فارق أهله بالمعرة وبقى منفرد (يعني في قلعة شيرز التي هاجر إليها بعد دخول الإفرنج المعرة) وكان له غلام اسمه شعيا، قال:
زمانُ غاض أهلُ الفضل فيه ... فسَقْياً للحمام به ورَعْيا
أُسارَي بين أتراكٍ ورومِ ... وفقدُ أحبهِ وفراقُ شَعيا
وقد أشار المصحح في هامشه إلى كلمة (وفراق) فقال: (في الأصل ورفاق، وهو تحريف)! والرأي عندي في ذلك أن التحريف هو ما أثبته المصحح لا ما ورد بالأصل. إذ (الرفاق) هنا بمعنى المرافقة وقد اشتق كلاهما من الفعل (رافق) كما يشتق الخطاب والمخاطبة من خاطب، والقاضي هنا يشكو صحبة خادمه شعيا ومرافقته لا فراقه
والدليل على ذلك ما قاله الأمير أسامة مستأنفاً حديثه عن القاضي: (. . . وقد سبقه إلى هذا المعنى الوزير المغربي، فإنه لما تغيرت عليه الوزارة وتغرب، كان معه غلام اسمه داهر فقال:
كفى حزناً أني مقيم ببلدة ... يعللني بعد الأحبة داهر
يحدثني مما يجِّمع عقلُه ... أحاديث منها مستقيم وجائر)
فالوزير هنا يشكو صحبة غلامه داهر الذي يرمض نفسه بأحاديثه الجامعة بين الغث والسمين، ومثل ذلك تماماً شكوى القاضي من غلامه شعيا
ذلك خطأ وقع فيه المصحح؛ وقد أنجز بسببه إلى ارتكاب خطأ آخر أبينه فيما يلي
قال الأمير أسامة متابعاً حديثه: لما بليت بفرقة الأهل، كتبت إلى أخي أستطرد بغلامي أبي المجد والوزير المغربي، اللذين ذكراهما في شعريهما:
أصبحت بعدك يا شقيق النفس في ... بحر من الهم المبرِّح زاخر
متفرداً بالهم، من لي ساعةً ... برفاق شعيا أو علالة داهر!
فقد قال الأمير مرة أخرى (برفاق) شعيا؛ وكأن المصحح لم يجرؤ هنا على معاودة التغيير، لما يؤدي إليه من إخلال بالمعنى الذي يقصده الشاعر، ثم لما قد يوهمه ذلك من ادعائه أن التحريف وقع في كلام القاضي مرة وفي كلام الأمير أسامة مرة أخرى.
فدفعه كل هذا إلى إبقاء كلمة (رفاق) على حالها ثم التعليق عليها بقوله: يعني أمثال شعيا(524/40)
وداهر؛ يزعم بهذا أن رفاقاً جمع رفيق بمعنى المثل. وواضح تمام الوضوح وجه الخطأ في كل ما ذكره.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
(الشاعر الرجيم: بودلير)
كتاب الأستاذ عبد الرحمن صدقي عن بودلير يعد من خير ما كتب عن هذا الشاعر من الدراسات الأدبية. فقد عنى الكاتب بترجمة حياة بودلير ترجمة مفصلة أقام على أساسها كل أحكامه التي قررها عن شعره، ودرس شخصية بودلير على اعتبار أنها شخصية مركبة جمعت بين الاستهتار والتصوف في وقت واحد. والواقع أن شخصية بودلير التي حيرت معاصريه وسائر الكتاب الذين تصدوا لتحليل أشعاره؛ هي شخصية لا يستعصي أمرها على التحليل النفسي، وإنما يمكن أن تدرس على ضوء البحوث السيكولوجية دراسة تكشف غامضها وتجلي سرها. وهذا هو ما قام به الدكتور (رينيه لافورج) في كتابه الموسوم باسم (هزيمة بودلير) فقد نظر إليه على اعتبار أنه ليس إنساناً سوياً وإنما هو شاذ يجب أن تحلل حالته المرضية. واستدل (لافورج) (وهو من الأطباء المختصين بالتحليل النفسي) من الدراسة التي قام بها، على أن شعر بودلير يعكس الصراع العنيف الذي كان يعانيه في قرارة نفسه. وقال إن بودلير كان مريضاً بتعذيب نفسه، فلذا كان يميل إلى تهجين سمعته وتشويه صورته، والتهويل بخبايا دخيلته. وذلك كله لم يكن إلا نتيجة الفشل الذي لقيه الشاعر في حبه مما جعل غرامه الشاذ يحبب إليه خيبته ويميل به إلى تمجيد خذلانه!
درس الأستاذ عبد الرحمن صدقي (شارل بودلير) على هذا الوضع، فجاءت دراسة موفقة طيبة. وقد نقل الكاتب إلى العربية كثيراً من أشعار بودلير، وكانت ترجمته أنيقة، وإن كانت غير دقيقة. أما عنوان كتابه، فقد كنا نؤثر أن يرفع الكاتب منه عبارة (الشاعر الرجيم) لأن هذا أليق بالدراسة العلمية.
زكريا إبراهيم(524/41)
العدد 525 - بتاريخ: 26 - 07 - 1943(/)
حكمة الصين
للأستاذ محمود عباس العقاد
في الحروب شر يتبعه أو يتخلله بعض الخير
فالشر المحض ليس له وجود، ولا سيما في الحوادث الكبيرة، ومن الخير الذي في الحروب أنها تعين على تعريف الأمم بعضها ببعض، وتعليم الناس ما لم يكونوا يعلمونه من شئون البلاد الأخرى. فلا تنتهي حرب بين أمتين أو أمم شتى إلا تركتها وهي أعرف بأحوالها ورجالها مما كانت قبل اشتعالها، ومصداق ذلك ظاهر في الحروب الأوربية القريبة، وفي كل حرب من الحروب الموزعة في جوانب الكرة الأرضية
ومنها حرب الصين واليابان
فالأوربيين كانوا يذكرون الصين في القرن الماضي فلا يذكرون بها غير الأفيون والخطر الأصفر، والحائط الأعظم الذي يحيط بها منذ قرون. وقد يذكرون الرسوم والنقوش والآنية وطرفا من الحكمة التي تنسب إلى كنفشيوس، فإذا بهم قد ذكروا عنها كل ما يعرفون، أو كل ما أرادوا أن يعرفوه!
أما اليوم فالصين بلاد مكشوفة يكتب عنها في لغات العالم كما يكتب عن البلاد الأوربية، ويقرأ الناس ما يكتبه أدباؤها وما يكتبه أدباء العالم عنها، ويحسب جمهور القراء في المسائل الصينية بمثابة الألوف بين جميع الأجناس والألوان
وأشهر أدباء الصين الذين عرفناهم بعد حربها الأخيرة هو لن يوتانج غير مدافع
آخر ما قرأناه له مقال في مجلة أمريكية عنوانه (ما بالك لست بفيلسوف؟):
خلاصته أن الشرق والغرب يجب أن يلتقيا، أو هما قد التقيا، وأن التقاءهما ضروري لأن إدراك العقل لطبيعة الإنسان قد تغير، كأنك قد عمدت إلى بناء فحطمت قواعد فهو لا يتماسك ولا يعاد تعميره ليسع العالم الجديد حتى يشترك في بنائه كل من سيأوي إليه، وهم الشرقيون والغربيون
قال ما فحواه: لما قرأت أن وندل ويلكي كان في شنكنج يوم الجمعة وعاد إلى أمريكا يوم الاثنين ذعرت!. . . أهي فسحة آخر الأسبوع بين قارتين؟ إن الشرق والغرب إذن لملتقيان
وستطرد قائلاً: إن عالماً جديداً ينبغي أن يسبك من عناصر الثقافات الإنجلوسكسونية(525/1)
والروسية والشرقية؛ وأن حكمة الشرق هنا غناء كبير
وراح يسأل: هل للصين فلسفة أو مذهب فلسفي كمذهب ديكارت مثلاً أو كانت أو غيرهما من المذاهب التي تقيم لنا بناء منطقياً شامخاً للتعريف بأسرار الكون؟
ثم أسرع يجيب: كلا، مع الفخر!
فأما (كلا) فهذا صحيح وينطبق على الصين كما ينطبق على بلاد شرقية كثيرة
وأما (مع الفخر) فهذا الذي فيه قولان أو أكثر من قولين
والواقع أن فلسفة الصين كلها تنحصر في موضوعين متقاربين: أحدهما آدب السلوك، والآخر رياضة النفس على علاج الأهواء ومسايرة الحياة
ومن كلام لن يوتانج هذا: (إنني - حين أتكلم بلسان الرجل الصيني - لا أحسب أن حضارة من الحضارات تسمى كاملة ما لم تنتقل من التكليف إلى رفع الكلفة، وترجع عن. وعي وشعور منها إلى بساطة التفكير والمعيشة، ولا أصف رجلاً بالعقل ما لم يكن قد تقدم من حكمة الحصافة إلى حكمة الحماقة، وأصبح فيلسوفاً يشعر بمأساة الحياة ثم يشعر بمهزلتها إذ لابد لنا من البكاء قبل الضحك، لأن الحزن يصير إلى اليقظة واليقظة تصير إلى ضحك الفيلسوف، وملء هذا الضحك ولا ريب الرحمة والسماحة
وهذا الذي يقوله فيلسوف الصين الحديث هو إعادة عصرية لما كان يقوله فيلسوفها القديم كنفشيوس، أو هو إعادة لكل فلسفة صينية حفظت لنا مسطوراتها إلى اليوم، وخلاصة رياضة النفس والتغلب على الأحزان
ففي بعض أيام كنفشيوس بلغت به المحنة أن أهدر دمه بين أميرين متنافسين، كلاهما يقصده بالسوء وليس منهما من يحميه. ومضت عليه سبعة أيام بغير طعام غير حساء الأعشاب التي تجمع من الخلاء، فشحب وجهه وهزل بدنه ولكنه لم يزل في مجلسه يترنم على قيثارة. فلما تبرم تلاميذه بهذه المحنه، دعاهم إليه وناداهم: (ما هذا الذي تقولون!. . . إن المصاعب هي التي تعلمنا الهداية إلى الطريق، وإنما في صبارَّة الشتاء تعرف حق المعرفة نضرة الربيع. وإن هذه الفتنة بين الأميرين لهي حظي السعيد) واستدار مترنما إلى كوخه وهو محبور الفؤاد
هذه هي الحكمة الصين بحذافيرها: آداب سلوك ورياضة نفس وخروج من ذلك كله(525/2)
بالصبر على مصاعب الحياة
ولم انحصرت حكمة الصين في هذين الموضعين؟
لأن (البلاط الملكي) فيها قديم، وما زال البلاط الملكي هو المصدر الأول لآداب السلوك وأصول الكياسة ورياضة النفس على السمت اللائق والعرف الجميل
فأصبحت القدوة المطلوبة هي الأخلاق التي تحمد في معاشرة الملوك، وأصبح قوام الحكمة كلها هو السلوك والرياضة، بل أصبح الرجل الذي يروض نفسه على مسايرة الناس واحتمال سيئاتهم مرشحا للأمارة والملك، حيث يخفق الرؤساء والكبراء
ومن نوادر التي تساق في معرض هذا المعنى نادرة في كتابهم المشهور (سفر الأسانيد) تجري على النحو الآتي: قال الأمير: من يجد لي رجلاً أرفعه إلى مرتبة الوكالة عني؟ فقال له بعض الحاشية: ابنك يا مولاي تلوح عليه مخائل الذكاء قال الأمير: كلا فإنه شكس عنيد. أتراه يصلح لما نعهده إليه؟
وقال غيره من رجال الحاشية: إن الوالي فلانا يصلح لها
فقال الأمير: كلا. لأنه يتكلم عن الأعمال العظيمة ولا يعمل شيئاً، وأمانته ظاهرة ليس لها قرار
قال بعضهم: ليس لها إلا (كون) المدير القدير
فأجابهم الأمير: كلا. كلا إنه يحيد عن القانون ويبني القناطر لنفسه إذا عم الفيضان. يعني أنه يجر النفع إلى ناحيته ولا يحفل بمصالح الناس
وعاد يسألهم أن يجدوا له رجلاً قديراً على ما يرجوه منه ولو لم يكن من النابهين الذين تقلدوا المناصب واشتهروا بين ذوي المقامات
فذكروا له رجلا من عامة الناس
قالوا للأمير حين سأل عنه إنه ابن رجل ضرير من الأجلاف أمه صخابة سبابة، وأخوه صلف شديد الخيلاء، ولكنه عاش معهم ووفق بينهم وأبطل شكايتهم ونزع منهم داعية الشر، فهم هادئون وادعون
قال: إنه طلبتي، وعلي اختباره
فحكمة الصين برعت في أدب السلوك ورياضة النفس لأنها نشأت من البلاط العريق ولم(525/3)
تزل منذ نشأتها تدور حوله وترجع إليه
لكن هذا يفسر لنا نشأة الفلسفة السلوكية ولا يفسر لنا امتناع الفلسفة الكونية، فلماذا امتنعت الفلسفات التي تبحث في نظام الكون وسر الحياة وموضع الإنسان من هذا الوجود؟
لماذا لم توجد في الصين فلسفة أو مذاهب فلسفة كمذهب ديكارت وكانت وهجل وبرجسون وغيرهم من فلاسفة أوربا في العصر الحديث؟
الكهانة العريقة إلى جانب البلاط العريق
فالكهانة العريقة تفسر لنا امتناع الفلسفة الكونية، لأن الكهانة تستأثر بأسرار الخلق وعبادة الخالق ولا تطيق المزاحمة من المفكرين في هذه الصناعة
وقد امتنعت الفلسفة الكونية في أوربا حين قامت الكهانة ودانت لها الشعوب بالصولة ورجع إليها الأمر كله في العلم والتعليم والبحث عن حقائق الأشياء
فلما زالت هذه الصولة ظهرت الفلسفات الكونية بمقدار زوالها، واشتهر القرن الثامن عشر وما بعده بتلك الفلسفات لأن العقول انطلقت في القرن الثامن عشر من حكم الكهانة العريقة واستباحت البحث فيما كان قبل ذلك حكراً موقوفاً على رجال الدين
وعلى هذا ليست المسألة مسألة فخر للصين أو لغير الصين لأنها برعت في حكمة السلوك ولم تبرع في الحكمة الكونية؛ وإنما هي مسألة موانع طبيعية عاقت الوظائف العقلية عن غايتها التي ينبغي أن تتجه إليها ولا تحتبس دونها، فهي نقص وليست بكمال، وهي ضرورة مفروضة وليست بالمزية المقصودة، كما أراد أن يصورها فيلسوف الصين الحديثة
وفي العهد الذي تتعاون فيه العقول على بناء العالم الجديد من عناصر الثقافات المختلفة ينبغي أن تتمثل لنا هذه الحقيقة ولا نغفل عنها
ينبغي أن نعلم أن حكمة السلوك ورياضة النفس إنما هي حكمة تراد لتيسير (المعيشة) أي للمنفعة والراحة
ولكن (المعيشة) ومنافعها دون (الحياة) ودوافعها
فنحن نحسن السلوك ونروض النفس لنعيش في سلام
ولكننا نفسر نظام الكون ونستجلي أسرار الطبيعة لنفقة نصيبنا من الحياة، ونتجاوز تيسير(525/4)
المعيشة إلى تحقيق معنى الوجود
والعالم الجديد ينبغي أن يكون عالم معيشة وحياة، وأن يسمو فيه الإنسان عن طلب الراحة إلى طلب الكمال، وعن تهدئة خواطره إلى توسيع تلك الخواطر وتقريب ما بينها وبين المثل الأعلى
وإلا فهو عالم (مادي) محدود وإن تظاهر بالزهد والحكمة، ولا فرق في الجوهر بينه وبين النازية والفاشية والعسكرية اليابانية، وهي العلة التي من أجلها نلتمس الخلاص من العالم المتداعي إلى العالم الجديد
عباس محمود العقاد(525/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
إلى الأستاذ إبراهيم المازني
صديقي
حدثتنا مجلة آخر ساعة أنك سئلت عني فأجبت (لو أخلى زكي مبارك كتابته من الحديث عن زكي مبارك لكان أحسن مما هو الآن)
وبمثل هذا أجاب الأستاذ عباس العقاد حين سألته مجلة الاثنين، فكيف تم التوافق بينك وبين صديقك فيما كتبتما عني؟
أهو من باب توارد الخواطر، ووقوع الحافر على الحافر، كما كان يقال؟ أم هو موصول بقصة المسيو ديبون؟. . . ومن ديبون؟ هو رجل فرنسي صنع شراباً سماه باسمه وأعلن في جميع البقاع الفرنسية، فما تسير في شارع ولا تدخل قهوة ولا تركب قطاراً إلا وجدت اسمه مسطوراً بأحرف كبيرة تبهر العيون. ولم يكتف بذلك، بل وضع لوحة مسجوعة بهذا الوضع الطريف
,
وقد هالني هذا الإسراف في الإعلان فسألت صديقاً فرنسيا عن السر فيه فأجاب:
ذلك الرجل يعرف العادة المتبعة في القهوات الفرنسية، العادة التي توجب أن يسألك غلام القهوة عما تطلب قبل أن تجلس، فتنطق بأكثر الأسماء وروداً على بالك وهو ديبون!
والأمر كذلك فيما يتصل بحياتي الأدبية، فقد قال الدكتور طه حسين مرة: إن أكثر أديب زكي مبارك في الحديث عن زكي مبارك. فلما سئل الأستاذ العقاد عني وجد هذه العبارة في باله فأجاب. ولما سئل الأستاذ المازني عني وجدها في باله فأجاب
وكذلك تعاد قصة المسيو ديبون في القاهرة بعد أن سئمها الناس في باريس
وهنا مشكلة لا أكتمها عنك، وهي الخوف منك، ولكن كيف؟
أنا لا أبالي نقد الدكتور طه حسين إياي، لأنني نقدته بمائة مقالة ومقالة، فمن السهل أن يقول الناس إنه ينتقدني وفي نفسه أشياء
وأنا لا أبالي نقد الأستاذ العقاد إياي، لأن بيننا أحقاداً تنشر في حين وتطوى في أحايين(525/6)
الخوف كله من نقدك، لأنك صديق حميم، ولن أجد من يتهمك بالتحامل حتى أطمع في أن يكذب الناس ما تقوله عني
يضاف إلى هذا أنك مسموع الكلمة، وأن الجمهور لا يفطن إلى قدرتك على قلب الحقائق. وهل أنسى ما صنعت بنفسك وبصديقك العقاد؟
كانت العيون ترى قبل عشرين سنة أنك طويل جداً، وأن العقاد قصير جداً، فشاء برك بصديقك أن تزعم أنك القصير وأنه الطويل، وما زلت تبدي وتعيد حتى آمن الناس بقولك وظنوا أنك قزم وأن العقاد عملاق!
وبنوا آدم يصدقون ما يسمعون وما يقرءون، قبل أن يصدقوا ما تحدثهم به العيون والقلوب
من أجل هذا أنقض حكمك علي، وأرجو أن تكف عني شرك وإن لم تكففه عن نفسك، فما بي حاجة إلى صديق يسير على طريق المسيو ديبون
وماذا تنكر من حديثي عن نفسي؟ وماذا ينكر صديقك العقاد؟ وماذا ينكر الدكتور طه حسين؟
هل كان أدبك يا صديقي المازني إلا دوراناً حول نفسك؟ وهل كتب الأستاذ العقاد مقالاً أقوى من مقاله الأخير في مجلة الرسالة عن الأزمة التي صاولت روحه يوم احتلال العلمين؟ وهل كتب الدكتور طه أقوى مما كتب في الحديث عن طفولته وصباه؟ إن تصوير هموم النفس وما يحيط بها من مخاوف وآمال هو أدب صحيح جعلته الكتب السماوية من شمائل الأنبياء، فما العيب في أن يكون الحديث عن النفس من خصائص أدبي؟ وهل يمكن أن أتعرف إلى الوجود قبل أن أتعرف إلى نفسي؟
وهل كانت روائع الأدب في جميع الأمم إلا أحاديث نفسية؟
ما هو سفر أيوب الذي ترجم إلى اكثر اللغات؟
ألم تكن أصالته في التعبير عن المخاوف الروحية؟
وهل كانت أكثر القصائد الخوالد إلا إفصاحاً عن عواطف ذاتية؟
قال ديكارت: أنا أفكر، فأنا إذاً موجود
,
ومن معاني هذه العبارة أن الشعور بالنفس هو أساس الشعور بالوجود(525/7)
لا موجب للمداورة في محاورتك، فأنت لم تنكر علي الحديث عن النفس بمدلوله المعروف عند رجال الأدب، ولا كان هذا ما أنكره الدكتور طه والأستاذ العقاد، وإنما تنكرون الثناء على النفس، وهذا يقع من حين إلى حين، والثناء على النفس يضايق الناس حين يكون ثناء بالحق، وإلا فمن الذي استطاع أن يكذبني حين أثنيت على نفسي؟
ولكن هل جال في خاطرك أن تبحث عن السر في هذه النزعة النفسية؟
هل حاولت إدراك الأسباب للتكبر الذي أقع فيه كارهاً غير طائع؟
لو أنك فعلت لعرفت أني لا أتكبر إلا متحدياً، والتحدي نزعة طبيعية تطوف بالنفس حين تفكر في دفع الجحود والعقوق
وإليك شاهداً من مقالك بجريدة البلاغ في مساء هذا اليوم (18 - 7 - 43)
في كلامك عن (قصة الأدب في العالم) أثنيت على رأي المؤلفين الفاضلين أحمد أمين وزكي نجيب حين قررا أن عمر بن أبي ربيعة لم يقتصر على معشوقة واحدة، وإنما تبع الحسن أنى كان، بخلاف ما كان عليه أمثال قيس وكثير وجميل
ثم تحمست للأمانة الأدبية والتاريخية فقلت:
(وهذا تفريق سبق إليه العقاد في كتابه (شاعر الغزل) وقد بسطه بسطاً وافياً وتوسع في بيانه. ولست أقول إن المؤلفين الفاضلين أخذا هذا التفريق عنه، فليس ما يمنع أن يتنبها إليه، ولكني أقول إن الأستاذ العقاد سبقهما اليه، فمن الإنصاف أن يذكر له فضل السبق ويسجل)
وهذه حماسة مشكورة، وهي من بعض صفاتك الطيبات، ومن الواجب أن نتلقاها بالترحيب، ولكن هذه الحماسة نفسها تقابل بالإنكار حين تصدر عني، كأن أقول بالرد عليك إن أول من سجل هذا الرأي في كتاب طبع ثلاث مرات هو المبارك لا العقاد
إن كتاب (حب بن أبي ربيعة وشعره) طبع أول مرة أوائل سنة 1919، وهذا الرأي مدون في أول طبعة، فهل تكره أن أثني على نفسي فأقول إني سبقت العقاد إليه بأكثر من ثلاثة وعشرين عاما؟
وما أقول إني كنت في بالك حين سجلت للعقاد ذلك السبق، فمن المحتمل أن يغيب عنك أني أول من أصدر كتاباً عن شاعر الغزل، وأن كتابي كان المنار لكل من تحدثوا عن ذلك(525/8)
الشاعر الفنان.
وأنا في الواقع أتعجب من استهانه الباحثين بالأمانة العلمية في هذا العهد، فما يمر أسبوع بدون مفاجئات غريبة تتمثل في سرقات جريئة من مؤلفاتي ومقالاتي، وأنا مع هذا أسكت لئلا يقال إني أكثر من الحديث عن نفسي!
وإصرارك وإصرار صديقك على أن هذا من عيوبي لن يصدني أبداً عن النص الصريح بأن خلائق كثيرة تنهب آرائي علانية وتعيش بها عيش السعداء
هل تذكر ما قال بعض الناس حين جازيت العقاد قتالاً بقتال؟
قالوا إنني أثنيت على العقاد من قبل، فكيف أهدم ما بنيت بالأمس؟
والاعتراض صحيح، ولكن المعترضين غفلوا عن أسباب ذلك الثناء، فقد أردت أن أشرح لطلبة السنة التوجيهية عناصر الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، وعند ذلك تذكرت أني مدرس يعلم تلاميذ، ومن واجب المدرس أن ينزه أحكامه عن الأهواء
وأثني على نفسي فأقول إن تلك الدراسات نفعت المتسابقين اجزل النفع، وقد شكا الدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ إبراهيم مصطفى من تأثير تلك الدراسات في عقول الطلاب، وقالا في دعابة إنهما سيرجوان المعارف أن يشير بأن لا تعاد تلك الدراسات في مجلة الرسالة، بعد أن ظهر أنها تكثر من عدد الفائزين!
بهذا الصدق في الأحكام الأدبية أنصفت نحو عشرين باحثاً من رجال هذا الجيل، وفيهم خصوم ألداء يشرفون بريقهم حين يسمعون اسمي
فأين من يملك من الصدق بعض الذي أملك؟
المازني وحده يستطيع أن يجاريني صدقاً بصدق، فقد وقف بجانبي وقفة كريمة، يوم الدكتور طه على صفحات الرسالة إن كتاب النثر الفني كتاب من الكتب أخرجه كاتب من الكتاب
ولكن هل يستطيع الأستاذ المازني أن ينصف خصومه كما انصف أعدائه؟
لقد يئست من إنصاف الناس، فكيف نفسي؟
في كتاب (ملامح المجتمع العراقي) ثناء على الأستاذ المازني والأستاذ الزيات، فهل قدمت نسخة من هذا الكتاب إلى أحد هذين الرجلين؟(525/9)
عز علي أن أظهر بمظهر من يمن على الصديق، واستغنيت عن تقريظ الرسالة وتقريظ البلاغ، اكتفاء بما أثنيت به على نفسي في مقدمة الكتاب!
وأعجب العجب أني أهديت كتابي إلى رجل لا ينتظر مني أي معروف، ولا أنتظر منه أي جزاء، ليكون في عملي شيء لوجه الله والوجه الوطنية، وهو رجل سبقنا إلى التشرف بخدمة العلم في العراق، ولم يحفظ له مواطنوه بعض ما حفظ له العراقيون
وأنا بعد هذا أسأل من يؤذيهم ثنائي على نفسي، أسألهم متى يجاهدون في الأدب كما أجاهد؟ ومتى يعانون في سبيل الأدب ما أعاني؟
أين الزميل الذي يقول إنه أحرص مني على الوفاء بحقوق القلم البليغ؟
أين الشخص الذي يملك الزعم بأنه نفعي؟ ومن هو المخلوق الذي يتوهم أن له ديناً في عنقي؟ ومن هو الروح الطاهر الذي يطمع في السيطرة على شيطانية روحي؟
كانت الغاية عندي أن أقيم الدليل على أن لوطني وجودية تحميه من الأباطيل، وكانت حياتي شاهداً على صحة ما ابتغيت، فما استطاعت قوة أن تهد مني، ولا جاز في وهم مخلوق أن يراني من أتباعه، ولو كان أعظم العظماء
أنا أخاطب رجلاً هو الأستاذ المازني، أخاطب رجلاً يسره أن يعلم أني أسيطر على شآبيب من الدواهي المواحق، وسأصبها على أعدائي حين أشاء
إن أدبي من صنع الله، وثقة الجمهور بأدبي من فضل الله، ولن أرتاب لحظة في أني أول كاتب وأول مؤلف وأول شاعر في هذا الزمان
هاتوا برهانكم يا خصومي إن كنتم صادقين!
هاتوا برهانكم، هاتوه، إن استطعتم الاعتصام بخيوط الأحلام أنا أثني على نفسي؟؟
هو ذلك، لأني أسهر الليل في مسامرة قلمي، ولأني أومن بأن الاعتماد على الماضي هو ثروة السفهاء من الوارثين
سنلتقي غداً وبعد غد، وسيكون صرير الأقلام أخطر من قعقعة السيوف
وإلى اللقاء، ولعله قريب!
زكي مبارك(525/10)
2 - المسرح المصري
وكيف نشيده على دعائم ثابتة
للأستاذ دريني خشبة
بينا في الكلمة السابقة ما ينبغي توفيره لجميع رجال المسرح من الكرامتين المادية والمعنوية، وبينا نصيب كل من وزارتي المعارف والشئون من مهمة إنهاض المسرح المصري وموالاة العناية به حتى يقوى عوده ويشتد ساعده؛ لأنه بذلك يكفل لنا نهضة اجتماعية ونهضة إصلاحية ونهضة في اللغة ونهضة في الأدب ونهضة في الأمن ونهضة في الذوق العام ونهضة في جميع فروع الحياة المصرية، بل نهضة الأمم العربية قاطبة في كل فروع حياتها
وبينا كذلك ما يجب على بلديات المدن المصرية جميعاً أن تساهم به مهمتهم لا تقف قط عند حدود مراعاة النظافة في مدنهم وتجميل شوارعها، وغرس الأشجار على جوانب الطرقات، وما إلى ذلك من عمليات الكنس والرش والإضاءة وتوفير المياه المرشحة وإنشاء المجاري. . . كلا. . . إن مهمة أعضاء البلديات لا تقف قط عند حدود هذا الجهاد الأصغر، كما قال مرة أحد مشجعي النهضة المسرحية في ألمانيا. . . بل إنها تتعدى تلك الحدود إلى جهاد أكبر يفوقها قيمة وجدوى. . . ذلك هو العمل على رفع مستوى الشعب وحياته الاجتماعية. . . فيجب ألا يقتصر الكنس على شوارع المدينة وحاراتها، بل ينبغي أن يتناول القاذورات المختبئة في نفوس الأفراد أيضاً. . . وإذا نجحنا في إزالة هذه القاذورات استطعنا أن نضاعف نظافة المدينة وأن نزيد في جمالها ورونقها. . . والحمد لله، فلقد تنبهت بلديات كثيرة مصرية إلى واجبها نحو الثقافة العامة، فأنشأت دور الكتب والمسارح التي اقتصرت إلى الآن على عرض الصور المتحركة، فلتكن هذه باكورة نهضة مسرحية إقليمية نحكي بها ما قام في إنجلترا من المسارح المتنقلة، الـ ومسارح المدن الخاصة التي سمينا الكثير منها في الفصول السابقة عن المسرح في أوربا
فإذا وجد المسرح المصري على هذا النحو، فلا مندوحة من أن يبدأ حياته على صورة ما من صور مسارح المستودعات، وذلك إلى أن توجد الدرامة المصرية الحقة التي يمكن أن تأخذ مكانها بين الدرامات العالمية المثالية، والتي نستطيع إخراجها على صورة تمثل مصر(525/11)
تمثيلاً صادقاً لا بهرج فيه ولا تهريج
ولما كانت مسارح المستودعات الـ تعنى بتمثيل الدرامات العالمية - أو الوطنية - التي سبق تمثيلها قبل عنايتها بإخراج روايات جديدة فسيواجه مسرحنا مشكلة نقل طائفة كبيرة من أشهر الدرامات الأجنبية إلى اللغة العربية. . . وقد عرضنا في كلمة سابقة لهذه المشكلة وأثبتنا تقصير الهيئات جميعاً في معالجتها. . . ونحن ما نزال عند الذي قلناه في هذا الصدد، ولن يضيرنا أن ينقم علينا من ينقم ما دمنا نقول الحق وننشد الخير. . . فالدولة - ممثلة في وزارة المعارف - لم تتناول بعد مشكلة الترجمة بما ينبغي لها من عناية ورعاية. . . وتقصير الدولة في ذلك يؤخر نهضتنا ويقعد بها ويؤذيها، كما يؤخر الأدب واللغة ويقعد بهما ويؤذيهما. . . وإن تأخرت نهضتنا وتأخر أدبنا ولغتنا تأخرت عجلة الحياة في مصر بل في الشرق العربي عامة
إنه لابد من حركة ترجمة واسعة شاملة للأدب الأوربي بوجه عام، وللآداب المسرحية بوجه خاص. . . يجب أن تتصل نهضتنا بأقطاب الفكر العالمي عن طريق ترجمات عربية قوية لروائعهم التي تمد مكتبتنا بثروة ليست بعدها ثروة، فيجد شبابنا ما يثقف به نفسه من ذلك الغذاء الروحي العظيم الذي سيظل محروماً منه ما دام محبوساً عن لغتنا. . . يجب أن تعرف المكتبة العربية جميع روائع شكسبير ومارلو وبن جونسون وتشايمان وشريدان وكونجريف وباري وشو وجولذورثي وويلد وباركر وما سفيلد وسينج وبيتس وروبنسن وغيرهم من أساطين الدرامة الإنجليزية
يجب أن تعرف المكتبة العربية جميع الطرف السامية التي أنتجتها قرائح آلهة المسرح الفرنسي من أمثال: موليير وراسين وهاردي وكورني وجان روترو وكوينولت وكريبلون وهوجو وسكريب وروستان
إلى متى تحرم المكتبة العربية من درامات المسرحيين الأسبان أمثال: ناهارو، ولوب دي رودا، ودي أرجنسولا، وما أبقت عليه يد العفاء من درامات سرفنتس، ثم لوب دي فيحا العظيم الذي يؤثر أنه ألف للمسرح ألفاً وثمانمائة درامة بقي منها أكثر من أربعمائة إلى يومنا هذا، ثم تروسو دي مولينا، وكالدرون، وألاركون، وزورللا، ودي جويفارا، ودي موراتان، وتامايو، وجوسي إشجاري، وبلايو، وبلاسكوإباني(525/12)
ومتى يستطيع القارئ العربي أو المسرح العربي الاستمتاع بدراما المسرحين الإيطاليين أمثال: ترسينو، تاسو، أريوستو، مكيافللي، جواريني، مافي، زينو، ألفييري، جولدوني، كارلو جوزي، متاستاسيو، مونتي، فوسكولو، مانزوني، نيكوليني، كوسا، داننزيو وبيراندللو؟
ولنذهب برقشة مقالنا بأسماء المؤلفين المسرحيين في الأمم المختلفة إلى حد المغلاة، فنذكر والحسرة تملأ جوانحنا أن المكتبة العربية محرومة من ترجمات لدرامات النوابغ الجرمانيين: يعقوب ومفلنج، وستلتس، كرشماير، لسنج، ويس، إشنبرج، جوته، كلنجر، مللر، شللر، كوزنر، شليجل، جرلبارزر، هيل، جراب، موسن، لدفج، هالم، رايموند، لوب، أنزنجروبر، سودرمان، هرشفلد، ويلدنبروخ، هوبتمان؛ كما أنها محرومة حتى من نموذج واحد من الدرامات التعبيرية التي وضعها جورج قيصر، وأرنست تللر، وسترنهايم، ويولنبرج، وهاردن، وبول إرنست، وفرانز ورفل
وماذا نقل إلى اللغة العربية من درامات المسرحين الهولنديين هامسن، وشمل، ونوهانز، ودي كو، وهايرمانز، وسيمونز ميز، وألفونس لودي؟
وماذا تعرف العربية من درامات هولبرج، وإبسن، وهيبرج، وكجار، وبراتمان، وهانز كنك النرويجيين؟
وهل تعرف المكتبة العربية درامات بلانشن، وسترند برج السويديين؟
وهل تعرف مكتبتنا الدراميين الروس ماياكوفسكي، وترتياكوف، وليولنتس
وهل نقل إلينا شيء من درامات التشكيين لفوفيك، ودفوراك، وفشر، وكارل كابل الذي مثلت جميع دراماته في جميع مسارح العالم؟
وبعد:
فلقد تعمدت أن أسلم القارئ العربي لهذا التيه المضل من أسماء كتاب الدرامة وشعرائها ليعلم إلى أي حد نحن محرومون من هذه الثروة الذهنية الهائلة التي ينعم بها أهل اللغات الأخرى لأنها مترجمة إليها. . . وأننا محرومون منها بسبب إهمال وزارة المعارف وتكاسل الجامعة وكبار الأدباء الذين لا يجدون تشجيهاً ولا حافراً
لقد أهملت مئات من كتاب الدرامة فلم أذكرهم لأنهم ممن كتبوا أقل من عشر روايات. . .(525/13)
ومع ذاك فقد ذكرت أشهر المكثرين فقط، ولو أراد أحد سرد أسمائهم جميعاً لضاق بهم نطاق أعداد عديدة من هذه المجلة. . . وكنت أوشك أن أسرد عشرات من كتاب الدرامة اليابانية التي لا تقل رونقاً عن الدرامة الأوربية، إلا أنني حسبت حساب تلك الابتسامات المرضية المتورمة التي تؤول ما أردت من ذكرها أسوأ تأويل. . . ولهذا أيضاً غضضت الطرف عن أبطال الدرامة الأمريكية في ممالكها
إن في عالم الأدب دنيا بأكملها من الررامة الراقية واكبت كل عصور التاريخ. . . فمتى تكون لنا درامة عربية ياترى؟ وكيف تكون لنا درامة عربية ونحن لم ننقل مائة أو مائتين من عشرات آلاف الدرامات العالمية لينسج كتابنا على منوالها، وليكب شبابنا على قراءتها فتترك في قرائحهم خمائر التفكير اللازمة للإنتاج الذي نطمح به ونفكر فيه، ثم هي تعلمهم كيف يقسمون فكرة الرواية إلى فصول، وكيف يقسمون الفصول إلى مناظر، وكيف يمهدون للمفاجئات، وكيف يسلسلون الحوار. . . ثم كيف يخلقون لنا درامة مصرية تعالج مشكلاتنا وتتناول قضايانا وتسلك أدبنا في كوكب الآداب العالمية الراقية التي يمثلها الأدب المسرحي أحسن تمثيل وأصدقه
إلى متى يا ترى يظل أدبنا يباباً فارغاً هكذا؟
على رسلك أيها القارئ الذي يظن بي الظن، فأنا لا أقل عنك غيرة على الأدب العربي، وبالأحرى على الأدب المصري؛ وأنا أقدر لغتي العربية بل أقدسها، لكني مع ذاك أعترف بأن الأدب العربي سيظل وسوف يظل وراء الآداب العالمية قاطبة، ما لم نسلك فيه الأدب المسرحي وآداباً أخرى غير الأدب المسرحي ليس هنا مقام ذكرها. . . والسبيل إلى أن نسلك في أدبنا هذه الألوان من الأدب لابد أن تبدأ بالترجمة. . . لنترجم عن أدباء إنجلترا وأيرلندة وفرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وأسبانيا والسويد والنرويج وتشكو سلوفاكيا وبولندة وروسيا وأمريكا. وعن أدباء اليابان والصين إن وجدنا إلى الترجمة عنهم من سبيل لنترجم عن هؤلاء وهؤلاء، فلقد أصبح لكل أمة أدب قومي مستقل كما أصبح لكل أمة مسرح قومي مستقل. . . إلا مصر وإلا الشعوب العربية قاطبة، فأدبها ما يزال أدب تراجم وقصائد ومقالات. . . وإن شدا من القصة نصيباً ضئيلاً لا غناء فيه نعد
وما دامت الترجمة هي السبيل الوحيد الآن أمامنا لنخدم أدبنا المصري وأدبنا العربي(525/14)
ولنخدم مسرحنا ولنخدم لغتنا، فماذا يقعدنا عن التوسع فيها توسعاً لا نبخل عليه بجهد أو مال، ولا يصح أن نبخل عليه بجهد أو مال، وإلا أثبتنا أننا أمة من الأميين. . . ممن يفكرون كثيراً وينفذون قليلاً. . . بل لا ينفذون شيئاً
كيف يستكثر علينا مستكثر أن نصرخ في آذان وزارة المعارف لكي تقوم بواجبها في هذه السبيل فتولي عنايتها إدارة الترجمة بها وتشجع المترجمين بالمبالغ الضخمة التي تحفزهم وتشحذ همهم
لماذا لا ترفع عدد المترجمين الفنيين إلى مائة أو مائتين بدل هذا العدد الذي لم يرتفع إلى عشرة بعد؟
لماذا لا يتنوع المترجمون فينقلون من الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأسبانية واليونانية القديمة ومن اللاتينية والروسية؟
لماذا لا ترصد المبالغ الضخمة لهذه الإدارة التي لا تقل فائدتها للبلاد واللغة والأدب والعلم عن الجامعة ولا عن مجمع اللغة ولا عن مصلحة الآثار؟
ومتى يتاح لوزارة المعارف عصر كهذا العصر الديمقراطي الذي يعنى بصالح الأمة فيهيئ لأدبها ولغتها هذا الإصلاح؟
ومتى يتاح لوزارة المعارف رجلان كالرجلين اللذين يرسمان سياستها ويقودان سفينتها، فتكون فرصة إدارة الترجمة، وفرصة الأدب العربي، وفرصة اللغة، وفرصة المسرح، وكل فرص الحياة الثقافية العامة في وجودهما، ولتعز إدارة الترجمة، وليعز الأدب العربي، ولتعز اللغة العربية، وليعز المسرح المصري ورجاله الشهداء الأوفياء؟!
. . . ليقل جاهل أو غبي كما قال من قبل، إن هذا كلام له ما وراءه. . . لا. . . فنحن بحمد الله مستعدون للارتداد إلى خطوطنا الأولى. . . ولذلك فإنا لا نبالي بأن نلاحظ على وزارة المعارف تقصيرها في العمل للنهضة الثقافية بمصر، بالرغم مما هيئ لها من زعامة أدبية خالصة كانت لمصر فيها آمال كبار؛ وما تزال لها فيها تلك الآمال الكبار. وإنا لن نمل من الكتابة في هذا والتبشير به والإلحاح فيه، حتى تبلغ منه نهضتنا ما تريد
على أن التفكير في إنشاء معاهد كثيرة للتمثيل، لابد أن يسبقه تفكير في نقل عدد كبير من الدراسات الأجنبية الرائعة لأشهر الكتاب الدراميين كي تجد المعاهد ثروتها من الروايات(525/15)
التي تتخذ نماذج لتطبيق دراساتها كما تجدها مهيأة للتمثيل. . . وإلا فهل نحن معتزمون أن تكون الدراسة في تلك المعاهد بالعربية ثم يكون التطبيق العملي بلغة أجنبية؟
وإذا نحن سلمنا بهذا ونقلنا عدداً كبيراً من الدراسات الأجنبية، لزم أن نلخص تاريخاً عاماً للمسرح في الممالك المختلفة ليلم الممثلون بتاريخ المؤلفين وتاريخ التطور المسرحي في كل منها. والقيام بعمل هذا الملخص لتاريخ المسرح يصح أن يوكل لهيئة من المترجمين، أو أن يكون قسمة بين إدارة الترجمة ومدرسي معاهد التمثيل.
(يتبع)
دريني خشبة(525/16)
كيف بدأ الإصلاح في الأزهر
وكيف نصل الآن إليه
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كلما صرفت نفسي عن الكلام في إصلاح الأزهر عاودها الحنين إليه. وكيف أنسى عقيدة أشربت حبها منذ الطلب، ومضى على جهادي فيها أكثر من عشرين عاماً، ولقيت فيها من العنت ما لقيت، وبذلت من التضحية ما بذلت، خالصاً لوجه الإصلاح، لا أبتغي بذلك عوضاً، ولا أقصد أن أجرب مغنماً
وقد قرأت ما كتبه صديقي الأستاذ الجليل محمد المدني تعليقاً على محاضرة صديقي الأستاذ الكبير محمود شلتوت، فوجدتهما يرجعان بقاء الأزهر على جموده في هذا العهد إلى الكتب القديمة، لأن الأزهريين لا يزالون يعولون عليها في جميع مراحل التعليم، ولا تزال الدراسة في المعاهد الدينية متجهة إلى شرح ألفاظها، وتضيع الزمن في مماحكاتها اللفظية التي لا طائل تحتها. وقد ذكرني هذا بما نشرته في أوائل هذا العهد على صفحات مجلة الرسالة وغيرها، وذلك حين قمت بنقد ما يشكوان الآن منه بعد فوات الوقت، فغضب لذلك من كان يناصر هذا العهد لغير الإصلاح، وكان لهذا الغضب أثره في حرماني من بعض حقوقي، فقبلت ذلك راضياً، وصبرت عليه إلى وقتنا هذا في غير شكوى ولا تألم، لأن من ينصب نفسه للجهاد لا تؤلمه التضحية، وقد يسر بها كما يسر أصحاب اللبانات بقضائها. ولو أن الصديقين الفاضلين ضما صوتيهما إلى صوتي في ذلك الوقت لكان لذلك منا شأن آخر، ولم ينظر إليه تلك النظرة التي قوبل بها صوتي، لأنهما كانا محل الثقة من رجال هذا العهد، وكانت كلمتهما مسموعة عندهم
وما علينا من هذا كله، فما نريد الآن إلا أن نبين كيف نصل الآن إلى إصلاح الأزهر، وقد مضى على معالجته نصف قرن أو أكثر، وهو ما يقرب إلا ليبعد، ولا يسهل أمره إلا ليعسر. وهانحن أولاء الآن لا نزال كما كنا قبل معالجة ذلك الإصلاح، نألف الجمود ونعض عليه بالنواجذ، ونقف من الإصلاح الذي يقضي على هذا الجمود موقف المعارض المعاند. ولا يزال اللذين يؤمنون بيننا بهذا الإصلاح يعدون على الأصابع، وليس لديهم من القوة ما يمكنهم أن يقضوا به على ذلك التعصب للجمود، وقد بذلوا من التضحية في(525/17)
الإصلاح ما بذلوا، ولكن التضحية وحدها لا تفيد في القضاء على التعصب، وإنما يفيد في ذلك القوة الغالبة، والسلطان القاهر، والتاريخ على ذلك شاهد عادل
ومن ينظر إلى بدء الإصلاح في الأزهر يجده لم يتم إلا بتلك القوة، ولم يأخذ سبيله فيه إلا بعد أن تدخلت الحكومة في أمره، وقد كان تدخلها في ذلك بعد أن لجأ إليها المصلحون من رجال الأزهر، وأقنعوها بصواب ما يدعون إليه من الإصلاح، ولولا تدخلها في ذلك ما خطا الأزهر في الإصلاح تلك الخطى، ولبقى إلى وقتنا قابعاً في عزلته، راضياً بالانكماش الذي كان راضياً به، ولم يكن هذا الانكماش في شيء من ديننا، وإنما هو من الرهبانية التي أباها الإسلام لأهله
وكان الذي قام بإقناع الحكومة بذلك هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فقد ذكر السيد محمد رشيد رضا في تاريخه أنه لما جلس عباس باشا حلمي على كرسي الخديوية تجددت للبلاد المصرية آمال، وتوجهت إلى أعمال يقصد منها إزالة الاحتلال، وكان الشيخ محمد عبده يرى أن إزالة الاحتلال لا يمكن أن يحل بوسيلة السياسة إلا باتفاق الدول، وأن الرجاء في اتفاقهم على ذلك بعيد، فأراد أن يكون حظه من حب الخديو للعمل السعي في إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية والأوقاف، فاتصل به وحظي عنده وكاشفه برأيه في إصلاحها، فقال له: إن لدى أفندينا هذه المصالح الثلاثة العظيمة، فيمكنه أن يصلح الأمة كلها بإصلاحها، وهي دينية ويجب المبادرة بإصلاحها. ثم ذكر له كليات هذا الإصلاح، ولم يخرج من عنده حتى أقنعه به
فمن هذا الوقت أخذت الحكومة في إصلاح الأزهر، وقد بدأت أولاً بتأليف مجلس إدارة للأزهر مؤلف من أكابر علماء المذاهب الأربعة، وأضيف إليهم الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان على أنهما عضوان من قبل الحكومة، فسار هذا المجلس بهمه صادقة في إصلاح الأزهر، وسلك في ذلك سنة التدرج ليأمن الاصطدام بأعداء الإصلاح، ويأخذ الأزهريين به شيئاً فشيئا، وكانت الحكومة من ورائه ترعاه بالمساعدة، وتصد عنه كيد هؤلاء الأعداء، وتأخذهم بالشدة إذا جنحوا إلى الثورة، حتى لانوا واستكانوا. ونجح هذا المجلس في إقامة الدعائم الأولى للإصلاح، فألف أهل الأزهر النظام في أعمالهم ودروسهم، وأقبلوا على دراسة العلوم الحديثة التي كانوا ينفرون من دراستها(525/18)
وكان الشيخ محمد عبده يرى أن ما نجحوا فيه من ذلك يجب أن يكون وسيلة لا غاية، لأن الإصلاح الحقيقي لا يصح أن يقف عند هذه الحدود، بل يجب أن يتعداها إلى فتح الأذهان المقفلة في الأزهر، وكسر قيود التقليد في العلوم القديمة، حتى تدخلها آثار التجديد، وتخلع تلك الأثواب البالية، وتعود إلى ما كانت عليه علوماً تفتح العقول، وتربي العلماء المجددين، والأئمة المبرزين. وقد سأله السيد محمد رشيد رضا عن رأيه فيما قاموا به من إصلاح الأزهر، فذكر أنه لم يحصل شيء من الإصلاح يذكر إلى ذلك الوقت، وأنه أراد أن يبدأ بأعمال عظيمة في الإصلاح اغتناماً للفرصة، فأشير عليه بوجوب التدرج في الإصلاح، وأنه لابد له من المسايرة، وإن كان يخشى أن تضيع الفرصة بما يسمونه التدرج
وقد أتى القوم بعد الأستاذ الإمام فساروا في ذلك على أنه غاية لا وسيلة، ووقفوا عند هذه الحدود التي لا يصح أن يقف عندها الإصلاح، فلم ينهضوا بالأزهر إلى ما يرجى له في هذا العصر، وبقيت علومه القديمة في أثوابها البالية التي تزهد الناس فيها، وتجعلها مماحكات لفظية لا فائدة في دراستها. وقد نبهتهم إلى ذلك بكتابي (نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف) فقامت علي قيامتهم، ولم تهدأ ثائرتهم إلا بعد أن أنزلوا بي من العقاب ما أنزلوا، وكانوا يريدون عزلي من المعاهد الدينية، فتداركني لطف الله تعالى، وبقيت إلى وقتنا هذا مخلصاً لعقيدتي لا يثنيني عنها ما يفوتني بسبب إخلاصي لها
وقد أراد أستاذنا الشيخ المراغي في عهده الأول أن يصل بالإصلاح إلى هذه الغاية التي أرادها الأستاذ الإمام، وأن يخطو في الإصلاح خطوة جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، ولا يبالي بما تحدثه من ضجة وصريخ، فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة، ولكنه اعتزل منصبه بعد فترة وجيزة
وهاهو ذا قد عاد إلى منصبه مرضياً عنه كل الرضا من ولي الأمر، فما عليه إلا أن يستغل الفرصة السانحة كما استغلها الأستاذ الإمام، ويستدرك بها ما فاته في المرة الأولى، وقد هيئت له أسباب النجاح، ومد له في منصبه حتى ذلت له العقبات، وزال ما كان يعترض تلك الخطوة الجريئة في الإصلاح
عبد المتعال الصعيدي(525/19)
أقوياء الأبدان في العصور الإسلامية
للأستاذ كوركيس عواد
للمؤرخين روايات ونوادر كثيرة بشأن بعض جبابرة الناس الذين أوتوا من ضروب القوى البدنية، ما أبقت لهم ذكراً وشهرة في صحائف الكتب. ونحن نأتي في هذا المقال بشيء مما انتهى إلينا من طرائف أخبارهم في ميادين البطولة. فمن ذلك ما ذكر عن مبلغ قوة الأمين، سادس خلفاء بني العباس (193 - 198=809 - 813 م) من أنه كان (في نهاية القوة والشدة والبطش والبهاء والجمال، إلا أنه كان عاجز الرأي ضعيف التدبير غير مفكر في أمره، ويروى أنه اصطبح ذات يوم وقد كان خرج أصحاب اللبابيد والحرب على البغال، وهم الذين كانوا يصطادون السباع، إلى سبع كان بلغهم خبره بناحية كوني والقصر، فاحتالوا في السبع إلى أن أتوا به في قفص خشب على جمل بختى، فحط بباب القصر وأدخل، فمثل في صحن القصر والأمين مصطبح. فقال شيلوا باب القفص وخلوا عنه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه سبع هائل أسود وحش، فقال: خلوا عنه، فشالوا باب القفص، فخرج سبع أسود له شعر عظيم مثل الثور، فزأر وضرب بذنبه الأرض، فتهارب عنه الناس، وغلقت الأبواب في وجهه، وبقى الأمين وحده جالساً في موضعه غير مكترث بالأسد، فقصده الأسد حتى دنا منه، فضرب الأمين بيده إلى مرفقة أرمنية وامتنع منه بها، ومد السبع يده إلى الأمين، فجذبها الأمين وقبض على أصل أذنيه وغمزه ثم هزه ودفع به إلى الخلف، فوقع السبع إلى مؤخرة ميتاً. وتبادر الناس إلى الأمين، فإذا أصابعه ومفاصل يده قد زالت عن مواضعها، فأوتى بجابر، فرد عظام أصابعه إلى مواضعها، وجلس كأنه لم يعمل شيئاً. فشقوا بطن السبع، فإذا مرارته قد انشقت على كبده)
ونظير ذلك ما عرف من تناهي قوة الخليفة العباسي المعتصم (218 - 227=833 - 842م)، فإنه (لم يكن في بني العباس من قبله أشجع منه ولا أتم تيقظاً في الحرب ولا أشد قوة. قيل أنه اعتمد بإصبعه السبابة والوسطى على ساعد إنسان فدقه. وكان يلوي العمود الحديد حتى يصير طوقا، ويشد على الدينار بإصبعه فيمحو كتابته)
ومثل ذلك ما تناقله بعض المؤرخين بصدد قوة المعتصم ومتانة جسمه، وإليك الخبر: (قال ابن أني دؤاد: كان المعتصم يخرج ساعده إلى ويقول: يا أبا عبد الله، عض ساعدي بأكثر(525/20)
قوتك، فأقول: ولله يا أمير المؤمنين، ما تطيب نفسي بذلك، فيقول: إنه لا يضرنين فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلاً عن الأسنان)
وزاد السيوطي على الخبر المتقدم ما هذا نصه: (وقال نفطويه: وكان (المعتصم) من أشد الناس بطشاً، كان يجعل زند الرجل بين إصبعين فيكسره)
وروي الخطيب البغدادي أن المعتصم (انصرف يوماً من دار لمأمون إلى داره، وكان شارع الميدان منتظما بالخيم فيها الجند. فمر المعتصم بامرأة تبكي وتقول: ابني ابني! وإذا بعض الجند أخذ ابنها. فدعاه المعتصم وأمره أن يرد ابنها عليها، فأبى. فاستدناه فدنا منه، فقبض عليه بيده، فسمع صوت عظامه، ثم أطلقه من يده فسقط، وأمر بإخراج الصبي إلى أمه)
ومما حكاه ياقوت الحموي عن ابن زهر الطبيب الأندلسي الشهير، المتوفى سنة 595 أو 596هـ (1198 - 1199م)، أنه (كان شديد البأس، يجذب قوساً مائة وخمسين رطلاً بالاشبيلي، وهو ست عشرة أوقية). وهذا الخبر عينه نقله ابن أبي أصيبعة بأن زاد في التعريف أن (كل أوقية عشرة دراهم)
ونظير ذلك ما روي عن بكتمر السلاح دار الظاهري المنصوري، المتوفى سنة 703هـ (1303م) من أنه كان (حسن الرمي، يرمي على ستة وثلاثين رطلاً بالدمشقي)
ومثلهما في هذا الباب، أنس بن كتبنا الملقب بالمجاهد، المتوفى سنة 723هـ (1323م)، فقد (عانى الفروسية ورمى النشاب، حتى صار أوحد عصره فيه، يقال رمى على قوس زنة مائة وثمانين رطلاً)
وقد عرف غير واحد من هؤلاء الأبطال الأشداء، فكان من جملتهم كستاي أمير السلاح المتوفى سنة 720هـ (1320م)، فأنه (كان شديد البأس قوى البدن، كان يأخذ العظم الكبير من الشاة فيكسره بيده قطعتين) ومن الغرائب في هذا الباب، ما حكي عن قطيلجا بن بلبان الجوكندار، المتوفى سنة 720هـ (1320م)، من أنه (كان فارساً بطلاً خفيف الحركات، يقال أنه ساق فرسه، فأخذ نصف سفرجلة من غصنها، وبقى نصفها الآخر مكانه)
ومثله في هذا الميدان ما نقله ابن رافع السلامي في ترجمة عبد الرحمن بن عبد المحسن بن عمر بن شهاب بن علي الواسطي، الذي كان حياً سنة 728هـ (1327م) من (أنه قوي شديد البطش، يضرب الأجرة بيده فتصير فلقاً، ويضرب الجوزة يكسرها. . . قال أبوه:(525/21)
ودخل اللصوص داره وأخذوا المتاع، فتركهم حتى خرجوا ومشي خلفهم إلى الصحراء فعقر منهم واحداً وهرب الباقون)
وممن وهب قوة بالغة واشتهر بأمور من هذا القبيل، أحمد ابن أبي بكر بن محمد بن محمود الحلبي، المتوفى سنة 754هـ (1353م) فقد (كان قوي اليدين جداً، حتى كان يأخذ الحية فيحملها بذنبها ويرفعها إلى فوق ويقصفها إلى أسفل ويرميها وقد انقطع وسطها وانخلعت فقرات ظهرها)
ونظيره في هذا الأمر، أبو بكر زكي الدين الخروبي رئيس التجار بالديار المصرية، المتوفى سنة 787هـ (1385م)، فقد كان أبداً شديد القوى. حكى لنا أنه كان يقبض على الركب الحديد فتتعصر رجل الراكب)
(بغداد)
كوركيس عواد(525/22)
من ميدان الحياة
للأستاذ شكري فيصل
هذه الأماني التي تعتادني اليوم. . . ما بالها تزدهر في خاطري من جديد، وكنت أحسب أنها الفرقة التي لا رجعة وراءها، والهجر الذي لا لقاء بعده، والأسباب التي انقطعت فلا سبيل إلى صلتها؟ وما أنا وهذه الأماني التي تتفيح في أعماقي من جديد مع الورد الناشيء، وتنطلق في عالمي مع الربيع الطلق، وتتألق في دنياي مع الزهر النير، وكنت حسبتني انصرفت من دنياي الكبرى لأعيش في دنيا الناس الضيقة، وخرجت من عالمي الفسيح لألقي هذا العالم المتقارب، وهجرت الأرض الخصبة ليدمى كفاي وقدماي بالفأس القاسية والأرض الغليظة. . . وما رجعتي إلى رؤاي هذه؟!. . . كانت لي معها ليال أزهى من النور وأوضح من الصبح. . . وأيام أنضر من الورد وأحلى من الربيع. . . لكأني أذكر الساعة أوديتها الخضر العامرة، وجنباتها الغر الزاهرة. . . وهذه الفضة فيها كالحصى. . . وهذا الصليل كالأمواه. . . وهذا الذهب المنتشر كأنه أوراق زهر الدراق. . . وذلك الزمرد الذي يطرز حواشيها كأنه أعشاب الجنة. . . لكأني أثب معها الساعة في تطواف بعيد، لا أحس له الجهد، ولا ألقى فيه العناء، ولا أكاد أمس الأرض إلا المس الهين الرقيق. . فأجوز السهل والجبل، وأمر بالهضبة والوادي، وأطوي البيد الفساح، ويحملني النهر على سرير ناعم من نسماته اللطاف، ويصوغ لي البحر فلكا طيعة من أمواجه الخفاف، وينشر لي الأفق بساطه المسجدي. . . أكان الجبل إلا السبيل المذلل المنقاد. . أكانت الصحاري إلا المسالك المذهبة المبسوطة؟ أكان العالم إلا جنة من السحر الحلال؟!
تلك ليال وأيام. . . ما أمرها، تطرقني مبكرة، وتسعى إلي هذا السعي الهادئ مع مولد الفجر. . . تنشر لعيني الصور، وتلقي في أذني الأحاديث، وتفجر في قلبي الأصم ينابيع متدفقة من الذكريات. . . أتراها تريد أن تفسد علي حياتي بالنعيم، وتثير مني عاطفتي بالذكرى، وتنال من بعضي ببعضي. . . أتراها تود أن تطفئ ظلماتي السود بمشاعلها المتقدة، وتخفت أنفاسي الخرس بأغانيها العذبة، وتطمس أنفاسي الباردة بأنفاسها المشتعلة؟
. . . وما أنا وهذه المواكب التي تتهادى من أمامي، وهذه الحسناء التي تنظر إلى. . . لكأني عشت معها دهراً طويلاً. . . أذكر. . . لقد كان بيني وبينها عهود! وكان لها في(525/23)
عنقي ذمم، وكان لي في رقبتها وجائب. . . ثم. . . ألم تكن من بيننا فرقة، فتتاركنا على غير شيء. . . كأنما لم ترع طفولتي بالهدهدة الناعمة، ولم ترف على فتوتي ظلالها الهادئه، ولم تكسب في قلبي خمرها المسكرة. . . وكأن لم يكن بين دمشق والقاهرة أنيس، ولم يسمر في مرابع الجيزة سامر، ولم تهتف في دمشق هواتف، ولم تثر في الغوطة أصداء. . . فما بالها اليوم: هذه المواكب توحش صمتي السادر بالنشيد، وتفزع أمني القلق بالسلام، وتعشي عيني المظلمتين بالجمال، وتفسد علي مقامي الخشن بالموكب اللاهي؟!. . . أتراها تبتليني من جديد بسحرها العابث؟! تلك كواكب وأغان وأناشيد قد خلت. . . فما مثارها عندي اليوم، ومالي من موكب وأغنية ونشيد. . .؟
وهذه الذكريات التي تغزوني فتلح علي وتأخذني من بين يدي وخلفي. . . ما أنا وهي وقد استرقني حاضري، فإذا هو علي مطبق لا ينفرج، رتق لا ينكشف، ضيق لا يكاد يتسع لغير هذا الذي أنا فيه؟ وما أنا فيه إلا الآلة الصماء تغدو مطلع النهار مع الصباح لتعود في صفرة اليوم مع المساء، وتظل على ذلك تحرك في غير حراك، وتدور على غير حس، وتمضي وكأنما تدفعها يد قادرة إلى غير ما أحبت وما كانت تقدر أنها تحب. . . ما أنا وهذه الذكريات، تجد السبيل إلى كهفي العميق، ثم تتحسسني من بين هؤلاء المساكين الذين قدر لهم أن يعيشوا معي في هذا الكهف. كيف استطاعت أن تجوز هذه الأبواب الحديدية الضخمة، وأن تفلت من هؤلاء المردة الذين يحرسونها، وأن تبلغني فتمزق هذا الغشاء الصفيق الذي أسدلت بيني وبينها؟! ما شأنها، تملأ على جنبات هذا الكهف، في يديها البضتين هذه الأعواد الرقيقة المشتعلة ينتشر منها هذا الدخان اللطيف العطر الذي ينفث في روح الماضي. لكأنه هذا البخور الذي عهدته في ليالي الخاليات. إن سحبه لتتلوى هادئة رقيقة فتبدد كل ما حولي. لا الناس الهرالي الذين أعهدهم، ولا المتعبون الذين آلفهم، ولا هذه الأردية السود التي تتحرك إلى جانبي؛ وإنما هي أطياف حلوة كريمة، أحس كأنما كان من بيني وبينها سبب، ومغان رائعة بهيجة كأنما كان لي بها عهد. أتراها تود أن تلقف بسحرها الحائل هذا الواقع المتورد، وأن تطرد بأطيافها القاتمة هذه الأشباح الناعمة، وأن يذهب عطرها الهفاف بالحاضر المتماسك؟! أتراها تود أن تدير حياتها الأولى في حياتي الجديدة لتثير الأماني والأوهام؟! وهذه الأحلام التي تشق عني ظلمة الليل. . . ما أنا وهي.(525/24)
وقد انعتقت منها وانصرفت عنها. ألست أعمل نهاري المتصل ليميتني الليل، وأجهد شمسي الطالعة ليواريني المساء، وأنطلق مع الغراب المبكر كيما أنسى بعد في العتمة كل شيء. ما شأن هذه الأحلام تراودني عن نفسي، فتطرقني منذ أيام، وتنشر في مسائي الكالح أفقاً وردياً زاهياً، وتبعث في ليلي البهيم أضواء رفافة نيرة، وترسم على غبش العتمة أنوار النجم. أتراها تود أن تؤرقني فلا أغفى، وأن تهزني فلا أغفل، وأن تعتادني فلا أجد الهدوء!. . . أتراها تملك أن تفسد علي راحتي التي لا تحس فيها بالحس الذي لا راحة معه، واطمئناني الذي لا شعور فيه بشعور لا اطمئنان معه، وما عساها تبتغي مني، وإنها لتعلم أن الدنيا قد جعلت مني غير الذي عهدت في: لا هزة الطروب، ولا رفة المرح، ولا استيفاز الشاعر. فقد ذهبت الحياة بالهزة والرفيف والحس المستوفز. وما يكون للذين تضطرهم الحياة أن تذهب بنفوسهم في سبيل العبء الذي لا بد منه، والعيش الذي لا مناص من تداركه إلا أن يرتقبوا اليوم القريب والساعة الدانية
لا يا أماني التي تزدهر الساعة في خاطري! ما كان لي أن أغفل عن ى الماضي، أو أنصرف عن العهود، أو أهدر هذه الفترة الحلوة من حياتي القريبة. وإنما هي ويلات الحاضر التي لا بد من النجاة منها، وضرورات الواقع التي لا بد من الاضطراب فيها
أن تكاتف السحاب لا تذهب بنور الشمس، وأن قتام الضباب لا يحول دون إيماضة البرق؛ وإنما يتفتح الشتاء القاسي - بإرادة الله - عن الربيع المتدفق
(دمشق)
شكري فيصل(525/25)
حملة صقلية
الجبهة الثانية. أين ومتى تفتح؟
هذا هو السؤال الذي تردد على ألسنة الناس في الأسابيع الأخيرة والذي كان موضع اهتمام العسكريين وبحثهم في كلا العسكرين، وكان في غزوة الحلفاء لصقلية الجواب على هذا السؤال. وللمعركة التي تدور رحاها الآن في هذه الجزيرة أهمية كبرى للطرفين؛ فالإيطاليون من جهة، يرون أن غزو هذه الجزيرة خطر يهدد كيان إيطاليا نفسها ويجعلها الهدف التالي بعد صقلية، ويرون أن القرار الحاسم فيما يتعلق بالحرب كلها سيتخذ على سواحل صقلية؛ وهم واثقون بأن كل قوة للحلفاء ستجد مصرعها على سواحل إيطاليا. أما اهتمام الحلفاء فيتجلى في النداء الذي وجهه الأميرال كننجهام لجنوده ساعة الغزو: (إن نجاح الحلفاء في غزو صقلية يعد بمثابة فتح جبهة ثانية كما أنه سيكون الخطوة الأولى في سبيل هزيمة سريعة للأعداء)
قبيل انتصاف ليل الجمعة التاسع من يوليو أخذت جنود المظلات البريطانية والأمريكية تنهال على أرض الجزيرة وهبطت على أثرهم الجنود الذين كانت تقلهم الطائرات الشراعية وأسرعوا في الزحف لتعزيز مراكزهم وراء استحكامات المحور لتدمير منشئاته وشل حركة مطاراته حتى يحال بين المدافعين وبين القيام بعمل جوي منظم ضد القوات الكبيرة التي كانت تقلها سفن الغزو
وفي فجر يوم السبت، أي بعد هبوط قوات المظلات بساعات قليلة، أخذت السفن المحملة بالجنود والأمداد تقترب من مواني الجزيرة منتشرة في الاتجاهات التي رسمت لها من قبل.
ولم يكن غزو صقلية بالأمر المفاجئ للمحور فقد صرح الجنرال إيزنهاور منذ أكثر من شهر لمندوبي الصحف بأنه لن يمض الشهر حتى تكون الأعمال الحربية ضد صقلية قد بدأت، وكذلك كانت الغارات العنيفة التي ظلت الطائرات المتحالفة تشنها على النقط الحيوية والمواقع الرئيسية في الجزيرة بمثابة مقدمات لهذا الغزو، وهو عين ما حدث في جزيرتي بنتلاريا ولبيدوزا حين سبق احتلال الجزيرتين غارات على مثل هذه الصورة من العنف والشدة
وقد وقع الغزو بعد أقل من أسبوع لبدء الهجوم الذي قام به الألمان في الجبهة الروسية، فقد انتظر الحلفاء حتى إذا ضمنوا اشتباك القوات الألمانية في معركة الروسيا الطاحنة شنوا هم(525/26)
هجومهم؛ وبذلك ضيعوا على الألمان فرصة تقديم مساعداتهم الجدية لإيطاليا في صقلية
أما موقع الهجوم فقد اختارها الحلفاء في جزء كان خبراء المحور يرون الحلفاء فيه أبعد احتمالاً من غيره، فاختاروا الركن الجنوبي الشرقي للجزيرة، وذلك لأن وعورة أراضيه وكثرة مرتفعاته وقربه من قواعد المحور الجوية في جنوب إيطاليا تجعل من العسير نزول قوات كبيرة من المشاة والدبابات كما تجعل القوات النازلة أكثر عرضة لضربات العدو الجوية وأقرب منالاً للقوات البرية التي تأتي عن طريق خليج مسينا. لهذه الأسباب كان نزول الحلفاء في هذا الجزء غير متوقع
وقد تطور القتال منذ بدء الغزو تطوراً يعتبر في صالح الحلفاء الذين استولوا على معظم المدن المهمة هناك ولم يبق أمامهم سوى قطانيا حيث تدور بعض المعارك في السهل الذي يحيط بها. ويرجع عدم وقوع معارك كبيرة حتى الآن إلى أن القيادة الإيطالية في الجزيرة تراقب الحالة بعين يقظة حتى تقف على المكان الذي يجب أن توجه إليه قواتها الرئيسية
وبديهي أنه يفرغ الحلفاء من هذا الركن فسيحاولون الزحف بقواتهم داخل الجزيرة للاستيلاء على المواقع الهامة التي تجعل خليج مسينا في قبضتهم، وذلك ليتسنى لهم عزل صقلية عن إيطاليا ووقف سيل الإمدادات التي يوالي المحور إرسالها، وحينئذ يسهل السيطرة على باقي أجزاء الجزيرة الغربية وتعتبر صقلية أول ثغرة يحاول الحلفاء فتحها في القلعة الأوربية، وستختبر على هذه الجزيرة قوة استحكامات أوربا الدفاعية، فإذا نجح الحلفاء ف غزوها فستخذون منها نقطة للهجوم على إيطاليا نفسها، كما أنها ستصبح أعظم قاعدة بحرية للأساطيل المتحالفة في البحر الأبيض المتوسط
ويظهر للمتتبع لسير الأعمال الحربية أن الحلفاء محتفظون بقوات احتياطية كبيرة في شمال أفريقيا حيث تصل إمدادات متوالية من بريطانيا وأمريكا
ويمكن التكهن بأن هذه القوات يحتفظ بها لغرضين: أولهما أن القيادة المتحالفة تعمل لمواجهة احتمال قيام المحور بحركة تركيز أو تطويق قد تؤدي إلى الإحداق بقواتهم، فوجود هذا الاحتياطي يمكن الحلفاء من إفساد أية محاولة في هذا الصدد
أما الغرض الثاني فينحصر في الإبقاء على هذا الاحتياطي لاستخدامه في مهاجمة جزيرتي سردينيا وكرسيكا اللتين سيكونان بلا شك الغرض التالي للحلفاء بعد صقلية، إذ أن احتلال(525/27)
هاتين الجزيرتين لازم للهجوم المنتظر على ساحل فرنسا الجنوبي
وستؤدي الأعمال الحربية في جزيرة صقلية والمحاولات التي سيقوم بها الحلفاء للسيطرة عليها وعلى غيرها من الجزر في البحر الأبيض المتوسط إلى تطورات جديدة سيكون للقوات البحرية منها أوفر نصيب.
محمد شاهين الجوهري
بكالوريوس صحافي(525/28)
تينة الجبل!
للأستاذ أحمد الصافي النجفي
(. . . وهذه طرفة ثانية من طرائف (الصافي) نقدمها للدكتور طه حسين بك. ولعل من الخير أن نذكر أن (الدكتور) ينكر على شعرائنا المحدثين فيما ينكر عليهم انعدام (الوحدة الفنية) في أكثر منظوماتهم. ولقد فهمنا من محاوراته معنا أن من أظهر خصائص الشاعر الأصيل في رأيه وضوح المثل الأعلى الذي يدور عليه فلك وحي الشاعر، واستحضاره في فترات الخلق والإنتاج. وليس هنا محل مناقشة الدكتور في هذا الرأي؛ ولكن أضع يده على هذه الطرفة البارعة التي تمثل مذهبه في الشعر أصدق تمثيل
و (تينة الجبل) شجرة عجيبة شاذة معروفة في سورية لا يطلب لها أن تنمو وتستطيل إلا في جو قاس من العزلة والتوحيد والانزواء، فتراها بعيدة عن مجاري المياه العذبة والأعشاب الندية والطيور المغردة، فهي تعيش دائماً في صمت وسكون. ولكن أي فوز تناله يوم عرض الثمار؟ هذا ما نترك الإجابة عنه لحضرات القراء وهم ينعمون بتلاوة هذه القصيدة الرمزية البارعة)
القدس - عبد القادر جنيدي
نبتتْ في الجبال دَوحة تِبنِ ... وقفت مثل وقفة الجبار
أَلِفت وحشة الدجى واستمرَّت ... في صراع مضنٍ مع الإعصار
فهي أخت الثلوج والأمطار ... وهي نبت العُواء والتزآر
وهي تحيا كراهب في قفارٍ ... دون ديرٍ يضمه أو دار
وإذا ما هفتْ لنجوى سمير ... رنَّ في سمعها صدى الأدهار
أينما تلتفتْ فليس تلاقى ... من سمير لها سوى الأحجار
حرمتها يد الطبيعة حتى ... من غناء الحفيف في الأسحار
لم تظلَّل غصونُها ندماَء ... لا ولم تُسقَ منهم بعقار
وهي لم تستمع لنجوى حبهِ ... بين وما أعلناه من أسرار
لا ولا أَمَّها هزارٌ يغني ... فانتشى سمعها بشدْو الهزار
ما وعتْ حين أينعت للعصا ... فير سوى لحن نقرة المنقار(525/29)
ما جلتْ جسمها ليوم أزدهاء ... أو رأت وجهها بنهر جار
فهي تبدو كأشعث ذي سفار ... وهي تحكى فلاّحة في القفار
أَنفت من تمايل واختيال ... وسمتْ عن تجمّل وازدهار
أصبحت لا ترى سوى البرّحلياً ... لا ولم تشتمل بغير الوقار
إن تردَّي دوح الرياض اخضراراً ... فهي لا ترتدي بغير الغبار
لم تفاخر بالمجد دوحاً ونالت ... قصب السبق يوم عرض الثمار
ولو أني أتيتللدوح باسمٍ ... قلت هذي أميرة الأشجار
فهي بنت الجبال ذات وقار ... وهي بنت الصخور ذات اصطبار
وهي تسعى للسيرِّ دون ضجيج ... وهي تعطي الخيرات دون افتخار
وهي طيُّ الخفاء تدأب كدْحاً ... مستمراً في ليلها والنهار
تصهر الشمس رأسها كل صيف ... وتلاقي الشتا بجسم عار
قد تلقَّت حوادث الدهر تتري ... دون أن تشتكي من الأقدار
ما الذي ساقها لنفع البرايا ... دون ما دافع ولا إجبار
هم ذووها إِن أطعمتْهم وإلا ... قطعوها فعذّبت في النار
كم لها من يد علينا ولكن ... ما عليها يدَّ لغير الباري
لمْ تزل تأكل التراب ولكن ... تطعم الخلق أطيب الأثمار
ليتنا مثلها فنعطي جنانا ... لا لنفع يُرجَى ولا استثمار
وأراني كالدوح شأناً ولكن ... ما جَنَا دوحتي سوى الأشعار
ولكلّ في الكون شأنٌ به خُصَّ ... وخُصَّ الفناء بالأطيار
أحمد الصافي النجفي(525/30)
البريد الأدبي
الوشوشة والهينمة
الكاتب الباحث الأستاذ (سيد قطب) في مقالته البليغة (النماذج البشرية المهموسة) حوط (الوشوشة) - قد توسطت الهمس والهويم - بالأقواس أو الأهلة - كأنهن تحويطة - فإن كان قد جاء ذلك لفرط اهتمامه بهذه اللفظة فلا ملام؛ وإن كانت الأقواس إعلاماً أن الوشوشة من العلميات لا من قبيل العربيات ولا من بنات المعجمات ففي (النهاية) في حديث سجود السهود: (فلما انفتل توشوش القوم) وروى القول (اللسان)؛ وفي (القاموس): (توشوشوا تحركوا وهمس بعضهم إلى بعض) وفي مستدرك التاج: (الوشوشة الكلام المختلط، وقيل: الخفي، وقيل: الكلمة الخفية)
وجاء (التهويم) بعد الوشوشة، والتهويم - كما قالوا -: أول النوم، أو النوم الخفيف، أو هز الرأس من النعاس. فهل المراد أحد هذه المعاني أو المقصود (الهينمة) أخت الهمس؟
ناقد
إصلاح التعليم في مصر
في اليوم الذي أغادر فيه مصر إلى مدينة الخرطوم بالسودان مقر عملي رأيت أن أقدم تحيتي إلى الرسالة وصاحبها الجليل لما لها من أثر في الثقافة العامة في السودان، ولما للمتأدبين وأهل العلم هناك من عناية فائقة بما تنشر الرسالة من بحوث قيمة وأدب بارع
وبينما كنت أقلب الأوراق استعداداً للسفر وقع نظري على مقال في مجلة (الاثنين) في أواخر مايو الفائت لصاحب المعالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الأوقاف بعنوان (ثورة على المدرسة المصرية) كان قد نشره قديماً وقال: إنه لا يزال عند رأيه هذا. جاء فيه (والواقع أن موقف المدرس من الطلبة كموقف (سواقي الأنفار) سواء بسواء. يرى أنه أدى واجبه حينما يقطع مقداراً معيناً من الدروس لا حينما يلمح نجاحه في تربية عدد من الطلبة وتهذيبهم، فهو بذلك خدم الدروس، ويستخدم الطلبة للدروس، ولكنه لا يخدم الطلبة)
وفي الليلة السابقة لكتابة هذه الكلمة خلوت إلى ولد من أولادي كان من تلاميذي في الفرقة التي كنت أعلمها قبل سفري إلى السودان فسألته أن يذكر لي بصراحة رأي طلبة الفرقة(525/31)
في أبيه فقال:
كنت يا أبي توقظ أذهان الطلبة في أول السنة الدراسية، وتطيل المناقشة معهم، وتتوسع في الأدب العربي، وتكثر من تنبيههم إلى ما في أبيات النصوص الأدبية من معان وأغراض، فيشغلون بدرسك ويقدرونه، ولكن بعد أن مرت أشهر على ذلك أخذ الشك يساور نفوس الطلبة في جدوى هذه الطريقة بالنسبة لضخامة المنهج الذي يجب أن يتم قبل السنة الدراسية بشهر على الأقل، وكان من قولهم: يجب أن ننبه أستاذنا إلى ما فيه مصلحتنا بأن يقتصر على سرد ما في الكتاب، ويسألنا فيه في اليوم التالي، وهكذا دواليك حتى يتم المقرر في حينه ونكون قد استوعبنا ما في الكتاب ويكتب لنا النجاح في الإمتحان، وأن نلفت نظره إلى أنه ليس الغرض من تعليمنا أن نكون أساتذة في اللغة العربية. ولكن قبل أن تصل النصيحة إلى سمعي قبلت التعليم في السودان، وكفى الله المؤمنين القتال
هذه صورة مصغرة لميول الطلبة نحو تثقيف عقولهم وبخاصة في المدارس الثانوية، فهل لي أن أرجو وزارة المعارف في ضجة العلاوات والدرجات أن تجهز جيوشها السلمية لإصلاح التعليم، وتبسيط مناهجه وتحديد الغرض منه، وأن تغير النظم القديمة البالية في إدارة المدرسة وواجب المعلم والناظر والمفتش على أساس تكوين الملكات وتهذيب الأخلاق وتربية النفوس على حب العلم والرجولة الحق في الطلاب الذين تنشدهم مصر الحديثة ليستعدوا لحمل الأعباء المستقبلة. بل أقول إن ذوي المناصب الخطيرة في وزارة المعارف يجب أن يخرجوا من حيز الأوامر والمنشورات والرأي الواحد المقلد إلى مصابيح تشع النور في معاهد التعليم، فكل هذه الجولة والصولة الغرض منها معلم يحسن أثره في التلاميذ وأن يعالجوا الأمور في جراءة وصدق وإخلاص وهم أهل لذلك
وألا يختبئوا دائماً وراء الوزير والمستشار، فإن واجب وزارة المعارف غير واجب الوزارات الأخرى
وأذكر أن في أدراج صاحب العزة الدكتور طه حسين بك مشروعاً شاملاً لإصلاح التعليم وبخاصة في اللغة العربية أعدته لجنة برياسته منذ زمن وأرجو أن يبعث من مرقده والله الهادي إلى سواء السبيل.
حسنين حسن مخلوف(525/32)
من رسائل الرافعي: اللفظان بمعنى واحد في القرآن.
معنى بيت للنابغة. قصة الجارية وعمر
أخذ ابن الأثير في المثل السائر على الصابي - كما بينا - أنه يرادف السجع في المعنى الواحد، وعد ذلك من عيوب البلاغة؛ ولكنه لما سئل عن قول الله: (وكان رسولاً نبياً) والرسول لا يكون إلا نبياً، رجع فقال: (إن إيراد لفظتين في آخر إحدى الفقر بمعنى واحد لا بأس به لمكان طلب السجع) ولما كان بعض الذين يدافعون عن البلاغة القرآن يقولون إنه لا توجد فيه لفظة زائدة - وهو صاحب إعجاز القرآن - أن يذكر رأيه في هذا الأمر المهم
وسألته أن يبين معنى بيت النابغة:
ولست بمستبق أخاً لا تلمعه ... على شعث أي الرجال المهذب
وكان حافظ إبراهيم قد ذكر في عمريته قصة الجارية التي
كانت تضرب الدف أمام النبي وأبي بكر بغير خوف ولا وجل. فلما جاء عمر ألقت دفها وجلست، فقال له النبي: أن شيطانها قد فر منك يا عمر. وذلك حيث يقول في هذه العمرية:
قد فر شيطانها لما رأى عمراً ... إن الشياطين تخشى بأس مخزيها
فسألت الرافعي عن هذه لقصة التي تنبئ أن الشيطان يفرمن عمر ولا يفر من النبي فتلقيت منه هذا الجواب:
طنطا في 20 فبراير سنة 1918
أيها الأخ
بعد السلام، سرني من كتابكم أني أرى لكم شيئاً من التحقيق ودقة الفكر لم أكن أعهدها من قبل، فإذا واصلت العمل والجد واستعملت ذهنك رجوت لك اكثر من هذا ورجوت لك مظهراً إنشاء الله
أما ذكر الرسول والنبي معاً في الآيتين فأقرب ما يظن من الحكمة في ذلك أنه تأكيد لشرف الموصوف واختصاص له بالذكر لصفات مميزة، ولهذا جاءت العبارة معطوفة على صفة سابقة (وكان مخلصاً وكان رسولاً نبياً). (كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً). وقد كان(525/33)
يتوجه الانتقاد وحقيقته لو لم يكن هذا التنوين في لفظ رسول، ولكن التنوين أضعف معنى الكلمة. والمراد من السياق أن يكون المعنى قوياً بالغاً في وصف فوجب أن يدل على كمال الموصوف بكمال المعنى؛ وليس في مذاهب التعبير عن هذا الكمال أدل ولا أبين من لفظ النبي فجاء به نكره كذلك وترك العطف فيه ليعلم أن المقصود هو إتمام المعنى لأن لفظ الرسول متضمن معنى النبوة، فذكر النبوة بعده على الوجه الذي في الآية يدل على أن المراد التوكيد في الصفة. ومن المعلوم أن التكرار يفيد التوكيد وله موضع معين في البلاغة لو ترك فها لخرجت العبارة ضعيفة أو ناقصة. لو كان لفظ الآية (وكان رسولاً من الرسل) أو (وكان الرسول النبي) أو (وكان رسولاً ونبيَّا) لسقطت العبارة عن درجة الإعجاز، ولجاز انتقادها؛ ولكن هذا التنوين في هذا السياق هو الحكمة كلها. ولزيادة الإيضاح نضرب مثلاً: لو قلت عن رجل عظيم كالشيخ محمد عبده مثلاً إنه كان فاضلاً وكان فيلسوفاً فأي شيء يفيده هذا الوصف إلا أن الرجل كأحد الرجال الممتازين؛ ولكن لو قلت كان فاضلاً وكان فيلسوفاً حكيماً شعر السامع في نفسه وشعر القائل أيضاً أنه كان رجلاً ممتازاً كاملاً لأن العبارة جاءت من التكرار الذي فيها على وجه من الكمال يفيد التوكيد، فكأن غيره من الفلاسفة يعبر عنه بلفظتين، وأما هو فيعبر عنه بثلاث تصويراً لكماله في نفسه وامتيازه عن سواه، مع أن لفظ الفيلسوف يقتضي معنى الحكيم. ولا يمكن أن تكون لفظة النبي جاءت في الآية للسجع لأنها وأن وافقت ذلكن ولكنها تكرار في الآية الأخرى ومع ذلك لم يعبها تكرارها لأن سياق الوصف اقتضاها، وما اقتضاه السياق فهو طبيعي، لأنه بنية الكلام، بخلاف ما إذا سجع الكاتب فجاء بكلمة لا يراد منها إلا السجع، وبعد سطر أو سطرين كرر السجعة نفسها لغرض السجع أيضاً فإنها تجئ أبرد كلام وأسخفه. هذا ما يحضرني وكنت راجعت أمس الكشاف للزمخشري وتفسير الطبري الكبير فلم أجد لأحدهما كلاماً في هذا المعنى، وأظن أن الفخر الرازي ربما تكلم فيها، وتفسيره عند فضيلة الوالد مع تفاسير أخرى كثيرة، ولكني لم أراجع لأن دماغي يتعب سريعاً، ولأني أرى أن ما ذكرته هو الحقيقة
وأما بيت النابغة (ولست بمستبق أخاً الخ) فضبطه لا تلمه. ومعناه أن الصاحب إذا تفرقت أخلاقه فجاء بالحسنة والسيئة ثم أرادت ألا تلم أخلاقه على تفرقها وتجمعها كما هو بل(525/34)
ذهبت تنتقي الحسنه فقط فإنه لا يبقى لك لأن كل إنسان يأتي منه الخير والشر، فلا بد من احتمال هذا وهذا من الصديق إذا أردت أن يبقى صديقاً
وأما العمرية فإن حافظاً نظم وتصرف في عبارة التاريخ فجاء بعض كلامه موهوماً معاني غير صحيحة. والقصة التي أشار إليها يمكن أن يؤخذ منها كما هي في نظمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الغناء ويشهد الرقص النسائي. وكان أضعف في الدين من عمر، وكان وكان الخ: ولكن القصة في نفسها لا تفيد شيئاً من هذا كله. فالرواية أن جاريه سوداء جاءت النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من بعض مغازيه فقالت: أني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف. قال: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا. فجعلت تضرب، فلما دخل عمر ألقت الدف وجلست عليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر. فلم يفر الشيطان ولكنه خاف أو كأنه خاف. ولا يخفى أن اللهو من الشيطان؛ فهي عبارة مجازية. وأنت ترى أنها جاريه سوداء، وأنها لم تفعل شيئاً إلا الضرب بالدف. وكان هذا من عادات سائر العرب إذا انقلب أبطالهن من الغزو، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للجارية إلا لتوفي نذرها لا غير. فأي شيء في هذا كله؟
وبالجملة فإن حافظاً إنما نظم تاريخاً موضوعاً وكان خليقاً به أن يضع تاريخاً جديداً كما يكتب رجل مثل كارليل في كتاب الأبطال أو نحو ذلك
أما الكلام في باقي القصيدة فليس من شأني أن أخوض فيه. ولعل السيد البرقوقي يكفيك إذا وفى بما وعد قراءه والسلام عليكم ورحمة الله.
الداعي
مصطفى
(المنصورة)
محمود أبو ريه
نقدة نحوية(525/35)
جاء في الشاعر محمود حسن إسماعيل (قطرة دمع) المنشورة بالرسالة الغراء (العدد 522) هذا البيت
جئتُ أرثيك فما لي (ملجمٌ) ... تزهق الأنغام في عودي إذا ما
مضبوطة فيه (ملجمٌ) بالرفع والمفهوم أنها وأمثالها في هذا الموضع منصوبة على الحالية من الضمير المجرور باللام
يشهد لذلك قول فاطمة بنت طريف ترثي أخاها
أيا شجر الخابور مالك (مورقا) ... كأنك لم تجزع على ابن طريف!
وقول المرحوم حافظ إبراهيم وهو يرثي الإمام الأستاذ محمد عبده:
عليك سلام الله، مالك (موحشاً) ... عبوسً المغاني مُقْفر العرصات
وقد انتظرنا في العدد التالي أن يصلح الشاعر هذا الضبط فلم يفعل فصار من حقنا أن ننبه على ذلك
(الإسكندرية)
حسين محمود البشبيشي
تصويب
وقع خطأ مطبعي في أحد أبيات قصيدة (اليتيم)، للآنسة فدوى طوقان انكسر من أجله البيت وصوابه
فنضت عنها الثياب السود، لا، ... لا تظنوا جرحها الدامي التأم(525/36)
العدد 526 - بتاريخ: 02 - 08 - 1943(/)
وزارة الأوقاف الجديدة
أقول (الجديدة) وأنا أعلم أن بين هذه الصفة. بين وزارة الأوقاف نفوراً لا يزول إلا بمعجزة! فهل تمت المعجزة؟ أم لا تزال الوزارة القديمة قائمة في مكانها الأثري كالدير العتيق أو كالطلل الموحش تروع النفس القوية بمسالكها الضيقة المظلمة، ومكاتبها الصامتة الرهيبة، وأضابيرها المكتظة البالية، فكأنما يجول الزائر فيها بين أجداث وأضرحة
وليست الأضرحة بالكلمة الغريبة عن لغة الأوقاف؛ فهنالك الوقفيات بشروطها العجيبة، والتصرفات بوجوهها المريبة، والأنظمة التي تعقد البسيط وتعوق السريع وتصعب السهل! وهنالك القضايا التي تماطل الحق، والشكاوي التي تنتظر العدالة، والحقوق التي تنكر المستحقين؛ وكلها راقدة في نواويسها الكرتونية رقود البلى لا تسمع دعاء الناس ولا تحس مرور الزمن!
نعم لا تزال الأوقاف القديمة تمثالاً للصدقات الجاريات والصالحات الباقيات والبر بأسمى معانيه؛ ولكن التمثال على كل حال تمثال. كل ما فيه معان من الخير نبض من جسد أصم. أما وزارة الأوقاف الجديدة أو المرجوة فهي في درج الوزير المصلح عبد الحميد عبد الحق؛ وأما المعجزة التي ستؤلف بين الجدة والأوقاف فهي عزيمة الشاب العامل عبد الحميد عبد الحق! والرجل الذي استطاع أن يجعل من العدم وجوداً في وزارة الشؤون، يستطيع أن يجعل من الفساد صلاحاً في وزارة الأوقاف. على أن الذين يعرفون في الأوقاف تلك الصخور التي. أدمت أيدي المصلحين وفلت معاول الإصلاح يقولون إن العمل هنا يختلف عن العمل هناك. كانت وزارة الشؤون أحاديث منى وأساليب بلاغة، فجعلها بثاقب رأيه وصادق عزمه حركة تجديد ونهضة إصلاح. والبناء على الجدد أسرع من البناء على الأنقاض، والتعمير الحر أسهل من الترميم المقيد. أما الأوقاف فهي أحد القروح الثلاثة التي أعضلت الأساة وظلت الدهر الطويل تمج الصديد وتوهم الجلاء أنه من الدين. ولكن المحاكم الشرعية بسبيل النهوض، والأزهر الشريف بسبيل اليقظة، فلم يبق غير هذا القرح مضموم الفم على الفساد ونغل. وقد بلغ من سوء القيام على شؤون الأوقاف أنك لا تكاد تجد في مصر كلها بائساً في بيت كريم إلا من مستحقي الأوقاف، ولا خربة في مكان (صقع) إلا من أملاك الأوقاف. وكان السفهاء من الأجانب يرجعون عيوب هذه المؤسسات الثلاث إلى الطبيعة الإسلام وهو الذي نشر العلم ورقاه، ومدن العالم وحرره.(526/1)
ومن هدى أولياء الأمر في الدين والدنيا بالنظر في إصلاحها على هدى المدينة الحديثة لتتسق مع الأداة المصرية الأوربية في الإدارة والتعليم والحكم. فدرست العلل، وكتبت التقارير، ووضعت الخطط، وجاء دور التنفيذ فجاء معه الهوى المستبد، والطمع المتهالك، والجهل المتنطع، والتردد الخوار، والمصانعة الحقيرة؛ فانهزمت فكرة الإصلاح وعادة كما بدأت - أحاديث في المجالس، ومقالات في الصحف، وتقارير في الأدراج! فماذا عسى أن يصنع هذا الوزير الفعال وإن أول ما عليه أن يهدم المتصدع ويقطع المؤوف، وربما اتسع الأمر على معولة ومبضعة فيستنفدان جهده ويستغرقان عهده. والهدم والقطع من وسائل الإصلاح لا من غاياته. على أنني شديد الثقة بكفاية هذا الرجل أن كان الأمر كما ترى بلاء العقول الجبارة ومحنة النفوس الكبيرة. وفي يقيني أنه سيعمل لأنه يريد. وأرادته في الأوقاف مطلقة على خلاف ما كانت في (الشؤون). وإن ما كان قد وجه إليه عزيمته من تحقيق الصلاح الاجتماعي بمجاهدة الجهل والفقر والمرض، يستطيع أن يصل إليه عن طريق الأوقاف؛ لأن الأوقاف إنما حبسها المحسنون على كفاح هذه البلايا الثلاث. ولو اجتمع لهذه الأحباس التي تربى على مائتي ألف فدان وستة وثلاثين ألف عقار، الرأس المدبر ولعين الكلوء واليد المصرفة والضمير العفن لهونت على المكدودين متاعب الحياة، وسهلت على المنكودين مصاعب العيش. ولكن هذه الينابيع الفياضة بخير الله قد ردها وا أسفاه! الإهمال والإخلال والعبث إلى أوشال من الرزق لا تكاد تفي بنفقات الإدارة وتكاليف الوزارة!
وزير الأوقاف القائم على شؤونها اليوم حقيق أن يكذب ظنون المتشائمين في إصلاح هذه الوزارة. وأن في ابتدائه بتنظيم الإدارة وأحياء الثقة واستثمار المتروك وتبسيط الإجراء وتعجيل التنفيذ لدليلاً على توخيه النجاح من أقرب طرقه. ولعل الأستاذ الوزير أول من أعلن لوزارة الأوقاف رسالة. ورسالتها كما جاء في حديثه لممثلي الصحف أن تسير على هدى الروح التي تتجلى في المدية الإسلامية: مدينة العلم والخلق والتعاون، فهيئ للمساجد - وهي التي كانت في صدر الإسلام مصدراً لكل ذلك - الوسائل الصحية والدينية والعلمية، ليكون كل مسجد من مساجد الوزارة، في كل قرية من قرى مصر، مؤسسة ثقافية تدير الأبدان بالطب، الأذهان بالعلم، وتطهر النفوس بالدين، وتوثق الأواصر بين الناس(526/2)
بالمودة والمعونة. ووسيلتها رفع مكانة العاملين ليستطيعوا أداء هذه الرسالة، وإنشاء قسم (الخدمة الاجتماعية بالمساجد) ليمهد لتنفيذ هذه السياسة. وسيجد الوزير العامل مع تراخي الزمن وتوفر المال أغراضاً شيء لرسالة الوزارة تجدد بعض ما درس من رسالة الإسلام. وسيجعل (رجل الشؤون الاجتماعية) من الأوقاف بيت مال لله يكون مثابة للفقير ومصحة للمريض ومدرسة للجاهل. وإن في شيء الأغراض الخيرية التي قصدها الواقفون البررة منتجعاً لآمال الوزير. وإن في ريع خمسين مليوناً من الجنيهات الموقوفة متسعاً لأعمال البر. ولقد كتبنا من قبل في وزارة الأوقاف القديمة ما أملاه الألم والشكوى، فسعى أن نكتب في وزارة الأوقاف الجديدة ما يمليه الأمل والثقة!
أحمد حسن الزيات(526/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
تحول جديد في الجو المصري - بين الشيخ محمد عبده
والشيخ رشيد رضا
تحول جديد في الجو المصري
اخذ الجو يتحول في الأعوام الأخيرة بأسلوب لم تعهده من قبل، فقد صار شتاء مصر عنيفاً جداً، وصار صيفها أعنف، وأصبحنا نتذوق الطعوم المختلفة للحياة الجوية على نحو ما كان يتذوق الأباء والأجداد قبل أجيال
والمنتظر أن يكون لهذا التحول الجديد في الجو المصري تأثيرٌ يزيد في قوة الحيوية وقوة الشعور بالوجود، فقد كاد اعتدال الجو في مصر يخلق ألواناً من البلادة، وكاد يضعف الإحساس بتغير الفصول
والمنتظر أيضاً أن يكون لهذا التحول فضل في التشويق لمعرفة الأجواء المختلفة بالديار المصرية، فسيصير من المألوف أن تكون لنا مواسم في الجنوب أيام الشتاء، كما صارت لنا مواسم في الشمال أيام الصيف، وسيكون من الحتم أن نعرف الأقصر وأسوان كما نعرف الإسكندرية ودمياط
والواقع أن إقبال المصريين على مصايفهم الجميلة ليس إلا وثبة جديدة في تذوق الحياة، فما أعرف أنفي الدنيا مصيفاً يشبه مصيف الإسكندرية، ولا أعرف أن في الدنيا بقعة يتجمهر فيها الجمال كما يتجمهر في ذلك المصيف. والذي يقدر على قضاء أيام بالإسكندرية أو بور سعيد أو دمياط ثم يبخل على نفسه بذلك النعيم فهو من أعيان السفهاء!
صار الاصطياف بحمد الله من صميم التقاليد المصرية، وصار من منهاج الحياة في مصر أن يدخر الناس ما يعين على الاصطياف، ولم تعد الشواطئ مقصورة على من يعرف فضلها من الأجانب، فقد أضجت ملاعب مصرية تحت سيطرة الشبان المصرين، وصار من السهل أن ترى من كبار الرجال من يرتاد تلك الملاعب في الضحى والأصيل
هل شهدتم ملاعب التنس فوق الشواطئ!(526/4)
إنها مواكب من الحياة البهيجة تهادي في كل صيف، وتشهد بأن مصر مقبلة على فتوة مرحة سيزدهر بها الشعر والخيال
في هذه اللحظة صلصل الهتاف من الإسكندرية يحمل صوت الأستاذ محمد على حماد محرر مجلة الشعلة، وهو يستعجل مقالاً وعدته به عن الديوان الجديد للشاعر على محمود طه فابتسمت وقلت: وحي الشاطئ هو الذي أثار العطف على الملاح التائه، لطف الله به وهداه إلى الشاطئ الأمان!
إن مصر ديار بحرية، ديار تحيط بها البحار من أكثر الجوانب، وتجري بها الأنهار في كل جانب، ومع هذا تقل فيها الآداب البحرية والنهرية، فما هذا الجمود!
إن أسلافنا عاشوا بأفضل مما نعيش، فقد كانت في مدينة القاهرة مشابه من مدينة البندقية، يوم كانت القاهرة تتماوج بين الخلجان، ويوم كانت الملاهي بتلك الخلجان في أصائل الجمع والآحاد تزعج رجال الدين فيفتون بأن النزهة في السفائن حرام لا حلال!
كانت حياة أسلافنا شعراً في شعر، وكان للنيل في حياتهم وجود، ألم تسمعوا أنهم أحاطوه بطرائف من الأقاصيص؟
ومع هذا رأينا من يقول بأن (عروس النيل) أسطورة خلقها العرب لا الفراعين، وحجتهم أنها لم توجد في غير الكتب العربية. فإن صح ما قالوه فالعرب أبلغ في الشعر والذوق، لأنهم تخيلوا النيل فتى لا يعيش بلا عروس، وتلك وثبة من وثبات الخيال.
في القاهرة حي اسمه (بركة الرطلي)، فما تلك البركة في التاريخ؟
نقل الدكتور عبد الوهاب عزام في (مجالس السلطان الغوري) أن وصلها بالخليج الحاكمي في أيام الفيضان كان يوجب إعداد عروس تزف فيه نساء جميلات، وأن السلطان الغوري قد أستفتى الشيخ البلقيني فأفتى بأنها بدعة، وكل بدعة ضلال
ألا تكون عروس البركة صورة جديدة من عروس النيل؟
والشيخ البلقيني كان من ظرفاء المشايخ، وهو الذي قال بأن الميت يسال في القبر باللغة السريانية لا العربية، وفي هذا قال أحد الناظمين
ومن عجيب ما ترى العينانِ ... أن سؤال القبر بالسٌّرياني
أفتَى بهذا شيخُنا البُلقَيْني ... ولم أرهْ لغيرهِ بعَيْني(526/5)
وقبر البلقيني معروف بالقاهرة، وهو قريب من قبر الشعراني، عليهما أطيب الرحمات!
قال الأستاذ حماد وقد راعه أن يعرف أني أكتب مقالاً في ظهيرة هذا اليوم القائض: في مثل هذه اللحظة تكتب؟
فقلت لأنها أنسب اللحظات لموضوع هذا الحديث، فما كان أدبي إلا صورة من شعوري بالوجود
قال: متى تزورنا في الإسكندرية؟
قلت: أنا أقضي في الإسكندرية عشرة أيام من كل أسبوع
قال: ولا نراك؟
قلت وهل أزور الإسكندرية لأراك؟
في الإسكندرية ذخائر وجدانية يعرفها من يمشي على قدميه من محطة الرمل إلى المحطة الفلانية، وفي صحبة الروح التي أوحت رسالة (غناء وغناء)، وهل كانت (جنية الشاطئ) إلا مصدر نعيمي وعذابي؟
رواد الإسكندرية غرباء ولست فيها بالغريب، فلي هناك تلك الروح
ومن بينات الحب أنْ كان أهلُها ... أعزَّ على قلبي وعينيَّ من أهلي
رواد الإسكندرية غرباء، أما أنا فإسكندرية داري، بفضل تلك الروح
أيجوز الارتياب في القوة الربانية، ومن أبدعها ذلك التمثال من الجمال؟
تبارك من هذا فنه في تحويل الأنوار إلى شخوص تصافحها القلوب!
أن إبداع الشمس والقمر والنجوم لا يدل على قدرة الله بأقوى مما يدل عليها إبداعه الفائق لتلك الروح، بذلك اللطف الوهاج
وهي آية من آيات الله، آية أعظم من البحر ومن السماء، وأنظر من جميع ما في الوجود
أيكون الله أراد أن يجزيني جميلاً بجميل؟
أيكون الله أراد أن يجعل ثوابي في الثناء عليه بخلق تلك الشواطئ الملاح ثواباً روحيا يمثله تفردي بالسيطرة على ذلك الروح المليح
ومن كان له في الإسكندرية رمال وأمواج، فلي فيها أرواح وأضواء
في هالة ذلك القمر أجد مؤلفاتي ومقالاتي وأشعاري، وأجد حول كل سطر شروحاً تفضح(526/6)
المكنون من أسراري، وأجد حول كل حرف نيرانا رثها أشواقي، فأومن بأن لله فضلاً عظيما في وصل روحي بتلك الروح
كان من حظ الشعر أن يكون لي في الإسكندرية مكان، وأين الشاعر الذي يستطيع الإجادة وهو لم ير الإسكندرية في الصيف؟
يا مدينة أحلامي ويا دار هواي، متى نلتقي؟
وهل افترقنا حتى نفكر في التلاقي؟
وهل فارقتني تلك الروح حتى أفكر في اللقاء؟
هي في رحابي ولو مضت لاستكشاف أقطار السماء
روح الشيخ رشيد
حول إلى سعادة الأستاذ مصطفى باشا عبد الرازق خطاباً وصل إليه من السيد عبد الرحمن عاصم بطرابلس الشام. وصاحب الخطاب يعترض على ما نشرناه من حديث دار بيني وبين الشيخ مصطفى حول تأثير الشيخ رشيد رضا بروح الشيخ محمد عبده، وحول الدقة في ترجمة الأستاذ الإمام، رحمه الله
وأقول إن ما نقلته من حديث الشيخ مصطفى راعيت فيه الأمانة العلمية، فلم أضيف إليه أي حرف، ولم أشبه بأي عدوان، لأني أعرف فضل السيد رشيد في إحياء مآثر الشيخ محمد عبده، ولأن هذا الرجل كان من أعز أصدقائي
إن لهذه المسألة وضعاً آخر، وهو تجري الصدق في تقدير الرجال، وما كان يجوز أن أطوي حديثاً للشيخ مصطفى يزن به الصلة بين روح الشيخ عبده وروح الشيخ رشيد، مع العلم بأن الشيخ مصطفى حجة في وزن هذين الرجلين، لأنه تلميذ الأول وزميل الثاني ولأنه معروف بكراهة التزايد على الناس
والذي عرفته وتحققته أن روح الشيخ رشيد شابته شوائب من العنف، شوائب خلقها اتصاله بالمجتمع في نواحيه الصواخب، فلم تكن عنده تلك البشاشة الروحية التي اتصف بها الأستاذ الإمام في جميع العهود
وإليكم النادرة الآتية:
قبل أن أكتب هذه الكلمة رأيت أن أحادث جماعة من محبي الشيخ رشيد، عساني أعرف(526/7)
من أحواله في التسامح الديني ما لم أكن أعرف، وكانت النتيجة أن يقول فلان وهو رجل حصيف: كيف يجوز لسعادة مصطفى باشا أن يرتاب في تسامح الشيخ رشيد مع أن له حكاية تنقض ذلك الارتياب؟
فما تلك الحكاية؟
قال الأستاذ أسعد داغر للشيخ رشيد: أنا نصراني يحترم الفضائل الإنسانية ويروي أن محمداً آية في الكرامة الأخلاقية، فكيف يجوز أن تغلق أبواب الجنة في وجهي؟
فأجاب السيد رشيد: ستدخل الجنة يا أسعد قبل كثير من فقهائنا
ذلك هو تسامح الشيخ رشيد في نظر ذلك الرجل الحصيف. وأنا أرى في هذا التسامح دليلاً على التحامل، التحامل على الفقهاء وكانت بينهم وبين صاحب المنار ضغائن وحقود
ولأجل أن نفهم هذه الحقيقة يجب أن نرجع إلى مقالين في رثاء الشاعر عبد المحسن الكاظمي، المقال الأول في مجلة (الرسالة) بقلم الشيخ عبد القادر المغربي، والمقال الثاني في مجلة المنار بقلم صاحبه السيد رشيد
في المقال الأول عطف ورفق، وفي المقال الثاني قسوة وعنف، فقد قال الشيخ الرشيد في الكاظمي كلمات لا تليق، وسلقه بقلم دونه بأس الحديد
أكانت إهانة الكاظمي بتلك الصورة فرضاً يوجبه التاريخ؟ وما الذي يعكر التاريخ الأدبي لو بقى الكاظمي كما صوره الشيخ عبد القادر المغربي؟
الأمر كله يرجع إلى أن الشيخ رشيد عانى من معاصريه، متاعب ثقيلة جداً، فقد كان الناس يستكثرون عليه أن يتفرد بإعلان مآثر الشيخ محمد عبده والإفصاح عن آرائه الدينية والاجتماعية، وكانوا يرون ظالمين أن الأمر لا يعدو المهارة في الاستغلال
من خطاب السيد عبد الرحمن عاصم عرفت أن فضيلة الشيخ محمد شاكر كتب إلى الشيخ محمد عبده يدعوه إلى كف يده عن رعاية الشيخ رشيد، وأن الأستاذ الإمام أجاب:
(كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار عني وهو ترجمان أفكاري؟)
وأنا أعرف الشيخ محمد شاكر جيداً، فقد كان على جانب من العنف، وكانت عداوته مرة المذاق، وكان يحارب خصومه في الرأي محاربة المستميت، فمن المؤكد أن خصومته تركت في نفس الشيخ رشيد عقابيل(526/8)
أما جواب محمد عبده فهو جواب محمد عبده، جواب فلاح مصري شريف يؤازر أنصاره ولو تألبت عليهم الأرض والسماء
مضيت عصر يوم لتنسم الهواء بحديقة الجزيرة فوجدت الشيخ عبد الرحمن قراعة هناك، وكانت الشيخوخة لا ترحم يديه من الارتعاش، فدار بيني وبينه حديث وأحاديث، وجاءت قصة الشيخ محمد عبده فقال:
- هل تعرف أن الشيخ عبده لم يعز أحداً كما أعزني؟
- وكيف؟
- لأني زرته أيام اعتقاله بعد انهزام الثورة العرابية
- ولتلك الزيارة تلك هذه القيمة؟
- أنا وجهت إليه هذا السؤال فكان جوابه أن هذه التفاتة لا ينساها كرام الرجال
ماذا أريد أن أقول؟
زيارة عابرة للشيخ محمد عبده في معتقله تقرر في نفسه هذا الحق، فكيف يكون نصيب الشيخ رشيد من نفسه وهو يرفع العلم لآرائه في كل مكان؟
أترك هذا وأذكر أن قول الشيخ مصطفى بأن تاريخ الشيخ عبده لم يدون على الوجه الصحيح ليس معناه اتهام الشيخ رشيد، ولكن معناه أن تاريخ الشيخ عبده روعيت في تدوينه أشياء من الاعتبارات السياسية، وهي اعتبارات يراعيها أكثر الباحثين في التاريخ الحديث، وعلى الأستاذ مصطفى باشا أن يحررها بقلمه إن تناسى أنه من السياسيين!
أما قول السيد عاصم بأن السيد رشيد لم يجد من يترجم له بعد أن يموت فجوابه حاضر: ذلك بأن الشيخ رشيد رضا ترجم لنفسه بنفسه، ولم يمت إلا بعد أن إن كتب سطور حياته في صفحات الخلود.
زكي مبارك(526/9)
3 - المسرح المصري
لغته وماذا تكون؟
للأستاذ دريني خشبة
الذين يزعمون أن اللغة العربية هي لغة أجنبية عن هذه البلاد هم قوم متعصبون يتجنون على الحقيقة كما يتجنون على أنفسهم، ويسيئون إلى الحقيقة بقدر ما يسيئون إلى بلادهم. . . فلقد أثبتت اللغة العربية حيويتها وصلاحيتها لسكان وادي النيل فلم يمضي قرن أو قرنان بعد فتح العرب مصر حتى كان المصريون جميعاً. . . بما فيهم سكان الأديرة والواحات، يتكلمون اللغة العربية ويعجبون بطواعيتها، وقيامها بأغراض حياتهم قياماً كاملاً غير منقوص، فأنسوا لغتهم الأصلية وآثروا عليها اللغة اللينة السهلة التي مرت بها ألسنتهم في غير مشقة، وأسلست لهم في غير عسر. . . ولتكن أسباب انتشار العربية في مصر ما تكون، فما لا جدال فيه أن المصريين لم يرغموا على التكلم بها وأنهم لم يتعاظمهم أن يهجروا لغتهم إلى لغة الغزاة الفاتحين برغم ما في هذا الترك من مرارة على أنفسهم، وبالرغم مما في تعلم لغة جديدة من عنت وإرهاق
إن انتقال أمة بأكملها، بل أمم كثيرة، من لغة إلى لغة هو ضرب من السحر لا يفسره إلا امتياز اللغة الجديدة وتفردها بفضائل ليست للغة القديمة. وإذا احتج أحد بالعامل الديني لم يستطع تعليل إبقاء الملايين من مسلمي الهند والترك وغيرهم على لغاتهم، ثم لم يستطع تعليل فناء اللغات القديمة في العربية التي جذبت إليها الأقليات الدينية فعربوا كتبهم المقدسة وأغفلوا اللغات الأصلية التي كتبت بها مع ما يكنونه لأصول هذه الكتب من إعزاز وتقديس
هذه مقدمة أوشكت أن تغرينا بكسر الكلام على اللغة العربية وصرف النظر عن المسرح. . . على أننا نعود فنتساءل: هل تصلح العربية أن تكون لغة للمسرح المصري. . . ولست أدري لماذا لا نتساءل: هل تصلح اللغة العامية أن تكون لغة هذا المسرح؟
أما السؤال الأول فله أعداء كثيرون قامت عداوتهم على روح شعوبية منكرة، كما قامت على كراهية للغة العربية التي هم ضعفاء فيها أغلب الأمر، والتي لا علم لهم بأسرارها ولا ذوق أصيل يغريهم بطلاوتها وحلاوتها، وكل أولئك الأعداء هم ممن شدوا لغة أجنبية(526/10)
فثقفوها وبرعوا فيها قبل أن يتاح لهم نصيب موفور من اللغة العربية. ومنشأ ذلك فساد نظام التعليم في مصر. . . ذلك النظام الذي أوهى من دعائم قوميتنا - ورمزها الأول اللغة - كما أوهى من عصبيتنا لكل ما هو مصري. . . فإن مصر توشك أن تكون الدولة الوحيدة - وربما يشبهها في ذلك الشام - التي تسمح لعدد ضخم من أبنائها ممن يتعلمون بالمدارس الأجنبية أن يتعلموا جميع المواد التي تدرس في هذه المعاهد بلغة غير لغة البلاد. . . فالحساب والجغرافيا والتاريخ والعلوم والرسم والهندسة والأشغال وما إلى ذلك يدرس كله بلغة أجنبية وبواسطة معلمين من الأجانب. . . وهكذا يفقد هذا العدد الجم من أبنائنا مصريتهم، وينسون لغتهم، لأنهم يذهبون إلى تلك المدارس وهم صغار لم يعدوا الرابعة أو الخامسة من عمرهم، أي في السن التي يصلحون فيها للتكييف حسبما تشاء المدرسة وعلى الصورة التي تهوى سياستها أو سبب إنشائها. . . ولقد آن أن نفهم أن الاستمرار في السماح لتلك المدارس بأن يظل منهاج الدراسة بها على هذا النحو هو أشنع ضرب من ضروب الخيانة الوطنية. ولا يقل عنه سماحنا لأبنائنا بالذهاب إلى تلك المدارس. . . وهو هذا الجزء البغيض من تلك الخيانة الذي نصنعه بأيدينا. على أن الآباء الذين يدفعون بأبنائهم إلى تلك المدارس يدفعون اعتراض كل معترض بحجج لها وجاهتها أحياناً. . . ولسنا نرى ماذا يمنع وزارة المعارف من تدارك أوجه النقص التي تعتور نظام التعليم في مدارسها حتى لا تنهض لأولئك الآباء حجة في العدول بأبنائهم عن مدارسها؟ على أن التفات المدارس الأجنبية إلى تعليم البنات وتطبيعهن على الطابع الأجنبي كان خليقاً أن يفتح أعين وزارة المعارف فتقاومه بفتح المدارس المصرية الراقية في كل مدينة بها مدرسة أجنبية تغشاها الفتاة المصرية التي لا تجد مدرسة أخرى في بلدتها لتتعلم بها. . . ولحق أنه لم يعد معنى مطلقاً أن توجه الدولة 95 % من اهتمامها إلى تعليم الذكور، ولا توجه إلى ما تبقى من تلك النسبة المئوية التافهة لتعليم الإناث. وسنظل فقراء في قوميتنا، مدخولين في مصريتنا، بائسين في لغتنا، ما دامت الدولة تقصر هذا التقصير الشنيع في تعليم الفتاة المصرية، صارفة معظم عنايتها إلى تعليم الذكور دون الأناث، مع علمها بأن البنت هي التي تصنع الأمة، وأن نصيبها في ذلك هو أضعاف نصيب الذكر
ونحن إنما نسوق هذا الكلام في معرض الحديث عن لغة المسرح لما له من الصلة الوثيقة(526/11)
به. . . لأننا نتكلم باللغة العامية ونتعامل بها في حين أننا نقرأ الكتب والصحف ونصغي إلى الراديو والخطب الضافية في المساجد والكنائس، والمحاضرات الضافية في النوادي ودور العلم. . . ثم نحن نكتب في مدارسنا وفي معاملاتنا باللغة العربية الفصحى، أو ما يقارب من اللغة العربية الفصحى. . . وفي مصر اليوم أكثر من ثلاثمائة جريدة ومجلة تصدر يومياً أو أسبوعياً أو كل شهر وكلها مدبجة بهذه اللغة العربية الفصحى. . . من هذه الجرائد ما كان يصدر يومياً في ست عشرة صفحة وفي ثماني وأربعين صفحة محررة باللغة العربية الفصحى وندر ما كان يعثر القارئ فيها جميعاً بغلطة في اللغة. . . ومن مجلاتنا عدد لا بأس به يعني بالأسلوب فلا يسمح بركاكة أو لحن أو إسفاف أو دنو من العامية حتى في أبسط ألفاظها. . . فهل قال أحد إن أي مستمع من عامة الشعب ممن لا يتكلمون العربية الفصحى وممن لا يخطر لهم استعمالها على بال، لا يفهم ما يصغي إليه من موضوعات تلك المجلات وتلك الصحف وما يستمع إليه في خطب المساجد وعظات الكنائس ومحاضرات الوعاظ العامة وإرشادات الإذاعة وأغانيها المنظومة بالعربية من قصائد وموشحات؟
الحق أن عامة المصريين، بل عامة الأمم العربية، تجيد فهم الأساليب العربية وتسيغها. . . ولو لم تكن هذه العامة متعلمة، ولو لم يكن لها بصر بطبيعة تراكيب تلك الأساليب. . . وما دامت هذه العامة تفهم تلك الأساليب ولا تضيق بها، بل هي تلتذها أحياناً وترددها في أغاني كبار المطربين وفي أحاديث الرسول الكريم التي تحفظها عن ظهر قلب، وفي آيات القرآن التي ترددها وتمزج بها حياتها في صلواتها وأدعيتها، وفي آيات الكتب المقدسة الأخرى. . . فليس من العسير أن تحاول الدولة التمهيد لإحلال العربية الفصحى محل هذه اللهجات الدارجة المتعددة، وذلك بتعليم الفتاة المصرية وتنشئتها في بيئة مدرسية عربية لا يؤذن فيها بتعلم لغة أجنبية حتى تبلغ الفتاة الثانية عشرة على الأقل، وحتى تكون قد أنضجت فيها قوميتها المصرية التي نعتبر اللغة العربية أكرم مقوماتها. . . ونحن نلاحظ أن الطبقات المتعلمة في مصر وفي الشرق العربي عامة، أقل استعمالاً للهجات الدارجة من سائر طبقات الشعب غير المتعلمة. . . فمعظم طبقات المتعلمين في مصر وفي الشام وفي العراق يداولون أحاديثهم بينهم باللغة العربية، أو ما يقرب أن تكون لغة عربية خالصة،(526/12)
اللهم إلا ما تقضي به العادة من استعمال العامية في مجرى الحديث في غير وعي. . . فالتعليم إذن هو الوسيلة الوحيدة لإحلال العربية الفصحى محل العامية الدارجة. . . أما عنايتنا بتعليم الفتاة خاصة فذاك أنها هي التي تتولى تربية أطفالنا في سنيهم الأولى، فهي كفيلة إذن أن تصقل ألسنتهم، وأن تفهم عن المدرسة ما تهدف إليه من مطامح وأغراض، فهي على مساعدتها أقدر من الأم الجاهلة المغرقة في الأمية، ومن الأم التي تعلمت في مدرسة مصرية عرجاء، أو في مدرسة أجنبية تعنى أول ما تعنى بمحاربة القومية المصرية في كل مشخصاتها وأهم تلك المشخصات اللغة التي لا تسيحي بعض طبقاتنا الراقية ممن تعلموا - أو تعلمن - في مدارس أجنبية من هجرها واحتقارها ومداولة الحديث بلغة أجنبية حيث لا يكون في المجلس أجنبي واحد. . . هذه كارثة اجتماعية ينبغي أن تعالجها الدولة بما يجب لها من جهد. . . وليس على الأرض قاطبة لغة أشرف من لغتنا لو وجدت من يخدمها في إخلاص ونصح. . .
وإلى أن يتم هذا الإصلاح، وإلى أن تلتفت الدولة إلى خدمة اللغة العربية على النحو الذي تراه، لا نرى مندوحة من الصراحة في القول ونحن نتحدث عن لغة المسرح المصري وما ينبغي لها أن تكون في الوقت الحاضر، من أن نوصي باللغة العامية خيراً في هذا الحديث. . . فللغة العامية محاسنها التي لا تنكر، ومن هذه المحاسن ما تتفرد به، وما لا يؤديه شيء في العربية الفصحى إلا حيثما تفشو، هذه العربية الفصحى، بين الناس بحيث تختلط بدمائهم وألسنتهم كما تختلط العامية الآن. . . وليس الخير الذي نريد أن نوصي به للغة العامية هو الخير المطلق الذي يجعلها لغة المسرح عندنا. . . كلا. . . وإلا كنا ندعوا إلى شر لا إلى خير، وإلى نكسة لا إلى نهضة، فليست لغة غير اللغة العربية تصلح للمسرح المصري خصوصاً في الروايات المترجمة التي كان يقبل الجمهور عليها إقبالاً شديداً في فجر نهضتنا المسرحية التي كان يضطلع بها الشيخ سلامة جازي وجورج أبيض وعبد الرحمن رشدي والشيخ أحمد الشامي وأحمد سماحة، والتي ازدهرت أيما ازدهار في السنوات الأولى من حياة مسرح رمسيس قبل الانشقاق المشئوم الذي مزق وحدة الممثلين المصريين البارزين والذي انتهى إلى تلك العواقب المحزنة التي لم يسلم منها إلى اليوم. ولا يفوتنا أن نذكر الفرقة القومية بهذه المناسبة. . . فقد كانت اللغة العربية هي لغتها(526/13)
الرسمية، وكان يرجى الخير كل الخير من هذه الفرقة العتيدة التي قضت عليها سياسة قصر النظر. . . تلك السياسة المرتجلة التي كانت تريد أن تجعل من هذه الفرقة مشروعاً تجارياً فلم تعرف لها حقها الثقافي، ولم تعرف لأبطالها مقدرتهم على الاضطلاع بالنهضة المسرحية وحسن استعدادهم لأداء مهمتهم فضربت بهم عرض الأفق، وقبضت عنهم كفها؛ مما نرجو أن نعرض له عند الكلام عن فرقنا التمثيلية. . . ونأمل أن لا يغضب كلامنا هذا أحداً من أبطال التمثيل في مصر، وألا يترك ثناؤنا على زيد غضاضة في نفس عمرو. . . فقد آن أن يكون عمل الجميع خالصاً لخير المسرح
وقصار النظر هم الذين يزعمون أن تمسك المهيمنين على الفرقة القومية باللغة العربية هو الذي قضى عليها. . . بل قضت عليها عوامل أخرى سنعرض لها في حينها إن شاء الله. . . فاللغة العربية يجب أن تكون اللغة السائدة في جميع الروايات المترجمة. أما الروايات المصرية فمسألة فيها نظر. . .
وإليك أيها القارئ بعض الأسئلة التي تتبادر إلى ذهني وذهنك بهذه المناسبة:
هل يجوز أن يدير المعلم (فلان) الجزار أو البواب أو الخادم أو بائع المقانق (السجق ولا مؤاخذة!) حديثة باللغة العربية في زماننا الذي نحن فيه؟
وهل نستطيع أن نخلق جواً كوميدياً (هزلياً) باللغة العربية الفصحى دون أن تنتهي جهودنا إلى الغثاثة والسخف؟
وهل نستطيع الاستغناء في جميع رواياتنا الكوميدية عن لهجتنا المضحكة المرحة من (صعيدي وشرقاوي وبربري وشامي ومغربي؟)
وهل نستطيع الاستغناء عن أمثالنا العامية الفياضة بالحكمة وعن نكاتنا القومية التي لا يعقل أن ترسل بغير اللغة العامية؟
وهل نستطيع الاستغناء عن الفلكلور المصري كله طفرة من غير أن نمنح أنفسنا مهلة ليكون لنا فلكلور آخر لا غنى لحياتنا الأهلية عنه، إلى أن نستعرب تمام الاستعراب؟
. . . ولنسأل أنفسنا هذا السؤال أيضاً:
هل في أوربا أمة استغنت تمام الاستغناء عن لغتها الدارجة في مسرحها المحلي؟
وأحسب أن الإجابة هي بالنفي القاطع عن كل الأسئلة الأولى، ولعل السؤال الأخير فقط هو(526/14)
الذي يحتاج لإيضاح. . .
ولا مراء في أن ولا مراء في أن جورج برنردشو هو أعظم مسرحي عرفه العالم في العصر الحديث، وأكثر النقاد على أنه من أعظم مسرحي التاريخ، ثم هو رجل تدين له اللغة الإنجليزية بفضل كبير. وهو في الوقت نفسه من أكبر كتابها حيث لا ينازعه المرتبة الأولى إلا واحد أو اثنان من أساطين كتبها. . . وقد استطاع شو أن يجعل اللغة الإنجليزية الفصحى معيناً لا ينصب من اللغة العامية، وهو يعتبر هذه اللغة ضرورة لا غنى عنها للكمال المسرحي خصوصاً لشخصيات الرعاع والغوغاء التي يصرح أنه أن أنطقها بالإنجليزية الفصحى التي لا تعرفها ولم يسبق لها أن لهجت بها فأنه يجافي الواقع وينافر الطبع ويقلق الذوق المسرحي، ولذلك تراه في عدد كبير من رواياته، خصوصاً في ملاهيه المرحة، يرسل حديث أحد أبطاله الرئيسيين بالعامية من أول الرواية إلى آخرها، كما في ملهاته كانديد حيث لا يتكلم برجس إلا بالعامية؛ وكما في روايته: (هداية الكبتن براسبوند)، حيث لا يتكلم البطل درنكووتر إلا العامية كذلك. ولو أرنا ضرب الأمثال من روايات كتاب آخرين يرتفعون إلى مستوى شو لما أعوزنا ذلك. على أن الكاتب الإنجليزي سويفت كان أول من تولاه القلق على ضياع العامية الإنجليزية، ولذلك أنشأ مجموعته الفاخرة منها، والتي تعد اليوم معيناً لا ينضب لإمداد الإنجليزية الفصحى بما تفتقر إليه من ألفاظ قد لا تستطيع نحتها فتفضل استعمال المرادف العامي من أن تأخذ عن اللغات الأجنبية مع أنها لا تأبى أن تصنع ذلك. والحقيقة أننا نغلو غلواً لا معنى له في استهجان لغتنا العامية واستقباح استعمالها مع أنها كنز لم نعرف قيمته بعد نستطيع أن نسعف منه العربية الفصحى بما لم تسعفه به بدواتها الأولى التي حرمتها من كثير من مقومات الحضارة
وقصارى القول فيما ينبغي أن تكون عليه لغة المسرح المصري هو وجوب استعمال العربية الفصحى استعمالاً مطلقاً في الروايات المترجمة، واستبقاء اللغة العامية لبعض شخصيات الملاهي ليمكن خلق الجو الكوميدي المرح، كما يجب استبقاء اللهجات العربية الفكهة التي أشرنا إلى بعضها في مجرى الحديث لتساعد في خلق هذا الجو. . . وإن كان رأينا هو أن تقوم الملهاة على موضوعها لا على نكاتها وشتائمها كما هو شائع عندنا اليوم.(526/15)
دريني خشبة(526/16)
حول الأدب المهموس
غلطة الآلهة!
وشتائم الأستاذ مندور
للأستاذ سيد قطب
شاء الأستاذ مندور أن ينقلنا من الجو الأدبي الذي كنا نعيش فيه، ومن اللغة الأدبية التي كنا نتجادل بها، إلى جو آخر كريه، وإلى لغة أخرى هابطة، يبدو أنه يهرب إليهما كلما أحرج في جدل أدبي لا يملك أدواته
وقد تحدث إلي بعض الأدباء مستائين لانحدار أسلوب الجدل الأدبي إلى هذا المستوى الهابط، فأحب أن أعتذر عندهم للأستاذ مندور:
الرجل ذو حساسية مريضة في ناحية خاصة، ولم أكن في أول الأمر أعلم موضع هذه الحساسية، وإن كان حدسي قد هداني إلى شيء منها وأنا أتتبع ميله إلى (الحنية) في الأدب، وطريقته في المناقشة.
فالأستاذ مندور معذور إذن إذا خرج عن طوقه، ومعذور إذا لم يملك قلمه عن هذا الانحدار إلى شتائم شخصية لا يعسر على أي مخلوق أن ينحدر إليها، وإن كان يعسر على بعض المخاليق أن يرتفعوا عنها لسبب من الأسباب
على أن الخرافة اليونانية التي ساقها الأستاذ مندور في العدد الأخير عن خلق الرجل وخلق المرأة تكفي وحدها لحل عقدة الخلاف بيني وبينه في فهم الأدب ودراسة الشخصيات. فيبدو أن هؤلاء الآلهة الملاعين يزيدون في نسب المزج والتركيب وينقصون في كثير من الأحوال. ويبدو أن نسبة المزج في الأستاذ مندور تختلف اختلافاً بينا عن مثيلتها في رجال أمثال العقاد وسيد قطب، فطبيعي إذن أن تختلف الأمزجة والأحكام بنسبة هذا الاختلاف!
والغلطة - كما ترى - ليست غلطة الأستاذ مندور، إنما هي غلطة أولئك الآلهة الملاعين!
وقد اختار الأستاذ الفاضل في رده علي طريقة (الملاوعة والمكايدة)، ففهم أنه (يغيظني) إذا راح يتحدث عني كتلميذ للعقاد، ويصغر من شأني في أعين القراء. فأحب أن أقول له: إنني لسوء الحظ - لا أفهم الأشياء على النحو الذي يفهمه، لأن الآلهة فيما يبدو لم تودع(526/17)
تركيبي تلك النسبة الكبيرة من الجنس الآخر! فليس أحب إلي من أن أكون تلميذاً ناجحاً في مدرسة العقاد
وإنني لأؤكد للسيد مندور أن العقاد لو كان بين أساتذته هو أولئك الذين منحوه الدكتوراه أخيراً، فصيروه دكتوراً (في الأدب على ما أظن) لكان خيراً مما هو الآن بكثير، ولما وقف تلك الوقفة الغبية البليدة أمام مقطوعة (الكون الجميل)
ولاستطاع أن يدرك كما يدرك أصغر تلاميذ العقاد أن الشاعر الكبير حين قال:
قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل
كان يستعرض في لمحة من لمحات الحس. . . كل ما يعترض الفرد ويعترض الإنسانية من هموم وأشجان في هذا الكون، وكل ما ترمي به الحياة من تهم وشكايات، وكل ما تذخره الدنيا من آلام وأشواك؛ ويقابل هذا كله بذلك الجمال الكوني الفتان، فيقولها قولة الصوفي العابد لهذا الجمال:
قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل
قلها على الرغم من كل شيء، فإن للسكون شفاعة حاضرة من هذا الجمال، بل إن الكون لجميل على وجه القصر والتوكيد لا يغض من صنعته هذه شيء من تلك الأشياء
وهذا هو الذي يقف أمامه (الدكتور مندور) يقول في غير استحياء:
(هذه جملة مبتذلة لأنك تتساءل عن سر هذا القصر وذلك التأكيد فلا تهتدي إلى شيء)
وبعد فلا حديث لي بعد الآن مع ضحية الآلهة اليونان
(حلوان)
سيد قطب(526/18)
وفود العرب على كسرى
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
وجه إلي أستاذنا الجليل (ن) كلمة طيبة تحت هذا العنوان بشأن ما نشرته في (الرسالة) في موضوع (الخطابة بين الحرب والسياسة)
وما بال السيد الجليل (ن) يخفي عنا اسمه، وقد دلت عليه عبارته وأشارت إليه مقالته، كما يدل فسيق المسك على المسك، ونضح الإناء بما فيه. وقلنا ونحن نقرأ مقاله ونتذوق بيانه: هذه نفحة من شيخ أدباء الجارة الشرقية والشقيقة العربية؛ طالعنا بها على بعد أمد، وطول عهد والتزام صمت؛ فوردة نماذج الروح لطافة، وتجري مع النفس رقة
يتهمني الأستاذ الجليل أنني قدرت في نفسي صحة حكاية وفود العرب على كسرى، وهي تهمه يشرفني أن أكون بها مقترفاً، ولها مكتسباً؛ فقد أوردت قصة الوفود في مقام يقتضيها وسياق يستدعيها، ولم أتعرض لها من حيث صحة الوقوع وصدق الرواية؛ فذلك لم يكن سبيلي في المقال؛ ولكنني سقتها - على علاتها - كما ساقها صاحب العقد الفريد في أول الجزء الثاني من كتابه.
وكان غايتي من سوق خطب الوفود في مقالي بالرسالة أن أستشهد على حذف بعض الخطباء وحضور بدائهم وسرعة خواطرهم في المقامات الضيقة التي يفرجونها ببيان ولسان وجدل، فلم أجد أحسن في الاستشهاد ولا أطوع في الانتقاد من خطب وفود العرب على كسرى
وابن عبد ربه نفسه الذي نقل أخبار هذه الوفود يمهد لها في أول كتاب الجمانة بقوله: (. . . فأنها مقامات فضل، ومشاهد حفل، يتخير لها الكلام، وتستهذب الألفظ، وتستجزل المعاني. ولا بد للوفود عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوته يتزعون وعن رأيه يصدون). وهذا كلام من ابن عبد ربه له خبئ. . . معناه أنه مقر بصحة ما ينقله، وأن هذه الوفود الوافدة على ملك الفرس لم تكن خبرا ًمصنوعاً ولا حديثاً موضوعاً. وأن غيرها من أخبار الوفود صحيح في اعتبار المؤلف، وخاصة بعد قوله في التمهيد المشار إليه: (وما ظنك بوافد قوم يتكلم بين يدي. . . ملك جبار في رغبة أو رهبة، فهو يوطد لقدمه مرة، ويتحفظ من أمامه أخرى، أتراه مدخراً نتيجة من نتائج الحكمة، أو غريبة من(526/19)
غرائب الفطنة؟)
ويقول الأستاذ الجليل (ن) ناقلاً كلاماً في موضوع الوفود على كسرى: (ولن يجوز العقل أن يقعد ابن الأكاسرة لاستماع ثرثرة كل مهذار نفاج، ويفرغ لشهود عجرفة المتعجرف وعنجهيته). وأقول إن الأستاذ العربي الجليل قد رمى العرب في هذه المقالة بما لم يرمهم به أعداؤهم، فكيف يفوت ذلك على فطنة أستاذنا وهو يعلم أنه إذا رمى فسيصيبه سهمه، وأنه - أعزه الله وشرفه - من غزية. . . إن غوت غوى. . . وإن ترشد غزية يرشد. . .!
لقد كان النعمان من ملوك الحيرة، ولهم الملك المؤثل كما كان الغساسنة في الشام. وهذا كلام لا يغيب عن علم الأستاذ الجليل ولا يند عن أبسط معارفه، كما لا يغيب عنه شعر حسان ابن ثابت - في الجاهلية - في مدح الغساسنة وصف بياض وجوههم، وكرم أحسابهم، وشمم أنوفهم، وأولية طرازهم. . . فهل يقل المناذرة عن الغساسنة شيئاً من مكارم العرب واعتدادهم بأنفسهم في ساعة يحسون فيها انتقاص منتقص، أو اعتداء معتد مهما كان شأنه؟
وما الذي يمنع من وفود النعمان على كسرى وهو تابع له وفي ظل حمايته؟ لا شيء يمنع عقلاً من حدوث الوفادة. ونحن نرى في زماننا هذا الأمم المحمية، يفد مندوبها على الأمم الحامية القوية. . . ويجلسون حول الأنضاد الكبيرة، والموائد المستديرة!
فهل تعدم هذه الأمم المحمية اليوم رجلاً من أعز رجالاتها؛ أو بضعة من أصدق ألسنتها يقولون ما يعتقدون، ويدفعون عن أممهم وأوطانهم بحسن البيان، ما لا يستطيعون دفعه بالسان؟
اللهم إن هذا يحدث اليوم تحت سمعنا وأبصارنا، والأستاذ (ن) شاهد به هذه الوقود الحديثة والموائد الخضر نبأ يقين. . .
فلماذا ينكر هذا القلب العربي المتوثب - قلب أستاذنا الجليل ن - على النعمان بن المنذر واكثم صيفي وحاجب بن زرارة والحارث بن ظالم وغيرهم من سادات تميم، وأشرف بكر، وغطاريف عامر، وجحاجحة زيد - كيف ينكر عليهم أن يقولوا في سبيل العروبة كلمة يعتقدون حقيقتها ويؤمنون بصدقها، إيمانهم بالمصطحبات من لصاف وثبرة يزرن ألالاً(526/20)
ويتدافعن في سيرهن. . .؟
يقول الأستاذ الجليل (ن) (كلام الذي أوفدهم ابن ماء السماء إلى سلطان فارس مزور مختلق لم يقله النعمان ولا جماعته ولن يستجرئوا على مثله)
ونحن نقول إن العربي لا يستجرئ على إعلان حميته وإبائه إلا لما أودع الله فيه صفات الأنفة العزيزة والكبرياء الرفيعة؛ حتى ولو كان في الأطمار والأسمال خاوي البطن عاري الشوى والمنكبين من الطوى. . . وهو على عنجهيته ولوثته بصير بمواطن الكلام، عليم بمرامي السهام. . .
وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب
وقد انتقى النعمان لوفد كسرى جماعة وظنهم بميزانه، وأنزلهم أقدارهم التي يعرفها عنهم؛ وتوسم فيهم - لطول معرفة، أو حسن سماع، أو ص دق جوار - حسن الجواب ولطف المخرج من مضايق الكلام. ولم يخترهم من أهل الغفلة والبله، والسرعة والحمق؛ وتلك حسنة أخرى من حسنات النعمان، وفضيلة من فضائله؛ فهو هنا محسن يحسن اختيار الرجال، ويتنخل أعضاء الوفود الذين يصح أن توكل إليهم المهمات وتلقى عليهم التبعات. . .
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا تُوصه
وفعلاً وحقاً وصدقاً، لم يكذب النعمان قول الشاعر الإسلامي فأرسل مع الوفد حكيماً عربياً عرف بالصدق في الكلام وأشتهر بالقولة السائرة والحكمة المرسلة، وهو أكثم بن صيفي، فلم يعد أن يكون حكيماً في مقام المفاخرة. وتلك لطيفة من لطائف وفود العرب على كسرى؛ فقد كانوا يستطيعون أن يكونوا كلهم أبواقاً - أو بوقات - يضربون على فضائلهم، ويغنون على (ليلياتهم). . . ولكنهم قسموا العمل، ووزعوا الخطة وأحكموا الطريقة في هذا المؤتمر الذي يشبه مؤتمر (كذا) في بلاد (كذا) في عصرنا الحديث. . .
فأكثم بن صيفي حكيم ينطق بقدر، ويزن الكلام إذا نطق، فليس ثرثارة يخطب، ولا مهذاراً يكثر؛ بل يرسل الحكمة تلو الحكمة، والكلمة الصادقة أثر الكلمة، ويوجه الكلام - على حد البلاغيين - فيأخذ منه كسرى ما يأخذ لنفسه ويدع ما يدع. والحكيم في ذلك لم يغلط في قول، ولم يعنف في كلام، ولم يجهل أقدار الملوك، ولم يخرج عن جادة الاعتدال. فكيف(526/21)
يقال بعد ذلك إن خطباء هذه الوفود لن يستجرئوا على مثل ما نسب إليهم من الكلام؟
ويقوم عمرو بن الشريد السلمي فيفخر في إيجاز؛ ويهدد في إعجاز. أما افتخاره فما كان فيه غالياً ولا مبالغاً ولا نفاجاً ولا كذباً ولا مسخطاً لكسرى ولا متنقصاً للفرس؛ فهو يقول عن العرب بارك الله فيهم: (إن في أموالنا مرتفداً؛ وعلى عزنا معتمدا، إن أو رينا ناراً أثقبنا، وأن أود دهر بنا اعتدلنا. إلا أننا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون). لا فض فوك يا ابن الشريد! فما عدوت الصدق في كلامك، ولا جاوزت الحد في افتخارك. فهو يعلن هنا في كلمته الموجزة ميثاق الصداقة مع حليفته الكبرى. . . وهذا كلام لا يؤلم الحلفاء؛ ولا يوجع الأصدقاء وترجمته في لغة السياسة الدولية الآن أنه إذا اعتدى على بلاد الفرس فإن الأمة العربية الحليفة ملزمة بتقديم المعونة لها من المال والعتاد والرجال. . .
فأين موضع الجرأة أو الكذب أو المغالاة أيها الأستاذ الجليل، في هذا الكلام الوفي الجميل؟
بقى أن ذكرت أيها السيد العربي الكريم في تساؤلك أن صانع خبر الوفود أو صائغه أو مختلقه أو مزوره هو الزبير بن بكار بن عبد الله القرشي. فقد ذكر ياقوت الرومي أن من تصانيف الزبير هذا كتاب (وفود النعمان على كسرى)
وأقول أنا: إن ياقوت الرومي ذكر نقلاً عن ابن النديم صاحب الفهرست الذي عاش قبله بقرابة قرنين من الزمان. ووصفه ابن النديم بقوله: كان شاعراً، صدوقاً، راوية، نبيل القدر. فكيف يجوز لمن هذه أوصافه أن يضع الحديث الأدبي ويختلق الأخبار؟ وقد الزبير قاضياً على مكة وتوفي وهو قاض عليها. فكيف صح في القضاء رجل يتهمه أستاذنا الجليل اليوم بالوضع والاختلاق
وما حاجة الأستاذ الجليل أن يبني كلامه في اتهام الزبير بكار على الظن والفروض ما دام كتابه في وفود النعمان على كسرى لم يصل إلينا
وفوق ذلك أن الزبير بن بكار عاش في القرن الثالث الهجري ومات سنة 256هـ وفق رواية ابن النديم. فهو متأخر عن ابن القطامي والكلبي اللذين نقل عنهما ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد حكاية الوفود على كسرى. فإذا كان هناك وضع في هذه الحكاية فأولى به أن يكون صاحبه ابن القطامي أو الكلبي - سواء أكان محمدا الكلبي أم ابنه هشاما الكلبي - فلم يشتهر عنهما وضع - شهد لهما الأوائل بتقدمهما في علم الأنساب(526/22)
أما ابن القطامي فقد اشتهر عنه الكذب المقصود والاختلاق المعمود إليه؛ مع غفلة وبلاهة وضعف في الحكم وسقم في الفهم وسرعة تصديق لما يسمع من غير تدبر وتفهم. ويجوز أن يكون هو الذي وضع أو صاغ حكاية وفود العرب على كسرى إن كان لابد في هذه الحكاية من وضع
أما رأيي أنا. . . فحكاية الوفود صحيحة وليس فيها محل للإنكار والاستنكار، وهي جائزة الحدوث علماً وعقلاً، فهي تتفق مع صراحة العرب وإبائهم وحسن قيامهم في المواقف الضيقة وصدق حكمتهم، والوفاء لأحلافهم؛ ولو أن فيها من زخرفة الرواة وتزيد أهل الأخبار.
محمد عبد الغني حسن(526/23)
في الشعر المهموس
للأستاذ حسين الظريفي
ليس من البحث في شيء أن نتناول الظاهرة في العلم أو في الأدب أو في الاجتماع، ونغفل المصدر الذي انبعثت عنه كشأن الحديث الذي دار وما يزال دائراً على الشعر المهموس في (الرسالة) و (الثقافة) دون أن يصل الناقد والمنقود إلى نقطة اتصال، يتم فيها بينهما التفاهم على ما اختلفا فيه ولا يزالان على خلاف
ولو أن كلا منهما اتجه بالبحث إلى تعيين مصدر هذا الشعر في أدب المهجر، لضاقت بينهما شقة الخلاف، ولقاما بتعليل جروح كثيرة. وما كان القول بتخلف الشعر في مصر، أو بنفي هذا التخلف، إلا علة السير على الهامش وترك الصميم. وهذا ما رغبتي في أن أقول كلمتي لإملاء فراغ الموضوع
والواقع أن شعر المهجر طابعاً خاصاً يعرف به. لا من حيث مبانيه ومعانيه فحسب، ولكن من حيثية أخزى، هي ذلك الإيقاع الذي يقرع به الأسماع، أو مدى ذبذبته على حد التعبير العلمي. وهذا ما يحمل على استصواب تسمية هذا الشعر بالشعر المهموس، وتخطئة نعته بشعر الحنين. لأن هذه التسمية الأخيرة ترتكن إلى انفعال الشاعر بينما تعتمد التسمية الأولى على النزعة الشعرية العامة في قطر بعينه. فالموضوع يدور على هذه الظاهرة العامة في شعر المهجر، تاركاً وراءه البحث عن كل انفعال خاص - كالحنين - لا يقوم إلا إذا قام الباعث عليه. وما يظهر إلا لحاجة ثم يختفي
وأنا أراد نزعة الهمس هذه إلى شعر الشقيقة سورية؛ لأنها هي الأخرى تتميز بهذا الضرب من الشعر، وإن كانت تسير فيه خلف الشعر في المهجر. ويظهر أن شعراء الشقيقة وجدوا في العالم الجديد ما إذا قيهم نزعة الهمس هذه، فإذا هي علامته الفارقة في الشعر على اختلاف أغراضه وفنونه
ونحن نجد ظاهرة الهمس في النثر إلى جانب ظهورها في الشعر، ثم نجدها في فنون الغناء السوري، كما نجدها في لهجة التخاطب. فالقوة الموسيقية في الإعراب عن الخواطر والانفعالات؛ وأعني بها ما اصطلحنا عليه بكلمة (الهمس) لا تكاد تختلف في ضروب هذه الأساليب البيانية من شعر ونثر وغناء وتخاطب(526/24)
وقد أطلت التفكير في مصدر هذه الطاقة الموسيقية فلم أجده إلا في طبيعة البلاد السورية، فإنها هي المصدر الذي صدرت عنه هذه الظاهرة وانسجمت علي كافة طرق التعبير. لقد فعلت طبيعة البلاد فعلها الخاص في أعصاب هؤلاء الشعراء وتسربت منها إلى فنون القول موزوناً وغير موزون
يقابل ذلك ما ينتج من العراق من شعر ونثرن وما يألف من ضروب الغناء؛ فإنه يقف في الطرف الثاني من المحور، حيث يقف على طرفه الآخر أدب المهجر. إن الأدب في العراق كالغناء فيه يعتمد في إيصال الشعور على قوة اللهجة؛ فإذا كان أدب المهجر يمس شعور القارئ أو السامع برفق ولين، فإن أدب العراق لا يمسه إلا بشدة. ويقف بين هذين أدب مصر، فلا هو بالضعيف ولا بالعنيف
ولا محل للقول بتخلف الشعر في مصر لأن رنة الإيقاع فيه غير هادئة؛ فالشعر لا يقاس بهذا المعيار، وإنما ينظر في مدى ارتقائه على أنه أسلوب بيان ومجموعة خواطر. أما قوة اللهجة فيه فإنها مظهر الحالة العصبية التي كان عليها الشاعر عند بنائه بيوت الشعر. وليست هذه الحالة بجزء من الشعر لتكون جزءاً مما يقاس به مدى ارتقائه وطول بقائه، ويحكم له أو عليه
وقد نرى الهمس والجرس في بعض قصائد الشاعر فلا يصطبغ شعره بهذا اللون، لأنه وليد حالة روحية خاصة تأتلف الموضوع المقول فيه. ومركز الثقل فيما دار ويدور عليه الحديث على لسان الرسالة وزميلها الثقافة، هو ندرة ما في مصر من هذا الشعر وكثرة ما في أدب المهجر منه. تلك الظاهرة التي أرجعناها إلى طبيعة البلاد. فشاعر المهجر عاش في وسط لا ترهق فيه الأعصاب، ومن ثم كان تصويره وتعبيره غير مرهق الأعصاب غيره. أما الشاعر في مصر أو في العراق فإنه محاط من حمارة الصيف بما يتعب الأعصاب ويبعد بها عن أن تنفعل إلا بأبلغ المؤثرات. وهو بمدى تأثر هذه مسوق إلى التهويل عند محاولة التأثير فيمن سواه. فكان كل من أدبه وغناه يعتمد في التأثير على ارتفاع الصوت فيه وإن صم الآذان
وأعتقد أن حالة الأعصاب هذه كانت وما تزال حائلاً دون انتشار القصة والرواية في أدب العرب، وباعثاً إلى وضع تلك القواعد الأدبية التي تقول باختيار ما قل ودل، وأن الإعجاز(526/25)
في الإيجاز
فإذا اتفقت كلمة الباحثين على أن الشعر المهموس وليد طبيعة خاصة تفعل في نفس الشاعر، لا يبقى محل للنعي على الشعر في مصر، أو للقول بأن الهمس فيه فن من الفنون
إن الهمس أو الجهر في الشعر أو في غير الشعر، لا يمكن اعتباره مظهر تطور أو تأخر، لأنه لا يدل إلا على مقدار الطاقة التي بذلها صاحب الفن في سبيل التأثير في الآخرين
(بغداد)
حسين الظريفي المحامي(526/26)
برنارد شو
بمناسبة بلوغه السابعة والثمانين
في السادس والعشرين من يوليو يبلغ برنارد شو عامه السابع والثمانين
وقليل من العظماء الذين يتاح لهم أن يعيشوا ليروا أسماءهم ترتفع إلى ذروة الشهرة، وبرنارد شو هو أحد هؤلاء الذين قدر لهم أن يلمسوا شهرتهم العالمية بأنفسهم، فلم تلق مؤلفات كاتب منذ شكسبير إلى الآن ما لقيته مؤلفات شو من الرواج والذيوع. فمؤلفاته تطبع منها الملايين وتمثل على أعظم المسارح وتعرض على الشاشة البيضاء في جميع أنحاء العالم
ويعتبر شو أكبر كاتب وناقد اجتماعي وسياسي وديني. ويمتاز بنظرته النافذة وأسلوبه التهكمي اللاذع وقدرته على مهاجمة النظم القائمة في إقدام وجرأة
ولد جورج برنارد شو في دبلن في أيرلندا في السادس والعشرين من يوليو عام 1856. وكان والده سكيراً لم يصادف في عمله حظاً ولا توفيقاً
ولما كان شو الصغير في الحادية عشرة أرسله والده إلى مدرسة ابتدائية في دبلن، فلم يظهر هو الآخر نبوغاً ولا تفوقاً، بل كان كما قال أرشيبلد هندرسون مصدر قلق ومتاعب لمدرسيه وشغلاً لزملائه عن الدرس، إذ كانوا يفضلون الانقطاع لسماع ما يرويه لهم من القصص على الانتباه إلى مدرسيهم
وكانت أمه - التي أخذ عنها ابنها الشيء الكثير - ذات خلق كريم وثقافة عالية، تهوى الموسيقى، وكان بيتها ومزاراً لكبار الموسيقيين في ذلك العصر وعلى رأسهم (جورج جون فاندليرلي) وكانت نشأة شو في هذا الوسط سبباً في اكتسابه كثيراً من المعلومات في هذا الفن وهيأت له جواً من الجمال والخيال
ولما بلغ شو العشرين من عمره رحل إلى لندن حيث قضى الأعوام الستة التالية في عوز وفاقة، وأوشك أن يغلب عليه اليأس، وكاد أمله في الكتاب يتحطم إذ لم يربح من إنتاجه الأدبي طوال هذه المدة سوى جنيهات معدودة
ولما كان في السادسة والعشرين استمع إلى محاضرة ألقاها الاقتصادي الكبير هنري جورج عن الملكية الزراعية بين فيها رأيه في مشاكل العالم الاجتماعية وقال إن الحل الجيد لهذه(526/27)
المشاكل ينحصر في جعل الأرض ملكا مشاعاً للجميع، بينما تبقى رؤوس الأموال الأخرى في يد الأفراد. فراقت شو هذه الآراء وقرر اعتناقها، ولكن ذلك لم يدم طويلاً بل تغير حين قرأ شو كتاب كارل ماركس عن الاشتراكية والرأسمالية وقد تأثر شو بهذه الآراء إلى حد جعله يقول إن كتاب كارل ماركس هو الزي الذي خلق مني رجلاً
وما حل عام 1894 حتى كانت شهرة شو قد ذاعت، فقد أضحى بعد هذا التاريخ كاتباً قصصياً يطلع برواياته على الجمهور مصدرة بمقدمات تتضمن آراء في المسائل السياسية والاجتماعية. وإذا كانت هذه المقدمات لا تتصل في الغالب بموضوع الرواية التي تتصدرها فإنها كانت لا تقل عنها قيمة إن لم تفقها
وفي عام 1898 وهو في الثانية والأربعين من عمرهن أصيب بجرح بليغ في قدمه. وقد سهرت عليه أثناء مرضه سيدة ايرلندية، وهيأت له جواً هادئاً ومريحاً، واختصته بالجانب الأكبر من عنايتها واهتمامها. وكانت هذه الراحة والعناية سبباً في أن يطلق شو مهنته السابقة كصحفي ويتفرغ للكتابة. ومنذ ذلك التاريخ كسب شهرته كأكبر ناقد اجتماعي وسياسي وديني، وكأعظم كاتب قصصي
ولنعرض الآن لبعض آرائه
لم يرق شو رؤية الكثيرين يعانون متاعب الفقر في عالم غني بمواده وثرواته، وحاول أن يجد حل لهذه المشكلة علاجاً فرأى في الاشتراكية هذا العلاج
ويقول عنه الأستاذ جود أحد أعضاء جامعة لندن في هذا الصدد: (لقد كان برنارد شو في عام 1914 القائد الذي قادنا تحت لوائه إلى عهد الاشتراكية المنتظر، كما كان اللسان الناطق بآمال من يعتقدون هذه المبادئ)
ولما بدأت الحرب الحالية أخرج شو مؤلفه (الشعور نحو الحرب) الذي حاول أن يفسر الحرب تفسيراً على ضوء الاشتراكية، ويروي أن رؤوس الأموال مكدسة في أيدي الرأسماليين الذين يستغلون بها العمال ويستعبدونهم، فيجب أن توضع تحت رقابة الشعب.
وفي عام 1921 زار شو روسيا السوفيتية وقابل ستالين، فلما عاد إلى إنجلترا أخذ يشيد بهذا الرجل وبرجال حكومته ويقول إنهم قد وقفوا لحل المشاكل التي واجهتهم
هذا طرف من آرائه السياسية. أما آراؤه الاجتماعية فتتلخص في أن ما يواجه العالم من(526/28)
مشاكل يرجع في الأصل إلى النظام الرأسمالية الذي يجعل الكثرة الغالبة في أفراد قلائل يتحكمون في مصيرهم. وهو لا يلقي المسؤولية على عانق الرأسماليين وحدهم، بل يشترك معهم العمال الذين يضعفهم إنشقاقهم وافتراق كامتهم. ولعل رواية (فوق الصخور) خير معبر عن آراءه في هذه الناحية
وفي رواية (مهنة مسز وارن) يحاول أن يصل إلى أن وزر الدعارة وحياة الرذيلة إنما يلحق هؤلاء الذين كانوا سبباً في الفاقة التي تدفع المعدمين إلى مثل هذه الحياة، لأنه إنما يعملون ذلك مدفوعين إليها ومرغمين عليها لكسب قوتهم. ويردد شو دائماً أن (لا جريمة إلا الفقر)
وتحمل كتابات شو كثيراً من المتناقضات، فنراه يعترض على الغبن الذي يقع على العمال، ولكنه في الوقت نفسه يقر هذا الغبن إن كان لمصالح الإمبراطورية البريطانية. ونراه في قضية أيرلندا يقف إلى جانب بريطانيا مع أنه أيرلندي النشأة ومع اعتزازه بها. وبينما يتهم شو الإنجليز ويعيب عليهم عسفهم في مذبحة دنشواي، نراه يعضدهم ويؤازرهم في اضطهادهم للبوير أثناء حرب جنوب إفريقيا
وبرنارد شو مقتنع بأن الكثيرين يخالفون مذاهبه وآراءه ويقفون دونها؛ وفي هذا يقول في إحدى مقدماته: (إذا نطقت بكلمات تافهة تحت تأثير فكرة أو عاطفة سرت في صحف العالم سريان البرق؛ أما إذا قلت خلاف ما يريد الرأسماليون كان صدى قولي صمتاً وسكوناً).
محمد شاهين الجوهري
بكالوريوس في الصحافة(526/29)
صورة من الأدب التركي
قبر من الأوحال
للكاتب التركي خالد ضيا
بقلم الأستاذ برهان الدين الداغستاني
قد مضى عليه الآن بعض سنوات وهو يخرج كل صباح حاملاً هذه الرسائل التي تملأ حقيبته
أنه تعب من هذه الحياة، وسئم جر ساقيه المتعبتين من كثرة المشي من إفريز إلى إفريز يتلمس الأبواب
نعم بلغ به الملل والسأم الآن حد النفور من توزيع هذه المزق من الأوراق التي تأتي من كل ركن من أركان العالم وتقتضيه الجولان من شارع إلى شارع ومن باب إلى باب
مضى عليه الآن أمد طويل وهو على حاله هذه: يحترق تحت أشعة الشمس اللافحة وتكاد أنفاسه تتقطع من حر السموم التي تقذف باللهب كأنها فيح جهنم
وفي الشتاء يتلقى ميازيب السماء التي تغسله من فرقة إلى قدمه. ويجر رجليه اللتين كاد يفتهما البرد وسط الأوحال
إنه كره التسكع في أزقة هذه المدينة العظيمة التي لا حصر لها. كما كره منظر حقيبته التي لا تفارق جنبه. نعم إنه سئم السير آلاف الخطوات كل يوم ليوصل الأخبار إلى هذا وذاك
سنين. . .! إن سلسلة أيام هذه السنين الطويلة الخالية من الإنصاف قد مرت عليه وهي تنزل به الضربة تلو الضربة في كل يوم. وتحطم آماله وتهدم صرح أمانيه وتدفنها في الرغام. مسكين! إنه لا يكاد يجد بعض الراحة والهدوء لأعصابه المحطمة في ظلمة الليل حتى تقول له الشمس التي تشرق في مطلع كل نهار:
(إنك اليوم أيضاً - كما كنت أمس وكما كنت في كل الأيام الخالية - موزع بريد وستبقى كذلك ما دمت حياً)
آه من هذه الحياة المريرة التي حكم عليه أن يقضيها متسكعاً الساعات الطوال ليجد شخصاً من الأشخاص، يبحث عن أرقام المنازل تارة، ويسأل أصحاب الدكاكين والحوانيت عن(526/30)
اسمه تارة أخرى. ويسير بخطوات مضطربة في منحنيات هذه الشوارع والأسواق التي لا نهاية لها
هاهو ذا قد ثارت ثورته على الحياة وانفجر بركان نقمته من جراء هذا المطر الغزير الذي لا يرحم، والذي ألصق أثوابه المبللة بعظامه ونفذ من حذائه الممزق إلى جواربه
إنه لم يرى حاجة إلى الاحتماء في مكان ما ولم يحاول الهرب من هذا المطر المنهمر وكأنه يريد مطاردته - حتى يخفف بعض أذاه عنه. بل جلس على حافة أحد تلك الحوانيت المغلقة وأخذ يتأمل هذه الطبيعة الثائرة. هذا الشارع الذي يخيل لناظره - من هول المطر وشدته - أنه أمام نهر من أنهار جهنم إبان فيضانه. هذه الأوحال التي تغلي وتقذف بحباب أسود من شدة وقع قطرات المطر. وبينما هو في تأملاته رأى أولئك الذين يسيرون في سكون ودعة مستظلين بمظلاتهم من غير أن تلوث الأوحال أرجلهم، ولا أن تبلل الأمطار أثوابهم. ثم رأى تلك السيارات التي تشق الأوحال وتسير مندفعة كالسيل. لا جرم أن المطر لم يكن له أثر بالنسبة إلى هؤلاء وأولئك. إن أصحاب هذه المظلات وإن أرباب هذه السيارات هم أصحاب هذه الرسائل التي تملأ حقيبته. من يكون هو وما قيمته ومقداره بين هؤلاء وأولئك في وسط هذه الحياة الصاخبة؟ هل جاء إلى هذه الدنيا لمجرد حمل رسائل هؤلاء السادة وتبليغها إليهم؟
إنه لم يعد ينظر إلى الشارع وما فيه، بل حول نظره إلى قطرات الماء التي كانت تتساقط حوله من أطراف ملابسه الممزقة، والى حذائه الذي يخيل لرائيه أنه ينتحب تحت نقاب من الطين!. . .
آه من هذه الرسائل! هذه الأشياء التي تأتي من أي إنسان وتذهب إلى أي إنسان!. . .
كان المسكين في حاجة ملحة إلى رسالة من هذه الرسائل، لأنه لم يتلق رسالة خاصة مدة حياته كلها، بل كان مكلفاً برسائل الآخرين فقط. كان وحيداً لا أهل له ولا أقرباء فأنى له بكتاب يأتيه أو ينتظره؟
وكان كلما فتح هذه الحقيبة التي تملأ كل يوم وتفرغ أو أقفلها أرسل من أعماق قلبه آهة حزينة طويلة. كان يتحسر على هذه الأشياء التي تمر بين يديه كل يوم من سنين طويلة ويتحرق شوقاً إليها. ماذا كان يحصل لو أن أحد هذه الرسائل ـ في الفينة بعد الفينة ـ(526/31)
كان باسمه وله خاصة؟ لا جرم كانت تكون نوعاً من التسلية تخفف بعض أعباء الحياة عن كاهله
ماذا في هذه الرسائل، وما هي الأسرار التي تخفيها في طياتها؟ إنه يعرف سيدة تنتظره دائماً في مدخل منزلها في زقاق بعيد طويل، لأنها كانت تتلقى رسائل من ولدها
ويعرف فتاة في كلية الطب تأخذ كل أسبوع ثلاث. أو أربع رسائل دفعة واحدة. وكان يراها دائماً تسارع إلى غلاف ارجواني وتفضه دون بقية الرسائل ويداها ترتعشان.
وعلى مر الأيام ألف هذه الرسائل وكسب شيئاً من المرانة من طول التكرار وكثرة الممارسة، فأخذ يفهم أسرارها ومحتوياتها المختلفة، فكان يعرف مضامينها من خطوطها تارة ومن أسماء أصحابها تارة أخرى. ومن ألوان أغلفتها والروائح المنبعثة من أوراقها المعطرة في بعض الأحيان
نعم بدأ يعرف هؤلاء الذين يتبادلون الرسائل فيما بينهم، أولئك الآباء والأبناء والأزواج والزوجات
وهؤلاء الشبان من الفتيان والفتيات الذين يتبادلون عواطف الحب ويتساقون أكؤس العشق والغرام
نعم أخذ يفهم أولئك الذين يمرون أمامه بمظلاتهم وسياراتهم من غير أن يكونوا مثقلين مثله بحقائب مملوءة برسائل الآخرين. . .
كان يفهم كل السادة أصحاب هذه الرسائل اللعينة وكان في نفس الوقت يشعر شعوراً قوياً بأنه الوحيد الذي لاحظ له من نعيم ولا نصيب من راحة وسط هذا العالم الصاخب وبين هؤلاء السادة المترفين المنعمين
كان بائساً حقاً. فلم يكن له أن ينتظر وصول رسالة باسمه من أحد في يوم من الأيام
وعند ما وصل إلى هذا الحد من تأملاته وخواطره كان المطر لا يزال يتساقط بشدة فوق طربوشه المبلل وتنحدر قطراته إلى وجنتيه فتملك هذا الموزع المسكين البائس هذا القلب الحزين. هذا الذي فقد كل أمل في الحياة تملكه شعور قوى من اليأس العميق والألم المبرح والحزن الشديد. وتمنى لو يستطيع اقتلاع هذه الحقيبة التي تحفظ رسائل الآخرين من على عنقه وقذفها في الهواء. هذه الحقيبة المعلقة برقبته بسلسة لا تطاق كأنها - لثقلها - تريد(526/32)
أن تجتذب رأسه إلى أسفل حق تلصقه بالأرض
إنه يتمنى أن يدوس هذه الحقيبة برجليه حتى تتمزق إرباً إرباً وتنسحق سحقاً!. . .
وبعد ذلك يرجو - لينال بعض الراحة - أن ينغمس في هذه الأوحال التي تنشق كالقبر ثم تلتئم كلما خاضها خائض.
نعم هنا وفي هذه الأوحال يريد أن يمد رقبته تحت عجلات السيارات ويموت
يريد أن يدفن في هذه الأوحال
إنه يتمنى قبراً من الأوحال
برهان الدين الداغستاني(526/33)
نهاية موسوليني
للأستاذ علي محمود طه
نبأ في لحظة أو لحظتين ... طاف بالدنيا وهز المشرقين
نبأ، لو كان همسَ الشفتين ... منذ عام، قيل إِرجافٌ ومَيْن!
وتراه أمة بالضفتين ... إنه كان جنين (العلمين)
موسولين! أين أنت اليوم؟ أين؟ ... حلم؟ أم قصة؟ أم بين بين؟
قَصْرُ (فينسيا) إليكَ اليوم يُهدِي ... لعنةَ (الشرفة) في قربٍ وبُعْدِ
عجباً! يا أيُّهذا المتحدِّي ... كيف سامك سقوط المتردِّي
إمبراطورك في هَمٍْ وسُهدِ ... صائحاً في ليلهِ لو كان يُجْدِي:
أين يا (فاروسُ) ولَّيت بجْندي؟ ... أين ولَّيْتَ بسلطاني ومجدي؟
أَعتزلت الحكم؟ أم كان فراراً ... بعد أن ألفيْتَ حوليْكَ الدمارا
سقت للمجزةِ الزغب الصغارا ... بعد أن أفنيت في الحرب الكبارا
يالهم في حومة الموت حيارى ... ذهبوا قتلى وجرحى وأسارى
يملأون الْجو في الركض غبارا ... وقبوراً ملأوا وجه الصحاري
أعلى (الصومال) أم (أديس ابابا) ... ترفع الراية، أم تبنى القبابا
أم على (النيل) ضفافاً وعبابا ... لمحت عيناك للمجد سرابا
فدفعت الجيش أعلاماً عجابا ... ما لهذا الجيش في الصحراء ذابا؟
بخرته الشمس فارتد سحابا ... حين ظن النصر من عينيه قابا
يا أبا (القمصان) جمعاً وفرادى ... أحَمَت قمصانك السود البلادا؟
لم آثرت من اللون السوادا؟ ... لونها كان على الشعب حدادا!
جئت بالأزياء تمثيلاً معادِا ... أي شعب عز بالزي وسادا
إِنه الروح شبِوباً واتقادا ... لا اصطناعا ًبل يقينا واعتقادا
موسوليني قف على أبواب روما ... ونأملها طلولاً ورسوما
قف تذكرها على الأمس نجوما ... وتَنَظَّرْها على اليوم رجوما
أضرمت حولك في الأرض التخوما ... تقتفى شيطانك الفظ الغشوما(526/34)
أوكانت تلك (روما) أم (سدوما) ... يوم ذقت بخطاياك الجحيما؟
هي ذاقت من يد الله انتقاما ... لأَثام خالد. عاماً فعاما
يوم صبت فوق بيروت الحماما ... لَم تذر شيخا ولم ترحم غلاما
من سفين يملأُ البحر ضاما! ... ذلك الأسطول كم ثار احتداما
أين راح اليوم؟ هل رام السلاما؟ ... أم على الشاطئ أغفى ثم ناما؟
أي عدوان زرِي المظهر ... بدم قان ودمع مُهْدَر
حين طافت بحمى (الإسكندر) ... أجْنح من طيرك المستنسِر
تنشر الموت بليل مقمر! ... يا لمصر! أترى لم تثأر
بيد المنتقم المستكبر؟ ... أترى تذكر؟ أمُ لم تذكر؟!
موسليني لست من أمس بعيدا ... فاذكر (المختار) والشعب الشهيدا
هو روح يملأُ الشرق نشيدا ... ويناديك ولا يألو وعيدا
موسليني خذ بكفيك الحديدا ... وصغ القيد لساقيْك عتيدا
أو فضع منك على النصل وريدا ... فدمي يخنقك اليوم طريدا
علي محمود طه(526/35)
البريد الأدبي
القصة والتجديد
أردت أن أبعث الفعل (خرف) الذي اشتقه الإمام ابن حزم من (الخرافة) أي الأسطورة أو ممن انتسبت إليه أعني المسمى (خرافة) فقلت فيما قلت:
(إن هذا الزمان وكتاب القصة المخرفين فيه في حاجة إلى التخريف) وإنما عنيت الحداث (الذين يحكون، يقصون) واحتياجهم إلى هذا الفعل. ولقد خشيت أن يظن أني أحقر في هذه الجملة (القصة) وأنتقص كتابها، وأني أنكر (تجديداً) في الأدب. فليعلم أني لا أمقت القصة بليغة مرصنة، لا أمقتها ولا أكره التجديد مجوداً. فمن قص وجدد وأحكم وأفاد وهدى وجود تقبلت العربية قصصه، ورضى الناقدون عن تجديده. ولم أستحدث في هذا الوقت في هذا الباب لي مقالة، فمذهبي (في المجدد، في التجديد مع التجويد) اليوم هو مذهبي في الأمس. وفي خطبتين أو رسالتين قديمتين كلام واضح مفصل، والحق لا يتحول، الحق مثل ذي الخلق المتين وذي العقيدة - لا يتبدل.
إلى الأستاذ دريني خشبة
سيدي: قرأت مقالكم العظيم المنصب في بحثه على المذهب (التعبيري) في ألمانيا، ولقد راعني أيها الفاضل أنكم تكررون لفظة (التعبيريين) في مقالكم كترجمة للفظ الإنجليزي واللفظة الإنجليزية جمع لاسم الفاعل من الفعل واسم الفاعل في اللغة الإنجليزية يصاغ بطريقتين: الأولى: من الفعل بزيادة في آخر الفعل؛ والثانية: من الاسم بزيادة والأولى مطردة، والثانية سماعية، قياسية في بعض الأسماء، وعلى هذا فالترجمة الصحيحة للجمع هي: (المعبرون - المتكلمون)، لا كلمة (التعبيريين - الكلاميين)، لأن كلمة (تعبيري) كلامي منسوبة إلى كلمة (تعبير والمنسوب كما تعلمون في القاعدة العامة، ما لحق آخره ياء مشددة مكسور ما قبلها للدلالة على نسبة إلى المجرد منها للتوضيح أو التخصيص، (والمعبر - المتكلم اسم فاعل من العبارة بزيادة في المثنى والجمع.
عبد الله الملحوق
أخطاء في كتاب الإمتاع والمؤانسة(526/36)
كنت أطالع الجزء الأول من كتاب (الإمتاع والمؤانسة) فعنت لي بعض ملاحظات أذكر طرفاً منها فيما يلي:
1 - جاء في ص117 س17: (. . . ومثل هذا كثير، وهو كاف في موضع التكنية)، ويقول المصححان للكتاب إن (التكنية) كانت في الأصل (التبكيت) وهو تحريف لا يستقيم به المعنى فلذلك غيراه إلى (التكنية). ولكن الواقع أن عبارة الأصل هي الصواب، لأن التبكيت هو أن يغلب الإنسان خصمه بالحجة، ومن العبارات الجارية قولهم: (بكَّته حتى أسكته). وفضلاً عن هذا فقد وردت هذه الكلمة بعد ذلك بقليل في كتاب الإمتاع ص119 س15
2 - جاء في ص149 س6: (. . أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضد)، وفي الأصل (يجوز عليه) فرفض الناشران رواية الأصل، ولكن الصواب أن تثبت؛ لأن كلام التوحيدي في هذا الصدد ينصب على الفلسفة الخلقية ولذلك فقد استعمل فيه تعبيرات فلسفية. ومن الشائع في الفلسفة قولهم يجوز عليه التغير، أولا يجوز عليه التغير. (أنظر (الانتصار) للخياط (مثلاً) ص162 س18، ص170 س5 الخ)
3 - وفي ص155 س7: (وللرأي والعقل فيهما مدخل قوي وحظ تام) ويقول المصححان الفاضلان إن (العقل) هي في الأصل (العقد) ونقول إن (العقد) صحيحة، وهي من الكلمات المستعملة في الفلسفة الإسلامية، فلا موجب لرفضها. . . يقول ابن سينا في إلهيات (الشفاء): إن الحق يفهم منه الوجود في الأعيان مطلقاً، ويفهم منه الوجود الدائم، ويفهم منه حال القول أو العقد. ومعنى العقد في عبارة ابن سينا الاعتقاد أو التصديق، وأظن أن الاعتقاد (أو العقيدة كما نقول أحياناً) من الألفاظ التي يمكن أن توضح إلى جوار لفظ (الرأي) (كما فعل الأستاذ أحمد أمين نفسه في مقالة الرأي والعقيدة بكتابه فيض الخاطر ج1)
4 - وفي ص159 س3: (وإذا غلبت عليه اليبوسة يكون صابراً. . . يضبط ويحتد)، ويقول المصححان الفاضلان إن يحتد أصلها يحقد، ونقول إن الأصل هو الصواب وإنهما أخطآ في التصحيح: لأن المراد أن الإنسان إذا غلب عليه مزاج (اليبوسة) فإنه في هذه الحالة يضبط نفسه ويكظم غيظه أو حقده (دون أن يحتد أو يظهر غضبه)(526/37)
5 - وفي ص219 س3: (لذلك عرفت الحكمة في الكائنات الفاشيات) ويقول المصححان إن (الفاشيات) هي في الأصل (الفاسدات) ونقول إن عبارة الأصل هي الصواب: (أنظر ص220 س12)، والفاشيات هنا لا معنى لها
هذه هي بعض الملاحظات التي عنت لي أثناء قراءتي للجزء الأول من كتاب (الإمتاع والمؤانسة)، وكلها تندرج تحت ضرب واحد من ضروب التصويب هو العودة إلى رواية النص إذ لا موجب لرفضها والتحكم في لغة الكاتب الأصلي. أما الملاحظات الأخرى التي طويتها عن القراء فهي أدخل في باب الذوق والاجتهاد، وليس هذا مجالها
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم(526/38)
العدد 527 - بتاريخ: 09 - 08 - 1943(/)
النظام والتربية القومية
للأستاذ عباس محمود العقاد
عاقبة موسليني السياسية لا تعنينا في هذا المقال، لأن لها مجال غير هذا المجال، وإنما تعنينا هذه العاقبة هنا من حيث تتصل بالفلسفة الاجتماعية ومذاهب التربية القومية، لأنها من هذه الناحية قد شغلت أناساً لعلهم مخلصون في نياتهم وتفكيرهم ولعلهم لا يخدمون غرضاً من الأغراض الموقوتة بما اعتقدوه ونزعوا إليه، ترسما الخطوات موسليني، ثم خطوات التابعين له في مضمار السلطان والاستبداد
بعد قيام النظم الفاشية في إيطاليا كثر القائلون بفائدة هذه النظم للأمم التي أصابها الانحلال على التخصيص، وجنح بهم إلى هذا القول أن الفاشية ظهرت في زمن خيفت فيه أخطار الشيوعية أشد خوف، فجعاها بعض الباحثين الاجتماعين (جبيرة) لعظام الأمم المهيضة التي يخشى أن تصاب في حياتها القومية، فتنقلب من الإيمان بالوطن إلى الإيمان بالشيوعية
وكان هذا وهما من الأوهام
لأن النظام وحده لا يخلق القوة، وطنية كانت أو غير وطنية والنظام وحدة لا يجبر كسر الانحلال إذا كانت له أسبابه المتغلغلة في تكوين الأمة
فالسجناء أكثر الناس نظاماً في معيشتهم المفروضة عليهم، لأنهم ينهضون من النوم في موعد، ويأكلون الوجبات الثلاث في موعد، ويخرجون إلى الرياضة في موعد، ويذهبون إلى النوم في موعد، ويتناولون من طعام واحد ويلبسون من نسج واحد وزي واحد، ويزاولون عملا واحداً في مكان واحد، ولا يأتون بحركة من الحركات العامة إلا على نظام مفروض لا اختلال فيه
فلا يطمع أحد في بلوغ النظام بين جماعة الناس مبلغاً أدق وأوفى من مبلغه بين جماعات السجناء في العالم بأسره
ومع هذا لا يتخذهم أحد من الباحثين ولا غير الباحثين قدوة في أخلاق اجتماعية ولا أخلاق فردية، ولعلهم على نقيض ذلك مثل فيما يحذره الباحثون وغير الباحثين من مساوئ الأخلاق؛ لأن النظام وحده لا يغني في تقويم فرد ولا في إصلاح جماعة. ولابد مع النظام(527/1)
من عقيدة صالحة لإحياء القوى الإنسانية.
فهل كانت للفاشية هذه العقيدة الصالحة؟
كلا!
والاكتفاء بالنتيجة هنا أقرب وأجدى من متابعة الأقوال الفاشية والعقائد الفاشية والتعليقات الفاشية التي ملئوا بها المجلدات الضخام على غير طائل
فالنتيجة أن الفاشية ما تكن قط جبيرة لخلق مهيض، ولم نعلم جباناً واحداً كيف يصبح من الشجعان وذوي البسالة والمفاداة
فبعد تربية طويلة تبتدئ من الخامسة إلى العشرين لم يزل الجبناء الأولون على جبنهم القديم يفرون من الميدان بعد الصدمة الأولى، وقد يفرون منه قبل اللقاء
فالحركة الفاشية مفلسة في العقيدة التي تجبر كسر النفوس أو تبعتها من جديد في حياة جديدة، وهي لا تزود أصحابها بشجاعة أدبية أو شجاعة عسكرية، ولا تبث فيهم الإيمان الذي يغلبون به الجبن ويأنفون من عار الفرار
لأنها عقيدة تليق بالحيوان ولا تليق بالإنسان
أو لأنها عقيدة ترجع بالإنسان إلى الوراء وتلغي ما عمل لنفسه أو عملته له الطبيعة عشرات الألوف من السنين
فهي عقيدة قائمة على تقديس السلطة الفردية، وتقديس القوة المادية التي تشبه القوة الحيوانية، وكلاهما شوط تجاوزه الإنسان منذ أجيال، ولم يتجاوزه عبثاً ليعود إليه بعد هذا الطواف الطويل
بل نحن نؤمن أن تقديس السلطة الفردية لم يوجد قط في أبعد العصور الهمجية فضلاً عن عصور الحضارة والنور
لأن السلطة لم تقم قط على إرادة فرد من الأفراد باعتباره فرداً من الأفراد، وإنما كانت تقوم على إرادته لأنه يمثل إرادة الأرباب التي تؤمن بها الشعوب، وكان الكهان هم الذين يترجمون الإرادة الإلهية فتصبح هي إرادة الشعب من هذا الطريق
فالسلطة الفردية - حتى في أبعد العصور الهمجية - لم تكن خلوا من الاعتراف للأفراد بحرية اختيارهم لمن يحكمونهم، وهي - أي السلطة الفردية - خليقة من أجل ذلك أن(527/2)
تفشل في خلق العقيدة الصالحة بها بين أهل الحضارة من أبناء الزمن الحديث
أما الإيمان بالقوة المادية - قوة السيف والنار - فهو شوط تجاوزه الناس كذلك منذ عهد بعيد
تجاوزوه منذ عرفوا كلمة الحق أو عرفوا كلمة العدل بين الأقوياء والضعفاء
وقل ما شئت في (الحق) أنه كلمة من الكلمات
وقل ما شئت في (العدل) أنه لفظ من الألفاظ
فمهما يقل القائلون في ذلك فالواقع الذي لا شك فيه أن الناس عرفوا كلمة (الحق) بعد أن جهلوها
فلماذا كانت هذه المعرفة وكيف جاءت إلى الألسنة أو إلى الضمائر؟ ولماذا لم تظل كما كانت مجهولة لا يفهم الناس منها هذا المعنى الذي يفهمونه الآن؟
أعن حاجة عرفوها أم عن غير حاجة إليها؟
إن كانوا قد عرفوها عن حاجة إليها فالويل لمن ينكرها ويقف في طريقها. وغير عجيب إذن أن تحق الخيبة على الفاشيين لأنهم يعارضون التيار الذي يندفع إليه الإنسان بوحي من طبائع الأشياء
أما أن الناس قد اخترعوا كلمة الحق وتشبثوا بها لغير حاجة إليها ولا لأنها تمثل شيئاً قائماً في الحياة الإنسانية فهذا عجب لا يصدقه عقل عاقل. ولنا حين يزعمه الزاعمون أن نسأل: ما بال أنصار القوة المادية يكتبون ويصنعون ما يصنعون وينفقون الملايين فوق الملايين ليثبتوا أنهم على الحق وأن خصومهم هم المبطلون؟
إن وهماً من الأوهام التي لا حاجة إليها لن يستحق كل هذا العناء ولا بعض هذا العناء
ولقد كانت القوة المادية أقدم شيء عرف في هذه الدنيا، وكانت بين أيدي الناس يستطيعون أن يعبدوها كما يشاءون وأن يؤمنوا بها كما يحبون، فلو كان في الإيمان بها غنى عن غيرها لما تركها الناس ليتحولوا إلى كلمة جوفاء أو إلى خيال ليس له قوام
إن الذي يدين بها بعد أن عرف كلمة الحق لا يفهم معنى ما يقول
والفاشيون لا يفهمون معنى ما يقولون، بل لا يفهمون معنى ما يصنعون، سواء رجعت من قبل إلى الرأي والبرهان أو رجعت الآن إلى الوقع والعيان(527/3)
إنهم يقفون في وجه التيار
ومن وقف في وجه التيار أضاع الحق وأضاع القوة المادية معه، إذ ليس في الأرض قوة مادية تقاوم التيار الذي تندفع به طبائع الأشياء.
ومن مبادئ السخف التي يبشر بها (الفلاسفة) الفاشيون أن الإخاء العالمي خرافة لا يرجى لها تحقيق، وأن الحقيقة التي قامت ولن تزال قائمة في كل زمان هي سيادة شعب على سائر الشعوب
والعجب أن سيادة شعب على سائر الشعوب هي الخرافة التي لم تصدق قط في زمن مضى، ولن تصدق يوماً في زمن مقبل؛
والناس لا يملكهم واحد ... مهما علا في ملكه واستطال
كما قلنا في أعقاب الحرب الماضية متخذين العبرة منها ومن حوادث التاريخ التي تقدمتها. وأن العبرة بهذا كله لأولى أن تتخذ من حوادث الحرب الحاضرة والحوادث التي تليها، ولما تزل في عالم الغيب
فالعالم لم يحكمه المصريون كله، والرومان لم يغلبوا قرطاجة حتى تصدى لهم من الشرق من ينازعهم، ثم تصدى بعضهم لبعض فانقسموا على أنفسهم. وهكذا حدث لمن بعدهم حينما ظهرت في العالم قوة تنذر بالسيادة عليه
فالسيادة العالمية هي المذهب الذي شاخ ولم يثبت له وجود
والإخاء العالمي - أو على الأقل تمرد العالم على الخضوع لحكم واحد - هو المذهب الصادق الذي سبقت به البشائر وآذن في هذا العصر بمولود مرتقب
نعم إن الإخاء العالمي كلمة قديمة، ولكن الوحدة العالمية لم تصبح حقيقة من الحقائق الملموسة قبل هذا الجيل
ففي هذا الجيل الذي نحن فيه تقاربت أجزاء العالم حتى تسنى لمن في الشرق الأقصى أن يسمع من في أقصى المغرب بإدارة لولب
وفي هذا الجيل تم السفر من أطراف العالم إلى أطرافه في أقصر من الوقت الذي كان أبناء القطر الواحد يسافرون فيه من إقليم إلى إقليم
وفي هذا الجيل أوشك الناس أن يتعاملوا بعملة مشتركة وأن يعتمدوا على سوق واحدة أو(527/4)
أسواق كأنها اجتمعت في سوق
وفي هذا الجيل أصبح الخطر من العدوان على أمة خطراً على الأمم كافة، يتبينه الغافلون عنه بعد فترة تحسب وبالشهور وقد تحسب بالأيام
فالوحدة العالمية الآن مولود مرتقب يستقبل الحياة ليدرج من الطفولة إلى الفتوة
والذي شاخ وعفى عليه الزمان هو سيادة شعب على سائر الشعوب، أو هو استسلام العالم الحاكم واحد متفق عليه، كأننا ما كان الحاكمون
والفاشيون هم أصحاب أقدم كلام قيل ووجب أن يتبدل لأنه قد شاخ وهجره الناس والتفتوا إلى غيره وأوشكوا أن يحققوا ما التفتوا إليه
ولذلك فشلوا ويفشلون
وهذه هي عبرة الخاتمة التي ختمت بها دعوة موسليني ثم ختم بها حكمه، وأنها لتساوي في حساب الإنسانية ثمنها المجموع من الدماء والأرواح، إذا هي حرصت عليها وفزعت من التجربة فيها.
عباس محمود العقاد(527/5)
الصيد في الأدب العربي
للدكتور عبد الوهاب عزام
أريد في هذا المقال التنبيه إلى موضوع من موضوعات أدبنا لا أعرف له نظير في الآداب الأخرى، موضوع يجمع بين أوصاف الطبيعة وأعمال الفروسية، وحركات الرياضة، ويعرضها صوراً متتابعه كأنها مناظر السماء. ذلكم الصيد كما وصفه شعراؤنا وكتابنا منذ عصور الجاهلية. وسأعرض في هذه الصفحات صورة منه مجملة
- 1 -
عرفت الأمم كلها الصيد في بداوتها وحضارتها يدعوهم إليه ضرورات العيش وحاجاته، ليأكلوا لحم الحيوان ويتخذوا جلده ألبسة وأدوات ويسخروه في منافعهم، ويدعوهم كذلك إليه اللهو والمتاع. والأمم فيه مختلفة اختلاف أراضيها واختلاف أطوارها في الحضارة، وله في تاريخ الأمم فصول طويلة لسنا في مقام بيانها وللفرس صلة الجوار والمخالطة بالأمة العربية؛ فقد عنى العرب بذكر ما أثر عن الفرس من رسوم الصيد وأخباره فوصلوه بالأدب العربي؛ فلا بأس أن نخصهم بكلمة قبل الإبانة عن موضوعنا:
قال الجاحظ: (وزعموا، وكذلك هو في كتبهم، أن ملوك فارس كانت لهجة بالصيد، إلا أن بهرام جور هو المشهور بذلك في العوام. . .
قالوا: وكان الملك منهم إذا أخذ عيرا أخدريا، فإذا وجده فتيا وسمه باسمه، وأرخ في وسمه يوم صيده وخلى سبيله. وكان كثيراً إذا ما صاده الملك الذي يقوم بعده سار فيه مثل تلك السيرة وخلى سبيله. فعرف آخرهم صنيع أولهم، وعرفوا مقادير أعمارها)
ولبهرام جور سيرة في الصيد ذائعة، وقد أضيف اسمه إلى حمار الوحش وكان كلفا بصيده. وهو بالفارسية (كور) فعرب إلى جور. وكان لسيرة بهرام في الصيد وما أثر عنه من العجائب أثر في الأدب الفارسي والتصوير، فكثيراً ما وصف الشعراء وصور المصورون بهرام في أحوال مختلفة من مطاردة الحمر الوحشية والغزلان. وإذا عرفنا أن الروايات الفارسية مجمعة على أن بهرام نشأ في الحيرة بين العرب وتأدب بآدابهم، وجدنا في سيرته صله أخرى تصل الصيد عند الفرس بالصيد عند العرب
- 2 -(527/6)
للعرب في البوادي وفي البراري المتصلة بالمدن والقرى ولع بالصيد منذ عصور الجاهلية. وقد عنى شعراء الجاهلية بوصف الصيد، أدواته وحيوانه وحركاته. فأما أدواته فالقسى والسهام والشباك والحبائل وغيرها. وأما الصيد فكل دابة وطائر، ولكن معظم عنايتهم كانت مصروفة إلى الحيوان الكثير اللحم. فعنوا بحمر الوحش وبقره والغزال. وضربوا المثل بحمار الوحش فقالوا:
(كل الصيد في جوف الفرا)
ولسنا في حاجة إلى ذكر طرف مما وصفوا به الخيل أو القسى والسهام، فقد كانت حاجتهم إليها شديدة في الدفاع عن أنفسهم فوصفوها في مقامات مختلفة أوصافا ذائعة معروفة
وإنما أذكر من الحيوان الذي يصاد به، الكلب. وقد افتن العرب في تعليم الكلاب ووسمها، ووصفوها وصنفوها ونسبوها وسموها. قال الجاحظ: (ولكرامها وجوارحها وكواسبها وأحرارها وعتاقها أنساب قائمة، ودواوين مخلدة، وأعراق محفوظة، ومواليد محصاة، مثل كلب جذعان، وهو السلهب ابن البراق بن وثاب بن مظفر بن محارش. وقد ذكر العرب أسماءها وأنسابها). وقال في موضع آخر: (والكلاب أصناف لا يحيط بها إلا من أطال الكلام. وفي الجزء الثاني من كتاب الحيوان فصل طويل عنوانه: (صفة ما يستدل به على فراهة الكلاب، وشياتها وسياستها). وفي هذا وغيره مما نقل عن العرب دليل على عنايتهم بالصيد وكلابه عناية كبيرة. وقد أثبت الجاحظ في الجزء الثاني من الحيوان قصيدة لمزرد بن ضرار فيها أسماء الكلاب وأنسابها وأوصافها. وسيمر القارئ بنبذ في وصف الكلاب أثناء وصف الصيد
وقل أن نجد في الشعر الجاهلي وصف الصيد في قصائد خاصة به كالطرديات التي ذاعت في العصور الإسلامية؛ ولكن يذكر حين تذكر الفروسية والشجاعة، وحين يذكر الشباب ولهوه. وعجيب أن أكمل الصور في وصف الصيد جاءت استطراداً في وصف الإبل؛ يذكر الشاعر السفر ويصف ناقته فيشبهها بحيوان سريع قوي كحمار الوحش وثور الوحش، وأحياناً يشبهها بالغزال والنعامة. ولا يكتفي بهذا التشبيه حتى يصف هذا الحيوان القوي السريع وهو يعود فزعاً من الصيادين فيصف ما يقع بين الصيادين وكلابهم وبين الحمار أو الثور. وقد ألف شعراء الجاهلية هذا الوصف حتى توسلوا إليه بالصلات(527/7)
الضعيفة وأطالوا فيه على غير ما ينتظر القارئ أو السامع
وأمرؤ القيس أكثر الجاهليين وصفاً للصيد استقلالاً غير استطراد في وصف الإبل. ولكنه يجمع بين وصف الصيد ووصف الحصان الذي يصيد عليه. ومن هذا قوله في المعلقة:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
ويصف حصانه إلى أن يقول:
فعنِّ لنا سِرب كأن نعاجه ... عَذاري دَوار في الملاء المذّيل
فأدبرن كالجزع المفصَّل بينه ... بجيد مُعم في العشيرة مخُول
فألحقنا بالهاديات ودونه ... جَوا حرها في صَرّة لم تَزّيل
فعادى عداءّ بين ثور ونعجة ... دراكا ولم يَنضِحِ بماء فيُغسل
وظل طهاة اللحم ما بين مُنضج ... صفيف شِواء أو قَدير مُعجَّل
يصف صيد بقر الوحش. والبقر الوحشي أشبه بالغنم منه بالبقر الأهلي؛ ولهذا سميت الأنثى نعجة. وقال امرؤ القيس: وعادى عداء بين ثور ونعجة. وقد شبه شرب البقر بعذارى غليها ملاء تجر ذيوله ويدرن حول صم؛ ثم شبهها حينما ارتاعت بالجزع المفصل لاختلاف ألوانها. وقال أن الحصان لسرعته أدرك الهاديات أي السابقات منها وترك المتأخرات حيارى لها صياح فأدرك ثوراً فنعجة ولم يعرق. وعكف الطهاة على اللحم، منهم منم يشوي، ومنهم من يطبخ في قدر
وقد أجمل وصف الصيد في قصيدة أخرى إذ قال:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... لغيث من الوسمّى رائده خال
ومعظم الشعراء الآخرين يستطردون في وصف الناقة إلى تشبيهها ببقرة وحشية أو حمار في قوتها وسرعتها، ويصفون الحيوان المشبه به في حال ذعره من الصيادين حين لا يدخر قوة ولا إسراعاً للنجاة. ويجمع الشاعر أحياناً بين تشبيه الناقة بالحمار وتشبيهها بثور الوحش، وبصور حال كل منهما حين يروعه الصيادون كما فعل لبيد في المعلقة. وقد ألف الشعراء هذا الاستطراد حتى سار عليه أبو ذؤيب الهذلي وهو يرثي أولاده فقال إن الدهر لا يبقى على حدثانه ثور الوحش ولا حماره. واستطرد فوصف كيف انتهى الجلاد بين الحمار والصيادين بأن أصابه سهم أرداه، وكيف كان العراك بين الثور وكلاب الصيد فقتل(527/8)
بعضها حتى أدركها صاحبها فرمى الثور بسهم قتله.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(527/9)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الوساطة بين الدكتور طه والأستاذ المازني - عناصر الهجوم - كلمة الدكتور طه - حل الألغاز - غمزات الدكتور طه - الدكتور طه في الأعمال الحكومية والأدبية - المازني ضحية الأدب، ولكنه لن يضيع - كلمه صريحة إلى الدكتور طه حسين
الوساطة بين الدكتور طه والأستاذ المازني
لم يعد القراء يلتفتون إلى ما يقع في الجرائد اليومية من المصاولات الأدبية، فقد صنعت أزمة الورق في صد الجرائد عن الآداب والفنون، وبهذا أصبح مجال الأدب مقصوراً على المجلات الأدبية، فمن الخير أن نحدث قراء الرسالة عما يفوتهم الاطلاع عليه، مما يقع من الصيال الأدبي فوق صفحات الجرائد اليومية من حين إلى حين
وكلمة اليوم في شرح مناوشة عنيفة بين الدكتور طه والأستاذ المازني على صفحات جريدة البلاغ، وهي مناوشة تمثل التجني والتظالم على أعنف ما يكون بغي الرجال على الرجال. وسنقف من هذه المناوشة موقف القاضي العادل، فقد ساءنا أن يتقارض هذان الرجلان الظلم والعدوان بلا ترفق ولا استبقاء، بعد أن ظلا صديقين حيناً من الزمان
والذي يهمني من هذه الكلمة هو أولاً تسجيل حادثة أدبية لا ينبغي أن تضيع، وهو ثانياً إنصاف رجلين عزيزين على الأدب وقد بغى كلاهما على أخيه بتحامل وإسراف. وهو ثالثاً توضيح لألغاز ساقها الدكتور طه بك مع اعترافه بأن فهمها لا يتيسر لأكثر القراء
وأصل القضية أن الأستاذ عزيز بك أباظة مدير البحيرة أصدر مجموعة شعرية سماها (أنات حائرة) مع تصدير بقلم الدكتور طه حسين. فلما بدا للأستاذ إبراهيم المازني أن يتحدث عن تلك المجموعة بدأ بالهجوم على صاحب التصدير، فغضب الدكتور طه وكتب رداً أراد به دفع العدوان بما هو أقسى من العدوان
ولأجل أن يدرك القراء حيثيات الحكم في هذه القضية أسوق إليهم كلمات الخصمين قبل الشروع في الحساب
قال الأستاذ المازني بعد التمهيد:
(وتوكلت على الله فقرأت التصدير الذي كتبه الدكتور طه حسين بك فقلت لنفسي: لا حول(527/10)
ولا قوة إلا بالله! هذا طه حسين يخسره الأدب ولا تكسبه الحكومة، فما خلق لها بل للأدب. وإنه ليضيع نفسه في هذه المناصب التي تشغله وتستنفذ جهده ووقته، فإذا كتب جاء بماذا؟ جاء بمثل هذا الكلام الذي لا محصول وراءه، ولا أعرف له رأساً من ذنب. فلماذا لا يستقيل ويريح نفسه من هذا العناء الباطل ويتفرغ للأدب؟ ماذا يفتنه من هذا العرض الزائل والذي أهمل أو ترك أبقى؟ كيف يستطيع بالله أن يواظب على التحصيل وتغذية عقله ونفسه - وهو ما لا غنى بأديب عنه - وكيف يتسنى له التجويد حين يكتب وهو مشغول في ليله ونهاره بهذا الذي لا آخر له من شؤون الوظيفة واللجان وما إليها. . . وهو يتولى أعمالاً كل واحد منها كاف للإرهاق: فمن جامعة فاروق إلى منصب المستشار الفني لوزارة المعارف إلى عشرات من اللجان يشارك فيها وتأبى له كرامته أن يكون صفراً، ولو اقتصر على الجامعة لكان خيراً، ولو نفض يده من هذا كله لكان أفضل)
عناصر الهجوم
وخلاصة هذه الكلمة:
1 - أن الدكتور طه خسره الأدب ولم تكسبه الحكومة، ومعنى ذلك أنه يتولى عملاً لم يخلق له. وسنرى كيف ثار الدكتور طه على هذه العبارة وعدها تحدياً لقدرته على الأعمال الحكومية
2 - وأن الدكتور يضيع نفسه في مناصب تشغله وتستنفذ جهده ووقته، فإذا كتب جاء بكلام لا محصول من ورائه ولا يعرف له رأس من ذنب
3 - وأن الأفضل للدكتور طه أن يستقيل ويريح نفسه من العناء الباطل (وهو عمله في الحكومة) ويتفرغ الأدب
4 - وأنه لا يمكن للدكتور طه أن يزود نفسه بالتحصيل، أو يتفرغ للتجويد حين يكتب وهو مشغول ليله ونهاره بأعمال كل واحد منها كاف للإرهاق.
كلمة الدكتور طه
وجه الدكتور طه كلمته إلى صاحب البلاغ ثم قال بعد التمهيد:
(أؤكد للأستاذ المازني أني آسف أشد الأسف لأن الأستاذ عزيز أباظة لم يطلب إليه هو(527/11)
كتابة هذا التصدير، إذن لكان له المحصول كل المحصول، ولكان له رأس كقمة الجبل وذنب كالذي خوف به المنجمون المعتصم حين هم بفتح عمورية. وآس أشد الأسف لأن الحكومة لم تكل إلى الأستاذ عملي في وزارة المعارف وفي جامعة فاروق، إذن لكسبته الحكومة والأدب جميعاً. والأستاذ المازني يعرف أن لأبي العلاء قصة مع الشريف المرتضى، وأظنه يأذن لي في أن أسرق من هذه القصة شيئاً، فالسرقة في الأدب مباحة، ولا سيما حين تكون في العلن لا في السر، وهي حينئذ أشبه بالسطو. فأنا أرجو أن يقرأ الأستاذ سورة الفلق، وأن يقرأ مطولة لبيد ومطولة طرفة وعينية سويد أبي كاهل التي مطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا ... فبسطنا الحبل منها ما اتسع
ورائية الأخطل التي مطلعها:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر ... وإن كان حيَّانا عِدا آخر الدهر
ولامية المتنبي التي مطلعها:
بقائي شاء ليس هُمُ ارتحالا=وحُسنَ الصبر زمُّوا لا الجمالا
وسيقول القراء أني ألغز بهذا الكلام، ولكني أعتذر إليهم، فإني لا أكتب لهم وإنما أكتب للأستاذ المازني. وأنا أسلك في ذلك طريقة الأستاذ نفسه؛ فمن المحقق أنهم لم يفهموا عنه ما قال أمس، لأنهم لم يقرءوا التصدير الذي لا محصول وراءه والذي لا رأس له ولا ذنب. . . وأحبب إلي بأن أستقيل وأفرغ للأدب، ولكني أود أن أستيقن قبل ذلك بأن الحكومة ستضع الأستاذ المازني مكاني لنرى أيكتب كلاماً كالذي أكتبه أم يكتب كلاماً خيراً منه. . . أما بعد فأنا ضامن للقراء إحدى الحسنيين: فإما أن يسكت الأستاذ المازني فيستريح من هذا السخف الذي نحن فيه، وإما أن يكتب الأستاذ المازني فيجدوا شيئاً يرفه عليهم من هذا الفيظ المهلك، ويقرءوا كلاماً له الرءوس كل الرءوس، والأذناب كل الأذناب)
حل الألغاز
ونسارع فنذكر أن الإشارة إلى سورة الفلق منصبة على آية (ومن شر حاسد إذا حسد) وأن الإشارة إلى مطولة لبيد تتجه إلى هذين البيتين:
فاقنعْ بما قَسم المليك فإنما ... قَسمَ الخلائقَ بيننا علاّمُها(527/12)
وإذا الأمانة قسَّمت في معشر ... أوفى بأعظم حظنا قَسَّامُها
وأنه يريد من مطولة طرفة هذان البيتان:
فلو كنت وغلاً في الرجال لضرني ... عداوة ذي الأصحاب والمتوحد
ولكن نفى عني الأعاديَ جرأتي ... عليهم وإقدامي وصدقي ومحيدي
ومن عينية سويد أشار الدكتور طه إلى هذين البيتين:
رُبَّ من أنضجت غيظاً قلبه ... قد تمنَّى ليَ موتاً لم يُطَع
ويراني كاشجا في حلقهِ ... عَسِراً مخرجُه ما يُنتزَع
وأراد من رائية الأخطل هذين البيتين:
تَنِقُّ بلا شيء شيوخ محاربٍ ... وما خلتُها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبتْ ... فدلَّ عليها صوتُها حيةَ البحر
ومن لامية المتنبي أراد هذين البيتين:
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العُضالا
ومن يكُ ذا فم مُرٍّ مريضٍ ... يجد مُرّاً به الماء الزلالا
وما أردت تبليغ هذه التعاريض إلى الأستاذ المازني، وإنما أردت منفعة القراء، والشر يتسم بالخير في بعض الأحايين!
غمزات الدكتور طه
1 - كان يستطيع أن يقول إنه (يستعير) قصة أبي العلاء مع الشريف، و (يستعير) هي اللفظة المطلوبة في هذا الموقع، ولكنه قال إنه (يسرق) ليندد بالأستاذ المازني. ولم يكتف بذلك، بل جعل سرقته علنية، وهي (حينئذ أشبه بالسطو) كما قال
2 - صور الأستاذ المازني بصورة الحاسد لمن كتب تصدير الديوان
3 - وصورة بصورة من يعجز عن عمل المستشار الفني بوزارة المعارف، ومن يعجز عن إدارة جامعة فاروق
الدكتور طه في الأعمال الحكومية والأدبية
لقد فصلنا الخصومة بين الرجلين بوضوح، ولم يبق إلا أن نكف شر الأستاذ المازني، لأننا(527/13)
نكره أن تختل الموازين في هذه البلاد
وإذا كان الأستاذ المازني هو البادئ بالظلم فأنا أبدأ بالدفاع عن الدكتور طه، والهجوم عليه ذو شعب: فهو تارة أديب أضاع نفسه بالأعمال الحكومية، وتارة موظف لا يحسن إدارة الأعمال، وتارة حائر لا يهتدي إلى ساحل الأمان
وأشهد أن الدكتور طه من أقدر الرجال على إدارة الأعمال الحكومية، فما تولى عملا أقبل عليه بهمة وقوة، ولا سما إلى مطلب إلا وصل إليه بأيسر أو أعسر مجهود. والدكتور طه مثال نادر من أمثلة البراعة في الشؤون الإدارية، وهو مفطور على سرعة التصرف، وأخطاؤه القليلة أو الكثيرة لا تقاس إلى صوابه في الابتكارات الديوانية
وما الذي يمنع من الحكم بأن الدكتور طه دفع عن رجال الأدب قالة من أسوأ القالات، فقد مرت أزمان والناس يتوهمون أن رجال الأدب لا يصلحون للأعمال الإدارية، وكان من أثر هذا التوهم أن لم نر لأحدهم مكانا في المناصب العالية من الوجهة الرسمية، فجاء نجاح الدكتور طه رداً حاسماً على أوهام أولئك المتوهمين
وكذلك يقال في تولي الدكتور طه إدارة جامعة فاروق، فذلك مغنم عظيم لرجال اللغة العربية، وكانت الحكومة لا تكل إلى أحد منهم إدارة مدرسة ابتدائية. وهل ننسى أن مدرسة دار العلوم ظلت آماداً طوالاً تحت نظارة رجال من غير أبنائها، مع أن فيهم كثيراً من الأكفاء؟
ويسرني أن تشهد البواكير بأن الدكتور طه سيفلح في إدارة جامعة فاروق، كما أفلح من قبل في إدارة كلية الآداب بجامعة فؤاد، وكما أفلح في أعماله بوزارة المعارف
أما قول الأستاذ المازني بأن شواغل الدكتور طه تصرفه عن تزويد عقله بالمطالعات والمراجعات فهو قول صحيح، ولكنه لا يؤذي الدكتور طه في شيء، لأن الدكتور طه قد اختار لنفسه أن يكون من رجال الدولة لا من رجال الأدب، وهو لن يزاحم أحداً من الباحثين، ولن يقول إنه أوحد الناس في جميع الفنون، فما يجوز لمن يكون في مثل حصافته أن يتناسى أن الأستاذية في الأدب توجب الانقطاع إلى الأدب، وتفرض الخلوة إلى النفس ساعات من كل يوم، وذلك لا يتيسر لمن تكون الأعمال الإدارية عناءه بالنهار وهمه بالليل.(527/14)
المازني ضحية الأدب، ولكنه لن يضيع
من التقاليد الموروثة بمصر احترام الوظائف والموظفين، وقد كان الآباء في عهد الفراعنة يوصون أبناءهم بطاعة الرؤساء، ويحضونهم على تنفيذ الأوامر بلا اعتراض، ليظفروا من مناصب الدولة بأكبر نصيب
وأنا لا أرى في هذا شيئاً من الذلة في طلب المجد، كما رأى بعض الناس، وإنما أراه شاهداً على أصالة المصريين من الوجهة النظامية، فطاعة المرءوس للرئيس يوجبها نظام الأعمال إذا حسنت النيات وزال معنى الخضوع الممقوت
- واحترام الوظيفة في مصر له أصل، فقد كانت الوظائف من أنصبة الأغنياء والأقوياء، وكان مفهوماً أن الرجل لا يظفر بوظيفة إلا إن كانت له عصبية تحميه من الكائدين، أو تعينه على تحقيق السيطرة في الإقليم الذي يشرف عليه بأي صورة من صور الإشراف
ونحن اليوم نخضع لتلك التقاليد خضوعاً يعترف به القلب وإن أنكره اللسان، فمن السهل أن يسأل سائل عن مكانه الأستاذ المازني في الدواوين الحكومية، وكان قبل ثلاثين سنة أستاذاً في مدرسة من كبريات المدارس الثانوية، ومن زملائه من وصل إلى مكانة تضيفه إلى المحسودين بين كبار الموظفين، فماذا صنع المازني بنفسه حتى تخلف هذا التخلف وحتى صار من حق أي إنسان أن يقول له: داعب هذا المنصب إن كنت تستطيع؟
حظ المازني يظهر واضحاً إن تذكرنا ما صار إليه ناصحه الأمين، وهو الأستاذ عبد الفتاح صبري وكيل المدرسة السعيدية، يوم كان المازني أستاذاً بالسعيدية، فقد خضع الأستاذ عبد الفتاح صبري للأنظمة الإدارية خضوعاً وصل به إلى أرفع منصب في وزارة المعارف، وثار المازني على الأنظمة الإدارية ثورة وصلت به إلى العيش من سنان القلم في الجرائد والمجلات
فما النتيجة وما الغاية في حياة هذا وذاك؟
مات عبد الفتاح باشا صبري ميتة الغريب، فلم تبكه وزارة المعارف، ولم يحزن عليه مخلوق، ولن يذكر بغير الملام إن تسامح معه التاريخ!
أما المازني فلن يموت أبداً، وهل يموت رجال الأقلام والآراء؟
المازني من أمجاد مصر الأدبية، وصفحة واحدة من أصغر كتاب ألفه المازني أبقى على(527/15)
الزمن من جميع المناصب، والله عز شأنه أقسم بالقلم ولم يقسم بالجاه ولا بالمال
وهل كانت مصر ترضى أن يصير المازني إلى وظيفة تقبره كما قبرت الوظائف مئات من المفكرين بهذه البلاد؟
اقترحت مرة على صفحات الرسالة أن تقرر الدولة معاشاً الأستاذ المازني، بحجة أنه أدى للأدب خدمات لم يؤدها من تمتعوا بكرم الدولة باسم الأقدمية في الوظائف
وأنا في هذه اللحظة أسحب ذلك الاقتراح، فلن يجوع المازني وفي يده قلمه، ولن يشيخ قلم المازني ولو صار صاحبه في ضمور طيف الخيال.
كلمة صريحة إلى الدكتور طه حسين
ولكن ما الذي آذاك أيها الأستاذ الجليل من تلك الغمزة المازنية؟ ما الذي آذاك منها وهي حق في حق؟
أتريد أن نعفيك من النقد الأدبي؟
أتريد أن نتوهم أنك كنت معنا فطرت عنا؟
أيرضيك أن تتناسى اسمك في المناوشات الأدبية؟
إن كان هذا ما تريد فأنت وما تريد، ولكننا لن نحترم إرادتك إلا كارهين، لأننا نرفض تسليمك إلى الحكومة بأي ثمن، وسنجاهد إلى أن نستردك، فجهز نفسك لوصل حاضرك بماضيك، في خدمة الأدب الرفيع.
زكي مبارك(527/16)
4 - المسرح المصري
والدرامة المنظومة
للأستاذ دريني خشبة
كان شوقي العظيم - عليه رحمة الله - لا يعجبنا!
وكنا نتهم شوقي بأنه كان يعيش معنا بجسمه، ومع شعراء الأجيال السابقة بروحه وفنه. . . فهو يردد أوزانهم ويقلد قصائدهم، ويتخذ مطالعهم، ويغزل في أول منظوماته كما كانوا يغزلون، ويعارض الحصري والبوصيري وأبا تمام والبحتري
كنا نعيب شوقي لأنه كان يصنع هذا، وكنا نعيبه لأنه لم ينظم للمسرح، فلما سمع إلينا ونظم المسرح أخذنا عليه المآخذ، وعددنا عليه الهفوات. . . والرجل العظيم عليه رحمة الله يصبر على ذلك ويبتسم، فلا يضيق بالنقد، ولا ينقم على النقاد، بل يبطل حجتهم بإخراج القطعة بعد القطعة، ونظم الغرة تلو الغرة، والنقاد الظالمون، لا غفر الله لهم ولا سامحهم، وإن كنت منهم، يلجون في غيهم، ولا يعجبهم من شوقي العظيم العجب، حتى أراحهم الله من شوقي، فنظروا حولهم، فإذا هم لم يستريحوا، وإذا هم يشعرون بفدح الخسارة التي منى الأدب العربي بها، والتي لم يستطيع أن يعوضها هذا الجيش العرمرم من الشعراء والشويعرين والمتشاعرين بمن فيهم من زيد ومن عمرو، ومن فيهم من هذا الذي كنا، في نوبة من الحماسة، نفضله على شوقي، ونزيف له أكاليل الغار، فلما مات شوقي، إذا إكليل الغار تمسخه الأقدار فيكون حزمة من القش. . . وإذا نحن نعترف في ذهول وحزن بأن الشعر العربي - أو الأدب العربي - قد أصيب بنكسة شديدة وارتكاس مؤلم، لأن النهضة التي بدأها شوقي وتركها وهي في المهد، لم يهيأ لها الشاعر الذي يرعاها ويبلغ بها شأو الطفولة. . . ولا نقول الصبا ولا نقول الشباب. . .
تلفتنا حولنا فرأينا الشعر العربي يعود إلى حدوده الضيقة التقليدية، ورأيناه لا يعدو القصائد والمقطوعات والموشحات، ورأينا تلك البداية المباركة التي بدأها شوقي تنطوي على نفسها فتصبح من المخلفات الأثرية في المسرح المصري، حتى أوشك الممثلون الأفذاذ الذين أدوا الشوقيات الرائعة ينسون أدوارهم، وحتى أوشك الناس ينسون تلك الشوقيات
ومع هذا فما زلنا نسمع من يجرؤ على التشدق بأنه أشعر الشعراء وسيد الأدباء، لا لشيء(527/17)
إلا لأن شعره يعجبه هو وإن لم يرق أحداً من الناس، فان سألته وهل حاولت ما حاول شوقي؟ سألك وماذا حاول شوقي؟ شوقي المقلد. . . شوقي الرجعي. . . شوقي الصدى. . . شوقي الذي لم تكن فيه روح الشعر وإن جاء بهرج النظم. إلى آخر تلك المهاترات الأدبية التي لم نتورع من إهدائها إلى شاعرنا العظيم حتى بعد أن ترك لنا الدنيا لنملأها نحن بالكمال الذي طالبناه به. . .
ولست أدري ماذا يصرف شعراؤنا - أصلح الله بالهم - عن النظم للمسرح، ومنهم طائفة مثقفة واسعة الاطلاع عظيمة الدراية بالأدب الأوربي، اطلعت من غير شك على درامات شكسبير وبن جونسون ومارلو وغيرهم من الشعراء المسرحيين، وعرفت ما أفادته اللغة الإنجليزية من الدرامات المنظومة، وما فتح الله على أيديهم للشعر الإنجليزي وغير الشعر الإنجليزي من هذا الفتح العظيم الذي كانت آيته ذلك الشعر الحر الذي لا يعرف القافية ولا يتقيد بها، بل ينطلق من الروح أنغاماً سحرية مشرقة ذات بهاء وذات لآلاء، دون أن تذهب بهجتها في هذا الاطراد الطويل الممل الذي تجلبه القافية العربية
وقد يعترض معترض بأننا ندعو إلى شيء فرغ غيرنا منه، حينما ندعو شعراءنا إلى نظم الدرامات للمسرح المصري. . . إذ ما حاجة هذا المسرح إلى الدرامات المنظومة في عصر سار فيه الأدب الواقعي، وتحرر فيه التأليف المسرحي من القيود المادية التي كانت تجعل أداءه بطيئاً وحواره مملولاً فيه كلفة وفيه تصنع. وهو اعتراض مردود. . . ويرده أن الأدب المسرحي الذي ندعو إلى إدخاله في الأدب العربي يجب أن يدخل إلى هذا الأدب بكل أنواعه التي عرفها الأدب الأوربي، ثم نحن ندعو إلى وجوب نهضة الشعر العربي وتوسيع آفاقه. . . ولن تتسع هذه الآفاق ما دام الشعر العربي بعيداً عن المسرح، إذ الدرامة المسرحية هي المجال الذي يتسع لأخيلة الفحول من الشعراء فيفيضون فيها من آرائهم في الحياة وآرائهم في الفن وآرائهم في الجمال وآرائهم في السلوك، ويبدعون ما شاءت لهم تلك الأخيلة من الصور التي يعالجون بها جراح الإنسانية ويهذبون بها انحرافاتها. . . كل ذلك في الدرامة. . . هذه القطعة الحية المتحركة فوق المسرح بأشخاصها الكثيرين، ذوي المشارب المختلفة والميول المتباينة، وبمناظرها الرائعة التي يكسبها الشعر جوها الساحر الجميل الخلاب. . . نريد إذن أن يجد شعراؤنا وأن يوسعوا آفاقهم، وأن يجعلوا للدرامة(527/18)
المنظومة شطراً من جهودهم التي ينفقونها كلها في الهنات الهينات من قصائدهم وموشحاتهم التي شبعنا منها إلى حد التخمة. . . ومعاذ الله أن يظن أحد أننا نعرض بأحد من شعرائنا أو من شعراء العالم العربي. . . فنحن إنما يتهم هؤلاء وهؤلاء بأنهم كسالى. . . وأننا حينما كنا ننقد شوقي ونهاجمه إنما كنا نتجنى على سيد شعرائنا غير مدافع، وكنا نغمط حقه ونظلمه. . . وإلا فأين من شعرائنا من استطاع أن يسمو إلى أفق شوقي أو أن يملأ هذا الفراغ الهائل الذي تركه وراءه؟
لابد إذن أن ينفض شعراؤنا غبار هذا الكسل، ولابد أن يحاولوا مثل الذي حاوله شوقي من قبل، والذي حاوله، ونرجو أن يستمر فيه، الشاعر الشاب الأستاذ محمود غنيم اليوم. فإن لم يفعلوا فلسوف يظل الشعر العربي جامداً في دائرته القديمة وهم بحمد الله لن يأتوا في حدود تلك الدائرة بعشر معشار ما أتاه الأولون من جاهليين ومخضرمين وإسلاميين وأمويين وعباسيين وأندلسيين. ونحن إن كان لنا أمل في أحد من شعرائنا المصريين أو الشعراء العرب عامة، فالشعراء الشباب هم مناط ذاك الأمل. وكم كنت أود أن أوثر الفريق الذي يجيد اللغات الأجنبية منهم على الفريق الآخر الذي لا يجيدها، لو لم يبرز الأستاذ غنيم في الفريق الثاني، فذهب بالفضل، واستحق الثناء، وجعلنا نتشوق إلى محاولاته التالية. . . أما شعراؤنا الذين يجيدون إحدى اللغات الأجنبية ويقعد بهم الكسل دون محاولة النظم المسرحي، ففي مقدمتهم الشاعر الرقيق النابغة الأستاذ علي محمود طه؛ ثم الأستاذ الشاعر المطبوع محمود الخفيف، ثم الأستاذان أحمد فتحي ومختار الوكيل. ثم الشعراء الجامعيون وشعراء المهاجر. . . إن هؤلاء هم المسئولون قبل غيرهم عن نهضة الشعر العربي وفتح الميدان المسرحي له على مصراعيه، لأنهم أعرف من غيرهم بماهية المسرح وما يستطيع أن يؤديه للغة والشعر من أمجاد، وذاك أنهم تأثروا بروح الغرب وأساليبه، تلك الروح العالية نلمسها في أشعارهم فنلمس فيها أثر بروننج وشلي وكيتس وبيرون ووردذورث ودي موسيه وليل وج. ب. روسو وليبران. . . فمتى يا ترى نلمس فيهم اثر بن جونسون وشكسبير وراسين وكورني؟ إنهم يعرفون من تاريخ الآداب الأوربية كيف ثار الشعراء الإنجليز على القوافي الشعرية وكيف أفاءت عليهم عرائس القرائح بنعمة الشعر الحر التي اهتدى إليها مارلو الإنجليزي، فأتى فيها بالأعاجيب، وفتح باب جنتها الفيحاء لشكسبير(527/19)
العظيم الذي ذلل قطوفها تذليلاً. . . فمتى يثورون في الشعر العربي مثل تلك الثورة التي لا يحسن أن يقوم بها غيرهم، لما تستلزمه من ذوق خاص أولاً، ووقوف على تاريخ الآداب الأوربية ثانياً، حتى يخطوا خطواتهم عن بصيرة وحسن دراية، مهتدين في ذلك بما تم من مثله في الآداب الأخرى التي يثقفونها
أما شباب شعرائنا الذين لا يجيدون إحدى اللغات الأوربية بل لا يعرفونها، فقد جنوا على أنفسهم وعلى ثقافتهم بإهمالهم تعلو إحدى تلك اللغات مع ما كانت تبذله لهم دار العلوم من العون والتشجيع. ولعل دار العلوم هي التي جنت عليهم في ذلك، لأنها جعلت تعلم اللغة الأجنبية اختيارياً ولم تفرضه على أبنائها فرضاً، ولو أنها قسرتهم على تقلمها لحمل أبناؤها اليوم عبء الثورة على تقاليد الشعر العربي العتيق، ولأتوا في ميدان النظم المسرحي بالأعاجيب. على أنني لا أدري ماذا يمنع شعراء دار العلوم من الإكباب على لغة أجنبية يدرسونها ويتثقفون آدابها. ولست أدري أيضاً ماذا يمنع هؤلاء الشعراء، في مقدمتهم الأساتذة محمود حسن إسماعيل ومحمد عبد الغني حسن واحمد مخيمر ومن إليهم من أن يحتذوا حذو الأستاذ غنيم في النظم المسرحي؟ وللأستاذ محمد عبد الغني حسن إلمام لا بأس به بالإنجليزية، فما له لا يساهم في النظم الدرامي بنصيب؟
إننا حين نحاول سلك الأدب المسرحي في الأدب العربي، لا بد لنا ن خلق حركة أدبية إبداعية لا يحسن أن ينهض بها غير شعرائنا الشباب. والأدب الإبداعي (الرومانتيكي) هو أدب الخيال والجمال والسحر والشعر والخلق والابتكار. . . هو الأدب الذي يلون الحياة ويمد في طرفيها ويزيدها علواً وسفلاً، ويجعلها أعمق وأوسع آفاقاً. . . إنه الأدب تتضافر فيه جهود الفنانين من شعراء وموسيقيين ومصورين ورسامين وصانعي ملابس. . . أنه أدب الألوان والعواطف والبرق والرعد والدموع والعواطف والأشجان. . . إنه الأدب الذي لا يجيده غير الشعراء الموهوبين الذين يستطيعون أن يخلقوا لنا دنيا أجمل من الدنيا التي نعيش فيها. . . دنيا ذات ألوان صارخة تتسع لأحلامنا التي نعجز عن تحقيقها في عالم الواقع. . . دنيا الشعر والموسيقا والغناء. . . دنيا نتفيأ فيها ظلال الرحمة والمحبة والحنان كلما بهظتنا دنيا الشقية بالآلام والنكبات. . . دنيا نتنفس فيها صعداءنا هانئين سعداء، لا نخاف رهقاً ولا نخشى عنتاً ولا نفزع من شجو ولا نضيق فيها بأنفسنا كما نضيق بها في(527/20)
دنيا الواقع
إن القصائد والموشحات وحدها لا تستطيع أن تصنع لنا من ذلك كله إلا لحظة عابرة ثم نتردى من جديد في هوة آلامنا. . . أما الدراما المنظومة الإبداعية فكفيلة بأن تخملنا إلى السموات ساعات وساعات، وكفيلة بأن تخفف من أعباء قلوبنا، وما تنوء أرواحنا به من ضيق. . . ما هذا؟ أكلما أراد القارئ العربي المسكين أن يتسلى بشيء من الدرامة الإبداعية اضطر اضطراراً إلى اصطحاب شيكسبير ورهطه إن كان يحسن الإنجليزية، أو راسين وكورني إن كان يجيد الفرنسية، أو سرفنتس ولوب دي فيجا إن كان ملماً بالإسبانيه، أو شيلر ولسنج إن كان يعرف الألمانية، أو يقعد حزيناً محسوراً إن كان لا يعرف لغة أجنبية؟. . .
ألا إن هذا لهو أشنع الخزي في أدبنا العربي، وفي شعرنا العربي بوجه خاص. . . إننا لن نغتفر مطلقاً لأدبائنا الكتاب تقصيرهم في إمداد المسرح المصري بدرامات مصرية، وأننا لن نغتفر مطلقاً لشعرائنا الكهول تقصيرهم في إمداد هذا المسرح بدرامات منظومة تغني الأدب المسرحي وتمد الأدب العربي بثروة طائلة لا تعد لها تلك الثروة التي تشبه الفقر من القصائد والمطوعات والموشحات. . . إننا نتساءل فيم أنفق شعراؤنا الكهول أعمارهم؟ لقد أنفقوها في نظم القصائد والمقطوعات، والقصائد والمقطوعات فحسب. . . فلن تجد في دواوينهم التي تعد بالعشرات ملحمة تشجيك ولا قصة تصيبك ولا درامة تسليك، ولا تمثيلية، ولو فصل واحد، يوسع بها أحد هؤلاء الشعراء حدود الشعر العربي في عصرنا الذي اتسعت فيه حدود كل شيء. . . الحق أن حالة دواوين الشعر العربي محزنة جداً، وهي محزنة بنوع خاص في دواوين شعرائنا المعاصرين الذين عرفوا أوربا وعرفوا الثقافة الأوربية والأدب الأوربي. . . وإن مقارنة سريعة بين ديوان شاعر أوربي مثل بيرون أو روبرت بروننج وبين أي ديوان من دواوين شعرائنا، (فحلاً أو نصف فحل أو إمعة!) لتظهرك على هذا الفقر الشنيع في إنتاجنا الأدبي، وهو فقر يحسن الإنسان منه الخزي الشديد، فينصرف عن الشعر العربي والشعراء العرب وفي نفسه ما فيها من الحسرة والألم. . . فماذا في جميع دواويننا مما في ديوان بيرون مثلاً؟ إنك تقرأ في بيرون تلك الملاحم الطوال والمنظومات القصصية الرائعة، والتمثيليات الإبداعية الشائقة. . . إنك(527/21)
تقرأ دون جوان. . . تشيلد هارولد. . . بو. . . الجزيرة. . . الجياؤور. . . القرصان؛ ثم تمثيليات مارينو فالييرو، ورنر، قايين، مانفرد. . . إلى آخر تلك الروائع التي تكون ثروة بيرون الأدبية الهائلة، وإنتاجه الشعري العظيم. . . وكل من تلك الملاحم أو التمثيليات يصلح لأن يكون مجلداً ضخماً يزري وحده بأي ديوان من دواويننا. هذا عدا قصائده التي لا تعد. . . وبيرون مع ذاك مات شاباً كما مات شلي وكيتس، فلم تحل حياته القصيرة دون هذا الإنتاج البارع الغزير السامي. . . ومن الشعراء الإنجليز والفرنسيين والأسبان عشرات يفوقون بيرون غزارة إنتاج ويرتفعون إلى أفقه إن لم يفوقوه جودة. . . فمتى نفتح دواوين شعرائنا العرب فنباهي بها ولا يتولانا هذا الخزي؟ ومتى يتعاون شعراؤنا الكهول مع شعرائنا الشباب في رأب الصدع في شعرنا ولا يستعلون عليهم؟
دريني خشبة(527/22)
مواكب الأعراس في عهد بني العباس
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
من الحوادث التاريخية ما يبعث اللذة ويسلي في أوقات الفراغ. ونحن في درسنا للتاريخ نضيف إلى حياتنا اليومية ذكريات من الماضي تبعثنا إلى التأمل والمقايسة بين أمسنا وحاضرنا فيختار القارئ من هذه الصفحات ما تصبو إليه نفسه وما يسمو به عقله وما تنتعش به نفسه. وهذه صفحة من صفحات تاريخ الدولة العباسية التي شغلت العالم الشرقي والغربي قروناً كانت فيها أدوار عز وفخر. ولقد اخترنا لموضوعنا هذا ثلاث حفلات من أفخم الحفلات التي جرت في عهد بني العباس من أوائل أدواره وأوسطها وأواخرها فنقول: كانت أيام المأمون أيام عز وجاه ورغد ورخاء وتفوق وانتصار دونها المؤرخون بما فيها من الحلل القشيبة التي رفلت بها الدولة العباسية واعتزت أيما اعتزاز، حيث كانت مناراً للعلوم وينبوعاً للثروة والمال. فبذخ الخلفاء والأمراء وأصحاب المناصب العالية. وتخرقوا بما يفوق وصفه في كل حال من الأحوال. فكانت الحفلات والولائم والاحتفالات ذات مظهر فيه كل البذخ والإسراف يفوق ما يقوم به ملوك الأطراف تعزيزاً لهيبة الخلافة وعنواناً لسلطانها وجبروتها. ومن هذا ما جرى في حفلة زواج المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل الذي كان وزيره آنذاك. وهانحن أولاء نسرد ما جرى في تلك الحفلة التاريخية التي فاقت الحفلات التي تقام عادة بين الملوك والأمراء. وقد جرت تلك الحفلة في منازل الحسن بن سهل السرخسي التي كانت بفم الصلح بالقرب من مدينة واسط. وفم الصلح اسم نهر كبير كان فوق واسط بينها وبين جيُّل، عليه عدة قرى، وفيه كانت دار الحسن بن سهل وزير المأمون، وفيه بنى المأمون ببوران، تزوجها المأمون لمكانة أبيها عنده، واسمها الحقيقي خديجة، وبوران لقبها. احتفل أبوها وعمل من الولائم والأفراح ما لم يعهد مثله في عصر من عصور الجاهلية والإسلام. فقد سافر المأمون وحاشيته ورجال دولته من القواد والكتاب والوجوه إلى فم الصلح فنثر الحسن بن سهل بنادق المسك على رؤوسهم فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك، فكانت البندقة إذا وقعت في يد الرجل فتحها فيقرأ ما في الرقعة، فإذا علم ما فيها مضى إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويتسلم ما فيها سواء كان ضيعة أو ملكا آخر أو فرساً أو جارية أو مملوكاً. ثم نثر بعد(527/23)
ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، وأنفق على المأمون وقواده وجميع أصحابه وسائر من كان معه من أجناده وأتباعه وكانوا خلقاً لا يحصى حتى على الجمالين والمكارية والملاحين وكل من ضمه عسكر. ولم يكن في المعسكر من يشتري شيئاً لنفسه ولا لدوابه. وذكر الطبري أن المأمون أقام عند الحسن تسعة عشر يوماً يعدُّ له في كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه. وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم. وكان رحيل المأمون نحو الحسن أبن سهل أي إلى فم الصلح لثمان خلون من شهر رمضان سنة عشر ومائتين. وفرش الحسن للمأمون حصيراً منسوجاً بالذهب؛ فلما وقف عليه نثرت على قدميه لآلئ كثيرة. فلما رأى تساقط اللآلئ على الحصير المنسوج بالذهب قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذه الحال حين قال في وصفه الخمر والحباب الذي يعلوها عند المزج:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درٍّعلى أرض من الذهب
وقال الطبري أيضاً: دخل المأمون على بوران الليلة الثالثة من وصوله إلى فم الصلح، فلما جلس معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد الدر كم؟ فقالت: ألف حبة؛ فوضعها في حجرها، وقال لها: هذه نحلتك وسلي حوائجك. فقالت لها جدتها: كلمي سيدك فقد أمرك. فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي عمه، والسماح لأم جعفر، وهي الست زبيدة. فقال: قد فعلت. فألبستها أم جعفر البدلة اللؤلؤية؛ وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عبر وزنها أربعون مناً في تور من ذهب. فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال: هذا إسراف. وقد قالت الشعراء والخطباء في ذلك فأطنبوا. ومما يستظرف فيه قول محمد بن حازم الباهلي:
بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن
يا ابن هرون قد ظفر ... ت ولكن ببنت مَنْ
فلما نمى هذا الشعر إلى المأمون، قال: والله ما ندري أخيراً أراد أم شراً؟ وقد أمر المأمون للحسن عند منصرفه بعشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح، فجلس الحسن وفرق المال على قواده وأصحابه وحشمه. وقد كان الحسن كثير العطاء للشعراء وأنشده:
تقول خليلتي لما رأتني ... أشد مطيتي من بعد حل(527/24)
أبعد الفضل ترتحل المطايا؟ ... فقلت نعم إلى الحسن بن سهل
والحكاية الثانية زواج الخليفة المقتدى بأمر الله بابنة السلطان ملكشاه السلجوقي، وهي من حوادث سنة ثمانين وأربعمائة، على ما رواه ابن الأثير، قال: في المحرم نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخليفة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي. وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة، وثلاث عماريات، وعلى أربعة وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة، لا يقدر فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرساً من الخيل الرائعة عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجوهر، ومهد عظيم كثير الذهب. وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهر آتين، والأمير برسق وغيرهما. ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب. وكان السلطان قد خرج من بغداد متصيداً، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون زوجة السلطان وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبية، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك. وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً. وقال الوزير لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره؛ فأجابت بالسمع والطاعة. وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان، وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير. وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم، كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها، وبين أيديهن الشموع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان. ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان بعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخلافة. وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها. فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله، حكي أن فيه أربعين مناً من السكر، وخلع عليهم كلهم وعلى كل من له ذكر في العسكر، وأرسل الخلع إلى الخاتون زوجة السلطان والى الخواتين، وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك
والحكاية الثالثة وهي من أواخر عهد الدولة العباسية أي من حوادث سنة أربع وثلاثين وستمائة، ذكرها ابن الفوطي قال: في هذه السنة وصل الأمير عز الدين قيصر الظاهري(527/25)
مخبرا بوصول ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. وكان قد نفذ لإحضارها لتزف على زوجها مجاهد الدين أيبك المستنصري المعروف بالدويدار الصغير. فخرج إلى تلقيها بدر الظاهري المعروف بالشحنة - أي رئيس الشرطة - أحد خدم الخليفة وفي صحبته ثلاثون خادماً، والأمير بدر الدين سنقر جاء أمير اخور الخليفة وجماعة من المماليك والحاجب أبو جعفر أخو أستاذ الدار ومؤيد الدين محمد بن العلقمي فتلقاها بدر الشحنة في المزرفة وعاد والجماعة معه وانحدرت هي في شبارة حملت لها إلى هناك في جماعة من خدمها وجواريها وصعدت في باب البشرى ليلاً وقد أعد لها بغلة فركبت واجتازت دار الخلافة وخرجت من باب النوبي إلى دار زوجها مجاهد الدين بدرب الدواب وهي الدار المنسوبة إلى احمد بن القمي فنثر عليها خادم لزوجها ألف دينار عند دخولها الدار. وفي رابع جمادي الآخرة خلع الخليفة على مجاهد الدين بين يديه وقدم له مركوب بعدة كاملة فخرج وقبل حافره وركب من باب الأتراك ورفع وراءه أربعة عشر سيفاً إلى غير ذلك من الحراب والنشاب واشتهرت السيوف من باب دار الضرب وخرج معه جماعة من خدم الخليفة والحاجب أبو جعفر بن العلقمي أخو أستاذ الدار ومهتر الفراشين وحاجب ديوان الأبنية وغيرهم. وتوجه إلى داره فلما اجتاز بباب البدرية نثر عليه خادم من خدم الشرابي أربعة آلاف دينار. ولما اجتاز درب الدواب نثر عليه في عدة مواضع من دار الأمير جمال الدين قشتمر ودار ابنته زوجة الأمير نصرة الدين كنج أرسلان وكان وراءه الأعلام والطبول والكوسات. وفي عشية هذا اليوم نفذ له أحد عشر طبلاً للخلق وأحد عشر قصعة وزوج صنج برسم طبل النوبة في الصلوات الثلاث. وزفت عليه زوجته فاجتمعت له فرحتان فرح الأمارة وفرح العرس. ولم يبلغ أحد من أبناء جنسه مع حداثة سنه ما بلغ. ومن الغد عرضت عليه الهدايا من رقيق الترك والخدم والجيوش وأنواع الثياب والطيب والخيل وآلة الحرب وغير ذلك من جميع الزعماء وأرباب الدولة وخدم الخليفة وسائر المماليك؛ ثم الوزير والشرابي وأستاذ الدار والدويدار الكبير، ولم ينفذ له أحد شيئاً إلا وخلع على المنفذ على يده ثم ركب وبين يديه الأمراء والمماليك ورفع وراءه السلاح وقيدت بين يديه الخيول المجنونة وشهرت حوله السيوف وسعى الكيانية وبأيديهم الحراب والأطيار والجاووشية وبأيديهم الجوالكين الذهب والفضة وقصد دار الخلافة فخدم وعاد ثم ركب عشية هذا اليوم(527/26)
وقصد دار الخليفة فخدم وخرج وقت العشاء الآخرة في الأضواء الشموع واستمر دخوله إلى دار الخليفة في كل يوم بكرة وعشية على هذا الوضع
(بغداد)
يوسف يعقوب مسكوني(527/27)
تطهير العقائد وتحرير العقول
أساس الإصلاح الاجتماعي
للأستاذ محمود أبو رية
انبعث في السنين الأخيرة بين جوانب البلاد صيحات مختلفة تدعو كلها إلى الإصلاح الاجتماعي، وتسابق من ينشدون الخير لبلادهم فرادي وجماعات إلى المساهمة في ذلك الإصلاح. ولما كان فريق قد اتخذ لنفسه مذهباً خاصاً لا يشاركه فيه سواه ولم يذهب إليه بعد درس أو تمحيص، فأن طرق العلاج قد تعددت ومذاهبه قد تفرقت. وقد وجد أدعياء الإصلاح بين زحمة هذه الفوضى طرقاً ميسرة ليظهروا بين الناس أنفسهم وينالوا مآربهم فيقف الواحد منهم على رأس طريق يتخذه لنفسه بعد أن يفتلذ من جسم الأمة فلذة ليكون مرشداً لها وهذا هو كل همه فلا تجد له ولا لمن حوله من عمل بعد ذلك إلا دعاوى ينشرونها ومزاعم يبثونها
وهذه لطوائف هي التي تعرف بين الناس باسم الجمعيات، وما هي في الحقيقة إلا (فرق) قد زادت في تمزيق الأمة وتشتيت شملها بعد أن أصبح صدر البلاد ضيقاً حرجاً بتلك الفرق التي تعرف (بطرق الصوفية)
وإن قيام هذه الفرق المختلفة بيننا وما يدب بينها من عقارب الشنآن وما أصاب الأمة بوجودها من داء التفرق ومرض التشيع ليعيد إلينا ولا جرم عهد الفرق الإسلامية لتي ذر قرنها في صدر الإسلام فكانت من أسباب ضعفه وذهاب ريحه
على أنك لو بحثت عن عمل لهذه الفرق المستحدثة لما وجدت إلا صيحات عن بعض الذكريات الدينية ترسل بين الناس الفينة بعد الفينة ويحسبون أنها مجدية وهي لا غناء فيها
هذا هو كل عملها فلا تراها قد ظهرت من أدران الوثنيات ولا فكت عن القول أغلال الخرافات، ولا أصلحت من الناس ما غشيهم من شيء العادات، ولا حسرت عنهم ما غمرهم من أمواج المنكرات؛ بل أنك لترى عللنا الاجتماعية قد زادت واشتدت، وأمراضنا الاجتماعية قد عمت وانتشرت؛ حتى لقد أصبح جسم الاجتماع المصري بهذه الفرق - القديم منها والحديث - كمثل رجل ألحت على جسمه العلل وانتابته الأمراض فسعى لمداواته الطبيب النقريس والدعي الجاهل، هذا، يدس له ما يضره، وذاك يقدم له ما ينفعه؛(527/28)
ووراء هذا وذاك أولياؤه وأقرباؤه يدخلون عليه من كل باب يحملون إليه من مختلف الهدايا ما يظنون أنه من دوائه، وما هو في الحقيقة إلا من بلائه، فلا يلبث هذا المسكين أن تشتد عليه الأدواء، وأن مصبح في حال لا يرجى له معها شفاء
مما لا ريب فيه أن جسم الأمة مريض بعلل شتى قد غيرت القرون عليها حتى أعضل أمرها، ولكن مما لا خلاف فيه كذلك أن لكل داء دواء يستطب به، على أن يتولاه بالعلاج طبيب نظامي يقوم عليه وحده، ولا يشاركه في تمريض المريض غيره
وإذا كنا ندعو بكلمتنا هذه إلى اتباع تلك الطريقة القويمة التي لا يؤخذ بأسباب أي إصلاح إلا باتباعها، فإنا نذكر قومنا بأن لكل إصلاح (أساساً ثابتاً) يقوم عليه، وأساس الإصلاح الاجتماعي - بل والديني - في بلادنا إنما يقوم على (تطهير العقائد من دنس الوثنيات، وفك العقول من أغلال الأوهام والخرافات)؛ وهذا الأساس لم نفتجره من عندنا، ولا هو ببدع جديد لنا، وإنما وضعه من قبلنا الأنبياء المرسلون والزعماء المصلحون. وبحسبك أن تعلم أنه لما قام رسول الله (ص) بدعوته جعل همه كله في القضاء على البدع والوثنيات التي تدسست إلى العقائد فأفسدتها، والأوهام والترهات التي غشت الأفهام فكبلتها، وقد جعل هذا الجهاد أساس دعوته فلم يأت للناس بشيء من التكاليف الشرعية ولا أمرهم بأداء فرض من الفروض الدينية، إلا بعد أن خلصت العقائد من لوثاتها، ونشطت العقول من أغلالها، وأصبحت الأمة كلها على دين واحد من التوحيد الخالص. وأنه صلوات الله عليه لم يفعل ذلك إلا لأن التوحيد الخالص هو كما قال الأستاذ الإمام: (كمال الإنسان، وأنه إذا سلمت العقائد من البدع تبعها سلامة الأعمال من الخلل)
وإذا أنت رميت إلى تاريخ (لوثر) مصلح أوربا العظيم تجد نور هذه الحقيقة أمامك ساطعاً، إذ أنه بعد أن قام بدعوته وطهر المعتقدات مما كانت قد تلوثت بها، دخلت أوربا في طور جديد من الإصلاح ظل يؤتى ثمره حتى صارت على ما هي فيه آلات مدنية وحضارة وعزة وقوة. ولقد قال توماس كارليل في تاريخ لوثر في كتاب الأبطال: إن على دعوته قد قامت دعائم الدستور الإنجليزي وبرلماناته والحرية الأمريكية واستقلالها والثورة الفرنسية ونتائجها
إن كثيرين ممن يتصدون للإصلاح (الكلامي) يستهينون بأمر البدع والخرافات، وبعض(527/29)
هؤلاء يجعل من إصلاحه أن تظل هذه العلل تنخر في عظام الأمة، لأنها (بزعمه) مما ينفع العامة. ولو هو تدبر الأمر بفكر الحكيم لعلم أنه ما أنهك جسم الأمة، ولا قضى على كل فضيلة فيها إلا تلك البدع والخرافات. ولقد أصاب السيد جمال الدين الأفغاني في قوله: (إن خرافة واحدة قد تقف بالعقل عن الحركة الفكرية وتدعوه بعد ذلك أن يحمل المثل على مثله فيسهل عليه قبول كل وهم وتصديق كل ظن، وهذا مما يوجب بعده عن الكمال، ويضرب له دون الحقائق ستاراً لا يخرق)
وإن للأستاذ الإمام محمد عبده لحكمة جليلة يجب على كل مصلح أن يتبعها ويسير على هداها وهي (إن نجاح هذه الأمة إنما يكون بحسن التربية، ولا سبيل إلى التربية فيها إلا بإصلاح معتقداتها وتصحيح ملكتها حتى تستقيم بذلك أعمالها وتصلح أحوالها)
ولشيخه السيد جمال الدين منهج في إصلاح الاجتماع وإسعاد الأمم جعل الأمر الأول منه (صفاء العقول من كدر الخرافات وصدأ الأوهام، فإن عقيدة وهمية لو تدنس بها العقل لقامت حجاباً كثيفاً يحول بينه وبين حقيقة الواقع، ويمنعه من كشف نفس الأمر. وأول ركن يبنى عليه الدين الإسلامي (هو) صقل العقول بصقال التوحيد وتطهيرها من لوث الأوهام، فمن أهم أصول العقائد أن الله منفرد بتصريف الأكوان متوحد في خلق الفواعل والأفعال؛ وإن من الواجب طرح كل ظن في إنسان أو جماد علويا كان أو سفليا بأن له في الكون أثراً بنفع أو ضر أو إعطاء أو منع أو إعزاز أو إذلال)
ومن أجل ذلك كان أول عمل قام به السيد بمصر أن (وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول فنشطت لذلك ألباب واستضاءت بصائر)
ومن كان رحمه الله في جميع أوقات اجتماعيه مع الناس لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل أو يطهر العقيدة أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور)
هذا هو أساس الإصلاح الذي يكون كل ما يبنى عليه قوى الأركان شديد البنيان، وكل إصلاح يقوم على غير هذا الأساس فإنما يكون مصيره ولا ريب الإخفاق والخيبة
وإنا نرسل اليوم هذه الصيحة من فوق منبر الرسالة لكي تبلغ المسئولين في بلاد الشرق كافة، فينهضوا جميعاً في حزم وقوة، وفي غير هوادة ولا لين، ليضعوا هذا الأساس بأيديهم ثم يقيموا عليه بعد ذلك ما يقيمون من إصلاح وما يبنون من أعمال(527/30)
هذه هي صيحتي التي أبعثها إلى قومي. وأرجو أن أكون قد بلغت، وأن أكون قد ذكرتهم بما فيه الخير لهم، والذكرى تنفع المؤمنين
(المنصورة)
محمود أبو رية(527/31)
أنات حائرة
للمدير الشاعر عزيز أباظه بك
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
خطر لي موضوع هذا المقال وأنا أقرأ ديواناً من الشعر الحزين الرصين أهداه إلى الشاعر عزيز بك أباظة
وكثير من الناس لا يعرفون شيئاً عن قصة هذا الشاعر، ولا قصة ديوانه الجديد الذي أتحف به باب المرائي في الشعر العربي
أما الشاعر فقد سمعت عنه من بعض أفراد أسرته الكريمة فقلت في نفسي: قريب يحابى قريباً، ونسيب يزكي نسيباً؛ ولكنني لما قرأت ديوان، استصغرت ما سمعت من الأخبار
وأما قصة الديوان، فهي قصة الدموع والأحزان والهموم والآلام نظمها الشاعر في سلك وأهداها إلى من يجدون فيدموع غيرهم شفاء لغليلهم، وراحة لصدورهم
والديوان كله دموع ذرفها الشاعر على زوجته التي اختطفها الموت أنضر ما تكون شباباً. وكل بيت من الديوان يحمل ذكرى. وكل قصيدة تحمل أثراً
وهذا شيء جديد في الأدب العربي؛ فما رأينا قبل اليوم - فيما نعلم - شاعراً عربياً اختص زوجته بديوان كامل من شعره يقدمه تذكاراً لأيام سعيدة وبشاشات من العيش مضت إلى غير رجعة
وأكثر المراثي في الأدب العربي هي من الرجال إلى الرجال؛ اللهم إلا مراثي الخنساء لأخويها صخر ومعاوية وأولادها الأربعة. فهي هنا الشاعرة الوحيدة التي تفردت بالبكاء حياتها.
ورثاء الرجال للنساء في الشعر العربي قليل، وأقل منه رثاء الرجال لزوجاتهم. ولعل ذلك محمول على المحافظة على صيانة المرأة وبعدها أن يكون أسمها مضغة في الأفواه، وسيرة على الألسنة.
وليس في ذلك مناقضة لورود المرأة في شعر الغزل؛ فإن موضوع الغزل ليست محرما للرجل وليست من أهله، ولا يعيب الرجل أن يتحدث الناس عنها. أما الزوجة المرثية، فهي لزوجها أهل وأم أبناء، فيجد من الحرج أن يذكرها في شعره حتى ولو كان ذلك في(527/32)
مقام الرثاء وموضع البكاء. ودليلنا على ذلك أن الطغرائي أَنِفَ أن يذكر زوجته في معرض رثائها فعبر عنها أكثر من مرة بقوله (ستيرته) والستيرة هي المرأة المستورة. وهذا الوصف يوحي بأن الشاعر قصد أن يجعل زوجته في ستر حتى على صفحات ديوانه المنشور
واشتهر من الأزواج الراثين لزوجاتهم مسلم بن الوليد. ويظهر أنه كان ينوي أن يعرض عن رثاء زوجته - على عادة الشعراء قبله - ولكن حادثاً معيناً أغراه برثائها وهاج أحزانه فسجلها في أبيات رائعة. ويلخص هذا الحادث في أن أصحابه لاحظوا عليه بعد دفنها شدة ألمه واستسلامه لأحزانه، فأرادوا لأن يحملوه على الشراب حتى يتسلى بالخمر عن مصابها فرد عليهم بقوله:
بكاء وكأس كيف يتفقان ... سبيلاهما في القلب مختلفان
دعاني وإفراط البكاء فأنني ... أرى اليوم فيه غير ما تريان
غدت والثرى أولى بها من وليها ... إلى منزل ناء بعينك دان
فلا حزن حتى تنزف العين ماءها ... وتعترف الأحشاء بالخفقان
وكيف بدفع اليأس والجد بعدها ... وسهماهما في القلب يعتلجان
ولابن الزيات الكاتب الشاعر وزير المعتصم والواثق العباسيين أبيات يرثي بها زوجته ويصور حال ولده منها وقد تركته طفلاً صغيراً، يقول فيها:
ألا من رأى الطفل المفارق أمه ... بُعيد الكرى عيناه تنسكبان
رأى كل أم وابنها غير أمه ... يبيتان تحت الليل ينتجيان
وبات وحيداً في الفراش تجنُّه ... بلابل قلب دائم الخفقان
فلا تلحياني إن بكيت فإنما ... أداوي بهذا الدمع ما ترياني
ومن الشعراء من يتخذ له جارية أو أكثر وفق ما كان مألوفاً في زمانهم وجارياً عليه عهدهم؛ فإذا ماتت جارية من هؤلاء وكانت عزيزة على الشاعر حبيبة إلى نفسه رثاها كما نرثي الزوجة، وقد يذرف عليها من ساخن عبراتهما يعبر عنه شعره. كما فعل أبو تمام في رثاء جارية له يقول فيها:
أصبت بخود سوف أغبر بعدها ... حليف أسى أبكى زمانها(527/33)
عنان من اللذات قد كان في يدي ... فلما قضى الألف استردت عنانها
منحت الدُّمى هجري فلا محسناتها ... أود ولا يهوى فؤادي حسانها
يقولون هل يبكي الفتى لخريدة ... إذا ما أراد اعتاض عشراً مكانها
وهل يستعيض المرء من عشر كفه ... ولو صاغ من الحر اللجين بنانها؟
وأبو تمام هنا يؤمن بالفردية وعدم القابلية للتعويض، فقد يكون من الجواري من يزدن حسناً على جاريته المرثية، ولكنه لا يجد فيهن العوض منها لخصائص فيها ليست لواحدة منهن
والشريف الرضي يرثي (بعض أهله) بأبيات فيها أثر اللوعة والحزن الشديد؛ ولعل بعض أهله زوجة له، لأن العرب تعبر عن زوجة الرجل بأهله. قال الشريف:
ذكرتك ذكرة لا ذاهل ... ولا نازع قلبه والجنان
أعاود منك عداد السليم ... فيا دين قلبي ماذا يدان
ونابي الجوى أن أسر الجوى ... إذا ملئ القلب فاض اللسان
وما خير عين خبا نورها ... ويمني يد جذ منها البنان
فيا أثر الحب إني بقيت ... وقد بان ممن أحب العيان
وقالوا تسل بأترابها ... فأين الشباب وأين الزمان؟
والشريف صادق في البيت الأخير؛ فأين الشباب المسعف على اصطناع الحب من جديد؟ وأين الزمان المعين على ذلك بعد أن ضاع من العمر غير قليل؟
وأكثر الشعراء رثاء لزوجته في الأدب العربي (الطغرائي) فيه أكثر من خمس قصائد مختلفات في الوزن والقافية. وكلها تدل على شديد حرقته. ولعله بذلك مهد السبيل لمحمود سامي البارودي باشا الذي رثى زوجته بقصيدة تعد أطول ما رثيت به امرأة في الأدب. فقد بلغت أبياتها سبعة وستين بيتاً
وقصيدة البارودي هذه لا تمتاز من مراثي النساء بطولها فحسب، بل تمتاز بتعبيرها عن أحزان البارودي ونفسه المحطمة أصدق تعبير، فقد كان منفياً بجزيرة سرنديب يوم ورد إليه نعيها. ولكنه على عزيمته القوية لم يستطع احتمال الصدمة فيها فيقول:
أيد المنون قدحت أي زناد ... وأطرت أية شعلة بفؤادي(527/34)
أوهنت عزمي وهو حملة فيلق ... وحطمت عودي وهو رمح طراد
ويقول:
يا دهر فيم فجعتني بحليلة ... كانت خلاصة عدتي وعتادي
إن كنتَ لم ترحم ضناي لبعدها ... أفلا رحمت من الأسى أولادي
ولكنه بعد أن يذيب قلبه حسرات عليها يعود فيرضى بقضاء الله الذي لا مرد منه ولا محيص عنه فيقول:
كل امرئ يوماً ملاق ربه ... والناس في الدّنيا على ميعاد
أما الطغرئي فكان على إكثاره من القصائد غير مرتفع إلى مستوى البارودي في مرثيته الخالدة. وإذا كان الطغرائي هو شاعر الشكوى من الزمان، فلم يستطع أن يكون بحق شاعر الرثاء. وأحسن أبياته في رثاء زوجته قوله:
إن ساغ بعدك لي ماء على ظمأ ... فلا تجرعت غير الصاب والصَّبِر
وإن نظرتُ من الدنيا إلى حسن ... مذ غبت عني فلا متعتُ بالنظر
صحبتني والشباب الغض ثم مضى ... كما مضيت فما في العيش من وطر
سبقتماني ولو خيرت بعدكما ... لكنتُ أول لحاق على الأثر. . .
وقوله:
وا بؤس منفرد عمن يضاجعه ... مشرد النوم بين الأهل والمال
يزيد حر حشاه برد مضجعه ... ويملأ القلب شجواً ربعه الخالي
يبكي ويندب طول الليل أجمعه ... فلا يقر ولا يهدا على حال
هذه خواطر أملتها عليَّ قراءتي لديوان (أنات حائرة) الذي نظمه عزيز أباظة الشاعر لذكرى زوجته. ومن حق ناظمه الكريم - بعد تعزيتنا له - أن يفاخر بأن ديوانه الجديد هو أول ديوان في الشعر العربي يعمل برمته في رثاء زوجة.
محمد عبد الغني حسن(527/35)
الله!. . .
للأستاذ أحمد الصافي النجفي
بلغت ما يصبو إليه الورى ... وغير ذا ما أتمناه
أرضيت بالشعر البرايا وما ... أرضاه إن لم يرضه الله
الله أستاذي وكل الذي ... خطَّ يراعي فهو أملاه
لا مبدع إِلاَّه، لا ناقد ... سواه، ما يأباه آباه
أخجل من عرض قنوتي له ... وإن تكن بعض عطاياه
أبدلت فني بخشوعي فأن ... يُقبَل فذا ما أتوخاه
شوَّهتُ فنَّ الله إذ رمتُ أن ... أريد بالفن مزاياه
أحتقر الناس وإعجابهم ... ومن هُم؟ لا شيء إلاه
لولا تجلّيه على خلقه ... لقلت هم والوهم أشباه
الله نور الأرض نور السما ... ما أنا، ما العالم، لولاه؟
أعمى الورى من لا يرى نوره ... ألم يشاهد؟ أين عيناه؟
أعمته عيناه وأغفى على ... عمى فلم تَصدُقه رؤياه
تاه من النور وكم معشر ... إن تزد النور لهم تاهوا
كم تكذب العين بما تدعّي ... فأوضح العالم أخفاه
أراه في الكون بعين الحجى ... لا أشرك العين بمرآه
إذا ادعَّى عقلك إنكاره ... فأنكر العقل ودعواه
معْظِمي كونيَ من فيضه ... مصغّري فهميَ إياه
عجبت من ساع إلى غيره ... والكلّ لفظ هو معناه
تألّه البعض شعوراً به ... فصاح في جبّتيَ الله
ولو رآه لهوى مثلما ... موسى هوى من طور سيناه
أعْرَف بالله امرؤ شاعرٌ ... يدرك في الكون خفاياه
آمنت بعد الكفر مستغفراً ... عن جهل عقلي وخطاياه
يأخذ مصنوع على صانع ... ما أحقر العقل وأغباه(527/36)
وعدت للخالق أدعوه أن ... يزيد نوري يوم ألقاه
كهولتي بالله قد آمنت ... ضلَّ شبابي ودعاواه
فإن تجد ذا شيبة جاحداً ... فقل إلى الموت أحلناه
روح المعرّي فيَّ آمنت ... فأبصرتْ في الموت عيناه
عاشت بروحي روحه ترتقي ... فمذ سمتْ لاح لها الله
بدأت تلميذاً على عقله ... ثم اعتلى عقلي فأعلاه
أنضجت روح الشعر في روحه ... فاستيقظت في العقل رؤياه
واستيقظ العقل بما قد رأى ... واتحد الرائي ومرآه
وضلَّ أتباع المعّري إذ ... ظنّوه قد ظل على ما هو
خالوه من جمودهم جامداً ... لقد أساءوا لمزاياه
ما هو إلا فكرةٌ تعتلي ... حتى ترى في الكون أعلاه
أفكارنا أفكار قوم مضوا ... يتَّصل الأعلى بأدناه
مراحل الفكر بهذي الدنى ... مراحل العمر بدنياه
آخرة المرء كدنياه ... ومنتهى الفكر كمبداه
كانت بذوراً وغدت دوحة تثمر ما البذر خفاياه
ما نحن إلا فكرة لم تزل ... ترقى إلى ما قدّر الله
رسالة الغفران لم تغتفر ... للشعر كفراناً به فاهوا
وجئت في شعري مستغفراً ... عن المعرى وخطاياه(527/37)
أنة محزون
للدكتور محمد عبد المجيد القاضي
(بمناسبة مرور الأربعين على وفاة المغفور له نيازي باشا)
قوضت يد المنون بالأمس - ويد المنون قوية لا ترحم - ركناً شديداً من أركاننا له في طوايا القلوب مركزه المنبع، وبين حنايا الضلوع مكانه الرفيع
عدت المنون عليه رجلاً كامل الصحة، كامل الرجولة، كامل الخلق
وما زال حديثه العذب يرن في أذني، ودرره الغوالي تتردد إلى ذهني، وصورته الحبيبة ماثلة أمام عيني، وروحه القوية متغلغلة بين وجداني. لك الله أيها الوالد! فقد تركت في القلوب جرحاً لا يندمل، وفي النفس لوعة لا تخفف. لك الله أيها الوالد الكريم! فقد كنت لربك مخلصاً تقياً، ولوطنك باراً وفياً، ولأصحابك صديقاً ولياً، ولمرءوسك رحيماً رضياً، ولزملائك مكرماً حفياً! لك الله أيها الوالد! فهذه سيرتك عاطرة، والحياة بين الناس سير. وهذه ذكراك باقية والحياة على ممر الأيام ذكرى
ففي ذمت الله أيها الراحل الكريم! وفي جنات الخلد والفردوس مقرك ومقامك.(527/38)
البريد الأدبي
لجنة لدرس حالة الكليات والمعاهد الأزهرية
أصدر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بتاريخ 26 يوليه سنة 1943 قراراً بتأليف لجنة لدرس حالة الكليات والمعاهد الأزهرية هذا نصه:
(ظهر هذا العام وبعض الأعوام الماضية ضعف نتائج الامتحانات في الكليات والمعاهد وذلك يستدعي بحث حالة الكليات والمعاهد من جميع نواحيها. لذلك قررنا تأليف لجنة من:
أ - حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية رئيساً
ب - حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة:
1 - شيوخ الكليات الثلاث 2 - الشيخ إبراهيم الجبالي 3 - محمود الغمراوي 4 - الشيخ محمود شلتوت 5 - الشيخ حامد محيسن 6 - الشيخ عيسى منون 7 - الشيخ عبد العزيز مصطفى المراغي 8 - الشيخ عبد الحميد ناصف 9 - الدكتور محمد البهي قرقر
ومهمة هذه اللجنة المسائل الآتية:
1 - النظر في أسباب ضعف نتائج الامتحانات في الكليات والمعاهد
2 - النظر في المناهج والكتب في الكليات والمعاهد
3 - بيان طريق العلاج لهذه الحالة بما يحقق للأزهر دراسة مجدية تكفل الإحاطة بالعلوم وتحقق للطلاب ملكة البحث والتحصيل معتمدين على أنفسهم
4 - النظر في أقسام تخصص المادة ووضع النظم الكفيلة بتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئت هذه الأقسام
(وللجنة أن تدعو من تشاء من حضرات أصحاب الفضيلة شيوخ المعاهد لأخذ رأيهم عند الحاجة)
شيخ الجامع الأزهر
محمد مصطفى المراغي
ولاشك أن كل مخلص للأزهر يرجو لهذه اللجنة الموقرة التوفيق في عملها والوصول إلى ما يصلح شأن الأزهر وينقذه مما ألم به وشكا منه أهل الغيرة عليه، ويهيئ له - كما يقول(527/39)
القرار - دراسة مجدية في كلياته ومعاهده وتخصصاته، ويحقق الغرض المرجو منه للدين والثقافة الإسلامية
ولا شك أيضاً أن الناس جميعاً في الأزهر وفي غير الأزهر سينظرون إلى هذه اللجنة الموقرة نظرة ملؤها اليقين والثقة في إخلاصها وصدق عزيمتها راجين أن تسرع بقدر الإمكان في أداء مهمتها. وإن لجنة تتألف من هؤلاء الأساتذة الأجلاء وعلى رأسها هذا الرجل المخلص الغيور على مصلحة العلم والدين لجديرة بما يعقده عليها الناس من الآمال، والله ولي التوفيق.
(م. . .)
وشاية
دكتورنا (المبارك)
لا أدري أي شيطان يحركني لأوقع بينك وبين أديب كبير تحبه أعنف الحب، وتعجب به أبلغ الإعجاب، ويخلع عليه قلمك الصوال أبلغ آيات الثناء
وأحب - قبل كل شيء - أن أطمئنك فأؤكد لك أني مثلك (لا أستسيغ مذهب المجلات التي ترى من البراعة أن تؤرث الخصومات بين رجال الأقلام ليتفرج القراء) وأني أيضاً لا أحب أن يختصم الأدباء فيما بينهم ليقدموا النداء لأهل الفضول. ولكني مع ذلك لا أتردد مطلقاً في أن أنقل إليك هذه الوشاية التي أزعم أنها تمسك من قريب أو بعيد
في بهو (الملك داود)، وفي متوع الضحى من كل يوم ينتثر على الموائد الأنيقة المترفة فريق من صفوة الشباب المتنور الراقي، ينعمون ساعة بحديث الأدب والسياسة، ثم يتفرقون على غير ميعاد. ومن عادتي كلما رأيت الأستاذ الكبير إسعاف النشاشيبي بك أن أتسلل إليه برفق وهوادة، و (أطب) على مائدته بدون بلاغ أو استئذان. وسرعان ما ينطلق لساننا في التحدث عن الأدب والأدباء. وسرعان ما يجري في كلامنا أسماء المازني والعقاد وطه حسين والزيات وزكي مبارك
وأشهد أن الأستاذ النشاشيبي محب للدكتور مبارك معجب بأدبه ونشاطه، ولكن الشيء الذي يبلبل بالي ويحير لبي أن هذا الباحث اللغوي الجليل لا يذكر اسم زكي مبارك إلا مقروناً(527/40)
بكلمة (الخبث)
أقول له. الدكتور مبارك شعلة نشاط يا سيدي. فيجيبني: أجل، أنا معك بأن (الخبيث) زكي مبارك شعلة وهاجة من النشاط. فكنت أعجب لذلك وأذهب من توّي أفتش على معاجم اللغة لأطمئن على أن لفظة (الخبيث) ترادف لفظة الدكتور أو تدل على معنى يقاربها فلا أرجع من هذه المعاجم بطائل، ولا أرى فيها إلا ما يمزق الأحشاء ويفتت الأكباد
فما رأي سيدي الدكتور؟
هل يجوز أن يكون عندك تخريج لمعنى هذه الكلمة التي يطيب لعلامة فلسطين أن يلصقها أبداً باسمك؟
أما أنا فقد أقسمت أن لا أجلس إلى مائدة أستاذنا النشاشيبي في بهو الفندق حتى أنقل لك هذه الوشاية وأسمع رأيك في الموضوع. والسلام عليك من الصديق الجاد في حديثه إليك:
(القدس)
عبد القادر جنيدي
حاشية: يهم الدكتور مبارك أن أعلن أن الأستاذ النشاشيبي قد استبدل بالكوفية والعقال عمامة كبيرة ترف على رأسه تشبه عمامة السيد جمال الدين الأفغاني. ولعلي بهذا الخبر الطريف الذي أزفه للأندية الأدبية أكون قد قدمت للدكتور مبارك مادة غزيرة لجوابه المنتظر
إلى الأستاذ عبد الله الملحوق
ليست اسم كما تنسب إلى وقد تواضع أصحاب المذاهب على النسبة إلى المصدر فيقولون مثلاً:
1 - التصوّريون وكان يسميهم أبن رشد المشبهة فعدل المحدثون عنها لأنها اسم فاعل
2 - التجريبيون: أي أصحاب المذهب التجريبي ولم يقولوا المجربون بصيغة اسم الفاعل
3 - التجريديون: أي أصحاب المذهب التجريدي ولم يقولوا المجردون
4 - التغّيرون: أي أصحاب مذهب تعدد الأغراض ولم يقولوا المتغيرون أو المغيرون مثلاً(527/41)
5 - التطوريون: أي أصحاب مذهب التطور ولم يقولوا المتطورون
6 - التشبيهيون: أي القائلون جروا على هذا حتى في غير المصادر، فيقولون:
1 - الإداريون أي الذين يقولون نحن ندري كل شيء:
2 - آخر تعبيرات أصحاب المذاهب، وإليك تحيتي
دريني خشبة(527/42)
العدد 528 - بتاريخ: 16 - 08 - 1943(/)
نهاية أستاذ. . .
مئات من المدرسين وآلاف من الطلاب يعرفون الأستاذ. أحمد عثمان المهدي مدرس الفرير المثابر خمسا وثلاثين سنة. ولكن معرفتي إياه رفيقاً في الدراسة، وزميلاً في التدريس، تجعلني أقدر من عرفوه جميعاً على حكاية مأساته، وكشف ما خفي من أسرار حياته ومماته.
عرفته سنتين طالباً في الأزهر يعني بتجويد الخط، ويحاكي (أبناء البلد) في لرواء والسمت. ومنى كان ربيب أسرة المهدي المترفة كان خليقاً أن ينشأ على حب الجمال في الزي والمنظر
وزميله سبع سنين مدرساً في كلية الفرير بالخرنفش يعلم العلوم العربية في فصولها المختلفة، وينسخ (للأخ بلاج) المفتش أصول (مؤلفاته) في النحو والبلاغة والأدب. وما كان أحذق المتنبئين ليستطيع حينئذ أن يتنبأ لهذه النفس الراضية والطبع المرح والثغر الضحوك واللسان الداعب، بهذه الكهولة الأليمة والعاقبة المحزنة. نعم كان المتفطن المستبصر يخشى أن تكون له في بعض الأزمان زوجة وأولاد؛ فقد كان يعيش عيش السمك في الماء، لا يكاد يعرف له مستقراً ولا غداً ولا غاية. كان يقضي فراغه كله في المقاهي بين زمرة الشباب المملق المتملق؛ وكان العرق التركي الذي فيه لا يزال يضرب عليه الشموخ والأبهة، فلا يسمح لأحد من الجلاس أن يدخل يده في جيبه. وكان فضلاً عن ذلك مخروق الكف والكيس فلا يمسكان على ما يكسب، ولا يبقيان على ما يملك. كان لا يسأله أحد إلا أعطاه، ولا يعرض عليه شيء إلا اشتراه. وكان أكثر ما يشتريه لا يحتاج إليه، كأداة المطبخ وليس له بيت، أو حاجة المرأة وليست له زوجة. إنما كان مولعاً بمساومة الباعة الجوالين، ويسره أن يعلموا أنه خبير بالصنف فلا يغش، عليم بالثمن فلا يغبن. وقد فطن الخبثاء إلى هواه فكانوا يتغالبون له ويتشاكون منه، وهو يشتري ويشتري ثم يودع ما اشتراه صاحب القهوة ولا يطلبه!
وكان لحبه الخير والشهامة يتمدح بما فعل ما لم يفعل منهما. ولخياله الخصب في هذا الباب حوادث وأحاديث يكون هو فيها البطل المرموق. وكان يكفي أن تحسن الاستماع وتظهر الاقتناع لتسلبه الإرادة وتقوده إلى حيث تريد. وضعف إرادته إنما كان يظهر في نواحي المروءة والرحمة، أو في أمور المال والمعيشة. فكان لا بد له من قيم يدير ماله وينظم(528/1)
أمره. ولكمه مع ذلك كان يعيش أرغد العيش، لأنه كان يخلف ما يتلف. كان يكسب من الدروس الخصوصية لليهود أضعاف ما يأخذ على عمله اليومي في المدرسة. وكان من الجائز أن يقضي العمر في ظلال هذا العيش الغرير لولا أن وقع المحذور وتنبهت عيون الحوادث. تزوج المسكين!! وكانت زوجة لسوء حظه صورة مؤنثة منه. بل زادت عليه أنها من قوم فقراء يحبون الرفد والمعونة. وكانت كما شاء القضاء ولوداً، فلم يأت على زواجهما بضع سنين حتى كانا في بضعة أولاد. وتظاهر ضعف الزوجين وإسرافهما الشديد ونزاعهما المتصل على حياة هذه الأسرة البائسة فلم تنعم بهدوء ولم تظفر بتربية. وأصبح كدح الرجل قليلاً على تسعة أفواه لا تحسن غير الخضم والهضم؛ فكان يكد ويحتال ويتصرف ويقترض. ولكن الأمر كان فوق طاقته، ومن المحال أن بتعادل دخل المبذر وخرجه. والماء مهما زخر وارتفع لا يبقى إذا ما انتهى إلى بالوعة!
وتسابقت الأحداث إلى المسكين ففدحه الدين، وركبه الهم، وغاضت بشاشة وجهه، وذهبت أناقة هندامه. وقسا عليه الدهر ذات مساء فانتحر ابنه البكر تحت الترام وهو معه ينظر إلى أشلائه المبددة، ويستمع إلى أناته المرددة!
ثم جاءت هذه الحرب بما نعرف من بلاء وغلائها، وكانت عوارض الوهن والانحلال قد ظهرت على المعلم المكدود فاضطرب تفكيره وفتر نشاطه. وصعب على (الفرير) خدام الدين والعلم أن يمشوه عظماً كما نهشوه لحماً، فأخرجوه بعد أربع وثلاثين سنة قضاها معهم في جهاد العجمة واللكنة لا يدخر جهداً ولا يبالي مشقة. أخرجوه وكل ما في يده مائه وخمسون جنيهاً كافئوه بها على ما أفنى من صحته وشبابه. وكانت هذه المكافأة طعام أشهر معدودة كان في أصباحها وأمسائها يطرق الباب بعد الباب عسى أن يجد السبيل إلى رزقه الهارب، أو الوسيلة إلى عيشه المفقود. وتصام أكثر الأصدقاء فلم يستجيبوا لطرق الأنامل النحيلة على الأبواب الصقيلة. . . فباع الرجل فضول المتاع ثم باع حاجاته. وكادة الأسرة الشريدة تجوع وتعرى لولا أن قيض الله له صديقاً من ذوي الجاه والفضل فرشحه للتدريس في المدرسة الملكية بالمنصورة. ولهذه المدرسة شهرة بحب الجمع وكراهة القسمة، فرتبت له ثمانية جنيهات في الشهر. وحاول البائس المضطر أن يسد بهذا المرتب أجرة مسكنه ونفقة عياله، فاستحال ذلك عليه إلا أن يسكنوا نصف السكن، ويأكل بعض الأكل،(528/2)
ويخلصوا من عقابيل السرف القديم. فكان يقترض من المدرسة سبعة جنيهات في كل شهر على حساب الشهر المقبلة، حتى جاء شهر مارس الماضي وليس له مرتب العام كله غير خمسة جنيهات! نعم خمسة جنيهات هي كل ما تبقى لسبعة الأشهر الباقية! إذن ماذا يصنع؟ لم يبق في المنزل ما يباع، ولا في الناس من يعين، ولا في الغد ما يرجى!
وهاهو ذا بعد أن نيف على الخمسين في خدمة اللغة والأدب يجد نفسه على شفا الهاوية ممنوع الرزق مقطوع الرجاء لا منصب يظل ولا ثروة تغل ولا ولد يعول ولا عشيرة تؤوي ولا أمة تساعد!
وفي هوادي ليلة سواء من ليالي مارس انفرد به الهم الملازم في ركن منعزل من البيت النائم، وكان مستقبله القريب الداهم قد تمثل في ذهنه وبرز في عينيه حجاباً من الظلام الكثيف يتدّجى بالمخاوف واليأس، فلم يستطيع أن يتبين من خلاله غير صحيفة من البترول صبها عليه، وغير ثقاب من الكبريت أشعله فيه! فلما شاعت النار في جسده خرج يعدو إلى الشارع وهو يستغيث بأبنائه واحداً بعد واحد فما أصاخت أذن ولا تنبهت عين. وسقط المسكين صريعاً أمام كنيسة المارون في الحسينية، وكان الصراخ الهالع قد أيقظ قسيسها فخرج يستطلع الخبر وانحنى القسيس على المحترق يتأمله، ورفع نظره إلى المنحنى يتبينه، فإذا كلاهما يعرف الآخر، وإذا القسيس تلميذ من تلاميذ الأستاذ القدماء!
- ماذا صنعت بنفسك يا شيخ عثمان؟
- تلك مشيئة الله!
ونقلت المحتضر عربة الإسعاف إلى المستشفى ليلفظ آخر أنفاسه حين تنفس صباح الجمعة. وأبطأت إجراءات النيابة والصحة حتى دخلت ليلة السبت. ولم يكن حاضر أمره غير ناظر المدرسة ووكيله. فاقترح الوكيل أن يبقى في المستشفى إلى الصباح ليشيعه زملاؤه وتلاميذه؛ وصمم الناظر أن يقبر في الليل، لأن النهار يقتضي قماشاً وفراشاً وقهوة!!
وشيعت في ظلام الليل وسكون الناس جنازة جندي باسل من جنود الأدب المجاهدين، وليس أمامه إلا الناظر والوكيل، وليس وراءه إلا أولاده وزوجته!
أحمد حسن الزيات(528/3)
2 - الصيد في الأدب العربي
للدكتور عبد الوهاب عزام
يصف لبيد صيد بقرة وحشية تخلفت عن القطيع تطلب ولدها وقد أكلته الذئاب، ثم لجأت إلى شجرة مفردة في الرمال في ليلة مظلمة ماطرة. ولما أسفر الصبح شرعت تعدو حائرة، فظلت سبعة أيام حتى يئست من ولدها وقطيعها، فسمعت حس الإنس فخافت وترددت بها الحيرة بين العدو أمام وخلف. وأرسل الصيادون كلابهم فكانت معركة قتل فيها كلب وفرت البقرة. وهي أبيات جيدة لا يملك قارئها إلا الإشفاق والحزن لهذه البقرة وولدها.
وهذه أبيات للنابغة الذبياني يصف معركة بين الثور والكلاب، وهي تشبه في الصورة العامة أبيات لبيد:
كأنما الرحل منها فوق ذي جُدَد ... ذَبّ الرياد إلى الأشباح نظَّار
مُطرَّد أُفرِدت عنه حلائله ... من وحش وَجرة أو من وحش ذي قار
مجرَّس، وَحَدَ جأُب أطاع له ... نبات غيث من الوسمى مِبكار
سَرته ما خلا لبانَه لَهق ... وفي القوائم مثل الوشى بالقار
بانت له ليلة شهباء تسفعه ... بحاصب ذات إشعان وإمطار
وبات ضيفاً لأرطاة وألجأه ... مع الظلام إليها وابل سار
حتى إذا ما انجلت ظلماء ليلته ... وأسفر الصبح عنه أي إسفار
أهوى له قانص يسغى بأكلبه ... عاري الأشاجع من قُنَّاص أنمار
محالف الصيد هبَّاش له لحِم ... ما إن عليه ثياب غير أطمار
بسعي بغُضف براها فهي طاوية ... طولُ ارتحال بها منه وتسيار
حتى إذا الثور بعد النقر أمكنه ... أشلى وأرسل غُضفاً كلها ضار
فكرَّ محمية من أن يفر كما ... كر المحامي حفاظاً خشية العار
فشك بالروق منه صدر أولها ... شك المشاعب أعشاراً بأعشار
ثم انثنى بعد للثاني فأقصده ... بذات ثغر بعيد القعر نعار
وأثبت الثالث الباقي بنافذة ... من باسل عالم بالطعن كرار
وظل في سبعة منها لحقن به ... يكرُّ بالروق فيها كرَّ أُسوار(528/5)
حتى إذا ما قضى منها لبانته ... وعاد فيها بإقبال وإدبار
انقض كالكوكب الدري منصلتاً ... يهوى ويخلط تقريباً بإحضار
لا يتسع المقال لتفصيل الصورة التي صورها النابغة وتفسير الألفاظ فحسبي أن أبين الصورة إجمالاً:
في الأدبيات الأربعة الأولى شبه الشاعر ناقته بثور وحشي، ووصف لون الثور في ظهره وقوائمه: ظهره أبيض وفي قوائمه خطوط سود، وبين أنه قوي سمين قد رعى نبات الوسمى، وأنه أفرد عن البقر فهو نفور قلق
وفي الأبيات الثلاثة التالية بين أن المطر والريح ألجأ الثور إلى شجرة من الأرطي فبقى عندها حتى الصباح
وفي الأبيات الأخرى وصف الصائد وكلابه وما وقع بين الثور والكلاب العشرة؛ قتل الثور منها ثلاثة، ودفع السبعة التي لحقت به حتى:
انقض كالكوكب الدري متصلتا ... يهوى ويخلط تقريباً بإخصار
ثم أراد وصل الكلام بأوله فرجع إلى ذكر الناقة قائلاً:
فذاك شِبه قلوص إذ أضرَّ بها ... طول السُّري والسري من بعد أسفار
وينتهي الوصف بنجاة الحيوان لأن مقصد الشاعر أن يشبه ناقته به وهو يجد في الهرب، إلا أبا ذؤيب ومن نهج نهجه فهم يختمون المعركة بقتل الحيوان لأن قصدهم أن يبينوا أن حوادث الدهر تنال حتى هذا الحيوان الوحشي القوي السريع
وقد وصف أحبحة بن الجلاّح صيد الظباء والأرانب بالكلاب وأثبت الجاحظ قصيدته في كتاب الحيوان
في العصور الإسلامية
أباح الإسلام الصيد وأحل لحم الحيوان الذي يقتله السهم أو كلاب الصيد. وفي القرآن الكريم: (اليوم أحل لكم الطيبات، وما عَّلمتم من الجوارح مكلَّبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه) واستمر العرب على ما ألفوا من سنن الصيد في الجاهلية؛ وزادوا ضروباً من السلاح ومن الحيوان الذي يستعينون به على الصيد. زادوا قوس البندق وغيرها، وعلموا الفهود كثيراً من الطير الجارحة. واحتفي(528/6)
الأمراء الكبراء بالصيد وأعدوا له عدده من الرجال والحيوان والسلاح. وعنوا بتربية الحيوان وتضريته، ووضعت الكتب في هذا الفن الذي عرف باسم البيزرة أخذاً من كلمة (بازيار) الفارسية ومعناها القيم على البازي أو البزاة. ولكشاجم الشاعر كتاب المصايد والمطارد. وبالرجوع إلى هذه الكتب أو كتب الأدب الجامعة مثل نهاية الأرب يتبين عناية العرب بهذا الفن وولع الشعراء به
افتن الشعراء ثم الكتاب في وصف الصيد آلاته وحيوانه وحركاته ووصف المصايد. وقد استقل وصف الصيد في الأراجيز والقصائد التي عرفت بالطرديات فصار فناً أدبياً متميزاً.
ومن الشعراء المفتنين فيه أبو نواس. نظم فيه تسعاً وعشرين أرجوزة وأربع قصائد. وأبدع في وصف كلاب الصيد وطيره. قال الجاحظ في كتاب الحيوان عن أبي نواس:
وأنا كتبت لك في رجزه هذا الباب لأنه كان عالماً راوية. وكان قد لعب بالكلاب زماناً وعرف منها ما لا يعرفه الأعراب وذلك موجود في شعره، وصفات الكلاب مستقصاة في أراجيزه. هذا مع جودة الطبع وجودة السبك، والحذق بالصنعة، وإن تأملت شعره فضلته
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(528/7)
عروس النيل
(رسالة مهداة إلى روح الأب العظيم عبد السلام مبارك)
للدكتور زكي مبارك
في هذه السنة تخلَّف النيل، وتخوف الناس عواقب الصدود من النهر الوفي المحبوب، فتذكرت ما وقع في أيام سيزوستريس، وتمنيت لو رجعنا إلى عهود الوثنية، فأهدينا إليه صبية، لينشرح فيعود!
وقبل أن أسوق الحديث عن عروس النيل أذكر أشياء من الحياة المصرية قبل إنشاء خزان أسوان، وهي حياة تختلف عن حياة اليوم كل الاختلاف
لم يكن النيل يغمر أرض مصر أكثر من شهرين، ثم ينحسر بعد أن يضيع منه في البحر ما يضيع، ولكنه مع ذلك كان يترك ثروة عظيمة من المياه الجوفية، المياه المخزونة في جوف الأرض، وكانت تلك المياه زاد المصريين إلى أن يعود النيل من جديد
ولهذه الأسباب كانت مصر أقدم أمة أجادت طي الآبار والسواقي، فكان في كل بيت بئر، وفي كل مزرعة ساقية، وكان في منازل المياسير ما يسمى بالصهاريج، وهي أحواض مسحورة تحفظ كميات عظيمة من الماء الزلال
والذين زاروا المعابد الفرعونية يذكرون أن بها آباراً في أكثر الجوانب، وكذلك كان الحال في العهد الإسلامي، فلا تزال في منزل السحيمي بالقاهرة ساقية، وإن طال على هجرها الزمان
وغيبة النيل شهوراً طوالاً من كل سنة لم تكن تؤذي المصريين بعد أن أجادوا على طي الآبار والسواقي، ولو شئت لقلت إن غيبة النيل كانت أداة من أدوات التحصين، فقد كانت المواصلات في العهود القديمة تعتمد على الملاحة، وكان من العسير على من يغزو مصر أن يتجه إلى الجنوب مع تعذر الملاحة في النيل، بسبب الجفاف أيام التحاريق، وخوفاً من عنف التيار أيام الفيضان. . . وهذا في نظري أهم الأسباب في ميل الفراعنة إلى أن تكون عواصمهم بالصعيد، فقد كان لهذا المعنى أمنع من نواصي الجبال
هل قرأتم في أي كتاب أن الفراعنة أجادوا تعبيد الطرق الزراعية؟
لقد تركوا هذا الجانب من النظام عامدين معتمدين، ليكون التوغل في بلادهم باباً من العناء(528/8)
وبمناسبة الآبار أذكر ما شهدت منها بمعبد الكرنك، فقد كان المهندسون يثقبون الأحجار الكبيرة بنسبة معلومة، ثم يضعون حجراً فوق حجر، كما يوضع الطوق فوق الطوق، لصير الآبار في أمان من الاختلال
وكان للآبار في مصر منزلة شعرية تفوق المنزلة النفعية، فقد كان مفهوماً عند الجمهور أن لكل بئر ملائكة تختلف باختلاف المكان، فهذا البئر مسكون بأرواح لطاف، وذاك البئر مسكون بأرواح كثاف، وباختلاف الروح يختلف طعم الماء في الملوحة والعذوبة والكدر والصفاء
وكانت هذه العقيدة ملحوظة في تقدير السواقي من الوجهة الروحية، فلا خطر من نزول هذه الساقية لأنها مسكونة بأرواح خيرة، أما تلك الساقية فمسكونة بأرواح شقية، ألم تسمعوا أنها قتلت فلاناً حين تجاسر على يزولها بالليل؟
ومياه الآبار والسواقي باردة في الصيف وحارة في الشتاء، فما سبب هذه الظاهرة الغريبة؟
يقول العلم إن مياه الآبار والسواقي بعيدة عن التأثر بالأحوال الجوية، فهي لذلك باردة في الصيف وحارة في الشتاء، فهل كان هذا هو الرأي عند أهالي الريف؟
كان الرأي عندهم أن للأرض وجهاً آخر، وجهاً يعاني برد الشتاء حين نعاني حر الصيف، ويعاني حر الصيف حين نعاني برد الشتاء، وكان مفهوماً أن السيخ الذي يفجر العيون في الآبار والسواقي يخرق القبة القائمة بيننا وبين البحار التي تسقي الوجه الثاني من الأرض، وكان ذلك هو السر في أن يختلف الماء بالحرارة والبرودة باختلاف الجو هنا وهناك
هذه الأخيلة الطريفة كانت الزاد لأهل الريف منذ زمن وأزمان، والفلاح المصري شاعر بالفطرة والطبع، فما كانت الدنيا عنده إلا ميدان قتال بين الملائكة والشياطين
إن الأمم لا تعرف الأساطير إلا في عهود الفتوة، فإذا اكتهلت عرفت الحقائق، وسعادة الكهول بالحقائق لا تقاس إلى سعادة الفتيان بالأباطيل
كان أهل الريف سعداء بالجهل، لأنه طوف بهم في آفاق شعرية، فما فائدة العلم الذي يواجه أهله بحقائق أقسى من الجلاميد؟
وهل أسعد العلم كبار أهله حتى يسعد صغار الفلاحين؟
ما القيمة الصحيحة لأن نعرف أن الزهرة مجموعة جراثيم، وهي في نظر الجهل خد(528/9)
وهاج؟
أين من يردني إلى العهد الذي كنت فيه أجهل الجاهلين؟
ليت الحوادثَ باعتْني الذي أخذت ... مني بحلمي الذي أعطت وتجربي
عروس النيل
تضاربت الأقوال في الأسطورة الشعرية، أسطورة عروس النيل، وانتهى الأمر بوزارة المعارف إلى حذفها من الكتب المدرسية، لتصون الأبناء من السخرية بالأجداد. ولكني مع هذا أرى من الخير أن يعرف أبناؤنا جميع الأساطير، ليعرفوا حيرة الإنسانية بين الحقيقة والخيال
وسأسوق هذه الأسطورة كما رأيتها في كتاب مخطوط لمؤلف مجهول، ففيها طرافة فنية، وفيها لفتات جديرة بالتسجيل:
في العام الثالث من حكم رمسيس الثاني وهو عام 1327 قبل الميلاد تخلّف النيل، فلم تظهر طلائعه في شهر أبيب ولا في شهر مِسْريَ، وامتدّ به التخلف إلى شهر توت، فجأر المصريون بالشكاية، وتجمهروا حول قصر الملك صارخين ضارعين
وماذا يصنع الملك؟ ماذا يصنع والشعب يطالبه بما لا يطيق؟ هل يصدّق الخرافة التي ذاعت في ذلك الوقت عن أسر النيل بأمر ملك الأحباش؟ وهل يستطيع ملك أن يأسر النيل. وهو ملك الملوك؟
إن النيل لا يقهره قاهر، إن أراد الوفاء، فما الذي صدّه عن الوفاء؟
ثم دعا الملك أقطاب السَّحرة ليرى ما عندهم في حل هذه المعضلة، فكان هذا الحوار الطريف:
الملك - ماذا ترون في تخلف النيل؟ أتظنون كما يظن الجمهور أنه في أسر ملك الأحباش، وأن من الواجب أن نجرد حملة لتأديب ذلك الطاغية؟
الساحر الأول - وماذا يملك عاهل الحبشة من أمر النيل؟
الساحر الثاني - هو يملك الخاتم السِّحري؟
الملك - وما ذلك الخاتم؟
الساحر الثالث - هو خرافة منقولة عن أساطير الأولين!(528/10)
الساحر الثاني - أتكذبني يا زميلي في حضرة الملك؟
الساحر الأول - إن تفضل جلالة الملك فأنا أفضي إليه بالسر في تخلف النيل
الملك - من أجل هذا دعوناك
الساحر الأول - النيل عاشق غضبان
الساحر الثاني - النيل عاشق؟ ما سمعنا بمثل هذا الكلام قبل اليوم!
الساحر الأول - أتظن أن النيل يوحي العشق وهو يجهل العشق؟
الساحر الثاني - العشق يصدر عن أهل الذوق، والنيل بلا ذوق
الساحر الأول - وما برهانك على أن النيل بلا ذوق؟
الساحر الثاني - لأنه لا يستقيم في سيره أبداً، ولو كان من أصحاب الأذواق لعرف قيمة الطريق المستقيم، وهو كما نرى غاية في التخبط والاعوجاج
الساحر الرابع - لولا هيبة الملك لرميتك بالجهل
الملك - هيبة الملك لا تمنع من كلمة الحق
الساحر الرابع - إن زميلي يطالب النيل باستقامة الضعفاء وليس النيل بالضعيف
الملك - ماذا تريد أن تقول؟
الساحر الرابع - أريد أن أقول إن استقامة الأقوياء في ضمائرهم لا في ظواهرهم، واستقامة النيل تتمثل في ذلك الاعوجاج
الملك - إن كلامك يحتاج إلى توضيح
الساحر الرابع - لن أوضح كلامي لجلالة الملك، لأنه أقدر الملوك على فهم الرموز والتلاميح
الملك - أوضح لزميلك
الساحر الرابع - ما كان لي بزميل، وهو بين السحرة دخيل
الملك - دعوا هذه اللجاجة وارجعوا إلى الحديث عن العاشق الغضبان
الساحر الأول - إن النيل لا يأخذ زاده من العواطف
الملك - كيف تقول هذا والصبايا يتهادين إليه في الفجريات والعصريات، وقد سقط النَّصيف، وغفل الرقيب؟(528/11)
الساحر الأول - هو ذلك يا جلالة الملك، ولكن الجمال المصري جمالٌ لئيم؟
الملك - ما هذا الذي تقول؟
الساحر الأول - المقام لا يسمح بالرياء، وكيف نرائي سيزوستريس وهو أصرح الملوك؟
الملك - هات ما عندك يا كبير السحرة، فقلبي مصغ إليك
الساحر الأول - أنا رأيت وما سمعت
الملك - وماذا رأيت؟
الساحر الأول - رأيت النيل هام بصبية. . .
الملك - ثم؟
الساحر الأول - ثم مد إليها ذراع الموج ليجذبها إليه
الملك - ثم ماذا؟
الساحر الأول - ثم نفرت الصبية ولاذت بالشط، فهو لذلك عاتب غضبان
الملك - العلم الذي ورثناه عن الكهنة يحصر الحياة في النبات والحيوان. فكيف يهيم النيل بصبية وهو ليس من الأحياء؟
الساحر الأول - إن الله جعل من الماء كل شيء حي، فكيف يكون الماء سبب الحياة إذا كان من الأموات؟
الملك - ومعنى هذا أن الماء يعشق؟
الساحر الأول - ويُعشَق
الملك - ومن عاشق الماء؟
الساحر الأول - تحدث عنه شاعرنا بنتاءور حين قال في الصهباء:
مقطَّبةٌ ما لم يزرها مزاجُها ... فإن زارها جاء التبسُّم والبِشرُ
فيا عجباً للدهر لم يُخلِ مُهجةً ... من العشق حتى الماء يعشقه الخمر
الملك - لن أكذب الكهنة في قولهم بأن الماء جماد
الساحر الأول - أنا أوافق مولاي على أن الماء جماد، ولكني أرجوه أن يتفضل فيتذكر أخطار الجمال المصري
الملك - وما أخطار ذلك الجمال؟(528/12)
الساحر الأول - لو صوّب الجمال المصري ناره إلى هضاب الحبشة لأحالها إلى قطرات من الماء المبذول بغير حساب
الملك - وترى أن نداعب النيل بالجمال؟
الساحر الأول - أرى أن يكون للنيل في مصر هوى وميعاد، فما يعود حي إلى بلد إلا إن كانت له فيه أهواء ومواعيد
الملك - وعند النيل هذا الذوق؟
الساحر الأول - وعنده الحقد على أهل العقوق!
الملك - وماذا يقول الشعب إن أقررنا مبدأ الاعتراف بالعشق؟
الساحر الأول - سيقول الشعب إنه يعيش تحت راية العدل
الملك - والعشق عدل؟
الساحر الأول - العشق من نتائج العدل
الملك - أوضح ثم أوضح يا أعظم حكيم رآه سزوستريس
الساحر الأول - العشق يا مولاي هو انجذاب روح إلى، ولا صفاء بين عاشق ومعشوق إلا بحفظ الحقوق، ولو وجه العاشق إلى معشوقه كلمة تغض من جماله لكان الفراق إلى آخر الزمان
الملك - أهذا هو العدل عندك يا كبير السحرة؟
الساحر الأول - العدل هو مصدر الحب لجلالة الملك، ولولا قولك بأن شعبك خلق للسيادة على الأقطار الأفريقية والأسيوية لتخاذل الشعب عما أردت من الغزوات والفتوحات
الملك - الشعب يحبني؟
الساحر الأول - الشعب يحبك لأنك تحبه، وأهل مصر يقولون: (إن أحبتك حية فتطوق بها)، ولهذه اللفتة صلة بوجود الحيات حول تيجان الفراعين!
الملك - أنت ساحر، يا ساحر!
الساحر الأول - وعن لطف جلالة الملك أخذنا السحر والفتون
الملك - عنكم نأخذ الطرائف المعاني يا أدباء وادي النيل، وعنكم تلقى الروح فلاسفة اليونان(528/13)
الساحر الأول - ماذا يرى جلالة الملك في اجتذاب العاشق الغضبان؟
الملك - آه ثم آه بلاد لا يستقيم فيها شيء بغير الحب والجمال
الساحر الأول - تلك طبيعة بلادك يا مولاي
الملك - وإذن؟
الساحر الأول - وإذن نترضى النيل بصبية مليحة لنروضه على الوفاء
الملك - صبية تغرق فتموت؟
الساحر الأول - إن من يصدق في حب النيل لا يغرق ولا يموت
الملك - وماذا تكون الحال إذا ترضينا النيل بصبية مليحة ثم أصر على الجفاء؟
الساحر الأول - نظرة واحدة من فتاة مصرية تزلزل رواسي الجبال
الملك - وأنا أرفض أن يكون الجمال المصري من أدوات الاستغلال
الساحر الأول - الصبية المنشودة لم تعانق غير أبيها، والنيل هو الأب الأول لجميع الأبناء بهذه البلاد
ثم نادى المنادي في اليوم التالي بأن النيل لن يعود إلا إن ضمن الظفر بعروس خمرية اللون، عروس عيونها عسلية، عروس تؤمن بأن الفناء في الواجب هو طريق الخلود
وبعد يومين تجمعت عرائس تفوق الإحصاء، فما يمكن أن تخلو مصر في أي وقت من عرائس جميلة تعد بالألوف وألوف الألوف. فوقف سيزوستريس وقفة الحيران، في تخير ما يشتهي العاشق الغضبان
ثم التفت فرأى صبية تلقي بنفسها في اليم. وما كاد يتبين هوية الصبية حتى رأى النيل يتناغى بالأمواج في كل مكان
من تلك الصبية؟ لم يستطع أن يعرف، بهذا كانت مصر أول من ابتكر فكرة الجندي المجهول
ومضى سيزوستريس إلى المعبد فترنم بصلوات على روح تلك المليحة السمراء، وسمع النيل صلواته فقال: الترحم لا يكون إلا على ميت، ولا يموت من يكرم النيل
وتسامع المصريون بأخبار سيزوستريس وهو رمسيس الثاني فأقاموا له في كل بلد عدداً من التماثيل، ودام ملكه ستين سنة أو تزيد بفضل عروس النيل(528/14)
أما بعد فأنا لا ادعوا وزير الأشغال إلى استعطاف النيل بضحايا الجمال؛ وإنما ادعوا وزير المعارف دعوة فنية، ادعوه إلى إقامة تمثال سيزستريس في ميدان باب الحديد، وهو تمثال لم يجد بمثله الفن في شرق ولا غرب، وهو الآية الخالدة على أن مصر دار الفنون
وإذا قيل إن الحفاوة بتمثال سيزستريس تنافي الدعوة إلى الوحدة العربية فسيكون جوابي أنه يشهد بقدرة العرب على امتلاك بلاد الفراعين
متى أرى تمثال سيزستريس في ميدان باب الحديد؟
ومتى يرى كل قادم عظمة مصر في ذلك التمثال؟
ومتى نفهم أنه أولى بالحفاوة من المسلة المصرية بميدان الكونكورد في باريس؟
لن أنسى أبداً أن بلدي أفضل البلاد، وأنه المعلم الأول لجميع الشعوب
زكي مبارك(528/15)
على هامش الخصومات الأدبية
أيها الأدباء أعصابكم!
للأستاذ دريني خشبة
الحكومة مسئولة عما شجر من الشر بين الأدباء. . .
ونحن نلقي تبعة هذا الشر على الحكومة لأنها مقصرة في حق الأدباء، فهي لم تدبر لهم مصيفاً جميلاً في رأس البر أو الإسكندرية كما دبرت لنفسها ذلك المصيف الجميل في بولكلي تختلف إليه كلما شاءت؛ وهي لم تبح لهم حمامات السباحة يغشونها بالمجان لتعينهم على حر القاهرة القائظ الذي ترك أدمغتهم تغلي وعرقهم يسيل؛ وهي لم تفتح لهم خزائنها ينتهبون منها ما يشاءون ويريغون منها ما يريغون؛ وهي لم تبح لهم قطراتها وسياراتها يجيئون بها ويروحون دون أن تكلفهم التنقل السهل الرخي إلا ملأ استمارة سفر لا ترهق جيوبهم ولا يثقل تحريرها على أقلامهم؛ وهي لم تخاطب الدولة الحليفة في شأن تلك الحدائق التي كانت تفرج كروبهم وتشرح صدورهم، وهي لم توزع عليهم الحلوى والمرطبات التي تختص بها نفسها في المواسم والأعياد وهم إليه ناظرون وإلى القليل منها يتلمظون. . .
الحكومة لم تصنع شيئاً من هذا. . . بل هي تؤثر نفسها بكل مناعم الدولة من دون الأدباء، وهي تتركهم لقيظ يوليو وأغسطس يشوي جلودهم ويذيب أعصابهم. . . ثم يتلاعب بأقلامهم فيشرعونها لمحاربة أنفسهم لأنهم لم يفطنوا لما صنعت الحكومة بهم فلم يطالبوها بشيء، ولم يصرخوا في آذانها كما صرخ الموظفون المنسيون، وكما صرخ رجال التعليم الإلزامي والمدرسون المنقولون من مجالس المديريات. . . وهم يخدعون أنفسهم حين تملأهم صاحبة الجلالة الصحافة غروراً وكبرياء، وحين تصور لهم أنهم ملوك، بل قياصرة غير خليق بهم أن يبثوا شكاة أو يظهروا أحداً على بلوى
لهذا خلا الأدباء إلى شياطينهم وفرغوا إلى أنفسهم. . . فهم منقسمون إلى معسكرين. . . معسكر الشباب ومعسكر الشيوخ. ومعسكر الشباب منقسم على نفسه لأن أجناده ثوريون، فإن لم يجدوا ما يثورون عليه ثاروا على أنفسهم، كالنار التي تأكل بعضها، إن لم تجد ما تأكله(528/16)
ومعسكر الشيوخ منقسم على نفسه أيضاً، إلا أنه غير ثائر، لأن الغالبية من أجناده تعرف الرزانة وتؤثر النظام، إما للسن المتقدمة التي يتعبها الجلاد ولا تصبر على الوغى، وإما إيثاراً للعافية، واعترافاً بما فطرت عليه من ضعف
والحكومة مع ذاك تنظر إلى كل هذا لاهية ساهية، لا ترى أن تشغل الأدباء المسلطين على أنفسهم برحلة جميلة تدبرها لهم في مواقع العلمين أو بين أطلال ستالينجراد. . . ولا ترى، إن يسعها الترفيه عنهم بالمصيف والمرطبات وحمامات السباحة، أن تجندهم تجنيداً إجبارياً ليدرسوا لها مشكلات الأدب بعد الحرب، بما تشمله تلك المشكلات من مسائل اللغة والتعليم والكتابة والتأليف والزواج والطلاق والهجرة والحد من نشاط المهاجرين إلى مصر من شذاذ الأمم ولصوص البحار
الحكومة تنظر إلى الأدباء ساهية لاهية، لا ترى أن تشغلهم بشيء من جد الحياة أو من لهوها. والأدباء مسلطون على أنفسهم تشغلهم السفاسف، وتنتهب فراغهم الهنات الهينات، كأن هدير المدافع وقصف الطرابيد وأزيز الطائرات لا يصل إلى أسماعهم، وكأن الدنيا التي تجد في أوربا وفي المحيط الهادي تهزل في مصر، وكأننا فرغنا من علاج مشكلاتنا فلم يبق إلا أن نهدم أنفسنا!
فريق من أدباء الشباب برم ساخط ضائق بنفسه وبالدنيا لأن شيوخ الأدباء بارزون في الحياة المصرية وهم غير بارزين، ولأن القراء مقبلون على هؤلاء الشيوخ الأدباء ولا يقبلون على أولئك الشباب، فلا بد لهم إذن من أن يشبوها جذعة عليهم، ولا بد لهم إذن من أن يخلو الدنيا من أولئك الشيوخ الذين بنوا النهضة الأدبية والنهضة الفكرية في مصر وفي غير مصر من الأقطار العربية، ولا بد من أن يخلو لهم وجه الأرض في مصر وفي الشرق العربي يصولون وحدهم فيه ويجولون
ولكي يتم لهم ذلك فليس لهم بد من أن يكيلوا التهم لشيوخ الأدباء. فالعقاد عاجز ولا شأن له بالشعر، وطه حسين له كتب ركيكة محشوة بالأغاليط، والزيات يكتب بأسلوب معقد يعلو على أفهام القراء، وأحمد أمين رجل مصنف لا شأن له بالأدب ولا مذهب له في الكتابة. . . والمازني يلفق مقالاته من التفاهات. . . وعنان يسطو على جهود المؤرخين ويعزوها إلى نفسه، والجارم ينتهب معاني الشعراء وينظمها لنفسه ومع ذاك فهو يسفل بها ولا يعلو،(528/17)
وهيكل مؤرخ عقيم لا يصبر على مرارة التمحيص، ثم هو داعية متحمس، والعلم ينافي الدعاوة وينافي التحمس. . . . . .
هكذا يقول أدباء الشباب، وهكذا يكتبون في صحفهم، ويتحدثون في مجالسهم، ويسمرون في نواديهم. والمدهش حقاً أنهم من كثرة ما يرددون هذا اللغو أخذوا يظنون أنه الحق بل أخذوا يعتقدون أنه الحق
أما الأدباء الشيوخ فيغمزون الشباب دائماً ويلمزونهم دائماً ولكنهم قلما يصرحون بشيء فيما يردون على به تلاميذهم البرمين الثائرين المتسخطين، وهم يلتزمون الصمت ويلوذون به لأن هؤلاء التلاميذ الخصوم لم يعودوا يعرفون التأدب والاحتشام في مخاطبة أساتذتهم أو في مقارعتهم، فهم لا يبالون أن يقولوا إن هؤلاء الشيوخ أصبحوا أصناماً للأدب في مصر يعكف القراء على عبادتهم، وأنهم لا يتركون للشباب من الأدباء متنفساً من الهواء، لا في مصر ولا في الشرق العربي، وأن لا مخرج لهم من هذا الضيق ولا منفذ من هذا الحرج إلا بتحطيم تلك الأصنام الطاغية العاتية. . . ليخلو لهم وجه الأرض فيبيضوا ويصفروا!
وهذا التعبير القاسي هو من أيسر ما يقولون قدحاً في الرجال الذين بنوا لنا نهضتنا الأدبية والفكرية. وهو دليل على أن المعركة بين الشيوخ والشباب قد انحرفت عما كنا نرجو من ورائها من خير
على أن واحداً أو اثنين من شيوخ الأدباء لم يصبروا على أن يبسط الشباب ألسنتهم على هذا النحو. وأحد هذين هو الأستاذ العقاد، فقد كتب في هذه المجلة كما كتب في غيرها يرد على هؤلاء الشباب فرجمهم رجماً موجعاً. . . وأحسب أن الصيف كان يفعل أفاعيله في أعصاب الأستاذ الجليل فانحرف به القيظ عن الجادة، إذ راح يتهم هؤلاء الشباب بأنهم شيوعيون هدامون، وأنهم يحسدون شيوخ الأدباء الذين يغمرون السوق الأدبية بالكتب، والصحف والمجلات المحترمة بالمقالات. . .
وتهمة الشيوعية هنا تهمة باطلة لا أساس لها من الحق، وقد أرسلها الأستاذ إرسالاً لا تثبت فيه ولا روية، وأكبر الظن أنها صائرة إلى ما صارت إليه تهمة الإلحاد القديمة التي سمجت حتى قضت على نفسها القضاء المبرم. ونحن نتمنى أن ألا نتراشق بالتهم، وألا نبتدع فيها تلك الألوان المهلكة التي تنافي ثقافتنا وديننا وتضر نهضتنا وبلادنا. . . وقد(528/18)
قرأت في إحدى مجلات الشباب رداً على الأستاذ العقاد يشبه الهوس، فقد ترك الكاتب الشاب موضوع النقاش وتناول العقاد جملة وتفصيلاً، فنفى عنه أنه كاتب، ونفى عنه أنه مفكر، ونفى عنه أنه مؤلف،. . . ثم ضحك ممن يقولون عنه إنه شاعر! وكل هذا هو الهوس بعينه. . . ولن ينفى كل هذا أن العقاد كاتب كبير جداً ومفكر خصب التفكير جداً، ومؤلف له كتب كثيرة جيدة جداً. ولن ينفى عنه أنه شاعر من أرق شعرائنا خيالاً وأخصبهم معاني وأدقهم تصوراً، وإن لم يحدث في الشعر العربي، على حد ما بينا في مقالنا السابق، ثورة أو حدثاً كثيراً ذا بال
وقرأت في المجلة نفسها إنذارات موجهة إلى طه حسين وأحمد أمين، وهي إنذارات تدل على عدم نضوج الأقلام التي سودتها، فهم ينذرون طه حسين بإظهار القراء على الأغلاط الواردة في كتابه الأيام (الجزء الثاني!) كما ينذرونه بتعقب أغلاطه في كتبه الأخرى، وهذه هي المهاترة التي لا تليق بنا لأننا لن نكسب شيئاً قط إذا هدمنا العقاد وطه حسين وأحمد أمين والزيات والمازني. . . وهذه الطائفة التي أقامت نهضتنا الفكرية والأدبية وعلمتنا وسبقتنا إلى الميدان. . . وقبل أن نحاول هدم هؤلاء جميعاً فواجبنا ألا نكون ولا نضع شيئاً. بل نهدم ولا نبالي ماذا يكون بعد الهدم. . . يجب أن نفكر طويلاً في خطتنا قبل تنفيذها. فكروا أيها الشباب فيمن يخلف العقاد قبل أن تهدموا العقاد، إن استطعتم إلى هدمه سبيلاً. فكروا في كاتب منكم يستطيع أن يتثقف بما تثقف به العقاد ويستطيع أن يكون عصامياً في ثقافاته. . . وفكروا قبل أن تهدموا طه حسين في الرجل الذي يستطيع أن يتزعم نهضة أدبية في أمة بأكملها فيسهر عليها ويشقى في سبيلها ويقامر من أجلها بسعادته وسعادة أهله كما صنع طه حسين. . . ولتكن لطه حسين عيوبه التي تشق المراثر كما تزعمون، ولكن للرجل ماضيه، وله حاضره أيضاً، وأنتم أنفسكم ثمرات ذلك الماضي فلا تتنكروا له، فإن رأيتم فيه اعوجاجاً فقوموه بالحسنى، وأمامكم ميدان البريء فخوضوه أبرياء واشتدوا فيه كما تشتهون
وأما محاولتكم هدم أحمد أمين فصغار لا يليق بكم أيضاً، فقد أصبح أحمد أمين إماماً من أئمة نهضتنا، وأستاذاً من أساتذة الجيل، أعجبكم هذا الكلام أو لم يعجبكم، ثم هو كان إماماً هادئاً متزناً رزيناً، فهل فكرتم في أحد منكم يستطيع أن يصنف ما صنف ويؤلف مثل الذي(528/19)
ألف ويجاهد في سبيل النهضة الفكرية كالذي ناضل وجاهد؟
وأما الزيات الذي تزعمون أنه يبرقش ويزركش، ويتخذ (الكليشيهات) لأسلوبه فعذره أنكم لم تنضجوا بعد، ولم تدركوا من طلاوة البيان العربي ما أدرك. . . ذلك البيان الذي جدد الزيات شبابه وتزعم مدرسته وخلق لها مما كتب وما ترجم التلاميذ والحواريين. وهاهو ذا يكتب آياته في الدفاع عن البلاغة فينشئ لكم ما أنشأ سانت بيف وهازلت وأرنولد وغيرهم من زعماء النقد. على أن هذا الضيق الذي أحرج صدور بعضكم من الزيات ليس من صنعكم، فقد صنعه لكم - وا أسفاه - أحد شيوخ الأدباء، وهذا هو انشقاق الشيوخ على أنفسهم. . . ذلك الانشقاق الذي أفادكم في خصومتكم غير المبصرة، والذي أفاد نهضتنا الفكرية بقدر ما أضرها. وحسبنا هذه الإشارة اليوم!
وأظرف ما في معسكر الشيوخ من فتنة مكبوتة تلك النذر الضاحكة التي يلوكها الدكتور زكي مبارك، والتي لا تجد لها صدى قط على صفحات الجرائد. . . فزكي مبارك تجرئ على المازني جراءة لا حد لها، والمازني لائذ بأذيال الصمت. . . والمازني بهذا الصمت يمكر بزكي مبارك الذي لا ينال منه إلا صمت مناوشيه، ولا يريحه إلا أن يردوا عليه فيرد عليهم حتى يخيل لنا أن المعركة لن تنتهي. . . أما مع العقاد فلست أدري لماذا تقدم زكي مبارك ثم تأخر ثم تقدم ثم تأخر. . . هذاإن دل على شيء فهو إنما يدل على شيء يشبه الإشفاق أو يشبه الخوف، أو يشبه حاله بين الإشفاق والخوف، فقد نادى زكي مبارك مرة بأعلى صوته فقال: أنا أكتب منك يا عقاد، وأنا أشعر منك يا عقاد، ومؤلفاتي لا تسمو إليها مؤلفاتك. . . ثم لم يلبث أن ختم صيحته بكلمات هن إلى الملاينة والاسترضاء. . . ثم عاد في كلمة أخرى فسأل بعض القراء ألا يوقعوا بينه وبين العقاد ليقعدوا هم ويتفرجوا! ولست أدري العلة في جراءة زكي مبارك على المازني وإشفاقه من العقاد على هذا النحو المكشوف؟ أفصح يا دكتور زكي. . . أفصح. . . أفصح ولا تحسبن أحداً قد صدقك حينما رفعت عقيرتك بأنك أشعر شعراء هذا الزمان. . . وإن كنا يسرنا جدّاً أن تكون كذلك. . . يا دكتور زكي: أنت لست أشعر أهل هذا الزمان ولا أكتب أهله. . . بل أنت أجرأ كاتب في الشرق العربي فما علة إشفاقك من العقاد؟
أما انشقاق معسكر أدباء الشباب فقد كان على أحره في الملحمة الأخيرة التي دارت عن(528/20)
القضية التي لم أفهمها إلى اليوم على وجهها، وهي قضية (الأدب المهموس)، فقد نزغ شيطان الجدل بين الأديبين المتحاورين، إذ رمى أحدهما الآخر بما لا يليق أن يرمي به رجل رجلاً أبداً. . . وقد ألفيت تلك الغمزة غير اللائقة في أسلوب مكشوف لا يصعب فهمه على أحد. . . وقد جاء رد الأستاذ الأديب الآخر ردّاً مرناً مضحكاً، فلم يضيق بما رُمى به، بل أجازه، ثم علله تعليله العلمي اللبق الظريف، إلا أنه لم ينس أن يجرح فرماه بالسماجة والصفاقة في معرض الرد عليه بعدم استحباب أن يستشهد الأديب بكلامه من نظم أو نثر. ولو وقف الرد عند هذه الملاحظة لملك الأستاذ الدكتور (. . .) ناصية الحق، إلا أنه برهن على صدق نظريتنا المتعلقة بأعصاب الأدباء في الصيف، فرمى مناظره بالسماجة والصفاقة. . . ونحار نحن في التعليق على ما حدث: أي المتناظرين جار قبل أخيه عن القصد، وأيهما بدأ بالعدوان. . . ولعل الذي سب أخاه في كمال رجولته أظلم، ولعله هو الذي انحرف أولاً فسبب انحراف صاحبه، ثم زاد الطين بلة فسخر من كفايات زميله وهو ما لا يوافقه أحد عليه، وهو أيضاً ما نرجو أن نتعالى في جميع مناقشاتنا عنه. . .
ولا بد من كلمة هنا نوجهها إلى رؤساء تحرير مجلاتنا. . . والكلمة وجاء مخلص نأمل أن يحققوه، ونرجو أن يحققوه سريعاً وقبل أن يتصرم الصيف. وذلك ألا يسمحوا بنشر الفِقر الحارة والساخنة التي ترد في سياق المناظرات والتي تهبط إلى مستوى الشتائم وتخرج عن دائرة الأدب. . . ونحن بالطبع لا نعني بدائرة الأدب دائرة الأخلاق
وبعد. . . فلست أدري لماذا لا يعالج الأدباء شباباً وشيوخاً أعصابهم؟ ولماذا لا يذكرون أن الحكومة تركتهم وشأنهم فلم تتخذ أي أجراء للترفيه عنهم ولم تدبر لهم مصيفاً ولم تبح لهم القطارات والسيارات التي تنقلهم ولو إلى شواطئ المنزلة والبرلس وإدكو ومريوط. . . وإن كان يسر الحكومة أن يشتغل الأدباء بأنفسهم عنها، فلتشغلهم هي عن نفسها بالمفيد المجدي. . . لتجندهم تجنيداً إجبارياً ليبحثوا لها كل ما يهمها البحث فيه من مسائل ما بعد الحرب، وليدرسوا لها مشكلات الأمية وإصلاح البرامج والبطالة ومحاربة الفقر وهبوط الميزانية إلى حالتها الطبيعية في السلم وإصلاح الكتابة العربية. . .
وبعد أيضاً. . . فهذا حديث من لغو الصيف، نرجو ألا نلغو بحديث مثله.
دريني خشبة(528/21)
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري
(أخرج هذا الكتاب الفريد شيخ المربين الأستاذ أبو خلدون ساطع الحصري، وقدم له بهذه المقدمة الشارحة، فرأينا أن ننقلها إلى القراء ليتبينوا منها منطق الأستاذ في تعليل الأشياء، ومنهجه في تحرير هذا البحث.)
- 1 -
دراسات عن مقدمة ابن خلدون. . .
أسطر هذه الكلمات، وكأني أسمع همس معترض يعترض عليَّ، قائلاً:
دراسات عن مقدمة ابن خلدون؟. . . ولماذا اخترت هذا الموضوع المبتذل المعاد؟ إن مقدمة أبن خلدون منتشرة بين أيدي جميع المستنيرين من الناطقين بالضاد. وقد كتب الدكتور طه حسين أطروحة عن (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) كما نشر الأستاذ عبد الله عنان. كتاباً عن (ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري). . . وقد نشر عدد غير قليل من المفكرين والكتاب، عدداً لا بأس به من البحوث والفصول والمقالات عن ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون، في مختلف الكتب والجرائد والمجلات. فلا نعدو والحقيقة إذا قلنا: ما من مفكر ولا مؤرخ عربي، حظي من كثرة الذكر وذيوع الصيت بما حظي به ابن خلدون. فما الفائدة من العودة إلى هذا الموضوع بعد جميع هذه الكتابات والنشرات؟. ألم يكن من الأجدر بك، ومن الأفق لمصلحة قرائك، أن تنتخب موضوعاً آخر أكثر جدة وطرفة من هذا الموضوع؟
غير إني لم أسلم بوجاهة مثل هذه الاعتراضات والملاحظات؛ لأنني أعتقد بأن الطرافة في الدراسات لا تأتي من جدة الموضوع وحده، بل قد تتولد من طرافة الطريقة والاتجاه أيضاً. . . وأنا، مع احترامي للكتب والمقالات والدراسات التي نشرت بالعربية عن ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون، أرى أنها ظلت بعيدة عن استيفاء البحث في هذا الموضوع الخصب الهام من نواحيه المختلفة، فأعتقد بأن هناك حاجة ماسة إلى إكمال تلك الأبحاث والدراسات وإتمامها؛ كما أن هناك ضرورة قصوى لإعادة النظر واستئناف البحث في معظم بلك الدراسات، وبطرق وأساليب أخرى وفق وجهات نظر جديدة(528/23)
ومما يظهر هذه الحاجة بجلاء أعظم، ويبرهن على هذه الضرورة بوضوح أتم، أن الأبحاث والدراسات المنشورة عن ابن خلدون باللغة العربية، قليلة جداً، بالنسبة إلى ما نشر عنه في اللغات الأخرى، ولا سيما في اللغات الأوربية. وهناك عدد غير قليل من الدراسات العلمية القيمة عن ابن خلدون وآرائه المختلفة، لم تنقل بعد إلى العربية
ومن الغريب أن أهم الدراسات التي كتبت بأقلام بعض الشبان العرب أيضاً. ظلت خارجة عن نطاق (المطبوعات العربية) إلى الآن؛ فقد نشر الدكتور كامل عياد - من الشام - أطروحة باللغة الألمانية، سنة 1930 عن (نظرية ابن خلدون في التاريخ والاجتماع)؛ كما نشر الدكتور صبحي المحمصاني - من بيروت - أطروحة باللغة الفرنسية، سنة 1932، عن (آراء ابن خلدون الاقتصادية). . . وكلتا الأطروحتين لم تترجم إلى العربية، بالرغم من مرور اثنتي عشر سنة على نشر الأولى، ومرور عشر سنوات على نشر الأخرى؛ فاستفادة مستنيري العرب من الأطروحة الأولى لا تزال موقوفة على معرفة الألمانية، كما أن الاستفادة من الثانية لا تزال تتطلب معرفة الفرنسية. . .
وإنني أعتقد، لذلك، كل الاعتقاد بأن الجيل المثقف الحاضر مقصر في أداء واجباته نحو هذا المفكر العربي العظيم تقصيراً كبيراً
إن هذا التقصير الكبير، لا يتجلى في (ضآلة الدراسات) فحسب، بل يظهر في (رداءة الطبعات) أيضاً: فإن جميع طبعات المقدمة التي صدرت عن مطابع القاهرة وبيروت وانتشرت في جميع أنحاء العالم العربي، مشوبة بنواقص كثيرة وأغلاط فادحة
ذلك لأن جميع هذا الطبعات منقولة عن طبعة بولاق التي قام بأعبائها الشيخ نصر الهوريني في القاهرة، قبل مدة تزيد على ثمانية عقود من السنين. والشيخ الهوريني كان بعيداً - بطبيعة ثقافته - عن إدراك المبادئ الأساسية التي يجب مراعاتها في نشر مثل هذه المؤلفات القديمة.
فجميع الطبعات الشرقية تكاد تكون خالية من الشروح والتعليقات: فإن الشروح القليلة المبعثرة فيها لو جمعت في محل واحد لما ملأت أكثر من ثلاث صفحات. زد على ذلك أن هذه الشروح قلما تحرج عن نطاق (الإيضاحات اللغوية) فإنها لا تستهدف - على الغالب - شيئاً غير ذكر معاني بعض الكلمات. هذا مع أن الترجمة التركية موشاة ببعض الإيضاحات(528/24)
المطولة؛ والترجمة الفرنسية مملوءة بمئات ومئات من الشروح والتعليقات التي تحوم حول المعلومات اللغوية والأدبية والجغرافية والتاريخية الضرورية لفهم أبحاث المقدمة حق الفهم
ومما يلفت الأنظار في هذا الصدد، أن الطبعات المتداولة مشوبة بعدد غير قليل من الأغلاط المطبعية التي تغير معنى العبارات تارة، وتجردها من كل معنى معقول تارةً أخرى، وتقلب معناها رأساً على عقب في كثير من الأحوال
مثلاً: إن بعض الطبعات مسخت كلمة (اليقين) إلى شكل (أينين) فابتدعت هذه العبارة الغريبة: (قال كبيرهم أفلاطون إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى أينين). كما أنها حرفت (الحقيقة المتعقلة) وجعلتها (الحقيقة المتعلقة)، واستبدلت بعبارة (يحلق فوقها) عبارة (يلحق فوقها). إنها مسخت (العلوم الآلية) مسخاً غريباً، حولها إلى (العلوم الإلهية)؛ وحرفت تركيب (سن بكره) وجعلته (بين نكرة) فجردته بذلك عن كل معنى معقول: كما حولت (عالم القردة) إلى (عالم القدرة)، فغيرت المعنى المقصود تغييراً هائلاً
وقد تطفلت بعض الطبعات بزيادة أداة (إلا) في جملة نافية، فقلبت معناها رأساً على عقب؛ وبعكس ذلك قد حذفت كلمة (ليس) من عبارة أخرى، فجردتها من كل معنى مفهوم، كما أنها أسقطت عدة كلمات من بعض العبارات، من غير أن تنتبه إلى أن ذلك قد جعل العبارة عديمة المعنى
ومن الأمور الغريبة أن الطبعات المصرية والشامية ناقصة من حيث المتون والفصول أيضاً: فإذا قارنا إحدى هذه الطبعات بطبعة باريس التي تعهدها المستشرق (كاترمير) - في نفس السنة التي كان قد أتم فيها الشيخ نصر الهوريني طبعة بولاق في مصر - نجد أنه ينقص منها أحد عشر فصلاً كاملة من الفصول المهمة، كما ينقص منها عدد غير قليل من الأبحاث والفقرات من الفصول المختلفة. وإذا أحصينا مجموع صفحات هذه الفصول والفقرات الناقصة نجدها تزيد على الستين
ومن الغريب أن طبعات مقدمة ابن خلدون المنشورة في العالم العربي ظلت على هذه الحال من النقص المعيب منذ مدة تزيد على ثلاثة أرباع القرن. . . ومن الأغرب أن الأبحاث والدراسات المنشورة بالعربية عن مقدمة ابن خلدون لم تنتبه إلى هذا النقص فلم تعمل على تلافيه، ولم تلفت الأنظار إليه إلى الآن(528/25)
هذا وإنني أرى أن هناك قضية هامة أخرى تستحق الملاحظة والعناية أكثر من جميع الأمور التي ذكرتها آنفاً:
إن الذين يطالعون مقدمة ابن خلدون يقرءونها عادة كما نقرأ الكتب الحديثة، وينتقدونها بوجه عام كما تنتقد المؤلفات العصرية. ومعظم الذين يكتبون عن المقدمة أيضاً ينحون هذا المنحى نفسه، ويميلون إلى وزن الآراء الواردة فيها بموازين المكتسبات العالمية الحالية، من غير أن يلتفتوا إلى القرون الني تفصل بيننا وبين تاريخ كتابه المقدمة المذكورة، في حين أن قيمة المؤلفات القديمة، ومنزلة المفكرين القدماء - في تاريخ العلوم والأفكار - لا يمكن أن تقدر على هذه الطريقة
ذلك لأن كل عالم ومفكر يشترك - بوجه عام - مع معاصريه في معظم آرائهم، فيشاطرهم أكثر أخطائهم، ولا يمتاز عنهم إلا في (بعض الآراء) التي يوفق إلى ابتكارها، و (تعض المعلومات) التي يصل إلى اكتشافها
ولهذا السبب، نرى أن منزلة الباحث والمفكر في (تاريخ العلوم والأفكار) لا تتعين بملاحظة (جميع الآراء الصائبة والخاطئة) المنبثة في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، بل بملاحظة (الآراء المبتكرة) التي يسمو بها على معاصريه، و (الحقائق الجديدة) التي يضيفها إلى المكتسبات الفكرية البشرية، و (الخدمات التي يقوم بها) بهذه الصورة، في سبيل تقدم الأفكار والعلوم. . . كل ذلك بقطع النظر عن الآراء الخاطئة التي يبقى فيها مشتركا مع معاصريه بطبيعة الحال
إن عدم ملاحظة هذا الدستور الأساسي في دراسة المفكرين والعلماء القدماء، يحول دون تقدير منزلتهم العلمية حق تقديرها. ومحاذير ذلك تكتسب خطورة خاصة عندما يعود الأمر إلى عظماء المفكرين الذين يكونون في منزلة ابن خلدون، والى أمهات المؤلفات التي تكون على شاكلة مقدمته المشهورة؛ لأن مقدمة ابن خلدون من المؤلفات الجامعة التي تتطرق إلى عدد كبير من المسائل والمواضيع. إنها تتناول بالبحث مسائل كثيرة ومتنوعة جداً، من الديانة إلى التجارة، من النبوة إلى الطبابة، من الرؤيا إلى التربية، من السياسة إلى النجامة، من أوزان الشعر إلى عمران المدن، من مبادئ الموسيقى إلى أساليب الحرب، من موارد الدولة إلى أصناف العلوم. وخلاصة القول أن كل ما له علاقة بالاجتماع الإنساني والعمران(528/26)
البشري يأخذ نصيباً من بحوث المقدمة. . . فلا ينظر من مؤلفها أن يكون مبتكراً ومصيباً في جميع المواضيع المتنوعة، بل لابد أن يكون ناقلاً لآراء معاصريه في معظم تلك المسائل والمواضيع
فإذا قرأ القارئ مقدمة ابن خلدون من غير أن يراعي هذا الدستور، فقد يعود بفكرة خاطئة تماماً عنها وعن مؤلفها، لأنه قد يبقى تحت تأثير مختلف الأخطاء المنبثة في صحائف الكتاب؛ والفكرة السيئة التي تستولي على ذهنه من جراء ذلك قد تؤثر على محاكمته، فتحول دون التفاته إلى الآراء القيمة المنتشرة في سائر أقسام الكتاب
إن أصول البحوث العلمية تتطلب من كل باحث يقدم على مطالعة كتاب قديم أن يتأمل في كل موضوع من مواضيعه - وكل مسألة من مسائلة - على حده. وأن يعرف حق المعرفة بأن (خطورة الأخطاء) التي تلقى في الكتب القديمة، لا يجوز أن توزن بالموازين الفكرية العصرية، بل يجب أن تقدر بموازين تاريخية خاصة. ولا حاجة لبيان أن هذه الموازين الخاصة لا يمكن أن تتقرر إلا بتتبع (تطورات الفكر البشري) بوجه عام
هذا مبدأ هام يجب ألا نهمله أبداً عند ما نقرأ وندرس مقدمة ابن خلدون. يجب علينا ألا ننسى أنه من رجال القرن الرابع عشر للميلاد؛ كما يجب علينا أن نرجع إلى تاريخ العلوم والأفكار عندما نقرأ كل فصل من فصوله، ونتأمل كل رأي من آرائه، ونستعرض ما كان يقول به المفكرون في هذا الصدد في العصر الذي عاش فيه وفي العصور التي أتت بعده
- 3 -
إنني لم أقل بهذا المبدأ ولم أضع هذا الدستور تعصباً لابن خلدون؛ بل قلت بهذا المبدأ لأنني وجدته سائداً في تاريخ العلوم والعلماء؛ وسردت هذا الدستور لأنني رأيته رائد القوم على الدوم
وأقول بلا تردد: لولا ذلك، لما استطاع أحد من المفكرين والعلماء السالفين، أن يحتفظ بمكانته العلمية والفكرية في هذا العصر، بين تطور العلوم الهائل وتقدمها المستمر
هذا أرسطو الذي يعد أكبر المفكرين الذين عرفتهم البشرية، والذي يلقب لذلك (بالمعلم الأول). هذا أرسطو نفسه، قد وقع في أخطاء وأغلاط كثيرة وكبيرة جداً في مؤلفاته المختلفة؛ فإذا أراد أحدنا أن يحصيها ويجمعها، استطاع أن يؤلف منها مجلداً ضخماً(528/27)
إن بعض هذه الأخطاء والأغلاط كانت جوهرية خطيرة تتعلق بأسس العلوم نفسها
كان أرسطو يقول مثلاً - في ميدان علوم الطبيعة - بنظرية العناصر الأربعة، ويعتبر كلاً من الماء والهواء والتراب والنار عنصراً من عناصر الأشياء. . . ومن المعلوم أن علمي الفيزياء والكيمياء، قد قاما على إنكار هذه النظرية من أساسها
وكان يقول - في ساحة علم الحياة - بنظرية (التناسل التلقائي)، ويعتقد بأن الديدان والحشرات تتولد من تلقاء نفسها، من الطين والجيف. ومن المعلوم أن علم الحياة الحالي، قد برهن على بطلان هذه النظرية برهنة قاطعة
وكان أرسطو يقول - في ساحة الاجتماعيات - بضرورة الرق، ويعتقد بأن الاسترقاق من ضرورات الحياة الاجتماعية؛ وكان يعلل اعتقاده هذا، بقوله (إن بعض الناس خلقوا ليكونوا عبيداً)؛ حتى كان يرى أن (الغزو للحصول على العبيد) مشروع بقدر (الصيد لاقتناص الحيوانات). . . ومن المعلوم أن تطورات الحياة الاجتماعية سارت دائماً على أساس إنكار هذا الرأي بوجه حاسم بات
وزيادة على ذلك، فإن بعض الآراء التي قال بها أرسطو كانت من نوع السفسطات والمغالطات. فقد قال - مثلاً -: (إن الخط المستقيم لا يمكن أن يكون كاملاً، بوجه من الوجوه، لأن هذا الخط المستقيم إذا كان غير متناه كان غير كامل، إذ أن الكمال في الخط لا يتم إلا عندما يكون له شكل مرسوم بوضوح. وأما إذا كان الخط المستقيم المذكور متناهياً، فلا يكون كاملاً أيضاً؛ لأنه يبقى في هذه الحالة، ما هو خارج عنه، بطبيعة الأمر. . .) ومن الواضح أن كل ذلك من لغو الكلام، وهو يدل على المغالطة في البرهنة والبيان
فإذا كان أرسطو لا يزال يتمتع بمنزلة ممتازة ومكانة خارقة، في تاريخ العلوم والأفكار، فما ذلك إلا لأن التاريخ المذكور يراعي على الدوام المبدأ الذي ذكرته آنفاً
وما قلته عن أرسطو في هذا الصدد، يصح في غيره من العلماء والمفكرين أيضاً. فليس بين هؤلاء - من سقراط إلى كونت، ومن بقراط إلى فرويد - من يعد عظيما لأنه لم يخطئ في آرائه وكتاباته قط؛ بل إنهم يعدون من العظماء، على رغم الأخطاء التي وقعوا فيها والأغلاط التي قالوا بها
- 4 -(528/28)
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد، أن موقفنا - نحن الناطقين بالضاد - تجاه مقدمة ابن خلدون يختلف بطبيعته عن مواقفنا تجاه مؤلفات أمثاله من الغربيين. ذلك لأننا لا نطلع - عادة - على آراء القدماء من الغربيين إلا من خلال بعض المقتطفات والدراسات، فنتوهم بأن كل ما قاله هؤلاء وكتبوه كان على ذلك الطراز. مع أن تلك المقتطفات والدراسات، تستهدف - بوجه عام - إظهار منزلتهم العلمية، فلا تحتوي في حقيقة الأمر إلا على الجوهر الهام، والزبدة المنتقاة من آرائهم وكتاباتهم الأصلية. بينما نحن نطلع على ما قاله ابن خلدون من قراءة مقدمته مباشرة ونحيط علماً بكل ما جاء فيها من غث وسمين. . . فالمقارنة التي تحدث في أذهان بهذه الصورة، بين ابن خلدون وبين أمثاله الغربيين، تكون بعيدة عن الحق والحقيقة، بطبيعة الأمر
إن مثلنا في مثل هذه المقارنات كمثل من يريد أن يقوم بمقارنة بين المناجم المختلفة، فيقدم على الموازنة بين الفلز الطبيعي الموجود في أحدها، وبين المعادن الصافية والجواهر اللماعة المستخرجة من غيرها. . . من غير أن ينتبه إلى أن تلك المعادن والجواهر أيضاً كانت ممزوجة ومخلوطة بمواد ترابية وحجرية خسيسة، وإنها لم تظهر بمظهر الحالي إلا بعد تصفيتها من النفايات؛ كما أن الفلز الطبيعي الموجود في المنجم الأول أيضاً يحتوي على جوهر ثمين - قد يبهر الأبصار - مثل تلك الجواهر، بل أكثر منها، إذا ما عولج وصفى مثلها
من البديهي أن المقارنات يجب أن تجري تحت شروط متساوية: فعلينا إما أن نقارن الفلز الطبيعي بالفلز الطبيعي، وإما أن نقارن المعدن المستخرج والمصفى بالمعدن المستخرج والمصفى. أما مقارنة الفلز الطبيعي من منجم ما، بالمعدن المصفى المستحصل من منجم آخر، فما لا يتفق مع مقتضيات العقل والمنطق، بوجه من الوجوه
فيجب علينا أن نتجنب سلوك مثل هذه الطرق في دراسة ابن خلدون. يجوز لنا أن نقارن الآراء الثمينة المستخرجة منها بما استخرج من أمثالها. وأما المقارنة بين المقدمة بهيئتها المجموعة وبين الآراء القيمة المستخرجة من الكتب المماثلة لها، فما لا يجوز أبداً
إن المقالات التالية، ترمي قبل كل شيء إلى تطبيق هذا المبدأ في دراسة مقدمة ابن خلدون، وإظهار منزلة مؤلفها العظيم، على هذا الأساس القويم(528/29)
(بيروت)
أبو خلدون(528/30)
المشكلات
1 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
شعر رجال التربية والتعليم في مصر منذ زمن طويل بإخفاق المعاهد المصرية المختلفة في تعليم اللغة العربية، فهبوا يتعرفون أسباب هذا الإخفاق، ويعالجونه بالوسائل التي يرونها، ألفوا اللجان، وعقدوا المؤتمرات، وبحثوا البحوث المختلفة؛ فمرة يرون الإخفاق من صعوبة النحو فينصرفون إلى تسهيله، ومرة يرونه من كثرته فينصرفون إلى تقليله؛ ومرة يرون من قلته فينصرفون إلى تكثيره، ومرة يرونه من مدرس اللغة العربية فيعمدون إلى إصلاحه وحسن اختياره والعمل على توسيع ثقافته، ومرة يرى بعض الباحثين أن هذا الإخفاق إنما هو من آثار البعد ما بين العامية والعربية فيشير بالتقريب بينهما بأن تنزل كلتاهما عن بعض خصائصها لتقرب من الأخرى. وهذا معناه إعدام اللغتين واصطناع لغة لا هي بالعربية، ولا هي بالعامية، وليس هذا إصلاحا، وإنما هو خضوع للحالة الراهنة، وإقرار الخطأ، والعجز أمام اللحن والتحريف
والاعتبارات الدينية والاجتماعية والتاريخية تقضي علينا بالاحتفاظ باللغة العربية كما هي تدب في عروقها دماء القوة والحياة
أما الاعتبارات الدينية فإنها لغة القرآن والسنة، ومنهما يأخذ المسلمون دينهم وعقائدهم وأخلاقهم وعباداتهم وأحكام معاملاتهم، وهم يحرصون على اللغة العربية أشد الحرص، ليفهموا بها كتاب الله وحديث رسوله، ويبقى ذلك الينبوع الذي يستقون منه متدفقاً ثرارا، ويخشون أعظم الخشية أن يصبح غورا فيفقدوه وهم في مسيس الحاجة إليه
وهم لا يرضون أن تبيد اللغة العربية كما بادت أخواتها من اللغات السامية كالعبرانية، فيصبح القرآن لا يتلى ولا يفهم إلا في المساجد وعند أداء الشعائر، كما صارت العبرانية لا تتلى إلا في الصوامع والبيع
وأما الاعتبارات الاجتماعية فإن اللغة العربية الآن لغة عامة، وهي لغة الشمال أفريقية(528/31)
والجزء الغربي من آسيا، وسكانها يبلغون أكثر من ثمانين مليونا من الأنفس، إذ أن اللغة العربية لغة الكتابة في هذه الأقطار جميعها، ومنها تفرعت لهجاتهم، ولحرصهم على اللغة العربية دائما لا تبعد اللهجات عنها، وكذلك لا تبعد لهجات الأقطار بعضها عن بعض بعداً يجعل التفاهم بين أهلها متعذراً
وقد ربطت هذه اللغة بينهم برباط اجتماعي وثيق، وسهلت سبل التعارف والتآلف، فأصبح المصري مثلاً يسافر شرقا إلى الشام أو الحجاز أو العراق، ويسافر غرباً إلى ليبيا وطرابلس وتونس والجزائر، ويسافر جنوباً إلى بلاد السودان وما وراءها فيرى أهلاً بأهل وجيراناً بجيران، ويحل بين قوم يفهم عنهم ويفهمون عنه، ويألفهم ويألفونه، وكأنه لم يبرح بلده، ولم يفارق موطنه، ذلك بفضل اللغة العربية وما يسرت من تفاهم، وكذلك شأن السوري والعراقي والحجازي إذا حل بهذه الأقطار، وقد كان ذلك سبباً في زيادة التعاون وإحكام روابط الأخوة والحب بين شعوب الشرق العربي، وفتح طريقاً إلى الوحدة العربية التي ينشدها كل محب للشرق وللعرب، وستحقق إن شاء الله بفضل هذه اللغة
وقد أدى ذلك إلى سهولة التجارة وتبادلها بين هذه الأقطار كما أدى إلى تبادل الثقافة وسائر ألوان الإنتاج في العلم والمعرفة والتفكير، وصار المؤلف في مصر لا يؤلف لوطنه وحده، وإنما يؤلف لجميع هذه الأقطار، كما صار طابع الكتب وناشرها لا يطبع أو ينشر لمصر فحسب، وإنما يطبع لهذه الأقطار ولبلاد الهند والملايو وجاوه وسومطره وبلاد الصين، كذلك شأن المؤلفين والناشرين في هذه الأقطار، وذلك كله بفضل اللغة العربية
وأما الاعتبارات التاريخية فإن علوم آبائنا وأجدادنا وثقافتهم وتراثهم العقلي قد وضعت باللغة العربية، فنحن نحافظ عليها ما حافظنا على هذا التراث. وهذا هو أيضاً على النفر القليل الذين دعوا إلى العامية وإحلالها محل اللغة العربية
أتدرون ماذا نكون إذا نحن اتبعنا مشورة أولئك وهؤلاء ممن يشيرون علينا بأن تتنازل العربية عن بعض خصائصها لتقرب من العامية، أو أن نصطنع العامية بدل العربية؟ إننا بذلك نعمد إلى تلك الصلات التي بيننا وبين جيراننا الشرقيين فنقطعها فنصبح نتكلم بلغة لا يفهمونها ويتكلمون بلغة لا نفهمها
وإلى تلك الصلات التي بيننا وبين أسلافنا فنقطعها أيضاً ونصبح لا نتصل بعلومهم ولا(528/32)
ثقافتهم، لأنها باللغة العربية ونحن نصطنع العامية؛ ونكون قد سجنا أنفسنا في سجن العامية المظلم لا يفهمنا أحد ولا نفهم أحداً بعد أن كنا في ميادين العربية الفسيحة التي تمتد شرقاً وتضرب في بلاد الهند والصين، وتمتد غرباً وتضرب في سواحل المحيط الأطلسي، وتمتد جنوباً وتضرب في المحيط الهندي، وتمتد شمالاً وتضرب في آسيا الصغرى وبلاد الأناضول، وتمتد في الماضي وتضرب في عهود العباسيين والأمويين والخلفاء الراشدين وعصر البعثة المحمدية وما قبل البعثة من عصر العرب الأولين
ومرة يرى بعض الباحثين أن يقرب بين العربية والعامية بأن يؤثر كل لهجة عربية توافق العامية، فيؤثر اللغة التي تلزم الأسماء الخمسة الألف، لأن العامية تنهج في أسلوبها هذا النهج، ويؤثر اللغة التي تعرب جمع المذكر السالم إعراب حين، لأن العامية تفعل ذلك
وهذا لا يحل المشكلة، لأن العامية لا تلتزم نهجاً واحداً خاصاً في أسلوبها ولا تلتزم لغة من هذه اللغات. وأيضاً فكثير من العامية ليس له نظير في لهجة من اللهجات العربية
ثم ماذا يفعلون؟ أيوجبون هذه اللغة ويخطئون ماعداها، أم يجوزونها ويخيرون بينها وبين اللغات الأخرى؟ فإن كان الأول أدى ذلك إلى أن المتعلم على هذه الطريقة يخطئ القرآن وكلام رسول الله وكلام العرب إذا جاءت على غير هذه اللغة. وإن كان الثاني لم يعد ذلك تسهيلاً لأنه لم يفعل شيئاً سوى أن زاد في الطنبور نغمة، فبعد ن كان يعلم لغة واحدة في جمع المذكر السالم هي اللغة العامة القياسية أصبح يعلم اللغة العامة واللغات الأخرى القليلة
ثم هذا يضيع على المسلمين الغرض الذي يرمون إليه، ويحرصون عليه أشد الحرص، وهو الاحتفاظ بلغة القرآن ولهجته وطريق أدائه
والذين يدعون إلى تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة أقرب إلى الصواب؛ ونحن نؤمن كما يؤمنون بضرورة هذه الخطوة، وإن كنا نخالهم فيما ذهبوا إليه من قواعد كما بينا ذلك في حينه، ونرى من هذا كله أن المشكلة على ما هي عليه لم تحل ولم توشك أن تحل. وسنحاول إن شاء الله في الفصول الآتية أن نحل هذه المشكلة التي استعصى على الزمن حلها
محمد عرفة
عضو جماعة كبار العلماء(528/33)
في استقلال القضاء
(إلى حضرة صاحب المعالي المصلح الكبير الأستاذ محمد صبري أبي علم باشا تقديراً لقانونه الفذ، وتحية لشخصه الكريم)
للأستاذ محمود الخفيف
بَشَّرْتَ باسْتِقْلاَلِهِ الأجْياَلاَ ... وَجَعَلْتَهُ حَقَّا وَكانَ خَيالا
أَمَلٌ تَطلَّعَتِ البِلاَدُ لِيَوْمِهِ ... مُنْذُ احْتَوَى دُسْتُوُرُها الآمالا
ظمئت لَهُ مِصْرٌ وَطالَ أُوَامُها ... حتَّى سَقَيْتَ بهِ العِطاشَ زلاَلا
عَجِبوا لِسَعْيِكَ إِذْ بَلَغْتَ بِهِ المدى ... ولَطَالَما ألِفوا الوُعُودَ مِطالاِ
عَدوا لَهُ الأيَّامَ فَهِيَ قَصِيرَةٌ ... لَكِنَّهُمْ وَجَدُوا خطاَكَ طِوالا
وَتَلَفَّتَ التَّارِيخُ يَكْتُبُ صَفْحَةً ... غَرّاَء، جَلَّتْ شَاهِداً وَمِثالا
أُسُّ العَدَالَةِ أَنْتَ بَاني رُكْنِه ... فَابْلُغْ بِهِ هَامَ النُّجُومِ كمالا
العَصْرُ تَظْمَأُ للِعْدَالَةِ رُوحُهُ ... لما رأَى الطُّغْيانَ سَاَء مآلا
هِيَ أَصْلُ كُلِّ حَضَارَةٍ وسكينَةٍ ... وَهِيَ الجمالُ لِمنْ أَرادَ جَمَالا
مَا قِيمَةُ الدُّنيا وَمَا نِعَمُ الحَيَا ... ةِ إذا الطُّغَاةُ اسْتَعْبَدُوا الأعْزالا؟
وَلِمَ التَّفاوُتُ في سُلاَلَةِ آدَمٍ ... أَوَلَمْ يكونوا كُلَّهُمْ صَلْصَالاَ؟
العَدْلُ إن قَامَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ ... لَمْ تَلْقَ ذا خَتْلٍ وَلاَ رِئْبَالاَ
وَإذا تَنَكَّبَتِ العَدَالَةَ أُمَّةٌ ... فَقَدْ ارْتَضَتْ هَذِى الحَيَاةَ وَبَالا
يَحيا عَلَى الطُّغْيَانِ كُلُّ مُسَلَّطٍ ... فِيهَا وَيُنْشِبُ ظُفْرَهُ مُغْتالا
فإذا الرِّجَالُ بِهَا ضَوَارِي غَابَةٍ ... وإذا المَدَائِنُ أصْبَحَتْ أَدْغالا
رُسُلُ العَدَالَةِ في البِلاَدِ قُضَاتُها ... أَعْلَى الرِّجَالِ مَهَابَةً وَجَلاَلاَ
بَذلوا لِمِصْرَ جُهُودَهُمْ مَوْصولَةً ... وَتَحَمَّلوا في حُبها الأَثقَالا
تاَللهِ مَا وَهَنُوا ولا بَرِموا وَلاَ ... مَنُّوا ولا كانوا بِهَا بُخَّالا
لَمْ يَأْمَنْوا وَهُمْ القضَاةُ مُنَاجِرَا ... غِرَّا، يُدِلُّ بِبَأْسِهِ إدْلاَلا
أوْ يَأْمَنوا في الحقِّ صَوْلَةَ غاشِمٍ ... لمْ يَرْضَ إلاَّ مَا يَقُولُ جِدَالا
صَبَرُوا عَلَى الأعْنَاتِ صَبْرَ أَعِزَّةٍ ... وَلَوْ انَّهُمْ رُزِئوا بِهِ أَشْكالا(528/35)
أَحْرَى بِمَنْ يَحْميِ الحقوقَ قَضَاؤهُ ... أَلاَّ يَرَى عَنتاً وَلاَ إضلاَلاَ
وَبِمَنْ يُخيفُ الظالِمين عِقَابُهُ ... أَلاَّ يَخَافَ عُقوَبةً وَنكالاَ
وَبِمَنْ يَفُكُّ عَنِ السَّجِينِ قُيودَهُ ... ألاَّ يَهَابَ شَكيِمَةً وَعِقَالاَ
وَبِمَنْ يُنِيرُ لَهُ السَّبِيلَ ضَمِيرُهُ ... ألاَّ يُزِيغَ لَهُ الهوى اسْتِدْلالا
وَبِمَنْ يُدِيرُ إلى المَصَاعِبِ بالَهُ ... ألاَّ تَكِدَّ لَهُ الشَّوَاغِلُ بالا
قُلْ لِلْوَزِيرِ فَعَلتَ فِعْلَ مُؤَسِّسٍ ... كانَ الأصِيلَ العَبْقَرِيَّ فِعَالاَ
العَصْرُ لَمْ يَعْرِفْ لِفِعْلِكَ مُشْبِهاً ... وَتَقِلَّ، إنْ عَدُّوا لَكَ الأمْثَالا
فَضْلٌ يُضَافُ إلى مآثِر مَاجِدٍ ... ما زال يُولي قَوْمَهُ الأفْضَالا
لِلِه إذْ يَسْعَى وَيَدْأَبُ جَاهِداً ... مَا كانْ ذا مَنٍّ وَلاَ قَوَّالا
مُتَوَاضِعٌ حَتَّى لَيُخْفِى سَعْيَهُ ... وَتَرى الزَّمَانَ بِسَعْيِهِ مُخْتَالاَ
لَوْلاَ شوَاهِدُ لاَ تكونُ لِغَيْرِهِ ... نَسَبَ الرُّوَاةُ لِغَيْرِهِ الأفْعالا
وإذا الرِّجَالُ بَنَوْا حَقِيقَةَ مَجْدِهِمْ ... تَرَكُوا الكَلاَمَ وَأَنْطَقُوا الأعْمَالاَ
هَذَا الّذِي هَزَّ الوزَارَةَ باسمِهِ ... كَم جالَ أَيَّامَ الجِهَادِ وَصَالا
لبّى نِدَاَء اَلْحقِّ فيِ أَوْطَانِهِ ... لَمَّا دَعا سَعْدٌ بهِاَ الأشْبَالاَ
عَرَفَ الزَّعِيمُ لَهُ كَرِيمَ خِلاَلِهِ ... فَرَأَى الْبَشاَشَةَ مِنْهُ وَاْلإِقْبَالا
فإِذَا نَظَرْتَ إِلَى اْلعَرِينِ وَجَدْتَهُ ... وَرَأَيْتَ مِلَْء إِهَابِهِ اسْتِبْسَالا
وَإِذا الْحَماسَةُ أَنْطَقَتْهُ سَمِعْتَهُ ... في اَلْحقِّ أَرْوَعُ مَا يَكُونُ مَقَالا
الصّدْقٌ وَالإيمَانُ في نَبَرَاتِهِ ... وَلَقَدْ تَمَلّكَ سَمْعَكَ اسْتِهْلالا
وَمَضَى فَهَزَّكَ بالْبَيَانِ يَسُوقَهُ ... سِحْراً تَرَشَّفَهُ النُّفُوسٌ حَلالا
مُتَدَفِقاً كالْمَوْجِ يَهْدُرُ تاًرَةً ... وَتَرَاهُ حِيناً هَادِئاً سَلْسَالا
نَبْعٌ تَفَجَّرَ مِنْ قَرَارَةِ نَفْسِهِ ... فأَرَاكَ أَوْصاَفاً لَهُ وَخِسلالا
نَبُه اسْمُ صَبْرِي الشَّبَابِ فماَ ازْدَهَى ... يَوْمًا وَلا بَاهَى بِهِ وَاخْتَالا
وَاليَوْمَ تَرْمُقُ مِنْهُ بَدْراً كامِلاً ... قَدْ تَمَّ في أُفُقِ الْعَلاءِ خِصَالا
سِمَهُ النُّبُوغِ عَلَى كَرِيمِ جَبِينِهِ ... مِنْ يَوْمِ أَنْ بَهَرَ الْعُيُونَ هِلالا
هَذَا خَلِيفَةُ سَعْدٍ انظُرْ هل تَرَى ... صَبْرِي لَدَيْهِ تَقَدَّمَ الأبْطَالا(528/36)
لا غَرْوَ إِنْ هُمْ قَدَّمُوهُ فَقَدُ رَأَوْا ... سَيْفاً تَناَهَي رَوْعَتً وَصِقاَلا
مَا فَلَّ طًولْ جِهَادِهِ عَزْمَا له ... يَوْمَا وَلا اطَّرَحَ الْجِهَادِ مَلالا
مِلْءٌ الْقُلُوبِ رَزانَةً وَجَلالَةً ... وَحَمَاسَةً وَتَوَثَّباً وَنِضاَلا
قَدْ لازَمَ الصِّدِّيقَ في وَثبَاتِهِ ... أَيَّامَ خَاضَ إِلى الْمُنَى الأهْوَالا
مَا كانَ إِلا الْحُرَّ يَحْمَي عَزْمهُ ... في الحَادِثَاتِ وَقَدْ عَصَفْنَ سجَالا
لما أَدَارَ إلى القَضَاءِ جُهُودَهُ ... نَسِى الكَلالَ فما يُحِسُّ كلالا
وَلَكَمْ تَحَمَّلَ غَيْرَ هَذا دَائِبَا ... من قَبْلُ أَعْبَاءِ وَكُنَّ ثِقَالا
مَدَّ الرَّئيسُ له يَمِينَ مُحَرِّرٍ ... بالأمْسِ حَطَّمَ في الْحِمَى الأغْلالا
نَصَرَ القَضَاَء وَنَاصَرَ اسْتِقْلالَهُ ... مَنْ أَلْبَسَ الأوْطَانَ الاسْتِقْلالا
الأرْوَعُ الْمُسْتَبْسِلُ الْبَطَلُ الّذِي ... أَعْيَتْ كِبَارُ جُهُودهِ الأقوَالا
مَاذَا أَقُولُ؟ وأَيْنَ من وَثَباتِهِ ... شِعْرِي وَلَوْ بَلَغَ السَّمَاَء وَطَالا
هَذَا الذي لاَقَى الخُطَوبَ بِبَأْسِهِ ... فإذا بِهَا قَدْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالا
وَإذا بِهِ الجَبَلُ الأشَمُّ وَحَوْلَهُ ... أصْحَابُهُ وَقَفوا لَدَيه جَبالا
صَبْري إليْكَ تَحِيَّةٌ مِنْ شَاعِرٍ ... أَمْلَي عَلَيْهِ وَفَاؤه ما قَالا
أَنَا مَنْ يُغَنِّي بالبُطُولَةِ شِعْرُهُ ... وَأَصُوغُ غَالَيِ دُرِّهِ إِجلالا
لازِلْتَ في سَمعِ الزَّمَان قَصِيدَةً ... غَنَّى بها الأسْحَارَ والآصَالا
الخفيف(528/37)
البريد الأدبي
1 - الشاعر ابن العرايش من هو؟؟
نشرت البرقيات الخاصة والعامة أسماء الفائزين الأول في مسابقة الشعر العربي التي نظمتها محطة الإذاعة اللاسلكية في لندن. واسم الفائز الأول في موضوع نهضة الشباب هو (ابن العريش)
وليس (ابن العريش) هذا اسماً، ولكنه كنية اتخذها الشاعر الحقيقي، أما اسمه الكامل فهو (نجيب ليَّان) من أهالي زحلة التي خلدها المرحوم شوقي الشاعر بقصيدته الفاتنة
والأستاذ نجيب ليَّان يشتغل الآن منصب مدير قلم المطبوعات اللبناني؛ ولم أعثر له على ترجمة أو (لوحة أدبية فنية) في كتاب (الرسوم) الذي ألفه الأديب اللبناني المشهور إلياس أبو شبكة. فلعل الأستاذ (أبو شبكة) يصور لنا صديقه الشاعر نجيب ليَّان في صورة طريفة لمجلة الرسالة الغراء
2 - آباء العلاء
أنجبت المعرة شاعر الحكيم أبا العلاء المعري صاحب اللزوميات، وسقط الزند والفصول والغايات وغيرها
وهناك غير واحد من أهل المعرة سمي أبا العلاء، ومن هؤلاء من كان معاصراً لأبي العلاء المشهور ومنهم من تأخر به زمانه عنه؛ ومن (آباء العلاء) هؤلاء: أبو العلاء بن عبد الله ابن الحسن، أبو العلاء بن أبي الندي، أبو العلاء أحمد ابن أبي اليسر وأبو العلاء الحسن بن الحسين وأبو العلاء سعد ابن حماد. أما شاعرنا المشهور فاسمه أبو العلاء أحمد بن عبد الله ابن سليمان التنوخي
3 - رباعيات الخيام
يعرف قراء الرسالة أن كثيراً من أدباء العرب ترجموا رباعيات الخيام إلى اللسان العربي؛ ومن هؤلاء المترجمين المحسنين على تفاوق في الإحسان، أحمد رامي وأحمد زكي وأبو شادي والبستاني وأحمد صافي النجفي. ولعل الأستاذ النجفي الآن على إخراج طبعة ثانية من ترجمته تكون أكثر دقة وأحسن إخراجاً. وقد نشرت مجلة (الصباح) الدمشقية الغراء -(528/38)
وهي التي ننقل عنها هذا الخبر إلى قراء الرسالة - أن الشاعر النجفي قدم لطبعته الجديدة قطعتين من الشعر رداً على من أساءوا فهم فلسفة الخيام. قال لا فض فوه في أولاهما:
قد كنت من خمرة الخيام منتشياً ... وإنما خمرة الخيام إلهام
يظنه الجاهل المسكين منغمراً ... في الراح يطفو به في لجها الجام
فراح يدمن سكراً باسمه نفر ... كأنهم إذ تدار الكأس أنعام
ظننت ترجمة الخيام مأثرة ... أذابها لضعاف الرأي إجرام
إن كان هذا مآل الشعر في نفر ... لا كان شعر ولا خمر وخيام
خالوه من شعره في الخان منطرحاً ... وكم أساءت إلى الأشعار أفهام
ففتشوا عنه في الحانات وانصرفوا ... وكل ما عرفوه عنه أوهام
لله درك يا خيام في كلم ... يحييا بها الخالص بل يفني بها العام
وهذا أجمل دفاع شعري سمعناه - عن شاعر ظلمه الناس وشربوا الخمر باسمه، واحتموا في ظل رباعياته، وهو من ذلك الخمار وتلك العربدة براء.
محمد عبد الغني حسن
قضية تخسر!
ليست القضية التي انبرى الأستاذ سيد قطب للدفاع عنها بقضية خاسرة، ولكنها - مع الأسف - قد لقيت الخسران على يديه! وليس من عجب أن يجد الدكتور مندور منفذاً للطعن في رد الأستاذ سيد قطب، فإن الواقع أن هذا الرد لم يكن غرض صاحبه أن يدافع عن أباء مصر بقدر ما كان غرضه أن يعلن عن نفسه. والحق أنني ما قرأت كلام الأستاذ قطب حتى استوقفني فيه هذه الظاهرة، إذ قد فاته أن يوجه كل همه لنصرة قضيته، وإنما راح يحشد أقواله وأقوال الأستاذ العقاد، كأنما ليس في مصر غيرهما. وليست هذه هي المرة الأولى التي يسلك فيها الأستاذ قطب هذا المسلك، بل إن كل من قراء ديوانه: (الشاطئ المجهول) ليذكر جيداً كيف مهد الشاعر (سيد قطب) لديوانه بمقدمة نقدية بقلم الناقد (سيد قطب)، وكيف راح يثني على نفسه في هذه المقدمة بكلمات بعجب لها المرء عجباً يستنفد كل عجب!(528/39)
أما الأستاذ العقاد الذي تصدى الأستاذ قطب للدفاع عنه فإن القصائد التي اختارها له ليست من أجود شعره، والحكم على العقاد بناء على قصيدة واحدة منها لا بد أن يكون حكماً جائراً. وفضلاً عن أن الأستاذ قطب كان سيئ الاختيار، فإنه يجب علينا أن نقرر أن الحكم على شعر العقاد إنما يكون بقراءة دواوينه كلها. لذلك أشير على الدكتور مندور بقراءة (وحي الأربعين) وخاصة القصائد الآتية: (الغزل الفلسفي) (المعاني الحية)، (ليلة البدر) فإن هذه القصائد تتضمن أشعاراً لا يمكن أن يقارن بها أي شعر من أشعار المهجر كله!
زكريا إبراهيم(528/40)
العدد 529 - بتاريخ: 23 - 08 - 1943(/)
من طرائف المفارقات في بلد المفارقات
للأستاذ عباس محمود العقاد
من طرائف ما يقال في بلد المفارقات كلمة كتبتها آنسة أديبة في (المصور) الأغر تقول فيها: (. . . سألني الأستاذ الكبير عباس العقاد عن رأيي في سارة فأجبته في صراحة أنه قد آن الأوان لتتحدث الأنثى عن الأنثى وتصور شعورها وتترجم عواطفها. فإن الرجل لا يعرف المرأة ولا يفهمها، ولذلك يصورها في كتابته مخلوقة أخرى غير التي نعرفها في نفوسنا ونحسها فينا. . .)
وطريف كل ما في هذه الكلمة التي تتمثل فيها شتى المفارقات في بلاد النقائض والمفارقات!
فمن طرائفها قول الآنسة الأديبة أنني سألتها رأيها في سارة، وأنا لا أعرف أنها قرأتها وأن لها رأياً فيها
ولو عرفت أنها قرأتها وأن لها رأياً فيها لما فاتحتها بالسؤال عنها، لأن أصدقائي الكتاب والقراء كثيرون يعلمون ما لم تعلمه الآنسة الأديبة، وهو أنني لم أستبح لنفسي يوما أن أفاتح أحداً بالسؤال في موضوع كتاب ألفته أو قصيدة نظمتها، لأن المفاتحة بالسؤال في هذا الصدد إما استجداء ثناء، وهو لا يحسن بالكاتب، وإما إحراج للمسؤول إذا اضطره السؤال إلى إبداء رأي لا يروق ولا يطيب وقعه في أذن السامع، وهو كذلك لا يحسن بالكاتب ولا بكائن من كان
ومن شاء إبداء رأي فله من وسائل الإبداء ما يغنيه عن هذا الحرج، وما يغني الكاتب عن سوقه إلى الكلام فيما ليس من قصده أن يفتتح الكلام فيه
والآنسة الأديبة صحفية على اتصال بالصحف اليومية والأسبوعية، فما رأيها في سؤال قراء هذه الصحف عن قارئ فرد أو كاتب فرد شغلته في مجلس من المجالس باستفساره الرأي فيما أكتب أو ما أنظم!
فلماذا أسألها هي إذا كنت لا أسأل أحداً غيرها؟
أأسألها لأسمع منها الرد الذي لا يحمد من فتاة ولا فتى في خطاب رجل يكتب قبل أن تدرج من مهدها؟(529/1)
أأسألها لأسمع منها أن هذا شأني وليس بشأنك، وأن الأمر يعنيني ولا يعنيك أنت ولا يعني أحداً من الرجال؟
وإذا نسيت الآنسة أن هذا جواب لا يحمد من فتاة ولا فتى، فما الذي ينسيني أنا أن أرد إليها ذاكرتها في أدب الخطاب؟
طريف هذا وأطرف منه رأيها الذي بنت عليه جوابها، وهو أن المرأة لا يكتب عنها غير المرأة، وأن الرجل لا يكتب عنه غير الرجل، وأن الطفل لا يكتب عنه غير الطفل على هذا القياس
فإذا كانت عندنا، كما يقول وضاع المسائل الحسابية، رواية مدارها على زوج وزوجة، وولد وبنت، وخادم وخادمة، وحصان في خدمة الأسرة، ودجاجة وديك في فناء الدار؛ فليس في وسع كاتب واحد إذن أن يؤلف هذه الرواية الشائعة بين الروايات، ولكننا بحاجة إلى رجل في سن الزوج، وامرأة في سن الزوجة، وولد في سن الإبن، وبنت في سن الابنة، وحصان ودجاجة وديك، للتعبير عن حقائق هذه الأحياء، ويبقى بعد ذلك أن يحتج الخادم والخادمة. . . لأن الزوج لا يغني عن الخادم وإن كان رجلاً، والزوجة لا تغني عن الخادمة وإن كانت امرأة، ولا يشعر السادة بشعور الخدم ولا الخدم بشعور السادة أليس كذلك؟
بلى كذلك وزيادة! وإن كنا لا ندري كيف يكون التأليف وأين يبدأ هذا وأين يتسلم من ذاك سلسلة السطور
الآنسة الأديبة لا تعلم الحقيقة فيجب أن تعلم الحقيقة كما خلقها الله وأقرها الواقع الذي لا حيلة لنا فيه
والحقيقة التي خلقها الله وأقرها الواقع الذي لا حيلة فيه أن المرأة لا تفهم من شئونها شيئاً إلا كان الرجل أفهم منها لهذا الشيء ولو كان من خاصة أعمالها وشواغلها
فالطهي من صناعات المرأة القديمة، ولكن أمهر الطهاة في الدنيا رجال وليسوا بنساء
والخياطة من صناعات المرأة القديمة ولكن المرأة لا تخيط ملابسها ولا تبتكر أزياءها كما يخيطها الرجل ويبتكرها، والتوليد من صناعات النساء ولكن المرأة نفسها تثق بالطبيب المولد ولا تثق بالطبيبة المولدة(529/2)
والمرأة تبكي منذ خلقت ولا تزال تبكي إلى يوم الدين، وترثي الموتى منذ هلك ميت إلى أن يموت آخر الهالكين، ولكنها كما قلنا مرة لم تخلد بكلمة واحدة إلى جانب الكلمات التي خلد بها الباكون والراثون من الرجال، ولا استثناء في ذلك للخنساء وهي التي كانت تفاخر النساء بالبكاء!
ونأتي إلى القصة نفسها وهي موضوع التعقيب أو موضوع الزجر والتأنيب للرجال الفضوليين الذين يدخلون فيما لا يعنيهم من شئون المرأة
فمن الحقائق التي يجب أن تعلمها الآنسة الأديبة أن الكاتبات الروائيات لم يشتهرن قط بخلق الشخوص النسائية الخالدة في عالم الكتابة، ويصدق هذا على السابقات من طراز ماري كوريلي وشارلوت برونتي كما يصدق على اللاحقات من طراز فيكي بوم وبيرل بك، بل يصدق في هذا المعنى أمر تستغربه الآنسة لو علمت به: وهو أن الرجال في روايات الكاتبات أصدق صورة من النساء، لأن المرأة على ما يظهر لا تحسن التعبير عن نفسها كما تحسن مراقبة الرجل والحكاية عنه، وإن لم تقصد التحليل والتصوير
ولست أنا القائل إن المرأة لم تفهم نفسها كما فهمتها من تصوير شكسبير لها، وإنه صور خمسا وعشرين صورة نسائية لا تختلط واحدة منها بالأخرى ولا توجد امرأة واحدة تحصيها في وجوهها وملامحها، ولكن الذي قال ذلك امرأة فاضلة هي أنا جمسن في كتابها بطلات شكسبير
ولم توجد بعد المرأة الفذة بين النساء، كما كان شكسبير الرجل الفذ بين الرجال
تلك طرائف آنسة في حديث الذكر والأنثى
ولهذا الحديث طرائف أخرى في (رجل) كشفه الأستاذ السيد قطب وقال هو عن نفسه إنه يفخر بمشابهة المرأة تكوينها
هذا الرجل يقول لنا: (وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد، أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان. . . وقديماً زعم اليونان أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة بل خلقت أعضاء مختلفة ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة أو نقاء المرأة من عنصر الرجل. ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها(529/3)
فليست هناك امرأة كاملة الأنوثة وليس هناك رجل كامل الرجولة. . .) إلى آخر ما قال هذا الرجل الذي كشفه السيد قطب جزاه الله
ومنتظرون نحن حتى يجشم هذا الرجل نفسه مشقة الرسالة التي بعث بها إلينا من طريق الأستاذ سيد قطب لينقلها إلينا. . .!
منتظرون تلك الرسالة منذ متى يا ترى؟
منتظروها منذ سبع عشرة سنة يوم كتبنا نقول: (لا بدع أن يكون الأمر كذلك وأن نجد حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة الأمومة. فإن فاصل الجنس ليس من المناعة والحسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر الناس. وليس كل رجل رجلاً بحتاً ولا كل امرأة امرأة صميمة، وإنما تمتزج الصفات وتتفق المزايا ويكون في الرجل بعض الأنوثة كما يكون في المرأة بعض الرجولة، ولا أرى في تصور ذلك أظرف ولا أدنى إلى الصدق من الأسطورة التي يروونها عن اليونان ويمثلون بها كيف كانت صنعة الإنسان وكيف كان هذا الخلط بين خلق الرجال وخلق النساء. فقد زعموا أن الإله الموكل بهذه الصناعة دعي إلى وليمة الأرباب فقضي ليله يقصف ويلهو ويعاقر ويتماجن ثم عاد عند الصباح مخموراً دهشاً فألقي عمل النهار بين يديه لا مناص من إنجازه ولا حيلة في تأجيله، فأقبل على العواطف والجوارح يقذف ما اتفق له منها في الأهاب الذي يعرض له، ويرمي تارة بقلب رجل في أديم امرأة، وتارة أخرى بوجه امرأة على كتفي رجل، وهكذا حتى أتم عمله. . .)
إلى أن قلنا (وكأن (أوتو فيننجر) يقول ما تقوله هذه الخرافة حين شرح مذهبه في الحب، وقرر في كتابه الجنس والأخلاق أن لا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نسب تتألف وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء)
فالرسالة إذن قد وصلت إلينا راجعة إلى الوراء، وقد تعاد إلى مرسلها للاستغناء، ومعها ما يستحقه من الجزاء
والجزاء الذي يستحقه أنه الآن لم يحسن أدب اليونان ولا أدب الخطاب، وأنه لو تعلم هذه الخرافة كما تعلمها قراؤنا قبل سبع عشرة سنة لما لاكها في مقالة كما يلوكها الآن، ولأكل رزقه حلالاً بتعليم الأدب اليوناني الذي يعلمنا إياه في هذه الأيام، ويريد أن يعترف له بفضل فيه، وهو ينكر فضل السبق على ذويه بلد المفارقات، وهذا الرجل كتلك الآنسة من(529/4)
هذه المفارقات. . .!
عباس محمود العقاد(529/5)
3 - الصيد في الأدب العربي
للدكتور عبد الوهاب عزام
وفي ديوان أبي نواس سبع وعشرون أرجوزة في وصف الكلب، وهو تارة يصف خلقة الكلاب وطباعها، وتارة يصف سرعتها وعملها في الصيد. منها الأرجوزة:
أفعتُ كلباً جال في رباطه ... جَول مصاب فر من أسعاطه
عند طبيب خاف من سِياطه ... هجنا به وهاج من نشاطه
كالكوكب الدريّ في انخراطه ... عند تهاوي الشد وانبساطه
لما رأى العلهب في أقواطه ... سابحه ومرَّ في التباطه
كالبرق يذري المرو بالتقاطه ... مثل قليّ طار في أنفاطه الخ
فهو يشبه الكلب في نشاطه واضطرابه ومحاولة الإفلات من الرباط بمجنون يستعصي على طبيبه ويفر من دوائه ومن بطشه
ثم يشبهه في انقضاضه سريعاً بالكوكب ويقول إنه حين رأى التيس البري في قطعانه عدا فمرا معاً يسبحان عدوا، واستمر الكلب يضرب الأرض بيديه فيطير الحجارة الرقيقة كما تتطاير الفقاقيع عن السمن الذي يغلي على النار. وهو وصف عجيب دقيق
ولا يتسع المجال لإثبات الأرجوزة كلها والتمثيل بأبيات من الأراجيز الأخرى
ولأبي الطيب طرديات قليلة، منها أرجوزة يصف فيها كلباً يصطاد ولم يشهد الصيد ولكن أخبر به. وهو وصف إن فاته صدق المشاهدة فهو دليل على خبرة شعرائنا بالصيد وكلابه، ومعرفتهم بحركاته معرفة تيسر لهم الوصف بالغيب. قال واصفاً الكلب:
فحلَّ كلاّبي وثاق الأحبُل ... عن أشدق مسُوجَر مسَلسل
أقبَّ ساطٍ شرس شمردل ... مؤجْد الفِقرة رِخو المِفصَل
له إذا أدبر لحظُ الُمقبل ... كأنما ينظر من سَجَنجَل
يعدو إذا أحزن، عَدوَ المُسهل ... إذا تلا جاء المدى وقد تُلى
يُقر جلوس البدوي المصطلى ... بأربع مجدولة لم تُجدَل
يكاد في الوثب من التفتُّل ... يجمع بين متنه والكلكل
وبين أعلاه وبين الأسفل الخ(529/6)
فانظر كيف يصف خلقه الكلب وحركته، وتأمل الغلو في قوله له إذا أدبر الخ فقد ادعى أن الكلب في سرعة حركاته مقبل مدبر معاً فكأن الرائي يراه ويرى صورته في مرآة فيرى شكلين أحدهما مدبر والآخر مقبل
وقد افتن الشعراء في وصف حيوانات الصيد الأخرى كالفهد وجوارح الطير من البازي والباشق واليؤيؤ والعقاب الخ. ومن هذا وصف العقاب في شعر أبي الفرج الببغاء:
ما كل ذات مخلب وناب ... من سائر الجارح والكلاب
بمدرك في الجد والطلاب ... أيسرَ ما يدرك بالعُقاب
شريفة الصبغة والأنساب ... تطير من جناحها في غاب
وتستر الأرض عن السحاب ... وتحجب الشمس بلا حجاب
يظل منها الجو في اغتراب ... مستوحشاً للطير كالمرتاب
ذكية تنظر من شهاب ... ذات جران واسع الجلباب
ومنكِب ضخم أثيث رابي ... ومَنسِر موثَّق النصاب
وراحتي ليث شرّي غلاَّب ... نيطت إلى براثن صلاب
مرهفة أمضى من الحراب ... وكل ما حلَّق في الضباب
لملكها خاضعة الرقاب
وأبو الفتح كشاجم من أكثر الشعراء ولعاً بالصيد، وله فيه كتاب. ومن شعره في وصف الباشق، وهو ضرب من البزاة:
يسمو فيخفي في الهواء وينكفي ... عجلاً فينقض انقضاض البارق
وكأن جؤجؤه وريش جناحه ... خضبا بنقش يد الفتاة العاتق
وكأنما سكن الهوى أعضاءه ... فأعادهن نحول جسم العاشق
ذا مقله ذهبية في هامة ... محفوفة من ريشها بحدائق
ومخالب مثل الأهلَّة طالما ... أدْمين كف البازيارِ الحاذق
وإذا انبرى نحو الطريدة خلته ... كالريح في الأسماع أو كالبارق
وإذا دعاه البازيار رأيته ... أدنى وأطوع من محب وامق
وإذا القطاة تخلفت من خوفه ... لم يعد أَن يهوى بها من حالق(529/7)
وللأرجاني قصيدة وصف فيها من حيوان الصيد الطير والفهود والكلاب. مطلعها:
ولما نضا الأفق برد الظلام ... ساروا إلى خيلهِم باللجم
وهي قصيدة ممتعة
وللشعراء أساليب في وصف آلات الصيد والحيوانات التي تصاد لا يتسع المقال للتمثيل لها
وأبرع شعر الصيد ما وصف أفعال الصيد من الإحاطة بمواضيع الصيد وحشر الوحش إلى المضايق، ثم تسليط الحيوان والآلات عليها، والعلاقة بين الصائد والمصيد، وظفر الصائد بطلبته، ونحو هذا. وفي شعرنا من هذا الضرب صور عجيبة رائعة نعرض فيما يلي صوراً منها.
(للكلام بقية)
عبد الوهاب عزام(529/8)
1 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
أنا ما جزمت في عزو (الخبر) إلى ابن بكار بل سألت وفرضت: جئت ب (هل) الاستفهامية، و (إذا) الظرفية الشرطية فقلت: (هل صاحب ذلك الكتاب هو الصائغ المحسن) وقلت: (وإذا ثبت قول (السليماني) في ابن بكار فمن يضع الحديث النبوي يضع الحديث الأدبي) وأوردت حديث (العلانية) وتركت القضاء للوقت حتى يثبت أو ينفي. وفي هذا الأسلوب في النقد الإنصاف كله. وبنيت على الشك والفرض لأني لم أقف على (كتاب وفود النعمان على كسرى)، ولم أجد رواية صحيحة تهديني إلى الحق في أمر النسبة. وإذا عز اليقين ظننا. وليس ظن الناقدين والباحثين في العلم من الظنون التي ذمها (الكتاب)، ولم أقصد زراية على القاضي في كل ما خططت وليست صفاته الطيبة بمانعته أن يضع، فقد كان الوضع في الحديث والأخبار والأشعار شرعة القوم. وهنالك كثيرون من الواضعين هم أقضى من الزبير بن بكار وأتقى وأكبر وأشهر. وهذا بحث طويل أدعه اليوم فله زمان سيظهر فيه إن شاء الله
وقلت: هل ابن بكار صاحب كتاب وفود العرب على كسرى هو الصائغ. ولم أقل هل ابن الكلبي صاحب (كتاب الوفود) هو الواضع لأسباب:
1 - عبارة الخبر أقرب إلى زمان ابن بكار، وأسهل من عبارة ابن الكلبي
2 - وضوح التسمية
3 - تنسيق في الخبر جلبه الوقت وارتقاء التأليف فقد كاد يكون رواية تمثيلية، وقد أنشأ أديب عصري منه رواية
4 - لم أجد الخبر في كتاب (الأغاني) ولم يرو أبو الفرج منه شيئاً، ولم يشر إليه في مكان، والظن أن لو رآه في (كتاب الوفود) وكان فاته. وقد روى من دواهي ابن الكلبي ما روى
وأما عزو الخبر إلى ابن الكلبي أو أمثال ابن الكلبي فهذا من براعة كل واضع بعده فقد اشتهر الرجل في الأخبار والأسمار والأنساب، والعنعنة أول شرط لمن يضع. والرواة المتقدمون كثيرون فلكل صائغ أن يربط خبره بمن أحب. فأبو حيان التوحيدي حين اتكل(529/9)
على الله وزخرف رسالة أبي بكر إلى علي (رضوان الله عليهما) أسندها إلى القاضي أبي حامد المروروزي يرويها عيسى بن دأب عن صالح بن كيسان، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أبي عبيدة بن الجراح
وهذا الإمام أبو بكر بن دريد ربط كثيراً من أساطيره المبثوثة في كتاب (الأمالي) لأبي علي القالي بابن الكلبي وربط طائفة منها بغيره. فمما عزاه إلى هشام هذا أسطورة ما وقع من المفاخر بين طريف بن العاصي الدوسي والحارث بن ذبيان عند بعض مقاول حمير، وأسطورة ما وقع بين سبيع بن الحارث وميثم بن مثوب من المخاصمة بمجلس مرثد الخبر وأسطورة حديث خنافر الحميري مع رئية شصار. وعزا أبو بكر غير ذلك من الأخبار إلى ابن الكلبي. ومما رواه عن العتبي عن أبيه (خبر غسان بن جهضم مع ابنة عمه أم عقبة) وهو رواية ختمت حوادثها بالانتحار كما نشاهد في روايات غريبة تمثيلية
وأساطير ابن دريد في الأمالي كلها هو أبوها وأمها. وقد قلت ذات مرة للعلامة الأستاذ الكبير أحمد أمين بك: هذه الأخبار التي أنشأها ابن دريد ورواها أبو علي في أماليه مصنوعة
فقال (حفظه الله): الذنب ذنب الناس هو قدمها أساطير وهم أخذوها حقائق أو كما قال
وأنا أسأل في هذا المقام: هل أملى ابن دريد في مجلسه هذه الأخبار على القالي وغيره من تلاميذه أساطير مصنوعة معلناً ذلك كما أملى البديع الهمداني وابن الحريري مقاماتها فلما رواها أبو علي في كتابه تلقفها الناس أحاديث صحيحة، والتبس الأمر؟
وأما الصواغ العظيم ابن الكلبي فهذا مما قيل فيه:
وهشام ابن محمد بن السائب الكلبي أبو المنذر الإخباري النسابة العلامة روى عن أبيه أبي النضر الكلبي المفسر وعن مجاهد. وحدث عنه جماعة. قال أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب نسب وسمر ما ظننت أن أحداً يحدث عنه، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة. ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس: وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً قال: أسر إلى حفصة أن أبا بكر ولي الأمر من بعده وأن عمر واليه من بعد أبي بكر، فأخبرت بذلك عائشة رواه البلاذري في تاريخه. وهشام لا يوثق به وقيل: إن تصانيفه أزيد من مائة وخمسين مصنفاً، مات سنة أربع ومائتين)(529/10)
وابن عبد ربه الذي نقل حكاية الوفد الكسروي مصدقها هو الذي روى خبري (وفود عبد المسيح على سطيح ووفود قريش على سيف بن ذي يزن) مؤمناً بهما، وهذان الخبران يوضحان حالهما، وينبئان بصدقهما. ويناديان أنهما قد سبقا في الصحة والتحقيق خبر وفود النعمان وإضامته (جماعته) التي أوفدها على شاهنشاه لتثرثر قدامه متنفحة. ومن روى غير هياب تينك الأسطورتين روى هادئ البال الأسطورة النعمانية الكسروية. وقد قلت من قبل في سطيح وصاحبه شق قولي، فليعاود من أراد تلاوته. وهذا مما جاء في قصة وفود قريش، وروايته محسبة كافية لا تسأل نقداً ولا تقييداً
(. . . ثم انتبه (سيف) إليهم انتباهة، فدعا بعبد المطلب من بينهم، فخلا به، وأدنى مجلسه، وقال. يا عبد المطلب، إني مفض إليك من سر علمي أمراً لو غيرك كان لم أبح به، ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه، فليكن مصوناً حتى يأذن الله فيه. . . إني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا. . . خبراً عظيماً. . . فيه شرف الحياة. . . للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة. قال عبد المطلب: ما هو؟ فداك أهل الوبر قال ابن ذي يزن: إذا ولد مولود بتهامة بين كتفيه شامة كانت له الإمامة إلى يوم القيامة. قال: أبيت اللعن. لولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة. قال: هذا حينه الذي يولد فيه أوقد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه. . . والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً،. . . يفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض، يخمد الأديان. . . ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمان. قال فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح، قال: والبيت ذي الطنب والعلامات والنصب إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب قال عبد المطلب: أيها الملك، كان لي ابن كنت له محباً. . . فزوجته كريمة من كرائم قومه يقال لها آمنة بنت وهب. . . فجاءت بغلام بين كتفيه شامة، فيه كل ما ذكرت من علامة، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك، وأحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا. . .)
وسيد هذا الوجود ومعناه مستغن بالله وبكتاب الله عن تكهن المتكهنين، وصوغ الصواغين، وزخرفة محدثين
وسند ابن عبد ربه في هذا الخبر: (نعيم بن حماد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك عن(529/11)
سفيان الثوري. قال: قال ابن عباس)
وقد روى هذه الأحدوثة أبو الفرج في أخبار أمية ابن أبي الصلت وسند (كتاب عبد الأعلى بن حسان قال حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس)، وحدث أبا الفرج به محمد ابن عمران بإسناد ليس يحفظ الاتصال بينه وبين الكلبي فيه كما قال
وأبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني هو الذي أفاد أدباء العرب وكتابهم وشعراءهم، وشهر أمتنا وخلفاءها ورجالها برواياته المزخرفة. (لا سامحه الله)
(ن)(529/12)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
جاذبية الشواطئ المصرية - أعجوبة الأعاجيب
جاذبية الشواطئ المصرية
من الواضح أني لا أستطيع الإجابة عن جميع أسئلة القراء، ولو أني استطعت ذلك لتحولت مقالاتي إلى موضوعات يغلب عليها الضجيج، ومع ذلك فسأرد على الأستاذ أحمد فتحي القاضي، لأنه احتكم إلى الشريعة في وجوب رد التحية، ولأن الرد عليه يوضح مشكلة تحتاج إلى توضيح
والأستاذ غاضب على وما وقع مني في الدعوة إلى الاصطياف، ويقول إن كلامي في التغني بجاذبية الشواطئ لم يقع من أهل الصعيد موقع القبول، ويصرح بأنه كان ينتظر أن أكون من الثائرين على حياة الشواطئ، وقد صارت ملاعب للنساء العاريات، كما قال!
وأقول إني أحترم عواطف قرائي كل الاحترام، ولكن مذهبي في الأدب يأبى عليَّ أن أبحث عما يرضي قرائي، فالغاية عندي هي الصدق في التعبير عما يختلج في صدري، ويطمئن إليه قلبي، ولو كان فيه ما يغضب جميع القراء. . . ألم أقل لكم إني لست أسيراً للوطن ولا أجيراً للمجتمع؟
وماذا أصنع إذا كنت أومن بأن الشواطئ المصرية من أجمل ما خلق الله؟
وماذا أصنع وأنا أعتقد أن زيارة الشواطئ المصرية تزيد في قوة العقل والفكر والذوق؟
وهل يرضيني أن أفعل ما يفعل الشيخ أبو العيون وهو يتوهم أن زيارة الشواطئ تفسد الأخلاق؟ إن الشيخ أبو العيون يغرق في كوز ماء فكيف نسمع كلامه في البحر المحيط؟
هل تعرفون أن الشيخ أبو العيون لم ير الشواطئ مع أنه يعيش في الإسكندرية منذ سنين، ومع أنه أبو العيون؟
آن الوقت لأن نسمع هذا الرجل الطيب كلمة الحق. آن الوقت لأن ننهاه عن الغض من حياة الشواطئ وهي نعمة عظيمة منَّ بها المنعم الوهاب على أهل هذه البلاد
هذا الرجل الطيب يتكلم باسم الدين، فهل يستطيع أن يدلني لأي حكمة خلق الله تلك(529/13)
الشواطئ بذلك المهاد الجميل؟
هذا الرجل الطيب يعرف أن السباحة رياضة بدنية، وهو مع ذلك يعجز عن السباحة في الخيال
نفرض أن حياة الشواطئ تفتن بعض الناس، فهل يجب أن نقتلع الجذور من كل جمال يدعو إلى الفتون؟
ما رأيه في القمر وقد قيل إنه يهيج الصبوات؟
أنجرّد حملة لإسقاط القمر من أفق السماء؟
ما رأيه في الأزهار وقد قيل إن عطرها يوقظ الشهوات؟
أنجتث كل شجرة مزهرة لتنام عيون أبي العيون؟
الآذان تؤهل لسماع النمائم، فهل نصلم جميع الآذان؟
والجسم السليم يؤهل للمعاصي، فهل نحول الخلائق إلى مهازيل ومعاليل؟
كل نعمة تعرض صاحبها لمتاعب أخلاقية، فهل نطلب زوال النعم لتستقيم الأخلاق؟
إن أبا العيون الواعظ يحتاج إلى واعظ، فأنا أخشى أن يغضب الله عليه إن استمر على هذا الأسلوب، من الوعظ المقلوب
أفي الحق أن الشواطئ ليست إلا مباءة رجس وخلاعة ومجون؟
أهذا كل ما يتصور الباكون على الأخلاق بدموع التماسيح؟
أين إذاً الشعور بجلال الله وجمال الوجود عند زيارة الشواطئ؟
أنتم تدعوننا لزيارة المقابر لنتعظ، ونحن ندعوكم لزيارة الشواطئ لتهتدوا
ضميري لا يسمح بأن أرائي قرائي، فليسمعوا كلمة اللوم على غفلتهم عن الاصطياف، وليسمعوا كلمة الصدق في دعوتهم إلى تنسم هواء البحر من حين إلى حين
أما الخوف من اللؤلؤ المنثور فوق الشواطئ فعلاجه سهل، وهل يصعب عليكم أن تدخلوا الشواطئ بلا عيون؟
عندكم الأقنعة الواقية، وقد وزعتها عليكم الدولة بالمجان منذ سنتين، فالبسوها عند زيارة الشواطئ، لتكونوا في أمان من سحر الجمال ولكن تلك الأقنعة فيها ثقوب تطل منها العيون، فماذا تصنعون؟(529/14)
الرأي أن تظلوا في مراقدكم، وأن تتركوا هواء البحر ورمال الشواطئ لعقلاء الأجانب
ماذا يقول أحفادنا إذا قرءوا هذه الكلمة وعرفوا أن الاصطياف كان معضلة تختلف فيها الآراء؟
لو كانت الشواطئ المصرية بأيدٍ غير أيدينا لأصبحت فراديس تصبو إليها نجوم السماء، فما يمكن أن تكون في الدنيا شواطئ في سجاحة الشواطئ المصرية، ولا يمكن أن تنعم بلاد بمثل ما ينعم به أهل هذه البلاد من شواطئ تفوق الإحصاء
وماذا يرى الرائي في الشواطئ؟
قالوا إنه يرى أجساماً عارية
الآن فهمت وفهمت، فقد طال غرام الناس بالتحجب والرياء، لأن اعوجاجهم في ضمائرهم فرض عليهم أن يعيشوا في أسر الأثواب
الكلمة الصريحة لا تصدر إلا عن صاحب الرأي الصريح
والجسم العاري لا يتخايل به غير صاحب الجسم الجميل
والمصريون فكروا في التزود من جميع الثقافات، وأهملوا الثقافة الجسدية، فما الذي يمنع أن يكون في الشواطئ تذكير بما للجسد من حقوق؟
في رؤية اللاهين فوق رمال الشواطئ درسٌ ينفع من تركوا أجسادهم بلا تثقيف، وهو درس يحتاج إليه الشيخ أبو العيون
يجب أن نرى العراة فوق الشواطئ لنتذكر جنايتنا على أجسادنا بترك الرياضة البدنية!
هل تذكرون السيدة التي أثنت على القرار الخاص بتخصيص أحد الشواطئ لاستحمام النساء؟
هي سيدة لا تستطيع البروز بلباس البحر ولو كان جوازاً إلى دار الخلود!
أكتب هذا الكلام وأنا أعرف أن أناساً من خلق الله سيعترضون، كما اعترض المحامي الذي يراسلني من منفلوط؛ أكتب هذا الكلام وأنا أعرف أنه يصورني ظلماً بصورة الماجنين، مع أني صادق كل الصدق فيما أقول، فالشواطئ المصرية نعمة من نعم الله، وما يقع فيها من الشر لا يقاس إلى ما تسوق من منافع الخير الصحيح
لو شئت لعتبت على قرائي: فالشاعر أحمد العجمي يقول إني مجَّدت الإسكندرية أعظم(529/15)
التمجيد، فهل زار الإسكندرية ليراها بعيني؟ والمحامي أحمد القاضي آذاه كلامي عن الإسكندرية فهل زارها ليعرف حقيقة كلامي؟
زوروا الإسكندرية، وقفوا لحظات أو ساعات بمحطة الرمل
كان أبعد سفر عند أهل الصعيد هو زيارة طنطا في مولد السيد البدوي، فهل أستطيع نقل أهل الصعيد إلى زيارة أبي العباس المرسي؟
إن كانت الدعوة إلى الحياة خلاعة ومجوناً فأنا راض بأن أضاف إلى الخلعاء والماجنين. . . وهل يؤذيني الظن الآثم، والجهل الطائش؟
أنا أدعو إلى الحياة. أنا أدعو كل مصري إلى تذوق الجمال بكل بقعة من بقاع هذا الوادي الجميل
في السماء رزقي، فما خوفي من أهل الزور والبهتان؟
أعجوبة الأعاجيب
هي أن تكتب كلمة يفهمها جمهور القراء على الوجه الصحيح
ثم تستغلق على محرر مجلة أسبوعية فيؤولها أسوأ تأويل، وتكون النتيجة أن يبني عليها أحكاماً أوهى من بيوت العنكبوت، وهو يتوهم أنه غاية في اللذوعية والذكاء
ولهذه الأعجوبة قصة قريبة، فقد كنت كتبت في رثاء تقلا باشا سطوراً أبرزت بها خصائصه الذاتية، الخصائص التي جعلت حياته قدوة لرجال الأعمال، وكان الروح الذي يسود تلك السطور يفيض بمعاني العدل والإنصاف والإجلال، وإن خلا من الندب واللطم والصراخ، على نحو ما صنع المحرر لتلك المجلة الأسبوعية
كان الظن أن يفهم بعض خلق الله أني أرثي تقلا باشا في مجلة الرسالة، والرسالة تترجم من ترثيهم، فجوها يصلح للترجمة ولا يصلح للبكاء، وهل يحتاج تقلا باشا إلى من يبكيه؟ إنما يحتاج إلى مثل هذا الرجل إلى من يظهر الشمائل التي وصلت به إلى أن يكون في الطليعة بين رجال الصحافة في الشرق، وليس ذلك بالمجد الضئيل، حتى تكمله بالتوجع والتفجع والأنين
ولكن ذلك المحرر رأى بذهنه الثاقب أن كلمتي تحتمل التأويل، فانتهز الفرصة وتقرب إلى أقارب صاحب (الأهرام) بالشفقة المكذوبة والود المدخول، فزعم أني هجمت على ميت، ثم(529/16)
تطاول فقال كلاماً يدل على أدبه الجميل
وأردت أن أصحح خطأه فكتبت كلمة تصحيح، ولكنه عاند عناداً يقبل ممن يكون في ملئ عقله فألقاها في سلة المهملات، لأني هددته بنشر ما اعترض عليه، عساني أجد الفرصة لتقويم بعض المحررين
وأحب أن أعرف ما هي الغاية من الإيقاع بين الناس؟
قلت لذلك المحرر: إن لي أصدقاء في جريدة الأهرام على رأسهم أنطون الجميل وكامل الشناوي وعوض جبريل، فكيف يسيغ ذهنك أني أستبيح إيذاء أولئك الأصدقاء في مناسبة لا يجوز فيها إيذاء الأعداء؟
وقلت لذلك المحرر: إني لا أهجم إلا على الأقوياء من الأحياء، فكيف أهجم على ميت لا أذكر أني عاديته لحظة من زمان؟
وقلت لذلك المحرر: إني رثيت تقلا باشا وأنا أتمثل ما عانى في حياته الصحفية، فما يجوز أن أقول فيه غير الجميل، وإن التبس كلامي عليك
وقلت لذلك المحرر: إن لتقلا باشا أقارب من أصدقائي في القاهرة وبيروت، وأنا أتحيز دائماً لأصدقائي، فليس من المعقول أن أوذيهم في مثل هذا المقام الحزين
وبرغم هذه الشروح أصر المحرر على إغفال كلمة التصحيح، فما الأخلاق عندكم يا محرري بعض المجلات الأسبوعية؟
ما الأخلاق عندكم وقد أهمل ذلك المحرر رجائي في أن لا يدس بيني وبين ناس محزونين؟ وما هذا الإفك في الإفساد بين الناس؟
أنا حاضر لمخاصمة جريدة الأهرام، ولكني أرفض أن يقال إني أخاصم صاحبها في غداة الموت، وليس لحي بقاء
وما قيمة التودد لجريدة الأهرام بمثل هذا الدس الممقوت؟
أيكون لجريدة الأهرام قوة سحرية تمنع العواقب المقدورة على الدساسين؟
القدرة الصحيحة هي قدرة الحق، فما شأنك يا كاتباً أفلس فلم يجد زاداً غير الوقيعة بين كرام الرجال؟ ما شأنك ولن تكون كاتباً ولو سودت وجهك بالمداد في ألوف من السنين؟
ما عتبي عليك، وقد نصحتك فلم تنتصح، بعد أن رأيت ما صنعت بنفسك، يوم صورت(529/17)
شعورك بأول غارة جوية؟
ما عتبي عليك، وقد خاب أملي فيك؟
لقد فكرت في أن أشرح لك العبارة التي عجزت عن وعيها فهمك، ولكني خفت أن تعجز عن فهمها بعد الشرح
وقد فكرت في النص على المجلة التي تتسع لأوهامك وأحلامك، ولكني ترفقت فلم أدل على مجلة كان زادها ولن يزال من عبث الأطفال
إن كلمتي في رثاء تقلا باشا كلمة حق، لأني رثيته باسم الحق، فما قيمة كلماتك في رثائه وأنت ترائيه في الحياة وبعد الممات لغايات؟
عفا الله عنك يا فلاناً بالمجلة الفلانية!
ونفعك الله بهذا الدرس البليغ!
زكي مبارك(529/18)
الكأس المسمومة
للأستاذ سيد قطب
أقلاكِ أقلاكِ كالشيطان أقلاك ... أقلاك كالسم يسري جدّ فتّاكِ
أقلاك: إنك في نفسي وفي زمني ... وفي حياتي أفعى ذات أشواكِ
سمّمت عيشي وأحلامي وأخيلتي ... وأنت شيطانة في سمت أملاك
وعشتُ أرعاك في قلبي وأنت بلا ... قلبٍ يحس ويرعى كيف أرعاك
من أنت؟ ما أنت؟ إني حائر قلق ... أأنت أسطورة فيِ سفْرِ أفّاكِ؟
أنسى الليالي التي قضيتُها قلقاً ... وأنتِ ساكنةٌ راضٍ مُحيّاك
أنسى الدموع التي أرسلتها غَدَقاً ... ولست لولا هواكِ المرُّ بالباكي
وكبريائي التي ما كنت أخفضها ... من قبلُ أو بعدُ في دنياي لولاك
أنسى. وأذكر أحلامي وأخيلتي ... كأنهن نجوم بين أحلاكِ
وكلهن نسيجُ الوهم في خلدي ... ولَسنَ غيرَ أحابيلٍ وأشواك
أقلاك؟ ليت! فإني لست أقلاك ... أهواك؟ ليت! فإني لست أهواك
أهوَى وأقَلي وأيامي موزعة ... بين الهوى والقِلي كالضاحك الباكي
هذا الرحيق وهذا السم قد مزجا ... ولست أرْوَى بكأسٍ غير ريّاك
هاتي ليَ السمَّ صرفاً لا يمازجه ... هذا الرحيقُ فإني لستُ بالشاكي
مللتُ كأسكِ لا ألتذّ نشوتها ... ولا أحطِّمُها تحطيم سفّاك(529/19)
الأدب والسينما
للأستاذ دريني خشبة
استدرك أحد كرام القراء فنشر في الرسالة تعليقاً على مقالي عن صحفنا الممتازة نفى فيه صلاحية السينما للأدب لانقطاع العلاقة بينهما في زعمه، وربما حدا به إلى هذا الرأي ما يظنه من أن الأدب إنما ينبغي أن يكون أسلوباً وتعبيراً كلامياً قبل أن يكون موضوعاً، وإن لم يصرح بهذا في الكلمة التي نشرتها الرسالة له. والعجيب أن يأخذ الكثيرون بوجهة النظر هذه في العلاقة بين الأدب والسينما، ولست أدري ماذا تكون الرواية السينمائية إن لم تكن أدباً يختلف في أدائه من الأدب المسرحي كما يختلف في أدائه أيضاً من أدب القصة. ومعظم المتأدبين العرب ممن لا يعرفون الآداب الأجنبية ينظرون إلى الأدب في هذه الحدود الضيقة التي لا تخرج به عن المقالة أو القصيدة أو العظة القصيرة أو الرسالة أو المقامة أو ما شابه ذلك مما تحويه كتب الأدب العربي، وقد مضت قرون طويلة قبل أن تدخل القصة في أدبنا، وإن تكن قد دخلته هذا الدخول المقدس عن طريق القرآن الكريم والأحاديث القدسية وعن طريق رواية أخبار المتقدمين، تلك الرواية التي هي إلى التاريخ أقرب منها إلى الأدب؛ قلما دخلت القصة في الأدب العربي عن طريق الترجمة في العصر العباسي بكتاب كليلة ودمنة، ثم بكتاب ألف ليلة فيما بعد، لم تحفل بها تلك الطبقة المثقفة التي كانت مشغولة بالعلوم الدينية ورواية أشعار العرب عن كل شيء والتي كانت بعد كل شيء غير العلوم الدينية ورواية أشعار العرب وكل ما يصح أن تؤيد به الكتاب والسنة من فلسفة أو أثر لغوي، عبثاً لا طائل وراءه ولا خير فيه، ولذلك فشا كتاب ألف ليلة بين العامة الجاهلة وانصرفت عنه الخاصة المستنيرة، كما حبس كليلة ودمنة على تأديب أبناء الملوك والخاصة من الوزراء، فلم ينشر في دائرة واسعة من طبقة الأدباء التي كان يحتمل أن تقلد ما فيه أو تنشى على غراره، وتولى أدباء من المصريين والمغاربة تأليف قصص على نهج ما جاء في ألف ليلة، فحشدوا لها أساطير الجن والسحر، وداعبوا بها الغرائز الجنسية، مما يفتتن به غير العامة، ويأنف من قراءته الخاصة، ثم ألفت الملاحم العربية والمصرية على نحو المبالغة والتهويل كان سبباً في استعلاء الخاصة عنها كذلك. وهكذا ظل أدب القصة غريباً على الأدب العربي حتى عصرنا الحديث الذي ترجمت فيه بعض(529/20)
الروائع من قصص العرب فأظهرتنا على الفرق الشاسع بين أدبنا والآداب الأوربية. . . أدبنا القليل الغور. . . أدبنا الممزق الذي لا تمسك أجزاءه وحدة، والآداب الأوربية العميقة المتماسكة، ثم كان أن أقبل بعض كتابنا على تأليف القصص فنجح منهم عدد غير قليل، وإن كانت القصة الطويلة التي تضارع القصة الأوربية لم تدخل في أدبنا بعد. . . على أن الرواية التمثيلية ظلت بمنأى عن الأدب العربي على الإطلاق، إلا ما حاوله بعض أدبائنا المجتهدين إبان نهضتنا التمثيلية من تلك الدرامات الفجة المسجوعة السمجة التي كانت تؤديها بعض فرقنا الإقليمية. ثم حاول بعض أدبائنا الجدد أن يغذوا المسرح المحلي بقطع من إنتاجهم، ولم يكادوا يفعلون حتى ثبط هممهم بخس مديري الفرق لجهودهم وعدم تشجيع الحكومة لهم، ولأن الحركة المسرحية المنظمة التي من همها خدمة اجتماعنا وخدمة لغتنا وآدابنا لم تخلق بعد. فانصرف الأدباء عن التأليف المسرحي غير مأجورين ولا مشكورين، بل انصرفوا والحسرة تملأ نفوسهم، والغيظ يشق مرائرهم. وهذا كله هو الذي حفزنا إلى الدعوة للأدب المسرحي، والأهابة بكل من يستطيع مؤازرتنا أن يعضدنا في هذه الدعوة، وأن يضم جهوده إلى جهودنا، عسى أن تستيقظ وزارة المعارف وأن تنتبه وزارة الشئون، فتعلما أن النهضة المسرحية هي أساس كل نهضة اجتماعية، وأنها تخدم لغتنا وأدبنا وثقافتنا بما لا يستطيع أن يخدمها به شيء آخر. ولما كانت السينما اليوم أكثر انتشاراً في مدننا من المسارح، ولما كانت لهذا السبب أبعد خطراً في نفوس الجماهير منها وجب ألا تقل عنايتنا بها عن عنايتنا بالمسرح، ووجب أن نلفت أنظار الأدباء إلى الإنتاج السينمائي بقدر ما نلفتهم إلى الإنتاج المسرحي، لأن الغاية واحدة وإن اختلف الأداء، ولأن الأديب وحده هو الذي يستطيع أن يضطلع بتأليف القصة المحبوكة الشائقة التي هي المعين الأول للرواية السينمائية، تلك القصة التي يتولى إعدادها (عمل السيناريو منها) للسينما فنان آخر غير المؤلف، بحيث يكفيها تكييفاً لا يخرج بها عن الأصل قط وإن رتبها الترتيب السينمائي الذي لا بد منه لكمال هذه الصنعة، فالقصة السينمائية من الوجهة الموضوعية أدب محض، ثم هي أدب محض من حيث أسلوبها كذلك؛ وهي، وهم يشترطون أن يكون واضع السيناريو من القصة الأدبية أو الدرامة المسرحية للسينما أديباً واسع الاطلاع له إلمام تام بأساليب الكتابة وأساليب الحوار على السواء، كما ينبغي أن يكون قديراً في دراسة(529/21)
الأشخاص متبحراً لذلك في علم النفس، بحيث يستطيع أن يفهم روح المؤلف الذي تعتبر القصة قطعة من نفسه ومرآة لفنه. ولذلك ترى القصة التي تعد للسينما عملاً أدبياً صرفاً من كل وجهه، بل هو عمل أدبي يصدر أولاً عن روح المؤلف، ثم يتعاون في إعداده واضع السيناريو ثم المخرج ثم المصور ثم هذا الجيش العرمرم من العمال والمهندسين الذين يحسن، بل يجب أن يكونوا ممن يتفهمون الأدب ويسيغونة لأنهم شركاء في إنضاج هذه الثمرة الأخيرة التي تعرض على الشاشة البيضاء، فإما أن تنجح كعمل أدبي وإما أن يقضى عليها بالفشل الذريع
فالمباعدة إذن بين الأدب وبين السينما وهم لا أصل له. ثم هو وهم أقصى عن التأليف للسينما كبار كتابنا وأحسن قصاصينا، وإلا فماذا كتب للسينما طه حسين ومحمود تيمور ولاشين ومحمود كامل ويوسف جوهر وتوفيق الحكيم، ومن إليهم من الأدباء الشباب والأدباء الكهول على السواء؟ لقد انصرف هؤلاء عن التأليف للسينما، فكانت النتيجة أن وكلت شركات الصور إلى مؤلفي الدرجة الثانية كتابة قصصهم، وكانت النتيجة أيضاً تلك الأشرطة المخزية بموضوعاتها وإخراجها وتهريجها. . . وغاب عن أئمة كتابنا أن أدب هذه الأشرطة هو الذي يمثل اليوم أدب القصة المصرية في الداخل والخارج أمام ملايين المتفرجين، وهو تمثيل يضع أدب القصة المصرية السينمائية في الوحل، وينشر ضدنا دعاوة سيئة بين شعوب شقيقة كانت تقدرنا أحسن التقدير فانتهت إلى الرثاء لنا إن لم تكن السخرية بنا. ومما يدعو إلى الأسف أن يضطر الإنسان إلى تسجيل انصراف طبقة كبيرة من المصريين المثقفين الممتازين عن شهود الروايات المصرية التي تعرض في دور السينما المختلفة. وذلك لما بلوه مراراً من انحطاط موضوعاتها وضعف تأليفها، وبعد الشقة بينها وبين الأفلام الأجنبية التي تغذوا سوق السينما المصرية وتنهب أموال المصريين نهباً تستحقه أحياناً ولا تستحق منه مليماً أحياناً كثيرة. . . والجيد من تلك الأفلام يفضح صناعة السينما في مصر بقدر ما يفضح المؤلفين المصريين. وهذا الجيد كثير جداً مع الأسف، وهو يعرض علينا ألواناً رائعة من الأدب الأمريكي والأدب والإنجليزي والأدب الفرنسي والأدب الروسي، ومن سائر الآداب العالمية التي اشتهرت بثروتها في القصص والدرامة بقدر ما اشتهر الأدب العربي في هذه الناحية، ذلك الفقر الذي عللناه في صدر هذا المقال،(529/22)
والذي لا يريد كبار أدبائنا إنقاذنا منه وستر فضيحتنا فيه. . . ولست أدري لماذا لا يتصل كبار أدبائنا بالسينما والتأليف السينمائي؟ ولست أدري كذلك لماذا لا يتصل مديرو الشركات السينمائية بهؤلاء الكتاب الكبار ويغرونهم بالمال الوافر والثراء الجم والربح الكثير إذا هم كتبوا لهم قصصاً طويلة تمثل حياتنا وتصورنا التصوير الصادق الذي لا يعرف الشعبذة ولا يدنو من التهريج ولا يفضحنا بين الأمم. إن شركات كثيرة في مصر تستطيع أن تسيل لعاب أحسن كتابنا بخمسمائة أو بألف من الجنيهات ثمناً لقصة يكتبها في شهر أو شهرين أو في ثلاثة أشهر. . . ومن قصصنا الجاهزة عدد كبير يصلح جداً للعرض السينمائي، وهو غني بموضوعاته، عظيم بأسلوبه، ثم هو بحالته الراهنة يصور من الحياة المصرية ألواناً مختلفة صادقة بحيث يزري بمئات من الروايات الأجنبية السمجة التي تضر تقاليدنا، وتفتك بأخلاقنا، وتشيع في نفوس شبابنا الرخاوة والطراوة والاستخذاء. يجب أن يدرك كل أديب مصري وطأة استعباد الأفلام الأجنبية لنا، ويجب أن يتعاون الأدباء مع الشركات في إنقاذنا من نير الأدباء الأجانب الذين يفرضون ثقافتهم وأفكارهم علينا، بكل ما في هذه الثقافة وتلك الأفكار من مزايا وأضرار، والذين ينسخون أدبنا القومي الناشئ بآدابهم الفتية الناضجة. . . إننا نحمي الصناعات المحلية الناشئة بزيادة المكوس، فلا أقل من أن نحمي إنتاجنا الأدبي بإغراء كبار الكتاب عندنا بالمساهمة في التأليف السينمائي، وإقناع الشركات المصرية بمضاعفة الأجور لهؤلاء الكتاب حتى يرفعوا مستوى القصة السينمائية ويجنبوها هذا الإسفاف الذي ينتهي إلى الرثاء والسخرية، وانصراف الطبقة المستنيرة عن شهود الروايات المصرية. . . على أن داعي الوطن واللغة والأدب كان ينبغي أن يقنع هؤلاء الكتاب وتلك الشركات بأن يسووا المسألة بينهم فيخدموا الوطن واللغة والأدب مخلصين، كما كان ينبغي أن ينظر إلى القضية من زاويتها الاقتصادية أيضاً، إذ أصبح من أشد الجهل أن تتعامى الدولة وتتعامى الأمة عن هذه الألوف الضخمة من الجنيهات التي تسلك سبيلها من جيوب المصريين إلى جيوب شركات السينما الأجنبية، تلك الألوف من الجنيهات التي كان ينبغي أن يكون لأدبائنا وشركاتنا كفل كبير منها إن لم يكن ينبغي أن يكون لهم معظمها. . . إن معظم دور السينما في القاهرة والإسكندرية وفي كثير من مدن الأقاليم هي دور أجنبية ونحن نشهد تلك الجموع الزاخرة من علية المصرين التي تتردد على تلك(529/23)
الدور يومياً، وبالرجوع إلى دفاتر ضريبة الملاهي نعلم أن متوسط دخل إحدى دور السينما بالقاهرة يرتفع مرات كثيرة إلى خمسمائة جنيه مصري كل يوم أي إلى خمسة عشر ألفاً من الجنيهات شهرياً، وفي القاهرة أربع من دور السينما يقرب إيرادها اليومي من هذا المستوى، فإلى جيوب من تذهب هذه المبالغ الضخمة؟ إنها تذهب إلى جيوب الأجانب، وقل أن ينتفع المصريون منها إلا بأجور الخدم! فأي هوان ينزل بالقومية المصرية والكرامة الوطنية بعد هذا الهوان؟ هذا في الوقت الذي يتضور فيه كثير من أحسن أدبائنا جوعاً. . . وفي الوقت الذي يهدد فيه كبار الممثلين بهجر المسارح. . . من أجل أزمتهم المالية. . . ونحن لا ننكر أننا المسئولون قبل غيرنا عن هذه الكارثة، والمسئولية موزعة على الدولة والأدباء والشركات. . . فالدولة مقصرة لأنها تهمل المسرح المصري على النحو الذي بيناه في مقالاتنا الكثيرة السابقة، والأدباء مقصرون لأنهم لا يساهمون في التأليف القصصي والتأليف المسرحي، وهما دعامتا الإنتاج السينمائي، والأدباء الكبار يتركون للكتاب الصغار الذين لا يعرفون من فن القصة ولا فن الدرامة شيئاً مهمة إمداد السينما المصرية الناشئة بقصصهم المريضة الهزيلة، والشركات السينمائية مقصرة لأنها كانت تستطيع أن تغازل أدباءنا الكبار بشطر من أرباحها الوفيرة فينتجوا لها القصص الشائقة التي تضاعف مكاسبهم وترتفع بمستوى الشريط المصري الذي أصبح الشرق العربي كله يعتمد عليه في تغذية جماهيره بهذا اللون الحبيب من ألوان المتعة الذهنية
وأخشى ما أخشاه هو أن يكون أدبائنا الكبار أيضاً ينظرون إلى السينما كشيء لا تصله بأدبهم الرفيع صلة. . . تلك النظرة الفجة التي من أجلها كتبنا هذا المقال. . . وأخشى ما أخشاه هو أن يكون الحال كذلك، لأنهم جميعاً، إذا استثنينا الدكتور هيكل، لم يساهموا قط في نهضة السينما المصرية مع أن معظم الذين جربوا كتابة القصة من هؤلاء الكتاب قادرون على تغذية السينما بالروائع التي ترتفع كثيراً إلى أفق الرواية السينمائية الأجنبية، بل إن كثيراً من قصصهم التي انتهوا منها وقدموها للسوق الأدبية صالح للسينما المصرية، وهو إن قدم للسينما يرتفع بها ويستر هذا الخزي المؤلم الذي يشيع في الأشرطة المصرية بلا استثناء. . . وإنه لمن المضحك بل أنه لمن البله ألا تخرج شركاتنا المصرية قصة لأحد من كبار أدبائنا أمثال المازني وطه حسين ومحمود تيمور ومحمود كامل ولاشين(529/24)
وجوهر ومن إليهم، في حين أنها تنفق جهودها الكبيرة على هذه القصص الخائبة والروايات المخزية التعسة التي تؤذي الأبصار وتصدع الرؤوس وتحط من سمعة الأدب المصري في كل مكان تعرض فيه على أقل الناس بصراً بالنقد الأدبي ومعرفة بفن القصة أو الدرامة. . . لقد آن أن ننظر إلى هذه القضية من ناحية الكرامة القومية أولاً، ومن ناحيتها الاقتصادية ثانياً. . . وقبل هذا وذاك، ينبغي أن ننظر إليها من حيث علاقتها الوثيقة بالأدب وبالنهضة التمثيلية. . . فالأشرطة السينمائية أدب صرف، وهي المرآة الجديدة التي نطلع فيها على نقائصنا ومزايانا، كما تطلع فيها جميع الأمم على تلك النقائص وهذه المزايا. . . ثم هي تصح أن تكون كتباً مصورة ناطقة حية يرانا فيها أحفادنا بعد مئات السنين، فإما أن يقدروا جهودنا إذا رأوا شيئاً حسناً وإما أن يضحكوا على جدودهم هازئين مستسخرين، وأحسبهم لن يفعلوا غير ذلك إذا لم تصلهم عنا هذه الأفلام المخزية التي ألفها لنا ولهم أنصاف المتأدبين منا وأرباعهم ومن لا تصلهم بالفنون الأدبية صلة ما. . . أما علاقة السينما بالنهضة التمثيلية فلا يجحدها أحد. . . وأقسم لو أن لنا ثقافة مسرحية غبر عليها روح طويل من الزمن، وأقسم لو أن لنا مسرحاً مصرياً محترماً يضارع في رقيه المسارح الأوربية أو المسرح الأمريكي. لكانت لنا نهضة سينمائية عالية كافية لأن تلفظ من ذاتها موضوعات تلك الأفلام المصرية التي أخرجت إلى الآن في غفلة من تأخرنا في هذا الميدان
ولا يفوتني قبل أن أختم هذه الكلمة في العلاقة بين الأدب والسينما أن أنوه بتاريخنا المليء الحافل بالأحداث الجسام، فقد آن لنا أن نخرجه مصوراً ناطقاً تشهده الجماهير فيثير فيها الكبرياء الوطني، وتطلع منه على ما لم تكن تعلم من مشاهد البطولة الوطنية وأمجاد العصور الخوالي، وما عمل الآباء والأجداد في سبيل مصر الخالدة من صنائع العزة وفعال العظمة. . . نحن إن صنعنا ذلك خلقنا عملاً أدبياً جليلاً لجميع كتابنا وأدينا لتاريخنا خدمة تخلد على وجه الزمان، ثم يسرنا لناشئتنا استذكار هذا التاريخ الطويل الذي نرهقهم بمذاكرته في بطون الكتب مع ما في هذه المذاكرة الصامتة التافهة البليدة من منافاة لروح التربية الحقة، وما تنتهي إليه من قلة الغناء. . . بعكس مشاهدة التاريخ المصور الناطق السينمائي الذي يلصق بالذاكرة، ويخلد فيها، وينمي في الطالب تلك الملكات التي يفتقر إليها(529/25)
معظم الطلبة المصريين.
دريني خشبة(529/26)
المشكلات
2 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
بينا في مقالنا السابق جهود رجال العلم والتربية في سبيل إصلاح تعليم اللغة العربية، تلك الجهود التي إن أخطئها التوفيق فلن يخطئها أن تكون حقيقة بالشكر وعرفان الجميل
إن هذه الجهود المختلفة دليل على عنايتهم باللغة العربية، وحرصهم عليها، ومعرفتهم بقدرها، ودليل على أنهم يحبون شباب هذه الأمة، ويودون أن يسهلوا عليهم ما صعب، ويقربوا إليهم ما بعد، وأن يسهروا ليناموا، وأن ينصبوا لهم ليجدوا السعادة والراحة
وهذا وحده جهد مشكور، وصنيع غير مكفور، جدير بالإجلال والتعظيم، سواء أوفقوا فيما حاولوا أم لم يوفقوا.
ورب قائل يقول: لقد وضعت أن المعاهد في مصر أخفقت في تعليم اللغة العربية، وأخذتها مقدمة مسلمة، وكانت بحاجة إلى أن تقيم عليها الدليل، فلعلها لم تخفق في تعليم اللغة، ولعلها نجحت أعظم النجاح، ولعل ما هو مشهور بين رجال التعليم من أنها أخفقت في هذه المهمة - من القضايا التي اشتهرت لغرض من الأغراض، فإذا نقدت تبين خطؤها. فلسنا نسايرك حتى تقيم الدليل على هذا الإخفاق
وأقول إني أوافق هذا القائل أنه لابد من أن يقام الدليل على هذه المقدمة، ولا يصح أن تترك دون بيان
إن المرء يكون قد أتقن لغة ما إذا كان يتكلم ويقرأ ويكتب بهذه اللغة، جارياً على قواعدها، مراعياً قوانينها، لا يلحن فيها ولا يخطئ، وأن المدرسة تكون قد نجحت في تعليم اللغة إذا كان الذين تخرجوا فيها جميعهم أو أكثرهم على هذه الصفة، فهل من تخرجوا في مدارسنا كذلك!
أما الكلام باللغة العربية فلا تكاد تجد أحداً يتكلم بها، فالشعب كله يصطنع في التفاهم والتخاطب اللغة العامية، وليس من الناس من يصطنع اللغة العربية إلا في الندرة وعلى سبيل الشذوذ، حتى أن دروس اللغة العربية تلقى بالعامية، فقد دخلت العامية على العربية(529/27)
حجرات دروسها، وغزتها في معاقلها، وأخص الأماكن بها
ومن المضحك حقاً أن تجد مدرس النحو أو الصرف أو البلاغة أو مفسر النصوص العربية من شعر ونثر يلقي دروسه وقواعده بلغة عامية، لا يراعي ما يقول من قوانين، ولا يقوم لسانه بما يسرد من قواعد
فأما الكتابة والقراءة بها، فلا يقرأ باللغة الفصحى ولا يكتب إلا فئة قليلة، تمكنت من حفظ لسانها من الخطأ عند القراءة والكتابة، وجمهرة المتعلمين لم يصلوا إلى هذه المنزلة، فالشاب يتخرج في المدرسة، أو في المعهد، ولسانه لا يكاد يقيم جملة، أو يعرب كلاما، ولا يستطيع أن يعبر عن خلجات نفسه بأسلوب صحيح مستقيم
وإذا لم يكن هذا إخفاقا، فماذا يكون الإخفاق؟
وكما لم توفق مدارسنا في الغاية لم توفق في الوسيلة، أو قل أنها لم توفق في الغاية لأنها لم توفق في الوسيلة؛ فالوسيلة إلى تعلم اللغة هي دروسها، ولما تستطع مدارسنا أن تحببها إلى التلاميذ، فهم يأتون إليها متثاقلين، ويستمعون إليها كارهين، وهم يبغضونها بغضاً يملأ ما بين جوانحهم. فالنحو عندهم ثقيل بغيض، وكذلك الصرف، وعلم البيان الذي قال فيه بعض العلماء - أنه لا ثواب في تعلمه - يشير إلى أنه لا مشقة فيه على المتعلم، وهو يطلب لما فيه من لذة، فجزاؤه فيه، قد بغضته إليهم هذه المدارس أيضاً؛ وليس العيب في ذلك على الشباب، لأنهم يدرسون الهندسة والحساب والطبيعة في غير ضيق ولا حرج، بل يدرسونها في شغف ومحبه، إنما العيب على دروس اللغة العربية وحدها.
فلا عجب بعد ذلك إن لم ينتفعوا بهذه الدروس، لأن الانتفاع بالشيء على قدر المحبة له، والرغبة فيه
هذا شيء مخيف حقاً، له نتائجه الخطيرة، فإما أن نعمل على تسهيل الانتفاع باللغة العربية وتيسيرها على الدارسين والمتعلمين وتزيين علومها في قلوبهم، وإما أن نتحمل أمام التاريخ والأجيال عواقب هذا التفريط والإهمال، لأن الشيء البغيض المملول لا يعمر طويلاً، ولا يمكن أن يكره الناس عليه دائماً
وهناك أمر آخر ينتج من الخيبة في تعليم اللغة العربية، يخشاه رجال الاجتماع أعظم الخشية، ويشفقون منه أشد الإشفاق، وهي بقاء الحال على ما هي عليه في مصر، من(529/28)
اصطناع لغة للخطاب، وأخرى للكتاب، بينها وبين جمهور الشعب بون شاسع، وعقاب صعاب
وإنما كانوا يخشون، ويشفقون منه، لأن ذلك يؤدي إلى إطالة أمد جهل الأمة وتأخرها، لأن العلم والأدب قد كتبا بلغة لا يفهمها جمهور الشعب، وهي العربية، فلا سبيل إلى وصوله إليها
أما إذا نجحت المدرسة في تعليم العربية، وتكلم بها المتعلمون وهم مخالطون للشعب، فعلى مرور الزمن يسهل عليه فهم اللغة العربية ويتسرب إليه كثير من مفرداتها وتراكيبها، وربما علمها فصار لغة الخطاب، لغة الكتاب، وهذا كسب ليس بالقليل، فكل ما كتب من علوم وأخلاق وآداب يكون حينئذ في متناول جمهور الشعب، فيرقى إلى الذروة التي ينشدها له المصلحون
وهناك طائفة من رجال الاجتماع ترى أنه إذا خابت المدرسة في تعليم العربية، وخابت الأمة في اصطناعها ورفع لغة الحديث إلى اللغة التي تكتب بها العلوم والآداب، فلا مناص من كتابة العلوم والآداب باللغة التي تفهمها الأمة، لتنتفع بها، ولتبلغ الأمل المنشود، لأنه خير للأمة أن تخسر اللغة العربية وتكسب العلم الذي به نماء عقولها، والآداب التي بها تقويم أخلاقها، من أن تربح العربية وتخسر العلم والأدب
فأنتم ترون أن الأمر جد خطير، وأنه يعني حياة اللغة العربية أو موتها، ونجاح المتعلمين في تعلمها أو إخفاقهم، ورقي الأمة أو انحطاطها
لذلك يجب أن نعمل جاهدين، وأن نجهد مخلصين، حتى نعرف الأسباب في هذا الإخفاق، وأن نفعل الممكن وغير الممكن لنجعل تعليمها ناجحاً، ولنحبب درسها إلى التلاميذ، وبذلك نتقي هذه النتائج السيئة، ونوفر على الشباب وقته وجهوده ونحمي اللغة العربية من الضياع والموت
هذا ما دعا رجال العلم إلى معالجة هذه المشكلة
وهذا ما دعاني أيضاً إلى أن ألقي بدلوي في الدلا، وسأعرض بحثي على القارئين، أو أولي الأمر في مصر، ولعل هذه الدعوة تلقى ما أقدره لها من توفيق - إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله(529/29)
محمد عرفة
عضو جماعة كبار العلماء(529/30)
مقدمة ابن خلدون
للأستاذ محمود أبو ريه
كنا نسمر في إحدى الليالي مع الأستاذ الكبير صاحب الرسالة، فكان من حديثه الممتع الهادئ أن العلامة المحقق ساطع الحصري قد ألف كتاباً فريداً جعل موضوعه (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) تلك التي لم تخرج القرائح العربية مثلها، وفي عبارات عذبة أنشأ الأستاذ الزيات يشيد بفضل هذا العمل الطريف. وقد أثار هذا الحديث المستوعب شوقنا إلى هذا الكتاب، وزاد هذا الشوق لما قرأناه اليوم مقدمته النفيسة في الرسالة
ولما كان العلامة الحصري قد حدثنا في كتابه (إن جميع طبعات المقدمة التي صدرت عن مطابع القاهرة وبيروت مشوبة بنواقص كثيرة وأغلاط فادحة - وإنها ناقصة - من حيث المتون والفصول معاً) فإني أنشر كلمة لها علاقة بما حقق هذا العالم الجليل وفيها نفع لمن أراد أن يقف على تاريخ هذه المقدمة
في صيف سنة 1923 قرأت بإحدى المجلات كلمة لأحمد تيمور باشا رحمه الله ذكر فيها أن كل طبعات مقدمة ابن خلدون لا تطابق الأصل الصحيح منها، وإنه يوجد بمكتبة زكي باشا نسخة خطية من هذه المقدمة صححها المؤلف بقلمه فسررت بهذا النبأ وتوجهت باستفهام إلى زكي باشا على جريدة المحروسة عما نشره تيمور باشا، وكان ذلك في 17 أغسطس سنة 1923 فأجاب رحمه الله ببضع مقالات على هذه الجريدة تكلم فيها عن طرف من تاريخ ابن خلدون ومقدمته. وأنا لا أعرض إلا لما قاله عن هذه المقدمة النفيسة، وفيه العلاج لما نحن بسبيل الكلام فيه اليوم.
ذكر رحمه الله أن هذه المقدمة الفريدة قد ظل أمرها مهملاً خمسة قرون كاملة، فقد تم تأليفها في سنة 775هـ، ولم تظهر إلا في سنة 1274هـ: سنة 1857م. وكان أول من عثر على هذا الكنز رجل نمساوي اسمه آسرلي، فقد وقف في دار كتب (ويانة) عاصمة النمسا على نسخة مخطوطة من هذه المقدمة، ونقل كثيراً من فصولها، وترجمها إلى اللغة الطليانية، ثم نشرها مع بعض ملاحظات وتعليقات في المجلة المعروفة باسم الخزانة الطليانية فكانت أبحاثه مدعاة لتنبيه علماء أوربة إلى العناية بهذا الأثر العربي الكريم (ولما جاء المسيو آسرلي إلى مصر قنصلاً لدولته لدى محمد علي باشا كان مما عمله أن حض(529/31)
محمد علي باشا على الانتفاع بهذا الكتاب وطبعه فترجم إلى اللغة التركية ومطبع بمطبعة بولاق وكذلك طبع الأصل العربي منها
وفي الوقت الذي طبعت فيه المقدمة في مصر كان العلامة كتر مير الفرنساوي يطبعها في باريس وقد طبعت هذه المقدمة بالمطبعة الأميرية طبعة ثانية في سنة 1284هـ
وقد ذكر زكي باشا (إنه بعد ما تحقق وجود المسخ والبتر والتشويه والتحريف في جمع ما صدر من الطبعات العربية لمقدمة ابن خلدون آلى على نفسه أن يبحث عن نسخة خطية تكون وافية بالمرام حتى قيض الله له الظفر بها في خزانة المرحوم عاطف أفندي بالقسطنطينية). وهذه النسخة قد صححها ابن خلدون بقلمه، وذلك أنه لما عاد إلى القاهرة من عند تيمورلنك طاغية التتار رأى الناسخين قد شوهوا محاسن مقدمة تاريخه، فضاقت نفسه وتناول نسخة من التي أصابها المسخ وأقبل عليها بنفسه وتولى تصحيحها بقلمه، وكان من هذا التصحيح أن حذف بعض الكلمات وطائفة من العبارات ووضع هوامش كثيرة بخطه. فإذا أعوزه المكان أضاف (طيارة) أي جزازة ويلصقها بين الصفحتين ويدل على موضعها دلالة ظاهرة واضحة، وقد انتقلت هذه النسخة من مصر إلى الآستانة على أثر سقوط مصر بين يدي السلطان سليم سنة 922هـ، وقد عثر عليها زكي باشا في سنة 1910 ولم يلبث أن أخذ صورتها الفوتوغرافية وبلغ ما أنفقه عليها ستين جنيهاً كاملة، وقد كتب على هذه المقدمة العبارة الآتية: (هذه صورة المقدمة من كتاب العبر في أخبار العجم والبربر، وهي علمية كلها كالديباجة بكتاب التاريخ قابلتها جهدي وصححتها، وليس يوجد في نسخها أصح منها وكتب مؤلفها عبد الرحمن ابن خلدون وفقه الله تعالى وعفا عنه)
ولما وقفت من زكي باشا على نبأ هذه المقدمة وكان الشرق جميعا َفي حاجة إلى الصورة الصحيحة منها، رجعت إلى الأستاذ الكبير رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، راغباً إليه أن تقوم اللجنة التي من أغراضها نشر الأسفار القديمة النافعة بطبع هذه المقدمة، وهي خير ما ينشر من ذخائرنا العربية، فجاءنا منها جواب مؤرخ 16 أغسطس سنة 1927 تقول فيه: إن اللجنة ستضع هذا الاقتراح موضع البحث. ولما خاب رجاءنا لدى اللجنة رجعنا إلى وزارة المعارف فطلبنا منها مراراً أن تعنى بنشر هذا الثر النفيس فتطبعه طبعة صحيحة، ولكنها أصمت آذانها، وغبرت السنون على هذه المقدمة وهي على تحريفاتها(529/32)
وأغلاطها
هذا ما رأينا نشره، ولعلنا اليوم - بعد أن رأينا من العلامة الحصري تلك العناية الفائقة بهذه المقدمة - نطمع في أن يزيد من فضله على العلم فيجمع بين النسخة المطبوعة بباريس وبين التي بالخزانة الزكية، وبعد المقابلة بينهما يخرج منهما نسخة صحيحة يتولاها بما تحتاج إليه من الشرح والتعليق
هل رجاءنا اليوم يتحقق لكي نظفر بما كنا نطالبه منذ عشرين سنة، وينتفع هذا الجيل المثقف بذلك الكنز الثمين، ثم ينهض فيؤدي واجبه نحو مؤلفه العظيم؟
(المنصورة)
محمود أبو رية(529/33)
تصحيحات واجبة
في الأدب والأخلاق
للأستاذ سيد قطب
في عدد الرسالة الماضي تعليقان على مناقشاتي مع الأستاذ مندور، لا يخفى على القراء ما فيهما من تحامل مكشوف يرتدي مسوح النقد الأدبي
والذي يعنيني هنا هو إثبات بعض التصحيحات الواجبة لأوهام ومواضعات خاصة، تجد لها صدى في نفوس العوام وأشباه العوام
يقول الأستاذ دريني خشبة في مقال بعنوان: (أعصابكم أيها الأدباء) ضمن حديثه عن (قضية الأدب المهموس): (نزغ شيطان الجدل بين الأديبين المتحاورين، إذ رمى أحدهما الآخر بما لا يليق أن يرمى به رجل رجلاً أبداً. . . ولعل الذي سب أخاه في كمال الرجولة أظلم)
هذه المسألة تحتاج إلى تصحيح؛ فأنا لم أكن في موقف سباب حين أشرت في حديثي إلى هذا الشأن، إنما كنت في معرض تعليل نفسي لظاهرة خاصة مطردة في فهم صاحبي للأدب والشخصيات؛ وكنت ألمح آفة نفسية خاصة تجنح به إلى إيثار لون من الأدب على لون، وشخصية أدبية على شخصية في رتابة واطراد
ومما لا شك فيه أن لبعض الآفات النفسية أثراً حاسما في الحكم على الأدب والأشخاص والحياة كلها؛ ولابد من تعليل هذا الأثر الخفي وكشفه للقراء ليأخذوا حذرهم من إنسان يقف نفسه موقف الناقد للفنون والرجال، وطبعه مئوف متأثر بآفته فيما يصدر من أحكام
ففهم هذا التعليل على أنه (سب) عامية في الذهن والنفس تحتاج إلى تصحيح. والخضوع لهذا الفهم والإحجام عن هذا التفسير تبعاً لذلك - عامية في معايير الأخلاق لا أخضع لها وفي نفسي بقية من الارتفاع فوق مستوى العوام
والأستاذ دريني هو و (الأديب زكريا إبراهيم) يأخذان علي شيئاً آخر هو الاستشهاد بقطعة من شعري بجانب قطع أخرى للعقاد، مشايعين في هذا الأستاذ مندور
ولست أتردد في مجابهة هذا الوهم بأنني لا أحفله؛ لأنه نوع من عامية الذوق والتفكير. فأنا لم أكن في معرض تعداد وبيان لمزايا جميع الشعراء المصريين، وإنما كنت في معرض(529/34)
استشهاد على وجود لون خاص من ألوان الأدب في شعر المصريين، ووجوده بصورة خير من الصورة التي يحبها الأستاذ مندور. فإذا وجدت في شعر العقاد ما يصلح لإثبات الغرض فلن يقعدني التحرج الاصطلاحي السخيف عن الاستشهاد به لمجرد أنني (تلميذ) للعقاد. وإذا وجدت في شعر سيد قطب ما يصلح لإثبات هذا الغرض فلن يقعدني التواضع الاصطلاحي الكاذب عن الاستشهاد به لمجرد أنني سيد قطب!
وهذا التواضع الكاذب وذلك التحرج السخيف نوعان من العامية في التفكير والأخلاق أرتفع بنفسي عنهما، لأنني لا أتلقى معاييري الفكرية والخلقية من العوام وأشباه العوام
وقد يحسن من باب (التصحيح الواجب) كشف الأسباب الصغيرة الخفية التي تحمل بعض الناس على أن يلبسوا هذا المسوح!
فأما الأستاذ (دريني خشبة) فلتحامله أسباب ظاهرة يعرفها قراء الرسالة، فيما شجر بيني وبينه من جدل على صفحاتها منذ أشهر، على أنه إنما يصدر في هذه المسألة عن الروح التي يصدر عنها فيما يقتحمه من مسائل النقد الأدبي كلها ولست أدري لم لا يعرف الناس أفضل مواهبهم فيستخدموها ويدعو ما لا يحسنون من الأمور؟ ولله في خلقه شؤون!
أما الأديب زكريا إبراهيم: فلست أعلم له أو عنه شيئاً سوى أنه يقول عني: (إنما راح يحشد أقواله وأقوال الأستاذ العقاد، كأنما ليس في مصر غيرهما). فقد كان يجب إذن أن أحشد أقوال الأديب (زكريا إبراهيم) هو الآخر!
وأنا أعترف لحضرته أنني مقصر في البحث، وسأسأل الإنس والجن عن شيء له ولأمثاله أحشده في بعض المناسبات! فإن لم أفعل، فهو كاسب على كل حال بمناقشته في هذا المقال!
سيد قطب(529/35)
الجريح. . .
للأستاذ محمود عماد
تَوَلّى جريحاً مِنَ المعمعَهْ ... يُريقَ على دَمِهِ أَدْمُعَهْ
ويحنو بقلبٍ له موجَع ... على كبدٍ دونه موجَعه
ويُخفي بيُسراه موضعَه يُمنَى ... بها منه قد طاحت الموقعه
لقد غِشيَ الحربَ (كُلا) فضَيّ ... عَ (بَعضاً) وعاد ببعض معه
إلى أين يمضي بتلك البقايا ... وماذا انتوى اليومَ أَن يَصِنَعه؟
أللِطبِّ يُرجعُه (كاملاً) ... وهل يمكن الطبَّ أن يُرَجعه؟ ِ
ألِلقبرِ والقبرُ رغمَ التأ ... هبِ لم يعتزمْ بعدُ أن يَبلعَه؟
لقد عزّ حتى المماتُ عليه ... وضاق به كونُه عن سَعه
ومِن بعدِ َلأيٍ هداه الوَجَى ... لِصومعةٍ، فإلى الصومعى!
إلى حيث يَهربُ مِن أمسهِ ... ويهجرُ في أسفٍ مدفه
ويَنْسى الذي كان فيما يكو ... ن ويَسحبُ فوق الحراك الدّعه
ويَسمعُ مِن (شِعرِه) أنّ (ذِكرا) ... يعوّضه بعدُ ما ضيَّعه
وأنّ على شاطْئ (الخلدِ) بيتاً ... سيأخذ فيه غداً مضجعه
فأقْنِعه، أقنعه، يا شِعرَه ... إذا كان في الطوقِ أن تقنعه!!
محمود عماد(529/36)
البريد الأدبي
لفظتان
اللفظتان هما (الفزاعة) فزاعة الزرع، و (التحويش) تحويش المال أو غيره. وقد ظنتا أنهما عاميتان، وإنما هما عربيتان صحيحتان
جاء في (أساس البلاغة) للأمام الزمخشري: (نصب خيالاً في مزرعته وهو الفزاعة، وعن الشعبي: وجدت رجال هذا الزمان خيالات. . .)
ومثل الفزاعة والخيال (المجدار) قال الإمام التبريزي في (شرح ديوان الحماسة) في تفسير هذا البيت في باب مذمة النساء:
إصرميني يا خلقة المجدار ... وصليني بطول بعد المزار
المجدار شيء ينصب في المزارع للسباع والطير يقال لها (الفززاعة)
وقد وردت هذه اللفظة الأخيرة بالقاف والراء (القراعة) في الطبعة القديمة والطبعة الحديثة التي حققها العالم الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد. وإنما هي الفزاعة. فزع الله عن القلوب
وجاء في اللسان عن الأزهري صاحب تهذيب اللغة وفي القاموس والتاج: (حوش إذا جمع، والتحويش التجميع) فيقال لكل عامل في عمل ما: اقتصد أيها العامل في معيشتك، ووفر من عمالتك، وحوش، حوش؛ إن (المال سلاح المؤمن في هذا الزمان) كما قال الإمام سفيان الثوري ومن أمثال بغداد: المال، المال. وما سواه محال
ناقد
إلى الدكتور زكي مبارك
قالوا لي يا دكتور أنك تريد أن تهجم على (حسن القاياتي) الأديب الذي خلقته الظروف، ورفعته السياسة، وجاملته الأدباء بقدر ما لبيته القديم في النفوس. وألاعيب (مصطفى القاياتي) في السياسة. . . وأنت يا سيدي الدكتور قد آذيتني أعنف الإيذاء يوم نشرت مقالك عن السهرات الأدبية في رمضان في جريدة (البلاغ) حيث قلت: إن البيت (القاياتي) قد خلا من الرائد. وعاف مجلسه الأديب. ولم يبقى فيه إلا وجه السيد (حسن) أبقاه الله!(529/37)
وهي غمزة أعرفها منك يا دكتور وأحتسبها عليك، وأجازيك عليها جزاء من أخلص للأدب، وامتزجت نفسه به طوال أربعين عاماً بين شاعر يدرسه، أو بحث شائق في اللغة يكتبه. . . ثم ماذا؟ ثم يكون حظه من ناشئة البيان منتكساً، وقلمه بين تلاميذه منكسراً، وأدبه بين الأدباء ضعيفاً. . . مما جعل الدكتور تحدثه نفسه بالهجوم عليه، والنيل منه!
لك الله يا دكتور مبارك! فلقد كنت أود أن تكون ألاعيبك بين ناشئة الأدب فتحملهم على احترامك بالشدة، وتروضهم على مطالعة أدبك بالعنف. . . خير لك من أن تهاجم رجلاً قد هاجم شوقي وحافظ في عنفوان أدبهما، وضخامة شخصيهما، وخلود اسميهما، دون أن يتطاولا عليه ما تطاولت، أو ينالا من شخصه ما نلت. . . إن اللغة العربية يا دكتور لم تجد لها حصناً منيعاً من سنوات عديدة إلا الدار (القاياتية)، ولن تجد من يذود عن حماها إلا القلم (القاياتي) العتيد؟! فسل نفسك يا دكتور يوم أن كنت صديقاً وراوية للسيد (مصطفى) أن (حسن القاياتي) لن تنال قلمه هذه الترهات، ولن تؤثر في نفسه هذه الصراعات العنيفة التي ترسلها دون أن تذكر الدار القاياتية، ومجدها القديم في اللغة، وحاضرها الجديد في البيان. . .؟! تذكر كل هذا يا دكتور. وقد أعددت لكتابك الفريد (النثر الفني) عشرين مقالاً أرجو أن يتسع صدر (الرسالة) فتنشر لي هذه المحاولات الجريئة في النقد، دون أن تجامل (محمد عبد السلام مبارك)
علها تظهر للناس الكاتب الأول والشاعر الأول زكي مبارك؛ ولكن بعد أن أسمع منه على صفحات (الرسالة) الزهراء كلمة الحق. . . والحق أحق أن يتبع. . .؟!
(دار القاياتي)
حسن القاياتي
اللجنة التي يحتاج إليها الأزهر
ذكرت مجلة الرسالة الغراء في العدد (527) أن صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، أصدر قراراً بتأليف لجنة لدرس حالة الكليات والمعاهد الأزهرية، ولجعل مهمتها بحث الأسباب التي أدت إلى ضعف نتائج الامتحانات في الكليات والمعاهد، وإني أرى أن هذه الأسباب واضحة لا تحتاج إلى بحث، وقد بينها المصلحون فيما كتبوا عن(529/38)
إصلاح الأزهر، ولكن علاجها شائك يتهيبه من يعرفه، لأنها ترجع إلى كتب الدراسة التي قال الأستاذ الأكبر في مذكرته المعروفة إنه لا يوجد فيها روح العلم، ومتى كانت كتب الدراسة في المعاهد بهذه الحالة فكل فساد في المعاهد راجع إليها، ولكن الذي يشارك الأستاذ الأكبر في نظره إلى تلك الكتب قليل جداً، ومن هنا كان علاجها شائكاً يتهيبه كل من يعرفه، ويحتاج كما قال الأستاذ الأكبر في تلك المذكرة إلى خطوة جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، ولا يبالي بما تحدثه من ضجة وصريخ، فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة
فاللجنة التي يحتاج إليها الأزهر هي اللجنة التي تكون مهمتها وضع كتب يوجد فيها روح العلم، وتفتح في علومنا باب الاجتهاد والتجديد، وتقضي على ما فيها من جمود، وهنالك يصلح كل شيء في الأزهر، ويقبل الطلاب برغبة على العلم، فتحسن نتائج الامتحانات، ويعود إلى الأزهر مجده العلمي.
(ص)
حول المسرح المصري والدرامة المنظومة
إلى الأستاذ دريني خشبة
أشكرك على أنني خطرت ببالك وأنت تحث شعراء الشباب على المشاركة في نظم الدرامة، وهي إشارة منك تدل على خلتين من خلال أهل الفضل في البحث: حسن تتبعك لما ينشر ويكتب؛ وحسن ظنك فيمن تراهم موضعاً لإحسان الظن
وكم كنت أود أن لا أقول بشكر ما أوليتني من حسن ظنك، وسمتني من رقيق عتبك إلا وفي يدي مسرحية من الشعر أهديها إليك جزاء ما أوليت المسرح المصري من جميل عنايتك؛ ولكنني راجٍ أن تنظرني حتى يتهيأ من الإنتاج ما يحقق ظنك الحسن
ولقد فاتك - غير عامد - أن تذكر الشاعر العربي الحضرمي (الأستاذ علي أحمد باكثير)؛ فهو شاعر أصيل الطبع، متمكن من لغة شكسبير، وله مسرحيات: إخناتون ونفرتيتي، سلامة القس، وا إسلاماه، وقصر الهودج؛ وكلها شعر طليق أو مقيد من طراز رفيع
على أن هذه مسألة شخصية دعاني إليها أن أنصف شاعراً عربياً في معرض فتحته أنت(529/39)
بذكر الأشخاص وأخشى أن يتسع الباب عليك. . . أما مسألة المسائل فهي أن حبك للشعر العربي والمسرح العربي هو حب يحملنا على الاستجابة لفكرتك، والإعجاب بصدق دعوتك. والسلام.
محمد عبد الغني حسن
إلى الأستاذ دريني خشبة
كنت أيها الكاتب الفنان أطالع مقالك الممتع (المسرح المصري والدرامة المنظومة)، والشاعر (حسن القاياتي) في زهو بما بلغ نقدة المسرح من الرأي السديد والنظر الثاقب. . .
ولكنك أيها الكاتب قلت: إن المسرح قد خلا من التأليف المسرحية المنظومة بعد شوقي؟! ألم تقع عينك عند الوراقين على الرواية الضاحكة التي نظمها الشاعر (حسن القاياتي)؟ فجاءت تحفة للفن، ونجعة للرائد، وهدية قدمها صاحبها إلى مسرح الخيال المنشود؟
ولكنها لم تجد من يبعثها من مرقدها، ولم تمتد إليها يد النقاد حتى يقدرها الفن، ويرجع أصداءها الفنانون!
إن رواية (القاياتي) يا سيدي الكاتب مثلتها الفرق اللاعبة في داره الأنيقة (بالسكرية) في شهر رمضان من العام الماضي. وستمثلها الفرق الحبيبة في داره في شهر رمضان من هذا العام
فهلا! تتفضل أيها الكاتب الألمعي. فندعوك لمشاهدة عرضها على المسرح (القاياتي) المتواضع، فتبعثها كما بعثت روايات عديدة حرية أن تتوارى أمام هذه المسرحية الفذة. . . التي تمثل لوناً من ألوان الخلاعة في (بلاط المأمون)
لنا أن ندعوك، ولك تجيب. قبل أن تتحدى شعراء مصر النابهين.
علي فوده
مجمع فؤاد الأول للغة العربية
المسرح المصري(529/40)
قرأت في العدد الأسبق من هذه المجلة الزهراء مقال الأستاذ دريني خشبة عن (المسرح المصري)، فعنت لي بعض آراء أثبتها في هذه العجالة
كان مقال الأستاذ منصباً على ناحية خاصة دار الكلام حولها ولف، وهي (كسل) شعرائنا وعدم اهتمامهم بنظم المسرحيات الشعرية
صحيح إن الدرامة الشعرية لها هذا التأثير الذي تحدث عنه الأستاذ دريني، ولكن في أي البيئات والأحوال والظروف؟
عندنا الكثير من الشعراء الواقفين على أحدث التيارات الفكرية، ولكن أحدهم لم يفكر نظم مسرحية، فكل نتاجهم لا يخرج عن (القصائد والمقطوعات والموشحات) لماذا؟
لأن أغلبية الشعب - حتى المتنور منه - لا تتذوق مسرحية يتكلم أبطالها بالعربية الفصحى. . . فما بالك بالشعر؟
لنقل كلمة الحق. . . إن جمهورنا يؤثر الأدب الضحل والمسرحيات الفكاهية، على مسرحيات شكسبير وراسين وأضرابهم. وعند (الفرقة القومية) الخبر اليقين!
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن لا تحتاج هذه المسرحيات المنظومة إلى ممثلين مثقفين يفهمون الشعر - ولا أقول يتذوقونه - ليؤدوا أدوارهم على أكمل وجه؟
فأين ممثلونا من هذا؟ وهم لا يعرفون إلا مبادئ القراءة والكتابة! ثم أين التشجيع المادي والأدبي الذي يغري الشعراء ويدفعهم إلى ميدان المسرح كما فعل غيرهم من شعراء الأمم الأخرى؟ أليست هذه صعوبات تصدهم عنه؟!
(ميت غمر)
كمال نشأت
ظبي وزير الصحة
(أهدي إلى معالي وزير الصحة ظبي فشكر مهديه ورجا منه أن يترك حراً كما كان في رعاية الله، فقلت في ذلك)
أكنت ترحم لو أنه أسد ... أم ضعفه شافع أم حسنه حكما
والضعف والحسن مرحومان من بطل ... يمشي إلى الأسد في آجامها قدُما(529/41)
سحر لعينه أم حسن لمقلته ... أعاد عهد الهوى أم أشعل الضرما
أم خشية الله في عبد يراقبه ... والله يرحم من للخلق قد رحما
عبد الرؤوف جمعة
المفتش بالمعارف(529/42)
العدد 530 - بتاريخ: 30 - 08 - 1943(/)
عندما رأيت الله جهرة
للأستاذ دريني خشبة
تحدث إلى أحد أصدقائي قال:
كانت أربعون ليلة من ليالي سيناء فد مرت على قلبي المضطرب الممزق وأنا لا أنفك أحملق في ذلك الشبح المفزع. . . شبح ملك الموت عليه السلام! إذ هو يلم بالحجرة الرهيبة التي كنت أحبس فيها نفسي لأمرض أعز المخلوقات علي وأحب الناس إلى قلبي؛ وذلك أن الطبيب المعالج لم يأمن أحداً غيري على رعاية أوامره وتنفيذ إرشاداته، فانفردت بالمهمة دون إخوتي، واضطلعت بها وحدي، وإن كانت إحدى أخواتي تريحني ساعة من نهار فكنت أقضيها نائماً ذلك النوم المشرد الممتلئ بالأحلام
وكنت دائم الصلاة لله أن ينقذ والدتي، وكنت أدهش أحياناً كيف لا يجيب دعائي. . . وكنت أعتب عليه، استغفره وأتوب إليه، كيف يقضي على هذا اللسان الذي طالما لهج بذكره، وقدس له، وحمده وأثنى عليه، بهذا الصمت الطويل المؤلم الذي كان يحاول أن يتشقق عنه كي يكلمنا، فما يستطيع غير الإيماءة النحيلة يوزعها علينا في جهد وفي عناء. . . الإيماءة التي تسبح في فيض من الدمع، وهي مع ذاك تبتسم لتخفف ما يعصف بأفئدتنا من وجد، وتهون علينا ما يذيبنا من تبريح
أجل. لا أخفي عليك يا صديقي أنني كنت أشتد في مناشدة الله الذي أستغفره وأتوب إليه؛ كيف يرضى بأن ينعقد هذا اللسان الذي طالما ترطب بذكره والتسبيح له، والذي قضى خمسين عاماً يؤدي الصلوات الخمس كأحسن ما يؤديها نبي، وكأحسن ما يقوم بها صديق؛ وهو مع ذاك يؤدي النوافل على اختلاف أنواعها، ويردد الأدعية والأوراد، ويتهجد ويعتكف ويصوم رمضان وغير رمضان، ويعف فلا ينطق بهجر، ويتورع فلا يتحرك بأذى، ويدعو لنا ولجميع الناس بالخير، ويرتل آي الذكر الحكيم أناء الليل وأطراف النهار. . . فكيف يصمت هذا اللسان الرحيم الكريم، وكيف يغلبه ذاك الشلل الخبيث فينوء بالكلمة الواحدة ويعجز عن لا ونعم، ومن حوله أحباؤه الأعزاء عليه يكلمونه فلا يكلمهم، ويحاول أن يودعهم بكلمة واحدة فلا يستطيع إلى تلك الكلمة الواحدة من سبيل، وأنا مع ذاك أدعو الله وأتوسل إليه بماضي هذا اللسان أن يفك عقاله، وأن يحسن حاله، ثم يخشاني منه ما(530/1)
يشبه الليل البهيم، والأشجان فتشيع ببرودة القبور في عروقي!
عجيب والله هذا الموقف من الأبالسة التي وقفت تترصد فؤادي، وتغري بالموبقات روحي، وتداعب إيماني فتهزه ذلك الهز العنيف القاسي!
ألم تعد في السموات رحمة؟ أهكذا تكون خاتمة ذاك اللسان الرطب الكريم؟ وأين إذن قدرة الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟ وماذا وراء هذا الوجود الذي يكظ ويزحم السموات، ويملأ الدنيا والآخرة بما نعجز عن تعليله فنهم عقولنا بالقصور، ونعترف ضعفاء مخذولين بوهن أفهامنا عن إدراكه والنفاذ إلى كنهه؟!
وهكذا كانت الأبالسة ترقص في رأسي المحزون، وتوسوس في قلبي المضطرب، وتهتف في أذني الحائرين. . . وكنت أحاول أن أصرفها عني فلا أستطيع، بل كنت أتهم نفسي وأنا أحاول ذلك بالنفاق، وأرميها بالرياء الديني المصطنع، وكان غروري يأبى لي أن أكون منافقاً أو مرائياً
وسمعت أعز الأمهات تعالج في صدرها شهقات وزفرات، فأسرعت إلى سريرها وبي أنها سكرة الموت، فأسندت الرأس الكريم إلى صدري، وتناولت كوباً من الماء به قطرات من الدواء فوضعتها قريباً من شفتيها. . . ولكنها لم تحس من الماء حسوة! بل نظرت إلي بعينين تترقرق فيهما دموع الحنان، فرحت أكلمها على عادتي كلاما كله ضحك يخنقه البكاء، وكله فكاهة تلبس أردية الحزن القاتمة!
لشد ما تخنقني عبراتي وأنا أحدثك بهذا أيها الصديق!
لقد حدث هذا منذ عشر سنوات، فلم أخط فيه حرفاً، ولم أحرك به لساني لمخلوق. . . ولولا أنك جادلتني في الله لآثرت أن أطوي عليه قلبي إلى الأبد. . .
لقد كانت الأبالسة تأخذ على مشاعري في تلك اللحظة، وكانت تجمع أدلتها ضد السماء في ثورة جارفة. . . وكان فؤادي يتمزق كلما ذكرت أن أعز الأمهات ستقضي دون أن تودعني بكلمة
بيد أنني سمعت كلاماً عنيفاً يتردد في صدرها، فلما أدنيت أذني من فمها، إذا هي تردد هذه الكلمة العظيمة الخالدة:
(الله! الله! الله!)(530/2)
فلما استيقنتها أخذ العرق يتصبب من جسمي كله، وعرتني رجفة قوية لم أبلها من قبل. . . ثم ذكرت أبالستي. ولما أدرت وجهي من حولي، رأيتهم. . . رأيتهم رأي العين. . . كاسفي البال، شاحبي الوجوه، وقد أخذوا ينفذون من جدران الحجرة الصماء، وكان الضعفاء منهم يثبون من النوافذ المفتحة. . . حتى لم يبقى معنا منهم أحد قط!
لقد كانت هذه لحظة من لحظات الإيمان التي انتشلت روحي من ظلمات الأبالسة. . .
لقد كانت من أسعد اللحظات في حياتي!
لقد كانت بارقة الأمل التي بدت لي في تلك الصحراء المهلكة من الشك الذي ران على قلبي وتغلغل في أعماقي!
وقد زادها روعة وجمالاً وعظمة ذلك الصوت الناعم الباغم المصقول الذي أرسله المؤذن يشق هدأة الفجر:
سبحان الكريم الحليم الفتاح. . .
سبحان من شق الفجر فلاح. . .
لقد أفاقت أعز الأمهات من سكرة الموت عندما طرق سمعها ذلك النداء الحبيب الذي لبته هذه السنين الطوال، فكانت تتجافى عن المضجع الدافئ في الشتاء. . . شتاء شمال الدلتا القارس. . . كما كانت تتجافى عنه في الصيف، لتجيب دعوة ربها الكريم الفتاح، فتتوضأ بالماء الذي يشبه الثلج، ثم تلتفع بتلك (الغطفة) البيضاء الناصعة التي تجعلها في هيئة الملائكة، ثم تكبر، ثم تأخذ في صلاتها الهادئة الساكنة المطمئنة؛ حتى إذا سلمت أخذت تدعو ربها لنا جميعاً بالخير، ولزوجها الراحل بالرحمة!
يا ويح لي يا صديقي! لقد كنت أنام معها في ذلك المصلى نفسه في سرير مقابل سنين عدداً. . . وكنت أستيقظ على صلاتها ودعائها. . . وكان ابتهالها يصك أذني صكا. . . لكني كنت مع ذلك لا أتحلحل من مضجعي، ولا أتأثر قط بتلك الصلوات وهذه الدعوات. . . بل طالما كنت أستهزئ بهذا السلطان الديني العجيب الذي يقتلع تلك العجوز من مضجعها في مثل ذاك البرد، لتتوضأ ولتصلي وتناجي ربها. . .
ما كان أبدع صوت المؤذن وما كان أرقه!
لقد كان صوته العذب يجلو الصدأ عن روحي الآثمة. . . تالله لقد كان صوت (الشيخ(530/3)
البكري) رحمه الله، هو صوت الله، أليست أرواحنا من روحه تبارك وتعالى!
ورفت ابتسامة حزينة على الثغر المحتضر!
ثم استطالت تلك الابتسامة، وأروتها دموع الموت التي كانت تؤجج في أضالعي جمرات الحزن. . . وكنت في أثناء ذلك أتكلم بكلام لا أذكره. وربما كنت أهذي
ثم أسندت رأسها على الحشية، واستأذنتها في أن أدعو إخوتي، فأشارت برأسها أن لا! ففهمت أنها لا ترى إزعاجهم بما يعتريها الآن من حشرجة. . . ومن يدري. . . فربما آثرت أن تصعد روحها في غير ضجة. . . ومن يدري؟ فربما آثرت أن تنتشلني بهذه الخلوة المقدسة والسكينة السابغة مما كانت تعلم أنني أتردى فيه من ضلال وزلل، وفساد في معتقدي وخطل!
أليست كانت تلح على أن أهتدي فكنت أسخر منها
ألم أحل بينها وبين الحج إلى بيت الله بحجة أنني أحق بنفقة هذا الحج، وهو كان أملها ومتمناها؟!
ألم تكن قد فرغت من شئون الحياة كلها إلا من شأني؟
. . . وكان جحودي يتعاظمها ويشق عليها، فكانت تلجأ إلى فطرتها السليمة البسيطة التي لم تتلفها الفلسفات في الرد علي، فتربكني بهذا السؤال البسيط الذي تتخبط الفلسفات كلها في الإجابة عنه: ومن أوجدك وأوجد هذا العالم؟ ومن يسهر عليك وعليه؟ ألم تفكر قط في نفسك؟ ما هذه الجارحة الصغيرة - وتشير إلى موضع قلبي - التي تخفق بالحب وتجيش بالأمل وتفيض بالخير، والتي تربط الأسر وتخفر الذمم وتسمو بالإنسانية وتبني الملاجئ وتنشئ المستشفيات وتطعم الجائع وتنجد المضطر وتغيث الملهوف وتحرك الأيدي بالعطاء وتذيب الدموع في المحاجر، وتبسم فتبسم الحياة، وتعبس فتعبس الدنيا، وتبصر فيبصر السلام، وتعمى فيعمى العالم وتعمه نيران الحروب؟
أليس بحسبك يا بني أن تكون تلك الجارحة برهاناً على وجود هذا الإله القادر الذي تنكره وتماري فيه؟
ثم أنا. . . ثم أبوك يرحمه الله. . . ألم تفكر في صيرورتنا بعد الموت قط؟ ألا يعز عليك أن نموت فنصير إلى عدم فلا نلتقي أبداً؟! أليس أخلق أن تؤمن بما تقوله لنا السماء؟ أليس(530/4)
أن نلتقي هناك. . . هناك. . . في تلك الجنة التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين؟ أليس أحجى أن نلتقي ثمة بين يدي اللطيف الحميد. . . الجنة التي لا موت فيها لهذا الموت، ولا فقر ولا مرض ولا جوع ولا شره ولا بوائق؟. . . الجنة الوارفة الظلال التي تلتقي فيها الأرواح السعيدة بعد هذا السفر الممل والغياب الطويل والنوم الهامد الخامد. . . الجنة الجميلة الخالدة التي لا تذبل فيها زهرة، ولا يظمأ فيها عصفور، ولا يحسد فيها فقير، ولا يعيش فيها بائس، ولا يشقى في رحابها يتيم، ولا يكنز المال فيها قارون، ولا يطالب فيها شيلوك برطل من لحم المدين، ولا يقتل فيها عباد الأصنام أنبياءهم الصالحين!
إن الله يا بني هو المثل الأعلى فلا يصوره لك ضلالك هولة أو غولاً أو وحشاً أو سعلاة. . . إن الذين يخافون الرحمن كما تخاف الجن والسعالي، ويخشونه كما يخشى القتلة والسفاكون، هم غير جديرين بعبادته، غير خليقين أن يعرفوه، غير أحرياء أن يهتدوا بنوره
إن الخوف من الجن والسعالي لا يعلم فضيلة، ولا يحض على خير، أما الخوف من الله فيرفع الإنسانية إلى مثله الأعلى. . . إلى الكمال الذي لا يعرف الغرائز الدنيا
احذر يا بني أن تحسب عقلك أوسع من الدنيا أو أكبر من الله! إن الجديد الذي يكتشفه بنو الدنيا من أسرارها كل يوم حريٌ أن يقتلع من نفسك الغرور، ومن روحك الكفر، ومن قلبك الضلالة
آمن بالله يا بني ولا تكن لي خزياً بين يديه يوم القيامة!
هكذا كانت تجادلني أعز الأمهات يا صديقي، وهكذا كانت تنصح لي. . . فلما رأيت الأبالسة تولي وتغور في الجدران والنوافذ، ولما رأيت الحجرة المباركة تخلو إلا مني ومن الأم المحتضرة، خيل لي أن كل نصائحها تتردد في مسمعي، وخيل لي أنني أراها ألف ألف مرة وهي قائمة تصلي في هدأة الفجر، وعليها (غطفتها) الناصعة، وخيل لي أنني أسمعها وهي تدعو الله لي ولأخوتي، ولزوجها الراحل
ثم سكت المؤذن الجليل لحظة، ثم نادى:
الله أكبر. . . الله أكبر. . .
فوالله يا أخي لقد سمعت قلبي الذي أخذته رجفة هائلة يردد ما أذن به الشيخ بكري عليه رحمة الله(530/5)
والله يا أخي لقد تلفت حولي فتخيلت الملاك الكريم في أجمل صورة يستطيع أن يتخيلها فنان وهو باسط يديه، وقد رفت على فمه ابتسامة الإيمان التي سلحه بها ربه. . . الملاك الكريم النوراني الذي كنت أحسبه تنيناً هائلاً مفزعاً. . .
وانحنيت أقبل الجبين الذي ظل يقبل الأرض بين يدي الله خمسين عاماً، ولما رفعت رأسي، إذا نور له بهر شديد يملأ الحجرة المقدسة، وإذا يد كريمة تلمس صفحة فؤادي. . . وإذا المؤذن الجليل يملأ الدنيا بهذا النداء الرائع، يختم به أذانه
الله أكبر. . . الله أكبر. . .
فهلا آمنت؟! قلت: آمنت بنور السموات والأرض.
دريني خشبة(530/6)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بين القاهرة وبغداد - في رياض الزمالك - سهرة روحية - لمحة وجدانية - طبائع الأرض المصرية والعراقية - بين سنترتس ولبنان - أشجاع وأغاريد - منظر طريف - ماذا دها القمر - فائدة لغوية وتاريخية - مروءة مصرية
بين القاهرة وبغداد
سنحت فرصة ثمينة، وما كنت أنتظر أن تسنح، فقد ألفنا بخل الأيام وشح الليالي، ورضنا النفس على اليأس من كرم الزمان
وتلك الفرصة هي لقاء الأستاذ طه الراوي في القاهرة بعد فراق طال ثم طال، وبعد شوق لا يصوره القلم ولو جال وصال
قال الأستاذ الراوي عند التلاقي: ماذا أصنع معك؟ وكيف أجازيك؟ أنت تعلن شوقك إلى إخوانك في مجلة الرسالة فيصل صوتك إلى الشرق والغرب، وأنا أضمر شوقي فلا يصل إليك منه قبس، ولو أني عبرت عما في نفسي لقلت إني لم أجد أحداً غيرك يفوقني في الوفاء
كذلك كان الحديث عند لقاء الأستاذ طه الراوي صديق مصر الحميم، والرجل الذي لا ينساه من يراه، ولو طال البعاد
تلاقينا وتسامرنا، وقال وقلت: أين الأستاذ الزيات ليتم أنس الحديث؟ فقد سأل الأستاذ الراوي مرات عن الأستاذ الزيات، وكان يشتهي أن يراه ليتحدث معه في شؤون من شواجر الأدب القديم والجديد، ورجاني أن أبلغه التحية إن لم يستطع رؤيته قبل الرجوع إلى بغداد.
في رياض الزمالك
عرفت من المفوضية العراقية أن الأستاذ الراوي يقيم بفندق الكنتننتال، فطلبته بالهتاف، فرد صوت محبوب هو صوت السيد خالد الشوربجي، فعجبت من هذه المصادفة الغريبة، وسألته عن الأستاذ الراوي فقال: تجده بكلية البنات في الزمالك، ثم قال: وين الأستاذ(530/7)
الزيات؟ فقلت: تجده في كلية الزراعة على شاطئ بحر شبين!
مضيت في العصرية إلى الزمالك فكيف رأيت الزمالك؟
إني لمفتون بتلك البقعة التي يطوقها النيل من أربع جوانب، إني لمفتون بما فيها من قصور وبساتين، وإنها لروضه من أنظر الرياض
أين الشاعر الذي يصور جمال الزمالك؟
وأين الروح الذي يدرك معاني تلك الجزيرة الخضراء؟
لن ينقضي فتوني بتلك الروضة المهندمة بأروع وأظرف ما تجود به الفنون، فالزمالك ترى وكأنها صبت مرة واحدة في لحظة من لحظات الصفاء
لا تجد بيتاً يبني ولا بيتاً يهدم، ولا ترى إلا سبيكة مقدودة من ضمير الحسن الأصيل
هذه كلية البنات بشارع محمد أنيس، وهذا بابها العالي، فما أسعد بلداً يكون لبناته حظ التعلم في مثل هذا المكان البهيج!
وأخطو خطوة فأجد الأستاذ الراوي في انتظاري، وأجد معه الأستاذ عبد الجبار الجلبي، وأجد وجوهاً عراقية في سمرة النيل عند الوفاء
وأقول بعد التحية: جئت أدعوكم لزيارة سنتريس، فما يجوز لمن يزور مصر أن يغفل زيارة سنتريس
فيقول السيد عبد الجبار الجلبي وهو يبتسم: إن مثل من يزور مصر ولا يزور سنتريس مثل من حج ولم يعتمر، وقد يكون حاله حال من اعتمر ولم يحج، فلا بد من زيارة سنتريس
سهرة روحية
وبعد لحظات يتفرق الجمع، لأن لجمهور الحاضرين مآرب من رؤية القاهرة بالليل، وأنظر فأرى الأستاذ طه الراوي سيبقى بلا رفيق، فأقرر البقاء لمسامرته إلى أن يعود الرفاق
قلت: أيسمح سعادة الأستاذ أن يخرج فنرتاض على ضفاف النيل؟
فقال: أنت النيل، ثم أنشد قول المتنبي:
مِن عَبيدي إن عشت لي ألف كافو ... ر ولي من نداكَ ريفٌ ونيلُ
وانطلق فقص قصة المتنبي بعد أن رحل عن مصر، قصها بصورة خلابة كأنه كان رفيق(530/8)
المتنبي حين فارق مصر في ليلة عيد
وخلاصة القصة أن المتنبي كان يعلق آماله على (فاتك) وكان فاتك يريد السيطرة على الصعيد، فبث كافور ألوف العيون ليعرف من أحواله كل شيء، وكان المتنبي يعرف هذه الحقيقة، فكان يخرج بحجة الحرص على ترويض حصانه ليلقي فاتكاً في مكان مجهول، ثم هلك فاتك فلم يبق للمتنبي غير الرحيل، ولكن إلى أين؟
رحل إلى الكوفة، وهي وطنه، ولعله كان فيها من الفقراء، فأرسل إليه سيف الدولة هدية يستعين بها على العيش، فرد المتنبي بقصيدة منها هذا البيت:
مِن عَبيدي إن عشت لي ألف كافو - ر ولي من نداك ريفُ ونيلُ
ومضى الحديث في شجون مصرية وعراقية، فكان من ذلك دليل جديد على الثقة الموصولة بيني وبين هذا الرجل النبيل
- احكي، احكي
وماذا أحكي؟
أنا تعبت من الحكي، فاحكي أنت
- ميعاد الحكي في سنتريس
وخرجت أبحث عن سيارة بعد انتصاف الليل وأنا في نشوة روحية قليلة الأمثال
رياض الزمالك وأحاديث الراوي في ليلة واحدة؟ تبارك من جعل هذه الحظوظ من نصيبي في أوقات قل فيها الظفر بأطايب الحياة.
لمحة وجدانية
وقفنا على جسر الرياح المنوفي بالقناطر الخيرية لحظات، فقلت للأستاذ الراوي: ما رأيك في أن ننزل فنقطع هذا النهر سابحين إلى أن نلقي الأستاذ الزيات؟
- إيش لون؟
- هذا النهر يسمى هنا بالرياح المنوفي، وبعد قنطرة النعناعية يسمى بحر سنتريس، وبعد قنطرة القرينين يسمى بحر شبين، ومنه تستقي مزارع الأستاذ الزيات
- أنتم تسقون من نهر واحد؟ الآن عرفت السر فيما بينكم من وفاق
- وهناك وشيجة ثانية(530/9)
- ما هي؟
- هي ما يوجب العقل من تلطف الشركاء بعضهم مع بعض، فأنا أستطيع سد هذا النهر بنبابيت سنتريس
- ولا تخاف الحكومة؟
- الحكومة تركت هذا النهر في حراستنا، فنحن نملك من أمره كل شيء
- أنتم إذاً على استعداد لإساءة التصرف
ومع هذا لم نسيء التصرف، رعاية لمعنى واحد، هو البر بالصديق، ولو كان الزيات عدواً لعاملناه معاملة الأعداء، هذا مع العلم بأن الزيات صديق مضمون
- ما معنى هذه الكلمة الأخيرة؟
- إن لها معنى ومعاني، فالصديق المضمون هو الصديق الذي لا يخشى تغيره بأي حال، وإذن يجوز التحيف عليه باطمئنان، فيكون البر به غاية في الوفاء
- هذا معنى طريف، ولكنه يحتاج إلى بيان
- بيان ذلك أن من الأصدقاء من ينهاه قلبه وروحه عن مجازاة أصدقائه غدراً بغدر، وإيذاء بإيذاء. والصديق الذي يكون في مثل هذه الروحانية يلقى من أصدقائه متاعب ومضجرات؛ فالوفاء بعهده يعد أعجوبة في الحياة الأخلاقية، وأنا أطمع في الظفر بأكبر نصيب من مكارم الأخلاق
- نحن نسمع في مصر كلاماً جديداً
- ولكنه أقل من كلام العراق
- يعجبني تعصبك لأصدقائك، يا دكتور مبارك
- ولمن أتعصب إذا لم أتعصب لأصدقائي؟ لم يبق من الكرم غير حفظ العهد، وكل ما أخشاه أن يكون حظي من هذا المعنى أقل مما أريد. إن الهجوم على العدو لا يحتاج إلى عناء، لأنه ينبعث عن ثورة تعين على القتال، أما ملاطفة الصديق فتصدر عن عواطف رفيقة لا تساعد على الاستبسال
لو بذلنا في ملاطفة أصدقائنا معشار ما نبذل في محاربة أعدائنا لرضى الله عنا واصطفانا لأشرف الأعمال الأدب الحق هو أدبك في معاملة من لا تخاف أن يثور عليك(530/10)
- وهذا أيضاً كلام جديد
- وهو أيضاً من وحي العراق
- طيب الله أنفاسك، يا دكتور مبارك!
طبائع الأرض المصرية والعراقية
في حديقة الدار في سنتريس بدت الطلمبة أمراً عجبا، فقد دهش الضيوف العراقيون من أن نستقي الماء بلا بئر، فقلت إن هذا يتيسر في العراق لو أردتموه. فقال الأستاذ طه الراوي: إن البئر في العراق تكون مياهه غاية في المرارة إن بعد عن الشط، لأن أرض العراق كثيرة الأملاح
عند ذلك تذكرت عبارة المسيو دي كومنين حين رأى الطلمبة في سنتريس، فقد قال إن هذا يمتنع في الأرض الفرنسية، وإن لم يذكر الأسباب
وعند ذلك فهمت كيف كانت بغداد مملوءة بالأنهار، وهي القنوات التي كانت تنقل الماء إلى المحلات المختلفة بدار السلام، فكل مجرى ماء اسمه نهر عند أهل العراق، ولو كان قناة لا يحتاج عبورها إلى أيسر مجهود، ومن هنا جاز أن نرى في كتب التاريخ أن البصرة كان فيها مئات أو ألوف من الأنهار الجاريات
لو سمعت كلام الأستاذ الراوي قبل أن أكتب مقالي عن (عروس النيل) لكان من الممكن أن أضيف إليه توضيحات، فليكن ما هنا تكميلاً لما هناك
بين سنتريس ولبنان
قال الأستاذ الراوي: للنسائم هنا مذاق لا نجد مثله في لبنان، فما الذي يمنع من أن تجعلوا بلدكم من بلاد الاصطياف؟
قلت: إن هواء سنتريس أتعب أهل سنتريس
- وكيف؟
- لأنه جعلها مراداً لأصحاب الأذواق، فهي الملتقى لأكثر سكان المنوفية، ومن أجل هذا عم فيها الغلاء
أسجاع وأغاريد(530/11)
وعند تناول العشاء سمعنا طيوراً تسجع وتغرد بأنغام لا يسمع مثلها أهل العراق، فقال الأستاذ عبد الجبار الجلبي: ما هذه الطيور؟ فقال السيد عبد المجيد مبارك: هذه جماعة الكروان تصدح عند قدوم الليل
وتردد الأستاذ الجلبي في تصديق ما يسمع؛ فقال له الأستاذ الراوي: هذه بلابل تصدح بأنغام أهل سنتريس!
منظر طريف
حين مررنا بحدائق القناطر الخيرية نبهت رفاقي إلى غابة أبي قردان، وقلت إنه طائر يصادق الفلاح، فيرافقه في الحرث والسقي، ليلتهم ما في الأرض من ديدان، ولهذا يحرم صيده بأمر وزارة الزراعة المصرية
قال الأستاذ الراوي: هذا اسم عربي، فالقراد يجمع على قردان كما يجمع الغلام على غلمان، ولعل هذا الطائر سمي بذلك لأنه يطهر الأرض من الحشرات
قلت: ومن العجيب أن يكون ملتقى هذه الطيور البيض في شجرة كريمة بأحد المنازل في سنتريس، وكأنها تقول:
من علمّ الورقاء أن محلكم ... حَرَمٌ وأنك موئلٌ للخائفِ
ماذا دها القمر؟
كانت طلعة القمر طلعة بهية، وكان لألاوه فوق بحر سنتريس غاية في البهاء، فماذا دهاه قبل أن نقترب من قليوب؟
قال السيد هاشم: القمر مخنوق
فوقفنا جميعاً وتطلعنا إلى وجه القمر فرأيناه في حال تشمت العذال!
حتى القمر تنال منه صروف الليالي؟!
وتسمع السيد عبد الجبار ما يقول أهل قيلوب ليوازن بين أقوالهم وأقوال أهل بغداد. . . وتذكرت العبارة المصرية فقلت: (يا بنات الحور، سيبوا قمرنا ينور)
فقال: إن عبارة أهل بغداد (يا حوته يا منحوته، طلعي قمرنا العالي)
وأذن تكون بنات الحور هي التي تخنق القمر في مصر، وتكون الحوته المنحوته هي التي(530/12)
تخنقه في العراق
قلت: القمر عندنا معشوق تحجزه الحوريات، وهو عندكم مأسور بأيدي الحوتات المنحوتات، عليهن اللعنات!
فقال السيد عبد الجبار: لقد راعني هدوء الطبيعة المصرية، ففي كل ماء تنق فيه الضفادع بقعقعة مزعجة، إلا ماء النيل
واستطرد الأستاذ الراوي فقال: أراد صوفي أن ينظر معشوقته من ثقب الباب فرآها عارية، ولكنه أنزعج حين رأى ضفائرها تحجب عنه جسدها الوهاج، فصرخ:
يا حوته يا منحوته طلعي قمرنا العالي
قلت: وما شئن الصوفي بالأجساد العارية؟
فأجاب: هل نسيت ما قررته في كتاب التصوف الإسلامي؟ ألم تقل أن الحب الحسي قنطرة إلى الحب الروحي؟ ألم تقل أن الصوفية تبنوا أشعار الماجنين فحولوها إلى خطرات وجدانية؟
فائدة لغوية
قال سعادة الأستاذ الراوي وقد شربنا القازوزة: إن العرب عرفوا القازوزة، فقلت القازوزة التي نشربها كلمة فرنسية أصلها هي في العربية؟ فقال: وردة في قول أحد الشعراء:
أفَني تلادي وما جّمعتُ من نَشَبِ ... قرعُ القوازيز أفواهُ الأباريق
فقلت: هي القوارير بالراء في المطبوعات المصرية، وهي أفصح لأنها كلمة قرآنية. وبعد لحظة قال الأستاذ: المفرد قاقوزة، فقلت: إذن يكون الجمع قواقيز
وبعد العودة راجعت القاموس فوجدت قاقوزة وقازوزة بمعنى واحد وهو المشربة أو القدح أو الصغير من القوارير، وعلى ذلك يمكن أن يكون البيت روي روايتين
وفائدة تاريخية
قال الأستاذ الراوي: سمعت اليوم تعليلاً أعجبني في تسمية شارع الموسكي، فقد حدثني أحد الأفاضل أنه جاء من الكلمة الفرنسية كلمة عربية الأصل معناها المسجد، وسمي الشارع بذلك لأنه يوصل إلى المسجد الكبير وهو الجامع الأزهر(530/13)
فقلت: الموسكي بفتح السين نسبة إلى موسك أحد أمراء مصر في الأيام الخوالي، وسكنت السين للتخفيف
فضحك الأستاذ الراوي وقال: إذن كان ذلك المحدث من (الأفاضل) بالقول لا بالفعل
مروءة مصرية
رجعنا إلى القاهرة والقمر مخنوق، والظلام يطمس المعالم بميدان باب الحديد، ولا بد من سيارة تنقل الضيوف إلى الزمالك
- تاكسي، تاكسي، تاكسي
هتفنا بهذه اللفظة أكثر من خمسين مرة، فما سمع سامع ولا أجاب مجيب
ونظرت فرأيت فتى يخترق الظلام ليستوقف سيارة فظننته خادماً يبحث لسيده عن واسطة، أداة النقل في لغة العراق، ثم ظهر أنه بائع متجول أراد أن يريحنا من هذا العناء
هل قدمنا لهذا البائع قرشاً أو نصف قرش؟
الجواب عند السيد عبد الجبار الجلبي فقد كان في الزاوية الثانية، ولعله نفحه بشيء، وإلا فأنا حاضر لمكافأته على ذلك الصنيع الجميل.
زكي مبارك(530/14)
الأعراب
نحن الذين بلغوا الرسالة
لأستاذ جليل
إلى الأستاذ صاحب مجلة (آخر ساعة)
يا أخا العرب
لكاتبين محررين في مجلتك ولكتاب في مصر وغير مصر أن ينقذوا (الأعراب)، وأن ينعوا عليهم عيوباً فيهم بل أن يبالغوا في شتمهم أو هجوهم إذا اقتضت حال سبا
إن لهم أن يقولوا: (أإسلامية وجاهلية) حين يروننا مستمسكين بعادات خبيثة بدوية، وأقضية منكرة عرفية تظاهر (الظهير البربري. . .)
وإن لهم أن يقولوا: (أمصرية وعداوة للجندية) حين نسأل أولي الأمر أن نميز، أن نستثني من سائر الأمة في الأمر العمم كأننا ضمني أو زمني يلتمسون التزمين
وإن لهم أن يقولوا: متى تتحضرون أيها الأعراب، وقد تبدلت الدنيا، وتدخلون في دين الناس، وتسكنون بيت الحجر وتتركون بيت الشعر
إن لهم أن يقولوا الحق في كل وقت، وللحق يعنو الصغير ويعنو الكبير
ومن أقوالنا قِدْما: (اشتمني واصدق أيها الشاتم)، ولكن هل يجوز لكاتب عندك اسمه (إحسان) أن يقول في مقالته (حوادث وخواطر) - في الجزء (460) ص (10) في 25 يوليو (1943): (كل هذه المدنية التي شيدناها لم تعجب الزائر الكريم وإنما أعجبه الأهرام وأبو الهول، أعجبته قطعة من الصحراء أقيمت عليها أصنام وقفت حولها حمير وإبل وأعراب. . .)
إن هذا لشيء إد، إن هذا الأمر نكر لم تقتضه حال، ولا دعا إليه داع. فما الذي دفع الكاتب إلى هذه المقولة، وما كان ضره لو ترك (الأعراب) وخطبهم ولم يقرنهم وما سماها في قرن
يا أخا العرب
أنت تدري وكل الناس يدرون أن أجدادنا كانوا البعوث (الجيوش) التي قادها صاحب رسول الله أبو عبد الله (عمرو ابن العاص) العربي المصري (رضوان الله عليه) يوم بادر إلى مصر كيما يحررها ويهديها(530/15)
قائد آبائنا عمرو ابن العاص هو سيدي، وهو سيد كل مصري يقول: (لا إله الله محمد رسول الله) وهو سيد كل مصري ينطق بالعربية
من حرر مصر؟ من هدى مصر؟
عمرو بن العاص صاحب محمد، خادم دين محمد
يا أخا العرب
إن الأعراب (حيا الله ربعك) إذا تحضروا وتعلموا وتثقفوا جاءت منهم ملائكة. ومن الأعراب في هذا العصر في هذا الوقت في مصر وفي العراق والشام والجزيرة وبلاد المغرب (تونس والجزائر والمغرب الأقصى) دكاترة في العلوم والفنون، وأساتذة كبار، وزعماء عظماء، ومرشحون للزعامة. . . من الطراز الأول
أدع الانتخاء والعنجهية الأعرابية وأقول العلماء والأدباء قديماً وحديثاً فينا، ووصية سيدنا عمر (رضوان الله عليه) بنا ووصفه إيانا. وأدع أبيات المتنبي في البائية، وأبيات المعري في الرائية في تقريظنا لشهرتها. وأختم هذه الأسطر بكلام الله، وأبيات لأبي إسحق إبراهيم بن عثمان الفزي (رحمه الله) حتى تكون قولاً بقول، والبادئ أظلم، وقضاء الله في أمر الاعتداء هو القضاء: (. . . فمن اعتدى عليكم الآية) ولئن أساء (إحسان) - غير ناو أن يسيء - لقد أحسن (ابن عثمان)
قال الله:
(ومنَ الأعراب من يؤمنُ بالله واليوم الآخر، ويتّخذُ ما يُنفقُ قُرُباتٍ عند الله وصَلوات الرسول. ألا إنها قُربةُ لهم، سيدخلُهم اللهُ في رحمته؛ إن اللهَ غفورُ رحيم)
قال الشاعر:
يا ربعُ، فيك المها والأسد أحبابُ ... فقل لنا: أكناسٌ أنت أم غابُ؟
بين الكثيبين حيّ لَغوُهم أدبٌ ... محضٌ، وإيجازِهم في القول إسهاب
خطّوا وأقلامهم خَطْية سُلُبٌ ... فهم على الخيل أميّون كتّاب
أهل الإصابة إن قالوا، وإن سمعوا ... وللسماع كما للقول إعراب
غيرَ الهبيدِ وبَرْضِ البيد ما عرفوا ... والعز يعذب في أكوابه الصاب
صدق الله، ولم يكذب الشاعر. . .(530/16)
ناقد(530/17)
المشكلات
3 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
يتوقع القراء أنني سآتيهم في مشكلة اللغة العربية بحلول مطولة وآراء معقدة، تثقل على العامة ولا يستسيغها إلا الخاصة
وإنني سآتيهم بالجديد الذي لم يقرع أسماعهم، ولم يخطر لهم ببال
وأني أقول للقراء أن ما سأعرضه عليهم قسمان، الأول نقد الطريقة التي تسلكها المدارس في تعليم اللغة، والثاني نقد علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة، وإبطال الباطل من قواعدها، وإحلال الحق محله
فأما نقد أسلوب تعليم اللغة فإني أحب أن أطمئن القراء من جهته، فإن الحلول التي جئت بها سهلة لا غموض فيها، بسيطة لا تركيب فيها؛ وهكذا شأن الحقيقة تمتاز بالسهولة والبساطة، وقد أخذتها من العامة وأشباه العامة، أخذتها من الحائك إذ يعلم الحياكة، والحداد إذ يعلم الحدادة، والنجار إذ يعلم النجارة
وليس فيما جئت به في هذا الموضوع جدة، وإنما هو قول معاد مكرور، قاله علماء الشرق قديماً وعلماء الغرب حديثاً، حتى أنني ترددت في عرضة على الناس، ولكن يشفع لي في عرضة أن قومي لم يعلموا به كأنهم لا يعرفونه، فقلت لعلهم يحتاجون إلى الإقناع به، وإقامة الدليل عليه، وإدارة الكلام على البرهان والإقناع، ليوافق طبقات الناس، وكذلك فعلت
وأما نقد القواعد وبيان الباطل منها، وإحلال خير منها محلها. فهي مسائل فنية يصعب فهمها إلا على الدارسين، وهي جديدة قد نشأت عن الدرس الطويل، والتأمل والتنقيب في هذه العلوم، وفيها لذة ومتعة، فسيرى فيها القراء مصاولة العقول ومقارعة الآراء، وسيرون علوما كانت تحاط بهالة من التقديس تنهار وتهدم، وعلوما أخرى حلت محلها وأخذت مكانها، فبدت أعلى منها وأسمق، وما نهدم ما نهدم إلا عن بينة وحجة، وما نبني ما نبني إلا عن بينة وحجة. فما عدله الدليل فهو العدل الثقة، وما جرحه الدليل فهو المجرح(530/18)
المدخول
فان كان ما جئت به حقاً فللقراء خيره وبركته، ولي ما كابدته من النصب والهم، وإن كان باطلاً فعلي تبعته وعاره، وخلاهم ذم
ربما لم تعن أمة في العالم بلغة ما كما عنيت الأمم الإسلامية باللغة العربية، وقد عظمت هذه العناية واتصلت وتلاحقت مدة ثلاثة عشر قرنا، فتوافر العلماء عليها في القديم يدرسونها من نواحيها المختلفة، درسوا مفرداتها وعرفوا التغيرات التي تلحق المفرد، والأوزان التي يكون عليها، وكيف تتصرف الكلمة في الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة الخ.، وعرفوا قواعد ذلك وسموه علم الصرف، وعرفوا ما تدل عليه كل كلمة من معان، والشواهد التي يستشهد بها على هذه المعاني، ودونوا ذلك وسموه علم متن اللغة، ودرسوا نظمها وتراكيبها المختلفة، وما يفيده كل نظم وتركيب، ووضعوا قوانينه وسموه علم النحو. ودرسوا فضيلة الكلام، ووضعوا القواعد التي يحسن بها الكلام وسموها علم البلاغة. ودرسوا ما في لغة العرب من شعر ونثر وبينوا معانيه. ودرسوا أوزان الشعر وأعاريضه وقوافيه. وهلم جرا
وضعوا كل ذلك في قوانين، ووضعوا هذه القوانين في كتب قد سطرت، وصحف قد نشرت، وكان كل جيل من الأجيال يزيد وينقص، ويغير ويبدل على حسب ما يتراءى له، ويضع الكتب الجمة والأسفار المختلفة، وكانوا يعكفون عليها يتدارسونها يعلمها كبيرهم صغيرهم، وعالمهم جاهلهم، وقد ورثنا نحن هذه العناية فدرسناها في جميع معاهد التعليم، فهي تدرس في وزارة المعارف، في الأقسام الابتدائية والثانوية وفي التعليم الأولي، وهي تدرس في المعاهد الدينية والأزهر في الأقسام الابتدائية والثانوية، وهي تدرس في كلية اللغة العربية من كليات الأزهر، وفي كليتي الآداب من جامعتي فؤاد وفاروق، وهي تدرس في دار العلوم ومدارس المعلمين والمعلمات، ونصيبها من الحصص في هذه المعاهد نصيب الأسد
عكفت مدارسنا على هذه القواعد التي استنبطها العلماء المتقدمون في النحو والصرف والبلاغة والعروض والقافية تدرسها وتضبط شوارد العربية على المتعلمين
وكانت تقسم القواعد على سني الدراسة قسمة تراعي فيها الحكمة، فهي قليلة موجزة في(530/19)
الأقسام الابتدائية، وكثيرة مطولة بعض الشيء في الأقسام الثانوية، وهي مطولة كل التطويل ومستوعبة كل الاستيعاب في المدارس العالية
إني لأعجب كيف تخفق مدارسنا وتخفق الأجيال قبلنا في تعليم هذه اللغة مع هذه العناية وهذا الجهد
أينجح الحائك في تعليم الحياكة؟ والبناء في تعليم البناء، والنجار في تعليم النجارة، وكل ذي صنعة في الدنيا في تعليم صنعته، ويخيب رجل العلم والتربية في تعليم اللغة العربية؟
أينجح تلاميذ الصناع جميعاً إلا قليلاً، ويخيب تلاميذ رجال العلم إلا قليلاً مع أن الأولين يبذلون أقل جهد ومشقه في تعليم الصناع ولا يعللون المسائل ولا يفلسفونها، ولا يعملون شيئاً إلا أن يأخذوا المتعلمين بأعمال كثيرة من صنعتهم ويمرنوهم ويكرروا ذلك، فإذا هم قد حذقوا الصنعة وأجادوها، ومع أن الآخرين يبذلون كل جهد ومشقة، ويذكرون علل العربية ويفلسفونها، ويطلعون تلاميذهم على دقائقها وخفاياها
لعل مازحاً يمزح ويقول أن سر هذا الإخفاق في هذه العناية، وسر هذا النجاح في هذا الإهمال
وسنأخذ هذا المزاح جداً، ونرى أنه يشير إلى الطريق ونضع أن سر نجاح أولئك في طريقتهم وسر خيبة هؤلاء في طريقتهم
سر نجاح أولئك في المرانة والتكرار حتى يكسبوا الصنعة، وسر خيبة هؤلاء في الاعتماد على القواعد وترك الحفظ والمرانة والتكرار
ولو أخذ كل بطريقة الآخر لخاب الناجح، ونجح الخائب
لو علم الحائك تلميذه بطريق القواعد فحسب، وظل طول عمره يقول له شد الخيط طولاً واسلك فيها الخيوط عرضاً ليتكون منها سدى ولحمة ولم يأخذه بأعمال الحياكة الكثيرة وتكرارها والمرانة عليها، لخاب في التعليم ولم يكسبه الحياكة، ولو أخذ عالم العربية بطريق المرانة والتكرار والحفظ، فحفظ تلاميذه أساليب العربية البليغة، ومثلها الرائعة مما يعتاد في الخطاب، وأخذهم بالنسج على منوالها في الحديث والكتابة والخطابة لنجح في تعليمه
ولا عجب أن يكون هذا الصانع العامي أقرب إلى الحقيقة من هذا العالم المربي، لأن هذا(530/20)
العامي يرجع إلى الواقع ويستملي منه وهذا العالم قد أغفل الواقع وقلد ما كان عليه الآباء والأجداد
هذا العامي يعلم أن قواعد الصنعة لا تعطي الصنعة، ولا يعطيها إلا تمرين المتعلم، وأخذه بنماذج كثيرة، وتكرير ذلك حتى يتقنها
وهذا العالم أغفل هذه الحقيقة وظن أن قواعد اللغة تكسب اللغة وأن قواعد البلاغة تكسب البلاغة فأخذ يبدأ فيها ويعيد، ويكرر ويكثر من التكرار، فأكسبهم ملكة في قواعد اللغة، ولم يكسبهم ملكة اللغة
سيهول هذا أقواماً ويرونه سخفاً من القول. وقياساً مع الفارق، ويقولون: إنك لم تعمل شيئاً سوى أن قست قياساً فقلت تعليم وتعليم، ولغة وصنعة، وكما أن الصنعة لا تكسب بالقواعد إنما تكسب بالعمل والتكرار كذلك لا تكسب اللغة العربية بالقواعد فحسب إنما تكسب بالعمل والتكرار والحفظ، والقياس لا يفيد اليقين، فطرق العلم مختلفة، فهذا يعلم من طريق، وذاك يعلم من طريق آخر، فالروائح تعلم بالشم، والطعوم تدرك بالذوق، والألوان تدرك بالبصر، فكما لا يصح أن يقال: إن الأحمر قد كان طريق العلم به البصر فيجب أن يكون الحامض طريق العلم به البصر كذلك لا يصح القياس الذي ذكرته، فلعل هناك فارقاً بين الصنعة واللغة يجعل أحكامهما مختلفة، فتكون الصنعة تكسب بالتكرار، وتكون اللغة تكسب بالقواعد، فالقياس لا يجدينا ولا ينفعنا، فلا بد أن تأتي بالبرهان لنصدق به، ولا نجد عنه معدي
وإني أعد القراء أن أجيء بالبرهان على أن اللغة كسائر الصنعات لا تكتسب بالقواعد، إنما تكسب بالحفظ والتكرار، وأن أدير الحديث على طرق إقناعية شتى حتى أفوز بإقناع أولي الأمر فنحل مشكلة من مشكلاتنا العديدة، لنفرغ لمشكلات أخرى.
محمد عرفة(530/21)
طرائف:
عن الكتب والكتاب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
نسخ الكتب. تصحيح الكتب. سرقة الكتب. النار والمكتبات
موضوع المكتبة العربية - عامة أو خاصة - هو موضوع طريف سنعرض له بالتفصيل في العدد القادم من (الرسالة)
أما موضوع اليوم فهو توطئة للموضوع الذي اعتزمنا الكتابة فيه للأعداد المقبلة
ومن لوازم الكتب وجود عدد من (الناسخين) ومهمتهم أن ينسخوا من الكتاب الواحد نسخة أو أكثر على حسب رغبة المؤلف أو وفق مقتضيات الأمور
وأول ما عرف من هؤلاء الناسخين في الأدب العربي الجماعة الذين كتبوا المصاحف الأربعة بأمر الخليفة الثالث عثمان بن عفان؛ وهم زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث
أما كتاب الوحي فلم يكونوا نساخاً، بل كان الرسول يملي عليهم الآيات حين نزولها، وشرط النسخ أن يكون عن كتاب أو صحيفة مكتوبة
وليس النساخون مقصورين على الكتاب العربي وحده أو المكتبة العربية وحدها، فهناك نساخون في الكتب الأوربية وكان يطلق على هؤلاء النساخ كلمة الرهبان، لأن الرهبان والقسوس كانوا مختصين في العصور الوسطى بنسخ الكتب
وبهذه المناسبة كان عند النساخين من الرهبان قانون وضعه (تربتم) رئيس الكهنة في عصره يقول فيه: (يجب أن يقطع أحدكم الرق قطعاً، وآخر يصقلها، وآخر يسطرها، وآخر يبري الأقلام يملأ المحابر، وآخر يقرأ ويصحح كتابة الناسخ، وآخر يزخرف الكتابة بالمداد الأحمر وينقط الحروف، وآخر ينقشها، وآخر يلصق الورق ويحبك الكتب على ألواح من الخشب)
فأنت ترى من ذلك كله أن عملية نسخ الكتاب كانت عملاً منظماً توضع له القوانين وتقعد القواعد. وخاصة عند جامعي الكتب من أمراء أوربا في العصور الوسطى
ولهؤلاء النساخين - عرباً كانوا أو فرنجة - طرائف في النسخ. ولكنهم على كل حال(530/22)
كانوا آفة في الكتابة العربية: ونظرة واحدة في الشعر الوارد في كتاب (فوات الوفيات) لابن شاكر الكتبي تؤيد هذا الكلام، فهو شعر مختل مكسور مسخه الناسخ. وجاء الطابع الحديث فأبقاه - لسقم ذوقه - على اختلاله وكسره. وجاء الدكتور العالم أحمد عيسى بك فنقله في كتابه الجديد (معجم الأطباء) مختالاً مكسوراً. وليس ذلك من سبيل بحثنا اليوم، ولكننا سنفرد لتصحيح هذا المعجم الجليل مقالاً طويلاً في (الرسالة)
ومن عجب أن الكتب المنسوخة لم يقم لها مصححون يعنون بمراجعة أخطاء النسخ وضبط الكتاب وتحقيقه؛ أما الكتب المطبوعة فقد قام عليها مصححون منذ عرف الكتاب العربي الطبعة العربية في مطلع القرن التاسع عشر؛ وعند صديقنا العالم الرواية الأستاذ محمود حسن زناتي أنباء كثيرة وطرائف عن هؤلاء المصححين؛ ولعله يتحف الأدباء قريباً بمقالاته في هذا الموضوع. وأشهر هؤلاء المصححين التماعاً في سماء الأدب الشيخ نصر الهوريني المتوفي سنة 1874م، كان هذا الشيخ عضواً في بعثة أرسلتها الحكومة المصرية إلى فرنسا؛ فلبث هناك مدة ثم عاد رئيساً للتصحيح بالمطبعة الأميرية؛ وله تعليقات لطيفة على هامش القاموس المحيط للفيروزبادي؛ كما أنه له كثيراً من المؤلفات أشهرها (المطالع النصرية للمطابع المصرية)
ومن المصححين المشهورين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الشيخ أحمد الميهي بن حسن عبد الصمد؛ وكان موظفاً بالمطبعة الوهبية التي أنشأها الفاضل مصطفى وهبي. وللشيخ الميهي فضل تصحيح كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة؛ وهو من المطبوعات النادرة الآن. وقد تم طبعه في سنة 1882م؛ ولم يطبع بعد تلك الطبعة إلى اليوم
ولم يكن عمل المصححين القيام على تصحيح الكتب المطبوعة فحسب؛ بل قام بعضهم بتنظيم الفهارس المختلفة للكتاب المطبوع كما صنع الشيخ البهي في كتاب طبقات الأطباء المذكور. فقد صنع فهرساً وافياً للأعلام، وآخر للبلاد والمواضع والأماكن والمياه والأنهار. وبلغت صفحات هذين الفهرسين وحدهما (121 صفحة)
وليس عمل الفهارس للكتب المطبوعة القديمة أو الحديثة عملاً هيناً يسيراً، ولكنه يقتضي دقة وبصراً من واضعه؛ واشتهر من منظمي الفهارس اليوم الأستاذ محمد شوقي أمين(530/23)
الموظف بمجمع فؤاد الأول للغة العربية؛ فله فهرس منظم لكتاب البخلاء للجاحظ الذي طبعته وزارة المعارف العمومية بعناية الأستاذين أحمد العوامري بك وعلي الجارم بك، وله فهرس لكتاب الحلل السندسية في الآثار الأندلسية الذي يطبعه الأمير شكيب أرسلان
وللكتب - مطبوعة كانت أو مخطوطة - آفتان: السرقة والنيران. ولقد عرف اللصوص قيمة الكتب وخاصة بعد أن اعتنى أصحابها بتجليدها وتزيينها؛ فارتفعت أثمانها عند الأمراء والأثرياء واضطر هؤلاء إلى العناية بحفظها والقيام عليها وكانوا يكتبون على أولها عبارات تتضمن لعنة السارق والسخط عليه. وقد وجد على أحد الكتب هذا البيت من الشعر على لسان صاحب الكتاب:
إذا غرك الشيطان أن تجتري على ... كتابي فعقبى المجترين الفضائح
أما النيران فهي آفة الكتاب الكبرى وبليته. فلقد أحرقت مكتبة الأمير نصر الساماني على نفاستها. واتهم بعض ذوي الأغراض عمرو بن العاص بإحراق مكتبة الإسسكندرية وهي تهمة لا تستند إلى الحق. وأحرق التتار مكتبة بغداد وأغرقوا كثيراً منها في النهر سنة 656هـ، وكانت الكتب النفيسة في هذه الفتنة تباع بأوهى قيمة
ولما سقطت مدينة غرناطة في يد الأسبان أمر البطريق إيكزامينيس بإلقاء الكتب الإسلامية وخاصة العربية في النار. ونهب الأتراك في القرن العاشر ما وقع لهم من كتب المماليك وأضرموا النار فيها. ولا يغرب عن البال ما صنعه (كرمويل) في مكتبة اكسفورد فقد أمر بإحراقها وكانت أغنى المكتبات الأوربية في حينها
وهناك بلية ثالثة للكتب وهي العثة التي تعيث فيها وتطيل ملازمتها لها بالأخراق والثقب؛ واسمها بالإنجليزية: وقد أطلق الإنجليز على كل شخص يطيل ملازمة الكتب والتنقير فيها كلمة وهي كلمة يفتخر العلماء وأهل البحث بأنها من صفاتهم.
محمد عبد الغني حسن(530/24)
الإسلام ومكافحة الأمية
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
القراءة والكتابة هما أقوم السبل للتحصيل والمعرفة. وجاء عمل النبي صلى الله عليه وسلم من افتداء أسرى بدر بتعليم عشرة من أبناء المسلمين إشارة حكيمة إلى فائدة الكتابة وأثرها في كسب المعرفة، وعلى الأخص القرآن الكريم، مما يؤدي إلى تثبيت الدين والعمل على انتشاره.
ثم اقتضى نظام العمران بعد انتشار الإسلام واستتباب أمره في البلاد المختلفة شرقاً وغرباً، إلى ظهور الكتاتيب لتعليم الصبيان القرآن والكتابة والقراءة وبعض النحو والعربية. وتناول معلم الكتاب الأجر نظير انقطاعه لهذا العمل بعد أن كان التعليم في صدر الإسلام تطوعاً واحتساباً.
وظهور الكتاتيب الإسلامية أثر من آثار الإسلام اقتضته ضرورة الدين الجديد الذي يخاطب الناس كافة لا يقتصر على طبقة دون طبقة، ولا يفرق بين الأغنياء والفقراء، أو الأمراء والدهماء.
وكان الغرض الأول من التعليم دينياً خالصاً من شوائب الأهداف المادية التي تفسد على الناس أمورهم وتؤدي إلى الاضطراب والتنازع والفساد.
وقد سار الأمر في مكافحة الأمية مع الروح الأولى الإسلامية تلك الروح المتدفقة القوية، يصحبها العزم والإيثار والتطوع لتعليم الصغار والكبار. وليس في القرآن نص على إلزام التعليم ولم يوجب الحديث ذلك. جاء في الصحيح: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وهو أقوى ما يؤثر عن الرسول بصدد التعلم والتعليم. وهذا الحديث يجعل من تعلم القرآن فضيلة ولا يرتفع بها إلى مرتبة الواجبات
وقد بحث أحد علماء المسلمين هذا الموضوع، أي مكافحة الأمية، إلى أن انتهى إلى القول بها. ذلك العالم هو أبو الحسن القابسي المتوفي سنة 403 هجرية، في كتابه (المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين). قال إن الوالد مكلف بتعليم ابنه القرآن والدين، وحيث أن الوالد مشغول بتحصيل المعاش، فلا بأس أن يحمل عنه معلم الكتاب مؤونة التعليم بالأجر. وإذا مات الوالد فليبعث بالصبي إلى الكتاب وصيه إن كان للصبي(530/25)
مال؛ فإن لم يكن له مال فليبعث به أحد الأقربين أو المحسنين أو يدفع له حاكم البلد الأجر من بيت مال المسلمين.
والقابسي يتلمس جميع الوسائل المؤدية إلى تعليم الصبيان. إلى أن قال: (فإذا تهاون والد عن تعليم ولده في الكتاب بالأجر، لجهل وقبح ووضع حاله عن أهل القناعة والرضا)
فهذا فقيه في القرن الرابع الهجري ينادي بالتعليم الإلزامي، ويصور وسائله، ويضع شروط الجزاء للمتهاونين فيه!
والفرق بين الإلزام الذي يقول به وبين الإلزام في العصر الحاضر، هو أن الدولة هي التي تنفق على التعليم، وأن قوانينها تعاقب من يمتنع عن إرسال أبنائه بالحبس أو الغرامة، أما القابسي فيضع جزاء أدبياً هو التجهيل والتقبيح.
على أن نداء القابسي لم يتبدد، فقد وجد آذاناً صاغية من المحسنين والقادرين الذين حبسوا أموالهم على الكتاتيب ووقفوا لها الأوقاف، وبذلك ازدهرت حياة التعليم في القرنين الخامس والسادس.
فليذكر الذين يتأثرون خطى الغربيين ويأخذون بحضارتهم أن الإسلام نادى بالتعليم العام منذ ألف عام، في الوقت الذي كانت أوربا تعيش في التأخر والجهل
وليذكر الذين يعملون في مصر الآن على (مكافحة الأمية) تلك الصفحة المجيدة في حياة الإسلام، لعلها تفيد في رجع ما انقطع.
أحمد فؤاد الأهواني(530/26)
مسرحية إخناتون
تأليف الأستاذ علي أحمد باكثير
للأستاذ لبيب السعيد
الأستاذ علي أحمد باكثير شاب حضرمي طوف في الشرق ما طوف، ثم استقر في مصر يخدم الأدب والعلم. وقد بلوناه حيناً شاعراً له طابعه. وها نحن أولاء نرى فيه كاتباً تمثيلياً وقصاصاً يبشر إنتاجه بأن سيكون له في المستقبل الداني شأن أي شأن.
ترينا هذه المسرحية إخناتون أميراً شاعري الروح، قضت زوجته (تادو) فكان حزنه عليها فوق الصبر، داعياً للإلحاد والكفر، ثم انثنى يتنكر لكل شيء، ويدرس الديانات والفلسفات مما أخاف كهنة آمون على سلطانهم أن يزول حين يؤتى الأمير الملك
وتزوجه أمه من (نفرتيتي) موهمة إياه أنها (تادو) عادت إليها الحياة، ويصدق هو ذلك لاعتقاده بإمكانه، ويسعد بالزوجة الجديدة التي نسخ الحب فيها روح (تادو)، ثم يضحي الأمير من بعد ملكا رسولاً. ولكن الرسالة التي فهم أن من مبادئها السلام تجني على الملك الذي يقتضي الحرب، فتنبعث الفتنة في كل مكان، ويكيد الكهان لإخناتون، ويمضي هو مع ذلك في إخلاصه للسلم والحب، فإذا فشل أخيراً وآده اليأس ألحد في ربه، ثم يدرك وشيكا أن التسامي الشعري غير الواقعية، وأن لا مناص من السيف وحطم الظلم بالعدل. ويثوب إليه إيمانه وهو يحتضر
تومئ هذه المسرحية في ثناياها إلى أن الجمال الباهر والحزن العميق يستطيعان أن يدقا الشعور ويهيئا النفس لتلقي الرسالات
ومن حسناتها اللامعة التفاتها الخاص إلى السيكولوجية: ومن مصاديق ذلك غيرة (نفرتيتي) من مجرد ذكرى ضرتها الميتة، وأحزان (مي) أم إخناتون على زوجها بعد مماته، وحنينها المؤثر إلى أيامه، وغيرتها من كنتها، وتغير إحساسها نحوها، وموازنتها بين طاعة ابنها الذي يشفق على قلبها وطاعة زوجها الفقيد طاعة الحب العمياء، وفزع الكاهن (سادو) من ذكر الثعابين حتى ليكاد من جبنه يحس دبيب الحية في عنقه. هذه وغيرها صور وحالات استمدت جمالها وقوتها من اعتمادها على السيكولوجية
ومن أبرع وألذ ما حوت المسرحية ذكريات الأمير عن (تادو) بعد فجيعته فيها، ما كان(530/27)
أمضها ذكريات! ولكن ما كان أعذبها!
ومما يظفر أيضاً من القارئ برضاه واهتمامه شخصية (أمنوفيس) أبي إخناتون، وما كان فيه من مجانة وطرب، وفلسفته الظريفة في تذوق الملاحة النسائية، وتخريجه الساخر لمعنى الوفاء للمرأة، ثم ما كان في حياة أخناتون مع زوجته (نفرتيتي) من تعاطف رائع وأنس وسعادة، ثم سذاجة (تاي) المربية المسرفة في إعجابها بزوجها، والتي تحزن لمرض (أخناتون) الأخير. ولكنها لا تتمالك إذ تراه بطالع اللانهاية في عيني نفرتيتي، أن تقول: آه. . . يا ليت (آي) يطالع في عيني شيئاً! وكذلك شجاعة القائد (حور محب) وإخلاصه، وبلاهة (سمنتارا) وحقارته!
ونزعة المؤلف في الأسلوب تظهر في المسرحية إذ تقرر أن الديانات قد يعوزها أن تحمي نفسها بالسيف، وإن الركون إلى السلام مفض لا ريب لفقد الممالك وسقوط الدين معاً
ورأي المؤلف في التناسخ طريف وجميل وليس فيه ما يتحرج منه
وبعد، فأود أن أصارح صديقي المؤلف أنه كان أولى به أن يدع الأمير (إخناتون) يحدثنا بنفسه عن الآلام التي كان يصطخب بها قلبه في أعماقه بدل أن يحدثنا بها كبير الكهنة
حقاً لقد راقب كبير الكهنة الأمير من بعيد قرابة شهر بحيث يراه ولا يدري مكانه، فهو يتحدث عنه على ضوء ما شاهد؛ ولكن هذه المراقبة إن كفلت له الحديث الصادق عن مظاهر أحزان الأمير، فليست بكافلة له أيضاً الحديث المسموع عن حشاشته التي تسيل زفرات، وصبره الصامت الذي يكبت من حزنه الصارخ، ونسيانه يومه وحنينه إلى أمسه الماضي وتفكيره في غده الآتي ووراء غده، وعن هفو أضالعه. . . الخ
وأنا بعد أفهم أن الرسول هو بطبيعته وطوال حياته آخر من تعصف المصائب بإيمانهم، ولكن إخناتون الذي تدور المسرحية على كونه رسولاً، يسرف في الكفر: يكفر عند موت زوجته الأولى كفراً هائلاً، ثم يؤمن حتى يسعد بزوجته الجديدة، ثم يضطلع برسالته مخلصاً مطمئناً، فإذا أحس الفشل عاد كافراً يتشكك، ثم تخر صاعقة بقرب القصر فيزداد كفراً، وينسى رسالته في صميمها، فإذا استمع إلى كلام (حور محب) الذي يحاوره في براعة ولطف عاد مؤمناً، فاستغفر لذنبه، وذكر أنعم ربه. . .
وأشخاص الرواية هم إخناتون وأهله ورجال القصر والكهنة فأين ابن الوطن؟ أين هو(530/28)
يسمعنا آراءه تلقاء الدعوة الجديدة، ويرينا موقفه إزاء جهاد الرسول وكفاح الكهنة؟
بقى أن أقول إن الذوق العربي لا يستطيع غالباً أن يسيغ (النظم المرسل المنطلق) المصوغة فيه المسرحية لأنه لم يألفه. والذي أعتقده أن ما عمد إليه المؤلف من إرسال القافية في أغلب المسرحية وعدم المساواة في العدد بين تفعيلات الأبيات إخلال بالخواص الجوهرية للشعر العربي لا يحسن اللجوء إليه. والظن أن طريقة كتابة هذه المسرحية وهي على نسق طريقة شكسبير تحمل القارئ على بذل جهد خاص في القراءة كلما حرص على تفهم المعنى واستساغة النغم الشعري. وعندي أنه لو كتبت المسرحية كالنثر، بحيث تتصل الجمل دائماً حتى يستوفي المعنى، وبحيث تستعمل علامات الترقيم أدق وأوفى استعمال لكان ذلك أدنى ألا يجهد القارئ في الاستمتاع بما في الرواية من بيان ومعان
على أن الإنصاف يقتضينا أن ننوه بالمقدرة الممتازة التي أتاحت للمؤلف صوغ مسرحيته كلها من بحر واحد، فإن القارئ للمسرحيات الشعرية العربية التي سبقت (إخناتون) كان ينتقل فجأة من بحر إلى بحر؛ فكان ذلك قاطعاً للذته ومزعجاً لخاطره
ذلك ولأخي المؤلف الناجح شكر مصر القادرة وفاءه وشكر الأدب الذي ينوط به آمالاً كباراً
(المنصورة)
لبيب السعيد(530/29)
نار. . . ونفس!!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ظَمِئَتْ نَارِي! وَللنَّار كما للنَّاسِ خَمْرٌ وَرحيقُ
ولها حَانٌ، وخمَّارٌ، وأقداحٌ، وإِبْريقٌ عَتِيقُ
ونداماها أسَى العُشَّاقِ، والأحزانُ، واسِّرُّ العميقُ. . .
وَبكتْ نفْسي! وَللنَّفس دُموعٌ حَينَ تبْكي وَشهيقُ
ولها كالحَطَب المَشْبُوب أَزٌّ في حشاهَا وحَريقُ
ولها كالأفُقِ الْغَضبان إعصارٌ وَرعدٌ وبروقُ. . .
فَسألْتُ النَّارَ: مَنْ أظْمَأ يَا نَارُ عَلَى قَلبي لَظاك؟
كيْفَ أسْقيكِ! وأيُّ الخمرِ تَرجُو مِنْ زماني شَفتاكِ؟
ما بكأسِيْ غيرُ نارٍ كالَّتي تَحْمِلُ بلواهَا حَشاكِ!
وَسَألتُ النَّفسَ: مَنْ عّلمَ دَمْعَ العَين يَجْري فيِ حِمَاكِ؟
كيف أَسْقيكَ مِن أن السُّلوانِ والسُّلوانُ مَعنًى مِن أَساك؟
مَا بكأسِي غيرُ دمْعٍ أتْرعَتْهُ مِنْ دَمِي يَوْماً يَدَاكِ!
قَالت النَّارُ: فَضحْتَ السِّرَّ، فَاصْمُتْ، لاَ تُحَدّثْ عَنْ لَهِيبي!
إنْ تكن نَارُكَ مِنْ نارِي فَلا تسْألْ عَن السرِّ الرّهيبِ
وارْكبِ الرِّيحَ، وَخلّ الجِنَّ يُسْرِ جْنَ لها طَيْرَ الغيُوبِ
فإِذا شَارَفْتَ عَذرَائي تُناديكِ عَلَى شَطَّ الغُرُوبِ،
وَانْسَنيِ في جَذْوةِ الأنفاسِ لاَ تزعجْ لَظى خمريْ وكُوبي
وَهفاَ بالنَّفْسِ ماَ يَهفُو بِغُصْنٍ فيِ يد الإعْصَارِ يُعْوِلْ
ثم قالت: كيْفَ عنْ دمعي ومنكَ الدَّمعُ يا حَيْرانُ تَسأَلْ؟
إِنْ أكنْ فيكَ سَكنْتُ الجِسْمَ والجِسْمُ تُرابٌ يَتنَقّلْ؟
فأنَا طَيْرٌ بِعرشِ الله لي عُشٌّ وبُسْتَانٌ وَجَدْوَلْ
إِنمَا أَبكي لِهذَا القَفَصِ الدَّاجِي الكَئيب المُتَملْمِلْ
لَمْ يَجد أَيَّ عزاءٍ في وجُودِي، كيْف يغْدُو حِينَ أَرْحَلْ؟!(530/30)
محمود حسن إسماعيل(530/31)
كلمة تعزية
(إلى حضرة صاحب العزة عزيز بك أباظة مدير البحيرة
شكراً على هدية ديوان (أنات حائرة))
للأستاذ خليل شيبوب
ريعَ قلبي من هذه الأنَّاتَ ... تَتَلظَّى تَلظِّىِ اَلْجَمراتِ
نثرتها في الشعر لوعةُ شاكٍ ... فجرت في الدموع منتظمَاتِ
أَكبَرَ العصرُ آيةَ الخير فيها ... نزلت مثلَ مُحْكَمِ الآيات
جَدَّدَتْ سُنَّةَ الوفاءِ وأَحيت ... عُنْصُرَ البِرِّ والهدى والثبات
بعد ما قيل نحن في عصر لهوٍ ... حافلٍ بالمجون والشهوات
يا أليفاً يبكي فراق أَليفٍ ... كلُّ بينٍ هَيْنٌ إِزاء الممات
تلك شمس أنارت العمرَ لكن ... دهمتها مصارعُ النَيِّرات
راعها الخسفُ بالبدور مُلِحَّا ... وذبولُ الغصونِ والزهرات
فهوت من سمائها وقضت في ... موكبٍ من أَشعةٍ غاربات
ذهبت بالشباب والطهر والحسنِ ... وخيرِ الزوجات والأمهات
بسماءِ الهدى وروض الأماني ... ونعيمِ الهوى ومعنى الحياة
فإذا إِلفُها المحيَّرُ لا يملك ... من أَمره سوى الأنات
مرسلاتٍ على الأسى والتأَسي ... في قوافٍ مفجوعةِ النغمات
نَدِيَتْ بالدموع فهي أَكاليلُ ... من الزهرِ بالأسى عَطِرَاتِ
والفؤادُ المكلومُ لا يُحسن التعبيرَ ... إلا بساكبِ العبرات
حسبكَ اللهُ يا عزيزُ ورفقاً ... بشبابٍ نرجوهُ للنائبات
أَنتَ من ترتجي البلادُ إذا ما ... حَزَبتْها الأَحداثُ بالأزَمَاتِ
إِن من وَدَّعتكَ لم تمضِ حتى ... أَنبتَتْ بعدها كريمَ النبات
فَهيَ اليومَ حَيَّةٌ فيهم لا ... تأتلي من رَفَّافَةِ الذكريات
فَاتق الله فيهم وَتَقَّبلْ ... من محبيكَ أخلصَ التعزيات(530/32)
خليل شيبوب(530/33)
ذكرياتي. . .
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
يا ليالي النورِ في صَحْو الشَّبابْ
ما الذي أغرى بنا كأس العذابْ
فَشَربناها حنينا ًونوى
أتناسيتِ الذي ولّى وغَابْ
من نعيمٍ وفتونٍ وشراب
نتغنى كيفما شاءَ الهوى
وعيون الدِهرعنا ... غافلاتُ
تُسكر الأروَاحَ منا ... قُبلاتُ
وتشيع الأنسَ فينا ... صَبَوات
وكؤوسٌ كلما نادى بها الداعي تدورُ ... ومعانٍ من رحيق الخلد يرويها البشيرُ
كل هذا كان يا دنيا لنا ... والليالي مثلما كُنَّا سُكارى
ما الذي أغراكَ يا دهري بنا ... فأحلتَ العُمر همَّا وادكارا
وتوارت بسمةٌ في شفتينا
وانطوى الْحُلم وولى من يدينا
يا حبيبي هل لأيامي الخوالي ... عودةٌ نحيي الذي ولّى وغابْ
منْ أمان باسمات وليالٍ ... كنَّ أحلى من جني الخمرِ المُذاب
فنغُنِي مثلما كُنا نغني
فوق أغصان الشبابِ المطمئن
بين صفوٍ ونعيمٍ وشراب
مصطفى علي عبد الرحمن(530/34)
البريد الأدبي
إلى السيد حسن القاياتي
قرأت خطابك إلي فوجدته دون ما يحسن صدوره عنك، وإلا فكيف جاز لك التوهم بأني أقول فيك ما دونته بقلمك نقلاً عن أراجيف المرجفين؟
أنا أقول إنك أديب خلقته الظروف، وألاعيب مصطفى القاياتي في السياسة؟
هذا الكلام لا يقوله من يعرفك، كما أعرفك، وهو أيضاً كلام لا يقوله صديق في صديق، وأنت تعرف جيداً أني لا أقبل إيذاء أصدقائي بمثل ما نقل إليك، ولا بأيسر مما نقل إليك، فأقطع ألسنة الدساسين، واحفظ ما بيننا من العهود. احفظ أنت، أما أنا فكما عهدت، ولن أتحول ولن أخون
ثم تطلب إلى أن أسأل نفسي عن الصلات التي كانت بيني وبين الدار القاياتية، وأنا أوجه مثل هذا السؤال إليك، فما أظنكم عرفتم رجلاً أصدق مني، ولا أحسبك تنسى أنني أديت للشيخ مصطفى جميلاً يفوق الوصف ويفوق الجزاء، وهو جميل سجلته أنت بقلمك في مجلة الكشكول سنة 1924 بإمضاء (العقوق) يوم كان إيذاء الشيخ مصطفى من هواك
أينما أوفي لذكرى هذا الرجل: أنا أم أنت؟
لو نطق التاريخ الأدبي لقال إني لم أكن راوية يوم عرفت داركم، وإنما كنت أستاذاً يساعد على خدمة أدبية تعرفها الجامعة المصرية، يوم اختارت الشيخ القاياتي خلفاً للشيخ المهدي
وتقول إنك أعددت عشرين مقالاً في نقد كتاب (النثر الفني) وأنك ستنشرها في الرسالة إن ضمنت أنها لا تجاملني، وأنك تنتظر مني كلمة الحق
وأقول إن الرسالة لا تجامل أحداً، فقدم إليها في نقدي ما تريد. ثم أقول إن هذه الكلمة هي كلمة الحق، فانقضها إن كنت تطيق
وجاء في كلامك أن لي في الأدب ألاعيب وترهات، فمتى كان ذلك؟
أنا يا صديقي لا ألهو في الأدب ولا ألعب، فجد الأدب جد وهزله جد، ولا يصدر عن قلمي إلا ما يرضاه وجداني
أما بعد فهذا ما تقرأ لا ما تسمع، فخذ عني ما تقرأ ودع ما تسمع، فما أذكر أني حادثت أحداً بالقاهرة منذ شهور طوال، ولا أذكر أنك خطرت في بالي قبل أن تنقل إلى (الرسالة)(530/35)
خصامك العنيف، يا أعز الخصماء
أنا ما أسأت إليك، وإنما أسأت أنت إلى نفسك بكسلك. ومع هذا تقول إن اللغة العربية لن تجد من يذود عن حماها غير قلمك، ونحن نعرف طاقتك في البيان
توكل على الله وانفض الغبار عن نفسك المكسال، فقد تصبح ولك مثلي ترهات وألاعيب. وليس من العسير جداً أن تكون في منزلة الكاتب الأول والشاعر الأول.
زكي مبارك
الشعر العربي في المهجر
قرأت رأي الأستاذ الظريفي في تعليل طابع الشعر في المهجر، وأقرب إلى المعقول هو رأي قديم لي سبق أن أبديته في مناسبات أدبية لأفراد الجالية اللبنانية بكوم حماده، وخلاصته أن هذا الأدب هو صراع عنيف بين عقليتين متباينتين: عقلية الشرق بما فيها من روحانية وسمو وتوكل، وعقلية مادية قاسية لا ترحم المتواني (خصوصاً في أمريكا الشمالية حيث ظهر معظم أدباء المهجر)، وكان نتيجة هذا الاصطدام الحنين إلى حياة الشرق بما فيها من دعة وبساطة، وهذا الحنين ظاهر في حياة أقطاب مدرسة المهجر، فكتابات جبران الإنجليزية والعربية تترجم عن ذلك بجلاء؛ وكأني به يريد أن (يمشرق) أمريكا قبل أن (يتأمرك) وهو وأبناء جلدته. وقد أقبل الأمريكان على فلسفته إقبالاً لا نظير له أصاب منه ثروة لا يحلم بها أديب من أدباء العالم. ومن دواعي عظمة هذا الرجل أن طبيباً عالماً من كبار أطباء إنجلترا وفيلسوفاً يشار إليه بالبنان هو هافولك إليس كان يستشهد بأقوال جبران في كتابه العظيم (سيكلوجية الحب) ويدعوه بالشاعر النبي، ومع هذا الجاه كان جبران يحن إلى الشرق بقلبه وروحه ويود لو أمضى بقية أيامه في وطنه بين أحضان الطبيعة. وقد فاوض ذوي الشأن في شراء دير ماري سركيس بلبنان ليكون مقامه ولكن المنية عاجلته وقد نقلت إليه رفاته
مثل ذلك ما فعله ميخائيل نعيمة فقد أصاب ثروة في أمريكا ولكنه آثر الدعة والبساطة فعاد إلى وطنه وعاش في صومعة في جبل صنين
ومنذ ربع قرن زار مصر فيلسوف الفريكة أمين الريحاني وقال في حفلة تكريمه قصيدته(530/36)
المنثورة المشهورة: (أنا الشرق عندي فلسفات) وقد طلعت علينا وقتئذ مجلة السفور تندد بأدبه، ومع أنه نال حظاً وافراً في دوائر الأدب والنقد في أمريكا كان يفر إلى منسكه بالفريكة كلما بهظه ثقل مادية أمريكا
هذه ظاهرة جلية لا يمكن تعليلها إلا بما أبديت من رأي. وما أشبه أدباء المهجر بروسيا فقد أخذت من الغرب مدنيته، ولكنها ظلت شرقية بروحها. وكان نتيجة هذا الازدواج أن أخرجت كتاباً ملهمين أمثال تولستوي ودستفوسكي وتشيخوف تفيض كتاباتهم بالروحانية
(كوم حمادة - بحيرة)
كامل يوسف
عضو بالمعهد البريطاني للأبحاث الفلسفية بلندن
1 - إلى الأستاذ قطب
ألم تصدق إذن أن أعصاب الأدباء فائرة ثائرة؟ وهل عدوت الحق حين أشرت إليك تلك الإشارة اللطيفة الخفيفة فحملتك الحق فيما بدر منك في حق محاورك حين أضفته إلى سيداتنا وحبات قلوبنا (النساء). ومع هذا فقد لمتكما معاً فيما تراشقتما به من ألفاظ السماجة أو الصفاقة والمهاترة والغمز واللمز، مما كانت أجلكما عن الوقوع فيه. . . لولا هذا الصيف الجائر الذي جعلك تقول في حبيبك وصيفك - دريني خشبة - إنه رجل عامي في ذهنه وفي نفسه. . . وفي معايير أخلاقه!! بارك الله لك يا شيخ سيد في ذهنك وفي نفسك وفي معاييرك الأخلاقية. . . وبارك الله لك في هذا اللسان الطويل العريض الذي سينعقد لمحاكمته جلسة في المكان الذي تعرف، ومن الأصدقاء المحترمين الذين تعرف وأعرف، ليقفوك - أو ليقفوني! - عند الحدود التي أنساك الصيف، كما أنسى الكثيرين من الأدباء، أشراطها
2 - إلى شعراء الشباب الاماجد
إلى أخواني المحترمين باكثير والقاياتي وفوده والعجمي، والى جميع شعراء الشباب الذين سهوت فلم أذكر أسماءهم في مقالي عن الدرامة المنظومة والمسرح أقدم اعتذاري. ولن(530/37)
ينقصني جهلي بمجهودهم فضلهم الأدبي الذي لا يجحد. وأشكر الأستاذ الفاضل محمد عبد الغني حسن تلك الالتفاتة الكريمة الذي تدل على سمو إدراكه الأدبي، والتي تجلت في إشارته إلى أخي الأستاذ باكثير ذلك الشاعر المجد المجاهد الذي تفضل فكتب إلي ليرأب ما انصدع من مقالي، ولسوف أفرغ لدرامة الأستاذ باكثير في فصل أو أكثر من فصل إن شاء الله. وسيرى المظلومون كيف تنصفهم الرسالة في القريب العاجل. أما الأستاذ فوده - ذلك الصديق العزيز - فأستعيذ بالله من (مقالبه!) ومع أني أقر بفضل شاعرنا القاياتي في المنظوم والمنثور فإني آسف إذ لم أسمع عن درامته شيئاً. وأعود فأقول إن جهلي بها لا ينقص من قيمتها، والقاياتي الشاعر، وعماد الشاعر، والناشر الشاعر والصيرفي الشاعر، والأسمر الشاعر، والعشرات من شعراء الإسكندرية والأقاليم، والمئات من شعراء الإلزاميين، ليس هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى الإشادة بذكرهم في مقال لم يقصد منه إلى الحصر ولكن قصد منه إلى التمثيل. . . وأوشكت هنا أيضاً أن يفوتني ذكر الشاعر السيد قطب فتسود معي وقعته أكثر مما اسودت، وهو الشاعر الذي أحب شعره جدا بمقدار ما أمقت نثره جداً. . . متى يا ترى ينهض هؤلاء الشعراء جميعاً بحمل أعباء نهضتنا الشعرية وتزويد هذه النهضة بالدرامات والملاحم؟
3 - إلى أخي الأديب كمال نشأت
يا أخي لقد ظلمت في كلمتك بيئتنا وظروفنا وأحوالنا وأغلبية شعبنا الذي لم تستثن منه الأقلية المتنورة. . . ولقد ظلمت أيضاً ممثلينا جميعاً فلم تستثني منهم أحداً حين رميتهم بالأمية الشنيعة. يا أخي لقد ألف شوقي رحمه الله دراماته فأقبل الشعب يجمع طبقاته على شهودها وسر منها وتقبلها أحسن القبول، والذين مثلوا تلك الدرامات أحياء غير أموات، وقد بلغوا بتمثيلها الذروة. ولم يكونوا يلحنون أبداً، ولم يكونوا يكسرون الشعر قط، ونحن حين ننكر عليهم تلك الإجادة نظلمهم ونبخسهم بطولتهم التي لو ظهرت في أمة أخرى لرفعتهم إلى عليين ولأقامت لهم التماثيل. . . يا أخي بحسبك ما يشقى به ممثلونا من شقاء مادي فلا تنكل بهم تنكيلاً أدبياً. . . يا أخي لا تنكر أن ممثلينا يوسف وهبي وأحمد علام وزكي طليمات وحسين رياض وفتوح نشاطي وأمينة رزق ونجيب الريحاني وعبد الفتاح القصري ومختار عثمان وفاطمة رشدي وأنور وجدي وغيرهم ممن تضيق تلك الكلمة عن(530/38)
إحصائهم. . . أولئك الممثلون الذين لا نعرف كيف نجزيهم وهم لا يقلون عبقرية عن أحسن الممثلين العالميين. لقد ذكرت في إحدى مقالاتي أن نسبة المتعلمين في إنجلترا في عصر إليزابيث لم تكن تزيد عنها في مصر اليوم، فلم يمنع هذا من ظهور شكسبير وبن جونسون وأضرابهما، ولم تمنع من ازدهار المسرح الإنجليزي الذي كانت كل دراماته شعرية في ذلك الحين. . . يا أخي لا تكن ظالماً وأوص من حولك بالإحسان إلى الممثلين
دريني خشبة
إلى الأستاذ. . .
إلى هذا المجهول العلم الذي تفضل فنشر بالرسالة (عدد 529) كلاماً على لساني موجهاً إلى الأستاذ دريني خشبة حول مقاله: (المسرح المصري والدرامة المنظومة)
أما آرائي في بحوث الأستاذ خشبة فأحسب أن ما بيني وبينه من أواصر الصداقة والود يجعلني أوثر مشافهته
وأما أن يتفضل كاتب كريم فيذيل كلاماً باسمي وعنواني لم أقله، ولم أحرره، فقد مضى زمن - وما يزال - وهذه البراعة المبرقعة حياء في خدمة الكرام الكاتبين، وما كانت يوماً بحاجة إلى عون سواها للتعبير عن رأي لصاحبها، أو فكرة لحاملها
وأتقبل بشكر وسرور هذه المداعبة الظريفة. والى اللقاء
(المجمع اللغوي)
علي فوده
بين الشيخ شاكر والسيد رشيد
ذكر الدكتور مبارك في كلمته التي نشرتها الرسالة بالعدد (523) عن روح الشيخ رشيد أن فضيلة الشيخ محمد شاكر (كتب) إلى الشيخ محمد عبده يدعوه إلى كف يده عن رعاية الشيخ رشيد رضا، فكان جواب الأستاذ الإمام: (كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار وهو ترجمان أفكاري)
وقد ذهب الدكتور إلى أن الشيخ شاكر إنما فعل ذلك لخصومة بينه وبين السيد رشيد، ثم(530/39)
أخذ يعلل هذه الخصومة ويبين ما كان عليه هذا الشيخ من العنف وشدة العداوة الخ
ولكن الأمر يرجع إلى غير ما ذهب إليه الدكتور. ذلك أن الخديو عباس كان قد غضب على السيد رشيد لأمور لا نطيل بذكرها، فكلف بطرس غالي باشا والشيخ شاكر لكي يسعيا لدى الأستاذ الإمام في أن يبعد هذا السيد عنه، فكان جوابه لبطرس باشا: (إذا كنت رجلاً ذا قيمة في الوجود فإنما ذلك بأخلاقي لا بوظيفة الإفتاء ولا بغيرها، وأي خلق يكون لي إذا تركت صحبة السيد رشيد لأجل الخديو؟ إن هذا الرجل متحد معي في العقيدة والفكرة والرأي الخ. وكان جوابه للشيخ شاكر تلك الكلمة المشهورة.
هذه هي الحقيقة نبينها للناس وما كان بين الشيخين الجليلين - شاكر ورشيد - إلا كل محبة وولاء. ورحم الله شيوخنا جميعاً
(المنصورة)
محمود أبو رية
تصحيح التصحيح!
متى كان الطعن في شخص الكاتب كافياً لهدم ما قال؟ أليس الأحرى بالأستاذ قطب أن ينصرف إلى الرد على الأقوال بدلاً من الطعن في الأشخاص؟ إن الأستاذ قطب يقول عن زكريا إبراهيم: إنه لا يعلم له أو عنه شيئاً، فهل نسى الأستاذ قول القائل: (لا تنظر إلى من قال، ولكن انظر إلى ما قال؟) ألا فليعلم حضرة الأديب الفاضل أنه ليس يضيرني أن لا يعرفني مثله، فأنا لا أحفل بمعرفة من هو عند نفسه أكبر من نفسه؛ ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه!
ولست أدري بعد ذلك هل من قواعد المدرسة الحديثة أن يعلن الإنسان عن نفسه على حساب الأدب، فيقول في جرأة غريبة إن في نثره (معاني كبيرة، وأحاسيس عميقة). . . إلى آخر تلك الصفاقة الغريبة التي تفيض بها أيضاً مقدمة ديوان (الشاطئ المجهول)؟! أما الجواب فهو عند الأخلاق الجديدة التي يضعها (لأول مرة) أستاذنا قطب، هادما فيها التواضع الاصطلاحي الكاذب!. . . والرد حاضر أيضاً: فإن التواضع الذي ندعوك إليه - يا سيدي - ليس معناه أن ينزل الإنسان عن مستواه، وإنما معناه أن ينزل إلى مستواه!(530/40)
زكريا ابراهيم(530/41)
العدد 531 - بتاريخ: 06 - 09 - 1943(/)
ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأديب (إحسان) في مجلة (آخر ساعة) يروي عني أنني قلت له: (. . . يكفي أن يتمتع الإنسان بحريته ليعيش سعيداً حتى لو كان فقيراً، وأن أي نظام أو أية محاولة ترمي إلى إزالة الفوارق الاقتصادية بين الطبقات إنما هي ترمي في أساسها إلى تقيد حرية الفرد. . .)
ثم سأل الأديب: (ولكن هل يملك الفقير حريته كما يقول الأستاذ العقاد؟ هل أستطيع أنا مثلاً أن أسافر إلى الإسكندرية وألقي بجسدي المتعب على شاطئ البحر كما يفعل صديقي عادل صدقي نجل دولة صدقي باشا!. . . لا نستطيع، لأن حريتنا محدودة بجيوبنا. فالمفلس لا يملك حرية الخروج من منزله والجلوس على القهوة، والذي في جيبه نصف قرش لا يملك حرية إشباع بطنه. . .) الخ. الخ.
وفي نقل كلامي على هذه الصورة شيء من التحريف
لأنني لا أقول إن الحرية وحدها تكفي الإنسان وتغنيه عن الطعام، ولكني أقول إن المذهب السياسي أو الاجتماعي الذي يسلبنا الحرية يسلبنا أعز نعمة في الحياة الإنسانية، بل يسلبنا كرامة الإنسان ويستحق منا المقت والازدراء
وأنا لا أقول إن إزالة الفوارق الاقتصادية بين الطبقات ترمي إلى تقييد حرية الفرد، ولكني أقول إن تقييد الحرية الفردية لإزالة هذه الفوارق نقمة لا يرحب بها رجل كريم
وأنا أدافع عن الديمقراطية لأنها تؤمن بحرية الفرد وتصلح الناس إصلاح الأحرار المكلفين لا إصلاح العبيد المسخرين
ولكني أمقت المذاهب السياسية الأخرى لأنها تسلب الحرية الفردية ولا تحل المشكلة الاقتصادية، فتحرمنا الكرامة ولا تكفل لنا الطعام، وهذه هو الحرمان الذي لا عزاء فيه ولا موجب لاحتماله، والصبر عليه إلى زمن طويل
فالنازيون والفاشيون والشيوعيون يستغفلون الناس حين يقولون لهم إننا سلبناكم الحرية ولكننا أرحناكم من البطالة ودبرنا لكم الرزق بتدبير الأعمال، لأنهم في الواقع كاذبون فيما زعموه من تدبير الرزق وتدبير العمل، وإن كانوا صادقين جد الصدق فيما أعلنوه من سلب(531/1)
الحرية وتسخير الكرامة الإنسانية
والنازيون اليوم يحتاجون إلى مليون عامل بل مليونين بل إلى ثلاثة ملايين لو وجدوهم من الألمان أو غير الألمان
يحتاجون إليهم ويبحثون عنهم ويغتصبونهم اغتصاباً من كل مكان حكموه أو سيطروا عليه
فهل نسمي حاجتهم هذه إلى العمال نجاحا في كفاح البطالة وتدبير الأرزاق؟
وهل هذا هو العمل الذي يريح الفقراء من أعباء الفقر ويتيح لهم الاصطياف على شواطئ الإسكندرية؟
فكفاح البطالة على هذا المنوال هو الكفاح الذي يستطيعه النازيون والشيوعيون والفاشيون، وهو الدواء الذي يربى في الشر والبلاء على عشرة أدواء
والنتيجة ماثلة أمامنا لا تذهب بنا إلى بعيد
فالحرب الحاضرة وما جلبته على الناس من الكرب والألم والضيق والغلاء هي ثروة العلاج الذي دبره النازيون والشيوعيون والفاشيون لمشكلة البطالة وأزمة الأرزاق
وقد استطاع النازيون وأمثالهم أن يديروا المصانع ويستخدموا الأيدي العاملة لأنهم أداروا المصانع جميعها على تحضير السلاح وأدوات القتال
فاستراح الشعب الألماني من مليون عامل عاطل بضع سنوات، ولكنه عرض للقتل خمسة أو ستة ملايين من أولئك الفقراء في سنة واحدة، وسيخرج من الميدان وفيه عشرة أضعاف العاطلين الذين كانوا فيه قبل دخوله، والى جانبهم عشرة أضعافهم من القتلى والمفقودين والمشوهين
أي حل هذه لمشكلة البطالة؟
أي علاج هذا الذي يريحك من مليون عاطل بخمسة مليون قتيل، ثم يصبح الشعب كله أو جله من العاطلين؟
وليست المسألة هنا مسألة النظام السياسي الذي يطلقون عليه اسم النازية أو اسم الشيوعية أو اسم الفاشية أو اسم العسكرية اليابانية، فإن النظم السياسية جميعاً تتساوى في هذه القدرة متى لجأت إلى تشغيل الأيدي في الذخيرة والسلاح، وإن الديمقراطية لأقدر من المذاهب الأخرى على تشغيل الأيدي جميعاً في إبان الحروب التي تساق إليها كما نرى الآن في كل(531/2)
مكان رأي العين. فلا ينبغي إذن أن يقال إن تدبير الرزق بالإكثار من مصانع السلاح والذخيرة مزية من مزايا هذا النظام أو ذاك، فهي مزية ميسورة لكل من يختار هذا العلاج أو يندفع إليه، ولا يزال من المحقق بعد هذا كله أن الديمقراطية تفضل المذاهب الأخرى من شتى نواحيها، لأنها تعترف بالحرية الإنسانية ولا تعجز عن علاج مشكلة البطالة على هذا المنوال حين تشاء
وبعد فأين هو النظام السياسي الذي يسمح لكل من شاء أن يسافر إلى الإسكندرية ويلقي بجسده المتعب على شاطئها؟
هب الفوارق الاقتصادية قد زالت كل الزوال ولم يبق في الأرض إلا أنداد متساوون في الثروة والقدرة على المتاع وأراد هؤلاء أن يذهبوا إلى الإسكندرية فكيف يذهبون؟
أيذهبون إليها بالبطاقات على حسب الدور؟ أي يذهبون إليها دفعة واحدة في أسبوع واحد؟ إنهم على كل حال مقيدون بالإمكان الذي لا سيطرة لهم عليه، ولو استراحوا من تفاوت المراتب واختلاف الأرزاق
يروي أبناء البلد قصة طريفة عن الكلب الرومي والكلب البلدي اللذين اصطحبا على الخير والشر وذهبا إلى سوق الجزارين يبغيان الرزق من وراء الأوضام والسواطير
ذهبا أولاً إلى سوق الروم فإذا الحواجز قائمة على الدكاكين وإذا هي لا تبيح مدخلها لإنسان ولا حيوان بغير حساب، وإذا العظام فيها توضع حيث تصان عن الخطف والاختلاس
وقال لهما صاحب الدكان (إكسو) فخرجوا محرومين جائعين، وطافا النهار على الدكاكين ولم يظفرا بغير إكسو التي يعقبها نذير الخطر، أو بالقليل من العظم المنبوذ الذي لا خير فيه
ثم أصبحا من الغداة على سوق أبناء البلد فلم يحجزهما حاجز عن اللحم والعظم ولم يلبثا هنيهة حتى أصابا الشبعة من اللحم والعظم بغير نصب، وسرهما أن يسمعا صاحب الدكان يقول لصبيه (ناوله) ويشير إلى الكلب الرومي الذي أوغل في داخل الدكان بغير مبالاة لاغتراره بقلة الحواجز والحراس، فحسبا أنها مناولة إكرام وضيافة تغنيهما عن التسلل والاختلاس، وانتظرا هذه المناولة انتظاراً غير طويل، لأن الكلب المسكين لم يشعر بعد ذلك إلا بضربة من الساطور أوشكت أن تقصم صلبه، وانطلق يعوي على غير هدى وهو(531/3)
يقول لصاحبه الذي طفق يناديه ويستعيده: لا لا يا صديقي. . . (عشرة إكسو ولا واحد ناوله. . .)
والدجالون أعداء الديمقراطية قد لبثوا سنين عدة وهم يرفعون العقائر بحرب البطالة وهم يزعمون أنهم خلقوا عملاً لكل مستطيع لأنهم أداروا معظم المصانع على صنع الدبابات والمدافع والطائرات وأدوات الهلاك
وانظر أيها العالم الذاهل لقد هبط عدد العاطلين من ثلاثة ملاين إلى مليون!
وانظر مرة أخرى لقد هبط العدد من مليون إلى مئات قليلة من الألوف!
وانظر مرة أخرى لقد خلص الوطن من العاطلين أجمعين، وزاد على ذلك أن استدعى إليه الملايين من عمال الأجانب المسخرين
ثم أفاق العالم من ذهوله على أضعاف أولئك العاطلين مقتولين ومجروحين ومشوهين، ولن تنقضي مدة حتى تنجلي الهزيمة عن أضعاف أضعافهم من المساكين عالة على أوطانهم وعلى العالم كله عدة سنين
وهذه هي (المناولة) التي يحسنها الدجالون من أعداء الديمقراطية، ويسمونها علاجاً لمشكلة الأرزاق، وتسوية بين الطبقات، وليست هي من ذلك في كثير ولا قليل
خير من كل علاج كهذا العلاج أن يقوم المجتمع على تعاون الطبقات فيفرض المعونة على القادرين لينتفع بها الضعفاء حقاً مفروضاً لهم في رقاب الأمة أو الدولة، وأن يفتح للفقير باب السلم فيصعد عليه إلى الذروة حيثما استطاع، وأن يتسابق العاملون في ميدان الحياة كما يتسابق الأحرار ولا يستكينوا فيها كما يستكين العبيد
فالكرامة الإنسانية تأبى أن تحل مسألة الأرزاق كما حلتها مصالح السجون في العالم المتمدن بأسره: كل مسجون ينام وهو شبعان، وكل مسجون له عمل يحرك به يديه، وكل مسجون يكسو جسده ويأوي إلى سقف يظله ويعرض نفسه على طبيب
ولكنه لا يحسد على هذا النصيب
والعقل الإنساني يأبى أن تحل مسألة الأرزاق بالإكثار من مصانع الذخيرة والسلاح، لأن علاج البطالة بالموت والخراب طب مجانين
إنما الكرامة والعقل أن نحفظ الحرية وأن نطلب الرزق مع الحرية، وأن نؤمن بأن أخطاء(531/4)
الديمقراطية في تدبير مسألة الأرزاق أسلم من صواب مزعوم لا يثبت على التجربة برهة حتى يعصف بكل ما أفاد، إن صح أنه أفاد.
عباس محمود العقاد(531/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
حياة الأديب - الصديق - قلدوا قلدوا - الشيخ المراغي -
النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة
حياة الأديب
دعيت لإلقاء خطبة في تأبين المرحوم عبد الحميد الديب فأجبت، وكانت نيتي أن أقول رأيي علانيةً في الحياة التي يحياها مثل ذلك الأديب، لئلا يكون الإكثار من الثناء عليه إغراء لذلك اللون من الحياة القفراء
ثم رأيت الحفلة فوق ما كنت أنتظر، فقد اشترك فيها خطباء وشعراء من الطراز الجيد، وحضرها جمهور من أفاضل الناس، وتلى فيها خطاب أرسله وزير الشؤون الاجتماعية وخطاب أرسله وزير الأوقاف. وتلك مظاهرة أدبية تمنع ما أردت أن أقوله في نقد الحياة التي اختارها ذلك الشاعر المسكين
ولكن هذه المظاهرة بدت لي باعثاً جديداً على أن أقول ما نويت أن أقول، فقد تجسم التخوف من شيوع البوهيمية بين فريق من أدباء الجيل الجديد، وخفت أن تكون هذه المظاهرة دعوة إلى تحلل الأديب من واجبات الحياة في نظامها اللائق بأهل البيان
وكذلك انطلقت فقلت: إن عبد الحميد الديب كان على جانب من الأدب والذكاء، ولكنه ظلم نفسه حين انخدع بالرأي المنحرف، وهو رأي من يتوهمون أن البؤس يذكي المواهب، ويزيد من يقظة العقول. وقد آمن بهذا الرأي إيماناً فرض عليه أن يجعل همه في الوصول إلى الظفر بلقب (شاعر البؤس)، وهو لقب لا يتمناه لنفسه إلا من حرم نعمة التوفيق. وماذا جنى عبد الحميد الديب من ذلك اللقب الطنان! كل ما جناه أن يعيش في رحمة المترحمين، ولا يحتاج إلى الترحم غير المساكين، وإذا كان الأدب لا يمتع أهله لغير المسكنة فعليه اللعنة إلى يوم الدين!
ثم قلت:
أين الشريعة التي توجب أن نذل أنفسنا في سبيل الأدب؟(531/6)
وما قيمة الأدب إن لم يجعلنا أعزاء؟
وما هذه الخرافة التي تقول بأن من حق الأديب أن يعيش بلا مهنة تغنيه عن سؤال الناس؟
وكيف نهدي الناس إلى الخير ونحن نستهديهم المال؟
هل ننسى قول أبي العتاهية:
لو رأى الناس نبيَّا ... سائلاً ما وَصَلوهَ
إن الاحتياج إلى الناس بداية الانخذال، ولو كانوا من الأهل والجيران، فإن احتاج الأديب إلى معونة إخوانه وهو قادر على كسب الرزق بعرق الجبين فهو أديب زائف لا أديب صحيح
من واجب الأديب نحو أدبه أن يصونه عن إفضال المفضلين، لينطق بكلمة الحق في حرية وصراحة وإخلاص، وهذا لا يتيسر للأديب المحتاج إلى الإفضال
هل تذكرون ألقاب شعرائنا وعلمائنا في العصور الخوالي؟
كانت ألقابهم أنساباً إلى الحرف والصناعات، ففيهم الزجاح والقفال، والتمار والوقاد، والصبان والبنان والسراج والحداد والزيات واللبان، وكانت هذه الأنساب من أجمل التشاريف، وهي باقية على الزمان
وإذا كان التاريخ سجل أسماء تكسب أصحابها بالأدب فقد كان أولئك المتكسبون من حواشي الملوك. وقد اصطلح الناس بكل زمان ومكان على أن هبات الملوك تحيات لا معونات
وهل يتقدم ملك بتشجيع أديب إلا وهو يعرف أنه يضع جوهرة جديدة بين جواهر التاج؟
وما حظوظ الأدباء الذين ظفروا بهبات الخلفاء والملوك والأمراء؟ ما حظوظهم في التاريخ؟
كانوا من الموجهين في الحيوات السياسية والأدبية والاجتماعية، وكان إليهم المرجع في تدبير شؤون الملك، وكانوا المتصرفين في شؤون السلم والحرب
فما هو حظ الأديب الذي ينتظر هبات من أدباء لا ملوك؟
أعاذكم الله من احتياج الزميل إلى الزميل!
إن قتل النفس أهون من الاحتياج إلى الأخ الشقيق، فكيف نستسيغ الاحتياج إلى الرفيق؟
وفي أدبائنا من يتوهم أن نظم أبيات في هذا الفلان أو ذلك العلان تمنحه الرزق، فإن صح توهمه فسيكون رزقه من الرزق الحرام لا الحلال(531/7)
إن رزق الأديب من الذوق، واللمحة الواحدة من طلعة البدر قد تكون زاده الروحي إلى آخر الزمان
إن الأديب الحق ليس أسيراً للوطن ولا أجيراً للمجتمع، فكيف يكون أسيراً لفلان، أو أجيراً لعلان؟
وعبد الحميد الديب لم يقتل نفسه عامداً متعمداً، فأنتم خدعتموه وضللتموه، وفرضتم عليه أن يستغيث بمعروفكم يا أشحاء!
تقول العبارة المصرية (فلان يقتل المقتول ويمشي في جنازته) وأنتم القتلة لذلك المخلوق الذي وثق بكم، وأنتم حملة المصاحف أو القماقم بجنازته العجفاء، فما قيمة براعتكم في الرثاء!
إن دموعكم يا قاتليه لن تنجيكم من غضبتي عليكم
فاسمعوا هذه الكلمة، واعلموا أن بكاءكم في هذا الاحتفال سيمر بلا ثواب، وقد يكون مجلبة العقاب، لأنكم تزينون لسامعيكم حياة لا ترضونها لأنفسكم إلا مكرهين
ثم قلت: وماذا في خطاب وزير الشؤون الاجتماعية؟
إن فؤاد باشا سراج الدين يعد بأن سيضع نظاماً يقي الأدباء شر التشرد، وأنا باسمكم أعلن استقلال الأدب عن الحكومة، فما يجوز أن نطلب الاستقلال لبلادنا ونطلب الحماية لأقلامنا
إن تطوعت الدولة برعاية أديب أعجزه المرض عن طلب الرزق فذلك عمل يستأهل الثناء، ولكننا نرفض حمايتها لأديب يستطيع كسب القوت، ولو بالفأس والمحراث
نحن لا نطالب الدولة بشيء وإنما نطالب أنفسنا بكل شيء، فمن الواجب أن تكون لنا مشاركات في جميع الميادين، ومن الواجب أن نكون رجال أعمال، كالذي صنع شيخنا طلعت حرب، فقد حول ذوقه الأدبي إلى الاقتصاد. وبهذا استطاع أن ينظم أعظم قصيدة عرفتها اللغة العربية، وهي (بنك مصر) ثم أردف القصيدة بمقطوعات هي تلك الشركات
وإذا بدا لنا أن ننسحب من ساحات الثراء فليكن انسحابنا عن زهد لا عن يأس، ولنكن في فقرنا نساكاً لا عاجزين، فالنية التجرد عن الدنيا نية مقبولة، على شرط أن تكون من وحي التحليق لا وحي الإسفاف
إن الأمم القوية تستطيع تلوين الأنظمة السياسية بشتى الألوان، وتستطيع أن تبلغ صوتها(531/8)
إلى آفاق الشرق والغرب، وتستطيع أن تعقد المعاهدات وتثير الحروب، ولكنها لا تستطيع خلق الأديب، لأن الأديب لا يخلقه غير فاطر السماء
الدنيا لنا، إن شئنا، فالمواهب الأدبية أعظم المواهب، ولو بذلنا في طلب الدنيا معشار ما نبذل في طلب الأدب لكنا أغنى الناس، فلتكف الدولة برها عنا، فنحن كأشجار الصحراء، لا نرجو غير ندى السماء
أيجود الله علينا بالأدب ويبخل بالرغيف؟
قولوا كلاماً غير هذا، فلن يتخلى الله عنا، وسنظل بفضله أغنى الأغنياء
الصديق
في هذه اللمحة صلصل الهتاف مؤذناً برحيل الأستاذ طه الراوي عن القاهرة بعد دقائق، فما الوسيلة لتوديع رجل كانت داره ولن تزال دار المصريين في بغداد؟
حين تقرر سفر الأستاذ صادق جوهر إلى العراق كان من الواجب أن أقابله أنا والدكتور عبد الوهاب عزام لندله على أصدقائنا هناك، وقد دللناه على رجلين: طه الراوي ورضا الشبيبي، مع حفظ الحقوق لسائر من عرفناه من كرام الرجال بوطن دجلة والفرات
وقد كان عجباً للناس أن يروني أذكر العراق بالخير في كل وقت، وفاتهم أن يعرفوا أن المصري حين يشرق لا يكون همه إلا معرفة الكنوز المجهولة من فضائل الشرق
ونحن عرفنا العراق، فهل رأينا فيه غير الجميل؟ ولنفرض أن فريقاً ممن عاشوا في العراق عانوا بعض المتاعب، فمتى خلت الحياة مما يكدر الصفاء؟
وهل نجد السعادة كاملة في أي أرض حتى ننشدها كاملة في العراق؟
إذا عز علي أن أصافح الأستاذ طه الراوي وهو راجع إلى بغداد فلن يعز علي أن أخلق ألف فرصة وفرصة للحديث عما يتحلى به من شمائل وآداب
قلدوا قلدوا
كان الأستاذ عبد الجبار الجلبي قد صارحني بأنه غير راضٍ عن القاهرة، لأنها أصبحت صورة منقولة من المدائن الأوربية، وقد أجبت بأن مزية مصر هي سرعة النقل، وقد نقلت مصر فكرة الانتفاع بالسكك الحديدية قبل أن ينقلها الأتراك، مع أنها كانت في ذلك الوقت(531/9)
ولاية تركية
وحين دخلنا سنتريس قال السيد عبد الجبار: إن مدخل سنتريس مدخل قرية أوربية لا قرية شرقية، فكيف انتقل التقليد إلى الريف؟
فأجاب الأستاذ الراوي: لقد حان الوقت لتبديد النصيحة السخيفة، نصيحة من يقول: لا تقلدوا مثل القرود، فكما كان القرد أذكى من الحيوان إلا لأنه يقلد كما يقلد الإنسان، وهل كان الحمار حماراً إلا لأنه يغفل عن التقليد؟ وهل أفلحت إنجلترا إلا بتقليدها ما يجد من الاختراعات الأوربية والأمريكية؟ قلدوا مثل القرود، ولا تغفلوا غفلة الحمير، فنحن نرى قرداً يعلو ظهر حمار، ولا نرى حماراً يعلو ظهر قرد
الشيخ المراغي
في محطة القاهرة رأينا شيخاً من بعد، فقال ضيوفي؛ من هذا الشيخ المهيب؟ فقلت: هو الشيخ المراغي، فتعالوا نسلم عليه، لتقولوا إنكم سلمتم على شيخ الأزهر الشريف
وأسرعت فاستوقفت الشيخ ليسلم عليه ضيوفي، فقال الشيخ حين رآهم: هل جئتم للسؤال عن طبيب ليلى المريضة في العراق؟
فقال الأستاذ الراوي: يا سيدي، إن الناس (يقولون ليلى في العراق مريضةٌ) هم يقولون، يقولون
فهتفت: وأنا أيضاً أقول، وليلى تفهم ما أريد
وفي القطار قال الأستاذ الراوي: إن الأزهر لم ير مثل الشيخ المراغي منذ ثلاثمائة سنة. فقلت: وهل تنسى الشيخ محمد عبده؟ فأجاب: الشيخ محمد عبده شخصية دولية لا أزهرية، ولو كان الشيخ عبده في صبر الشيخ المراغي لأتى في إصلاح الأزهر بالأعاجيب. إن الشيخ عبده كان ثائراً، والثوار لا يسلمون من أذى الجهلاء، أما الشيخ المراغي فهادئ، وهدوء المصلحين يشبه هدوء الينابيع المطمورة في جوف الأرض، فهو يتحرك والناس يظنونه في سكون. ولقد قرأت له كلمات في تفسير بعض آيات القرآن تضعه في الصف الأول بين رجال الاجتهاد
قلت: والحكم بأن الأزهر لم ير مثل الشيخ المراغي منذ ثلاثمائة سنة فيه جور على أسلافه من الأكابر، وفيه جور على الذاتية المصرية، وسأدعو الأستاذ الأكبر إلى وضع كتاب(531/10)
تسجل فيه المناقب الكريمة لمن تولوا مشيخة الأزهر الشريف
النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة
منذ أعوام أخرج الأستاذ إبراهيم مصطفى بحثاً طريفاً سماه (إحياء النحو) فرد عليه الأستاذ محمد عرفة بكتاب جيد سماه (النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة)، ومن ذلك البحث وهذا الكتاب ظفرنا بثروة أدبية تذكر بالجهود الكريمة للنحاة القدماء
وكان المنتظر أن يتشعب الجدل بين هذين الرجلين، وأن تثور حرب نحوية تنتهي بأن يكون للمصريين مذهب في النحو ينافس مذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين
ثم لاحت فرصة الجدل حول (تيسيير النحو)، فظهرت أبحاث تبشر بطلائع جديدة في الدراسات النحوية، وتبعتها تعقيبات في الجرائد العراقية والسورية
ثم ماذا؟ ثم سكتت الأصوات، وانصرف المجادلون عن حومة الجدال، مع أن النحو لن يحيا إلا إذا صيرناه من المشكلات العقلية، لنجذب إليه أنظار المتأدبين، ولننفض عنه غبار الخمول، فهل نرجو أن تثار معركة النحو من جديد؟
زكي مبارك(531/11)
1 - نشأة الدرامة الإنجليزية
للأستاذ دريني خشبة
لا نرى بدا، ونحن ندعو إلى سلك الأدب المسرحي في الأدب العربي، من أن نضع موجزاً نافعاً عن نشأة الدرامة في كل من الممالك الأوربية بين أيدي أدبائنا الشباب الذين نعتمد عليهم في إحداث تلك الثورة في الأدب العربي، أولئك الشباب الذين لم يتيسر لهم تعلم لغة أجنبية ينفذون منها إلى الثقافات الأدبية الحديثة، أو الذين تعلموا إحدى تلك اللغات، ثم صرفتهم شواغلهم الكثيرة عن التفرغ لدراسة آدابها، وأدبها المسرحي بوجه خاص، وسنحاول في هذه الخلاصات أن نجعلها مشوقة مثيرة لحب الاستطلاع في نفوس القراء، بحيث نباعد بينها وبين الجفاء العلمي ما وسعنا إلى ذلك من سبيل. . . أما لماذا آثرنا أن نبدأ بنشأة الدرامة الإنجليزية فذلك لما لها من المنزلة التي لا تجحد بين زميلاتها من الدرامات العالمية؛ ثم لأنها في نظري على الأقل، توائم الكثير من مشاربنا في الحياة بما نتوخاه من الفضيلة، وتفيض به من الرجولة الكاملة، ولأنها في الجملة ذات أغراض عالمية، وأهداف أرفع
وقبل أن نخوض في تفاصيل نشوء الدرامة الإنجليزية، نرى أن نلم شعث هذا البحث الطويل المتشعب في عجالة قصيرة نستعين بها في ضبط الموضوع كله، وإليك هذه العجالة:
1 - نشأت الدرامة الإنجليزية في طورها الأول في ظل الكنيسة، وكانت تنقسم في ذاك الطور البدائي إلى قسمين، أو إلى نوعين: الأول، النوع الإنجيلي، أو السمعي، وكانت موضوعاته وشخصياته مستمدة من الإنجيل أو الكتاب المقدس بوجه عام. ويسمى هذا النوع بالإنجليزية: أما النوع الثاني فهو القديسي أو الكرامي. وموضوعاته وشخصياته مستمدة من حياة القديسين المسيحيين وكراماتهم ولذلك سماه الإنجلين
2 - أما الطور الثاني فهو الطور (النقابي)، وهو الذي كان يتولى جميع شئون التمثيل فيه أو من أصحاب الحرف المختلفة، وكانت معظم دراماتهم من النوع القديسي أو الكرامي
3 - ثم الطور الأخلاقي، وهو الذي ينسخ الدرامات الإنجيلية والقديسية ويحل محلها درامات أخلاقية أبطالها وموضوعاتها الفضائل والرذائل، لا زيد ولا عمرو، فيلبس رجل(531/12)
لباساً شنيع الهيئة ليمثل الشر، ويلبس رجل آخر لباساً جميلاً ليمثل الخير، وهلم جرا، ويدعي النقاد الإنجليز المسرحيون المحدثون أن المذهب التعبيري الذي قام في ألمانيا قبل الحرب الحاضرة إنما قام على أنقاض هذا الطور الأخلاقي من أطوار نشوء الدرامة الإنجليزية، وقد أشرنا إلى ذلك في كلامنا على المسرح الألماني، وسوف نعود إليه إن شاء الله في حينه. وقد نشأ إلى جانب الدرامات الأخلاقية أو ال كما يسمونها نوع مستقل فكاهي من قبيل (الفواصل) المضحكة التي تعمل في الحفلات عندنا، ولذلك فهم يسمونه: ولا بأس من الإشارة في هذه العجالة إلى أن النوع الأخلاقي إنما نبتت جذوره في النوع الإنجيلي، وذلك لأنه يمثل الجد والوقار والاحتشام الذي يقتضيه الدين ويلازم كل ما له علاقة بالكتاب المقدس. وأن نوع الفواصل إنما نبتت جذوره في النوع القديسي أو الكرامي، لأنه يمثل الهزل ويعنى بالتضحيك والسخرية
4 - أما الطور الرابع فهو طور المأساة العظيم الذي شق للأدب الإنجليزي طريقه إلى تسنم الذروة بين الآداب العالمية جمعاء
ويلاحظ في هذا التطور أنه يشبه إلى حد بعيد تطور الأدب المسرحي عند اليونان القدماء. . . ذلك الأدب الذي لخصناه لقراء الرسالة منذ ثلاث سنوات.
الطوران الأول والثاني
لما كانت أغلبية الشعب الإنجليزي أغلبية أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولما كان كتاب هذه الأغلبية المقدس مكتوباً لها إما باليونانية أو اللاتينية، وذلك قبل أن يترجم إلى الإنجليزية، فقد كان رجال الدين يلقون الأمرين في تلقين الشعب مبادئ دينه، كما كان يتعذر تلقينهم قصص التوراة وقصص الإنجيل، مما لابد لكل شعب متدين أن يلم به، لما فيه من العبرة والموعظة الحسنة، ولما له من الأثر في غرس محبة الدين في القلوب المؤمنة، والتغلغل به في سويداءاتها. . . من أجل ذلك اضطر رجال الدين إلى استخدام التمثيل وسيلة فذة لبلوغ أربهم إلى ألباب الشعب والوصول في سرعة ويسر إلى تثقيفهم بثقافة كتبهم المقدسة فنجحوا في ذلك نجاحاً باهراً على الرغم من أن جميع الدرامات الإنجليزية التي كان يمثلها القسس أنفسهم في البيع والكنائس إنما كانت تمثل باللغة اللاتينية، تلك اللغة التي كان الشعب قليل الإلمام بها، حالة مسلمي الترك والهند والصين وجاوة اليوم باللغة العربية.(531/13)
وكان القسس يحافظون بقدر المستطاع على حرفية الكتاب المقدس في التمثيل، وإن كانوا أحراراً في اختيار الملابس التي يرونها لائقة ووافية بالغرض. ولهذا لم تكن الدرامات الإنجليزية تصادف من النجاح وإقبال الشعب ما كانت تصادفه الدرامات القديسية أو الكرامية المستمدة من حياة القديسين وكراماتهم الخارقة، لما كانوا يتمتعون به من حرية في صوغ الحوار وتكييف الحوادث تكييفاً يسهل خلق الجو المسرحي، ويطلق العنان للمبالغة في الأداء لضمان السيطرة على ألباب الجماهير والضرب على أوتارهم الحساسة، ثم لما في الخوارق من عناصر الخيال والخروج على مألوف الحياة العادية مما يضمن نجاح ذلك النوع من التمثيليات بالقدر الذي لا يتفق للتمثيليات الإنجليزية. أما أمثلة الدرامات الإنجليزية فكثيرة. وهي تشمل كل ما جاء في الكتاب المقدس من قصص رائع معروف من الجميع
أما الدرامات القديسية فقد زاد في نجاحها وضاعف من إقبال الجماهير عليها أداؤها بلسان الشعب باللغة الأنجلوسكسونية، وكان ذلك لأول مرة إبان حكم الملك إدورد الثالث (1327 - 1377) أي في منتصف القرن الرابع عشر على وجه التقريب، وهو التاريخ الذي يعتبر بحق فجر النهضة التمثيلية في إنجلترا. وكان لهذه الدرامات مواسم تمثيلية تشبه ما كان عند اليونان منها. وكانت هذه المواسم هي الأعياد الدينية بوجه عام مثل: عيد الميلاد، وعيد الفصح أو عيد القيامة وأحد العنصرة أو ال وعيد الجسد أو القربان المقدس ولا غرو أنه كانت هناك مناسبات خاصة لتمثيل هذه الدرامات، فمن ذلك حفلات الزفاف واستقبال الملوك وقيام الحجاج إلى الأراضي المقدسة والمناسبات السياسية وتدشين البنايات الهامة. . . الخ. . .
ويمضي الزمن، ولشدة إقبال الناس على التمثيل، بحيث لم تعد هيئة الإكليروس كافية للقيام بتمثيل مئات الدرامات التي ظهرت بناء على قانون العرض والطلب، انتقل زمام التمثيل من أيدي القسس إلى أيدي رجال النقابات التي كانت تمثل الطوائف المختلفة للعمال. وهذا هو الطور الثاني الذي ازدهر فيه التمثيل الإنجليزي أيما الازدهار، وذلك لروح التنافس بين هذه النقابات، ولما كانت تلك الطوائف تنفقه من المال والجهد والعناية وتحري أصول الإخراج لتبلغ دراماتها القديسية حد الإتقان، ولما حدث بعد هذا من التنافس بين المدن(531/14)
الإنجليزية للوصول بتمثيلياتها إلى حد الكمال. فهذه لندن، وتلك دبلن، ثم يورك وشستر وكوفنتري ولانكاستر. . . وكل المدن الكبيرة وكثير من أمهات القرى الإنجليزية، تبذل من العناية والمال في ذلك ما كانت تبذله أثينا من مدن اليونان القديمة. بل ربما زادت عليها كثيراً
وكانت كل نقابة تصنع مسرحاً متحركاً فوق عجلات أربع أو ست، مركب من طابقين يستعمل الممثلون السفلي منهما لتبديل الملابس ولعمل الدمام (المكياج) وتؤدي التمثيليات في الطابق العلوي. وكانت هذه العربة أو ال تطلى بألوان غريبة تلفت النظر، وكانوا يستعينون على تكوين المناظر بوسائل فجة، فكان السحاب مثلاً يرمز إليه بأقمشة داكنة أو بيضاء حسب المنظر المطلوب. فإذا كان المراد أن يبرز ملاك من بين السحب انفجرت سحابتان وبرز من بينهما تمثال خشبي لهذا الملاك؛ أما الشجر فكان يمثل بأشجار اصطناعية، وكذلك البيوت والمدن والقلاع والحصون. كما كان يرمز إلى الجحيم بوجه كبير مسخ، ذي أنف أحمر ضخم، وفم مهول تبرز منه أنياب مرعبة متحركة. أما العينان فكانتا كوتين كبيرتين في هذا الوجه، وكان يوضع خلفهما مشعلان فينفذ اللهب من الفجوتين فيضاعف في شناعة ذاك الوجه. وكانوا يستعينون ببرميل ضخم يطبلون داخله بآله لأحداث صوت الرعد، أما العواصف فكانوا يحدثونها بنفخ قرب كبار تشبه منفاخ الحدادين، ثم يسلطون الهواء المنبعث منها على أقمشة رقيقة فتوهم الأثر المنشود
وكانت الجياد تجر هذا المسرح من حي إلى حي، ومن ملتقى شارع كبير بشارع كبير آخر، ومن ميدان إلى ميدان. وفي كل من هذه (المواقف) تمثل رواية من تلك الروايات القديسية فيجتمع الناس، ويزاحم الشعب بالمناكب، ويتركون متاجرهم مدفوعين بعامل حب الاستطلاع، والتفرج بالمجان بهذه الفرج المليحة التي تنشر الهدى، وتسكب النور في ظلمات القلوب، وتفتح أبواب الجنة للضالين، على حد ما وصف أحد القسيسين تلك المسارح. وكان الجمهور لهذا السبب ينتظر أعياده ويرتقبها بصبر فارغ وتشوف عظيم، لينعم بشهود تلك الدرامات التي يلتمس فيها مثله. وكان التمثيل يبدأ قبيل العيد بأيام وينتهي بعيده بأيام أخرى، ولذلك فطالما كانت الأعياد الدينية تنقلب فتكون مواسم تمثيلية يتثقف بها الشعب ويتصل فيها بالقديسين والشهداء من أبطاله الدينين اتصالاً وثيقاً. وكانت النقابات(531/15)
تبتكر الوسائل الممكنة للحصول على المال الذي هو عصب كل مشروع يرجى نجاحه، فلما آنست من الناس هذا الإقبال على شهود دراماتها، لم تر ضيراً في أن تنتهز تلك الفرصة لتعرض مشروع (المزاد التمثيلي!) وكان ذلك في سنة 1417 فالحي الذي يعطي مزاداً أضخم من الحي الآخر هو الذي يفوز بتمثيل الروايات فيه، والمنزل الذي يهب النقابة مبلغاً أكبر هو الذي يسعد بوقوف المسرح المتنقل قريباً منه ليسهل على أهله التفرج والاستمتاع في هدوء وراحة وإدلال على الناس
وقد وفقت النقابات إلى تنظيم العمل فيما بينها، وتقسيمه تقسيما لا يضر بكيانها، ذلك الأضرار الذي يسببه التنافس أحياناً مهما يكن تنافساً شريفاً مشروعاً. وكان يراعى في ذلك التقسيم أن تتناسب الدرامات ونوع المهنة التي تمثلها النقابة، ففي عيد الفصح تمثل نقابة الدباغين درامة (سقوط الشيطان) وتمثل نقابة تجار الأقمشة درامة (الخلق والسقوط) & في حين تمثل نقابة السقائين أو نقابة صيادي السمك درامة (طوفان نوح). وكانت بعض هذه الدرامات تنال من استحسان الجمهور ما يقتضي استمرار عرضها وتمثيلها مرات متتالية أياماً متوالية، فقد حدث أن استمر عرض رواية (أمور من قصة خلق العالم) ثمانية أيام متتالية، وذلك في عهد الملك هنري الرابع سنة 1409 في حي إسلنجتن بلندن. ولم تكن هناك أية عناية أو احتفال بالمناظر المسرحية المعروفة اليوم، في حين كانت العناية الفائقة قاصرة على الملابس، والأدوات التي لم يكن بد من استعمالها أثناء الأداء، فهنا كانت النقابات تنفق عن سعة، ففي رواية (يوم العدالة) مثلاً، وهي من أكثر الروايات في الممثلين عدداً، كان الممثلون الذين يؤدون دور (العاصين من أهل جهنم) يرتدون ملابس من الكتان صبغت بالأصفر والأسود والأحمر إشارة إلى الألوان السائدة في الجحيم. أما الممثلون الذين يؤدون دور (الأرواح السعيدة الناجية) فكانوا يرتدون ملابس بيضاً من الجلد الرقيق المدبوغ؛ وإذا تصورنا عدد أولئك الممثلين في مثل هذه الرواية، أدركنا المبلغ الضخم الذي كانت تصل إليه أثمان ملابسهم المصنوعة من تلك الجلود الغالية، وذلك بالإضافة إلى أجور الممثلين التي
كانت تتراوح بين أربعة عشر بنسا وأربعة شلنات، وهي تسوي عشرة أضعافها بعملتنا الحاضرة. . .(531/16)
ومن الروايات التي كان إخراجها يتكلف كثيراً من النفقات نوع تنكري يسمى الماسك ومنه النوع التنكري الإنجليز المسمى والذي كان الممثلون يرتدون فيه أغلى أنواع الملابس وأشدها بريقاً ولمعاناً - وقد أتى هذا الطراز إلى إنجلترا من إيطاليا ثم انتشر في عصر الملك إدورد الثالث، ثم ألف فيه المسرحي الإنجليزي العظيم بن جونسون الروائع والغرر
ولعل أقدم الدرامات القديسية التي وصلتنا من هذه العصور هي تلك الدرامة المسماة (القديس نيقولا) والتي ألفها باللاتينية أديب إنجليزي من أدباء القرن الثاني عشر اسمه هيلاريوس وقد أهداها إلى كنيسة القديس المسمى باسم درامته. وملخصها: أن رجال الكنيسة في عيد هذا القديس يرفعون صورة القديس نيقولا من موضعها في الكنيسة، ثم يجلس في مكانها ممثل بارع يستطيع أن يضبط حركاته ويحبس أنفاسه بحيث يظن من يراه، بل يتأكد، أنه تمثال وضع هناك للقديس صاحب الكنيسة؛ وحينما تنتهي الصلاة وتعقبها تلك اللحظه من الصمت الرهيب، يقبل رجل كافر لا دين له من أغنياء المدينة، مختالاً في ملابسه الزاهية، حاملاً كيساً كبيراً فيه جواهره ونقوده، حتى إذا وصل إلى حرم القديس ألقى حمله عند قدمي التمثال وسأله في تأدب واحتشام أن يحرسه له حتى يئوب من سفره. . . لكن لصوصاً يسرقون ثروة الرجل. . . ويعود الكافر فلا يجدها. . . ويجن جنونه لهذا السبب، ثم يتناول سوطاً فيلهب به كتفي القديس الذي ينزل من مقامه في تؤدة ووقار على الرغم من السياط التي تمزق جلده ويذهب نحو اللصوص فيخاطبهم ويعظمهم وما يزال بهم حتى يردوا كيس الرجل. . . ويعود القديس إلى مجلسه ويتربع عليه، فيخر الكافر نادماً. . . ويؤمن من فوره.
(يتبع)
دريني خشبة(531/17)
المشكلات
4 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
في الأمثال العربية - قتلت أرض جاهلها، وقتلت أرضا عالمها - ومعنى ذلك أن من سلك أرضا وكان جاهلاً بطرقها ضل وهلك، ومن سلك أرضا وكان عالماً بمسالكها قطعها ونجا منها. وهذا لا يختص بالأرض والمسافر، بل يعم كل من يزاول أمراً من الأمور، فإن زاوله عالماً به تغلب عليه، وإن زاوله عن جهل خاب فيه
للعلم سلطانه القاهر، والتسلح به متسلح بسلاح الظفر، وللجهل عثراته الموبقة، والمتسلح به متسلح بسلاح مفلول. إن الأمم التي تحل مشاكلها مستضيئة بنور العلم تنجح فيما تحاول، وتتغلب على الصعاب التي تعترضها، والأمم التي لا تستهدي العلم ولا تستشيره في مشكلاتها، لا تكاد تحل لها مشكلة
وما الفرق بين الأمم المتحضرة والأقوام الهمج، إلا أن الأولى آمنت بالعلم وبسيطرته على الوجود، فسعت للكشف والمعرفة، وكلما علمت شيئاً استفادت منه في حياتها، وأن الثانية لا تؤمن هذا الإيمان بالعلم، ولا تعترف له بهذه القدرة، فهي تحل مشاكلها بما يأتيها به عفو الخاطر، فتعثر دائماً ويلج بها العثار
وخير علاج ما يكون مبنياً على طبائع الأشياء، فأول ما يبدأ به معرفة طبيعة الشيء، ثم يعالج على حسب هذه الطبيعة وبنور هذه المعرفة
وعلى هذا فخير ما يعمل لحل مشكلة اللغة العربية أن تعرف طبيعتها ومن أي جنس هي! وما خصائص هذا الجنس! وقد أدركت ذلك واقتنعت به، ونريد أن نقنع به القراء
قضيتان إن آمنتم بهما سلمتم معنا بما نريد: إحداهما أن اللغة في المتكلمين بها ملكة. ثانيتهما أن الملكة لا تكتسب إلا بالتكرار لا بالقواعد فحسب
إذا استطعت أن أقيم الدليل على هاتين القضيتين وصدقتم بهما وجب أن تصدقوا أن اللغة لا تكتسب بالقواعد فحسب، بل بالتكرار والحفظ والمحادثة، وسأحاول ذلك فيما يأتي:(531/18)
اللغة: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. والتعبير باللغة والفهم عنها يقتضي أمرين:
1 - السرعة؛ فكلما خطر بباله معنى خطر اللفظ الدال على مفرداته، وخطر التركيب الدال عليه في وحاء، وكلما سمع جمله فهم معاني ألفاظها وما يدل عليه التركيب
2 - الإجادة؛ وذلك بأن يكون جارياً على قوانين هذه اللغة لا يخطئ فيها، وذلك لا يكفي في أن تكون اللغة معلومة فحسب، بل لا بد أن تكون ملكة، أي حالة راسخة في النفس، لأنها إذا كانت معلومة علماً ساذجا ولم تصر ملكة، وأراد المتكلم التعبير عن معنى، فكر وروى في اللفظ الذي يدل على ذلك المعنى، واستعرض الألفاظ المخزونة في حافظته حتى يعثر به، ثم فكر فيما يعلمه من تراكيب هذه اللغة ليختار التركيب الذي يفيد ذلك المعنى، ووضع اللفظ في هذا التركيب، وأعطاه الأحوال المناسبة، وذلك يقتضي جهداً وزمناً، وربما ينقضي بياض النهار وسواد الليل في تعبيرين أو ثلاثة، ما دامت اللغة علماً ساذجا. أما إذا عمقت إلى أن صارت ملكة، فإنه إذا أراد التعبير عن معنى انثالت عليه الألفاظ، وانثالت عليه التراكيب دون جهد ومشقة، سريعاً لا يبطئ، مصيباً لا يخطئ
وقياس ذلك قياس العامل الذي يصف الحروف للطبع، فإنه إذا كان مبتدئا واقتصر على العلم بأمكنة الحروف، وأراد بعد هذا العلم الساذج أن يصف حروف كلمة اقتضاه ذلك من التفكير والجهد والزمن ما ليس بالقليل، وربما انقضى اليوم ولم يصف إلا بضع كلمات
أما إذا تجاوز ذلك إلى أن صار ملكة، فإنك ترى يده تلقط الحروف من هنا ومن هنا، وفكره يسبق يده، ويده تسبق فكره، حتى يصف في الدقيقة عدة كلمات
وهذا شأن الملكات كلها تأتي بالشيء بعجلة وإتقانٍ، وتريك العجب العجاب، ترى الأمر الذي له أجزاء كثيرة ويحتاج إلى فكر في هذه الأجزاء يأتي به صاحب الملكة دون فكر كأنما هو ساحر يأتي بالخوارق
رآني صديق أمي، كان قد بدأ في تعلم القراءة والكتابة أقرأ فهالته السرعة والإصابة، فقال أتظنني أصدقك في أنك تقرأ من هذا الكتاب؟ لا، إنك تقرأ من حفظك. أمجنون أنا حتى أصدق أنك تقرأ ما لا تحفظ؟ أفي هذه السرعة تعلم ما هذا الحرف وما الذي يليه وهكذا وتعلم حالاته أمفتوح أم مضموم أم مكسور أم ساكن، وإن تركيب ذلك يكون كذا؟ وهبك عرفت هذه الكلمة فكيف تعرف صاحبتها بهذه السرعة، وكيف تجمع من الحروف كلمات(531/19)
ومن الكلمات جملاً، منطلقاً كالسهم، مصيباً كالقضاء؟
وهذا تفكير سليم لو أغفلنا من حسابنا أمر الملكات، ولكن الملكات كائنات من كائنات هذا الوجود، ولها هذا الفعل الغريب، والسحر العجيب. إن النجار الذي اكتسب ملكة النجارة يأتي بأعمال أشد إتقاناً وأسرع ممن لم يكتسب ملكة النجارة. إنه يدق المسمار بالقدوم مائة مرة، فلا تخيب منها مرة، حتى أن صاحبه ليمسك له المسمار وهو يدق آمناً أن تفلت منه ضربة فتصيب يده، ومن لم تكن عنده ملكة النجارة يدق مائة مرة فلا تصيب رأس المسمار منها واحدة
وإن المرء ليعجب للحائك كيف يسلك الخيوط في الخيوط المشدودة بحركة سريعة وإتقان عجيب لا يدخل الخيط في غير موضعه المراد له، ولا يعقد ولا يقطع. وإن الملكة لتدخل في أغلب أعمالنا فتجعلها أعظم إتقاناً وأسرع، وتجعلنا نأتي من الأعمال ما نحتاج إلى آلاف السنين لنعمله لو لم تكن عندنا هذه الملكات. فبالملكات نكتب ونقرأ ونتكلم ونحسب ونعمل في الصناعات المختلفة من حياكة وخياطة ونجارة وحدادة وطباعة مع الإسراع والإجادة والإحسان
ولولا الملكات لما قمنا بهذه الأعمال وسواها إلا مع الخرق والإبطاء كما أريناك في صفاف الحروف الذي لم يكتسب ملكة في صنعته. وإن الزمان لأسرع من أن ينتظرنا، وحاج الحياة شديدة الإلحاح تتطلب السرعة والإجادة، وإن قوة المرء محدودة لا تفي للعمل بدون ملكة لأن ما كان من الأعمال كذلك يقتضي من المرء جهداً ومشقة وتفكيراً تستنفد من قوته ومن دمه وأعصابه ما هو بحاجة إليه
وإنها لحكمة من الله عظيمة أن يخلق فينا الملكات فتجعلنا نجيب مطالب الحياة المتعددة بأقل ما يكون من الزمن، وأيسر ما يكون من الجهد، وأسرع ما يكون من العمل، لاسيما حاجة التخاطب. فالله أرحم بعباده من أن يقف التخاطب على هذه الجهود المضنية، والمتاعب الشاقة، والتخاطب عمل دائم، لا تنقضي منه حاجة حتى تتجدد حاج، ولا يفرغ المرء من خطاب حتى يستأنف خطاباً آخر، ولا يفرغ من فهم خطاب إلا إلى فهم مخاطبات أخرى وهلم جرا. . .
لقد قلنا الآن ما يمكن قوله في أن اللغات في الناس ملكات يقتدرون بها على الإفهام والفهم،(531/20)
وأظن أن القراء آمنوا بذلك لما أوردته من الأدلة
وقد بقى أن أقول في القضية الأخرى وهي أن الملكة لا تكتسب بقواعد وإنما تكتسب بالمزاولة والتكرار
إذا استقريت الملكات ولاحظت كيف تتكون علمت أن الملكات لا تكتسب إلا بالدأب والمرونة وتكرار العمل لا بالقوانين والعلم المجرد. لاحظ صناعة صف حروف الطباعة تجد أن العامل إنما يكتسبها بمزاولة صف الحروف والتقاط الحرف من مكانه المخصص له وتكرار ذلك حتى تكتسب الملكة، وليس يكسبها بالعلم المجرد بأن من أراد صف كلمة فليأخذ حروفها المتعددة من أماكنها المخصصة لها وهكذا فإذا أتم صفحة وضعها بين ضاغطتين لمنعها من الشتات والانفراط
لاحظ صناعة الموسيقى تجدها لا تكتسب بقوانينها الفنية فحسب، فلا تكتسب بقول الأستاذ اضرب بالخنصر والبنصر والسبابة وشد الأوتار؛ إنه بذلك لا يكون عازفاً ولا موسيقياً إنما يكون موسيقياً إذا زاول هذا الضرب مراراً وتكراراً، فأكسب أصابعه المرونة والسرعة والاستجابة لما رسمه في وحاء، ثم أكسب نفسه وذوقه بذلك الملكة في الموسيقى وفنها الجميل
ولو مكثت طول عمرك تقول لمتعلم الحياكة شد الخيط طولاً وأدخل فيها الخيوط عرضاً ذاهباً يمنة وذاهباً يسرة لما تعلم بذلك شيئاً من الحياكة؛ إنما يتعلمها بمزاولة هذه الأعمال حتى تكتسب يده الخفة والمرونة
ولو رددت على متعلم السباحة قولك اركض برجلك اليمنى في الماء، واضرب بذراعيك، لما تعلم بذلك السباحة، ولو سبح متعمداً على هذه القواعد لأدركه الغرق ولذهب ضحية القواعد والقوانين
الآن علمنا أن اللغة في المتكلمين ملكة، وعلمنا أن الملكة لا تكتسب بالقواعد، إنما تكتسب بالمرانة والتكرار، فليلزمنا شئنا أو أبينا الإقرار بأن اللغة لا تكتسب بالقواعد، إنما تكتسب بالحفظ والتكرار وهو المطلوب الذي حاولنا إثباته
أرأيتم أنني كنت مصيباً حين قلت يجب أن نحل مشاكلنا بالعلم، ويجب أن نعرف طبيعة الشيء وخصائصه لنبني الحل على هذه الطبيعة؟(531/21)
أرأيتم كيف كنا نعلم اللغة على غير طبيعتها، أرأيتم كيف كنا نمثل دوراً مخجلاً، فكنا كمن يطرق الحديد وهو بارد فيشقى ثم يشقى والحديد لا ينطرق معه ولا يلين، فيهزأ منه من يراه، ويضحك ملأ شدقيه، ويرى كيف يشقى الجهل بطبائع الأشياء صاحبه، ثم لا يحظى بطائل ولا كبير فائدة
اكثروا من المطالعة في كتب الأدب. احفظوا الكثير من أشعار العرب. احفظوا ما تقدرون عليه من الخطب. ارووا الأمثال السائرة، والنوادر البارعة، والرسائل البليغة، والمحاورات العذبة. اخلقوا في بيئتكم المدرسية جواً عربياً لا تتحاورون فيه إلا بالعربية، فإن لم يكن ذلك في جميع الدروس ففي دروس اللغة العربية
لتقوموا بروايات تمثيلية تحفظون أدوارها، وتستظهرون محاوراتها؟ وليمثل كل منكم دوره باللهجة العربية والتوقيع الخطابي
لا تكتفوا بالعام الدراسي بحفظ مقطوعات مقطوعة أو مقطوعتين، ولا برسالة أو برسالتين، بل فلوا دواوين الأدب واختاروا واحفظوا وأسرفوا في الحفظ، وطالعوا وأسرفوا في المطالعة، واكتبوا الرسائل، وحبروا المقالات على نمط ما تحفظون وغرار ما تألفون
بذلك وبذلك وحده تحوزون ملكة اللغة، وتملكون زمام البيان.
محمد عرفة(531/22)
تصويبات في الذخيرة
لأبن بسام، المجلد الثاني، طبع كلية الآداب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أخي الدكتور عبد الوهاب عزام
كان من حظي أن أكتب عن (الذخيرة لأبن بسام) في مجلة المقتطف شهر يوليو سنة 1943 كتابة سمح بها المجال المحدود. وقد أثنيت فيما كتبت على جهدك وجهد إخوانك الذين قاموا بضبط هذا الكتاب النفيس وتحقيقه، ولقد وعدت أن أبعث إليك بكتاب خاص أصحح فيه بعض أخطاء في الطبع وقعت في الكتاب على الرغم مما بذلتم من الجهد المشكور. إلا أنني فهمت من مقال لكم بالرسالة أنك بعيد عن القاهرة إلى ثغر لا أعرف عنوانك فيه، فرأيت أن ألقاك على صفحات الرسالة لقاء عاماً لا يغضبك لأنني أعرف عن رحابة صدرك وسماحة خلقك وحبك للعلم ما لا ينزلك منازل الغاضبين من أهل الادعاء ولأنني لقيت قبلك الدكتور محمد مصطفى زيادة لقاء عاماً في العدد (522) بشأن تصويبات في (كتاب السلوك) فما غضب ولا سخط كما يفعل المغرورون، ولكنه سر وفرح وسعى إلي ليشكرني أمام الأستاذ أحمد الشايب وبعض الزملاء؛ فأكبرت علمه وتواضعه. ولا شك أنك ستهلل لهذا اللقاء لأنه يسرك أن يكون العمل الأدبي الذي أشرفت عليه أنت وإخوانك الكرام في (كتاب الذخيرة) عملاً يقرؤه الأدباء والمتأدبون فيرضون عنكم ويستزيدونكم لتخرجوا كنوز تراثنا العربي سليمة مما يشوهها أو ينتقص من جمالها
ولا أحب في هذا المقام أن أكون مذيعاً، أو تفهم أنت يا أخي أني مذيع لهفوات في الكتاب لم تقصدوا إليها؛ ولكن الله شاء - كما يقول محمد بك رشدي في كتابه فن القضاء - أن يحكم على الكتاب العربي ألا يكون سليما من أخطاء الطبع وألا يخلو من جدول للخطأ والصواب، وألا يسلم من قيام بعض القراء على تصحيحه مهما بذل فيه من جهد. وذلك شيء لا يكاد يوجد في الكتب الأجنبية التي تعرف عنها كثيراً، وتقرؤها كثيراً فلا تجد وضعت موضع ولا تجد نزلت منزل كما نجد في الكتاب العربي كلمة ميزاب وضعت موضع ميراث. . . ولا أزيدك!
ورد في صفحة 10 سطر 4 البيت الآتي:(531/23)
أبا لك أن تُهاض علاك عهدٌ ... هشاميٌّ وجدٌّ هاشمي
وأبا لك هنا فعل ماضي يكتب بالياء لا الألف ومضارعه يأبى. أي أن الذي منع علاك هيض علاك علو شرف آبائك.
وفي ص 38 س 17 (أعطي الملك محبُّ) بشدة فضمة. والصواب بضمتين هكذا محبٌّ
وفي ص 39 س6 ذكرتم ابن فتُّوح بشدة على التاء. ولكن في ص 274 عدتم فذكرتموه ثلاث مرات بضمة على التاء من غير الشدة، فأيهما الصحيح؟
وفي ص 40 س 15:
لما رمته العيون ظالمةً ... وأَثَّرْتُ في جماله الحدق
والصواب: وأَثرتْ بتاء التأنيث الساكنة لا بتاء المتكلم
وفي ص 43 هذا البيت الناقص:
. . . . . . . . . فقلت لها ... يا قلبها أحديد أنت أم حجرُ؟
ولم تكملوا هذا البيت الناقص على كثرة المراجع في مكتبة الجامعة وقد عجزت أنا والكثيرين من الأساتذة والأدباء عن إكماله. فلعل من قراء الرسالة من يكمله؛ وهو - كما جاء في الذخيرة - للمأمون الحارثي.
وفي ص 44 س13
قتلوا قرة عيني ... ومنْ أجلي قتلوه
ووضع السكون على من يكسر لبيت والصواب وضع فتحة على النون وجعل الهمزة في كلمة أجلي همزة وصل. ومثل ذلك ما حدث في ص 69 س4؛ فالشطر:
وخذ على الربق منْ أسبابه
صوابه: وخذ على الربق مِنَ أسبابه - يجعل همزة أسباب همزة وصل وفتح النون من كلمة من
وفي صفحة 77 س 2، ضبطتم الفعل مُت بضم الميم والأعلى كسرها كما في قراءة حفص (يا ليتني مِت قبل هذا)
وفي ص 133 س 10 (أن لم أُجد التأبينَ فأُجدْ البكاء والحنين، وأن لم أُحسن التملقَ والأطراء فأُحسنْ الخلوص والدعاء)، ولم أجد منكم تعليقاً على الفاء هنا في جواب الشرط(531/24)
فليس ذلك من مواضعها، وما الذي جزم الفعلين أجدْ وأُحسنْ؟
وفي ص 215 س 16
عَساكِ بحق عيساك ... مَريحة قلبيَ الشاكي
بفتح الميم من مريحة. والصواب ضمها لأنها اسم فاعل من الفعل أراح من الراحة
وفي ص 222 س1
فكم صافحتني في مُناها يد المنى ... وكم هب عَرَف اللهو من عَرَفاتها
والصواب مِناها بكسر الميم، وهو المكان المشهور في الحجاز بدليل كلمة عرفات في الشطر الثاني
وفي الصفحة نفسها س 12
ولي أمل أن يُسعِدَ السعد نلتُه ... ويَفهَم سرَّ النفس في رمزاتها
والضبط كله مختل وصوابه:
ولي أمل إنْ يُسْعِدِ السعدُ نلتُه ... ويُفْهَمُ سرُّ النفس في رمزاتها
لأن كلمة إن في الأول شرطية، فهو يقول إن ساعدني الحظ السعيد نلت أملي. والفعل يفهم مبني للمجهول وكلمة سر نائب فاعل، والمعنى أن سر النفس يفهم مما ترمز به.
أما تعليقكم على هامش الكتاب رقم - 5 - فلا معنى له.
وفي ص 230 س 10
دَوَيْنِ الكثيب الفرد قُضبٌ وكثبان
والصواب دُوَيْنَ بضم الدال وهي مصغر كلمة (دون)
وفي ص322 س11 هذا البيت
لم أر أن أكون من رواته ... إذ هو معدود في هناته
والبيت كما ترون مكسور في شطره الثاني، ولم أعرف صحته
وفي ص 328 س15 (ونورثها إذا مُتنا بنينا) والصواب مِتنا بكسر الميم كما تقدم
وفي ص 236 س10
لم يَحْك نائَلك السحابُ وإنما ... حُمَّتْ به فصبيبها الرخصاء
والصواب الرحضاء بالحاء المهملة والضاد المعجمة(531/25)
وفي ص 338 س1
فان كسدت أعلاق علمي عليهم ... فلا غرو أن يكسد لدى النعم الشذر
والصواب إن يكسد لأنها إن الشرطية
وفي ص 386 س 13
أيها العائب العذا ... ر وذو الجهل عائبه
بتنوين اللام الأخيرة من كلمة الجهل، والصواب حذف التنوين
وفي ص 391 س 15 (فشبه تبرك مُتْلُوَّا). ولم أفهم معنى هذه الكلمة ولعلها مجلوا كما في الهامش
وفي ص 394 س15
أو تباكر صَيْدَ ألمها فابنُ حَجْرٍ=أو تبكَّي الديار فابن خذام
وابن حجر هو امرؤ القيس الشاعر الجاهلي فهل هو بفتح من حجر كما ضبطتم؟ والياء في الفعل تبكي لا داعي لها لأن الفعل مجزوم عطفاً على ما قبله. والصواب كتابتها هكذا (أو تُبكِّ) ولا ينكسر البيت على هذا
وفي ص 402 س 18
قل لأبي يوسف المنتقى ... الفاضل الأوحد في عصره
وضبط الفاء من يوسف بالفتح خطأ، لأن البيت ينكسر على هذا الضبط، والواجب أن ينون هذا العلم (أي يصرف) ليستقيم الوزن، فالأبيات من بحر السريع كما لا يخفى
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد عبد الغني حسن(531/26)
من تواريخ الأدباء الشعراء في الأدب الفرنسي
جان دولافونتين
(1621 - 1695)
بنو آدم كالنبت ... ونبت الأرض ألوان
فمنهم شجر الصند ... ل والكافور والبان
للأستاذ محمد حسني عبد الله
تمهيد لحياته العقلية بحياته العاطفية
كان لافونتين قد أربى على الستين من سني حياته عندما صادف ذات صباح الآنسة (بوليو) وهي في جلال ربيعها الخامس عشر. فإذا ملأ عينيه من جمال لها يموج فيه الطرف، ورواء وحسن يبهران الأبصار، عرته بهتة وذهل عن نفسه، فهام على وجهه على غير هدى حتى التوت به الطريق واستغلقت عليه معالمها. وما زالت به الهيمة وقصاراه ترديد صورتها إلى أن أطبق عليه المساء وهو بعد لا يشعر أنه قطع مسيرة يوم مذ صادفها من مطلع الشمس إلى مغربها. ولم يكن يومه شاقاً ولا عسيراً. فهو يوم للحسن ملكت دولته خيال الشاعر كما في أي يوم مضى من شبابه. فقد طالما تعود أن يتذوق الجمال وأن يمضي مع أحلامه وهو يصور روائعه لخياله غافلاً عن الوقت ومره، والطريق ومعالمها، والحياة وصخبها ما التذ بالسير والخيال. وإنما كان يومه غريباً فهو لم يضل سبيلاً قبله. فكم من أرض قطع وكم من حزن أجاز وبطن هبط وهو في مسابح الأحلام، وفي كل مرة كان أهدى إلى بيته من قطاة. ولكن هزة الجمال الفتى أضلت، هذه المرة، الستين عاماً التي ينوء منكباه بحملها فما عاد يعرف سبيل الرواح حتى التقى بخادمه عند الطريق. فعاد به إلى وكره. فلم يك بعد هذا ليبرح فراشه أياماً ثلاثة وهو ما يزال متأثراً بالوجه الصبوح الذي أهلت عليه فتنته بما لم يعهده من قبل في سلطان الجمال. وهكذا ما زال شيخنا مع الستين شاب القلب فتى العواطف. ولهذا معناه فما استهللت بهذه الأقصوصة إلا لتبيان أخص ما في خلق هذا الأديب الشاعر. فقد أصبح سهلاً الآن أن نستوضح تقديره للجمال لدرجة الافتتان به مجرد الجمال، إلى جانب بوهيميته ويسر أخذه(531/27)
للحياة من مجرد تصرفه حيال رؤيته للصبية ترفل في الحسن. فهو إذ رآها قنع بمرآها وبصيان صورتها في ذهنه وبالخلاص من هذا بلذة معنوية حرفة فلم يعمد إلى مجاذبتها الحديث وعقد أواصر المعرفة معها تمهيداً لحاجة مادية - فهذا أبعد ما يكون عن طبعه - فهو إذن معني بالجمال لذاته. كذلك إذ قنع بهذه الشحنة المعنوية لأحلامه، اندفع في السير على غير متجه، وخبط في الأرض خبط عشواء، وهذا يفسر جانب البوهيمية في سجاياه. ثم أمضى يومه كله معنياً بما عاين لوقته، يسرح في رياضه سائم الطرف والبال، فأضاع يومه حالماً وما أيسر تناول الحالمين للحياة. ولندع الآن يسرد بقية القصة بنفسه لعلنا ندرك في قوله مزيداً إذ فسر لصديق عاتبه، سر انحجازه عنه هذه الثلاثة أيام التي توارى فيها فقال:
(لِمَ لم تتقصى يا صديقي أسباب انحجازي عنك طيلة هذه الأيام الثلاثة فأفضي إليك بدخيلة نفسي؟. . . إذن لقلت لك بلا مواربة إنني وأنا المسن لم أملك دفعاً لإغراء صبية أغراني بالحلم فيها جبينها وربيعها الخامس عشر، وعيناها الزرقاوان، وطراوة بشرتها الوردية، وسحر قسماتها ولمحاتها الذكية. ثم لأقمتك بعد القول حكماً باسم الجمال)
إلى هذا الحد من قوله قد تشم رائحة الإعجاب البدني حرفاً ولكنه يعود فيجلو لنا الجانب الساحر الرقيق من طبعه:
(ولكن. . . لو أن هذا المخلوق الإلهي الصغير الذي عكر صفو راحتي وهدوء شيخوختي قد صادف نصفه الحقيق به، لكنت أنأي الناس عن الحقد عليه. بل لكان هناءة لعيني أن أراه وحبيباً من لذاته. . . ولو أنه هزأ ضاحكاً من إعجابي به لما اضطغنت عليه. . . وإلا فلم كان أمثالي من الشيوخ الوامقين. . . أليس لإضحاك الحسان من الصبايا؟)
وههنا ما يستلفت الأنظار. فلافونتين لا تستأثر بقلبه الأثرة التي هي العنصر الغالب في عاطفة المحب. فهو يتمنى لكاعب زلزلت عنده وقار الشيخوخة وألهبت فيه برد عاطفتها كل توفيق مع حب غيره يكون أصلح وأنسب لفتاها وأليق لصباها. ثم هو يسخر من نفسه في يسر ورخاوة وقلة اكتراث كمن يهزأ من امرئ لا تربطه به رابطة أو صلة. ويصرح بعاطفة كان أولى به كتمانها في سن تدعو تجاريبها وحنكتها إلى صيان ما بالنفس للنفس والتزام جانب الصمت والظهور بالمظهر اللائق بها من الاتزان والرزانة والتعقل. وهذا(531/28)
كله شيء يجعل فهمه ميسوراً لأول وهلة
فقد عاش أبداً، بوهيمياً، صريحاً، بواحاً بسره، ينكره الاستقرار وتجافيه العاطفة الراسخة رسوخ الرواسي - فركب الهوى وأعجب بمئات الحسان مثل هذا الإعجاب العارض. ولكنه لم يصادف أبداً هذا اللون العنيف من الحب الذي يقتصر فيه صاحبه على واحدة يكاد حبها يورده موارد البوار والتلف. فكان أبداً كالنحلة عسلها في كل زهرة، يرى هذه، فيعلق بها فؤاده يوماً أو يومين، يحلم خلالها أحلاماً هنية، ويرى تلك فينسى الأولى، وهو بين هذه وتلك في دولة الخيال في شاغل عن الصلة البدنية بالصلة الروحية، سعيد بصور الحسان تتوارد جملة على مخيلته. فكأن السعادة بذلك همه، وخلو البال من الأزمات المقضة للمضاجع شاغله، وكأنه من ذلك في عالمه الخاص يعد لرسالته الأدبية المتنوعة شحنة من الفكر المنطلق الحر في نأي عن حب فرد ملح يحصر مناطق الفؤاد الذكي ويحدها.
لافونتين في البحث عن لافونتين
وامرؤ لا يعرف قلبه وخياله الحد ليس من ريب في أن عقله كذلك لا يعرف الحد. فآفاق العاطفة المترامية تفسح للعقل في مدى واسع يحار فيه. لذلك جهد لافونتين في تعرف هويته العقلية. ولم يكتب لهذا السبب عن نفسه إلا متأخراً في الثامنة والثلاثين من عمره. فهو إذن قد صرف حقبة طويلة من عمره في درك الأشياء وتفهمها والإلمام بحقائق الحياة عملياً. فمال مع كل ريح، بين جد ولهو، يعني بالجد، فيكيد ويحصل ويقرأ ويدرس منقباً باحثاً، ويعني باللهو فيحياه ويفهمه ويستمرئه. والتشوف بين هذا وذاك رائده، وحب الاستطلاع يعقد رويداً رويداً الصلة بينهما ويحكمها
فلم يستمر تردد عقله بين أن يعيش للهو حريفا - وهذا شيء تدعو إليه طبيعة الحالة - فيغنم الحياة من لذتها المادية، وبين أن يعيش للعمل والجد فيغنمها من لذتهما المعنوية. وأستقر أخيراً - ولا متأخراً - على أن يمزج اللهو بالعمل وأن يجعل من شواغله مسرات ومن جهده يسرا
ولم يكن بد من مراحل يجوزها حتى يصل إلى هذه الغاية من ترك طبيعته على سجيتها وأخذها بالملاطفة واللين حتى أنتجت فيما يشبه اللعب مالا طاقة لكثير غيره على إخراج مثله للناس، وهم ألصق بالجد خالصاً، وألزم للتثقيل بمضايقة على النفس. فكانت أولى(531/29)
المراحل عنده الاقتصار على تفهم ما يدور حواليه من أحداث الحياة وإعمال الفكر في ألوانها المتباينة، دون أي تفرقة منه بين هذه الأحداث وهذه الألوان تدور على مسرح الحياة وبينها تمثل على خشبة المسرح. فكأنها في عينيه وهي تأخذ مكانها من مجرى الحوادث ملهاة مسرحية تستتلي فصولها اهتمامه وتستتبع تفكيره. حتى إذا ما نال من أتحف العوارف وألطف المعارف، وأدرك ماهية الأشياء وجوامع الحكم، كانت ثم مرحلة أخرى تفتحت فيها لأحلامه دنيا ساحرة لا يطرقها غير من أمدته الطبيعية بموهبة فكرية وأعدته لرسالة سامية في هذه الدنيا: مثل مرئياته واستوعب ضروب المعاني التي مرت عليه. فإذا قرأ لمالرب ولأفلاطون ولباروك ولتاس ولبوكاس، وافته غاية المراحل تجرر أذيالها ألا وهي مرحلة الإنتاج - هذه المرحلة التي مزج فيها اللهو بالجد وقرن فيها التسلية بالعمل. وإنه ليقال أنه غدا شاعراً عندما قرأ لمالرب قصيدة تعهدها الليالي حتى حفظها عن ظهر قلب ومن ثم طفق ينشدها لكل من صادف من الأصدقاء
تيقظت إذن في لافونتين ميوله الأدبية بعد أن تذوق دنياه وأخذ للأدب عتاده من القراءات المختلفة. فشرع يبحث عن نفسه في هذه الميول. فتناول بادئ ذي بدئ (خصي تيرانس) بالتعديل والتهذيب. غير أن ذلك لم يكن إلا محاولة فاشلة إذ تراوح فيها بين الترجمة وتقليد غير محكمين ثم نظم ملحمة مثيولوجية تصويرية بذل في تأليفها من دهره ثلاثة أعوام، وفاضل فيها بين الهات الفلاحة والتصوير والعمارة والشعر إلا أنها ليست مما يعتز به الأدب كثيراً
واتجه بعد ذلك نحو (أبليه فجهد أن يقلد قصته (بسيشيه)، ولكنه تعمل فيها الأسلوب وتصنع فيها المرح الذي عرف فيما بعد في خرافاته في أكبر وضوح وسلامة وجمال فلم يكن طبيعياً مع ما تتطلبه القصة القديمة من الوقار والجلال، فإذا محاولته رواية حديثة في أردية إغريقية لم يكن همها الإضحاك فأضحكت ولكن في استخفاف وسخرية. ثم عهد إلى (أدونيس) شكسبير فتخذها موضوعاً لروايته بهذا الاسم. ولكن كل من قرأ أدونيس شكسبير فاستطعم صنوف الفكر التي تختال فيها واستلذ الألوان المضطرمة الحارة التي تمتزج بها لا ينبغي له أن يطالع (أدونيس) لافونتين
فالحق أن تصوير معالم البطولة الإغريقية وتبيان عبقريتها المستعصية وإظهار جلالها(531/30)
وجمالها، كلها أعمال ليست من عمله فرشاقته وظرفه ومرحه وخفته وملاحظته السريعة، كل هذه لا تحتمل عجم عود الشخصيات الإلهية وإبرازها في ملاحم طويلة مسهبة
طال إذن ما بحث لافونتين عن استعداده الأدبي فلم يعثر عليه في كل ما ردنا من أعماله وإنما عثر عليه بعد لأي في الخرافة فوجد في قصر نفسها ما يلائم مقدرته على النظم المحدود والمفردات السهلة. وصادف في موضوعاتها ما يوائم مرحه - مرح الروح الغالية - وظرفه وأحلامه. فالتقى فيها لافونتين بلافونتين
لافونتين والخرافة
ولكن لا تقذفن في روعك - مع ذلك - إن الخرافة عمل استحدثه لافونتين من مبتكره ومبتدعه. فقد سبقه إلى هذا الضرب من الأدب أيسوب الإغريقي، وفيدر اللاتيني، وكثير غيرهما من شعراء العصور الوسطى والقرن السادس عشر عند الفرنسة، فلم يزد على أن نسج على منوالهم ودرج على آثارهم وإنما أكثر لباقة وبراعة وإبداعاً مما جعل الأذهان تنصرف - إن ذكرت الخرافة - إلى أنه مبتدعها الفرد. وليست الخرافة إلا قطعة شعرية مأخوذاً موضوعها من صميم الحياة في تصوير عابر سريع إلا أن أدوار البطولة فيها مسندة إلى الحيوان وإن قصد تطبيق حالته في القصة على حالة الإنسان في الواقع بالقياس والموازنة. وعلى الخرافة التي تستوفي شروطها أن تتضمن قصة أخلاقية. وفي مدها بهذا اللون الفني يتمايز كل هؤلاء الخرافيون فينبذهم أبو الخرافة لافونتين. فقد اهتم أيسوب وفيدر بجانب واحد من الخرافة فعنيا بالأخلاق وانصرفا عن الوقائع القصصية انصرافاً أفقدتهم خرافاتهم عنصرها الفني. كذلك شعراء العصور الوسطى والقرن السادس عشر انصرفوا عن الأخلاق وعنوا بالتفاصيل القصصية عناية سلبت الموضوع لبه وجوهره ومسخت طعمه ومعناه. ولكن لافونتين، شاعر القرن السابع عشر، ألف بين الموضوع والأخلاق تأليفاً حقيقياً بالإعجاب والإكبار إذ جعل من الخرافة ملهاة أشبه بمسرحية أخلاقية مترامية المعاني من مائة فصل في بضع أبيات من الشعر الرائع.
(البقية في العدد القادم)
محمد حسني عبد الله(531/31)
بولاق
للأستاذ محمد رمزي بك
كتب المستر شارل جون هزويل الذي كان مديراً عاماً لمصلحة تنظيم القاهرة مقالة تحت عنوان القاهرة واتساع نطاقها وملاحظات عن تأثيرات نهر النيل وتغيراته وأرفق بها بعض الخريطات، ونشرها في منشورات الجمعية الجغرافية في المجلد الحادي عشر الصادر في ديسمبر 1922، وقام بترجمة هذه المقالة إلى اللغة العربية الأستاذ محمود عكوش، ونشرها هي وما معها من الخرائط في العدد السادس من مجلة الهندسة الصادرة في يونية 1923، وبالاطلاع على الخريطة رقم 2 الخاصة بتأثيرات نهر النيل وتغيراته تجاه القاهرة ظهر لي أن المستر هزويل اعتبر أن مدينة بولاق مصر كانت جزيرة في وسط النيل، وأنها كانت مشغولة بالمباني ومسكونة وقت أن كانت جزيرة. ولما كتب المسيو مارسيل كليرجيه كتابه في سنة 1934 سار على رأي المستر هزويل، واعتبر كذلك بولاق جزيرة، وأثبت ذلك على الخريطتين المواجهتين لصفحتي 27 و29 من الجزء الأول من كتاب القاهرة المذكور
وأقول أن كل ما تصوره كل من المستر هازويل والمسيو مارسيل لا أساس له من الصحة للأسباب الآتية، وهي:
أولاً: إنه لم يرد في المراجع الجغرافية ولا التاريخية القديمة أن بولاق كانت جزيرة، ولم يتكلم عليها أحد من أصحاب كتب الخطط بوصف أنها جزيرة، مثل جزيرة الروضة وجزيرة الفيل وجزيرة إروى وغيرها من الجزاير التي تكلم عنها المقريزي وغيره في كتبهم
ثانياً: اعتاد الكتاب السابقون أن يذكروا كل طرح يظهر في النيل أو على شاطئيه باسم جزيرة، سواء كان هذا الطرح منفصلاً في وسط النيل أو متصلاً بالشاطئ، ومع كل هذا فلم يذكر أحد من الكتاب أن بولاق كانت جزيرة
ثالثاً: لما تكلم المقريزي في خططه على بولاق (ص 130 ج 2) قال إن ساحل النيل كان بالمقس، وأن الماء قد انحسر حول سنة 570هـ عن جزيرة عرفت بجزيرة الفيل، وتقلص ماء النيل عن سور القاهرة الذي ينتهي إلى المقس، وصارت هناك رمال وجزائر ما من(531/33)
سنة إلا وهي تكثر حتى بقى ماء النيل لا يمر بها إلا أيام الزيادة فقط، وفي طول السنة ينبت فيها البوص والحلفاء وتنزل المماليك السلطانية لرمي النشاب في تلك التلال من الرمل. فلما كانت سنة 713هـ رغب الناس في العمارة لشغف السلطان الملك الناصر بها ومواظبته عليها، فأقبل الناس على الإنشاء والعمارة، وجد الأمراء والجند والكتاب والتجار والعامة في البناء، وصارت بولاق الدكرور يزرع فيها القصب والقلقاس على النيل حيث جامع الخطيري، وامتدت الدور على النيل وسكنوا ورغبوا في السكنى ببولاق من جامع الخطيري إلى جزيرة الفيل، وتفاخروا في إنشاء القصور الفاخرة هناك، وغرسوا من ورائها البساتين العظيمة
رابعاً: لما تكلم المقريزي في خططه عن جزيرة الفيل (ص 185 ج1) قال بين سطوره ما ذكره عن تلك الجزيرة: (وانحسر النيل عن جانب المقس الغربي وصار ما هنالك رمالاً متصلة من بحريها بجزيرة الفيل المذكورة ومن قبليها بأراضي اللوق فافتتح الناس باب العمارة فعمروا في تلك الرمال المواضع التي تعرف اليوم ببولاق خارج المقس)
خامساً: ذكر ابن تغري بردي في كتاب النجوم الزاهرة (ص307 ج7) أنه في سنة 68هـ تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق واللوق وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المقس وساحل باب البحر والرملة وبين جزيرة الفيل وهو المار تحت منية السيرج، وانسد هذا البحر ونشف بالكلية، واتصل ما بين المقس وجزيرة الفيل بالمشي
سادساً: ليس من السهل إنشاء مدينة كبيرة مثل بولاق في جزيرة بعيدة عن ساحل المقس في حين أنه لم يكن بينها وبين ذلك الساحل كوبري أو جسر تسير عليه الناس والدواب بين ميدان باب الحديد وبين شاطئ النيل الحالي حيث كانت توجد بولاق القديمة على ذات الشاطئ
ومما ذكر يتضح أن بولاق لم تكن جزيرة في يوم من الأيام
وإنما أنشئت على أرض ظهرت في مجرى النيل، وكانت تلك
الأرض في بدء تكوينها في سنة 680هـ مكونة من الرمال
الفساد اتصلت بحريها بجزيرة الفيل ومن قبليها بأرض اللوق،(531/34)
ثم صار النيل يطمي عليها تدريجياً فربت وارتفعت أرضها
وصارت صالحة للزراعة والسكنى وفي سنة 713هـ أنشئ
في نهايتها الغربية الواقعة على النيل بلدة بولاق في المنطقة
الواقعة الآن حول جامع الخطيري كما هو مبين على خريطة
القاهرة رسم الحملة الفرنسية في سنة 1800 بمقياس
160001
وبالاطلاع على خريطة مدينة القاهرة رسم سنة 1868 يتبين أن بولاق كانت لغاية تلك السنة بلدة صغيرة واقعة على النيل ولم تتجاوز مبانيها المنطقة التي تحد اليوم من الشمال بشارع السبتية، ومن الجنوب بشارع اصطبلات الطرق، ومن الشرق بشوارع سيدي العليمي وعلوة الحجاج وتل نصر ووابور النور، وكانت الأرض التي بين بولاق القديمة وبين شارع الملكة نازلي كلها أرضاً زراعية وبساتين، ولم يحدث فيها البناء إلا في زمن الخديوي إسماعيل، ومن ذلك الوقت أخذت بولاق تتسع في العمارة حتى اتصلت مبانيها بمدينة القاهرة، وأصبحت بولاق قسما إداريا من أقسام القاهرة
محمد رمزي(531/35)
قبل براح الشباب
للأستاذ حسين الظريفي
غيرُ مستنكر من الأيام ... ما لها من نقض ومن إِبرام
سبقت حكمة الزمان سواها ... وإن استبهمت على الإفهام
لم يزل ينشئ الشباب ويبلى ... يا له من بانٍ ومن هدّام
إِنما نحن في الحياة ضيوف ... لا يزادون حصةً من طعام
فاغتنم فرصة الشباب وبادر ... في ذراه إلى بلوغ المرام
كل يومٍ يمرّ، لم أقض فيه ... وطراً، لا يعدّ من أيامي
إنما العمرُ حاجةُ المرء تُقضى ... والذي بعد ذاك طيف منام
ربَّ مستمع بفضل صباه ... لم يكن آمنَاً من الأيام
ظل في صحة الصبا يتحامى ... ما وراء الصبا من الأسقام
وفراراً من القلي والتجنّي ... لم يكن بالمتيم المستهام
نظرات ضاق المجال عليها ... وهو رحب بغيرها مترام
لستُ ممن يبكي الشباب إذا ما ... ملك الشيب فيه كل زمام
قائلاً لو يعود يوماً شبابي ... ليرى ما للمشيب من آثام
أنا من يترك الصبا ليس فيه ... أمد لم يحلَّ بالأحلام
حاملاً كل ما له من حقوق ... قائماً بالحقوق خير قيام
وفؤادي من الهوى بمكانٍ ... لم تصله ملامة اللوَّام
أجد الغض من شبابي فيه ... ساحباً ذيله على الأيام
لي من ميعة الصبا يقظات ... كدن يذهبن فيه كالأحلام
ولقد راقْ شرحُ كل شبابٍ ... متسام بثغره البسام
فيه من كهرباءة ومضات ... دونها كل وامض من غمام
وتراه بالعبقرية يفري ... ما نبا عنه حدُّ كل حسام
وعليه روائع من معانٍ ... هنَّ إلهام كل ذي إلهام
شاعرٌ جاء من عيون القوافي ... بالتي لم تكن بذات نظام(531/36)
قد تجافت وزن الخليل وعافت ... ما وراء الخليل من أحكام
كبرت أن تكون في اللفظ معنى ... ربَّ معنى من غير لفظ مقام
قد براها من مقلة وجبين ... وقوام يزري بكل قوام
وفؤاد ماضي العزيمة ثَبْتٍ ... لم يعود إلاّ على الإقدام
ودم من لظى أحرَّ إذا ما ... ثار للحق ثورة الضرغام
ميزة إثر ميزة تلو أخرى ... لم تُجابه بالنقص بعد التمام
أيها المزدهي بشرخ شباب ... في ثرى (مصر) أو (بدار السلام)
هذه فرصة الصبا فاغتنمها ... وارم ما أنت في شبابك رام
وابدُ في جانب الحمى أو حشاه ... مثل صدر المهند الصَّمصام
إنما يطلب الحمى أن يفدّى ... في عراك السيوف والأقلام
حسين الظريفي(531/37)
البريد الأدبي
وما آفة الأخبار إلا رواتها
حضرة العلامة الأستاذ صاحب مجلة الرسالة المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فلا فريق في فندق (الملك داود) في بيت المقدس يجتمع في كل يوم فيبحث في شيء كما جاء في خبر في عنوان (وشاية) في رسالة 527 ص 639 ولم يكن حديث عن أحد من السادة الفضلاء المصريين الذين وردت أسمائهم في الخبر.
محمد إسعاف النشاشيبي
1 - إلى الأستاذ العقاد
كتبت كلاماً في مجلة (الصباح) حول بيت من الشعر قلت فيه: إن شاعرية العقاد الفذة ابتلعت هذا البيت بألفاظه ومعانيه من الأستاذ (علي طه) ولم أقرأ ردأ على هذه الكلمة من قلم (العقاد) الجبار بل قرأت كلاماً أملاه ضمير ملوث على لسان صنيعة من صنائعه. . . فهلا تتفضل أيها العملاق فتنازل (حسن القاياتي) الكاتب المكسال كما قال (زكي مبارك) ليبين للناس في هذه الساحة الكبرى لهذه الخصومة: أي الفريقين أحق؟ فريق القاياتي. أم فريق العقاد. . . آمل. . . أن يسلك الناس طريق الحق ليرفع هذا القناع الأسود الذي احتجب من وراءه أدباء رفعتهم الأمة الجاهلة وغيرتهم من دون الرحمن. . . العقول السقيمة. . .!
2 - إلى الدكتور زكي مبارك
قرأت بإعجاب خطابك الأسيف الذي تواضعت (الرسالة) فنشرته لك، وهي بعد - تعرف القاياتي الذي لا يود أن يحاط اسمه بهذا السياج الباهت من الدعاية الكاذبة. ويقحم اسمه بين الأسماء الشاعرة
إن القلم القاياتي يا دكتور نسيج وحده تعرفه الأسواق الأدبية الحرة يوم يكون في مصر للقلم الكبير أسواق. . . تجزي المحسن وتلفظ المسيء
القاياتي أيها الناس نظم الشعر وكثير من أدبائنا الذين تطنطن الصحف بذكرهم اليوم أسماء(531/38)
لا يحلو ترديدها إلا على ألسن اللوات في الحارة. والأتراب في القرية!!
القاياتي شاعر من شعراء المدرسة القديمة التي تلقى فيها الدكتور أول درس في اللغة وأخر درس في البيان
وليس يضير الشاعر أن يسلك به النشء هذا المسلك الذي لا يحمده الأدب. ولا تسيغه أثلات الأقلام
إن الأدب يا دكتور ليس كلاماً ترجعه الصحافة كل يوم ويطالعه النشء كل ساعة. وليست الصحف التي تملأها بالصحف التي تروق الذين نحب أن تكون واسطة عقدهم (الأدب حساس) لا يزنه إلا الحس المرهف. ولا يفيد إلا المشاعر الحية. ولا يعرف النقد إلا الحساسية في الأدب
أخال فلاناً لا أراني الله شخصه. وقد زكته نقابة الصحافة في قاهرة الفاطمي بأنه أمي متسول. ثم يكون بعد اللتيا والتي من هيئة النقابة. وواحد الصحافة. وزعيم الأغلبية. لك الله يا بلد المعز. فقد جعلت دهماء الأدب يحكمون هذا الحكم الأعرج على جماعة الأدب في الشرق ويزنون الناس بغير ميزان فتخاطبهم صعاليك الصحافة وتجهلهم الأخلاق المريضة وليس بكثير على الدكتور مبارك أن يرميني بالكسل والكسل الهازئ حتى تنجح قضيته الخلابة ويروق منطقة الساخر
أجل أنا لا أريد أن أكثر يا دكتور. وفي كل يوم لي مقطوعة ستكون الشاهد لي يوم يحتاج الأدباء إلى شهود ترفعهم إلى درجات المجد وترقى بهم إلى السماء
إن ديواني يا (دكتور) يكلم الناس من أربعين عاماً. . . وأنت بعد ما تزال حدثاً تكلم الناس بلسان الحكائين وتحدثهم بمنطق الأطفال. ثم ماذا؟ ثم تكون لي ثروة شعرية تحت يدي تقع في مجلدات ضخمة غير ديواني الناشئ وباكورتي من نصف قرن. ثم هذه الكلمات العريضة التي اعترف بها البيان. وخلدتها الصحافة. وانتفع بها شيوخ الأدب. وكانت دروساً ألقيت في مدارس البيان. (القاياتي) يا دكتور مبارك لا يعجبه هذا الأسلوب الخادع. فهو أعرف بطوايا قلمك. وخفايا نفسك ولقد توكل على الله يا ولدي العزيز قبل أن يعرفك. وكان قلمه من بين الأقلام المتوكلة عليه سبحانه فانتفع ونفع وجاهد في سبيل الأدب وخدمة اللغة وسيجاهد إلى أن يقضي الله عليه بالفناء والرسالة التي تقول عنها. أنها لا تجامل أحداً(531/39)
- أعتب عليها هذا العتب البريء - فأقول: أنها تجامل كثيراً أدباء عرفتهم الصحافة لهم حاضر في الأدب يحاول الشباب أن يهدمه بالحق. وللحق - ولكنها تطوي رسائله طياً وفي هذا موت للشباب. وحياة للمصانعة الخاتلة ورب رسالة شابة خير من جهاد شيخ يتوكأ على عصا الشهرة ويمشي على سراج خافت ولقد صدق الله إذ يقول:
(تبت يداً أبي ولهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلَى ناراً ذات لَهبٍ. . .!!!
(دار القاياتي)
حسن القاياتي
عضو المجمع اللغوي
إلى الأستاذ دريني خشبة
يزعمون أن الحرب ليست شراً كلها. بل أن فيها للإنسانية خيرات وحسنات، وللمجتمع البشري (المأزوم) نفعاً وفائدة لحياته الاقتصادية والسياسية وحتى الصناعية والعمرانية. ولكن الأدب والفن. ما فائدتهما وعائدتهما منها؟؟ إن معركة حقيرة (بالنسبة للحرب الجارية) هي (حروب طروادة خلقت للأدب هرميروس وأتحفت الأجيال بالإلياذة) الباقية على الزمن. فهل تنجب هذه الحرب الطحون هرمير جديد يخلق لنا إلياذة جديدة خالدة كتلك؟ إن يكن هذا فإله الأدب والفن مستعد لمعانقة (مارس) إله الحرب اعترافاً بفضله وأياديه عنده. وإلا فهل ابتلى رحم الفن والأدب بالعقم والعقر؟ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا؟ وإلى أي الأسباب يعزو ذلك الأستاذ؟ وهلا يرى معي أن الأدب الإنساني المادي الحاضر برقوده وجموده محتاج إلى مصل (إلياذة) جديدة تسكب في عروقه عناصر الانبعاث والفن والخلق؟
ذلك ما استفتي به الأستاذ الكبير وأطلب فيه إبداء رأيه وأدلاء حكمه على صفحات الرسالة.
(حلب)
كمال الحريري(531/40)
العدد 532 - بتاريخ: 13 - 09 - 1943(/)
إلى الأستاذ الزيات
آباؤنا وأمهاتنا وأبناؤنا
للدكتور زكي مبارك
بعد منتصف الليل من هذا المساء (29843) وسوس الهتاف
من جريدة الأهرام:
- ألو، ألو!
- خير، من المتكلم؟
- صالح البهنساوي، هل أزعجتك بالحديث في مثل هذا الوقت؟
- لم تزعجني، ويسرني أن أسمع صوتك، فما عندك من الأخبار؟
- عندنا خبر يقول: إن والدة الأستاذ الزيات ماتت، وأردنا أن نعرف منك مبلغ هذا الخبر من الصحة قبل أن ننشره في الوفيات
- لم أسمع هذا الخبر إلا منك، فلا موجب لنشره قبل التثبت ثم رجعت إلى نفسي أسأل عن مواساة الأصدقاء بعضهم لبعض، فقد كان يجب أن أكون أول من يعرف هذا الخبر إن كان صحيحاً، لأحضر دفن السيدة التي أنجبت هذا الصديق، ولأشترك في مواساته مع الأقربين
وحانت مني التفاته إلى الماضي يوم ماتت أمي، فقد طلبت بإلحاح أن تراني قبل أن تموت، وكان أبي يسوف لأنه يعرف أني أؤدي أول امتحان في الجامعة المصرية، وكانت النتيجة أن تدفن وأنا غائب، وأن تبقى الحسرة على أن لم أحمل نعشها على كتفي
هل كان أبي يعرف أن توديع أمي في لحظاتها الأخيرة أحب إلي من جميع المغانم العلمية؟
لو أنه عرف لأعفاني من لوعة سأعاني نيرانها إلى آخر أيامي
وقد لطف الله بأمي فماتت قبل أن يموت أخي سيد بنحو سنتين، فلن تشهد فجيعة الدار في موت فتى لم ينتصر عليه قاهر غير الموت
دخلت على أخي سيد وهو في الحشرجة فنهض من فراشه ليقبل يدي، ثم أسلم روحه إلى بارئ الأرواح
وكانت الفجيعة الأخيرة هي موت أبي، ولكنها فجيعة نفعتني أجزل النفع، فقد هونت الدنيا(532/1)
في نظري حين صورتها بالصورة الحقيقية، صورة الصحراء التي لا تضمن لسكانها من الضراغم غير الفناء
وهل تعزيت عن أبي وقد طال الفراق؟
أريد أن أخفف لوعتي فأذكر أنه عاش ما عاش وهو يعتقد أنني أوفى الأبناء: فما راجعته في كلمة، ولا رفضت له نصيحة، ولا استجزت المخالفة عن أمره في شأن من الشؤون
كنت ابناً بارا بأبيه، وكان بري بأبي يتمثل في صورة لم تخف عليه، فقد سمعت أنه تحدث بها إلى بعض الأصدقاء، وهي أني أخفي عنه همومي وأحزاني، فما بات ليلة وهو مغموم بسببي، ولا وصل إليه حزن من طريقي، ولا عرف أن الأبناء قد يكدرون حياة الآباء
والحق أني كنت أراعي معنى هو غاية في الخفاء، ومراعاة هذا المعنى كانت أعظم عمل أديته في حياتي، فما ذلك المعنى الدقيق؟
كانت الأقدار قضت بأن تمزق أملاك جدي كل ممزق، فلا يبقى منها غير أوشال، وكان أبي آخر العنقود، فلم تكن له مندوحة من أن يجاهد ليستبقي ومضات من الذهب المضاع
كان أعمامي جبابرة وكانوا قساةً وطغاة، وكانوا أيضاً منجبين، فلا يمشي الرجل منهم إلا وهو موصول الجناح بأبناء أشداء، فماذا يملك أبي في مقاومة أعمامي؟
لقد ناضلهم وحاربهم، واستطاع أن يستخلص بضعة فدادين يعيش من ريعها عيش الكفاف، إلى أن يجود الله بالغنى حين يشاء
وكانت دار أبي هي الدار التي مات فيه جدي، لأن جدتي كانت آخر زوجاته الغاليات، وفي تلك الدار نشأت، فماذا رأيت؟
كنا نستيقظ على زلزال يتمثل في سقوط إحدى القاعات، فيخف إلينا الجار الأقرب وهو عمي الشيخ سيد أحمد وبيده فانوس ومعه أبناؤه ليعاونوا على رفع الأنقاض
كانت أخطر فاجعة تهون على أبي ما دامت بعيدة عني
هل أستطيع تأدية واجب الوفاء لأبي، ولو نظمت في رثائه ألف قصيد؟
وفي إحدى العصريات دخلت الدار فوجدت أمي تخرج وهي مذعورة، فماذا وقع؟
كانت أمي رأت ثعباناً في أبراج الحمام فغزته بالنار ليختنق، فامتدت النار إلى سقوف الدار فحولتها إلى نيران(532/2)
وفي لحظة أو لحظتين بدت شهامة أهل سنتريس
لقد تجمعوا من كل جانب رجالاً ونساءً ليخمدوا تلك النيران بالماء والتراب
وماذا يملك أولئك الأوفياء؟
لم يكن في بلدنا غير آبار معدودات، فكان من الصعب إخماد نيران لا يخمدها غير البحر المحيط، وكانت العاقبة أن يحترق البيت من جميع الجوانب وأن يمسي بلا سقوف، مع قسوة الشتاء
ونظر أبي فرآني بعافية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم جلس على مسطبة المضيفة وهو في غاية من الاطمئنان
وفي أعقاب السهرة الجياشة بكلمات المواساة سمعنا ضجيجاً يخطر في البال في مثل تلك الحال، فما ذلك الضجيج؟
رأينا جماعة العيسوية تغزو دارنا بركائب محملة بأقوات تكفينا عشرة سنين، فوقف أبي وقال: إن باب الدار لم يحترق، وسأغلقه إن لم ترجعوا مشكورين
كان مقام أبي في تلك الليلة مقاماً رهيباً، فقد أتت النيران على جميع الأشياء، وتركتنا بلا قوت، وإن لم أذكر أني نمت في تلك الليلة بلا عشاء
ما الذي كان يمنع من أن يقبل أبي مواساة أعمامي؟
منعه الخوف من أن يمن عليه أخ أو صديق في الأيام المقبلات
كان أعمامي كراماً برغم ما أرادت الأقدار في تحيف ما ورثوا من الثراء العريض، ولكن أبي رفض معروف اخوة سيحاربهم أو سيحاربونه بعد يوم أو يومين
تمثلت لي متاعب أبي في حياته حين شببت عن الطوق، فقررت إعفاءه من التعب إلى آخر الأيام من حياته الغالية
أردت أن أكون لأبي ابناً وأخاً وصديقاً فكنت، وقد محوت عن صدر أبي تلك السطور السود، سطور الشقاء بالأهل والأقرباء
هل عرف أبي أن له أبناً تمتحنه الحياة؟
لقد أخفيت همومي عن أبي فكانت تصل إليه وهي أساطير، وكان لا يتوهم أن كيد الدنيا يصل إلى من يكون في مثل عنفواني(532/3)
وأنا الرجل الذي عرفه أبي، فلتحاربني الدنيا الغادرة إن كانت تطيق
لم أنسى يوماً أن أبي تعب في شبابه حتى شبع من التعب، ولم أنسى لحظة أن تكدير كهولته بسببي قد يكون إثماً موبقاً يكدر ما أرجو لحياتي من صفاء، ولهذا المعنى حرصت على أن يراني باسماً في كل وقت، وأن يراني غنياً عن الناس في جميع الأحايين، وهل يفتقر المؤمن إلى الناس؟
لم تكن الدنيا سمحت بأن تخلو حياتي من متاعب، ومع هذا أخفيت عنه جميع آلامي، فلم يتصورني إلا رجلاً خلت حياته من المصاعب والأهوال
كان سلوكي مع أبي سلوكاً هو الصورة المنشودة لأدب النفس، ولعل الله يتفضل فيتقبل دعواته الطيبات وهو يعاني مرض الموت، فما مات أب راضياً عن ابنه كما مات أبي وهو راضٍ عني
وهنا أتذكر أشياء تعد من الغرائب، أشياء متصلة بحياة أمي، فما تلك الأشياء؟
كانت أمي تفرح بالمرض أشد الفرح، لأنها كانت تؤمن بأن دعاء المرضى دعاء مستجاب، فكانت تقضي لياليها الأليمة في دعاء الله بأن يجعلني من الموفقين. كانت تدعو الله وهي توقن أنه يسمع ويجيب، ولم يخطر في بالها أبداً شيء مما يخطر في بال أهل الارتياب
كانت أمي سيدة مؤمنة، وكان إيمانها موروثاً عن أمها وأبيها، وكانا زوجين قانتين لا يعرفان غير فاطر الأرض والسماء
ومع أن المألوف في كل أرض أن الأم لا تستريح كثيراً إلى زوجة ابنها، فقد كانت أمي تحبني في زوجتي، وتصفها بأجمل الأوصاف، وتخصها بكثير من الدعوات، بحيث عُدَّ سلوكها من أندر ما يقع في حياة النساء
وكذلك كان حال جدي لأمي، فقد كان حين يزور دارنا بعد صلاة العيد يبدأ بالسؤال عن زوجات أبي، سؤال الوفاء لا سؤال الرياء، ثم يدعو الله أن يديم عليهن نعمة العافية والقبول
أما أمر أبي في تربيتي، فكان عجباً من العجب، كان لا يتناول طعاماً بدون أن أشاركه فيه، ولو كان طعاماً أعدته له إحدى الزوجات المحظيات
كنت أدخل الدار مع الليل، والشواء يفوح والنوم في جفوني، فآوي إلى مضجعي وأنا أرجو(532/4)
أن يعفيني أبي من مشاركته في عشائه المرموق، ولكنه لم يكن يتناول طعاماً بدون حضوري ولو كان تحفة عروس
من الذي أوحى إلى أبي ما غاب عن كبار المربين؟
كان أهلي يقولون إن الطفل يحتاج إلى تأسيس، وكانوا يرون أن الطفل المؤسس يعيش في قوة إلى آماد طوال
ثم دارت الأيام واستقللت عن أبي كل الاستقلال، فقد أكرمه الله بالعيش إلى أن يراني رجلاً له أهل وأبناء وأملاك، ومع هذا كان يراني ضيفه حين أزور سنتريس، ويبالغ في الكرم فلا يتركني لحسن الفهم في رعاية ضيوفي، وإنما يتقدم فيكرمهم بأسلوبه الجميل، أسلوب الرجل المفطور على السخاء الفضفاض
ولن أنسى أنه كان يناجي المسيو دي كومنين مناجاة الرفيق للرفيق، مع أن لغة التفاهم غير موجودة بأي شكل، فكان من ذلك دليل على أن الألسنة أقل إفصاحاً من القلوب
كان لي أب وكانت لي أم، وأنا اليوم يتيم كهل، واليتيم الكهل أعرف باليُتم، كما قال أخونا الأستاذ محمد الهراوي، طيب الله ثراه!
أما بعد فأنا لا أوصي باجترار الأحزان، ولا أدعو إلى أن نطيل البكاء على آبائنا وأمهاتنا، فذلك يؤذيهم في عالم الأرواح وإنما هي لوعة نزجيها كارهين لا طائعين، وهي على قسوتها دون ما يجب في تسجيل الوفاء
ثم ماذا؟ ثم يكون الحديث عما نفقد من أبنائنا، وأنا ذقت مرارة الثكل مرات، إلى أن لطف الله فأعفاني من ذلك العناء وسيتفضل جل شأنه فيرحم جفوني من دموع الثاكلين، لأنه أرحم الراحمين
ومن واجبي نحو قرائي أن أدلهم على المذهب الذي سلكته في ذلك الجحيم:
حين ذقت الثكل أول مرة رأيت له طعماً متفرداً بين طعوم الأحزان، رأيته يقلقل أضراسي ويكاد ينقلها من مكان إلى مكان، ورأيت تعزية المعزين تزيد أحزاني، فقررت أن لا يقام للطفل الميت مأتم ولا عزاء، وقرت أن لا أسمع بكاء أمه عليه، وأن لا يذكر اسمه في البيت، وأن يمضي إلى من وهبه ثم استرده بلا عويل ولا صياح
كنت أقول: هو لنا عند الله، فلنتركه ذخيرة تنفعنا يوم الحساب، إن كنا مؤمنين(532/5)
والواقع أن هذه أعظم شجاعة بدت مني في حياتي، فالطفل لا يموت إلا بعد أن يتجلى تجلياً هو غاية في الفتون، فتكون حركاته وسكناته من الغرائب والعجائب، ويكون تحفة طريفة تحول البيت إلى فردوس من أجمل الفراديس، بحيث يقال في وصفه إنه كان أبن موت، وهذه عبارة مألوفة عند أهل الريف، وهي غاية في الصدق
وبقليل من التأمل نرى الطفل الذي يموت بعد سنة يكون استوفى من الحياة سنوات وسنوات، لأنه في عمره القصير يستوفي من حظوظ دنياه في المرح واللعب والابتهاج ما لا يستوفيه كبار المعمرين. وهنا تكون الفتنة الدامية، فذلك الطفل يعد أهله وعوداً لا تخطر في البال، فهو في إشاراته وعباراته يؤكد بأن سيكون أعظم العظماء في القديم والحديث
وفي أقصر من لمح البصر يختضره الموت، فتبقى له بوارق تذيب لفائف القلوب
ماذا أصنع والأطفال الذين ثكلتهم كانوا كذلك؟
قدرت أنهم عاشوا حتى شبعوا من العيش، والعيش تعب فليستريحوا آمنين
دفنت بيدي أطفالاً كانوا أعز علي من نفسي، ولكني لم أبك عليهم كما بكيت على أمي وأخي وأبي، لأنهم لا يطالبونني بالوفاء، فقد اختارهم الله إلى جواره قبل أن يعرفوا الفرق بين البر والعقوق
وما حاجة الأطفال إلى البكاء؟
ألا يكفي أن الله أنجاهم من مكاره العيش، في دنيا أتعبت الأنبياء؟
الدمع على الطفل الذاهب أغزر من الدمع على الكهل الذاهب، فما الذي فاتهم من حظوظ البكاء؟
بهذه السياسة فرضت على زوجتي أن تنسى الأطفال الذين فقدناهم في مصر الجديدة وفي سنتريس، فاكتفت واكتفيت بالشياطين الذين عاشوا، وهم أبناء لم تمنعهم الشيطنة من أن يكونوا غاية في أدب النفس وصفاء الروح
إذا راعى الابن واجبه نحو أبيه، فما يضره إن نسي الواجب في معاملة جميع الناس؟
أنا لم أفعل خيراً في حياتي أفضل من الأدب في معاملة أبي وأمي، وقد جازاني الله فجعلني في عصمة من دسائس السفهاء
الحجر الأول في بناء الوطن هو الأسرة، وأبنائي لا يحبونني متفضلين، وإنما يرون رجلاً(532/6)
يدبر لهم منافع لن يحتاج إليها قبل أن يموت، ولو عاش عمر نوح. . . وهل أعيش إلى أن أنتفع بما أدبر لأبنائي؟
ليت أبنائي يتأدبون بأدبي!
أنا أرى أن حيوية الرجل فوق الحدود، والسر كله في طاعة الله، الطاعة التي يعرفها أصحاب العقول، الطاعة التي تتمثل في العمل الموصول بصدق وإخلاص
كونوا يا أبنائي مثل البحر، فهو قد يغضب في كل وقت، ولكن كل قطرة من قطراته تشتمل على حيوات عظيمات
واذكروا دائماً أني لم أنل رضا الله بالمجان، فقد نلت رضاه بكفاح يؤيد كرمه في صحة بنياني، وأنا بحمد الله غاية في صحة البنيان.
زكي مبارك(532/7)
2 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
من صائغ أسطورة (الوفد القرشي) التي وردت في العقد والأغاني؟
ابن عبد ربه يرويها عن نعيم بن حماد عن عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري عن ابن عباس. وأبو الفرج ينسخ الخبر من كتاب عبد الأعلى يحدثه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. . .
ابن عبد ربه أقدم من أبي الفرج؛ فقد ولد سنة 246 وتوفي سنة 328 في ذلك الإقليم النائي. وصاحب الأغاني ولد سنة 284 وتوفي سنة 356. فقد يكون صاحب العقد وقف على مصنف أسبق مما وقف عليه أبو الفرج، وربما اطلع هذا على مؤلف أثبت وإن تأخر وقته. فهل صاغها نعيم أو صائغ عزاها إليه أو زخرفها الكلبي، وإن كان سجعها يبدو بغدادياً لا كوفياً، وهل لشبل الكلبي. . . أعني ابنه هشاما يد فيها، وهل أودعها كتاب وفوده؟
نقص الخزانة العربية اليوم يصدنا أن نجيب جواباً مضبوطاً. فلعل بقيات مما نجا من الزمان والتتر والصليبيين والأسبان محرقي كتبنا ومغرقيها - يظهر فيخرجنا من ظلمات حالكات نحن فيها
ولا ضرر - وقد عرفنا ذرواً من أخبار ابن الكلبي - أن نعرف شيئاً عن أبيه الكلبي. وهذا بعض ما جاء في (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) ج3 ص 61:
(قال الثوري: اتقوا الكلبي. فقيل: إنك تروي عنه. قال: أنا أعرف صدقه من كذبه. قال يحيى بن يعلي عن أبيه: كنت أختلف إلى الكلبي أقرأ عليه القرآن فسمعته يقول: مرضت مرضة فنسيت ما كنت أحفظ؛ فأتيت آل. . . فتفلوا في فيّ فحفظت ما كنت نسيت. فقلت: لا والله لا أروي عنك بعد هذا شيئاً، فتركته. قال يزيد بن زريع: حدثنا الكلبي وكان سبئياً. قال الأعمش: اتق هذه السبئية، فإني أدركت الناس وإنما يسمونهم الكذابين. قال ابن حبان: كان الكلبي سبئياً من أولئك الذين يقولون: إن عليا لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا ويملأها عدلاً كما ملئت جورا، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها. التبوذكي: سمعت الكلبي يقول: أنا سبئي. ابن معين: الكلبي ليس بثقة. وقال الجوزجاني: كذاب. وقال ابن حبان:(532/8)
مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه أظهر من يحتاج إلى الإغراق في وصفه، يروي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، وأبو صالح لم ير ابن عباس، ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فلما احتيج إليه أخرجت له الأرض أفلاذ كبدها، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به. . .)
قولي منذ (19) سنة (ولن يجوز العقل أن يقعد ابن الأكاسرة لاستماع ثرثرة كل مهذار نفاج، ويفرغ لشهود عجرفة المتعجرف وعنجهيته) - لا يدل إلا على ما يدل عليه، وهو شرح حال اقتضاء المقام؛ ونقد رهط لغوا عن الصواب في الخطاب لا يعم فصائلهم وعشائرهم، دع عنك عمومه الجيل الذي أبدع (المبدع) منه تلك الأمة. والثرثرة والهذر والنفج في أقوال الوفد الكسروي ظاهرة. فهل يعقل أن يستقبل مثل كسرى بها وهو سلطان زمانه، وأقاليم في الجزيرة من أعماله، وأمثال النعمان من عماله. وقد تفطن الصباغ لشيء من ذلك فقول كسرى في ختام الأسطورة ما قوله، وقوله حين لغا أكثم بما لغا به: (ويحك يا أكثم، ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه)
وليست خطبة أكثم من إنشاء (الواضع) ولكنها أمثال قديمة متفرقة منسوب أكثرها إلى أكثم بن صيفي هذا، وقد ألف بينها من صاغ الخبر فما تجاوبت ولا تناسبت
وأحب أن أقول اليوم: إن العربية الحقيقية بأن نستمسك بها ونتعصب لها هي التي ذكرت في (الرسالة) 221 ص1562 السنة 5:
(وإذا ذكرنا العربية فإنما نعني هذه العبقرية ذات التعاجيب المحمدية، وهذه القوة الخلقية، وهذه المقاصد القرآنية، وهذه الآداب الإلهية، وتلك الحضارة والمدنية. . . ليست العربية نسبة ولكنها جامعة تؤلف بين القلوب. . . فالعربي هو ذلك المتمدن المتحضر المهذب المثقف المتعلم العالم العزيز الأبي الناطق بلسان القرآن، وليس بعرب (خراب بادية غرتي بطونهم) ولا قراضيب في (الجزيرة) ولا مدلغفون. . .)
وقد دفع أدباء وعلماء من السلف إلى تفخيم العربية الجاهلية عصبية أو ولع بتعظيم قديم، ودعت إلى التنويه بها في هذا الزمان مقاصد خبيثة غريبة
إن العربانيين المنتمين إلى دور السياسة و (التضليل) يقولون متوهمين: كانت العرب في الجاهلية وكانت، وكان عندهم ما كان، فماذا عملت الإسلامية، وبأي شيء جاء محمد؟(532/9)
(هم العدو، فاحذرهم، قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون)
خبر الوفود
إن هذا الخبر لا أصل له، فلم يقل النعمان في وقت ما قال، ولم يرسل من ذكرته القصة، ولم تتحرك الألسنة قدام كسرى بشيء مما روي قط، ولم يشر إلى هذه الواقعة مؤرخ أو أديب في مصنف عرفناه أقل إشارة. وقد زخرفه مزخرفه كما صاغ الصواغون من قبله وكما صبغ الصباغون من بعده، وقد سيطرت عليه لغته ولغة وقته، فلم تشبه نثر الجاهليين وإن كنا لا نعرفه إذا لم يثبت من النثر القديم إلا القرآن كما ذكرت ذلك منذ (19) سنة، وإن كنا نجهل ذلك النثر فإننا نتصوره، ولا ريب في أن هناك نثراً بدوياً ونثراً حضرياً وقد نزل القرآن بالنثر الحضري لأنه إنما كان لكل جيل وزمان. ولم يشبه أسلوب الخبر أسلوب الإسلاميين، ولدينا من هذا القرن ما قد يطمئن إليه بعض الاطمئنان
إن صائغه أنشأه (مقامة) لفقها ونمقها، ولم يحتط، ولم يفكر في أن يحتاط، ولم ير حاجة إلى ذلك هو في منثور ينثره هو في (البلاغة) لا في تاريخ يحققه؛ على أن التاريخ هو ابن عم الأسطورة. وفي الخبر أشياء أدل على الوضع من أشياء، وهذه طائفة منها.
(ن)(532/10)
2 - نشأة الدرامة الإنجليزية
للأستاذ دريني خشبة
يحتفظ الأدب الإنجليزي من الدرامات القديسية بأربع مجموعات تنسب إلى مدن مختلفة هي يورك ويكفيلد وكوفنتري وشستر؛ كما يحتفظ بدرامة واحدة من كل من نيوكاسل ودبلن وإيست أنجليا ونورفولك. وتختلف هذه الدرامات طولاً وقصراً وجودة ورداءة، ويتركب بعضها من ثمانمائة بيت من الشعر، في حين يتركب البعض الآخر من ثمانين بيتاً فقط؛ ويتألف بعضها من نظم ونثر، أو نظم فقط، أو نثر فقط، وفي بعضها أغان جميلة كما تحوى بعضها الأغاني الغثة. على أن أجمل هذه المجموعات كلها هي مجموعة يورك لتنوع موضوعاتها وجمال أسلوب الكثير من دراماتها، والحرية الظاهرة في تناول حياة القديسين بالتصوير الجريء وكثرة الحركة التي هي حياة التمثيليات جمعاء
أما أقدم درامة قديسية كتبت باللغة الإنجليزية فهي درامة (حرث جهنم) أو (إسلاف جهنم) من سلف الأرض أو أسلافها أي أعدها للزرع بالمسلفة، وهي آلة ذات شعب ولا يعرف مؤلفها على وجه التحقيق. وقد ألفت في أواخر القرن الرابع عشر في عهد إدورد الثاني؛ وهي عبارة عن محاورات شائقة بين السيد المسيح عليه السلام وبين الشيطان عليه اللعنة تنتهي بهزيمة كبيرة الأبالسة، وتهليل البطاريق وتكبيرهم فرحاً بانتصار السيد المسيح واغتباطاً بإجاباته المفحمة
هذا، وقد كانت عناصر شتى تشترك في تأليف الدرامة، فمن ذلك الموضوع، وهو أهمها بالطبع، ثم الأسلوب، وكان يراعي فيه السهولة واليسر، نظماً أو نثراً؛ وذلك بعد أن فشلت الدرامات التي ألفها جون للي بأسلوبه الجزل وعبارته الفخمة. وجون للي هو مبتدع أسلوب اليوفوزم الرائع الأنيق المروأ في الأدب الإنجليزي. . . ثم الموسيقى والألحان والأغاني. . . بيد أن واحداً من هذه العناصر كلها يكاد يكون أهمها، لأنه يتفرد من بينها باهتمام الجماهير، إذا هو الذي يجذبهم لمشاهدة التمثيل، ثم هو بعد ذلك. أقوى الأسباب في نجاح الدرامة أو سقوطها. . . ذلك العنصر هو عنصر الهزل والتضحيك & الذي لم تكن تخلو منه درامة قديسية قط. والعجيب الذي يلفت أنظارنا نحن الشرقيين خاصة جرأة رجال الدين والمؤلفين الدراميين على السواء في إشاعة هذا العنصر في تلك التمثيليات الدينية(532/11)
التي تتناول الأنبياء والقديسين ورجال الدين عامة. . . حتى الملائكة. . . فهم قد هتكوا تلك الهالة المقدسة التي ينبغي أن تكلل رؤوس هذه الشخصيات المبجلة، وهم قد هتكوها إلى حد التحقير وتهوين الشأن والزراية بما كان من شأن الدين أن يتصونوا في تناوله. . . اسمع إلى هذا الحوار الذي نقتطفه لك من درامة (طوفان نوح) لترى إلى أي حد اجترأ المؤلف على شخصية هذا الرسول الكريم، أحد أولي العزم العظماء، من هداة البشرية الأولى. . . أنظر إلى هذا الحوار لتعجب كيف أجاز رجال الدين تمثيل هذا العبث بين يدي الشعب:
- نوح: أعدت الفلك، وقد آن لنا أن نبحر، فهلمي يا زوجتي الصالحة!
- زوجه نوح: ماذا؟ أركب في هذه السفينة وأترك تلك الأرض الراسخة؟ أوه! كلا، كلا. إنها لم تصنع من أجلي؛ ومع ذاك، فلدي ما يشغلني يا صاح، فإني ذاهبة لقضاء حاجات كثيرة تلزمنا من السوق اليوم
- نوح: والطوفان؟! ألا تخافين أن تغرقي؟
- الزوجة: آه! كلا. لا عليك. إن هذا لا يخيفني!
- نوح: لقد هطلت شآبيب المطر، وتفتحت أفواه السماء، ولست أرى أنها ستقلع، فتعالي وأركبي في الفلك معي!
- الزوجة: الفلك؟ ماذا تعني؟ ما هذا السر الذي أخفيته عني؟ لماذا لم تستشر زوجتك في أمره؟
- نوح: سر؟ ليس هناك سر قط! إنني لبثت أصنع هذه الفلك طيلة قرن بأكمله. ولقد شهدتني أصنعها طوال هذه المائة من السنين ألف ألف مرة بعينيك!
- الزوجة: حسن، بيد أنني لا أحفل كثيراً بالحياة في هذا المركب، إني سعيدة ههنا، ولست أستروح الحياة فوق الماء قط. . . ثم إني. . . لا أريد أن أصحبك!
- نوح: ولكن. . . إنك تغرقين، ما من ذلك بد، إن لم تفعلي!
- الزوجة: ولكنك أفسحت في مركبك المجال لخصومي والمتقولين علي من المؤمنين بك. . . وهم حفنة! على أنني أعجب كيف تغريني باصطحابك وترك كل هذا المجتمع، لأعاشر في فلكك الوحوش والطيور والزواحف؟! أف لك! إن إغرائك إياي ليغثي نفسي ويكرب(532/12)
صدري!
(وهنا تلكمه بقوة فوق أذنه)
- نوح: هدئي روعك أيتها الزوجة الصالحة. هدئي روعك! ولا يزال بها نوح حتى تستسلم وتركب آخر الأمر، ولكنها تثير الشغب في السفينة من أول الرحلة إلى آخرها، في مشاهد تضحيكية متصلة، لا نرى أنها كانت تتناسب مع الوقار اللازم للرسل
فانظر كيف تلكم نوحاً زوجته في تلك الدرامة الجريئة، كما ساط اليهودي قديس الكنيسة في الدرامة التي لخصناها لك سابقاً. . . على أننا سوف نتناول هذا النوع من الدرامات الكوميك (التضحيكية) بالتفصيل من موضعه من الطور الثالث
الطور الثالث
الدرامات الأخلاقية والفواصل &
ذكرنا في الموجز الذي وضعناه في مستهل هذا البحث، في العدد السابق، أن الدرامات الأخلاقية نسخت بالاشتراك مع الفواصل، الدرامات القديسية وحلت محلها. وفي إيراد الكلام على هذا النحو شيء من المبالغة. وربما كان عذرنا في ذلك أن خلافا شديداً قام بين المؤرخين على أصل هذه الدرامات الأخلاقية، فمنهم، وهم الأكثرية، من يقولون إنها نشأت من الدرامات القديسية. ومنهم من يعارض هذا الرأي، وينفي أن تلك فرع من هذه، وعلى رأس هؤلاء الأستاذ مورلي من أساطين مؤرخي الأدب في العصر الحديث. على أنه لا مشاحة في أن الإنجيليات والقديسيات قد نشأت في الأمم اللاتينية عامة وانتقلت مع رسل الكنيسة من فرنسا إلى إنجلترا. أما الدرامات الأخلاقية فأكثر المؤرخين على أنها نشأت على أصول القديسيات، وأنها ثمرة من دوحتها الباسقة. وندع بعد هذا الناحية العلمية من مناقشة الفريقين المتناظرين، لأنها ليست من شأننا في هذا البحث. والدرامة الأخلاقية هي تلك الدرامة التي تعنى بالحقائق المجردة وفضائل ورذائل، فهي تجعلها أبطالاً وتتخذ منها شخصيتها وموضوعاتها، ويرجع هذا التجديد إلى أواخر القرن الرابع عشر حينما انتشر الشعر المجازي المشتمل على الكنايات والاستعارات المختلفة. وقد يكون لضيق الشعب بالدرامات القديسية أثر في هذا التحول، إذ أنه مل هذا النوع الواحد من التمثيليات(532/13)
الدينية التي أوشك أن يحفظها عن ظهر قلب لكثرة تكرارها، فأراد المؤلفون أن يتساموا بالدرامة فاقتحموا ميدان الأخلاق، لأنهم إنما كانوا ينشدون نشر الفضيلة - بعد تلقين دروس الدين - بما يقدمون للنظارة من هذه الدرامات. ولا غرو أن فرنسا كانت قد سبقت إنجلترا في ابتكار هذه الدرامة الأخلاقية، ولا يبعد أن تكون قد اقتبستها عنها كما اقتبست الإنجيليات من قبل: أما أن الدرامات الأخلاقية قد نسخت ما قبلها، فقد حدث ذلك بالتدريج فعلاً. فهم يذكرون أن آخر درامة قديسية قد مثلت في أواخر القرن السادس عشر. أو بالضبط سنة 1598 ثم ظلت الدرامات الأخلاقية تمثل بعد ذلك إلى أن ازدهر المسرح الإنجليزي بدرامات ماريو وشيكسبير وبن جونسون. ومن هذا يفهم أن القديسات واكبت الأخلاقيات زمناً طويلاً حتى تغلبت الأخيرة وحلت محلها. وقد كانت الرذيلة أقوى شخصيات الدرامة الأخلاقية. وكانت تحل دائماً محلاً هزلياً كما كانت الفضيلة توضع في مواضع الجد. فكان يمثل الرذيلة معتوه أو ضحكة أو أبله يجيد صوغ النكات والحركات التضحيكية، وكان يبدو دائماً وفي يده خنجر من الخشب، كما كانت ملابسه تثير الضحك الشديد. ولم تكن شيمة من الشيم إلا ولها موضع من درامة من هذه الأخلاقيات التي تكون فيها الشخصيات قسمة بين الفضائل والرذائل. فمقابل الطمع توجد القناعة، ومقابل الزنا يوجد العفاف، ومقابل الكذب يوجد الصدق، وضد الظلم العدالة وهكذا دواليك. وكان مقصوداً بتمثيل هذه الرذائل أن يحدث تباين مع الفضائل حتى لا يمل النظارة من كثرة الحض على التمسك بأهداب الفضيلة. ولهذا السبب كان وكد المؤلف أن يجعل شخصية رذيلة ما من الرذائل - كالجبن أو الشح مثلاً - مثيرة للضحك الذي يهز القلب ويفجر المشاعر، فإذا نال السامعون هذا النصيب من الترويح انتقل بهم المؤلف إلى شخصيات الفضائل الرزينة العاقلة - كالشجاعة والجود مثلاً - فجعلهما يردان على الجبن والشح في وقار وهون، ثم ينتقل إلى الرذائل ليعطي النظارة نصيباً من الضحك وهكذا حتى تنتهي الدرامة
وكانت الفترة التضحيكية المخصصة للرذائل تسمى فاصلاً - أو استراحة - وظل هذا هو النظام المعمول به في مزج الأخلاقيات بالفواصل حتى جاء جون هيوود (1506 - 1565) فألف في الفواصل خاصة، وبذلك أخذت تستقل الأخلاقيات وتكون نواة للملهاة(532/14)
وقبل أن نتكلم عن الفواصل نلم إلمامة ختامية بالأخلاقيات لنعطي القارئ نماذج سريعة من أنواعها ليكون لنفسه صورة من النضال المتصل والجهاد الرائع الذي مهد للمسرح الإنجليزي العتيد في عصر شكسبير العظيم. فمن هذه الدرامات الأخلاقية ما كان دينياً بحتاً مثل درامة قلعة المثابرة من عهد هنري السادس، وموضوعها الحرب بين النوع الإنساني وزملائه الفضائل السبع الرئيسية، ضد الكبائر السبع بقيادة زعمائها الثلاثة: مندس وبليال وكارو الذين يحاصرون النوع الإنساني في قلعة المثابرة، ثم نجاة النوع الإنساني آخر أمر. ومن هذا القبيل درامة (كل إنسان) وقد كتبت قبل سنة 1531 وفيها يستدعي (كل إنسان) هذا أمام محكمة إلهية ليقدم حساباً على ما قدمت يداه في الحياة الدنيا. . . وهنالك تخذله رفاقه (الزمالة والخفة والقوة والسرور والجمال) في حين لا يجد له نصيراً إلا حسناته التي تقدمه (إلى الاعتراف) الذي يبرئ ساحته
ومن تلك الدرامات أيضاً ما تلحظ فيه أثر حركة الإصلاح الديني والروح البروتستنتي الجديد، مثل درامة العرف الجديد أو درامة معركة الضمير. ومنها ما كان يتجه اتجاهاً علمياً يتمشى مع نور النهضة مثل درامة (العناصر الأربعة، وهي نضال بين العرفان وفضائله، والجهالة ومضارها؛ ونحوها درامة (الذكاء والعلم). ومنها ما كان سياسياً، مثل درامة (الفارس ألبيون) وهي تصور ذلك النضال الهائل بين الأشراف والعامة، والصدام الذي انتهى بالإصلاح الدستوري الكبير في بريطانيا. ونحوها درامة لوردات لندن الثلاثة وسيداتها الثلاث، وهي ملهاة لكاتب اسمه روبرت ولسن. وكان يحترف التمثيل. والسيدات هن المنفعة الخسيسة والحب والضمير. أما اللوردات فهم السياسة والأبهة والسرور (وأولئك هم سادة لندن) - ثم الكبرياء والطمع والظلم (وأولئك هم سادة أسبانيا) - ثم الرغبة والمسرة والولاء (وهؤلاء هم سادة لنكلن) وقد كتبت هذه الدرامة بعد تحطيم الأرمادة الأسبانية. وفيها تحقير شديد للأسبان وإشادة بالمجد الإنجليزي
هذا، وقد ألف بعد هذه المرحلة درامات لا هي أخلاقية كلها ولا هي فواصل كلها، بل كانت (بين بين) إن جاز هذا التعبير
أما الكلام عن الفواصل فيحسن أن يستقل بفصل خاص لأهميته، ولأنه كان البذرة الأولى للملهاة الإنجليزية، وهو ما سنتناوله في الفصل المقبل.(532/15)
دريني خشبة(532/16)
المشكلات
5 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
ومن غريب الأمر أن الطريق الذي أشرنا بسلوكه، والذي أبان العلم أنه لا طريق إلى تعلم اللغات سواه، هو الطريق الذي هدت إليه الفطرة وسلكته في تعليم الولدان لغات آبائهم، وتعليم الأجيال لغة أممهم، فالفطرة اصطنعت في تعليم اللغات طريق الحفظ والتكرار، والمرانة والاعتياد
ينشئ الطفل فيسمع أبويه وأهليه يتكلمون بمواضعات خاصة فيحفظها وتتكرر على سمعه، ويعتادها لسانه فتصير ملكة، وبذلك يحذق لغة قومه
كأن الفطرة قد علمت أن اللغة في الإنسان ملكة، والملكة لا تكتسب إلا بالتكرار فاستعملت ذلك في تعليم أمم الأرض لغاتها، ولم تخطئ مرة واحدة فتلجأ إلى طريق القواعد والقوانين لأنها لا تكسب الملكات
أما نحن فجهلنا ذلك، وأخذنا نعلم اللغة بالقواعد والقوانين، ولم نلجأ إلى تعليمها بالحفظ والتكرار، فكانت الفطرة أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الخطأ، وأثقب فكراً، وأسد نظراً، وكنا أقرب إلى الخطأ، وأبعد عن الصواب، وأعظم خرقا. وكانت الفطرة تعلم اللغة أثناء المعاملات اليومية من لعب وقضاء حاج، وبيع وشراء؛ أما نحن فقد أحطناها بالقوانين التي يفنى العمر ولا تفنى؛ فكانت مقتصدة أعظم الاقتصاد، وكنا مسرفين أشد الإسراف. كانت الفطرة تعلمها بالتدرج من الأسهل إلى الأصعب، ومن البسيط إلى المركب مراعية حال المتعلم، فتعطيه ما يناسبه ولا يجافي عقله. أما نحن فلم نراعي ذلك بل تعمدنا مضادته، فعلمنا القواعد التي هي فلسفة اللغة، تعلم بعد تعلمها، ومرتبتها في الوجود متأخرة عنها، فلم تظهر إلا بعد ظهور اللغة بأزمان. أقول علمنا القواعد قبل تعلم اللغة وجعلناها وسيلة إلى تعلمها، ولم نراع حال المتعلم فجئنا بأطفال الأقسام الابتدائية والتعليم الأولي، وأخذنا نعلمهم القواعد، ونعطيهم من العلم ما ينبو عن أذهانهم؛ فكانت جارية على مقتضى الحكمة، وكنا(532/17)
جارين على غير مقتضاها، أو على مقتضى شيء آخر، وكانت ميسرة كل التيسير، وكنا معسرين كل التعسير
وكانت تعلمها أثناء سرد الحوادث اليومية، وأخبار الجيران، والأهل والخلان، والمحادثات السارة والأخبار الممتعة، وتاريخ الناس وملحهم، وفي أثناء الأغاني والمدائح والمراثي. وكنا نعلمها في قواعد جافة خالية من كل ذلك، فكانت تعلمها مع المتعة والمسرة. وكنا نعلمها مع الضيق والحرج. ولما راعت ذلك كله كانت ناجحة في تعليمها كل النجاح، ولما أهملنا ذلك كله كنا مخفقين كل الإخفاق
أراني فيما سبق قد أطلت المسافة في الاستدلال، وذكرت في البين أن اللغة ملكة، وأن الملكة لا تكتسب إلا بالتكرار، وكنت أستطيع أن أختصر الطريق، وأقول لننظر إلى الفطرة كيف تعلم اللغة، ولنحاكها فيما تفعل، ولنعمل كما تعمل
وإذا نظرنا هذا النظر وجدناها تعلم أبناءنا اللغة العامية بالتكرار والمحادثة، وكذلك كانت تعلم أطفال العرب لغة آبائهم. كانوا يسمعون في طفولتهم من آبائهم ومخالطيهم مفردات اللغة وأساليبها، والبليغ المأثور من بيانها، ويتكرر ذلك على أسماعهم، فيحاكونه ويقلدونه ويتكلمون على نهجه، فيكتسبون الملكة في اللغة بالسماع والتكرار والحفظ؛ فإذا الطفل الناشئ ولسانه البادئ جار على هذه اللغة لا يخطئ ولا يشذ، ولو حاول جهده أن يحيد عن الصواب لاستعصى ذلك على لسانه، ولوجد في ذلك مشقة وعنتا
إن محاكاة الفطرة في أعمالها داعية إلى النجاح والتوفيق، وكلما كان المرء أقرب إليها كان أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الخطأ، ويكون خطؤه بقدر بعده عنها، ومجافاته لقوانينها
ومن سوء حظ المتعلمين أن ما في المدارس المصرية مما له تعلق بالطريقة الطبيعية قد أهمل ولم يعن به، وهو فيها صورة لا معنى، وشكل لا حقيقة؛ ففي المدارس المصرية حفظ ومطالعة، ولكن التلاميذ يهملون ذلك الثمد القليل الذي فرضته عليهم المدارس المصرية من المحفوظات، ولا يحفظون إلا النزر القليل ليقولوه أمام لجنة الامتحان الشفوي. وفيها مطالعة، ولكن يمر العام كله وهم لم يطالعوا إلا صفحات معدودة، وفي الكتب المقررة شواهد على النحو والصرف والبلاغة، ولكن التلاميذ لا يحفظون شاهداً، ولا يستظهرون مثلاً(532/18)
وضعت يدي على خمسة تلاميذ اتفاقا دون اختيار، وكانوا من تلاميذ الثقافة، وكان علم البيان مقرراً عليهم وفيه كثير من الأمثلة والشواهد، وسألتهم واحداً واحداً عما حفظوه من شواهد البيان، فلم يكن منهم من يحفظ بيتاً واحداً، ومن المحزن أن الممتحنين لا يقيمون وزنا لذلك، وأن المدرسين لا يقيمون له وزنا أيضاً، فلا هؤلاء يحتمون عليهم حفظ الشواهد، ولا أولئك يرون المقصر في حفظها مقصراً في الامتحان
وهذا إهمال عظيم في الحفظ والتكرار، وهو وإن كان محزنا فان لهم العذر كل العذر فيه، لأنه ثبت في أذهان الجميع معلمين ومتعلمين أن المعول عليه إنما هو القاعدة، فإذا فهمت وحفظت فما عداها من حفظ الشاهد والمثل فضل، ولا يعلمون أن هذا الفضل هو الذي إذا عني بحفظه وتكراره رسم صورة ذهنية، يكتب الناشئ على مثالها، وينسج على منوالها
وقد علمتني التجربة أن ما يؤخذ من المحفوظات في المدارس لا يغني التلاميذ شيئاً، فمن الواجب أن يكلف التلاميذ أن يعكفوا على بعض دواوين الأدب، فيقرؤوها، أو يختاروا منها، ويجمعوا ما يختارون في كراسة ويحفظوه ويفهموا معناه، وتكون هذه الكراسة بيد التلميذ عند الامتحان شاهدة على جده وعمله، فيقدمها للمتحن فيرى أهي كافية أم غير كافية، ثم يمتحنه فيها من أولها ومن وسطها ومن آخرها ليعلم هل حفظ ما اختار
وقد علمتني التجربة أيضاً أن ما يؤخذ من المطالعة في العام الدراسي أمام المدرس لا يغني عن التلاميذ شيئاً، فمن الواجب أن يكلفوا بكتب يطالعونها أثناء العام الدراسي ويكتبون آراءهم فيها ويلخصون محتوياتها، وكذلك في العطلة، ويكون لهذا وذاك دخل في تقدير الدرجات
كل ما في الوجود يشهد لي أن اللغة إنما تكتسب بالحفظ والتكرار وأن القواعد لا تغني في اكتساب ملكة اللغة فتيلا
لعلك جلست إلى بعض الممثلين واستمعت إلى حديثه فرأيته يتكلم بالعربية لا يكاد يخطئ: وينحدر كالسيل، ويهدر كالرعد
ولعلك جلست إلى بطل من أبطال اللغة العربية يعرف قواعد النحو والصرف والبلاغة لا تكاد تخفى عليه منها خافية، فرأيته يتكلم بالعامية لا يكاد يقيم جملة، ولا يستطيع أن يلين لسانه بالعربية، فعجبت كيف يملك الأول هذا القدر من العربية مع جهله، وكيف يقصر عنه(532/19)
الثاني مع علمه
أتدري لم هذا؟ إن الأول زاول اللغة العربية عملاً، وحفظ أدواره في الروايات، وألقاها ومرن على ذلك فاكتسب ملكتها، فإن تكلم بعد صدر عن الملكة فأجاد؛ أما الثاني فعلم قواعد النحو والصرف والبلاغة، ولم يزاول اللغة حفظاً وعملاً، فلم يكتسب ملكتها فكان هذا القصور المعيب
أجلست مع بعض العامة الذين يكثرون من قراءة الجرائد والروايات فرأيته يقيم لسانه بالعربية أكثر من ذلك النحوي الذي جعل همه في القواعد والقوانين
ولعلك رأيت بعض من لا يعرفون علم العروض والقافية، ولا يعرفون البحور وأوزانها، ولا الخبن والطي، إذا سمع بيتاً مكسوراً أدرك عيبه بمجرد سماعه، وإذا سمع بيتاً صحيحاً أدرك صحته كذلك؛ ولعلك رأيت بعض من يعرفون هذه العلوم لا يهتدون لعيب البيت أو صحته إلا إذا أخذوا يتعرفون من أي بحر هو ويجرونه على أوزانه. إن ذلك لأن الأول تربى عنده مقياس ذهني لأوزان الشعر من كثرة قراءته وحفظه، فإذا سمع شعراً اختل عن هذه المقاييس أدرك ذلك بذوقه، والآخر لم ترب عنده هذه المقاييس بل شغل بقواعد الشعر عن حفظه وقراءته والقواعد لا تربي الملكة
أن كثيراً من علماء العروض لو حاولوا نظم بيت من الشعر أعجزهم؛ وإن كثيراً ممن لا يعرفون هذا العلم يأتي لهم الشعر طيعاً منقاداً - والسر ما قلناه وكررناه من أمر الملكة والتكرار
سلوا كل كاتب يحوك الوشى، وينفث السحر، وكل شاعر يقول الشعر، وينظم الدر، في مصر وفي بلاد الشرق، بماذا نلتم هذه المنزلة ووصلتم إلى هذه الدرجة من البيان يجيبوك بأنهم لم ينالوا هذه المنزلة إلا بالقراءة الكثيرة، والحفظ الكثير ومزاولة الكتابة والحديث
إن قوانين الوجود صارمة نافذة أبدية فمن سايرها وعمل على مقتضاها انتفع بها وسار على ضوئها إلى التوفيق، ومن جهلها لحقه الضرر بهذا الجهل، ومن أراد التخلص منها، وحاول أن يخضعها لإرادته عني نفسه فيما لا يطاوعه ولا يجد إليه سبيلاً
محمد عرفة(532/20)
لافونتين
(1621 - 1695)
بنو آدم كالنبت ... ونبت الأرض ألوان
فمنهم شجر الصند ... ل والكافور والبان
للأستاذ محمد حسني عبد الله
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
الخرافة وازدواج الشخصية عند لافونتين
ولقد عرف الشعراء والأقربون في هذا الشاعر، من تصرفاته وأحواله، إنساناً قليل الانتباه لمجرى الحوادث، قليل الاحتفال بوقائع الحياة، منصرفاً عن حركات الناس وسكناتهم، متشاغلاًعن حديثهم ولغوهم، شارد الفكر فيما لم يكن في مستطاعه الدلالة عليه إذا بدهه سائل بالسؤال عما يشغله ويذهب بلبه. فكان يبدو ساذجاً أشبه بأبله، من العصي عليه أن يصف لأحد مشافهة ما رأت عينه أو يعيد عليه ما وعت أذنه. فهو لم يكن يعني - فيما ظن خلصاؤه وبطانته - بشؤون الناس في شيء، عظم أم حقر - حتى ولا بشأنه؛ فكان همه في الحياة - كزعمهم - العيش فحسب؛ ومثله الأعلى - كحدسهم - الاستكانة للواقع والانصراف عن الجهاد والكفاح واستمراء للكسل مضافاً إليه قليلاً من الحب ليمد العيش بالنضارة والحلاوة كقليل الملح إذ يصلح الطعام ويجعل له طعما سائغاً
ولكن كل من قرأ دواوين خرافاته وبحث فيها تصويرها الجامع لألطف المعاني والأخيلة، الحافل بأدق الأحداث وأشدها، تطلباً لليقظة، عرف فيه كما قد عرف مؤرخو الآداب والناس عامة، يقظاً مرهف الحس، فطناً لكل ما ظن أنه غافل عنه
فللرجل إذن خلقان على طرفي نقيض: أحدهما واضح المعالم ظاهر للعيان ساخر من الحياة، غير عابئ بواجباتها حتى واجبات الأبوة والزوجية؛ والآخر خفي مستبطن، ولكنه يقظ منتبه لكل ما يدور في ملعب الحياة. وثمة انسجام وتآلف بين هذين الخلقين ساق إلى تفادي أضرار هذا التباين بالتنفيس عن الجانب المستسر من خلقه في أدب الخرافة التي(532/21)
كان إخراجها للناس برهاناً على ازدواج الشخصية عنده وجمعه لعجائب الأضداد
خرافة لافونتين والناس
وكما أن إلياذة هوميروس وأوديسته هما سجل اليونان الحافل، وديوان أدبهم، المحدث في صدق عن معتقدهم، المصور في دقة لنظمهم، ومراسمهم خلال حقبة طويلة من تاريخهم القديم، فكذلك خرافات لافونتين - هوميروس الفرنسي - مرآة صادقة للحياة الاجتماعية في عصر من أحفل عصور التاريخ السياسي والأدبي عند الفرنسيين، ومعبر صريح عن الروح الغالية الساخرة العابثة الفطنة في القرن السابع عشر، إذ أراد فيها لافونتين بتصويره حاشية الأسد وجماعته من الحيوان، مجتمع معاصره لويس الرابع عشر نفسه، بلاطه وشعبه
وأما الصفات التي وزعها على الحيوان - كل بما يوائمه من صفة - كالكرم للأسد القوي، والحيلة للثعلب الماكر المستضعف، والغباء للحمار الأخرق، والطيش للأرنب المستهترة، والرياء للهر المتلون، والغرور للغراب المستغر، إلا صفات إنسانية محضة خبرها في أهل عصره وصادفها في مجتمعه فوصفه بطريقته الخاصة - الجادة إذ عبثت - متلطفاً بالمداراة والتأدب في نقد الناس إذا قدح، متحامياً الملق والتقرب من أي كان إذا مدح. فخلق بذلك عالماً في ظاهره غريب عن الإنسان، وهو في مستسره وكيد الصلة به. فتهيأت من ذلك للصغار فرصة الالتذاذ والتفكه بشؤون هذا العالم الحيواني العجيب والإفادة منه، وللكبار فرصة إعمال الذهن وكدح الخاطر في ربط الصلة بينهم وبين عالمهم واستخلاص الحقائق الواقعية التي أريد بها عصر لويس الرابع عشر خاصة ولكنها تصلح تصويراً أخلاقياً دقيقاً لكل عصره. وبهذا عدت الخرافات في مجموعها ملحمة فرنسا الكبرى فكانت تراثاً أدبياً إذا أضيف إلى الإلياذة والأوديسة والشهنامة وألف ليلة وليلة، أعز جانب الأدب العالمي.
هوميروس الفرنسي والأخلاق
ولكن يصعب على المنقب في هذه الخرافات أن يستخلص منها مذهباً أخلاقياً أو مبدأ مثالياً. فهوميروس الفرنسي قد قنع فيها بتصوير الحياة كما هي فأجملها في قصائد منظومة لا(532/22)
تحسن حسناً ولا تقبح مرذولاً. وإنما هدفها رسم الأحوال المختلفة وتصوير العواطف البشرية، شرها وخيرها، إذ الأمر يتعلق بوصف الحياة لا بنقدها. فالقوة والضعف والغنى والفقر والشر والخير هذه كلها ألوان ليس للحياة منها بد. بل لا محيد للضعيف عن الخضوع للقوي، ولا مهرب للفقير من استعباد الغني، ولا حيلة للخير مع الشر
فلافونتين إذن لا يختط قواعد أخلاقية تتبع، ولا يبين أغراضاً مثالية تراعى، إذ غرضه إزاحة الستار عن حقيقة الحياة الدنيا بغير أن يتطلع إلى خير منها. فإذا عرض للضعيف المغلوب فغالباً يجرده من معونة الغير ومن القدرة على الأخذ لنفسه. وإذا تكلم عن القوي المظفر حشد في ركابه الدنيا برجلها وخيلها، وهيأ له النصر المحتوم من طبيعة الأمور. وهو يؤيد ما قيل من أن (جوبيتير) مد على البسيطة خوانين: خوانا للمجدودين أصحاب الجاه والنفوذ والقوة قد صفت عليه ألوان شهية من الطعام والشراب، وخوانا للمخذولين الخاضعين، لا يليق إليه إلا بالفضالة والفتات. بل المسألة - فيما ترى - أدهى وأمر؛ فالصغار أنفسهم هم مأكول الكبار القادرين. وأيا ما كان الأمر فالامتثال والإذعان واجب الضعيف للقوي والمسود نحو السيد. وعلى الكلب ألا يجهل من يكون السبع الملك، وأي فضائل تلك التي خص بها دون المخلوقات، ومتى ينبغي توطين النفس على الرضاء بظلمه وحيفه
على أن الحياة كما هي لا بأس بها، والألم فيها على أي حال خير من الموت. فشعار لافونتين - مع هذا - الخضوع المطلق للواقع. وهذا شعار لا يرضي الأراديين وأصحاب الخطة في الحياة
وقد عاب عليه جان جاك روسو السخرية من الضعيف المغلوب. فبالإضحاك على حسابه يدعو إلى الإعجاب بالغالب المختال، ويحث على المظلمة والجور. وذكر أن حكمه وأمثاله ليست من النبل والبطولة في شيء. فكثيرها ينصح بقبول الحياة حتى في أحط الأوضاع؛ ثم ينصح بأخذها بالملق والإذعان والدهاء. وما هذه إلا صفات الخاضع الذليل الذي لا يرجى نفعه
على أن الخرافات في الحق وإن سخرت كثيراً من الضعاف لا تخلو من الإشارة إلى الأخلاق. وكيف لا والسخرية نفسها سياط تحدو إلى التفطن والانتباه حذر الوقوع فيها(532/23)
يستوعبها من الغفلة والانخذال. وهل أدل على أن لافونتين قد قصد إلى الأخلاق والنصيحة من قوله هذا (ما أردت إلا الإفادة والإرضاء بهذه الصور الوهمية التي أقدمها للعالمين، فالحكاية لمجرد التسلية شيء يبدو لي تافهاً صغيراً)
كلمة ختامية
ولئن كان أروج الأمور - فيما يرى لافونتين - التسليم للأمر الواقع فان ذلك لا يعني عنده الغفلة عن المسرة واغتنام فرص الحياة. فهو - وهو أبيقوري المذهب - جد حريص على أن يهيب بالناس إلى الاستمتاع بمسرات العيش ما أسعفت الحيلة ومكنت الفرصة. فما للإنسان سوى عمر واحد، فإن هو بذل في هم وأحزان، إن كان وضع في الدنيا موضع كد وحرمان، فوالله قد عرى من دهره وحرم نعيم الرضاء بأية حال. فالمرء لا يعدم مع الفاقة والمعسرة والإذعان للسيد المقتدر، غبطة القناعة وسرور السلام. وهل استطعمت السباع التي خلفت وراءها ما فاض من مطعمها مذاقاً غير الذي ذاقته الثعالب في هذا المخلف؟ على أن الدنيا في واقع الأمر دار ضيافة، وليس من عرفان الصنيع في شيء أن تغادرها دون الشكر للمضيف أيا ما كان القرى الذي يتيسر لنا من حكم الأقدار
تلك وأشباهها أراء لم تكن إلا صدى لحياة لافونتين نفسها. فهو قد عاش قرير العين، رخي النفس، لا منفذ إلى قلبه للهم. وكانت له الضياع والعقار في أراضي (شاتوتيري حيث ولد ودرج وشب وعاش حتى الخامسة والثلاثين من عمره - فلم يعن بالإبقاء عليها تحرزاً من غير الدهر وصروف الزمن. فلما صار إلى الفقر نتيجة التبذير والإسراف، آواه بباريس (فوكيه) وزير مالية لويس الرابع عشر، فدوقة أورليان، فمدام دولا سابليير، فهيرفار من بعد، لم يمنعه ذلك من التسليم والرضا، ولم يتأسف على ما لم يعن التوفيق ببقائه؛ بل أطلق لهواه العنان وأخذ بأوفر سهم من لذة العيش قبل أن تولي أيامه وتنصرم مدته. إلا أنه عند دنو الأجل استشعر الندم على ما فرط منه. يتضح ذلك من هذه النبذة التي نختتم بها من كتاب له إلى صديقه الشاعر (موكروا
(ومن الإسراف يا أخي أن تخال صديقك لافونتين مريضاً بالوهم؛ فالذي لا ريب فيه أنه لم يبقى من أجله إلا أيام معدودات، ولشد ما نالت من قواه العلة طوال عامين بتمامها، لم يشد أزره على شدتهما سوى نعمة اختلافه إلى المجمع اللغوي بين الوقت والوقت. ولكن(532/24)
بالأمس وهو في طريق العودة منه، بغتة ضعف ظن أنه الموت على موعد. فأخذته الرعدة لا خشية الموت ولكن خوف الحاكم العادل، جلت قدرته. فأنت تعلم بأي وجه سيلاقي صديقك ربه. . .)
وتلك الندامة لعمري حسنة تسجل للافونتين.
محمد حسني عبد الله(532/25)
أعداء النساء
للسيدة وداد سكاكيني
أمر من الرجل قد وقع، وقضاء قد حم على رأس المرأة. وكأن الدهر أبى منذ الأزل إلا أن يقطع أسباب المودة والصفاء بين الرجال والنساء، فسخر من غلاظ القلب والجسد من كاد لهن وتربص بهن، وزعم متلطفاً أنهن شر لا مفر منه ولا غناء عنه، فأساء الرجل إلى جنسه، والى من خلقت من نفسه؛ فكان كمن ضل وأضل. إذ كيف جاز في شرعة الحق والرجولة أن يخلق هذا الإنسان الجبار عداوة بين الجنسين، أو في دنيا مخلوقين بديعين؟ ومذ بدرت من الطبائع بوادر الخصومة والخلاف هب نفر من الرجال، وقد حسبوا أنهم يحسنون صنعاً، فتنادوا إلى ملاحاة النساء والغض من حسناتهن، ليقال إن العالم يشقى بشرهن ويعيا بأمرهن. وأخذ المتنادون والأشياع يهتفون في كل جريمة وقعت أو خصومة قامت: فتش عن المرأة. ثم غدا الناقمون مباهين بعداوة النساء، فروعت بنات حواء وفزعن إلى أخواتهن متسائلات: - من الشاهر سيفه الكاشر عن أنيابه، الناشر لمخالبه، يريد بنا الأذى وينوي لنا الردى. . .؟
فقلن هذا (أرثور) زائغ الفكر والشعور، رفع صوته في الغرب، فثارت به المرأة تتمنى جلده وتحطيمه. وذلك (التنوخي) الضرير نفث نقمته في أرجاء الشرق، فودت له النساء كل شقاء وفناء. وخلف من بعد هذين الناقمين خلف ورثوا عنهما المكايد والضغائن وصار إليهم بحورة الماكرين. . .
وبعد فما لامرأة اليوم حيلة بالأعداء الغابرين، فقد ماتوا وخلوا للمشايعين تراث العداوة لها؟ وكانت تحسب أنها استراحت من الأعداء، فإذا هم اليوم خصوم ألداء وحقدة أشداء، يتداولون بينهم ذلك التراث البغيض. من هؤلاء الخصوم في ديار العرب توفيق بن سليمان الذي جد في عداوته للمرأة فطعن عليها، ورماها بكل نقيصة في كتبه ومقالاته. واليوم ظهر في جنبه بوادي النيل عدو جديد. على أن أكثر هؤلاء الأعداء من الكاتبين والفلاسفة والكبراء، ما شاع ذكرهم ولا ذاع صيتهم إلا حين تهجموا على النساء بالمثالب والتسفيه، فإذا بمطاعنهم تدور وتحور، ويتردد صداها في كل مكان، وينبسط مداها مع الزمان، ويقبل على بضاعتهم الشامتون بالمرأة والغاضبون عليها، فيشترون من تلك البضاعة المزجاة(532/26)
ويرتأون آراءهم الفائلة، وإذا بها ترن في المسامع وتطوف بالمجامع؛ فيهتف التاريخ بأسماء: شوبنهور ونيتشه والمعري وتوفيق الحكيم وغيرهم. . .
ومن عجب أن يجور هؤلاء الأعلام على النساء بما يخالف العرف وينافي الواقع، ليكتسبوا من هذه المناوأة والمكابرة شهرة جديدة وصيتاً بعيداً. وطالما جار الثالبون على أنفسهم فتعسفوا وتكفلوا وكان خبطهم خبط أعشى. أليس منا أمهاتهم وأخواتهم وخالاتهم وجداتهم، ولم لا أقول زوجاتهم وبناتهم؟ ثم أستغفر الله مما وزل به اللسان، فإن كفيف المعرة كف نفسه عن المرأة، ولعل له عذراً، فلو كان كحل عينيه بجمال الغيد ولم يكن دميما لاجتاحت قلبه واحدة من النساء غيرت معالم اللزوميات، فلم يطعن علينا فيها بالتائيات، ولما أدارها معنا وقيعة سجالا وحرباً عوانا؛ فإن في كل بيت منها لسيفاً وسنانا. ولقد بنى أبو العلاء صروح شعره على ذم المرأة وما دل عليها، وكان منها أو إليها، فالدنيا عنده أم دفر، وهو أبداً ينحت أثلتها ويبري عودها، معتقداً أن كل خطب فيها سببه المرأة؛ فهو هدام معطل، لو أوتي قوة شمشون وكان مسبل الشعور لدك بهن العالم وأقفر الوجود. ومن يدري فلعل شوبنهور أو نيتشه وسواهما من أعداء المرأة في الغرب والشرق إذ كرهوها وصفدوها، كانت وراء كل منهم امرأة أفسدت عليه نعيم الحياة، وسودت في عينيه بياض الدنيا؛ فحسب الغدر والكيد كله من شيم النساء. وإذا كان لهؤلاء الأعداء الغابرين معاذيرهم في الغضب على النساء وفي عهود كن مستضعفات، فأي عذر للناقمين منهن في عصرنا؟ وكأن هذه النقمة من أكابر الكاتبين في أيامنا خصومة بهم أو دلالة عليهم، فإذا ركد لهم صيت أو فتر من حولهم إعجاب هزوا لأنفسهم رياح الشهرة بمقال يرسلونه، أو رأي يقولونه، في شأن المرأة، فقذفوا بالباطل عليها، ودعوا الرجال إلى البطش بها، وعد الحقوق التي تطلبها ضرباً من الأوهام والأباطيل. من هؤلاء الأعداء المكابرين الكاتب المصري توفيق الحكيم الذي يجهر بعدائه للنساء في كل نهزة، ويسخر قلمه للسخر منهن ومن ثقافتهن. وما كان هذا منه إلا ألعوبة أدبية يلوح بها في وجوه الناس ليزيدهم لآثاره تقديراً وعليها إقبالاً. ولعلهم كانوا كذلك بادئ الرأي، أما وقد عرفوا أفانينه فإن توفيقاً أصبح لدى العارفين أديب تربص وانتهاز، فمنذ عهد قريب دعا قومه إلى تعدد الزوجات، وحين نشر الدكتور طه حسين كتابه الأخير (أحلام شهرزاد) ضاقت عين الحكيم عن تسريح(532/27)
النظر في هذه الأحلام التي صور فيها الأديب العميد (شهرزاد) في رداء من الحصافة والذكاء. ولما رآها مرت أمامه شهرزاد التي صورها خليعة ماجنة. ومن قبل نشر الأستاذ توفيق الحكيم فصولاً عرى فيها المرأة من مواهب الفن فزعم أنها لا تحسن إنشاء القصص التمثيلية ولا تستطيع أن تكون موسيقية تبتكر الألحان، وقد فاته من أدبنا القديم براعة المغنيات في عصر بني العباس، وفي العصر الحاضر من أهل اللحون نساء في المشارق والمغارب. أما الروايات التمثيلية فعهد العرب بها جديد، ولننتظر فإن الزمان لم ينفد أمده، وما زال الإنسان حياً، فإن في مأتى الدهر نجوماً ستنجم يكون بينها مؤلفات للمسرح وموسيقيات. ومن أعجب العجب أن تسكن عداوة الحكيم للنساء أشهراً لتكون وحياً جديداً للأستاذ عباس محمود العقاد، فقد نشر هذا الأديب العظيم مقالين زعم فيهما أن المرأة لا تجيد من الفنون غير فن الرواية، وكأن هذا الفن في نظره أهزولة هينة على كل كاتب، وقال إن المرأة ليست بشاعرة مبتكرة بل هي مقصرة ومكررة، لأن الشعر ابتكار واقتدار، وأنها لم تنبغ حتى فيما هو أقرب إليها وأحرى أن تتفوق به على الرجل وهو الرثاء، وإذا كانوا يضربون المثل بالخنساء فإنه ليس في ديوانها غير أبيات متفرقات في البكاء لا ترتقي إلى منزلة الشعر السيار، إذ كله تكرير لمعنى واحد، ولا يصح أن يقال إنه معنى من معاني القريحة والخيال. وقال العقاد أيضاً: إن التصوير كالتمثيل والمرأة فيه غير مبدعة. ولم تعرف نابغة فيه خلقت دوراً من محض خيالها وتفكيرها كما يتفق لنوابغ الممثلين من الرجال. وهكذا رأينا هذا الكاتب الكبير يجرد المرأة من مزايا الإبداع والإجادة حتى في صناعاتها الخاصة بها، كالطهي والوشي والزينة والخياطة؛ فزعم أن الرجل يبذها فيها وينافسها، ونحن نقول إن في عديد شاعرات الغرب قديماً وحديثاً، وفي شاعرات العرب اللواتي - روى شعرهن أبو تمام وأبو نواس، أو التي ينشرن القريض لغة الضاد أو بلغة الفرنسيين - ما ينقض رأي العقاد؛ وفي الأديبات المعاصرات من أحرزت جائزة نوبل التي ما أحسب الأستاذ العقاد يزهد فيها، وفي النساء ممثلات كساره برنارد وراشيل، ومصورات لا يحصى لهن تعداد، أليس فيما أشرت إليه حجة بالغة عليه؟ ونحن لم ننس بعد مرثيته لفقيدة الأدب في الشرق الآنسة (مي). فعداوة العقاد إذن كعداوة الحكيم وكلاهما أديب أعزب وعن النساء بمعزل، بل ما دار لدى الأول بين يديه في صحن داره كما يذكر(532/28)
هو في كتابه (عالم السدود والقيود) غير خادمه الساذج، وما وقفت في مطبخه طاهية ولا جارية، بل لم تخطر في فناء بيته وحجراته امرأة يدعوها بأم أولاده، والحكيم يعيش مفرداً متجافياً عن المرأة، وقد آثر مرة ألفة حمار كما قال عن نفسه في كتابه (حمار الحكيم). ويثور بالمرأة أديب آخر يمزح مزاحاً فيه حلاوة وفيه مرارة هو الأستاذ المازني الذي يتندر على المرأة ويستهزئ بها في كثير من قصصه ومقالاته، حتى أن زوجته وبناته لا يسلمن من أهكوماته وزرايته. وأحسب هذه الضروب من الأدب العابث بالنساء أصبح لدى معشر من أدباء العصر أفكوهة الفن وطرفة التجديد، وما المرأة في هذا الزمان إلا مستيقظة من سبات، ناهضة من خمول وهوان، فعلام يحول أدباؤنا دون تحريرها ورقيها، ويباهون بالعداوة لها وبالزراية عليها، وكان الأولى لهم أن يعالجوا مشاكلها ويتفقدوها في مجتمعاتهم، ويجعلوا منها شريكاً في حياة كاملة طيبة، وما بال هؤلاء الأعداء - وما جادت الأيام بأندادهم إلا على هامات العصور - يسخرون أقلامهم للهدم والتحطيم، وقد شرفها الله فأقسم بها وما كان مدادها إلا ليشرق من سواده نور الحق والخير على بياض الأوراق؟ ليتهم سخروها لرعاية المرأة ورفعتها، ولسوف تأتي الأجيال القابلة فينظر أهلوها في آثار هؤلاء الناقمين على النساء، فيرون أن بعضهم كانوا لاهين مباهين بأدب لحمته وهم وخيال وسداه زهو وتحريف، ينتزعوه أحياناً من الأساطير ويرددونه في الأدب الحديث باسم الفن والتجديد لقوم حرام عليهم اللهو والهزل والدنيا جادة في اقتحام الأمجاد وبناء الأجيال، وهكذا نراهم غير جادين في آرائهم أو مخلصين لدعواهم، ولو كانوا يريدون بالنساء خيراً ونفعاً لأنشأوا لهن أدباً يبصرهن ويعصمهن ويجمع قواهن في قوة الرجال فما ينبغي أن يتخلفن عن مسايرتهم في ركب الحياة
يقول الراسخون في العلم والنافذون بأبصارهم إلى عالم الغيب: إن في حياة كل أديب امرأة كان لها تأثير في توجيهه ونبوغه، وهذا ما ردده توفيق الحكيم منذ سنتين: (فمن أفواهكم ندينكم) يا أعداء المرأة؛ لولا نساء أظلمت عليكم قلوبهن فلم تدخلوها لما كانت عداوتكم، وإذا دعوتم إلى تحقير المرأة والبطش بها فإن وراء دعوتكم تشفياً وانتقاماً، فقد يكون الدهر إبتلاكم بأهواء الحسان، أو بلوتم زيوف النساء فتجافيتم عن الخوالص الصحاح
ثم ابحثوا أيها المنصفون تاريخ السرائر والنفوس، فلن تجدوا منذ حواء واحدة من النساء قد(532/29)
نصبت نفسها لعداوة الرجال، ولو بحثتم عن أعداء النساء منذ آدم لوجدتم فيهم الكثير، فخلوا عنكم أيها الأعداء، وحسبكم تسفيهاً للمرأة وتجريحاً، وعلام هذه البغيضة منكم والقطيعة، فما العمر مديداً حتى يحتمل فيه الكدر والخصام، ولا فيه صفاء يدوم لإنسان.
(دمشق)
وداد سكاكيني(532/30)
موكب الحسن. . .
مَوْكِبُ الْحُسْنِ تَهَادَى ... بْينَ أَرُجَاءِ الْحَياةِ
ضَاحِكَ اْلإشْراقِ طَلْقَ السِّ ... حْرِ وَضَّاحَ السِّمَاتِ
أَلْهَوَى رَنَّحَ عِطْفَيّ ... هِ بِسَكْرَي اْلأُغْنِيَاتِ
وَالسَّنَا رَقْرَقَ مَسْرَا ... هُ كَأَمْوَاهِ الْقَنَاةِ
خُذْ مِنَ الْبَهْجَةِ يَا شَا ... عِرُ مَا شِئْتَ وَهَاتِ
هَذِهِ الْجَنَّاتُ مِلَْء الْ ... عَيْنِ سحْراً وَانْبهَارَا
تَرْقُصُ اْلأُغْصَانُ فِيهَا ... رَقْصَ أَعْطَافِ السُّكارَى
وَنَسِيمُ الّليْلِ هَفْهَا ... فٌ كَأَنْفَاسِ الْعَذَارَى
وَالنَّدّى سِرُّ الّليَالِي ... قَبَّلَ الزَّهْرَ جِهَارَا
وَالدَّيَاجِيرُ مَحَارِي ... بُ سُكُونٍ لِلْحَياَرَى
وَرَأَيْتُ الْحُسْنَ كالْحَيْ ... رَانِ يَغْدُو وَيَرُحُ
أَطْلَقَ الصَّبْوَةَ تَجْرِى ... خَلْفَهُ لاَ تَسْتَرِيحُ!!
وَالْهَوَى وَالْوَجْدُ في جَنْ ... بَيْهِ نَارٌ وَجُرُوحُ
وَالضُّحَى والليْلُ في كَفّ ... يْهِ أَسْرَارٌ تَبُوحُ
إِنَّ هَذّا الكَوْنَ جِسْمٌ ... وَالْهَوَى لِلْجِسْم رُوحُ
كُلّماَ أَبْصَرْتُ ذَاكَ الْ ... بَدْر فَتَّانَ الْمُحَيَّا
وَالرُّباَ وَالْبِيدَ وَالليْ ... لَ وَعُنْقُودَ الثُّرَيَّا
وَالنَّدَى والزَّهْرَ وَالْغِي ... دَ وَأَكْوَابَ الْحُمَيَّا
قُلْتُ هَيَّا عَانِقِينِي ... يَا مَجَالِي الْحُسْنِ هَيَّا
وَتَعَالَيْ نمتَلِكْ نَا ... صِيَةَ الدَّنْيَا سَوِيّا!!
إِنْ تَبَدَّي الْحُسْنُ شَتّى ... فَهْوَ في قَلبِي جَميعُ!
أَو ْتَعَرَّى فَلَكَمْ يُكْ ... سَي به الْفَنُّ الرَّفِيعُ!
يَا تَقِيَّ الْقَلْبِ غُضَّ الطَّ ... رْفَ فَالْحُسْنُ خَليِعُ!!
لاَتَسَلْنِيِ عَنْ شِتَاءِ النَّ ... فْسِ وَالدُّنْيَا رَبِيعُ
كيْفَ أشكُو الْجَدْبَ وَالاْمْ ... حَالَ وَالْوَادِي مَرِيعُ؟!(532/31)
الدُّنَى مَجْلَي بَشَاشَا ... تٍ تَهَادَتْ في حُلاَهَا
وَالْبَرايَا فِتنٌ سَكْ ... رَى بأَحْلاَمِ صِبَاهَا
تَعُبدُ الْحُسْنَ إِلهَا ... حُرَّةً وَفْقَ هَوَاهَا
وَإِذَا مَا صَاغَكَ اللَّ ... هُ شُعُوراً وَانْتِبَاهَا
أَحَرَامٌ أَنْ تَرَى في ... كُلِّ فَتَّانٍ إَلهَا؟!
(كوم النور)
أحمد أحمد العجمي(532/32)
من شعر الأطفال
1 - الطيار الصغير
أنا طيّارٌ صغيرُ ... لستُ أخشى ما يضيرُ
أنا في الجوّ أطيرُ ... فوق هامات الرياحْ. . .
أنا طيّارُ بلادي ... أنا عُنوانُ الجهادِ
إنْ دعتْ مصر تُنادي ... قمتُ أسعى للكفاحْ. . .
2 - البحار الصغير
أنا في الصبح أقومُ ... ثمَّ في البحر أعومُ
أنا بحارٌ عظيمُ ... كلُّ حبّ للحياةْ. . .
صاحبي النهرُ الجميلُ ... ليس لي عنه بديلُ
كلُّ ما فيه جليلُ ... مُثْبتٌ فضلَ الإلهْ. . .
3 - اخوتي الصغار
لي اخوةٌ صغارُ ... جميعهُمْ أبرارُ
أُحبُّهم من مهجتي ... كذاك همْ أحبّتي
إن غاب يوماً والدي ... أصبحت ُمثل القائد!
إن سرتُ يتْبعوني ... أوْ قلتُ يسمعوني
وهكذا الإخوانُ ... يضمّهم حنانُ. . .
(المنصورة)
علي متولي صلاح(532/33)
البريد الأدبي
كلمة بريئة
الصلة بين الكاتب والقارئ. . . توثقها روابط المحبة والصدق والمعرفة والإخلاص. . . والكاتب الذي يعمل على إيجاد هذه الصلة بينه وبين قرائه كاتب فذ جدير بالاحترام. . . ولعل الأستاذ الجليل الدكتور زكي مبارك يعد الكاتب الاجتماعي الأول الذي يعني بهذه الصلة. . . فليس همه إنشاء الأدب المحض. . . يسكبه في أرواحنا فناً يأخذ بالمجامع بل همه المجتمع الذي يعيش فيه يبحث في مشكلاته. . . ويناقش في معضلاته. . . ويشارك القراء أبحاثهم ويناقشهم آراءهم في أدب جم. . . وتواضع كريم. هذا هو الدكتور زكي مبارك. ويبقى الأستاذ سيد قطب يريد أن يعرف رأي القراء فيه. . . ولعلي أتطوع لإبداء رأيي فيه. لا من ناحية قيمة كتاباته من الناحية الفنية الأدبية فهذا أتركه لأستاذة الأدب وجهابذة البيان. ولكن من ناحية أسلوبه في الخطاب والمناقشة مع الأدباء فهو مع الأستاذ مندور يعتمد على قلمه في سب الرجل والأخذ بخناقه ظلماً طاعناً في رجولته من أجل أدبه المهموس. والأدب شيء والرجولة شيء. . . والفن هو الفن. . . ومع ذلك فلم نر الدكتور مندور إلا ناقداً فنياً أعجب القراء بحثه وتعليله ونقدهوتحليله وشرحه وتأويله. . . ومعارك القلم عند القراء (عوامهم وخواصهم) لن تجدي فيها دعاية ولا حرب أعصاب أو حملة عمادها الشتيمة والسباب. لا بل القارئ يهمه الحجة والمنطق والأسباب. . . ثم ماذا؟ قرأنا مقال (أيها الأدباء أعصابكم) فإذا بنا ننتهي من المقال لنعيد قراءته. وقد لمسنا حسن التوجيه في أدب ولباقة. . . فإذا بالأستاذ قطب يهاجم الأستاذ دريني تحت عنوان غريب ما يصح صدوره من أديب:
(تصحيحات واجبة في الأدب والأخلاق)، ثم قرأنا لنرى (تصحيحات) فإذا بنا نقرأ شيئاً آخر. فهل التصحيحات معناها اتهام الأستاذ دريني بالتحامل. . . واتهام القراء بالعامية وأنه لا يتلقى معاييره الفكرية إلا من العوام وأشباههم. . . صحيح أن الأستاذ قطب تلميذ العقاد. وهل في هذا ما يغضب الأستاذ قطب. لا. الأستاذ قطب كاتب وأديب وشاعر وكل شيء. . . والقراء يحبونه أن يظل هكذا بينهم. . . وبقدر ما يحبونه يحبون آخرين. . . فإذا شاء أن يعارك فبقلمه لا بلسانه. وبعد نقول للأستاذ: (أيها الأديب أعصابك).(532/34)
أحمد فهمي القاضي
المحامي
الأعراب
في العدد (530) في مجلتكم الغراء ورد اسمي في رسالة مفتوحة من (أستاذ جليل) إلى رئيس تحرير مجلة آخر ساعة يشكوني فيها إليه لبعض ما كتبته بإمضائي
وقد فهمت مما كتبه الأستاذ الجليل - وقد فهمته بصعوبة لبلاغة اللغة التي كتب بها - أنه يتهمني بالتجني على إخواننا العرب لمجرد قولي في سياق مقال: (كل هذه المدنية التي شيدناها لم تعجب الزائر الكريم، وإنما أعجبته قطعة من الصحراء أقيمت عليها أصنام، وقف حولها حمير وإبل وأعراب). . .
هذه الكلمة الصغيرة أغضبت الأستاذ الجليل، واتهمني من أجلها بأني نسيت تاريخ العرب والنبي والإسلام، ومن حرر مصر ومن هدى مصر والقواد والخلفاء العظام. . . الخ! نسيت كل هذا لأني حاولت في مقالي أن أصف صورة واقعية يراها كل من يدفع ثلاثة قروش ثمناً لتذكرة ترام يحمله إلى الأهرام. . . صورة الإبل والحمير المعدة لنزهة السائحين ولهوهم ومن حولها أصحابها فعلاً من الأعراب، أو على الأقل من المتزيين بزي الأعراب، يلهثون وراء السائحين صائحين (بقشيش)!
وقولي: (أعراب) دون (ال) التعريف تعني أنني أقصد بعض الأعراب لا الأعراب كلهم أو على الأصح. . . لا أمة العرب كما فهم الأستاذ الجليل. . .
وفي كل أمة، سوى كانت عربية أم مصرية أم فرنسية، ينقسم الشعب إلى درجات وطبقات. فلو قلت أن في مصر ماسحي أحذية؛ فليس معنى ذلك أن الشعب المصري كله من ماسحي الأحذية. ولو قلت أن من الأعراب من يقف وراء الحمير والإبل؛ فليس معنى هذا أن كل العرب يقفون وراء الحمير والإبل
إن العرب أمة من الأمم. . . أمة لها مزاياها ولها عيوبها. ومن حقنا أن نذكر عيوبها بنفس الصراحة التي نذكر بها مزاياها
أمة لها تاريخ مجيد. . . ولكن التاريخ لم يعد يكفي لتقدير الأمم في هذا الجيل.(532/35)
إحسان عبد القدوس
من رسائل الرافعي: وحي القرآن باللفظ، القراءات
وحي القرآن باللفظ أمر اختلفت فيه الفرق الإسلامية؛ فللأشعرية قول، وللمعتزلة، وللحنابلة مذهب. وثم فرق أخرى لها آراء مختلفة. ولا نطيل بذكر هذه الآراء فليرجع إليها في مظانها من يريد الوقوف عليها، وأنت لو تدبرتها كلها لألفيتها مما لا يسكن إليه العقل، ولا يطمئن به القلب. وقد فزعت إلى الرافعي وهو من أئمة البلاغة لعلي أجد عنده شيئاً يثلج الصدر، ولكنه على ما أتى من قول بليغ، فإن النفس لا يزال فيها من هذا الأمر شيء
ولعلنا نجد من أئمة الدين، أو من غيرهم من العلماء والمحققين، من يتولى بالبحث والتحقيق هذا الأمر الدقيق الذي يهم المسلمين جميعاً، حتى نصل فيه إلى مقطع تسكن إليه النفوس القلقة، وتستقر عنده العقول الحائرة
وهذا هو جواب الرافعي رحمه الله
يا أبا رية: السلام عليك، وبعد. فإنك سألتني مسائل دقيقة، تحتاج إلى الفكر وبسط الجواب وهذا ما لا قبل لي به فأنا مريض الدماغ حقيقة، ولكني أجيبك بما قل ودل
أما سؤالك فقد كثر الكلام في جوابه، والذي أراه أنا أن ألفاظ القرآن منزلة بحروفها ونسقها وإلا بطل الإعجاز، لأن الإعجاز لا يكون إنسانياً، وقد كان الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فتعتريه حالة روحية وردت صفتها في البخاري وغيره، وبها ينزع من عالم الحس فتتجرد نفسه الشريفة، فيرى الملك ويسمعه ويأخذ عنه، ثم يفيق فيؤدي ما أوحى إليه بحروفه، وهي حالة كانت شديدة عليه ولذلك تسمى (برحاء الوحي)، وكان جسمه صلى الله عليه وسلم يثقل فيها جداً ويتصبب عرقاً، إلى آخر ما ورد في صفتها مما يدل على ما تلقى نفسه الشريفة في تجردها وما يلقى الجسم في هذا التجرد، ولا يمكن في مثل هذه الحالة أن يكون للإنسان وعي وفكر يؤلف به نسقاً في الكلام كما توهمت، لأن هذا التأليف من أفعال المخ، ولو أمكن أن تكون الألفاظ من عنده صلى الله عليه وسلم لظهر فيها أسلوبه قليلاً أو كثيرا؛ ولما كان في حاجة إلى نزول القرآن آية فآيتين إلى عشر، بل كان يحدث عنه المعنى الذي ينطبع في روحه جمله واحدة، وفوق ذلك فهذه حالة تستدعي وقوع التفاوت في(532/36)
أجزاء القرآن وهو غير واقع، وأظنك لم تقرأ الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب ففيه كل شيء ما عدى كيفية نزول الوحي، لأني لم أتعرض لها إذ أردت أن يكون كتابي مقنعاً للمؤمن وغير المؤمن فجئت به من جهة العقل في كل فصوله. ومن أجل ما بينت لك جزم العلماء كلهم أنه لم ينزل شيء من القرآن مناماً، لأن النوم حالة يستوي فيها الناس لتجرد أرواحهم
أما اختلاف القراءات أحياناً في بعض الألفاظ فهو أدعى للإعجاب والإعجاز لا كما ظننت، لأن ملهم اللغة ومقسمها في ألسن العرب على اختلاف قبائلهم أنزل ألفاظ القرآن بطريقة يمكن لهذه الألسنة على تفاوت ما بينهما أن تتلوه. ومن المعلوم أن العربي يجمد على لغة واحدة وبعض العرب لا يستطيع أن ينطق غير لغته مطلقاً، كما ترى في الجزء الأول من التاريخ، فكانت القراءات لهذا السبب وكلها راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تلقاها كذلك عن جبريل عليه السلام، ما عدى القراءات الشاذة والضعيفة مما نبه عليها العلماء
أنزل الله القرآن لهداية العرب وإفحامهم به، فكان من الواجب أن تكون تلاوته متيسرة لهم على السواء، وهذا لا يتأتى إلا مع أوضاع في بعض الحروف، وهذه الأوضاع هي القراءات؛ فمن من العرب كان يستطيع أن يؤلف لكل هذه القبائل كلاماً واحداً ولا يعسر على ألسنة قبيلة من قبائلهم إلا أن يكون في الناس يومئذ إله لغوي. . .؟
من هذا ترى أن القراءات هي معنى من معاني الإعجاز انتبه إليها العرب ولا يمكن أن يدركه غيرهم ممن جاءوا بعدهم، ولهذا لا أستحسن في رأيي أن يقرأ بها الناس اليوم على اختلافها، إذ لا حاجة إلى ذلك بعد أن اجتمعت الألسنة على لغة واحدة، وقد ظهرت للقراءات فائدة تحقق معنى الإعجاز فيها، وهي تسهيل على بعض أصحاب الألسنة المعوجة كالمغاربة ونحوهم. أما في مصر فلا حاجة إليها
هذا ما يحضرني وأظنني كتبت في الجزء الثاني في هذا المعنى ما فيه كفاية. أما صحتي فهي هي، ولي رغبة شديدة إلى الكتابة والعمل، ولكن الطبيب ينهاني عن ذلك، لأن الدماغ مريض، ولله الأمر أسأله تعالى أن يعيد علي عافيتي ويزدها. والسلام عليكم ورحمة الله.
(مصطفى)(532/37)
(المنصورة)
محمود أبو رية
تنبيه وتنبيه
كنت قرأت في مقال للأستاذ المفضال محمد عبد الغني حسن (ع 526 من الرسالة) إشارته إلى قول الشاعر:
إذا كنت في حاجةُ مرسلاً ... فأرسل حكيما ولا توصه
ثم نصه على أن ذلك من قول (شاعر إسلامي). وأحب أن أذكر هنا أن نسبة هذه القصيدة إلى قائلها أمر مختلف فيه، ولكن الأستاذ الجليل أحمد يوسف نجاتي ينسبها إلى (الزبير ابن عبد المطلب) عن الرسول عليه الصلوات في ترجمة طويلة كتبها عنه بالعدد الصادر في يناير عام 940م من صحيفة دار العلوم. فقد أورد الأستاذ القصيدة ثم قال:
(قد ينسب بعض الرواة شيئاً من هذه الأبيات إلى عبد الله ابن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ولكن الثقاة ينسبون الأبيات كلها إلى الزبير بن عبد المطلب). وأورد تأيداً لذلك ما جاء في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري من تأكيد نسبة الأبيات إلى الزبير
فهذا أحد التنبيهين أتوجه به إلى الأستاذ النابغة محمد عبد الغني حسن. أما التنبيه الثاني فأخص به أستاذنا الجليل (نجاتي) فهو قد ذكر في مقاله - الذي أشرت إليه - عن الزبير أبياتاً للأخطل في وصف الخمر جاء فيها:
كمت ثلاثة أحوالٍ بطينتها ... حتى إذا صرحتْ من بعد تهدار
آلت إلى النصفَ من كلفاء أترعها ... علجٌ ولثمها بالجفن والغارِ
ثم قال: كمت جمع كميت وهو الأسود. وجمع على فعل لتوهم واحد له على وزن أفعل. ثم استطرد الأستاذ إلى تعليل تسمية الخمر كميتاً، وحدد صفة هذا اللون بين الألوان. وأقول إنه يبدو لي أن صحة الكلمة في البيت: كمت ثلاثة أحوالٍ. أي بالبناء للمجهول من الفعل (كم) بمعنى غطى وستر، فالشاعر يريد أن هذه الخمر غطيت بالطين في راقودها ثلاثة أعوام كوامل حتى صرحت وتكشف عنها زبدها. . . إلى آخر ما ينص عليه من معنى. هذا وللأستاذين منا عظيم التحية ووافر التقدير(532/38)
(جرجا)
محمود عزت عرفه
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
نعلن إلى الأدباء الأفاضل الذين طلبوا من إدارة الرسالة كتاب (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) للعلامة الكبير الأستاذ ساطع الحصري، أن مؤلفه الفاضل لم يستطع إصداره إلى مصر ولا إلى غيرها من البلدان، لأن السلطات اللبنانية والسورية تحظر ذلك في الوقت الحاضر. وبهذه المناسبة نذكر أننا أخطأنا تقدير الثمن لهذا الكتاب القيم، فإنه يباع في لبنان وسورية بست ليرات سورية، وهي تساوي بالعملة المصرية ستين قرشاً، وهو مبلغ لا يزال ضئيلاً في جانب ما تكلفه الكتاب من الجهد في أعداده ونشره(532/39)
العدد 533 - بتاريخ: 20 - 09 - 1943(/)
واجب الكاتب المصري
للأستاذ عباس محمود العقاد
للدعوة إلى مذهب من المذاهب الاجتماعية أو السياسية طريقان:
أحدهما طريه صريح، وهو التنويه بفضائل المذهب الذي تدعوا إليه، وتجريد المذاهب التي تخالفه من أمثال هذه الفضائل
والطريق الثاني غير صريح، وهو الإكثار من ذكر العيوب التي يفهم القارئ أنك توجهها إلى نظام اجتماعي بعينه؛ ثم السكوت عن إسناد أمثال هذه العيوب إلى الأنظمة الأخرى، كأنها براء منها
فإذا كنت تعيش في ظل الديمقراطية وأكثرت من الكلام عن البطالة والجوع والمرض وغيرها من العيوب الاجتماعية، فقد يفهم القارئ من ذلك أنك تقدح في الديمقراطية ولا تمس غيرها بمثل ما تعيبه عليها
ويسري هذا الفهم إلى ذهن القارئ في الزمن الذي نعيش فيه خاصة، لأنه زمن الصراع بين المذاهب الاجتماعية والأمم التي تدين بكل منها، حتى جاز أن يقال إن نتيجة الحرب الحاضرة هي نتيجة الصراع بين هذه المذاهب على صورة من الصور، وأهمها الديمقراطية والشيوعية والنازية وزميلتها الفاشية كما هو معلوم
فالكاتب الذي ينقد العيوب الاجتماعية في النظام الديمقراطي يجب أن يشير إلى أمثالها في النظم الأخرى، إلا إذا كان من قصده أن يبشر بتلك النظم من طريق الإنحاء على العيوب الديمقراطية
والذين يذكرون البطالة ومتاعب الفقراء من كتابنا يجب عليهم أن يقرروا الحقيقة التي لا شك فيها إن كانوا يؤمنون بها، وهي أن المذاهب الأخرى لم تعالج هذه المشكلة علاجا أفضل من العلاج الذي تهتدي إليه الديمقراطية، ولا تزال تسعى إلى تحسينه، وإلا كان إلصاق هذه المشكلة بالديمقراطية وحدها مخالفاً للحقيقة ومخالفاً للقصد السليم
أما الحقيقة التي لا شك فيها، ولا حاجة بها إلى الإطالة في البيان، فهي أن النظم الاجتماعية الأخرى قد فشلت في علاج مشكلة البطالة والفقر، ولم توفق إلى علاج لها يضمن دوامه وتحمد عقباه(533/1)
فالبلاد الألمانية مثلاً قل فيها عدد العاطلين قبل الحرب الحاضرة، واحتاجت إلى الأيدي العاملة من بلاد أجنبية
ولكن الفضل في ذلك لا يرجع إلى المذهب الاجتماعي الذي غلب على البلاد الألمانية وهو النازية، وإنما يرجع إلى تسخير الأيدي كلها في صنع السلاح والذخيرة، وتقسيم الشبان بين جنود يعملون في الجيش، وعمال يصنعون لهم أدوات القتال
والنازية عدو الشيوعية كما هو معلوم، وبين المذهبين من الخصومة مثل ما بين الأمتين الجرمانية والروسية، ولكن الروسيين قد استطاعوا في السنوات الأخيرة ما استطاعه الألمانيون من إقلال عدد العاطلين، ولا فضل في ذلك للمذهب الاجتماعي الذي يدينون به وهو الشيوعية، وإنما الفضل فيه للتجنيد وتحويل الكثير من المعامل إلى مصانع للذخيرة والسلاح
فاشتغال المصانع بالتسليح هو سبب القدرة على إقلال عدد العاطلين، سواء كانت البلاد التي تدير مصانعها لهذا الغرض شيوعية أو نازية، أو كائناً ما كان المذهب الاجتماعي الذي تدين به وتقيم الحكومة على أساسه
وليس بالديمقراطية من عجز عن هذه القدرة، ولا تقصير في هذا المضمار
بل هي أقدر من النازية والشيوعية معاً على تشغيل الملايين في المصانع والمزارع حين تحتاج إلى المؤونة والسلاح
وعدد الصناع الذين يعملون اليوم في البلاد الديمقراطية يربي على عمال النازيين والشيوعيين مجتمعين
والأجور التي ينتفعون بها أفضل وأقوم من الأجور التي تصل إلى أيدي الصناع في البلاد الألمانية والروسية
فتدبير العمل عن طريق التسليح فضيلة لا يختص بها مذهب من المذاهب الاجتماعية على اختلافها
وليس هو حلاً صالحاً للمشكلة الاقتصادية التي تواجه الأمم في أيام السلم أو أيام الاشتغال بالتعمير والبناء
بل هذا الحل الوبيل هو البلاء الذي يهون إلى جانبه بلاء البطالة وإن ترك بغير علاج(533/2)
إذ ليس من حلول العقلاء أن تطعم العاطلين فترة من الزمن طعاماً فيه الغنى أو ليس فيه غنى على الإطلاق ثم ترسلهم بعد ذلك إلى الذبح بالملايين من مختلف الميادين
وليس من حلول العقلاء أن تنكشف الحرب في البلاد المهزومة عن أضعاف من كانوا بها من العاطلين وهم عاطلون وبهم من البلاء، فوق بلاء التعطيل، تشويه وتشريد وتنكيل
هذا دواء أهون منه الداء
هذا هو الجنون الذي يؤدي إليه سلب الحرية وتسخير الشعوب المغلولة كما تسخر الأنعام
وشفاء هذا الجنون أن تعالج الأمور على أساس التعاون بين الطبقات والتعاون بين الأمم والتعاون بين الحكومات
وهذا الذي تحاوله الديمقراطية وترجو أن تبلغ فيه بغيتها من التوفيق والنجاح
فإذا نجحت فذلك نجاح الإنسانية، وإذا فشلت فذلك فشل الإنسانية التي لم تتمخض بعد عن مذهب أصلح من الديمقراطية لعلاج هذه المشكلات
لكن البوادر تدل على الخواتيم
والبوادر كما نشاهدها في برنامج (بيفردج) أو ما شاكله من البرامج أدعى إلى التفاؤل من جميع هاتيك المواعيد الكاذبة التي تمنينا بها مذاهب التدمير والعداء، سواء قام العداء بين الطبقات أو بين الأجناس البشرية من مختار في زعم أصحابه وغير مختار!
فالخطة الديمقراطية ترمي إلى تحصيل الضرائب الكافية من موارد الشركات والأفراد، وإنفاق هذه الضرائب على معونة الشيخوخة ومعونة الطفولة ومعونة العاطلين كلما قضت بعطلهم ضرورات المجتمع الذي يعيشون فيه
وهذه هي الخطة المثلى التي تجمع بين المطالب المأثورة في المذاهب الاجتماعية على تناقضها
فهي تقيم المجتمع على التعاون وتعفيه من أوضار الحقد والبغضاء بين هذه الطبقات
وهي تطلق الأيدي في التنافس والتسابق وترفع عن الناس وصمة الحجر الذي يتركهم مسخرين مقيدين كنزلاء السجون أو نزلاء الملاجئ والمستشفيات
وهي في الواقع ترد كل شيء إلى الأمة كأنها تقرر مبدأ الملكية العامة من طريق غير الطريق الذي يتوخاه الشيوعيون، لأن الأغنياء أصحاب الضياع والمصانع لا يبقى لهم من(533/3)
ثمرات أملاكهم بعد الضرائب التي ترتقي إلى تسعة أعشار الدخل في بعض الأحيان إلا نصيب كنصيب الموظف في شركة أو ضيعة يديرها لحساب مالكها الأصيل. ومزية هذه الطريقة على الطريقة الشيوعية أنها تبقي في الأفراد عزيمة المنافسة والاستقلال والطموح إلى الامتياز، وأنها مع ذلك ترد الثروة كلها إلى الأمة لتنفقها على سنة التعاون بين الطبقات
وتلك مزية الخطة الديمقراطية.
وفوق ذلك مزية الحرية وهي مناط الكرامة الإنسانية.
ومن الثرثرة الفارغة أن يصيح الصائحون كلما ذكرت لهم حرية الديمقراطية: نعم! ولكن ماذا تغني الحرية مع الجوع؟ وماذا نصنع بالحرية والبطون خاوية؟
هذه ثرثرة فارغة يلفظ بها بعضهم حسنة نياتهم بريئة مقاصدهم، ويلفظ بها الآخرون وهم يعلمون أنهم مكابرون وأنهم يخاطبون معدات الجهلاء ولا يخاطبون رؤوس العقلاء.
فمن الذي قال مثلاً إن الحرية لا تكون بغير جوع؟ ومن الذي قال إن الديمقراطية فرضت خواء البطون على جميع الأحرار؟
ومن الذي قال إن المذاهب الأخرى قد سلبت الحرية وحلت مشكلة الجوع؟
فالذي رأيناه أن المذاهب الأخرى حلت مشكلة الجوع بالموت والخراب، وأنها تخرج من الموت والخراب إلى بطالة أخرى شر على الأمم من البطالة الأولى، ثم لا محيص لها في نهاية المطاف من حل المشكلة على الخطة الوحيدة التي يضمن لها الدوام وتؤمن بعدها العقبى، وهي خطة الديمقراطية كما نتمثلها الآن وكما يرجى لها من التقدم بعد التجارب المنظورة
فالذين يقولون: ماذا تغني الحرية مع الجوع ينبغي أن يدلونا على المذهب الاجتماعي الذي سلب الحرية وأراح الناس من مشكلة الجوع؟
أما وهم لا يستطيعون ذلك فعليهم أن يذكروا هذه الحقيقة ولا يغفلوا عن التنبيه إليها، ما داموا لا يريدون الدعوة إلى بعض المذاهب من طريق التشهير بالعيوب وحصرها في النظام الاجتماعي الذي يعيشون فيه
إن الحرية مع الجوع لا خير فيها
وإن الشبع مع الاستعباد وزوال الكرامة الإنسانية كذلك لا خير فيه(533/4)
وإنما الفارق بين القولين أن زوال الحرية في ظل الشيوعية والنازية محتوم، ولكن الجوع في ظل الديمقراطية ليس بمحتوم ولا هو من المبادئ التي تدخل فيها كما تدخل الاستهانة بحرية الفرد في صميم المبادئ الشيوعية والنازية
وهناك فارق غير هذا الفارق بين القولين: وهو أن الشبع غاية حيوانية، وأن كرامة الحرية غاية إنسانية، وكفى بالديمقراطية فضلاً أنها تخاطب الإنسان ولا تخاطب الحيوان، وأنها تعامله معاملة المكلف الرشيد ولا تعامله معاملة القاصر الذي تشرف عليه الحكومة وتخدعه عن كرامته بأحاديث الشبع والجوع، وهي لا تكفل له الشبع ولا تريحه من الجوع. . . بل تخاطب المعدات لأنها عاجزة عن خطاب العقول.
عباس محمود العقاد(533/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
إلى عمداء الكليات - عتاب لبناني - ترفق بنفسك يا صديقي
- للتاريخ الأدبي
إلى عمداء الكليات
هذه كلمة أسوقها برفق إلى عمداء الكليات بجامعة القاهرة وجامعة الإسكندرية، وأنا واثق بأن ما يرد فيها من المعاني قد دار بخواطر أولئك العمداء
سمعنا وقرأنا أن رجال الجامعة هنا وهناك يرون قبول الطلبة العرب بدون نظر إلى تفاوت الدرجات في شهادة الدراسة الثانوية، وهذا واقع بالفعل، وفيه دلالة صريحة على تشجيع التعليم العالي، وتقوية الروابط بين مصر وشقيقاتها في الشرق
فما الذي يمنع من أن ينتفع الشبان المصريون بذلك الامتياز اللطيف؟
أليس من العجيب أن تكون الجنسية المصرية عائقاً يمنع بعض الشبان من الانتفاع بما يتمتع به سائر زملائهم من الطلبة العرب؟
هل يجب على الشاب المصري أن يسارع فيتجنس بالجنسية العراقية أو السورية لينجو من تلك القيود؟
الشبان في مصر وفي سائر الأقطار العربية إخوة، فما الموجب لتمييز فريق على فريق؟
وكيف يجوز أن يكون من حق الشاب المصري أن يلتحق بأي جامعة أجنبية ولو كان آخر الناجحين في امتحان البكالوريا ولا يكون من حقه أن يلتحق بجامعة مصرية إلا إن كان في الرعيل الأول من الناجحين؟
وبأي حق يكون ترتيب النجاح في امتحان البكالوريا هو الفيصل في تقدير المواهب؟
يجب أن نعرف أن الشاب الذي يجوز امتحان البكالوريا بأي صورة معرض لتطورات كثيرة جداً، لأنه لا يزال في طور التكوين، فقد يتحول إلى جذوة من النشاط لم تمر به في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي. ويجب أن نعرف أن تمكين الشاب من التعليم العالي قد يضع أمام عقله مسئوليات تنقله من حال إلى أحوال. ويجب ثم يجب أن يتذكر رجال(533/6)
الجامعة أن في التعليم العالي فرصاً كثيرة لإذكاء العقول، وهي فرص لا يجوز تضييعها على أي شاب، ولو شهدت درجاته بأنه كان في التعليم الثانوي من المتخلفين
لا يجوز أن ننسى أن البكالوريا المصرية أصعب من مثيلاتها في جميع البلاد، وفوز الشاب في هذه البكالوريا بأي صورة دليل على أن فيه خصائص عقلية تؤهله لاجتياز الصعب من باقي مراحل التثقيف
لم يبق إلا أن نتقي الله في أبنائنا فلا نؤاخذهم بتقصير لا ذنب لهم فيه، ويكفيهم فوزاً أنهم زحزحوا عن نار الرسوب
قلت مرات إنه يجب حتماً أن تكون مرحلة التعليم الثانوي هي المرحلة النهائية في إعداد الشاب للحياة، وهي لم تصر كذلك إلى اليوم، فلنساعد أبناءنا على ما يطمحون إليه في التعليم العالي، ولنجد عليهم بما نجود به على إخوتهم الوافدين من أقطار الشرق
هل تصل هذه الكلمة إلى قلوب عمداء الكليات؟
عتاب لبناني
كان الأستاذ محمد عبد الغني حسن نشر في (الرسالة) كلمة دعا بها الأستاذ إلياس أبو شبكة إلى كتابة كلمة في التعريف بالشاعر نجيب إليان، فرد الأستاذ أبو شبكة في (الجمهور) رداً يتلخص في أنه مع إجلاله واحترامه للأستاذ الزيات لن يكتب كلمته للرسالة، لأنها كسائر المجلات المصرية لا تلتفت إلى الحركة الأدبية القائمة في لبنان
وأقول إن هذه النغمة - كما يسميها الكاتب نفسه - نغمة جديرة بالسماع، وهي تتيح فرصة جديدة لتبديد شبهة قديمة تعبت أقلامنا في تبديدها عدداً من السنين، ثم ظلت حية لا يعتريها الموت، كأنها أفعى بسبعة رؤوس!
ثم أقول إن إغفال المجلات المصرية للحركة الأدبية في لبنان أو غير لبنان من أقطار اللغة العربية لا يرجع إلى نية صحيحة أو عليلة، وإنما هو فرع من الإغفال العام للحركة الأدبية في الديار المصرية. فجرائد مصر ومجلاتها تسكت عما يصدر في مصر نفسها من الآثار الأدبية والعلمية، بحيث يمكن القول بأن الحديث عن المؤلفات الجديدة لم يعد له في جرائدنا ومجلاتنا مكان
وقد صار هذا الإغفال في حكم القواعد المرعية، مع الأسف. ولم نجد من ينبه إلى أن له(533/7)
عواقب في إخماد النشاط الأدبي في مصر، ولم نجد من يثور على هذا الشح في تشجيع من يبذلون قواهم في التأليف، مع أن الكلام عن المؤلفات الجديدة يعد باباً من توجيه الجيل الجديد إلى ما يجب أن يقرأ أو يتجنب من جديد المطبوعات
وأنا نفسي راعيت هذا الإغفال، فقررت أن أغفل إهداء مؤلفاتي إلى الجرائد والمجلات، لأني أكره إحراج زملاء ليس في نيتهم أن يلتفتوا إلى التأليف والمؤلفين، واكتفيت بالإعلان عن مؤلفاتي بالفلوس، إن احتاجت إلى إعلان
نقد الكتب قد انقرض في مصر. النقد الذي يبرز محاسنها قبل أن يبرز مساويها، النقد الذي يراعي فيه خلق صديق للمؤلف، أما النقد الأثيم فهو بحمد الله موجود!
وكان من عادتي فيما سلف أن ألتفت إلى المؤلفات الجديدة، فكنت أخصها بصفحات في جريدة البلاغ، ولكني لم أجز على تلك الجهود بغير الجحود، فإن أثنيت على المؤلف قيل تقريظ، وإن حاسبته قيل عدوان، وكانت النتيجة أن أعفي نفسي من عناء ليس له في مصر جزاء
وما جرى لي جرى مثله لكثير من النقاد، فانصرفوا عن نقد الكتب إلى غير معاد. وستظل الحال كذلك إلى أن نجد من الشجاعة ما ندوس به جميع الأهواء فنقول كلمة الحق في المؤلفات الجديرة بأن توضع في الميزان، غير مبالين بالقراء والمؤلفين
في هذه اللحظة تذكرت أني لا أقول كلاماً جديداً، فقد نشرت لي مجلة المكشوف في العدد الخاص بمصر مقالاً عما صار إليه النقد الأدبي في بلادنا، فاعذرونا إذا فرطنا في حقوقكم الأدبية، فقد فرطنا في حقوقنا الأدبية، وما ظلمك من ساواك بنفسه في الإجحاف!
وأنا بعد هذا أرجو أن يكون في هذه الكلمة مقنع لمن يتهمنا ظلماً بالتغاضي عن الحركات الأدبية في سائر البلاد العربية
ترفق بنفسك يا صديقي
رأى قراء الرسالة أن السيد حسن القاياتي عاداني من غير موجب للعداء، وساق إلي ألفاظاً لا تصدر عن صديق، مع أني لم أسئ إليه في سر ولا علانية. وكانت حجته أن ناساً حدثوه أني قلت فيه كيت وكيت، وهو يعرف أني أبالغ في إكرام أصدقائي، وأني لا أتعرض لأعدائي بكلمة مؤذية، إلا إن حاربتهم في الجهر لا في الخفاء(533/8)
والآن، ماذا يريد السيد حسن القاياتي؟
أيريد أن أجزيه إثماً بإثم، وعدوانا بعدوان؟
أنا حاضر وفي يدي قلمي، ولكني لا أشترك في حرب يكون فيها الغالب أسوأ حالاً من المغلوب، فترفق بنفسك يا صديقي، واذكر عهوداً يذكرها كرام الرجال
تقول إنك كنت شاعراً كبيراً يوم كنت أنا طفلاً يلعب، فما قيمة هذه الحجة يا عضو المجمع اللغوي، كما ذيلت اسمك؟
هل كان يجب أن أسبقك إلى الدنيا لأسبقك إلى الأدب؟
وماذا أفدت أنت من سبقك اللطيف بحكم شهادة الميلاد؟
وماذا أفادت جهودك الشعرية في نصف قرن، وأنت الذي صرحت بأن باكورتك ظهرت قبل نصف قرن، يا عجوزاً سبقني إلى الوجود؟
اترك هذه الحجة الواهية، إن كنت تريد الحجاج
ثم ماذا؟ ثم طاب لك أن تتحداني وتتحدى الأستاذ العقاد بكلمتين جارحتين، وهذا ظلم منك، فالعقاد يملك في محاسبتك ما لا أملك، لأنه ليس لك بصديق، فهو لا يبالي تجريحك، ولا يؤذيه أن تبيت معصوب الجبين
أما أنا فأتردد ألف مرة قبل أن أصوب رمحي إلى صدرك، وقد يرضيني أن أسكت عنك، لأنجو من محاسبة الضمير على إيذاء الصديق
أتقول إنك أعظم مني؟ هو ذلك يا أخي!
أيؤذيك أن أكون أشهر منك؟ إن كان ذلك فأنا أخلع الشهرة عليك! خذ هذه الشهرة، خذها، فقد آذتني أعنف الإيذاء.
وما رأيك في الصديق الذي يجازف بصداقة دامت عشرين سنة أو تزيد؟
ما رأيك فيمن يشتم أخاه في مجلة مثل الرسالة وهو يعلم قيمة صوتها في الشرق؟
لقد ظهر السر في إخفاقك، وهو أنك رجل بلا قلب
إن كان لك بعد اليوم حياة أدبية فهي من صنع يدي، فأنا الذي أغضبتك على كسلك، وأنا الذي رفعت النقاب عن قلبك العقوق، ولن أتركك أو تصير أديباً يعتز بحاضره لا بماضيه، فما يعتز بالماضي غير الفانين(533/9)
هل تذكر هذا الجميل؟ لقد سويت من قبلك ناساً فجحدوا جميلي وادعوا أنهم نظرائي، فكن أنت خاتم الأوفياء يا عقوق.
للتاريخ الأدبي
في سنة 1917 رفضت وزارة الحقانية أن يستمر الشيخ محمد الخضري بك والشيخ محمد المهدي بك في التدريس بالجامعة المصرية، وكانا أستاذين بمدرسة القضاء الشرعي، وهي يومئذ تحت إشراف وزارة الحقانية، فبحثت الجامعة عن أستاذ للتاريخ الإسلامي لا تسيطر عليه الحكومة، فظفرت بالأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، وكان قريعاً للشيخ الخضري، فقد كانا في الأدب والتاريخ فرسي رهان
ولكن أين من يخلف الشيخ المهدي؟
ذلك سؤال وجهه الأستاذ محمد بك وجيه سكرتير الجامعة في ذلك العهد إلى الشيخ عبد الرحمن المحلاوي أستاذ الشريعة الإسلامية بقسم الحقوق، فدله على الشيخ مصطفى القاياتي، أحد أساتذة الأدب بالأزهر الشريف
وفي عصر يوم سمعت صوتاً يناديني وأنا في طريقي إلى الجامعة فالتفت فرأيت الشيخ مصطفى القاياتي، وانتحينا ناحية في قهوة بميدان الأزهار ليدور هذا الحديث:
- هل تهمك سمعة الأزهر؟
- تهمني جداً
- وتهمك سمعة الجامعة؟
- بلا ريب
- إذن يمكن أن أعتمد عليك إذا قبلت اقتراح الجامعة؟
تقترح أن أكون خلفاً للشيخ المهدي في تدريس الأدب العربي، وقد فكرت كثيراً فيمن أعتمد عليه في معاونتي فلم أجد غيرك
- هل أعطاك سكرتير الجامعة منهاج المحاضرات لهذه السنة الدراسية؟
- هذا هو
نظرت في المنهاج - وكان من وضع الشيخ المهدي - فوجدتني أقدر على إنجازه بلا عناء، فأشرت على الشيخ مصطفى بالقبول، فمضى وأمضى العقد في الحال(533/10)
شذوذ غريب!
كان الشيخ مصطفى القاياتي من أخطب الخطباء في عصره، كان يخطب ساعة أو ساعتين بلا تلعثم ولا توقف ولا تحيس، وكان لا يلحن أبداً وهو يخطب، ومع هذا كانت الكتابة عسيرة عليه عسراً لا يطاق، فما كان يسهل عليه إنشاء مقال، ولا كان في مقدوره تحرير خطاب
والذي سمع الشيخ مصطفى خطيباً لا يصدق هذا القول، فقد كان خطيباً ثجاجاً، خطيباً عرفته منابر الحزب الوطني قبل أن تعرفه منابر الوفد المصري، فكيف يصعب عليه الإنشاء وكان في الأزهر معلم إنشاء؟
يرجع إلى أنه نشأ واعظاً وكان أهله من الواعظين، فقويت عنده ملكة الخطيب الفصيح، وضعفت عنده ملكة الكاتب البليغ
هل أنسى يوم أنابه الوفد المصري في تأبين الشهيد محمد فريد؟
لقد ألقى خطبة جميلة جداً، ألقاها مرتجلاً وهو يجهل أن جريدة اللواء المصري ستطالبه بالنص، لأن خطبته هي كلمة مندوب الوفد المصري في تأبين الرئيس الثاني للحزب الوطني
عند ذلك دعاني لقضاء لحظة في تحرير الخطبة، فأنشأتها في حدود ما قال، إلا عبارات تأباها السياسة الحزبية، ولكن مكر جريدة اللواء كان أعظم فأضافت إلى الخطبة كلمات قالها الخطيب ولم يسجلها نائب الخطيب!
وتمثل هذا الشذوذ في معرفة الشيخ القاياتي بتاريخ الأدب العربي، فقد كان برغم فصاحته الخطابية لا يفرق بين عصر وعصر، ولا يعرف الحدود بين مراحل التاريخ
كان الشيخ مصطفى ذكياً جداً، ولكنه كان قليل الاطلاع، فكان من الصعب أو من المستحيل أن يخلف الشيخ المهدي في تدريس الأدب العربي
أستاذ بالروح
لم يكد الشيخ مصطفى يطمئن إلى معاونتي حتى شعرت بأن واجبي أن أحفظ سمعة الأزهر والجامعة المصرية، فشرقت في تاريخ الأدب وغربت، وأعددت أربعين محاضرة لو(533/11)
نشرت اليوم لكانت غاية في دقة البحث ونضارة البيان، وهي لا تزال في حيازة الأستاذ يوسف القاياتي، فمتى ينفض عنها غبار النسيان؟
والمهم أن أسجل أن حرصي على الصدق في أن تصان سمعة الشيخ مصطفى من لغو اللاغين فرضت علي أن أجعل محاضراته في قوة محاضرات الشيخ المهدي
وقد نجحت ونجحت، وكانت جهودي في تلك السنة ذخيرة باقية لحياتي الأدبية، فقد استقصيت فيها مراحل الأدب في القديم والحديث
وبفضل الشيخ مصطفى القاياتي كان لي تلاميذ بالجامعة المصرية سنة 1918 منهم الأستاذ حسن إبراهيم وأحمد البيلي وعبد الحميد العبادي وإبراهيم الجزيري
ثم ماذا؟ ثم كان زكي مبارك من تلاميذي، لأنه أدى امتحاناً أمام الشيخ مصطفى القاياتي في الدروس التي أعددتها بنفسي، فإن أنكر زكي مبارك انه تلميذي فسأفحمه بشهادة السيد حسن القاياتي، وهو رجل شهد ذلك التاريخ المجيد.
زكي مبارك(533/12)
3 - نشأة الدرامة الإنجليزية
للأستاذ دريني خشبة
لم يفكر جون هيوود عندما ابتكر الفواصل المضحكة التي أشرنا إليها في الفصل السابق، في أن تكون فواصله جزءاً من صلب الدرامة الأخلاقية، إنما قصد أن تكون شيئاً مستقلاً كل ما يرمي إليه هو التضحيك والترفيه عن الناس بهذا السيل المتتابع من النكات الشائقة وطرافة الموضوع ولذع سخريته، ولهذا كان تمثيل فواصله قاصراً على الحفلات التكريمية أو أوقات الاستراحة في الحفلات العامة أو المآدب الكبيرة. وكان أول ظهور فواصله التمثيلية هذه، التي مهدت للملهاة الإنجليزية الكاملة، في العام الثاني عشر من حكم الملك هنري الثامن - 1521 - ومن أطرف تلك الفواصل فاصله المسمى (الباءات الأربع)، أو والذي نستطيع أن نسميه باسم (المغفلين الأربعة، وهم: المحتال والمسامح والعطار والبائع المتجول وخلاصة هذا الفاصل أن خلافاً يشجر بين المحتال والمسامح، إذ يدعي المحتال أنه طاف بأرجاء العالم وجال في جميع أصقاعه، كما حج إلى بيت الله (في فلسطين طبعاً) عشرات المرات، ولذلك فهو يريد صاحبه على أن يقر له بسعة الاطلاع والتبحر في المشاهدة، وأنه بذلك قد هذب نفسه ورقق طبعه لكثرة ما خبر من أحوال العالم، وما تمرس به من تجاريب الحياة. بيد أن صاحبه يسخر منه ويغلو في الاستهزاء به، ويقول له إن من كان شأنه ما ذكر، كان ينبغي أن يعود أكثر اتزاناً، وأرجح عقلاً، وأوفر أدباً، وأقوى ضبطاً لنفسه، وأشد سيطرة على أعصابه. . . ويشتد الخلاف بينهما ويستفحل، حتى يوشكا أن يلتحما لولا أن يقبل عليهما العطار - المغفل الثالث -، فيرسل هو الآخر تهريجاته المضحكة، ويصرفهما عما كانا فيه من فخار وتعاظل ليزهي هو بنفسه، وليطلعهما على ما وهبه الله من مقدرة وافتنان في تركيب عقاقيره - ولاسيما السموم المهلكة التي تكثر من زبائن جهنم، وأنه أحسن مورد للمدائن وللقرى على السواء. ثم يقبل البائع المتجول - وهو المغفل الرابع - فيهرع إليه الثلاثة ليحسم النزاع المشتجر بينهم. . . لكنه يشيح عنهم ويشتغل بعرض سلعه وترتيبها، ثم يمضي وقت طويل ولا يمن الله على البائع المتململ بزبون واحد يجبر خاطره بشراء شيء من معروضاته الكثيرة فيشترك مع الثلاثة الآخرين في هرائهم مضطراً، ولكنه يرفض أول الأمر أن يقضي بينهم. . . لأن الله(533/13)
لم يكتب له هذا القدر العظيم من الذكاء وعبقري الفطن حتى يستطيع أن يفهم هذه المشكلات العويصة التي يختلفون عليها. . . يقول هذا بعد إذ يلاحظ أن ثلاثتهم مغفلون أغبياء؛ بيد أنه يتغابى هو الآخر، ويستدرجهم لكي يقص عليه كل منهم أكبر كذبة من أكاذيبه. . . وهنا تنشب ملحمة مضحكة من أروع الأكاذيب التي لا يتسع المقام هنا لاستيعابها جميعاً. وما يزال هذا شأنهم حتى يدعي المحتال (النخاع) أنه طاف بأطراف الدنيا، وعاشر الملايين من الناس في كل حدب وفي كل صوب، وأنه بلا من أمور النساء ما لم يتفق لأحد من قبل ولن يتفق لأحد من بعد، وأنه كثير الأصحاب جم الأصدقاء، وأن في صويحباته نصف مليون امرأة! نصف مليون فقط! - ليس فيهن من تدللت عليه يوماً ولا بدت منها أمارة من أمائر الغضب لأي سبب من الأسباب - ولما كانت هذه من غير شك أغلظ الأكاذيب وأفحشها فقد قضى البائع بالغلبة لهذا المحتال (النخاع!) - والدرامة من أولها إلى آخرها تفيض (بالفَشْر!) - وليغفر لنا القراء هذا التبذل في التعبير فنحن نكتب عن الملهاة الإنجليزية التي يعتبر (الفشر) أقوى أركانها. ثم هي مليئة بالنكات من النوع الهادئ الذي يفيض عن الطبع الإنجليزي البارد. وقد كتب هيوود قبل هذه الدرامة - أو الفاصل - فاصلين آخرين أقل منها مرتبة، وقد أدى للمسرح الإنجليزي أجل خدمة بفصله الأخلاقيات والفواصل أولاً، ثم بخروجه على تقليد الشخصيات المجازية ثانياً، واتخاذه أشخاص فواصله من الحياة مباشرة. ومما يؤسف له أن أحداً من الأدباء الإنجليز لم يقتف أثر هيوود في هذا المضمار. على أن أديباً آخر هو (نيقولا أودول ناظر مدرسة أيتون (1505 - 1556) - وكان من عادته تقديم درامة من الدرامات الكلاسيكية الرومانية في كل من حفلاته السنوية المدرسية، قد فاجأ المدعوين بملهاة من تأليفه سماها (رالف رويستر دويستر - كانت أول ملهاة منتظمة من فصول متفرقة شهدها المسرح الإنجليزي - والملهاة بعد ذلك لم تكن شيئاً مذكوراً ولم يكن لها قيمة من حيث الحبكة أو الموضوع أو اللغة إن لم تكن شيئاً غثاً تتقزز النفس منه وتغثي له. وقد نظمها من خمسة فصول وقسمها إلى مناظر وقصد بها إلى تصوير حياة الطبقة المتوسطة من سكان لندن في القرن السادس عشر. وأبطالها الثلاثة: أرمل تدعى كونستانس، ثم عاشقان يحاول كل منهما أن يفوز بها. أما أولهما وهو بطل الرواية فهو رالف رويستر دويستر ومعناه الولد الجعجاع الكثير التفاخر؛(533/14)
وأما ثانيهما فيدعى جاون جودلك. والبطل هو أحد أولئك الأغرار المغفلين، أما خصمه فهو الحبيب المدلل المقرب. وتبلغ الملهاة ذروتها، حينما تجتمع الأرمل وصويحباتها ليقذفن إلى الشارع بالبطل المخبول وبأتباعه العرابيد، ثم تنتهي بصلح عام!
هذا وقد ألف جون ستل (1543 - 1608) ملهاته (إبرة الجدة جرتون ' على طراز ملهاة أودول، إلا أنه أشر بها كثيراً من روح الفكاهة الشعبية (البلدي!)، وأرسلها في لهجة عامية شديدة الغموض، حتى على الإنجليز المحدثين أنفسهم. وتتلخص الملهاة في أن الجدة جرتون كانت جالسة ترفو ثياب خادمها هودج، ثم ذهبت لقضاء أمر ما بداخل بيتها؛ فلما عادت والتمست الإبرة لم تجدها، فأخذت تسب الدنيا وتلعن الحياة وتسأل أهل الحارة عن إبرتها العزيزة المفقودة، ثم تلتقي بشحاذ أبله يدعى دكون فيخبرها أن فلانة من أهل القرية قد سرقتها، فتصيح بها الجدة جرتون، وتقبل المتهمة وتدفع التهمة عن نفسها، لكن جرتون تشتط في صياحها فتصيح المرأة الأخرى وتجتمع نسوة القرية جميعاً ليشاركن في هذه الملحمة المضحكة، ويتراشقن (بأشلق!) العبارات، ثم تهدأ العاصفة حينما يعثر الخادم هودج بالإبرة مثبتة في مكانها من الرقعة التي كانت الجدة جرتون ترفوها
وقد امتدح الناقد الكبير هازلت روح الفكاهة في هذه الملهاة وإن لم يمتدح لغتها. . . (لأنها غذاء شعبي شهي ليس غريباً على الجمهور الإنجليزي، وفكاهة بريئة تصويرية لأمزجة متشاكلة. . . قد نظنها لأول وهلة شيئاً لا قيمة له، شيئاً تافهاً غير جدير بالاعتبار، لأنه ليس كما عندنا. . . ونحن إذا انتقدناها انتقاداً سطحياً هكذا، كنا متجنين على هذا التراث الأدبي البدائي، وكنا كمن يرفض قراءة كتاب قديم قيم لأنه به بعض الأخطاء الإملائية!!)
مما تمتاز به هذه الملهاة اشتمالها على إحدى الأغاني الإنجليزية التي يهتم بها الإنجليز إلى اليوم. ويرجع العارفون أن هذه الأغنية ليست من نظم ستل، بل إنه قد أخذها عن شاعر آخر لا يعرف اسمه. ومما امتاز به أيضاً هذه الأسماء الفكاهية التي يلجأ إليها المؤلفون الكوميديون اليوم لتزيد في كثرة (النكت) ولتزيد بالتالي في كثرة ضحك المتفرجين - فالبطلة جامر جرتون أي الجدة جرتون، وقد يلحظ القارئ العربي النكتة في كلمة جامر التي هي نوع ترخيم جدة كما يرخمون جد فيقولون جافر وهنا موضع تفكهة للإنجليز. وخادمتها تب أي عاهرة، وخادمها كوك أي ديك، وجارتها كات أي قطة، وخادمة هذه(533/15)
الجدة دل أي عروسة أو لعبة، والدكتور رات أي فأر الخ. . .
المشاهد الموسيقية
أشرنا في فصل سابق إشارة خفيفة إلى الدرامة التنكرية التي هي مشاهد تنكرية أيضاً، ولكن من نوع مرح يؤدي في مشرق مرن ممتلئ بالبهجة والأبهة في بيوت العظماء والنبلاء والممتازين - وقد انتقلت هذه المشاهد الموسيقية، أو المشاهد التاريخية - إلى إنجلترا في إبان عصر الملك هنري الثامن من إيطاليا، وتؤدي فيها مشاهد درامية تاريخية راقصة أبطالها اللوردات وأزواجهم في شكل موكب موسيقي حافل أساسه الإنشاد والملبس الزخرفي البهيج خلال رقص توقيعي أو رقص مشترك. . . ومؤلف هذا اللون من المشاهد الذي ألحقناه بفصل الملهاة هو المهندس قبل الشاعر أو الأديب، وذلك لأنها درامة مشهدية (استعراضية) قبل أن تكون درامة شعرية أو درامة منثورة. فالمهندس أو المخرج هو عماد النجاح في هذه الدرامة التصويرية التي ترتكز على الجمال المنظور، وررعة توزيع الأضواء، والدقة في إبراز المشهد وسمو الذوق في اختيار الملابس، والتنظيم الآلي لصالة العرض قبل أن ترتكز على الموضوع أو الأناشيد، أو ما إلى ذلك من ألوان الأدب. . . إذ كل ذلك شيء ثانوي بالقياس إلى المؤثرات المحسة في المشهد الموسيقي. وقد ألف الأديب المسرحي الكبير والشاعر الفحل بن جونسون كثيراً من المشاهد الموسيقية التي ترك للمهندس المسرحي الخالد إنيجو جونس إخراجها الفني والآلي فبرع في ذلك وأبدع أيما إبداع. . . وقد ألف فيها كذلك الشاعران الكبيران بومونت وفلتشر أكثر مما ألف جونسون، وذلك باشتراكهما معاً في التأليف على نحو ما يصنع بعض أبطالنا الكوميديين اليوم. وقد استقل فلتشر بالناحية الدرامية، كما اختص بومونت بالأغاني والنظم. . . أما جونسون فقد كتب أربعين مشهداً، ثم جاء شاعر إنجلترا الكبير جون ملتون فكتب بعض المشاهد بأسلوبه المتفرد العالي، ثم هذب بعض مشاهد جونسون لتسلك من قلمه الرفيع الجبار في سجل الخلود
ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن هذه المشاهد الموسيقية - أو الاستعراضية - كانت فاتحة عظيمة للأوبرا والأوبريت في العصر الحديث، وأن البلاط الإنجليزي في القرنين السادس عشر والسابع عشر كان معرضاً حافلاً لهذه المشاهد الاستعراضية الراقصة، وأن القناطير(533/16)
المقنطرة من الجنيهات الإنجليزية كانت تنفق بلا حساب على الموسيقيين المحترفين والمغنين ومهندسي المناظر والأضواء كي يبلغ إخراجها حد البهاء والكمال، وهذا هو الذي جعل الملكة إليزابث نفسها تشفق من هذا اللون من ألوان التسلية الملكية في بلاطها فحظرت أداءه فيه (حتى لا تتعرض خزانة الدولة لتلك البالوعة من بالوعات الإسراف، وهذا العبء الفادح من أعباء البذخ)
وقد كان عرض المشهد يبتدأ بحوار غنائي أو كلامي تتلوه استعراضات راقصة فردية من الممثلين المحترفين، ثم يختار هؤلاء (زملاء الرقص) من بين النظارة، فيصير الرقص زوجياً، ثم يختلط الحابل بالنابل ويسود الهرج والمرج. . . وهنا موضع النشوة المنشودة من (الماسك) وهي تتم على أنغام الموسيقى وترجيع المغنين وتسجيع المنشدين. . . وكان على الشاعر أن يسبق المشهد أو يفتتحه بكلمة يلخص فيها الموضوع ويصف المناظر من حيث ما ترمز إليه من بيئة ووسط وجو، ثم يثني أطيب الثناء وأعطره على السادة الأشراف الذين تنازلوا فقبلوا الاشتراك في التمثيل، وهم من هم من أمراء البلاد وأعيانها وساداتها، والذين تفضلوا منهم بالمساهمة في نفقات الإخراج (وما أفدحها وأثقل أوزانها!) ثم يفرغ بعد ذلك إلى الثناء على معاونيه ومساعديه من مصورين وموسيقيين ومهندسي أضاءة ومغنين وراقصين. . . ثم يتقدم فيوزع كراسة (بروجراما) تحوي كل المعلومات عن منهاج الحفلة المفصل، وكان الحاضرون يحتفظون بها تذكاراً فخرياً يعرضونه في صالوناتهم، آية من آيات بهاء البلاط الملكي الإنجليزي ولألائه!
(يتبع)
دريني خشبة(533/17)
المشكلات
6 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لقد هال بعض علماء العربية ما يرونه من تعلم ولدان الأعراب لغتهم بالطريقة الطبيعية إذ يخرجون يتكلمون بها لا يخطئون ويعربون فلا يلحنون، ووازنوا بين هؤلاء الولدان وبين تلاميذهم الذين يعلمونهم على طريقة القواعد والقوانين، فرأوا البون شاسعاً، والفرق واضحاً: هذا يصيب ولا يخطئ، وهذا يخطئ ولا يكاد يصيب، إذا أخذ الأول بالخطأ لم يطاوعه لسانه، وتعذر عليه الخطأ كما يتعذر على الآخر الصواب. رأوا هذه المشاهدة، ووازنوا هذه الموازنة، فذهبوا إلى أن اللغة العربية للعرب ولأبنائهم بالطبيعة والفطرة، ولغيرهم بالتعليم، وشتان بين ما هو بالطبيعة وما هو بالتعلم والتكلف؛ ولن يبلغ المتكلف وإن بلغ الغاية شأو الطبعي الفطري
وهذا المذهب غير صحيح وإن كان أصحابه معذورين في الذهاب إليه
أما العذر فلأنهم يفنون أعمارهم في درس اللغة العربية وقوانينها وعللها وأسبابها، يبذلون طاقتهم ثم لا يجدونهم قد بلغوا ما يبلغه ذلك الغلام الذي ينشأ في البادية من إجادة اللغة وامتلاك ناصية الشعر والنثر
وأما أن هذا المذهب خطأ فيدل عليه أنه لو كانت اللغة العربية طبيعية في العرب لما تخلفت، لأن ما بالطبيعة والذات لا يتخلف. ونحن نحكم بالتخلف، فلو أخذت صبياناً من أبناء العرب وربيتهم في فارس أو الروم لخرجوا يتكلمون الفارسية أو الرومية، ولم يحسنوا شيئاً من العربية؛ وإذن فليست اللغة العربية في العرب وأبنائهم طبيعة وليست فيهم لذاتهم، ولو أخذت صبياناً من أبناء فارس وربيتهم في بادية العرب لخرجوا يتكلمون العربية ولم يعرفوا شيئاً من لغة فارس والروم. فالصحيح من القول إذن أن اللغة العربية في العرب وغيرهم بالتعليم والاكتساب؛ إلا أن الطريقين مختلفان، فالعرب يتعلمونها بالحفظ والاختلاط وتربية الملكة، والنحاة يتعلمونها بالقواعد والقوانين، ويهملون تربية(533/18)
الملكة، فتكون الطريقة الأولى أجدى وأنفع، وتكون الطريقة الثانية أخيب وأقل جدوى
ونحن ليس في استطاعتنا أن تكون البيئة العربية فنأتي بالطريقة الفطرية، ولكن في استطاعتنا أن نقارب، وأن نقلد الطريقة الفطرية فنحسن التقليد، ونكثر من الحفظ، ونعمل على تكوين ملكة اللغة بالعادة والدربة والتكرار
أيجمل برجال التعليم أن يخطئوا في تعليم الولدان اللغة العربية فيعلموا بالقواعد ما لا يعلم إلا بالتكرار والحفظ ثم يطالبونهم بكتابة مواضيع تكون جارية على أساليب اللغة، خالية من اللحن والغلط، فإن لم يستجيبوا لهم ونسبوا إليهم العجز والتقصير؟
كيف يكتبون كتابة جارية على أساليب العربية ولم تتكون في أذهانهم مقاييس ونماذج عربية يكتبون على مثالها؟ وكيف يتكلمون كلاماً جارياً على أساليب اللغة ولم تتكون في أذهانهم صور ذهنية تدعوهم للتكلم على منهاجها؟ وكيف نطالبهم بالسرعة والجودة في الكلام وتوفير الزمن والجهد وهم لم يكتسبوا ملكة اللغة التي بها يكون ذلك؟
الحق أنكم تستنبطون الماء من الحجر، وتطلبون في الماء جذوة نار. الحق أنكم تأتون الأمر من غير بابه، وتلجمون الفرس من الخلف. الحق أنكم إذ تلومون التلاميذ على خيبتهم في اللغة تلومون غير ملومين، وتأخذونهم بذنب أنتم علله، وبجريرة أنتم أسبابها. ولو أنصفتم للمتم الطريقة التي علمتموهم عليها، أو بالحرى لرجعتم باللوم على أنفسكم
يا قوم جربتم طريقة القواعد في تعلم اللغة العربية ألف مرة، وفي كل مرة تخفقون، وجربتها الأجيال قبلكم كذلك، فجربوا مرة واحدة طريق الحفظ والتكرار، وأنا كفيل لكم أن تحمدوا هذه التجربة، وألا تعدلوا بها غيرها، ولو بذل لكم ما يستطاع للعدول عنها إلى طريقتكم الأولى لم تفعلوا، لأنكم قد وجدتم في هذه الطريقة النجاح حين وجدتم في الأولى الإخفاق
ونحن نعلم في مدارسنا المصرية اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية، كما تعلمها مدارس الجاليات الأجنبية، ولكن الشركات والبنوك والمحلات التجارية التي تصطنع هاتين اللغتين في الكتابة والخطابة تفضل أن تستخدم من تخرج في المدارس الأجنبية على أن تستخدم من تخرج في المدارس المصرية، لأن الأول يجيد اللغتين كتابة وحديثاً، والثاني أبانت التجربة أنه لا يجيدهما كأخيه. أتدرون لم ذلك؟ إن شؤم طريقة تعليم اللغة بالقواعد قد تعدى(533/19)
إلى هاتين اللغتين، فمدارسنا المصرية تعلمهما على طريقة حفظ القواعد، أما المدارس الأجنبية فتعلمهما على الطريق الطبعي طريق الحفظ والتكرار والمحادثة حتى تثبتهما ملكتين راسختين في النفس فيجيد تلاميذها الكتابة والحديث بهما، ومن أين لتلاميذ المدارس المصرية أن يجيدوهما وهم إنما عرفوا القواعد ولم يجعلوهما ملكتين بالحديث والتكرار؟
ومن ذلك نعلم أن هذا الإخفاق لا يرجع إلى قصور في عقول التلاميذ المصريين ولا إلى كسل يستولي عليهم، وإنما يرجع إلى هذا الأسلوب العقيم. وهذا هو السر أيضاً في كثرة التلاميذ الذين يرسبون في هاتين اللغتين، فنحن الذين يجنون عليهم، ثم نحملهم جريرة عملنا، ونأخذهم بذنوبنا
سمعت أحد أبنائي يردد صيغاً من اللغة الإنجليزية ويقول هذا للمذكر وهذا للمؤنث وهذا للجمع
فقلت له: ماذا تفعل؟ قال: أحفظ درس القواعد. قلت له: ما هكذا يكون، ينبغي أن تأتي بجمل تامة من اللغة الإنجليزية في مخاطبة المذكر ومخاطبة المؤنث والجمع، وتفهم معناها وتكررها وتحفظها، وتتحدث بها حتى تكون ملكة، ثم تأخذ القاعدة منها إن شئت. هذا هو الأسلوب الفطري في تعلم اللغة؛ أما أن تأخذ اللغة من القاعدة فهذا ليس طريقاً طبيعياً. لقد كان يعجزنا ونحن تلاميذ أن نحفظ قواعد اللغة العربية، فكنا نستعين عليها باستنتاجها مما نحفظ ومما رسخ في أذهاننا، وصار ملكة فينا. مثلاً: إذا كنا لا ندري ما عمل كان وأخواتها، وما عمل إن وأخواتها، رجعنا إلى ما رسخ في نفوسنا، واستشرنا ملكاتنا ونطقنا بأمثلة نحفظها، فيها كان وإن، ونرى كيف تنطق بها ألسنتنا، كقوله تعالى: (كان الله غفوراً رحيما)، (وإن الله على كل شيء قدير). ونستنبط من ذلك أن كان ترفع الاسم وتنصب الخبر، وأن إن تنصب الاسم وترفع الخبر، وهذا تقريب لما أريد أن يكون في تعليم اللغات. أريد أن تثبت الأساليب والألفاظ بالحفظ والتكرار حتى تكون ملكة، ثم تستنتج منها القواعد، ولا أريد أن تحفظ القواعد لتعلم منها الأمثلة، فإن ذلك يجعلها ملكة إلا أن يلجأ إلى الحفظ والتكرار
ومن العجب أن تمكث هذه المدارس بين ظهرانينا هذا الدهر الطويل ونرى أسلوبها الناجح في تعليم اللغات، ونلمس نجاحه ولا نقتبس منها هذا الأسلوب! أيرى قوم طائفة تعمل عملاً(533/20)
فتنجح، ويعملون هم هذا العمل فيخيبون، ولا تدعوهم أنفسهم لترك أسلوبهم واقتباس أسلوب الناجحين؟ وأعجب من هذا أن ترى هذه المدارس أسلوبنا الخائب، وتلمس خيبته فلا تنصحنا ولا ترشدنا إلى الطريق القويم في تعليم اللغات
أيستطيع أحد أن يرى ضالاً يمشي على غير الجادة تنكبه الأحجار وترديه الحفر، ولا يقيمه على الجادة؟
لست أدري أأرجع باللائمة علينا لعدم استفادتنا منهم، أم أرجع باللائمة عليهم لعدم إرشادنا؟ ولكن يظهر أن بين الجماعات منافسة كما بين الأفراد؛ فلا ترى جماعة جماعة ضالة وتهديها السبيل. فإن كان ذلك كذلك فقد أغناكم الله عن أجنبي يضن عليكم بالنصيحة. وهاكم النصيحة من رجل من أنفسكم محب لكم يود خيركم، ويحرص على نفعكم، ويعز عليه أن تضيع جهودكم، وأن تبدد أعماركم. وهو ناصح أمين؛ فهل أنتم منتصحون؟
محمد عرفة(533/21)
عمر بن الفارض
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
صفحة ناصعة من تاريخ الأدب العربي. صفحة ذات معان ومزايا متنوعة يقف السامع بازائها حائراً مبهوتاً كأنه يتسمع إلى ألحان من الموسيقى الإلهية، بل نغم ينبعث من أجواء علوية، كأنه الإلهام الذي يستولي على الدماغ ويمتزج بالفكر فيكون سحراً. تلك هي حال القليلين الذين يضن الدهر ولتاريخ علينا بهم لأنهم مثلوا عصوره. بهم تفيض علينا معاني النبوغ والعبقرية تلك المعجزة الإلهية؛ وهذا شأن العظمة التي يخلقها العظيم فيعظم عصره؛ وهكذا تنطوي عندئذ صفحة من صفحات التاريخ وسفر جليل من السفارة يكون رمزاً للحياة الماضية والحاضرة. وهذا ابن الفارض الشاعر الرقيق المفتون بالعزة الإلهية بشعره، العابد للجمال الرباني بمنظومه، فهو شاعر العاطفة الذي يثير ما في القلب من الأحزان والمآسي التي طبعتها صروف الأيام. يريك ابن الفارض ألواناً من شعره تلذ لك فتبحث عن الرقة والخيال وكل ما هو جميل في الكون من المبهجات. هو الشاعر المبدع الفيلسوف في وصف الحب والجمال. وهل من شيء سواهما أعز لدى المرء في الحياة الدنيا؟ لا أظن شاعراً من الشعراء المتأخرين ممن سلك مسلك ابن الفارض في شرح معنى الحب والجمال وما يجلبان على المرء من سوء المصير إذا ما عسر عليه وجدانهما أو فقد أحدهما. فهو الذي افتن في وصف الحبيب والحنين إليه إذا ما غاب، وفي وصف آلام المحب إذا ابتلى، وفي خضوع الإنسان للجمال جمال الحبيب الذي يخلب اللب ويذيب الأحشاء. كل هذه الأوصاف تعمق ابن الفارض في تحليلها وسبكها في قوالب شعرية يعجز القلم عن نعتها. وهانحن أولاء نأتي باليسير منها لضيق المقام. أما مختصر ترجمة فهو الإمام العارف بالله الشيخ أبو حفص أبو القاسم عمر ابن أبى الحسن ابن المرشد بن علي الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، المعروف بابن الفارض. ومعنى الفارض أنه يكتب الفروض للنساء على الرجال، كما جاء في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان. كانت ولادته بالقاهرة في الرابع من ذي القعدة من سنة 576هـ في عهد صلاح الدين الأيوبي، وله ديوان شعر لطيف وأسلوبه فيه طريف ظريف؛ وقد أبدع وأجاد بالمعاني والعبارات الرقيقة، وشع بشعره في الأفكار كالشمس في رائعة النهار، وكان رجلاً صالحاً كثير الخير(533/22)
على قدم التجريد، وجاور مكة الشرفة زماناً، وكان رجلاً حسن الصحبة محمودة العشرة. وقد قيل عنه إنه ينظم الشعر أحياناً في النوم ومنه هذان البيتان:
وحياة أشواقي إلي ... ك وتربة الصبر الجميل
ما استحسنت عيني سوا ... ك ولا صبوت إلى خليل
وهو من أهل الطريقة الرامزة وهي طريقة العرفان بالله ولهذا كني بالعارف بالله
وممن وصفه الكاتب المبدع المرحوم جبران خليل جبران بقوله: (وكانت روحه الظمآنة (كذا) تشرب من خمرة الروح فتسكر ثم تهيم سابحة مرفرفة في عالم المحسوسات حيث تطوف أحلام الشعراء وميول العشاق وأماني المتصوفين. ثم يفاجئها الصحو فتعود إلى عالم المرئيات لتدون ما رأته وسمعته بلغة جميلة مؤثرة). ثم يقول أيضاً: (إذا نظرنا إلى فنه المجرد وما وراء ذلك الفن من المظاهر النفسية وجدناه كاهنا في هيكل الفكر المطلق أميراً في دولة الخيال الوسيع قائداً في جيش المتصوفين العظيم ذلك الجيش السائر بعزم بطيء نحو مدينة الحق. ثم يقول أخيراً كان يغمض عينيه عن الدنيا ليرى ما وراءها، ويغلق أذنيه عن ضجة الأرض ليسمع أغاني اللانهاية. هذا هو الفارض، روح نقية كأشعة الشمس وقلب متقد كالنار، وفكرة صافية كبحيرة بين الجبال، وفي شعره ما لم يحلم به الأولون ولم يبلغه المتأخرون) 1هـ. وتوفي بالقاهرة يوم الثلاثاء الثاني من جماد الأولى سنة 632هـ. ودفن في الغد حسب وصيته بالقرافة في سفح المقطم تحت المسجد المعروف بالفارض. وقد قال ابن بنته الشيخ
علي في ذكره:
جز بالقرافة تحت ذيل العارض ... وقل السلام عليك يا ابن الفارض
أبرزت في نظم السلوك عجائباً ... وكشفت عن سر مصون غامض
وشربت من بحر المحبة والولا ... فرويت من بحر محيط فائض
وقال أبو الحسن الجزار:
لم يبق صيّب مزنة إلا وقد ... وجبت عليه زيارة ابن الفارض
لا غرو أن يسقي ثراه وقبره ... باق ليوم العرض تحت العارض
أما ديوان شعره فيحتوي على مقطوعات وقصائد منها الموجزة والمطولة، متينة النظم دقيقة(533/23)
الحس رقيقة الشعور. وقد طبع ديوانه مرات وشرحه في جزأين رشيد بن غالب معتمداً على شرحي الشيخ حسن البوريني والعلامة الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الصوفي. وبهامش الشرح كشف الوجوه الغر، لمعاني نظم الدر، وهو شرح تائية ابن الفارض الكبرى المشتهرة بنظم السلوك ومطلعها:
سقتني حميا الحب راحة مقلتي ... وكأسي محيا من عن الحسن جلت
ومنها أيضاً:
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة
وعدد أبيات هذه القصيدة سبعمائة واثنان وستون بيتاً وتشغل جزءاً كبيراً من الديوان. ومطلع شرح الديوان: (الحمد لله الذي بفضله الفارض عمر بيوت الأدب، وحسن للطبع شرح معان فيها بلوغ الأدب. . . الخ). ويقول المؤلف في آخر الكتاب نقلاً عن شرح الشيخ عبد الغني النابلسي: (كان الفراغ منه عشية يوم الإثنين التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف من الهجرة). وقال مورخاً لتمام هذا الشرح.
ولابن الفارض الديوان لما ... حكى عقداً نظيماً جوهريا
عنيت بشرحه هذا إلى أن ... تكامل أرخوه الفارضيا
وطبع الكتاب بالمطبعة الخيرية بمصر سنة 1310هـ. بعناية مصححة محمد الأسيوطي. أما منظوماته التي يفتتح بها ديوانه، وتدل على صناعة شعرية فائقة. فهذا مطلعها:
سائق الأظعان يطوي البيد طي ... منعما عرج على كثبان طي
وبذات الشيح عني إن مرر ... ت بحي من عريب الجزع حي
وتلطف واجر ذكرى عندهم ... علهم إن ينظروا عطفاً علي
ومنها:
هل سمعتم أو رأيتم أسداً ... صاده لحظ مهاة أو ظُبي
ومنها أيضاً:
أي ليالي الوصل هل من عودة ... ومن التعليل قول الصب أي
وبأي الطرق أرجو رجعها ... ربما أقضي ما أدري بأي
ذهب العمر ضياعا وانقضى ... باطلاً إذ لم أفز منكم بشيء(533/24)
وهي طويلة. ولنأت الآن إلى مطلع قصيدة أخرى:
أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحراً فأحيا ميت الأحياء
أهدى لنا أرواح نجد عرفه ... فالجو منه معنبر الأرجاء
وكذلك قصيدته التي يتغزل فيها بأراضي نجد لأنها موطن ليلاه فيقول:
أوميض برق بالأبيرق لاحا ... أم في ربى نجد أرى مصباحا؟
أم تلك ليلى العامرية أقبلت ... ليلاً فصيرت المساء صباحا
أما قصيدته في تحليل الحب وتعريفه فهي أشهر من نار على علم، وهي مضرب الأمثال. وهذا مطلعها:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضني به وله عقل
وعش خالياً فالحب راحته عناً ... وأوله سقم وآخره قتل
ومنها:
فإن شئت أن تحيا سعيداً فمت به ... شهيداً وإلا فالغرام له أهل
أما الخمرة فهو يصفها وصفاً نادراً، وهو لم يذقها على رأيي ورأي الكثيرين. فتراه يصفها أبدع مما وصف الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس. ومن ذلك قصيدته التي مطلعها:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
ولولا شذاها ما اهتديت لحانها ... ولولا سناها ما تصورها الوهم
ثم يقول:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم
وللشيخ علي سبط الناظم قصيدة مطولة نظمها تكملة لستة أبيات من نظم ابن الفارض. مطلعها:
نشرت في موكب العشاق أعلامي ... وكان قبلي يلي في الحب أعلامي
وسرت فيه ولم أبرح بدولته ... حتى وجدت ملوك العشق خدامي
وللسبط أيضاً قصيدة أخرى مطلعها:(533/25)
أبرق بدا من جانب الغور لامع ... أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع
ولما تجلت للقلوب تزاحمت ... على حسنها للعاشقين مطامع
لطلعتها تعنو البدور ووجهها ... له تسجد الأقمار وهي طوالع
هذا هو ابن الفارض ذو الشعر الرقيق الفائق، وشاعر الحب والجمال الروحانيين. هذا هو المزين لعرش الحب العاقد أكاليل الجمال على رءوس الحواري والحسان في خيال الجنان. هذا هو المعزي لأصحاب القلوب الدامية الهائمة في بيد الطبيعة الجميلة. هذا هو المكفكف لدموع البائسات المخفقات في نيل عذوبة الحب الذي هو رمز الحياة والطبيعة، يسود القلوب ويتحكم في الأنفس الرفيعة. ليكن لنا ابن الفارض عبرة الدهر في ميدان الرقة والعطف. وليكن ابن الفارض صورة للحياة الجميلة التي نستعذبها ونستذيقها أبد العيش. فليطب هانئاً في مثواه ومرقده. ولينم نومه الهادئ العميق؛ فلن يصغي إلى أنين العاشقين، ولن يسمع زفير المتيمين
يوسف يعقوب مسكوني(533/26)
1 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
يمتاز الإسلام بأنه أوجد لنفسه بنفسه فناً جميلاً كيفه بمبادئه، وبث فيه روحه، وغذاه بتعاليمه حتى استقام عوده، ونضجت شخصيته، وتجلت للعيان مميزاته. ولا شك أنه لبيان هذه الميزة ينبغي أن نقارن بين الإسلام وبين ما سبقه من الأديان من حيث موقف كل منها من الفنون الجميلة ثم نعقب على ذلك ببيان الطرق التي أتيح بها للإسلام أن يخلق فناً جميلاً إن اتفق مع الفنون السابقة عليه في بعض العناصر الزخرفية فقد اختلف عنها أشد الاختلاف في المبادئ الأساسية والاتجاهات التي سار فيها
فإذا عدنا إلى الوراء آلاف السنين لنشهد الإنسان وهو يتقلب في أطوار حياته المختلفة على ظهر البسيطة لوجدناه يكافح الوحوش ليعيش، ويحاربها ليوجد لنفسه بينها مكاناً أمينا يطمئن فيه على حياته، ولرأيناه ما كاد يلقي سلاحه، ويفرغ لنفسه بعض الشيء بعد هذا الجهاد المضني، ويأوي إلى كهفه ليستريح ويستقر به المقام في هذا المسكن الجديد، ويرضي فيه حاجات جسمه من مأكل ومشرب وملبس حتى يقوم إلى جدران هذا الكهف يزخرفها وإلى آلات صيده يجملها ويزينها
ولسنا هنا بصدد الفصل في سبب اشتغاله بهذه الفنون الجميلة، فليكن الدافع إليها فيض النشاط الحيوي فيه، أو لتكن الغريزة هي التي أوحت إليه أن يحاكي بالرسم ما يراه في محيطه، أو ليكن اعتقاده في أن رسم الحيوان يقيده أو تكرار رسمه يكثره، أو رسمه وقد اخترق السم أحشائه يجعل صيده هيناً سهلاً عليه وهو الذي حمله على هذا العمل، أو لتكن هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلته يشتغل بهذه الفنون فلن يغير هذا من الحقيقة شيئاً: ذلك أن الإنسان قد عرف الفنون الجميلة قبل التاريخ واستخدمها في حياته. لقد وجد نفسه ضعيفاً أمام قوى الطبيعة: أمام قوى تعمل من وراء ستار، رأى براكين ثائرة يتطاير منها الحمم فتصيبه في نفسه وفي ماله، وسمع رعوداً صاخبة تكاد تصم بزمجرتها أذنيه، وأحس برياح عاصفة تدفع به أمامها، وتلقي في طريقه بأعظم الأشجار وأضخمها، ولمح بروقاً خاطفة ترسل إليه بضوئها فتملؤه خوفاً ورعباً. هذه المظاهر المختلفة التي لا يعلم سرها جعلته يعتقد بوجود قوى عظيمة تأثر في كيانه دون أن يراها. لذلك فكر في استرضائها(533/27)
على قدر ما سمح له به عقله المحدود فلجأ إلى الفن الجميل يستعين به على بلوغ مأربه فنحت التماثيل، وأقام الأنصاب ورسم الصور
وإذا كانت الفنون الجميلة من نحت وتصوير ونقش قد خدمت الإنسان قبل التاريخ في ديانته الساذجة البسيطة فقد خدمته أيضاً في العصور التاريخية، عندما تعقدت الأمور الدينية بعض التعقيد
فلقد اعتقد المصري القديم بعودة الروح بعد موت الجسم، ورأى لزاما عليه أن يحفظ ذلك الجسم، وأن يضعه بعد موته في محيط يشبه محيطه في الحياة الدنيا، حتى تطمئن الروح وتأنس بجسمها إذا ما عادت إليه، فاستعان بالفن الجميل على تحقيق هذه العقيدة، فزينت جدران القبور بنقوش تمثل حياة الميت، ونحتت له تماثيل تمثله في حياته لتحل فيها الروح إذا ما انحل الجسم أو أصابه عطب، وأودعت هذه التماثيل القبور مع الجثة، كما وضع معها أيضاً ما كان يستعمله الميت في حياته، وروعي في تشييد المدافن أن تكون منيعة لتحول بين هذه الأشياء وبين عبث العابثين؛ ولتظل كذلك في حرز أمين. وإذا كانت عقيدة البعث قد استفادت من فنون النقش والتصوير، فالدين المصري القديم بإلهته المختلفة ومعابده الكثيرة قد انتفع بهذه الفنون أيضاً إلى أبعد حد، فنحتت التماثيل العظيمة للآلهة، ونمقت جدران المعابد بالزخارف الرائعة، وطليت بالألوان الزاهية الجميلة
ولم يختلف الحال في بلاد اليونان القديمة عنه في مصر الفرعونية، إذ نجد أن الديانة اليونانية قد استعانت بفنون النحت والنقش والتصوير على إبراز فكرتها وتجسيم عقائدها، إذ ابتدعوا لأنفسهم آلهة تشرف على شئونهم، وترمز إلى مثلهم العليا، وتخيلوا هذه الآلهة على صورة الإنسان وأفرغوا جهدهم في نحت تماثيل لها كانت أجمل وأروع ما أخرجته يد البشر، خلدت ذكر اليونان على صفحة الزمن ونقشت أسماء آلهتهم في سجل القدر
وما كانت أمم الشرق القديمة من بابليين وأشوريين وحيثيين وغيرهم لتشذ عن مصر واليونان في هذا السبيل، بل استخدمت هي الأخرى الفن الجميل في عبادتها الوثنية
واليهودية أول دين سماوي نادى بالوحدانية، جاء والوثنية هي الدين الشائع بين أمم الأرض جميعاً، والفنون الجميلة من حفر ونقش وتصوير ونحت هي عماد هذا الدين وقوامه، فلكي يخرج الناس من ظلام الوثنية إلى نور الوحدانية كان من الضروري أن(533/28)
يحول بينهم وبين هذه الفنون. وتشددت اليهودية في هذه الحيلولة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً فحرمتها تحريماً صريحاً إذ جاء في التوراة في الأصحاح العشرين من سفر الخروج: (لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تبعدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور) وقد قضى هذا النص على الفنون الجميلة عند اليهود قضاء مبرماً فلم تستخدمها كغيرها من الأديان التي سبقتها ولم تحاول أن تجندها لخدمتها. وإذا كانت الحضارة اليهودية قد بلغت أوجها في عهد داود وسليمان فتقدمت الصناعة ونهضت التجارة وازدانت فلسطين بما شيد في ذلك العهد من قصور ومعابد (ومحاريب وتماثيل وجفان كالجواب) أشار إليها القرآن الكريم في سورتي النمل وسبأ، كما أشارت إليها أيضاً كتب التاريخ، فقد استعان اليهود في ذلك بالأجانب من مصريين وفينقيين وآشوريين
على أن اليهود لم تنتشر، وبقيت الوثنية دين الكثرة من سكان العالم، وتأثر الرومان في ديانتهم الوثنية باليونان، وكما خدمت الفنون الجميلة الدين اليوناني القديم، كذلك خدمت الدين الروماني
وظهر الدين المسيحي، واعتنق المسيحية كثير من بني إسرائيل ثم انتشرت في الإمبراطورية الرومانية بسرعة عظيمة بسبب نضوج الفكر الإنساني، وعدم ارتياحه إلى طقوس العبادة الوثنية. وقد قامت المسيحية تدعو إلى ترك الدنيا والتجرد منها والانقطاع إلى الآخرة والإقبال عليها. ولعل خير ما يترجم عن دعوتها هذه قول السيد المسيح في الإصحاح السادس من إنجيل متي (لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون.) ومثل هذه المبادئ ليس فيها ما يشجع على ازدهار الفنون الجميلة لأنها تنكر جمال هذه الدنيا وتطالب بكبت ما في الإنسان من ميول وغرائز، ولذلك لم تبتدع المسيحية فن جميلاً بل انتفعت بالفن القائم بين يديها، وما الفن المسيحي المعروف إلا فن وثني لبس رداء المسيحية، فهو فن مسيحي فقط باعتبار ما يؤديه من خدمات للدين المسيحي أو للمسيحيين لا باعتبار أنه يعبر عن فلسفة هذا الدين لأن فلسفة هذا الدين - كما رأينا - قوامها الزهد والتقشف(533/29)
وكلاهما والفن الجميل على طرفي نقيض.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية(533/30)
من آثار العراق
الجسر العباسي
للأستاذ ميخائيل عواد
1 - تصوير
إذا جولنا في أنحاء العراق شاهدنا عدداً لا يستهان به من الجسور المتنوعة الطراز، المتفاوتة الحجم، تعلو أنهاره ونهيراته، بينها القديم الأثري، وبينها الحديث المكين؛ كما أن التاريخ ينبئنا بوجود جسور قديمة شيدت في أشهر المدن العراقية المطلة على المياه، وغير أن يد الزمان قد عبثت بها فجعلتها أثراً بعد عين
وإلى القارئ هذا البحث في أحد الجسور القديمة في العراق، نعني به (الجسر العباسي) القائم بجوار بلدة زاخو في شمالي العراق
ولقد استقصينا عدداً من التصانيف العربية القديمة والحديثة، طائفة من كتب الرحالين والسياح الفرنج؛ أملاً في الوقف على ما ينير السبيل أمامنا في هذا الموضوع، غير أننا لم نعد من جميعها إلا بالنزر اليسير من العلم بأمر هذا الجسر. ولعل أهم ما وقفنا عليه ما دونه الرحالة الأثري (بروسر) في كتابه عن (المباني الأثرية في شمالي ما بين النهرين)
ولهذا الجسر أسماء عديدة أطلقها الناس عليه في ظروف ومناسبات مختلفة. من ذلك: الجسر العباسي، جسر العباسيات، جسر الخابور، جسر دلالي، جسر الإسكندر، جسر الحسنية
ويلاحظ القارئ أن اثنتين من هذه التسميات أطلقتها عليه بالنظر إلى موقعه: (فجسر الخابور) يشير إلى أنه يركب متن هذا النهير، كما أن (جسر الحسنية) يدل على أنه شيد عند بلدة الحسنية. أما سائر التسميات فقد أطلقت عليه بناء على ما شاع بين الأهلين هناك من الروايات والأساطير التي لا تدعمها الحقائق الراهنة ولا تؤيدها المستندات التاريخية
2 - موقعه
على نحو من ميل واحد شرقي بلدة زاخو ينتصب (الجسر العباسي) فوق نهير الخابور الذي ينبع من الجبال الممتدة في جنوبي أرمينية، ثم يسير متمعجاً بين ثنايا تلك الجبال(533/31)
حتى يصب في دجلة فوق قرية (فيشخابور) على نحو من 75 ميلاً شمالي الموصل؛ أي عند الحدود العراقية التركية. وهذا الخابور هو المعروف في المؤلفات العربية القديمة ب (خابور الحسنية) نسبة إلى البلدة المعروفة بهذا الاسم
وقد تطرق البحاثة المستشرق (لسترنج) في كتابه الموسوم ب (أراضي الخلافة العباسية) إلى ذكر هذا النهير وجسره فقال: (إن هذا النهير كان يخترقه جسر حجري لا تزال بقاياه ماثلة للعيان قرب قرية حسن آغا التي ربما تمثل المدينة القديمة. إن الحسنية التي كان فيها جامع تصلى فيه الجمعة قد وصفه المقدسي بقوله إنه موقع ذو خطر)
ويبدو لنا من كلام (لسترنج) أن الأمر قد اختلط عليه بعض الشيء، فلم يفرق بين الجسر العباسي الذي نحن بصدده، وبين جسر آخر ما زالت بعض معالمه ظاهرة للعيان، كان فيما مضى يعلو الخابور ذاته، ويطلق عليه (جسر كيسته) بينه وبين جسر العباسي نحو من ثمانمائة متر
ولا يزال الجسر العباسي صالحاً بعض الصلاح لمرور السابلة من فوقه؛ وقد كان فيما مضى المسلك الوحيد الذي تسلكه القوافل حينما تقصد من الأنحاء الشمالية المختلفة؛ أما (جسر كيسته) فلا أثر لقناطره اليوم، لأن يد الدهر سطت عليها، وعملت على تقويضها حجراً بعد حجر، ولم تبق منها اليوم سوى ركائز قواعدها الحجرية المغروزة في الماء
3 - صفته
يبلغ طول الجسر العباسي 114 متراً، وعرضه 4 أمتار و70 سنتمتراً وهو يتقوم من خمس قناطر تتفاوت شكلا واتساعاً، فأكبرهن تكاد تعلو عرض الخابور بكامله هناك؛ إذ تبلغ فتحتها 16 متراً، وارتفاعها عن مستوى سطح ماء الخابور في أيام انتقاصه زهاء 15 متراً، ومن هنا تتجلى لنا عظم المصاعب التي تجشمها البناؤون أثناء تشيدهم هذه القنطرة الواسعة! ومن يلق نظرة على صورة هذا الجسر ير ريازة هذه القنطرة من الطراز المعروف ب (المسنم)
ثم يلي هذه القنطرة سعة، قنطرة ثانية فتحتها 11 متراً، على شكل يقرب من نصف الدائرة. أما الثلاث الباقيات ففتحاتهن أصغر من السابقة وهن على شكل أنصاف دوائر
وطبيعي أن يؤدي هذا التفاوت في اتساع القناطر إلى ارتفاع وسط الجسر وانحدار جانبيه(533/32)
حتى يتساوى وسطح الأرض عند حافتي مجرى النهر
ويلاحظ المرء أن ثلاثاً من هذه القناطر شيدت على يسار القنطرة الكبيرة - باعتبار مجرى النهر - وواحدة فقط على يمينها
شيد الجسر العباسي من حجارة مزلمة، مختلفة الحجم، قليلة الهندام؛ لكنها مرتبة بنظام، وقد تلاحكت بعضها ببعض بالملاط القوي
وقد يبدو هذا الجسر للناظر، لأول وهلة بسيط التركيب، ضعيف القوام، لكنه بالرغم من مظهره هذا، عاش قروناً طوالاً، وعارك فيضانات الخابور المتدفقة من أعالي الجبال المحيطة بتلك البقاع، ومياه الخابور ذات أمواج متلاطمة مزبدة، وهي في صراع دائم مع الصخور الصلبة التي تكون قعر النهر، وهذا ما يسبب تيارات ودوارات مائية سريعة تجعل الملاحة فيه كالمستحيلة
فوق هذه الأرض الصخرية القاسية شيد الجسر العباسي بقناطره الخمس ودعائمه الراسخة
وقد تطرقت العالمة الرحالة (جرترود بيل) إلى هذا الجسر في رحلتها المعروفة (من مراد إلى مراد)؛ لكنها قالت إنه يتألف من أربع قناطر، بينما هي في الواقع خمس كما أسلفنا.
4 - تشييده:
تضاربت الروايات في أمر تشيد هذا الجسر، وذهب الحدس والتخمين في ذلك كل مذهب، وما ذلك إلا لعدم وجود كتابة عليه تفصح عن زمن تشيده، أو نقوش تسعف الباحث في تقدير تاريخه، فضلاً عن صمت المؤلفات القديمة وعدم ذكرها له. ولأهالي تلك البقاع أسطورة يتداولونها فيما بينهم، ومنهم سرت إلى بعض كتب الرحلات الأجنبية. وخلاصتها أن هذا الجسر كان على ما يقولون قد سقط ثلاث مرات متتاليات عند محاولة تشيده حتى نفذ صبر البناءين وضاقوا ذرعاً بالأمر، فقال رئيسهم: يا قوم إن قائمته لن تقوم ما لم يضح في سبيله بدم بشري، على أن تكون ضحيته أول عابر طريق
وما هي إلا هنيهة وجيزة حتى أقبلت بنت عذراء اسمها (دلالي) فساقها القدر إلى أن تكون أول من يقع عليها القرار الذي أشار به رئيس البنائين، فاستيقت تلك الفتاة قسراً وأدمجت في الحال ببناء الجسر وهي حية، وترك طرف ذراعها ذات السوار الذهبي بادياً للعيان، ولكن من تلك الفتاة يا ترى؟ إنها كانت ابنة رئيس البنائين نفسه. ولكن هل لذاك الرئيس(533/33)
من محيص وقد سبق السيف العذل! وللأهالي القاطنين تلك البقعة أشعار وأغاني باللغة الكردية يتناقلونها صاغراً عن كابر ويتلونها في ذكر دلالي، وفي عظم الفاجعة التي حلت بها، وهذه الأشعار ذات لون أدبي خاص، وتعد من أجمل القطع الأدبية الشعبية
هذا ملخص الرواية الشائعة هناك رويناها دون أن نبدي رأياً فيها، لأن المراجع القديمة الموثوق بصحتها لا تساعدنا في هذا الشأن
وقد ذهب فريق من الكتبة المحدثين إلى أن تشييد هذا الجسر كان قد تم على أيدي الرومان؛ فإن هؤلاء القوم اجتازوا بشمالي العراق في المائة الرابعة قبل الميلاد وعبدوا مسالك عسكرية ومنها الجسور لتمر عليها جيوشهم الجرارة الذاهبة لمنازلة الفرس
من ذلك ما زعمه (هموتن) بقوله فيه إنه (جسر روماني فخم معقود فوق أحد روافد دجلة عند زاخو. . . وصار يعرف على مر الأزمان بجسر الإسكندر)؛ ثم ساق رواية دلالي المارة الذكر
ونحن نرى في هذا الرأي تساهلاً كبيراً؛ إذ يصعب صمود هذا الجسر مدة تزيد على الألفي سنة يقاوم فيها محن الزمان وتصرفات المياه
والذي انتهى إليه (بروسر) في درسه هذا الجسر أنه لا شيء يوثق به فيما يخص تشييده؛ ومع ذلك فقد ذهب إلى أنه شيد في المائة السابعة للهجرة (بين المائة الثانية عشرة والثالثة عشرة للميلاد)، وإنه بهذا الاعتبار من الآثار التاريخية الماثلة للعيان التي تعود إلى أواخر أيام الدولة العباسية.
(بغداد)
ميخائيل عواد(533/34)
البريد الأدبي
رسالة المساجد والنهوض بها
أصدر صاحب المعالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الأوقاف القرار الآتي:
تشرف وزارة الأوقاف على آلاف المساجد المنبثة في الحواضر والمدن والقرى، وهي بذلك تحمل لواء الإرشاد والتهذيب الديني والاجتماعي
ورغبة منا في النهوض بها وبالقائمين على شئونها نهوضاً يلائم تطور الزمن وأحداثه، حتى تلاحق ركب الحضارة والمدنية، وتحتل مكانها الذي كانت تحتله في صدر الإسلام، يشرق منها نور المدنية الإسلامية، وتوطد بين جدرانها الألفة والمحبة بين المسلمين، وتنمي نوازع الخير والهداية وأسباب الكرامة الحقة في نفوس الشباب
ورغبة منا في الوقوف على أقوم السبل المحققة لهذه الغاية، سواء من الوجهة الدينية أو الثقافية أو الصحية أو العلمية، رأينا تأليف لجنة من حضرات أصحاب الفضيلة والعزة: مصطفى صبري أفندي شيخ إسلام تركيا سابقاً، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، ومحمد محمد الوكيل بك العضوين بمجلس الشيوخ، ومحمود لطيف بك عضو مجلس النواب، والدكتور عبد المجيد رمزي مدير الصحة الاجتماعية، وأمين عبد الحافظ بك مدير الشئون القروية، والأستاذ أحمد فهمي إبراهيم مدير قسم الهندسة بوزارة الأوقاف، والدكتور منصور فهمي بك مدير دار الكتب، والشيخ محمد البنا مدير إدارة الشئون الدينية برياسة مجلس الوزراء، ومحمد أحمد جاد المولى بك المفتش الأول للغة العربية، والشيخ عبد الوهاب خلاف الأستاذ بجامعة فؤاد الأول، والشيخ سيد زهران مدير قسم المساجد، والأستاذ عبد الحميد خضر، والدكتور إبراهيم اللبان المفتشين بوزارة المعارف
على أن تكون مهمة هذه اللجنة بحث ما يأتي:
1 - الوسائل التي تحبب الناس في الإقبال على بيوت الله وقضاء أوقات فراغهم فيها، وبحث العوامل التي أدت إلى انصراف فريق من الناس عن المساجد، ورسم أقوم السبل لعلاجها علاجاً ناجعاً
2 - وضع دستور للإرشاد في المساجد من دروس وخطب ومحاضرات، وتنسيقه بحيث يوائم الظروف والمناسبات والحوادث والبيئات(533/35)
3 - طريقة اتصال وزارة الأوقاف بالوزارات الأخرى لتقف على ما لديها من مشروعات اجتماعية وثقافية وصحية واقتصادية وزراعية ووقائية ليكون وعاظ المساجد لسان الحركة الإصلاحية في جميع هذه الشئون
4 - المنهاج الذي يشيع الرغبة بين النساء في الإقبال على المساجد لتغذيتهن بالثقافة الدينية
5 - اختيار الطراز الذي يراعي عند إنشاء المساجد لتتوافر فيها وسائل الراحة والصحة والترغيب
6 - النظر في شئون مرافقها الصحية وإمكان تزويدها بالمغاسل والحمامات والمياه الساخنة، وإذا تيسر ذلك فهل تشرف عليها وزارة الأوقاف أو وزارة الصحة؟
وأملي أن تنتهي اللجنة من تقديم تقريرها في بحر شهر من تاريخه.
حول (ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر)
تفضل الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في العدد الأخير من مجلة (الرسالة) الغراء ورد على بعض ما كتبته في صفحة (الأسبوع حوادث وخواطر) بمجلة آخر ساعة، وتفضل أيضاً وسمح لي في حديث معه بالرد على رده، واختار لي صفحات (الرسالة) ميداناً لهذا الرد
وخلاصة الموضوع الذي كتبت فيه هي (الفقر والحرية)، وهل يمكن أن يتمتع الفقير بحريته رغم فقره؟ وهل يمكن وضع نظام اقتصادي جديد غير النظام الحالي يقلل من عدد الفقراء ومن عدد الأغنياء؟
وقد سبق لي أن ناقشت شخصياً مع الأستاذ العقاد في هذا الموضوع، وكان في مناقشته لي قد فهمني فهماً خطأ، إذ ظن أني أدين بمبدأ سياسي معين، ولذلك خص الجزء الأكبر من رده على صفحات الرسالة لهدم المبادئ الحديثة كالنازية والشيوعية.
هذا في حين أني صرحت له مراراً، وهاأنا أعود إلى التصريح مرة أخرى، أني لا أدين بمبدأ معين، ولم أتقيد إلى اليوم بفكرة كاتب من الكتاب السياسيين العالميين، وعلى الأخص (كارل ماركس). فأنا لا زلت شاباً في الرابعة والعشرين من عمري جعل همه مشاهدة الواقع والبحث عن الحقيقة والفكرة التي تنطبق على هذا الواقع، سواء كانت في النازية أو(533/36)
الشيوعية أو الديمقراطية، أو حتى في الفوضوية! فدعنا من كل هذه المبادئ وتعال إلى الواقع. أليس في البلد من يملك عشرة آلاف فدان، في حين أن فيه عشرة آلاف فقير لا يملكون ثمن رغيف وطبق من الفول المدمس؟
أليس في البلد من يملك عشر سيارات، في حين أن فيه عشرة آلاف يسيرون حفاة؟
أليس في البلد من يموت بالتخمة وضغط الدم، وفيه من يموت بالجوع وفقر الدم؟!
هذا هو الواقع، وهذا ما ناديت بإصلاحه، ولم أقل كيف يتم هذا الإصلاح، ولم أشر باتباع مبدأ من المبادئ التي أشار إليها الأستاذ العقاد
ولكن الأستاذ العقاد يقول أنه ديمقراطي يدين بالديمقراطية لأنها تصون الحرية الفردية. فلأكن مثله ديمقراطياً، ولنبحث سوياً بين النظم الديمقراطية المتبعة في مختلف الدول عن طريقة لإصلاح الواقع الذي تحدثت عنه
وأعتقد أننا لن نتعب طويلاً في هذا البحث. فالطريقة التي نطلبها متبعة فعلاً في إنجلترا زعيمة الأمم الديمقراطية
ففي إنجلترا الآن قربوا الفارق بين الغني والفقير، حتى أصبحا متساويين تقريباً. وذلك عن طريق فرض ضرائب مرتفعة على الأغنياء بلغت في بعض الأحيان 90 %؛ فالغني الذي يصل دخله اليومي إلى مائة جنيه (مثلاً) أصبح لا يملك من هذا المبلغ إلا جنيهاً واحداً يصل به إلى مرتبة الرجل العادي
قد يقول الأستاذ العقاد أن هذا ظرف استثنائي فرضته الحرب، وأن هذه الضرائب تستغل في تشغيل العاطلين - وهي أهم الطرق للقضاء على الفقر - ولكن تشغيلهم في المصانع الحربية، وهذا مالا يرضى به العقاد
ولكن لماذا لا يظل هذا النظام ثابتاً حتى بعد انتهاء الحرب؟ ولماذا لا تستغل هذه الضرائب في سبل أخرى غير إذكاء نار المذبحة الكبرى؟ لماذا لا تستغل في فتح الطرق وإنشاء مصانع سلمية ورفع أجور العمال. . . الخ. من الوسائل الكثيرة التي فكروا فيها قبل الحرب وكان ينقصهم المال لتنفيذها؟
إذاً فهناك طريقة ديمقراطية للقضاء على الفارق الاقتصادي بين الطبقات، أو على الأقل لتخفيفه، وهي طريقة ترضي الأستاذ العقاد، لأنها لا تتصل بالنازية أو الشيوعية، لأنها(533/37)
ديمقراطية، والديمقراطية لا تقيد حرية الفرد التي يدافع عنها أستاذي الكبير
فإذا وصلنا إلى هذا الحد واتفق رأيانا عند هذه النقطة. فلا داعي للحديث عن الحرية، ومدى ارتباطها بالفقر، وهو الموضوع الذي كان أساساً لهذه المقالات.
إحسان عبد القدوس(533/38)
العدد 534 - بتاريخ: 27 - 09 - 1943(/)
من وحي الفطر
يا دموع الفقراء. . .
للأستاذ دريني خشبة
وا رحمتاه لكم يا أحب خلق الله إلى الله!
ترى من من أفراد هذا الموكب الزاخر الذي حط عن كتفيه عبء رمضان يذكركم كما تذكركم السماء، ويمد إليكم يده بالقروش الجديدة الحمر قبل أن يمدها إلى أبنائه؟!
لقد عرف الأغنياء الصائمون فرحتهم صبيحة العيد المبارك، فهل عرفتم فرحتكم كما عرفوها. . . أم كنتم تنظرون إليهم ثم تقلبون نظراتكم في السماء. . . ثم تنتثر من عيونكم تلك الدموع التي لها حسابها عند الله
ألا ليت الأغنياء رحموكم إذ لم يذكروكم فلم يتيهوا بينكم بهذه الثياب التي لا يمكن أن تشتري إلا بأرباح الحرب، وما صنعته الحرب في خزائن الأغنياء من أعاجيب
عندي لكم رأي يا أحب الناس إلى. . .
كفكفوا هذه الدموع ولا تذروها في تلك المناسبة
من السهل أن نكون جميعاً نساكاً في مأساة عيدينا هذا العام. . .
وأول واجبات الناسك ألا يغبط ذليلاً بعيش أبداً
ومن واجباته كذلك أن يجعل نسكه فلسفة، فيقول مثلاً: لقد آثرت أن أكون ناسكاً لأنني لا أحتاج إلى شيء ولا أفتقر إلى أحد،. . .
إنني أريد أن أفرغ إلى الله ربي، وزخرف الحياة يشغلني عن الله ربي، فليست بي حاجة إلى هذا الزخرف الباطل الذي يصرفني عن تأملاتي!
ليس في هذا الذي أقول نسيان لنصيبي من هذه الدنيا، فحسبي أن يكون هذا النصيب جرعة من ماء وكسرةً من خبز الشعير وحبةً من ثاني الأبيضين الذي يسمونه الملح
ومن واجبات الناسك أن يكون سعيداً بأسماله البالية فلا يتبرم ولا يتسخط ولا يتهم السماء، حتى حينما يرى الأغنياء الذين لا يبالون هذه الأزمة الطاحنة، فهم يزهون في أثمن الثياب وأغلى الأفواف. . . إن من واجبه في تلك الحال أن يبتسم ابتسامته التقليدية الخالدة. . . ابتسامته الساخرة التي تستهزئ بالذهب وتستهزئ بالفضة وتستهزئ بالحرير المفتل. . .(534/1)
الابتسامة العامرة العليمة التي تعرف إلى أين ينتهي هذا الذهب وماذا هي عاقبة الفضة والحرير المفتل. . . وعاقبة الدور والقصور، وحياة اللهو ومتاع الغرور
لنكن نساكاً وفلاسفة من هذا الطراز يا رفاق!
فإذا صدمتنا الحقيقة، وأعاد إلينا الواقع صوابنا، وذلك حينما يفاجئنا أطفالنا بمطاليبهم من لعب العيد وطرفه، فلنكن نحن لعبهم
لندعهم يصارعونا ويلاكمونا ويشدوا أذقاننا وأكمامنا. ماذا نخشى على هذه الأكمام يا رفاق؟ أليست كلها مزقا وأسمالا؟ إنهم مهما صنعوا فلن يزيدوها تمزيقاً، لأنهم ليسوا أقوى من الحرب ولا أفتك من الغلاء، ولا أطول باعاً من السنوات الأربع التي تصرمت في هذه الشدة، والتي لم تبق من أسمالنا لأولادنا شيئاً يمزقونه. . . ولا شيئاً يرتدونه، حين تكل حياتنا فيه، ولا ندري ماذا نلبس منه وماذا ندع!!
لنكن لعب أطفالنا في هذا العيد. . .
ليركبونا إذا كان لا بد لهم أن يركبوا شيئاً يعوضهم من عربات العيد التي ستكون وقفاً على أطفال الأغنياء، والذين فازوا بأرباح الحرب ومن إليهم من مختزني الشاي والمسامير وأمواس الحلاقة والزيت (الفرنساوي!)
إن من واجب النساك أن يكونوا مطايا لأبنائهم ليحملوهم بعيداً عن موكب أبناء الأغنياء فيستريحوا من المقارنات والموازنات. . . ولا يقول قائلهم معترضاً على أبيه وعلى الله وعلى الناس. . . لماذا يا ترى يبخل علي أبي فلا يشتري لي مثل هذه الصفراء أو تلك الحمراه مما يرتدي هؤلاء الأبناء؟
وقد علمنا رمضان القناعة أيها الرفاق، وإن يكن قد أصاب الأغنياء ومن فازوا بأرباح الحرب بألوان من التخمة، وصنوف من البطنة، نسأل الله أن يعيا بمعالجتها نطس الأطباء. . .
فبحسبنا أن نقدم لأطفالنا أكلتين مكان ثلاث أكلات و (تعصيرتين) يحظى بها أبناء الأغنياء. . . فإذا شكا أطفالنا مسغبة فذكروهم بما كان في رمضان القريب من حال الفطور والسحور
رضي الله عنك يا ابن عفان، ما كان أقوى إيمانك بالله يوم نزلة للفقراء المؤمنين عن(534/2)
عيرك كلها من دون التجار. . . لأنك آثرت البيع لله، ليربحه، ويربيه عشرة أضعاف ومائة ضعف. . . إلى سبعمائة ضعف. . . ألا يذكرك أغنيائنا فيجعل الزكاة فطرهم والزكاة مالهم ضعفين أو ثلاثة أضعاف، في زمن زاد فيه ثمن الحياة خمسة أضعاف وعشرة أضعاف؟
أيها الرفاق الفقراء!
لموا شملكم، وأجمعوا قلوبكم، وارفعوها إلى السماء. . . إلى الله بارئكم. . . صلاة شاكية باكية. . . فيها الحزن الذي يشوبه الرضا، وفيها الأنين الذي يخالطه الإيمان. . . عسى ربكم أن يفرج كربكم ويصلح بالكم.
دريني خشبة(534/3)
فوق جبل البارود
للدكتور زكي مبارك
طاف الشاعر بالشواطئ طوافاً طال حتى بلغ سبع ساعات، وكانت غايته من طول الطواف أن يرى جنية تفوق صاحبة الميعاد، ليستطيع التمرد عليها إن فكرت في التمرد عليه، ولكنه لم ير في الشواطئ ما يصيبه أو ينسيه، فقد كانت الجنية أقوى روح تخطرت فوق تلك الرمال
أيان يذهب الشاعر لو نفرت منه الجنية؟
لقد سحرته سحراً لا نجاة منه ولا خلاص، وصيرت السجن أحب إليه من الحرية، وفرضت عليه أن يفرح بنعمة الشقاء
أنه يذرع الشواطئ من الجنوب إلى الشمال، ومن الشمال إلى الجنوب، فلا يرى من ذلك الملك العريض، ملك الحسن الوهاج، غير ألماح مقبوسة من نيران الجنية، والجنيات خلقن من النار لا من الماء
سبع ساعات والشاعر في حيرة من أمره، في حيرة من بخل الطبيعة بأن تجود عليه بما يصيبه أو يسليه ليتمرد على الجنية لحظة من زمان
وكان الميعاد عند الغروب، في اللمحة التي تخلع فيها الشمس أثوابها الفضية لتستحم في البحر وتنام إلى الصباح
- ألا تخاف على الشمس من هذه العاقبة؟
- أية عاقبة يا محبوبتي؟
- عاقبة اغتراق الجمر في الماء
- لو كان الماء يطفئ الجمر في كل وقت لأطفأت دموعي نار قلبي
- ولك دموع وأنت أقسى من الجلمود؟
ومضينا فخلونا بمكان لا يهتدي إليه رقيب ولا عذول، وكانت الخلوة مزعجة إلى أبعد الحدود، فقد كان الغرض أن أستطيع حصر نار الجنية في مكان، وأن تستطيع الجنية حصر قلبي في مكان
- اجلس هنا لأجلس هناك(534/4)
- جلست هنا فاجلسي هناك
- ولا تمد يدك ولا بصرك
- أنا أملك كف يدي ولا أملك غض بصري
- وكيف رضيت بهذه الخلوة يا شقية؟
- أردت أن أمتحن قدرتي على مقاومة الساحرين من أمثالك، فامتحن قدرتك على مقاومة الساحرات من مثيلاتي
ثم أسلمت الساحرة جفنيها إلى نوم عميق
كان قلب الجنية بكراً قبل أن أراها وتراني، فليس لها في الحب تاريخ، ولم يجر اسمها على ألسنة الماجنين، ولا أقلام العابثين، وإنما استهواها قلمي وشعري فأرادت أن ترى كيف يعيش الكتاب والشعراء
لابد مما ليس منه بد
لابد من احترام رغبة الجنية، وهي قد ألحت في أن (أقسم بشرف الحب لتنامن في أمان)
قال الشاعر: ونظرت فرأيتني مقهوراً على امتشاق القلم لأسجل ظاهرة روحية لم يعرفها من قبل أحد من المحبين
كنت ألتهمها بعيني والقلم في يدي، وكان نومها شبيهاً بنوم الفتنة، ونوم الفتنة مقدمة الهبوب
نامت الفتنة واستيقظ ضميري، فهممت بإلقائها من الشباك ولكن هذه الفتنة ستتعرض لمآثم إن رفعت عنها حمايتي في مثل هذا الليل
آه ثم آه!
أنا في هذه اللحظة أقيم فوق جبل من البارود، وشرارة واحدة تكفي لتحويلي إلى رماد تذروه الرياح، وأنا أبغض الفناء
واستيقظت الفتنة فرأتني في سياحة فارسها القلم وميدانها القرطاس
- ماذا تصنع؟
- أسجل خواطر وكلمات
- وماذا سجلت؟
- سجلت ما نصه بالحرف:(534/5)
(هي لحظة جمعت أطراف النعيم في جميع الأقطار وفي جميع الأزمان، فما كان لها مثيل في تصوير عشاق النعيم في زمان أو مكان، لأنها فوق ما يجوز بخواطر أهل الخيال من طلاب المحال. . . هي لحظة فيما تعرف التعابير الدنيوية، ولكنها فيما تعرف الأرواح آباد أطول من عمر الخلود. . . هي لحظة لا يبالي من يعيشها معنى الحياة والموت، لأنه اجتاز بها آفاقاً لا يجتازها غير من تسامت قدرته على ضجيج الحياة وسكون الموت. . . في تلك اللحظة طاف القلب وطاف الروح بمعالم ومجاهل لا يدرك العقل منها غير أطياف. . . هي لحظة ولكنها العصارة الدامية من قلب الوجود، وأنا عشت تلك اللحظة فلتفعل الدنيا ما تشاء، وما الذي أبقيته للدنيا حتى تنتزعه من يدي؟ أنا نهبت من الدنيا جميع ما تملك، فلتقابلني إن استطاعت في ساحة القضاء)
قالت الجنية: أهذا هو المحصول لمثل هذه المغامرة العاتية؟
قلت: هذا ما يملك قلم يقيم صاحبه فوق جبل من البارود!
- ولكني لم أر جديداً في كلامك
- كيف وهو كلام لم يقله أحد من قبل؟
- أنت قلت مثله مرات ومرات، فكان مبتكراً أول مرة، ثم صار من المبتذلات
- وإذن؟
- وإذن تقول كلاماً غير هذا الكلام لأرضى عنك ونامت الجنية من جديد ولم تترك لي سميراً غير قلمي، فماذا أصنع؟
الخطر كل الخطر في عشق الموحيات من المليحات. هن يتوهمن أن العشق وسيلة لا غاية، ويرين أن ثمرة الحب ليست طفلاً يولد على نحو ما تكون ثمرات الحب في عالم الحيوان، وإنما الثمرة لمثل الحب الذي تسامينا إليه أن ينتج مواليد من كرائم المعاني، مواليد لا تتعرض للمرض ولا للموت
صوبت بصري إلى وجه الجنية وكتبت:
(لقد آذاني الحسن المجلوب بالطلاء، وهو حسن للموت فيه حيوية اللون، فغمرت محبوبتي في أثباج البحر لأرى قيمة ما تملك من جوهر الحسن الصحيح، والجمال عندي يوزن بحيوية اللون، وهي حيوية تتموج فوق الصدر والخد والجبين، وقد تتموج فوق اليدين(534/6)
بأسلوب لا يدرك مراميه غير فلاسفة الجمال. إن اللون قد يحتفظ بالصورة، ولكنه لا يحتفظ بالحيوية إلا أن سقاه ماء الشباب. وحيوية اللون هي سر السحر في العيون الزرق والخضر والسود، وهي أيضاً السبب في أن يكون بعض السمر أجمل من بعض البيض، لأن الأمر كله لحيوية اللون، والقول بأن البياض نصف الحسن قول عليل، فلا قيمة لنوع اللون وإنما القيمة لحيوية اللون)
ثم صوبت بصري مرة ثانية إلى وجه الجنية وقد هممت بأشياء، فهبت مذعورة وهي تقول:
- ماذا تريد؟
- أريد أن أقرأ عليك هذه الكلمات
فرحت الجنية بما سمعت، ثم استسلمت إلى الهجود، وتركتني وحدي
أنا أقيم فوق جبل من البارود، وشرارة واحدة تكفي لتحويلي إلى رماد تذروه الرياح
- أيتها الجنية، إسمعي!
- لن أسمع، وإن كنت سمعت
- وما نومك هذه الليلة تحت بصري؟
- لأعرف ما عندك من المعاني، فاكتب كلاماً يرضيني ثم هجعت الجنية في غيبوبة أبلغ من يقظة القلب الخفاق، ونهضت قبل الشروق، لتبلغ مأمنها قبل الشروق، بعد أن عرفت أن الإسكندرية لا تقل روحانية عن القاهرة، والمنصورة وأسيوط
لم تكن ليلتنا مما ينتظر في دنيا الحقائق أو دنيا الأباطيل، ولا جاز في أوهامها أو أحلامي أن تجري بيننا شؤون يفضحها نهار أو يسترها ليل، فقد شقيت بالجنية ما شقيت، ويئست منها ما يئست، ولم يبق لي أمل يفوق السماح بأن أعيش في عذاب. . . وفي الحب سجون لا تدخل بدون استئذان!
كيف ظفرت بالجنية؟
أكان من هواها أن تزور المكان الذي نظمت فيه قصيدة. . .
أي قصيدة؟ وهل نظمت بيتاً غاب عنه وحيها الجميل؟
إن حياتي في جميع مناحيها الروحية لا تعرف غير تلك الجنية، وأنا لا أرى الدنيا ولا(534/7)
أحبها إلا حين أتمثل روحها الشفاف وهو يناجيني برفق، أو يلاحيني بعنف، ونحن نذرع أودية الخيال
مضيت يوماً لرؤية النيل عند الطغيان ومعي صديق متبرم بمصر والمصريين، فقلت:
- هل تعرف يا صديقي كيف أرى مصر؟
- كيف تراها؟
- أراها في وجه الجنية التي نشأت فوق ضفاف النيل، ولولا الخوف من أن تتهمني بالجنون لقبلت كل وجه وكل شجرة وكل جدار بهذه البلاد
من أجل من؟
من أجل الجنية، فهي وحدها الدليل على أن مصر وطن الجمال
- الآن عرفت
- وماذا عرفت يا جهول؟
- عرفت كيف نجوت من التبرم بمصر والمصريين
- مصر وطن الجنية، والمصريون أعمامها وأخوالها، فأنا لها ولهم أوفى الأوفياء
- وما نصيبك من الجنية؟
- نصيبي أن تكون لي وحدي، وهي لي وحدي
- وهل تكون أجمل من الشمس؟
- جمال الشمس جمال مبذول، فليس له سحر ولا فتون أما جمال الجنية فهو جمال الزهرة المشرقة في ضمير البيداء، ولن تكون لغير من يدرك سرها الغريب
- وكيف اهتديت إلى هذا الجمال المجهول؟
- لقد اهتدى إلي قبل أن أهتدي إليه؟
- وكيف؟
- صنع معي بما تصنع السرحة لاجتذاب البلبل، فأورق وأزهر ليطيب فوق غنائي، فأنا أبدعت ذلك الجمال
- وهو أبدع شعرك
- وصيرني من أقطاب الوطنية، فما يحب الرجل وطنه إلا إن كان له فيه هوى وميعاد(534/8)
مضت أعوام وأعوام ولا أرى شمس مصر عند الشروق، وقد رأيتها عند توديع الجنية ورأيت معها النخلات المتشوقة لنور الصباح
مضى الزمن الذي كان أبي يوقظني فيه لصلاة الصبح قبل طلوع الشمس
فهل نعرف كيف قضت الشريعة بصلاة الصبح قبل طلوع الشمس؟
شباب النهار في الشروق، وشباب الروح في الشروق، فاحذروا نومة الصبح، لأنها لا تليق لغير النساء
لو رجعت الجنية لحدثتها بما نقلت عنها وهي تغرب عني مع الشروق، كما يذهب الحلم الجميل مع الشروق
علمتني الجنية ما لم أكن أعلم، علمتني أن الحب جهاد، وأن الله لا يخذل المجاهدين
هل رأيت الجنية في داري بالإسكندرية؟ هل رأيتها هنالك؟ وهل كان هذا التناجي من الحقائق لا من الأباطيل؟
قلبي يقول إني رأيتها وأنا لا أكذب قلبي، فإن لم أكن رأيتها فما هذا الذي أعاني من لجاجة الواشين والرقباء؟
لم يروني معها جنباً إلى جنب، أو قلباً إلى قلب، وإنما رأوا بشاشة روحي وأنا عائد من الإسكندرية فقدروا أني احترقت في كوثر الوصال
وروائح النعيم في أعطافي، ونيران الوجد في أحشائي، فأنا رأيت الجنية هناك، ثم رأيتها هناك
رأيتها رأيتها، وشربت على وجهها كأس الصفاء، فليفرح روحي بما يزخرف خيالي، ولو صرحت لتعرضت للشرارة التي تنسف جبل البارود
أنا ما رأيت الجنية ولا رأتني، وما كان حديثي عنها إلا ضرباً من تزاوير الخيال، فليطمئن عذالي ورقبائي، وليعرفوا أن حديث الجنية بعض الذي زورت من الأحاديث
أنا قضيت ليلة مع الجنية بعد ليالٍ وليال، وهذا عطرها في قلبي، وهذا سحرها في قلمي، فليصاولني سكان وادي عبقر، إن كانوا يطيقون
أتغضب يا ربي لأن أقول هذا القول؟ أنا أحكم بما أرى، وأنت لعدلك لا تطالبني بأن أحكم بغير ما أرى، وهذه الجنية هي آيتك عندي على التفرد بالجمال(534/9)
وفي سحرها قبس من سحرك، وبجمالها أتعرف إليك، فاجعل حبي لها كفارة عما ساورني من العقوق
هي جبين الشمس، وأنت فاطر الشمس، فليكن حبي لها وثنائي عليها فنا من الحب لك والثناء عليك.
زكي مبارك(534/10)
3 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
1 - قول منشئ الخبر حاجب بن زرارة التميمي هذا القول: (. . . إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرتها نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك. . .)
وقد عني الصباغ بالأمة مصطلح وقته، وما نذهنه نحن في هذا العصر، ولم يقل عربي جاهلي في زمن: نحن أمة. وإنما يعرف العربي عشيرته أو قبيلته أو ربعه أو حيه أو مدينته أو يمنيته أو تهاميته أو ما ضارع ذلك. وإن كان في لغته من معاني الأمة (الجماعة)، فلم يقلها كما لم يقل نحن جماعة العرب قاصداً جميع العرب وأحياءهم وقبائلهم كافة. وما جاءت العرب أمة إلا من بعد أن ألفها (مؤلفها) وقرأت (سفر التكوين. . .)
ويعز على العربي الصحيح أن يرى العرب قد ناكروا التأليف الدهر الأطول، وقرءوا (الكتاب) ولم يعقلوه، ولو عقلوا لكانوا أمة أي أمة، ولعربت الدنيا وأحال أهلها
يا هؤلاء، سيروا في قومكم سيرة عمرية، وخلصوهم من البؤس والجهل والأمية، وعلموا العربية، وعلموا القرآن، علموا القرآن تقبل إليكم وحدة عجيبة عربية
ابن على الصخر (لا كالبناء على الآجر والطين)
وللأمة في (كتاب) معان جمة، أكثرها الجماعة والدين أو الملة. قال تعالى (والأمة هنا هي الجماعة):
(كنتم خير أُمة أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله. ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون)
فالأمة في الآية الكريمة (هم الذين هاجروا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة، وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) كما جاء في (جامع البيان) للطبري
والمهاجرون عرب وغير عرب كما هو معلوم، وقد كان فيهم سالم بن معقل الأصطخري ولو لم يستشهد في قتال عرب مرتدين لكان الخليفة الثالث. وسالم هذا مهاجر، وبدري، وأنصاري بالولاء، وشهيد (الله أكبر، الله أكبر!)، وكان يؤم في الطريق من هاجر معه من مكة، وفيهم عمر بن الخطاب (رضوان الله عليه)(534/11)
فالآية لا تعني العرب إذ لم يكونوا عند نزولها قد أسلموا فضلاً عن أن يأمروا بمعروف وينهوا عن منكر، وقد ارتد جلهم حين أظلمت الدنيا بفقد رسول الله، وكادت مكة ترتد مع المرتدين؛ لكن أين المفر من الهدى والخير، وهناك (خير أمة أخرجت للناس) وفيها أبو بكر، فيها أبو بكر. وكان معد يكرب أحد رجال الوفد. . . ممن ارتد
ومن معاني الأمة (القرن) قال تعالى:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً)
ومن معانيها الدين في قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
ومثل ذلك قول غيره:
وهل يستوي ذو أمة وكفور
والأمة هي النعمة في قول الأعشى ميمون بن قيس:
وللموت خير لمن ناله ... إذا المرء أمته لم تدم
2 - يقول النعمان لكسرى:
(إن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالأشياء وضربهم للأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس)
ذكر وزن الشعر ولم يبق إلا أن يذكر بحوره
الوزن لفظة محدثة وضعها الخليل فيما وضع لفن العروض، ولو سمع جاهلي: وزن الشعر لدهش وبهت. وقد جال الجوهري في أحياء العرب فلم يسمع هذا المصطلح. ولا يفهم العربي في الجاهلية من الوزن إلا الثقل والخفة في حقيقة أو مجاز، كقولهم: كلام موزون، وهو وزين الرأي أي رزينه كما في الأساس. وفي اللسان: هذا القول أوزن من هذا أي أقوى وأمكن. وفي جمهرة اللغة لابن دريد: الوزن أصله مثقال كل شيء وزنه، ثم كثر في كلامهم حتى قالوا فلان راجح الوزن إذا نسبوه إلى رجاحة الرأي وشدة العقل
وأما قول اللسان: وأوزان العرب ما بنت عليه أشعارها واحدها وزن ومثله قول التاج، وزاد هذا (وهو مجاز). فالكلام في المعجمين تفسير لما اصطلح عليه الخليل لا شرح لفظ ورد عن العرب في جاهليتها. ولا ريب في أن نابغة العرب لم يستعمل (الوزن) إلا مجازاً(534/12)
والقافية من مصطلحات الخليل وإن وردت من قبل، ومعناها في أقوالهم هو غير ما أراده الصائغ وقوله النعمان. وقد اختلفوا في حدها (أعني القافية) على اثني عشر قولا. . .
ومن بديع ما يروى أن علم القافية (واضعه امرؤ القيس ابن ربيعة المعروف بالمهلهل خال امرئ القيس بن حجر الكندي) واللاغي بهذا القول قد سلب الخليل بن أحمد الفراهيدي حقه سلباً عجبا، وظلم عبقريته ظلما عبقرياً
واضع علم العروض والقوافي في العربية هو الخليل، ولن يضع من قدره شيئاً أنه علم أن عند الإغريق عروضاً، أو حدثه بذلك عالم باليونانية، أو أطلعه على باب من هذا الفن عند القوم. ففي (الغيث المسجم في شرح لامية العجم) للعلامة صلاح الدين الصفدي:
(وذكر لي العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري أن الشعر اليوناني له وزن مخصوص، ولليونان عروض لبحور الشعر. والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل. قال: ولا يبعد أن يكون وصل إلى الخليل بن أحمد شيء من ذلك، فأعانه على إبراز العروض)
إن فضل الخليل في إبداعه عظيم - وإن صح ما ذكر ابن ساعد - ولن يصغره أقل تصغير منبه حقير نبهه فتفطن لما تفطن له، وأغرب ذلك الأغراب، وخاض في تلك البحور. . .
وقل في (علم العربية) ما قيل في غيره، فلن يضع من قدر الناحين الأولين أنهم علموا أن عند السريان واليونان قواعد للغاتهم، فنحوا في ترتيب قواعدنا نحوهم
وإذا عرفنا واضع علم فن العروض، فإنا من واضعي النحو في لبس كبير. وأما قول ابن أبي الحديد في شرح النهج أن أحد كبار الصحابة (رضى الله عنهم أجمعين): (هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها: الكلام ثلاثة أشياء: اسم، وفعل، وحرف، ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم. وهذا يلحق بالمعجزات؛ لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ولا تنهض بهذا الاستنباط)
قول ابن أبي الحديد هذا هو أملوحة من الأماليح، وأبو الحسنين (رضوان الله عليه وعلى ابنيه) كان معلم بطولة وأخلاق، وكان بانياً من بناة هذه الأمة، ولم يكن أستاذاً من أساتذة(534/13)
النحو. . .
أورد ابن النديم في (الفهرست) هذا الخبر بعد أن روى تلك الأسطورة المشهورة، وقد يكشف شيئاً من اللبس بعض الكشف:
(وقال آخرون: رسم النحو نصر بن عاصم الدؤلي. ويقال: الليثي، قرأت بخط أبي عبد الله بن مقلة عن ثعلب أنه قال: روى ابن لهيعة عن أبي النضر قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية، وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها وأحد القراء)
نروي هذا الخبر إلى أن يتبين للباحثين الحق
ذكرني هذا البحث في العروض والنحو بمناظرة كانت بين العلامة الأستاذ الدكتور (بديع الزمان) وبين الأستاذ (أزهري المنصورة) في ذينك الفنين ووقت كونهما حيث تجادل بالأمس صاحب العزة العلامة الأستاذ الدكتور طه حسين بك وسيادة العلامة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني (أعز الله دولة الأدب العربي بطول بقائهما) وقد أحببت أن أروي هنا آخر مقالة في تلك المناظرة، ولكن (الرسالة) تأبى إلا الغض الجديد، فأكتفي برواية المقدمة نموذجاً من العبارات الشديدات في المناظرات، وهي أقسى ما واجه به الأستاذ (أزهري المنصورة) خصمه العلامة الأستاذ الدكتور بديع الزمان
قال ذلك (الأزهري):
جاء في تاريخ ابن الوردي
(عزم قاضي الموصل أن يقول للسلطان في إخراج (قضيب البان) الوالي المشهور من الموصل في سره، قال القاضي: فرأيت قضيب البان مقبلا على هيئته المعروفة، فمشى خطوة فإذا هو على هيئة (كردي)، ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة (بدوي)، ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة (فقيه) بصورة غير الصورة المتقدمة، وقال لي: يا قاضي، هذه أربع صور رأيتهن، فمن هو قضيب البان منهن حتى تقول للسلطان في إخراجه؟ فلم أتمالك أن أكببت على يديه أقبلهما وأستغفر الله. . .)
الشاهد في هذه الحكاية أن الأستاذ (بديع الزمان) قد شاكل ولي الله (قضيب البان) فهو يبدو لنا مرة باريسياً، ويتجلى حيناً أزهرياً، وتراه في وقت عربياً، وتلقاه تارة باحثاً غربياً، وكأنه ما تسمى (بديع الزمان) إلا لكي يأتينا من بدائعه - ليبهرنا - بأشكال وألوان(534/14)
وقلما أبصرت عيناك من رجل ... إلا ومعناه إن فتشت في لقبه
فهو في الإعراب مع المعربين، وهو في اللحن مع اللاحنات، وهو في مبحث عند العربيات، وهو في حديث حدث غربيات - فقلبه وثاب. . . - وهيهات أن تخلص منه، لا علينا ولا لنا، هيهات
إن في (المنصورة) اليوم (لكريماً)، وإن في (المنصورة) اليوم (لكرماً)
(ن)(534/15)
4 - نشأة المأساة الإنجليزية
للأستاذ دريني خشبة
المأساة الإنجليزية كالمأساة اليونانية والمأساة اللاتينية هي أرقى ألوان الأدب الإنجليزي، وقد اعتمدت في نشأتها الأولى على مصدرين عظيمين، أولهما أهلي - أو إن شئت فقومي - والآخر خارجي. أما الأهلي فهو هذا الثبت التاريخي الحافل المسمى (المرآة لأولي الأمر) الذي بدأه توماس ساكفيل (أو لورد بكهرست 1532 - 1584) سنة 1557 وتوخى فيه سرد مآسي عظماء الإنجليز منذ الفتح النورماندي حتى نهاية القرن الرابع عشر. وقد قلد المؤلف ما جاء في أساطير اليونان من زيارة أحد أبطالها للدار الآخرة - أوهيدز - وذلك كما في أسطورة أرفيوس الموسيقي وأسطورة هرقل، وما جاء في إنيادة فرجيل ورؤيا دانتي حينما قاده دليله (سوء الطالع) إلى الجحيم ليجوب دركاتها دركة بعد دركة، وليسائل ثمة الذين كتب عليهم أن يكون مأواهم النار بعد الذي قدموا في دار الفناء من خير وشر. فهم يقصون عليه الويلات التي سودت صحائف حياتهم الدنيا، ويحدثونه أحاديث المصائب التي انصبت على رؤوسهم فيها. ولم يكتب ساكفيل غير مقدمة هذا السفر العظيم، وهي مقدمة سياسية رائعة، ثم كتب من مجموعة الأساطير الكبيرة التي بلغ عددها ثمانياً وعشرين، الأسطورة الأولى. . . أما الذي قام بهذا العمل الجليل فهو أديب يدعى ريتشارد بولدوين بمساعدة طائفة من الأدباء الآخرين عنوا عناية فائقة بمآسي عظماء حروب الوردتين. والظريف أن هذا الأثر الأدبي الخالد هو نفسه الذي أوحى - بعد تمامه - إلى ساكفيل والى زميله توماس نورتون موضوع أول مأساة تمثيلية إنجليزية بحتة، هي تمثيلة جوربودك أو فركس وبوركس. وجور بودك هذا هو أحد ملوك بريطانيا العظمى، وفيدنا هي زوجته، أما فركس وبوركس فهما ولداه اللذان قسم بينهما ملكه، فما لبثا أن تنازعا وقتل أحدهما (بوركس) الآخر، فتثور الملكة، وتقسم لتنتقمن لولدها من أخيه، وتنتهز لذلك فرصة سنحت لها إذ رأته نائماً يغط في سبات عميق، فتستل خنجرها وتغمده في صدره. . . ويثور ثائر الشعب حنقاً على الملك (جوربودك) وعلى الملكة فيقتلهما على السواء
فهذه هي المأساة الإنجليزية الأولى، وقد نظمها مؤلفها في شعر رصين وعبارات مشرقة(534/16)
قوية، وصباها في قالب أخاذ، كما يمتدحها الناقد الإنجليزي العظيم الشاب السير فيليب سدني في كتابه (الاعتذار عن الشعر)، وإن يكن رجال لمسرح الحديث لا يجعلون لها تلك القيمة التي أسبغها عليها هو. والمأساة موضوعة على نمط المآسي الإغريقية تقريباً، وهو هذا النمط الفذ الذي لا تبدو فيه أشخاص المأساة، وإنما تأتي بأخبارهم رسل يروون الوقائع واحدة بعد أخرى، فهي أشبه بتمثيلية قصصية يسردها علينا رسلها الأربعة - بعد شخصيات المأساة، كما كان الشاعر في المأساة اليونانية - ولا سيما قبل سوفوكلي - هو الذي يؤدي أدوار شخصياته كلها بمعاونة الخورس في الإنشاد فقط، أو في حكاية بعض الحوادث التي تمهد لما بعدها من وقائع الرواية
وهكذا كانت المآسي التاريخية التي حفلت بها تلك (المرآة) مصدراً هاماً للشعراء الذين ألفوا للمسرح في نصف القرن السادس عشر الأخير على العموم، وفي ربعه الأخير خاصة
وقد كان المسرح الفرنسي نبراساً يضيء على البعد للمسرح الإنجليزي في هذا المضمار، لكن المسرح الإنجليزي مع ذاك احتفظ بالطابع الذي يميزه ويبقى له استقلاله، ذلك أنه آثر كمال الوحدة للمأساة، واتساق الحوادث التاريخية وترابطها، دون أن يأبه بما كان هم المسرح الفرنسي أن يأبه له، ألا وهو ذلك النقد اللاذع، والسخرية الحادة، والمظهر العام الذي ينبغي أن يكون براقا خلابا. هذا، وقد ظهرت درامات تاريخية أخرى كانت مادة خصبة فيما بعد، أمدت شكسبير بموضوعات شائقة لكثير من مآسيه؛ فمن ذلك درامة (عهد الملك جون المضطرب) التي اقتبس منها شكسبير مأساته (الملك جون)، كما اقتبس مأساته (الملك لير) عن درامة مماثلة اسمها (التاريخ الحقيقي للملك لير وبناته الثلاث: جونرل وراجان وكورديلا). وقد وجد الشعراء الإنجليز غير شكسبير مدداً لا ينتهي في تاريخ ملوكهم، فاتخذوا منه موضوعات لمآسيهم الجميلة المشجية. فهذا بيل يؤلف في حياة إدورد الأول؛ وذلك مارلو ينفح المسرح بمآسيه عن إدورد الثاني وإدورد الثالث؛ وذاك شكسبير يسلم للخلود مآسيه عن رتشارد الثاني ولير وهنري الرابع وهنري الخامس وهنري السادس. . . الخ. ولم يقتصر الشعراء على مآسي الملوك، بل اتخذوا من الأحداث التاريخية نفسها التي وقعت في عصور هؤلاء الملوك موضوعات لطائفة طيبة من أروع مآسيهم كما صنع توماس هيوود في مأساته (إن لم تعرفني فأنت لم تعرف أحداً) التي اتخذ(534/17)
موضوعها من حوادث عصري ماري تيودور وإليزابث. على أن نوعاً جديداً من المأساة الإنجليزية الأهلية ابتدع الشاعر توماس كيد في أواخر القرن السادس عشر وأطلق عليه المسرحيون (مأساة الدم) لكثرة ما يتخلل فصولها من الذعر والقتل والفتك والبكاء والجنون والانتحار، وما إلى ذلك من ألوان الفزع. وتوماس كيد متأثر في هذا اللون الذي ابتدعه في المأساة الإنجليزية بشاعر الرومان وفيلسوفهم الأشهر سنكا. وليس يعرف المؤرخون كثيراً من حياة كيد. وهم مختلفون في تاريخ ميلاده وفي تاريخ وفاته، وإن اتفقوا أنه قضى حياته كلها في النصف الثاني من القرن السادس عشر. ويقولون إنه شدا شيئاً من العلم في مدرسة (مرشانت تايلور) وإنه كان ثمة زميلا للشاعر الكبير سبنسر. على أن الذي لا مراء فيه هو أنه مؤلف المأساة المشهورة (المأساة الأسبانية)، أو (هيرونيمو مجنون ثانية) التي يقال إنها جزء ثان لجزء أول من مأساة مفقودة اسمها (هيرونيمو - أو جيرونيمو) والمأساة تبدأ بحوار بين شبح دون أندريا وبين وكيله إلى العالم الآخر، واسمه الانتقام وتنتهي بمذبحة عامة بين جميع أبطالها، مذبحة أشنع مما تنتهي به مأساة (هملت) لشكسبير. . . ولكن مأساة دموية أخرى تسمى سليمان وبرسيدا لا تقل شناعة وتمزيقاً للأعصاب وتفجيراً للألم عن المأساة السابقة، بل تفوقها إلى الحد الذي لا تحتمله مشاعر القراء ولا تقوى عليه عواطفهم، ولهذا فنحن نضرب صفحاً حتى عن تلخيصها. وقد كتب أديب آخر يدعى هنري شتل مأساة دموية من طراز مآسي كيد اسمها هوفمان فساهم بها مع كيد في التمهيد لظهور المأساة الرومانتيكية (الإبداعية) في إنجلترا، وهي المأساة التي عفت على آثار الدرامات الدينية بنوعيها (الإنجليزية والقديسية) كما عفت على آثار الدرامة الأخلاقية أما الذي أنشأ هذه المأساة الإبداعية إنشاء، وسما بها إلى الذروة من الأدب المسرحي الإنجليزي فهو - خرستوفر مارلو الملقب بأبي المأساة الإنجليزية وصاحب الفضل الأكبر في (تكييف الذوق الإنجليزي العام) وتوجيهه على الوجهة الرومانتيكية الرفيعة التي أزهرت أيما إزهار فيما بعد. ويعود فضله إلى تلك العملية الاختزالية الواسعة التي قام بها في الدرامة المسرحية بوجه عام، فلقد وجد تراثاً مختلطاً من المسرحيات الكلاسيكية المشوهة التي ترتكز على الناحية الاستعراضية وتحفل بها قبل أن ترتكز على الموضوع المتماسك المتسق، والتي تعتمد على زيف المناظر وبهارجها وما يقحم خلالها من مواقف التهريج(534/18)
المضحك إقحاماً، قبل أن تعتمد على جمال الأداء وتسلسله. فلما أخذ مارلو ينظم أولى دراماته رأى أن يهمل كل هذا الزبد ليذهب جفاء، وأن يقدم للمسرح سبيكة خالصة من كل تلك الشوائب التي وقع فيها أسلافه وأكثر معاصريه، فعمد إلى الشعر المرسل الذي لا يرتبط بقافية فعظم به مآسيه، وأتى فيه بالغرر والدرر، فلم يصدم الذوق العام بكلام لا هو شعر ولا هو نثر، ولم ينفر منه ذلك الذوق العام، بل أقبل عليه وانجذب إليه، وقدره قدره الذي هو له أهل؛ ولم تنفر منه اللغة ولا موسيقى النظم ولا أوزان الشعر، ولم يفر منه الجمهور ولا ثار به الممثلون، بل كانوا جميعاً أصدقاءه المؤتلفين معه، المعجبين به
لقد ترك مارلو للأدب الإنجليزي سبع تمثيليات شهد منها المسرح خمساً بين عامي 1586، 1593، أي في أقل من سبع سنوات. أما أولى دراماته فهي تامبورلين الأكبر (تيمورلنك) وقد صور فيها الفاتح الشرقي صورة شاعرية شائقة إذ جعله بطلاً مثالياً ينشد الجمال المحض، وهو ينشد هذا الجمال خلال مناظر الدم والرعب والتقتيل والفزع، وهو مع ذاك يذوب أسى ويلتهب وجداً حينما يصف مرض زوجته الملكة وشحوبها، ثم احتضارها، وهو يبلغ آية الآيات في السمو حينما ينعى هذه الزوجة (التي تعدل الدنيا بأسرها) إلى صديقه ملك فاس
لقد نظم مارلو درامته بالشعر المرسل، أي غير المقفى، فكانت أول تمثيلية ملكت زمام هذا الشعر للمسرح الإنجليزي. . . والمدهش أن مارلو فاجأ قومه بلون طريف من ألوان الشعر هو عندهم مدهش اليوم أرقى هذه الألوان وأفتنها وأحبها إلى نفوس الإنجليز. . . وقد أطلق النقاد على شعر مارلو - في عصره بالطبع - لقب البيت العظيم أو ما نسميه نحن تجوزا القريض الفريد. ومع أن مارلو لم يكن يتجاوز الرابعة والعشرين إذ ذاك، فقد نجحت درامته نجاحاً عظماً، بموضوعها وبشعرها المفاجئ المجود، وباستغنائه عن تلك الزوائد المسرحية التي لا تربطها بصلب الرواية صلة
وقد تجلت عبقرية مارلو بكل جبروتها في مأساته الخالدة (الدكتور فاوست)، أو كما سماها هو (تاريخ الدكتور فاوست المحزن) ولا شك في أنه ابتدع هذه المأساة بعد قراءته لترجمة مأساة حياة الدكتور جون فاوست عن الألمانية كما ابتدع مأساة تيمورلنك من ترجمة حياته عن الأسبانية بقلم الكاتب الأسباني بدرو مكسيا. وقد قرأ نابغة الألمان العظيم جوته مأساة(534/19)
مارلو وأعجب بها غاية الإعجاب، وربما كانت هي التي أوحت إليه موضوع آيته العظيمة (فاوست)، بل إننا لنرجح أنه لم يكتبها إلا ليعارض بها مارلو، ففي الأسطورة الألمانية ترى مجرد اللذة، أو دافع السرور هو الذي يجعل فاوست بعد الشيطان بأن يلقي إليه زمامه إذا هو - أي الشيطان - استطاع أن يبعد الأحزان عن قلب فاوست، وأن يبلغه مشتهاه من لذائذ الحياة جميعاً. أما مارلو فقد جعل عقدة الرهان بين فاوست وبين الشيطان في أن يمنحه الشيطان السلطان المطلق والقدرة على كل شيء. . . فإذا أمكنه من هذا فله روحه وله نفسه، وله منه ما يشاء. أما جوته فقد أراد أن يجعل العقدة في هذا الرهان شيئاً آخر غير الذي رما إليه مارلو، وغير الذي رمت إليه الأسطورة الألمانية. لقد جعل عقدة هذا الرهان في أن يمنح الشيطان غريمه العلم المطلق بكل شيء، وفي سبيل هذا العلم أوقعه الشيطان في جميع الكبائر، فشرب الخمر وزنى وسرق ثم قتل. . . ومع ذاك فلم يؤته الشيطان من العلم شيئاً. . . يؤثر أن جوته صاح قائلاً عند فراغه من قراءة فاوست لمارلو: (ألا ما أعظم الفكرة!) وقد شهد سونبرن بما لتلك المأساة من التفرد بين جميع المآسي في جميع العصور؛ مع أن قارئ مارلو في فاوست يشعر في الصفحات الأولى للمأساة بخيبة شديدة، لأنه يجد تفاهة وسطحية تشبهان تفاهة الأطفال وسطحيتهم، ولا يكاد يفهم معنى لكل تلك الكهانات وألوان العرافة السخيفة التي يحشدها مارلو على نطاق واسع في مأساته. . . وسرعان ما يفطن القارئ إلى السبب فيكبر مارلو ويعلم أنه إنما قصد إلى حشد ذلك السخف كله ولم يأت به عبثاً. . . لقد أراد به تصوير سخفنا نحن. . . سخف الإنسانية. . . وإلا فلماذا يرتفع مارلو ارتفاعاً شاهقاً في آخر المأساة، وذلك عندما يصور هلاك فاوست، عندما تقبل عليه الشياطين من كل حدب فتحدق به وتطلب إليه وفاء الرهان
وقد خلت فاوست من العنصر النسائي
ومأساته الثالثة هي (يهودي مالطة) التي عرضها شكسبير بتاجر البندقية ولولا أن مارلو بالغ في تصوير بطله باراباس حتى جعله شخصاً خرافياً لبذ شكسبير في بطله شيلوك الذي لا يجافي الحقيقة في نفسيات المرابين. ومع ذلك فقد فضل سونبرن شخصية باراباس على شيلوك بالرغم من وجود هذا الفارق
أما مأساته الرابعة (إدورد الثاني) فتعتبر أكمل أعماله المسرحية، وإن افتقرت إلى العنصر(534/20)
الفكاهي الذي لابد منه لتخفيف فعل المأساة في نفوس النظارة
وتعتبر مأساته الخامسة (مجزرة باريس) أضعف مآسيه، وهي تصور النضال الهائل بين دوق دي جيز، وبين حزب الهوجونوت
وقد فتح مارلو جنة الشعر المرسل لشكسبير الذي أنبت فيها المعجزات، وقد وجدت في مخلفاته نسخة بخط مارلو لقصيدته الخالدة (هيرو ولياندر) ويؤثر أن شكسبير لم يكن يفضل عليها شيئاً من الشعر جميعاً. وقد نعرض لذلك في مقالاتنا عن الشعر المرسل والشعر الحر قريباً إن شاء الله.
دريني خشبة(534/21)
مكتبات عربية
في الشرق والغرب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
المكتبة العربية قديمة في تاريخ الأمة العربية، ومتى وجد الكتاب وجدت المكتبة. فالمكتبة مجموعة من الكتب يضم بعضها إلى بعض، ويتكون من مجموعها ما يسمى (بيت الحكمة) في العصر العباسي، و (خزانة الكتب) في العصر الفاطمي، و (دار الكتب) أو (المكتبة) في العصر الحديث.
وفي العصر الأموي نجد ذكراً لخزائن الكتب التي أخرج منها الخليفة عمر بن عبد العزيز كناش هرون. ولعل تلك الخزائن هي النواة الأولى للمكتبة العربية الإسلامية
اشتهرت بغداد في عصر نهضتها العلمية بدار كتب عظيمة يعرفها المؤرخون باسم (بيت الحكمة) ويسميها وزير المعارف علي باشا مبارك في كتابه (علم الدين) (دار الحكمة)، ويروي في هذا الكتاب الشائق كيفية استجلاب الكتب من خزائن الروم بعد امتناع ملك من إنفاذ ما اختاره المأمون من نفائسها. فأنفذ المأمون جماعة منهم: الحجاج بن مطر، والبطريق، ويوحنا بن ماسويه
وكانت تلك الدار أشبه بمباءة للعلم يجلس فيها المؤلفون والمترجمون والنساخون والمطالعون. وكان للفرس مشاركة طيبة في نهضة دار الحكمة المأمونية، كما كان خدمتها والمترددون عليها من الفرس وأكثرهم من الشعوبية الذين يكرهون العرب، مثل علان الشعوبي النسابة الذي ألف كتاباً في مثالب العرب وعسى أستاذنا الجليل إسعاف النشاشيبي يدلنا على نسخة من هذا الكتاب يغنينا عن مثالبه هو للعرب في مقالاته عن حكاية الوفود الكسروية التي يستكثرها على آبائه الأكرمين. . .!
ومن دور الكتب الشهيرة في الشرق مكتبة الأمير نوح ابن منصور الساماني صاحب خراسان وأمير بخارى. وكان الوزير أبو علي الشهير بابن سينا قد برع في علم الطب، فذكر عند الأمير نوح، وكان قد مرض فأحضره وعالجه حتى برئ واتصل به ودخل إلى دار كتبه، وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها ما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه. فظل ابن سينا فيها يكتب من علم الأوائل(534/22)
اقتدى أهل الأندلس بالمشارقة في إنشاء دور الكتب. فأنشأ الحكم بن الناصر مكتبة حافلة جمع لها الكتب من نواحي العالم، وبذل في سبيل شرائها مالاً كثيراً. وكان يغري المؤلفين بالذهب ليشتري منهم مؤلفاتهم ويضمها إلى خزانته، فقد ذكروا أنه بذل لصاحب الأغاني ألف دينار من الذهب ليرسل إليه كتابه قبل أن يبعثه إلى الخليفة العباسي بالمشرق، كما ذكر المقري صاحب نفح الطيب كثيراً من أخبار الحكم في هذا السبيل، وفعل ابن خلدون مثله في الجزء الرابع من تاريخه
ولم تقل مصر والشام عن بقية بلاد المشرق وسائر بلاد المغرب في جمع الكتب وتنظيم المكتبات. فالعزيز الفاطمي ينشئ (خزانة الكتب)، ويجمع لها الكتب بمعونة وزيره يعقوب ابن كلس، ويجمع من الكتاب الواحد نسخاً عدة قد تبلغ المائة. وللمقريزي في الجزء الأول من خططه كلام كثير في هذه الخزانة
ولقد نكبت المكتبات العربية بالتتار والصليبيين في الشرق وبالفرنجة في المغرب. ويروي ابن الفوطي المؤرخ المعاصر لغارة التتار على بغداد كيف أحرقت الكتب وأغرقت وبيعت بأوهى قيمة
ويروي ابن الأثير كيف أحرقت المكتبة التي أنشأها سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة عندما دخل السلجوقيون بغداد سنة 447هـ
كما يذكر جيبون المؤرخ كيف أحرق الفرنجة مكتبة طرابلس الشام عندما فتحوها سنة 502 هـ. ويذكر مؤرخو المسلمين أن البطريق إيكزامينيس أمر بإلقاء الكتب العربية في النار عندما دخل الفرنج غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي. . .
وفي العصور المتأخرة نرى الأمم الغربية تتنافس في جمع الكتب العربية وترتيبها بحسب موضوعاتها، وتعين لتنظيمها المختصين من المستشرقين الذي درسوا فن تنظيم المكتبات على قواعد صحيحة. ومن الإنصاف للتاريخ والحق أن نقول إن فكرة العناية بإنشاء المكتبات العربية على وجه الخصوص والشرقية على وجه العموم ترجع إلى مدينة (روما)، فقد انتشرت بين أغنياء تلك المدينة التاريخية بدعة جمع الكتب الشرقية في العصور الوسطى. فصبح أثرياء الإيطاليين ينافس بعضهم بعضاً في الجمع، ويكاثر بعضهم بعضاً في الاقتناء لا رغبة منهم في العلم ولا حباً في المطالعة، ولكن ميلاً إلى التكاثر(534/23)
والمباهاة كما يصنع المترفون من عشاق التحف وجامعي الألطاف ولو لم يعرفوا قيمتها أو يدركوا حقيقتها
أخذت فكرة جمع الكتب العربية تنمو في بلاد أوربا المختلفة، ومع مرور الزمن واتصال الشرق بالغرب، وحب الفريقين في الوقوف على تاريخ الشرق القديم وتتبع تطوره، وشغف هؤلاء بارتياد المجاهل الشرقية لأغراض سياسية أو لمآرب دينية - مع ذلك وغيره من العوامل تغيرت فكرة جمع الكتب الشرقية من مجرد المباهاة والتكاثر والتفاخر وتزيين القصور إلى فكرة الاطلاع والدرس والبحث والتنقيب والتنقير بما يتفق مع مصلحة الغربيين لا الشرقيين
فأنشئت دور كتب عربية عامة وألحقت بالمكاتب الأهلية العامة في العواصم الأوربية الكبرى كلندن وباريس وبرلين وفينا وروما ومدريد. وأخذت الولايات المتحدة في أمريكا - في مطلع هذا القرن - تهتم بالدراسات الشرقية وتنشئ بجانبها أقساماً للغات الشرقية في جامعاتها الكبرى. مثل جامعة شيكاغو التي تصدر مجلة:
ومثل جامعة كولومبيا التي تعنى بالدراسات العربية وتترجم أمهات التاريخ الإسلامي إلى الإنجليزية كما فعلت في كتاب فتوح البلدان للبلاذري الذي ترجمه الدكتور فيليب حتى السوري الأصل، والأستاذ الآن بجامعات الولايات المتحدة
ولقد زار بعض النابهين من أبناء البلاد العربية هذه المكتبات العربية في أوربا وتحدثوا عنها في كتبهم؛ كما فعل الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه (تخليص الأبريز إلى تلخيص باريز) وكما فعل أحمد فارس الشدياق في كتابيه (الواسطة في أحوال مالطة) و (كشف المخبا عن فتون أوربا)، وهما من مطبوعات الجوائب بالآستانة، وكما فعل أمين فكري بك في كتابه الممتع المفيد (إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا) المطبوع بالمقتطف سنة 1892
ولقد حدث الشيخ محمد محمود الشنقيطي: أنه لما أرسل من الآستانة إلى أوربا لمشاهدة دور الكتب (وجد فيها كثيراً من الكتب العربية القديمة العهد العظيمة النفع المعدومة الوجود في بلاد الشرق على العموم)
ولعلي باشا مبارك في كتابه علم الدين وصف شامل لمكتبة عربية خاصة في باريس ذكر(534/24)
أسماء بعض ما فيها من نوادر الكتب في التفسير والحديث والتوحيد والفتاوي واللغة ووصف عناية صاحبها بترتيبها وتنسيقها وحسن استعماله لما فيها. إلا أن أمين فكري بك كان في كتابه السابق الذكر أكثر الرحالين من العرب عناية بالمكتبات العربية العامة في أوربا فهو يصف كل واحدة منها وصفاً دقيقاً، فيصف مداخلها ومخارجها ورفوفها وأنضادها، وعمالها والقائمين عليها، ونظام الاطلاع فيها، وينقد ما يراه موضوعاً للنقد كما يذكر مواضع الإحسان فيثني. ومن عجب أن المكتبة الأهلية في باريس على عهده - 1891م - لم تكن على الحال التي عليها اليوم. فهو يقول عن قسمها الشرقي (توجهنا إلى مأمور القسم وطلبنا منه فهرست الكتب العربية فلم نجد لها من سوء الحظ فهرستاً؛ بل أحضر لنا دفاتر متعددة كل واحد منها يحتوي قسم منه على شيء من الكتب العربية غير مرتبة ولا مبوبة فلم يتيسر وجود ما أردناه وحملنا ذلك على قلة طلب الكتب العربية فيها أو على أن طالبيها غيرنا أعرف منا بمظناتها)
ويصف المكتبة العربية بالمتحف البريطاني بلندن فينتقد فهارسها غير المنظمة؛ كما يصف مكتبة ليدن بهولاندة ويذكر في كل واحدة من هذه المكتبات بعض ما فيها من نفائس الكتب والمخطوطات.
محمد عبد الغني حسن(534/25)
2 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
رأينا مما تقدم أن الأديان السابقة على الإسلام إما استفادت من الفنون الجميلة في إيضاح عقائدها وتقريب مبادئها للأذهان، وإما أنكرت هذه الفنون وقضت عليها، أما الإسلام فموقفه منها يختلف جد الاختلاف عن هذين الموقفين: فهو لم يستخدم الفنون الجميلة في دعوته كما استخدمتها الوثنية والمسيحية، ولم ينكر هذه الفنون كما أنكرتها اليهودية، ولكنه تضمن توجيهات مختلفة كان لها أبعد الأثر في تكوين الفن الإسلامي بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، وبعضها كانت بمثابة عوامل مساعدة على رقي الفنون الإسلامية الجميلة ونضوجها. وسنبين فيما يلي هذه التوجيهات المتباينة لنرى كيف استطاع الإسلام بنواهيه وأوامره أن يخلق فناً جميلاً له روعته وبهاؤه
ويتجلى لنا أثر التوجيهات الإيجابية في فنون الخط والزخرفة والعمارة. أما فن الخط فقد حظي من عناية المسلمين جميعاً بنصيب وفير، وكان للخطاطين عندهم مركز ممتاز لا نبالغ إذا قلنا أنه قد تسامى إلى مركز الملوك والأمراء إذ نزل هؤلاء إلى ميدان الخطاطين ينافسونهم في صنعتهم لا سعياً وراء الكسب المادي، ولكن رغبة في الحصول على الفخر الأدبي؛ فكانوا يكتبون بأيديهم نسخاً من القرآن الكريم يقدمونها للبقاع المقدسة. والذي أعطى للخط العربي هذه المكانة الممتازة هو اتصاله القوي بالقرآن كلام الله الذي نزل باللغة العربية على محمد صلوات الله عليه (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً) فالخط هو وحده أداة كتابة هذا الوحي فضلاً عن أن الحق جل وعلا قد أضاف تعليمه إلى نفسه (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، كما أنه سبحانه أقسم به (ن والقلم وما يسطرون). ومن هنا كان إقبال من اعتنقوا الإسلام على تعلم الخط العربي، ومن هنا وجدت صلة من أوثق الصلات ربطت العالم الإسلامي بعضه ببعض، إذ توحد شكل الكتابة، فصارت الهندية والإيرانية مثلاً تكتبان بالحروف العربية
هذا ولقد ظهر بظهور التصوف في الإسلام علم ينسب إلى الحروف العربية أسراراً خفية تمكن الإنسان من التأثير في المخلوقات بواسطة (الأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار في الأكوان)، كما يقول ابن خلدون في مقدمته. ولا يعنينا(534/26)
من أمر هذا العلم إلا شيء واحد، هو أن هذه العقيدة قد دفعت بالمسلمين إلى تزيين ما أخرجته أيديهم من المصنوعات أو شيدوه من العمائر بالآيات القرآنية والعبارات الدينية، والصيغ المختلفة للمدح أو الدعاء، طلباً لما وراءها من الخير والبركة. ولقد كان لهذا أثر بعيد في فن الخط، إذ أصبح مضروباً مشتركا في جميع فروع الفن الإسلامي، وتحكمت المادة التي يكتب عليها في شكل الحروف، فظهرت لها صور مختلفة على الآثار المختلفة، وأصبحت على الحجر غيرها على الخشب، وعلى النسيج غيرها على الخزف. وفي الحق لقد كانت إجادة الفنان المسلم لفن الخط بوحي من الإسلام، ولم تتجل عبقريته الفنية في ناحية من نواحي الفن الجميل بقدر ما تجلت في هذه الناحية: خلق من تلك الحروف ذات الأشكال المتباينة والأوضاع المختلفة طرازاً زخرفياً تبدو فيه صور من الجمال شتى، بعضها يفيض بالقوة، وبعضها يفيض بالرقة والأناقة، أوحت إليه الحروف العربية برؤوسها وسيقانها وأقواسها ومداتها بعناصر زخرفية ما كاد يرسمها حتى بعثت فيه تلك اللذة البريئة التي يحس بها الفنان عندما يشاهد أثراً جميلاً، فاندفع في هذا التيار يبتكر الزخارف والنقوش، غير آبه بما تفرضه عليه أصول الخط من المستلزمات، ولا بما يسببه للقارئ - في بعض الأحيان - من الإعنات، بل كان همه أن يرضي الفن فحسب، فتارة يجعل الحروف متجمعة كأنها شجرة كثيفة الأغصان وطوراً يرسمها متباعدة، كأنما هي بستان انتثرت فيه الأزهار، وتارة يريك من التنوع الجميل بين الحروف القائمة والحروف المستديرة ما ينتزع منك الإعجاب انتزاعاً، ويرغمك على أن تقر له بالتفوق والنبوغ. ولشد ما كان يضحي على مذبح الفن بالكثير من قواعد الخط، ويتركنا نقاسي من الجهد شيئاً عظيما حتى نهتدي إلى ما يريد، وقد لا نهتدي.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية(534/27)
كوبيرنيكوس
بمناسبة مرور أربعمائة سنة على وفاته
للأستاذ جودة شهوان
في الرابع والعشرين من مايو سنة 1543 سقطت إحدى الدعائم التي بنيت عليها النهضة الأوربية الحديثة بوفاة كوبيرنيكوس، ذلك العالم الذي جاهر بحقيقة كانت قد اختفت وراء حجب الدهر من زمن بعيد، تلك الحقيقة الهامة التي كان لها فضل جم على تقدم علوم العصر الحديث وأبحاثه، والتي نقلت العلم من حال إلى حال، وكانت مناراً وعماداً لأبحاث جمهرة من علماء العصر الحديث الذين جاءوا بعد كوبير نيكوس، والذين أشهرهم (كبلر) و (جاليلو) و (نيوتن) كما عملت تلك النظرية في إطلاق عقول الناس وأخيلتهم - التي كانت قد قيدتها خرافات العصر الوسيط - من قيودها لتستقبل عصر النهضة الذي أعقب وفاته. وقد عد (المستر دورانت) الكاتب الأمريكي والفيلسوف المشهور، هذا العالم (كوبير نيكوس) في مقال له بمجلة (أمريكان) أحد قادة البشرية العشرة في تاريخ العالم وهم: كنفوشيوس - أفلاطون - أرسطوطاليس - ثوماس أكونياس - كوبير نيكوس - فرانسيس بيكون - نيوتن - فلتير - كانت - داروين
كانت النظرية السائدة قبل ظهور كوبير نيكوس أن الأرض هي مركز الكون، وأن الشمس وبقية الكواكب تدور حولها. فلما جاء هذا العالم وجد بعد أبحاثه الطويلة أن اعتقادهم ذاك كان خطأ، وأن الشمس هي مركز الكون تدور حولها الأرض وبقية الكواكب. وقد سميت هذه النظرية (بنظرية كوبير نيوس أو النظرية الكوييرنيكية) نسبة إليه؛ ذلك لأنها على يديه ولسببه نالت شهرتها وسيادتها المعلومتين
وقد فسر كوبير نيكوس أيضاً حدوث الليل والنهار بأنهما ناتجان عن حركة الأرض حول محورها، كما فسر حدوث الفصول بأنها نتيجة لدوران الأرض حول الشمس
ولنرجع الآن لسرد قصة حياته، وطرف من أعماله وآراءه التي جاءنا بها غير التي ذكرناها آنفاً؛ فنقول:
ولد هذا العالم البولندي الألماني في التاسع عشر من فبراير عام 1473 في مدينة ثورن الواقعة على الفستولا في بروسيا البولانديه، من أب سلافي من (كراكاو)، ومن أم ألمانية(534/28)
اسمها (برباره وتز لرود) من عائلة غنية وذات مركز هام في الهيئة الاجتماعية. وقد تكلم كوبيرنكيوس اللغة الألمانية (لغة أمه)، غير أنه علم في البيت شيئاً من اللاتينية واليونانية مات أبوه وهو في السادسة عشرة من عمره فبقى مع أمه وعمه حتى سنة 1491 عندما أرسل إلى الجامعة (كراكاو)، حيث بقى ثلاث سنين تعلم أثناءها الرياضيات. وقد حصل أثناء دراسته تلك على مهارة في الرسم. وفي عام 495 سافر إلى إيطاليا حيث قضى بضع سنوات درس أثناءها القانون والفلك والأقرباذين في (بولونيا) و (بادوا). غير أن ميله كان إلى الرياضيات أشد
وبعد تبحره في الفلك ذهب إلى (روما) لزيارة صديقه (رجيومنثانوس) أشهر علماء الفلك، وأذيعهم اسماً حينذاك. وقد تلقاه ذلك الصديق باحتفاء لائق، وكان ذلك عام 1500؛ وهنالك بمساعدة صديقه المذكور، ولحسن أخلاقه انتخب أستاذاً للرياضيات. وقد قضى تلك السنة في روما ألقى أثناءها محاضرات في علم الفلك مختلفة. وقد شاهد في السادس من نوفمبر هذه السنة خسوف القمر في روما
ترك الأستاذ نيكولاوس روما عام 1505 بعد أن كان قد حصل على شهادة دكتور قبل ذلك بسنتين قاصداً بلده الأصلي (بروسيا)، وسكن في هيلبرغ كفلكي نعمه (مطران ارمرلند). وهنالك أخذ يتدخل في أمور الدين، وما زال كذلك حتى حصل على شهادة في القوانين الكنيسة وأصبح راهباً. ويقال إنه كان يقسم يومه العملي إلى أقسام ثلاثة: أما الأول فكان يصرفه في إتمام فروض وظيفته؛ والثاني يصرفه في منح النصائح الطبية لفقراء الناس. والثالث يصرفه في الدراسة والبحث
بعد أن رجع إلى بروسيا - كما قلنا - وكان في الخامسة والثلاثين من العمر بدأ في استخدام معرفته الرياضية ومشاهداته المختلفة العديدة، في سبيل إصلاح ما كان قد التصق بعقول القوم من نظريات فلكية، فكانت نتيجة ما حاول ظهور كتابه الأشهر الموسوم (بأفلاك الأجرام السماوية) (نورمبرغ 1543) وقد فرغ من عمل الكتاب المذكور عام 1530 غير أنه لم ينشره بل بقى متردداً خوفاً من أن يرمى بالهرطقة، وأن تكسد سوق كتابه لما احتواه من أفكار ونظريات في الفلك حديثة وغريبة، على قوم كانوا غارقين في لجج من الأضاليل والخرافات والاعتقادات. وبقى على حالته تلك اثنتي عشرة سنة، أزمع(534/29)
عند انتهائها 1543 على طبعه ونشره. غير أن العلة كانت قد بدأت تنخر في جسمه، وتنغص عليه عيشه، فما زال يصاولها وتصاوله، ويغلبها وتغالبه، حتى ناداه ربه فلباه في الرابع والعشرين من مايو عام 1543. ولقد قدر للمؤلف أن يمس أول نسخة من كتابه المطبوع لأول مرة، قبيل مماته بسويعات.
يتألف كتابه المذكور من أجزاء ستة أهمها الأول. وأهم ما يحتويه هذا الجزء:
1 - إن الأرض كرية، كما أن الكون كري
2 - إن اليبس والماء يكونان كرة واحدة
3 - إن حركة جميع الأجرام السماوية منتظمة ودائرية
4 - إن الأرض تتحرك في مدار حول الشمس، كما أن لها حركة أخرى حول محورها
5 - إن الشمس مركز الكون، وأن القدماء مخطئون في اعتبار الأرض مركزاً له
6 - إنه لمن المحتمل أن يكون للأرض حركات عدة
7 - تنظيمه للكوكب ورسمه شكلا لنظامها يشبه الشكل الحديث
ولكوبيرنيكوس غير الكتاب المذكور كتب أخرى. فله كتاب في المثلثات، (وتنبرغ 1542)، نشره صديقه وتلميذه (راتكوس). وكتاب آخر وهو ترجمة رسائل الكاتب اللاتيني (ثيوفلكوس سيموكاثا). وقد كتب أيضاً سنة 1526 كتاباً آخر عن النقود. (نشر لأول مرة عام 1826). وله الآن كتابات خطية في مكتبة أبرشية (ارمرلند)
لقد اهتم كثير من كتاب الغرب بالكتابة عنه وأول من كتب عن حياته هو (جاسندي). ومن الكتاب الحديثين: (فون هلبر - 1873) و (بلكوفسكي). غير أن أكمل الكتب عن حياته وأعماله، وأحلها كتاب الدكتور ((براو) - جزءان - برلين 1883)
ولقد خلد ذكر هذا العالم الشهير، غير الكتابة عنه وعن أعماله، بنصب عدة تماثيل له في أماكن كثيرة من أوربا. أحدها في قصر (كسيمير) بمدينة (وارسو) صنعه (ثارولدسن) وأقيم هنالك عام 1830، وآخر صنعه (ثيك) ونصب في (ثورن) وكتب عليه:
,
,(534/30)
وقد نصب له تمثال آخر في فناء جامعة (كراكاو) عام 1900
(فلسطين)
جودة شهوان(534/31)
متى أراكم؟
- 1 -
تشوَّقكم قلبي وكيف لقاؤكم ... وما ذاك يا أحباب قلبي بالهَيْنِ
يضنّ على قلبي الزمان بقربكم ... وما البين إلاّ الموت، ويْل من البيْنِ
ألا هل أراكم؟ حسرة الشعر والهوى ... إذا متّ من شوق ولم تركمْ عيني
فيا من نأيتمْ، إن نُعيتُ إليكمُ ... فلا تعجبوا فالشوق موردني حَيْني(534/32)
سلام على قلبي
- 2 -
ولي عندكم قلب غريب مطرَّحٌ ... لدي بابكم يمسي ويصبح في الكربِ
طليحٌ، إذا استنهضته كي أقبله ... تحامل، ثم ارتدَّ من أَلم الحبّ
سلامٌ عليه إذ يموت صبابةً ... وإذ أنتمُ لاهون عن قلبيَ الصبّ
فلا تسألوني عن بكائي فإنما ... بكائيَ يا أحباب قلبي على قلبي
(فلسطين)
دنانير(534/33)
صلاة. . .
جَمَالُكِ تَرْنِيمْةُ الشَّاعِرِ ... وَدُنْياً مِنَ الأمَلِ اللنَّاضِرِ
وَفَجْرٌ مِنَ الْحُبِّ ضَاحِي الجَبِيْ ... نِ يَطُوْفُ بِمِحْرَابِهِ خَاطِرِي
وَسِرُّ مِنَ الغَيْبِ حَارَتْ لَديْ ... هِ قُلُوْبُ الوَرَى وَرُقَي السَّاحِرِ
وَعِطْرٌ مِنَ اللهِ طَافَتْ بِهِ ... رُؤَى الخُلْدِ في حُسْنِهَا الآسِرِ
وَحَقْلٌ مِنَ النُّوْرِ غَنَّتْ لَهُ ... عَذَارَاهُ لَحْنَ الهَوَى الطَّاهِرِ!
جَمَالُكِ رَمْزُ الصِّبَا وَالحَيَاةْ ... تُفَجِّرُ نَبْعَ الّليَالِي رُؤَاهْ
تَطُوْفُ القُلُوْبُ بِهِ مِثْلمَا ... يَطُوْفُ الهَوَى بِنَشِيْدِ الرعَاهْ!
وَتَعْيَا النُّفُوْسُ بِأَسْرَارِهِ ... فَهَيْهَاتَ تُدْرِكُ مَا مُنْتَهَاهْ
تُقَدِّسُ فِيْهِ جَمَالَ الوُجُوْ ... دِ وَتَعْبُدُ فِيْهِ جَلاَل إِلإلَهْ!
جَمَالُكِ لَحْنٌ حَبِيْبُ الصَّدَى ... تَغَنَّى به الْحُبُّ لَمَّا شَدَا
وَأُفْقٌ مِنَ الفَنِّ سَاميِ الرُّسُوْ ... مِ بِدَيْعُ الجمَالِ رَحِيْبُ المَدَى
يَضُمُّ إِلَيهِ مَعَاني الضَّلاَ ... لِ وَيَطْوِي إِلَيْهِ مَعَاني الهُدَي
وَقَدْ يُلْهِمُ النَّفْسَ سِرَّ الْحَيَا ... ةِ كَمَا يُلْهِمُ النَّفْسَ سِرَّ الرَّدَى
سِوَى أَنَّهُ خَالِد كالزَّمَا ... نِ يَعِيْشُ - عَلَى رَغْمِهِ - سَرْمَدَا
جَمَالُكِ حُلْمُ الصَّبَا النَّاعِمِ ... وَفَيْضٌ مِنَ الأمَلِ البَاسِمِ
وَوَحْيٌ مِنَ المَلأَ القُدُسِيِّ ... تَمَثَّل في غَفْوَةِ الْحَالِمِ!
لَمَحْنَاهُ في سَبَحَات الخَيَا ... لِ وشِمْناهُ في لَوْحَةِ الرَّاسِم
وَرَفَّتْ عَلَيْهِ بَنَاتُ القر ... يض تُغَنِّي بِقِيْثَارِهَا النّاغِم
إِلَى أَنْ أَتَيْتِ به لِلْوُجُوْ ... دِ فَكُنْتِ به فِتْنَةَ العَالَمِ!
(عاليه - لبنان)
فؤاد كامل(534/34)
البريد الأدبي
وحي القرآن باللفظ
جاء في البريد الأدبي بعدد الرسالة الغراء رقم 532 مقال للأستاذ الشيخ محمود أبو رية انطوى على شك واضح في الحقيقة وحي القرآن الكريم، وموضوع الوحي وطريقته من القضايا التي فصلت فيها الأيام منذ عهد الرسالة المحمدية الشريفة، وموضوع خلق القرآن أو قدمه من المباحث التي توفر عليها علماء المسلمين في عهد المأمون والواثق والمعتصم، وما تركوا فيها ناحية تحتاج إلى توضيح أو استيفاء؛ وقد كفى الله المسلمين عواقب هذا الخلاف حتى أصبح العلماء والمتعلمون يقرءونه على أنه دراسة للعقلية الإسلامية، لا على أنه شاكون في أن القرآن معنى ولفظاً من عند الله
على أن سلف العلماء وأئمة الفرق الإسلامية لم يختلفوا - كما قال الأستاذ - على أن القرآن لفظاً ومعنى كلام الله، وإنما الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة على قدم اللفظ وحدوثه. والكل مجمعون على أن المعنى القديم لتعلقه بصفة الكلام الأزلي، ومعنى حدوث اللفظ على رأي المعتزلة ومن إليهم أن الله خلق اللفظ كما خلق السماء والأرض وأوحاه إلى الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام
هذا هو الذي درسناه وفهمناه من آراء الفرق الإسلامية فإذا كان لدى الأستاذ نصوص تخالفه فليدل بها.
(الإسكندرية)
محمود البشبيشي
قسم القراءات بكلية اللغة العربية
إذا قدر للأزهر أن يصل يوم إلى الإصلاح المنشود، فإنه سيكون لمجلة الرسالة الغراء فضل وصوله إليه، لأنها المجلة الوحيدة التي تعنى به، ولا تضن بصفحاتها على من يكتب فيه. وسينشأ في هذه السنة قسم للقراءات بكلية اللغة العربي، وإنه لواجب أن تعنى هذه الكلية بفن القراءات، وأن تنهض به من تلك الطريقة التلقينية التي يأخذ بها الناشئون فيه، فتدرسه دراسة أخرى تليق بها، وتتناسب مع الدراسة التي تأخذ بها العلوم الأخرى(534/35)
ولا شك أن هذا لا يتفق مع ما يراد الآن من فتح هذا القسم لكل من يحفظ القرآن الكريم، ولو لم تسبق له دراسة علمية تؤهله لدرس فن القراءات بالطريقة اللائقة بكلية اللغة العربية، كما لا يصح أن يجمع مثل هؤلاء الطلاب مع طلاب هذه الكلية، لأنهم يتفاوتون في ثقافتهم تفاوتاً بعيداً وأني أرى أن تؤلف لجنة تكون مهمتها وضع مناهج الدراسة اللائقة بهذا القسم، ليدرس فيه فن القراءات دراسة جامعية، ولا يكتفي فيه بتلك الطريقة التلقينية، وأرى أيضاً أن يقصر على حملة الشهادة الثانوية بالمعاهد الدينية، لتتفق ثقافة طلابه مع ثقافة إخوانهم بالكليات، ويمكنهم أن يقوموا بهذه الدراسة التي نطلبها لهذا الفن
(ص)
ظاهرة لغوية
قد يكون من الحديث المعاد أن نقول إن اللغة ليست ظاهرة تحكمية اعتسفها القوم اعتسافاً، بل هي ظاهرة اجتماعية ترد إلى طبيعة الأشياء. ولعل خير ما يبين لنا تساوق اللفظ والمعنى، ما نص عليه قدماء أهل اللغة من (أن المشاركة في أكثر الحروف اشتقاق يدور عليه معنى المادة، فيتحد أصل معناها ويتغاير في بعض الوجوه). والأمثلة على صحة هذه الظاهرة كثيرة لا حصر لها، فنجتزئ بذكر الأمثلة التالية:
1 - ورد في التاج (تحت مادة ف ل ح): (قال شيخنا الفلح وما يشاركه كالفلق والفلد والفلذ ونحو ذلك يدل على الشق والفتح كما في الكشاف وصرح به الراغب وغيره)
2 - النبت والنبث والنبر والنبش والنبط والنبع والنبغ تدل كلها على ظهور شيء بعد خفائه. فالنبت يقال للبقل وغيره إذا نشأ وخرج من الأرض. والنبث يقال للبئر إذا نبشها المرء وأخرج ترابها. والنبر يقال للمغني إذا رفع صوته بعد خفض. والنبش يقال للمستور إذا أبرزه المرء، أو للكنز إذا كشف من الأرض واستخرج. والنبط يقال للماء إذا نبع (ومنه الاستنباط بمعنى الاستخراج). والنبع يقال للماء إذا خرج من العين، والنبغ أو النبوغ يقال للشيء إذا خرج وظهر. . .
3 - تدل الأفعال المبتدئة بالصاد والفاء على المعاني المختلفة للأصوات: فالفعل (صفد) يقال للأسير إذا أوثقته وقيدته بالحديد (ذي الصوت) والفعل (صفر) يدل على التصويت(534/36)
بالنفخ من الشفتين. والفعل (صفع) معناه الضرب باليد مع إحداث صوت. والفعل (صفق) معناه الضرب بالكفين بصوت مسموع، وهكذا. . .
4 - تدل الأفعال المبتدئة بالحرف خاء والحرف فاء على معاني الضعف والهمود. فالفعل (خفت) يدل على السكون (والموت فجأة في بعض الأحيان). والفعل (خفج) يقال للبعير إذا أصابه الخفج وهو ارتجاف في الرجلين. والفعل (خفش) معناه ضعف (ويستعمل على الخصوص لضعف البصر). والفعل (خفض) يقال للصوت إذا غض المرء وأخفاه. والفعل (خفع) يقال للمرء إذا أصابه دوار من جوع أو غيره فسقط والفعل (خفق) يقال للفؤاد أو الراية أو البرق إذا اضطرب، ويقال للنعل إذا صوتت، وهلم جرا. . .
أما النتيجة التي تقتادنا إليها هذه الظاهرة اللغوية فهي أن لكل حرف معنى خاصاً، وبكشف معاني الكلمات؛ لأن الكلمات إذا اتحدت في الحروف اتحدت في المعنى.
زكريا إبراهيم
استدراك
أورد الأستاذ خلدون الكناني في كتابه حسان بن ثابت الذي أخرجته مكتبة عرفة بدمشق - ص 48 - البيتين المشهورين في الرثاء:
كنت السواد لناظري ... فمعي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
على أنهما من شعر حسان في رثاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبع في ذلك ما جاء في ديوان حسان، فإن هذين البيتين مذكوران فيه - ص165 - ولم يتكلم عليهما شارحه الأستاذ البرقوقي. ولكن ياقوت أوردهما في معجم الأدباء - ج1 ص 77 - في ترجمة إبراهيم الصولي قال: حدث علي بن الإسكافي قال كان لإبراهيم ابن قد يفع وترعرع وكان به معجباً فاعتل علة لم تطل حتى مات فرثاه مراثي كثيرة وجزع عليه جزعاً شديداً. ومن مراثيه فيه
كنت السواد لناظري ... فبكي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر(534/37)
باستبدال كلمة فبكي بكلمة فعمى الواردة في نص الديوان وأوردهما ابن خلكان منسوبين إلى الصولي ج 1 ص 12 وأورد هذين البيتين الأستاذ محمد كرد علي في أمراء البيان ج 1 ص 265 في كلامه عن إبراهيم الصولي، ولكن لفظ البيت الأول في رواية الأستاذ كرد علي يختلف عنه في رواية المعجم.
أنت السواد لمقلة ... تبكي عليك وناظر؟
من شاء. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وذكر أنهما لإبراهيم يرثي بهما ولداً له. ولعل هذا هو الصواب فإنهما بشعر الكتاب أشبه. وفي زهر الآداب ج3 ص214 قطعة لبعض الأعراب في الرثاء آخرها
وبعدك لا آسى لعظم رزية ... قضيت فهونت المصائب أجمعا
وعلق عليه مؤلف الزهر بقوله: ومعنى هذا البيت الأخير تداوله الناس نظماً ونثراً ثم أورد رثاء أبي نواس للأمين وفيه:
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
وأورد عدة قطع من النظم والنثر تدور حول هذا المعنى وليس فيها البيتان. وبعد فإن كتاب الأستاذ الكناني من خير البحوث التي أخرجت في دراسة شاعر الرسالة وسأتكلم عنه مسهباً في وقت آخر.
(دمشق)
رشدي عرفة(534/38)
العدد 535 - بتاريخ: 04 - 10 - 1943(/)
ومن أساليبهم
للأستاذ عباس محمود العقاد
أشرنا في مطلع مقالنا السابق إلى أساليب الشيوعيين في نشر مذهبهم على الطريقة الصريحة، وهي الإشادة بمحاسنه والقدح في نقائص النظم الأخرى، أو على الطريقة الخفية - غير الصريحة - وهي الإكثار من التهم والعيوب التي يلصقونها بالنظام القائم دون أن يشركوا الشيوعية في أمثال هذه التهم والعيوب
ونرى أننا نحن المصريين والشرقيين عامة بأشد الحاجة في الآونة الحاضرة إلى التنبيه بعد التنبيه إلى هذه الأساليب الخفية لأنها أضر من صراحتهم في التبشير بمذهبهم، ولأن الحيطة منها أقل، والحذر من عواقبها ضعيف مهمل لضعف المعرفة بمراميها ودروبها التي تتسلل منها
وجملة ما يقال في هذه الأساليب أنها تتلخص في تشجيع كل عامل من عوامل الهدم والانحلال في المجتمع الذي يحاربونه، وتحقير كل عامل من عوامل التماسك، والثبات في ذلك المجتمع، سواء تكلموا عن الأدب، أو عن الفن، أو عن السياسة، أو عن الأخلاق
ولهم في كل بلد من البلاد نغمة يخصونها بها ولا يزالون يرددونها، ولا يقرنونها بذكر الشيوعية الصريح حذراً من تنبيه الخواطر وإثارة الشكوك
ففي الأقطار العربية مثلاً هم أنصار الكتابة باللغة العامية حيثما وقعت المفاضلة بينها وبين اللغة الفصحى
لأن اللغة العامية توافق حملتهم على العقائد الدينية كلها، ومنها العقيدة الإسلامية التي هي قبل كل شيء عقيدة القرآن. ولأن اللغة العامية توافق دعوتهم إلى تغليب الطبقة العاملة التي يزعمون أنهم يهتمون بتعليمها، وهم يسجلون عليها الجهل والاكتفاء بلغة الجهلاء، ولأن اللغة العامية تقطع ما بين الحاضر والماضي، وهم يقرنون بين الماضي والنظم الاقتصادية التي يحاربونها
وإذا سألتهم في ذلك قالوا كما يقول أنصار العامية دائماً إن سواد الناس لا يفهمون الفصحى، وإن اللغة الحية هي اللغة التي يتكلم بها الناس كل يوم
وكل هذا خطأ ظاهر كما فصلنا القول فيه بما كتبناه عن الفصحى والعامية؛ لأن سواد(535/1)
الناس يجهلون المعاني العالية ولو كتبت باللغة التي يتكلمونها، كما يجهلون الرياضة والفلسفة ومباحث العلوم المختلفة. فالعقدة هنا هي عقدة المعاني وليست بعقدة الألفاظ. ومن السخف قولهم إن اللغة الحية هي لغة السوق والطريق، لأن اللغة الحية هي اللغة الخالدة التي تعيش مئات السنين، ولا تموت كل بضع سنوات كما تموت لغات الطرق والأسواق. ولا غنى للإنسانية عن هذه اللغة الخالدة ما دامت لها آداب مكتوب لها الخلود من جيل إلى جيل. وأسخف من دعواهم هذه قولهم إن الناس ينبغي أن يكتبوا كما يتكلمون كأنهم يريدون أن يلغوا الترجمة مثلاً، وهي تنقل إلينا كلام الروسيين والبولونيين، ونحن لا نتكلم لغة هؤلاء ولا هؤلاء، سواء بألفاظ الأسواق أو ألفاظ الجامعات
ذلك أسلوب من أساليبهم الخفية في الأدب، وهم هنا يشاركون المبشرين، ويشاركون المستعمرين، ويشاركون كل من يكره معالم القومية في بلاد الشرق، وهم كثيرون
أما الفن فهم لا يدينون بآراء الغلاة من المصورين والموسيقيين كأنها آراء الشيوعية والشيوعيين، ولكنهم يشجعون هذه الآراء في البلاد الديمقراطية، لأنها خروج على القواعد والأصول واندفاع مع الفوضى والاختلال، أو مع الهدم والانحلال، وهم أنصار كل عامل من عوامل الهدم بين الشعوب الديمقراطية
فلا يلزم - شيوعياً - أن يكون المصور من القائلين بالسريالزم و (الفيوشرزم) والكيوبزم وغيرها من المدارس التي تبطل قواعد التصوير كما عرفها أساتذة الفن في جميع العصور، ولكن هذه المدارس تعفي المصور من قواعد الرسم والتلوين والتشبيه، وأصول الإضاءة والتظليل، وترسله في عالم من الفوضى لا توجد فيها قاعدة يتفق عليها رأيان
وهذه الإباحة هي المقصودة لأنها تفضي إلى هدم القواعد والقوانين، وتزلزل أركان الفكر والذوق والاعتقاد في المجتمع الذي يقصدونه بالخلط والتخريب
ومن مضحكاتهم ومضحكات نظرائهم في هذا الباب أنهم يسمون إحدى مدارس الإباحة هذه بمدرسة (المستقلين)، وهي في حقيقتها رجوع إلى الهمجية التي تركناها منذ آلاف السنين. فإن صورهم وتماثيلهم لتشبه كل الشبه تلك الصور والتماثيل التي كشفت حديثاً في حفائر الكهوف من بلاد نيجيريا وبورنيو وجنوبي الهند، وسائر الأقطار التي كان يعمرها الإنسان الأول، ولا يزال فيها إلى اليوم من الهمج المتخلفين(535/2)
والعجيب في أذواقهم أنهم إذا قصدوا محاكاة تلك الفنون الهمجية تحروا مشابهتها في الرديء النافر الممسوخ، ولم يتحروا قط مشابهتها في مواضع الحسن والإتقان؛ لأنهم منحرفون في تكوينهم انحرافا يظهر في الخلقة إن لم يظهر في الأخلاق والطباع
وعلى هذه الشاكلة مذهبهم في الموسيقى والشعر والتمثيل، ولكنهم يعتدلون بعض الاعتدال في التمثيل لأنهم يريدونه لنشر الدعوة، ويخشون أن يفتحوا أبواب المسارح على مقاعد خاوية إذا هم عمدوا إلى تلك (التقاليع) والتهويشات
ومن أساليبهم التي نص عليها كارل ماركس في منشوراته أن (يشوهوا سمعة كل رجل مسموع الكلمة بين الديمقراطيين)
ولا حرج عندهم أن يختلقوا الأكاذيب، وأن يعرضوا لشؤونه الخاصة، وأن يذموا أعماله أقبح الذم، ولو لم يكن عندهم دليل واحد على ما يذمونه منها
وإذا تكلموا عن الأدباء والشعراء الذين لا يؤمنون بالشيوعية عابوا عليهم أنهم حالمون وأنهم خياليون لأنهم لا يكتبون عن المسائل الاقتصادية ولا يقفون أقلامهم على أسعار الطعام واللباس وشئون الأموال والعمال
والأدباء الديمقراطيون لا يحرمون هذه الموضوعات، ولا يزال منهم من يعرض لها من الناحية الفنية التي هو أقدر على تصويرها، وإنما يعلم الأدباء الديمقراطيون أن في الدنيا علماً اسمه علم الاقتصاد، وعلماء اسمهم العلماء الاقتصاديون، وإن هؤلاء أولى بدرس المسائل التي يفهمونها ويفرغون لها ويستطيعون الحكم فيها، لأن الأدب لم يخلق لإلغاء علم الاقتصاد
ومن مضحكاتهم ومضحكات نظرائهم في هذا الباب أنهم يهدمون مذهبهم من أساسه بهذا الهراء الذي يلفظون به وهم لا يشعرون
لأنهم يستكثرون على العامل الفقير أن يقضي في اليوم ثماني ساعات في طلب الرغيف والكساء، وهم يفرضون على العمال وغير العمال ألا يكون لهم شاغل في ساعات العمل أو ساعات الفراغ إلا طلب الرغيف والكساء، فلا يبحث الفيلسوف إلا ليؤدي بحثه إلى الرغيف والكساء، ولا يحلم الشاعر إلا ليفسر حلمه بالرغيف والكساء، ولا يخترع المخترع إلا لينتفع باختراعه في الرغيف والكساء، ولا يخرج العامل من عمله اليومي ليقرأ أو(535/3)
يستمتع بالفن إلا أن تكون هذه القراءة وهذا الاستمتاع حول الرغيف والكساء
ودون هذا وتحلق لحية كارل ماركس وكل لحية يطلقها أمثاله من أعداء الفنون وأعداء الحرية الإنسانية كأرفع ما تصبو إليه القرائح والأرواح
أما هدم المجتمع من ناحية الأخلاق فخلاصة أسلوبهم فيه أنهم لا يعرفون شيئاً يسمى جريمة خلقية
وقد عرضنا في كتابنا (عبقرية محمد) لمسألة الزواج والطلاق فقلنا بعد إثبات رأي نابليون: (. . . كذلك اعترف نابليون بالضرورات الزوجية في العصر الحديث. فكيف اعترف بها (لنين) في الثورة الكبرى بعد الثورة الفرنسية؟ حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج؛ فلا رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق. وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة ملائكة إلا الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات)
قلنا هذا فغضب بعض الأدعياء (أولاً) لأننا كتبنا عن محمد كتابة تعظيم وثناء، وغضبوا (ثانياً) لأننا ذكرنا (لنين) بغير ما ينبغي له عندهم من التعظيم والثناء
وقالوا فيما اتصل بنا أن الطلاق مكروه في روسيا الحديثة، وأن الزوجين المطلقين يعيشان بين الشيوعيين معيشة هوان واحتقار
والذي قال هذا لا يعقل ما قال
وإلا فلماذا يلوم الشيوعيون إذن تلك الآداب التي كرهت الطلاق أو قيدته ببعض القيود أو جعلته محلاً للمراجعة؟
وما هي إذن تلك الجرائم الخلقية التي يعترف بها قانون الشيوعيين ويفرض لها عقاباً يناسبها في الضرر والوخامة؟
إن الحكاية كلها تطاول لا أدب فيه، وكلام يقوله القائل وهو لا يعقل معنى ما يقول
ومما أراه أنا أن تنبيه الأذهان إلى مساوئ الدعوة الشيوعية أوجب واجب على الكاتب المصري في الآونة الحاضرة، لأنها تمس الكرامة الإنسانية كما تمسها الفاشية والنازية، ولأن الشيوعية ليست مسألة أغنياء وفقراء، وإلا لكنت أحق الناس بالدعوة إلى الشيوعية أو بالسكوت عنها لبعدي عن الغنى اليوم وبعد اليوم، ولكنها مسألة الإنسان وكرامة الإنسان، وهل هو من المخلوقات التي تخاطب بلسان الروح أو من المخلوقات التي تخاطب بلسان(535/4)
المعدة. وكفى دليلاً على فاقة الشيوعية في دواعي الكرامة أنها على احتقارها للوطنية لجأت إليها في الحرب الحاضرة لاستنهاض الهمم وشحذ العزائم، فسمتها (الحرب الوطنية) في المنشورات الرسمية. وما كان أغناها عن هذا التمسح بالوطنية لو كان في المذهب الكفاية لصد الأعداء عن البلاد.
عباس محمود العقاد(535/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
سبحان المنعم الوهاب - كن مع الله تر الله معك - سخافات الأغاني الشعبية
سبحان المنعم الوهاب
قلت لصديقي الأستاذ عبد الحفيظ خليفة: إن فاكهة المنجة توحي إلى آكلها بأن يقول الحمد الله، لأن حلاوتها حلاوة عبقرية، فهي دون العسل في الحلاوة، ولكن لها مذاقاً يفوق الشهد بمراحل طوال، ولذلك توحي إلى معاني من الشكران لا يوحيها أطيب طعام ولا أعذب شراب
فقال صديقي: عرضت فاكهة المنجة على أحد الناس فرفض أكلها بحجة أنه لا يستطيع شكر الله على طعمها اللذيذ. وكان أحد الصوفية حاضراً فصرخ: وهل تستطيع شكر الله على هذا الكوب من الماء؟
وعند هذه الكلمة سألت نفسي: كيف جاز أن يرخص الماء فلا تكون له تسعيرة في أعوام الحرب؟
ثم أجبت: كان ذلك لأن الماء هو أساس الحياة، فلا يعيش بدونه مخلوق، ومن أجل هذا منحه الله بسخاء، وهو الزاد الوحيد الذي يستوي الناس في الاحتياج إليه، كما يستوون في الاحتياج إلى النور والهواء
وأنا من قبل هذا الخاطر بأعوام فكرت في صعوبة انتفاع الأراضي الفرنسية بمياه الأنهار، لأنها كثيرة التفاوت في الارتفاع والانخفاض، ولا يمكن أن تعتمد على مياه الأنهار في صيف أو شتاء. وكان الجواب أن الله أمد تلك الأراضي بالأمطار الثجاجة بالنهار وبالليل، فهي في غنى عن الأنهار، ولو كانت في حلاوة نهر السين
وأنا أيضاً فكرت من قبل في استواء الأراضي المصرية، وهو استواء حرمها جمال التفاوت في الحزون والسهول، وكان الجواب أن الله جعلها كذلك ليقدر النيل على ريها بلا عناء
أمر الله في خلائقه أعجب من العجب، فله تدابير تعجز عن وعيها كبار العقول، وهو قد يجعل السعادة في الكوخ الحقير أضعاف ما يجعلها في القصر الكبير، ليقول بالتلميح لا(535/6)