لا المتاعب الشخصية تشغلني، ولا الحوادث الدولية تشغلني، ولا شيء في الدنيا يصرفني عن التفكير فيما صرتِ إليه بعد الأفتراق، يا أجمل ريحانة في روض الوجود
ألوان أثوابك لا تفوق ألوان قلبي، إلا أن يقال إن المصنوع أجمل من المطبوع
ألوان ثوبك لها أمثال، وليس لقلبي أمثال، وأنت تعرفين ثم تعرفين
اذهبي إلى أبعد الآفاق، واعرفي جميع الخلائق، فلن تكوني لغيري أبداً، لن يكون للغواية سبيل إلى المليحة التي وسمت جبينها بغرامي
لن أجود عليك يوماً بنعمة الحرية، وستطلين في إساري إلى آخر الزمان
جرّبي التحرر، جربيه، إن كانت لك بالتحرر من وثاقي يدان دنياك بعدي بئرٌ مسمومة، فانظري ما تصنعين
لن ينقضي ما بيننا أبداً، ولن يكون لنا غير ما حُظَّ في صحيفة الخلود، وهيهات ثم هيهات أن يمحى سطرٌ خطَّته الأقدار في صحيفة الخلود!
ما في كل يوم، ولا كل عام ولا كل جيل، ينعطف قلب إلى قلب كما ينعطف قلبك إلى قلبي، فنحن الغاية المنشودة من الوفاق الصحيح بين الأرواح والقلوب
دنيانا التي أعرف وتعرفين أصبحت قفراء، فمتى نلتقي لتعود زهراء؟
خبريني متى نلتقي؟ ومتى نعلن الانتصار على عوادمي الزمان؟ لطف الله بك يا ظلوم، وحفظ عليك نعمة الوجه الوهاج! متى نلتقي؟ وهل افترقنا؟ أنت بين يديّ وإن حجبتْك عني فيافٍ وسهوب.
(الكاتب المجهول)(500/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
مقاومة التدخين - أين (الرسالة)؟ سنعرف الأدب في أيام الشدة
كما عرفنا في أيام الرخاء
مقاومة التدخين
في العام الماضي قام الدكتور شخاخيري بتأليف رابطة لمقاومة التدخين، ومضى يستهدي المفكرين والمؤلفين والوزراء كلمات في استنكار التدخين. ولم يكتف بذلك، وإنما اندفع فنظم سلسلة محاضرات في (دار الحكمة) دعا إليها أشهر المحاضرين ليقاوم آفة التدخين
والدكتور شخاخيري رجلٌ مخلص، ودعوته هذه تستحق التأييد، ولكنها معرّضة لأخطار سأنص عليها في هذا الحديث لأهدم الأساس الذي قامت عليه، ولعل الله يتفضل فيكتب لي النفع مما تعلمت، لأنني مع الأسف من المسرفين على أنفسهم بالتدخين
شاع وذاع أن الدخان يشحذ الفكر، ويوقظ الذهن، ومن أجل هذا كثر المدخنون من الشعراء والكتّاب والسياسيين، حتى صار من المألوف أن نرى صور الساسة والوزراء وفي أفواههم السجائر النحاف أو السمان، حتى صار من العسير أن نتصور شاعراً أو زعيماً خلت حياته من عبق الدخان
لن أقف موقف الواعظ في دفع هذه الآفة، ولكني سأقف موقف المؤرخ، ثم أترك الحكم للقراء فيما سأسوقه من البينات
أول أمة عريقة في التدخين هي أمريكا القديمة، أمريكا الأمريكية، لا أمريكا الأوربية، أعني أمريكا التي سبقت عهد كولمبوس، وسبقت عهد الاتصال بالأوربيين والأسيويين
فما الذي استفادت أمريكا القديمة من التدخين؟ هل فتق أذهان أهليها إلى ألوان من الفكر والعقل والبيان؟ هل جعل لأهليها ماضياً في رفع دعائم الحضارة الإنسانية؟
كلا، وإنما تركها التدخين أمة بلا تاريخ
وأقدم الأمم في رفع راية العقل هم المصريون والبابليون واليونانيون، فهل عرف هؤلاء التدخين حتى ننسب رقيهم إلى هذا المرض الفظيع؟(500/6)
وهل عرف العرب التدخين حتى نرد السبب في تفوقهم إلى الدخان؟
هل دخن الجاحظ والغزالي وابن رشد والبحتري والمتنبي وأبو فراس؟
أترك التاريخ القديم وأذكر شواهد قريبة جداً من تاريخ مصر الحديث:
أعظم كاتب سياسي بإجماع الآراء هو المرحوم عبد القادر باشا حمزة، ولم يكن يدخن أبداً، وما أذكر أني رأيته طلب فنجان قهوة في أي وقت وهو يكتب أصعب المقالات
ومن عظماء كتابنا الأستاذ الزيات والأستاذ العقاد، وهما لا يعرفان التدخين. وهذا كلام لا يكاد يصدقه القارئ، ولكنه الواقع، ولا حيلة في إنكار الواقع
ولو أن الله أراد أن أنتفع بما تعلمت لتذكرت أني ألفت كتاب (الأخلاق عند الغزالي) وكتاب (النثر الفني) قبل أن أعرف التدخين، فمتى أنتفع بما تعلمت؟
أما بعد فقد دعاني إلى كتابه هذه الكلمة حوادث أغضبتني، لأن فيها دعاية إلى التدخين، وهو مرض يفتك بشبان هذا الجيل
الحادث الأول: في الأسبوع الماضي وقف الأستاذ زهير صبري يستجوب الحكومة في مجلس النواب عن تسعير الحاجيات الضرورية، فلما وصل إلى السجائر قال: إن السجائر قد غلت مع أن (كيف) القهوة والشاري لا يحلو إلا بسجارة (؟!) فهل فاته أن هذا الكلام إيحاء بأهمية السجائر في الحياة اليومية
الحادث الثاني: قي الأسبوع الماضي أيضاً (تفضلت) الإذاعة اللاسلكية فأذاعت أغنية تنطق بفضائل السجائر، أغنية منقولة عن أحد الأفلام السينمائية
وأنا سأثبت هذه الأغنية في هذا الحديث لغرض واحد: هو تأريخ الحياة الأدبية، فما يجوز لمؤرخ الأدب أن يترك شيئاً بلا تقييد، ولو كان في الدعوة إلى الدخان. وسأدعو الإذاعة اللاسلكية بعد ذلك إلى التفرقة بين جو الرواية وجو الغناء
عنوان الأغنية (خد سجارة وهات سجارة) وهي من الشعر الملحون:
السجارة في الحياة زّيي أنا ... تِتْحرق يضحي روحها لأجل غيرها
عمرها في الدنيا ما شاقت هنا ... تحيا بين النار عشان يرتاح ضميرها
خد سجارة، وهات سجارة
السجارة إن كنت يوم حتْدوق حنانها ... تلقي نفسك في حياة غير الحياةْ(500/7)
تلقي طيف اللي تحبه بين دخانها ... لما فكرك يبقى سارح في هواه
خد سجارة، وهات سجارة
أنت زعلان؟ خذ سجارة، خذها مني ... يا لله ولَعها واطفي الشوق بنارها
أنت تبقى في جوها عايش مهني ... والسجارة تبقى زيي في مرارها
خد سجارة، وهات سجارة
السجارة لما تيجي وتواسيك ... تنكوي بتارك ومن شوقك تبوسها
هي بتْصون الجميل حرام عليك ... بعدما تحرقها بالأقدام تدوسها
خد سجارة، وهات سجارة
وهذه القطعة قوية جداً في الإبانة عن الغرض الذي نُظمِت فيه، ولكن محطة الإذاعة تنسى أن ما يبيحه جو الرواية لتصوير إحدى الحالات النفسية لا يباح عرضه على جماهير بريئة يؤذيها الإيحاء بجمال الدخان
جو الرواية المسرحية أو السينمائية قد يدعو إلى تجميل إحدى الرذائل ولكنه قد يسوق بعد ذلك عبرة تقتل السم الذي بثه المنظر الأول، وبهذا يتعادل النضال بين السم والترياق
فما عذرُ محطة الإذاعة في أن تبثّ داءً بلا دوار؟
الحادث الثالث: رأيت في أحد الأفلام ممثلاً يدخن بإسراف مع أنه صديق أعرفه منذ سنين، وهو يبغض الدخان، فلما سألته عن السبب أجابني بأن الأفلام المصرية تجعل الناس جميعاً مدخنين فما هذا الذي نرى؟
أنُزّور الحياة المصرية لتشابه الحياة الأمريكية؟
أنكذب على الواقع في سبيل الفن، مع أن غاية الفن هي أن يجسم المحاسن والعيوب، حين يراد به تهذيب الأخلاق؟
اللهم حوالَيْنا ولا علينا!!
أين الرسالة؟
حدثت قرائي مرة أني رفضت أن تُهْدى إليّ الرسالة، لأني أجد أنساً في اشترائها من السوق، كأني أوجه تحية إلى صاحبها الصديق. وبالأمس انقبض صدري حين حدثني باعة الجرائد أنها احتجبت لعدم وجود الورق، ثم لطف الله فعرفت بعد ذلك أنها اكتفت بطبع(500/8)
كمية بقدر عدد المشتركين، إلى أن يأذن الله بالورق الذي يساعد على أن تغمر السوق من جديد. ليتني اشتركت في الرسالة!
هل خطر في بال من تهمهم سمعة مصر الأدبية في الشرق خاطر احتجاب الرسالة عن الأسواق؟
هل آذاهم أن يقال إن مجلة مثل الرسالة لا تجد قوتها من الورق مع أنه قوت مبذول لمنافع قد تضر بسمعة مصر في أنظار من لا يعرفون غير الجد الصريح؟
ليست الأزمة أزمة الورق، فهو موجود، وإنما الأزمة تنحصر في انعدام التعاون والتساند، هي أزمة الأدب اليتيم الذي لا يسأل عنه أحد حين يغيب!
هل صلصل الهتّاف في بيت الأستاذ الزيات من إحدى الجهات للسؤال عن الأسباب التي حجبت الرسالة عن الأسواق؟
أكان يجب ألا تقتصر الرسالة على الأدب الصرف لتجد من يسأل عنها حين تحتجب؟
سنعرف طاقة الأدب في اجتياز هذه المحنة العاتية. وإن اقتضى الأمر أن نرجو الحكومة أن تسمح بإذاعة محصول الرسالة عن طريق المذياع فسنفعل
أيها الأدب
أنا غير خائف على مصيرك، وهل كانت هذه أول محنة صارعتَها وصارعتْك حتى أخاف عليك؟
لا تصدِّق أيها الأدب أننا سنفرّط في استقلالك بأي ثمن، ولا تتوهم أننا سنتخلى عنك بما يسمونه الظروف أو الصروف
سنعرفك في أيام الشدة، كما عرفتنا في أيام الرخاء، والله وليّ الصابرين.
زكي مبارك(500/9)
أهمية دراسة التاريخ
للدكتور محمد مصطفى صفوت
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
مركز التاريخ في التربية العقلية والجمالية كبير. فالتاريخ يزيد معلومات الدارس عن الحساة، ويوسع أفق تفكيره، ويرقي بقدرته على الحكم. وفي التاريخ يستطيع الإنسان البحث في أسباب الحركات العظيمة ونتائجها، وفي اتجاهات العالم لو أن حوادث هامة لم تقع. لا ريب في أن طريقة البحث الذاتي وقراءة المصادر الأصلية وتفسيرها ونقدها تثير همة الباحث وتبعث فيه حب الحقيقة والبعد عن التحيز. وفي التاريخ مادة تساعد على تقوية أنواع الذاكرة التي لدى الطالب، ففي رؤية الآثار والصور التاريخية ما يقوي بعض الأنواع البصرية من الذاكرة، والتاريخ يقوي التذكر السمعي إذا كان عند الدارس استعداد طبيعي لتذكر ما يسمع ولتذكر نوع خاص مما سمع. أما من حيث الخيال فللتاريخ قيمة كبيرة في تدريبه وتوسيع مجاله. فالتاريخ القصصي يشبع رغبات صغار القارئين في التخيل والبعد عن عالم الحقيقة الراهنة فيرون فيه أعمال البطولة، ويتلو الحوادث بعضها بعضاً فيذهب بهم الخيال كل مذهب ولكن في حدود الحقيقة. أما في حالة المراهق الذي يشرد به الخيال نتيجة لثورة قوية يهتز لها جسمه وعقله ويرجع الفكر به إلى الماضي البعيد للإنسانية أو يمتد به إلى المستقبل ثم ينقلب به إلى الحياة الحقيقية وهو كليل - يشفى التاريخ فيه هذه الرغبة في الرجوع إلى الماضي ويفسر له النظم الموجودة ويخفف من حدة شرود الفكر. ويجد الباحث والدارس لذة عظيمة في قراءته للتاريخ وتخيله للحوادث. فزيارة للأهرام والآثار حولها، وتخيل فرعون يأمر وينهي وقد عنت له الوجوه. . . كل هذا يستوقف النظر ويثير ويسمو به. ويساعد التاريخ على تذوق الفن والجمال. فهو معرض لنواحي الحياة الإنسانية: فهذا جانب السياسة، وهذا جانب الاجتماع، وهذا جانب العلم والأدب. هذه ناحية إرضاء الشهوات، وهذه ناحية إرضاء الروح. هذه هي آثار المصري، هذه مسلاته ومعابده. هذه هي آثار الفن على حياة الإغريقي. . . هذا هو الأدب الذي فاضت به النفس البشرية. ما الشعور الذي يغلب على النفس حينما فاضت به النفس البشرية. ما الشعور الذي يغلب على النفس حينما يزور الإنسان هيكلاً من الهياكل أو معبداً(500/10)
من المعابد أو مسجداً من المساجد أو قصراً من القصور القديمة، أو عندما يقرأ وصفاً لهذه الآثار! ما الإحساس الذي تحسه النفس حين تقرأ وصف البحتري إيوان كسرى أو وصف ابن حمديس لقصور أمراء تونس!
وأخيراً ننتقل إلى قيمة التاريخ العظيمة في التربية الوطنية والإنسانية. يولد الإنسان في مجتمع تربط أفراده علاقات متعددة، لا يدري شيئاً عن نظم ذلك المجتمع وقوانينه التي هي كنز خلفه الماضي، ماضي بلدته وماضي وطنه وماضي الإنسان؛ فالنظم والمثل العليا التي عينت سير الإنسانية في الماضي لا زالت هي التي تعين وتحدد السير في الحاضر، ولا مناص للإنسان من تلقي هذه التركة بما فيها من أعباء ومسئوليات. وكيف يقوم بواجبه نحو ذلك التراث ونحو الوطن والمجتمع الإنساني إذا لم يدرس هذه التركة وقيمتها؟ وقد لاحظ من المفكرين هذه القيمة، فقالوا بتدريس التاريخ القومي والاهتمام به اهتماماً خاصاً. ظهرت هذه الفكرة بشكل واضح في بروسيا عقب كارثة سينيا، وانتشرت في أوربا بين الشعوب التي تتحفز للظهور والوحدة. رأت هذه الشعوب أن الوطنية الحق لا تقوم إلا على أساس الفهم لنظم الوطن، وتقدير التركة التي خلفها، وتحمل المسئولية التي تركها، ومعرفة أيام عظمته وأيام محنته والعمل على نشر الرسالة التي خلق من أجلها. والتاريخ حينما يذكر بمجد الوطن ومحنته هو نفس الوقت يدعو إلى المحافظة على تراث الوطن سليماً للمستقبل، إن لم يكن زائداً فغير منقصوص، لأنه يخلق العاطفة والشعور الذي يدفع الفرد إلى القيام بواجبه وتنير السبيل أمامه. على أن الغرض القومي لا يجوز أن ينسينا الأمانة العلمية وحب الحقيقة.
والتاريخ ليس سجلاً لماضي الوطن فحسب، فهو سجل لماضي الإنسانية كلها. والنفس ميالة بطبيعتها إلى معرفة ما خلفه الإنسان في كل مكان، ذلك الإنسان الذي تربطها به وشائج القرابة والنسب. ولن ينكر مثقف قيمة ماضي الإنسانية لحاضرها. ويدلل المفكر الإنجليزي جراهام ولاس على هذه القيمة بأنه لو فرض وأصيبت الأرض بصاعقة لنسى كل فرد العادات والمعلومات التي أخذها من الأجيال الماضية فتسعة أعشار سكان لندن ونيويورك سيموتون في مدى شهر، وتسعة وتسعون في المائة من الباقي سيموتون في خلال ستة أشهر إذ لا يكون لديهم لغة ولا أفكار ولا معرفة بالقراءة والكتابة. . . والإنسان محتاج إلى(500/11)
إنسانيته القديمة ليحيا حياة طيبة، وكلما ارتقت به الحضارة زاد احتياجه إليها. والتاريخ يشرح لنا الفكرة التي تسيطر على العالم، فكرة التطور. قد يرى البعض أن العلوم الطبيعية والأدب يفسران ناحية منها، والتاريخ يفسر النواحي السياسية والاجتماعية، ولكن إنعام النظر يرينا أن العلم الطبيعي والأدب يدخل فيهما عنصر التطور نفسه ولذا لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى التاريخ
التاريخ يضرب لنا أمثلة حسية على الحياة، فهذه حياة أناس عاشوا في ذلك العالم وأحسوا احساسات خاصة، تحاربوا وتصالحوا وطالبوا بحقوقهم وذادوا عنها أو انصرفوا إلى التمتع بالحياة وأحبوا الترف، ماذا كانت نتائج أعمالهم، ما بواعث فعالهم؟ يبين لنا التاريخ اختلاف الناس وأثر ذلك الاختلاف، وأن لكل فرد نحو بلدته ونحو وطنه ونحو العالم مهمة خاصة يؤديها في الوجود. وهو لا يبين لنا اختلاف الأفراد أو الطبقات فحسب، بل اختلاف الأمم والشعوب أيضاً، فلكل أمة رسالة قد أدتها أو هي في سبيل تأديتها للحياة. ثم هو يبين لنا اختلاف العصور، فكل عصر مختلف عن سابقه له طابعه الخاص في طرائق تفكيره ومنتجاته. فعصرنا الحاضر مختلف اختلافاً ظاهراً عن العصور الماضية ومشاكلنا والموازين التي نحكم بها على الأشياء مختلفة عن ميثلاتها في الماضي، ولكن الماضي ضروري لفهم مشاكلنا الحالية، فالحياة كما يوضح لنا التاريخ في تغير دائم، في تطور
يرينا التاريخ تعاون الإنسانية في ارتقاء سلم الحضارة، كما يرينا أنها سائرة في طريق النمو والتحسن، فالأفراد يحيون ثم يموتون، والأمم تقوم وتسقط، والحضارة تتقدم حيناً وحيناً تتأخر، ولكن النمو مطرد. فالإنسان كفرد تزداد حقوقه وأصبح أمامه مجال كبير لخدمة مستقبله وعائلته ووطنه والعالم. وينكر بعض المفكرين النمو في نواحي الروح والدين والأخلاق؛ فالعصور الماضية عصور الأنبياء. ولم تتقدم الأخلاق خطوة، فالقانون بين الدول لا زال قانون القوة. حتى في الناحية العقلية يشير البعض إلى مثل ذلك الجمود. فلا دليل في نظرهم على أن عقل الإنسان الحاضر أرقى من عقل أفلاطون. ويقول هكسلي إنه لا يعرف دراسة محزنة لتفسير تطور الإنسانية مثل دراسة التاريخ. فالإنسان لا زال وحشاً ولكنه خير من الوحوش الأخرى. وأحسن الحضارات الحديثة لم تظهر لنا مثلاً أعلى أو شيئاً جديراً بالبقاء(500/12)
ويرد على ذلك بأن التاريخ يرى لكل عصر مساوئه، وأن الإنسانية لم تبلغ بعد حد الكمال، وأن الطبيعة الإنسانية ذاتها لم تتغير إلا بمقدار ضئيل، وإنما الذي يغير تغيراً محسوساً هو تكيفها لظروفها الطبيعية والاجتماعية. ونمو محصول الإنسان من حيث المعلومات ومن الناحية المادية واضح، فكشف العالم الجديد وكشف كثير من قوى الطبيعة واستغلالها لمصلحته، وتكييف الإنسان للبيئة من إصلاح الأراضي وإزالة الغابات واختراق البحار والجبال والصحارى والهواء شواهد على النمو العقلي وعلى ارتفاع مستوى المعيشة. ولا ريب في أن زيادة المقدرة على التعليم والتعلم، وتقدم العلم وسهولة الانتقال هي في مصلحة الرقي العقلي والأخلاقي والروحي
التاريخ يصف التطور الاجتماعي لا العضوي والبدني، فإذا شعر الدارس بأنه يعيش في جو كله تطور ونمو فهو لا ينسى الماضي. سيقدر الحاضر ويزداد أمله في المستقبل. يعرف الدارس خلال التاريخ سر الإنسانية ويجد فيه أكبر خادم للفكرة الإنسانية ذاتها؛ لأنه يقلل من حدة التعصب لقومية أو لدين وعادات. فالتاريخ يبين أن العالم لم يقم على حضارة واحدة أو لغة واحدة أو دين واحد أو عسر واحد - فلكل حضارة نصيبها يغبنها التاريخ إياه - يرينا أن الأمم تبادلت ولا تزال تتبادل أنواع الحضارة. ولئن كان العلم قد أفاد فن الحضارة المصرية القديمة فهو مدين للفلسفة اليونانية والفن اليوناني والقانون الروماني. ولا ريب في أن مدينة العصور الوسطى في الشرق والغرب كانت أساساً عملياً لحضارة العصور الحديثة.
محمد مصطفى صفوت(500/13)
الحضارات القديمة في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 3 -
الحضارة الكلدانية
الكلدان من الشعوب السامية القديمة، وقد قامت لهم دول بالعراق، وكان لهم فيه حضارة تضارع الحضارة المصرية في القدم. ولكنها سارت في طريق معوج أضعف من شأنها، وجعلها أقل نتاجاً من غيرها من الحضارات القديمة؛ وقد نشأ هذا من أنهم كانوا يتجهون بعقولهم نحو الكواكب والنجوم، فاتخذوها آلهة يعبدونها، ويهتمون بمعرفة ما يتصل بها، حتى جرهم هذا إلى الاشتغال بعلم الفلك، وإلى أن يجعلوا جل اهتمامهم في حضاراتهم بهذا العلم، وبكل ما يتصل بها، حتى جرهم هذا إلى الاشتغال بعلم الفلك، وإلى أن يجعلوا جل اهتمامهم في حضاراتهم بهذا العلم، وبكل ما يتصل به من العلوم كالسحر والتنجيم، ولاشك أن مثل هذه العلوم لا تصلح أساساً لحضارة تنفع الناس في دنياه، وتهيئ لهم فيها أسباب الهناءة والسعادة، فلم يُعْنَ الكلدان بالعلوم التي تنظر إلى الأرض كما عنُوا بالعلوم التي تنظر إلى السماء، ولم يهتموا بالزراعة والصناعة والتجارة كما اهتم بها إخوانهم الفينيقيون في الشام، مع أن هذه الأمور هي الأسس التي يقوم عليها بنيان الحضارة، وترفل بها الشعوب في حلل الرفاهية، ولهذا ذهبت الحضارة الكلدانية ولم تترك وراءها إلا شهرة بابل عاصمتها بالسحر، وهي شهرة لا ترفع من شأنها، ولا تجعل لها منزلة عالية بين الحضارات القديمة
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك الاعوجاج في الحضارة الكلدانية في الآية (102) من سورة البقرة: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)(500/14)
فالقرآن الكريم يشير بهذا إلى أن السحر كان قد انتشر في تلك المدينة حتى عم ضرره كل الناس، وتفاهم خطبه بينهم، وصار أربابه هم الآمرين الناهين فيهم، لأنهم أوهموهم أن لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي ربط الله بها المسببات في هذه الدنيا، فهم يفعلون ما يوهمون الناس أنه فوق استعداد البشر، وفوق ما منحوا من القوى والقدر، وأنهم يستعينون عليه بالشياطين وأرواح الكواكب، إلى غير ذلك من ضلالالتهم وكفرياتهم، فأرسل الله هاروت وماروت يعلمانهم حقيقة السحر، ويبينان لهم أن السحر بشر مثلهم لا قدرة لهم على النفع والضر، وأن السحر إما حيلة وشعوذة لا أصل لها، وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس، وبهذا يكون علماً يؤخذ بالتعليم ويتكرر بالعمل، وفي استطاعة كثير من الناس أن يتعلمه ويفعل ما يفعله أربابه، ولا يرجع كما يزعمون إلى قوة غيبية فيهم، ولا أثر فيه لتأثير الشياطين وأرواح الكواكب، وهو مع هذا ليس من العلوم التي يليق بذوي الأخلاق الكريمة الاشتغال بها، لأنه من العلوم التي تضر ولا تنفع، ولا يشتغل به إلا كل دجال أو مشعوذ.
الحضارة الحميرية
وينسب الحميريون إلى حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، وكان لهم ملك عريق باليمن، وحضارة يشهد بفضلها ما بقي من آثارها. ومن أشهر دولهم فيه دولة سبأ، وكانت دولة تجارية خلفت دولة مَعين في نقل التجارة بين الهند والحبشة والعراق والشام ومصر، وقد زهت حضارة اليمنيين في عهد هذه الدولة، وعظم غناؤها وثراؤها، لأنها كانت تعني بشق الأنهار وبناء السدود التي تحفظ المياه بين الجبال، لتصرفها على الأرض بقدر، ولا تذهب سدى في الفلوات والبحار، فعمرت بذلك بلاد اليمن أعظم عمارة، وامتلأت نواحيها بالزروع والحدائق وناطحت قصورها وحصونها السحب
وقد نوه القرآن الكريم بحضارة سبأ أعظم تنويه، وجعلها لعظمها وفخامتها آية من آيات الله، فقال تعالى في الآيات: - 15، 16، 17، 18، 19 - من سورة سبأ (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. ذلك جزيناهم بما كفروا؛ وهل نجازي إلا الكفور. وجعلنا بينهم وبين(500/15)
القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق؛ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)
وقد ذكر المفسرون من عظمة تلك الجنات أن المرأة كانت تحمل مكتلها على رأسها وتمر بها، فيمتلئ المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئاً. وذكروا من طيب تلك البلدة أنه لم يكن يرى فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا حية ولا عقرب، وأن الرجل كان يمر بها وفي ثيابه القمل فيموت من طيب الهواء. وذكروا أن تلك القرى الظاهرة كانت تتواصل من اليمن إلى الشام، فإذا سافروا فيها لمتاجرهم يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى، وكلما وصلوا إلى قرية وجدوا فيها المياه والزروع والأشجار، فلا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام. والقرآن الكريم يشير بهذا إلى أن عظمة هذه الدولة كانت قائمة على أساس التجارة ونقلها بين تلك البلاد، كما يشير بقوله: (باعد بين أسفارنا) إلى أن زوال عظمتها كان بسبب انتقال زمام هذه التجارة من أيدي أبنائها، وكل هذا يتفق مع ما وصل إليه علماء التاريخ في عصرنا، وهم لم يصلوا إليه إلا بعد الكد والتعب في كشف ما تركته هذه الدولة من آثار، وفي محاولة قراءة ما دون فيها من حوادث وأخبار، وكم للقرآن من أمثال هذه المعجزات العليمة!
وكان سبب انتقال التجارة من أيدي أبناء هذه الدولة تحول طريقها من البر إلى البحر، فأحدث ذلك أثراً كبيراً فيها، وجعلها تعجز عن حفظ تلك السدود وتهمل شأنها، وكانت خاتمتها بانهيار ذلك السد العظيم، سد مأرب الذي أشار إليه القرآن الكريم.
(يتبع)
عبد المتعال الصعيدي(500/16)
جي دي موبسان
1840 - 1893
للأستاذ حسن فتحي خليل
1 - نشأته وتكوينه وأسلوبه
ولد موبسان في قصر ميرو مسنيل في 5 أغسطس سنة 1840 وتلقى دروسه ببلدة ييفتو أولاً ثم ببلدة روان. وأمضى في ربوع مقاطعة نورماندي أسد سني صباه وشبابه، حراً طليقاً بعد دراسته اليومية، كطائر سعيد. وكان يهيم بالطبيعة الساحرة في تلك المقاطعة حتى انطبعت في ذهنه صور كثيرة من حياة الفلاحين المحيطين به
وفي عام 1870 التحق بالجيش المحارب وانغمر في ميدان الحرب كغيره من الشباب حينئذ، وعاش في محيطها وتشبعت بها نفسه، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها ذهب إلى باريس والتحق بوزارة البحرية أولاً كموظف صغير، ثم انتقل منها إلى وزارة المعارف. وكان في أشد الاحتياج إلى مرتبه الحكومي ليقتات منه حتى تسمح له الحسنة التي تؤهله لأن يبدأ حياته الأدبية التي عاهد نفسه على بدئها منذ زمن بعيد
وقد هيأت له تلك الوظيفة أن يختلط بطبقة الموظفين، وأن يطلع على خفايا حياتهم وكل أحوالهم، ولكن تلك النظرة التي كان ينظر بها إليهم كانت بشعور مزيج من العبث والسخرية. وانتقشت تلك الصور في ذهنه حتى انسابت من قلمه، وظهرت واضحة جلية في قصصه
وقد صرفته قوة بنيته وحبه اللهو والعبث المغرقين في بداءة حياته عن مطالعة الأدب، فلم يجهد نفسه في ذلك المضمار الإجهاد الكافي لأديب ناشئ يحاول أن يكون نفسه. غير أن تلك الحياة التي كان يحياها قد أضافت صوراً جديدة إلى تجاربه إذا اختلط بالمجتمع الصاخب وانغمر في ملاهيه. وأول ما يتبادر إلى الذهن أنه كان مندفعاً نحو تلك الحياة اللاهية ليمل منها صوراً لأدبه؛ ولكن الحقيقة أنه إنما كان مندفعاً نحوها لكي يشعر نفسه بأنه يعيش المعيشة التي ترضي جسده وتشبع رغباته الجامحة. فقد كان قوى البنية، مفتول العضلات، محباً للرياضة وخاصة التجديف، جريئاً لا يهاب إنساناً(500/17)
كان فلوبير أباه الفكري؛ إذ هو الذي أخذ على عاتقه أن يدخله إلى دنيا الأدب. وتحت سيطرته بذل موبسان كل جهده لأن يرتفع بأسلوبه إلى المرتبة التي تؤهله لأن يكون شاعراً مجيداً؛ وكانت هذه هي منتهى آماله. كان فلوبير يحدثه دائماً عن كرامة الفن وواجبات الفنان؛ كما أنه غرس في نفسه كراهته للبراجوازيين والسخرية منهم ومن اعتقاداتهم العادية في كتبه. كما أخبره عن أهل الأدب في عصره وحدثه عنهم حديثاً مستفيضاً؛ وطبعه على الاستخفاف بكل أدب تجاري رخيص، ونصحه بالجد والاهتمام بتجويد كتابه، وجعل نفسه مثلاً له يسير على منواله؛ حتى أنه أشركه معه في تأليف كتابه (بوفار وبيكوشبيه) فكان يرسله إلى بعض بقع الساحل النورماندي ليعود فيقص عليه ما رآه وما استولى عليه من احساسات وشعور، فيرسم الطبيعة كما يراها دائماً وليتحرر من آراء زولا شبه العلمية التي كانت سائدة يومئذ، وأن تكون كل اتصالاته بالطبيعة فحسب
وبذلك أحيا موبسان كل الصور بمنظار في مخيلته منذ طفولته وصباه، وجعل ينظر إلى الطبيعة بمنظار صريح مستقيم سهل، وبذل قصارى جهده لأن يكون أسلوبه طبيعياً كمشاهدته، فخلا أسلوبه من المبالغات الرومانتيكية المشاهدة في أسلوب زولا والمحسنات اللفظية كأسلوب جونكور
وكان يطلع أستاذه فلوبير على كل ما يكتبه فيصححه له ويرشده إلى طريق الصواب. وأهم مؤلفاته في ذلك الوقت، وقت الاجتهاد والتحضير هي قصة (الدكتور هيراكلوس جلوس) وأهم ما يميزها وضوح نظرية التشاؤم التي بدأ يأخذ بها موبسان. كما كتب في تلك الفترة عدة مسرحيات وقصص وأشعار على الخصوص. وقد جمع ما أعجبه من شعره في كتاب صغير اسمه: (مجموعة شعر)
وكانت تلك القطع التي نشرها إنما هي في الحقيقة أقاصيص شعرية ويلاحظ أنها بداءة طيبة لما جاء بعدها. وأهم تلك القطع (على ضفاف النهر) وقد رسم فيها ذكريات غرامه وألبسها ثوباً رومانتيكياً متحدثاً عن الغرائز الحرة واللذات الجسدية.
ثم نشر قصته المشهورة فنجحت نجاحاً عظيماً وتنبه الكل له وصعد درجات المجد وعاهد نفسه منذ ذلك اليوم أن يكون قصصياً بدلاً من أن يكون شاعرا رغماً من إرادة أستاذه فلوبير. ومع أنه كان قد أخفى تلك القصة عن أستاذه إلا أنه حين قرأها أعجب بها(500/18)
أشد الإعجاب وهنأه عليها.
ومات فلوبير فتحرر موبسان من سيطرته الأدبية التي كان يفرضها عليه، وأصبح حراً في معتقداته وسار في الطريق التي رسمها لنفسه.
2 - أفكاره وآراؤه
كانت لموبسان عين ثاقبة تلاحظ الصور وحركاتها بسرعة فائقة ودقة آلة فوتوغرافية، فسرعان ما تنطبع تلك المرئيات في ذهنه فيتعمق في فهمها جيداً حتى يهضمها تمام الهضم. فمن صباحه إلى مسائه كان يجمع ويلاحظ كل ما يفيده في مهمته الأدبية، ولذلك نلاحظ أن كتاباته لم تكن تظهر بمظهر الكتاب النفسيين (السيكولوجيين) بل هي مقتطعة من الحياة إذ فيها ألوانها وأشكالها وحركاتها
وتدور قصصه على ناحيتين: أولاهما الناحية المرحة والحياة الاجتماعية الصاخبة التي كانت تشتهر بها فرنسا، والأخرى قصصه عن الريف النورماندي وذكريات حياته التي قضاها فيه وحديثه اللذيذ عن الأرض والطبيعة والفلاح
وتترجم كل مؤلفاته في مختلف أطوار حياته ونظرياته عن المجتمع. ففي مؤلفاته الأولى نلاحظ السخرية اللاذعة. ففي قصة لم يترك فرصة سواء في العربة أو الحانة دون أن يهزأ بالأشراف والطبقة المتوسطة والراهبات. ثم ظهرت في الحقبة التي تلي ذلك من حياته احساسات الرحمة والشفقة. أما في نهايته فكان التشاؤم ومشاغله ومتاعبه النفسية أوضح ما في كتبه في ذلك الحين. فأفكاره في ارتفاعها وانخفاضها إنما كانت تتبع ميزان صحته الجسدية في قوتها وهزالها.
كان أستاذه فلوبير يعتقد أن الفن يخفف من عبء الحياة ويجعلها سهلة لينة، ولم ييأس من تقدم العلوم ولم ينكر بلوغ النجاح، إلا أن موبسان الذي كان يستمع لتلك الآراء لم تكن لديه الثقة الكافية في الحياة. فمن مبدأ حياته كانت فلسفته اليائسة المتشائمة فوق العادة. فلم تجذبه فكرة فلوبير السليمة بقدر ما جذبته حكمة شوبنهور القائلة: (إنه لا سعادة على الأرض) وبالرغم من تكرار موبسان لنظريته المتشائمة في قصصه كثيراً لم تكن لتستند على براهين قوية. بل كل ما في الأمر أنه كتبها بشعور صادق قوي. وكان يبعث ذلك التشائم نظرته المجردة إلى الحياة الواقعية. فكان يعتقد أن الكون مجموعة متضاربة متطاحنة من(500/19)
القوى، وأن العلم لا يعطينا سوى فكرة ضئيلة عن هذه القوى بواسطة آلات أولية ناقصة في بعض الحالات فقط. وأنه ليس هناك أمل في التقدم أو النجاح، إذ أن نظرية التقدم ما هي إلا نظرية فاشلة، وأن الإنسان حيوان أرقى قليلاً من الحيوان الأعجم. ولعل هذه النظريات قد تبادلها غيره من قبل إلا أنها كانت شديدة التأثير على شعوره. وإنما يعود ذلك إلى مرضه الذي أصيب به، حتى أنه أصبح يخاف الرسائل التي تصله كما كان يفزع من علامات الود والمحبة التي يظهرها أصدقاؤه، إذ خيل إليه أنها محاولات اعتداء على حريته. فهو يفسر نظريته هذه بأن هؤلاء الأصدقاء إنما يشعرون بفراغ كبير في حياتهم، فيحاولون أن يتعلقوا بأهداب إنسان آخر يملأون به ذلك الفراغ. وبذلك أصبح موبسان يعتقد أن الصداقة والحب إنما هما نفاق وسراب، وأن الصلة بين كل رجل وآخر معدومة، إذ لا يمكن لأحدهما أن يفهم الآخر تمام الفهم. وعلى ذلك يجب على كل فرد أن يكون وحيداً، وبذلك امتزجت رغبته في الوحدة بخوفه من المجتمع. إلا أنه في وحدته كانت تتهيأ له خيالات يتوهم معها أن هناك شبحاً آخر يشاركه مجلسه فيبعث الخوف إلى نفسه ويدفعه دفعاً نحو الاختلاط بالأحياء الذين لم يعد يفهمهم جيداً. وقد زاد ذلك التعذيب خوفه من الشيخوخة والموت. فكانت فلسفة التشاؤم التي يسير على هديها تدفعه إلى الثورة دائماً. وأخيراً لم يجد منفذاً لهذه الخواطر والأفكار التي تعج بها رأسه حتى كان يرفض أي مناقشات أدبية، وأصبح يعتقد أنه ليست هناك أية قيمة للأدب، وأنه إنما يكتب تلك الأسطر لكي يكتسب منها بعض المال
وفي عام 1889 بدأ يفكر في الانتحار كما يتضح لنا من قصة ? إذ تخيل فيها انتحاراً قانونياً يسمح لليائسين أن يناموا إلى الأبد باسمين مرتاحي الضمير. وقد طرقت هذه الفكرة مخيلته كثيراً في أيامه الأخيرة وحتى هم بتنفيذها، وكان حينئذ في طريقه إلى الجنون الذي أراحه من عناء هذه الدنيا وتفكيره الأسود في كل أحوالها
وعلى ذلك فإذا تدبرنا هذا الشاب الموفور الصحة في مبدأ حياته، والذي هده المرض في أخريات أيامه حتى ساقه إلى الجنون فبدأ يسمع نداءات الموت ترن في أذنيه، أمكننا أن نتتبع النغمات الصادرة من مؤلفاته في هذه الأطوار
3 - نهايته(500/20)
سبق أن قلنا إنه بالرغم من مظهره القوي فإن صحته بدأت تتهدم منذ عام 1884؛ ثم ظهرت عليه بوادر الجنون في عام 1891. وفي أول يناير سنة 1892 حاول الانتحار في بلدة (كان) ولكنه فشل. وأُدخل مصحة الدكتور بلانش حتى توفي في 6 يوليو سنة 1893 وهو على حالة من الجنون
4 - مؤلفاته
يعتبر موبسان من أشهر كتاب الأقصوصة؛ ويمكننا أن نضمه الآن إلى زمرة الكتاب الكلاسيك؛ إذ أن أعماله تدرس بالمدارس لأنها غذاء طيب للعقول. ففي أمريكا وألمانيا تعتبر مؤلفاته من أهم مختارات الدراسة بمدارسها. كما وضعت أعماله في برامج الامتحانات العليا بفرنسا؛ وقدمت عنه بعض الرسالات كما جمعت أعماله وطبعت كلها في مجلد كامل كأعمال فلوبير وبلزاك. فمن عام 1880 إلى عام 1890 نشر موبسان حوالي ثلاثمائة أقصوصة جمعت في مجلدات هي:
سنة 1881
سنة 1883
سنة 1884
سنة 1885
سنة 1888(500/21)
سنة 1887
سنة 1886
سنة 1890
سنة 1889
?
سنة 1889
كما نشر ست قصص طويلة وثلاثة كتب عن الرحلات وأربع مسرحيات.
حسن فتحي خليل(500/22)
الفنون الجميلة
الفن ترتيب أجزاء متفرقة ترتيباً اختيارياً حسب فكرة معينة لتؤدي إلى غاية معلومة، هي أن يُخلق من تلك الأجزاء كلاً واحداً، أو حلقاً جديداً يثير في النفس عاطفة الجمال. فهو إذن إنتاج حر للجمال، لا الجمال الواقعي فحسب، بل مزيج من الجمال الواقعي والجمال المثالي. فلابد من أن توجد فكرة مثالية عن الفنان يحققها ويعبر عنها بمساعدة الواقع. ويتخذ الفن في تعبيراته عن تلك الفكرة أشكالاً مختلفة هي ما نسميه بالفنون الجميلة - فالنون الجميلة إذن، هي مختلف حالات الانفعالات الجمالية التي ينفعل بها الفنان إزاء أشياء معينة، فيحاول أن يعكسها ويعبر عنها، لكي يتذوقها غيره، فينفعل بها كما انفعل هو
والفن في تعبيره عن هذه الفكرة يخاطب الحواس، لا الحواس كلها، بل هو في الواقع يخاطب حاستين منها فقط هما: السمع والبصر؛ وعلى ذلك تنقسم الفنون الجميلة إلى مجموعتين:
(ا) ما يخاطب السمع وهي: الموسيقى: (سواء أكانت موسيقى صامتة، أم يصاحبها غناء مفرداً وجوقة) والشعر
(ب) ما يخاطب البصر وهي: النحت والعمارة والنقش ولكن، هل الفنون جميعها على درجة واحدة من السمو والرفعة؟ أو بمعنى آخر: هل هناك فنون أرقى وأرفع من غيرها؟ وإن كان الأمر كذلك، فعلى أي أساس يمكن تصنيفها وترتيبها إلى فنون راقية رفيعة، وأخرى أقل منه؟
لقد رأينا أن الفن هو الإنتاج الحر للجمال، ورأينا أيضاً أنه لابد من التعبير عن فكرةٍ ما في الفن؛ فقانون التعبير هو أهم قانون عام مشترك بين كل الفنون، وعليه يجب أن يقوم التصنيف. فالفن الذي يكون أكثر تعبيراً وأغنى في وسائل تعبيره من غيره يكون هو الأرقى. وليست الفنون على درجة واحدة من تلك الحرية في التعبير، فنحن نجد مثلاً أن حرية التعبير أقل ما تكون في فن العمارة، والفنان المعماري مقيد إلى أبعد حد؛ بينما تتمتع الفنون الأخرى بحرية في التعبير أوسع من ذلك، مع تفاوت فيما بينها. كذلك تختلف قوة تعبير كل فن عن الآخر إزاء شيء واحد بالذات؛ فالموسيقى مثلاً يمكنها أن تصور لنا منظر عاصفة عنيفة تصويراً أبلغ وأعمق مما يصوره لنا النقش مثلاً، فهي تعبر عنها أحسن تعبير منه، وتثير فينا من العواطف والوجدانات ما لا يثيره هو فينا إن تعرض(500/23)
للتعبير عن ذلك المنظر. كذلك يعجز النقش عن أن يساوي الشعر في قوة تعبيره وعمق تصويره، فهناك آثار شعرية عظيمة نعجب بها كل الإعجاب، وتثير فينا العاطفة الجمالية كأقوى ما تكون، ولكن النقش - أو غيره - يعجز عن تصويرها في مثل روعة تصوير الشعر لها. فمثلاً صور لنا فرجيل في قصيدته (صورة رمزية لمسخ عظيم هائل، له مائة عين ومائة فم؛ تمس قدماه الأرض، ويبلغ رأسه عنان السماء) فأبدع في تصويره كل الإبداع، وأثار إعجاب كل من قرأها. هذه الصورة الرمزية ماذا تثير فينا لو فرض أن حاول المنقش أن يحققها ويعبر عنها؟ وأغلب الظن أنه سيخرجها لنا صورة غريبة تثير فينا الضحك وتبعث على الهزؤ والسخرية.
وقد أجمعت الآراء على القول بأن الشعر هو أرقى الفنون الجميلة، فهو يحتل المكان الأول بين سلسلة الفنون لأنه أقواها على إلهاب النفس، وتحرير المخيلة، والصعود بالإنسان إلى أرقى الأفكار وأسماها. ولا يكتفي الشعر بالتعبير عن الصور الحسية وعن العواطف الجياشة وتصويرها كما تفعل سائر الفنون الأخرى، بل يمتاز عنها بميزة أخرى هي، أنه يمكن أن يعبر عن المعاني المجردة، مثل فكرة (الله) وفكرة (الوطن) وغيرها مما يعجز عنه باقي الفنون، وذلك لأن أداة الشعر الكلام، ويمكن أن يؤدي الإنسان بالكلام ما لا يؤديه بغيره. فكلمة (الله) أو (الوطن) وحدها تحمل من المعاني، وتثير من العواطف والانفعالات والخواطر ما يقصر عن حمله وإثارته أي أداة أخرى من أدوات التعبير في الفن
ويأخذ (هجل) على الشعر أنه لا يعرض علينا كل الخطوط والملامح الجمالية المختلفة التي يصفها بحيث نرها كلها لأول وهلة بعضها بجانب بعض مثلما نرى في النقش مثلاً، إذ يكفي أن ننظر إلى لوحة من اللوحات فنرى كل الملاح المعبر عنها دفعة واحدة. فالشعر يعرض علينا الشيء الذي يصوره شيئاً فشيئاً على دفعات، وهذا ناتج من طبيعة أداة الكلام. ففي كل بيت مثلاً يعرض علينا جزءاً من تلك الملامح، ولا تكمل الصورة إلا بكمال القصيدة. فهو من هذه الناحية إذن أقل منزلة من النقش. ولئن كان هذا عيباً في الشعر فإنه من جهة أخرى ميزة يمتاز بها على غيره، وذلك حين يعرض لبعض المشاهد التي لابد فيها من التسلسل والتتابع حتى تستكمل ظهورها. فالنقش في الحقيقة يمثل حالة معينة وفي وقت بالذات ولا يمكن أن يعرض للحالات التي تتغير وتتابع. فمثلاً يمكن للشعر أن(500/24)
يعرض لوصف عاصفة هوجاء عنيفة فيصور أولاً منظر البحر قبل العاصفة وقد هدأت المياه وصفا الجو وسطعت الشمس، وقد أخذت سفينة صغيرة تتهادى في رفق على صفحة الماء، ثم إذا بالجو يتلبد بالغيوم فجأة وتهيج الأمواج وتضطرب وتصفر الرياح وتتقاذف السفينة حتى تغلبها على أمرها وتدفع بها إلى صخرة عظيمة فتنفتح في جانب السفينة ثغرة كبيرة تدخل منها المياه، وتأخذ السفينة في الغوص والركاب يصرخون ويجرون هنا وهناك وقد تملكهم اليأس والفزع، ثم طغى البحر على السفينة فابتعلها بمن عليها. كل ذلك يصوره لنا الشعر بسهولة في قصيدة واحدة ولكن يعجز عنه النقش في لوحة واحدة، فهو لا يمكنه إلا أن يعبر عن حالة واحدة فقط من تلك الحالات المتباينة
وهناك فن آخر لا يقل عن الشعر رفعة وسمواً وهو الموسيقى فهي من أقوى الفنون تأثيراً في النفوس وإيقاظاً للعواطف وإلهاباً للوجدان، ويمكنها أن تحمل الروح وتتجاوز بها العالم الواقعي إلى اللانهاية. فعنصر اللانهاية واضح جداً فيها، ولعلها في ذلك تسبق الشعر، وقد كادت تفوقه لولا ما فيها من غموض وإبهام؛ فتعبيراتها غير محددة تمام التحديد، كما نرى في النحت مثلاً، فهو على العكس منها تماماً يحدد موضوع تعبيره بخطوط واضحة لا يمكن أن تخطئها، مما جعله لا يبعث على الخيال ولا يحمل الروح إلى اللانهاية. فجمال الموسيقى، وميزتها الكبرى تتجلى في قدرتها على العبور بالروح إلى اللانهاية، مما جعل الناس يقرنها بالدين لأنهما يخاطبان القلب والعواطف ويسموان بالروح عن عالم الواقع. ولعل هذا هو السر في أن المسيحيين يصبحون صلواتهم الكنيسية بالموسيقى. وتأثير الموسيقى في الحقيقة أقوى من تأثير الشعر، فهناك صلة وثيقة بين أنغام الموسيقى والقلب، بحيث يمكن للموسيقي البارع أن يلعب بأفئدة الناس كيفما شاء، إن شاء أضحكهم وإن شاء أبكاهم. وعلى العموم فهناك صلة كبيرة بين الشعر والموسيقى. فالشعر يدخل في الموسيقى على صورة غناء، فيحدد من تعبيراتها وتصوراتها، وهو بذلك يقتل ما فيها من لا نهاية. كذلك الشعر موسيقى الألفاظ، يحس الإنسان فيه بأنغام موسيقية غير خافية، قد تتولد الأكثر من تكرار بعض حروف معينة وتلازمها
والخلاصة من كل ما سبق أنه ما دامت حرية التعبير وقوته وعمقه وغناؤه هي أساس ترتيب درجات سمو الفنون ورقيها، فإنه يمكن تبعاً لذلك، اعتبار الشعر أرقى أنواع الفنون(500/25)
الجميلة، وتليه في ذلك الموسيقى، وهي خليقة بأن تسمو عليه لولا غموضها وإبهامها، وإن كان ذلك يجعلها تمتاز عن غيرها باللانهاية. ويلي الموسيقى النقش، فهو يكاد يجمع بين قوة تأثير الموسيقى من ناحية وبين تحديد النحت من ناحية أخرى، فهو أكثر تحديداً وإيضاحاً من الموسيقى، وأكثر تأثيراً من النحت. ويلي ذلك النحت وهو لا يكاد يبعث على التخيل بشدة ما فيه من التحديد؛ وأخيراً العمارة وهي أقل الفنون جميعاً في حرية التعبير وعمقه
أحمد أبو زيد
كلية الآداب - جامعة فاروق الأول(500/26)
48 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الرابع عشر - الصناعة
إن طرق المساومة التي يتبعها المصريون في معاملاتهم تضايق كثيراً من لم يتعودها. فعندما يستفهم العميل عن ثمن سلعة، يطلب منه التاجر أكثر مما يرجو كسبه. فيستكثر المشتري السعر ويعرض على البائع نصف المبلغ أو ثلاثة أرباعه فيرفض التاجر؛ غير أنه يخفض سعره، فيعرض العميل بدوره مبلغاً زائداً نوعاً. وتستمر المساومة هكذا حتى يصلا إلى سعر وسط فتتم المبايعة. وأعتقد أن السائحين الأوربيين يذمون التجار المصريين بغير حق، وذلك بعد أن تحققت أن أكثرهم لا يكسبون أكثر من واحد في المائة. ويعمد من يجد سلعة توافقه ويبغي اقتناءها بثمن زهيد إلى المساومة مع التاجر طويلاً. فيصعد إلى مصطبة الدكان ويستريح، ثم يحشو شبكه ويشعله ثم يبدأ النقاش الذي يستمر طويلاً. وقد يقطع التاجر أو العميل المبايعة بأحاديث غير مناسبة كأنه عزم على ألا يناقش في الأمر أكثر من ذلك. ولا تلبث المساومة أن تعود. ويتناول خادم العميل من التاجر بعد إتمام الصفقة وانصراف سيده، نفحة صغيرة من المال. ولا يتردد الخادم في طلب هذه النفحة إذا لم يقدمها التاجر من تلقاء نفسه. ويقام في أغلب أسواق القاهرة مزايدات في أيام محددة مرة أو مرتين في كل أسبوع. ويتولى هذه المزايدات دلالون يستأجرهم أصحاب الشأن من الأفراد أو التجار. ويرفع الدلال البضاعة في يده معلناً الأسعار ويصيح: (حراج) وكثيراً ما يعمد أفراد الطبقة السفلى عند إتمام صفقات بأبخس الأثمان إلى الصياح والإشارات، فيظن من يجهل اللغة العربية أن طرفي المساومة يتشاجران وأن الغضب قد بلغ منهما أشده. وقد يستفهم المرء عن ثمن ما يبيعه الفلاحون فيقولون تقبله (هدية) واثقين أن المستفهم لن(500/27)
يستفيد من قولهم هذا الذي أصبح من لغوا الحديث. ويكرر الفلاحون قولهم هذا عند الاستفهام مرة أخرى، غير أنهم يطلبون على العموم أسعاراً باهظة
من الممل أن أذكر جميع الحرف الشائعة هنا. وأصحاب أهم هذه الحرف: بائع الأجواخ وهو يبيع أقمشة الملابس أو الملابس الجاهزة، والأسلحة؛ ويطلق عليه في كلتا الحالتين اسم (التاجر) فقط. والجوهري والصائغ وهو لا يستغل إلا حسب طلب عملائه. وبائع الخردوات (الخروجي) والنحاس والخياط والصباغ والرفاء والحباك والعقاد وبائع الشبك (الشبكشي) والعطار وهو يبيع الشمع أيضاً، وبائع التبغ (الدخاخني) وبائع الفاكهة (الفاكهاني) والنقلي وبائع الشراب (الشربتلي)، والزيات ويبيع مع الزيت الزبد والجبن والعسل الخ. . . والخضري والجزار والفران، ويرسل إليه الخبز والحم للشي. ويوجد في القاهرة مطاعم عديدة يطهى فيها الكباب وأصناف مختلفة أخرى، ولكن قلما يتناول الناس طعامهم في هذه المطابخ وإنما يرسلون في طلب ما يلزمهم حين لا يستطيعون إعداد الطعام في منازلهم. وكثيراً ما يتناول التجار غداءهم وعشاءهم من هذه المطابخ. ويوجد أيضاً عدة دكاكين لصنع الفطير وغيره ويبع الفول المدمس. وقد وصفت هذين الطعامين في فصل سابق. ويتناول أفراد الطبقة السفلى طعامهم عند (الفطاطري) أو (الفوال)
يباع الخبز والخضر وغير ذلك من الأطعمة في الشوارع. ويناد الباعة المتجولون نداءات غريبة تستحق الذكر. فيصيح بائع الترمس. (مدد يا امبابي)، ويعني بهذا القول إما الاستعانة بالشيخ الامبابي وهو ولي مشهور مدفون في بلدة امبابة على الشاطئ الغربي من النيل تجاه القاهرة، وينبت بجوار هذه البلدة أجود الترمس؛ وإما الإشارة إلى أن ترمس امبابة لذيذ الطعم بفضل مدد الامبابي. ويصيح بائع الترمس أيضاً: (ترمس امبابه يغلب اللوز) أو يقول: (يا ما حلى بُنيَّ البحر)، ويشير هذا النداء الذي قلما يسمع في غير الأرياف إلى طريقة إعداد الترمس للأكل. إذ أنه ينقع في الماء يومين أو ثلاثة لتزول مرارته، ثم يغلى ويوضع بعد ذلك في قفة من الخوص تسمى: (فرد) يخاط عليه ويقذف به في النيل، حيث يترك يومين آخرين أو ثلاثة ينقع مرة ثانية. وبعد ذلك يجفف ويؤكل بارداً بعد أن يضاف إليه بعض الملح. ويصيح بائع الليمون: (الله يهونها يا ليمون) وكثيراً ما ينادى على اللب لب (عبد اللاوي)، وبذر البطيخ: (يا مسلي الغلبان يا لي) أو عادة: (اللب(500/28)
المحمص)، وينادى بائع (الحلاوة) وتصنع من تفل السكر الممزوج ببعض عقاقير نداء غريباً: (بمسمار يا حلاوة). ويقال إن بائع الحلوة يكاد يكون لصاً، إذ أن الأطفال والخدم يعمدون إلى سرقة الأدوات الحديدية من المساكن التي يسكنونها ليستبدلون بها الحلوى. ويصيح بائع البرتقال: (عسل يا برتقال عسل) ويستعمل بائع الخضر والفاكهة نداء مشابهاً، ويصعب على المرء أحياناً معرفة ما يباع ما لم يتبع قاعدة أن ما يباع هو الأقل جودة؛ فقولهم جميز يا عنب إنما يشير إلى بيع الجميز الذي يقل عن العنب جودة. ويستعمل بائع الورد نداء فريداً: (الورد كان شوك من عرق النبي فتح)، ويشير هذا إلى معجزة تنسب إلى الرسول. وتباع زهور الحناء الزكية بقولهم: (روايح الجنة يا تمر حنة). وهناك نوع من الأنسجة القطنية تصنع على آلة يحركها ثور. وتباع بقولهم: (شغل التور يا بنات)
عدلي طاهر نور(500/29)
مقبرة الأحياء
الوظيفة. . .
(حين كنت مدرساً)
للأستاذ علي شرف الدين
عُلالةُ الْعَاجزِ الضَّعيفِ ... وَحِيلةُ السَّائلِ الكَفيفِ
تُمِيتُ في الُقَلْبِ كل نبلٍ ... وَكلَّ معنًى به لطيفِ
وَتَحبسُ الرُّوحَ وهي طَيرٌ ... تْصبُو إلى غُصِنها الوَريفِ
وَتُرهقُ النَّفْسَ وهْيَ طْيفٌ ... بَقْيدِها الْمُثْقِلِ العَنيفِ
وَتدْفِنُ المْرَء وَهْوَ حَيٌّ ... فِي قَبْرِهَا الأَسْودِ الْمُخِيفِ
وَينْهَرُ الْعَيْنَ وَهْيَ زَيْفٌ ... كأَنَّها زَهْرَةُ الَخْريفِ
وَكَمْ نِفَاق تَراهُ حَتْماً ... يَحْمِيكَ مِنْ طْعَنِة الألِيفِ
تَفيضُ بالَجْهل صَفْحَتَاهُ ... وَزَاَدَ في الَجْهلِ عَنْ (عَرِيفِي)
وَيدَّعِى الْعَلْم - وَهوَ خِلوٌ - ... بالتَّالِدِ الَجْزلِ والطَّريفِ
وَأَنْتَ تَجْرِي عَلَى هَوَاهُ ... بمْدحِكَ الْكَاذِبِ الصَّريفِ
لا يَعْرفُ الصدْقَ مِنْكَ قَوْلاً ... وَالْكَذبُ مِنْ شِيَمِة الضَّعِيف
وَيْلٌ لذِيِ حُرَّةٍ أبيٍ ... فيها وَذَي جَبْهَةٍ عَيُوفِ
أَجْرَوْا عَلَيْه دُرَيْهَمات ... تَضيقُ بالمِلحْ والرَّعِيف
حَتى الضَّروريُّ - وَهْوَ حَتمٌ - ... يَضِجُّ مِنْ جَيْبِه النَّظيف
مَا دَامَ لم يَلْتَمس وَسِيطاً ... فإِن شَكْوَاهُ في الرُّفُوفِ
وَالْعَيْشُ كاَلْحرْبِ فِيهِ أضْحَتْ ... هَدى الوَسَاطَات كالسُّيوفِ
يا (جَارةً) ضِقْتُ مِنْ عَمَاها ... وَضِقْتُ بالْمُبْصِر الْكَفيفِ
تَعْمَي عنِ الضَّامِرِ الْمُجَلى ... وَتَجْعُل السَّبْقَ للَّردِيفِ
علي شرف الدين(500/30)
من أزهار الشر
لشارل بودلير
منظر
إنني أود أن أرقد على مقربة من السماء كعلماء الفلك، لكي أنظم قصائدي الروحية في جو من الطهارة
وأن أكون راقداً بجوار أجراس أصغي إلى أناشيدها المهيبة التي تحملها الرياح، سابحاً في أحلامي.
حين أطل من علِّيتي، وقد ذقنت على راحتي، سأشاهد العمال في مصنعهم ينشدون الأغاني ويلغطون، وسأرى المداخن والأجراس، وصواري المدينة، والسماء المترامية الأطراف التي تجعلنا نفكر في الأبدية.
إنه لبديع أن ترى، خلال الضباب، النجمً حين يتهلل في زرقة السماء، والمصباح في النافذة.
وأن ترى أنهار الدخان، وهي تتصاعد إلى قبة الجوزاء، والقمر ينثر إشراقه الشاحب.
سأرى الربيع والصيف والخريف، وعندما يُقبل الشتاء، بصقيعه الممل، سأغلق الأبواب والشبابيك لكي أشيد قصوري الخيالية الرائعة، تحت جنح الظلام.
حينئذ أهفو بأحلامي إلى الآفاق الزرق، وإلى الرياض، والينابيع التي تذرف دموعها على المرمر، وإلى القبلات، والطيور التي تغرد صباحاً ومساء، وإلى كل ما في الهوى من براءة الطفولة.
ولن تستطيع الرياح، مهما ثارت وعصفت بنوافذي أن ترفع جبيني من فوق مكتبي،
لأنني سأكون ذاهلاً في تلك النشوة التي أجدها حين أبعث الربيع بمشيئتي، وحين أنتزع شمساً من فؤادي، وحين أخلق جواً دافئاً من خواطري الملتهبة.
ترجمة
عثمان علي عسل(500/31)
البريد الأدبي
الدكتور أمين المعلوف باشا
في ليلة الخميس 21 يناير العالم الجليل الدكتور أمين المعلوف باشا نفسه بعد مرض طويل حجبه عن الناس ومنعه عن العمل، فشق نعيه على جمهرة العلماء والأدباء، ممن عرفوا فضله على العلم واللغة، وعلموا مكانه في الأدب والخلق، وصادقوا فيه الرجل الذي لا يتغير، والعالم الذي لا يدَّعى، والعامل الذي لا يكل. كانت حياته رحمه الله كحياة النبع الصافي يرسل حوالبه النماء والخصب من غير هدير ولا كدورة. ثم توفاه الله أمجد ما يكون ماضياً وأطيب ما يكون سمعة. كان ضابطاً ممتازاً في القسم الطبي بالجيش المصري، ثم قضى بضع سنوات في الخرطوم. ولما قامت الحركة العربية في الحرب الماضية انضم إليها، وكان من العاملين الصادقين فيها. ثم اختاره المغفور له الملك فيصل الأول كبيراً لأطباء جيش العراق، فأدى واجبه العلمي والعسكري على أفضل وجه حتى ارتقى كفاءته وحسن بلائه إلى رتبة فريق. ثم بلغ سن التقاعد فرجع إلى القاهرة واشتغل بالبحث والتأليف فنشر مقالات ممتعة في الحيوان والنبات والمصطلحات العلمية والشوارد اللغوية، ووضع في الحيوان قاموساً يعتبر مرجعاً في بابه. وقد اتصف الفقيد بالوفاء والمروءة والإباء، فأحلته جميع هذه الصفات منزلة رفيعة بين جميع من اتصلوا به.
رحمه الله رحمة واسعة وعزى عنه أسرته وأمته خير العزاء.
1 - الأوامر بين الطاعة والعصيان
في العدد 212 من مجلة (الثقافة) مقال للأستاذ أحمد أمين بك عنوانه (في الطريق). وهو مقال ينطوي على فكرة دقيقة تستحق الإشارة وتستوجب التعقيب. فالأستاذ يظهر في كلمته العجب البالغ من هذه الطاعة التي يحظى بها (عسكري المرور) ويذهب في تعليل ذلك إلى احتمالات شتى ينتهي برفضها جميعاً: فليس لشخصية عسكري المرور عنده أثر في إيجاد هذه الطاعة، لأن هناك (من هم ضعاف الشخصية ويسمع لقولهم في الطريقي كأقوياء الشخصية سواء بسواء. . .) وليس لـ (قوة القانون)، ولا للخوف من (العقوبة الحتمية السريعة) التي يستتبعها الإخلال به، أثر أيضاً في تحقيق ذلك الخضوع العجيب. ولهذا يحار الأستاذ - كما يقول - في بيان السبب فيتركه لقرائه. وهو يستعرض عقب هذا أوامر(500/32)
الأطباء التي تخالف، وأوامر العسكري نفسه - إذ جاوز المرور إلى البائعين والبائعات - وأوامر التسعيرة؛ تلك الأوامر التي تهمل جميعاً ويجملها كل مأمور بها تحت قدمه ودبر أذنه؛ أو يحتال على التخلص منها بألطف الحيل وأعجب المحاولات. . . ويخلص الأستاذ من هذا إلى تقرير الحقيقة التالية وهي أن (فعل الأمر وحده لا يكفي في التنفيذ، وإنما يحمل على التنفيذ أمران ممتزجان أتم الامتزاج، فعل الأمر ونفسية الآمر. فإذا كانت نفسية قوية وجدت السامع تتخاذل نفسه أمام الأمر، وأحس أنه أمام قوة كهربائية هائلة، فاضطر إلى تنفيذ فعل الأمر رغم أنفه) إلى آخر ما ورد في المقال
ولقد فات الأستاذ في هذا الموضع الإشارة إلى نقطة دقيقة كان ينبغي أن يوطد عليها نظريته في الطاعة؛ تلك هي (شعور المأمور ونفسيته) لا حيال الآمر في قوة شخصيته وضعفها، بل حيال الأمر نفسه في نفعه له أو ضرره، وفي مبلغ إدراكه لهذا النفع أو الضرر
فالمريض لا يقرن أمر طبيبه بقوة شخصيته أو ضعفها، فينفذه أو يخل به بحسب ذلك. وإنما يقرنه بمبلغ شعوره الخاص إزاءه.
ولتوضيح هذا نقول إن أكثر المخالفة إنما تقع في دور النقاهة والإبلال من المرض، حين يستروح المريض نسيم العافية، ويرى أنه جاوز غمره الداء وسلم من مضاعفاته. فقد يدخل في وهمه إذ ذاك أن أوامر الطبيب إنما هي من قبيل الاحتياط والتوقي، فلا عليه من مخالفتها أو إهمال الدقة في تنفيذها، إذ الضرر في ذلك يسير محتمل، إن لم يكن وهماً متخيلاً قد لا يتحقق له وجود. ولو عرف المريض ما تجر عليه هذه المخالفة وتيقن سوء مغبتها، لما أقدم على خلاف الطبيب في أمر له، جل أو حقر.
ومثل هذا نقوله فيما يُرى من مخالفة أوامر الوعاظ والمعلمين، وأوامر التسعيرة، وأوامر العسكري نفسه (حين يجاوز المرور إلى البائعين والبائعات). . .
ويؤدي بنا تقرير هذه الحقيقة إلى إدراك السبب الذي حار الأستاذ في بيانه فتركه لقرائه. . . إذ أن مخالفة (عسكري المرور) في إشارته معناها الموت المحق تحت عجلات سيارة قادمة، أو قاطرة ترام مندفعة؛ وطاعة أمره هي النجاة بعينها من موت محتوم والسلامة من خطر مائل يستشعره القلب وتراه العين. وهل يتردد العاقل لحظةً في الاختيار بين سبيلين:(500/33)
أحدهما مُفْض إلى الموت والثاني موصول بالسلامة محفوف بالنجاة والعافية؟. . .
2 - أين السليط من (السالاد)
يقول العلامة الكبير الأستاذ وحيد الأيوبي في إجابة له عن معنى السليط - الزيت -: (أرى أن منه ما يقال له (سلطة) بفتحتين. . وقد يوهم هذا الكلام أن ثمة علاقة لفظية أو معنوية بين الأصلين العربي والإفرنجي؛ وتسجيلاُ لرأيي في هذا الموضوع أقول:
جاء في قاموس القرن العشرين - الإنجليزي - في شرح مادة ما خلاصته أن هذه اللفظة تطلق على مركَّب غذائي يتألف من عدة نباتات غير مطبوخة كالخس والهندباء والخردل والجرجير والبصل والطماطم وغيرها. . . تقطع جميعاً وتعالج بالملح والخل وأصناف التوابل. . .
وثمة نوع من الزيت - زيت الزيتون خاصة - وعصارة لبعض الأفاويه المعروفة، يستعملان في (تهيئة) هذا الإدام المشار إليه، ولذا يطلق عليهما اسم - أو - فهذا كل ما وجدناه من علاقة بين الزيت المعروف ومدلول كلمة أما السليط في اللغة العربية فهو - كما ورد في القاموس - (الزيت، وكل دهن عُصِر من حّبّ) ولا يخرج إلى معنى غير هذا. . .
ومن ثم يتضح انقطاع العلاقة في المعنى بين الأصلين العربي والأجنبي، كما يتضح لنا انقطاع العلاقة اللفظية بينهما أيضاً، إذا عرفنا أن كلمة الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية بمعنى ملح. وواضح أن كلمة (سّلَطة) في لهجيتنا العامية تحريف لأحد هذه الألفاظ الأعجمية تسرب إلينا بحكم المخالطة؛ فهي لا تمت إلى الأصل العربي بأدنى سبب
ومن الغريب أن الاستعمال المجازي لهذه الكلمة جرى في اللغة العربية وفي غيرها مجرى متقارباً؛ فمن معاني السليط عندنا: الشديد، والحاد من كل شيء، والرجل الصخّاب (والمرأة سليطة). . . ويسمى الإنجليز أيام الشباب الهوجاء التي ينقصها الحنكة والتجارب
على أن هذا التشابه الذي أوجدته الصدفة المحض بين الأصلين - في لفظهما وفي معناهما الحقيقي أو المجازي - لا يحول بيننا وبين أن نقرر تمامَ انقطاع الصلة بينهما؛ إلا أن يُثبت لنا أحد الأدباء بدليل قاطع وجود علاقة بين الأصلين العربي واللاتيني، وهذا ما لا نستطيع الجزم به. . .(500/34)
بقي أن نشير إلى أننا حاولنا تتبُّع اللفظ العربي إلى أصوله - إن كانت توجد - في اللغتين العبرية والسريانية؛ ولكن لم تُسعد المصادر التي بين أيدينا الآن على تحقيق هذه الرغبة؛ فهذا باب آخر للبحث نتركه مفتوحاً لمن يحسن وُلوجَه. . . والله يهدينا جميعاً إلى الحق.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
الرجولة والرجولية
يذهب بعض علماء اللغة في كتبهم إلى التفرقة بين (الرجولة والرجولية) فيقولون: إن (الرجولة) مصدر يدل على مجرد الحدث وأما (الرجولية) فمصدر صناعي يدل على الحدث مع الدلالة على معنى المروءة والإقدام وحماية الذمار الخ. ويعللون لذلك بأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى
ويذهب بعضهم الآخر إلى أنه لا فارق بينهما، فكلاهما مصدر لا يدل إلا على مجرد الحدث، كما أنه لا فارق بين الطفولة والطفولية، ويستدلون لذلك بأن معاجم اللغة تكرها دون أن تفصح عن فرق بينها لو كان لنبهت عليه.
وأما قولهم (إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى) فذلك لبيان الغالب وليس بمطرد. . .
فأي الرأيين أجدر بالصواب وأحق بالإتباع؟ هذا ما أسأل قراء الرسالة عنه ولهم جزيل الثناء.
علي محمود الشيخ
(إشراقة) ديوان التيجاني بشير
في سنة 1935 حملت (الرسالة) الغراء لواء دعوة من أكرم الدعوات، إذ بدأت تنشر على صفحاتها فصولاً تعرّف القراء فيها بالنهضة الأدبية الحديثة في الأقطار العربية، وكان من وراء ذلك أن رأينا أقلاماً عربية قوية تسمعنا أصوات أصحابها من الأقطار الشقيقة في ميداني النثر والشعر؛ وكان من بين هذه الأصوات التي انبعثت من فوق منبر (الرسالة) صوت شاعر الشباب السوداني التيجاني يوسف بشير الذي لم يمهله القدر فاستأثر به عام(500/35)
1937 عن خمسة وعشرين عاماً استطاع في أثنائها على قلتها أن يسمعنا أغاريد مشجية من الشعر السوداني الحديث!
وقد قام الوجيه السوادني المعروف الأستاذ علي البرير بطبع ديوان المرحوم التيجاني (إشراقة) على نفقته الخاصة وأهداه إلى روح ناظمه، وصدره بكلمة للأستاذ الكبير محمد محمود جلال عن قصته مع الشاعر، وكلمة للدكتور زكي مبارك عن الروحانية السودانية، وسيوزع ريع الديوان على ذوي الشاعر ومواطنيه. وقد ظهر فيما يقرب من 100 صفحة، ويحوي قصائد جيدة للشاعر في الوجدانيات والإخوانيات والوطنيات والتصوف والرثاء الوصف وغير ذلك. وشعر التيجاني يمتاز بعمق الفكرة ورصانة الأسلوب والإحاطة بالموضوع والافتنان في المعاني، ولا تتسع كلمة عابرة كهذه لتفصيل القول في ذلك. . .
ونحن ننتظر أن يلقي الديوان ما هو جدير به من الإقبال، وأن يعني بدراسته والكتابة عنه أدباؤنا، فهو أصدق صورة للشعر الحديث في القطر الشقيق!
أحمد الشرباصي
البكاء بعين واحدة
كنت وما زلت معجباً بأبيات الصَّمَّة بن عبد الله القشيري التي يقول في مطلعها:
حننت إلى ريا، ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعبا كما معاً
وكنت أقف عند هذا البيت الذي يقول فيه:
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً
فأعجب كيف اتفق لهذا الشاعر أن يبكي بعين واحدة، ثم يعود فيبكي بكلنا عينيه؟! وكنت أتساءل: هل يتفق هذا لكل الناس أم أنها حال خاصة لا تخضع لقانون ثابت، ولا تجري على سنة مطردة؟. . . وأخذت أفكر فخطر لي أن هذا الشاعر قد يكون أعور، فيتصور منه البكاء بعين واحدة، وبدا لي هذا الخاطر معقولاً لولا اعتراض قام بالذهن، هو أن كون الشاعر أعور إنما هو محض افتراض لا يقوم على أساس، ولا ينهض على دليل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هل يمكن أن تدمع العين العوراء حتى يتصور بكاء الأعور بكلتا عينيه؟ وأخذت أبحث عما يدفع هذا الاعتراض، ويصحح ذاك الافتراض، وأخيراً وقفت(500/36)
إلى ذلك - وما توفيقي إلا بالله - فقد قرأت في (عبقرية عمر) للأستاذ الكبير العقاد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل متمم بن نويرة، وكان هذا شديد الحزن لمقتل أخيه مالك: - ما أشد ما لقيت على أخيك من الحزن؟ فقال: كانت عيني هذه قد ذهبت فبكيت بالصحيحة فأكثرت البكاء، حتى أسعدتها العين الذاهبة وجرت بالدمع. ثم قرأت هذه الأبيات في الجزء الثالث من شرح ديوان الحماسة فوجدت التبريزي الشارح رحمه الله يعلق على البيت السالف بقوله: وإنما قال: (بكت عيني اليسرى) لأنه كان أعور
وبذلك سقط الاعتراض وصح الافتراض. والله أعلم.
إبراهيم محمد نجا
الشعر وجامعة فاروق
نهضت الحركة الأدبية بالثغر الحبيب نهضة مباركة منذ بزغت شمس جامعة فاروق. ولا غرو فإن حيوية الأدب لا تنشر وتكتسب كما قال أستاذنا الكبير الزيات، إلا (بمخالطة الصفوة من رجال الأدب. . . وأنه إذا كان الاستمرار على دراسة الروائع الأدبية ضروري لضمان الخلود، فإنه ولا ريب يكون لذوي الفرائح الناشئة ضرورياً لاستكمال الوجود)
وإن أصدق شاهد على صدق هذه القولة الحكيمة من صاحب (الرسالة) الغراء، أن روح الأدب قد تألقت مع إنشاء الجامعة الجديدة؛ فكان من مظاهر هذه النهضة تكوين جماعة للشعر لأول مرة في كلية الحقوق يشرف عليها مدرس الشريعة الأستاذ عبد الفتاح البانوبي، ويرأسها الشاعر حسين محمود البشبيشي
ولقد أقامت الجماعة مهرجانها الأول بدار الجامعة في الأسبوع الماضي، ألقيت فيه بعض القصائد الجياد. وستوالي الجماعة إقامة مهرجاناتها الشعرية شهرياً، وستختمها بمهرجان كبير يشترك فيه شعراء الإسكندرية المبرزون
عبد العزيز البسي(500/37)
المسرح والسينما
الفرقة المصرية
قالوا إن الفرقة القومية (القديمة) لم تؤد رسالتها، ولم تقم بواجبها، ولم تفعل شيئاً مما خلقت له. والحق أنها وقفت جامدة في مكانها فلم تتقدم خطوة واحدة، وكان ذلك راجعاً إلى سوء الإدارة - كما أعتقد -
. . . وقالوا إن الفرقة المصرية (الجديدة) ستكون مثلاً أعلى للنهضة بفن التمثيل في مصر بعد ما أدخل عليها من تعديل وتبديل، وبعد ما أثير حولها من قال وقيل، فماذا فعلت الفرقة المصرية الجديدة؟!
أشهد أنها قد أجادت في الإعلان عن نفسها وسلكت في الدعاية لأعمالها كل السبل؛ ولكنها - وا أسفاه لم تعمل شيئاً غير ما كانت تعمله الفرقة المنحلة اللهم إلا الدعاية. . . والدعاية فقط
قدمت الفرقة في الأسبوع الماضي مسرحية (مروحة الليدي وندرمير) للكاتب الإنجليزي المعروف أوسكار وايلد ومن تعريب الأستاذ عباس يونس وإخراج الأستاذ فتوح نشاطي. وقد اشترك في تمثيلها لفيف من ممثلي الفرقة نذكر منهم الأساتذة: حسين رياض وسراج منير وفؤاد شقيق وفؤاد فهيم، والسيدات زينب صدقي ونجمة إبراهيم وإحسان شريف وسامية فهمي وغيرهم. وقد جاء الإخراج غاية في الإتقان والتمثل غاية في المقدرة. ولكن المسرحية - للأسف - بعيدة كل البعد عن مجتمعنا فهي لا تلائمه، ولا تدور حوادثها في مثل بيئتنا. ولست أدري لماذا قدمت الفرقة هذه المسرحية التي لا تمت إلى أخلاقنا وعاداتنا بصلة؟! أعجز الكتاب والمؤلفون المصريون عن خلق الرواية المصرية حتى تلجأ الفرقة إلى أدب الغرب تستعير منه وتأخذ عنه؟! أم ماذا؟!. . .
نحن لا نعارض فكرة الترجمة في حد ذاتها. وإنما نعارض أن تترجم للفرقة (المصرية) روايات لا تلائم ولا تتفق مع الخلق المصري فيكون تمثيلها نوعاً من العبث لا يؤدي إلى الغرض المقصود الذي من أجله تتفق هذه الأموال الطائلة. وحن لا نريد أن نجحدهم فضلهم، وإنما نريد أن نشير عليهم بالوجهة الصحيحة حتى يتلافوا الوقوع في أخطاء الماضي(500/38)
وأخيراً نتمنى للفرقة المصرية الجيدة كل تقدم وارتقاء
كلمة واجبة
ليس أفسد للفن ولا أضر على البلد من مصيبة مصر بأدعياء كبراء في الادعاء هرولوا سراعاً إلى مراكز فنية فرضوا نفوسهم عليها بالمال، ويا لضيعة الفن من أصحاب المال!
إن في مصر فوضى كبيرة في السينما مبعثها ومثيرها ومدبرها أمر واحد هو أن كل تاجر يريد الربح العزيز يلقي بعض ماله مكوناً شركة سينمائية، يؤلف قصصها، ويمثل أدوارها، ويخرج أفلامها فارضاً نفسه (كفنان) على الشعب ناسياً (أو) متناسياً أنه ينقصه الطبيعة الفنية، والحاسة، والذوق، والإلهام
لست أدري على من ألقي التبعة في هذا المقام؟! أعلى الشعب الذي يلقف كل ما يلقي إليه لأن السينما فن جديد؟! أم على أولى الأمر الذين يصرحون بعرض مثل هذه السخافات على الناس فيكونوا بذلك قد جنوا على أذواق الجماهير وعلى رسالة الفن في ذاته؟! أمر محير فهل يمكن تداركه قبل أن يستفحل؟! ليس أمامي مفزع سوى وزارة الشئون الاجتماعية ووزيرها أضرع إليه في أن يوجه عنايته إلى أمر الفوضى الضاربة في الفن السينمائي ويجتث أصولها حتى يضمن للفن المعاني أن يقيم أبنيته على أساس نقي نظيف.
عبد الفتاح متولي غين(500/39)
العدد 501 - بتاريخ: 08 - 02 - 1943(/)
في السياسة القومية
بين الأخوة. . .
أسرتان أختان ورثتا أمجاد الدهر، ورفعتا أركان الحضارة، وعاشتا على النعماء والبأساء ثلاثة عشر قرناً يظلهما وطن كريم، ويغذوهما نهر فياض، وترعاهما شريعة سمحة، وتربط بينهما أواصر خالدة من صلة القربى، وحرمة الجوار، ووحدة المنفعة، لا يجوز أن يعبث بوحدتهما المقدسة عابث لنزوة غضب أو شهوة خلاف.
تلك كانت كلمتي لصديقي ف. ب، وهو من سراة الأقباط الذين اعتقدوا مبادئ الوفد وضعها الزعيم سعد؛ قلتها له حين أنكرت في بعض حديثه معنى من معاني العصبية المفرِّقة التي ماتت ألفاظها في لغتنا المصرية منذ طويل. وكان صديقي هذا إلى يوم قريب لساناً من ألسنة الوفد، يؤمن برسالته، ويخلص لسياسته، ويخضع لزعامته، ويعتقد أن مبادئه هي الدِّين المشترك الذي تصلح عليه الأمة، وتتحقق به المساواة، وتشرق فيه العدالة، ويطهَّر به الدم المصري من جراثيم الفرقة فلا يكون لابن النيل إلا وصف واحد يُشتق من مصريته، لا من عقيدته ولا من عنصريته. فما هو إلا أن غضب من رجال الوفد غاضب يتمنى إليه حتى أصبحت مبادئ الوفد كفراً، وسياسته غدراً، وزعامته فجراً، وحكمه محاباة؛ وحتى صار الخلاف بين رجل ورجل، خلافاً بين عنصر وعنصر، وبين دين ودين، وبين كثرة وقلة سوى بينهما الفضل لا العدل، فلم يعد هناك كثرة ولا قلة، ولا عزة ولا ذلة، ولا قرابة ولا بعد
أهكذا يا صديقي نُحكم الهوى في الرأي، وننصر العصبية على الوطنية، ونصدع ما أراد سعد أن يُرْأب، ونقطع ما أمر الله أن يوصَل؟ إن كان لم يقنعك ما قلت، فإني لأرجو أن يقنعك ما أكتب:
إن توحيد الأمة معنى من توحيد الله لا يوسوس بتوهينه في الصدور إلا شيطان. وإن هذا الشعب المفطور على السماحة والوادعة والألفة، لم يسجل عليه تاريخه الطويل أن بعضه تعصب على بعضه إلا بمكر الدخيل أو غدر الخائن. وإن الإسلام الذي يرتع في ظلاله اليهودي المضطهد، والأرمني المبعَد، والرومي المهاجر، والأوربي المستعمر، لا يمكن أن يكون مصدر شقاق بين عنصرين شقيقين خلقا من طينة واحدة، ونبتا في مغرس واحد.(501/1)
وإذا جاز للأجنبي أن يعكر الماء ليصيد، ويفرق الأهواء ليستفيد، فلا يجوز للوطني البر أن يمزق الوحدة لينتقم، ويوقظ العصبية ليغلب!
لقد كان التمييز بين المصري وأخيه بالإسلامية والقبطية، أو (بالأكثرية والأقلية)، أثراً من آثار الحكم الجاهل، أو أداة من أدوات الاستعمار اللئيم. ومصداق ذلك أن الأمر لم يكد يصير في أهله حتى أمحت الفروق، وشاعت الحقوق، وتعانق الهلال والصليب، وتآخي الشيخ والقس، وماتت الصحافة الطائفية، وأصبح المصريون أمة واحدة تجد فيها المسلم والقبطي، كما تجد الوفدي والدستوري، ولكنك لا تجد للعقيدة الدينية أو النحلة السياسية أثراً سيئاً في علاقة خاصة أو معاملة عامة. وبهذه الوحدة المقدسة تميزت مصر على أمم الشرق، وقدمت إليهن مثلاً عالياً في الوطنية الصادقة والسياسة الحكيمة
إن تقسيم الناس على عدد الأديان والألوان خلق من أخلاق الجاهلية لا تزال الإنسانية تقاسي ما ورثت من عقابيله. وإن استغلال هذه المعاني اليوم في تحقيق غرض من أغراض السياسة وسيلة مكيافيلية لا يطمئن عليها ضمير حي. وإن زعمك يا صديقي أن غضب الأسرة لغضب واحد منها نزعة في أصل الطبع لا حيلة فيها، يكون له مساغٌ في العقل إذا كان الغضب لها والخلاف من أجلها، أما إذا كان الشقاق والانشقاق لخلاف في السياسة العامة، فإن في مغالبة فريق بفريق، ومواثبة عنصر بعنصر، دليلاً على نية سوء لا يصلح صاحبها أن يكون زعيماً يطاع ولا إماماً يتّبع.
لا يا صديقي! لم تكن فكرة التميز والتحيز في عهد من العهود سبيلاً إلى مصلحة الوطن؛ فإن تقسيم الحقوق والواجبات على مقتضى النسبة العددية شديد على الفريق الأقل. وإن انقسام الأمة إلى فريقين متعارضين، خليق بما يحمل من معاني الأثرة والتعصب أن يوقع الوحشة بين الأخوة فلا يجمعهم ظل ولا تدنيهم مودة
لك يا صديقي ولجميع الناس أن تختلفوا وتختصموا؛ ولكن عليك وعلى جميع الناس أن تراعوا جانب الحق في الخلاف، وتؤثروا سلاح الحق في الخصومة. وما دمتَ من رجال السياسة وطلاب الحكم فيجب أن يكون رأيك للجماعة وسعيك للجميع. أما أن تفرق لتسود، وتقسم لتقود، فذلك جرم وطني لا تسعه مغفرة
اتقوا الله في الوطن يا صديقي، ولا تفتحوا عليه باب الفرقة فإنه باب ظاهره فيه الخراب،(501/2)
وباطنه من قِبَله العذاب
لا تقولوا نحن وأنتم، ولا فعلنا وفعلتم؛ فإنها من بقايا الجمل التي كان يلقيها علينا الأجنبي فنمضغها مضغ الجيف، ثم لا يأمن بها عيش ولا يسمن عليها بدن
نحن وأنتم اخوة توشَّج ما بيننا من صلات النسب على طول القرون، فإذا قيل لكم إنكم طائفة في أمة، وذمة في دين، وعصيبة في حزب، فادفعوا هذا القول الظنين بمنطق الوطني المؤمن، واربأوا بأنفسكم أن تكونوا مطيايا ذُلُلاً لأصحاب المطامع يقتحمون بكم مزالق السياسة. واذكروا أن أثمن ما غنمناه من جهادنا الطويل هو توحيد الأمة، وان توحيد الأمة كما قلت معنى من توحيد الله لا يوسوس بتوهينه في الصدور إلا شيطان.
أحمد حسن الزيات(501/3)
هل أدت الجامعة رسالتها؟
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
في عصرية السبت الماضي أقيمت مناظرة في كلية الآداب أريد بها تحديد المدى الذي وصلت إليه الجامعة في تأدية رسالتها العلمية والأدبية والاجتماعية، واشترك في المناظرة طالب وطالبة، واثنان من الخرجين، واثنان من المدرسين، وقد دامت المناظرة نحو ثلاث ساعات، وحضرها جماهير من بيئات مختلفات، ولم يقع فيها ما يسوء برغم العنف الذي ثار تصريحاً أو تلميحاً بين المؤيدين والمعارضين. ومع أني كنت أؤيد الرأي فقد راعتني الحجج التي قدمها من عارضوني، لأن أحدهم وهو الأستاذ حسين دياب حضر ومعه عددان من مجلة (الرسالة) فيهما كلمات تشهد بأني قلت مرتين بأن الجامعة لم تؤد رسالتها على الوجه المنشود
كانت كلمتي مكتوبة، ولكني اختصرتها لضيق الوقت، فتجمع الحاضرون حولي عند الانصراف، ورجوني أن أنشرها في (الرسالة) كاملة ليقرءوا ما فاتهم أن يسمعوه، فأنا أقدمها إلى (الرسالة) تحقيقاً لذلك الرجاء النبيل
وتكميلاً للغرض أسوق الملاحظات الآتية:
1 - أجمع المعارضون أن الصلة بين الجامعة وخريجها منقطعة تمام الانقطاع، وأن الجامعة لا تعرف غير من تراهم من الطلبة والمدرسين. ولو كانت الجامعة أدت رسالتها لكان من الواجب أن تهيئ لأبنائها القدماء فرصة التلاقي في رحابها في كل عام مرة أو مرتين
2 - كان اللحن الفظيع يغلب على بعض المعارضين، وكان الجمهور يقابل اللحن بالضجيج، وقد اعتذر أحد المعارضين بأن لحنه من الشواهد على أن الجامعة لم تؤد رسالتها، فكان ألطف اعتذار في التاريخ الحديث!
3 - وردت في خطبتي كلمة موجهة إلى العميد، فأسرع بعض المدرسين ليسر في أذني كلاماً يرجوني فيه ألا أحرج العميد وكان الظن أن يدركوا أن العميد أقوى مما يظنون؟
4 - كان اثنان من المدرسين المشتركين في المناظرة يقلدان الدكتور طه حسين في التعابير(501/4)
وفي مخارج الحروف، وهذا دليل على ضعف الشخصية، فأنا أحب أن يكون لكل خطيب وجودٌ خاص
5 - المنطق قد انعدم في بعض أقوال المعارضين، فقد توهم أحدهم أن الجامعة لا تؤدي رسالتها إلا إذا عمل خريجوها بالمجان في جميع الميادين، ونص بالحرف على أن الأطباء في المستشفيات يتناولون مرتبات، وهذا في رأيه ينافي الروح الجامعية
6 - الألفاظ كانت فضفاضة عند بعض الخطباء حتى كدت أحس أن المناظرة لا تدور في المدرج الأكبر بكلية الآداب!
7 - كان أحد الخطباء يوهمنا أنه يرتجل مع أنه حفظ خطبته عن ظهر قلب!
8 - حدثنا أحد المعارضين عن تقاليد الجامعات الأوربية بكلام هو غاية العجب، مع أن عينه لم تكتحل برؤية جامعة أوربية، كما قال أحد المؤيدين، فمن أين استقى هذا المدرس المفضال معلوماته المبعثرة عن تقاليد الجامعات الأوربية؟
9 - الأديب سعيد محروس كان يقلد الخطيب محمد شكري في الإشارات والنبرات، وهذا دليل على أن الروح لا يموت، فقد كان محمد شكري أظهر خطباء الثورة، ثم انهزم لأنه عجز عن مسايرة الأحزاب
10 - الآنسة كوثر عبد السلام أجادت في المعاني، ولكنها عقت النحو عقوقاً لا يطاق. فذكرتنا بقول أحد الشعراء:
منطقٌ صائبٌ وتلحن أحيا ... ناً وأحلى الحديث ما كان لحنا
11 - حضر الأميرالاي علي حلمي لشهود المناظرة، وفي الطريق إلى المدرج لقينا الدكتور محمود عزمي، فقال له سعادة الأميرالاي: لعلك حضرت لنفس الغرض! فقال الأستاذ محمود عزمي: إن عندي حصتين في معهد الصحافة. فقلت: هات تلاميذك ليشهدوا المناظرة، فقد يختزنون مناظر تنفع في حياتهم الصحفية، فاعتذر بلطف وانصرف
هذه هي الصحافة التي تعرفها كلية الآداب، صحافة نظرية لا علمية، صحافة تأخذ وقودها من التاريخ لا من الحياة، صحافة تنكر الرحلات من حجرة إلى حجرة في مكان محدود، مع أن من واجب الصحفي أن يرتحل من قطب الشمال إلى قطب الجنوب
أما بعد فأنا آسف على ما أثبت في خطبتي من أن كلية الآداب خدمت الصحافة بإنشاء(501/5)
معهد الصحافة، ولن أمحو ما أثبت، لأني لا أريد التسجيل، وإنما أريد الإيحاء
ولم يبق إلا أن يتفضل أخي الأستاذ الزيات فينشر خطبتي بالحرف، مع الرجاء في أن يتذكر أني لم أثن على الجامعة المصرية بغير الحق، رفع الله دعائمها إلى الأبد، وجعلها منارة باقية إلى آخر الزمان.
أيها السادة
حين دُعيت للمناظرة في هذا الموضوع الطريف قلت لنفسي: إن لجنة المناظرات بكلية الآداب هبط عليها الوحي من حيث لا تحتسب ولا تعرف، فإن هذا الوقت هو أنسب الأوقات لوزن أعمال جامعة فؤاد الأول. ألم تسمعوا بأن الاحتفال الرسمي بافتتاح جامعة فاروق الأول سيكون في الأسبوع المقبل؟
إن في ذلك لفرصة لوزن ما لجامعة القاهرة وما عليها بالعدل والقسطاس، وهو أيضاً توجيه لجامعة الإسكندرية، فما أظنها تكره أن نمدَّ إليها يد الرفق، لنعاونها على مصارعة الأمواج، وهي في بلد الأثباج
وكان المنتظر أن أكون في الصف الذي ينكر أن تكون الجامعة قد أدت رسالتها، ولكن لجنة المناظرات رأت أن قوتي في الهجوم، فبخلت بإعطائي فرصة جديدة أرفع فيها العَلَم لقلمي وبياني، في المكن الذي صاولت فيه كبار الرجال، بغير تهيب لعواقب الصيال
أو لعلها أرادت أن أشهد علانية بتمجيد الجامعة بعد أن حاربت من حاربت من رجالها الأبطال. إن كان ذلك ما أرادت فلن تنال ما تريد، لأن من رسالة الجامعة أن تروض أبناءها على الخلاف، ونحن نختلف أقل مما يجب، ويا وليلنا إذا لم نختلف!
فلا تحسبوني أغمدت القلم الذي أعددته لمصاولة زملائي، ولا تتوهموا أني سأعفي الجامعة من النقد الصريح، يوم أراها تقع فيما يوجب الانتقاد، فأنا أومن بأن الحرب حياة وبأن الصلح موت، وأنا الذي قال حين تنادي رجال الأقلام إلى الوفاق:
دعوتم إلى وأد الخلاف فحاذروا ... عواقبِ حلفٍ خير آثاره الختل
دُعوا الصلح للأموات فهو غذاؤهم ... هنيئاً لهم ذاك المكان الذي حلُّوا
ألاَ هل سمعتم أن قبراً تحركتْ ... حجارته فانزاح من فوق الثِّقْلُ
يجوز لقومٍ غيرنا أن يؤلفوا ... عصائب يحميها من النكثة الفتل(501/6)
ونحن رجالٌ سرُّنا في خلافنا ... وقوّتنا العليا هي الفتك والصول
تآخي الظباء الرُّود رمزٌ لضعفها ... وهل تعرف الآساد ما الجمع والشمل
أيها السادة:
أتذكرون المناظرة التي اشتركت فيها بهذا المكان منذ سنتين أو ثلاث؟
لقد جئت وبيميني صحائف مكتوبة، لآمن التزيد الذي يستبيحه بعض المتناظرين، رغبة في كسب الأصوات، أو طمعاً في التغلب على مفكر لا يعتزّ بغير العقل والبيان
وقد رأيت أن ألقاكم بصحائف مكتوبة، مع أن مقامي هذا لا يحتاج إلى احتراس، بعد أن أعفتني لجنة المناظرات من النضال حين خصّتني بالجانب الأقوى في مناظرة هذا المساء، فاعرفوا أني قيدت كلامي، لأني سألقيه في أحد مدرجات الجامعة، والجامعة لا ترضى لأبنائها أن يتركوا الأوابد بلا قيود
ولكن كيف أخاف الإسراف في إبراز محامد الجامعة، وليس في الخير إسراف؟
الجامعة هي كل ما غنمنا من جهاد العوام التي أربت على الستين في مقاومة الاحتلال
الجامعة هي صوت مصر في الشرق، وقد اختارت الضفة الغربية من النيل رمزاً لما تسموا إليه من نقل عقل الغرب إلى روح الشرق
إن الجانب الذي سأتحدث عنه هو الجانب الأقوى، ولكنه مزعج، لأنه سيقهرني على مواجهة مشكلة من أصعب المشكلات، وهي توضيح الواضحات، وهل ينكر أحدٌ أن الجامعة أدت رسالتها قبل أن يولد بعض مناظريّ في هذا المساء؟
لم تكن للجامعة رسالة واحدة، وإنما كانت لها رسالات، وإليكم يساق الحديث:
كانت رسالتها الأولى أن تختبر العزائم والقلوب، لتعرف استعداد الأمة للتحليق في الجِواء العالية، يوم كان جماعة من خلق الله يقولون: إن السياسة الحكيمة للتعليم هي إعداد موظفين مصقولين. ونحن نعرف المواد من ذلك الصقل، فقد كان الغرض أن يكون عندنا موظفون لا يقولون (لا) ولو في التشهد!!
وقد كان المظنون أن تخفق الجامعة في تأدية تلك الرسالة، فقد كان الأمر يومئذ إلى حكومة مصقولة، حكومة تستهدي الاحتلال في حل بعض المعضلات، وكان الاحتلال يرى أن مصر تحتاج إلى كتاتيب لا إلى جامعات(501/7)
فهل أفلحت الجامعة في إيقاظ الروح القومي لتشعر المحتلين بأن مصر شبَّتْ عن الطوق، وانتهت من أبجديات الكتاتيب؟ هو ذلك، فقد أقبلت الأمة على تأييد الجامعة إقبالاً منقطع النظير، إقبالاً يشهد بأن الجسم الوهين عروقاً نابضات، وأن مصر علمَّت فلاسفة الإغريق والرومان في العصر القديم ستكون موئلاً علميّاً لليونان والطليان في العصر الحديث
تلك الرسالة الأولى، فما الرسالة الثانية؟
كانت الرسالة الثانية أن تجد الجامعة طلاباً يسعون لظفر بإجازات علمية، لا تعترف بها الحكومة المصرية، طلاباً لا أمل لهم في الوظائف والمناصب، ولا حظ لهم غير التشرف بخدمة الدراسات العالية، في زمن كان فيه تراب الوظيفة أثمن من التبر المسبوك، وأروع من خيوط الضياء
وذلك عهدٌ عرفتُه بدمي وروحي، وعرفه معي زملاء من أبناء الجامعة في عهدها الأول. . . كنا يتامى، وكان اليُتم المضطهد بعض ما ورثنا عن الأنبياء
لم يكن للجامعة ماضٍ تستند إليه، فقد سبقتها المدارس العالية بعشرات السنين، وسبقها الأزهر بعشرات القرون، ولم يكن لنا إخوان في أي ديوان، فقد عشنا حيناً غرباء، وكان من حق أي مخلوق أن يسخر منا كيف شاء، والحر في وطنه غريب
لقد حملنا أعباءنا الثقيلة ولا معين، ورحبنا بالمكاره السود، لنقنع الأمة بأن عدننا رسالة لم يحملها أحد من قبل، وهي رفع راية الفكر الصداق والقلم البليغ
في ذلك العهد كنا نسمع أن علوي باشا يطوف على الوزارات عساه يجد أمكنه للعائدين الفائزين من بعثات الجامعة المصرية، وكنا نسمع أنه يجاب بأن (الحكومة ستنظر في الأمر) وهي عبارة ديوانية معناها أن الحكومة السنية لا تعرف من أعضاء البعثات إلا من تنفق عليهم من مالها الخاص، كأن الجامعة كفرت حين عاونت الحكومة على تثقيف بعض أبناء الجيل الجديد!!
وحكومة مصر كما تعرفون تجهل أقدار الذين يعفونها من النفقات عند الرغبة في التزود من الجامعات الأوربية والأمريكية لأغراض مردُّها حب السيطرة على العلوم والعلماء
فهل جزعنا فيئسنا؟
هيهات، ثم هيهات، فقد رحبنا بالجهاد في مناصب الجامعة بعنفوان أقوى من عنفوان(501/8)
الزمان، وقد انتصرنا على الحكومة، وعلى الزمان
تلك الرسالة الثانية، فما الرسالة الثالثة؟
كان للجامعة وحيٌ يغزو القلوب والعقول، وقد تسامَى إلى غرض أعجب وأعرب، وهو إنطاق الصخر الجلمود، فقد أقنع الحكومة بأنْ لابد من إنشاء جامعة في الوطن الذي سبق جميع الأوطان إلى إنشاء الجامعات، فتألفت لجنة حكومية عقدت في أربع سنين جلسات تفوق الثمانين، لتقول في النهاية بتسمية المدارس العالية كليات، وبعض أنصار الحكومة في ذلك العهد كانوا يعرفون الأسماء ويجهلون المسميات
وحي الجامعة كان الوحي الصادق، فقد انسحبت الحكومة من الميدان بعد اليأس، وبقيت الجامعة تصنع بأحلام الشباب وقلوبهم وعقولهم ما تريد
في تلكم الأيام كان أبناء الجامعة يقتحمون الميادين العلمية والأدبية، وكانوا يقيمون البراهين الصوادق على أن فكرة الجامعة لن تموت، ولو قامت في طريقها ملايين العقبات
تلك الرسالة الثالثة
أيها السادة:
قبل أن أواجه العهد الثاني من عهود الجامعة المصرية، العهد الذي ابتدأ في سنة 1925، وهو العهد الأرحب والأخصب، أرى من الواجب أن أجمل القول في العهد الأول، بصورة تشعركم بقيمة الرسالات التي أدتها في ذلك العهد
كان للجامعة مبعوثون إلى الجامعات الأوربية من أمثال منصور فهمي، ومحمود عزمي، وصادق جوهر، وأحمد ضيف. ولا ينكر أحدٌ أن مبعوثي الجامعة كانوا أقوى من مبعوثي الحكومة. وكانوا أقدر على النضال في الميادين العلمية والأدبية والاجتماعية، وأنا في هذا المقام أضرب الأمثال، ولا أحاول الاستقصاء
وكان للجامعة في ذلك العهد أبناء تثقفهم في دارها من أمثال: طه حسين وكمال حلمي وفريد رفاعي وتوفيق المرعشلي وأحمد البيلي وحسن إبراهيم وعبد الوهاب عزام ومحمد إبراهيم الجزيري، فماذا صنع هؤلاء؟
لن أتحدث هن جهودهم بالتفصيل، فأنتم تعرفون من جهودهم أكثر مما أعرف، ويكفي أن أؤيد رأيي بشاهد واحد لكم بعض ما صنعت الجامعة في ذلك الحين(501/9)
في سنة 1914 تخرج أول دكتور من الجامعة المصرية، وهو الدكتور طه حسين، وقد قدّم لامتحان الدكتوراه رسالة سماها (ذكرى أبي العلاء)، رسالة ظنها الناس تأليفاً كسائر التأليف، ولكنها أدهشتهم حين طُبعت، فقد رأوا أن للجامعة نفَساَ أطيب من سائر الأنفاس، وأدركوا أن الجامعة تخلق أبناءها خلقاً جديداً، وأن لها رسالة جيدة، وأنها مصباحٌ سيبذّ ما سلف من المصابيح
ولم تكن رسالة الدكتور طه مثالاً يحتذيه طلبة الجامعة فحسبُ، وإنما امتد أثرها إلى آفاق بعيدة من أقطار الشرق
وقد قدّم الدكتور طه بعد ذلك بأعوام رسالة إلى جامعة باريس عن ابن خلدون، ولكنها ليست في قوة الرسالة التي قدمها إلى الجامعة المصرية عن أبي العلاء، فكان هذا برهاناً على أصالة الجامعة المصرية في تثقيف الأذواق والعقول
ثم ماذا؟
ثم نظرت الجامعة فرأت الحكومة تخنق التعليم في المعاهد العالية، فأنشأت قسم الحقوق في أعوام عجاف، هي أعوام الحرب الماضية، وكانت النتيجة أن تعترف الحكومة نفسها بأن أبناء الجامعة المضطهدة أقدر من أبنائها على الظفر بالدرجات العالية.
وفي ذلك العهد كانت دار الجامعة هي الموئل لكبريات الحفلات، ففيها أقيم الاحتفال بذكرى الشيح محمد عبده، مع أن الأزهر لم يحتفل بتأبين ذلك الإمام الجليل. وفيها احتُفل بتأبين فتحي باشا زغلول وعثمان باشا غالب، وفيها احتُفل بذكرى رينان، وفيها ألقيت عمرية حافظ إبراهيم وعلوية محمد عبد المطلب، وعلوية عبد الحليم المصري
وفي ذلك العهد. . . ماذا وقع في ذلك العهد؟
كان مجلس الجامعة المصرية ينتظم أكابر المصريين، وكان هو المكان الوحيد الذي يجتمع فيه أولئك الأكابر في أمان من الرقباء، وفيه تألف الوفد المصري برياسة الزعيم سعد زغلول.
ألا تكون هذه الناحية الخطيرة جانباً من رسالة الجامعة في عهدها الأول؟
زكي مبارك(501/10)
في التربية الديمقراطية
الحكم الذاتي في المدرسة
للأستاذ السيد يعقوب بكر
سوف لا نعرض في هذا البحث للتجارب التي أُجريت في هذه المسألة؛ فإن هذه التجارب كثيرة كثرة لا نستطيع معها حصرها في بحث مثل هذا البحث؛ وهي كذلك ذات صبغة بيئية إن صحَّ هذا التعبير، فهناك تجارب إنجليزية وتجارب أمريكية وتجارب أسترالية وتجارب فرنسية، وطبيعي أن هذه التجارب لا تهمنا كمصريين لهم بيئتهم الخاصة وتعليمهم الخاص الذي توحي به هذه البيئة؛ هذا إلى أن من هذه التجارب ما كان مسرحه المدرسة الابتدائية وما كان مسرحه المدرسة الثاموية وما كان مسرحه الجامعة، وواضح أن هذه التجارب لا تصلح لمدارسنا وجامعاتنا لسبب بسيط جدّاً وهو أن مدارسنا وجامعاتنا تختلف عن تلك المدارس والجامعات الأجنبية التي جعلت مسارح تُجري عليها تجارب الحكم الذاتي؛ كذلك أجريت تجارب في الحكم الذاتي على التلاميذ الذين لم يبلغوا سن البلوغ والمراهقة وعلى الطلبة الذين بلغوا هذه السن وهنا أيضاً لا نستطيع تطبيق هذه التجارب على من لم يبلغ هذه السن من تلاميذنا وعلى من بلغها لسبب بسيط جداً أيضاً، وهو أن هؤلاء يختلفون اختلافاً كبيراً عن نظرائهم في البلاد الغربية.
وإذن فلن نعرض لهذه التجارب التي أجريت في الحكم الذاتي. وإنما سنعرض فقط للمبادئ العامة التي تسيطر على هذا الموضوع.
وأول ما نفعله في هذا الصدد أن نبين مكان الحكم الذاتي من التأديب
فنحن نعرف أن الأستاذ مكمان يقسم تطور التأديب من حيث البعد عن الحرية أو القرب منها إلى ثلاث مراحل متتابعة: مرحلة الإرهاب ومرحلة التأثير بالشخصية ومرحلة التحرير
ففي المرحلة الأولى كان المعول على القوة وحدها، وكانت العصا أداة التفاهم الوحيدة بين المعلم والتلميذ
وفي المرحلة الثانية - وهي مرحلة انتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثالثة - هذب المربون من حاشيتهم ووقفوا من جفوتهم وإن لم زودوا تلاميذهم بعد بالحرية الكاملة التي(501/11)
يتطلعون إليها والتي هي في الحق من حقهم
أما المرحلة الثالثة؛ فهي التي تمثلها المدرسة الحديثة في التربية وهذه المدرسة ترمي إلى تزويد التلميذ بحرية خالصة من كل قيد؛ ويجب أن تكون حرية التلميذ هذه إيجابية لا سلبية؛ فيجب - كما يقول السير روبرت بادن باول - أن يشجع التلميذ على أن يعمل ما يحب كما يحب وإن أدى به هذا إلى الخطأ، فبهذه الطريقة وحدها يمكنه أن يكتسب خبرة في هذه الحياة
والأستاذ ماك مان يرض نوع التأديب الذي تضمنته المرحلة الثانية، ولكن الدكتور الكورث براون. لا يقره على هذا الرفض
والسير جون آدمز يخرج من اعتباره النوع الأول من التأديب؛ ويترك النوع الثاني لمحك الحياة يظهر ما فيه من زيف أو صلاح؛ وينظر في النوع الثالث فيرى أن مفهومه يقتضي من المعلم أن يكظم شخصيته وأن يلفها في مدارج النسيان، فيقول إن هذا غير ممكن الحدوث، فشخصية المعلم تظهر بالرغم منه وتترك أثرها في التلاميذ، وهو لا يستطيع بحال ما أن يخلّص ما يلقيه على تلاميذ من أصباغ شخصيته. ويزيد السير جون آدمز على ذلك فيقول إن دعاة هذا المذهب الجديد يعترفون بصحة ما يقول
والذي تقصد إليه من كل هذا هو أن نقول إن الحكم الذاتي في مظهر من مظاهر المدرسة الحديثة في التربية
وهنا يحسن أن نتحدث قليلاً عن تاريخ المسألة
فليس من شك في أن النظام يجب أن يتوفر في التعليم المدرسي حتى مكن لهذا التعليم أن يحقق الغاية المقصودة منه. لذلك كان النظام في المدرسة أمراً على جانب كبير من الأهمية في نظر الجميع. ومن ثمَّ أخذت المدرسة تهدف إلى أن بعث في جوها نظاماً مباشراً فما أدّى في كثر من الأحيان إلى إهمال الغرض التربوي المقصود تحقيقه عن طريق النظام. ولكن ازدياد الاهتمام بالأفراد ولا سيما الأطفال، ومطالبة المدرسة بإخراج تلاميذ قادرين على أن يشاركوا في التعاون الاجتماعي في هذه الحياة، وتسلط علم نفس صحيح على المدارس، كل هذا دعا إلى ترك هذا النوع من التأديب الذي لا يهدف إلا إلى مجرد النظام إلى نوع من التأديب آخر يتحقّق من ورائه نمو الشخصية والتعاون الاجتماعي الثابت في(501/12)
المدرسة
وقد تجلت تلك النزعة في أمريكا في عدة محاولات ترى إلى زيادة حرية الأطفال ومسئوليتهم في مباشرة نواحي نشاطهم في الفصل وفي خارج الفصل. ولقد ظهر أثر هذه النزعة أول ما ظهر في الكليات والجامعات فيما يُعبر عنه باسم نظام الشرف ثم ظهر بعد ذلك في الحكم الذاتي في المدارس العالية وأخيراً ظهر في المدارس الأولية
على أنه يحسن بنا هنا وقد أشرنا إلى نظام الشرف في معرض كلامنا الوجيز عن تاريخ الحكم الذاتي أن نتحدث بإيجاز شديد عن الفرق بين هذين النظامين كما هما في أمريكا. فنقول إن وجود نظام الشرف في المدارس العالية يرجع إلى أنه لما كان طلبة هذه المدارس يتمتعون من قديم بقسط وافر من الحرية في مباشرة وجوه نشاطهم المختلفة في داخل هذه المدارس وفي خارجها، فإن المدرسين والمباشرين لأمور هذه المدارس قد وصلوا هذه الحرية التي يتمتع بها الطلبة بنظام الامتحان وجعلوها تنفيذ إليه لتدبر أمره. وكان الدافع لهم على ذلك أنهم لمسوا صعوبة التوفيق بين كبح نزعة الغش في الامتحان والعمل - في نفس الوقت - على خلق اتجاهات صحيحة وعادات صحيحة في نفوس الطلبة
هذا عن نظام الشرف. أما الحكم الذاتي في المدارس غير العالية فقد دفع إلى اصطناعه غرضان هما بدون شك أوسع مجالاً من الغرض الذي دفع إلى اصطناع نظام الشرف: فالغرض الأول هو إيجاد وسيلة لتعليم علم الحكم المدني تكون أكثر موضوعية وإيجابية، والغرض الثاني هو العمل على أن تنمي حكومة المدرسة الروح الاجتماعية عند كل طالب؟
فهذا هو الفرق بين النظامين.
على أن هناك نظاماً آخر يحسن أن نتحدث قليلاً عما بينه وبين نظام الحكم الذاتي من فروق، ونعني بهذا النظام نظام العُرفاء فبين هذا النظام وناظم الحكم الذاتي ثلاثة فروق رئيسية: فالفرق الأول يتلخص في أنه في نظام العرفاء يخَّول السلطة عددٌ قليل من التلاميذ كبار السن بينما أن السلطة في نظام الحكم الذاتي يخوَلها التلاميذ جماعة، والفرق الثاني يتلخص في أن أعمال العرفاء تنفيذية أكثر منها تشريعية؛ فمنظم القوانين التي ينفذونها ليست من تشريعهم. والفرق الثالث يتلخص في أن هؤلاء العرفاء يختارون من قبل ناظر(501/13)
المدرسة ويكونون مسئولين أمامه بدلاً من أن يكونوا نائبين عن الجماعة.
وهنا يحسن بك أن تسألني عن كنه الحكم الذاتي لأقول لك إنه تخويل جماعة من التلاميذ سلطة كاملة لمباشرة شئون حياتهم المدرسية كلها أو بعضها
وهذا الحكم الذاتي لم يصطنع عبثاً، بل لتحقيق أغراض يُرجى تحقيقها من ورائه.
فمن هذه الأغراض تنمية القدرة على التعاون - نحن نعرف أن للتعاون أهميته العظمى في الدول الديمقراطية، بل وفي ذلك المحيط الفسيح الذي نسميه بالمجتمع الكبير والذي نحن جميعاً أبعاض منه. وإن المجتمع الحديث مدين بتقدمه بل وباستمرار وجوده لهذا التعاون الذي يربط بين أفراده بعضهم وبعض.
ومن هذه الأغراض تدريب التلاميذ تدريباً عملياً على أن يكونوا مواطنين مستنيرين، فإن دروس علم الحكم المدني لا يمكن أن تغني هذا التدريب العملي بحال ما. فالكتب لا تستطيع بحال ما أن تطلعنا على دقائق آلة العمل الحكومية أو على الطريقة التي تدير بها الأعمال، وإنما نطلّع على كل هذا بالتجربة وبالتجربة فقط
وهناك غرض ثالث هو قي الحقيقة غرض علاجي. بيان ذلك أن هناك أطفالاً ينزعون إلى أن يشعروا المجتمع بوجودهم وإلى أن يحملوا على الاعتراف بأهمية هذا الوجود، فإذا لم يجد نزوعهم هذا متنفساً يخرج منه إلى عالم الواقع والحقيقة فإنه يتحول إلى عقدة نفسية تحمل هؤلاء الأطفال على أن يقفوا من قوانين المجتمع موقف العداء، وبذلك تكون حياتهم العاطفية صراعاً مشتجراُ بينهم وبين أولى الأمر. وعلى ذلك فيجب أن يوحي إلى هؤلاء المتمردين على المجتمع أن القانون ليس جماعاً من أوامر ونواها تملي عليهم وتُفرض، وإنما هو وسيلة تصطنع لتحقيق مثل عليا يطمح إليها أفراد المجتمع ويشاركونهم هم في هذا الطموح. وليس كالحكم الذاتي وسيلة لغرس هذا في نفوس هؤلاء المتمرِّدين
فهذه أغراض ثلاثة رئيسية يرجى تحقيقها عن طريق الحكم الذاتي: وهناك أغراض أخرى ثانوية يصح أن نذكر بعضها. فمن هذه الأغراض الثانوية تدريب التلاميذ على ضبط النفس، وذلك لأن في تدبيرهم لأمورهم المدرسية تقوية لعزيمتهم وشحذا لإرادتهم، ولابد لضبط النفس من قوة في العزم ومضاءٌ في الإرادة
ومن هذه الأغراض الثانوية أيضاً تقوية إحساس التلاميذ بقيمة النظام وأهميته. ومنها كذلك(501/14)
تدريب التلاميذ على سياسة الغير.
(للحديث بقية)
السيد يعقوب بكر(501/15)
من أزهار الشر
لشارل بودلير
عروج
ها أنتِ يا روحي ترفرفين هفافةً فوق الوهاد والغدران، والجبال والغابات، والسحب والبحار، وفيما وراء الشمس والأثير، والأفلاك النائية المرصعة بالنجوم.
وإنك لتعبرين الفضاء العميق، مرحةً في شهوة عارمة يعجز عنها البيان، سابح ماهر غشية الذهول في لجة الماء.
فلتحلقي بعيداً، بعيداً، عن الجيف المنتنة. واصعدي إلى الهواء الأعلى، لتتطهري من أدرانها، واحتسي النار الساطعة التي تغمر الآفاق المتألقة، كخمر إلهية صافية.
طوبى لمن يستطع أن ينطلق بجناح قوي إلى السموات المشرقة الساجية من وراء الهموم والآلام العريضة التي تنوء بأعبائها الحياة القاتمة!
طوبى لمن كانت خواطره كالقنابر تطير عند الصباح إلى السماء حرة طليقة!
طوبى لمن رنَّق فوق الحياة، وأدرك بلا عناء لفة الزهور والكائنات الصامتة
ترجمة
عثمان علي عسل(501/16)
الحضارات القديمة في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 4 -
الحضارة اليهودية
ينسب اليهود إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وقد أقام أجدادهم في مصر من عهد يوسف بن يعقوب إلى عهد موسى بن عمران، وهم قلة تدين بالتوحيد الذي دعا إليه إبراهيم أبو الأنبياء، وكانت الوثنية في ذلك العهد غالبة على الأرض، ولها دول قوية في مصر وغيرها من الأقطار. وقد لقي اليهود ما لقوا في مصر من الذل والهوان في سبيل دينهم، إلى أن أراد الله تعالى إظهار دين التوحيد في الأرض، وإقامة حضارة جديدة تقوم على ذلك الأساس الذي يرفع من شأن الإنسانية، وينقذها من الجهالات التي كانت تتردى فيها على عهد الوثنية. وقد بشر الله تعالى بهذه الحضارة قبل أن تظهر على الأرض بقرون، تعظيماً لشأنها، وتفضيلاً لها على الحضارات الوثنية التي سبقتها، لأنها ورثت محاسن تلك الحضارات، وخلت من الطغيان والجهل الذي كان يشوه تلك المحاسن، وقد جاء ذلك التبشير في أواخر أيام بني إسرائيل بمصر، فقال تعالى في الآيات: 4، 5، 6 من سورة القصص (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)
فالذين استضعفوا في الأرض هم اليهود، القرآن الكريم حين يرثى لاستضعافهم في الأرض، ولما لقوه من الذل والهوان في مصر، وحين يبشر بأن الله يريد أن يمن عليهم ويجعلهم الوارثين في الأرض، لا يحدث عنهم في ذلك بعنوان أنهم يهود، لأن مثل هذا لا يَعْني القرآن الكريم بشيء، وكل الناس عنده سَوَاسِيةٌ من هذه الجهة، وإنما يحدث عنهم بعنوان أنهم شعب موحد، يريد الله أن يجزيهم خيراً على ما لقوه من الاستضعاف في سبيل توحيدهم، وأن يمن على الموحدين من اليهود وغيرهم بأن يجعلهم الوارثين في الأرض،(501/17)
فتقوم لهم دول تغلب عليها، وتظهر لهم حضارات لا تذكر الحضارات التي سبقتها بجانبها. وقد صدق الله تعالى وعده، فأخذ التوحيد يقوي شيئاً فشيئاً من عهد قيام دولة اليهود في فلسطين، وجعل يناضل الوثنية ويغزوها في معاقلها، وقد رفع لواءه في ذلك النضال الوثنية ويغزوها في معاقلها، وقد رفع لواءه في ذلك النضال أولئك الأئمة الذين اختارهم الله تعالى لهداية البشر، وكان أعظمهم في ذلك الجهاد الشاق ثلاثة لا تزال آثارهم فيه باقية إلى عصرنا، وهم: موسى صاحب الشريعة اليهودية، وعيسى صاحب الشريعة النصرانية، ومحمد صاحب الشريعة الإسلامية، وأتباع هذه الشرائع هم الظاهرون الآن في الأرض، وحضارتهم هي الحضارة العليا، وهي المثل الأعلى في عصرنا
وقد بلغت الحضارة اليهودية أوج مجدها في عهد داود وسليمان عليهما السلام، فارتقت فيها العلوم والآداب وتقدمت الصناعة تقدماً عظيماً، ونهضت التجارة نهوضاً كبيراً. وكان لسليمان عليه السلام أساطيل عظيمة تمخر عباب البحار، حتى وصلت غرباً إلى بلاد الأندلس، وجنوباً إلى بلاد اليمن وجنوب أفريقية. وقد لمعت سماء فلسطين في عهده بما أقامه فيها من المدن العظيمة، وبما شيده فيها من بيوت العبادة، وبما رفعه فيها من الصروح والقصور الجميلة، وهو مع هذا رسول من رسل الله الكرام، وإمام من أولئك الأئمة الذين بشر الله بهم في أواخر أيام بني إسرائيل بمصر
ولاشك في أن ظهور هذا كله في عهد سليمان أعظم رد على أعداء التوحيد، لأنه يبين خطأهم في ظنهم أن التوحيد يجافي الحضارة وينأى عن مظاهر الجمال التي تمتاز بها عن البداوة، ولا يتسع لها صدره، كما يتسع لها صدر الوثنية
وفيه أيضاً أعظم رد على ألئك المتنطعين في الدين، وهم الذين ينفقون في ذلك الظن الخاطئ مع أعداء التوحيد، فيظنون أن الدين ليس إلا خشونة وتقشفاً، وأن المثل الأعلى فيه هو الزهد في زينة الحياة الدنيا، لا يفرقون في ذلك بين الزينة التي أحلها الله تعالى وبين الزينة التي حرمها على عباده
وقد نوه القرآن الكريم بمظاهر الحضارة التي تمت في عهد داود وسليمان في آيات كثيرة منه، فمن ذلك قوله تعالى في الآيات (10، 11، 12، 13) من سورة سبأ (ولقد أتينا داود منا فضلاً، يا جبال أوبي معه والطير، وألنا له الحديد، أن عمل سابغات وقدر في السرد(501/18)
واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير. ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين الفطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور)
ومن ذلك ما ورد في شأن بَلْقِيس ملكة سبأ، وفي شأن الصرح العجيب الذي بناه لها، وذلك في الآيات (41، 42، 43، 44) من سورة النمل (قال نكروا لها عرشها نظر أنهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون. فلما جاءت قيل أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو! وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين. وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين. قيل لها ادخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان الله رب العالمين)
وكان هذا الصرح العجيب آية في فن البناء. ذكر المفسرون أنه كان قصرا من الزجاج الأبيض كالماء، وقد أقامه على ماء يجري تحته، وألقي فيه السمك والضفادع وغيرهما من دواب البحر، ثم وضع سريره في صدر المجلس عليه، فلما جاءت بلقيس قال لها: ادخلي الصرح، فحينئذ حسبته لجة عظيمة من الماء، وكشفت عن ساقيها لتخوضها إليه، فقال لها: إنه صرح ممرد من قوارير، فحينئذ سترت ساقيها، وآمنت بعظمة ملك سليمان عليه السلام
ولكن اليهود أدركهم في حضارتهم من الغرور ما أردك غيرهم، حتى زعموا أن ما وصلوا إليه فيها كان إيثاراً من الله لهم فركنوا إلى ذلك الغرور حتى سلبهم الله ما كانوا فيه من العز، وسلط عليهم غيرهم من الأمم، وإلى هذا بشير الله تعالى في الآية (18) من سورة المائدة (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، قل فلم يعذبكم بذنوبكم، بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير)
وقد أضافوا إلى ذلك الغرور القاتل الاستكانة للرؤساء حتى اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله فسار قادتهم وراء أهوائهم، ولم يكن لهم من أمتهم رقيب عليهم، وكان لهذا أثره أيضاً في القضاء على حضارتهم
(يتبع)(501/19)
عبد المتعال الصعيدي(501/20)
ابن خلدون
مؤرخ الحضارة العربية
للأستاذ عيسى محمود ناصر
حياة ابن خلدون قصة من أعجب قصص الخيال، ومغامرة لم تتح لكثير من عظماء الرجال، لا يزال تراثه فريداً في بابه بين آثار التفكير الإسلامي، وما يزال يحتفظ بقيمته وروعته، ويتبوأ مكانته بين التفكير العالمي. وهانحن أولاء بدأنا نتبّه إلى رجالنا لنقدرهم قدرهم، وندرس آثارهم، ونحفظ لهم مكانتهم، ونحيي ذكرهم، بما أدخل من نظام المسابقات التي تعقدها وزارة المعارف لطلبة السنة التوجيهية في مواد الدراسة المختلفة، وكان منها دراسة مقدمة ابن خلدون. ونحن بهذا النظام نحيي ذكرى فيلسوفنا الاجتماعي الكبير، وقد مضي عليه أكثر من ستمائة عام، وهو على قدمه يجب أن يكون مثالاً عالياً لجميع الشباب، وأن يقرءوا مقدمته القيمة، فهي ثروة لا تقدر في تراث البيان الغربي، والتفكير العربي. على أن لابن خلدون صلة خاصة بنا نحن المصريين؛ فلقد كانت له بمصر جولات ونظريات، كما كانت مصر مئوي إقامته، وإن كانت تونس تفخر به لأنها مستهل ولادته. وحسب ابن خلدون فخراً أنه السابق إلى وضع مبادئ علم الاجتماع الذي ما زال موضع إعجاب الغرب وتقديره، ولست في هذه العجالة متعرضاً لنشأته، وتاريخ حياته فهي في متناول الطلبة. على أنه عني بنفسه فوضع ترجمة له دونها بقلمه، وصور فيها كثيراً من أطوار حياته، وما تقلد من مناصب، وما قام من رحلات ومغامرات.
بدأ ابن خلدون مؤلفه التاريخي العظيم وهو في الخامسة والأربعين من عمره، وقد نضجت مباحثه ومطالعاته في الكتب والحياة بعد أن قطع نحو ربع قرن يخوض معترك السياسة متقلباً في خدمة القصور والدول المغربية يدرس شئونها ونظمها، ويستقصي سيرها وأخبارها متغلغلاً بين القبائل البربرية يدرس طبائعها، وأحوالها، وتقاليدها في الحياة العامة والخاصة، وقد أعانه على ذلك ذهنه الخصب المتوقد ذكاء، وعزلته في قلعة (سلامة) على حدود تونس الغربية فلقد كانت عزلة مباركة موفقة لبث فيها أربعة أعوام نعم بالاستقرار والهدوء المستمر بعيداً عن غمار السياسة والدسائس السلطانية والمخاطر التجوالية والحربية، وقد استغرن في كتابة مقدمته خمسة أشهر ثم نقحها وهذبها بعد ذلك ثم شرع بعد(501/21)
إتمامها في كتابة تاريخه، وقد رفهه إلى السلطان أبي العباس المغربي، وأنشده قصيدة طويلة يشيد فيها بسيرته وأعماله، ويستدر عطفه ورعايته، وينوه بكتابه يقول فيها:
وإليك من سير الزمان وأهله ... عبراً يدين بفضلها من يعدل
والله ما أسرفت فيما قلته ... شيئاً ولا الإسراف مني يجمل
ولقد كان ابن خلدون أعظم سياسيّ ومفكر عرفته إفريقية والأندلس في القرن الثامن الهجري.
ابن خلدون في مصر
غادر ابن خلدون تونس لينتظم في ركب الحجاج، ولكنه لم يحقق تلك الغاية فقد نزل القاهرة ليقضي أيامه بمصر في هدوء ودعة واستقرار، وكانت القاهرة يومئذ موئل التفكير الإسلامي في المشرق والمغرب ولبلاطها الشهرة الواسعة في حماية العلوم والآداب، فبهرت ابن خلدون ضخامة القاهرة وعظمتها كما بهرت كل من رآها من أعلام المشرق والمغرب فوصفها بقوله: (فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، وإيوان الإسلام، وكرسيّ الملك) ولقد كان المجتمع القاهري يعرف الكثير عن شخصه وسيرته، ولاسيما مقدمته التي أذاعت فضله، فأقبل عليه العلماء والطلاب من كل صوب، وقد كان ابن خلدون محدثاً بارعاً، رائع المحاضرة، يخلب ألباب سامعيه بمنطقه؛ هذا إلى فصاحته وجمال صورته، فتقرب من السلطان الظاهر برقوق.
وإنه لمنظر شائق ذلك الذي يقدمه إلينا ابن خلدون عن مجلسه، ومن حوله العلماء والكبراء يشهدون الدرس الأول حيث يقول: (وانقضى ذلك المجلس، وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار)
عين ابن خلدون قاضياً لقضاة المالكية تنويهاً بذكره، وإعلاناً لشأنه، وقد ثارت حوله عاصفة شديدة بسبب الحقد والسعاية، وقد بين ما كان يسود جو القضاء في مصر في ذلك الحين من جهل وفساد الذمة، وأنه حاولي إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وما زال أمره بين جزر ومد إلى أن عزل من منصبه، وغادره موفور الكرامة والهيبة، فانقطع إلى الدرس والتأليف إلى أن أذن له السلطان بأداء فريضة الحج، ثم عاد بطريق البحر حتى القصير مخترقاً الصعيد بطريق النيل فوصل القاهرة(501/22)
وليس في حياة ابن خلدون في هذه الفترة التي قضاها بمصر ما يستحق الذكر سوى سعيه إلى عقد الصلات بين البلاطين القاهرية والمغربي، فهو يصف المهاداة بين صلاح الدين، وبني عبد المؤمن من ملوك المغرب، وبين الناصر قلاوون وملوك بني مرين، ويصف الهدايا المصرية والمغربية فبدأ سلطان تونس بإهداء خيل مسومة وسروج ذهبية
لبث ابن خلدون بعيداً عن منصب القضاء أربعة عشر عاماً وكان بالفيوم يعني بقمح ضيعته التي يستحقها من الأوقاف، فاستدعاه السلطان إلى القضاء، فلما استقرت الأمور بمصر استأذن في السفر إلى بيت المقدس فإذن له؛ فشهد المسجدِ الأقصى وقبر الخليل وبعض الآثار ثم عاد من رحلته إلى القاهرة. ثم وردت الأنباء بانقضاض (تيمورلنك) بجيوشه على الشام واستيلائه على حلب في مناظر هائلة من السفك والتخريب فروعت مصر، وهرع (الناصر فرج) بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ورده، وقد اشتبك جنود مصر بجند الفاتح في ظاهر دمشق في معارك شديدة ثبت فيها المصريون، وبدأت مفاوضات الصلح بينهما، ولكن خلافاً دَبّ في معسكر المصريين، ومؤامرة دبرت لخلع السلطان؛ فترك السلطان دمشق لمصيرها ورجع إلى القاهرة. وهنا تتجلى لنا نزعة مؤرخنا الفيلسوف في مغامراته، فقد رأى أن يعتصم بالجرأة وأن يغادر جماعة المترددين إلى معسكر الفاتح فيستأمنه على نفيه ومصيره، ويصف لنا ابن خلدون ذلك اللقاء بقوله: (ودخلت عليه (المراد تيمورلنك) بخيمة جلوسه متكئاً على موقفه، وصحاف الطعام تمر بين يديه، فلما دخلت عليه انحنيت بالسلام، وأومأت إيماءة الخضوع فرفع رأسه، ومد يده إلى فقبلتها)، وتحدث الفاتح طويلاً إلى المؤرخ، وحدثه المؤرخ بأنه كان سمع به، ويتمنى لقاءه منذ أربعين سنة، واستطاع ابن خلدون أن يقنع الرؤساء بالتسليم، وفتحت دمشق أبوابها للفاتح فنحت من بطشه. وقد قدم ابن خلدون إلى الفاتح هدية هي: مصحف رائق، وسجادة أنيقة، ونسخة من البردة وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة. فوضع (تيورلنك) المصحف فوق رأسه ثم سأله عن البردة، وذاق من الحلوى ووزع منها على الحاضرين، وقد أنكر مؤرخ مصري معاصر هو المقريزي هذه الروية، وانضم إليه ابن إياس المؤرخ المصري
وما لبث ابن خلدون يولي منصب القضاء في مصر ويعزل ست مرات بسبب كيد خصومه ودسائسهم له إلى أن توفي سنة ثمان وثمانمائة هجرية وقد بلغ نيفاً وسبعين سنة من حياة(501/23)
باهرة حافلة بجليل الحوادث ورائع التفكير والابتكار، ودفن بمقبرة الصوفية خارج باب النصر بالقاهرة المعزبة وهي يومئذ من مقابر العظماء والعلماء
قضي ابن خلدون في مصر ثلاثة وعشرين عاماً كانت أقل مراحل حياته حوادث وإنتاجاً؛ فقد عاش بعيداً عن شئون الدولة السياسية بعد أن لبث بالمغرب ربع قرن وهو يتجرد من ثوب السياسي المغامر ليتشح بثوب العالم المقتدر. على أنه لم يستطع أن ينشئ له بمصر مدرسة يطبعها بطابعة وآرائه ومناهجه وذلك راجع إلى روح النفور والخصومة، فقد سبقه إلى مصر حكمه على أهلها بأنهم قوم يغلب عليهم الفرح والخفة والغفلة عن العواقب، على أن ابن خلدون كان يحظى بتقدير فريق قوي من الرأي العام المصري المفكر وعلى رأسه العلامة المقريزي الذي تأثر بنظرياته تأثراً كبيراً كما يظهر أثر ابن خلدون في اعتماد بعض أكابر الكتاب المعاصرين عليه والاقتباس من مقدمته وتاريخه، ومن هؤلاء القلقشندي صاحب صبح الأعشى.
أثر ابن خلدون الفكري والاجتماعي
اعتبر ابن خلدون التاريخ علماً يستحق الدرس لا رواية تدون وتقرأ، فانتهى به البحث إلى وضع نوع من الفلسفة الاجتماعية، وكتب مقدمة مؤلفه التاريخي لتكون تمهيداً يقرأ على ضوئها التاريخ، وتفهم دقائقه فجاءت وحدة مستقلة من الابتكار الفائق تسجل مذهباً جديداً في فهم الظواهر الاجتماعية وتعليلها، وفي فهم التاريخ ونقده وتحليله؛ فهو يحاول أن يتبع المجتمع في جميع أطواره منذ نشأته وبداوته إلى استقراره وانتظامه في المصر والدولة وتردده بين الضعف والقوة والفتوة والكهولة والنهوض والسقوط مقسماً موضوعه هذا إلى ستة فصول كبيرة هي:
1 - العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض
2 - العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل
3 - الدولة العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية
4 - العمران الحضري والبلدان والأمصار
5 - الصناعات والمعاش ووجه الكسب
6 - العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه(501/24)
وهذا التقسيم يشهد بتفوق هذا الذهن العبقري وطرائقه وقوة تدليله وجدله. وأجود هذه الفصول (الفصل الثالث) وهو خاص بالدولة والملك وخواصهما مبيناً أن للملك طبائع وللدولة أعماراً كالأشخاص، فهو يقدر لها ثلاثة أجيال في الغالب، ويقدر الجيل بأربعين عاماً متأثراً في هذا التقدير بما ورد في القرآن الكريم عن بني إسرائيل حين فقدوا عصبيتهم وكانوا عاجزين فعاقبهم الله بالتيه في قفار سيناء أربعين سنة ليخلق منهم جيلاً جديداً يقوى على المطالبة والتغلب. وفي هذا الفصل تبدو نظرياته الاجتماعية وتحليله للمجتمع، كما يدل ذلك على براعة ذهنه. ثم يتناول الدولة وتحولها من البداوة إلى الحضارة في الفصل الرابع، وبيان أطوارها المختلفة، وأثر الموالي والمصطنعين في هذا التطور. ثم يتناول الملك والإمامة والخلافة واختلاف الآراء في شأنهما ومذاهب الشيعة والخطط الدينية من القضاء والعدالة والسكة، ثم الوزارة ودواوين الأعمال والجباية والرسائل والشرطة وقيادة الأساطيل ورسوم الملك والحروب ومذاهبها والمكوس ونظم التجارة، ثم يتحدث عن البلدان والأمصار ونشأة المدن واختلاف ظروفها من خصب ورفاهية وجدب وقفر وتفاوت في الغلات والصناعات واللغة
من هذا كله تتبينون أن ابن خلدون مخترع هذا العلم وصاحب الفضل الأول في ابتكاره وهو ما يسميه (بالعمران والاجتماع البشري) فقد أفاض في هذه النظريات مصحوبة بالشواهد مترابطاً بعضها ببعض، وكل ما خلفه أسلافه لمحات مبعثرة ضئيلة. على أن هذا العلم الذي استحدثه ابن خلدون اتخذ من حيث مادته وموضوعاته مكانة بين علومنا الحديثة في الاجتماع وفلسفة التاريخ والنظام السياسي والاقتصاد السياسي. وفي دائرة المعارف الإسلامية المترجمة إلى العربية ما يؤيد ذلك
أما أسلوبه فخاص يتميز به ابن خلدون من غيره في العرض والتنظيم، كما أن مقدمته تمتاز بطرافة موضوعاتها وروعة أسلوبها الأدبي الذي جمع بين البساطة وقوة التعبير، ودقة التدليل، وحسن الأداء والتناسق. والمقدمة مثل حسن للفصاحة المرسلة والغرض الشائق المنظم؛ وذلك على الرغم مما يطرأ أحياناً من ضعف في التأليف وغرابة في التعبير وشذوذ في اللفظ يرجع إلى نشأة ابن خلدون البربرية. وأسلوبه في تاريخه أقل درجة من أسلوبه في مقدمته. على أن لهذه المقدمة تأثيراً قوياً في الكتابة في أوائل العصر(501/25)
الحاضر إذ كانت الأسلوب الأمثل لكتاب الصحف والمجلات في بدء النهضة الحديثة، فقد نشرت المقدمة لأول مرة في مصر سنة 1857م فرفعت الأسلوب الأدبي في مصر والشرق من السجع وتكلف البديع والزخارف اللفظية التي تستهلك المعاني، إلى الاسترسال في الكتابة فكانت نموذجاً يحتذي ويرب به المثل، فارتق النثر الفني والعلمي إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من الإجادة والإتقان. . .
(البقية في العدد القادم)
عيسى محمود ناصر
المدرس بمدرسة الفيوم الثانوية(501/26)
السيطرة على الجو
للأديب عبد المنعم محمد الزيادي
(السيطرة على الجو من مستلزمات الفريق المهاجم إذا أراد أن يوطد هجومه ويجعله ساحقاً ماحقاً. كما أنها من مستلزمات الفريق المدافع إذا أراد أن يجعل دفاعه فعلاً ناجحاً. ولكنها للفريق المهاجم ألزم وأشد نفعاً لأنه بدونها يتعرض لأشد الأخطار وأقساها من خصمه الذي يملك السيطرة على الجو. وقد تسنى للحلفاء أن يقهروا جيوش رومل لأنهم سيطروا على الجو كما أنهم الآن على وشك الهجوم أو كادوا. وفي هذا المقال أحاول أن أضع صورة للقتال الذي يجري بين القاذفات والمطاردات. من جهة، وبين القاذفات ومراكز الدفاع المضادة للطائرات من جهة أخرى، قبل أن تتم السيطرة على الجو لأحد الطرفين.)
كشاف أمريكي جديد
يعتمد قائد القاذفة بجانب قنابله على عامل المفاجأة وهو سلاح لا يقل فتكاً عن أي سلاح آخر فهو إذ يقطع الأفق بمعدل خمسة أميال في الدقيقة لا يترك لخصمه سوى أمد قصير يأخذ فيه عذره، ثم هو يتخذ من الليل والسحاب حجاباً دون رؤيته، فضلاً عن أنه ليس في الاستطاعة سماعه حتى بأشد أجهزة الإصغاء حساسية على بعد أثر من ثمانية أميال. كل ذلك لا يترك سوى أمد قصير للمطاردات لتقوم للقائه، وللمدافع المضادة لتتأهب له، وللمدنين ليلجئوا إلى المخابئ، كما أنه من الصعب - أو على الأقل كان دائماً من الصعب - على الأنوار الكاشفة أن تجده في الضباب أو السحاب، ولو كان فوق الرؤوس. غير أن هناك طرازاً جديداً من الكشافات يستعمله سلاح الإشارة في الجيش الأمريكي أحدث انقلاباً عظيماً في الأسلحة المضادة للطائرات. وتتراوح المساحة التي تقع في دائرة عمله بين 50 و 75 ميلاً. كما أنه لا يستطيع أن يكتشف الطائرة في حدود هذه المساحة فحسب؛ بل إنه يستطيع أن يحدد مكانها على ارتفاع بضع مئات من الأقدام. وعندئذ
- بفضله - يمكن أن تصوب المدافع المضادة حتى لتدرك قنابلها الطائرة المختفية في قلب الضباب الكثيف. ويشبه الكشاف الجديد جهاز الأنوار الباحثة؛ إلا أنه يرسل بدلاً من شعاع النور شعاعاً كثيفاً من أمواج الراديو، فإذا ما التقت هذه الأمواج بجسم صلب (الطائرة) ارتدت مسرعة من نفس الطريق الذي اتخذته في ذهابها إلى ذلك الجسم. وبقياس الزمن(501/27)
الذي اتخذته الأمواج في رحلتها ذهاباً وإياباً، وبالإضافة إلى الاتجاه الذي ارتدت منه يمكن أن يحدد مركز الطائرة بالضبط. وكل ذلك تفعله الآلات بطريقة أوتوماتيكية. وليست المدافع المضادة وحدها هي التي يمكن تصويبها إلى جسم الطائرة بفضل ذلك الكشاف، بل يمكن توجيه المطاردات كذلك إلى مكان القاذفات المهاجمة وذلك بالتزامها اتجاه أشعة الكشاف.
الكشاف الحالي
ولاشك أن هذا الكشاف الجيد سيأخذ مكان أجهزة الإصغاء والتحديد والأنوار الكاشفة المستعملة الآن. فجهاز الإصغاء والتحديد الحالي يستطيع أن يلتقط أزيز الطائرة على ارتفاع أقصاه ثمانية أميال ولكن له عيوب خطيرة. فالرياح العالية تقطع عليه خط سيره، كما أن حفيف الأشجار وزئير الأمواج المتكسرة على الصخور أو الشاطئ، وأصوات أبواق السيارات - حتى ولو كانت دونه أميالاً - تشوش على المستمعين. ويشبه جهاز الإصغاء المستعمل اليوم مجموعة من مكبرات الصوت مثبتة فوق حامل، وتقع على بعد بضع مئات من الياردات من مركز البطارية المضادة للطائرات. وعلى هيكل الجهاز الذي في الإمكان إدارته في أي اتجاه بواسطة عجلات يدوية - توجد أربعة أو أكثر من الأبواق لاقطات في بؤرة كل واحدة منها (ميكروفون) حساس ينقل الاهتزازات الآتية خلال المكبرات إلى مكان الاستماع الرئيسي. وتستطيع (آذان) الآلة أن تحدد الاتجاه الذي يصدر منه الصوت كما تعطي المسافة التي تصدر عنها الاهتزازات. وعلى بعد نحو مائتي قدم تجاه جهاز التحديد توجد إشارات كهربائية تفضي إلى مراكز الأنوار الكاشفة. وهناك تجد مجموعة من العدادات التي تبين بطريقة أوتوماتيكية الزوايا التي يجب أن توجه الأنوار بموجبها حتى تضيء جسم الطائرة التي حدد الجهاز ارتفاعها. وهناك أيضاً ضوابط كهربائية ترتفع وتنخفض وتوجه المصابيح الكاشفة. وإذ تتأرجح مؤشرات العدادات، يدير جنود المصابيح الكاشفة العجلات اليدوية فيجعلون أشعة المصابيح على الطائرة مهما تحركت أو تحولت.
وتبلغ قوة الشعاع الكشاف نحو 80 مليون شمعة، وله عدسة عاكسة نصف قطرها 60 بوصة؛ وهو يرسل في الليل الصافي نوره إلى مسافة سبعة أميال. والمصابيح الكشافة(501/28)
قائمة على حوامل من المطاط المتين يغذيها مولد كهربائي (دينامو) على هيئة مركبة. فإذا أريد حماية هدف مهم ضربت بطاريات الأنوار الكشافة نطاقها حوله على مسافة من البعد تكفي لأن تجعل الطائرة المغيرة دائماً في متناول أية مجموعة من هذه المصابيح.
أحكام الرماية العالية
تستطيع المدافع المضادة الثابتة التي قطرها 4. 2 بوصة، والتي توضع عادة حول الموانئ الهامة أو مستودعات الذخائر أو الأهداف العسكرية الثابتة الأخرى؛ تستطيع أن تقذف القنابل التي تزن الوحدة منها 33 رطلاً إلى ارتفاع 30. 000 قدم بمعدل 25 قنبلة في الدقيقة. وتقذف المدافع المتحركة التي قطرها ثلاث بوصات قنابل زنة الواحدة منها 18 رطلاً إلى ارتفاع 20. 000 قدم بصورة فعالة؛ فإن الحد الأقصى لمدى هذه المدافع يفوق هذه الارتفاع بكثير؛ إلا أن الإحكام عندئذ يقل في دقته. وتُستعمل المدافع الصغيرة التي قطرها 1. 5 بوصة والتي تطلق 12 قنبلة في الدقيقة، ومدافع الماكينة (المدافع الرشاشة) المضادة للطائرات التي تطير على ارتفاع منخفض. ويمكن تدفع التي قطرها ثلاث بوصات أن تُجرّ بمعدل 50 ميلاً في الساعة بواسطة مركباتها، وتحتاج فقط إلى عشر دقائق لإعدادها للطلقة الأولى منذ وقت وصول البطارية إلى مركزها.
وإذا أمكنت رؤية الطائرة المغيرة حين تقع على مرمى المدفع الحديث المضاد للطائرات، فالإصابة حاسمة في هذه الحالة. وتجعل آلة التوجيه مدافع البطارية الأربعة مُتجهة أوتوماتيكياً نحو هدفها ولو كانت الطائرة تسير بسرعة 300 أو 400 ميلاً في الساعة. وآلة التوجيه هذه عبارة عن صندوق مساحته نحو ثلاثة أقدام مربعة، وهو مركب على قاعدة متحركة على بعد بضع مئات من الأقدام من البطارية، وبجانبه محدد الارتفاع وهو اسطوانة طولها ستة أقدام وقطرها نحو قدم، وهو كذلك مركب على قاعدة متحركة. ويتولى أمر محدد الارتفاع ثلاثة رجال. فعند اللحظة التي تظهر فيها طائرات العدو يجعل اثنان من الجنود - أيديهما على العجلات وأعينهما إلى السماء - منظار محدد الارتفاع على الهدف دائماً. وخلال هذا المنظار يرى الجندي صورة مزدوجة للطائرة المغيرة، فواجبه عندئذ أن يحرك عجلته اليدوية حتى تنطبق الصورتان بعضهما على بعض، وعندما يتم له ذلك يُسجل مُحدّد الارتفاع المسافة التي تفصله عن الطائرة. وهذه المعلومات ترسل أوتوماتيكياً(501/29)
إلى آلة التوجيه. وفوق آلة منظاران آخران يُشرف على كل مهما عامل، وهذه أيضاً يُحتفظ بها متجهة نحو الهدف بواسطة عجلات سهلة الإدارة فنسجل سرعة الطائرة العمودية والأفقية. أما صندوق التوجيه فيحتوي في داخله على عداد يحول نتيجة محدد الارتفاع ونتيجة منظاريه هو إلى مقدار الزوايا التي تُصوّب بمقتضاها المدافع إلى الهدف. وتساعد آلة التوجيه كذلك على إعداد خزان القذائف في المدفع أوتوماتيكياً كي يهيئ القنابل لتنفجر على مسافة مناسبة بقرب الهدف، إذ يجب أن تنفجر القنبلة على بعد 250 قدماً من هدفها حتى يمكن أن تُسبّب شظاياها خسائر ذات بال في الطائرة المغيرة.
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم محمد الزيادي
معهد الصحافة بالجامعة الأمريكية(501/30)
عاطفة الأبوة
في (أعاصير مغرب)
للأستاذ إدوارد حنا سعد
في ديوان (أعاصير مغرب) الذي صدر حديثاً للشاعر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد موضع لبعض الدهشة، فقد وجدنا فيه الشاعر الذي نعرف، ولكننا لم نجد فيه العاشق الذي نعهد. فإن من الصعب أن يقال إن الأستاذ العقاد الذي كان يقول في دواونيه الأولى - عندما يلمس خداع العشيقة أو بشك في ذلك: -
جمالك سم في الضلوع وحسرة ... ترد مهاد الصفو غير ممهد
إذا لم يكن بد من الكأس والطلا ... ففي غير بيت كان بالأمس مسجدي
والذي كان يقول:
ما كنت يوماً بالأنام موكلاً ... فأعد منهم من يضل ويرشد
ولو كنت نوحاً لم تفدك سفينتي ... إن ابن نوح كان فيمن ألحدوا
هو نفسه الذي يقول في ديوانه الجديد:
أعفيك من حلية الوفاء ... إنك أحلى من الوفاء
خوني فما أسهل التقصي ... عندي وما أسهل الجزاء
وليس بالسهل في حسابي ... فقدك يا زينة النساء
وقد حاول بعض الكتاب أن يرد هذا الاختلاف إلى أساسه، فقال الأستاذ كامل الشناوي في الأهرام: (إن العقاد الشاعر كان ينظم وعين العقاد الكاتب الفيلسوف ترمقه وترعاه)
ولكني أرى أن الأستاذ الشناوي قد أخطأ المحز وكان الأولى به أن يقول إن عاطفة الأبوة كانت ترمق العقاد وترعاه، بل كانت تسيطر عليه وتملي نفسها على شعره إملاء
فقد بلغ الأستاذ العقاد سن الخمسين وهي السن التي تهدأ فيها فورات العشق وتبدأ النفس تستعرض مواكب الذكرى وتحن إلى حياة الوادعة وإلى حنان الأسرة. ويكون هذا الشعور - أقوى ما يكون - في النفس المصرية التي انغرس فيها من قديم معنى الأسرة وتعلقت بها
وقد يصادف الإنسان في هذه السن عشيقة يجد في سنها أو حركاتها أو سماتها ما يوقظ فيه من جديد عاطفة الأبوة، فيختلط الحب الجنسي وهو أثرة مستترة، بالحب الأبوي وهو إيثار(501/31)
صريح، فيكون منهما مزاج نقرأه الآن في أعاصير مغرب
فهذا الديوان الفذ حافل بأوصاف الطفولة وتدليلها وألعابها وحلواها إلى حد يلفت النظر:
غريرة تسأل ما الحبُّ؟
بنيتي هذا هو الحبُّ
ضمي ثغيرك يا بنية وابعثي منه الأمل
بنيةُ ما صنعت، جزاك ربي ... بحب في مشيبك مثل حبي
ماذا تخبئ طفلة ... رقت ورق قناعها
ما شب من نار طبخ ... نا فوقها حلوى الهوى
فكم لعبة وقعت من يدي ... ك وقوعاً أرى القلب لا يشتهيه
إني أشاهد كيف يفط ... م في القلوب رضاعها
فإذا تركنا هذه الأبيات الحافلة بصورة الطفولة طالعتنا أبيات فياضة بعاطفة أبوة صادقة دافقة
يقول الشاعر الكبير
احسبني الأكبر حتى إذا ... عانقتني ألفيتني الأصغرا
وهو بيت صادق جميل في وصف عناق عشيقين، ولكن ليس أجمل منه ولا أصدق في وصف عناق الأب لابنته، حين يجد نفسه وقد عادت فيها من جديد صغير فياضة بتيارات الحياة ويقول:
تم الكتاب وألقت باليراع يدي ... وضمن الطرس إحساسي وإدراكي
ما لي به غير مسرور ولا كلف ... إلا يسر يميناً نبتها الزاكي
ضيعت فيك مسراتي فما بقيت ... لي من مسرة شيء غير لقياك
فهل من محض المصادفة أن يقول الأستاذ هذا الكلام الآن، والآن فقط وهو الذي قضي أكثر من ثلاثين عاماً يكتب وينظم ويعتز بشعره وكتابته إلى أبعد حدود الاعتزاز
لشد ما غيرت هذه العاطفة الجديدة من نفس أستاذنا الكبير!
إن كان خلفك للوعود تدللاً ... بمكانك الغالي لدي فأخلفي
ما كنت أتبعه القطيعة آنة ... هو منك واعجبي يزيد تشوقي(501/32)
وقد هداه إلهامه الصادق فقال:
تحديث الحياة فهل جزتني ... بهذا الحب عن ذاك التحدي
نعم تحداها بوحدته وانصرافه عن الزواج أو هذا الجانب من منغصات الحياة كما قال همام لسارة وهو يحاورها
وما دمنا بصدد بحث أدبي، فإني أبيح لنفسي أن أبتعد عن المجاملات التافهة فأقول إن هذه العاطفة التي يقول علماء النفس إنها قد تنصرف إلى الحيوانات الأليفة، تبدو في أعاصير مغرب، ففيه عشرون صفحة عن (بيجو) الكلب الأمين الذي أحس الأستاذ لموته بالحزن (الوجيع)
فإذا فهمنا غزليات العقاد الجديدة على هذا الضوء الجديد استطعنا أن ننفذ إلى جمالها الباطن. وإذا كانت الطفلة قد عقت أو كادت، فإن للأستاذ الكبير أبوة روحية على الكثيرين من تلاميذه وعشاق أدبه المنتشرين في كل مكان تقرأ فيه اللغة العربية، وهم لا يكنون للأستاذ إلا الحب الصادق والوفاء الخالص. ويسرني بل ويشرفني أن أكون من بينهم.
(إسكندرية)
إدوارد حنا سعيد(501/33)
على الشاطئ
وهيفاء تهفو إليها القلوبُ ... ويشرق منها ضياء الجمالْ
// لها رقة الزهر في غصنه ... إذا داعبته رياح الشَّمالْ
وللريح عربدة في المياه ... وللموج وسوسة في الرمالْ
يحدثها الموج عن سرهِ ... وما سره غير حب قديمْ
يكاد النسيم يطير بها ... إذا وقفت في مهب النسيمْ
وتحسبها العين بعض الضياء ... فتخشى من النظر المستديمْ
ولو لم يحطها قيود الحياةِ ... لطارت هناك وراء السديمْ
تعربد في الثوب أيدي الرياح ... وتوشك. . . لولا نداء الحياءْ
تطير إليها طيور المنى ... وتحنو عليها طيوف الضياءْ
عليها من الأفق سمت الجلالِ ... وفيها من البحر معنى لصفاءْ
وفيها من النور سر الحياة ... وفيها من الليل سحر الخفاءْ
أهم غراماً بهذا الجمال ... وأقبس منه ضياء الحياهْ
أرى فيه كل أماني الشبابِ ... ترفرف من حول تلك الشفاهْ
أعانق من شغفي طيفه ... وألثم من لهفاتي رؤاهْ
يرى فيه جسميَ سر الحياة ... وروحي ترى فيه روح الإلهْ
دعيني أغنيك شعر الصبا ... وأعزف لحن الهوى والغزلْ
دعيني أنام بروحي على ... فراش النهود، ومهد المقلْ
ولا تحرميني سلاف العناقِ ... ولا تمنعيني رحيق القبلْ
وكوني كما شاء فن الخيالِ ... وَبدع الفنون، ووحي الأملْ
هناك لدى الأفق عند الغروب ... يطير جناح، ويمضي شراعْ
وتشدو الرياح، وفي شدوها ... أسىً كامن وجويً والتباعْ
وتُحتضر الشمس. .! يا للأسى ... لهذا الجمال الحزين المُضاعْ
على وجنتيها شحوب الفراق ... وفي مقلتيها دموع الوداعْ
وغابت عن الأفق شمس المغيبِ ... وقد ذوَّبت قلبها في الشفقْ
كأني أرى دم قلبي يسيل ... كأني أرى مهجتي تحترقْ(501/34)
لَيفجعني أن يغيب الضياء ... ويَحزُنني أن يجيء الغسقْ
ستأتين يا شمس عند الصباح ... فهل نلتقي ثم لا نفترق؟!
وألقى المساء ظلال الدجى ... على الكون أشباح جن تحومْ
فليس على البحر ضوء يلوح ... ولا في السماء تضيء النجومْ
فقامت تودعه في سكونٍ ... وراحت إلى بيتها في سهومْ
كأني بها كوكباً حائراً ... توشِّحه في السماء الغيومْ
وعدت إلى غرفتي باكياً ... لأقضيَ ليل الأسى والنُّواحْ
أحدث نفسي حديث الجوى ... وأنشد قلبي نشيد الجراح
وأرنو إلى عابرات الدجى ... وأصغي إلى نائحات الرياح
وأمضي إلى البحر عند الصباح ... فهل (هي) عائدة في الصباحْ؟
(القاهرة)
إبراهيم محمد نجا(501/35)
البريد الأدبي
أين (الرسالة)؟
طلبتها من الباعة مرة ومرة. ثم ظننت أنها مرت بمدينتنا دون أن تعطيها نصيبها من محصول الفكر، فبعثت وكتبت إلى القاهرة والإسكندرية فقيل لي: إن (الرسالة) الحبيبة لم تصدر!
يا سبحان الله! وأخيراً بشرني الصديق الأستاذ الخضري أمين مكتبة دمنهور أن (الرسالة) جاءت إلى المكتبة، ولكنها تنذر بأن هذا العدد للمشتركين فقط لأن الورق. . .
وهنا صحت قبل الدكتور المبارك (لينتي من المشتركين) لقد ذقنا أزمة الدقيق وأزمة البترول وأزمة السكر، فهل تصدقنا يا صاحب الرسالة إن قلنا إنه لم تحز في نفوسنا ولم تبلبل خواطرنا أزمة كأزمة (الرسالة)؟
يقول الدكتور المبارك: (أكان يجب ألا تقتصر (الرسالة) على الأدب الصرف لتجد من يسأل عنها حين تحتجب)؟
وهذا حق! إنها ضريبة الأدب تدفعها (الرسالة) كما يدفعها كل أديب ينصرف لأدبه فلا يجد من يسأل عنه
وإذن (فأزمة الرسالة أزمة الأدب اليتيم الذي لا يسأل عنه أحد حين يغيب)!
فهل تنحرف (الرسالة) عن هدفها لتجد من يسأل عنها؟
إن لسان الحال يقول:
لقد صددنا كما صددتم ... فهل ندمتم كما ندمنا؟
والجواب عند (الرسالة) وعند صاحب كل رسالة. . .
وأخيراً فالأزمة كما يقول الدكتور المبارك ليست أزمة الورق فهو موجود! وإذن فالقضية قضية الأدب والأدباء، و (سنعرف طاقة الأدب في اجتياز هذه المحنة العاتية).
عبد المعطي المسيري
حول رسالة الجامعة
في مساء السبت 29 يناير 1943 أقيمت بكلية الآداب مناظرة اشترك فيها فريق من(501/36)
الأساتذة والطلاب، وشهدها مئات من شباب الجامعتين الأزهرية والفؤادية وغيرهم، وكان موضوعها: (الجامعة أدت رسالتها). والذي ألاحظه أن هناك خطأ في موضوع المناظرة، أو قل إن نزعة من نزعات العجلة والتسرع هي التي أوحت إلى لجنة المناظرات بكلية الآداب عرض هذا الموضوع السابق لأوانه على بساط البحث في مناظرة عامة، إذ لم يمض على الجامعة زمن يصح لنا بعده أن نتساءل: أنجحت الجامعة في رسالتها أم لم تنجح؟. . . لقد صدر القانون بإنشاء الجامعة المصرية الفؤادية في مارس سنة 1925، فلم يمر عليها إلى اليوم إلا نحو سبعة عشر عاماً، وهي كعام واحد في حياة فرد من الأفراد، ولا يُسأل الفرد بعد عام من نزوله إلى ميدان الحياة أنجح أم لا؛ يجب أن ننتظر على الجامعة عشرات السنين حتى تؤدي في سبيل غايتها ما يذكر فيحكم عليه، وإلا فهي لا تزال تعد العدة وتأخذ الأهبة ولم تسر في الطريق بعد، وإن خُيِّل لقوم أنها أدت أشياء وأشياء!. . . وإذا كانت الجامعة الأزهرية قد مر عليها ألف عام ولا يزال هناك من يخشى أن تقام مناظرة عنوانها: (هل أدى الأزهر رسالته؟) فماذا يكون شأن الجامعة الفؤادية وهي بالنسبة للأزهر في العمر لا تزال ذلك الوليد الجديد؟
بل إننا لم نتفق بعد على رسالة الجامعة المصرية، ففريق يقول إن رسالتها تحرير الفكر، وفريق يقول بل التقدم العلمي، وفريق يقول بل بث الأفكار والأخلاق وأصول الاجتماع، وفريق يقول بل التخصص للتوسع في دراسة طائفة من العلوم، وفريق وفريق. . . فكيف بنا نتساءل عن نجاح الجامعة في رسالتها وهي لم تعرف بعد ما هي تلك الرسالة؟. . .
نعم إن الجامعة قد اتخذت الأسباب والمظاهر الجامعية، فهناك كليات فخمة، وأقسام مختلفة، وشهادات متنوعة، ومدرجات ومحاضرات وأساتذة وعمداء. . . ولكن هذا كله مقدمة وعدة للبدء في العمل وللأخذ في أداء الرسالة، فكيف نسبق الزمن، ونحكم على الشيء قبل أن يوجد، أو على الأقل قبل أن يتم منه جانب ذو بال؟. . .
أحمد الشرباصي
جامعة الإسكندرية
في يوم الاثنين المبارك 8 من فبراير 1943 يشرف جلالة الملك المعظم بالزيارة جامعة(501/37)
فاروق الأول بالإسكندرية، وهي الجامعة التي افتتحت في بدء هذا العام الدراسي، فتعود إلى الأذهان ذكرى جامعة الإسكندرية القديمة التي ظلت تحمل لواء العلم في العالم المتمدن إذ ذاك قرنين من الزمان. وبمناسبة زيارة المليك للجامعة الحديثة نعجب أن نتحدث عن تاريخ الجامعة القديمة
أنشأ هذه الجامعة بطليموس سوتر في حي البروكيون بجوار القصر الملكي على نسق مدارس الفلاسفة الأثينيين، وكانت الغاية من إنشائها أن تجذب إليها النابهين من العلماء والمفكرين والشعراء والأدباء، وكان الطلاب المقيدون بها معفين من المصروفات بل نتفق الجامعة عليهم
ولم تلبث الإسكندرية وجامعتها أن جذبتا العلماء النابهين والأدباء وكبار الشعراء حتى أن الإسكندرية غدت في القرن الثالث قبل الميلاد أكبر مركز علمي في العلم وخاصة في الطب والجغرافيا والرياضة والفلك والأدب - وقد كانت الجامعة مؤلفة من عدة مدارس: مدرسة للطب والتشريح والجراحة، ومدرسة الرياضيات والفلك، ومدرسة القانون والفلسفة، وكان يتصل ببنائها بستان كبير وحديقة لعلم النبات ومرصد ومن هذا نرى أنها كانت جامعة من أكبر الجامعات
وبجوار الجامعة أنشئت المكتبة التي كانت أكبر مكتبة عرفها العالم القديم. بدأ في إنشائها بطليموس سوتر (305 - 283 ق م)، ولكن لم يتم تجهيزها ويكمل نظامها إلا على يد خلفه بطليموس فيلادلفوس (283 - 245 ق م) وقد كانت تحوي المكتبة أجمل مؤلفات العالم القديمة من مصرية إلى عبرية ويونانية؛ ويغلو كثير من الكتاب في تقدير عدد الكتب التي كانت غلواً يصعب على العقل تصديقه، ولكن هذه المبالغة إن دلت على شيء فإنما تدل على الكثرة، ويقدر بعض المؤرخين عدد الكتب بـ 490 ألف كتاب وهو رقم يصعب تصديقه مما دعا بعض المؤرخين إلى أن يفترضوا أن المكتبة لم تكن مرجعاً للعلماء والباحثين فحسب، ولكنها كانت مكاناً لنسخ الكتب وبيعها. هذا وجدير بنا أن نذكر أن هذه الكتب القيمة كانت طعاماً للنيران أثناء النزاع الذي أودي بالدولة البطلمية وجعل مصر جزءاً من الإمبراطورية الرومانية.
وقد كان من أكبر علماء الإسكندرية الفلكي العظيم إراتستين الذي كان نابغة زمانه في(501/38)
الأدب والفلك والجغرافيا، وقد كان عميد دار المكتب وإليه عهد بطليموس الثالث بتربية ابنه ولي العهد. وقد أصبحت هذه سنة، فكان أمناء المكتبة يعلمون أولياء العهد
ومن أكبر العلماء المصريين في العهد البطلمي مانيثون، وإليه عهد بطليموس الأول بكتابة تاريخ مصر ففعل وكتب تاريخاً دقيقاً وافياً، ومن الأسف أن معظمه قد ضاع، على أن ما بقة ظل يكون معلوماتنا عن تاريخ مصر القديم حتى القرن التاسع عشر، وبهذا العمل العظيم صحح مانيثون ما كان يدرس خطأ من تاريخ مصر القديم في الجامعة
أبو الفتوح عطيفة
إجابة
طالعت قول الأستاذ المفضال السيد محمود عزت عرفة، وأرجو إذن السيد الكريم في قولي لماذا تنسب السلطة إلى الملح ولا ننسبها إلى السليط الذي معناه الزيت أو الزيت الجيد وهو الأقرب؟
المقرونة - بفتح فإسكان - اسم نوع من الطعام من عجين وسمن، وكان في زمن الجاهلية، وهي ما يقال له الآن (مكرونة)
(وحيد)
أين السليط من (السالاد)
في الكلمة التي نشرناها تحت هذا العنوان (ع 500) من (الرسالة) سقط سطر كامل من إحدى الفقرات، فأخل ذلك بالمعنى الذي نقصده، وأوجد في الكلام تناقضاً لعله لم يخفَ على الكثيرين من القراء. . .
فقد بينا أولاً انقطاع العلاقة في المعنى بين اللفظين العربي والإفرنجي (سليط وثم أوردنا في إثبات انقطاع العلامة اللفظية بينهما أيضاً، ما جاء هكذا: كما يتضح لنا انقطاع العلاقة اللفظية بينهما أيضاً: إذ عرفنا أن كلمة الإنجليزية والفرنسية، والإيطالية بمعنى ملح)
وواضح أننا لا نقصد مطلقاً القول بأن هذه الألفاظ تؤدي معنى نلح، بعد أن سبق فبينا - في نفس الكلمة - حقيقة معنى (السالاد) وتركيبه عند القوم. . . وإنما صحة الكلام بعد إثبات الساقط منه تكون هكذا: (. . . والإيطالية القديمة كلها مشتقة من اللفظ اللاتيني(501/39)
القديم بمعنى ملح)
محمود عزت عرفة(501/40)
العدد 502 - بتاريخ: 15 - 02 - 1943(/)
في الإصلاح الاجتماعي
أمر عسكري. . .
لو كانت الأوامر العسكرية كلها من نوع الأمر العسكري بردم البرك
والمستنقعات لتمنينا أن نظل على هذا النظام دهرا
طويلا. ذلك أن هذا الأمر وما يشبهه من الأمر بعقوبة من يفطر جهرا في شهر رمضان، أو من يبيع خمراً في يوم مقدس، إنما هو نفحة من نفحات الحكم العمري الذي لا ينهض الشرق بغيره
والعلة في أن نهوضنا منوط بهذا الضرب من الحكم، أننا مصابون بالقصور الذاتي في الخير والشر، فلا نأتمر بالمعروف إلا بدافع، ولا ننتهي عن المنكر إلا برادع. وأظهر أعراض هذا الركود النفسي فينا أننا نقول ولا نفعل، ونسمع ولا نطيع، ونعكف على ما ورثنا نعبده ولا نجدده، ونجمد على ما كسبنا لا نغيره ولا نزيده!
كم وزارة فكرت في ردم المستنقعات والبرك! وكم لجنة ألفت لتحقيق هذه الفكرة! وكم مشروع وضع لتنفيذ هذا التحقيق! وأخيراً صدر على الرغم من تسويف اللجان، ومعارضة الإهمال والنسيان، قانون؛ واقتضى ذلك القانون أن تنشأ وظائف، ويحدد اختصاص، ويقرر تفتيش، ويسجل إحصاء. ولكن القانون يظل كلاما حتى ينفذ. والتنفيذ عمل من الأعمال يحتاج إلى إرادة؛ والمريض بالقصور الذاتي لا يريد ولا يملك أن يريد
صدر قانون بردم البرك منذ عشر سنين فقال الناس: جفت موارد الموت، وعفت مواطن البعوض، وبادت جراثيم الملاريا، وان للفلاح المسكين أن يحس العافية. ولكن القانون العادي رحب البال، يقبل العذر ويأخذ الأمور بالملاينة؛ فالبركة الفلانية يملكها الباشا فلان، فهو يرجو من القانون أن يؤجله إلى يوم القدرة. والبركة العلانية يملكها الأمير علان، فهو يطلب إلى القانون أن يمهله حتى تنقضي العسرة. والقرويون الذين هدتهم الحمى ووضع لإنقاذهم هذا القانون تقابل عرائضهم بالإعراض، وتدفع مطالبهم بالاعتراض، وتعلل شفاعتهم بالمطل
أنا من أهل قرية وصفتها من قبل لقراء الرسالة بأنها جزيرة من الأكواخ والحظائر في وسط مستنقع محيط من مصافي المزارع، نمت على أسنة وعفنة جراثيم الأمراض(502/1)
المتوطنة، فجعلت كل وجه في صفار الخوف، وكل جسم في هزال الجوع، وكل حي في همود الموت. وعلى هذه الحال الشديد قطعت مراحل عمرها الماضي لا يزهر فيها شباب، ولا تثمر بها كهولة. لذلك لم نكد نسمع بصدور هذا القانون حتى رفعنا أصوات الاستغاثة، فأغاثتنا الوزارة المختصة بالمفتش وراء المفتش، والتقرير عقب التقرير، والوعد بعد الوعد؛ ثم وقفت عند ذلك فلا تجيب عن سؤال، ولا تصيخ لشكوى حال؛ لأن ما تستطيعه قامت به، وكل ما تستطيعه لا يعدو القول والكتابة. ثم تعاقب وزراء الصحة على هذا القانون وهو كلمات ميتة فلم يبعثوا فيه الحياة؛ ومضوا على المنهج المألوف من كفاح المرض بالتقارير والأرقام حتى اّكتظت القرى والقبور بضحايا البلهارسيا والأنكلستوما والملاريا والطحال على الرغم من المستشفيات المنشأة على آخر طراز، والمعامل المجهزة بأحدث جهاز، والصيدليات المزودة بأندر الأدوية. ففكر الناس وأطالوا التفكير، ثم سألوا وأكثروا السؤال: هل في مصر وزارة للصحة؟ وهل في وزارة الصحة أطباء؟ وهل لأطباء الصحة ضمائر؟ وكان الجواب عن هذه الأسئلة السكوت المريب، حتى تولى وزارة الصحة وزيرها القائم فكان هو الجواب القاطع وإلا يجاب الصريح.
أثبت بالفعل هذا الرجل العظيم أن في مصر وزارة للصحة فيها أطباء أكفاء ينهضون إذا نبهوا، ويعملون إذا وجهوا؛ وأن المنصب الذي كان مكتبا ومرتبا وأبهة، يستطيع أن يكون أعظم القوى وأفعلها في الإصلاح الاجتماعي بمكافحة المرض، وهو شر بلايانا الثلاث. ومن كان يعرف ما فعله وهو مشرف على صحة القاهرة، كان يتوقع ما فعله وهو قائم على وزارة الصحة.
ولعل أظهر المزايا في هذا الرجل النشيط العامل قوة العزم وسرعة التنفيذ. لذلك أعرض عن قانون ردم البرك واستصدر
هذا الأمر العسكري الموفق، فلم يكد يمضي على صدوره عشرة أيام، حتى فعل ما لم يفعله ذلك القانون العادي في عشرة
أعوام؛ إذ أدخل في ملك الحكومة البرك التي خنست همم أصحابها عن التعهد بردمها قبل الأجل المحدد، ومساحتها 4050
فدان ستردمها مصلحة الشؤون القروية، ثم تستغلها بالتأجير أو تصرفها بالبيع. أما البرك(502/2)
التي تعهد أصحابها بردمها وهي 1500 فدان فقد جعل لهؤلاء أطول الأجلين ستة أشهر ينتهي الردم قبل انتهائها وإلا أخذهم القضاء العسكري بالعقاب الشديد. وبذلك يقضى بانقضاء هذا الأجل على مصدر من مصادر الهلك انفجر على مصر بالعلل والأسقام منذ جرى بين صحراويها النيل.
إن الحكم العسكري فرصة مؤاتية لوزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية يحسن بهما انتهازها لمعالجة الإصلاح الاجتماعي
بأسرع الوسائل وأقرب الطرق. وإن في مصر من باطل العادات وفاسد الاعتقادات ما لا يمحوه إلا صرامة هذا الحكم. وفي خبرة الوزيرين الجليلين ولقانتهما ما يغني عن ضرب الأمثال. والإصلاح الناجع قبل هذا وبعد هذا يثمر لا كلام يقال.
أحمد حسن الزيات(502/3)
هل أدت الجامعة رسالتها؟
للدكتور زكي مبارك
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
إن الجامعة التي أنشئت لمقاومة الاحتلال، هي الدار التي ارتفع فيها صوت الاستقلال.
فما السر في أن يكون للجامعة هذا السلطان؟ ما السر في أن تصنع في الأيام القصار ما عجز عنه غيرها في الأعوام الطوال؟
لا تسألوها ولا تسألوني، فقد تواصينا على الكتمان، وسر المجد لا يذاع
ليست الجامعة حجرات، ولا غرفات، ولا مدرجات، ولا وظائف، وإنما هي: روح وفكر وعقل وبيان
ثم أواجه العهد الثاني فأقول:
في صيف سنة 1925 أخذت الحكومة في التأهب لتنفيذ مشروع ترددت في تنفيذه سنتين (فإن الاتفاق بينها وبين الجامعة
عقد في سنة 1923، يوم كان الرجل العظيم زكي باشا أبو السعود وزيرا للمعارف) وكان مصدر التردد أن الحكومة لا تعرف بالتحديد كيف يكون نظام الجامعة في عهدها الجديد
ثم بدا للجامعة الجديدة أن تراعي تقاليد الجامعة القديمة فتستشير أقطاب الجامعات الأوربية في الأوضاع التي تحمي تنفيذ
المشروع من الإخفاق
وما هي إلا أيام حتى اّستطاعت أن تستقدم كبار الأساتذة من الجامعات الفرنسية والبلجيكية والإنجليزية
ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث أنشئت كلية جديدة اسمها كلية العلوم، وهي الكلية التي عجزت الجامعة عن إنشائها في عهدها الأول، بحجة أن كلية العلوم لا ترتجل، كما صرح المسيو بوفيليه، وكان أحد خطباء حفلة الافتتاح في ديسمبر
سنة 1908 إذ قال:
'
كان إنشاء كلية العلوم أداء لرسالة جديدة من رسالات الجامعة المصرية، ولكنها رسالة(502/4)
مزدوجة، لأنها أرادت أن تضع حجرا جديدا في بناء كلية الطب، حيث فرضت أن لا يدخل الطالب كلية الطب إلا بعد أن يأخذ زاده العلمي من كلية العلوم، وهو تقليد جميل، لا يمتري في جماله غير الجهلاء
ثم رأت الجامعة أيضا أن لا يدخل طالب كلية الحقوق إلا بعد أن يمضي سنتين في كلية الآداب، ليتزود بالحقائق الأدبية والفلسفية، عساه يصير فيما بعد من أئمة التشريع
والطلبة الذين انتفعوا بذلك النظام هم المرجع في هذه الأيام لدراسة القوانين
أيها السادة:
كانت المشكلة في العهد الجديد أن تعرف الجامعة كيف تقنع الحكومة بقيمتها الذاتية، وكان الرأي أن تسير الجامعة على النظام الفرنسي، وهو يقضي على قصر التعليم الجامعي على أربع كليات: الآداب والعلوم والطب والحقوق، ثم رأت أن تسير على النظام الإنجليزي فترفع رايتها على جميع المعاهد العالية، ولي على هذا النظام اعتراضات لا يتسع لها المجال
والمهم هو النص على أن الجامعة استطاعت أن تسيطر على جميع الفروع بالتعليم العالي، أن تعلن استقلالها عن وزارة المعارف، وهذا مغنم ليس بالقليل، وهل من القليل أن تكون الجامعة دولة في جبين الدولة، وأن يكون التعرض لأحد مدرسيها مما يفتح باب الجدال في مجلس البرلمان؟
عندنا جامعة بالفعل، لا بالقول، وعندنا جامعيون لا يقبلون وظائف الحكومة إلا متفضلين، لأن الجامعة أعدتهم للجهاد في الحياة بلا سناد من هذا الوزير أو ذاك
رسالة الجامعة هي نصر الحياة على الموت، وقد نصرنا الحياة على الموت، فليجرب خصومنا حظوظهم في محاربتنا أن استطاعوا وأنا أخشى أن يستطيعوا، فقد سمعت أنهم يملكون بلايين ودشالين من القبور التي ترجع إلى عهد أدم وحواء!
أفي نيف وثلاثين عاما تصنع الجامعة هذا الصنيع، فتعز الذاتية الأدبية والعلمية، وتقول للرجل المفكر كن وجودا ذاتيا فيكون؟
كان ذلك لأنها أسست على التقوى، والتقوى هي الخوف، وكانت الجامعة تخاف أن ينهزم السلطان الأدبي والعلمي في هذه البلاد، وقد انتصرت لأن الخوف هو باب الأمان(502/5)
أيها السادة:
إن تاريخ الجامعة في عهدها الجديد لا يتجاوز سبعة عشر عاما، وتلك مدة لا تكفي لإيجاد محصول تباهي به الجامعات التي طال عهدها بالوجود، فكيف اصل إلى إقناعكم بأنها أدت رسالات لم تؤد من قبل؟
أمامي مصاعب ترجع إلى أن الجامعة في عهدها الجديد قد انتظمت معاهد لها تواريخ، فكلية الطب حلت محل مدرسة الطب، ومدرسة الطب المصرية (مدرسة قصر العيني) قامت بخدمات كبار في أزمان طوال، وقد كتب عنها في اللغات الأوربية عشرات المؤلفات والبحوث، ولقد كان مجدها يهزني هزة الازدهاء حين أرى ما كتب عنها في المكتبة الطبية بحي السوريون
ومع ذلك فمن السهل أن اقرر أن مدرسة الطب قد ازدهرت ازدهارا ملحوظا حين انضمت إلى الجامعة في عهدها الجديد، فقد ضخمت ميزانيتها، واتسعت مبانيها، ومضت إلى آفاق لم يفكر فيها أبناؤها الأولون
استطاعت كلية الطب بفضل أساتذتها وخريجيها أن تقوم بعقد مؤتمرات سنوية في مختلف البلاد العربية، وهي مؤتمرات تعرف فيها أطباء العرب بعضهم إلى بعض، وتلاقت فيها قلوب لم يتيسر لها التلاقي قبل تلك المؤتمرات، وان وجد حلف عربي بعد زمن قصير أو طويل فسيذكر التاريخ أن لأعضاء الجمعية الطبية المصرية يدا مباركة في إيجاد الحلف المنشود، ولعله قريب!
فان كنتم في ريب من أحياء مدرسة الطب بعد أن صارت كلية فتذكروا اسم الدكتور علي باشا إبراهيم، فاعظم منصب كان يصل إليه مثل هذا الرجل العظيم هو أن يكون وزيرا، وقد كان، ولكنه ما كان يصل إلى منصب مدير الجامعة المصرية لو ظلت تلك المدرسة بمنأى عن الحرم الجامعي، وخلق الوزراء سهل جدا في العهود البرلمانية، أما خلق شخصية تتولى إدارة الجامعة فهو رهين بالأهلية الجامعية
وهنا أعقب على معالي الدكتور علي باشا إبراهيم بمناسبة الجواب الذي قدمه إلى مجلة الاثنين وقد سألته عما يختار من ألقابه الكثيرة فاختار لقب (الجراح)
وإنما اوجه إليه هذا العتب، لان براعته في الجراحة لم تكن المؤهل الوحيد لصلاحيته(502/6)
لأدارة الجامعة المصرية، وإنما أهلته لهذا المنصب مزايا كثيرة، منها انه من كبار مفكرينا ومنها انه من أحد الرجال القلال الذين يعنون بتربية الأذواق، ومنها انه منوع الثقافة بحيث يستطيع أن يشترك في الأحاديث التي تتصل بجميع الكليات
ثم اذكر أن معالي الدكتور عبد الواحد الوكيل لم يترك دروسه في كلية الطب بعد أن صار وزير الصحة العمومية، فهل يقع هذا إلا من رجل صقلته الروح الجامعية؟
قولوا الحق واعترفوا بان لكلية الطب مذاقا غير مذاق مدرسة الطب، مع الاعتراف بما لمدرسة الطب القديمة من أمجاد سيحفظها التاريخ
ثم يجيء القول عن مدرسة الهندسة بعد أن صارت كلية، ومعلوماتي عن هذه الكلية قليلة، لأني مهندس معاني، لا مهندس مباني
ومع هذا يصح الحكم بان الجامعة خلقت كلية الهندسة خلقا جديدا، فقد وجهتها إلى مرامي جديدة، حين أوحت إلى أبناءها أن يشتركوا اشتراكا فعليا في اكثر الأعمال الهندسية، وكانت من قبل وقفا على خلائق ليس لها في هذه الديار انساب
ولنفرض أن كلية الهندسة لم تأت بجديد، فهل تنسون أنها تبالغ في اختيار الطلاب؟
ألم تسمعوا أن صدقي باشا عجز عن إلحاق أحد أبنائه بكلية الهندسة مع انه استطاع حل البرلمان؟
وسلطان الجامعة من هذه الناحية ليس اعتسافا، وإنما هو تعبير عن القوة الذاتية المصرية
ثم يجيء القول عن كلية الحقوق، وهي وريثة مدرسة الحقوق، ولطلبة مدرسة الحقوق القديمة تاريخ صوره شاعرنا حافظ إبراهيم حين قال:
وكيف يضيع للطلاب حقٌ ... وهم في مصر طُلاّب الحقوق
وما كادت مدرسة الحقوق تصبح كلية حتى اهتدت إلى أن لها غرضين أساسيين هما جملة الرأي فيما تتسامى إليه من كرائم الأغراض
الغرض الأول هو البرهنة على أن اللغة العربية قديرة على الإفصاح عن دقائق القوانين. وأنا لا أتحيز لوطني أن قررت إننا سبقنا جميع البلاد العربية إلى التأليف الجيد في مختلف فنون التشريع
أما الغرض الثاني فهو معاونة الشعوب العربية على استرداد الثقة بالفقه الإسلامي، وهو(502/7)
اخصب من الفقه الروماني بمراحل طوال. . .
وفي هذا المقام تلوح الفرصة للكلام عن الدكتور السنهوري فقد نهض بعبء في تلقيح القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية، وهو جامعي قديم، لأنه كان من طلبة قسم الحقوق بالجامعة المصرية في عهدها الأول، ولأنه كان عميد كلية الحقوق بالجامعة المصرية في عهدها الجديد. ولو أن الدكتور السنهوري أعفى نفسه من السياسة وتقلبات السياسة لأدى لوطنه خدمات اعظم وانفع، فقد دعي لوضع القانون المدني العراقي، ولكن منصب وكيل وزارة المعارف أغراه بالاعتذار، مع أنني ألححت عليه في أن يترك ذلك المنصب الخداع ليؤدي لسمعة مصر العلمية خدمة مأثورة في العراق الشقيق
ويضاف إلى هذين الغرضين غرض ثالث: هو الرغبة الشريفة في معاونة الأمم العربية على التعمق في الدراسات القانونية، ولن ننسى فضل العراق في إظهار ثقته النبيلة بكلية الحقوق المصرية، فقد رأى أن يستأنس بها في تقوية كلية
الحقوق العراقية. وهذه الالتفاته من جانب العراق تقوى ثقتنا بالكلية المصرية، وتدعونا إلى تأييدها بجميع ما نملك من
فنون التأييد.
هل أحتاج إلى القول بأن كلية الحقوق غير مدرسة الحقوق؟
لقد نشأت فيها أقسام جديدة بعد الليسانس، نشأت فيها دراسات لم تكن معروفة قبل عهد الأنظمة الجامعية، وبهذا استطاعت أن تقدم ألوانا جديدة من فقه التشريع، وما أحب أن أزيد
وهنالك كلية مجهولة هي كلية الزراعة، فهل تظنونها صورة من مدرسة الزراعة؟
ابحثوا تعرفوا أن كلية الزراعة أمدت أبناءها بأفكار وآراء لم تعرفها مدرسة الزراعة، فقد حاولوا وسيحاولون الاستيلاء على الأراضي التي لم تجد من يحسن استغلالها على الوجه الصحيح، وقد كان من أثار جهودهم في تنمية الثروة الزراعية أن أعلن أصحاب البساتين شكواهم من رخص الفواكه قبل أن تغليها أعوام الحرب
أما كلية التجارة فمكانها معروف، فقد استطاع أبناؤها أن يكونوا السناد المتين لبنك مصر وشركاته المتنوعات، وأنتم تعرفون أن بنك مصر توجيه جديد لأكثر أمم الشرق، فهو أول بنك نزه تحريراته وحساباته عن اللغات الأجنبية، واعتمد كل الاعتماد على اللغة العربية(502/8)
أيها السادة
بقى القول في كلية الآداب، وكلية الآداب لها الصدارة في جميع الجامعات، ومن أجل هذا كانت كلياتنا الغالية على يمين من يدخل حرم الجامعة المصرية
ومع ذلك فكلية الآداب هي صاحبة الحظ الأوفر من الشقاء في جميع الجامعات، لأنها تعالج أمورا دقيقة لا تفطن أليها الجماهير إلا بعد زمن أو أزمان
ألوان المعايش تحتاج في كل يوم إلى مهندس والتاجر والزارع والمحامي والطبيب، وهي تستغني بكل سهولة عن الأديب والمؤرخ والفيلسوف، وهل يحتاج الناس إلى الأدب كما يحتاجون إلى الرغيف
ورقة مرقومة من كلية الطب تمنح حاملها العيش الرغيد، وكذلك يقال في الأوراق التي تمنحها سائر الكليات
أما نحن فلا يعرفنا الجمهور ولا تعرفنا الدولة إلا بعد أن نبالغ في أقذاء العيون تحت أضواء المصابيح
ولهذا أرجوكم السماح بعرض بعض الخدمات التي أدتها كلية الآداب إلى الوطن الحافظ للجميل!!
كلية الآداب هي الكلية المظلومة، وسيلاحقها الظلم إلى أن تستطيع إقناع الأمة بأن الأدب مقدم على الرغيف، فهل تستطيع أقلامنا أن تروض الأمة على الإيمان بأن زاد العقول مقدم على زاد البطون؟
إن جهادنا سيطول ويطول، إلى أن تذكر مصر أنها الأمة التي سبقت جميع الأمم إلى وضع تمثال للكاتب المفكر قبل ألوف السنين
سنرى كيف تستطيع كلية الآداب أن تقنع الأمة بأنها أنفع من كلية الطب، وسنرى كيف يمكن إقناع الأمة بأن احتياجها إلى الأديب أشد من احتياجها من الطبيب. . . يوم ذاك يصح القول بأن الجامعة أدت رسالتها خير أداء
وإلى أن يجيء ذلك اليوم أذكر بإيجاز بعض ما صنعت كلية الآداب، فماذا صنعت كلية الآداب؟
وهل تستطيعون أن تتناسوا جهود الأساتذة والخريجين بكلية الآداب؟(502/9)
التأليف عندنا، فما رأى هذا العصر أقوى من كتاب الأدب الجاهلي وكتاب النثر الفني، من حيث البلبلة الفكرية في الحياة الأدبية. ونحن الذين غيرنا اتجاه الأدب في مدارس الدولة من حال إلى أحوال
والترجمة عندنا، فأبناء كلية الآداب هم الذين ترجموا دائرة المعارف الإسلامية مع تحقيقات يعترف بقيمتها المؤلفون الأصلاء
والشعر عندنا، فليتقدم لمصاولتي في الشعر من يطيق، ولن يطيق
والمجد القومي عندنا، ففي كليتنا الغالية أقيمت معاهد للدراسات الأثرية من فرعونية وإسلامية، بحيث يستطيع الفتى المصري أن يعرف فضائل الأجداد والآباء
ونحن الذين فكرنا في أن يكون مدرسو اللغات الحية مصريين لا أجانب، ويشرفني أن أكون صاحب هذا الاقتراح، وقد نفذه العدو الصديق طه حسين
ونحن الذين ابتدعنا الرحلات العلمية إلى البلاد العربية، ومن الطريف أن أنص على أن الحج الجامعي إلى بيت الله الحرام هو من ابتكار كلية الآداب، وقد وصلت عدواه إلى طلبة الأزهر الشريف، فتذكروا أن الحج من أركان الدين الحنيف
كليتنا عظيمة التأثير في الجيل الجديد، ولا ينكر فضلها إلا مكابر أو جحود
أيها السادة
لكليتنا الغالية أمجاد جديرة بالتسجيل، وأخص تلك الأمجاد حرية الفتاة في ارتياد المعاهد العالية، وهذا لم يقع بمصر لأول مرة إلا في كلية الآداب
كانت رفيقتي في دروس الأدب والفلسفة والتاريخ فتاة لطيفة الروح، وهي الآنسة مي ربيبة الجامعة المصرية، وعنوان الكاتبة الموهوبة في اللغة العربية
وأنا لم اشترك في رثاء هذه الكاتبة، لأني لا أزال أراها رأي القلب، ولاني لا احب أن اصدق أن الفناء يجوز على شبابها الجميل، وكان من بسمات الوجود
وقبل أن تموت مي رأيت تأثير كلية الآداب حين زرت الموصل في ربيع سنة 1938، فقد رأيت المدينة كلها مشغولة بكتاب أخرجته فتاة من طالبات كلية الحقوق
كلية الآداب هي أول معهد مصري أباح اختلاط الجنسين في المعاهد العالية، وهو مبدأ يرضى عنه قوم ويغضب عليه أقوام ولكنه مبدأ، وللمبادئ قيمة، ولو أقيمت أساسها على(502/10)
ضلال
وكلية الآداب هي أول معهد مصري فكر في إمداد الصحافة بقوى جديدة مزودة بأهم أقوات الأذواق والعقول، وسيكون لأبناء معهد الصحافة تأثير جميل في صحافة الجيل الجديد
أيها السادة
ستسمعون في هذه الليلة كلاما في تجريح الجامعة، من أبناء الجامعة أنفسهم فلا تظنوا ذلك التجريح من صور العقوق وإنما يجب أن تعدوه من صور الوفاء، لأنه من أقوى البراهين على أن الجامعة أدت رسالتها خير أداء
أهم رسالة من رسالات الجامعة هي خلق القلق الروحي والعقلي، فان غلبني مناظري في هذا المساء فسيكون فوزهم تأييدا لحجتي. وهل تنسون أن الأشبال لا يصاولون آباءهم إلا بعد أن يصبحوا من الأسود؟
لا اعرف ما الذي سيقول مناظري الفضلاء، ولكني أخشى أن يفوتهم مقتل هو اضعف مقاتل الجامعة المصرية، وهو عجزها الفاضح عن أن تجعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع المواد بجميع الكليات
لقد قضيت عشر سنين في الدعوة إلى هذا المبدأ القومي، فما استمع مستمع ولا استجاب مستجيب، فليلتفت مناظري إلى هذا المقتل، وليقولوا لرجال الجامعة أن السبات قد يفضي إلى الموت ثم إلى الفناء
لا يجوز في أية جامعة أوربية أو أمريكية أن يودي امتحان بغير اللغة القومية، إلا أن يكون امتحانا في إحدى اللغات الأجنبية، أما الجامعة المصرية فتسمح بان يؤدي الامتحان بغير اللغة العربية في المباحث الإسلامية، وهذا هو الكفر بعد الإيمان!
جرحوا الجامعة، جرحوها بعنف، لتستيقظ فتثور على الغفلة والجهل. . .
قولوا وأطنبوا، فإن لم تفعلوا - وستفعلون - فسآخذ الكلمة من أفواهكم لأسمع الجامعة ما تحب أن تسمع، فرضاها عن هذه الحال رضا اليأس، لا فرح التحليق في أعالي الأجواء.
جولوا وصولوا، يا بني الأم الروحية، وقاتلوها وقاتلوني، لأرى أنكم وهبتم العزائم الفواتك، والأرواح الصحاح
أنا أثنيت على الجامعة بالحق، فجرحوها بالحق، لتأمنوا صيالي في ردكم إلى شرعة العدل(502/11)
والإنصاف
وإلى اللقاء بعد أن أسمع ما عندكم من حجج وبراهين، فلن تضام الجامعة وفي الوجود رجل هو أصدق أبنائها الأوفياء
زكي مبارك(502/12)
الحضارات القديمة في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
(تتمة)
الحضارة اليونانية:
اليونان من الجنس الآري الذي ينتسب إلى يافث بن نوح عليه السلام، وهم أول من حمل لواء الحضارة من ذلك الجنس، وتمتاز حضاراتهم على غيرها من الحضارات بالنهضة العلمية التي قامت على أساسها، ومازالت ترعاها وتتعهدها حتى ترعرعت وازدهرت، وظهر فيها من أعلام الفكر أولئك الفلاسفة الذين رفعوا منار العلم، ووصلوا فيه إلى ما لم يصل إليه أحد قبلهم، فأقاموه على أسس ثابتة، وجعلوا له حدوداً ومعالم ظاهرة، وقد بلغ من قوة تلك الأسس وظهور تلك المعالم إنها لا تزال ثابتة إلى عصرنا، وان كل نهضة علمية حدثت بعدها تحذو حذوها، وتجري على منوالها، فتبني على تلك الأسس، ولا تتخطى تلك الحدود والمعالم، ويكون كل همها أن تصلح فيها خطأ أو تزيد على آثارها آثاراً جديدة
وكما تمتاز الحضارة اليونانية بهذا تمتاز بأمر آخر له خطره، وهو محاولتها جمع العالم على حضارة واحدة، وإخضاع الشعوب البشرية لسلطان واحد، حتى يمكنها أن تتقارب وتتفاهم، وأن تتعاون في كل عمل يرفع شأن البشر، ويعود عليه بالخير والرفاهية، والحضارة اليونانية في تلك المحاولة على عكس الحضارة اليهودية، لأن اليهود كانوا يعتقدون أن حضارتهم حباء من الله لهم، وأنهم أورثوا بها أثاراً على غيرهم من الشعوب، فلا يصح لهم أن يشركوا فيها غيرهم، ولهذا عاشوا منعزلين عن غيرهم من الشعوب، ولم يحاولوا أن يضموا شعباً منها إلى حظيرتهم
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذين الغرضين الحميدين في الحضارة اليونانية، وفصلهما أحسن تفصيل في سورة الكهف من الآية - 83 - إلى الآية - 98 - (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا، إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً، فأتبع سبباً، حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوماً، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً، قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى(502/13)
ربه فيعذبه عذاباً نكرا، وإما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ثم اتبع سبباً، حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا، كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا، ثم اتبع سببا، حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا، قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، فهل نجعل لك خرجا على أن تحمل بيننا وبينهم سدا، قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما، آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطرا، فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا، قال هذا رحمة من ربي، فإذا وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا)
فهذه الآيات تفيد أن ذا القرنين كان يرمي إلى أمرين عظيمين، أولهما جمع الشعوب في شرق الأرض وغربها تحت حكمه، ليكون لهم جميعاً سلطان واحد يجمع كلمتهم، ويقرب مسافات الخلف بينهم. وثانيهما نشر العلم والحضارة بين تلك الشعوب، فمن آمن وأذعن لذلك جزاه أحسن الجزاء، ومن لم يؤمن ويذعن لذلك ناله من العذاب، وقد تم لذي القرنين من ذلك ما أراد، فجمع أكثر الشعوب المحتضرة تحت حكمه، ثم عمل على أن يحفظها من الشعوب المتوحشة التي كانت تغير عليها، وتخرب ما تخرب من آثار الحضارة فيها
وذو القرنين الذي تم له كل هذا هو الاسكندر المقدوني اليوناني، كان أبوه فيليب ملك مقدونيا، وكان ملكاً عظيم القدر، عمل على أن يجمع بين البلاد اليونانية في حلف تتولى مقدونيا زعامته، ثم يوجه قوة اليونان بعد توحيدها نحو الفتح الخارجي، ولكنه قتل قبل أن يتم غايته، فخلفه ابنه الاسكندر على عرش مقدونيا، وكانت سنه عند ولايته عشرين سنة، وقد ورثه عن أبيه بعد الهمة وقوة العزم، وزاد عليه بتربيته على يد أرسطو الفيلسوف المعروف، فنشأ محباً للفلسفة والعلم، عاملاً على نشرهما في أنحاء المعمور. وقد أراد أولاً أن يخضع بلاد اليونان كلها لسلطانه، فإذا تم له إخضاعها توجه إلى ذلك الفتح الذي يجمع الشعوب تحت رايته، وكانت دولة فارس على عهدها أكبر دول الأرض، فعمل على قهرها أولاً، وعبر مضيق الدردنيل إلى الأناضول، فانتزعه من أيدي الفرس، وأوقع بجيوشهم في موقعة أسوس، ثم اتجه غرباً نحو الشام ومصر فانتزعهما أيضاً من أيدي الفرس، وما زال يسير غرباً حتى بلغ عين الشمس بواحة سيوة، وهي العين الحمئة أو الحامية التي ذكر(502/14)
القرآن أنه بلغها في فتوحاتها الغربية، ثم عاد فاتجه نحو الشرق قاصداً بلاد فارس، ليقضي على دولة فارس فيها، وما زال يسير شرقاً حتى بلغ سهول الهند الشمالية، ولم يبق أمامه إلا بلاد يأجوج التي ذكر القرآن أنه وصل شرقاً إليها
ولا شك أن هذا الاتفاق بين فتوحات ذي القرنين والاسكندر المقدوني دليل على أنهما شخص واحد، وقد ثبت مع ذلك أن الاسكندر المقدوني كان يلقب بذي القرنين، وفي هذا دليل آخر على أنه هو ذو القرنين الوارد في القرآن. وقد ذهب إلى هذا إلى الرأي كثير من المفسرين، ومن رأى منهم أن ذا القرنين غير الاسكندر المقدوني فقد خبط في بيانه خبط عشواء، ولم يهتد إلى ملك يثبت التأريخ الصحيح أنه كانت له تلك الفتوحات.
ولا يوجد لدى الذين يأبون أن يكون ذو القرنين هو الاسكندر المقدوني إلا أنه كان على دين فلاسفة اليونان، ولم يكن رسولاً يدعو إلى الأيمان كما هو ظاهر القرآن في قوله: (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب) ونحوه مما ورد في الآيات السابقة. ولنا في الجواب عن هذا أن نذهب إلى أن الفلسفة اليونانية لم تكن فلسفة وثنية مادية، وإنما كانت فلسفة توحيدية روحية، إذ كان العقل عند الفلاسفة الأقدمين كسقراط وأفلاطون وأرسطو يعد مظهراً للروح، وأكبر دليل على أن لها وجوداً مستقلاً عن الجسد، فتنفصل منه بعد الموت، وتصعد إلى عالم أرفع من هذا العالم، وهذا هو الإيمان بالتوحيد والبعث الذي دعت إليه الأديان السماوية. وقد كان في أولئك الفلاسفة من ادعى الإلهام والوحي كفيثاغورس وسقراط، وهي دعوى لا يوجد في الإسلام ما يمنع من قبولها، لأنه يمتاز على غيره من الأديان بأنه لا يجعل الرسالة السماوية وقفاً على قوم من الأقوام، وقد قال الله تعالى في الآية (24) من سورة فاطر: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) وإذا كان في آثار أولئك الفلاسفة ما يخالف الدين، فانه يمكن أن يكون من التحريف الذي أصاب الفلسفة اليونانية. كما أصاب الأديان السماوية، على أن كثيراً من أنصار هذه الفلسفة في اليهودية والنصرانية والإسلام لا يرون أنها تخالف هذه الديانات، وقد استخدموا علومها وآلاتها في نصرة الدين، حتى صار علم الكلام في هذه الديانات متأثرا إلى حد كبير بهذه الفلسفة
ويمكننا أن نذهب في الجواب عن ذلك مذهبا آخر نسلم فيه أنه لم يكن في هذه الفلسفة وأصحابها إلهام ولا وحي، وأنهم وصلوا إليها بنظر العقل، فانه يبقى مع هذا أن أولئك(502/15)
الفلاسفة اجتهدوا بعقولهم في الوصول إلى الحقيقة المطلقة، فوصلوا في ذلك إلى أسمى ما وصلت إليه العقول في العصور القديمة، وإلى ما استحق التقدير من كل من ظهر بعدهم من الأمم إلى عصرنا الحاضر، فإذا ذكر القرآن آثار علم من أولئك الأعلام، فأنه يقدر منها ما يستحق التقدير من كل منصف، وإذا كان فيها شيء من المؤاخذات فإن الله لا ينظر إليها في هذه الحالة، كما قال تعالى في الآية (15) من سورة الإسراء: (من أهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً). وقد فعل القرآن الكريم ما يقرب من هذا مع الروم في حروبهم مع الفرس، فراعى لهم أنهم على كل حال أهل كتاب، وبشر المسلمين بنصرهم في الآيات الأولى من سورة الروم (ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد؛ ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر الله من يشاء وهو العزيز الحكيم)
أما قوله تعالى: (قلنا يا ذا القرنين) فلا يفيد إلا أن ذا القرنين كان في تلك الفتوحات وفيما يقصده منها مسبراً بأمر الله وقد ذكرنا أنه كان له في تلك الفتوحات مقاصد نبيلة، وكل شيء يحصل في هذه الدنيا فبأمر الله وتقديره.
عبد المتعال الصعيدي(502/16)
ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربية
للأستاذ عيسى محمود ناصر
تتمة ما نشر في العدد الماضي
الكلام على الفصلين الثالث والرابع
يمكن أن يقسم كلام ابن خلدون فيهما أقساماً ثلاثة: الإقليم والبيئة الجغرافية والدين؛ فلقد تتبع المجتمع البدوي والحضري وحكومته على اختلاف ضروبها ووسائل الارتزاق ولم تعد أحكامه في سياسة الممالك الاستبدادية التي ذكرها في مقدمته مطردة في عصرنا هذا إذ أصبحت طريقة الحكم في هذا العصر دستورية مبنية على الحكم النيابي الذي يؤيده الدستور ويدعو إليه سواء أكانت جمهورية أم ملكية، على أن معدات الحروب وظواهر المدنية الحاضرة تختلف كثيراً عن حالتها السابقة
ومن رأى ابن خلدون أن هناك ثلاث ظواهر مستقلة عن المجتمع تؤثر فيه باستمرار هي: الإقليم والبيئة والجغرافية والدين، وقد تأثر في نظرياته الجغرافية (ببطليموس) الجغرافي اليوناني، وبالإدريسي الجغرافي العربي، وهو في هذا يبين أن البيئة الجغرافية وسيلة إلى شرح الأقاليم المختلفة، وأن درجات الحرارة المختلفة تؤثر في أجسام الناس وأخلاقهم، ومن ثم في الحضارة؛ فسواد لون سكان الجنوب يرجع إلى شدة الحر حيث الشمس محرقة دائماً، وأما لون أهل الشمال فأبيض للسبب العكسي. أما الأقاليم المعتدلة فأجسامهم أقوى وأوفر توازنا في حين أن أهل الأقاليم المنحرفة مجردون عن الحضارة، فهم همج لا يعرفون شريعة ولا حكومة ولا ديناً، وأخلاقهم في غاية التناقض، ولكنها بعيدة عن أن تكون مجتمعاً متحضراً. ويعلمنا التأريخ أن الحضارة لم توجد قط إلا في البلاد المعتدلة، وأن درجة كمالها تختلف بقربها أو بعدها عن الإقليمين المنحرفين، ولهذا كان الإقليم الرابع الذي يشغل الوسط والذي يتمتع بحرارة معتدلة ينعم دائماً بضروب الحضارة، ففيه الحكومات والشرائع والأديان المنزلة والعلوم والفنون. ويضع ابن خلدون في ذلك الإقليم المعتدل: الشام والعراق، فالشام مهد اليهودية والنصرانية، والعراق كان بها الحضارة الآشورية، ولكنه اعترضته صعوبة أن بلاد العرب مهد الإسلام، وموطن العربية - ليست من الأقاليم(502/17)
المعتدلة، ولكن البحر يحوطها من ثلاث جهات فأثرت رطوبته في الهواء ولطفت من قيظها المفرط. ثم قال: إن بأخلاق أهل الجنوب خفة وطيشاً، وإنهم لا يعرفون السكينة، ويقضون معظم حياتهم في اللهو والرقص؛ فالحرارة مخلخلة للهواء والبخار زائدة في كميته، وقد اتفق ابن خلدون و (منتسكيو) في أثر البرودة والحرارة في الأجسام، ولكننا لا نرى في هذا العصر أثر لمقاومة البرد والحر، وهناك برهان قاطع على أن نظرية الإقليم كما يشرحها (أرسطو) وأبن خلدون و (مونتسكيو) ليست معصومة من الزلل؛ فابن خلدون يرى أن سكان الشام والعراق هم أكثر الشعوب فوزاً بذلك الامتياز، و (مونتسكيو) يرى المثل الأعلى في أمم الشمال، و (أرسطو) يرى الشعب اليوناني هو الذي بعث ذلك التقدم إلى باقي الشعوب
ثم تكلم ابن خلدون عن الروح البشرية والنبوة والكهانة، وهو لا يعتبر الدين من عوامل الحضارة، ولا يعلق على تأثيره فيها أهمية كبيرة، والواقع غير ذلك؛ فالمجتمعات تتأثر بالدين وله تأثير قوى في النفوس، والدين مادة غزيرة من الفلسفة والتقاليد والمعتقدات. ولقد وفق ابن خلدون بين الفلسفة والدين كما وفق ابن رشد بينهما
ويؤخذ على ابن خلدون في مقدمته إنحاؤه على العرب وقسوته في الحكم عليهم في كثير من سياسة الملك؛ فقد غمطهم حقهم، وشدد النكير عليهم، فنعي عليهم عجزهم عن التغلب إلا على البسائط ويقول: إنهم لا يتغلبون على قطر إلا أصابه الخراب المطلق، فهم يهدمون الصروح، ويغتصبون أملاك المغلوبين مستشهداً بتخريب إفريقية الشمالية في القرن الخامس، وأنهم يجهلون سياسة الملك. والتأريخ وحده أقوم دليل على دحض هذه المفتريات. ويبدو في كلامه هذا التحامل على العرب، وإنه لعربي حضرمي، ولكن ذلك راجع إلى العصبية المغربية؛ فأهل المغرب لهم عواطفهم وتقاليدهم، وهم قد خرجوا من سلطان العرب منذ القرن الثاني للهجرة.
أما تحامله على العرب وعجزهم عن التغلب إلا على البسائط كسهول الشام والعراق ومصر وساحل إفريقية الشمالية فمردود بحوادث التاريخ فقد نسى ابن خلدون أو تناسى أنهم فتحوا فارس واستقروا هناك أكثر من قرنين، وأنهم فتحوا بلاد الأندلس، وأسسوا فيها حضارة وملكاً كبيراً استمر أكثر من ثمانية قرون(502/18)
أما تخريب إفريقية الشمالية في القرن الخامس فلم يكن إلا بأمر الخليفة الفاطمي. ثم من هم العرب الذين فعلوا ذلك؟ إنهم بدو أعراب لم يتكلفوا تربية ولا نظاماً. ولنا شاهد من تأسيس حضارة العرب في فارس والشام وأسبانيا وإفريقية. ثم يقول: إن العرب ليسوا أهلاً لتأسيس الدولة إلا من طريق أثر ديني قوي، وإنهم يجهلون سياسة الملك مع أنهم قبضوا على ناحية الحكم في الدولة الإسلامية في العصور الوسطى والحديثة وكانوا أقدر وأعدل وأمهر؛ فقد هيئوا للشعوب المغلوبة أسباب التقدم العقلي المادي. ويقول: إنهم يبالغون في احتقار العلوم والفنون مستنداً إلى أن معظم العلماء فرس وموال. ولكن أيغيب عن ذهنه أن هؤلاء البدو فرضوا دينهم ولغتهم على دولتي الفرس والروم؟ اللهم إنها العصبية المغربية تغلبت عليه!
ابن خلدون والنقد الحديث
يصف الأوربيون ابن خلدون بأنه (مونتسكيو) العرب. وقد ترجمت مقدمته ونظرياته إلى اللغات الحية. وفي منتصف القرن التاسع عشر عني النقد الأوربي بابن خلدون ونظرياته الاجتماعية عناية خاصة، وكان أعجب ما في هذا الاستكشاف أن يظفر الغربيون في تراث هذا المفكر المسلم بكثير من النظريات الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية التي لم يطرقها البحث الغربي. وقد ردد (مكيافللي) المؤرخ السياسي الإيطالي الذي ظهر بعد وفاة ابن خلدون بأكثر من قرن كثيراً من نظرياته وآرائه كما رددها (مونتسكيو) المشرع الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي و (آدم سميث) الفيلسوف الاقتصادي وغيرهم، ولأبن خلدون فضل السبق في هذه الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية والتاريخية.
ويعتبر كتاب (الأمير) (مكيافللي) كمقدمة ابن خلدون. على أن ابن خلدون أغزر مادة وأوسع أفقاً من (مكيافللي) ذلك لأن مؤرخنا اتخذ من المجتمع كله وما يعرض فيه من الظواهر مادة أساسية لدرسه معللاً لها على ضوء التأريخ. أما (مكيافللي) فيدرس الدولة فقط أو يدرس أنواعاً معينة من التأريخ اليوناني أو الروماني القديم، أو التأريخ إيطاليا في عصره، أو يدرس شخصية الأمير أو الحاكم؛ وهذه الدراسة المحددة تقابل الفصل الثالث من مقدمة ابن خلدون وإن كان ابن خلدون يفوق (مكيافللي)، ويبتدع نظرية العصبية ونظرية أعمال الدولة وخواصها من الناحية الاجتماعية. ويمتاز (مكيا فللي) من جهة أخرى(502/19)
بسلامة منطقه ودقة عرضه وتدليله وجمال أسلوبه؛ وهو في فلسفته هذه وصم آراءه ونظرياته بالصرامة والقسوة والخبث حتى كانت في عصرنا الحاضر مضرب المثل للسياسة الغادرة التي لا ضمير لها ولا وازع فتغاضت عن المثل العليا للإنسانية والخلقية؛ فالنفاق والشح، والضعة، والقسوة، والإرهاب، والختل، ونكث العهود، وإهدار الإخلاص، والصداقة، والأمانة، والدين والوفاء، كل أولئك تقوم عليه هذه السياسة (المكيافلليه) وهي عنوان السياسة العملية القوية الخاطفة التي نشاهدها في هذا العصر بين الأمم والأفراد
وقد اعتبر ابن خلدون مؤرخاً لحضارة الدولة الإسلامية، فتحدث عن النظم السياسية وأنوع الحكم والخطط العامة، كالقضاء، والشرطة، والإدارة، وتطورها في الدول الإسلامية كما تحدث عن النظم الاقتصادية والتجارية والمكوس والضرائب، وعن المهن الحرة والحرف والصناعات، ووجوه الكسب والمعاش ثم عن العلوم والفنون والآداب وتطورها في العالم الإسلامي، وإنما عالج هذه المسائل اعتقاداً منه أنها صور لهذا العمران، ومراحل الحضارة مقياس لمراحل العمران
وقد أثرت في آرائه العلمية مبادئ (أرسطو) و (أفلاطون) وبخاصة الجمهورية لأفلاطون كما أثرت في آرائه فلسفة فيثاغورس الأفلاطونية، وكما أثر فيها المسعودى أيما تأثير، وقد استطاع أن يقرر منذ خمسة قرون أصل السلطتين الروحية والزمنية كما يقررها أساتذة القانون السياسي والديني
ويمكن أن توصف فلسفته بأنها يغلب عليها التشاؤم والتطير، ولكن تشاؤمه تشاؤم رجل مستسلم غير مكترث، فهو لا يحكم وإنما يشاهد، وهو بذلك يدلل على ذهنية علمية. ويرى بعض المستشرقين أن مصدر هذا انحطاط الدولة الإسلامية وتأخر الحضارة في العصر الذي كتب فيه ابن خلدون مقدمته، وإلى الظروف السياسة التي تقلب فيها وعصفت به، وما أصابه في حياته في خويصة نفسه من ألم وخيبة أمل
وقد أوضح أهمية المال وبعد أثره في قوى الدولة الداخلية، وذكر كيف يقضي سوء الإدارة المالية والإسراف دائما على الدولة بالفناء
ومن رأيه أن تأسيس الدولة سابق على تأسيس هذه المدن، لأن الدولة وسيلة لتأسيس هذه المدن؛ فالقبيلة لا تستطيع ذلك قبل أن تتخذ شكل الدولة المنظمة تجتمع قوتها في الحكومة،(502/20)
فقد بنيت بغداد بأمر الخليفة المنصور، وبنيت الفسطاط والكوفة والبصرة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وابتنى القائد جوهر مدينة القاهرة تنفيذاً لأمر المعز لدين الله الفاطمي، ولحماية المدينة من الغارات تحاط بالأسوار الطبيعية والصناعية، وتصان صحة السكان بجودة الهواء وغزارة الماء. وقد بين أن العرب لم يحسنوا اختيار مواقع مدنهم لأنهم يعنون بالمراعى، وأنهم يجهلون بأن للهواء صفات يجب اعتبارها؛ لأنهم تعودوا حياة التجوال والانتقال؛ لذلك لم تكن المدن التي أسسها العرب في بدء الإسلام في العراق وأفريقية أهلاً للحضارة الثابتة، وأن تقاوم صروف الزمن، فقد زالت حينما سقطت دولها؛ ولكن هذا الرأي مردود بأن الكوفة والبصرة لا زالتا موجودتين في عهد ابن خلدون. وعنده أن تقدم الحضارة يتوقف على مزايا الأرض ومزايا الحكومة وكثرة السكان، فمن الأرض تستخرج كل المواد الأولية، والحكومة يجب أن تكون قوية عادلة كريمة، وكذلك عمر الحضارة منوط بعمر الدولة لأن سقوطها يفضي إلى سقوط العاصمة، ومن ثم تصاب الحضارة بضربة شديدة؛ ولكن الحكومة الجديدة المتغلبة إذا كانت حازمة قوية استطاعت في الحال أن ترد إلى العاصمة كل رخائها، أما كثرة السكان فتخلق الحضارة، وكلما كثر السكان كثرت المدنية وازداد الغنى واتسع المجال لتحصيل ثمار الترف!
ويرى ابن خلدون أن من أسباب ضعف الدولة انغماسها في الترف وضعف العصبية أو الحزب الذي أنشأها وما ينشأ عن هذا الضعف من مطالب بعض الجنود الأجانب الذين يتخذهم بعض الملوك لحمايتهم. ولا شك أن لفيلسوفنا آراء ومذاهب ونظريات يؤيدها العلم الحديث والعرف، وما نراه في هذا العصر من قيام دولة وسقوط أخرى واختلاف الناس في مذاهب الحياة وفهم الأخلاق. وقد عنيت أن أجلو أمام القارئ بعض هذه الآراء له فرصة الاستيعاب والتمحيص والموازنات الدقيقة. والله ولي التوفيق
عيسى محمود ناصر
المدرس بمدرسة الفيوم الثانوية
مصادر هذا المقال:
1 - فلسفة ابن خلدون الاجتماعية(502/21)
2 - ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربي
3 - ابن خلدون حياته وتراثه الفكري
4 - مقدمة ابن خلدون - ترجمة الكاتب بقلمه(502/22)
السيطرة على الجو
للأديب عبد المنعم محمد الزيادي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(بيض) القاذفات
والبيض هنا هو القنابل في عرف الأمريكيين! أما القنابل المتفجرة العادية فلها غلاف ثقيل ينقسم إلى شظايا كثيرة تتطاير بمجرد انفجارها. وهذه القنابل تستعمل خاصة ضد الأفراد. وإذا انفجرت قنبلة من هذا النوع زنتها مائة رطل، فإن شظاياها تتطاير في دائرة نصف قطرها خمسون ياردة. أما قنابل المهابط (الباراشوت) - وهي تستعمل ضد الأفراد كذلك - فتلقيها الطائرات عندما تكون على ارتفاع يقل عن ثمانمائة قدم، ولا تستطيع حينئذ أن تلقى قنابل متفجرة عادية خشية أن تصيبها شظاياها. فقنابل المهابط تتخذ طريقها ببطء متأرجحة في الهواء إلى أسفل ولا تنفجر حتى تكون القاذفة قد ابتعدت تماماً. ويمكن كذلك أن تهيأ لتنفجر وهي ما تزال في الهواء حتى تنشر شظاياها على الأفراد الذين يحتمون بالخنادق المكشوفة التي قد تقيهم شر القنابل المتفجرة العالية. أما القنابل المدمرة فلها غلاف رقيق يصلح لأن يحملها سليمة خلال أسطح المباني التي تمر خلالها، ثم تأخذ حمولتها من المواد الشديدة الانفجار في التدمير والتحطم بمساعدة ضغط الهواء الشديد الذي يتولد مع سقوطها. ويقرر الخبراء أن مثل هذه القنبلة لو قدر لها أن تدفن في الأرض قبل انفجارها، فإنها عند انفجارها تنسف الأرض بمعدل نصف ياردة مربعة من المواد المتفجرة التي تحملها؛ وهي تحمل من المواد المتفجرة ما بين 250 و1000 رطل
(سلة خبز) مولوتوف
اكتشف الروسيون أن القنابل المحرقة تكون أشد فتكا إذا ألقيت على البناء الذي تمزق بفعل القنابل المدمرة، وعلى هذا الأساس اخترعوا (سلة خبز) مولوتوف. وهذه السلة تشبه من الخارج القنبلة العادية تماماً. وتحتوي في داخلها على 20 أو 30 أسطوانة صغيرة تحمل مواد محرقة وقنبلة مدمرة عادية في الوسط. وتسقط القنبلة المدمرة من السلة على ارتفاع معلوم فتنتشر الاسطوانات المحرقة حولها فسرعان ما تلتهب قطع الخشب أو القماش أو(502/23)
الورق التي تناثرت بفعل القنبلة المتفجرة. وربما كانت القنبلة البطيئة الانفجار هي أفظع وأشد أنواع القنابل فتكاً؛ فعندما تصطدم القنبلة بالأرض، يحدث التصادم كسراً في زجاجة ملأا بحامض يبدأ في شق طريقه خلال حواجز معدنية قابلة للذوبان فيه حتى يصل إلى المادة المنفجرة، وإذ يختلط بها يحدث الانفجار. وبالتحكم في سمك الحوائط المعدنية يمكن تنظيم وصوله إلى المادة المتفجرة في خلال بضع ساعات أو بضعة أيام إذا أريد ذلك
فوق الهدف
يصعب - بطبيعة الحال - أن تختفي مدن بأكملها عن أنظار القاذفات. وقد استعمل الطلاء (الكاموفلاج) للوقاية من الغارات الجوية في الحرب العظمى الماضية، فكانت الخطوط الجوية الكثيرة الملونة - على هيئة حمار الوحش - على أرض السهول والوديان تحدث اضطراباً شديداً للرائي. وقد وجد خبراء الوقاية أن هذا الخلط بين الألوان شديد التأثير على الملاحظين الجويين، لذلك طلوا أسطح المباني الهامة بلون الحشائش أو الأحجار المجاورة كما غطوا الحوائط الجانبية بكروم اصطناعية. وقد أصبحت ترسانة (ولويتش) غاية في التنكر بفضل ما نما حولها وفوقها من الحشائش، حتى لقد أصبح عمالها يسمونها (بالبيت الأخضر).
ومن المعروف أن المركبات السريعة هدف سهل للطائرات المنخفضة، لكنه أصبح في الإمكان جعلها (غابة متحركة) - كما قال أحد عامة لندن - وذلك بنثر الأوراق والأغصان والشجيرات على جوانبها وأسطحها. فإذا سار صف من هذه المركبات المتنكرة في الطريق بجانب صف من الأشجار، استطاعت أن تحتجب تماماً عن أعين الطيار الملاحظ. ولقد جد البريطانيون والألمانيون على السواء في الاهتمام بالإظلام الليلي، وذلك لسبب وجيه؛ فقد دلت التجارب على أن عود الثقاب الملتهب يمكن رؤيته على ارتفاع نصف ميل، كما أنه يمكن برؤية المصباح المضاد على ارتفاع ميل وربع بوضوح تام، والنافذة المضاءة على بعد 12 ميلاً. إلا أن هناك أشياء لا يمكن إطلاقها تماماً؛ فالموانئ وخطوط السكك الحديدية لابد أن يظهر منها بعض الضوء. وأشد من ذلك وأنكى مجاري الأنهار، فإنه في أشد الليالي ظلاماً يظهر النهر كشريط ضيق لامع يرى في جلاء ووضوح. ولا يمكن لأشد الاحتياطات إحكاماً أن تخفي الهدف تماماً إذا أخذت له صورة واضحة من الجو، فالطباعة السوداء(502/24)
والبيضاء تظهر الوديان والسهول بوضوح، كما تكشف خداع الألوان الذي قد يخدع العين المجردة. ولما كان من الصعب أن تقترب الطائرات من القواعد المهمة خلال النهار لتصويرها، فإن فن التصوير الليلي قد تطور كثيراً. فعندما تصبح الطائرة المنكشفة فوق البقعة المراد تصويرها، يلقى المصور قنبلة من المغنسيوم، وهذه تنفجر في الجو على ارتفاع معلوم فتخرج ضوءاً ناصع البياض. وإذ يبلغ الضوء أقصى شدته بسبب حركة في غطاء عدسة آلة التصوير، فيتم التقاط الصورة من تلقاء ذاتها. وفي إحدى الصور التي أخذت على ارتفاع 1200 قدم ظهرت كل شجرة في نصف قطر طوله ثلاثة أميال بغاية الوضوح والجلاء
الهبوط إلى الأرض
لجنود المهابط الذين يسبق نزولهم غزو إحدى الجهات كما للجنود الذين تظلهم الطائرات قيمة عملية عظيمة الشأن؛ فهم يحتلون المطارات الهامة أو يخربون المنشئات العسكرية ويربكون العدو إرباكاً له قيمته للجيش المهاجم. لذلك أهتم الحلفاء بالإكثار من فرق هؤلاء الجنود وإحسان تدريبهم. وتحتاج الوحدة المهاجمة من جنود المهابط التي يبلغ عدد رجالها الألف، إلى نحو 125 طائرة. تأتي في المقدمة ثلاثون منها من قاذفات القنابل أو المنقضات، تتبعها عن كثب عشرة من ناقلات جنود المهابط ثم خمسون طائرة من ناقلات الجنود حمولة الواحدة منها 25 جندياً لنقل رجال القوة النظامية، في حين تحمل خمس طائرات أخرى عتاد هذه القوة الثقيل وهو يتكون عادة من 150000 شحنة من الذخائر، 30 موتوسيكلا، 367 مدفعاً رشاشاً، وستة مدافع مضادة للدبابات. ويحرس هذه القوة عدد من المطاردات يبلغ الثلاثين أو أكثر. فإذا ما بلغت القوة الهدف بدأت المدافع الرشاشة تصليه ناراً حامية حتى تقضي تماماً على مقاومة رجاله. ثم تنزل قوة من رجال المهابط يتراوح عددها بين مائة وثلاثمائة جندي؛ ويفصل بين نزول جندي ونزول الأخر ثلاث ثوان بحيث يهبطون إلى الأرض في جماعات صغيرة. ويحمل كل خمسة منهم مدفعاً رشاشاً صغيراً كما يحمل كل منهم مسدساً، فإن البنادق والمدافع الرشاشة غالباً ما تسبب كسراً في أذرع أو أرجل الجنود الهابطين، فأصبحت هذه المعدات تلقى على حدة في شحنات بواسطة مهابط تقل في مساحتها عن المهابط (البارشوات) العادية سهلة الفتح من(502/25)
تلقاء ذاتها. وبمجرد أن يسيطر جنود المهابط على الهدف المقصود تتصل الوحدة الجوية بالقوة الرئيسية التي تهبط في نظام دقيق. فلا يمضي سوى ساعة واحدة حتى تكون القوة قد بدأت الزحف. أما جندي المهابط فيتلقى تدريباً حربياً يفوق كل ما يناله جندي آخر في الخدمة العسكرية. فالمراد من تدريبه أن يعرف كيف يهبط إلى الأرض دون أن يؤذي نفسه، وكيف يختار أحسن الأمكنة لنزوله. وهو يستعمل لذلك نموذجاً معقداً يبين الأراضي الصعبة ومكانها. والمفروض في كل رجل أن يكون خبيراً بفن الإشارة وقيادة الطائرات. ويجب أن يكون تام التدريب على كيفية استعمال الأنواع الأجنبية من المدافع الرشاشة والأسلحة الأخرى التي يمكن أن يغنمها. من ذلك ترى أنه لا يصلح سوى أشد الناس ذكاء وسرعة خاطر لهذا الطراز من القتال
أسلحة لمركبات الجو
ما برح سلاح الطيران الملكي البريطاني يرفع من شأن المدفعية الجوية من حيث الدقة والمقدرة على الفتك والتخريب. فإن قائد مطاردة من طراز (سبيتفاير) يستطيع بتصويب طائرته نحو الهدف بمساعدة المنظار ثم الضغط على الزر الخاص، أن يطلق 120 طلقة في الثانية من ثمانية مدافع رشاشة مثبتة في جناح الطائرة. وهذه المقدرة الفائقة على إطلاق النار من مستلزمات سرعة المطاردة التي لا تمكن المدفعي من أن يبقى فوق هدفه لأكثر من ثانية أو ثانيتين في كل مرة يزوره فيها. والمدافع موضوعة بحيث تلتقي خطوط نيرانها على مدى بضع مئات من الأقدام أمام الطائرة. وقد اخترع سلاح الطيران البريطاني (طابية) تركب على القاذفة وبها أربعة مدافع أو أكثر تدور بدورانها وهذا يمكن المدافع من أن تطلق نيرانها في أي اتجاه. وهذه الطوابي توجد على ذنب القاذفة وجسمها ومقدمتها. وتستعمل هذه المدافع كلها أثناء القتال رصاصاً يترك وراءه أثراً. فمقدمة الرصاصة ملأا بمركب فسفوري فإذا انطلق في الجو تركت أثراً واضحاً من الدخان في النهار أو من النار في الليل. فإذا كان بين كل خمس رصاصات واحدة من ذوات الأكثر أمكن للعين أن ترى وتتبع خط الضرب. ولا يخفى أن رؤية الإنسان أين يضرب من الأهمية بمكان عظيم وبخاصة في المدفعية الجوية الحديثة حيث سرعة عمليات الهجوم والدفاع عظيمة يكاد يكون من المستحيل تتبع الهدف في البقعة التي يحددها المنظار(502/26)
أصديق أم عدو؟
لكل طائرة علامة أو أكثر للتعرف عليها إن كانت صديقة. وهي غالباً ضوء صغير في الذنب والقاع، ويمكن أن يصحبه مفتاح تلغرافي بجانب القائد. وتعطى علامات التعارف هذه للطيارين جميعاً في كل ليلة لتكون بمثابة كلمة المرور بين الطائرات وبعضها أو بين الطائرات وبطاريات المدافع المضادة. فقد يرى قائد في سلاح الجو البريطاني يقوم بأعمال الدورية مثلاً إشارة غريبة في طائرة أخرى مرت به قد تكون معادية. وعندئذ يضئ بإشارة التعارف فإذا رد عليه الآخر بالإشارة المتفق عليها تابع سيره، وإذا لم تكن الإشارة بما يتوقعه تحسس تواً زر مدافعه الرشاشة.
عبد المنعم محمد الزيادي
معهد الصحافة بالجامعة الأمريكية(502/27)
49 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي أدورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الرابع عشر - الصناعات
مياه الآبار في القاهرة مشربة بالملوحة، فيجلب السقاءون الماء من النيل للسكان متعيشين من هذه المهنة. وكذلك يجلبون الماء من الخليج الذي يشق العاصمة أثناء الفيضان، أو بالحرى مدة الشهور الأربعة التي تعقب هذا الخليج. ويجلبونه من النيل في غير ذلك الوقت، وهم ينقلون الماء في مزادات من الجلد على الجمال والحمير، وقد يحملونه على ظهورهم في قرب صغيرة لمسافة قريبة (أنظر شكل رقم 57) ويطلق على المزادة التي يحملها الجمل لفظ (ري) والري زقان واسعان من جلد البقر. ويسمى ما يحمله الحمار (قربة) وتكون من جلد الماعز. ويحمل السقاء كذلك قربة من جلد الماعز إذا لم يملك حماراً. ويسع الري ثلاث قرب أو أربعاً. ويصيح السقاء عادة: (يعوض الله) فيدل هذا الهتاف على مروره. ويكاد أجر السقاء على القربة التي يحملها ميلاً ونصف ميل أو ميلين، لا يتجاوز أكثر من مليمين
ويوجد أيضاً سقاءون يزودون المارة بالماء. ويسمى بعضهم (سقا شربة) (شكل 58)، ويحمل هؤلاء قربة ذات أنبوبة نحاسية طويلة ويصبون الماء للظمآن في طاس نحاسي أو قلة من الفخار. وهناك طبقة كثيرة العدد تمتهن الحرفة نفسها ويسمى الواحد منها (حمليا) (شكل 59) وأغلب هؤلاء دراويش من الرفاعية أو البيومية، وهم معفون من ضريبة الفردة. ويحمل الحملى على ظهره إبريقاً من فخار رمادي يبرد الماء، ويحمل أحياناً قلة من الماء المعطر بماء الزهر المقطر من زهر النارنج، ليقدمه إلى أفضل عملائه. وكثيراً ما يضع في فوهة الإبريق غصناً من النارنج. ويتناول الحملى من أفراد الطبقتين العليا والوسطى قطعة فضة إلى خمس فضة. ولا يتناول من الفقراء شيئاً أو يتناول منهم قطعة خبز أو أي طعام آخر يضعه في جراب يعلقه على جانبه. ويصادف المرء كثيراً من(502/28)
الحمليين وبعض السقائين في ساحات الحفلات الدينية، كالموالد وغيرها التي تقام في القاهرة وضواحيها. وكثيراً ما ينفحهم زائرو قبور الأولياء نقوداً في مناسبات كهذه ليوزعوا الماء على الراغبين من المارة. وتسمى هذه الصدقة (تسبيل)، وتكون إكراماً للولي، أو في مناسبات أخرى غير الموالد. ويسمح لهؤلاء السقائين في هذه الأحوال أن يملأ والإبريق أو القربة من (سبيل) عام، لأنهم لا يتناولون شيئاً من المارة. وهم ينشدون لهذه المناسبة لحناً قصيراً، داعين الظمآن ليتناول من هذه الصدقة المقدمة باسم الله فيقولون: (سبيل الله يا عطشان) ويدعون لمن قدم الإحسان أن تكون الجنة والمغفرة من نصيبه فيقولون (الجنة والمغفرة يا صاحب السبيل)
ويوجد آخرون، تماثل مهنتهم مهنة الحملى. ومن هؤلاء، بائع عرق سوس المذكور في فصل سابق. ويحمل العرقسوسي جرة حمراء من الفخار على جانبه الأيسر ويربطها بسير من جلد أو غيره ويسندها بيده اليسرى (شكل 60) كما يحشو فوهة الجرة بليف النخل ويحمل طاسين من النحاس أو قدحين من الصيني أو أكثر يقرعهما معاً. ويتجول كثيراً من بائعي الشراب بالطريقة نفسها. ويحمل بائع الشراب عادة وعاء (الشيشة) الزجاجي ملآن بمنقوع الزبيب في يده اليسرى، وإبريقا كبيراً من القصدير أو النحاس الأحمر، وقللاً زجاجية في يده اليمنى. ويحمل بعضهم صينية مستديرة من النحاس الأحمر المبيض وعليها قلل ملأى من (التين المبلول) أو (البلح المبلول)، (وسطلة) نحاسية أو طاساً من الفخار الصيني. ويباع السحلب أيضاً بالطريقة نفسها، والسوبيا كذلك، وهي من لب عبد اللاوي يبل ويدق ثم ينقع في الماء ثم يصفى ويحلى بالسكر، وقد تصنع من الأرز بدلاً من اللب. وتحمل السوبيا في أوعية كأوعية الزبيب؛ غير أن الأكواب هنا توضع في وعاء من القصدير يشده البائع بحزام إلى وسطه.
ذكرت قبلاً أن كثيراً من فقراء القاهرة يتعيشون من تنظيف الشبك. ويحمل (المسلكاتي) أي منظف الشبك سلوكاً طويلاً لهذا الغرض يضعها في عصى مجوفة ثلاث أو أربع أو في أنابيب من القصدير، يشدها معاً ويعلقها على كتفه (شكل 61) ويعلق مع العصي أو الأنابيب حقيبة صغيرة من الجلد بها ألياف من القنب يلفها أعلى السلك لتنظيف الشبك. ولا يتناول المسلكاتي على تنظيف الشبك الواحد أكثر من نصف فضة يتعيش الكثير من الطبقة(502/29)
السفلى رجالاً ونساء، في القاهرة وغيرها من مدن مصر، من التسول. والكثير من هؤلاء كما هو المتوقع، دجالون كريهون، فبعضهم يشق مظهره على المرء ولكنه يجمع أموالاً وافرة. وقد حدث منذ شهور قليلة حادث من هذا النوع شاع أموه في القاهرة. ذلك أنه كان هناك فلاح ضرير تقوده ابنته في شوارع القاهرة وهما يكادان يسيران عاريين دائماً. وقد تعود هذا الفلاح أن يدعوا يومياً إلى منزله سائلاً تركياً ضريراً، فيتناول العشاء معه. وفي ذات ليلة غاب الفلاح عن منزله، ولكن ابنته أعدت العشاء للصديق التركي الذي جلس يأكل وحده. وحدث أثناء ذلك أن مد يده إلى جانبه فوقعت على جرة ملآنة نقوداً. فلم يتردد في حملها وهو منصرف. وكان في الجرة مائة كيس وعشرة من قطع الخيرية، وهي قطع صغيرة ذات تسعة قروش، أي ما يساوي حينئذ أكثر من خمسمائة وخمسين جنيهاً. فذهب المجني عليه إلى القلعة يطلب إنصافه، فاستعاد ماله ما عدا أربعين خيرية كان اللص قد أنفقها، وقد حرم التسول على الفلاح بعد ذلك. وكثيراً ما يشاهد المرء في القاهرة الأطفال عراة تماماً. وقد رأيت كثيراً فتيات بين سن الأثنى عشر والعشرين يتسولون في الطريق دون أن يسترهن غير قطعة رثة حول الكشح وقلما يتأثر هؤلاء من برد الشتاء أو حر الصيف لتعودهم ذلك من الطفولة. ويستطيع الرجال أن يناموا في بعض المساجد. وليست حال المتسولين، من وجوه أخرى، سيئة جداً كما قد يرى الأجنبي من مظهرهم. ويكاد المتسولون بلا ريب أن يحصلوا على طعام أو نقود تكفي لسد حاجتهم الضرورية، وذلك نتيجة لميل المصريين إلى الإحسان، وتعود التجار تناول الطعام في دكاكينهم وإعطاء السائلين شيئاً منه. وهناك متسولون ينفقون جانباُ كبيرا ًمما يجمعونه صباحاً في التمتع بتدخين الحشيش ليلاً فيتخيلون أنهم أسعد الناس
ولا تخرج صيحات المتسولين في القاهرة عن دعاء الله. ومن أكثر الأدعية شيوعاً قولهم: (يا محنن يا رب!) (لله يا محسنين) (أنا طالب من عند ربي رغيف عيش) (يا مانت كريم يا رب) (أنا ضيف الله والنبي). وقولهم مساء: (عشاي عليك يا رب) وفي ليلة الجمعة: (ليلة الجمعة الفضيلة) وفي يوم الجمعة: (يوم الجمعة الفضيلة). وكان هناك متسول، تعود أن يمر بداري يومياُ، يقول: (توكلت على الله! لا الله إلا الله) وإني أسمع الآن متسولة تصيح: (عشاي عليك يا رب. من أيدي مؤمن كريم موحد بالله. يا أسيادي!). ويرد الناس(502/30)
المتسولة عادة، إذ أنهم كثيرون بحيث لا يمكن المرء أن يعطي كل من يسأله، بقولهم: (الله يساعدك). (الله يرزق). (الله يعطيك). (الله يعينك). ولا يرضى السائل برفض لا يتضمن ما سبق ذكره أو ما يماثله. ومن المعتاد أن يرى المرء أشد الشوارع ازدحاماً سائلاً يطلب ثمن رغيف عيش يمسكه في يده بينما يتبعه بائع الخبز. ويتجول بعض السائلين ولا سيما الدراويش، وهم ينشدون قصائد في مدح النبي صلعم، أو يدقون الصنوج أو طبلة صغيرة. ويتجول الدرويش بين الريف للتسول. وقد رأيتهم يعتلون الجياد. كما شاهدت أخيراً أحدهم يتنقل بين الأكواخ على جواد يستجدي الخبز ويصحبه رجلان يحمل كل منهما بيرقاً، وثالث يقرع طبلاً
(يتبع)
عدلي طاهر نور
-(502/31)
في ظلال النيل
أنس الوجود. . .!
يا شِراعاً عَبَر الْماضِي إلى وَادِي الُخُلودِ!
وَتَهاَدى في حِمَى فْرِعَونَ مَرفوُعَ البُنُودِ
وَمَضَى في مَوْكبِ الذّكْرى إلى دُنْيَا جُدُودي
مِلْ مَعَ الْمَوْجِ بِنَا. . . هَاهُنَا أنْسَ الْوُجُودِ!
هَيْكلٌ غنّى لهُ الدَّهرُ أناَشِيدَ الْجَلالِ!
وَبَناُه في ظِلاَل الِّنيلِ أبنْاَء الَمَعالي
وَرَعاهُ الْمَجدُ فَوْقَ الأرْضِ عُنْوانَ المُحَالِ!
هَاهُناَ أغْفَتْ مَعَ الأمْوَاجِ أحْلاَمُ الَّلَيالي!!
مَاَلتْ الَّشمْسُ عَلَى أعْتَابِهِ عِنْدَ الْغُروبِ!
وَسَجا الَّليْلُ فأصْغَيتُ إلَى هَمْسِ الْغُيُوبِ!!
مَوْكبٌ يخَتْاَل في عِزّتهِ مَجْدُ الشَّعُوبِ
وَرُؤى مِنْ فِتْنةِ الْوَادِي وَأحْلاَمِ القُلُوبِ!
يَا خَيَالي عُدْ إلىَ مَاضٍ مِنْ الْمَجدِ تلَيدِ
وَاسْتمِعْ هَمْسَ الْمَعَالي مِنْ فمَ الأمْسِ البَعِيِد!
وامْضِ بيِ فِي رَكْبِ فِرْعَوْنَ أغَنِّى بِنشيدِي!
وأحَيِّى مَا بَنَاهُ في حَمِى النِّيلِ السَّعيدِ!
عُمُدٌ عَزَّتْ عَلَى الأرْضِ بأسْرَارِ السَّماءِ!
وسَقاهَا النِّيلُ مِنْ أمْوَاهِهِ مَعْنَى البَقاَءِ!
وَحَمْتهَا عَزْمَةُ الأْبَطالِ مِنْ شَرِ الْفَنَاءِ!
فَتَسَامَى في حِمَاهَا الْمَجْدُ خَفِّاقَ الِّلوَاءِ!
وَجَرَى في ظلِّهَا النِّيلُ نعَيمِاً وَسَلاَماً!
وَجَمالاً يَمْلأ الشَّطيْنِ حُباً وَهُيَامَاً!
الأَغَارِيدُ كُؤُوسٌ. . . وَالصَّناَديِدُ نَدَامَى!(502/32)
فِتْنَةُ اَلْحِاضِرِ في الدُنْيَا وَمَعْبوُدُ الْقَداَمَى!
وَمَضَى يَنْسَابُ نَشْوَانَ بِخمْرٍ وَعَبيرِ!
منْ دُعاءِ الشَّعْبِ مَجْراهُ وَمِنْ لْحنِ البَشيِرِ!
فاحْتمَى في ظِلِّهِ الْمَكدُودُ مِنْ حَرِّ الْهَجِيرِ!
وَتلاقى مَجْدُناَ الأوَّلُ بِالْهَجْدِ الأخِيِر!!
يَا شِرَاعاً عَبَر الْماضِي إلى وَادِي الُخلُودِ!
وتَهَادَى في حِمَى فِرْعَوْنَ مرْفوُعَ البُنُودِ
وَمَضَى في مَوْكِبِ الذِّكْرِى إلى دُنْيَا جُدودِى
مِلْ مَعَ اْلَموْجِ بِناَ. . . هَاهَنَا أُنْسُ الْوُجُودِ!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان(502/33)
البريد الأدبي
هل هو نوارد الخواطر؟
المنابع الثرة التي تفيض منها جداول التفكير البشري قاطبة هي في حقيقة الأمر واحدة؛ وهذه المنابع الفياضة هي هذه العواطف المشاعة بين بني الإنسان كافة من سرور وحزن وحب وبغض، وأمل وألم. الخ.
فهذه العواطف المشاعة بين كل الناس وهي التي تسيطر على اتجاهاتهم النفسية فتنعكس صورها على - مرايا - ما ينطقون وما يكتبون، والاختلاف والتمايز في الكتابة والمنطق إنما يجيئنا من بعد ذلك فهما ينتجان من طرق التعبير والتصوير، ومقدار استيعاب الفكر والقلم لما تلتقطه عدسة المخيلة من صور وأشباح وانطباعات وتأثرات. وفي هذا الميدان تتبارى فرسان الكلام، فيتقدم سابق، ويتأخر لاحق؛ وفي هذا المجال نتعرف بلاغة البليغ وإسفاف المسف ولون كل منهما. ذلك لأن لكل واحد منهم مشربه الخاص لا يشاركه فيه سواه وإن اتحدت الغايات والمعاني في أغلب الأحيان. وعلى هذا فإننا إذا وجدنا مقالتين أو قصيدتين اتحدتا في كل شيء في اللفظ والأسلوب والمعنى فيحق أن يستوقفنا هذا الاتحاد. لأنه إما أن يكون منشؤه من (توارد خواطر) نادر المثال. أو من هجوم أحد الكاتبين أو الشاعرين على نتاج زميله وهذا ما يدعى بالسرقة في اصطلاح أهل البيان
أثار هذه الخواطر سياحة عملتها في ديوانين حديثين هما (الملاح التائه) للأستاذ الشاعر المبدع علي محمود طه. و (نسمات الربيع) للأستاذ صالح الحامد العلوي
وبحق أقول، إن كلا الديوانين خصب ممتع للنفس والفكر، وكلا الشاعرين مجدد أو يحاول التجديد فيما هو بسبيله. وقد راقتني في أثناء (سياحتي) هذه قصيدة في أول الديوانين بعنوان (غرفة الشاعر) تبدت لي في جمالها الخاص واتساقها وروعة فنها كالروض الأغن باكره الغيث في أيام الربيع فابتسمت زهوره من فوق الغصون فتنة للناظرين
وقد تلوت هذه القصيدة مراراً فيما بيني وبين نفسي وأنشدتها تكراراً لبعض زملائي من الأدباء. وحازت من إعجابنا جميعاً ما جعلنا نبتاع الديوان الذي يضم (باقتها) العاطرة تقديراً لأريجها الفواح
ثم ماذا؟(502/34)
ثم بعد أيام تناولت ديوان (النسمات) وسحت في رياضه وغياضه مستقبلاً عذب نسماته، فإذا بي أعثر فيه على قصيدة تماثل تلك التي اقتطفتها من روض (الملاح التائه، أو بحره. وهي تحمل عنواناً دانياً من عنوانها هو (صباح الشاعر، وتحمل معاني وأهدافاً ووزناً وألفاظاً مثلها. فأستوقف نظري هذا (التماثل) الغريب واحتار فكري أمام هذا - الاتحاد - المريب. فهل هو يا ترى من باب (توارد الخواطر أو يدخل في (الباب الآخر)؟
(مكة المكرمة)
عبد القدوس الأنصاري
أيها الشاعر استفق ذهب الليل ... فقم ويك حي نور صباحك
الرسالة والورق
لِمَ يا أيامُ غيْبتِ الرسالةْ ... مشرع الحق الذي أجرى زلالهْ
والربيعَ الطلق في إشراِقه ... ناشراً في صفحةٍ الكون جمالهْ
والسنا اللماحَ في أنوارِه ... ضربَ العِلم على أيدي الجهالهْ
(ورق الطبع) لئن غابت فمن ... بعدها يحملُ أعباَء الرسالهْ؟
مصطفى علي عبد الرحمن
في العلاقة اللفظية بين اللغات
إن التشابه اللفظي بين بعض كلمات من لغات مختلفة، حقيقة قد تثير الدهشة لدى الكثيرين؛ ومن السهل والطريف معاً تتبع ذلك عند من يلم بأكثر من لغة واحدة. على أن التعليل لهذه الظاهرة يسير واضح يتلخص في أن الحروف التي تتحرك بها عضلات اللسان محدودة لا تتجاوز الثلاثين، في حين تتنوع لغات البشر وتتعدد، ويرتفع عدد الكلمات في بعضها إلى عشرات الألوف ومئاتها. فإذا قلنا نحن (نير) مشيرين إلى هذه الأداة التي توضع على عاتق الثور، قال الإنجليزي يعنون الداني أو القريب. . . وهكذا.
ويبدو لي أن عالمنا اللغوي الكبير الأستاذ (الأيوبي) يستقري أمثال هذه الكلمات الأعجمية - خلال بعض إجاباته - قاصداً ردها إلى أصل عربي قد لا يرتبط بها في شيء إلا أن(502/35)
يشبهها في بعض الحروف.
ونحن مع شكرنا له على غرضه النبيل من هذا المجهود نقرر أن أصحاب كل لغة هم أدرى الناس بمنابع ألفاظها وأصول اشتقاقها. فذا قلنا للفرنسي إن كلمتكم مأخوذة من كلمتنا (سليط)، فأنكر وقال: بل هي مشتقة من بل هي مشتقة من كان من الواجب علينا أن نكذب أنفسنا ونصدقه، ما لم تكن حجتنا على هذا الأخذ قوية.
فكيف والظاهر يؤيده والتاريخ اللغوي يصدق زعمه؟!. . .
هل يريد أستاذنا الكبير أن يقول إن العربية أقرب إلى هذه اللغات من أصلها اللاتيني؟. . . ذلك ما لا نظنه.
وإننا حين نكتفي من المعجم الأوربي بقوله إن لفظة (كذا) مشتقة من الأصل اللاتيني أو اليوناني (كذا) يجب ألا نكتفي ممن ينسب هذا إلى العربية بغير الدليل التاريخي القاطع، ولا عبرة بالمشابهة اللفظية كما أوضحنا.
يضاف إلى هذا أننا نجد الألفاظ العربية الدخيلة في هذه اللغات منصوصاً عليها في معاجمها، مع ذكر خطوات اشتقاقها إن أمكن تتبعها، فلم يعد من حقنا بعد كل هذا أن ننسب إلى لغتنا لفظاً أجنبياً، ما لم تنص على ذلك معاجم القوم، أو يقم الدليل القاطع من عندنا على صحة نسبته إلى لغتنا. . .
ذلك رأيي الخاص في هذا الموضوع، وللأستاذ الكبير أن يؤيده أو يفنده. وأعود إلى إجابته الأخيرة عن (المقرونة) وما ذكره من أنها هي التي يقال لها اليوم مكرونة: إن هذا كلام يعوزه الدليل وتنقصه الحجة القاطعة. والذي تذكره المعاجم الموثوق بها، ويؤيده العقل أن هذه اللفظة الإنجليزية تحريف للاسم القديم الأخير مشتق من الفعل. يسحق أو يتيسر لنا أن نثبت وجود علاقة صحيحة بين المقرونة العربية وهل كانت المقرونة - وهي التي يقول الأستاذ إنها من طعام أهل الجاهلية - معروفة لدى الشرقيين بنفس الاسم، عندما اتصل بهم الإيطاليون، وبادلوهم منافع السلم وفواجع الحرب؟
ذلك ما نطالب أستاذنا الكبير بإثباته قبل التسليم له بوجهة نظره، وثمة شيء آخر أحب أن أذكره، وهو أن الإنجليز يطلقون اسم الشعر على نوع من النظم الفكاهي عندهم يتألف من مزيج من الألفاظ بعضها أوربي حديث وبعضها لاتيني قديم. وفي قاموسنا المحيط(502/36)
للفيروزبادمي نجد ما نصه: والمقرون من أسباب الشعر ما اقترنت فيه ثلاث حركات بعدها ساكن، كمُتفا من متفاعلن وعلتُن من مفاعلتن) فهل الشعر (المكروني) عندهم منقول من شعرنا هذا المقرون؟! إن الأخذ بمجرد التشابه في اللفظ قد يدفعنا إلى إصدار ذلك الحكم؛ وما نشك أن السير في تلك السبيل ينتهي بنا إلى تسجيل مفارقات مضحكة لا نستسيغها إلا أن تجيء على سبيل الإضحاك ليس غير. أما أن نقصد بها الجد كل الجد، ونرمي بالنظر فيها إلى البحث العلمي الصحيح، فذلك أمر فيه نظر. وأي نظر
وفي انتظار (إجابة) أستاذنا (الوحيد) نتوجه إليه بعاطر التحية وأذكى السلام.
محمود عزت عرفة
تكريم كتاب تركيا
من أنباء استانبول أن معالي حسن علي يويل وزير المعارف التركية افتتح الاحتفالات بالعيد الخمسيني الذي أقيم في جامعة استانبول لتكريم كتابها الذين ظلوا 50 عاماً يسدون الخدمات الجليلة للأدب التركي
وقد بدأ معظم الكتاب المحتفل بهم حياتهم الأدبية رازحين تحت نير أسوا عصور العسف والجور أيام حكم السلطان عبد الحميد الذي كان يخاف ويخشى جميع ألوان التثقيف، ويقف سداً منيعاً في سبيلها. أما احتفال أمس فقد جرى في جو على نقيض ذلك العهد الغابر
وكان في طليعة المحتفل بهم الأساتذة حسين جاهد يالشين الكاتب والروائي الشهير وهلال زيا والشاعر محمد أمين
وقد ألقى الأستاذ حسين يالشين خطاباً أشار فيه إلى الأوقات العصيبة. ثم نصح الشباب بألا يصغوا إلا إلى صوت ضميرهم فقط وأفضى الأستاذ بعد انتهاء الاحتفال بحديث إلى وكالة الأنباء العربية قال فيه: (إن حوادث اليوم واحتفالاته لهي خير جزاء عن الخمسين عاماً التي قضيتها أميناً على خدمة مثلي العليا وضميري)
الوطن والوطنية
ألقى حضرة صاحب العزة الدكتور محمد صلاح الدين بك رئيس (لجنة ترقيه التمثيل والسينما) حديثاً من محطة الإذاعة اللاسلكية عن الوطن والوطنية بمناسبة تمثيل الفرقة(502/37)
المصرية رواية (الوطن) للكاتب الفرنسي المعروف فكتوريان سارد وقد استهل حديثه القيم بأبيات حماسية من الشعر العربي في تمجيد الوطن وببعض الأحاديث النبوية والحكم النثرية. وقال إن الأدب شعراً ونثراً وكذلك القصة المسرحية تفيض بحوادث البطولة والتضحية في سبيل الوطن. ثم تحدث بعد ذلك عن رسالة الفرقة المصرية للتمثيل والسينما وواجبها نحو تثقيف الشعب وبسط موضوع رواية الوطن. واختتم حديثه قائلاً: (مثل هذه الرواية جديرة بالمشاهدة واستقصاء الحوادث. ولعل فيها اليوم مثلاً بليغ الدلالة على سمو النفوس التي تعاني البلاء في سبيل نصرة الحق والعدل وإعلاء كلمة الديمقراطية والحرية)
من شعر حافظ المنسي
ساق إلى القدر هذه القطعة الفكاهية النادرة من شعر المرحوم حافظ إبراهيم في صحيفة من مجلة قديمة قدم إلى فيها أحد الباعة بعض الحاجات، وهذه القطعة لم تنشر في الديوان القديم ولا في الجديد
واعتقد إن الدكتور مبارك ربما كان يعلم من يعرض به المرحوم حافظ في أبياته، وهذه هي الأبيات:
حدثونا بأن قرداً مُسِناً ... لبس الخزُّ مرة واختالا
وأتى للطيور في يوم عيد ... وهي من بهجة تفيض جمالا
قال إني أبو الجمال وثوبي ... شاهد جل صدقه وتعالى
قالت الطير: أيها القرد مهلاً ... أنت تبغي من الحياة محالا
كل ثوب إلى البلى ثم يبقى ... جوهر النفس للعيون مثالا
أنت قرد وإن سرقت من الطا ... ووس ذيلاه ومن حلاه جمالا
أحمد محمد حمد
الوطن
كانت الجيوش الأسبانية تحتل بلاد الفلمنك (بلجيكا وهولندا) حوالي عام 1567، وكان الدوق (ألب) نائب العاهل الأسباني لا يتورع هو وصحبه عن أن يذيق الأهلين كل أنواع التعذيب والموت والدمار؛ وكانت بروكسل عاصمة بلجيكا قد تحولت إلى معسكر لهم، وكان(502/38)
الوطنيون والخارجون على الكنيسة الكاثوليكية يزجون في السجون. ولكن هذا التعذيب لم يفت في عضد الوطنيين، ولم يثن عزمهم عن الكفاح والتضحية في سبيل الوطن
هذا هو موضوع رواية الوطن التي ألفها الكاتب الفرنسي المعروف فكتوريان ساردو وترجمها وأخرجها الأستاذ زكي طليمات وقدمتها الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى على مسرح دار الأوبرا الملكية في الأسبوع الماضي.
وقد أشترك في تمثيل هذه الرواية أقطاب التمثيل في الفرقة وفي مقدمتهم الأساتذة: حسين رياض، أحمد علام، زكي رستم. عبد العزيز خليل. عباس فارس. والسيدات: إحسان شريف وروحية خالد وغيرهم. وقام الممثلون جميعاً بأدوارهم على أكمل وجه ووفقوا كل التوفيق في أداء أدوارهم. وكأنما خلق كل منهم لتمثيل الدور الذي أسند إليه. وتلك غاية المقدرة فيما نرى
أما الإخراج فقد جاء آية بينة على مقدرة الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة وإنه لجدير بكل تقدير وإعجاب
ولا يسعنا بعد ما ذكرنا إلا أن نقدم أصدق التهاني إلى القائمين على أمر الفرقة المصرية وعلى رأسهم صاحب العزة الأستاذ محمد صلاح الدين بك، ونتمنى للفرقة نهضة مباركة وتقدماً مطرداً في عهدها الجديد
عبد الفتاح متولي غبن(502/39)
العدد 503 - بتاريخ: 22 - 02 - 1943(/)
نحو من النحو!
للأستاذ عباس محمود العقاد
(. . . نعلم ما كتبتموه، عن العلاقة بين كبرياء المتنبي وولعه بالتصغير في الهجاء، وإنه أكثر ما يُرى مصغراً حين يهجو مغيظاً مخنقاً أو يستخف متعالياً محتقراً كما يقول عن كويفير والخويدم والنويبية والأحيمق والأعيّر والشويعر وأهيل والزمان وأهيل العصر إلى آخر هذه الأمثلة التي أكثرتم من ضربها
وقلتم (أنه إذا لم يصغر المهجوّ باللفظ صغره بالمعنى، فكان أعداؤه اللئام عنده شيئا قليلا كما قال:
يؤذي القليل من اللئام بطبعه ... من لا يقلكما يقل ويلؤم
وإنه قد يلعب بهذا الإحساس المائل في نفسه على الدوام لعب المرء بعادة مغروسة فيه فيتخذ منه نكتة نحوية كقوله
على ذكر ابني عضد الدولة:
وكان ابنا عدو كأثراه ... له ياءي حروف أنيسيان
يريد أن يقول: إذا كاثر العدو عضد الدولة بابنين كابنيه فجعل الله ابني العدو كياءين تضافان إلى كلمة إنسان فتزيدانه في عدد الحروف وتنقصانه في القدر.
ثم قلتم: وهذا غير غريب من رجل شديد الإحساس بالصغر واعتاد التصغير باللفظ وعرف عنه إدمان الاطلاع على كتب النحو).
(وقد اطلعنا أخيراً على مقالة في مجلة الثقافة لبعضهم يقول فيها: إن هذا من طغيان النفسانيات على الأدب، وأن التصغير في شعر المتنبي لم يكن لتكبره وإنما هو أداة من أدوات الهجاء يعرفها شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب: أداة لصيقة بفن أدبي بذاته لا وليدة لطبيعة نفسية عند من يستخدمها، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير حتى ولا في شعر المتنبي نفسه لأنه قد يستخدمه للتعظيم كما قال:
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتنادي
إلى آخر ما جاء في مقالة الثقافة.
فهل لكم أن تدلوا برأيكم في تعقيب الكاتب لأنه تفسير لرأيكم وفيه بيان لمسألة من مسائل(503/1)
النفسيات والأدب؟. . . الخ)
محمد جابر
والذي نراه في التعقيب الذي أشار إليه الأديب أن استعمال التصغير للتعظيم لا يبطل استعماله للتحقير، وأن صيغة التصغير ليست أداة لصيقة بكل هجاء كما جاء في مقال الكاتب بمجلة الثقافة، فلا يزال استخدام المتنبي هذه الصيغة بتلك الكثرة التي لم تعهد في شعر غيره أمراً يرجع إلى خلائقه الشخصية ويرجع البحث فيه إلى النفسيات التي لا انفصال بينها وبين الأدب، لأن الأدب قبل كل شيء تعبير عن شعور، وليس أولى من النفسيات بالبحث في كل شعور.
فليست صيغة التصغير أداة لصيقة بالهجاء، ولم نرها قط بهذه الكثرة في أشعار الهجائين المنقطعين لهذا أو المشهورين به قبل سائر الأبواب.
والمتنبي لم يكن من شعراء الهجاء المشهورين به في اللغة العربية، وإنما اشتهر به شعراء آخرون كالحطيئة وجرير والفرزدق ودعبل وابن الرومي على التخصيص.
فلم لم يكثر التصغير في أشعار هؤلاء الهجاءين؟
ولم كان المتنبي منفرداً بهذا الإكثار؟
مرجع الأمر إليه لا إلى الهجاء، وأقرب شيء أن يخطر على البال أنه صبغ هجاءه بصبغته النفسية فأختلف من هذه الناحية لأنها هي ناحية الاختلاف بينه وبين غيره من الهجائيين
على أن الهجاء ضروب وليس ضرب واحد في اللغة العربية أو فيما عداها من اللغات
ومرجع الأمر في تعدد ضروبه إلى تعدد النفوس وتعدد الأمزجة وتعدد الشعور الذي يشعر به الهاجيِ نحو من يهجوه
فهناك هجاء الرجل الوضيع المهين
وهناك هجاء الرجل المتكبر العزيز
وهناك هجاء الرجل المهذب الشريف
وهناك هجاء الرجل المتوقح البذيء
وهناك هجاء التهكم والسخرية، وهجاء العنف واللدد، وهجاء النقد وهجاء الإيذاء(503/2)
ومناط التفرقة بينها هو النفسيات وما تشمله من فوارق الحس والعاطفة، وليس المرجع فيها الى باب في علم النحو يتكلم على مواضع التصغير
وأعجب شي يقال هو أن المتنبي لم يستصغر المهجوين ولم يكثر من التصغير لأنه متكبر، بل أكثر منه لسبب أخر. . . ثم لا يدري أحد ما هو ذلك السبب آخر؟
لم يمتنع الاستصغار بسبب التكبر؟ ولم لا يكون التكبر سبباً للاستصغار؟ أي عجب في ذلك؟ بل أي مخالفة فيه للمعقول والمعهود! بل أي شي أقرب منه إلى الفهم والتعليل؟
أيمتنع هذا القول لأنه من النفسيات وكل ما كان من النفسيات فهو ممنوع غير مقبول؟
أيمتنع لأن قراراً مجهولاً لا نعرف نحن مصدره قضى بمنعه وتحريمه وإقصائه من عالم الفرض والتقدير؟
إننا لا ننفي أن المتنبي كان متكبراً مطبوعاً على الكبرياه، ولا ننفي أن التكبر مطبوع على أن يستصغر الناس، ولا ننفي أن صيغة التصغير تستعمل للتصغير والتحقير، فلماذا ننفي ولع المتنبي بالتصغير مرجعه إلى طبيعة الكبرياء فيه؟
لماذا؟ للنفسيات التي يسمع باسمها من يسمع فيظن أنها حجاب حائل بين المتنبي والاستصغار بصيغة التصغير؟
أما أن المتنبي قد أستعمل التصغير للتعظيم والتكبير، فهو إذا صح لا يمنع أن التصغير يستخدم أيضاً للتصغير، بل هو الأصل والتعظيم مجاز عارض عليه
يقول أحد إنني رأيت المليمات في أيدي الفقراء، فيجيء سامع بالنفسيات - أو قل سامع بالاقتصاديات - فيقول: كلا. كلا. هذا بعيد! هذا غير معقول! هذا إقحام للاقتصاديات في شئون الحس والعيان! لأنني رأيت بعيني المليمات في خزانة المصرف الكبير، وفي خزانة الغني العظيم!
نعم ظريف كذلك الكلام الذي يبطل باب التصغير للتصغير جملة واحدة لأن التصغير قد أستعمل حينا في معنى التكبير. . .!
على أن البيت الذي قيل إن المتنبي خالف به هذه السنة لا يدل بمعنى من معانيه على أنه قد نسى فيه الكبرياء أو نسى عادة الاستصغار
فهو يقول في وصف الليلة التي ضاق بها:(503/3)
أحاد أم سداس في أحاد ... ليلتنا المنوطة بالتنادي
ومن الميسور أن يلحظ القاري لهجة التأفف في تصغيره تلك الليلة المبرمة، كأنه يستكبر أن يعروه الضيق من ذلك الشيء الصغير، وإن لج به المطال
وهبه مع ذلك كان ينوي التعظيم والتقديس لتلك الليلة المبرمة ولا ينوي أن يتأفف منها ويستكثر عليها أن تبرمه وتثقل عليه، فهل كلمة في قصيدة واحدة تبطل عشرين كلمة في عشرين قصيدة!؟ وهل يحصل كل هذا لأجل خاطر (النفسيات) قدس الله سرها وبارك في عمرها!
ولقد كان كثيراً من كاتب المقال الذي أشار أليه الأديب صاحب الخطاب أن يزعم أن الحقير والتكبير في صيغة التصغير يتساويان، فأما أن يقول إن التحقير هو الممتنع الذي لا يقبل، وأن الاستصغار من جانب التكبر المطبوع على الكبرياء هو الغريب المريب فتلك نفسيات لله درها من نفسيات!! وفنون حماها الله من فنون!!
وما نشك في أن الأديب (محمد جابر) رجل يريد أن يضحك ولا يريد في الحقيقة تفسيراً لما هو غني عن التفسير؛ فإن لم يجد شبعه من الضحك في طراز تلك النفسيات ومعرض تلك الفنون فغاية ما عندي من القول أن المتنبي رحمة الله لم يشرفني بأمانة سره، ولم يطلعني على دخائل صدره، فإذا كان قد ذكر لبعضهم أنه لم يولع بالتصغير لقصد التصغير فهو وذمته فيما ادعاه، وللأديب عليه اليمين الحاسمة إن تردد في قبول دعواه!. أما نحن فغاية ما نعلمه أن المتنبي كان رجلا متكبرا، وأن المتكبر يستصغر الناس فلا عجب أن يولع بصيغة التصغير. وهذا حسبنا وحسب القاري فيما زعمناه
عباس محمود العقاد(503/4)
القوة الفردية هي أساس القوة الاجتماعية
(رسالة مهداة إلى معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير
الشؤون الاجتماعية)
للدكتور زكي مبارك
في العام الأسبق نشرتُ مقالات عن الفقراء والأغنياء تقوم على أساس القول بأن الفقر مرض ولكل مرض أسباب، وأن الغنى عافية ولكل عافية أسباب
وقد قوبلت تلك المقالات بالاستنكار من كل جانب، وعدّها الناس تحاملا على الفقراء، وتلطفاً مع الأغنياء، مع أني كتبتها لوجه الله والحق، ولم يكن هناك باعث غير الرغبة الصحيحة في عرض أراء قد اقتنعت بصحتها كل الاقتناع
ثم مرت شهور طوال وأنا أفكر في أسباب غضب الجمهور على تلك المقالات، فلم أجدها ترجع إلا لسبب واحد: هو مجاراة النزعة الموروثة في الترفق بالفقراء، والغض من أقدار الأغنياء، فقد مرّت أزمان والناس لا يقرأون غير كلمات معسولة في الدعوة الى الرأفة والرحمة والبر والحنان فيما يتصل بمعاملة الفقراء، وكلمات مسمومة في إنذار الأغنياء بعواقب الحرص على كنز الأموال
وأقول أن هذه الألوان الكلامية كانت تليق بزمان غير هذا الزمان، يوم كانت الكلمة اللطيفة تنفع الفقير بعض النفع لما فيها من المواساة، ويوم كانت الكلمة القاسية تصدُّ الغنيّ عن المبالغة في طلب الجاه والمال
أما اليوم فقد تغيرت مذاهب الحياة أشد التغير، ولم يبق للكلام المعسول أي قيمة في مواساة الفقراء، ولم يعد للكلام المسموم وزن في تقويم الأغنياء
نحن في زمن الحقائق، وليس للكاتب المرائي في هذا الزمن مكان.
نحن في زمن الحقائق، والحقائق تنطق بأن الفقر مرض، وأن الغنى عافية. والمريض الذي لا يبحث عن أسباب مرضه ليتجنبها هو مريض في طريق الموت
يجب أن نقنع كل فرد بأن الغنى طوع يديه إن أراد
يجب أن نقنع كل فرد بأن الوصول إلى الرزق ليس من المشكلات، فجهاد ساعتين اثنتين(503/5)
من كل يوم يكفي للظفر بالزاد الذي يغني عن سؤال الناس
وميادين الحياة في كل أرض تتسع للعيش، العيش الذي يطلب بالعمل لا بالسؤال
إن الفقر هو انعدام الرزق، والغنى هو وجود الرزق
أقول هذا لأدفع وهما من أسخف الأوهام، وهو الوهم الذي يقول كاذباً بأن الأغنياء هم الذين يملكون القصور والبساتين، وأن الفقراء هم الذين لا يملكون قصوراً ولا بساتين
العامل الذي يكسب خمسة قروش في اليوم ليدخل على أهله في المساء ومعه القوت الحلال من الخبز والبصل والفول هو من كبار الأغنياء
والخادم الذي يصدُق في بيت مخدومه ويقدّم لأهله في كل شهر عشرات القروش هو من كبار الأغنياء
الغني الحق هو انعدام الاحتياج الى الصدقات، فما تجوز الصدقة إلى على من يحرم القدرة على الكسب الشريف
ومن قال غير هذا القول فهو كاتب يتملق المجتمع ويطمع في شهرة محرّمة، والشهرة كالرزق فيها حرام وحلال
إن التباكي أو البكاء لن ينفع الفقراء بشي، ولو جمعت دموع الباكين من الكتاب والشعراء والخطباء لكانت أقل من أن تملأ كوباً ينفع غلة فقير ظمآن
أدباؤنا لن يؤدوا رسالتهم الأجتماعية إلا يوم يستطيعون إقناع الكنّاس بأنه يؤدي مهمة وطنية
لو كان في مصر أدبٌ اجتماعيٌّ صادق لكان من ثماره أن يتغنى الكنّاس بفضل مكنسته وهي من أظهر شواهد المدنية
ولكن الكناس يجد من أدباء مصر من يبكي على مصيره بكاء التماسيح
الغبار يؤذي الرئتين فيورث السل
كذلك قال الأطباء
فهل سمعتم أن كناساً مات بالسل؟
إن الله يحمي الكناسين، لأنهم يؤدون خدمة عمومية، ولم يبقى إلا أن يفهم الكناسون هذا المعنى، ليدركوا أنهم جنود جندهم الوطن لخدمة الإنسانية(503/6)
وقد طال تباكي الأدباء على الفلاحين، فهل في أدبائنا من يفهم أن الفلاحين في غنى عن تباكيهم المصطنع؟
قالوا أن الفلاح يبيت مع الجاموسة في حظيرة واحدة، وفاتهم أن المبيت مع الجاموس أطهر وأشرف من المبيت في غرفه مفروشة بأحد المنازل التي يعرفها المتأنقون من أدباء هذا الجيل الظريف!!
إن حياة الفلاح في صحبة مواشيه حياة تفيض بالروح والوجدان، فهو ينظر الى مواشيه برفق يعادل نظره إلى أبنائه الأعزاء، وهو يسهر حول حظيرة ثوره حين يمرض، كما يسهر حول فراش أبنه حين يمرض، وهو لا يسمح بذبح ماشية مريضة إلا طاعة لعقيدة توحي إليه أن من الإساءة للحيوان الأليف أن يموت موت (الفطيس) وكذلك تكون المسارعة الى ذبح الحيوان المريض باباً من التكريم، لا ضرباً من الاستغلال
على هذا النحو من الفهم كانت الحياة في الريف، فقد رأيت ناساً يسهرون ومعهم مصباح حول ثور مريض، كأنهم يتوهمون أن المصباح يؤنسه بعض الإيناس. وتلك صورة تشهد بصدق الفطرة المصرية في إدراك منافع الطير والحيوان
والذي يفهم الريف حق الفهم يدرك السبب في عبادة المصريين القدماء للأنعام، وهذه العبادة فهمت على غير وجهها الصحيح. فما كان الغرض أن يكون البقر آلهة يعبدون من دون الله؛ وأنما كان الغرض أن يكون تقديس البقر نوعاً من صيانة النعمة الربانية، على نحو ما يصنع الفلاح المسلم حين يترك فتات الخبز في الطريق، لأنه يرى من كفر النعمة أن تداس بقايا الخبز بالأقدام
إن البقرة والثور من العناصر الأصلية في الثروة المصرية، ومن أجل هذا المعنى كانت هاتور وكان أبيس من المعبودات في زمن الفراعين. وعن مصر أخذت عبادة البقر في الأقطار الهندية، وتلك وثنية تستحق العطف، إذا فكرنا في سببها الصحيح
وقد حدثني سعادة الأستاذ طه الراوي أن الحجاج كان يحرِّم ذبح البقر، وأنشد أبياتاً قالها العراقيون في السخرية من هذا التحريم، فعمن أخذ الحجاج ذلك البدع الظريف؟
هل أخذه عن مصر؟ هل أخذه عن الهند؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما أستوحي المنافع الحقيقية للبقر في بناء العمران(503/7)
ونحن في هذا العهد نسرف في أكل اللحوم إسرافاً يحمل الحكومة على تقييد بيع اللحوم، وإن تمادينا على هذا الحال فستزول المعاني الشعرية التي يحسها الفلاح في رعاية مواشيه، وسيمسي الفلاح وهو آلة في أيدي الجزارين!
فهل يجوز بعد هذا الكلام أن يتمادى الكتاب المتحذلقون في تعبير الفلاح بأنه ينام في حظائر الأبقار والجواميس؟
إن لله حكمة في أن يجعل لنا أصدقاء نافعين من الطير والحيوان، أصدقاء لا يطالبون بشي، ولا يثورون على الحرمان!
كان أحد ملوك فرنسا يقول إن الذي يهمني أن يعم الرخاء بحيث يجد كل فرنسي دجاجة لمائدة يوم الأحد. . . والرخاء عندي أن يكون في دار كل فلاح بقرة أو جاموسة، فمتى نذيع هذا المعنى بأقلامنا؟ ومتى نترك تعييره بمصاحبة المواشي؟
كانت بيوت المياسير من أهل القاهرة تشتمل على حظيرة للأنعام، وكان هذا يلاحظ في تخطيط البيوت، فهل ترجع هذه النزعة السليمة، ولو في البيوت التي تقام في الضواحي؟
وكان الفرن ملحوظاً في كل بيت، ثم تمدَّنا فكانت العاقبة أن ذمم الخبازين!
وكانت أكثر البيوت في القاهرة تنتظر زادها (الصابح) من خيرات الريف يوم كان للقاهريين صلات بالريف، وقد انقطعت تلك الصلات بفضل التمدن الحديث
أما بعد فأين أنا مما أريد؟
أنا أدعو الى تقوية الذاتية في كل فرد، والى تمجيد كل مهنة، والى احترام كل جهاد في سبيل الرزق الحلال.
أنا أدعو العمال الذين ينقلون الأحجار إلى الفرح برؤية المباني الشواهق، لأن لهم يداً في رفع البناء.
وأدعو الكناسين إلى الفرح برؤية الأصحاء، لأن لهم يداً في دفع ما يحمل الغبار من أوباء. وأدعو عمال المطابع إلى الفرح بنهضة مصر العلمية، لأن لهم يداً في إبراز نفائس المؤلفات
الحياة الطيبة هي الحياة التي يسودها الرضا والابتهاج، وفي مقدور كل فرد أن يحيا هذه الحياة، لو سكت الكتّاب المتحذلقون فلم يبغّضوا الحياة إلى الأحياء(503/8)
هل تتوهمون أن السعادة لا تكون إلا من نصيب من يرتادون الملاهي أو يملكون البيوت والسيارات والفدادين؟
لو عرف الفلاح المجاهد في سبيل القوت أنه يغني أمته قبل أن يغتني لشعر بسعادة تفوق الوصف. ولو عرف الخادم أنه يساعد بأمانته على تجميل الحياة لأدرك أنه من السعداء
هل توجد في الدنيا مهنه حقيرة؟ لا، وأنما يجد في الدنيا حقراء، وهم الذين يريدون أكل الشي بلا جهاد.
ثم أما بعد فهذا درس في الأخلاق التي نرجو أن تسود في هذا الجيل وهو درس أوحته القصة الآتية:
كنت أسير في أحد البلاد ومعي رجلٌ متعلم له وظيفة ملحوظة في الريف، فرأينا جماعة من الفلاحين يجاهدون في نقل (عدّة وابور) مياه، فتنهد ذلك المعلم وقال: أنظر كيف يشقى الفلاحون!
ثم بالغ في التنهد إلى أن أخفت على عينيه من الدمع
عند ذلك قلت: ومن ينقل هذه (العدّة) إذا تخلى عنها هؤلاء الرجال الأشداء؟
فقال: هذه الحكومة تسمي نفسها حكومة الشعب، ومع ذلك لا تحمي هؤلاء المساكين من هذه الأثقال
فقلت: وهل ترى من واجب حكومة الشعب أن تحمي الشعب من الجهاد في سبيل الحياة؟
وطالت اللجاجة بيني وبين ذلك (المتعلم)، وانتهى الأمر بأن زاد اقتناعه بأني عدو الفلاحين
لو كان ذلك المتعلم من أرباب الأذواق لوجد في ذلك المنظر فرصة لنظم قصيدة يمجّد بها النشاط المصري، النشاط الموروث عن الآباء والأجداد، فالفلاحون المصريون هم أقوى الفلاحين في الدنيا بلا استثناء، ولو اشتركوا في مصارعة دولية لكانوا الفائزين.
ما العيب في أن يعاني الفلاحون عرق الجبين؟
وما العيب في أن لا يعرفوا غير الفؤوس والمحاريث؟
وما العيب في أن يكونوا شعثا لا زينة لهم غير كرم النفوس؟
هل تعرفون السعادة التي يشعر بها الفلاح وهو يوصي أهله بأن يوقظوه قبل الشروق ليدرك صلاة الصبح؟(503/9)
هل تدركون فرح الفلاح بقدوم شهر الصيام؟
كان في مصر فِلاحه وكان فيها فلاحون، واليوم عرفت مصر أو عرف بعض كتابها أن حياة الفلاح بؤس في بؤس، وأن الواجب تنبيهه إلى ما خفي عليه من شقاء وعناء
أنا عدّو الفلاح، ولكن أي فلاح؟
أنا عدو الفلاح الذي يصدّق ما يسمع أو ما يقرأ في التهوين من شأن الريف
أنا عدو من يجهل نعمة الله عليه، والله قد أغدق نعمه على جميع الأحياء، فمتى نشكر الله على نعمه السوابغ؟ ومتى نعرف أننا لم نوفيه حقه من الثناء؟
زكي مبارك(503/10)
السيدة سكينة بنت الحسين
للأستاذ سعيد الديوه جي
عصرها:
عاشت السيدة سُكينة في القرن الأول الهجري وهو القرن الذي تمخضت فيه (طيبة) بحوادث عظام وحروب كبرى وانقلاب في السياسة والدين والعلم والأدب والفن: منها شع نور الإسلام على العالم وأضاء سبل الهداية؛ ومنها خرجت جيوش الخلفاء الراشدين وفتحت الأمصار؛ وإليها جاءت الوفود تعرض إسلامها وولاءها؛ وفيها انصبت كنوز القياصرة والأكاسرة فأثرى أهلها بعد فقر ونعموا بعد شظف العيش.
فيها تطاحنت أحزاب قريش على الخلافة وفاز الحزب الأموي وخضع لهم الناس رغبة في عطائهم أو رهبة من سيوفهم. واقتضت سياسة الأمويين أن تقصر شباب قريش في مكة والمدينة وأن تغدق عليهم العطايا الكثيرة لتشغلهم في نعيم الدنيا ولذاتها وتبعدهم عن مناصب الحكم.
اجتمع في فتيان قريش الشباب والفراغ والجدة؛ فكان الهوى والأمل المنشود؛ وكان الغزل الإباحي العفيف، وكانت مجالس الأنس والطرب، وكان الصيد والقنص، وكانت حلقات الأدب تعقد في وادي العقيق ومنتزهات المدينة، وحول الغدران. وتحت النخيل. وحتى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكنت ترى أبن أبي ربيعه قد جلس تحت أثيل العقيق وقد أجتمع حوله نسوة وهو يداعبهن وينشدهن أشعاره ويستمع إلى حديثهن، ويخالسهن النظرات. وهن يتوددن إليه فإذا ما وقعت إحداهن في عينه فقد قارن. ذلك لأنه سيتغزل بها ويشهرها في شعره الذي يقال في المدينة فلا يلبث أن يصل إلى خراسان. ومنيه كل فتاة أن تستميل هذا الشاعر أو غيره ممن نهج طريقته فتعده وتمنيه ليقول فيها شعراً. تباهي بها أترابها بأنها قد خلبت قلبه وملكت هواه. وحتى الأميرات وبنات الطبقة الأرستقراطية فأنهن كن يبذلن الأموال لمن يأتيهن بشعر قاله أحد الشعراء فيهن. وكان الشعراء أنفسهم يتغزلون بكل شريفة أو أميرة لا يريدون بذلك إثما ولا نكراً وإنما يذهبون مذهب المدح والدعابة. وقد حجت بنت لعبد الملك بن مروان ورغبت ان يقول فيها ابن أبي ربيعة شعراً، ورغب هو كذلك ولكنه خشي بطش(503/11)
الحجاج. ولما همت بالرجوع قالت (قدمنا مكة فأقمنا شهراً فما اّ ستطاع ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتاً نلهو بها في سفرنا هذا) وبلغ عمر ذلك فقال قصيدته التي أولها:
راع الفؤادَ تفرقُ الأحباب ... يوم الرحيل فهاج لي أطرابي
ولما حملت إليها أعطت لحاملها في كل بيت عشرة دنانير.
وهذا الغزل الإباحي العفيف انتشر في الحجاز وخاصة في المدينة فترنم به الشبان. وغنت به القيان. وأنشده الكهول. واهتز له الشيوخ والزهاد. فابن عباس وهو من نعلم علمه وزهده وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع من ابن أبي ربيعه شعره في المسجد الحرام ويهتز له.
وساعد هذا الترف على ظهور الغناء في المدينة وانتشاره بين معظم الشعب، فكانت المدينة مهد الغناء، لأن الحياة المرحة التي كان يحياها أهل المدينة تستدعي اللهو والطرب. ووجد بالمدينة في هذا العصر عشرات المغنين والمغنيات من الذين برعوا في هذه الصناعة وتفننوا في ألحانهم، وأحدثوا ألحانا جديدة لم تكن معلومة عند العرب، كما اّستعملوا آلات الطرب والمعازف كالعود والبربط والقضيب والمزهر والدف. وكانت المغنية (جميلة) تعلم الفتيات هذا الفن ودارها أشبه ما يكون بمدرسة فنون يتخرج منها عشاق الفن والطرب.
ونرى فقهاء المدينة يتساهلون في تحليل الغناء بعكس فقهاء الشام والعراق. ولم يبق منهم شريف ولادنىء يتحاشى عنه حتى الصحابة والزهاد كان يعجبهم الغناء ويهتزون له. كان حسان بن ثابت إذا سمع عزة الميلاء يبكي. وكان أبو السائب المخزومي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان مع هذا ينحرف عن محرابه ويسمع غناء ابن سريج ثم يعود لصلاته. وهذا عطاء ابن أبي رباح الذي هو من أعلم أهل المدينة وأزهدهم كان يسمع الغناء ويهتز له. وقد حُكِّم بين الغريض وابن سُرَيجْ فحكم للثاني. ومر بالأوقص المخزومي قاضي المدينة سكران وهو يتغنى بليل فأشرف عليه وقال: (يا هذا أتيت حراماً، وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ. خذه عني) وأصلح له الغناء.
وظرف عباد أهل الحجاز مما يضرب به المثل، وكانوا لا يرون في الحب بأساً إذا لم تكن فيه ريبة. وبلغ من ظرفهم أن أبا السائب المخزومي تعلق يوماً بأستار الكعبة وأخذ يقول:
اللهم اّرحم العاشقين واعطف عليهم قلوب المعشوقين بالرأفة والرحمة عليهم يا أرحم(503/12)
الراحمين). فقال له رجل: يا أبا السائب أفي المقام تقول هذا المقال؟ فقال له: (إليك عني! الدعاء لهم أفضل من حجة بعمرة).
بجانب هذا كله نجد في المدينة حركة علمية قوية لا نجدها في غيرها من البلدان. ذلك لأنها مهبط الوحي الثاني بها نزل التشريع وبها عقدت مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثر الصحابة الكرام الإقامة بها. وقام فيها العبادلة وأحبار هذه الأمة من الصحابة والتابعين - فلا عجب إذا رأينا المدينة تصبح قبلة العلماء ومحط طلاب الفقه والتفسير والحديث والمغازي. فما من فقيه أو محدث أو طالب للأجناد إلا ونراه يقصد مدينة الرسول الأعظم ليتصل بصحابته وينال بغيته.
وإذا ما دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هالك ما تجده من الحلقات المنتشرة في فنائه الواسع. هذه هي حلقة قد تصدرها أحد الصحابة الكرام يشرح للناس ما سمعه عن الرسول، ويفسر لهم آي الذكر الحكيم. وهناك حلقة أخرى توسطها أحد الذين اّشتركوا في فتح العراق وهو يقص عليهم أيام القادسية ونهاوند وما أفاضه الله على عباده المؤمنين من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم ونعمة. وهكذا قل عن بقية الحلقات فزخرت المدينة بفقهاء ورواة الحديث وطلاب السير والمغازي
وتمتعت المرأة الحجازية بحرية واسعة في هذا العصر: شاركت الرجل في الحفلات العامة
والحلقات العلمية والأدبية وحضرت مجالس الأنس والطرب وارتادت منتزهات المدينة. ومنهن من أضرت بهن هذه الحرية فأسأن استعمالها وأسفقن وتبذلن، بل فُقن الرجال في الخلاعة والمجون. يتمثل لنا هذا في وادي العقيق وحلقات المغنين ومجالس المخنثين واّجتماعات الشعراء. حتى أن بعضهن شاركن الرجل في التغتي وركوب الخيل (فقد كانت أم سعيد الإسلمية وبنت ليحيى بن الحكم بن أبي العاص من أمجن النساء، كانتا تخرجان فتركبان الفرسين فتستبقان عليها حتى تبدو خلاخليهن).
على أنه ظهر فتيات من الطبقة الأرستقراطية مثلن الفضيلة والعفاف والشرف بأجلى مظاهرها. يتجلى لنا هذا في السيدات سكينة بنت الحسين وعقيلة بنت عقيل بن أبي طالب وعائشة بنت طلحة وغيرهن كثير.
فسكينة بنت الحسين كانت المثل الأعلى في العفاف والنبل والشرف والحشمة والوقار(503/13)
يحضر ببابها الشعراء والفقهاء ورواة الحديث والعلماء والزهاد حتى المغنون والمضحكون، فتأذن لمن تشاء منهم فيدخلون صالتها المعدة للاستقبال وتعقد مجالس العلم والأدب في دارها وتشارك هي في تلك المجالس من وراء ستار. وقلما كان يخلو دارها من شعراء يطلبون صلتها، أو رواة يحتكمون إليها، أو علماء يتجادلون بحضرتها، أو فقهاء يأخذون عنها. أو أشعب يضحكها أو مغني يطربها. وهكذا شاركت الشعب في أفراحه وأتراحه وترفعت عن تبذله وخلاعته.
في هذا العصر الحافل بحسناته وسيئاته تألق نجم السيدة سكينة في عالم العلم والأدب والفن.
سعيد الديوة جي
بالموصل(503/14)
حركة الإصلاح وحديث عيسى بن هشام
للأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم
نشرت لي الرسالة الغراء كلمة في (حديث عيسى بن هشام) تناولت فيها أسلوبه ومنزلته القصصية، ثم بدا لي رأي في هذا الكتاب آثرت أن أكتبه، علّ الطلبة المتسابقين يجدون فيه قبل الامتحان ما يهديهم إلى فهم المقصود من الكتاب.
حركة الإصلاح
استطاع الغربيون في القرن التاسع عشر أن يثبتوا أقدامهم في أقطار المشرق: يبسطون سلطانهم السياسي في كثير منها ويتذرعون في بعضها بالتبشير وإنشاء المدارس ويعالجون التجارة في أقطار أخرى. وقد حملوا إلى كل هذه الأقطار فيما حملوا ألواناً من العادات والتقاليد والأخلاق وضروباُ من المدنية والحضارة لم يشهدها الشرق من قبل. فانقسم الشرقيون حيال هذا الجديد الطارئ فريقين: فريقاً يتحفظ ويتصون ويرى الوقوف عند القديم الذي شوهته العصور المظلمة واذهب بهاءه الجمود الطويل، وفريقاً آخر قد فتنته المدنية الغربية وما فيها، فاندفع في تيارها على غير هدى وبصيرة فأصاب منها ما لا يغني ولا يفيد وأساء إلى تقاليده وأخلاقه
رأى المصلحون هذه الحال فلم يعجبهم هذا الجمود المزري ولم يرقهم هذا الاندفاع المقيت فقاموا بحركة للإصلاح، قوامها التجديد في حدود المعقول الذي لا يتنافى مع روح الدين ومبادئه وأصوله وغاياته، والوقوف في وجه الفوضى التي أوشكت أن تقضي على كل قديم جميل. وكان أول مجاهر بهذا الإصلاح زعيم الشرق السيد جمال الدين الافغاني، فقد دعا إلى مبادئه في بلاده والهند والحجاز وتركيا، ووصل إلى مصر عام سنة 1871 مبيناً منهاجه الإصلاحي فلاقى من المفكرين قبولاً، ورأوا فيه المنقذ للشرق والهادي إلى طريق الصواب
رأوا في آرائه ثورة على العلماء الجامدين الذين أساءوا إلى الدين بجمودهم حتى جعلوه في معزل عن الحياة العامة، وثورة سياسية تدعوا إلى إشراك الشعب في الحكم إشراكاً يظهر أثره، وثورة أخرى تنتظم نواحي الأخلاق والاجتماع والأدب؛ فقد دعا إلى الاقتداء بالسلف في أخلاقهم ومبادئهم، وأراد من الأدب العربي أن يكون أداة لنشر الأفكار والعلوم لا ألفاظاً(503/15)
جوفاء تقوم على الزخارف اللفظية والحُلَي الكلامية ولا تحمل من المعاني قليلاً ولا كثيراً. ولم تلبث هذه المبادئ السامية أن وجدت من المصريين أعواناً عرفوا قدرها وأذاعوا بها: فكان منهم المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المصلح الديني الكبير. وكان منهم من جاهر بالدعوة السياسية في كتابته وشعره وطالب بالدستور، وتألفت جماعات لبعث الكتب القديمة، وكان من هذه الجماعات جماعة تألفت سنة 1898، وكان من أعضائها حسن باشا عاصم، وأحمد بك تيمور، وعلي بك بهجت، وغيرهم. وإنما فعلوا ذلك ليُطْلعوا المتأدبين على طراز قوى من الأدب يغنيهم عن تقليب النظر في الضعيف الساقط من المنثور والمنظوم. وقام دعاة الإصلاح الاجتماعي ممن ثَقِفوا مبادئ جمال الدين يعلنون آراءهم للناس في صدق ويقين
حديث عيسى بن هشام
كان لرجال الإصلاح الديني كالشيخ محمد عبده ومن سار على طريقة آراء نافذة في الإصلاح الاجتماعي ظهرت في كتابتهم ودعوتهم، إلا أن رسالتهم الدينية شغلتهم بعض الشيء عن التفرغ لنواحي المجتمع فنهض بها غيرهم نهضة قوية وكان منهم محمد المويلحي في كتابه (حديث عيسى بن هشام)
ولم يقتصر المويلحي على المجتمع والأخلاق بل تناول أموراً أخرى تتصل بهما وتؤثر فيهما تأثيراً كبيراً أو قليلاً وهي السياسة والدين والأدب ولكنه لم يمعن في هذه النواحي لأنه يعلم أن لها رجالاً يقومون بها.
وبعد فهل سرى روح جمال الدين إلى المويلحي وهل أثر فيه التأثير الذي جعله يتجه هذا الاتجاه؟!
لقد كان جمال الدين مدرسة تخرج فيها كل من شهد الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وكان محمد المويلحي من هؤلاء ولعلك تستطيع أن تدرك هذا الارتباط المتين من رسالة. (جمال الدين) في صدر (حديث عيسى بن هاشم) فقد وافق ما بهذا الكتاب مبادئ جمال الدين التي يدعوا إليها وأصابت كتابات المويلحي هوى في نفسه فقرظه هذا التقريظ البليغ.
ونحن إذا تلمسنا هذا الارتباط في كتابة المويلحي وجدناه بيناً ظاهراً، فهو يرى أن فساد المجتمع راجع إلى تقليد المصريين للأجانب تقليداً أعمى وتهالكهم على التظاهر بمظاهر(503/16)
الغرب، ويقول إنهم قد أساءوا إلى أخلاقهم وعاداتهم ونظمهم حين لجئوا إلى هذا التقليد:
1 - ذلك لأنهم استُّنوا بهذا التقليد سُنَناً جديدة ضارة لم تكن معروفة من قبل في مصر كالانتحار.
2 - وهم كذلك أساءوا التقليد فنقلوا عن الغرب مفاسد قد قيدها الغرب بقيود فجعلوها هم مباحة لا قيد فيها ولا شرط كالقمار والبغاء والخمور.
3 - وهم تعلقوا بالمظاهر الكاذبة في التقليد، وتركوا المهم من مدنية الغربيين. وفي هذا يقول: (فأصبحوا في الظلال يعمهون وفي البهتان يتسكعون، واكتفوا بهذا الطلاء الزائل من المدنية الغربية)
4 - ولقد كان هذا التقليد سبباً في تركهم العادات الكريمة المتوارثة عن الأجداد والأسلاف فهو يقول: (ونبذوا ما كان عليه أسلافهم من الحق ظهرياً، فانهدم الأساس ووهت الأركان وانقضّ البنيان وتقطعت بهم الأسباب فأصبحوا في الضلال يعمهون وفي البهتان يتسكعون)
5 - على أن هذا النقل كان مخالفاً لطبيعة البيئات والأجناس فإن ما يصلح للغرب قد لا يصلح للشرق، وما يراه الغربيين أمراً مألوفاً نراه نحن أمراً منكراً لتقاليدنا وأمزجتنا وما توارثناه عن السلف من عادات وآداب، والمويلحي يضرب لذلك مثلاً التمثيل المنقول عن الغرب برمته وأشخاصه وأصوله: (ولن تخلوا قصة من قصصهم التي يمثلونها عن ذكر العشق والغرام وما من رواية لهم إلا والعاشقان يكونان فيها كالفاتحة والخاتمة لها، وهو وإن كان مقبولاً عند الغربيين مسموحاً به لموافقة العادة عندهم، ولكونه شيئاً لا عيب فيه يجهر به فتيانهم وفتياتهم بل هو أصل من أصول التزاوج بينهم قضت به رطوبة الإقليم وطبيعة الحال إلى ما يهيج الشعور ويثير ثائرة الخيال لكنه غير مقبول عند الشرقيين ولا مسموح به في عاداتهم. . .)
هذه هي الأسباب التي يعزو إليها المويلحي فساد المجتمع والأخلاق وهي كما ترى ما أشار إليه جمال الدين وتردد على ألسنة المصلحين. ولم يبق بعد هذا إلا أن نشير إلى الإصلاح الأدبي والديني في كتاب (حديث عيسى بن هشام) ليتضح للقارئ الارتباط المتين بين دعوة جمال الدين ودعوة المويلحي.
لم يكن المويلحي من علماء الدين وإنما كان من الأدباء المصلحين الذين وجهوا أكبر(503/17)
جهودهم إلى المجتمع والأخلاق، فهو إذا كتب في الدين كتب ليحارب الجمود دون تعمُّق في التفصيلات؛ وهو إذا انتقد العلماء أراد من وراء هذا النقد توجيههم إلى الاشتراك في الحياة العامة ليتحقق صلاح المجتمع والأخلاق.
فهو يرمي في كتابه طوائف من الناس بالاستهتار وضعف العقيدة فيقول على لسان حفيد الباشا (لست أسمع لهذا الكذب والخرف وليس لي اليوم من جد ولا والد، ولا أنا ممن يصدِّق حديث البعث في الآخرة فكيف برجوع الموتى في الدنيا)
أما الخرافات التي علقت بالأذهان فهو يلم بها إلماماً في سياق حديثه عن كبراء العصر الماضي. وقد جلس أحد العلماء إلى السيد عبد القادر الكيلاني إحياء الغريق كما ينسب إليه أن الله قد وعده بأن من ينظر إليه يوم الجمعة يكون ولياً مقرباً، وإذا نظر إلى التراب يكون ذهباً إلى آخر ما ورد في هذه القصة. ونحن نعلم علم اليقين أن المويلحي قصد بهذه القصة إظهار ما ران على الدين وأصوله ومبادئه من خرافات يجب الإقلاع عنها والبعد عن التعلق بأمثالها لأنها تبعد عن روح الدين ورسالته
وهو يرجو من الدين أن يصلح لكل حياة وأن يكون دافعاً إلى إصلاح المجتمع وعاملاً من عوامل الخير والسيادة الإنسانية، فإن أقتصر الدين على النسك والعبادة، واتكل الناس على أعمالهم التعبدية التي يقومون بها غافلين عن فعل الخير وتقديم المعونة للبشر كان آلياً لا خير فيه لصلاح الناس. وفي الكتاب ما يشير إلى ذلك على لسان الباشا فهو يقول: (وقد غرتني في دنياي من مثل هذا الشيخ ما يهوِّن عليّ ارتكاب المخزيات وفضائح الشرور في معاملة الناس ارتكاناً على نهار أصومه وليل أقومه. . . فنمت عن عمل الخير وغفلت عن بذل المعروف)
فلعلك تدرك بعد هذا أن المويلحي له دعوة دينية قوامها التمشي مع المدنية والبعد عن الخرافات وخدمة الإنسانية. وهذه الدعوة هي غاية جمال الدين، وهي ما قام به الشيخ محمد عبده
أما الأدب فإن المويلحي يرى أنه لا يرتقي ولا تسمو عبارته ولا تجود معانيه إلا إذا اتصل الأدباء بالتراث العربي القديم يقلبون في عباراته البليغة وأساليبه الرصينة. ويرى أنه لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بنشر الكتب وطبعها حتى تكون في متناول الناس جميعاً، ويعجب(503/18)
من بقاء الكتب المخطوطة في المكتبة العامة بعيدة عن أيدي الناس قائلاً إن هذا يعرضها للتلف ويفوت الغرض منها ويجعل النفع بها محدوداً؛ وهو يشتط في هذا الرأي فيقول: (أي نفع وفائدة للأمة المصرية الإسلامية في أن تنشر بين يديها رمم الفراعنة في الأنتكخانة، وتقبر أرواح العلماء والحكماء في الكتبخانة). وهذا الكلام وإن أجراه المويلحي على لسان أحد الأشخاص إلا أن المتتبع لكلامه في هذا الصدد يعلم إيمانه بها الكلام
ولم ينس المويلحي الثقافة الحديثة وأثرها في الأديب فهو يقول في عزلة الباشا عن الناس: (وعكفت مع الباشا في عزلتنا أذهب به كل مذهب، وأنتقل به من مطلب إلى مطلب في مطالعة الأشعار والكتب من تاريخ وأدب ومن حكم متينة قويمة وشتى علوم حديثة وقديمة)
وغاية المويلحي من كل هذا أن يتصل الأدباء بالأدب العربي القديم لأنه منبع لكل بارع وفاخر من الأساليب، وأن ينالوا من الثقافة الحديثة حظاً كبيراً لأنهم في حاجة إلى هذه الثقافة التي تمدهم بالأفكار والمعاني؛ ثم هو لا يعجبه رصف الألفاظ الجوفاء التي لا تحمل معنى قيماً. ولذلك ساق في حفلة العرس خطبة وقصيدة ليبين نوعاً من الأدب التافه شعره ونثره. وقد عقب عليهما ساخراً بقوله: (ثم انتهينا بحمد الله من الشاعر بعد الخطيب
وهذه الدعوة الأدبية هي دعوة جمال الدين ومن سار على نهجه من بعده. وقد استطاع المويلحي بلباقته الأدبية القصصية أن يضمن كتابه هذه النواحي الإصلاحية في أسلوب شائق جذاب يستهوي الناس. ولم ينس أن يذكر ما كان لدعاة الإصلاح وزعماء النهضة من فضل عليه فهو يقول في إهداء كتابه: (وأهديه إلى أرواح المرحومين الأديب الوالد، والحكيم جمال الدين، والعالم محمد عبده، واللغوي الشنقيطي، والشاعر البارودي. . . أولئك الذين أنعم الله عليهم وأولئك الذين تأدبت تأدبهم وأخذت عنهم)
(الفيوم)
أحمد أبو إبراهيم(503/19)
رسالة الجاحظ في مناقب الترك وعامة جند الخلافة
للأستاذ محمود عزت عرفه
الجاحظ أمة في الأدب وحده، وعالم محقق لا يسبر له غور أو يدرك لاتساع فطنته مدى. وهو إلى جانب موسوعاته التي كشفت عن غزارة ذهنه ورحابة عقله، قد ترك لنا مجموعة رسائل يمكن أن نعدها في باب الموجزات بالقياس إلى تصانيفه التي يطول فيها استطراده وتتسع منادح تفكيره
ولكن إيجازه في هذه الرسائل غير مقصر بها ولا مخلّ؛ إذ تعالج كل منها موضوعاً قائماً بنفسه في إحاطة لا تترك وراءها فراغاً أو نقصاً، واستيعاب لا صغير ولا كبير إلا أحصاها. ومن هذه الرسائل رسالة عنوانها: في مناقب الترك وعامة جند الخلافة
وإنها لآية من آيات الجاحظ؛ تقفنا من تفكيره على صورة جميلة، وترسم لنا خطوطاً واضحة المعالم لبعض وجوه تصرفه في الكتابة والتصنيف.
وهو يبدو في هذه الرسالة عظيم الاحتفاء بشئون السياسة على عهده، قوَّي المساهمة، بقلمه وبذهنه، في خدمة قضية يراها جديرة بأن يعمل لها ويسعى في سبيلها.
وقد بعث الجاحظ بهذه الرسالة إلى الفتح بن خاقان صاحب المتوكل ونديمه المصطفى في حياته، والذي قاسمه مصرعه الرهيب فيما بعد على يد المنتصر ابنه وولي عهده. . .
على أن الرسالة لم تكتب في ذلك العهد، وإنما كتبت أيام المعتصم ثامن خلفاء بني العباس؛ ولم يتهيأ للجاحظ أن يبلغها إليه فبقيت حبيسة طيلة عهده، ثم مدة الواثق من بعده، حتى تهيأ له الظهور أخيراُ في أيام المتوكل. والجاحظ نفيه يشير إلى هذه الحقيقة كما سنرى ذلك فيما بعد. ولكن الذي يعنينا الآن هو التحقق من بواعث تحرير هذه الرسالة، ثم النظر في أسباب احتباسها طيلة هذه الفترة حتى ظهرت في عهد المتوكل. وما من ريب في أنه كان للعوامل السياسية أثر قوي في كل هذا فما الذي دفع الجاحظ أولاً إلى كتابة هذه الرسالة؟
لقد تولى المعتصم الخلافة بعد أخيه المأمون، وكان مثله ممن يقدر النبوغ ويحتفل بالمواهب حيث ظهرت، فانفسح مجال التفوق في دولته أمام العناصر غير العربية. على أن نزعة المأمون كانت علمية كما هو معروف؛ أما المعتصم فكان شجاعاُ باسلاً رب سيف ورمح، لا قلم ولا كتاب. كان (الحليفة الأمي) كما وصف نفسه في كثير من الصدق، ولكنه تفرد إلى(503/20)
جانب ذلك بصفات سامية في البأس والشجاعة؛ فكانفارس بني العباس المعلم، وأضرب رجال دولتهم في البطولة بسهم
ولقد استكثر من غلمان الأتراك في جيشه ليتقوى بهم على الخراسانية الذين نهضت على أكتافهم دولة المأمون، واستقدم كثيراً من أبناء فرغانة وأشر وسنة ليستعز ببأسهم على من كانت تموج بهم بغداد من مختلف طوائف الجند بين عرب وأبناء وموال وخراسانيين
وما نشك في أن الجاحظ كتب رسالته على هذا العهد متشيعاً بذلك للخليفة وحزبه. ولقد كان الجاحظ أديباً موهوباً محظوظاً، وقل في الأدباء من يجمع بين هاتين الفضيلتين. كان يحب أن يستفيد، ثم هو يعرف كيف يستفيد؛ ولكن تطور الأمور ألجأه - برغمه - إلى أن يحبس رسالته حتى حين، إذا كان التنافس قد اشتد وقتئذ بين هذه الطوائف المختلفة في أجناسها وجبلاّتها، المتباينة في أطماعها وفي أهوائها. وتطورت الحال إلى أكثر من هذا؛ إلى اصطدام دموي عنيف، وفتنة هوجاء جامحة، حيكت فيها الدسائس الخفية والظاهرة، ودبرت الاغتيالات المحقة والمبطلة، فطاحت رؤوس، وأهدرت دماء، وهاجت أوشاب من العامة بإيعاز من رؤساء الأجناد، وائتمرت الطوائف جميعاً بالأتراك الذين خصهم الخليفة بإيثاره، وبوأهم رفيع المناصب في دواوين حكومته وثكنات عسكره
وينبغي هنا أن نشير إلى بعض الوقائع الثابتة لنمثل الحالة التي سادت البلاد في ذلك العهد تمثيلاً أقرب إلى الوضوح:
1 - كان الأفشين من أشهر قواد المعتصم الأتراك، وقد أبلى البلاء الأعظم في الحروب التي اشترك فيها دفاعاً عن حوزة الخلافة، وبسطاً لسلطان الدولة في عصري المأمون والمعتصم. ولكنه لم يكن مع ذلك خالي النفس من كراهية العرب، والتسخّمط على منافسيه من أفرادهم وأعيانهم. ولقد كان حسده للقائد العربي أبي دُلف (القاسم بن العجلي) أمراً مشهوراً؛ حتى لأشهد عليه مرة بجناية وقتل، وأزمع أن يقتص منه، لولا أن بادر أحمد أبي دُوَاد كاتب المعتصم ومشيره فأدركه قبل نفوذ الأمر فيه؛ وأنذر الأفشين أن يصيبه بسوء، ثم رفع القصة إلى الخليفة، فاستحسن صنيعه في المبادرة بإنقاذ أبي دلف، وعنف الأفشين على ما قد وطد العزم عليه. . . ولم يلبث هذا القائد - وهو من هو ضراوة وسوءَ معتقَد - أن حاول الاستقلال بمسقط رأسه أشر وسنة، فانكشف أمره على يد عبد الله بن طاهر(503/21)
الأمير العربي في خراسان وكان في ذلك مهلكه ونهايته. ونذكر هنا بعض ما قاله أبو تمام من قصيدة يسجل فيها احتراق الأفشين وصلبه:
ما كان لولا قبح غدرة (حيْدر) ... ليكون في الإسلام عامُ (فجار)
ما زال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سر الزناد الواري
ناراً يساور جسمه من حرها ... لهب كما عصفرَت شِق إزار
مشبوبة رُفعت لأعظم مشرك ... ما كان يرفع ضوءها للساري
صلى لها حيّاً وكان وقودَها ... ميتاً، ويدخلها مع الفجار
2 - كان عجيف بن عنبسة من قواد الأتراك الناقمين على المعتصم بعض تصرفه - ورضى الناس جميعاً غاية لا تدرك - وكان قد صحبه في حصار عمورية (عام 223هـ). وهناك أوغر صدر العباس بن المأمون حتى أطمعه في قتل عمه. ودخل معه في ذلك جماعة ممن انطوت نفوسهم على الكيد للمعتصم وترُّبص الشرِّ به. ولكن الخليفة اطلع على سر هذا التدبير، فقتل عجيفاً ومن مالأه؛ وحبس العباس ابن أخيه حتى مات من وطأة الضر وفرط الأذى. . .
3 - ومن تدابير الكيد في ذلك العهد ما أوغر به القوم صدر المعتصم على خالد بن يزيد الشيباني أحد ولاته من العرب حتى أزاله عن ولايته وطالبه بأموال جسيمة؛ فلم يجد من يشد أزره في هذه المحنة إلا أحمد بن أبي دواد الذي شفع له عند المعتصم حتى عفا عنه، وخلع عليه وأعفاه مما كان قد أمره به من الخروج منتفياً إلى الحجاز.
وفي هذا يقول أبو تمام أيضاً من قصيدة يمدح بها خالداً ويهنئه:
وغدت بطون منىً مُعنى من سيْبه ... وغدت حِراً منه ظهور حِراء
وتعرَّفتْ عرفاتُ زاخره ولم ... يُخصَص كَداءٌ منه بالإكداء
ولطاب مرتَبعٌ بطيبةَ واكتستْ ... بُردْين: بردَ ثرىً وبرد ثراء
لا يُحرَمِ الحرمان خيراً! إنهم ... حُرِموا به نوءا من الأنواء. . .
تعد هذه الحوادث - وغيرها كثيراً - من عوامل نشوب الفتنة التي أشرنا إليها آنفاً؛ لأن هذا التحرش بين الترك من ناحية، والعرب والخراسانيين وسائر الموتورين من ناحية أخرى، لم يلبث أن تحول إلى اصطدام عنيف تكررت فيه حوادث العدوان في طرقات(503/22)
بغداد، واضطرب معه حبل الأمن في أرجائها؛ حتى لم يجد الخليفة بداً من أن ينهض بجنده المختار إلى عاصمته الجديدة سُر من رأى، ليحسم بذلك وجه النزاع ويهدِّئ من سورات النفوس. . . ففي مثل هذه الظروف لم يكن يتيسر للجاحظ أن يقدم رسالته في (مناقب الترك) وإن كان هذا لا ينفي احتمال وجود أسباب أخرى حالت دون تقديمها؛ مما قد يشير إليه قول الجاحظ في مفتتح رسالته: (هذا كتاب كتبته أيام المعتصم بالله - رضي الله تعالى عنه ونضر وجهه - فلم يصل إليه لأسباب يطول شرحها، فلذلك لم أعرض للاخبار عنها. . .).
. . . أخيراً توفي المعتصم عام 227هـ وتولى بعده ابنه أبو جعفر هرون الواثق بالله؛ وكانت النفوس وقتئذ ما تزال ثائرة، ومظاهر الأحوال لم تتغير إلى الحد الذي يبيح للجاحظ أن يقدم على ما كان عنه من قبل محجما.
وإذا افترضنا زوال الأسباب القديمة، فإن الفرصة لم تكن تعرض، والمناسبة التي يلائمها إظهار رسالة في مدح الترك وإبراز مفاخرهم لم تكن تعنّ؛ والجاحظ يعلم أن لكل مقام مقالاً، وأن الكلمة من شعر أو نثر تفقد أكثر قيمتها إذا هي برزت في غير موضعها أو ظهرت دون مناسبتها. وتلك حقيقة يتحراها أكثر الأدباء قديماً وحديثاً في عرض إنتاجهم؛ وإنها لأدل على صدق الأدب وصحة الاستلهام، وأدعى إلى قوة التأثر وبلاغة التأثير معاً. وما (أدب المناسبات) إلا صورة صادقة من الأدب الحي يعجز عنه جماعة المفْحَمين ممن لا تواتيهم قرائحهم في كل حين، فينبزون أصحابه بلقب النُّسَّاخ أو النظامين؛ وفرق ما بين الطائفتين تيقظ بديهة أو غفوتها، واستجابة خاطر أو استعصائه. . .
(للمقال بقية)
محمود عزت عرفة(503/23)
لماذا لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين
للأب ماري أنستاس ماري الكرملي
1 - تصدير
إني لا أثق (دائماً) بكل ما ينطق به النحاة ولا اللغويون ولو كانوا أدلاء أجلاء بل أعرضه على محك النقد والتحقيق، وتدقيق النظر فيه، فإن أظهر المحك صدق إبريزهم، وافقت عليه وقيدته عندي بكل فخر وإجلال، واعتبار وإكبار، وإلا نبذته نبذ النواة، أو نبذ آراء المشعوذين النحاة الهواة. وذلك لأن الإنسان محل النسيان، ولأن الجود قد يكبو، والسيف قد ينبو، وما العصمة والكمال، إلا لرب الجلال
ولهذا تراني لا أثق إلا بما ينقله السلف إلينا من أقوال المحققين الأقدمين، كما قلت مراراً لا تحصى. وأمثلة ما قد أخطأوا القول فيه أكثر من أن يعد، ولا تسعة مجلة موقوتة، لأن ما جمعته يقع في مجلد ضخم (لا تهضمه معدة مجلة) لثقله عليها، ولثقله أيضاً على معدة قرائها الكرام الأجلاء
وأنا أذكر هنا بعض الشيء، بمنزلة ما أذهب إليه من كلامي الذي عنونت به مقالي هذا
2 - ورود فعلى جمعاً لأكثر من لفظين
أنقل هنا ما جاء في تاج العروس في مادة (ظ ر ب) حرفاً بحرف، قال: (نقل شيخنا عن أبي حيان: ليس لنا جمع على فعلى، بالكسر، غير هذين اللفظين (ظِربى وحِجلى) ويقال: أن أبا الطيب المتنبي لقي أبا علي الفارسي، فقال له: كم لنا من الجموع على فعلى، بالكسر؟ فقال أبو الطيب بديهة: حجلى وظربى، لا ثالث لهما
فما زال أبو علي يبحث: هل يستدرك عليه ثالثة وكان رمداً فلم يمكن له ذلك، حتى قيل أنه مع كثرة المراجعة، ورمد عينيه، آل به الأمر إلى ضعف بصره. ويقال إنه عمى بسبب ذلك، والله أعلم
ثم قال: وهي من الغرائب الدالة على معرفة أبي الطيب وسعة اطلاعه. انتهى كلام الشار ح على الحجلى: اسم للجمع)
قلنا: الجمع لفظة تشمل الجمع بصيغه المختلفة، واسم الجمع وشبه الجمع: والظاهر أن(503/24)
الذين جاؤوا بعد أبي الطيب وأبي علي الفارسي لم يجدوا في كلام العرب جمعاً، ولا اسم جمع، ولا شبه جمع على فعلى، بكسر الأول. أفهذا صحيح؟
قال فخر اللغويين المتأخرين، وإمام أئمتهم، الشيخ محمد محمود الشنقيطي، في حاشية له على المخصص 8: 156 ما هذا نصه بحروفه:
(قلت: قول علي بن سيدة: الحجلى الخ خلاف الأصح؛ وقلده فيه من قلده. والأصح أن فعلى بالكسر من أبنية الجمع النادرة، ولم يسمع منها إلا لفظتان، وهما: الحجلى هذه والظربى جمع الظربان. ونظمها شيخ شيوخ مشايخنا المختار ابن بون في احمراره ذيل الألفية، حيث قال رحمه الله تعالى: فعلى بما أجمع ظربان حجل، وليس باسم الجمع في القول الأجل ومن الدليل على ذلك الحكاية المحفوظة المروية عن سيف الدولة.
روى عنه أنه سأل ليلة أصحاب سمره، وفيها المتنبي فقال لهم: كم من جمع لنا على فعلى؟ - فأجابه المتنبي في الحال بقوله: حجلي وظربى، وكان في مجلسه ذلك العلماء والأدباء والشعراء، وفيهم أبو علي الفارسيّ، فلم يزد واحد منهم لفظة تثلثهما.
(وبعد انتهاء المسامرة، ذهب أبو علي إلى بيته، وسهر يطالع كتب اللغة العربية، فلم يجد لهما ثالثة، فبسبب ذلك كان يتعجب من حفظ المتنبي لغة العرب، وتبحُّره فيها
(قلت: وجد الدماميني بعد قرون لفظة ثالثة وهي: معزى جمع معز، ونظمها أستاذنا وشيخنا عبد الوهاب جدود بقوله:
وثالث اللفظين لفظ يَعْزَى، إلى الدماميني وهو مِعْزَى انتهى وكتبه راويه حافظه محقّقه محمد محمود لطف الله تعالى به. آمين.) انتهى
أقول وأنا صاحب هذا المقال: ويزاد على الثلاثة المتقدم ذكرها ستة أخر وهي:
الأول: العرقي جمع عرقاة. قال في المخصص (15: 187): والعرقي جمع عرقاة. من قولهم: أستأصل الله عرقاتهم. عن الفارسيّ، ولم يحكها غيره.) اهـ. قلنا: وكفى بالفارسي حجة ثبتاً؛ مع أننا رأينا أنه طالع كتب اللغة فلم يعثر على مثال ثالث على فعلى، فيكون وجده بعد بحثه الأول عنه.
الثاني: قال الجوهري: العِمقي، بكسر العين، شجر بالحجاز وتهامة. كذا يرى في النسخة المطبوعة في بولاق. وفي أربع نسخ خطية قديمة عندنا، وإحداها منقولة عن نسخة المؤلف(503/25)
نفسه. وكلها تذكر هذه الكلمات: العمقى بالكسر شجر بالحجاز وتهامة، ولم نقل واحدة: (شجرة) فالعمقى إذا شبه جمع، أو جمع على تعبير النحاة واللغويين، فيكون واحدتها عمقاة.
الثالث: قال الفارسي: العفري جمع عفراة. وأنشد عن ابن دريد: إذا صعد الدهر إلى عفراته
(عن المخصّص 15: 187)
الرابع: جاء في لسان العرب في مادة (صحن): (الأزهري الصحِناة، بوزن فعلاة، إذا ذهبت عنها الهاء دخلها التنوين، وتجمع على الصِّحْنا (هكذا كتبت بألف قائمة) والذي في المخصص: الصِّحنى، بألف قاعدة وبطرح الهاء
الخامس: ذفرى وهي جمع ذفراة، وهي العظم الثاني خلف الأذن (المخصص 15: 189)
السادس: الشِّيْزي. قالوا: شجر تعمل منه الجفان، ولم يذكروا لها واحداً. ومنهم من قال: واحدها الشيز. والعلم عند الله.
3 - الخلاصة:
جاءت تسعة ألفاظ على (فِعلى) المكسورة الأول، وهي: الحجلى، والظربى، والمعزى، والعرقي، والعمقي، والعفري، والصحنى، والذفرى، والشيزي. ولعل هناك غيرها ونحن نجهلها. فنطلب من القراء أن يوافونا بها، ولهم منا الشكر سلفاً.
القسم الثاني - فُعَلَى
قال الشارح في رسم (أرب): (الأُرَبى) بفتح الراء والموحدة، مع ضم أوله، مقصوراً، هكذا ضبطه ابن مالك، وأبو حيَّان، وابن هشام: الداهية. أنشد الجواهري لابن أحمر:
فلما غشى ليلى وأيقنت أنها، ... هي الأربى جازت بأم حبوي
قلت: وهي كشعبى، وأرمى، ولا رابع لها.) انتهى.
قلنا: شعبى: إسم موضع.
ونزيد على ذلك أن لهن أخوات أخر منها:
وهي الرابعة: الأرنى، بهمزة فراء، فنون فألف. وهو حبّ بقل يطرح في اللبن، فيثخنه ويجبنه. ويقال للرجل: أنت كالأربى.(503/26)
والخامسة: وهي أدمى، بهمزة ودال مهملة فلام فألف وهو موضع. وقيل: الأدمى، حجارة في الأرض بنى قشير.
والسادسة: جنفى وهي اسم موضع، بجيم فنون ففاء فألف
والسابعة: الجعبى وهي بجيم وعين مهملة فباء موحدة تحتية فألف، وجمعها الجعب والجعبات، وهي عظام النمل اللائي يعضضن، ولها أفواه واسعة.
والثامنة: تومي، بتاء مثناة فواو فميم فألف. قال المجد في قاموسه: وتومي كأربي. موضع في الجزيرة وذكره ياقوت بصورة توما بالتحريك: موضع بالجزيرة. عن نصر. اهـ فيجوز لك أن تختار إحدى اللغتين، لأن كلا من المجد وياقوت حجة ثبت.
والتاسعة: بشرى، وهي على ما في ياقوت كبشرى لكني سمعتها من شيخي الجليل السيد الألوسي كأربي، وترى مضبوطة في القاموس.
والعاشرة، تلّ بوني بباء مضمومة فواو مفتوحة فنون مفتوحة فألف. وسمعتها من شيخي الألوسي كأربي. أما الشارح فقد قال: تل بوني كشورى قرية بالكوفة. هكذا في النسخ، والصواب فيه بُوَنَّا، بضم الباء وفتح الواو وتشديد النون، كما ضبطه نصر رحمه الله تعالى، وهي ناحية بسواد العراق قريب الكوفة) اهـ. وفي ياقوت: (تل بونّا بفتحتين وتشديد النون، من قرى الكوفة. قال مالك بن أسماء الفزاري:
حبذا ليلتي بتل بَوَنَّا ... حيث نُسقَىِ شرابنا ونُغنَّى
ومررنا بنسوةٍ عطراتٍ ... وسماع وَقَرّقف فنزلنا
حيثما دارت الزجاجة درنا ... يحسب الجاهلون أنَّا جُنِنَّا
حدثنا ابن كناسة أن عمر لما لقى مالكاً، استنشده شيئاً من شعره، فأنشده. فقال له عمر: ما أحسن شعرك لولا أسمع قرى تذكرها فيه فقال: مثل ماذا؟. قال: مثل قولك:
أَشهِدتِني أم كنت غائبة ... في ليلتي بحديثهِ القسِبِ
ومثل قولك:
حبذا ليلتي بتلّ بَوَنَّا ... حيث نُسقى شرابنا ونُغنَّي
فقال مالك: هي قرى البلد الذي أنا فيه، وهي مثل ما تذكره أنت في شعرك من أرض بلادك. قال: مثل ماذا؟ فقال: مثل قولك هذا:(503/27)
ما على الرَّبْع بالبُلِيَّيْن لو ... بَيّن رجع السلام أو لو أجابا
فأمسك ابن أبي ربيعة) اهـ
فهذه أربع روايات مختلفة: رواية الألوسي، وهي رواية صحيحة. والألوسي من أبناء هذه الديار، وصاحب الدار أدرى بما فيها. ورواية القاموس ولا بد من أنه سمعها من أحد شيوخه، أو أصابها في كتب من تقدمه، أو ربما كانت الرواية الشائعة في عصره. ورواية نصر وهو حجة في ذكر أسماء المدن والبلدان والمواضع. ورواية ياقوت، وياقوت معروف بصدق النقل لأسماء المواضع والأمكنة
أما نحن فلا نكذب أحداً من هؤلاء النقلة، لأنهم كلهم رواة ثقات، وحجج أثبات. فالأخذ برواياتهم من أحسن الوسائل للاحتفاظ بما نقلوه إلينا، والاعتماد عليهم
الخلاصة
لنا من الألفاظ الواردة على فُعَلى، بضم ففتحتين، فألف مقصورة عشرة ألفاظ على أقل تقدير - لا ثلاثة كما قالوا - أو كما قال صاحب تاج العروس، ولعل هناك ضعف هذا العدد ونحن نجهله، ويذكره لنا غيرنا من المتتبعين لدقائق العربية
القسم الثالث - تفاعيل
قال السيد مرتضى عبادة (ب ش ر): (التباشير وليس له نظير إلا ثلاثة أحرف. تعاشيب الأرض، وتعاجيب الدهر، وتفاطير النبات والشباب)
قلنا: وهناك خامس وهو التناشير بتاء مثناة فوقية، فنون، فألف، فشين مثلثة: فياء مثناة تحتية، فراء وهي كتابة لغلمان الكتاب بلا واحد (القاموس)
وسادس وهو النفاطير، بنون موحدة، فوقية، ففاء فألف فطاء فياء مثناة تحتية، فراء
قال اللحياني: يقال في الأرض نفاطير من عشب، أي نبذ متفرقة لا واحد لها
وسابع، وهو تصريف الدهر، بتاء مثناة فوقية فصاد، فألف، فراء فياء مثناة تحتية، ففاء
وثامن وهو تخاليف الأمور، بتاء مثناة فوقية، وخاء، وألف، ولام وياء مثناة تحتية، وفي الآخر فاء
وتاسع وهو التباريح. فال في التاج في (ب ر ح): (به تباريح الشوق، أي توهجه.(503/28)
والتباريح: الشدائد. وقيل: هي كلف المعيشة في مشقة. قال شيخنا: وهو من الجموع التي لا مفرد لها. وقيل: تبريح. واستعمله المحدثون، وليس بثبت) انتهى
وعاشر هو التباكير. قال الشارج في (بشر): (التباشير) ألوان النخيل أول ما يرطب، وهو التباكير) انتهى. أي بتاء مثناة فوقية، وباء موحدة تحتية، فألف، فكاف، فباء مثناة تحتية، فراء في الآخر
وحادي عشر وهو التعانيق، بتاء مثناة فوقية، يليها عين مهملة، فألف، فنون مكسورة فياء مثناة تحتية وفي الآخر قاف وهو موضع في شق العالية. قال زهير:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... واقفر من سلمى التعانيق والثقل
(عن ياقوت في 854: 1 من طبعة أوربية)
وثاني عشر وهو بالتاء المثناة واللام فالألف فالفاء فالياء المثناة التحتية وفي الآخر الفاء
قال في تاج العروس في رسم (لفف). يقال: هذا تلافيف من عشب أي نبات ملتف لا واحد له)
الخلاصة
هذه اثنا عشر حرفاً على وزن تفاعيل لا واحد لها. وقد قالوا لأنها أربعة لا أكثر. ونحن لا ندعي بأننا ذكرنا كل ما ورد في اللغة، بل بعض ما حضرنا حين كتابة هذه الكلمة وهناك ما يضاعف هذا العدد موارد كثيرة.
(للمقال بقية)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(503/29)
البريد الأدبي
حول جامعة الإسكندرية
نشرت جريدة الأهرام بتاريخ 7 فبراير سنة 1943 مقالاً للأستاذ منصور جاب الله تحت عنوان (يوم الإسكندرية)، وقد عرج فيه الكاتب على مكتبة الإسكندرية قائلاً:
(إن ثلاثة عشر قرناُ تتجرم بعد احتراق مكتبة الإسكندرية لحقبة جد طويلة، فاليوم يرأب الصداع، ويرد إلى المدينة الخالدة اعتبارها العلمي وتعاود مكانتها الثقافية)، والذي يسوق هذه العبارة في مقاله الجليّ يؤمن برأي من نسب حريق مكتبة الإسكندرية على يد عمرو بن العاص
وقد ناقش هذا الخبر كثير من علماء الإفرنج مثل (بطلر) و (جوستاف ليبون) وغيرهم فلم يمكنهم الجزم بأن عمرو ابن العاص هو الذي أحرقها حقيقة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب كما زعم بعضهم، بل ولم يؤيد هذه الدعوى أحد من المؤرخين المعاصرين للفتح الإسلامي، مثل (أوتيخوس) الذي وصف فتح الإسكندرية بإسهاب
وأما ما نسبه أبو الفرج الملطي في كتابه (مختصر الدول) عن حريق المكتبة على يد عمرو بن العاص، فقد فنده كل من (بطلر) و (سديو) و (جوستاف ليبون) وغيرهم. والغريب أن هذه الرواية يذكرها رجل من أطراف بلاد الفرس بعد فتح الإسكندرية بنحو ستمائة سنة، ولم يتعرض لها المؤرخ المسيحي البطريق (أوتيخوس) الذي قلنا إنه أسهب في فتح الإسكندرية. على أن تعاليم الدين الإسلامي تخالف هذه الرواية؛ إذ ترمي إلى عدم التعرض للكتب الدينية اليهودية والمسيحية المأخوذة في الحرب ولا يجوز حرقها - أما كتب الفلسفة والطب والتاريخ والشعر وسواها من العلوم غير الدينية، فإنه يجوز للمسلمين الانتفاع بها
والمعروف أن هذه المكتبة لم تكن موجودة إبان الفتح الإسلامي اللهم إلا بقايا من جدران حوائطها
والصحيح الذي لا مرية فيه: أن المكتبة حرقت مرتين: المرة الأولى تم فيها حرق القسم الأكبر منها على يد جنود (يوليوس قيصر) سنة 47 ق. م وأما القسم الثاني من المكتبة فقد تم حرقه في عهد القيصر (طيودوس) سنة 391 م بأمر الأسقف (نيتوفيل) بواسطة جماعة(503/30)
من المتعصبين للنصرانية. والدليل القاطع أيضاً على عدم وجود المكتبة حتى قبيل الفتح الإسلامي ما ذكره المؤرخ (أورازيوس) عن زيارته للإسكندرية قبل سنة 414م، إذ قال: (إنه وجد رفوف المكتبة خالية من الكتب)
على أن العرب لم يدخلوا الإسكندرية إلا بعد استيلائهم عليها بأحد عشر شهراً - وقد ذكر في عهد الصلح الذي أبرم بين عمرو بن العاص والمقوقس: أنه يجوز للروم أن يحملوا إلى بلادهم كل أمتعتهم. وفي غضون هذه المدة كان البحر مفتوحاً ولم تكن أمامهم صعوبات تعوقهم عن حمل كتب المكتبة إلى بلادهم إذا كانت موجودة؛ وهذا ينهض دليلاً آخر على عدم وجود المكتبة إبان الفتح الإسلامي.
عبد العظيم أحمد هيبة
1 - موقف مجلة الأزهر من النبوة والعبقرية
كتبت مجلة الأزهر في جزء المحرم سنة 1362 مقالاً في ذكرى الهجرة، فرقت فيه بين النبوة والعبقرية، فذكرت أن النبوة روح إلهية تتجلى معها قوة الحق في أروع مظاهرها، فتؤيد القائمين بها خرقاً للسنن الثابتة، ونقضاً للعادات المقررة، فيدرك الناس أنهم إزاء إرادة إلهية لا يقف في طريقها حائل، ولا تثبت في مقاومتها القوة. أما العبقرية فهي هبة ليس للقوة العقلية أثر في إيجادها، تعجز عن مجرد حمل الناس على تقدير ما تأتي به، حتى إن أكثر العباقرة عاشوا غير مقدرين، ولم يفهم الناس جلالة ما أتوا به بعد أن ماتوا بعدة قرون، ثم بنت على هذا أن نجاح الدعوة الإسلامية لم يكن فيه أي أثر للعبقرية، وإنما كان معجزة عظيمة جعلها الله دليلاً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومجلة الأزهر تقصد بهذا أن تهدم الأساس الذي قام عليه كتاب عبقرية محمد للأستاذ العقاد، مع أن هذا الأساس لا شئ فيه من جهة الدين، وقد بنيت عليه قبل ظهور ذلك الكتاب مقالاتي في السياسة الأسبوعية - أثر السياسة النبوية في نجاح الدعوة الإسلامية - فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مع الوحي مجال فسيح يعمل فيه كانسان، فيجتهد في بعض أحكام الدين، وينظر في أمور الدنيا، ويبحث ما يعرض له من مسائل السلم والحرب، وقد أظهر في ذلك المجال براعة عظيمة تشهد له بكمال العبقرية، ومع هذا كان(503/31)
يدركه فيه ما يدرك كل إنسان، فيلفته الله إليه، ويهديه إلى ما ينبغي أن يعمل فيه، وكل هذا جاء به القرآن الكريم، وتشهد به كتب السيرة والأصول. ولعل مجلة الأزهر تتوهم أن التسليم بهذا قد يجر إلى التسليم بأن ذلك النجاح كان للعبقرية وحدها، كما يزعمه بعض أعداء الإسلام، ومثل هذا التوهم الخاطئ هو العقبة الآن في سبيل كل إصلاح.
عبد المتعال الصعيدي
2 - إصلاح تحريف في آية قرآنية
جاء في مقالي الأخير من مقالات (الحضارات القديمة في القرآن الكريم) هذه الآية: (بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم) والصواب الرحيم بدل الحكيم.
ع. ا
بين الرجولة والرجولية
يسأل الأديب (علي محمود الشيخ) في العدد (500) من
الرسالة، عن نحو (الرجولة والرجولية) الواردين في كتب
اللغة، هل معناهما واحد كما يقول بعض الناس؟ أو الثاني
مصدر صناعي كما يقول آخرون؟
وأجيب: أنهما مختلفان، فالرجولة مصدر سماعي لا فعل له، ومعناه ضد الأنوثة، ومثله الرُّجلة
و (الرجولية وكذا الرُّجلية) كل منهما سماعي صناعي بزيادة ياء النسبة (الأول من الرجولة، والثاني من الرُّجلة) وهما يزيدان زيادة على المصدر العام كما هذه الصفة في الشخص المحدث عنه، والمعاني اللازمة لهذا الكمال، مثل الشجاعة والإقدام وإباء الضيم
والطفولة خلاف الرجولة و (الطفولية) تدل على هذا المعنى ولوازمه، من العجز المطلق عن أعباء الحياة، واستدرار العطف والشفقة
والعروبة ضد العجمة؛ و (العروبية) تزيد على هذا الدلالة على شمائل العربي وخصائصه.(503/32)
ومثل ما ذكر يقال في الرهبة و (الرهبانية)، والفروسة و (الفروسية)، والألوهة و (والألوهية)، والربوبة و (الربوبية)، والجاهل و (الجاهلية) والخنزوان (الكبر) (والخنزوانية) والأريح و (الأريحية) (الارتياح للندى). وكلها مصادر مسموعة عن العرب.
أما أن علماء اللغة لم يذكروا فارقاً بين الرجولة مثلاً فلأنهم إنما يعنون ببيان المعاني الوضعية للألفاظ، وأما المعاني اللازمية فلم يتصدوا لذكرها، لأنها وظيفة علماء المعقول، كالمناطقة والحكماء.
ثم إن تحميل المصادر الصناعية العربية للمعاني التي ذكرناها جاء قبل زيادة العرب الياء المشدودة، التي هي في الأصل للنسبة، ثم تنوسيت النسبة وأريد من اللفظ المعنى المصدري مع لوازمه، وألحقوا به التاء رعاية لأنه في الأصل صفة لموصوف مؤنث كالحال مثلاً
وكان هذا النوع من المصادر يسمى عند قدماء النحاة (بالنظائر) وهي ما جرى على وجه النسب، قاله ابن سيدة في المخصص
ونظراً لقلتها في اللغة، إبان العصر الجاهلي وصدر الإسلام، ولوجود ياء النسبة فيها لم يلحقها الأقدمون بالمصادر العامة، بل سموها باسم خاص. لكن تلك التسمية لم تشهر بين العلماء إذ ذاك فسماها بعضهم (بالمصادر الصناعية)، وذاعت هذه التسمية إلى عصرنا هذا. وقد أولع المحدثون وبخاصة علماء المنطق بصوغ هذه المصادر من أسماء الأعيان وغيرها، فقالوا: الحيوانية والإنسانية والناطقية والجسمية والحجرية، والإسمية والحرفية، والفاعلية والمفعولية والعلمية؛ وقالوا: الكيفية والكمية والماهية
فالمصدر الصناعي بمعنى المصنوع على وزان ما صنعه العرب من هذا النوع، فهو كقولهم: المصدر القياسي بمعنى المقيس، والمصدر السماعي بمعنى المسموع. وهي تسمية اصطلاحية حديثة وإن كان جنس مسماها عربياً قديماً. هذا وإن شئت إيضاح أكثر، أن تراجع الكلمة القيمة التي كتبها المغفور له الأستاذ الشيخ (أحمد الأسكندري) في مجلة (مجمع اللغة العربية الملكي) (ص 211 - 215 ج 1): احتجاجاً لقرار المجمع قياسية المصدر الصناعي، ففيها الغني لمن طلب المزيد، والله الهادي إلى سواء السبيل
عبد الحميد عنتر(503/33)
أستاذ بكلية اللغة العربية
هل يتسع القلب لأكثر من حب واحد؟
كنت أطالع في مجلة الاثنين عدد 451 فلفت نظري رأي الدكتور زكي مبارك عند ما سئل هل يتسع القلب لأكثر من حب واحد؟
قال إني أصبحت أعتقد بعد تجارب أن القلب جارحة من الجوارح كالعين مثلاً؛ وهذا ما أعتقده أما أيضاً (والأغلبية من الناس). غير أنه قال: كما أن العين تقدر أن ترى ملايين من المرئيات، كذلك القلب يقدر أن يحب مليون مرة. وهذا لا أوافق عليه، فإن الحب شئ روحاني والمرئيات أجسام ملموسة غير روحانية. الحب مرض نفساني (مرض القلب)، فلو أن العين أصيبت بسهم وأدميت فإنها لا تستطيع أن ترى أكثر، وكذلك القلب، فإذا أصيب بسهم الحب مثلاً فإنه يمرض، وإذا مرض فلا يستطيع أن يحب أكثر. وكم من قلوب أصيبت بسهم الحب! قال عمر بن أبي ربيعة:
راميات بأسهم ريشها الهدب ... تشق القلوب قبل الجلود
(فلسطين)
جورج شاريكاس
سرقة شعرية
كان يوم 9 فبراير موسماً حافلاً بكلية الآداب؛ فلقد غص مدرجها بمختلف الطبقات من أساتذة وطلاب ومدعوين، خفوا للاحتفال بذكرى مولد جلالة الملك - أعزه الله - وتلك سنة درجت عليها الكلية كما قال الدكتور حسن إبراهيم في كلمته التي افتتح بها الحفل - وكان جميلاً أن نرى ونسمع ألواناً جديدة من المظاهر التي عبرت عن اتجاهات الفن في العصور الحديثة ونال معظمها إعجاب النظارة - غير أنه استدعى انتباهي شئ واحد قصدته في هذه الكلمة - ذلك هو قصيدة الشاعر (رجاء العربي) الطالب بكلية الآداب ومطلعها:
صدت على فنٍ طيور الوادي ... يا حسن ما صدح الحمام الشادي(503/34)
وهي جميلة حقاً حتى استعيدت اكثر أبياتها مما دل على حسن وقعها، ولكنه خيل إلى عند ما سمعتها أنني أستعرض ماضياً وقع؛ وقد كان ذلك حقاً!
فالقصيدة لشاعر معاصر هو الأستاذ محمد عمر - قالها بمناسبة عيد ميلاد جلالة الملك (فؤاد) طيب الله ثراه وعنوانها: (آية الولاء)، والقصيدة بين يدي كما سمعتها من شاعرنا الجامعي بتحوير استدعته المناسبة
فإلى من سمعوا هذه القصيدة أسوق ذلك التصحيح خالصاً لوجه الحق.
عبد الغني جمعة
رابطة العروبة
(تكونت بجامعة فاروق الأول جماعة باسم (رابطة العروبة لطلبة جامعة فاروق الأول) تضم طلبة مختلف كليات تلك الجامعة المهتمين بقضية الوحدة العربية، والراغبين في العمل في سبيلها، وبث الدعوة إليها.
وغرض الرابطة الأساسي العمل بكافة الوسائل الممكنة وخاصة الثقافية منها على تحقيق الوحدة العربية، ونشر الدعوة إليها، ولتحقيق ذلك ستتذرع الرابطة بوسائل منها:
1 - تنظيم محاضرات ومناظرات تتناول الشؤون العربية الهامة.
2 - تقوية الصلات الأخوية والثقافية بين الطلبة المصريين وإخوانهم في البلاد العربية الأخرى بتنظيم المراسلات بينهم، وغير ذلك.
3 - الدعوة إلى مؤتمرات تضم طلبة الجامعات العربية المختلفة للنظر فيما يهمهم من توحيد الأحوال الثقافية في البلاد العربية وفي غير ذلك مما يمس قضية الوحدة العربية. وغير هذه من الوسائل المؤدية إلى تحقيق غرض الرابطة الأساسي.
والدعوة موجهة إلى طلبة جامعة فاروق - وهم من شباب هذه الأمة الذين عليهم تعتمد في بناء مستقبلها - إلى الدخول في هذه الرابطة التي ستباشر نشاطها قريباً إن شاء الله.)
جمال أحمد بدر
القائم بأعمال الرابطة(503/35)
العدد 504 - بتاريخ: 01 - 03 - 1943(/)
رسالة الأديب
للدكتور زكي مبارك
رسالة الأديب - كلام قد ينفع - الخلوة إلى القلب
في أحد الأعداد الأخيرة من مجلة الجمهور البيروتية كتب الأستاذ اليأس أبو شبكة كلمة في السؤال عما ترك شوقي وجبران من التوجيهات النافعة في السياسة القومية، وهو ينتظر أن يجود الجيل الجديد بأدباء قادرين على خلق تلك التوجيهات. وفي العدد الأخير من مجلة المصور القاهرية كتب الأستاذ فكري اباظة يقول إن قصيدة ستالينجراد للشاعر علي محمود هزته هزاً، وهو يرجو أن يعود الشعراء المصريون إلى التغني بالقومية والوطنية، ولا سيما العقاد ومطران
وأقول: أن من رسالة الأديب أن يتجه إلى آمال وطنه من حين إلى حين، أو في كل حين، وفقاً لما يجيش بصدره من نوازع وميول، ولكن من العقوق للأديب أن نجحد فضله إذا لم يجعل الآمال الوطنية في جميع الأحايين
والقول الفصل في هذه القضية إن رسالة الأديب هي خلق ذوق الحياة، فمن الواجب إن تتجه مراميه جميعاً إلى ذلك الخلق في أي صورة، وعلى أي شكل. وقد قلت مرات: إن الأديب الحق هو الذي يستطيع بقلمه أن ينقلك من ضلال إلى هدى أو من هدى إلى ضلال. والمهم عندي إن يقدر الأديب على خلق الفتن الروحية والذوقية والعقلية، بحيث تخرج من صحبته بمحصول جديد من القلق أو الاطمئنان. ولو كانت غاية الأديب إن يرسم لنا خطط المستقبل لوجب أن نترك الشعراء القدماء، لان أدبهم يعجز عن توجيه الجيل الجديد، ولأنه من هذه الناحية أعجز من أدب شوقي وأدب جبران
أشعار المعري لا تنفع القومية بشيء، القومية في مدلولها الحديث، ولو شئت لقلت إنها كانت أذًى على قومية ذلك الزمان، لأن منحاها يتجه إلى الهدم لا إلى البناء، ولكن قراءة أشعار المعري تنفع في تقوية الذاتية، وتروض القارئ على الاعتداد بالنفس، وتثيره على الرياء الاجتماعي. وثمرات هذا الأدب الذي يرينا كيف نواجه مشكلات العصر الجديد
رسالة الأديب هي خلق ذوق الحياة، أو هي نصر الحياة على الموت، والقليل من هذه الرسالة في هذا الاتجاه يصنع الأعاجيب في إحياء الممالك والشعوب(504/1)
كلام قد ينفع
صديقي. . .
لم يبق بدمن توجيه نظرك إلى أشياء خفيت عليك عدداً من السنين، واستوجبت أن أزهد في لقائك، برغم ما بيني وبينك من وداد عجزت عن محوه الأيام. هي أشياء تملني منك، فتصرفني عنك، وتجعل محضرك اثقل من الحديث المعاد
أنت يا صديقي مغرم بالسؤال عما لا يعنيك من شؤون الناس، ولا سيما الموظفين، كأنك تتوهم أن أعمالي تنحصر في استقصاء الدقائق والخفايا من أحوال الزملاء، وكان الحياة عندي وعندك قيل وقال، وبحث وسؤال، مع أنك تعرف جيداً أني لم أسألك يوماً عن شأن من شؤونك، الا أن تتلطف أنت فتستشيرني في بعض المعضلات من أحوال دنياك، ثم تكون النتيجة أن أنسى ما أفضيت به إلي بعد لحظات قصار أو طوال
يجب أن تكون شواغلنا الحقيقية مقصورة على ما ينفع، ولا نفع في استقصاء أحوال الناس، الا في حدود المتصلة بالمعملات، ثم يمضي كل إلى سبيله المرسوم في طلب الرزق أو المجد، بلا التفات إلى الفضول الذي لا يتشهاه غير صغار العقول
ومن أثقل ما يضجرني منك حرصك في كل لقاء على تذكيري بالتقصير في حق نفسي من الوجهة الدنيوية، وأنا أبغض من يبصرني بأمور دنياي، لأني رسمت لحياتي كلها خطة لا أحيد عنها في أي وقت، وهي الظفر بأكبر نصيب من أنصبة الفكر والرأي. وهذا هو السبب في أن تكون أوقاتي كلها مشغولة برياضيات ذهنية وعقلية وروحية، وهو أيضاً السبب في طول الخلوة إلى القلم، بحيث لا يمضي يوم يجوز نعته بالفراغ، ولو كان من أيام الأعياد
والغريب أنك لا تساجلني فيما أكتب، ولا تحاول تنبيهي إلى ما يغيب عني، وإنما تسأل دائماً عما ساجني من الأدب، وتحاول بالتصريح أو التلميح أن تفهمني أن كل شيء ما خلا المال ضياع في ضياع!
وأنا لا ازهد في المال ولا أدعو إلى الزهد فيه، ولكني أفهم أن الغني بالنسبة إلى أهل العلم والأدب غني محدود، وينبغي أن يظل كذلك، لتبقى لأهل العلم والأدب أشواق إلى المعاني، وليتحرروا من أسر الغنى الفضفاض، فله شواغل تحد من وثبات العقول، وسبحات(504/2)
الأرواح، وخطرات القلوب
ليس لي بصديق من يختار لي غير ما اخترت لنفسي، وأنت تخذلني تخذيلاً فضيعاً كلما لقيتني، لأنك تحاول تهوين نعمة الله في قلبي، وأنا اعتقد أني من الله عليهم بنعمة التوفيق، فله الحمد وعليه الثناء
أتريد الحق؟
الحق أنك تحاول الدفاع عن كسلك بأسلوب ملفوف، فأنت تهون من شأن الجهاد الأدبي بحجة أنه قليل الربح، وتلك حجة واهية، فللجهاد الأدبي أرباح أيسرها الشعور بقيمة الجهاد، ولو كان لي أمل في تقويمك لذكرتك للمرة الأولى بعد آلاف بأن حياتك صارت غاية في الهزال، وأنك لا تستحق اللقمة التي تاكل، ولا الخرقة التي تلبس، وما أنفقه أهلك وأنفقته الدولة في تعليمك وتثقيفك قد ضاع إلى آخر الزمان
عندك ألقاب علمية، وبيدك وظيفة رسمية، ولكنك على نفسك وعلى الوطن بلاء
كيف يجوز أن تمر أيام وأسابيع وشهور وأعوام ولا تقرأ لك بحثاً جيداً أو غير جيد، ولا نسمع من أخبارك غير البراعة في تسقط أخبار الناس، ولا نلقاك الا في القهوة أن أردنا أن نلقاك، ولا نأخذ عنك غير المعلومات السخيفة عن الدرجات والترقيات؟ وكيف يكون كل همك أن تسألني عما بيني وبين الرؤساء من صلات، ولا يخطر في بالك أن تسألني عما بيني وبين الله من صلات؟
وتعيب علي أن اقضي أيامي في نضال وصيال، فما الذي غنمت أنت من قضاء دهرك في التلطيف والتظرف، بمصانعة هذا ومجاملة ذاك؟
ما تذكرت ماضيك إلا تحسرت وتفجعت، فقد كنت فتى مرجو المخايل، وكان جهادك في طلب العلم مضرب الأمثال، فكيف وقع حجر الخمود فوق رأسك فشطره شطرين، شطراً للنميمة وشطراً للاغتياب؟
وأنا مع هذا أحبك وأحفظ عهدك، ولكن كيف أتقي شرك، يا شرير؟
أن لقاءك يؤذيني أعنف الإيذاء، لأنه يربيني في العدل، فما يجوز لمن يكون في مثل حالك من تعطيل مواهبه الأساسية أن يجد القوت
ارتع والعب، فأن الرزق لا يفوت السوائم المهملات!(504/3)
صديقي
لا تفكر في لقائي بعد اليوم، الا أن تغير ما بنفسك، فترجع فتى كالذي عهدت، فتى يعتمد على الله لا على الناس، ويؤمن بأن الله لا يرفع أحدا بغير حق، لأنه يضع الموازين في جميع الشؤون، بحيث يمكن القول بأن المصادفة لا يمكن لها في الوجود
أتراني ألقاك مع الرجاء لا مع الخوف؟
أنا أخاف من لقائك لأنك تخذلني وتعوقني، أيها العالم الجبان!
لطف الله بي وبك، وهداني وهداك!
الخلوة إلى القلب
لا أدري كيف صرت إلى ما صرت إليه من الزهد في لقاء الناس، أو لعلني ادري، فقد صرت لا أفكر ففي لقاء صاحب أو صديق الا إذا وثقت بأن لقاءه يوحي إلى القلب أشياء
وهل يتسع الوقت لمسامرة من لا يوحون بشيْ؟
أن الحياة أقصر من أن نضيعها في مصاحبة الموسومين بالغباوة والجهل
الصديق الذي أجالسه فيثير في نفسي الشوق إلى امتشاق القلم لتدوين بعض المعاني هو الصديق، وأنا أرحب بلقائه في كل حين
والأصل في الصديق أن يكون على مثال القلب، فتحاوره كما تحاور قلبك ولا احتراس، عندئذ يتفتح القلب عن مكنونات يبدعها الحوار اللطيف
ومن أدبي في حياتي أن أحرص أشد الحرص على أصدقائي، وأن أتعصب لهم بحق وبغير حق، وأن أنتهز الفرص للحديث عنهم ولوفي صورة الملام، وكان ذلك لأني أومن بأن من حق من وثقوا بنا فصادقونا أن نبذل في البر بهم ما نملك من كلمة الخير، وهي كلمة لا يضن بها غير المفطورين على الشح اللئيم
والخلوة إلى القلب، أو إلى الصديق الذي بمنزلة القلب، هي فرصة الوحي الأدبي، وهذه الخلوة كانت السبب الأصيل في تفوق الأدباء القدماء
وهل ننسى أن الأنبياء لم يتلقوا الوحي الا في أعقاب الخلوات إلى القلوب؟
أقول هذا لأشرح السبب في قلة الشعر بجميع البلاد في هذا العهد، فالشعر لا يكون الا بالغناء، ولا يتيسر الغناء مع الضجيج(504/4)
أن أحلام القلوب لا تجمع بسهولة، وكيف وهي في شرود الأوابد؟ أن القلب أعماقاً أبعد غوراً من أعماق المحيط، وستكتشف جميع المجاهيل قبل أن تكتشف سرائر القلوب
يجب على الكاتب أن يخلوا إلى قلبه لحظات من كل يوم، عساه يعرف بعض الملامح من سريرة القلب والروح
لا يفرح برؤية الناس والأنهار والبحار والمزارع والبساتين إلا من يعجز عن رؤية الخلائق فوق ساحة القلب
فمتى نكون من أرباب القلوب؟
متى؟ ثم متى؟
أن انتظارنا سيطول!
زكي مبارك(504/5)
من أيام الفتوح
من مؤتة إلى اليرموك
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
في العام الثالث بعد الستمائة من الميلاد، وذلكم قبل بعثة الرسول بست سنين، اشتعلت الحرب بين الروم والفرس. وهي حلقة من سلسة طويلة من الحروب بدئت منذ ظهر الرومان في غرب آسيا، واستمرت بين الرومان والأشكانيين، ثم ورثها الساسانيون والبيزنطيون حتى شغلت من التاريخ سبعة قرون بين الاشتعال والخمود، وهذه الحلقات الأخيرة التي سبقت البعثة واستمرت بعد الهجرة سبع سنين قد اهتم بها العرب ونزلت فيها آية من القرآن: (غُلبت الرومُ في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيَغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم). انتصر الفرس في عهد كسرى برويز على الروم زهاء عشين سنة متوالية فسلبوهم كل ما ملكو في آسيا، وفتحوا بيت المقدس وأخذوا الصليب الكبير، ثم غلبوهم على مصر. وظهرت جيوش الفرس على أبواب القسطنطينية مرات. وظن الناس أن الروم لا تقوم لهم قائمة
ثم أجمع الروم أمرهم، وقادهم هرقل من ظفر إلى ظفر خمس سنين أتت على كل ما ناله الفرس في الحروب المتمادية. وخلع كسرى برويز بعد أن أخرجته الهزائم من دار ملكه ومات ذليلاً حزيناً، وخلفه ابنه قباد الثاني فصالح هرقل على أن يرد على الروم كل ما سلبوه في آسيا ومصر وأن يرد الصليب المقدس. وسار هرقل في أعظم مواكبه إلى بيت المقدس ليضع الصليب موضعه في ديسمبر سنة 629 م. وبلغ هرقل من العزة والهيبة والصيت ما بلغ
- 2 -
في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة بعد غزوة خيبر بشهرين وجه رسول الله، ثلاثة آلاف من أصحابه إلى الشام، وجعل القيادة لزيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي(504/6)
طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. وكان هذا إيذاناً ببعد الشقة، وجسامة المطلب، وعظيم الخطر
لماذا سير الرسول صلوات الله عليه جيشاً لحرب الروم في أرض بعيدة؟ يقول المؤرخون أن الغسانيين قتلوا رسوله إلى أمير بصرى؛ ولكن أحسب الأمر أوسع من هذا فقد أراد المسلمون أن يرهبوا الطامعين موقف القبائل العربية الضاربة في سلطان الروم من المسلمون: أحرب هم أم سلم.
سار المسلمون إلى معان فإذا هرقل الذي حالفه الظفر خمس سنين حتى رد إلى سلطان الروم ما أخذه الفرس وزلزل سلطان كسرى في ديار كسرى - قد جمع في مآب جموعاً حاشدة من الروم والعرب - وتشاور المسلمون وهموا بأن يكتبوا إلى الرسول ولكن ابن رواحة قال: (يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له؛ خرجتم تطلبون الشهادة؛ وما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة، ولا كثرة. ما نقاتلهم الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة).
التقى الجمعان عند مؤتة وهي قرية في البلقاء التي تسمى اليوم شرق الأردن، إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر الميت.
واستعرت الحرب وقاتل زيد بالراية حتى قتل، وتقدم جعفر للشهادة فقاتل حتى نالها. وتلاه ابن رواحة فقتل. فاجتمع الناس على القائد المحنك المظفر خالد بن الوليد فقاتل كما يقاتل خالد حتى تراجع بالجيش الصغير فأنقذه من الجموع المطبقة عليه فعل القائد الحازم لا يهلك جيشه في معركة خاسرة.
ثم شغل المسلمون بفتح مكة وما تلاه من الأحداث. وبعد سنة من موقعة مؤتة دعا الرسول إلى غزو الروم (في زمن عسرة من الحر، وجدب من البلاء) زمن تدعو فيه إلى الحرب إلى ضرورة لا مناص منها. وعلم الناس أنهم يدعون لغزو الروم، غزو بني الأصفر وهم يعلمون من سلطانهم وقوتهم وانتصارهم على الفرس ما يملؤهم هيبة. حتى قال بعض المنافقين: (أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؛ والله لكأني غداً مقربين في الحبال)
سار الجيش إلى تبوك، وكانت على حدود البلاد الخاضعة لسلطان الروم في الشمال؛ فأقام بضع عشرة ليلة وصالح الرسول صلوات الله عليه أهل دومة الجندل وأيلي وجربار(504/7)
وأزرح.
ورجع المسلمون وقد صالحوا من صالحوا وأرهبوا القبائل الضاربة في الشمال، وأعلموا الروم أنهم غير عاجزين عن الجمع والسير للقتال. وكانت غزوة ذات أثر في تمكين هيبة المسلمين في القبائل الشمالية، ومحو ما أصاب المجاهدين في مؤتة، والتمهيد لإقامة سلطان الإسلام في تلك الأرجاء
- 4 -
ثم أعد الرسول جيشاً للمسير إلى البلقاء حيث ترتجع المسلمون في غزوة مؤتة وجعل عليه أسامة بن زيد أول قائد للمسلمين في تلك الغزوة وتوفي الرسول واشتعلت الفتنة في الجزيرة وسأل الناس أبا بكر أن يبقى الجيش ليلقى المدينة غارات القبائل المرتدة ولكن خليفة رسول أصر الإصرار كله على أن ينفذ الجيش الذي أمده رسول الله. فسار الجيش إلى حيث أمر الرسول فغنم وسلم. وذلكم في السنة الحادية عشرة. وهو تدبير عظيم لم يلقه الروم ومن والاهم من العرب بكفاية من الاهتمام والتفكير
- 5 -
وبعد سنة وأشهر من رجوع جيش أسامة - وذلكم أوائل السنة الثالثة عشرة عزم المسلمون على فتح الشام وسير أبو بكر جيوشاً أربعة لهذا الفتح. وتتابعت الوقائع إلى الموقعة الحاطمة موقعة اليرموك التي جعلت هرقل يودع الشام وداعاً لا لقاء بعده. وقد أدار هذه الموقعة الفاصلة خالد بن الوليد، القائد الذي شهد مؤتة وأنحاز بجيشه فخلصه من براثن الموت. ولولا ضيق المجال لفصلت القول وسردت الحوادث مبيناً عن الصلات الجامعة، والقرابة الواشجة، بين هذه الأحداث. تلكم صور متفرقة في كتب التاريخ، شتيتة في رأى مطالعيه؛ ولكنها في الحق أوجه حقيقة واحدة، أو أمواج من بحر واحد، أو فصول متتابعة من كتاب: أوجه من هذا اليقين الذي ملأ قلوب العرب المسلمين، وأمواج من هذا الجهاد الذي اعتزمه العرب المسلمون، وفصول من هذا المجد الذمي سطره العرب المسلمون قصة أولها خالد ينحاش بجيشه ليقيه غائلة الروم، وآخرها خالد يقدم بجيشه ليمحو سلطان الروم، ويمد سلطان المسلمين على الشام وما وراء الشام؛ وفي ثناياها حقائق من الأخلاق والسنن(504/8)
والتاريخ هي التي تجلت سريعاً فجمعت في سلطان العرب المشرق والمغرب وأن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب.
عبد الوهاب عزام(504/9)
أيها المرضى
للأستاذ راشد رستم
(إذا كان المريض يخاف المرض فأن الصحيح منه أخوف)
(الكاتب)
شفاكم الله وعافاكم
إنكم اليوم مرضى وقد كنتم أصحاء، فلا تجزعوا بل اعملوا على أن تعودوا أصحاء
إن الأصل في الحياة الصحة والعافية، أما المرض فهو حال نصيب الناس لحكمة من السماء - تصقلهم به وتهيؤهم ثم تنبهم أن يكونوا دائماً أصحاء
لا تنظروا إلى الأصحاء، بل انظروا إلى المرضى من إخوانكم؛ بل انظروا إلى أنفسكم
قد يصير الصحيح مريضاً والمريض صحيحاً، إذ لا صحيح دائماً ولا مريض دائماً
إن الأصحاء لم يكونوا دائماً (هم) الأصحاء، فهونوا على أنفسكم، ولا تضعفوها جنب ضعف أجسامكم، إذ هي التي تشفيكم وهي التي تنجيكم، وهي التي تعيدكم صحتكم الأولى
إن المرض ضعف فلا تزيدوا الضعيف ضعفاً
إن ضعف النفوس أخطر من ضعف الأجسام
وإذا تهيأ للمرء لأن تكون له نفس صحيحة قوية فلا يضعفها بأن يخضعها لحكم هذا الجسم المريض الضعيف المضطرب
تلك القوى الكامنة في النفوس إن هي إلا مدد سحري من تيار الروح العلوي ترفع عن الضعيف ضعفه، وتقوم له بما يعجز عنه دواؤه وأطباؤه
وإذا كان المريض، فإن للأصحاء هموماً وقيوداً، وإذا أفلت الزمن من يد المريض فلا يضن أن الصحيح عليه قادر
إن الزمان يقبض ولا يقبض عليه، فلا الصحيح قوي على الزمن ولا المريض ضعيف على الزمن
لا تطلبوا الشفاء إلا من الله، ثم من أنفسكم التي يجب أن تكون مع الله
أما الزائرون فلا تعتبوا(504/10)
مرضنا فما عادنا عائد ... ولا قيل أين الفتى الألمعي
لعل له عذراً وأنت تلوم. ومن الناس من لا يحب أن يجد صديقه هزيلاً، فكيف به يرضى أن يراه عليلاً!
تحولوا عن هؤلاء وعن هؤلاء، واتجهوا دائماً إلى أصدقائنا الأطباء
إن الطبيب هو الصديق الطبيعي للمريض
وإذا لم يستطع الطبيب أن يكون صديقاً للمريض فلماذا أراد أن يكون طبيباً!
ليس يكفي أن يكون الطبيب عدواً للمرض حتى يعتبر صديقاً للمريض!
يتقدم المريض إلى الطبيب وهو يود أن يكون له كل ما يريد تلك ظاهرة من ظواهر المرض لا تخفى على أحد
غير أنها قد تفوت على من لا يجب أن تفوت عليه، نعم تفوت على الطبيب، تمر عليه دون أن يقيم لها وزنا ً - هنالك يختل ميزان الإنسانية، لأنه بيد الطبيب، ولا يعود المريض، ولا غير المريض، يرى في الطبيب ذلك الهيكل القدسي الذي يقصد إليه ليلقي بالروح والجسد بين يديه. . .
ولكن المريض كالغريق، يتعلق بكل ما يرى وما يجد - إذن فيا رحمة الله اهبطي على قلب الطبيب! ويا سكينته انزلي على قلب المريض، ويا الله ألطف بهذا الإنسان، وهذا الإنسان. . .
وهكذا لن يستطع المريض أن يفر من رحمة الله، فقد وسعت رحمته كل شيء، وإلى أي النواحي اتجه، وإلى أي المؤاسين قصد، ففي رحمة الرحمن البرء والرضا والأمان
وإن لله لحكمة بين الناس في دنيا الأمراض، إذ يولد ابن آدم وليس عليه غير الصحة والعافية، حتى إذا استلمها أخذ يخضعها لأغراض في الحياة مدى الحياة، ثم يذهب وقد ذهبت عنه الصحة والعافية وأغراض الحياة. . .
وإن في المرض لآية يدرك بها المرء معنى الصحة، وإنها هي الحياة، وإنها من الله وانه لا شيء سواها، ولا أحد سواه
خذ نفسك أيها المريض بيقين الشفاء، وجسمك بصحيح العلاج، ثم اصبر فإن الله كما قضى لك بما تحب منه، يقضى عليك أن تصبر له على ما يحب فيك. . .(504/11)
وكن عبده والق القيادة لحكمه
وهو الله يمتحن الطبيب بالمريض، ليس ليعلم قدر علمه، إذ فوق كل ذي علم عليم، وإنما ليسأله الواجب الذي ارتضاه لنفسه، والمهمة التي أقسم عليها، أليس هو الذي اختار المهنة التي يعمل لها؟
إلى الأطباء إذن أيها المرضى. لا تسألوهم الشفاء، وإنما اسألوهم وسيلتهم إلى الشفاء - أن يكونوا لكم أصدقاء، بل ونعم الأصدقاء
إن الطب تخمين، والإنسانية يقين، و (الحكيم) البصير يسير بينهما وهو آمن وأمين. إذ شتان بين طالب الله وطالب من الله. . .
إن الرحمة لم ترفع بعد من الأرض إلى السماء، أيها المرضى وأيها الأصحاء. . .
فمن كان له قلب فله الرضا من كل شيء. . .
(بحيرة قارون)
راشد رستم(504/12)
الحكم الذاتي في المدرسة
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 2 -
ولنتكلم الآن عن مجالات الحكم الذاتي
فنحن يمكننا أن نعتبر البيت في المدرسة الداخلية أحسن مجال يمكن أن يصطنع فيه الحكم الذاتي. فالبيت من جهة أضيق من أن يعجز بعض أفراده عن تدبير أمره تدبيراً محكماً، والحياة فيه تقدم أكبر قدر من وجوه النشاط المختلفة التي يمكن للتلاميذ أن يتخذوا منها ميداناً لتدبيرهم وتنظيمهم
وهناك مجال آخر من مجالات الحكم الذاتي هو الفصل المدرس والمآخذ على هذا المجال تتلخص في أن الأغراض التي يرمي الفصل إلى تحقيقها أولاً وقبل كل شيء تخرج من مجال الحكم الذاتي كثيراً من نواحي حياة الأطفال الاجتماعية التي هي ألصق بهم؛ وفي أن انتقالات التلاميذ كل سنة من فرقة إلى فرقة أعلى يصحبها في كثير من الأحوال تغيير مستمر في أعضاء الحكم الذاتي
وهناك مجال ثالث للحكم الذاتي هو تلك الجمعيات التي يؤلفها التلاميذ قاصدين بها إلى ممارسة وجوه من النشاط تضيق عنها جدران المدرسة كالجمعيات الأدبية والجمعيات التمثيلية وجمعيات فلاحة البساتين وجمعيات التصوير وغيرها
وأخيراً يمكن أن نجعل من المدرسة كلها مجالاً للحكم الذاتي. ولكن هذا لا يمكن أن يتأنى بسهولة إلا إذا كان تلاميذ المدرسة لا يزيدون عن أربعين طفلاً أو خمسين
فهذه هي المجالات التي يمكن أن يتخذ منها الحكم الذاتي مسرحاً يمثل عليه دوره. على أننا لا نحب أن نترك هذه المسألة قبل أن نتناول الحكم الذاتي في الفصل بشيء من التفصيل.
فنحن نريد أن أن نقول إنه ليس من الضروري في كل الأحوال أن يمتد الحكم الذاتي إلى نطاق الفصل. بيان ذلك أنه إذا كان ثم عداء متوارث بين التلاميذ من جهة والمدرس والمدرسين من جهة أخرى، وإذا كانت حياة التلاميذ خارج المدرسة حياة يتناوبها العسف والضغط، فإن الحاجة تكون حينئذ ماسة إلى قدر من الحكم الذاتي يتناول الفصل. أما إذا كانت العلاقة بين التلاميذ والمدرسين علاقة تسودها المودة والصفاء، وكان التلاميذ من(504/13)
جانبهم يميلون إلى التعلم، وكانوا يتمتعون بقسط وافر من الحرية خارج المدرسة، فمن المشكوك فيه حينئذ أن يكون الحكم الذاتي شيئاً ضرورياً مرغوباً فيه
كذلك لا نحب أن نترك هذه المسألة قبل أن ننتبه إلى أن وجوه النشاط في داخل المدرسة مرتبط أشد الارتباط بوجوه النشاط في خارجها وأن الحكم الذاتي في خارج الفصل لا يمكن لهذا السبب أن يتم له النجاح إذا كانت الأمور في الفصل تجري على قواعد بالية عتيقة
وليس للحكم الذاتي نظام خاص صالح لكل الأحوال، وإنما هو يتكيف بحسب الحالة التي يوجد فيها، فالسن، والجنس وتقاليد المدرسة، وشخصية المدرسين، وطبيعة البيئة التي منها التلاميذ والمثل الاجتماعية التي ترمي إلى تحقيقها - كل هذه يجب أن تترك في الحكم الذاتي أثرها وتكيفه وفقها.
وأنا أعتقد أن قيمة الحكم الذاتي تزيد وأن مجاله يتسع إذا أمكن أن نبث فيه روحاً اقتصادية. وذلك يكون بإعطاء التلاميذ في كل أسبوع قدراً معيناً من المال يستطيعون به أن يدبروا الأمور المالية المختلفة التي كان يقوم بها من قبل مدبرو شئون المدرسة. فيستطيعون مثلاً أن يشتروا ما هم في حاجة إليه من الأقلام وأقلام الرصاص، وأن يشتروا لجرائد اللازمة للمكتبة، وأن يشتروا جميع الأدوات اللازمة للألعاب سواء أكانت داخل المدرسة أو خارجها، وأن يشتروا حاكياً أو مذياعاً، وأن يؤثثوا غرفة هادئة للمطالعة، وأن يقيموا بالرحلات الخ. وكل هذا يستدعي بالطبع وجود مصرف في المدرسة يودع فيه ما يعطاه التلاميذ من مال، ويقوم على تدبير أمره أحد هؤلاء التلاميذ. وكل هذا يستدعي أيضاً أن تقدم اللجان المختلفة ميزانيتها، وأن تفحص هذه الميزانيات لجنة مالية مختصة لتقرر ما تراه.
وقد يكون من بين التلاميذ يصطنعون الحكم الذاتي - ومعظمهم من غير شك قد بلغ سن الشباب - بعض التلاميذ الذين لم يبلغوا هذه السن بعد. فهؤلاء التلاميذ الأحدث يمكنهن أن يشاركوا في عملية الحكم الذاتي، ولكن على شرط ألا يكون عددهم كبيراً جداً. وهنا يتفق نظام الحكم الذاتي عن نظام العرفاء الذي يخضع التلاميذ الصغار لسلطة التلاميذ الكبار.
ويجب أن يعتبر الحكم الذاتي وسيلة يعاقب بها التلاميذ بعضهم بعضاً. وعلى ذلك فيجب ألا يكون العقاب إلا حين يكون من ورائه صون لقوانين الحكم الذاتي من أن تنقض، تلك(504/14)
القوانين التي شرعها التلاميذ أنفسهم وقصدوا بها إلى ما فيه الخير لهم جميعاً. على أن هذا العقاب يجب أن يكون خالصاً من الغل مبرءاً من الضغينة. فالقوة إذن سناد لقانون الحكم الذاتي في مجتمع التلاميذ كما أنها سناد القانون في المجتمع الكبير. ولكن كلما قوى شعور التلاميذ بما فيه مصلحتهم العامة فإن الحاجة إلى العقاب تقل.
وهنا يأتي الكلام عن مسألة من أهم مسائل الحكم الذاتي: فيجب ألا يتطرق إلى الأذهان أن نظام الحكم الذاتي يرفع عن عاتق ناظر المدرسة ومدرسيها مسئولية التأديب، فهو على العكس من ذلك يزيد من مدى هذا المسئولية؛ وذلك لأن عملية الضبط لا ترمي حينئذ إلى حفظ النظام فقط بل إلى غاية تربوية كذلك. ومعنى هذا أن عملية الضبط في هذا النظام لا تقصد مباشرة إلى مجرد حفظ النظام، وإنما هي تقصد عن طريق غير مباشر لا إلى منع النظام من أن يتطرق إليه العبث ويخترمه الخلل. وإنما تصطنع عملية الضبط هذا الطريق غير المباشر لتكفل للغاية التربوية التي يرمي إليها الحكم الذاتي أن تتحقق، وما هذه الغاية التربوية إلا إفساح المجال لشخصيات التلاميذ حتى تنمو وتترعرع.
ولكن هذا النوع من الحرية لا يرضى به دعاة التحرير فهم يقولون إنه ليس إلا مسخاً للحرية؛ ذلك لأنه يفرض على التلاميذ ما يريده المدرس، فإذا أراد هؤلاء أن ينطقوا مع سجينتهم فيما يفعلون فإنهم سرعان ما يعوقون. وإنما ينادي دعاة التحرير بحرية خالصة من القيود ينطلق معها التلاميذ أينما يريدون فيقعون فيما يقعون من أخطاء ويعالجون هذه الأخطاء كما يحبون
على أن الأستاذ جون آدمز لا يرتضي مذهب هؤلاء. فهو ينادي بأن تكون للمدرس السلطة العليا، تلك السلطة التي تحفظ على جماعة التلاميذ صالحها العام قد تؤدي به الحرية المتطرفة. أضعف إلى ذلك أن الحياة الواقعية حياة مفعمة بالقيود: القيود العامة التي تغلنا بها الحياة في المجتمع، والقيود الخاصة التي يغلنا بها من نخضع له أو من نخضع لهم. فإذا كان التلاميذ لن يواجهوا في المستقبل حياة خالصة من القيود، فأحر بهم أن يعودوا منذ الصغر الخضوع لسلطة مرب أو مربية يقصد كل منهما إلى تهيئة ظروف المدرسة بحيث تكفل لسلوك التلاميذ وشخصيتهم الترعرع والنماء
ويرى الأستاذ أسبورن أن تقسم السلطة مناصفة بين الناظر والمدرسين من جهة والتلاميذ(504/15)
من جهة أخرى. وهو يعتقد أن هذا التقسيم لا يضير نظام الحكم الذاتي في شيء. فالناظر مثلاً يمكنه أن يفرض على التلاميذ مزاولة الألعاب الرياضية في أيام معينة من الأسبوع، ثم يترك لهم توزيع ضروب هذه الألعاب على هذه الأيام، فيجعلون هذا اليوم للكريكيت وذاك للكشف وهلم جرا. على أنه لا يمكن فصل هاتين السلطتين فصلاً تاماً، فيجب على الناظر والمدرسين أن يصغوا إلى ما يوجهه لهم التلاميذ من نقد، وإن كانوا يملكون حق إهمال هذا النقد
وقد عرض الأستاذ جردن ماكاي المسألة، فقال إنه لا يمكن أن يتحقق نظام الحكم الذاتي من غير وجود المربي. ولكي يبين صحة ذلك انتقل إلى وظيفة المربي، فقال إنها تتلخص في العمل على نشر القدرة المنطوية، ثم العمل على تنمية قدرة تلاميذه جماعة وأفراداً، فالمربي أولاً مرشد وفيلسوف وصديق، وهو إلى ذلك ناصح أمين في كل ما يتعلق بالدروس والاجتماعيات وسائر وجوه النشاط في الفصل.
على أنه يجب أن يتصف بصفات معينة تعينه على أن يكون كذلك، وهذه الصفات ليست إلا صدى للعلاقة التي تربطه بالتلاميذ. فهو يجب أن يثق بأنه قادر على معاونة تلاميذه على نشر مواهبهم الكامنة، وهو يجب أن يعتقد أن نفوس تلاميذه تنطوي على حكمة كثيرة مخبأة، أو على صفات أخرى تستحق أن يكد في سبيل إماطة اللثام عنها، وهو يجب أن يكون ذا عقل واسع الثقافة، وشخصية منسجمة الأطراف متوافقة الأنغام، وقدرة على التنفيذ، وهو يجب أن يجمع إلى هذه الخصال كلها حباً للأطفال يلهبه الحماس، ولكن الحماس الذي يخفف من حدته الحذر ويبعد غوره التبصر
ويزيد الأستاذ ماكاي على ذلك، فيقول إن المربي يجب أن يشعر تلاميذه بأن نجاحهم ونجاحهم فقط هو الهدف الأسمى للمربي، وأنه ما وجد إلا للوصول إلى هذا الهدف. وعلى ذلك يجب أن يحملهم باستمرار على أن يهدفوا نحو شكل من أشكال الكمال هو في الحقيقة أبعد من أن يتناوله ذرعهم، وأن يشعرهم بأنهم إن فشلوا في الوصول إلى هذا الكمال فلسوف يستطيعون فيما بعد ان يحاولوا محاولات أخرى تحدوها خبرة أوسع
والمربي كذلك يجب أن يوفق بين نواحي الضعف في المربي ونواحي القوة، فيعطي من هذه لتلك ليصل بالمربي في آخر الأمر إلى حال من التوازن قائمة على تعاون ملكاته(504/16)
وتواصلها
وصفوة القول أن نظام الحكم الذاتي يتطلب وجود المربي ليلعب فيه دوره الهام.
(للحديث بقية أخيرة)
السيد يعقوب بكر(504/17)
السيدة سكينة بنت الحسين
للأستاذ سعيد الديوه جي
- 2 -
أمها:
بينما الفارق في المسجد الجامع وحوله شيوخ المهاجرين والأنصار، إذا بشيخ مهيب يتخطى رقاب الناس حتى قام بين يدي الفاروق وحياه بتحية الخلافة، فردها عليه الخليفة وقال له: من أنت؟ قال: أنا امرؤ القيس بن عدى الكلبي. فعرفه عمر؛ وكيف لا يعرف صاحب بكر الذي أغار عليهم في يوم فج في الجاهلية؟! فقال له عمر: ماذا تريد؟ قال: أريد الإسلام. فعرضه عليه فقبله. ودعا له برمح فعقد له على من أسلم بالشام من (قضاعة) وهذا أول رجل عقد له على المسلمين بالشام ولم يصل ركعة واحدة؛ ذلك لما له من المنزلة السامية بين قومه. وأراد علي بن أبي طالب أن يزيد في شرف هذا الشيخ فنهض إليه وأخذ بثيابه وقال له: يا عم أنا علي بن أبي طالب أبن عم رسول الله صلى الله عليه وصهره، وهذان ابناي من أبنته، وقد رغبنا في صهرك فأنكحنا. سر الشيخ من هذه الساعة الميمونة التي نال فيها ما لم يكن يتوقعه؛ اهتدى بنور الإسلام، وتولى إمرة قضاعة بالشام، وهذا أبن عم الرسول وزوج أبنته يريد أن يشرفه بمصاهرته. فألتفت إلى على بن أبي طالب والفرح قد امتلأ قلبه والبشر طافح في وجهه. وقال له: (وقد أنكحتك يا علي المحياة بنت امرئ القيس. وأنكحتك يا حسين الرباب بنت امرئ القيس) وكانت الرباب من خيار النساء وأفضلهن امتازت بفصاحة لسانها ورجاحة عقلها فكان الحسين يحبها حباً جماً لما رآه من كمالها وعقلها. ولامه أخوة الحسين على هذا فقال:
لعمرك إنني لأحُب داراً ... تكون بها سكينة والرباب
أحبها وأبذل جل مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب
فلست لهم وإن غابوا مضيعاً ... حياتي أو يغيبني التراب
كانت الرباب مع زوجها مثالاً للمرأة المسلمة الصالحة شاركته أفراحه وأتراحه ورافقته حتى في ساحة جهاده وشهدت بعينها مصرعه ورثته بقولها:(504/18)
إن الذي كان نوراً يستضاء به ... بكربلاء قتيل غير مدفون
سبط النبي جزاك الله صالحة ... عنا وجنبت خسران الموازين
قد كنت لي جبلاً ألوذ به ... وكنت تصحبنا بالرحم والدين
من لليتامى؟ ومن للسائلين؟ ومن ... يغني ويأوي إليه كل مسكين
والله لا أبتغي صهراً بصهركم ... حتى أغيب بين الرمل والطين
وقد برت الرباب بقسمها فكم تقدم إليها من شريف وأمير وخطبها بعد مصرع زوجها، وكان جوابها لكل خاطب: (ما كنت لأتخذ حماً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضت الرباب حياتها حانية على ولديها عبد الله وسكينة).
نشأتها وزواجها:
تولت الرباب تربية ابنتها سكينة فأرضعتها الفصاحة والبلاغة منذ صغرها وأطلعتها على أشعار العرب وأخبارهم. وكثيراً ما كانت ترسلها إلى حلقات العلماء ومجالس رواة الحديث فتأخذ عنهم. كما كانت تقص عليها مآثر آبائها وأجدادها، فتذكرها بجدها الأعظم منقذ العالم من الشرك وهاديه إلى طريق الحق. وتسرد عليها أخبار جدها فتى الفتيان (حيدر) ما كان عليه من البطولة والعلم والفقه في الدين. وكانت الفتاة ذكية الفؤاد تصغي إلى هذه الأحاديث بكل شوق وتفخر بمآثر أجدادها التي دونتها كل فخر، فاهتدت بنورهم وتسنمت ذروة المجد الشامخ
ولما بلغت سن الزواج زوجها أبوها من ابن عمها عبد الله ابن الحسن. وبعد وفاته تقدم إليها شبان قريش يطلبون يدها فلم يوفق سوى أحد الأبطال الذين يضرب بهم المثل في الشجاعة والمروءة والكرم - ذلك هو مصعب بن الزبير - أمهرها مليون درهم وأهدى لأخيها أربعين ألف دينار. وزفت إليه وهي كالنار الموقدة حسناً وجمالاً، وكان الخليفة عبد الملك ينفس على مصعب هذا الزواج، وقد صرح بذلك لجلسائه فقال: (أشجع الناس مصعب بن الزبير الذي جمع في بيته بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسن)
كان مصعب يحبها حباً جماً ويؤثرها على غيرها لعقلها وأدبها وحسبها وقضى معها أسعد أيام حياته، ولكن كل هناء يعقبه عزاء، فلم تطل أيامه معها حتى لقي حتفه. دخل عليها يوم قتله فنزع ثيابه ولبس غلالة وتوشح بثوب وأخذ سيفه لينزل ساحة الوغى. علمت سكينة(504/19)
أنها الساعة الأخيرة وأنها ستفارقه فراق الأبد فلم تتمالك نفسها وصاحت: (وا حزناه عليك يا مصعب) وما هي إلا ساعات معدودة حتى أتاها خبر استشهاده. فخرجت إلى ساحة الوغى لتنظر البطل المجندل فطلبته بين القتلى وعرفته بشامة كانت في خده فوقفت عليه وقالت: (يرحمك الله، نعم بعل المرأة المسلمة كنت) أدركت والله ما قال عنتر:
وخليل غانية تركت مجندلاً ... بالقاع لم يعهد ولم يتلثم
فهتكت بالرمح الطويل أهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
وقفت سكينة طويلاً أمام هذا البطل المضرج بدمائه. وتذكرت أيام نكبتها بشهيد كربلاء، ومر أمامها المناظر المحزنة والمصائب التي توالت على آل البيت. وهاهي تفجع اليوم بزواجها كما فجعت بأهلها من قبل ففاض الدمع من عينها والشعر من قبلها وقالت ترثيه:
فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي ... يرى القتل إلا ما عليه حراماً
وقبلك ما خض الحسين منية ... إلى القوم حتى أوردوه حماماً
ثم احتسبت واسترجعت، وأمرت بدفن زوجها ثم عادت إلى الكوفة لتلم شعثها وتلحق بأهلها. ولما أرادت السفر تجمع إليها أهل الكوفة ليسلموا عليها، كأنهم لم يسلموا زوجها قبل أيام ولم يسلموا أباها وأخاها قبله، وكأنهم لم يخذلوا جدها. ولكن سكينة من نعرف دهاءها وعقلها فهي أجل من أن تنخدع بظاهر القول. وقد صرحت لهم بما يكنه صدرها من البغض فقالت لهم: (لا جزاكم الله عني خيرا، ولا أخلف عليكم بخير، يعلم الله أني أبغضكم، قتلتم جدي علياً، وقتلتم أبي الحسين، وأخي علياً، وزوجي مصعباً، فبأي وجه تلقوني، أيمتموني صغيرة، وأرملتموني كبيرة.
أراد عبد الملك أن يغتنم فرصة قتل زوجها، وكانت كل منيته أن يتزوجها ليحظى بالجمال والعقل والشرف، ولكن هيهات أن يجد حبه إلى قلبها سبيلاً. ولما عرض عليها أمر خطبتها قالت: (والله لا يتزوجني قاتله أبدا). خطبها الإصبع بن عبد العزيز والى مصر. فكتبت إليه أن أرض مصر وخمة. فبنى لها (مدينة الإصبع) ولكن هذا الأمر لم يرق في عين عبد الملك فحسده وكتب إليه: أن اختر ولاية مصر أو سكينة. فكف عن زواجها. خطبها بعد ذلك زيد بن عثمان بن عفان فشرطت عليه: ألا يغيرها، ولا يمنعها شيئاً تريده، ولا يخالفها في أمر تريده، وأن يكون خروجها بيدها. فرضى وسلم أموره بيدها كما أرادت. ولكن(504/20)
صاحبنا هذا كان بخيلاً فلم يطق صبراً على تفيضه سكينة على الشعراء والفقهاء وحلقات الأدب وما كانت تنفقه في قصرها وغدواتها ومنتزهاتها. فغلب بخله على هواه وتخلى عنها.
آثرت سكينة بعد هذا أن تعيش منفردة مع جواريها بمكان ناء عن المدينة وضوضائها تتمتع بهدوء الطبيعة وجمالها الفاتن فلم تجد مكاناً أجمل من وادي العقيق الفتان. فباعت مالها بالزوراء وعمرت لها قصراً فخماً بهذا الوادي الجميل. وكلما فاض الوادي كانت تخرج إلى محل السيل يحف بها جواريها. وفي أحد الأيام جلست على حافة الوادي تمتع نظرها بما يحف بها من الأزهار والحشائش وأشجار الاثيل، وكانت السماء صافية والنسيم عليلاً والناس منتشرون حول الوادي يمتعون أنفسهم بهذا الجمال الفتان. أعجبها هذا المنظر البهيج فالتفتت إلى جواريه وقالت: (والله لهذه الساعة في هذا القصر خير من الزوراء).
(يتبع)
سعيد الديوه جي
بالموصل(504/21)
رسالة الجاحظ
في مناقب الترك وعامة جند الخلافة
للأستاذ محمود عزت عرفة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
مات الخليفة الواثق عام 232 هـ وتولى بعده أخوه جعفر المتوكل على الله؛ وكان النزاع الذي طال أمده قد احدث رد فعل في نفوس المصلحين ومحبي السلام، فبذلت جهودا جبارة للتوفيق بين المتنازعين، وإزالة روح الحسد والتنافس التي طغت على العلاقة بين طوائف الجند، ووشجت بنفوس الرؤساء من كل فريق. وكان على رأس هؤلاء المخلصين الداعين إلى الإصلاح نديم المتوكل وصاحبة الأثير: الفتح بن خاقان الذي تقدم إليه الجاحظ برسالته في مفاخر الترك بعد أن أضاف إليها مقدمة قصيرة ملائمة. ولا شك أنه في هذه الفترة أيضاً زاد من عنوانها فجعله (في مناقب الترك وعامة جند الخلافة). . . إذ الرسالة الأصلية - بعد حذف المقدمة التي توجه بالخطاب فيها إلى الفتح - مقصورة على ذكر مفاخر الأتراك والإشادة بفضلهم على سائر الأجناس، في حربهم وسياستهم وصناعتهم وأخلاقهم، وكل ما يكون موضع فخر ومحل تمايز وتفاضل.
والفتح من الترك، فما يضيره أن يطنب الجاحظ في فضائل بني جنسه؛ ثم هو من دعاة الألفة والإصلاح فلا يضير الجاحظ أن يوطئ لرسالته بحديث في مزايا هذه الألفة يضمنه من فضائل تلك الطوائف جميعاً ما يجعل كلامه أقوى في التأثير وأدعى إلى القبول
بذلك خرجت الرسالة في قسمين: مقدمة في فصل التآلف وضرورة اتفاق الكلمة مع حديث في مزايا كل طائفة من طوائف الأجناد سوى الترك؛ ثم فصل طويل في مناقب الترك خاصة، وهو الرسالة القديمة بعينها. . .
أما المقدمة المستحدثة فيبدأ الجاحظ فيها بالإشارة إلى ما يضطلع به الفتح بن خاقان من الدفاع عن الخلافة والترغيب في الالتفاف حولها، والسعي إلى توطيد التآلف بين أنصارها، وإقرار فضيلة الطاعة وبث روح الود والمناصحة فيهم؛ ثم يقول متوجها بالحديث إلى الفتح:(504/22)
(وذكرت أبقاك الله أنك جالست أخلاطاً من جند الخلافة، وجماعة من أبناء الدعوة، وشيوخاً من جلة الشيعة، وكهولا من أبناء رجال الدولة والمنسوبين إلى الطاعة والمناصحة الدينية دون محبة الرغبة والرهبة. وأن رجلا من عرض تلك الجماعة ومن حاشية تلك الجملة ارتجل الكلام ارتجال مستبد، وتفرد به تفرد معجب. . . وزعم أن جند الخلافة اليوم على خمسة أقسام: خراساني وتركي ومولى وبنوي. . . وأنك اعترضت على هذا المتكلم المستبد وعلى هذا القائل المتكلف الذي قسم هذه الأقسام وخالف بين هذه الأركان). ويورد الجاحظ عقب هذا بعض ما رد به الفتح على ذلك الخطيب الداعي إلى التفرقة، ويقول له: فزعت أن أنساب الجميع متقاربة غير متباعدة، وعلى حسب ذلك التقارب تكون الموازرة والمكانفة والطاعة والمناصحة والمحبة للخلفاء والأئمة). ثم يشير الجاحظ إلى أن هذا الخطيب ذكر في معرض كلامه جملا من مفاخر هذه الأجناس وجمهرة من مناقبهم، وأنه أطنب في ذلك ما شاء له الإطناب ولكنه (ألغى ذكر الأتراك فلم يعرض لهم، وأضرب عنهم صفحاً فلم يخبر عنهم كما أخبر عن حجة كل جيل وبرهان كل صنف. . .).
ويذكر الجاحظ - على لسان الخطيب أيضاً - مفاخر هذه الأجناس الأربعة سوى الأتراك، فيطنب في مزايا الخراسانيين والعرب والموالى ثم الأبناء. ويتخذ من آمال شأن الأتراك وسيلة إلى الحديث عنهم؛ أي إلى إبراز رسالته الأولى في مناقبهم وهو يسلك إلى ذلك ألطف المسالك فيقول: أن ذهبنا - حفظك الله - بعقب هذه الاحتجاجات، وعند منقطع هذه الاستدلالات، نستعمل المفاوضة بمناقب الأتراك والموازنة بين خصالهم وخصال كل صنف من هذه الأصناف، سلكنا في هذا الكتاب سبيل أهل الخصومات ففي كتبهم، وطريق أصحاب الأهواء في الاختلاف الذي بينهم. وكتابنا هذا إنما تكلفناه لنؤلف بين قلوبهم أن كانت مختلفة، ولنزيد في الألفة أن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم ولتسلم صدورهم. . .)
ولا يخلص الجاحظ إلى رسالته الأولى في مناقب الترك حتى يعاود التمهيد لها والتمويه عن غرضه السابق مها فيقول: (وهم في معظم الأمر وكبر الشأن وعمود النسب متفقون، فالأتراك خراسانية وموالى الخلفاء فصرة، فقد صار التركي إلى الجميع راجعاً، وصار شرفه إلى شرفهم زائدا)(504/23)
وينتقل الجاحظ بعد هذا إلى رسالته الأصيلة؛ وبديهي أن سطورها الأولى مما كتبه قبل تقديمها إلى الفتح بن خاقان، لأنه يقول فيها بعد التسمية: (هذا كتاب كتبته أيام المعتصم بالله رضي الله تعالى عنه ونضر وجهه، فلم يصل إليه لأسباب يطول شرحها. . .)
ولا نستطيع بحالٍ ما ان نحدد مدى التحوير الذي أدخله في هذا الموضع، ولكنا نقول انه تحوير ألجأته إليه الضرورة، إذ لا أقل من أن يتوجه بالخطاب من المعتصم المتوفى إلى الفتح الذي تحولت إليه الرسالة.
ويبدأ الجاحظ حديثه عن مناقب الترك بسرد قصة فحواها أن حميد بن عبد الحميد كان جالسا - مع جماعة أسماهم - في دار المأمون إذ خرج عليهم رسول من عنده فقال: يقول لكم أمير المؤمنين متفرقين ومجتمعين، ليكتب كل رجل منكم دعواه وحجته، وليقل إنما أحب إلي كل قائد منكم - إذا كان في عدته وصحبه وثقاته - أن يلقي مائة تركي أو مائة خارجي؟. . . فأجمع القوم على أن لقاء الترك أهون من لقاء الشراة؛ إلا حميداً فإنه خالف هذا الرأي وبالغ في التهويل من شأن الترك والإشادة ببطولاتهم في حربهم. وعقد من الموازنة بينهم وبين الخوارج ما التهى به إلى تصويب رأيه وتثبيت حجته.
وبلغ الحديث المأمون فقال: ليس بالترك حاجة إلى حكم حاكم بعد حميد! فأن حميداً قد مارس الفريقين، وحميد خراساني وحميد عربي، فليس للتهمة عليه طريق. . .
ويمضي الجاحظ إلى غايته من إعلاء شأن الأتراك فيذكر من عجائبهم في حربهم ومن طرائف أقوال الرواة والمحدثين عنهم كل ما تطرب له النفس ويطول به العجب؛ وهو لا يستشهد في كلامه إلا بأقوال رجال من ثقات العرب والخراسانيين - سوى الأتراك - حتى يكون ذلك أبعد عن التهمة وأقوم بالحجة، وأدعى إلى الاقتناع. فيحكى عن سعيد بن عقبة بن سلم الهنائي، ويختم ما ينقله عنه بقوله: (فهذا قول سعيد بن عقبة ورأيه وحديثه، وهو عربي خراساني). ويروي بعض ما يقصه ثمامة بن أشرس ويعقب قائلاً (هذا ثمامة بن أشرس وهو عربي لا يتهم في الأخبار عنهم). ويروي أيضاً عن يزيد بن مزيد الشيباني ما وصف به الموقعة التي قتل فيها دولبا التركي الوليد ابن طريف الخارجي. ويقص عن قتيبة بن مسلم طرائف أخر. ويرى الجاحظ خلال هذا بعض ما شاهده بنفسه فيقول: (وأنا أخبرك أني قد رأيت منهم شيئاً وأمراً عجيباً غريباً. رأيت في بعض غزوات المأمون(504/24)
سماطي خيل على جنبتي الطريق بقرب المنزل: مائة فارس من الأتراك في الجانب الايمن، ومائة من سائر الناس في الجانب الأيسر، وإذا هم قد اصطفوا ينتظرون مجيءالمأمون وقد انتصف النهار واشتد الحر. فورد عليهم وجميع الأتراك جلوس على ظهور خيولهم إلا ثلاثة أو أربعة! وجميع تلك الأخلاط من الجند قد رموا بنفوسهم إلى الأرض إلا ثلاثة أو أربعة! فقلت لصاحب لي: أنظر أي شيء اتفق لنا؛ أشهد أن المعتصم كان أعرف بهم حين جمعهم واصطنعهم.
ولا يفرغ الجاحظ من حديثه في هذه الرسالة حتى يكرر النص على أنه إنما وضعها بغية التأليف بين القلوب وجمع الكلمة وتوحيد المقصد والغاية؛ وأنها ليست من كتب المناقضات أو إظهار التبحر في العلم والاتساع في المعرفة؛ لأنه لا يهدف إلى شيء من هذا، وإنما هو يرمي إلى التوفيق من أوجز طريق، ويرى (أن القليل الذي يجمع خير من الكثير الذي يفرق). . .
. . . بهذا التصرف البديع تهيأ للجاحظ أن ينشر رسالته بعد أن يئس من إخراجها أو كاد، فازداد بها فضلاً إلى فضل، وارتفع معها مكانة فوق مكانة؛ وهو لم يحرم مع ذلك أن بعد من الذائدين عن الوحدة، الداعين إلى التآلف والوئام، المصلحين بين الطوائف المتدابرة والفرق المتنافرة؛ وتلك أعراض لا نستطيع الجزم بأن واحداً منها كان يجول بخاطره وهو يضع رسالته الأولى على عهد المعتصم.
(جرجا)
محمد عزت عرفة(504/25)
لماذا لا أثق
بأقوال النحاة ولا اللغويين
للأب أنستاس ماري الكرملي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
القسم الرابع
فعلول (المفعول الأول)
قال السيد مرتضى بعد مادة (ص ر ق) وقبل رسم (ص ر ف ق) - وهو غريب - ما يأتي، ونحن نذكره بحذافيره على طوله لما فيه من الفائدة الجزيلة:
(الصعفوق، بالفتح: اللئيم من الرجال. قاله الليث. وصعفوق: بلدة باليمامة، فيها قناة يجري منها نهر كبير، لهم فيها وقعة، ويقال: صعفوقة بالهاء، وليس في الكلام فعلول سواه. قال الحسين بن إبراهيم النطيري في كتابه دستور اللغة: فعلول في لسان العرب مضمون، إلا حرفاً واحداً، وهو صعفوق، لموضع في اليمامة.
وأما خرنوب بالفتح، فضعيف. قال الصاغاني: وأما الفصيح فيضم خاؤه، أو يشد راؤه مع حذف النون، كما في العباب. وقال شيخنا: لا يفتح خرنوب، إلا إذا كان مضعفاً، وحذفت منه النون، فقيل خرنوب، أما ما دامت فيه النون، فإنه غير مسموع. قال: وأما برغوث الذي حكى فيه الخليل التثليث في الكتاب الذي ألفه فيه، فلا يثبت، ولا يلتفت إليه، وأما عصفور الذي حكى فيه الشيخ الشهاب القسطلاني عن ابن رشيق، فهو أيضاً غير ثابت، ولا موافق عليه. والله أعلم. اهـ.
(قلت (أي الشارح): وقال ابن برى: رأيت بخط أبي سهل الهروي على حاشية كتاب: جاء على فعلول: صعفوق وصعقول، لضرب من الكمأة، وبعكوكة الوادي، لجانبه. قال أبن يرى: أما بعكوكة الوادي، وبعكوكة الشسر، فذكرها السيرافي وغيره بالضم لا غير، أعني بضم الباء. وأما الصعقول، لضرب من الكمأة فليس بمعروف، ولو كان معروفاً لذكره أبو حنيفة في كتاب النبات، وأظنه نبطياً أو عجمياً). أهـ.
(قلت (أي الشارح): ولا يلزم من عدم ذكر أبى حنيفة إياه في كتابه أن لا يكون من كلام(504/26)
العرب، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ. فتأمل ذلك. والصعافقة جمع صعفوق: خول لبنى مروان، أنزلهم اليمامة. ومروان بن أبي حفصة منهم، قاله الليث. قال: ولم يجئ في الكلام فعلول إلا صعفوق وحرف آخر. ويقال لهم: بنو صعفوق، وآل صعفوق. قال العجاج:
من آل صعفوق وأتباع أخر، من طائعين لا ينالون الغمر قال الأزهري: ويضم صاده ونصه: كل ما جاء على فعلول، فهو مضموم الأول، مثل: زنبور، وبهلول، وعمروس، وما أشبه ذلك، إلا حرفاً جاء نادراً، وهو بنو صعفوق، بالضم. انتهى - وقال الصاغاني: صعفوق ممنوع من الصرف للعجمة والمعرفة، وهو وزن نادر، سموا لأنهم سكنوا قرية باليمامة تسمى صعفوق، كما تقدم. وقيل: الصعافقة: قوم كان آبائهم عبيداً فاستغربوا. وقيل: هم قوم من بقايا الأمم الخالية ضلت أنسابهم. ويقال: مسكنهم بالحجاز. وقال الليث: الصعافقة: القوم يشهدون السوق للتجارة بلا رأس مال عندهم، ولا نقد عندهم، فإذا اشترى التجار شيئاً، دخلوا معهم فيه. ومنه حديث الشعبي: ما جاءك عن أصحاب محمد، ودعى ما يقول هؤلاء الصعافقة. أراد أن هؤلاء ليس عندهم قفة ولا علم بمنزلة أولئك التجار الذين ليس لهم رؤوس أموال. الواحد: صعفق صعفقي صعفوق، بالفتح. واقتصر الجوهري على الأولين، والجمع صعافيق أيضاً.
قال أبو النجم:
يوم قدرنا والعزيز من قدر، ... وآبت الخيل وقضَّيْن الوطر
من الصعافيق وادركنا المِئر
أراد بالصعافيق أنهم ضعفاء، ليست لهم شجاعة، ولا سلاح، ولا قوة على قتالنا) أ. هـ آخر كلام التاج بنصه على فيه من الطول
رأى الألوسي في الصعافيق
ونزيد على ما تقدم، أننا كنا سألنا في سنة 1895 أستاذنا الكبير، محمود شكري الألوسي، عن هؤلاء القوم أصلهم، لأنه كان واقفاً أتم الوقوف على ما يتعلق بأخبار العرب وقدمائهم، وما يتصل بهم. فقال لي: (إنهم يونانيو الأصل، أتى بهم عبيد أسرى في صدر الإسلام، ثم بيعوا، فوضعوا في قرية من اليمامة عرفت باسمهم؛ ثم اتخذوا خولاً، ومن اليمامة انبثوا في(504/27)
سائر العرب، فأسلموا، فاندمجوا بأهالي تلك الربوع، ولم يبق منهم باق) انتهى.
رأينا الخاص بنا
وعليه فيكون هذا الاسم يوناني الأصل، وهو بفتح الأول ومنحوت من قولهم أي ظاهر وواضح وصاف، أي تكلم جهاراً في مجلس أو نادٍ، أو تكلم كلاماً جهورياً، لأن الحرف بتمامه وذلك بأن هؤلاء القوم كانوا يتكلون ببراعة ومهارة بين أيدي الناس، ترغيباً في البضاعة والتجارة أو في أي مهنة يزاولونها أو يتخذونها. واليونانيون - حتى عوامهم معروفون بالتشدق. ولما كان هذا الاسم يونانياً، واشتهر بالفتح قبل ان تضبط قواعد اللغة ضبطاً محكماً بالأقيسة والقواعد، لم يكن قتل هذا اللفظ سهلاً، فاشتهر بين الناطقين بالضاد، وفشا فشوا غريباً في جميع طبقات الناس، ولما جاء أرباب القواعد، لم تصادف لها مزدرعاً طيباً فبقى اللفظ على علاته، ولهذا قد يقاس هذا الحرف أيضاً على القواعد الشائعة، ولا مانع من ذلك.
فلا جرم أن الفتح هو الأصح، لقدمه في اللغة، ولتمكنه فيها ولا سبيل إلى إنكاره، لاستحكامه في الأنفس وفي الدواوين اللغوية والتاريخية منذ أقدم الأزمنة، أي منذ نأنأة الإسلام. وأما ضبطه بالضم فيكون من باب إجراء أحكام القياس.
إذن يجوز الضبطان ويبقى الفتح هو الأعلى، وأصح المثال الأمثل الذي يقاس عليه ما يأتي من الحروف على نحوه.
ما جاء من الألفاظ على صعفوق بالفتح
وأما أن هناك غير صعفوق من الألفاظ فمما لا شهة فيهولا يمكن أن ينكر، من ذلك: الصعقول، وقد مر الكلام عليها، فهي الحرف الثاني
والثالث: ترفوق
والرابع: طرخون
والخامس: برشوم، لضرب من التمر أو النخل
والسادس: قربوس، على لغة ذكرها التاج
والسابع: بعكوك وقد مر ذكرها(504/28)
والثامن: كرموص
والتاسع: صندوق على لغة ذكرها الشارح
والعاشر: كندوج
والحادي عشر: سنطور وهو من كلام المولدين
والثاني عشر: برغوث. على لغة وإن أنكرها بعضهم
والثالث عشر: خرنوب، وإن أنكرها بعضهم، وهي لغة مشهورة
والرابع عشر: عمروس، علم رجل. قال في القاموس: (وفتحه من لحن المحدثين)، ثم زاد الشارح: (وتحريفهم لغرابة بناء فعلول، سوى صعفوق، وهو نادر، قاله الصاغاني
15 - حمدون (القاموس واللغويين)
16 - سعدون (التاج)
17 - ذرنوق في قولهم: الزرنوقان، بالضم، ويفتح (القاموس) وزاد في التاج بعد قوله: ويفتح (حكاه اللحياني رواه عنه كراع. قال: ولا نظير له إلا بنو صعفوق: خول باليمامة. وقال ابن جني: الزرنوق بفتح الزاي. فعنول، وهو غريب. ويقال الزرنوق بضمها) أ. هـ.
18 - خلدون ومنه ابن خلدون، وجميع من ترجم له ضبطه بفتح الأول، ولم يضبطه أحد بضمه وهو أشهر من أن يذكر
19 - سمهوط. قال ياقوت: (بفتح أوله وسكون ثانيه ويقال بالدال المهملة مكان الطاء: قرية كبيرة على شاطئ النيل بالصعيد، دون فرشوط. والله أعلم.
20 - سحنون. كذا ضبطه جميع من ترجم لمن اشتهر بهذا الاسم. من ذلك عبد السلام بن سعيد بن حميد التنوخي الملقب بسحنون. ومحمد بن سحنون التنوخي
21 - عبدون. ومنه عبد المجيد بن عبدون. الفهري، من أبناء المائة السادسة.
22 - عبدوس. ومنه محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن عبدوس من أبناء المائة الثالثة. وعبدوس بن زيد، طبيب من أبناء المائة الرابعة
23 - دستور. جاء في التاج في ماجدة (دستر). وفي الأساس: الوزير: الدستور. قال شيخنا: وأصله الفتح، وإنما ضم لما عرب، ليلحق بأوزان العرب، فليس الفتح فيه خطأ(504/29)
محضاً، كما زعمه الحريري، وولعت العامة في إطلاقه على معنى الإذن). أ. هـ
24 - عصفور. قال في كشف الطرة ص233: (عصفور في لغة حكاها ابن رشيق، والمشهور فيه الضم) أهـ.
25 - شمعون بالشين المعجمة والميم والعين المهملة. هكذا ضبطه صاحب القاموس
26 - سمغون، مثل السابق، إلا أنه بالغين المعجمة ذكره أيضاً القاموس
27 - سنهور، بالسين المهملة (القاموس والتاج وياقوت)
28 - شنهور كالسابقة، لكنها بالشين المعجمة (التاج)
29 - بركون (القاموس وياقوت)
30 - جوع برقوع. قال الشارح: (كعصفور وصعفوق جاء الأخير نادراً ندرة صعفوق). أ. هـ
الخلاصة:
ليس فعلول من الأوزان النادرة، وقد ذكرنا من الشواهد على كثرتها وهي ثلاثون. ولو أمعنا في البحث لصعفناها، وربما مراراً، لكنا اجتزأنا بهذا القدر إثباتاً لما ذكرناه، من أن هذه القاعدة، وهي ليس لفعلول سوى حرفين، غير صحيح البتة، فيجب نقضها وتذريتها في الهواء هباء منثوراً!
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(504/30)
50 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الرابع عشر - الصناعات
تعتبر الزراعة أهم أعمال المصريين، ويباشرها كما سبق أن ذكرت جميع السكان ما عدا القليل منهم. ويخصب النيل الجزء الأكبر من الأراضي القابلة للزراعة بفيضانه السنوي. ولكن الحقول التي تجاور النهر والقنوات الكبيرة يحفر فيها جور للماء وتروي بآلات مختلفة الأنواع. والشادوف أكثر هذه الآلات شبواً، وهو يتكون من عمودين من الخشب، أو من الطين والعصي، أو من الطين والبردي، يرتفعان إلى خمس أقدام تقريباً، ويبلغ ما بينهما أقل من ثلاث أقدام، ويعلوها قطعة خشبية أفقية تمتد من قمة إلى أخرى، ويعلق بها عتلة رفيعة تتكون من فرع شجرة، وينتهي أحد طرفيها بثقالة من الطين، والطرف الآخر بوعاء يعلق بواسطة قضيبين طويلين من النخيل، ويصنع الوعاء على شكل طاس من السلال أو من طوق ونسيج من الصوف أو الجلد. ويرفع الماء في هذا الوعاء إلى علو ثماني أقدام تقريباً ويقذف به في حوض معد لذلك. ويلزم لرفع المياه إلى الحقول في أعالي الصعيد عندما ينخفض النيل أربعة شواديف أو خمسة. وهناك شواديف كثيرة ذات عتلتين يحركها رجلان. ويعتبر الري بالشادوف عملاً شاقاً للغاية. وتوجد آلة أخرى للري وهي (الساقية) وتكاد تكون وحدها المستعملة لري الحدائق في مصر. وتتكون الساقية خاصة من عجلة عمودية ترفع المياه في مجموعة متتابعة من أوعية فخارية مشدودة بحبال، وعجلة عمودية ثابتة ذات ضروس مثبتة إلى المحور ذاته، وعجلة كبيرة أفقية ذات ضروس يديرها ثوران أو بقرتان أو حيوان واحد فتحرك العجلتين السابقتين. وتصنع الآلة صناعة غليظة ويحدث تحريكها طقطقة كريهة. وهناك آلة ثالثة تسمى (تابوت) يستعملها(504/31)
المصريون لري الأراضي شمال مصر حيث لا يلزم رفع المياه إلا لارتفاع قليل. ويشبه التابوت الساقية نوعاً، والفرق الرئيسي بينهما أن للتابوت، بدلاً من عجلة الساقية ذات الأوعية، عجلة كبيرة مجوفة الدائرة ترفع فيها المياه. وتستعمل (القطوة) في الأقاليم نفسها. وهي وعاء مثل وعاء الشادوف يشد إلى حبال أربعة، ويستعمل كثيراً لرفع المياه إلى جرة التابوت. ويحرك القطوة رجلان يمسك كل منهما بحبلين. وتقسم الأرض في نظام الري الصناعي إلى مربعات صغيرة يحدها ارتفاع من التراب أو الأخاديد، فيسيل الماء من الآلة في قناة ضيقة إلى المربعات أو الأخاديد الواحد تلو الآخر
لا تزرع الأراضي (الري) أي التي يغمرها الفيضان، ما عدا القليل منها، إلا مرة واحدة في السنة فيبذر القمح والشعير والعدس والفول والترمس والحمص الخ بفد انسحاب المياه في آخر أكتوبر أو وابتداء نوفمبر تقريباً. ويسمي هذا الموسم (الشتوي). أما الأراضي (الشراقى) وهي التي لا يصل إليها الفيضان لعلوها وبعض الأراضي (الري) فتنتج ثلاث غلات سنوياً بفضل الري الصناعي، وإن لم تكن الأراضي الشراقى جميعها تزرع هكذا. وتنتج الأراضي التي تروى صناعياً أولاً المحصول الشتوي، إذ هي تبذر مع الأراضي الري في وقت واحد، بالقمح والشعير على العموم. وعقب ذلك تبدأ زراعته الصيفي أو ما يسمونه في الصعيد القيضي أو (الجيضي) وتكون عند الاعتدال الربيعي تقريباً أو بعد ذلك فيزرع (الذرة الصيفي) أو النيلج أو القطن الخ. وأخيراً تأتي الزراعة (الدميري) مدة ارتفاع النيل وتبدأ عند الانقلاب الصيفي أو بعده بقليل، فتبذر (الذرة الصيفي) مرة أخرى أو (الذرة الشامي) الخ. وهكذا تجود الأرض بمحصول ثالث. ويزرع القصب على مساحة كبيرة في الصعيد. ويزرع الأرز في الأراضي المنخفضة قرب البحر الأبيض المتوسط
يستعمل المصريون (النورج) لفصل حبوب القمح والشعير وقطع القش للعلف. والنورج آلة على هيئة مقعد تسير على عجلات حديدية صغيرة، أو صفائح مستديرة دقيقة، عددها على العموم إحدى عشرة عجلة مثبتة إلى ثلاثة محاور، أربع عجلات في المحور الأوسط. ويجر النورج بقرتان، أو ثوران يدوران في حلقة فوق الحبوب. أما المحراث وآلات الفلاحة الأخرى، فهي ذات نوع بدائي.
تشغل الملاحة النيلية عدداً كبيراً من المصريين. وأغلب نوتية النيل أقوياء بارزون(504/32)
العضلات. وهم يقاسون مشقة في التجديف وسحب المراكب ودفعها (بالمدرة)، ولكنهم كثيرو الجذل؛ ويزيد سرورهم كلما كثر عملهم، إذ هم يسلون أنفسهم بالغناء. ويتعرض أكثر الربابنة خبرة إلى جنوح سفنهم نتيجة للتغيرات المتواصلة التي تحدث في مجرى النيل، ويلزم حينئذ أن ينزل البحارة إلى الماء لدفع المركب بظهورهم وأكتافهم، وتصنع المراكب النيلية بطريقة تمنعها من الاصطدام بحيث تغوص مقدمها في الماء عن مؤخرها، ومن ثم يلزم أن تكون الدفة كبيرة جداً. وتكون أحسن أنواع المراكب النيلية، وهي كثيرة العدد، بسيطة الشكل رشيقة. وتكون غالباً على طول بين ثلاثين وأربعين قدماً. ويكون لها ساريتان وشراعان مثلثان كبيران، وقمرة تتلو المؤخرة وترتفع إلى أربع أقدام تقريباً، وتشغل القمرة ربع المركب أو ثلثها طولاً؛ وكثيراً ما تشغل الثلثين أو أكثر. ويستخدم عادة ملاح ليمسك حبل الشراع الرئيسي، إذ أن يترك الشراع يخفق عند أقل إشارة. ويجب أن يكون المسافر حذراً بصفة خاصة مهما اعتدل الجو.
عدلي طاهر نور(504/33)
وداع. . .!
نشرتْ على الأفقِِ البَعيدِ قلاعَها ... تلك السفينة ازمعت إقلاعَها
قد خلَّفتني كالغريب بشاطئٍ ... أودعتُ أسراري به فأضنها
السحْبُ أحبابُ تمزَّق شملهم ... والشمس غاربةُ تذيب شعاعها
يبدوا على الموج اللعوب ويختفي ... كسراب قافلة تذيب شعاعها
وسلوُّ ثاكلةٍ وأمنِ مضلِّلٍ ... وكدمع عاشقة، دعت فأطاعها
تذرى مدامعَها فإن مسَّ الأسى ... بردُ التجلد، حاولت إرجاعها
مضت السفينة بالكنوزِ وودعت ... أرض الصبابة: شطها وبقاعها
ضمت جوانحُها هناءةَ عاشقٍ ... لو يُسأل الدنيا بديلاً، باعها
وضياء مكفوفٍ وغفوةَ ساهد ... ومباه قافلةِ الهوى ومتاعَها
كيف استحال هناؤهن مواجداً ... بل كيف غيَّرتْ السنونُ طباعها
أين الهوى، وشكوك ويقينه؟ ... كانت رؤى حلم جفتْ هجّاعها
أيام كان لنا جنيناً يُرتجي ... ملأ الجوانح بالنعيم وراعها
ومساء مولده السعيد بجنةٍ ... تفتِ الرقيب وغيبَّت مناعها
بل أين يومَ حبا على بُسُط المنى ... طفلاً تبيح له الجنان رضاعها. . .
. . . أغرت به أرض الشقاء ضباعها ... حسداً وأضرتْ بالغرير سباعها
وا رحمتا للمستظل بدوحةٍ ... لا ظلها يلفي ولا أسجاعها
وا رحمتا للقلب بات نعيمه ... ناراً تزيد على الندى لذَّاعها
مضت السفينة بالكنوز وودعت ... أرض الصبابة: شطها وبقاعها
أخفت بخفاق المياه صفاحها ... ورمت لخفاق الرياح شراعها
يهفو إلينا بالشجون وطالما ... أهدي البشائر باللقا وأشاعها
طوراً تُحَجَّبُه الدموع وتارةً ... يهتز رفاَّفَ المنى لمَّاعها
فإِخالها ألقت هنا مرستها ... وإخالها مدَّت إليَّ ذراعها
ما أضعف الجبار في أوهامه ... طفلاً وما أقوى الرؤى وصراعها
حيناً تغرد للغرام وتارةً ... تبكي الصبابة: وُجْدَها وضياعها
(الإسكندرية)(504/34)
إدوارد حنا سعد(504/35)
أنشودة الحرب لأبليس
أنشودتي ترقص ألحانها ... على هوى رقص بنيَّاتي
نوافراً حولي كبعض الدمى ... يعلن في الليل مسراتي
على الدم المسفوح أقدامها ... وفوق أجسام وهامات
إرادة الله لها قيمة ... والحرب هذى من إرادتي
هيأتها سراً وأطعمتها ... شراً وألوان العداوات
حتى إذا ما اضطرمت نارها ... وأسفرت عن وجه سعلاة
قمت على آثارها ضاحكاً ... وابؤس أحياء وأموت!
مصباحي الأحمر أوقدته ... وأقبلت نحوي فراشاتي
أطعمها الموت فلا تثني ... تقول لي هات لنا هات
وأمة فرقت ما بينها ... حتى غدت أشتات أشتات
وعفت بعد الأمن نسوانها ... شوارداً في عرض موماة
كشف عنها الستر في ليلة ... رهيبة من بعض ليلاتي
بكى لها السرحان من رحمة ... ولم يكن فيها بمنجاة
وبلدة صيرتها بلقعاً ... من بعد أنهار وجنات
يصيح فيها الموت مستشعراً ... خوفاً ويمضي تحت راياتي
وطفلة أطعمت أحشائها ... ذئباً ونسراً في العشيات
ودار أنس قد رعاها الهوى ... هدمتها بالمدفع العاتي
فهل درى آدام بعض الذي ... يلقي بنوه من نكاياتي
وهل درت حواء شكري لها ... من يوم عهدي في السموات
بناتها ما حدن عن نهجها ... كلا ولا عفن وصياتي
يقتدن بالرفق قلوب الورى ... إلى منى حمر ولذات
أنشودتي تقطر ألحانها ... دماً من ضحياتي
هدية لله قدمتها ... ولم يزل يخشى هدياتي
صاعدة بين دخان الوغى ... حاملة بعض ابتساماتي
(حلب)(504/36)
عمر أبو قوس(504/37)
البريد الأدبي
رجعة إلى المذاهب الصوفية
اطلع القراء الكرام على فتوى (الإمام الطرطوشي) (في المذاهب الصوفية) وغيها يقول: مذهب الصوفية بطالة وجهالة. . . ثم كان أن عززنا هذه الفتوى بنشر رأي أئمة الفقه في هذه المذاهب. وفي الحق أن فتوى الطرطوشي وفي رأي أئمة الفقه الدليل القاطع على بطلان تلك الطرائق القدد التي أفسدت على الناس عقائدهم، ومكنت للوثنية من نفوسهم، حتى إذا ما جئت لتردهم إلى دين الفطرة من توحيد الالوهية والربونية لو وراء منهم واستغشوا ثيابهم ثم قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آبائنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض؟
وإن في هذه الطوائف من يعرف الحق ولكنه ينكره عناداً وحرصاً على ما ينعم من مال وجاه، كدأب الذين من قبلهم:
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا. وهؤلاء الرؤساء (المسلكون) الذين اتخذوا الانتساب إلى تلك الطرق حرفة لأكل أموال الناس بالباطل. أما عدا هؤلاء من الطالبين أو المريدين، فإن للشيخ (المسلك) سلطة خاصة حتى قالوا يجب أن يكون المزيد مع الشيخ كالميت بين يدي الفاسل، حتى لو أمره بمعصية لكان عليه أن يعتقد أنها لحيره وأن فعلها متعين عليه. فكان من قواعدهم التسليم المحض، والطاعة العمياء. وقالوا أن الوصول إلى العرفان المطلق لا يكون الا بهذا.
ومن ثم زادوا أمراً آدا في الدين هو أظهر من كل ما عداه قبحاً وهدماً للدين (وهو زعمهم أن الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر، فإذا اقترف أحدهم ذنباً فأنكر عليه منكر قالوا في المجرم أنه من أهل الحقيقة فلا اعتراض عليه، وفي المنكر أنه أهل الشريعة فلا التفات اليه. كأنهم يرون أن الله تعالى أنزل للناس دينين، وأنه يحاسبهم بوجهين، ويعاملهم معاملتين - حاش لله ولدينه - نعم جاء في كلام بعض الصوفية ذكر الحقيقة مع الشريعة، ومرادهم به أن في كلام الله ورسوله ما يعلو إفهام العامة بما يشير إليه من دقائق الحكم والمعارف التي لا يعرفها الا الراسخون في العلم فحسب العامة من هذا الوقوف عند ظاهره، ومن آتاه الله بسطة في العلم ففهم منه شيئاً أعلى مما تصل إليه إفهام العامة فذلك(504/38)
فضل الله يؤتيه من يشاء ممن يجد ويجتهد للتزيد من العلم بالله وسننه في خلقه.
فهذا ما يسمونه علم الحقيقة لا سواه، وليس فيه شيء يخالف الشريعة أو ينافيها) أهـ
أما ما يموه به المتصوفة على العامة وأشباه العامة بحيلهم ودجلهم لإثبات ما يزعمونه لأنفسهم من كرامات فهو ضرب من ضروب السحر كان يقوم بمثله الكهان من العرب في الجاهلية (وكانت أكثر مخاريق الحلاج من باب المواطآت).
وموطآت الحلاج هي أنه كان يتفق مع أناس من رجاله على ما يلبسون به على الناس بدعوى الكرامات. وقد اكتشف ذلك في عصره كما بينه التنوخي في جامع التواريخ (نشوار المحاضرة) ومنه أن رجلاً جاء بصفة مسترشد وإنما هو مختبر فقال له الحلاج: تشه على ما شئت فقال: أريد سمكاً طرياً وكانوا في بعض بلاد الجبل البعيدة عن الأنهار والبحر، فدخل بيتاً خالياً من داره وأغلق عليه بابه، وعاد بعد ساعة طويلة وقد خاض وحلاً إلى ركبتيه وبيده سمكة تضطرب وزعم أنه دعا الله فأمره أن يذهب إلى البطائح قال: فمضيت إلى البطائح فخضت الأهواز وهذا الطين منها حتى أخذت هذه. فقال الرجل: تدعني أدخل البيت فإن لم ينكشف لي حيلة فيه آمنت بك. فقال: شأنك. فدخل وبعد عناء وتنقيب اهتدى إلى دار كبيرة فيها بستان عظيم فيه صنوف الفاكهة والثمار والنوار ومنها ما ليس من وقته ولكنه محفوظ بحيلة صناعية، ووجد فيها خزائن مليحة فيها أنواع الأطعمة الناضجة والحوائج لما يهيأ بسرعة ورأي في الدار بركة ماء مملوءة سمكاً فأخذ واحدة منها وخرج. . . فتبعه الحلاج فرمى بالسمكة وجهه وصدره وهرب. وأقسم الحلاج ليقتلنه إن حدث أحداً بذلك ولو في تخوم الأرض. ولم يحدث بها الرجل الا بعد قتله لعلمه بأنه لو أمر المفتونين به أن يقتله فأنه يفعل).
وبعد فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمين ببركة كالتصوف واعتقاد أهله بغير فهم ولا مراعاة شرع - اتخذوا الشيوخ أندادا، وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق بعد أن كانت للعبرة وتذكر القدوة. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
(كفر المندرة)
احمد احمد القصير(504/39)
مثل الحقيقة في رأى أفلاطون
أورد التوحيدي في مقياساته مقالة لأفلاطون جاء فيها (إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه، ولا أخطأوه في كل وجوهه، بل أصاب منه كل إنسان جهة. ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل، وأخذ كل واحد منهم جارحة منه، فجسها بيده ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بأصل الشجرة وجذع النخلة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والرابية المرتفعة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره. فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك، وكل ما يكذب صاحبه ويدعى عليه الخطأ والغلط والجهل فيما يصفه من خلق الفيل.
فانظر إلى الصدق كيف جمعهم، وانظر إلى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حنة فرقهم؟
وأنت إذا امتثلت قول أفلاطون هذا خير امتثيل، استطعت أن تجد فيه تفسيراً لما يقوم بين الناس من نزاع في كل مجال فلا يكاد الناس يتفقون في أية ناحية من نواحي الفكر والوجود على الرغم من أن الحقيقة في ذاتها واحدة. والسر في هذا الاختلاف، أن الذهن البشري لا يستطيع - لفرط قصوره وعجزه - أن يحيط بالأمر الذي ينظر إليه إحاطة وافية، ولذلك نراه يقصر نظره على ناحية واحدة من نواحيه، فلا يصيب منه إلا جهة واحدة، ومن ثم تفوته جهاته الأخرى التي عمى عنها. والذي يحدث أن الجهة التي يصيبها الفرد الواحد تكون مغايرة لما يصيبه غيره من الأفراد، فينشأ من ذلك الاختلاف والتنازع. وليس ثمة شك في أن كل ما يقوم بين الفلاسفة والمفكرين من خلاف في الرأى، إنما يترتب على اختلاف (الجهات) التي ينظر منها كل واحد منهم. وكثيرا ما تكون آراؤهم جميعاً صحيحة صائبة على الرغم من التعارض الذي يوحي به ظاهر القول. ولعل المرء لا يعدم لذلك في الطبيعة نفسها، مثالاً حياً صادقاً: فإن المنظر الطبيعي الواحد، يختلف أشد الاختلاف تبعاً للجهة التي ينظر منها الإنسان إليه حتى إنك لترى صورتين قد أخذتا لمنظر واحد، فتتوهم أنهما تمثلان منظرين مختلفين، وما ذلك الا لأن الجهة التي أخذت منها الصورة الواحدة، مختلفة عن تلك التي أخذت منها الصورة الأخرى.
(مصر الجديدة)(504/40)
زكريا إبراهيم
فتاوى المفنى الأكبر
أقر معالي وزير العدل جمع فتاوى فضيلة مفتى الديار المصرية الحالي، وتبويبها مع مقارنتها بالمحفوظ من فتاوى مفتى مصر السابقين ووضع ذلك كله في كتاب يطبع على نفقة الوزارة وقد جاء في مذكرة هذا القرار ما يلي:
كتب الواقعات والفتاوى من أقوى الدعائم التي قام عليها بناء الثروة الفقهية الإسلامية وقديماً عنى الملوك والوزراء وسواهم بجمع فتاوى المفتين ونشرها حتى تكونت منها موسعات فقهية عظيمة النفع جليلة القدر، غير أنه منذ بداية هذا القرن لم يظهر بمصر شيء منها ومكانة مصر من العالم الإسلامي تدعوها إلى أن تكون أول من يعمل على تتابع حلقات هذه السلسلة الفقهية العظمى.
وحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الحنفية ومفتى الديار المصرية الحالي قد قضى في منصب الإفتاء قرابة خمسة عشر عاماً اصدر في خلالها مجموعة ثمينة من الفتاوى اشتملت على بحوث ضافية وتحقيقات قيمة، وجمع النصوص الفقهية وتحريرها وتطبيقها أحسن تطبيق على حوادث هذا العصر فكانت من أفضل المراجع الفقهية حتى لقد رغب الكثيرون من رجال القضاء وسواهم في ترتيب هذه الفتاوى ونشرها وتكرر إبلاغ هذه الرغبة إلينا. وقد رأينا أن الفائدة تكون أتم، والنفع أعظم إذا انضم إلى ذلك مقارنة هذه الفتاوى بما هو محفوظ من فتاوى المغفور لهم مفتى مصر السابقين وخاصة فتاوى: الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعي.(504/41)
العدد 505 - بتاريخ: 08 - 03 - 1943(/)
أسس الإصلاح
للأستاذ عباس محمود العقاد
الإصلاح المرتجل، أو الإصلاح الجزاف، قلما ينفع وقد يضير ونعني بالإصلاح المرتجل أو الإصلاح الجزاف كل إصلاح لا ينظر فيه إلى الحاجة التي تدعو إليه، ولا إلى الأساس الذي يقوم عليه. فهو كالدواء الذي يعطى قبل معرفة الداء، أو كالعلاج الذي يعالج به الجهلاء كل داء: يفيد إن أفاد مصادفة واتفاقا، ويضير - إن ضار - لأن الشأن فيه أن يضير فلا بد لكل إصلاح من أساس يقوم عليه، ومن حاجة يغنى فيها بمقدارها وعلى حسب البيئة التي تنشأ فيها ولا بد لأولئك كله من تقدير صحيح لكثير من الأمور نقول ذلك لان حديث الإصلاح في العالم يجري على كل لسان، وينقله المتحدثون في مصر ليقيسوا عليه ما يقبل المقياس، وبخاصة ما نقلته الأنباء البرقية عن (مشروع بيفردج) في البلاد الإنجليزية، وما يرتبط به الشعب التي لا عداد لها في نواحي السياسة والاقتصاد والأخلاق ولا نريد هنا تفصيل القول في هذا المشروع، فلهذا التفصيل وقته حين ترد ألينا البحوث المسهبة التي أحاطت به من جانب القبول ومن جانب الإنكار، ومن جانب آخر غير القبول والإنكار وهو الاعتراف بالأساس كله - أو ببعض الأساس - ثم التعقيب عليه بالإضافة أو التعديل. فحسبنا الآن أن نقول إن المشروع يشتمل على النظم التي تكفل إعانة العجزة والعاطلين ووقاية الأطفال وتأمين الصحة العامة وتعويض المصابين في الأعمال القومية، وما شاكل ذلك من ضروب الإعانة والصيانة والترفيه. حسبنا هذا الآن إلى أن يحين الأوان للبحث المفصل في أجزائة، والمقابلة المفصلة بينه وبين نظائره من مواطن الإصلاح في البلاد المصرية، وفي البلاد الشرقية على التعميم. إلا أن الوقت قد حان - بل حان جداً - لإقامة هذه المشروعات الإصلاحية كلها على أساسها القويم، حذرا من يوم نصاب فيه بالإصلاح المرتجل أو الإصلاح الجزاف، فلا ننجو من غوائله إلا بعد حرب أخرى كالحرب الحاضرة، وساءت تلك من نجاة هي والمصيبة سواء!
هذا الإصلاح على أي أساس يقوم؟
إن بعض الفضلاء الذين عقبوا على مشروع بيفردج في مصر قد فهموا منه أنه غلبة للمذهب الحكومي على المذهب الفردي في معقل الفلسفة الفردية، وهو البلاد الإنكليزية(505/1)
وقبل التعقيب على هذا الفهم لا غنى لنا عن بيان وجيز لما نقصده من المذهب الحكومي والمذهب الفردي في صدد هذا الإصلاح، وصدد كل إصلاح من قبيله
فالمذاهب الاجتماعية تتشعب كثيراً بين الأمم الأوربية، ولكنها بعد هذا التشعب تنحصر في طرفين اثنين جامعين، وهما توسيع الحرية الفردية أو توسيع الرقابة الحكومية
فالديمقراطية تميل إلى توسيع الحرية الفردية
والنازية والفاشية والشيوعية - أيضاً - تميل إلى توسيع الرقابة الحكومية
وأنصار الديمقراطية يرون أن الرقابة الحكومية ينبغي أن تتناول الأقل الأقل من شئون الأفراد الخاصة والعامة، ولا تمتد إلى شأن من شئون العقيدة أو التربية أو المعاملة إلا بحساب شديد وقدر مقدور لا يتجوز في المزيد
وأنصار الرقابة الحكومية ينوطون بالحكومة تدبير الثروة العامة وتدبير التربية العامة والهيمنة على الأعمال ورؤوس الأموال والعلاقة بين أصحاب المصانع وعمالهم وأصحاب المتاجر والمشترين منهم، كأنما جميع هؤلاء موظفون في شركة كبيرة أو ديوان كبير
والميل الغالب بين الإنجليز هو الميل إلى الحرية الفردية سواء تمثلت في الديمقراطية أو في نظام من النظم التي تشبهها وتؤمن بصلاحها.
نزع القوم إلى ذلك في مسائل الاقتصاد، وفي مسائل السياسة، وفي مسائل الاخلاق، وفي مسائل الآداب والفنون والعلوم. فالحرية الفردية عندهم هي النعمة التي لا تعد لها نعمة، والحكومات كلها عندهم إنما هي وسيلة من وسائل تحقيق هذا النعمة الكبرى: معيار صلاحها هو مقدار فلاحها في تحقيق هذه الغاية التي لا تعلوها غاية
وتخلص مذهب القوم هذا في كتاب هربرت سبنسر عن الفرد والدولة، أو عن (الإنسان) والحكومة، تكبيراً لمكان الفرد، وحداً من مكان الدولة
وساعد القوم على الإيمان بهذا المذهب أنهم من قديم الزمان فرديون غالون في حب الحرية الفردية، أو هم فرديون تاريخياً وجغرافياً ونفسياً باتفاق الزمان والمكان، وأحداث الحياة، وتطورات النفوس
هم سكان جزيرة منعزلون، وأقاليمهم كانت فيما مضى ولايات منعزلة يشبه أن يكون كل أمير في ولاية ملكاً مستقلاً لا يدين للحكومة العامة بغير الولاء من بعيد؛ وهم ركاب سفن(505/2)
تعودوا أن تكون كل سفينة كأنها وحدة مستقلة فوق الماء وتحت السماء؛ وهم تجار يحرصون على حرية الأخذ والعطاء؛ وهم من سلالات الشمال (الضبابي) التي تعود أهلها الإيواء إلى المنازل كأنها القلاع والحصون لا يطرقها طارق بغير إذن من أصحابها.
فهم حريون فرديون معرقون
أفنستطيع أن نقول اليوم إن مشروع الإصلاح الجديد قد قلب هذه الأوضاع جميعها رأساً على عقب وخرج بهزيمة الحرية الفردية في معاقل الديمقراطية؟
إن قلنا ذلك فنحن ناقضون لمنطق الحوادث، بل منطق الحرب الحاضرة على الخصوص لأن الحرب الحاضرة في صميم لبابها حرب بين المعسكرين المتقابلين: معسكر الحرية الفردية ومعسكر الرقابة الحكومية.
فمنطق الحوادث إذا انتصر الديمقراطيون ألا تهزم الديمقراطية، ولا تنتصر عليها الرقابة الحكومية في نطاق واسع بعيد الآماد
وجائز أن تقتبس الديمقراطية بعض الحسنات من النظم الأخرى التي تقبل (الاندماج) في بنيتها
ولكن الذي لا يجوز أن تنتصر فيصاب مبدأها بالهزيمة، وينهدم أساسها الذي قامت عليه إنما الحقيقة أن مشروع بيفردج وما يحكيه من مشروعات الإصلاح هو انتصار للديمراطية على الفاشية والشيوعية في جوهر الخلاف بين المعسكرين
هو انتصار للقول بتعاون الطبقات على القول بحرب الطبقات، ومن ثم فهو انتصار للديمقراطيين على المعسكر الذي يقابلهم في الحرب الحاضرة
فالديمقراطية هي حكم الأمة بالأمة للأمة، ولا تناقض بين هذا المبدأ - أو هذا الأساس - وبين تعاون طبقات الأمة على المعيشة الاجتماعية
وأنصار الرقابة الحكومية هم القائلون بحرب الطبقات، وهم الذين يرجعون بالتاريخ من قديم إلى غلبة طبقة واحدة وتسخير سائر الطبقات لمنافع تلك الطبقة، ويعتقدون أن تفسيرهم للتاريخ الإنساني يقتضي في النهاية أن تتغلب الطبقة العاملة وحدها على الدولة فتنزع الأموال والأملاك وتدخلها في حوزة الدولة التي لن يكون فيها يومئذ غير طبقة واحدة(505/3)
فعبرة الحرب الحاضرة هي انتصار الديمقراطية التي تقول بتعاون الطبقات
بل تقول بعموم مذهب التعاون في العلاقات الدولية والعلاقات الداخلية على السواء
وإذا كان للتاريخ الإنساني معنى فهذا هو منطق الحوادث في صراع اليوم، وهذا هو منطق الحرب الحاضرة إذا شاءت لها الأقدار أن تجري إلى نهايتها على استقامة واعتدال
ونحن نؤمن أن الحرية الفردية هي رائد التاريخ الإنساني من قديم الزمان، وأنها هي مناط التقدم في الحياة الاجتماعية وفي الحياة النفسية بلا اختلاف
ويخطئ من يرجعون بنشأة الحرية الفردية إلى الثورات الحديثة، أو إلى العهد الذي شاعت فيه كلمة الديمقراطية على ألسنة الخاصة والعامة في الجيلين الأخيرين
فالحرية الفردية - أو الديمقراطية - قد نشأت مع الأديان السماوية الذي آمن فيه الإنسان بالروح وآمن بالتكليف، وآمن بالمساواة بين الأرواح أمام العزة الإلهية
يومئذ عرف الفرد أنه فرد له روح تناط بها الفرائض والواجبات، ويناط بها الثواب والعقاب
ويومئذ أصبح الإنسان (وحدة) مستقلة أمام الله
ويومئذ قام أساس الديمقراطية في الأرض قياماً لا يزول ولن يزول، إلا أن يذهب التاريخ فوضى بغير دلالة وغير اتجاه
ولهذا آمنا حق الإيمان بهزيمة الطغيان في هذا الصراع القائم على الرغم من ظواهر النجاح في بداية الصراع. لأننا آمنا حق الإيمان أنه واقف في طريق التيار الجارف، وأن الإنسانية لو كانت تريد أن تدين بالقوة الغاشمة لما كانت بها حاجة إلى الأديان تظهر بعد القوة الغاشمة هي - أي القوة الغاشمة - عند الإنسانية من بداية عهدها، بل من بداية عهد الحيوان
ولهذا نفهم أن مشروعات الإصلاح على سبيل المثال مشروع بيفردج لا تدل على هزيمة الحرية الفردية ولا يمكن أن تدل عليها وتطمع في النجاح
ولكنها تدل على التعاون بين الطبقات، والتعاون بين الأمم، والتعاون بين الأفراد
تدل على العالمية، وهي اتساع لحرية الفرد في العالم كله، واتساع لحرية كل وطن من الأوطان(505/4)
وهي تقدم في الاتجاه القديم: الاتجاه الذي تجلى يوم آمن الإنسانية بروحه وتكليفه واستقلاله بين يدي الله
فالحرب الحاضرة قد أظهرت أن الأمم تحارب متعاونات بين جميع طبقاتها، وينبغي أن تجني فضائل السلم في جميع طبقاتها
وعلى هذا الأساس يقوم الإصلاح الصحيح السالك في سبيل التاريخ، وليس على أساس التناحر بين طبقات بغير أمل في التوفيق والتعاون والسلام
تبقى الطبقات وتتعاون على المثال الذي ظهر في هذه الحرب(505/5)
أظرف يوم!
للدكتور زكي مبارك
انتظر أبنائي سيارة الليسيه خمسين دقيقة أو تزيد. انتظروها على باب البيت، بين المطر المنهمر والريح العصوف
وحين أشفقت أمهم فدعتهم إلى الدخول أجابوا ضاحكين: هذا أظرف يوم!
ثم جاءت السيارة فأقلتهم برفق إلى معهدهم المحبوب، ولعلهم لم يحبوا معهدهم بأكثر ما أحبوه في هذا اليوم، فلن تكون الروس غير حكايات وأقاصيص، ولن يكون المدرسون غير أطفال كبار يفرحون بمنظر المطر الهتان!
وبقيت في البيت أسأل نفسي عما أصنع، فما يجوز أن أخرج في مثل هذا اليوم، وهو لا يصلح لغير اقتناص الأوابد من الذكريات
لم يكن المطر غريبا عليّ، فقد تمتعت به أعواما في الديار الفرنسية. ولن أنسى فضله يوم دخلت مدينة الهافر أول مرة في سنة 1927، فقد أتاح الفرصة لمحادثة ريحانة مطولة على غير ميعاد. . . نظرت إليها بعين الغريب الحائر وقلت: , - ' ?
وبين السؤال والجواب تلاقى روحان، وكان المطر سبب التلاقي
وفكرت في (المطرية) التي نسيتها على سلم البيت المحبوب في باريس، يوم فارقتها آخر مرة في صيف سنة 1933
وعلى محطة ليون تذكرت تلك (المطرية)، وجاءت فلانة لتوديعي، فلانة التي كانت قالت: ,
يومئذ أوصيت فلانة بأن ترجع إلى البيت المحبوب لتأخذ المطرية التي نسيتها هناك
تذكرت وتذكرت
تذكرت أني حين رجعت إلى بغداد في صيف سنة 1939 مع (وفد مصر) للاشتراك في تأبين الملك غازي رأيت في شارع الرشيد إنسانة تشبه تلك الفلانة، فطوفت حولها مرات إلى أن صرخت:
فقلت: لا غرابة في أن لا تعرفني، فشمس بغداد تزيغ عيون الباريسيات
كان أمر هذه الفلانة عجبا من العجب، كانت فتاة غريبة الروح، وقد تركت دينها لتعتنق(505/6)
ديني، بعد مصاولات روحية يضيق عن شرحها هذا الحديث
وما السبيل إلى قضاء لحظات أعرف بها كيف تحدرت هذه الموجة إلى بغداد؟
- ندخل هذا الفندق؟
- لا، فهو فندق مطروق!
- وهذا الفندق؟
- هو فندق حوله شبهات!
- والى أين نتجه يا شيطانة، وقد عرفت من خفايا بغداد أضعاف ما أعرف؟
- إلى فندق مود
وكان فندق مود هو الفندق الذي نزل به (وفد مصر)، وكان اجتماعي بها فيه يعد فضيحة في أنظار المصريين والعراقيين
قال حمد باشا الباسل: ما تلك بيمينك يا دكتور مبارك؟
فأجبت: هي حية هديتها إلى الإسلام يوم كنت في باريس!
ثم دارت بيني وبينها كؤوس من الشراب الحلال
وهممت بدفع ثمن الكؤوس فاعترض الأستاذ عبد المسيح وزير، وتلطف حمد باشا فقال: لو رأيتكما بمصر لجعلت (قصر الباسل) مقركما إلى آخر الزمان!
ثم دعاني حمد باشا إليه في جانب من بهو الفندق ليسر في أذني كلمات
- ما هذا الذي تصنعه بنفسك يا دكتور مبارك؟
- وماذا أصنع بنفسي يا باشا؟
- ما قدومك علينا بهذه المخلوقة المتبرجة؟
- هي التي قدمت علي من باريس
- أنت عرفت هذه الفتاة في باريس؟
- وهديتها إلى الإسلام
- أنت تهدي إلى الإسلام؟
- أسألها تخبرك!
ثم نظرت إلى حمد باشا وقلت:(505/7)
- هل تعرف (الحلوبة)؟
- وما الحلوبة؟
- هي أمطار عنيفة مزلزلة تفاجئ العراق في بعض أيام الشتاء
- فهمت فهمت!
- ماذا فهمت يا باشا؟
- فهمت أن هذه الحلوبة تقع على قلبك في الصيف لا في الشتاء
- نعم، وبهذا تتم المعجزة في الحياة العراقية!
ثم عاد حمد باشا فقال:
- أيطول هذا المجلس؟
- أي مجلس؟
- المجلس الذي يدور فيه الغزل بطريق العلانية!
ثم التفت فرأيت الجارم بك يوغل في التنكيت، ورأيت الدكتور عزام يروي أشعاراً، فأخذت بذراع الفلانة وانصرفت
ولكن إلى أين؟
إلى الفندق الذي تقيم به مع خطيبها العراقي، وكانت حدثته عني أحاديث شوقته إلى أن يراني
- دكتور، أنت الذي سميت هذه الفتاة ليلى؟
- وأنا الذي علمتها كيف تكتب أسمها بحروف عربية
- وترى أن أقترن بها؟
- وأرى أن (تتطوق) بها؟
- ايش لون؟
- تلك عبارة مصرية، ستفهمها بعد حين
ولم أدر ما جد في الدنيا بعد ذلك اليوم، وإنما أذكر أني تلقيت خطاباً من (ليلى المريضة في باريس) تقول فيه: قتل السيد رستم حيدر، وكان النصير الأوحد لخطيبي، فما الذي ترى في مصيره ومصيري؟(505/8)
في تلك اللحظة تذكرت سعادة الأستاذ طه الراوي، وهو غاية في كرم النفس وشرف الروح
. . . هل أكتب إليه بخبر فلانة وفلان؟
وأسرعت الدنيا فأثارت الحرب، وأمست أحاديث المحبين عبثاً في عبث، ومجوناً في مجون!
كانت الحرب هي (الحلوبة) الدنيوية لا العراقية، والعراق مظلوم في اتهامه بالشقاق، فتأريخه في أسوأ أحواله اهدأ من تأريخ الأمم التي تدعي الشوق إلى السلام والقرار والاطمئنان
حلوب العراق لا تدوم غير ساعات، أما حلوبة الغرب فلا تنقضي إلا بعد سنين
ما هذا الذي أرى؟ ما هذا؟ ما هذا؟
هذه أمطار وبرق ورعود!
لم يبق من تقليد مصر للغرب إلا أن تتشبه بجوه في هذا الهذر الممقوت!
وانظر فأرى صدري ينقبض حين يخف المطر لحظة أو لحظتين، وكان المظنون أن افرح بميل الجو إلى الاعتدال
ما السر في هذه النزعة الغربية؟ ما السر في الفرح بهطول الأمطار في بلاد أغناها النيل عن الغيث؟
لعل ذلك يرجع إلى أن (الإنسان الأول) يحتل صدورنا من حيث لا نعرف، وإلا فكيف جاز لأبنائي أن يقولوا إن هذا اليوم هو اظرف يوم؟
كان الماء من أسباب الوقاية عند القدماء، الوقاية من غارات السباع والوحوش، وكانت المياه سببا في انتصار المصريين في اعظم معركة من معارك الحروب الصليبية، وهي المعركة التي اشترك فيها النيل، فقد أحاط بالأعداء من كل جانب، وقضى عليهم بالخذلان.
وهنا أذكر حواراً دار فوق منبر الأزهر في أيام الثورة المصرية سنة 1919:
حضر الخطيب محمد بك أبو شادي ذات ليلة ليحدثنا عن الأخطار المخوفة من سيطرة الإنجليز على السودان، فقال فيما قال إن تلك السيطرة قد تكون سبباً في منع مياه النيل عن الأراضي المصرية
عند ذلك علت المنبر وقلت ينبغي أن نبحث عن أسباب منطقية لاحتفاظ مصر بالسودان.(505/9)
وأنا أرى أن مسالة المياه قليلة الأهمية، لأن حياة السودان في تحدر مياه النيل إلى الأراضي المصرية. ولو وجد السودان من يساعده على احتكار مياه النيل لتعرض لآفات من الحميات لا يعلم أذاها غير علام الغيوب ثم ماذا؟
ثم طافت بالقلب خواطر حول شعور المصريين بظواهر الوجود وأقول بصراحة أن الذين ينظمون الأغاني يخطئون أبشع الخطأ في الإكثار من التغني بالرياض والبساتين
إن المصريين لا يفهمون هذه الاشياء، ولن يذوقوها لو فهموها، لأن مصر خضراء في جميع الفصول، وهي من أجل هذا لا تشعر بقدوم الربيع، لأن دهرها كله ربيع
الروض كلمة غير مفهومة، أو كلمة لا تذاق في الديار المصرية على نحو ما يفهمها ويذوقها شعراء العرب في البلاد التي تتأذى بالشتاء
المصري لا يدرك تقلبات الجو إلا في أندر الاحوال، وهل في مصر جو يتقلب؟
دخلت على المسيو دي كومنين وأنا محزون في يومٍ مطير فقال:
, ' ,
ولكن المطر لم ينتظر إلى الغد، فقد صفت السماء قبل أن ينتهي الحديث
والمسيو دي كومنين يلازم سرير المرض منذ أسابيع ولم أفكر في عيادته لأني اكره رؤية الاساد وهي مراض
سمعت أيضاً أن الأستاذ محمد الههياوي مريض، وان أطباء مستشفى الدمرداش قد احتجزوه عامين بعد الشفاء، لأنهم علموا أن أحد أبنائه مات، وليس من المصلحة لمريض في دور النقاهة أن يدخل بيتا شعاره السواد
هل يعرف أبناء هذا الجيل أن الههياوي كان اخطر مفنِّد لمشروع (ملنر) في السنين الخوالي؟
عند الله جزاؤك يا صديقي، لا عند الوطن، فقد كدت أؤمن بأن الوطن المصري لا يحفظ الجميل
الههياوي مريض، وسيعافى بأذن الله حين يقرأ هذه الكلمات، فلعل دواءه في أن يجد صديقا يذكره بالخير وهو عليل
ما هذا الجو العبوس؟ وما هذا المطر الهتون؟(505/10)
وما شقائي بمرض الأستاذ محمد الههياوي ومرض المسيو دي كومنين؟
واين الأستاذ محمد عوض جبريل؟
أين أخوان عرفتهم يوم كانت الدنيا تسمح بأن يأنس صديق إلى صديق؟
إن الأستاذ أسعد داغر مريض منذ شهرين، وهو صوره من صور الوداد الصحيح، فأين من توجع لعلته بقصيدة في جريدة الاهرام، وهي تنشر قصائد التوجع لمرضى الروس واليونان؟
ثم ماذا؟
ثم أنتهز هذه الفرصة لتوضيح حقيقة غفل عنها أكثر الباحثين فأقول:
ليس في مصر أحزاب بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون، لان جو مصر لا يوحي بالاختلاف كما يوحي بالائتلاف
وأذن يكون النجاح الحزبي في مصر مقصورا على الجماعات التي تعرف كيف تأتلف، وهذا هو الواقع بالفعل، فما فازت جماعة في مصر إلا بمراعاة ما في الجو المصري من الثبات والفرد كالجماعة في مصر، ففي مقدور كل فرد أن ينجح إذا مشى في طريق واحد إلى آخر الشوط، أما التنقل من حال إلى أحوال فهو نذير الانحلال
الإنسان ابن جوه، وجو مصر لا يعرف التقلب، ولو راجعنا تواريخ الفائزين في معترك الحياة المصرية لرأيناهم جميعا من أهل الثبات في الأفكار والآراء
إن المصري يتكلف ويتصنع حين يرائي، لان جو مصر لا يساعد على الرياء
والحقد الأسود في مصر لا يقع إلا من رجل نسبه في مصر مدخول. وبكلمة واحدة تصفى ما بينك وبين خصمك من أبناء هذه البلاد، لان فطرة المصري منقولة عن جوه، وهو غاية في الصفاء
ولكن ما هذا اليوم (الملخبط)؟
أني أخشى أن يجعل مقالي هذا (لخبطة في لخبطة)!
هو ذلك، فقد انتقلت من حديث إلى أحاديث بلا نظام ولا ترتيب.
سيصفو الجو، سيصفو بعد ساعات، لا بعد أيام
الإنسان ابن جوه؟(505/11)
كذلك قلت، فما بالي أعاني شجوناً تحترب في جميع الاحايين؟
ما حالي في دنياي؟ وما نصيبي من الجو المفطور على الصفاء؟
لا بأس، فبحرف أو نصف حرف أبدد ما حولي من المصاعب حين أريد، ولن أريد، لان الصراحة في الخصومة معنى نقلته عن وطني، وأنا لوطني أوفى الأوفياء
أعظم عيب في مصر هو أنها لا ترضى عن التفاوت في المواهب فهي لا تلتفت أبداً إلى الأوساط من الرجال في أي ميدان
وهذا العيب فضيلة عبقرية، ونحو به فرحون
لن نترك فرصة تمر بلا برهان على صحة البنوّة لهذه السماء وما صحت في غير مصر سماء، فتقشعي أيتها الغيوم الدخيلة على سماء هذه البلاد
هذا أظرف يوم؟
نعم، هو أظرف يوم، لأني أسلمت فيه العنان للقلم الجموح
زكي مبارك(505/12)
الحكم الذاتي في المدرسة
للأستاذ السيد يعقوب بكر
وهناك مسألة أخرى يصح التحدث عنها، وهي مسألة الإيعاز والحكم الذاتي
فللإيعاز أشكال كثيرة. ومن أعود هذه الأشكال بالفائدة شكلان: الإيعاز الإيجابي، والإيعاز السلبي. والإيعاز السلبي فيما يبدو أكثر فائدة في مضمار التربية
فالمربي يركن إلى الإيعاز الإيجابي حين يجد تلميذه أو تلاميذه ينهجون سنناً يؤدي بهم فيما بعد إلى اعوجاج تربوي. فإذا لم يرعوا تلميذه أو تلاميذه عن إنهاج هذا السنن فله حينئذ أن يسلك أحد سبيلين: فإما أن يصطنع العسف، وأما أن يرفض تحمل مسئولية ما يحدث. وصفوة القول أنه إذا وجد المربي تلميذاً ينتهج سنناً في انتهاجه ضرر تربوي، فعليه إذا استطاع أن يحول بينه وبينه، وإلا فليخبر من بيدهم القوة
على أنه يجب ألا يركن إلى الإيعاز الإيجابي كثيراً، ولكن إذا مست الحاجة إليه فليصطنع بغير تردد
أما الإيعاز السلبي فهو أدعى إلى الاهتمام. ذلك لأنه الوسيلة التي يصطنعها المربي لتدريب تلاميذه على تفقد العلاقة بين السبب والمسبب، وبذلك يعمل على أن يحقق لهم شخصيتهم العقلية. ومتى مرن هؤلاء التلاميذ على تفقد العلاقة بين السبب والمسبب فأنهم يستطيعون أن يصلوا إلى مرحلة العمل المثمر
ولنضرب للإيعاز السلبي مثلا نوضح به هذا الذي نقول. فلنفرض أن هناك فصلاً يصطنع فيه الحكم الذاتي، وأن تلاميذ هذا الفصل يبحثون مثلا مشكلة التأديب. فهناك نجد هؤلاء التلاميذ عاطلين من العقول الناضجة ومن الخبرة بالحياة، وأنهم لهذا يغفلون في اعتبارهم بعض الأحوال، فإذا ما وصلوا إلى رأي ما في هذه المسالة، فأن رأيهم هذا يكون رأياً مبتسراً غير مبني على اعتبار جميع الأحوال. وهنا يأتي دور المدرس، فإما أن يضع نطاق اعتبارهم حالة يتناولها رايهم، واما أن يسألهم مباشرة عما إذا كان خطر ببالهم انهم اغفلوا اعتبار عامل من العوامل. فإذا أدى بهم هذا إلى أن يعيدوا النظر في رأيهم ويصلوا بذلك إلى كنه المسألة، فان المدرس يكون حينئذ قد اصطنع الإيعاز السلبي ليعينهم على الوصول إلى هذا الرأي الصحيح. وإذا لم يستطعيوا الوصول إلى هذا الرأي الصحيح فعلى(505/13)
المدرس حينئذ أن يدعهم وما وصلوا إليه. فانهم سيدركون بالخبرة أنهم كانوا على خطأ، وأنهم لم يدخلوا في اعتبارهم جميع الحقائق.
وهنا مسألة ثالثة هي مسألة تأثيرات الحكم الذاتي. فللحكم الذاتي تأثير فيما يتعلق بالحياة، وتأثير فيا يتعلق بالنجاح في الحياة. ولنتكلم عن كل من هذه التأثيرات
1 - فيما يتعلق بالحياة
من وجوه النقد التي يمكن أن توجه إلى نظام الحكم الذاتي أنه يجبل التلاميذ على أن يحيوا حياة
مثلى بينها وبين واقع الحياة أمد بعيد، بحيث أنهم حين يلجون باب هذه الحياة يجدون أنفسهم
مضطربين إلى أن يفصلوا مما نشئوا عليه لينغمروا فيما هم فيه
والجواب على هذا الاعتراض أن الحكم الذاتي حين ينشئ التلاميذ على أن يحيوا هذه الحياة المثلى يعمل على إصلاح واقع الحياة وعلى معالجة ما فيها من عيوب. أما إذا نشأ التلاميذ على أن يحيوا حياة تشبه حياتهم الواقعة فأنه حينئذ لا يضطلع بأي إصلاح، وإنما يضمن للحياة الواقعة بقاءها على ما هي عليه من تخلف وقصور.
وهناك جواب آخر يتلخص في أنه يلاحظ دائما في أن التلاميذ يسلكون مسلكاً مضاداً لما يريده عليهم أساتذتهم. فإذا كان أساتذتهم يريدونهم على اعتناق الآراء القديمة البالية، فانهم على العكس من ذلك يعتنقون الآراء الثورية الهادمة، وإذا كانوا يريدونهم على اعتناق الآراء الثورية المجددة فانهم على العكس من ذلك ينتهجون نهجاً محافظاً. فهذه الحال الأخيرة هي ما نراه في نظام الحكم الذاتي. على أننا لا نقصد بالمحافظة هنا الجمود، بل المحافظة على خير ما في التراث القديم من تقاليد ثبتت على محك الزمان. ومعنى هذا كله أن نظام الحكم الذاتي يبث في نفوس التلاميذ روحاً مجددة ولكنة على أساس من القديم، روحاً تجمع بيم طرافة الجديد وعراقة القديم، روحاً تجدد ولكن لا تبدد.
2 - فيما يتعلق بالمنزل
لاشك في أن نظام الحكم الذاتي الذي ينشأ عليه الطفل في المدرسة يطبع هذا الطفل بطابع خاص ويحيله شخصاً آخر ويبث فيه روح الحرية والشجاعة، بحيث نراه في المنزل وقد(505/14)
خلع رداءه القديم، فأخذ يكثر من الأسئلة ويجادل أبويه ولا يكتم رأياً من آرائه، ويصبح بذلك كله مبعث فوضى واضطراب في البيت. ولكن بمرور الزمن نجد هذا الطفل قد اخذ يستشعر روح السعادة، ويكون بذلك مبعث سعادة في البيت.
فإذا ما لاءم والداه بين نفسيهما وما يعتنقه من رأى فإن الحكم الذاتي يكون حينئذ قد امتد أثره أليهما عن طريق غير مباشر. أما إذا لم يستجيبا له فهما على الأقل سيضطران إلى معاودة النظر في فلسفتهم في الحياة.
وصفوة القول أن للحكم الذاتي في المدرسة يداً تستطيع أن تمتد إلى المنزل فتتناوله بالتغيير والتبديل.
3 - فيما يتعلق بالنجاح في الحياة
يخيل إلى أن نظام الحكم الذاتي يؤهل التلاميذ لان يكونوا في المستقبل رجالاً يقومون بما تفرضه عليهم الحياة من واجبات، وزعماء يقودون الجماعات ويسوسون الجماهير. وليس من شك في أن هذا راجع إلى ما يبثه نظام الحكم الذاتي في نفوس التلاميذ من الاعتماد على النفس والقدرة على سياسة الغير.
وللحكم الذاتي أنصار وخصوم. فكما أن له أنصار ينادون بوجوب اصطناعه في كل مدرسة فان له خصوماً لا يفهمون منه إلا انه نوع من البلشفية نوع من البلشفية يتخلى فيه المدرس عن سلطته التقليدية ليتولاها عنه التلاميذ.
وهم يقولون انهم لا يخدعون بما يزعمه أصحاب هذا النظام من حتى الدرس في الأشراف والتوجيه. ذلك لأنهم لا يعترفون بسلطة إلا سلطة المدرس، ولا يؤمنون بحق إلا حقه.
فهؤلاء هم خصوم الحكم الذاتي. على أنهم لن تقدر لهم الغلبة عليه. ذلك لأنه صدى للحياة المتجددة، وهم صدى للقديم الموغل في القدم، وكيف يميت الصدى الحي صدى كاد يأكله الفناء؟ إلا أن الحياة لا تبقي إلا على ما يسايرها في سيرها الأبدي، أما ما يتخلف عن مسايرتها فقد حق عليه أن يموت على مدرجة الطريق غير مرئي من أحد أو مبكى من أحد.
هذه سنة الحياة، وسنة الأحياء، وسنة كل شيء.
السيد يعقوب بكر(505/15)
ميدان تونس
للأستاذ محمد إبراهيم حسن
مدرس بكلية الآداب
تمثل تونس الميدان الأول في حوض البحر المتوسط إذ تواجه فيه قوات جيوش الحلفاء في أكثر من موضع.
وكل من الطرفين يدافع دفاعاً مستميتاً. وستحدث قريباً في هذا الميدان موقعة خطيرة ستلعب دوراً هاماً في الحرب الحاضرة في هذا الشطر من العالم.
ذلك لان المسيطر على هذا الميدان يتحكم في كل أجزاء الحوض المتوسط. فإن كتب النصر للمحور فقد حمى بذلك جنوب أوربا، أو على الأقل إيطاليا من غزو الحلفاء. بل لا يبعد أن يعيد المحور كرته في السيطرة على شمال أفريقيا ليحول حوض البحر الأبيض إلى بحيرة محورية. أما إذا كتب النصر للحلفاء فستكون الطامة الكبرى على المحور إذ تعرض إيطاليا للغزو لا محالة، فالشقة قريبة جداً. ولا سيما أن الحذاء الإيطالي مكشوف من جميع نواحيه تقريباً لضرب الطائرات وإصابة الأهداف، كما أن تحصين هذه الشواطئ الطويلة أمر صعب على المحور بعد أن أنهكته روسيا من ناحية، وحاصرته بريطانيا بحرياً من ناحية أخرى. كما أن استيلاء الحلفاء على تونس سيطهر شمال أفريقيا من المحور، ويسهل الملاحة في هذا الحوض، وتعود الطرق الملاحية مطمئنة إلى حد كبير بين الهند والجزر البريطانية عبر مضيق جبل طارق. ولا شك أن هذا النصر سيؤثر كثيراً على سياسة الدول المحايدة في هذا الحوض ونعنى مصر وتركيا وأسبانيا.
ومما يزيد في أهمية هذا الميدان أنه يساعد كثيراً في التموين، فتونس غنية بحاصلاتها الزراعية من حبوب وفاكهة، وسواحلها تسيطر عليها موانئ صالحة لإيواء السفن، مثل: تونس وبنزرت وقابس وسوس والحمامات، وكلها تقع على رؤوس خلجان عميقة، كما أنها تتصل بالداخل بشبكة من السكك الحديدية تمر في الأودية والممرات الجبلية، كما أن كل هذه الموانئ على اتصال وثيق بالسكك الحديدية والطرق الصالحة.
من هذه النظرة العارضة يبدو السبب واضحاً في هذا القتال العنيف وتلك المغامرات التي نسمع بها في الصحف بين وقت وآخر. ولكن الغريب في هذا الميدان هو ضعف التقدم من(505/17)
الجانبين؛ فلقد عهدنا في الجيوش الألمانية تلك الحروب الخاطفة والدقة البالغة اللتين ظهرتا في الإغارة على نروج والدانمرك في إبريل عام 1940، وعلى بلجيكا وهولندا وفرنسا في مايو من ذلك العام. ولكن هذه الآلة الدقيقة لم تعمل في ميدان تونس بدقتها المعهودة، وبدلاً من أن تنتهي من حركاتها الحربية في أسابيع معدودات نجدها وقد مضى عليها بضعة شهور وهي لا تزداد إلا بعداً عن الغرض الذي تنشده.
ولعل هذه الظاهرة تعلل بعوامل كثيرة منها: طبيعة هذا الميدان المعقد إذ ينقسم إلى إقليمين متباينين هما الإقليم الجبلي الذي يشمل معظم الميدان، والإقليم السهلي الذي يمثل شريطاً يضيق ويتسع. ويتكون الإقليم الجبلي من سلسلة الأطلس البحرية في الشمال، وسلسلة أطلس الصحراء في الجنوب، وبينهما الطرف الشرقي من هضبة الشطوط، ويكثر في هذا الإقليم الممرات الوعرة مثل ممر قصرين الذي استولت عليه القوات الأمريكية أخيراً. وهذه الممرات تمثل كميتاً صعباً وتعقد شباكا معقدة لكل من الطرفين المتحاربين. ويقطع هذه الممرات السكك الحديدية التي تسهل اتصال مدن الداخل بموانئ الساحل.
أما الإقليم السهلي فيحيط بالإقليم الجبلي من ثلاثة مواضع: فهو سهل ساحلي ضيق في الشمال تشرف عليه الأطلس البحرية، ويضيق جداً حول بنزرت، ثم يبتعد قليلاً عن تونس. وهو في الجنوب قد شغل معظمه ببحيرة شط الجريد. أما في الشرق فيمثل شريطاً ساحلياً يتسع في الوسط ويضيق في الشمال حيث تقرب الأطلس البحرية من الساحل، ويضيق في الجنوب حيث ترقب أطلس الصحراء من الساحل في منطقة قابس. ولا شك أن الموضعين خطيران من الناحية الحربية لان كلا منهما يمثل عنق زجاجة تسهل للمسيطر عليه مهمة الدفاع والهجوم عند الضرورة. ولذلك يرجح أن القوات الألمانية المتقهقرة في طرابلس لا ينتظر أن تقاوم كثيراً عند خط مارث بل ربما تحصن نفسها عند عنق قابس إن أعطيت الفرصة
يظهر إذن أن هذا الميدان معقد جداً من الناحية الجغرافية مما يصعب الحركات الحربية، فان كان المناخ هو العامل الأول لبطء الحركات العسكرية في الميدان الروسي في فصل الشتاء.
فان طبيعة السطح هي العامل الأول لبطء تقدم الجيوش في الميدان التونسي ليس في(505/18)
الشتاء فقط بل طول العام.
ومما زاد في هذا البطء من الجانب الألماني هو تقسيم القوات المحاربة: فقسم في الشمال وقسم في السوط في منطقة سيدي بوزيد وقسم في الجنوب يمثل الجيش الألماني المتقهقر، والجانب المحوري، يعمل على الاتحاد لضرب الحلفاء ضربة قاضية، وجانب الحلفاء يعمل على العزلة لضرب كل على حدة. ولا شك أنه حتى الآن من الصعب أن نحكم أي الكفتين هي الراجحة.
وهناك عامل ثالث لا يقل عن العاملين الأولين أهمته وهو أن كلا من الطرفين قوي صلب الجانب مصمم على الدفاع راغب في النصر. ويواجه المحور عدواً من نوع جديد يخالف ما صادفه في تلك الدول الضعيفة التي اكتسحها في أول الحرب وظن بذلك أن النصر بسرعة خاطفة هو غرضه الأول ولا شك أنه بالغه. فاليوم يواجه في روسيا وتونس عدواً قوياً. ولا شك أن الغلبة لمن يصمد في الميدان.
محمد إبراهيم حسن(505/19)
واسط مدينة الحجاج
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
لا يخفى على المتتبع ما للثقافة في أية بلدة من البلدان من تأثير عظيم يقيم لها وزناً بين باقي المدن والأمصار.
فقد يتحدث المتحدث عن بلدة واحدة ذات شأن في مملكة من المماليك فتجعل البلدة لهذه المملكة شأناً بين الأمم والشعوب، وفخامة المدن نتيجة الثقافة والعمران، وهما أساسان رصينان في أسس الحضارة البشرية التي سمت على أحوال باقي المخلوقات في الطبيعة. ونقصد بالثقافة العلم والفن ومعاهدهما التي تدعى بالمدارس والجامعات على اختلاف أشكالها وأنواع مسمياتها.
فهي المناهل الرائقة للعلم والفن. وكلما ازداد عدد هذه البيوت ازداد مقدار التقدم الثقافي والتهذيب العلمي وبهما تكمل سيادة الأفراد في المجتمع البشري. وكذلك العمران ونقصد به المؤسسات المتنوعة لكل ما ينفع الفرد في حياته سواء أكان ذلك من أجل صحته أم عيشه أو اكتسابه. كل هذه المؤسسات تعود عليه بالنفع العميم لمواطنيه كافة من أبناء قومه وغيرهم.
ولقد دلت أبحاثنا عن تاريخ واسط الذي ما زلنا ندأب على استقصاء أخباره أن لمدارس هذه المدينة المندثرة أهمية كبيرة في تاريخها وان كان ما توصلنا إلى معرفته منها قليلاً. فإن معاهدها الثقافية لم تقتصر على عدد معلوم تحيط به المعرفة بل كانت هناك في واسط الربط التي كانت تكون بمثابة مدارس تدرس فيها علوم الدين وخاصة القرآن الكريم، وما يتعلق به من التفسير وما يخص قواعد الصرف والنحو وعلوم البيان والبديع والنثر والشعر، وكذلك الفقه والعلوم الشرعية وفلسفة الكون والتوحيد وغيرها؛ كما أننا نعلم أنه كان يتخذ في كل مسجد من المساجد مدرسة لتعليم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، ودرس العلوم الدينية.
فكان يعتبر كل مسجد بمثابة مدرسة من المدارس، وكان فيها كتاتيب لتعليم الصغار وتهيئتهم لقبول هذه العلوم. ولم تشتهر مدينة واسط كما يظهر لنا إلا بالمدارس الآتي ذكرها على ما دونه المؤرخون الرحالون من أبنائها، ولعلهم لم يجدوا أشهر منها في زمانهم.(505/20)
فأولاها مدرسة الأمير خطلبرس، وكانت تقع هذه المدرسة بالقرب من دجلة في الجهة الشمالية الغربية من الجانب الشرقي كما يغلب على الظن، لأن مدينة واسط كانت راكبة دجلة من الجانبين كبغداد. وقد نص على تعيين موقعها العلامة المؤرخ ابن الديئبي في مخطوطه المحفوظ الآن في الخزانة الأهلية بباريس حيث قال فيه: (جعفر بن مظفر بن يحيى بن محمد بن هبيرة. توفي بواسط سنة 610هـ. فدفن بها بمدرسة (خطلبرس) أعلى البلد اهـ. وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى أحد الأمراء الذين حكموا في واسط أسمه خطلوبرس ذكره جماعة من المؤرخين يطول بنا تفصيل أقوالهم هنا. وهي من مؤسسات القرن السادس للهجرة لأنفاق اكثر المؤرخين على تحديد وجود الحاكم المذكور في هذا القرن. ونستدل من أخبار هؤلاء المؤرخين أن المدرسة كانت كبيرة حتى كانت فيها مقبرة لدفن مشاهير الرجال العلماء فيها. وذكر ابن حجر في الدرر مدرسة بواسط تعرف بالمدرسة البرانية لوقوعها في أعلى البلد ولعلها هي لاتفاق المؤرخين على تعيين هذا الموضع. وتليها مدرسة الغزنوي بواسط وهو: محمود بن احمد بن عبد الرحمن أبو الفضل الغزنوي حدث بكتاب تفسير الفقهاء، وتكذيب السفهاء لأبى الفتح عبد الصمد بن محمود بن يوسف الغزنوي عن ولده القاضي يحيى بن عبد الصمد عن أبيه ذكره الحافظ ابن النجار وقال: صحب أبا الفتوح احمد بم محمد الغزالي وأخذ عنه علم الوعظ وقدم بغداد سنة سبع وخمسين وخمسمائة وعقد مجلس الوعظ بجامع القصر ثم انتقل إلى واسط فسكنها إلى حين وفاته.
وقرأت في كتاب القاضي أبى الحسين علي الواسطي بخطه قال: توفي محمود الغزنوي يوم الجمعة ودفن يوم السبت ثامن شعبان
سنة ثلاث وستين وخمسمائة في مدرسته بمحلة الوراقين وكان يوماً مشهوداً)
ثم تعقبها مدرسة شرف الدولة محمد بن ورام الجاواني الكردي ورد ذكره في مخطوطة تاريخ واسط لأسلم بن سهل ابن حبيب الرزاز الواسطي المعروف ببحشل حيث ذيلت في آخر المخطوطة الفقرة التالية: (سمع جميع هذا الكتاب وهو تاريخ واسط لبحشل. . . وذلك بواسط في مدرسة شرف الدولة محمد ابن ورام نور الله ضريحه في مجالس آخرها الاثنين رابع عشر من ذي القعدة من سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة). فإذا كان آخر قراءة(505/21)
المخطوطة في هذه السنة فلا شك أن تشييد المدرسة المذكورة يسبق هذا التاريخ المذكور بكثير
ثم تأتي بعدها مدرسة للحنفية ذكرها ابن الساعي الخازن وذكر مدرسها أبا المحاسن عبد اللطيف المعروف بابن الكيال الواسطي قاضي واسط المشرف على ديوانها الزمامي. تولى القضاء بواسط بعد أبيه. وكانت وفاة أبي المحاسن هذا سنة خمس وستمائة
ومن مدارسها أيضاً المدرسة الشرقية الشرابية ذكرها ابن القوطي البغدادي في حوادث سنة 632 هجرية. حيث يذكر فتحها في هذه السنة بالجانب الشرقي من واسط على دجلة وهي التي أمر بإنشائها شرف الدين أبو الفضائل الشرابي للشافعية، وكانت مجاورة لجامع كان داثراً فأمر بتجديد عمارته ورتب بها للتدريس العدل أحمد بن نجا الواسطي ومعيدان واثنان وعشرين فقيهاً، وخلع على الجميع وعلى من تولى عمارتها من النواب والصناع والحاشية الذين رتبوا لخدمتها، وعمل فيها دعوة حسنة حضرها صاحب الديوان تاج الدين معلى ابن الدباهي الناظر بواسط والقاضي والنقيبان: نقيب بني العباس ونقيب بني أبي طالب والشعراء والقراء، وكان المتولي لعمارتها وجعل النظر إليه وإلى عقبه في وقفها أبو حفص عمر بن أبي إسحاق الدروقي، وكان ذا مال كثير فائض وجاه عريض عمر، إلى جانب جامع ابن رقاقا رباطاً واسكنه جماعة من الفقراء، ورتب فيه من يلقن القرآن المجيد ويسمع الحديث، وأجرى عليهم الجرايات اليومية والشهرية. وأنشأ قريباً من مدرسة الشرابي هذه رباطاً آخر على شاطئ دجلة وتربة يدفن فيها ووقف عليها وقوفاً سنية، وممن درسوا بالمدرسة الشرقية الشرابية عماد الدين زكريا القزويني قاضي واسط صاحب كتاب عجائب المخلوقات وكتاب آثار البلاد وأخبار العباد فلم يزل كذلك إلى أن مات. وكان حسن السيرة عفيفاً. ومن مدارسها أيضاً المدرسة التي وصفها ابن بطوطة في رحلته ولم يذكر اسمها وإنما يذكر أسم بانيها وهو الشيخ تقي الدين عبد المحسن الواسطي الذي كان من كبار أهل واسط وفقهائها، وقال فيه إنه يعطي كل معلم بها كسوة في السنة ويجري له نفقة في كل يوم ويقعد هو وإخوانه وأصحابه لتعليم القرآن الكريم بها ثم يقول: (وقد لقيته وأضافني وزودني تمراً ودراهم) فتكون رحلة ابن بطوطة إلى واسط في إبان تشييد هذه المدرسة التي قال فيها إنها مدرسة حافلة فيها نحو ثلاثمائة خلوة ينزلها الغرباء القادمون لتعليم(505/22)
القرآن وهي من منشئات أوائل القرن الثامن الهجري. ويجد الباحث في تاريخ واسط مدارس بأسماء المحدثين والرواة والفقهاء كانوا يتخذونها بأسمائهم أو يجعلون قسماً من بيوتهم مدرسة يجتمع إليها طلاب العلم من المدينة أو من أنحاء أخرى
هذا مجمل ما تمكنت من العثور عليه من أخبار مدارس واسط. ويقيني أن وجود هذه المدارس في مدد متقاربة هو الرجعة العلمية التي حدثت في أواخر أيام الدولة العباسية لا سيما عهد الوزير نظام الملك وزير آلب أرسلان وملكشاه السلجوقيين فهو الذي نعش الرح العلمي في زمانه بفتحه المدارس النظامية في أنحاء الشرق العربي والعجمي فتأثرت واسط هذه الآثار وعاد لها نشاطها العلمي والثقافي وهي أم المقرئين والمحدثين والفقهاء الذين درسوا وأفتوا في مختلف البلدان العربية وأخصها بغداد مركز الخلافة العباسية حيث كثر في معاهدها العلمية الأساتذة الواسطيون
ومن أخبار العمران في واسط أن نذكر مارستانها وأطبائها الذين عثرنا على أسمائهم في سياق البحث. وأول أطباء واسط تياذوق طبيب الحجاج بن يعلف له نوادر وألفاظ مستحسنة في صناعة الطب وقد عمر طويلاً. صحب الحجاج والى العراق وخدمه بصناعة الطب، وكان يعتمد عليه ويثق بمداواته؛ وله تفاصيل مع الحجاج لا يسعنا ذكرها. وقد توفي بواسط في نحو سنة تسعين للهجرة، وله من الكتب كناش كبير أي كتاب جامع ألفه لابنه، وكتاب إبدال الأدوية وكيفية دقها وإيقاعها أذابتها وشتى من تفسير أسماء الأدوية. وله تلاميذ أجلة تقدموا بعده. ذكره عدة مؤرخين. ثم يليه تلميذه فرات بن شماتة الذي كان طبيباً لعيسى بن موسى الذي دعاه المهدي إلى خلع نفسه وتولية الهادي، ومن الأطباء أيضاً يوسف الواسطي الذي قرأ عليه جبريل بن عبيد بن بختيشوع الذي كان من أطباء المقتدر وخواصه، ومنهم أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرة الحراني كان طبيباً مقدماً كأبيه، وكان طيب المقتدر خصيصاً به، ثم خدم القاهر وإليه يرجع وعلى وصفه يعتمد. ومن أخباره أنه لما كان خليفة الراضي بالله استدعى بحكم التركي سناناً وكان بواسط وسأله الانحدار إليه ولم يتمكن من الطلوع في ذلك قبل موت الراضي لملازمة سنان بخدمته، فانحدر إليه أكرمه ووصله. وله حديث طويل فيه نصح وإرشاد يطول بنا وصفه حتى انه حمل بحكم على عمل دار ضيافة بواسط وقت المجاعة أكرمه سناناً غاية الإكرام وعظمه غاية التعظيم(505/23)
ومن أهم البيمارستانات التي شيدت بواسط البيمارستان الذي شاد بذكره المؤرخون، أنشأه مؤيد الملك أبو علي الحسن الرخجي وزير شرف الدولة بن بهاء الدولة مدبر دولة الخليفة القادر بالله العباسي في العراق جميعه سنة 413 هـ وأكثر فيه من الأدوية والأشربة والعقاقير، ورتب له الخزان والأطباء وغير ذلك مما يحتاج اليه؛ وصفه عدة مؤرخين أيضاً. ومن مشاهير أطباء هذا البيمارستان أبو النعيم بن ساوة الطبيب الواسطي كان من الحذاق في الطب وله فيه إصابات حسنة وقد قتل في سنة 497 هـ، فيكون موته قريباً من عهد تشييد البيمارستان المذكور وممن نحن جديرون بذكره الطبيب الكبير موفق الدين أحمد بن محمد المعروف بأبي طاهر بن البرخشي كان من أهل واسط وكان فاضلاً في الصناعة الطبية كاملاً في الفنون الأدبية والفلسفة والحكمة والطب، وكان كريم الشمائل ظريف المخايل لا يخال إلا الأكابر، ولا يألف إلا الصدور، وكان مع ذلك مأوى الضعفاء وملجأ الملهوفين كثير الإحسان، وقد كان من أهل القرن السادس للهجرة. وقدقيل إنه كان حياً بواسط سنة ستين وخمسمائة، وكان عنده أدب بارع ومعرفة بالنظم والنثر فلا بد أن أبا طاهر البرخشي كان من الذين خدموا في البيمارستان المذكور أو من الذين اتصلوا بأطبائه ما دام أنه كان إذ ذاك من مشاهير أطباء واسط ومن الذين عاشوا بعد تشييد البيمارستان المذكور
ومن الأطباء أيضاً أبو الفرج سعيد بن إبراهيم الواسطي، هذا كان طبيباً وقساً وراهباً، وممن نزحوا إلى واسط لممارسة هذه المهنة العظيمة الشأن أبو العلاء محفوظ بن المسيحي بن عيسى الحكيم الطبيب النصراني النيلي الأصل نزيل واسط، وكان طبيباً فاضلاً نبيلاً مذكوراً في وقته عالماً بصناعة الطب مرتزقاً بها جميل المشاركة محمود المعالجة وله مع ذلك أدب طريف وخاطر في النظم، وكان مولعاً بالألغاز والمعميات. توفي في أوائل سنة ستين وخمسمائة إذ كان معاصراً لأبي طاهر البرخشي المذكور آنفاً
هذا ما وقع إلينا من أخبار أطباء واسط ومارستانها ولعلنا نعثر على غيرهم في المستقبل والله ولي التوفيق.
(بغداد)
يوسف يعقوب مسكوني(505/24)
السيدة سكينة بنت الحسين
للأستاذ سعيد الديوه جي
- 3 -
صالتها
ولئن ظهرت صالونات فتيات الطبقة الأرستقراطية في الغرب حوالي القرن الثامن عشر، فقد كانت هذه الصالونات معروفة في الأندلس قبل ذلك بقرون. فكان صالون (ولادة بنت المستكفي) مجمع العلماء والشعراء وأهل الفن والأدب. وهذه الصالونات كانت منتشرة في المدينة منذ القرن الأول الهجري. والذي نراه أن أول ظهورها في الشرق كان في المدينة المنورة على عهد الدولة الأموية، وأول من سن هذا هي السيدة سكينة، ثم تبعها بعد ذلك سيدات قريش
امتازت ندوة سكينة بفخامتها وجلالتها، ذلك لأنها ندوة سكينة التي نعرف أدبها الرفيع وعلمها وظرفها ومروءتها وميلها إلى تشجيع كل نابغ، والأخذ بيد كل سائر، تهديهم الطريق وتذلل لهم العقبات، وترشدهم إلى مواضع الضعف في علمهم وأدبهم وفنهم. وفي بيتها غرف للانتظار وأخرى للضيافة يتزاحم فيها الشعراء والأدباء والفقهاء ورواة الحديث والمغنون. وقلما كان يمر بالمدينة أمير أو شريف أو نابغ أو عالم إلا ويعرج إلى هذه الندوة عش الأدباء وكعبة العلماء والفقهاء.
وكم اجتمع الشعراء ببابها والناس حولهم يطلبون الإذن منها لينشدوها أشعارهم أملاً في صلتها أو طلباً لإبداء رأيها. وكم انتظر الشعراء ببابها أياماً حتى يأذن لهم. والشيء المعتاد عند أهل المدينة هو أن يترددوا إلى ندوتها ليشاهدوا مباراة الشعراء فيها، أو الحلقات العلمية التي تعقد. أو مجالس رواة الحديث التي تدور، وكانت السيدة سكينة تشارك في هذا كله من وراء حجاب حيث تراهم ولا يرونها، يحف بها جواريها اللاتي يروين الأحاديث ويحفظن الأشعار
اجتمع الفرزدق وجرير وجميل وكثير ونصيب في موسم الحج. فقال بعضهم لبعض: لا تجتمعون في مثل هذه الساعة، فهلموا نفعل شيئاً نذكر به في الزمان. فقال جرير: هل لكم(505/26)
أن نسلم على سكينة بنت الحسين فلعلها أن تكون سبباً لما أردتم. قالوا: نعم الرأي. وانطلقوا فاستأذنوا. فخرجت جارية وأعلمت مولاتها بقدومهم. فأذنت لهم فقصدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم. أخرجت إليهم جارية وضيئة قد روت الأشعار والأحاديث، فقالت: آيكم الفرزدق؟ قال: أنا. قالت: أنت القائل:
هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره
قال: نعم. قالت: ما وفقت ولا أصبت. أما آيست من تعريضك بعودة صدق محمودة؟ ما دعاك إلى إفشائها سرك وسرها؟ أفلا سترت على نفسك وعليها؟ خذ الألف درهم وانصرف. ثم دخلت وخرجت، وقالت: آيكم جرير؟ قال جرير: هاأنذا. قالت: أأنت القائل؟:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فأرجعي بسلام
قال الجرير: أنا قلته. قالت: فما أحسنت ولا أجملت ولا صنعت صنع الحر الكريم حين رددتها، وقد تجشمت إليك هول الليل. أفلا أخذت بيدها ورحبت بها وقلت لها (نفسي فداؤك فادخلي بسلام. خذ هذه الألفين والحق بأهلك. ثم انصرفت إلى مولاتها ثم عادت فقالت: آيكم القائل:
ولولا أن يقال صبا نصيب=لقلت بنفسي النشء الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتظار
قال نصيب: أنا قلته. قالت: غزلت وأحسنت ولا كرمت، لأنك صبوت إلى الصغار وتركت الناهضات بأحمالها. خذ هذه السبعمائة درهم فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها ثم عادت فقالت: آيكم القائل:
وأعجبني يا عز منك خلائق ... كرام إذا عد الخلائق أربع
دنوك حتى يدفع الجاهل الصبا ... ودفعك أسباب المنى حين يطمع
وإنك لا تدري كريماً مطلته ... أيشتد إن لاقاك أو يتضرع
قال كثير: أنا قلته. قالت: غزلت وأحسنت. خذ هذه الثمانمائة درهم فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها ثم خرجت فقالت: أيكم القائل:
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد(505/27)
يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وأي جهاد غيرهن أريد
وأفضل أيامي وافضل مشهد ... إذا هيج بي يوماً وهن قعود
قال جميل: أنا قلته. قالت: غزلت وأحسنت وكرمت وعففت، ادخل، لما سلم. فقالت سكينة:
(أنت الذي جعلت قتيلنا شهيداً، وحديثنا بشاشة، وأفضل أيامك يوم تذب عنا وتدافع، ولم تتعد إلى قبيح، خذ هذه الألف درهم وأبسط لنا العذر، أنت أشعرهم)
على أن هذا التبصر بالشعر وفنونه والمآخذ الدقيقة على الشعراء لم يكن ليتهيأ لغير سكينة، فقد كان لها فوق ذكائها المتوقد، من عوامل الوراثة من والديها وما ساعدها على ذلك. فجدها سيد فصحاء العرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمها بدوية نشأت في البادية وتلقت الفصاحة عن شعرائها وبلغائها وهي شاعرة رقيقة. ناهيك عن محيطها الذي نشأت فيه وهي المدينة المنورة عش الأدباء والشعراء، ومنشأ الغزل الإباحي العفيف - كل هذه العوامل أثرت في السيدة سكينة وجعلتها تفوق بنات قريش في بصرها الثاقب ورأيها الصائب وأدبها الرفيع
نرى رواة الشعراء يختصمون وكل يفضل صاحبه فإذا جدال وإذا خصام وينشدون حكماً صائباً يقدر أن يوفق في مثل هذا الموقف الحرج فيقضي لفحل على فحل دون خوف أو حذر أو تعصب. ومن لهم في مثل هذا الموقف؟ وأني لهم ذلك الحكم الواسع الإطلاع على أشعار العرب وأنسابها وأخبارها ليوفق في حكمه؟ ومن يعرض نفسه لتهكم جرير أو لفحش الفرزدق أو لهجو الأحوص. هذا مالا يجرؤ عليه أحد. ولا يتهيأ لغير (السيدة سكينة). اجتمع بالمدينة رواة الشعراء جرير ونصيب وكثير وجميل والأحوص فأدلى كل منهم أن صاحبه أشعر وتراضوا بأن يحتكموا إلى سكينة بنت الحسين. فقصدوا ندوتها وعرضوا عليها الأمر فأذنت لهم. فدخلوا. قالت لصاحب جرير: أليس صاحبك الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيادة فأرجعي بسلام
وأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق؟!
ثم قالت لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا حزناً من ذا يهيم بها بعدي
كأنه يتمنى لها من يتعشقها بعده ألا قال:(505/28)
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص أليس صاحبك الذي يقول:
من عاشقين تواسلاً وتواعداً ... ليلاً إذا نجم الثريا حلقا
باتا بأنعم ليلة وألذها ... حتى إذا وضح النهار تفرقاً
قالت: نعم. قالت: ألا قال (حتى إذا وضح النهار تعانقاً)
ثم قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فيا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفي علي كلامها
قال. نعم. قالت. رحم الله صاحبك. إنه كان صادقاً في شعره، وكان جميلاً كاسمه، فحكمت له. ورضى الجميع بالحكم
ميلها للغناء
وللسيدة سكينة شعور رقيق وحب للجمال - وهل يحب الجمال إلا الجميل - هي جميلة في صورتها، جميلة في صوتها، جميلة في نفسها، وجميلة حتى في تهكمها ونقدها. ففاض هذا الجمال من روحها الطيبة الطاهرة، وغمر ندوتها، وجعلها معرضاً للفن والجمال.
وما الغناء إلا مظهر من مظاهر الجمال الروحي الذي تجيش به الأنفس فتهتز له القلوب فتردده ألحاناً.
كان يعجبها الغناء وتهتز له. وكان المغنون يقصدون صالونها ويعرضون فيه ألحانهم الجديدة وأصواتهم المبتكرة التي لم تكن معلومة عند العرب. وكان (الفريض) مولاها يلازم هذه الندوة ويشرف على مرتاديها من أهل الفن. فاعتنت السيدة سكينة بتربيته وأسلمته إلى المغنين وما زال يسمو أمره حتى بلغ في الغناء ما بلغ.
وهذا (حنين المغني العراقي المشهور يشد الرحال إلى المدينة المنورة تلبية لدعوة زملائه المغنين فيها. ولما كان على مرحلة منها ازدحم الناس لمشاهدته - فلم يرى يوماً كان أكثر حشراً ولا جمعاً من يومئذ - وأمل كل سرى وشريف أن يحل حنين ضيفاً عنده. ولكن كل شرف دون شرف، ومن له من الشرف والمروءة مثل ما لها؟ عرج الحنين إلى دارها ليسلم عليه ويستأذنه في الغناء عندها قبل كل أحد. فأذن له بالدخول. ثم أذنت للناس إذناً عاماً وأقبل أهل المدينة كعاداتهم إلى صالتها ليسمعوا أنغام حنين، غصت الدار وصعدوا فوق(505/29)
السطح وأُمرت لهم بالأطعمة فأكلوا ثم ابتدر حنين يغني:
هلا بكيت على الشباب الذاهب ... وكففت عن ذم المشيب الآيب
فأزدحم الناس على السطح وسقط الرواق على من تحته فسلموا جميعا إلا (حنين) فأنه مات تحت الهدم.
على أن المصائب التي اعتورتها منذ صغرها لم تترك قلبها خاليا من الحزن والأسى، وكيف يخلو قلبها من الحزن وقد شهدت أعظم المصائب؟ فقد كانت تأنس بالنوح وتخفف به آلامها وأحزانها. ومن أحق بالنوح منها؟ وهل النوح إلا أنغام الحزن والأسى؟!
كانت تبعث بالأشعار المحزنة إلى المغنين ليصوغوا بها ألحانا يتاح بها. كما كانت تختار من ذوي الأصوات المشجية وتسلمهم إلى المغنين ليعلموهم النوح، وقد بعثت مملوكها عبد الملك أبن سريج وأمرته أن يعلمه النياحة. ولما توفي عمها (أبو القاسم محمد بن الحنفية) ناح عليه نوحاً في غاية من الجودة.
(يتبع)
سعيد الدبو هـ جي
بالموصل(505/30)
الأزهر حصن الدين وينبوع الأدب
للأستاذ حسن عبد العال
صاحب جريدة (الإصلاح) الحلبية
فقدت استنبول صفة الإسلام بزوال الخلافة منها وانتقلت هذه الصفة إلى القاهرة، وكانت القاهرة مع وجود الخلافة في عاصمة الإمبراطورية العثمانية عاصمة (عملية) للإسلام، فقد حفظت آثار الإسلام وأخذت طابعاً إسلامياً بارزاً في مساجدها القديمة ومدارسها الدينية، وعاداتها التاريخية، ومواسمها المذهبية، وهي الآن مركز لأعظم جامعة إسلامية وأقدم جامعة في العالم ففيها الأزهر، والأزهر دعامة الإسلام وركن العروبة؛ وينبوع الأدب وقاموس اللغة، وقد حفظ الأزهر مآثر الإسلام وبالغ في إغداق الفضل على اللغة العربية حتى صانها من الفناء وضمنها من البلاء، وأحاطها بسياج صد عنها المكارة فنعمت في أروقته وعاشت في ظلاله حتى صدرت إلى مجاهل الهند والصين، وبلغت آداب العرب ذروة المجد في هيكل الأزهر، حتى أشرقت على العالم العربي بجمالها وبهائها، وغرف العرب والمسلمون من معينها في كل زمان ومكان، وتدفقت شهداً من أفواه الأدباء الفطاحل
هذه صورة عن الأزهر، وهو على كل حال أجمل وأفضل، ولئن كان في حالته المتواضعة ومتانته في الدفاع عن العروبة والإسلام قذى في عين جماعة السخفاء من المتأدبين، وحصناً لا يثبت فقرهم الأدبي أمام غناه في المناعة والجبروت، لقد نجده ضرورة للأدب وحياةً للقومية، ونوراً للعالم الإسلامي؛ وفي هذه الضرورة وهذه الحياة وهذا النور رحمة تصيب كل من نطق بالضاد وآمن بالله الأحد، رحمة عامة شاملة، لو جزأتها إلى تراكيب الاصطلاحات الحديثة لكان معنى هذه الرحمة اقتصادا أو سياسة واجتماعاً، ارتبطت بها أجزاء العالم الإسلامي المبعثرة، والأقطار العربية المتفرقة. وإن شئت الدليل فقل لي ما يكون شأن عالم إسلامي بدون هذه الجامعة؟ وما حالة بلاد العرب بدون هذا للغتها؟ وما قيمة القومية بلا لغة ذات قواعد وآداب؟ ولأذهب بك إلى شي اقرب من هذا كله، ولأذكرك بحقيقة تلمسها وتؤمن بها، لتعتقد ببداهة فضائل الأزهر، فلولاه لما قرأت أدباً لطه حسين، ولا تلذذت بما كتب عبد الوهاب عزام، ولا أخذتك روعة علم أحمد أمين، ولا استنزفت مقالات أحمد حسن الزيات كل ما في نفسك من إعجاب، ولا كان سعد أخطب الخطباء(505/31)
وأحسن الزعماء، والمنفلوطي في طليعة الكتاب. كلهم طلبوا في الأزهر وحفظوا ألفية ابن مالك، وقرءوا مجموعة المتون، واستظهروا رسالات الكتاب ودواوين الشعراء، وحفظوا القرآن والحديث، وحضروا دروس المعاني والبيان والبديع والتفسير وفقه اللغة، حتى علموا بلغتهم ودينهم، ورسخت أسس أدب أمتهم في صدورهم؛ ثم مالوا إلى آداب الأمم الأخرى اقبلوا عليها إقبال العالم بالأدب، ونقلوا روائعها إلى قومتهم، فأحسنوا الانتقاء، وأتونا بأدب متين جميل جيد السبك، حسن الأسلوب غزير المادة كان الأدب الحديث لهذا الزمان، ولكنه كان مؤسساً على فضل الأزهر وأصوله في التدريس، ولو لم يكن كذلك لقرأنا الآن أدباً ركيكاً وخيالاً بارداً كله لحن يتطاير منه السخف، فالحمد لله على نعمة الأزهر وأدباء الأزهر وعلوم الأزهر فلقد أغنى الأمة العربية بالأدب الممتاز، وجعلها في حل من الاقتصار على أدب يكتبه جماعة من أدبائنا الحديثين، ممن تأدبوا من هوامش الأدب وأطراف الكتب. . .
وبعد فالأزهر كله فضل وفخر. وفخري منه أنني طلبت فيه
حسن عبد العال(505/32)
البريد الأدبي
من جنايات المذاهب الصوفية
قرأت في باب البريد الأدبي رقم 504 كلمة عن المذاهب الصوفية وتنكب بعض رجالها وأتباعها الطريق السوي، ذكر فيها كاتبها الفاضل عن تفسير المنار بعض ما كان للحلاج من مواطآت كان الغرض منها أن يلقي في ورع العمة وأشباه العامة أنه ممن آثرهم الله بعلم الغيب والقدرة على المعجز من الأمور
وقد بعثني ما قرأت إلى كتابة هذه الكلمة الموجزة عن هؤلاء الذين يزعمون أنفسهم متصوفين ومشايخ الطريق، الذين بما لبسوا على العامة وأشباه العامة وبما اندس بينهم من الحال بالشرع والحق، صاروا غير أهل لشيء مما يتمتعون به من تشريف وتكريم
محي الدين بن عربي من أساطين المتصوفة، وممن لا يزال لهم أتباع كثر في البلاد الإسلامية، على بعد فلسفته النظرية والأخلاقية عن الدين، ويكفي أن نشير إلى بعض ما يرى في الأخلاق
1 - انه بما ذهب إليه من القول (بوحدة الوجود) وما يستلزمه هذا القول من اعتبار العالم كله صوراً ومجالي ومظاهر لله الذي هو وحده الموجود، قد أتى الأخلاق من قواعدها، إذ لا معنى للمسؤولية الأخلاقية التي هي مناط الثواب والعقاب؛ لان للآثم أخلاقياً أن يقول: ما دام الله الذي اتخذني مظهراً له هو الذي فعل حقيقة ما يظن انه فعل لي، كيف يستقيم أن أكون أنا المسؤول!
2 - ويظهر أن الشيخ الأكبر (كما ينعته أتباعه) لا يتهيب أن يصل به مذهبه إلى هذا الحد فيما يتصل بالأخلاق. أنه يرى أن الذي وصل إلى درجة المحبة الحق يباح له أن يتجاوز حدود ما أنزل الله، بعد أن لازم زمناً طويلاً حفظها؛ لان من أحكام المحب أو من صفاته أنه كالدابة جرحه جبار! بل أنه ليرى أن هذا الصنيع من المحب لا يعتبر مجاوزة للحدود إلا في نظرنا نحن، أما بالنسبة إليه فهو كأهل بدر الذين أباح لهم أن يفعلوا ما يشاءون فقد غفر لهم، وإذاً فتصرف المحب هو تصرف فيما أبيح له! وإذا تركنا هذا القياس الخاطئ للمحب على أهل بدر، رأينا ابن عربي يذكر تعلة أخرى لما جاز من تعدي المحب حدود ما أنزل الله؛ إذ يرى أن هذا المحب - وهو ولهان مدله العقل لا تدبير له في رأيه - غير(505/33)
مؤاخذة فيما يصدر عنه، وغير مطالب بالآداب التي لا يطالب بها إلا من كان له عقل
وبعد: فهل لنا بعد هذا أن نعالج في جد مشكلة هؤلاء المتصوفة، أعني الذين عرفوا منهم بالإلحاد
في العقيدة، والضلال في الأخلاق، وأكل أموال أتباعهم الجهال بالباطل!
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
العالم العربي
أهاب الأستاذ محمد عوض محمد في مجلة الثقافة بزعماء المسلمين لإعداد الخطط التي تؤول إلى ما فيه اليمن والفلاح. ومن واجبات المصلحين حث القادة على العمل المثمر لوضع الدعائم التي يقوم عليها صرح الوحدة العربية وتوجيه آراء الأمة نحو المثل العليا والسير بالشعب نحو المحجة السامية.
وما نخال مقال الأستاذ إلا توطئة لمقالات أخر ودراسات شاملة نأمل منه ومن حضرات المفكرين أمثاله أن يمهروا بها العالم العربي، ولا أقول الإسلامي
فالوطنية الحق ليست وقفا على دين من الاديان؛ وان في مسيحي الشرق العربي من الشباب الطامحين المثقفين الأحرار من يدلون على الملأ: قاصيه ودانيه بعروبتهم ويفخرون بقوميتهم، ويتعصبون لها كأشد المسلمين اعتزازاً بالوطنية وتعلقاً بالعروبة. وأني أرى أن يعدل كتابنا عن اسم (العالم الإسلامي) إلى (العالم العربي) عند ما يعرضون للوطنية وللاستقلال بالدراسة والبحث لأنه أدل تسمية وأدق تعبيراً.
وبعد، فما أنا من يتحرج بالاسم الديني هذا يطلق على البلاد العربية الغالية، والمسلمون أخوان لي أثيرون على قلبي، ولهم في نفسي - كما لهم في كل نفس تؤمن بالعروبة - مكانة لا تعد لها المكانات، وإنما أود أن نجرد نحن الشرقيين معنى الوطنية من الطائفية، فالطائفية كما نعلم جميعاً لم تكن إلا بلاء في وطن كثرت فيه الملل وتعددت فيه المذاهب والنحل.
والطائفية كانت - لنكد الطالع وشؤمه - الثغرة التي نفذ منها دعاة السوء إلى بنياننا القومي(505/34)
فصدعوه، وما فينا على ما أعتقد من ينكر هذه الحقيقة إلا من أضله التعصب سواء السبيل وغشت على بصيرته نوازع الأهواء.
نحن اليوم أشد ما نكون حاجة إلى التكاتف والتساند وتوحيد الجهود لدرء ما قد يهدد الكيان العربي من أخطار. وعرب نحن سواء كنا مسلمين أم نصارى، وحرى بنا أن فرقت بيننا المذاهب أن تجمعنا العروبة فهي خير آصرة تتآلف عليها القلوب وتتوثق بها العرى، فللعروبة يجب أن تهفو النفوس وباسمها فلتنطق الأفواه
(بيروت)
جورج سلستي
تراث بني إسرائيل
يخطئ المفسرين الأستاذ الصعيدي فيما ذهبوا إليه من أن الله عز وجل رد بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه، فأعطاهم جميع ما تركوا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم؛ معتمداً على أن تاريخ مصر وتاريخ بني إسرائيل لا يثبتان عودة الإسرائيليين إلى مصر ولا قيام ملك لهم فيها قبل ظهور الإسلام؛ ثم يقول: والحق أن الله تعالى يشير إلى بساتين وعيون كانت لهم في فلسطين، وأن الضمير في (أورثناها) يعود إلى مطلق الجنات والعيون؛ لا إلى خصوص ما كان في مصر على ذلك العهد، وهذا من أسلوب الاستخدام المألوف في لغة العرب
ومقال الأستاذ صريح؛ أو ظاهر - على لغة الأزهريين - في خمس دعاوي، إن المفسرين قاطبة على هذه الرأي، وأنهم جميعا مخطئون؛ وأن التاريخ ينفي عودة بني إسرائيل لأنه لم يثبتها، وأن الأستاذ وحده مبتكر هذا الرأي، وأنه الحق.
ولكن ما قول الأستاذ في أن ما نقله المفسرين إنما هو رأي جمهورهم - لا رأي جميعهم - بناء على الظاهر كما يقول الأزهريون إلا بقاطع. ولا قاطع، وأن التاريخ إذا سكت عن إثبات شئ لا يكون حجة على نفيه، ومن القضايا الأزهرية (عدم الدليل ليس دليلاً على العدم).
فكيف وقد أثبت التاريخ القديم رجوع بني إسرائيل إلى مصر؟ قال الآلوسي: ورأيت في(505/35)
بعض الكتب أنهم رجعوا مع موسى وبقوا معه بمصر عشر سنين. وجاء في كتاب البشرية ص 88 لمؤلفه لينج أن موسى بعد أن هزم فرعون مصر الذي فر إلى الحبشة حكم مصر ثلاث عشر سنة
والمتبادر من قوله تعالى: (ويستخلفكم في الأرض)، ومن قوله (ثم قلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض)، ومن قوله سبحانه (وأورثنا بني إسرائيل) انهم رجعوا إلى مصر. وقد حكى الألوسي تأويلا آخر هو عين ما قاله الأستاذ الصعيدي إلى أن قال: وأخذ قوم بقول الحسن وهو رجوع بني إسرائيل إلى مصر وقال لا عبرة بالتواريخ وحسبنا كتاب الله تعالى فهو أصدق القائلين
طه محمد الساكت
المدرس بمعهد القاهرة
من نوادر العرب
نوادر العرب كثيرة، يعثر عليها المرء في تضاعيف الكتب التاريخية، وثنايا المصنفات الإخبارية. وإني لراوٍ لك فينا يلي طرفا مما التقطته من نوادرهم
1 - كان أبو حية النميري جباناً، وكان له سيف ليس بينه وبين الحية فرق، وكان يسميه (لعاب المنية). وذات يوم وقف النميري على باب داره ليلاً، وقد جرد سيفه وهو يقول: (أيها المغتر بنا، والمجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك؛ خير قليل، وسيف صقيل، هو لعاب المنية الذي سمعت به. أخرج بالعفو عنك، وإلا دخلت بالعقوبة عليك)! وظل واقفا لا يجسر على الدخول، مخافة أن يكون فيه لص فاتك. فجاء رجل من أهله، فدفع الباب فانفتح. . . وخرج منه كلب يعدو كالأرنب، فسقط النميري على قفاه وهو يقول: (الحمد لله الذي مسخك كلباً، وكفاني حرباً)!
2 - دخل رجل أعور على معن بن زائدة، فأمر له بجائزة. وكان (معن) جودا؛ ثم دخل عليه رجل آخر، وكان مثل زميله اعور، فأمر له بجائزة. . . فعادا يمشيان جنبا إلى جنب بحيث صارت عيناهما المكفوفتان جوار بعضهما البعض. . . فقال معن (لقد أعطيتكما منفردين، فماذا تريدان؟) فقال أحدهما (بيننا رجل أعمى يستحق الصدقة)، فأعطاهما معن(505/36)
ضعف ما أخذاه، فقال أحدهما:
ألم ترني وعمراً حين نمشي ... نريد السوق ليس لنا نظير
أماشيهِ على يُمْنَى يدْيه ... وفيما بيننا رجل ضرير!
3 - وأما نوادر البخلاء فليس لها حصر، ولذلك نجتزئ بذكر هذه النادرة الطريفة: -
طبخ أحد البخلاء قدراً، وجلس يأكل مع زوجته، فقال: (ما أطيب الطعام لولا كثرة الزحام!) فقالت: (وأي زحام وما ثم إلا أنا وأنت؟) فقال: (كنت أحب أن أكون أنا والقدر)!
زكريا إبراهيم
كليوباترة
منذ أمد بعيد واستديو لاما يعمل عملاً متواصلاً في إنتاج فلم (كيلوباترة)، وقد ابتدأ عرض هذا الفلم الذي اشترك في تمثيله جماعة منتقاة من الممثلين والممثلات نذكر منهم الأساتذة: بدر لاما، منسي فهمي، السيد زيادة، حسن كامل. والآنسة أمينة رزق، وزوزو نبيل. والمطربة درية أحمد وغيرهم. وقد أخرج هذا الفلم التاريخي العظيم المخرج المعروف الأستاذ إبراهيم لاما.
عبد الفتاح متولي غبن(505/37)
العدد 506 - بتاريخ: 15 - 03 - 1943(/)
7 - دفاع عن البلاغة
الذوق
يكثر ترداد كلمة (الذوق) في البلاغة، كما يكثر ترداد كلمة (العقل) في الفلسفة. ذلك لأن حاسة الذوق هي أداة الفن، كما أن ملكة العقل هي أداة العلم. فمن لا يذق لا يدرك الجمال، كذلك من لا يفقه لا يعرف الحق. ولم تؤتَ البلاغة إلا من فساد الذوق فيمن يكتب أو فيمن يقرأ. ولم أجد فيما أثر من أدبنا، ولا فيما نقل إلى لغتنا، كلاماً يفيد طالب البلاغة في موضوع الذوق على ما له من بليغ الأثر في إنشاء العمل الفني وصحة تقديره ودقة نقده. لذلك لم أر من الفضول، وأنا في مقام الدفاع عن البلاغة، أن أحاول تجلية هذا المعنى بمقدار ما يحسن الاستطراد في موضوع يؤديَّ على الطرف الأقصى من الإيجاز
ما هو الذوق؟ والذوق حاسة معنوية يصدر عنها انبساط النفس أو انقباضها لدى النظر في أثر من آثار العاطفة أو الفكر. وقديماً فطن الناس إلى الشبه بين الذوق الحسي الذي يميز بين الطعوم، وبين هذا الذوق المعنوي الذي يحكم في نتاج الفنون. وما أظنهم وقفوا بوجه الشبه بين هاتين الحاستين عند طبيعة الإدراك، وإنما تعدوا به إلى قابليتهما للكمال والنقص، واختلافها بين الناس باختلاف الزمان والمكان والخلق والمادة على أن التنوع والتغير والاختلاف في الذوق الحسي أضعف وأقل، لأن مجاله محدود؛ وأدراك المادي قريب، واستيعاب المحدود ممكن، وفعل الطبيعة والبيئة في تطوير الغرائز بطئ لا يكاد يحس. أما الذوق المعنوي فمجاله ما يعجب وما لا يعجب من أعمال النفس والذهن. والمعجب وغير المعجب من هذه الأعمال أمور لا تزال تتأثر بعوامل الزمن والإقليم والجنس والتربية والثقافة والحضارة والطبقة والسن؛ وكلما التبست هذه الأمور التبس الذوق الذي يسيرها ويدبرها ويفرق بينها ويحكم عليها. فالذوق الحسي مرجعه إلى الطبيعة وللطبيعة طريقة واحدة؛ والذوق المعنوي مرجعه إلى العادة وللعادة طرق متعددة. وإذن لا يمكن الظفر بذوق عام تصدر عنه أحكام الناس على الأعمال الفنية، فإن ما يعجب الحضري قد لا يعجب البدوي، وما يطرب المصري قد لا يطرب الأوربي؛ فرقص (ببا) خزي عند الغربيين، وغناء (جانيت) نهيق عد الشرقيين. وفي الغالب نرى الشيء الواحد يثير الاستحسان في نفس والاستهجان في أخرى. فكيف نجعل الذوق أذن ميزاناً في البلاغة(506/1)
وهو على هذا الاختلاف؟
إن للذوق مصدرين يستمد منهما الحكم في جميع قضاياه: الأول العقل المتزن، وهو يحكم في التناسب والقصد والترتيب والعلائق المشتركة بين السبب والنتيجة، أو بين الطريقة والغاية. والذوق المستمد من هذا المصدر له ما للعقل من الوضوح الذي يشرق في كل نفس مهذبة؛ وقواعده كقواعد العقل لا تتغير لأنه ثابت مطرد. والفنان الذي أوتي ثقوب الذهن يكون في مأمن من الزيغ إذا اتبع قواعد الفن لأنها وضعت على هذا الأساس المكين
والمصدر الآخر هو العاطفة، وهي الشعور الواقع على النفس مباشرة من طريق الحواس. وهنا كان مجال الاختلاف وسبب التباين؛ لأن الحقيقة في الفنون غير الحقيقية في العلوم: هي في العلوم محصورة مضبوطة، ولكنها في الفنون منتشرة مبسوطة؛ ومن ذلك كان التدرج من الحسن إلى الأحسن، ومن الفائق إلى الممتاز. ولم ينشئ هذه الفروق إلا هذا الذوق العاطفي الذي يتولد من الصفات والعادات والحوادث فيجعل الحقيقة الفنية تختلف في نفسها من شعب إلى شعب، ومن قرن إلى قرن، حتى لتختلف في المكان الواحد، وفي الزمان الواحد، وفي الإنسان الواحدة، تبعاً لحالات العواطف وانطباعات الحوادث واختلافات الميول
ضع نموذجا أمام مائة طالب ليرسموه، ثم انظر بعد ذلك فيما عملوا تجد الرسوم كلها تتشابه لأول وهلة؛ فإذا أطلت فيها النظر لا تجد رسمين منها يتشابهان، لأن الذوق الخاص بكل راسم جعل الصور تختلف في حقيقتها، وإن لم تختلف في جوهرها وطبيعتها
لا بد للذوق إذن من استمداد العقل والعاطفة كليهما في تكوين حكمه: هذا بمقتضى المنطق السليم، وتلك بمقتضى الشعور الحاصل. ومرجع كل حكم من أحكام الذوق إلى القاضي الأعلى وهو الطبيعة. وللطبيعة، والحمد لله، قانون نافذ على كل كائن. وقد كان للناس قبل أن يوجد الفن ذوق معنوي خلقته الطبيعة فيهم كما تخلق الغرائز؛ وكان لهذه الحاسة من ميلها ونفورها قاض يحكم على كل شئ فلا يخطئ حكمه. فلما ظهر الفن لم يعارض الطبيعة ولم يناقضها، وإنما حسنها وزينها وعمل أحسن مما عملت باتباع طريقتها واقتباس وسيلتها وملاحظة تطورها إن الفنان كلما دنا من الطبيعة كان أنقى وأصدق. أنظر إلى أدب الجاهليين من العرب والإغريق تجد أظهر خصائصه الحقيقية والسذاجة والوضوح. ذلك(506/2)
لأن البدوي أو الهمجي يمتاز بقوة بصره وحدة سمعه؛ وإن حاسته المعنوية التي تتصل بعينه وأذنه تمتاز كذلك بوضوح الإدراك وصدق الحساسة. وإذا كان ذوقه أضعف من ذوق المتمدن في التحليل والتحديد والتمييز، فإنه ثابت غير مضطرب، خالص غير مشوب. لقد اخترع البدوي المجازات البيانية والصور الخطابية قبل أن ينشأ الفن ويوضع البيان. ولقد كان إذا ما ضرم النوى أنفاسه، وأرمض الهوى نفسه، يخاطب الغياب ويظنهم يسمعونه، ويكلم الأطلال والأموات ويعتقد أنهم يفهمونه. أسمعه حين تصيبه مصيبة فيشكو، أو تسعفه صنيعة فيشكر، أو تمسه إهانة فينتقم، تجده قد شعر بأثر ذلك في نفسه كل الشعور، وإدارة بالعبارة الملائمة أصدق الأداء، فلا يوارب ولا يبالغ ولا يتكلف. لأن الطبيعة صادقة لا تعرف التمويه، صريحة لا تقبل الرياء.
وهل تنتظر من رجل لا يقول إلا ليعبر عما في نفسه أن يقول غير ما في نفسه؟ وكيف يجازف بالألفاظ حين يصف وهو لا يصف إلا ما أثر في قلبه أو وقع تحت حسه؟ فليت شعري هل نستطيع أن نكون اليوم كالبدو طبيعيين نستلهم الواقع ونستوحي الطبيعة! اليقين الذي لا ريب فيه أننا لا نستطيع، لأن حياتنا قد أصبحت من التركيب والتعقيد والتصنع بحيث لا تجد غريزة على جبلتها، ولا عادة على طبيعتها، ولا عاطفة من عواطف الناس على أصلها وحقيقتها. فنحن نتغزل من غير حب، ونمدح من غير عاطفة، ونصف ما لم نر، ونقص ما لم يقع، ونتقمص في القصص أشخاصاً خياليين أو حقيقيين فنتكلم بلسانهم، ونشعر بشعورهم. فكيف نستطيع في هذه الأحوال أن نجد العبارة والحرارة اللتين يجدهما البدوي أو الهمجي، من دون كد ولا معانات؟ لقد جعلنا الطبيعة بالتصنع فناً، فينبغي أن نجعل الفن بالتطبع طبيعة.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات(506/3)
في ضيافة الهلالي باشا
للدكتور زكي مبارك
كانت جريدة الأهرام نشرت أن جماعة من الوزراء سيزورون المنوفية، وأن منهاج الزيارة شهود اجتماع يعقده النواب والشيوخ في سنتريس، فاستفسرت من حضرة الأستاذ شافعي ألبنا عن المراد من ذلك الاجتماع، فقال إنه للترحيب بالوزراء وهم في الطريق إلى عاصمة المنوفية، وإنما اختيرت سنتريس لأنها الملتقى لبلاد مركز أشمون، ولأنها أول بلد على بحر شبين بعد عبور القناطر الخيرية
قلت لنفسي: إن اسمي يخطر في البال حين تذكر سنتريس، فما الذي يمنع من دعوة وزير المعارف للتفضل بزيارة داري هناك؟
وكان المفهوم عندي أن الدعوة ستقابل بالاعتذار الرفيق، فقد كنت أعرف أن الوقت لا يتسع للزيارات، ولكن الهلالي باشا أعزه الله تقبل دعوتي بأحسن القبول، كأني وجهتها إليه وهو في أسيوط وطن الشهامة والجود
وفي مكتب الوزير دار حديث على الصورة الآتية:
- أهلاً بنابغة سنتريس!
- هذا اللقب لا يكفي يا معالي الوزير في تحيتي
- وكيف؟
- لأن الأستاذ عباس حافظ هو الذي منحني هذا اللقب في مناوشة أدبية، وهو يريد أني نابغة سنتريس فقط، ولست مفكراً عالمياً، كما أريد لنفسي. وللأدباء مسالك تعجز عنها الشياطين!
- كنت أحسب أنك منحت هذا اللقب لكثرة ما تتحدث عن سنتريس
- لو صح هذا لجاز أن أكون أيضاً (نابغة أسيوط) فلي فيها قصائد، وسأنشر عنها كتاباً بعد حين
- أسيوط أوحت إليك أشياء؟
- هي مدينة موحية، ولعلك توافق على أن لشارع الهلالي هناك جاذبية تفوق الوصف، وما دخلت أسيوط إلا جعلته طريقي إلى النيل(506/4)
- لذلك الشارع تاريخ، فقد كان مع الأراضي التي حواليه بستاناً من بساتين جدي، وكان البستان هو الممر الموصل بين قصره بالمدينة ودهبيته بالنيل، فأين أنا من تلك الحياة؟ وأين مني ذلك الثراء؟
- إن ثروة جدك لم تضع، يا معالي الوزير، فلها صورة باقية هي علمك وفضلك، وفي بعض الآثار أن ذكاء المرء محسوب عليه، فالذكاء رزقك، وهو أطيب الأرزاق
- من فضل الله على أهل الأدب أن يحبب إليهم المعاني
- وفي سبيل المعاني سترى أني بخلت على جيبي بثمن شجرتين عظيمتين قامتا في مدخل البيت
- وما حديث الشجرتين؟
- إن تكلا باشا صاحب جريدة الأهرام بنى في ضواحي سنتريس قصراً لا يعلو عليه غير هاتين الشجرتين، فأنا أعزهما كل الإعزاز لأطول بهما قصر الرجل الذي قلت فيه:
ينازعني في سِنتريسَ منازعٌ ... له من جَدَا (الأهرام) مرتبع خٌصبُ
إلى آخر القصيدة التي سأثبتها في الطبعة الثانية من ديواني
- سأزور دارك، مع الشكر لدعوتك الكريمة، وإن كان مكاني في رحلة الوزراء إلى المنوفية مكان الضيف
- وزير المعارف لا يكون ضيفاً بالمنوفية، لأن المنوفية تمد مصر بجماهير كثيرة من المعلمين، وأنت وزير المعلمين، وسيكون الجميع ضيوفك هناك
كان يجب أن أدعو الوزراء الذين يشتركون في رحلة المنوفية، ولكن كيف أدعوهم وقد ضاق الوقت؟
دعوت معالي الأستاذ فؤاد باشا سراج الدين بالتليفون فتلطف بالقبول، ولم يفته أن ينص على أن اسم سنتريس اسم جميل
ومررت على معالي وزير العدل، وهو رجل أبغضه بعض البغض، لأنه يريد بجهاده ونضاله أن يكون الرجل الأول في المنوفية لا في سنتريس! فقال حين رآني: ما كنت أعرف أن الهلالي باشا يعزك إلى هذا الحد. ففهمت أن الهلالي باشا حدثه عن دعوتي قبل أن أصل إليه بلحظات(506/5)
ثم رجوت الأستاذ شافعي ألبنا أن ينوب عني في دعوة من لم أستطع دعوتهم لضيق الوقت، وهو أخ نعمت بمودته شهوراً طوالاً في غياهب الاعتقال
في عصرية اليوم الذي يسبق يوم الاحتفال دخلت سنتريس لأرى كيف استطاع أبنائي بمعونة بني أعمامهم إعداد حديقة الدار لاستقبال الوزراء
وهناك وجدت نواب مركز أشمون يتحاورون فيما ينبغي أن يقال
سمعت كلمات لم تعجبني، فسارعت إلى تفنيدها فيما بيني وبين نفسي، لأتخذ منها مادة أنتفع بها في إحدى المقالات، ولأشير عليهم بإخفائها عن الوزراء، إن خفت أن يقولوها في حضور الوزراء.
فقلت في نفسي: وما الغيب في ذلك؟ هل نقلت أطيان المنوفية إلى القليوبية أو الغربية؟ إن الذي وقع لا يزيد عن أن العائلات الكبيرة تفرعت إلى عائلات صغيرة، ومن هنا تعددت الملكيات في المنوفي، وهذا باب من قوة الشخصية، فلكل فلاح في هذا الإقليم وجود صحيح، وهو لهذا صورة نموذجية من الرقي المنشود
وسمعتهم يقولون: يجب أن نعرض مطالب المنوفية على الوزراء
فقلت في نفسي: الأفضل أن يقال إن المنوفية في استعداد لمعاونة الوزراء على إصلاح سائر الأقاليم، لأنها تملك أكبر عدد من المفكرين
والتفت فرأيت الأخ العزيز محمد أفندي محمود عمدة سملاى يجذب يدي ليسر في أذني كلمات، فما تلك الكلمات؟
هو يرى أن نقيم الزينات على باب البيت
وأنا أرى أن يبقى البيت بصورته الطبيعية، لأني أبغض الحسن المجلوب
ثم غلب رأيه وحضر الفراشون لتزيين مدخل البيت، فسمعت منهم كلمات غير مفهومة، ولكني تظاهرت بالعلم وتركتهم يتصرفون في حدود ما يحسبون
(شُوَية كُرُنات، شوية كرنُات)
فما هذا من الوجهة اللغوية؟
الكلمة الأولى مفهومة، فالشَّوية مؤنث الشُوّىّ، والشوىّ مصغر شئ المخفف عن شئ، ولكن ما (الكُرُنات)؟(506/6)
دار ذهني مرة ومرات إلى أن عرفت أنها منقولة عن الكلمة الفرنسية وعلى هذا تكون الكُرنُات هي التيجان
لا بأس، فللأدب الفرنسي في عقلي ديون، ومن حقه أن يزور داري مع الوزراء.
أما بعد فنحن في صبيحة الاحتفال، وقد تجمعت خلائق في سنتريس يعجز عن عدها الإحصاء وهذا هو (البرجاس)، فما البرجاس؟
هو لعب الخيل، تلك كلمة قاموسية هجرت في أكثر البلاد، وبقيت مأنوسة في سنتريس
لم يكن منظوراً أن يحضر الوزراء في الميعاد. ومن الذي يفَرض على رجال مكدودين أن يحضروا يوم راحتهم في الميعاد؟ لم يبق إلا أن تتمتع تلك الجماهير بلعب الخيل، وفي لعب الخيل متعة ذوقية تذكّر أبناء المنوفية بماضيهم في الفروسية
وبجانب لعب الخيل تقوم المزامير والطبول في لونها القديم والحديث: فتسمع مرة (يا نخلتين في العلالي) وتسمع مرة (بالك مع مين يا شاغل بالي)
ثم تنظر فترى بُنَيّات المدارس الأولية من سملاى وسنتريس فتلتفت إلى ماضي صِباك، يوم كنت تخطب طِفلةً وهي في المهد، لأنك سمعت أن أمها من رائعات الجمال. . .
أما الأطفال فقل فيهم ما تشاء. ولقد سرْني أن أرى أطفال سملاي وسنتريس في صحة وعافية. وأي أطفال؟
الحمد لله على نعمته، فما فيهم سقيمٌ ولا ضعيف، وإنما هم الطلائع لجيل سيكون برعاية الله أقوى الأجيال
إن وزارة الصحة لا تخاف على سنتريس حين تتعرض بلاد مركز أشمون لإحدى الآفات، فهواء سنتريس شفاء من كل داء، وهل تذكر وزارة الصحة أن بلدنا كلفها شيئا من المتاعب؟
إن الله يعلم أن سنتريس تعتمد على رعايته السامية؛ وإن الله يعلم أن أهل سنتريس أحوج الناس إلى رعايته السامية؛ فهو بكرمه وفضله ولطفه يقيهم الأسواء
قضاء لحظة تحت سماء سنتريس تذهب همومي ولو كانت أثقل من الجبال، فلهذا البلد روحانية منقولة عن اعتماد أهله على واهب الخيرات والثمرات، ورعاية الله لمن يتوكلون عليه لا تحتاج إلى بيان.(506/7)
حضرت ثلة من الشرطة للمحافظة على النظام، ولكن الأهالي لم يحوجوهم إلى تعب، فقد عرف كل فرد واجبه، وسادت الرغبة فأن تكون الحفلة غاية في الصفاء
ومع هذا أنظر فأجد رئيس نقطة النعناعية يشكو من أن أحد أقربائي يحاول الشغب في الاحتفال، وبعد التحري ظهر أن حامد أفندي عثمان يطلب من الحاضرين إمضاء عريضة ترفع إلى وزير المعارف، ليتفضل الوزير بإنشاء مدرسة ابتدائية في سنتريس
عند ذلك ابتسمت وقلت: يسرني أن يعرف حضرة الضابط أن معالي الهلال باشا يحب هذا النوع من الشغب. والمطالبةُ بإنشاء مدرسة ابتدائية في سنتريس شغب لطيف. ثم أخذت العريضة لأقدمها إلى معالي الوزير بنفسي، وستكون أجمل هدية أقدمها إليه
وأقبل الخيالة يعدون ويركضون تبشيراً الزائرين، فهتفت الجماهير بحياة جلالة الملك، وصدحت الموسيقى بالسلام الملكي ثم تعالت الهتافات بأسماء الوزراء وباسم رئيسهم الجليل، شفاه الله وعافاه
كان مع الركب جماعة من المحررين والمصورين، وهم جميعاً أصدقاء، وكان فرحى بلقائهم فرح الأديب بالأديب
وبعد تناول القهوة وقف النائب المحترم سليم أبو العلا فألقى خطبة طويلة تحدث فيها عن أعمال الذين حضروا من الوزراء، وقد قوبلت خطبته بالإعجاب
وكانت النية أن يخطب الأستاذ عبد البر زهران، ولكن الوقت لم يتسع لما يريد. ثم نهض معالي الأستاذ صبري باشا أبو علم فألقى كلمة لطيفة شكر بها نواب مركز أشمون، وأعتذر بلطف لمن ضاق الوقت عن سماع ما أعدوا من الكلمات الجياد
وفي تلك اللحظة تموجت تلك الجماهير لتزور داري مع الوزراء، فكان منظر لن تنساه سنتريس، ولو طال الزمان
لقد أقيمت في بلدنا حفلات كثيرة سمع فيها أهل بلدنا أصوات رجال مشاهير من رؤساء الوزارات، ولكني أستبعد أن يكونوا فرحوا بقدر ما فرحوا في هذا اليوم السعيد
أمر الوزراء الوفديين عجب في عجبّّ!! إنك تنقدهم كيف شئت في المجالس والمنتديات، ولكنك لا تستطيع صد الجماهير عن الوفاء لهم إلى أبعد حدود الوفاء
لم أكن وفديا في أي يوم، ولا دعوت هؤلاء الوزراء للتفضل بزيارة داري إلا لغاية أدبية،(506/8)
هي أن تضيفهم سنتريس، وهي المكان الذي اختاره للاحتفاء بهم نواب مركز أشمون، فما الذي يملك من السحر هؤلاء الوفديون؟
كان السرادق الذي أعده النواب يضيق برغم رحابته عن إعلان الفرح بقدوم أولئك الوزراء، فلما وجدت الجماهير فرصة للترحيب بهم في حديقة الدار تدافعوا تدافع الأمواج، وأعلنوا فرحهم بهتاف يشق أجواز السماء
وفي هذا الزحام وقف وزير المعارف ليسمع النشيد:
سنتريس في سرور ... وهناء وحبور
وقف برجاء من الأديب محمود عبد العزيز، برغم ذلك الجو الضجاج
أين الوقت؟ أين؟
إن الوزراء سيصلون الجمعة في شنوان، فمن الواجب أن نعفيهم من الخطب الطوال
قال الأستاذ عبد السميع الطوخي فقرات من خطبته، وقال الأستاذ محمد شما أبياتاً من قصيدته، ودعاني وزير العدل إلى أن ألقى خطبتي، فماذا أقول؟
قلت: إن الحاضرين جميعاً في ضيافة الهلالي باشا. . .
وطويت خطبتي. فما الذي كان في الخطبة المطوية؟
الجواب عند شجرات الورد في حديقة داري، وهي قد حدثتني أن الزهر يعيش يوماً أو يومين، أما جذور أشجار الورد فهي في صلابة الجلمود، ومنها تتخذ (البيبة) التي تعجز عن إحراقها النيران
دعابة الهلالي باشا هي زهر الورد
وصلابة الهلالي باشا هي جذع الورد
وهل منعت وداعة هذا الرجل من أن يكون أحزم الرجال؟
زكي مبارك(506/9)
ذكرى السيد جمال الدين
للأستاذ محمود شلبي
أمم في رجل، وبركان ثائر يرمي بالحمم والنار، وصورة حية فذة عجيبة تسعى من النور وإلى النور. رجل أقام العالم وأقعده، وهز الشرق هزة عنيفة فأحيا العقول بعد مواتها، فتنبه الغافل ونشط العاقل وخر الباطل ذليلاً خاشعاً إلى الأذقان
ذلكم يا صاحبي، الأستاذ الفيلسوف السيد جمال الدين الأفغاني المتوفى صباح يوم الثلاثاء 9 مارس سنة 1897 ميلادية
ولد في قرية (أسعد آباد) من قرى كنر سنة 1254 هجرية، وفي السنة الثامنة من عمره أجلس لتعليم وعنى والده بتربيته فأيد العناية به قوة في فطرته، وإشراق في قريحته، وذكاء في مدركته، فأخذ من بدايات العلوم ولم يقف دون نهاياتها
واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من سنه، ثم عرض له سفر إلى البلاد الهندية، فأقام بها سنة وبضعة أشهر ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الأوربية الجديدة
ثم ذهب إلى مكة حاجا، ثم عاد إلى بلاده، ولم يمكث طويلاً حتى تاقت نفسه إلى الحركة فيمم وجهه شطر الهند وتلقته حكومتها بحفاوة وإجلال.
وهبط مصر أربعين يوماً تردد فيها على الجامع الأزهر وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين ومالوا إليه كل الميل، ولكنه تعجل بالسفر إلى الآستانة
وصل الآستانة وهو مع ذلك بزيه الأفغاني: قباء، وكساء، وعمامة عجراء؛ وحومت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم وتناقلوا الثناء على علمه ودينه وأدبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم. وبعد ستة أشهر سمي عضواً في مجلس المعارف فأدى حق الاستقامة في آرائه وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه على الذهاب إليها رفقاؤه
ودعي لإلقاء خطاب في دار الفنون للحث على الصناعات، فلبى بعد امتناع، وما ألقى الخطاب حتى ثارت عليه ثائرة الرجعيين فصدر إليه الأمر بمغادرة الآستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب ثم يعود إن شاء، ففارق الآستانة مظلوماً في حقه، مغلوباً لحدته، وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر(506/10)
مال الشيخ إلى مصر، فهوت إليه أفئدة من الناس وتحلق حوله طلاب المعرفة من كل صنف، ثم وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول؛ فنشطت لذلك ألباب، واستضاءت بصائر، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه
وهنا اصطدم الحق بالباطل، فنفس عليه الشيوخ مكانته، وشغب عليه سفلة المتعلمين وهم شر من سفلة الجاهلين، ولكنه واصل وثبته الفكرية وأشعل النار في الهمم الخامدة، وظل دائباً عاملاً دعي من حيدر آباد إلى كلكته وألزمته حكومة الهند الإقامة فيها
ولما وضعت الحرب أوزارها، أصعد إلى مدينة لوندرة وأقام بها أياماً قلائل، ثم انتقل عنها إلى باريس وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنين وافاه في أثنائها الإمام محمد عبده.
هذا هو الرجل العجيب، أنشأه القدر إنشاء ليكون الشعلة المقدسة في الشرق، في زمان هبت فيه ريح الجهل تريد أن تطفئ نور الله.
ولقد أجمع على احترامه الغرب والشرق، وشهدت له الأستانة وباريس وبطرسبرج بالعبقرية والغيرة والحمية على الدين.
ونظرة واحدة إلى حياة الرجل، تدلنا على قوة شكيمته في الحق، وسلطته على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها كأن كل معنى قد خلق له، يشد هذا وذاك قلب سليم، وحلم عظيم، وقوة اعتماد على الله لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر. تتضافر هذه القوى الذهنية والقلبية والخلقية داخل بنيان الرجل، فتندفع متعطشة إلى النور والحرية، فيندفع البطل إلى طموحه كالأسد الوثاب، ويتخط العراقيل المكدسة في طريقه حتى ينال ما يبغي أو يرتقب بارقة تلوح.
لقد كان السيد جمال الدين كثير التطلع إلى السياسة، قوي الرغبة في إنقاذ المصريين من الذل، فدخل الماسونية وتقدم فيها حتى صار من الرؤساء، ثم أنشأ محفلاً وطنياً تابعاً للشرق الفرنسوي، ودعا تبابعته من العلماء والوجهاء إليه، فصار أعضاؤه نحواً من ثلاثمائة. وعظم إقبال الناس عليه حتى أقلق من بيدهم الأمر وقتئذ.
أنظر إلى الرجل وهو يخاطب العوام ليستشيرهم، فيقول ما معناه: (. . لو كان في عروقكم دم قيه كريات حياة، وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر، لما رضيتم بهذا الذل والمسكنة، ولما(506/11)
صبرتم على هذه الضعة والخمول، ولما قعدتم على الرمضاء وأنتم ضاحكون. تناوبكم أيدي الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك، ثم الفرنسيس والمماليك. . وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفة، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت. انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار طيبة ومشاهد سيوة وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالرشيد فلاح
هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، انفضوا عنكم غبار الغباوة والخمول. . .).
لقد كان للرجل من حياته مقصدان: علمي وهو تنبيه المسلمين إلى الإصلاح الديني والعلمي بالكتابة والخطابة، وسياسي اجتماعي وهو ترقية الشرق أية دولة كانت غير مفرق بين وطنه وسائر البلدان.
وهكذا النفوس ذات الآفاق الرحيبة التي لا تقف عند غاية إلا لتتخطاها إلى أخرى أسمى منها.
محمود شلبي(506/12)
إلى الأب أنستاس ماري الكرملي
لا. . . بل النحاة واللغويون ثقات!
للأستاذ عبد الحميد عنتر
نشرت (الرسالة) في العدد (503) مقالاً ضافياً للأستاذ (الأب أنستاس ماري الكرملي) تحت عنوان (لماذا لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين). عدد فيه بعض مآخذ عليهم، توجب عدم ثقته (دائماً) بأقوالهم، ولو كان إدلاء إجلاء، إلا بعد عرضها على محك النقد والتحقيق، فإن أظهر المحك صدق إبريزهم، وافق عليها وقيدها عنده، وإلا نبذها نبذ النواة؛ ثم عرض لذكر شئ من أخطائهم التي جمع ما يقع في مجلد ضخم. هذا ملخص تصديره
وسيكون كلامي إلى (الأب) في ثلاثة مقامات:
الأول - في منزلته اللغوية
الثاني - في تخطئته النحاة واللغويين
الثالث - في مبلغ هذه التخطئة من الصواب أو الخطأ فأقول، مراعياً الإيجاز قصارى جهدي، ومن الحق تعالى أستمد السداد
المقام الأول
لا ينكر أحد أن للأب (أنستاس) البحاثة الراوية، جولات في ميادين اللغة وصولات، وأنه يطرف قراء العربية الفينة بعد الفينة، ببحوثه الشيقة، ونقاشاته اللغوية الدقيقة الممتعة؛ ولا غرو، فإنه بذلك يحافظ على تراث أجداده الفصحاء وأسلافه من العرب العرباء. ونحن لا ننسى قولاته الضافية باحثاً منقباً عن اللغة على صفحات (الأهرام) أيام الرخاء (أعادها الله على العالم أجمع) فنحمد له غيرته على العربية، وحدبه على خدمتها، وولوعه بالبحث عن شواردها، فهو من أكابر الباحثين في اللغة المحدثين، وإن لم نر له معجماً يضارع (أقرب الموارد) للقس (سعيد الشرتوني) أو (المنجد) للأب (لويس اليسوعي) مثلاً
المقام الثاني
ظاهر عنوان المقال يحمل في طياته المقدمات ونتيجتها الحتمية الآتية:
الأب يبني بحوثه وتحقيقاته اللغوية على أقوال اللغويين والنحاة، والنحاة واللغويين في(506/13)
نظره مخطئون غير موثوق بأقوالهم. فالنتيجة المنطقية أنه هو الآخر مخطئ غير موثوق بأقواله، ويلزم هذه النتيجة نتيجة عامة، هي أنه لا يثق أحد بأقوال النحويين واللغويين أجمعين!! وأحسب (الأب) لا يرضى لنفسه تلك الوصمة الشنعاء، كما أعتقد عدم صحة النتيجة العامة بالبداهة
على أن من يسمع كلمة (أخطأ اللغويون. أخطأ النحاة). التي رددها (الأب) في مقاله، يفهم أن اللغة قد أحيط بها، وأن علماء اللغة والنحو قوّضوا بنيانها، وهدموا أركانه! مع أن ما نسبه إليهم في مقاله من الخطأ (في انتقاده) لا يعدو أنهم حصروا عدداً من الألفاظ على زلة خاصة، وجاء هو ومَن قَبله بقليل يقولون:
إن في اللغة أوزاناً أُخَر تنقض هذا الحصر.
والخلاصة: أنه جعل خطأهم في العدّ، خطأ في اللغة!
لا. يا سيدي. إن الخطأ في اللغة شئ آخر. هو أن يفسر اللغوي لفظاً بغير معناه الذي تواضع عليه العرب، كأنه يفسر (الماء) بمعنى العسل، أو يجعل معنى (نَصَر) لمقلوبه وهو (رصَن)، أو نحو ذلك. ومثلك لا يحتاج إلى هذا البيان. فالحق أن العنوان بظاهره قريب، وإن تنصل الأب من هذه الريبة: بأنه لا يثق إلا بأقوال القُدامى من النحويين وعلماء اللغة. وإذا وضح أن الخطأ الذي ألصق بعلماء النحو واللغة إنما هو (في العدد) لا (في اللغة). وجب أن يقول الأب معي: (إن النحاة واللغويين إثبات ثقات، وإن كان توثيقهم في الحقيقة قطعيّ الثبوت قبل أن أوجد أنا والأب بمئات السنين.
وإن كان الأستاذ يريد بالخطأ ما وقع لصاحب القاموس أو غيره من اللغويين، فمثل هذا لم يسلم منه لغوي ولا نحوي. هذا صاحب القاموس يحصي أخطاء صحاح الجوهري، وهذا صاحب الجاسوس يحصى أخطاء القاموس، وهذا الشيخ إبراهيم ناصيف اليازجي اللُّبناني، والعلامة أحمد تيمور باشا، يؤلف كل منهما في مؤاخذات لغوية على كتاب لسان العرب، ومع ذلك لم يجرؤ أحد فيما أعلم، على القول برفع الثقة عن القاموس أو عن لسان العرب؛ بل لا يزالان ولن يزالا أهم مراجع للعلماء، وأضوء نبراس للأدباء من الكتاب والشعراء. وبعد فأظن أن هذا المقام قد استوفى حقه من التوضيح والتدليل.
المقام الثالث(506/14)
قلنا: إن الخطأ الذي نوه الأب بذكره في مقاله - هو خطأ النحاة واللغويين في (حصر الألفاظ لبعض الأوزان)، وهو المحور الذي يدور عليه مقاله الطويل، المقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول - فِعْلى
أورد الأب هنا قول النحاة واللغويين: ليس لنا من الجموع على وزن (فِعْلى)، ألا حجلى (جمع حَجَل لطائر) وظِربي (جمع ظَرِبان لدابة خبيثة الريح)، ولا ثالث لهما، ثم أخذ يندد بعلماء النحو واللغة، من عهد أبي الطيب المتنبي، وأبي علي الفارسي إلى عهد اللغوي الكبير الشنقيطي. فإنه لم يعثر أحد منهم على ثالث لهذا الوزن، إلا الدماميني، فقد وجد ثالثاً بعد طول عناء، وهو لفظ مِعْزَى جمع معزاة، حتى جاء الشنقيطي والأب أنستاس، فعثرا في المخصص وغيره على ستة جموع (أسماء جموع) بوزن فِعْلى، (وكلها من غريب اللغة). وهي: العِرْقي (أصول الشجر الممتدة في الأرض إلى أسفل) والعِمْقي (شجر أمر من الحنظل بالحجاز وتهامة)، والعِفْري (ريش عنق الديك)، والصِّحْنَي (نوع من السمك، وهو معرّب، ومعناه الصِّير) والذِّفْرَي (أسم جمع للعظم الناتئ خلف الأذن، واحدته ذفراة)، والشِّيزَي (خشب تصنع منه الجِفان). بهذه الكلمات ظهر خطأ النحاة وعلماء اللغة في قولهم: ولا ثالث لها.
قلت: لم يصب الأب شاكلة الصواب في هذه التخطئة؛ فإن نظرة غير فاحصة في قواعد النحو والتصريف ترشدنا إلى صواب ما قاله الأقدمون، وخطأ ما جاء به المتأخرون، وإلى القارئ البيان:
أثبت النحاة اللغويون وغيرهم، كلمتي (حجْلى وظِرِبَى) في معرض الكلام على موانع الصرف، وحكموا لهما بحكم (ذكرى) التي تمنع من الصرف لألف التأنيث المقصورة فلا يدلهما التنوين أبداً، وليس لهما ثالث في اللغة يحكم له بهذا الحكم. وأما (مِعزى) وما ذكر معها، ففيها عن العرب وجهان: الصرف وعدمه. فالمصروف منها ألفه للإلحاق بدرهم، وغير المنون منها ألفهُ للتأنيث.
ومما تجب معرفته صرفيَّا أن وزني (فَعْلى وفعلى) إذا ورد لهما مفرد بالتاء كأرطاة(506/15)
(شجرة) مفرد أرطي، ومِعْزاة، مفرد معزي - تحتم أن تكون الألف مع التاء فيه للإلحاق: الأول بدحرجة، والثاني بزئِبقة، ولا يجوز أن تكون الألف المصاحبة للتأنيث؛ إذ لا يجتمع في الكلمة أداتا تأنيث، فإذا عري المفرد عن التاء، فقيل أرطي ومِعزي، كان القياس يوجب أن تكون الألف إذن للإلحاق، ويكون اللفظ معها منوناً. لكن العرب صرفتهما تارة لمحاً لأصلهما مع التاء، ومنعتهما الصرف تارة أخرى، لأن ألفهما تشبه ألف جَرْجى وذكرى
والخلاصة: أن ما عدا (حجلى وظربى) لا يتحتم فيه منع الصرف. وإذاً فلا ثالث لهما يتحتم فيه المنع. وعلى ذلك فأبو علي الفارسي، والمتنبي وشارح القاموس، ومن لف لِفَّهم، كانوا على حق فيما ذهبوا إليه!
القسم الثاني - فُعَلى
نقل الأب عن تاج العروس، شرح القاموس، أنه لم يجئ على هذا الوزن إلا ثلاث كلمات لا رابع لها. وهي: أُرَبى (الداهية) وشعبي وأرمى (موضعان). ثم ذكر الأب لها أخوات بلغت ستاً؛ فتكون الألفاظ الواردة على هذا الوزن عشرة، لا أربعة كما قال صاحب التاج
أقول: ما قاله الأستاذ هنا صواب حقاً؛ لكن سبقه إلى هذا النقد أحد النحاة المتأخرين. قال الأشموني عند شرح قول ابن مالك:
والاشتهار في مباني الأولى ... يبديه وزن أُرَبى والطُّولى
(وزعم ابن قتيبة أنها لا رابع لها، ويرد عليه: أني (حب بعقد به اللبن)، وجنفي لموضع، وجَعَبي لكبار النمل) 1هـ
وهذه المآخذ أهون من أن تضع من قدر ابن قتيبة، أو ترفع الثقة. وصاحب التاج ثقة تابع في النقل لابن قتيبة، وجل (من أحاط بكل شئ علماً). والفضل كل الفضل للمتقدم
القسم الثالث - تفاعيل
أثبت الأب هنا عن تاج العروس قول العرب: (تباشير الصبح، وتعاشيب الأرض، وتعاجيب الدهر، وتفاطير النبات والشباب، ولا خامس لها؛ ثم قال (الأب): هناك سبع كلمات من هذا القبيل، وذكرها، فتكون العدة أثنى عشر جمعاً على وزن (تفاعيل)، لا أربعة كما قال صاحب التاج، وربما كان في اللغة ضعف هذا العدد أو أكثر. هذا كلامه(506/16)
وأقول: ما قاله الأب عين الصواب، ولكن ما كان يحسن منه أن يذيع من على منبر (الرسالة)، وهي الصحيفة العالمية للآداب والعلوم والفنون - أن مثل هذا خطأ في اللغة! بل كان الأخلق به - وهو على ما وصفت آنفاً من الدقة في البحث والتحري للصواب - أن يقول: ذلك تقصير من اللغويين في الاستيعاب، وحكم منهم على ما لم يعلموا نفيه أو ثبوته، وأو نحو ذلك من العبارات التي تلتئم وما نسبه إليهم من عيب (إن صح أن يكون ما صدر منهم عيباً)
وكلنا يعلم أن لغة العرب لغة ضخمة، وأن العبء الذي تحمله اللغويون والنحاة، في سبيل جمع شتاتها، وتنسيق كلماتها والمحافظة على سلامتها من الخطأ واللحن - كان أثقل الأعباء التي تحملها العلماء، منذ بدء التأليف والتدوين إلى وقتنا هذا
فكيف يقال مع ذلك: لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين؛ لأنهم أخطئوا في حصر بعض الألفاظ؟!
الحق أن هذا أو اقل من هذا لا يصح أن يقال.
(يتبع)
عبد الحميد عنتر
أستاذ بكلية اللغة العربية(506/17)
للذكرى والتاريخ
طيبة تستقبل فرعون مصر
للكاتب الفرنسي تيوفيل جونييه
في كتاب قصة المومياء (إلى جانب المصريين نحن حقاً
برابرة) - تيوفيل جوتيه -
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
أف، تلك المدينة الضخمة الواسعة، لم تعد تضم بين أحضانها إلا المرضى والعجزة والمسنين الذين لم يعودوا بعد قادرين على الحركة، والعبيد المكلفين بحراسة المنازل؛ ففي الشوارع والميادين، وطرق أبي الهول، وأقواس المعابد والأرصفة، يجري سيل من الناس متجه إلى النيل؛ ويزخرف هذا الجمع الحاشد اختلاف عجيب، فالمصريون يكونون الأعظم، ويعرفون بسمات وجوههم النقية، وبقامتهم الرشيقة العالية، وبثيابهم من الكتان الدقيق، ومناطقهم المثناة باعتناء، وبعضهم يلف رأسه بنسيج ذي خطوط زرق أو خضر، ووسطهم مشدود بسراويل ضيقة، وظهرهم عار له لون الصلصال المحروق
في هذا الجمهور الوطني تظهر نماذج مختلفة لأجناس أجنبية: فزنوج أعالي النيل سود كآلهة من البازلت، أذرعهم مطوقة بحلقات كبيرة من العاج، وتتأرجح في آذانهم حلي بربرية؛ والأثيوبيون ذوو الألوان البرنزية، والسحنات النافرة، قلقون برغمهم في هذه الحضارة كأنهم حيوانات متوحشة في وضح النهار؛ والأسيويون يعرفون بلونهم الأصفر الرائق، وعيونهم الزرق، ولحاهم المجعدة على شكل حلزوني، ويعصبون رءوسهم بقلانس مثبتة بعصائب، ويلبسون أردية مطرزة ذات أهداب؛ أما اليونانيون فيرتدون جلود لحيوانات يعلقونها بعواتقهم، ويتركون أذرعتهم وسيقانهم الموشومة وشماً غربياً، ويحملون ريش طير فوق رءوسهم التي يتدلى منها ضفيرتان، تصيران واحدة تنظم على هيئة قرط على الصدغ
في وسط هذا الزحام يمشي الرهبان عليهم الهيبة والوقار رؤوسهم محلوقة، ويلفون أجسامهم بجلد النمر، بحيث يبدو فم الحيوان كأنه مشبك حزام، وفي أقدامهم أحذيتهم، وبأيديهم عصى(506/18)
من شجر السنط قد كتب عليها بالهيرغليفية؛ ويسير الجند إلى جنوبهم خناجرهم ذوات المسامير الفضية، وعلى ظهورهم تروسهم، وفي أيديهم فئوسهم؛ والشخصيات المبجلة يحلي صدورها أوسمة التشريف، ويحيها العبيد بالانحناء، ووضع الأيدي إلى أسفل بالقرب من الأرض؛ وتمشي بجانب الحيطان في هيئة متواضعة حزينة نسوة فقيرات، يكدن يكن عاريات، ينحنين تحت ثقل أبنائهن، المتدلين من أعناقهن في خرق بالية أو قفف من الحصير، بينما تختال فتيات جميلات يصحبهن ثلاث توابع أو أربع - في أثوابهن الطويلة الشفافة، التي تنعقد عند أسفل صدورهن بوشاح أطرافه مرسلة، ويضئ فوقهن اللؤلؤ والذهب، ويفوح منهن رائحة الأزهار والعطور
وبين الرّجّالة تمضي الهوادج يحملها الأثيوبيون بخطى سريعة منتظمة، والعجلات الخفيفة المسرحية بحصن يزينها جلال ذات أهداب، ويجمل رأسها الريش؛ أما العربات التي تحمل أسراً ويجرها الثيران، فتمشي باتئاد، وتجد طريقها بعسر بين الجمهور الذي لا يأبه بأن يداس؛ وغالباً ما اضطر السائقون إلى أن يضربوا بسياطهم المتمهلين والذين لا يخلون الطريق
هذا وفوق النهر حركة غير عادية، فعلى طول المدينة قد غطى النيل برغم سعته، ولم يعد في الوسع رؤية مائه بقوارب من كل صنف، فمن زوارق ذات حيزوم وسكان عاليين، إلى أخرى ذات ألوان وتذهيب، فكلها كان مستخدماً، ولم يستنكف حتى من ركوب المراكب المعدة لنقل البهائم وحمل الفواكه، ولا الأرمات المصنوعة من خشب الخيزران، والتي كانت معدة في العادة لحمل أوعية الصلصال
ليس من السهل عبور النهر من جانب إلى جانب، وسط جمهور يربي على ألف ألف نسمة، بل يجب لذلك كل مهارة نوتية طيبة ونشاطهم.
ماء النيل تضربه المجاديف وتشقه السكانات، فيرغي ويزبد كأنه بحر، ويكون آلاف الدوامات التي تضعف قوة التيار
والزوارق في مجموعها مختلفة ومبهجة، فبعضها ينتهي كل من طرفيه بزهرة كبيرة من أزهار اللوتس تنحني إلى الداخل، وتربط بساقها راية، والبعض حيزومة على شكل هلال ينهض طرفاه فوق الماء، ومنها ما يحمل فوقه نوعاً من الأبراج أو السطوح يقف فوقها(506/19)
رؤساء النوتية، وبعضها مكون من ثلاث جذوع ربطت بالحبال، ويحركها مجذاف؛ أما المراكب المعدة لنقل الحيوانات والعربات فقد ربط بعضها إلى بعض، ووضع عليها معبر يسمح بالصعود والنزول من غير كبير عناء، وقد كان عددها عظيما، وعليها تصهل الأحصنة المطهمة، وتضرب الخشب بحوافرها الرنانة، والثيران قلقة تنحني إلى النهر بمقماتها التي يسيل منها خيوط من اللعاب، ولكنها تهدأ إذا لاطفها قوادها.
يضبط النوتية حركات المجدفين بالتصفيق، ويجثم الملاحون فوق الكوثل، أو يمشون فوق سطح المركب يصدرون أوامرهم، ويرسمون خطة السير الضرورية للانزلاق بين هذه الكثرة المربكة من الزوارق، وبرغم الاحتراس كانت الزوارق تصطدم أحياناً
هذه الآلاف من السفن المطلي أغلبها باللون الأبيض، والمزخرفة بزينة خضراء وزرقاء وحمراء، والمحملة بالرجال والنساء اللابسات ملابس من ألوان شتى أخفت سطح النيل تماما في أماكن كثيرة، وأظهرت تحت الأشعة الساطعة لشمس مصر منظراً ساطعاً باهرا في حركته، وكان الماء المتحرك بكل قوته يضئ ويبرق كأنه فضة خالصة، أو شمس كسرت آلاف الأجزاء
لقد كانت الزوارق ثقيلة بمن عليها وأبراجها مليئة بالعابرين، وفوق سطحها يجلس الرجال والنساء والأطفال متربعين، تلك الجلسة العزيزة لدى الشعب المصري. ولدى رؤيتهم يخيل إلى المرء أنهم قضاة أوزيريس، لولا أن منظرهم لا يدل على التأمل، وهو سمة قضاة الموت، بل على العكس يشعر بأقصى ما يكون من السرور
في الحق أن فرعون عاد منتصراً، يقود معه عدداً ضخما من الأسرى؛ فطيبة غارقة في السرور، وشعبها قد خرج بأجمعه إلى المحبوب أمون رع رب التيجان، مدبر المملكة الطاهرة، القدير على كل شئ إله الشمس، منظم شئون العالم
على الجانب الغربيّ للنهر، لم يكن الازدحام أقل شدة من الشاطئ الشرقي، وقد جاء سكان أحياء ممنون والقرى المجاورة، وفي كل لحظة تحمل الزوارق أناساً جدّوا ترسو بهم فوق الأرصفة فتزيد كثافة الجمهور، بينما العربات التي لا تعدّ تشقّ طريقها إلى ميدان العرض، وتضئ عجلاتها كأنها شموس بين الغبار الذهبي الذي تثيره. لقد صارت طيبة في هذه اللحظة خراباً، كما لو أن فاتحاً قاد شعبها أسيراً(506/20)
والمنظر، مع ذلك، جدير بأن يصوّر، ففي وسط الخضرة اليانعة التي ينهض فيها النخيل بتيجانه، تبدو الألوان الزاهية للمتنزّهات والقصور وخيام الصيف محاطة بأشجار الجمّيز، و (الست المستحية)، وكثير من أحواض المياه يضئ في الشمس، والدوالي تشتبك محاليقها في عرائش مقوّسة، وفي النهاية يبدو شبح قصر رمسيس بأبراجه الهائلة، وجدرانه الضخمة، وصواريه المذهبة المزخرفة، ترفرف فوقها الرايات في الهواء، وأبعد من ذلك إلى الشمال يبدو التمثالان الضخمان الجالسان على عرشهما في وضع خالد لا يتأثر، وكأنهما جبل صخريّ ذو شكل إنساني يقوم أمام مدخل معبد أمينوفيس، ويتراءى في لون ناصل الرمسيوم الذي يبعد قليلاً، والمقبرة الوحيدة للكاهن الأكبر، ولكننا من أحد الجوانب نستطيع أن نرى قصر منفتاح.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين(506/21)
السيدة سكينة بنت الحسين
للأستاذ سعيد الديوه جي
(تتمة)
مزاحها وتهكمها:
أنتهي الفرزدق من حجته ويمم شطر المدينة المنورة ليسلم على السيدة سكينة أملاً في صلتها ورغبة في ثنائها ليغيظ بهذا خصمه بل أكبر أعدائه (جريراً). والفرزدق من الحزب العلوي، طورد وسجن واضطهد بسبب تشيعه لهم. ولم يكتم هذا الحب الصادق لآل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى أمام الخليفة هشام. ولكن هذا لم يخلصه من انتقاد السيدة سكينة وتهكمها به. ولما مثل في ندوتها سألته: من أشعر الناس؟
- وهي تعلم مكانته من الشعر فهو أفخر الشعراء الأمويين وأمدحهم وأمتنهم أسلوباً وأجزلهم لفظاً - قال: أنا. قالت: كذبت. أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنبه عزيز ... عليَّ ومَنْ زيارته لمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
ولا شئ يغيظ الفرزدق أكثر من تفضيل قرنه وخصمه الألد جرير عليه. بهت الفرزدق وأسقط في يده. وماذا يصنع مع سكينة التي تريد أن تلعب بعقل هذا الشيخ؟ قال لها: والله لئن أذنت لي لأسمعتك أحسن منه. قالت: لا أحب فاخرج عني. خرج الفرزدق يتعثر في أذياله، ويخشى أن يشيع هذا الخبر فيسمعه جرير ويتخذه حجة له عليه. وفي اليوم الثاني عزم على أن يعيد الكرة لعل الله يشرح صدر سكينة فتشمله بعطفها وتمن عليه بكلمة ثناء تجبر بها كسره. ولما مثل في صالونها قالت له: من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت، أشعر منك صاحبك حيث يقول:
لولا الحياء لهاج لي استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
كانت إذا هجع الضجيج فراشها ... كتم الحديث وعفت الأسرار
فقال لها: والله لئن أذنت لي لأسمعتك أحسن منه. فأمرت به فأخرج. ضاقت عليه الأرض بما رحبت فلا يدري ماذا يعمل وبمن يلوذ. ولكنه لم يقطع أمله من صلتها وثنائها. فقصدها(506/22)
في اليوم الثالث. ولما مثل في صالونها، سألته: من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت. صاحبك أشعر منك حيث يقول:
إن العيون التي في طرفها حَوَر ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
علم الفرزدق بأن شعر جرير قد وقع في قلبها لرقته وسلاسة ألفاظه وخلوه من الفحش والخبث، فهو يمثل النفس الطاهرة الطيبة. عندئذ لجأ الفرزدق إلى التلطف والتوسل، فقال لها: (يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن لي عليك حقاً عظيماً: خرجت من مكة إرادة السلام عليك فكان جزائي منك تكذيبي ومنعي من أن أسمعك) وعرَّض لها بكلامه أن تهبه جارية وضيئة من جواريها أعجبته. فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية. وقالت: (يا فرزدق أحسن صحبتها فإني آثرتك بها)
وأحاديثها مع عروة بن أذينة كثيرة. وهو من فقهاء المدينة ومحدثيها. وقد أخذ عنه الإمام مالك. كان من الأتقياء ولكن قلبه لم يخلص من الهوى. كان يحب وكان يعشق ولكن كان يستر حبه ويكتم هواه - ومهما حاول المرء كتم هواه فلابد أن يظهر يوماً على لسانه
بينما كانت تسبر سكينة بوادي العقيق رأت هذا الشيخ فمالت إليه بموكبها ووقفت عليه وقالت له: يا أبا عامر، أنت الذي تزعم أن لك مروءة وأن غزلك من وراء عفة وأنك تقي؟! قال: نعم. قالت: أفأنت الذي تقول:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
أَلست تبصر من حولي؟ فقلت لها ... غطى هواك وما أُلقي علي بصري
قال لها: نعم
قالت: (من حولي من الجواري حرائر إن كان هذا خرج من قلب سليم) وكيف يخرج هذا الغزل الرقيق من قلب خال من الهوى وإن لصاحبه من حب الجمال ما جعله يتخذ له قصراً في وسط العقيق عش الأدباء والظرفاء والمجان.
ومن تهكمها: أنها كانت في مأتم فيه بنت لعثمان بن عفان. فقالت بنت عثمان مفتخرة: (أنا بنت الشهيد) فسكتت سكينة فقال المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) فالتفتت إلى بنت عثمان وقالت لها: (هذا أبي أم أبوك؟!) فبهتت العثمانية وقالت: (لا أفخر عليكم أبداً)(506/23)
وكانت تسلك طريق الدعابة والمزح في حياتها، ونوادرها أكثر من أن تحصى
ومن ذلك أن لسعتها دبيرة. فقالت لها أمها مالك؟ فضحكت وقالت: (لسعتني دبيرة، مثل الأبيرة، أوجعتني قطيرة)
وبعثت مرة إلى صاحب الشرطة: إنه قد دخل علينا رجل شامي فأبعث إلينا بالشرط. فركب معهم وأتى إلى باب سكينة. فأمرت ففتح له. ثم أمر الجارية من جواريها فأخرجت إليه برغوثاً
وقالت. . (هذا الشامي الذي شكوناه) فانصرفوا يضحكون. ولعل أجمل مزحها كان مع أشعب خادمها ومضحكها. وكم لاقى هذا المخنث من تنفيذ أوامرها الأمرين: تارة تأمر جواريها أن يطأن بطنه وطئ شديداً تكاد تخرج أمعائه منه. أو تأمرهن أن يخنقنه أو يسحبنه على وجه ويلقى خارج الدار أو تأمره أن يقلد أصوات الحيوانات فيموي كالهرة أو يهر كالكلب.
غضبت يوم عليه فدعت حجاماً ليحلق لحيته. فقال له الحجام: انفخ شدقيك حتى أتمكن منك - وأشعب حتى في مثل هذه الحالة أن يضحك سيدته - فقال للحجام: (أمرتك أن تعلمني الزمر أو أن تحلق لحيتي؟!) فضحكت وعفت عنه.
وغضبت عليه مرة أخرى فأمرت أن يتخذ بيت من عود ويوضع فيه بيض وتبن وأدخلت أشعب به. وحلفت ألا يخرج من البيت حتى يحضن البيض كله إلى أن يفقس. ففعل أشعب - وكلما دخل زائر إلى دار سكنية كان أشعب يقرقر مثل الدجاجة - حتى فقس البيض كله فراريج. وأمرت أن تربى الفراخ بدارها. وكانت تنسبهن إليه وتقول: (بنات أشعب)
تأثيرها في المجتمع
ولم تقتصر شهرتها بين أهل عصرها في العلم والأدب والفن بل كان لها تأثير شديد في كل ما تفعله. فلم تظهر بزي إلا انتشر بين فئات الطبقة الأرستقراطية وتعداهن إلى بقية الطبقات. ذلك لأن السيدة سكينة أول من أبتكره وظهر به. كما كانت تصفف جمتها تصفيفاً لم ير أحسن. وصارت الجمة (السكينية) هي المتبعة في تصفيف الشعر. ولم يقتصر هذا التقليل على النساء بل إن فتيان قريش أخذوا ينسقون شعورهم على مثالها. وكان عمر بن عبد العزيز إذا رأى رجلاً يصفف جمته (السكينية) جلده وأمر بحلق شعر رأسه.(506/24)
وأما تنسيق ندوتها وما يجد فيها من رياش وأثاث ورياحين فكان حديث فتيات قريش. فما من فتاة إلا وتزور هذه الندوة لتنظر ما أستجد بها مما أبدعته قريحة سكينة لتقلدها في ذلك.
فإن السيدة سكينة هي سيدة نساء عصرها على الإطلاق. كانت أحسنهن عقلاً وأظرفهن وأعلمهن وأعلاهن مقاماً وأرفعهن أدباً. تجالس الآجلة من قريش ويسعى إلى مجلسها أصحاب العلم وأرباب الفن يستمعون إلى محاضرتها أو يلتمسون صلتها. كما كانت تطرح عليهم الأسئلة وتجادلهم بما يقولون وتنتقد آراءهم ولا تخشى في الحق لومة لائم؛ ولهذا نرى قاصديها يحسبون لها حساباً. وهكذا تألق هذا النجم في سماء المدينة وظل يهتدي به حتى سنة 117هـ
وفاتها
وفي صباح يوم شديد الحر فاضت روحها وانتقلت إلى جوار ربها. خرج النعش يتهادى بين الجموع المحتشدة والقلوب الخاشعة والعيون الدامعة. ولكنها (حتى على الموت لا تخلو من الحسد) فإن أمير المدينة خالد بن عبد الملك أمر أن يؤخروا الصلاة عليها حتى يحضر وجلس الناس حولها حتى العشاء ولم يحضر؛ وغلبهم النعاس فأوقدوا حولها عوداً بأربعمائة دينار وصلوا عليها جماعات جماعات. وفي صباح اليوم التالي دفنوها ودفنوا معها العلم والأدب والفن.
أقفرت الدار من سكينة فلا شعراء ينشدون، ولا علماء يتجادلون، ولا رواة يحدثون، ولا أدباء يحتكمون.
(أضحت خلاءً وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد)
(الموصل)
سعيد الديوه جي(506/25)
الذكرى الباسمة
لشاعر العاطفة والوجدان جان ريشبان
للأستاذ عبد العزيز العجيزي
لن أنسى لك أبداً أول حديث في الحب،
فعلى الرغم من انصرافي إلى الصلوات،
إلى الحسرات وتأوهات الضمير، سأجثم كابياً؛
غير جائل بالفكر فيما يثير الفزع في نفسي، بل
سابحاً بخاطري في ذكرى ليلة مقمرة ولت ولم تعد
لن أنسى لك أبداً أول مناغاة ساحرة،
ولا ما ألاقيه من عنت الزمان وتتابع الحدثان
وغفلة النسيان، ولا من تكدير الصفو وعبوس
الجو؛ فقد طويت صفحات حظي طياً،
لأوْدع في ثناياها فؤاد وردتي الناعسة.
لن أنسى أبداً أول عُرس لربيع أيامنا، حينما
لمع لي سنا عينيك وبدا أشد فتنة وخلابة وإغراء
من السماء الصافية، والغابة الزاهية، والشمس
الغاربة؛ حينما قبلت عبير الهوى المترقرق من ثغرك
الباسم. لن أنسى ذلك أبداً وإن غيبتني المنون. . .
الأطيار سكرى بسلاف شفاه الأزهار،
والأغاني والأغاريد راقصة على خدود الورود،
لا لشيء سوى ارتشاف عذب نغمات هوانا.
فواهاً لهذا الطير وواهاً لهذا الزهر!
بل واهاً لغرامنا الجامح وحبنا الهائم!(506/26)
في نشوة تلك الساعة غاب صوابنا حتى عن
حمد الله، وتوهمنا اللحظات تمضي على رِسلها
بينما الحب مقيم دفين، فرتبنا لقاء الزمن الوليد
ترتيب العصفور لو كره. مسكين! مسكين أيها
الطفل الوليد؛ فقد أخذتنا غفوة سمعنا فيها
هتاف صوت يردد: كل شئ لا يغني.
لكن، أواه! إني لا أروم إثارة أحزاني وأشجاني.
أواه حبيبتي! أواه رفيقة صباي! أواه ليلاي!
سوف يُنفخ دائماً في مزمار آهاتي وشكاتي.
سوف أتنقل في روض ذكراك، جانياً
قطوف حلاوتك وأفاويق عفتك، متنسما شدى
قبلاتك المناجية مناجاة قبلات القمر الحالم.
أهيم بذكرى قدك الرخص البارع، وغصنك
المعتدل الفارع، ذكرى جسدك الذي مازج
أشواقي في معبدها الروحاني، ذكرى أريج أديمك
الأشد من رحيق عتيق المدام، ذكرى الأزهار
الفواجة بمداعبة جيدك الأندى من الفجر؛ ذكرى
مرقدنا الحاقد على هوانا، الملتهب غيرة وحسداً.
أهيم بذكرى أيامي السادرة في ثنايا عمري،
ويغمرني عُباب ذكرياتي المقدسة. وحين يشتعل
رأسي شيباً، ويغضن الهرم وجهي، وأصبح مثل
(كاساندر) سأستمد الدفء من قبس
ربيع حياتي؛ وسألتمس دائماً حرارة
هذا القبس من تحت ذرات الرماد.
عندما يهب إعصار الفناء، وأحس برد الموت(506/27)
يتمشى فيّ، سأذكر ربيع عمرنا الطلق النضير.
وألفظ حين ذاك النفس الأخير، فيخبو
سراج ذكراي، وتنعم هنالك روحي بالضوء
السنى في هيكلها النوراني، وأودع الحياة في
موكب الذكرى ناعم البال، إلى أفق باسم لألأء.
(المنصورة)
عبد العزيز العجيزي(506/28)
المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
الفصل الخامس عشر
استعمال التبغ والبن والحشيش والأفيون الخ
إن تحريم الخمر بأنواعها في التشريع الإسلامي، جعل المسلمين يلجئون إلى وسائل أخرى تسبب لهم نشوة خفيفة أو ضروباً مختلفة من الطرب الشديد
وأكثر هذه الوسائل انتشاراً في أغلب البلدان الإسلامية ما يسميه العرب (كيفاً) وهو تدخين التبغ، ولا يمكنني أن أترجم هذا اللفظ بأكثر من (لذة لطيفة). ويبدو أن هذا التبغ أدخل إلى تركيا وجزيرة العرب وغيرهما من بلاد الشرق قبيل القرن السابع عشر من الميلاد أي بعد سنوات قليلة من انتظام تصديره كسلعة تجارية من أمريكا إلى أوربا الغربية. وكثيراً ما أشتد الجدل حول إباحة التدخين للمسلم غير أن ذلك جائز الآن. وقد غير التبغ من طباع المدمنين عليه من الترك والعرب وجعلهم على الأخص أكثر كسلاً مما كانوا عليه قبلاً، فهم يضيعون في تدخين شبكهم وقتاً طويلاً. إلا أنه كان ذا أثر آخر حسن، فقد أغنى إلى قدر كبير عن استعمال النبيذ الذي يضر على الأقل بصحة سكان الأقاليم الحارة. وتقدم قصص ألف ليلة وليلة التي كتبت قبل استعمال التبغ في الشرق والتي تصور لنا بلا ريب عادات العرب وشمائلهم في ذلك الوقت تصويراً صادقاً، تقدم هذه القصص أدلة وافرة على أن المسلمين وقتئذ أو في العصر السابق مباشرة كانوا يشربون النبيذ علانية. ويمكن أن نقول دفاعاً عن الشبك - كما يستعمله العرب والترك - أن أنواع التبغ الخفيفة التي يستعملونها عادة لها تأثير لطيف. فهي تهدئ الجهاز العصبي وترهف الذهن بدلاً من أن تبِّلده. ولا شك أن الشبك يتضمن كثيراً من ملذات الشرقيين ويقدم إلى الفلاح منعشاً رخيصاً زهيداً ويبعده في الغالب عن الملذات المضرة
وتعتبر القهوة، نعيماً مماثلاً للتبغ وتؤخذ معه، وقد ساعدا على جعل النبيذ أقل انتشاراً بين(506/29)
العرب. ويؤيد هذا الافتراض لفظ القهوة وهي تسمية عربية قديمة للنبيذ. ويقال إن هذا الشراب المنعش اكتشفه في الجزء الأخير من القرن السابع للهجرة أو الثالث عشر من الميلاد متعبد عابد الشيخ عمر دفعه الاضطهاد إلى أحد جبال اليمن مع بعض أتباعه، وحمله الجوع إلى أن يشرب منقوع البن الذي ينبت هناك بالطبيعة. غير أن استعمال البن لم ينتشر في اليمن إلا بعد هذا الزمن بجيلين. وقد استوردت مصر البن بين سنتي 900 و910 هجرية أي في أواخر القرن الخامس عشر أو ابتداء القرن السادس عشر من الميلاد، أو قبل إدخال التبغ إلى الشرق بجيل تقريباً. وكان يشربه حينئذ في جامع الأزهر فقراء اليمن ومكة والمدينة الذين وجدوا فيه منشطاً لهم على العبادة والتسبيح، وكانوا يعكفون على شربه بكثرة. وأدخل البن إلى الآستانة بعد ذلك بنصف قرن تقريباً. وقد أثارت القهوة منازعات حادة بين المتعبدين والمتعلمين في جزيرة العرب ومصر والأستانة. فكان كثير من العلماء يؤكد أن القهوة لها خصائص مسكرة فتحرم على المسلمين بينما كان آخرون يقررون أن للقهوة فضائل، إحداها مقاومة النوم فتكون عوناً قوياً للأتقياء على عبادتهم ليلاً. وكثيراً ما كان بيع البن حينئذ يحرم ويحلل حسب رأي الحاكم. أما الآن فيقول جميع المسلمين تقريباً بحل القهوة، ويفرطون في استعمالها، وحتى الوهابيون الذين هم أشد المسلمين صرامة في الحكم على التبغ والتمسك بأحكام القرآن والحديث. وكانت القهوة تجهز قبلا من حب البن وقشره معاً. ولا تزال تعدّ في جزيرة العرب منهما معاً أو من القشر فقط. وتحّضر في البلاد الشرقية الأخرى من الحب وحده يقلى ويطحن أولاً فأولاً.
في القاهرة أكثر من ألف (قهوة). والمقهى غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود. ويقوم على طول الواجهة، ما عدا المدخل، مصطبة من الحجر أو الآجر تفرش بالحصر ويبلغ ارتفاعها قدمين أو ثلاثاً وعرضها كذلك تقريباً. وفي داخل المقهى مقاعد متشابهة على جانبين أو ثلاثة. ويرتاد المقاهي أفراد الطبقة السفلى والتجار وتزدحم بهم عصراً ومساءً. وهم يفضلون الجلوس على المصطبة الخارجية ويحمل كل منهم شبكه الخاص وتبغه. ويقدم (القهوجي) القهوة بخمس فضة للفنجان الواحد أو عشر فضة (للبكرج) الصغير الذي يسع ثلاثة فناجين أو أربعة. ويحتفظ القهوجي أيضاً بعدد من آلات(506/30)
التدخين من نرجيلة وشيشة وجوزه. وتستعمل هذه الأخيرة في تدخين التمباك والحشيش الذي يباع في بعض المقاهي. ويتردد الموسيقيون، والمحدثون على بعض المقاهي في الأعياد الدينية خاصة
(يتبع)
عدلي طاهر نور(506/31)
غروب. . .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
مَاليِ أَحِسُّ كأَنَّ عُمْرِيَ في يَدِ الأَحْزَانِ يُطْوَى؟!
نَفْسِي تَنَاهَبَهَا الشَّقَاءُ وَلَمْ تَجِدْ فيِ الْجِسْم مَأْوَى
قَلْبِي أَذَلَّتْهُ الْجِرَاحُ فمَا يُطِيقُ بِهِنَّ شَكْوَى
حُبِّي اسْتَحَالَ رِوَايَةٍ لِلدَّمْعِ يَعْصِرُهَا فَتُرْوَى
وَصِبَا غَرَامِيَ صَارَ أَبْعَدَ مِن مَشِيبِ الغَيْبِ شَأْوَا
أَغْدُو، وأُمْسِي. . . وَالأَسَى نَارٌ أُذَابُ بِها وَأُكْوَى!
رَبَّاهُ! مَا أَنَا؟. . . هَلْ وُجِدْتُ عَلَى زَمَانِ النّاَسِ سَهْوَا!
سَوَّيْتَنيِ رُوحاً. . . تَمَرَّدَ أَنْ يَرَى الأَرْضَ مَثْوَى
وَأَنَا التُّرَابُ! فَكَيْفَ صِرْتُ هَوًى، وَتَعذِيِباً، وَشَجْوا!
شُرُفَاتُ غَيْبِكَ لا يُتِحْنَ لِغَيْرِ مَنْ يَبْكِي دُنُوَّا
وَأَنَا إليك ذَرَفْتُ أيامي فَزَادَ دَمِي عُتُوَّا
وَرَأَيْتُ سِحْرَكَ فيِ الُوجُودِ أَضَلَّ إِحْسَاسِي وَأَغْوَى!
النَّهْرُ جَبَّارٌ عَصَاكَ فَلاَحَ مَحْمُوماً تَلَوَّى
وًالعِطْرُ زِنْديِقٌ يُذِيعُ عَذَابَهُ. . . وَيَقُوُلُ: سَلْوى!
وَالطَّيْرُ مَجْرُوحُ الغِنَاءِ وًيْلبِسُ الآهَاتِ صَفْوَا
وَالرَّيحُ جِنٌّ آثِمٌ وَخَزَتْهُ زَلَّتُهُ فَدَوَّى. . .
. . . وَطَوَى الفَضاءَ مُزَمْجِراً مُتَضَرِعاُ يَسْتَلُّ عَفْوَا!
وَالشَّمسُ مَسْلُولٌ تَلَفَّعَ بِالْغُيُومِ وَدَسَّ بَلْوَى. . .
. . . قَلِقَتْ عَلَى شَفَقِ الْمَغِيبِ كأَنَّهَا في النَّار تُشْوَى!
وَاللَّيْلُ أَقْبَلَ يَمْلأُ الْقيِعَانَ أَسْراراً وَنَجْوَى. . .
وَأَنَا الْغَرِيبُ شَرِبْتُ أَحْزَانيِ فَقِيلَ: شَرِبْتُ لَهْوَا
وَبَكَيْتُ حَتَّى خِلْتُ أَجْفَانِي مُعَذِّبَتِي وَنَشْوَى!
مَاذَا رَجَائِي في الْحَيَاةِ إذا انْتَهَى مَا كُنْتُ أَهْوَى(506/32)
وَوَقَفْتُ أَحْفِرُ لِلْجِرَاحِ طَرِيقَها. . . فَتَعُودُ شَدْوَا!
محمود حسن إسماعيل(506/33)
نظرة جديدة
في (ليالي الملاح التائه)
بمناسبة طبعته الجديدة
للأديب حسين محمود البشبيشي
من حيوية الفن الحق أن يتجدد أثره في النفس برغم تقادم العهد، بما يبعث في نفس المتأمل من أحاسيس. وإني لأجد اليوم في الحديث عن (ليالي الملاح التائه) نشوة المقبل على شئ جديد وما ذاك إلا لتجدد ما يهيجه الديوان من بوارق الحس. وسنحاول في هذا المقال أن نسبر غور هذه النفس الشعور ونرجع عبقريتها الفنية إلى أسسها الأصلية. تنهض شاعرية الليالي على أساسين: سعة العقل المطلع، ومضاءة الشور الفني. فانك لتلمح أثر العامل الأول في مسايرة الشاعر لكل ما يضطر في عالم الإنسانية من أفراح وأحزان. فقد طلع علينا الشاعر الفنان في كثير من المناسبات وسجل الكثير من المرائي الفاتنة، وإن ذلك ليظهر جلياً في قصائده مصرع الربان، وبحيرة كومو؛ وليس أدل على أصالة هذا الأساس في نفسه من مسايرته له في كل الأحايين، وما عهدنا بقصائد: عيد الميلاد، وستالينجراد ببعيد!. . . مثل هذا يدل على أن الشاعر قد نزع قيود الشخصية المحدودة وحلق في جو الإنسانية الفسيح فأطلع طائره يمجد مصرع الربان، وداعب قيثاره يخلد ثبات ستالينجراد، وذاب لهفة وتقديراً وإعجاباً بفتنة فينسيا. ورأى بحيرة كومو وراقه منها:
بهج في كنوزها ... للمحبين مدّخر
بابل أم بحيرة ... أم قصور من الدرر
أم رؤى الخلد في الحياة تمثلن للبشر
هاله السحر منها فهتف:
لا تقل أخصب الثرى ... فهنا أورق الحجر!!
وما كان ليستطيع أن يقول سوى هذا وهو العابد للجمال والقائل:
هاهنا يشعر الجماد ... ويوحى لمن شعر!
تلك لمحة تكشف عن انطلاق شاعرنا من قيود البيئة المحدودة ونظرته إلى مفاتن ومباهج(506/34)
الكون كوحدة تنعكس في قلبه الشاعر!
أما الأساس الثاني فهو وضاءة الشاعرية التي توشك أن تطبعه بطابع خاص يكسب قصيدة عذوبة في الجرس، ورقة في الصياغة، وأناقة في اختيار الكلمات التي تطالعك كالعروس في جلوتها. ومن منا لم يطرب لروعته الموسيقية وفتنة التركيب وحسن الاختيار الموفق للبحر الذي نسج منه الجندول والروعة اختتامه بعض أبياتها بكلمات توشك أن ترقص من رقة النغم. . . مثل (خمرة، ثغرة، عبرة، أثرة. . .) إن القارئ ليوشك أن يجد نفسه مترنما مرتلاً لتلك الأبيات التي تتوجها هذه الكلمات في غير ما شعور وبغير إرادة
تلك هي الحيوية الموسيقية عند ملاحنا التائه. وإنها لتملك عليه حواسه وتنظمها وتسيرها فتراه وقد تأمل في مظاهر الجمال، وبواعث الشعر تتوافر على حسه المشاعر، وتتوالى على قلبه العواطف فلا يسعه إلا أن يعبر عن هذه العواطف المنثالة المتدفقة في أنغام تجمع بين صدق العاطفة وتدافق الحس. . . وهو حينئذ يحس أن يعبر في مقاطع رنانة قصيرة تعطي للقارئ فكرة سريعة الانتقال النفسي الوجداني. . . أنظر إليه وقد تدفق قائلاً في عاطفة متدفقة تظهر جلية في تدافع النغمات في كلمات. . . (دعوات) و (فرحة) و (نشيد). . .
مهرجانٌ ممالك الشرق فيه ... دعوات، وفرحة، ونشيد!!
وإن ذلك ليظهر أيضاً في قوله:
وسلمت يا مولاي للوطن الذي ... بك يستظل، ويستعز، ويسلم
فقد تزاحمت وتواترت الخواطر والأحاسيس فهتف قائلاً (بك يستظل)، ثم تدفق مغرداً (ويستعز)، ثم صاح منشد (ويسلم). ومن هذا قوله:
صوامع رهبان، محاريب سجَّد ... هياكل أرباب، عروش قياصر
وثمة ناحية أخرى جديرة بالتأمل أخطأ فهمها بعض الناس. . . وهي ميل ملاحنا التائه إلى تكرار بعض الصور والألفاظ مما جعل بعض مراض القلوب يتوهمون أن ذلك وليد قصور في التخيل وضيق في الأفق. . . وما ذلك من الحق في شئ. بل إننا لننظر إلى الأمر نظرة المتأمل فنقول: التكرار عندنا نوعان. . . تكرار يوشك أن يقتصر على مرتين أو ثلاث، وتكرار لا تحدّه أرقام فهو طليق طلاقة الحس المعبر. . . والأول نراه من مظاهر(506/35)
القصور، والثاني نعتقد أنه من أثار الاتصال بين مظهر التعبير وجوهر الشعور. وعلي طه في تكراره فنان يساير مشاعره ويعجب بفنه؛ وهيهات أن يستطيع الخلاص من قيد عواطفه. وإذا كان في قراراته حبُ لشيء أو معنى فلا أقل من أن ينطلق مردداً له مستطيبا لتكراره. . . ولكنة حين يكررها يبدل في عرض مشاعره ويلبسها ثوباً جديداً تستشف من خلاله اتصالها بوشائج قوية مع أصولها الثابتة في أغوار نفسه. ولعل المسألة تظهر جلية إذا علم القارئ أن أهم صفة في خلق شاعرنا هي الوفاء. . . فما يستغرب إذا منه الوفاء لبعض أحاسيسه. . .! وما تلك الأحاسيس والصور التي يطيب للملاح أن يكررها. . .؟ هي: (الحلم، الأشباح. الزورق. الكأس) نعم إن المتأمل ليهوله كثرة ما ردد شاعرنا العبقري هذه الكلمات. . . ولكننا بقليل من التأمل نقول إن هذه الكلمات وإن اختلفت في الدلالة فقد اتفقت في الباعث الأصيل لها. . . وإليك الدليل. . . إن الانفعال الذي عند تصورك الحلم وانطلاقه هو بلا ريب ما تحسه عند توهمك الشبح وتهاويله. وما يصدق على الأحلام والأشباح يصدق على الكأس وعصيرها. وهل كانت الكأس إلا الوسيلة للانطلاق في جواء سحيرة فسيحة؟ وإن ما يصدق عن الأحلام والأشباح والكأس ليصدق على حيرة الزورق، فإن حيرته لتعطيك رهبة الرياح الهوج والأمواج الرعن. . . هذا وإلى القارئ بعض هذا التكرار الفني الجميل الذي يرتكز على طبيعة حق فقد كرر كلمة الحلم قائلاً:
(حلم مثلته في خاطري)، (يا عروس البحر يا حلم الخيال)، (غرقان في حلم عذب تسلسله) و (أحلام الليالي الكواعب) وتكراره لكلمة الكأس (لو سقى مثواك بالكأس الصبيب)، (هي الكأس مشرقة في يديك)، (هيئ الكأس والوتر). وتكرار لكلمة الزورق (وضمنا فيه زورق يجري)، يسري عليها للملائك زورق)، (نرقب النيل تحت زورقه).
. . . وثمة ناحية أخرى تلمحها خلال ديوانه وهي أن أصدق ما صاغه في حب وطنه كان وهو في غربة عنه؛ وتلك بارقة نفسية عميقة تدلنا على أن الفاقد للشيء هو خير من يقدره. . . أنظر إليه كيف تذكر النيل ومصر وهو على ضفاف (كومو) وفي جلوة الجندول بفينسيا. وبعد فلا يسعنا إلا أن نهتف أن هذا الشاعر المغرم بالأشباح والحيرة والشرود والأحلام والزورق خير مثال لتأثر الشاعر وتقيده بأحاسيسه الأصيلة. . . أفلم يخضع لهذه الحيرة السابحة والأحلام والأشباح فأبى إلا أن يكون ملاحاً تائهاً. . .(506/36)
حسين محمود البشبيشي(506/37)
البَريدُ الأدبيّ
هل الاسكندر الأكبر هو ذو القرنين المذكور في القراّن الكريم
يعتقد بعض المؤرخين خطأ أن الإسكندر الأكبر هو ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم. فنجد المقريزي والمسعودي يحاولان أن يثبتا أنه (هو)، وكذلك الأستاذ فريد وجدي في دائرة معارفه، وغيرهم كثيرون. ومنهم من يدعي أن سبب تسميته بذي القرنين أنه ملك قرني الدنيا، وأن له ضفيرتين، أو أنه شجاع كالكبش، وغير ذلك من الترهات التي لا يجوز أن يعتمد عليها المؤرخ. ويخيل إلي أن سبب خطئهم جميعاً هو عدم اطلاعهم على التوراة. فلو رجعنا إليها لعرفنا سبب هذه التسمية التي ألصقها المؤرخون خطأ بالإسكندر
ولكي نلم بالموضوع يحسن أن نتساءل: لماذا ذكر القرآن الكريم شيئاً عن ذي القرنين؟ وجواب ذلك سيوضح لنا كل شئ: سأل اليهود وكفار قريش النبي عليه الصلاة والسلام عن شخص لم يذكروا اسمه جاب الدنيا شرقاً وغرباً، وكان له ملك عظيم. ويقصد اليهود بذلك ذا القرنين المذكور في التوراة. فنزلت آيات القرآن الكريم عن ذي القرنين في سورة الكهف. وإليك رواية التوراة: رأى النبي دانيال علية السلام في المنام كبشاً ذا قرنين وفسره في التوراة بمملكة فارس التي لم تكن قد ظهرت بعد. ورأى كبشاً آخر ذا قرن واحد يهجم على هذا الكبش ذي القرنين ويقتله. وفسره في التوراة بملك من ملوك اليونان سيظهر في المستقبل ويقضي على دولة الفرس العظيمة. . . وعلى ذلك فالمقصود بذي القرنين دولة فارس العظيمة التي أسسها الملك كورش والتي تنتهي بالملك دارا الثالث الذي في عهده قضى الإسكندر على دولة الفرس. والمقصود بذي القرن الواحد الإسكندر الأكبر
ودولة فارس كانت عاصمتها سوس في جنوب غرب إيران. وكان الشعب الفارسي في الجنوب والميديون في الشمال. والقرنان إشارة إلى هذين الجنسين. والقرن الواحد إشارة إلى أن اليونان جنس واحد. وكانت دولة فارس تملك عدا بلادها التركستان في وسط آسيا، وبابل في حوض نهري الدجلة والفرات من الجنوب، وآشور في شمال بلاد النهرين، وبلاد آسيا الصغرى، والمستعمرات اليونانية التي بها، وبلاد الفينيقيين بسورية، وأرض العبرانيين بفلسطين، ومصر. . . وعلى ذلك فالآيات القرآنية الكريمة التي جاءت في سورة الكهف هي في الحقيقة تاريخ دولة برّمتها، والأعمال التي قام بها ملوكها. ومع ذلك(506/38)
إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجده يرفع ذا القرنين إلى مصاف المؤمنين، في حين أن الإسكندر الأكبر كان وثنياً يدّعي أنه ابن الإله آمون، وأوصى بأن يدفن بعد موته بمعبد آمون بسيوة. وكان متهتكاً يميل إلى الفجور وشرب الخمر وكان ذلك سبب وفاته. وكانت جثته تعبد بعد موته. فلا يعقل أن يكون هو ذا القرنين الذي يقول فيه القرآن الكريم: (قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكرا. وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى). والآية الكريمة التي تقول: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة) تنطبق على الملك كورش الذي أتجه غرباً وفتح بلاد الفينيقيين بسورية حتى بلغ البحر الأبيض المتوسط (فوجد الشمس تغرب فيه). أما سد يأجوج ومأجوج فالذي أقامه هو الملك كورش أيضاً وهو الآن في موضع اسمه (دريند) ومعناها السد، وهو أثر سد قديم بين الجبال في بلاد التركستان في وسط آسيا. ويروى الرواة في تلك البلاد أنه كان خلف هذا المكان قديماً قبيلتان: إحداهما تسمى ياقوق والأخرى ماقوق. ولقد غار السد بفعل الزلازل. وهذا يفسر قوله تعالى: (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء). ومن نسل يأجوج ومأجوج كانت جيوش تيمورلنك وحفيده هولاكو الذين خربوا بغداد وأسقطوا الدولة العباسية.
من هذا نرى أن الإسكندر ليس ذا القرنين، وعلى ذلك ليس من العدل أن نلصق به هذا اللقب بالإكراه. وإذا كان ولابد أن نجعل له قروناً فلا مانع من تسميته بذي القرن الواحد.
الدكتور إبراهيم الدسوقي
حول تراث بني إسرائيل
قرأت ما كتبه الأستاذ الساكت رداً على تخطئتي للمفسرين في تراث بني إسرائيل، فوجدته يؤيد ما ذكروه من رجوع بني إسرائيل إلى مصر بأن الألوسي رأى في بعض الكتب أنهم رجعوا مع موسى وبقوا معه بمصر عشر سنين، بأن صاحب كتاب الأصول البشرية ذكر أن موسى بعد أن هزم فرعون مصر الذي فر إلى بلاد الحبشة حكم مصر ثلاث عشرة سنة، وبأن المتبادر من قوله تعالى: (ويستخلفكم في الأرض). وقوله: (قلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض). وقوله: (وأورثناها بني إسرائيل) أنهم رجعوا إلى مصر(506/39)
وكل هذا لا يفيد الأستاذ الساكت بشيء، لن الله تعالى قد عين ذلك التراث في قوله: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) فالأرض المباركة هي أرض الأنبياء من المسجد الأقصى وما حوله، كما قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وهي الأرض المقدسة التي ذكر الله أنه كتبها لهم في قوله: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) فهذه الأرض هي التي كانت مطمح بني إسرائيل، وهي الإرث الذي كانوا يتطلعون إليه، وأرسل موسى لأجل أن يمكنهم منه
وقد فصل الله تعالى ما جرى لبني إسرائيل بعد مجاوزتهم البحر، وكرره في سور كثيرة من القرآن الكريم، وذكر من ذلك أنه حاول أن يحملون على دخول الأرض التي وعدوا بها، فهابوا قتال أهلها (قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، قال رب إني لا أملك إلا نفسي وآخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين)
ولم يذكر الله تعالى فيما فصله وكرره من ذلك أنهم رجعوا إلى مصر، وهو لو صح حادث عظيم ما كان الله تعالى ليهمل ذكره، على أن أولئك القوم الذين عجزوا عن فتح بيت المقدس، وأظهروا ذلك العجز والجبن، لا يعقل أن يقووا على فتح مصر، ولا يعقل ألا أن يبقوا في ذلك التيه الذي ضربه الله عليهم، وألا أن يحرمهم الله نعيم مصر أيضاً جزاء فسقهم وعصيانهم
ولا شك بعد هذا في أن ظاهر القرآن الكريم يشهد لذلك التفسير الذي ذكرته، وهو التفسير الذي يتفق مع المعروف من تاريخ مصر القديم وتاريخ بني لإسرائيل، ولا اعتداد بتلك الروايات المجهولة التي ذكرت في المنارة وغيره، ولم تبين لنا كيف ملك موسى مصر، ولا كيف تركها بعد أن تمكن منها
والله يعلم أني لم أطلع على ذلك التفسير الذي يتفق تفسيري معه، وإنما كان ذلك من توارد الخواطر، والخطب فيه سهل.(506/40)
عبد المتعال الصعيدي(506/41)
العدد 507 - بتاريخ: 22 - 03 - 1943(/)
فلسفة الترجمة
للأستاذ عباس محمود العقاد
مر بمصر في الشهر الأخير كاتب من أشهر كتاب السير والتراجم بين الإنجليز العصريين، وهو الأستاذ فيليب جوداللا صاحب سيرة شرشل وسيرة بالمرستون وسيرة نابليون الثالث بطل الإمبراطورية الثانية، وسيرة ولنجتون القائد الإنجليزي المعروف، ويحسبها بعضهم خير ما كتب في مادة السير والتراجم على الإجمال، وهذا عدا التراجم القصيرة التي كتبها لكثير من القادة والأدباء من الإنجليز وغير الإنجليز
وقد دعاه (الاتحاد الإنجليزي المصري) بالقاهرة إلى المحاضرة فيه، فاختار للكلام موضوعاً هو أقرب الموضوعات إليه وأولاها أن يخاطب السامعين والقراء فيه وهو (عمل المترجم) أو عمل الكاتب الذي يُدوِّن تاريخ العظماء ومن لهم تاريخ يستحق التدوين
والحق أنه أدى عمل المحاضر في الأندية العامة أحسن أداء، فلم يكن متعمقاً معاظلاً يتعب السامع الذي يتتبع الحديث ويريد أن يفهمه وهو يصغي إليه؛ ولم يكن هيناً يقول ما ليس يستحق الإصغاء ولا يخرج السامع منه بمحصول يفيد، بل قال ما يفيد ويمتع، وأودع حديثه السهل زبدة الآراء التي يستصوبها من وجهة نظره في صناعة الترجمة وكتابة السير بأسلوب يخيل إلى من يستخفه أنه تسلية ساعة، وهو في الواقع خلاصة حياة، بل خلاصة حيوات إذا نظرنا إلى التراجم الكثيرة التي خرج منها بهذه الخبرة الطويلة
فالترجمة عنده ليست (بقصة) طلقت اللهو والعبث ولبست لبوس الوقار والاحترام!. . . ولكنها تاريخ من التواريخ يطبق على الأفراد بدلاً من تطبيقه على الأوطان والأقوام
وهي من ثم جديرة بأكبر عناية في العصور الحديثة التي شاع فيها تهوين الفرد وتعظيم شأن القوى والعوامل الجامعة، فإن الفرد ولا ريب يدل على شئ كثير، لأنه يرتفع على القمة فيشير إلى اتجاه التيار، فإن لم يكن هو الفعال لكل شئ في زمانه فهو على التحقيق دليل على مجرى الزمن وعلى ما يكمن وراءه من الدوافع والمؤثرات
وقال: إن الفرق بين فرنسا قبل نيف وثلاثين سنة وفرنسا اليوم إنما هو في جملته فرق بين رجلين: بين فوش وبيتان! كما أن تاريخ إنجلترا في السنوات الأخيرة إنما هو مظهر الفرق بين شمبرلين وشرشل(507/1)
ولما تعرض لفن السيرة أو فن كتابتها حذر الكاتب من فتنتين تغريانه من جانبين مختلفين: أحدهما جانب البلاغة الأدبية، والآخر جانب النظريات النفسية أو (السيكولوجية)
فليس الغرض من الترجمة إخراج قطعة من الأدب البليغ، وإن صح أن تجئ أدباً بليغاً في عرض الطريق
وليس الغرض منها عرض النظريات النفسية التي قلما تفضي إلى يقين، لأنها بين شئ مفروض معلوم من قبل، وشئ لا نفرضه ولا نعلمه على الإطلاق، وفي كلا الأمرين مضلة تستلزم التحذير
إنما الترجمة عمل (يدوي) كما يقال إذا شئنا أن نقابل بينها وبين الخلق الخيالي أو الخلق المثالي الذي يتطوح فيه بعض رجال الفنون. ففي حدود هذا العمل المتواضع ينبغي أن يقبع المترجمون!
ثم حذر الكاتب من خطأين آخرين عند الكتابة عن الأقدمين: خطأ النظر (الفوقاني) أو النظر إلى أعلى وهو ينتهي إلى الإطناب في الحماسيات والبطوليات وتخيل الأقدمين كأنهم جيل من العمالقة أو الملائكة العلويين
وخطأ النظر (التحتاني) أو الترفع عن الأقدمين كأنهم أطفال في حاجة إلى التربيت والإغضاء، مع شئ من الابتسام والاستهزاء
وإنما النظرة الوسطى هي النظرة القويمة، أو النظرة السواء لا إلى الأعلى ولا إلى الأدنى، فنراهم بالعين التي تنظر إلى الحياة اليومية ولا تعيبها مبالغة في الإكبار أو مبالغة في التصغير
وقال: إن الكاتب الذي يشغل ذهنه فترة طويلة بالبحث في سيرة عظيم من العظماءِ لا يلبث أن يشعر عامداً أو غير عامد أنه تقمص ثياب (سكرتير خصوصي) لذلك العظيم. . . فهو يجاريه في ميوله وبدواته، ويترقب ملاحظاته وإشاراته، فيفوته من ثم أن يستقل بذهنه في النظر إليه. وهذه أيضاً فتنة من فتن الترجمة المغرية للكتابة، عليهم أن يتقوها جاهدين ليكتبوا عن عظمائهم عادلين مستقلين
وعلى هذا النمط كانت محاضرته طريفة مفيدة، عليها الطابع الشخصي الذي ينم على تجارب الكاتب نفسه ويصطبغ بصبغة منه، وفيها الأحكام العامة والآراء الأساسية التي(507/2)
تصلح للمشاركة والاقتباس.
وقد لقينا في منزل صديقنا الدكتور هيكل باشا فسرنا منه أنه مسرور من الجمهور المصري المثقف الذي تحدث إليه، وأنه يلاحظ أنه لم يشعر بفرق قط بين الجمهور الذي كان يتحدث إليه في البلاد الإنجليزية والجمهور الذي تحدث إليه في القاهرة، فالمصريون كما قال يضحكون في مواضع الضحك التي يفطن لها الإنجليز، ويشبهون نظراءهم من السامعين هناك في التفاتات الذهن ومواقف التعقيب عند الإصغاء إلى حديث
قال: والضحك علامة الحضارة، لأن الشعوب البربرية لا تضحك، فذكرنا في تلك اللحظة قولة نيتشه إن الضحك من نكتة واحدة هو أول الدلائل على تقارب فكرين. وقلنا: بهذه العلامة ثق كل الثقة أن المصريين أعظم المتمدنين!
وسألناه: ألا تنوي أن تكتب شيئاً عن مصر بعد هذه الرحلة؟ فقال مبتسماً: لا أزعم أنني أكتب عن وطن بعد رحلة أيام. . . ثم قال: ولعلي أنا الرجل الوحيد الذي قضى في روسيا أسبوعاً ولم يكتب عنها سفراً طويل الصفحات
تلك خلاصة مقربة لجملة الآراء التي تشتمل عليها فلسفة الترجمة في رأي الأستاذ جوداللا، وهي آراء نوافقه على معظمها ولا نكاد نخالفه إلا في الميل إلى البطولة أو إلى الصبغة الأدبية، فإذا استطاع الكاتب أن يستروح نفحة البطولة من مترجمه وأن يبثها في قلوب قرائه فهو في اعتقادنا عمل لا ضير فيه، بل هو واجب مطلوب مفيد لا غبار عليه
وكذلك إذا استطاع أن يرضي ذوق الفن ويرضي الحقيقة في وقت واحد فتلك غاية حرية أن تتطاول إليها أعناق الكتاب، لأن تجميل الحياة بالصدق الفني غرض من الأغراض النبيلة التي نخلص إليها من طريق التراجم كما نخلص إليها من طريق الشعر والنحت والتصوير والغناء، فكل حياة خلت من الجمال الفني ومن الصورة المثالية التي يسبغ عليها ذلك الجمال هي حياة فاترة أو حياة ناقصة لا تستحق أن تعاش، وإنما مقياس الحياة التي تكتب عنها التراجم والسير هي الحياة التي تعاش
وفيما عدا ذلك نوافق الأستاذ جوداللا في فلسفته التي اختارها بعد التجربة الطويلة لصناعة الترجمة وتمثيل العظماء
نوافقه ونحن نعلم صعوبة هذه الموافقة في زمن كثر فيه المنكرون لقيمة الفرد وقيمة(507/3)
العظمة، وتردد فيه القول بسلطان العوامل الاجتماعية كأنه هو السلطان الذي ليس وراءه سلطان
وقد رأينا فعلاً كاتباً إنجليزياً يعقب على محاضرة الأستاذ جوداللا من هذه الناحية، ويسأله سؤالاً يلخص مواضع اعتراضه فيقول: هل هتلر ظهر في البيئة الألمانية لأنها بيئة مقلوبة أو أن هذه البيئة انقلبت لأن هتلر ظهر فيها؟
والظاهر من سؤال المعترض أنه يأخذ بالقول القائل إن الفرد نتيجة منفعلة، وليس بسبب فاعل في الحوادث التاريخية، وأن العظيم لا ينبغ في أمة إلا إذا تمهدت له دواعي الظهور من تكوين تلك الأمة؛ فالعوامل الاجتماعية إذن هي موضع البحث والالتفات، وليست عظمة العظماء ولا جهود الأفراد
وهذا مذهب مبالغ فيه قد جنح إليه الاشتراكيون على الخصوص لأنهم يردون العوامل كلها إلى المجتمع وعناصر تكوينه ومعيشة أبنائه، ولكنهم مهما يبالغوا في هذا فلن يستطيعوا أن يزعموا أن العظماء والصغراء سواء، وأن النوابغ لا يقدرون على عمل يعجز عنه المحرومون من النبوغ. ومتى كان مسلما أن النوابغ يعملون وأن عملهم لا يذهب سدى فهذا هو المهم الذي يستحق النوابغ من أجله دراسة الدارسين وإعجاب المعجبين
يسأل السائلون الفارغون: من صاحب الفضل في السياحة؟ المركب أو البحر أو الريح؟
وهذا سؤال فارغ كما قلنا لأن السياحة كلمة لا معنى لها إذا انفرد المركب أو انفرد البحر أو انفردت الريح
ففي الساعة التي تلفظ فيها كلمة السياحة البحرية تتمثل لما كل هذه العناصر مجتمعات، ولكنها تتمثل أو لا تتمثل تعجز كل العجز عن إنكار حق المركب في إتمام السياحة، وحق المسافر في الاختيار بين مركب ومركب، وحق الشركات في إنشاء المراكب ورصد المسافات كيفما كانت البحار والرياح.
وكذلك العظمة المشهورة كلمة تستلزم وجود الآدميين الذين يشتهر بينهم العظيم بغير فلسفة ولا تعمق ولا استطلاع لمغيبات. ولكن ماذا في هذا مما ينفي أن العظيم أفعل من الصغير، وأن هذه الأفعال جديرة بالتقديم والتأخير في سير الأمور؟
فالفرد شئ والعوامل الاجتماعية شئ، ومن قال إن الفرد لا يهم فقد أنكر الغاية من إصلاح(507/4)
المجتمع كله، لأن كل إصلاح لا ينتهي إلى الاهتمام بالأفراد فهو إصلاح تركه وإنجازه سواء.
عباس محمود العقاد(507/5)
الشعب هو المسئول عن الإصلاح الإجتماعي
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
ليتك شهدت المناظرة التي أقيمت بكلية الآداب في مساء الأحد الماضي، لترى مبلغ ما وصلنا إليه من حرية الفكر والرأي، ولترى كيف يستبيح ناسٌ إيذاء إخوانهم بلا استبقاء، ولترى أيضاً كيف تطغى العامية الفكرية على بعض من وُسموا بالتثقيف
وسأصف جوّ تلك المناظرة بإيجاز، أداءً لحق (الرسالة)، فمن قرائها ألوفٌ يحبون أن يعرفوا كيف يشتجر القاهريون في ميادين الحجج والبراهين
كانت المناظرة برياسة معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الشؤون الاجتماعية، وقد سُبِقت بحفلة شاي أعدها عميد كلية الآداب ترحيباً بالوزير وبالمتناظرين وكبار المدعوين
وبعد الشاي رأينا الوزير ينتحي ناحية ليراجع خطبة طويلة متصلة بموضوع المناظرة، فعرفت أننا سنقضي شطراً من الليل في نقاش وجدال، وقد هممت بمراجعة الوزير، ثم تركت الأمور تجري إلى مداها المرسوم في ضمير الغيب
وحين وصلنا إلى المدرّج الأكبر بالكلية رأينا جماهير كثيرة وعانينا قيظاً قد اقتُبست ناره من وهج القلوب. . . ألقى العميد كلمة ترحيب بالوزير، وألقى أحد الطلبة كلمة ثانية، ورأى الوزير أن يطوي خطبته لضيق الوقت، ثم دعا المتناظرين إلى الكلام
كنت الخطيب الأول، وكانت خطبتي مكتوبة، ولكني رأيت الجوّ يوجب أن أعرض الموضوع بصورة خطابية، وفي دقائق، لأستبقي الفرصة الباقية، فرصة المنبر الأكبر على صفحات (الرسالة) الصديق
لن أحدثك عما قوبلت به خطبتي من الإعجاب، وإنما أحدثك عن مُناظر قصر خطبته على مناوشتي بأساليب يمجّها الذوق، مع أن المناظرة في كلية الآداب، وبرياسة وزير الشؤون الاجتماعية!
حضر هذا المُناظر وفي قلبه أشياء، فهو لن ينسى أني أفحمته منذ عامين في محاضرة ألقاها بأحد الأندية تأييداً لفكرة وهمية نبتت في بعض خرائب الرءوس، وهو لا يستطيع نشر تلك المحاضرة بأي حال، لأنها من صنوف البهتان(507/6)
كان الظن أن يتناسى حضرة المناظر تلك المعركة الأدبية، وأن يجعل همه الأول والأخير في شرح الرأي الذي ارتضاه في مناظرة ذلك المساء، ولكنه جعل همه في التحرش بالدكتور زكي مبارك وتأليب الجمهور عليه بطريقة عدّها الحاضرون ضرباً من التحدي الممقوت
ليست المناظرة قتالاً بين شخص وشخص، وإنما هي نضال بين رأي ورأي، وليست المناظرة فرصة للتشفي، وإنما هي فرصة للتصافي
أترك هذا وأذكر أني أعجبت في ذلك المساء بخطبتين مجّدا الفكر والرأي، أحدهما الأستاذ صالح جودت، وثانيهما الأستاذ حسين دياب، ومع أنها جَرَيا في ميدانين متعارضين فقد استطاعا الظفر بالحمد والثناء
قال صالح: إن اعتماد الشعب على الحكومة تحوَّل إلى طمع في الحكومة. وهذه فكرة دقيقة جدَّا
وقال صالح أيضاً: إن الذين يقيمون الحفلات الخيرية لمعونة الفقراء لا يفتحون مغاليق الجيوب إلا بفضل المراقص المسبوقة بأكواب الصهباء
وهذا كلامٌ يجب أن يقال. ولو مرةً واحدة، عساه ينفع بعض الجمعيات
وقال حسين: إن الحكومة هي التي تُسأل عن الإصلاح الاجتماعي، لأن عندها وسائل يعجز عن مثلها الشعب. . . وقال أيضاً: إن يقظة الحكومة لا تغني الشعب عن الاهتمام بما يجب عليه في تدبير أمور المعاش. . . وهذا وذاك من الكلام النفيس
أما لغة المتناظرين فكانت سليمة، بغض النظر عن اللحن المضحك، اللحن الذي تكرر ثم تكرر من الخطيب اللحان، وهو فلان!
أيهون منبر كلية الآداب إلى الحد الذي يسمح بأن يعلوه خطيب لا يعرف الأوليات من قواعد اللغة العربية؟
اتقوا الله يا ناس في منبر كلية الآداب!
ومن ذلك الخطيب؟
سأذكر اسمه يوم يغيّر ما بنفسه بعد قراءة هذا الدرس
سأذكر اسمه يوم يعرف أن المناظر لا يكتفي بالقصاصات من المجلات(507/7)
إن خطبة عميد كلية الآداب لم تزد عن أربعة أسطر، وهو مع ذلك تلاها تلاوة ليأمن الخطأ في الإعراب، أما فلان فقد فعل بنفسه ما لا يفعل الأعداء
ثم ماذا؟ ثم أعلن معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق أن رأيه كوزير أن يستزيد الحكومة من المسئوليات. فقلت ومن واجب الشعب أن يتحمل جميع المسئوليات
ثم؟ أسجل خطبتي في (الرسالة) لتُسجَّل في ضمير الزمان، وليعرف من لا يعرف أن للمصريين جذوات فكرية مقبوسة من نار الخلود
أيها السادة:
أحييكم باسم الفكر والرأي، ثم أشكر من تفضلوا فدعوني للاشتراك في هذه المناظرة، فقد هيأوا فرصة جديدة لتوضيح نظرية نفر منها الجمهور حين عرضتها في بعض الجرائد والمجلات وهي النظرية التي تقول بأن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع، وبأن الشعب هو المسئول في جميع الأحوال عما يتعرض له من متاعب وصعاب
وسأعرض تلك النظرية في هذا المساء بأسلوب جديد، راجياً أن تراعوا أننا في رحاب كلية الآداب، فلا يثور من تعودوا الثورة على الحق في المناظرات الماضية، وراجياً أن تذكروا أن ما تضيق به صدوركم اليوم قد يصبح من المألوفات بعد حين
أما بعد فمن المسئول عن الإصلاح الاجتماعي: الشعب أم الحكومة؟
في شرح هذه المعضلة أقول:
أنا أقبل إلقاء جميع المسئوليات على الحكومة، إذا صح عندي أن الشعب طفلٌ لا يفرق بين التمرة والجمرة، على نحو ما كانت الحال في طفولة الشعوب
أما اليوم وقد اكتملت قُوى الشعب وتخطى العهود الفطرية فمن الواجب أن يُسأل عن كل شئ، وأن يكون إليه الأمر في جميع الشؤون
وما السبب في إنشاء الحكومات؟
أفترض جان جاك روسُّو أن الخلائق اجتمعت يوماً للتشاور في الصورة التي تصان بها الحياة الاجتماعية، وأن كل فرد تنازل عن جزء من حريته، ليتكون من تلك الأجزاء قوة تحمي المجتمع من عدوان الأقوياء على الضعفاء
وقد آن أن نسترد ما تركنا من حريتنا باسم صيانة المجتمع. آن أن نكرم الإنسانية بأن(507/8)
تُسأل أمام الضمائر لا أمام القوانين، فإن من العار على الإنسانية أن يطول احتياج بنيها إلى حكام يصدونهم عن تقارض الظلم والاضطهاد
كل أمة تحتاج إلى وزارة اسمها وزارة العدل، فما معنى ذلك؟ معناه أن الأمم لم تصل إلى الرقي الصحيح، ومعناه أن بغي الناس بعضهم على بعض خطر يرتقب في كل حين
لا مانع من أن تكون في الدنيا محاكم، على شرط أن لا يُحتكم إليها إلا في القضايا التي تحتاج إلى اجتهاد القضاة، أما القضايا التي يقال فيها أن الحلال والحرام بين فاحتياج الإنسانية فيها إلى القضاة ضرب من الإسفاف
المثال الصحيح للأخلاق السليمة هو أن تعرف ما لك وما عليك، فتحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتبغض لأخيك ما تبغض لنفسك، ويكون رأيك في تقدير المشكلات الأجتماعية هو الميزان
قال فلاسفة العرب: (الإنسان مدني بالطبع)، ومعنى هذا أنه يكره التوحد الموحش، ويميل إلى الوداد والإخاء، وكذلك كان حاله بالفعل، لولا بدواة ترده إلى عهود الوحشية من حين إلى أحايين
ويقول التاريخ الاجتماعي: إن الدنيا في عهود الظلومات كان فيها شهود يُستأجرون كما يستأجر الفتاك. وقد انقرض هذا الصنف من الناس أو كاد. وتلك بداية لطيفة، فقد نستغني يوماً عن المحاكم، وقد يصبح كل فرد وهو مسئول أمام الضمير لا أمام القانون
أليس من العيب على الإنسانية أن تحتاج إلى جيوش من القضاة والمحامين في شؤون يحكم فيها الضمير قبل أن يحكم القضاء؟
في بضع مئين من السنين يتحول بعض الحجر إلى مرمر، وقد مرت ألوف وألوف من السنين لم يتحول الإنسان إلى ملك
فبأي وجه تلقى الإنسانية بارئها يوم يقوم الحساب؟
الحكمة اليونانية تقول: اعرف نفسك بنفسك
والحكمة الإسلامية تقول: الإثم ما حاك في صدرك
ونحن مع هذا وذاك لا نسير في الطريق إلا معتمدين على أسندة من رعاية الحكومات. . . كأننا خلائق تحبو في فجر التاريخ!(507/9)
أقدم أمة أقيمت فيها حكومة هي الأمة المصرية، وكان ذلك من أبواب المجد، يوم كان النظام حلما يداعب خيال الإنسانية
وستكون مصر أول أمة تعيش بلا حكومة، وسيكون ذلك أعظم آيات المجد، لأنه الشاهد على السمو الذي تغنى به الحكماء، جيلاً بعد جيل
نحن سبقنا جميع الشعوب إلى إقامة النظام الحكومي، يوم كان أصلح أداة لكبح الطغيان الفردي والاجتماعي
وسنسبق جميع الشعوب إلى الاستغناء عن النظام الحكومي، لأنه يطعن في قدرة الإنسانية على مغالبة الأهواء
وماضينا في التاريخ القديم يطمعنا في تحقيق هذا الأمل الجميل، فنحن الذين أقمنا النظام الشمسي قبل أن تعرفه أمم المشرق والمغرب. ونحن الذين غزونا بالروح أمماً لم تكن تغزى بغير السيف. وقد وصلت فنون أجدادنا إلى أمريكا قبل أن يكتشفها كولومبوس بأزمان وأزمان. . . ألم تسمعوا أن أمريكا وجدت فيها آثار بها ملامح من الفنون المصرية؟
وتحرش بنا الأوربيون متجمعين عشرات السنين لعهد الحروب الصليبية، فرددناهم على أعقابهم بعد أن زودناهم بأصول المدنية الشرقية، وهي أساس المدنية الغربية
ونحن كنا الحصون التي صدت غارات المغول، ومن قبل ذلك بقرون أوحينا إلى الإسكندر الأكبر أن يتجشم متاعب السفر إلى الواحات ليزور معبداً يجمع بين الرحموت والجبروت، وهو معبد آمون، آمون الذي دخل اسمه جميع اللغات فصار (آمين) التي تقال عقب الدعاء
أرضنا هي الأرض، وسماؤنا هي السماء، ومجدنا هو المجد، وخلودنا هو الخلود
فما الذي يمنع من أن نكون أول أمة تعتز بالقوة الذاتية؟
ما الذي يمنع أن نكون حكام أنفسنا في جميع الشؤون؟
وما الذي يمنع من أن نسبق جميع الأمم إلى فهم الغاية الصحيحة من قوة الروحانية؟
لكل أمة عذر في التخلف، ولا عذر لمصر في التخلف، وهي أقدم حجاز بين الحق والباطل والهدى والضلال
وتاريخنا الحديث لا يقلُّ عظة عن تاريخنا القديم، فقد حيكت حولنا الدسائس الدولية بالألوف، وكانت بلادنا مصطرعاً لأشتات من الجيوش، فهل غُلبنا في الميادين الفكرية،(507/10)
حين غلبنا في الميادين الحربية؟
أين الدولة التي تستطيع أن تزعم أنها نقلت القلب المصري من مكان إلى مكان؟
أين الدولة التي استطاعت أن تصدّ الفكر المصري عن التغلغل في آفاق الشرق؟
لبلادنا خصائص أصيلة أيسرُها القدرة على قهر عوادي الاضمحلال، وكيف تضمحل أرض نجد فيها الماء في كل بقعة، والله جعل من الماء كل شئ حيّ؟
أول كُفر عرفته الخلائق هو كفر المصريين، وأول إيمان عرفته الخلائق هو إيمان المصريين، وأشهر الأفراح أفراح المصريين، وأشهر الأحزان أحزان المصريين
هل عرف تاريخ الجاهلية أعظم من المعابد المصرية؟
وهل عرف التاريخ الإسلامي أروع من المساجد المصرية؟
وهل يوجد للفلاح المصري نظيرٌ في أي أرض؟
وهل يوجد ماءٌ أعذب من ماء النيل؟
وهل عُرفت العظمة في المباني قبل أن تُعرف في هذه البلاد؟
وهل يوجد في الدنيا ناس يفوقون المصريين في حلاوة الشمائل ولطافة الطباع؟
لم يبق إلا أن نتفرد با لابتكار الأخير، وهو الابتكار الذي عجز عنه من اهتدوا إلى البخار والكهرباء، وهذا الابتكار هو الكشف عن الجوانب المستورة من الأرواح والقلوب، الجوانب النقية، ففي قلب كل رجل غابة عذراء لا تغرّد فوق أدواحها غير بلابل الطهر والصفاء
أجمعوا جموعكم، واستعينوا بمفكريكم، لتكشفوا الواحة المجهولة في الضمائر المصرية، فقلبي بأن في هذا الوادي سرائر مطوية تفوق الأحجار التي يشق في البحث عنها علماء الحفريات!
أنفقوا في البحث عن الضمائر الحية معشار ما تنفقون في البحث عن الأحجار الميتة، واعلموا أن مصر لن تموت، لأنها مؤيدة بروح الحق الذي لا يموت
أين التي عرفناها أو جهلناها، وأين مكانها الأصيل في تاريخ الوجود؟
ستكون أول أمة تعيش بلا حكومة، لتقيم البرهان على أنها فوق الشبهات والأضاليل
قد تقولون: إن واقع الحياة لا يعرف هذا الخيال. . . وأقول: إن الأمر في هذه الأيام ما(507/11)
تقولون، فلو عاشت الأمة بلا حكومة أسبوعاً أو أسبوعين لانتشرت الفوضى وعمّ الاضطراب وشاع الفساد
ولكني مع هذا أجزم بأن الحكومة لا تستطيع بأي حال رعاية أمة فقيرة في نواحي التماسك الذاتي والاجتماعي، فخضوع الأمم للشرائع والقوانين لا يكون خضوعاً شريفاً إلا إن صدر عن إرادة ذاتية مردّها إلى أدب الأحرار لا أدب العبيد
ونحن في مصر نفهم هذه المعاني، فوزير المعارف يعتمد على ضمائر المدرسين، ووزير العدل يعتمد على إيمان الناس بأدب المعاملات، وكذلك يقال في الأمور التي يعالجها سائر الوزراء
قد سمعتم أو قرأتم أن وزارة الوقاية وزارة وقتية تنتهي مهمتها بانتهاء الحرب، فما المستقبل الذي ينتظر وزارة الشؤون الاجتماعية؟ أنا أقدِّر أن مهمتها ستنتهي بعد أمدٍ قريب، يوم يفهم الشعب واجبه في الإصلاح الاجتماعي، ويوم يدرك أن احتياجه إلى عون الحكومة في تلك الشؤون ضربٌ من الفقر في الروح والوجدان
وهذا المستقبل لن يكون بعيداً كما نتخوف، فالشواهد تنطق بأن ضمير الأمة سيستيقظ بعد طول السبات، ولعله استيقظ بالفعل. ألا ترون أن الأمة تتسامى إلى أمور كانت قبل اليوم من تهويل الخيال؟
قبل أن تشب الحرب ويغلو الورق كان متوسط ما تخرج المطابع المصرية في كل يوم أثنى عشر مجلداً، وكان لصحافتنا المقام الثالث بعد الصحافة الإنجليزية والأمريكية، وكنا أول أمم الشرق في إحياء الذخائر العربية والإسلامية، وسيكون لنا بعد الحرب ميادين يعتز بها العقل والبيان
ومعنى هذا أن يقظة الذكاء المصري يقظة حقيقية، وأن تحليقاتنا في سموات الفكر والرأي لم تكن أضغاث أحلام، فكيف تستبعدون أن يستيقظ الضمير المصري فيغني الحكومة عن التعب في مداواة الأمراض الفردية والاجتماعية؟
إن تعادل الضمير والذكاء في مصر فستصبح الأمة المصرية أمة نموذجية، وستبدع في الأدب النفسي آيات لا نظائر لها ولا أمثال
إن أفضل الفروض في وصف الصلة بين الحاكمين والمحكومين هي أن تشَّبه بالصلة بين(507/12)
الآباء والأبناء، فهل سمعتم أن أباً يحب أن يكون ابنه عالة عليه في جميع الشئون!
ونحن اليوم في مطلع حياة جديدة، ولا بد لنا من رياضة أنفسنا على الاضطلاع بحمل جميع الأعباء
وسنجاهد ونجاهد إلى أن تشعر الحكومة أنها تعيش في أمة مثالية لا تحتاج إلى حكام في أي ميدان
سنجاهد ونجاهد إلى أن تغلق المحاكم بفضل اعتماد الشعب على الاحتكام إلى الضمائر والقلوب
لن يطول صبر الإنسانية على هذه الحياة الوضعية، وهي الحياة التي لا ينزجر فيها منزجر إلا خوفاً من سطوة القضاء
إن الاستقامة السليمة هي التي تنبعث من النفس، كما يستقيم العود حين تكتمل قواه، أما الاستقامة التي توجبها قوى خارجية فهي استقامة العود الذي يُستر ضعفه بأسندة من الجريد، وهكذا حال الأخلاق التي لا تستقيم إلا بأسندة من القانون
إن الجوارح الروحية تعطلت بسبب الاعتماد على الحكومة في مختلف الشؤون، وإن المواهب النفسية تهدمت بسبب التفريط في رياضتها على النفاذ والمضاء
الأمم الضعيفة تكل أمورها إلى الحكومات لتستريح من الجهاد، وأما الأمم القوية فتنهض بأحمالها الثقال لتتشرف بالجهاد
وآفة الاعتماد على الحكومة آفة مخوفة على الأمة المصرية، ويجب النص على هذه الآفة بذكر بعض الشواهد، عسانا نزهد فيما استمرأناه من التواكل البغيض
التعليم كله ملقىً على كاهل الحكومة، وما فكر فرد أو جماعة في إنشاء مدرسة إلا على نية التبعية لوزارة المعارف، بأي صورة من صور التبعية
وقد نهضت الأمة فأنشأت الجامعة، ولكن النهوض ثقل عليها فأسلمتها إلى الحكومة!
وأنشأت الجمعية الخيرية الإسلامية بضع مدارس، ثم أسلمتها إلى الحكومة
ومنذ أعوام تعرضت مدرسة الأقباط بالقاهرة لمتاعب مالية، فخذلها أعيان الأقباط ولم ينجدها غير الحكومة
فما الفقر المدقع في العزائم والنفوس؟(507/13)
أتكون أحوال التعليم كهذه الأحوال في البلاد الإنجليزية والأمريكية؟
وكيف والتعليم في تلك البلاد ترجع أكثر شؤونه إلى هيئات مستقلة عن الحكومة كل الاستقلال أو بعض الاستقلال؟
واعتمادنا على الحكومة ظهر بصورة بشعة يوم خيف على (بنك مصر) من زعازع الحرب، فالحكومة هي التي تقدمت لحماية البنك، وبذلك ضاعت فرصة على أغنياء الأمة، وأي فرصة؟
لقد كان في مقدور الأغنياء أن يتعاونوا على رعاية تلك المؤسسة القومية، وهي رعاية مضمونة الربح، وكان من المؤكد أن تدر عليهم الخيرات في أعوم الحرب، ولكنهم تهاونوا تهاون العاجزين عن إدراك ما ينتظر من المنافع، وتركوا الحكومة تدبر الأمر كما تريد
وآفة الاعتماد على الحكومة زلزلت الثقة بالكفاية الفردي، وهل يتهالك المتعلمون على وظائف الحكومة إلا ليقال إنهم وصلوا إلى شئ في بلد الوظيفة كل شئ؟
كل ما رأيناه من هذه النواحي أهون من الناحية التي تساق في مناظرة هذا المساء، فان ناساً يرجون أن تنوب الحكومة عن الأمة في الإصلاح الاجتماعي. وقد يرجون غداً أو بعد غد ان توزع الإصلاحات الاجتماعية والفردية في بطاقات؛ وقد يرجون أيضاً أن تنوب الحكومة عنهم في اختيار ألوان الطعام والشراب!
الأساس الذي أراه لبناء المستقبل أن تكون روح الشعب وروح الحكومة ممثلة في كل فرد، فيكون الرجل حاكما ومحكوماً في آن، حاكما لهواه ومحكوماً لنهاه، ثم تتلاقى قوى الأفراد كما تتلاقى القطرات الطاهرة من الغيوث فتخلق نهراً في مثل عظمة النيل
أنا أنتظر اليوم الذي يقال فيه على سبيل التفكه بحوادث التاريخ: كان في الدنيا حكومات وبرلمانات، وكانت الدنيا في بعض العهود ميادين قتال بين الآراء والأهواء
فإن لم نر ذلك اليوم، وهو في رأيي قريب، فلنخلقه في صدورنا، ولنكن رجالاً يستفتون ضمائرهم في جميع الشؤون، لا يخافون الناس، لأن النزاهة الروحية تخلق الأمان والأطمئنان، ولأن الصدق يحمي صاحبه من عدوان الباغين والظالمين.
وسبحان من لو شاء لحقق هذا الرجاء.
زكي مبارك(507/14)
قلمي!!
للأستاذ (د. خ)
إلىّ إلىّ يا قلمي فاكتب صلاتي وخُطَّ نُسُكي!
إن غِناءَك القديم يُفعم قلبي بذكريات الجمال والحب، فاصدحْ، كعهدك، ورقرق أناشيدك،
وأسكبْ في روحيَ الظامئةِ أغاريدك!
طالما غَنّيتَ يا قلمي الحبيب فأصْغَتِ السماء، وتهلل البدر، ورقصت الملائكة، واهتز
الورد. . . فماذا أصابك؟
هات يا قلمي كأسَ بيانك نشرْبها على ذِكَرِ الماضي الجميل الفِضّيّ الذي غدا أحلاماً
كالحمائم البيض، ترد ظِماءً وتصدُر ظماءً، فأين ماؤك؟
هل حقٌّ أن جنَتَّك أوشكت أن تُصَوّح، وأن يَنبوعك كاد أن يغيض؟ إذن فأين أنتَ في هذه
الدنيا الصّاخبة التي تُدَوّي في المشرقين، وتضطرب في المغربيْن، وأنت مُنْطَوٍ على نفسك، عاكفٌ على أحزانك، سادرٌ في آلامك، يُشجيك أن أعز الإخوان عليك قد هجرك، وأن مرضاً ألم بصاحبك فقطعه عن الدنيا قد كدّر عليك صفو الحياة، وأن المروءة والوفاء قد ذهبا أدراج الرياح، فلم يكتب إليك حبيب، ولم يحن إلى لقائك إلف، وألم يُسْلِكَ في وحدتك الموحِشةِ مواس!!
لله يا قلمي ما أبدعت لأحبّائك من جناتٍ، وما فجّرتَ في جنّاتك من عيون، وما جعلت
فيهن من حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون!
ألم تصور لهم شباباً لا يعرف الهرم، وجمالاً لا تمتد إليه يد الدبول؟
ألم تلهب أفئِدتهم بالحرارة التي أشَعْتَها في كلماتك، والأحرف العاشقة التي نفثتَها من
شبَاتك؟
ألم تُجوِّد لهم ألحاناً أرْويت بها نفوسهم الصادية، وأسكنتهم منها في قصور عالية، من نور
وبَلُّور؟
ألم تُبدع لهم طوبى من وَرْد وريحان، وبهار وسُوسَان، فمنحتهم دمك، وخعلت على
شيخوختهم شبابك، وأعْشَيتَ بطول السهر من أَجلهم عينيك، وجلبْتَ على صاحبك العناء ليستريحوا، والشقاء لينعموا، والمرض ليصحوا. . . وأنت مع ذاك متنفّسي الذي لا أعرف(507/16)
أن أشكوَ إلا إليك. . . ولا أستمد العَوْن إلا منك، ولا أفرّج الكربة عن صدري إلا بك، ولا أستروح الحياة إلا في ظلك، ولا أجلو صدأها إلا بشدوك، ولا أنير حلكتها إلا بنور إيمانكَ، حتى تَنقشعَ ظلماتُها بما ترقرق فيها من ضوء بيانك، وتنجاب غياهُبها بفيضٍ من لآلاءِ عرفانك!!
لماذا صمتّ هكذا يا قلمي الحبيب؟ ألست تُحسِن أن تغنّي مع هذه الأقلام التي تملاء
الوادي دَوِيّا؟ ألست تُجيد أن تنبت الزهر يانعاً في قلوب العذاري؟ ألست تستطيع أن ترقرق الدمع في عيون المحبين؟ ألست تقدر أن تسكب في قلوبهم رضى ورحمة؟ ألا يسعك أن تَشْدُوَ في هدأة الليل النائم فتلين أفئدة وتتسلى أفئدة! هل هكذا تنسى أَودَّاءَك المكلومين والمحزونين؟ تخاف علىّ؟ لماذا؟ لأن الأطباء آثروا عافيتك؟ وأي أديب لا تساقط نفسه من قلمه أَنْفُساً؟ ثُرْ على الطب يا قلمي جعلت فداءك!! إن الذي يقتلني هو هذا الصمت وذاك السكون!! ما قيمة الحياة التي تنقضي في مثل العزلة الرخيصة والركود الآسن؟! لقد مللتُ من طول ما قرأتُ فلا تجعلني أنانياً! لماذا أعيش في سجن هذه الوحدة لنفسي فقط، فلا يكاد الوجود يحس بي؟ لماذا آخذ ولا أعطي؟ لماذا جمدت الدموع في عينيّ، والرحمة في قلبي، والشعر في روحي، فلست أبكي في هذه الزحمة من البكاء والآلام والدم؟ أبأمر الأطباء تصمت عامين طويلين يا قلمي الحبيب؟ هل انتفعت إذن بهذا الصمت الطويل؟ هل رد جمودك برد الشباب على جسمي المحطم؟ هل أسا العلة تخلّفك عن موكب الحياة؟ تصمت عامين كاملين في أحفل حقبة من عمر الإنسانية، وخلال مأساتها الدامية: ألا ما أرخص الحياة التي يبقى عليها أطباءك، وما أحبّ إلىَّ أن تتخذ من ذمائها مداداً يكفي لكتابة سطر في سجل محنتها!
منعك أطباءك من إدمان السهر، فهل نمت؟ وحظروا عليك طول الإكباب على الكتب فهل
سلوت؟ وقالوا لك أرح ذهنك فهل منعوا أطياف المعرفة من الإلمام به؟ لشد ما ضحكوا عليك ولهو بك يا قلمي الحبيب! ولشد ما أضحكوا عليك هوميروس وإسخيلوس وصحبهما الآخرين!!
أستيقظ إذن!
فتح أكمام الورد آماق النرجس وحدق البنفسج، وأرو روح الحديقة الظامئ مما عندك من(507/17)
أمواه الغزل والحب والجمال!
أستيقظ إذن وأطلق بلابلك تخفف من أشجان العذارى بالتسجيع والترجيع، وتملأ الدنيا
غناءً وموسيقياً!
تطمع أن تعيش عمراً طويلاً راكداً هكذا؟ إذن ما فائدة هذا العمر الطويل الذي لا يصلك
فيه بالعالم شئ؟ ما قيمة هذا الظلام الذي لا يتألق فيه نجم؟ ما أشبه خطأ الأطباء في هذا بالغلطة التي وقعت فيها أورورا!! هل تذكر أورورا؟ هل تذكر ربه الفجر ذات الأنامل الوردية؟ هل تذكر حينما أحبَّت الفتى تيتون حبَّا دلَّه فؤادها وأرق نومها وسعّر أنفاسها وجعلها تخر تحت أقدام الآلهة في أولمب طالبةً له الخلود، فلما أوتيت سؤلها وفرحت به، وراحت تحتسي وإياه أفاويق الغرام أياماً. . ذكرت أن تيتون من بني الموتى. . . وانه لا بد أن تدركه الشيخوخة يوماً ما. . . ثم كان ما خافت أورورا أن يكون. . . وشرع الشيب ينبت إبره في راس فتاها الحبيب. . . فلما تنهدت. . . و. . . صبرت! لكن الوجه الجميل المشرق، والفم الرقيق الباسم، والجسم القوى السامق، والأذرع الملفوفة العاتية، والنفس المتدفقة الحارة. . . و. . . والشباب الفينان الذي كانت تلف حوله ألصبوات والأماني. . . كل ذلك أخذ يخبو ويخمد، ويتغير ويتبدل، حتى أمسى تيتون كومة من الحطام. . . والذكريات!! فزهدته أورورا وعافته، بعد ما أسفت على أنها لم تسأل له الآلهة مع ذلك الخلود الذي لانهاية له، شباباً لا آخر له. . . ولما ضاقت به، تمنت على الآلهة الأماني فمسخته!. . . وهكذا كانت خاتمة تيتون!
فهل تريد لي عمراً طويلا كعمر تيتون يا قلمي الحبيب؟ لشدَّ ما يفزعني ذلك! لشدَّ ما
تفزعني هذه الشيخوخة التي يثقل فيها الأب على الأبناء، ودبيب القدم المتهالك على أديم الغبراء! إطو عشرين حجة في غيابه المستقبل ثم ابحث عن بريق عينيك تجد فيهما ظلاماً، وعن تألق وجنتيك تر فوقهما قتاماً، وعن آمال الفؤاد تجدها ملئه آلاماً!!
انفذ يا قلمي إلى حديقة الحياة فوسوس في آذان الورد، واطبع القبَل فوق أجياد الزنبق،
وانفث السحر في صفحة الغدير، وسقسق مع البلابل لتسلى المنْبوذين، وغنِّ فالقافلة قد جدَّ بها المسير!
حذار يا قلمي الحبيب أن تكون متجهماً للحياة أو ناقماً على الناس، فأنت هنا لتبدع شيئاً(507/18)
جميلاً في هذه الدنيا، أو لتكمل نقصاً من كثير من أوجه النقص التي تعيبها. . . وماذا تنقم من الناس؟ ولماذا لا تنال شرفك بأن تكون خادمهم المتواضع؟ ألست ترى إلى هذه الأقلام المتهافتة التي تنفث السم في أخلاق ذويك؟ ألست تراها كيف تغازل الشهوات النائمة، والعواطف الرخيصة، والألباب الشاردة، والقلوب الضالة؛ تفتنها بالأدب المخنث، وتهيجها بالأسلوب الماجن، وتمزق حياءها بالغرام الذي لا يخجل، والفسوق الذي لا يرعوي، والرذيلة التي جثمت على صدر فرنسا فأوهت بنيانها وزلزلت أركانها وأسلمتها للهوان والخذلان!. . . يكتبون للشرق عن غادات بلزاك، وقيان شاتوبريان، والعبد الأسود الذي تَسَوَّّرَ إلى شهرزاد في فحمه الليل ليطفئ ما في قلبها ولتطفئ ما في قلبه. . .!! يا للهول!! ماذا يكتب هؤلاء الضالون لهذا الوطن المنكوب بهم؟! متى كانت مصر في حاجة إلى فولاذ ينصب في أخلاق بنيها كما هي اليوم، بدلاً من هذا السم الذي تتجرعه ولا تكاد تسيغه؟. . . وأنت مع ذاك يا قلمي تغط في سباتك العميق لا توقظك أحداث الزمن، ولا تدميك صرخة الإنسانية، ولا يُفزعك أنين السماء، ولا يُشجيك بكاء الملائكة، ولا يُروِّعك أن يأكل الإنسان لحم أخيه الإنسان! لقد انتهت الإنسانية إلى المأساة التي أفزعت أفلاطون وأوحت إليه أحلام الطوبى، وروَّعت توماس مور ووسوست إليه برُؤى الفردوس. . . الفردوس الجميل الشعري الذي يلهم المفكرين ويغازل ألباب المصلحين!! لماذا تغمض هكذا أيها القلم كما يغمض الطفل المفزوع يرى المنظر المروّع فيطير له لبه، وينخلع له قلبه، وتطير نفسه شعاعاً؟ ألا يجد يداً عطوفاً فتنقذه، ولا نجدة من السماء فتباعد بينه وبين ما يرى؟!
أَلا لقد أصبحت خشيتك الأطباء تعلة، هي أقسى على صاحبك من العلة؛ وصار خوفك
على صحته من الداء، داء أشق على روحه من جميع الأدواء. . . وها أنتذا قد أصابك الصمم، وجرَّ عليك سكوتك البكم، فلست تتوجع لأبناء وارسو، ولا يضنيك أن يحصد الموت شعب روتردام، ولا يهمك أن تنشق الأرض تحت كوفنتري، ولا أن تبيد ستالينجراد، ولا أن يبلع اليم جواريه؛ ولست ترثي لعذارى كييف، ولا يفزعك ما أنزله المثأورون بكولون. . . ثم ها هي ذي اليونان العزيزة، هيلاس الخالدة، جنة الأولمب وفردوس الخالدين. . . اليونان التي حَبَسّتُك عليها طويلاً يا قلمي، فعلمتك الجمال وألهمتك الفن وجرى منها في عودك ماء الحب. . . اليونان التي وهبَتْك أحلامها واستودعتك(507/19)
أسرارها وتفيأت تحت شباتك ظلالها. . . هل ذكرتها في تلك المحنة الظالمة التي لطمت فيها قفا المتشدق، وهزمت جيوش باعة الإسفنج، حتى أتاها الهون فأضاعوا شجاعتها بكثرة العَدد، وطفوْا فيها على مارسْ بالعُدد، فأذلوا الأولمب، ودنسوا رحاب زيوس، ونشروا سمادير الكآبة على جبين مينرفا، وأطاشوا سهام كيوبيد، وفجروا الدمع من عيني فينوس!!
أما تزال تبكي يا قلمي الحبيب؟! أما تزال تؤثر الصمت إشفاقاً على صاحبك، ورثاء لأخيك؛ إذن. . . فإليك البشرى التي تأسو علتك، وتمسح عَبْرتك، وترد عليك ما فاتك من شباب. . . ها هو ذا صاحبك يتفيأ ظل الجنة التي تحوطه فيها القلوب الحبيبة. . القلوب التي تطب له ما لم بطب الأُساة النُّطس، وتعالجه في جنباتها الأرواح الطاهرة التي سلمت من كل رجس، فهي لصاحبك من علته شفاء.
(د. خ)(507/20)
إلى الأب أنستاس ماري الكرملي
لا. . . بل النحاة واللغويون ثقات!
للأستاذ عبد الحميد عنتر
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
القسم الرابع
فعلول (المفتوح الأول)
1 - جاء في (الرسالة) بالعدد (504) بين قوسين هكذا (المفعول الأول)، بعد لفظ (فَعْلول) ولعله تحريف، وصوابه (المفتوح الأول).
2 - أثبت الأب هنا قول اللغويين: إنه لم يجئ على زنة (فَعلول) إلا لفظ (صَعفوق) وهو اللئيم من الرجال، أو بلدة باليمامة؛ ثم أخذ ينفخ في بوق (توت عنخ أمون الحربي) حتى أثارها حرباً شعواء، أشنَّها على جميع اللغويين: القدامى منهم والمحدثين. قائلاً: لقد فحصت ونقبت، وحققت ودققت، فإذا الكلمات التي جاءت على هذا الوزن تبلغ الثلاثين أو تزيد، وإذن فيجب نقض القاعدة القائلة: (ليس لفعلول في اللغة سوى حرف أو حرفين) وتذريتها في الهواء هباء منثوراً. انتهى كلامه ببعض تصرف.
قلت (وهو ختام القول): إن الذي قاله اللغويون وتبعهم النحاة صحيح مستقيم، وإن القاعدة التي أسسوها متينة سليمة.
وإيفاء بما وعدت من الإنجاز أجمل ردي فيما يلي:
1 - إن ال 29 حرفاً التي زادها الأدب على كلمة (صعفوق) موزعة كما يأتي:
(بعضها) منكر لم يثبت إلا بطريق الاستنتاج , وهو (صعقول) لضرب من الكمأة!
(وبعضها) روى بالضم والفتح، ولكن الضم أفصح وأشهر. من ذلك: عُصفور ودسُتور وبرُغوث وخرنوب (الخروب) وبرشوم (أبكر النخل بالبصرة)
(وبعضها) على وزنه (فَعَلول) بفتحتين، وهو (قَربَوس)، وسكون الراء لغة ضعيفة.
(وبعضها) على زنه (فَعْلون) لا (فعلولّ!) ومنه: حمدون وسعدون وخلدون، والضم في هذا أفصح، وعبدون، ويكثر هذا الوزن في الأعلام الشخصية.(507/21)
2 - عجبت كل العجب كيف يذكر الأب حمدون وما على شاكلته، ممثلاً به لما جاء على (فَعلول)، مع أن قواعد الميزان الصرفي تأبى ذلك كل الأباء.
وإنما هي على زنة (فعلون) كما بنيت، وكما هو مسطور في كتب التصريف!!
3 - أتحدى (الأب) أن يأتي بكلمة واحدة، عربية أو معربة، جاءت على وزن (فَعْلول) بفتح فسكون باتفاق علماء اللغة غير صَعْفوق المعرب من اليونانية كما قيل. إن فعل ذلك كنت به من الشاكرين.
4 - كثرة ممارستي لتدريس (علم الصرف) تسمح لي بأن أستنتج السر في امتناع العرب من النطق بألفاظ على زنة (فَعْلول) استقلالاً.
وبيان ذلك، أن العرب أكثرت من استعمال الألفاظ التي على وزن (فَعْلول) بضم الأول، أصيلة ومعربة، كالشمروخ (فرع العِذق)، والأُثكول والعثُكول (كلاهما بمعنى الشمروخ، والعنقُود والعصفور والدّستور، وغيرها كثير في اللغة، ولم تستعمل على زنة فَعْلول إلا صعفوق المعرب، ومع ذلك روى فيه ضم الأول وإن كان ضعيفاً. والسر في هذا خفة الانتقال من ضم إلى ضم بينهما سكون. فالضم في الأول يناسب الواو قبل الطرف. وأما بناء (فَعْلول) الذي كلامنا فيه، فأوله مفتوح. والفتحة لا تناسب الواو التي هي بنت الضمة، ففيه الانتقال من الفتح، وهو خفيف، إلى الضم وهو ثقيل، ولم يحفل العرب بالسكون المتوسط الذي يخفف أمر الثقل؛ لأن الضم بعده سكون ثم ضم، أسلس في لسانهم من فتح بعده سكون ثم ضم؛ لذلك كان فتح الأول في الكلمات التي ورد فيها الضم لغة ضعيفة متروكة. وهذا تعليل لما اقتضاه ذوق العرب آمل أن يكون صحيحاً.
وبعد، فقد أثبت البحث اللغوي، أن النحاة واللغويين، كانوا على يقين لا يخالجه شك، حين قالوا: (ليس في اللغة اسم على وزن فعلول غير (صعفوق) وقد انعقد الاجتماع على أنه معرب دخيل! وإن فليس للأب أنستاس، ولا لغيره من أرباب البحوث اللغوية بعد هذا البيان - أن يرفع عقيرته فوق المنبر الأدبي العلمي العالمي منبر (الرسالة) بقوله: (لماذا لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين) بل الأجدر به والأليق بمنزلته أن يقول: إن اللغويين والنحاة، أعلام أثبات ثقات
وأقول أخيراً: إني لا أجد مثلاً للنحاة واللغويين مع الأب أنستاس، إلا قول من قال:(507/22)
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
وقول الآخر:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني
جّملنا الله بحلية الأدب، وجنبنا مواقع الخطل والزلل، بمنه وكرمه.
عبد الحميد عنتر
أستاذ بكلية اللغة العربية(507/23)
للذكرى والتاريخ
طيبة تستقبل فرعون مصر
للكاتب الفرنسي تيوفيل جوتييه
في كتابه قصة المومياء (إلى جانب المصريين نحن حقاً
برابرة)
تيوفيل جوتييه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 2 -
بالقرب من سلسلة جبال ليبيا يقع حي ممنون الذي يسكنه من يهيئون حاجات الموت، لأن عمله لا ينقطع أبداً، وعبثاً تنتشر الحياة بضوضائها، فالعصائب تجهز، والتوابيت تغطى بالنقوش الهيروغولوفية، وبعض الأجداث الباردة ممتد على سرير الموت ذي القوائم التي تحاكي أرجل الأسد أو ابن آوى وينتظر أن يزين الزينة الأبدية. ولدى الأفق الجبال الليبية تتضح قممها الجيرية فوق صفحة السماء النقية، ويبدو جسمها الأجرد الذي نحتت فيه النواميس والقبور.
وعندما يتجه المرء ببصره إلى الجانب الآخر من النهر لا يجد المنظر أقل من ذلك جمالاً: فأشعة الشمس تكسو باللون الوردي سفح سلسلة جبال العرب، والهيكل الضخم الهائل لقصر الشمال استطاع البعد أن يصغره قليلاً، وقد نهضت أبراجه من الجرانيت، وأعمدته الهائلة فوق منازل المدينة؛ وأمام القصر تمتد ساحة فسيحة تسلم إلى النهر بسلمين على الجانبين، وفي الوسط طريق الكباش يقود إلى برج ضخم، يسبقه تمثالان هائلان وزوج من المسلات العالية يقطع رأساهما الهرميان زرقة السماء الصافية.
وإلى الخلف من أعلى حائط السور يبدو جانب معبد آمون، وإلى اليمين قليلاً ينهض معبد (خنسو) ومعبد (أفت) ويرى وجه برج ضخم، ومسلتان طولهما ستون ذراعاً تبينان مبدأ هذا الممشى الهائل، ذي الألف من التماثيل التي جسمها جسم أسد ورأسها رأس كبش،(507/24)
ويمتد هذا الممشى من قصر الشمال إلى قصر الجنوب، وعلى جانبيه نرى هذه التماثيل الكبيرة مستديرة النيل
وبعيداً من ذلك يتراءى غير واضح في الأشعة الوردية أفاريز عليها قرص الشمس الساحر ناشراً جناحيه الواسعين، ورءوس التماثيل الضخمة ذات الهيئة ألوادعة، وزوايا الصروح العالية، والطنوف المنضدة، ومسلات من الجرانيت، ومجموعات من النخيل يتفتح سعفها كأنه باقات من العشب، وقصر الجنوب قد زها بحيطانه العالية الملونة، وسوارية المزينة بالأعلام، وأبوابه المائلة ومسلاته، وقطعان أبي هوله؛ وفضلاً عن هذا كلما امتد الطرف استطاع أن يرى طيبة تمتد بقصورها وكليات كهنتها ومنازلها، ويجد خطوطاً زرقاء ضعيفة، تِشير في نهايات الأفق إلى قمم الأسوار ورءوس الأبواب.
كان ميدان العرض شاسعاً قد مهد بعناية لإبداء العظمة العسكرية، وبه أطوره يجب أن تكون قد استخدم فيها طيلة سنوات عديدة عشرات الأجناس التي قيدت إلى مصر مستعبدة؛ وهذه الأسطورة تكون إطاراً بارزاً لهذا المستطيل العظيم، وخلفها حيطان من اللبن مصنوعة بانحناء، ويقف عليها، على ارتفاعات متفاوتة مئات الآلاف من المصريين الذين يظلون في اضطراب دائم، هذا الاضطراب الذي يميز الجمهور، حتى حين يبدو أنه لا يتحرك، وتلمع في الشمس ملابسهم البيضاء أو المزخرفة بألوان ناصعة.
وخلف هذا النطاق من النظارة تجد العجلات والعربات والهوادج، يحرسها الحوذيون والسائقون والعبيد ولها منظر شعب راجل، فقد كان عددها عظيما جداً، وإن طيبة عجيبة العالم القديم كان بها من السكان ما يربي على بعض الممالك
وكان الرمل المجتمع الدقيق للميدان الواسع المحاط بمليون رأس، يلمع كأنه معدن براق تحت ضوء يسقط من سماء زرقاء، كأنها مينا تماثيل أوزيريس
إلى الجانب الجنوبي من ميدان العرض ينقطع البناء، وينفتح طريق محاذ لسلسة جبال ليبيا، ويمتد إلى بلاد النوبة العليا، وفي الجهة المقابلة ينشق الجدار، ويسمح للطريق أن يستمر حتى قصور رمسيس، عابراً بين الحيطان الضخمة
سمعت من بعيد ضجة عجيبة مبهمة قوية، كضجة البحر، حين يقترب، وغلبت ضوضاء الجماهير. وهكذا يصمت زئير الأسد مواء جماعات ابن آوى. وبعدئذ أخذت تتميز أصوات(507/25)
الآلات من بين هذه العاصفة الأرضية التي أثارتها عربات الحرب والمشية المتزنة للرجال من المحاربين؛ وقد ملأ هذه الناحية من السماء غبار مصفر كهذا الذي تثيره ريا ح الصحراء؛ ومع ذلك كان الجو راكداً فلم تكن تهب نسمة واحدة؛ وأدقُّ سعف النخل ظل ساكناً لا يتحرك، كما لو كان منحوتاً من الجرانيت على رؤوس أعمدة من الصخر؛ ولم ترتعش على الخدود الندية للسيدات شعرة واحدة، والعصائب المزخرفة التي زينهن بها الحلاقون تمتد متكاسلة خلف ظهورهن
هذا الغبار الناعم قد أثاره الجيش وصار فوقه كسحاب أشقر زادت الضوضاء، وانشقت عاصفة الغبار، وبدأت الصفوف الأولى من الموسيقيين تبدو في الميدان الواسع لتنعش الجمهور الذي بدأ من الانتظار تحت شمس تذيب الجماجم إلا جماجم المصريين
وقفت طليعة الجيش من الموسيقيين بضع لحظات، وأخذ جماعات القسس والمنتخبون من أعيان مدينة طيبة يعبرون ميدان العرض ليستقبلوا فرعون، واصطفوا على هيئة سياج، عليهم أعظم مظاهر الاحترام، وتركوا الطريق حرّاً لمرور الموكب
لقد كانت الموسيقى التي تستطيع وحدها أن تكِّون جيشاً صغيراً، تتألف من الطبول والطنابير والأبواق والصلاصل
مرت الفرقة الأولى تغني لحناً مدوياً هاتفاً بالنصر، في أبواق قصيرة من النحاس اللامع كأنه الذهب، وكل واحد من الموسيقيين يحمل نفيراً آخر تحت إبطه، فكأنه الآلة هي التي تتعب لا الرجل
كان زي هؤلاء الجند مكوناً من نوع من السراويل قصيرة، مضمومة بمنطقة طرفاها العريضان يتدليان إلى الأمام، ومن عصابة غرس فيها ريشتان من ريش النعام، مختلفتا الاتجاه، وهذه العصابة تضم شعرهم الثقيل ووضع الريش كذلك يذكرنا بقرون الجعارين، ويمنح الذين يتزيون بها منظراً غريباً كالحشرات
وضاربوا الطبول يلبسون دروعاً مثناه فحسب، ويضربون بقضيب من خشب الجميز جلد حمر الوحش لطبولهم المعلقة بحمالات من الجلد، متبعين النسق الذي يعينه رئيس لهم يضرب بكفَّيه وكثيراً ما يتجه إليهم
تأتي بعد ضاربي الطبول اللاعبون بالصلاصل، هؤلاء يهزون آلاتهم بحركات عنيفة(507/26)
منقطعة، ويدقون في نظام حلقاتهم المعدنية على قضب أربعة من البرنز.
وحاملو الطنابير يعرضون أمامهم طنابيرهم المستطيلة والمحمولة بعصابة خلف أعناقهم، ويدقون عليها بقوة بمقابض أيديهم
كل جماعة من الموسيقيين ليست بأقل من مائتي رجل، ولكن عاصفة الضوضاء التي تنتج من الأبواق والطبول والصلاصل والطنابير ليست بذات خطر، ولا هي مخيفة تحت قبة السماء الواسعة، وفي وسط هذا آلفضاء الشاسع، وبين طنين هذا الشعب، وعلى رأس جيش يتقدم وله عجيج المياه الثجاجة
وهل كثير أن يتقدم ثمانمائة من الموسيقيين ركب فرعون، محبوب آمون - رع، والذي أقيمت له التماثيل الضخمة من البازلت والجرانيت ترتفع إلى ستين ذراعاً، وقد نقش اسمه على الآثار الخالدة، ونحت تاريخه وصور على حيطان ردهات المعابد ذات الأعمدة، وعلى جدران الأبراج، والأفاريز التي تنتهي، وصوراً لا حصر لها؟ أيكون كثيراً على ملك قابض على ناصية مائة شعب مغلوب؟ على حاكم يؤدب الممالك بسوطه من أعلى عرشه؟ على شمس حية تبهر الأعين وتزيغها؟
(البقية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين(507/27)
من معارج الروح
نحن؟!
نَسَخَتْنِي رُوحِكِ السَّمْحَةُ شِعْراً وَمُنَى
وَشَدَتْ بي في الْمَحَارِيبِ صَلاَةً وَغِناً
ثمَّ نَدَّتْ أُفقَ الرُّوحِ جَلاَلاً وَسَناً
أَنْتِ يَا دُنْيَايَ مَنْ أَنْتِ؟ وَآهاً! مَنْ أَنَا!
أَنَا فِكْرٌ عَاشَ في ظِلِّكِ فَناً سَامِيَا
أَنَا طَيْفٌ رَفَّ في وَادِيكِ مَعْنىً شَاكِيَا
أَنَا نَايٌ ذَابَ في قُدسِكِ لَحْناً شَادِياً
أَنَا رُوحٌ طَارَ في الْحُبِّ فَرَاشاً صَادِياً
أَنَا هَذَا، مَرَّةً أُخْرَى، فَمَنْ أًنْتِ إِذَنْ؟
أَنْتِ مَنْ تَسْمُو وَتَسْتَعْلِي عَلَى فِكْرِ الزَّمَنْ
أَنْتِ مَنْ طَهَّرْتِ مِحْرَابي بِأَقْبَاسِ الْفِتَنْ!
أَنْتِ مَنْ فَجَّرْتِ عُودِي في سَمَواتِكِ فَنْ
ثُمَ مَنْ نَحْنُ جَميِعاَ؟ نَحْنُ خَمَّارٌ وَشَرْبُ!
نحن مَسْحُورَانِ يَا دُنْيَايَ: عَيْنَانِ وَقَلْبُ؟
نَحْنُ قِدِّيسَانِ في الْمعْبَدِ: قُرْبَانٌ وَرَبُّ!
نَحْنُ في الدُّنْيَا، كما شِئْنَا، صَبَابَات وَحُبُّ!
(القاهرة)
محي الدين صابر(507/28)
دمعة على الماضي!
ثَارَتْ بِقَلْبِي ضَيْعَةُ الْحَيْرَان ... فِي الّليْلِ وَامْتَصَّتْ دَمِي أَحْزَاني
وَوَجَدْتُنِي سَأْمَانَ لَيْسَ يُحيِطُ بي ... إِّلا طُيُوفُ مَتَاعِبِي وَهَوَاني!
// لَهْفَانَ أَرْسُفُ فيِ قُيُودَ مَوَاجِعِي ... وَتَشُوقُ نَفْسِي فَرْحَةَ الطَّيَرَانِ
أَجْتَازُ أَشْجَاني التي قَدْ أَغْرَقَتْ ... أَسْرَارَهَا رُوحِي إِلى أَشْجَانِ!
فَكأََنَّ رُوحِي مَوْجَةٌ مَدْفُوعَةٌ ... غمَرَتْ صُخُورَ الْحُزْنِ في شُطْآني
لَكِنْ أُحِسُّ بُرُوزَهَا لاَ يَنْثَنِي ... مُتَجَمِّداً باليَأْسِ في أَرْكاني!
وَكأَنَّ عُمْرِي شَاطِئٌ مُسْتوحْشٌ ... قَدْ بَاعَدَتْهُ غَمْرَةُ النِّسْيَانِ
فَسَعَتْ مِنَ الْمَاضِي إِلَيْهِ زُمْرَةٌ ... مِنْ ذِكْرِيَاتي عَذْبَةُ الألْوَان
أَذْكَى تَخَطُّرُهَا بِنَفْسِي حَسْرَةً ... أَبَدِيَّةً مَشْبَوبَةً النِّيرَانِ!. . .
مَا مَاتَ مَاضِيَّ الذَّي أَحْبَبْتُهُ ... لكِنَّهُ يَمْشِي عَلَى وُجْدَاني!
إِني أَرَاهُ! غَيْرَ أَنَّ زَمَانَهُ ... وَلّى، وَعَزَّتْ خُدْعَةُ الْسُّلْوَانِ
وَكأَنَّ ذَاكَ العَهْدَ أَيْكٌ سَاحِرٌ ... أَنَا مِنْهُ مَطْرُودٌ عَنِ الأَكْنَان
وَلَئِنْ يُحَلِّقُ بي حَنِينِي فَوْقَهُ ... فإلَيْهِ مِنَّى دَمْعَةَ الْحِرْمَانِ
تِلْكَ العِشَاشُ سَكَنْتُهْا وَحَبِبْتُهَا ... هِيَ مَا مَضَى مِنْ رَاحِتِي وَأَمَاني
أَوَّاهُ لَوْ حَنَّتْ إِليَّ وَأَوَمَأَت ... لِي أَنْ أَعِيشَ بِظِلِّهَا الْفَيْنَانِ
وَحَطَمْتُ هَذَا السَّدَّ عَنِّي عَابِراً ... نَحْوَ القَدِيمِ مَفَازَةَ الأزْمَانِ
مُتَخَطِّياً أَسْوَارَ عَيْشٍ حَاضِرٍ ... قَدْ خَصَّنِي بِالظُّلْمِ وَالنُّكْرَانِ
وَجَثَوْتُ في أَظْلاَلِهِ مُتَمَنِياً ... لَوْ أَنَّه بَاقٍ! بلاَ دَوَرَانِ!
لَكِنَّ شِرْعَةَ هذِهِ الّدُنْيَا جَرَتْ ... بالْعُمْرِ نَحْوَ نِهَايَةَ الإنْسَانِ
هَيْهَاتَ أَحْيَا فِي القَدِبمِ، فَقَدْ مَضَى ... وَأَفَقْتُ مِنْهُ عَلَى الأَسَى أَبْكاَني
عبد الرحمن الخميسي(507/29)
عودة (الرسالة)
جنّ بي شوقي إِلى طيف الرسالة ... فتلفّت عسى ألقى خيال!
مهبط الإلهام والسحر العجيب
ومنار العلم والفنِّ الحبيب
والهدى البسّام في ليل الكروب
كم أضاءت ظلمة الشك الرهيب
بالذي يفتن من سحر الأديب
والذي يبهر من فنٍّ خصيب
كيف غابت عن عيونٍ وقلوب
علَّمتها كيف تشدو بالنسيب
جن بي شوقي إلى طيف الرسالة ... فتلفّت عسى ألقى خياله
فرحة غنّت بأشواق الأماني
للذي أُلهم أسرار المعاني
والذي أيقظ وسنان الأغاني
وأشاع الفن في كل مكان
وأحال الفن ذَوْباً من جنان
مهبط الإلهام من سحر البيان
مُجتْلى الخلد على مرّ الزمان
عاد!! ها قد عاد لي طيفُ الرسالة! ... فانتشى قلبي ونادى. . . يا جلاله!
حسين محمود البشبيشي(507/30)
البَريدُ الأدبَيّ
ذو القرنين هو الاسكندر المقدوني
ظهر في العدد - 506 - من مجلة الرسالة الغراء مقال لبعض الفضلاء تحت عنوان - هل الاسكندر الأكبر هو ذو القرنين المذكور في القرآن، وقد أنكر فيه أن يكون ذو القرنين هو الإسكندر، وذهب في ذلك مذهباً يكفي في ظهور بطلانه أن لأدلة التي أتى بها لإبطال المذهب الأول تبطله أيضاً. ولا أضعف من مذهب تقوم أدلة صاحبه على بطلانه، فقد أنكر أن يكون ذو القرنين هو الإسكندر لأنه كان وثنيا، وذو القرنين بنص القرآن كان مؤمناً، ولأن ذكر القرآن لذي القرنين كان جواباً عن سؤال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم عن شخص لم يذكر اسمه، جاب الدنيا شرقاً وغرباً وكان له ملك عظيم، وهم يقصدون بذلك ما ورد في رؤيا دانيال أنه رأى كبشاً ذا قرنين، وقد فسر ذلك بمملكة فارس التي لم تكن ظهرت بعد، ثم رأى كبشاً ذا قرن واحد يهجم على الكبش ذي القرنين ويقتله، وقد فسر ذلك بملك من اليونان يظهر ويقضي على دولة الفرس؛ وعلى هذا يكون المقصود بذي القرنين دولة الفرس، وبذي القرن الواحد الإسكندر المقدوني
فالدليل الأول إذا أبطل أن يكون ذو القرنين هو الإسكندر يبطل أيضاً أن يكون هو دولة الفرس، لأنها كانت دولة وثنية غير مؤمنة. والدليل الثاني إذا أبطل أن يكون ذو القرنين هو الإسكندر، لأنه كان في تلك الرؤيا ذا قرن واحد، يبطل أيضاً أن يكون ذو القرنين هو دولة الفرس، لأن سؤال اليهود كان عن شخص لا عن دولة، والقرآن صريح أيضاً في أنه كان ملكا واحداً لا ملوكا متعددة. وحمله مع ذلك على دولة الفرس بمكان من التهافت، وهو أضعف ما قيل في ذي القرنين من الأقوال الكثيرة
هذا ولا شك أن رؤيا دانيال كما لم تقتض أن يلقب الإسكندر بذي القرن الواحد، لا تمنع أن يلقب بذي القرنين لسبب من الأسباب. وقد جاء في مجلة المقتطف أنه عثر على نقود مقرونة في عهده، فوجد فيها صورته والتاج بقرنيه على رأسه، ولا أدل من هذا على أنه كان معروفاً بذلك اللقب. وقد ذكر ابن العبري المؤرخ السرياني أن الإسكندر المقدوني هو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج، وأنه شرع بعده في بناء السد الأعظم بمدينة باب الأبواب، فوضع له أساساً عظيماً، وقد بحث عنه ملوك الفرس حتى عثروا عليه، وبنوا عليه ذلك(507/31)
السد الذي فرغوا منه في عهد كسرى أنوشروان. وكاتب ذلك المقال يرى أن هذا السد هو سد يأجوج ومأجوج، فإذا صح ذلك فهو من بناء الإسكندر كما ذكره ابن العبري
وقد وفقت في مقالة الأخير من مقالاتي - الحضارات القديمة في القرآن الكريم - بين إيمان ذي القرنين في القرآن وبين ما ورد في تاريخ الإسكندر مما لا يتفق ظاهره مع ذلك وأزيد على ذلك هنا أنه ورد في كتاب مناهج الألبلب المصرية لرفاعة بك، أن الإسكندر كان يتظاهر باتباع ديانة ما يفتحه من الممالك إن لم تكن صحيحة في رأية، يقصد بذلك التقرب إلى أهلها، وحملهم على حب حكمه. على أن تلك الآلهة كانت في أصلها رجالاً من عظماء قومهم أو صلحائهم، ومن الممكن أن يكون تعظيم الإسكندر لها بالنظر إلى أصلها، وأنه لم يكن يعتقد أنها آلهة، وهذا يكفي في نفي الوثنية عنه. ولا يفوتني أن أنبه صاحب المقال إلى أن هولاكو كان أسبق من تيمورلنك
عبد المتعال الصعيدي
1 - فتاوي السيد رشيد رضا
نشرت الرسالة في العدد (504) أن معالي وزير العدل قد أقر جمع فتاوى فضيلة الديار مفتي الديار المصرية الحالي، ورأى (أن الفائدة تكون أتم والنفع أعظم إذا انضم إلى ذلك مقارنة هذه الفتاوى بما هو محفوظ من فتأوي المغفور لهم مفتي مصر السابقين وخاصة فتاوى الأستاذ الإمام محمد عبده والشيخ بخيت)
وهذا الذي أقره وزير العدل إنما هو ولا ريب عمل جليل يستأهل من أجله كل ثناء وحمد؛ بيد أننا نرغب زيادة في تمام الفائدة والنفع أن تشمل هذه المقرنة فتاوى المغفور له العلامة الجليل محمد رشيد رضا من أحكم الفتاوى التي صدرت في الثلث الأول من هذا القرن شاملةً لكل باب من أبواب الفقه الإسلامي. وأن الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم الأول من يعرف فضل هذه الفتاوى ويقدرها حق قدرها، وقد كان يطلب من صاحبها قبل موته جمعها وطبعها.
2 - حول ذكرى السيد جمال الدين
لقد أحسن الأستاذ محمود شلبى فيما كتبه بالرسالة عن السيد جمال الدين، ذلك الذي قال فيه(507/32)
الفيلسوف الفرنسي أرنست رنان (كنت أتمثل أمامي عندما كنت أخاطبه ابن سينا أو ابن رشد أو واحداً من أساطين الحكمة الشرقيين)
وقال فيه الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرزاق باشا (حسبُه من عظمة ومجد أنه في تاريخ الشرق الحديث أول داع إلى الحرية وأول شهيد في سبيل الحرية) وذكر عنه الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك (أن الأمم الشرقية جمعاء مدينة بنهضتها السياسية والفكرية إليه) ولا نُفيض في القول لأننا الآن على غير طريق دراسة شخصية هذا الرجل الذي كان أمة وحده، وإنما نذكر أنه إذا كان إحياء ذكرى العظماء هو بعض ما يجب لهم على الناس، وأن الكاتب الفاضل قد أحسن فيما كتب عن ذكرى هذا العظيم الذي جحدنا فضله ونسينا ذكره فإننا نبين مضطرين - خدمة للحق - أنه قد نقل إلى كلمته الوجيزة أكثر من خمسين سطراً بنصها مما كتبه الأستاذ الإمام محمد عبده وأديب إسحاق وسليم العنحوري والسيد رشيد رضا في تأريخ السيد الأفغاني ولم يشر إلى هذا النقل (يراجع الصفحات 27، 28، 30، 32، 33، 34، 40، 46، 73 من الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام)
ولقد كان الأجدر بالكاتب أن يشير إلى ذلك رعاية لحرمة الأمانة العلمية وتنويهاً بمن سبقونا إلى ترجمة السيد وبيان فضله.
(المنصورة)
محمود أبو رية
توضيح شبهة في كتاب عبقرية عمر
عبقرية عمر شاهد عدل كبقية الشواهد على عبقرية الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد. فقد حلل ووجه كثيراً من أقوال عمر ومواقفه، ولم يترك في ذلك مغمزاً لغامز أو اعتراضاً لناقد. وعهدي بالأستاذ أنه ثبْت، وما نجح إلا النادر في الاعتراض عليه؛ وذلك يرجع لترويه في كتابته؛ ولكنه استوقفني قول الأستاذ في عبقرية عمر صفحة (285) أن المتعة كانت حلالاً أيام النبي عليه السلام، وأن سيدنا عمر هو الذي نهى عنها وضرب عليها، وأتى بقول سيدنا عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله، أنا أنهي عنهما واضرب عليهما.
والواقع ليس كذلك، لأن المتعة حرمها النبي عليه السلام عام حجة الوداع ولم يتركها حلالاً(507/33)
إلى خلافة عمر؛ وفي الصحيحين ما يؤيد هذا. نعم إن المتعة كانت حلالاً في صدر الإسلام للمضطر، ثم حرمت عام خيبر، ثم أبيحت عام الفتح، ثم حرمت عام حجة الوداع، وهذا رأي الشافعي، وقال ما معناه أنه لا يعلم شيئاً تكرر فيه النسخ إلا المتعة. والبيهقي يصحح تحريمه عام الفتح لئلا يلزم النسخ مرتين. وللأستاذ بعد هذا خالص تقديرنا وإعجابنا
(فلسطين)
رضا محمد ديباجة
إمام الفرعون
السعادة في نظر ديكارت
كتب ديكارت إلى الأميرة اليزابيث رسالة بتاريخ أول سبتمبر سنة 1645، قال فيها: (إننا لسنا نجد فرداً واحداً لا يرغب في أن يكون سعيداً، ومع ذلك فإن عدد الذين ينالون السعادة فعلاً عدد ضئيل، لأن كثيرين من الناس لا يعرفون الوسيلة التي بها يحققون لأنفسهم السعادة). وليست سعادة الإنسان - في نظر ديكارت - متوقفة على الحظ أو الظروف الخارجية، وإنما تتوقف أولاً وبالذات على الفرد نفسه. ولذلك نرى ديكارت في رسائله التي كتبها إلى الملكة كريستين، يحاول أن يثبت لها أن (كل إنسان عاقل يجب أن يفحص عن خيره وسعادته إلا في نفسه، وأننا نستطيع أن نحْصل على كل ما يلزمنا بأقل جهد وأدنى تكاليف)
' - , ' ;
وكان تأثير ديكارت على الملكة كريستين تأثيراً قوياً فعالاً، حتى أنها كتبت تقول في 27 فبراير سنة 1654، بعد تنازلها عن عرش السويد: (إنني في هدوء واطمئنان، لأن خيري ليس في يد القدر، وسعادتي ليست تحت سلطان الحظ. أجل، فأنا سعيدة مهما تكنْ الظروف ومهما يحدث لي)
وقد كتب ديكارت إلى الأميرة اليزابيث، في شهر مايو سنة 1645، يقول (إنني أميل دائماً إلى أن أنظر إلى الأشياء التي تتمثل أمام ناظري، من (وجهة) نظر تبديها لي حسنة تجلب الرضى، بحيث أن في وسعي أن أقول: إن سعادتي الأولى تتوقف عليّ وحدي)، وفي هذه(507/34)
العبارة ينحصر سر السعادة في نظر ديكارت، لأنه (ليس هناك أحداث أليمة ممعنة في الشر - في نظر الناس -، إلا ويستطيع الإنسان بعقله وفطنته أن ينظر إليها من (وجهة) تُبدِيها له مواتية نافعةً) وفضلا عن ذلك فإنه (ليس ثمة شر، لا يستطيع المرء أن يستخرج منه وجهاً من الخير أو المنفعة، إذا كان لديه عقل سليم)
(. . . ' , , 55.
وأما خير وسيلة لتحصيل السعادة، فتلك هي أنه (إذا وجد الإنسان نفسه حيال اعتبارات مختلفة، كلها صحيحة، ولكن بعضاً منها يحملنا على أن نكون سعداء، والبعض الآخر - بخلاف ذلك - يحول دون تحصيل السعادة؛ فإنه يبدو لي أن الحكمة تتطلب أن نسارع إلى أن نأخذ بالاعتبارات التي توفر لنا السعادة وتكفل لنا الرضى. . . وإذا كانت كل أمور الحياة هي مما يمكن أن يُنْظَر إليه من جانب فيبدو حسناً طيباً، وينظر إليه من جانب آخر فيبدو ناقصاً معيباً، فإني أعتقد أنه إن وجب على المرء استخدام مهارته في أمرٍ ما، فذلك أولاً وبالذات في أن يعرف كيف ينظر إلى أمور الحياة من (وجهة) تبديها له محققة لفائدته ومصلحته، بشرط أن لا يكون في ذلك خادعاً لنفسه) (من رسالة إلى الأميرة اليزابيث بتاريخ 6 أكتوبر سنة 1645)
زكريا إبراهيم
أسد أباد: لا أسعد أباد
نشر الأستاذ محمود شلبي كلمة طيبة حيا بها فقيد الشرق السيد جمال الدين الأفغاني بمناسبة ذكرى وفاته. إلا أنه اشتبه على مؤرخي السيد موطن ميلاده
وقد ولد السيد في شهر شعبان 1254هـ في قرية (أسد باد) لا (أسعد أباد) فقرية (أسد باد) هي التي تقع على الساحل الشرقي لوادي (كُنَوْ) مديرية في الشرق لعاصمة أفغانستان (كابل)
وهذه القرية الآن خربة ولم يبق منها إلا الأثر. فوالد السيد هو معروف السيد صفدر الشريف: وأما والدته فمن جهة الأم من أشراف أهل البيت، وأما من جهة الأب فمن قبيلة (يوسف زائ) الأفغاني(507/35)
محمد عبد الغفار الهاشمي الأفغاني
تصويب
حدثت أخطاء مطبعية في القسم الأول من مقال (لا. . . بل النحاة واللغويون ثقاة) أنبه على أهمها هنا، مراعياً أن اللفظ الأول من كل اثنين خطأ، وما بعده الصواب وهي:
كأنه يفسر - كأن يفسر. قريب - مريب. مراجع - مرجع. ظرِبى - ظرْبى. يدلها - يدخلها. يفّهم - تفّهم.
عبد الحميد عنتر(507/36)
العدد 508 - بتاريخ: 29 - 03 - 1943(/)
دفاع عن البلاغة
2 - الذوق
كان الذوق في العصور الذهبية يتكون في الأديب - كما ذكرنا من قبل - بالدراسة الفقهية لعلوم الأدب، والقراءة النقدية لروائع الفن، والصحبة المتصلة لأمراء البيان، وغشيان مجالسهم، وطول الاستماع إليهم، وأخذ النفس بمحاكاتهم، وامتحان الآراء والأذواق بمحاكهم، بعد أن يجمع الأديب وعاء قلبه على خير ما أثر عن العباقرة الذاهبين من بليغ النظم والنثر في الأحوال المختلفة والأغراض المتنوعة. فلما خلت تلك العصور، وذهب في سبيلها أحبار البلاغة، وجاء هذا العصر الآلي العجول، نشأ عن انتشار الثقافة السطحية فيه نوع من المساواة الظاهرية بين الأذهان في التحصيل والتفكير، فأخذ كل أديب يقرر ولا يستشير، ويجيب ولا يسأل، ويكتب ولا يقرأ. ولماذا يقرأ؟ إن الكتاب المعاصرين لا يكادون في رأيه يتميزون عليه، وإن الأدباء المتقدمين لا يمتون إلى حياته بسبب؛ والأبهاء والأندية لا تسمر بأدب الجاحظ ولا بحكمة المتنبي ولا بفلسفة أبى العلاء؛ وأكثر أولياء الناس لغتهم أجنبية وثقافتهم أوربية فلا يعرفون قيمة الأدب العالي، ولا يعرفون مكانة الأديب الحق
إنما يقرأ متأدبوا اليوم صحف الأخبار ومجلات الفكاهة وأقاصيص اللهو وملخصات العلم. وأكثر ما يقرءون صور منقولة أو مقبوسة عن أدب الغرب لا تربى في القارئ إلا ذوقاً مذبذباً لا يثبت على لون ولا يستقيم على خطة. ومثل هذا الذوق الملفق المستعار لا ينظر إلى (الأمالي) و (الأغاني) و (اللزوميات) إلا كما ينظر إلى العمامة والقباء والجبة؛ فهي في حكمة أشياء قضت عليها (المودة)؛ وللمودة في كل يوم زي يتجدد معه الذوق ويتعدد!
وليس معنى ذلك أن الذوق الأدبي العربي فسد في كل نفس؛ إنما نتحدث عن الكثرة؛ والكثرة في عهد الديمقراطية تتحكم في القلة: تحدد لها المستوى، وتعين لها الاتجاه، وتنصب أمامها الغرض؛ بله العدوى، فإنها إلى الأصحاء مؤكدة سريعة
على أن في كتاب العربية المعاصرين صفوة مختارة لا تزال في وسط هذه الأذواق المتنوعة المتناقصة مخلصة للذوق الطبيعي الخالص، تذود عنه، وتدعو إليه، وتأبى أن تنزل به إلى تمليق الدهماء ولو فقدت في سبيله انتشار الصوت ورواج القلم. وأغلب هذه(508/1)
الصفوة من أبناء الأزهر ودار العلوم ومن تلمذ لهم، لأن الذوق الأدبي عندهم هدى من الوحي الإلهي أنزله الله في القرآن، وأرسله في الأدب؛ فجرى في النفوس المؤمنة مجرى العقيدة لا يحسن في مكان دون مكان، ولا يصلح لزمن دون زمن
ولكن أصحاب الذوق السقيم يرمون أصحاب الذوق السليم بالقدم والتقليد؛ كأنهم يجهلون أن الجدة والأصالة إنما تكونان في العبقرية لا في الذوق: تكونان في الفكرة والعاطفة والصورة، وفي ابتكار السمات للطبع، والحركات للنفس، والنزعات للهوى؛ وفي استنباط الوسائل للإقناع والإمتاع والتأثير والتشويق والإفادة؛ وفي ابتداع الكلمة الصادقة الشاعرة والجملة البارعة النادرة والأسلوب الحي الذي يلائم الموضوع ويوائم الطبيعة. بذلك استطاع الجاحظ أن يكون غير أبن المقفع، وابن العميد غير الجاحظ، والبديع غير ابن العميد، وأبو نواس غير مسلم ابن الوليد، وأبو تمام غير أبى نواس، والمتنبي غير أبى تمام، وأبو العلاء غير هؤلاء جميعاً؛ ولكن الذوق الذي جمع فهم وفرق بينهم ظل واحداً لا يكاد يختلف
كان المخلصون للأدب في عهد انتشاره وازدهاره يجعلون من ثمار القرائح موضوعاً للنقد الدقيق الصادق، فيؤلفون الكتب في الموازنات، ويعقدون المجالس للمناظرات، ويضعون الموازين القسط للكتاب والشعراء، فلا ينبه شاعر لجاهه، ولا ينبغ كاتب لمنصبه. أما النقد اليوم فأكثره زور وعبث. هو في أغلب الأمر رأى يصدر عن مجاملة أو جهالة، ثم ينتقل من فم إلى فم، ومن مجلس إلى مجلس، ومن بلد إلى بلد؛ والناس في عصر السرعة الآلية والثقافة الضحلة يأخذون الرأي من غير تمحيص، ويعطونه بدون اكتراث. فهذا الكاتب في رأيهم زعيم الكتاب لأنهم يقرءون اسمه في كل صحيفة، ويسمعون ذكره في كل مناسبة! وهذا الكتاب في زعمهم زعيم الكتب لأنه قرر في المدارس أو انتشر في الأيدي أو تحدث به الناس! أما أن ينقدوا الكاتب أو يقرءوا الكتاب فذلك شئ لا يقع في الهوى ولا يدخل في الاختصاص. ومن هنا كان الرأي العام الأدبي في مصر قائماً على التقليد والمتابعة؛ ومن التقليد والمتابعة لا يولد ذوق خاص، ولا يوجد رأي مستقل
إن مستقبل البلاغة منوط بتغلب الذوق الطبيعي المأثور على الذوق المزيف المستحدث. وإذا قلت إن سلامة القومية المصرية موقوفة كذلك على هذا التغلب لم تعد الحق؛ لأن(508/2)
الأذواق والأخلاق والعادات هي عناصر الشخصية التي تميز فرداً من فرد وأمة من أمة. وسبيل الغلبة والفلج للذوق الحر تربيته وتقويته. وأقرب الوسائل إلى ذلك التعليم الصحيح والمثل العالي. فإذا عنى القائمون على الثقافة بتعليم اللغة على النحو الذي تعلم به اللغات الأوربية في الغرب، وعرضوا على النشء النماذج العليا من الأدب قديمه وحديثه، ورغبوه في قراءتها بالعرض المشوق والطبع الأنيق والمكافأة الحسنة، رجونا أن تنشأ الأذواق على الصحة وتجرى على الطبع، فتعاف الأدب الرخيص، وتستبشع الأسلوب الغث، وتنكر النقد المزيف. وإذن تنقى رياض الأدب من الحشرات والطفيليات فلا تسمع فيها لغواً ولا تأثيماً ولا شعوذة
إن معلمي اللغة في كل أمة هم وحدهم المسؤولون عن تكوين الذوق السليم والخلق القويم في الناشئ. وإن ما نجده في مصر من فوضى الأخلاق والأذواق لدليل على أن في بعض معلمي العربية ضعفاً في الاستعداد أو نقصاً في الإعداد نضرع إلى القائمين على شؤون التعليم أن يعلموا مخلصين لعلاجه. وما نظن (الدراسة العليا) التي فرضت على بعضهم في هذا العام هي وحدها الدواء الناجع في هذا العلاج.
للكلام بقية
احمد حسن الزيات(508/3)
علوم اللغة العربية في المدارس الثانوية
للدكتور زكي مبارك
تمهيد
جرت وزارة المعارف منذ أعوام على الاستفادة من إجازة نصف السنة بجعلها مؤتمرات للمفتشين يتبادلون فيها الآراء حول مناهج التعليم وأحوال التلاميذ
وحديث اليوم عن الأسئلة التي وجهتها المراقبة العامة للتعليم الثانوي إلى مفتشي التعليم الثانوي، وهي أسئلة دار حولها الجدال يومين، وقيلت فيها أقوال تستحق التسجيل، وقد استشرت زملائي في إعلان بعض تلك الأقوال، فأجابوا بالترحيب
ظاهرة إنسانية
لا أعرف كيف دارت المناقشات بين مفتشي الرياضة والعلوم والمواد الاجتماعية، ولكني أعرف كيف دارت المناقشات بين مفتشي اللغة العربية
كان الشوق إلى الكلام شديداً جداً، وكان كل مفتش يجب أن يتكلم بإطناب، وكأنه يريد أن يكون المتكلم الوحيد!
كان في المفتشين من يقف ليخطب، مع أن الجمهور الذي تألف منا لم يزد عن أحد عشر كوكباً!
ومع أن شهوتي إلى الكلام قليلة لكثرة ما أعبر بالقلم عما يجول في صدري، فقد زاحمت بعنف لأتكلم أنا أيضاً، وقد تكلمت حتى اشتفيت!
فما سر الشوق إلى الكلام حين يتلاقى الناس؟
يرجع ذلك فيما أفترض إلى أن طرائق التفاهم عند الإنسان قد انحصرت في طريق واحد: هو النطق، وبذلك عطلت طرائق التفاهم بالرمز والإشارة والإيماء
والظاهر أن انحصار التفاهم في النطق فضيلة إنسانية، فضيلة دعا إليها اشتباك الأغراض بصورة لا ينفع فيها غير التحديد بالألفاظ
والظاهر أيضاً أن اختراع الكتابة من أعظم المخترعات الإنسانية، لأنه يرمي إلى تسجيل الألفاظ قبل أن تضيع، وإلى تقييد ما فيها من مسئوليات(508/4)
هل أريد أن أقول إن (المسجل) غاب عن اجتماعات المفتشين، وأنهم لو كانوا يعرفون أن كلماتهم ستسجل كما وقعت لاقتصدوا في الخطابة بعض الاقتصاد؟
أن الآداب الدينية توصى بان نحترس، وتوجب أن نفهم أن الإنسان ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. فالخوف من تدوين الألفاظ باب إلى أدب اللسان
وليس معنى هذا أن المفتشين قالوا كلاماً لا ينبغي أن يقال - لا - ولكن معناه أنهم لو عرفوا أن كلامهم سيسجل لأعدوا كلاماً أقوى من الكلام الذي قيل، مع أنه من الكلام النفيس
كل شئ صائر إلى التحديد، فالإنسان كان يعبر بالإشارة، ثم ارتقى فصار يعبر باللفظ، ثم ارتقى فصار يعبر بالكتابة، وسيرتقى مرةً جديدة فتكون له لغة واحدة، لغة محدودة لا يتطرق إليها لبس، ولا يعتريها غموض
من متاعب الإنسانية أن اللفظ الواحد في اللغة الواحدة قد يختلف مدلوله باختلاف الأذواق، بحيث يكون مدحاً عند هذا وقدحاً عند ذاك
وأعصابنا تتأثر بالألفاظ، أو باختلاف ما نفهم من مدلولات الألفاظ، فمتى تزول أسباب هذا الاختلاف؟
الرأي عندي أن هذه البلبلة الخطرة من أعظم مزايا الإنسانية، ولكن كيف؟
القوة الحقيقية للإنسان هي قدرته الأصيلة على الظفر بأكبر محصول من اشتجار العواطف والأحاسيس والآراء والأهواء ولو توحدت اللغات والتعابير فزالت جميع أسباب الاختلاف لتحول الإنسان إلى صورة آلية لا يسيرها غير ضريم (البنزين)
نحن نختلف أقل مما يجب، ويا ويلنا إذا لم نختلف!
المثال الصحيح للاتفاق هو أمة النمل، ونحن نكره التشبه بأمة النمل
الاختلاف هو الذي خلق العلوم والمدنيات، وهو الذي أوجب أن يكون لكل ثمرة مذاق
الاختلاف واجب، أما التعادي فهو بلاء
الإنشاء
قالت مراقبة التعليم الثانوي: أن إنشاء التلاميذ لا تزال تكثر فيه الأنماط النحوية والصرفية والإملائية، ثم دعت المفتشين إلى أن يشيروا بما يرون لعلاج هذه الحال، فماذا قالوا؟
قال الأستاذ جاد المولى بك: إن أهم المظاهر لمعرفة اللغات هو إجادة الخطابة والكتابة،(508/5)
وإن في المدرسين أنفسهم من يصعب عليه الإنشاء، ولعله يصعب أيضاً على بعض المفتشين! فمن الواجب أن يراض التلميذ على الكتابة والخطابة رياضة جدية وأن تكون قدرتهم على هذين الفنين أول ما يهم المدرسين
وقال الأستاذ منصور سليمان: إن تعليم الإنشاء في المدارس المصرية قد ابتلى بآفة قبيحة، آفة مموقة للفكر، وهي الحرص على الزخرف وعلى الإطناب في جميع الموضوعات. وقد رأيت في أحوال كثيرة أن التلميذ يثاب على التطويل بأكثر ما يثاب على التدقيق. ومن هنا شاع القول بأن اللغة العربية تمتاز بالتهويل والإسراف. وشكوى المدرسين من التعب في تصحيح دفاتر الإنشاء لا تستحق أي التفات، لأنهم مصدر هذا التعب، فهم الذين يوحون إلى تلاميذهم أن الإطالة من علائم البيان
مشكلة الإنشاء
كلام الأستاذ منصور سليمان يتيح الفرصة لأن أفضل رأي في هذه المشكلة، وهي مشكلة أساسية، فما الذي دعا إلى ضعف التلاميذ في الإنشاء؟
السبب الأول هو سيطرة المدرس على لغة التلميذ، ومعنى هذا أن المدرس ينتظر دائماً أن يعبر التلميذ عن غرضه بألفاظ مخزونة في ذاكرة المدرس
وتصحيحات بعض المدرسين تؤيد هذا القول، فهم يدورون حول ألفاظ أعدوها لكل موضوع، وهم يسجلون بالقلم الأحمر تلك الألفاظ تسجيلاً يظهر أثره في جميع الكراريس
بعض المدرسين يملون على تلاميذهم ألفاظاً وتعابير تصلح لكل موضوع، كما يزعمون، وهي طريقة عقيمة، ولا يعتمد عليها غير المدرس الببغاء!
السبب الثاني هو تحكم المدرس في عقل التلميذ، فهو يطلب منه أن يفكر كما يفكر، وأن يرى الدنيا بعينه ويسمعها بأذنيه، ولا يخطر في باله أن كل تلميذ له تصور خاص، وأن التلاميذ يختلفون في الأفكار كما يختلفون في الملامح
وقد يتفق أن نرى التلاميذ في الموضوع الواحد يثبتون أقوالاً وآراءً مقتربة كل الاقتراب، فنفهم أن المدرس أنزل عليهم الوحي الكاذب أو الصادق، وكنا نرجو أن يفكر في تقوية مواهبهم تقوية سليمة، وذلك لا يتم بغير دعوتهم إلى شرح ما يعتلج في صدورهم من المعاني والأغراض شرحاً لا تهيمن عليه قوة خارجية(508/6)
السبب الثالث هو تقديم موضوعات بعيدة عن مدارك التلاميذ، وأريد بها الموضوعات الميتة، الموضوعات التي لا تأخذ وقودها من الحياة الواقعية
ومرد هذا إلى الجهل بحيوات التلاميذ، فلهم اتجاهات فردية واجتماعية غير اتجاهات المدرسين، ومن الواجب أن تكون موضوعات الإنشاء في شرح تلك الاتجاهات
وهل ينتظر الدرس أن يجيد التلاميذ في كتابة موضوع تلقاه وهو تلميذ قبل عشرين سنة أو تزيد؟
في المدرسين من لا يختار موضوع الإنشاء، وفيهم من ينقل الموضوعات التي ألقيت على تلاميذ المدرسة الفلانية، وفيهم من يكرر الموضوع الواحد بضع سنين
الإنشاء اسمه إنشاء
فاختيار الموضوع إنشاء
واللفتة الذهنية عند المدرس باب من الإنشاء
وخطأ التلميذ، الخطأ المنقول عن طبيعته الذاتية فن من الإنشاء
والمهم هو أن نجد في الصف المكون من ثلاثين تلميذاً ثلاثين صورة من التفكير والأداء، لا صورة منسوخة من حضرة المدرس الفاضل!
السبب الرابع إقبال المدرس على تصحيح الكراريس وفي ذهنه صورة محدودة للإجابات، فهو يهمل كل فكرة منحرفة عن تلك الصورة، ولا يثيب التلميذ إلا بقدر محاذاته للعناصر التي فرضها عليه قبل الشروع في الإنشاء
وهذه الطريقة تقتل شخصية التلميذ، وتميت فيه بواكير الابتداع والافتنان. وما ظنكم بتلميذ يرى الخير كل الخير في محاكاة المدرس، ويهمل ملكاته الإبداعية كل الإهمال؟
ما ظنكم بتلميذ يراض على الإيمان بأن رأي المدرس هو الرأي، وتقضى عليه التجارب المدرسية بأن يفهم أن نجاحه يقاس بمقياس رأي المدرس؟
هذه الظاهرة موجودة بالفعل، وهي السبب في الإكثار من دروس الإنشاء الشفوي، وهى دروس عميقة، لأن الغرض منها توجيه التلاميذ توجيهاً حرفياً إلى الأفكار التي يحب المدرس إثباتها في موضوع الإنشاء
ومن أغرب ما يقع أن يقيد المدرس فوق السبورة ألفاظاً وتعابير تساعد التلاميذ على إبراز(508/7)
العناصر الأساسية، وتكون النتيجة أن تكثر المبتذلات (الكيشيهات) فنرى في الكراريس جميعاً صوراً موحدة في الأداء، وهذا نقل لا إنشاء
وهنا أقترح أن تقصر دروس الإنشاء الشفوي على المدارس الابتدائية، لأنها توجيه للمبتدئين. أما المدارس الثانوية فلا تجوز فيها دروس الإنشاء الشفوي، لأنها تزيد في اتكال التلميذ على المدرس، والاتكال باب إلى البلادة والخمود
وأقترح أيضاً أن تكتب أكثر الموضوعات في الفصل، ليعرف المدرس قوى تلاميذه على الوجه الصحيح
وهل ننسى أن بعض التلاميذ يعتمدون على غيرهم في الإنشاء ليلقوا المدرس بأساليب مثقلة بالزخرف والتنميق؟
وهل ننسى أن في المدرسين من يغيب عنه ما في كراس التلميذ من سرقات أدبية؟
وهل ننسى أن في المدرسين من لا يفكر في الموازنة بين الموضوع السابق والموضوع اللاحق، ليعرف كيف يتطور تفكير التلميذ؟
السبب الخامس غرام بعض المدرسين بالإكثار من التصحيحات إكثاراً يشهد برغبتهم في التفوق والاستعلاء
وهذا الغرام ينفعهم عند بعض المفتشين، لأنه دليل على التدقيق، ودليل على الفهم لأسرار اللغة العربية، ولعله الباعث على بعض الترقيات!
والحق أن الحبر الأحمر رخيص، فما أذكر أنى استنفذت منه غير مثاقيل لا يزيد ثمنها عن بضعة قروش، مع أني قضيت أكثر من ربع قرن في التدريس والتفتيش
لو غلا الحبر الأحمر لاقتصد المدرسون في تلك البرقشة الحمراء، وهي برقشة ثقيلة الدم، فهي تشعر التلميذ في كل يوم بأنه تلميذ، ولا تتيح له فرصة الشعور بأنه إنسان له وجود مستقل، ولو بعض الاستقلال
إذا كانت الكلمة صواباً في قول وخطأ في أقوال فيجب تركها بدون تصحيح، لأن ورودها على قلم التلميذ شاهد على أن هذا الخطأ أحيا من ذلك الصواب
وإذا وردت كلمة عامية لها أصل بعيد من اللغة الفصيحة فيجب تركها بدون تصحيح
دعانا الدكتور هيكل باشا مرة للتشاور فيما يجب لتقليل الأخطاء في كراريس التلاميذ،(508/8)
فقلت: إن المدرسين يوجبون حذف (الفوطة) وإثبات (القطيلة)
فقال: وما القطيلة؟
فقلت: هي كلمة يعرفها المدرسون ويجهلها وزير المعارف، مع أنه من كتاب الطبقة الأولى في اللغة العربية
ثم قلت: يوجد مؤلف كبير اسمه ابن الفوطي بالفاء، والجرائد تجهل اسمه فتسميه ابن القوطي بالقاف
فما الذي يوجب الحذلقة بتسمية الفوطة منشفة أو قطيلة؟
مهدوا الطريق للألفاظ الحية، واتركوا الألفاظ الميتة، فما يموت لفظ إلا بعد العجز عن البقاء
السبب السادس هو الهيام بتجميل الموضوعات بالباطل حيثما وقعت، فملعب الكرة فرش بالبساط السندسي، مع أن الأفضل أن يفرش بنبات النجيل. . . والحديقة يجب أن توصف بأنها غناء، ولو كانت فوق سطح البيت. وتحت يدي وثيقة تشهد بأن سطح الفندق الفلاني في المدينة الفلانية وصف بالفرنسية مرة وبالعربية مرة فقيل بالفرنسية إنه منظر يرى به الناظر جميع الآفاق، وقيل بالعربية إنه حديقة غناء، مع أنه لا يتسع لغير شجيرات محبوسة في زهريات!
ثم ماذا؟. . . عندي كلام كثير في العوائق الذي تصد التلاميذ عن إجادة الإنشاء، وأنا أكتب مقالاً لا كتاباً، فمن الواجب أن أكتفي بالتلاميح
وأنا أختم هذا المقال بالحقيقة الآتية:
هل يوجد مدرس يراقب ما يقرأ التلاميذ من الجرائد والمجلات ليجعل موضوعات الإنشاء في حدود المشكلات التي تثيرها تلك القراءات؟
أسمعوا، ثم اسمعوا
الإنشاء ليس تمريناً على إضافة لفظ إلى لفظ، وإنما هو رياضة ذهنية يراد بها تقوية المواهب الروحية والذوقية والعقلية
اخلقوا الشوق إلى الإنشاء بأن تقترحوا على التلاميذ موضوعات يحبون أن يكتبوا فيها. خاطبوهم بأذواقهم لا بأذواقكم وأدعوهم إلى أن يكشفوا من سرائر الحياة ما تجهلون، فهم(508/9)
أعرف منكم بسرائر هذا الزمان
دعوهم يفكرون كما يريدون، لا كما تريدون، ورحبوا بجهلهم لأنه تباشير العصر المقبل، ولا تنسوا أن الطفل لا ينمو إلا إن تركناه يتصرف في حدود ما يريد
عندي كلام وكلام في تعليم الإنشاء، ولكن المجال لا يتسع للإسهاب
أما بعد فماذا قال مفتشو التعليم الثانوي؟ سأرى وسترون
للحديث شجون
زكى مبارك(508/10)
من الأستاذ محمد كامل سليم إلى الأستاذ توفيق
الحكيم
(الأستاذ محمد كامل سليم بك أديب مبدع ومحدث مقنع، وله
في الأدبين العربي والإنجليزي مكانة سامية. ولعل هذا من
الأسرار التي حدت بزعيم مصر سعد زغلول أن يختار الشاب
كامل سليم سكرتيراً خاصاً له أيام الجهاد برغم صغر سنة
وعظم المركز وجلاله؛ فزاده ذلك صقالاً على صقال. وقد
أهدى إليه صديقه الأستاذ توفيق الحكيم كتابه (عصفور من
الشرق) فأرسل إليه هذا الخطاب)
عبد الرحمن
صديقي توفيق الحكيم
تفضلت فأهديت إلى كتابك (عصفور من الشرق) وقد فرغت من مطالعته أمس في متعة وأنس للعقل والنفس. ذلك لأنك أقمته على دعامتين: الأولى عاطفة قوية جارفة، لا يعادل اختلاجها وسذاجتها إلا صدقها وشدة وطأتها. والثانية: عقل مفكر ساخط يتضور من عالم الحقيقة، ويفزع إلى عالم الخيال، في ألم يزيده الشك تعقيداً، وفي أمل يزيده اليقين تجديداً
وإن كتابك هذا لحقيق بأن يحرك في نفس القارئ العليم بحقائق الأمور عواطف وخواطر شتى: من إشفاق ضاحك على العصفور الحساس الشاعر، إلى عطف باسم على قلبه الخفاق الثائر، إلى رثاء ظريف لحاله المضطرب الحائر، إلى غبطة تثير الذكرى لما لقي من حب مدوخ فائر، أشعله جمال فتان ساحر؛ حتى أصبح هذا المخلوق البريء ريشة في مهب الأجواء، تلعب بها الأهواء، فلا تستقر على حال، ولا يهدأ لها بال؛ وأمسى وهو لا يرى ولا يسمع نصح الناصحين ولا إرشاد المرشدين:(508/11)
وما تبصر العينان في موضع الهوى ... ولا تسمع الأذنان إلا من القلب
وأخيراً هذا المفكر البائس (إيفان) يتشكى ويتسخط، ويتفلسف ويتورط، ويسمع الإنسان في صوته رنيناً من الحق، وأنيناً من الأسى، ويشهد في أقواله طغيان الفكرة وقوة الإيمان بفساد الغرب وصلاح الشرق، وبما في المادة من شقاء وضلال، وبما في الروح من أنس وجلال؛ فلا يسع الإنسان - سواء أقره أم خالفه - إلا أن يشعر نحوه بعطف كله إشفاق، ورحمة تضاعفها لوعة، ولوعة يخالطها ألم.
وبعد، مرة ثانية: هل تريد أن أكشف اللثام عنك في ضوء هذا الكتاب الذي وصفت فيه حالات المحب واختلاجاته، ونزوات الحب ونزعاته، حركاته وسكناته، خطراته وخفقاته؟
إذن فاسمع يا صديقي، لقد جاء وصفك لهذا كله وصف العارف المجرب. وما ينبئك مثل خبير؛ فلست أنت عدو المرأة كما يزعم الزاعمون ويتصور الواهمون، وإنما أنت عاشقها المتيم الهائم، وعابدها في محراب العزلة والجمال.
ولقد وددت بعد فراغي من مطالعة كتابك لو امتد بك الصبر فأطلت فيما أوجزت، وأسهبت فيما سردت، وبسطت طرفاً آخر من تجارب الحياة. وتبسطت في ذكر حوادث أخرى أو مغامرات. . . إذن لكان صاحبك مثلاً فذاً للمفكرين ولكان عصفورك مثلاً حياً لعصافير المصريين.
فوا رحمتاه للعصافير السمراء، حين تحب الحمائم الجميلة البيضاء! ويا لها من نشوة دونها كل نشوة، فيها عذوبة وفيها عذاب؛ ولكنها حياة لا تعدلها حياة.
قد يسأل سائل: أليس من العجيب أن يحب العصفور الآدمي الصغير الحمامة الآدمية الجميلة؟ أليس بينهما تفاوت قائم وتباين؟ فكيف يتم بينهما توافق دائم ووئام؟ بلى إنه لعجيب؛ ولكنه عجيب في حكم العقل والمنطق وحدهما؛ ولكنه في حكم الطبيعة والعاطفة مفهوم ولا يفهم سواه. والحب لغز من الألغاز تجري في دائرته المرنة عملية الجذب والانجذاب، فلا ملام ولا عتاب.
على أني كثيراً ما تمنيت لو أن كل عصفور من الشرق أو الغرب أدرك حكمة الأيام في كل زمان ومكان وهي أن المرأة إذا استقوتك استعطفتك ببكائها، وإذا استضعفتك قتلتك بكبريائها. إذن لكان نصيبه من متع الحياة أعظم وأكمل، ولكانت شقوته بها أقل وأضأل.(508/12)
ولكن كيف يدرك العصفور، حكمة الدهور، قبل أن ينتقل بين الزهور؟
إليك يا صديقي خالص التهنئة على ما أدركت من توفيق ظاهر في كتابك الخفيف الظريف. وإليك كذلك خالص الشكر على الهدية وعاطر الثناء على كرم الإهداء والسلام.
10 مارس سنة 1943
(محمد كامل سليم)(508/13)
على هامش (أحلام شهرزاد)
قضية اليوم
للأستاذ دريني خشبة
قالت فاتنة: (عجباً لك يا صديقي! لست أعرف سبباً لترددك هذا الذي طال، وخوفك ذاك الذي سمج، وإشفاقك الذي لم تعد له علة؛ فها أنت ذا تعيش ملء القاهرة، وهاهم أولاد أخذان الشباب من حولك ما تزال قلوبهم عامرة بالشباب؛ ونفوسهم ممتلئة بالفتوة. وهاهي ملاعب أنسك، ومراتع هواك، يرقص فيها ماضيك ريان كما عهدته فينان كما حلمت به، فإلام تظل راكداً هكذا؟ وحتام تخفو عيناك وكل ما حولك صحو؟! أخشى أن يكون إشفاقك من الكتابة عني، وقد ملأت أذنيك شدوا، ومهجتك غناء، هو ما ترى من القطيعة الشاحبة التي قامت بين أئمة الأدب في هذا البلد، وقالات السوء التي يرسلها الأبالسة المغرضون لتعبس الجنة الباسمة، ويصمت الطير الصادح؛ وليكون نعيهم وحده هو المسموع في الآذان، المدوي في الأذهان، مهما يكن شأنه من الهوان. . . كلا يا صديقي. . . لا عليك من هذا أبداً، فأئمة الأدب في هذا البلد أعظم من أن تمزق وحدتهم الأقاويل، وأجل من أن تذهب بريحهم عصبة الأبالسة من مروجي الأكاذيب. . . يحب أن تكتب عني إذن وأنت آمن مطمئن، فقد بلوت من ألوان الأساطير وفنون القصص ما ينبغي أن يوقظ فيك جمالي، ويلفتك إلى سحري، وينبه فيك روعتي التي أبدعها خيال صاحبك الصناع الفنان. . . ولن يعفيك من الكتابة عني ما أرجف به المرجفون عقب أن تلهوا بقراءتي في سيارة أو في عرابة تزام، فلست من الهوان بحيث أقرأ هكذا، وبحيث يفرع القارئون مني على هذا النحو، فأنا قطعة أدبية خالدة، ولن يسأمني الناس مهما أكبو علي، ومهما أدمنوا تلاوتي. . . إنني أروع لوحات الفن في الأدب المصري الحديث. . . وأعيذك من أن تظن بي الظن، أو تأخذ علي اعتداداً بشخصي القوي، ولن أقول الضعيف تواضعاً، فإن عرفاني بقيمتي يباعد بيني وبين التواضع. . . والتواضع أكبر رذائل الأديب ما لم يكن مصدره الغرور، إذ يصبح فضيلة يجمل أن يتحلى بها ليريح الناس منه. . . أنت أذن تخشى شيئين. . . أولهما هذا الفتور الذي قام بين (صاحبي القصر المسحور) فباعد بينهما إلى حين، وجعل الكلام عنهما كهذا الشوك الذي ينبت في أعواد الورد، فيخيف الأيدي الناعمة من أن تمتد،(508/14)
والأرواح الظامئة من أن تتطلع. . . أما ثانيهما فهو كتابتك في (الرسالة) عن صاحبي، أي عني. . . و (الرسالة) هي التي نشرت تلك الكليمات التي نفثها صاحب (شهرزاد) فيما شجر بينه وبين صاحب (فاتنة) أي صاحبي. . . والرسالة أيضاً لها (وعكتها) التي فترت العلاقة بين صاحبها وبين أعز أصحابه عليه، وأحبهم إلى نفسه، لأنه زميل الصبا، وخدن الشباب، وصاحب الحق الأول في فؤاده، والشريك الذي بنى معه مسرح هذا الأدب في مصر. . . لا لا يا صديقي، دع ما يريبك من أمر الصداقات إلى ما لا يريبك من أمر الأدب، فللصداقات عتاب يحلو أو يمر، وللأدب نقد يسلس أو يقسو، وينعم أو يعنف؛ والصداقة شئ، والأدب شئ آخر. ولن يقبل النقد صداقة من الصداقات فيجعلها عداوة إلا في الأمم الصغيرة الفقيرة من القلوب الكبيرة، فإذا عرفت لما أرجف المرجفون عن (شهرزاد) وعن (أحلام شهرزاد) وما تخرصوا به من أخذ هذه عن تلك، فإنما تعرض لموضوع أدبي لم يشد منه المتخرصون إلا ألفاظاً أو عبارات لا كيل لها ولا وزن. وهم قد أوردوها، حينما أوردوها، ليوهموا أنهم بلغوا بها لباب النقد الصراح، وقطعوا بسقطها جهيزة كل خطيب. . . أما صاحب الرسالة، والكليمات التي نشرها لصاحب شهرزاد، فصحيفته كانت وما تزال صحيفة الأدب والنقد الخالص البريء. . . وآية ذلك أنني تعمدت أن أختارها لك لتكتب عني فيها، لتقطع ألسن المرجفين والخراصين، ولتفتح أعينهم التي غشيت إن لم تكن قد عميت، على صورتي الرائعة التي هي ابتكار جديد لم يسبق أحد صاحبي إليه، ولا استطاع أحد أن ينبت في جنة شهرزاد زهرة أينع منها، ولا أعبق من شذاها شذى. . . هذه كلمات سيضيق بها النافسون على صاحبي أشد الضيق، ولكن قلها ولا عليك مما ينفسون من شئ، فلن يضر زحار الغل إلا أهله، ولن يأكل إلا قلوب أصحابه. . . ثم لا تنس أن صاحب الرسالة هو الرجل الذي أثار موضوع النقد منذ أعوام فجلاه أحسن تجليه، واستبقت الأقلام وراء قلمه تؤيد ما يقول، وتفصل ما يجمل، وأنك أنت يا صاحبي كنت أحد الكاتبين فيه، المؤيدين لوجهة نظر صاحب الرسالة. . . ثم أذكر أنه صرح لك بجمالي، واعترف بروعتي، وحسبك أن يصرح الزيات بجمال فاتنة، وروعة فاتنة، لتكتب أنت عن فاتنة. . . أما أختي. . . أما شهرزاد التي ملأت أحلامها، فأنت الكفيل بأن تنافح عنها، وتكافح في سبيلها، وأنا ضامنة لك أنك منصفها من هراء ما أرجفوا(508/15)
به عن غير علم، وجفاء ما شقشقوا به بغير هدى ولا كتاب منير. . . ويدعي الخراصون أن صاحب شهرزاد قد أصبح أنانياً، وذلك أنهم قالوا إنه غضب لأن زميله في القصر المسحور قد كتب في (شهرزاد) كتاباً مستقلاً ترجم به عن أحلامها؛ كأن شهرزاد لم تكن موجودة منذ قرون ثم وجدت، أو كأنها شئ من ابتكار هذا الجيل فلا يصح إلا أن تكون حبساً على فلان أو فلان من زعماء الأدب الحديث. . . ولو عقلوا لتأدبوا أولاً، ثم لعلموا أن الوقعية على هذا النحو شئ خسيس لا يليق بكرامة نهضتنا ثانياً، ثم لذكروا أن صاحب شهرزاد ليس أنانياً وأنه صاحب فطنة ونباهة، وأنه ليس من الخفة بحيث ينطلي عليه ما زعموه له من السرق
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي. . . . . .
ومختلف جداً ما جاء في شهرزاد وما جاء في أحلامها، وشهرزاد تلك مغايرة لهذه في طبيعتها وفي خلقها. وفي شهوتها البهيمية وفي وسائلها وفي أصحابها، وفي الملعب الذي شهد حياتها مذ وجدت ومن قبل أن توجد، بل هي مغايرة لهذا في كل شئ؛ حتى في الهواء الذي تنفسته. بل هي مغايرة لها في كل شئ حتى في المؤلف الذي كتبها، وفي القلم الذي كتبت به. . . وإلا فأين عدو المرأة من صديق المرأة؟ وأين الرجل الذي يعد المرأة دمية، من الرجل الذي يعدها نصف هذه الحياة على الأقل؟ أين الرجل الذي يحسب أن المرأة مما يستخف اللعب به، والإزراء عليه، ووضعه في إطار لتعليقه فوق جدران الصالونات، من الرجل الذي يعرف أن المرأة خلقت لما هو أسمى من اللهو، وأهم من اللعب، وأقمن بالجد! نحن هنا نقول لا لنغضب أحداً، ولا لنرضى أحداً. . . فأمامنا رجلان لكل منهما مؤلفات ولكل منهما كتب، ولكل منهما مذهب في الأدب لم يعد من الهين السهل إنكاره أو تجاهله. . . أما أحدهما فيباهي بأنه عدو للمرأة، فهو دئب في الإزراء عليها والتنديد بها والغض من نصيبها في الحياة، وأما الآخر فهو في الجانب الآخر من صاحبه، لأنه يعد المرأة شيئاً عظيماً جداً إن لم يكن أهم من كل شئ، فهو دائب في الإشادة بها، والثناء عليها، وإحلالها المكان الذي يسمو فوق الرقاعات. والعجيب أن كلا الرجلين في مركز يبيح له ذلك، فالأول غير متزوج وليس له أبناء، ولم يقع على كاهله من مسئوليات الحياة ما يفسد عليه طريقته في التفكير التي قد يراها حقاً، ويراها الناس بلاء. ثم هو لم يعرف هذا الشعور الأبوي(508/16)
الجليل، ولم يسمع بعد مخلوقاً ظريفاً فصل عن قلبه يناديه ذلك النداء الثمين: (بابا!) أو باللغة العربية الفصحى: (يا أبي!) ذلك النداء الذي يوشك أن يكون الفرق بين الرجلين، والذي هو خليق أن يغير الوسيلة التي يفكر بها كل شخص في هذا الوجود. أكتب هذا يا صديقي عني. . . أكتبه عن فاتنة. . . أكتبه معتقداً أنه الحق، وهو بذلك لن يغضب أحداً ولن يرضي أحداً. . .! إن لم يرض الجميع. . . فأكبر الظن أن الجميع عقلاء. ثم هذا هو الوضع الصحيح لكلا الرجلين. فأي غضب وأي رضى، وأي سخط وأي بشاشة؟ لماذا يسخط صاحب شهرزاد إذا غضبت شهرزاد الحكيمة الحازمة حين ترى كاتباً يسلم جسمها للعبيد السود، ويدعي أنها هي التي تصنع هذا وتتشهاه راضية! لقد حق لشهرزاد أن تثور وأن تسخط إذا كانت شهرزاد رمزاً للمرأة في كل زمان ومكان. لقد حق لها أن تثور وأن تسخط إذا كانت حقاً رمزاً لبناتنا وأخواتنا وأمهاتنا وزوجاتنا. . . بل رمزاً للمخلوقة المقدسة التي تصنع سعادتنا وشرفنا وتبنى منزلنا وتغدو أرواحنا، وتقيم لنا حياة العزة التي نصبو إليها ونحلم بها، وتملأ دائماً خيالنا وتستأثر بعبادتنا لأنها من الله بل هي جماع ما يأمرنا به الله. . . شهرزاد هذه تغضب أشد الغضب، وتثور أعنف الثورة إذا انحط بها كاتب إلى صفوف العاهرات. وكل رجل لا يغضب معها ويثور لثورتها هو زوج فقد نخوته، أو أب لا يهمه شرفه، أو أخ ليس فيه مروءة، أو أبن معدوم المجدة، أو قريب ليس عنده نحيزة. . . ولا يصح أن يكون هؤلاء آدميين إذا أخذوا بوجهة النظر الخسيسة
هذه في شهرزاد. . . حينما تكون شهرزاد رمزاً للمرأة. . . ثق يا صديقي أن أحداً لن يغضب من هذا الكلام الذي تقوله بلساني، لأن أحداً لا يرضى أن ينتسب إلى هذا الصنف من صنوف شهرزاد إلا إذا كان فسلا أو أفيكا أو مدخولاً في عقله. لن يرضى أحد أن ينتسب إلى هذا الصنف من صنوف شهرزاد بأبوة أو أخوة أو بنوة أو قرابة. . . واليوم الذي يرضى فيه أحد بشيء من هذا هو اليوم الذي تنعكس فيه معايير الأخلاق وتكون الفضائل والرذائل صفات اعتبارية وشعبذات لا قيمة لها إلا في إفهام النوكي والقعاديد. . . وإذا صح أن يكون الناس قد صاروا نوكى وقعاديد، صح أن تؤلف لهم قصة عن شهرزاد تهدف بالمرأة إلى هذا الهدف الوضيع الذي يجعل بيوت الناس مواخير فسق، وأسواقاً للبغايا. . . هاأنت ذا تشيع في وجهك حمرة الخجل يا صديقي لمجرد ذكر هذه الألفاظ التي(508/17)
لم تتعود إيرادها في أي مما كتبت، ولكن ما حيلتك وأنت تريد أن تكتب حقاً. ثم ما حيلتك وقد لقيت شهرزاد هذا ذاك الرواج الذي لقيت بين جمهور القراء فهبطت بهم ولم تعل، واشتركت العوامل التي أوشكت أن تفسد الاتجاه الأدبي في نهضة هذا الأدب، إن لم تكن قد أفسدت بالفعل. فإذا جاء كاتب أب. . . كاتب له زوج وأبناء وبيت ليكتب عن شهرزاد كتاباً جديداً يدفع به تلك الوصمة التي أخجلت، وينبغي أن تخجل الأمهات والأخوات والزوجات، إذا جاء هذا الكاتب ليكتب ذلك الكتاب، هب الخراصون يتفيهقون ويقولون إنه إنما سرق، وإنه إنما سوغ لنفسه أن يدعي لنفسه ما لغيره، وأن يعيث فساداً في بستان أخيه، وأن ينفش في زرعه؟ ولماذا؟ لأن عبارة أو عبارتين اتفقتا في الكتابين، وتواردتا في القصتين! ناسين أن الكتابين قد اشتركا في مصاحبة شهرزاد في قصرها المسحور، فكتبا عنها كتاباً يترجم عن فهما، ويشرح طريقتهما، ويحكم لأحدهما وعلى الآخر، ويتناول بالتفسير ما ذهبنا إليه من عناصر تلك القضية. ما هذا؟ كيف يفهم هؤلاء الأدب؟ أيكفي أن يقرءوا القصة من القصص في سيارة أو عربة ترام ليصدروا عنها حكمهم وهم يهزلون؟! لا. لا. . . ينبغي عليهم أولاً أن يفهموا أن الذي بين صاحب شهرزاد وصاحب أحلام شهرزاد، مختلف جداً. فأحدهما مشرق والآخر مغرب، وأحدهما يرمي إلى غرض يهدف الآخر إلى ضده. أحدهما يعد المرأة شهوة تفسد كل شئ. المرأة عند أحدهما شيطان مريد، وعند الثاني ملاك بار رحيم. فليفهم الخراصون قضية الكاتبين على هذا النحو. ثم ليقرءوا القصتين من جديد على هذا النور الجديد. ليضعوا عناصر القضية مرتبة أمام بصائرهم. ليقرءوا شهرزاد أولاً، ثم ليقرءوا القصر المسحور ثانياً، ثم ليقرءوا أحلام شهرزاد بعد ذلك، وليذكروا من هو كاتب شهرزاد وما مزاجه في المرأة، وما رأيه الذي يفرق به بين جسدها وبين روحها، وليذكروا، مالا يني يكتبه عنها، وما يفخر دائماً أنه مذهبه في كل ما يتعلق بها. ثم ليذكروا من هو كاتب أحلامها وما طريقته في الأدب، وما رأيه في المرأة، وماذا كتب وما يزال يكتب عنها
ليفعلوا هذا، أو فلينتظروا حتى نعرض لهم كل ذلك.
قالت فاتنة: (أكتب ذلك يا صديقي عني، فقد آن أن تجد المرأة من ينافح عنها، ويكافح في سبيلها.)(508/18)
درينى خشبة(508/19)
ثورة في الأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
كان من حكمة الله ورحمته بالإنسانية أن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم للعرب خاصة وللناس كافة على فترة من الرسل، والناس في عمى عن الحق. وضلال عن الهدى، وجهالة شملته من أدناه إلى أقصاه. فقد كان من الناس قبل بعثة المصطفى من قال: ما يهلكنا إلا الدهر، ومن زعم أنه لا يبعث من يموت، ومن يعبد إلهين اثنين واحداً للخير وآخر للشر، ومن جعل يقيم من الأحجار أوثاناً وأصناماً يعبدها ويقدم لها القرابين حتى من أبنائه وأفلاذ كبده! هذا في ناحية العقيدة. أما في ناحية الخلق والأجتماع؛ فكان البغى والعدوان، وأكل مال اليتيم، وهضم حق الضعيف، ونصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، واستبداد الأكسرة والقياصرة بمن استرعاهم الله من خلقه. كان الأمر كذلك وشراً من ذلك، حتى نظر الله للإنسانية المهضومة، والقلوب الحائرة، والنفوس المتطلعة لنور يهدي به الله خلقه بعد ضلال، ورشد يخرجهم من الظلمات، ورحمة تعمهم جميعاً، فكان محمد هو الهدى والرشد والرحمة والنور، وبه تمت نعمة الله على خلقه وقامت حجته عليهم، بما جاء به من عقيدة وتشاريع وأخلاق، بها صلاح العالم ما أخذ بها ومشي في ضوئها.
ولست أريد الآن أن أفصل ما ذكرت، أو أن أوضح ما أجملت، فحسبي في مقامي هذا الإشارة والإجمال، وفي ذلك بلاغ لقوم يعلمون. إنما الذي أرجو أن ألفت إليه النظر بقوة هو أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت ثورة بكل معنى الكلمة؛ ثورة على العقائد الباطلة، والفوضى الشاملة، والأخلاق الرذلة السيئة. كانت ثورة على هذا كله؛ وإن في بعضه ما كان طيباً في أصله، ثم لما طال به الزمن تغير على أيدي الناس شيئاً فشيئاً، حتى القلب سوءاً وشرا! فما أجدرنا إذاً أن نبحث التراث الذي وصل إلينا، بلا تفرقة بين منبعه وأصحابه، ونأخذ بما فيه من حق، ونثور على ما اندس إليه من باطل فنبعده عنه، وبخاصة في ناحية العقيدة التي بها صلاح المرء وسلامه، والأخلاق التي يتعايش بها الناس ويحكمونها في حياتهم وعامة أحوالهم.
وأرى، قصداً في القول والورق، ألا أتحدث الآن على ناحية العقيدة وما شابها من باطل بفعل بعض المتصوفة وغيرهم من الذين أفسد تفكيرهم فلسفات تلقفوها من هنا وهناك،(508/20)
دون أن يعنوا بالفحص عنها والتثبت منها، فحادوا عن سواء السبيل. وإذاً فلتكن هذه الكلمة مقصورة على ما يجب من ثورة في ناحية الأخلاق.
ورثنا عن رجالاتنا وفلاسفتنا المسلمين - أمثال ابن مسكويه والفارابي والغزالي - مذاهب في الأخلاق، بينت لنا الفضائل والرذائل بياناً فلسفياً، وحددت السعادة التي يصح أن نسعى إليها، ورسمت لها الطرق والسبل، مستعينة في ذلك كله بهدى القرآن والحديث وبآراء من الديانة المسيحية والفلسفة الإغريقية فكان من هذا المزيج ما نعرفه من الأخلاق الفلسفية التي نتوفر على دراستها في الأزهر والجامعة علها تهدينا السبيل السوي، والتي جمدنا عليها فما غيرنا منها شيئاً، غافلين عن الزمن وتغيره وما جد من تطورات ونظم تقضي بأن نعيد النظر في هذه الأخلاق هذه الغاية - أو السعادة القصوى - التي حددتها تلك المذاهب هي العلم التام والمعرفة الصحيحة بالعالم والله والملأ الأعلى. والوسائل إليها في رأي الغزالي - الذي يعتبر إلى حد كبير ممثل هذا الضرب من الأخلاق - هي التحلي بفاضل الأخلاق، والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة. وهنا موطن من المواطن التي أدعو إلى الثورة عليها.
لم يجئ الإسلام ليمهد سبيل الراحة والسعادة الخاصة لقوم يقبعون في الزوايا والمساجد يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ويقنعون بالتافه من الطعام والمرقع من الثياب والضروري من حطام هذه الحياة الدنيا، طلباً لما في الدار الآخرة من جنات عرضها السموات والأرض! لقد جاء الإسلام، وقد بلغت الإنسانية رشدها، فكان ديناً وسطاً لم يفضل الجسم ولا الروح بل عرف لكل حقه؛ فلم يوجب التقشف. ولم يحرم التمتع بما أودع الله من خير في بطن الأرض وعلى ظهرها: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)!
(الحديث موصول)
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(508/21)
للذكرى والتاريخ
طيبة تستقبل فرعون مصر
للكاتب الفرنسى تيوفيل جوتييه
في كتابه قصة المومياء
(إلى جانب المصريين نحن حقاً برابرة)
تيوفيل جوتييه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
يأتي بعد الموسيقى، الأسرى من البربر بسحنهم الغربية، ووجوههم البهيمية، وجلودهم السوداء، وشعورهم المجعدة؛ وإنهم ليشبهون القرد أكثر مما يشبهون الإنسان، ويلبسون زي بلادهم: قباء إلى أسفل الدف، مطرز بزخارف ذات ألوان مختلفة، وتمسكه حمالة واحدة، ويسود في غل هؤلاء الأسرى قسوة غربية ماهرة؛ فبعضهم جمعت كيعانه خلف ظهره، والبعض ربطت يداه مرفوعتين فوق رأسه في أكثر الأوضاع مضايقة، وقسم وضعت يداه في محابس خشبية، وآخرون ربطت رقابهم في حبل يضم صفاً طويلاً، وقد عقدت عقدة عند كل أسير، ويسير إلى جانب الأسرى حرس ينظمون سيرهم بضربات من العصا، ويسير في الخلف بخجل وانحناء سيدات سمر بضفائر طويلة مسترسلة، ويحملن أطفالهن في خرق من نسيج معقود على جباههن؛ وأخريات حسان ذوات جلد أقل سمرة من هؤلاء قد زين أذرعتهن بحلقات ضخمة من العاج، وآذانهن باسطوانات واسعة من المعدن؛ وقد ارتدين أقبية طويلة ذات أردان واسعة، يزينها تطريز لدى العنق، وتنزل إلى أعقابهن، مثناة ثنيات دقيقة مكوية، ويلبسن خلاخيل في أقدامهن، ويصحب هؤلاء الجند ويحفظونهن من الاختلاط بالجمهور
يأتي بعد ذلك حاملو الرايات، رافعين أعلامهم مذهباً قضبانها، وعليها رسوم رمزية؛ من صقور مقدسة، إلى رءوس هاتور يعلوها ريش النعام إلى لقالق ذات أجنحة، إلى أختام منقوشة باسم الملك، إلى تماسيح ورموز أخرى دينية أو حربية؛ وقد عقد بهذه الرايات(508/22)
أربطة بيضاء زينت بنقط سوداء، تجعلها حركة السير ترفرف برقة
لدى رؤية حاملي الرايات الذين يعلنون مقدم فرعون، أخذ نواب القس والأعيان يمدون أيديهم نحو فرعون في هيئة احترام تام، أو يتركون أيديهم على ركبهم مديرين راحاتهم للهواء، وبعضهم ينحني شاداً مرافقه إلى جسمه، وجبهته منحنية تبدي الخضوع المطلق والتقديس العميق؛ بينما النظارة يحركون في كل جهة ما معهم من سعف النخل
بين حاملي الرايات وحملة المباخر الذين يسبقون هودج فرعون، مناد يتقدم وحده وبيده منشور تغطيه الرموز الهيروغليفية؛ يعلن هذا المنادي بصوت قوي رنان، كأنه صوت من النحاس، انتصارات فرعون ويتحدث عن الحظ الذي صادفه الملك في مختلف مواقعه، وعدد الأسرى وعربات الحرب التي أخذت من العدو، وقدر الغنيمة، وقيمة برادة الذهب، وأسنان الفيل، وريش النعام والعطور، وعدد الزراف والأسد والفهود والحيوانات الأخرى النادرة؛ ويذكر أسم رؤساء البربر الذين قتلوا بحراب جلالته أو سهام ذلك الملك القادر على كل شئ محبوب الآلة، ولدى كل خبر يهتف الشعب هتافاً عالياً، ومن أعلى الجدران يرمون في طريق المنتصر سعف النخل الذي يلوحون به
وأخيراً يظهر فرعون.
بعض الكهنة يضعون البخور على الفحم المتقد في كوب صغير من البرنز، له يد على هيئة صولجان ومن الناحية الأخرى ينتهي برأس حيوان مقدس، ويسيرون باحترام بينما الدخان المعطر الأزرق يصعد إلى أنف المنتصر الجالس في هيئة من لا ينتبه إلى هذه التشريفات كأنه إله من البرنز أو البازلت
اثنا عشر رئيساً حربياً يغطي رؤوسهم خوذات خفيفة، عليها ريش نعام، أنصافهم العليا عارية، والسفلى يغطيها منطق ذو ثنيات عريضة، ويضعون أمامهم تروسهم معلقة بأحزمتهم، هؤلاء يحملون نوعاً من الهوادج عليه عرش فرعون، وهو كرسي له أذرع وأرجل على هيئة الأسد، وله ظهر مرتفع، وعليه حشية عالية، وقد زين جانبه بشبكة من الورد الأحمر والأزرق، وذهبت يدا العرش وأرجله وجوانبه، أما الأماكن التي خلت من التذهيب فيملؤها ألوان زاهية
وعلى كل جانب من المحمل يحرك أربعة رجال مراوح ثقيلة من الريش على شكل نصف(508/23)
دائرة، وعيدان هذه المراوح مذهبة؛ ويحمل قسيسان قرناً مزخرفاً زخرفة باهرة، ويسقط منه باقات اللوتس الضخمة
كان فرعون يضع على رأسه تاجاً به فتحة ينفذ منها صوان الأذن، ثم ينسدل على العنق ليحميها، وفي القسم الأزرق من التاج يلمع كثير من النقط التي تشبه أهداب الطائر، وهي مكونة من ثلاث دوائر سوداء وبيضاء وحمراء، وله إطار قرمزي وأصفر بين حافته. والثعبان الرمزي عاقفاً حلقاته الذهبية على الجزء الأمامي من التاج يتدلى وينفتح فوق الجبين الملكي، ويتهدل على الأكتاف خصلتان من الشعر المصفف طويلتان لهما لون أرجواني، ويكملان غطاء الرأس ذا الأناقة والعظمة
ويتدلى على صدر فرعون عقد ذو سبعة أدوار من الميناء والحجارة الكريمة والدرر والفصوص الذهبية التي لها في الشمس بريق وهاج خاطف
ويلبس الملك نوعاً من الأقمصة به مربعات وردية وسوداء، وينتهي بأربطة تلتف مرات عدة حول جذعه، وتضغطه بقوة؛ وكماه المشقوقتان من أعلى تدور عليهما خيوط ذهبية، وحمراء، وزرقاء، تريان ذراعين عظيمتي العضل قويتين، وباليد اليسرى مقبض من المعدن مخصص، ليخفف من احتكاك الوتر عندما يرمي فرعون سهماً من قوسه، واليد اليمنى يزينها سوار مكون من ثعبان يلتف عدة مرات على نفسه، وتقبض على صولجان من الذهب ينتهي بزهرة لوتس؛ وباقي جسمه ملتف بنسيج من أدق أنواع الكتان ذي ثنيات كثيرة، ويثبته على الخصر حزام عليه صفائح من الميناء والذهب، وبين القميص والحزام يبدو الجسم مضيئاً مصقولاً كأنه جرانيت وردي نحتته يد صناع، ويلبس في قدميه الدقيقتين الطويلتين صندلتين محنيا لسانهما، ويشبهان قبقاب التزحلق، ويجلس واضعاً إحدى قدميه قريبة من الأخرى، كما نرى في أقدام الآلهة المنقوشة على حيطان المعابد
وجه فرعون مصقول أمرد ذو سمات نقية، يبدو أنه ليس في مقدرة أي انفعال أنساني أن يغيرها، وشفتاه نابنتان، وعيناه واسعتان يزيد في سعتهما الخطوط السود، وأهدابهما لا تطرف كأهداب الصقور المقدسة. وإنه ليوحي بسكونه الرهبة والاحترام؛ ويقال إن عينيه الثابتتين لا تريان إلا الخلود واللانهاية، أما ما حولهما من الحوادث فيبدو أنه لا ينعكس فيهما. وإن الاشمئزاز من اللذائذ والتعب من الرغبات التي تجاب حالما تبدى، والتفرد بان(508/24)
يكون نصف إله لا نظير له بين البشر، والضجر من طول ما عبد، والملل من النصر، عقدت إلى الأبد هذا الوجه الجميل الصافي. وإن أوزيريس القاضي بين الأرواح ليس أكثر منه عظمة ولا هدوءاً
إلى جانب فرعون، يرقد فوق المحمل أسد خاص به، ماد إلى الأمام مخالبه كأنه تمثال أبى الهول فوق قاعدته، ولكنه يطرف بعينيه الصفراوين.
يصل هودج فرعون بالعربات الحربية لزعماء المغلوبين حبل، وهم مقودون خلفه كأنهم حيوانات ذات مقاود، وإنهم بهيئتهم الحزينة الوحشية، قد جمعت مرافقهم بالعصائب، ويكونون منظراً شنيعاً، ويهتزون بغير نظام كلما اهتزت عرباتهم التي يقودها حوذيون من المصريين.
بعدئذ تأتى العربات الحربية للأمراء الشبان من الأسرة المالكة، ويجر هذه العربات خيول من جنس أصيل وهيئة جميلة، وسيقان دقيقة، وأقدام كثيرة الحركة، وأعراف منظمة، ويسرج كل اثنين منها معاً، وقد زينت رءوسها بالريش الأحمر. وعلى جباههما يلمع المعدن وفى فمها شكيمة منه. ويستند إلى كواهل الحصن عريش منحن ذو حلقات متفرقة، وعلى كل حصان ميثرتان عليهما كرتان من النحاس اللامع، يجمعهما نير دقيق منحن إلى الداخل، ويكمل سرج الحصان بحزام وسير صدري مخيط، ومزخرف زخرفة كثيرة، وجلال عليها خطوط كثيرة زرقاء وحمراء، ولها هداب وخمل؛ فسرج الحصان متين جميل خفيف.
أما العربة فمطلية بالأحمر والأخضر، ولها صفائح وأنصاف كرات من البرنز تشبه وجه الدرع، وهى مجهزة بكنانتين كبيرتين موضوعتين بانحراف، إحداهما تحوي حراباً والأخرى سهاماً، وعلى كل وجه أسد منحوت مذهب، مخالبه ساكنة، وفمه مفتوح كما لو كان يزأر ويبغي الوثوب على الأعداء.
ويلبس شباب الأمراء على رءوسهم شريطاً يضم شعرهم، ويلتف عليه الثعبان الملكي نافحاً أوداجه، ويرتدون قميصاً مزخرفاً لدى العنق والأكمام زخرفة باهرة، ويحيط به لدى الخصر منطقة من الجلد يربطها مشبك من المعدن، قد حفرت عليه نقوش هيروغليفية، ويعلق بهذه المنطقة خنجر كبير، حافته مثلثة من النحاس، ويده مضلعة تنتهي برأس صقر؛(508/25)
وفى كل عربة يجلس بجانب كل أمير حوذي مكلف بأن يقود العربة في أثناء المعركة، وتابع يحمل سلاحاً، وهو مكلف بأن يدفع بالترس الضربات الموجهة إلى الأمير المحارب عندما يكون هذا رامياً بالسهام، أو مهيئاً الحراب التي يأخذها من الكنانة الجانبية
عقب الأمراء تأتي عربات الفرسان المصريين، وعددهم عشرون ألفاً، كل ثلاثة في عربة يجرها حصانان، وتتقدم العربات عشرة عشرة، وتكاد أقطاب عجلاتها تتماس، ولكنها لا تحتك أبداً، لأن مهارة الحوذيين عظيمة.
بعض العربات خفيف خصص للمناوشات والاستطلاع، ويسير في المقدمة، ولا يحمل إلا محارباً واحداً، ولكي تكون يداه حرتين في أثناء المعركة يلف زمام عربته حول جسمه، ويجذبه إلى اليمين أو إلى الشمال، أو إلى الخلف، ليدفع أو يوقف حصنه، وعجيب جداً أن ترى هذه الحيوانات النبيلة التي تبدو كأنها متروكة لنفسها تحفظ في سيرها اتجاهاً منتظماً لا يتزعزع
مشي الخيل المكبوحه بعنف، وضوضاء العجلات ذات الإطار البرنزي، وقعقعة الأسلحة المعدنية منحت هذا العرض شيئاً من الوقار والخوف، حتى ليقذف الرعب في اكثر القلوب بسالة؛ والقبعات والريش والتروس، والأدرع المزينة بفلوس خضراء وحمراء وصفراء، والأقواس المذهبة والسهام النحاسية، تضئ وتلمع مخيفة في ضوء الشمس الساطعة في كبد السماء فوق سلسلة الجبال الليبية، كأنها عين كبيرة لأوزيريس - كل ذلك يشعر أن مثل هذا الجيش يجب أن يمحو الأقطار أمامه إذا اصطدمت به، كعاصفة تطرد أمامها عوداً من التبن ضعيفاً.
تحت هذه العجلات التي لا عد لها، ترن الأرض وترتجف خفية كأن ظاهرة طبيعية تحركها
بعد العربات تأتي كتائب المشاة سائرين في نظام، يحملون تروسهم في اليد اليسرى ويحمل بعضهم في اليد اليمنى رمحا، وبعضهم قوساً، وطائفة نبالاً، والأخرى أفؤساً؛ ويلبس هؤلاء الجند على رءوسهم خوذات يزينها ضفيرتان من شعر الخيل، وأجسامهم مشدودة بدروع من جلد التماسيح
عدم التأثر الذي يلوح على هؤلاء الجند، والنظام التام في حركاتهم، ولونهم النحاسي الداكن(508/26)
الذي كستهم به غارة حديثة في الأقطار المحرقة من أثيوبيا العليا، وغبار الصحراء الدقيق على ملابسهم؛ كل أولئك يوحي الإعجاب بهم وبشجاعتهم وإنه بمثل هؤلاء الجنود استطاعت مصر أن تفتح العالم
بعدئذ تأتي الجيوش الحليفة، ومن السهل معرفتها من النظام البربري في المغافر التي تشبه تيجاناً مقطوعة أو عليها أهلة مجتمعة في طرف. وإن رماحهم ذات الحدود القاطعة وفئوسهم المشقوقة يجب أن تحدث جراحاً لا أمل في الشفاء منها.
يأتي بعد ذلك العبيد يحملون ما أعلنه المنادي من جزية على أكتافهم، أو على محامل؛ وبعض المروضين يقود نموراً وفهوداً تفحص الأرض كأنها تريد أن تختفي، ونعاماً يصفق بأجنحته، وزرافاً يرتفع على الجمهور بطول عنقه، ودببة رمادية يقال إنها مجلوبة من جبال القمر
منذ وقت طويل عاد الملك إلى قصره، بينما كان الموكب لا يزال يسير
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين(508/27)
روسيا والحرب الخاطفة
لليوزباشى حسين ذو الفقار صبري
يتساءل الكثيرون عن السر في تحول أداة الحرب الألمانية عن نجاحها الخاطف أثناء فترة الحرب الأولى إلى هجومها الجاهد المكدود عبر الفيافي الروسية خلال الصيف الماضي
فقد رأينا بولندا وفرنسا تنهاران في لمح البصر تحت ضربات خاطفة، بهرتهم ثم صعقتهم، ورأينا جيوش يوغسلافيا واليونان تتمزق إرباً، ثم رأينا نفس الأمر يتكرر في روسيا، خلال الأسابيع الأولى من القتال؛ ثم. . . ماذا؟ كنا قد كونا رأياً عن نتيجة خلناها محتومة، فلما تلفتنا شاهدنا عكس ما تعجلنا استنتاجه فماذا كانت الأسباب؟
إن الحرب الخاطفة هي الحرب الاستراتيكية المثلى، هي الحرب التي ترمي إلى تفكيك أوصال العدو دون قتال، تفصل القوات عن قواعدها، تحيط بها دون أن تشتبك معها، تهدد العدو في مؤخرته عندما تكون أسلحته في المقدمة، تراوغه عندما يتقدم فتورطه هنا وهناك وفي كل مكان، فلما تتباعد قواته وتتفرق، وتتفتت إلى فئات منفصلة، فاقدة كل اتصال، غير محتفظة بأدنى تماسك، مقبلة على الانحلال، تعطى الكلمة عندئذ للطائرات بينما تضغط عليها بعض القوات، فما أسرع أن تبادر الجيوش المنحلة إلى التسليم، أو تصمد فتباد.
وما أسهلها عملية لجيش ميكانيكي حديث، لا يركز مجهوده إلا أمام أضعف المراكز، ما يكاد يخترقها حتى ينفذ إلى المؤخرة مسارعاً إليها على شكل مروحة ضخمة، شعابها مهما تفرعت فهي ما تزال يدفعها تصميم مشترك، إنجازاتها متنوعة وأوامرها هي هي، لا تفقد اتصالها اللاسلكي ببعضها، تستمر في ضغطها حتى يتفتت أمامها مجهود العدو استعداده لمثل هذه الأحوال التي ما كانت تخطر على البال
تعتمد الحرب الخاطفة على مقدرة الدبابات على اختراق الاستحكامات بأقصى سرعة، ثم النفاذ منها إلى ما وراءها، ثم استمرار القوات الراكبة في التقدم السريع حتى تنحل أوصال الجيش، ولكن هذا الانحلال لا يطرأ إلا بعد وقت يتحتم على القوات المتقدمة أن تظل أثناءه مستمرة في حركاتها الهجومية، وهذه الحركة المستمرة لها حدود، يحدها أولاً قوة احتمال الجنود، وثانياً كمية الوقود، ثم ضرورة تعهد الآلات بين الحين والحين، ولذا لم(508/28)
تنجح الحرب الخاطفة إلا عندما كانت أغراضها في الميدان داخل نطاق مجهودها؛ فالقوات الألمانية التي اخترقت سيدان توقفت بعد بضعة أيام عند المانش، وتلك التي هاجمت (سكولبي) توصلت بعد بضعة ساعات إلى قلب مواصلات البلقان وقبضت على محورها العتيد؛ وعلى عكس الرأي السائد، لا تبقى الدبابات في المقدمة طوال المعركة، بل إنها بمجرد اختراقها الاستحكامات الرئيسية ترتد إلى الخلف كاحتياطي ثمين، لا يستعمل إلا للضرورة القصوى عندما تصمد بعض الموانع الطارئة في طريق المتقدمين المكونين من (وحدات راكبة).
إن أول ما واجه الألمان من العقبات في روسيا هو انبساط المساحات، فرموا إلى التغلب على ذلك بتقسيم هجماتهم على دفعات، أهداف كل هجمة مراكز المواصلات القريبة منها، إذ باحتلال هذه تشل حركة إعادة تنظيم الصفوف الروسية في ميدان القتال بينما يكون الألمان قد أسرعوا في إعادة الاستعداد للخطوة التالية، وهكذا دواليك. وقد ساعدهم مساعدة كبرى مجهود الدكتور (فرتز طود) الذي خلفه (شبير) بعد وفاته في إنشائه، أولاً فأولا، خطوطاً خلفية للمواصلات، مقاطعة لاتجاه الزحف، فأصبحت القوات الألمانية قادرة على الانتقال من قطاع إلى قطاع تبعاً لمقتضيات الحال دون كبير عناء.
زحفت الجيوش الألمانية حتى احتلت روسيا البيضاء وجزءاً من أكرانيا؛ وكانت الفصائل الروسية، في حالة انعزالها عن بعضها البعض، تقاوم مستميتة بدلاً من أن تستلم مستيئسة، وذلك لأن الروس كانوا قد فطنوا الحقيقة بديهية، هي أن المناطق المزدحمة بالمساكن خير ما يقاوم نطاح الدبابات، فعملوا على أن تكون فصائلهم مكيفة بمئونتها وذخيرتها، لا تحتاج إلى أن تمون أمداً من الزمان، فما تكاد تحس بخطر التطويق حتى ترتد إلى وكرها المخصص وتنكمش فيه، مدافعة عن نفسها في كل اتجاه، محتفظة بعدد مناسب من الدبابات، تدفعه إلى الخارج من حين إلى حين، مقطعة مواصلات العدو، مربكة إياه، لا يكاد يعرف أهو الذي أحاط بها أم هي التي اندست في جوفه، وهل هو الذي فصلها عن قواعدها أم هي التي تعارض سيل تموينه، يهاجمها بمشاته المختارة فتشتتهم بدباباتها، يحاول اقتحامها فتصليه ناراً حامية؛ فيضطر أخيراً إلى إخراج ما في جعبته من دبابات وطائرات منقضة فيلقى هذا الاحتياطي الثمين في صميم المعمعة، تلك الدبابات وهذه(508/29)
الطائرات التي كان يود أن يحتفظ بها للأوقات العصيبة، يطلقها الآن من معاقلها على نقط متفرقة متناثرة، كل نقطة منها تستلزم لإخضاعها اشتباكاً عنيفاً، خسائره مرتفعة ونتائجه الإيجابية فقيمة، ولكنه إن أهملها انقلبت عليه شراً وبيلاً.
إذا أشرفت عندئذ القوات الزاحفة في المقدمة على استحكامات جديدة تلتفت لدباباتها، فتجد أنها منشغلة عنها في مائة معركة صغيرة، فيعجز الجيش عن شق طريقه إلى الأمام حتى تعود إليه أسنته القاطعة، وهى لا تعود، أو قد تعود مضمحلة العدد مكلومة النصل، مستلزمة من العناية الكثير حتى تعود لسابق عهدها، ومن الزمن ما طال حتى يعاد تنظيمها.
توصلت الجيوش الروسية إلى تحويل سلاح العدو الاستراتيكي الأمثل إلى وحدات تكتيكية صغيرة، وفقدت الدبابة وظيفتها العامة وانقلبت منها إلى العمليات المحلية الخاصة، وهكذا انهارت دعامة الحرب الخاطفة. . .
أرجو ألاً يفهم القارئ أنى أقرر أن نجم الدبابات قد أفل أو قارب الأفول، فما أبعد ذلك عما أقول. . . بل الأمر بالعكس، فقد أصبحت الجيوش تطالب بأضعاف أضعاف ما عندها من دبابات، بل وحتى بتحميل المدافع الضخمة على الجرارات، فإذا ألقت ببعضها في الاشتباكات لمحلية، تبقى لها البعض الآخر لمتابعة التحركات الاستراتيكية
لما أتى الصيف الماضي تراجعت القيادة الألمانية عن الخطط الخاطفة، وأحلت محلها خطة جديدة، قد يحسن أن نسميها بخطة (الكتل الميكانيكية)؛ لم تعد القيادة الألمانية تسمح لآليات الدبابات بالاستمرار في التقدم تاركة لها حرية التصرف، بل أصبحت تحدد أهداف هذه داخل نطاق ضيق حتى ينفسح لبقية الجيش الوقت الكافي لإخضاع مراكز العدو الحصينة المتروكة في الخلف، يهاجم هذه بقلاع متحركة من المشاة الراجلين داخل مثلثات من الدبابات الثقيلة ذات المدافع الضخمة والدروع السميكة
أصبحت تلك المراكز الروسية المنعزلة متحكمة في شبكة المواصلات، لأن مراكز المقاومة هذه تتجمع عادة حول القرى والمدن التي هي دائماً نقط التقاء الطرق وخطوط الحديد المتشعبة منها في كل اتجاه، وأصبح تأثيرها - كما رأينا - عظيما، وذلك لأن الجيوش الألمانية التي كانت في ذاك الوقت أحدث الجيوش تنظيماً وتسليحاً، لم تكن قد التفتت إلى اصطناع وسائل نقل للتموين تتحرك على جرارات، بل ظلت جميع وسائلها سيارات على(508/30)
عجلات، ففي وسع الأولى أن تنفذ عبر أي أرض خلاء، أما السيارات فهي مرتبطة بالطرق المعلومة وخطوطها المرسومة.
والآن وقد بدأ الألمان يتقهقرون فهل تراهم إلى خطط الروس ملتجئون؟ لا أظن الأمر كذلك، إذ أن الروس انكمشوا في قراهم ومدنهم التي ولدوا وعاشوا فيها طول الحياة، فاندمجوا بارتدادهم إليها وسط الأهل والإخوان، ثم يجب ألا ننسى أيضاً أن القتال في الدور والمساكن يعتمد أكبر الاعتماد على سكانها المدنيين المسلحين بروح الكراهية والعداء لكل غريب دخيل.
سيطر على الحروب في روسيا من قديم الزمان عامل واحد هو هو لم يتغير ولم يتبدل، يقف دائماً أبداً حجر عثرة في سبيل كل مغير، وهذا العامل المؤثر إلى أبعد حدود التأثير هو روسيا نفسها بمساحتها الشاسعة، ولن يتمكن أي قائد مهما أوتي من مهارة وخبرة أن يتغلب عليها إلا عن طريقين لا ثالث لهما: احتلالها تماماً وهذا مستحيل، أو تدمير جيوشها وهذا أمر مستعص عسير.
ظن نابليون أن احتلال موسكو التي هي مركز شبكة المواصلات كاف لإيهان الروس، وغامر ففشل. . .، وحاول الألمان تحطيم جيوشهم في الحرب الماضية بهجوم عنيف، فأخفقوا أمام حيطة الروس؛ ثم تفتق ذهن الجنرال هوفمان عن خطة ما كرة، وهي سحب القوات الروسية إلى جيب ضخم بالانسحاب أمامهم فيندفعون وراءه، وقد أسكرتهم نشوة الظفر وذهبت بحذرهم الأول، فيطبق عليهم فجأة من كل جانب لإبادتهم عن آخرهم. وكانت خطته تستلزم إخلاء أراض فسيحة شرق ألمانيا أول الأمر، منها سيلزيا الغنية بمناجمها؛ فرفض هندنبرج احتمال تبعة ما قد يترتب عن هذا الانسحاب من نتائج مادية وأدبية في سبيل نتيجة مشكوك فيها، ولم يرض بتنفيذها؛ ثم أتى لودندرف فحور من الخطة قليلاً، وحصن حدود الأراضي المزمع إخلاؤها داخل نطاق ضيق، واحتج هوفمان وأشار إلى أنها تصبح عندئذ خطة عرجاء لا تجتذب من جيوش الروس إلا جزءاً يسيراً، ولكن لودندرف تمكن من إقناعه بأنها ستكون أقصى ما قد يوافق عليه هندنبرج. ولما نفذت الخطة الجديدة نتجت عنها (تاننبرج) حيث أبيد زهرة الجيوش الروسية. . .؛ وظل بعدها العملاق الروسي يترنح دون أن يسقط سنتين من الزمان، ولكن خطره العاجل كان قد زال،(508/31)
ثم حلت عليه مشكلات السياسة، فسلم لألمانيا، وأمضى صلح (برست لتفسك)؛ وظل هوفمان بعد الحرب ينادى بأعلى صوته وفي كل مكان بأن خطته الأصلية كانت كافية لإخراج روسيا من الحرب في التو بضربة واحدة، فهل كان يا ترى على صواب؟.
حسين ذو الفقار صبري(508/32)
قطرة في بحر. . .
للدكتور عزيز عبد السلام فهمي
تعاليتَ يا بحر هذا جلا ... لك سرُّ الزمان ولغز الحقبْ
تصاحب هذا الزمان وتس ... خر منه وتطويه طيَّ الكتب
تنادم حالكَ منه القرونُ ... ويمضي الندامى مُضِىَّ الحبب
فيا لك قبراً وسعت الزمان ... ولاذ الزمان بذيل الهرب
ويا بحر كم فيك من آية ... تساءلتُ عنها ولم تَسْتَجِب
تهمُّ بأمر وترتد عنه ... وتطمع فيه ولا تقترب
ففيم اندفاعك كالمطمئن ... وفيم ارتدادك كالمضطرب
ويا بحر ماذا يراقص مو ... جك منك وماذا وراء الحجب
تلين وتسكن عند الليان ... وطبع الحليم بطئ الغضب
وتشرَس حتى تئِنُّ الصخور ... ويطفو من الرمل ما قد رسب
وتجمع بين النقيضين جمعَ ... ك بين اللآلىْ والْمُخَشْلَب
يشاطرك الآدميُّ الغموضَ ... وترتبطان بحبل النسب
ولن يسبر الغورَ منك الرجالُ ... ولن يكشف النفسَ علم وطِب
تعاليت يا بحر هذا جما ... لك ثغر الطبيعة وهي الغبب
تعربد نشوان حتى المجون ... وتمجن سكران حتى الصخب
تغازلك الشمس عند الغروب ... فأنت اللجين وفيك الذهب
وتشرق منك على صفحة ... ترقرق بين سناها اللهب
وتضفي عليك أكاليلها ... دماءً، وتنشق منك القُضُب
ويجمعك الأفق بالنيرات ... فأنت السماء وفيك الشهب
يسامرك البدر من شرفة ... تَبَرَّج فبها ذوات الذنَب
فتعكسهن على ضوئه ... ويلحظك البدر كالمرتقب
دعاني حنين خَفيُّ إليك ... فلبَّيتُ يا بحر لما غلب
ويا بحر جئتك أفضي بنفسي ... وأشكو الزمان وماذا جلب(508/33)
وأُغرق فيك همومي وأنْ ... قَعُ يا بحر جرحاً بجنبي وثب
ومَن شاغب الدهر مثلي فما ... له الدهرَ إِن زلَّ يا بحر حِب
وغدر الزمان كختل الرجال ... ووقع السهام كلسع الرُّقُب
حنانيك يا بحر! يشكو إليك ... غريب تشرَّد حين اقترب. . .
غريب تشرَّد في داره ... وضاقت به الأرض لما اغترب!
تعاليت يا بحر هذا الجلال ... وهذا الجمال وهذا العجب
وهذا نشيدك لحن الحياة ... فغنِّ الحياة ونح وانتحب
عزيز فهمي(508/34)
من أزهار الشر
لشارل بودلير
العمى
أنعمي النظر أيها النفس في هؤلاء العمى. حقاً إن صورتهم بشعة! وإنهم ليشبهون تماثيل الأزياء ويثيرون في النفس هزؤاً غامضاً. وإن هيئتهم مخيفة، وإنها لفريدة كهيئة هؤلاء النائمين الذين يسيرون وعيونهم مفتحة
هم ينظرون وما أحد يعلم أين أحداقهم التي تغشاها الظلمات. كما أن عيونهم التي فارقتها الشرارة الإلهية تظل شاخصة إلى السماء، كأنما تبصر على بعد، وما من أحد رآهم يحنون إلى الثرى في ذهول رءوسهم المكدودة.
هكذا يشقون الظلام اللانهائي شقيق الصمت الأبدي
إيه أيتها المدينة! انظري، إنني لأعاني ما يعانون، وإنك لترددين الأغاني حولنا، وتغرقين في الضحك، وتصرخين صراخ البهائم، كما تحملك اللذات إلى الفجور.
غير أنني، وأنا أكثر غفلة منهم وذهولاً، أقول: (هؤلاء العمى، ما الذي يبحثون عنه في السماء؟)
ترجمة عثمان علي عسل(508/35)
البريد الأدبي
الشيخ عبد العزيز البشري
في فجر يوم الخميس الماضي استأثر الله بابن من أبناء العربية، وجندي مخلص من جنود الأدب، وهو المغفور له الأستاذ عبد العزيز البشري؛ فكان لنعيه المفاجئ موجة من الحزن الشديد غشيت أندية الأدب لما امتاز به الفقيد من حسن المحاضرة، وحلاوة الفكاهة، وطلاوة الأسلوب، ودقة الوصف، والإطلاع الواسع على أخلاق الناس وأحوال المجتمع، والعلم الشامل بأسرار الجيل الأدبي المنصرم، تهيأ له بطول الملابسة وحسن المداخلة؛ فكان أعلم من يتحدث عن الأدب والأدباء في العصر الحديث
نشأ رحمه الله في بيت رفيع من بيوت العلم والدين؛ فكان والده الشيخ سليم البشرى شيخاً للأزهر، واخوته طلاباً أو علماء فيه؛ فدرس هو كذلك في الأزهر حتى نال شهادة العالمية، ثم ولى القضاء الشرعي حيناً من الدهر، ثم تقلب في بعض المناصب المدنية حتى أتاه اليقين، وهو المراقب الإداري لمجمع فؤاد الأول للغة العربية
نكتفي اليوم بنعي الفقيد الكريم، وسنعود للكلام عن أدبه وعلمه في فرصة مناسبة. نسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يعوض الأمة العربية من أدبه وفضله خير العوض
ذو القرنين ليس الاسكندر الأكبر
قرأت بالعدد 507 نبذة لأستاذ فاضل عن ذي القرنين يريد بها أن يفند نظريتي الجديدة التي أعلنتها أخيراً على صفحات الرسالة الغراء، وأثبت فيها أن ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم ليس الإسكندر الأكبر، وإنما هو لقب ملوك دولة فارس التي أسسها الملك كورش العظيم، وتنتهي بالملك دارا الثالث الذي قضى الإسكندر الأكبر على دولته في عهده. واستندت في ذلك إلى رواية التوراة. وأثبت أن وثنية الإسكندر وسيره المعوج وأخلاقه لا تتفق ووصف القرآن الكريم لذي القرنين الذي كان مؤمناً
ويظن الأستاذ أن ديانة الفرس كانت الوثنية، والحقيقة غير ذلك؛ إذ كان الملك كورش ومن جاء بعده إلى الملك دار الثالث على دين زرادشت نبى الفرس الذي كان يقول إنه رسول الله بعثه ليزيل ما علق بالدين من ضلال وليهدى إلى الحق، وكان لهم كتاب مقدس يسمى أوستا ولما انتصر الإسكندر على الفرس كان ذلك ضربة لهذه الديانة، ثم انتعشت بعد ذلك(508/36)
في العصور الأخرى وظلت باقية إلى وقت دخول المسلمين فارس برغم ما طرأ عليها من التحريف. ولقد عاملهم المسلمون في الفتح معاملة أهل الكتاب وعدوا كتابهم كأنه كتاب منزل. وجرى سيدنا عمر رضى الله عنه على ذلك لما روي له الحديث (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) (اقرأ كتاب المسعودى وكتاب ودين زرادشت يؤمن بوحدانية الله والجنة والنار والصراط والأعراف (اقرأ كتاب صبح الأعشى وكتاب الأستاذ والملك كورش هو الذي أمر بإعادة بناء معبد أورشليم لليهود، وكان قد هدمه أحد ملوك بابل من قبل. وجاء بعده الملك قمبيز الذي بمجرد أن فتح مصر هدم معابد المصريين وحطم أصنامهم ومعبوداتهم وقتل بنفسه العجل أبيس (اقرأ كتاب
أما الإسكندر الذي يريد الأستاذ أن يلصق به لقب ذي القرنين بالإكراه كما فعل بعض المؤرخين من قبل، فلقد كان متهتكا يميل إلى النساء والترف وحب الشهوات وشرب الخمر وقسوة القلب وسفك الدماء؛ وكانت قسوته تزداد حتى تصير ضرباً من الجنون إذا شرب الخمر. ولقد قتل وهو نشوان كليثوس صديق أبيه وكثيرين غيره. ولم يكن موته وهو في عنفوان الشباب إلا نتيجة شراهته في الشراب، فلقد تراهن مع قواده على شرب الخمر طول النهار فمرض بحمى قضت عليه. وأوصى وهو على فراش الموت أن يدفن في معبد الإله (مون بسيوة) لأنه كان يدعى انه ابن هذا الإله (كتاب وكتاب فهل بعد هذا نقول عنه إنه غير وثنى. وهل يتفق هذا مع ذي القرنين المذكور في القرآن الكريم الذي جعله الله في مصاف الأنبياء تقريباً؟ فلو وافق على ذلك مؤرخو العصور القديمة، عصور الجهل والظلام فنحن لا نوافق عليه الآن ونحن في القرن العشرين عصر العلم والعقل والنور والمدنية
وآيات القرآن الكريم تنطبق على الملك كورش بشكل مدهش، فلقد أسس دولة عظيمة واتجه غرباً أولاً، حتى وصل إلى البحر واستولى على روسيا وآسيا الصغرى، ثم اتجه بعد ذلك شرقاً، حتى وصل إلى بلاد الهند وبلاد التركستان حيث توجد آثار السد القديم ولا يزال مكانه بين جبلين ويسمى دربندر أي السد. أما الإسكندر فإنه اتجه شرقاً أولاً ثم اتجه جنوباً ولم يتجه غرباً إلا عند فتحه مصر، ومرة أخرى عند عودته من الهند. مع أن القرآن الكريم ينص على أن ذا القرنين اتجه غرباً أولاً ثم بعد ذلك اتجه شرقاً. وهذا خلاف واضح(508/37)
صريح. ومع ذلك فالتوراة صريحة في ذلك أيضاً. وهى تنص صراحة على أن المقصود بذي القرنين ملوك دولة فارس؛ والمقصود بذي القرن الواحد ملك من ملوك اليونان. فكيف نكذب التوراة ونصدق الآخرين، في حين أن التوراة هي مصدر هذا اللقب. ولقد نزلت آيات القرآن الحكيم عن ذي القرنين بناء على سؤال اليهود للنبي عن ذي القرنين المذكور عندهم في التوراة. فهل بعد هذا دليل أو برهان؟
وأخيراً أصحح كلمة تيمورلنك التي ذكرتها سهواً في مقالي السابق وكنت أقصد جنكيزخان زعيم التتار الذي قضى على الدولة العباسية هو وهولاكو من بعده.
الدكتور إبراهيم الدسوقي
حول تراث اليهود
اطلعت في عدد مضى من الرسالة الغراء على ما كتبه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي رداً على الأستاذ طه الساكت الذي يدعى رجوع الإسرائيليين إلى مصر بعد خروجهم، وحكمهم لها استناداً إلى ما جاء في بعض أقوال المفسرين، وبياناً للحقيقة أقرر أن اليهود لم يعودوا لمصر بعد خروجهم منها رغم أنهم طلبوا ذلك من الرسول موسى عليه السلام، بع أن تأكد لديهم اعتزاز الكنعانين في بلادهم وتحصين مدنها، فما جعلهم يجبنون عن محاربتهم. كما بين ذلك القرآن الكريم في قوله: (قالوا يا موسى أن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها ما داموا فيها)
وفي تاريخ برستد في الجزء الخاص بالخروج يحدثنا فيقول: ولما خرج الإسرائيلين من سينا ساروا رويداً حتى وصلوا إلى حافة الصحراء التي تحد عبر الأردن، وأراد موسى الدخول بقومه إلى أرض كنعان، فأرسل رجالاً يتجسسون له، فأتوا، جدون (الخليل) ثم عادوا إليه عبر الأردن وقالوا: إن الشعب في عزة والمدن في مناعة. ويؤيد ذلك القرآن
وهنا يبكي الشعب ويطلب الرجوع إلى مصر، فيحكم عليهم الرب بالتيه أربعين سنة يرعون الغنم في البرية، حتى يموت ذلك الجيل. ثم يذكر رحلتهم إلى أرض أدوم، وموت هرون، وتركهم عبادة الله إلى الأصناف وتعذيبهم بسبب ذلك، ولا يذكر عن رجوعهم إلى مصر شيئاً ولو حدث لما أهمله. ويقول الأستاذ شاهين مكاريوس بك في كتابة تاريخ(508/38)
الإسرائيليين:
وأصابهم في مدة تيههم هذا أمور ومحن كثيرة يضيق بنا المقام عن استقصائها، أخصها فناء الجيل الذي خرج من مصر، إلا رجلين فقط. وقيامهم على موسى يطلبون العودة إلى مصر واطراحهم عبادة الله والاستعاضة منها بعبادة الأوثان، فنزلت بهم الضربات والأمراض حتى تابوا، ولما صاروا على مقربة من أرض الوعد توفى موسى، وعهد بالقيادة إلى يشوع بت نون.
دار العلوم
كامل السوافيرى
إلى الأستاذ محمود تيمور
سيدي الأستاذ الجليل
في 19 مارس 1943 كتبت إلي تقول: (. . . ويؤسفني أن أخبركم بأنني فوجئت بمرض أبني (سعيد) ونقله إلى المستشفى لإجراء عملية استئصال (الزائدة الدودية) له؛ فأرجو أن أتمكن من الاتصال بكم بعد أيام وأنا مطمئن القلب منشرح الخاطر. . .)
وفي 22 مارس، أي في اليوم الثالث لهذه المفاجأة هصرت المنية غضن (سعيد)!. . . فأي أسى ألم بساحتك، وأي إحساس طاف بقلبك، وأنت تشهد هذا المصاب الأليم؟. . . وكيف انتزعت يد الموت السوداء هذا الغصن الرطيب من دوخته لتزين به فردوس السماء؟
حقاً إنها فاجعة، ولكنك يا سيدي رجل عظيم، والعظماء غرض الأقدار ومطمع الأيام، يبتليهم الدهر فيصبرون، ويمتحنهم فيصمدون، ويصارعهم فيصرعونه؛ فاصبر صبراً جميلاً، فلك عظيم المثوبة والأجر، ولابنك الراحل إلى جوار ربه رفيع الدرجات وخالد الذكر؛ والله من قبل ذلك ومن بعد ذلك يقول: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والرجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون) صدق الله العظيم
أحمد الشرباصي(508/39)
العدد 509 - بتاريخ: 05 - 04 - 1943(/)
الفرد والدولة
للأستاذ عباس محمود العقاد
للأحوال الاقتصادية في كل مجتمع شأن عظيم في توجيه حياة أفراده، وفي إقامة النظم الحكومية والآداب العرفية بين أهله
هذه حقيقة لا حاجة بها إلى كشف ولا إثبات، ولا حاجة بها إلى كاشفين ولا مثبتين، لأنها أقرب إلى البديهيات المقررة والأصول المسلمة، منها إلى (نظريات) الأدلة والبراهين.
هذه حقيقة لم يكشفها الاشتراكيون والشيوعيون، وإن غلا فيها دعاة الاشتراكية والشيوعية، فإن شاءوا من خصوم مذهبهم أن يثبتوها معهم أو يثبتوها قبلهم أو بعدهم فما من معارضة في إثباتها بين فريق من الناس حيث كان
ولهم أن نزيدهم خطوة أخرى في هذا الطريق فنقول: إن الأحوال الاقتصادية وراء كل حركة عظيمة من حركات التاريخ؛ فما سجل التاريخ قط من نهضة أو دعوة أو ثورة أو انقلاب إلا كان للأحوال الاقتصادية في كل أولئك أثر واضح وسهم كبير.
وإلى هنا نقف فلا نستطيع أن نتقدم خطوة؛ لأننا إذا تقدمنا خطوة أخرى وراء هذه الخطوة قلنا ما ليس في وسعنا أن نقوله وليس في وسع العقل أن يقبله ويسيغه: قلنا إن الأحوال الاقتصادية هي كل شيء وإنها هي المهم الذي لا مهم غيره، وإن العوامل الكونية لا تشتمل على شيء آخر غير المضاربات والأسواق وتداول الأسعار.
وهذا مسخ للحياة ومسخ للفكر ومسخ للعوامل الكونية
بل هذا مسخ للكون حتى ليصبح من بداية الخلق إلى نهايته (بورصة) مضاربات ومثابة سمسرة وشطارة واختلاس
وليس في وسعنا أن نقول ذلك، وإن قاله الاشتراكيون، وقاله الغلاة من الاشتراكيين وهم الشيوعيون الماركسيون
فالأحوال الاقتصادية شيء هام ولكنها ليست بكل شيء هام، والأحوال الاقتصادية لها سلطان على المجتمع ولكنها ليست بكل سلطان في المجتمع، وليس المجتمع مع ذلك بالقضاء الذي لا يرد له حكم في حياة الأفراد، فقد يكون للأفراد حكم نافذ في كل مجتمع نشأوا فيه.(509/1)
والقول بهذا هو الحد الفاصل بيننا وبين دعاة الاشتراكية الذين يلغون سلطان الفرد ليثبتوا سلطان المجتمع، ثم يقيمون للمجتمع قانوناً لا فكاك منه ولا محيد عنه، وهو قانون الضرورة المادية أو الضرورة الاقتصادية أو ما يسمونه في الجملة بالتفسير المادي للتاريخ.
ليست الأحوال الاقتصادية بكل شيء
وليس المجتمع بكل شيء
وليس الفرد لغواً إلى جانب المجتمع أو الأحوال الاقتصادية. ولكنه شيء، والمجتمع شيء، والأحوال الاقتصادية شيء، وليس من الضروري اللازم لإدراك حقيقة من الحقائق الاجتماعية أو الفلسفية أن نلغي شيئاً من هذه الأشياء
احسبنا في عهدنا هذا أحوج ما كنا إلى توكيد هذه الحقيقة مرة بعد مرة، لأن توكيدها في الأذهان غير عاصم من ضلال الشعور - بل ضلال الوهم - الذي يتمثل لبعض الناس كأنه مذهب من مذاهب التفكير.
فتغليب الشئون الاقتصادية، أو تغليب الدوافع المادية على دوافع الحياة في الأفراد، هو في الواقع (قدرية) جديدة يلجأ إليها العاجزون في زماننا هرباً من التبعة، كما لجأ العاجزون فيما مضى إلى قدرية القرون الوسطى
كان العاجزون فيما مضى يقولون: ماذا نصنع؟ وما الحيلة؟ هذا قدر مكتوب لا حيلة فيه!
فأصبح العاجزون في زماننا يقولون: ماذا نصنع؟ وما الحيلة؟ هذه ضرورات الاقتصاد التي تسيطر على إرادة الأفراد، فلا لوم عليهم، ولا تقصير من قبلهم، وإنما اللوم لوم المجتمع والتقصير تقصير (الأحوال)
وما كتبنا قط مقالاً عن الفرد والمجتمع إلا أحسسنا بخطر هذه القدرية في أسئلة بعض السائلين، وتعقيب بعض المعقبين، فعلمنا أنه (مهرب) جديد من التبعات الفردية، يلوذ به من يحاول فيفشل فيعز عليه أن يلوم نفسه على فشله، فيذهب به ليلقيه على كاهل المجتمع أو الأحوال الاقتصادية أو التفسير المادي للتاريخ.
أحسسنا بخطر هذه القدرية مرة أخرى على أثر المقال الذي كتبناه عن أسس الإصلاح، والمقال الذي كتبناه عن فلسفة الترجمة، لأننا أثبتنا في كلا المقالين وجود الفرد إلى جانب(509/2)
وجود الدولة أو المجتمع، وخرجنا منهما بالرأي الذي خلاصته أن الفرد قد يكون قوة فاعلة كما يكون نتيجة منفعلة، وإن الإصلاح الذي يلغي حرية الفرد فساد شر من كل فساد.
كتبنا ذينك المقالين فلم يسترح إليهما أناس ممن استراحوا إلى القدرية الجديدة، لأن إعفاء النفس من اللوم راحة، وإلقاء التبعة كلها على المجتمع راحة، وفيما ذكرناه في المقالين ما يزعج المستنيم إلى تينك الراحتين.
يجب أن نقول إن المجتمع هو كل شيء، وإن الذنب كله هو ذنبه، ليستريح المؤمنون بالقدرية الجديدة
ولكننا لا نقول ذلك، وليس لنا أن نقوله. . . بل نحن نقول إن المجتمع شيء فقط وليس بكل شيء، وإن عليه ذنوباً وليست عليه جميع الذنوب، فالقدريون إذن غير مستريحين، و (الحوقلة) من نوع جديد هي كل ما يعبرون به عن هذا القلق المستحدث: قلق التفسير المادي للتاريخ!
ومهما يبلغ هؤلاء القدريون الجدد من الحوقلة فما هم بقادرين على إلغاء الفرد وإنكار قسطه من توجيه التاريخ، وبخاصة حين يكون من عظماء الأفراد
قالوا مثلاً ما طاب لهم أن يقولوا عن المظالم التي ضيقت على الناس منذ قرون فهجروا بلادهم إلى القارة الأمريكية، وقالوا ما طاب لهم أن يقولوا عن الأسباب الاقتصادية التي حفزت أناساً إلى البحث عن طريق جديد إلى الهند، فعثروا من طريق المصادفة على تلك القارة الأمريكية.
ولكن الذي قالوه كله لن يفسر لنا الفوارق بين الناس في التأثر بالمظالم أو بالعوامل الاقتصادية؟
فالمظالم قد نزلت بملايين من الناس، والعوامل الاقتصادية قد أحاطت بملايين من الناس، فلماذا وجد فيهم من ينفر من الظلم فيهجر بلاده ووجد فيهم من يستكين إلى الظلم فيقيم حيث أقام؟ ولماذا قنع أفراد بالشظف وطمح أناس إلى الوفر والثراء في قطر مجهول؟
أهي العوامل الاقتصادية التي فرقت بين فرد وفرد في حظوظ الحياة وملكات الشعور؟
وإذا كانت العوامل الاقتصادية لم تخلق هذا فمن أين لها أن تلغيه، وكيف يسعها أن تفسر التاريخ وهذه الفوارق الحيوية باقية عندها بغير تفسير.(509/3)
كانت نظم الحكم في الدولة العثمانية واحدة، وكانت أسباب المعيشة بين رعاياها متماثلة أو متقاربة، ولكنها كانت تدين اليوم لسلطان قوي فإذا هي قوة مخيفة لمن حولها، ثم يخلفه على الأثر سلطان ضعيف فإذا هي مطمع لكل طامع فيها
فكيف ينكر المنكرون مع هذا أن اختلاف الأفراد لا يغير ولا يبدل في حوادث الأمم وحركات التاريخ؟
وسألنا سائل: ماذا يكون (صلاح الدين) لولا الحروب الصليبية؟ فسألناه: وماذا تكون الحروب الصليبية لولا صلاح الدين؟ بل لماذا تغيرت الوقائع كلما تغير القواد في تلك الحروب وفي جميع الحروب؟
والطريف في مناقشات هؤلاء القدريين أنهم يعقدون المقارنة بين الأبطال والحوادث ليرجحوا نصيب الحوادث على نصيب الأبطال، فيضعون صلاح الدين في كفة ويضعون الحوادث الصليبية في كفة أخرى، ويفعلون مثل ذلك في جميع الحوادث وجميع الأقدار، فإذا هم يبدعون للناس وزناً لا يستقيم في ميزان لأن المقارنة إنما تنعقد بين الأمثال والأشباه؛ فتنعقد المقارنة بين الحروب الصليبية وبين الغارات التترية، أو بين حروب الإسلام وحروب المسيحية، أو بين الثورة الفرنسية والثورة الروسية، ثم تنعقد المقارنة بين القواد هنا والقواد هناك، وبين العظماء في نهضة والعظماء في نهضة أخرى، ليتبين لنا ما استطاعه هؤلاء وما استطاعه هؤلاء، ويثبت لنا الميزان رجحان هذا أو رجحان ذاك.
أما من هو الأرجح: صلاح الدين أو الحوادث الصليبية؟ فهو ميزان لا يفيد ولا يدل على شيء، ولا يثوب إلى أصول
أو الوجه الصحيح في بيان فعل صلاح الدين وفضله أن تنعقد المقارنة بينه وبين فرد آخر ممن كانوا في عصره ولم يفعلوا مثل فعله ولم يؤثر لهم فضل كفضله. فيقال إنه فعل وأن غيره لم يفعل، وأن اختلاف الأفراد يؤدي إلى اختلاف الأفعال.
لكن الغرام الذي ملك على هؤلاء القدريين ألبابهم هو غرام البخس والانتقاص، وأقرب طريق إلى البخس والانتقاص أن يكون العظماء فضولاً وترفاً (مستغنى عنه). . . لأنهم أفراد وليسوا بمجتمع وافر التعداد!
نحن أبناء الشرق أحرى الناس أن نفلت من إرهاق هذه الآفة، لأننا قد فنينا في المجتمع(509/4)
آلافاً من السنين. فحق لنا أن نعطي الفرد أمداً من الحرية يرتع فيه جيلاً أو جيلين، ولو على سبيل التجربة إلى حين!
على أن الحقيقة البينة التي نؤمن بها أن المستقبل للفرد إلى آخر الزمان إن كان للزمان آخر نستقصيه، وأن التاريخ الإنساني هو تاريخ الفرد في اضطلاعه بالحقوق والواجبات. فكلما أوغلنا في القدم رجعنا على التوالي إلى أزمنة تقل فيها حقوقه كلما تقل فيها واجباته، وكلما تقدمنا مع الزمن كانت آية التقدم أن الفرد يزداد في تبعاته أي يزداد في حقوقه وواجباته، ويعرف له شأناً في المجتمع مستقلاً به ما وسعه أن يستقل، أو هو على الجملة أوفر استقلالاً مما أتيح له في مجتمعات الزمن القديم.
ومقاييس التقدم كما قلنا في بعض كتبنا (كثيرة يقع فيها الاختلاف والاختلال: فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير ويحرمها العظيم، وإذا قسناه بالغنى فقد يغنى الجاهل ويفتقر العالم، وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشائخة وتجهل الأمم الوثيقة الفتية، إلا مقياساً واحداً لا يقع فيه الاختلاف والاختلال، وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة. فإنك لا تضاهي بين رجلين أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته والاضطلاع بحقوقه وواجباته، ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول وكل فاضل على اختلاف أوجه التفضيل.
(فاحتمال التبعات هو مناط التقدم المستطاع)
ومعنى ذلك أن التقدم هو الاعتراف بالفرد والاعتراف بشأنه في المجتمع، والخروج به من ربقة القدرية التي تفرض عليه سلطاناً يستغرقه ويطويه.
عباس محمود العقاد(509/5)
2 - علوم اللغة العربية
في المدارس الثانوية
للدكتور زكي مبارك
مشكلة المشكلات
هي مشكلة الصراحة في وزن الأمور التعليمية بالقسطاس وأنا مقبل على شرح تلك المشكلة بلا مبالاة ولا مداراة، فما يهمني أن يرضى فلان أو يغضب فلان، لأن المنافع الوقتية لا تهمني بشيء، ولأن الخطة التي اخترتها لحياتي هي خطة الصدق الصريح في جميع الشؤون.
أقول هذا وقد شاع بين جمهور المدرسين أن مفتشي التعليم الثانوي قرروا تقليل موضوعات الإنشاء
وأنل لن أعرض لتلك الإشاعة بنفي ولا إثبات، لأني لا أملك إعلان ما دار في اجتماع المفتشين إلا باحتراس، فما يجوز لرجل يشترك في إحدى اللجان أن يذيع مداولاتها بأي حال.
ولكن ما الموجب لطي تلك المداولات والجرائد تنشر تفاصيل ما يدور في مجلس الشيوخ ومجلس النواب؟
لو كان مقامي مقام المترفق لطويت أقوال زملائي، لأدفع عنهم تطاول المتطاولين من المتهاونين، ولكن مقامي مقام الثائر الذي لا يرضيه غير الظفر بأكبر نصيب من أنصبة النضال، فأنا أوذي نفسي ولا أوذي زملائي حين أعترض على الترفق بالمدرسين والتلاميذ.
بدعة مزعجة
هي بدعة التخفيف، تخفيف الواجبات المدرسية
وعندي كلمة سأقولها مرة واحدة ثم أسكت عنها إلى آخر الزمان.
سأقول إن في مصر ناساً يظنون أن تلاميذ المدارس الثانوية أطفال، وأن من الواجب أن تكون دروسهم هينات لينات، لأنهم أطفال!(509/6)
سأقول إن التخفيف يفضي إلى قلة الاهتمام، والاهتمام هو أساس كل تفوق. وقد صارت علوم اللغة العربية في المدارس الثانوية عرضة للتسهيلات والتخفيفات من عام إلى عام، بصورة توجب الانزعاج
لقد انعدم علم الصرف أو كاد ينعدم في المدارس المصرية، وصار من النادر أن نجد تلميذاً يعرف كيف ينتفع من المعاجم اللغوية.
ومضى التخفيف إلى النحو فحذف منه أبواباً كثيرة، وصار من النادر أيضاً أن نجد تلميذاً يفهم أسرار الإعراب
وانساق التخفيف إلى علوم البلاغة فهو يقص حواشيها بلا تردد، وقد نرى غداً من يقترح حذف تلك العلوم، بحجة أنها نشأت في بيئات أعجمية!
وقرر المفتشون في اجتماعهم الأخير حذف تاريخ الأدب، وكان يجب أن افرح لأني اقترحت ذلك منذ سنين، ولكن الطريقة التي احتجوا بها لذلك القرار قامت على القول بأن التلاميذ أضعف من أن يفهموا تاريخ الأدب لأنهم في حكم الأطفال!
والواقع أن تلاميذ المدارس الثانوية يسايرون من حيواتهم عهداً هو أخصب العهود، فيجب أن ننتفع بتلك الفرصة فنزودهم بالمعارف التي تسندهم في المستقبل، ويجب أن نخلق فيهم الشوق إلى جميع المعارف، وأن نجعلهم جنوداً سعداء بالجندية في ميدان التعليم والتثقيف.
قلت لزملائي: أنا أستطيع شرح أصعب معضلة أدبية أو فلسفية شرحاً يفهمه أضعف تلميذ، فلا تسيئوا الظنون باستعداد التلاميذ
فقال الأستاذ مختار يونس: لم أفهم شيئاً مما تقول
فقلت: لأني أوجزت في مقام يجب فيه الإطناب!
يجب أن نفهم أن الفرصة في أيدينا، وأن الشبان بين العاشرة والعشرين صالحون لفهم أصعب الدقائق. ويجب أن يكون في نيتنا جعل مرحلة التعليم الثانوي مرحلة حاسمة في تكوين عقول الشبان، بحيث لا يحتاجون إلى المعاهد العالية إلا إذا تساموا إلى الأستاذية في مختلف العلوم والفنون.
وأنا لا أعرف كيف قضينا أزماناً بلا فهم للمراد الصحيح من التعليم الثانوي، فهو عندنا إعداد للتعليم العالي، وكان يجب أن يكون إعداداً لخوض معترك الحياة بلا تهيب ولا إشفاق(509/7)
أنا أكره أن تدوم هذه الحال، وأحب أن يصير الشاب رجل أعمال بعد العشرين، وأتعجب من أن يعيش عالة على أبويه إلى الثلاثين
وأنا أتمنى أن يصبح التعليم العالي مقصوراً على من يملكون الوقت والمال، ولهؤلاء فرص لا يظفر بها غير آحاد أو مئات، وهم لن يكونوا أشرف من الشبان الذين يصارعون أمواج الحياة قبل العشرين.
مرحلة التعليم الثانوي هي الفرصة الحقيقية لتثقيف الشبان وتضييع هذه الفرصة إثم موبق
والكلمة لحضرات المدرسين، فماذا يقولون؟
من واجب كل مدرس أن يدرك أنه مسئول عن إعداد تلاميذه للحياة، بحيث لا يحتاجون إلى شيء بعد التعليم الثانوي، إلا أن يتساموا إلى الأستاذية، كما قلت قبل لحظات
وما هذه الأستاذية التي توجب أن يكون في معاهدنا العالية ألوف وألوف؟
نحن نخلق لأبنائنا متاعب ثقيلة بفضل هذه الأحلام، ونحن نصدهم عن الحياة بفضل هذه الأحلام، ونحن نجني عليهم جناية ستُسأل عنها يوم يقوم الحساب
مرحلة التعليم الثانوي هي المرحلة النهائية، ثم يلتفت الشاب إلى حاله فيكون رجل عمل في أي ميدان
والمدرس مسئول عن تحقيق هذا المعنى، ومن واجبه أن يهب تلاميذه جميع ثروته العلمية والأدبية في أقصر وقت، لينصرفوا إلى الحياة بعد أسابيع لا سنين!
والمهمّ هو أن نؤمن بأن الشبان في مرحلة التعليم الثانوي رجال لا أطفال
المهمّ هو أن نحدِّث تلاميذنا في جميع الشؤون حديث الزميل للزميل
إن هؤلاء التلاميذ خلقٌ جديد، وقلبي يحدثني بأنهم يعرفون من حقائق الحياة أكثر مما نعرف
والمدرس الحق هو الذي يسبق زمانه بعشرات السنين، ليحاور تلاميذه في أشياء تسبق زمنهم بأزمان
فمتى نجد ذلك المدرس المنشود؟
هو موجود بالفعل، فعندنا جيوش من المدرسين الأكفاء، ولعل مصر أغنى بلاد الشرق بالمدرسين الأكفاء(509/8)
ولكن الذي يعوز الحياة التعليمية في مصر هو التوجيه السديد، التوجيه الذي يُشعر المدرس بأنه مسئول أمام الوطن عن تكوين الجيل الجديد.
ومن الواضح أن هذا لا يتيسر إلا إذا تغيّرت النظرة الحكومية والشعبية للمدرس
ومعنى هذا أني أنتظر أن تكون أبوة وزير المعارف للمدرسين أبوة رفيقة إلى أبعد الحدود، بحيث يجهلون المدلول من كلمات العلاوات والترقيات والدرجات، لأن لهم أباً ينوب عنهم في فهم تلك الكلمات
حدثني صديق يساير مناقشات البرلمان بأكثر مما أصنع أن معالي الهلالي باشا قال في مجلس النواب: (إن وزارة المعارف هي وزارة الدرجة السادسة)
والعبارة صحيحة، وإن جاز أنها من الكلام المنحول
ونحن نقرأ من يوم إلى يوم أن الهلالي باشا مَعنيٌّ بتحسين أحوال المدرسين، وهذا الذي نقرأ ليس كلاماً يراد به الدعاية، وإنما هو صدق في صدق، فهذا الوزير يجب أن يكون له في وزارة المعارف تاريخ نبيل، وسيرى المدرسون بعد أيام أنه ضمن لهم طمأنينة تريحهم من القلق الذي يساورهم منذ سنين.
والمجال يسمح بتدوين الملاحظة الآتية:
كان يهمني في بغداد أن أسأل عن الطلبة الذين يتخلفون عن دروسي بدار المعلمين العالية، وكان الجواب دائماً أنهم تحولوا إلى المدرسة العسكرية، لأن مستقبلها مضمون
والحال كذلك في مصر، فالشباب عندنا لا يؤُّمون المعاهد التي تُعدّ المدرسين إلا بعد اليأس من دخول المعاهد التي تُعدّ الضباط والمهندسين والأطباء
ومعنى هذا أن يفهم الجمهور أن المدرس هو شخص فاتته المواهب التي تؤهل لتلك المناصب
وأقول بصراحة إن المدرس لا يصلح لمهنته إلا إن كان غاية في جمال الصفات الجسمانية والروحانية
ولن نظفر بمدرسين من هذا الطراز إلا إن ضمنّا أن تكون حياة المدرس في مثل حياة الضابط والمهندس والطبيب
ولن يكون هذا إلا يوم يفهم الشبان أن مهنة التعليم مهنة مجد، يقول الفرنسيون(509/9)
وهل ننسى الصراع الذي يثور عند الانقلابات الوزارية؟
هل ننسى أن الوزير لا يرضى عن مصيره إلا إن كان وزير الداخلية أو المالية؟
يجب أن يكون وزير المعارف هو الوزير الأول في الدولة، لأنه المسئول عن تكوين العقول والقلوب
قالت جريدة الأهرام إن الهلالي باشا استطاع بلباقته أن يظفر بألوف من الجنيهات لتحسين أحوال المدرسين
ومعنى هذا أنه انتهب من أموال الدولة أشياء باسم التعليم!
الله أكبر، ولله الحمد!
إن مصر رضيت الحياد في الحرب، ولكنها لم ترض الحياد في العلم، فهي تناضل في الميادين العلمية نضال المجاهدين الفائزين، فما الموجب لأن يقال إن وزير المعارف قد استطاع بلباقته أن يأخذ من أموال الدولة أشياء؟
لن نسكت أو يصير وزير المعارف هو الوزير الأول، ليصير المدرس هو الرجل الأول في هذه البلاد
نحن المدرسين نطالب الدولة بإقرار العدل، لنصير مطمئنين إلى ما تريد من تثقيف الجيل الجديد
غايتنا واضحة وصريحة، وهي أن يعرف الشعب أننا في المقام الأول، لأننا معلمون، والمعلم هو الرجل الأول في شِرعة الإنصاف.
مدرس اللغة العربية
كتبت عن هذا المدرس أربع صفحات، ثم طويتها، لأنه مدرس مظلوم، فهل أعود إلى نشر تلك الصفحات؟
لن أفعل أو أنشر أقوال المفتشين بالتفصيل
وسأرى كيف أروض القلم في المقال المقبل
زكي مبارك(509/10)
على هامش (أحلام شهرزاد)
2 - قضية اليوم
للأستاذ دريني خشبة
قالت فاتنة: (أكتب يا صاحبي. . . أكتب. . . أكتب ولا تظنن أن الذي تكتب سيغضب صاحب شهرزاد أو المعجبين بصاحب شهرزاد وما أظنك إلا كنت واحداً منهم، إن لم تكن ما تزال واحداً منهم. . . ثق يا صاحبي أن مبدع شهرزاد لا يخرجه نقد ما أبدع لأنه أخذ على نفسه عهداً بأن يُنفِّذ فيها أحكام الزمان، قاضية في (القصر المسحور). وهل نسي القراء بعد ذلك الحكم الذي أصدره الزمان - القاضي العادل - على مبدع شهرزاد، في الفصل الأخير من القصر المسحور؟ إن كانوا قد نسوا هذا الحكم فاكتبه هنا لهم عساه أن ينفعهم فيما نحن بسبيله اليوم من أمر تلك القضية التي أحدث ضجتها الخرّاصون وأرجف بها المرجفون. . .
حكم الزمان: (والآن وقد سمعنا ادعاء المدعين ودفاع المتهم الأول، ولاحظنا اعتزال من اعتزل وعدول من عدل عن الاتهام، نقرر أن من حق الأديب أن ينشئ أشخاصه كما يريد هو لا كما يريدون هم، بل إن من الحق على الأديب أن يتلقى أشخاصه كما يؤديهم إليه فنه، لا يغير من صورهم التي تلقاهم عليها ولا يبدل، ولو حاول ذلك لما استطاعه ولما وجد إليه سبيلاً.
ولمن شاء أن ينكر عليه أو على فنه هذه الصورة كلها أو بعضها، وأن يعيب عليه أو على فنه ما يكون فيها من ضعف أو نقص أو تشويه، وما ينبغي لهذه الأشخاص نفسها أن تثور بمنشئها أو تمكر به أو تكيد له أو تتألب عليه، أو تبغي له سوءاً أو تستنزل عليه عقاباً؛ فإن فعلت فهي طاغية يجب أن ترد عن طغيانها، وباغية يجب أن تصد عن بغيها، وجامحة يجب أن يكبح جماحها، ومنشئها وحده هو القادر على ذلك. وسبيله إليه ترقية فنه وتجديده واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً. ولما كان المتهم نفسه قد أعلن تواضعه واعترف بقصوره وسلم بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويمعن في الجد، لا ليبلغ الكمال، بل ليدنو منه.
ولما كنا نقدر للمتهم تواضعه وطموحه إلى الكمال، واعترافه ببعد الأمد أمامه؛ ولما كنا(509/11)
نحرص على أن نمنحه المعونة على ما يريد من الرقي الفني فقد قضينا أولاً بإسقاط دعوى المدعين، وتبرئة المتهم مما وجه إليه ثانياً. . . بنفيه عن سالتش الخ. . .)
وحسب القراء يا صاحبي هذا القدر من حكم الزمان الذي ارتضاه صاحب (شهرزاد) ورضي أن ينشر في قصة (القصر المسحور) التي اشترك في إبداعها مع صاحب (أحلام شهرزاد) وليس القراء في حاجة إلى أن نذكرهم بأن هذا الحكم الذي أصدره الزمان القاضي العادل، هو حكم أملاه على الزمان صاحب (أحلام شهرزاد) وكان حريصاً فيه على أن يرسم لشريكه السبيل إلى (ترقية فنه وتحديده واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً)، وكان جميلاً من صاحب (أحلام شهرزاد) أن يسجل على شريكه: (تواضعه واعترافه بقصوره وتسليمه بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويمعن في الجد. . . لا ليبلغ الكمال. . . بل. . . ليدنو منه) وأن يقدر له تواضعه وطموحه إلى الكمال، واعترافه ببعد الأمد أمامه). وحرصه على أن يمنحه (المعونة على ما يريد من الرقي الفني)
فهل تخشى بعد ذلك يا صاحبي أن يغضب صاحب شهرزاد إذا كتبت في قضية (أحلام شهرزاد) كلمة ترد بها الحق إلى نصابه؟ وماذا يغضب صاحب شهرزاد كما يخرص الخراصون ويرجف بالباطل المرجفون، وقد اشترك في نشر هذا الحكم الذي ذاع من أبراج القصر المسحور ولم يشترك في نشره إلا بعد أن قبله ورضي ما جاء به، ولم يعقب عليه بكلمة؟ الحق أن صاحب شهرزاد أعظم من أن توغر صدره الكريم نفثات المبطلين المصدورين. . . بل واجبه أن يصفع بالحقائق التي وردت في ذلك الحكم أقفيتهم؛ لأنه عرفها قبل أن يعرفها أحد قبله، وأذعن لها قبل أن تذيع في الناس.
وبعد فقد كان هذا الحكم تعقيباً على قصته - أو مسرحيته الرومانتيكية - شهرزاد، فهل كان فن هذه المسرحية ناقصاً؟ وهل كان في حاجة إلى التجديد واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً؟ وهل نحن الذين يطلب إليهم أن يجيبوا على ذلك؟ وكيف وقد اعترف صاحب شهرزاد بقصوره وسلم بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويمعن في الجد. . . لا ليبلغ الكمال، بل ليدنو منه. . . إلى آخر ما جاء في عقابيل هذا الحكم من ألفاظ التواضع وبعد الأمد وحاجته إلى معونة ثابتة من(509/12)
الخارج على ما يريد من الرقي الفني. . . الخ.
هل نجيب أو لا نجيب؟ وهل يقف ما اعترف به صاحب شهرزاد بيننا وبين ما نريد أن نقول؟ وهل من حقنا أن نقول شيئاً بعد هذا؟ وهل نستطيع أن نخالف عن أمر الزمان وأن نثور بأحكامه؟
أجل، نحن نستطيع أن نفعل ذلك، فقد جاء في هذا الحكم الإذنُ (لمن شاء أن ينكر عليه (على الأديب) أو على فنه هذه الصورة كلها أو بعضها، وأن يعيب عليه أو على فنه ما يكون فيها من ضعف أو نقص أو تشويه). . . وعلى هذا فلنا أن نتناول نقد شهرزاد بما نشاء من كل ضروب النقد، ضامنين ألا يغضب مبدعها كما يحاول المرجفون المبطلون أن يحملوه على الغضب، بما يوهمونه من السطو على بضاعته، وادعاء ما هو حق خالص له.
ولكن. . . هل كان فن (شهرزاد) ناقصاً؟ وهل كان في حاجة إلى التجديد واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً؟ وكيف اعترف صاحب شهرزاد بذلك، واعترف معه بقصوره وبأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويطيل الجد. . . لا ليبلغ الكمال. . . بل. . . ليدنو منه؟! أما نحن فنخالف صاحبي (القصر المسحور) في كثير من ذلك، ونوافقهما في بعضه. . . إذ نشهد أن (شهرزاد) قطعة فنية رائعة من حيث الفن الأدبي الخالص لوجه الفن، لا لوجه الحياة. . . ومن حيث أنها تصور مذهباً في الأدب يأخذ به كاتبها نفسه، ويتحمس له، ولا يرى أن يحيد عنه. . . أليس قد اشترك مع عميد الأدب العربي في (القصر المسحور) فأبى إلا أن تكون له شخصيته المستقلة البارزة إلى جانب شخصية العميد التي تختلف بأسلوبها وتتفرَّد بسردها وتتخذ إلى قلوب القراء طرائقها المألوفة المعروفة. . . وعندنا أن شهرزاد من حيث الفن ليست في حاجة إلى ترقية ولا إلى تجديد. . . فقد بلغت من ذلك الكمال. وهذا حق لا ريب فيه. أما الذي نثور من أجله على (شهرزاد) وعلى مذهب صاحبها كله في الأدب، فهو هذا التحقير الشنيع للمرأة، واعتبارها متاعاً رخيصاً لا يصح أن يناط به الشرف، أو اعتقاد الحفاظ فيه، أو نسبة العفاف إليه. ثم هذه الحماسة التي يبديها صاحب هذا المذهب في التمسك برأيه والفخر من أجله بأنه (عدو المرأة)(509/13)
ومن القول المعاد أن نلخص للقراء فكرة العبقري الأول الذي ابتدع فكرة قصص (ألف ليلة وليلة) والذي ابتدع من أجلها شخصية شهرزاد الرائعة، تلك الفتاة النابغة التي استطاعت أن تطفئ جذوة الحقد على النساء في نفس شهريار، وأن تنسيه مأساة زوجته التي أزهق بسبب خيانتها أرواح هذه الجمهرة من فتيات مملكته، والتي استطاعت مع ذاك أن تكسب حب هذا الملك المنقبض النفس، المكظوم الفؤاد، وأن تبادله ذلك الحب، وأن تجزيه عليه الوفاء والصفاء والإخلاص، كما استطاعت أن تردَّ عليه ثقته بالمرأة التي كرهها، ومحبته لها بعد البرم بها، وافتتانه بحديثها بعد انصرافه عن كل كلمة تنبس بها، فيكون له منها أبناء بررة، وأسرة مجموعة الشمل، فتتغير حاله خضوعاً لقانون الظروف، ونزولاً على مقتضيات الأحوال الجديدة. . .
هذه هي شهرزاد البسيطة غير المعقدة. هذه هي المرأة التي تعتبر، ويجب أن تعتبر، محور الحياة ومناط الفضيلة، ورحمة الله التي تذهب الأحزان، وابتسامة السماء التي تشرق في القلوب المكروبة فتغمرها بالسعادة وتفعمها بالرضى. . . المرأة التي تروض الطباع الجافية فتجعلها رخاء، وتحتال للغرائز الوحشية فتحيلها إلى اللين واليسر والصفاء.
أما شهرزاد الأخرى. . . تلك الهولة التي رمز بها صاحبها إلى المرأة في كل زمان ومكان. . . فهي لا تمثل إلا نفسها. . . إنها تمثل حلماً مريضاً يملأ خيالاً مريضاً. . . لقد تصورها صاحبها امرأة احتالت على الملك - على شهريار - بقصصها البارع لتنقذ نفسها قبل أن تنقذ جنسها (ص40) كما صرحت بذلك للوزير وهي تحاوره وتداوره - هذه هي شهرزاد الأنانية الأثرة التي لا يصح أن تمثل إلا نفسها - أما شهرزاد التي تتشهى العبيد السود في المنظر الخامس، ولا تريد أن تشبع منهم، وتخون الملك من أجلهم، فمن من بنات حواء تمثل؟ مَن مِن جمهور بنات الإنسانية وأخواتها وأمهاتها تمثل هذه المرأة الساقطة الهلوك؟! هل تمثل إلا نفسها تلك المرأة التي تغازل الوزير في المنظر الثاني، ويستطيع حبها الدنس أن يعصف بنفسه - وهو الوزير المخلص - في المنظر السادس، وتكون نتيجة هذا الحب أن يقتل الوزير نفسه في المنظر الأخير حينما يكتشف أن شهرزاد لم تكن تتشهاه وحده، بل كانت تعبد (جسم) العبد أكثر مما كانت تعبد جسمه (ص138) ما هذا؟ ما تلك الصورة الشاحبة التي يخبئها صاحب شهرزاد للمرأة في مخيلته؟ لقد مسخ الصورة(509/14)
الساذجة غير المعقدة، الصورة العلوية الفردوسية التي ابتدعها الرجل العبقري الأول الذي ابتكر فكرة ألف ليلة وليلة فجعلها صورة شائهة قبيحة فاجرة لا يمكن أن تمثل مرأة المواخير التي تتجر بعرضها كما تتجر بأعراض الناس. يريد أن يقول المبتدع الأخير للعبقري الأول: إنك يا صاحبي رجل سليم النية طيب القلب ساذج التفكير، تنظر للمرأة تلك النظرة العالية المبرَّأة فتتهمها بالذكاء الصالح، وتنفي عنها الدهاء الطالح، حين تضع بين يديها شخصية مستوحشة مثل شخصية شهريار الذي قتل زوجه الملكة وقتل العبد الذي خانته فيه، ثم راح يقتل العذارى نقمة منه على جنس المرأة حتى رزقه الله هذه الفتاة الألمعية (شهرزاد) التي تسلمته كما يتسلم المروضون السباع والضواري فما يزالون بها حتى يسلس لهم قيادها وينقاد لهم عاصيها، وتخضع كما تخضع الثعابين في الهند للموسيقى وتسكن سكون الطفل إذ يلتقم ثدي أمه. . . أما أنا - لا جعلت فداك - فعلى النقيض منك، إذ أني قليل الإيمان - بل لا إيمان لي على الإطلاق - بالمرأة. . . المرأة التي تمثلها شهرزاد في كل زمان ومكان. . . إني عدوها!!. . . إنها مخلوق أناني صلف غادر. . . إنها كائن غويّ بغيّ فاجر. . . إنها أصل كل بلاء، وجالبة كل شقاء. . . إنها كما جاء في هذا البيت المضحك الذي دسه عليك بعض القصاص المتأخرين فيما دسوه عليك من سخف. . . هذا البيت الواهي المتهالك الذي لا يستقيم له وزن:
إذا رأيت أموراً منها الفؤاد تفتت ... فانظر تجدها من النساء تأتت!!
بالضبط يا عزيزي العبقري الأول، ولو أنك أنت كنت رويت هذا البيت، وثقفته لراقك أن يكون مذهبك في المرأة كما أصبح مذهبي، ولدنت به كما أدين أنا - في آخر الزمان - به فقد تناولت شهرزاد الحصيفة العفيفة الظريفة اللطيفة التي قتلت الشيطان بين جنبي شهريار، وأبادت الظلام الذي جثم على قلبه، وأعادت إلى روحه السلام والطمأنينة، وغيرت مجرى تفكيره في الحياة حين أنجبت له أبناء وخلقت له (بيتاً)، شهرزاد التي لم تزل بالملك المتبرم بكل شيء، الناقم على كل الوجود، حتى على نفسه فردته إلى الرضى، وغسلت قلبه بالثلج والبرد، واشتركت وإياه في شئون الملك، فاستقامت له الرعية، وازدهرت في فيض عدالته الدولة. . . تناولت أنا شهرزادك هذه فمسختها. . . ولا تؤاخذني يا عزيزي العبقري الأول فهذا رأيي في المرأة. . . وجعلتها أنانية أثرة لا تجهد(509/15)
إلا أن تبقي على نفسها وإن هلك نساء العالم. ثم جعلتها تخدع الملك وتصر على الانتقام منه فتخونه كأسفل ما خانته زوجته الملكة الأولى، وتؤوي إلى فراشه العبيد الأقوياء السود فلا تشبع منهم، وتحرص على أن يكونوا سوداً غلاظاً (فالزهرة البيضاء الرقيقة تنبت من الطين الأسود الغليظ)، وتحرص أن يكون عبدها (وضيع الأصل قبيح الصورة، لأن هذه هي صفاته الخالدة التي تحبها). . . فإذا أنبأها العبد أن (تلك هي صفات الشهوة!) قالت له: (أقترب) فإذا قال العبد: (يخيل إليَّ أنك امرأة لا ككل النساء. أنت لا يمكن أن تعشقي أحداً) قالت له (لا شأن لك بقلبي!) فإذا قال: (أنت إنما تلعبين بي. إني أخافك) قالت: (أنت واهم) فيقول، ويا مصيبة ما يقول: (وزوجك!) فتقول: (ما شأنك به؟) فهل رأيت إلى يا عزيزي العبقري الأول كيف أشعت الفجور في نفس شهرزادك؛ وإن غضبت. فشهرزادي! وماذا يغضبك وللأديب أن يضع أشخاصه في الصورة التي يحب كما جاء في حكم الزمان في آخر قصة القصر المسحور؟ لقد أشعت الفجور في نفس شهرزاد وفي نفس العبد وفي نفس قمر وفي نفس الجلاد وفي نفس أبي ميسور، وفي نفس الملك. إي والله في نفس شهريار الذي ما فتئ يقتل النساء. لقد جردته حتى من نخوة الرجولة وفحولتها وجعلتها ضعفاً وخناً وفسولة. لأنه يرى العبد يخرج من مخبئه في مخدعها، فلا يبرم ولا يثور ولا يأمر جلاده بشيء. . . ولا بالبصق في وجهه. ولماذا يفعل وقد اشتد إيمانه بأن هذه هي طبيعة المرأة التي لا سبيل إلى تقويم معوجها؟
أرأيت إليّ يا عزيزي العبقري الأول؟! هذا مذهبي في المرأة. . . روّأت له هذا الترويء، وموّهت به على قرائي ذاك التمويه، وأذعته عليهم في كتاب وجد من حرية الرأي ورحابة الصدر، وحسن الالتفات، في مصر والشرق، ما وجد، فشاع وذاع وملأ النفوس والأسماع. . . وغلب القنّت - الذي ورد ذكره في كتابي - على صفاته الغوالي، ومزاياه الكبار.
قالت فاتنة: (وحسبك هذا القدر اليوم يا صاحبي، وقبل أن آذن لك فتضع هنا اسمك، نبه الناس إلى أن صاحب أحلام شهرزاد لم يسرق من هذا الفجور شيئاً، بل هو قد عالجه العلاج الذي كان ينبغي له منذ أعوام. وإلى اللقاء في الأسبوع المقبل)
دريني خشبة(509/16)
الإصلاح الذي أنشُده للأزهر
عماده المال
للأستاذ عبد الحميد عنتر
(وسيكون للجامعة الأزهرية نصيب كبير من اهتمام حكومتي، فتعنى بإصلاح نظم التعليم فيها إصلاحاً يساير روح العصر، ويحفظ لهذا المعهد الكبير صبغته الدينية، ويهيئ له من الوسائل ما يمكنه من أداء رسالته العلمية الدينية، على الوجه الذي تنشده مصر، ويحقق آمال الإسلام والمسلمين. وستوجه الحكومة إلى الوعظ الديني عناية تناسب ما له من أثر في تهذيب الخلق المصري، وما يبذله من جهود للإصلاح بين الناس)
(من خطبة العرش)
هذا ما جاء في خطاب العرش، لسنة 1942 خاصاً بالجامع الأزهر.
وهو على ما يرى القارئ قبس من نور الحكمة، وسراج وهاج من روح الإخلاص الحكومي لهذا المعهد العتيد. ذلك المعهد الذي يجله ملوك مصر وحكامها، منذ نشأته الأولى، إلى أن بلغ من العمر ألفاً من السنين، والذي له المنزلة العليا في نفوس المسلمين بكافة بقاع الأرض، لأنهم يتمثلون فيه المحامي الأكبر عن دين الله، (الذي لا تصلح دنيا الناس إلا به)، والحصن الحصين الذي حفظ تراث العرب، من اللغة والآداب والعلوم، ووقاها عاديات الضياع والإهمال؛ ولأنهم يرون - ونرى معهم - أن النهضة الفكرية في مصر، والنهضة الخطابية والكتابية، والنهضة الأدبية والشعرية، وأستطيع أن أقول: والنهضة الوطنية. كل أولئك النهضات المباركات، كان الفضل في تدعيمها وتغذيتها للجامع الأزهر. فهل هو كما قال قائلهم الأديب، الابن البار بالأزهر، الأستاذ حسن عبد العال، صاحب جريدة الإصلاح الحلبية: (الأزهر حصن الدين وينبوع الأدب)
ولما كان في التصريح الخطير المقتبس من خطبة العرش، ما يمس نظام التعليم، وفيه ذكر الوسائل التي تمكن الأزهر من تأدية رسالته على الوجه الأكمل، أحببت أن أبين على صفحات (الرسالة) ما عنّ لي من وجوه الإصلاح، وما أراه أنفع الوسائل لأداء الرسالة العلمية الدينية، على الوجه الذي (يحقق آمال الإسلام والمسلمين). فأقول محاولاً الإيجاز ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.(509/17)
رسالة الأزهر قديماً
لا مراء في أن علماء الأزهر القدامى، حملوا أمانة العلم، وأدوها أحسن الأداء، وضربوا للناس المثل الأعلى في الجد والنشاط، والتوفر على الدرس والتحصيل، وتطبيق أقوالهم الطيبة، على أفعالهم الحميدة، مع تغلغل في البحث، واستقلال في الرأي، وجهر بالحق، وسمو في الخُلق، ورضاً لم يخالطه سخط، وقناعة لم يتطرق إليها طمع، وإخلاص لم يشبه رياء.
لله درهم! نشروا العلم وأحيوا الفضيلة، وحافظوا على لغة الكتاب المنزل. فدرسوا وعلَّموا، وصنفوا وألّفوا، وفحصوا ومحّصوا، حتى تركوا لمن بعدهم ثروة كبيرة من التأليف في شتى العلوم، تعد بحق مفخرة لهم، في عصر كاد ينطمس فيه نور العلم، ويخبو فيه مصباح الفكر، لولا نفحة سماوية، وروح علوية إلهية. جزاهم الله عن العلم والدين خير الجزاء.
ومما تجب ملاحظته أن نفسية الأمة إذ ذاك، كانت أكبر معين للعلماء على أداء مهمتهم، وتبليغ رسالتهم على الوجه الذي سلف بيانه، والتاريخ أعدل شاهد على ذلك؛ وأن هذه النفسية قد تغيرت الآن تغيراً طغت فيه المادة على المعاني الروحية، وأصبح الناس لا يقدرُون العالم لعلمه وأدبه، أو سمو نفسه وطهارة قلبه وصالح عمله؛ بل إنما يقدرونه لمال أو جاه، أو منصب أو رياسة. ومن هنا وجب (أن تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا)، وأن تتغير وسائل تأدية الرسالة العلمية الدينية، طبقاً لروح العصر الذي نعيش فيه. وذلك ما سأبينه في رسالة الأزهر الجديدة.
نظام الأزهر الحالي
إن من ينكر نظام الأزهر الآن، كمن ينكر الشمس في رائعة النهار، ولا يجرؤ على ذلك إلا الجاهل المتعامي الذي لا يضير الشمس إنكاره، ولا يغيّر الحقيقة جحوده واستهتاره.
إن من يزور معهداً من معاهد الأزهر الابتدائية أو الثانوية، ثم يزور مدرسة من مدارس الحكومة الابتدائية أو الثانوية، المؤثثة على أحدث طراز - لا يرى فارقاً واضحاً بين المعهد والمدرسة، (إلا العمائم والطرابيش)
أما نظام الفصول الدراسية، ومقاعد الطلاب، وأدوات الدراسة: من مصورات جغرافية،(509/18)
وأخرى زخرفية، وسبورات للإيضاح، وأدوات للرسم، ومعامل للكيمياء والطبيعة، وهياكل مجسمة لدراسة علم الحياة (الأحياء) وقاعات للمحاضرات، أقول أما كل أولئك فهو في معاهد الأزهر، كما في مدارس وزارة المعارف، وتمتاز المعاهد بأن ما فيها من الطراز الحديث.
وإن من يزور كلية من كليات الأزهر، لا يرى فرقاً بين أيَّةٍ منها، وبين كلية الآداب أو الحقوق أو معهد التربية، إلا من حيث فخامة الأبنية والموقع الصحي المنتقى، وضخامة الميزانيات.
فهي في الأزهر وكليلته متضائلة متواضعة، وفي مدارس الحكومة وكلياتها عظيمة متضخمة. وتكاد طريقة التدريس في الأزهر الحديث، تضاهي الطريقة التي تتبعها مدارس الحكومة وكليات الجامعة، وكذلك نظم الامتحانات.
وقد استقر هذا النظام في الأزهر، ورسخ فيه رسوخ الشُّم الرَّواسي، حتى أصبح من العسير جداً أن يُعدل به إلى أي نهج آخر؛ لأن رجال الأزهر وطلابه قد اعتبروه تقدماً وتجديداً، ومسايرة لروح العصر الحاضر. فالعدول عنه رجوع بمعهدهم القهقري، ووقوع فيما فروا منه قديماً من بلاء!
فمن يحاول رجع الأزهر كما كان، كمن يحاول أن يجعل (النيل) ينبع من شواطئ البحر الأبيض المتوسط ثم يصب في أعالي السودان!
فالأزهر لا ينقصه نظام، ولا يعوزه رجال مفكرون، أو طلاب نبهاء، وإنما يعوزه إصلاح هذا النظام، ولا سبيل إلى إصلاحه إلا المال؛ ليؤدي به إلى بلاده، وإلى العالم الإسلامي رسالته الجديدة
وإذا قال الأزهر الحديث: (المال)، فهو لا يريد أن يتكاثر فيه حتى يصبح من أصحاب (الملايين)! أو التهالك عليه حتى يكون شغله الشاغل، ومحبوبه الأول، ولكنه يطلبه للإصلاح، وللإصلاح لا غير. . . يطلبه الآن لأنه ليس كالأزهري في الزمن السالف، الذي كانت تهدي إلى بيته الهدايا، من كل (ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين). يطلبه لأنه يرى أن كل شيء في هذه الحياة الصاخبة مفتقر إلى المال. يطلبه ليتساوى مع غيره ممن يؤدون مثل مهمته، ويقومون بمثل عمله، من رجال التعليم.(509/19)
أمامي الآن بيان إجمالي لدرجات موظفي الإدارة العامة بالأزهر، ودرجات شيوخ كلياته وأساتذتها ومدرسيها وموظفيها ودرجات شيوخ المعاهد الابتدائية والثانوية ومدرسيها وموظفيها. وبيان آخر لدرجات أمثالهم من موظفي وزارة المعارف بالديوان العام، وعمداء كليات الجامعة وأساتذتها ومدرسيها وموظفيها، ونظار المدارس الابتدائية والثانوية ومدرسيها وموظفيها. والناظر إليه يرى البون الشاسع بين هذه الدرجات بالنسبة إلى عمل أصحابها من الفريقين!
فهي في ميزانية الأزهر تتصاغر وتتضاءل، وفي ميزانيات غيره تتعاظم وتتكاثر. ولو شئت أن أذكر البيان التفصيلي مؤيداً بالأرقام لفعلت، ولكني آثرت عدم ذكر شيء من ذلك رعاية لأزمة ورق الصحف، ولأن ولاة الأمور يعلمون ذلك علم اليقين. لذلك أجتزئ بذكر الأمثلة الآتية، ومنها يتبين الفرق الكبير:
الأول - في الإدارة العامة: وكيل الجامع الأزهر لم يوضع في الدرجة الأولى (التي تعطى لبعض أساتذة الجامعة) إلا في سنة 1942 مع أن نظيره في ديوان المعارف يتقاضى مرتب (مدير عام)، ومفتشو الأزهر في الخامسة والرابعة لا أكثر، مع أن مفتشي المعارف ليس فيهم من هو في أقل من الرابعة. وكبار المفتشين في الثانية
الثاني - شيوخ الكليات الأزهرية لم يوضعوا في الدرجة الثانية إلا في سنة 1942، مع أن هذه الدرجة تعطى لأساتذة الجامعة، بل إن بعض هؤلاء في الأولى كما سبق! وأما عمداء الجامعة فهم في درجة (مدير عام)
الثالث - أساتذة كليات الأزهر ومدرسوها: لم يوضع أحد من الأساتذة في الدرجة الرابعة إلا في سنة 42، ولم يكن أحد منهم في الثالثة أو الثانية أو الأولى (بالطبع) مع أن أساتذة الجامعة ودار العلوم في الثانية والثالثة وليس فيهم من هو أقل من الثالثة
أما مدرسو كليات الأزهر، فهم في الدرجات الخامسة والسادسة، ويخجلني أن أقول: والسابعة! مع أنه ليس في مدرسي الجامعة من هو في أقل من الخامسة
وعلى هذا الغرار الفرق بين شيوخ المعاهد، ونظار المدارس، وبين المدرسين والموظفين في كل منهما
فإذا طالب الأزهري بالمساواة، فهو طلب عادل، ومساواة واجبة. وفي هذه المساواة تحقيق(509/20)
للعدالة بين طبقات الأمة، وراحة لضمير فئة خصصت حياتها لخدمة العلم والدين ولغة العرب.
فالأزهري الحديث يطلب المال كما يطلبه غيره، ليعيش بكرامته، وينعم بخيرات بلاده كما ينعم غيره
وإذا كانت الدول تنفق الأموال الطائلة، على الدعاية التي لم تتحقق ثمرتها بلا مقابل - فالأزهر أكبر دعاية لمصر في الشرق والغرب، بل هي دعاية محققة الفائدة، بل قد يكون من القضايا المسلم بها، أن مصر لم تتزعم العالم الإسلامي والشرق العربي إلا بفضل الأزهر. فليس بمستغرب إذن أن ينفق عليه للإصلاح، بسخاء من غير مقابل!
وممن يطلب المال؟ يطلبه من حكومته العادلة الرشيدة، التي آلت على نفسها أن تصلح شأنه، وأخذت على عاتقها أن تمكنه من أداء رسالته العلمية الدينية، وأن توجه عناية خاصة إلى الوعظ والإرشاد.
وهذا التمكين وتلك العناية، لا يقومان إلا على أساس المال وهاأنذا أرسم الخطة التي أرجو أن يسير عليها الأزهر في عهده الجديد؛ لتكون منهاجاً واضحاً لمن يريد الخير والإصلاح لهذه الجامعة الدينية الكبرى. مصدراً ما أورده هنا عن تجارب الماضي وعبره.
رسالة الأزهر الجديدة
هي بذاتها رسالته القديمة، مضافاً إليها ما يلي:
1 - تأليف الكتب العلمية للدراسة. وهذه عقدة العقد في إصلاح نظام الأزهر، وأعتقد أن كل إصلاح لا يحل تلك العقدة، لا يؤتي ثمرته المرجوة، ولا يحقق آمال المسلمين
كتب الأزهر الحالية في شتى العلوم، مجموعات كبيرة من المتون والشروح والحواشي والتقارير، فهي حقاً ثروة علمية هائلة، جمعت كنوز العلم، وميادين الفكر، وعصارات العقول. لولا ما فيها من حشو لا تسيغه أذهان الناشئين، ولا يتفق وكثرة العلوم التي لا غنى عنها للطالبين.
ألفت تلك الموسوعات في زمن غير زماننا، ولرجال غير رجالنا. هم عملوا، وعلينا أن ننقح ما عملوا؛ لأن ما عملوه لا يروج إلا في سوق الأزهر ومعاهده، ونحن نريد بضاعة علمية من التأليف، تروج في سوقنا، وتغزو سوق غيرنا، في مصر وفي غير مصر من(509/21)
جميع بلاد العالم.
نريد أن تكون كتب الأزهر القديمة، مراجع علمية، ومصادر للتأليف، ومواد ودراسات عالية لمن يريد التضلع من العلم، والتخصص فيه.
ونريد أن تؤلف للدراسة في الكليات والمعاهد الدينية كتب جديدة قيمة في جميع العلوم، مقتبسة من كتبنا القديمة تجمع المسائل العلمية، والبحوث النافعة، مع التنسيق وحسن الترتيب. مراعى فيها أن يمكن استيعاب دراستها في الزمن المخصص لكل مرحلة من مراحل التعليم، حتى لا تنفلت حلقة واحدة من سلسلة المقررات العلمية السنوية، لكل فرقة من فرق الدراسة. وهذا النوع من الإصلاح لا يعوزنا في تحقيقه إلا المال. أما الرجال فإن في الأزهر الآن عقولاً تستطيع أن تؤلف أنفع كتب (أخرجت للناس) وإني أهيب بولاة الأمر فينا، أن يبادروا بإخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود ولو بالتدريج، قبل أن يقل العلماء القدامى، فتفوت الفرصة السانحة، تلك الفرصة التي يرجو كل محب لخير الأزهر أن تنتهزها حكومة الشعب، في عصر الملك السعيد، صاحب الجلالة فاروق الأول، أيده الله، وأعز به الدين والوطن.
(يتبع)
عبد الحميد عنتر
أستاذ بكلية اللغة العربية(509/22)
من مغاني الأزهار
إلى (ذات الغدائر الذهبية)
لشاعر العاطفة والوجدان جان ريشبان
للأستاذ عبد العزيز العجيزي
ليلاي! هيا نجول في روض الأحلام، ونطوف
بفردوس الأوهام. هيا ننعم بما يداني قطوف
فتنتك وجلالك، وأفاويق سحرك ودلالك.
هيا نسبح في أجواء الخيال، ونرفرف في فضاء
الآمال، ونسمو إلى عالم الجمال. . . واهاً لها من
أحلام مغرية! وواهاً لها من أحلام خادعة!
هيا نرنو إلى الأشجار الوارفة، والأطيار
الصادحة، والمياه الساجية تحت قبة السماء الزاهية
تأملي يا حبيبتي! فالشمس بازغة من مخدعها
بزوغ الحسناء من خدر عشيقها، شاحبة المحيا،
حسيرة الطرف، كسيرة الجناح، في موكب
الصباح النضير، وجماله الساذج الغرير، ناثرة
في الأفق طاقات الزهور العسجدية، والورود
القرمزية، بينما الدجى يسحب غدائره السوداء.
زنبقات الفجر! تلك الزنابق البيض تنثر لؤلؤاً
وضاء، فتوجي جبينك بهذا الإكليل اللألاء،
ليشدو الفجر الفريد، شدو البلابل بالنشيد،
فتتفتح حينذاك أوراق الأزهار وتنفض عن
أجفانها غلالة النعاس، كما تنفض العيون عن(509/23)
أهدابها كحل الكرى عند انبلاج الصباح الوليد
ويترنم سيل الجدول المنساب، حاملاً إليك
بين ثناياه المترقرقة جواهر ماسية صافية، ومن
صفحته اللألاءة مرآة بلورية زاهية. وتندفع
أحجار الحصى كثمار الجوز المنزلقة على
الصراط الضيق، وتفوح أشجار الصندل
بالعرف الشذي، والطيب الندي.
وتسلب الريح الهائمة أنغام القبل الراقصة على
شفتيك، وتنهب الأغاني الشادية على لماك، فتجعل
الأشواق المتأججة، والأماني الهائجة، ورعدة
الصبوة الجامحة، تهيم في الآفاق، وترقد في
منازل الأفلاك، حالمة بسحر لحظك الفتاك!
ليلاي! كل شيء يزهر تحت قدميك، وينضر
بين يديك؛ فيشرق جماله لعينيك، ويضوع نسمه
من عبير ثناياك، في روض السحر والفتنة، وأيك
الجمال والروعة. . . وينمو العشب وينبت الكلأ
حيث تتباين الورود وتتنوع الأزهار. . .
لحظة يا حبيبتي من لحظات عمري أرشف فيها
الهوى صرفاً، وانتشى بالحب خمراً.
كل شيء يمتزج في ربيع هوانا بسحر الجمال،
ويثمل برحيق الوصال؛ فيعانق شذى الوجود،
وخمر الطبيعة، وفيض النور، وصدحات
القبلات الساجعات، كشدو ناي مترنم
في مجامع الأزهار؛ هذه القبل هي قربان
هيامنا القدسي، وزلفى غرامنا السرمدي.(509/24)
ليلاي! ها نحن أولاء غرقى في ثبج هذا الحشد
الزاهر؛ فكيف النجاة من عبابه الزاخر؟ عبثاً
تحاولين الفرار! فالأزهار تحنو منطوية عليك لشوقها
إليك، والرياحين ترنو مطلة إليك لتلهفها عليك.
بينما تبعث الزكى من روحها والشذى من
ريحانها، لتنهلها الريح بعبيرها ورياها، وتلتهمها
بمتعها وجناها؛ كالسلوقي يعدو مسرعاً ويطوي
الأرض لاهثاً ليروي ظمأه، ويمسك رمقه!
فاطو العمر أيها الزهر المخضب، ومت بفتنتك
بين الرياض وجداً وهوى! فقد كتب الموت
على الأزهار التي تذوب صبابة وهياماً،
لتنفث زفراتها أريجاً وعبيراً لمن جافاه
نعيم الصبا ولم يهتد لضوء الهوى.
ليلى؛ أواه! حسبنا أن نموت كهذه الأزهار
الولهة، لنريق دماء صبوتنا عطراً متيماً، فتسكر
الريح بخمر قبلاتنا، وتبوح الأزهار بسر غرامنا!
أجل يا حبيبتي! هذا هو الحب العاطر ينشر
أريجه ف الأودية والحقول، ويلهم وحيه الصادق
الإفهام والعقول، ويرويه للكون في آيتيه الليل
والنهار، هوى عذريا، وحباً قدسياً، فيؤمن بالحب
بعد جحوده، ويصحو على صوت مؤذنه بعد هموده
هنالك، يوحي إلهامه، ويهمس تراتيله في أذن
الطبيعة الصماء، فتشدو الريح في يوم عرسنا مرتلة
أناشيد غرامنا، وترقص أغاني العمر على الشفاه،
مغردة أغاريد الهوى على الثغور، شادية(509/25)
ألحان القبل، ساجعة أنغام الغزل.
(المنصورة)
عبد العزيز العجيزي(509/26)
اليابان إزاء الصين
لليوزباشي حسين ذوالفقار صبري
هناك في الشرق الأقصى منذ أكثر من عام، هبّت فجأة أعاصير الحرب تجتاح الدول عاصفة بالقوانين، لا تعرف لتلك حرمة ولا تقيم لهذه حساباً، ثم خبت نارها فجأة كما قامت، وصفت سماؤها وشفّت إلا عن بضعة التحامات هنا وهناك، ولكن تيارها العميق، البعيد عن الأنظار ظل قوياً مستمراً عنيفاً تحت السطح الراكد قبل الزوبعة، المتلاطم أثناءها، ثم المختلج بعدها.
هناك في مجاهل الصين منذ أكثر من خمس سنين انبثق ذلك التيار، الجارف الآن، مترقرقاً في ذلك الحين، ولم يزد على أن يكون مشاغبة تافهة بالقرب من بيبنج (بكين قديماً)، ولكنها كانت مشاغبة توارت خلفها مطامع اليابان، فانتهزتها فرصة للإقدام والتنفيذ، ولكن تنفيذ ماذا؟ استعمار الصين؟ نعم ولكن. . . أين كانت خطتها المحكمة التدبير. . .؟ أين كانت، فإن المراقبين لم يروا منها إلا ارتجالاً إثر ارتجال، ولم تحصد هي من أعمالها إلا توريطاً إثر توريط؟
(إذا أردنا السيطرة العالمية، وجب علينا أول الأمر إخضاع الصين!)، تلك كانت عقيدة الجيش الياباني، وهو كما لا يخفى أداة الحكم في تلك البلاد. وإخضاع الصين عملية شاقة مرهقة، عملية تستنزف أعنف مجهود، وتستنفد أرواح ملايين من الجنود، وتتطلب فوق هذا وذاك وقتاً طويلاً تكون اليابان خلاله متورطة في مجاهل سحيقة في حين تكون روسيا متربصة عن يمينها، وبريطانيا رابضة عن يسارها، وأسطول أمريكا جاثم على مؤخرتها؛ إذ لم يكن هناك بد لإخضاع الصين من التوغل في أرضها الوعرة الموحشة حتى تصل الجيوش إلى معبر توانج كوان عند منحنى النهر الأصفر، وهو الذي يعد بحق مفتاح الصين اللازم لكل غاز منتصر، وبدونه يستحيل الانتقال بالجيوش الجرارة أو الإمدادات الوفيرة إلى قلب البلاد، وهو في الوقت نفسه يمهد الطريق الأسهل إلى ولاية ستشوان الخصبة الغنية (حيث توجد العاصمة الآن)، وهو أيضاً يهدد مرتفعات شانسي المشرفة على منشوكو والمغول الداخلية وسهول الصين الشمالية! فهو كما نرى معبر به مغاليق الصين إلا أنه معرّض مهدد إن لم يحمه صاحبه باحتلال وادي نهر هان الملتف جنوبه. إذن على(509/27)
اليابان أن تحتل هذه المعاقل الثلاثة النائية: معبر توانج كوان، ومرتفعات شانسي، ووادي نهر هان، قبل أن تأمل بسط سيطرتها على أبناء (الأرض الطيبة)، وقد أحجمت. . . فهي تعلم أن الدول الثلاث المحيطة بها لا شك مقدمة على وقفها عند حدها إن هي تجاوزته؛ ولكن مطامع اليابان كانت متأصلة في نفسها، مُلحة عليها، مكبوتة متحفزة، مخبوءة متربصة، فهي إذن لا مراء مندفعة إلى عالم الوجود، إن عاجلاً أو آجلاً، كماء تفجر من ينبوع جياش، فينقلب إلى سبيل متدافع أرعن لا حاكم له ولا ضابط. لذا استقر رأي ولاة الأمور على تلافي تلك العاقبة الهوجاء بتفريج الحال على دفعات خلال منفس صغير أدّى بهم إلى سلوك مسلك عجيب، بريء المظهر، خبيث الطوية، مسلك المنحرش بالقوم الآمنين حتى يستفزهم، الغاضب لإهانة وهمية لم تلحقه، المتوعد بالويل حتى يسترضى فيتأفف، ثم المقدم على اغتصاب تعويض ضخم ليس من حقه، وقد بنيت الخطط على أن يكون التعويض المذكور مقاطعة صينية تنتزع انتزاعاً لتضم إليهم، وعندما يتم إدماجها اقتصادياً واجتماعياً في نظامهم المرسوم تُعاود عملية الاستفزاز من جديد وهكذا دواليك.
وتحرشوا أول مرة في (مكدن) في سبتمبر سنة 1931 فضُمت منشوكو إليهم. . . وتلمظت طوكيو هانئة بالذي ابتلعت، وأدارت وجهها لانتقاء وجبتها التالية، بينما مضت إدارتها الداخلية تنسق الولاية الجديدة. . . ولم تعلق كبير اهتمام بذلك الشاب الصيني اليافع الذي علمته في مدارسها الحربية، وأنعمت عليه بلباسها العسكري، فجازاها بأن ألقاه في وجهها وفرّ منها متقلباً بين اليمين والشمال في حكومات الصين، موحّداً لواءها مرة ومشعلاً الحرب بينها مرات، ذلك الشاب الذي أضحى الآن رجلاً قوي الشكيمة شديد البأس على رأس جيش عرمرم، ذلك الرجل الذي توصل أخيراً إلى توحيد مختلف حكومات الصين تحت تعاليم أستاذه العظيم (صون يات صن) ذلك الرجل الصارم العنيد، شانج كاي تشك رجل الصين الأعظم، ورمز عصرها الجديد.
تنبه القائد الصيني للخطر المحدق ببلاده فأعد خطته على أساس توسيع رقعة القتال بمجرد نشوبه مرة أخرى، فيورط اليابان في حرب أرجاؤها فسيحة وسط قوم مناهضين لهم ساخطين عليهم. أستمع إليه قبل الحرب بثلاث سنوات وهو يخاطب ضباطه في (كولنج): (تظن اليابان أن في إمكانها احتلال الصين دون كبير عناء. . . وهي لا بد معاودة التحرش(509/28)
بنا قريباً. . . واعلموا أنه لا يتحتم علينا مقابلة كل سلاح تأتي به اليابان بسلاح يماثله. . . بل في وسعنا أن نجابه اختراعات العدو الجديدة بأسلحتنا التقليدية العريقة، وهي مقدرتنا الفائقة على استخدام كل ما تراه العين أو تقع عليه اليد، سواء أكان هذا جبالاً أم أنهاراً، حجارة أم أغصاناً. . . يجب علينا إيقاظ شعبنا من سباته حتى يهب خلف المغير إذا تقهقرت القوات أمامه،. . . إن تحديد وسائل المقاومة لا يهم ما دامت تحدونا عزيمة لا تهن وهمة لا تكلّ. . .)
وفي هزيع ليلة حالكة من ليالي يوليو سنة 1937 دوت في الفضاء عدة طلقات عند معبر (مركو بولو) بالقرب من بيبنج فكانت إيذاناً بالملحمة الكبرى. وأطبقت اليابان على الصين الشمالية. . . وكان (كاي تشك) كما أسلفت قد قرر أن يمد رقعة القتال ويستدرج العدو إلى جوف البلاد، أو على حد تعبيره، كان قد قرر أن يشتري الزمان بالمكان. ظنت اليابان أنها مقدمة على نصر سريع كذلك الذي واتاها منذ ست سنين في منشوكو. ظنت أن (كاي تشك) سيواجه جيوشها الميكانيكية الحديثة في سهول الصين الشمالية، ولكنه لم يفعل، بل أرسل خيرة جنوده إلى شنغهاي يهدد مصالحها هناك فاستدرج جنودها وراءه. وهزم القائد الصيني هناك وأخلى عاصمته نانكين ثم هزم في (سوتشاو)، ثم هزم مرة ثالثة أمام عاصمته الجديدة (هنكاو)، ولكنه في كل مرة كان ينزل بأعدائه أفدح الخسائر ويرتد عنهم قبيل إطباقهم عليه، مغرياً إياهم باللحاق به والتوغل خلفه حتى أضحت جنود الحملة اليابانية منتشرة على مساحة شاسعة، ولم تعد قادرة على تركيز مجهودها في مكان معين، واضطرت حامياتها الموزعة على مختلف المدن الصينية المحتلة أن تحمي خطوط المواصلات حتى لا تفقد تماسكها ولكنها لم تجرأ على المخاطرة بنفسها في الأماكن غير المطروقة، وهكذا أصبحت لا تحتل من البلاد إلا شبكة خيوط مرسومة حول أرض وعرة مجهولة وبالهلاك موبوءة.
توصل شانج كاي تشك إلى تنفيذ مأربه وأصبحت القوات اليابانية عاجزة عن إحراز نتيجة حاسمة، وأضحت حكومتها لا تجرؤ على التراجع بعد أن بهظت تكاليف مغامرتها، وظلت إدارتها الداخلية قاصرة على تنظيم موارد أراض لم يستتب الأمن فيها بعد.
وفي الوقت نفسه كان القائد الصيني يجمع الجنود وينظم الصفوف ويستورد المهام من(509/29)
روسيا عبر (سنكيانج)، ومن بريطانيا وأمريكا عبر بورما أو عن طريق بعض المواني التي حمتها امتيازات الدول الغربية
ووقفت اليابان تراقب ذلك الجرح الذي لا يندمل بقلب كمد وعقل مبلبل حائر. . . ثم قبض جنرالها (سوجياما) على مقاليد الجيش وأصبح رئيساً لهيئة أركان الحرب العامة، و (سوجياما) هذا جندي نشط جسور، يواصل العمل ليل نهار تحدوه إرادة لا تكل، وكراهية ملتهبة لكل ما هو أجنبي، وكان عليه أول الأمر عزل الصين عن كل مساعدة خارجية وتأمين مؤخرة اليابان أمداً من الزمان حتى يتم لها القضاء على مقاومة شانج كاي تشك. . . وربض (سوجياما) يرقب اللحظة المناسبة حتى واتته فانقض. . . فكانت (بيرل هربور) وتبعتها هنج كنج والفلبين وبورنيو والملايو وبورما وسومطرة وجاوة وجزر سليمان. . .
يظن الكثيرون أن تلك كانت مقدمات لانقضاض اليابان على استراليا أو استعداداً منها لاجتياح الهند؛ وإني لا أنكر أنها قد تتحول إلى ذلك مستقبلاً، ولكنها لم تكن في ذلك الحين إلا سياجاً عظيماً أقامته اليابان حول الصين وبحار الصين، وإن كانت لم تتعرض لطريق روسيا التي انشغلت عن مساعدة شانج كاي تشك بحربها الشعواء مع ألمانيا النازية، وعدا ذلك فقد خشيت طوكيو استفزاز الجنرال الروسي اشترن الذي وقف على أتم استعداد يراقب بعين يقظة جيش إتاجاكي المرابط في منشوكو. . .
كل شيء هادئ في الميدان الشرقي!. . . هكذا يقرر الكثيرون لأن الصحف لم تعد تقدم لهم عنه ما تعودوه من عناوين ضخمة، وهم في ذلك مخطئون. . . فقد ألقت اليابان في أتون المعركة بفرق أخرى جديدة، وأطبقوا على (شنسي) في الشمال، واحتلوا (شكيانج) و (كيانجي) في الجنوب الشرقي فأصبح لهم خط حديدي تام يصل شنغهاي بسنغافورة عبر الهند الصينية وسيام، وهاهم يقاتلون الآن في مقاطعة يُنان حيث ألقى شانج كاي تشك بجنده المختارة على أمل إعادة فتح طريق بورما المشهور، بينما سارع وكيل هيئة أركان حربه الجنرال المسلم (باي تسونج هسي) إلى الشمال للدفاع عن (شنسي). . .
كل شيء هادئ في الميدان الشرقي!. . . نعم إلا إذا استثنينا ذلك الصراع الهائل الذي يخوضه ربع سكان العالم، أربعمائة مليون شخص، في سبيل حريتهم.
كل شيء هادئ. . . ولا جديد هناك! نعم لا جديد سوى أن زهرة الجيش الياباني قد عُقلت(509/30)
وأصبحت عاجزة عن الإقدام على مغامرة جديدة! لا جديد سوى بضع معارك طاحنة في ينان وشنسي وتشكيانج وكيانجسي! لا جديد سوى أن تلك المعارك يتوقف عليها مصير العالم الشرقي بأجمعه!
حسين ذوالفقار صبري(509/31)
ميلاد زهرة
(إلى الطيور النائمة في أعشاشها قبيل فجر الشتاء)
للأستاذ علي محمود طه
(من ديوانه الجديد (زهر وخمر) وهو الآن على وشك
الظهور)
يا شُعراَء الروض أيْنَ البيانْ؟ ... أين أغاريدُ الهوى والحنانْ؟
قد وُلِدت في روضكم زهرةٌ ... يا حُسنها بين الزهور الحَسانْ!
حُلمُ الفراشات، وحُبُّ النَّدى ... وخمرةُ النحل وسحرُ الأوانْ
قد بشَّر الأرض بها مرسلٌ ... مُجنَّحٌ من نسمات الْجِنانْ
والنورُ سرٌّ في ضمير الدُّجَى ... والفجرُ طيفٌ لم يبنْ للعيانْ
أبصرتُها تهفو على غُصنها ... في وحشةِ الليل وصَمْتِ المكانْ
بيضاَء أو حمراء تُزْهَي بها ... عرائسُ النرجس والأقحوانْ
تظلُّ تُصغي، وتظلُّ الرُّبى ... والعشبُ والجدول والشاطئانْ
وليس منكم حولها هاتفٌ ... تكب موسيقاهُ سِحرَ البيانْ
أملَّت النشوةَ أرواحكم! ... أم نَضَبَتْ من خمرهنَّ الدِّنانْ
قُوموا انظروا الظِّلَّ على مهدها ... يرقصُ فيه القمرُ الأُضحيانْ
لو تقدرُ الأنسامُ زفَّتْ لها ... أربِعةَ الفردوسِ في مهرجانْ
وأسمعتْ من خفقِ أنفاسها ... صوتَ البشيرات وشدوَ القيانْ
يا شعراَء الروض كم زهرةٍ ... ميلادُهَا من حَسَنَاتِ الزمانْ
حسبي من الدُّنيا على شدوكم ... زهرٌ وخمرٌ ووجوهٌ حِسانْ
علي محمود طه(509/32)
المنارة الجديدة
للأستاذ خليل شيبوب
(ألقيت في حفلة (تحية الشعر السكندري إلى جامعة فاروق
الأول) التي أقيمت في جمعية الشبان المسيحيين بالإسكندرية
يوم الخميس 25 مارس سنة 1943)
سماء الهدى فيضي ضياَء وجدِّدي ... ضياءك إن القلب بالنور يهتدي
وما زالت الإسكندريةُ مَهْبَطاً ... لوحيكٍ فيها نازلاً أرضَ موعد
أطلي بألوانِ الربيعِ وأطْلِعي ... من الزُّهر فيها فرقداً إثْرَ فرقد
فإن عروسَ الشرقِ أنفاسُها الشذى ... وحُلتُهَا بُرْدُ الشبابِ المُجَدَّد
أنارَ على شطِّ المحيطِ ابتسامُها ... يَرُدُّ إلى الميناء كلَّ مُشَرَّد
وسيانِ سَفْرٌ في الحياةِ مُضلَّلٌ ... وسَفْرٌ على لْجٍ من اليمِّ مُزِبد
أطلَّتْ على التاريخ شمساً تشعبت ... أشِعَّتُها من مصدرٍ فيه أوحد
بعلمٍ وفنٍ كالسناء وكالسنا ... وبأسٍ وعزمٍ كالمُنِيفِ المشيَّد
إذا ما خبتْ تلك المنارةُ واّمَحت ... معابدُ فيها للجمال المخلد
فقد بِقيَت فوق الزمان منارةً ... كما بقيت للحسن أكْبَرَ معبد
وها قد أتاها الدهرُ معتذراً لها ... بجامعةٍ تستلحقُ الأمْسَ بالغدِ
منارةُ فاروقٍ وليدةُ ملكه ... فيا حُسْنَ أنْوَارٍ ويا فَخْرَ مَوْلد
بناها فأعلاها مليكٌ تألفَتْ ... عليه قلوبٌ تصطفيه وتفتدي
وساق إليها صفوةً من رجاله ... جهابذةً أعلامَ فضل وسؤْدد
وفجَّرَ فيها شِرْعةً صولجانهُ ... من العلم مرويَّا بها ظمأُّ الصدى
إذا فرِقُ الوُرَّادِ محشودةٌ بها ... كتائبُ آمالٍ تروح وتغتدي
وشرَّفها لما تقلّدَ مُفْضِلاً ... إجازَتَها مَزْهُوةً بالمقلد
فأبلغها أوج الكمالِ فتيَّةً ... تُباهي بما نالته أقدمَ معهد
أتمَّ على الإسكندريةِ مجدها ... عظيمٌ له تعنو العظائمُ عن يد(509/33)
فعاودَها التاريخُ يفتحُ بَابَهُ ... لها مستعيداً سِيَرةَ المتعوِّد
وهلَّ عليها الفجرُ يلثم ثغرها ... وهبَّ عليها الروضُ بالعَبَقِ النَّدي
وضاحكت الآفاقُ شاطئها على ... مباهج فيها النورُ لحنُ مُغرِّد
فيا شُعلة الفن القديم تجدَّدي ... ويا جذوة الحسنٍ الصميم تَوَقَّدِي
ويا ثغرَها هذي المنارةُ فابتِسمْ ... ويا موجَها هذا الضياءُ فأَنْشِد
خليل شيبوب(509/34)
البريد الأدبي
حول قضية شهرزاد: الأدب والأشخاص
في العدد الفائت من الرسالة أكثر من ثلاث صفحات عن (قضية شهرزاد) للأستاذ (الدريني خشبة). وقضية (شهرزاد) قد أثيرت منذ صدرت (أحلام شهرزاد) وأثيرت في جو أدبي مقيد بهذا الوصف، ولا تزال قابلة لأن تثار في هذه الحدود. ولكنني أسمح لنفسي أن أقول: (إنني شممت في كلمة الأستاذ (رائحة) أخرى!
ففي حدود الأدب الخالص يملك الأستاذ أن يقول عن (أحلام شهرزاد) على لسان فاتنة (إنني أروع لوحات الفن في عالم الأدب المصري الحديث. . .) أو أن يقول: (صورتي الرائعة التي هي ابتكار جديد لم يسبق أحد صاحبي إليه، ولا استطاع أحد أن ينبت في جنة شهرزاد زهرة أينع منها ولا أعبق من شذاها شذى). . . الخ
فهذا حكم أدبي يجد الأستاذ كثيرين يوافقونه عليه، ويجد كذلك كثيرين يخالفونه فيه؛ بل يجد كثيرين يقولون له: إن أحلام شهرزاد بما فيها صورة فاتنة، لا تقاس إلى لوحات الفن التي رسمها الدكتور طه حسين نفسه في كتاب (الأيام) أو في (دعاء الكروان) أو في (الحب الضائع) أو في (أديب) إلى آخر هذه اللوحات التي عاشت طليقة في سماء الفن الرفيع غير مقيدة بأوضاع اجتماعية أو سياسية حياتها محدودة في نطاق من الزمان!
وسواء خالفه الناس أو وافقوه، فهو حكم أدبي خالص لا عليه فيه من جناح!
أما الذي عليه فيه جناح والذي تمنيت وتمنى الناس ألا يكون في لغة النقد الأدبي في هذا الزمان، فهو مثل قول الأستاذ في رأي من يخالف رأي صاحب أحلام شهرزاد عن المرأة إنه (رقاعات)!
أو مثل قوله فيمن يخالفون رأيه هو في أحلام شهرزاد: إنهم (خراصون مرجفون)!
أو مثل قوله في قراء (شهرزاد): (وإذا صح أن يكون الناس قد صاروا نوكى وقعاديد صح أن تؤلف لهم قصة كقصة شهرزاد تهدف بالمرأة إلى هذا الهدف الوضيع الذي يجعل بيوت الناس مواخير فسق وأسواقاً للبغايا).
ومثل هذا كثير في كلمة الأستاذ، بل هو مادة كلمته وقد اختار أن يجعل من (شهرزاد) رمزاً لبناتنا وأخواتنا وأُمهاتنا. واختار أن يجعل مؤلفها قد انتهك أعراضنا وحرماتنا، فلم(509/35)
نثر ولم نسخط، فنحن إذن: (نوكى قعاديد) ونحن إذن (فسول أفيكون مدخولون في عقولنا)
وأعتقد أن هذا وأمثاله لم يعد لغة في النقد في هذا الزمان. فالنقد لم يعد يقبل أن تستثير ضد الرأي الأدبي الذي تخالفه نخوة الدين ونخوة العرض ونخوة الأخلاق، وأن تتهم بلا حساب كل ناقد أدبي يخالف رأيك في نخوته وشرفه ومروءته ونجدته وتحيزته)!
أحسبه أراد أن يقول: إن لكل من مؤلف شهرزاد ومؤلف أحلام شهرزاد رأياً في المرأة يختلف عن رأي الآخر ويؤثر عليه في اتجاهاته الأدبية؛ فتلك قضية كان يمكن أن تؤدي بأعف من هذه الألفاظ وأكرم. ولقد أديتها في مجلة (المقتطف) في حدود أوسع من هذه الحدود، وأديتها واضحة صريحة مفهومة، ولم أجدني محتاجاً إلى كل هذا العناء!
وبعد فالأستاذ يكرر مرة ومرة: (أنه لا يبغي بما كتب أن يرضي أحداً أو أن يغضب أحداً) فأحب أن أطمئن الأستاذ (وهو حديث عهد بالعمل تحت رياسة المستشار الفني) أنني جربت مؤلف (أحلام شهرزاد) في نظرته للنقد الأدبي، وعلمت أنه لا يثير غضبه ولا يستوجب رضاه! والسلام
سيد قطب
هل ذو القرنين هو كورس الفارسي
أخذت في العدد - 507 - على بعض الفضلاء أن ما ذهب إليه في ذي القرنين لا يتفق مع القرآن ولا مع سؤال اليهود، لأنه يرى أن الآيات الواردة في ذي القرنين هي في الحقيقة تاريخ دولة برمتها، وهي دولة الفرس من كورش إلى دارا الثالث، مع أن كلا من سؤال اليهود وتلك الآيات صريح في أن ذا القرنين شخص واحد، لا تاريخ دولة برمتها. وقد عاد هذا الفاضل في العدد - 508 - إلى تأييد رأيه بعد تهذيبه بتأثير ما أخذته عليه، فذهب إلى أن الآيات القرآنية تمثل تاريخ ملك واحد لا دولة برمتها، وإلى أن ذلك الملك هو كورش منشئ الدولة الفارسية، وذلك باطل أيضاً من وجوه.
1 - أن كورش حينما اتجه إلى السكيثين المعروفين الآن بالتتر لقيته الملكة طوميريس بجيوشها، فوقع بينهما حرب شديدة انتهت بأسره وقتله، وهذا لا يتفق مع ما ذكره القرآن عن ذي القرنين حين وصوله إلى بلاد التتر، فهو لم يقتل هناك كما قتل كورش، وإنما بنى(509/36)
سداً ذكر القرآن أنهم لم يستطيعوا أن يظهروه ولم يستطيعوا له نقبا
2 - أن بلاد فارس تقع في جنوب آسيا، فحينما اتجه كورش منها إلى آسيا الصغرى وسوريا كان متجهاً إلى الشمال لا إلى الغرب كما جاء في القرآن عن ذي القرنين، ولا شك أن آسيا الصغرى وسوريا لا يمكن أن يقال عمن يصل إليهما إنه بلغ مغرب الشمس، لأنهما يقعان في قلب المعمور من نصف الكرة القديم، وإنما يمكن أن يقال ذلك فيمن بلغ في فتوحاته أوائل بلاد المغرب على الأقل
3 - أن رؤيا دانيال ليس فيها إلا تمثيل دولة الفرس بكبش ذي قرنين، وتمثيل دولة اليونان بتيس ذي قرن واحد، وكما لا يقتضي تمثيل دولة اليونان بهذا التيس تلقيب ملوكهم بذي القرن الواحد، لا يقتضي تمثيل دولة الفرس بذلك الكبش تلقيب ملوكهم بذي القرنين
أما الاسكندر المقدوني فإنه كان يلقب بذي القرنين كما ذكره كثير من المؤرخين، ويؤيد هذا تلك الدنانير القديمة التي عثر عليها في عصرنا، وقد رسمت فيها صورة الإسكندر وعلى رأسه قرنا أمون. أما فتوحاته فقد اتجه فيها من اليونان إلى آسيا الصغرى، فحارب فيها دارا وهزمه، وسار بعد هذا إلى سوريا فمصر حتى وصل إلى واحة سيوة، وبذلك يمكن أن يقال إنه وصل إلى مغرب الشمس، لأنه وصل بذلك إلى بلاد المغرب، ثم عاد بعد ذلك متجهاً إلى الشرق فقتل دارا وفتح بلاد فارس وما وراءها حتى وصل إلى بلاد الترك، وهذا الفتح يتفق اتجاهه مع اتجاه الفتح المنسوب في القرآن لذي القرنين، وكذلك يتفق الفتحان في نهايتهما غرباً وشرقاً.
أما وثنية ملوك الفرس فهي واضحة وضوح الشمس، وقد كان أسيياج جد كورش لأمه وثنياً، وهو الذي دعا أرباغوس من حاشيته ليحضر ما يقدمه من قربان لآلهته شكراً لهم على سلامة كورش، فقدم لأرباغوس لحم ابنه مطبوخاً فأكله، وقد فعل معه هذا لأنه لم يقتل كورش حين سلمه إليه وليداً وأمره بقتله، وكذلك كان كورش وقمبيز وغيرهما من ملوك فارس، وقد كان بعضهم يؤمن مع ذلك بإله الإسرائيليين، فيكرمهم تبعاً لإيمانه به، ولكن هذا لا ينفي الوثنية عنه، لأنها لا تنتفي إلا بالإيمان بالله وحده.
عبد المتعال الصعيدي
إلى الدكتور زكي مبارك(509/37)
قرأت مقال الدكتور النابغة عن (اللغة العربية في المدارس الثانوية) وقد تحدث فيه عن ضعف التلاميذ في الإنشاء فرجعه إلى المدرس، فهو السبب الأول والآخر والظاهر والباطن، وسرد أسباباً لبابها انصباب الضعف على رأس المدرس، أو من رأسه، أما التلميذ، وأما المفتش، وأما الوزارة، وأما الوسط، وأما المنهج، وأما توزيعه، فليس لكل أولئك أثر من جناية على التلميذ في ضعفه. والسكوت على الاتهام مع القدرة على دحضه فوق أنه ضعف إثبات للتهمة وتزييف للعدالة، لذلك سأرد على ذلك الاتهام لا لتبرئة نفسي وأخي بل لأضع الحق في نصابه.
يرى الدكتور أن السبب الأول: (سيطرة المدرس على لغة التلميذ) وهذه السيطرة هي السبيل الوحيد لتزويده بما يشاء من ألفاظ ومعان يستخدمها فيما يكتب، لأنه لا يزال في أول طريق الكتابة فسنة أو سنتان في التعليم الابتدائي لا تقدر التلميذ على الكتابة المستقلة.
السبب الثاني: (تحكم المدرس في عقل التلميذ)، ويقصد الدكتور بذلك حصر عناصر الموضوع وتسلسلها؛ ومع أن هذا لا عيب فيه، لأن العناصر تستخلص من أفكار التلاميذ وبألسنتهم فتلك الطريقة لا تتبع إلا في السنوات الأولى من التعليم الثانوي، على أن الأساتذة لا يقيدون التلاميذ بالعناصر بل يتركون لهم العنان يفكرون كما يشاءون، ويكتبون ما يشاءون السبب الثالث: (تقديم موضوعات بعيدة عن مدارك التلاميذ وأريد بها الموضوعات الميتة)
في هذا السبب يتجنى الدكتور على كثرة المدرسين إذ هو لم يطلع - من غير شك - على جميع - الموضوعات المختارة وإنما اطلع على قلة ضئيلة لا يمكن إلا أن يكون فيها الحي والميت والحكم القائم على القلة حكم واهي الأساس.
السبب الرابع: (إقبال المدرس على تصحيح الكراريس وفي ذهنه صورة محدودة للاجابات، فهو يهمل كل صورة منحرفة عن تلك الصورة) وذلك تجن ثان أو ثالث - كما يشاء الدكتور - فإن أحداً لم يطلع على ما ارتسم في ذهن المدرس حتى يحكم هذا الحكم، وإن يكن الدكتور أيام تدريسه يسلك تلك الطريق فلا يصح اتخاذه طريقته دليلاً على طرائق غيره.
السبب الخامس: (إغرام بعض المدرسين بالإكثار من التصحيحات إكثاراً يشهد برغبتهم في(509/38)
التفوق والاستعلاء).
وإن يكن الشق الأول مما يزعمه الدكتور صحيحاً فليس فيه ما يعيب المدرس الذي يعني بتقويم العبارة وتحقيق اللغة، أما التفوق والاستعلاء فمعنيان لا يردان في خاطر المدرس لأنه بطبيعة مكانه من التلميذ يستأهلهما. ولا أحسب الإباحية اللغوية التي يدعو إليها الدكتور في كثير من أدبه صراحة حيناً ودوراناً حيناً مقبولة لدى جمهرة الأدباء عامة وعلماء المجمع اللغوي خاصة.
السبب السادس: (الهيام بتجميل الموضوعات بالباطل حيثما وقعت) وقد يكون في هذا شبهة من الحق لو أنه نسب إلى التلميذ وأن الأستاذ يعالجه أنجع العلاج.
أما مراقبة التلاميذ فيما يقرءون فأؤكد للأستاذ الدكتور أنها لا تجدي، ولا يصلح اتخاذ موضوعات الإنشاء مما تثيره تلك القراءات، فجلهم - إن لم أقل كلهم - يقرأ من القصص الوضيع ومن الأدب الرخيص
وبعد فالعذر للأستاذ واضح فما جدوى اثني عشر موضوعاً يكتبها التلميذ ثم لا يجد من الوقت ما يدفعه إلى تعرف أخطائه؟ وأني له الفرصة ليصف لكل تلميذ داءه والفصل يتراوح بين الثلاثين والخمسة والثلاثين؟)
حضرات المفتشين:
وحدوا خططكم، وسددوا توجيهاتكم، ونظموا مناهج لغتكم، وامنحوها من الحظ ما للغة الأجنبية، وأعطونا من الحرية ما يحفزنا إلى الإثمار والإنتاج، ثم تعالوا بعد ذلك فحاسبونا ولومونا إن وجدتم إلى اللوم سبيلاً فلوم المقصر تقويم لا يخشاه الجادون في عملهم البصيرون بواجبهم.
عبد العظيم علي قناوي
المدرس بالقبة الثانوية(509/39)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/40)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/41)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/42)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/43)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/44)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/45)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/46)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/47)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/48)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(509/49)
العدد 510 - بتاريخ: 12 - 04 - 1943(/)
مصر والوحدة العربية
قلنا في افتتاحية السنة الحادية عشرة من حياة الرسالة:
إن الاتحاد العربي على أي صورة يوشك أن يكون مقصداً من مقاصد الحكم في هذا العهد. ولقد قام في سبيل هذا المقصد ما قام منذ تصدع شمل الأمة العربية، من بواثق الاستعباد وعوائق الاستعمار وما تجره سياسة الغزاة من انقطاع الأسباب بين الأخوة، وتشعُّب الآراء بين القادة. فلما تعارضت منافع الأمم المستعمرة، ووثبت النازية تريد استعباد الأمم لأنها بطبيعة عنصرها على زعمها سيدة، وزحفت الفاشية من ورائها تبغي استغلال البلاد لأنها بطبيعة أرضها فقيرة، رأت الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها، أن تستعين فيما تستعينُ على هذا الطغيان الكافر المسلح بقوى العرب المتفرقة؛ فأعلن وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم البريطاني: (أن حكومته تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب لتعزيز وحدتهم الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية؛ ولكن من الجلي أن الخطوة لتحقيق هذا المشروع يجب أن تكون من العرب أنفسهم. والذي أعرفه أنه لم يوضع إلى الآن هذا المشروع الذي سينال استحساناً عاماً)
وبهذا التصريح الرسمي العلني زالت الحوائل السياسية التي كانت فيما مضى تجعل الكلام في الوحدة العربية حُلماً يُرى وشعراً يقال، فإذا تنفس الصبح بالحلم تبدد، وإذا انتهى الشعر إلى الفعل كذب. وكان من غير المعقول أن يرى العالم العربي الخطوب تتواثب على جوانبه، والنوازل تتفاقم في أحشائه، ثم تظل كل دولة من دوله سادرة في مشاعب هواها دون أن تعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل من التجمع والتعاون؛ فما هو إلا أن غامت الآفاق العربية بخطوب الحرب حتى شعرت كل دولة عربية بما تشعر به الشاة الشاردة عن القطيع، فتضاموا من الخوف ليتقي بعضهم ببعض سوء المصير؛ وهبَّ الزعماء المخلصون يقوون ما وهن من صلة الدم ونسب الروح، فسهلوا تزاور الأقرباء، وشجعوا تبادل الآراء، وقرروا توحيد الثقافة. ثم كان من توفيق الله لهذه الوزارة القائمة أن تخطو في سبيل الوحدة العربية هذه الخطوة التي كان ينتظرها وزير الخارجية البريطانية، وأن يسجل صاحب المقام الرفيع رئيسها هذه الخطوة المباركة في مجلس الشيوخ بقوله: (. . . منذ أعلن المستر إيدن تصريحه فكرت فيه طويلاً. ولقد رأيت أن الطريقة المثلى التي(510/1)
يمكن أن توصل إلى غاية مرضية، هي أن تتناول الحكومات العربية هذا الموضوع. وانتهيت من دراستي إلى أنه يحسن بالحكومة المصرية أن تبادر باتخاذ خطوات رسمية في هذا السبيل، فتبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية المختلفة فيما ترمي إليه من آمال، كل منها على حدة؛ ثم تبذل الحكومة المصرية جهودها في التوفيق والتقريب بين آرائها ما استطاعت السبيل إلى ذلك؛ ثم تدعوها جميعاً إلى مصر في اجتماع ودّي لهذا الغرض، حتى يبدأ المسعى للوحدة العربية من وجهة متحدة بالفعل. فإذا ما تم التفاهم أو كاد، وجب أن يعقد في مصر مؤتمر برياسة رئيس الحكومة المصرية لإكمال بحث الموضوع واتخاذ ما يراه من القرارات محققاً للأغراض التي تنشدها الأمم العربية.
(. . . وقد أخذتُ أنفذ هذه الخطة، فوجهت بالفعل إلى رئيس حكومة العراق دعوة رسمية. . . حتى إذا ما وافق فخامته على هذه الخطوات بحثنا رأي العراق في هذا الموضوع من جهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وسأوجه بعد ذلك الدعوة تلو الدعوة إلى الحكومات العربية وأستقصي من مندوبيها واحداً بعد واحد رأيها في الموضوع نفسه. فإذا ما انتهيت من هذه المباحثات التمهيدية ورأيت منها ما يبشر بالنجاح كما أرجو، دعت الحكومة المصرية إلى عقد المؤتمر في مصر. . .)
وبهذا التصريح الرسمي الآخر أصبح السعي للوحدة العربية حقيقة من حقائق السياسة لا خيالاً من أخيلة الشعر، وعملاً رسمياً من أعمال الحكومات لا أملاً وهميَّا من آمال الأفراد.
وظنُّ العروبة بحكامها وأعلامها أن يخلصوا لها السعي والرأي في هذه المحنة العالمية التي عبثت الشياطين فيها بأنظمة الكون، فاختل التوازن، واضطرب العيش، وذل الحق، وأفلس المنطق. ولا جرم أن سلامة العروبة وحريتها في أن تكون يوم يجتمع الناس للصلح القريب أو البعيد، وحدةً سياسية تنتظم دولها جمعاء من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، وجملتها لا تقل عن ثمانين مليون نفس. ذلك لأن الدويلات الضعيفة كان لها فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة. فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حرة آمنة، لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني. فلما نُكس بعض أمم الحضارة وعاودها داء الهمجية الأولى فتحلبت أشداقها على حدود هذه الدول الصغيرة، لم يعد لها عاصم من(510/2)
عدوانها إلا أن ينضم بعضها إلى بعض، ويتقوى بعضها ببعض.
أما نوع هذا الاتحاد فقد كنا اقترحنا في عدد مضى من الرسالة أن يكون على مثال الاتحاد الأمريكي؛ ولكن تحقيق ذلك الاقتراح يقتضي من الوقت والجهد والاستعداد والمرونة ما لا يحتمله الزمن المضطرب ولا تسعه الفرصة العجلى. إذن فلتكن بداية هذا الأمر مثلاً أن تؤلف عصبة من الدول العربية في القاهرة على نحو ما كانت عصبة الأمم في (جنيف) لتقرب المصالح الخاصة، وتوحد المآرب العامة، وتوجه السياسة المشتركة، ثم تستعد للصلح المقبل، وتمهد للاتحاد التام.
على أن في المؤتمر الذي اقترحته مصر ودعت إليه مطالعةً لحال العرب: تُستشف فيه الدخائل، وتُكشف به الحوائل، وتُستنبط له الوسائل؛ فلندع مواضعة الرأي لأولئك الذين ادخرهم الله لهذا المسعى الخطير الذي لم يُتح لأحد بعد محمد؛ ثم لنقف نحن بجانب التاريخ نرصد وننقد ونسجل.
احمد حسن الزيات(510/3)
ظاهرة جديدة في الأزهر
للأستاذ محمد محمد المدني
انتهى العام الدراسي في الأزهر أو كاد، وانصرف الطلاب عن فصولهم إلى المذاكرة والإعداد لمرحلتهم المقبلة، وابتدأ الأساتذة فترة استجمامهم التي ألفوا أن ينعموا بها في كل عام إثر الدراسة وبين يدي الامتحان؛ أما أنا فقد عدت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: عدت من دراسة (علم الأصول) في كلية الشريعة بين طلاب عليّ كرام، أحبهم ويحبونني، وأفهمهم حق الفهم ويفهمونني، وأبثهم نصحي وإرشادي فيستمعون إلى نصحي وإرشادي. غايتهم العلم فهم عنه باحثون، وبغيتهم الحق فهم له مخلصون؛ لم تطرف عيونهم الدنيا، ولم تسد مسامعهم الشهوات. رجعت من هذا الجهاد الأصغر، بل من هذا الجهاد الحبيب إلى النفس الذي نجد فيه معاشر الأساتذة لذتنا، وننشد بالتعب فيه راحتنا، إلى جهاد من نوع آخر قد حف بالمكاره، وأحاطت به الأهوال والصعاب من كل جانب: عدت إلى (الرسالة) الغراء أبثها آلامي وآمالي، وأسجل على صفحاتها آرائي وأفكاري، وأتعرض بذلك لسخط الساخطين، ولوم اللائمين، وكيد الكائدين.
عدت إلى (الرسالة) اخطب على منبرها العالي قوما تناط بهم الآمال في إصلاح هذه الأمة، ويرجى منهم النهوض بما حملهم الله من أمانة حين جعلهم حملة هذه الشريعة
عدت إلى (الرسالة) أنادي قوماً يحسبون صيحاتي لهم صيحات عليهم، فيثقل عليهم نصحي إذا نصحت، ويُحفظ صدورهم نقدي إذا نقدت، وتهيم بهم الظنون في أمري إذا سكت، وتنطلق الوشاة بي من حولهم كما تنطلق الصلال الرقطاء في الرمال البيضاء، ينفثون سمومهم، وينشرون شكوكهم، ويقولون: هذا شاب مغرور بنفسه، متطفل على ما ليس من شأنه. ليس هذا بكاتب يصور قلمه ما يشعر به قلبه، إنما هو فتى يردد ما يسمع أو يعلَّم ما يقول. ليس هذا بناصح أمين، وإنما هو عدو مبين. . . قالات سوء يرجف بها المرجفون، ويمكر بها الماكرون حتى لتطيش منها أحلام ما عهدناها أن تطيش، وتفتر بالهُجر من القول شفاه لم تكن تفتر إلا عن الحكمة والموعظة الحسنة!
فاللهم عونا على هذا الجهاد. أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير!
انتهى العام الدراسي في الأزهر أو كاد. ولسنا ننظر إلى الأزهر كما ننظر إلى أي معهد(510/4)
من معاهد التعليم فحسب، وإنما ننظر إلى الأزهر وينظر المسلمون جميعاً إليه على أنه الحصن الأخير الذي لم يبق سواه لشريعة الإسلام وثقافة الإسلام، فيجب أن نلتفت إليه في كل مناسبة، ويجب أن نهتم به في كل حركة، ويجب أن نتابع أخباره فلا يشغلنا عنها شيء.
وهاهو ذا قد أمضى اليوم عاماً من أعوامه الدراسية، فمن حق كل مسلم أن يعرض تاريخه في هذا العام، وأن يحاسبه على ما قدم أو أخر في شئونه الخاصة والعامة، ومن الحق على الأزهر أن يثبت لهذا العرض، ويصبر على هذا الحساب!
فما هو إذن تاريخ الأزهر في عام؟
لقد مضت قبل هذا العام أعوام كان الناس يتحدثون فيها عن أشياء كثيرة: كانوا يتحدثون عن (جماعة كبار العلماء) وما يرجى من نشاطها للقيام بواجبها. وكانوا يتحدثون عن (برنامج الإصلاح) الذي اقترح لها. وكانوا يتحدثون عن الكتب والمناهج الدراسية وما يرجى من إصلاحها وحسن الانتفاع بها. وكانوا يتحدثون عن المقررات التي يمضي العام ولا يقرأ منها إلا القليل. وكانوا يتحدثون عن نظام (المراقبة العامة) على التعليم العالي ولأي غرض أنشئت. وكانوا يتحدثون عن الفقه الإسلامي وواجب الأزهر في وصله بالحياة العامة وعرضه عرضاً يوافق روح العصر. وكانوا يتحدثون عن نظام التخصص وعيوبه التي ضج منها الطلاب وغير الطلاب. وكانوا يتحدثون عن مجلة الأزهر التي هي لسانه وعنوان ثقافته وأداة الدفاع عنه. وكانوا يتحدثون عن واجب الأزهر في الاتصال النافع بمراكز الثقافة وأندية العلم ولجان التشريع. وكانوا يتحدثون عن مكتبة الأزهر وكنوزها الدفينة التي كاد يأتي عليها البلى بعد أن أتى عليها النسيان. وكانوا يتحدثون عن رسائل الجماعة الموقرة، تلك الرسائل التي تكتب لتختبئ فلا تراها عين ولا تسمع بها أذن!
كانوا يتحدثون عن ذلك كله، وكانوا يتحدثون عن غيره مما لست أذكر الآن، وكانت (الرسالة) سجلاً واعياً لهذه الأحاديث، ولساناً ناطقاً بهذه الآمال، بل كان البرلمان بمجلسيه يتحدث عن بعض ذلك، ويتقدم أعضاؤه فيه بالأسئلة والاستجوابات، وترسل لجانه إلى مشيخة الأزهر بملاحظاتها على التعليم ومستواه، وعن (الأمثلة البادية العوار) التي لا ينبغي أن تبقى ماثلة تتأذى بها العيون. . . الخ. الخ.(510/5)
كان ذلك كله في الأعوام الماضية، وكان أصحاب الرأي والنظر البعيد يعدونه بداءة طيبة للدعوة إلى نهوض الأزهر، فإن الأزهر إذا سمع الناس يتحدثون عنه، ورأى الناس يهتمون به، ووجد بعض أبنائه والمخلصين له يشاركون في هذه الأحاديث، ويلفتونه إلى هذا الاهتمام، لم يلبث أن يفكر في أمره كما يفكر الناس فيه، ويومئذ تجد دعوة الإصلاح من النفوس قبولاً، ومن الآذان إصغاء، فيتعاون على نجاحها الداعون والمدعوون على سواء.
وقد بدت في هذا العام تباشير تلك الخطوة الثانية في سبيل النهوض، وانتقلت أحاديث الإصلاح من ميدان (الرسالة) إلى ميدان آخر هو ميدان الرؤساء والعلماء والطلاب من أبناء الأزهر المخلصين: شعروا بأن الأزهر في حاجة إلى تكاتف الهمم، وتناصر العزائم، ورأوا تيار العلم في الجامعات الحديثة يوشك أن يكتسح الأزهر اكتساحاً، وعلموا أن الأمة قد تنبهت إلى ما تفعله كل طائفة من أبنائها، وأن الدولة قد أصبحت حريصة على أن تجعل دور العلم للعلم فقط، وأن الأزهر حين انحرف عن طريقه العلمي وانغمس في الحركات، وسُخر في سبيل الأهواء والنزعات، غض ذلك من مهابته، وجرأ الأصدقاء قبل الأعداء عليه، وأزال صيانة الذي كان ينبغي أن يبقى له. علم أبناء الأزهر المخلصون ذلك كله، وعلموا أن عليهم واجباً لمعهدهم العظيم ألا يقفوا منه موقفاً سلبياً، والعيون ترمقهم، والألسنة تتحدث عنهم، والأصابع تشير إليهم، فعقدوا العزم على أن يجعلوا من أنفسهم جنوداً للاصلاح، وخداماً مخلصين للأزهر حتى ينهض نهضته، ويسترد في العالم الإسلامي مكانته، ويعود إليه سابق مجده!
عقدوا العزم على أن يخلصوا للأزهر أكثر من إخلاصهم للأشخاص، ووطنوا أنفسهم على أن يكونوا صرحاء في الجهر بالعلة، أقوياء في المطالبة بالعلاج؛ وسرت هذه النزعة الجديدة في نفوسهم جميعاً: سرت في نفوس الشباب الأزهري كما تسري الحياة في الأزاهير الناشئة، وسرت إلى نفوس الشيوخ كما يسري الماء إلى الجذوع المتعطشة، بل سرت إلى الرؤساء المسئولين الذين يلون المناصب الكبرى في المعاهد والكليات، فأصبح هؤلاء جميعاً مؤمنين بها، متلاقين عندها، متناسين كل شيء من خلافاتهم في سبيلها!
ولست أقول هذا الكلام جزافاً، أو توسعاً في الآمال، فإن له لشواهد حاضرة، وآثاراً بادية، ربما تناولتها في مقالاتي الآتية تباعاً. وحسبي اليوم أن أقول للذين كانوا يظنون أن دعوة(510/6)
الإصلاح صرخة في واد، أو نفخة في رماد، وللذين كانوا يؤثرون اطراد الأمور على أي نسق كان ابتغاء الراحة والهدوء، ثم للذين بذروا البذر ولم يتعهدوه حتى ينبت:
إن الإصلاح لا يعرف الرجوع، ولا يعرف الركود. إنه كشعلة من نار يخفضها الخافضون فتأبى إلا ارتفاعاً. إن قوة الإيمان لا تغلب ولا يقاومها إلا مخذول. وإلى اللقاء في حديث بعد هذا الحديث.
محمد محمد المدني(510/7)
كيف نعلم أبناءنا؟
وما الغرض من التعليم؟
للدكتور زكي مبارك
متاعب!
هي المتاعب التي يعانيها من يواجه الحقائق بأساليب صريحة بريئة من الرياء. . . ومن أعجب العجب أن الناس يطالبون الكاتب بأن يحدثهم عن كل شيء، مع أنهم لا يسمحون له بشيء من الصدق إذا تحدث عن أشياء تمسهم من قريب أو من بعيد. وهذه الظاهرة من أسباب ضعف الروح البيانية، ومن أسباب قصور الأدب عن وصف المجتمع الحديث.
إن الأمم المحاربة لم تشغلها الحرب عن التفكير في شؤون التعليم والتثقيف، لأن تلك الأمم عهدت إلى كل طائفة من الطوائف جانباً من جوانب الحياة القومية، فبقي الجندي جنديَّا، والتاجر تاجراً. إلى آخر ما هنالك من الطوائف، وصار لزاماً أن يبقى المعلم معلماً في حدود ما يملك من القُوى النفسية والروحية والعقلية.
ونحن لم نشترك في الحزب من جانبها الدموي - وإن كان أذاها وصل إلى كثير من مرافقنا الحيوية - وهذا الحياد قد استبقى قواها وادّخرها لإنجاز شؤون التعليم في مراحله المختلفات، فمن الواجب أن نبذل جميع الجهود الممكنة في خلق التعليم خلقاً جديداً، بحيث نواجه تقلبات ما بعد الحرب، ونحن على بينة من مطالب العصر الجديد.
قال معالي الهلالي باشا في خطبته بحضرة جلالة الملك يوم افتتاح جامعة فاروق الأول: إن هذه الجامعة هي الجامعة الوحيدة التي أنشئت في العالم كله أيام الحرب
وهذا صحيح، ولكن ما السبب في تفرد مصر بهذه المزية؟
يرجع السبب إلى أن إعفاءنا من الحرب الدموية لم يدعُنا إلى إعفاء أنفسنا من حرب الجهل والجمود، فنحن نقاتل في ميدان هو أصعب ميادين القتال، ونحن نواجه مصاعب تزلزل القلوب والعقول، وهذه محمدة قليلة الأمثال
أكتب هذا وقد تعتَّب ناسٌ وتغضّبوا لأنهم رأوا في المقال الأسبق عبارات في نقد الطرائق المتبعة في تعليم الإنشاء. . . فهل كان يجب أن أقول إن كل شيء على ما يرام، وليس في(510/8)
الإمكان أبدع مما كان؟
الكاتب يحاسب على المجاملات، ولا يطالب بالمجاملات، وأول طائفة خليقة باحترام حرية الرأي هي طائفة المدرسين، لأنهم دعاة الحرية الفكرية، ولأن واجبهم الأول هو خلق اليقظة العقلية، فما يجوز لأحدهم أن يعتب أو يغضب إذا رأى كاتباً يدعوه إلى التفكير في وزن ما درج عليه من طرائق التعليم، عساه ينتقل من حال إلى أحوال في الإفهام والتفهيم والشرح والبيان.
واجب المدرس أن يصغي لكل قول، وأن يحترم كل رأي. واجبه أن يدرك أن كل شيء في تجدد، وأن يفهم جيداً أن للتعليم سياسات تتغير من يوم إلى يوم، وأن التلميذ الواحد قد يساس في درس الأدب بغير ما يساس في درس الإنشاء، وأن التدريس هو في الأصل رياضة مختلفة المسالك والألوان.
وإذا ضاق صدر المدرس بما يقرأ أو يسمع من ضروب النقد، فعند من ننتظر رحابه الصدور ورزانة الأحلام؟
وتأذَّى فلان من أن يقال إن الإنشاء قد يصعب على بعض المفتشين. . . فما عيب هذا القول وفيه شيء من الحق؟
وبماذا نجيب إذا سئلنا عن جهود مفتشي اللغة العربية في خدمة الحياة الأدبية؟
هل يكفي أن يكون الكاتب كاتباً بالقوة لا بالفعل، كما يعبّر علماء المنطق؟
إن المفتشين رُفعوا إلى مراكزهم باسم التفوق في علومهم، فهل نلام إذا دعوناهم إلى زكاة ذلك التفوق؟
مصر غنية بالثروة العلمية، فهل نراها غنية بالثروة البيانية؟
وهل من الحق أن رجال التعليم عندنا أكثروا من الجهاد العلمي والأدبي إكثاراً ليس بعده زيادة لمستزيد؟
كم كتاباً صدر عن رجال التعليم في مدى عشر سنين؟
وما هذا الزهد في البحث والتأليف، الزهد الذي يسمح بأن تنتهي حياة الرجل قبل أن يدين أمته بكتاب جيد؟
إني أخشى أن يضيع زمام الحياة الأدبية من أيدينا إن تركنا الإبداع في الأدب، واكتفينا(510/9)
بوضع الموجزات في القواعد والتطبيق، كما يفعل بعض الزملاء.
صلة المدرس بالحياة
قبل أن أواجه مشكلات التعليم أفصِّل مسألة شغلتني منذ أعوام، وهي مسألة القلق الذي يساور المدرسين من الوجهة المادية، وهو في رأيي قلق يبشر بالخير، ولا ينذر بالشر كما تعوَّد بعض الناس أن يقول.
لو أحصينا مطالب المدرسين لرأيناها في الجملة متصلة بالمطالب المعاشية، فهل يكون في هذه الظاهرة برهان على أننا نواجه عصراً أفضل من العصور الخوالي؟
أنا أقول بذلك، ولا يؤذيني أن أرى مدرساً يرجو أن تنصفه وزارة المعارف ليعيش في رخاء
ولكن هذا الكلام يحتاج إلى شرح، فلنقدم الشرح:
كان التعليم من أعمال الكهَّان والأحبار والرهبان، وحيوات هؤلاء كانت مريحة، لأن الجمهور كان مسئولاً عن تزويدهم بما يشتهون، فلم يكونوا في احتياج إلى مزاولة أعمال المعاش.
يضاف إلى ذلك أن التعاليم التي كان يقدمها أولئك الأقوام إلى الناس كانت ترمي إلى غاية أخروية لا دنيوية، فكان من المعقول أن يعيشوا عيش الزهاد ليفلحوا في أداء رسالتهم الروحية.
أما التعليم في هذه الأيام فله غاية تخالف تلك الغاية، هو تعليم يراد به فهم الحياة الواقعية ليكون أداة من أدوات التملك والاستيلاء
نحن نعلم أبناءنا ليسودوا في دنياهم، ولا نرضى لأبنائنا أن ينتظروا الثواب من المحسنين ولو كانوا في سماحة الأنبياء
نحن نرجو أن تكون يد أبنائنا هي العليا بفضل التعليم الصحيح. نحن نحب لهم أن يتسلحوا بأسلحة العصر الحاضر، عصر النضال والصيال، ونكره أن يذلوا باسم الزهد في الدنيويات
ومن الذي يوحي إليهم تلك المعاني؟
أهو المعلم المترهب الذي ينتظر إفضال المفضلين؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، والمعلم الذليل(510/10)
لا ينشئ تلاميذ أعزاء يجب أن يكون المعلم ابن زمانه بالقول والفعل، وأخلاق هذا الزمان لا تمنح العزة لمن يعيش بفضل الصدقات
كانت غاية المعلمين من الرهبان أن يخلقوا طوائف جديدة من الرهبان، وكان التشرد في أقبح صوره يجد من يسمه بوسم التوكل على الله، فأين نحن من تلك الغاية العجفاء؟ إنها منا بعيد
وإذن يتحتم أن يكون المعلم رجلاً موصول الأواصر بالمنافع الدنيوية، ليوجه تلاميذه إلى المنافع الدنيوية
يتحتم على المعلم أن يدرك ما في الحياة من تعقد واشتباك، ليروض تلاميذه على مغالبة ما في الحياة من تعقد واشتباك
كان المعلم راهباً، وقد بقيت من هذه النزعة بقايا نجدها في بعض البيئات، ولكنها لا توائم العصر بأي حال
يجب أن تُسبق الأبوة الروحية بأبوة حسية. . . ومعنى هذا أني أرى أن المدرس لا يعرف حقوق تلاميذه عليه إلا إن كان له أبناء
المعلم الحق في هذا الزمان هو المعلم الذي يعيش كل العيش، فيكون له مصالح تفرض عليه أن يفهم الاتجاهات المختلفة في هذا الجيل
والعيش على هامش الحياة عيشٌ ضائع، ومن عاش كذلك فليس بأهل لأن يخلق ذوق الحياة في صدور التلاميذ
وأين التلميذ الذي يحترم أستاذاً فقير الجيب؟
الأصل أن تقول لتلميذك: تعلم لتكون في مثل جاه أستاذك؛ والجاه في هذا الزمان يُجرح بأيسر بادرة من بوادر الإفلاس
والأصل أيضاً أن يكون العلم تاج المنافع. . . فإن افتقر العالم فسيكون افتقاره شاهداً على أن قوة العلم هباء في هباء.
وهنا مشكلة تستحق الدرس، وهي تحديد المراد من العلم، فما هو العلم المنشود؟
هو العلم الذي يمنح صاحبه السيطرة على ناصية هذا الزمان
هو علم العصر الحديث، ولو تمثَّل في فهم أساطير الأولين(510/11)
أنا لم أتعود خداع قرائي، وأنا أوصيهم بما أوصي به نفسي، فليسمعوا هذا الكلام إن كانوا لأنفسهم أوفياء
ونحن لا نطالب الدولة بحق الإنصاف، إلا إن أقمنا مئات البراهين على حقنا في الإنصاف
ولن يكون ذلك إلا إذا وثقت بنا الدولة ثقة تغنيها عن تلك الجيوش من المفتشين
إن احتاج المدرس إلى رقابة المفتش فليس بمدرس
والأساس أن تكون المدرسة غزواً روحياً للبيت، فيكون الطفل أستاذاً لأبويه، لأن له أسندة من روحانية أساتذته الفضلاء
والأساس أيضاً أن يُخوَّف التلميذ بسلطان المدرسة عليه، فلا يشكوه أهله حين ينحرف لغير السلطة المدرسية
ومتى يتيسر ذلك؟
أيكون غنى المدرس هو الوسيلة كل الوسيلة إلى السيطرة على التلاميذ؟
وكيف وفي آباء التلاميذ من يكون إيراده أضخم من مرتب وزير المعارف؟
هيبة المدرس ترجع إلى التمكن من المعلم الذي يدرسه التمكن الفائق الذي يشعر التلاميذ بأن أستاذهم من أكابر العلماء
إن استطاع المدرس أن يلقى تلاميذه كل يوم وفي يده كتاب جديد فليفعل. . . وإن استطاع المدرس أن يدل تلاميذه على جميع ما يجدّ من الآراء العلمية والأدبية فليفعل. . . وإن استطاع أن يرشدهم إلى طيبات الحياة الفنية فليفعل.
المهمُّ هو أن يسيطر على تلاميذه سيطرة روحية تصغر بجانبها سيطرة الجاه والمال
وإذا وصل إلى هذه الغاية فلن يضيره أن يقال إنه من الفقراء
وأنا لا أطالب بإنصاف المدرس من الوجهة المادية إلا لأضمن صلاحيته لفهم مطالب الحياة، لأني أعتقد أن الرجل المنسحب من ميدان الحياة لا يصلح لشيء، وأكاد أجزم بأن حب الحياة يزيد في قوة الأخلاق.
المعلم الذي أنشُده لأبناء هذا الجيل هو رجل مزوَّد بمواهب إيجابية لا سلبية، هو رجلٌ يسبق زمنه بأزمان، هو رجلٌ يرجو تلاميذه أن يكون هاديهم إلى صراط الحياة في معناها المنزّه عن الغفلة والجمود.(510/12)
إن وزارة المعارف أنشأت معهداً جديداً هو معهد الدراسات العالية، وبه أرادت أن تزدّد المدرسين بأزواد علمية وأدبية لم يذوقوها من قبل.
فما مصير هذا المعهد؟
إن بقاءه رهينٌ بأحوال المدرسين، وقد قيل إنهم في احتياج إلى مزيد من التثقيف
وأقول: إن من العيب أن نحوج وزارة المعارف إلى أن تُشغل بتثقيفنا بعد أن شببنا عن الطوق منذ زمان
لا يجوز أن نحوج وزارة المعارف إلى شيء من هذا القبيل، وإنما يجب على كل مدرس أن يكون نائياً عن وزير المعارف في أداء الواجبات الوطنية من الوجهة التعليمية.
يجب أن يقترب اليوم الذي يستغني فيه المدرس عن رقابة المفتش.
ولن يقترب ذلك اليوم إلا حين يوجد التلميذ، التلميذ الذي يحب أن يتعلم، التلميذ الذي يقهر المدرس على أن يستعد للدرس كل الاستعداد.
ومتى يوجد ذلك التلميذ؟
متى يوجد التلميذ الذي يخلق المدرس؟
متى يوجد الفتى الذي يعزّ عليه أن تمر أيامه بلا انتفاع؟
سنرى محاولات لبعث الروح المكنون في صدر التلميذ. . . فإلى اللقاء في الأسبوع المقبل وهو قريب.
زكي مبارك(510/13)
على هامش أحلام شهرزاد
3 - قضية اليوم
(القصر المسحور)
للأستاذ دريني خشبة
قالت فاتنة: (أرأيت إذن كيف مسخ صاحب (شهرزاد) تلك الصورة العلوية الفردوسية التي رسمها الكاتب العبقري الأول للمرأة الكاملة التي طبَّت لشهريار وعالجت اعوجاجه؟ وهل رأيت كيف أسلم جميع أبطاله للشيطان، فليس فيهم بطل رشيد!؟
فشهرزاد شهوانية مخادعة هلوك. . . وقمر يفتتن بجسدها البض ويراه في صورة إيزيس وعيني بيدبا الفيلسوف الهندي. . . ثم يقتل نفسه من أجل أنه رآها تخدعه عندما شهد العبد يخرج من مخبئه في مخدعها. . . وشهريار ينسى فحولته بل يتبدل بها فسولة عندما يضبط العبد نفسه في مخدعه فلا يثور ولا يتسخط ولا يفور دمه في رأسه، ولا يأمر برأس العبد ورأس شهرزاد، ولا تعود إليه جبلته القديمة المغرمة بسفك الدماء. . . ولماذا تعود تلك الجبلة وقد كلت حيلته في المرأة عامة، لأن المأساة بعينها تتجدد، ودورة الفلك تبدأ من حيث تعود، وتعود من حيث تبدأ. . . ثم هذا هو الجلاد يبيع سيفه أو يرهنه. . . وأبو ميسور يهذي من كثرة ما دخَّن القنب. . . والعبد يتسور الجدار إلى شهرزاد في فحمة الليل فلا تشبع منه ولا تريد أن تشبع منه. . . فهل رأيت بلاء في قصة كهذا البلاء؟ وهل اجتمعت لقصة عصبة من الأبطال المناكيد كهذه العصبة من الأبطال المناكيد؟
وهل يكفي في الاعتذار عن هذا أن يعترف المؤلف في (القصر المسحور) بقصوره، والتسليم بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويمعن في الجد، لا ليبلغ الكمال، بل ليدنو منه؟ وهل يكفي أن يعترف ببعد الأمد أمامه حتى يصل إلى ترقية فنه وتجديده واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً؟. . . هل يكفي أن يعترف مؤلف شهرزاد بكل ذلك ليكون بمنجاة من النقد الذي يزيف أدبه مهما اعتذر له عميد الأدب العربي وشريكه في القصر المسحور، ومهما دافع عنه بوصف كونه أديباً له أن يبرز أبطاله في الصورة التي يراها، ومهما اعتذر له بوجوب حرية الرأي والدفاع عن(510/14)
حرية الرأي وتقديس حرية الرأي؟! على أن عميد الأدب قد احتاط للأمر، فلم يرسل هذا القول على عواهنه، بل كان حصيفاً حين قال في القصر المسحور (ص17) على لسان شهرزاد: (هو إذن هنا هذا الآثم!! ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد) وحين قال على لسانها أيضاً (ص21): (وسيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد) وحين قال على لسانها ولسان غيرها من أبطال مسرحيته ص57: (. . . كيف أعفو عن هذا الذي اتهمني فيما لا ترضى امرأة حقيرة أن تُتهم فيه.، فكيف بملكة كريمة مثلي متسلطة على القلوب خالدة على الأزمان. وقمر يقسم ما أضمر لمليكه غدراً ولا أدار في خلده شيئاً يستحي أن يظهره. والعبد - وويل لصاحبك من العبد - إنه ثائر فائر، إنه مرغ مزبد. إنه مبرق مرعد. إنه يريد أن يمزق صاحبك بأنيابه وأظافره. إنه لا يطيق التفكير في هذا الرجل الذي جعله صورة بشعة لأبشع ما يتسلط على العقول والأبدان، وهو يغريني ويحرضني، ويريد أن يضرم النار في قلبي، لولا أن قلبي أهدأ من أن تضطرم فيه النار. وهو يسألني كيف أترك الحياة لرجل صورني في هذه الضعة، وجعلني أهبط من أعلى عليين لأكلف بهذا المخلوق البشع الدنيء. . . والساحر يقسم ما سحر، والجلاد يقسم ما باع السيف لينفق ليلة هنية، وأبو ميسور يقسم ما أظلت حانته إثماً قط. . . حتى زاهدة تقسم ما عرفت سراً ولا سألت عنه ولا باحت به ولا اتخذت وسيلة إلى معرفته. . . فكل هؤلاء مغيظ محنق يلح على في أن أنتقم له، وأنتقم لنفسي من صديقك البائس المسكين. . . ومع أني كنت ضيقة به ساخطة عليه حين قرأت كتابه. . . الخ)
أرأيت إذن يا صاحبي كيف كان عميد الأدب العربي حاذقاً أشد الحذق حينما احتاط لنفسه وهو يدفع سخط الناقمين على مؤلف (شهرزاد)، فراح يبعث الطمأنينة على شهرزاد في نفوسهم ويعدهم برد شرف هذه الفتاة، وذلك بما قاله على لسانها في الصفحة السابعة عشرة والصفحة الحادية والعشرين والصفحة السابعة والخمسين من القصر المسحور. . . (ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد!). وسيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد!) إي والله؟. . . ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد. . . وقد بر العميد بما أكد. . . فكتب أحلام شهرزاد، التي يجد فيها صاحبه علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد. . . ولكن لهذا الحديث حينه، فخذ في حديث القصر المسحور.(510/15)
ولكن ماذا في القصر المسحور من أقوال صاحب (شهرزاد) التي تؤكد رأيه في هذه الفتاة التي ظلمها، وفي أبطالها الذين ظلمهم كما ظلمها، والتي تؤكد آراءه المريبة في المرأة خاصة، وفي الناس بوجه عام؟! أقرأ إذن في الصحيفة الحادية عشرة بعد المائة هذا الجزء من الحوار مكتوباً بقلمه:
توفيق - دخلنا منطقة الكلام الفارغ الذي لا تحذقه غير المرأة
طه - (صائحاً): استغفر الله استغفر الله!
شهرزاد - (لطه) دعه! فإن عداوته للمرأة سوف تكلفه ما لا يطيق.
ثم ارجع إلى هذا الحوار لتسمع توفيقاً يقول: (إنه من فصيلة لا تغرد إلا فوق أطلال نعمة ذاهبة وآثار هناء ضائع!)
واقرأ بعد هذا في الصحيفة الثالثة والسبعين بعد المائة:
القاضي - ما أقوالك؟
شهريار - أقوالي: أن هذا قد قذفني بالباطل وافترى عليّ كذباً وزوّر واقعة لم تكن، فقد جعلني دّيوثاً، أدخل على شهرزاد فأجد عندها العبد فلا أقتله ولا أشرب من دمه!
توفيق - (مهتاجاً) كنت تريد أن أجعل منك قاتلاً سفاكاً يشرب الدماء؟ نعم، لقد آذيت وجرمت وأسأت إليك، إذ لم أجعلك كما كنت تريد مخلوقاً سخيفاً
ثم اقرأ في الصحيفة التي تليها هذا الحوار:
قمر - (وقد سأله القاضي عن أقواله) أقوالي يا سيدي القاضي: أن هذا المتهم قذفني وحط من قدري، فلقد جعلني أقتل نفسي من أجل امرأة، في الوقت الذي يخرج فيه العبد من مخدعها وينكشف لي إثمها ودنسها
وبعد. . . فالكلام الفارغ (في نظر توفيق) لا تحذقه غير المرأة. . . وعداوة توفيق للمرأة ستكلفه (باعترافه) ما لا يطيق. . . وتوفيق لا يحسن التغريد إلا فوق أطلال نعمة ذاهبة وآثار هناء ضائع. . . أي أنه رجل مظلم الطبع ذو مزاج سوداوي حالك منقبض متشائم. . . ومن هنا عداوته للمرأة وقلة ثقته بها. . . ومن هنا تجريحه لتلك الصورة التي افتن في خلقها لشهرزاد الخالدة الكاتب العبقري الأول القديم الخالد. . . ثم إن توفيقاً ينطق بنفسه شهرياراً ليشكو مما افترى عليه وزور، حينما جعله ديوثاً - وابحث أنت في المعاجم عن(510/16)
معناها لأن الرسالة أطهر من أن تحمل إليك معناها - وتوفيق مصمم على أن يظل شهريار ديوثاً مهما ثار، فهو يداعبه أمام القاضي بقوله إنه أخطأ إذ لم يجعله قاتلاً سفاكاً، ولو كان القتل في سبيل الشرف الرفيع الذي لا يسلم. . . حتى يراق على جوانبه الدم. . . في رأي المتنبي ورأي شهريار.
قالت فاتنة: فبماذا تملأ يديك من مذهب هذا الرجل إن أنت جمعت ما كتب في (شهرزاد) إلى ما كتب في (القصر المسحور)؟ إطمئن، فإنك تتأبى أن تملأهما بشيء. . . وكيف تملؤهما بما يصر عليه من هذا الحنث العظيم، والإصر الذي ليس وراءه إصر، مما يذيعه في الناس أنه مذهبه، وأنه معتقده، في شهرزاد التي يرمز بها للمرأة في كل زمان ومكان. . .
ومن هنا هذه المباهاة الطويلة العريضة بأنه عدو المرأة الذي لا يعترف لها بعفاف، ولا يأبه أن يُذال لها عرض، لأنها ليس لها عرض؛ والذي يفترض فيها الأنانية المطلقة لأنها لا تفكر إلا في خلاصها ولا يعنيها أن تهلك نساء العالمين ما دامت مستطيعة أن تكون بمنجاة من الهلاك، والتي تخاتل وتخدع وتجعل بيتها مأوى للعبيد الفُتاك الذين لا تشبع منهم ولا تريد أن تشبع منهم، وتؤثر أن يكون عبدها خسيساً غليظاً خشناً وضيعاً لأن هذه كلها مزايا تضاعف - في رأي السيد توفيق - من شهوة شهرزاد كما تضاعف من التذاذها.
لمن يكتب هؤلاء الناس؟!
وفي أي بلد يكتبون؟! وما هي حرية الرأي هذه التي يحض عليها عميد الأدب العربي لحماية هذا اللون الوضيع من ألوان الأدب والتي غلا في الحض عليها والحماسة لها في الصحيفة الثانية والسبعين والصحيفة السابعة بعد المائتين من القصر المسحور؟!
هذا كثير. . . هذا كثير جداً مهما احتفظ العميد لمن شاء أن ينقد هذا الضرب من ضروب الأدب أو ذاك. . . وما جدوى النقد بعد أن يتمكن (سل) هذا الأدب من صدور قرائه؟! وإذا كان عميد الأدب العربي قد أحس هذا الخطر ونبه إليه فكيف كان يرى - وأظنه ما زال يرى - أن النقد الأدبي كاف لتزييف هذا اللون المهلك من ألوان الأدب، الذي إذا قدر له أن ينتشر في بلد - أتى على أخلاق أهله وعرضه للانحلال والاضمحلال. نحن هنا لا نقسو على أحد، فمصر أعز علينا من ألف ألف كاتب، وهي في عصر الحديد والنار، في حاجة(510/17)
إلى أخلاق الحديد والنار، لا إلى الأخلاق المائعة الرخوة التي شاعت قبل الحرب الحاضرة في أوربا التعسة نتيجة للأدب المائع الرخو الذي سمم به الأدباء المنحطون أخلاق ذويهم فسمموا به كل شيء، وقضوا به على كل شيء. ونخشى أن تظن طائفة من القراء أننا نقصد إلى السب أو إلى ما يشبه السب حينما نذكر الأدباء المنحطين - كلا - ليس إلى السب قصدنا - ولكنا مخلصون جد مخلصين في إشفاقنا من أن يشبع الانحطاط في أدبنا الغض الحديث - والانحطاط مذهب من المذاهب الأدبية التي شاعت في أوربا بعد الحرب العظمى، فعصفت بأخلاقها وبدينها، ونشرت في ممالكها روح الرخاة والطراوة والاستهتار. ومن الإملال ضرب الأمثال فما تزال فرنسا بمأساتها الخلقية الدامية تنكأ القلوب لوعة عليها وأسى. وفرنسا هي البلد الذي كان يطلق لحرية الرأي العنان؛ فكان أحد الأدباء المنحطين إذا ضاقت به أرض بريطانيا، ولم تصرح له الحكومة البريطانية بطبع قصته الرخوة ولا ينشرها في المملكة أو في المستعمرات (أي والله في المستعمرات!) انطلق إلى فرنسا (بلد الحرية المطلقة) فطبع فيها كتابه؛ وقد يعيد فيه نظرة ثمة فيزيده رخاوة ويشيع فيه من الفاحشة ما يضمن له الذيوع والانتشار.
نحن نشفق إذن من الانحدار إلى مزالق الأدب المنحط لأننا فقراء إلى أدب القوة، وليس في الدنيا، في الوقت الحاضر، أمة هي أفقر إلى أدب القوة من هذه الأمة التي ذاعت فيها قصة شهرزاد بأبطالها المنحطين جميعاً. وبهذا العبد الأسود الخسيس الوضيع الذي لا تشبع منه شهرزاد ولا تريد أن تشبع منه.
قالت فاتنة: (وأكاد أنزلق بك يا صاحبي إلى الكلام في المذاهب الأدبية، مبعدة عن القصر المسحور. فإذا كان عميد الأدب العربي قد قالها قولة على لسان شهرزاد، هي، ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد. . . و. . . سيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد. . . وقد جاء الوقت الذي بر فيه عميد الأدب العربي بما وعد، فأصدر قصته البارعة (أحلام شهرزاد) نافح فيها عن ذكاء المرأة وسموها وحسن مقاصدها، وجميل حدبها على الإنسانية وعملها المتصل على إسعادها. . . فإذا كان عميد الأدب العربي قد صنع هذا. . . أفيليق أن يتخرص الخراصون ويرجف المرجفون بأنه سرق من الأستاذ توفيق؟ وماذا - لا درّ درهم - سرق؟ إن طه لم ينحدر بالمرأة إلى البؤرة التي انحدر بها صاحبه إليها، بل هو قد(510/18)
ارتفع بها إلى أعلى عليين وهو في هذا كان مخلصاً لرأيه في المرأة حسن العقيدة في عفافها وسموها، وأنها مصدر السعادة في هذه الدنيا. . . فهو في الصحيفة السادسة والستين من القصر المسحور لا يتمنى ملكاً وسلطاناً كما كان المتنبي يتمنى ملكا وسلطانا، ولا يشتهي كما كان يشتهي ثروة وغنى، إنما يتمنى لقاء شهرزاد والاستمتاع بجوارها القريب (وأي ملك يشبه الخضوع لها ويعدل الإذعان لأمرها؟ وأي ثروة تشبه الشعور بأنه قريب منها ليس بينه وبين الغني الذي يمتع القلب والعقل إلا أن يتجه إليها فيسمع منها ويحسن قربها منه) وفي الصحيفة الثامنة والستين يقول هذه القولة المشجية: ثم أشار الفجر بإصبعه الوردية التي أريتها أنت يا سيدتي لضرير اليونان منذ ثلاثين قرناً، فإذا الليل الجاثم ينهزم، وإذا الشمس تقبل فتبسط الضوء والحياة على كل شيء وفي كل نفس - ولكني أظل محروماً ضوء الشمس وحياتها لأنك أنت الشمس والحياة. وفي الصحيفة الثانية والأربعين بعد المائة يقول: ماذا؟ تشكين في قوتك وتنكرين سلطانك وذكاءك، وأنت التي تمنح أمثالنا القوة والسلطان والذكاء؟ وفي الصحيفة الثالثة بعد المائتين يقول على لسانها أيضاً: لا أقف هذا الموقف لأدافع عن نفسي، فلست أعرف لأحد الحق في أن يتهمني بإثم مهما يكن، وأنا الحرية كلها، الحرية التي تشيع النشاط في العقول، وتذيع الحياة في القلوب وتبعث الحرارة في العواطف والمشاعر والأهواء. . .
هذا هو رأي طه في المرأة، وهو رأيه فيها من قديم، وهو رأيه الذي أذاع به في القصر المسحور كما أذاع به في أحلام شهرزاد، وهو ضد ما أذاع به توفيق الحكيم في معظم كتبه، بل في كل كتبه، بل في كل ما كتب. . .
قالت فاتنة: اذكر للناس يا صاحبي إذن أن مشروع أحلام شهرزاد مشروع قديم، وأنه كان وعداً موعوداً في القصر المسحور، وأنه قصد به إلى الدفاع عن المرأة والترفع بها عما وصمها به توفيق. . . فإذا أرجف المرجفون بأن زيداً سرق من عمرو فماذا يملك المرجفون ما داموا لا أحلام لهم، وما داموا يخلطون بين الفردوس وبين الجحيم، وبين الملاك وبين الشيطان الرجيم.
دريني خشبة(510/19)
شاعر الغزل
للأستاذ عباس محمود العقاد
بقلم الأستاذ سيد قطب
يبدو أن العقاد - في هذه الأيام - يهز الشجرة الناضجة هزاً رفيقاً، فتساقط ثمارها في يسر ورخاء. وإنها لشجرة الجهد الموصول، والاطلاع البصير، والتجربة العميقة، قرابة أربعين عاماً من عمر فنان موهوب، لم يكد يراهق حتى بدأ حياته الأدبية في جد واحتفال، وحتى كان الاطلاع عمله الأول، والحياة الفنية وجهته الأصيلة.
وهذا ما يفسر لنا ذلك الخصب في إنتاج السنوات الأخيرة، بل السنة الأخيرة وحدها؛ ففيها أخرج (عبقرية عمر) و (شاعر الغزل)، وهو يتهيأ لإخراج كتاب عن (أبي بكر) في هذه الأيام. فضلاً عن (أعاصير مغرب) ديوانه الغنائي الأخير.
وفي هذه الكتب جميعاً - على تفاوت بينها - يبدو أن الثمار الناضجة تساقط بأيسر جهد، وأن الشجرة متهيئة ما تكاد تلمس حتى تعطي الجني الشهي في رفق ولين!
ظهر كتاب (عبقرية محمد) فقلت: (هذا كتاب العقاد) ثم ظهر كتاب (عبقرية عمر) فقلت: (لا! بل هذا هو كتاب العقاد!) ثم هاأنذا أكاد أعيدها وأنا أقرأ كتابه الصغير (شاعر الغزل) في الشهر الأخير.
إن هذا الكتيب يستقل بإنشاء مدرسة جديدة في النقد الأدبي باللغة العربية. مدرسة لها طريقها ولها قواعدها ولها أدواتها، وكل ذلك في يسر ووضوح يكادان يغريان كل قارئ بأن يسلك الطريق ويتخذ القواعد والأدوات، ويروح ينشئ في النقد الأدبي ما أنشأ العقاد!
لقد قلتها مرة: إن العقاد دارس الشخصيات الأول، حين لاحظت أن أفضل مواهبه تنصرف إلى هذا اللون من الإنتاج، وأن ميزته فيما يدرس أن يعطيك (مفتاح الشخصية) التي يتناولها، تعرف على الفور (من هو) هذا الإنسان الذي يحدثك عنه، وتتبين سماته وملامحه من بين الملايين أو من بين الألوف الذين ينتمي إليهم ويندمج فيهم؛ كما تستطيع أن تجزم بصحة الأخبار والحوادث والأعمال التي تنسب إليه أو عدم صحتها، ولو لم ترد في دراسة العقاد له، لأنك أصبحت تعرفه، وتدرك خصائصه، وتلحظ مزاجه؛ وتعلم ما يمكن أن يأتي أو يدع من الأمور؛ شأنك في هذا شأن الصاحب الذي أطال عشرة صاحبه، فعرف أعمق(510/20)
خوالجه وأدق (لوازمه)!
هذا اللون من الدراسة يستهويني أكثر من السِّير التي تتناول حياة الأشخاص بالسرد، وتجمع حولهم كل المعلومات التي لابست هذه الحياة. ذلك أن اللون الأول يمنحني حياة آدمية نابضة، واللون الثاني يضع بين يدي معلومات في حيز من الزمان والمكان. وكلا اللونين ضروري للتراث الفني، ولكن أولهما آثر عندي لميزته تلك.
وفي كل ما كتب العقاد عن الشخصيات تتضح هذه الميزة، وإنها لتنضج في كتب الدراسة الكاملة أمثال: (ابن الرومي) و (سعد زغلول) و (تذكار جيتي) و (هتلر في الميزان) ثم تبلغ أقصى درجات النضوج في الكتب الثلاثة الأخيرة التي تقدم الحديث عنها حين يجتمع إلى عمق الدراسة وقوة المنطق، ذلك اليسر العجيب وتلك الحركة السريعة في التفكير وفي الأداء على السواء.
و (شاعر الغزل) - على صغره - نموذج كامل لهذا اللون الحي من الدراسة الناضجة؛ ففي خلال ثلاث وأربعين ومائة صفحة فقط من قطع الجيب، ينتفض (عمر بن أبي ربيعة) من بين ركام الأجيال، حيَّا نابضاً شاخصاً بسمته وزيه ومزاجه وفنه؛ وينبعث في حياته على الورق صورة مكتملة لحياته على الأرض؛ حتى ليخيل إليك أنك وشيك أن تلقاه وتصافحه وأن تجلس إليه وتبادله الحديث!
وذلك هو الإبداع! الإبداع الذي يصور (عمر بن أبي ربيعة) في هذا الحيز الصغير، كما لم يصور قط في الأدب العربي كله بلا نزاع.
والعقاد في عملية البعث والإحياء لا يأتي بحادثة واحدة ليست معروفة في سيرة هذا الشاعر، ولا بقصيدة أو بيت أو شطرة لم ترو من قبل له، ولا بخبر من أخباره أو أخبار عصره لم يدون في الكتب المتفرقة؛ ولكنه يصنع من هذه الخامات البسيطة المعروفة مادة أخرى جديدة، ويهيئ منها هيكلاً قائماً للعصر وللبيئة وللشاعر، ثم ينفخ في هذا الهيكل من روحه، فإذا هو خلقة سوية، تحيا وتتنفس كما كانت تحيا وتتنفس من قبل، في هذه الدنيا الفانية!
وإنه ليهمني هنا أن أبرز هذه الحقيقة، فنحن في مستهل نهضة في البحث العلمي والفني. ولكنني لاحظت على الإنتاج الجامعي الحديث بلا استثناء أنه يتجه إلى السرد والجمع(510/21)
والموازنة، ولا يتجه مرة إلى الخلق والتكوين والإحياء، في تصوير العصور والبيئات والشخصيات؛ وتلك ظاهرة خطرة، فإنها تدل على أن عقلية التسجيل والتدوين والجمع هي التي تسيطر على العقلية الجامعية في مصر. وهذا اللون من البحث ضروري كما قلت، ولكنه لا يفي وحده، ولا بد من اللون الآخر الذي يصور الحياة أو يهب الحياة!
وليس هذا اللون عدواً لذاك، وإنهما ليجتمعان عند الاقتضاء، وقد اجتمعا معاً في كتاب (ابن الرومي. حياته من شعره) للعقاد، وفي كتاب ذكرى أبي العلاء للدكتور طه حسين على أفضل ما يكون الاجتماع.
إن طبيعة الشخصية التي يقدمها لي المؤلف ولون مزاجها، وصورة حياتها، لآثر عندي ألف مرة من جميع الحوادث التي وقعت لها، ومن جميع المعلومات التي تتصل بها، وحسبي من الحوادث والمعلومات، ما يكشف لي عن الطبيعة والمزاج، وما أتعرف به إلى هذه الشخصية من بين مئات الشخصيات!
يتحدث العقاد عن عصر (عمر بن أبي ربيعة) فنحس أن الغزل كان وظيفة ملحة في هذا العصر تتطلب العضو الذي يقوم بأدائها، وأنه لم يكن مفر من وجود شاعر غزل يلبي هذه الحاجة، فكان هذا الشاعر هو عمر بن أبي ربيعة في هذا الأوان.
كيف أحسسنا بروح العصر هذا الإحساس الواضح الملح؟ حكاية من هنا ونادرة من هناك، مما هو معروف مذكور، ومما يمر به القارئ بين الكتب مرات، فإذا صورة العصر بارزة واضحة على النحو الذي أراد!
وهنا يقتضيني الإنصاف - وقد ذكرت البحوث الجامعية والعقلية الجامعية بما ذكرت - أن أثبت أن للدكتور طه حسين بحثاً قيماً عن طبيعة العصر الذي عاش فيه عمر بن أبي ربيعة وعن نشأة الغزل وأسبابها في هذا العصر، وعن تلوين هذا الغزل بالألوان التي اصطبغ بها إذ ذاك، في كتاب (حديث الأربعاء)
وفي هذه الفصول التي عقدها الدكتور عن الغزل وعن عمر ابن أبي ربيعة خاصة يلتقي مع الصورة التي رسمها العقاد حيناً ويختلف حيناً، ولكنه يرسم على طريقته صورة مكتملة للعصر وللغزل فيه، هي إحدى الصور التي نتطلبها في الدراسات الأدبية الناضجة.
ثم نعود إلى (شاعر الغزل) فنرى العقاد ينتهي من صورة العصر ومن وظيفة عمر فيه،(510/22)
ومن حدود هذه الوظيفة، وهي التعبير عن طبقة خاصة في العصر لا عن العصر كله على السواء، ليبحث عن طبيعة غزله؛ فهو غزل البدوي المتحضر، غزل الفطرة التي تخلقها الحياة في مكة، وقد فارقتها الحكومة والسلطان، ولم تفارقها الثروة والسراوة.
ثم يدلف إلى الحديث عن طبيعة شعره، فيفرق في وضوح ويسر تكاد تلمسها بين طبيعتين من طبائع شعراء الغزل: طبيعة المحب الذي يتوجه بحبه إلى المرأة الواحدة في الوقت الواحد، و (يفرزها) بحبه من بين جميع النساء. وطبيعة اللاهي الذي يتغزل في الأنثيات، وينصرف همه إلى المناوشة والمعابثة. ويكون عمر من الفريق الثاني حين يكون عروة وكثير وجميل من الفريق الأول. وهو فصل من أمتع فصول الكتاب
هذا المتاع لا يتضمنه ذلك الفصل لأنه يذكر أن طريقة عمر وإخوانه الغزليين غير طريقة عروة وإخوانه العذريين، ولكن لأنه يوضح الفارق الإنساني الحاسم بين طبيعة هؤلاء وطبيعة هؤلاء (لأن علاقة رجل بامرأة واحدة يبقى على حبها زمناً طويلاً أو يبقى على حبها مدى الحياة هي حادث لا يتكرر كل يوم، ولا بد فيه من عامل الشخصية التي تفرز المرأة من سائر النساء، ويصح أن يقال: إن هذه العلاقة (إصابة حب) كسائر الإصابات التي يتعرض لها الإنسان فتطول أو لا تطول، وتصيبه وهو مستعد لها أو تصيبه على غير استعداد؛ فإنما المهم في تمييزها أنها إصابة عارضة وحادث من عوارض الأحداث.
(أما حب الغزل بالنساء عامة فهو مزاج يلازم صاحبه ملازمة الأمزجة للطبائع ولو لم يتصل بنساء معروفات، فهو مخلوق على هذا المزاج كما يخلق الإنسان بلون من الألوان أو صفة من الصفات)
(فالمدرستان مختلفتان أيما اختلاف في مقاييس الشعور ومقاييس الأخلاق، ولا يجمع بينهما إلا تشابه الكلام في ظاهره دون التشابه في الباعث والاتجاه). . . الخ
وأحب أن يعود القارئ هنا إلى ص392 من الجزء الأول من (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين، فسيجد في هذا الموضوع كلاماً آخر تلذ الموازنة بينه وبين هذا الكلام.
ونعود إلى (شاعر الغزل) لنقع على نقطة جديدة كل الجدة لم يطرقها - فيما أذكر - طارق في اللغة العربية لا عن (عمر بن أبي ربيعة) ولا عن سواه. تلك هي النقطة التي يعرض فيها العقاد لبحث عوامل الاتصال بين (عمر) وبين الأنثيات اللواتي كان يناوشهن بالغزل(510/23)
والحديث، وبين أشباه عمر وبين النساء في جميع العصور. فهو يقول:
(وربما رشحه للسبق في هذه الصناعة جانب أنثوي في طبعه يظهر للقارئ من أبياته الكثيرة التي تنم على ولع بكلمات النساء واستمتاع بروايتها والإبداء والإعادة فيها، مما لا يستمرئه الرجل الصارم الرجولة. وأدل من ولعه بكلمات النساء على الجانب الأنثوي في طبعه أنه كان يشبههن في تدليل نفسه وإظهار التمنع لطالباته. . . (ثم يذكر الأمثال)
(ولعل جانب الأنوثة فيه لا يظهر من شيء كما يظهر من تدليل اسمه بين تلقيب وكناية وتسمية كما يعهد في أحاديث النساء؛ فهو تارة أبو الخطاب، وتارة المغيريّ، وتارة عمر الذي لا يخفى كما لا يخفى القمر، وأشباه هذه الأنثويات التي يقارب بها المرأة في المزاج ويسايرها في الحديث)
(إنما تأتي خبرة ظرفاء المجالس من تقارب الإحساس بين المرأة وبين هذه الطائفة من اللاهين والمتغزلين، فهم يحسون كما تحس أو على نحو قريب مما تحس، وهم يشبهونها بعض الشبه فيصدقون في الحكاية عنها، والتحدث بخوالج نفسها. وفرق بعيد بين هذا وبين الرجل الذي يعلم طبع المرأة وهو يخالفها في طبعها، ويستجيش ضمائرها، لأن هذه الضمائر تجاوبه مجاوبة الأنثى للذكر، فيعرف من مجاوبتها كيف تضطرب نفسها وتتقلب هواجسها وخواطرها. هذا يرى أثر الرجل في طبع المرأة فيعرفه، وذاك يعرف ما في طبعها لأن الطبعين غير مختلفين في جملة الشعور). الخ
فهذا كلام جديد، وكلام قيم، وكلام يفتح العين والنفس على ملاحظة مفيدة للملامح والسمات في النفوس الإنسانية الكثيرة التي تصادفنا في الحياة، والنفوس الإنسانية الكثيرة التي نلقاها في صفحات الكتب، لنجد في هذه الملاحظة لذة وأنساً وحياة
وأحب مرة أخرى أن يرجع القارئ هنا إلى الجزء الأول من (حديث الأربعاء) ص394 ليجد في هذا الموضوع كلاماً آخر تلذ الموازنة بينه وبين هذا الكلام.
وينتهي هذا الفصل بحديث عن الصدق الفني: ما معناه وما حدوده، فيبين أوضح بيان أنه شيء آخر غير الصدق الخلفي والصدق التاريخي قد يلتقي معهما وقد لا يلتقي. وأنه في صميمه هو صدق الحكاية عن (المزاج الخاص) الذي لا يتوب عنه صاحبه ولا يملك الانحراف عنه ولو تاب عن دفعاته وملابساته، ولو انحرف عن حكاية الواقع إلى حكاية(510/24)
الخيال.
وفي هذا الفصل يلتقي العقاد والدكتور في بعض المواضع، وإن سار كل منهما على طريقته وطبيعته في النظر إلى الأشياء، وفي الحديث عن هذه الأشياء
ثم ينشئ فصلاً عن صناعة عمر ابن أبي ربيعة فنعلم منه أن عمر كان إمام مدرسة في طريقته، ولكنه لم يكن إماما في صناعته؛ فهو يمثل الطريقة أكمل تمثيل، وإن لم يساعفه حسن الأداء وكمال الأداة (فالأكثر من شعره يبدو عليه الجهد والإعياء في تقويم البيت والوصول به إلى القافية) وليس هو من فحول الصناعة الذين (ربما كثر الرديء في أشعارهم وأربى على الجيد في معظم الأحيان؛ ولكن الإتيان بالرديء غير الإعياء الذي يكشف مدى الطاقة وينم على الفاقة)
وبمثل هذه النصاعة يمضي إلى نهاية الكتاب، فيفرق بين القصة وبين الحوار القصصي الذي عرف به عمر، ويلقى أشعة أخرى على طبيعة المحب وطبيعة المتغزل وعلى الصدق الفني والصدق الخلقي والتاريخي. ثم يتحدث عن ذوق عمر في جمال المرأة، فإذا هذا كله دراسة من أبرع الدراسات النفسية في إطار فني جميل، وإذا هي خلاصات من تجارب العقاد وحياته الفنية وذوقه الإنساني. ثم يعقد فصلاً لنوادر عمر وأخباره، وفصلاً لمختارات من شعره، يشترك كلاهما في تلوين صورة الشاعر وتوضيح سماتها، وإطلاق الأبخرة المناسبة في جوها، حتى تكتمل لها جميع عناصر الحياة!
أحب أن يقرأ الناس هذا الكتاب للعقاد، وأن يقرءوا معه (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين، فسيجدون فيهما طبيعتين وطريقتين: طبيعة التعمق وطبيعة الاستعراض؛ وطريقة التحليل وطريقة التصوير. وسيرون كلا من هاتين الطبيعتين والطريقتين تلازم صاحبها في كل ما يكتب، فهي أصيلة في خلقهما أصالتهما في فنهما، وإن كان لكل منهما وزنه الذي لا يتسع المجال له هنا، بقدر ما أرجو أن يتسع له في كتاب!
سيد قطب(510/25)
ثورة في الأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
(تتمة)
على أنه ما بالكاتب من حاجة إلى الإلحاح في بيان أن هذا الزهد البالغ الذي يدعو إليه مذهب الغزالي ومن نحا نحوه لا يتفق والدين والعقل، وأنه من معوقات الأمة عن النهوض. لا يحتاج الكاتب لشيء من هذا، فإننا شغلنا بالدنيا حتى لا يخطر لنا الزهد فيها على بال، ولكنا في حاجة لبيان أن بعضاً من الفضائل التي دعت إليها تلك المذاهب وأكبرت من شأنها لا تعد اليوم من الفضائل في شيء، بل بعضها انقلب بسوء الفهم والتطبيق إلى رذائل، وصار أحجار عثرة في طريقنا للرقي والنهوض.
وحسبي أن أمثل لهذا بصفة القناعة
لقد اتفقنا منذ عصور طويلة على أن القناعة فضيلة، وقلنا في بيان مكانتها إن القناعة كنز لا يفنى، فكانت العاقبة شراً ووبالاً على الشرق ومنه مصر!
قنع الفلاح بغلة ما ورثه من الأرض فلم يغير - إلا قليلاً - من طرق استغلاله لما يملك، ولم يعمل بجد على تنمية ثروته، قانعاً بما يرزقه الله من دخل لا يزيد عن معيشته معيشة الكفاف!
وقنع الصانع بأجره اليومي الذي لا يرتفع به في حياته إلا قليلاً عن مرتبة الحيوان، فلم نجد من صناعنا إلا خولا وأُجراء لأصحاب الأعمال الغربيين الذين وضعوا أيديهم على أكثر موارد ثرواتنا، والذين استغلوا ما يحيط بنا من صحارى فيها الزيت والحديد والذهب والمعادن الأخرى!
وقنع جمهرة تجارنا بالربح الزهيد الذي يتبلغون به من يوم ومن عام لآخر، فقلّ منهم المغامرون أصحاب المتاجر الضخمة الواسعة!
وإذا تجاوزنا الحياة المادية للحياة المعنوية، وجدنا الحال أمر وأدعى للألم. فقد قنعنا بما ورثنا عن الأسلاف من علم فلم نحاول أن نزيد فيه، بل لم نعمل على تمحيصه! وإنما قنعنا بما وصل إلينا من كتب ومؤلفات، فأقبلنا على دراستها دون أن نجعلها أساساً نبني عليه، حتى صار منا ونحن في القرن الرابع عشر الهجري من يعيش بعقلية القرون الوسطى!(510/26)
كما قنع التلاميذ بالفهم السطحي دون العميق، وبالنجاح في الامتحان دون العمل للعلم لأنه في ذاته حسن وجميل وعامل من أقوى العوامل على المعيشة في عز وكرامة وسعادة! ولا أظنني مبالغاً في شيء من هذا الذي أقول! وإلا فأين ما تخرجه هنا دور الطباعة من المؤلفات في العلوم التي نقرأها ونتدارسها منذ مئات السنين؟ لكم تمنيت أن ناراً تنزل من السماء فتلتهم أكثر ما نملك من أسفار قديمة، على ما فيها من خير كثير ليكون ذهابها حافزاً لنا على الإنتاج في العلم، وعلى التخلص من الآثار الوبيلة لما جره علينا اعتقادنا بأن القناعة من الفضائل! فقد أمات هذا الاعتقاد منا الهمم والعزائم، وكان عاملاً من عوامل التثبيط والركود، وسبباً من أسباب وقوف أولياء أمورنا في السياسة والإدارة والعلم عند حد عدم النزول عن المستوى الموجود الذي يقنعون به، ويقولون في أنفسهم حسبنا أن تسير القافلة فيما رسم لها من طريق قبل أن نلي ما ولينا من أمور هذا البلد!
وأخيراً، لست أدعو بهذه الكلمة إلى أن يكون المرء شرهاً لا يقف عند حد في رغباته، فهذا أيضاً رذيلة كالقناعة بالدون سواء بسواء، إنما أدعو إلى أن نتأسى بالرسول الكريم والصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فنبذل الجهد في طلب كل ما يمكن من خير لأنفسنا وأمتنا، مستغلين في هذا خير استغلال ما وهبنا من قوى مادية ومعنوية في سائر نواحي الحياة، ثم بعد ذلك نقنع بما نصل إليه بعد طرح الكسل وبذل المجهود، ففي هذا خير الدين والوطن والسعادة الخاصة والعامة. هكذا كان صنيع الصحابة الراشدين حين لم يقنعوا بالعيش آمنين في جزيرة العرب، وتعدوها إلى ممالك الروم والفرس ففتحوا منها ما شاء الله، وعاشوا أعزة سعداء، ضاربين لمن أتى بعدهم وللعالم أجمع في هذا أحسن الأمثال. والله يهدي للرشد، ومنه الخير والتوفيق والسداد.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(510/27)
معركة الآزور
للشاعر الإنجليزي ألفريد تنيسون
بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة
تقديم
في عام 1558م توفيت (ماري تيودور) ملكة إنجلترا الكاثوليكية التي كانت زوجاً لفيليب الثاني ملك أسبانيا. وتولت بعدها عرش إنجلترا أختها من قبل أبيها الملكة اليصابات (وهي ابنة هنري الثامن من زوجته آن بولين). وكانت اليصابات تعتنق المذهب البروتستانتي في اعتدال؛ وقد حاولت خلال حكمها إرضاء الكاثوليك والبروتستانت على السواء، فأثارت بذلك حفيظة أسبانيا وفرنسا وغيرهما من الأقطار الكاثوليكية
وزاد في توتر العلاقة بين إنجلترا وأسبانيا عوامل أخرى متعددة: منها رفض الملكة اليصابات التزوج من فيليب الثاني ملك أسبانيا، وقد عرض عليها ذلك عقب وفاة الملكة ماري. . . ومنها ما كان من انحياز إنجلترا إلى ثوار الأراضي المنخفضة ضد أسبانيا، وإيوائها الأغنياء منهم ممن خلصوا إليها عبر القنال بأموالهم وثرواتهم وكل ما تيسر لهم حمله
يضاف إلى ذلك قصة: ماري استيورت ملكة اسكتلندا الكاثوليكية، تلك التي لاذت بإنجلترا عام 1568م عقب ثورة الشعب الاسكتلندي ضدها، فقضت هناك عشرين عاماً شبه أسيرة؛ ثم ظهر من دسائسها ضد الملكة اليصابات، وكانت ماري استيورت وريثتها الشرعية على عرش إنجلترا ما استوجب التخلص منها بالإعدام عام 1587م؛ فقد أثار هذا التصرف ثائرة فيليب الثاني وحفزه للعمل. وكانت قوة إنجلترا البحرية خلال هذه الحوادث المتلاحقة تنمو في اطراد، وقد نشط البحارة الإنجليز في جوب البحار بحثاً عن كنوز الذهب والفضة التي سبقهم إلى اكتشافها الأسبان؛ أو اقتناصاً للسفن الأسبانية العائدة بهذه النفائس من مستعمراتهم في العالم الجديد.
وفي عام 1588م سحق الإنجليز قوة أسبانيا البحرية بتحطيم الأرمادا التي حشدها فيليب الثاني لغزو بلادهم، فرجحت كفتهم في البحار رجحاناً زاد على مدى الأيام ظهوراً(510/28)
وبعد معركة الأرمادا بثلاثة أعوام حدثت موقعة الآزور (أغسطس 1591م) التي سجلت للإنجليز صفحة خالدة من البطولة في عالم البحار.
فقد صارعت فيها سفينة واحدة صغيرة، ثلاثاً وخمسين سفينة إسبانية كاملة العُدة والعدد، في ملحمة استمرت خمس عشرة ساعة لا يعتورها فتور.
وقد أوحى هذا الحادث إلى كتّاب الإنجليز وشعرائهم قديماً وحديثاً، بما لا تستوعبه المجلدات الضخمة من فائق المنثور ورائع المنظوم.
ومن أشهر من كتب في ذلك: السير والتر رالي (1552 - 1618م)؛ وجيمس أنتوني فرويد (1818 - 1894)؛ وروبرت لويس ستيفنسون (1850 - 1894)، ثم شاعر التاج لورد آلفرد تنيسون (1809 - 1892) ونحن نترجم هنا قصيدة هذا الأخير التي نظمها بعنوان (: الانتقام) - وهو اسم السفينة التي أبلت هذا البلاء - مجتزئين بتفاصيل القصيدة الرائعة عن الإفاضة في هذه المقدمة أكثر مما أفضنا؛ معتمدين - في إيضاح بعض الحقائق فقط - على ما أورده الكتّاب الثلاثة الذين أشرنا إليهم، ولا سيما أولهم: والتر رالي، فهو من معاصري السير ريتشارد جرانفيل بطل المعركة، بل هو أحد مواطنيه من إقليم ديفون، وذوي قرابته الأدنين. . .
ترجمة القصيدة
كان السير رتشارد جرانفل مرفئاً بسفينته إلى جُدَّة من جدد شاطئ الفلورز إحدى جزر الخالدات، عندما أقبل زورق ذو مجاديف يهوى من بعيد كأنه الطائر يُزف بجناحيه. وارتفع صوت من داخله يقول: السفن الحربية الأسبانية تمخر العباب. . . لقد رأينا منها ثلاثاً وخمسين!
فهتف لورد توماس هُوارد قائلاً:
ليشهد الله أني لست بالجبان، ولكني لا أستطيع أن ألقاهم على هذه الحال، فأسطولي على غير أهبة، ونصف رجالي قد نهكتهم العلل. حقيقٌ بي أن أعرِّد عن لقائهم ولكن لأقتفي آثارهم في أقرب حين. . . إن لدينا ستا من السفن المقاتلة، فهل نستطيع أن نناجز بها ثلاثاً وخمسين؟
عندئذ تكلم سير رتشارد جرانفيل قائلاً: أعرف أنك لست بالضَّرَع ولا الجبان، وأنك لا(510/29)
تنحاز عنهم لحظة إلا لتعود إليهم من قريب، فتزلزل أقدامهم وتطيش سهامهم. أما أنا فلدي تسعون مريضاً ونيفاً قد استلقوا على الشاطئ القريب يعالجون غصة الداء؛ وسأعد نفسي الجبان، يا سيدي لورد هوارد، إذا أنا تخليت عنهم لهذه الطغمة من أوغاد محاكم التفتيش، وشياطين أسبانيا المتمردين. . .
. . . وهكذا انسحب لورد هوارد بخمس من السفن الحربية في ذلك اليوم، وانطلق موغلاً في اليم حتى ذاب كما تذوب السحابة في صفحة الأفق الغارق في الصمت، المتشح بالدفء والسكون. أما سير رتشارد فقد حمل من الشاطئ رجال سفينته الإعلاء، من مواطنيه أبناء بدفورد في إقليم ديفون. وأضجعهم برفق تام وعناية بالغة فوق الهواجل من قاع السفين، فراحوا يدعون له ويباركونه في ساعات آلامهم الممضة على أن انتاشهم من هذه المحنة، فلم يتركهم فريسة للأسبان يمثلون بهم أشنع التمثيل، ويسومونهم بمعدات نكالهم سوء العذاب.
كان لديه مائة من البحارة لا أكثر، عليهم أن يضطلعوا بإدارة السفينة وتدبير القتال معاً؛ فأقلع مبتعداً عن الفلورز حتى أصبح على مرمى البصر من الأسبان الذين اعترضوا مهب الريح إلى سفينتنا بقصورهم العوائم الفخمة وجواريهم المنشئات كالأعلام. وارتفع صوت منا يقول:
ألا أخبرنا يا سير رتشارد، أنكرّ أم نفِرّ؟. . . إن اشتباكنا في هذا القتال لا يعني غير الهلاك؛ وما نحسب أن سيكون منا في عداد الأحياء إلا القليل عندما تجنح شمس هذا النهار إلى مغربها.
وتحدث سير رتشارد مرة أخرى فقال: نحن جميعاً من أبناء إنجلترا الأنجاد وفتيانها المصاليت؛ فدعونا نسدد الطعن وخضاً إلى هذه الكلاب (الإشبيلية) الخواسيء، أبناء الأبالسة ونسل الشياطين. . .
لا جرم أني حتى اليوم لم أُولِّ الأدبار أمام أحد اثنين: دُونٍ أو شيطان!
نطق السير رتشارد بهذا ثم افتر فمه عن ابتسامة ساخرة. وانفجرنا جميعاً نهتف في صوت مدوٍّ: مرحى، مرحى!. . . وهكذا صمدت (الانتقام) صمد عدوها دون محاشاة، وعلى ظهرها مائة مقاتل، وفي جوفها تسعون مريضاً قد أداءتهم العلل وبرَّحت بهم الأسقام.(510/30)
وانشعب الأسطول الأسباني حول (الانتقام) شطرين راحا يكتنفانها عن يمين وشمال، بينا اندفعت هي في الشقة الضيقة من الماء بينهما لا تلوى على شيء. وشهدنا ألوفاً من جنودهم قد أوفوا علينا من ظهور سفائنهم وهم يضحكون، وألوفاً آخرين من بحارتهم يسخرون من المركب الصغير الذي ركب فيما زعموا متن الغرر، وأقحم نفسه بلقائهم المتالف. وراحت (الانتقام) تندفع وتندفع، وتوغل في تقدمها وتوغل، حتى بجدت في موضعها ما تريم؛ وقد سدت عليها السبيل خليَّتهم الضخمة (سان فيليب) تلك الناهضة كالطود الشامخ، والحاملة جُماءَ ألف من الأطنان وخمسمائة. فقد أوفت علينا بهيكلها الرائع من علٍ مصوِّبة نحونا صفوفاً من المدافع فاغرات الأفواه، وصرفت وجه الريح عن أشرعتنا فوقفنا مُبلسين.
(البقية في العدد القادم)
محمود عزت عرفة(510/31)
من شجو الربيع
أغاني غرام
(إلى. . . . . . . . .)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
أنِينُ اللْيلِ يُشْجيِنِي ... وَنَوْحُ الرِّيح يُبْكيِني
هُناكَ صَدىً يُناَدِينِي ... وَرُوحٌ رَفَّ يَدْعُونِي
أأنتِ هُنا. . .؟ أجِيبِينِي!
جَمَالُكِ ذَلِك الْفَاتِك ... إلهٌ شَعَّ مِنْ ذَاتِك
خُذِينِي بَيْنَ رَاحَاتِكْ ... وَطيِري في سَمَاَوَاتِكْ
وَأفْنِينِي، وَأحْيِينِي!
وَسِحْرُكِ يَسْرقُ الآجَالْ ... وَلوْ يَسْكُنَّ طَيْفَ خَيالْ
شَرِبْتُ بكأْسِه الْقتَّالْ ... شَقَاء العُمرِ والأهْوَالْ
وَأَوْهَامَ الْمَجَانِينِ!
عَبَدْتُكِ فْتَنةً كُبْرَى ... عَشِقتُكِ كَرْمَةً سَكْرَى
رَأيْتُكِ هَاَلةً حَيْرَى ... سَمِعْتُكِ نَغْمَةً حرّى
تَهِيجُ دَمِي، وَتَكْزينِي!
سَعِيرُ دَمِي بِكَفَّيكِ ... تَضَرَّعَ وَالِهاً يَبْكِي
وَجاَء لنورِ عَيْنَيْكِ ... يُذِيبُ مَرَارَة الشَّكِّ
أَذِيِبيهَا. . . أَذِيِبِيِني!
أنا الأَشَواقُ في جَسَدِك ... أنَا الِّنيرَانُ في كَبِدك
أنَا الْمَاضي حَرِيقُ يَدِك ... أنَا الآتِي رَحِيقُ غَدِك
وَجُودكِ سِرُّ تَكْويِني. . .
دَعِي أيَّامَنا تَجْرِي ... بما تَهْوَى مِنَ الأَمْر
فإنَّ الدَّهرَ لا يَدْرِي ... غَرَامَ النَّارِ باَلْجْمرِ(510/32)
فَكَيْفَ بَما تُذِيِقيِني؟!
دَعِيني طَيْرَ جَنَّاتِك=أُسبِّحُ في خَمِيلاتك
وأسْبَحُ في صَباَباتِكْ ... هَوى يَجْري بآهاتِكْ
وَيَفْنَى في الرَّياحينِ!
على شَفَتَيْكِ أنْهَارُ ... مُحَرَّمةٌ، وأثْمَارُ
وَفي عَيْنَيْك أسْرَارُ ... وإبْرِيقٌ، وَخَمَّارُ
فَمَالكِ لا تُرَوِّينِي؟!
لِمَنْ إلا لقْيَثاركْ ... يْوَسوسُ مُوَجُْ أنْهَاركْ؟
أنَا الظَّامي لأنْوَارِكْ ... أنَا الْبَاكِي لأزْهَارِكْ
فَلَيْتَ شَذَاكَ يَطْويِنِي!
عَشْقتُكِ. . . وَالْهَوى غَلاّبْ ... نَشِيداً في دَمي يَنْسَاب
فَصَوتُكِ كانَ هَمْسَ رَبَابْ ... وَكانَ حَفيفَ خَمْرٍ ذَابْ
عَلَى كَبدِي ليُشْجِيني!
وَكَنْتِ كزَنْبَقِ الأَسْحَارْ ... شَذَاهُ يُحيِّرُ الأَسْرارْ
إِذا نَاشَدْتُكِ الأَشْعَارْ ... ضَلَلَتُ، وَضَلَّتِ الأوْتَار
بأَيِّ صَدىً تُناَجِينِي!
وَكَنْتِ كآيةٍ عُلْيَا ... شُغِلْتُ بها عَن الُّدنْيَا
تُطِلُّ بِنَورِهَا وَحْياً ... وَتَنْشرُ سِحْرَهَا رُؤيا
عَن الأَهْوالِ تُلْهيِني!
وَكَنْتِ صَلاةَ أَحْزَاني ... وَكَنْتِ مَتَابَ عِصْيَاني
وَكَنْتِ رَبيِعَ أكْوَاني ... إذا مَا الدَّهرُ أظْمَاني
يُعَاندهُ، وَيَسقِينِي!
وَكَنْتِ الشَّجْو والأحلامْ ... وَكَنْتِ الدَّمْعَ والأَسْقَامْ
وَكَنْتِ مَتَاهَة الأَوْهَامْ ... وَكَنْتِ مَضَّلة الأيَّام
تُحيِّرُني وَتَهْديِني!(510/33)
وَكَنْتِ الَخْمرَ والأقْداحْ ... وَكَنْتِ الَّليْلَ وَالإصْبَاحْ
وَكَنْتِ الصَّمْتَ وَالإفْصَاحْ ... وَكَنْتِ على يديَّ جِرَاحْ
أُقلِّبُها فَتُدمِينِي!
وَكَنْتِ الْمَوْجَ والشُّطآنْ ... وَكَنْتِ الجُرحَ والسُّلوانْ
وَكَنْتِ النَّايَ والأَلْحَانْ ... وَكَنْتِ الذِّكْرَ والنسْيَانْ
عَلَيْكِ الدَّهرُ يَطْوينِي!
وَكَنْتِ شُجُنَ أيَّامي ... وَكَنْتِ جُنُونَ أحْلاَمي
وَكَنْتِ غَديِرَ إلهْامي ... وَكَنْتِ هَديرَ أَنْغَامي
يُفجِّرُني ويُبْلِينِي!
وَكَنْتِ عَيَاهِبَ الآفَاقْ ... وَكَنْتِ تَوَهُّجَ الأعَماقْ
وَكَنْتِ تَمرُّدَ الأشواقْ ... وَكَنْتِ تحيُّرَ الإحْدَاقْ
أدُورُ بِهَا فَتُغْوِينِي!
وَكَنْتِ ضُحىً وإشْراقاً ... وَكَنْتِ هَوىً وَأشَواقاً
وَكَنْتِ سَناً وَإبْرَاقاً ... وَكَنْتِ مُنىً وآفَاقاً
بِنَارِ هَوَاكِ تُغْرينِي!
وَكَنْتِ وَكنْتُ. . . ظِلَّيْنِ ... نُرَفْرِفُ في خَمِيليْنِ
نَعِيشُ بقَلْبِ طِفْلِين ... علَى الدُّنْيَا غَرِيَريْنِ
كاطْيارِ البَسَاتِين. . .
وَدَاَرَتْ بالْهَوى الأْحلاَمْ ... فَعَادَ صَبِاهُ نَعْشَ غَرَامْ
وعُدتُ أنُوحُ بالأَنْغَامْ ... كأنِّي مِنْ يَدِ الأيَّام
طُعِنْتُ بَحِدَّ سكِّينِ!!(510/34)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ سيد قطب
لست أدري يا أخي كيف قرأت شهرزاد وكيف فهمتها؟ ألم تقف قليلاً
عند المنظر الخامس من تلك المسرحية الفاجرة؟ أكبر الظن أنك نسيت
هذا المنظر فارجع إليه لتغير رأيك، ولتعذرني فيما أوردت من الألفاظ
التي تحرجت من إيرادها في صلب المقال نفسه الذي جعلت أنت مادته
من تلك الألفاظ.
يا أخي:
لقد خجلت الرسالة من إثبات ما نقلته من هذا المنظر فحذفته من مقالي وإن تكن قد أوردت منه القليل الذي يغنى عن الكثير، فلماذا فعلت ذلك؟
يا أخي:
هل تذكر (بالضبط) متى أطلق الأستاذ الحكيم على نفسه لقبه الخالد (عدو المرأة)؟ وهل تذكر لماذا راح الأستاذ يباهي بهذا اللقب؟
يا أخي:
متى نصبت من نفسك مرشداً عاما للناقدين فتبصرهم بآداب هذا الفن؟ ومن ألقى في روعك أنك إمام هذه الصناعة في العصر الحاضر؟ وكيف تظلم رجلاً أن يقول إن شهرزاد الأستاذ الحكيم خطر أخلاقي يجب أن يحارب بأقذع مما قلت فيها؟ هل نسيت بهذه السرعة نضالك الرائع عن أدب القوة ممثلاً في شخص الأستاذ العقاد؟
يا أخي:
إن ما أوردت من أنني حديث العهد بالعمل تحت رئاسة المستشار الفني وأنك قديم العهد به هو صغار لم أكن أوثر لك لانزلاق إليه أو الوقوع فيه، لأن جميع القراء فهموا ما أردت أن تكسر عليه قصدك، وتلوى به كلامك. . . على أن قدم عهدك هذا لم ينفعك في ذاك الموقف الذي أدميت فيه كرامة كان الأولى أن تصان، ألا فلتعلم إذن أننا تلاميذ الأستاذ وحواريوه منذ أكثر من ربع قرن من الزمان. . . وأننا كنا نقف من حوله صفاً في زمن الأزمات التي(510/35)
كانت الجن تشفق من مظاهرته فيها فكنا نشرع للذود عنه أقلام الملائكة في أوجه الطغاة. ولولا أن شيئاً مما كتبناه في ذلك لا يصح أن ينشر اليوم، لأن الفتنة نامت، والقلوب صلحت. لأذعته عليك. . ولكنه هنا. . . تحت يدك. . . فإن شئت أطلعتك عليه. . . على أن رأيك في الأستاذ طه رأي فج فطير، وأنا أعرف به منك. وأنا ما كتبت الذي كتبت إلا وأنا عالم بأني مستثير سخطه، بل منته إلى تبرمه. على أنه سواء عندي أسخط أم رضي، فقد أصبحت قضية اليوم قضية الأخلاق وقضية الأدب في وقت معاً. ولما كنت لا أحسن التسلق على أكتاف الأبطال كما تعود أناس آخرون. فسيان عندي إن عملت تحت رئاسة المستشار الفني، أو تحت رئاسة أحد نظار المدارس الأميرية كسابق عهدي. وإن لي لقلماً وإن لي لآثاراً تغنيني عن التشبث بهذه المظاهر الجوفاء، ورغم أنف من رغم.
دريني خشبة
تأييد الاسكندر من السماء عند اليهود
اختلف المؤرخون في ديانة الإسكندر اختلافاً كبيراً، وعندي أن أسوأ تقدير في ديانته لا يمنع أن يكون هو ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم، لأنه بقطع النظر عن ديانته كان فاتحاً عظيماً. وقد ابتدأ به التاريخ عهداً جديداً في سير الفاتحين، فلم تكن فتوحه كفتوح الملوك قبله، إذ كانوا جميعاً يدمرون البلاد، ويهلكون الأمم (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) أما الإسكندر فكان كلما فتح مملكة أسس فيها وجدد، وبنى وشيد، وأوجد وسائل العمران، وأحيا قلوب أهالي البلدان. وكان يرمي بفتوحه إلى غرض عظيم، وهو أن يجعل من شعوب الأرض أمة واحدة لا فرق فيها بين شعب وشعب، وقد ألف بهذا بين الشعوب الأوربية والأسيوية ومزج بعضها ببعض، فتعرف كل فريق روح الآخر في العلم والحكمة والعادات والأخلاق، ونشأ من ذلك حضارة جديدة أرقى من الحضارات التي سبقتها، ومثل هذا يستحق التنويه بقطع النظر عن دولة صاحبه، ولا شيء في أن ينوه القرآن الكريم به.
ومن المهم هنا أن نبين رأي اليهود الذين سألوا عن ذي القرنين في ديانة الإسكندر، فقد ذكروا أنه لما قصد أورشليم لفتحها سار في بعض الطرق فرأى رجلاً بهيَّا لابساً ثياباً(510/36)
بيضاً، وبيده سيف مثل البرق اللامع، وهو يشير به إليه كأنه يريد قتله، ففزع منه وعلم أنه ملاك مرسل من الله تعالى، فسقط على وجهه وسجد، وقال: يا سيدي لماذا تقتل عبدك؟ فقال: لأنك تريد أن تمضي إلى القدس لتهلك كهنة الله وأمته، وأنا الملاك الذي أرسلني الله لنصرتك على الملوك والأمم. فقال الإسكندر: يا سيدي، أغفر لعبدك فقد أخطأت، وإن كنت لا تشاء أن أسير في طريقي فإني أعود إلى بلادي. فقال له: أما وقد استغفرت عن مآثمك فلا ترجع، وإذا وصلت إلى أورشليم ورأيت رجلاً على صورتي، فانزل عن فرسك واسجد له، واقبل جميع ما يأمرك به. فمضى الإسكندر في طريقه إلى أورشليم، ولما وصل إليها قابله كاهنها على صورة ذلك الملاك، فنزل الإسكندر عن فرسه وسجد له وسلم عليه وعظمه؛ وحمل إلى بيت الله مالاً كثيراً، ثم سأل الكاهن أن يتوسل إلى الله فيما عزم عليه من محاربة داريوس ملك الفرس، فقال له: أيها الملك، امض في طريقك فإن الله معك، وهو يظفرك بداريوس ومملكته. وقد سار الإسكندر بعد ذلك في فتوحه إلى أن ملك أقاليم الدنيا السبعة (تاريخ يوسيفوس ص26 - 38)
فالإسكندر عند اليهود كان ملكاً يشبه أن يكون نبياً، وقد جاب الدنيا غرباً وشرقاً حتى ملك أقاليمها السبعة، ولا شك أن هذا يتفق كل الاتفاق مع الشخص الذي ذكره اليهود في سؤالهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويتفق كل الاتفاق مع ما جاء عن ذي القرنين في القرآن الكريم، وهكذا نجد الاتفاق بينهما قريباً على أي وجه فرضناه، ولست أرى بعد ذلك وجهاً لإعادة الكلام فيه.
عبد المتعال الصعيدي
حول ذكرى السيد جمال الدين
أشكر للأستاذ محمود أبو رية ما نوه عني في بريد (الرسالة) بيد أني لا أتفق معه فيما ذهب إليه وسماه رعاية لحرمة الأمانة العلمية. ذلك لأني لست من تلامذة الفيلسوف (جمال الدين) - وليتني كنت منهم - وإنما حز في نفسي أن ينسى الشرقيون عباقرتهم في سرعة مخزية، فذكرتهم علهم يذكرون، وعرضت عليهم صورة قبست خطوطها مما قال عنه معاصروه، ونسيت - وهذا يؤسف حقَّا - أن أذكر المرجع الذي عنه أخذت.(510/37)
محمود شلبي
رواية الأصمعي وحماد لشعر زهير
قرأت في العدد 222 من (الثقافة) كلمة للأستاذ الفاضل (قاف) تحت عنوان: الأدب المنحول؛ أورد خلالها قصة فحواها أن الرشيد سأل حماداً الرواية عن المقصود من قول زهير (دع ذا وعدَّ المدح في هرم)
فاصطنع حماد (بيتين) نسبهما إلى زهير، وزعم أنهما أول قصيدته وأنهما المشار إليهما بقوله: دع ذا. . . الخ
ثم أعاد الرشيد السؤال على الأصمعي للتثبت من صحة قول حماد فأجاب: بل هذا أول مقالة زهير، ولعله كان مشتغلاً بأمر في نفسه أو مع غيره حين بدا له أن ينشئ في مدح هرم؛ فكان أن قال (مبتدئاً غير منقطع مما كان فيه): دع ذا وعد المدح في هرم. إلى آخر ما قال
ونحن نسجل هنا أن الرواية بهذا الوضع دليل على غفلة حماد والأصمعي، وقلة تثبتهما من قصيدة زهير، إذ البيت المذكور وهو بتمامه:
دع ذا وعد المدحَ في هرِم ... خير البُداة وسيدِ الحْضر
يقع الرابع من قصيدة رائية لزهير يقول في مطلعها:
لمن الديار بُقنةِِ الحجر ... أقوينَ من حججٍ ومن شهْر؟
وهذه رواية الأعلم الشنتمريّ (410هـ - 476هـ) وهو أشهر من جمع ديوان زهير وقام على شرحه
على أنه إن صحت إجابة الأصمعي كان معنى ذلك أن الأبيات الثلاثة الأولى - لا بيتين فقط - من نظم حماد الراوية دون زهير
ونحن لا نميل إلى الأخذ بهذا الرأي، لما نلحظه من شدة التواؤم بين الأبيات جميعاً؛ ثم لأن القصة نفسها تشير إلى أن حماداً جُوبه بمقالة الأصمعي فأقر بزلته واعتذر، وأذيع أمر ما كان منه في مربد البصرة، فلم يبق إذن مجال لرواج كذبته ونفاق أبياته المصطنعة على رواة شعر زهير وشارحي ديوانه ممن جاءوا بعد ذلك.(510/38)
(جرجا)
محمود عزت عرفة
انصفوا المعلم الإلزامي
الأستاذ الجامعي مسئول عن كل ما يقول لأنه موضع الالتفات في كل ما يقول. ومن ثم فلا بد لنا من الرد على قولة نحمد الله على أنها لم تك مدعمة بالأسانيد ولم تك صادرة عمن لابس التعليم الإلزامي وسبر أغواره. . .
فلقد راعنا حقاً أن يقوم في محاضرة عامة الأستاذ توفيق الطويل مدرس الفلسفة بجامعة فاروق فيطلق حكماً غريباً جريئاً على التعليم الإلزامي إذ يقول: (إن التعليم الإلزامي يجب أن يلغى فما له من نفع ولا فائدة. . .) لا. لا يا سيدي الأستاذ فما بمثل هذه الأحكام المرسلة تعالج مشكلة التعليم الإلزامي
ولقد والله شهدت للتعليم الإلزامي تلك الأزاهير اليانعة من أطفال النيل التي فتحتها يد السحر من التعليم الإلزامي فانتقلت من الظلام إلى النور، فما من طفل في الريف إلا وهو يقرأ أو يكتب. . . وما نريد ممن يقيده الفقر عن إتمام أقل مراحل التعليم سوى أن يحسن القراءة والكتابة حتى يخلص من مشاكل الجهل بهما
وثمة ناحية أخرى يا سيدي وهي أن للمعلم الإلزامي فضلاً آخر يتمثل في صورة القدوة الحسنة في روعة النظافة ودقة النظام. وإننا لنحمد الله على أن أكابر كتابنا الاجتماعيين وخاصة في (الرسالة) التفتوا إلى فضل المعلم الإلزامي؛ فقد كتب الأستاذ الكبير الزيات مقالاً صادقاً جعل فيه المعلم الإلزامي (جندياً مجهولاً) كما شهر الأستاذ الفاضل العقاد قلمه مدافعاً عنه.
وبعد فما نظن أن هناك من ينكر فضل هذا الجندي المجهول ممن يقيمون الأحكام على أسس من الاختبار والاستقراء.
حسين محمود البشبيشي(510/39)
العدد 511 - بتاريخ: 19 - 04 - 1943(/)
القراءة في زمن الحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
هل للإقبال على القراءة في ومن الحرب أسباب حقيقية؟ وإن كانت لها أسباب حقيقية فما هي؟ وكيف يستفاد من هذا الإقبال خير فائدة؟
تلك بعض الأسئلة التي استخلصتها من خطاب مطول في هذا الموضوع، وأحسبه من أحق الموضوعات بالدراسة في الوقت الحاضر، لأنه موضوع القراءة الذي تنطوي فيه سائر الدراسات
فأما أن الإقبال على القراءة له أسباب حقيقية فذلك ما ليس فيه شك ولا يحتاج إلى بينة
إذ كل شيء حاصل فله لا محالة أسبابه الحقيقية، وألا لم يحصل ولم يكن له وجود، وإنما يجوز الخلاف في دوام هذه الأسباب وزوالها، أو في قوتها وضعفها، أو في خلوصها وما قد يشوبها من العوارض الغريبة عنها
فأما أنها حقيقية فذلك أمر لا محل فيه لخلاف
والأسباب التي تدعو إلى الإقبال على القراءة في هذه الفترة كثيرة لا تنحصر في ناحية واحدة، وقد تنحصر في جملة الأسباب التالية
فمنها أن البريد الأوربي لا يحمل إلى مصر كل ما كان يحمله إليها من الكتب والصحف والمجلات من معظم البلدان
فقد كان يرد إلى مصر بريد حافل بهذه المطبوعات في كل أسبوع، وكان له قراء مثابرون على مطالعته كلما وصلت رسالة من رسالاته. فانقطع بعض الذي كان يصل من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا، وقل وصول بعض الذي كان يصل من إنجلترا وأمريكا، وتحول قراؤه إلى مراجع أخرى يشغلون بها وقت القراءة، ومعظمها من المراجع العربية الحديثة أو القديمة
ومن تلك الأسباب أن الصحف اليومية كانت منها صحف تصدر في أربع وعشرين صفحة أو عشرين، وصحف تصدر في ست عشرة صفحة ولا تقل عنها، وكانت إلى جانبها صحف أسبوعية تصدر في أربعين صفحة وتزيد عليها في بعض الأسابيع
فنقص كل ذلك نقصاناً بيناً بغير تدريج طويل، وأصبح الحد الأقصى للصحيفة اليومية في(511/1)
أكثر الأيام أربع صفحات، وعم النقص سائر الصحف والمجلات فأوشكت أن تصدر في ثلث عدد صفحاتها قبل الحرب الحاضرة
وكل هذا النقص تقابله زيادة في وقت القراءة عند من تعودوا مطالعة الصحف والمجلات في حجمها الأول، ولابد لهذا الوقت من شاغل يناسبه ويجري في مجراه
وإلى جانب النقص في الصفحات ألف الناس الأخبار التي لا يعرض لها كثير من التنويع والمفاجأة، وندرت المناقشات السياسية الق يشتد فيها الجذب والدفع والتأييد والتفنيد، وينشط القراء إلى متابعتها بحماسة التشيع تارة إلى هذا وتارة إلى ذاك، فأصاب القراء شيء من الفتور إلى جانب النقص في المادة المقروءة لو أنهم نشطوا إليها.
ومع هذا كله كثر الوقت الذي يتسع للقراءة لانصراف الناس عن السهر في خارج البيوت، إما لتقييد الإضاءة أو لقلة الجديد في دور الصور المتحركة ودور التمثيل
ومع هذا وذاك كثرت النقود بين الأيدي وتيسر شراء الكتب يالأثمان التي أوجبها غلاء الورق وغلاء تكاليف الطباعة، وقال الخبراء بشئون الاقتصاد إن كثرة النقود في الآونة الحاضرة دليل على رخاء صحيح وليست من عوارض التضخم التي تنشأ أحياناً من شيوع العملة الورقية؛ إذ الناس يبيعون محصولاتهم وتبقى معهم أثمانها في داخل البلاد، خلافا لما كان يحدث قبل سنوات من تصريف هذه الأثمان إلى خارج القطر بالسفر أو باستجلاب البضائع الأجنبية. فهذه الأثمان المحفوظة في البلاد وهي ثروة حقيقية مكسوبة من موارد حقيقة وليست بالثروة المصطنعة التي تنشأ من شيوع الورق النقدي بغير مقابل معروف
وخلاصة ما تقدم أن الإقبال على قراءة الكتب العربية يرجع إلى تحول بعض القراء من مادة إلى مادة، وإلى اتساع وقت القراءة، وإلى تيسير الشراء، ويدوم ما دام هذه الأسباب
فإذا ضعفت طاقة الشراء، أو ضاق وقت القراءة، أو توافرت المادة الأولى التي كانت متوافرة قبل سنوات، فقد يتغير هذا الإقبال، وقد تثوب الحال إلى ما كانت عليه من قبل، أو تتمخض عن حال جديد لم نعهده حتى الآن
هذا الحال الجديد الذي لم نعهده حتى الآن قد يأتي من ناحية واحدة معلقة على تيسير الورق وتيسير الطباعة
فإذا تيسر الورق وتيسرت الطباعة بقية أيام الحرب ثبت في البلاد العربية عادة يصعب(511/2)
تغييرها، وإن عاد البريد الأوربي إلى نظامه السابق وعادت الصحف الأوربية والأسبوعية إلى نطاقها الأول:
تلك عادة القراءة في الكتب وحسبانها في حاجات الحياة العصرية ومطالب المجتمع المهذب، فإنها عادة قد تتأصل في مصر كما تأصلت في البلدان الأوربية على كثرة الصحف فيها واتساع صفحاتها وتنوع موضوعاتها
ويزيد هذه العادة تمكيناً أن يتيسر ورق الطباعة من مصانع وطنية توالي مصر وبلاد الشرق القريب بما هي في حاجة إليه؛ فإن رخص الورق يغري بطبع الكتب الرخيصة التي تقبل عليها جميع الطبقات، ولا سيما إذا اجتمع لها إغراء الرخص وإغراء الموضوعات
أما الاستفادة من الإقبال على القراءة في زمن الحرب خير فائدة مستطاعة فذلك موقوف على معنى الفائدة التي نرمي إليها
فإن كانت فائدة الريح فسبيلها أن تعطي (جمهور القراء) ما يشتهيه من الموضوعات التي يحسبها جديرة بالقراءة قيمة بالفائدة
وإن كانت فائدة الثقافة فسبيلها أن تعطي جمهور القراء ما هو في الواقع محتاج إلى علمه، وإن لم يخطر له ذلك
ومما لا شك فيه أن جمهور القراء يحتاج إلى كثير، وإن كثيراً مما يقرأه لا حاجة به ولا غناء فيه، وإن الوقت قد حان لتزويده بما يحتاج إلى عرفانه من أحوال العالم اليوم وأحوال العالم بعد نهاية الحرب، إلى زمن طويل
فبين الموضوعات التي كانت مهملة أكبر إهمال يعاب على أبناء الحضارة في العصر الحاضر، موضوع المشاكل الاجتماعية والسياسية في قارة أوربا، وفي البلاد الغربية على الإجمال
فقلَّ جداً في مصر وبلاد الشرق القريب من كان يتابع هذا الموضوع ويعرف ما ينبغي عرفانه من أطوار الفكر وصراع الدخائل الاجتماعية في كل أمة من الأمم وارتباط ذلك جميعه بمقاصد الحكومات ومقاصد الزعماء الذين يقبضون على أعنة تلك الحكومات أو على أعنة الهيئات السياسية(511/3)
فكم من المصريين المثقفين - ولا نقول الجهلاء - كان يعرف ما ينبغي أن يعرف عن مسألة (التقسيم الجديد) في الولايات المتحدة؟
وكم منهم كان يعلم حقيقة العناصر التي أيدت هتلر في ميدان السياسة الألمانية؟ أو حقيقة العناصر التي أيدت فرانكو في ميدان السياسة الإسبانية؟ أو حقيقة الخلاف بين ستالين وتورتسكي وما يتصل به من خطط روسيا وعلاقتها بالشرقين الأقصى والأدنى؟
كم منهم يعلم ما وراء البضائع اليابانية المنشورة في أسواقنا من حبائل الاستعمار ومطامع الاستغلال؟
كم منهم كان يعرف زعماء الأمم على ما فرطوا عليه فيعرف ما يصنعونه وما يريدونه خليقاً أن يصنعوه أو يريدوه؟
إن الذين عرفوا ذلك لجد قليلين
وإن الذي أصابنا من جهل ذلك لجد عظيم
لأننا أخذنا بالحرب ولما نتبين من تياراتها كيف تتجه سفينة النجاة، وكيف تهب رياح الأخطار
فإذا أحببنا ألا تفاجئنا السلم مثل هذه المفاجأة، فعلى الذين بأيديهم أمر القراءة والطباعة أن يملئوا الأذهان بالمعارف والمعلومات التي تغني في استطلاع الأحوال والمقاصد بعد الحرب الحاضرة، إلى زمن طويل
ما الذي تريده هذه الأمة أو تلك؟
ما الذي يريده هذا الزعيم أو ذاك؟
وما الذي يخلص فيه؟ وما الذي يماذق فيه؟ وما الذي تواتيه عليه الأسباب الحاضرة؟ وما الذي يخشى أن يعرقله من الأسباب المنظورة؟
بعض ذلك غيب لا سبيل إلى استطلاعه
وبعض ذلك عيان مشهود أو في حكم العيان المشهود، من أخبار الأمم ودراسات المفكرين، وسوابق التاريخ، وضرورات الاجتماع و (الاقتصاد)
ولا يزال في الوقت متسع لاستدراك ما فات، ولا يزال الباب مفتوحاً لمن يلج فيه، ولا تزال الحاجة كل يوم في إلحاح ومزيد من الإلحاح(511/4)
ومهما يكن من قصر الوقت الباقي من زمن الحرب، فانقضاء هذا الوقت في معرفة الحقائق والتأهب للطوارق خير من قضائه في الإهمال والتسويف، وليكن إقبال الناس على القراءة حافزاً لمن يعنيهم أن يقرءوا ما يصلح للفهم في كل زمن وما يصلح للفهم في الزمن الأخير من الحرب على التخصيص. وليس الكتاب وحدهم أصحاب الشأن في الكتابة لأنهم لا يملكون زمام الأمر إلا قليل. فلو كنا على ما نود من توافر الأداة الثقافية لنهض بالأمر جمع قادر أولو جاه ومال يقررون الموضوعات ويوزعون الأبواب وينفقون على ثقة من الكسب وعلى توقع للخسارة في وقت واحد، أو يراوحون بين ما يربح وما يحمل الخسارة، فلا يهمهم أن يربحوا من كل شيء ما داموا لا يخسرون من كل شيء
إننا لقادرون على ذلك لو أردناه
وإننا لمريدوه لو أدركنا دواعيه، وأدركنا عقباه
فهل ندركها؟
إن قلنا: (فيها قولان) وكفى، فنحن متفائلون.
عباس محمود العقاد(511/5)
روحانية الحياة المدرسية
للدكتور زكي مبارك
مهنة التعليم توحي إلى النفس طمأنينة لا توحيها أية مهنة، لأن التعليم يقوم على أساس من شرف الغرض لا يعادله أي أساس. والإحصائيات تثبت أن المعلمين أقل الناس تعرضاً للآفات النفسية، بسبب تلك الطمأنينة الروحية. . . وبرغم كثرة التشكي من الغبن الذي يلاحق مهنة التعليم فإن حال المعلمين في مصر من أحسن الأحوال، فأكثرهم بحمد الله صاروا من المياسير، ولعلهم الطائفة الوحيدة التي أعفاها الله من التعطل في هذا الزمان
والمتأمل يلاحظ أن الله يبارك في أعمار المعلمين وفي أرزاقهم بقدر ما يضمرون من الإخلاص، وبقدر ما يقاسون من العناء، لأنها مهنة لا يستريح فيها غير من يرحب بالشقاء، إن جاز أن يكون مع الإخلاص في هذه المهنة شقاء
والآفة التي تكدر حيوات المعلمين هي آفة الأسلوب القديم في الترقيات؛ فترقية المدرس بمدرسة ابتدائية هي نقله إلى مدرسة ثانوية، وترقية المدرس بمدرسة ثانوية هي نقله إلى مدرسة عالية أو نقله إلى التفتيش
وكنا أرجو أن يكون الأمر بالعكس. كنت أرجو أن تكون المدرسة الابتدائية هي المكان المختار لأكابر المدرسين، ليستطيعوا خلق الروحانية في الحياة المدرسية، وليكون ذلك شاهداً على الإيمان بقدسية التعليم
المبتدئ هو الذي يحتاج إلى المدرس الكبير العقل والروح، المدرس الذي صقلته التجارب وراضته على فهم الغرائز والنفوس
والتلاميذ في المدارس الابتدائية يحتاجون إلى رياضة روحية يقوم بها مدرسون روحيون، وهم الذين صاروا في حكم الآباء، ليكون انتقال التلميذ من البيت إلى المدرسة انتقالاً من رعاية أبوية إلى رعاية روحية
والحق أن المدرسة الابتدائية هي الأساس، فإن استطعنا أن نخلق في تلاميذها الشوق إلى الحياة العلمية فسيقل خوفنا عليهم حين يتحولون إلى المدارس الثانوية
والحق أيضاً أن العُرف الذي قضى بأن يكون المدرس في الثانويات أعلى من المدرس في الإبتدائيات قد زعزع قدسية التدريس(511/6)
يضاف إلى هذا أننا أوجبنا أن تتأثر الترقيات بتلك الاعتبارات؛ فالمدرس في الثانوي مرتبه أكبر من المدرس في الابتدائي، وكان ذلك لأن المدرس يبدأ عمله في المدارس الابتدائية، ثم يتحول إلى المدارس الثانوية بعد أعوام قصار أو طوال
وليس عندي من الاقتراحات ما يصلح لتغيير هذا المنهاج، فقد فكرت كثيراً في حل هذه المشكلة، ولكني لم أصل إلى شيء، فهل أستطيع القول بتحويل بعض مدرسي التعليم الثانوي إلى التعليم الابتدائي؟
وهل أستطيع القول برد جماعة من المفتشين إلى التدريس طائعين لا كارهين؟
إن مهنتنا لن ترتفع إلا إذا رحب بها كبراؤنا، ولو دعوناهم إلى التعليم بالمدارس الأولية، وهي النواة الأصلية للتعليم والتثقيف
الطفل في مدارسنا يتيم، لأننا نبخل عليه بأكابر المدرسين
قلت مثل هذا الكلام منذ أعوام في مجلة الرسالة فسخر منه سعادة الأستاذ عوض بك إبراهيم، وأشار إلى أحد مريديه أن يكتب كلمة في جريدة الدستور يقول فيها: إن وزارة المعارف عملت باقتراحي فعينتني رئيساً للمدرسة الأولية بقصر الشوق!
وأين من يعرف أني أعتقد أن الذي فاتني في الحياة التعليمية هو أن أكون رئيساً لمدرسة أولية؟
لو سمحت الظروف بأن أكون مربياً لمائة طفل لرجوت أن أخلق منهم أشبالاً يكونون في طليعة الجيل الجديد
ما هذا التعالي الذي لا يليق بمهنتنا العالية؟
المدرس جنديُّ أمين، والجندي الأمين لا يقف إلا في مظان الحتوف. . . وتعليم الأطفال متعبة لا يضطلع بها غير كبار الرجال
المهم هو النص على تنزيه مهنتنا من الظواهر الخوادع، فلا يكون فيها فاضل ولا مفضول إلا بمقدار التفاوت في الإخلاص
المعلم في المدرسة الأولية يستطيع مساماة الأستاذ بالجامعة إن صدق من الوجهة المعنوية. وهو لصدقة سينسى فروق الرواتب، لأن أساتذة الجامعة لا يصلون إلى مناصبهم إلا بعد جهود لا يستطيعها غير أفراد، فمن حقهم أن يمتازوا برواتب تعينهم على متابعة ما يجد من(511/7)
التراجم والتأليف، وعلى مسايرة حيوات العلوم والآداب والفنون
المعلم في مدرسة أولية يقيم بيته وهو في صباه، أما الأستاذ بالجامعة فلا يقيم بيته إلا بعد أن يكتهل، فعلينا أن نعترف بأن من واجب الدولة أن تراعي حقه في الجهود التي بذلها من شبابه ومن أمواله ليصلح للحياة الجامعية
وخلاصة القول أني أرى روحانية المدرسة تتبع روحانية المدرس، وأرى أن نلتفت إلى المدارس الابتدائية بأكثر مما نصنع، كأن نختصها بأكابر المدرسين، وكأن نغير النظرة المألوفة إلى طبقات المدرسين، بحيث لا يكون طول الثواء بالمدرسة الابتدائية مانعاً من أن يظفر المدرس بمثل نصيب زميله في المدرسة الثانوية من الدرجات والترقيات
ويوم يكون من حق المدرس أن يفتخر بأن وزارة المعارف رأت أن يقضي حياته كلها في التعليم الابتدائي لمزايا تعليمية يكون من حقنا أن نطمئن إلى سيادة الروحية في الحياة المدرسية
أقول هذا وأنا أعرف أني أطلب غرضاً لا يتحقق إلا بعد رياضات نفسية تحتاج إلى آماد؛ فالمدرسون في جميع بقاع الأرض يريدون الفرار من المدارس الأولية والابتدائية، ولا يرضى الرجل منهم عن حاله إلا إذا صار إلى التعليم الثانوي ثم العالي. وهذه نزعة تأخذ وقودها من هوى النفس، وليس لها في نظر التعليم سناد.
أترك هذا وأنتقل إلى مسألة ثانية، هي صلة التلميذ بالمدرسة، الصلة التي توجب أن يحبها أصدق الحب، على نحو ما كان التلاميذ في بعض العهود الماضية
والواقع أن تلميذ اليوم تجتذبه قُوىً خارجية لم يعرفها التلاميذ من قبل. . . وهل ننسى أن المساجد كانت قبل عشرين سنة ملتقى التلاميذ في أوقات المراجعات؟ فأين نحن من ذلك الحال الجميل؟
لا بد من جهاد لجذب التلميذ إلى المدرسة، بحيث يحبها حب العقل، وهو أصدق الحب
يجب أن نصل إلى إقناع التلميذ بأن روح المدرسة هو الروح الصديق، وأن أوقاته في رحابها هي أوقات الصفاء
في كلام القدماء: فلان علمه أكبر من عقله، وفلان عقله أكبر من علمه، فما معنى ذلك؟
معناه أن ملكة الفهم تختلف عن ملكة التحصيل بعض الاختلاف.(511/8)
وعلى ضوء هذه الفكرة نريد أن نعرف المنهج المختار في سياسة التعليم فنقول:
أيهما أنفع: قراءة كتاب عن خزان أسوان أو زيادة ذلك الخزان؟
وأيهما أفضل: نظر الخريطة عشرين مرة أو رسمها مرة واحدة؟
وحفظ مقامات بديع الزمان أنفع، أم إنشاء مقامة على غرار تلك المقامات؟
ثم أثب إلى الغرض فأحكم بأن إنشاء عشرين سطراً أنفع في تكوين الذهن من قراءة كتاب، لأن الإنشاء يوقظ القوى النفسية، ويروضها على التفكير السديد
والتعليم الحق هو الذي يقضي بتقوية الملكات الإبداعية، هو الذي يخلق عاقلاً لا ناقلاً، وبين العقل والنقل مراحل طوال
وليس معنى هذا أني أغض من قيمة الاطلاع، لا، ولكن معناه أني أدعو إلى أن تكون سياسة التعليم قائمة على إعزاز قيمة الفكر عند التلاميذ، فلا يقرأ أحدهم سطراً إلا وهو يحاول أن يأتي بأروع منه وأبدع، ولا يسمع درساً إلا وفي خاطره أنه مسئول عن التعقيب عليه بالمبتكر الطريف
ما السبب في أن يكون الجو المدرسي غير محبوب في بعض الأحوال؟
لو أمكن جذب التلميذ بالعقل إلى جو المدرسة لتمنى أن تكون مأواه إلى آخر الزمان
ولكن التلميذ يُسأل عن المواظبة الصورية، ولا يُجذب إلى المواظبة الروحية
وفي العقوبات المدرسية أن ينسخ التلميذ صفحات من كتاب، وهذا النوع من العقوبة موجود بالمدرسة الفلانية، وهو عقوبة حقَّا وصدقاً، فما يمكن أن يؤذي التلميذ بأصعب ولا أعنف من أن ينسخ كلاماً هو عن فهمه غير مسئول
هرب الشيخ محمد عبدة من الدرس ورجع إلى الريف فأقام به ثلاث سنين، لأنه طولب بإعراب البسملة قبل أن يفهم الإعراب
ومئات من التلاميذ يحضرون الدروس بالجسم لا بالروح، فهم غائبون لأنهم لا يفهمون، وإن لم تفطن المدارس إلى تقييد ذلك الغياب!
ودروس القواعد دروس غير محبوبة، لهذا السبب، أعني أنها لا تقدم إلى التلاميذ مع التعليل، ولو عللت القواعد يذكر مراميها الأصلية لأحبها التلاميذ، لأن الحياة موجودة في إضافة لفظ إلى لفظ بغاية من القوة والجاذبية، ولكن أين من يفكر في التنبيه إلى تلك(511/9)
الحياة؟
وخلاصة القول أن الغاية من التعليم هي إثارة الشوق إلى فهم الوجود، وتنمية المواهب تنمية تغني التلميذ عن الدرس بعد حين، وتجعل منه روحاً يتطلع إلى السرائر الكونية، والحقائق الوجودية، تطلع المتشوف إلى إدراك ما عاب عن الأسلاف، ولو كانوا من فطاحل العلماء
وكمية المعلومات ليست بالغاية العالية، وإنما الفهم الصحيح هو الغاية، ولو تعلق بأقل مقدار من المفهومات
وتصحيح غلطة واحدة في علم من العلوم أدل على قوة الذاتية من استيعاب جميع العلوم
ونظم خمسة أبيات نظماً صحيحاً فيه روح الشاعرية يدل على قيمة الفتى بأكثر مما يدل حفظه لجميع الدواوين
المهم هو إيقاظ روح الفكر عند التلميذ، بأن نجعل جميع الدروس وسيلة إلى هذه الغاية، ولن يتم ذلك إلا إذا استطعنا أن نشغل روحه وفكره وعقله بتعقب ما يرى وما يسمع تعقب الشغف والاشتياق
دخل تلميذ مصطفى كامل على الوزير علي مبارك وحاوره بأسلوب غير مقبول، فقال الوزير للتلميذ: اقرأ هذه اللوحة لأعرف مقدار ذكائك (وكانت طرة كثيرة التلافيف عجز عن قراءتها التلميذ)
قال الوزير: أنت لا تجيد غير الصياح!
فقال التلميذ: هل يتفضل الوزير فيخبرني عن عدد السلالم التي يصعدها كل يوم إلى مكتبه هذا منذ أعوام؟
فقال الوزير: التحدي تافه ولكنه معقول
والواقع أن التعليم لا يثير التطلع إلى استكشاف المجاهيل، ولا ينقل خيال التلميذ من أفق إلى آفاق إلا في أندر الأحوال. . .
عمل المدرس لا يتجه إلى تقديم الحقائق، وإنما يتجه إلى إيجاد الحقائق عن طريق التلاميذ. وأريد أن أقول إن المدرس لا يُخبر ولكنه يستخبر، إلى أن يعرف من تلاميذه الخبر اليقين، وكأنه به من الجهلاء(511/10)
طريقة التلقين طريقة عقيمة، وهي لا توقظ عقول التلاميذ وقد ترميهم بالخمود
والدرس هو الفرصة لتنبيه العقول الغافية، في الحدود التي تسمح بها براعة المدرس، والمدرس البارع هو الذي يسوس الدرس سياسة تقضي بأن يشعر كل تلميذ بأنه يتلقى سؤالاً بعد لحظات
هل تذكرون الواجبات المدرسية التي يؤديها التلاميذ في البيوت؟
إنها ثقيلة جداً، وبغيضة جداً، فما السبب فيما تتسم به من الثقل والبغض؟
يرجع السبب إلى أنها لم تسبق بالتشويق إلى إيجاد الحقائق
ويرجع السبب إلى أننا لم نصل إلى خلق الجاذبية المدرسية.
ويرجع السبب إلى أننا لم فكر جدياً في إبداع شخصية التلميذ. . .
وأنا أختم هذه المقالات بتوكيد ما قلته في صدر مقال اليوم وهو أن مهنة التعليم في مصر مهنة سعيدة وأصحابها سعداء
المدرس المتبرم ليس بمدرس، لأن التدريس من أقوى موجبات الابتسام
ولو أردنا شكر الله على أن جعلنا مدرسين لعجزنا عما نريد من الشكران
للمدرس في كل يوم جهاد، وهذا مغنم جميل
إن صحت دعوتنا إلى تعميم التعلم فسيكون في مصر ألوف وألوف من المدرسين؛ فهل تستطيع مالية الدولة أن تستجيب لما يطمح إليه ألوف وألوف؟
القناعة هي التاج لمهنتنا السامية، وغِنى القلوب يستر فقر الجيوب. وهل افتقر منا أحد حتى نتوجع ونتفجع بشبهة من الحق؟
نحن أغنياء وأغنياء، فلله الحمد وعليه الثناء.
زكي مبارك(511/11)
على هامش أحلام شهرزاد
4 - قضية اليوم
للأستاذ دريني خشبة
قالت فاتنة: (الآن يا صديقي وقد أطلعتك على أطراف من شهرزاد الحكيم، وعلى أطراف من القصر المسحور، ووقفتك على المذهب الذي أخذ الكاتب به نفسه، ولم يفتأ يباهي به، ويشتط فيه. . . الآن وقد علمت أن مشروع (أحلام شهرزاد) كان وعداً موعوداً في القصر المسحور على لسان شهرزاد أراد عميد الأدب العربي أن يذود به عن هذه الشخصية الفذة التي ابتدعها الأديب العبقري القديم الأول، والتي رمز بها إلى جنس المرأة في كل زمان ومكان. . . والآن وقد علمت ما يرتئيه الأستاذ توفيق في شهرزاد كل زمان ومكان من غدر وكيد وخيانة وأنانية و. . . شَبَق. . . الآن يحين لي أن أحدثك عن أحلام شهرزاد حديثاً يروقك وتنزع إليه نفسك، النزاعة إلى الحق، المشغوفة بالجمال، المؤمنة بالكمال
(ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد!)
هل تذكر هذه القولة التي أخذت مكانها في القصر المسحور عن عمد؟! أما تزال تذكر هذه القولة أيضاً، وقد أخذت مأمنها من هذا الكتاب كما أخذت مأمنها الكلمة السابقة:
(سيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد!)
هاتان كلمتان! فهل بر العميد فيما وعد؟ وكيف صور شهرزاده يا ترى! وكيف جافى بها عما رسمها الأستاذ توفيق؟ ثم ما بال أبطاله الآخرين! هل أخرج لنا ملكاً (ديوثَّا) كشهريار الحكيم؟ أم انتفع شهريار العميد بشهرزاده فهذبت طبعه النافر، وأقامت خلقه المعوج، ولفتته إلى شئون ملكه يرعاها بعين الخبير البصير، وعلمته كيف يوائم بين رغبات نفسه ورغبات شعبه، ثم هي مع هذا وذاك لم تنكشف له كل الانكشاف لتستبقى سحرها في قلبه، وتحتفظ بسر الجمال الذي يفضحه التبذل، ويُذيله التهالك في إشباع رغبات الرجال؟!
ثم شخصيتي؟ أنا؟! شخصية فاتنة؟ تلك الشخصية التي تزري بكل شخصيات القصص العربي في الأدب المصري الحديث. . . أرأيت كيف صورها فأتقن صورتها وأبدعها في أحسن تقويم؟
وشخصية طهمان بن زهمان ملك الجن؟! هل كان هذا المارد الأحمق الذي يجلس على(511/12)
عرش أمة ليفرغ إلى رغباته ودنايا نفسه كما فعل شهريار الحكيم؟ أم كان ذاك الحاكم البر الحازم الحكيم الرحيم الذي حكم فعدل فأمن على شعبه كما أمن على ملكه ونشأني على خير منهاج يضمن السعادة لقبيله من الجن من بعده؟!
ثم شخصية هذا الطائف العجيب الذي كان يسْفر بالأحلام إلى شهريار ينبئه بموعد القصص الشهي الرخي الذي ترسله شهرزاد في أحلامها - ما بال هذا الطائف يا ترى؟
أما شهرزاد الحالمة فإنها من غير شك شهرزاد نبيلة كاملة، قامت بواجبها في تهذيب شهريار على خير وجه، وقامت بواجبها نحو وطنها على أحسن صورة، واحتفظت بسحر أنوثتها فلم تفسده بالتبذل، ثم هي هذا الملاك الحارس الذي أدعى وظيفته في الحياة كما ينبغي أن يؤدي كل مخلوق كامل وظيفته في الحياة. . . يأخذ بحظه منها ولا يجور على حقوق الآخرين. . . يعرف أن الحياة جد لا لعب، وهي مع ذاك جد يخفف جفوته لهو قليل برئ. . . لهو بالموسيقى التي تهذب الطبع، والغزل الحلال الذي لا ينحدر إلى أحضان العبيد، ولا يسف إلى اتخاذ الأخدان، ولا يسفل إلى أن يكون خداعاً وخيانةً ولغواً وتأثيماً. . . شهرزاد العميد هي هذا الملاك الحارس الذي أخذ على عاتقه إصلاح شهرياره في النوم وفي اليقظة. . . في النوم بإرجاعه إلى محجة الصواب كلما عاوده داؤه القديم فسأل عن سر شهرزاد، وشهرزاد مع ذاك تطلعه على شطر غير يسير من هذا السر، ثم تحتفظ لنفسها بشطره الآخر. . . الشطر الذي يبقى على سحر الأنوثة في المرأة ويجعلها شابة دائماً، جميلة دائماً، ساحرة دائماً. . . لأنها تعطي من نفسها بقدر، وتهب من ذاتها بمقدار، فلا تتبذل بكثرة البذل، ولا تمنح كل ما عندها كي تجد ما تمنحه طوال الحياة التي تربط الزوجين. . . وهي لذلك جديدة كل يوم في عين شهريار، لأنها تسقيه كل يوم كأساً جديدة. . . فإذا سألها: (ألا تنبئيني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟). . . أجابت. (من أنا؟ أنا شهرزاد التي أمتعتك بقصصها أعواماً لأنها كانت خائفة منك والتي تمتعك بحبها الآن لأنها واثقة بك مطمئنة إليك وماذا أريد! أريد أن أرى مولاي راضياً سعيداً ناعم البال رخي العيش مبتسماً للحياة كما تبتسم له الحياة) فإذا أعاد بعد ذلك سؤاله، قالت له: (من أنا؟ أنا شهرزاد التي أحبتك قبل أن تعرفك كما لم تحب فتاة رجلاً قط، والتي خافتك حين عرفتك خوفاً لم يخفه إنسان إنساناً قط، والتي زفت إليك تتحدى الموت وتتحدى السلطان وتتحدى(511/13)
الحب والبغض جميعاً، فبلغت من نفسك هذه المنزلة التي تراها والتي لا تراها، ثم أصبحت الآن وهي لا تفكر إلا فيك، ولا تفكر إلا بك، ولا تفكر إلا لك. ماذا أريد؟ أريد أن تكون سعيداً موفوراً، ولكني لا أعرف كيف أجعلك سعيداً موفوراً. من أنا؟. . . أنا من تحب أن ترى في أي ساعة من ساعات النهار، وفي أي ساعة من ساعات الليل. أنا أمك حين تحتاج إلى حنان الأم، وأنا أختك حين تحتاج إلى مودة الأخت، وأنا ابنتك حين تحتاج إلى بر البنت، وأنا زوجتك حين تحتاج إلى عطف الزوج. . . . وأنا خليلتك حين تحتاج إلى مرح الخليلة، أنا كل هذا. وماذا أريد! أريد ما تريده الأم لابنها، وما تريده الأخت لأخيها، وما تريده البنت لأبيها، وما تريده الزوج لزوجها الوفي، وما تريده العشيقة لعشيقها المفتون. وقد سألتني فألحفت على في السؤال، أفتأذن لي في أن أسألك؟) فيرفع الملك إليها بصره كالمنكر لما تقول، ولكنها تتضاحك وتتماجن وتسأله: (كيف أراك في هذا المكان من جنة القصر، حيث كان ينبغي أن أراك في غرفتك تتهيأ للخروج إلى حيث تستقبل وزراءك وتصرف أمور ملكك، أو أراك قد خرجت مبكراً فأقبلت على شئون الدولة تصرفها حفيَّا بها منكبَّا عليها. . . الخ)
فهل رأيت إلى شهرزاد العميد وفرق ما بينها وبين شهرزاد الحكيم؟ أرأيت كيف صور العميد ما ينبغي أن تكون عليه الزوجة الوفية في كل زمان ومكان!! فتكون لزوجها أماً حين يحتاج إلى حنان الأم، وأختاً حين يحتاج إلى مودة الأخت، وابنة حين يحتاج إلى بر البنت، وزوجاً حين يحتاج إلى عطف الزوج. . . ثم. . . خليلة حين يحتاج إلى مرح الخليلة. يجب أن تكون الزوج كل هذا فهل يرى الأستاذ توفيق هذا الرأي؟! أم هو موجس ظِنَين واجد على المرأة يبشر ضدها بالويل والثبور وعظائم الأمور، لا يأتمنها على أن تنجب لشهريار غلاماً ذكياً أو غبياً، ولذلك فهو يرسلها في أحضان العبيد، ويبيح غرامها للوزير ولغير الوزير، ويجعلها أنانية لا تفكر إلا في نجاتها هي دون أن تعني بخلاص بنات جنسها
ولقد نبهتك يا صديقي إلى ما التزمته شهرزاد العميد من الغموض أحياناً لتصون جمالها وتجدد سحرها في نفس زوجها، فهل تدري لماذا حرص الأستاذ الحكيم على أن تكون شهرزاده غامضة؟ إنه حرص على هذا لتذهل شهرزاده لبَّ شهرياره، ولتعصف بقبله؛(511/14)
فغموضها هو من غموض السحراء والمشعبذين وأكلة الثعابين والذين يمشون بأرجل حافية على النار ورؤوس المسامير. . . لأن الذين يتفرجون بهذه الشعبذات يقفون حيالها مشدوهين صعقين لما فيها من غموض يذهل ألبابهم، ولا يدركون له كُنْها. . . أما ماذا وراء هذا الغموض، فليس وراءه شيء. . . ليس وراءه نفع قط. . . إن لم يكن وراءه ما يمكن كالأفعى الرقطاء في ظلمات نفس شهرزاد - شهرزاد الحكيم طبعاً - من شر وكيد وختل وخداع وخيانة وتدبير سيئ. . . ولهذا قالت شهرزاد في القصر المسحور وهي تتميز من الغيظ على توفيق الحكيم: (ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد!) ثم قالت: (سيأتيه علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد!)
هذا فرق ما بين الغموضين، وللغموض نصيب عظيم من السرق الذي أرجف به المرجفون، وتخرص به المترخصون
أما فرق ما بين شهريار الحكيم وشهريار العميد فليس يحتاج إلى إسهاب ولا يفتقر إلى إطناب. وحسبك أن تذكر ما كان من غفلة شهريار الحكيم التي سماها معرفة، وسكوته على ما قتل بسببه وزيره نفسه حينما انسل العبد من مخدع شهرزاد. ذلك السكوت الذي سماه الحكيم فلسفة. ثم حسبك أن تعلم ما كان من سهر شهريار العميد على أمور رعيته، وحسن التفاته إلى تصريف أمورها، واضطلاعه بما يعود عليها بالخبر والنظام. . . حسبك هذا وذاك لتقدر أنت فرق ما بين الملكين
أما أنا. . . أما فاتنة. . . فإني كما علمت أبرع شخصيات الأدب المصري الحديث. . . إني أتمم شخصية شهرزاد. بل أنا روحها الحالم. . . بل أنا شبحها الهائم. . . بل أنا غناؤها الباغم. بل أنا منطقها السليم وسحرها العظيم وتدبيرها الكريم وقلبها الرحيم. . . بل أنا حدبها على الرعية، واستخفافها بالطغاة، وعذابها المسلط على الملوك المستبدين الذين ذاق بعضهم بأس بعض، وعذب بعضهم بأيدي بعضهم الآخرين. . . بل أنا هذه الديمقراطية العزيزة التي أجج لها الطغاة الآثمون تلك الحرب الطاغية الآثمة القائمة. . . الديمقراطية التي ترد الصواب إلى الفرد المغرور، وتعيد السلام إلى العالم، الجمال إلى الجنة. . . أنا الديمقراطية التي تبعث العزة في نفوس الأفراد، والكرامة في قلوب الشعوب، فلا يسميها الحاكمون بأمرهم الخسف، ولا يسلط عليها فرد واحد مجنون فيجعل أمنها خوفاً،(511/15)
وقوتها ضعفاً، وعيشها شظفاً، وجهودها هباء، ورخاءها عناء، وفَرَجَها شدة، وسلامها حرباً، وعلمها شراً، وعلماءها أبالسة، وقادتها أفاكين
أستمع إلىّ أقول لأبي وهو يحاورني: (. . . متى رأيت الملوك يقدمون على حرب لا تدفعهم إليها شهواتهم الجامحة وعواطفهم الحائرة؟ ومتى رأيت الشعوب تجنب هذه الأهوال وتعصم من الحرب لغير مصالحها المؤكدة ومنافعها المحققة. . .؟. . . إن أثرة الملوك والسادة والزعماء هي التي تثير الحرب دائماً وهي التي ترهق الشعوب دائماً. . .!)
فإذا قال لي أبي: (فقد كنت أرجو أن يهيئ لك علمك وحكمتك ابتكار لون من ألوان الحياة لا تشقى فيه الشعوب بسعادة الملوك والزعماء!. . .) قلت له في بعض الذي أجبته به: (فأنبئني يا أبت ما بال هذه الرعية لا ترفق بنفسها ولا تعني بأمرها، ولا تفكر في مصالحها، وإنما ندعوها فتجيب، ونأمرها فتطيع، ونوجهها إلى حيث نشاء فتتجه إلى حيث نشاء لا يخطر لها أن تأبى إذا بلغها الدعاء، ولا أن تعصي إذا صدر إليها الأمر، ولا أن تمتنع إذا وجهت إلى حيث لا تحب. . .؛ فما طاعتها لنا في غير روية ولا تفكير، بل في غير فهم لما تؤمر به وتقدير لما تدعى إليه؟. . .)
أرأيت إلى كيف مثلت الديمقراطية أروع تمثيل وأصدقه؟ وهل سمعت إلي أفضح الطغاة والمستبدين، وآخذ على الأمم المستضعفة رضوخها لهم وعدم الثورة عليهم، وطاعتها إياهم في غير روية ولا تفكير ولا فهم ولا تقدير؟!. . . وأنا مع ذاك الديمقراطية المتعلمة المثقفة التي لا تصدر عن الطيش ولا يتلاعب بها الرعاع. وليست هذه الديمقراطية التي تدخن القنب في حانة أبي ميسور، وتنام في أحضان العبيد، وترهن السيف لتقضي ليلة هانئة؛ لكنها الديمقراطية التي تثل عروش المستبدين وتقوم على الجد ولا ترضى العبث وترفض أحلام روَّاد الحانات التي يدخن فيها الـ. . . الديمقراطية التي انتصرت على قوات الشر (. . . وردت إلى شعوب الجن حقوقها المغصوبة وحرياتها المسلوبة. . . ومن يدري! لعل علم الجن أن يصل إلى الناس ذات يوم أو ذات قرن واضحاً جلياً لا لبس فيه ولا غموض؛ أو لعل عقول الناس أن ترتقي ذات يوم أو ذات قرن إلى حيث تفهم عن الجن في غير مشقة ولا جهد. يومئذ أو قرنئذ تصلح أمور الإنسان كما صلحت أمور الجان
قالت: (وعكف شهريار على نفسه يتدبر ما سمع ويستحضر ما شهد ويتذكر ما رأى، وكأنه(511/16)
أنسى نفسه في هذا العكوف، حتى أقبلت شهرزاد وقد ارتفع النهار. وسمعها تقول في صوت حازم باسم معاً: (لشد ما هانت عليك أمور الملك يا مولاي! هاأنت ذا تخلو إلى نفسك في زاوية من زوايا غرفتك كأنك فرد من أفراد الناس قد فرغ للفلسفة والتفكير. ألم تحاسب نفسك على هذا الوقت الطويل الذي أنفقته في غير شئون الملك! ألم يخطر لك أن للشعب حقوقاً يجب أن تؤدي إليه، وإن أوقات الملوك ليست خاصة لهم من دون الرعية؟)
قال الملك دهشاً. . . (يا عجباً! كأنما أسمع حديث فاتنة)
قالت شهرزاد ذاهلة: (فاتنة! فاتنة! ليس هذا الاسم عليّ غريباً، وأحسب أن لي بي عهداً قريباً)
قالت فاتنة: (فأنا إذن أتمم شخصية شهرزاد. . . بل أنا روحها الحالم. بل أنا شبحها الهائم. بل أنا غناؤها الباغم. بل أنا منطقها السليم، وسحرها العظيم. وتدبيرها الكريم. وقلبها الرحيم)
أما أبي. . . أما طهمان بن زهمان، فهو الذي أدبني فأحسن تأدبي، وهو الذي كان يخفق قلبه بمحبة شعبه فنشر المدارس بين طبقاته ليعلمه الديمقراطية، وهو الذي (رفع بعض النابهين من الدهماء إلى مناصب الدولة) مُعرضاُ نفسه لسخط الأمراء وكيد الشيوخ من رؤساء العشائر، فوصل من الديمقراطية إلى كثير مما كان يريد. . .
فشهرزاد وأبي طهمان وأنا. . . إنما نكون هذا الثالوث المقدس الذي ألفه العميد لتهذيب روح شهريار، ولإنقاذ هذا الروح من البرم والتوجس والتشاؤم الأسود الذي عصف به منذ خانته زوجه. وقد نجحنا في هذا، وبلغنا منه ما نريد)
قالت فاتنة: (فاسأل المرجفين إذن أين هو السَّرق الذي يدعونه؟ بل أين الشبه بين كل؟ أيكفي أن يسأل شهريار شهرزاد ما هي، وماذا تريد؟ ليكون هناك أخذ وسرق وسطو. . . أم يكفي أن تتذرع شهرزاد العميد ببعض الغموض إبقاء على سحرها وجمالها وأسرها، ليدعى الخراصون أن الغموض من (اختراعات!) الحكيم المسجلة فلا ينبغي لأحد غيره، وإلا سرق هذا (الغير) وسطا!
وبعد. . . فلندع هذا اللغو وذاك العبث، ولنطلب إلى عميد الأدب العربي مواصلة لياليه لأنها فتح جديد في أدب القصة، وقد قرأنا كلما ألف العميد بعد (الأيام والهامش) فلم نجده(511/17)
أحسن كما أحسن في تلك الأحلام الرائعة الخالدة التي لا ترتهن بظرف من الظروف، ولا بعصر من العصور كما ادّعى بعضهم.
دريني خشبة(511/18)
تغريدة
إلى تاج العراق
(في مقدم مليكه العزيز (فيصل) الثاني، ضيف وادي النيل)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
لَمَحْتُ بِجنَّات مِصْرٍ شُعَاعا ... لأنْوارِهِ صَفَّقَ الشَّاطِئانْ
غَزَا طيْفُهُ كلَّ قَلبٍ وشاعا ... فَلَمْ يخْلُ مِنْ صَفْحَتَيْه مَكانْ
تَهَادَى فَخِلْتُ الرُّبى وَالْيفَاعا ... وَشمْسَ الضُّحَى مَوْكِباً مِنْ حَنَان
فَيَا (نِيلُ) مَنْ هَزَّ فيكَ البِقَاعا ... مَلاَكٌ وَفى كَفه صوْلَجَانْ
حَمَى الله أَيَّامهُ أَنْ تُرَاعا ... وَوَقّى لَيَالِيه رَيْب الزَّمَانْ. . .
. . . وَأَعْلَى مَع َالشَّرْق مُلْكاً حَوَاهْ
وَنَهْراً تَهِيمُ بِهِ ضَفّتَاهْ
وَتَاَجاً عَلَى الْبَأْس يَرْسُو عُلاَهْ
وَشَعْباً إلى (مِصْرَ) يَهَفْوُ هَوَهْ
وَيَرْبِطُنَا فِيهِ عَهْدُ اَلَحَياهْ
خُطَانَا إِلى كلَّ مَجْدٍ خُطَاهْ
فدِجْلَةَ والنَيل ذَاقَا الرِّضاعا ... شَقِيقيْن دِيناً، وَنَجْوَى لِسَانْ!
فَيَا تَاجَ مِصْرَ أَتَتْكَ الشُّعُوبْ ... مِنْ الشَّرقْ تّسْكُبُ أَحْلاَمَها
وَألْقَتَ إليْكَ زِمَامَ الْقُلُوبْ ... فَكُنْتَ هَوَاها وَإلْهامَها
إذا أرْعَشَتْ جَانَبيْهَا الْكُرُوبْ ... أسِيتَ، وَآسيْتَ آلامَها
إذا مَسَّها في سُرَاهَا لُغُوبْ ... إلى النَّجم طَيرْتَ إقْدَامهَا
فأنْتَ لَهَا في ظَلامِ الْخُطوبْ ... صَبَاحٌ يُنوَّر أيّامَهَا. . .
. . . وَيَنْشُرُ في كلَّ وَادٍ ضُحَاهْ
فَيَنْسى بِهِ كلُّ قَلْبٍ أسَاهْ
على النَّهْرِ أوْ في هَجِير الْفلاهْ(511/19)
زَمَانٌ (بفاروقَ) ضَاحٍ سَنَاهْ
مَلِيكٌ عَلَى الشَّرقِ تَحْنُو يَدَاهْ
رَعَى مُلْكَهُ، وَرَعاهُ الإلهْ!
صَحَتْ أُمَم الشَّرْقِ تَبغْي الْهُبُوبْ ... فَهَيَّا لِنَرْفَعَ أعْلامَها
مِنَ الرَّافدِيْنِ أضاََء الْقِبَابْ ... شُعَاعٌ بِمَهْدِ الْعُلا يَرْفُلُ
سَرَى وَالرَّبيعُ يَحُثُّ الرَّكابْ ... إلى الدَّوْحِ فِرْدوْسُهُ المُخْضِلُ
فَكاَنَا رَبِيعَيْنٍ بَيْنَ الْشَعابْ ... يُحَيَهمَا الحْبُّ، وَاَلْجدْوَلُ
وَهذَا يُنَاجيهِ قَلْبُ الشًّبَابْ ... وَهذَا الطُّيُورُ لَهُ تَهدْلُ
وَلَكِنْ رَبيعُكَ أَنْقَى إهَابْ ... وَأخْلَدُ في الروُّحِ يَا (فَيْصَلُ)!
فَمَوْجُ (الْفُرَاتِ) جَرَى في ربُاهْ
وَأحْلامُ (بَغْدَادَ) فَضَّتْ شَذَاهْ
وقَلْبُ (الْعِرَاق) انتْشَى منْ صِبَاهْ
وَرَقْرَقَ آمَالَهُ في سَمَاهْ
غَداً منْ يَدَيْكَ يُلَقّى مُنَاهْ
وَفي ظلَّ عَرْشِكَ يَجْني جَنَاهْ. . .
ونسْبَحُ بالشَّرْقِ فَوْقَ الْعُبَابْ ... عَلَى وَحْدَةٍ. . . دِينَهَا مُنزْلُ!
محمود حسن إسماعيل(511/20)
سليمان الحكيم
لتوفيق الحكيم!
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
(يبدو أن فصل النقد الفني هو الفصل المتخلف في كتاب الأدب العربي الحديث. وقد لمست هذا في المناسبة القريبة بين الأستاذ (دريني خشبة) وبيني كما لمسته من قبل مرات.
فنحن: إما أن نحب فنبالغ في الإطراء، وإما أن نكره فنبالغ في القدح، وإما أن نكسل فلا نستقصي عن عمل من نتصدى لهم بالنقد، وإما أن نتحكم بمزاجنا ونفرض تحكمنا على القراء!
وسأحاول في الفصول التي أقولها في النقد الأدبي لأعلام العصر الحديث أن أتوقى كل هذا بقدر المستطاع. والله يلهمنا طريق السداد)
هذه هي التمثيلية الخامسة لتوفيق الحكيم التي يستلهم فيها الكتب الدينية أو الأساطير. وقيمة استلهام هذه المصادر وأمثالها هي في الصورة الجديدة التي يجلوها الفنان، وفي ملء الفجوات التي يعني بها الفن وقد لا يعني بها الخبر ولا الأسطورة؛ وفي التعميم الذي يخرج بها من الجو المحدود والمناسبة العارضة إلى الجو العام والحقيقة الخالدة
وتمثيلية (سليمان الحكيم) مستلهمة من القرآن الكريم ومن التوراة ومن ألف ليلة وليلة. فلننظر في المواد الخامة التي كانت بين يدي المؤلف حين همّ أن يصوغ تمثيليته الجديدة، لنعرف كم استمد منها وكم زاد عليها؛ فتلك هي الخطوة الأولى في الوزن الفني لمثل هذا العمل
قصة سليمان وأخباره في القرآن الكريم في سورتي النمل وسبأ معروفة أو في متناول كل قارئ، فلست في حاجة أن أثبتها هنا، فأكتفي إذن بتسجيل نظرة القرآن إلى سليمان الحكيم؛ فهو نبي أوتي العلم والحكمة، ووهُب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وعلم منطق الطير، وسخرت له الريح والجن والإنس
وأما قصته في التوراة فقد لا تكون في متناول القراء، فألخص هنا بعض ما يحتاجون إليه(511/21)
منها في هذا السياق، وما كان بين أقواس من هذا التلخيص فهو نص منقول:
ورد في (سفر الملوك) من العهد القديم أن سليمان كان ملكاً بعد أبيه داود يعاصر من أنبياء إسرائيل وكهانهم (ناثان النبي) و (صادوق الكاهن). وقد طلب سليمان من إلهه أن يعطيه الفهم والحكمة ولم يطلب لنفسه مالاً كثيراً ولا عمراً طويلاً، فكافأه الرب على ذلك بأن وهبه الحكمة التي طلب والملك الذي لم يطلب
(وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق، وكل حكمة مصر). . . وكان صيته في جميع الأمم حواليه، وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت أناشيده ألفاً وخمسة. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزّوفا النابت في الحائط، وتكلم عن البهائم، وعن الطير، وعن الدبب، وعن السمك)
وبنى سليمان بيتاً للرب جلب أخشابه وزخارفه من مختلف الأمصار حوله. وصاهر فرعون ملك مصر فكان هذا دليلاً على عظمته!
(وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان فأتت لتمتحنه بمسائل) وقد جاءت معها بهدايا كثيرة. ولما رأت سليمان وحكمته وعظمة ملكه، أعجبت به وبحكمته وسلطانه (وأعطته مائة وعشرين وزنة ذهب وأطياباً كثيرة جدَّاً وحجارة كريمة) وأعطى سليمان للملكة كل مشتهاها الذي طلبت. . . فانصرفت وذهبت إلى أرضها)
(وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة - مع بنت فرعون - مؤابيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحيثيات. من الأمم الذين قال عنهم الرب لإسرائيل: لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم).
وتذكر التوراة بعد ذلك أن نساء سليمان بلغن الألف عداً، بين زوجات وسراري. وأن بعض نسائه أملن قلبه، وكان في شيخوخته (فمال وراء آلهتهن ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. فذهب سليمان وراء عشتورت إله الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين) وانتهى الأمر بغضب إلهه عليه وانتزاع الملك منه. . .
وأما قصص ألف ليلة وليلة فهي معروفة كذلك لعامة القراء؛ وقصص الصيادين الذين يعثرون بالعفاريت في قماقم مسحورة، وقصص الأحياء الذين يسحرون أحجاراً أو أشياء أخرى ويوضع طلسم خاص لفك سحرهم معروفة كذلك(511/22)
ومفروض أنه كان بين يدي المؤلف بعض ما كتبه عن (سليمان الحكيم) في الفرنسية الفيلسوف (رينان)، وبخاصة ما كتبه عن (نشيد الإنشاد) نشيد الحب والربيع والشباب وهو من نظم سليمان
هذه هي الخامات التي كانت بين يدي توفيق الحكيم. فلننظر كيف استخدمها في تمثيليته
لقد انتفع بالمصادر الثلاثة على السواء، وزاوج بينها، وفسرها وأضاف إليها بحرية كاملة، وهذه الحرية معترف بها للفنان الروائي بلا جدال
فهو قد اختار أن يكون سليمان نبياً كما جاء في القرآن، وملكاً كما جاء في التوراة. وقد جاءته الخطيئة الدينية - في التوراة - من جانب المرأة، فجعلها توفيق تجيئه من ناحية المرأة أيضاً ولكنها خطيئة إنسانية لا دينية. واختارت له التوراة غضب الله وانتزاع الملك، ولكن المؤلف اختار له أن يتوب عن خطيئته وأن يقاسي عذاب ضميره
وقد أثار بين الملك والإنسانية، وبين الحكمة والنبوة، في نفس سليمان صراعاً نفسياً عنيفاً. فتغلب الملك أو تغلب الإنسان فيه عند القدرة وبدافع الرغبة، وتغلبت الحكمة أو تغلب النبي فيه عند الاصطدام وبدافع اليأس
وبعض تفاسير القرآن زوّج (بلقيس) من أحد الأمراء، ولكن المؤلف جعلها تعلق بحب هذا الأمير، وجعله يعلق بحب وصيفتها (شهباء)!
ثم استعار من ألف ليلة وليلة أحد عفاريتها وأحد صياديها. ولكنه استعارهما ليشيع الجو الأسطوري في التمثيلية من ناحية، وليستخدمها في الصراع بين الخير والشر، وبين الضمير والشهوة، من ناحية أخرى؛ وليرمز بها إلى التكامل والتصارع في نفس الإنسان الواحد من ناحية ثالثة
ومن هذه الخامات حاول أن ينشئ تمثيلية تعالج الصراع الأبدي بين الخير والشر وبين الضمير والرغبة - وتهدف مع هذا الصراع إلى الاتجاهات التالية:
1 - تغليب الجانب الإنساني على الجانب المقدس في نفس النبي. . . سليمان!
2 - قداسة القلب الإنساني في الحب والسخرية بجميع قوى الأرض أمام هذه القداسة
3 - الجحود والوفاء والخير والشر، واجتماعهما في الحب الإنساني جنباً إلى جنب
4 - رفع الستار عن بعض القداسات، وغمزات للكهان وأشباه الكهان(511/23)
5 - الآلام والحرمان والعجز والفجيعة هي التي تشع الحكمة وتهدئ الفورة وتفتح البصيرة
6 - السخرية بحكمة الإنسان المحدودة مهما سمت وبقوته مهما عظمت أمام الحكمة الكونية الكبرى
7 - التفسير النفسي - من جانب الفن - لبعض الحوادث والروايات في حياة العظماء!
فلنستعرض التمثيلية استعراضاً مجملاً لنرى إن كانت قد أدت هذه الأغراض، وإن كانت قد جمعت إليها جمال الفن وحركة الحياة. وتلك شروط الرواية الجيدة بالإجمال.
(حلوان) - يتبع
سيد قطب(511/24)
بين القديم والجديد
بناة القاهرة المسلمون
تأليف السيدة ر. ل. ديفونشير
للدكتور محمد مصطفى
جلست إلى جانبها في عربة يجرها جوادان كريمان، أحدهما أشهب والآخر تغلب في لونه الحمرة، ويقودها سائق فحل عريض المنكبين قوي البنية. وكنا نتحدث في التاريخ الإسلامي، وفي الفن الإسلامي، وفي مجموعة المساجد والمباني الأثرية الإسلامية التي تضمها القاهرة بين أسوارها، والتي لا يوجد لها نظير في بلد آخر. واسترسل بنا الحديث فجعلنا ننتقل بين عصور الفن والتاريخ المختلفة. وكان السائق الفحل يملأ مكانه في خيلاء وغرور، ويسوق جواديه مترفقاً بهما، وهما ينصاعان له هادئين، كأنهما قد استسلما لحبيب يبادلانه الحب، ويعملان جهدهما على إرضائه. ومن وقت إلى آخر كانت السيدة الجالسة إلى جانبي ترسل إلى الجوادين الكريمين نظرة تدليل وإعجاب. ومرت بنا العربة في طريق من طرق القاهرة القديمة التي لم تنلها يد المدنية الزائفة بالتخريب والتشويه، ولم تصل إليها وسائل النقل الحديثة بأصواتها المزعجة. طريق من تلك الطرق الضيقة الكثيرة المنحنيات والتعاريج، والتي تعلوها (مشربيات) البيوت الأثرية من الجانبين، فتترك في أعلاها شقاً ضيقاً يظهر منه القليل من زرقة السماء ممزوجاً بالقليل من أشعة الشمس، وتتخلله مآذن المساجد الشاهقة، شامخة برؤوسها تحدث عن عظمة بُناتها
وصمتت السيدة فصمت احتراماً لها، وجعلت أتطلع إلى منظر هذا الطريق فاستهواني، وتملّكني سحره وانتقل بي إلى زمن مضى، فخيل إلى أنني عدت شاباً فتياً مزهواً بعنفوان شبابه؛ وأنني أجلس إلى جانب فتاة هيفاء ترنو إليّ بعينيها النجلاوين لتزيد من أثر فتنتها في نفسي. وإذ كنت غارقاً في هذه التأملات، سقط شعاع دقيق من أشعة الشمس على رأس الجواد الأشهب، وانتقل منها إلى ظهره، ثم إلى رأس السائق الفحل، ثم أصاب عيني فآلمني وأيقظني وعاد بي إلى الحقيقة السافرة. ونظرت إلى السيدة الجالسة إلى جانبي فوجدتها(511/25)
كأنها عادت هي الأخرى من ذكريات عزيزة حلوة، وقالت كمن يحدث نفسه: يا لها من طريق جميلة!. . . وقلت مؤكداً: حقاً! إنها طريق جميلة ساحرة. . . وكيف لا تكون جميلة ساحرة وقد ملكت عليّ مشاعري، فعشقتها من أول نظرة، وعشقت معها هذه البيوت القديمة التي تطل عليها، وهذه المساجد والمآذن التي تقوم على جانبيها، وعشقت هذا القليل من زرقة السماء الممزوج بالقليل من أشعة الشمس، بعد أن كنت أنظر إلى السماء والشمس فيبهرني جمالها ويعمى عيني فلا أتبين منه شيئاً! وشكرت السيدة الجالسة إلى جانبي لأنها حببت إلى كل هذا، وقادتني لرؤية هذا السحر والجمال.
هذه هي السيدة (ر. ل. ديفونشير) وهي سيدة وقور، يعرفها أغلب سكان تلك الأحياء القديمة الجميلة، ويقابلونها بالإجلال والاحترام. وهي من جانبها تسر لرؤيتهم، وتتحدث معهم باللغة العربية كأنها واحدة منهم. وقد اعتادوا - منذ عشرات السنين - أن يروها تمر في أحيائهم كل أسبوع، وفي صحبتها جماعة من نزلاء مصر، تقودهم ليستمتعوا بجمال هذه الأماكن الأثرية، ويدرسوا معالمها، ويتبينوا بأنفسهم مكان حضارة مصر بين حضارات الأمم الأخرى. ولا شك أننا مدينون لها بالشكر والثناء للدعاية الطيبة التي ما زالت تنشرها لبلدنا الذي عاشت فيه طويلاً وأحبته كثيراً. فقد تطوعت
- على الرغم من تقدمها في السن - أن تقود في أيام معينة فريقاً من رجال وسيدات القوات الحليفة الموجودة بين ظهرانينا، ليشاهدوا أماكن الحضارة المصرية من متاحف ومعاهد ومبان أثرية، ليلموا بالناحية الثقافية في مصر إلى جانب ما يجدونه فيها من وسائل اللهو والتسلية.
وقد ألّفت هذه السيدة الفاضلة عدة كتب عن مصر الإسلامية، يبحث بعضها في التاريخ، والبعض في فن العمارة، والبعض الآخر في نواحي تأثير الفن الإسلامي في الفنون الأوربية. أما كتابها الذي ظهر أخيراً (بناة القاهرة المسلمون) فهو يبحث في تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي إلى وقت الحملة الفرنسية (1798م). وقد فصّلت فيه أخبار حكام مصر وولاتها وملوكها وسلاطينها، وما خلفوه من آثار وبنوه من مساجد ومدارس ومارستانات ونكايا وقناطر وحمامات وقباب ومدافن وغير ذلك من المباني.
وتكلمت في الفصل الأول من هذا الكتاب عن دخول العرب مصر، وولاية عمرو بن(511/26)
العاص، وتشييده جامعه إلى جانب مدينة الفسطاط. وأشارت إلى من خلفه من الولاة، حتى جاء أحمد بن طولون والياً من قبل الخلفاء العباسيين، الذين كانوا قد اتخذوا إذ ذاك مدينة سامرا (سُرَ من رأى) عاصمة لبلادهم. وجلب ابن طولون معه من سامرا المعماريين والفنانين، فنسجوا فيما شيدوه بمصر من المباني والعمائر على نسق الطرز الفنية التي كانت مزدهرة في بلادهم في ذلك الوقت. لذلك نجد أن جامع أحمد بن طولون مبني على طراز جامع سامرا من حيث تخطيطه وزخارفه وشكل مأذنته، حتى أنهم استعملوا في بنائه الآجرّ (الطوب الأحمر) الشائع في العراق بدلاً من الحجر الجيري الذي كان يستعمل بكثرة في مصر لقرب محاجر جبل المقطم
وتحدثت في الفصول التالية عن انتقال الحكم في مصر إلى الخلفاء الفاطميين وتأسيسهم مدينة القاهرة. فتكلمت عن أخبار خلفائهم وما بنوه من جوامع ومساجد كالجامع الأزهر والحاكم، ثم استئثار الوزارة بالسلطة في أواخر العصر الفاطمي وما بنى في عصرهم من المباني مثل السور العظيم الذي بناه أمير الجيوش بدر الجمالي مع باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة، وجامع الجيوشي، وجامع الأقمر، ومشهد السيدة رقية وغير ذلك. ثم مجيء صلاح الدين الأيوبي إلى مصر واستقلاله بالحكم بها، وقيام الدولة الأيوبية، وبناء قلعة القاهرة لصد هجمات الصليبيين المحتملة في ذلك الوقت. إلى أن قامت دولة المماليك البحرية، وانتقلت الخلافة العباسية إلى مصر أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري، بعد أن فتح التتار بغداد. ثم ذكرت أخبار من حكم مصر من سلاطين دولتي المماليك البحرية والبرجية وأمرائهم وشدة شغفهم بالفنون الجميلة التي ازدهرت قي مصرفي عصرهم، وتشييد المباني الفخمة مثل جامع الظاهر ومارستان قلاوون وجامعه ومدفنه وجامع بيبرس الجاشنكير وسلار وسنجر الجاوي والناصر محمد بن قلاوون والسلطان حسن وبرقوق وبرسباري وجقمق وأينال وخشقدم وقايتباي والغوري. إلى أن كانت موقعة (مرج دابق) الشهيرة بين العثمانيين ومماليك مصر، وانتصر فيها السلطان سليم الأول العثماني على السلطان قانصوه الغوري، وفتح العثمانيون مصر في سنة 1517م، فصارت منذ ذلك الوقت ولاية عثمانية، إلى أن جاء المغفور له محمد علي باشا الكبير فحررها من ربقة الإدارة العثمانية(511/27)
وأفردت الفصل الأخير من كتابها لذكر أخبار ولاة مصر العثمانيين وما بناه بعضهم من المساجد والمباني الأخرى، رغماً من حالة الاضطراب التي كانت سائدة في هذا العصر، والسياسة التي كانت تتبعها الدولة العثمانية في كثرة تغيير الولاة، لكي لا يتوفر لأحدهم الوقت لتقوية مركزه والاستقلال بالبلاد. وبينت في هذا الفصل كيف تأثر فن العمارة في مصر، بعد فترة انتقال قصيرة، بفن العمارة العثماني، وهذا هو السبب في أننا نجد بعض المساجد من هذا العصر مبنية على نسق جامع (أيا صوفيا) باستانبول في تخطيطه وبعض زخارفه. ومن أكبر مباني هذا العصر جوامع حاير بك وسليمان باشا والملكة صفية وغيرها وكذلك بيت جمال الدين الذهبي وبيت السحيمي، وأخيراً بيت الكريدلية الذي اتخذه اللواء جاير أندرسون باشا في السنوات الأخيرة مقراً لسكناه، وكون لنفسه فيه مجموعة كبيرة من التحف أهداها عند سفره إلى إنجلترا - للحكومة المصرية، لتبقى في هذا البيت كمتحف باسمه تابعاً لدار الآثار العربية
ولكن، يا سيدتي الفاضلة! إن هذا البلد الحبيب إليك له عليك حق آخر، وواجب أنت مدينة له به. وإني أتقدم إليك اليوم على صفحات (الرسالة) لأطلب منك أن تقومي بأداء هذا الواجب، فيحفظ لك هذا البلد الأمين ذكرى خالدة تبقى إلى جانب ما ألَّفت من كتب وأبحاث. لقد قضيت في مصر وقتاً هو بمثابة انتقال بين القديم والجديد، فهلا دوَّنت ذكرياتك ومشاهداتك وتجاريبك، لتبقى لمؤرخي هذا العصر يجدون فيها رأياً حراً لشخص أجنبي جاء إلى هذا البلد وأحبَّه وعاش فيه وساهم في نهضته الوطنية والثقافية؟ لقد عشت حوالي أربعين سنة في مصر، كنت في خلالها على صلة وثيقة بكبراء البلاد وعظمائها ومن وفدوا عليها من رجالات البلاد الأخرى، وكنت موضع احترام الكبير والصغير. وهذه - كما تعلمين - حقبة من الزمن طويلة في تاريخ مصر الحديث، لا شك أنك تتبعت في أثنائها حوادث النهضة الوطنية التي كان لها أكبر الأثر في تغيير مجرى التاريخ. ثم شاهدت عصر النهضة الثقافية في عهد المغفور له الملك فؤاد الأول، وما كان له من أياد كريمة في نشر الثقافة والعلوم وإنشاء المعاهد المختلفة في أنحاء البلاد. وهاأنت ذا تحضرين عهد ابنه الملك المفدَّى (فاروق الأول) حفظه الله، وتشاهدين أعمال الإنشاء والإصلاح والتجديد(511/28)
أيتها السيدة الفاضلة: بالله عليك، تكلمي وحدثينا، هل كان الأجدر بنا أن نبقى على القديم. . . وهل نحن أفلحنا في الانتقال من القديم إلى الجديد؟. . . وهل نحن حقاً في بداية عصر جميل جديد؟. . . أم لا تزال هناك بعض الشوائب علقت بهذا الجديد فشوهت جماله؟
لا شك أننا قد خطونا في تقدمنا نحو الجديد بخطى واسعة وأنه قد آن لنا أن نحد من سرعة هذا التقدم، فنعمل على تقوية أخلاقنا وتقويمها ونشجع البحث العلمي الصحيح ونشر الآداب والعلوم على شرط أن نعاقب على السرقات الأدبية والعلمية، ونطهر مصالحنا العامة من (أدوات الحكم) الماضي. حقاً سيدتي! إنني أعرف رئيساً في مصلحة حكومية، يحكم فيها - بدون لائحة داخلية أم نظام للعمل - حكما دكتاتورياً، في وقت تحارب فيه الدكتاتورية، ويفخر بأن له 32 سنة خدمة في هذه المصلحة، مع أنه لم يحصل في أثناء هذه المدة الطويلة على شهادة دراسية من أي نوع كان، ولم يؤلف خلالها أي بحث علمي أو مقال صغير، بالرغم من أن هذه المصلحة يجب أن تكون في صفوف المعاهد العلمية الراقية. ولي صديق عزيز طبع في كل شيء على نقيض هذا (الرئيس)؛ فهو متعلم وله أبحاث علمية وذو خلق قويم مع عفة نفس وشهامة وترفع عن إيذاء مرءوسيه. وشاء حظ هذا الصديق أن يشتغل في هذه المصلحة؛ فما قولك يا سيدتي في أن هذا (الرئيس) يغار من صديقي ويحاول أن يحقر من شأنه ويحول دون مواصلته أبحاثه العلمية ولا يدع له أي مجال لإظهار كفاءته ومقدرته على العمل، ولا يراعي في ذلك الصالح العام. وقد بلغ السفه بهذا (الرئيس) أن سب مصور هذه المصلحة ورماه بالسخف لأنه التقط صورة صديقي إلى جانب كبير من أكبر كبراء البلد! مع أن صديقي قام بالواجب نحو هذا الكبير ولم يشعره بكثرة تغيب الرئيس عن أعمال مصلحته وعدم محافظته على مواعيد العمل بها
هذه يا سيدتي الفاضلة حالة تكاد تكون فردية، أرجو ألا يكون لها أو لأمثالها أي اعتبار لديك إذا تفضلت ودونت مذكراتك عن مصر. وإنني أرى أن نهدم هذه البقية الباقية من فترة الانتقال هدماً لا قيام لها من بعده، قبل أن نتابع طريقنا نحو الجديد الجميل!. . .
محمد مصطفى
مساعد في دار الآثار العربية(511/29)
معركة الآزور
للشاعر الإنجليزي ألفريد تيسون
بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة
(بقية ما نشر في العدد الماضي من ترجمة القصيدة)
وفيما كانت (سان فيليب) تشرف علينا من موضعها هذا إشراف السحابة التي توشك أن تنقض بصواعقها في تواتر وعنف، كانت أربعة من الغلايين الإسبانية قد انحازت عن الأسطول جانباً، فاستقر اثنان منها على يسار سفينتنا واثنان منها على يمينها، ثم انثالت قذائف الدمار علينا منها جميعاً. ولكن سرعان ما تبينت سان فيليب حرج موقفها فارتدت مبهورة، وفي جوفها ما يقض ويرمض. . . ثم انحدرت إلى سفينتنا عُصب من سائر السفن تقاتلنا يداً بيد. اثنتي عشرة مرة يقتحمون صفوفنا برماحهم وقذافاتهم، واثنتي عشر مرة ننفضهم عنا كما ينفض الكلب الواثب من الماء أذنيه البليلتين
. . . أخيراً يقل وجه النهار وتوارت الشمس بالحجاب، ثم طلعت نجوم الليل فوق صفحة المحيط الدافئ؛ ولكن المعركة القائمة بين سفينة واحدة وثلاث وخمسين لم تكف لحظة. . . فقد كانت (غلايينهم) السامقة تنساب إلينا سفيناً بعد سفين، على مدى فترة الليل الطويل، فتقذفنا بجاحم من متسعَر نارها ومتأجج حممها؛ ولكنها ما ترتد إلا وقد تخضبت بدم قتلاها وتجللت بسواد فضيحتها وعارها. لقد ابتلع اليم فريقاً منها، ومزقت قذائفنا فريقاً آخر لم يعد يملك معه للنضال سبيلاً. فيا لها من موقعة عجب، لم تقع عين لها من قبل على شبيه!!
كانت سفينتنا لا تزيد على حطام متناثر عند ما راح قائدنا يهتف في قوة: ناضلوا، ناضلوا! وما كادت تولى بُهْرة هذا الليل المتقاصر حتى أصيب بجراحة غادر من أجلها ظهر السفينة إلى حيث يضمَّد له. . . ولكن قذيفة أخرى مسددة شقت طريقها إلى طبيبه الذي يقوم عليه فخر في موضعه صريعاً، وأصيب هو بجراح أخرى في جنبه وفي شواه، فما كان إلا أن هتف مكرراً دعوته: ناضلوا، ناضلوا!
انحسر نقاب الظلام، وذر قرن الشمس على الأفق البعيد، ورأينا الأسطول الإسباني بدعائمه المنهارة قد أحصر بنا من كل وجهة، وطوقنا في دائرة تامة. ولكن سفينة واحدة لم(511/31)
تجرؤ على معاودة نزالنا، كأنما قد خشوا أن يكون في نكزنا فضل من حُمة! فانحازوا إلى ناحية منا يتوكّفون مغبة هذا النضال الرائع. ولم نكن قد قاتلناهم عبثاً، ولكن حالتنا كانت بالغة الخطورة، إذ أودى من رجالنا المائة أربعون في محتدم هذا الصراع اليائس؛ وأصيب شطر الباقين بما آفَهُم وأقعدهم عن التصرف مدى الحياة. أما مرضانا في قاع السفين فقد مُنوا من نفحات البرد بما يبَّس أعضاءهم وشلَّ قواهم. . .
وهوت الرماح من أيدينا جميعاً بين متقصَد ومنآد، ونفدت كل ذخيرتنا من القذائف والمتفجرات، وامتلأت جنبات السفينة بكل شراع مقدود وقلَس مبتوت؛ ولكن السير رتشارد راح يتحدث إلينا في كبريائه الإنجليزية فقال:
أيها الرفاق، لقد اضطلعنا طوال يوم وليلة بحرب لن يكون مثلها أبداً، وربحنا من المجد وكرم الذكرى ما أناف بنا على اليفاع؛ وسنودع الحياة في يوم قريب أو بعيد، على نجوة هذا الشاطئ أو في أثباج هذا اليم، فهل نبالي متى يكون ذلك أو كيف يكون؟ ألا أغرق لنا السفينة يا سيدي المدفعي! أغرقها!! أجعلها شطرين. . . ولنقع بين يدي الله ولا نقع في أيدي الإسبانيين!
وأجاب المدفعي الباسل: أجل، أجل. . . ولكن البحارة اعترضوا قائلين: إن لدينا أطفالاً وخلفنا زوجات، وها قد حفظ الله علينا حياتنا، فلنستوثق من الإسبانيين بعهد على أن نحاجزهم فيخلوا سَربنا، لأن من الخير أن نعيش الآن حتى نعود إلى قتالهم في مؤتنف الأيام، فنكيل لهم الطعن خِلاجاً والضرب هَذاذَيْك. . . وهكذا ألقوا السلَم إلى أعدائهم بينما اضطجع القائد الباسل يودع حياته ويجود بآخر أنفاسه
وحملته ثلة من الأسبان المتغطرفين إلى سفينة قائدهم فأضجعوه إلى جانب الدَقل. . . وأقبل عليه القوم يزكّون عمله بلهجتهم الأجنبية المتظرفة، ويشيدون ببطولته على مرأى منه ومسمع؛ فما كان إلا أن نهض بينهم وهو يصيح قائلاً: لقد حاربت في سبيل ملكتي وبلادي كما يحارب الرجل الشجاع المحق. . . لم أزد على أن أديت واجبي كاملاً كما ينبغي أن يؤديه رجل. . . وهاأنا، سير رتشارد جرانفيل، أموت وملء نفسي الغبطة والاطمئنان
ثم سقط في موضعه يكيد بنفسه حتى صفرت منه الوطاب
وحدقوا بأبصارهم في وجه الصريع الذي تجسمت فيه الشجاعة وصدق البلاء، الذي طامن(511/32)
من نخوة أسبانيا، وطأطأ من إشرافها بما تحدى به أسطولها الضخم من فلك صغير وشرذمة من الرجال قلائل. . . أشيطاناً كان هذا أم إنساناً؟. . . لقد كان الشيطان بعينه من أية وجهة نظروا إليه. على أنهم احتفلوا بإيداع جثمانه اليم احتفالاً ملؤه التجلة والتكريم. ثم احتلوا: (الانتقام) بشرذمة من بحارتهم ذوي السحن الغريبة والوجوه السمراء. واستأنفت السفينة رحلتها في رفقة ضحاياها، وهي تكابد غصص الآلام من مواجعها الخاصة غب المعركة الرهيبة
وما أسرع ما نهضت الرياح من غفوتها، وهبت عليهم بحفلات من قبَل الأرض التي اعتبدوا أهلها وعاثوا في أرجامها مفسدين
وبدأ اليم يرغي ويزبد والسماء تئن وتزمجر، فما أسدل الليل ستوره إلا والقواصف العاتية تجتاح البحر من كل جهة؛ والموج يتدفع حول السفن كأنما تركه أيدي الزلازل، ويتدفق على جوانبها وأشرعتها، فلا ينحسر منها إلا عن دوقل مصدوع أو علم منزوع
ثم استجمع البحر قواه وعطف على الأسطول الذي أوهنت من تجلده القذائف فلفه في أحضانه
أما سفينتنا (الانتقام) فقد غاصت بدورها إلى جانب إحدى الرضام القوابع تحت الماء، مودعة حياتها إلى الأبد في أعماق هذا الخضم الجياش.
(جرجا)
محمود عزت عرفة(511/33)
البَريدُ الأدَبيّ
اقتراح مقدم إلى المجمع اللغوي في ضبط الخلاف بين العربية
والعامية
قدم بعض أساتذة كلية اللغة العربية اقتراحاً برأي جديد يرمي إلى تقريب الخلاف بين العربية والعامية، وإرجاعه إلى أصول ثابتة، وقواعد مضبوطة، تكون فيها العربية عربية بمقتضى هذه الأصول، وتكون العامية عامية بمقتضى هذه القواعد، فلا يشتبه أمر ذلك على أحد، ولا يكون فيه أثر لتعنت أو تحكم
والأصول التي يجب أن يرجع إليها في ذلك هي الأصول النحوية والصرفية والبلاغية؛ فكل كلمة لا تخالف شيئاً من هذه الأصول تكون عربية مقبولة، وكل كلمة لا توافق شيئاً من هذه الأصول تكون عامية غير مقبولة؛ وبهذا يكون قول العامة عباية في عباءة غير صحيح ولا مقبول، لأنه لا يجري على قاعدة الصرف في قلب الهمزة ياء، وكذلك قولهم توب بالتاء المثلثة، وقولهم جعر بالعين في جأر بالهمزة، وهكذا. ويكون قول العامة تِرْمس بكسر التاء والميم صحيحاً، لأنه لم يخرج عن أوزان الاسم الرباعي، وكذلك قولهم حُصان بضم الحاء، وقولهم معدن بفتح الدال، لأن هذا كله لا يخالف قاعدة من قواعد العربية ولا يؤثر بشيء في صميم اللغة ولا دليل على فساده عندهم إلا أن أئمة اللغة لم ينصوا عليه في كتبهم، مع أن حكم أئمة اللغة في لك قائم على الاستقرار الناقص، لأن لغة العرب من السعة بحيث لا يحيط بها إلا الله تعالى، والاستقرار الناقص لا يفيد العلم كما هو ثابت في علم المنطق.
(. . .)
جائزة فاروق الأول في مباراة الشعر والقصة
اجتمعت لجنة الأدب مجمع فؤاد الأول للغة العربية ونظرت في الجائزة التي خصصتها السيدة هدى هانم شعراوي وقدرها مائة جنيه مصري لإقامة مباراة سنوية باسم (جائزة فاروق الأول للشعر العربي والقصة المصرية) على أن توزع الجوائز كما يلي: 40 جنيهاً للفائز الأول في القصة المصرية، و20 جنيهاً للفائز الثاني فيها، و25 جنيهاً للفائز الأول(511/34)
في مباراة الشعر العربي، و15 جنيهاً للفائز الثاني فيه، على أن تكون المباراة بإشراف المجمع اللغوي
وقد قررت اللجنة أن تكون القصة باللغة العربية الفصحى، وأن تكون مبتكرة لم يسبق نشرها، وان تعرض صورة من صور الحياة المصرية العصرية، وألا يقل عن ستين صفحة؛ وأن يكون آخر موعد لقبول الاشتراك في هذه المباراة أول نوفمبر سنة 1943
كذلك اشترطت في نظم القصيدة المقررة للمسابقة أن تكون في أحد الموضوعين الآتيين: حياة الريف المصري - فصول السنة في مصر، وأن تكون مبتكرة لم يسبق نشرها، وألا تقل عن أربعين بيتاً. وآخر موعد لقبول الاشتراك فيها أول سبتمبر سنة 1943، وللمتبارين أن يذكروا أسمائهم أو أن يختاروا أسماء مستعارة والمحكمون هم أعضاء لجنة الأدب وترسل القصص والقصائد إلى كاتب اللجنة بالمجمع.
حول مسقط رأس السيد جمال الدين
ذكر الأستاذ محمد عبد الغفار الهاشمي الأفغاني أن السيد جمال الدين ولد في قرية (أسد أباد) لا (أسعد أباد). وقد استطعت من البحث أن أقف على ما يأتي:
1 - جاء في دائرة المعارف للبستاني: أسد أباذ مدينة بينها وبين همذان مرحلة واحدة نحو العراق، وبينها وبين مطبخ كسرى ثلاثة فراسخ وإلى قصر اللصوص أربعة فراسخ. ذكرها ياقوت وقال عمرها أسد بن ذي السرو الحميري في اجتيازه مع تبّع. . . وأسد أباذ أيضاً قرية من أعمال بيهق ثم من نواحي نيسابور أنشأها أسد بن عبد الله القسري سنة 120 هجرية لما كان على خراسان من قبل أخيه خالد في أيام هشام بن عبد الملك
2 - وجاء في دائرة المعارف الإسلامية (المجلد الثاني ص103 ما نصه: (أسد أباذ): مدينة في بلاد الجبل (ميديا) على بعد بضعة فراسخ أو مسيرة يوم إلى الغرب من همذان، وهي واقعة على المنحدر لجبل أروند عند مدخل سهل خصب مزروع يبلغ ارتفاعه نحو 5659 قدماً. وكانت أسد أباذ في عهد العرب إبان العصور الوسطى وفي عهد المغل (كذا) كذلك مدينة زاهرة كثيرة السكان بها أسواق عامرة. وأسد آباذ اليوم بلدة جميلة بها نحو مائتي منزل (كما يسكن بعضها أسر يهودية. ويسمى الفرس هذه البلدة (كما يروي بعض الرحالة الأوربيين، (أبسد آباذ) وكذلك (سعيد آباذ) أو (سهد آباذ) الخ. . .(511/35)
ولقد حاولت أن أوفق بين ما قاله الأستاذ وما ورد في الدائرتين المذكورتين فلم أوفق؛ فبينما هي - كما ذكر - قرية خربة لم يبق منها إلا الأثر إذ هي في دائرة المعارف الإسلامية مدينة زاهرة أو بلدة جميلة
لذلك آثرت أن أقف عند هذا الحد، وأن أدع لقراء الرسالة فرصة البحث عن مسقط رأس أبي النهضة الشرقية.
محمود شلبي
حول (معركة الآزور)
نشر الأستاذ محمود عزت عرفة ترجمة جزء من قصيدة لشاعر الإنجليز (تنسون) وقد راعنا من الأستاذ تصرفه في الترجمة تصرفاً شديداً لا تدعو إليه ضرورة، وإغراقه في المجازات والاستعارات والتشبيهات مما لا وجود له في أصل القصيدة ولا قبل له باحتماله، وتعسفه في تصيد الكلمات الغريبة.
وقد جاءت ترجمة الأستاذ أطول من الأصل كثيراً لكثرة ما زاد عليه من حشو وذيول.
قال الأستاذ: (كان السير رتشارد جرانفل مرفئاً بسفينته إلى جدة من جدد شاطئ الفلورز إحدى جزر الخالدات، عندما أقبل زورق ذو مجاذيف يهوي من بعيد كأنه الطائر يزف بجناحيه. وارتفع صوت من داخله يقول: السفن الحربية الإسبانية تمخر العباب. . . لقد رأينا منها ثلاثاً وخمسين). فإذا رجعنا إلى الأصل وجدناه هكذا:
, , ' ,
وترجمته: بينما كان السير رتشارد جرنفل عند فلورز في الجزر الخالدات إذ أقبل من بعيد زورق حربي يخفق خفقان الطائر: (السفن الحربية الإسبانية في اليم لقد رأينا منها ثلاثاً وخمسين!)
ويقول الأستاذ: (وهكذا انسحب لورد هوارد بخمس من السفن الحربية في ذلك اليوم، وانطلق موغلاً في اليوم حتى ذاب كما تذوب السحابة في صفحة الأفق الغارق في الصمت(511/36)
المتشح بالدفء والسكون)
ففي أي مكان من الأصل تقع هذه المجازات والاستعارات وهو:
,
;
وترجمة: (ابتعد لورد هوارد في خمس سفن حربية، حتى تلاشى تلاشى سحابة في سماء صيفية ساكنة)
وشر من ذلك في الحذلقة قول الأستاذ: (نحن جميعاً من أبناء إنجلترا الأنجاد وفتيانها المصاليت؛ فدعونا نسدد الطعن وخضاً إلى هذه الكلاب (الإشبيلية) الخواسئ أبناء الأبالسة ونسل الشياطين. والأصل:
. . . ,
,
وترجمته: (نحن جميعاً إنجليز كرام؛ فهيا بنا نضرب هؤلاء الكلاب الأشبيليين، أبناء الشياطين) فأين من هذا (المصاليت والطعن الوخض). ومثله قوله: (نطق السير رتشارد بهذا، ثم افتر فمه عن ابتسامة ساخرة فانفجرنا جميعاً نهتف في صوت مدو: مرحى، مرحى!. . . وهكذا صمدت (الانتقام) صمد عدوها دون محاشاة، وعلى ظهرها مائة مقاتل، وفي جوفها تسعون مريضاً قد أداءتهم العلل وبرحت بهم الأسقام) والأصل:
' , ' ,
, , ;
وترجمته: (نطق السير رتشارد بهذا ضاحكاً فزأرنا مرحى مرحى، واندفعت (الانتقام) الصغيرة خفيفة إلى قلب العدو وعلى ظهرها مائة مقاتل تحتهم تسعون مريضاً)
ومثل ذلك في الأغراب قوله: (بجدت في موضعها لا تريم) و (أُغر دعن لقائهم) و (الحاملة جماء ألف من الأطنان وخمسمائة) ويقول الأستاذ (ألوفاً آخرين من بحارتهم يسخرون من المركب الصغير الذي ركب فيما زعموا متن الغرر، وأقحم نفسه بلقائهم المتالف) والأصل:
وترجمته: (ألوف من بحارتهم سخروا من المركب الصغير الأخرق)(511/37)
هذا، ولم يترجم الأستاذ غير ثلث القصيدة فشغل نحو صفحة من الرسالة، وكان يمكن ألا يشغل إلا نصفها إذ الأصل طولا كذلك.
(سمالوط)
محمد خليفة التونسي
هل ذلك من نوادر الخواطر؟
وقع في يدي منذ أيام كتاب بعنوان (مصر قي قيصرية الإسكندر المقدوني)، وهو من الكتب التي تعد حديثة، وكاتبه هو الأستاذ إسماعيل مظهر، فوجدته ترجمة حرفية للفصل الأول من كتاب:
ولم يأت الكتاب بشيء من عنده اللهم إلا بعنوان كتابه هذا، وحتى هذا العنوان إذا راعينا الدقة العلمية نجد فيه خطأ، فكلمة قيصرية هذه لم تعرف إلا منذ عهد يوليوس قيصر - نسبة لاسمه - فكيف ينسبها الأستاذ مظهر إلى الإسكندر المقدوني الذي سبق قيصر بنحو ثلاثة قرون.
مختار العبادي
طالب بكلية الأداب - جامعة فاروق)(511/38)
ديوان أغاني البحيرة
دفقات من السنا الفتان
وانطلاق النشيد من فنان
ونقاء الضمير من روحاني
صاغها شاعر نديّ المعاني
لم يزل كالربيع في الريعان
عبد الحسن؛ حسن تلك المغاني
بين موج سعى إلى الشطآن
ونسيم سرى إلى الوديان
فأذاب الفؤاد في الألحان
فوق ثغر البحيرة الوسنان
حسين محمود الشبيشي
(كرنا) لاتينية وليست فرنسية
كتب الأستاذ زكي مبارك في مقال له بالرسالة أن (كرنات) منقولة عن الكلمة الفرنسية أي التيجان، وفي الواقع لم تعرف مصر هذه الكلمة عن الفرنسيين، بل عرفتها منذ حكم روما لمصر، إذ أن كلمة (كرنات) لاتينية في الأصل، ونقلتها فرنسا، كما تداولها أهل مصر، وكان الرومان قد اعتادوا في الحفلات أن يزينوا رؤوسهم بأكاليل عبارة عن غصون من شجر الزيتون، على شكل تاج يطلقون عليها اسم وهذه هي الكلمة التي أرادها الدكتور مبارك ونسبها إلى اللغة الفرنسية، وقد أبان عن اغتباطه بنسبة هذه الكلمة للأدب الفرنسي، ولعله يغتبط أكثر عندما يعرف أنها لاتينية، كثيراً ما ذكرها شعراء الرومان الغزليون والخمريون، مثل كاتولوس وغيره من شعراء روما القدماء.
صموئيل كامل عبد السيد
بالدراسات اليونانية والرومانية - كلية الآداب(511/39)
العدد 512 - بتاريخ: 26 - 04 - 1943(/)
9 - دفاع عن البلاغة
الأسلوب
لعل ما عرضته عليك من إجمال القول في البلاغة كان توطئة لتفصيل
الكلام في الأسلوب. ذلك لأن الأسلوب هو مظهر الهندسة الروحية لهذه
الملكة النفسية، يبرزها للعيان، ويصل بينها وبين الأذهان، وينقل أثرها
المضمر إلى الأغراض المختلفة والغايات البعيدة. وكتب البلاغة في
لغتنا لم تُعن إلا بالجمل ومل يعرض لها في علم المعاني، وإلا بالصور
وما يتنوع منها في علم البيان؛ أما الأسلوب من حيث هو فكرة
وصورة معاً فقد سكتت عنه سكوت الجاهل به. وكان الظن بمن خلفوا
عبد القاهر وأبا هلال وابن الأثير أن يفطنوا إليه بعد ما دلوهم عليه
بذكرهم بعض خصائصه الفنية وصفاته اللفظية، وإن كان ما ذكروه من
ذلك جاء فطيراً لم يختمر، وخديجاً لم يكتمل، وشائعاً لم يحدد، ومشوشاً
لم يرتب؛ ولكنهم صُّموا عن تنبيه العسكري، وعموا عن توجيه
الجرجاني، ومضوا على نحائزهم الأعجمية يفلسفون النحو والبلاغة لا
لشيء غير الفهاهة والحذلقة. والأسلوب كما قال لهم ابن خلدون في
مقدمته: (لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو
وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التركيب
الذي هو وظيفة البلاغة والبيان. . . وإنما يرجع إلى صورة ذهنية
للتراكيب. . . وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب
وأشخاصها ويصيِّرها في الخيال كالقالب والمنوال، ثم ينتقي التراكيب
الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصها فيه رصَّاً كما(512/1)
يفعله البناء في القالب والنساج في المنوال حتى يتسع بحصول
التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار
ملكة اللسان العربي فيه، فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به
وتوجد فيه على أنحاء مختلفة. . .) لذلك حسب المدفوعون بطبائعهم
عن موارد البلاغة من طول ما ثرثروا حول الجمل والصور في
عصور العجمة، أن الأسلوب سرد ألفاظ لا تسفر عن معنى، وحشد
أسجاع لا تؤدي إلى غرض
إذن ما هو الأسلوب؟ الأسلوب هو طريقة الكاتب أو الشاعر الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام. وهذه الطريقة فضلاً عن اختلافها في الكتَّاب والشعراء تختلف في الكاتب أو الشاعر نفسه باختلاف الفن الذي يعالجه، والموضوع الذي يكتبه، والشخص الذي يتكلم بلسانه أو يتكلم عنه. ولكن الأساليب مهما اختلفت باختلاف الأفراد، وتنوعت بتنوع الأغراض، فإنها تتسم جميعاً بسمات واحدة من عبقرية الأمة. ومنطق ذلك أن الصفات المشتركة في آحاد الأمة تتلاقى وتتجمع فتكوِّن خصائصها التي تميِّزها من سواها. وهذه الخصائص نفسها تنطبع في لغتها فتكون طرازاً عاماً في كل أسلوب
وعلى قدر ما تكون هذه الخصائص في الأمة تكون قابلية الأساليب فيها للاختلاف. فالصفات القومية في الأمة العربية كانت في جاهليتها شديدة الظهور والعموم حتى لم يكن بين صفات الفرد وصفات الجماعة إلا فروق لا تكاد تلحظ. ومن ثم تشابهت أساليب الشعر والخطابة في ذلك العصر فلا تستبين فروقها الدقيقة إلا للناقد البصير. ومن اختلف أسلوبه من الشعراء الجاهليين فقد اختلف لتغلب صفاته الخاصة، كأمية بن أبي الصلت وعدي بن زيد. فلما جاء الإسلام أخذت هذه الفروق تتضح وتتباين حتى بلغت غايتها من ذلك في العصر العباسي حين صارت اللغة العربية لغة الإسلام، والأدب العربي أدب الشرق
والفنان العبقري هو وحده الذي يستطيع أن يغلِّب صفاته الخاصة على صفات قومه العامة فيتميز طابعه ويستقل أسلوبه. أما العاديون والمقلدون من حملة الرواسم وحفظة التعابير(512/2)
فتظل أساليبهم نسخاً منقولة عن الأصول العامة الموروثة لا يختلف بعضها عن بعض إلا بمقدار ما تختلف رسائل التجار وكتب الدواوين
وبهذه الصفات القومية العامة تميزت لغة من لغة، واختلف أدب عن أدب؛ فاللغات الشرقية في جملتها تتميز من الغربية بالزخرف والأبهة والانتفاخ والتبجيل والتهويل والصوفية؛ لأن شعوبها صبغوها بهذه الأصباغ من صفاتهم الخاصة. والفروق المعروفة بين الفرنسية في وضوحها ودقتها، وبين الإيطالية في رخاوتها ورقتها، وبين الإنجليزية في خشونتها وقوتها، هي نفسها الفروق بين أصحاب هذه الأمم الثلاث في أصل الجبلَّة وموروث الطبع
وكما تؤثر صفات الأمة في طبيعة اللغة، تؤثر طبيعة اللغة في أسلوب الكاتب؛ فاللغات التي اكتسبت من مدنية أهلها رقة اللفظ وأناقة العبارة، ومن شاعريتهم جمال الصور وروعة الأخيلة، تغنى الكاتب بموسيقاها وحلاها عن كد القريحة في ابتكار المعاني واستنباط الفكر. أما اللغات التي لم تؤتها الطبيعة حظاً موفوراً من سحر اللفظ وفتون الصياغة، فكتابها مضطرون إلى أن يعوضوا أساليبهم من ذلك، وجازة التعبير، ووزانة التفكير، ومدَّ القارئ بفيض من المعاني يشغله عن الفكر فيما فاته من جمال الأسلوب
واللغة العربية من النوع الأول، طبعها أهلها منذ القدم على موسقة الألفاظ، وتنويع المعاني بصور البيان، وتفويف الجمل بألوان البديع، لا فرق في ذلك بين بداوتها وحضارتها، ولا بين فصحاها وعاميتها، حتى اطمأن كثير من رجال القلم إلى أن يُعفوا طباعهم من جهد التفكير ويحاولوا امتلاك القلوب بروعة الأسلوب، فكانت المقالة أو القصيدة أشبه بالقطعة الموسيقية تخلب الأذن ولا يبلغ النفس والذهن منها غير رجع ضعيف. ومن هنا قرَّ في أكثر النفوس أن الأسلوب إنما يطلق على الجانب اللفظي من الكلام، حتى قال الأستاذ الرافعي طيب الله ذكره: (فصل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، والأديب فكرة وأسلوبها) ففصل بين الفكرة والأسلوب، واعترف بالأسلوب للأديب وأنكره للعالم. ولعلِّي أوفق إلى تصحيح هذا الرأي فيما يلي من هذا الحديث.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات(512/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بلاء الناس بالناس - ملك الشط والفراتين - زيارة سياسية
بلاء الناس بالناس
تمرّ بنا لحظات كدر وغيظ لا يخلقها غير بلاء الناس بالناس. . . نعم، تمرّ بنا لحظات نحسد فيها سكان المغاور والكهوف، ونتمنى عيش العزلة إلى آخر الزمان
هذه الحرب صنعت ما صنعت بالأرزاق والأقوات، ولم تترك بيتاً بلا متاعب معاشية، فهل تأدب الناس وتذكروا أنهم يعيشون في أعوام حرب؟ وهل تقع العيون على ناس تشهد ملابسهم بأنهم يعانون أزمات الحرب؟
قيل أن المال كثر وفاض، فعند من كثر المال وفاض؟ لم يكثر إلا عند التجار. وكثرة المال عند التجار مفسدة معاشية لا يدرك خطرها إلا الأقلون، وهي ناشئة عن بلاء الناس بالناس. . . ولكن كيف؟
الموظف المحدود الراتب، والمالك المحدود الإيراد، لا يريد هذا أو ذاك أن يقال إن حياته تعرضت لمتاعب الغلاء، فهو كما كان يعيش في أيام الرخاء، وإن كلفه ذلك غمّ القلب وهموم الديون
ما هذه الملابس الجديدة في زمن ليس فيه جديد غير دماء القتال؟ وما هذه العطور والمساحيق والأزياء في أيام لا يتعطر فيها الجو بغير جثث المحاربين؟
لو راعى الناس أنهم يعيشون في زمن حرب فخففوا من بعض المطالب لاعتدلت أسعار الحاجيات وانقشع كرب الغلاء، ولكنهم لجهلهم يأبون الاعتراف بمكاره الحرب، ويصروّن على الظهور بمظهر الوجاهة في كل مجتمع وفي كل ناد
هل عندك أبناء وبنات يتعلمون في المدارس؟
لك الله، إن كان هذا حالك، فلن تستطيع أن تقنع ابنك أو بنتك بأن الدنيا في حرب وكرب، لأن هذا الإقناع لن يتيسر إلا إذا عُقد مؤتمر من آباء التلاميذ يقررون فيه الاستغناء عن الفضول في الملابس والأزياء، ولن يُعقد المؤتمر المنشود إلا إذا وجد في آباء التلاميذ من يجرؤ على القول بأن أعوام الحرب صيرته خفيف الجيب!(512/5)
وآه ثم آه من بلاء الناس بالناس!
قَدِمَ مندوب المتجر الفلاني إلى المدرسة الفلانية وأخذ مقاس جميع التلميذات بدون استئذان ليعدّ لهن أثواب الصيف، وهو موقن بأن لن يكون في مقدور تلميذة أن ترفض ثوبها (يوم الحساب) لئلا يقال إن أباها من الفقراء!
فما شأن المتجر الفلاني بالمدرسة الفلانية؟
وما الذي يوجب أن تكون ملابس جميع التلميذات كأسنان المشط في اللون والاستواء. وقد نوّع الله الوجوه والملامح أغرب التنويع؟
أفي مثل هذه الأيام نعرف الفروق بين ملابس الصيف وملابس الشتاء؟
كان الظن أن يعرف نظار وناظرات بعض المدارس أن في الآباء من لم يستفد من فرص الحرب، كما استفاد من سيكونون طعام سقر من التجار المنهومين
وكان الظن بالأغنياء الذين يدللون أبناءهم أن يتذكروا أن لأبنائهم رفاقاً لا يملكون من الترف ما يملكون، وأن الأدب مع الله يفرض علينا أن نستر نعم الله، فلا نجأر في كل لحظة بأننا أغنياء، لنكدر عيش الفقراء
وآه ثم آه من بلاء الناس بالناس!
الظواهر لا تشغل الخلائق إلا حين يُحرمون جمال المعاني
والمفاضلة بين تلميذ وتلميذ في هذا العصر مفاضلة بين ثوب وثوب، وليست مفاضلة بين عقل وعقل، ولهذا كثرت خيبة التلاميذ النجباء!
ما لي ولهذا الكلام المزعج؟
هو كلام ساقه جزعي من العجز عن ادخار درهم واحد في مدى شهرين، بسبب الجو الذي يحيط بي وبأبنائي، جوّ الزخرف الذي يحيا فيه الأصحاب والجيران
كنت أوصي تلاميذي في مصر وفي العراق بالادخار، وكنت أقول لهم إن الادخار هو الذي منحني الفرصة لإتمام دراستي العالية في باريس، بعد توفيق الله. واليوم يصعب عليّ أن أوصي أبنائي بما كنت أوصي به تلاميذي. وكيف يسمع أبنائي ما أقول ومن حولهم خلائق عجز عن تأديبها الزمان؟
إن عدوى الترف سريعة الإيذاء، فلنحترس من شرها كل الاحتراس(512/6)
وكيف نحترس وليس في الدنيا طفلٌ يعرف أن أباه لا يبخل عليه بالترف إلا ليدّخر له ما ينفع في الأيام المقبلات؟
إن أبناءنا لا يريدون أن نطمئن على سلامتهم من الوجهة الروحية، وإلا فكيف جاز أن تكثر رغبتهم في الزخارف وثقل رغبتهم في الحقائق؟
عفا الله عنهم، فهم ضحايا بلاء الناس بالناس!
إن حال الرجال من هذه الناحية مقبول، فما أذكر أني رأيت مدرساً أو مفتشاً يهتم بملابسه اهتماماً يوجب الاعتراض، وإنما الحال المزعج هو حال بعض المدرسات والمفتشات، حال الفساتين التي لا تجاوز الركبتين، حال الزينة التي تنافي وقار التعليم، وكان مهنة الأنبياء
وفي إحدى المدارس رأيت مدرِّسة ضنت على نفسها بالزينة الزخرفية، فزاد إيماني بعظمة بلادي، وأيقنت أن (ربة البيت) بخير وعافية، وأن مصر في أمان من طغيان الخسران
عندنا مدرِّسات حقاً وصدقاً، مدرسات يتحلين بالعلم لا بالزينة، وبفضل أمثال هؤلاء المدرسات سنبلغ من تعليم البنات ما نريد
المدرسات المصريات في هذا العهد يجاهدن بصدق للتغلب على السخف الذي جلبه الجانب الضعيف من المدنية الغربية، ويحاولن بصدق أن يكن مدرسات لا وصيفات
وقد صار من المألوف أن تجد مدرسات يقهرنك قهراً على بذل تحية التعظيم والتبجيل، وهي تحية أكرم وأشرف من تحية الحسن المجلوب
وأرجو أن يفهم القارئ أن كلامي هذا لا يراد به الإيحاء، فما هو إلا صدق في صدق، بعد ملاحظات ومشاهدات جعلتني من المطمئنين إلى صحة ما أقول
وأنا مع هذا منزعج مما صرنا إليه في مدارس البنات ومدارس البنين
هل عندنا مدرسة توصي تلاميذها بأن لا يكلفوا آباءهم ما لا يطاق؟
هل عندنا مدرسة تفكر في أن تكون من الأسندة للبيوت؟
التلميذ لا ينجح بتفوق إلا إذا أمدته المقادير بالدروس الخصوصية، فمتى نثق بكفاية الدروس المدرسية؟
وما قيمة المدرس الذي لا يتفتح عقل تلميذه إلا إن خاطبه لسان إلى لسان؛ بين أربعة جدران؟(512/7)
أعوذ بالله من بلاء الناس بالناس!
ملك الشط والفراتين في ضيافة النيل
من مزايا مجلة (الرسالة) أنها تسكت عن الأشخاص ليكون التفاتها كله إلى المعاني، وذلك هو السر في عدم اهتمامها بالإخباريات المتصلة بالأشخاص
قلت لنفسي: ولكن في الأشخاص من يكونون رموزاً للمعاني، فما الذي يمنع من أن أقول على صفحات الرسالة: أهلاً وسهلاً ومرحباً بملك الشط والفراتين!
كانوا يسمونه الملك الطفل، فسميته الملك الشبل، جعله الله أكرم الأشبال!
و (ملك الشط والفراتين) لقبٌ جميل صاغه شاعرنا شوقي في القصيد الذي يغنيه محمد عبد الوهاب في تحية فيصل الأول. والشط هو شط العرب، والفراتان: دجلة والفرات. . . ولو كانت الأقدار سمحت بأن يزور شوقي ديار (الشط والفراتين) لجاد شعره بأطايب لا يجود بمثلها الخيال
وهل كان شوقي يشعر بقيمة المبدأ الذي رسمه حين جعل ملك العراق ملك الشط والفراتين؟
ما أغرب ما سمعت في بغداد سنة 1938
سمعت أن العراقيين دعوا (الملك فيصل الأول) إلى الاحتفاظ بالموصل في المؤتمر الذي عقدوه في (الصُّليخ)، فما الصليخ؟
هو مكان في ضواحي بغداد مرت به لحظة تاريخية. وقد زرته زيارة الطيف في ليلة شاتية لأتنسم الجو الذي قيل فيه بحضرة فيصل الأول: إن العراق لا يستغني عن الموصل بأي حال
ثم زرت الموصل الذي لا يجوز عنه الاستغناء فهالني أن أرى روحانيات مختلفات، وعز عليَّ أن يكون الموصل مما يدخل في الحساب عند تقسيم المغاني، مع أنه كان ولا يزال ولن يزال من صميم الأرومة العربية
وقد زرت الشط، شط العرب، بعد أن شهدت العراك الذي دار في مجلس النواب العراقي حول معاهدة الحدود
وأصغيت بأذنيَّ وبقلبي إلى الصوت الذي قال: من غفلة العرب أن ينسوا الأهواز، مع أنها أحق بالعطف من فلسطين(512/8)
لقد نفضت يدي من السياسة بعد أن آذتني في وطني.
فكيف جاز أن ألتفت إلى السياسة يوم كنت ضيف العراق؟
هي سياسة روحية تشبه السياسة التي تساور قلبي حين أزور دمياط المصرع الذي انتهى إليه (جامع الفتح) وهو المسجد الثاني في مصر بعد مسجد عمرو بن العاص
دعوت سادن جامع الفتح مرة ومرات فما أجاب؟ وأين السادن لمسجد لا تهتم به لجنة الآثار العربية ولا وزارة الأوقاف؟
ليتني صليت ركعتين على باب ذلك المسجد، وليتني تيممت بما على جدرانه من تراب!
لقد زرت في دمياط مشاهد يجهلها الدكتور علي مصطفى مشرفة ويجهلها الأستاذ عبده حسن الزيات، زرت البلد الذي تحدثت عنه في كتاب (التصوف الإسلامي) قبل أن أراه، لأرفع عن عقلي بعض ما يثقله من أوزار الجهل!
وأين من يعرف حقيقة ما أرويه في هذا الحديث؟
دمياط صورة من البصرة والبصرة صورة من دمياط
الطريق إلى هاتين المدينتين محفوف بالنخيل، وكلتاهما ملتقى للماء العذب والماء الأجاج، مع فروق أوجبها بعد البصرة من دمياط، وكلا البلدين ثغرٌ مخوف، فما يعيش العراق بدون أمان البصرة، ولا تعيش مصر بدون أمان دمياط
هذه السياسة الروحية تزلزل روحي، فلي في كل بلد آلام وآمال، وأنا أجول جولات روحية بكل ما أحب من البلاد في كل مساء، وكأنني أجول في شارع فؤاد. وهل يوجد في أية مدينة شارع له جاذبية شارع فؤاد؟
بالرغم مني أن يكون حظي من المرور بذلك الشارع شبيهاً بمرور الطيف على ديار الأحباب
شارع فؤاد هو طريقي إلى المفوضية العراقية، فهل سمح الوقت بأن أزور فخامة السيد جميل المدفعي وكان رئيس الوزراء حين كنت من الذين يتشرفون بخدمة العلم والأدب في العراق؟
المصري الصادق في خدمة وطنه لا يجد وقتاً لأداء حقوق المجاملات، لأن الشواغل عندنا تفوق الوصف، ولأن في حياتنا متاعب لا يعاني مثلها أحد في سائر البلاد العربية(512/9)
إذا وفد إلى مصر زائرٌ كريم تلفت عساه يرى من يخفون لتحيته من المصريين، ثم تكون النتيجة أن لا يرى غير آحاد من الذين تسمح أوقاتهم بتحية الضيوف، فينصرف وهو متعجب من تهاون المصريين في المجاملات الإخوانية
أقول هذا لأعتذر لفخامة السيد جميل المدفعي، راجياً أن أراه في فرصة قريبة بالقاهرة أو بغداد.
زيارة سياسية!
ضاق الوقت عن التشرف بمقابلة صاحب الجلالة فيصل الثاني، وكنت أحب أن أعرف البواعث لزيارته الكريمة، فقد سمعت ناساً يقولون إنها زيارة سياسية!
نعيش إن شاء الله ويعيش فيصل الثاني إلى أن يتولى السلطة الدستورية وتُصبغ كل أسفاره بالصبغة السياسية. أما زيارة اليوم فهي زيارة ملك ناشئ لا يرى غير الورود والرياحين
وأنا مع هذا موقن بأن زيارته لمصر زيارة سياسية، فقد أبدع بروحه اللطيف جاذبية أخوية تزيد ما بين مصر والعراق من صلات السياسة ليست مقصورة على النظر في المنافع العاجلة أو الآجلة في حيوات الشعوب، فهناك سياسة أعظم وأرفع، وهي سياسة الحب والوداد. والملك فيصل الثاني يسمع من أخبار مصر ما يسمع، ويقرأ من مؤلفات رجالها ما يقرأ، فكان من الواجب أن يراها بعينيه ليحس روحها بأوفى وأصدق ما يكون الإحساس
انتظروا قليلاً، فسترون يوماً أن هذا الملك الناشئ دوّن في مذكراته البسيطة أشياء، فمن المؤكد أن صدره فاض بالجذل والارتياح والاغتباط حين رأى أن لغة العرب لها مدينة مثل القاهرة، ومن المؤكد أنه اطمأن على مصير العروبة حين رأى أن اشتباك المصالح الدولية لم يزحزح القاهرة عن خطتها العربية
وهنا أقول إنه يجب على كل عربي أن يزور القاهرة وأن يرى ما فيها من المدارس والمعاهد والكليات
عاصمة مصر هي العاصمة الأولى في الشرق، وهي في الحضارة والمدنية أعظم من استانبول، وهي أبقى على الزمن من أخطر حواضر اليابان، فقد نجانا الله من أهوال الزلازل والبراكين، وأنعم على بلادنا بوفاء النيل، وأعاننا على كبح ما فُطر عليه من الطغيان(512/10)
ومصر التي هدت الإنسانية إلى حقائق لم يعرفها الغرب إلا بعد أجيال وأجيال ستظل على الدهر وطن الابتكار والابتداع في أكثر الميادين. وهل نطق ناطق بحقيقة علمية أو أدبية أو فلسفية إلا وهو مدين لآبائنا الأولين؟
عنا أُخذ الكفر وعنا أُخذ الإيمان، فما كفر كافر ولا آمن مؤمن بدون أن يكون لنا في عقله وقلبه ديون ثقال
وهل يعرف أحد كيف كفر المصريون في طفولة التاريخ؟
لقد فكروا في محاربة السماء، ليبددوا الوهم القائل بوجود السماء، وأين السماء التي يقيم بها الله، كما كان يقال؟
مصر من صُنع الله، والله لا يصنع غير الحقائق الأزلية، وسيشقى من يشقى في محاربة مصر، ثم تبقى إلى الأبد وهي غرة في جبين الوجود
ما أسعد من يرى مصر أول مرة وهو سليم القلب والوجدان!
إن رؤية مصر في كل صباح وفي كل مساء وعلى طول السنين لم تزهدنا في مرآها الجميل، فكيف تكون الانفعالات النفسية في صدر من يراها لأول عهده بقلبها الخفاق؟
وأنا مع هذا أعاني في رحابك يا وطني ما أعاني، فمتى يخف شقائي بك وعتابي عليك؟
أنا أطلب المستحيل إن طلبت في رحابك الأمان كل الأمان، لأنه حظ الأموات، ونحن أحياء
لك يا وطني أن تبدع ما تبدع من تهاويل الحقائق والأباطيل، وعلينا أن نجاري روحك المبدع فنكون من أقطاب الشعر والبيان.
زكي مبارك(512/11)
ظاهرة جديدة في الأزهر
أمثلة. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
ذكرت في مقالي السابق أن (ظاهرة جديدة) قد ظهرت في الأزهر. تلك الظاهرة هي أحاديث الإصلاح التي كانت حول الأزهر والأزهريين قد أصبحت الآن في الأزهر وبين الأزهريين، وانتقلت من ميدان الرسالة إلى ميادين أخرى في مدرجات الكليات ومجالس الأساتذة ومكاتب الرؤساء، وأنها لم تعد آمالا يُقتصر على ترديدها، بل أهدافا يُرمى إليها، ويقاس القرب والبعد من النجاح بمقياسها.
وقد استبشرت خيراً بهذه الظاهرة لأنها تدل على أن الأزهر قد تنبه واستفاق وأخذ يتساءل عن مصيره، ولأنها تيسر التعاون المثمر بين الدعاة والمدعوين على تحقيق نهضته المرجوة، وأخيراً لأنها صوت الشعب، ولصوت الشعب في الآذان دوىً لا يستطيع أن يتجاهله المتجاهلون
استبشرت خيراً بهذه الظاهرة، وأحببت أن أسجلها على صفحات الرسالة كما هو دأبي، لأني أعتبر (الرسالة) ويعتبرها المخلصون جميعاً مجلة الإصلاح الديني والأزهري ولسان الدعوة إلى إنهاض هذا الشرق وإحياء تراثه المجيد تراث الدولة الإسلامية إبان عظمتها وفي عنفوان شبابها، ولأني أحسب أن تاريخ هذا الجهاد الشريف سيلتمس يوماً ما من مجلداتها فلا ينبغي أن يغيب عنها شيء منه دقَّ أو جلَّ لتكون الصورة كاملة واضحة لا نقص فيها ولا غموض!
واليوم أذكر (أمثلة) لتلك الظاهرة التي وصفت. أمثلة يعرفها كثير من الناس في الأزهر وفي غير الأزهر. ولست أقول: ماذا أذكر منها وماذا أدع، لأنها لم تعد سراً تنطوي عليه الجوانح، وتغلَّق دونه الأبواب؛ ولكن أقول: ماذا أقدم منها وماذا أؤخر؛ لأنها جميعاً أمثلة جديرة بأن تتقدم وبأن يلتفت الناس إليها، ويتفهموا مغزاها، ويدركوا عواقبها. وربما كان من الرأي أن ندع الآن جهود الطلاب ونشاطهم الذي لا يكل في المناداة بتنفيذ خطة الإصلاح، وما يعقدونه ويدعون إليه في مدرجاتهم من اجتماعات أسبوعية يخطبون فيها ويتناظرون، وما يكتبونه من رسائل مفعمة بحماسة الشباب وحرارة الإخلاص يتوجهون بها(512/12)
إلى أساتذتهم ورؤسائهم، وما يبعثون من وفود إلى ولاة الأمور في الحين بعد الحين، لا هاتفة بالمال، ولا ملتمسة الرزق، ولكن هاتفة بالإصلاح راغبة في العلم النافع الذي يصل الأزهر بالحياة. ربما كان من الأوفق أن نترك هذا ونحوه الآن، وأن نلتمس ما نريد من الأمثلة في محيط غير هذا المحيط ليعلم الناس أي مدى بلغته دعوة الإصلاح. وإنا لفاعلون:
(1) قالوا: إن طائفة من أبناء الأزهر المخلصين، فيهم شيخ كبير يشغل منصباً هاماً من مناصب الدولة، وله صلة وثيقة بالأزهر، وفيهم وكيل لإحدى الكليات الأزهرية معروف بإخلاصه وغيرته وصداقته لفضيلة الأستاذ الأكبر، وفيهم شاب مثقف بالثقافة الإنجليزية إلى جانب ثقافته الأزهرية - ضم هذه الطائفة مجلس مع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، وكان مجلساً صافياً مباركاً: فكروا فيه في الأزهر، وذكروا ما آلت إليه أحوال الدراسة وشئون العلم في معاهده وكلياته وتخصصاته، واستعادوا ذكريات ماضية ما زال الناس يذكرونها لفضيلة الأستاذ الأكبر، وقيل لفضيلته في هذا المجلس: إن الناس ينتظرون منه أن يعيد عهد المراغي الذي كان على رأس الأزهر في سنة 1928. ينتظرون منه أن يعيد عهد المراغي القوي الجريء الذي كان يكتسح العقاب، ولا يعبأ بالصعاب، ويغار على فكرته الإصلاحية ويدافع عنها دفاع الأسد الهصور. وقيل له في هذا المجلس أيضاً: إن الناس لا يريدون منه أكثر من أن ينفذ مذكرته الإصلاحية الكبرى بالروح التي وضعها بها، بالقوة التي تمثلت فيها، بالصراحة التي تتجلى في كل سطر من سطورها! وأذن فضيلة الأستاذ الأكبر لهذه الكلمات المخلصة التي تفيض عن قلوب للأزهر والدين مخلصة. أذن لهذه الكلمات، وفتح لها قلبه، واستعاد ذكرى ماضيه المجيد الذي تشير إليه، ثم قطع على نفسه عهداً ليكونن كما يريدون فلا يأتي أول العام الدراسي (يريد فضيلته العام الماضي) حتى تبدو آثار ذلك لهم وللناس أجمعين!
وانطلقت البشرى بهذا الحديث في مجالس الأزهريين وغير الأزهريين، وقرت به عيون واطمأنت إليه قلوب، وترقب الناس أول العام الدراسي متلهفين.
ولست أريد أن أعجل فأسأل: ماذا كان في أول العام الدراسي؟ وإنما أوثر الآن أن أستمر في عرض المثل لهذه الظاهرة حتى لا أخرج عما رسمت لنفسي في هذا المقال:(512/13)
(2) وقالوا أيضاً: إن طائفة من العلماء قد اجتمعت على سبيل المصادفة في مكتب فضيلة الأستاذ الأكبر، وكانت هذه الطائفة تضم بعض ذوي المناصب في الأزهر، وكان اجتماعها قبل ظهور فكرة الاحتفال بالعيد الألفي بزمن يسير، وجرى الحديث في شئون مختلفة ونواح شتى، ثم جرى حول الأزهر وحالة الدراسة في كلياته ومعاهده فأشار فضيلة الأستاذ الأكبر بأن يتناظر اثنان عيَّنهما في هذا الموضوع: (هل الأزهر القديم خير أو الأزهر الحديث؟) فقال أحدهما: ينبغي أولاً أن نحرر على طريقة الأزهريين موضع النقاش في هذه المناظرة، فنعرف من أين يبدأ الأزهر الحديث؟ أيبدأ بعهد الإمام الأول المغفور له الشيخ محمد عبده، أم يبدأ بعهد الإمام الثاني فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي؟ فإن كانت الأولى فالأزهر الحديث خير من الأزهر القديم، وإن كانت الأخرى فإلى أن يخرِّج الحديث أمثال المراغي وعبد المجيد سليم ومن إليهما يظل الأزهر القديم خيراً من الأزهر الحديث!
ووافقه صاحبه على هذا الرأي. فأما فضيلة الأستاذ الأكبر فلم يفته، وهو الرجل الذكي الألمعي، ما تقصد إليه هذه الإشارة فقال: لقد مضى على الأزهر ألف عام كان فيها بين التقدم والتأخر، وتقلبت عليه فيها نظم كثيرة، فإذا كانت الأعوام العشرة الأخيرة ليست من أعوام النجاح في تاريخه الطويل فهي أعوام تجربة، فأسقطوها من حساب هذا التاريخ، واعتبروها كذلك، وانظروا في تعديل هذا النظام على وجه تصلح به شئون الأزهر. قال قائلهم: لا. ليس السر فيما يشكو منه الناس راجعاً إلى النظام، فإن النظام في ذاته صالح وليس فيه عيب جوهري، ولكن هذا النظام لم ينل حظه من التنفيذ كما ينبغي أن ينال. وهذا هو السر في أنه لم يثمر ثمراته التي كان الناس يرجونها منه. قال فضيلة الأستاذ الأكبر: نعم هذا صحيح!
ولا شك أن هذين المثالين يدلان على ما عنيت بوصفه من تلك الظاهرة الجديدة التي بدت في الأزهر، وفي استطاعتي أن أمثل بكثير من نوعهما، مما يدور في المجالس الخاصة، ويتناقل الناس الأحاديث عنه، ولكني أورد مثالاً ثالثاً هو أجلى في بيان تلك الظاهرة وأدنى أن يعد من آثارها:
(3) ذلك أن رجلاً مسئولاً من رجال الأزهر هو فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود(512/14)
شلتوت عضو جماعة كبار العلماء دعا في يوم من أيام شهر فبراير الماضي إلى محاضرة يلقيها في دار كلية الشريعة موضوعها (السياسة التوجيهية العلمية في الأزهر) ولست أريد الآن أن ألخص للرسالة هذه المحاضرة، ولا أن أنقل شيئاً منها، ولكني أريد أن أصف للقراء كيف أقبل الناس على سماع هذه المحاضرة وكيف استقبلوها عندما سمعوها، ليعلموا أن عيون الأزهريين قد أصبحت متطلعة، وأن آذانهم قد أصبحت مصغية، وأن نفوسهم قد أصبحت مستعدة.
فأما إقبال الناس على هذه المحاضرة فقد كان رائعاً: إنه لم يكد عنوانها ينشر على الناس مقترناً باسم صاحبها حتى جعلوا يتساءلون: ماذا عساه يقول في هذا الموضوع. وكيف يذكر حقائقه، ويعرض للناس وقائعه؟ تساءلوا عن ذلك لأن العنوان وما عرف به صاحب المحاضرة من حب للصراحة وجهر بالحق قد أثار في نفوسهم معاني شتى هم بها يشعرون. ولبوا دعوة الداعي خفافاً سراعاً حتى بلغت عدتهم قريباً من أربعة آلاف بين علماء وطلاب، واكتظت بهم مدرجات الكلية وحجراتها وأفنيتها، واستعين على إسماعهم بمكبرات الصوت التي بثت في نواحيها، وكان فيهم صفوة من الأزهريين الذين يشغلون المناصب في الإدارة العامة وفي الكليات وفي غيرهما، وألقى فضيلة الأستاذ الكبير محاضرته فكان يقاطع بالتصفيق الحاد والهتاف المدوي في أثنائها. ولما انتهى منها هنأه فضيلة الأستاذ الكبير مفتي الديار المصرية على ما وفق إليه من وصف حالة الأزهر العلمية وسياسته التوجيهية، وعانقه فضيلة الأستاذ الكبير وكيل مشيخة الأزهر مقبلاً إياه بين عينيه على ملأ من الناس أجمعين، وعلا التصفيق والهتاف لهذا المظهر الرائع، وأبى الطلاب إلا أن يحملوا فضيلة المحاضر على أعناقهم إلى فناء الكلية فتم لهم ما أرادوا، وكان يوماً في الأزهر عظيما!
ولكن ما هي هذه المحاضرة التي استقبلها الأزهر: شيوخه ورؤساؤه وطلابه هذا الاستقبال العظيم؟ وماذا قال فيها صاحبها حتى ملك هذه القلوب جميعاً؟ سؤال تسألونه أيها القراء الكرام وحق لكم أن تسألوه. ولتعلمن نبأه بعد حين.
محمد محمد المدني(512/15)
وعصفور من الشرق أيضاً. . .
للأستاذ دريني خشبة
لو لم يتعمد الأستاذ صاحب الرسالة فيضع هذه التحية الرقيقة التي بعث بها الأستاذ الجليل محمد كامل سليم بك إلى الأستاذ الحكيم قبالة أولى مقالاتي عن (قضية اليوم)، ولولا ما جاء في هذه الكلمة من نفي عداوة الأستاذ الحكيم للمرأة. . . لولا ذلك كله لآثرت إغلاق هذا الباب الذي اضطرني إلى كثير من القسوة والمرارة في التعبير، وإن كنت على حق كل الحق في جميع ما ذهبت إليه، وما أيدته بكلمات الأستاذ الحكيم نفسه مما لا يُعقل أن ينكره أو يماري فيه. فقد أثبت من صميم شهرزاد للأستاذ الحكيم - وذلك في المقال الثاني - أنه عدو للمرأة في كل زمان ومكان ما في ذلك شك، وأثبت أنه ينظر إليها نظرة تسفل دائماً ولا تعلو أبداً، ويعدها مصدراً للشرور التي تحيق بالعالم وتجعله جحيماً لا يطاق، وسواء أعاملها الإنسان كما عاملها شهريار الأول الذي قتل زوجه ورجم روحها بأرواح العذارى البريئات من بعدها، أو عاملها شهريار الثاني (الديوث!) من الصفح عن أوزارها، أو الغض عما تأتي وما تدع من تلك الأوزار، فالمرأة هي المرأة في الحالين في نظر الأستاذ الحكيم، وهذا هو رأيه فيها، الذي أيده في (القصر المسحور) وادعى التوبة منه، والإنابة مما ذهب بصدده إليه. . . لكن الأستاذ كامل سليم نفى عنه تلك العداوة للمرأة، وبرأه من الموجدة عليها (كما يزعم الزاعمون) بل ذهب إلى أبعد من هذا، فاتهم الأستاذ الحكيم بأنه (صديق المرأة والمنافح عنها!) وقال ذلك بعد أن فرغ من قراءة (عصفور من الشرق) التي لم أكن أن أتعرض لها بخير ولا بشر لما كنت أوثر أن أحصر فيه موضوع (قضية اليوم) وقصرها على ما يتصل بشهرزاد وبأحلام شهرزاد. . . ولكن ما الحيلة، وقد حدثني الأستاذ الزيات قبل نشر المقالين فلمّح في حديثه إلى أنه متعمد أن يضعهما جنباً إلى جنب مبالغة منه في تأكيد ما للرسالة من حرية في النشر أو حرية في الرأي أو حرية في النقد. . . لست أدري أي الحريات الثلاث أراد، ولعله قد أرادها جميعاً
وبعد، فما هي قصة عصفور من الشرق؟ وهل تؤكد تلك القصة شخصية الأستاذ الحكيم التي تظهر جلية في أكثر قصصه، خصوصاً مسرحية (شهرزاد)؟ وسؤال ثالث: هل الأستاذ الحكيم في تلك القصة عدو للمرأة كدأبه أم هو صديق للمرأة كما يتهمه الأستاذ(512/16)
الجليل كامل سليم بك؟
1 - أما قصة عصفور من الشرق فتتلخص في أن الطالب الشاب (محسن) كان يشدو العلم في باريس، وأنه كان يسكن مع جماعة باريسية لاحظت عليه ما يلاحظ عادة على المغرم المبتدئ (ولا سيما إن كان شرقيَّا) من شرود وانقباض وقلق، فإذا عرفت منه أنه يحب شجعته وعلمته أن باريس لا تعرف التردد في الحب وأن قارورة من العطر أو باقة من الزهر تكفي لغزو قلب أية باريسية.
2 - أما من هي التي شغفت أخانا محسناً حباً، فهي (جابية أو محصلة، أو عاملة) أو ما شئت فسمها، من عاملات دور الصور، كان الفتى محسن يهواها، بل يتعبدها، وكان منصرفاً، مذ أحبها، عن كتبه، بل عن مدرسته، لا يبرح واقفاً بالقرب من الشباك الذي تعمل فيه حتى تفرغ من عملها، فإذا قال لها (عمي مساءً يا آنسة) ردت عليه التحية بإغلاق الشباك في وجهه. . . ثم ما يزال يترصدها حتى يعرف مسكنها فيهجر مسكنه ويأوي إلى الفندق الذي تسكنه سوزي - وهذا هو اسمها - وتكون غرفته فوق غرفتها. . . أما أول التعارف فقد كان (خبطة عشواء!) إذ ادعى السيد محسن الإفلاس فكان أن أدت عنه سوزي حسابه للغسالة. . . ولا ندري كيف دفعته وهي لا تعرفه. . . يُسأل عن هذا فن الأستاذ الحكيم. . . أما كيف رد الثمن فقد أهدى إليها ببغاء وضعه في قفص - لعله من جريد لا من ذهب، وعلقه في حبل ثم دلاه من نافذته إلى نافذتها - فكان تعارف وكان شكر. . . وكان حب. وكانت سهرات وكان (أنس). . . وكان لا يصحو الأخ العزيز (العاشق الشرقي) محسن إلا على رنين قبلات سوزي، وربما كان لا ينام إلا على رنين قبلاتها كذلك. . . وكانت مقابلات يُضرّجها دم الغيرة الشرقية إذا تأخرت سوزي عن ميعادها. . . وإنهما لفي مطعم يوماً ينعمان ويأكلان ويشربان ويعبثان، إذا شاب يدخل فجأة فتذهل سوزي، وتكاد الأرض تسوخ من تحتها، وإذا سر قلبها يطفر فجأة من عينيها. . . وإذا العاشق الشرقي يعرف كل شيء. . . إنه ليس وحده في هذا القلب المزدحم! إنه طفيلي. . . لقد ركع في محراب هذا القلب عشاق معاميد من قبل
هذه هي القصة، لا ينقصها إلا خطابان أحدهما من محسن، والآخر رد من سوزي عليه. وإليك الآن هذه المقتطفات:(512/17)
1 - نظر محسن إلى سوزي مرة فسألته:
- لماذا تنظر إليّ هكذا؟
- أصبت، أرى الآن أني على خطأ، ما الذي يعنيني من أمر حياتك أنت؟ ما أنت إلا (حلم) يحيا فيه. . . الآخرون. . .
- ومن هم الآخرون؟
قالتها في ابتسامة ذات معنى، وأناملها تعبث بصفحات كتاب. . .
2 - ولما فاز محسن بالوصول إلى فتاته وأخبر صديقه الفرنسي (أندريه) بذلك، ابتسم الفرنسي وقال له:
- أرأيت أنها فتاة ككل الفتيات، وعاملة كآلاف العاملات؟ تلك التي أسكنتها قصراً من قصور ألف ليلة وليلة، وجعلتها تنظر من عليائها إلى مواكب الناس المتدفقة تحت شباكها، آه أيها الصديق، اقتنعت الآن أن الأمر أقل خطراً مما كنت تتصور، وأن وقوع امرأة بين ذراعيك مسألة بسيطة لا تحتاج إلى كل هذا الوقت، ولا إلى كل هذه الخيالات والتأملات؟
فأحس الفتى إحساس من يهوى إلى الأرض، وكأن قيم الأشياء في نظره قد تضاءلت، وكأن الحياة نفسها قد تجردت من غطائها فبدت كتمثال مصبوب من السخف. وشعر محسن بفراغ في مادة نفسه لا يدري بعد اليوم ماذا يملؤه. .
(حدث هذا والحب في إبانه قبل أن يقع ما فصل بينهما)
3 - وانظر إلى هذه الروح المتجهمة في العبارة التالية:
التفاحة هي التفاحة، ولكنها تفاحة أرض جديدة! تفاحة الأرض. . . حلوة لكن داخلها الدود! (والعياذ بالله!)
4 - ويقول بعد ذلك في الصحيفة نفسها:
(ولم يكن محسن يطيق إبطاء سوزي خمس دقائق عن موعدها، ولم يكن يحتمل رؤيتها تبتسم لأحد معارفها وهي تحني رأسها بالتحية، ولم يعد يرى صورتها في أحلامه ممتزجة بأنغام الأنترمتزو - و - رقصة الفراندول، ولكنه يراها في نومه تعانق رئيسها هنري الذي عرف منها بعض أخباره، أو يراها تقبل شاباً زنجياً تلك القبلات الملتهبة، فينهض منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسدها بأسنانه!!)(512/18)
فهل رأيت إلى شهريار الدموي كيف يتنبه في أعماق محسن؟ ومحسن هنا هو الأخ الكريم الأستاذ توفيق كما لا يخفى. . . توفيق الشاك الذي تملأ رأسه أشباح العبيد والزنوج وقبلاتهم الملتهبة، وغدر شهرزاد التي لا تشبع من عبدها ولا تريد أن تشبع منه. . . وهل رأيت كيف ينهض شبحه (محسن) منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسد سوزي بأسنانه؟!
5 - وقصة الملكة سميراميس التي هي صورة فاجرة من صور شهرزاد الآثمة التي تخيلها الأستاذ الحكيم: (يوم دعت أسيرها إلى ليلة من ليالي النعيم، مهدت فيها الفرش، وأقيمت الموائد. . . وتلاقت الشفاه. . . إلى أن لاح الصباح، فتغير وجه الملكة الجميل، ووضع الأسير في الأغلال، ومشى به إلى الموت، وهو ذاهل ما زالت في رأسه بقية من نشوة الليل. . .،. . .، ولكن ملكات العصر الحديث يفعلن بأسراهم غير ذلك. كل شيء عندهن مستتر مقنَّع (فهي) تضع على وجهها ذلك القناع الحريري الأسود الذي يلبس في المساخر. . . إلى آخر المهزلة. . . . . .
6 - ثم إليك هذه النفس السوداء المريضة المتشائمة: (. . . لا ينبغي أن نبني شيئاً جميلاً فوق هذه الأرض!! هذه الأرض المتغيرة المتحركة برمالها ومائها وهوائها!!
ويرى بعد ذلك أن يكون البشر جميعاً في كل زمان ومكان زهاداً كزُهاد الهنود، زهاداً مضعوفين مسلولين لا يذوقون إلا حبات من الأرزكي تصفو نفوسهم وترتفع إلى الملأ الأعلى. . . يريد أن يكون الناس كلهم - أو المصريون على الأقل - من (مقاطيع السيدة زينب)! لأن مقاطيع (الست) وحدهم هم المتصلون بالسماء. . . والفضل في ذلك لروح الزهد والتقشف والفول (النابت!!)
ولن يصغي شرقي واحد إلى الأستاذ الحكيم؛ فقد شبع الشرق من الفقر وما جرته عليه فلسفة الفقر والقناعة والتقشف من قبول الذل والخنوع وموت روح المقاومة التي لا توجد إلا في الأقوياء بدناً وروحاً في وقت معاً. . . وديننا الحنيف هو دين القوة الذي لا يعرف الرهبانية ولا التصوف الهندي الذميم، وهو الدين الذي أحل لنا مناعم الحياة حلالاً طيباً، وفرض الإفطار على الصائم المحارب كما حرم الجوع الذي يضر الجسم، وقام على محاربة الفقر بإطعام الطعام على حب الله من أوسط ما يطعم الناس وبالزكاة والتعاون المنظم الذي يمحق الفاقة، ولا يأذن لمقطوع واحد من (مقاطيع) الست الطاهرة بالوجود في(512/19)
هذا الوجود! وأما قول المسيح عليه السلام: (ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله) فقد قصد به ما قصد إليه الرسول الكريم حين قال: (اللهم توفني فقيراً ولا توفني غنياً واحشرني في زمرة المساكين) فقد قصد المسيح أن يحض الأغنياء على عمل الخير، كما قصد الرسول أن يخفف ألم الفقير في نفوس الفقراء - وليس يعقل أن الرسولين الكريمين كانا يريدان انتشار الفقر في العالم وتحكم الفاقة في الوجود
7 - أما هذه الثورة على أوربا، التي هي جميلة رشيقة ذكية، لكنها خفيفة أنانية لا يعنيها إلا نفسها واستعبادها غيرها، فهي ثورة أحدثتها في نفس النكسة التي جرها عليه غرامه الخائب، فلو أنه نجح في هذا الحب، لكانت أوربا في نظره شيئاً آخر
8 - ولست أدري ما هذا الذي انزلق إليه الأستاذ الحكيم - في معرض الطعن على أوربا - من القذف في حضارتها، وفي ضرورة ما تراه أوربا من وجوب نشر التعليم ومحاربة الأمية والإزراء على الديمقراطية؟ ما هذا؟ أيريد أن يظل جمهور العالم جاهلاً لا يقرأ ولا يكتب؟ أيريد لهذا الجمهور أن يظل مسكيناً ذليلاً مستعبداً؟ أيريد أن يقوم الطغاة في كل فج يسيمون الجماهير سوء العذاب مما نرى أثره في ألمانيا وإيطاليا واليابان؟
ولكن، لا علينا من ذلك فليس من أجله كتبنا هذا المقال فهذه المقتطفات التي أثبتناها هنا تدل على أن الأستاذ الحكيم هو في (عصفور من الشرق) كما كان في (شهرزاد) من حيث رأيه في المرأة ومن حيث عداوته لها. . . ومن حيث أنها ملك مشاع للجميع، ويكذب من يقول بوفائها وعفافها وإخلاصها لرجل بعينه وإن يكن هذا الرجل هو زوجها؛ فهي حلم يحيا فيه. الآخرون. . . وأن وقوعها بين ذراعي أي إنسان مسألة بسيطة لا تحتاج إلى وقت وخيالات وتأملات وأن التفاحة هي التفاحة. . . تفاحة أرض جديدة. . . تفاحة الأرض. . . حلوة. . . ولكن داخلها الدود، وأن شخصية شهريار الدموي الفظيع الناقم كانت دائماً تتقمص روح الحكيم كلما أبطأت عليه حبيبته فيراها فيما يرى النائم وهي تقبل شاباً زنجياً تلك القبلات الملتهبة فينهض منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسدها بأسنانه. . . ولست أدري إن لم يكن مؤلف شهرزاد هو نفسه مؤلف عصفور من الشرق قلباً وقالباً كما يقولون فلماذا ساورته أشباح العبيد الغلاظ والزنوج الذين يقبلون تلك القبلات الملتهبة وهو كان يحب في باريس. . . باريس اللعوب المفتان. . . ولم يكن يحب في جزائر واق(512/20)
الواق ولا في بلاد نيام نيام ولا بين قبائل الشيلوك والدنكا. . . إن لم يكن توفيق الحكيم مع سوزي في باريس هو توفيق الحكيم مع شهرزاد في بغداد، أو في فاس أو الهند لست أدري، فلماذا ذكر هذا الزنجي الذي لم تكن تؤثر عليه شهرزاد أحداً، وكانت لا تشبع منه ولا تريد أن تشبع منه، وكانت تريده أسود غليظاً. . . ولماذا كان ينهض من نومه منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسد سوزي الجميل الغض بأسنانه (والعياذ بالله!) إن هذه خبيئة من خبيئات العقل الباطن برزت في غفلة من غفلات وعي توفيق الحكيم ففضحت رأيه في المرأة، وأكدت مذهبه فيها على صفحات عصفور من الشرق، كما تأكد هذا المذهب في شهرزاد من قبل. . . وما هذا الذي ربط بين الحلم الذي يحيا فيه الآخرون، وبين سهولة وقوع أية امرأة بين ذراعي أي إنسان، وبين تفاحة الأرض الحلوة التي داخلها الدود، وبين الحلم الذي يرى فيه الحكيم فتاته مستسلمة لزنجي أسود يقبلها تلك القبلات الملتهبة، وبين نهوضه من النوم مضطرباً منزعجاً يود لو يمزقها بأسنانه،. . . ما هذا الذي يربط تلك الصورة كلها بصورة سميراميس الملكة الفاجرة التي أرادت أن تبالغ في انتقامها من أحد أسراها المولعين بحبها فدعته إلى ليلة ناعمة راقصة، ومنحته من نفسها وعرضها ما لا يقدر على وصفه إلا. . . الأخ المسكين البائس. . . محسن!. . . على أن يصبح فيتسلمه الجلاد بأمر الملكة ليضرب عنقه؟! ما هذا الذي يربط تلك الصورة كلها، وهي مفرقة على الكتاب، متباعدة عن بعضها فيه، موزعة على مشاهد القصة وفصولها من قبل أن يفضح محسن غش سوزي وخداعها إلى أن وقف منها على ذلك السر المهول!؟
وبعد. . . فهل الأستاذ توفيق الحكيم بعد ذلك كله صديق المرأة وليس عدوها - كما يزعم الزاعمون - على حد تعبير الأستاذ الجليل كامل سليم بك؟!
دريني خشبة(512/21)
حانة الشعراء
للأستاذ علي محمود طه
(من ديوانه الجديد (زهر وخمر) وقد صدر اليوم)
هي حَانٌة شَتى عَجَائُبهَا ... مَعْرُوشةٌ بالزَّهرِ والقَصَبِ
في ظُلةٍ باتَتْ تُدَاعُبها ... أنفْاَسُ لَيْلٍ مُقْمُرِ السُّحُبِ
وزَهَتْ بِمصْبَاحٍ جَوَانُبِها ... صَافي الزُّجاجِة رَاقِص اللَّهبِ
بَاخُوس فيها وهو صَاحُبهِا ... لم يَخْلُ حين أفَاقَ مِنْ عَجَبِ
قدْ ظَنَّهِا، والسحْرُ قَالَبُها، ... شِيَدتْ مِنَ اليَاقُوتِ والذَّهبِ
إبْرُيقهُ حلْيٌ مِن الدُّرَرِ ... يُزْهى به قَدحٌ مِنَ الْمَاس
وكأنَّ مَا حَوْليِه مِنَّ صُورِ ... مُتَحركَاتٌ ذَاتُ أنْفاسِ
تَرَكَتْ مَوَاضِعَهَا من الأُطُرِ ... وَمَضَتْ لَهُ في شِبْهِ أعْرَاس
مِنْهُنَّ عاِزفةٌ على وَتَرِ ... مُتفَجرٍ بأَرَقَّ إحْسَاسِ
وَغَريرةٌ حَوْرَاءُ كالْقَمرِ ... تَحْنُو على شَفَتْيه بالْكَاسِ
أو تِلكَ حَانُتهُ؟ فَواعجبَا! ... أم صُنْعُ أحْلاَم وأهوَاء؟
وَمَنَ الَخْيالُ أهَلَّ وَاَقَتربا ... (فيْنُوس) خَارجَةً من الماء!
في مَوكبٍ يتمَّثلُ الطَّربا ... وَيميلُ من سِحْرٍ وإغْراء
وَبكلِّ ناَحِيِةٍ فَتًى وَثبَا ... مُتَعَلقاً بِذِرَاعِ حَسْناَء
يَتَوَهَّجُونَ صَبَابَةً وَصِبَا ... يتمثلونَ غَرِيب أَزْيَاء
حُمْرُ الِثَيابِ تِخِالُ أنَّهُمُو ... يَفِدونَ مِنْ حَاْنوتِ قصَّابِ!
جَلَسُوا نَشَاَوى مِثْلمَا قَدِمُوا ... يترقَّبونَ مَناَفِذَ الَبابِ
يَتَهَامسُونَ وَهَمْسُهُمْ نَغَمُ ... يسري على رَناتِ أكْوَاب
إنْ تَسأَلِ الخمَّارَ قَالَ هُمُو ... عشَّاقُ فَنٍ أهْلُ آدَابِ
لولا دُخَانُ التَّبغِ خِلْتَهُمو ... أنْصَافَ آلهةٍ وأَرْبَابِ
وَتَلَّفتُوا لما بَداَ شَبَحُ! ... فَنَّانةٌ دَلَفَتْ من البابِ
سَمْراءُ بالأزْهَار تَتَّشحُ ... أَلَقَتْ غُلاَلتَهَا بإِعْجَاب(512/22)
وَمَشَتْ تُراقِصَهُم فما لَمَحُوا ... إلا خُطَى رُوحٍ وأعْصَابِ
َوَسَرى بِسِر رَحِيقِه القَدَحُ ... في صَوتِ شَاجِي الّلحْنِ مِطْرابِ
وَشَداَ بجو الْحانَةِ الفَرَحُ ... لإلهةٍ فَرَّتْ منْ الْغَابِ
هِيَ رَقْصَةٌ وَكأَنَّها حُلمُ ... وإذا (بفينوسِ) تمدُ يدَا
الكأَس فيها وهي تَضطَرمُ ... قَلْبٌ يَهُزُّ نِدَاؤُهُ الأبَدَا:
زِنْجَّيةٌ في الفن تَحْتَكُمُ؟ ... قَدْ ضاَعَ فَنُ الَخْالِديِن سُدَى!
فَأجَابَتْ السَّمْراءُ تَبْتسِمُ: ... أَلفْنَُّ رُوحاً كان؟ أمْ جَسَدَا؟
يَا أيَّها الشُّعَراءُ وَيَحْكُمُ ... الّليْلُ ولّى وَالنهارُ بَدَا!
علي محمود طه(512/23)
سليمان الحكيم
لتوفيق الحكيم!
للأستاذ سيد قطب
- 2 -
يلتقي الصياد الساذج القانع الطيب القلب بالعفريت الطامح المتمرد العاصي (داهش بن الدمرياط) حين يجذب شبكته أول مرة فتخرج حماراً ميتاً، ويجذبها ثاني مرة فتخرج زيراً مملوءاً بالرمل، ويجذبها ثالث مرة فتخرج أحجاراً وقوارير. حتى إذا طلب من الله أن يرزقه من فضله في الرابعة خرج له قمقم نحاسي مختوم بخاتم سليمان، وفيه هذا العفريت الملعون الذي حبس في هذا القمقم جزاء عصيانه أمر الملك وإبائه أن يذهب لجلب الأرز وخشب السرو لبناء بيت الرب، لأنه عفريت طموح مهيأ لأكبر من هذه الأعمال التافهة!
ويهم العفريت بقتل الصياد الذي أنقذه لأنه كان قد نذر أن يقتل من يخرجه في هذه اللحظة (وهنا ينسج المؤلف الخيط الأول في شخصية العفريت) لولا أن يحضر سليمان وجنوده فيرجو العفريت الصياد في أن يعيده إلى القمقم وأن يستشفع له عند الملك، ويستنجد العفريت بشرف الصياد فلا يجد هذا مفراً من القبول (وهنا ينسج الخيط الأول في شخصية الصياد)
ويقبل سليمان الشفاعة على شرط أن يكون الجني محسوباً على الصياد بخيره وشره، وأن يعدهما شخصاً واحداً أمامه في السراء والضراء (ومن الصياد الطيب والعفريت الشقي يتألف الإنسان). ويقبل الصياد - وأمره لله - ولكنه يختار أن يكون مع عفريته في خدمة النبي سليمان! (وتلك أول بذرة من بذور الحكمة في نفسه)
ويسمع سليمان من الهدهد الغائب (حسب رواية القرآن) عن ملكة سبأ وعظمة ملكها وعن جمالها أيضاً. ويكون حاضر هذا الحديث صادوق الكاهن وآصف الوزير. فأما صادوق فمشغول بالسؤال عن معبود الملكة وقومها، وأما آصف فمشغول بالسؤال عن عرشها وملكها، وأما سليمان فمشغول بهذا كله، ولكنه مهتم كل الاهتمام بما يسمع عن الملكة الجميلة (وهنا ينسج الخيط الأول في هذه الشخصيات الثلاث. ويمهد للصراع الذي ينتظر(512/24)
قلب سليمان)!
ويعمل سليمان على استزارة الملكة فتسير القصة حسب نصوص القرآن تقريباً، من إرسال الهدهد إليها وإرسالها هدية لسليمان ترد إليها، ومن التشاور بين الملكة ورجالها. وفي هذا التشاور يدور حوار طريف لا نستطيع أن ننقله هنا. ولكنه يصور طبيعة المرأة وأحاسيسها الخفية ووسائلها الغامضة، ويصور طبيعة الوزير السياسي، وطبيعة القائد الحربي في بضع كلمات (وتلك براعة توفيق الحكيم في الحوار. وهي براعة تفوّق وتفرّد في هذا المجال. فما هي إلا لفظة من هنا ولفظة من هناك، وجملة عابرة هكذا، وجملة خاطفة كذلك. حتى تستوي القضية التي يريدها أو الشخصية التي يرسمها، كأنما مستها عصا ساحر فانتفضت من بين الركام. فهو من هذه الناحية متفوّق ومتفرد حتى اليوم بلا جدال.)
ونعلم هنا أن للملكة أميراً أسيراً هو (منذر). وإنها لمشغوفة به حباً، وإنها لتواري هذا الحب عنه في مشقة وعسر لتعترف به متهالكة ناسية كل أبهة الملك أمام جاريتها (شهباء) وإنه هو لمشغوف حباً بشهباء، وإنه لا يعبأ بقلب الملكة الآسرة. وإن شهباء لتبادله هذا الحب في الخفاء، ولا تظهره له ولا للملكة على السواء!
فإذا ما جاءها رسول سليمان، وإذا ما ردت إليها هديتها، أدركت بغريزة المرأة التي تشم من بعيد أن سليمان لا يبغي ملكها ولا ثروتها إنما يريدها هي لذاتها. فتنعش لهذا وتنشط وتحس أنه يرد عليها شيئاً من كبريائها المحطمة مع الأمير الأسير فتجيب الدعوة. ولكنها تحب أسيرها ولا تستطيع فراقه، فهي تحتال عليه لتأخذه معها في رحلتها.
ونلمح هنا بين ما يشبه الضباب - أو بين السطور - غريزة المرأة التي تحب ويمتلئ قلبها بمن تحب، ولكنها ترحب بكل لفتة من قلب رجل! ونلمح أغراضاً شتى متداخلة مبهمة في نفسها من استصحاب أسيرها معها. أهي تفعل هذا لأنها لا تصبر على فراقه؟ أهي تفعله لتري حبيبها المعرض كيف يعجب بها سليمان العظيم فتوقظ إعجابه هو بها وتثير في نفسه الغيرة عليها؟ أم إنها تريد أن تقول لسليمان: إنك لست المعجب الوحيد فلي أيضاً حبيب؟! أم تريد أن تصد سليمان عنها مع تمتعها بإعجابه بها؟. . . إلى آخر هذه الاحتمالات؟
كل ذلك نستطيع أن نلمحه وراء ستار من الضباب أو من السطور والكلمات. وتلك مقدرة من مقدرات الحوار.(512/25)
وتقدم الملكة على سليمان في موكبها العظيم، فيحس قلبه من بعيد بما هنالك (وهنا تشترك الأسطورة والنبوة والغريزة في رسم الصورة وتقريب الإحساس) وعندئذ يبدأ في محاولة بهرها ولفت نظرها بخوارق الأمور؛ فيطلب استحضار عرشها من بلاد سبأ. ويتبارى في ذلك أتباعه. وعندئذ تعرض الفرصة للجنيّ (داهش) صاحب الصياد ليأتي بالعظائم ويلبي الطموح، فيعرض أن يأتي به في غمضة عين أو يقتل هو والصياد! ويعارض الصياد بطبيعة الحال، ولكن طموح الجني ورغبة سليمان يغلبان. وينجح (داهش) فيظهر الصياد الساذج مشاركاً في النجاح، وترتسم للصياد صورة فيها كثير من الدعابة والفكاهة تلازمه في معظم الأحوال! ويسر سليمان ويستقبل الملكة ومعها الأمير الأسير، فترى عرشها وتعجب بهذه المقدرة، ولكنها تشم بغريزتها لماذا يحاول سليمان أن يبهرها! ويختليان بسرعة فتلاحظ هذه السرعة، وتصارحه بها، فيفاجئها بما ساور نفسه من أسيرها، فتعترف! ويصدم سليمان صدمة عنيفة فينسحب لتنال راحتها! وتبتهج هي في دخيلة نفسها بما تم حتى الآن!
فإذا خلا سليمان إلى نفسه فهو منقبض قلق ضيق الصدر، في حاجة إلى السلوى وإلى التسلية، فهو يلتمسها عند أضعف أتباعه وأشدهم سذاجة. عند الصياد! وإنه ليسأله إذا كان قد ذاق طعم الحب؟ وهنا يروي الصياد قصة حب خائب لم يدم إلا لحظة. أدى ثمنها ثروة مفاجئة كان يملكها. وقد ضحى بحبه ليفسح لمن أحبها طريق السعادة، لأنه ليس كفئاً لها فهي كفء لملك! (وفي هذه القصة ينسج خيطاً آخر من شخصية الصياد فهو رجل طيب ذو ضمير نقي وقلب كريم)
ومرة أخرى يجد الجني أن الفرصة سانحة لإرضاء طموحه، وللنزغ في قلب النبي سليمان، وتلبية رغبته في آن! فيعرض خدماته - على كره كذلك من الصياد - ويرسم خطة لتحويل قلب الملكة وانتزاع إعجابها. ويستجيب سليمان، تدفعه الرغبة الإنسانية الجارفة؛ فإذا الجني مفوض في استخدام جميع السلطات وجميع القوى، وإذا هو يسخر بساط الريح ليحمل الملكة مع سليمان في الفضاء؛ وإذا هو يبني الصرح الممرد من قوارير وتحته ما يشبه اللجة، لتبهر الملكة، وليجد سليمان الفرصة متاحة ليحملها بين يديه ويتخطى بها اللجة الموهومة! وماذا يصنع محب محروم إلا أن يلتمس كل وسيلة للتمتع بمثل هذا(512/26)
الفتات؟!
ثم ماذا؟
ثم إذا المرأة التي تحب أقوى من جميع هذه المغريات؛ وإذا القلب الإنساني الذي يحب أقدس من جميع هذه المظاهر؛ وإذا هو يسخر بجميع قوى الأرض وجميع مظاهرها؛ وإذا الملكة على حبها لأسيرها أمام كل جهود سليمان وجهود الشيطان!
ثم ماذا أيضاً؟
ثم إذا سليمان غاضب على الجنيّ وعلى الصياد؛ وإذا الصياد خائف مذعور، عاتب لائم لهذا الجنيّ الذي لا يعرف الهدوء ولا يني عن المحاولة، ولا يكف عن الطموح؛ وإذا (داهش) يعرض عروضاً جريئة، وينزغ نزغات شريرة. إنه يعرض اقتحام الحصن الذي لم تفتحه المحاولات، وتحطيم القلب الذي لم تحوله المغريات!
ويشفق الصياد ويضطرب ضميره؛ ويتردد سليمان وتتحرك قداسته. ولكن الرغبة الملحة تغلبه، فإذا الجنيّ مفوّض في عمل ما يشاء!
فلما نفذت الخطة الجديدة الجريئة، فمنذ رقد الأمير مسخ تمثالاً في حوض الرخام؛ ولن تعود إليه الحياة إلا إذا بكت عليه حبيبته حتى تغرق جسده بالدموع. وإذا الملكة ترسل الدمع مدراراً بجانب التمثال الحبيب، وإذا سليمان يرسل الضحكات كلما أطل عليها سخرية وشفاء (ونلمح هنا جو ألف ليلة وليلة. ولكننا نلمح التضحية الأسطورية للحب، والشر الذي تثيره الرغائب الجامحة في قلب إنسان).
حتى إذا ما أوشكت المعجزة أن تتم، تدخّل الجنيّ فهدى سليمان إلى حيلة يبعد بها الملكة قليلاً عن التمثال، ولم تبق إلا دمعتان حتى تصل الدموع إلى قلبه فينبض ويحيا. وزيّن لشهباء أن تنتهز الفرصة السانحة وتحيي حبيبها لنفسها. وأغرى الصياد أن يذهب - هو الآخر - إلى الحديقة ليجد حبيبته الضائعة فهي الآن من نساء سليمان (وبهذا يضرب الشيطان جميع هذه القلوب في لحظة واحدة!)
فأما الملكة فتؤخذ بالحيلة. وأما الصياد فيتردد ثم يذهب ولكنه يحجم عن مخاطبة حبيبته تحرجاً وتورعاً. وأما شهباء فتتمنع ثم تدمع عيناها في الحوض، فإذا حبيبها يحيا، وإذا هو يراها بجانبه تبكي فيحسبها صاحبة التضحية في سبيله وواهبة الحياة له، فيطوقها بذراعيه.(512/27)
ولكن ضميره يتحرك فتخبره بالمضحية الحقيقية التي ملأت الحوض بالدموع، وإن هما إلا دمعتان منها لا سواهما. ولكنه هو (لأنه يحب) يرى الدمعتين الأخيرتين اللتين وصلتا إلى قلبه أغلى وأعظم من جميع دموع (بلقيس)!
وحين تعود الملكة ومعها سليمان تقع عيناها على المنظر الفظيع فتصدم صدمة عنيفة ويجلجل صوت سليمان ضاحكاً. ولكن الملكة تتهدم بين يديه وتنهار. وهنا يدرك عظم الكارثة وفظاعة الجريمة، فيأخذه الوجوم. . . إنه أفاق ولكن بعد فوات الأوان!
وهنا يستعرض الناقد من المنظر عدة لوحات
فلوحة يتجلى فيها الصراع بين الخير والشر في نفس الصياد وقد تغلب الخير في النهاية على نزغات الشيطان، لأنها نفس محدودة المطامع ضيقة الرغبات!. ولوحة يتجلى فيها هذا الصراع في نفس شهباء وقد تغلب الحب المكتوم على همسات الضمير، لأنها امرأة تحب!. ولوحة يتجلى فيها هذا الصراع في نفس سليمان وقد غلب الشر حين أججته الرغبة والمقدرة، ثم غلب الخير حين كشف الجرم وتبين العجز، لأنه نبي وإنسان!
وهناك لوحة منزوية يتراءى فيها جحود الحب الأعمى، بجانب نبله المقدس؛ فدمعتان اثنتان من عيني شهباء يقومهما المحب بالدموع الغزار والليالي الطوال فترجحان، وهما وحدهما اللتان تبلغان قلبه لأنهما ممن يحب!. وعظمة سليمان وملك سليمان ومحاولات سليمان كلها لا تحول قلباً يحب لأن هذا الحب فوق الملك والقوة والسلطان!. ونبوة سليمان وحكمة سليمان لا تعصمانه من الشر الذي اندفع إليه، ولا من نزغ الشيطان في قلبه؛ لأن الشيطان يستخدم الحب الذي يذهب بالعقل وبالحكمة جميعاً
هذا الجحود العجيب بجانب الوفاء العظيم، بجانب الاندفاع المريد: لوحة فاتنة لأنها صادقة
وإلى هنا كان يمكن أن تنتهي التمثيلية، فلا تفقد شيئاً كثيراً من وقعها النفسي ومن أهدافها الإنسانية. ولكن توفيق الحكيم يؤثر الحوار الفلسفي ويؤثر ألا يكتفي بالإشارة عن العبارة؛ فهو يسجل في فصلين تاليين تسجيلاً مفصلاً في حوار ذهني ما سجلته الحوادث حتى الآن في تصرف حيوي، وما يستشف من هذه الحوادث في بساطة وبغير انتباه
وموعدنا ببيان هذا العدد المقبل فقد بلغنا اليوم أقصى الفراغ
سيد قطب(512/28)
أثر المرأة في علي محمود طه
للأستاذ إدوارد حنا سعد
الحرمان من المرأة - كدافع نفسي - ليس خيراً في ذاته ولا شراً؛ ولكن الخير أو الشر إنما يتعلقان بالوسيلة التي يتبعها لإشباع رغباته: وهو في الفن خير محض لأنه كان نبعاً فياضاً استقى منه الملهمون وخرجوا على الناس بذخائر خالدة على الزمن
والأدب المصري مدين للحرمان بنبوغ الشاعر الرقيق الأستاذ علي محمود طه، فقد لمس نفسه الحساسة فأذكى شاعريتها ومرَّ على قيثاره الشاجي بأعذب الألحان
على أنه مما يلفت النظر في الأدب المصري المعاصر ذلك التباين الواضح بين ضآلة أثر الحرمان في نتاج الأدباء المعاصرين ممن نسميهم شيوخ الأدب. . . وعمقه ووضوحه في نتاج الطائفة التي تأخرت عنهم في السن أو تاريخ الظهور الأدبي، ومرجع ذلك فيما أعتقد إلى تحجب المرأة قبل الحرب الماضية، ثم ثورتها على الحجاب يعيد تلك الحرب، واشتراكها في كثير من مناحي الحياة الاجتماعية
قد ينشأ الحرمان عن خيبةٍ قوية في حب قوي فيكون من أثره ولوع صاحبه بإعلان عدائه للمرأة، فإذا وجد أن في ذلك منافاةً لما درج عليه الناس اندفع بطريقة لا شعورية إلى تسفيه الآراء الشائعة والتعالي بقيمته الذاتية. وأثر هذا الضرب من الحرمان شديد الوضوح في الأستاذ توفيق الحكيم عدو المرأة وصاحب الرأي المعروف في تفضيل الجاهلة على المتعلمة كزوجة، وكاتب المقال الذي يقول فيه إن الزواج من أربع نساء أمر تحتمه الطبيعة، وذلك حين رأى التفكير متجهاً إلى سن تشريع يمنع ذلك إلا عند الميسرة وضمان العدل بين الزوجات. ثم يقول عن نفسه إنه (خالق)، وعن الأشخاص الذين يصورهم في قصصه إنهم مخلوقاته، ويقول عن أحد قرائه (زارني هذا الطبيب الفاضل ثلاث مرات دون أن يحظى برؤيتي)
وقد يكون الحرمان ناشئا عن خيبة في إنشاء علاقات غرامية في فجر الشباب، فيولع صاحبه بالتحدث عن علاقات غرامية موهومة أو مبالغ فيها؛ وقد يصدر كتاباً - كما فعل الأستاذ الصاوي - يتحدث فيه عن حياة قلبه وتكون عناوين فصوله:
(وأما السابعة. . . وأما الثامنة. . . وأما التاسعة)(512/30)
وقد يولع الشاب بفتاة من طبقة معينة ولا تستجيب لغرامه فيكون منه قصصي كالأستاذ محمود كامل معظم بطلات قصصه من خريجات المدارس الفرنسية، وكلهن من بنات الباشاوات وعلى الأخص كبار الضباط المتقاعدين. ولكل فتاة من هؤلاء محب يُشترط فيه أن يكون محامياً له إلى جانب مهنته شهرة أدبية أو فنية وله سيارة صغيرة يقودها بنفسه
هذه المقدمة لازمة لكي نفهم منها فهماً واضحاً أثر المرأة في الأستاذ علي طه، ففي نفسه الشاعرة رواسب من حب خاب، وعلاقات فشل في إنشائها، وطبقة لم تلتفت إليه بناتها هي على الأغلب طبقة الفنانات. هذه الرواسب كونت منه رجلاً فيه من توفيق الحكيم بعض تعاليه، وفيه من الصاوي بعض تفاخره، وفيه من محمود كامل اهتمامه بطبقة معينة تبدو من كثرة حديثه عن مخادع المغنيات والراقصات
وقد امتزجت هذه العناصر وتفاعلت فإذا به في شعره - وقد يكون في حياته الخاصة - زير نساء يطلب المرأة لأنها إحدى النساء، وليس بعاشق يميز امرأة واحدة من دون النساء
والمفروض في زير النساء أنه رجل مستهتر، قوي، كثير التنقل بين (الحبيبات)، مشغول البال بالمرأة، شديد الالتفات إلى نواحي جمالها وزينتها، محبوب منها وأنيق
وكل هذه الصور واضحة في شعر علي طه ونثره أشد وضوح فهو مستهتر لا يبالي أن يقول:
حلفتُ بالخمر والنساء ... ومجلس الشعر والغناء
أو يقول:
فاعذري الروح إن طغى ... واعذري الجسم إن ثأر
ثمر ناضج الجني ... كيف لا نقطف الثمر
وهو رجل قوي، استغفر الله بل فتىً قوي، يقول عن زملائه ركاب السفينة (كانوا يعجبون من هذا الفتى الأسمر الذي يقتحم غرفة المائدة ليملأ معدته بالطعام بينما هم مستلقون على ظهورهم من دوار البحر أو ممسكون بمعداتهم من الألم والاضطراب!)
ويقول:
الثلاثون قد مضت ... في التفاهات والهذر
فهذه الصورة قد تتفق مع صورة دون جوان، ولكنها قد لا تتفق مع الحقيقة. ففي مقال(512/31)
الأستاذ الزيات عن أرواح وأشباح يقول: (وبين اللقيا الأولى للصديق والقراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة). (وكان إذ ذاك في إبان شبابه وكنت في عنفوان شبابي) ومن هذا يتضح أن لفظة (الثلاثون) هذه لم تأت إلا لضرورة الشعر
ثم هو رجل كثير التنقل بين الحبيبات، فهو في الجندول مع البولونية الحسناء، وهو في بحيرة كومو مع الأديبة الأمريكية الفاتنة، وهو على الرين مع (صديقة سويسرية التقى بها في ذلك الجو الساحر الخ. . . وهذا بالطبع عدا عذارى وادي النخيل وقاهرياته الغرر
وهو مشغول البال بالمرأة يغازلها في كل مكان؛ وقد يغازلها وإلى جانبها زوجها (الليلة الأولى في أرواح شاردة) وكتبه كلها فياضة بهذا الاهتمام الذي يقيمه ويقعده؛ ولكني أود أن ألفت النظر إلى نشيده الأفريقي (عودة المحارب) الذي يقول فيه:
حين ألقى زوجي على باب كوخي ... وأناغي على ذراعيّ طفلي
فهذا التصوير الصادق للقلب الظمآن إلى حنان الأسرة لم ينج من سمادير الاهتمام بالمرأة على العموم، ذلك الاهتمام الذي يملأ قلب الشاعر، فيقول على لسان ذلك المحارب العائد إلى زوجه وطفله:
يا عذارى القبيل انتن للمجد (م) ... على عفةٍ صواحب بذل
حسبُ روحي الظامي وحسب جراحي ... رشفةٌ من عيونكن النجل
وابتساماتكن فوق شفاهٍ ... بمعاني الحياة كم أومأت لي
وصحيح أن البطل العائد يسر بالحفاوة التي يلقاها من قبيلته رجالها ونسائها، ولكن لعل حفاوة الرجال به أبعث لسروره، وأقدح لمكامن الزهو في نفسه.
ونستطرد في توضيح الصورة التي أوجزناها في مقدمة حديثنا فنقول إن التفاته إلى نواحي الجمال في المرأة كثير في شعره ونثره إلى درجة أستبيح لنفسي معها أن أغفل إيراد الشواهد عليها، والتفاته إلى زينتها دقيق (صففت شعرها على طريقة القرن الثامن عشر، وقصت جانبيه على طريقة القرن العشرين) ويقول عن أخرى إنها (ارتدت زي القرويات من سكان الأديج الأعلى وغطت رأسها بمنديل احمر موسوم بصور متناسقة لزهرات برية)
أما أنه محبوب من المرأة فشواهد ذلك كثيرة في دواوينه وكتبه وأجتزئ هنا بمقتطفات من حديث نشره بمجلة الاثنين عن ذكريات الصيف، تحدث فيه عن جارة له في الفندق قابلته(512/32)
في الردهة. . . (لم يطل بي النظر ولم يطل بها الوقوف، فقد ابتسمت لي وأحنيت رأسي تحية لها، وسرعان ما وجهت لي عبارة لطيفة قائلة:
- منذ أمس وأنا أعجب من هذا الغريب المنفرد بنفسه الذي لا يجد في هذه المدينة الصاخبة اللاهية ما يزعجه عن النوم ويشغله إلى ما بعد منتصف الليل. أقول هذا وأتساءل كيف لا أعجب من نفسي أنا أيضاً، فقد حضرت ليلتين، فلم أجد ثمة حذاء واحداً على باب واحد، ووجدت حذاءك منفرداً بنفسه على باب غرفتك. وقلت لنفسي وأنا أضع بدوري حذائي على باب غرفتي، فليظل الحذاءان هكذا قريبين من بعضهما في الليل وإن لم يتعارفا. وفي الحق أني عندما أغادر غرفتي إلى الحمام في الصباح الباكر أجد أن منظر الردهة قد تغير، فأمام كل باب حذاءان أحدهما ضخم خشن، والآخر دقيق رقيق، فأحدث نفسي لم لا يتفق حذاءانا نحن أيضاً فنجدهما ذات صباح على باب واحد. . .)
فياما أشد إغراء هذا الفتى الأسمر، لقد أنسى تلك الحسناء أنها امرأة يسرها أن تُصاد وأن ترى الشباك منصوبة من حولها. . . أنساها هذا وأنساها حياءها الغريزي فبدأته بهذا الحديث الطويل واقترحت عليه أن يشاركها غرفتها.
بقي الحديث عن الصفة الأخيرة وهي الأناقة وتكاد تكون أظهر صفات شعره الموسيقي العذب، ثم هي تبدو أيضاً في طبع كتبه وتقديم قصائده، ويرجع السبب في شدة وضوح هذه الصفة إلى أنها ارتوت من رافدين نبعا في صدر شبابه: أولهما الحرمان الجنسي، وثانيهما الحرمان الأدبي، لأن المجد الأدبي لم يوات الأستاذ علي طه في السن التي كان ينتظره فيها، بل تأخر عن ذلك. وفي مقال الأستاذ الزيات عن (أرواح وأشباح) ما يكشف عن ذلك الجانب، فهو يقول إنه منذ إحدى وعشرين عاماً كان يشرف بالاشتراك مع حضرة الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق على قسم الشعر في مجلة السفور، ودفع إليهما البريد بقصيدة لعلي طه (فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغي على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السل وصححنا ما فيها من الخطأ وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن). . .
ثم لقيه في المنصورة. . . (وطلب إليه صديقنا أن ينشدنا بعض شعره فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفسنا من كربه أو خففنا من عبئه، وقال: نشرت لي السفور هذه القصيدة(512/33)
وقدمت لها بهذه المقدمة. . . ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب). . . (وكان حين عرفته في إبان شبابه وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي)
ففي هذه الأسطر نرى علي طه وهو ناشئ مغمور ينشط لإلقاء شعره ويرتاح، ويحفظ عن ظهر الغيب مقدمة فيها تنبأ ونصيحة، ثم يعرف صاحب هذه المقدمة التي احتفي بها كل الاحتفاء فإذا هو شاب لا يكبره كثيراً في السن. وتلك مقدمات تصل إلى نتيجة واحدة هي شدة إحساسه بأنه مغمور وأن قريحته في حاجة إلى أن يرفدها بمادة اللغة وآلة الفن. وربما تأثر بأسلوب الزيات الأنيق، فما زال يتحرى الأناقة ويتوخاها حتى أصبح أكثر الشعراء المصريين أناقة غير مدافع. وقد واتته الشهرة الأدبية سخية فياضة؛ ولكن نفسه الحساسة لم تسلم وما كان لها أن تسلم من عقابيل هذا الشعور القديم، فيقول في مقدمة إحدى قصائده: (ألقاها الشاعر في حفل كان من خطبائه الأساتذة الإجلاء: لطفي السيد باشا، الدكتور طه حسين بك، مصطفى عبد الرازق بك، أنطون الجميل بك). وقد جعل هذا دأبه في تقديم كل القصائد التي ألقيت في حفلات عامة كأنه يستكثر بطريقة لا شعورية أن يلقى شعره بين هؤلاء الذين كانوا يملئون أفق الأدب أشعة وشهرة وهو ناشئ مغمور في المنصورة. بل هو يلجأ إلى أغرب من ذلك في تقديم الجندول (تغريدة الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب) كأن عبد الوهاب لا يتغنى إلا بجيد الشعر ومختاره، مع أنه غنى الجندول وغنى بعدها (ماتهونش)، (وبلاش تبوسني)
وهذا الأثر الذي أتحدث عنه يبدو كذلك في كثرة حديث الأستاذ علي طه عن الشاعرية ومناجاته لها في (ميلاد شاعر) و (غرفة الشاعر) و (قبر الشاعر). . . ثم في حديثه عن نفسه بقوله (الشاعر)، فهو بهذا وذاك يمدح نفسه وشاعريته عن طريق غير مباشر ولا شعوري
وألاحظ هنا كثرة لجوء الشعراء الشبان إلى الحديث عن أنفسهم بقولهم: (زار الشاعر قرية كذا وقال فيها) مثلاً، والشاعرية كموهبة لا يجوز أن يفخر بها صاحبها بل يدع للناس أن يتحدثوا عنها ويمدحوه بها وإلا جاز لكل صاحب موهبة أن يتحدث عن نفسه فنسمع مثلاً (قال الذكيُّ في حديثه) أو (قهر القويُّ خصمه في الملاكمة) ولن يكون هذا أغرب من ذاك
وأعود فأكرر ما قلته في أول هذا المقال من أن الأدب العصري مدين للحرمان بنبوغ(512/34)
الشاعر الموهوب الأستاذ علي محمود طه وبضلال الملاح التائه في بحار الجمال والخيال، وهو ضلال حبيب إلى النفوس المرهفة الحس، وهو أعود بالفائدة من هداية القابعين المتزمتين.
(الإسكندرية)
إدوارد حنا سعد(512/35)
البريد الأدبي
ذو القرنين
قرأت بالعدد (509) نبذة للأستاذ عبد المتعال الصعيدي يرد بها على نظريتي الجديدة عن ذي القرنين التي هدمت بها النظرية القديمة التي كانت تقول إن ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم هو الإسكندر الأكبر، وأثبت بالأدلة القاطعة (بالعدد 508) أن ذا القرنين كان مؤمناً، في حين أن الإسكندر كان وثنياً فاسد الأخلاق سفاكاً للدماء سكيراً قاسياً. وينص القرآن الكريم على أن ذا القرنين اتجه غرباً أولا ثم اتجه شرقاً، في حين أن الإسكندر اتجه شرقاً أولا ثم اتجه جنوباً ولم يتجه غرباً إلا أخيرا.
وأثبتُّ أيضاً (بالعدد 506) أن كلمة ذا القرنين ما هي إلا لقب ملوك الفرس ابتداء من الملك كورش إلى الملك دارا الثالث بدليل أن آيات القرآن الحكيم عن ذي القرنين نزلت بناء على سؤال اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام عن ذي القرنين المذكور عندهم في التوراة (سفر دانيال) والتوراة تنص صراحة على أنه لقب ملوك دولة فارس التي أسقطها ملك من ملوك اليونان. وإذا بحثنا في التاريخ عن ملوك هذه الدولة الذين ينطبق عليهم هذا الوصف نجدهم ابتداء من الملك كورش العظيم إلى الملك دارا الثالث الذي في عهده قضى الإسكندر على دولة الفرس. والملك كورش اتجه غربا أولا واستولى على سوريا حتى وصل البحر الأبيض (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة). ثم اتجه بعد ذلك شرقا حتى وصل بلاد التركستان حيث توجد إلى الآن آثار السد القديم (اقرأ العدد 506) والملك كورش وخلفاؤه كانوا على دين زرادشت نبي الفرس الذي كان يؤمن بوحدانية الله والجنة والنار والصراط والأعراف (اقرأ العدد 508)
وبعد هذه الأدلة القويمة نجد الأستاذ يقول بالعدد الأخير إن وثنية الفرس واضحة، في حين أنه لو كلف نفسه قراءة كتاب تاريخ فارس كما أوضحت بالعدد 508 لاقتنع بهذا الرأي ووجد أن الملك كورش كان على دين زرادشت. ولو اطلع على كتاب صبح الأعشى وكتاب تاريخ حياة زرادشت تأليف من أن دين زرادشت يؤمن بوحدانية الله والجنة والنار والصراط والأعراف. ولقد كان زرادشت قبل الملك كورش بسنين قلائل، ولذلك كانت مبادئ هذا الدين لا تزال سليمة لم يطرأ عليها تحريف بعد(512/36)
ويقول الأستاذ إن سوريا تقع شمالاً بالنسبة لفارس. في حين أن نظرة بسيطة إلى أي مصور جغرافي تثبت لنا أن خط عرض 35 يمر في وسط فارس وسوريا. أي أنهما على خط عرض واحد. وعلى ذلك فالملك كورش عندما ذهب لفتح سوريا اتجه غرباً بكل تأكيد.
ويعتقد الأستاذ إن سوريا لا يقال لمن يصل إليها أنه بلغ مغرب الشمس لأنها في قلب المعمورة. وليسمح لي أن أسأله عن المكان الذي تغرب فيه الشمس على سطح الأرض. أليست كل بقعة على سطح الأرض تصلح لأن تكون مغرب الشمس لأن الشمس تغرب فيها كل يوم. كما تصلح لأن تكون مشرق الشمس لأن الشمس تشرق عليها كل يوم. فمعنى مغرب الشمس جهة الغرب بالنسبة للمكان الذي هو فيه. وليس المقصود بلاد المغرب فقط كما يظن. فالملك كورش اتجه غرباً حتى وصل سوريا فوجد الشمس تغرب في عين حمئة أي البحر
ويقول الأستاذ إن الملك كورش قتل ببلاد التتار وذو القرنين لم يقتل. ومن أين عرف أن ذا القرنين لم ُيقتل في حين أن القرآن الكريم لم يأت إلا بجزء يسير من تاريخه: (ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا)، أي جزءاً من تاريخه ولم يذكر تاريخ حياته كلها. ومع ذلك فالقتل لا يمنع الشخص من أن يكون مؤمناً أو عظيماً
ويقول الأستاذ إنه وجدت دنانير عليها صورة الإسكندر يلبس قرني آمون. وهل عندما يلبس الإسكندر شعار الإله آمون نقول عنه إن له قروناً. وهل كل من يلبس على رأسه قروناً نقول عنه إنه ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم؟ ومع ذلك فالتماثيل العديدة التي للإسكندر في جميع متاحف العالم ليس منها تمثال واحد بقرون
وأخيراً ألفت نظر الأستاذ إلى أن كلمة ذي القرنين ليست شخصاً وإنما هي لقب عدة أشخاص، وهم ملوك دولة الفرس كما قلت ابتداء من الملك كورش إلى الملك دارا الثالث.
دكتور ابراهيم الدسوقي
نظرات في كتاب
أصدر الدكتور عبد الدايم أبو العطا البقري كتاباً جديداً عن (اعترافات الغزالي) ضمّنه اتهاماً خطيراً للإمام، وحملة عنيفة على كتابه المنقذ من الضلال. ولست أريد أن أعرض(512/37)
لنقد هذا الكتاب الجديد، فإن مؤلفه قد كفانا مؤنة النقد، حين تجاوز الوضع والتصنيف إلى النقد والتقريظ. ولكنني أريد فقط أن أسجل ظاهرة عجبت لها عجباً يستنفد كل العجب! فقد ذكر المؤلف في الخاتمة التي وقفها على الحديث عن قيمة بحثه وما له من أثر، أن في وسعنا أن نجمل أثر بحثه في أن (المنقذ من الضلال. . . ليس بتاريخ حقيقي لتدرج الغزالي الفكري، ولتطوره العقلي والنفسي، ولن يعتبر بعد اليوم مصدراً لذلك) (كذا!). وهذا القول فيه من لهجة التوكيد والتظاهر بالدراية والتثبت، ما يثير الابتسام العريض! فإن العالم الحق لا يجيز لنفسه مطلقاً أن يتحدث بمثل هذه اللهجة التي لا تخلو من تجاف عن الروح العلمية. ولعل الأستاذ المؤلف يعترف بذلك، إذا أنعم النظر في مقدمة الدكتور زكي مبارك التي ارتضى أن يُثبتها في أوّل كتابه. فقد ورد فيها ما نصه: (أنا أعتقد أن الغزالي صادق في كل ما رواه. . .) وهذا القول ينقض ما ادعاه المؤلف من أن المنقذ لن يعتبر بعد اليوم مصدراً لمعرفة تاريخ حياة الغزالي.
وثمة ظاهرة أخرى تعرض لقارئ كتاب الاعترافات؛ وتلك هي غرابة الأسلوب. فإنني أستطيع أن أؤكد أن أحداً لم يسبق الدكتور عبد الدايم إلى الكتابة بالأسلوب الذي آثره هو. وأي باحث علمي يرتضي لنفسه أن يملأ صفحات كتاب له بمثل هذه العبارات: (الله؛ الله؛ أيها الشيخ؛ إنك لرجل قوي وبطل، نعم قوي؛ لأنك احتملت ما لم يحتمله الناس. . . الخ) ص96؟ أو يقبل باحث أن يستعمل مثل هذه العبارات التي لو أوردها كاتب في مجادلة كاتب آخر لانتقصت من قدره في نظر الناس؟ هذا سؤال أترك الإجابة عنه للأستاذ المؤلف نفسه، فإنني أحسب أنه يوافقني على أن البحوث العلمية لا تكتب بمثل هذا الأسلوب.
أما إذا تركنا (الشكل) وانتقلنا إلى (الموضوع)، فإننا نأخذ على الكتاب عدة مآخذ. والمأخذ الأول عندنا أن المقارنة التي عقدها المؤلف بين الغزالي وديكارت، مقارنة فاسدة لا أساس لها. وكان الأجدر بالمؤلف أن يقارن بين الغزالي والقديس أوغسطينوس فإن ديكارت ليس فيلسوفاً متديناً يقيد نفسه بعقيدة ما من العقائد، وإنما هو فيلسوف حر الفكر، لا يعطي لمشكلة العقل والنقل من الأهمية ما يقفه عليها رجل مؤمن كالقديس أوغسطينوس. وديكارت لم يكتب لنا (اعترافات) يصوّر فيها حياته تصويراً دقيقاً كما فعل رجل كأوغسطينوس الذي كتب اعترافات رائعة، أدرك البعض قيمتها فاشتغل بترجمتها.(512/38)
والمأخذ الثاني أن المؤلف يضارب أقوال الغزالي بعضها ببعض، في سبيل التوصل إلى الحكم على اعترافات الغزالي بأنها كذب وافتراء. وهذا منهج خاطئ لا يوصّل إلا إلى نتائج فاسدة، لأن الأقوال التي يضاربها المؤلف بعضها ببعض، ذُكرت في عهود مختلفة، والتطور يفرض على الغزالي أن يغير من رأيه تبعاً لتغير حالته، فلا يمكن إذن أن نستنتج شيئاً من تعارض الأقوال واختلاف الآراء، كما أراد المؤلف.
زكريا إبراهيم
ضبط الخلاف بين العربية والعامية مستحيل
اطلعت في البريد الأدبي من (الرسالة) على كلمة موجزة، تحت عنوان: (ضبط الخلاف بين العربية والعامية)
وخطأ هذه القاعدة الجديدة أنها بنت كون اللفظ العاميّ عربياً مقبولاً على مجيئه موافقاً في الضبط لأصل من أصول المفردات العربية. وهذا ظاهر الفساد؛ فإن المتواضع عليه بين العلماء أن اللفظ العامي ما لم ينطق به عربي، سواء في الصوغ أو في الشكل. وهذا محل وفاق قطعاً، وأن المدار في تمييز العربي من العامي على النقل عن المعاجم اللغوية. وإلا لجاز أن يخترع العامي ألفاظاً لا حصر لها، على نمط الأوزان العربية. فهل نقول: إنها عربية لأنها وافقت أصلاً من أصول الكلمات العربية؟
وبنت كون اللفظ عامياً غير صحيح على مجيئه مخالفاً لقواعد الصرف. ولو أخذنا بهذا القول على إطلاقه لخطأنا نحو ربع اللغة العربية من الألفاظ الشاذة عن القياس الصرفي كمصادر الثلاثي وجموع التكسير، وبعض صيغ النسب والتصغير!
وأما خطأ التمثيل فقد مثل الكاتب لما يجب أن يكون عامياً غير صحيح بقول العامة: عباية في عباءة، ثوب في ثوب، جعر في جأر، معللاً بأن إبدال الهمزة ياء، وإبدال الثاء تاء، وإبدال الهمزة عيناً لا يرجع شيء منها إلى قاعدة صرفية.
أما عباية فقد نقل الثقات من أهل اللغة، أنها عربية مسموعة. نعم إن استعمالها بالهمزة أكثر وأشهر.
وأما جعر في جأر فذلك إبدال مطرد في لغة بني تميم، فقد حكى ابن مالك في شرح الكافية:(512/39)
أنهم يبدلون الهمزة المتحركة عيناً، وأما توب بالتاء فهو من تحريف العامة، ولكن لا لأنه إبدال غير قياسي فحسب، بل لأنه لم ينقل عن العرب، ولو نقل عنهم لقبل، فقد ورد في اللغة تاب إلى الله وثاب إليه بمعنى واحد لتقارب مخرجي التاء والثاء، ولكنهم لم يقولوا في ثوب لما يلبس: توب بالتاء لئلا يلتبس بتوب مصدر تاب بالتاء المثناة. بهذا ظهر أن ما جعله عامياً برأيه الجديد، عربي صحيح، وأن قواعد الصرف جُعلت لضبط الكثير المسموع من كلام العرب، لا للتحكم في اللغة بجعلها كلها خاضعة لهذه القواعد. ولذلك ورد الشاذ والنادر مما لم يمكن ضبطه بقاعدة
ومثل لما هو عربي صحيح بقول العامة: تِرمس (بكسر التاء)، وقولهم: حُصان (بضم الحاء)، وقولهم: معدَن (بفتح الدال)؛ لأن هذا كله لم يخالف قاعدة من قواعد العربية. وذلك أوغل في الفساد من سابقه، لأنه إذا جاز للعامي أن يقول في حِصان بكسر الحاء: حصان بضمها، جاز أيضاً أن يقول: حَصان بفتح الحاء؛ لأنه على أصلك الذي جريت عليه على وزان (غزال). وفي ذلك خلط بين الأبنية العربية
نعم إن كسر التاء في لفظ ترمس ونحوه لا ينشأ عنه اختلاط في الأبنية ولا تأثير في المعنى، ولكننا إذا فتحنا هذا الباب على مصراعيه للعاميّ، تجرأ على التحريف في ضبط سائر المفردات حتى المتواتر منها.
وهاهنا ملاحظة جديرة بالنظر، وهي أن حضرة الكاتب ترك التمثيل لما يميز فيه بين اللفظ العربي والعامي بقواعد النحو والبلاغة. ويغلب على ظني أنه لا وجود لشيء من ذلك إلا في مخيلة الكاتب!
عبد الحميد عنتر
أستاذ بكلية اللغة العربية
نزول عيسى
تنشر (الرسالة) ابتداء من العدد المقبل إن شاء الله بحثاً في نزول عيسى يرد به فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء على الشبه التي أثارها بعض الناس على فتواه السابقة التي نشرت بالعدد (462) من الرسالة فنلفت إلى ذلك(512/40)
أنظار القراء.(512/41)
العدد 513 - بتاريخ: 03 - 05 - 1943(/)
قاسم أمين
للأستاذ عباس محمود العقاد
قرأت في مجلة (روز اليوسف) حديثاً للسيدة الجليلة قرينة قاسم أمين رحمه الله، نشرته المجلة لانقضاء خمس وثلاثين سنة على وفاة ذلك المصلح الكبير، وكان من المصادفات الموفقة أن تؤدي هذا الواجب - واجب الذكرى - مجلة تصدرها سيدة. ففي ذلك بعض الوفاء (المناسب) لموضوع الوفاء
وقاسم أمين رحمه الله حقيق بالتذكار لغير سبب واحد: حقيق بالتذكار لغزارة علمه؛ وحقيق بالتذكار لنزاهة قضائه؛ وحقيق بالتذكار لدماثة خلقه ولطافة ذوقه وامتزاج الثقافة الروحية فيه بالثقافة الفكرية؛ وحقيق بالتذكار قبل كل شيء، وبعد كل شيء، لدعوته إلى إنصاف المرأة وإخراجها من ربقة الظلم الذي كان محيطاً بها وبالرجال
كتبنا عنه قبل ثلاثين سنة في (خلاصة اليومية) فقلنا: (إن المرأة المصرية مدينة لقاسم؛ لأنها كانت سجينة فأطلقها، وكانت أمة فأعتقها. والأمة المصرية مدينة لقاسم؛ لأنها كانت شلاء فأبرأها من ذلك الشلل الذي أمسك شقها عن الحركة دهوراً وأعواماً. والإنسانية مدينة لقاسم؛ لأنه أنقذها من رق لا تجرؤ مصلحة الرقيق على مطاردته. والفخر في تحرير المرأة لا يزال الآن وبعد الآن من نصيب قاسم. أما من قفوه في هذا المقصد فهم إنما درجوا على طريق بينه الآثار وسلكوا في منهج مأبور)
وقد مضت الآن خمس وثلاثون سنة على وفاة قاسم، ومضى نحو خمسين سنة على دعوته الأولى في سبيل تحرير المرأة، وولد في يوم دعوته - بل في يوم وفاته - بنات يعشن الآن ويحسبن من الرجعيات المتخلفات، لأنهن يتحرجن من أشياء لا يتحرج منها بناتهن الناشئات اللائى ولدن متحررات، وغلون في الحرية أبعد الغلواء، ولما يسمعن باسم قاسم أمين ولا بالدعوة التي دعاها. لأنهن أخذن الحرية من عدوى المجتمع ولم يأخذنها من معرفة الحقوق ولا من العناية بنهضة المرأة
وإنصاف قاسم يستدعينا إلى تقرير هذه الحقيقة. فإن عدوى المجتمع شيء ودعوة قاسم إلى تحرير المرأة شيء آخر، وإنما اللوم كل اللوم فيما نعيبه الآن من الشطط والبهرج الكاذب إنما هو من عدوى المجتمع لا من الدعوة القاسمية التي لا يزال لها فضلها ولا يزال لها(513/1)
حقها من الثناء وإن شط بها الطريق على غير ما أراد صاحبها، وعلى غير ما يستطيع أن يريد
قاسم أمين قد رأى خطأ فنبه إليه
ويكفي أن يثبت الخطأ ليثبت الفضل في التنبيه إليه. ثم يكفي أن يكون التنبيه إليه شجاعة وتضحية ومجازفة بالمصير ليغنم صاحبه منا حمد الشجاع المقدم على التضحية في سبيل الخير والفلاح، ثم لا عليه بعد ذلك من الخطأ الآخر الذي جاءت به الحوادث ولا جناح عليه فيه
مثل قاسم أمين في دعوته إلى تحرير المرأة مثل محام فاضل غيور على حقوق الناس رأى إنساناً يساق إلى السجن بغير جريرة معروفة وبغير حجة مشروعة يقبلها القانون؛ فغضب المحامي الفاضل الغيور على الحقوق غضبة الكرامة الإنسانية، وجهد في إطلاق ذلك السجين جهده المستطاع، وبر بذمة القانون وذمة الصناعة وهو يخرجه من السجن ويسلمه إلى الطريق الطليق. ثم دهم الترام ذلك السجين المظلوم على مدى خطوات من سجنه فمات؛ أو بدا له أن يعرج على حانة فيذهل عن صوابه ويعتدي على بريء أو يصاب بما يسقمه ويضنيه
هو لو بقي في السجن لما قتله الترام، ولا وصلت يده إلى الكأس أو أقدم على العدوان
ولكن الرأي فيمن ظلمه وأدخله السجن، وفيمن أنصفه وأخرجه منه، لا يختلف مع كل ما حدث أو يحدث بعد انطلاقه
فلا يقول أحد فيه ذرة من إنصاف أن ظالمه خير من منصفه، وأن إدخال الناس السجن بغير الحق عمل أشرف وأكرم من إعادتهم إلى الحرية وفاقاً لحكم القانون
والذي حدث في الدعوة إلى تحرير المرأة شبيه بهذا من وجوه كثيرة. فإن الذي أنكره قاسم من ظلم المرأة وحرمانها العلم والتربية والرعاية الإنسانية لحقيق بالإنكار، وحقيق بان يتبدل أو يزول. وهنا صنع قاسم ما لابد أن يصنع، وقام بالواجب الذي نكص عنه آخرون. فوجب له الحمد وعرفان الجميل، وإن ذهبت المرأة بعد ذلك في حريتها مذهباً لم يكن ليرضاه
دعوة قاسم هي فضيلة قاسم التي تحسب له ولا تحسب عليه(513/2)
أما (عدوى المجتمع) فليست من فعله ولم يكن في يديه أن يمنعها ولو كف عن دعوته وسكت عنها في زمانه كل السكوت
فهذا الشطط الذي نراه اليوم إنما نشأ من أمور كثيرة بمعزل عن الدعوة القاسمية وعن كل دعوة من قبيلها
نشأ من رؤية المرأة الأوربية في مصر بالمئات والألوف، ثم هجوم الناس على المحاكاة العمياء بغير تفرقة بين الأحوال عندنا والأحوال عند الأوربيين
ونشأ من الصور المتحركة التي تعرض لنا كل يوم مفاتن الحياة الغرامية بين الجنسين على نحو يراد به الإغراء وقلما يراد به التعليم والتهذيب
ونشأ من انتقال الألوف من أبنائنا إلى أوربا يعيشون هناك كما يعيش الشبان الميسورون في غير رقبة ولا تقيد بالعرف الشرقي الذي نشأوا عليه
ونشأ من القراءة الرخيصة التي يصح أن يقال فيها ما يقال في العملة (إن الرديء منها يطرد الجيد من الأسواق)
ونشأ من الأزمات الاقتصادية ثم من تداول الضنك والرخاء على البلاد، وفي هذا التداول ما فيهمن إفساد الأخلاق وزلزلة العرف والبيئة
ونشأ من معقبات الحرب الماضية التي عمت جميع الأقطار، ولم تخصنا نحن الشرقيين أو نحن المصريين
وهذه كلها أسباب أين منها دعوة قاسم أمين وأين منها جهود قاسم أمين أو جهود نفر من المصلحين؟
إن القدوة الاجتماعية لتصنع الكثير ولو قامت في طريقه العقبات ولم يرتفع بالدعوة إليه صوت داع من الدعاة؟
فلم يقم في مصر (قاسم أمين) يؤلف الكتب ويستهدف للملام في سبيل (التنحيف) وإقلال الطعام
وإن الإقلال من الطعام لعسير جد عسير، لأنه تضييق على الحرية وتضييق على الجسم في وقت واحد. . . ومع هذا تصبر المرأة على الحرمان والشدة وتزهد في الطعام المشتهى لتظفر (بالنحافة) الموموقة التي فرضتها العدوى الاجتماعية ولم تفرضها على المرأة دعوة(513/3)
ولا عقيدة
بل فرضت الدعوة القوية صياماً في وقت من أوقات السنة وأنذرت على تركه بالعقاب في الدنيا والآخرة، فلم تصم امرأة واحدة لاتقاء هذا العقاب إلى جانب عشر نساء ممن يصمن في العام كله مرضاة للعرف وتلبية للعدوى الاجتماعية. وما كانت دعوة قاسم رحمه الله بأقوى من دعوة الصيام ونذير العقاب على تركه باسم الدين
إنما هي آفة الإصلاح حيث كان
وإنما هي القسمة السيئة التي يصاب بها المصلحون في الحياة وبعد الممات
ففي حياتهم يكرهون ويصابون
وبعد حياتهم تعرض لدعواتهم العوارض التي لا ذنب لهم فيها ولا قدرة لهم عليها فيلامون من حيث يسكت الناس عن علة الملام
وقد تثمر دعواتهم أحسن الثمر بعد زمن طويل، فإذا الناس يستمتعون بالثمر وينسون غارسيه، ولعلهم إن ذكروهم لا يشكرون ولا يكترثون
ذلك كله حق نلمحه بيننا ونلمسه بأيدينا كل يوم، فإن أوجب علينا شيئاً فإنما يوجب علينا أن نضاعف الجزاء للمصلحين الذين يساء إليهم بمقدار ما أحسنوا، وإنهم لأقمن الناس بإحسان
قالت السيدة الجليلة قرينة قاسم بك في حديثها الذي أشرنا إليه: (إنما كان قاسم ينادي بالسفور الشرعي الذي لا يزيد عن إظهار الوجه واليدين والقدمين ولا يتجاوزه إلى إظهار العورات وإلى اختلاط المرأة بالرجل على النحو الحاصل الآن. وإني أعتقد أن قاسم بك لو كان حياً لما رضي عن هذه الحال بل لانبرى لمحاربتها. ويحزنني أن أرى الكثيرين يسيئون إلى قاسم أمين إذ يحملونه المسئولية عن هذا التهتك وينسبونه إلى دعوته، فيدللون بذلك على أنهم يسيئون فهم الدعوة)
وصدقت السيدة الجليلة في قولها عن مقاصد قرينها الكريم وهي بها أدرى. فقد أراد قاسم عزة للمرأة تخرج بها من ذلة الجهل وفقد المشيئة، فإذا بها قد وصلت إلى ذلة أخرى أسوأ لها من الذلة الأولى، لأنها من طريق المشيئة والحرية التي لا تحسنها
فالعوارض التي نراها الآن إن هي إلا عوارض الضعف عن حمل الحرية قد أصيب بها(513/4)
النساء كما أصيب الرجال في المرحلة الحاضرة، وغاية ما نرجوه أن تكون مرحلة انتقال وراءها مراحل استقامة وصلاح
عدت إلى كتب أدبائنا منذ أسبوعين لأكتب عنهم في مجلة (الاثنين) فقرأت في فيض الخاطر للأستاذ أحمد أمين مقالاً عن حرية المرأة بين جيلين يقول فيه بلسان البنات وهن يخاطبن أباهن:
(يا أبانا الذي ليس في السماء! رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سراً فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهراً، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حباً فأحببنا، ورأينا عريا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا. قال: نعم. قلن: وقد أوصتنا أمنا أن نركب الروح ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها. فإننا نرى شبان اليوم متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كارادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا، فهم أحرار ونحن أحرار، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟)
والذين نراه أن شكوى الجيل الحاضر من مشكلة الزواج أعظم من شكوى الجيل الغابر الذي منه آباؤهم وأمهاتهم، فليست المسألة قوة إرادة من هذا الجنس أو من ذاك، ولكنها مسألة حرية لا يقوى على علاجها هذا ولا ذاك. وإن هان شأن الفتاة حيناً فإن شأن الفتى ليهون في حين آخر على حسب المناسبة العارضة أو على حسب قانون العرض والطلب الذي يتحدث به الاقتصاديون. ويغلب الهوان على الفتاة في المعترك الحاضر لأنها هي التي كانت مطلوبة فأصبحت معروضة أو طالبة فأصابها الرخص والهوان من طريق الحرية، وهو ما عنيناه بالذلة في طريق مشيئتها بعد الذلة التي أصابتها قديماً من فقد المشيئة. فإذا وقع الفتى في قيد الزواج فإنه ليشكو من زواجه أضعاف ما كان يشكوه أبوه وجده، ويحار فيه الحيرة التي لا مخرج منها إلا بالفرار أو الاصطبار
هي بلوى الحرية المفاجئة بعد بلوى العدوى الاجتماعية، وهي حالة جديدة تحتاج إلى (قاسم أمين) جديد يعالجها ويرفع العقيرة بالثورة عليها، ولا يكون في عمله إلا فاتح صفحة من الكتاب الخالد الذي فتح صفحته السابقة قاسم أمين قبل خمسين سنة. رحمه الله.
عباس محمود العقاد(513/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
درس في الأخلاق - الكتاب الأسود - زكي مبارك كما يراه عباس العقاد - الطبيعة المصرية - الترجمة عمل مطلوب ومفيد، ولكنها لا تدل على الأصالة الذاتية
درس في الأخلاق
صديقي. . .
أوجه إليك هذه الكلمة، وأنا أرجو أن تقرأها فيما بينك وبين نفسك، بلا تفكير في التعقيب، لأني لن أستمع لك إن قابلتها بأي اعتراض، فما يتسع وقتي للمجادلة في أمور صارت عندي من البديهيات
وأسارع فأقرر أني لا أقيم وزناً للتشكي من الزمان، على نحو ما يصنع بعض الشعراء، وعلى نحو ما كنا نصنع يوم كنا نتوهم أن الحظوظ تقسم بلا ميزان
أنا اليوم أومن بأن لله قانوناً اسمه النظام، وهو يطرد في جميع الشؤون، فالشمس بنظام، والقمر بنظام، وجميع الخلائق بنظام يفسده أقل اختلال
لا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا وفقاً لقوانين أزلية لا يجوز عليها الانحراف
السيد سيدٌ بحق، والعبد عبدٌ بحق. . . ولو حمل الهرُّ روح الأسد لصاوله في حومة الصراع بلا تهيب ولا إشفاق
نحن المسئولون عن تخلفنا حين نتخلف، لأن في مقدورنا أن نصل إلى أعظم مكانة إن تحلينا بالصدق في الجهاد، ولأن في استطاعتنا أن نكون عظماء يشغلون التاريخ، إن ناضلنا في سبيل المجد نضالاً يقرع سمع التاريخ
وهذا لا يتيسر إلا إن راعينا نظام الوجود
ذلك السائل لا يستحق غير ذل السؤال، لأنه يخمد قواه عن عمد ليظفر بالصدقات العجاف
وذلك البليد الذي رضي أن يكون طول عمره من الذيول سيظل ذيلاً لأنه بليد. . . وذلك التابع السخيف لمتبوعين سخفاء لن يصلح لشيء، لأنه يستظل بأموات يعيشون في ظلال الأموات. . . وذلك الذي يتبهنس بفضل حماية غيره لن يرتفع بأي حال، وإن استعان بطنين الذباب(513/7)
لك ما تريد لنفسك، على شرط أن تفهم تلك القوانين الأزلية فتجاهد في حدود الصدق جهاد الرجال
لك ما تريد لنفسك، على شرط أن تترك الأوهام التي تزعم أن الرجل لا ينجح إلا إن صادفته فرصة تنقله من حال إلى أحوال
الفرصة في يدك إن أردت، ولكن متى تريد؟
أنت لغفلتك تتوهم أن الذين سبقوك إلى المال أو الجاه لم يسبقوك إلا بفضل الفرص التي سنحت على غير ميعاد
الفرصة في يدك، وميعادها بيدك، على شرط أن تكون رجلاً لا يجوز عنه الاستغناء
زوّد نفسك بالمزايا التي ترفعك، واقض ليلك ونهارك في كسب الخصائص التي تجعلك من أهل التفوق، وإن استطعت أن تكون الرجل الأول في المذهب الذي اخترته لنفسك فلن تشكو الغبن ولو قامت في طريقك ألوف وألوف من الأشواك
الرجل الذي يستطيع أعداؤه وحاسدوه أن يهدموه ليس بالرجل العظيم، وإنما هو وليد ظروف ومصادفات جعلته شبحاً يوهم من يراه أنه شخص من الأشخاص، وما أريد لك هذا الحظ الضئيل
أتريد أن تكون كذلك المسكين الذي يعرف في قرارة نفسه أنه لا يستطيع الوقوف على قدميه بلا سناد؟
ما لهذه الغاية الضئيلة خلقنا، وما لهذا النصيب الهزيل منَّ الله علينا بنعمة السمع والبصر والفؤاد
الكسل آفة سخيفة، وهو يميت مواهبنا الذاتية، ويمضي بنا إلى مهاوي الخمود
الكسل مذموم العواقب، وهو من صور الموت، لأنه أول خصائص الأموات
وأنت يا صديقي كسلان، بغض النظر عن نشاطك في لحظات التشكي من زمانك، وهو نشاط المريض في لحظات الصراخ
غيِّر ما بنفسك يا صديقي ليغيّر الله ما بك، واحذر أن تأكل رغيفاً بغير حق، كأن تأخذ أجراً على عمل لا تؤديه أحسن الأداء
الكتاب الأسود(513/8)
تسامع الناس قبل أسابيع بأن سعادة الأستاذ مكرم باشا عبيد نشر كتاباً سماه الكتاب الأسود، وقال من قرأوه إنه غاية في قوة الحجج والبراهين، فدفعني الشوق إلى الاطلاع عليه، وأنا بلا مباهاة أقرأ جميع ما تنشر المطابع فيما يتصل بالحياة الأدبية والوطنية لأساير اتجاه الأفكار في زماني
فماذا رأيت في الكتاب الأسود؟
رأيت مؤلفه اهتم بالشؤون الداخلية، وترك الشؤون الخارجية، فما معنى ذلك؟
أتكون وزارة النحاس باشا سلمت كل السلامة من التقصير في الشؤون الخارجية ونحن في زمن تكثر فيه المشكلات الدولية؟
إن كان هذا هو الواقع بفضل سكوت مكرم باشا فوزارة النحاس باشا أعظم وزارة تغلبت على المصاعب الدولية في أحرج لحظات التاريخ
وإن كانت هناك مآخذ على الوزارة الوفدية من الوجهة الدولية فسكوت مكرم باشا على تلك المآخذ سكوت المريب
التعرض للشؤون الداخلية يغضب النحاس وحده. أما التعرض للشؤون الخارجية فيغضب ناساً يراعيهم مكرم في السر قبل العلانية
ما هذه المغالاة في تعقب الشؤون الداخلية، مع ترك الشؤون الخارجية؟
الجواب حاضر: فسعادة الأستاذ مكرم باشا يتوهم أن مسلمة الأمور الدولية قد تنفع بعد حين، وقد تردُّه إلى وزارة المالية بعد أحايين!
نحن نبالغ في إيذاء المواطنين باسم الوطنية، ونسكت عن الشؤون الخارجية باسم الديبلوماسية، وذلك هو ما صنع الأستاذ مكرم عبيد!
هل أستطيع أن أسأل عن المصير الأخلاقي لمن يجرح قوماً عاشرهم في أعوام تزيد على العشرين؟
وهل أستطيع سؤال مكرم عن سر سكوته فيما يختص بمتاعب مصر من الوجهة الدولية؟
من واجب مكرم باشا أن يقرأ هذه الكلمة ليراعيها في كتابه المقبل. وهذا درس في الوطنية أقدمه إليه بالمجَّان
زكي مبارك كما يراه عباس العقاد(513/9)
تفضل الكاتب الكبير الأستاذ عباس العقاد فخصني بكلمة نقدية في مجلة الأثنين، وهي كلمة تؤيد رأيي في مذهبه الأدبي. . . ألم أحدثكم أن منطق العقاد يستقيم في جميع الشؤون إلا فيما يتصل بزملائه من الأدباء المصريين؟
إن لي في أدب الأستاذ العقاد آراء صحيحة لم تتأثر بتحامل المعاصرين بعضهم على بعض، وقد أثنيت على أدبه في ظروف لا تسمح بأن ينتظر مني أي ثناء، فقد تخاصمنا وتعادينا في آماد وآماد، ثم كانت العاقبة أن أعترف بجهاده في الحياة الأدبية، وأن أذكره بالجميل حين يستأهل الجميل
قال الأستاذ عباس العقاد: (إن الدكتور زكي مبارك أقل الكتاب شخصية في حياته الكتابية وإن أسلوبه الكتابي معروض لتوقيع من يشاء)
فبأي منطق وبأي حق يقول الأستاذ العقاد هذا الكلام الغريب؟
هل يستطيع أن يدلنا على كاتب يضع اسمه على كتاب (النثر الفني) أو كتاب (التصوف الإسلامي) أو كتاب (عبقرية الشريف الرضي) أو كتاب (ذكريات باريس) أو كتاب (اللغة والدين والتقاليد) إلى آخر ما أخرجت من المؤلفات؟
ثم يقول الأستاذ العقاد ما نصه بالحرف:
(الدكتور زكي مبارك حضر الأزهر والجامعة المصرية وجامعة باريس، ولكنه لا يمثل الأزهر ولا الجامعة المصرية ولا جامعة باريس)
وهذا كلام يسرني، وإن أراد به العقاد إيذائي، فأنا أبغض الاستعباد للمعاهد والمذاهب، وأعتقد أن أدبي سيعيش بعد أن تصبح تلك الجامعات خبراً لا تعيه ذاكرة التاريخ
زكي مبارك هو زكي مبارك كما قال العقاد، وهي أصدق كلمة قالها العقاد، على كثرة ما صدق في أحكامه الجوائر على أدباء هذا الجيل
قد يقول الأستاذ عباس العقاد كما قال الدكتور طه حسين: إن شخصية زكي مبارك المؤلف قوية كل القوة، وإنما الخلاف في شخصية زكي مبارك الكاتب
وأقول إن هذا ظلمٌ من الدكتور طه والأستاذ العقاد، وأنا أتحدى هذين الرجلين بكتاب (ليلى المريضة في العراق) فهو آية من آيات البيان
وما رأي الأستاذ العقاد في المقالات التي أنشرها بمجلة الرسالة من أسبوع إلى أسبوع؟(513/10)
أيظنها مقالات معروضة لتوقيع من يشاء، كما يقول؟
مجموعات الرسالة تشهد بما أملك من قوة الذاتية، وهي أيضاً تشهد بأن أسلوبي أقوى من أسلوبه وأبلغ، وبأني أحلق في آفاق لا يصل إليها ولو استمسك بأوهام الخيال. والعقاد يعرف في قرارة نفسه أنه لا يقدر على مجاراتي في أي ميدان
وما رأي الأستاذ العقاد في القصائد التي نشرتها بمجلة الرسالة؟
هل يستطيع أن ينظم مثلها في أي غرض؟
أنا أتحداه أن ينظم قصيدة مثل قصيدة (مصر الجديدة) أو قصيدة (الإسكندرية) أو قصيدة (بغداد)
العقاد شاعر كبير، ولكنه لا يستطيع أن يكون أشعر مني، وله أن يحاول مصاولتي في ميدان الشعر إن أراد
قال الأستاذ العقاد: (زكي مبارك الكاتب لا يستغني عن زكي مبارك بحال من الأحوال، إذا استغنى المؤلفون عن أنفسهم في بعض الأحيان)
وهذا حق وصدق، وهو الدليل على ما أملك من قوة الذاتية؛ وإذا استغنى العقاد عن نفسه فأنا لا أستغني عن نفسي، لأنها أثمن ما أملك
أما بعد فما الذي دعا الأستاذ العقاد لمناوشتي بمثل ذلك التحامل الذي لا يليق بمن يكون في مثل منزلته الأدبية؟
وما عدوانه على كاتب ذكره بالخير في أكثر ما أنشأ من المقالات والمؤلفات؟
رأيي في العقاد لن يتغير بأي حال، فهو كاتب وشاعر وناقد ومؤلف، وسأزكيه عند قرائي بلا بخل وبلا إسراف، ولكني أرجوه أن يتذكر أن له صديقاً يكره أن يكون من المطففين
إن كان الأستاذ العقاد رأي بفكره الثاقب أني سأتلطف في الرد عليه فقد صدق فيما رأى، فما أستبيح الهجوم على رجل يحمل القلم منذ أعوام تجاوز الثلاثين، وقد تشارفت الأربعين، أطال الله في حياته وأسبغ عليه نعمة الصفاء
الطبيعة المصرية
وأراد الأستاذ العقاد أن يحكم بأن الدكتور هيكل كاتب لا يثب إلى الآفاق العالية ولا ينقض إلى الأغوار العميقة، فجعل ذلك وفاء للطبيعة المصرية، طبيعة الأرض التي يرويها النيل(513/11)
بغير عناء كما يقول
وأقول إن الطبيعة المصرية لا تعرف السهولة التي عناها الأستاذ العقاد، وليس بصحيح أن أرض مصر يرويها النيل بغير عناء، فهو لا يؤدي واجبه في ري الأرض إلا بالجمة من القناطر والجسور، ولا ينكف شره إلا بمتاعب ثقال
والحق أننا أسرفنا في وصف الأرض المصرية بالاستواء، وكدنا نوهم أنفسنا بأن بلادنا قليلة التنوع في المناظر، وقليلة القدرة على إبداع النقائض في المذاهب والآراء
والعقاد مصريٌ من أسوان، فما الاستواء الذي يراه في الطريق بين القاهرة وأسوان؟ ومتى سهل ري الأرض في مصر وهو المشقة الأولى في حياة الفلاحين؟
والعقاد لا يبخل على نفسه بما بخل به على هيكل، فهو في نظر نفسه من الذين يثبون إلى الآفاق العالية وينقضون إلى الأغوار العميقة، فعن أي أرض ورث الوثوب والانقضاض؟
إن الوطن المصري وطن مبدع، وله في الإبداع ألوان، ومن آيات إبداعه أن يجود في العصر الواحد بأفانين من الأذواق والعقول في كثير من الميادين
ثم ماذا؟
ثم يبقى القول في تحامل العقاد على المازني، وقد أراد أن يستر تحامله فشهد بأن المازني أقدر كاتب على الترجمة من لغة أجنبية إلى اللغة العربية
فمتى كانت الترجمة عملاً ذاتياً يقام له ميزات بين أعمال الرجال؟
الترجمة شيء مطلوب ومفيد، ولكنها ليست بالعمل الذي يجعل فرداً أقدر من فرد، وأمة أقوى من أمة، ومزية مصر أنها تبدع قبل أن تترجم، وذلك دليل الأصالة الذاتية، وهو سر تفوق مصر على كثير من الشعوب
من المؤكد أن الأستاذ العقاد كان يمزح وهو يسطر مقاله لمجلة الاثنين، فإن بدا له أن يجد فليساجلني على صفحات الرسالة الصديق، وله مني خالص التحية وعاطر الثناء.
زكي مبارك(513/12)
أيها النيل!
للأستاذ دريني خشبة
أيها النيل! يا أغنية الأزل! يا حابي العزيز! مالي كلما مررت بشاطئك طافت بي الأحلام، وازدحمت في روعي تهاويل الماضي، ولم أدر ما مسّ القُبل النحيلة التي تطبعها نسماتك على أفواف الزهر، وأفنان الدوح، وصفحة الماء، وخيال الشاعر، وجبين النوتي، وخدود العذارى؟!
ما لي أنسى جمال الصباح المفتر، والحدائق الضاحكة، ولازورد السماء الذائب في تبر الشمس، وأمواه الطبيعة المتبرجة، وعبير الربيع الفواح الذي يعطر جنباتك، ويتضوع فوق حفافيك، ويملأ ملاعبك بهجة، ويغازل الشعر والفن والجمال والحب. . . ما لي أنسى كل ذلك حينما تتصل روحي بروحك، وينبض قلبي بالذي ينبض به قلبك، فأحس كأنما ماؤك دموع حِرار تسكبها عيون الفراعنة، وكأنما قطراتك أحقاب المجد المؤثل التي حضّرت الدنيا، ومدينت الناس، وهدت القلوب الضالة إلى الله الحق، وسارت بموكب الإنسانية نحو النور المقدس الذي يهدي للرشد، وانتشلت العقول من غرائز الغابة بما أشاعت فيها من بينات الهدى والعرفان!
أيها النيل!
ما أروع ما يتغنى الزمان بنشيدك الخالد! هاهم أولاء الفراعين الصِّيد يهمسون فيهتز الوادي، ويطرب الكرنك، وتصحو منف، وترتجف أون، وتبسم أكاليل الغار على رؤوس القادة، وتصرخ الصقور والبُزاة: هوراس! هوراس!
فأين هو هوراس اليوم؟ إنه جريح مهيض الجناح، لأنه كما رأرأ بناظريه في سمائك يا نيل رأى بُزاةً لا تهتف بعظمتك، ولا تسبّح بحمدك ولا تقدس لك. . . بُزاة لا ترعى لك كرامة لأنها تعدك فريستها. . . فإذا أدار هوراس ناظريه إلى الأحفاد وجدهم مشغولين عنك بالعبث، منصرفين عن الجد في أمرك إلى اللهو ومتاع الغرور!
ما أروع ذكريات الصبا على ضفافك يا نيل؟
لقد كنا نجلس فوق حفافيك وفي يد كل منا سنارة يُداعب بها صغار أسماكك كلما طلعت شمس أو غابت ذُكاء. . . وما أنس لا أنس يوم مرت بنا إحدى بواخر شركة كوك(513/13)
للسياحة، فرأيت الدنيا تدور من حولي، ونظر إلى رفاق صباي فرأوا عبرة حزينة تترقرق في عيني. . . ثم تنهمر على صدري فتقف قريباً من قلبي الذي كان معها على ميعاد. . . لقد كان يخفق هو الآخر!. . . لقد ذكرت أسلافي صبية الفراعنة. . . صِبية مصر العظيمة الخالدة. . . يداعبون أسماكك يا نيل، فلا تمر بهم إحدى بواخر كوك للسياحة، تلك التي جرح مرآها كبريائي، وردت إليَّ طرفي وهو كسير حسير. . .!
لقد كان أبناء الفراعنة أولاد أمة كريمة لا يجسر الأجنبي على أن يحل بها إلا ضيفاً. . . أما أن يكون فيها سيداً ويتيه فوقك على بواخره الماخرات، فقد كنت تنقلب بحراً من الدماء يا نيل يقذف به إلى اليم، أو يُلقمه أفواه التماسيح
لهذا نسيت صيدي، ولمحني رفاق صباي أبكي. . . فلما وقفتهم على ما شجاني لم يلبثوا أن بكوا مثلي. . . وحطم كل منا سنارته، وقذف بها في أذيال هذا الثبج المنساب وراء باخرة كوك. وعدنا إلى القرية محزونين!
ما أجمل الخمائل التي تنشد فوق عدوتيك قصائد الورد يا نيل!
لله هذا الأيك الذي تغنى فيه حمائمك البيض بالنهار، ويرتل فيه الكروان أورادك بالليل!
فتنة! أنهرك فتنة! ولياليك فتنة! وأنهرك يلعب في سماواتها السبع أتون، ولياليك يرقص بين أنجمها خون! أتون الشمس المشرقة الضاحكة. وخون البدر السافر الطروب!
لقد كانت مصر المجيدة مشرقة ضاحكة كالشمس، سافرة طروباً كالبدر، وكان المصريون يتوقدون كما يتوقد النيران الشمس والقمر، وكانوا ينشدون في الدنيا كلها عبق ورودك يا نيل، ويتغنون لموكب الإنسانية نشيد إنشادك، وورد أورادك، وموكب الإنسانية من ورائهم يسير. فماذا دهى الدنيا؟ إن الشمس ما تزال تشرق، وإن القمر ما يفتأ يسكب لُجينه في واديك
لن أنسى أبداً تلك الليلة المقمرة في رحبات خوفو، وبين يدي أبي الهول، حينما كنت أنصت إلى تسبيح الأباء الصناديد يملأ الفيافي والبيد، وهتاف الأجداد الأمجاد، يدوي بين تلك الأوتاد. . .
لقد خيل إليّ أنني عدت القهقري لأعيش في هذا العصر بين أسلافي الأعزة، فذهبت بخيالي أول ما ذهبت إلى أقرب معبد فشهدت قومي يصلون لله ويقولون: (نحب الله(513/14)
والوطن والملك، نحب الحياة العزيزة ونحب العمل الخالص لوجه الله والوطن والملك. الله والوطن والملك في كل مكان وليس في المعبد فقط)
ثم ذهبت إلى أقرب بيت فوجدت في حديقته الصغيرة من ورودك يا نيل، وذهبت إلى البيت الذي يليه فشممت فيه عبير رياحينك، فتنقلت بين المنازل كلها فلم أجد واحدأً، واحداً فقط ليس له حديقة. وهنا ذكرت زهرة النيلوفر. زهرة اللوتس المقدسة، تلك الزهرة التي كانوا يبرزونها في كل شيء. في مبانيهم وفي ملابسهم وفي آنيتهم وفي سفائنهم. . . وحتى في مقابرهم. . . فذكرت أنهم كانوا دائماً يعيشون فيك، لأنك أصل الحياة ومصدر العيش وجالب الخير وصانع المدنية. لذلك هم يقدسونك ولا يدنسون عُدويتك بما يدنسها المصريون اليوم مما لا أسميه (!). . . ولا يلقون فيك الجيف والرمم. بل يحيونك بباقات الورد وأكاليل الرياحين وضفائر اللوتس. أليست بلادهم حديقة يا نيل؟ أليست مصر أينع حدائق الدنيا؟ إن الأمة التي لا تفهم سر الحديقة، ولا تعرف لغة الورد، هي أمة لا قلب لها يا سيد الأنهار
ثم ذهبت إلى دار ندوتهم فوجدت فيها ملأ يأتمرون. . . لم أسمع كلمة آثمة تقال يا نيل. . .! لقد أصغيت إليهم يمحصون خير هذه البلاد في أدب وهدوء. . . وفي وقار. . . لم أسمع مطلقاً كلمة لاغية يصيب بها مصري عرض مصري، ولم أر مصرياً يرمي مصرياً بالمروق، ولا بانتهاب مال الدولة، ولا باحتساب أقاربه وأصهاره، وإيثارهم بالمناصب والأعطيات. . . ولم أر واحداً منهم يحتكر الوطنية والإخلاص لمصر، ويسفه على معارضيه ويرسل لسانه فيهم، ويتهمهم بممالأة العدو. . . مما نستهين به اليوم، ونصنعه في غير مبالاة ولا اكتراث، كأنه من الهنات الهينات. لقد رأيتهم جميعاً كرماء على أنفسهم. . . لا يحمل أحدهم موجدة لأخيه، ولا يبطن له ما يكره. . . أليسوا يقولون في صلاتهم: (نحب الله والوطن والملك. . . نحب الحياة العزيزة ونحب العمل الخالص لوجه الله والوطن والملك. . . الله والوطن والملك في كل مكان. . . وليس في المعبد فقط!)
ما أجمل ما كانوا يأتمرون في غير سفاهة ولا مهاترة، في سبيل إسعادك يا نيل!
غير أنني استيقظت من أحلامي فجأة، لأن أحد رواد الأهرام عثر بي وانحطم كالبنيان الشاهق فوقي. . . فلما نهض ونظرت إليه. . . وجدته. . . أحد جنود الأنزاك! وعندما(513/15)
أدرت عيني. . . وقعتا على وجه أبي الهول. . . فرأيته يضحك عليَّ. . . ساخراً بي وبأحلامي. . . والذي أذهلني أنني رأيت شفتيه الغليظتين تنبسان. . . فأرهفت أذني. . . فسمعته يقول: (ألست تعلم أن هؤلاء الأنزاك قد جاءوا يدافعون عنك؟ لم لا تعتذر للجندي الباسل!)
إلا أنني لم أعتذر للجندي الباسل، ولم أصدع بما أمرني أبو الهول. وكانت هذه هي أول مرة يعصى فيه أمر للملك خفرع!
وأقسمت إن أنا أصبحت في برلمان مصر فلن أهاتر ولن أسفه، ولن أتهم زعيماً عظيماً بالمروق، ولن أخوض في عرض أحد من المصريين، ولن أفرغ لهذا العبث؛ وإن أنا أصبحت زعيماً فلن أحتكر الوطنية لنفسي، ولن تثيرني تخرصات السفهاء! أليس وجود هؤلاء الأنزاك كفيلاً بأن يشغلنا عن كل شيء؟ لماذا يجدُّ العالم ونهزل؟ لماذا تبكي الإنسانية ونعبث؟ لماذا لا نأخذ عبرتنا من أنهار الدماء التي ضرجت جنبات مصر نفسها؟ لماذا لا نصغي إلى همس الفراعنة؟ لماذا لا يفزعنا هديرك الصخاب يا نيل!
لقد كنا نتعلم في المدارس أن تلال العرب وتلال لوبية تحميانك من رمال الصحراء يا نيل! والحمد لله، إنهما ما تزالان قائمتين بوظيفتهما التقليدية، وما تزال أنت دائباً على فطرتك التي فطرك الله عليها. . . تأتي بالزيادة في ميعادك فتأتي بالخير واليمن والبركات. . . قصة العنبرة السوداء والزبرجدة الخضراء التي رواها عمرو - إلى عمر - ما تزال تمثل على مسرحك إلى اليوم، كما كانت تمثل منذ آلاف السنين قبل عمرو وعمر. . . وما تزال المياه الحمراء تجري من الجنوب إلى الشمال فتنبت الحنطة والبقول وتهتز الخمائل ويُؤتي الأُكل
أفتحميك التلال يا نيل ولا نحميك، وتعطينا ولا نفديك، وتحفظ عهودنا ولا نحفظ لك عهداً، ويقصد بك السوء فلا نقف من حولك جنداً؟! لشدَّ ما كفرنا بغناء بلابلك، وشدو جداولك، وفيء خمائلك، وزلال سلسبيلك، وفيض نوالك، وعبق رياحينك. . . وبكل أياديك يا نيل!
كيف يخصب ثراك وتجدب قلوبنا؟ كيف ينبت الورد في واديك وينبت الشوك في نفوسنا! كيف تدب الحياة في مروجك ويتسرب الموت إلى أرواحنا؟
إن هذه خلائق الصحراء يا نيل! الصحراء. . . حيث الجدب والشوك والحسك. . .(513/16)
الصحراء الغادرة التي لا تعرف الوفاء. . . الصحراء التي يصيبها الوابل ثم تجحده، لأنه يغور في قلبها الذي يشبه قلوبنا. . .
ما أشد عواصفها الهُوج. . . هذه التيهاء المضلة!!
ولكن. . . لا. . . إنها مهما بلغت من العنف فلن تبلغ ما بلغته عاصفتنا الهجوم من بأس. . .
لله يا نيل تلك المحنة الأخلاقية التي تمزق وحدتنا، وتمسح وطنيتنا، وتبعثر جهودنا، وتشعب أمرنا، وتزيد في وهننا، وتضحك الأمم علينا، وتُفرى الأعداء بنا، وتلبسُنا شيعاً وأحزاباً، وتذيق بعضنا بأس بعض!
أهكذا نستقبل الربيع في جنَّاتك يا نيل؟
أين فرعون المحتفل والكاهن الشادي والشعب المغنى!
أين البنود والأعلام؟ أين الشعراء والأقلام؟ أين العلماء الأعلام؟
أهكذا نستقبل الربيع بعواصفنا كما يستقبلنا بعواصفه؟ أهكذا لا نستطيع أن نتعلم درساً في الجد من المجزرة البشرية الماثلة؟ أإلى هذا الحد تعقم وطنيتنا يا نيل! أفي زحمة تلك الدموع التي تسكبها عيون اليتامى والمنكوبين في بولندة وروسيا والصين. . . نعبث فوق ضفافك هذا العبث يا نهرنا المقدس؟
يا رب!
تدارك اللهم هذه الأمة فلم شملها، وارأب صدعها، واحسم داءها، وسدَّ ثُلمتها، وأقم ما مال من أمرها، وأصلح بالها، وأقل عثرتها، وألهمها السداد منك، والتوجه إليك، والإيمان بك؛ فهذه محنة ليس لها إلا أنت. . . إن لم تتداركنا فمن يرحمنا؟ وإن غضبت علينا فمن لنا؟. . . اللهم فأصلح ذات بيننا فقد أعضل أمرنا، وبهظنا الخلاف حتى ساء حالنا. . . اللهم إن هؤلاء قومي قد ضلوا سبيلك الحق فردهم إليه، واستفزهم الشيطان بغروره فنجهم منه، وافتتنهم فلا تدعه يستحوذ عليهم. . . اللهم إلا تهدنا نضل، وإلا تنجنا نهلك؛ فهذِّب اللهم أعراقنا، وطهر أخلاقنا، فلا ملجأ لنا إلا إليك، ولا نعوذ إلا بك يا قريب!
أرأيت يا نيل إلى هذه الوحدانية الجميلة الهينة الحنيفية؟! أليست خيراً ألف مرة من أربابك القدامى المتفرقة؟ أوزوريس وإيزيس وولدهما هوراس! وهذه العصبة التي لا تنتهي. . .(513/17)
ورع. . . وأمون. . . ثم أمون رع. . . بل الله الواحد الخلاق.
فما لنا نقدس لله الواحد وقلوبنا شتى؟!
ما لنا نعتصم بحبال من الشيطان ولا نعتصم بحبل من الله!
ما لنا تفرقنا وقد أمرنا الله أن نتحد؟
علام الخلف بيننا والوطن ما يزال جريحاً يهتف بنا وينادينا؟
هل يليق أن تكون الوطنية مغنماً ومغرماً والأقوياء يتطاحنون علينا؟
أرأيتم إلى فرنسا ماذا أصابها؟ إن آخر بطلين من أبنائها ما يزالان في شقاق. . .
فمن لك يا نيل. . .!
دريني خشبة(513/18)
سليمان الحكيم
لتوفيق الحكيم!
للأستاذ سيد قطب
(تتمة)
لو انتهت تمثيلية (سليمان الحكيم) عند الحد الذي وصلنا إليه آنفاً ما نقصت في نظرنا إلا القليل من وقعها النفسي، ومن أهدافها الإنسانية. ولكنها كانت تفقد - ولا شك - شيئاً من كمال الصناعة الفنية التي يبدو أن (توفيق الحكيم) يعني بها كل العناية، ولا سيما في هذه التمثيلية الأخيرة. فلما أن بدأ تمثيليته بالصياد والعفريت وجهاً لوجه ثم توسع فيها شيئاً فشيئاً في عرض الأشخاص وفي المجال الذي يعرضهم فيه، كان من كمال هذه الصناعة أن يضيق في مجال العرض وفي الأشخاص شيئاً فشيئاً حتى إذا وصل إلى النهاية كان على المسرح فقط الصياد والعفريت وجهاً لوجه كما بدآ، وكان أن يقذف العفريت القفاز فيلتقطه الصياد، وأن يعلنا ابتداء الحرب الأبدية بينهما بعد انتهاء الرواية الموضعية!
وتلك طريقة توفيق الحكيم المختارة في الصناعة الفنية وفي الأهداف الفلسفية على السواء، في جميع تمثيلياته الرمزية الفلسفية؛ أما التمثيليات والقصص الواقعية فلها نظام آخر وشأن آخر.
ولعله يحسن هنا أن أقول: إن توفيق الحكيم لم يحسم برأي في مشكلة من المشاكل التي أثارها في رمزياته جميعاً. (فشهريار) في نهاية (شهرزاد) ذهب إلى حيث لا يعلم أحد ولم يحل مشكلة القلق العقلي التي صارع من أجلها المكان والمحسوسات والأشياء! و (بيجماليون) مات وفي نيته أن يصنع في الفن ما لم يصنع وأن ينفذ الوحي الأخير الذي يموت كل فنان أصيل وهو في نفسه أمنية توسوس له في الخيال! و (أهل الكهف) فارقوا الحياة، وهم لا يدرون إن كانوا في حلم أم في حقيقة، ولم يدر القراء - ولا توفيق الحكيم نفسه - من المنتصر؟ القلب أم الزمن، والفناء أم الإنسان! وهاهو ذا الصياد والعفريت في (سليمان الحكيم) يعلنان الصراع الأبدي في اللحظة الأخيرة ثم يسدل الستار!
تلك طريقة (توفيق الحكيم) التي لا تتخلف. ومنشئوها - فيما أعتقد - طبيعة توفيق نفسها،(513/19)
فهو (الأديب الحائر) كما قاله عنه مرة الدكتور طه حسين. إنه الشك غير الواعي في طبيعة هذا الفنان، وإنه القلق الدفين في نفسه، يصدانه عن التعرض للحلول الحاسمة وعن الفصل فيما يعرض من مشاكل وأزمات. وإن ظن أنه مختار في اختيار هذه الطريقة!
ومع هذا فكم وددت لو تخلفت هذه الطريقة في (سليمان الحكيم)، أولو سار عليها، ولكنه ظل - كما بدأ - يدع الحادثة تتكلم، بدل أن يلقن أشخاصه الحديث، وبدل أن يطيل الحوار الفلسفي ليعرض به ما يريد أن يعرضه من المشكلات
لقد نسج (توفيق الحكيم) أهل الكهف وشهرزاد وبيجماليون على منوال واحد يختلف نسيجه بعض الشيء في الواحدة منها عن الأخرى، ولكنه منوال واحد على كل حال. فأما (سليمان الحكيم) فقد نسجت على منوال آخر يختلف في طبيعة قالبه عن ذلك المنوال.
في التمثيليات الأولى - على خلاف بينها في الاتجاهات - كان المؤلف يبرز لنا شخصيات ويدير بينها حواراً حول مشكلة فلسفية أو إنسانية، فنشعر لأول وهلة أن هذه الشخصيات إن هي إلا دمى تحركها أصابعه من وراء ستار لتنطق بهذه الأفكار
وتختلف تلك التمثيليات في هذه الخاصية - كما قلت -؛ ففي (شهرزاد) مثلاً لا يخطر لقارئ يفهم ما يقرأ أن (شهرزاد) و (شهريار) و (قمر) و (العبد). . . هم أشخاص حقيقيون ممن نلتقي بهم في هذه الحياة؛ وإنما هم منذ أول لحظة رموز؛ والمشكلة التي يراد منهم التعبير عنها هي مشكلة القلق الإنساني والشك العقلي، والتطلع إلى المجهول، والتخلص من الواقع بعد ارتواء الغريزة والحصول على الاكتفاء الأرضي المحدود. وفي (أهل الكهف) ربما خطر للقارئ أول الأمر أن (مشلينا وبريسكا، وأرنوش ويمليخا). . . هم أشخاص حقيقيون - ولو كانوا من أشخاص الأساطير - ولكنه يلمح هنا وهنالك ما يشككه في واقعيتهم؛ وما يلبث أن ينكشف له أنهم رموز وأن المشكلة التي يراد منهم التعبير عنها هي مشكلة الصراع بين الفناء والإنسان، أو بين القلب والزمان. وفي (بيجماليون) يحس القارئ من أول الأمر أنه يعيش في جو أسطوري رمزي وأن (بيجماليون) و (جالاتيا) و (فينوس) و (أبولون) و (نرسيس) و (إيسميه). . . إن هم إلا رموز لقوى بشرية وكونية تتصارع في الحياة أو في نفس الفنان؛ وإذا تصور لحظة أن بيجماليون هذا إنسان خاص، فسرعان ما يرى أنه رمز للفنان الحائر المثالي والواقع الحي، وبين الطموح الخالد والقدرة(513/20)
المحدودة؛ وبين التسامي الفني والميل الغريزي في الفنان.
فأما (سليمان الحكيم)، فقد نسجت على منوال جديد، وعاشت في جو جديد. إنه جو أسطوري نعم، ولكن الحياة كانت تدب فيه منذ اللحظة الأولى، فسليمان إنسان نبي يحيا حياة النبي الإنسان، وبلقيس ملكة وامرأة محبة تتصرف تصرف الملكات والنساء المحبات، ومنذر أمير أسير محب حتى وهو تمثال! وصادوق وآصف والصياد هم أناس يعيشون في هذا المستوى طوال الفصول الخمسة، وحتى (داهش بن الدمرياط) هو كذلك عفريت حي على هذه الأرض، على الرغم مما يدلف به إلى عالم الرموز!
وهم جميعاً يعيشون ونشعر معهم بحرارة الحياة، ولكنهم في الوقت ذاته يعرضون لنا في تصرفاتهم وفي حوارهم القصير (بالقياس إلى الحوار الطويل في التمثيليات الأولى) مشاكل فكرية وإنسانية ونفسية في كل خطوة وفي كل حركة، دون أن ينبهونا إلى انهم يعرضون هذه المشاكل ويقصدون إلى هذه الأفكار. . .
وهذه في اعتقادي مقدرة فنية أكثر من المقدرة التي يحتاج إليها المؤلف في التمثيليات الأولى، ومنوال أصعب في النسج عليه من ذلك المنوال
لذلك وددت أن يظل هذا النسق إلى نهاية التمثيلية؛ ولكن توفيق الحكيم لم يطق صبراً على الاختفاء الطويل عن المسرح، فقد أطل مرة أو مرتين برأسه في أثناء الفصول الخمسة الأولى ليتفلسف بالعبارات! وليشعرنا بوجوده خلف الستار. حتى إذا كان الفصلان الأخيران تمرد على السكون، واقتحم حياة أبطاله الذين خلقهم، وظهر على المسرح بشخصه، ليلقن هؤلاء الأبطال حواراً طويلاً يكشف عنا في نفوسهم، ويصور المشاكل الفكرية التي يريد تصورها، بدل أن كانوا هم أول الأمر يصورون هذه المشاكل الفكرية التي يريد تصورها، بدل أن كانوا هم أول الأمر يصورون هذه المشاكل بتصرفاتهم في الحياة!
وإننا لنلخص هنا هذا الحوار لنشرك معنا القراء فيما نراه:
لقد اصطدمت بلقيس بالحرمان النهائي. وقد اصطدم سليمان بالخطيئة والحرمان، وقد اصطدم الصياد بالمحاولة التي لم تتم، ولكنها نزغة من نزغات الشيطان
فأما سليمان فقد حبس الجنيّ وترك الصياد - بعد أن علم من أمره ما علم - وهو متهالك(513/21)
على نفسه، شقي بعذاب ضميره، معترف بخطيئته؛ بينما يحاول (صادوق) أن يبرر هذه الخطيئة وأن ينظر إلى سليمان بمنظار التقديس التام (شأنه منذ أول القصة) ذلك أنه يعمل لحساب المظاهر والجماهير، بينما سليمان يستوحي العقيدة والضمير. (وذلك هو الفرق بين الكاهن والنبي)
وأما بلقيس فقد هدأت باليأس واطمأنت إلى صداقة سليمان فهي لن تحبه ولم يعد قلبها صالحاً للحب. ولكنه رجل منحها في فترة ما حبه وإعجابه، فصداقته الآن هي أقرب الأحاسيس إلى نفسها وفيها بعض العزاء
وإن بلقيس وسليمان ليحسان لهذه الصداقة طعماً مريحاً بعد الحرمان!
وأما الصياد، فقد استيقظ ظميره، وإنه ليطلب إلى سليمان عقابه على النية (وقد ارتفع درجات هائلة في سلم الحكمة العالية) فلا يجيبه سليمان إلى طلبه؛ بل يطلب هو إلى الصياد أن يكون قاضيه لأنه خير منه فقد همّ ولم يفعل. أما هو فهمّ وفعل!
ثم تودع الملكة بلقيس الملك سليمان عائدة إلى مملكتها بعد المعركة!
فإذا كان الفصل الأخير، فإن سليمان قد اعتكف في القصر الذي كان قد بناه لبلقيس (فهو إذن مكان حبيب إلى نفسه وما تزال للحب الإنساني خيوط على الرغم من الندم والتوبة)!
وإذا هو متكئ على عصاه، وإذا الصياد قائم على حراسته بإذنه. وإذا هو يموت دون أن يعلم أحد بموته (حسب رواية القرآن). فإذا انكشف أنه مات بدأ حوار فلسفي طويل بين أصف وصادوق والصياد، تثار فيه مسائل فلسفية حول الحكمة الإنسانية الصغرى، والحكمة الكونية الكبرى. وحول السخرية بحكمة الإنسان وعظمته، مهما بلغ من الحكمة والسلطان!
ثم إذا الجني يظهر وجهاً لوجه أمام الصياد - قوة الخير وقوة الشر - وإذا هو يعلن الصراع الأبدي بينهما فيلتقط الصياد القفاز! وإذا الصياد والعفريت في هذه الصورة رمزان خالصان وقد كدنا نظن طول الرواية أنهما شخصان كائنان! وكذلك تسفر الرمزية في سليمان وصادوق وبقية الأشخاص
وفي هذين الفصلين أشياء تزيد وضوح أهداف الرواية، ولكن كم وددت لو سارا على النسق الأول في استبدال الحادثة بالحوار والحركة بالكلمات(513/22)
ولكنه توفيق الحكيم على كل حال!
وأحب أن أنبه هنا إلى لبس قد يقع فيه من يتصدون للنقد بلا اطلاع ولا استقصاء. فالناقد المنصف لتوفيق الحكيم يرى أن له تمثيليات وقصصاً أخرى تنبض بحرارة الحياة الإنسانية وفيها الفكاهة والدعابة التي زعم الأستاذ (محمد مندور) أنه محروم منها بعد اطلاعه الخاطف على تمثيلية (بيجماليون) وحدها. وإني لأذكر في هذه اللحظة (رصاصة في القلب)، و (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) وغيرها، وفيها جميعاً هذه الحياة الحارة البسيطة الجميلة، وهذا تنبيه يجب أن يقال
ولقد أسلفت رأيي في مقدرة توفيق الحكيم على الحوار، فأريد هنا أن أسجل له سبقه وتفرده في إدخال الحوار إلى عالم الأدب العربي مستقلاً عن المسرح، بحيث يصلح للقراءة المجردة عن التمثيل. وفي تناوله الأسانيد والأساطير تناولاً فنياً في التمثيلية الأدبية، واستخدامها لعرض المشكلات الفكرية، والصراعات الإنسانية على السواء
وقد بلغ توفيق الحكيم في (سليمان الحكيم) - على الرغم مما لاحظناه - قمته الفنية في الصناعة: بلغها في تنسيق العرض الذي تحدثنا عنه في أول المقال؛ وبلغها في إدارة الحوار وفي رسم الشخصيات، وفي الالتفاتات السريعة الموحية والإشارة الخاطفة المصورة (وفي مقال لصحيفة لا يتسع المجال لضرب الأمثال كما يتسع لها في كتاب)
ولقد كنت ألمح في أثناء دراستي للتمثيلية تلك الخيوط التي ينسجها في شخصية كل شخص، ثم يلقيها على أبعاد متقاربة أو متباعدة، ليعود إليها بعد حين، فينسج الخيط التالي بجوار الخيط الأول وهكذا. فأحس بعد خطوات لِمَ ألقي بهذا الخيط هنا وبذلك الخيط هناك!
والصورة التي أستخلصها لطريقة عمل المؤلف: أنه استحضر جميع أفكار تمثيليته وجميع مشاهدها بالتفصيل قبل أن يمسك القلم ليكتب، ثم جعل يلقي بهذا الخيط هنا وبذلك الخيط هناك، ليجمع أطرافها إليه ويشدها جميعاً في الوقت المناسب. وهو تنظيم دقيق قد يستغرب من (توفيق الحكيم) المعروف للناس؛ ولكنه غير مستغرب عند الناقد الذي (يفقس) توفيق الحكيم!
ولقد بلغ كذلك قمة التمثيلية في اللغة العربية حتى الآن. أما القياس إلى التمثيلية العالمية فلست أنا صاحب الحق في هذا المجال(513/23)
وقد تكون الفكرة في (شهرزاد) أعلى أفقاً وأوسع مدى، ولكن الطريقة هنا أكمل والحركة أسرع والحياة أوضح وأبسط
وإلى هنا كان يمكن أن ينتهي الحديث، ولكن لا بد من كلمة قصيرة عن لغة التمثيلية فهي عامية معربة حين يتحدث في جو أسطوري؛ وهي عربية سهلة حين يخرج إلى الجو الفكري
ولا يفوتني أن أنبه إلى ثلاث غلطات لفظية جاءت في الرواية:
فقد جاء في ص 42: (فأنتم ترون من حسن السياسة أن توكلوا الأمر إليَّ) وصحتها (تكلوا). وجاء في ص 111: (أومن بي أيها الأحمق) وصحتها (آمن). وجاء في ص 181: (عما أتكلم؟) وصحتها (عمَّ أتكلم؟)
وقد وددت أن أغض الطرف عن هذه الغلطات، لولا أنني أريد السلامة التامة لفن توفيق الحكيم ولغة توفيق الحكيم!!
(حلوان)
سيد قطب(513/24)
في التصوير الإسلامي
ليلى والمجنون
للدكتور محمد مصطفى
- 1 -
تقدمة
أحبّ قيس بن الملوّح ليلى العامرية، وبادلته الحب العفيف البريء، فلما فشا أمرهما حجبت عنه، فشق ذلك عليه، وجاء يخطبها إلى أبيها، فرفض أبوها أن يزوجه إياها، وزوجها غيره، فاشتد به الأمر، وحزن حزناً شديداً أفقده عقله، وقيل له: (المجنون) أو (مجنون بني عامر)، فكان لا يلبس ثوباً إلا خرقة، ولا يمشي إلا عارياً، ويلعب بالتراب، وهزل وطال شعر جسده، وهام في البرية مع الوحوش والظباء فألفته، وكان يشرب معها إذا وردت مناهلها، وهي لا تنفر منه، وظل هكذا حاله، يتغنى غرامه التعس، في أشعار جيدة رقيقة، إلى أن ماتت ليلى. . . فلحق بها
هذه قصة (ليلى والمجنون) مجردة من كل تنسيق وتنميق وتزويق، وهي قصة بسيطة. . . لا غريب فيها ولا عجيب. . . وهل هو غريب أو عجيب أن يعشق رجل امرأة، فيعبث به العشق ويودي بعقله وحياته. . . ولكن الذي يحيرنا حقاً أن تنال قصة قيس بن الملوّح وغرامه بليلى العامرية كل هذا الاهتمام بين القصص الغرامية الأخرى لشعراء العرب (العذريين) و (المحققين).
وليس يعنيني أن يكون شخص قيس بن الملوح تاريخياً أو غير تاريخي، وإنما الذي يعنيني أن هناك قصة غرامية هي قصة قيس بن الملوح. . . ولا يعنيني أن يشك بعض مؤرخي الأدب العربي في وجود المجنون، أو أن يبالغ البعض الآخر في إنكار وجوده، وإنما الذي يعنيني هو وجود (فن القصص الغرامي) عند العرب في القرن الأول للهجرة وتطوره حتى كاد يكون فنّاً مستقلاً على نحو ما نرى من فنون القصص الغرامي في الأدب الحديث، وأن يشق هذا الفن لنفسه طريقاً إلى الأدب الإيراني حيث تنال قصة (ليلى والمجنون) ما نالته من الحظوة في بلاد العرب، بل إنها تنفرد هنالك بأن ينظمها أكابر شعرائهم مثل نظامي(513/25)
الكنجوي المتوفى في حدود سنة 600 هـ والأمير خسرو الدهلوي المتوفى سنة 725هـ، والشاعر الصوفي الكبير عبد الرحمن الجامي المتوفى سنة 898 هـ، وابن أخته هاتفي الجامي المتوفى سنة 918 هـ، والشاعر نامي من شعراء القرن الثاني عشر الهجري في عهد الملك نادر شاه، وغيرهم من شعراء إيران. ثم تنتقل هذه القصة أيضاً إلى الأدب التركي فينظمها من شعراء الترك نجاتي المتوفى سنة 914 هـ، وحمدي المتوفى في السنة نفسها، وفضولي المتوفى سنة 970هـ، وغيرهم. وأخيراً ينظمها شاعر مصر الكبير المرحوم أحمد شوقي بك في قصته (مجنون ليلى) وإننا لا نعجب إذا بحثنا في الأدب الأوربي أن نجد بعض الأثر لموضوع قصة ليلى والمجنون في القصص الغرامية الأوربية التي وضعت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي، مثال ذلك قصة (تريستان وأيسولده) أو قصة (روميو وجوليت). لا سيما ونحن نعلم أن الآداب والفنون الأوربية في ذلك الوقت كانت متأثرة إلى حدّ ما بالآداب والفنون الإسلامية عن طريق صقلية وإيطاليا وإسبانيا.
أما سبب عشق المجنون (ليلى)، فهنالك روايات مختلفة، يجمع المجنون بينها في قوله:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكنا
ولكن المشهور ما رواه أبو عمرو الشيباني أن المجنون كان يهوى (ليلى) وهما حينئذ صبيان، فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت عنه، قال: ويدل على ذلك قوله:
تعلّقتُ ليلى وهي غرّ صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البَهْم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
واقتبس الشاعر نظامي الكنجوي هذه الرواية وحورها بما يناسب الحضارة الإيرانية في عصره، فاستبدل بالبادية والمواشي حجرة المكتب والكتب، وجعل المجنون يقابل ليلى في المدرسة وهما صغيران، ويتعارفان ثم يتحابان في أثناء الدراسة. واقتدى بنظامي الكنجوي في ذلك سائر شعراء الإيرانية والتركية الذين نظموا قصة (ليلى والمجنون).
وكانت هذه القصة أيضاً، موضوعاً محبباً لدى المصورين في جميع فروع الفن الإسلامي وجميع عصوره، فنرى صوراً كبيرة لتوضيح حوادثها في دواوين الشعر الإيرانية والهندية(513/26)
والتركية، وعلى السجاد والقاشاني وغير ذلك من الأشياء والأدوات، وتمثل هذه الصور المجنون هزيلاً ناحلاً، عارياً من الثياب إلا من غلالة صغيرة تستر عورته، ويحيط به بعض الظباء والوحوش.
وقد حاولت فيما أقصه هنا أن أوفق بين الروايات المختلفة العربية والإيرانية والتركية، وأن أوضح بعض حوادث القصة بما يسمح به المقام من الصور.
كان الملوح بن مزاحم يجلس إلى جانب زوجته وكل منهما واجم يفكر في شئون الحياة، فقد أوتيا الثروة والجاه وآلت إلى الملوح زعامة بطن من بطون بني عامر، فكان سيد القوم يتمتع بينهم بالهيبة والجلال والاحترام - ومع ذلك لم يكن لهما ولد يجلب إليهما البهجة والسرور فيلطف خُشونة حياتهما في الصحراء. ولكن من أين لهما هذا الولد وقد بلغا خريف الحياة، وكاد يشتعل رأساهما شيباً! فأخذ كل منهما يدعو الله تعالى أن يهب لهما من لدنه ولياً يرثهما ويخلفهما في رئاسة بيتهما وزعامة آلهما وقومهما، وأن يكون قلبه بعيداً عن البغضاء مفعماً بالحب، ليخفف عنهما صحبة بني عامر غلاظ الأكباد. وبينما هما في وجومهما مسترسلان، يتنازعهما الأمل واليأس، إذ تفتحت أمام أعينهما أبواب السماء، وانبثق منها نور غمرهما في غلالة من الرحمة والرضوان، وجعلهما يشعران بالسعادة والاطمئنان
واستجاب الله دعوات الزوجين الطيبين الصالحين ورزقهما صبياً جميلاً أسمياه قيسا، كان موضع إعجاب كل من رآه. وأقام الملوح على إرضاع ابنه وتغذيته وتربيته أبرع نساء الحي وأحذقهن في القيام بهذه الفنون، ونما الصبي وترعرع، وشب في كنف والديه، يعطفان عليه ويخصانه بأكبر قسط من حبهما ورعايتهما. ورزقا غيره ولكنه بقي أحب أخوته إلى قلبيهما
وفي (شكل 1) نرى منزل الملوح بن مزاحم، وقد شمله الطرب والسرور، واجتمع فيه الأهل والأصدقاء يحتفلون بمولد قيس الذي نراه في وسط الصورة في لفافة تحتضنه سيدة من سيدات العائلة وتمسح رأسه الصغير في عطف وحنان بخدها الأملس البض وهي تجلس به إلى جانب حجرة (الحريم) حيث جاء بعض السيدات لتهنئة والدته. وجلس الرجال على سجادة جميلة في الحديقة أمام سور المنزل يتزعمهم الملوح بلحيته البيضاء(513/27)
وهو على رأس الجالسين إلى اليسار، وقد جلس أمامهم أفراد فرقة موسيقية يعزف بعضهم بالمزمار، وواحد منهم يغني، وتقف إلى جانبهم راقصة تضرب على الدف. ونرى الخدم والجوار والعبيد وهم يروحون ويجيئون في أنحاء المنزل يحملون أطباق الطعام وصحون الحلوى. وقد راعى المصور في تصوير سحن الرجال وملابسهم أن تكون عربية لتتناسب مع القصة العربية الأصل. وهذه الصورة في مخطوط من المنظومات الخمس للأمير خسرو الدهلوي، مؤرخ سنة 890 هـ (485 م) وكانت الصور التي في هذا المخطوط تنسب إلى المصور الإيراني الشهير بهزاد لما فيها من ميزات أسلوب هذا المصور، كالدقة في رسم المباني وزخرفتها، وفي جزء الحديقة الظاهر إلى اليمين، والاهتمام البادي على سحن الأشخاص، ووجود العبد الأسود الواقف هنا في وسط الصورة إلى اليسار، وغير ذلك. ولكن يظهر أن هذه الصورة من تصوير أحد تلاميذ بهزاد. وهذا المخطوط محفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن.
(يتبع)
محمد مصطفى
مساعد في دار الآثار العربية(513/28)
ابتسم للحياة
أرسلها الشاعر إلى صديقه الشاعر الصاغ (ع ف م) وهو يهديها هنا إلى كل عابس في الحياة لعله أن يبتسم
شدةٌ لا تدومُ إلا قليلا ... لا تَخَلْها مقيمةً لن تزولا
قد عرفناكَ في الخظوب حُساماً ... ماضياً حدُّه وسيفاً صقيلا
ورأيناك في الودادِ كريماً ... وعهدناكَ في الوفاءِ جميلا
هل يَعيبُ السيوفَ في الضرب يوماً ... أنها في الصراع تَلْقى فلول؟
أو يَعيبُ البدورَ في الأفق يوماً ... أنها صادفتْ لحين أفولا؟
يا صحيح الفؤاد والودِّ إني ... ساَءني اليومَ أن أراكَ عليلا
شدةٌ تَنْجَلي ونَحْسٌ يولِّي ... عن قريبٍ ولا يدوم طويلا
ستعودُ الحياةُ أحسنَ عرضاً ... ويصيرُ الزمانُ أحلى فصولا
ابتسم فالحياة ليست تساوي ... صرخةً منك أو تساوي عويلا
ليس يُجْدي الأسى عليك قليلا ... ليس يغني العبُوس عنك فتيلا
يا قويَّ الإيمان بالله مهلاً ... يا صحيح اليقين صبراً جميلا
محمد عبد الغني حسن(513/29)
دير الحياة
ذكروا الشبابَ فقلتُ: إِي والله ... ما كنت عن ذكر الشباب بساهي
// لكن يَعزُّ عليَّ نعيي باقياً ... وبِفِيَّ لا بسواه من أفواهِ
نعيُ الفتوةِ والنضارة والهوى ... والرقص في النيران والأمواهِ
والروغ من فرضٍ عليَّ وواجبٍ ... لم يُعفِني لم أُعفَ من إِكراه
أمرٌ وفائيٌّ صَدَعْتُ به وكم ... بعد الشباب أوامرٌ ونواهي؟
وبصيرةٌ كشفت لعيني بعدما ... كلَّت مآسي كُنَّ قبلُ ملاهي
قوسُ السحاب أَرى به أتواَءه ... لاما احتوى من كل لونٍ زاهي
وإِذا بدَا الشفق الغَرِيُّ تهولني ... ظَلمٌ لدى الأفق البعيد دواهي
والورد يَسنح لي فأبحث جاهداً ... عن شوكهِ خلف الجمال الباهي
فإِذا الذي هو مؤنسي هو موحشي ... وإِذا الذي أغرى شبابيَ ناهي
وإِذا الحدود تغيَّرَت أوضاعُها ... وخلودُ أحلاِم الشباب تناهي
يا رَاعيَ الغزلانِ في (وادي طوىً) ... أقْصِرْ، فأعينهن عنك سواهي!
اخلعْ هنا نعليكَ إِنك واقفٌ ... في موقف المتبتِّلِ الأوَّاه
وانظم صدى الَوادي بكل عهوده ... لحناً تُغنيِّه بصوتٍ واهي
ذكروا المشيبَ فقلتُ: لا والله ... ما كنتُ في ديرِ الحياةِ بلاهي
محمود عماد(513/30)
السبيل القويم
الناس صنفان: صنف دائماً حذرٌ ... يخشى المنايا ويقضي العمر أوهاما
وذاك صنف إِذا انتابته خشيته ... توهم الكون في عينيه آلاما
وثاني اثنين مَنْ يحيا بعزمته ... حتى ليحسب صوت الرعد أنغاما
وذاك صنف عزيز دائماً أبداً ... يضيف للعمر أياماً وأعواما
فاختر لنفسك في دنياك عزَّتها ... وابسم لدهرك مهما شاء أو راما
عبد القادر محمود(513/31)
البريد الأدبي
هل قتل ذو القرنين بيد التتر؟
قرأت ما كتبه الأستاذ إبراهيم الدسوقي في العدد (512) من مجلة الرسالة الغراء، فوجدته لا يزيد عن تكرار ما كتبه أولاً وثانياً، ويتهرب من الرد على ما أذكره في تأييد رأيي أو يحوله عن وجهه ثم يرد عليه، وهذا كما فعل في ردي عليه بأن كيرش قتله التتر في حربه لهم، وذو القرنين المذكور في القرآن لم ينته أمره معهم بهذا الشكل، لأن الله تعالى يقول في شأنه معهم: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدّا، قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما، آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطرا، فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا، قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا)
ولا يمكن أن يفعل ذو القرنين هذا مع يأجوج ومأجوج ثم يتمكنوا من قتله، لأنهم لا يقتلونه إلا إذا استطاعوا أن يظهروا ذلك السد أو ينقبوه، وقد أخبر القرآن أنهم لم يستطيعوا شيئاً من ذلك، وإذن لا يمكن أن يكون ذو القرنين كيرش المقتول بيد التتر. فلما أراد الأستاذ إبراهيم الدسوقي أن يرد على هذا حوله عن وجهه، وذكر أني أقول إن كورش قتل ببلاد التتر وذو القرنين لم يقتل، ليتأتى له أن يقول في رده عليّ: ومن أين عرف أن ذا القرنين لم يقتل في حين أن القرآن لم يذكر إلا جزءاً يسيراً من تاريخه. وستطول المناظرة بيننا بهذا الشكل، ولهذا رأيت أن أتركها إلى ما هو أهم.
عبد المتعال الصعيدي
ضبط الخلاف بين العربية والعامية ممكن
اطلعت في العدد (512) من مجلة الرسالة الغراء على كلمة للأستاذ الفاضل عبد الحميد عنتر تحت عنوان (ضبط الخلاف بين العربية والعامية مستحيل) يرد بها على اقتراح مقدم إلى المجمع اللغوي في ضبط الخلاف بين العربية والعامية، فعجبت لدعوى الاستحالة من الأستاذ في هذا الأمر الممكن، عجبت لإقدامنا على هذه الدعوى بسهولة، بينما غيرنا يحاول(513/32)
أن يمحو كلمة مستحيل من قواميس اللغة. على أن ما كتبه الأستاذ في الرد على هذا الاقتراح لا يمت بصلة إلى عنوانه، وقد ذكر في هذا الرد أن المتواضع عليه بين العلماء أن اللفظ العامي ما لم ينطق به عربي، وأنه المدار في تمييز العربي من العامي على النقل عن المعاجم اللغوية، ولا شك أن في هذا ضبطاً للخلاف بين العربية والعامية، فكيف يدعي معه أن ضبط الخلاف بين العربية والعامية مستحيل؟
والاقتراح المقدم إلى المجمع اللغوي يرمي إلى إبطال هذا الضابط المتواضع عليه بين العلماء، لأنه يبعد الشقة بين اللغتين ويؤدي إلى تخطئة كثير من العامية بدعوى أنه لا يوجد في معاجم اللغة، مع أن هذه المعاجم لم تستقص اللغة كلها، ولو رجعنا إلى الضابط المذكور في ذلك الاقتراح لأمكن تصحيح ما يعد خطأ بالضابط المتواضع عليه بين العلماء، وفي هذا تسهيل كبير لأمر العربية في هذا العصر، وتقريب للخلاف الذي بينها وبين العامية ومحاولة لجمع المختلفتين في شأن اللغتين على أمر لا يؤثر في صميم العربية، ويضم إليها كثيراً ممن ينتصر للعامية عليها، وقد ذكر الأستاذ (عبد الحميد عنتر) في الرد على هذا الاقتراح أنه يخالف الضابط المتواضع عليه بين العلماء، ومثل هذا من المصادرة التي لا تصلح في مقام الرد، ثم ذكر أنه لو صح ذلك لجاز للعامي أن يخترع ألفاظاً لا حصر لها على نمط الأوزان العربية. والجواب عن هذا أن الاقتراح في ألفاظ موجودة بالفعل وهي ألفاظ جرت عليها سليقة الناس، ولا شأن له بما يخترع من الألفاظ، على أنه لا يوجد ما يمنع العامي من اختراع مثل ذلك عند حاجته إليه، وذلك حين لا يجد في اللغة ما يغنيه عنه. ثم ذكر أنا لو أخذنا بهذا الاقتراح لخطأنا نحو ربع اللغة من الألفاظ الشاذة، وهذه مغالطة ظاهرة، لأن موضوع الاقتراح الألفاظ العامية لا العربية. وأما ما ذكره في الأمثلة من تصحيح بعضها على لغة من اللغات فلا يفيد شيئاً في موضوع الاقتراح، ولا يصح أن يصرفنا البحث فيها عن البحث في الاقتراح نفسه، والأمثلة كثيرة لا تحصى ولا تعد.
(. . .)
ذو القرنين غير الاسكندر المقدوني(513/33)
تأييداً للرأي القائل بأن أحدهما غير الآخر - وهو الرأي الذي أعيد موضحاً بالعدد (512) من الرسالة - أنقل ما يأتي:
(ومن ملوكهم - يعني اليونانيين - الإسكندر المقدوني وهو ابن فيلبس، وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله نبأه في القرآن بل بينهما فروق كثيرة. وبينهما في الدين أعظم تباين؛ فهذا كان صالحاً مؤمناً، وذاك المقدوني كان مشركاً. وكان أرسططاليس وزيره). عن كتاب الإغاثة لابن قيم الجوزية أحد أعلام القرن الثامن الهجري صفحة 367 ببعض اختصار
وفي كتاب (لقطة العجلان) لصديق حسن خان القنوجي البخاري ملك مملكة بهوبال:
(التحقيق أن ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه عربي كثر ذكره في أشعار العرب واسمه الصعب بن ذي مراثد ابن الحارث الرائش وأنه ملك من ملوك حمير. وقد غلط من ظن أن الإسكندر بن فيلبش هو ذو القرنين؛ فإن لفظة ذو عربية، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن، وذاك رومي يوناني غزا دارا ملك الفرس وقتله. وهو صاحب أرسططاليس وتلميذه. وذو القرنين المذكور في القرآن ملك قديم كان على زمن إبراهيم وهو الصعب بن الرائش الذي مكن الله له في الأرض وبنى السد على يأجوج ومأجوج. وقد غلط من ظن أن باني السد هو الاسكندر الرومي) صفحات 10، 11، 91، 92 باختصار وبعض تصرف. هذا ويؤثر عن تبَّع قوله:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً ... ملكاً تذل له الملوك وتسجدُ
ويروي بلفظ آخر فيه التصريح بأنه جدُ لتبع اليماني وهو:
قد كان ذو القرنين جدي مسلماً ... ملكاً علا في الأرض غير مفنَّد
بلغَ المشارقَ والمغاربَ يبتغي ... أسبابَ أمر من حكيم مرشِد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذيُ خُلب وثأط حرمد
محمد عبد الله الجزار
أستاذ بكلية الشريعة
حول مقال (أثر المرأة في علي محمود طه)(513/34)
جاء في مقال الأستاذ أدوار حنا أسعد المنشور في العدد السابق أن لفظة (الثلاثون) الواردة في بيت شعر من قصيدة (بحيرة كومو) للملاح التائه لم تأت إلا لضرورة الشعر، مدللاً على ذلك بكلمة من مقال للأستاذ الزيات ذكر فيها أول لقاء تم بينه وبين الشاعر إذ كان في إبان شبابه، وكان الأستاذ الزيات في عنفوان شبابه. ثم عاد الكاتب في موطن آخر من مقاله إلى التعليق على ذلك
والذي أعرفه ويعرفه أصدقاء الشاعر انه نظم قصيدة (بحيرة كومو) الوارد في سياقها البيت المشار إليه، وهو في السادسة والثلاثين من عمره. ولعل ما يؤثر عن الأستاذ علي محمود طه هو احتفاله بذكر العلاقة الزمانية والمكانية بين ما ينشئه من شعر في أدوار حياته المختلفة حتى لا يقع فيما وقع فيه غيره من الخلط والاضطراب
حسن كامل الصيرفي
نزول عيسى
أرسل إلينا الأستاذ الجليل محمود شلتوت أولى مقالاته التي كتبها في (نزول عيسى) يفند فيها بالحجج الملزمة والنصوص الصريحة أقوال معارضيه، ويعرض لبعض ما عُمِّي على الحشويين والمتنطعين من وجوه الاستدلال بالحديث، ويدلي بالقول الفصل فيما يختلف فيه الناس من حين إلى حين في بعض المسائل الشرعية. وقد كان بودنا أن ننشرها، ولكن أسباباً قاهرة حالت دون ذلك
حانة الشعراء
نشرنا في العدد الماضي من (الرسالة) هذه القصيدة الفريدة من ديوان (زهر وخمر) للشاعر الكبير علي محمود طه، ولكن مقطوعتين سقطتا منها سهواً عند الطبع؛ فأحببنا أن ننشرهما احتفاظاً بوحدة القصيدة، ومكانهما بين المقطوعة الرابعة والمقطوعة السابعة، وهي:
مِنْ كلِّ مُرْسِلِ شَعْرِهِ حِلَقَا ... وَكَأنَهَا قِطَعٌ مِنَ الحَلَكِ
غَلْيُونهُ يَسْتَشْرِفُ الأفُقَا ... وَيَكَادُ يَحْرقُ قُبَّة الْفَلَكِ
أَمْسَى يَُبْعِثُرُ حَوْلَهُ وَرَقَا ... فَكَأَنَّهُ في وَسْطِ مُعْتَرَكِ
فإِذَا أَتَاُهُ وَحْيُهُ انْطَلَقَا ... يُجْرِي اليَرَاعَ بكَفِّ مُرْتَبِكِ(513/35)
وَيَقُولُ شِعرْاً كَيْفَمَا اتَّفَقَا ... يُغْرِي ذَوَاتِ الثكْلِ بالضَّحِكِ
(باخُسُ) يَروِي عن غَرَائبهِمْ ... شَتَّى أَحَادِيثٍ وَأَنْبَاء
قِصَصٌ تَدَواَلُ عَنْ صَوَاحِبِهمْ ... وَعن الصَبَايَا فتْنَةِ الرَّائِي
وَعَنِ الْخَطِيئَةِ في مَذَاهِبهم ... بَدَأَتْ بآدَمَ أَم بِحَوَّاءِ
واَلْمُلهِمَاتُ إِلى جَوَانِبهمْ ... يُكثِرْنَ مِنْ غَمْزٍ وَإِيماء
يَعْجَبْنَ مِنْ فْعلِ الشَّرَاب بِهمْ ... وَيَلُذْنَ مِنْ سَأَمٍ بإِغْفَاءِ
إلى الأستاذ حبيب الزحلاوي
أهدي إلى الأستاذ أحسن تحية، وأعتذر إليه من تأخر هذه الكلمة بأني طالعت أولاً (شعاب قلب) لكي أشكر له هذه الهدية النفيسة، وأشكر له في آن معاً، فضله الذي أتاح لي التلذذ بقراءة كتابه البديع.
صوّر لنا الأستاذ أفراداً من المجتمع في زماننا هذا، ومثلهم بسجاياهم ووجدانياتهم، وشهواتهم وأهوائهم، وقص حوادثهم وفعالهم، ووصف أزمنتها وأمكنتها، وصاغ كل أولئك على نظام سليم من السرد الرتيب، في أقاصيص شائقة وليدة ملكاته الراوية من تجاربه الشخصية ومطالعاته، وقد مازجها الخيال وإن أنشأها من الحقائق الواقعية حتى ليكاد القارئ يتعرف فيها مثلاً شيخ (فلسفة الشيخوخة)
وليس في هذه الأقاصيص عقود وحلول؛ بل هي بسيطة بين الأقصوصة والحكاية، وهي قطع من الحياة متفرقة، لكن تضمها جهة جامعة تلوح في خفاء للقارئ. وبودي لو يكتب الأستاذ قصة كاملة فيتسع فيها المجال لملكاته، لكي تبلغ مدى قدرتها على تمثيل الحياة المصرية أو الشرقية لهذا العهد
وقد ماشى الأسلوب الحي في (شعاب قلب) تلك النفوس فيما خالجها من اكتئاب أو ابتهاج، وحياء أو إباء أو رجاء، وإعجاب أو عتاب، وقلق أو شكوى، وحسرة أو رغبة أو شهوة؛ وتوافرت فيه الحركة بوسائل معنوية بلاغية، كالتعجب والمبالغة، والتجاهل والاستفهام، والتصريح والتلميح، والتشبيه والتصوير؛ وجاء سريع المعاني إلى الفهم بمثل الفصل والوصل والإضمار في عبارات تعتّم معانيها بالتقدير.
فما حسن بالفصل، مثلاً: (كنت أنعم بالراحة كلها في مخاصرة هذه السيدة التي تنبعث منها(513/36)
الطمأنينة إلى أعماق نفسي؛ لم أكلهما، لم أجتل محياها، كنت نشوان بها. . .)
ومن التشبيهات غير المحفوظة: (ذكرت ذلك الدير المهيب الشاهق الرابض فوق الربوة شبيهاً بقلعة شيدت لحماية الخيالات والأوهام!!) ومنها أيضاً: (أشعلت غليوني، أخذت أنظر الدخان يعقد حلقات تتمدد وتتبخر كخواطر الإنسان، وأرى النار تتأجج وتهمد في قلبه كالرغبات في ضمير الرجل)؟
ومن وصف الجمال، والحياء، والطهر، والإعجاب: (ذكرت تلك الفتاة القروية عائدة من الكنيسة بثيابها الفضفاضة، وضفائرها المنسدلة على كتفيها، ووجهها الخمري الزاهر بنفحات الربيع، وصدرها الناهد، وقدها الممشوق، وخطواتها المتزنة الحازمة. كم كانت رائعة صبغة الخجل الوردية التي اصطبغت بها أذناها لما سألتها عن اسمها، وهل فكرت في صلواتها في غير أهلها ممن تعرف من الناس!)
ومن المعاني المضمرة في العبارة (كل امرأة ترضي الرجل، وليس كل رجل يرضي المرأة. أما أنا فإني امرأة يسكن جسدي روحان: الأول محلَّق في السماء مصعَّد نحو المجهول، والثاني دنيوي يلتصق بأديم الأرض. ولم يكن تطلعي إلى السماء يعميني عن التطلع إلى الأرض!)
ومن جميل التصوير: (ممثل هزلي بارع. إحساسه في وجهه، وعقله في نظرات عينيه، وبراعة فنه في إيماءته وسكونه)؛ وأيضاً: (زايلت البيت فرحته، فانطفأت أنواره، وقد كانت تتألق أكثر الليل؛ وهمدت الحركة فيه، وقد كانت مرحة طليقة فياضة؛ وخرست موسيقاه، وقد كانت تفيض على الجيران أنفاسها فاتنة ساحرة، وانقطع عنه زواره، وتبدلت وجوه قطانه، خادمين ومخدومين، واعتلاها مسحات من كآبة وسحب وغيوم)
إن هذا الكتاب، على الإجمال، أدب حيّ تزينه ثمار من المعرفة، ويظهر فيه إلهام من الاشتراكية والمادية، وأثر واضح من نظرية فرويد؛ وأسلوبه محدث صاغته شخصية حرة، وملكات طليقة. وما هفواته في صدقه وتمثيله وقيمته الأدبية بشيء يذكر
ثم سروري بهدية الأستاذ الفاضل وثنائي عليه
محمد توحيد السلحدار(513/37)
العدد 514 - بتاريخ: 10 - 05 - 1943(/)
10 - دفاع عن البلاغة
2 - الأسلوب
من رجال الأدب من يرى أن العلاقة بين المعنى واللفظ كالعلاقة بين الجسم والثوب، لكل منهما على تلازمهما وجود ذاتي مستقل له أوصافه وخصائصه؛ فالجسم يقوَّم بحساب الخلقة؛ والثوب يقوَّم بحساب الصناعة. ومنهم من يرى أن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الروح والجسد، لا يوجد هذا بغير ذاك؛ فإذا انفك أحدهما عن الآخر الحي وفسد الكائن. ونحن كما علمت من قبل على رأي هذا الفريق. فقد قلنا في كلمة سبقت إن الأسلوب هو الهندسة الروحية لملكة البلاغة؛ وإن البلاغة التي نعنيها هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل: إذ الكلام كائن حي روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفساً لا يتمثل، والجسم جماداً لا يحس
فالفكرة والصورة في الأسلوب كلٌ لا يتجزأ، ووحدة لا تتعدد. وليس أدل على اتحادهما من أنك إذا غيرت في الصورة تغيرت الفكرة، وإذا غيرت في الفكرة تغيرت الصورة. فقولك أعنيك، غير قولك إياك أعني. وقولك كل ذلك لم يكن، غير قولك لم يكن كل ذلك. وقولك ما شاعر إلا فلان، غير قولك ما فلان إلا شاعر. فترتيب الألفاظ في النطق لا يكون إلا بترتيب المعاني في الذهن؛ وإن مزية الألفاظ (ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك). (ولن يُتصور في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير وتخصيصٌ في ترتيب وتنزيل. وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركبة. . . فقيل من حق هذا أن يسبق ذاك، ومن حكم ما ههنا أن يقع هنالك. . . فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ، فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده). وإنا حين ذكرنا أن الأسلوب هو الطريقة الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام، كنا نريد بذلك اختيار الألفاظ على الشكل الذي يرتضيه الذوق، وتأليف الكلام على الوضع الذي يقتضيه العقل.(514/1)
فالأسلوب إذن هو طريقة خلق الفكرة وتوليدها وإبرازها في الصورة اللفظية المناسبة. هو ذلك الجهد العظيم الذي يبذله الفنان من ذكائه ومن خياله في إيجاد الدقائق والعلائق والعبارات والصور في الأفكار والألفاظ، أو في الصلة بين الأفكار والألفاظ. ولهذا الجهد جهتان: جهة موضوعية تتصل بالنظام، وهو حسن الترتيب، وصحة التقسيم، وإحكام وضع القطع في رقعة الشطرنج التي نسميها جملة أو فقرة أو فصلاً أو مقالة. وجهة أخرى شكلية تتصل بالحركة، وهي خلق الكلمات والصور والتأليف بينهما على نمط يحدث الحياة والقوة والحرارة والضوء والبروز والأثر
من ذلك نرى أن الأسلوب خلق مستمر: خلق الألفاظ بواسطة المعاني، وخلق المعاني بواسطة الألفاظ. ومن ذلك نرى أن الأسلوب ليس هو المعنى وحده، ولا اللفظ وحده، وإنما هو مركب فني من عناصر مختلفة يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه. تلك العناصر هي الأفكار، والصور، والعواطف، ثم الألفاظ المركبة، والمحسنات المختلفة
والمراد بالصورة إبراز المعنى العقلي أو الحسي في صورة محسَّة، وبالعاطفة تحريك النفس لتميل إلى المعنى المعبَّر عنه أو لتنفر منه
ففي قول أمير البلاغة علي بن أبي طالب: (ألا إن الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها، وخُلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار؛ وإن التقوى مطايا ذُلُل حُمل عليها أهلها، وأُعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة). تجد صورتين: صورة الفرس الشموس لم يروَّض ولم يلجم فيندفع براكبه جامحاً لا ينثني حتى يتردى به في جهنم؛ وصورة الناقة الذلول قد سلس خطوها وخف عنانها فتنطلق بصاحبها في رسيم كالنسيم حتى تدخل به الجنة. ثم تجد عاطفتين: عاطفة النفور من الألم الذي يشعر به الخاطئ المستطار وقد جمحت به خطاياه الرُّعن في أوعار الأرض حتى ألقته في سواء الجحيم؛ وعاطفة الميل إلى لذة المتقي الوادع وقد سارت به تقواه سيراً ليناً حتى أبلغته جنة النعيم
ذلك من حيث الموضوع؛ أما من حيث الشكل فتجد اختيار الألفاظ المناسبة للفكرة، كالمطايا وما يلائمها من الانقياد والإيراد هنا، وكالخيل وما يوائمها من الشماس والتقحم هناك. والفروق الطبيعية بين هذين الحيوانين في هذين المكانين لا تخفى على ذي لب. ثم تجد بعد ذلك هذا التأليف المتوازن المحكم الرصين، وهذه المقابلة البديعية بين عشرة معان لا(514/2)
تكلف في صوغها ولا تعسف
أما القائلون باستقلال طرفي الأسلوب فجريرة رأيهم على البلاغة أن الذين فسدت فيهم حاسة الذوق أهملوا جانب اللفظ، والذين ضعفت فيهم ملكة العقل غضوا من شأن المعنى، فضلوا جميعاً طريق الأسلوب الحق؛ فلا هؤلاء سلموا من معرَّة العيّ، ولا أولئك سلموا من نقيصة الهذر
قال أبو هلال: (ليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي؛ وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه. . . مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. . .). وقال لابروبير: (إن هوميروس وأفلاطون وفرجيل وهوراس لم يبن شأوهم على سائر الكتاب إلا بعباراتهم وصورهم). وقال شاتوبريان: (لا تحيا الكتابة بغير الأسلوب. ومن العناء الباطل معارضة هذه الحقيقة؛ فإن الكتاب الجامع لأشتات الحكمة يولد ميتاً إذا أعوزه الأسلوب) وهؤلاء ومن لف لفهم من أنصار الصياغة أقرب إلى الصواب من أولئك الذين كفروا بها وشنعوا عليها. وتعليل ذلك ستقرأه في الحديث المقبل.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات(514/3)
نزول عيسى
للأستاذ محمود شلتوت
(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون.
فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله
ليشتروا به ثمناً قليلاً. فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم
مما يكسبون)
(قرآن كريم)
في مثل هذه الأيام من العام الماضي ورد إلى (مشيخة الأزهر سؤال عن عيسى عليه السلام: أحيٌ هو أم ميت في نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة؟ وعن حكم المسلم الذي ينكر أنه حي: أتبقى له زوجته، وإذا مات أيصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، أم يكون مرتداً فتبين منه زوجته، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين؟
حولت المشيخة الجليلة هذا السؤال إلينا، وطلبت أن نكتب فيه رأينا، فعرضنا للآيات التي وردت في القرآن الكريم متصلة بنهاية عيسى مع قومه، ثم عرضنا للمروي من الأحاديث في هذا الشأن، وبحثنا الجميع على ضوء ما تبحث عليه الآيات والأحاديث، فخرجنا من البحث بهذه النتيجة وهي بنصها:
(والخلاصة من هذا البحث:
1 - أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حي إلى الآن فيها، وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض
2 - أن كل ما تفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفيه أجله ورافعه إليه وعاصمه من الذين كفروا، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم يصلبوه ولكن وفاه الله أجله ورفعه إليه
3 - إن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء، وأنه فيها حي إلى الآن، وأنه(514/4)
سينزل منها آخر الزمان فإنه لا يكون بذلك منكراً لما ثبت بدليل قطعي فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة، بل هو مسلم مؤمن، إذا مات فهو من المؤمنين يصلى عليه كما يصلى على المؤمنين ويدفن في مقابر المؤمنين ولا شية في إيمانه عند الله. والله بعباده خبير بصير)
قدمت هذا البحث إلى المشيخة الجليلة، وبعد أن استقر الأمر عليه رأيت أن أنشره على صفحات الرسالة الغراء سداً لباب التكفير بهذا وأمثاله الذي شاع وذاع واتخذه بعض الناس حرفة في التدين، وإعلاناً للورع والتقوى، وتظاهراً بمظهر الغيرة على دين الله وأحكامه. وقد تفضلت الرسالة بنشره في العدد 462 الصادر في الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 1361هـ
وما كنت أظن أن متذوقاً للعلم واقفاً على أصول الاستدلال الشرعي يزورُّ عن هذا البحث ويلتوي عن هذه الخلاصة البينة الواضحة؛ ولكن قوماً لهم من شبه العلماء الزي واللقب قد حاولوا أن يغضوا من هذا البحث أو يثيروا من غبارهم عليه، فنسجوا حوله خيوطاً ضعيفة واهية من الشبه، وأخذوا يكتبون كلاماً مردداً متشابهاً في مجلات وصحف لا تقع عليها عين عالم. ويرجع كل ما موهوا به إلى ما يأتي:
1 - (أن حياة عيسى الآن ونزوله من السماء آخر الزمان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع)
2 - (أن من أنكر نزول عيسى كمن أنكر خروج المهدي، كلاهما كافر مرتد عن الإسلام كمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره)
3 - (أن هذا البحث صدر بروح قاديانية): قصد صاحبه به أو ساير فيه هوى أتباع غلام أحمد القادياني
ونحن نبدأ بالنقطة الثالثة لأن لها شيئاً من الطرافة، ولأنها توضح للقراء أسلوب هؤلاء القوم في البحث وطريقتهم في التفكير والتكفير معا!
يقول (كبيرهم) في مطبوع له نشره:
(ولعل السائل هندي قادياني المذهب أراد الحصول على فتوى من الأزهر تؤيد مذهبه! ولعل مشيخة الأزهر ندمت بعض الندامة على ما سبق لها من تنفيذ القرار الصادر عن هيئة كبار العلماء لطرد الطالبين الألبانيين القاديانيين من الأزهر؛ إذ حولت السؤال إلى(514/5)
الشيخ كاتب المقالة من بين علماء الهيئة الذي ستعرف القاديانية في المسألة المحولة إليه، فكان جوابه أنه عليه السلام مات في الأرض ورفعت روحه ولم يرفع حياً)
وهنا يكتب تعليقاً في أسفل الصحيفة، يقول فيه سامحه الله:
(وكنت قد سمعت عندما فاوضت هيئة كبار العلماء فيما بينهم للبت في أمر الطالبين المذكورين أن في الهيئة من يشذ ويتردد في الإفتاء بكفر المنكر لكون نبينا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء طعناً منه في حجية الحديث الوارد فيه والإجماع المنعقد عليه وفي دلالة قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحدٌ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) عليه القطعية؛ وقد رددت على هذا العضو الشاذ شذوذه في مقدمة الكتاب (الذي لم ينشر تمامه بعد) والآن أقول: إن كان الشيخ شلتوت لم يتأخر التحاقه بهيئة كبار العلماء عن زمان درس مسألة الطالبين فهو أول من يخطر بالبال أن يكون ذلك الشاذ!)
هكذا يقول شيخ الإسلام الذي كفرت به تركيا! فارجع أيها القارئ إلى هذه العبارة ورددها لتنظر ماذا يكتب صاحب (القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون) رددها لتعلم العامل الوحيد الذي جعل دولة إسلامية كبرى تتشكك فيما ينسب إلى الدين عن طريق هؤلاء!
يبيح هذا الشيخ لنفسه أن يرمي وجوه أهل العلم بدون أدنى تثبت بتهم خطيرة في مثل هذه العبارة الركيكة الملتوية، فيزعم أن نزعة كاتب هذا البحث قاديانية، ويزعم أن هناك عضواً في جماعة كبار العلماء شذ فعارض في فصل الطالبين القاديانيين، وأن هذا العضو يتردد في الإفتاء بكفر من أنكر ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يطعن في حجية الحديث الوارد فيه، ويطعن في الإجماع المنعقد عليه، ويطعن في دلالة الآية القطعية عليه. يتصور هذا الشيخ عضواً في جماعة كبار العلماء هذا شأنه وتلك عقيدته، ويؤلف كما يقول كتاباً في الرد عليه لم ينشره بعد، وهو لا يعرف شخصه ولا يكلف نفسه السؤال عنه حتى تسعفه به المصادفة فيجمع في خياله بين بحث شلتوت ومعارضة العضو المجهول في فصل الطالبين، بل يجمع بين شلتوت وكفر هذا العضو المجهول بإنكاره مسألة من أمهات مسائل الدين وأصوله فيقول: (إن كان الشيخ شلتوت لم يتأخر التحاقه بهيئة كبار العلماء عن زمان درس مسألة الطالبين فهو أول من يخطر بالبال أن يكون ذلك(514/6)
الشاذ!)
ولست في حاجة إلى أن أقول: إنه لا يوجد بين كبار العلماء قاطبة، ولم يكن فيها من قبل، شخص كهذا الذي تصوره الشيخ وألبسه تلك العقيدة ظلماً وعدوانا
ولست في حاجة أيضاً إلى أن أقول: إن زمن التحاقي بالجماعة متأخر عن درس مسألة هذين الطالبين وتنفيذ القرار فيهما
ولكنني بعد هذا أسأله، وقد علم أن هذا العضو ليس بشلتوت: من يكون إذن؟ حتى نعرف على الأقل ثاني من يخطر بالبال في مثل هذا المجال!
أسأله وأنا واثق أنه لا يستطيع أن يجيب لأن هذا الشيخ وأمثاله لا يقولون ما يقولون عن علم أو بحث، ولكن عن خرص وتظنين وتمويه وتشويه (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس و (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً)
وحسب القراء أن يعلموا أن هذا الشيخ لم يكد يسلم منه أحد من قادة العلم والدين في مصر: فهو يتهم الأستاذ الإمام المغفور له الشيخ محمد عبده، ويتهم المغفور له الأستاذ الشيخ رشيد رضا، ويتهم فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، ويتهم غير هؤلاء ممن ذهبوا إلى ربهم وممن يعيشون! ولو شئنا أن نضرب للقراء أمثالاً من اتهاماته المضحكة لطال بنا القول، ولكننا نكتفي بإيراد ما نسبه إلى الأستاذين: الشيخ عبده والشيخ المراغي
زعم أن الشيخ عبده رضي الله عنه يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل (من أمثال الذين يثقون بأنفسهم في صحة آرائهم ومبادئهم ويأمل الناس فيهم الصلاح والإصلاح) ينسب هذا إلى تلك الروح الطاهرة التي ذهبت إلى ربها راضية مرضية بعد أن جاهدت في الله حق الجهاد، ويكرر هذا المعنى كثيراً ويقول في لهجة تنم عن الحقد والضغينة في كل ما يتناول به العلماء المصريين: (تفكر في هذا وفي كون صحافة مصر المنحرفة عن الثقافة الإسلامية إلى الثقافة الغربية لا تزال تشيد باسم الشيخ قائل هذا القول)
يقول هذا في الشيخ عبده وهو صاحب رسالة التوحيد التي تكلم فيها عن الرسالة والمعجزة ودلالتها على صدق الرسول وعن الوحي وكونه ممكن الوقوع وواقعاً فعلاً، وعن وظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالخصوص - تكلم عن هذا كله في أكثر من نصف رسالته بعبارات جلية واضحة لا لبس فيها ولا غموض(514/7)
ولا تدع مجالاً للشك في رأيه العلمي لمن أراد مخلصاً أن يعرف آراء العلماء
أما تهمته التي حاول إلصاقها بفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، فهي تتصل بمقدمته التي قدم بها لكتاب (حياة محمد) الذي ألفه الدكتور هيكل باشا، وفيها يقول فضيلة الأستاذ الأكبر (إن الإسلام أعلى من شأن العقل والبرهان وجعلهما أساس الحكم والعلم وعاب التقليد وذم المقلدين وأنب من يتبع الظن وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها ولم تكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القاهرة إلا في القرآن وهي معجزة عقلية)
هذا هو قول فضيلة الأستاذ الأكبر. أتدري أيها القارئ ماذا صنع به هذا الشيخ الذي يتصيد التهم للناس تصيداً؟ لقد أعاد فيه وأبدأ في عدة مواضع متفرقة من كتابه بعبارات مختلفة ولوازم منتحلة، ومن ذلك أنه يقول (بهذه العبارة أنكر الشيخ المراغي المعجزات الكونية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويلزمه لذلك أن ينكر الأحاديث الواردة فيها، ويلزمه لذلك أن ينكر المعقل الثاني للتشريع الإسلامي وهو السنة المحمدية، وهو بهذا وذاك يمهد لإلغاء (كلية الشريعة) التي تدرس الفقه وأصول الفقه) قياس متصل النتائج نسج الخيال والتعسف مقدماته حتى انتهى إلى هذه النتيجة التي سود بها صحيفة كتابه!
فإذا كان هذا الشيخ ينتحل هذه التهم وأمثالها ويلصقها بالشيخ عبده والشيخ المراغي وأمثالهما فلا غرابة في أن ينتحل مثلها أو أشد منها ويلصقه بشلتوت وأمثال شلتوت، فتلك شنشنة عرفت من أمثال هؤلاء الذين مني الإسلام بهم في كل عصر، ورأوا أن مسايرة الجماهير في أهوائهم وعقائدهم أجدى لهم وأسبغ للخير والنعمة عليهم!
ومن الأمثلة التي نسوقها تفكهة للقراء، وبياناً لطريقة هؤلاء في البحث ومبلغ إخلاصهم للعلم ونزولهم على حكم البرهان، أن أحد المتمرنين على طريقتهم كتب يقول:
(بل كان يجب عليه - يريدنا - أن يتقرب إلى الله بمخالفتهم - يعني القاديانية - وإظهار موافقة المسلمين فيما يعتقدون، فإن لم يفعل ذلك تقرباً فليفعله مجاملة لأولئك الأبطال العلماء الذين وقفوا أنفسهم للدفاع عن الدين من هؤلاء المعتدين، وإظهاراً لاتحاد كلمة المسلمين حتى لا يجد المعتدى خللاً ينفذ منه. والمثل العامي يقول: (أنا وأخي على أبن عمي، وأنا وأبن عمي على الغريب) ثم يقول: (فبربك قل لي: كيف يكون موقف إخواننا علماء الهند الذين أثبتوا نزول عيسى عليه السلام بسبعين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها(514/8)
الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وأثبتوا حياته ورفعه بأحاديث وآثار عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، حين يبلغهم عن طريق القاديانية قبل غيرهم أن الأزهر يخالفهم ويقول ليس في هذه المسائل دليل ولا شبه دليل؟)
وهذا كلام غني بنفسه عن التعليق عليه، فقارئ الرسالة يكفيه أن يقرأه ليعلم أن من أسس البحث عند هؤلاء المجاملة والجري على مقتضى المثل العامي القائل: (أنا وأخي على أبن عمي، وأنا وأبن عمي على الغريب). وهذا أسلوب جديد في التفكير لا نستطيع مسايرته، ولا نحب أن نشغل أنفسنا به، وحسبنا أن نقول:
أولاً: إن الخلاصة التي أسلفنا نقلها من الفتوى صريحة في أن حياة عيسى ورفعه بجسمه إلى السماء ونزوله منها إلى الأرض آخر الزمان لم يثبت شيء منها بدليل قطعي يكوّن عقيدة يطمئن إليها القلب حتى يكفر من أنكرها. وهذا القدر وحده لا اتصال له بمذهب القاديانية في قليل ولا كثير
ثانياً: وعلى سبيل الفرض والتقدير لو اتفقت الفتوى مع رأي القاديانية قطعاً أيلزم من ذلك أن صاحب الفتوى يكتب بروح قاديانية ويؤيد القاديانيين الذين يرون فيما يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس خاتم النبيين، وأن غلام أحمد نبي يوحى إليه؟ وأين هذه من تلك؟ وهل إذا قال المسلمون في مسألة مثل ما يقول اليهود والنصارى يكون ذلك دليلاً على روح يهودية أو نصرانية؟ وهل إذا أنكر عالم من علماء المسلمين وقوع النسخ في القرآن يكون مُصدراً في ذلك عن روح قاديانية؟ وإذا رد علماء الهند على القاديانية في ذلك أتجب عليه مجاملتهم أيضاً؟ وهل إذا قال قائل بأن الجهاد ليس مطلوباً منا بسبب كفر الكافرين ولكن بسبب محاربتهم إيانا واعتدائهم علينا كما ينقل عن الثوري وكما ينسبه ابن العربي إلى الحنفية في تفسيره؛ أيكون بذلك مُصدراً عن روح قاديانية؟
لا. لا. إنكم أيها المموهون لا تريدون بذلك إلا أن تجاروا سلفاً لكم ضعفوا عن الحجة والبرهان، ولم يتعودوا الإخلاص للحق، فراحوا يردون الآراء بتشويهها والتنفير منها: كانوا يقولون: هذا رأي المعتزلة، وهذا يتفق مع قول الفلاسفة، وذاك رأي ابن تيمية. . . الخ. وهاأنتم أولاء تتبعون سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع فتحاولون تشويه الآراء بمثل قولكم: هذه روح قاديانية، هذه مسايرة لآراء المستشرقين، هذا تجديد في الدين. . .(514/9)
الخ. ولكن أعلموا أن الفكر الإسلامي قد أخذ يستعيد صفاءه ويسترد إخلاصه للحجة والبرهان كما كان السلف الصالح من المؤمنين. وأصبحت هذه الأساليب مكشوفة معروفة، بل أصبحت وبالاً على أصحابها لأنها تنفر منهم وتدل على ضعفهم والتواء عقولهم!
لقد كان جديراً بنا ألا نشغل أنفسنا بأمثال هؤلاء، وأن نمر بما ذكروا كراماً، ولكنهم عمدوا إلى أسلوب آخر من أساليب الخداع والتمويه إذ اتصلوا بقوم عزيز علينا أن نتركهم صيداً في شبكتهم. خدعوهم باسم الدين، ووسوسوا لهم بأن هذه الفتوى تمس العقيدة الثابتة بالقرآن والسنة المتواترة والإجماع القطعي، فهي اعتداء على الدين وهدم لركن من أركانه. وسوسوا بهذا ونحوه، وكان من آثار هذه الوسوسة أن نائباً محترماً له في نفوسنا مكانة ومحبة انخدع بما يقولون وطاوعهم في استكتابه كتاباً في هذا الشأن رفعه إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، وبعث بنسخة منه إلى حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء
وفي هذا الكتاب يقول:
(إني أكتب لفضيلتكم في مسألتين هامتين لكل واحدة منهما خطرها وعظم شأنها لمساسها من قريب أو بعيد بأصل العقيدة الدينية)، ثم يرجو فضيلة الأستاذ الأكبر أن ينشر الرأي الصواب الذي يقرره فضيلته عن هاتين المسألتين في مجلتي الرسالة والإسلام فضلاً عن نشره بمجلة الأزهر. ونحن لا نرى بأساً في الرجوع إلى شيخ علماء الدين أو إلى هيئة علمية دينية في تعرف رأيه أو رأيها في مسألة دينية، ولكننا لا نفهم ما المراد بتوجيه هذا الكتاب إلى حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء في مسألة دينية كهذه: أيراد أن تكون هناك هيئة حاكمة يرجع إليها في حماية نوع خاص من التفكير العلمي والديني؟ إن كان هذا هو المراد فما أشبهه بمحاولة العمل على إعادة صورة من صور محاكم التفتيش الأسبانية البائدة في مصر وعلى يد رئيس حكومتها وشيخ علمائها وفي أحضان الإسلام دين الحجة والبرهان لا دين القوة والسلطان
ألا إننا لا نكتب ما نكتب إلا صوناً لمثل هذا النائب المحترم ولجمهرة من المسلمين قد تروج عليهم حيل هؤلاء الخادعين المتطفلين على موائد العلم، وسنعرض في الفصول المقبلة إن شاء الله إلى شبههم التي موهوا بها وبنوا عليها قصور الخداع والإضلال.(514/10)
وسيعلم الناس أن الله سبحانه وتعالى كما ابتلى عباده بقوم يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، قضت حكمته - رحمة بعباده وصوناً لدينه - أن يهيئ طائفة يظهرها على الحق، ويدفع بها في صدر الباطل، حتى يكشف عواره، وينسخ آثاره (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون)
محمود شلتوت
عضو (جماعة كبار العلماء)(514/11)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
على ميعاد - في بناء الجيل الجديد - ظرف المكان - ضيوف القاهرة - شارع الشريف وغيط الشريف
على ميعاد
مع من؟ مع الربيع بعد أن كاد يخلف الميعاد
في صباح كل يوم من هذه الأيام أطالع وجوه الأشجار الضواحك، عساني أنسى عبوسها في الشتاء الذي طال ثم طال، إلى حد الإملال. ومن العجب أن أرى أشجاراً لم تورق بعد، كأنها تخشى أن يكون انصرام الشتاء خبراً لم يقم على صحته دليل. فلتقرأ هذه الأشجار هذا الكلام، ولتصدق أننا في (مايو) شهر الأزهار والرياحين
لا شتاء بعد اليوم من هذا العام، فلنفرح بقدوم الربيع الأول وهو مطلع الصيف، إلى أن يجيء الربيع الثاني، الربيع الحقيقي في الديار المصرية، وهو الذي يقع في الأشهر الثلاثة: أغسطس وسبتمبر وأكتوبر، وهي أشهر الصفاء والرخاء في هذه البلاد
مرحباً بالصيف، والصيف المصري جدير بالترحيب. فبفضله نتذوق نسمات في المساء لا تجود بمثلها الطبيعة في أي أرض. والقيظ في مصر يُتقى بالطل؛ وفي غير مصر لا يُتقى القيظ إلا بوسائل يغلب عليها الافتعال
وطعم الظل في مصر لعهد الصيف جميل المذاق إلى أبعد الحدود. ولا أدري كيف تركناه بلا تنويه فيما كتبنا عن خصائص الطبيعة المصرية
ولا بد من النص على حقيقتين من حقائق الحياة في مصر قبل أن أنسى وينسى الناس:
الحقيقة الأولى هي جمال الشتاء المصري قبل التمدن الحديث، ولا يعرف قيمة هذا الجمال إلا من نشأ في الريف، فقد كان هنالك طعمٌ لذيذ للدفء في (القاعة المحمية)، وكان لتلك القاعات فضلٌ في خلق شعور السعادة بالتغلب على قسوة الشتاء
الحقيقة الثانية هي جمال الزّير المعلَّق في أيام الصيف، وهو يمنح الماء طعماً لا يمنحه الثلج بأي حال
وبالقرب من دار الرسالة حارة تسمى حارة الزير المعلق، فمن كان يجهل أصل هذه(514/12)
فليعرف أن (الزير المعلق) هو قصر شيرين باشا. ولعل صاحب القصر سماه بهذا الاسم للمعنى المضمر في لطافة الزير المعلق أيام الصيف. وقد سُجِّل اسم هذا القصر في قصيدة من قصائد الشاعر إبراهيم الدباغ، أنعم الله عليه بالشفاء، فقد سمعت أنه مريض.
أما بعد فماذا أريد أن أقول؟
هذا ربيع، وهذا صيف، وهذه ليالي النسائم الرفيقة بمصر الجديدة والجيزة والمعادي وحلوان والزيتون
فأين صبواتك يا قلبي؟ وأين أيامك؟ وأين لياليك؟ وأين أحبابٌ كنت معهم على ميعاد؟
لقد بخلت الأقدار بالتلاقي، وتركتنا نصطرع في لجج اليأس العجّاج
مضى الشتاء وأورقت أشجارٌ ثم أزهرت، وما لك يا قلبي أملٌ في إزهار ولا إيراق
الوجود كله ربيع، فأين نصيبك من هذا الربيع يا قلبي؟
ربيعك هنالك، فامض إليه إن استطعت، وإن استطاعت تلك الأزهار أن تطمس أبصار الرقباء
سيمر زمن وأزمان، وستفعل المقادير ما تفعل بمصاير ممالك وشعوب، ثم يبقى لك هواك يا قلبي، هواك الذي لا يجوز عليه الخمود، لأنه من أقباس الخلود
وهل يعرف أحبابك هنالك أنك معهم على ميعاد؟ لقد يئسوا من وفائك يا قلبي، لأنك آثرت الكتمان، فمتى تفتضح في هواهم ليعودوا مع الربيع؟
أنتِ على بالي في كل وقت، ... يا مَهاةً لا تخطر إلا في البال
ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتكِ لم تُكتبْ علىّ ذنوبُ
في بناء الجيل الجديد
أعتقد أن الأساس لبناء الجيل الجديد هو خلق الإيمان بالعدل في تقسيم الحظوظ، بحيث يصير من المفهوم عند الجميع أن في مقدور كل فرد أن يصل إلى أعظم المناصب، إذا زوّد نفسه بالزاد الذي يؤهله لما يتسامى إليه، بلا احتياج إلى وسيط أو شفيع
ولكي نصل إلى هذه الغاية يجب أن نروض أنفسنا على فهم المراد من العدل، فقد يصرخ ناس ثم يصرخون بدعوى أنهم لم يؤهلوا أنفسهم لخوض معارك الحياة واقتحام أسوار المجد. وهذه آفة لم يسلم منها الناس في أي زمان(514/13)
نحن في الغالب نطالب بأكثر مما نستحق، وندّعي لأنفسنا حقوقاً لم نبذل في سبيلها ما يجب بذله من الجهود، ثم نطيل التوجع والتفجع والتحسر على انعدام العدل. وهل عدلنا مع أنفسنا حتى نطالب غيرنا بالعدل؟
لا يجوز تضييع لحظة واحدة بلا استفادة علمية أو أدبية، ولا يجوز تضييع لحظة واحدة في القيل والقال إذا كنا نريد أن يكون لنا في الحياة السامية مكان
ومن آفات الناس في هذا العصر أن تكون المظاهر غاية ما يطلبون، فمن النادر أن نجد من يتشهى أن يكون نعيمه مقصوراً على المغانم الروحية، ومن النادر أن نجد من يفرح لأن جيرانه في رغد وإن كان في حرمان
والاعتماد على الحكومة في جميع الشؤون أخطر آفات هذا الجيل؛ فالحكومة هي التي تصد بغي الناس بعضهم على بعض، والحكومة هي التي تضمن وجود الرغيف في السوق، والحكومة هي المسئولة عن كف يد القريب عن ظلم القريب
نحن نشغل بعدِّ المنافع عن عدِّ المآثم، وننسى محاسبة أنفسنا على الكسل البغيض، الكسل الذي يشل مواهبنا المكنونة ويضيفنا إلى جماعة المتواكلين
ما هذا الذي نعاني من كوارث وخطوب؟
أقول هذا لأني أعرف أننا لا نلتفت لغير المصاعب التي تساق إلينا من بُعد، ونغفل عن المصاعب التي نخلقها بأيدينا، وهي المصاعب الناشئة عن غفوتنا الروحية والذوقية والعقلية. وصدق الرسول حين قال: (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)
الجهل الدميم بقوانين الوجود هو الذي يجعلنا نلقي المسئولية على من لا يحملون عنا أية مسئولية، والفرار من التبعات هو أعظم شواهد الخذلان
لو أنفقنا في محاسبة أنفسنا معشار ما ننفق في محاسبة الحكومة والمجتمع لوصلنا في جهاد النفس إلى أشياء. ولو تجنَّينا على أنفسنا كما نتجنى على الحكومات والمجتمعات لتكشفت أنفسنا عن حقائق تهدينا في ظلمات الوجود
محاسبة النفس لا تقع إلا عند يقظة النفس، فلنفهم أن رضانا عن أنفسنا في جميع الأحوال من دلائل السبات
وأغرب ما نتورط فيه أننا نبالغ في تعقب عيوب الحكومات والمجتمعات، ثم ننتظر أن لا(514/14)
ترى فينا الحكومات والمجتمعات غير الجميل
وما هي الحكومة؟
هي مجموعة أشخاص يتعرضون لما يتعرض له سائر الناس في المعاملات الفردية والاجتماعية، ومن حقهم أن يعاملوك بالعدل في الإساءة كما تحب أن يعاملوك بالعدل في الإحسان
وما هو المجتمع؟
هو تلك الخلائق المبثوثة في القرى والمدن والأسواق، وهي على تنوعها العجيب قد تلتقي في المشاعر والعواطف من حين إلى حين
وقد نخطئ فنتوهم أن تلك الخلائق تعجز عن تعقب العيوب فيمن لا يرى فيها غير العيوب
والمصلح في الجيل الجديد سيُسأل أمام ضميره عن تجسيم المحاسن الأصيلة في المجتمع، وهي سر التماسك الاجتماعي، وبفضلها استطاع المجتمع المصري أن يقهر مصاعب كثيرة عانتها مصر من جيل إلى جيل
وخلاصة القول أني أدعو إلى محاسبة النفس قبل محاسبة الحكومة والمجتمع، وأرجو أن يؤمن كل فرد بأنه حجر الأساس في بناء الحكومة وبناء المجتمع، إن صحت النية على أن نكون من رجال الأخلاق
ظرف المكان
في يوم واحد ظهر لي مقال في مجلة الرسالة ومقال في مجلة الاثنين رداً على الأستاذ عباس محمود العقاد؛ ومع أن المعاني واحدة أو كالواحدة في المقالين فقد اختلف الأداء كل الاختلاف، فما السر في ذلك؟
يرجع السر إلى ظرف المكان، فقد بدا لي العقاد في (الاثنين) وهو خصم، وبدا لي في (الرسالة) وهو زميل وما أبعد الفرق بين الخصم والزميل!
قال قائل إن اللطف الذي بدا في مقال الرسالة بدد العنف الذي ظهر في مقال الاثنين. وأقول إني لا أندم على كلمة الخير بأي حال. وليس في نيتي أن اصطنع العنف في معاملة زملائي، إلا أن يحرجوني. والرجل الغضبان يستبيح ما لا يباح
وأنا مع ذلك أشعر بفداحة الخسارة في العراك الذي ثار بيني وبين الأستاذ العقاد؛ فلا هو(514/15)
وصل إلى شيء، ولا أنا وصلت إلى شيء، لأن ذلك العراك لم يزد عن ملاحاة لا أرضاها منه ولا يرضاها مني
خصومتي مع الدكتور طه حسين هدتني إلى حقائق أدبية وفلسفية
وخصومتي مع الأستاذ أحمد أمين كانت السبب في أبحاث جياد أفصحت فيها عن سرائر الأدب العربي
وخصومتي مع الأستاذ توفيق الحكيم كانت السبب في أن أنشئ مقالي عن (رجال الأدب ورجال القضاء)
وخصومتي مع الأستاذ إبراهيم المازني كانت الباعث لبعث مواهبي الشعرية
فما مصير خصومتي مع الأستاذ العقاد؟
إن بوادر لا تبشر بالخير، فهل تقع معجزة تحولها إلى الاختصام حول حقائق تكون دساتير في فهم أصول الأدب والبيان؟
أنا أنتظر أن نخوض في أحاديث تصل بنا إلى نفائس، وأكره أن تكون المعارك الأدبية في مصر مقصورة على مجادلات ينفر منها الذوق في أكثر الأحايين
وإلى اللقاء على صفحات (الرسالة) الصديق
ضيوف القاهرة
كان من المألوف أن يصطاف المصريون في فلسطين أو سورية أو لبنان، لينعموا بالرخاء الذي لا تعرفه مصايف الإسكندرية أو رأس البر أو بور سعيد، فما تمتع بلدٌ قبل هذه الحرب بمثل الرخاء الذي كان يتمتع به أهل فلسطين ولبنان
واليوم نسمع أن تلك البلاد تعاني متاعب عنيفة من الغلاء ونرى بين أعيانها أفواجاً تزور القاهرة لتعيش في رفاهية بضعة أسابيع، فما الذي نصنع في إكرام أولئك الضيوف؟
يعزّ عليّ أن أعترف بأننا لم نتخذ خطة واضحة في استقبال من يزور مصر من أبناء الشرق العربي والإسلامي. وإلى وزير الشئون الاجتماعية أوجه هذا الحديث
شارع الشريف وغيط الشريف
في يناير سنة 1931 شكا إليّ المسيو فوشيه مراسل (الأهرام) في باريس من أن جريدة(514/16)
الأهرام لا تدعوه إلى الإقامة في القاهرة شهراً أو شهرين من كل عام، ليعرف الجو السياسي فيراعيه فيما يرسل من البرقيات
وفي أغسطس من سنة 941 زرت مدينة المنصورة لأتحدث مع الأستاذ الزيات فيما يجب أن نراعيه من التوجيهات الأدبية والاجتماعية
وفي إحدى السهرات قال فلان: هل سمعتم باسم الشارع الجديد؟
- وما اسم الشارع الجديد؟
- شارع الشريف الرضي
فابتسم الأستاذ الزيات وقال: هذا من وحي الدكتور المبارك
وفي يناير من سنة 1942 رفعت قضية شفعة على غيط يجاور أملاكي في سنتريس. ولم أكن أملك من ثمنه غير دنانير كسبتها من كتاب (عبقرية الشريف الرضي)، وقد كسبت القضية وسميت الغيط (غيط الشريف)
أمر الأرواح عجب في عجب، وما أعجب أمور الأرواح!
كان الشريف يتحدى خلفاء بغداد بأن له في مصر أنصاراً يستنصر بهم حين يشاء، وقد وفت مصر للشريف بعد عشرة قرون، فسمَّت باسمه شارعاً في المنصورة وغيطاً في سنتريس، ولن يموت رجلٌ يحفظ اسمه في المنصورة وسنتريس
الشريف هو الذي يعبِّر عن أشواقي إلى أحبابي في العراق حين يقول:
ومن عجبٍ لا أسأل الركب عنكم ... وأعلاق وجدي باقيات كما هيا
ومن يسأل الركبان عن كل غائب ... فلا بد أن يلقى بشيراً وناعيا
وقد فجعتني الأقدار بموت الصديقين الكريمين: إبراهيم العمر وصادق الوكيل، وكانا عدوين لا يقرب بينهما غير الاتفاق على ودادي، وما أكثر ما صنعت في تبديد الخلاف بين المتخاصمين من أدباء العراق!
كنت أقول إني أحب العراق لأخلق فيه صداقات لوطني؛ واليوم أقول إني أحب العراق، لأنه العراق
ومن الذي يكره بلداً لا يفارقه بغير الدمع؟
من الذي يكره بلداً رجاله طه الراوي ورضا الشبيبي؟(514/17)
العراق وطني، لأنه أصدق الأصدقاء لوطني، ولأنه العراق، ولأنه دار الذين يئسوا من وفائي، مع أنني أوفى الأوفياء
أنا الجاني على نفسي، فقد تهاونت في نقل تلك البُنية إلى وطني، ومعها تلك الأم السمراء، ويا لها من سمراء!
جنى الهوى ما جنى، وجنيت ما جنيت، فعلى أيام الهوى وعلى أيامي ألف تحية وألف سلام، إلى أن نلتقي في ظل الموصلية التي تسكن بغداد، وهي ملثوغة الراء، لأنها حواء، وأنا أول الحافظين لعهد الوفاء.
زكي مبارك(514/18)
مجلاتنا الممتازة
ونصيب المسرح والسينما والغناء منها
للأستاذ دريني خشبة
هل تكتب (الرسالة) أو (الثقافة) أو (المقتطف) أو (الهلال) شيئاً في المسرح المصري الحاضر أو السينما المصرية الحاضرة أو الغناء المصري الحاضر أو الموسيقى المصرية الحاضرة؟ وإن لم تكن هذه المجلات تكتب شيئاً من ذلك، فهل هي على حق في خطتها تلك! وهل هي بتلك الخطة التي تلتزمها حيال أرقى فنونها الجميلة تمثل النهضة المصرية أو تنطق بلسان مصر الحديثة؟ وهل هناك فرق أن تصدر الرسالة - وتلك خطتها - في القاهرة أو في بغداد؟ وهل يتغير المقتطف إن كان يطبع في دمشق، لا في القاهرة؟ وإن صدرت الثقافة في مكة، ولم تصدر في مصر، فماذا كان يتغير فيها بحكم تلك البيئة الجديدة؟ وإذا كان الهلال يأتي إلينا من صنعاء اليمن فهل كنا نرى فيه هلالاً غير هذا الهلال الذي يصدر عن القاهرة؟
وما السبب يا ترى في امتناع مجلاتنا الممتازة هذه عن الكتابة في المسرح المصري الحديث والسينما المصرية الحديثة، والغناء المصري الحديث، والموسيقى المصرية الحديثة، وفي سائر الفنون المصرية الحديثة!
هل يستطيع أحد أن يتهم الأستاذ الزيات أو الأستاذين أحمد أمين وعبد الواحد خلاف، أو الأستاذ يعقوب صروف أو الأستاذين أميل وشكري زيدان بأنهم رجال لا يستطيعون أن يزنوا هذه الفنون من حيث تمثيلها للنهضة المصرية الحديثة والذوق المصري الحديث؟
وإن قلنا إن هذه المجلات قد خصصت نفسها للأدب الجد والعلم الجد، فهل نفهم من ذلك أن أصحابها لا يقولون بأن المسرح المصري الحديث ليس من الأدب الجد في شيء، ومثله السينما والغناء والموسيقى!!
وهل العلاقة بين هذه الفنون وبين الأدب الجد لا تصل في أهميتها إلى خطورة العلاقة بين الأدب الجد وبين اشتقاق كلمة (اجلوّز) وما إليها من تلك الببغائيات التي تحفل بها مجلاتنا الممتازة وتفسح لها صفحاتها؟
ولكن. . . ما علة امتناع مجلاتنا الممتازة، هذا الامتناع الإجماعي، عن الكتابة في هذه(514/19)
النواحي من مقومات نهضتنا الفكرية الأدبية الحديثة؟!
هل هو الاستعلاء كما زعم لي أحد الزاعمين وأنا أحاوره في هذا الموضوع؟
وفيم يا ترى استعلاء مجلاتنا المصرية الممتازة عن الكتابة في المسرح المصري الحديث والسينما المصرية الحديثة؟ هل هي في حاجة إلى من ينبهها إلى خطر المسرح والسينما ومكانهما من الأدب الذي تضطلع بنشره في مصر قاطبة؟!
وهل ترفض هذه المجلات الممتازة نشر بحث يقدم لها عن المسرح اليوناني، أو المسرح الإنجليزي، أو المسرح الفرنسي؟ كلا. . . إنها ترحب دائماً بهذا البحث وتعده من واجبها الأول!
وهل ترفض ترجمة لأحد رجال المسرح اليوناني أو المسرح الإنجليزي أو المسرح الفرنسي؟. . . وهل ترفض ترجمة لأحد الموسيقيين من أمثال موزارت وباخ وهاندل وبيتهوفن وهايدن وشوبين وليزت ولتنتايكوفسكي؟ أم ترفض ترجمة لأحد المغنين القدامى من أمثال إسحاق وإبراهيم الموصلي وزرياب وعنان؟
هذه طائفة من الأسئلة كانت وما تزال تملأ التفكير، وتجعل الرأس أشبه بخلية النحل من كثرة ما كانت تتوارد فيه، في شدة وفي عنف. . . بل في شبه ثورة جارفة، مُغثاة بكثير من الهم والاكتئاب!. . . لماذا تستعلي مجلاتنا عن تناول المسرح المصري، والسينما المصرية، والغناء المصري والموسيقى المصرية؟. . . إن أحداً لا ينقم على مجلاتنا الممتازة مظهرها العربي الصميم الذي هو مفخرة الصحافة المصرية، ونحن حين نرى العالم العربي كله يقرأ مجلاتنا ويقبل عليها هذا الإقبال لنحمد الله على أن جعل لنا الصدارة في هذا الباب، وأن هيأ لنا من الزعامة الفكرية ما يجعل مصر نبراساً للأمم العربية جمعاء. . . هذا حسن جداً. . . وهو خير كل الخير، لكن ماذا يضرنا لو أظهرنا شقيقاتنا من الأمم العربية على هذا الجانب الهام من مصريتنا الصميمة؟ لماذا لا نكتب لهم عن مسرحنا وعن هذه النخبة الفاضلة العامة المجدة من رجاله؟ لماذا لا ننقد لهم الروايات المصرية التي يؤديها هذا المسرح ويعالج فيها عللنا الاجتماعية؟ ألم تكن فرقنا تذهب إلى فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وتونس والجزائر وأمريكا الجنوبية لتمثل هنالك تلك الروايات المصرية؟ أليست هذه هي الأفلام المصرية تصدر من مصر إلى تلك الأقطار(514/20)
الشقيقة فيقبل عليها الأهلون إقبالاً منقطع النظير ليشهدوا مصر الحديثة، وليطالعوا الأدب المصري الحديث، والتمثيل المصري الحديث. وليمتعوا أنفسهم بالغناء المصري الحديث ويشنفوا آذانهم بالموسيقى المصرية الحديثة؟ الحقيقة أن شطراً كبيراً من مسئولية ذلك تقع على عواتق رجال تلك الفنون من المسرحيين ومخرجي السينما وممثليها والمغنين والموسيقيين المصريين. . . وسنكون صرحاء في تحديد هذا الشطر من المسئولية فنقولها كلمة حق إن كثيرين منهم يكادون يكونون أُميين. . . أميين في فنهم نفسه، وأميين في طريقة أدائه، وأميين في منوال حياتهم بوصف كونهم رجال الفنون الرفيعة في مصر. أما أن منهم الأميين في فنهم فهذا هو المشاهد الملحوظ في كثير من الروايات المصرية المسرحية، وأشرطة الصور المصرية تأليفاً وإخراجاً وتصويراً وتمثيلاً - وأنا أكتفي هنا بالإشارة العابرة دون التصريح والتجريح، فما لهذا كتب المقال - ولست تعرف من أين يأتي أكثر العيب؟ أيأتي من المؤلف الذي يتناول الموضوع المصري أو إحدى البيئات المصرية فيشيع فيهما مرض خياله ويمسخها بسقم تصويره ويجعل منها أضحوكة لا تخطر في بال مصري؟ أم يأتي من المخرج الذي يضرب أخماس المشاهد في أسداسها حتى تبرز عرجاء شوهاء مقعدة في كثير من الأحيان؟ أم يأتي العيب من المعمور الذي لم يدرس قط، أو درس دراسة ارتجالية - فن الضوء المسرحي أو السينمائي وزوايا المناظر؟ أم يأتي أكثر العيب من الممثلين وفيهم مهرجون كثيرون فرضوا بطولتهم على الشركات التي ألفوها، وعلى النظارة الذين أفسدوا أذواقهم بالإلحاح عليها بشعبذاتهم ومساخرهم
أما أميتهم في أسلوب حياتهم فذاك أن أكثرهم لا يحاول قط أن يتعلم أو أن يثقف نفسه بمطالعة ما تصل إليه يده عن تاريخ فنه وتراجم أبطال هذا الفن وما يجد كل يوم فيه وما ينضاف إليه من جهود المتخصصين فيه، ثم هم غير هذا يحيون حياة سائبة ليس فيها أي شعور بالكرامة الفنية التي كان يخلق بها التسامي عن التبذل والانغماس فيما يشين الأقدار. وليس يضير هذه الفنون قط أن كثيرين من أبطالها في مصر قد نشئوا من صميم الشعب، فهنا مفخرة هذه الفنون، بل هنا حياتها، لأنه لا يعرف هوى الشعب ولا يدرك علله إلا أفراد منه أوتوا تلك الملكات الشعبية التي يجهلها السراة جهلاً تاماً
وبمناسبة فقر أبطال المسرح والسينما والغناء والموسيقى في ثقافتهم، ذلك الفقر المضحك(514/21)
المخزي، يذكر الإنسان ما كان يشترط في المغني العربي والمغنية العربية في العصر العباسي من إلمام واسع بنحو العربية وصرفها وعروض الشعر وقوافيه، وما كان ينبغي أن يتوفر له من محفوظ الشعر والبصر بعلله ودقة الذوق في نقده وطول الباع في الوقوف على أخبار الأدباء والكتاب والشعراء والمحبين. ولسنا هنا بمعرض ضرب الأمثال لذلك، فكتب الأدب العباسي والأندلسي تفيض بذلك وتزخر به. ونحن والحمد لله نعيش في مصر في عصر شباب اللغة العربية ورونق مجدها المبين، مما لم تبلغه في أي عصر من عصورها الذهبية الحوالي؛ والمستمع الذي له دراية بنحو هذه اللغة لا يتلف الغناء أو الإلقاء في نفسه ما يتلفه اللحن في القطعة المغناة أو الملقاة. . . إنه يضيق عند ذاك بالغناء وبالمغني. . . بل إنه ليضيق بالدنيا جميعاً ولا يعود يعنيه من أمر الغناء ما يعنيه من جهل المغني بنحو اللغة، ذلك الجهل الذي لا عذر له فيه إلا الكسل عن الإلمام بهذا النحو. لقد كان المغنون في العصر العباسي وفي بلاد الأندلس أدباء من الطراز الأول، وكانوا يحتلون من رواية الرواة ومؤلفي كتب الأدب ما كانوا خليقين به. وحسبهم فخراً وشرفاً أن يسمي أبو الفرج كتابه (الأغاني) ولم يسمه اسماً آخر بالرغم مما حشد فيه من تراجم الشعراء وقصائدهم
وبعد. . . فمتى يعني مديرو مجلاتنا الممتازة ورؤساء تحريرها بالمسرح المصري الحديث وما إليه من سائر الفنون الرفيعة التي ذكرنا؟ إننا حينما ندرس الأدب اليوناني القديم نجد ثلاثة أرباع هذه الدراسة تدور حول المسرح اليوناني وحول شعراء مآسيه وملاهيه؛ ودراسة الآداب الأوربية تكاد تكون قسمة عادلة بين القصص في الشعر في ناحية، والدرامة في ناحية أخرى، بل يكاد بعض هذه الآداب يكون مسرحياً صرفاً. وقد عني أرسطو بدراسة المأساة المسرحية وكرس لها كتابه الخالد (بويتيكا) (الشعر) وعدها مصدر الفضائل ولباب الأدب. فهل أصحاب مجلاتنا الممتازة ورؤساء تحريرها في حاجة إلى أن يذكرهم أحد بكل ذلك؟. . .
قد يجادل رؤساء التحرير المحترمون هؤلاء في حقيقة المسرح المصري الحديث: أموجود هو؟ وهل لدينا الممثلون الذين يستحقون أن يكتب عنهم؟ وهل لدينا مذاهب مسرحية تستأهل أن يعنى بها؟ ثم ما هي عيون الأدب المسرحي أو السينمائي التي تستحق أن تفسح(514/22)
لها مجلاتهم ميداناً للنقد أو العرض أو التحليل. وقد آن أن نكون صرحاء. . . فالمسرح المصري أصبح حقيقة لا مرية فيها، وأشرطة الصور المصرية تغزو دور الصور في مصر خاصة وفي الشرق العربي عامة. وقد أصبح للمسرح المصري والسينما المصرية والغناء المصري أكبر الأثر في التوجيه الأخلاقي والتوجيه الثقافي الحديث. ورب درامة أو شريط سينمائي للأستاذ يوسف وهبي - كائناً ما كان هذا الشريط - له من الأثر في أخلاق هذه الأمة وفي مزاجها وفي تكييف ذوقها ما لا تستطيع أن تصنعه خمس مدارس أو عشرة أو عشرون. . . ورب أغنية للأستاذ محمد عبد الوهاب أو للآنسة أم كلثوم يكون لها من الأثر في عامة الشعب وخاصته مالا يكون لألف مقالة من مقالات الرسالة والثقافة والمقتطف والهلال مجتمعة. . . هذه حقيقة لا يماري فيها إلا مكابر. . . فإذا كان الأمر كذلك، فكيف تجمع هذه المجلات المحترمة الممتازة على الانصراف عن المسرح المصري والسينما المصرية والغناء المصري والموسيقى المصرية لا تتعرض لها بخير أو شر؟ هل يظن رؤساء تحرير هذه المجلات - وهم قادة الفكر في مصر وفي الشرق العربي - أنهم يؤدون وظيفتهم كاملة على هذا النحو المبتور؟ هل صحيح أن انصرافهم عن هذه النواحي الثقافية التي لها أكبر الخطر في تكييف نهضتنا الفكرية وذوقنا الفني هو صدى هذا الاستعلاء الذي أشار إليه أحد رجال الفكر الذي حاورته في هذا الموضوع. . . على أنني لست أدري سبباً لهذا الاستعلاء؟ أليس هو من باب وضع النعامة رأسها في الرمال إذا حاق بها الخطر؟ هل يماري رؤساء التحرير المحترمون هؤلاء في خطر المسرح والسينما والغناء والموسيقى على الأخلاق والأذواق؟ ألا تستحق الأربعون أو الخمسون رواية التي ألفها الأستاذ يوسف وهبي ومثلها أو أخرجها للسينما وشهدها خمسون أو ستون مليوناً من النظارة في مصر وفي العالم العربي. . . كلمة نقد أو كلمة تقدير أو كلمة تحليل. . . أو حتى كلمة تحذير من إحدى مجلاتنا الممتازة أو المتزمتة. . . لا أدري. . .
ألا يستحق هؤلاء الأبطال: يوسف وهبي وحسين رياض وأحمد علام وزكي طليمات وسليمان نجيب وعباس فارس وعمر وصفي وحسين صدقي وأنور وجدي ومحمود ذو الفقار ومنسي فهمي ومحمود المليجي وأحمد جلال ومختار عثمان ونجيب الريحاني وفوزي الجزايرلي وعلي الكسار. . . ألا يستحق هؤلاء أن تقدمهم مجلاتنا الممتازة إلى قرائها(514/23)
فتحلل لهم شخصياتهم أو تقفهم على مزاياهم أو تنقد لهم مذاهبهم في التمثيل أو طرائقهم في الأداء؟
ألا تستحق أمينة رزق وزينب صدقي وفاطمة رشدي وعزيزة أمير وآسيا ودولت أبيض ومن إليهن أن تترجم لهن مجلاتنا الممتازة، أو أن تقدمهن لجمهور قرائها بما ينبغي لنساء المسرح من عرض ونقد وتحليل؟
ما هذا؟ ألا يستحق محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ورياض السنباطي والقصبجي وزكريا أحمد وعبد الغني السيد وصفر علي والنقاد والرشيدي وسامي شوا وفاضل شوا وعبد المطلب والسروجي وأحمد عبد القادر ونور الهدى ورجاء وفتحية وأسمهان ونجاة. . . ألا يستحق هؤلاء أن يترجم لهم والعالم كله ينتفع بهم ويلتذ غناءهم وموسيقاهم وألحانهم؟
إني وأنا أكتب هذه الأسماء ألمح الابتسامات العريضة ترقص على شفاه رؤساء التحرير وعلى قسمات الكثيرين من القراء. وليست هذه الابتسامات من الغموض بحيث يخفى معناها على أحد. . . إنها ابتسامات الاستعلاء. أو الاستهزاء. ما في ذلك شك. . . وهو استعلاء ظالم. . . بل هو استعلاء أناني أثر، وأمسك عن وصفه بشيء آخر
لقد آن أن تكون مجلاتنا الممتازة صادقة في التعبير عن مصر الحديثة. ولقد آن أن تعرف مجلاتنا الممتازة حق المسرح المصري الحديث، والسينما المصرية الحديثة، والغناء المصري والموسيقى المصرية. . . هذه المظاهر الأربعة الهامة التي تصور للعالم العربي مصر الناهضة التي تتزعم ممالكه ودويلاته، وتصدر إليها الفكر الجديد والثقافة الجديدة. ليكن بعض رجال هذه الفنون كما وصفنا في هذا المقال؛ ولكن لتكتب مجلاتنا عنهم لتقوم اعوجاجهم، ولترد إليهم كرامتهم، ولتصل أسبابها بأسبابهم، فإنه إذا استمرت تلك القطيعة بينها وبينهم وبين رجال الفنون على هذا النحو صار سواء أصدرت مجلاتنا تلك عن القاهرة أو عن مكة أو عن دمشق أو عن بغداد أو عن صنعاء. وربما جاء يوم تصبح فيه مجلاتنا صحائف أرثوذكسية لا تعبر عن شخصيات العصر الحديث. . . ولست أدري لماذا ألغت الرسالة باب الفنون وباب الموسيقى والموسيقيين وقد كانا من أجمل أبوابها؟
هذه كلمة سريعة وربما كان لنا عود إلى الموضوع.
دريني خشبة(514/24)
خيال الرافعي
(هدية إلى روح الرافعي في ذكرى وفاته)
للأستاذ عمر الدسوقي
إذا تحامت الأقلام القديرة النقادة تراث الرافعي حتى اليوم، ولم تحاول عرض ما فيه من نفائس وعجائب على جمهرة المتأدبين في العالم العربي؛ ليكون لهم ينبوع إشعاع يلهم ألبابهم، ويستثير عقولهم، ويستحث خيالهم، ويحكم بيانهم؛ وإذا لم يتقدم بعد الناقد الضليع، والكاتب العبقري الذي ينفذ إلى نفسه العميقة وخياله المغرب، فيحلل أدبه، ويبوئه منزلته في سفر الخلود؛ فما أظن ذلك عن تهاون بهذه الذخيرة الفذة، ولكن هيبة ورهبة وفرط إعجاب
ومعذرة إلى الإمام الرافعي إذا تطاول يراعي إلى الخوض في أدبه، فلقد طال - علم الله - تردده وإحجامه، ووقف دهشاً يملكه البهر أمام هذا النور الفياض الذي هتك الخدور عن أبكار المعاني، وهذا الذهن الثاقب الذي نفذ إلى أسرار الحقائق فتخير أطيبها عنصراً، وأكرمها جوهراً، وأجملها رواء، ثم كساها البيان الساحر أكمل حلة، فغدت فتنة المتأمل ومحراب الأديب. وإنما حفز هذا اليراع - على ضعف منته، ووهن عدته - لتسطير هذه الكلمة ذكرى ارتحال الرافعي، عليه الرحمة والرضوان، إلى جنة الخلد. وهي نفثة إعجاب ووفاء، وإن ضن على الزمن بمعرفة شخصية إلا أني مدين لروحه الكبير بالشيء الكثير
وبعد، فما أخترت الكلام عن خيال الرافعي، لأنه أبرز ما فيه، وأجمل ما خلفه؛ ولكن لأن الرافعي نشأ شاعراً ملهماً مشبوب الخيال، ذا عبقرية فنية مبدعة، وهو وإن آثر النثر فيما بعد للإفصاح عما يختلج في نفسه من فكر ومعان، فقد لازمه خيال الشاعر في أكثر ما دبجه قلمه في الأدب الإنشائي؛ فكثير من مقالاته الوصفية قصائد نادرة في عالم الشعر والخيال؛ وهو مصور قدير دقيق الحس، يعرض لك المعنى البكر في أروع صورة وكأني به عنى نفسه إذ يقول: (أما الذهن العبقري فليس له من المعاني إلا مادة عمل فلا نكاد نلابسه حتى تتحول فيه وتنمو وتتنوع وتتساقط له أشكالاً وصوراً في مثل خطرات البرق)
وخيال الأديب النابغة له مظاهر شتى يتمثل فيها: فإما أن يصور ما في الطبيعة، وينقل عنها ويحاكيها؛ وليس سر نبوغه في هذا النوع جودة المحاكاة وإتقان التصوير، ولكنه(514/26)
يستشف من وراء ما يحاكيه أسراراً لا تخطر إلا له، ويختار مالا يقف عنده إلا عين شاعر، أو يحس جماله إلا ذوق فنان، ثم يعرضه للناس بعد أن ينفث فيه من شخصيته وموهبته، ويسبغ عليه من خياله وبيانه ما يجعله صورة جديدة نادرة المثال
وإما أن يكون مرآة مصقولة تنطبع فيها الصورة المختارة فتعكسها وتبرزها وحدها؛ ويكون سر نبوغه في حسن ذوقه واختياره، وفي صفاء نفسه وقدرتها على إظهار الصورة خالية من الشوائب واضحة مجلوة
وإما أن يخترع مالا وجود له في الخارج، ويخلق صوراً وأشكالاً هي وليدة عقله وصنع خياله، وبمقدار ما تكون مبتكرة جميلة أخاذة يكون تفوقه ونبوغه
وإما أن يوازن بين صور الطبيعة بعضها وبعض، وينظمها في سلك، ويأتي بالمفارقات التي تبهر العقول، ولا تتأتى إلا لصاحب الخيال الشرود، ومن تحسبه قد وضع الأشكال والمعاني بين يديه يؤلف منها ما يشاء، وينتقي منها كما يشتهي
وإما أن يوضح المعنويات بالمحسوسات، ويضرب الأمثال التي تقربها إلى الأذهان؛ وإما أن يتخيل في الجماد حياة فينطقه وينسب إليه - بالاستعارة والمجاز - وأفعال الأحياء، ويرتفع بالطبيعة إلى درجة الإنسانية، وكلما كانت استعاراته ومجازاته طبيعية محبوكة طريفة برهن على سر نبوغه
والرافعي رزق من سمو الخيال، وتوقد القريحة، وإرهاف الحس، وكمال الذوق، ما مكنه أن يبتكر في كل هذه الأنواع وأن ينمي الثروة الأدبية دون أن يجري في مضمار غيره من السابقين أو يسطو على معاني سواه. وإذا حاكى غيره فشخصيته وروحه تنفحان ما يأتي به سمة خاصة ترتفع به عن التقليد
ولقد عرف الرافعي الخيال الأدبي تعريفاً دقيقاً، وألزم نفسه في جل ما كتب أن تتمثله ولا تحيد عنها فيقول: (والخيال: هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة، وتخيل الشاعر إنما هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشف به، فهو بهذا يرفع الطبيعة درجة إنسانية، ويرفع الإنسانية درجة سماوية)
وإذا كان الخيال سامياً، والمعاني التي ينفذ إليها رائعة جديدة قيمة، كان لا بد من صيغة تناسب ذاك الخيال وهذه المعاني، ولا بد من عبارة طلية قوية تزيد المعنى روعة، والخيال(514/27)
جمالاً. والرافعي كان معنياً بعبارته أتم العناية، يقدها وفق المعنى، ويأتي بها رصينة جميلة منتقاة الألفاظ؛ وفي هذا يقول: (ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ أكبر مما هي، كأنها شبت في نفسه شباباً، وأقوى مما هي كأنما كسبت من روحه قوة، وأدل مما هي كأنما زاد فيها بصناعته زيادة)
ويقول: (والكاتب الحق لا يكتب ليكتب، ولكنه أداة ي يد القوة المصورة لهذا الوجود تصور به شيئاً من أعمالها فناً من التصوير)
أقرأت مقالة (الربيع) في (وحي القلم)! ألا تحس كأن الرافعي اتحد بالطبيعة، وفهم لغتها، فجاءت إليه بأسرارها ثم جاء يترجم عنها فنقل ما لم يتح لكاتب قبله!. أسمعه يقول: (خرجت أشهد الطبيعة كيف تصبح كالمعشوق الجميل لا يقدم لعاشقه إلا أسباب حبه، وكيف تكون كالحبيب يزيد في الجسم حاسة لمس المعاني الجميلة!)
ويقول: (لاحت لي الأزهار كأنها ألفاظ حب رقيقة مغشاة باستعارات ومجازات، والنسيم حولها كثوب الحسناء على الحسناء، فيه تعبير من لابسته، وكل زهرة كابتسامة تحتها أسرار وأسرار من معاني القلب المعقدة). ويقول: (ويكون الهواء كأنه من شفاه متحابة يتنفس بعضها على بعض)
ولا يتسنى لي في هذه الكلمة الموجزة أن أحلل وأعلق وأبين مطارح الجمال في عباراته وخياله، وحسب القارئ أن يتأمل ويتذوق ويحكم. إن الرافعي تمثل الطبيعة عاشقة جميلة تترضى حبيبها، ولها من القدرة والغنى ما يمكنها من إرضائه، بل لا يظهر منها إلا ما يرضيه ويفتنه؛ وتأمل قوله: (أسباب حبه) وفسرها كما تشاء، وعلل لماذا اختار الرافعي هذه الكلمة دون سواها؛ الآن أسباب الحب شتى من عطف وجمال وزينة وإبهاج. . .
وانظر كيف رأى الأزهار (ألفاظ حب رقيقة)، وهل رأيت تشبيهاً أحلى وأرق وأوفق من هذا التشبيه؟ أو لا تراه لا يزال على خياله من أن الطبيعة حبيبة تبادله ألفاظ الحب الرقيقة على لسان أزهارها المختلفة الشكل واللون والشذى؟
ثم تأمل كيف يصور الشتاء فيقول: (وكانت الشمس في الشتاء كأنها صورة معلقة في السحاب، وكان النهار كأنه يضيء بالقمر لا بالشمس، وكان الهواء مع المطر كأنه مطر غير سائل، وكانت الحياة تضع في أشياء كثيرة معنى عبوس الجو، فلما جاء الربيع كان(514/28)
فرح جميع الأحياء بالشمس كفرح الأطفال رجعت أمهم من السفر!)
تالله إن هذا وصف يفسده الشرح وأولى به أن يترجم ويذاع بين أمم الأرض ليبرهن على أن الأمة العربية لم تصب بالعقم في الخيال كما يدعي المفترون، وأن فيها أمثال شكسبير، وجيته، وهوجو، وأناتول فرانس.
أقرأت مقالة (عرش الورد) في زفاف ابنته؟ ألا ترى أنه يستشف من وراء الموصوفات أسراراً لا يقف عليها إلا العباقرة الملهمون؟
أسمعه يصف تاج الورد الذي عقد حول عرش العروسين: (وتنظر إليه يسطع في النور بجماله الساحر سطوعاً يخيل إليك أن أشعة من الشمس التي ربَّت هذا الورد لا تزال عالقة به)
أو أسمعه يصف لون الكرسيين اللذين نُصَّا على العرش: (ويكسوهما طراز أخضر تلمع نضارته بشراً، حتى لتحسب أنه هو أيضاً قد نالته من هذه القلوب الفرحة لمسة من فرحها الحي)
ليت شعري! أكانت للرافعي حاسة زائدة يقف بها على هذه الأشياء فيرى أشعة الشمس لا تزال عالقة بالورد وسط الليل، ويلمس فرحة الطراز الأخضر، أم هو خياله الخصب ونشوة السرور صَّورا له ما رأى!
ويقول: (وأقبل العذارى يتخطرن في الحرير البيض كأنه من نور الصبح، ثم وقفن حافات حول العرش حاملات في أيديهن طاقات من الزنبق، تراها عطرة بيضاء ناضرة حيية كأنها عذارى مع عذارى)
وما أشبه الزنبقة بالعذارى الهيفاء في لينها، وهيفها، ونضارتها ورائحتها وطهارة قلبها!
وماذا عساي أن أقدم إليك من هذه القصيدة المثالية، وحسبي ما اقتطفت منها وعليك بالرجوع إليها والوقوف لديها ملياً؛ لتحملك على أجنحة الخيال إلى عوالم من السحر والفتنة والفن. . .
أقرأت مقال (البحر) و (الربيع الأزرق)، تأمل في قوله: (والقمر زاه رفاف من الحسن كأنه اغتسل وخرج من البحر)، وقوله: (نظرت إلى هذا البحر العظيم بعيني طفل يتخيل أن البحر قد مليء بالأمس وأن السماء كانت إناء له فانكفأ الإناء فاندفق البحر، وتسرحت مع(514/29)
هذا الخيال الطفلي الصغير فكأنما نالني رشاش من الإناء)
وقوله: لطف الجمال صورة أخرى من عظمة الجمال، عرفت ذلك حينما أبصرت قطرة من الماء تلمع في غصن فخيل إلى أن لها عظمة البحر لو صغر فعلق على ورقة)
وقوله: (الحياة في المدينة كشرب الماء في كوب من الخزف، والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البلور الساطع، ذاك يحتوي الماء، وهذا يحتويه ويبدي جماله للعين. . .
هذه صور من ذياك الخيال الفريد الفياض فيها ابتكار، وفيها جمال وفيها دقة وروعة؛ وأكتفي بعرضها فهي غنية عن التوضيح، ولعلها تنبه بعض أدبائنا إلى ما عليهم من التبعة إزاء هذا الأدب الرفيع.
عمر الدسوقي(514/30)
خواطر على شاطئ النيل
إذا أثقلتني هموم الحياة ... وناء بها كاهلي المرهف
وضقت وضاق بقلبي مداه ... على شاطئ النيل لي موقف
يفيض السكينة في خاطري
هنالك والماء ضاحي الجبين ... بوجه ضحوك المحيا طروب
تخالجني غبطة المستهين ... بدنيا شرور ودنيا لغوب
تغيب عن القلب والناظر
جرى الخصب حيث جرى والجمالِ ... فلا بِدْع أن تخصب الأنفس
إذا قهرتها صروف الليالي ... ففي شاطئيه لها مَنْفس
يفرج من همها القاهر
أبٌ أنت يا نيل منذ الأزل ... فلي في لقائك عطف الأبِ
إذا غاب عني حنان الأمل ... فحسبي حنانك من مأرب
تطيب به مهجة الشاعر
سعادة قلبي معي ههنا ... ترفرف فوق صفاء المياه
إذا رمتها لم يحل بيننا ... ظلام الجدود وعسف الطغاة
هي المِلْك في راحة الظافر
وإن أقبلت راقصات النسيم ... تصافح موجك في موكب
تنبه في النفس وجد مقيم ... يشاطرها نشوة المعجب
ويرقص في أفقها الساحر
تزاحم قوم لأجل المحال ... وكدوا ولكن بلا آخر
وفي وقفة تحت ظل الخيال ... جمعت السعادة في خاطري
على شاطئ بالمنى زاهر
محمد طاهر الجبلاوي(514/31)
من أزهار الشر
لشارل بودلير
إلى عذراء
(نذر بروح أسبانية)
إنني أود أن أشيِّد لك، أيتها العذراء عشيقتي، حرماً سارباً في قرارة بؤسي، وأن أحفر لك في سويداء قلبي، بعيداً عن الشهوة الدنيا والنظرة الساخرة، محراباً لونه من زرقة السماء، وزينته من الذهب لتنصبي نفسك فيه أيها التمثال الرائع
وسأضع لهامتك تاجاً فخماً من أشعاري المصقولة، مضفراً بأصفى المعادن ثم أُرصعه بقواف بلورية
وفي غيرتي سأحيك لك، أيتها العذراء الفاتنة، معطفاً متصلباً ثقيلاً، على الطراز الهمجي، ثم أبطنه بالشك ليكون كملاذ يحمي محاسنك الفاتنة
ولن أزيّن هذا المعطف باللآلئ بل بكل مدامعي!
وسيكون رداؤك شهوتي المرتعشة المتموجة، شهوتي التي تعلو وتُسف فتتأرجح على الذرى وتستقر في الوهاد، كما تغمر جسدك الناصع الوردي بقبلة واحدة
وسأضع لك من إجلالي واحترامي نعلين من الأطلس تطأهما قدماك المقدستان فتضمهما ضمة لينة كقالبين وفيين يحتفظان بآثار إذلالهما
وإذا عجزت، رغم مهارتي وفني، أن أصوغ لك قمراً فضياً كدرج تخطرين عليه. فسألقي تحت قدميك، أيتها الملكة الظافرة التي تُفدى بسخاء، الحية التي تنهش أحشائي لتسيري عليها عابثة بهذا الوحش الذي يطفح بالبغضاء واللعاب
وستلمحين خواطري مصطفات أمام مذبح ملكة العذارى الساطع المتألق، تعكس أشعتها على الغماء الأزرق فترصعه بالنجوم وهي ترنو إليك بلحاظ من اللهيب
ولما كانت كافة جوارحي تحبك وتعجب بك فإنها ستتحول إلى عود وبخور ولبان ومُر، وستستمر روحي العاصفة تصعد كالبخار إليك أيتها القمة الناصعة المكللة بالصقيع
ولكي تكوني في النهاية، عذراء كمريم، ولكي تمزجي، أيتها اللدة السوداء الهوى بالوحشية،(514/32)
سأصنع مثل جلاد يشعر بالندامة سبعة أسنة مشحوذة من الكبائر السبع، ثم أتخذ - كمشعوذ لا يُحس - أبعد أغوار حبك هدفاً، فأطعنها جميعاً في فؤادك الخافق، في فؤادك النائح، في فؤادك الذي يسيل منه الدم. . .!
ترجمة
عثمان علي عسل(514/33)
البريد الأدبي
حول معركة الآزور
عندما قرأت نقد الأستاذ محمد التونسي لما نشرته من ترجمة قصيدة معركة الآزور لآلفريد تنيسون، أحسست برغبة يسيرة في ولوج باب مثل هذا النقاش اللغوي الذي ما أراه ينتهي. . . والذي أخشى أن أقول إنه أقرب إلى اللجاج والمماحكة منه إلى البحث اللغوي الصحيح.
على أني أكتفي هنا بمناقشة الفقرة الأولى من كلامه فقط؛ ليصحَّ عنده أن هذا النقد الذي أورده أوهن من أن يثبت لدى النقاش عند التمحيص، فأقول: قلتُ في ترجمة المطلع: ;
كان السير رتشارد جرانفيل مرفئاً بسفينته إلى جدةٍ من جدد شاطئ الفلورز. . . وقال الأستاذ: بينما كان السير رتشارد جرانفيل عند فلورز.
فكأنه يستكثر عليَّ قولي: مرفئاً بسفينة إلى جدة. . . وأنا أسأله بدوري: أين ترجمة الفعل فيما كتب؟
إن الذي يستكثره عليَّ هو ترجمة هذا الذي نسيه، مع شيء من التوضيح لمعناه.
وقلتُ: عندما أقبل زورق ذو مجاديف يهوى من بعيد كأنه الطائر يزف بجناحيه. . . فقال الأستاذ: إذ أقبل من بعيد زورق حربي يخفق خفقان الطائر. والخلاف في صفة الزورق هل هو حربي أو ذو مجاديف؟ وإذا رجعنا إلى معنى كلمة في المعاجم الإنجليزية وجدناه هكذا، وبنفس الترتيب: مركب صغير له مجاديف وأشرعة - زورق ذو ثمانية مجاديف (غالباً) - زورق حربي.
لكن لا يظن الأستاذ أنه ساواني هنا في فهم المعنى؛ فإن في اختياري المعنى الذي فيه ذكر المجاديف دون غيره، التفات إلى قصد الشاعر من تشبيه الزورق بالطائر! إذ أي شبهٍ يرمي إليه إن لم يكن يقصد هذه الحركة التي تحدثها المجاديف، مما يشبه حركة أجنحة الطائر عند طيرانه؟
وقلت: وارتفع صوت من داخله يقول: السفن الحربية. . . الخ فحذف الأستاذ الجملة الفعلية برمتها (وارتفع صوت. . . الخ) وهي كلام ليس له ذكر في أصل القصيدة؛ ولكني(514/34)
أعجب للأستاذ كيف يشوه الأساليب العربية بمثل هذه السهولة. . .
إن مقول القول لا بد أن يُسبق في كل كلام منثور بالإشارة إلى القائل. ولكن قد يُتجاوز عن ذلك في الشعر فقط نظراً لضروراته المختلفة. ألا ترى إلى الأستاذ الفاضل علي محمود طه كيف يقول في قصيدته حانة الشعراء (عدد 512 من الرسالة):
زنجيةٌ في الفن تحتكم؟ ... قد ضاع فن الخالدين سُدى!
وهذا كلام يقوله على لسان روَّاد الحانه دون أن يرى ضرورة النص على ذلك. ولكن عندما يجد في الجواب أن الأسلوب يُسعده على ذكر اسم المتكلم، يذكره فيقول:
فأجابت الحسناء تبتسم: الفن روحاً كان؟ أم جسداً؟ الخ
فإذا كان تنيسون قد أعفى نفسه (في هذا الموضع فقط) من الإشارة إلى القائل نظراً للضرورة الشعرية، فليس ثمة ما يعفي المترجم الناثر من أن يوضح الكلام فيقول (وارتفع صوت من داخل الزورق يقول). وكان بودي أن أناقش سائر النقط التي أوردها الأستاذ؛ ولكن صفحات الرسالة لا تتسع لمثل هذه المناقشات اللفظية، فأرجو أن يعاود الأستاذ النظر فيما كتب على ضوء هذه القاعدة؛ وهي أن المترجم مقيد بالأفكار وبالمعاني، بل وأكثر من هذا بالروح الشائع في القطعة المترجمة؛ ولكنه مطلق الإرادة فيما سوى ذلك من الألفاظ والأساليب والتعبيرات، تلك التي لا تزيد على كونها أوعية خارجية للأفكار والمعاني.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
الكلمة الأخيرة في ضبط الخلاف بين العربية والعامية
قرأت في العدد (513) من الرسالة، رد الكاتب الفاضل (. . .) على ردي عليه بالعدد (512). وفيه يقول: إنني حكمت باستحالة الضبط المذكور، بينما أتيت بضابط لهذا الخلاف!. . .
وردي عليه الآن أن لفظ مستحيل في عنواني، ينصب على رأيه الجديد في ضبط الخلاف، لا على الضابط الذي نقلته عن العلماء، والذي عليه المعول في التمييز بين العربية والعامية، منذ 1342 عاماً هجرياً بوجه التقريب! وعلى ذلك فلا تناقض في كلامي كما(514/35)
ادعي
وقوله: إن ردي لا يمت بصلة إلى عنوانه، لا أجد أسطع برهان على دحضه غير إحالة القراء على الرد في العدد السالف الذكر. . .
أما قول الفاضل: إن ردي عليه ينقل الضابط المتواضع عليه بين العلماء، مصادرة لا تصلح في مقام الرد، فالجواب عليه أني اعتبرت هذا الضابط مجمعاً عليه عند العلماء الذين يؤخذ بآرائهم في مثل هذا الشأن. فإذا جاء أحد العلماء أخيراً برأي جديد متطرف - عد هذا الرأي خارجاً على الإجماع، فلا يعتد به. إذن فليس هناك مصادرة، وإنما ذلك نقض للاقتراح من أساسه
وقد تخلص الفاضل من إلزاماتي الموجهة إليه بما لا يجديه نفعاً، ولا يشفع له عند أهل النظر!
وبعد فقبل أن يقول المجمع كلمته في قيمة هذا الاقتراح أظن أن الجدل بيننا قد يطول، فأرى أن نتحاكم إلى القراء في آينا على صواب فيما يقول. وما أكثر قراء الرسالة من العلماء والأدباء، فإليهم نطلب الكلمة الأخيرة.
عبد الحميد عنتر
زهر وخمر
ذلك عنوان الديوان الجديد الذي أخرجه للعالم العربي شاعر اللذة والجمال، وعاشق التيه والضلال، ونحيُّ الأرواح والأشباح، الأستاذ الكبير على محمود طه؛ فكان ببديع خياله ورقيق نسجه وأنيق وشيه وبارع تصويره وجمال طبعه، طاقة عطرية من ألوان الربيع، ومجموعة عبقرية من ألحان الحب، ونشوة علوية من رحيق الشباب، لا يزال العقل والذوق والشعور منها على لذة لا تنقطع، ومتعة لا تنفد
وإن إخراج هذا العمل الفني البارع في وسط هذه الزعازع الحربية والاقتصادية والسياسية دليل على خلوص العقيدة الفنية في نفس الشاعر. وإن القيثار الذي لا تضطرب به اليد ولا يتهدّج عليه الصوت في هذا البحران العالمي، شاهد على صلابة العود وسلامة الطبع في الفنان(514/36)
يشتمل هذا الديوان الجميل على عشرين قصيدة من آيات الشعر ومبتكراته، تستطيع أن تتخيل طرافة موضوعها من وحي هذه العناوين: ليالي كليوبطرة، ميلاد زهرة، حانة الشعراء، سارية الفجر، أغنية الحب، حديث قبلة، خمرة الشاعر، المدينة الباسلة، حلم ليلة الهجرة، ليلة عيد الميلاد. الخ.
وقد عرضنا عليك نماذج من هذا الشعر الرائع في بعض أعداد الرسالة؛ وهي نماذج خليقة أن تغريك باقتنائه ومطالعته. والديوان يباع في جميع المكاتب المعروفة وثمنه عشرون قرشاً.
شعر منشور!
نشرت مجلة الثقافة في عددها الأخير قصيدة للأديب مصطفى محمد الشكعة بكلية الآداب هالني منها ألا ترتفع العين من خطأ في الوزن فيها إلا لتقع على خطأ. وإلى القارئ الفاضل ما علق بالفكر منها:
هاجني الشوق والولوع اشتياق ... (حائر ساهر في سماء القلوب)
وقال أيضاً منها:
إيه يا قلب كم قضيت الأماني ... (راقصاً صادحاً كالهزار الطروب)
والقصيدة من بحر الخفيف وهو (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) وإذن فالشطرتان اللتان بين القوسين خطأ يبده المتأمل لأول نظرة. وليس هذا فقط بل إن في البيت الآتي (واواً) زائدة وهو:
مجمع الصحب والأحبة والخلا ... ن (و) مأوى لكل فكر خصيب
والأعجب من كل ذلك هو هذا البيت الغريب التركيب والوزن:
(عصف الدهر بالكؤوس وبالمحراب والح ... سان والرجاء الرطيب)
وبعد فجدير بالمبتدئ أن يتمهل ولا يتعجل النشر؛ وحقيق بالناشر أن يتأمل فيتجنب الزلل.
حسين محمود البشبيشي
رواية (زينات) تأليف الأستاذ حسين عفيف
هي قصة حب عذري حوت من الغزل أرقه ومن الخلق أقومه ومن المواقف أعنفها، كل(514/37)
ذلك في أسلوب هو إلى الغناء أقرب، وجمل حاسمة تهز النفس هزَّا.
مغزاها أن الإنسان في هذه الحياة إنما يكفِّر عن ذنوب لم يجنها. ويحاول المؤلف تعليل ذلك فيقول: (فهل تُرى نكفر عن ذنوب نجهلها، اقترفناها في عوالم سابقة، وعاشت فينا خلال حيوات وموتات عدة، حتى إذا ما آن ان نتطهر منها، انتهى بنا المطاف إلى هذا المبكى لنغتسل عليه؟)
وفي سياق الوصول إلى هذا المغزى الرهيب، تعرض الرواية لمشكلات اجتماعية خطيرة كمشكلتي الفقر والزواج، ومشاعر إنسانية دقيقة كالتضحية والصراع بين الروح والجسد.
ومن جميل ما جاء في هذه الرواية قول زينات لمختار قبيل يفرها: (أذاكري أنت يا مختار؟)
فيجيبها: (وما شغلي غيرك؟ نعم سأذكرك يا زينة. سأذكرك كلما غرد طائر، فأبلغني منك رسالة، أو نشرت زهرة عطرها، فنشقت فيه أنفاسك. سأذكرك كلما سمعت حديثك في خرير الجدول، أو أنصت لهفهفة شعرك في حفيف الغصون. سأذكرك في كل وقت، وأراك في ركاب كل شيء جميل: في مواكب الضياء التي يجرجرها الصبح، وفي القمر المطل على المروج مساء، سأراك، نعم سأراك يا زينات.)
فتجيبه: (وأنا أيضاً سأذكرك. وسأبعث إليك بشوقي الجريح في مغرب كل شمس. وبالتحايا مع الطيور العائدة إلى أوكارها. فإذا ما رأيت الدماء في الشفق تسيل، فاعلم أنها أشواقي. أو طرق سمعك نوح حمامة، فاعلم أنه بثي ترجّعه. وسأقطف الأزهار في الصباح، وأضعها في الجدول ليحملها إليك. وأضمخ بالعطر النسيم الساري ليملأ به جوَّك. ارقبني يا مختار في كل شيء. وانظرني في كل شيء. وإذا ما رأيت كوكباً يتهاوى، فاعلم أنني خررت صريعة حبك، ولا تترقبني بعد ذلك.)
والرواية كلها تكاد تكون على هذا النسق. وهي وإن أغرقت أحياناً في الخيال، إلا أن جوّها الساحر الذي يوقعك تحت سلطانه، ينسيك ذلك. كما أن أصحاب المزاج الشعري يجدون فيها بغيتهم. ولقد فازت في مسابقة القصة التي أجرتها وزارة المعارف، كما عنيت بنشرها مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة.
(م. ع)(514/38)
العدد 515 - بتاريخ: 17 - 05 - 1943(/)
السعادة بعد الحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
طريقة الاستجواب في القضاء الإنجليزي معروفة يذكرها الذين حضروا المحاكم العسكرية بمصر أو قرءوا محاضرها، وهي طريقة يذهب فيها القضاة والمستجوبون مذاهب مختلفة، فيبيح بعضهم الإطالة في الجواب، ويشترط بعضهم أن يقتصر الجواب على كلمة واحدة بالإثبات أو النفي أو الامتناع: نعم أو، لا، أو، ممتنع، ولا زيادة
ويتفق كثيراً أن يتعذر الجواب بكلمة واحدة، ويشعر المحامون بذلك فيطلبون إلى المحكمة أن تأذن لموكلهم ببعض التفصيل. وأذكر من مراجعة إحدى القضايا الهامة في إنجلترا أن المحامي اعترض على توجيه سؤال إلى موكله يتعذر الجواب عليه بكلمة النفي وحدها أو بكلمة الإثبات وحدها، وذكر للقاضي أن بعض الأسئلة لا يجاب عليه بنعم ولا بلا دون تعقيب. فسأله القاضي مثلاً فأجابه المحامي: هبني سألت حضرة القاضي المحترم: ألا تزال تضرب امرأتك؟ فبماذا يجيب؟ إن كان لم يضربها قط ثم قال: (لا) ففي هذا النفي معنى الاعتراف بالضرب فيما مضى وإنكاره الآن. وإن قال: نعم فقد خالف الحقيقة. فكيف يكون الجواب بغير بيان الحقيقة بشيء من التفصيل؟
وعندي أن هذا الجواب القاطع إذا تعذر في الوقائع مرة فهو متعذر في الآراء والمعاني مرات. إذ يندر في الآراء والمعاني ذلك الفصل الجازم بين النفي والإثبات. وتكثر فيها المواضع التي تحتمل الجواب بنعم في بعض الأحيان وبلا في أحيان أخرى
ولكني سئلت منذ أيام جملة أسئلة يتقيد فيها الجواب بكلمة واحدة، ومنها: هل يصبح العالم بعد الحرب أسعد مما كان قبلها؟
فقلت: نعم. لأنه أصدق جواب في كلمة واحدة، لا لأنه أصدق جواب على الإطلاق
أما الجواب الأصدق الأوفى فهو مزيج من القولين يتراوح فيه الإثبات والنفي تارة إلى الزيادة وتارة إلى النقصان في أكثر من مكان
فالذي أعتقده أن العالم سيتقدم بعد الحرب في سبيل الحرية، وأن الحرية نعمة وتبعة في وقت واحد. فمن حيث هي نعمة فهي ولا ريب سعادة ينعم بها الإنسان؛ ومن حيث هي تبعة فهي ولا ريب باب للهموم والشواغل وقرينة للعناء الذي يغض من سعادة السعداء(515/1)
كل تقدم في الحياة فقياسه الأصدق الأوفى عندي زيادة التبعة لا زيادة السعادة
الرجل أقدر على التبعة من الطفل، والعالم أقدر على التبعة من الجاهل، والقوي أقدر على التبعة من الضعيف، والعظيم أقدر على التبعة من الصغير، وهكذا في كل باب من أبواب التقدم بغير اختلاف وبغير استثناء
أما مقياس السعادة فقد يختلف فيه هذا القياس أبعد اختلاف: قد يكون الطفل أسعد من الرجل، وقد يكون الجاهل أسعد من العالم، وقد يكون الضعيف أسعد من القوي، وقد يكون الصغير أسعد من العظيم؛ بل هذا على الجملة هو الأقرب إلى الواقع والمعهود
فالمرجو من عواقب الحرب أن يزداد نصيب الناس من الحرية، وأن يزداد نصيبهم إذن من التبعة، وهنا موضع المزج بين النعمة والعناء، وبين زيادة الرجاء وزيادة المخاوف والمقلقات
لكننا نحصر المسائل الكبرى التي يرجى أن يتناولها التغيير النافع بعد الحرب الحاضرة لنحصر موارد الخير والشر في المستقبل القريب جهد المستطاع
فلا نخالنا ننسى شيئاً كثيراً إذا حصرناها في ثلاث مسائل كبريات تشتمل على شتى الصغائر والفروع، وهي مسألة التجارة العالمية، ومسألة البطالة، والمسألة النفسية الأخلاقية التي يتفق كثيراً أن تجلب الشقاء لصاحبها وهو في غمرة الثروة والعمل المجيد
فمسألة التجارة العالمية كانت مورد الشر العميم من ناحية التنافس بين الدول على الأسواق وعلى الخامات
وقد نظر الأمريكيون والإنجليز في علاج هذه المشكلة فخرجوا منها بطريقتين لا يصعب التوفيق بينهما على ما بينهما من خلاف:
طريقة الأمريكيين، وهي تقوم على فتح الأسواق بغير تمييز بين الأمم، وعلى تثبيت العملة العالمية بضمان من الذهب والمعادن النفيسة تشترك فيه كل أمة بالمقدار الذي يناسب طاقتها التجارية
وطريقة الإنجليز، وهي تقوم على تعاون الأمم المشتركة في المصالح، وعلى تثبيت العملة العالمية بإنشاء مكتب دولي يتولى الموازنة بين الصادرات والواردات، أو بين المبيعات والمشتريات، على حسب الطاقة الاقتصادية التي تحتمل المراجعة والتعديل من حين إلى(515/2)
حين
وبين هاتين الطريقتين فرق في التنفيذ وإن كانتا في الجوهر أدنى إلى الاتفاق. ولكن المعول هنا على الضرورات العالمية التي لن تحكمها إرادة الأمم والحكومات. فإذا جاء دور التنفيذ فالمصلحة العالمية لها من القوة والرجحان ما يكفل لها الظهور والغلبة على كل إرادة، وهي خليقة أن تزيل الفروق وتقارب بين المسافات
أما مسألة البطالة فالتأمين الاجتماعي الذي تتسابق الحكومات المتحالفة في استنباط مشروعاته كفيل بتخفيف أعبائها عن كواهل الصناع والفقراء على الإجمال. وعلاج هذه المسألة ضرورة قومية في كل أمة لا محيص عن الاهتمام العاجل بها بعد تسريح الجنود واستئناف الصناعة الإنشائية للتعمير والترميم. وهذه الضرورة القومية وحدها هي التي تلجئ الدولة قسراً إلى علاج مشكلة التجارة العالمية؛ لأن المصانع لن تدار بغير تنظيم الخامات والأسواق، ومسألة البطالة والتأمين الاجتماعي لن تحل بغير إدارة المصانع وإعادتها إلى الإنشاء والتعمير، وهذه الضرورة العاجلة هي إحدى الضرورات التي قلنا إنها كفيلة بتنظيم التجارة بين الأسواق العالمية، وإنها أقوى وأقدر على الغلبة والظهور من إرادة الساسة والحكومات
أما المسألة النفسية أو المسألة الأخلاقية فهي في اعتقادنا أعضل هذه المسائل وادعاها إلى التفكير والتدبير
ومن بواعثها الكثيرة اختلال الأعصاب الذي ابتلى به ألوف الألوف من الجنود المشتركين في القتال، وابتلى به ألوف الألوف من السكان المروعين بالغارات وفقد الأعزاء
ومن بواعثها الكثيرة اختلال التوازن بين عدد الفتيان والرجال، وعدد الفتيات والنساء، واضطرار الملايين من النساء العاطلات إلى المغامرة في سوق العمل أو المغامرة في سوق الشهوات
ومن بواعثها الكثيرة فقد البيوت آباءها وعائليها وأركان التربية والخياطة فيها
ومن بواعثها الكثيرة ضغائن المغلوبين وآلام المستضعفين الذين داستهم القوة وفرّج عنهم النصر وهم لا يملكون منه إلا التشيع والاغتباط
ومن بواعثها الكثيرة خلو النفوس من المذاهب والعقائد التي تبددت في الحرب الحاضرة(515/3)
وعجزت عن إمداد النفوس بالثقة والعزاء
وأصعب ما في علاج هذه البواعث أنها لا تعالج بالقمع لأن كبت الأهواء هو الدال العضال لمن يصابون بمثل هذا المصاب؛ ولا تعالج بالإباحة لأن (المعاصي) كما قال الأباصيري تقوي شهوة النهم ولا تشبع الشهوات
إنما تعالج هذه الآفة بالإيمان و (إحياء الروح) التي تعصم نوازع الفساد في الأجساد
وإنما يتوطد هذا الإيمان بالإقبال على العمل المفيد، وإقناع كل من خامره الشك في مصير العالم بأن العالم يسعى إلى غاية مقصودة وغاية مستطاعة ولو في مرحلة منها بعد مرحلة، وأن الحرب لم تذهب عبثاً ولم يرجع الناس بعدها إلى مثل ما كانوا عليه قبل فناء ما فني وخراب ما خرّب وضياع ما ضاع وهو كثير لحد كثير. فإذا وجد الناس أنفسهم بعد الحرب عاملين مجتهدين، ووجدوا أن عملهم واجتهادهم عوض صالح لما فقدوه وأصيبوا به من الخسائر والقلق والعذاب، وأيقنوا أن الطامة الكبرى لم تذهب عبثاً في غير مغنم وفي غير صلاح وإصلاح، وأن داء الإنسانية ليس بالداء العضال الميئوس منه أبد الزمان، ففي هذا وأشباهه من دواعي الإيمان والعقيدة ما يبعث العزاء ويشحذ الهمم ويعصم الأرواح من مزالق الشهوات
وهنا تدور الحلقة المفرغة التي لا يُدرى أين طرفاها. فإذا عولجت مسألة التجارة العالمية عولجت مسألة البطالة والتأمين الاجتماعي. وإذا عولجت هاتان المسألتان ثابت النفوس إلى التفاؤل بمصير العالم وتهيأت القلوب للتصديق بغاية شريفة في الحياة، وظفر المصلحون النفسانيون ببلسم الجراح وأكسير الأمل وعنصر العقيدة التي تؤيدها المشاهدات العيانية ومطامح الآمال
ولك أن تقول إن النفوس إذا صدقت عملت وانشرحت لعملها، وإذا عملت وانشرحت لعملها لم تتعاظمها المصاعب ولم يعسر عليها تفريج الأزمات وفض المشكلات
فهما قولان متقاربان
وليس من الضروري أن نعرف أين الابتداء وأين الانتهاء في هذه الحلقة المفرغة. فإن النفس الإنسانية لن تعيش أبداً في طور من الأطوار خلواً من المزيج الذي تتلاقى فيه دواعي العمل ودواعي العقيدة، وبأيها ابتدأت فأنت واصل إلى نهاية تستحق عناء الوصول(515/4)
إليها
سيصبح العالم بعد الحرب أسعد مما كان قبلها، فإن شككت في ذلك فالذي لا أشك فيه أنه سيتقدم في سبيل الحرية والتبعة وهو غنم جليل يساوي خسارته في الحروب. ورجائي الذي يرجوه معي من يحبون الحياة ألا تقضي سعادة العالم بعد الحرب على أسباب شكواه، لأن القضاء على أسباب الشكوى قضاء على أسباب الحركة وأسباب التجديد وأسباب الطموح إلى المثل الأعلى.
عباس محمود العقاد(515/5)
السياسة التوجيهية العلمية
في الأزهر
للأستاذ محمد محمد المدني
ذلكم أيها القراء هو عنوان المحاضرة التي حدثتكم عنها من قبل، وقد كان لهذه المحاضرة شأن لا أجد بأساً في أن أقص عليكم منه طرفا:
عجب الأزهريون أول الأمر حين سمعوا أن محاضرة بهذا العنوان سيلقيها أزهري في دار أزهرية، ثم عجبوا وازداد عجبهم حين علموا أن صاحب هذه المحاضرة هو فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت:
قالوا: هذا موضوع شائك دقيق ينبئ عنوانه عما سيقال فيه مما نعرفه ونشهد آثاره، ولا بد أن يمس الكلام فيه بعض أصحاب السلطان من قريب أو من بعيد، وأصحاب السلطان في كل زمان ومكان يرون أنفسهم في منزلة من السمو ليست لغيرهم: فهم لا يحتملون في أنفسهم ما يحتمله سائر الناس، ولا يصبرون على ما يصبر عليه سائر الناس؛ وهم يغالون فيما لهم من حقوق يجب أن تُرعى، ويغمضون عما للناس من آمال (ينبغي) أن تحقق؛ وهم يرون من حقهم أن يشكّوا في الناس إذا خالفوهم في سبيل الحق والواجب، ويرون من حسن السياسة أن يرفضوا النقد إذا كان صريحاً مسفراً، وأن يعرضوا عن النصح إذا لم يُلف لهم في أوراق من الورد والريحان! فأيّ أزهري يعلم ذلك ثم يعرّض نفسه لما يستلزمه الخوض في مثل هذا الحديث؟
فلما سمعوا اسم (شلتوت) قالوا: هذا أعجب وأغرب! ولم يكن عجبهم إلا لأن صاحب هذا الاسم صديق حميم لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، ونصير قوى لإصلاحه طالما دافع عنه، وأشاد به وأيده بقلمه ولسانه وبحوثه العلمية؛ وهو مع هذا وذاك وكيل كلية الشريعة، وعضو في مجلس إدارتها، بل هو عضو في جماعة كبار العلماء، فكيف يتكلم إذن في هذا الموضوع، وكيف يذكر حقائقه، ويعرض للناس وقائعه؟
عجبوا لذلك كله أول الأمر، وتساءلوا عنه في مجالسهم؛ ولكن هذا العجب لم يطل بهم كثيراً، فقد تأملوا الأمر من جميع جهاته وروّوا فيه فتبين لهم أن الذي أنكروا منه غير منكر، وحينئذ جرت الأحاديث بينهم على نحو آخر:(515/6)
قالوا: أن الكلام في هذا الموضوع، ولو كرهه بعض الناس، لا بد منه لمصلحة الأزهر ولمصلحة الثقافة الإسلامية العربية. فلو كان الأزهر معهداً من هذه المعاهد المتشابهة المتكررة لهان الأمر، ولجاز لأبنائه أن يجاملوا فيه أو يصانعوا، ولقال الناس: معهد من المعاهد إن ضاع ففي غيره عوض منه، ولكن الأزهر ليس كذلك، وإنما هو الجامعة الكبرى التي تعتز بها الأمة الإسلامية في مصر والشرق، بل يعتز بها العالم كله شرقيّه وغربيّه. هو الجامعة الفريدة في نوعها، القوية بتاريخها التي انحاز إليها تراث الفكر الإسلامي في أجيال بعد أجيال!
وقالوا: إذا كان (شلتوت) صديقاً (للمراغي) فذلك أقرب إلى نجاح دعوته، فإن كلام الصديق أيسر على السمع، وأدخل إلى القلب. وإذا كان (شلتوت) نصيراً للاصلاح، حريصاً على النظام القائم إلى درجة الدفاع عنه فذلك أنفى للتهمة، وأبعد من الشبهة. وإذا كان (شلتوت) متصلاً بالعمل، مكابداً لشئونه فذلك أدنى إلى القسط، وأهدى إلى الرشاد
فلتُقل إذن كلمة الحق، وليقلها (شلتوت) في صديقه ولصديقه، وليصدع بها عالية بريئة يبتغي بها وجه الله، وليؤثر الأزهر على صاحبه وعلى عاطفته في صاحبه، فإن الحق أحق أن يتبع، وإن الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المؤمنين! ولقد كان ذلك فكانت هذه المحاضرة
ولست أريد في هذا المقال أن أثبت شيئاً من نصوصها، فقد سمعها الناس حين ألقيت، وقرأها الناس حين طبعت ونشرت، وإنما أريد أن أذكر أهم المبادئ التي اشتملت عليها:
لقد مهد فضيلة الأستاذ الكبير لموضوعه بمقدمة بين فيها الغرض من الأزهر وعرض لتاريخه العلمي من يوم أن انسلخت عنه الصبغة الشيعية التي أنشئ لتركيزها وتنميتها والقضاء بها على المذاهب الأخرى، ووصف العلل التي ورثتها عن ماضيه الطويل فصرفته عن التفكير والإنتاج وقصرته على غير النافع وغير المستقيم من عناية بالمناقشات اللفظية، وتقديس للآراء والإفهام التي دونها السابقون، واشتغال بالفروض العقلية والاحتمالات التي لا تقع، وباختراع الحيل التي يتخلص بها من الحكم الشرعي، ومن تغليب لروح التعصب المذهبي، وتحريم لتقليد غير المذاهب الأربعة. . . الخ. وبعد أن فرغ من هذا التمهيد وأيد ما ذكره بالأمثلة العلمية أخذ يفيض في موضوعه بما يرجع(515/7)
إلى المبادئ الآتية:
(1) كانت أول صيحة أيقظت الأزهر من نومه، ونبهته إلى واجبه، هي صيحة الأستاذ الإمام المغفور له الشيخ محمد عبده. (فكانت مبادئه وأفكاره بمثابة شعاع انبثق في أفق الأزهر. انتفع به من انتفع، وازورّ عنه من ازورّ، ولكنه مع ما قوبل به من محاولات متعددة لإطفائه ظل قويا وهاجا يجذب إليه أنظار المؤمنين، وينفذ إلى بصائر المخلصين. . . وإن الأزهر لينتفع الآن في كلياته ومعاهده، وفي القضاء الشرعي والإفتاء، والوعظ والإرشاد بطائفة كبيرة من العلماء الذين تخرجوا في ظلال هذه النظم التي تستمد من إصلاح الشيخ عبده، لهم أثر واضح في حياة الأمة من جميع نواحيها)
وفضيلة الأستاذ المحاضر ينفي بهذا فكرة ربما فهمت من عبارة ذكرها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي في مذكرته الإصلاحية التي وضعها في سنة 1928 إذ يقول في شأن النظم التي تقدمت إصلاحه: (وإني أقرر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم، وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه!)
(2) إن فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي قد وضع في عهده الأول مذكرته الكبرى في إصلاح الأزهر (تلك المذكرة التي لا نعلم مثلها في تاريخ الأزهر - حديثه وقديمه - قوة وفهماً وإدراكا للعوامل المختلفة المحيطة بالأزهر، والتي جعلها برنامجه في الإصلاح المنشود، ودستوره الذي عاهد الناس على أن يسير على مبادئه في النهوض بالأزهر وإعلاء شأنه، وتحقيق آمال الأمة الإسلامية فيه) (تلك المذكرة التي علقت عليه الأمة من أجلها آمالها الكبرى في إعلاء شأن الدين وإنهاض أهله)
وهو يرى في هذه المذكرة رأياً معيناً في الكتب المعقدة (التي لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية)
ويرى فيما يختص بدراسة الفقه أنه (يجب أن يدرس دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة. . . الخ)
ويرى في دراسة التفسير كذا، وفي دراسة الحديث كذا، وفي دراسة اللغة العربية كذا. . . إلى غير ذلك مما سجله في مذكرته(515/8)
ولقد مضى على هذا الإصلاح أمد هو فيما يرى المصلحون غير قصير، ونحن مع ذلك لم نزل حيث كنا، وإن حدث اختلاف في بعض الصور والمظاهر:
(لم تزل كتبنا هي الكتب المعقدة التي لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية)
(لم نحاول أن نقرب للناس ولا لأنفسنا هذه الكتب، ولم نحاول أن نأخذ النافع منها لنعرضه عرضاً يروج عند أهل العصر)
(ولم نزل ننفق أوقاتنا الثمينة في المناقشات اللفظية، وفي خدمة نصوص المتون وعبارات المؤلفين)
(ولم نزل نشغل أنفسنا بالفروض الفقهية كما اشتغل بها السابقون. ولم نزل نحس ثقل العلم ولا نجد في أنفسنا اندفاعاً إلى تحصيله، ولا رغبة في المثابرة على طلبه. ولم نزل نحضر العلم حضوراً زمنياً لنقطع به أعوامنا الدراسية عاماً في إثر عام)
(ونحن لا نقرأ من المقررات إلا نسباً ضئيلة تافهة لا تكوّن ملكة ولا تعد تحصيلاً)
3 - يقرر المحاضر أن هذه الحالة المؤسفة هي حالة الأزهر الواقعية، وأن فضيلة الأستاذ الأكبر وجميع معاونيه يعلمونها فيقول (هذه حالتنا التوجيهية الواقعية، وهي حالة عامة تشترك فيها الكليات جميعها على اختلاف بينها في النسب، وهي مسجلة في التقارير التي تقدمها لجان الامتحان إلى الرياسة العامة إثر كل امتحان، وفيها يقول حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الأكبر: (وهناك أمثلة ظاهرة العوار في قراءة المقررات تعلمونها كما أعلم، وتشعرون بأنها أمثلة سيئة لا يجوز أن تبقى ماثلة) ولكنها مع ذلك بقيت ماثلة، وازدادت سوءاً
4 - يقرر فضيلة المحاضر (أن من المؤلم له أن يصرح في موقفه هذا بأن جهوداً كثيرة بذلت في سبيل إصلاح هذه الحالة، ولكنها لم تقابل بإخلاص ولا تضافر على تنفيذها، فماتت تلك الجهود، واستمرت هذه الحالة)
وهذا تصريح خطير من رجل مسئول. ولعل فضيلته يفصل للناس ما أجمله فيه حتى يعلموا: من هم المسئولون عن موت تلك الجهود!
5 - يقرر فضيلة المحاضر (أن العامل الذي وقف بالأزهر هذا الموقف لا يرجع إلى(515/9)
الطلاب ولا إلى الأساتذة، فإن هؤلاء جميعاً خاضعون لنظام يظلهم وتوجيه يوجههم. ولا يمكن أن يرجع إلى المناهج، لأن المناهج في جملتها قوية صالحة لتخريج نوابغ من العلماء في الفقه والتشريع وفي غير الفقه والتشريع) وإنما يرجع إلى أن الإصلاح لم ينفذ بالروح التي وضع بها، ولم يتعهد حتى يؤتي ثماره، ولم يتهيأ له ما ذكره فضيلة الأستاذ الأكبر في مذكرته الإصلاحية حيث يقول:
(يجب أن تكون الخطوة إلى ذلك الإصلاح خطوة جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ، وقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة)
ويقول فضيلة الأستاذ المحاضر: (وإلى أن تحدث هذه الخطوة الجريئة التي يقصد بها وجه الله، ولا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ سيبقى الأزهر في عزلته عن الأمة، لا يسعفها بحاجتها، ولا تقدره في وجوده ولو سُنّ له ألف قانون!)
أما بعد:
فهذه هي المحاضرة التي وعدتكم بها - أيها القراء - كمثال من أمثلة الظاهرة الجديدة التي ظهرت في الأزهر هذا العام، وقد تبينتم منها حالة الأزهر الواقعية، وسياسته التوجيهية، ولو كان فضيلة الأستاذ الأكبر لا يعلم، أو كان مع علمه لا يرى أن يعمل، أو كان مع عزمه لا يقدر، لكان الأمر مفهوماً؛ ولكن فضيلته يعلم هذه الحالة حق العلم، ويعترف بها في أحاديثه وكتبه الرسمية، ويعد من يكلمه فيها بأنه سيتداركها ويسرع إلى إنقاذ الأزهر من سوء مغبتها، وهو مع ذلك كله مالك لأمره غير مغلوب عليه، تحترمه الأمة والحكومة ويعطف عليه المليك حفظه الله. أليس هذا موقفاً تحار فيه العقول؟ وهل يطلب منا أن نقول فيه كما يقول الراسخون في العلم عن المتشابه:
(آمنا به كل من عند ربنا)
لا. لا، ولكنا نقتبس ما اقتبسه الأستاذ الزيات حين نشر مذكرة فضيلته في إصلاح الأزهر فنقول:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
محمد محمد المدني(515/10)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
تجميل القاهرة - قطار بور سعيد - قطار الديزل - القيظ في أسيوط - المدينة المهجورة - كلمة صريحة إلى أهل أسيوط
تجميل القاهرة
المعروف أن رجال الهندسة لا يرون من حق رجال الأدب أن يتحدثوا في شؤون هي في الأصل من أعمال المهندسين، ولكني مع ذلك سأسوق ملاحظة تبين أن تخطيط المدن يقوم على قواعد ذوقية قبل أن يقوم على قواعد هندسية، إن جاز الفصل بين الهندسة والذوق!
هل سمعتم حديث (نفق شبرا) وقد انتظرناه عدداً من السنين؟
لا أدري كيف سمحنا بأن ننفق في إنشائه ألوفاً مؤلفة من الدنانير، ثم تكون النتيجة أن يبقى جسر شبرا في حالة لا تريح من يسيرون على الأقدام، لأنهم مضطرون إلى استعمال تلك السلالم المتعبة في الذهاب والإياب، بغض النظر عن المتاعب التي يتعرض لها من يريد ركوب ترام شبرا وهو في ميدان باب الحديد
منشأ هذه المضجرات أننا أردنا أن تكون محطة القاهرة محطة واحدة، وكان يجب أن تكون فيها محطة لقطارات الشمال ومحطة لقطارات الجنوب، ولو فعلنا ذلك لظفرت القاهرة بميدان جديد، ولكان من السهل أن تُرفع متاعب من يتجهون إلى شبرا، وهي اليوم منطقة تموج موجاً بالسكان، وستكون مصدر نشاط صناعي واقتصادي في المستقبل القريب
يجب أن نبادر إلى رفع جسر شبرا، وأن نفصل محطة الشمال عن محطة الجنوب، وهذا لا يمنع من بقاء الطريق الذي تمر به قطارات البضائع، وهي قليلة العدد، وأغلبها يمر بالليل، فلا يعرقل حركة المرور إلا في لحظات لا يُحسب لها حساب.
لقاء القاهرة
خطر في البال هذا الخاطر وأنا أمتطي قطار الديزل إلى الصعيد في عصرية الخميس الماضي، ثم خطر في البال أيضاً ما تعاني المنطقة التي يمر فيها قطار الصعيد بين باب الحديد وجسر امبابة، وهي منطقة لا تقع فيها العين على منظر جميل، لأنها من ذيول(515/12)
بولاق، وكان الظن أن نفهم أنها أول ما يرى القادم على القاهرة من ناحية الصعيد
منذ ثلاث سنين كتبت كلمة في مجلة الرسالة أدعو فيها إلى تجميل مدخل القاهرة في نظر القادم من الإسكندرية أو بور سعيد فما استمع مستمع ولا استجاب مستجيب، وأنا اليوم أعجب من أن تبقى منطقة بولاق على ما كانت عليه قبل التمدن الحديث، مع أن لبولاق تاريخاً من أعظم التواريخ، فهي التي أنشأت المدافع لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وفيها أقيمت أول مطبعة لإحياء المؤلفات العربية والإسلامية. وهل في العرب من لا يدين لمطبعة بولاق، ولو كان في أقاصي الصين؟
قطار بور سعيد
الواقع أننا لا نفكر في خلق الجاذبية في صدور من يفد على الديار المصرية. . . هل تعرفون شيئاً عن قطار بور سعيد؟
وهل تصدقون أن أجرة الباخرة من مارسيليا إلى الإسكندرية أرخص من أجرة المثل في السفر من مارسيليا إلى بور سعيد؟
لذلك أسباب، ولكني أحب أن أجعل قطار بور سعيد من أهم الأسباب
هو قطار سخيف، وهو لسخفه يجهل أنه يقاسي زوابع الصحراء نحو ساعتين، فليس بالدرجة الثانية ستائر تمنع هجوم الرمل والتراب. أما الدرجة الثانية فطعام ركابها عجاج في عجاج. . ويا ويل من يركب قطار بور سعيد وهو خفيف الجيب!
وبهذه المناسبة أذكر أن الدرجة الثانية بقطار الصعيد ليس فيها مراوح، فماذا يصنع الركاب في وهج الصيف، إذا كتب عليهم أن يصطلوا القيظ بين الأقصر وأسوان؟
شيئاً من الرحمة، يا مدير سكك الحديد، فقد سمعت أنك من الرحماء؟
وما حال المقصف الذي يوجد في بعض القطارات لا كل القطارات؟
هو محرم على ركاب الدرجة الثالثة تحريماً قاطعاً، وقد يكون فيهم من يحتاج إلى تناول الطعام في مكان مريح ليدفع مشقة السفر وهو قطعة من العذاب
يا ناس، يا ناس، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء!
قطار الديزل(515/13)
سمي باسم المخترع وهو ألماني الأصل، وليس بقطار الديزل مقصف، مع أنه خاص بركاب الدرجة الأولى والثانية، ومع أنه لا يقف إلا في محطات قليلة، وهو حين يقف لا يتمكث غير دقيقة أو دقيقتين
بهذا القطار حنفية تجود بالماء لمن يقبل الجود من الأشحاء، وما قيمة الجود بماء لم يسمع بأخبار الثلج، ولا يعرف الطريق إلى تنسم الهواء؟
جرّبوا السفر بهذا القطار بعد الظهر في مثل هذه الأيام وفي طريق الصعيد، لتعرفوا كيف يبخل القطار على ضيوفه الأعزاء بكمية من الماء المثلوج لا تتكلف خمسة قروش
وقف الديزل في محطة بني سويف، فتصايح الركاب يطلبون من الباعة إمدادهم بأكواب الليمون، ليبتلعوها في مثل ومضة البرق، ويقوم القطار قبل أن يتناول المسافرون ما يخفف وقدة الظمأ، وبعد لحظات يقف القطار، وننظر فنعرف أنه وقف إكراماً لصاحب (بوفيه المحطة) وكان بقي في القطار إلى أن يتسلم ما له عند المسافرين من نقود!
فما الذي يمنع من أن يقف القطار بالمحطة نحو ثلاث أو خمس دقائق، ليستغني عن هذا التلطف في معاملة صاحب البوفيه، وليضمن راحة المسافرين من بعض هذا العناء؟
أيكون من الصعب إمداد ثلاجة القطار بزادها من الثلج، ولو بإضافة زيادة على أثمان التذاكر؟
أما بعد فهذه شؤون تبدو من التوافه في نظر بعض الناس، ولكنها شؤون على جانب من الأهمية، والاهتمام بها قد يغيّر ما درجنا عليه من الغفلة عن تذوق الحياة
وهل كان البدوي الذي يعاني متاعب السفر في البيداء أشقى من الحضري الذي يمتطي قطار الديزل، وهو على ما وصفت؟
لقد ظمئت بهذا القطار ظمأ لم أشعر بمثله وأنا أخترق البادية من دمشق إلى بغداد، لأن مطية نيرن تفكر فيما لا تفكر فيه مطية ديزل، ولأن الشركات تصنع في ملاطفة الزبائن ما لا تصنع الحكومات. . . وما أحب أن أزيد!
القيظ في أسيوط
دخلت أسيوط وقد انتصف الليل أو كاد، فرأيتها في حال من القيظ لا تطاق، فماذا صنعت(515/14)
الأيام بجو هذه المدينة الفيحاء؟
إنها بعيدة من النيل بعض البعد، فكيف أنشئت على هذا الوضع، وما كان لمدينة مصرية أن تُنشأ إلا على ضفاف النيل؟
كانت أسيوط في الأصل على شاطئ نهر يجاورها من الغرب، نهر يساير الجبل من الجنوب إلى الشمال، وقد انطمر هذا النهر، ولم يبق ما يدل عليه غير بقايا من قناطر محطمة كان لها شأن فيما سلف من الزمان
وكان بأسيوط برك واسعة، كالبرك التي كانت بالقاهرة، من أمثال بركة الأزبكية وبركة الرطلي وبركة الفيل
والبركة كانت كلمة مقبولة في الأيام الخوالي، ولها في أشعار البحتري مكان، وقد أخذتها اللغة الأسبانية عن اللغة العربية، وابتذال هذه الكلمة جديد في حياتها اللغوية، فهي اليوم ترادف كلمة المستنقع، ومن هنا قيل (بطينة ولا غسيل البرك)
البركة قديماً هي البحيرة، والبحيرة تصغير بحرة مؤنث بحر، والبحر في أصل اللغة هو مجتمع الماء الغزير، بغض النظر عن العذوبة والملوحة، فما يخطئ المصريون في تسمية النيل بحراً، مع أنه عذب لا أجاج
وأقول إن البرك التي كانت بالقاهرة وأسيوط هي بحيرات، فقد كانت تأخذ مددها من النيل في أيام الفيضان، ثم يبرك فيها الماء بعد انحسار الفيضان، فهي بركة من أجل هذا، إن صح هذا التخريج، وهو صحيح
كانت برك القاهرة كثيرة المنافع، فقد كانت مجالاً لنزهات الأصيل والعشيات في السفائن اللطيفة، وكانت منادح لتوالد الأسماك. وكتلك كانت برك أسيوط، وإن لم يسجل الأسيوطيون بركهم في الأشعار كما صنع القاهريون
والذي يهمني في هذا المقام هو النص على أن برك أسيوط طُمرت كما طُمر النهر الذي كان يساير الجبل، وهذا من أسباب عنف القيظ في أسيوط
لقد حاول عبد السلام الشاذلي باشا تحويل تلك البرك إلى حدائق فتم له ما أراد في بركة واحدة، وبقيت البرك الأخرى في حال من الجفاف تزيد وقدة القيظ
أنا أعرف أن من العسير نقل أسيوط إلى شاطئ النيل في سنة أو سنوات، فلم يبق إلا أن(515/15)
نقترح المبادرة إلى تزويدها بالحدائق الكثيرة ليخف عذابها بلوافح الصيف
المدينة المهجورة
هي مدينة أسيوط فقد زهد فيها كبار أهليها من المسلمين والأقباط، وكادت تفقد اللقب الذي يجعلها عاصمة الصعيد
ومن يصدّق أن أسيوط كانت قبل عشرين سنة أنضر مما هي اليوم؟
ومن غريب ما لاحظت أن أسيوط أقل الحواضر المصرية مسايرة للحياة الأدبية، ولولا الرعاية لحق هذه المدينة لقلت إنها لا تعرف من مطبوعات القاهرة بعض ما تعرف دمشق أو بيروت أو بغداد.
هل تتغير هذه الحال بإنشاء الجامعة الثالثة جامعة أسيوط؟
إن الجلال السيوطي وهو أشهر من مجّد اسم أسيوط في العهد الإسلامي لم يتخذ هذه المدينة دار مقام في الحياة ولا بعد الممات، فهل كان يعرف زهدها في المجد العلمي والأدبي؟
كلمة صريحة إلى أهل أسيوط
في أسيوط وحدها يمر اليوم وأيام بلا مدد من الجرائد والمجلات، فكيف يقع ذلك ومدينة أسيوط هي الثالثة أو الرابعة بين كبريات المدائن المصرية؟
اتقوا الأدب في مدينة كان لها في الأدب تاريخ
عزيز على أن أقول في أسيوط كلاماً كالذي قلت، ولكن ماذا أصنع وأنا موقن بأنها أقل اهتماماً بالأدب من حواضر السودان، وبيننا وبينه أبعادٌ طوال؟
زكي مبارك(515/16)
على هامش النقد
الأدب (المهموس)
والأدب الصادق
للأستاذ سيد قطب
حكاية أن (الأدب تعبير عن الحياة) حكاية معروفة من معاد القول الحديث عنها. وإن كان تفسيرها وتطبيقها لا يزالان موضع اختلاف عند استعراض النماذج. والنموذج في الفن أبلغ دائماً في بيان المذهب من النظريات العامة.
وقد تحدث الأستاذ (محمد مندور) في مقالات ثلاث بالثقافة عن (الشعر المهموس) ثم تحدث في العدد الماضي عن (النثر المهموس) وأعاد قصة (الشعر المهموس)
وفي جميع هذه الكلمات كان مندفعاً لأن يثبت أن أدباء المهجر هم (شعراء اللغة العربية) وأن (بين شعرهم وشعر الكثير من شعراء مصر قرونا) وكذلك نثرهم الشعري
وليس يسوءني ولا يسوء أدباء مصر أن يكون الأمر كذلك حقيقة، فالتعصب هنا لا محل له؛ ولكن الذي يهمني ويهم أدباء مصر ويهم الأدب في ذاته، أن (النماذج) التي جاء بها والدعوة التي يدعو بها إلى هذه النماذج هي توجيه مؤذٍ في فهم الأدب وفهم الحياة!
وأنا أفهم مثلا أن يحب الأستاذ مندور أو سواه لوناً خاصاً من ألوان الأدب، فتلك مسألة مزاج؛ ولكن الذي لا أفهمه أن يصبح هذا اللون الواحد دون سواه هو الأدب الصحيح الراقي المتقدم، وأن يكون ما عداه من الألوان مرة (سخيفاً) كما يقول عن شاعر كبير معاصر، وطوراً خطابياً كما يقول عن شاعر كبير قديم. . . فذلك ضيق في الإحساس، يجوز أن يقنع به قارئ يتذوق ويلذ له لون واحد من الغذاء الروحي؛ ولكنه لا يصلح لمن يتصدى للنقد والتوجيه
وما اللون المفضل الذي يدعو إليه الأستاذ؟
من جميع النماذج التي اختارها حتى الآن - والنموذج كما قلت أكثر دلالة من الشرح العام - أستطيع أن أسمي هذا اللون باللون (الحنيّن) حسب تعبير أولاد البلد من القاهريين!
الذي تحس فيه (بالحنيّة) أو بالهمس والوداعة الأليفة حسب تعبيره هو!(515/17)
وهذا الأدب الحنيّن قد يكون فيه الصادق السليم، وقد يكون فيه الكاذب المريض. ولكنه على كل حال لون واحد من ألوان الأدب، يعبر عن مزاج واحد من الأمزجة، في حالة شعورية واحدة من حالات الشعور
فإذا نحن جعلنا همنا أن نهمس فقط، وأن نكون وديعين أليفين فقط، وأن تكون الحنية هي طابعنا فقط؛ فأين نذهب بالأنماط التي لا تعد من حالات الشعور وحالات النفوس وحالات الأمزجة، في هذه الحياة الحافلة بشتى الأنماط؟
يسمي الأستاذ شعر المتنبي شعراً خطابياً، ويعني أن المتنبي لا يهمس ولا يلقي إلينا تعبيره في دعة وفي حنيّة أو في همس كما يقول مثلا ميخائيل نعيمة
أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه
وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه
. . . إلى الآخر
وإن الأستاذ مندور ليقف معجباً أمام صورة هذا الجندي المنهوك الذي يلقى بجسمه في أحضان خلانه، وهي صورة وديعة منهوكة قد تكون جميلة في مكانها؛ ولكن أي خطأ ينتظرنا حين نطالب المتنبي العارم الطبع، الصائل الرجولة، بأن يحدثنا في وداعة كوداعة ميخائيل نعيمة؟
أنا لا أحاول (مؤقتاً) المفاضلة بين الطبيعتين، ولكني أحاول فقط أن أقول: إن الصدق هو الذي يجب أن ننظر إليه حين نقف أمام عمل الشاعر أو الفنان بوجه عام. وإن المتنبي لصادق أجمل الصدق، وهو يجلجل ويصلصل في شعوره وفي أدائه، لأنه هو هكذا من الداخل. وتلك صورة لنفسه ولمزاجه، وإنها لنفس صادقة، وإنه لمزاج أصيل
يجب أن نوسع آفاقنا ولا سيما حين نقف موقف النقاد - فلا نحكم مزاجنا الخاص، الذي قد لا يكون أصدق الأمزجة، بل الذي قد يكون ثمرة (عقدة نفسية) أو حادثة عارضة من حوادث حياتنا الشخصية
وإنه ليستلفت نظري أن جميع النماذج التي استعرضها الأستاذ مندور هي من اللون الذي يشيع فيه الأسى المتهالك المنهوك. فهل أفهم أن هذه عناصر محببة إليه وحدها، وأن الشاعر لا يكون شاعراً حتى تشيع هذه العناصر في شعره؟(515/18)
أعرض هنا تعبيراً أفلت منه، وله دلالة خاصة على هذا المزاج. ففي قصيدة (لنسيب عريضة) ساق الحديث هكذا:
يا نفس مالك والأنين؟ ... تتألمين وتؤلمين؟
عذبت قلبي بالحنين ... وكتمته. ما تقصدين؟
(وهانحن منذ المقطوعة الأولى في جو الشعر (فالنفس تئن)!
إذن كانت النغمة التي استرعت سمعه وجعلته يحس بأنه دخل في جو الشعر هي أن (النفس تئن). ولهذا دلالته، وهي الدلالة التي تنطق بها جميع مختاراته حتى الآن. وهو (مزاج) خاص له أن يتذوق ما يحبه من الألوان، ولكن ليس له أن يتولى مهمة النقد والتوجيه كما قدمت
وأريد أن أسأل: ألا ندخل في جو الشعر إلا إذا سمعنا هذا الأنين؟ و (الهمس) بالسرور والفرح والانطلاق؟ ألا يكون شعراً على هذا الأساس؟
إن الأستاذ مندور لم يقل هذا بالضبط، ولكن النماذج التي جاء بها جميعاً تكاد تنطق فذلك إذن توجيه مؤذ، يكاد الدافع إليه يكون دافعاً (مرضياً) وهو ما يدعو إلى الحذر الشديد!
ولا أحب أن أقف من الشعر المهموس والنثر المهموس موقف العداء المطلق كما وقف الأستاذ مندور من جميع ألوان الشعر الأخرى. وكذلك لا أريد (مؤقتاً) أن أفاضل بين هذا اللون وبين الألوان الأخرى.
ولكن هذا لا يمنعني أن أقول إنه كان موفقاً في اختيار بعض النماذج، وغير موفق في اختيار بعضها. فقصيدة (يا أخي) لميخائيل نعيمة وقصيدة (ترنيمة سرير) لنسيب عريضة يعدان نموذجاً طيباً لهذا اللون الذي يحبه. وأقول نموذجاً طيباً لهذا اللون بذلك القيد. ولكن ما عداها من مختاراته كان نماذج رديئة للشعر عامة ولهذا اللون من الشعر كذلك، لا في الأداء وحده، ولكن في حقيقة الشعور
والفرق بعيد والمسافة طويلة بين هذين النموذجين وبين سواهما. ولكن الذي يجمع بينه هو مجرد (الحنية) ومجرد الأسى المنهوك. ويهمني أن أبرز هذا المعنى إبرازاً خاصاً؛ فهو دليل عندي على هذه (الحالة الخاصة) التي أكاد أعزو إليها ولعه بهذا اللون، فهذه الحالة هي التي تجعله يستجيد كل ما ينطوي على هذه العناصر جيدة ورديئة على السواء. وهذا(515/19)
ما يدعوني للشك العميق في أن (مزاج) الأستاذ الخاص هو الذي يملى عليه آراءه لا ذوقه الفني
إن المسألة ليست مسألة ضيق في أفق الذوق الفني فقط، ولكنها (حالة مزاجية) خاصة تتحكم في هذا الأفق الضيق بطبيعته. وأخشى أن تكون حادثة ما أو عدة حوادث كامنة في ماضي الأستاذ مندور تتحكم في نفسه دون شعور. وهذا ما يدعو إلى الحذر الشديد في تقبل هذه الآراء!
وقصة (النثر المهموس)؟ إنها كقصة (الشعر المهموس). وأريد أن أقول للأستاذ مندور إن الفقرات الأخيرة من قطعة (يا أمي) لأمين مشرق هي فقرات طيبة في إحساسها وفي أدائها، ولكن الفقرات الأولى (تقليدية) من أدب (القوالب) المحفوظة. وكناقد كان يستطيع أن يفرق بين هذا وذاك؛ ولكنه كصاحب مزاج خاص لم يستطع التفرقة. ففيها جميعاً تشيع روح (الأسى المنهوك) وهذا يكفي!
وإذ انتهيت إلى هذا الحد أحب أن أعرض على الأستاذ مندور وعلى القراء ألواناً من الشعور البسيط الأليف الذي لا تفقده بساطته وألفته قوته وسلامته وصحته. وهو من عمل أدباء مصريين من أولئك المتخلفين قروناً في نظره
وهذا النموذج الأول لأديب شاب من رثاء لأمه: (وقد اخترتها لمناسبة قطعة أمين مشرق):
(من نحن اليوم يا أماه؟ بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا؟ ما عنواننا الذي نحمله في الحياة ونعرف به؟
(إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان. بل أصبحوا يقولون: هذا فلان. وهذا أخوه. وهاتان أختاه!
(اليوم فقط مات أبي؛ واليوم فقط أصبحنا شتيتاً منثوراً. وإني لأضم اليوم إلى صدري ابنكما وابنتيكما. أضمهم بشدة لأستوثق من الوحدة، وأشعرهم بالرعاية. ولكن هيهات هيهات. فأنا وهم بعدك أيتام يا أماه!
(لقد شعرت اليوم فقط بثقل العبء. وعلمت أنني لم أكن أنهض به وحدي، وأنني كنت أرعاهم وأرعاك معهم، لأنني قويٌّ بك. أما اليوم فالعبء فادح، والحمل ثقيل، وأنا وحدي ضعيف هزيل!(515/20)
(إن الشوط لطويل. وإني لوحدي في الطريق، وأخي وحده كذلك، وأختاي وحدهما أيضاً، وإن كنا نقطعه جميعاً!
والعش الذي خلفته ستظل فراخه زغباً مهما امتد بها الزمن، لأن يدك الرفيقة لا تمسح ريشها وتباركه، وكفك الناعمة لا تدرب أجنحتها على التحليق، وروحك الحنون لا تكلؤها في أجواز الفضاء!
نحن اليوم غرباء يا أماه
لقد كنا - وأنت معنا - نستشعر في القاهرة معنى الغربة في بعض اللحظات، وكنا نشبه أنفسنا بالشجرة التي نقلت من تربتها، والتي ينبغي لها أن تكثر من فروعها لتتقي الاندثار في غربتها!
أما نحن اليوم فغرباء في الحياة كلها. نحن الأفرع القليلة ذوى غصنها، بعد اغترابها من تربتها. وهيهات أن تثبت أغصان في التربة الغريبة. . . بلا أم!
(أماه. . .
من ذا الذي يقص عليّ أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب، ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود؟
لقد كنت تصورينني لنفسي كأنها نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً! وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فينسرب في خاطري أنني عظيم، وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي هي من نسيج خيالك ووحي جنانك! فمن ذا يوسوس إلي بعد اليوم بهذه الخيالات الساحرة؟ ومن ذا يوحي إليّ بعد اليوم بتلك الحوافز القاهرة؟
لمن أصعد درج الحياة بعدك يا أماه؟ ومن الذي يفرح بي ويفرح لي وأنا أصعد الدرج، ويمتلئ زهواً وإعجاباً وأنا في طريقي إلى القمة؟
قد يفرح لي الكثيرون. وقد يحبني الكثيرون. ولكن فرحك أنت فريد، لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده. . . وحبك أنت عجيب، لأنه حب مزدوج: حبك لي، وحب نفسك في نفسي. . .!
أماه. . .
عندي لك أنباء كثيرة. كثيرة جداً ومتزاحمة. تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد(515/21)
بغيبتك. وإنه ليخيّل إليّ في لحظات ذاهلة: أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدثك بما جد في غيبتك من أحداث؛ وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها. . . وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه. ولن تدب فيها إلا حين أقصها على سمعك. . . ولكن هيهات فسيدركها الفناء، وستغدو إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى. . .
أماه. أماه. أماه. . .)
وموعدنا العدد التالي لتقديم نماذج أخرى من الشعر المصري (المتخلف قرونا)
سيد قطب(515/22)
في التصوير الإسلامي
ليلى والمجنون
للدكتور محمد مصطفى
- 2 -
جاء قيس محققاً ما تمناه والداه، لا يعرف قلبه سوى أخلص الحب. . . يعشق الجميل ويحب الجمال. . . فكان وهو في مهده يتطلع إلى الفتيات الجميلات المليحات، ويرنو إليهن في شغف ونهم، كأن في منظرهن ما يجلب السرور إلى قلبه، أو ما هو غذاء لنفسه الصغيرة، يصيح في طلبهن إذا ابتعدن عنه، ويبكي في توجع وتوسل ليقترب منهن إذا لم يستطع رؤيتهن. ثم صار يجالسهن ويحادثهن ويستنشدهن الشعر، حتى حفظ منه الكثير، فاكتسب حديثه طلاوة ولباقة، وأسلوبه أناقة وطرافة، وأخذ على صغر سنه يقرض شعر الغزل وينشده، ويغازل به الفتيات ويشبّب بهن، وكأنه جاء من عالم آخر لا يعرفه بنو عامر، ولا عهد لهم به، فالحب والغزل في رأيهم (إنما يكون في اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رءوسها).
ولما كبر الصبي وفات سن الطفولة، أرسله أبوه إلى المدرسة مع أقرانه الصغار من الفتيات والفتيان. وبين الفتيات كانت فتاة تسمى (ليلى)، كان أبوها شيخاً لبطن أخرى من بطون بني عامر، ووقعت ليلى موقعاً حسناً من قلب قيس فمال إليها وأحبها وقال في وصفها:
بيضاءُ خالصةُ البياض كأنها ... قمرٌ توسطُ جُنحَ ليلٍ مُبرَدِ
موسومةٌ بالحسن ذاتُ حواسدٍ ... إنَّ الجمالَ مَظِنةٌ للحسَّدِ
وتُرى مدامعُها ترقرُقَ مُقْلَة ... سوداء ترغبُ عن سواد الإثمِدِ
خوْدٌ إذا كثُرَ الكلام تعوذت ... بحِمى الحياء وإن تَكلَّم تقصد
ووقع لقيس في قلب ليلى مثل ما وقع لها في قلبه، فكانا يجتمعان كل يوم في المدرسة ليدرس كل منهما ما يتجلى في نظرات صاحبه وقسماته من الحب والهيام. وحاولا أن يخفيا حبهما عن أصحابهما. . . ولكن عبثاً. . . فإن الحب يشبه الطيب أو المسك إذا وجد في(515/23)
بيت لا يمكن إخفاء رائحته. ففي ذات يوم أرادت ليلى أن تعلم ما لها في قلب قيس، فأعرضت عنه، وأقبلت بحديثها على غيره، فلما رأى ذلك جزع جزعاً شديداً حتى خافت عليه فقالت له:
كلانا مظهر للناس بغضاً ... وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون بما أردنا ... وفي القلبين ثمّ هوى دفين
فلما سمع قولها سرى عنه وعلم ما له في قلبها، وانصرف عنها وهو من أشدّ الناس سروراً وأقّرهم عيناً، وقال:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لدي ولا أهلُ
ولا أحدٌ أفضي إليه وصبتي ... ولا صاحب إلا المطيّة والرحل
محا حبها حب الأُلى كن قبلها ... وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
ولما سمع جلساؤهما ذلك فطنوا إلى أمرهما، وشاعت قصة غرامهما بين الناس حتى بلغت مسامع والد ليلى، فأبعدها عن المدرسة وحجبها عن قيس، ومنعه من رؤيتها والتحدث إليها، وتوعده بالشر إذا اقترب منها، فقل قيس في ذلك:
ألا حجبت ليلى وآلي أميرُها ... عليَّ يميناً جاهداً لا أزورُها
وأوعدني فيها رجالٌ أبوهم ... أبى وأبوها خُشّنتْ لي صدورها
على غير جُرم غير أني أحبُّها ... وأن فؤادي رهنها وأسيرها
وفي (شكل 1) منظر داخلي للمدرسة يبين قبة يجلس تحتها المعلم بلحيته البيضاء الطويلة، وعلى رأسه عمامة كبيرة، وفي يده عصا لتأديب (أشقياء) التلاميذ، وأمامه تلميذ يتلو عليه ما حفظه من الدروس. ونرى قيساً جالساً إلى اليمين في معزل عن زملائه، يسند رأسه على ذراعه غارقاً في تأملاته كأنه يفكر في حبيبته ليلى التي تجلس إلى اليسار بجانب صديقة لها تواسيها وتعطف عليها. ويقرأ أو يكتب بعض التلاميذ الآخرين في كتبهم ويتجادل آخرون. وإلى اليسار يتقاذف (شقيان) بأدواتهما المدرسية، غير عابئين باحتمال إصابة (زير الماء) الموضوع في الركن الأيسر على كرسي حامل له، وما قد تجلبه هذه الإصابة على جسديهما من آثار عصا المعلم. ولم ينس المصور أن يخفف من حدّة (عصا) المعلم ببيت شعر كتبه على مدخل القبة يناشده فيه ألا يعلم الفتاة الشقراء ذات الوجه الجميل(515/24)
سوى كل شيء حسن هي جديرة به. وهذه الصورة في مخطوط من المنظومات الخمس للشاعر نظامي الكنجوى كتبه الخطاط سلطان محمد نور، ومؤرخ سنة 931 هجرية (1525 م)، وقد اختلف مؤرخو الفن الإسلامي في نسبة الصور التوضيحية التي به، ولكنا نرجح ما يقوله الأستاذ كينل في نسبتها إلى المصور شيخ زاده تلميذ المصور الكبير بهزاد الذي هاجر معه إلى مدينة تبريز. وهذا المخطوط محفوظ في متحف المتروبوليتان للفنون الجميلة بنيويورك
- 3 -
بعد أن حجبت ليلى في منزل أبيها، حزن قيس وضاقت الدنيا في عينيه، ولما لم يجد في المدرسة ما يرفّه عن نفسه الحزينة ويسري عنه، هجرها وهام على وجهه يبحث عن حبيبته في منزل والديها. ولما أعياه ذلك عمد إلى الحيلة فتزيا بزي درويش عجوز أعمى قد أناخ عليه الدهر بكلاكله، وسار يتلمس طريقه بعكاز في يده حتى وصل إلى بيت ليلى، فألقى بنفسه على عتبته متصنعاً الإعياء. وخرج أهل الدار لمساعدة هذا الدرويش البائس الذي أنهكه السير الطويل وشقة الطريق، وكانت بينهم ليلى فعرفته وأمسكت يده وشدت عليها لتعلمه أنها ما زالت على عهده بها، ولكي تجدد ما قطعته على نفسها من ميثاق الإخلاص له في الحب. ولاحظ والدها ذلك وتعرّف على قيس، فنهر ابنته وطرد قيساً، فزاد ذلك من شدة حزنه ويأسه. وعاتبه أصحابه ورموه بالجنون لما رأوه في مسلكه من شذوذ، فقال لهم:
وإني لمجنونٌ بليلى مُوكَّلُ ... ولستُ عَزوفاً عن هواها ولا جَلْدَا
إذا ذُكرْت ليلى بكيتُ صبابة ... لتَذكارها حتى يبل البكا الخدَّا
وسماه أصحابه (المجنون) وصار يعرف بين قومه بهذا الاسم.
واشتد به الحزن واليأس فاعترض على قضاء الله بقوله:
خليلي لا والله لا أملك الذي ... قضى الله في ليلى ولا ما قضي ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحبّها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
فسلب عقله، وهجر أهله وذويه، وانفرد في جنبات الحيّ عارياً، لا يلبس ثوباً إلا خرقه، يخطط بإصبعه في التراب، ويجمع العظام حوله، ولا يجيب أحداً سأله عن شيء إلا إذا(515/25)
ذكروا له ليلى، فيرجع إليه عقله ويخاطبونه فيجيبهم جواباً صحيحاً. ولما يئس من لقاء ليلى بارح الحيّ ولجأ إلى البرية وهو يقول:
فمن أجلها ضاقت عليّ برحبها ... بلادي إذا لم أرض ممن أجاوره
ومن أجلها أحببت من لا يحبني ... وباغضت من قد كنت حيناً أعاشره
وكان المجنون وليلى وهما صبيان يذهبان إلى جبل قريب يقال له (التوباد) فذهب إلى هنالك وجلس على ربوة منه فأتته ذكريات الصبا فقال:
هذه الربوة كانت ملعبا ... لشبابينا وكانت مرتعا
كم بنينا من حصاها أرُبعا ... وانثنينا فمحونا الأربعا
وخططنا في نقا الرمل فلم ... تحفظ الريح ولا الرمل وعى
لم تزل ليلى بعيني طفلة ... لم تزد عن أمس إلا إصبعا
(شوقي)
وخرج الملوح بن مزاحم ومعه بعض أولاده وذويه يبحث عن ابنه قيس، فوجده هائماً على وجهه في جبل التوباد، وكان في حالة يرثى لها، عارياً، نحيل الجسم، طويل الأظافر، يخط بإصبعه في الرمل وهو تائه الفكر، وقد طال شعر جسده وتوحش وألفته الظباء والوحوش فكانت تجالسه وتلازمه، فلما اقترب ذووه منه لم يعرفهم ونفر منهم، فناداه أبوه: قيس، أنا أبوك الملوح وهذا أخوك، فطب نفساً وابشر فقد وعدني أبو ليلى أن يزوجكها. فأقبل إليهم وأنس بهم، فقال له أبوه: يا قيس، أما تتقي الله وتراقبه؟ كم تطيع هواك وتعصيني، فقد كنت أرجى ولدي، أفضلك علتهم وأوثرك، فأخلفت ظني ولم تحقق أملي، فليت شعري ما هي أراها ممن يوصف بالجمال والحسن، وقد بلغني أنها فوهاء قصيرة جاحظة العينين شهلة سمجة، فعدّ عن ذكرها ولك في قومك من هو خير لك منها. فلما سمع ثلبه فيها أنشأ يقول:
يقول لي الواشون ليلى قصيرة ... فليت ذراعاً عرض ليلى وطولها
وأن بعينيها لعمرك شهلة ... فقلت كرام الطير شهل عيونها
وجاحظة فوهاء لا بأس أنها ... مني كبدي بل كل نفسي وسولها
فدق صلاب الصخر رأسك سرمدا ... فإني إلى حين الممات خليلها(515/26)
فاضطر أبوه أن يعده بالسعي لدى والد ليلى كي يزوجه إياها، واستطاعوا بذلك أن يأخذوه معهم ويردوه إلى الحيّ وأهل بيته.
ولما رأته أمه بكت لحالته البائسة التعسة، وحاولت جهدها أن تروّح عن نفسه، فألبسته ملابس جميلة، وأصلحت من شكله وهندامه، وجعلت تواسيه وتشمله بعطفها ورعايتها عساها تجلب إلى قلبه العزاء والسلوة.
وفي (شكل 2) ينام المجنون إلى جانب مجرى ماء، ويسهر على حراسته الوحوش من كل جانب، فيربض الأسد والفهد إلى اليمين، والثعلب والظباء والوعول إلى اليسار. وجاء ذووه وضربوا خيامهم بالقرب منه، وقد خرج الرجال وانتشروا في المكان، بينما نرى والده بلحيته البيضاء قادماً نحوه. وقد أجاد المصور تصوير الحياة المنزلية لنساء البدو في بيوتهن، فرسم إحداهن وهي تحلب بقرة، وأخرى تغزل على مغزل أحضرته معها وهي تستعين في عملها بيديها وقدميها، واثنتين جالستين في مدخل إحدى الخيام وقد احتدم بينهما الجدل. وهذه الصورة من تصوير المصور الإيراني قاسم علي أحد تلامذة المصور الشهير بهزاد، وهي في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي الكنجوي كتب في سنة 900 هجرية (1494 م) باسم أحد أمراء السلطان حسين ميرزا. وهذا المخطوط محفوظ في المتحف البريطاني.
(يتبع)
محمد مصطفى
مساعد فني دار الآثار العربية(515/27)
أغرودة الليل
(إلى وردتي الشقراء!)
لشاعر العاطفة والوجدان جان ريشبان
بقلم الأستاذ عبد العزيز العجيزي
أواه ألحاني، غردي، غردي! واسكبي الخمر عذباً، صداح الأغاني، إلى من تغنى بها الحبّ في روض جناني، وسكبت نشيد الهوى في كأس وجداني!
هام النور على جيد ليلاي، ناشراً حلو الضياء، وغنى سناه على جبين دنياي، شادياً لحن الصفاء، وداعب السحاب غصن مناي، بأنامل النور والبهاء، لما ارتقينا معراج السماء، صوب المشرق الوضاء، فانتشت بسلافه أفاويق الطرب، ومراشف السرور، واحتست شعاع النور بأقداح البسمات!
الدجى وسنان، والليل سكران، والكون نعسان، والوسن هيمان، وشمسي الذهبية أشرقت في رقة وحنان، وبدت غدائرها العسجدية تهفو بنفح العبير وشذى الربيع النشوان. فدانيتها عن كثب مازجاً أشواقي بأزهار جمالها، ناهلاً النور من نجوى محياها، راشفاً الضياء من سحر سناها، الهاتك حجب الدجى وجحافل الظلام.
ويصوغ خاطري نجوم الكواكب الساطعة من درر ذلك النهر الباهرة، قلادة ماسية متألقة، ذات فتنة ووضاء، وظلال ساحرة زرقاء، ودرة يتيمة رائعة تزهر بسناها فوق أديم جيد الحبيب، الندى الرطيب.
أواه ألحاني، غردي، غردي! فروض ليلاي زاهر بأنواره كسنا التاج، باهر بجلاله كأبهة المُلك، وحبيبتي بين أطيافه ملك تحف به سراته. . .
ليلاي! أنا هائم بترتيل أبهى الأغاني، والترنم بأعذب الألحان! فحسبك أن تكوني يا حبيبتي وحي أشعاري، ولحن قيثاري، ومحراب إلهامي، وناي أنغامي!
حنانيك حنانيك يا وردتي الشقراء! كوني لجمالك راعية، ولدلالك رانية؛ وابسمي، وهيمي بنغم القوافي الراقصة في موكب حبنا، ولحن الأغاني الشادية حول أجسادنا! اسمعي أغاريد(515/28)
الصبوة الهائمة، وأناشيد قيثارة الأشعار المترنمة! استمعي إليها. . . فقد هصرتها كلها من جنى الخيال، وشهى الجمال!
أرهفي السمع لسحر الأغاني، وشيق المعاني، وحلو النغم وجرس الكلم. . . قد ملأت أقداحي بها من سلسبيل الفكر، وعناقيد الغزل؛ فارشفي منها رحيق القبل واقطفي منها جني الثمر! وأذني لورد شفتيك بالتفتح، ليفضي عبيره بسر حبك، ويهفو أريجه عن مكنون سحرك، فيسعد طالعي، وينعم خاطري. . .
وتنساب الأناشيد إثر وقع خطواتك الراقصة، تناجي خيالك، وتناغي جمالك في حنان الأم لرضيعها. . . فتصدح الأشعار بغرامك، منشدة أهازيج هيامك. . .؛ أني شاقتك الأغاني، وطاب لك النغم. . .
ليلاي! ثغرك النضيد حلو كالزهرة الباسمة، ذات الفتنة والنقاء، والسحر والصفاء. . . قد مزج بها منذ فضت عنك التمائم: ترنمت الأشعار بسنا جمالك وسجعت أغاريد الصيف البهي لصدى ضيائك وبهائك، ولرجع جلالك ودلالك
ترنمت الأشعار بجمال صدر فينوس الكاعب لصدى روعة ثديك الناهد؛ سجعات قلبك الباسم، وخطرات قدك النامي هي تآلف أنغام غصنك الغاني وفرعك الداني باللحن السامي
ترنمت الأشعار بخمر لحظك الوسنان، وسلاف سحرك الفتان، فسكرت الروح الهائمة بوصلك، وثملت النفس الولهى بقربك، وانتشت بخمر آثر من عتيق المدام. . . ترنمت الأشعار ياليلاي بفتنة غدائرك الذهبية المترجرجة؛ وروعة خصلات شعرك الأرجواني المنساب على عنقك العاجي. . . فهام القلب بالشعر العسجدي، وقدّم العمر قرباناً على مذبح الحب القدسي، في معبد الهوى العذري!
وأخيراً صدحت الخواطر شجي الأغاني، وغرّدت الأشعار رقيق المعاني، مشدوهة هالعة عندما تغنيّتُ مترنماً: (أنا المتيّم بهواك، المعذّب بضناك، الشادي بجمالك، الملحن عذب ألحانك!)
واهاً من الحب والهوى! الأشعار ظمأى لسلاف أغانيه، وألحان مغانيه، وشدو أنغامه على قيثار قوافيه! ولا تسخري يا حبيبتي من حمق مجاليه؛ إذا تآلف لحنها ولم يتباين سجعها
ليلاي! اهجعي أنى طاب لك الرقاد! فالأشعار هي وثير فراشك ومثوى جسدك بين رياشك،(515/29)
وحلم راقص على أهدابك الوطف الساجية، بين أنغامه الحالمة، وألحانه السامية. . .
أواه ألحاني؛ غردي، غردي! واسكبي الأحلام صداحة الأغاني! وانشدي الأنغام سكرى بخمر الوصال في دنيا الخيال؛ ليتغنى النسيم على مسارح الغابات، ويهفو بعبير النفحات! ويصفق الهزار بجناحيه غرداً، معرباً عن شجوه، ويرقص الموج طرباً، مغنياً في كرنفال غديره.
عبد العزيز العجيزي(515/30)
إلى زهرتي اليتيمة
(من دموع لم تذرف)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
لَئِنْ مَاتَ حَوْلَكِ نُورُ الضُّحَى ... وَرَانَتْ عَلَيْكِ سُتُورُ الظَّلامْ
فَلاَ تَحْزْنِي. . فَالْهَوَى فِي دَمِي ... صَبَاحٌ يُزَلْزِلُ هَذَا الْقَتَامْ
وَفَجْرٌ مَدَى الدَّهرِ يَبقَى لَكِ
تُشَعْشِعُ أَنْوَارُهُ حَولَكِ
وَتَسقِي أَبَارِيقُهُ لَيْلَكِ. . .
. . . سَناَ خَمْرَةٍ لَمْ يَذْقْهَا اْلأَنَامْ!
وَإِنْ مَاتَ حَوْلَكِ سَاقِي النَّدَى ... وَفَحَّتْ لَدَيْكِ أَفَاعِي الْهَجِيرْ
فَلاَ تَجْزَعِي. . . إِنَّ رُوحِي بِهَا ... لآِهَاتِ رَوْضِكِ نَبْعٌ غَزِيرْ
يُفَجَّرُهُ عَاتِياً سِحْرُكِ
وَيُسْكِرُ أَمْوَاجَهُ عِطْرُكِ
فَتَجْرِي وَيَجرِي بِهَا نُورُكِ. . .
. . . إِلى أَنْ نُلاَقِي الرِّكَابَ الأخِيرْ!
َوإِنْ مَاتَ حَوْلَكِ سَاجِي الظِّلاَلْ ... وَنَاحَتْ بأَرْضِكِ ثَكْلَى الرِّياَحْ
فَلاَ تَجْزَعِي. . . فأَنَا نَسْمَةٌ ... وَظِلٌّ عَلَيكِ رَطِيبُ الْجِناحْ
وَطَيْرٌ نَمَا عُودُهُ فِي يَدَيْكِ
فِإِنْ أَوْمَأَ الْحُزْنُ يَوْماً إِلَيْكِ
عَصَفْتُ بِلَحْنِي وَعُشّي وَأيْكِي. .
. . . لأِفنَى وَأَشْرَبَ عَنْكِ الْجِرَاحْ
وَإِنْ مَاتَ حَوْلَكِ زَهْرُ الرُّبَى ... وَكُنْتِِ الْيَتِيمَةَ فَوْقَ الْهِضَابْ
فَلاَ تَذْرُفِي دَمْعَةً. . . إِننِي ... خُلِقْتُ لأِحْمِلَ عِنْكِ الْعَذَابْ
كِلاَنَا غَرِيبٌ يَتِيمُ الزَّمَانْ
فَهَياَ نُجَدِّدُ زَهْرَ الْجِنَانْ(515/31)
وَنَقْطِفُ مِنْ قَبْلَ يَمْضِي الأَوَانْ. . .
. . . . وَتَقطِفُنَا قَبْضَةٌ مِنْ تُرَابْ
وَإِنْ مَاتَ حَوْلَكِ مِنْ فِي الثّرى ... وَأَصْبَحْتِ مُفْرَدةً في الْجِبَالْ
فَلاَ تَنْدُبِي فَانِياً. . . إِننِي ... أَرَى فِيكِ خُلْداً يُذِيبُ الزّوَالْ
فِفِيكِ الإِلهُ الَّذِي أَعْبُدُ
وَفِيكِ الْخَيَالُ الَّذي أَنْشُرُ
وَفِيكِ الهَوَى وَالصِّبَا وَالْغَدُ. . .
. . . دَعِينِي أُسَبِّحْ بِهَذَا الْجَمَالْ
محمود حسن إسماعيل(515/32)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ دريني خشبة
قرأت في مقالكم القيّم عن (مجلاتنا الممتازة ونصيب المسرح والسينما والغناء منها) فعنث لي الملاحظات الآتية:
1 - التأليف - سواء في المسرح أم في السينما - لم يتحقق وجوده بعد. ومن يعرفون بالمؤلفين في هذين الفنين يعيشون في الواقع عالة على الترجمة والاقتباس ولا أقول أكثر من ذلك!
2 - صلة المسرح بالأدب وثيقة بل ذاك فرع من هذا ولذلك أشارك الأستاذ رأيه في وجوب عناية مجلاتنا الممتازة به والاهتمام بنقده وتقويمه، وفضلاً عن ذلك فللمسرح رجاله من الممثلين الذين يستحقون التنويه والذكر
3 - أما السينما فبحكم مواجهتها المباشرة للملايين من الشعب تنقطع بها الأنفاس دون أهداف الأدب السامية، ففكاهتها تهريج، وعلاجها للمشكلات الاجتماعية يقوم على التعمل والمبالغات السخيفة والأخيلة السقيمة، وفيما عدا هذا من الغايات الأدبية فهي عاجزة عنه غاية العجز. ألا ترى يا سيدي الأستاذ أن السينما الأمريكية والأوربية نفسها 90 % منها غث تافه إذا قومته بحساب الأدب الفني، وأن الـ 10 % الذي يتصدى لإخراج أعمال فنية عالمية يعرض جسدها دون روحها، أو بمعنى آخر يظهر الحادثة التي توافق (الحركة السينمائية) دون التحليل والوصف، وهما لباب الفن الأدبي عامة، والحديث منه خاص؟. . . فالسينما في الواقع إخراج وتمثيل، وصلتها بالأدب الرفيع مقطوعة أو واهية
4 - أرجو ألا ينسى الأستاذ أن مجلات لا حصر لها - وهي في انتشارها تسبق المجلات الممتازة وأسفاه بمراحل - لا هم لها إلا تسويد صفحاتها بأخبار أبطال السينما والمسرح سواء من يستحق منهم الذكر أو غالبيتهم الكبرى الغارقة في أمية اللغة وعامية العقل والذوق، وهي أخبار لا تشرف مجلة لها من الاحترام والوقار ما لمجلاتنا الممتازة
5 - وأما الغناء فمن نجومه فئة يسمو بها فنها إلى مرتبة الأساتذة الإجلاء الذين يغذون المجلات الممتازة بنفحات أرواحهم وعقولهم وعلى رأس هؤلاء أم كلثوم وعبد الوهاب والقصبجي وزكريا والسنباطي!(515/33)
والسلام عليكم ورحمة الله.
حافظ القاهري
إلى الأستاذ العلامة الشيخ محمود شلتوت
في العالم كله تنتشر المصارف المالية لتقرض الناس لأجل معين بفائدة صريحة تقل وتكثر قيمتها بين 6 - 9 % بحسب درجة عملاء البنك
والاقتراض من البنك يفيد المقترض فائدة مادية عظيمة إذا تيسر له القيام بمشروع له في بنائه وتغذيته وإدارة شؤونه خبرة وإلمام كبير، وخصوصاً في أيام الحرب التي بها أصبح منتوج الأرض ذا قيمة كبيرة
فهل ما يأخذه البنك من الفائدة هو الربا كما يفهمه الناس: آكله ملعون وموكله ملعون، وملعون شاهده وكاتبه، أم هذه الفائدة الخفيفة ليست أضعافاً مضاعفة، ويحل التعامل على صورتها؟ وإذا ثبتت حرمة الفائدة سواء أقلت أم كثرت فهل يستثنى من ذلك أحد من الناس أو طائفة من الناس لسبب من الأسباب أو في حالة من الحالات أو لغرض من الأغراض؟ ومتى وكيف يباح ذلك؟ وفي حالة التحريم القطعي هل يعد المال المقبوض من البنك من المال الحرام كأن يكون مسروقاً مثلاً ولا يحل الانتفاع به أم يصبح ملكاً حلالاً للمستدين مع تحريم المعاملة؟
(قلقيلية - فلسطين)
محمد عبد الفتاح محمود الحسن
إلى الأستاذ محمد أحمد الغمراوي
كيف يمكن التوفيق بين الآية الكريمة: (يُخرج الحي من الميت، ويُخرج الميت من الحي) وبين قول علماء الحياة: (الأحياء لا تنتج إلا من أحياء)؟
(القدس)
حافظ عبد النبي(515/34)
(أرواح وأشباح) على المسرح
أقام الفرع المدرسي لمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية حفلته السنوية لتوزيع الشهادات على طلابه المتخرجين، وكان أطرف ما في برنامجها الحافل فاصل تمثيلي غنائي عنوانه (ابن السماء) من كتاب (أرواح وأشباح) للأستاذ الشاعر علي محمود طه، وضع ألحانه وموسيقاه الفنان الدكتور محمد شرف الدين، وتولى إخراجه الفنان عثمان أباظة، ومثله طلاب المعهد، فكان تأثيره على النظارة عجيباً دعا القائمين على شئون الفرقة المصرية أن يفكروا في إخراج هذه الملحمة الجميلة على مسرح دار الأبرا الملكية لتكون أروع إخراجاً وأبرع تمثيلاً وأكمل عدة؛ وهي فكرة موفقة نرجو أن يصاحبها العزم حتى تصل إلى دور التنفيذ.
كلمة أخيرة أيضاً في ضبط الخلاف بين العربية والعامية
قرأت ما كتبه الأستاذ الفاضل عبد الحميد عنتر في العدد (514) من مجلة (الرسالة) الغراء، فوجدته يعتمد في إبطال الاقتراح المقدم إلى المجمع اللغوي في ضبط الخلاف بين العربية والعامية على أنه يخالف الضابط الذي أجمع عليه العلماء منذ 1362 عاماً هجرياً، ويقوم على رأي جديد متطرف لا يعتد به لخروجه على ذلك الإجماع، وما كنت أظن أن مثله يفوته أن صاحب الاقتراح يعرف أن رأيه يخالف ما أجمع عليه العلماء قبله، ولكنه يؤمن مع هذا بما قاله الأُولُ: كم ترك الأول للآخر. وبما قاله الإمام علي رضي الله عنه: لا تكن ممن يعرف الحق بالقائلين له، اعرف الحق تعرف أهله
وقد كان إجماع العلماء القدماء على أن العناصر البسيطة أربعة، فلم يمنع هذا مخالفة المتأخرين لهم، وأن يثبتوا أن هذه العناصر الأربعة مركبة لا بسيطة ' وأن العناصر البسيطة لا تحصى ولا تعد. وبعد فإن ذلك الاقتراح ليس فيه إلا مخالفة ذلك الإجماع، ولا شك أن هذا لا يجعله من الاستحالة في شيء.
(. . .)
تراجم المعاصرين(515/35)
أُثير هذا الرأي في إحدى المجلات المصرية منذ زمن غير بعيد؛ ولقد انشرح صدري لتقبُّل المجلة التي أثير فيها أن تساهم في هذه الغاية بنشر هذا اللون من الأدب المؤرخ. وأيقنتُ أن ذلك سيعود على تاريخ الأدب العربي بفوائد جمة إن يشرع في تحقيقه. ذلك لأن تدوين حياة الأديب الكبير ودراسة أدبه: أفكاره وأسلوبه، في حال حياته، أسهل وأصدق مما لو عُمد إلى ذلك بعد موته. فإن دراسته إذ ذاك تكون أوفى وأقرب إلى الحقيقة.
أقول هذا وبين يديّ الآن العدد الأخير من مجلة (الصباح) الدمشقية (عدد 29 آذار 1943) أطالع فيه دراسة مستفيضة عن الشاعر احمد الصافي النجفي.
حرّر هذا العدد الخاص الأستاذ فؤاد الشائب فاستخلص شخصية الصافي من دواوينه التي أشهرها (الأمواج) و (أشعة ملونة) فتحدث عن حياة الصافي الحر البعيد عن الدنيا، القريب منها، وقدّم لبحثه بهذه الكلمات:
(قرأت في حياته، وقرأت في ديوانه، فلم أجد أحفل منها حياة، ولا أصدق منه كتاباً. . . نغمتان أختان، وصورتان توأمان للنفس البشرية في أعمق شعورها وأصدق حكمتها. . . فلا أدري أيهما كتاب الشاعر، وأيهما حياته. . .)
تكلم الأستاذ الشائب عن خصائص الصافي الشعرية، وعن تحرره وعدم تقيده وإبداعه وعن روحه الشعرية، ودلل على أنه شاعر لا ناظم، ووصف شعره (بالبساطة الحلوة النافذة إلى غرضها بلا عنف أو جهد) وأوضح أنه اقترب أعظم الاقتراب من الإنسانية، وأنه وإن لم يبل الحب ويخبره، فقد بلا الألم وخبره أكبر الخبر، فجاء شعره وليد نفس ثائرة متألمة ملتاعة
نرجو أن نستمع إلى من يحدثنا عن العقاد، والزيات، وطه حسين، واحمد أمين. . . وغيرهم من زعماء الأدب العربي. . .
أما الدكتور المبارك، فلا بأس من أن نستمع إلى من يحدثنا عنه، ولو أنه هو نفسه تحدث كثيراً عن نفسه، وكتب ما ينبغي أن يُكتب عن حياة أديب، بل وأكثر. . .
(بيروت)
سهيل ادريس(515/36)
تصحيح أجزاء بحر الخفيف
كتب الأديب حسين البشبيشي تحت عنوان شعر منشور بالعدد 514 من قصيدة للأديب مصطفى محمد أن الشطرتين اللتين بين القوسين خطأ، وذلك لأن القصيدة من بحر الخفيف
وقد أصاب في ذلك ولكنه أخطأ في أجزاء البحر حيث قال إن أجزاءه (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن). والصواب (فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن) بالوتد المفروق وهو ما كان ثلاثة أحرف وسطها ساكن. وكم من فرق بين مستفعلن بالوتد المجموع ومستفع لن بالوتد المفروق فقد قال العروضيون هناك فرق بينهما من جهة موقعهما في البحور، ومن جهة الخط، ومن جهة اللفظ، ومن جهة الحكم. أما من جهة الفرق في موقعهما في البحور أن مستفعلن أحد أجزاء البسيط ومخلعه والرجز والسريع والمقتضب. والثاني أحد أجزاء الخفيف والمجتث. والفرق بينهما في الخط أن الأول وهو مستفعلن لا وقف فيه. والثاني يوقف على آخر وتده المفروق. والفرق بينهما في اللفظ أنه يجب صناعة على قارئ الأول ألا يقف على الرابع ليعلم السامع أنه ذو الوتد المجموع بخلاف الثاني فيجب عليه أن يقف ليعلم السامع أنه ذو الوتد المفروق، وأما من جهة الحكم أن الأول يجوز طيه وهو حذف الرابع الساكن بخلاف الثاني فلا يجوز طيه. لهذا كله ولما لهذه الفروق من الأهمية كتبت هذا إعلاناً للحق. وإلى الأديب عاطر التحية وأزكى السلام
(الإسكندرية)
عبد الفضيل يوسف
جماعة نشر الثقافة
تواصل جماعة نشر الثقافة نشاطها الأدبي لتساهم بجهودها في تقوية الحركة الفكرية بالإسكندرية، وستقيم مهرجاناً للربيع بمسرح نادي موظفي الحكومة عند الساعة الخامسة من مساء يوم الاثنين الموافق 24 مايو 1943؛ إذ يشترك الفن والأدب في الاحتفاء بفصل الجمال والحياة.(515/37)
العدد 516 - بتاريخ: 24 - 05 - 1943(/)
أخطار الطعام الواحد
(رسالة مهداة إلى جار الشجرة الزهراء)
للدكتور زكي مبارك
أكاد أحكم بأن جمال الحياة من صُنع أيدينا، وأن الله لم يجعل الإنسان خليفته في الأرض إلا بعد أن زوّده بالقدرة على تجميل الحياة بأغرب وألطف ألوان التجميل
وملكات الإنسان تؤهله للغرور القائم على أساس، فمن حقه أن يزعم أنه يهب الحياة للحياة، وأن يقول في بعض حالات التمرد إنه خالق لا مخلوق
ولن نؤمن بالله حق الإيمان إلا يوم نعرف على وجه التحديد أو التقريب قيمة ما خصنا به من القدرة على تلوين الوجود بأشتات من الألوان
والواقع أن العزة الإلهية دانت الإنسان بديون تعجز عن حملها الجبال. ولا يعاب على الإنسان إلا غفلته عن استثمار ما في صدره وروحه وعقله من كنوز تفوق الذخائر المعروفة والمجهولة في جميع بقاع الأرض. . . هو يملك ثروة معنوية في غاية من النفاسة، ولكنه قد يجهلها بعض الجهل أو كل الجهل فلا يبذل في استكشافها أي مجهود، ولا يؤذيه أن يعيش على الفطرة كما يعيش سائر الحيوان
كل أمة من الخلائق تنقرض بالموت، إلا الأمة الإنسانية، فهي تترك شواهد خوالد على ما قدمت للحياة من أفانين العقل والذوق، وهل كان من المصادفة أن تتفق الديانات على أن البعث بعد الموت مقصور على الأمة الإنسانية؟
وأنا مع هذا أفترض أن البعث لن يكون عاماً، وسأحرص على هذا الافتراض لغاية أخلاقية توضحها السطور الآتية:
يوم البعث هو يوم الحساب، ومعنى ذلك أنه خاص بمن كانت لهم إرادات ذاتية تدرك معاني الثواب والعقاب، ومعناه أيضاً أن الذين مرّت حياتهم بلا إدراك قد يضافون إلى الخلائق المنسية، إن صح هذا الافتراض
ولكن ما هذا التهيب في عرض هذه النظرية؟
هل أخاف من أن يعترض معترض وبيده الأثر الذي يقول: أكثر أهل الجنة هم البُله والمجانين؟(516/1)
هذا أثر مصنوع، اختلقه واضعه لغاية مدخولة يراد بها صد الناس عن الاحتكام إلى العقل في مختلف المعضلات، وإلا فما قيمة الجنة إذا كان أكثر ساكنيها من قدماء البُله والمجانين؟
مزية الإنسان هي قوة الشعور بالمسئولية، وهذا الشعور قد يسوقه إلى البحث عما في صدره من المكنونات، فإن فعل فقد يصل إلى منافع لا تخطر في البال
الحياة لا تقاس بالطول والعرض، وإنما تقاس بالخصب المعنوي، وهو أطيب الأرزاق، فمن واجبنا أن نزوّد أنفسنا بالكثير من الأزواد العقلية والذوقية عساها تجود بإبراز تلك المكنونات
النفس كنز تحرسه أقفال وأرصاد. وقد تعب الناس منذ أزمان في التعرف إلى كنوز النفوس، بأساليب تختلف باختلاف الأقاليم والإفهام، فأهل الهند يرون الصوم عن الطعام والشراب هو الوسيلة إلى كشف أسرار النفس، وكان بعض فلاسفة اليونان يرون الطعام والشراب من وسائل الوصول إلى أسرار النفس، وفريق من رجال الإسلام يرون النفس لا تتفتح إلا في إعقاب الصلوات عند هدأة الليل
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص بصراحة على أن الرقي الإنساني لم يبدأ إلا بعد التحرر من الطعام الواحد، وذلك لم يقع إلا بعد أن عرف الإنسان كيف ينتقل من أرض إلى أرض. ودليل ذلك أن الأمم القليلة المعارف والقليلة الحيوية هي الأمم التي ألفت الاستقرار في وطنها الأول، لأن الاستقرار يخمد شهوة التطلع، بسبب الركود الذي يصحب توحّد المطعومات والمرئيات
والمعروف أن حواس الطفل أقوى من حواس الكهل، فكيف يكون ذلك؟
قد يقال أن الحواس تضعف مع الزمن، وذلك أسهل التعاليل، ولكني أرجح أن قوة الحواس عند الأطفال ترجع إلى أن كل شيء في نظرهم جديد، فهم يتطلعون إلى كل أفق، ويتشوقون إلى كل مجهول، ولا كذلك حال الكهل الذي ألف ما حواليه من الأشياء، فهو ينظر ويتأمل بفتور وبطء، ثم ينتهي به الأمر إلى تبلد الإحساس
والمعروف أيضاً أن النبوات لا تظهر إلا في البلاد التي يكثر فيها الاعتراك والاقتتال حول المبادئ والآراء، فما كان يمكن لمكة أن تكون مهبط الرسالة الإسلامية لو أنها كانت قرية منعزلة لا تشتبك فيها المنافع، ولا تصطرع فيها العقول. وهل ننسى كيف منّ الله على(516/2)
قريش برحلة الشتاء والصيف؟
إن تلك الرحلات هيأت القرشيين لما صاروا إليه فيما بعد؛ وفضلُ الإسلام على العرب لا يقتصر على تزويدهم بعقيدة التوحيد، فهالك فضلٌ عظيم، وهو تمكين العرب من الاتصال بأكثر الأمم المعروفة لذلك العهد، وهذا الاتصال خلق في العرب حيويات جديدة، وأيقظ في نفوسهم كثيراً من القوى الغافية، وأمدهم بأزواد عقلية وذوقية لم يعرف مثلها العرب القدماء
والمدنية الإسلامية تمتاز بهذه الميزة، فهي ليست وليدة العقل العربي الصرف، وإنما هي مدنية دولية أخذت زاداً من كل أرض، فقد كان المسلمون إنجليز زمانهم، وكانت لهم مسالك إلى كل بلد عُرفت أرضه بالثمرات
هل تعرفون السر في أن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام كان يوصي بالزواج من غير القريبات؟
تعليل ذلك سهل: فالتزاوج في البيئة المحصورة ينتهي بضعف النسل، لأن كثرة الألفة تضعف الشهية، ولأن الاكتفاء بالقريبات يضيع فرصة الموارد الجديدة من الطبائع والأذواق.
العاهات الموروثة تكثر في البيئات التي تتزاوج فيما بينها كثرة تنذر بالخطر المبيد. وقد تعرض اليهود لهذا الخطر في الأزمان الخوالي فكثرت فيهم العاهات الحسية والمعنوية، ثم أنقذتهم الحوادث فشردتهم في الأرض ليجدوا أجواء تطب لمرض القرار والاطمئنان
وقد أكثر اليهود من المطالبة بالوطن القومي، وهو عندهم فلسطين، فإن عادوا إليها جميعاً فستكون عودتهم المرموقة نذير انحلال، ومن قال بغير ذلك فهو يجهل خطر الطعام الواحد على الجسوم والعقول
وقد صرخ اليهود لعهد موسى من الطعام الواحد، كما قص علينا القرآن، فأوصاهم موسى بهبوط مصر، لأن مصر منوعة الفواكه والحبوب والبقول، وهذا سر القوة التي جعلت المصريين بمأمن من طغيان الأمراض الفواتك على اختلاف الأجيال
قال العباس بن الأحنف وقد آذاه تقلب محبوبته فوز:
يا فوزُ لم أهجركُم لملالةٍ ... مني ولا لمقال واشٍ حاسد
لكنني جربتكم فوجدتكم ... لا تصبرون على طعام واحد(516/3)
وقال شاعرٌ آخر:
ومُظهِرةٍ لخلق الله ودّاً ... وتلقى بالتحية والسلام
أتيت لقلبها أشكو إليه ... فلم أخلُص إليه من الزحام
أيا من ليس يكفيها محبٌّ ... ولا ألفا محبٍّ كل عام
كأنك من بقية قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام
وبقليل من التأمل ندرك أن هذين الشاعرين في غفلة عن تلوين العواطف والأحاسيس. وهل يتعلق العاشق بمعشوقته إن أمن عليها الشركاء كل الأمان؟
التعقيد في الميول والأهواء هو سبب الحيوية في الميول والأهواء. ومزية الإنسان أنه منوّع المطاعم والمشارب، فهو يأكل ما تأكل السباع والأنعام والحشرات، وهو لذلك يواجه مكاره الحياة بالقوة المستمدة من تلوين الطعام والشراب. إن مزية الإنسان أنه حيوان عارم لا تصده حدود ولا سدود، وأنه يجد طعامه ولو سكن فوق رءوس الجبال
هل سمعتم الوزير الإنجليزي الذي اختبر معدته بالأكلة الهندية، الأكلة المركبة من توابل حِرِّيفة لا يقدر على ابتلاعها غير الهنود؟
كان يقال إن العائلة الإنجليزية إذا استقرت مائة سنة في الهند فستنقرض، لأن جو الهند يخالف جوّ الجزر البريطانية، ثم ظهر أن هذا القول يعوزه الدليل، فقد تأصلت في بلاد الهند عائلات بريطانية ولم تنقرض
والوثائق تحت يدي، فالإنجليزي المقيم في الهند تصل إليه أزواد من كل أرض، فهو هندي الموطن، ولكنه دوليّ الطعام والشراب، وبذلك تأخذ أمعاؤه وقودها المنوع من هنا وهناك
والإنجليزي المقيم في الهند لا يكتفي بقراءة ما تخرج مطابع الهند. وإنما تنتقل إليه المطبوعات الأوربية والأمريكية بأيسر عناء، فيرى وجوه الآراء الغربية قبل أن يرى وجوه الآراء الشرقية، ويعيش بملء روحه وعقله عيشاً لا يعرفه جيرانه من الهنود
قلّت أملاك الآساد في الأرض، لأنها أكلة لحوم، وقلت أملاك الغزلان في الأرض، لأنها أكلة أعشاب
هل تعرفون الظباء في حياتها اليومية؟
إنها تتمرن على الجري في كل وقت، لتحسن الفرار من هجوم الآساد، وكان ذلك لأن فطرة(516/4)
الظباء فطرة غبية، فهي لا تحب غير حياة التوحش والتوحد، وهذه الحياة فرضت عليها الذل، كما فرضته على الآساد. أليس من بلاء الأسد أنه لا يستطيع العيش بأرض خالية من الحيوان، ولو أخرجت أطيب الثمرات؟
واكتفاء أكثر أنواع الحيوان بالطعام الواحد قضى بأن تعيش في ظل الوهم الأول، فهي جميعاً تخاف من النور حين يسطع بالليل. ولو دخل إنسان غابة وحشية وبيده مصباح لأزعج ما فيها من الكواسر والجوارح، لأن تلك الخلائق ترى أن النور قوة سماوية لا أرضية، وأنه لذلك أمضى سلاح
وقد تحرر الكلب من الطعام الواحد بعض التحرر لا كل التحرر، ولهذا ظل على أشياء من المخاوف الحيوانية، فهو ينزعج من الليل أشد الانزعاج، وهو لا يكف عن النباح إن قضى الليل في العراء
والطعام الواحد يؤذي الأرواح، كما يؤذي الأبدان، والعقل يُعطب بالطعام الواحد كما يُعطب الجسم. فمن الواجب أن نزود عقولنا في كل يوم بأزواد مختلفات. ورياضة العقل على تقبل الآراء لا تقل عنفاً عن رياضة الجسم على تناول الطعام الحرّيف
لاحظت أن البهائم تميز بين الطيب والخبيث من الأعشاب بدون تعليم، وهل سمعنا أن بهيمة أكلت عشباً ساماً فماتت؟
ولكن هذه الغريزة الهادية من أسباب الانحطاط في طوائف من الحيوان، فيها تنعدم فرص التجاريب، والتجربة خصيصة إنسانية وهي أعظم تمرين لتقوية عضلات العقل، وللعقل عضلات!
ولاحظت أن المواليد الحيوانية تعرف طريقها إلى الحياة منذ ساعة الميلاد، فهي تأكل وتشرب وتمشي وتلعب من أول يوم
فكيف ضاع هذا الحظ على المواليد الإنسانية؟
وكيف جاز أن يحتاج المولود الآدمي إلى شهور طوال قبل أن يعرف كيفية الوقوف؟
قالت إحدى الجرائد الإنجليزية في وصف الملك فيصل الثاني (هو طفل في غاية من الذكاء ولكن لا تظهر عليه علامات النُّضج المبكّر)
فما معنى العبارة الأخيرة؟ هل ترونها ترمي إلى التهوين من شأن ذلك الطفل؟(516/5)
لا، إنها غاية في المدح، لأن النضج المبكر ليس علامة حسنة في حيوات الأطفال
الإنسان الجيد كالشجرة الجيدة، يحتاج في تكوينه إلى متاعب، وقد حدثتكم مرة أن الشجر الجيد هو الذي ينمو في بطء وتمهل. وأحدثكم اليوم أن السوس لا يعض غير الخشب المأخوذ من شجر سريع النماء
أقول هذا لأقرر حقيقة طُفتُ حولها عدداً من السنين، ولم أستطع التعبير عنها بوضوح وبيان
تلك الحقيقة هي أن العقل لا يخاف عليه من اصطراع الآراء إلا إذا فاتته فرص التدريب على الاصطراع، وهذه الفرص تفوت العقل إذا اكتفى بالطعام الواحد في المعقولات، كما يتعرض الجسم للخطر إذا اكتفى باللون الواحد في المطعومات
ألم تلاحظوا أن خواطر الشك والريب والإلحاد لا تساور غير المبتدئين؟
إذا رأيت شخصاً يجادل في آيات الله فاعرف أنه طفل، لأن هذا النوع من الجدال مألوف عند الأطفال
وإذا رأيت شخصاً يناقش في أمور فرغ منها الباحثون فاعرف أنه طفل، والطفولة في العقول قد تطول في حياة بعض الناس!
أما بعد فما الذي أوحى هذه الأفكار بهذا الأسلوب؟
أوحاها ضيفٌ رحل إلى غير معاد، وما أصعب فراق الضيف المحبوب إلى غير مَعاد!
موضوع المقال هو الصفحات الآتية، أما الصفحات الماضية فقد أنشأتها على سبيل التمهيد، على قلة ما أصنع في تحرير المقال على دفعات
وسأترك الصفحات الآتية على ما كانت عليه في الوضع الأول، لأني أخشى أن يصيبها التزييف بالتعديل
وفي ترجمة خبرك، أيها المفارق إلى غير معاد، أسوق الحديث:
في جنح الليلة الماضية مات العصفور. وفي صبيحة اليوم دفناه في حديقة البيت بجوار شجرة زهراء، ضنّا على جسمه اللطيف بأن يكون طعمه لفرد من الحيوان أو لطائفة من النمل، إن ألقينا به في الصحراء. . . فما تاريخ ذلك العصفور الصريع؟
كان هدية من صديق راقه ما كتبت في خصائص الطير والحيوان، يوم كنت أنشر بمجلة(516/6)
الرسالة قصة آدم وحواء، هدية لطيفة من صديق عُرف أهله بلطافة الأذواق
دخل العصفور المنزل بعد الغروب، وهو يغفو بعد الغروب، ولكنه استيقظ حين بهره نور الكهرباء، فتلفّت حواليه تلفّت المتأمل، عساه يتعرف إلى مأواه الجديد
وانتظر الأطفال تغريده في الصباح، وكانوا سمعوا أنه يستقبل الصباح بالتغريد، ولكنه آثر الصمت، كما يصمت كل غريب!
وبعد يومين بدأ يرسل تغاريده بقوة أغنت الأطفال عن صلصلة (الُمنّبه) وحببت إليهم انتظار تباشير الصباح
كانت حياة هذا العصفور في طعامه عجباً من العَجب، كان طعامه حبّات تُشبه حبات البرسيم، ومع هذا كان يقزقزها قزقزة غريبة فيفصل القشور عن اللباب في لمحات وهو يتناول الغداء، وكانت هذه المهارة من طرائف ما ترى العيون. . .
كان مُقامه في مدخل البيت، وهو مكان يواجه هواء الشمال، ويشعر من يقيم فيه بقسوة الشتاء، فاقترحت أن يقيم ساعتين من كل صبُحيه بشرفة الغرفة الشرقية، وهي مأوى في الشتاء
فرح العصفور بالشمس فغرّد وغرّد، والتفتُ فرأيت جماعة من العصافير تحيط بالقفص لتستمع بالحفلة الموسيقية، الحفلة التي تُقدم كل صباح بالمجان!
عند ذلك أشرت بأن يبقى العصفور في تلك الشرفة ساعات من كل يوم، إكراماً لهذه العصافير المرهفة الأحاسيس!
ثم وقع ما لم يكن في الحسبان، فقد سُمع صراخ العصفور، سُمع من الدور الأول وهو يصرخ بشرفة في الدور الثاني، مع أن التليفون لا يسمع في الدور الأول إلا بتوصيله كهربائية تمنح التليفون لقب الهتّاف
أسرعت الروح التي تهيمن على البيت لتعرف سبب الصراخ فرأت صقراً بسط جناحيه على قفص العصفور، وأخذ ينقره من جانب إلى جانب، والعصفور يعلو ويهبط في ذهول، فلطمت الصقر لطمة قهرته على الفرار، ثم أنزلت العصفور إلى مكانه بالدور الأول، بعد أن ترك الصقر برأسه جرحاً صار في صورة (الشوشة) التي تزدان بها رءوس بعض الشبان(516/7)
بدا لي بعد ذلك أن أقيم العصفور في الشرفة لحظات من كل صباح وأنا أتهيأ للخروج، لعل الصقر يدنو فأصطاده، وأنا مولع باصطياد الصقور والنسور، ولكن الصقر كان أمكر مني فقد كان يقف من بعد، ثم ينصرف حين يعرف ما أريد
قلت لأبنائي: إن الصقر لن ييأس، وهو يتحرق شوقاً إلى لحم العصفور المغرد، وفي هذه المنارة لوح من الزجاج حطمه رصاص المدافع أيام الغارات الجوية، فانتظروا نزول الصقر من هذا المكان لتصطادوه، إن اجترأ على النزول
ثم كانت العجيبة الآتية:
جاء عيد الفصح، ومضى أبنائي إلى سنتريس، لشهدوا مطلع الربيع في الحديقة التي تنتظر قدومهم في كل صباح، الحديقة التي أعدّ أشجارها من أبنائي
ونظرت فرأيتني في البيت وحدي، ورأيت العصفور في إملاق، فلم يكن أمامه غير حبات لا تدفع غوائل الجوع، وهو أضعف من أن يحتمل الجوع
مضيت إلى دار ابني الأكبر أستشيره فيما أصنع، وكان العصفور غرّد بعد الغروب، وهو لا يغرِّد بعد الغروب إلا في توسل الملهوف
وخرجنا فطوفنا بشوارع مصر الجديدة وبعض شوارع العباسية فلم نجد طعام العصفور في أي مكان
وبعد متاعب وجدنا نوعاً من السمسم يصلح لاقتيات العصافير، فيما قيل
أقبل العصفور على السمسم يلتهمه بلا احتراس، ليأمن غائلة الجوع، ألم أكن أقدم إليه أغصاناً يابسة فينقرها بشهية لأنها تذكره بعهد أجداده في حضانة الغابات؟
ولكن نشاط العصفور أخذ يضعف من يوم إلى يوم، وانتهى الأمر بموته في جنح الليلة الماضية، فما العبرة من ذلك الموت، ولكل موتٍ عبرة؟
أماته الاكتفاء بالطعام الواحد، والطعام الواحد يميت الجسوم والعقول
الآن عرفت كيف كان يغرّد بأسلوب رتيب لا يعرف تلوين الألحان
الآن عرفت كيف تقترب طرائق الصوت عند أكثر صنوف الحيوان، فما كان ذلك إلا لأن كل أمة حيوانية لها طعام واحد، ولو بَعُد ما بينها بعد الشمال من الجنوب
الآن عرفت كيف امتاز الإنسان باختلاف الألوان في الملامح والطبائع والأصوات، وكيف(516/8)
يختلف رجل عن رجل وأمة عن أمة في طرائق التعبير عن المعاني
تلوين الطعام يلون الأهداف والأغراض والآراء والأهواء
وذلك كنز وصلت مفاتيحه إلى بعض الشعوب فهي تُلقي بأبنائها في مجاهل الشرق والغرب، لترتاض أمعاؤهم على الحياة، ولو فوق متون البراكين
كم تمنيت أن أعيش أياماً في سفح فيزوف، وكان يستهويني حين تمر عليه الباخرة بالليل. . . ولكن لا بأس، فقد أمتعتني الحياة بصنوف من المضجرات والمزعجات والأحابيل.
هل يمر يوم بلا متاعب على من يمتشق القلم في كل يوم؟
زكي مبارك(516/9)
العقيدة الدينية وطريق ثبوتها
للأستاذ محمود شلتوت
التكاليف علمية وعملية - العقائد - طريق ثبوتها - النظريات الخلافية الاجتهاد فيما لا قاطع فيه يمنع التأثيم - أثر التعصب المذهبي - تطبيق
قال العلماء: إن للإنسان قوتين؛ إحداهما نظرية، وكمالها في معرفة الحقائق على ما هي عليه؛ والأخرى عملية، وكمالها في القيام بما ينبغي من الشئون في الحياة. وقد قرر الإسلام هذا المبدأ أساساً لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة فجاءت تكاليفه نوعين: منها ما يطلب علماً، ومنها ما يطلب عملاً. ونرى ذلك واضحاً جلياً في هذه الكثرة من الآيات القرآنية التي تجمع بين الإيمان والعمل وتربط بهما النجاة والسعادة: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)، (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً). (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات). . . الخ.
وقد اصطلح العلماء على تسمية التكاليف التي تطلب علماً (بالعقائد) أو (أصول الدين) كما اصطلحوا على تسمية التكاليف التي تطلب عملاً (بالشريعة) أو (الفروع)
ولما كانت الحقائق التي يمكن أن يعلمها الإنسان كثيرة، وكان أكثرها لا يتصل من قريب بالسعادة التي يقصدها الشارع قضت الحكمة أن يبيَّن للناس ما يجب عليهم أن يؤمنوا به في سبيل الحصول على تلك السعادة. وذلك عند التحقيق يرجع إلى الأصول التي اشتركت فيها الأديان السماوية جميعها من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. . . الخ
حدد الشارع هذه الأمور، وطلب من الناس الإيمان بها. والإيمان هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل. ومن الواضح أن هذا الاعتقاد لا يحصله كل ما يسمى دليلاً، وإنما يحصله الدليل القطعي الذي لا تعتريه شبهة
وقد اتفق العلماء على أن الدليل العقلي الذي سلمت مقدماته، وانتهت في أحكامها إلى الحس أو الضرورة يفيد ذلك اليقين ويحقق الإيمان المطلوب
أما الأدلة النقلية فقد ذهب كثير من العلماء إلى إنها لا تفيد اليقين ولا تحصل الإيمان المطلوب، ولا تثبت بها وحدها عقيدة. قالوا: وذلك لأنها مجال واسع لاحتمالات كثيرة(516/10)
تحول دون هذا الإثبات. والذين ذهبوا إلى أن الدليل النقلي يفيد اليقين ويثبت العقيدة شرطوا فيه أن يكون قطعياً في وروده، قطعياً في دلالته. ومعنى كونه قطعياً في وروده ألا يكون هناك أي شبهة في ثبوته عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك إنما يكون في المتواتر فقط. ومعنى كونه قطعياً في دلالته أن يكون نصاً محكماً في معناه، وذلك إنما يكون فيما لا يحتمل التأويل. فإذا كان الدليل النقلي بهذه المثابة أفاد اليقين وصلح لأن تثبت به العقيدة. وأمثلة ذلك فيما ورد إلينا آيات القرآن التي تحدثت عن التوحيد والرسالة واليوم الآخر وما إلى ذلك من أصول الدين؛ فقد جاءت - كما هي قطعية في ورودها - قطعية في دلالتها، لا تحتمل أكثر من معناها: (فاعلم أنه لا إله إلا الله). (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد). (قل بلى وربي لتبعثن). (قل يحيها الذي أنشأها أول مرة). (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله). (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين)
هذا هو شأن العقائد وطريق ثبوتها. ولا بد أن يعم العلم بها جميع الناس ولا يختص بطائفة دون أخرى، لأنها أساس الدين وبها يكون المرء مؤمناً فكيف يتصور في مؤمن أن يجهلها؟ ومن مقتضيات هذا العلم العام بها ألا يقع خلاف بين العلماء في ثبوتها أو نفيها
ومن هنا نستطيع أن نقرر أن العمليات التي لم ترد بطريق قطعي، أو وردت عن طريق قطعي ولكن لابسها احتمال في الدلالة فاختلف فيها العلماء، ليست من العقائد التي يكلفنا بها الدين، والتي تعتبر حدَّاً فاصلاً بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون!.
وإنك لتجد كثيراً من هذا النوع في كتب التوحيد إلى جانب العقائد التي كلفنا الله أن نؤمن بها، فهي تذكر إلى جانب وجود الله ووحدانيته والرسل واليوم الآخر مسائل: رؤية الله بالأبصار، وزيادة الصفات على الذات، ومرتكب الكبيرة، وما يكون آخر الزمان من ظهور المهدي والدجال والدابة والدخان ونزول عيسى وما إلى ذلك مما يذكر في مثل (خريدة الدردير) و (جوهرة اللقاني) وغيرهما
والتاريخ العلمي يدل على أن هذه مسائل جر إليها البحث في العقائد حين تعددت الفرق وكثرت الآراء والمذاهب الكلامية، فكانت محل اجتهاد بين العلماء كل يرى رأيه فيها، ويدلي بحجته على ما يرى ملتمساً الوصول إلى ما يلائم في نظره العقيدة المتفق عليها(516/11)
وأمثلة ذلك كثيرة، منها أن المسلمين جميعاً قد اتفقوا على أن الله تعالى منزه عن كل نقص، متصف بكل كمال. فهذه عقيدة قاطعة يعلمها كل مؤمن ولا يختلف فيها عالم مع عالم، ولكن البحث جر إلى مسائل تتصل بها: هل يجب على الله أن يفعل الأصلح لعباده؟ هل العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية؟ هل المعاصي التي يفعلها العباد مرادة لله؟ فاختلف العلماء في هذه المسائل: رأى المعتزلة أن ترك الأصلح، وتعذيب العبد على شيء لم يفعله، وإرادة القبيح، نقص لا يليق بجلال الله وكماله فذهبوا إلى وجوب الأصلح على الله، وإلى أن العبد خالق لأفعال نفسه، وإلى انه لا يريد المعاصي. ورأى غيرهم أن إيجاب نفسه، وإلى أنه تعالى لا يريد المعاصي. ورأى غيرهم أن إيجاب شيء على الله، وعجزه عن خلق ما يفعله العبد، وحصول ما لا يريد في ملكه، نقص لا يليق بجلال الله وكماله فذهبوا إلى أن الله لا يجب عليه فعل الأصلح، وإلى أنه خالق أفعال العباد، وإلى أنه يريد المعاصي. فأنت ترى أن هؤلاء جميعاً لم يختلفوا في الأصل الذي كلفنا الله الإيمان به وهو تنزيه الله تعالى عن النقص ووصفه بالكمال، ولكنهم اختلفوا في أشياء: هل هي نقص فلا يتصف الله بها، اوليست بنقص فيتصف بها، وقد ذكرت كتب التوحيد ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وأوردت الأدلة النقلية التي استدل بها كلٌ على ما يرى.
على هذا النحو جرى الخلاف بين الفرق الإسلامية في المسائل التي جر إليها البحث في العقائد، وهو خلاف كخلاف الفقهاء في أحكام الفروع التي لم يرد فيها نص قاطع محكم. خلاف لا يصح أن يُرمى أحد فيه بأنه حاد عن الصراط المستقيم، أو ضل، أو فسق، أو أنكر مسألة من مسائل الدين. . . الخ ولكن عصور التعصب المذهبي العنيف حملت للمسلمين تراثاً بغيضاً من التراشق بالتهم، والترامي بالفسوق والضلال، فتبادل الفقهاء أصحاب الفروع نوعاً من التهم، وتبادل المتكلمون أصحاب العقائد مثل ذلك، وتلقف المخدوعون من الخلف هذه التهم وملأوا بها كتبهم، وأسرفوا في الاعتداد بها حتى جعلوها مقياس ما يقبل من الآراء أو يرفض
من هذا كله يتضح:
1 - أنه لا بد في العقيدة من أن يكون دليلها قطعياً في وروده وفي دلالته
2 - وأن ما لم يكن دليله قطعياً، فاختلف فيه العلماء، لا يصح أن يعد من العقائد، ولا أن(516/12)
يكون رأيُ طائفة معينة فيه هو الحق دون سواه
3 - وأن كتب التوحيد لم تقتصر على ذكر العقائد التي كلفنا الشارع بها، وإنما ذكرت بجانبها بعض النظريات العلمية التي تعارضت فيها ظواهر النصوص فكانت محل اجتهاد بين العلماء ونتيجة هذه كله: أن القول بأن كذا عقيدة يجب الإيمان بها لأن ظاهر الآية أو المروي من الحديث يدل عليه، أو لأنه رأي أهل السنة والجماعة مثلاً، أو لأنه مذكور في كتب التوحيد. كل ذلك قول من لا يفهم معنى (العقيدة) ولا يعرف أساسها الذي تبنى عليه.
لاشك أن هذه المبادئ التي ذكرنا تنير سبيل البحث لمن يريد معرفة الحق فيما هو من العقائد وما ليس منها، وهي مبادئ مسلمة عند العلماء يعرف كل مطلع على كتبهم ومناقشاتهم أنه لا نزاع فيها. وعلى ضوء هذه المبادئ نستقبل قول الذين زعموا (أن رفع عيسى ونزوله آخر الزمان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع) ولنا في ذلك نظرات ثلاث: نظرة فيما ذكروا من آيات، ونظرة فيما ساقوا من أحاديث، والنظرة الثالثة فيما ادعوا في هذا المقام من إجماع
فأما الآيات التي تذكر في هذا الشأن فنحن نرجعها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: آيات تذكر وفاة عيسى ورفعه، وتدل بظاهرها على أن الوفاة قد وقعت، وهذه الآيات هي:
1 - قوله تعالى في سورة آل عمران (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ)
2 - قوله تعالى في سورة النساء: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم) إلى قوله: (وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه)
3 - قوله تعالى في سورة المائدة (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم)
وقد تناولنا هذه الآيات في الفتوى ودرسناها دراسة علمية واضحة، وعرضنا إلى آراء المفسرين فيها، وبينا أنه ليس فيها دليل قاطع على أن عيسى رفع بجسمه إلى السماء، بل هي - على الرغم مما يراه بعض المفسرين - ظاهرة بمجموعها في أن عيسى قد توفى لأجله، وأن الله رفع مكانته حين عصمه منهم، وصانه وطهره من مكرهم. ولسنا في حاجة إلى أن نعيد شيئاً مما ذكرناه
النوع الثاني: آيات ما كان ليخطر بالبال أن لها صلة بموضوع البحث، فلذا لم نفكر فيها،(516/13)
وحسبنا الآن أن نمثل لهذا النوع بما قال أحدهم:
(ولك أن تضم إلى ما ذكرناه قوله تعالى عنه عليه السلام (وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين). ففي قوله (ومن المقربين) إشارة إلى رفعه إلى محل الملائكة المقربين)
والشيخ يريد السماء طبعاً، وهو ليٌّ للكتاب غريب، فقد وردت كلمة (المقربين) في غير موضع من القرآن الكريم: (والسابقون السابقون أولئك المقربون). (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم). (عيناً يشرب بها المقربون) وإذن فليس عيسى وحده هو الذي يعيش بجسمه في السماء، بل معه أفواج من عباد الله يعيشون فيها ويزداد عددهم يوماً بعد يوم. وهكذا فليكن المنطق!
ثم يقول: (بل في قوله تعالى (وجيهاً في الدنيا والآخرة) إشارة إلى ذلك، لأن الوجيه بمعنى ذي الجاه، ولا أدل على كونه ذا جاه في الدنيا من رفعه إلى السماء)
وهذا كلام لا يقال، فإن وجاهة عيسى في الدنيا هي الرسالة المؤيدة بالمعجزات البينات (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل: أنى قد جئتكم بآية من ربكم) فكيف تذكر بجانب هذه الوجاهة قصة الرفع إلى السماء التي يرغمون هذه الآية على إفادتها أو الإشارة إليها؟ وكيف يكون وجيهاً في الدنيا من غادر الأرض وترك أهلها الذين يحسون وجاهته؟ وهكذا ينتزع القوم من كل عبارة إشارة أو تلميحاً ليؤيدوا ما زعموا أنه عقيدة يكفر منكرها؟
النوع الثالث: آيتان قد اختلفت آراء المفسرين في بيان المراد منهما، وجاء في بعض ما قيل أنهما تدلان على نزول عيسى وهما:
1 - قوله تعالى في سورة النساء: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته)
2 - وقوله تعالى في سورة الزخرف: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها)
ولا نحب أن يطيل اليوم على القراء بالبحث في هاتين الآيتين وبيان درجتهما في الدلالة على ما زعموا، فليكن ذلك في حديثنا المقبل إن شاء الله.
محمود شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء(516/14)
أدباؤنا والمسرح
للأستاذ دريني خشبة
أخذنا على مجلاتنا الممتازة، في كلمة سابقة، انقطاع الصلة بينها وبين الفنون المصرية الحديثة، وأكبر مظاهرها المسرح والسينما والغناء والموسيقا؛ ونريد في هذه الكلمة بحث العلل التي تصرف كبار أدبائنا عن التأليف أو محاولة التأليف، للمسرح المصري
والملاحظ في مصر اليوم تلك الحركة الطيبة في كتابة القصة، وإقبال القراء على القصة المصرية ذلك الإقبال الكبير المشجع الذي أوشك أن يكون منافساً خطراً لقراء القصة المترجمة. ولدينا ولله الحمد عدد لا بأس به من كتاب القصة المصرية الشائقة التي لا تقل رونقاً ولا بهاء عن القصة الأجنبية وإن لم تبلغ مرتبتها بعد في الطول ولا في التماسك ولا في الصبر على معالجة الأدواء الاجتماعية. . . ولا بأس من أن نسجل هنا أن جل كتابنا، إن لم يكن كلهم، أميل إلى كتابة الأقصوصة منهم إلى تأليف القصة، وقد بلغ بعضهم في ذلك حد الكمال، وهو ما يفخر به الأدب المصري الحديث
وقد يحار الإنسان في انصراف أدبنا هؤلاء عن التأليف المسرحي، وإمداد المسرح المصري بما يفتقر إليه من المسرحيات التي تساعده في شق طريقه بين مسارح العالم الناجحة المحترمة. ولعلنا سائرون في نهضتنا الأدبية الحديثة في مثل الطريق التي سار فيها الأدب الإنجليزي خاصة والآداب الأوروبية على العموم؛ فلقد لاحظ مؤرخو الأدب الإنجليزي أنه لم يتفق أن ازدهرت القصة إلى جانب ازدهار الدرامة في عصر ما من عصور هذا الأدب، ففي عصر إليزابث مثلاً كانت الدرامة هي التي تحتل المقام الأول في إنجلترا، بينما كانت القصة متخلفة نوعا ما. أما في العصر الفكتوري، فقد حدث العكس، إذ ازدهر أدب القصة، وغاض أو كاد يغيض الأدب المسرحي، حتى رد إليه برنارد شو وسير جيمس باري، وطائفة أخرى من الكتاب المسرحيين شبابه الذي ولى، ويتنبأ بعض مؤرخي هذا الأدب أن نهضة التأليف المسرحي الحديثة التي بدأها شو ونفخ فيها باري وجولزورثي وموجهام وكوارد، ومن إليهم دورة من هذه الدورات في تاريخ الدرامة والقصة، تلك الدورات التي تجري إحداها في إثر سابقتها حتى إذا حلت محلها لم تلبث أن تخلي لها الطريق ردحاً من الزمن لتعود إلى مسرح الحياة مرة أخرى، وهكذا دواليك. . .(516/16)
ويعللون ذلك بروح العصر أولاً، وبما كان من تحريم التمثيل وإغلاق جميع المسارح الإنجليزية خلال الحروب الأهلية ثانياً؛ لكنهم لم يعللوه قط بكسل الأدباء، أو تكاسلهم، أو ازدرائهم للمسرح كما يخيل للإنسان أن يعلل كساد الإنتاج المسرحي عندنا، وتراخي كبار الكتاب في مصر في مد المسرح بما هو جد محتاج إليه من الدرامات بأنواعها. . .
وبعد، فلنكن صرحاء في تعليل عقمنا في الإنتاج المسرحي، هذا العقم الذي يضع أدبنا في مؤخرة آداب العالم بالرغم من تقدم فن القصة المصرية الذي لا يسع المنصف إلا أن يعترف به
فأول أسباب ذلك العقم هو تأخر الترجمة في مصر، وضآلة النقل الفني المسرحي، إن لم نقل انعدامه. . . ويحار الإنسان على من تقع جريرة تأخر الترجمة وضآلة النقل الفني المسرحي؟! أتقع جريرة ذلك على الأدباء المصريين ذوي الثقافة الأجنبية والبصر بمختلف آداب العالم! أم تقع على كلية الآداب المصرية؟ أم تقع على وزارة المعارف العمومية وإدارة الترجمة بها؟ أم تقع على دور النشر ولجان الترجمة والتأليف؟ أم تقع على أغنيائنا الذين يصمون آذانهم عن الحركات الأدبية في مصر؟ أم تقع على أمرائنا الذين لا يشملون بالرعاية (مساكين الأدباء) كما كان يصنع أمراء أوروبا في عصر النهضة؟
1 - على من تقع جريرة تأخر الترجمة في مصر؟ لا جرم أن شطراً كبيراً من تلك الجريرة يقع على عاتق الأدباء المصريين الذين لهم دراية كاملة بالتيارات الأدبية الحديثة في العالم كله. . . فأولئك الأدباء - وهم كثيرون جداً والحمد لله - يعلمون مما درسوا من آداب الأمم المختلفة أن لابد لكل نهضة أدبية في مدارج ارتقائها الأولى من لقاح أجنبي تستفيد به، وينير لها السبيل إلى الكمال، ويوقيها الوقوع في التجارب الفاشلة التي مرت بها الأمم الأخرى - وهم يعلمون كذلك أن الأمة التي لا مسرح لها لا أدب لها، مهما كثر عندها كتاب المقالات ومؤرخو الأدب العربي وناظمو القصائد والموشحات، فالمسرح اليوم عند جميع الأمم، وكما كان في معظم العصور، هو المظهر الأول من مظاهر النشاط الأولي عند أي شعب من الشعوب، وقد أسلفنا القول في كلمة سابقة أن نصف، أو ثلاثة أرباع الآداب العالمية هو أدب مسرحي صرف. فإذا كان الأمر كذلك، فإلى متى يا ترى نظل بأدبنا الحديث في مؤخرة آداب العالم؟. . . ليس معقولاً ولا مقبولاً أن يماري أحد في قيمة(516/17)
المسرح ومساسه بالتربية الشعبية، ومجرد المماراة في ذلك ضرب من الجنون أو النقص الذهني لا يليق بأمة ناهضة طامحة إلى الكمال. . . فلماذا لا يترجم كبار كتابنا مع ما لهم من الإلمام باللغات الأجنبية؟. . . إن الذي له دراية بأية لغة أوربية من اللغات الكبيرة يستطيع أن يقرأ روائع الآداب العالمية منقولة إلى تلك اللغة نقلاً يشبه الأصل إن لم يفقه جمالاً وروعة. . . فمتى يستطيع القارئ العربي الاطلاع على روائع آداب العالم منقولة إلى اللغة العربية؟ متى يستطيع أدباء الأزهر ودار العلوم وطلاب الثقافة العامة من جمهور القراء الاتصال بالأذهان العالية دون أن يتجشموا تعلم اللغات الأجنبية؟ متى يستطيع المسرحيون في مصر الاطلاع على تاريخ المسارح العالمية وروائعها وتراجم أبطالها، ومعظمهم على ما نعرف من الأمية والعجز والفقر الأدبي والثقافي؟. . . ثم ماذا يمنع كبار أدبائنا من الترجمة وأنا أعرف منهم أربعين أو خمسين على الأقل يستطيع الواحد منهم أن ينقل إلى العربية ثلاث مسرحيات كل عام على أن يشغل كل يوم ساعة، فإذا انتهى العام قدموا للقارئ العربي وللمسرح المصري مائة أو مائة وخمسين من روائع درامات العالم. فماذا تكون هذه الثروة الأدبية يا ترى؟ وماذا يكون أثرها في خلق النهضة المسرحية وتوجيهها في مصر؟. . . وأعود إلى التساؤل عما يمنع هؤلاء الأدباء الكبار من الترجمة؟ إني أجلهم عن أن يكون ما يحول بينهم وبين ذلك هو الكسل، أو التعلل بالعوامل المثبطة التي سنتناولها فيما بعد!
2 - أما نصيب كلية الآداب من جريرة تأخر الترجمة في مصر فهو كبير بلا شك، وإن كان في رأيي في المرتبة الثالثة أو الرابعة بعد نصيب الكبار من أدباءنا. فخريجو كلية الآداب ولا سيما خريجو أقسام اللغات الأجنبية. ما يزالون قلة في مثقفي هذه الأمة، ولست أريد أن أنتقص من أقدار هؤلاء الخريجين حين أقرر أن معظمهم ضعاف أشد الضعف في اللغة العربية، وأن كثيرين منهم - إن لم يكن أكثرهم - ينصرفون عن القراءة وإدمان المطالعة والاتصال بما أخرجته المطابع الأوربية، وما تزال تخرجه من روائع الأدب، والأدب المسرحي بوجه خاص. على أن كثيرين من هؤلاء الخريجين يجيدون أكثر من لغة أجنبية، كما يجيدون العربية إجادة تامة، فماذا يمنع هؤلاء من النقل المسرحي إلى اللغة العربية؟ إنهم أعرف من جمهور القراء بما نقوله هنا عن المسرح والأدب المسرحي، فهل(516/18)
الذي يحول بينهم وبين هذا العمل هو نفسه ما يحول بين كبار الأدباء في مصر وبين المسرح والدرامة المسرحية؟ على أننا نعفي من ذلك هيئة خريجي قسم اللغة الإنجليزية التي تنفي عن نفسها تهمة الكسل بما تقدمه لنا أحياناً من إذاعات تمثيلية جيدة وإن تكن مقتضبة. . .
3 - أما جريرة وزارة المعارف في تأخر الترجمة فهي بلا شك أعظم شأناً من جريرة كبار الأدباء ومن جريرة كلية الآداب؛ ومن المؤلم جداً أن يكون ذلك كذلك، وفي وزارة المعارف إدارة للترجمة يرأسها مدير مجد صبور على العمل، ويشرف عليها رجل ارتبطت به نهضتنا الأدبية الحديثة إلى حد بعيد، وكان من حسن حظ هذه النهضة أن يتزعمها من نحو عشرين عاماً. . . ذلك هو عميد الأدب العربي، ومؤلف (مستقبل الثقافة في مصر) ومستشار وزارة المعارف الفني. وقد يخيل لي أن الكلام هنا لابد أن يكون شائكاً لأنه يتناول الإدارة التي أعمل فيها منذ عهد قريب، ولذلك أعتذر مقدماً عن صراحتي التي جرّت عليّ كل مصائبي في هذه الحياة، لأني إن لم أكن صريحاً في الكلام عن هذه الإدارة فماذا أكون؟ إن إلواء الكلام لم يكن قط من سجاياي، وإن كان - قبحه الله - من أحسن فضائل العصر الحديث! وقبل أن أخوض في نقد المنوال الذي تسير عليه إدارتنا المحترمة أنقل للقراء ما يأتي من كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) الذي ألفه الدكتور طه حسين بك. قال حضرته في الفصل الثالث والخمسين (جـ 2 - ص 496 وما بعدها): (وفي حياتنا العقلية تقصير معيب يصيبنا منه كثير من الخزي كما يصيبنا كثير من الجهل وما يستتبعه الجهل من الشر. ولا بد من إصلاحه إن كنا نريد أن ننصح لأنفسنا ونعيش عيشة الأمم الراقية. وإن كنا نريد أن ننصح للعلم نفسه ونشارك في ترقيته وتنميته. وإن كنا نريد أن ننصح للشعب فنخرجه من الجهل إلى المعرفة، ومن الخمود والجمود إلى النشاط والإنتاج. ومظهر هذا التقصير المخزي إهمالنا الشنيع للترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية الحية. . . إلى أن يقول. . . ونحن من غير شك أقل الأمم حظاً من الترجمة، وأقلها علماً لا أقول بدقائق الحياة العقلية الأوربية بل أقول بأيسر مظاهرها. . . وينشأ عن هذا أننا لا نترجم؛ وكيف نترجم إذا كنا لا نقرأ؟ وكيف نقرأ إذا كنا لم نثقف هذه الثقافة التي تجعل القراءة جزءاً مقوماً لحياتنا اليومية؟ وينشأ عن هذا خطر عظيم جداً وهو أن القارئين الكاتبين منا(516/19)
على قلتهم يجهلون الحضارة الحديثة جهلاً تاماً، لأن كثرة هؤلاء القارئين الكاتبين يجهلون اللغات الأجنبية جهلاً تاماً، ولأننا لا نترجم لها إلى اللغة العربية مالا تستطيع أن تقرأه في اللغات الأجنبية. . . ثم يقول. . . وقد قلنا غير مرة في غير هذا الحديث أن من غير المعقول أن تكلف كثرة القارئين الكاتبين في أمة من الأمم إتقان اللغات الأجنبية؛ فلا بد من أن تنتقل لها خلاصة هذه اللغات إلى لغتها العربية. ذلك حق لها على الدولة، وهو حق لها على المثقفين القادرين على الترجمة. . . إلى أن يقول: فلنترجم إذن ولنكثر من الترجمة، ولنبذل في ذلك أقصى ما نملك من الجهد وأكثر ما نستطيع من المال. وعلى الدولة المسكينة يقع هذا العبء كما يقع عليها كثير من الأعباء وقتاً طويلاً، لأن ظروف الحياة المصرية تقتضي ذلك وتفرضه فرضاً. وإذا كانت وزارة المعارف تمنح الإعانات لكثير من الجماعات والهيئات التي يُشك في نفعها، فلا أقل من أن تنشئ مكتباً للترجمة على أن يكون عمله منوعاً بعض الشيء، فينهض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة التي أصبحت تراثاً للإنسانية كلها والتي لا يجوز للغة حية أن تخلو منها. يترجم هذه الآثار لأغناء اللغة نفسها ومنحها ما تحتاج إليه من المرونة، ولإرضاء الكرامة القومية. . . ثم يقول. . . وواضح جداً أن هذا المكتب لن يستطيع وحده أن ينهض بهذه الأعباء الثقال، فلا بد من تشجيع المترجمين وإغرائهم بالمال. . . الخ)
وليس يخامرني شك في أن الدكتور طه هو أقدر الناس في التعليق على هذا الكلام الحماسي عن الترجمة ومكتب الترجمة الآن، فقد عبر، عندما كان يؤلف كتابه، عن أماني مصر والمصريين وعن حاجة النهضة المصرية إلى هذه الثقافة التي تعتمد - أول ما تعتمد على شيء على الترجمة، وعبّر عن حاجة اللغة إلى ما يغنيها حين ينقل إليها من اللغات الأجنبية ويكسبها المرونة اللازمة لها. . . ثم هو قد رسم المنهاج لمكتب الترجمة الذي هو ضرورة الضرورات لمد النهضة واللغة وجماهير المثقفين والقارئين الكاتبين بروائع الآداب العالمية وإن لم يستطع وحده أن يضطلع بهذا العمل. . . وها هي الأيام قد دارت ووقع اختيار الدولة على الأستاذ الدكتور ليكون مستشارها الفني في تطبيق برنامجه الحافل الذي رسمه في كتابه الجليل. . . والدولة - والله المحمود - سخية أعظم السخاء على جميع المشروعات الحيوية هذه الأيام، وقد بلغت ميزانيتها من الضخامة هذا العام مبلغاً لم(516/20)
تعرفه من قبل، فماذا صنع الدكتور لمكتب الترجمة؟ هل نال هذا المكتب بعض ما تناله قنطرة أو مصرف أو تطهير ترعة أو مدرسة إلزامية ولا أقول ابتدائية أو ثانوية؟ وهل أصبح هذا المكتب - الذي هو ضرورة الضرورات لنهضتنا الثقافية - من الأشياء التي لا نفكر فيها إلا ذلك التفكير الخلفي؟ وبهذه السرعة ننسى الأحلام التي يزخرفها لنا الخيال ونحن نؤلف؟ وهل يستطيع هذا المكتب ولما يبلغ أعضاؤه العشرة، أن يؤدي للنهضة حقوقها عليه؟ وهل العمل الذي فرض على هذا المكتب، والذي لن ينتهي في أقل من عشر سنوات هو من قبيل التنويع الذي أشار إليه الدكتور للنهوض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة؟ وأخشى أن يكون الدكتور قد نسى تلك المثل العليا التي كان يغازلها خياله الخصب وهو يكتب فصوله الشائقة عن الأدب والأدباء والترجمة والمترجمين والتمثيل والممثلين في كتابه الجليل. لقد كان الأجدر بإدارة الترجمة أن تكون شيئاً آخر غير هذا الشيء الذي لن تشعر به الأمة إلا بعد عشرات السنين. . . لماذا نفرغ إلى هذا العمل البطيء السلحفائي الذي يخمد الأنفاس ولا تعطي لنا الحرية في نقل روائع الآداب العالمية التي أشار إليها الدكتور في كتابه؟. . . إني لا أجادل في قيمة الموسوعة التاريخية التي ننقلها إلى العربية، ولكني أجادل في عدم الملائمة بين احتياجاتنا وبين أعمالنا. . . وليس يجادل أحد في أننا أحوج ألف مرة إلى روائع المسرح العالمية وروائع القصص العالمية منا إلى هذا التاريخ العام الذي يأتي دوره بعد أدوار الآداب المختلفة بمراحل شاسعة. فإن لم يكن بد من القيام بكل ذلك، فلنعن على الأقل بهذه الإدارة الضيقة (ولتبذل لها الدولة أقصى ما تملك من جهد وأكثر ما تستطيع من المال) كما يقول الدكتور في كتابه. أما أن نحلم بأشياء جميلة فتتاح لنا الفرصة في إنشائها فنوجدها ولا نوجدها في وقت واحد، فهذا من المتناقضات التي ينبغي ألا نقع فيها، كما يجب ألا تتبعثر جهود تلك الإدارة التي يرأسها أقدر رجال الترجمة في مصر فيما هو بالمحل الثاني أو الثالث مما نحتاج إليه أصلاً. إن الساعات الثمينة التي يقضيها شباب المترجمين يومياً في نقل هذه (الأضابير) التاريخية إلى اللغة العربية كانت تتيح لهذه اللغة عشرين أو ثلاثين درامة كل سنة من أروع الدرامات التي تمد المسرح والقراء في وقت معاً بثروة لا تعدلها ثروة
(للحديث بقية)(516/21)
دريني خشبة(516/22)
بحث لغوي آُنُف
للأستاذ عبد القادر المغربي
كنت ألقيت في ردهة المجمع العلمي العربي بدمشق محاضرة في غريب اللغة قصصت في آخرها خبر الأميرة العمانية (ابنة الجلندي)، وكانت تحمق، أي تنسب إلى الحمقى. وقد ذكروا من حمقها أنها أرادت يوماً أن تلهو، فألبست سلحفاة لها حليّ زينتها، ونزلتها تسرح في حديقة قصرها. وكانت الحديقة على شاطئ البحر، فانسابت السلحفاة إلى الشاطئ وغاصت في الماء بما عليها من الحلي. فأمرت الأميرة جواريها أن يغترفن ماء البحر بأكفهن، ويصببنه على رمل الساحل. وكانت تقول لهن منشطة (نزافِ نزافِ، لم يبق غير قُدافِ) أي لم يبق غير غرفة؛ فعيروها بحمقها، وضربوا به المثل. فتخيلت أنها دافعت عن نفسها بقولها: إن الحروب البشرية التي يقع فيها التغريق والتدمير، لم ينسبوا أهلها إلى الحمقى، فكيف يحمقونها هي؟ ثم قلت على لسانها (أنا غرّقت وهم غرّقوا، وشتان بين ما محَّقت ومحَّقوا، أفيكون من العدل أن أحمّق ولا يحمّقوا؟)
فاستعملت فعل (محّق) من باب (التفعيل)، وعلى أثر ذلك كتب الأستاذ صلاح الدين المنجد في مجلة الرسالة الزاهرة (العدد 441 من السنة التاسعة) مقالاً أثنى فيه على المحاضرة، ولكنه أنتقد استعمالي لفعل (التمحيق مكان (المحق) وسأل عما إذا كان يصح هذا الاستعمال، فأحببت أن أجيبه على نقده بالكلمة التالية:
حقاً إن فعل المحق لا يجيء في كلام العرب إلا ثلاثياً، ونقل بعضهم مجيئه من باب الإفعال، لكنهم اتفقوا على أنه لغة رديئة بل أنكرها الأصمعي بالمرة. هكذا قال أصحاب اللسان والصحاح ومختار الصحاح والمصباح، فإنهم جميعهم ذكروا (المحق والإمحاق) ولم يذكر التمحيق. وقد خالفهم في ذكره صاحب القاموس وشارحه وهذه عبارتهما: (محقه كمنعه محقاً أبطله ومحاه، كمحّقه تمحيقاً للمبالغة. ومنه قراءة عبد الله بن الزبير (يمحق الله الرّبا، ويُرِّبي الصدقات، يمحق من التمحيق ويربي بتشديد الباء من التربية) هـ وظاهر هذا القول أن التشديد لغة في التخفيف
وأرى أن قول أرباب المعاجم هو الحق، وأنه لا (تمحيق) في اللغة، وإنما الذي فيها هو (المحق) وقد سها صاحب القاموس فقال بالتمحيق، وما استشهد به من قراءة ابن الزبير(516/23)
محلاً للاستشهاد، وإن صحّت القراءة.
وبين ذلك أنّ (يمحّق الله الربا) المشدّد الحاء في قراءة ابن الزبير إنما جاء مشدداً للمزاوجة بين فعلي (يمحِّق) و (يرِّبي) فيصبحان كلاهما مشددين
والتزاوج بين كلمات اللغة في الكلام الفصيح مذهب للبلغاء معروف وطريق مطروق. ومنه الحديث الشريف (إرجعن مأزورات غير مأجورات) فقوله (مأزورات) إنما هُمزَ ليواخي ويُزاوج (مأجورات) فلا يُقال إن الفعل من (مأزورات) هو (أزر) بالهمز وإنه بمعنى (وزر). ثم لا يجوز استعمال أزر في الكلام من دون غرض المزاوجة المذكورة، كما لا يجوز تدوين فعل (أزر) في المعاجم في مادة (أ. ز. ر). ومثله (محَّق) بالتشديد فهو إنما ورد في قراءة ابن الزبير لغرض المزاوجة وليس هو لغة للعرب. ولذا لا يجوز استعماله في جملة لا ازدواج فيها، كما لا يجوز تدوينه في المعاجم. وهذا ما جعل أرباب المعاجم يهملونه
فأستنتج من كلِّ ما مر أنه تجوز تخطئة صاحب القاموس في تدوينه فعل التمحيق وتخطئة شارحه في عدم الإشارة إلى أمر المزاوجة، كما يجوز لي أن أعتذر لنفسي في استعمال فعلي (محَّقتُ ومحَّقوا) بالتشديد، أعتذر بأني إنما ذكرته مزدوجاً بأشباهه من الأفعال المشددة قبله وبعده، (أنا غرَّقتُ وهؤلاء غرّقوا، وشتان بين ما محَّقت ومحَّقوا، أفيكون من العدل أن أحمَّق وما يحمقوا!):
وهناك وجه آخر لصحة فعل التمحيق ربما ذهب بعضهم إليه، وهو أن علماء الصرف ذكروا أنه يأتي بالفعل الثلاثّي من باب التفعيل لإفادة المبالغة تارة والتعدية تارة؛ فلم لا يكون محق إنما شُدد لهذا الغرض، أي غرض المبالغة لا غرض المزاوجة؟ والجواب على ما يذهبون إليه هو أن هذه المسألة، أي مسألة ما يقوله علماء الصرف في قياسية صيغ الأفعال المزيدة على اختلافها، وما تفيده تلك الزيادات من الدلالة على التعدية والمبالغة وغيرها - هذه المسألة ما زالت ولا تزال موضعاً للأخذ والرد بين العلماء وبين أعضاء مجامعنا العلمية خاصة. وكل ما فعل مجمع مصر من التوسعة والترخيص في زيادات الأفعال المزيدة، أنه قرر قياسية تعدية الفعل الثلاثي بالهمزة (مجلة المجمع ج 1 ص 230) ولم يبت الرأي في ما وراء ذلك بعد. ولعله يعود إلى الترخيص في قياسية التضعيف لإفادة(516/24)
المبالغة في مثل أفعال (حَلّل، برَّر، عضَّد، نقّد، وصَّف) فإن في الترخيص بذلك سداً للثلمة، ووفاء للحاجة، وتأدية لأغراض المتكلمين في العلوم العصرية والفنية وماله اتصال بها من صناعات واختراعات
وما قلناه في عدم جواز استعمال (التمحيق) هو رأينا، ما دمنا لم نجد نصّاً على جوازه غير قراءة ابن الزبير فإذا وُجد النص فنحن له تَبع.
(دمشق)
عبد القادر المغربي
نائب رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق
وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
(دمشق)(516/25)
كيف عرفت الرافعي
للأستاذ محمود أبو رية
(ننشر هذه الكلمة بعد انقضاء ستة أعوام على وفاة أديبنا
الكبير مصطفى صادق الرافعي طيب الله ثراه، ونرجو أن
تكون تحية طيبة منا نقابل بها ذكراه، وآية صادقة على أنه
مهما باعدت بيننا وبينه السنون فأنا لن ننساه.)
(أبو رية)
رغب إليّ بعض إخواني من الذين يعرفون ما كان بيني وبين أديبنا الكبير مصطفى صادق الرافعي رضي الله عنه من وُصلة الصداقة، وما ربطني به من آصرة المحبة، أن أنشر بعض ما لدي من كتبه الخاصة التي كان يرسلها إليّ؛ فصادفت هذه الرغبة مني قبولاً وارتياحاً، لأنها من أمانيَّ العزيزة، التي كنت أود من قبل أن أقوم بها مع ما هو واجب عليّ أداؤه للناس في هذه الحياة لولا ما رمتني به الأقدار من مصائب في أولادي ومصاعب في حياتي حتى أصبحت ممزق القلب مشرد اللب لا أكاد أحسن عملاً أتولاه، ولا أجيد أمراً أقوم به
ولقد كان أشد هذه الضربات على تلك التي نفذت إلى صدر أكبر أولادي بعد أن تم دراسته العالية فخر منها صريعاً
وإذا كان نشر هذه الكتب سيكون فيه شيء من الخير للأدباء بما سيرون فيها من آراء أديبنا الرافعي وفتاواه في أغراض كثيرة من الأدب ورجاله، فإنه سيكشف لهم كذلك عن جوانب جديدة من أدبه وحياته لم يطلعوا عليها من قبل، ويعرفون كيف كان يكتب رسائله الخاصة التي تصدر في الغالب بغير أن ينالها تهذيب أو يصيبها تنميق، وإنما ترسل إرسالاً من عفو الخاطر وصفو الهاجس، وهذه ناحية لا يتم تأريخ رجال الأدب وأمراء البيان إلا بمعرفتها والاطلاع عليها
ولقد كنت أظهرت الأستاذ الكبير صاحب الرسالة في بعض أحاديثي معه على هذه الأُمنية(516/26)
فرحب بها وطلب مني تحقيقها.
على أني رأيت أن أقدم لما سأنشره من كتب الرافعي كلمة أذكر فيها كيف عرفت هذا الأديب الحجة، والسبب الذي جعلني أتصل به ذلك الاتصال الذي نما حتى صار صداقة وثيقة امتدت بيننا أكثر من ربع قرن خلطني فيها بنفسه، واصطفاني لصحبته، حتى لقد كان يشاورني في خاص أحواله، ويظهرني على مكنون أسراره
وليس من همي اليوم أن أعرض لتاريخ هذه الصداقة، ولا يتجه قلمي لبيان ما كان لها من أثر وما كان فيها من خير لأن لذلك يوماً أرجو أن أبلغه
ترجع معرفتي بأديبنا الكبير إلى أوائل سنة 1912. ذلك أن الحرب الطرابلسية كانت حينئذ مستعمرة بين الترك والطليان. وكان الأمير الجليل شكيب أرسلان قد ألم بمصر في سفره مع بعثة الهلال الأحمر إلى طرابلس الغرب، وما كاد يحط بها رحاله حتى أشرق على الناس نور بيانه فاستنارت به الأندية واستضاءت به وجوه الصحف، وكنت يومئذ في صدر شبابي والأدب العربي قد غلب على حبه حتى أغرمت به غراماً؛ ولكني لم أكن أعرف كيف السبيل إلى دراسته ولا قرأت من مصادره إلا كتباً قليلة كان قد أشار عليّ بقراءة بعضها العالم الكبير محمد فريد وجدي بك حفظه الله.
ولما رأيت الأبصار قد اتجهت إلى الأمير شكيب أرسلان، وذكره قد استفاض حتى نفذ إلى كل مكان، وأن رجال الأدب قد ذهبوا في الإعجاب به إلى أن لقبوه بأمير البيان، دفعتني الرغبة المشبوبة بين جوانحي لدراسة الأدب إلى أن أتوجه له بكلمة أرغب إليه فيها أن يبين لي وللذين هم مثلي في هوى الأدب كيف يبلغون منه غايتهم، فأجابني حفظه الله بجواب طويل ملأ صدر العدد الذي خرج من جريدة المؤيد في 19 فبراير سنة 1912 وكان صدر هذه الجريدة يزين كل يوم بمقال ممتع من تحبيره في الأدب والسياسة؛ وكان المؤيد يقدم لكل مقال له بهذه العبارة: (لسعادة الكاتب العثماني الكبير صاحب الإمضاء) أما الأمير فكان يرمز لاسمه في أعقاب ما يكتب بهذا الحرف (ش) وقد ساق الأمير الجليل في هذا الجواب القيم الذي لازلت أحتفظ به وأعده من نفائس البيان نصيحة غالية لكل من يريد دراسة الأدب، ثم أنشأ بعدها يبين للناس طريقته هو التي اتخذها في دراسته. ولما عرض للمصادر والكتب التي يجب على كل أديب أن يقرأها أخذ يثني ثناء طيباً على كتاب(516/27)
(تاريخ آداب العرب للرافعي) وكان قد صدر يومئذ الجزء الأول منه، فكان مما قاله هذه العبارة البليغة: (لو كان هذا الكتاب خطَّاً محجوباً في بيت حرام إخراجه منه لاستحق أن يحج إليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نواشيء الأسحار لكان جديراً أن يعكف عليه)
ومن ثم عرفت الرافعي وفضله ولم ألبث أن أقبلت على ما له من كتب أدرسها وأنتفع بها. وبعد انقضاء بضعة شهور على ذلك رأيت أن أجاذبه حبل المودة وكان ذلك في أواخر سنة 1912 ولكن أنى لي ذلك وأنا لا أعرف أين مكانه ولا بأي عمل يعمل؟ على أني استخرت الله وأرسلت إليه خطاباً جعلت عنوانه على القاهرة إذ ظننت أنه من أهلها وما كان أشد فرحي إذ تلقيت منه بعد أيام قليلة أول جواب وهذا الجواب مؤرخ 20 ديسمبر سنة 1912
وقد امتدت بيني وبينه بعد ذلك أسباب المراسلة طوال السنين التي صادقته فيها حتى بلغ ما لدي من كتبه أكثر من ثلاثمائة خطاب، منها نحو مائتين في شؤون أدبية وغير أدبية يصح نشرها كلها وإن كان في بعضها ما قد يؤلم بعض أدبائنا المعاصرين بما جاء عنهم فيها
أما سائر الكتب وهي أكثر من مائة فهي في أمور خاصة بي وبه لا يمكن نشرها ولا يصح إظهار أحد على ما جاء فيها.
(المنصورة)
محمود أبو رية(516/28)
أغنية
ذكريات. . .
حِينَما كُنْتُ أَرَاهَا وَتَرَانِي ... مِنْ بَعِيدٍ كالتِمَاعَاتِ اْلأَمَانِي
فَتَقَارَبْنَا عَلَى بُعْدِ الْمكانْ ... وَتَحَابَبْنَا عَلَى رَغْمِ الزَّمَانِ
وَبَلغْنَا مِنْ أَمَانِينَا مَدَاهَا
فَتَلَاقَيْنَا عُيُوناً وَشفَاهَا!!
لَسْتُ أَنْسَى وَقْفَةً عِنْدِ الْغَديِر ... وَهجِيرُ الصَّيْفِ كالشَّوقِ المُثيِرِ
فَخَلَقْنَا نَحْنُ مِنْ نَارِ السَّعِيرِ ... جَنَّةً لِلْحُبِّ فَاضَتْ بِالْعَبِيرِ
قَدْ خَلَقْنَاهَا وَسَوَّيْنَا رُبَاهَا
وَعَلَيْنَا حَرَّمَ الله جَنَاها!!
لَسْتُ أَنْسَى في صِبَانَا مَرْبَعَاً ... كانَ مَلْهَانَا نُقَدِّيهِ مَعَاً
فَرَكْبِنَا الّلهْوَ وَالدَّهْرُ سَعَى ... لاَ الصِّبَا دَامَ وَلاَ الصَّفْوُ رَعَى
رَبَّةَ الآمَالِ وَاستْبقَى صِبَاهَا
وَكأنِّي لَمْ أكنْ قَبَّلْت فَاهَا!
أَيْنَ مِنِّي جَنَّةُ الأَمْسُ القرَيبِ؟ ... أَيْنَ مِنِّي خَمْرَةُ الثَّغْرِ الشَّنِيبِ؟!
أَيْنَ مِنَّي رِقَّةُ الْغُصنِ الرَّطِيبِ ... يَا حَبيِبي أَيْنَ مِنِّي يَا حَبيبي
جَلْوَةُ الْحُبِّ وإِشْرَاقُ ضُحَاهَا!
خَيَّمَ الّليْلُ عَلَيْهَا فَمَحَاهَا!!
أَصْبَحَ الْحُبُّ وَأَمْسَى ذِكْرِيَات ... وَانْقَضَى عَهْدُ الْهَوى والصَّبَوَات
وَوَلّى الْعُمْرُ إِلاّ زَفَراتِ ... لَم تَزَلْ تُشْعِلُ قَلْبِي بِشَكَاتِي
أَيْنَ عَيْناَهَا وَأَيَّامُ هَوَاهَا؟؟
لَيْتَنيِ كُنْتُ، أَنَا وَحْدِي، فِدَاهَا!
أحمد أحمد العجمي
(كوم النور)(516/29)
الأحلام
للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون
بقلم الأستاذ ألبير نادر
(ترجمة المحاضرة التي ألقاها الفيلسوف هنري برجسن في
دار المعهد العام لعلم النفس)
إن المحاضرة التي عُهد إليّ بإلقائها معقدة ومثيرة لمسائل عديدة: منها ما يتعلق بعلم النفس، ومنها ما يتعلق بعلم الحياة وأيضاً بما وراء الطبيعة. والموضوع يتطلب شرحاً طويلاً ولدينا القصير من الوقت، لذلك أطلب إليكم أن تعفوني من كل مقدمة حتى نبحث الموضوع مباشرة
هاك حلم: أرى أشياء مختلفة تمر أمامي وليس واحد منها موجوداً فعلاً - يخيل إليّ أنني أغدو وأروح، أمر بسلسلة من الحوادث بينما أنا نائم في فراشي بكل هدوء. أصغي إلى نفسي تتحدث وأسمع من يجيبني، ولكن أنا لا أفوه بشيء. فمن أين هذا الوهم؟ لِمَ ندرك أشخاصاً وأشياء كأنها موجودة حقيقية؟
ألا توجد أشياء حقيقية؟ أليست هناك بعض المواد الحسية تتهيأ أمام السمع أو البصر أو اللمس الخ. . . في وقت النوم كما هو الشأن في وقت اليقظة؟
لنغمض أعيننا ونرى ماذا يحدث. كثيرون من يقولون إنه لا يحدث شيء لأنهم لم يتبصروا في الأمر، ولكننا في الحقيقة نرى أشياء عديدة: أولاً نرى قاعاً أسود ثم بقعاً مختلفة الألوان باهتة حيناً وبراقة حيناً آخر، وهذه البقع تتمدد وتنقبض، تبدل ألوانها وتتحدى الواحدة منها الأخرى. وهذا التبدل يمكن أن يكون بطيئاً متدرجاً ويمكن أن يتم في بعض الأحيان بسرعة شديدة. فمن أين هذه التخيلات؟. تكلم علماء الحياة وعلماء النفس عن (غبار منير) وعن (طيف بصري) وعن (شرار العين) فتراهم ينسبون هذه الظواهر إلى التغيرات البسيطة التي تحصل باستمرار في الدورة الدموية في شبكة العين، أو إلى الضغط الذي يسببه الجفن المقفل على المقلة والذي يؤثر تأثيراً آلياً على العصب البصري - ولكن قلما يهمنا شرح الحادث أو الاسم الذي يطلق عليه - إن هذا الحادث عام لدى الجميع ويقدم بلا شك المادة(516/31)
التي تنقش عليها كثير من أحلامنا. لاحظ ألفريد موري كما لاحظ في نفس الوقت المركيز درثي دي سان ديني أن هذه البقع الملونة ذات الأشكال المتحركة المتقلبة يمكنها أن تثبت عندما نخمل؛ فترسم حينئذ دوائر الأشياء التي تكون الحلم. ولكن علينا أن ننظر إلى هذه الملاحظة بعين الحذر لأنها ناتجة عن علماء نفس أنصاف نُيّم. تصور الفيلسوف الأميركي لار الأستاذ في جامعة يال طريقة أكثر إحكاماً ولكنها صعبة التطبيق لأنها تتطلب شيئاً من المران. تنحصر هذه الطريقة في إبقاء العينين مقفلتين عندما نستيقظ والمحافظة مدة لحظات على الحلم الآخذ في الزوال من حقل البصر وبالتالي من حقل الذاكرة. ترى عندئذ موضوعات الحلم تتحول إلى شرار العين وتمتزج بالبقع الملونة التي كانت تشاهدها العين حقيقة عندما كان الجفنان مغلقين. فإذا كنا نطالع جريدة مثلاً فها هو الحلم يتكون ثم تستيقظ وتبقى من الجريدة التي ارتسمت سطورها في العين بقعة بيضاء وبعض السطور السوداء المبهمة. هذا ما في الواقع. أو إذا كنا نتنزه في عرض البحر بالحلم، وعلى مدى البصر كان المحيط ينشر أمواجه الرمادية التي تكللها رغوة بيضاء. فعند اليقظة كل هذا يتلاشى في بقعة كبيرة اللون الرمادي الباهت تتخططها نقط براقة. البقعة موجودة وكذلك النقط اللامعة؛ إذاً يوجد غبار بصري بدا لإدراكنا أثناء النوم وهذا الغبار استعمل في صنع الحلم
هل يستعمل هذا الغبار وحده فقط؟ لكي نختصر الحديث على حاسة البصر نقول إنه بجانب الاحساسات البصرية الصادرة من الداخل توجد احساسات أخرى صادرة عن سبب خارجي. مهما يكن الجفنان مغلقين فالعين لا تزال تميز بين النور والظلام وتتعرف أيضاً - إلى حد ما - على نوع النور؛ لكن الاحساسات الناتجة عن نور حقيقي هي أصل لكثير من أحلامنا، فشمعة تضاء فجأة تحدث عند النائم عدة رؤى تسود فكرة الحريق ويذكر تيسيه مثلين لذلك: (فلان يحلم أن النار تلتهم مسرح الإسكندرية واللهب يضيء حياً بأثره، وفجأة يجد نفسه قد انتقل إلى ميدان القناصل، وهناك يرى شريطاً من النار يجري على مدى السلاسل التي يربط بعضها ببعض علامات الحدود الغليظة الموجودة حول الحوض، ثم يجد نفسه في باريس في المعرض وقد التهمته النار. . . يشاهد مناظر مؤلمة الخ. . . فيستيقظ بغتة: إن عينيه كانتا متأثرتين بحزمة النور المنبعث من مصباح الواعية وهي تمر في جولتها الليلية وكانت قد سلطت المصباح على السرير(516/32)
فلان آخر يحلم أنه التحق بوحدة مشاة البحرية حيث خدم سابقاً - يذهب إلى نوردي فرانس، إلى ظولون، إلى كوريان، إلى القرم، إلى القسطنطينية، يشاهد برقاً، يسمع رعداً، ثم يشاهد معركة يجد فيها النار تخرج من أفواه المدافع فيستيقظ - ومثل فلان الأول استيقظ بسبب النور المنبعث من مصباح الواعية عند مرورها) - هذه هي الأحلام الناتجة عن نور شديد مفاجئ.
لكن الأحلام الناتجة عن نور مستمر ولطيف (خفيف) مثل نور القمر فتختلف عن الأولى بعض الاختلاف - يذكر كراوس أنه ذات ليلة عندما استيقظ لاحظ أنه لم يزل يمد ذراعيه نحو ما كان يظنه في حلمه غادة، ولم تكن سوى القمر يرسل له شعاعه - إن هذه الحادثة ليست فريدة في نوعها. يظهر أن شعاع القمر عندما يداعب أعين النائم يمكنه ان يثير رؤى طاهرة. أليس هذا ما تذكره قصة أنديمون: (الراعي النائم دائماً الذي تحبه الإلهة سيلينيه (أي القمر) حباً جماً؟. . .
للأذن أيضاً احساساتها الداخلية مثل الطنين والرنين والصفير التي لا تقوى على تمييزها وقت اليقظة ولكن النوم يبرزها بكل وضوح - لا نزال ونحن نائمين نسمع بعض الأصوات الآتية من الخارج مثل طقطقة دولاب أو تلألؤ النور أو صوت المطر المنهمر على النافذة أو الريح المتقلب النغمات؛ فكلها أصوات تصدم الأذن ويحولها الحلم إلى محادثة وصراخ وألحان ألخ. . .
حك بعضهم مقصاً بملقط أمام أذن الفريد موري وهو نائم، ففي الحال حلم أنه يسمع صوت المدفع ويشاهد حوادث 1848 - ويمكنني أن أسرد لكم أمثلة أخرى ولكن يجب أن يكون للأصوات نفس الأهمية التي للأشكال والألوان في أغلب الأحلام - إن الاحساسات البصرية لها الأسبقية وفي غالب الأحيان نرى فقط حينما نظن أننا نسمع أيضاً. . .
ويلاحظ مكس سيمون أننا نقوم بمحادثة كاملة في الحلم، ونلاحظ بغتة أنه لا شخص يحدثنا ولا أحد يتكلم - لقد كان هناك بيننا وبين محدثنا تبادل مباشر في الأفكار، محادثة ساكنة - إنه لحدث غريب ولكنه سهل التفسير - فلكي نسمع أصواتاً في الحلم يجب أن تكون هناك دائماً أصوات حقيقية نحس ونشعر بها لأن الحلم لا يصنع شيئاً من لا شيء؛ وإن لم تقدم له مادة رنانة فيصعب عليه أن يصنع ما هو رنان.(516/33)
ومن جهة أخرى يتدخل اللمس بقدر ما يتدخل السمع، فأي لمس وأي ضغط مهما يصل إلى الوجدان أثناء النوم فحاسة اللمس تقمر بتأثيرها الصور الموجودة حينئذ في الحقل البصري؛ وعليه يمكنها أن تُغيّر شكل هذا الحقل ومعناه. لنفرض أننا نشعر فجأة بملامسة الجسم مع القميص فالنائم يتذكر أن ما يرتديه من ملابس خفيف. وإذا ظن حينئذ أنه يتنزه في الشارع فإنه سيظهر أمام أعين المارة في هذا اللباس البسيط جداً. ولكن المارة لا تتأثر من هذا لأنه نادراً ما تبدو الأشياء الخارقة
التي نستسلم إليها في الحلم، مثيرة لدهشة المراقبين بينما نحن يعترينا منها الحياء والخجل.
(يتبع)
ألبير نادر(516/34)
من أزهار الشر
للشاعر شارل بودلير
شبح
1 - الظلمات
في غيران الحزن الذي لا قرار له، حيث رماني القدر، وحيث لا ينفذ شعاع وردي مرح، أُراني وأنا منفرد مع الليل، هذا الزائر العبوس، كمصور قضى عليه إله ساخر أن يرسم ويا للأسف! صورة على الظلمات، أو كطاه ذي شهوات كئيبة تُفضي إلى الموت، أغلى قلبي وأجعله أُكلتي
وفي لحظة تألق طيف صيغ من الرواء والجلال، وعندما بلغ آية روعته في مشيته الشرقية الحالمة، عرفت زائرتي الجميلة:
إنها هي. . .! سوداء وإنها لسنية
2 - العطر
أيها القارئ ألم تستنش، في شيء من السكر والنهم المتمهل، رائحة البخور التي تملأ جو المعابد، أو عطراً معتقاً من مثبنة حسناء؟
إنها لفتنة عميقة سحرية، تبعث في نفوسنا النشوة بالماضي الذي يعود في اللحظة الحاضرة! كذلك يجني العاشق الزهرة الناضرة من ذكرياته الغابرة، وبين يديه جسد معبود
فمن جدائلها اللدنة الجثلة، هذه المثبنة الحية، هذه المبخرة التي تملأ جو المخدع، كانت تفوح رائحة وحشية ضاربة
ومن ثيابها الحريرية والمخملة، العامرة بشبابها الناضر، كان ينبعث أريج الفراء
3 - الإطار
مثل الإطار الجميل الذي يضيف إلى الصورة الجميلة، وإن كانت بريشة رسام عظيم، مالا أدري من الغرابة والسحر حين يعزلها عن الطبيعة الهائلة، مثل ما حولها من الحلي والأثاث والمعادن والطلاء، فإنها كانت تتسق مع جمالها النادر. فلم يحجب وصفائها الساطعة شيء، وقد بدا كل شيء كزينة أحاطت بها حتى خالت ذات يوم أنها تريد أن(516/35)
تتعلق بها حباً، فأغرقت جسمها العاري باشتهاء في لثمات الأطلس والكتان، وكانت كلما تمايلت في أناة أو سرعة تبدي في لفتاتها رشاقة القرد الساذجة
4 - الصورة
إن العلة والمنية تحيل النار التي تشتعل بها حياتنا إلى رماد. فماذا تبقى من هذه العيون النجل المتوهجة الوردية، ومن هذا الثغر الذي كان يغرق فيه قلبي، ومن هذه القبل القديرة كالسلوان، ومن هذه النظرات التي تفيض بالحياة أكثر من الأشعة؟ ماذا تُبقي؟ إنه لمروع يا نفس! فماذا تُبقي غير صورة شاحبة من ثلاثة خطوط
ويحي! من مثلي يموت في الوحدة، ومن مثلي يلطمه الدهر، هذا الظالم المسن، كل يوم بجناحه القوي؟
أيها القاتل الأسود، يا عاصب الحياة والجمال، لن تقضي، في ذاكرتي، على تلك التي كانت بهجتي ومجدي!
ترجمة
عثمان علي عسل(516/36)
البريد الأدبي
الإصلاح والحرية
اطلع قراء الرسالة في العدد 512 على تنبيه للبحث الذي اعتزم الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت نشره في الرسالة، مدافعاً عن فتواه بشأن (نزول عيسى)، داحضاً أقوال مخالفيه في هذه المسألة. وقد فوجئنا في العدد التالي، بأن أسباباً قاهرة حالت دون نشر الرسالة لهذا البحث القيم، وهي إشارة لا تستبهم على من تتبع حركة الإصلاح الديني في مصر، وما لقيته في العهد الأخير من تعنت الجامدين، ومناهضتهم كل رأي جديد وبحث حر، مهما كان نصيبه من الإخلاص والغيرة على الشريعة السمحة التي أطلقت العقول من عقالها، وجعلت حرية التفكير من ألزم خصالها
وبينما يتطلع العالم الإسلامي إلى مصر لتكون موئل التفكير الحر، ومثابة الإصلاح المثمر لدينه وتقاليده وآرائه، ويتلقى بشغف بالغ الدعوات الكريمة والأبحاث الجريئة التي يتقدم بها أساطين العلم وجهابذة الفكر من رجالات مصر - يقف مبهوتاً كلما علم أن هذا الباحث أو ذلك المصلح قد حيل بينه وبين ما يريد من إبلاغ دعوته ونشر أبحاثه، وهذا في مصر التي حدثنا التاريخ أنها وسعت كل مذهب، وآوت كل حر طريد
نحن نعلم أن الخلاف لابد منه بين أهل البحث، ولا ننكر على مصر وجود طائفة تناهض الإصلاح وتخاصم المصلحين، ولكننا ننكر على هذه الطائفة أن تخاصم بالوقيعة وتستغل عواطف العامة، مستمدة في ذلك أسباب الغلب عندما تعوزها الحجة والبرهان.
ونفهم أيضاً أن يعرض أولو الأمر لحماية العقائد وصيانة الأخلاق، ويحولوا دون إفسادها بالآراء الشاذة والنشرات الخبيثة؛ ولكننا لا نسيغ أن يمنع عالم مصلح كالأستاذ شلتوت من الدفاع عن رأيه في مسألة دينية، وهو يتمتع بمركز علمي يعلو صاحبه عن كل شبهة تحول دون نشر أبحاثه على الناس، لاسيما في عهد الإمام المراغي الذي يرتقب فيه المسلمون خيراً كثيراً، ولن يبلغ المسلمون أمنيتهم من الإصلاح ما دام أنصار الجمود يملكون من النفوذ ما كانوا يملكونه في عهد ابن تيمية ومحمد عبده (هم العدو فاحذرهم).
(نابلس - فلسطين)
حلمي الأدريسي(516/37)
فائدة القرض من المصارف المالية
قرأت السؤال الذي وجهه إليَّ الفاضل (محمد عبد الفتاح محمود الحسن - من فلسطين) في البريد الأدبي بالعدد 515 من الرسالة الغراء، فيما يتعلق بفائدة القرض من المصارف المالية، وإني لا أشك في شدة الحاجة إلى وضع حد بيّن في هذه المسألة المتصلة اتصالاً وثيقاً بحياة المسلمين الاقتصادية في هذا العصر، وأقرر في الوقت نفسه أن وضع هذا الحد في مثل تلك المسألة التي تشعبت فيها الآراء قديماً وحديثاً، واتخذت على ألسنة بعض الناس في جميع فروعها صفة العقيدة ليس من السهل أن يبادر به فرد واحد، وإنما ينبغي أن يصدر عن هيئة دينية كجماعة كبار العلماء في الأزهر، حتى تكون له قيمته العملية وتتلقاه القلوب بصدق وإذعان
ولقد توجهت منذ عامين إلى جماعة كبار العلماء باقتراح يتضمن أن تعالج الجماعة أمثال هذه المسألة مما (جد ويجد في المعاملات ويحتاج المسلمون إلى معرفة حكم الشرع فيه). ولا يزال هذا الاقتراح بين يدي فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس الجماعة الموقرة. هذا ما أراه الآن وللسائل الفاضل تحياتي
محمود شلتوت
عثرات. . .
أما الأولى ففي كلام أديبنا الكبير الدكتور زكي مبارك:
(يا مهاةً لا تخطر إلا في البال)
كلام جميل. . . لكنه غير دقيق، ففي العبارة ما يسميه علماء المعاني (القصر)
وفي قصر خطور هذه المهاة على (البال) نظر، كما يقول سادتنا الأزهريون، إذ أنه يقتضي جواز خطورها بشيء آخر غير البال. . .
أفهم أن يقال: (لا تخطر إلا في بالي) فالقصر واقع على باله وحده دون بال غيره من الناس. وإن كان في هذا المعنى غضٌّ من جمال هذه المهاة الذي لا يؤثر إلا فيه وحده، أما قصره الخطور على (البال) دون سائر جوارح البدن، فهو قصر لا معنى له.
وأما الثانية ففي كلام فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت إذ يقول: (وهل إذا قال(516/38)
المسلمون في مسألة. . . وهل إذا أنكر عالم. . . وهل إذا قال قائل. . . الخ)
وعلماء المعاني - وعلماء النحو أيضاً كصاحب المغنى - يقولون: إن هل الاستفهامية لا يقع بعدها الشرط أبداً. . . وهذا فرق بينها وبين الهمزة. . .
وأما الثالثة ففي كلمة الأديب حسين البشبيشي التي يخطئ فيها شعراً نشرته (الثقافة)، وذلك إذ يقول: (والأعجب من كل ذلك هو هذا البيت الغريب. . . الخ.)
ولو أن الأديب البشبيشي رجع إلى أبيه - أستاذنا الفاضل - لدلَّه على أن أفعل التفضيل إذا كان محلى بأل امتنع الإتيان بعده بالمفضل عليه مجروراً بمن، وأن الصواب إن أراد ذكر المفضل عليه أن يقول: (وأعجب من كل ذلك) بتجريده من أل.
محمد محمود رضوان
المدرس ببني سويف الابتدائية
في القصة والمقامة
أهدى إليّ الأستاذ الفاضل محمد جميل سلطان الدكتور في الآداب وعضو المجمع اللغوي للدراسات السامية في باريس، وأستاذ الأدب العربي في تجهيزي دمشق الرسميين وفي الكلية الشرعية الإسلامية، رسالته في (القصة والمقامة) وهي رسالة صغيرة تقع في 56 صفحة من القطع الصغير. وقد طبعت في مطبعة الترقي بدمشق في هذه السنة
وهي تتضمن بحثاً طريفاً في القصة وشروطها، وتبين كيف تدرجت القصة حتى وصلت إلى المقامة في عصر الهمذاني والحريري وكيف اهتدى إلى هذا بديع الزمان، وهل هو الذي اخترع فن المقامة، وما الفرق بينها وبين القصة، وبين عمل الهمذاني وعمل الحريري فيها. فإذا انتهت من هذا كله في دراسة دقيقة مستفيضة انتقلت منه إلى بيان ما طرأ على المقامة بعد الحريري، فذكرت في هذا من تناولها من الأدباء إلى عصرنا الحاضر، وبينت حالها في ذلك من قوة وضعف واستقامة وانحراف، وقد ختمت ببحث طريف في المقامات عند غير العرب، بين فيه أثر هذا الفن العربي في الأدب الفارسي والأدب السرياني والأدب العبري؛ فجاءت بهذا كله رسالة جامعة لكل ما يتعلق بموضوعها. ولهذا نحث المشتغلين بالأدب على اقتنائها.(516/39)
عبد المتعال الصعيدي
حول تراجم المعاصرين
أمنية يطيب للنفس أن تتعلق بها ولكن الشواهد التي حولنا توشك أن تثبط الهمم. فمن كان يتوهم أن أديباً فاضلاً سيعجز عن جمع طرائف المرحوم حافظ ونوادره؛ وأن هذه الملح ستتبخر من واعية أصدقاء حافظ وجلسائه وخاصته!!
بل من كان يتوهم أن أديباً يكتب كتاباً فيذكر فيه (المرحوم فلان!) وفلان هذا لم يزل ينعم بأنفاس الحياة!!
وأكثر من هذا. فإن الكثير من شعرائنا لا يقيمون وزناً لتأريخ ظروف قصيدهم مما يضيع على الأدب فوائد يدركها الناقد الفطن
ولقد كان الظن أن تقوى هذه الناحية من الأدب في عصر الطباعة والراديو! ولكن المشاهد غير ذلك. . . وتلك هي المسألة، كما يعبر الغربيون. . . أفيكون هناك أثر نفسي خطير (لانتشار الطباعة) سبّب ضعف الذاكرة وتهاونها، وقعد بالناس عن مسايرة الأخبار وروايتها؟
إنا لنعتقد ذلك. . . فإن وفرة المطبوعات أيقظت في الناس رغبة الخمول والاعتماد على (الغير) ممن يؤلفون. . . وهؤلاء نفر قليل قد لا يلازمهم التوفيق في كل الأحايين. ومع هذا فإننا لنعتقد أن باب النقد والتحليل في كبريات مجلاتنا كالرسالة والثقافة والمقتطف والهلال يقدم صورة مصغرة لتراجم المعاصرين. وبعد فما من شك في أننا نجهل الكثير من أطوار حياة كتابنا، ولقد كنت إلى عهد قريب أجهل أن أستاذنا الكبير الزيات يحمل شهادة الحقوق، وأن هناك بعض كتب ألفها ليضع غيره عليها اسمه! لو أننا اهتممنا بتراجم المعاصرين لأنكشفت لنا أسرار وأسرار، ولتركنا لخلفنا آثار أدبية واضحة التقاسيم سديدة المرامي
(الإسكندرية)
حسين محمود البشبيشي
جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية(516/40)
أعلنت جماعة نشر الثقافة عن إقامتها لمهرجان الربيع بمسرح نادي الحكومة عند الساعة الخامسة من مساء يوم الاثنين الموافق 24 مايو 943، وسيكون شعراء الحفل وخطباؤه وفنانوه الأساتذة الأفاضل:
(1) محمود البشبيشي
(2) خليل شيبوب
(3) مصطفى علي عبد الرحمن
(4) حسين جنيد الموسيقار
(5) أحمد الطاهر
(6) السيدة منيرة توفيق
(7) حسين محمود البشبيشي
(8) فرقة موسيقى نادي الموظفين
(9) صلاح الدين طاهر
(10) عثمان حلمي
(11) أحمد السمرة
(12) المطرب طاهر القرضاوي(516/41)
العدد 517 - بتاريخ: 31 - 05 - 1943(/)
بيفردج والمرأةَّ
للأستاذ عباس محمود العقاد
قال لي صاحبي وهو يوشك أن يلقى بالصحيفة من يده: وما شأن بيفردج بهذه المسألة؟ ما شأنه بالمرأة وما يقوله الحكماء والشعراء في النساء؟
بيفردج والمشاكل الاقتصادية مفهوم؛ أما بيفردج والمشاكل العاطفية فغريب غير مفهوم، لأنه يبدو للأكثرين في هذه الحالة كمدير المصرف الذي ينظم ديواناً من الشعر على هامش الميزانية! أو كالسياسي الذي يسوق العواطف في خطاب رسمي من خطب الأزمات والمعضلات! وكل ذلك غريب أو (نشاز) كما يقال في لغة الفنيين
كان الذين يعرفون بيفردج قبل هذه السنة يعرفونه قطباً من أقطاب الاقتصاد السياسي ولا سيما في مسألة البطالة ومسائل التأمين الاجتماعي والتموين على الإجمال. فلما ظهر بمشروعه المشهور منذ بضعة شهور ظهر في ثوبه الذي يعهده الناس، وعرفه الأكثرون في أنحاء الأرض كما كان يعرفه الأقلون في البلاد الإنجليزية، رجلاً من رجال الحساب أو الإصلاح المبني على الحساب
أما صاحبي الذي كان يقرأ الصحيفة وأوشك أن يلقيها من يده دهشة فقد خيل إليه أنه يراه في غير زيه ويلتقي به في غير مكانه؛ لأنه رآه في كتاب عجيب صدر قبل ثلاثين سنة ولم يحفل به أحد غير قراء الأدب يومذاك. وهو كتاب جمع فيه المصلح الكبير طائفة مختارة من أقوال الحكماء والأدباء والمفكرين من أقدمين ومحدثين. . . في أي موضوع؟. . . في موضوع لا يتخلله رقم واحد من أرقام الحساب، وهو موضوع المرأة والحب والعاطفة والمناجاة!
قلت لصاحبي: الرجل على حق. . . وأنت المخطئ في هذه الدهشة التي فوجئت بها كما يفاجأ المرء بالمتناقضات. وليس فيها من التناقض شيء على ما أعتقد. بل هي أدل الدلائل على طبيعة الإصلاح المتأصلة في هذا الرجل من أوائل عهده بالاشتغال بالمسائل الاجتماعية، لأنه جمع الإصلاح الاجتماعي من يمينيه وشماله، واحتواه في جميع أحواله وأشكاله. فاهتم بمسألة الرجل والمرأة، كما اهتم بمسألة الفقر والغنى، وهما هما الإصلاح الاجتماعي بحذافيره من قديم الزمان، وفي كل ما تنزل من الأديان أو المذاهب والدعوات(517/1)
العظات التي نسمعها من عشرة آلاف سنة يبدأها الواعظون ويعيدونها من جديد عصراً بعد عصر وجيلاً وراء جيل، على أي شيء تدور وفي أي معنى تقال مع اختلاف الكلمات والأساليب؟ على العلاقات المشروعة أو غير المشروعة بين الرجل والمرأة، على البيوت والآباء والأمهات، على الرحمة والإحسان أو على الإنصاف في توزيع الأرزاق
وهذه هي خلاصة الإصلاح كله، وهذه هي المسائل التي شغل بها صاحبنا بيفردج واهتم بها وهو يلهو في شبابه كما اهتم بها وهو يعالج المعضلات في مشيبه، كأن أعصابه موصولة بأعصاب المجتمع الإنساني فهو يهتدي إلى المواضع الحساسة بإلهام البداهة
وأعجب من إحساسه البديهي بأصول الاصطلاح دقة إحساسه في اختيار الحكماء والشعراء ثم دقة إحساسه في اختيار ما يقولون. فيخيل إليك أنه لا يختار من الحكماء والشعراء إلا الذين لمسوا مشكلة المرأة في حياتهم الخاصة، ولا يقع من كلامهم إلا على الكلمة التي تمثلهم في الصميم
فمن حكمائه تولستوي الفيلسوف الروسي المشهور الذي خانته امرأته فوصف هذه الخيانة في قصة من أشهر قصصه الصغيرة، وراحت امرأته تبرئ نفسها بعد موته فتصدت لها بنته تكذبها وتأخذ بناصر أبيها وترثى له مما لقيه من خيانة أمها
ومنهم رسكن الناقد الفيلسوف الفنان الإنجليزي الذي سرح امرأته بيديه لتتزوج من عشيقها
ومنهم هازليت ملك النقاد في العالم الذي فشل أفجع الفشل في حبه كما فشل في زواجه
ومنهم روسو ورابيليه وسقراط وأمثالهم من حكماء الأمم الذين عرفوا هذا الجانب من الحياة بالذكاء والفطنة كما عرفوه بالخبرة والمحنة، وهم كثيرون
فالفيلسوف الروسي تولستوي يقول: (إن النساء يعرفن جيداً أن ما يسمى حباّ علوياً أو حباً شعرياً لا يتوقف على الفضائل الأخلاقية كما يتوقف على المقابلات الكثيرة، وعلى (تسريحة الشعر) وألوان الملابس وطريقة تفصيلها)
وروسو يقول: (إن الذكر إنما يكونّ ذكراً في بعض أوقاته. أما المرأة فهي أنثى في جميع حياتها أو على الأقل في جميع أيام شبابها. فكل شيء يذكرها ولا يزال مذكراً لها بجنسها)
وهازليت يقول: (النساء لا يعتمدن على التفكير أو القياس المنطقي أبداً، وإنما يحكمن(517/2)
بالغريزة على ما يشعرن به مباشرة ولا يشغلن أنفسهن بالعواقب البعيدة. فإذا فاتهن العثور على الأفكار العظيمة فهن أيضاً لا يتورطن في السخافات الضخمة، وإنما هو العقل وحده - أو القياس المنطقي - الذي يجعل الإنسان مثلاً في أصالة الرأي أو مثلاً في الحماقة)
وشسترفلد الذي كتب رسائله المشهورة إلى ابنه غير الشرعي يقول: (اثنتان من النساء يحسن تمليقهما بوصف الذكاء واللباقة، وهما المرأة التي لا شك في جمالها، والمرأة التي لا شك في قبحها. أما المتوسطات بين الجمال والقبح فهن اللواتي يخدعن بوصف الجمال أو على الأقل بوصف الملاحة)
وهولمز يقول: (الإفراط في قلة الكلام من المرأة التي نحبها خير من الإفراط في كثرة الكلام. فإن الطبيعة تعمل لها وتغنيها عن العمل لمصلحتها وهى ساكتة، ولكنها إذا تكلمت فهي تعمل لنفسها (ولن تدرك في ذلك شأو الطبيعة) والحب على ألسنة الرجال عسير الذوبان فهم يكثرون من الكلام فيه، ولكن الكلمة الواحدة تقولها المرأة قد تذيب منه ما يعجز قلب الرجل عن احتماله)
وديوجين - الكلبي - يقول: (إياك أن تأمن المرأة ولو ماتت!)
أما سيجوس فيقول: (لنكن للنساء منصفين، فإنهن لا يزلن على طول الزمن مصدر العزاء الصحيح لجنس الإنسان. إنهن أقدر منا على الشعور بحاجة من يرونه محتاجاً إلى العزاء)
ويقول رسكن مثله: (في المجتمع الذي يبلغ فيه الرجال والنساء غاية المقدور لهم من الكمال تتولى النساء رسالة الهداية والتطهير. أما في المجتمعات الهمجية أو المتأخرة فهن يعانين الظلم جهرة كأنهن من العجماوات، ثم هن يعانينه خلسة - مضاعفاً - في المجتمعات التي يشيع بينها الفساد والسقوط)
ويعود رابيليه فينقض هذا الرأي وما شابهه حيث يقول متهكماً: (يزعمون أنهم قلما يعثرون بحسناء يقيدها العرف أو القانون بقيد الواجب المفروض)
ويتعرض كولردج الشاعر الإنجليزي غريم نابليون للملكات الفنية في المرأة فيقول: (إن النساء روائيات مجيدات ولكنهن شاعرات مخفقات، وذلك لأنهن يفرقن نادراً - أو لا يفرقن أبدا - بين الواقع والاختلاق)
أصحيح هذا؟(517/3)
الأمثلة المتواترة أمامنا تدل على أنه صحيح كل الصحة. لأننا عرفنا كثيراً من النساء النابغات في كتابة القصة والرواية، ولم نعرف قط شاعرة عظيمة نبغت في أمة من أمم العالم قديمها وحديثها
فهن روائيات مجيدات وشاعرات مقصرات، ولكن لغير السبب الذي يراه كولردج فيما نرجح، وهو قلة التفرقة بين الواقع والاختلاق أو التأليف
والذي نرجحه أن المرأة تحسن كتابة القصة لأنها مطبوعة على الفضول والاستطلاع والخوض في أسرار العلاقات بين الرجال والنساء والإطالة في أحاديث هذه الأسرار مع الاشتياق والتشويق. وهذا كله هو معدن القصة التي تصاغ منه، وهو جوهر من جواهر الرواية قد يغنيها عن المزايا الأخرى من تحليل وتعليل وإبداع في الوصف والتمثيل
أما الشعر فهو ابتكار واقتدار على الإنشاء، وليست المرأة مشهورة بالابتكار حتى في صناعتها الخاصة بها كالطهي وصناعة الملابس والتزيين
والشعر - وأساسه الغزل - هو وسيلة الرجل لمناجاة المرأة، وقد تعودت المرأة بفطرتها أن تكون مطلوبة مستمعة في هذا المجال. فهي لا تحسن الشعر كما يحسنه الرجل، وعلى هذه السنة تجرى جميع الذكور في أنواع الحيوان حين تسترعى أسماع الإناث بالغناء أو الهتاف والنداء
ولا عجب لهذا أن يخلو تاريخ الإنسان من شاعرات مجيدات بل من شاعرة واحدة مجيدة بغير استثناء في جميع اللغات. وحتى (سافو) الشاعرة اليونانية التي ذاع صيتها في الزمن القديم لا تحسب بين الطراز الأول في الشعراء. وإن حسبت من الطراز الأول فهي في شعرها - المعكوس - تمثل الرجال أكثر من تمثيلها النساء، لأنها كانت تنظم الغزل في البنات
هذه طرائف من الآراء التي حام بينها بيفردج لتصوير المرأة بألسنة الحكماء والشعراء في الأمم كافة. ثم لم يمنعه ذلك آخر المطاف أن يلتمس لها المعونة والعذر والإنصاف. وهكذا تكون رحمة العليم ومعذرة الحكيم
قبل في نقد مشروعه الاقتصادي الكبير أنه لم يأت فيه بجديد ولم يجاوز أن يستقصي فيه ما تقدم من خطط الإصلاح مع قليل من التنقيح والزيادة هنا وهناك(517/4)
ويمكن أن يقال في فلسفته عن المرأة أنها على هذا النحو فلسفة الجمع والتوفيق بين مختلف الآراء
وعلى هذا وذاك يجب أن يقال إنه قد أفاد وأعان على فهم جوانب الإصلاح
ويجب أن يقال بعد هذا وذاك أنه كان مثلاً من أمثلة عدة في الحرب الحاضرة على اتساع آفاق الحياة عند الغربيين. فهم على قدر أعباء الحياة التي ينهضون بها يقابلونها بما يكافئها ويلاقيها في كل ناحية من نواحيها، لا يشغلهم اليوم عن الغد، ولا الجد عن اللهو، ولا العظيم عن الصغير، ولا أحاديث الأزمات والمعضلات، عن أحاديث المساجلة والمناجاة.
عباس محمود العقاد(517/5)
آيتان. . .
للأستاذ محمود شلتوت
كان فيما قررناه سابقاً: أن القرآن كله قطعي في وروده، وأنه في دلالته نوعان: قطعي لا يحتمل التأويل، وغير قطعي يحتمل معنيين فأكثر، وأن هذين النوعين قد وجدا في العلميات والعمليات، وأن النوع الثاني لا يصلح أن يتخذ دليلا على عقيدة يحكم على منكرها بأنه قد كفر. قررنا هذا ثم أخذنا في تطبيقه على الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله، فأرجعنا هذه الآيات إلى أنواع ثلاثة بينا بطلان رأيهم في نوعين منها، واليوم نذكر النوع الثالث وهو آيتان زعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى:
إحداهما: قوله تعالى في سورة النساء (وان من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا)
والأخرى: قوله تعالى في سورة الزخرف (وانه لعلم للساعة فلا تمترن بها)
ما غاب عنا، وقت أن كتبنا الفتوى، النظر في هاتين الآيتين وفي درجة دلالتهما على نزول عيسى، وما غاب عنا ما ذكره المفسرون من الآراء والإفهام المختلفة فيخما، وما كنا نحسب - ونحن بصدد البحث عن دليل قاطع يحكم بالكفر على مخالفه - أن أحداً يعرض لهاتين الآيتين وقد رأى فيهما ما رأينا من أقوال المفسرين المختلفة في ذاتها، والمختلفة في ترجيحها، فيقول إنهما نصان قاطعان في نزول عيسى! ولذلك آثرنا إذ ذاك أن نترك الكلام عليهما اكتفاء بظهور درجتهما في الدلالة لكل من يقرأ شيئاً من كتب التفسير. ولكنهم أبوا ألا أن يذكروا هاتين الآيتين ويزعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى، فلسنا نجد بداً من أن نضع بين يدي القراء خلاصة لآراء المفسرين فيهما، ثم نقفى على ذلك بما نرى ليتبين الحق واضحاً:
الآية الأولى:
للمفسرين في هذه الآية آراء مختلفة وأشهرها رأيان:
الأول: أن الضميرين في (به) و (موته) لعيسى. والمعنى: ما من أحد من أهل الكتاب يهوديهم ونصرانيهم إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. قالوا: أخبرت هذه الآية أن(517/6)
أهل الكتاب سيؤمنون بعيسى قبل موته، وهم لم يؤمنوا به إلى الآن على الوجه الذي طلب منهم، فلابد أن يكون عيسى إلى الآن حياً، ولا بد أن يتحقق هذا الإيمان به قبل موته، وذلك إنما يكون عند نزوله آخر الزمان
الثاني: أن الضمير في (به) لعيسى، وفي (موته) للكتابي. والمعنى: أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى. والإخبار بإيمان أهل الكتاب على هذا الوجه لا يتوقف على حياة عيسى الآن، ولا على نزوله في المستقبل، لأن المراد أنهم يؤمنون عند معاينتهم الموت بأنه نبي الله وابن أمته
هذان رأيان مشهوران في الآية عند المفسرين، ولكل منهما من يرجحه. وقد ساقهما ابن جرير، وذكر الآثار التي تدل لكل منهما ثم قال: (وأولى الأقوال بالصحة والصواب قوله من قال: تأويل ذلك، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. وإنما قلنا ذلك لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة؛ فلو كان كل كتابي يؤمن بعيسى قبل موته لوجب ألا يرث الكتابي إذا مات إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الإسلام. . . وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره، لأن من مات مؤمناً بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد. . . وقد أجمع أهل الإسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه، وما جاء به من عند الله فمحكوم له بحكم ما كان عليه أيام حياته غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته، فدل هذا على أن المعنى: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وان ذلك عند نزوله)
ويريد ابن جرير بهذه العبارة أن الإيمان بعيسى يلزمه الإيمان بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما، لأن رسالة محمد مما جاء به عيسى، وعليه يكون من آمن بعيسى مؤمناً بمحمد فيكون مسلماً له أحكام المسلمين في التوارث والصلاة عليه وغسله ودفنه في مقابر المسلمين. . . الخ. وهذا يخالف إجماع السلمين على عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام للكتابي الذي يموت، وإذا كان هذا يخالف الإجماع فقد بطل أن يكون معنى الآية ما ذكر، وكان (أولى الأقوال بالصحة والصواب) في نظر ابن جرير هو الرأي الأول الذي لا(517/7)
يترتب عليه مصادمة الإجماع
إلى هنا، وقبل مناقشة ابن جرير فيما رجح به، ليس في الأمر أكثر من أن مفسراً من بين المفسرين قد اختار رأياً من رأيين حكاهما عن أهل المأثور ورجح ما اختاره بما رأى، ولكن القوم تلقفوا هذا عن ابن جرير وصوروه بما يريدون موهمين الناس أن الآية صارت بترجيح ابن جرير دليلاً قاطعاً على ما يزعمون من نزول عيسى. ونحن نلخص ردنا عليهم في النقط الآتية التي غفلوا أم تغافلوا عنها:
1 - إن ابن جرير يذكر احتمالين في الآية، ويذكر الآثار الدالة لكل منهما، ويصل بالرأي الثاني إلى ابن عباس ومجاهد وغيرهما، فكيف يعد نصاً قاطعاً غير محتمل لأكثر من معنى ما خالف فيه ابن عباس ومجاهد وغيرهما؟
2 - إن ابن جرير كما وجه الرؤى الذي اختاره وجه الرأي الثاني أيضاً (بأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه). وهذا فيما أرى هو الذي جعل ابن جرير يقتصد في التعبير عن ترجيح ما اختاره فيقول: (وأولى الأقوال) دون أن يقول مثلاً: والرأي الصحيح
3 - إن يكون ابن جرير قد رجح أحد المعنيين فقد رجح غيره من العلماء المعنى الآخر ومنهم الإمامان: النووي والزمخشري وغيرهما. قال ابن حجر في فتح الباري: (ورجح جماعة هذا المذهب - يريد الثاني - بقراءة أبي بن كعب (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) أي أهل الكتاب. قال النووي: معنى الآية على هذا: ليس من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند المعاينة قبل خروج روحه بعيسى وأنه عبد الله وأبن أمته، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان في تلك الحالة كما قال تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال أني تبت الآن) ثم قال: وهذا المذهب، أظهر لأن الأول يخص الكتابي الذي يدرك نزول عيسى وظاهر القرآن عمومه في كل كتابي في زمن نزول عيسى وقبله)
وقد ذكر صاحب الكشاف قريباً من هذا وأطال فيه ونقله عند الإمام الرازي في تفسيره فليرجع إليهما من شاء
بهذا يتبين: -
1 - أن هذه الآية ليست نصاً في معنى واحد حتى تكون دليلاً قاطعاً فيه(517/8)
2 - أن ما تمسك به ابن جرير في ترجيحه للرأي الأول غير مسلم له، فقد بناه على أن المراد بالإيمان في الآية هو الإيمان المعتبر الذي ينفع صاحبه وتترتب عليه الأحكام، مع أنه أيمان - كما قرره العلماء، ومنهم ابن جرير نفسه - لا يعتد به ولا يقام له وزن ولا تترتب عليه أحكام لأنه إيمان جاء في غير وقته
3 - أن من ينظر فيما تمسك به أصحاب المذهب الثاني: من العموم الواضح في قوله (وإن من أهل الكتاب) ومن قراءة أبى (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) ومن أن إيمان المعاينة لا ينفع صاحبه عند الجمع، لا يسعه إلا أن يخالف ابن جرير فيما ذهب إليه وأن يقول مع النووي عن المذهب الثاني: (وهذا المذهب أظهر).
والنتيجة الحتمية لهذا كله أن الآية ليست ظاهرة فيما يقتضي نزول عيسى فضلاً عن أن تكون قاطعة فيه!
الآية الثانية
للمفسرين في هذه الآية أيضاً آراء مختلفة، ومن هذه الآراء أن الضمير في قوله تعالى: (وانه لعلم للساعة) راجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم أو إلى القرآن، ولكننا نستبعد هذا ونرى أن الضمير راجع إلى عيسى كما يراه كثير من المفسرين؛ وذلك لأن الحديث في الآيات السابقة كان عن عيسى. ومع ذلك نجد خلافاً آخر يصوره لنا بعض المفسرين بقوله: (وإنه: أي عيسى لعلم للساعة: أي أنه بنزوله شرط من أشراطها، أو بحدوثه بغير أب، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث)
ومن ذلك يتبين أن في توجيه كون عيسى علماً للساعة ثلاثة أقوال:
الأول: أنه بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة
الثاني: أنه بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة
الثالث: أنه بإحيائه الموتى دليل على إمكان البعث والنشور ولقد كان في احتمال الآية لهذه المعاني التي يقررها المفسرون كفاية في أنها ليست نصاً قاطعاً في نزول عيسى، ولكننا لا نكتفي بهذا بل نرجح القول الثاني وهو (أن عيسى بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة) معتمدين في هذا الترجيح على ما يأتي:
1 - إن الكلام مسوق لأهل مكة الذين ينكرون البعث ويعجبون من حديثه، وقد عني القرآن(517/9)
الكريم في كثير من آياته وسوره بالرد عليهم واقتلاع الشك من قلوبهم. وطريقته في ذلك أن يلفت أنظارهم إلى الأشياء التي يشاهدونها فعلاً أو يؤمنون بها (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت). (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها. إن ذلك لمحي الموتى) وقد عرضت سورة الزخرف التي وردت فيها هذه الآية إلى هذا المعنى في أولها (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون)
وهذه هي الطريقة المستقيمة المنتجة في الاستدلال المقتلعة للشك، أما أن يلفت أنظارهم إلى أشياء يخبرهم هو بها كنزول عيسى، وهي أيضاً في موضع الشك عندهم، ويطلب منهم أن يقتلعوا بهذه الأشياء ما في قلوبهم من شك فذلك طريق غير مستقيم؛ لأنه استدلال على شئ في موضع الإنكار بشيء هو كذلك في موضع الإنكار!
2 - ومما يؤيد هذا قول الله تعالى تفريعاً على أن عيسى علم للساعة: (فلا تمترن بها) فإنه يدل على أن الكلام مع قوم يشكون في نفس الساعة، والعلامة إنما تكون لمن آمن بها وصدق أنها آتية لا ريب فيها؛ أما الذي ينكر وقوعها أو يشك فيها فهو ليس بحاجة إلى أن يتحدث معه عن علامتها، بل لا يصح أن يتحدث في ذلك معه، وإنما هو بحاجة إلى دليل يحمله على الإيمان بها أولاً ليمكن أن يقال له بعد ذلك: هذا الذي آمنت به علامته كذا
3 - ثم إنه من الأصول المقررة في فهم أساليب اللغة العربية أن الحكم إذا أسند في اللفظ إلى الذات، ولم تصح إرادتها معنى، قدر في الكلام ما كان أقرب إلى الذات وأشد اتصالاً بها. فإذا طبقنا هذه القاعدة على قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة) وعلمنا أن ذات عيسى من حيث هي لا يصح أن تكون مرادة هنا، وإنه لا بد من تقدير في الكلام، ثم وازنا بين النزول، والخلق من غير أب، وإحياء الموتى، فلا شك أننا نجد الخلق من غير أب أقرب هذه الثلاثة إلى الذات، لأنه راجع إلى إنشائه وتكوينه لا إلى شيء عارض له، وحينئذ يتعين الحمل عليه ويكون معنى الآية الكريمة: (لا تشكوا في الساعة، فإن الذي قدر على خلق عيسى من غير أب قادر عليها)
وبهذا يتبين:
أولاً: أن الاختيار بنزول عيسى لا يصلح دليلاً على الساعة يقتلع به ما في نفوس المنكرين(517/10)
لها من شك ويصح أن يقال عقبه (فلا تمترن بها)
وثانياً: أن جعل عيسى بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة لا يستقيم هنا، لأن الحديث مع قوم منكرين للساعة فهم بحاجة إلى دليل عليها، لا مع قوم مؤمنين بها حتى تذكر لهم علاماتها
وثالثاً: أن أقرب ما تحمل عليه الآية هو المعنى الثاني الذي بيناه.
أما بعد فهذه هي الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله. ولا شك أن القارئ المنصف بعد عرضها على هذا النحو وتطبيقها على المبادئ التي ذكرنا لا يخامره شك في أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهرة غلبة ظن بنزول عيسى أو رفعه فضلاً عما يفيد القطع الذي يكون العقيدة، ويكفر منكره كما يزعمون)
محمود شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء(517/11)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
حياة أسيوط - الدفع مقدماً. . . - بلادة أدبية! - المعارك القلمية في مصر - الطبيعة والناس
حياة أسيوط
كان من المنتظر أن يتأذى قوم من الكلمة التي كتبتها عن أسيوط، وفي دفع تلك الكلمة تلقيت خطابين كريمين، أحدهما من الأستاذ أحمد فتحي القاضي المحامي، والثانية من الآنسة (ليلى) فماذا أقول في مناقشة هذين الخطابين؟
أذكر أولاً أن لي غاية من التجني على أسيوط، فأنا أريد التنبيه إلى أن هذه المدينة لا تأخذ حظها من الاهتمام الواجب لمدينة في مثل مكانتها التاريخية. وأنا أريد أيضاً تأييد الرأي الذي يقول بإنشاء جامعة في أسيوط لتسترد المدينة حيويتها العلمية والأدبية. وهل ينكر أحد أن من واجب الكتاب الوطني أن يدعو قومه إلى المبادرة بتزويد الحواضر الكبيرة بأزواد العلوم والآداب والفنون؟
أن أكابر أسيوط يهجرونها طائعين، رغبة في الحياة القاهرية، حياة السيطرة على المجتمع السياسي، وأنا أحب أن تعيش العصبيات الإقليمية على نحو ما كانت عليه قبل سنتين، وأتمنى أن يرى الرجل في بلده من قوة الذاتية ما يغريه بالزهد في صوت القاهرة الصخاب
وتقول الآنسة (ليلى) إني لو درست حياة أسيوط بعناية لأدركت أنها أعظم من سنتريس. وأقول إن البلاد تحيا بحب أهليها، وأنا أحب بلدي بأكثر مما يحب الأسيوطيون بلدهم الجميل
حدثني أحد أساتذة الكلية الأمريكية بأسيوط قال: إن الكلية دعت معالي الأستاذ نجيب باشا الهلالي ليكون خطيب الحفلة الختامية في هذه السنة فتفضل بالقبول ثم اعتذر بعد ذلك
فقلت: الكلية لم تراع ظروف الخطيب، فإن الهلالي باشا نفسه حدثني أنه لم يزر أسيوط منذ عشر سنين، ومن المؤكد أن هذه المدة الطويلة مرت فيها مناسبات تفرض عليه زيارة وطنه الأول، مناسبات عائلية في الأفراح أو الأتراح، فكان يكتفي بالبرقيات في التهنئة أو العزاء، فمن العسير عليه أن يعود في مناسبة وقتية لإلقاء خطاب يستطيع إرساله بالبريد(517/12)
إن أراد
وأعجب ما في هذه القضية أن للهلالي باشا مصالح في أسيوط تعطلت بسبب انصرافه عن زيارة تلك المدينة، فله دار فخيمة تعرضت للتصدع بسبب هذا الانصراف
قلت لصاحبي وأنا أحاوره: هل تعرف أن للديار أرواحاً يؤذيها الجفاء؟
فقال: المعروف أن الديار مجموعة أحجار وأخشاب، فهي جمادات لا تتأثر بالهجران
قلت: هذا وهم في وهم، فالديار تتأذى بالهجر كما يتأذى الأحباب، وليس في الوجود كائن بلا روح، ولو كان في الاصطلاح من الجماد
يستطيع الهلالي باشا أن يعتذر لداره بالشواغل التي تصده عن زيارة أسيوط، ولكن لي رأيا آخر، هو أن نجعل زيارة دورنا بالأقاليم النائية من شواغلنا الأساسية، فلتلك الديار حقوق، وهي أيضاً من ضمائر الوطن الغالي
وبماذا يجيب الهلالي باشا لو دعوته إلى بناء دار بأم درمان أو الخرطوم؟
لو التفت هذه الالتفاتة لكان من السهل عليه أن يخلق لمصر صداقات جديدة في السودان
بإحدى المحاضرات الافتتاحية في الكولليج دي فرانس ألقى علينا المسيو ماسينيون محاضرة عن مشاهداته في إيران، وبعد المحاضرة سألته عن السبب في كثرة أسفاره إلى إيران، فأجاب: ألا تعرف أن لي داراً هنالك؟
وفي مقابل هذا أذكر أن كبيراً من كبرائنا باع أملاكه في بلده لتكون ثروته في القاهرة، عساه يشرف عليها بلا عناء
ومع هذا يعاب على أن أقول إن أكابر أسيوط يهجرون أسيوط!
يجب أن نقول ونقول ثم نقول بأن الإقبال على الحياة القاهرية سيؤذي الأقاليم المصرية أشد الإيذاء
هذا مع أن النيل يرشدنا إلى الواجب في كل لحظة باختياره الموفَّق لأطايب البقاع، ولو سايرنا النيل في هواه لكان عندنا مئات مت غُرر البلاد
وهل ننسى أننا لم ننشئ مدينة جميلة في (القناطر الخيرية) وهي بقعة لا نظير لها في أي أرض؟
وقطار الإسكندرية يمر بنا على مدينة اسمها (كفر الزيات) على موقع من أجمل مواقع(517/13)
النيل، فما تلك المدينة؟ ومتى تخطر في البال؟
والنيل بين زفتي وميت غمر على جانب العظمة الطبيعية والجمال الأصيل، فأين من فكر في الاستظلال بتلك العظمة وذلك الجمال؟
إن الحمائم والعصافير تعرف من سرائر بلادنا ما لا نعرف ألم أحدثكم مرة أن لها مغاني في أكثر البقاع المصرية؟
لكل مكان في مصر روح وأرواح، وبلادنا نشأت أول ما نشأت على فطرة الاستقلال، فقد كان لكل قطر من أقطار مصر سيادة محلية، وكان بكل قطر من أقطار مصر سادة يتعالون باسم الشرف والجود، فكيف نحول هذه القوى إلى بقعة واحدة هي البقعة القاهرية؟
هل نتعزى بأن يقال إن القاهرة أعظم مدينة في الشرق ونحن نعرف أنها تجنى على الحواضر المصرية بغير حق، كما تجنى أسيوط على منفلوط؟
وهنا يجيء حديث المناطق في وزارة المعارف، وقد سمعت أن نظام المناطق في طريق الإلغاء
وأقول بصراحة إن أول وزارة عرفت نظام المناطق هي وزارة الداخلية، وهي لا تستطيع التخلي عنه بأي حال، لأنه أفضل الأنظمة في صيانة الحياة الداخلية، ولأن المشرفين عليه كانوا السبب في تنظيم حواضر البلاد
وإذا استطاعت وزارة المعارف أن تمنح ممثليها بالأقاليم قوة تشبه القوة الممنوحة لممثلي وزارة الداخلية فستظفر الأقاليم بإصلاحات قائمة على أساس الفهم والذوق، وقد تفك الحصار المضروب على رجال التعليم، وهم رجال عوقتهم الظروف عن تحقيق ما يريدون في إصلاح الأقاليم
هل يعرف أحد كيف يجوز أن يكون ممثل وزارة الداخلية هو الرجل الأول في المديرية، ولا يكون مثل هذا الحظ لممثل وزارة المعارف؟
نحن اخوة، فكيف نفترق في الواجبات ولم نفترق في الحقوق؟ ما الذي يمنع من إعطاء مدير التعليم فرصة الإصلاح الممنوحة لمدير المديرية؟
أنا أوجه القول إلى وزير المعارف، وأسأله برفق عن تعطيل مواهب رجال التعليم في الأقاليم، وفي مقدورهم أن يخدموا الإصلاح خدمات عظيمات؟(517/14)
لقد اقترحت أن يكون وزير المعارف هو الوزير الأول، ليكون المعلم هو الرجل الأول، فهل كنت في هذا الاقتراح من المسرفين؟
إن كان ذلك فأنا أطالب معالي وزير الأشغال بأتعابي، وقد وجهت إليه كلاماً عن (نفق شبرا) يستحق ألوفاً من الجنيهاتً فليدفع الأتعاب قبل أن أقاضيه بمحكمة مصر الجديدة. . . وهل في مصر الجديدة محكمة أهلية؟
هذا إشكال جديد، وسأخاصم فيه وزري العدل بعد حين!
ثم ماذا؟ ثم يبقى القول في رد ما جاء بالخطابين الكريمين، خطاب ابن منفلوط، وخطاب بنت أسيوط، فإلى اللقاء!
الدفع مقدماً. . .!
من العبارات المألوفة في البيع والشراء عبارات: الدفع مقدماً، والدفع فوراً، والدفع بالتقسيط
والمفهوم أن الدفع مقدماً أدل على النفاسة من الدفع فوراً، أما العبارة الثالثة فهي شاهدة بهوان المعروض. وكل معروض مهان
ولكن ما الرأي إذا التقسيط من تلطف البائع، لا من هوان المبيع؟
ما الرأي إذا كانت السلعة المبذولة غنيمة وجدانية لا تقوم بالمال، وإنما تقوم بقصيدة أو مقالة تؤخذ أقباسها من لهيب الروح؟
ألا يكفي أن تصبح ذمة الكاتب والشاعر في غنى عن الضمان؟
سأرى كيف أصنع في سداد الديون بالتقسيط. ولعلني أسارع ليكون من حقي أن أطمع في غنائم جديدة من غنائم الوجدان، في المدينة التي قال فيها أحد الشعراء:
ولا عيب فيها أن نسميها ... يزيد سعير القلب وقداً إلى وقد
بلادة أدبية
هي بلادة الأدباء الذين يسألون من وقت إلى وقت عن السبب في خمود نار الخصومة بيني وبين الدكتور طه حسين. وإني لأنظر فأرى لهم غاية من تأريث تلك الخصومة، لأنها تشفى صدوراً يعجز أصحابها عن الوقوف موقف الخصماء(517/15)
إن خصومتي للدكتور طه حسين خصومة أدبية لا شخصية، وسأخاصمه كلما لاحت فرصة لنقد ما يصدر عن قلمه من آراء، وهو لا يزال في الميدان فليس من البعيد أن أرجع إليه بعد أسبوع أو أسابيع
المهم هو تسجيل هذه الظاهرة الغريبة، ظاهرة البلادة الأدبية عند بعض الأدباء البهاليل، فما الذي يصدهم عن نقد الدكتور طه بأقلامهم إن كانوا يرون في مذهبه الأدبي شيئاً من الاعوجاج؟
إن الذين يتوهمون أن في مقدورهم أن يثيروني على الدكتور طه حسين بمثل ما توسل به أحدهم من النمائم لفي ضلال، فما يستطيع قلمي أن يصول بغير الحق، ولو في مناوشة أعدى أعدائي، على فرض أن الدكتور طه من الأعداء، وله في قلبي مكان
المعارك القلمية في مصر
لخصت مجلة الصباح الدمشقية ما دار بيني وبين الأستاذ عباس العقاد من صيال، ثم قالت:
(هذا نمط من المعارك القلمية التي تثور في مصر اليوم، وبمثل هذا النقد اللاذع يتراشقون)
والجواب حاضر، فمصاولة الأدباء المصريين بعضهم لبعض لا تغض من النهضة الأدبية في الديار المصرية، وإنما هي شاهد صادق على حيوية الأدباء المصريين
قلت مرة ومرات: إننا نختلف أقل مما يجب، ويا ويلنا إذا لم نختلف!
فإن شاء رفاقنا في دمشق أن يعدوا الاختلاف من عيوبنا فهم مخطئون
ألم أقل لكم: إن السلام ضرب من الموت؟
الطبيعة والناس
في اللحظات التي يتزحزح فيها برد الشتاء من وضع إلى وضع تبدأ الطبيعة بإعداد الخلائق الجديدة في عوالم الشجر والنبات والطير والحيوان
والأمر كذلك في حياة الناس. . . ألم تسمعوا بهجوم الربيع في دنيا الحرب؟
كان ذلك لأن الربيع يوقظ القوى الغافية، قوى الحب والبغض، والصلح والقتال
أكتب هذا وقد سمعت ما سمعت وقرأت ما قرأت من أخبار العراك في مجلس النواب. فما دلالة هذا العراك؟ وهل يحط من أقدارنا في أنظار أهل الشرق والغرب، كما قيل؟(517/16)
الرأي عندي أن مصر غنمت بهذا العراك غنائم لم تكن تخطر في البال، فقد ظهر جلياً أن عندنا خطباء من الطراز الأول في اللغة العربية، وظهر جلياً أن عندنا رجالاً من أصحاب الأعصاب الحديدية. وهل من القليل أن يكون عندنا وزراء يقضون نهارهم في مكاتبهم على خير حال من النشاط، ثم يقضون صدر الليل في مصاولات برلمانية تفل الحديد؟
ماذا يقول الجيل المقبل حين يرى مضابط البرلمان؟ ماذا يقول؟
كل ما أتمناه أن تدوم هذه اليقظة العقلية والروحية على نحو ما رأينا من القوة والحيوية، ليعرف الجيل المقبل أن آباءه كانوا أصحاء في الأرواح والعقول، وأنه جدير بأن يخلفهم في ميادين المنطق والفكر والبيان
أظهر ما عيبت به تلك المصاولات هو صدور ألفاظ نابية على ألسنة بعض النواب، فهل تفردنا بخلق تلك الألفاظ، ولها نظائر في جميع اللغات؟ وهل كان مجلس النواب مجلس سمر لا يدور فيه غير مصقول الأحاديث؟
إن خصوم الحكومة قالوا فيها ما قالوا، وقالت فيهم ما قالت، وعرف الجمهور عن طريق العلانية كل شيء، برغم قيام الأحكام العرفية
إن موقفي موقف المؤرخ لعهد من عهودنا الأدبية في البلاغة البرلمانية، وهي بلاغة وصلت إلى غاية من أرفع غايات البيان، وشهدت بأن للفكر في مصر أقطاباً وأساطين.
زكي مبارك(517/17)
2 - أدباؤنا والمسرح
للأستاذ دريني خشبة
تكلمنا في الكلمة السابقة عن السبب الأول من أسباب عقم الإنتاج المسرحي بين أدبائنا المصريين، وذكرنا أن هذا السبب الأول هو تأخر الترجمة في مصر، وضآلة النقل الفني المسرحي، إن لم يكن انعدامه. . . ثم وزعنا جريرة هذا التأخر فتكلمنا عن نصيب كل من كبار أدبائنا، وكلية الآداب، ووزارة المعارف ممثلة في إدارة الترجمة من هذه الجريرة. . .
4 - وتأتي بعد ذلك جريرة دور النشر، ودور النشر مع الأسف الشديد يملكها ويسيطر عليها تجار لا يعرفون للأدب طعماً ولا لوناً، ولا يفهمون منه إلا أنه مغنم لهم ومغرم على الأدباء المساكين، فهم دائماً يلقون في روع الأديب أن طبع كتابه مجازفة قد تجر على داره الخسارة إن لم يدع أنها تجر عليها الخراب والإفلاس، وأنه - أي صاحب الدار يريد أن يضحي والسلام، فإما أفلحت التضحية وإما (أهي خدمة للأدب والسلام!!) - والسلام الذي يتمشدق به هذا التاجر أو ذاك من أصحاب دور النشر هو السم الذعاف الذي يجرعه للأدباء. على أننا لا ندري لماذا تقف لجان الترجمة والتأليف والنشر من شباب الأدباء نفس الموقف الذي تقفه منهم دور النشر التجارية، مع ما تبذله الحكومة لهذه اللجان من المعونات المتواضعة أحياناً السخية أحياناً أخرى؟ ولا ندري أيضاً لماذا تتفشى روح البيرقراطية الأدبية بين السادة القائمين بأمر هذه اللجان؟ إن الشباب من الأدباء يداولون فيما بينهم ألواناً من الشكاوي التي لها ما يبررها بلا ريب، وقد أثبتت أحوالنا الأدبية أن مشايخنا الأدباء المصنفين لا يصلحون بحال للانتاج المسرحي لما صح من أنهم عاشوا أعمارهم الطويلة المباركة هذه ولم يلتفتوا قط إلى أهمية الأدب المسرحي بدليل أنهم لم ينتجوا فيه شيئاً قط ولم يترجموا له شيئاً قط. والذي لا شك فيه هو أن الشباب من الأدباء أقدر على هذا كله من أساتذتهم أدباء أمس الدابر. فإلى أن ينظم أدباء الشباب أمورهم يجب أن يتقدموا إلى الدولة بطلب المعونة التي تبذلها لمشايخ الأدباء، ولكن عليهم قبل ذلك أن يستعدوا. . . فلا يتقدموا لطلب هذه المعونة وأيديهم فارغة، وإلا أضحكوا الدنيا كلها عليهم. . . وإذا هم أقبلوا على نقل المسرحيات الأجنبية إلى اللغة العربية فإنهم بذلك يؤدون خيراً مزدوجاً لنهضة المسرح المصري أولاً ولأنفسهم ثانياً(517/18)
5 - أما نصيب أغنيائنا من هذه المسئولية فنحن نكتب عنه، ثم نغضي، لأننا أعرف بالنتيجة، ولكنها فرصة طيبة للتكلم عن نصيب الأغنياء في بعض الأمم وفي عصور التاريخ المختلفة في إحياء النهضة الأدبية على العموم، والأدب المسرحي على الخصوص، ففي اليونان القديمة كان الشاعر من شعراء المآسي ينظم مأساته ثم لا يذهب إلى بيوت الأغنياء كي يبذل لديهم ماء وجهه ابتغاء أن يتولى أحدهم الإنفاق على إخراج هذه المأساة، وكان إخراجها يقتضي القناطير المقنطرة من المال، بل كان الأديب لا يلبث أن يذيع في الأوساط الأدبية أنه يوشك أن يتم مأساته التي نظمها في موضوع كذا حتى يتهافت عليه الأغنياء يعرضون العروض السخية لكي يتم لأحدهم شرف إخراج هذه المأساة. . . وإذا علمنا أن كلا من إسخيلوس وسوفوكليس وبوريبيذز وأرستوفان (وعشرات غيرهم من رجال المسرح اليوناني) قد ألف أكثر من مائة مأساة أو ملهاة، وأن الدرامة الواحدة كانت تكلف الموسر الذي يتولى الإنفاق على إخراجها أكثر من ثلاثة آلاف من الجنيهات، عرفنا كيف كان أغنياء اليونانيين يجودون بملايين الجنيهات. ولا نقول بمئات الألوف - في سبيل تشجيع الأدباء والنهضة المسرحية في ذلك العصر اليوناني القديم - ولا يحسبن القارئ أننا ننفخ في كلمتنا هذه روح المبالغة بذكر تلك الأرقام التي كان سراة اليونانيين يسخون بها على مسارحهم وتيسير أحوال شعرائهم، فقد كان الشاعر ومساعداه ورجال الخورس - ويتراوح عددهم بين الخمسين والثمانين - يأكلون ويشربون ويسكنون ويقبضون أحسن الرواتب لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر حتى يتم إخراج الرواية على حساب هذا المثري كما كان يدفع لهم ثمن الملابس التمثيلية (أربعة أطقم لكل منهم) وأثمان الملابس التنكرية التي كانت مرتفعة جداً، فإذا بدأ التمثيل تولت الدولة الإنفاق على هؤلاء الممثلين وإعطائهم رواتب حسنة، كما كانت تسبغ على الشاعر أجزل المكافآت (غير راتبه الخاص)
كان هذا في اليونان من أربعمائة وألفين من السنين. . . أما في أوربا، فقد لقي المسرح ما يقرب من هذا التشجيع في جميع الممالك وفي فرنسا وإنجلترا خاصة. . . ففي إنجلترا مثلا كانت تتكون النقابات التمثيلية أو من أرباب الحرف المختلفة، وذلك بعد أن انتقل زمام التمثيل إليها من أيدي رجال الأكليروس في الطور الثاني من أطوار حياة المسرح(517/19)
الإنجليزية. وكان لكل طائفة من الصناع نقابتها التمثيلية الخاصة بها، فثمة نقابة للدباغين وثانية للسقائين وأخرى لتجار الأقمشة. . . الخ. وكان أصحاب رؤوس الأموال ومدير والمصانع ينفقون على هذه النقابات ويمدونها بالأموال الضخمة لما اضطلعت به من إخراج الروايات القديسية أو الكرامية فكانت النقابات بدورها لا تألو جهداً في الإنفاق عن سعة على الإخراج حتى تبلغ به حد الإتقان استعداداً للمواسم التمثيلية التي تشبه ما كان يقام منها عند اليونانيين القدماء في أعيادهم الدينية، والتي كانت تقام في الأعياد الدينية الإنجليزية أيضاً، مثل عيد الميلاد وعيد الفصح وأحد العنصرة وعيد الجسد أو القربان المقدس. . . الخ. وقد نالت نقابات بعض المدن شهرة كبيرة أدت إلى تنافس شديد بين المدن الإنجليزية كي يبز بعضها بعضاً في الكمال التمثيلي. وكان هذا التنافس الشديد سبباً في أن تضاعف النقابات، وبالأحرى الأغنياء من أصحاب رؤوس المال، ما ينفقون على فرقهم التمثيلية. . . فهذا اتحاد نقابات لندن ينافس اتحاد كوفنترى، كما ينافس اتحاد دبلن اتحاد يورك، وكما تتنافس شسنر ولاتكستر وبرستون. . . وهكذا كانت جميلة رائعة حرب السلام والفن والفكر والأدب هذه بين سائر المدائن الإنجليزية في فجر النهضة التمثيلية في القرن الرابع عشر. وأظرف من هذا التنافس بين المدن، التنافس المحلى الذي كان ينشب بين أحياء المدينة الواحدة لكي يفوز أحدها بتمثيل الرواية فيه دون الأحياء الأخرى، فكانت الأحياء تتبارى في إجزال العطاء لفرق النقابات كي تفوز بهذا الشرف، وكانت الفرق مطلقة الحرية في قبول العطاء الأسخى. وكثيراً ما كانت العطاءات تنيف على الخمسمائة جنيه للحفلة الواحدة، وكثيراً ما كان العرض يستمر لمدة ثمانية أيام متتالية للرواية الواحدة كما حدث في رواية (طوفان نوح) التي مثلت في إسخلين بلندن سنة 149 في عهد الملك هنري الرابع. فهاتان منافستان. ثم كانت هنالك منافسة من نوع ثالث بين المنازل نفسها، فالمنزل الذي يساهم في العطاء بأكثر مبلغ هو الذي يفوز بتمثيل الرواية أمامه، وكان أصحاب المنازل يتبارون من أجل ذلك في الدفع حتى كان أحدهم يدفع قرابة الخمسمائة جنيه حتى لا ينتصر عليه في مضمار المباهاة أحد أعيان الناحية!! وكانت أجور الممثلين والمنشدين مرتفعة جداً حتى كانت تصل إلى خمسة جنيهات عن الحفلة الواحدة وذلك بعملتنا الحاضرة، وقد كان ذلك سبباً في دخول الاحتراف المسرحي في إنجلترا. ولما حدث(517/20)
هذا الإقبال العظيم من الشعب على شهود التمثيل اضطرت النقابات إلى المؤلفين الذين ينتجون الروائع في سرعة فنشأ الاحتراف في التأليف أيضاً. غير أن مؤرخي المسرح الإنجليزي يقررون بكل أسف أن النقابات كانت تعتصر دماء المؤلفين بالثمن البخس، وكان عنصر الربا يدخل في المعاملة بينها وبين المؤلفين لتذلهم إذلالاً، وتربط حياتهم بها ربطاً محكما حتى لا تغر بهم النقابات الأخرى بالعطاء الأجزل. . . وذلك من قبيل ما تبديه دور النشر عندنا من جشع
ذلك بعض ما كان يسخو به الأغنياء الإنجليز لتعضيد المسرح وما كان يحدث أعظم منه في فرنسا، فمتى يصل هذا الصوت إلى أغنيائنا فيشاركوا في صناعة الذوق العام لهذه الأمة بإحياء المسرح المصري؟
6 - وإذا كنا نطمع أن يعضد أغنياؤنا الأدب المسرحي - وسيضحك القراء جميعاً حين يقرأون هذا الهذيان! - فنحن نطمع في أن يتشبه أمراؤنا بأمراء أوربا في عصر النهضة، وذلك بحماية المؤلفين ورعاية الأدباء المسرحيين بوجه خاص. فالأمير الذي يساعد مؤلفاً أو يوفر الراحة الذهنية لشاعر، إنما يقدم لأمته أثمن هدية في الحياة. . . إنه يقدم لها قلباً من القلوب النابضة، وقريحة من القرائح الخصبة التي تشيع فيها النشاط وترد إليها العزة. . . وكل من درس تاريخ النهضة وإحياء العلوم في أوربا يذكر أن هذه النهضة العجيبة التي عم خيرها جميع شعوب الأرض هي من صنع أمراء فلورنسا من أسرة دى مديشي تلك الأسرة التي كانت تنفق معظم أرباحها التجارية في شراء الكتب والمخطوطات مهما كانت أثمانها عالية باهظة، كما كانت تحمي العلماء والأدباء ورجال الفكر، والتي أنشأت في فلورنسا تلك الأكاديمية الفلسفية لدراسة آراء الفلاسفة الإغريق فكانت أول منارة شع نورها في ظلمات أوربا السادرة في الجهالات. وستظل أسماء كوزيمو وحفيده لورنزو وابن لورنزو الثاني جيوفاني دىمديشي كواكب ساطعة على الزمن في سماء النهضة العالمية، فإليهم يرجع الفضل في إحياء التراث اليوناني الخالد من فلسفة وأدب، وذلك بما أنفقوا من حر مالهم في سبيل الحصول على مخطوطات أفلاطون وآرسطو وأدباء المسرح اليوناني القديم، مما قدره علماء الببليويلزم (جمع الكتب والمخطوطات القديمة) بملايين الجنيهات
كذلك يعلم كل من درس تاريخ النهضة ما كان لأمراء بافاريا وغيرها من الولايات(517/21)
الجرمانية من فضل على النهضة الألمانية. وكان لحماة الأدباء من لوردات إنجلترا أكبر الأثر في رعاية المسرح الإنجليزي، وكل من له معرفة بشكسبير يعلم تلك الصلة الخالدة التي كانت بينه وبين هنري ريوتسلي (إرل أوف سوثمبتون). الحق. . . أنه قد آن أن يكون للوطن حق معلوم في الأموال المصرية التي تفتقر إليها العبقريات المصرية. ولن تنسى مصر تلك اليد التي أسداها إلى الفنون الرفيعة واحد من أبر أمرائها
وبعد، فقد أطلنا القول في أسباب تأخر الترجمة وما جرت إليه من تأخر الآداب المسرحية في مصر، وما أدى إليه ذلك من فقر الأدب العربي الحديث بالقياس إلى آداب الأمم المتحضرة، إذ نكاد نكون الأمة الوحيدة - بين جميع الأمم - التي ليس لها أدب مسرحي تقريباً.
ومن أسباب عقمنا في الإنتاج الأدبي المسرحي هذا التهيب الذميم الذي نتناول به تاريخنا الديني والسياسي. والمدهش أن الأدباء إنما يخشون رجال الدين وما عساهم أن يحدثوا من ضجة إذا هم وضعوا درامات مشتقة موضوعاتها من أحداث التاريخ الإسلامي، وما أروع أحداث هذا التاريخ! وهذا الذي يخشاها الأدباء في مصر، حدث ضده في تاريخ المسرح الأوربي الحديث، فقد نشأ التمثيل أول ما نشأت أوربا في الكنائس والبيع، وكان الأحبار والقسيسون والرهبان والعرفاء هم الذين ابتدعوا الدرامات الإنجيلية والدرامات الكرامية وأخذوا موضوعات النوع الأول من الكتاب المقدس مع المحافظة على حرفية القصص، كما أخذوا موضوعات النوع الثاني من خوارق القديسين ومعجزات الأنبياء وكرامات أهل التقى والورع. ولما رأى رجال الدين إقبال الشعب على شهود تمثيلياتهم الدينية هذا الإقبال فكروا في تنشئة صبيان البيع على هذه الصناعة الجديدة فكان الاحتراف في التمثيل، وبذلك وجد عمل شريف عظيم لهذه الكثرة من رجال الدين - غير المتفقهين - ممن عندنا منهم آلاف مؤلفة احترفت قراءة القرآن بأبخس الأثمان على المقابر والمزارات وفي المنازل والمتاجر للتبرك مما يستنكره ديننا وتأباه كرامة الإسلام وتألم له روح نبينا العظيم ويبغضنا الله من أجله. . . فلو أن الذي حدث في أوربا حدث بعضه عندنا لخلصنا من هذا الخرى المنتشر بيننا مما جعلنا أمة جنائزية عجيبة الأحوال. . . وإذا كنا نحرص على عدم تمثيل شخصيات الرسل الكرام توفيراً للوقار الذي ينبغي لهم، مع أن القصص العظيم الذي(517/22)
جاء به القرآن هو أسمى ألوان القصص التمثيلي الذي تندق دون تقليده أعناق المقلدين، فما بالنا جعلنا الانصراف عن ذلك عاماً بحيث شمل جميع الموضوعات الدينية والشخصيات الدينية؟ إن في سير صحابة الرسول الكريم آيات من القصص التمثيلي لو عرفنا كيف نبرزها عن المسرح لتوفرت لنا مئات من التمثيليات الرائعات التي تزري بما هو نوعها عند الأمم الأخرى. . . وأقول مرة أخرى إنني وأنا أكتب ذلك الكلام الآن ألمح هذه الابتسامات الساخرة ترقص على بعض الشفاه التي لم تشد قليلاً ولا كثيراً من تاريخنا الإسلامي - على أنها شفاه جاهلة لا تزن ما للدين من أعمق الأثر في توجيه الأمة المتدينة - على أنني أيضاً لست أريد أن نبدأ في نهضتنا المسرحية من حيث انتهت أوربا، وإلا تكون دعوة إلى نكسة لا تليق بنا، لكنني أرى استغلال الروائع العظيمة من سير الصحابة الذين يجلهم الشعب في إيجاد مسرحيات دينية تمس روح الشعب الدينية وتلعب على أوتاره الحساسة في سبيل النهوض به وهدايته إلى مثله الأعلى الذي يرفعه إلى منازل العز والسؤدد الأخلاقي. يجب أن نفهم روح العصر ونتخذ الوسائل المستحدثة في الوصول إلى روح الجماهير، ويجب ألا نتخلف عن موكب الإنسانية فنتخذ وسائل عقيمة غير التي يتخذها هذا الموكب وإلا كنا شذاذاً - ويجب أن نصنع ذلك ما دام لا يناقض ديننا. . . إن رواية القصة على الأسماع ليس له من السحر في النفس والأسر في القلب ما تحدثه مشاهدتها على المسرح تتحرك شخصيتها، وتتحرك وقائعها، وتتحرك مشاهدها، فتثبت في الذاكرة إلى الأبد. يجب ألا نكون أميين فنفسد آذاننا عن هذه الحقائق
دريني خشبة(517/23)
في التصوير الإسلامي
ليلى والمجنون
للدكتور محمد مصطفى
- 3 -
أقام المجنون بين أهله وذويه، يواسونه ويعطفون عليه، ويخصونه برعايتهم وعنايتهم، حتى تاقت نفسه إلى رؤية حبيبته ليلى، فاصطحب بعض أصحابه المخلصين، وذهب معهم إلى حي قبيلتها، فوجدوها جالسة أمام بيتها مع بعض أهلها. وعرفته ليلى فحيته وحياها، ولكنه لما أراد أن يقترب منها ليحادثها منعه ذووها. فأعاده أصحابه إلى بيت والديه مهموما حزيناً متفكراً. وظل يتفكر في أمرها حتى منعه ذلك من الطعام والشراب، وترك محادثة الناس، وصار في حد يرحمه كل من رآه من عدو وصديق، فكان يقول:
ما بال قلبك يا مجنون قد خُلعا ... في حب من لا ترى في وصلها طمعا
الحب والود نيطا بالفؤاد لها ... فأصبحا في فؤادي ثابتين معا
ولامه أهله وعذلوه وقالوا: لا خير لك في ليلى ولا لها فيك، فلو تزوجت واحدة من بنات عمك، نرجو أن يذهب عنك بعض ما بقلبك من حب ليلى، فأنشأ يقول:
قضى الله بالمعروف منها لغيرنا ... وبالشوق مني والغرام قضى ليا
أراني إذا صليتُ يممتُ نجوها ... بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراك ولكن حبها ... وعظم الجوى أعيا الطبيب المداويا
أحب من الأسماء ما وافق اسمها ... وأشبهه أو كان منه مدانيا
واشتد بالمجنون الأمر حتى خاف عليه أهله، فذهب معه أبوه وبعض رجال عشيرته إلى والد ليلى وقالوا له: إن هذا الرجل لهالك، وإنك فاجع به أباه وأهله، فنشدناك الله والرحم أن تزوجه ليلى، فوالله ما هي أشرف منه، ولا لك مثل مال أبيه، وقد حكمك في المهر، وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل. فأبى وحلف بالله وطلاق أمها أنه لا يزوج ابنته هذا الرجل المجنون أبداً، فقال قيس:
ألا أيها الشيخ للذي ما بنا يرضى ... شقيتَ ولا هنيتَ من عيشك الغضّا(517/24)
شقيتَ كما أشقيتني وتركتني ... أهيم مع الهلاّك لا أطعمُ الغمضا
كأن فؤادي في مخالب طائر ... إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم ... على فما تزداد طولاً ولا عرضا
وسمعه أبوه الملوح فأشفق عليه، وقال إن ابنه عاقل وليس به جنون، ثم التفت إليه وناداه أن يتقدم ويخاطب والد حبيبته ليثبت له عقله ورشاده. . . وتقدم قيس. . . وإذا بكلب ليلى يظهر بغتة، فيعرف فيه حبيب سيدته، ويبصبص له بذنبه. . . فلم يتمالك المجنون من أن يلقى بنفسه على الأرض، إلى جانب الكلب، ليحتضنه ويناجيه ويسأله عن ليلى. . . فكان في ذلك أكبر دليل على جنونه. ورجع أبوه معه إلى بيته حزيناً وقد خاب أمله
ولما حاول أهله مرة أخرى أن يزوجوه إحدى بنات عمه، مزق ملابسه، وفر هارباً. . . إلى حيث تأتيه ذكريات ليلى. . . إلى جبل التوباد. . . ولما دنا منه قال:
وأجهشتُ للتوباد حين رأيته ... وكَبَّر للرحمن حين رآني
وأذريتُ دمع العين لما عرفته ... ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له أين الذين عهدتهم ... حواليك في حفظ وطيب زمان
فقال مَضوْا واستودعوني ديارهم ... ومَنْ ذا الذي يبقى على الحدثان
ثم خر مغشياً عليه، فوجده بعض عابري سبيل، فأشفقوا عليه، وحملوه إلى منزل والديه
وفي (شكل 1) اجتمع الملوح بن مزاحم وبعض أقاربه بوالد ليلى يخطبونها لأبنهم قيس. ويرى قيس وقد ألقى بنفسه على الأرض يحتضن كلب ليلى ويناجيه، ويحاول أخوه عبثاً أن يجره إلى الخلف ليبعده عن الكلب. وجلس والد ليلى في الوسط وقد ثبت ما قاله عن جنون قيس، وإلى يمينه الملوح وقد ظهر على وجهه الحزن والأسى. ووضع بعد الحاضرين أصابعهم السبابة في أفواههم دلالة على ما اعتراهم من دهشة لهذا المنظر الغريب الغير مألوف لديهم. وهذه الصورة في مخطوط من منظومات الشاعر هاتفي الجامي، مؤرخ سنة 941هـ (1535م) ومحفوظ في مكتبة الدولة ببرلين.
أفاق المجنون من غشيته حائل اللون ذاهلاً، فوجدة نفسه في منزل والديه وقد جلسا إلى جانبه مع اخوته ابن عمه زياد بن مزاحم وبعض أقاربه، يبتهلون إلى الله تعالى أن يخفف عن قيس ويرد إليه عقله. وأجال المجنون بصره فيمن حوله، فتبينهم وعرف فيهم أهله(517/25)
وذويه، فترك لنفسه العنان، وجعل يبكي أشد بكاء وأوجعه للقلب ويقول:
صريع من الحب المبرح والهوى ... وأي فتى من علة الحب يسلم
وتقدم الناس إلى أبيه أن يخرجه إلى مكة، ويعوذه بيت الله الحرام، لعل الله يعافيه مما ابتلى به. فخرج به أبوه، وسار معه ابن عمه زياد، الذي جعل يلازمه ويدون ما يقول من أشعار وأناشيد. ومروا في طريقهم بحمامة تنوح على دوحة، فوقف المجنون صاغياً لها يبكي، وتخلف معه زياد وقال له: ما هذا الذي يبكيك؟ سر بنا نلحق الرفقة. فأنشد المجنون:
أأن هتفت يوماً بوادٍ حمامةٌ ... بكيتَ ولم يعذِرك بالجهل عاذرُ
دَعتْ ساقَ حرٍ بعدما عَلَت الضحي ... فهاج لكَ الأحزانَ إن ناح طائرُ
يقول زيادٌ إذ رأى الحيَّ هَجَّروا ... أرى الحيَّ قد ساروا فهل أنت سائرُ
وإني وإن غالَ التقادمُ حاجتي ... مُلِمٌّ على أوْطان ليلى فناظرُ
ولما دخل مكة أمره أبوه أن يدعو الله أن ينسيه ذكر ليلى ويبغضها إليه، فقال المجنون: اللهم زدني لليلى حباً، وبها كلفاً، ولا تنسني ذكرها أبداً. فزجره أبوه وأخذه حتى أمسكه أستار الكعبة وقال له: قل اللهم أرحني من ليلى وحبها. فتعلق المجنون بأستار الكعبة. . .
ولكن قال يا ربُّ ... ملكت الخير والشرَّا
فهات الضرَّ إن كان ... هوى ليلى هو الضرَّا
وإن كان هو السحر ... فلا تُبطلْ لها سحرا
ويا رب هب السلوى ... لغيري وهب الصبرا
وهب لي موتة المُضْني ... بها لا ميتة أخرى
(شوقي)
فلما سمعه أبوه رق له، وأخذ بيده نحو (منى) يريد رمي الجمار. وكان الوقت موسم الحج، والطريق غاصة بقوافل الحجاج، تغدو وتروح بين بيت الله لحرام وجميع بلاد العالم الإسلامي. وكان قيس يسير بين أهله متفكراً، يستقبل الريح التي تهب من ناحية نجد، وإذا به يسمع صوت حاد يتجه صوب تلك الناحية، حيث مضارب بني عامر على سفح جبل التوباد. ثم يتعالى الصوت قليلاً قليلاً حتى يظهر الحادي ومن ورائه قافلة تسير، وأنصت قيس، وإذا بالحادي ينشد في صوت عذب حنون:(517/26)