رمضان
للأستاذ يحيي محمد علي
بعد جهاد مضن في سبيل الحياة والبقاء، ونضال منهك من أجل القوت والعيش، تعود النفوس رازحة لاغبة ضارعة قد أرهقها النصب فوهنت وتراخت، وهدها الإعياء فتثبطت وتوانت، وفدحها الإخفاق فقنطت وتخاذلت؛ لتنعم في ظل رمضان بالراحة التي تجدد قواها المكدودة، والرجاء الذي يرهف عزمها الكليل، والرشاد الذي يقيها مغبة الضياع في مجاهل الغواية
وبعد خصام ملث على المال المدنس، ونزاع متواصل على الجاه المزيف، تعوج القلوب مرمضة صادية قد غمرها الإثم فصدها عن الخير، وغشيها الجشع فصرفها عن الإحسان، وتألب عليها الغرور فكبحها عن التواضع؛ لتستمد من وحي رمضان الإيمان الذي يقر في مطاويها فورة البغى، والقناعة التي تسكن في أعنائها سورة الشره، والإباء الذي يخمد في ثناياها جذوة الحسد
وبعد صراع عنيف على المجد الزائل، وتهافت شائن على السطوة الكاذبة، واندفاع يائس وراء الظنون والأوهام، تدلف العقول جائرة مفتونة حائرة قد ران عليها الباطل فحجب عنها ضوء الحق، ووطئها الغي فجنحت للطيش، ولازمها الحرص فزين لها الصلف والزهو والعجب، لتقتبس من قدسية رمضان اليقين الذي يبدد لها دجى الشكوك والريب، والهدى الذي يرفع عنها آصار المروق والزيغ، والحلم الذي يكفكف فيها غلواء الجهالة والنزق
فلا يلبث ذلك الإنسان السادر في المعصية والجامع في الشر والمصر على المنكر أن يدرك أسرار الوجود فيرق ويلين، ويترفق ولا يتمرد، ولا يتجبر ولا يتكبر، ويعرف قيمة الحياة فيتعفف عن الرذيلة ويتصون عن الرجس ويترفع عن الغش والخداع ولا يخضع لسلطان الهوى ولا يخنع لطغيان الشهوة ولا يصغي لهمسات الشيطان، ويفهم معاني الإنسانية فلا يتغلظ ولا يقسو ولا يظلم، وتتيقظ في أعماقه أحاسيس الرحمة والشفقة فيعطف ويحسن ولا يسيء، وتتفجر في أغواره منابع البر والرأفة فيرفد ويتصدق ولا يبخل
هذا هو رمضان أيها المسلم. . .(481/29)
ترويض للنفس على الكفاح والمجالدة والاحتمال، وتدريب للقلب على الصبر والثبات والمثابرة، وسمو بالعقل إلى الصلاح والسداد والتبصر، وتقويم للطباع وردع للأهواء
وهو يلوح لنا من أفق الزمن هذا العام والكون مغتلم الأمواج صخاب اللجج عصوف الريح يكاد سيله العاتي يطم ويطغى فيجتاح ما ظل من آثار الحضارة المنكوبة، ويكتسح ما بقى من أطلال المدينة المحروبة، والإنسان المجنون محمول على غوارب اللجج وقد غلبه الجزع فأفقده وسيلة النجاة، وملكه الذهول فضيع عليه معالم الطريق، فلم يعرف كيف يتفادى العاقبة المؤلمة ولم يدر كيف يتقي الغب المر.
فلا ريب أن حاجة المسلمين اليوم إلى التعاون والتقرب والتضامن أشد منها بالأمس.
فليكن رمضان وازعاً للتعاون وسبباً للتقرب ودافعاً للتضامن
ولا ريب أن المصاعب التي تعانيها الطبقة الفقيرة الآن أعظم منها في أي وقت مضى.
فليكن رمضان سبيلاً لتخفيف وطأة هذه المصاعب عن كاهل هذه الطبقة.
تذكر أيها الغني المترف المتقلب في الرخاء والمتمرغ على الذهب والديباج أولئك المعوزين الذين جار عليهم الدهر، وأغار عليهم الإملاق، وأناخ عليهم الداء، وقعد بهم العجز، وادرء عنهم بالصدقة عرام الفاقة.
وتذكر أولئك اليتامى الذين نكبهم القدر فحرمهم عناية الأم ورعاية الأب وحنان الناس، وأجهدهم السغب فسلبهم الدعة والاطمئنان، وطاردهم التشرد فضن عليهم باللقمة التي تسد الرمق، والسمل الذي يستر الجسد، والمأوى الذي يلوذون به من الحر والقر، وكن لهم الردء والمساعد والمعين.
فقد يمن الله علينا بعد خلاص النفوس من الأهواء، وصفاء القلوب من الأحقاد، وتجرد العقول من الأوهام؛ بالسلامة من أوار هذا الجحيم المتأجج وخطر هذه النكبة البشرية المروعة!
وإن العقبى للصالحين.
(بغداد)
يحيي محمد علي(481/30)
شهداء المعلمين
للأستاذ علي الجندي
(كثر في السنوات الأخيرة موت المعلمين فجأة في أثناء تأدية
واجباتهم، كما فشا فيهم مرض الذبحة الصدرية والفالج
وضغط الدم! حتى لفت ذلك أنظار الناس! وسر هذا البلاء
معروف لا يجهله أحد، وهأنذا أرفع صوتي بهذا الشعر الباكي
لعله يصل إلى أسماع القادرين على تخفيف الضر عنهم)
مَا غَالَهُ الْمًوْتُ، بَلْ أَوْدَى بِهِ الْعَمَلُ ... كَيْفَ الْحَيَاةُ وَلاَ سَلْوَى وَلاَ أَمَلُ!
قَالُوا: هُوَ اْلأَجَلُ الْمَحْتُومُ؛ قُلْتُ لَهُمْ: ... لَوْ لَمْ تَخُنْهُ الْمُنَى مَا خَانَهُ اْلأَجَلُ
يَأْسٌ وَبُؤْسٌ يَضِيعُ الْعُمْرُ بَيْنَهُماَ ... كِلاَهُماَ شَرٌ مَا يُمْنَى بِهِ رَجُلُ
أَغْرَتْ بِهِ الْمَوْتَ أَعْباَءُ تَحَمُلَهاَ ... لاَ يَشْتِكي. . . بَعْضُهاَ يَعْياَ بِهِ الْجَبَلُ
أَمَانَةٌ تُثْقِلُ اْلأَعْناَقَ مَا بُعِثَتْ ... إِلاَ لَهاَ أَنْبِياَءُ اللهِ وَالرُسُلُ
قَالُوا: بِهاَ انْهَضْ وَسِرْ فَوْقَ الْقَتاَدِ وَلاَ ... تَمْشِ الْهُوينَى! لِمَنْ جَاَءتْ بِكَ الْهَبلُ؟
هُوَ الشَّهِيدُ وَإِنْ لَمْ تَرْوَ مِنْ دَمِهِ ... بِيضُ السُّيُوفِ وَلاَ الْخَطَّيةُ الذُّبُلُ
تَمْضِي السُّنُونُ وَلاَ يَفْتَرُّ مَبْسِمُهُ ... وَلاَ يُرَنِّحُ مِنْ أَعْطاَفِهِ الْجَذَلُ
وَلاَ يَخَفِّ - عَلَى الأيام - مَحْمَلُهُ ... إَنَّ الشَّقِيَّ بِهِ الأَرْزَاءُ تَتَّصِلُ
مَشَى بَنُوهُ إلى غَاياَتِهِمْ، وَمَشَتْ ... بِهِ إلى قَبْرِهِ الأَوْصاَبُ وَالْعِلَلُ
ساَعٍ إلى دَرْسِهِ وَالضَّرُّ يُثْقِلُهُ ... كماَ مَشَى يَتَكفَا الشَّارِبُ الثَّمِلُ
تُكَادَ تَعْرِفُهُ مِنْ فَرْطِ صُفْرَتِهِ ... كأَنْ مِنْ وَجْنَتَيْهِ يَطْلُعُ الأُصُلُ
مَا جَازَ سِنَّ الصِّباَ وَالْوَجْهُ مُكْنَهلٌ ... وَالرَّأْسُ مُشْتَمِلٌ بِالشَّيْبِ مُشْتَعِلُ
وَالنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِ. . . كلٌّ لَهُ شُغُلٌ ... عَنْ هَمِّهِ. . . وَلَهُ مِنْ هَمِّهِ شُغُلُ
ساَرُوا عَلَى نُورِهِ الهْاَدِي، فَبَانَ لَهُمْ ... قَصْدُ السًّبِيلِ، وَسُدَّتْ دُونَهُ السُّبُلُ
وَخَلَّفُوهُ سِرَاعَ الْخَطْوِ، وَهْوَ لَقَي ... كماَ تَخَلَّفَ فيِ دَارَ الْبِلى الطَّلَلُ(481/32)
وَلَمْ تَضِقْ بِهِموُ فيِ عَيْشِهِمْ حِيَلٌ ... تُدْنَى الأَمَانيِ. . . وَقَدْ ضاَقَتْ بِهِ الْحِيَلُ
فيِ كلِّ يَوْمٍ لَناَ صَرْعَى نُشَيِّعُهُمْ ... إِلَى الْقُبُورِ، وَفيِ أَكباَدِناَ شُعَلُ
قَدْ عَاجَلَتْهُمْ مَناَياَهُمْ فَماَ فَزَعوا ... إِلَى طَبِيبٍ، وَلاَ أَوْصَوْا بِمَنْ نَجَلوا
أَنْضاَءُ حَرْبٍ مَفاَلِيلٌ وَلَيْسَ لَهُمْ ... عَلَى بَلاَئهِموُ غُنْمٌ وَلاَ نَفلُ
لَهفْيِ عَلَيْهِمْ ضَحاَياَ لاَ يُحسُّ بِهاَ ... فِيمَنْ أَقاَمُوا مِنَ الأَحْياءِ، أو رَحَلُوا!
الصَّابِرِينَ عَلَى الضَّرَّاءِ مَا نَبَسُوا ... يَوْماً بَشكْوَى، وَلاَ مَلُّوا، وَلاَ تَجلُوا
وَالْقاَنِعينَ مِنَ الدُّنْياَ بِقُوتِهِموُ ... وَغَيْرُهُمْ بِغِناَهُ يُضْرَبَ الْمَثَلُ!!
وَالسَّاهِرِينَ عَلَى الأَوْرَاقٍ مَا عَرَفَتْ ... طَعْم الْكَرَى فيِ الدُّجًى السًّاجِي لَهُمْ مُقَلُ
إَنْ أَحْسَنُوا لَمْ يُجاَزُوا بِالُّذِي صَنَعُوا ... وَإِنْ أَساءُوا فَذَنْبٌ لَيْسَ يُحْتَمَلُ!!
هِيَ الْحَياَةُ. . . فَمَوْلُودُ أُتِيحُ لَهُ ... (سَعْدُ السُّعُودِ) وَمَوْلُودٌ لَهُ (زُحَلُ)!
كَمْ دَائِبٍ فيِ نَوَاحِيهاَ قَضَى سَغَباً ... وَقَاعِدٍ جَاءهُ بِالنِّعْمَةِ الْكَسَلُ؟!
لَوْ أَنْصَفَتْ باَتَ كلٌّ عِنْدَ رُتْبَتِهِ ... فَلَمْ يَنَلْ نَهْلَةً مِنْ وِرْدَهاَ الْوَكِلُ
كَيْفَ احْتِياَلُكَ فيِ دُنْياَ يَطُولُ بِهاَ ... عُمْرُ الْجَباَنُ، وَيَلْقَى حَتْفَهُ الْبَطَلُ
لاَ يَجْتنيِ صاَبَهاَ إَلاَّ أَخُو كَرَمٍ ... وَلِلَّئِيمِ سُلاَفُ الرَّاحِ وَالْعَسَلُ
صَبْراً عَلَى نُوَبِ الأيام، عَلَّ لَكُمْ ... أَوَاخِراً، عِنْدَهَا تُنْسَى بِهاَ الأَولُ
الدَّهْرُ: أَنْعُمُهُ ظِلٌّ وَأَبْؤُسُهُ ... وَالظِّلُّ يَسْجوُ قَلِيلاً ثُمَّ يَنْتَقِلُ
(التوفيقية)
علي الجندي(481/33)
صرخة الألم!
للأديب عبد العليم عيسى
أَأَناَ الَّذِي رَدَّدْتُ أَلْحَانيِ عَلَي ... قِيثاَرَتيِ السَّكْرَى طَروباً حَالماً؟
أَأَناَ الَّذِي ضَحِكَتْ عَلَى كَوْنيِ الرُّؤَى ... فَمشَيتُ مِطرَاباً عَلَيْهِ هاَئمِاً؟
أَأَناَ الَّذِي وَهَبَ الْعَذَارَى رُوحَهُ ... وَوَهَبْنَهُ أَرْوَاحَهِنَّ بَوَاسِمَا؟
أَأَناَ الَّذِي دَفَنَتْ يَدَايَ كآبتيِ ... وَمَضَيْتُ وَضَّاحَ الأَسْرَةِ ناَعِماً؟
. . . أَناَ غَيْرُ هذَا كلِّهِ. . . أَناَ لَمْ أَكُنْ ... إِلاَّ جَحِيماً مُسْتَفِزاً عاَرِمَا
ياَ بَحْرُ كَمْ غَنَّيْتُ فَوْقُكَ ساَبِحاً ... لاَ أَعْرِفُ الأَشْجاَنَ إِلاَّ وَاهِماً!
ياَ زَهْرُ كَمْ رَشَفَتْ جَمَالَكَ مُهْجَتيِ ... وَاسْتَلْهَمَتْ مِنْكَ النشِيدَ الْباَسِمَا!
ياَ لَيْلُ كَمْ فَجَّرْتُ فيكَ مَلاَحِنيِ ... وسَهَرْتُ فِيكَ مُساَمِراً وَمُناَدِمَا!
كاَنَتْ لِقَلْبي فيِ دُجَاكَ مَلاَعِبٌ ... سَكَبَتْ بِهِ نَغَماً يَهُزُّ الْعاَلَماً. . .
أَسْياَنُ. . وَالدُّنْياَ تَموجُ بِحُسْنِها ... فَعَلامَ أُنْكِرُ حُسْنَهاَ مُتَشَائماً!
ظَمْآنُ. . . وَالأَقْدَاحُ تَطْفَحُ فيِ يَديِ ... فَعَلاَمَ أَسكبها حَزِيناً وَاجِماً!
مَاليِ أَسِيرُ عَلى الَّلهِيبِ مُجَرَّحاً ... وَأُعَانِقُ الْهَوْلَ الْمُحَطَّمَ ساَئماً!
وَأَناَ الذيِ عَبَرَ الْحَياَةَ كأَنَّهُ ... طَيْرٌ عَلَى الأَغْصاَنِ يَهْتِفُ دَائماً!
وَا حَرَّ أَشْوَاقيِ لفَجْرٍ ضاَحِكٍ ... يَمْحُو ضَباَباً فيِ وُجُوديِ قاَتِماً!
عبد العليم عيسى(481/34)
البريد الأدبي
العيد الألفي للجامع الأزهر
هذه ألف سنه طوتها يد الدهر على أقدم جامعة باقية في العالم كما يطوي الخيال أغشية النور على كوكب النهار. وكان المقدر أن يحتفل العالم الإسلامي كله بالذكرى الألفية للجامع الأزهر في يوم السابع من شهر رمضان لولا أن الحرب التي لا تزال تزلزل الأرض قد أذهلت الناس عن كل شيء وأعجزتهم عن كل أمر، فانتهى العزم بالقائمين على إعداد هذا الاحتفال أن يفعلوا مأدبة الخليفة الفاطمي يوم افتتاحه. وعلى ذلك تقرر أن يؤدي صلاة الجمعة فيه صاحب الجلالة المعز لدين الله فاروق الأول يتبعه كبار حاشيته ورجال دولته، وان يستمع إلى درس ديني يلقيه الأستاذ الأكبر عقب الصلاة، وأن يتفضل جلالته فيشرف العلماء والطلاب بدعوتهم إلى الإفطار على موائده الكريمة، وأن تصدر لجنة من كبار العلماء مختصراً في تاريخ الأزهر يوزع على الناس. وقد نشرنا في هذا العدد كلمة قيمة للأستاذ المدني تعبر أصدق التعبير عما يعتلج من الآلام والآمال في نفوس المصلحين البررة من أبناء الأزهر الحديث. وفي العدد القادم سنصف هذا الاحتفال وما قيل فيه.
تاريخ الجامع الأزهر في العصر الفاطمي
كان صدور هذا الكتاب القيم في هذه الأيام تحية طيبة قدمها صديقنا الأستاذ محمد عبد الله عنان إلى الأزهر المعمور في عيده. والأستاذ عنان من الكتاب القلائل الذين توفروا على دراسة مصر الإسلامية وخدموها بالتأليف والبحث. وكان الظن به آن يضع للأزهر تاريخاَ كاملاً في نواحيه شاملاً في عصوره (ولكن ظروف الوقت العصيبة واضطراب الأذهان وافتقاد المراجع، حالت كلها دون تحقيق هذه الأمنية). فاكتفى الأستاذ بأن قدم تاريخ الأزهر في العصر الفاطمي موصولاً ببعض الفصول التكميلية استعرض فيها أحوال الأزهر منذ العصر الفاطمي إلى هذا العصر بإيجاز. والكتاب حسن الطبع جيد الورق. يباع في المكاتب الشهيرة باثني عشر قرشاً.
مكتبة المستشرق المجري جولد زيهر
في سنة 1921 توفي المستشرق المجري أغناطيوس جولد زيهر أول من كتب من(481/35)
المستشرقين في الإسلام كتابة علمية دقيقة، وخلف وراءه مكتبة نفيسة تحتوي زهاء 6000 مجلد جمعها من مختلف الأقطار الغربية والشرقية، وبخاصة من القطر المصري الذي نزح إليه لإتمام دراسته في الأزهر الشريف
وهذه الكتب جليلة القدر عظيمة النفع لأنها تكاد تشتمل على جميع المؤلفات الأساسية في الفقه الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، والغة العربية، والأدب العربي، وما إلى ذلك من الموضوعات. ومما يجعل لها قيمة خاصة تلك التعليقات الهامة التي علقها جولد زيهر على هوامشها لإبداء ما يخطر له من ملاحظات، وانتقادات، وتصحيحات، وإشارات
وإلى جانب هذه الكتب، تحتوي مكتبة جولد زيهر على طائفة كبيرة تبلغ الألف من نسخ الأبحاث التي كان يرسلها إليه المستشرقون مما ينشرونه في الصحف والمجلات العلمية عن الشرق والإسلام والعرب، وهي مطبوعة على حدة
فلما توفي جولد زيهر آلت هذه المكتبة إلى دار الكتب الوطنية والجامعة في القدس الشريف
مقدمة أسكار وايلد في الفن
اطلعت - متأخراً مع الأسف - على ترجمة الأستاذ علي كمال لمقدمة أسكار وايلد الخالدة في الفن في عدد الرسالة (474) فلاحظت على ترجمته المشكورة أنها خلت من بعض الفقرات المهمة من النص الأصلي، كالفقرة المختصة بفن الترجمة مثلاً حيث يقول وايلد:
(إن أرفع أشكال النقد - كأحطها - هو نمط من فن الترجمة). وكذلك فإني رأيت التسلسل في الترجمة مبتوراً فقد جاء فيها: (إن الذين يجدون معاني قبيحة في الأشياء الجميلة إنما هم فاسدون مجردون من الجمال)
وهي على هذا الشكل مبتورة كما أسلفت. فقد أعقبها وايلد في النص بقوله:
(إن أولئك الذين يجدون معاني جميلة في الأشياء الجميلة مهذبون. والأمل فيهم)
كما أنه ترجم كلمة بمادة في قولة:
(حياة الرجل الأخلاقية (؟) تكون جزءاً من مادة الفنان غير أن أخلاق الفن تتألف من الاستعمال التام لمادة ناقصة.
وهي ليست كذلك وإنما هي وسيلته. وجرى على هذا الأسلوب من التصرف في النص وذلك شائع في الترجمة.(481/36)
وقد أسقط منها ما هو بالغ في الأهمية بالنسبة لفكرة وايلد الأصلية في الفن والنقد كقوله مثلاً:
(الفن كله سطحي ورمزي. . .)
وهو ترجمة النص التالي:.
وترجمتها على هذا الشكل فيها إغفال تام لكلمة فإن القصد من هذا القول تأكيد كون السطحية والرمزية متلازمين ولم تظهر الناحية في الترجمة.
وكم كنت أود - كما يود غيري من المعجبين بهذه المقدمة وبفن أسكار وايلد - أن تكون ترجمتها أكثر دقة
(بغداد - العراق)
عبد الوهاب الأمين
البطريرك
قرأنا في الرسالة الغراء العدد 472 في (الحديث ذو شجون) للدكتور زكي مبارك قوله (البطريرك كلمة يونانية الأصل، أو لاتينية الأصل: ومن الطريف أن نذكر أن كازيميرسكي يجعل البطريق (بالقاف) من اللاتينية، ويجعل البطريك (بالكاف) من اليونانية، برغم تقارب مدلول الكلمتين)
والذي نعرفه أن البطريرك تعريب للفظ رومي معناه أبو الأسرة أو رب البيت. فقد جاء في كتاب التنبيه والأشراف للمسعودي أنه بالرومية بطرياركس تفسيره رئيس الأدباء ثم خفف. وقد سماه المسعودي والإسلاميون بطريرخ ثم بطريرك ثم خفف في الاستعمال فصرنا نقول بطرك ونكتبها بطريرك، كما نقول بيه ونكتب بك، وكانوا قبلنا يقولون جنبية ويكتبون جنباواي وجنبوية، ويقولون أبشيه وأبشاي ويكتبون أبشواي وأبشويه.
رضوان العوادلي
(شعاب قلب)(481/37)
(مجموعة من الأقاصيص التحليلية أصدرها الأستاذ حبيب
الزحلاوي، وقدم لها بهذه الكلمة الأستاذ العقاد):
من المزايا التي يحسن أن تتوافر للكاتب القصصي أن تكون حياته صالحة لموضوع قصة أو قصص كثيرة، سواء في مساعيه الخارجية أو تجاربه النفسية
وهذه مزية قد توافر منها النصيب الوافي لصديقنا الكاتب الفاضل صاحب هذه المجموعة منذ نشأته الأولى، فعرف الجهاد في سبيل الوطن، كما عرف الجهاد في سبيل العمل، وتمرس بالناس كما تمرس بنفسه، واختبر حياة الأسرة وملابساتها، كما اختبر حياة المجتمع الشرقي وملابساته، وزار - مع هذا - بلاداً غير بلاده الشرقية، فسنحت له فرص شتى للمقابلة والموازنة والاستفادة من هنا وهناك
وليس أيسر على القارئ من أن يلمس هذه الحقيقة في صفحات هذه المجموعة القصصية. فهي ترجمة الأديب كاتبها موزعة بين قصة وقصة وبين صفحة وصفحة، يكاد من له ولع بالمشابهات والتوفيقات أن يستخرجها ويجمعها في نسق واحد، فإذا هي قصة واحدة، وإذا هي ترجمة حياة
توخى الأستاذ حبيب أساليب شتى في سرد الوقائع وإبلاغها إلى نفس القارئ، ووفق في جميع هذه الأساليب إلى التشويق الذي ينبغي أن يكون غرضاً من أوائل أغراض الكتابة القصصية على خلاف مذهب الطائفة الأخيرة من متحذلقة العصر الحاضر، التي تنكر التشويق أو تعجز عنه، كأنما تنفير القارئ غرض من الأغراض في اعتقادها يقابل ترغيب القارئ فيما اتفق عليه القصصيون والكتاب على الإجمال
وشاعت في ثنايا الوصف أو السرد عبارات متفرقة في مواضعها الملائمة لها، تشتمل إلى بلاغة وحسن تمثيل، كقوله في وصف لحظة انتظار: (تمضي الثواني والدقائق والساعات، بل العمر كله يمضي في طريق الزمن، والزمن لا ينفك من الأزل، وسيبقى مدى الآباد يسر بنظام محكم الضبط، فعلام اختل اليوم نظامه، وهدأت دورته، وتركني وحدي أنا: الشاذ المضطرب، الصاخب والهادئ، المفكر المبلبل. . . أنا السعيد الحزين، والباكي الضاحك. . . علام تركني في أرض يلوح لي الآن أنها تدور دورة معكوسة. . .)(481/38)
أو كقوله على لسان البطلة في قصة مع الريح: (قلت له مرة، هل تستمد الوحي من أغصان الشجر أو من أفواه النيل الجارية؟ إنك دائم ترويح النظر بين هذه وتلك. وكأني به ارتاح إلى ملاحظتي فابتسم ابتسامة رقيقة: من القلب وحده يستمد الإنسان وحيه)
أو كقوله على لسان تلك البطلة تخاطب أختها: كتبت لي تعنفني على استرسالي في معاشرة ذاك الشيخ الذي توسل بوعد الزواج بي للوصول إلى غاية تنفى نبالة القصد من الزواج فتنبهت. اطلقني ملامك الصارخ من البحر الخضم فصيرني كالضفدع أقفز على اليابسة ولا أجرأ على الابتعاد من المستنقع الآسن. . .)
وهكذا في أمثال هذه التعبيرات الموفقة في معارض شتى تتخلل الأقاصيص التي اشتملت عليها المجموعة
ولا حاجة بالكاتب إلى سبب يرجع إليه وهو يقدم قصته لقرائه بعد أن يكفل لهم المزيتين اللازمتين في كل كتابة لا في كتابة القصة وحدها وهما: صدق الرواية عن الحياة وحسن التمثيل لما رواه
وكلتا المزيتين بينة في قصص الأستاذ حبيب على ما نلاحظ خلالهما من هفوات لغوية تعهد في العصر الحاضر عند كتاب كثيرين، وتشفع لها هنا حسنات تميل إلى الرجحان ويخرج منها القارئ وهو رابح الميزان(481/39)
العدد 482 - بتاريخ: 28 - 09 - 1942(/)
من عجائب الناس
لعل ابن آدم هو المخلوق الوحيد الذي يرى الشيء الواحد بعينيه
الاثنتين أبيض تارة وأسود أخرى على حسب الصبغ الذي يلونه به
الهوى؛ فقد يتحد الشيء في ذاته وصفاته، ولكنه يختلف وا عجباه في
نظره أو في رأيه، فيكون حسناً وقبيحاً، أو خيراً وشراً، أو حلالاً
وحراماً، أو نافعاً وضاراً، لا باعتبار حقيقته في نفسه، ولكن، باعتبار
ما تقتضيه الحاجة أو الأثرة أو الرياء أو المحاباة. وبفضل هذه الميزة
العجيبة في الإنسان تعددت مقاييسه، وتضاربت أهواؤه، وتناقضت
أحكامه، وتباينت عقائده، وتفرقت سبله
ذلك كلام لا نكير فيه ولا لبس فلا أحلل ولا أعلل، وبحسبي أن أدع الحوادث تحدث والأمثلة تمثل
أذاع راديو (باري) منذ ليلتين أن فريقاً من الطلاب الهنود تظاهروا في بمباي فاعترضتهم فئة من الشرط الإنجليز فتفرقوا في شوارع المدنية أباديد بعد أن نفر منهم بجروح. ثم عقب المذيع على هذا الخبر بأن الاعتداء على المتظاهرين بالضرب ينافي المدنية، ويجافي الخلق، ويصم الذين ارتكبوه بالقسوة والوحشية والبربرية الأثيمة. وفي هذه الإذاعة نفسها أعلن هذا المذيع نفسه أن مليوناً من جنود المحور قد اقتحموا بالدبابات الثقيلة والطائرات المنقضة والسيارات المدرعة منازل (ستالينجراد) على الروس وفيهم النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، فدكوا كل بناء، وسحقوا كل حي، وركموا أشلاء القتلى في الحجرات والطرقات على صورة لم يرها الراءون ولم يروها الراوون. ثم أخذ هذا البوق البشرى يهذي بفضل هذا النصر على المدنية، وينوه بعظيم أثره غي مستقبل الإنسانية!
كان لكاتب من كبار المصلحين حصة مأكولة في وقف أهلي، فظل يكتب وجوب حل هذا النوع من الوقف حتى نضب مداده، ويخطب في جشع النظارة وإهمال الوزارة حتى جف ريقه. وتداول الناس مما كتب وخطب جملة من البراهين الملزمة والنصوص الصريحة والوقائع الثابتة لا تدع لوجود الوقف الأهلي مبررا ولا للدفاع عنه حجة. فما هو إلا أن(482/1)
آلت النظارة على هذا الوقف إليه حتى بلع لسانه فلم يخطب، وكسر قلمه فلم يكتب، وفرغ لاستغلال الوقف والاستبداد بريعه فلم يقبل رقيباً عليه، ولم يقابل مستحقاً فيه!! ذكرت بهذا الكاتب المصلح ذلك الاشتراكي المفلس الذي كان يرى الرأسمالية وبالاً على المجتمع، والرأسماليين كلا على الناس. وكان يسوغ في سبيل اشتراكية الإرهاب والإضراب والمصادر والقتل، حتى ورث عن أحد أقربائه الأباعد قطعة من الأرض، فنصب على كل جهة من جهاتها الأربع لوحة كتب عليها بالخط العريض: (ممنوع المرور)!
وكان خطيب من خطباء المساجد عليه سمات التقى والزهد لا ينفك يقرع آذان المصلين بالعظات الزاجرة عن احتكار السلع وإفحاش الأسعار وإرهاق الناس في هذه السنين العجاف.
فإذا فرغ من الوعظ وخرج من المسجد جلس في حانوته الصغير يسبح لله ويقسم لطالب السكر أو الزيت أو الرز أن دكانه من كل أولئك خلاء. فإذا مجد الضعيف المضطر أعطاه بالسعر المضعف والكيل المطفف بعض ما يطلب! وهيهات أن تنفذ إليه عيون الحكومة من وراء الحجب الأربعة التي ضربها عليه من وظيفته وعمامته ولحيته ومسبحته!
هذا الشيخ يحسب أن حدود الدين لا تتعدى حدود المسجد، فإذا عالج شؤون الدنيا عالجها على النهج الذي سنه الشيطان لأوليائه؛ فهو كالتلميذ الذي يحسب أن قواعد النحو لا تتعدى (حصة) اللغة العربية، فإذا كتب في التاريخ أو في الكيمياء كان مطلق الحرية في إنشائه. ذلك أحسن الفروض، فإذا كان يعتقد أن الدين طعم الدنيا وشرك المال، كان كذلك الصوفي الهرم الذي زعموا أنه كان يركب الترام كل صباح إلى ضريح الشافعي فكلما أقبل عليه (الكمساري) يطلب أجر الركوب أدبر عنه وشغل لسانه بالذكر ويده بالتسبيح حتى ينصرف إلى غيره. ففي ذات يوم ألح المحصل على تغافل الشيخ وسأله عن (التذكرة) فلم ير بدا من أن يدفع هذه المرة ويقول في هيئة المفجوء ولهجة الذاهل: (معذرة يا بني! فقد شغلت بالله عن كل شيء)
كبير من الكبراء له في الصوم مذهب جديد؛ فهو يصوم الصوم (الصحي) الذي يفيد الجسم ولا يفسد الروح: يتعاطى كل ساعتين كوباً كبيراً من عصير العنب أو الليمون أو المانجو، ثم يمسك عن التبغ في النهار وعن الخمر في الليل، ويصر على أن تساقط أصابعه الثلاث(482/2)
حبات المسبحة منذ أذان العصر، وأن يفطر على أشربة رمضان وآكاله عند أذان المغرب. فإذا بلغه أن أحد مرءوسيه غفل عن آداب الصيام، في النظر أو الكلام، أخذه أخذاً شديداً (بتعليمات الوزارة)
أستاذ من أساتذة الأدب لا يحاضر إلا في الدين ولا يجادل إلا في الخلق، له في الحرية الشخصية مذهب فضفاض يسحب أطرافه السابغة على كل معروف من الدين والخلق. ثم لا يعوزه أن يجد لكل رغيبة من رغائب نفسه الشهوانة سنداً مما يسميه هو الدين والخلق. فمثله كمثل ذلك الفقيه الثقة الذي تبحر في القانون وتقصى في الإفتاء حتى لا تند عن ذهنه مسألة، ولا تعزب عن براعته حيله. فلما تولى أمور الناس وجد لكل مأزق من مآزق الضمير مخرجاً من مخارج الرأي لا يضيق عن أمر من الأمور في أي غرض من الأغراض!
هذه أمثلة من الواقع المشهود تؤيد شقاء الإنسانية بين العقل والهوى. ولو طاوعت القلم لسردت عليك ما هو أعجب؛ ولكن. . .
قالت الضفدع قول ... ردَّدته الحكماء
في فمي ماءُ وهل ين ... طق مَن في فيه ماء!
أحمد حسن الزيات(482/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
مكانة الأديب في الجهاد - أدب المعاش - نفحة سودانية
مكانة الأديب في الجهاد
اقترح أحد النواب المحترمين إحياء ذكرى (شوقي) بإقامة تمثال له في أحد شوارع القاهرة، وتلك التفاتة لطيفة تدل على قيمة الشعر في أنفس بعض النواب
ولكن أديباً فاضلاً تعقب هذا الاقتراح في جريدة (الدستور) فقال: يجب أولاً إقامة تمثال لمحمد فريد، وتمثال لمحمد عبده، وتمثال لقاسم أمين، قبل أن يقام تمثال لأحمد شوقي أو حافظ إبراهيم
ولا بأس بهذا الكلام، ولكن الأديب الفاضل علله فقال: نحن في عصر السيادة فيه للشجاعة والبأس، والعبادة فيه للبطولة والأبطال، لا للفن والجمال، وكل مقتحم ميداناً، وداك سوراً، ومنتزع نصراً، مقدم على من يجلس فوق رابية آمنة، ليرسل من قيثارته ألحاناً مشجية
ومعنى هذا التعليل أن أمثال محمد عبده ومحمد فريد كانوا جماعة من المجاهدين، وأن أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم كانوا جماعة من المغنين!!
ومن يعش في مصر ير العجب، وإلا فكيف يجوز القول بأن صورة الشاعر هي صورة (من يجلس فوق رابية آمنة، ليرسل من قيثارته ألحاناً مشجية)؟ وكيف يجوز القول بأن الشعراء ليسوا إلا جماعة يسبحون للفن والجمال، ولا صلة لهم بالبطولة والأبطال؟
إن هذا الناقد لا يعرف كيف يحيا الشعراء، ولا يفهم من الشعر إلا أنه غناء، والأدب عنده متعة ذوقية يلهو بها الفارغون من أهل العبث والمجون
فمتى يعرف أهل مصر أن حامل القلم هو الوطني الأول، والمجاهد الأول، وأن معاني البطولة تعتلج في صدره قبل أن تعتلج في صدور القادة والزعماء؟
وما أساس البطولة الحقيقية عند أمثال: محمد فريد ومحمد عبده وقاسم أمين؟
أساسها الفكر والبيان، ويجب حتماً أن نضيف هؤلاء إلى الأدباء قبل أن نعدهم زعماء، فما ارتفعوا إلا بالفكر المشرق والبيان الجميل(482/4)
وحكاية دك السوار واقتحام الميادين وانتزاع النصر تحتاج إلى شرح:
فهل من الحق أن الأديب لا يدك أسواراً ولا يقتحم ميادين؟
إن الأديب يقضي عمره في جهاد ونضال وعراك مع الدنيا والناس، ومع الأوهام والأباطيل والأضاليل، وما شرق مشرق أو غرب مغرب في دعوة وطنية أو اجتماعية إلا على هدى من وحي الأديب؛ ولا استبسل جبان، أو استقتل شجاع، إلا بتحريض من عبارة فاه بها شاعر أو كاتب أو خطيب
في أعقاب الحرب الماضية ظهر كتاب فرنسي اسمه: وهو كتب أقيم على أساس القول بأن الوحشية الألمانية ترجع إلى إيحاء من شعراء الألمان ومفكريهم في القرن التاسع عشر، وأن السيوف تتلقى الوحي عن الأقلام في تلك البلاد
وقبل هذه القولة الفرنسية في تعليل الوحشية الألمانية، قال أسلافنا منذ أزمان طوال: إن أبياتاً من شعر عمر بن أبي ربيعة نقلت قلب هرون الرشيد من مكان إلى مكان، فصنع بالبرامكة ما دونه التاريخ بإسهاب
وإلى الأدب العربي يرجع الفضل في تأريث البطولة العربية وكذلك حظ جميع الآداب في جميع الشعوب
حين تزاور الرؤساء من الإنجليز والأمريكان بعد انتصار الحلفاء في الحرب الماضية لم يجدوا عبارة تفصح عن الألفة بين الأمتين أفضل من العبارة التي تقول بأن لغة شكسبير هي الرباط الوثيق بين الإنجليز والأمريكان
فهل سمعتم أن شكسبير دك أسواراً واقتحم ميادين؟
ومنذ أسبوع نقلت البرقيات أن المسيو هريو رد وسام (اللجيون دونير) إلى المشير ببتان - وكان تلقاه من كليمنصو العظيم - لأن حكومة فيشي منحت هذا الوسام لضابطين يحاربان في صفوف الألمان، فعمن تلقى هريو هذا الوحي الرائع، الوحي الذي يأبى على الضمير الفرنسي أن يستبقى وساماً يهدي إلى من يحارب في صفوف الأعداء، ولو أصبحوا بحكم الضرورة حلفاء؟
هذه التفاتة أدبية لا سياسية، والأدب يوحي معاني تنفر منها السياسة، بحيث يجوز الحكم بأن الأدباء أشجع من السياسيين، وما مدح سعد زغلول بأفضل من النص على أنه كان(482/5)
خطيباً وطنياً لا سياسياً، كما قال الأستاذ كامل بك سليم
التفاتة المسيو هريو التفاتة أديب، وكان هريو في مطلع حياته أستاذ الأدب الفرنسي بجامعة ليون، وكان يعاب عليه الإشراف في شرح أصول الغزل والتشبيب، فلم يكن يرتاد محاضراته بجامعة ليون غير عرائس ليون
ثم تحولت العواطف الوجدانية عند المسيو هريو إلى عواطف وطنية، وهل كانت خطبه في مجلس النواب الفرنسي إلا روائع من الأدب المضمخ بعبير الروح؟
ولم يقف الأدب بالمسيو هريو عند الوطنية المحلية، بل سما به إلى رعاية اللغة الفرنسية في البلاد الأجنبية، فرأس جمعية المسيو لاييك رياسة حقيقية لا صورية، وأمدها بما استطاع من الوقت والمال
عتب عليه المسيو بينار في المؤتمر الذي عقد في يوليه سنة 1933 خلف الوعد بحضور افتتاح الليسيه فرانسيه في حلب، فأعتذر بأسلوب لن أنسى وقعه في نفسي، اعتذر بأنه يبيت في القطر ثلاث ليال من كل أسبوع، ثم أعلن استعداده لدفع النفقات التي توجبها الدعوة لنشر اللغة الفرنسية في البلاد الأجنبية
فهل تصدر هذه الأريحية إلا عن أديب؟
وفي ذلك اليوم دعوته لزيارة القاهرة فقال في حماسة: سنلتقي هنالك يا صديقي
وقد بر بالوعد فحضر لافتتاح الليسيه فرانسيه بمصر الجديدة في سنة 1938، ولكني ما رأيته ولا رآني، فقد كنت في بغداد، عليها أطيب التحيات
وخلاصة القول أن الأدب عماد الوطنية، ولا قيمة لوطن ليس فيه أدباء
وإذا تحذلق متحذلق فادعى أن الأدباء لا يحسنون غير التغريد فوق أفنان الجمال، أجبناه قائلين بعزة وخيلاء:
إن الجمال وهو أعظم نعم الله في هذا الوجود، ولا يعيب التغني بالجمال غير مرضى الأذواق والقلوب. . . الأمم العظيمة هي التي تتغنى بالجمال، كما يصنع الإنجليز والألمان، وكما صنع العرب في شباب الزمان. . . فمن بدا له أن يغض من شعرائنا لأنهم يتحدثون عن الجمال، فليبادر باستشارة أحد الأطباء
أدب المعاش(482/6)
لا جدال في أن الأدب العربي الحديث قد سما سموا عظيماً في كثير من الفنون، ولكني مع ذلك أراه تخلف أقبح التخلف في دعوة الناس إلى تدبير المعاش، وأنا أقترح أن يكون عندنا أدب يسمى (أدب المعاش) وهو الأدب الذي يعلم الناس كيف يقتصدون، وكيف يدخرون، وكيف يواجهون مطالب الحياة في الشباب والمشيب، بجيوب سليمة من مرض الإفلاس، فما يذل الرجال غير الفقر، أعاذنا الله وأعاذ جميع الأحرار من رؤية وجهة البغيض
ولتوضيح هذا النقص في اتجاهاتنا الأدبية أسوق الفكاهتين الآتيتين: لقيني الشاعر حافظ إبراهيم يوماً فقال:
- هل رأيت ما صنع شوقي؟
- ماذا صنع شوقي؟
- نظم قصيدة في (بنك مصر) مع أنه لو اختلف مع هذا البنك على مليم واحد لساقه إلى ساحة القضاء!
- ومعنى هذا أنك لا ترى أن تقال في (البنوك) قصائد؟
- القصائد لا تقال إلا في الأزهار والرياحين
ولقيني الشاعر عباس العقاد يوماً فقال:
- قد نفيناك عن فردوس الأدب
- وما سبب هذا النفي، يا حضرة الأستاذ؟
- لأنك بنيت بيتاً في مصر الجديدة، والأدب لا يعرف مثل هذا الثراء
وقد اعتذرت للأستاذ العقاد بعبارة لطيفة، عبارة تقول بأن شهرتي بالأدب هددت سمعتي المالية، فكان من واجبي أن أبني بيتاً ولو بالتقسيط، لتحسن سمعتي في سنتريس
والحق أن أدباءنا قد انصرفوا عن تعليم أنفسهم وتعليم قرائهم فكرة المعاش، ولو شئت لقلت إنهم يتباهون بالتبديد لما يملكون. وهذا خطر يجب التحذير من عواقبه السود، وأنا أنبه نفسي وأنبه تلاميذي وقرائي، فلأسمع وليسمعوا، ولعل فيهم من يعي كلامي بأكثر مما أعي كلامي
لا يعاب على الأديب أن يقص بعض وقائعه الغرامية، فمنذ عهد امرئ القيس إلى اليوم والشعراء يتباهون بحوادث الضم والعناق والوصال، والأمر كذلك عند شعراء الأمم(482/7)
الأجنبية، ولكن يعاب على الأديب أن يقص بعض مسالكه في تدبير المعاش وما وقع من ذلك لم يقابل بغير السخرية والاستهزاء
وأخرج على هذا التقليد فأقول: إني جريت منذ أعوام على الادخار في حدود الاعتدال، فلا أحرم نفسي ولا أحرم أبنائي نعمة العيش المقبول، ولكني لا أسمح لنفسي ولا لأبنائي بتبديد ما يسوق الله من الرزق الحلال
وعند اشتغالي بالتدريس كنت أسأل تلاميذي عما يدخرون ولم يفتني أن ألقي درساً في الادخار على تلاميذي في بغداد، راجياً أن يلقوه على تلاميذهم في جميع أرجاء العراق
ومهنتي اليوم لا تتسع لأمثال هذه الدروس، ومع ذلك يغلبني حب الخير فأسأل المدرسين الذين أتشرف بتوجيههم إلى المناهج الصحيحة في التدريس، اسألهم عما يدخرون، لأطمئن إلى صلاحيتهم لمهنة التعليم؛ فالمعلم الحق في نظري هو الذي يروض نفسه ويروض تلاميذه على تدبير المعاش. ولا يمكن لمدرس يبدد مرتبه في الأسبوع الأول من الشهر أن يجد عقله في الباقي من الأسابيع
وتدبير المال في الحدود المعقولة يشهد بالقدرة على ضبط النفس، وضبط النفس هو أوثق صور الأخلاق، وما يجوز لمبذر أن يتوهم أنه يصلح لشيء من جلائل الأعمال
أكتب هذا وأنا اعرف أن في بني آدم من يطيب له أن يتهمني بالشح والبخل، لأنهم ألفوا وصف المدخرين بالشح والبخل؛ ولأن الشعر القديم صور لهم التبذير بصورة السخاء من أن أكثر المدائح كانت تمائم أريد بها انتهاب ما يملك الخلفاء والملوك
ومهما نهيتكم عن الإسراف فلن أنهاكم عن البر بالفقراء والمساكين. ولي هنا غاية تجارية: فقد عرفت بالتجربة أن الله يعوض ما ننفقه على المعوزين أضعافاً مضاعفة، ومن الواجب أن نستغل كرم الله أجمل استغلال في حدود ما نطيق
وأنا بعد هذا أرجو من يؤلفون كتب المطالعة لتلاميذ المدارس أن يكثروا من الحث على الادخار، ليساعدوا على إنشاء جيل جديد، جيل متماسك لا يتباهى أبناؤه بالسرف والتبديد، وإنما يتباهون بالبر والإفضال
نفحة سودانية
كان من توفيق الله أن نلتفت إلى الأدب في السودان بعض الالتفات، فبه أتيحت فرصة(482/8)
للتعرف إلى ما هناك من روائع لو نشرت لبهرت شعراء مصر والشام والعراق
أقول هذا وأمامي قصيدة للشاعر محمد سعيد العباسي، قصيدة خفيفة الروح، حن فيها إلى أيامه بمصر فقال:
ولو كان لي عِلمُ ما في غدٍ ... لما بِعتُ مصر بسودانيهْ
عدتنيَ عن طِيب ذاك الثواء ... نَوىً قَذَفٌ خيلُها عاديهْ
فودّعتُها أمسِ لا عن قِلًى ... ولم تكن النفسُ بالساليه
إلى بلدٍ عشتُ فيه غريباً ... بعيداً عن الناس في ضاحيهْ
أقيم بها من صدور المطىّ ... للمرخِ تُحدَى وللصافيهْ
لعلي أصيبُ بتلك البطاح ... صباي وذاهب أياميهْ
فلله كم جَنَت الحادثات ... علي وأودت بآماليهْ
رعَى الله مصرَ فكم للأديب ... بها ثَمَّ من عيشةٍ راضيه
وأحبِب بأيامها الذاهبات ... على ما بها وعلى ما بيهْ
قضينا بها غَفَلات الشباب ... بأحلى مذاقاً من العافيهْ
تولَّت سراعاً فيا ليتَها ... تعود لنا مرةً ثانيهْ
ويا قِبلة الخير لا تبعدي ... وحُيِّيتِ زاهرة زاهية
ويا برقُ زُرها بوطف الغمام ... وحُلِّى عزاليك يا ساريه
وإن تبخلي إن لي مُقلةً ... هي المزن هامعةً هاميه
بني مصر حيَّاكم ذو الجلال ... بعَرف تحياته الزاكيه
وأسدى بإحسانه منعماً ... لكم كلَّ صالحةٍ باقيه
بكم غدت اليومَ أم اللغات ... كحسناَء في بُرُدٍ ضافيه
حَمَلتم بمصرَ وبالمشرقَيْن ... رسالةَ آدابها العاليه
أجلْ وشأوتم بسحر البيان ... عباقرة الأعصر الخاليهْ
بيانٌ هو البدر في تِمِّهِ ... يشقُّ حَشا الليلةِ الداجيه
وكالورد يعبق مطلولهُ ... أو المسك أو جونة الغاليه
بَلوْنا الكرام فكانوا البناء ... وكنتم به حَجَر الزوايهْ(482/9)
فما رأى قراء (الرسالة) في هذا الكلام النفيس؟ ما رأيهم في شاعر سوداني يحن إلى مصر هذا الحنين؟ وما جزاؤه على هذا التلطف النبيل؟
نحن لا نملك الجزاء على مثل هذا الوداد، فهو فوق الجزاء، ويكفي أن نقول إنه شاعر من السودان، السودان المصري، أعزه الله ورعاه وحماه من جميع الأسواء
وداد مصر للسودان وداد صحيح، فليعرف السودانيون أننا لا نقبل أن يكونوا أوفى منا بأي حال، وسنعارض هذه القصيدة بقصائد، وسنريهم أن مصر تجزيهم صدقاً بصدق، وإخلاصاً بإخلاص
أيها الأرواح الشوارد بأعالي النيل، أيها الحافظون لأمجاد الإسلام بالوادي السحيق، هل تعرفون مكانتكم في أنفس المصريين؟
لذلك حديث وأحاديث، فانتظروا قليلاً، فسأقص من أخباركم ما تجهلون
أيها الشاعر الذي حيا مصر، حياك الله وحياك ثم حياك، فقد طوقت جيد مصر بقلائد صيغت من حبات القلوب
أهذا شعر أم سحر؟
هو فوق الشعر وفوق السحر، هو إلهام جادت فطرةٌ كريمة الأصل، في بلاد أبناؤنا أصلاء
وإلى الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد تحيتي وثنائي، فهو الذي حمل إلي هذا القصيد، كما يحمل النسيم رسائل المحبوب إلى الحبيب
زكي مبارك(482/10)
مفاوضات الفتح العربي لمصر
للأستاذ السيد يعقوب بكر
(تتمة)
(ج) مفاوضة ثالثة
يحكى لنا الواقدي (ص25 - 28) أن أرمنوسة ابنة المقوقس كانت في طريقها إلى قيسارية لتزف إلى فلسطين (يقصد قسطنطين) بن هرقل، فلما علمت أن قيسارية قد حاصرها العرب، عادت إلى مصر بما كان معها من الخدم والمال، فما وصلت إلى بلبيس، حتى جاءتها جيوش عمرو وحاصرتها. ثم يقول الواقدي: إن العرب اقتحموا المدينة وأسروا أرمانوسة، ولكن عمراً إلى أبيها المقوقس، اعترافاً منه بحسن صنيعه (أي صنيع المقوقس)، حين أتته منذ سنين عدة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، يحملها إليه حاطب بن أبي بلتعة. أرسل عمرو أرمانوسه إلى أبيها مع قيس ابن سعد، فيصل هذا ويدور بينه وبين أبيها حديث طويل يسجله لنا الواقدي (ص28 - 29). ونحن يعنينا هنا الجزء الأخير من هذا الحديث (ص29): (فقال المقوقس لقيس ابن سعد: يا أخا العرب، أرجع إلى أصحابك وأخبرهم بما سمعت وبما رأيت، وانظر فيما يستقر عندكم وبينكم؛ فقال قيس: أيها الملك، لابد لنا منكم، ولا ينجيكم منا إلا الإسلام أو أداء الجزية أو القتال. فقال المقوقس: أنا أعرض ذلك عليهم، وأعلم أنهم لا يجيبون، لأن قلوبهم قاسية من أكل الحرام)
فهل نعد ذلك الحديث مفاوضة؟ لا شك في ذلك. ولكننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذه المفاوضة لم تكن، وذلك لسببين: الأول أن قصة أرمانوسه نفسها موضوعة؛ فالأستاذ بتلر يقول فيها (ت3 ص191): ولا حاجة بي إلى إضاعة الوقت في تفنيد هذه القصة، فإن مجرد العلم بأن المقوقس كان بطريق الإسكندرية كاف لدحضها. . . ويجدر بنا هنا أن نذكر أن أبا صالح قال: إن (أرمنوسه) هي الاسم المصري القديم لمدينة أرمنت (ص279). وقد ذكر ابن عبد الحكم بغير دقة أنها امرأة المقوقس، وذكر كرماً كان لها أغرقته فصارت منه بحيرة مريوط. وإنه مما يؤسف له أن هذه القصص التي يمليها خيال ألف ليلة وليلة مما يجب علينا إبعاده من التاريخ)؛ والثاني أن المقوقس لم يكن هو الذي(482/11)
تسلم رسالة النبي عليه الصلاة والسلام وإنما الذي تسلمها هو (جرج) الذي سمى (بالمقوقس) في (الرسالة) خطأ، وهو حاكم الإسكندرية ونائب الملك في مصر (بتلر ص125)
(د) مفاوضة رابعة
يحكى لنا الواقدي (ص35 - 39) ما فعله العرب الذين كانوا سائرين لنصرة عمرو - مع العرب المتنصرة الذين كانوا سائرين لنصرة أرسطوليس وكيف أن أرسطوليس هذا استهدف لمكيدتين: مكيدة عمه أرجانوس الذي أدرك مقتل أخيه على يد ابنه (أي ابن أخيه)، ومكيدة العرب المسلمين الذين انبثت طائفة منهم في معسكره متظاهرة بأنها جماعة العرب المتنصرة الذين جاءوا لنصرته؛ ثم كيف هزم بسبب هاتين المكيدتين أمام الحصن وفر إلى الإسكندرية. وبعد ذلك يقول الواقدي (ص39): ((قال ابن إسحق) حدثني من أثق به أنه قتل في تلك الليلة من عسكر القبط خمسة آلاف، وغنم المسلمون أثقالهم وما كان فيها من الأموال. فلما أقبل الصباح اجتمع خالد بالمسلمين وسلم بعضهم على بعض وهنوهم بالسلامة، ودخلوا مصر وملكوا ديارها وأحاطوا بقصر الشمع. فأشرف عليهم أرجانوس بن راعيل أخو المقوقس، وقال لهم: يا فتيان العرب، اعلموا أن الله قد أمدكم بالنصر، وقد فعلت في حقكم كذا وكذا، ولولا حيلتي على ابن أخي لما انهزم منكم، وقد ظفرتم الآن، ونحن نسلم إليكم على شرط أنكم لا تتعرضون لنا ولا تمدون أيديكم لنا بسوء، ومن أراد منا أن يبقى على دينه يؤدي الجزية، ومن أراد أن يتبعكم يتبعكم. فقال له معاذ بن جبل: قد نصرنا الله على الكفار بصدق نياتنا وصالح أعمالنا واتباعنا للحق، وإنا ما قلنا قولاً إلا وفيناه، ولا استعملنا الغدر ولا المكر، وأنتم لكم الأمان على أنفسكم وأموالكم وحريمكم وأولادكم، ومن بقى منكم على دينه فلن نكرهه ومن اتبع ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا. فلما سمع أرجانوس ذلك نزل إليهم بالمفاتيح، فأمنوه وأمنوا من كان معه في القصر، وجمعوا كابر مصر ومشايخها. . .)
فهل نعد ذلك مفاوضة؟ لا شك في ذلك. ولكن القصة كلها من أولها إلى آخرها موضوعة ليست فيها أثارة من صواب فقد قلنا من قبل إن المقوقس لم يمت في ذلك الوقت، وإن اسم أرسطوليس لم يرد غير كتاب الواقدي؛ ونقول الآن إن اسم أرجانوس لم نجده كذلك عند(482/12)
غير الواقدي. وليست بنا حاجة لتنفيذ هذه المفاوضة إلى القول بأن قصة العرب المنتصرة موضوعة وإننا لم نجدها في غير كتاب الواقدي
فخلاصة القسم الأول من البحث انه لم يصح عندنا إلا وقوع مفاوضتين: الأولى عند بلبيس بين عمرو وجماعة عليها أحد الأساقفة، ولم يرد إلينا نص ما دار في هذه المفاوضة. والثانية في جزيرة الروضة أثناء حصار حصن بابليون بين المقوقس وعبادة ابن الصامت، وقد ورد إلينا ما يقول مؤرخو العرب إنه دار في هذه المفاوضة، ولكننا لا نظن أن الذي نقله إلينا هؤلاء هو ما دار في هذه المفاوضة بالضبط، وإن كنا لا نشك في أنه لا يختلف عنه من حيث الروح المسيطرة على الطرفين المتفاوضين
فلنشرع إذن في القسم الثاني من البحث في تلمس هذه الروح في ما نقله إلينا مؤرخو العرب وتنسمها منه
القسم الثاني
كان عبادة بن الصامت وأصحابه تسيطر عليهم تلك الروح التي كانت تسيطر على العرب جميعهم في ذلك الوقت: الانصراف عن الدنيا وأعراضها وملذاتها، تلك الدنيا التي طلقوها ونبذوها وخلفوها ظهرياً؛ ثم السعي إلى لقاء الله تعالى والاستشهاد في سبيله والظفر بجنته ونعيم آخرته
وكان عبادة بن الصامت وأصحابه لا يجدون ما يصلح أساساً للمفاوضة بينهم وبين المقوقس وأصحابه غير هذه الثلاث الخصال: إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال. ذلك لأنها الأساس الوحيد الذي يرضى به المسلم المعمور القلب بالإيمان الخالص الضمير من أعراض الدنيا الموطن النفس على الاستشهاد
أما المقوقس فكان في أول الأمر تسيطر عليه نزعتان: الأولى هي خوف العرب وخشيتهم. والثانية هي الحرص على سلطان هرقل من أن يزول عن مصر. ولذلك وجدناه يصطنع الحيلة لصرف هؤلاء العرب عن البلاد؛ فيأخذ في تخويف عبادة وصحبه من جموع الروم التي تتجمع للقائهم وتوشك أن تنقض عليهم فلا يستطيعون لها ردا، ويأخذ في إظهار شفقته على هؤلاء العرب الذين يقاسون شظف العيش وضيق الحياة، ثم يأخذ أخيراً يقول: (ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة(482/13)
دينار ولخليفتكم ألف دينار)
ولكن عندنا ما يدرك أن العرب قوم ليسوا كالأقوام وأناس ليسوا كالأناسي، وأنهم قد طلقوا الدنيا فلا يرضيهم منها إلا شظف العيش وضيق الحياة، وأنهم يتمنون لقاء الروم الذين يوشكون أن ينقضوا عليهم ليظفروا بالشهادة إن غلبوا أو ليعلوا منار الإسلام إن غلبوا، عندما يدرك ذلك تغلب عليه نزعة الخوف والرهبة، وينصح لأصحابه أن يسلموا البلاد للعرب ويدفعوا الجزية
ولكن أصحاب المقوقس كانوا قوماً لا يرضون الخروج من دين ابن مريم إلى دين لا يعرفونه، ولا تطيب نفوسهم بأن يذلوا ويهونوا، ولا يرون إلا القتال سبيلاً لهم. لذلك رفضوا نصح المقوقس وعادوا إلى القتال
هذه هي الروح المسيطرة على الطرفين المتفاوضين. ولكنا لا نحب آن نختم البحث قبل أن نقول إنها الروح المسيطرة على العرب والروم؛ فقد كان المقوقس رومياً (بتلر، الملحقان 3 و7 من كتابه)، وكان أصحابه روماً. أما القبط فلم يكن لهم اشتراك في سياسة البلاد ومفاوضة الغزاة، فقد كان المقوقس (قيرس) لا يزال على عهده العدو الأكبر لمذهب القبط (بتلر ص220، 221)
(تم البحث)
السيد يعقوب بكر(482/14)
زواج الأدباء. . .
للمغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
. . . أما احتراف الأدب، والكتابة في الصحف، ومعالجة الشعر، فهذه في الشرق ضروب من الفقر - كما هي ضروب من الحرفة - غير أنه فقر عاقل مميز يذهب بنفسه إلى السمو، وينزع إلى الحق، ويستنكف أن ينحط إلى منزلة الفقر العامي الجاهل. . .!
فالحوذي، والكناس، والمتسول، وأمثالهم من هؤلاء الذين يضطربون في معاشهم اضطراب الكرة الأرضية، يقطعون كل أربع وعشرين ساعة دورة حول أنفسهم. . . هؤلاء يتزوجون إذ لا يتورعون أن يظلموا المرأة، وأن يزيدها من فقرهم فقراً، ومن قلتهم قلة؛ ثم هم لا يبالون حاجتها من الحياة، ولكن حاجتهم منها هي. . .
فالمرأة عندهم وظيفة حياة طبيعية لا يشترط فيها إلا شرط الغريزة والعادة الاجتماعية. وفي طبقاتها في النساء من لا يصلحن إلا لهم؛ وقد أعدتهن رحمة الله إعداداً طبيعياً، وأمدتهن بنفوس صابرة قوية. . . فلها أن تعمل وترضى وتنقاد
إذ الرجل عندهن هو الجواد الأخير في عربة الحياة. . . ومتى فرشت دار الفقير بحصير فهذا هو بساطها وسجادها الفاخر!
بيد أن الشاعر والأديب وكاتب الصحف لا يرون على فقرهم إلا البساط والسجاد الفاخر والحشايا. . .!
فهؤلاء فقرهم هو الفقر، ما دام لأنفسهم، فإن اتصل بالمرأة التي تصلح زوجة لهم - أو تكون قريبة من أن صلح - لم يكن فقراً فحسب، بل فقراً وظلماً وبلاءً إنسانياً أسود. . . ومن ثم لا يتزوجون. وهذه ناحية من العدل في ذلك الفقر العاقل المميز الذي يحترف الأدب والشعر والفلسفة والكتابة في الصحف. . . فليس هنا طبيعة عبقرية ولا شعر، وإنما ذاك عمل النفس الطيبة لا غير. . .!
ولكنك واجد منهم من ينتحل العبقرية، ويقلد الشاعر الفحل والعبقري الكريم. وهذا شخص مضحك فإن الملك لا يكون بالتمثيل على خشبة المسرح. أما الشاعر الحق والعبقري الصحيح، فكلاهما واحد من ثلاثة:
الأول - أن يكون من مؤنثي الرجال، قد خلق كذلك، أو عرضت له آفة تنقص الفحولة فيه(482/15)
أو تمحقها محقاً. . . وهذا معه عذره البين
والثاني - أن يكون رجلاً قد طغت فيه الحياة طغيانها العصبي الشديد المجتاح، ثم يكون الفن طاغياً فيه طغيانه الخيالي العنيف التمرد - وهذا لا يصلح زوجاً ولا تصلح الزوجة له؛ فإنه إنما يرد المرأة المغلة، كأنها ضيعة من الفن الحي تغل عليه من ريعها وثمراتها. . . وقد أبى الشيطان لعنه الله أن يكون المرأة المغلة في الفن إلا امرأة محرمة. . . ومتى كان الشيطان في الأمر استطاع أن يجعل لكل امرأة فنا على حدة. . .!
ومن ههنا فسوق الكتاب والكثرة من العباقرة. وهذا سر تعزبهم وانصرافهم عن الزواج أو انصراف الزواج عنهم. وهؤلاء بركة على الفن، ولكنهم بلاء على الدين، وعلى الفضيلة، وعلى النسل، وعلى الإنسانية كلها. . . ومن سخرية الحياة بهم أن يكون العبقري العظيم فيهم هو من ناحية أخرى الحيوان العظيم. . .! وليس إبليس مغفلاً ولا أحمق فيتخذ له أدوات من المساجد والكنائس، ويشتغل ببيع السبح والتعاويذ للمصلين، بل هو كما يتخذ المرأة من المومسات في موضعها. . . يتخذ الرجل من أولئك في موضعه أيضاً. وهذا شأن ظاهر
أما الثالث - ففي رأيي أنه خير الزواج جميعاً - ولن تجد المرأة خيراً منه وهو العبقري إذا كان تام الفحولة، وكان ذا دين يمسكه وضمير يردعه، فهذا يكون الحيوان الذي فيه قيده، ويكون شذوذه كالليل الممتاز في ليالي الشهر يأتي ظلامه وفيه البدر
نعم إن هذا العبقري قد يخسر أشياء من وسائل الفن، ولكنه مستعيض عنها بخياله، ويشعر بها محروماً أكثر مما لو نالها. ثم إن الفن ليس في جميع أدواره وأغراضه تخنيثاً للحياة ولا تفككا وخلاعة ورقاعة
هناك ما هو أسمى من كل أعمال العبقري. . . هو إيجاد فضيلة عبقرية. . .!
مصطفى صادق الرافعي(482/16)
من وثبات العبقرية
5 - نظام الضرائب في الإسلام
للأستاذ علي حسين الوردي
خراج الأرض وجزية الرؤوس
اختلف علماء المالية حول ضريبة الأرض فمنهم من استحسن فرض المبلغ المعين على الوحدة من مساحة الأرض ليؤخذ من غير زيادة ونقصان عاماً بعد عام
يقول أنصار هذه الرأي بأن تمسح الأراضي - في أول الأمر - مسحاً عادلاً متقناً، ثم تصنف بعد ذلك على أنواع حسب خصوبة التربة، أو طريقة سقيها ونوع الزرع فيها؛ ثم توضع الضريبة على كل نوع من هذه الأنواع، فيكون مقدار الضريبة كبيراً أو صغيراً تبعاً لما اعتادت الأرض أن تعطي من ريع ضخم أو ريع ضئيل
ومن العلماء من يخالف هذا الرأي كل المخالفة ويدل بالحجج على بطلانه أو المضرة التي تنتج عن اتباعه
ومن رأى هؤلاء ألا ينظر إلى مساحة الأرض بشيء من الاهتمام، إنما الواجب - على قولهم - هو أن تؤخذ الضريبة نسبة محدودة من إنتاج الأرض كل سنة
وإنهم بهذا يفندون الرأي الأول، إذ يرون من الظلم أن يفرض المقدار الثابت على جريب الأرض سنة بعد سنة، بينما نجد الزراعة لا تنتج مقداراً ثابتاً على توالي السنين؛ فقد يأتي المحل على أرض في موسم، ثم يأتي جباة الحكومة - وفيهم الغاشمون والطامعون - ليأخذوا نفس المبلغ الذي كانوا يأخذونه في أيام الرخاء. أو قد يأتي - على العكس - عهد الخير والإنتاج الوفير، ثم لا تستطيع الحكومة أن تجبي منه مبلغاً كبيراً، فهي تجبي المبلغ المعين على جريب الأرض، سواء أكان الإنتاج في تلك السنة قليلاً أم كثيراً
وما دامت الزراعة تتبع في إنتاجها تقلبات الطبيعة من رياح وحرارة وأمواه، فليس من العدل إذن أن تفرض الضريبة ثابتة متساوية في جميع السنين
أما أرباب الرأي الأول فهم لا يردون هذا الاعتراض القوي، وكأنهم يعترفون بصحته ضمناُ، أو لعلهم لا يستطيعون له رداً؛ ولكنهم مع ذلك يقولون إن الضريبة الثابتة لها من(482/17)
المحاسن ما يوازن تلك السيئة أو ينيف عليها؛ خصوصاً إذا كانت الأرض منتظمة الخصوبة تابعة لنظام محكم من الري أو عناية مستمرة من الحكومة، إذ يكون الإنتاج آنئذ متناسق المقدار في اغلب السنين
ومن حسنات الضريبة الثابتة، كما يقولون، أنها تشجع الإنتاج، وتحرض أصحاب الأراضي على الزراعة
فهم يعتقدون أن بعض أصحاب الأراضي من الأغنياء قد يتقاعسون عن زراعة أرضهم حباً للراحة أو ضيقا من الضريبة إذا كانت الضريبة مفروضة على الإنتاج. وقد يجرؤ كذلك بعض من يملكون الأراضي في المدن وضواحيها. فيتركونها بوراً سنوات عديدة، احتكاراً لها وانتظاراً للأسعار العالية فيها
أما إذا وضعت الضريبة على مساحة الأرض، سواء زرعت أم لم تزرع، فسيضطر أولئك المالكون المترفون إلى عمارتها أو بيعها، هرباً من دفع الضريبة كل عام عبثاً، وبذلك يزداد إنتاج الأمة وتتقدم اقتصادياتنا تقدماً مبيناً
هذه خلاصة ما قام حول ضريبة الأرض من جدال. وقد يستغرب القارئ إذا علم أن هذا الجدال كان له مثيل في عهود الإسلام الأولى، ولعله سيعجب حين يرى أغلب البراهين التي يدلي بها علماء اليوم في تأييد كل من ذينك الرأيين، قد سبق ذكرها في كتب فقهائنا الأقدمين رضى الله عنهم
ولهذه المسألة في الإسلام قصة شيقة نلخصها فيما يلي:
عندما فتح المسلمون أرض العراق جمع عمر لجنة من أولي الرأي، منهم علي بن أبي طالب، وعثمان، وطلحة. . . للتشاور في أمر الأراضي المفتوحة
وقد قر الرأي أخيراً على مسح الأرض. فأرسل عمر عثمان ابن حنيف لمساحة أرض الفرات، وحذيفة بن اليمان لمساحة جوخى فيما وراء دجلة
وكان عثمان عالماً بالخراج فمسحها مساحة الديباج، أما حذيفة فقد لعب به أهل جوخى في مساحته إذ كانوا قوماً مناكير
وجعل عثمان على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب ستة، وعلى جريب الحنطة أربعة، وعلى جريب الشعير درهمين(482/18)
ووقف عمر على عامليه قبيل وفاته فقال لها: لعلكما حملتما الأرض ما تطيق؟
فقال عثمان: حملت الأرض أمراً هي له مطيقة ولو شئت لأضعفت أرضاً. وقال حذيفة: وضعت عليها أمراً هي له محتملة وما فيها كثير فضل. فقال عمر: انظرا لا تكونا حملتما الأرض ما تطيق. . .
وجرت سياسة الإسلام على هذا المنوال من فرض الخراج الثابت على كل جريب مزروع أو غير مزروع، حتى عهد الخليفة هرون الرشيد. فلقد سأل هذا الخليفة الفقيه أبا يوسف عن أمر الخراج، وكان من رأي أبي يوسف العدول عن الخراج الثابت إلى خراج المقاسمة في الإنتاج وهو ما يقول به الرأي الثاني من الرأيين اللذين سلفا. وقد رد أبو يوسف على ما يقول به الفريق الأول من أن الخراج الثابت يزيد إنتاج الأمة ويدعو الزراع إلى عمارة الأرض الغامرة: (. . . فأما ما تعطل منذ مائة سنة أو أكثر وأقل فليس يمكن عمارته ولا استخراجه في قريب ولمن يعمر ذلك حاجة إلى مؤونة ونفقة لا تمكنه، فهذا عذرنا في ترك عمارة ما قد تعطل، فرأيت أن وظيفة الطعام - كيلاً مسمى أو دراهم مسماة توضع عليهم مختلفاً - فيه ضرر على السلطان وعلى بيت المال، وفيه مثل ذلك على أهل الخراج بعضهم من بعض)
ثم يبدأ أبو يوسف بانتقاد الخراج الثابت على ما سبق ذكره من اختلاف المواسم: (أما وظيفة الطعام، فإن كان رخص فاحش لم يكتف السلطان بالذي وظف عليهم ولم يطب نفساً بالحط عنهم، ولم يقو بذلك الجنود ولم تشحن به الثغور. وإن كان غلاء فاحش لا يطيب السلطان نفساً بترك ما يستفضل من أهل الخراج من ذلك. والرخص والغلاء بيد الله تعالى لا يقومان على أمر واحد. وكذلك وظيفة الدراهم مع أشياء كثيرة تدخل في ذلك تفسيرها يطول. . .)
(ورأيت أبقى الله أمير المؤمنين، أن يقاسم من عمل الحنطة والشعير من أهل السواد جميعاً على خمسين للسيح منه؛ وأما الدوالي فعلى خمس ونصف، وأما النخل والكرم والرطاب والبساتين فعلى الثلث، وأما غلال الصيف فعلى الربع، ولا يؤخذ بالخرص في شيء من ذلك)؛ إنما تكون المقاسمات في الثمرة عندما يباع من التجار، أو يقوم ذلك قيمة عادلة، ثم يؤخذ منهم ما يلزمهم فيه(482/19)
جزية الرءوس
استعملت هذه الضريبة قديماً في جميع الدول، فلقد جباها الفراعنة واليونان والفرس، ثم الرومان والعرب من بعدهم. وهي لا تزال تجبى اليوم على نطاق مصغر في بعض البلاد المتمدنة، أو هي قد اتخذت في أغلب الأمم الحديثة شكلاً جديداً أو اسماً غير اسمها القديم. ومؤيدو هذه الضريبة يقولون بوجوب فرضها على جميع الناس، لكي يشعر كل فرد من الأمة بأنه عضو فعال في دولته، وأن عليه مسؤولية نحوها كمسؤولية عضو الأسرة نحو الأسرة.
وهؤلاء المؤيدون يرون أن قسما كبيراً من الشعب لا يؤدون إلى الحكومة ضرائب مباشرة، وهم لذلك لا يشعرون بشيء من الصلة التي تربطهم بالدولة ارتباط الضرورة الاجتماعية
وعلى هذا ينبغي وضع الضرائب مباشرة على كل رأس ليتم بذلك الترابط الاجتماعي المنشود
وليس من العدل كذلك أن يشترك في حكم البلاد كل الأفراد، ثم لا يؤخذ من بعضهم قسط من النفقات اللازمة لتدبير الأمور العامة
إن مشروعية الجزية مستندة إلى حماية الحياة التي هي أهم وظائف الدول وأكثرها حاجة إلى الإنفاق. إذ يجب حفظ الأمن العام، الداخلي والخارجي، وعقاب المجرمين والمعتدين
ولا يزال بعض المؤلفين المحدثين يدافعون عن جزية الرءوس بقولهم: (ما دامت الحكومة الديمقراطية يشترك في إدارتها كل ناخب، فيجب إذن أن يفرض على جميع الناخبين جزية مباشرة، مهم كانت صغيرة، إذ لا يمكن أن تضطلع بأعباء الضرائب طبقة من الناس بينما تضطلع بالحكم طبقة أخرى)
وهاهي ذي بعض ولايات سويسره والولايات المتحدة الأمريكية، قد فرضت ضريبة يسيرة على الرؤوس لتكون بدلاً عما أعطى الفرد من حق التصويت أو الانتخاب
وفي الحقيقة أن الجزية لها من المزايا ما جعلها محببة إلى الجباة في كل حين. ذلك أنها سهلة في إدارتها كل السهولة، وافرة المحصول هينة الجباية. وما هي إلا أن يختم على رقاب الناس أو تسجل أسماؤهم، ثم لا يترك الشخص كل عام حتى يدفع ما عليه من ضريبة وهو من الصاغرين(482/20)
وفي هذه المناسبة، يجب إلا ننسى أن التجنيد الإجباري للمتبع اليوم في جميع أنحاء العالم، ما هو إلا صورة من صور الجزية حيث يقدم الفرد عوضاً عن الضريبة النقدية ضريبة من الخدمة البدنية والمخاطرة بالنفس. ولذا سمى التجنيد (بضريبة الدم).
تؤخذ الجزية على أنواع مختلفة: منها أن تكون متساوية المقدار على الجميع، لا فرق فيها بين غني وفقير، أو بين ذكر وأنثى. وحجتهم في هذا الرأي أن الحكومة مكلفة بحماية الأرواح وأرواح الناس جميعاً ذات قيمة واحدة، فمن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ولذلك تؤخذ الجزية متساوية من المجتمع
وعلى رغم ما في هذه النظرية من رونق خاص، فإنها بعيدة عن العدل بعداً لا يخفى على اللبيب، ولذا فضلت عليها الطريقة الثانية التي يميز فيها بين شخص وآخر حسب مقدرته أو غنائه
وهذه الطريقة هي التي أتبعها الإسلام في أهل الذمة إذ فرض ثمانية وأربعون درهما على الغني، وأربعة وعشرين على الوسط، ثم أثني عشر على الحراث أو العامل بيده مثل الخياط والصباغ والإسكاف والجزار. ولم تؤخذ الجزية من النساء والصبيان ولا من المسكين الذي يتصدق عليه، ولا من الأعمى والمزمن والمقعد إذ كانوا لا يملكون حرفة ولا يساراً
وأيما شيخ من أهل الذمة ضعيف عن العمل أو أصابته آفة، أو كان غنياً فافتقر. . . طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين
وبعد فيجب ألا يغرب عن ذهن القارئ أن الجزية والخراج اللذين ذكرنا من أمرهما شيئاً، لم يضعهما الإسلام إلا على الذميين، وهم أهل الكتاب والمجوس وغيرهم من الذين وقعوا تحت الإسلام ثم آثروا البقاء على دينهم.
وهنا نعرض لمسألة خاض فيها الباحثون طويلاً وذهبوا فيها كل مذهب:
إذا دققنا في أمر الضرائب هذه التي فرضت على أهل الذمة، وقارناها بالضرائب التي فرضت على المسلمين - أي الزكاة - وجدنا ثمة فرقاً كبيراً. إذ إن الزكاة كانت خفيفة جداً بالنسبة لما فرض على غير المسلمين. فالإسلام كان يأخذ من أتباعه ما يقارب ربع العشر على ما بأيديهم من أنعام وأموال وزراعة، بينما أخذ من الذميين الثلث والربع إضافة إلى(482/21)
الجزية على الرءوس.
فهل في هذا عدل من الوجهة العلمية الحديثة؟
إن الحكومة الحديثة تفرض الآن على الناس جميعاً ضريبة الدم، وهي في الحقيقة أضخم وأكبر تضحية من جميع الضرائب. والإسلام كذلك أوجب الجهاد على أتباعه واستوفه منهم تلك الضريبة الهائلة التي ليس لها مثيل. فإذا علمنا بأنه استثنى الذميين من تلك الضريبة وأمر أتباعه أمراً مؤكداً (بأن يوفي لهم بعدهم ويقاتل من ورائهم وألا يكلفوا فوق طاقتهم)، فليس إذن من العجب أن نراه يعاملهم في الضرائب الأخرى معاملة أخرى. ولعل الإسلام لم يرغب في أن يفرض ضريبة الدم على غير أتباعه، كما فعل كثير من الدول قديماً وحديثاً، وكأنه كان حريصاً على أن تكون ضريبة الدم وغيرها من الضرائب الأخرى مدفوعة بعامل من رضا النفس وارتياح الضمير.
(الكاظمية - العراق)
علي حسين الوردي(482/22)
البيئة العلمية
للأستاذ خليل السالم
يشيع التفاؤل والأمل في نفوسنا كلما نجد الباحثين يشيرون إلى المشكلة العلمية في البلاد، ويحضون على نشر الثقافة العلمية وتنظيمها التنظيم المنتج. والحس الجديد بخطورة العلم وأثره في كيان الأمة وليد التأثر بروح العصر، ونتيجة الإدراك الواعي لنزعات النهضة العالمية الحاضرة التي يرفع العلم عمادها، ويكيف وجهاتها بصرف النظر عن النكسات التي تمنى بها المدنية، والتي لا يمكن أن يعد العلم مسئولاً عنها بأي شكل كان. وهذا الشعور بالنقص العلمي، والفوضى التي نتخبط فيها سيحفزنا دون ريب لاستعجال العلاج، ولبذل الجهد الأكبر لحل مشكلاتنا حلاً سريعاً حاسماً.
هل العقم في الاختراع والابتكار والاكتشاف متأصل في العقل العربي، أو هو وليد ظروف قاهرة إن زالت تفرد هذا العقل في التفكير والأداء؟ لماذا نحجم عن ارتياد الأبحاث العالية التي تملأ كتب الغرب ومجلاتهم، ونكتفي بالتغلغل الأدبي في بواطن الأمور؟
كيف نكون رأياً علمياً هاماً وفلسفة قومية شاملة؟ هل في بلادنا من الإمكانيات العلمية ما لو انتقل من حيز القوة إلى حيز الفعل رفعها إلى مصاف الأمم الراقية كإنجلترا وألمانيا وروسيا مثلاً؟ هل تصلح بلادنا ليترعرع فيها العلم في تربة خصبة، وجو مناسب، وعوامل طبيعية صالحة؟ ما هي أخصر الوسائل لخلق مثل هذه البيئة العلمية؟
هذه مسائل أساسية أذكرها دون ترابط فيما بينها لأقول إن الخوض في مثلها واجب مفروض على كل متخصص يستطيع الإجابة الوافية المطلوبة. وبحثي هذا محاولة سريعة لشرح الدعائم التي ترتكز عليها البيئة العلمية. وأنا إن قصدت في هذا البحث وجهة خاصة فذلك ما يفرضه الوسط العلمي الموبوء الذي نعيش فيه، والصورة المثالية للوسط العلمي السليم الذي ننشده.
وقبل أن أبدأ أجدني مضطراً لذكر ملاحظة قد تكون من تحصيل الحاصل؛ ولكن لابد منها لنمحو بعض ما علق بنفوس مريضة بداء الشعور بالحقارة، فتنكر على الأمة كل كفاية علمية، وتكفر بماضيها المجيد، ومن ثم لا تؤمن بمستقبلها أي إيمان. مثل هذه الفئة من الناس يجب أن تفهم بأن العلم لم يكن ولن يكون وقفاً على أمة بعينها بحيث تعدم الأمم(482/23)
الأخرى كل القوى الخلاقة في الاستنباط والاستكشاف والتفوق؛ فالتراث العلمي العالمي مزيج متآلف العناصر لكل الأمم شأن عظيم أو صغير في تقديم هذه العناصر أو تكييفها بشكل ما. إن مشعل العلم ينتقل من أمة إلى أخرى، وإذن لا يكون من الأمانة التاريخية أن تدعى أمه من الأمم السبق والفضل في أحد ميادين المعرفة. نحن لا ننكر أن الأمة العربية في القرون الأخيرة لم تحمل قسطها من الواجب العلمي، ولكن هذه الحقيقة لا تمنعها من أن تنشئ لها من جديد حضارة علمية مستقلة الطابع، وافرة الإنتاج.
تقف الصناعة في طليعة العوامل الرئيسية التي تفعل في خلق البيئة العلمية، فحيثما كانت الصناعة تجد العلم ربيباً لها في طور، ورائداً لها في طور آخر. وتطور الصناعة يرافقه دائماً تطور في العلم وارتقاء في سبل الاختراع والاكتشاف، كما أن تقدم الصناعة مظهر من أقوى مظاهر تقدم العلم. وبمعنى آخر، يعتمد العلم والصناعة كل على الآخر كالدوال الجبرية، أي زيادة في قيمة التغير الأول تزيد في قيمة التغير الآخر والعكس بالعكس
قد نرى أن كثيراً من الأبحاث الرائجة اليوم لا تحمل في ذاتها طابع النفعية والاستثمار، ولكننا لا نحكم عليها حكماً نهائياً بذلك، فربما تؤدي أخيراً إلى تطبيق عملي واسع، وتخدم الإنسانية خدمة مخلصة. فمن كان يدري مثلاً أن أبحاث فراداي النظرية المحض حول علاقة الكهرباء بالمغناطيس ستقود إلى اكتشاف المحرك والمولد؟ حتى عندما ما لا تدخل هذه الأبحاث في نطاق التطبيق فيكفيها أنها تزيد المعرفة، وتفتق ضروباً جديدة من الفهم لأسرار الكون وحقائقه
ولما قدرت الصناعة أثر العلم الكبير في تقدمها وكمالها، روجت بضاعة العلم. فالمصانع تشتري العلماء، وتبني لهم المخترعات الواسعة وتجهزهم بالآلات الدقيقة، وتبذل في سبيل البحث أموالاً طائلة، سواء كان البحث مقصوداً لذاته، أو مقصوداً لمنفعة المصنع. وبذا خلقت عدداً من العلماء الأفذاذ الذين يعود التقدم الصناعي إلى مهارتهم ونباهتهم وقوة ابتكارهم. يقول الأستاذ هكسلي ما معناه: (إذا استطاعت الأمة أن تبتاع رجلاً مثل (وط) أو ديفي أو فراداي بمائة ألف جنيه كان عملها صفقة رابحة)
إلا أن الصناعة العربية لم تقف على قدميها بعد، وهي متلمسة طريقها بيديها، فلا يمكننا الاعتماد إذن على هذا الركن الأساسي في خلق البيئة العلمية الصالحة. وعلى النقيض(482/24)
نؤمن بأن على العلم أن يشجع الصناعة وينير أمامها السبل، ويخلق الوسط الصناعي الخصب، فإمكانيات البلاد الصناعية واسعة النطاق ومواردها موفورة الغنى وإنما تعوزها القرائح الكبيرة تستغلها بشكل علمي دقيق وعلى نظام اقتصادي مثمر
لا يقل أثر الدولة في تأمين البيئة العلمية عن أثر الصناعة إن لم يزد عليه. وقف البرنس ألبرت زوج الملكة فكتوريا يقول في خطبة الرياسة للجمعية الملكية سنة 1859 (قد يحق لنا أن نرجو أننا بانتشار العلوم التدريجي وتزايد الاعتراف به كجزء جوهري من ارتقائنا الوطني - نجد رجل الحكومة والجمهور بنوع عام يعترفون أن العلم حقيق باهتمامهم فسيترفع عن التسول ويخاطب الحكومة كما يخاطب ولد عزيز والده واثقاً أنه يجيبه إلى ما فيه نفعه؛ وأن الحكومة تجد في العلم ركناً من أركان قوتها وفلاحها، وإن مصلحتها الذاتية تضطرها لتعزيزه)
وقال الرئيس هوفر (إن علماءنا أغلى مقتنياتنا القومية التي نملكها، وكل مبلغ ضئيل إزاء عمل هؤلاء الرجال. إننا لا نستطيع أن نقيس ما عملوه لترقية العمران بكل أرباح البنوك في جميع أنحاء المعمورة)
بمثل هذه الروح يجب أن تبدأ الدولة نضالها في سبيل نشر الثقافة العلمية العالية. وواجب الحكومات عندنا ثقيل باهظ، لأن الجمعيات العلمية ومعاهد التعليم والشركات الصناعية ورجال الإحسان يساهمون بقسط وافر من التعضيد والتشجيع في بلاد الغرب، أما حكوماتنا فتقف وحدها في هذا النضال لا معين لها من الخارج
على الحكومة أن ترصد الأموال راضية مغتبطة دون أن تؤذيها خسارة ما، فكل البذر لا ينمو، لأن من الحب ما يقع على الصخور أو يلتقطه الطير، ولكن أغلبه يلقى في التربة الصالحة. وإذا ما وكل هذا الإنفاق لرجال الاختصاص فلا شك أنهم يركزون عنايتهم في النواحي المفيدة الواضحة الأثر، لأنهم سيعلمون حق العلم أن مواردنا لا تتحمل الإسراف والترف
على الحكومة أن تنشئ المختبرات في الطبيعة والكيمياء وعلم الحياة والطب، وعلوم الهندسة المدنية والكهربائية والميكانيكية. . . الخ؛ وتجهز هذه المختبرات بالآلات العلمية الدقيقة التي أصبحت ضرورتها كضرورة العقل العلمي نفسه، ثم تسلم هذه المختبرات إلى(482/25)
العلماء المختصين المشهود لهم من الجامعات الغربية والقومية بالتفوق والنبوغ
وتستطيع الحكومة أن تنشئ جمعية علمية خاصة بها تضم العلماء الذين قدموا للعلم والإنسانية خدمات كبيرة تعترف بها المجامع العالمية؛ وتساعد تشكيل الجمعيات العلمية الأخرى، وتمدها في أول عهدها بالمال اللازم لحياتها وطراد تقدمها. ولعل من أقوى مظاهر التنظيم أن يكون المجمع اللغوي واقفاً على كل المصطلحات الجديدة، قامعاً من فوضى الترجمات المتباينة ومشجعاً على نقل الكتب الحية من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية، وناشراً هذه الكتب بأثمان لا تبهظ المثقف العادي
بيد الحكومة إرسال البعثات إلى الجامعات الكبرى، وبيدها قضية تبادل الأساتذة والعلماء، وبيدها الاشتراك في المؤتمرات العلمية والثقافية، وهذه أسباب قوية في تطعيم الثقافات وبعث روح جديد في الوسط العلمي
وهي ترسم الخطط لترويج الثقافة العلمية في المدارس على الوجه الأخص وفي الأمة على الوجه الأعم. ولعل هذا الجهد أجدى ما يمكن أن تقدمه الحكومة لمساعدة العلم، وفي الوقت نفسه لا يكلف خزانتها ثمناً باهظاً. فهي تستطيع أن تعدل المناهج وتقرر الأصول، وترشد إلى أنجع الطرق التربوية التي تشوق الطلاب وتصرفهم إلى حياه علمية قبل أن تلقنهم الحقائق العلمية. تستطيع كل هذا دون أن تضيف إلى الميزانية شيئاً جديداً. أما بين أفراد الأمة، فإننا لا نستطيع أن نؤمن بالوسط الصالح إلا إذا أقبل الرأي العام على العلم بشغف ونهم؛ والمجلات العلمية المتزنة، والمحاضرات المجانية في قاعات الجامعات والمدارس ومن وراء المذياع تعجب الجمهور، لأن العلم يتسع لكثير من المحاضرات التي تتملق الرأي العام وتثير في ذهنه مشاكل نهائية حيوية، لا يصبر عقله عن البحث الطويل لفهم حلولها وتفسيرها
وقصارى القول أن تعزيز السلطة للعلم واحترامها للعلماء يبعثان في الجمهور تقدير العلماء وإكبارهم دون تعليق على قيمة أبحاثهم سواء كانت سياحة في أعماق الفضاء، أو استنطاقاً لأسرار الذرة.
وتبقى شخصية العالم لتكون دعامة ثالثة قوية في خلق البيئة العلمية، فكما نجد كثيرين من العلماء خلقهم الظرف الحازب، نجد عدداً كبيراً من العلماء خلقوا الظرف الملائم، والوسط(482/26)
المناسب لانتشار آرائهم وذيوع أفكارهم. ولا يعوزنا الدليل بأن العربي موفور الذكاء مستعد بفطرته للاستنباط والتفوق إذا ما تساوت الأشياء، وأمنت السبل.
سواء علينا أن نعتنق الفكرة الرأسمالية التي ترى أن الدوافع المادية القوية تخلق العلماء، أو نعتنق الفكرة الاشتراكية التي ترى أن الرجال القادرين على الخلق والابتكار والتجديد ينفذون مآربهم بأي ثمن كان ويعملون بجد وحزم دون أمل في مغنم أو خشية مغرم؛ فإننا لا نستطيع إلا أن نحكم بأن تفكير العالم في خبزه وحياته يعطل تفكيره ويشل إنتاجه. فمقدار التضحيات المبذولة في سبيل العلم - مهما عظم هذا المقدار - لا يحملنا على الظن بأن رجال العلم رجال تضحية دائماً ولا يسعون من أجل المادة والمتاع الدنيوي. ولما كان حق الحياة وحق الحصول على مقوماتها متوقفين على خدمة الجماعة، فأولى بالمسؤولين أن يضمنوا للعالم حياة راضية لأنهم أول من يقدر خدمة العالم للجماعة
لا يكون هناك شيء غريب في أن يلقى العالم بعض المضايقات هنا، فتاريخ العلم مفعم بمثل هذه المضايقات. لقد دمرت الغوغاء مختبر بريستلي، وحرم جول من إجراء تجاربه لأن صوت الآلة كان يزعج أحد جيرانه، وجن العالم ماير لأن الناس سخفوا آراءه الصادقة. وكم أصيبت حرية الفكر بصدمات عديدة نتعب ونتعب إن حاولنا تقصيها وذكرها. ولكن جهد الحكومة المثمر سيقلل من هذه المضايقات، ويهيئ للعالم جواً رحباً تكون آفاق التفكير فيه واسعة مشرقة
نحن في فجر عصر يحملنا على التفكير السياسي، والتفكير الاقتصادي، والتفكير العلمي، والتفكير الأخلاقي، وبقدر ما نفكر ونستعد بقدر ما نستطيع أن نؤكد ذاتنا في المعترك الأدبي
اخلقوا لنا بيئة علمية راقية تزيلوا بذلك أمراضاً كثيرة تنخر في أجسامنا وتهدم من كياننا.
خليل السالم(482/27)
41 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل ثالث عشر - الأخلاق
يثير احترام المسلمين للقرآن الدهشة؛ فهم يحصرون على ألا يكون المصحف أدنى الصدر سواء أكان محمولاً أم معلقاً. ويودعونه مكاناً مرتفعاً طاهراً ولا يضعون فوقه كتاباً ولا شيئاً آخر. ويقولون عادة عند الاقتباس منه: قال الله تعالى في كتابه العزيز. ويعتبرون غير لائق أن يلمس المصحف نصراني أو يهودي أو غير مؤمن بتعالمه، ولكن البعض يدفعه الجشع، وإن ندر ذلك، إلى بيعه إلى هؤلاء. ومن المحرم أيضاً أن يلمس المسلم القرآن ما لم يكن على طهر شرعي. ولهذا كثر ما يطبع قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) فوق الغلاف. وتنطبق هذه الملاحظات عينها على أي شيء يكتب عليه كلام من القرآن. ومما يستحق الاعتبار مع ذلك أن ينقش على أكثر النقود العربية القديمة كلمات قرآنية أو الشهادة مع أنها سكت ليستعملها اليهود والنصارى مثل المسلمين. ولكني سمعت أن هذا الإجراء ملوم بشدة
وقد سألت مرة صديقاً مسلماً هل يعتبر التين موافقاً للصحة في مصر؟ فأجاب: ألم يذكر التين في القرآن؟ إن الله أقسم به في قوله: والتين والزيتون
لا شك أن المسلمين المحدثين أتقياء إلى حد الحماسة وإنما يعوزهم الثبات ونبذ الخرافات، ويندر - على ما أعتقد - أن يوجد فيهم ملحدون حقا. وهؤلاء لا يجرءون على إظهار إلحادهم خوفاً على حياتهم. وقد سمعت عن اثنين أو ثلاثة منهم ارتدوا عن دينهم بمخالطتهم الأوربيين مخالطة طويلة وثيقة. وقابلت ملحداً واحداً كانت له معي مناقشات طويلة. وقد ذكرت عرضاً في الفصول السابقة عادات كثيرة تبين الشعور الديني السائد بين مسلمي(482/28)
مصر. ويستعمل المتسولون في هذا البلد نداءات دينية سأذكر أمثلة منها فيما بعد. ويشبه هذه النداءات صياح باعة الخضر وغيرها. وقد أدهشني هتاف حارس الليل في الحي الذي سكنته أثناء زيارتي الأولى: (سبحان الملك الحي الذي لا ينام ولا يموت)؛ ويصيح الحارس الحالي في الحي ذاته: (يا رب يا دائم). ويمكنني أن أضيف أمثلة كثيرة أخرى توضح تدين الشعب الذي أحاول وصفه، إلا أنه ينبغي أن أقرر هنا أن التدين ضعف كثيراً بين المسلمين، فإنك لا تنفك تسمع منهم أثناء الحديث معهم مثل قولهم: (إنها نهاية الدنيا! لقد تردى العالم في الكفر). ويعتقدون أن حالة المسلمين الآن تدل إلى قرب النهاية. ويبين ما ذكرت في بعض عقائد الوهابيين على أنها عقائد المسلمين الأولين إلى أي حد كبير حاد المسلمون عن تعاليم القرآن كما بلغت أولاً.
يظهر الرجال - تحت تأثير إيمانهم بالقضاء والقدر - في أوقات الابتلاء صبراً مثاليا، وبعد الحوادث المفجعة استسلاماً وتجلداً عجيبين يكادان يقربان من البلادة؛ ويعبرون عن أسفهم بقولهم متنهدين: (الله كريم). أما النساء، فهن على النقيض يبدين حزنهن بالإسراف في البكاء والصراخ. وبينما يلوم المسيحي نفسه بحق على كل حادث مكدر يظن أنه جلبه على نفسه أو كان يمكنه تجنبه، يتمتع المسلم عند تقلبات الزمان وصروف الدهر بهدوء بال عجيب، ولا ينفك مستسلماً عند دنو أجله فيصيح: (إنا لله وإنا إليه راجعون). ويجيب من يستفسر عن حاله: (الحمد لله. . . الله كريم). ولا يمنع الإيمان بالقضاء والقدر المسلم مع ذلك من السعي إلى تحقيق غايته؛ فإيمانه بالقدر ليس مطلقاً، ولا هو يجعله يهمل تجنب الخطر، إذ حرم القرآن ذلك بقوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة). غير أنه في بعض الأحوال كانتشار الطاعون وغيره من الأوبئة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين ألا يدخلوا مدينة موبوءة وألا يخرجوا منها. ويختلف المسلمون في جواز الحجر الصحي، إلا أن عمومهم يرونه غير ملائم
ويجعل الإيمان بالقدر المسلم مجرداً من الادعاء بمعرفة أعماله المستقبلة أو أي حادثة آتية، فلا يتحدث أبداً عما ينوي عمله أو يتوقع حدوثه دون أن يقول: (إن شاء الله)؛ وكذلك عندما يروي واقعة سابقة غير محققة، يقدم كلامه أو يختمه بقول: (الله أعلم)
يتمتع المصريون بفضيلتي الجود والإحسان - اللتين يبثهما الدين في قلوبهم - إلى درجة(482/29)
عالية. ولكن يبدو من تصريحهم أن انتظار الثواب في الآخرة يحرضهم على الصدقة بقدر ما تحرضهم الشفقة ببني جنسهم أو الرغبة المنزهة في القيام بما يأمر الله. ويمكن من بعض الوجوه أن نعزو كثرة المتسولين في القاهرة إلى ميل السكان إلى الإحسان.
ومن آثار هذه الفضيلة أيضاً إقامة السبل الجميلة التي نراها في هذه المدينة، والسبل الوضيعة في القرى والحقول. كان يسرني كثيراً أول اختلاطي بالمصريين أن أشاهد شفقتهم في معاملة الحيوان وأن أرى البعض يجمع أطراف ثيابه المرسلة ليتحاشى لمس الكلب، ثم يقذف للحيوان الدنس قطعة من الخبز الذي يأكله. وكانت جرائم القتل والسرقة وغيرها نادرة حينئذ. ولكني أجد اليوم أغلب المصريين قد انقلبوا إلى الأسوأ في شفقتهم نحو الحيوان وبني جنسهم. ويبدو لأول وهلة أن شدة الحكومة المفرطة قد أوجدت في الشعب البغي والميل إلى الإجرام، إلا أنني أميل إلى الظن بأن سلوك الأوربيين أفضى كثيراً إلى هذه النتيجة، إذ لا أتذكر أنني رأيت قسوة في معاملة الحيوان إلا حيث يسكن الفرنج أو حيث يترددون مثل الإسكندرية والقاهرة وطيبة. ويتقزز المرء من رؤية حمير النقل التعسة في القاهرة، فأكثرها مصاب بجروح قرمزية كالياقوت الجمري، وتعقرها على الدوام حبال غليظة من مسد تربط بظهر البرذعة. وكثيراً ما يضرب الأطفال والرجال الكلاب في الشوارع لمجرد اللهو. وكثيراً ما رأيت أطفالاً يلهون بمضايقة القطط التي كانت محبوبة كثيراً قبلا. وكانت جرائم السرقة والقتل تحدث أسبوعياً تقريباً أثناء الشهرين أو الثلاثة التالية لقدومي الثاني. وكان الحكام الترك يجورون على الفلاحين ولكن بعض هؤلاء منذ خلفوهم على الحكم فاقوهم في الطغيان. والرأي العام أنهم ألعن من الأتراك
ومع أني أشاهد الآن على التوالي الكلاب الشريدة تضرب في شوارع القاهرة وهي هادئة لا تضر، فلا أزال أرى بعضهم يطعمونها وأغلبهم فقراء. ويوجد في كل حي من أحياء المدينة أحواض صغيرة تملأ يومياً للكلاب. ويؤجر أصحاب الحوانيت في شارع واحد سقاء لرش الشارع وملء أحواض الكلاب. ويوجد أيضاً حوض للكلاب عند كل دكان لبيع الشراب. ويمكن أن نذكر هنا أن كلاب القاهرة، وقلما يكون لها صاحب، تكون جماعات منظمة مختلفة تقصر كل منها نفسها على حي تطرد منه كل كلب دخيل. وهذه الحيوانات تكثر جداً في القاهرة. وهي تحرص على العموم أن تتجنب الإنسان كما لو كانت تعلم أن(482/30)
أغلبية السكان تنبذها، ولكنها كثيراً ما تنبح عندما ترى أحداً يلبس الملابس الإفرنجية. وتضايق المارة ليلاً، وهذه الكلاب مفيدة لأنها تأكل سقط الذبائح التي يرمي بها من حوانيت الجزارة والبيوت، كما أن الكثير منها يتردد على أكوام الزبالة حول العاصمة فتقتات مع الصقور من رمم الجمال والحمير التي تنفق في المدينة. وأغلب الكلاب صهب اللون، والظاهر أنها تماثل بنات آوى شكلاً وميولاً.
ولا يمنع رأي المسلمين في الكلاب من الاحتفاظ بها للحراسة وأحياناً للتدليل. وقد حدث من زمن قصير حادث غريب من النوع الأخير، فقد اتخذت امرأة وحيدة في هذه المدينة، كلبا يؤنسها في وحدتها. فاختطف الموت هذا الأنيس الوحيد، فعزمت المرأة لحزنها وعطفها عليه أن تدفنه كأي مسلم في قبر لائق في مدافن الإمام الشافعي المقدسة. فغسلت الكلب طبقاً للقواعد المرعية عند وفاة المسلم وكفنته في كفن جميل ووضعته في نعش، واستأجرت نادبات وأقامت مأتماً حقيقياً. ولم يتم ذلك دون أن يثير عجب الجيران الذين لم يستطيعوا معرفة المتوفى ولم يتدخلوا لأنه لم يكن بينهم وبينها ألفة قط. ثم استأجرت المرأة مرتلين ليتقدموا الجنازة وتلاميذ لينشدوا ويحملوا القرآن أمام النعش. وسار الموكب في نظام مهيب، وتبعت المرأة والنائحات النعش وهن يملأن الجو بصراخهن؛ غير أن الموكب لم يسر كثيراً إذ اجترأت إحدى الجارات وسألت السيدة الحزينة: من المتوفى؟ فأجابتها: (إنه ابني المسكين) فكذبتها السائلة فاعترفت الثكلى بأنه كلبها ورجت جارتها الفضولية أن تكتم السر؛ إلا أن احتفاظ المرأة المصرية بالسر، وبسر مثل هذا، مستحيل. فأذيع الخبر في الحال، وسرعان ما تجمع جمهور غاضب أوقف الجنازة. وصب المرتلون والمنشدون غضبهم على مستخدمهم، حالما استخلصوا منه نقودهم، لأنه مكر بهم. ولو لم يتدخل الشرطة لذهبت المرأة على الأرجح ضحية هياج الشعب
والعجيب أن القطط الشريدة في مصر تطعم على نفقة القاضي. فيوضع في الساحة الكبرى أمام المحكمة عصر كل يوم مقدار من سقط الذبائح وتدعى القطط معاً لتأكل. وقد وقف السلطان الظاهر بيبرس على القطط، كما علمت من كبير كتاب القاضي، حديقة تسمى (غيط القطط) بجانب مسجده شمالي القاهرة. ولكن هذه الحديقة باعها الأمناء عليها ومشتروها على التوالي. وقد باعها السابقون بحجة أنها خربة فلا تصلح للإنتاج إلا بعد(482/31)
نفقات كثيرة. وتستغل الحديقة الآن حكراً بخمسة عشر قرشاً سنوياً تنفق في إطعام القطط المتروكة. ومن ثم ألقيت نفقة القطط كلها على القاضي بحكم منصبه الذي يجعله حارساً على الأوقاف الخيرية، فعليه أن يتحمل إهمال سلفه. ومع ذلك أهمل واجب إطعام القطط أخيراً. ويتخلص الكثيرون في القاهرة من القطط بإرسالها إلى بيت القاضي وإطلاقها في الساحة الكبرى
ذكرت قبلاً مؤانسة المصريين بعضهم لبعض. وهم يخاطبون الأجانب الذين لا يوافقونهم في الشمائل والعادات، ولا يذهبون مذهبهم في التفكير بأدب يشوبه الجفاء والحذر. وكثيراً ما يظهر المصريون نحو الأجانب وفيما بينهم أيضاً فضولاً وقحا. وهم يخشون كثيراً أن يجعلوا لهم أعداء فيدفعهم خوفهم هذا إلى أن يؤيد كل منهم الآخر ولو كان في ذلك جرم. ويعتبر السرور صفة ظاهرة من الشعب المصري. ويظهر البعض احتقاراً كبيراً للتسلية التافهة. ولكن الكثيرين يجدون فيها بهجة. ومن المدهش أن ترى المصريين يتسلون بأقل شيء، فهم يبتهجون حيثما يوجد حشد وضجة وحركة. وتخلوا حفلاتهم العامة مما يسلي الرجل المثقف. ويبدو أن الطبقات السفلى تسعد كثيراً بالجلوس في المقهى للتدخين وشرب القهوة بعد العمل اليومي.
عدلي طاهر نور(482/32)
أشعار صينية
للأستاذ محمد وهبة
- 11 -
منذ أن رحلت
للشاعر الصيني (نو - فو)
(715 - 774م)
لا تجلبوا إلي أزهاراً، أنا أريد أغصان السرو أغرق فيها وجهي
عندما تختفي الشمس وراء الجبال، سأضع على منكبي عباءتي الزرقاء ذات الأكمام الخفيفة، وأذهب لأنام بين عيدان الغاب التي تحبها
- 12 -
الشاعر في السجن
للشاعر الصيني (لو - بن - وانج)
(عاش حوالي عام 650م)
كم يحزنني غناء الصرصور الذي يعلو هناك. . .
أرى هذه الحشرة الضعيفة، مثقلة بالندى، لا تستطيع الطيران، وتغني. . .
وروحي أيضاً أعياه الأسف، لا يقدر أن يعلو إلى القمم، حيث لا تصل إليه نبال الغادرين
في العاصفة التي هدمتني، أكتب وأنا أبكي، أشعاراً صافية
- 13 -
الشاعر يفكر في حبيبته
للشاعر الصيني (يانج - كي)(482/33)
(عاش حوالي عام 1400م)
ستمطر السماء. الريح أدمت أزهار الياسمين، ونقلت أوراق الفاويا التي تغطي الدغل. . . أهاجت ستائر النوافذ، وأثارت شعور الفتيات الجميلات. . .
إني حزين، أفكر في حبيبتي: السماء زرقاء، والبحر أخضر، والجبال البيض تفصل بيننا. . . آه لو تستطيع هذه العصافير أن تحمل إلى حبيبتي الرسائل التي كتبتها إليها. . . لو يستطيع هذا الجدول أن يحمل إليها أوراق الفاويا. . .!
أزهار الماجنوليا تلمع في الظلام. . . وأنا لا أستطيع أن أتناول عودي. . . إني أحدق في القمر الذي يشبه زهرة الماجنوليا. . .
لن أغني، لن أعزف، أريد أن أركن إلى أحزاني. . .
- 14 -
رحلة طويلة
للشاعر الصيني. لي. تين. بو
(702 - 763م)
أنا لا أستطيع أن أسترجع الفرح الذي عرفته صباح أمس. . . أنا لا أستطيع أن أطرد الكآبة التي عرفتها هذا الصباح
الطيور تقطع السماء. . . تصارع ريح الخريف. . . أنا أملأ قدحي وأحدق بعيداً
أنا أحلم بشعراء كبار، لم يوجدوا بعد. أذكر أشعارهم، وأردد أنني كنت يوماً - أنا أيضاً - قادراً على أن أصنع أشعاراً عالية، لو أنني استطعت أن أحوم في السماء بين النجوم
عبثاً أشرب لأغرق أحزاني. هنا عندما لا تسير الأشياء، حيث ترضى رغباتنا، يجب أن أطرح نفسي في مركب، تاركاً شعري للريح مهاجراً في البحر.
(بور سعيد)
محمد وهبة(482/34)
البريد الأدبي
ذكرى الأستاذ الزنكلوني
منذ عامين مضيا، وفي النصف الأخير من شهر رمضان، اختار المغفور له الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني جوار ربه بعد عمر طويل مبارك كان فيه مثال العالم العامل، والمفكر الحر الجريء يقول ما يعتقد، ويدافع عما يعتنق، ويجهر بآرائه في صراحة نادرة المثال. والذين يعرفون الأستاذ الشيخ الزنكلوني كثيرون في الأزهر وفي خارج الأزهر، وإنك لتستمع إلى الرجل منهم يحدثك عن إيمانه بربه، وقوة يقينه، وصفاء نفسه فتأخذك الروعة، ويملكك الإعجاب، ولكنك تبحث عن رجل واحد من أصدقاء هذا الفقيد العظيم قد اهتم بأن يؤرخ له، أو يرسم صورة ولو مصغرة لحياته، أو يجلو للناس بقلمه ناحية العظمة فيه فلا تجد
وإذا كان غير الأزهر بين أصدقاء الفقيد وعار فيه قد شغلوا عن ذلك بأعمالهم، أو انصرفوا عن القيام بمثل هذا الواجب إلى ما هو أشبه بهم فما عذر الأزهريين؟ إن الأستاذ الزنكلوني - رضي الله عنه - رجل من رجالات الأزهر في عهده الأخير، له ذكريات ماثلة في حركته الفكرية وتطوراته العلمية، وله إلى ذلك أثره النافذ في شئون الأزهر على عهد شيخه الحالي، فقد كان يجله ويحترمه ويستعين برأيه في كل ما يعرض له من مشكلات الأزهر، وكان - رحمه الله - ناصحاً أميناً لا يعرف المداورة، ولا يماري في الحق ولا يجامل، فكيف يمر عامان كاملان على مثل هذا الرجل العالم الجريء المجاهد ولا يذكره أحد من أبنائه أو أصدقائه؟
لو أن اسم الأستاذ الزنكلوني لمع في بيئة غير هذه البيئة، لكان لذكراه شأن غير هذا الشأن، ولكنه الأزهر مما قعد به أنه يقف دون المصلحين في حياتهم، وينسى ذكراهم بعد مماتهم وكأنه يريد من الناس أن يذكروا هم أبطاله، وأن يتحدثوا هم عن رجاله، وحسبه أن يشترك في ذلك قارئاً أو سامعاً! بل إنه ليغفل حتى عن ذلك، فلو أنك فتشت في دار نابه من الأزهريين عن أي أثر من آثار المؤلفين المحدثين يتصل بالأزهر أو بمسألة من مسائل الأزهر العلمية أو التاريخية، لأعياك البحث دون أن تجد!
وإذا كان الأستاذ الزنكلوني قد أدركه إهمال الأزهر إلى هذا الحد المعيب، فأصبح بين(482/36)
أصدقائه وتلاميذه نسياً منسياً، فإن أخاً له من قبل قد أدركه من إهمال الأزهريين مثل ما أدركه وهو المغفور له الأستاذ الإمام محمد عبده!!
أليس من العجيب أن يكون من أبناء الأزهر من بعث إلى أوربا باسم محمد عبده، ثم لا يكون الأزهر معنياً بتاريخ محمد عبده وأفكاره محمد عبده؟!
كأني بالسنين تطوى عاماً بعد عام، ثم يزول هذا الجيل ويأتي جيل آخر، فيتساءل أبناؤه: ماذا فعل محمود شلتوت، ومحمد عبد اللطيف دراز، بل ماذا فعل الأستاذ الأكبر المراغي من أجل ذكرى الزنكلوني، وعلم الزنكلوني، وأفكار الزنكلوني؟ ثم يتساءلون: ماذا فعل الدكتوران الفاضلان ماضي والبهي وغيرهم من أبناء الأزهر من أجل ذكرى محمد عبده وتاريخ محمد عبده؟
إننا نرجو بهذه الكلمة مخلصين للأزهر ولمكانة الأزهر ولشيخ الأزهر وأبناء الأزهر أن يكون لهم شأن غير هذا الشأن، ولا سيما في أمثال هؤلاء الأبطال
وإننا لمنتظرون
(م. . .)
من خليل مطران إلى علي طه
أشار بعض النقاد إلى الكتاب البليغ الذي بعث به شاعر القطرين خليل مطران إلى الشاعر الكبير علي محمود طه عن ديوانه الأخير (أرواح وأشباح) وإنا لننشر هذا الكتاب فيما يلي: (. . . واتتك السليقة السليمة، وأمدك الاطلاع الواسع، فجئت بالطريف من المعنى في الصريح الشائق من المبنى. ولئن كانت المصادر التي استنزلت منها الوحي غريبة في اصلها عن المصادر العربية، لقد وفقت إلى إبراز روائعها، وتقريب أبعد مغازيها، بما نفى عنها الغربة وكشف آفاقاً غير محدودة لطلاب التجديد والإبداع من حملة الأقلام بين الأدباء الناطقين بالضاد
وكان عزيزاً على غيرك أن يذلل ما ذللته من الصعاب، ويبلغ ما بلغته من الإجادة، ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء، وفضل العزيمة التي لا يفل غربها والأناة التي لا يدرك حدها
إن في مطالعة (الأرواح والأشباح) لمتعة فكرية ولذة فنية قد غنمت منهما ما اشتهت النفس(482/37)
في ساعات لن أنسى طيبها بين ما أعانيه من آلام العلل في ساعاتي الأخر. . .)
1 - حول نسخ الأحكام
تعقيباُ على مقال (حق الإمام في نسخ الأحكام) المنشور في العدد 480 من مجلة (الرسالة) أقول: إن أبا جعفر النحاس لم يعز القول بإعطاء الإمام حق نسخ الأحكام إلى فرقة إسلامية، ولا إلى جماعة من فقهاء الإسلام؛ بل قال: (وقال آخرون بأن الناسخ والمنسوخ إلى الإمام ينسخ ما يشاء؛ وهذا القول أعظم، لأن النسخ لم يكن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي من الله إما بقرآن مثله على قول قوم، وإما بوحي من غير القرآن، فلما ارتفع هذان بموت النبي عليه السلام ارتفع النسخ)
وإنما قال (أعظم) لأنه ذكر قبل ذلك قولاً يراه يؤول إلى الكفر، فيكون هذا أشد إمعاناً في الكفر في نظره. وهو يريد بقوله (وقال آخرون) الإسماعيلية الباطنية الذين يجعلون النسخ للأمام (أنظر فضائح الباطنية للغزالي)
2 - في كتاب الإمتاع والمؤانسة
قرأت مواضع من (الجزء الثاني من هذا الكتاب فلمحت أغلاطاً فات الأب الكرملي ذكرها، منها:
1 - في ص78 (وهذا لفظي) وفي الحاشية كذا ورد هذا اللفظ في كلتا النسختين ولم نجد فرقة بهذا الاسم، فلعله يريد بها الظاهرية الذين يأخذون بظاهر اللفظ
والصواب أنها نسبة إلى فرقة تسمى (اللفظية) لقول المنتمي إليها: (لفظي بالقرآن مخلوق). وقد ألف الإمام ابن قتيبة في هذا الموضوع كتابه (الاختلاف في اللفظ) المطبوع بالقاهرة سنه 1349. وفي كتاب (شروط الأئمة الخمسة) قال الحاكم: سمعت أبا الوليد يقول: قال أبي: أي كتاب تجمع؟ قلت: أخرج على كتاب البخاري، قال عليك بكتاب مسلم فإنه أكثر بركة لأن البخاري كان ينسب إلى (اللفظ). يشير إلى ما وقع بين البخاري وشيخه الذهلي حين قدم البخاري نيسابور سألوه عن اللفظ فقال: (القرآن كلام الله غير مخلوق وأعمالنا مخلوقة) قال الشرقي: سمعت الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ ومن زعم (لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجلس إلينا ولا نكلم من يذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل(482/38)
- يعني البخاري - فأنقطع الناس عنه إلا مسلم ابن الحجاج واحمد بن سلمة. وقال الذهلي لا يساكنني محمد ابن إسماعيل في البلد، فسافر البخاري. والحق في ذلك مع البخاري. ومن أشرف على سير المسألة بعد محنة الإمام احمد رأى مبلغ ما اعترى الرواة من التشدد في مسائل يكون الخلاف فيها لفظياً، مما سبب امتلاء كتب الجرح بجروح لا طائل فيها كقولهم: فلان من الواقفة الملعونة، أو من اللفظية الضالة. . . الخ
2 - في ص133 (ومن شرفه - أي النثر - أن الوحدة في أظهر) وقيدوا (الوحدة) بفتح الواو وتكررت كذلك مرات في هذه الصفحة وغيرها. والصواب (الوحدة) بالضم على ما في تاج العروس.
3 - في ص177 (وأبو عبد الله المرزباني شيخنا). تكرر في الكتاب مرات كذلك. والصواب (أبو عبيد الله) كما في شذرات الذهب وتاريخ بغداد والموشح ومعجم الشعراء وغيرها. وجاء محرفاُ كذلك في الإعلام والنثر الفني. وهو إمام كبير لا يسوغ إغفال الخطأ في كنيته.
صلاح الدين شفيق(482/39)
العدد 483 - بتاريخ: 05 - 10 - 1942(/)
الحق المجرد
للأستاذ عباس محمود العقاد
عجب صديقنا الأستاذ الزيات لابن آدم (المخلوق الوحيد الذي يرى الشيء الواحد بعينيه الاثنتين أبيض تارة وأسود أخرى على حسب الصبغ الذي يلونه به الهوى)
وضرب لذلك أمثلة شتى، منها أن راديو باري أذاع منذ ليلتين أن فريقاً من الطلاب الهنود تظاهروا في بمباي فأعترضهم فئة من الشرط الإنجليز فتفرقوا في شوارع المدينة أباديد بعد أن أصيب نفر منهم بجروح. ثم عقب المذيع على هذا الخبر بأن الاعتداء على المتظاهرين بالضرب ينافي المدنية، ويجافي الخلق، ويصم الذين ارتكبوه بالقسوة الوحشية والبربرية الأثيمة. ثم أعلن المذيع في هذه الإذاعة نفسها أن مليوناً من جنود المحور قد اقتحموا بالدبابات الثقيلة والطيارات المنقضة والسيارات المدرعة منازل ستالينجراد على الروس وفيهم النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، فدكوا كل بناء، وسحقوا كل حي، وركموا أشلاء القتلى في الحجرات والطرقات على صورة لم يرها الراءون ولم يروها الراوون. ثم أخذ هذا البوق البشرى يهذي بفضل هذا النصر على المدنية، وينوه بعظيم أثره في مستقبل الإنسانية)
وأتى الأستاذ بأمثلة متعددة في هذا المعنى تؤيد شقاء الإنسانية بين العقل والهوى
وإنه لشقاء باق لن يزول أبداً، ولن يزال الهوى يرينا الشيء شيئين واللون لونين ما دمنا نحس ونرى، وقد
أعيا الهوى كل ذي عقل فلست ترى ... إلا صحيحاً له حالات مجنون
وقد تناوله صديقنا الزيات من هذه الناحية فأبرزه في صور الحياة اليومية التي لا يخطئها من يرقبها
فهل هو نقص لا يوازنه جانب كمال؟ وهل هي آفة لا عزاء فيها لبني آدم؟ وهل نغير ما طبعنا عليه من هذه الخليقة بما طبعت عليه سائر المخلوقات من توافق وتشابه حالات؟
مصيبتنا أننا لا نستطيع!
لأن الإنسان لا ينقص إلا من حيث يزيد. فهو يعرف الخطأ لأنه يعرف الصواب، ويختل في هندسته من حيث يتقن تنحل هندسته كل الإتقان، لأنه أعلم بالهندسة من النحل لا لأنه(483/1)
أجهل منه بفنونها وأنواعها. . . فهو يشتري الخطأ بثمن، لأنه لا يشتري الصواب إلا مخلوطاً به، مضافاً إليه
نحن نرى الشيء أشياء لأننا نرى
أما سائر المخلوقات فهي لا ترى إذ تنظر بعينيها. وإنما الأصح أن يقال إنها تلمس الأشياء بالعين على نحو من اللمس بالأيدي، فلا تقبل عندها التعدد والاختلاف
وهكذا الآدميون الذين يشبهون تلك المخلوقات
إنهم يلمسون الأمور بأعينهم كما يلمسونها بأيديهم، ولكنهم لا يرونها متعددة الحالات، متعددة الألوان، متعددة الوقع في الخواطر والأهواء؛ وإن تعددت عندهم قليلاً فهو أقرب تعدد إلى التوحيد
كنت أقول لبعضهم والألمان يدخلون باريس: إنهم سينهزمون
وكنت أقول لبعضهم والألمان يتقدمون الأراضي الروسية: إنهم سينهزمون
فكانوا يقولون: ولكننا نرى أنهم سينتصرون لأنهم منتصرون. . . فأقول لهم: ما هذا برأي. هذا لمس بالعين. هذا ما تبصرونه كما تبصره كل عين حيوانية تفتح أجفانها، وإنما الرأي غير هذا. الرأي ما يبصرك بالانهزام وأنت تنظر إلى النصر الملموس. فإن لم يفدنا الرأي هذه الفائدة فلا خير فيه، ولا حاجة بنا إليه مع وجود العيون والأجفان. إذ حسبنا بالعيون والأجفان أن تفتحها فنلمس بها، ثم لا نفكر ولا نرى خلاف ما تبديه
وهكذا يبصر الإنسان وجوه الرأي لأنه لا يرى الشيء على حالة واحدة ولا يستوفيه كله في صورة حاضرة
فهو يبصر الوجوه الرأي في الضرب مثلاً لأنه يحسه لذيذاً في حين ومؤلماً في حين ولا يحسه في بعض الأحايين
يحسه لذيذاً حين يكون هو الضارب، ويحسه مؤلماً حين يكون هو المضروب، وليس يحس له لذة ولا ألماً حين لا يكون ضارباً ولا مضروباً ولا شأن له في الحالتين
ومن العسير عليه جداً أن يعرف ما هو الضرب إذا عرفه على وجه واحد، ولم يعرفه على شتى الوجوه
ومن البعيد جداً أن يراه بالحق إن لم يره بالهوى على اختلافه، فيحبه ويبغضه وينظر إليه(483/2)
بين الحب والبغض، و (يراه) بعد ذلك مستجمعاً بجميع هذه الوجوه
وهذا هو باب الكمال في تعدد الأهواء وتعدد الحكم على العمل الواحد إذ نعمله نحن وإذ يعمله الخصوم، وإذ يعمله من ليس من الخصوم ولا من الأصدقاء
وكل صورة من صورة هذه تمام لغيرها، ولا سبيل إلى التمام فيها بغير هذا التعديد
يقولون في الصعيد: إن نواتياً سمع مضغاً قوياً في مخزن الخبز الخاف من سفينته، فأشفق من نفاذ المؤنة في الطريق وصاح مغضباً: من هذا الذي يقضم في الخبز قضم الحمار؟
فقيل له: ابنك حسن!
قال: اسم الله عليه! أهو الذي يقرش هكذا قرش الفوير؟
والرجل قد صدق بعض الصدق فيما سمع من قضم حمار ومن قرش فوير، فإن أكل ابنه من الخبز يسره ولا يؤذيه، وإن انطلاق الغريب عليه يؤذيه ولا يسره. ويبقى أن يسمع المسافر الذي لا يسمع حماراً ولا فويراً، ولكنه يسمع الصوتين على حسب ما عنده من الزاد
وما أعجز الإنسان أن يتبين حقيقته بهذا الصغر وبهذه البساطة ما لم يسمع من جانب مخزن الخبز صوت حمار وصوت فأر وصوت إنسان
هذا نقص في خليقة بني آدم يؤدي إلى تمام
وإنما هو نقص دائم إذا وقف حيث هو ولم تجتمع صوره الكثيرة في صورة واحدة هي أدنى إلى الصدق وأبعد من الهوى وأوسط في الرأي بين مختلف الآراء
وذلك هو النقص الذي يحبه جماعة من أصحاب المذاهب الاجتماعية ويفرضون دوامه ويحضون على الاقتداء به في فهم التاريخ، ونريد بهم الشيوعيين
فهم يجعلون الهوى فرضاً لزاماً في معالجة كل حقيقة من حقائق الحياة
ويكتبون التاريخ فيذمون من لا يستحق الذم، ويثنون على من لا يستحق الثناء، لأنهم يستوحون المصلحة الشيوعية، ويعلنون أن الخروج من هوى المصلحة في تقدير الأمور مستحيل
فأما أنه مستحيل فلا، لأن الإنسان يعرف الفرق بين صوابه وهواه، وإن أحب هواه وآثره على الصواب(483/3)
فإذا كانت له قوة خلق تصحب المعرفة غلب الهوى بالجمع بين معرفته وقوة خلقه، وأصبحت مصلحته تابعة لما يلزمها من جادة قويمة في رأيه
ولكن الشيوعيين لا يغلبون هوى المصلحة، لأن الخروج منه مستحيل، وإنما يغلبونه لأن تغليبه نافع لهم فيما يقدرونه ويفسرون به الأمور
ولا نقول: إن الشيوعيين وحدهم يغلبون الهوى في تفسير التاريخ وتصوير الحقائق، فهذه خليقة شائعة بين جميع الناس ملحوظة بين أصحاب المذاهب بلا استثناء
ولكننا نقول: إن الشيوعيين وحدهم هم الذين جعلوا ذلك فرضاً لا مناص منه، ولم يجعلوه عيباً يصححونه ويخجلون من إعلانه
وهذا هو الفارق الكبير بين الرأيين
فعلينا أن نعترف بالهوى ولا نجهل صنيعه في أفاعيل الأمم والأفراد، ولكن علينا أن نغالبه ما استطعنا كلما عرفناه واقتدرنا عليه
وهذا هو الواجب في كل عيب من العيوب، أياً كان سببه وأياً كان الناظر إليه
فأذكر أن (برتراند رسل) الفيلسوف الرياضي الباحث الاجتماعي الكبير قد أشار في بعض كتبه بإباحة العلاقات بين الفتيان والفتيات (بغير بنين) ليتم لهم اختبار الحياة الجنسية قبل الاضطلاع بتبعاتها، ولأن المنع رياء ما دامت الإباحة قائمة فعلاً وإن سترت عن أعين المجتمع والشريعة
فأما اختيار الحياة الجنسية فليست الإباحة سبيله الوحيد، وليس الزواج بعلاقة جنسية وكفى فيكون اختباره من طريق ذلك الانطلاق
وأما أن الإباحة مطلوبة ما دامت حاصلة، فهذا الذي يشبه عندنا مذهب الشيوعيين أن الهوى مفروض ما دام من عادات بني آدم
فالسرقة موجودة ولا نعالجها برفع العقوبة عنها، والسقم الذي يأتي من الطعام موجود ولا نعالجه بتسويغ الطعام المسقم للأبدان؛ وإنما وجود هذه الآفات هو الذي يدعونا إلى محاربتها واستئصالها؛ إذ نحن لا نحاربها وهي معدومة غير مكروهة الوجود
هو الهوى إذن نقص في طبيعة الإنسان تميز به بين المخلوقات لأنه طريقة إلى التمام
فلا نرميه ولا ندخره، ولكننا نتناوله بضاعة للاستبدال كلما تسنى لنا أن نبدل به بعض(483/4)
الصواب
وهوى واحد لا يصلح تمناً مقبولاً في هذه التجارة
ولكن خمسة أهواء متقابلات هي أصلح الأثمان للمقايضة فيها، فليس أقمن بأضعاف الهوى من تعدد الأهواء
أيشقينا ذلك التبديل والاستبدال؟
نعم لا مراء. . . ولكن من الذي قال إننا خلقنا لنسعد؟ ومن الذي قال إن السعادة في استئصال الأهواء؟ لم يقل ذلك أحد؛ وإن قاله لم يحفله سامع. ولم تزل دنياه ماضية في شقائها وسعادتها وهواها.
عباس محمود العقاد(483/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
منظر لن أنساه - شعراء مبدعون - فكاهة عراقية - الحرية
- شيطنة مصرية - مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة
التوجيهية
منظر لن أنساه
في صباح يوم الجمعة الماضي توجهت مبكراً إلى سنتريس. فلما وصلت السيارة إلى القناطر الخيرية هالني أن أرى جماهير كثيرة معوّقة عن المسير. ونظرت فرأيت (هَوِيس الرياح التوفيقي) مفتوحاً، وهي فرصة يومية لمرور السفائن إلى الشمال وإلى الجنوب
ونزلت إلى الشط للتفرج فرأيت ثلاث سفن يصدها التيار عن دخول الهويس صد بلغ الغاية من العنف، فقدرّت أننا سنعوّق عن المسير زمناً غير قليل. عند ذلك بدا لي أن أرجو أحد الملاحظين إنزال الجسر الخشبي لحظات إلى أن يستطيع البحارة تسديد هذه السفن الثلاث، وفي هذا إنقاذ للمسافرين من الانتظار، ولأكثرهم شواغل تستوجب الاستعجال. فأجاب الملاحظ بأن الجسر يُفتح نصف ساعة لمرور السفن بأمر وزارة الأشغال، وقد بقى من الوقت عشر دقائق، فإن عجز هؤلاء البحارة عن تسيير هذه السفن قبل انقضاء الوقت المحدد فسيُرد الجسر ويمر الطريق، ولا يظفرون بغير الانتظار المملول!
فرجعت إلى الشط مرة ثانية لأشهد أعظم معركة معاشية رأتها عيناي
ما كان أولئك البحارة ناساً، وإنما كانوا من مردة الجن!
لم يكن بدٌّ من مصارعة تيار عنيف عنيف، تيار يُسمع هديره من مسافات ويُنذر من يصاوله بأفدح الخطوب
كانت المقاذيف بأيدي الملاحين، كالسيوف بأيدي المحاربين، وكانت القلوع تُطوى وتُنشر في اللحظة القصيرة مرات في اتجاهات مختلفات، وكانت الحبال تُرمى هنا وهناك فيتلقفها المتلقفون بأمضى وأسرع من نظرة البرق اللماح
وعلى الشط وقف أشخاص يصيحون صيحات الإرشاد والتوجيه بنبرات تقرُب من(483/6)
الصراخ
دار رأسي من هول المنظر، وفكرت في مساعدة هؤلاء المجاهدين، ولكن ماذا أملك ولم أتلق في علم الملاحة أي درس؟
وطاف بالخاطر أطياف من ماضي الجهاد في هذه البلاد، الجهاد في سبيل الرزق الحلال، فهؤلاء الملاحون هم الذرية الباقة من رجال كانوا أسبق الآدميين إلى اتخاذ الأنهار وسائط لنقل المنافع من أرض إلى أرض، وكان لهم في الملاحة مهارة راعت القدماء. . . ألم يحدثنا ياقوت في معجم البلدان عن بُحيرة مصرية كان الملاحون فيها ينتفعون بالريح أغرب انتفاع، فيسيّرون السفائن إلى الشرق بمئونة ريح تتجه إلى الغرب!
ثم نظرت فرأيت على إحدى السفن حصيرة منشورة، فوقها أرغفة صغيرة تشبه أقراص (البتاو) والبتاو كلمة مصرية قديمة معناها الرغيف
ومن أجل هذا (البتاو) يجاهد أولئك الملاحون
المعركة لا تزال دائرة، ولم يبق من الوقت غير ثلاث دقائق، فكيف تمر السفائن الثلاث في دقائق ثلاث؟
والعمال فوق الجسر ينتظرون انتهاء الوقت ليعيدوا قوائم الطريق إلى ما كانت عليه، فأسير ويسيّر المسافرون إلى النحو الذي نريد!
ولكني أنسى نفسي وأنسى طريقي، فما يهمني إلا أن ينتصر الملاحون على التيار ليدخلوا (الهويس) بسلام آمنين
هِيلا هُب، هِيلا هُب، هِيلا هُب!!!
وانتصر الملاحون قبل ثواني ثلاث يحل بعدها الميعاد
وفي تلك اللحظة شعرت بفرح لا نظير له ولا مثيل
تباركت أسماء الله! فهو النصير لمن يتوكل عليه في مقاومة التيارات
شعراء مبدعون
يقال ويقال إن الشعر قل في مصر، فلم يبق فيها من الشعراء غير آحاد، ومع هذا رأيت في موقفي ذاك بقنطرة الرياح التوفيقي عشرين شاعراً على جانب عظيم من الإجادة والإبداع في الترنم والغناء(483/7)
هنالك عشرون شاعراً، أو يزيدون من الطراز النفيس
فمن هؤلاء الشعراء؟
جماعة من العصافير اللطاف بَنَت أعشاشها في فجوات نقرتها نقراً بدخائل ذلك الجسر الصخاب الضجاج
كان المنظر في غاية من الروعة والجلال: على يميني بحارة يقاتلون الأمواج ليدخلوا (الهويس) قبل الوقت الذي حددته وزارة الأشغال، وعلى يساري صحابة من العصافير تقاتل لتنتصر في ميدان العواطف، فترف من هنا إلى هناك، رفيف الروح من القاهرة إلى بغداد
لن أنسى أبداً تلك العصافير بتلك الزقزقة الشعرية، ولن أنسى أنها فطنت إلى مأوى يصد عنها شر الآدميين
العصافير تأوي إلى أعشاشها قُبيل الغروب، ولا تخرُج من أعشاشها إلا بعيد الشروق، وهي تُهد هدّاً بقدوم الليل.
فما صبر عصفور على النوم ساعات طوالاً وحول أذنيه هدير يصفُر بجانبه هدير (سَدَّة الهندية) في سمع الفرات؟
هو عصفور شاعر يطيب له أن يهدأ على ضجيج الأمواج
لو بحث هذا العصفور عن مكان هادئ لوجد ملايين من القلوب الهوادئ، وبعض القلوب تهدأ فتسكن سكون الموت، فلا يأوي إليها غير البوم النعاب
في ضمائر (القناطر الخيرية) شعراء من العصافير اللطاف،
وقد يكون لهذه العصافير نظائر بقناطر أسيوط وقناطر أسوان. . .
مصر وطن الشعر والفن والجمال، وهي الغُرة اللائحة في جبين الوجود
فكاهة عراقية
وبمناسبة الملاحة النهرية أسوق فكاهة عراقية ما خطرت في بالي إلا ابتسمت. وخلاصة تلك الفكاهة أن أحد المسافرين سأل ملاَّحاً في دجلة عن أجر الركوب من بغداد إلى البصرة؛ فأجاب الملاح: عشرة دراهم مع جر الحبال، وعشرون درهماً بدون جر الحبال. ففكر المسافر قليلاُ، ثم رضي بالحال الأول مراعاة للاقتصاد!(483/8)
فكاهة في غاية من العذوبة، ولكنها تحتاج إلى شرح، فأكثر القراء لا يعرفون حكاية جر الحبال.
أظنهم يعرفون، فلنُعف هذه الفكاهة من الشرح، لئلا تَبُوخ!
الحرية، الحرية!
وقف (المترو) ظهر اليوم عند مدخل مصر الجديدة، ثم طال به الوقوف، فنزلت لأعرف السبب، فرأيت قطارات كثيرة يعاني ركابها مثل ما نعاني من التعطيل، وكان السبب أن قطاراً أُصيب بعطب فعطَّل جميع القطارات
والتفت فرأيت الأستاذ سعد اللبان ينتظر مع المنتظرين، فوجهت نظره إلى الفرق بين (المترو) و (الأوتوبيس)
- أتريد يا دكتور أن تستغل هذا المنظر لكلمة في مجلة (الرسالة)؟
- أنت تعرف يا صديقي أني أنتفع من جميع مشاهداتي!
- وماذا ترى في هذا المنظر مما ينفع؟
- سأقول لقرائي وأقول. . . سأقول: إن (المترو) حين يُعطِّب منه قطار تُعطِّل جميع القطارات، ولا كذلك الأتوبيس
- أوضح ما تعنيه بعض الإيضاح
- المترو يسير في طريق مرسوم تحدده هذه القضبان، فهو في حقيقة الأمر مسجون؛ أما (الأتوبيس)، فيسير في الطريق كيف شاء، وهو لا يعطل أخاه إن أُصيب بعطب في الطريق
- وإذن؟
- وإذن تكون الحرية أساساً لكل فلاح
- ثم ماذا، على حد تعبيرك؟
ثم تكون الأخلاق الفردية والقومية مما يتأثر بالتفاوت في مثل هذا النظام؛ فالرجل الذي يسير على منهاج واحد طول حياته يُعطّل عن المسير من وقت إلى وقت، والأمة التي تلتزم خطة واحدة في حياتها السياسية والاقتصادية تعطل عن الانتفاع بما يجد في الدنيا من تطورات وتغيرات(483/9)
- أنت إذن لا تقول بالثبات على المبدأ
- المبدأ هو الغاية، وهي لا تختلف، والوسائل هي الطرائق، والطرائق تختلف من يوم إلى يوم باختلاف الظروف
- ولكن الناس لا يفرقون بين الوفاء للغايات والوفاء للوسائل!
- وهل فهم الناس جميع الدقائق في الأخلاق الفردية والقومية؟
ثم سار المترو فانقطع الحديث. . .
شيطنة مصرية
تغربت عن وطني عدداً من السنين، وعرفت الناس من جميع الأجناس، فما رأيت أذكى من المصريين. ولو دُوِّن ما يتندَّر به السامرون بالأندية المصرية في أسبوع واحد لكان ثروة أدبية تقتات بها أجيال وأجيال
وأذكر شاهدين اثنين يتصلان بشخصي، وفيهما الكفاية لمن يريد إدراك بعض الجوانب من الشيطنة المصرية:
1 - تفضلت حكومة العراق فمنحتني وسام الرافدين، فكتبت الجرائد كلمات لطيفة بينت فيها أن الحكومة العراقية أرادت أن تثيبني على ما بذلت من الجهود في توكيد الصلات بين مصر والعراق؛ ولكن إحدى المجلات اهتدت إلى السبب الصحيح فقالت: إني مُنحت ذلك الوسام جزاء بالرحيل عن بغداد!!
وتلك نكتة أدق من السحر الحلال!
2 - الأستاذ الزيات يحرص على أن أكتب في (الرسالة) بدون انقطاع. وكان المفهوم عندي أن الأستاذ الزيات يراني من أمراء البيان، ولكن إحدى المجلات قد اهتدت إلى السبب الصحيح فزعمت أن الأستاذ الزيات قال أنه يستغني بمقالي عن صحيفة اللطائف والطرائف!
والحمق المصري أجمل من العقل، ومجانين مصر هم الغاية في لطف الذوق وخفة الروح
والمأمول أن يكون هذان الشاهدان من فنون المزاح، فلا يحق ما يترتب عليهما من أحكام لها في ساحة الظلم مكان
مسابقة الأدب العربي(483/10)
احتفلت وزارة المعارف بتقديم الجوائز إلى الفائزين في مسابقة الأدب العربي، وكان احتفالاً في غاية من الرواء والبهاء
وكنت في الحفلة الماضية قد استهديت معالي الوزير جائزة، لأني شرحت مواد المسابقة على صفحات (الرسالة) في عامين متعاقبين، فقام أحد الطلبة في هذه الحفلة وطالبني بتقديم جوائز من مؤلفاتي لحضرات الفائزين. وقد ابتسم الهلالي باشا لهذا الاقتراح اللطيف، كأنه يظن أني سأعفيه من جائزة على الجهد الذي أبذله في هذه الدراسات. ولا يضيع حقٌّ وراءه مطالب!!
أترك هذا وأذكر أني سأستعين الله في دراسة المواد الجديدة لمسابقة العام المقبل، بعد انتهاء شهر الصوم، راجياً أن يتفضل أساتذة السنة التوجيهية بمعاونتي، فقد تكون المؤلفات المقررة فوق ما أطيق
سنلقي مرة ثالثة على صفحات الرسالة مع الطامحين من أبناء الجيل الجديد، وسيكون للقلم ميدان أو ميادين في تشريح الكتب المقررة على المتسابقين
(اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، ولو شئت لجعلت الحزن سهلاً)
بهذه العبارة كان يبدأ درسه أحد العلماء فيظفر بالتوفيق، وبها نبدأ ما نقبل عليه من الدروس، والله وحده هو المستعان، وبه التوفيق
زكي مبارك(483/11)
المنتحرة
الدكتور محمد حسني ولاية
كانت في الخمسين من العمر عندما انتحرت بإحراق نفسها في آخر نوبة من نوبات الملانخوليا ولما كانت هذه النوبة خفيفة، فقد تمكنت بالإرادة الباقية لديها من وضع حد لحياتها. على أنها حاولت في إحدى النوبات المتوسطة في الشدة من أن تحنق نفسها بلف شعرها حول عنقها
بدأت حياتها في ظل عيش رغيد، وتولدت لديها نزعات ذكرية بعد أن أنجبت أمها عدة أطفال ذكور. ولما كانت العناية التي كانت موجهة إليها قد انتقلت إلى اخوتها، فقد نشأت عندها الرغبة في تحديهم وتحدي الذكورة بوجه عام. ومن مظاهر هذا التحدي أنها عندما بلغت العاشرة من عمرها كانت تقلد الذكور بإطارة طائرات مصنوعة من الورق الملون والبوص، وكثيراً ما كانت تصيد طائرات الأطفال بطائراتها التي كانت تعني بصناعتها أكبر عناية
وفي نحو العشرين من سنها تزوجت، ثم أنجبت من زوجها عدة أطفال، ولكن زواجها لم يكن موفقاً، لا لسبب سوى أنها كانت تنشد السيطرة وتشعر بغضاضة لقيامها بدور امرأة.
وقد انتهى أمرها إلى أن أحبت امرأة أخرى، فكانت تدللها وتعاملها معاملة الرجل للمرأة، وقد أعدت لها كوباً من الفضة نقشت عليه اسم خليلتها، ولا تسمح لأحد أن يشرب منه سواها، كما أنها طرزت اسم هذه الخليلة على الوسائد والفرش، ثم مهدت السبل لكي تزوج زوجها من هذه المرأة، فعاش الثلاثة في منزل واحد وفي شبه وئام. وقد حققت بهذا الزواج أهدافها بالتخلص من زوجها، على الرغم من أنها بقيت في عصمته، وفي الوقت نفسه قربت منها خليلتها
وعندما بلغت سن اليأس تشبثت بها نزعات سادية فكانت تضرب خادمتها ضرباً مبرحاً. وكثيراً ما كانت تجز شعرها وتكوي جسدها بسيخ محمي في النار، كما استبدت بها ميول ذكرية حملتها على السفر بمفردها إلى الأقطار الشقيقة وإلى تبذير أموالها تبذيراً شديداً. وما لبثت أن انتابتها نوبات ملانخولية متفاوتة في الشدة
بدأت عوارض مرضها بحدوث خفقان في القلب ورهبة من الموت وخوف من عقاب الله،(483/12)
ثم أخذت تتجاذبها الهواجس السود فكانت تعتقد أنها قضت نحبها، ثم توسلت إلى الله أن يغفر لها خطاياها. وكانت إذا سمعت الحاكي (الفونوغراف) تصورت أن روح أحد أقاربها تقمصت في القرص المدار فلا يفتأ يصعد أنينه ويبث شكواه كلما وخزته إبرة الحاكي الحادة. وإذا رأت أحداً يهش الذباب خيل إليها أنه يشير إلى سفاح ليقطع رقبة أحد أقاربها
وكان في منزل المريضة زهريات برنزية صغيرة في كل منها وردة صناعية حمراء، فكانت تعتقد أن تلك الزهريات ما هي إلا يأجوج ومأجوج حاملين مضلات حمراء ليتقوا بها جمرات تتساقط عليهم من جهنم.
وتصورت ذات يوم أن سريرها سفينة نوح وأن أفراد أسرتها مشرفون على الغرق، فجعلت تناديهم ليتعلقوا بالسفينة طلباً للنجاة ولكن دون جدوى.
وكانت تمتنع عن تناول الكاكاو لاعتقادها أنه ليس إلا دماً مسفوكاً. وطالما امتنعت عن الاغتسال ظناً منها أن الماء ما هو إلا بول الفيلة.
ومن أطراف الهواجس التي كانت تنتاب المريضة عندما كنت أغذيها صناعياً بإدخال اللي المعدي إلى معدتها أنها كانت تعتقد أن المقصود بهذه العملية تشويه خلقتها ونقل أعضائها الجنسية إلى مكان فمها ونقل فمها إلى مكان تلك الأعضاء لتكون أعجوبة العالم.
ومن الهواجس التي تدل على رغبتها في أن تكون رجلاً أنها كانت تتصور أحياناً أنها رجل أو أن نصفها لرجل والنصف الآخر لامرأة، وحين تسعفها لمحة من لمحات الإدراك وتنظر إلى رجليها فتراهما متماثلين تقرر أنها إما أن تكون رجلاً وإما امرأة
وعلى الرغم من أنها كانت تتصور في أثناء مرضها أنها مذنبة وأن الله سينزل بها أشد العقاب، وإنها مخلوق دنيء لا يستحق دخول الجنة فإنها كانت أحياناً تعوض عن هذا نوعاً ما بتصورها نفسها ابنة ملك الفرس ولكنها وضعت في أحد المتاحف الأثرية لتكون فرجة للناس.
محمد حسني ولاية
طبيب بصحة بلدية الإسكندرية(483/13)
أيبيقوس
للأب أنستاس ماري الكرملي
1 - توطئة
طالعنا في الرسالة (10: 812) النبذة التي قلّد بها جيد هذه المجلة، الأستاذ محمد مندور، أحد المدرسين في كلية الآداب في مصر القاهرة الزاهرة، وحالما وقع طائر بصرنا عليها، وعلى اسم كاتبها، استبشرنا وقلنا في نفسنا:
إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر
ولما استهل الكاتب نبذته بقوله: (أصحح للأب الفاضل أنستاس ماري الكرملي خطأ وقع فيه) - قلنا في نفسنا: وما هذا التصحيح؟ - فإذا هو يبيع لنا بضاعة عرضناها نحن على القراء بكل تحرز وتوق، إذ لم يسبقنا أحد إلى عرضها. إذن لم يأتنا بشيء جديد؛ وإذن لم نفهم كيف ساغ له أن يقول: (أصحح). . .
ومن الغريب، أنه ألح على أن الشاعر المبحوث عنه في (الامتناع والمؤانسة) هو (أتيقوس) أي الأتيكي، وهو يوناني صميم. . . إلى آخر ما قال وجال وصال!
ولم يشر أبداً إلى أننا كنا أول من أشار إلى هذا الرجل إشارة خفيفة، من غير أن نلح على أنه هو المطلوب في هذا المبحث. وقد ذهبنا إلى ذلك لمقاربة بين لفظة (أتيقوس) و (إيقوس)، ولم يكن ذلك من باب التأكيد؛ فإذا الأستاذ مندور المدرس بكلية الآداب، يتمسك بهذا (الخاطر الضعيف)، ويعده (رأياً) ويأخذ به، ويدافع عنه مدافعة الأبطال، كأنه من وضعه، أو من فكره
ولكن من بعد أن تنصر لهذا الرأي، ونافح عنه أبدع منافحة، قذفه فجأة من يده في مهاوي الرذل، كأنه عقرب حاولت لسعه، فأراد التخلص منها على هذا الوجه المبارك النتيجة، إذ قال: (وإذا ذكرنا أن (كومودوس) هو. . . وإذا كان من الممكن أن يكون (قومودس) إمبراطور روما. . . فأي غرابة في أن يكونوا. . .
فيا سيدي الأستاذ، المدرس بكلية الآداب في القاهرة، لقد هدمت بإذا. . . وبإذا (مكررة)(483/14)
وبمن الممكن أن يكون. . . ما بنيته، أي صرحك الممرد، فوقع عليك وسحقك سحقاً، وأنت تُري للناس أنك لم تشعر به وهم قد شعروا به كل الشعور. أما أنك تري للناس أنك لم تشعر به، فذلك لأنك قلت في الختام: (وهكذا يتضح أن القراءة التي (نضنها) أقرب ما تكون إلى الصحة، هي قومودوس وأتيقوس؛ اللهم إلا أن تكون عند الأستاذ كراوس معرفة خاصة بأبقوس الشاعر اليوناني، وذلك ما ننتظره منه، إن تفضل فجاد بعلمه (الغزير)
فلو كنت، يا سيدي المدرس بكلية الآداب، واثقاً بما تقول لما قلت هذا القول، ولما التجأت إلى غيرك، لأنك بهذه المحاولة نسفت صرحك نسفاً حتى أُسسه
يا سيدي الأستاذ، المدرس بكلية الآداب، إن التاريخ لا يبني على (إذا)، ولا على (إذا كان من الممكن أن يكون كذا وكذا) ـ إن التاريخ، يا سيدي الأستاذ المدرس بكلية الآداب، رواية وقائع، ونقل أحداث تنقل إلى السلف على ما رووه، ولا دخل فيه لـ (إذا) و (من المكن) فمثل هذا الكلام يرد في المنطق والفلسفة والصرف والنحو واللغة والحديث وأمثالها، التي يصح فيها التخريج؛ أما التاريخ فبعيد عن التأويل والتفسير. فالظاهر أن حضرتك مهرت في التخريج حتى رسخ في نفسك كل الرسوخ، فصرت تستعمله في كل ناد وواد، في ما يجوز استعماله، وفي ما لا يجوز، فآذيت نفسك من حيث تدري ولا تدري
2 - كيف وجدنا ضالتنا
جرت لنا عادة أن نرحب بأصدقائنا، وأحبائنا، وأدبائنا في كل صباح جمعة من الأسبوع، وذلك منذ سنة 1911، فيجتمع في نادينا الكتّاب والصحفيون والشعراء والمؤرخون، ووصاف البلدان، ويختلف عددهم بين العشرين والثلاثين، فتلقى الأسئلة، وتجري المحاورات والمطارحات على أحسن وجه، وأسلم طريقة، بشرط ألا يلقى سؤال في الدين ولا في السياسة. وإن وقع شيء من هذا القبيل، ينبه صاحبه على أن مثل هذا الأمر ممنوع، فيسكت بكل حشمة ووقار وأدب من غير أدنى امتعاض
ويوضع بين أيدي الأدباء جميع جرائد المدينة، وما يأتي إلينا من الصحف والمجلات والكتب الجديدة الواردة من العراق وخارج العراق، فيطالعها المنتمون إلى هذا الديوان المتواضع. ويتفق لنا أن نخط خطاً أزرق تحت كل غلط نقع عليه فيما نقرأه فيأتي بعدنا من يقف عليه فيعرف ما فيه من الزلل والخلل. ولما طالعنا نبذة الأستاذ (مندور) المدرس(483/15)
بكلية الآداب خططنا خطوطاً زرقاً تحت بعض الألفاظ، وأشرنا بعض الأحيان بالنص إلى ما فيها من الأغلاط بكلمات وجيزات، ولا سيما أشرنا إلى قوله: (إن هيرودس أتيقوس) روماني، لا يوناني، فهذا أبعد في الخطأ من استنكاره أن يعتبر (ثيودوسيوس) يونانيا. . .) استحسنها الجميع واستصوبها الكثيرون
بقي علينا أن نعرف الاسم الحقيقي للشاعر اليوناني (إبقوس) أو (إتقوس) أو (إنقوس) أو (إيقوس)؛ إذ كل هذه الروايات وردت مصحفة للاسم الحقيقي المصحف، فتذكرنا أننا لما كنا ندرس اليونانية في جامعة بيروت اليسوعية، إن أحد معلمينا ذكر استطراداً اسم شاعر يوناني مشهور سماه (إيبيقوس)، وكان قد ذكره من باب العرض، من غير أن يتصدى له تصدياً مقصوداً، فبقي اسمه هذا مطبوعاً في ذاكرتنا، وكان عمرنا يومئذ 21 سنة: (أي كان ذلك في سنة 1887م)
فسألنا أحد الحاضرين في الجمعة التي وقعت في 28 أغسطس (آب) من هذه السنة المستشرق الإيطالي سيريني والأستاذ مير بصري منشئ مجلة (غرفة تجارة بغداد): أتعرفان شيئاً عن (إيبيقوس)؟ فقالا: وكيف يكتب هذا الاسم بالحرف الروماني؟ فقلنا: لعله فقال الأستاذ سيريني: سأنظر غداً السبت في المعلمة البريطانية وأفيدك عنه الإفادة الصادقة، وكذلك قال الأستاذ مير بصري
وفي اليوم الثاني - بعد أن مضت أربع وعشرون ساعة على سؤالنا - هتف الأستاذ بصري قائلاً: وجدتُ ضالتكم في المعلمة البريطانية، ويكتب العلم هكذا لا كما كتبتموه ثم قال: وهأنذا أنقل إليكم بالعربية ما ورد في المعلمة المذكورة، وأبعث به إليكم في هذه الساعة. وبعد عشر دقائق، ورد إلينا تعريب الموضوع، وهو ما ننقله إلى القراء بحروفه عن المعلمة البريطانية بقلم الأستاذ مير بصري:
3 - ايبيقوس هو اسم الشاعر اليوناني على التحقيق
(إيبيقوس من أبناء ريجيوم من أعمال إيطالية، شاعر غنائي، يوناني، معاصر لأناكريون وقد طوي بساط أيامه في المائة السادسة (ق. م.) وقضى حياته متنقلاً، ولازم زمناً بلاط يولقراطس طاغية ساموس وقد قص بلوطرخس أسطورة وفاته قال: هاجمه لصوص، فناشد سرباً من الكراكي أن يأخذ بثأره. وحدث بعد ذلك أن أحد اللصوص شاهد كركياً في(483/16)
مسرح كورنتس فصاح: انظروا إلى أصحاب ثار إيبيقوس؛ فنم بذلك على نفسه؛ فذهبت كراكي إيبيقوس مثلاً
وقد نظم إيبيقوس سبعة كتب في الشعر الغنائي، منه في التصوف، ومنه في الغزل) انتهى نقله تعريباً.
ثم بحثنا عن إيبيقوس في سائر المعاجم التاريخية، من فرنسية وإنجليزية، وإيطالية وغيرها، فرأيناها جميعاً تذكر هذا الشاعر اليوناني، وعصره، والكراكي التي استشهدها على قتله. ولاروس الكبير - وهو معجم ضخم في أكثر من عشرين مجلداً - تكلم عليه أكثر من جميع المعاجم. ومن أراد التوسع في هذا الموضوع فعليه به؛ فإنه في غاية الإفادة التاريخية، ونحب بنوع خاص أن يطالعه حضرة الأستاذ (محمد مندور) المدرس بكلية الآداب في مصر المحمية، من كل شر وبلية
4 - الكراكي المندورية
قال جناب الأستاذ المكرم: (وأما قصة الكراكي، فقصة لا أثر لها فيما عثرت به من كتب اليونان، فهي خرافة لا نعلم عن نسبتها إلى قومودس وأتيقوس شيئاً؛ وإن يكن هناك احتمال في أن تكون من بين الأساطير الكثيرة التي راجت عن وفاة الشاعر اليوناني الكبير لوسيان المعاصر لقومودوس وأتيقوس) انتهى
يا سيدي الأستاذ، لا يقول كلامك ولا مثله أرسخ المؤرخين قدماً في أخبار اليونان، من أقدمين ومحدثين. فقولك. (فقصة لا أثر لها فيما عثرت به من كتب اليونان). فهذا كلام يدل على أنك وقفت على جميع مؤلفات أصحابنا اليونان. فهذا ادعاء لا يسلم لك به تلاميذك؛ ولو كان صادراً عن حسن نية! بل لا أظن أن تلاميذك وكلهم ـأذكياء نجباءـ يقبلون منك هذا الإنكار العام العظيم، فكيف يقبله قراء مجلة (الرسالة)، وفيهم كبار المؤرخين، وأساتذة التعليم وأعاظم جهابذة الأخبار وأرسخ العلماء قدماً في النقد وتزييف الأقوال والآراء
وصاحب الإمتاع لم ينسب هذه الكراكي إلى لقيانس، ولا إلى أتيقوس، بل قال، وهذا كلامه بحروفه منقولاً عن 153: 2 من الإمتاع: (حكى لنا أبو سليمان أن تيودسيوس ملك يونان، كتب إلى كنتس الشاعر أن يزوده بما عنده من (كتب) فلسفية. . .)
فالكراكي منسوبة هنا إلى (كنتس) الشاعر والذي أثبتنا أنه إيبيقوس فما ذكرته يا سيدي لم(483/17)
يذكره أحد فمن أين تأتينا بالوحي؟
وزدت الطين بلة، إنك ذكرت اسم شاعر آخر وهو لسيان (أي لقيانس). هذه كلها أمور تزيد في المعضلات ارتباكاً، وفي العقد عجزاً.
ثم يا سيدي، أن لقيانس وقومودوس وأتيقوس كانوا من أبناء المائة الثانية بعد المسيح، ونحن رأينا أن إيبيقوس كان من أبناء المائة السادسة قبل المسيح، فكيف نقلتنا فجأة من عصر إلى عصر، كأنك تسير في جو التاريخ سير الطيارات العصرية في أجواز السماء، في عهدنا هذا؟ أتجهل يا سيدي أن الطيارات لم تكن يومئذ معروفة عند مختلف الأمم؟ أفتأذن يا حضرة الأستاذ أن تطير هذا الطيران السريع في تلك العصور القديمة؟ كل هذا يدهشنا لأنه صادر من مدرس بكلية الآداب
إذن الكراكي (المندورية) غير كراكي الشاعر اليوناني إيبيقوس، وهذه الكراكي ذكرها جميع من تكلم على هذا الشاعر الكبير، من إنجليز وفرنسيين وإيطاليين وألمان وروس وإسبانيين وأمريكيين وغيرهم، أفيكذبهم جميعاً كذلك كراكيك ولا نعلم إلى من ننسبها إلى لقيانس أم قومودوس، أم أتيقوس؟
(البقية في العدد القادم)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(483/18)
من أدباء الصعيد في القرن السادس
الرشيد الأسواني
للأستاذ محمود عزت عرفة
في عام 549 هـ قتل الخليفة الفاطمي الظافر بأعداء الله في دار وزارته بالسيوفية؛ وعهد بالأمر من بعده لأبنه الفائز (عيسى)؛ وقد أقيم وقتذاك بقصر الخلافة حفل كبير لتأبين الخليفة المقتول، أمه شعراء الدولة من كل أقليم، فأنشدوا مراثيهم حسب مراتبهم؛ ثم نهض في أُخرياتهم رجل تتخطاه العيون، أسود الإهاب، عليه أطمار رثة، وطيلسان من صوف؛ فأنشد قصيدة أولها:
ما للرياض تميل سُكراً ... هل سقيت بالمُزن خمراً؟
. . . ولما وصل منها إلى قوله:
أفكَرْبَلاءُ بالعرا ... ق وكرْبلاءُ بمصرَ أخرى؟!
كان التأثر قد بلغ من الحاضرين مبلغه، فجاشت قلوبهم بزفرات من الأسى، وترددت أصوات من البكاء والإعوال هنا وهناك. . . وظل الحزن معتلجاً في النفوس حتى فرغ الشاعر من إلقاء ما تهيأ له، فغادر منبره وقد شجي وأشجى وكان أن رمقته العيون بنظرات الإعجاب والإكبار، وانثالت عليه العطايا من الأمراء والحاشية والخدم وحظايا القصر؛ وحُمل إليه من قبل الوزير - طلائع بن رزيك - جملة من المال؛ ثم قيل له في شبه اعتذار: لولا أنه العزاء والمأتم لجاءتك الخلع!
ذلكم هو شاعر الصعيد أبو الحسين أحمد بن علي بن إبراهيم ابن الزبير الغساني (الأسواني) الملقب بالرشيد، وصفه ياقوت في معجمه فقال: (كان على جلالته وفضله، ومنزلته من العلم والنسب، قبيح المنظر، أسود الجلدة، جهم الوجه، سمج الخلقة، ذا شفة غليظة وأنف مبسوط كخلقة الزنوج، قصيراً)
وترجم له كثير من المصنفين غير ياقوت: كالعماد الأصبهاني (صاحب الخريدة)، وأبى الطاهر أحمد السُلفي، وابن خلكان وكمال الدين الأدفوي.
على أن واحداً من هؤلاء لم يذكر لنا سنة مولده على وجه التحديد، وإن كانوا قد أجمعوا على أنه توفي عام 563 هـ(483/19)
نشأته وأخلاقه
كان أبو الحسن من أهل الفضل والنباهة والرياسة، ينتمي إلى بيت كبير واسع الثراء من بيوتات الصعيد، وكان يداخل نفسه شيء من الكبر والأنفة والطموح، وقد لازمته هذه النزعة طيلة حياته، بل جنت عليه أكثر من مرة، وأذاقته مرارة الكُره والشماتة من نظرائه، والتحيف والعسف من ولاة بلده وحكامه
وما من شك في أن مصرعه الرهيب على يد شاور وزير العاضد - كما سيأتي - مما يمت إلى هذه الصفات التي غلبت عليه بسبب قريب أو بعيد
لقد وصفه الشيخ الحافظ زكي الدين المنذري فقال: كانت في نفسه عظمة! وقال عنه ابن شاكر الحموي في مشيخته: كان الرشيد عالي الهمة، سامي القدر، عزيز النفس، يترفع على الملوك ويرقى بنفسه عنهم
وذكره ابن أبي المنصور في كتاب البداية فقال: كان قد اجتمعت فيه صفات وخلائق تعين على هجائه، منها أنه كان أسود، ويدعى الذكاء، وأن خاطره من نار
ولقد ضمه ليلة - مع جمع من الفضلاء - مجلس للملك الصالح بن رزيك، فألقى عليهم مسألة في اللغة عجزوا جميعاً عنها، حتى أتى هو بفصل الخطاب فيها. فلما أبدى الملك الصالح إعجابه قال الرشيد مفتخراً: ما سئلت قط عن مسألة إلا وجدتني أتوقد فهماً. . . فقال محمود بن قادوس الشاعر وكان حاضراً:
إن قلتَ: من نارٍ خُلِقْ ... تُ وفُقْت كلَّ الناس فهما
قلنا: صدَقْتَ فما الذي ... أطفَاكَ حتى صرتَ فحما؟
ومما قاله فيه ابن قادوس أيضاً، وكان به مغرى:
يا شِبْه لقمان بلا حكمةٍ ... وخاسراً في العلم لا راسخاً
سلخت أشعار الورى كلها ... فصرت تدعى (الأسود السالخا)!
ويبدو أن الرشيد لم يكن يخلو - مع هذا - من حب المفاكهة، والميل إلى التندر والمداعبة. ولقد كان مما قصه عن نفسه لبعض أصحابه أنه مر ذات يوم بموضع في القاهرة، فإذا امرأة شابة صبيحة الوجه تنظر إليه نظر مُطمع في نفسه، وتشير بطرفها، قال: (فتبعها وهي تدخل في سكة وتخرج من أخرى، حتى دخلت داراً وأشارت إليَّ فدخلت؛ ورفعت(483/20)
النقاب عن وجه كالقمر في ليلة تمامه، ثم صفقت بيديها منادية: يا ست الدار! فنزلت إليها طفلة كأنها فلقة قمر. فقالت لها: إن رجعت تبولين في الفراش تركت سيدنا القاضي يأكلك! ثم التفتت وقالت: لا أعدمني الله إحسانه، بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه! قال: فخرجت وأنا خزيان خجلاً لا أهتدي إلى الطريق)
ثقافته الأدبية والعلمية
كان الرشيد كاتباً شاعراً، فقيهاً نحوياً لغوياً، منشئاً عروضياً مؤرخاً، منطقياً مهندساً، عارفاً بالطب والموسيقى والنجوم متفننا
وقد ذكر صاحب الجريدة أن رسالة (أودعها من كل علم مشكلة، ومن كل فن أفضله) قال الأدفوي: (وقد وقفت أنا على رسالته، وهي تدل على جودة معرفته بالفقه والنحو واللغة والتصريف والأنساب والكلام والمنطق والهيئة والموسيقى والطب وأحكام النجوم وغير ذلك. . .)
وقال محمد بن عيسى اليمني: كان الرشيد أستاذي في الهندسة. ويعتبر كتابه (جنان الجنان ورياض الأذهان) أهم مصنفاته وأشهرها. وهو يشتمل على مختارات جيدة لشعراء مصر ومن طرأ عليهم. وله غير هذا الكتاب مؤلفات أخرى أورد ياقوت في معجمه منها:
كتاب (منية الألمعي وبغية المدعي). كتاب (الهدايا والطرف). كتاب (شفاء الغُلة في سمث القِبلة).
مجموعة رسائل وديوان شعر. . . ومن شعر الرشيد قوله معاتباً بعض أصحابه:
لئن خاب ظني في رجائك بعدما ... ظننتُ باني قد ظفرتُ بمنصف
فإنك قد قلدتني كل منَّةٍ ... ملكتَ بها شكري لدى كل موقف
لأنك قد حذَّرتني كلَّ صاحب ... وعلمتني أن ليس في الأرض من يفي!
ومن قوله في الافتخار بنفسه:
جلَّت لديَّ الرزايا بل جلَتْ هِمَمى ... وهل يضر جلاء الصارم الذكر؟
غيري بغِّيره عن حُسن شيمتِهِ ... صرفُ الزمان وما يأتي من الغَير
لو كانت النار للياقوت محرقةً ... لكان يشتبه الياقوت بالحجر
لا تُغريَنَّ بأطماري وقيمتها ... فإنما هي أصداف على دُرر(483/21)
ولا تظن خفاَء النجم من صغر ... فالذنب في ذاك محمول على البصر
وروى عنه أبو الطاهر السلفي (في بعض تعاليقه) ما أنشده إياه لنفسه وهما بالإسكندرية:
سمحنا لدنيانا بما بخلتْ به ... علينا، ولم نحفل بِجُلِّ أمورها
فيا ليتنا لما حُرمنا سرَورها ... وُقِينا أذى آفاتها وشرورها
رحلة إلى اليمن
سافر الرشيد الأسواني إلى اليمن رسولاً، داعياً للخليفة الفاطمي. ويبدو أنه قوبل هناك بحفاوة سرَّته، وطاب له المقام حيناً، حيث تقلد منصب القضاء والأحكام ولقب بـ (قاضي قضاة اليمن وداعي دعاة الزمن). . . ويقول ياقوت أن نفسه طمحت وقتذاك إلى رتبة الخلافة. . . (فسعى فيها، وأجابه قوم، وسلم عليه بها، وضربت له السكة. وكان نقش الكتابة على الوجه الواحد: قل هو الله أحد الله الصمد، وعلى الوجه الآخر: الإمام الأمجد أبو الحسين أحمد).
(للمقال بقية)
محمود عزت عرفة(483/22)
العبقرية
ليست العبقرية ملكة بسيطة، بل هي في الحقيقة مجموعة قوى أو
ملكات متحد بعضها ببعض. هذه القوى والملكات يمكن إرجاعها إلى
ثلاث رئيسية هي:
(ا) مخيلة حية تثيرها للعمل حساسية شديدة أو عاطفة مشبوبة متقدة. . .
(ب) عقل قوى مفكر ناضج. . .
(جـ) إرادة قوية حازمة
ونحن لا يمكننا أن نعرف الفكر الخالق إلا خلال ما يصدر عنه من أعمال، ولا يمكن أن تنفصل العبقرية عن القوة الخالقة التي توجد بالضرورة في الإرادة القوية
هذه العناصر السيكولوجية لازمة بالضرورة للعبقرية، ولا بد أن توجد كلها عند كل عبقري، ولكنها تختلف في واحد عنها في آخر، بمعنى أنها توجد بنسب متفاوتة باختلاف العباقرة وإن وجدت فيهم جميعاً، فليس هناك عبقري ينقصه أي عنصر منها بل تتحد كلها فيه وإن ساد عنصر من تلك العناصر على بقية العناصر الأخرى عند عبقري معين، وساد عنصر آخر عند عبقري آخر وهكذا، فهي لازمة كلها لإنتاج الأعمال العظيمة التي تحتاج إلى عبقرية خاصة، سواء أكانت تلك الأعمال إنتاجاً فنياً أم اكتشافاً علمياً أم صناعياً أو غير ذلك.
وهناك نهاية معينة يدركها الذهن القوي الراقي، وهي نهاية أو غاية أسمى وأعظم من أن تتصورها الأذهان الشعبية العامة غير المستنيرة أو ترقى إليها. هذه النهاية نسميها تصور أو إدراك العبقرية هذا التصور أو الإدراك موجود، ولكن يجب إيجاد وسائل تحقيقه، أي يجب أن نعرف كيف نحقق تلك النهاية أو الغاية. إن المخيلة الحية والعاطفة المشبوبة تجعلاننا نتصور تلك النهاية ونحسها ونرغب فيها بشدة، وتقدمان لنا ما وسعهما من وسائل، ولكنها وسائل مضطربة في الحقيقة غير مرتبة ولا منظمة. فالمخيلة والحساسية والعاطفة لا يمكن للإنسان أن يعمل بها وحدها شيئاً ذا أهمية إن لم يتدخل العقل الآمر الناهي في الأمر فيختار الأحسن ويترك ما لا يصلح ويربط بين ما يختار ويرتبه وينظمه. فعمل العقل - في كل شيء - هو الاختيار والترتيب والربط. ثم يجيء بعد ذلك دور الإرادة، فإنها هي(483/23)
التي تتم العمل المدرك المتصور بتحقيق تلك الوسائل المرتبطة في الذهن. والعالم مليء بالأذهان التي لا تنقصها المخيلة ولا الانفعال، حتى ولا ملكة الترتيب والتنظيم والربط، ومع ذلك فهي أذهان مجدبة لا تنتج شيئاً بل تعيش هي وحدها فيما تتصور وتحلم به؛ وقد تكون تصوراتها جميلة، ولكنها لا تخرجها للناس، لأنها تفتقر إلى الإرادة والصبر، وهما عنصران هامان في الإنتاج. وهناك عنصر أخير هو الإلهام يقدمه لنا في الحقيقة الحساسية - طبيعية أو مكتسبة - والمخيلة، ولذلك لا يمكن للإنسان أن ينتج بالإلهام وحده شيئاً خالداً باقياً.
ولابد للعبقري من الصبر والمجالدة والصراع، حتى يتوصل إلى ما يصبو إليه. وقد قال بيفون إن العبقرية صبر طويل ويمكن أن نمثل لذلك بالعالم الرياضي الكبير نيوتن، فهو - باعترافه - لم يصل إلى تلك النتائج العلمية المدهشة إلا بصبره وطول أناته وقوة إرادته. وقد سئل كيف أمكنه اكتشاف الجاذبية الأرضية؟ فقال: بطول تفكيري فيها دائماً. ويستلزم الصبر إرادة قوية. ووجود الإرادة كعنصر في شيء ما يعني وجود الحرية بالضرورة، فلا إرادة إن لم تكن هناك حرية اختيار، وما دامت الإرادة عنصراً في العبقرية فإن هذا يبعدنا عن النظريات التي تجعل من الرجل العبقري نتاجاً ضرورياً أوجدته الظروف والبيئة، كما تنتج النبات والحيوان، أي أنها تجعل منه شيئاً أوجدته القوى الطبيعية بالصدفة السعيدة فقط، وتعتبره غير مسؤول عن أفعاله وإنتاجه إلا كما يعتبر حصان جميل مسئولاً عن جماله، أو شجرة عالية مشذبة عن علوها وتشذيبها، والواقع عكس ذلك تماماً، فهناك إرادة، وهناك بالتالي حرية
ولكن إذا كانت كل تلك العناصر تدخل في تكوين العبقرية، أفلا يمكن أن يكون للتربية أو التعليم أثر في تكوينها كذلك؟ إن القول بأثر التربية في تكوين العبقرية يبدو لأول وهلة غريباً وشاذاً لأن العبقرية هبة طبيعية، ويظهر أنها أولية وسابقة على كل اكتساب، ومستقلة عن كل تربية مقصودة. والواقع إن الجانب الطبيعي في العبقرية هو الأكبر، فالمخيلة والحساسية والعقل والإرادة كلها هبات طبيعية، ولكن ذلك لا ينفي أن يكون للتربية أثر في هذه الملكات. فيمكن توجيه المخيلة مثلاً نحو الخير والشر بالتربية والتعليم والقراءة وغير ذلك. كذلك تنمو الحساسية وتزيد في هذه الناحية أو تلك تبعاً لما يصادفنا من(483/24)
الظروف والملابسات المختلفة والمشاركات الوجدانية والنفور؛ كذلك يقوي العقل والإرادة بالعمل والتمرين. فالتربية إذن لا يمكنها - أن تخلق العبقري؛ توقظ فيه جرثومة عبقرية وتساعده على الوصول إلى مبتغاه. وليس هناك - قبل كل شيء - هوة عميقة تفصل بين النبوغ والعبقرية، وإن تعليماً وتربية صحيحين وكاملين يمكنهما أن يخرجا للأمة عدداً من القيم العليا والأذهان القوية في جميع أنواع النشاط العقلي، أكبر مما ينتج لو تركنا أمر تكوين الشخصية للصدفة أو الاتفاق فحسب. وتضطلع الأمهات بأكبر نصيب من التربية؛ فإن أثرهن كبير جداً على أطفالهن. والمشاهد إن معظم العباقرة - إن لم يكن كلهم - كانت أمهاتهم نساء ممتازات ذوات قلوب كبيرة وحنان بالغ ووجدانات حارة توقظ في الأطفال قواهم النائمة الخامدة، وتضيء ما أظلم من نفوسهم. وقد شبه أحد الكتاب الإنجليز فعل الأم على طفلها بفعل أشعة الشمس على الفاكهة
هناك نقطة أخيرة يجب الإشارة إليها وهي تتعلق بتشبيه بعض المفكرين العبقرية بالجنون، وعلى رأس هؤلاء المفكرين ليلى فقد يرى ليلى أن العبقرية ضرب من الجنون، وحاول أن يطبق نظريته هذه على سقراط وبسكال، فكان يرى في سقراط رجلاً معتوهاً مدعياً للوحي؛ وأن الشيطان الذي كان يسمعه في سجنه إنما هو صوت خيالي ابتدعه الفيلسوف نفسه من عندياته، فليس ثمة وحي في الحقيقة أو شيطان. ولكن يمكن الرد على ليلى بأن شيطان سقراط إنما هو العناية الإلهية نفسها تخاطب نفس الفيلسوف وضميره، ثم شخص هو هذا الصوت الباطني كي يقربه إلى أذهان تلاميذه
نعم لا شك أن بعض العناصر التي تدخل في العبقرية تدخل أيضاً في الجنون، فالمخيلة الفياضة مثلاً إذا اعتَبَرت تخييلاتها وهذيانها وأحلامها حقائق واقعة كانت هي الحماقة نفسيها، فهناك في الواقع صلة بين العبقرية والجنون، وهذه الصلة ترجع إلى الدور الذي تلعبه الحساسية الشديدة التهيج والمخيلة المتقدة المشبوبة في العبقرية إذا لم يسيطر عليهما العقل. فمن السهل إذن أن تختلط معالم العبقرية بالجنون إذا غفا العقل وغفل عن القيام بمهمته في الرقابة، ولكن من السهل أيضاً التمييز بين الجنون والعبقرية؛ ففي الناحية الأولى تسيطر العناصر السفلي: المخيلة والإحساس، بينما ترجع في الناحية الأخرى السيطرة إلى الملكات العليا السامية: العقل والإرادة(483/25)
أحمد أبو زيد
كلية الآداب - جامعة فاروق الأول(483/26)
رسالة الشعر
من ديوان (السلوى)
عزة. . .
للأستاذ علي متولي صلاح
أتحسبُ أني أحمل الذل في الهوى ... وأن الجمال الفذَّ منك شفيع؟
تعذّب من نفسي وترضي مهانتي ... وذلك إثم - لو علمت - شنيع
حملتُ الهوى صدَّاً ودلاً وحرقةً ... وإني سميع في هواك مطيع
حسبتَ رضائي ذلةً وحقارةً ... رويدك حصني في الغرام منيع
رويدك. . . وأعلم أنني أرفض الهوى ... إذا خالطتْه ذلّةً وخضوع. . .
فإِن كنت لا ترضى بغير مهانتي ... كأني عبدٌ تشتري وتبيع
وإن كنت تأبى لي مكاني ومنزلي ... وما كان من حقِّي لديك يضيع
إذاً. . . فاتَّخذ غيري خليلاً وصاحباً ... ودعْني. . . فإني في هواي رفيع!
علي متولي صلاح(483/27)
الأمل المنشود
الوَحدةُ العربيةُ
(إلى شباب العرب أسوق الحديث)
للأستاذ علي شرف الدين
دَعَوْتُ بَنيِ عَمِّي بِلَيْلٍ فَلَمْ يَصْحوُا ... وَنَامُوا، وَقَالوا: كلُّ لَيْلٍ لَهُ صُبْحُ
فَمَرَّتْ بِهِمْ لَيْلاَءُ مَرْهُوبَةُ الدُّجَى ... بَعِيَدةُ نُورِ الفَجْرِ أوحَشَهَا جُنْحُ
وَلَوْ أَجْمَعُوا فِي ظُلْمَةِ الخْطْبِ أَمْرَهُمْ ... لَكَانَ لَهُمْ فِيماَ يُرَجُّونَهُ نُجْحُ
تَغَنَّوْا بِمَاضِيِهمْ. . . فَقُلْنَا: صَحِيفَةٌ ... مِنَ الْمَجْدِ جَلَّتْ أنْ يُطَلوِ لَهَا المَدْحُ
وَلِكنَّماَ طُولُ التَّغَنِّي تِجَارةٌ ... إِذَا طَالَ فِيهاَ الْقَوْلُ أَخْطَأَهَا الرِّبْحُ
وَماَ يَنْفُعُ الماَضِي المُغَنِّى بِمَجْدِهِ ... إذا لَمْ يَكُنْ فِي إِثْرِهِ السَّعْيُ وَالْكَدْحُ
وَقَاْلوا: غَدَاً تَحْوِي العُرُوَبةَ وَحْدَةٌ ... فَخَفَّتْ قُلُوبٌ كَادَ يَقْتُلُهَا الضَّرْحُ
أَفَاضُوا بِهَا دَرْساً وَشَرْحاً مُنَمِّقاً ... وَمَا أَبْعَدَ الْجَدْوَى إِذَا كَثُرَ الشَّرْحُ
لئِنْ كَانَ حَقاً فَاتْرُكُوا الْقَوْلَ وَاعْمَلُوا ... وَخُطُّوا إِلَى الْعَلْيَاءِ نَهْجَكُمُ وَأنْحُو
أَفِيقُوا - بَنِي عَمِّي - لَقَدْ طَال نَوْمُكُمْ ... وَلَيْسَ لدى التَّارِيخُ عَنْ نَوْمِكُمْ صَفْحُ
وَضُمُّوا عَلَى البُعْدِ الصُّفُوفَ وَجَاهِدُوا ... فَقَدْ يَنْجَلِي عَنْ ظُلْمَةِ الْغَسَقِ الصُّبْحُ
وَكُونُوا صُرُوحاً لِلْعَوَادِي دَرِيئَةً ... إِذَا هَانَ صَرْحُ قَامَ مِنْ دُونِهِ صَرْحُ
تُرَجِّعُ مِصْرُ لِلعِرَاقِ شَكَاتَهُ ... وَيَحْنُو عَليْهَا الشَّامُ إِنْ مَسَّهَا قَرْحُ
فَنَحْنُ عَلَى بُعْدِ الْمَوَطِنِ اخْوَةٌ ... تُؤَلَّفُنَا الشَّكْوَى وَيَجْمَعُنَا الْجُرْحُ
وَتَنْظِمُنَا (الفُصْحَى) رِبَاطاً مُقَدَّساً ... وَيَشْمَلُنَا اَلإِخْلاَصُ وَالْخُلْقُ السَّمْحُ
لَوِ أصطَعْتُ ألغَيْتُ الحُدُودَ فَلَمْ تَعُدْ ... لِتَفْصِلَكُمْ عَنْ مِصْرَ (سِينَا) وَلاَ (رَفْحُ)
ذَكَرتُ لَكُمْ عَهداً جَمِيلاً وَمَاضِياً ... هُوَ الرَّوضُ لَمْ يَهْدَأ لِرَيحانِهِ نَفْحُ
وَأيَّامَ كَانَتْ لِلْعُرُوبَةِ رَايَةٌ ... يُؤَيِّدُها العُضْبُ اليَمَانِيُّ والرُّمْحُ
يُحِيطُ بِهَا الصِّيدُ الجُدُودُ بَوَاسِلاً ... وَيَمضِي بِهَا النَّصْرُ المُبَارَكَ وَالفَتْحُ
يُطَوِّقُ أعْطَافُ (الفُرَاتِ) عَمُودُهَا ... وَيَشْهَدُهَا خَفَّاقَةٌ فَوْقَهُ (الطَّلْح)(483/28)
أإخوَتَنَا بِالشَّرْقِ رُدُّوا نِدَاَءنَا ... وَفِي النَّهْضَةِ الكُبرَى لأوْطَانِهُمْ ضَحُّوا
عَلَى النَّيلِ مِنْ سيفِ الجَزِيَرةِ شَاعِرٌ ... يُحَيِّيكُمُ وَالدَّمْعُ فِي جَفْنِهِ سَفْحُ
وَمَجْنُونَةٍ بِالدُّمعِ تَنْضَحُ قَلْبَهُ ... أضَرَّ بِهَا دَمْعِي وَأتْلَفَهَا الفَّضْحُ
أُحِبُّ بَنِي (عَدْنَانَ) حُبَّ عِبَادَةٍ ... وَمَا حِيلَتِي إلا الشِّكَايَةُ وَالنُّصْحُ!
علي شرف الدين(483/29)
البريد الأدبي
حول نسخ الأحكام
نشرت (الرسالة) الغراء تعقيبا على مقال - حق الإمام في نسخ الأحكام - جاء فيه أن أبا جعفر النحاس لم يعز القول بذلك إلى فرقة إسلامية، ولا إلى جماعة من فقهاء الإسلام، وأن الذي قال ذلك إنما هم الإسماعيلية الباطنية
فأما أن أبا جعفر لم يعز القول بذلك إلى فرقة إسلامية فليس بصحيح، لأنه ذكر قبل ذلك أن العلماء من الصحابة والتابعين تكلموا في الناسخ والمنسوخ، ثم اختلف المتأخرون، فمنهم من جرى على سنن المتقدمين فوفق، ومنهم خالف ذلك فاجتنب، فمن المتأخرين من قال ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ، وكابر العيان، واتبع غير سبيل المؤمنين الخ وهذا ظاهر كل الظهور في أن هؤلاء المتأخرين فرق إسلامية، ولا يهم بعد هذا رأي أبي جعفر فيها، لأن فيه مجازفة ظاهرة في تكفيرها. وإذا صح أن هذا القول لفرقة الإسماعيلية، فهي من فرق الشيعة المعدودة في الفرق الإسلامية، ومنها كان الفاطميون الذين أنشئوا أكبر جامعة إسلامية نعتز بها الآن، ونشروا بمصر كثيراً من آثار الإسلام
(. . .)
الشيخ خليل الخالدي
في عاشر رمضان من السنة الماضية توفي بالقاهرة الأستاذ العالم الجليل خليل الخالدي عن 78 سنة رحمه الله. ولم يكتب شيء عن وفاته في (مجلة الرسالة) مع أنها عنيت بنشر نبذ من أخبار وأماليه في حياته (في السنة السابعة وقبلها) بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام. فكتبت هذه الكلمة الموجزة إيجاباً لبعض حقه:
ولد الفقيد في القدس، وأخذ مبادئ العلوم عن مشايخ العلم هناك، ثم ارتحل إلى الآستانة ولازم الأستاذ الشيخ محمد عاطف شارح المجلة، ووكيل الدرس الشيخ أحمد عاصم، إلى أن تخرج عليهما. ثم التحق بمدرسة القضاء الشرعي حتى أحرز شهادتها. وقدم مصر وحضر دروس كبار علمائها فأجازوه. ثم تولى القضاء في كثير من أقضيه روم إيلى (رومالي) إلى أن ولى قضاء ديار بكر. ثم اختارته المشيخة الإسلامية عضواً في مجلس(483/30)
تدقيق المصاحف والمؤلفات. وفي أواخر الحرب العامة السابقة عاد إلى بيت المقدس فأسندت إليه رياسة الاستئناف الشرعية.
وكان له علم بالمخطوطات العربية ومؤلفيها ومواضعها من دور الكتب في أكثر البلاد الإسلامية التي ارتحل إليها حتى الأندلس، وله مذكرات عنها لم تنشر بعد.
وكانت شهرة بيتهم قديماً بالديري ثم اشتهروا بالخالدي، وهو بيت علم قديم تولى عدة منهم قضاة القضاة بمصر من عهد الملك المؤيد، كالشمس الديري والمسعد الديري، وتراجمهم مبسوطة في (الضوء اللامع للسخاوي) و (الأنس الجليل) وغيرهما.
ودفن الفقيد - برد الله مضجعه - في باب النصر أمام مدفن أحمد بك عفت.
محمد غسان
فرحة الأديب بالأديب
جاء في العدد السابق من مجلة الرسالة الغراء تحت عنوان (الحديث ذو شجون) للدكتور زكي مبارك ما نصه:
(عبارة (فرحة الأديب بالأديب) تعد من مبتكرات ابن الروي من حيث الصورة والمعنى) وأقول إن هذه العبارة ليست إلا من مبتكرات أبي تمام من حيث الصورة والمعنى أيضاً، فقد قال في وصف السحب:
لما بدت للأرض من قريب ... تشوفت لوبلها السكوب
تشوف المريض للطبيب ... وطرب المحب للحبيب
وفرحة الأديب بالأديب =. . . . . . . . . . . . . .
وقد ذكرها الديوان كما ذكرها الشيخ يوسف البديعي في كتابه (هبة الأيام).
أعرض هذا على الدكتور وله تحيتي وإعجابي.
(جرجا)
فؤاد الزوكي
رواية (فاطمة البتول) لمعروف الأرناؤوط(483/31)
يضطلع الشام الآن بحصة وافية من النهضة الأدبية العربية على الوجه الذي يحمل بتاريخه العريق
ومن أدباء الشام المبرزين في هذه النهضة الأستاذ معروف الأرنؤوط صاحب رواية (فاطمة البتول)، التي نحن بسبيل الحديث عنها
يسرد المؤلف في روايته قصة الحسين بن علي منذ تلفت إلى الخلافة لفتة الأمل إلى أن قضى في سبيلها نحبه. ويبث المؤلف في جنبات القصة سيرة الحسين، وأشتاتاً من أخلاق جده النبي صلى الله عليه وسلم وأمه الكريمة وآله الطيبين، معتمداً على المراجع التاريخية العربية المعتادة، مسترفداً أحياناً من أمهات كتب الأدب العربي. وعلى حوافي قصة الحسين وآله قصة زوجين عذريين هما نموذج فذ للتعاطف والتحاب، أدناهما الزواج بعد عشق مبرح، فجاءا البلاد المقدسة يباركان حبهما، ويريان إلى نور النبي في وجه سبطه. . . وهناك يلقيان ليلى الكندية أخت حجر بن عدي، فتزين للزواج أن ينفر إلى العراق ليكون يداً للحسين على أعدائه، فيستجيب لهذه الدعوة ابتغاء المجد وطاعةً لعواطف الشباب، ويودع زوجته الحبيبة التي تعود إلى وطنها في وادي القرى، ويمضي هو إلى العراق ليحقق مطامحه المخلصة، فيذهب هناك ضحيتها. . . ويضني الشوق زوجته، ويطول عليها الانتظار، فتبخع نفسها حزناً!
تلك خلاصة الرواية، لا يزيد حظ فاطمة منها على حظ أغلب شخصياتها الأخرى؛ لذلك كان غريباً أن تحمل اسمها الكريم، فلئن جاز ذلك لأن الرواية تضمنت شيئاً عنها، لكان الأولى أن تحمل أسم النبي صلى الله عليه وسلم، أو اسم الحسين ابن علي، أو عمرو ابن الحويرث، أو هند زوجته، أو ليلى بنت عدي، أو يزيد ابن معاوية، فلكل من هؤلاء في الرواية ذكر أطول
والمؤلف إذ يتحدث عن عواطف الزوجين الحبيبين وهما يقطعان الصحراء الموحشة إلى مكة في الغلس الرهيب، وبين غضبات الطبيعة، وإذ يذكران صباهما في وادي القرى، وإذ يختلفان في الميل: عمرو يريد العراق، وهند لا تريده، وإذ يشقيان بعد بالنوى والوجد. . . المؤلف إذ يتحدث عن هذا كله يأتي بالمعجب المطرب، فما ينفك قارئه بين رقة تراوحه وتغاديه، وفتنة تلقاه من كل جانب. . .(483/32)
وفي حديثه عن الحسين الطفل، ومنزلته لدى جده العطوف، وعن الرباب زوجة الحسين الوفية، وعن شديد حب الناس للحسين شعور دافق وبيان فاتن، لولا أن القول عن طفولة الحسين تكرر كثيراً فطامن ذلك من بهائه
والعبارات التي أجراها المؤلف على لسان ليلى الكندية في حض عمر على المضي إلى العراق، تسترق اللب بما حوت من عاطفة وحصافة ودقة
فأما الصفحات التي ألم فيها بعواطف النبي نحو ابنته فاطمة وأطلعنا فيها على الحسين في البقيع حيال قبري أمه وأخيه، وفي وادي العقيق حيال قبر (حمزة)، وحين يسأل الله للطيور الأمن والسكينة. . . هذه الصفحات هي من أحفل صفحات الرواية بالجمال والشعر
وأما وصف المعركة التي استشهد فيها الحسين وذووه وهم بين شيخ فان وامرأة ضعيفة وصبي لا يريش ولا يبري فوصف بارع جلى فيه الكاتب أحسن جلاء صبر الحسين وشجاعته وإيمانه ونبالته، وفصل القول في ما أبدى أهله وأصحابه من النصر له والموت بين يديه في إخلاص عبقري
وقصة موت يزيد بن معاوية قصة هي الأخرى مشجية وبارعة
وفي الرواية لفتات تعجب القومية العربية، فالمؤلف يشير إلى أن الدماء التي أريقت في صدر الإسلام (أريقت في سبيل عروبة الشام والعراق)، و (رفات عبد الله بن جعفر طوتها قيعان كتب قومه على حجارتها قصة الحرية في الشام)، وهذه الدنيا العربية ستجدد شبابها كلما فتحت عينيها على نور ذلك اليتيم المقدس)
ولكننا نلاحظ أن المعاني الفرنجية تدسست إلى الرواية، فهند مثلاً تذكر أن على حواشي الأحراج وأطرافها أشجاراً كبيرة كتبت هي وحبيبها على لحاءها قصة القلب!! وهي تحزن فتمرض فتسعل دماً!! كما يقع تماماً للأوربيات في كثير من القصص الحديث
وكثرة الاستعارات في الرواية تسترعي الانتباه. وقد احب الكاتب ألفاظاً وعبارات بعينها فما تكاد صفحة تخلو منها؛ نذكر منها: العرف، والينبوع، والنشيج، وألمانع، والعمر الجني الطري، والتيه الراعب، والنهر الهادر، والنفوس الحادبة، ويميد، ويفيح، ويلذ، ويتدفق، ويرف، ويهدر، ويدغدغ، ويهدهد. . . هذه الكلمات تتكرر على نحو ممل، مع أن العربية لغة المترادفات. والمؤلف يميل إلى استعمال صيغ المبالغة؛ فالعين سحور، والسيل جراف،(483/33)
والريح جفول؛ والظن أن لا ضرورة لهذا في جل المناسبات، فالمعاني قد تركب اللفظ القريب فتدرك به غاية المراد البعيد.
وثَم ألفاظ لا يسيغها في مواضعها كل مزاج، فمن ذلك (استخذاء) الحسين لفتنة الليل، وكونه أمام (المرأة) التي لاعبها محمد ورق لها وبارك لها (يعني أمه فاطمة بنت الرسول)، وتلاحق صور الوطن على قلب هند (المريض).
وقد يكرر المؤلف المعنى الواحد في أكثر من فصل، ولا يعني بالتسلسل الواجب بين الفصول، فلو غيرت موضع بعضها لخفي ذلك. وهذا دليل أن الرواية تعوزها الوحدة الصحيحة.
وأغلب أشخاص الرواية مرهفو الإحساس دقيقو الشعور، على شاكلة ليست في الطبيعة.
فأما طبع الكتاب فيؤسفنا أنه دون ما نرجو، فكأين من غلطة مطبعية في صفحاته كان من الميسور تحاشيها.
وبعد، فهذه الهنات على كل حال لا تغشى على حسنات الكتاب الكثيرة.
(المنصورة)
لبيب السعيد(483/34)
العدد 484 - بتاريخ: 12 - 10 - 1942(/)
الإحسان الاجتماعي
للمغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
. . . أنا أعجب أشد العجب من أمر واحدِِ هو في الحقيقة الأمر كله: ذلك هو فشل الجمعيات الخيرية في بلادنا. ولا أدلّ على هذا الفشل من قلتها، ولا دليل على هذه القلة كانفراد الجمعية التي نحن اليوم في احتفالها وذهابها بمجد التأسيس بين السوّريين. وأن السابقة في الخير والاتحاد والثبات والإحسان وإخلاص النية إنما هي لها وحدها
ووجه العجب أننا إما أن نكون قد تجردّنا من حب الخير فلا نجتمع، وإما أن نكون لا نحس عمل الخير فلا نجتمع عليه. لا مناص البتة من إحدى الخصلتين أو من كلتيهما. وقد نعلم أن قوام كل عمل بنظامه وتصريفه على أصوله الطبيعية التي من شأنه أن ينصرف فيها؛ فإذا كان جمع المال يجرى على أصول اقتصادية محضة، فإن إنفاقه كذلك يجرى على فعل هذه الأصول، وما يجمع المرء إلا ما يفضل عما ينفقه. والإحسان إنما هو وجه من وجوه الإنفاق، وليس كالشرقي رجل مفطور على حب الإحسان، لأن تأريخه في كل أرض مملوء بالنكبات والجوائح التي تعلمه كيف يحسن، ودينه في كل صبغة مملوء بالعظات والآداب السامية التي تعلمه ما هو أسمى وأشرف من الإحسان، وهو كيف يتأدب في إحسانه. فإذا كان كل ذلك وكان ذلك كله صحيحاً لا ريب فيه كما هو الواقع، فما الذي يمنعنا - نحن الشرقيين - من أن نكون محسنين بالمعنى الحق، حتى تظهر ثمرة الإحسان، فتشبع بطون خاوية، وتكسى أجساد عارية، وتصلح عقول بالية، وتشفى جراح في جسم الإنسانية دامية، ويكون كل شيء عاملاً في تكوين الأمة تكويناً صحيحاً، حتى هذا الذي يقال إنه أصل الرذائل كلها ويقال فيه ما قيل فيها جميعاً، ويقال له الفقر!
ليس يذهب بإحساننا ضعفه وقلته، فالقليل لو أجتمع لصار كثيراً؛ ولا يخفى ثمرته أنه هو نفسه غير ظاهر، فإن كل شيء يؤتى نتائجه الطبيعية ظهر أو خفي. وما الإحسان إلا ضرب من ضروب الإصلاح الاجتماعي؛ ولكن الذي جعل الصحيح فاسداً، والموجود ضائعاً، والمثمر منقطعاً، وجعل كل أمر في أيدينا يكاد يكون عبثاً من العبث، إنما هو شيء واحد، وهو جهلنا كيفية الإحسان
لا ريب أننا اليوم أمة، وأننا نتبع الأصول الاجتماعية في كل أمورنا العامة، وأننا نرى(484/1)
بأعيننا تسخير الطبيعة، ونستخدمها لأنفسنا، ولا ريب أننا مجتمع من المجتمعات المتمدنة، ولنا وصف طويل في علم الشعوب، وأن بلادنا ذات لون واضح في خريطة الأرض، ولكن مع هذا كله لا نزال في طريقة إحساننا كأننا في منقطع العالم، أو في رءوس الجبال، وكأننا لا نزال في معركة الاجتماع الطبيعي التي يكون الإنسان فيها جيشاً، والحيوان جيشاً يقابله
نحِسن إحساناً طبيعياً صرفاً، من الفرد للفرد، كيف اتفق وحيث اتفق. نعطى الدرهم بكَسَل لمن يأخذه، لا لكي يعمل به، ولكن ليكون ثمرة من ثمار كسله. . . في العصور الطبيعية تخرج الأرض أثمارها بعد أن تكون العناصر كلها قد اجتمعت على إنضاجها وعملت فيها أعمالاً كثيرة، فيأتي الإنسان ليمد يده، ولا يعمل عملاً أكثر من أن يمدها. وعندنا تخرج أيدي المحسنين دراهمها، فيأتي بعض الناس ليمد يده، ولا يعمل كذلك عملاً أكثر من أن يمدها. نحسن مثل هذا الإحسان الذي يذهب به وقته، فلا ننتفع به في إصلاح الأمة، ولا ينتفع به الفقير نفسه، لأنه في الأكثر يُفسدهُ ولا يُصلحه. ولا يوجد اليوم في أيدي الناس درهم من دراهم الخرافات، يصلح أن يكون رأس مال، ولا في خبزهم رغيف من رغفان المعجزات التي تشبع الجماعات الكثيرة. والفقير متى أكل بالدرهم الذي يُحسَن به إليه، فقد شبع من جوع، وتهَّيأ لجوع جديد، فيذهب الإحسان والدرهم كما هما، ويبقى الفقير والجوع كما هما أيضاً!
من أجل ذلك وما يتصل به، فشلنا وذهبت ريحنا، وركدنا والناس طائرون. ومن أجل ذلك أراني أحب هذه الجمعية المباركة، وأكرم رجالها والقائمين بها، وأمدحهم وأعتدُّهم من العظماء
فالجمعية صندوق أموال، وهي نفسها صدر يخفق في قلب الإنسانية. والجمعية سبب من أمتن أسباب الإحسان، وهي نفسها طريقة أفضل من طرق التربية الاجتماعية، وأكبر فضلها أنها من هذه الأمة كالظل في الرمضاء، والرقعة المخصبة في الجدب العريض، وأنها مجتمع صحيح في أمة متبدَّدة يمزَّقها كل شيء، حتى الأديان التي تعلم أن الناس أخوة من أب واحد. وحتى السياسة التي تجعل أفراد كل أمة أعضاء من أسرة واحدة. وحتى الأدب الذي يضرب مثل الإنسان للإنسان، بمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى(484/2)
مجتمع صحيح من هذه الأمة العجيبة التي بهرتها الأمم بمعجزات الوطنية والاتحاد والإنسانية والعلم والأدب والاختراع، وأعجزت هي الأمم كلها في قاعدة حسابية غريبة، وهي أنها أفراد ولكن ليس لها مجموع في (الحساب)!
ليست العظمة بظهور المرء كما يظهر الممثل أمام المتفرجين في خلقة مزوّرة من رأسه إلى قدمه، ولا في هذه الأخيلة الذهبية التي تملأ رءوس الأغنياء كأنها أرواح الذهب، ولا في نحو ذلك من السخافات (العظيمة) التي ملأت الشرق كله. ولكن العظمة أحد شيئين: علم منتج، أو عمل مثمر. العظمة خلق إنساني يوجده العلم أو يوجد هو العمل الإنساني العظيم. فإن لم يكن علم صحيح، ولا عمل صحيح، فاجمع بين الماء والنار قبل أن تجمع بين النفس والعظمة. وقد أرى الرجل من عظمائنا وهو من تعاظمه لغناه أو لمنصبه أو لجاهه أو لحسبه، كأن رأسه صندوق من صناديق الموسيقى، وكأن كل حركاته وكلماته إنما توقع توقيعاً منتظماً مع (النفخة) التي تخرج من هذا الصندوق، ومع ذلك فلا أكرمه ولا أجد له في نفسي من المنزلة، ولا أحفل بتلك العناصر الأربعة التي أنشأت عظمة من الغنى أو المنصب والجاه والحسب، إلا كما يكون في نفسي لبعض قطع من الخشب والحديد والمعدن والنحاس، وهي العناصر التي تصنع منها الأدوات الموسيقية
العظيم ذات مبنية على مبدأ، وما دام كذلك فهو عظيم في خلقه وفي عمله، ولا يسلب هذه العظمة منه إلا الموت. على أن التاريخ يقوى على الموت فيستلبها منه، ويحفظها لصاحبها العظيم، ثم ينفض عليها صبغة الخلود، فإذا هي حياة ثانية لاسم من الأسماء الخالدة التي لا تموت إلا حين يموت الموت! وإذا كانت الذات مبنية على مبدأ، فيستحيل أن يسقط الرجل العظيم وذاته قائمة
وعلى هذه الجهة أتفاءل بمستقبل جمعية الاتحاد المباركة لأنها مظهر من مظاهر الأخلاق الفاضلة في نفوس القائمين بها؛ فهي بناء من الأبنية الراسخة، ولكن انظر إلى أحجارها الخالدة، فإن كل حجر إنما هو المعنى الإنساني الذي تنطوي عليه نفس الرجل العظيم
عندنا رجال كثيرون، ولكن ليس عندنا مبادئ ثابتة. فالذي ينقصنا إنما هو المبدأ. والرجل إذا لم يكن على مبدأ، فهو من يوم يولد إلى يوم يموت، إنما يتسكع في طريق الأقدار ليقطع مسافة ما بين مهده ولحده. وقد تكون هذه المسافة طويلة أو قصيرة، ولكنها على كل حال،(484/3)
ليست إلا طريقاً من طرق الموت. ثم يذهب من الدنيا وكل ما بقى له فيها حجر من الأحجار، إذا وجد من ينظر فيه وجد من يعرف أنه كان في هذه الدنيا رجل اسمه فلان وهذا قبره
الحياة شيء أسمى من قطع العمر كله في إيجاد قبر من القبور يكون له اسم ولقب وتاريخ. كل منا حين يعتزي يقول عن نفسه كذباً: إنه سوري أو مصري؛ فما الذي صنع هذا القائل لمصر أو سوريا؟ ألا إن البلاد لا تعرف الناس بأسمائهم وطبيعة الإقليم لا تميز بين أناسها وحيواناتها؛ فمن الحمير والبغال وصنوف الحيوان ما يقال فيه سوري ومصري أيضاً. ولكن الأوطان تعرف أهلها بأعمالهم؛ وطبقة الفرق بين الإنسان والحيوان إنما هي طبقة تاريخه لا غير
قولوا في الشرقي على العموم إنه من بني آدم فقط. ومتى وجدتم رجل المبدأ الذي يظهر مبدأه في عمله والذي لا يعمل إلا ليتم تاريخ أمته، وليكون صفحة من كتاب مستقبلها، والذي لا يخرج من الدنيا حتى يترك من فضائله المنسوبة إليه شخصاً معنوناً يسمى باسمه، ويلقب بلقبه، ويؤرخ بتأريخه؛ متى وجدتم هذا الرجل، فقولوا فيه حينئذ، بل دعوا بلاده تقول: إنه مصري أو سوري. من أكبر عيوبنا أننا لا نعرف الخلق العام الذي يجانس بين أفراد كل أمة، ولا نجده إلا في أفراد قليلين منا، وهو الذي تقوم عليه الوطنية. ومن أجل ذلك، ليست لنا أمة اجتماعية، ومن أجل ذلك لا نتحد. فقدنا الخلق العام أو المبدأ الاجتماعي الذي يرمي لإنشاء المستقبل، وترقية الحاضر، وحفظ الماضي، فصارت الصلة بين الفرد والفرد من الأمة الواحدة، صلة لفظية لا معنى لها. أو لستم ترون أننا - كما هو مشهور عنا - يرائي بعضنا بعضاً حتى في الحق، ويجامل بعضنا بعضاً حتى في الواجب. وليس منا من يقدر أن يقول دائماً للباطل (لا) وللحق (نعم)؟ أقول (دائماً)، ولا أريد معناها الصحيح، لأن قيمة كل شيء تعلو وتنزل عندنا بحسب الأحوال حتى الكلمات التي لا تعلو ولا تنزل. فإن شئتم، فاعتبروا معنى قولي (دائماً) غالباً أو بعض الأحيان لأن الشرقي قد فقد الخلق الثابت، فلا ثبات له على شيء، ولا ثبات بشيء معه. ولولا أن أسماء الفضائل من اللغة، وأن هذه اللغة ثابتة في كتبها التي تحفظها، لكانت أكثر أسماء الفضائل اليوم عندنا هي نفس أسماء الرذائل!(484/4)
انظروا إلى الرجل الإنكليزي الذي هو نتيجة التاريخ الحاضر: إنه لا يثق بثلاثة أرباع الأرض التي تملكها دولته، كما يثق بقدر أنملة في باطنه. فالأرض كلها وهي تدور على محورها، وتتقلب بالتاريخ أجيالاً ودولاً، ليست في عين الإنكليزي أكبر من قلبه الذي يخفق بين جبينه، والأرض لا تحفظ له فضيلة، ولكن فضيلته تحفظ له الأرض.
كل إنكليزي قد يراه الناس مصبوباً من معادن بلاده حتى الفحم الأسود. ولكنه يرى نفسه إنكليزياً، ولا يبالي ما وراء ذلك. ترونه كالحديد المصمت لا ينبعث له صدى، لأنه للعمل والحمل والثبات والاستمرار. وإذا كان الشرقي حديداً أيضاً. . . فهو كالجرس سواء كان في الأعلى أم في الأسفل، ليس إلا أن يهتز ويصيح بالأصوات الرنانة من جوفه الفارغ. . . يعمل الواحد منا عملاً ضئيلاً، أو عملاً لا قيمة له، فيملأ الدنيا كلاماً، ويملأ ما ضِفَيْه فخراً، ويملأ رأسه بهذا النوع الذي يسمونه جنون العظمة. وما ذلك من جهلنا لقيمة كل عمل، ولكن من عجزنا عن أكثر الأعمال النافعة، ومن مجازفتنا بالأوصاف رياءً ومجاملة. وقد ذكر الرواد الذين ضربوا في مجاهل الأرض أنهم رأوا قبيلة من قبائل الزنوج كان أجمل وسام تسطع عليه الشمس في صدر ملكها علبة فارغة من علب السردين!
هي علبة من علب السردين الفارغة التي يطرحها أفقر الناس في الطرقات، وهي قطعة من الصفيح قد لا تكون لها قيمة، ولكن ذلك لا يمنعها أن تكون وساماً في صدر الملك الزنجي، ومتى قلنا (الملك الزنجي) فكأننا قلنا (الزنجي) فقط، لأن أوصاف المتوحشين متوحشة أيضاً، فلفظ الزنجي يأكل لفظ الملك، وكذلك أوصاف الضعفاء، وكذلك أعمال الشرقيين.
لا تظنوا أني أنتقص الشرق وأهله وتاريخه. كلا، ولكني أصف عيوباً لا يجعلها من المحاسن أنها عيوبنا. ولو سئل أفضل رجل شرقي عن أحسن فضيلة فيه، لقال إنها شرقية. ولو سئل أرذل رجل شرقي عن أقبح رذيلة فيه، لقال أيضاً إنها شرقية. فهذا الشرق الذي هو مهد التاريخ، هو كذلك مهد الأديان ومبعث الفضائل. لكن أهله قد أضاعوا أنفسهم وأضاعوه. فإذا رأوا الفضيلة قالوا غربية، وإذا رأوا الرذيلة، قالوا شرقية، وأحالوا بكل ذنب على الشرق، كأن الأرض تنبت الرجال، وتهيئ لهم العمل، وتوحي إليهم المخترعات! وكأننا نريد أن تكون هذه الأرض مثلنا في التقليد. فالبحر يهز أمواجه، ويجب على الأرض أن تهز أهلها ليتخبطوا على ساحل الحياة.(484/5)
ما تقدم الغربي وجرى مسرعاً لأن أرضه من المطاط، ولا تأخر الشرقي وجرى متعثراً لأن أرضه من الصمغ؛ ولكن أكبر رذائلنا أننا لا نتحد، لأننا نجهل التربية الاجتماعية. وقد تخلقنا بالأخلاق الفردية فصار الألف منا وأكثر من الألف لا يحسنون عمل اثنين متحدين. . . الجبل تصعد عليه مائة قدم شديدة الوطأة فلا تؤثر فيه ما تؤثر فيه ما تؤثر النحلة؛ وتتناوله مائة ألف ساعد قوية فتزيله عن مكانه، لأن طبيعة الأقدام غير طبيعية الأيدي. فإن لم نجتمع، ونأخذ أنفسنا بأصول التربية الاجتماعية فلا تنتظروا من الشرقي أن يعمل عملاً.
مصطفى صادق الرافعي(484/6)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
اتجاه جديد في الحياة المصرية - أخيلة ريفية تساور الكتاب
المصريين - تاجوج المريضة في السودان - فرصة لن تضيع
- نقد الشعر على أساس وحدة البيت - قصة أدبية - شاعر
يتحدى جميع الشعراء
اتجاه جديد في الحياة المصرية
التاريخ الأدبي والعلمي لمصر يشهد بأن المصريين كانوا يعتزون بالريف كل الاعتزاز، فينتسب الأديب واللغوي والفقيه إلى بلده الذي ولد فيه بأسلوب يفصح عن ارتياحه لذلك الانتساب. وفي رجالنا العظماء من عرفوا بالنسب إلى بلادهم، بحيث صارت تلك النسبة هي العلم الأصيل، وبحيث صار الاهتداء إلى أسمائهم الأولى يحوج الباحث إلى مراجعة كتب التراجم والتاريخ
الأشموني النحوي، والشنشوري الفرضي، والباجوري الفقيه، والدميري المحيط: أمثال هؤلاء لا يعرفون بغير هذه الأنساب، وهي غاية في التعريف، وعلى مثلها يقاس في الأعلام المنسوبة إلى قرى الريف بمصر الشمالية ومصر الجنوبية
ومن غريب ما لاحظت أن النسبة إلى العواصم كانت قليلة، فلا يقال القاهري أو الفسطاطي إلا في أندر الأحايين!
ولعل السيوطي حين انتسب إلى سيوط لاحظ أن بلده ليست إلا دسكرة من دساكر الريف، وإن الانتساب إليها يميزه عن القاهريين
وأكثر من تولوا رياسة الأزهر منسوبون إلى بلادهم، من أمثال: البشري والمراغي والظواهري؛ وهذه الظاهرة أوضح من أن تحتاج إلى استقراء
ولكن، ما الذي أفدناه من الانتساب إلى قرى الريف؟
الفائدة تفوق الوصف، فقد أضفت على القرى المصرية لمحات روحية، وزادت في قيمها(484/7)
المعنوية، وربطت أهلها برباطِِ وثيق، وأطمعتهم في معاني المجد والخلود
ومن الذي يمر على أشمون أو شنشور أو الباجور أو إسنا أو ملوي أو أسيوط أو منفلوط، ولا يتذكر أن هذه البلاد كانت منابع لعبقريات حفظ فضلها التاريخ؟
ولكن الحال تبدلت فيما بعد، وصار الانتساب إلى الريف لا يقع من الأنفس موقع القبول. وزاد الخطر بتوهم أهل الريف أن لا قيمة للحياة في غير الحواضر، وأن الريف لا يصلح مقاماً لغير العاجزين عن الانتفاع بثمرات التمدن الحديث، وصار من حق الفلاح أن يودع المسافر إلى القاهرة بهذا النشيد:
(ليلتك سعيدة وسعيدة يا رايح مصر)
ثم لطف الله بالمصريين فوصلوا قراهم بعد القطيعة، وآنسوها بعد الإيحاش، وأصبح من المألوف أن تجد فتى من حملة الإجازات العالية يحدثك عن متاعبه في البحث عن أدوات الحرث والحصاد، وصار من السهل أن تجد في الوزراء السابقين من يستغل نشاطه في استئجار الأراضي الواسعة بالريف
وأظهر أمراء مصر عناية بمزارعه هو صاحب السمو الأمير عمر طوسون، فقد سمعت أنه يعرف أملاكه قطعة قطعة، وأنه يراقب الأسعار مراقبة الخبراء. وهذا هو السر في أن الله حفظ عليه نعمة اليسار العريض
أخيلة ريفية
والذي يهمني من هذا كله هو انتفاع الأدب الحديث بعودة المصريين إلى الريف، فقد لاحظت أن في كتابنا من تساورهم الأخيلة الريفية، وهي أخيلة على جانب من الجمال، وستغذي الأدب الحديث بألوان وألوان
ولتوضيح هذه الفكرة أذكر أني كنت ألوم الأستاذ الزيات على طول مقامه بالريف، ثم تمنيت أن يقيم بالريف إلى آخر الزمان حين رأيته يقول:
(وفي الريف خطباء وشعراء كعصافير الحصاد، تزقزق للحبة، ولا تزقزق للزهرة)
وهذا كلام عجيب غريب، أعني أنه من النفاسة بمكان
وفي صباح اليوم قرأت كلمة للدكتور سعيد عبده في (مجلة الساعة 12) كلمة من جنس كلام الأستاذ الزيات في الاستفادة من الأخيلة الريفية، فالتفت ذهني إلى هذا المعنى من(484/8)
جديد،
فما كلمة ذلك الدكتور الفلاح؟
تكلم عن المعارضين في مجلس النواب فقال (إن عددهم أقل من عدد الدحريج في القمح النظيف)
أي عبارة هذه؟ وما الذي فاتها من خصائص التشبيه الدقيق؟
ولو نظرنا في تذييل هذه العبارة لوجدناها أعجب وأغرب، لأن التذييل كان لمحة من النقد اللاذع لما صرنا إليه من الوجهة المعاشية، ويكفي أن أقول إنه قيد القمح النظيف بالقمح الذي كان قبل سنة 1939
تاجوج المريضة في السودان
في قصيدة الشاعر محمد سعيد العباسي جاءت هذه الأبيات:
فيا ابن المبارك عِش سالماً ... وبُورِكَ في زَندك الواريهْ
تغنيتَ حيناً بليلى العراق ... فأحللتها الرتبة الساميهْ
فمُد لنا فضل ذاك العِنان ... عنانَ يراعتك الطاغيةْ
وألمِمْ بتاجُوجَ واحفِلْ بها ... فتاجوجُ جوهرةُ الباديهْ
وعلِّقْ على جيد تاريخها ... دراريَّ أبحرك الطاميهْ
فمن تاجُوج؟ من تاجُوج وما تحدث عنها أحد من الذين قصوا أخبار العشاق؟
هي فتاة جميلة عفيفة، أحبها فتى جميل عفيف، وكانت لهما أخبار تشبه ما كان بين ليلى وقيس، ولعشاقها أشعر لا تقل روعة عن أشعار المجنون، عليهم جميعاً رحمات الذي خلق ثمرات النخيل والأعناب!
سمعت أول مرة بأخبار تاجوج وأنا في بغداد، من خطاب فتى سوداني عز عليه أن تشغلني ليلى عن تاجوج، فرمى سهم العتاب من الخرطوم إلى الزوراء
سهمٌ أصابَ وراميه بذي سَلَمٍ ... من العراق لقد أبعدتَ مرماكِ
ثم اتفق بعد رجوعي إلى مصر أن أبحث عن أخبار تاجوج فرأيتها مسطورة في رحلة سمو الأمير يوسف كمال إلى السودان في أقل من صحيفتين، فعاهدت الله والحب أن أكتب أخبارها في مئات الصفحات(484/9)
ولكن متى؟
قلبي يحدثني بأن الله لن يبخل علي بتحقيق هذا الحلم الجميل
كانت (تاجوج) تعيش في (عروس الرمال)
فما عروس الرمال؟
سترون وصفها بعد حين أو أحايين
فرصة لن تضيع
في العام الماضي أرسلت إلى المهرجان الأدبي في السودان بحثاً عن (الطريق عن الوحدة العربية) وهو أول وحي جاد به السودان على قلمي. وفي هذا العام تفضل رئيس المهرجان فوجه إلي دعوة كريمة لإرسال كلمة أو قصيدة تلقى في المهرجان، فرأيت أن أرسل إليه قصيدة عن مصر الجديدة. ولكني عرفت أن آخر موعد لتقديم الكلمات والخطب والقصائد هو اليوم العشرون من رمضان، فماذا أصنع؟
سأنشر قصيدتي في العدد المقبل من (الرسالة) مهداةً إلى نادي الخريجين، وبذلك لا تضيع فرصة الاشتراك في ذلك المهرجان، فالمهم هو تعاون العقول، وتآخي النفوس، وتناجي القلوب. وقد يتفضل الله فيسمح بالفرصة المقبلة، فرصة المؤتمر الذي يعقد في عيد الأضحى، وللمؤتمر هنالك معنى يختلف عن المهرجان باختلاف الموضوعات الأدبية والقومية والاجتماعية
ولعل الأقدار تسمح بأن يكون لنادي الخرجين في السودان قوة الجمعية الطبية المصرية، فيومذاك ينتفع بما سنت من التقاليد فلا يكتفي بالتنقل بين مدائن السودان عند إقامة المهرجانات والمؤتمرات، وإنما يتنقل بين المدائن العربية فيكون مرة في الخرطوم ومرة في القاهرة ومرة في دمشق ومرة في بيروت ومرة في بغداد
وبهذه المناسبة أقول: هل أقامت الجمعية الطبية المصرية أحد مؤتمراتها في الخرطوم أو أم درمان، مع أنها زارت أكثر الحواضر العربية وفكرت في زيارة طهران؟
أجب عن هذا السؤال، يا معالي الدكتور علي باشا إبراهيم!
نقد الشعر على أساس وحدة البيت(484/10)
من رأي بعض القدماء أن الشعر لا ينقده غير الشعراء، وحجة ذلك البعض أن الشاعر هو الذي يدرك الدقائق الشعرية، ويعرف ما يباح وما لا يباح من التأنق والابتذال
والظاهر أن ابن الرومي هو أول شاعر نص على أن الجودة المطلقة لا تشترط في كل بيت، ولكن هذه النظرية لم تتضح في ذهن ابن الرومي كل الاتضاح، بدليل أنه ساقها مساق الاعتذار، حين قرر أنه ليس أعظم من الله، والله يخلق الشجرة وفي أغصانها القوي والضعيف
ولو أن هذه النظرية كانت اتضحت في ذهن ابن الرومي لترك جانب الاعتذار واعتصم بجانب الاحتجاج. وتفسير ذلك أن جمال الشجرة مجمل لا مفصل، فهي جميلة في مرأى العين، بغض النظر عما فيها من أغصان ضعاف، ولعل جمالها لم يكمل إلا بفضل تلك الأغصان الضعاف
وأوضح هذه النظرية بعض التوضيح فأقول: في كل وجه جميل ملامح تكميلية تؤكد ما فيه من جمال، ولكنها منفردة لا توصف بالجمال
وفي الزهرة الجميلة أوراق يعوزها الحسن، ولكن جمال الزهرة يحتاج إليها كل الاحتياج
والأرض الجيدة لا تستوي أبداً، وعدم استواء الأرض الجيدة هو الذي يتيح لها فرصة الانتفاع بالشمس والهواء
وما يقال في المحسوسات يقال في المعقولات، فالنبوغ الفائق هو في ذاته لون من الانحراف، لأنه صورة من طغيان بعض المواهب على بعض، ولو استقامت المواهب الإنسانية استقامة مطلقة في جميع الناس لكان من المستحيل أن يتفوق الإنسان على الحيوان
تفوق جارحة على جارحة أو ملكة على ملكة، وهو أساس النبوغ والعبقرية، ولكن وجود الجارحة الضعيفة أو الملكة الضعيفة شرط أساسي في تكوين ما يقوى من الجوارح والملكات، كما أن الغصن الضعيف سناد للغصن القوي في تكوين الشجرة الفرعاء
والقصيدة كالشجرة، يستبد فيها البيت القوي بالبيت الضعيف، وعلى أساس القوة والضعف ينهض بناء الوجود
وإذن؟(484/11)
وإذن يخطئ من يجاري القدماء في نقد كل بيت من القصيدة على حدة، وإنما الرأي أن تكون أبيات القصيدة كمسامير السفينة، مسامير السفينة تختلف باختلاف مواطن الرباط والوثاق
ولو نظر القدماء هذه النظرة لأعفونا من أبحاث كان فيها نقد الشعر قائماً على وحدة البيت لا وحدة القصيدة، فكان مثلهم مثل من يعيب الغابة الشجراء، لأنه عثر فيها على شُجَيرة عجفاء
قصة أدبية
وهذا الكلام ساقته قصة أدبية تلخصها الأسطر الآتية:
بدا لي أن أقرأ (قصيدة مصر الجديدة) على الدكتور طه حسين، فاعتذر بالسفر إلى فلسطين. وأردت عرضها على الأستاذ خليل مطران فحدد موعداً، ولكني تخلفت عن الموعد ساعة وبضع دقائق، فانصرف قبل أن يلقاني مع الأسف، فقد كنت أرجو أن أنتفع بنقده الدقيق. وعند خروجي من مكتب الأستاذ خليل مطران لقيت الأستاذ محمد هاشم عطية فدعوته لسماع القصيدة عساه يعطي رأياً في تنقيح بعض الأبيات؛ ثم كان رأيه أن هذه القصيدة يفسدها التنقيح، فعرفت من جديد أنه ذلك الأديب الفنان
ما هذا الكلام؟ أترونني أعتذر عما سيقع في قصيدتي من ضعف كما اعتذر ابن الرومي؟
هيهات ثم هيهات! فقصيدتي هي القصيدة، ولن يستطيع شاعر أن يجاريني في أي ميدان؟
راية الشعر يحملها المصريون، ولن تنزع هذه الراية من أيدينا، ولو سهر ليل الإخوان الأعزاء في سائر الأقطار العربية
قد تقولون: ما هذا الغرور؟ وما هذا الادعاء؟
وأقول إني سألقى عليكم قصيدة تلقف ما تأفكون، وسأقهركم على الإيمان بعبقرية مصر الشعرية في هذا الزمان
زكي مبارك(484/12)
المحاباة ومصدرها الاجتماعي
للأستاذ عبد الله حسين
في يوم صائف من أيام عام 1940 كنت مع بعض زملائي المحامين في غرفتهم في دار محكمة استئناف مصر الأهلية، وانتظمنا جماعة نعرض لشئون الدنيا العامة والخاصة بشتى فنون الحديث وألوان التخريج والتأويل، ونترصد لها بالنقد والتأميل. فبدهنا الزميل المحترم عبد الرحمن الرافعي بك، وهو من هو في أمثال هذه المعالجات والبحوث، بكلام في المحاباة:
تحدث الزميل مستغرباً متسائلاً: ما بال حكومات مصر قد بليت ببلية المحاباة، كأنها أساس من أسس الحكم، لا يستوي على حال مرضية إذا لم تكن في حساب الحكام؟ ثم سأل بعدئذ: أليس هناك علاج لهذه العلة الفاشية؟
وقد سارعت يومئذ إلى الإجابة على هذين السؤالين قائلاً عن السؤال الأول: إن المحاباة ليست خلقاً لحزب بذاته أو بلية ابتلى الله بها عهداً دون عهد أو حكماً دون آخر؛ بل إنها تستند إلى ما ورثنا من عادات. ذلك أن الأمة هي الصورة الكبرى للأسرة؛ وما دمنا نعمد في أسرتنا إلى إيثارها بالغنم والخير ولو كان هذا على حساب أسرة أخرى أو جميع الأسر الأخرى، فليس لنا أن نشكو ظاهرة المحاباة في الأسرة الكبرى: الأمة.
إن عاداتنا وأخلاقنا لتقتضينا أن نعني بشئون أبنائنا وأبناء عمومتنا وخؤولتنا وأصهارنا، فإذا قام منا سيد أو حاكم، وزيراً كان أو غير وزير، اقتضته الشهامة أن يؤثر ابنه على ولد أخيه، وولد الأخ على ولد العم، وهذا على من كانت صلته بعيدة. فإذا اطمأن الحاكم أو السيد على الخير قد وصل إلى أحد من هؤلاء على الترتيب والتعاقب، وكانت هناك فضلة من هذا الخير، لزمه أن يؤديها إلى الصديق أو المواطن في الفرية ذاتها أو إلى ابن حزبه
أما إذا تغشى صاحب الكلمة والنفوذ وهم من تلك الأوهام، أو رجس من تلك الأرجاس، التي ينعتونها على أسلات الأقلام أو منابر الخطابة والوعظ والدعوة السياسية، بالنزاهة التامة والعدالة الحق، فحدث ما شئت عما يصيب هذا الرجل من ألوان التشهير، فهو - عند ذويه وأصهاره وبنى قريته وبين صُدقانه - الخارج على الأسرة، المارق من المروءة، الجاحد للفضل، المختلس لثقة ناخبيه إن كان منخوباً لعضوية إحدى الهيئات، الضعيف(484/13)
الرأي، الأناني، الخائر العزيمة؛ بل لقد يتمادى الطاعنون في طعنهم، فيرمونه بالخيانة لأن من ينكص عن خدمة ذويه وأصدقائه وأسرته، لا يرجى منه خير لوطنه وأمته. أو بأنه في حقيقته لم ينحدر من صلب آله وقومه!
فمن منا - من المصريين يرضى أن يدرج مع الساقطين في المروءة والوطنية؟
فهذه المحاباة - والأمر كما أوضحنا - ليست شيئاً مستغرباً وليست حادثة موقوتة يرجى علاجها إذا ما ولى عهد وخلفه آخر، أو إذا ما سقط سيد وقام بالأمر بعده سيد آخر، مهما يختلف مداها سعة وشططاً وعلة وتعليلاً
إنها ليست بحدث الأحداث كما يغلو بعض الكاتبين، وليست بطارئ ظهر في هذا الزمان
بل أن المحاباة - وهي من خلق الإنسان منذ الخليقة - تقع في الصدر من أخلاقنا وتستقل بالصميم من عاداتنا
إنما الجديد فيها أننا نهضنا نهضة سياسية جديدة، فأصبح لنا أحزاب سياسية ذات أنصار وأنصار للأنصار، وأصبح لنا برلمان ونواب وشيوخ، ولابد لمجيء هؤلاء من الناخبين، ولا سبيل إلى الفوز بالأصوات إلا بخدمة المصوتين أو بذل الوعد لهم بتأديتها
ومن ثم انتقلت المحاباة من ميدان القرية، حيث يشتد النزاع حول العمديات والشياخات وتقديم أنفار القرعة وحول الميراث وحدود الأطيان وما يجب لها من ري وصرف - إلى الحكومة، فكان ما شهدنا ونشاهد، وما من أجله تناول الناقدون ما تناولوا من الإنحاء على المحاباة والمحابين
أما الإجابة على السؤال الثاني، وهو كيف نعالج هذا الداء، ونبرأ من هذه العلة - فإن الواجب أن نعمد إلى تقوية الرأي العام، فإن رأينا العام ضعيف، أو قل إنه قوي حيناً، ضعيف أحياناً. . .
أعني بتقوية الرأي العام، تقوية المعنى الوطني، أي أن تقوم تربية النشء على تقديم مصلحة الوطن والدولة على مصالح الأفراد التي تتعارض مع تلك المصلحة
هذه واحدة؛ وواحدة أخرى علينا أن نبذل ما نستطيع لكي نجعل الانتخابات في جميع صورها وأن نجعل ألوان التأييد للحكومات والثقة بها بمعزل عن الوظائف والتعيين فيها والترقية إليها. . .(484/14)
وأني لا أقدر في أسف شديد وألم عميق، أن أجيالاً قد تمضي قبل أن نستطيع أن نقضي على هذا الداء قضاء تاماً، وأن كل ما نطمح إليه يجب أن يكون مقصوراً على تخفيف ويلاته، والحد من مضاعفاته. وفوق كل ذي علم عليم.
عبد الله حسين(484/15)
من أدب العراق الشعبي
مم وزين
فاجعة كردية خالدة
للأستاذ عبد المسيح وزير
(مم وزين) عنوان قصة فاجعة غنائية كردية خالدة يتغنى بها مغنون اختصاصيون من كرد وغيرهم في العراق وفي باقي الأقطار التي يستوطنها العنصر الكردي كسورية وتركية وإيران. ولا أزال اذكر كيف كنا ونحن أطفال نلتف مع والدينا وأقربائنا وأصدقائنا الذين كانوا يزوروننا بدعوة خاصة حول موقد النار أو (الكرسي) في ليالي شتاء ماردين القارس محيطين بمغني (مم وزين) مصغين في صمت عميق إلى غنائه الابتدائي البسيط بصوته الجافي الذي لا رخامه فيه ولا فن. وكان المغني في فترات الاستراحة من الغناء يقص علينا القصة باللغة العربية. وكان الغناء والقصة يستغرقان ساعات الهزيع الأول من الليل ويزيد. وكنا بعد الغناء ننام ونحن نحلم بشقاء الحبيبين وحياتهما الغرامية المرة التي انتهت بموت كليهما
وعندي أن قصة (مم وزين) لا تقل شأنا عن فواجع الإغريق القدماء فيما لها من اللذة والمتعة باعتبارها قصة خيالية شائقة تسترعي سمع الكبار وتخلب لب الصغار فيسهرون مصغين إليها بلا ملل
وهذه الفاجعة من جملة فواجع كردية أخرى مثل (درويش عبدي) و (جامي مازي) و (فليت قطو) التي لما ينشر منها شيء حتى الآن سوى فاجعة (مم وزين) المنشورة باللغة الكردية وحدها؛ فهذه هي المرة الأولى التي تنشر فيها خلاصة (مم وزين) بغير اللغة الكردية، وبذلك تكون مجلة (الرسالة) الغراء السابقة إلى نشرها على ما أعلم
وقد طالعت في كتاب (ألف ليلة وليلة) قصة مختصرة فيها بعض الشبه بقصة (مم وزين). أعتقد أن جامع قصص (ألف ليلة وليلة) اقتبسها من (مم وزين) التي كانت شائعة في ذلك العهد في المناطق الكردية شيوعها في هذه الأيام
وأؤمن أن يتاح يوماً لهذه القصة الفاجعة شاعر عظيم عربي، أو أعجمي، ينظمها في(484/16)
مسرحية شائقة، أو قصيدة علواء، نظماً ساحراً يذيع صيتها في الدنيا الأدبية على ما فعله الشاعر الإنكليزي (فتزجرالد) بنقله رباعيات (عمر الخيام) إلى اللغة الإنكليزية، فيضيف بذلك إلى متاحف الأدب العالمي درة يتيمة جديدة من كنوز الآداب الشرقية المكنونة في العراق
(ع. و)
القصة
في مدينة نائية قائمة على نجد خصب بين قنن الجبال في بلاد الكرد حكم أمير شاب اسمه (مم) اشتهر بكرم أصله وجلال قدره وهيف قده وجمال صورته ومتانة خلقه وعلو همته وندرة بطولته. وكان الأمير أعزب لم يفكر قط في أمر الزواج، لأنه لم ير في مملكته أميرة حسناء تضاهيه في الحسب والنسب ليقترن بها
ففي ذات يوم فاتحه وزراؤه في أمر الزواج فلم يحر جواباً. ولما انفض مجلسه ذهب إلى فراشه لينام فأرقه التفكير في أمر الأميرة التي يختارها زوجاً فتلد لعرشه وارثاً. ولما أعياه التفكير غلبه النعاس فاستغرق في نوم عميق، فرأى نفسه مجتمعاً بالأميرة (زين) الغادة الحسناء بنت أمير الجزيرة تلك المدينة الجميلة الراكبة على نهر دجلة. وبعد سمر سعيد طويل ثمل فيه الأميران بخمرة الحب الخالص والغرام البريء تعاهد (مم) و (زين) على الزواج على أن يخطب الأمير الأميرة إلى اخوتها الأمراء (جَكُّو) و (حَسُّو) و (قره تاج الدين)؛ لأن والدها الأمير كان قد توفى. ورمزاً إلى عهد الحب والزواج تبادل الأميران خاتميهما، فوضع (مم) خاتمه في إصبع (زين)، ووضعت (زين) خاتمها في إصبع (مم)؛ ثم اضطجع العاشقان للنوم في فراش واحد، فانتضى (مم) حسامه ومده بينه وبين (زين) المضطجعة بجانبه رمزاً إلى صيانة عفاف العذراء وشرفها وعهداً منه على ألا ينال منها وطراً قبل الزواج شرعاً بإذن الله وأوصيائها
أفاق الأمير (مم) على تغاريد الأطيار التي نقلها نسيم الصباح إلى أذنيه، فقال في نفسه: (ما ألذ حلم هذه الليلة! ليتني لم أفق من النوم) وحانت منه التفاته إلى أصابعه فوجد أن الخاتم الذي في إصبعه غير خاتمه. فتفرس فيه فقرأ اسم الأميرة (زين) بنت أمير الجزيرة منقوشاً(484/17)
في ذلك الخاتم. فحار في أمر وعلم بأن ما كان في ليلته البارحة لم يكن حلماً بل حقيقة. أما صورة الأميرة الحسناء فلم تبرح ذهنه
وكذلك كان أمر الأميرة (زين) فإنها لما استيقظت من نومها على خرير دجلة حسبت حادث الليلة البارحة حلماً في النوم؛ ولكنها لما وجدت خاتم (مم) في إصبعها اعتقدت أن في الأمر أعجوبة، لأن ما رأت كان حقيقة لا حلماً. وكانت صورة الأمير (مم) الجميل مطبوعة طبعاً ثابتاً في مخيلتها
أما حقيقة الخبر، فهي أنه في الليلة التي فكر فيها الأمير (مم) في الزواج أوقعه الجن في سبات عميق، ثم حملوا إليه (زين) من خدرها وجرى ما جرى بين الأميرين في تلك الليلة. وقبيل انفلاق الصبح أوقعه الجن مرة أخرى في سبات عميق هو وحبيبته وعادوا بالحسناء (زين) إلى خدرها في الجزيرة بغير شعور منها
لما أفاق الأمير (مم) من سباته ووقف على جلية الأمر قطع على نفسه عهداً ألا يتزوج غير الأميرة (زين) بنت أمير الجزيرة. فنهض من فوره وارتدى ملابسه وحمل سلاحه وامتطى جواده وخرج من المدينة بغير علم رعيته قاصداً الجزيرة ليخطب بنت أميرها التي حملها إليه الجن في الليلة البارحة السعيدة. وبعد سفرة طويلة شاقة وصل الأمير (مم) إلى تلك المدينة فذهب تواً إلى قصر الأمراء المطل على دجلة وحل ضيفاً على اخوة (زين) الثلاثة الذين اكرموا وفادته. فنعى خبر قدومه إلى الأميرة (زين) فحملها الشوق الشديد إلى رؤيته على ركوب كل مركب في سبيل الوصول إليه. فتحينت كل فرصة سانحة للاجتماع به غير آبهة لعذل العذال ولا مكترثة لنميمة النمامين. وطفقت تجتمع به سراً حين يخرج أخوتها الأمراء إلى الصيد والقنص، إذ كان (مم) يتخلف عن الذهاب معهم بحجة يختلقها كل يوم فيتذرع بها للبقاء في القصر وحده لكي يتاح له الاجتماع بحبيبته.
وكان في القصر وزير اسمه (بكو عوان) من دأبه إيقاع الأذية بالناس ولا سيما أولئك الذين كانوا موضوع حسده. فحقد هذا الوزير على الأمير (مم) وطفق ينتهز الفرص للإيقاع به. فبث العيون والأرصاد ليأتوه بأخبار (مم) و (زين). فعلم بأمر اجتماعهما، ووقف على ما كان يجري بينهما، وأخذ يدس للعاشقين عند الأمراء أخوة (زين)، ولكن أولئك الأخوة لم يعيروه أذناً صاغية.(484/18)
واتفق يوماً أن (مم) تخلف على عادته عن الخروج إلى الصيد مع الأمراء بحجة المرض. فاجتمعت به (زين). وبينما كان الحبيبان يتباثان لواعج الهوى إذا بالأخوة يدخلون القصر راجعين من الصيد ومعهم (بكو عوان). فأسرع (مم) إلى إخفاء (زين) تحت عباءته الواسعة المنسوجة من المرعز، ولكنه نسى أن يخفي إحدى ضفائر شعر (زين) الطويل فبرزت من العباءة دون أن يشعر بذلك (مم). فدخل الأخوة الأمراء ودخل معهم بكو عوان الديوان الذي كان فيه (مم) فلم ينهض (مم) لهم بحجة مرضه. ولم يشاهد ضفيرة الشعر الخارجة من العباءة أحد سوى (بكو عوان). فأسر (بكو عوان) في أذن الأخ الأكبر (جكو) قائلاً: (ما أوقح هذا الضيف! أرأيت كيف أنه لم يقم إجلالاً لكم وأنتم الأمراء بل ظل جامداً في مكانه كأن الداخلين من عامة الناس أو من خدمه وحشمه؟) فأجاب (جكو) قائلاً:
(تباً لك من وغد ذميم! إن عدم قيام (مم) ليس تكبراً بل ذلك عجز منه لأنه مريض).
فقال بكو معترضاً: (كلا، ليس السبب مرضه، وقد لا يكون عدم قيامه لكم لتكبره، إلا أنني أرى سبباً آخر يمنع الأمير الضيف من القيام)
قال هذا وأشار بيده إلى ضفيرة شعر الأميرة البارزة من العباءة
فلما وقعت عين جكو على الضفيرة، استشاط غيظاً فطرد أخته زين من الديوان، وأمر بزج مم في غياهب السجن، وكان السجن حبساً ينزل إليه بأربعين دركة
فظل مم في السجن أربعين يوماً وليلة وهو يقاسي أشد آلام البين. وما انفكت زين في خلال تلك المدة تسعى لدى أخوتها لإطلاق سراح مم بدعوى أنه خطيبها جاء ليخطبها من أخوتها. وأخيراً تمكنت زين من التغلب على دسائس بكو عوان، فأقنعت اخوتها بالإفراج عنه
وفي موعد إخراج الأمير مم من سجنه بعد مضي أربعين يوماً على حبسه، لبست زين أفخر ملابسها، وتحلت بأثمن حليها وسارت مع أربعين فتاة عذراء من أجمل بنات المدينة إلى السجن لتخرج منها حبيبها السجين في موكب العذارى. . . ولما وصلت إلى رأس السلم نادت مم بصوتها العذب. . . فنظر إليها نظرة ولهان لم يصدق ما يشهده، فرأى زين في غاية الجمال الفتان. . . أما زين، فخيل إليها أنه غاضب عليها وعلى اخوتها فخاطبته تقول:(484/19)
(أمم. . . إذا كنت لا ترضى بي عروساً بعد الذي جرى فاختر لك من هؤلاء الحسان زوجاً تليق بك!)
فوقع كلام زين وقع الصاعقة على مم، لأنه اعتقد أن زين قد نفرت منه فلا تريده بعلاً لها. . . فخرجت حينئذ من أنفه نقطة دم واحدة، وسقط جثة هامدة!
أما زين، فرجعت في موكب العذارى خائبة كئيبة ونفسها حزينة حتى الموت. . . وبعد مدة قصيرة توفيت هي أيضاً هماً وكمداً على فراق حبيبها، وأوصت بدفنها في البقعة التي دفن فيها مم!
بعد أربعين يوماً خرج الأمراء (جكو) و (حسو) و (قره تاج الدين) ومعهم وزيرهم (بكو عوان) إلى الصيد والقنص على سابق عادتهم. وفي أثناء الصيد مرت الخيل بفرسانها بالقرب من البقعة المدفون فيها جثمان العاشقين فغارت قائمة جواد (جكو) في حفرة وكان (بكو عوان) راكباً إلى جانبه. فنظر الأمير إلى الحفرة فوجدها ضريح (مم) ووجد جثة (زين) ممددة بجانب جثة (مم) وقد تعانق الحبيبان. فقال (بكو عوان) للأمير:
(أنظر تر هذين العاشقين الخبيثين لا يزالان يرتكبان المنكر حتى في مماتهما!)
فاستشاط الأمير غيظاً من هذا الكلام المنكر واستل سيفه وضرب عنق (بكو عوان) وقال وهو ينهال عليه ضرباً:
(أذهب إلى حيث ألقت، أيها اللعين! ألا ترى أن الله يجمع ما يفرقه الإنسان الخبيث مثلك؟)
فسقط (بكو عوان) ميتاً في تلك البقعة فدفن في مكان بعيد عنها، إلا أن تلك البقعة المقدسة ظلت ملوثة بدمه النجس. وبعد مدة زار الأخوة تلك البقعة فرأوا زهرة جميلة عطرة نابتة على قبر كل من العاشقين وقد برز بين الزهرتين الجميلتين شوكة قبيحة سامة أنبتها دم (بكو عوان)
وإلى اليوم يزور العشاق مرقد ذينك الحبيبين ليمطروا ثراه بالرحمات الواسعة
(بغداد)
عبد المسيح وزير(484/20)
إيبيقوس
للأب أنستاس ماري الكرملى
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
5 - كنا نود أن يرأف الأستاذ مندور بأجداده العرب
قلت - يا سيدي الأستاذ - ما هذا نصه، وقد ورد في ص812 من (الرسالة): وإذا ذكرنا أن كومودوس هو أبن مارك أوريل، وأن إتيقوس قد أشرف أيضاً على تربيته كما أشرف على تربيه أبيه، وإذا كان من الممكن أن يكون قومودس إمبراطور روما قد كتب إلى إنتيقوس باللغة اليونانية يطلب إليه كتباً وأشعاراً، وأن العرب قد علموا بذلك - مترجماً عن اليونانية ترجمة لا نعلم مبلغ دقتها؛ فأي غرابة في أن يكونوا قد جعلوا إتيقوس شاعراً يونانياً، ومن قومودوس ملكاً لليونان، مادام مصدرهم كان يونانياً، ومادام التوحيدي يورده على سبيل الرواية؟ وهل العرب كانوا يعرفون شيئاً دقيقاً عن الشعراء اليونان ومعلمي البلاغة عندهم، حتى نستعبد أن يخلطوا بين الشاعر ومعلم البلاغة، أو أن يستنتجوا من يونانية النص أنه تبودل بين يونانيين؟
انتهى كلام الأستاذ مندور المدرس بكلية الآداب في مصر
فيا سيدي، أهذا هو إكرامك للعرب أجدادك وأنت تنشئ تلاميذ عرباً ليقدروا أجدادهم أحسن تقدير؟ فكيف تتمكن بعد ذلك من تعليمهم احترام أسلافهم بعد أن قلت عليهم أنهم ما كانوا يميزون بين الشاعر ومعلم البلاغة، حتى أنهم كانوا يخلطون الواحد بالآخر؟!
ذلك ما لا نقبله منك، ونلتمس من حضرتك بعد هذا أن تكرم بني مضر الإكرام اللائق بهم، لأن الدقة في التعريب بلغ منهم أبعد مبلغ، حتى أن المستشرقين المعاصرين يدهشون مما جاء به هؤلاء الدهاة الذين لا يشق لهم غبار! فنحن يا سيدي نحتج عليك وعلى قولك هذا، ونرجو منك ألا تعود إليه ولا إلى مثله، وتعوض عنه بما يغفر لك سيئتك هذه!!
6 - نتيجة الأستاذ الجليل
ختم الأستاذ نبذته - ويا ليته لم يكتبها! - بقوله: (ولعل في هذه القراءة ما يطمئن إليه -(484/21)
ولو مؤقتاً - الأب الفاضل، إلى أن يقترح غيرنا قراءة أصح) انتهى
قلنا: لم نطمئن إلى هذا المقال دقيقة واحدة. والدليل عل ذلك، وعلى أننا لم نقبل منه رأياً واحداً من جميع تلك الآراء كثرة ما ورد فيها من التشويش والارتباك وعدم بقائه في قرار مكين
وكيف نطمئن إلى ما ذهب إليه وهو نفسه لا يطمئن إليه؛ إذ قال في آخر آرائه: (ولعل في هذه القراءة. . . ولو مؤقتاً. . . إلى أن يقترح غيرنا قراءة أخرى.
فهذه كلها أقوال هدامة، ناسفة لكل ما أورده من الآراء والقراءات، حتى اضطررنا إلى أن نمعن في البحث كل الإمعان لنجد ضالتنا، فوجدناها والحمد لله في الأول والآخر.
7 - من كان ملك يونان الذي طلب ايبيقوس؟
هذه مسألة في نهاية الغموض؛ فإن هذا الملك لم يكن ثيودسيوس، كما قال الناشران في 153: 2، ولا قومودس، كما ذهب إليه حضرة أستاذنا الذكي المدرس بكلية الآداب في مصر الزاهرة، ولاتودورس، على ما ورد في حاشية ص153. وسبب كل هذا الإنكار أن هؤلاء جميعهم كانوا روماً لا يونانيين خلافاً لما يذهب إليه أستاذنا المدرس. ولعله يفعل هذا تحقيقاً لقولهم: خالف تذكر؛ ولأنهم لم يكونوا جميعاً من المائة السادسة قبل الميلاد. وكفى بذلك دليلاً على أنه لم يكن أحد منهم الملك الذي طلب إيبيقوس.
إذن من عسى أن يكون هذا المنشود؟. إننا نظن أن الاسم تيودوسيوس وغيره من قومودوس ولاتودورس من وضع النساخ، لا من وضع الناطق به لأول مرة، أي أبو سليمان المنطقي السجستاني. وكثيراً ما كان النساخ يضعون في مواطن الأسماء المجهولة، أو الأعجمية، أو الصعبة القراءة أو النطق بها، ألفاظاً مشهورة مألوفة سهلة التلفظ بها، إن في الأعلام، وإن في المصطلحات العلمية، بل في الأحاديث النبوية نفسها
فمن الأول قولهم في الهبودروموس البذروم (راجع كتاب المسالك والممالك لابن خرداذبه ص109 من طبعة أوربة سنة 1306). وقد قال ناشره في الحاشية: وسماه ابن رسته: البذرون والبيدرون واليبذرون. ونشر الأستاذ الجليل الشيخ عبد القادر المغربي في المقتطف 101 ص274 وما يليها مقالة قال فيها: إن العَلَم (ناصف تحريف ولدته اللهجة التركية عن نصوح) - وحضرته يعتقد هذا الأمر حاق الاعتقاد. أما نحن فلا نسلم به، بل(484/22)
نظن أن من كان اسم واحد ممن اتصل بالترك ناصفاً، كان اسمه أيضاً (نصوحاً)، فكان يعرف (بناصف نصوح) معاً، كما قالوا: محمد علي، ومحمد حسن، ومحمد حسين، إلى نظائرها، ثم تُرِك العلم الأول وأُخِذ العلم الثاني، وهو كثير عندهم فقالوا: (نصوح) أو (نصوحي). أما أن يكون (ناصف) تصحيف (نصوح) أو بالعكس فبعيد عندنا
ومن الثاني قولهم: الشكار والبتكار في التنكار. والرجات والزاحات في الزاجات. والراوندي والرموندي والرواندي في الزراوندي لنوع من البورق. والمحّوض والمحوَّض والمجوَّص والمخصص في المخوص، لنوع من التوتيا (راجع مفاتيح العلوم طبعة فان فلوتن ص210 و211)
ومن الثالث، ما ذكره أبو عبد الله حمزة بن حسن الأصفهاني المتوفى سنة 367 هـ في كتابه (التنبيه على حدوث التصحيف): (إن كثيراً من رواة الحديث يروون أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: تختموا بالعقيق؛ وإنما قال: تختموا (بمعنى تعمموا) بالقيق. وهو اسم واد بظاهر المدينة. وروى آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يسحب العسل يوم الجمعة، وإنما هو يستحب الغسل في يوم الجمعة. ورووا: غم الرجل، ضيق أبيه، وإنما هو عم الرجل صنو أبيه، أي شبهه. وقال عليه السلام: خراب بصرتكم بالريح، وإنما قال بالزنج) انتهى
وبعد هذا البسط الوجيز الذي لا بد منه في هذا المقام، لوقوع التصحيف والتحريف في الكتب المخطوطة، نظن أن اسم الملك الذي طلب الشاعر اليوناني إيبيقوس هو أحد هؤلاء الأربعة:
فأما أن يكون (بولقراطس وهو طاغية ساموس (من سنة 535 إلى سنة 542 ق م. وكان محباً للعلوم والآداب، واجتذب إليه أنا كريون، كما ذكرته المعلمة البريطانية) وفريقيديس وشاعرنا إيبيقوس. وكان قد أنشأ خزانة كتب ثمينة
وأما أن يكون (بيستراتيدس وكان طاغية آثينة، ومن قرابة صولون. وكان قد ساعد على ازدهار الصنائع والفنون والحراثة والزراعة، وحسن آثينة، وأمر بإعادة النظر في قصائد أوميرس وعمم نشرها بالنسخ والنقل وهي التي أصبحت أمّا لجميع ما نشر منها بالطبع بعد ذلك. وكان من أبناء المائة السادسة(484/23)
وإما أن يكون ابنه (هبياس الذي خلف والده على كرسي الملك في سنة 528 ق م، مع أخيه هبرخس فاجتذب إلى بلاطه الشاعرين (أنا كريون) و (سيمونيدس وأنشأ خزانة كتب عامة، وإنما أعمال أبيهما في ما يتعلق بأشعار أوميروس، وتصحيحها وإبرازها بحلة موشاة أحسن وشي
وإما أن يكون (برياندروس وهو طاغية كورنتس من سنة 621 إلى سنة 584 ق م. وكان قد خلف ولده قبسيلوس ووضع بعض أقوال حكمية اشتهرت فعد بين حكماء اليونان السبعة. وكان محامياً للعلوم والآداب والفلسفة، فاجتذب إلى كورنتس كليون وأنا خرسيس هؤلاء هم أشهر ملوك يونان المعروفين بحبهم للعلوم والآداب، وجذب العلماء والشعراء إلى بلاطهم، فكانوا يشركونهم في مجالس أنسهم وطربهم وشربهم ومآدبهم. وربما كان هناك غير هؤلاء الأربعة الذين ذكرناهم لكننا نجهلهم لجهلنا تاريخ اليونان وشعرائهم وأدبائهم
ولعل الأستاذ (محمد مندور) يهدينا إليهم أو إلى بعض منهم لأنه يظهر - على ما يبين من كلامه - أنه وقف على كتب اليونان التي لم يصب فيها قصة الكراكي، مع كل توغله في مطالعة أسفار تواريخهم وآدابهم، فجاءنا بكراكي مندورية، وغابت عنه الكراكي الأيبيقوسية
8 - الخاتمة والخلاصة
ظهر لنا، ولكل محب للتاريخ الحقيقي المبني على أخبار الأوائل، لا على الأوهام، لا على الأقاويل الأباطيل الفارغة، أن الشعر اليوناني الشهير الذي طلب من سرب الكراكي أن ينتقم له، كان (إيبيقوس)
أما اسم الملك الذي كتب إليه يستقدمه فلا يعرف على التحقيق، ولعله كان أحد هؤلاء الأربعة: (بولقراطس) أو (بيسستراتيدس) أو (هبياس) وأخوه هيرخس أو (برياندروس) وكانوا معاصرين جميعهم (لايبيقوس)، والله أعلم.
الأب أنستاس ماري السكردلى
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(484/24)
من أدباء الصعيد في القرن السادس
الرشيد الأسواني
للأستاذ محمود عزت عرفة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
دعواه الخلافة في اليمن
آلت هذه الدعوى بالرشيد إلى القبض عليه وتجريده، ثم إنفاذه مكبلاً إلى قوص وسجنه بها، وكان حاكمهاً (طرخان) ممن يسرون له عداوة قديمة؛ فشهره في الاسواق، ولم يقصر في إضعاف العقوبة له، ولكن سرعان ما ورد الأمر من قبل الملك الصالح بإطلاق سراح الرشيد، ولما يمض على اعتقاله أكثر من ليلتين (وكان الصالح إذ ذاك والياً على منية ابن خصيب)
ومن الغريب حقاً أن يكون هذا كل ما ينال الرشيد من عقوبة على دعواه الجريئة؛ وما من ريب في أن التهمة - بهذا الوضع - مبالغ فيها، ولا سيما إذا ذكرنا أن بعثته إلى اليمن وقعت في عهد الخليفة الحافظ لدين الله، والد الخليفة الظافر الذي رثاه الرشيد أول مقدمه إلى القاهرة
وقد حدد موعدها الأدفوي بعام تسع وثلاثين وخمسمائة - أي قبل وقفته في رثاء الخليفة الظافر بعشر سنوات - فهو لم يكن وقت هذه البعثة على شيء من الجاه أو النفوذ، يكفل له النجاة من عواقب دعوى جريئة، كتلك التي نسبت إليه، إن كان يجدي في مثل هذا نفوذ أو جاه!
نعم، قد يكون لسعي أخيه (المهذب) الذي كان عظيم الحظوة لدى الملك الصالح أثره في العفو عنه. . . ولكن، هل يتفق مع نوع هذه التهمة أن يأمر الصالح - بعد ليلتين من وصول الرشيد - بإطلاق سراحه والإحسان إليه، فيحضره والي قوص من سجنه مكرماً - كما يذكر ياقوت -؟
التهمة ولا شك مبالغ فيها - كما ذكرنا - وغير مستبعد أن تكون قد دست عليه في جملتها وتفصيلها، ثم تبينت براءته منها بوجه لم يدع إلى مؤاخذته سبيلاً. ويؤيد هذا الرأي عندنا(484/25)
أن الأدفوي (صاحب الطالع السعيد) يؤكد براءته من تهمة دعوى الخلافة بدليل يمكن أن نعده قاطعاً. فقد ذكر أنه ذهب إلى اليمن داعياً للخليفة الحافظ، متلقباً بعلم المهتدين، حتى قال فيه بعض شعرائهم من قصيدة بعث بها إلى صاحب مصر:
بعثت لنا علم المهتدين (م) ولكنه علم (أسود)!
ثم قال: (وقد وقفت على محضر كتبه باليمن، فيه خط جماعة كثيرة، أنه لم يدع الخلافة، وأنه مواظب على الدعوة للخليفة، رأيت المحضر بأسوان)
ويذهب ابن خلكان في تعليل الغضب عليه واعتقاله مذهباً آخر - دون أن يشير إلى قصة ادعائه الخلافة - فيذكر أن الرشيد كان قد مدح جماعة من ملوك اليمن، منهم علي بن حاتم الهمداني الذي قال فيه:
لقد أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا ... فلست أنال القحط في أرض قحطان
وقد كفلت لي (مأرب) بمآربي ... فلست على (أسوان) يوماً بأسوان
وأن جهلت حقي زعانف خندفِ ... فقد عرفت فضلى غطارف همْدانِ
قال: فحسده الداعي في عدن على ذلك، وكتب بالأبيات إلى صاحب مصر، فكانت سبب الغضب عليه
المهذب أخو الرشيد
كان من أسباب تعجيل العفو عن الرشيد ما سعى به أخوه المهذب (حسن بن الزبير) لدى الملك الصالح؛ وكان لديه أثيراً وبه مختصاً
والمهذب شاعر معروف، مجيد في نظمه وفي نثره. ذكره العماد الأصفهاني، فأجزل في الثناء عليه ثم قال: هو أشعر من الرشيد، والرشيد أعلم منه. ومن شعره قوله:
هْمُ نصبُ عيني أَنجدُوا أم غاروا ... ومُنى فؤادي أَنصَفوا أو جاروا
وهموا مكان السِّر من قلبي وإنْ ... بعُدتْ نوى بهمو وشطَّ مزارُ
تركوا المنازل والديار، فما لهم ... إلا القلوبَ منازلٌ وديار
واستوطنوا البيد القفار فأصبحت ... منهم ديار الأنس وهي قفارُ
وله أيضاً هذا البيت الذي يستشهد به علماء المعاني كثيراً، في باب الإطناب:
ومالي إلى ماءٍ سوى النيل غُلةٌ ... ولو أنهُ - أستغفُر الَله - زمزمُ(484/26)
وهو من قصيدة يمدح بها كنز الدولة ابن متوج أولها:
بأيِّ بلادٍ غيرِ أرضي أخيمُ ... وأيَّ أناسٍ غيرَ أهلي أيِّممُ
ومن أشهر شعر المهذب قصيدة له تسمي (النواحة) كتب بها إلى داعي اليمن يمدحه ويستعطفه على أخيه، ويقول فيها:
يا ربعُ أين ترى الأحبة يَّمموا؟ ... هل أنجدُوا من بعدنا أم أتهموا؟
رحلوا وقد لاح الصباح وإنما ... يسرى إذا جُنَّ الظلامُ الأنْجمُ
وتعوضت بالأنس روحي وحشةً ... لا أوحش لله المنازل منهمو!
لولا همو ما قمتُ بين ديارهْم ... حيرانَ أستافُ التراب وألثِم
وقد أجاب الرشيد على هذه القصيدة بميمية من وزنها قال فيها:
رحلوا فلا خلتِ المنازلُ منهمو ... ونأوْا فلا سلتِ الجوانحُ عنهمو
وسرَوْا - وقد كتموا الغداةَ مسيرهم - ... وضياء نور الشمس ما لا يُكتَم
وتبدَّلوا أرضَ العقيق عن الحمي ... روَّت جفوني أيَّ أرض يمموا!
ما ضرهم لو ودَّعوا من أودعوا ... نار الغرام، وسلَّموا من أسلموا
هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا ... أو أيمنوا أو أنجدوا أو أتهَموا
في غمرة السياسة
خرج الرشيد من معتقله موفور الكرامة، ممتلئ النفس بالآمال الجسم؛ وقد انتقل بعد حين إلى القاهرة فاحتل مكانه موموقة بين أدبائها.
وكانت أبواب المناصب أمامه مفتوحة، وسبله إليها معبدة. ولكن همته كانت أبعد من أن تفق من ذلك عند غاية، وقد اختير في عام 559 هـ ناظراً على الدواوين السلطانية في ثغر الإسكندرية، فكان ذلك على كره شديد منه؛ ولعله كان أشد اهتماما وقتئذ بما جرى في مصر من أحداث سياسية، اجتذبه تيارها - بعد حين - فخض غمرتها في جرأة وطموح كفاه حياته
وتفصيل ذلك أن أبا شجاع شاور بن مجير - وكان والياً على الصعيد الأعلى - قصد القاهرة بعد مقتل الملك الصالح عام 556 هـ وتمكن من قتل العادل وزير الخليفة العاضد (آخر خلفاء الفاطميين)، واحتلال مكانه من الوزارة. ثم لم يلبث أن خرج عليه أبو الأشبال(484/27)
ضرغام بن عامر فطرده من القاهرة وتولى الوزارة بعده.
وقد ذهب شاور إلى الشام مستنجداً بالملك الصالح نور الدين محمود زنكي أمير حلب، الذي أمده بجيش يقوده أسد الدين شيركوه (عام 559هـ) فانتصر على ضرغام وتبوأ منصب الوزارة من جديد.
ولكن ما عتم أن تنكر لحلفائه وخان عهد من نصروه، واستعان بملك الإفرنج صاحب بيت القدس على محاربتهم وطردهم؛ وبعد مناوشات وحرب وحصار انسحب شيركوه مرتداً بجيشه إلى الشام.
وفي أثناء هذه الحوادث كان يبدو ميل الرشيد إلى نصرة شيركوه، وقد جرت بينهما مكاتبات انتهى أمرها إلى شاور فحنق عليه حنقا شديداً وجد في طلبه ولكنه اختفى. . . واعتقل شاور المهذب - أخا الرشيد - لنفس التهمة. ولم يجد لديه ما استعطفه به من رقيق الأشعار، حتى التجأ إلى ابنه أبو الفوارس شجاع ابن شاور - وكان كريم النفس خيرا - فتقبل منه مدائحه التي بعث بها إليه من معتقله، وعنى بأمره أبلغ عناية، حتى تمكن من إخراجه من محبسه، ثم ضمه إليه ورفه من حاله واصطنعه. . . ولم يمتد حبل الحياة بالمهذب بعد هذا طويلاً فمات في ربيع الثاني من سنة 561 هـ
وفي عام 562 هـ عاد شيركوه إلى مصر فاستولى على الجيزة وهزم الإفرنج في الصعيد، ثم مضى إلى الإسكندرية فافتتحها، وجعل عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف. ولما عاد شيركوه إلى الصعيد حاصرت عساكر الإفرنج والمصريين مدينة الإسكندرية؛ وقد جاهد صلاح الدين في سبيل الاحتفاظ بها ثلاثة أشهر. وظهر أثناء ذلك أبو الحسين الرشيدي بعد أن طال اختفاؤه، واقبل يقاتل بين يدي صلاح الدين بسيفه؛ ولم يزل معه حتى تم رفع الحصار باتفاق أجراه الطرفان إثر عودة شيركوه، وبذلك تم انسحاب عسكر الشام
القبض على الرشيد ومقتله
لم يمض غير يسير على الحوادث حتى وقع الرشيد في قبضة شاور وكان حقده عليه بالغاً. قال ياقوت: (اتفق أن ظفر به على صفة لم تتحقق لنا، فأمر بإشهاره على جمل، وعلى رأسه طرطور، ووراءه جلواز ينال منه) وقد رؤى على هذه الحال الشنيعة وهو ينشد:(484/28)
إن كان عندك يا زمان بقيةٌ ... مما تهين به الكرام فهاتها
وشنق الرشيد وهو على حال عجيب من التجلد وفرط الاحتمال؛ وقد ظل يتمتم بآيات من القرآن الكريم حتى فاضت روحه، وكان ذلك في المحرم من سنة 563 هـ
ورواية المنذري عن مقتله تقول: (دخل مع الناصر الإسكندرية وكتب في أمور، فأخذه شاور وعذبه عذاباً شديداً. فبلغه أنه قال: (الهوان والعذاب من الملوك في طلب الملك ليس بعار. فأمر به فضربت عنقه)
وقد دفن الرشيد في الموضع الذي صلب فيه؛ ثم نقلت رفاته بعد عام أو أكثر إلى مقبرة خاصة في مدافن القاهرة.
(جرجا)
محمود عزت عرفة(484/29)
الأثر المصري
في نهضتنا الأدبية الحاضرة
للأديب بشري السيد أمين
قبل فتح السودان الأخير الذي تم للحكومتين المصرية والإنجليزية في سنة 1898 بقليل، كان الأدب والعلم بمعناهما المعروف في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصورين في فئة قليلة من الناس. فلما أراد الله، ولا راد لإرادته، وقضى، ولا ناقض لما قضى، أن يتم فتح السودان الأخير على المصرين والإنجليز، كان غنماً لنا بدل أن يكون غرماً علينا، وعاد علينا بأحسن الفوائد وأبركها بدل أن ينزل على رؤوسنا الويل والثبور وعظائم الأمور. وهذا من أعجب ما يبعث في النفوس العجب؛ إذ كان المنظور أن تأتي النتائج بعكس ذلك؛ وهذا طبعاً لا ينفي القول الكريم بأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة. فانتشر العلم، وذاع الأدب، وشاع في السواد الأعظم من شباب مدننا لكثرة ما أنشأ السادة الحاكمون من المدارس في مدن السودان الكبيرة وعواصمه، وما اهتموا به من شأن العلم والتعليم، وما أنشأوا من صحف وطبعوا من كتب. هذا إلى جلبهم مطابع لهذا الغرض وفت به كل الوفاء، وجعلت مدن السودان وأقاليمه القاصية، مرتبطة بالدانية منها، كالسلسلة الواحدة، لا يفصمها إلا بعد المسافة. وحتى هذه ذللت تذليلاً حال استقرار الحكم للمصريين والإنجليز بالبلاد، بإنشاء الخطوط الحديدية العديدة في كثير من أنحاء السودان وقد تولى التعليم في مدارس السودان أكفاء من خيرة الأساتذة المصريين، المشهود لهم بالعلم الغزير والأدب الكثير، فأداروه على خير الوجوه وأحسنها، وتصرفوا في شؤونه تصرفاً هو الغاية لمن يريد الإحسان، فكان عهد المصريين الأول من خير العهود التي مرت بالسودان في جميع أدواره الثقافية
وإني لأذهب إلى القول الآن غير متحفظ أن نهضتنا الأدبية الحاضرة ما هي إلا وليدة تلك الروح العلمية الأدبية السامية التي سرت إلينا من إخواننا المصريين الذين تولوا تعليم ناشئتنا في المدارس التي أنشأوها، والتي وجهتنا بعد ذلك فأحسنت التوجيه
ولا يفوتني أن أذكر - وأنا أكتب عن الأثر المصري في الأدب السوداني - ما للمحاضرات والمساجلات والمسامرات التي كان يتولى شؤونها أساطين البلاغة وجهابذة(484/30)
القول من المصريين في مجتمعاتنا وأنديتنا الأدبية بمهارة لا يشركهم فيها غيرهم، ولباقة لا يدانيهم فيها سواهم، من أثر لا يمحى، ولا زال واضح الصبغة، مشرق اللون في بعض أدبائنا على الخصوص، وفي أدبنا على العموم وفهمنا
للأدب ومعناه، وللعلم وجدواه، لا يعود الفضل فيها إلا إلى الأساتذة المصريين الذين تولوا تربيتنا وتثقيفنا بصفة مباشرة، أو غير مباشرة.
فنحن مدينون لهم بالفضل، ومقرون لهم بالجميل، فلولاهم، ومن يدري، لظللنا إلى الآن نسبح في ظلامين دامسين من جهلنا ولوننا: ظلام جهلنا الذي لا زال يبدده هذا الصبح الواضح لذي عينين، صبح العلم والمعرفة؛ ونسأل الله أن يأتي على بقاياه في زمن قريب. أما ظلام ألواننا، فهو آية من آيات الله الشاهدة فينا بقدرته وإعجازه، لأن الصبح بدل أن يجلوه يزيده إظلاماً!
إذ أضفت، إلى ما تقدم شغف شبابنا المثقف بما تخرجه الصحف، وتطلع به الكتب كل يوم من روائع الأدب المصري على أنواعه في الأغراض، وألوانه في الأساليب، أدركت في يسر سر انطباع أدبائنا على هذه الأنواع في الأغراض والألوان في الأساليب، لأن مثل هذا السحر في البيان العربي الممتاز مما لا يقوى على رده ومقاومته الأدباء الراسخون في الأدب وصنعة البيان، فكيف بمن هم حديثو عهد بالأدب ومزاولة الكتابة؟ ولأدركت في يسر كذلك أن هذه الثمرة من تلك الشجرة، ولتنبأت لنهضتنا الأدبية المباركة هذه بعاقبة تصير الهلال قمراً، والفجر صبحاً، والليل نهاراً. أو لم تسر النهضة الأدبية المصرية في بدايتها على مثل هذه الدرجات من التقدم حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من مكان ملحوظ ومجد باهر في عالم الأدب؟ فكذلك سيكون شأننا نحن في المستقبل القريب إن شاء الله.
ويتجلى لك بوضوح تام شغف شبابنا المتأدب بالأدب المصري المعاصر في تأثر بعضهم بأساليب بعض أئمة البيان هناك تأثراً تنم عليه أساليبهم وتفضحه ألسنتهم مفتخرة! فمنهم من يقلد الدكتور هيكل، ومنهم من يحاكي الدكتور طه، والأستاذ الزيات، والأستاذ المازني، ويشغف بأدب هؤلاء وغيرهم، حتى لا يجد غضاضة أن يفخر على غيره بأنه يملك القدرة التي تمكنه من تقليد أسلوب أحد المذكورين أو غيره في ما يكتب للصحف والمجلات. ولو(484/31)
سكت - عفا الله عنه - لدل من نفسه الفرع على أصله من غير تنبيه أو لفت نظر! على أن هذا ليس فيه لفاخر فضل، بقدر ما فيه من عيب واضح، وضلال فاضح.
ولا أنسى بجانب هذا أن أذكر أن لنا أدباء بالمعنى الصحيح، وأن لهؤلاء الأدباء أقداماً راسخة في الأدب على ألوانه وأوضاعه، وأنهم قد أوتوا من حسن البيان وسحره، وقوة التعبير وفصاحة الأسلوب وخلوصه من الشوائب قدراً يخلوهم الوقوف مع كبار أدباء العربية في العالم العربي، وإن آثارهم التي تطالعنا بها صحفنا المحلية كل يوم، أو الكتب التي أخرجوها للناس - وهي قليلة - من بضع سنين إلى اليوم، تشهد بهذه الحقيقة الواقعة، وتشهد فوق ذلك بأنهم لا يقلدون غيرهم، ولا يتأثرون سواهم في أسلوب أو تعبير أو فكرة، إلا إذا جاء ذلك عن غير قصد، لأنهم يريدون لأدبهم حياة، ولأمتهم بقاء ومكاناً ملحوظاً تحت الشمس، ولا يتأتى لهم ذلك، إلا إذا كانوا كذلك، والفضل في ذلك راجع إلى حسن توجيه الأدب المصري ورسمه لنا الطريق التي يجب على أدبائنا سلوكها كي تكون نهضتنا الأدبية نهضة بالمعنى الصحيح لقيامها على أمتن الدعائم، وأقوى الأسس التي يشاد عليها بناء نهضة أدبية لأمة متيقظة طامحة إلى المجد متطلعة إلى العلاء.
وبعد، فإن الأثر الأدبي المصري في الأدب السوداني المعاصر أثر واضح لا ينكر أو يخفي على ذي بصيرة وبصر للأسباب المذكورة آنفاً، وهي أسباب قوية حرية أن توجهنا توجيهاً رشيداً نحو العلم والأدب إن أحسنا الاسترشاد بها والتهدي بهديها، ولكن لابد للطفل من أن يقلد أباه بادئ ذي بدء حتى يكبر فيرسم لنفسه طريقاً في الحياة ليسير عليه، ولعلنا نجتاز الآن - في ثبات وهدى من أبصارنا وبصائرنا - هذه المرحلة
(السودان: الجزيرة أبا)
بشري السيد أمين(484/32)
أحلام (المنصورة)
للأستاذ صالح جودت
آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟ ... يومَ وَدَّعْتُكِ وَدَّعْتُ شَبَابِي!
أين أحلامي على تلك الروابي؟ ... ذابت الأحلامُ في قلبي المذابِ
لي حبيبٌ فيكِ أفْدِيه بعُمري
سُمْرَةُ النيل على خديّه تجري
هو إبهامي وأحلامي وشعري
ونعيمي بين عينيه وسُكري
كان عند الليلة الظلماء بدري
وله نجواي في دُنيا اغترابي ... يا ترى يذكرني بعد الغيابِ؟
آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟ ... يومَ وَدَّعْتُكِ وَدَّعْتُ شَبَابِي!
يا عروس النيل والبحر الصغيرِ
حَدِّثي عن مَلِكِ الغرب الغرير
يومَ أنْ جاءكِ في ذُل الأسير
لِفتىً من آل أ ُّ بَ أمير
ذكْرُهُ لا زال نفَّاحَ العبير
وَهَبَ النصرِ إلى الأُسْدِ الغِضَابِ ... مِنْ بَنِي (المنصورة) الغُرِّ الأَوابي
آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟ ... يوم ودعتك ودعت شبابي!
يا مُنَى الشرق وباريسَ الجَنُوبِ
مَنْ كأبنائِكِ في غَزْوِ الشعوب
شهداء المجد أبطال الحروب
وكغاداتك في غَزْوِ القلوب
بالعيون السُّودِ واللحظ اللَّعوب
المنى بَعْدَكِ مِنْ وَهْمِ السَّرَابِ ... والصِّبي في غير لُقْياكِ تصابى
آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟ ... يوم ودعتك ودعت شبابي!(484/33)
قد صحبتُ النيل من فجر الصعيدِ
لرشيد وإلى أخْتِ رشيد
ما وعى لحني ولا غنى نشيدي
غيرَ غاداتك في الخطو الوئيد
حين يَخْطرْنَ على النيل السعيد
بالوجوه السُّمْح كالنور المذاب ... يَتَهادَيْنَ بمعسول الدُّعَابِ
آه مَّما بي، وهل تدرين ما بي؟ ... يوم ودعتك ودعت شبابي!(484/34)
البريد الأدبي
ما لم ينشر من أدب الرافعي
في العدد الماضي من (الرسالة) قطعة ممتعة للمرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، فات الأستاذ العريان أن يضمها إلى مقالات الرافعي التي جمعها في الجزء الثالث من كتاب (وحي القلم)؛ والرافعي - طيب الله ثراه - كان أديب العربية الذي لا يلحق في صوغه وغوصه؛ لذلك كان كل ما يخطه قلمه تحفة فنية غالية، يجب أن يحرص عليها الأدب العربي
(لقد كان الرافعي في الكتابة طريقة وحده!)، كما قال الأستاذ الزيات بحق؛ فهل من عجب أن يعد الباحث الذي يعثر على مقالة ضائع له، أو قطعة مفقودة من وضعه، كالذي عثر على كنز أو ثروة!؟
إن الأستاذ العريان قد أدى للأدب العربي خدمة جليلة، حين شغل نفسه بجمع آثار الرافعي التي لم يسبق نشرها مجتمعة في كتاب واحد؛ وهو بإصداره الجزء الثالث من كتاب (وحي القلم)، قد أطلعنا على كنوز مخفية، أو ضائعة، طالما تاقت نفوسنا إلى الاطلاع عليها. . . يقول الأستاذ العريان في تصديره للجزء الأول من (وحي القلم): أما الجزء الثالث، فهذه طبعته لأولى؛ كان قصاصات من صحف، وصفحات من كتب ومجلات، فعاد كتاباً بين دفتين. . . وقد جمعت ما قدرت عليه بعد، فأضفته إلى ما جمع المؤلف، ورتبت كل ذلك وهيأته للمطبعة؛ فإن كان قد فاتني شيء مما ينبغي إضافته إلى ذلك الجزء. . . فمعذرة إلى قارئه؛ ولعلني - بمعونة القراء - أستدرك في الطبيعة الثانية - إن شاء الله - ما فاتني في الأولى)
وقد عثرت - عرضاً - على قطعة للرافعي عن (الإحسان الاجتماعي) المنشورة في صدر هذا العدد، فرأيت أن ألفت إلى ذلك نظر الأستاذ العريان، حتى يضمها إلى الجزء الثالث من (وحي القلم) في الطبعة الثانية إن شاء الله؛ وهذه القطعة قد ألقيت في سبتمبر سنة 1914. وعلى الرغم من أن الرافعي كان يومئذ - لا يزال - أديباً ناشئاً في مقتبل العمر - إذ كان لا يتجاوز الرابعة والثلاثين - إلا أننا نلمح في هذه القطعة روح الرافعي وطريقته في الكتابة بشكل ظاهر. وهذا يدلنا على أن طريقته في الإنشاء قد استقامت له منذ زمن(484/35)
بعيد!
وقد أرفقت هذه القطعة بكلمتي هذه، حتى يطلع عليها قراء لرسالة الغراء، ورأيت أن أحذف منها قطعة صغيرة بدأ بها الرافعي كلامه، مبيناً الظرف الذي دعاه إلى الكلام
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
زواج الأدباء للرافعي
أرسل إلينا الأديب نعمان أحمد عسكرية يقول: إن مقال (زواج الأدباء) الذي بعث به إلينا ونشرناه في (العدد 482)، قد عثر عليه مصادفة في مجلة كانت تصدر في القاهرة باسم (الإشاعة) وهو جواب الرافعي عن استفتاء وجهه محررها إلى رجال الأدب
حول نسخ الأحكام
أقول رداً على المقال المنشور في العدد 483 من مجلة الرسالة بعنوان (حول نسخ الأحكام): إن الإمام أبا جعفر بن النحاس يرى أن القول بشمول النسخ للأخبار يؤول إلى الكفر، وأن القول يجعل النسخ إلى الأمام أشد كفراً - كما في نصه المنقول في تعقيبي السابق وهو موضع البحث - فيثبت بالضرورة أنه لم يعز القول بجعل النسخ للأمام إلى فرقة إسلامية عنده، لظهور أن فئة يذكرها بأشد الكفر لا تكون فرقة إسلامية في نظره. فقول كاتب المقال: (فأما أن أبا جعفر لم يعز القول بذلك إلى فرقة إسلامية فليس بصحيح) - مع اعترافه بأن أبا جعفر ابن النحاس يكفر تلك الفرقة - يكون من قبيل إنكار النتيجة بعد التسليم بالمقدمتين
ذلك وقد أطبق أصحاب كتب الملل والنحل على أن الإسماعيلية الباطنية ليسوا بمسلمين وإن تظاهروا بالإسلام على ما يظهر من كتاب الرد على الباطنية لابن رزام، والفهرست لابن النديم، وكشف الأسرار للباقلاني. والفرق بين الفرق. وكتاب أصول الدين لأبي منصور البغدادي، والفصل لابن حزم، والتبصير لأبي المظفر الاسفراييني، وفضائح الباطنية للغزالي، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للفخر الرازي، وغيرها فليتفضل كاتب المقال بذكر واحد من أهل هذا الشأن يعدهم من فرق المسلمين غير الداخلين في فرق(484/36)
الكفر فنعذره بعض عذر في حسبانه الباطنية الإسماعيلية من فرق الإسلام لو وجد سبيلاً إلى ذلك، وليس بواجد
على أن من الظاهر كل الظهور أن جعل نسخ الوحي المنزل من حكيم حميد بين شفتي شخص بعد انقطاع زمن الوحي لا يعقل أن يصدر ممن يدين بدين الإسلام، فثبوت بطلان مثل هذا الرأي لا يحوج إلى أكثر من تصور طرفي الحكم من داع لما يقال له
وكون الدولة الفاطمية من الإسماعيلية الباطنية لا يزيدهم إلا سوء مخبر. وبناء القائد جوهر الأرمني الصقلي للجامع الأزهر لا يبرئهم من نحلتهم الإلحادية المكشوفة. ثم إن الجامع الأزهر إنما نعتز به كجامعة إسلامية منذ تولى أمره ملوك الإسلام وحماة السنة الغراء من عهد الظاهر بيبرس، وكان قبل ذلك محشداً للإسماعيلية ذكورهم وإناثهم يجتمعون فيه للعن الصحابة علناً جهاراً لنشر دعوتهم الإلحادية ليلاً ونهاراً؛ ولم يكن الأزهر في زمنهم جامعة، بل كان يحلق فيه فقهاء مذهبهم بين الظهر والعصر من يوم الجمعة في عهد الوزير بن كلس لإلقاء عظات في مذهب الرفض والباطنية. ويقول الإمام الباقلاني عنهم في كشف الأسرار: (هم قوم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض) وفي المنتظم لابن الجوزي، والبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ ابن الوردي صورة ما أصدره القضاة والأشراف وعلماء المذاهب ببغداد في تبيين أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح، وأن والد عبيد الله الذي تنتمي إليه العبيدية كان يهودياً صباغاً بسلمية حمص، وأنهم زنادقة أعداد للإسلام. وفي (اللمعات البرقية لابن طولون) ذكر نماذج من إلحادهم وزائف نسبهم. ونجد في كشف أسرار الباطنية للحمادي عند الكلام في تدرج الداخل في عودتهم ما نصه (قالوا له قرب قرباناً يكون لك سلماً ونجوى ونسأل لك مولانا (الإمام المعصوم) أن يحط عنك الصلاة ويضع عنك هذا الإصر، فيدفع أثنى عشر ديناراً، فيقول ذلك الداعي: يا مولانا إن عبدك فلاناً قد عرف الصلاة ومعانيها، فاطرح عنه الصلاة، وضع عنه هذا الإصر وهذا نجواه اثنا عشر ديناراً، فيقول: أشهدوا أني قد وضعت عنه الصلاة ويقرأ له (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) فعند ذلك يقبل إليه أهل هذه الدعوة يهنئونه ويقولون: الحمد لله الذي وضع عنك وزرك الذي انقض ظهرك. . .) وهكذا. وقد أفاض المقريزي في خططه في بيان المجالس التي يعقدها الداعي للذكور والإناث، ومنازل الدعوة، وعدد(484/37)
النطقاء إلى السابع الذي ينسخ الشرائع، وهو صاحب الزمان محمد بن إسماعيل ابن جعفر وهو سابع الأنبياء النطقاء في نحلتهم، ونبيناً فخر الرسل عليه الصلاة والسلام سادسهم عندهم، إلى غير هذا مما تضيق مجلة الرسالة عن بسطه الآن
صلاح الدين شفيق(484/38)
العدد 485 - بتاريخ: 19 - 10 - 1942(/)
أفعالهم من أمثالهم
للأستاذ عباس محمود العقاد
من مؤلف الأمثال؟
تلك الآيات القصار من موجز البلاغة من صائغها ومنتقى ألفاظها ومودع الحكمة في خلالها؟ إنها أسلوب غير أسلوب الفرد في كلامه، ولكن الأمم لا تجتمع للتأليف والصياغة فيقال أنها من تأليف أمة في أجيالها المتعاقبة. وهي بلا ريب لم تؤلف نفسها ولم تكن قولاً بغير قائل. فأصدق ما يقال فيها إنها كلام فرد صقلته الأمم جيلاً بعد جيل، وإنها وحي الإنسانية أجرته على بعض الألسنة وتعهدته بعد ذلك بالتنقيح والمراجعة فليست هي لغة فرد ولا صياغة أمة، ولكنها مساهمة من كل بما يستطيع فيها. فالفرد يستطيع أن يصوغ الكلام، والأمة تستطيع أن تقبل أو ترفض حتى يستقيم لها القول على ما تحب، ومن هذا وذاك تتجمع الأمثال
وقد اتفق في أمثال الأمم أمران عجيبان كأنهما متناقضان لا يتفقان
فأمثال الشعوب تتشابه في مغزاها، وتتوارث في محصولها ومؤداها، حتى يصح أن يقال في هذه الناحية إن الأمثال إنسانية عالمية يتفق فيها جميع الناس.
لكن أمثال الشعوب مع هذا قومية وطنية تدل على أهلها وتنم عن خلائق ملة بعينها، فلا تقرأ أمثال العرب دون أن تعرف منها شيئاً عن العرب لا تعرفك مثله عن الفرس أو الترك أو الروم، ولا تقرأ نخبة من أمثال الأوربيين إلا فرقت بينها وبين نخبة من أمثال الآسيويين أو الأمريكيين. فهي تكشف لنا الإنسانية لأن الأمم كلها من بين الإنسان، وتكشف لنا كل أمة على حدة لأن الناس يختلفون كما يتفقون، ولا تناقض بين الأمرين
ظهر في العهد الأخير كتاب إنكليزي عن الأمثال الروسية من أوفى ما كتب عن هذه الأمثال. فأوجز ما يوصف به إنه يلقي لك ضياء على كل حادث عظيم في تاريخ هذه الأمة ماضيها وحاضرها، منذ جلت عن سهوب آسيا إلى أن وقفت في حربها مع الألمان موقفها المجيد الذي قلت نظائره في تاريخ الحروب!
تقرأ هذه الأمثال فتوقن أن الروس والجرمان لا يعيشون في السلم والوئام إلى زمن طويل. وأول هذه الأمثال قولهم: إن (ما ينفع الروسي هلكة للألماني). . . ومصداق ذلك في(485/1)
الحرب الحاضرة غير بعيد
ومن تلك الأمثال وفيها الدلالة على الحرب التي يحسنها الروسيون، أن البحر جميل من الشاطئ، وأن البعيد عن البحر بعيد عن الأحزان، وأن الموت أخ للجندي الروسي، وأن امرأة هذا الجندي ليست بزوج ولا بأيم، وأنه (ما كل رصاصة تصيب عظمة في الجسد؛ فقد تصيب الرصاصة الفراغ!)
وقلما دخل الروس حرباً إلا تركوا بعدها أمثالاً تنبئنا ببعض أنبائها. فمن بقايا حرب نابليون مثلهم القائل: (ما أسعد الفرنسي بغراب!) لأن جنود نابليون كانوا يتصيدون الغربان التي تأكل قتلاهم فيطبخونها وهم هلكى من الجوع!
ومن بقايا حروبهم مع الترك ذلك المثل الذي يفيض بالسخرية والشهادة لشجاعة الخصمين: (يتساقط الترك، ولكننا والحمد لله صامدون في الميدان. . . بغير رؤوس!)
ولعلنا لا نعرف جهاد الروس في طلب الحرية من بضع كلمات كما نعرفه من الكلمات القليلة التي يجمعونها في قولهم: (تبحث عن شجاع. . . اذهب إلى السجن!)
فقد مضى على الروس حقاً ذلك الزمن الذي كانت فيه السجون أجدر الأمكنة أن تبحث فيها عن الرجل الشجاع، وذلك زمن الثورات، أو زمن الجهاد في طلب الحرية، أو زمن التمرد على السلطان الذي لا خير فيه
ويذكر القراء أن قياصرة الروس كانوا من أكبر الدعاة إلى السلم في عهدهم الأخير، وأن حكيم الروس الكبير - تولستوي - كان أكبر دعاة السلام في أوائل القرن العشرين. ولكن الروس وحدهم هم الشعب الذي سجل خيبة الأمل في السلم كما تمناه منهم الرؤساء والمصالحون، فقالوا في أمثالهم: (إن السلم الدائم ليدوم. . . ولكن إلى أول حرب مقبلة. . .)
وهكذا أوحت الحكمة إلى ألسنة الدهماء، ما لم توحه إلى الساسة ولا إلى الحكماء
وكل خلائق الروس ظاهرة في أمثالهم الشعبية، وليست خلائقهم في حروبهم وثوراتهم وكفى؛ فهم معروفون بالتواكل والاستسلام للقدر فيما ينوبهم من عثرات الجدود، وذلك ظاهر في قولهم: (إذا طرق بابك الجد العاثر فافتحه له على مصراعيه). . . يريدون أن الجد غالب على أمره؛ فكل حذر في اتقائه لا يفيد(485/2)
وهم معروفون بالمداورة بين القادرين المسيطرين عليهم، وذلك ظاهر في قولهم: (صل لله ولكن لا تهيج الشيطان!)
وهم معروفون بالحذر الدائم، وهو ظاهر في قولهم: (للخوف عيون واسعة) وقولهم: (من الحياة نخاف لا من الموت!)
وهم يتباطئون عن الجد كما يظهر من مثل الفلاح القائل: إلى الغيط. . . ما آلم هذا المغص في الأحشاء! إلى ألحان. . . هاتي المعطف يا امرأة، وعجلي!)
وتواكلهم مع معيشتهم في البيوت تظهر من أمثلة كثيرة في معارض شتى، منها: (إذا أقدمت على الزواج فلا تطيلي همك. . . ستعلمين متى يحين الموعد المقدور للبكاء ساعة يضربك زوجك!)
ومنها: (تزوج كبراهن وانظر إلى أمها وأبيها، أما الصغرى فلا تتزوج بها إلا وقد نظرت إلى أختها الكبرى)
ومنها: (زوجي سيئ أخافه، ولكني أكون معه فلا أخاف من أحد غيره!)
ومنها: (سأحفظ حكايات الخرافة متى رزقت الأحفاد)
وبسبيل من هذا وإن ظهرت فيه مناقضة للتواكل قولهم: (حسبما تهيئ فراشك يكون رقادك!)
وقولهم: (عش كما يتاح لك، ومت كما تتمنى!) أو قولهم: (من لم يكن صحيحاً في العشرين، عاقلاً في الثلاثين، غنياً في الأربعين، فلا أمل له في الصحة والعقل والغنى، حتى يموت)
ويقولون وفيه دليل على سوء الظن بالدنيا: (نرفع عقائرنا بالغناء فيسمعنا الناس، ونرفع عقائرنا بالعويل فليس للناس آذان)
ويقولون: (إن كان لابد من غرق فالبحر اللجي خير من البركة الآسنة) وفيه مشابهة لقول المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
ويقولون وفيه صدق الغرض وإن لم يكن فيه صدق التاريخ: (موسكو أحرقتها شمعة(485/3)
بدرهم)
فشمعة بدرهم قد تحرق موسكو حقاً، وإن لم تكن أحرقتها في حرب نابليون
ومن أبرع أمثالهم قولهم: (يولد الإنسان ليموت، ولكنه يموت ليحيا)
ومنها في فضل الوقاية: (يخاف الهواء الأصفر ممن يخافه) ومنها في المساواة والفوارق بين الناس: (عيوننا تملأها شمس واحدة، وبطوننا لا يملأها طعام واحد) ومنها: (من سكن بجوار المقابر لم يحزن على كل فقيد) ومنها: (راقب الجدي من أمام، وراقب الحصان من وراء، وراقب الشرير من كل جانب) ومنها في رشوة الحكام: (من باب الطريق صد ومن باب السر ترحيب)
وعلى الجملة يندر أن نعرف الروس من كتاب واحد كما نعرفهم من هذا الكتاب الذي جمع لنا المئات من أمثالهم المنتقاة
ونعتقد أن هذا هر شأن الأمثال في كل أمة وفي كل طبقة وفي كل جيل، وربما أغنتنا ثلاثة أمثال أو أربعة عن قراءة سفر مطول في أخلاق بعض الأمم خلال فترة من الفترات
فأي كتاب يدلنا على أخلاق المصريين في القرن الماضي كما يدلنا عليها مثلهم القائل: (أردب ما هو لك لا تحضر كيلة، تتعفر دقنك وتتعب في شيله) أو مثلهم القائل: (اللي يجوز أمي أقول له يا عمي) أو مثلهم القائل: (إن عبدوا تور حش وارمي له) وما شابه هذه الأمثال
فثلاثة أمثال من هذا القبيل تلخص لنا تاريخ الاستبداد في ذلك القرن وما أحدثه في مصر من التفكك واجتناب التعاون ومداراة الظلم والإذعان لكل آمر والعجز عن كل مقاومة
ومئات منتقاة من هذه الأمثال في شتى المعارض تجمع لنا من الأخلاق القومية والدلائل التاريخية ما يتفرق في كتب مختلفات تتكلم عن الأخلاق ولكنها لا تعرض لنا تلك الأخلاق عرضاً مجسماً كما تعرضها الأمثال
ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ قلة التمثل بالأمثال في هذه الأيام سواء بين المصريين أو بين الأمم الأخرى
فأبناء العصر الحاضر لا يحفظون أمثال أمتهم ولا يكررون ما يحفظونه منها، وليس هذا بعجيب إذا نظرنا إلى الخلق الغالب بين أكثر المحدثين(485/4)
فقل في أبناء عصرنا من يقتدي بالسلف أو يحب أن يقال عنه أنه ممن يقتدي بهم في المعيشة والسلوك. ولا معنى لسرد الأمثال ما لم يكن ديدن السلف حجة مقبولة بين القائلين والسامعين
إنما الخلق الغالب في عصرنا أن يباهي الرجل في يومه بمخالفة أمسه، وأن يجري في كل حين على بدعة لم يسبقه فيها سابق قبل حينه، وأن يتهالك على الجديد ولو لم تكن له مزية غير الجدة العابرة. وهذه حالة من الحالات النفسية لا توائمها متابعة الأمثال، أو تحريها في الأقوال والأعمال؛ بل هي تستدعي كلاماً يناقض المثل في لبابه ومرماه، وهو الارتجال المقتضب الذي لا يتعدى ساعته إلى ما وراءها، ولا يصلح للتكرار والاستشهاد
ولهذا تسنح الفرصة اليوم للحرص على ذخائر الأمثال، والاستزادة من مجموعاتها التي يخاف عليها النسيان والإهمال؛ فإنها لموصولة يوماً لا محالة، وإن طال عهد الانقطاع والارتجال.
عباس محمود العقاد(485/5)
مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية
نقلاً عن (برنارد لويس)
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
3 - القرن التاسع عشر
تقدمت الدراسات العربية في القرن التاسع عشر تقدماً عظيماً في جميع الأقطار المهمة في أوربا. ولقد كان من نتائج حملة نابليون في مصر أن أصبح الشرق الأدنى العربي في مقدمة الأمور السياسية الأوربية، وأن استعيد الاتصال بين العرب والفرنك بعد انقطاع دام قروناً عديدة، فشرع الكثيرون من الرحالين الأوربيين يزورون الشرق، ودخل عدد كثير من الطلاب المصريين في جامعات أوربا الغربية لدراسة ثقافة الغرب وفنه، واستثارة اهتمام جديد بالثقافة العربية بين الغربيين
وقد بدأ العلماء الفرنسيون الذين رافقوا نابليون الحركة العلمية الجديدة في الاستشراق الأوربي. والعلماء الفرنسيون هم من أبرز المشتغلين باللغة العربية في مطلع القرن التاسع عشر. وقد أنشأ المستشرق الفرنسي العظيم (سلفستر دي ساسي) جيلاً كاملاً من العلماء من جميع الجنسيات
وكذلك نجد في إنكلترا مجموعة منظمة ذات شأن من المشتغلين بالعربية، فكان إنشاء كرسي جديد للغة العربية في جامعة لندن - وكانت قد أنشأت حديثاً - وتكوين (الجمعية الآسيوية الملكية)، وهي مجمع مستشرقي الإنكليز، مما أثر في الاندفاع الجديد نحو الأبحاث الاستشراقية. وأصبح العلماء الإنكليز في الهند وهم الذين يدرسون لغة الإسلام ومدنيته للهنود يجدون أنفسهم ملزمين بدراسة اللغة العربية التي هي مصدر جميع الثقافات الإسلامية في كل اللغات. واكتسبت آثار المشتغلين بالعربية في القرن التاسع عشر ميزة وفائدة جديدتين نتيجة للتقدم الحاصل عند العرب أنفسهم. ففي خلال القرن التاسع عشر دخلت الشعوب التي تنطق بالعربية في دور بعث ثقافي وطني. وقد كابدوا في بداية الأمر مشقة من جراء قلة الكتب العربية المطبوعة، وقلة المطابع أيضاً، ولذلك كانت الطبعات الأنيقة العديدة للمؤلفات العربية الخالدة التي نشرت في أوربا - وقسم كبير منها في إنكلترا(485/6)
- ذات فائدة عظمى للجيل العربي الجديد من القراء، ومكنتهم من الحصول على مادة لم يكن الحصول عليها ممكناً من غير ذلك المصدر. وفي آخر الأمر، عندما أنشئت المطابع في الشرق وبدئ بطبع الكتب محلياً، كانت الكتب تطبع وفق النصوص العربية، وبذلك قام المستشرقون بدور مهم في إعادة ثقافة العرب إليهم، وقضوا دين عرب القرون الوسطى الذين نقلوا كتب الإغريق إلى الغرب
وليس في وسعنا في هذا المجال أكثر من أن نذكر بعض الشخصيات البارزة من بين المشتغلين بالعربية من الإنكليز. ونقتصر على أشخاص مثل (ج. هـ. هندلي) وهو أحد العلماء البارعين في الفارسية والعربية، ومن جملة مؤلفاته ترجمة ودراسة - في الإنجليزية - عن الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي. و (م. لمسدن) الذي كان أستاذ اللغتين العربية والفارسية في كلية (قلعة وليم) في الهند. وقد ألف أجرومية عربية كانت كثيرة التداول في القرن التاسع عشر في أوربا والهند كليهما. ومما يجب ذكره أن أولى المحاولات الإنجليزية لتنظيم التعليم في الهند كانت تشمل اشتراط دراسة اللغة العربية من مسلمي الهند، وكان (لمسدن) أحد الإنكليز الكثيرين الذين ساعدوا على إنجاز هذا الأمر، وكان في كلية (قلعة وليم) - وهي أولى الكليات الإنجليزية في الهند - كرسيان للغتين العربية والفارسية.
وكان أعظم الشخصيات الإنجليزية - بل الأوربية أيضاَ - بلا مراء في مطلع القرن التاسع عشر هو المستر إدورد وليم لين (1801 - 1876).
اهتم (لين) مزيد الاهتمام بالدراسات الاستشراقية منذ فجر شبابه وعلى الأخص بمصر، وسافر في يوليه سنة 1825 إلى الإسكندرية في زيارته الأولى لمصر، وكان السفر في البحر الأبيض المتوسط وقتئذ لا يزال كبير الخطر، ولم تخل رحلته تلك من مخاطر، فقد أصاب السفينة إعصار، وعجز قائدها عن إدارة دفتها، ولم يكن على ظهرها من يحسن القيادة، وبالرغم من أن (لين) لم يركب سفينة قط في حياته، فإنه أخذ الدفة بيده، واستطاع أن ينقذ السفينة من التحطيم بفضل معلوماته الرياضية. وحدث بعد ذلك أيضاً أن قامت في السفينة ثورة كادت تودي بحياته. وبعد سفر شهرين وصل (لين) إلى مصر حيث بقى إلى خريف سنة 1828 وقضى معظم الوقت في القاهرة. ومع أن رغبته الأصيلة كانت دراسة المصريين القدماء، فإنه سرعان ما وجد أحفادهم المحدثين أحق منهم بالدراسة بكثير، فشرع(485/7)
تو إقامته، في دراسة واسعة للغة العربية فحذقها حذقاً تاماً كتابة ولفظاً. وقد أفادته تلك الرحلة إلى الشرق - وهي الرحلة التي كان يتحرق شوقاً إليها - خبرة معنوية عظيمة. وقد قال في مذكراته:
عندما نزلت إلى الأرض لأول مرة داخلني شعور طاغ يشبه شعور عريس على أهبة رفع القناع عن وجه عروسه التي لم يرها من قبل. ولقد كان تأثره بعد ذلك بما رأى عميقاً، وامتلأ إعجاباً عظيماً بكل ما يمت إلى الإسلام بصلة
وعندما عاد إلى إنجلترا، كان قد درس مصر وشعبها ولغته دراسة عميقة، وكتب وصفاً مسهباً مخطوطاً عن الحياة في مصر. فلما طلب إليه أن يقوم بنشره أصر على الرجوع ثانية إلى مصر قبل طبع الكتاب استجابة لولوعه بالدقة العلمية التي كانت إحدى ميزات آثاره، فخصص رحلته الثانية في سنة 1833 - 35 لدراسة دقيقة عن الحياة في القاهرة. وكان من عادته في مصر أن يرتدي اللباس الذي يرتديه المصريون، وأن يقتصر في علاقاته على المصريين المسلمين. وقد اتخذ لنفسه داراً في القاهرة وعاش العيشة المعتادة التي يحياها أديب مصري من جميع الوجوه. وكانت هذه الأمور، مضافاً إليها طلاقة نطقه العربي وصحته، وشيء من السمة الشرقية في تقاطيعه، قد مكنته من أن يعيش كمصري بين المصريين، وأن يختلط بالمجتمع القاهري اختلاط الصديق والند. وكان يعرف في مصر باسم (منصور أفندي)
وعند عودته للمرة الثانية إلى إنجلترا نشر كتابه المشهور (وصف شمائل وعادات المصريين المحدثين) في جزءين فقوبل في الحال كأثر خالد، ونفدت الطبعة الأولى منه في أسبوعين، ولحقتها أخريات عديدات، كما أنه طبع في ألمانيا وأميركا واعتبر من مخلدات الأدب الإنجليزي، وهو يحتوي على وصف الحياة القاهرية وعاداتها، قبل أن يحل بها هذا التغيير الذي جعل منها مدنية حديثة. ولذلك فإنه سجل صحيح لعصر يكاد يكون غابراً، بدقة في الوصف فائقة، وهو مستند تاريخي ذو أهمية عليا لا يستغني عنه جميع الطلاب في مصر حتى الآن.
(للموضوع بقية)
عبد الوهاب أمين(485/8)
راقصة. . .
للأستاذ علي محمود طه
سَرَتْ بين أعينهم كالخيالْ ... تعانقُ آلهةً في الخيالْ
مُجَرَّدةً حسبتْ أَنها ... من الفنِّ في حَرَمٍ لا يُنَال
فليستْ تُحِسُّ اشتهاَء النفوس ... وليستْ تُحِسُّ عيونَ الرجال
وليستْ ترى غير معبودها ... على عرشه العبقريِّ الجلال
دعاها الهوى عنده للمثول ... وما الفنُّ إلا هوىً وامتثال
فخفَّتْ له شِبْهَ مسحورةٍ ... عَلَتْ وجهها مَسْحَةُ من خَبال
وفي روحها نشوةٌ حلوةٌ ... كمهجورةٍ مُنِّيَتْ بالوصال
تراها وقد طوَّفَتْ حوله ... جلاها الصِّبَى وزَهاها الدلال
تضمُّ الوشاحَ وَتُلْقِي به ... وفي خَطوها عِزَّةٌ واختيال
كفارسةٍ حضنتْ سيفها ... وألقتْ به بعد طول النضال
تمدُّ يديها وتثنيهما ... وترتدُّ في عِوَجٍ واعتدال
كحوريَّةِ النبع تطوي الرِّشاَء ... وتجذبُ ممتلئاتِ السجال
مُحَيَّرَةَ الطيف في مائجٍ ... من النور يغمرها حيث جال
تُخَيَّلُ للعين فيما تَرَى ... فراشةَ روضٍ جَفَتْهَا الظلال
وزنبقةً وَسْطَ بَلورةٍ ... على رفرف الشمس عند الزوال
تَنَقَّلُ كالحُلمْ بين الجفون ... وكالبرق بين رؤوس الجبال
على إصبعيْ قَدَمٍ ألْهِمَتْ ... هبوبَ الصَّبا ووثوبَ الغزال
وتُجْرِي ذراعيْنِ منسابتين ... كفرعين من جدولٍ في انثيال
كأنهما حولها تَرْسُمَانِ ... تقاطيعَ جسمٍ فريدِ المثال
أبَتْ أنْ تَمُسَّاهُ بالرَّاحتين ... ويَرْضى الهوى ويريد الجمال
ومن عَجَبٍ وهي مفتونةٌ ... تُرِيكَ الهوى وتُرِيكَ الضلال
تَلَوَّى وتسهو كلُهَّابةٍ ... تَرَاقصُ قبل فناءِ الذُّبال
وتعلو وتهبط مثل الشِّراع ... تَرَامَي الجنوبُ به والشَّمال(485/10)
وتعدو كأنَّ يداً خلفها ... تُعَذِّبُهَا بسياطٍ طوال
وتزحفُ رافعةً وجهها ... ضراعةَ مستغفرٍ في ابتهال
وتسقط عانيةً للجبين ... كقُمْرِيَّةٍ وقعتْ في الحبال
تَبِضُّ ترائبها لوعةً ... وتخفِقُ لا عن ضَنىً أو كلال
ولكنه بعضُ أشواقها ... وبعضُ الذي اسْتَوْدَعَتْهَا الليال!!
علي محمود طه(485/11)
من ملاحق كتاب (رسوم دار الخلافة)
دّنيَّةُ القاضي
في العصر العباسي
للأستاذ ميخائيل عواد
الدنية وتجمع على الدنيات، قلنسوة بشكل الدَّن (وهو الحب عند العرافين له عسعس)، محدودة الأطراف، طولها نحو شبرين تتخذ من ورق وفضة على قصب (عيدان)، وتغشى بالسواد، وتزين أحياناً بشنائق صفر طوال تتدلى على الصدر كان يلبسها القضاة عامة، في العصور الإسلامية السالفة، كما يلبسها الخطباء والأكابر أحياناً
قال الشريشي في شرح المقامة التاسعة للحريري: إن أصل الدنية: الدنينة كسفينة. . . وليست من كلام العرب، إنما هي من الألفاظ المستعملة في العراق. . . إه. والصواب: أن الدنية عربية منسوبة إلى الدن وليست بالدنينة
والغريب أن هذه اللفظة وردت في (النجوم الزاهرة) باسم (المدينة) وهذا تحريف ظاهر
وكان من أهم ماجريات سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة، أن (أبا جعفر المنصور أمر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، وأن يعلقوا السيوف في المناطق، ويكتبوا على ظهورهم: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم). فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي، فقال له أبو جعفر: ما حالك؟ قال: شر حال! وجهي في نصفي، وسيفي في لستي، وكتاب الله وراء ظهري، وقد صبغت بالسواد ثيابي. فضحك منه وأعفاه وحده من ذلك، وقال له: (إياك أن يسمع هذا منك أحد). قال أبو الفرج الأصفهاني: (ونسخت من كتاب لابن النطاح، فذكر مثل هذه القصة سواء وزاد فيها:
وكنا نُرَجِّي من إمام زيادةً ... فجاد بطول زاده في القلانس
نراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس
والظاهر أن الرشيد لم يحب هذا التغيير الذي أحدثه المنصور من قبله، فقد حكى الجاحظ أن العماني الراجز (دخل على الرشيد لينشده شعراً وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج، فقال: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفان دمالقان. . . فبكر من الغد وقد تزيا(485/12)
بزي الأعراب فأنشده. . .)
ثم جاء المعتصم فأعاد لبس القلانس الطوال تشبهاً بملوك الأعاجم، فلبسها الناس اقتداء به، وسميت المعتصميات.
ومما ذكره الجاحظ في اختلاف الناس في صنوف اللباس قوله: (. . . وهل ذلك إلا كتعظيم كور العمامة، واتخاذ القضاة القلانس العظام في حمارة القيظ، واتخاذ الخلفاء العمائم على القلانس! فإن كانت القلانس مكشوفة زادوا في طولها وحدة رءوسها حتى تكون فوق قلانس جميع الأمة. . .).
ولم يكن لبس الدنيات قاصراً على قضاة العرب، بل تعداهم إلى غيرهم من الأمم، فهذا الاصطخري الرحالة البلداني يقول في عرض كلامه على صور أهل فارس وزيهم: (وأما قضاتهم فإنهم يلبسون الدنيات وما أشبهها من القلانس المشمرة عن الأذنين، مع الطيالسة والقمص والجباب، ولا يلبسون دراعة ولا خفاً بكسرة، ولا قلنسوة تغطي الأذنين. . .)
وكان القضاة يتفردون بلبس هذه القلانس الطوال أينما وجدوا، وقد يدفعهم الأمر إلى منع كافة الناس من لبسها. فقد أنبأنا الكندي في نحو سنة 230هـ بقوله: (كان زي أهل مصر وجمال شيوخهم، وأهل الفقه والعدالة منهم لباس القلانس الطوال؛ كانوا يبالغون فيها، فأمرهم ابن أبي الليث (القاضي) بتركها ومنعهم لباسها وأن يشبهوا بلباس القاضي وزيه فلم ينتهوا. قال ابن عثمان: فجلس ابن أبي الليث في مجلس حكمه في المسجد واجتمع أولئك الشيوخ عليهم القلانس؛ فأقبل عبد الغني ومطر جميعاً فضربا رؤوس الشيوخ حتى ألقوا قلانسهم. قال: وأخبرني محمد بن أبي الحديد قال: حدثني عتبة بن بسطام قال: رأيت قلانس الشيوخ يومئذ في أيدي الصبيان والرعاع يلعبون بها، وكانوا بعد ذلك لا يدخلون إلى ابن أبي الليث ولا يحضرون مجلسه في قلنسوة
وأنشدنا إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن تميم للجمل:
وأخفت أيام الطوال وأهلها ... فرموا بكل طويلة لم تقصر
ما زلت تأخذهم بطرح طوالهم ... والمشي نحوك بالرؤوس الحسَّر
حتى تركتهم يرون لباسها ... بعد الجمال خطية لم تغفر
يتفزعون بكل قطعة خرقة ... يجدونها من أعين ومخبِّر(485/13)
فإذا خلا بهم المكان مشوا بها ... وتأبطوها بالمكان الأعمَرِ
فلئن ذعرت طوالهم فلطالما ... ذعرت ومن برؤائها لم يذعرِ
كانوا إذا دلفوا بهن لِمفْضَلٍ ... أمضى عليه من الوشيج الأسمر
كم موسرٍ أفقرته ومفقَّرٍ ... أغنيته من بعد جهد مفقرٍ
ما إن عليك لقيت منهم واحداً ... أوفى العجاج مدججاً في مغفر
لبسوا الطوال لكل يوم شهادة ... ولقوا القضاة بمشية وتبخْتُرِ
ما بي أراهم مطرقين كأنما ... دمغت رؤوسهم بحمى خيْبَرِ
أخبرنا ابن قديد عن يحيى بن عثمان قال: لما عزل ابن أبى الليث ترك الكثير من الشيوخ لباس القلانس؛ منهم أبو إبراهيم المزني سمعت كهمس بن معمر يقول: لما أمر ابن أبي الليث بطرح القلانس لم يثبت على لباسها إلا محمد بن رمح فلم يعارض
أخبرني إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن تميم أن النيل كان توقف؛ فاستسقى أهل مصر وحضر بن أبي الليث الاستسقاء، فوثب المصريون بسبب غلاء القمح؛ وأخذوا قلنسوته فلعبوا بها بعدما فعل قلانس أهل مصر بثمانية أيام)
والظاهر أن الدَّنِيَات كان قد ضعف شأنها، وقل استعمالها في بغداد، في المائة الخامسة للهجرة، فقد أشار إلى ذلك هلال ابن المحسن الصابئ (المتوفى سنة 448هـ) في عرض كلامه على جلوس الخلفاء وما يلبسونه في المواكب، وما يلبسه الداخلون عليهم من الخواص وجميع الطوائف. قال: (. . . فأما العباسيون من أرباب المراتب، فزيُّهم السواد بالأقبية المولدة والخفاف، ولهم منازل في شد المناطق والسيوف وتقلدها؛ اللهم إلا أن يكون منهم من قد ارتسم بالقضاء، فله أن يلبس الطيلسان. وأما قضاة الحضرة ومن أهل للسواد من قضاة الأمصار والبلاد؛ فبالقمص والطيالسة والدنيات والقراقفات، وقد تركت الدنيات والقراقفات في زماننا وعدل إلى العمائم السود المصقولة)
وكانت الدنيات تبرز في أيام مواكب الخلفاء في بغداد؛ إذ يحضر صنوف الناس على مراتبهم ورسومهم. قال هلال الصابئ: (وإذا اتفق يوم الموكب حضر حاجب الحجاب بأكمل لباسه: من القباء الأسود المولد، والعمامة السوداء، والسيف، والمنطقة، وقدامه الحجاب وخلفاؤهم، وجلس في الدهليز من وراء الستر، وحضر الوزير وأمير الجيش،(485/14)
ومن له رسم في حضور الموكب؛ فإذا تكامل الناس راسل الخليفة بذاك، فإن أراد أن يأذن الإذن العام، خرج الخادم الحرمي الرسائلي فاستدعى حاجب الحجاب ودخل وحده حتى يقف في الصحن، ويقبل الأرض، ثم يرسم له إيصال القوم على منازلهم، فيخرج ويدعو ولي العهد، إن كان في الوقت ولي العهد، وأولاد الخليفة، إن كان له ولد، ثم يدخل الوزير، ويمشي الحجاب بين يديه إلى أن يقرب من السرير. . . وأدخل بعده أمير الجيش. . . ثم أصحاب الدواوين والكتاب، وأوصل القواد يقدمهم خلفاء الحجاب على مراتبهم ودعوهم، ووقفوا يميناً وشمالاً على رسومهم، ونودي ببني هاشم ومن يلبس الدنيات ويتقلد الصلوات، فيقدمون إلى أول البساط ويسلمون ويقفون مفردين
للدنية أخبار طريفة كانت في أكثرها مدعاة للسخرية منها، والتمثيل بها. فقد روى أبو الفرج الأصفهاني حكاية قال فيها: أخبرنا محمد بن خلف وكيع، قال: كان الخليجي القاضي واسمه عبد الله (بن محمد) ابن أخت علوية المغني، وكان تياهاً صلفاً، فتقلد في خلافة الأمين قضاء الشرقية؛ فكان يجلس إلى اسطوانة من أساطين المسجد، فيستند إليها بجميع جسده ولا يتحرك، فإذا تقدم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده وترك الاستناد حتى يفصل بينهما ثم يعود لحاله، فعمد بعض المجان إلى رقعة من الرقاع التي يكتب فيها الدعاوى فألصقها في موضع دنيته بالدبق وتمكن منها. فلما تقدم إليه الخصوم، وأقبل عليهم بجميع جسده كما كان يفعل؛ انكشف رأسه وبقيت الدنية موضعها مصلوبة ملتصقة، فقام الخليجي مغضباً وعلم أنها حيلة وقعت عليه فغطى رأسه بطيلسانه وقام فانصرف وتركها مكانها حتى جاء بعض أعوانه فأخذها. وقال بعض شعراء ذلك العصر فيه هذه الأبيات:
إن الخليجي من تتايهه ... أثقل باد لنا من طلعته
ما إن لذي نخوة مناشبة ... بين أخاوينه وقصعتهِ
يصالح الخصم من يخاصمه ... خوفاً من الجور في قضيته
لو لم تدبقه كفّ قابضة ... لطار منها على رعيته
(البقية في العدد القادم) - بغداد
ميخائيل عواد(485/15)
إلى المعترضين علينا
للأب أنستاس ماري الكرملي
اعترض علينا في (الرسالة) 10: 869 حضرة الأستاذ اللغوي سعيد الأفغاني وغيره على أن جمع أفعل ومؤنثه فعلاء، غير مستند إلى نص صريح! (كذا) كأن قول سيبويه غير موثوق به! وذلك، (لأن نص سيبويه قاصر (كذا)، على أن جمع التكسير لأفعل فعلاً هو فعل العين (كذا). وما أظن أن كيفية تكسير هذه الصيغة كانت محل خلاف؛ وليس فيها شاهد على خطأ قولهم: صخور ملساء
(وإنما كان الأب بحاجة إلى نص صريح يستثني فيه هذه الصيغة من القاعدة العامة، وهي: أن نص جمع التكسير يكون بالمفرد المؤنث وبالجمع على السواء؛ فلك أن تقول: أشهر محرمة، وأشهر محرمات؛ وأياماً معدودة، وأياماً معدودات؛ كما في القرآن الكريم وغيره. فما الذي يفرد صيغة واحدة بين جميع صيغ النص بحكم خاص؟ هذا ما يحوج الأب الإبراه عليه. أما استقراؤه الشخصي، وطلبه من مخالفة الإتيان بشاهد، فلا يردان حجة، لأن المقيس لا يلزم له شاهد انتهى. . .
قلنا: إننا لا نحتاج إلى نص صريح تستثنى فيه هذه الصيغة لأن قاعدة جمع أفعل فعلاً، قاعدة قائمة بنفسها، وليس لها صلة بالقاعدة العامة، إذ هي قاعدة خاصة بهذا الوزن، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة الرواية؛ والمسموع من كلام فصحاء العرب وبلغائهم هي أحسن شاهد، بل أحسن قاعدة لما نريد أن نثبته، ولا يهمنا بعد ذلك ضوابط النحاة، وقواعد الصرفيين، وآراء اللغويين، وتحكمات المتأولين، وأرباب الأحكام العربية، لأنهم لم يستقروا جميع قواعد اللغة المضرية. وبيدنا شواهد لا تحصى تدل على نقصان ضوابطهم وتتبعاتهم واستقراءاتهم، وربما ذكرنا شيئاً منها في فرصة مناسبة
ولهذا لا نعتمد في أغلب الأحايين على قواعد النحاة ولا على ما يقوله اللغويون، إلا إذا اتفق كلامهم وما ورد في الآي القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، وما سمع من كلام فصحاء الأقدمين الصادق النسب إليهم، فإن لم يتفق، لا نحفل بكلام الخليل، ولا بأقوال سيبويه، ولا بآراء تفطويه، ولا بنص عفطويه. فلقد رأينا في الآيات البديعة نعوتاً مختلفة واردة مفردة مؤنثة لموصوفات أو منعوتات مجموعة، كما قال حضرة أستاذنا الكريم النابه(485/17)
الأفغاني، ونحن تبعناها في جميع ما نكتب، وكتبنا. . . فقد جاء مثلاً في سورة الحج: (والقاسية قلوبهم)؛ وفي سورة الإنسان: (ودانيةً ظلالها)؛ وفي سورة الهمزة: (في عمد ممددة)؛ وفي سورة التوبة: (والمؤلفة قلوبهم). . .
لكننا لم نر مرة واحدة صفة مفردة مؤنثة لموصوف مجموع جمع مكسر كقول أحدهم: كريات حمراء؛ مع إننا وجدنا أمثلة مختلفة وكثيرة لقولهم: أياماً معدودات، وأياماً معدودة؛ وأشهر محرمات، وأشهر محرمة، ولم يستعمل الوجهان، مرة هذا، ومرة هذا، لا لجواز النطق بهما؛ فلماذا لم يأت أمثالها في الآي الفصيح، بل جاءت كلها على فُعل؟ ذلكم - يا سادتي - لأن القول بفعلاء في مثل هذا الموطن لا يجوز البتة، ولأنه غلط شنيع فظيع، تلعنه الإنس والجن، وملائكة السماء، وأهل النار جميعاً!!
وكيف يجوز لك أن تقول: رجال سوداء، ونساء سمراء، ونهارات غراء، وليال سوداء. . .؟ إني أعد ذلك كفراً وبسلاً ولعنة وتحقيراً للغة الضاد!!
وفي المائة والأربع عشر سورة، سبعة وسبعون ألف كلمة، وتسعمائة وأربع وثلاثون كلمة، وليس فيها شاهد واحد على ما يدعي هؤلاء المساكين! وفي تلك السور من لغات القبائل خمسون لغة، وقد استخرجناها من تفسير الطبري الكبير، الواقع في عشرين مجلداً، ومن كتاب الإتقان السيوطي، ودونك أسماء تلك القبائل مرتبة على حروف المعجم:
1 - أزدشنوءَة 2 - أشعر 3 - أنمار 4 - أوس 5 - بَلِيّ 6 - بنو حنيفة 7 - بنو العنبر (لا بنو الغُبَّر، كما وهم أحدهم) 8 - بنو فُجَاءَة 9 - تغلب 10 - تميم 11 - ثقيف 12 - جُذام 13 - جُرْهُم 14 - حضرموت 15 - حمير 16 - خثعم 17 - خزاعة 18 - الخزرج 19 - سبأ 20 - سدوس 21 - سعد العشيرة 22 - السكاسك 23 - طيّيء 24 - عامر بن صعصعة 25 - عذرة 26 - العمالقة 27 - عُمان (وزان غراب) 28 - عنز 29 - عنس 30 - غامد 31 - الغثاة 32 - غسان 33 - غطفان 34 - الغوث 35 - غيلان 36 - فرحان 37 - قريش 38 - قيس 39 - كنانة 40 - كندة 41 - لخم 42 - مدين 43 - مَذْحِج (وزان مجلس) 44 - مُزَيْنَة 45 - النمر 46 - نمير 47 - هُذَيْل 48 - هُوَازِن 49 - اليمامة 50 - اليمن
على أن الحقيقة هي: أن لغات قبائل العرب تنيف على المائة، لكني لم أبوبها إلى الآن. ثم(485/18)
قد يكون في القبيلة الواحدة لغتان ما عدا اللغة الفصحى، وإذا طالعت في تاج العروس ما جاء على الأنفحة في مادة (ن ف ح) تصدق ما نقوله لك.
هذا ما عدا ما ورد في القرآن الكريم من الكلم اليونانية والرومية والفارسية والأرمية (السريانية)، والحبشية والبربرية، والعبرية والقبطية. وقد طالعنا (القرآن) مراراً لا تحصى ولم نجد فيه كلمة واحدة تؤيد مدعاهم. وطالعنا (النهاية) لابن الأثير، وهي في أربعة مجلدات، وتحوي أصدق الأحاديث النبوية الصحيحة ولم نجد شاهداً واحداً على ما يفتئتون. وكذلك لم نجد حرفاً واحداً في شعر الأقدمين، ولا في كلام فصحائهم المفوهين، ولا في (القاموس) وهو في أربعة مجلدات، ولا في (لسان العرب) وهو في عشرين مجلداً، ولا في (تاج العروس) وهو في عشرة مجلدات ضخام كبار، ولا في (الفائق) للزمخشري وهو في مجلدين كبيرين إلى غيرها (كصحاح) الجوهري و (الكليات) لأبي البقاء و (ديوان الأدب) للفارابي، وقد خططنا بالحمرة تحت كل كلمة، علامة على أنا طالعنا تلك المصنفات حرفاً حرفاً وبكل تدبر وترو، وذلك للمرة الثالثة أو الرابعة على كل تقدير، ومن يشك يراجعنا في الأمر.
فإذا كان النحاة والصرفيون لم ينتبهوا إلى هذه الحقيقة الناصعة البيان، أفهذا ذنبنا يا سيدتي الكرام؟
ثم إن أكبر نحاتهم غلط أغلاطاً كثيرة، كبيرة، قعيرة تكاد تكون جريرة، أريد بهذا الإمام سيبويه. فقد ألف (الكتاب) فنقده أبو بكر الزبيدي في (كتاب الأبنية والزيادات على ما أورده فيه مهذباً) وعنى بطبعه المستشرق الإيطالي إغناطيوس جويدي، وطبعه في روما سنة 1890م
وقد وجدنا نحن أغلاطاً كثيرة للخليل بن أحمد الفراهيدي أستاذ سيبويه، وليس الآن محل ذكرها هنا. ومثل ذلك قل على عدد جم من القدامى. أمل لغة القرآن والأحاديث الصحيحة والمسموع من كلام بلغاء العرب كالوارد في البيان والتبيين، وكتاب الحيوان، وكلاهما للجاحظ، وكالوارد في الكامل للمبرد، وكالمذكور في الأغاني، وما كان من هذا القبيل فهو كالإبريز النقي الذي لا عيب فيه
فكيف نصدق بعد هذا أقوال هؤلاء الأئمة ومن أتبعهم من غير أن تحقق أقوالهم ويبحث(485/19)
عما فيها من الوهن والفهاهة؟ فهل أوتوا التنزيل من السماء حتى لا يجسر أحد على تخطئتهم، أو التعقيب عليهم، أو الاستدراك عليهم؟ وهل أوصد باب الاجتهاد في لغة الضاد، كما أوصد بعضهم باب الاجتهاد في الدين؟ - إن الله مع الصابرين!
شروط جمع أفعل فعلاء على فعل
لهذا الجمع القائم بنفسه ستة شروط وهي:
(الأول) على أن يدل على (لون) ويكون (نعتاً) صرفاً لا منقولاً إلى الاسمية أو الموصوفية، ولهذا تجمع أسود على أساود للحية الكبيرة فيها سواد، وأجدل على أجادل للصقر، وأدهم على أداهم للقيد، إلى نظائرها. ومن النعوت الدالة على لون أو شِيَةٍ وهي على فُعْل ما جاء في سورة المرسلات: (كأنه جمالة صُفْر). وفي سورة طه: (ويوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً). وفي سورة فاطر: (ومن الجبال جدد بيضٌ وحمرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سود). وفي سورة الكهف: (ويلبسون ثياباً خضراً من سندس). وفي سورة الإنسان: (عاليهم ثياب سُنْدس خُضْرٌ). إلى غيرها وهي كثيرة. ومما سمع عن فصحاء العرب قولهم: حُدُلٌ ككتب جمعاً لأحدَل وحدْلاء. قالوا: هذا شاذ لأن أفعل وفعلاء من الألوان والعيوب والشيات يجمعان على فُعْل بالضم والسكون. إنما ثقل بعضهم طائفة من الألفاظ من هذا القبيل على لغة لبعض قبائلهم، فإنهم يثقلون ما هو مخفف من باب الشاذ، ولا تقس عليه إذ لا يحق لك أن تفعله
(الثاني) أن يدل على (عيب) إلَّمْ يدل على (لون) كما في سورة البقرة (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)
(الثالث) أن يدل على (حلية أو زينة) إلَّمْ يدل على عيب أو لون. كقولك: رجل أهيف، وامرأة هيفاء، ونساء هيف ورجال هيف، ورجل أحور، وامرأة حوراء، وقوم حُوْر، ونساء حور. ومنه في سورة الرحمن: (حور مقصورات في الخيام). وفي سورة الطور: (وزوجناهم بحور عين)
(الرابع) أن يكون للنعت المذكر نعت مؤنث يقابله ومن لفظه، وبالعكس، فإن لم يكن كذلك، لم يُجز تكسيره على فُعْل، بل على وزن آخر سمع منهم. تقول في جمع حسناء: حسان لأنه ليس لها مذكر من لفظها على وزن أفعل. ومنه في سورة الرحمن: (فيهن خيرات(485/20)
حسان). وفيها أيضاً: (متكئين على رفرف خضار وعبقري حسان)
وتقول في جمع الصقلاء، وهي المنهضمة الخصر الصقال للسبب المذكور. وقالوا: أعوام عُوَّم، كسكر، ومفردها عام أعوم ولم يقولوا سنة عوماء. قال القجاج:
من حرِّ أعوام السنين العوَّم
(الخامس) إذا أشير إلى الجمع المكسر بضمير مفرد مؤنث لكونه لغير العاقل، أو جاور (فعلاء) وصف مفرد مؤنث يصح أن يكون للمفرد وللجمع على السواء، فأنت مخير في أن تنعته بفعل أو بفعلاء، وإذا كان اللفظ في الشعر والوزن يقتضي (فعلاء) فلا تخف من أن تزن اللفظ هذا الوزن. وكذلك يقال على الجمع المكسر لغير العاقل، فيصاغ نعته على (فعلاء) إذا كانت هيئة ذلك الاسم المجموع بهيئة نعت مفرد مؤنث تقول: قنا خطية ملد، وقنا خطية ملداء، لأنك نصف تلك القنا بأنها (خطية) وبأن هذه (الخطية) ملد، أو ملداء.
وما عدا ذلك لا يجوز لك أن تنعت الاسم المكسر بنعت مفرد مؤنث، ولاسيما إذا كان الاسم المنعوت مجموعاً جمعاً مؤنثاً سالماً، فلا نقول قط كريات بيضاء.
(يتبع)
الأب أنستاس ماري الكرملي
أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
بغداد في 2691942(485/21)
42 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق
إن الضيافة فضيلة في الشرقيين تثير الإعجاب الحق للغاية. ويستحق المصريون من أجلها كل ثناء. ويطلق عادة على الزائر أو الضيف في مصر كلمة (مسافر). وقل في مصر من يفكر في تناول طعامه وفي بيته غريب دون أن يدعوه إلى مؤاكلته إلا إذا كان المدعو من طبقة دنيا فيدعى إلى مائدة الخدم. ويعتبر امتناع المسلم عن الأمر بإعداد المائدة في الوقت المعتاد لأن زائراً دخل عرضاً، مخالفة فاضحة للآداب. ويتناول أفراد الطبقة الوسطى عشاءهم أحياناً أمام أبواب دارهم عندما يعيشون منفردين، فيدعون كل عابر جليل الهيئة ليأكل معهم. ويفعل هذا عادة أفراد الطبقة الدنيا. والاستضافة في المدن نادرة لأن فيها وكالات أو خانات يستطيع الغرباء المبيت فيها. كما أن الحصول على الطعام فيها أمر هين. أما في القرى فكثيراً ما يضيف المسافرين شيخ القرية أو غيره من السكان؛ وفي العادة أن يقدم الضيف من الطبقتين العليا والوسطى عطية إلى خدم المضيف أو إلى المضيف نفسه. ولكن يندر أن تقبل عطية الضيف في البادية. وللمسافر أن يستقري، بموجب السنة، من يستطيع أن يقريه ثلاثة أيام. وتقدم لنا التوراة في قصة إبراهيم وإضافته الملائكة الثلاثة صورة كاملة للطريقة التي يستقبل بها الشيخ البدوي الآن الوافدين على مخيمه. فهو يأمر زوجه أو نساءه بعمل الخبز في الحال، ثم يذبح نعجة أو غيرها ويطهيها على عجل، ثم يحضر لبناً أو أي طعام آخر مهيأ فيقدمهما لضيوفه مع الخبز واللحم الذي أعده. ويقف البدوي بين أيدي عظماء الضيوف أثناء تناولهم الطعام كما فعل إبراهيم في القصة المشار إليها. ويكاد أغلب البدو يؤثرون الضيم على أن يرضوا بالإساءة(485/22)
إلى ضيوفهم مدة الضيافة
كان من المعتاد أن ترى في القاهرة طوائف من (الطفيليين) الذين يستفيدون من ضيافة مواطنيهم، فيعيشون على التطفل. إلا أن هذه الطائفة نقص عددها أخيراً. وكان من المؤكد تقريباً أن يوجد بعض هؤلاء الأبطال حيث تولم وليمة، ولا يمكن التخلص منهم إلا بنفحة من النقود. وهم يتجولون أيضاً في البلاد دون أن يملكوا فلساً واحداً، فيتطفلون على المنازل الخاصة كلما احتاجوا إلى طعام، ويسعون إلى ذلك بمختلف الحيل. وحكي لي أن طفيليين عزما على الذهاب إلى مولد السيد البدوي في طنطا، وهي على مسيرة يومين ونصف يوم من القاهرة سفراً هيناً، فسار الطفيليان الهوينى حتى بلغا قليوب في نهاية اليوم الأول وتحيرا في الحصول على عشاء، فذهب أحدهما إلى القاضي، وبعد أن حياه قال: يا مولانا القاضي. . . أنا في طريقي من الشرقية إلى مصر، ومعي رفيق في ذمته لي خمسون كيساً يحملها معه ويرفض أن يعطيني إياها، وأنا في حاجة إليها الآن. فقال القاضي: أين رفيقك؟ فأجاب المدعي: هنا في هذه المدينة. فأرسل القاضي من يحضر المتهم، وأمر في أثناء ذلك بإعداد عشاء طيب، إذ كان يتوقع رسماً كبيراً في قضية كهذه، وهذا ما كان يفعله قضاة الأرياف في مثل هذه الظروف. ودعا القاضي الخصمين إلى العشاء والمبيت قبل النظر في القضية. ونظرت الدعوى في الصباح، فسلم المتهم بوجود الخمسين كيساً معه وقال: إنه مستعد لردها لأنها تتعبه، فهي ليست غير أكياس الورق التي يباع فيها البن؛ ثم قال: نحن طفيليان. فطردهما القاضي غاضباً
إن اعتدال المصريين في الطعام والشراب مثالي. فقلما رأيت منذ قدومي الأول مصرياً في حالة سكر ما لم يكن عازفاً في سامر أو راقصة أو عاهرة من السفلة. ويبدي المصريون احتراماً عظيماً للخبز باعتباره سند الحياة. ولا يجيزون البتة التبذير في أصغر قطعة منه إذا استطاعوا تجنب ذلك. وكثيراً ما لاحظت بعضهم يرفع قطعة الخبز إذا سقطت عرضاً في الطريق إلى فمه وجبهته ثلاث مرات، ويفضلون وضعها على جنب لكي يأكلها كلب على أن يدوسها المارة. وقد روى لي كثيرون الحادث التالي الذي يدل على احترام المصريين للخبز إلى حد غير معقول؛ ولكن ينبغي القول أن هذه الرواية يصعب تصديقها: كان خادمان يتناولان طعامهما جالسين لدى باب سيدهما عندما أبصرا مملوكاً يتجه نحوهما(485/23)
راكباً في جمع من رجاله. فقام أحد الخادمين احتراماً للقادم العظيم؛ فصاح القادم غاضباً: أيهما أحق بالاحترام: الخبز أم أنا؟ ثم أشار بيده إلى المذنب إشارة معلومة دون أن ينتظر منه جواباً، فضرب عنقه في الحال
يراعي المسلمون المصريون من الطبقتين العليا والوسطى النظافة بدقة. وتعتبر الطبقة الدنيا في مصر أكثر اعتناء بالنظافة من غيرها في أغلب البلدان الأخرى. ولعل المسلمين ما كانوا يهتمون بالنظافة إلى هذه الدرجة لو لم يأمر بها الدين. ويبدو مما سبق ذكره في الفصل الثاني من هذا الكتاب أن الواجب ألا نحكم على المسلمين، نظراً لنظافتهم، من تركهم أطفالهم في حالة قذرة. ولا شك أن الوضوء أمر حكيم؛ فالصحة لا تكون في البلاد الحارة إلا بالنظافة. ويحرص المصريون حرصاً خاصاً على تجنب كل ما قرر الدين قذارته ونجاسته؛ فيمتنع المسلمون عن شرب النبيذ لعدة أسباب أحدها أنه نجس. وأعتقد أنه يندر حمل مسلم على تناول قطعة من لحم الخنزير. وقد تحدثت مرة مع مسلم في موضوع الخنزير فقال إن الفرنج شعب يفتري الناس عليه كثيراً؛ فلا شك أن المعروف عنهم أنهم يأكلون الخنزير، ولكن بعض المفترين هنا يؤكدون أنهم لا يأكلون لحم هذا الحيوان النجس فحسب، بل يأكلون جلده وأحشاءه والدم ذاته أيضاَ. فلما اعترفت له بصدق التهمة انفجر يلعن الكفار ويدعو عليهم بالدرك الأسفل من النار
يدين أكثر القصابين الذين يبيعون اللحم إلى أهل القاهرة المسلمين باليهودية. وقد اشتكى منذ سنوات مضت أحد العلماء الكبار إلى الباشا من هذا الأمر والتمس وقفه. وسمع بذلك عالم آخر فتبعه وألح أمام الباشا في أن هذا العمل لا يخالف الشرع. فقال المشتكي: قدم دليلك. فأجاب الآخر: دليلي قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه). فاستدعى حينئذ رئيس القصابين اليهود وسأله هل يقول شيئاً قبل ذبح الحيوان؟ فأجاب: نعم. نحن نقول دائماً مثل المسلمين: باسم الله الله أكبر. ولا نذبح الحيوان إلا بحز نحره. فصرف المشتكي حينئذ
ذهب رجل منذ أيام قليلة إلى خباز ليشتري فطيرة، فرآه يسحب من الفرن طبقاً به لحم خنزير كان يشويه لإفرنجي، فاستدعى الرجل في الحال شرطياً من أقرب قسم لأنه يعتقد أن من الممكن أن تكون الأشياء الأخرى لامست اللحم النجس فتلوثت. وألزم الشرطي قيادة(485/24)
الخباز إلى الضابط. فلم يجزع الخباز واحتج بجهله أن اللحم كان خنزيراً. واعتبر الضابط الحادث مهماً يستدعي رفعه إلى ديوان الباشا. فرأى رئيس الديوان أن الأمر خطير يصعب الحكم فيه فأرسل المتهم إلى المحكمة. فاستفتى القاضي المفتي فأفتى أن كل طعام لا يكون نجساً في أصله تطهره النار مما يلوثه. فيعتبر طاهراً أي طعام وجد في الفرن ولو لامس الخنزير.
واستقدم الباشا من أوربا منذ مدة قصيرة لديوان حريمه طقماً من الحشايا والوسائد حشيت بشعر الخيل. ففتحت السيدات إحدى الوسائد ليتحققن من المادة التي تجعلها وثيرة على هذا الشكل اللطيف. فلما رأينها من شعر الكلاب تقززن أشد التقزز وأصررن على طرح الديوان بأكمله
واستخدم الباشا منذ سنوات قليلة رجلاً فرنسياً لتكرير السكر. فاستعمل هذا الأخير الدم لهذا الغرض. ومنذ ذلك اليوم قل من يجرؤ من المصريين على استهلاك السكر الذي يصنعه هذا الإفرنجي. فاضطر الباشا إلى تحريم استعمال الدم في مصانعه واستبدل به زلال البيض. وقد رأى بعض المصريين أن السكر الأوربي يفضل السكر المصري فاستعملوا الأول على اعتبار أن ما كان طاهراً في الأصل يمكن أن يطهر مرة أخرى بعد تلوثه. ولكني مضطر إلى استعمال السكر المصري غير المكرر في عمل الشراب لضيوفي إذ أن البعض يناقشني طويلاً في هذا الموضوع.
جرت العادة أن يصب المصريون على ملابسهم بعد غسلها ماءً نقياً ناطقين بالشهادتين. وقد ذكرت عند الكلام على الدين عادات أخرى في النظافة يراعي المصريون أغلبها. ولكن المصريين بالرغم من هذه العادات والمبادئ في الطهارة وتعودهم الاستحمام لا يغيرون ملابسهم الداخلية كثيراً بقدر ما تفعل بعض الشعوب التي تعيش في أقصى الشمال والتي لا تحتاج إلى ذلك كثيراً، ويذهب المصريون إلى الحمام مراراً في ملابس قذرة يلبسونها بعينها ثانية بعد استحمام تام.
يتبع
عدلي طاهر نور(485/25)
قصيدة مصر الجديدة
(مهداة إلى نادي الخرجين في السودان، وإلى جميع أصدقاء
(الرسالة) هناك)
للدكتور زكي مبارك
(حدثت الأستاذ الزيات أني سأنشر قصيدة أتحدى بها جميع
الشعراء، وأقول أن هذا الزهو لم يخطر في البال وأنا أنظم
هذا القصيد، فقد أوحته روحانية لا تسيطر على النفس إلا في
أندر الأحايين، فجاء كما يراه أقباساً من الأشواق العواصف
بالقلب والوجدان
وفتنة الشاعر بشعره مرض عرفته جميع الأجيال، فليس من الغريب أن أقول إني مفتون بهذا القصيد، وأن أزعم أني قبسته من جمر الوجود
أنا أكره أن تبيت قلوب وعيون بلا قرار ولا منام، فكيف جاز أن أزلزل قلوباً وأؤرق عيوناً بهذا القصيد؟
كان ذلك لأني أريد أن يعرف أبناء هذا الجيل حقوق الشعر البليغ، وأن يفهم قوم أن الكاتب الذي يعرفون هو الشاعر الذي يجهلون، إن كان فيهم من لم يقرأ قصيدة الإسكندرية أو قصيدة بغداد)
تناسيتُكم عمداً كأني سلوتكم ... وبعض التناسي العمد من صور الود
إذا اشتدَّ إظلام العقوق تبلجتْ ... مآثِرُ تذكي نار معروفكم عندي
أمِثلَي يَنسى؟ آهِ مما اجترحتمُ ... على الهائم الحيران في حَوْمة الوِردِ
أأن خِفتُ عذَّالي فأخفيت لوعتي ... تظنوني صبَّا أفاق من الوجدِ؟
غرامي بكم لم يُبقِ قلباً بلا جوىً ... وحبي لكم لم يُبق عَيناً بلا سُهدِ
خلعتَ عليكم من هُيامي وصَبوتي ... غلائلَ لم تُخلع على ساكني الخُلد(485/27)
مضى ما مضى، هل يرجعُ الدهرُ ما مضى؟ ... وهل تتقون الحبَّ أو سالف العهدِ؟
معاهد في (مصرَ الجديدة) أصبحتْ ... رسوماً من الأشجان أحرسها وحدي
أنسري معاً فيها كما كان عهدنا ... وعهدُ الهوى أشهى مذاقاً من الشهد؟
أنقرأُها حرفاً فحرفاً كأنها ... رسائلُ من ليلى المريضة أو هند؟
تعالَوا نُعدْ ليلاتِها الغُرَّ حسبةً ... لحبٍ قبضتمْ روحه وهو في المهد
تعالوْا تعالوْا قبل أن يُمسيَ الهوى ... تواريخَ لا تُغني المحبَّ ولا تُجدي
تعالوْا. . . فلن ألَقى سَناً مثلَ نوركم ... ولن تستطيبوا جَنةٍ الحبِّ من بعدي!
تعالوْا. . . ففي (مصرَ الجديدةِ) ما بها ... منَّ النرجس النعسان والفُلِّ والوردِ. . .
مَثابةُ أحلامي ومهوى مآربي ... ومنسكُ روحي في الملامةِ والحمد
إذا جُلت فيها جولةَ الفتكِ أسلمت ... مفاتحها فيما تُسرُّ وما تُبدي
وإن غبت عنها بعض ليلٍ تلفتْت ... تُسائل عن سرِّ القطيعة والصد
شوارعها عند الأصيل مشارعٌ ... لكلِّ محبّ من حبيبٍ على وعدِ
وأنفاسها بالليل كالمسكِ نفحةً ... وظلماؤها كالخال في صفحة الخد
فلا تذكروا نجداً أو الخيف بعدها ... تسامتْ مغانيها عن الخيف أو نجد
ولا تطلبوا نِدّاً لها في جمالها ... فما لجمال الشمس في الكون من ندِّ
أباريسُ أو برلينُ تحوي فُتُونها ... إذا ازدهرت بالحسن كالكوكب السَّعدِ؟
أفي لَنْدَنٍ شِبهٌ لها في صِيالها ... إذا صفّتِ الأرواح جنداً إلى جند؟
تَّجمعَ فيها الحُسن من كلِّ أمةٍ ... كبغدادَ بين العُرب والفُرس والكُرد
ورفَّتْ بها الأنفاس شتَّى غرائباً ... من الورد والريحان والضال والرَّند
هديرُ الأماني في الفؤاد هديرُها ... إذا جَدَّ جِدُّ (السَّبق) بالركض والشَّد
وروَّادها في الصبح والعصر زادُهم ... إذا ما استضافوها فنونٌ من الوجد
تَشابهَ فيها الليل والصبح فاعجبوا ... لصحراء أضحت وهي من جنة الخلد
يجسَّد نور البدر فيها مُفضَّضاً ... فتحسبه درّاً يُساقَطُ من عِقد
بكل مكانٍ أو بكل ثَنيَّةٍ ... بأرجائها سحرٌ يُثار بلا عمد
وما بدرها بدر السموات وحده ... ففيها بُدورٌ قد تجلُّ من العدَّ(485/28)
خذوا وصفها عني فلي في ضميرها ... مكان الضريم الحر يكتنُّ في الزنَّد
ولا عيبَ فيها غير أنَّ نسميها ... يزيد سعيرَ القلب وقداً إلى وقد
يُحِدُّ شعوري بالوجود فاغتدى ... أحدَّ سماعاً من قُوى آلة الرَّصد
أسجل فيها ما أشاء من المنى ... ومن خطرات الروح للشاعر الغِرْد
وأنقل عنها في ضُحاها وفجرها ... أفانين أشتاتاً من الهزل والجِدِّ
إذا اجتمع السُّمار فيها رأيتهم ... ملائك توصي بالوثيق من العَقد
وإن طَرِبوا ليلاً وللقلب حقهُ ... حسبتم جنّاً أقيلوا من القِدِّ
هُيامي بها لم يُبق للعقل من شدىً ... بلألائه في غمرة الوجد استهدى
مدينةُ من هذي؟ مدينةُ ساحر ... يرى طيبها النفَّاح أذكى من النَّد
مدينة من هذي؟ مدينة ناسك ... يُسر من الإيمان أضعاف ما يبدي
أرى الله في مصرَ الجديدة كلما ... رأيت بها الأزهار تنظم في عقد
أرى الله فيها ما أردتُ ومن يعشْ ... كعيشي بها يقرُب من الصمد الفرد
حُلوليةٌ تزدار قلبي وخاطري ... فيحيا بها عقلي ويقوى بها عَقدي
أكان الحلوليون يرأوْن ما أرى ... من الحسن في قرب من الله أو بعد؟
أمرَّ زمان فيه (مصرٌ جديدةٌ) ... بها فارس يأوي إلى فرس نهدِ
أحبُّك يا مصر الجديدة فاسمعي ... نشيدي ولا تصغي إلى شاعر بعدي
تعالوْا تروْا قلبي على ما عهدتمُ ... وفاءً إلى غدر وصفحاً إلى حقدِ
أنا العيلم العجّاج بالرفق والأذى ... أضل أحبائي إذا شئت أو أهدي
بقايا من الرُّوح المريد تعودني ... فأرتدُّ صبّاً جائر الرأي والقصد
أُحبكُم؟ ماذا أقول؟ لقد صَحَا ... فؤادي وأبصرتُ الطريق إلى الرُّشد
عواطف جالت في ضلال كأنها ... بوارق في جُنح من الليل مسودّ
عشقتكم؟ قد كان ذلك وانطوت ... صحائف خطتها يد العبث المردى
فلا تذكروا عهدي بسخطٍ ولا رضاً ... تناسيت أو أنسيت ما كان من عهدي
أضاليل أزجيها لنفسي عُلاَلةً ... عسانيَ أطفئ ما تَضرَّم من وجدي
وكيف التناسي كيف؟ ما أكذَبَ المنى ... إذا حدثتني بالخلاص من القيد(485/29)
أحبُّكم حبّاً أحرَّ من الوغى ... تؤجج في سهل إلى الموت ممتد
أحبُّكم طوعاً وكرهاً وإنني ... لأخشى الذي تخشون من ذلك الإد
برغم الذي ألقاه من جور حكمكم ... ألوذ بكم عند الخصام واستعدي
ملاعب من لهو أثيم تمرَّدتْ ... فأمست كأقسى ما يكون من الجد
أروني باباً للنجاة أروده ... فقد ضقت ذرعاً بالضلالة في الرَّود
وكيف نجاتي كيف؟ هيهات فالذي ... سقيتم به روحي سيسرع في هدِّي
دعاني الهوى ماذا أراد بي الهوى ... لقد حدّ من عزمي وقد فل من حدي
إذا رُمت أسباب المتاب تعرضت ... نسائم رياكم فأقلعت عن هَودي
أأنتم نسيتم كيف كنا ولم نَدَع ... مآربَ من قبل تراد ولا بعد؟
غرامي بكم كان الغرامَ ومحنتي ... بكم صيرتني في الأسى أُمّة وحدي
سلوا الليل في مصرَ الجديدة هل رأى ... على عهده بالحب أصدق من عهدي
وهل أبصر البدر المنير بأرضها ... أصحَّ أديماً من ضلالي ومن رشدي
وهل عرفت ظلماؤها في سهوبها ... أحبَّ إليها من هيامي ومن سهدي
لقد كنت ألقاها وللشمس ميلةٌ ... إلى الغرب تستهدى النعاس وتستجدي
فأملأها وحياً وشعراً وصبوةً ... إلى أن تفيق الشمس من نومةِ الخود
أتلك ليالٍ لا تعود ولم أزل ... بحمد الهوى في صوْلة الأسد الورد
جهلتك إذا كنتم تظنون مهجتي ... سَتَجنْحُ يوماً للسلام وللبَرْد
هواي هو الجمر الذي تعرفونه ... وللجمر سلطان على الحجر الصَّلْد
سأرزأكم بالهجر والصد فارقبوا ... بلايا تُغاديكم من الهجر والصدّ
أكان غرامي غرّكم فظننْتُم ... بأن ليس للإسراف في الحب من حد
هو القول ما قلتم فإن صبابتي ... ستبلغ ما لا يبلغ الجمر من وقد
سنون تقضت في اضطرام وحبنا ... يصاول بالعذْل المحمل بالنَّأد
فهل أفلحَ العذّال يوماً وفيهمُ ... وفيون يؤذيهم خباليَ في سهدي
مساويكم تبدو لقلبي محاسناً ... فواتنَ تُجزَي بالثناء وبالحمد
فمن أيِّ وادٍ للفُتون تفجرت ... ينابيع هذا الحسن مرهوبة الوردِ(485/30)
أمرُّ بها ظمآن والجوُّ قائظٌ ... فأسمع همساً من وعيد ومن وعد
تلوِّح بالإشفاق عينٌ مريبةٌ ... لها ما لهذا الدهر من خاتل الكيد
وهل يعرف الحيران ضل طريقه ... بنحس رمى التلويح بالرفق أم سعد
أرى بيتكم مني قريباً وتارة ... أراه وأدني منه أبنية السند
على قدر ما نلقي من الوصل والجفا ... يقدر ما نلقى من القرب والبعد
أذلك بيت أم كناس يهابه ... ويرهب غزلاناً به أفتك الأسد
فأيان أيان السلامة منكمُ ... وليس لطغيان الملاحة من صد
أعوذ بربِّ الجنِّ منكم وإنني ... لأعلم أن لا عوذ من سَورة الوجد
شفى وكفى أني مُحِبٌّ محسَّدٌ ... يساق إليه الإفك في صورة النقد
قضى حبكم أن أجرع اللوم طائعاً ... وأن أحسب التهيام فنّاً من المجد
إذا صرت في غي الهوى ورشاده ... إماماً فقد تمت أياديكم عندي
أجيبوا: أكان الحب حلماً تبددتْ ... أشعته عند الآفاق من الرَّقدِ؟
أكان صفاكم لمحةً جاد بارقٌ ... بلألائها في الليل يُفجَع بالرعد؟
سأنساكمُ يوماً وللقلب رجعةٌ ... على جهله للراجحات من الجد
سأنسى هُيامي ثم سأنسى غوايتي ... وكلُّ ضرام في الغرام إلى خمد
أجيبوا فلي رأيٌ يقرُّ إلى مدىً ... قرار الجراز العضب في سُدف الغمد
أأنتم رضيتم أن تصير حياتُنا ... أفانينَ من نسك يكفنُ في زهد؟
لكم ما أردتم، فاذهبوا ثمةَ اذهبوا ... إلى الوهد من وادي الخمود أو النجد
ولي ما أراد الحبُّ والحبُّ حاكم ... نرى جوره فينا أبرَّ من القصد
بلادةُ أقوام تُعَدُّ رزانةً ... بكل زمانٍ عن هدَى الحب مرتدِّ
جمال التماثيل الحسان جمالكم ... وليس لغادات التماثيل من رفد
فحتامَ حتامَ الوفاءُ لصبوةٍ ... رددتم إليها سؤلها أقبح الردِّ
أحبايَ ضاقت بي بلادي وآدني ... زماني فأولاني من الكرب ما يُردي
إذا قلت أيام الشقاء إلى مدىً ... تعاقبنَ بالأنواء والبرق والرعد
وإن ظمئت روحي إلى الصفو صدّني ... عن الصفو أقوامٌ جبلنَ على الحقد(485/31)
ثلاثون عاماً أو تزيد قضيتها ... جواداً ببذل الروح للوطن الفرد
فما نلت حظاً من جداه سوى الذي ... يمنُّ به أهل الوشاية والكيد
أمن أجل هذا عشت ما عشت صابراً ... على وثبات العزم في الزمن الجعد؟
بلادي بلادي، أنت ما أنت؟ إنني ... أجرَّع فيك الصاب ينعت بالشهد
أأنت بلادي أنت؟ صدَّقت، فاصدُقي ... وعودك يوماً للفتى الصادق الوعد
تسابقني فيك الأماني خوادعاً ... كواذب لا تورى بحل ولا عقد
أساهر في ليلي كتابي ولا أرى ... لنفسي حظ الساهرين على النرد
فماذا دها الدنيا وماذا أصابها ... أسفّت فأمست وهي في خسة القرد
إلى من أسوق الشكوَ والدهرُ ما أرى ... تماثلَ فيه شامخ القُور بالوهد
إلى الوطن الجاني شكوت كما شكا ... لديغٌ إلى الصم المؤرَّقة الرُّبد
أمثليَ يؤذي بالعقوق ولم يكن ... له غير حفظ العهد في الحب من وكد؟
بلادي، وما هانت عليَّ مواطن ... أبي كان منها في الذؤابة أو جدي
أيشقى الثرى بالماء حتى يعودَه ... أطباء علامون بالجزر والمدّ
وأظمأ وحدي فيك والنيل ثائرٌ ... يروز الجسور الشمَّ بالمزق والقدّ
بلادي، أمن جرم جنيت تحولت ... حياتي إلى وجه من العيش مرمدّ
لئن كان لي ذنب فذاك تولُّهي ... بشرح الذي زُوِّدت في الدهر من مجد
ستمضي الليالي ثم تمضي ولا يرى ... جمالك أقوى من غرامي ولا وجدي
بلادي، أكان الحب نوراً تطاولت ... عليه غيوم من عقوق ومن جحد
توحدت مقهوراً فما لي أخوةٌ ... ولا صحبة يقوى برفقتهم زندي
توحدت لا خِلٌّ أبثُّ شكايتي ... إليه ولا حبٌّ يؤرقه سهدي
إذا آدني الدهر اللئيم بجفوة ... تحوَّل أهلوه إلى عصبة لُدِّ
توحدت؟ لا، فالأسد يؤنسها الأسى ... بوحشتها في ظلمة الكثُب الجُردِ
ليصنع زماني ما أراد فلن يرى ... سوى ساعد يلقاه بالبأس مستدّ
بناني الذي يبني الجبال شواهقاً ... وليس لحصنٍ شاده الله من هَدّ
فما بال أقوامٍ تهاوت حلومهم ... يعادون بَنّاء الجبال بلا عند(485/32)
يعدُّون أجناداً لحربي بواسلاً ... وقد جهلوا أني سألقاهمُ وحدي
إذا اعتز بالله القدير مجاهدٌ ... أذل ألوف الظالمين من الجند
أحباي في (مصر الجديدة) ما الذي ... دعاكم إلى تكدير ذيّاكم الورد
به جاد دهرٌ لا يجود فكنتمُ ... أضنَّ من الدهر المبخل بالرِّفد
سقاكم فروَّاكم غرامي ولم أجد ... على عثرات الدهر والوجد من يعدي
تُّمر ليالٍ أو أسابيع لا أرى ... على شغفي إلا مواعيدَ لا ُتجدي
عذرت أحبايَ الذين تصدُّهم ... فيافٍ سحيقاتٌ عن البر بالوعد
عذرت الألى بالكرخ شطت ديارهم ... فليس لهمٍ عن عصمة الصبر من بُدّ
فما صبركم أنتم وبيني وبينكم ... خطىً هيناتٌ قد يقدَّرن بالعد
إذا صلصل الهتّاف أصبحت عندكم ... وإن وسوس الهتاف أمسيتم عندي
بخمسة أرقام تدار أراكم ... وترأونني، أهونْ بذلك من جهد
تعالوْا، ولا تُصغوا لأقوال ناصح ... يسوق الكلام الحرَّ عن خاطرٍ عبد
نصيحةُ بعض الناس غشٌّ مقنَّع ... وإشفاق بعض الناس ضرب من الحقد
عرفت زماني في بنيه ومن يُقمْ ... بمسبعةٍ يسبق فلاسفة الهند
أنسمع لغو الحاقدين ولا نعي ... هدير حميّا الحسن ينصح بالوجد؟
هو الحسن فليأمر بما شاء ولتكن ... مشيئته، إنَّا له أطوع من الجند
سمعنا، ومن يهتف به الحسن يستمع ... ألا إنَّ همس الحسن لحنٌ من الخلد
تعالوْا فأوقات الصفاء ذواهبٌ ... وليس لوقتٍ قد أضعناه من ردّ
تعالوْا سراعاً، لا تقولوا: إلى غدٍ ... غدٌ عند صدق الشوق دهر من البعد
وإلا ففي (مصر الجديدة) أنجمٌ ... زواهر ترجو أن يكون لها ودِّي
أبغداد في عهد الرشيد تأرَّجتْ ... بأطيب من أنفاسها وهي في عهدي
زكي مبارك(485/33)
البريد الأدبي
حول نسب الفاطميين
جاء في العدد (484) من مجلة (الرسالة) الغراء كلمة تحت عنوان (حول نسخ الأحكام) تأثر فيها كاتبها بأقوال خصوم الفاطميين السياسيين من بني العباس ومن كان ينتمي إليهم من العلماء، ولو أنه رجع إلى أقوال المنصفين فيهم كشيخ المؤرخين ابن خلدون لخفف شيئاً من غلوائه في أمر هؤلاء الفاطميين، ولعلم أن نسبهم صحيح إلى إسماعيل بن جعفر الصادق رضي الله عنهما، وقد يكون الطعن في دينهم كالطعن في نسبهم، أثراً من آثار السياسة التي تبيح كل شيء في سبيل أغراضها، وتذهب إلى أن الغاية تبرر الواسطة، فتذيع الكذب بين الناس وتنصر الباطل على الحق
والظاهر بعد هذا كله أن القول بإعطاء الإمام حق نسخ الأحكام كما حكاه أبو جعفر النحاس، غير ما يحكى عن بعض الإسماعيلية في الإمام السابع الذي ينسخ الشرائع، لأن نسخ الشرائع يدخل فيه أصولها كالصلاة وغيرها، أما نسخ الأحكام فالظاهر أنه خاص بالأحكام الجزئية التي تتأثر بالظروف والأحوال، وتدعو الحاجة إلى نسخها بالاجتهاد لسبب من الأسباب. . .
(. . .)
كرملة الكرملي
أعود فأصحح للأب أنستاس ماري الكرملي أخطاء أخرى وقع فيها؛ والأمر في هذه المرة أخطر، فقد جمع إلى الأخطاء التاريخية أخطاء روحية؛ ولقد قال (ربليه) قدس الله روحه: (إن علماً بلا ضمير خراب للنفس)؛ فما بالك إذا كان العلم زيفاً حمله الرافدان؟
لو أن الأب أنستاس ماري الكرملي العالم النحرير والروحاني المتواضع زف إلى ما يقول (كرملة) يستسيغها الذوق لقبلتها، ولكن كرملته حصرم تمجه النفوس. إن في نفسي إيماناً بأن العلم والروحانية لا ينزلان بنفس إلا هذباها، ونحن كلما ازددنا توغلاً نحو آفاق المعرفة ازددنا دنواً من حدودها وإحساساً بتلك الحدود، فتهدأ جوارحنا ويسكن غرورنا. وأنا قد أقبل من رجل أن يعتز بماله إن كان صانعاً أو تاجراً، وأما العالم فالزهو منه ممقوت(485/34)
إن روح العلم الصحيح لا تعرف نغمات الكرملي. العلم تواضع كما أن الدين محبة؛ وأين هذا من كلام الأب؟ أنا لا أعرف التأكيد في أي شيء ولذا قلت - أيها الأب أنستاس ماري الكرملي - إذا صح هذا أو ذاك. والأب الجليل العالي الكعب في كل أمر لابد قد قرأ أفلاطون، ولابد أن أستاذه قد قال له سنة 1887م إن موضع الجمال في أسلوب أفلاطون موضع السحر، موضع السمو، كثيراً ما يتركز في الحرفين اللذين يضافان إلى الأفعال اليونانية لينقلا التأكيد إلى الاحتمال، والأب الخطير يستطيع بلا ريب أن يترجم ب إذا صح الخ. . .
ثم إنني أيها الأب أنستاس ماري الكرملي لم أستنجد بعلم الأستاذ كراوس كما أني لم أغتصب منك أسلابك العلمية الثمينة، وإنما الذي حدث أن مجلة الرسالة لم تنشر مقالي كاملاً كما تستطيع أن تلاحظ ذلك من ابتدائه بنقط، ولو أنها نشرته كاملاً لرأيت أني سلمت لك بأنك تعرف أسماء أتيقوس وتيودسيوس وغيرهما ممن لا يعتبرون إلا قطرة في بحرك الملح الأجاج. ولو أنها نشرته كاملاً لعلمت أني لم أنشر هذا المقال رداً عليك وأنا لا صبر لي على قراءة تحقيقاتك التي تبعدها عني روحك الوديعة الطاهرة، وإنما أردت أن أحاج الأستاذ كراوس لأننا اختلفنا في هذا النص قبل أن ينشر الكتاب. وأنت أيها الأب أنستاس ماري الكرملي لا ريب مرهف الحس لطيف الذوق فكيف غاب عنك أن قولي: (اللهم إلا أن يكون لدى الأستاذ كراوس علم آخر. . . الخ) لا يفيد طلب النجدة
سلمت إذن للأب الكبير بأنه قد عرف اسم أبيقوس، ولكنني أنكرت عليه أن يعرف عنه أكثر من ذلك بدليل أنه زعم أنه روماني وهو يوناني. ولقد فطن إلى هذا الأب نفسه عندما راجع دفاتره وراجع العلماء الأفاضل الذين يجتمعون معه فوضعوا خطاً - كما يقول - تحت جملتي التي تحمل هذا المعنى، ووضع الخط هذا وتأمين الأب على وضعه هو طريقة العالم الفاضل في الاعتراف بخطئه. وإذن فقد كنت محقاً في أن أصحح له هذا الخطأ
بقيت مسألة الكراكي التي لم أعثر بها فقلت (إنها خرافة لا نعلم عن نسبتها إلى قومودس وأتيقوس شيئاً). وهذا حق، فأنا لم أعثر بها في حياتهما؛ وأعود فأكرر أنني لم أعثر بها ولا أقول لم أعثر عليها - كما يقترح اللغوي الكبير الأب الكرملي - لأن المعنى الذي أريد أن(485/35)
أعبر عنه هو أنني لم أعثر بها، أي لم أقع عليها. وللأب الفاضل أن يظهر علمه - إذا أراد - في غير هذه التوافه، وأن يتفضل بأن يترك للكاتب الحق في أن يتصرف في اللغة وفقاً للمعنى الذي في قلبه
وأما مسألة أبيقوس ونسبه الكراكي إليه، فهذا لن يفيد الأب الكرملي في شيء، لأن النص يقول: (إن تودورس أو قومودس ملك يونان كتب إلى أينقس الشاعر أن يزوده بما عنده من كتب فلسفية). . . وإذا كان من الثابت أن قومودس قد عاش في القرن الثاني بعد الميلاد، وأن أبيقوس الذي فرح الأب باكتشاف أحد أصدقائه لوجوده قد عاش في القرن السادس قبل الميلاد، فإنه يكون بين الرجلين ثمانية قرون. أيريد الأب الشيخ أن يطير في طائرة عصرية ليجمع بين العصرين!
لم يكن لي أن أتجه نحو أبيقوس ما دمت قد رجحت كومودس
هذا ما يستحق الرد في كلام أوفى كرملة الكرملي، وأما ما دون ذلك، فالعلم منه بريء.
محمد مندور
مدرس بجامعة فاروق الأول
القضاء العشائري في العراق
كتاب قيم ألفه الشيخ فريق المزهر آل فرعون عضو البرلمان العراقي ورئيس عشائر الفتلة، يبحث في الأصول والقواعد العشائرية والعادات المألوفة لدى القبائل العراقية، ويتناول تدوين تلك الأحكام المرعية والعادات المتبعة التي ساروا عليها منذ ثمانمائة سنة، كما ضمنه عادات العشائر العراقية وآدابهم وتقاليدهم وأساليبهم وسائر شؤون حياتهم الاجتماعية
والحق أن للقبائل والعشائر العراقية تاريخاً حافلاً بالعادات والتقاليد المتوارثة، يحرصون عليها ويتواصون بالتمسك بها وعدم التفريط فيها؛ ومن هذه التقاليد المرعية يتألف قانون غير مدون له قدسية سائر القوانين المدنية وحرمة بقية الأنظمة الاجتماعية، يرجعون إليها فيما يتعلق بخلافاتهم وأحكامهم ومشاكلهم العديدة وفيما يخص سائر أمورهم الاجتماعية والشرعية والاقتصادية، ولهم فيما يتفرع من هذه النواحي وفيما ينجم عنها من ملابسات،(485/36)
أحكام وآراء وحلول تنطوي على البراعة والمهارة والطرافة بقدر ما تنطوي عليه من صرامة وشدة وقوة مستمدة من ذكاء وقاد وإحساس مرهف، وحرص شديد يبلغ حد العصبية على محافظة العنعنات والنزعات العربية الخالصة
ولم يتهيأ إلى الآن من يعنى بدراسة هذه التقاليد والسنن، وما تكون منها من أحكام ومن أصول أصبحت على مر الزمن قانوناٌ مرعياً نافذاً صارماً، فيؤدي بذلك إلى التاريخ العربي خدمة كبيرة، ويوسع مجالاً للحياة القبلية العربية في العصر الحاضر، أن تأخذ مكانها في التدوين إلى جانب الحياة المدنية، حتى انبرى لها الشيخ فريق المزهر آل فرعون، وهو من هذه القبائل العربية الضاربة على ضفاف الفرات، فسد فراغاً في خزانة الأدب والتاريخ العربيين، بما قام به من وضع سجل تاريخي حافل في هذا الصدد، وهو كتاب (القضاء العشائري) الذي بحث فيه (نظام دعاوى العشائر)، وهو القانون الوحيد الذي يسير عليه القضاء الإداري في العراق؛ وقضايا الحق المنازع فيه قسمان: قضايا موضوعية، وقضايا أصولية، أو شكلية؛ وقد وضع (العرف العشائري) قواعد خاصة لكل من الحالين، وقد كانت هذه القواعد معمولاً بها في العراق لفض المنازعات بين القبائل منذ أقدم الأزمنة إلى الآن.(485/37)
العدد 486 - بتاريخ: 26 - 10 - 1942(/)
الراية المصرية
لكاتب كبير
هي راية الفكر والرأي والبيان، وهي أول هبة منٌ بها الوهاب على هذه البلاد، ولعلها أول هبة جاد بها الله على هذا الوجود
مصر بطبيعة الفطرة أمة سليمة الروح والوجدان، ومن أجل هذا المعنى كان فقراؤها أغنى من الأغنياء، وكان جهلاؤها أعلم من العلماء، فما عرف الناس في شرق ولا غرب بلداً يعيش على المواهب الطبيعية كما يعيش هذا البلد، ولا سجل التاريخ أمجاداً أشرف من أمجاد هذا البلد، ولا كان في الدنيا نهر أوفى وأكرم من نهرها الفياض بمعاني الخصب والثروة والشعر والخيال
عاصرت المدينة المصرية مدنيات كثيرة في القديم والحديث، فهل انهزمت أمام إحدى المدنيات؟ وهل خضعت لعبودية الروح في أي وقت، وإن جاز الزمن فنال من استقلالها السياسي في بعض العهود؟
صنع الدهر بمصر ما صنع في عهود الطغيان من الوجهة السياسة، ولكن الدهر عجز عن غزوها في الميادين الأدبية والروحية والعقلية، فظلت آية الآيات في سمو الفكر والرأي والبيان
إن مصر لم تخضع ولن تخضع لأي سيطرة تعتمد على الاستبداد، وهل كان من العبث أن تعرف مقابر من سيطروا على هذه البلاد، ثم تختفي مقبرة الإسكندر المقدوني، فلم يهتدي إليها منقب ولا باحث، مع أن صاحبها كان من أعاظم الرجال؟
كانت مصر لأبنائها، ولن تكون إلا لأبنائها، وستمضي أجيال وأجيال، وأزمان وأزمان، قبل أن يجوز في الوهم أن الذاتية المصرية معرضة لاستعباد الجهل والبغي والطغيان. في عصور الجاهلية الجهلاء كانت مصر مناراً يهدي اليونان والرومان، وفي عصر الإسلام كانت ملاذاً للعلوم الإسلامية، والحضارة العربية، وفي العصر الحديث كانت مصر درعاً يقي الشرق من طغيان الغرب، وستظل مصر إلى الأبد مصدر النور ومنبع الإشراق.
أكتب هذا وفي قلبي أشجان تعجز عن إثارة دموعي، فقد قيل وقيل أن أيام الحرب تصد العقول عن الرأي، وتمنع الأقلام من البيان(486/1)
هيهات ثم هيهات، فالينبوع القاهر يفتك بالحواجز والأسداد، والقلم العارم يصنع ما يصنع النور في تبديد الظلمات
لن تضام مصر، ولن يضام أهلوها، ولن تجف أقلامها، ولن يكون لها بين المظلومين مكان
لا أقول أن مصر باقية ما بقي النيل، ولكني أقول أنها باقية ما بقى الوجود
مصر شرعت لجميع الأمم مذاهب الفكر والرأي والبيان وستظل بإذن الله مصدر الفكر والرأي والبيان
قال الزعيم النبيل مصطفى كامل: (لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً) وأقول إني أكره الافتراض الذي يبيح التخيل بأني لم أكن من المصريين
إن الظلم الذي يلاحقني في وطني لا ينسيني جمال وطني لأنه عندي أعز من روحي ونفسي
أنا أرفع الراية المصرية حيثما توجهت، ولن تضام مصر ولها أسندة ودروع من أبنائها الأوفياء
وكم تمنيت أن أكون أول من هتف بهذه الآراء، ليكون لي فضل الابتكار والإبداع، ولكني أشرح آراء جادت بها عقول كان لها فضل السبق في إحياء المواهب المصرية والعربية والإسلامية، من أمثال: أحمد زكي باشا، ومحمد بك مسعود، والشيخ محمد عبده، والسيد جمال الدين
هي آراء بشر بها ودعا إليها أولئك الجهابذة الأعلام، ولكنها حلت من نفسي محل اليقين، فصرت أهتف بها هتاف المبدع الأصيل، والمريد الصادق لا يقل إيماناً عن أساتذته النبلاء نحن لا نعمل لليوم الحاضر وحده، وإنما نعمل للمستقبل القريب والبعيد، وستظل سواعدنا قوية ولو احتواها الفناء
نحن لا نهاب الرجعية الممثلة في أوهام الفنانين، ولا نهاب مصالحنا وهي جديرة بأن تهاب، وإنما نهاب الحق، ونراعي الوطن، ونخاف الله، وتلك معان توجب أن نظل أوفياء لكرامة العقل، وسماحة الروح، وشجاعة الوجدان
سنقف كراماً حيث يقفنا الواجب، ولن نرضى أبداً بأن يعرض الفكر في بلادنا للخمود وستذكر مصر طائعة أو كارهة أن في أبنائها من وفوا بالعهد، في أيام ألهت جماهير الناس(486/2)
عن الفكر والرأي والبيان. . .
(كاتب)(486/3)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
1 - حديث عيسى بن هشام
للدكتور زكي مبارك
فاتحة البحث - فوضى مزعجة - جنتمكان - الأمير - سبب الفوضى - تاريخ الكتاب - المويلحي الكبير والمويلحي الصغير - أصل الشبهة - سجين الفاقة والبؤس - الأديب المضطهد لنسبه وغناه - عصارة الشدائد - أغراض المؤلف - عقلية المويلحي - طبعات الكتاب
فاتحة البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين. . .
أما بعد، فهذا بحث في كتاب (حديث عيسى بن هشام) المقرر للامتحان التحريري في مسابقة الأدب العربي، والمرجو - إذا وفق الله - أن يكون فيه ضمانة مؤكدة للنجاح في ذلك الامتحان، على شرط أن ينظر الطلبة في الكتاب نظرة جدية بعد قراءة هذا البحث، لأن الغرض من أمثال هذه البحوث هو التوجيه إلى الإطلاع عن بصيرة ويقين.
ويخطئ من يظن أننا ننوب عنه في قراءة ما يريد من الكتب، وفي استخلاص ما يشاء من الحقائق، ليواجه الامتحان وهو لا يملك غير ملاحظات لم يسهر له فيها جفن، ولم يقلق وساد!
هذه أبحاث نقدية، والنقد فن من التوجيه، وليس ضرباً من التحصيل؛ فليفهم أولئك الشبان هذا المعنى، وليقرءوا الكتب التي ننقدها قراءة فهم واستقصاء، بعد أن يستوعبوا ما فيها من المعاني والأغراض
فوضى مزعجة
هي الفوضى المحيطة بكتاب (حديث عيسى بن هشام)، فما يكاد القارئ يعرف في أي عام ألف، ولا يكاد يتصور أي مجتمع يصور، لولا عبارات تنطق بأنه كتب بعد موت (جنتمكان محمد علي): الجد الأكبر للملك فاروق، رحم الله الجد، وحرس الحفيد. . .(486/4)
جنتمكان
وما (جنتمكان) التي ترد في الكتاب من صفحة إلى صفحات؟
لقد استبهمت علىَّ أول الأمر، وعجزت عن الاهتداء إلى نطقها الصحيح، ومدلولها الأصيل، ثم عرفت بعد لأي أنها كلمة تركية ركبت تركيباً مزجياً من كلمتين عربيتين: هما (جنة) و (مكان)؛ وإذن يكون: (جنتمكان) هو ساكن الجنان؛ وهي العبارة التي تذكرها الجرائد حين تتحدث عن كبار الأسلاف من البيت المالك؛ والظاهر أن (جنتمكان) كانت مفهومة عند تأليف الكتاب، فتركها المؤلف بلا شرح؛ وهل كان يخطر في باله أن معناها سيغيب عن رجل في مثل حالي؟!
اللهم إني أسألك السلامة من الجهل، فهو أخطر الأعداء!
الأمير
الألقاب نظمت في هذا العهد بطريقة واضحة الرسوم، فصرنا نعرف الفروق بين طبقة الأمراء وطبقة النبلاء من الوجهة الرسمية
فلنذكر أن كلمة (أمير) في عهد مؤلف الكتاب لم تكن تدل حتماً على أن الموصوف بها من أعضاء البيت المالك، وإنما كان الأمير هو الغني، ولو كان أجداده أبعد الناس من دماء الملوك
حدثني الشاعر عبد المحسن الكاظمي قال: كان محمود سامي البارودي أميراً بكل ما لهذه الكلمة من معاني
وقد توهمت في بعض ما سطرت من البحوث أن (إمارة) البارودي كانت رسمية أو شبه رسمية، لأن أجداده كانوا من أمراء المماليك، فالآن أعرف أن الإمارة في مصر كانت من نصيب أصحاب الثراء في جميع الأحوال
والكاظمي عراقي استمصر، وقد هال الرصافي أن يبكيه العراقيون بعد الموت فقال:
فيا عجباً بكتْك وأنت مَيْتٌ ... بلادٌ ضَّيعتْك وأنت حيُّ
سبب الفوضى
وسبب الفوضى التي يعانيها من يقرأ (حديث عيسى بن هشام) أنه خلا خلواً فظيعاً من(486/5)
التواريخ، وهل يوجد أعجب من أن تكون رسالة السيد جمال الدين الأفغاني إلى المويلحي بدون تاريخ؟
أستغفر الله، فالنص الزنكوغرافي ينص على أنها في 19 ربيع الثاني
ولكن من أي عام هذا الربيع الثاني، يا سيد جمال الدين؟
تاريخ الكتاب
يقول المؤلف إن كتابه مجموعة مقالات نشرت في (مصباح الشرق)؛ ومن السهل على المقيم بالقاهرة أن يراجع تلك الجريدة في دار الكتب المصرية، فما الذي يصنع المقيم بمدينة دمشق أو مدينة بغداد؟
في الصفحة الرابعة والثمانين نجد المؤلف يقول: (إنها أبدع نكتة في آخر القرن) فنعرف أن الكتاب ألف في آخر القرن التاسع عشر للميلاد
المويلحي الكبير والمويلحي الصغير
عرفت اللغة العربية في العهد القريب كاتبين عظيمين باسم المويلحي، ثانيهما محمد وأولهما إبراهيم، وكانت لإبراهيم مخاطرات سياسية دونها على صفحات (الرسالة) أحد أحفاده منذ سنين، فليرجع إلى تلك الصفحات من شاء، عساه يعرف كيف كانت مناورات ذلك الكاتب في ختل السلطان عبد الحميد
والمهم هو أن أسجل أن إبراهيم كان الكاتب الكاتب الكاتب، وإليه تنسب بالباطل أو بالحق رسائل ابنه محمد في (حديث عيسى بن هشام)، فقد مرت أزمان والناس يعتقدون أن محمداً ابن أبيه في كل شئ، حتى ذلك الحديث
أصل الشبهة
ولهذه الشبهة أصل، فقد سكت محمد بعد موت أبيه سكوت المريب، فتقول عليه الناس الأقاويل، وظنوا أدبه من الصنف المدخول.
وقوى الشبهة أنه استغضب فلم يغضب، ولو كانت التهمة باطلة لثار وهاج، وفعل بخصومه الأفاعيل.
سجين الفاقة والبؤس(486/6)
في سنة 1924 تفضل الدكتور منصور بك فهمي فوصلني بالمؤرخ الكبير أحمد باشا شفيق، وكانت مهمتي أن أدون مذكرات شفيق باشا بأسلوب مقبول. ثم جاء رمضان فدعاني الباشا لطعام الفطور مع جماعة منهم الكاتب العظيم محمد بك المويلحي، فكيف رأيت المويلحي؟
كان يلبس الردنجوت من غير موجب، وقد قضى الوقت كله في صمت، فصح عندي أن أدبه لا يخلو من تزييف
وفي صبيحة اليوم التالي واجهت أحمد باشا شفيق برأي في محمد بك المويلحي، فسكت لحظة ثم قال: هل تعرف كيف يعيش هذا الرجل وكان ابن ذوات؟
- كيف يعيش؟
- أتجهل كيف يعيش؟
- وهل أعلم الغيب؟
- إن محمد بك المويلحي يقضي الأيام والأعوام وليس له زاد غير الخبز والملح والماء، فهو أعظم من داوى الفقر بالتجمل في هذا الزمان
- أيعيش المويلحي هذا العيش؟
- هو غني افتقر، ولا تصلح هذه الهامة العالية لاستجداء الناس، ولو كانوا من الأمراء والملوك
الأديب المضطهد لنسبه وغناه
نشأ محمد المويلحي نشأة المياسير، فكان من حقه أن يستكبر على الناس كما يستكبر من يكون في مثل غناه، ولكن سليقته الأدبية فرضت عليه أن يدرس جميع الطبقات الاجتماعية بلا تفريق بين المرتفعين والمتضعين، فكان يغشى أماكن السوقية كما يغشى أماكن الأمراء
وفي ذات ليلة تطاول عليه سفيه في إحدى الحانات فضربه كفاً، كالذي يقع في أماكن الشبهات والظنون
فكيف كانت العواقب؟
أقام السخفاء من أدباء مصر موسماً سموه (عام الكف) عليهم غضبات صاحب الجبروت.(486/7)
ومن العجب العاجب، والسخف الساخف، أن يكون شاعرنا إسماعيل باشا صبري أحد المشتركين في الشماتة بالأستاذ محمد المويلحي مع أنه مدح الشيخ أحمد الزين!
فيا بني آدم من أهل هذه البلاد، متى تعقلون؟
متى؟ ثم متى؟
عصارة الشدائد
تصدر عني من وقت إلى وقت آراء في غاية من الغرابة والشذوذ في نظر الناس، ثم تجئ الشواهد التي تؤكد أني لم أكن من المخطئين
ومن آرائي الشاذة في نظر الناس قولي بأن الأديب الغني أقدر على فهم الحياة من الأديب الفقير، وأشد إدراكاً لما في الحياة من مكاره وصعاب
وكان ذلك رأيي لأني أومن بأن الأغنياء تقع في حياتهم تعقيدات لا يعرفها الفقراء، وما يسيغ ذهني فكرة القول بأن الفقير يدرك معنى البؤس على الوجه الصحيح، لأن الفقر عصمة من مواجهة (الخطوب الثقال)، وقد نعرف بعد حين أن الفقراء هم الأغنياء
أقول هذا وقد صح عندي أن براعة المويلحي في كتابه أخذت مددها الأصيل من اضطلاعه بمتاعب الحياة في وقت مبكر، مع الاعتراف بأنه كان لا يزال في رعاية أبيه، ولم يكن عرف طعم القوت الدائم بالخبز والملح والماء
ومن حظ الأدب أن المويلحي لم يؤجل تسطير ملاحظاته إلى أن يشرب الصبابة من كأس البؤس، فما يستطيع بائس معدم أن يتبين ما يريد أن يقول
كان المويلحي في عافية حين سطر تلك الأحاديث، ثم عم الغم وطم، فآثر الانعزال إلى آخر الزمان
لم يعرف الأدباء الفارغون من أصحاب الجرائد الهزلية أن الأديب الحق لا يتوقد خاطره في كل حين، ولم يفهموا أن البلبل لا يغرد إلا وهو جذلان، فعدوا سكوت المويلحي بعد موت أبيه دليلاً على أن أدبه من ضروب الأدب المنحول، ولو عقلوا لفهموا أن الرجل أصابته بموت أبيه كوارث معاشيه تزلزل رواسي الجبال
إلى من يتوجه المويلحي وقد عادى جميع الطبقات باسم الأدب والبيان؟
وهل كان خصماؤه قبل عشرين سنة إلا كتبة مأجورين يأكلون النار طائعين أو كارهين؟(486/8)
لقد مات المويلحي وظلوا أحياء، فمن الحي ومن الميت؟
تبارك من جعل الأدب الصحيح مهر الخلود!
أغراض المؤلف
للمويلحي من كتابه أغراض أدبية واجتماعية وتاريخية، فهو يريد اولاً أن يقدم للأدب صوراً من البيان الوهاج، وقد فاز من هذه الناحية فوزاً مبيناً، بغض النظر عما يقع من تكلف السجع في بعض الأحايين. ولا جدال في احتواء هذا الكتاب على صفحات يتمناها كبار الكاتبين
وهو يريد ثانياً أن يصور المجتمع، فهل أفلح في تصوير المجتمع؟
لقد وصل إلى أبعد الغايات في تصوير الطبقات العالية من وزراء وعلماء وتجار وقضاة ومحامين وأعيان وأوشاب، وللأوشاب في مصر مكان، ولكنه غفل عن تصوير الطبقة التي تمد الحياة المصرية بالغذاء السليم من الآفات، وهي طبقة الزراع والصناع.
وعذره في هذه الغفلة واضح، لأنه عاش عيشة لا تمكنه من التعرف إلى هؤلاء الناس
أما ملاحظاته التاريخية فهي من التفاهة بمكان!
عقلية المويلحي
عقلية هذا الرجل سليمة إلى أبعد الحدود، ولكنها تجود بالضحكات في بعض الأحيان، كأن يتحدث عن سور بابل فيقول: هو عدة أسوار متداخلة بعضها في بعض يتسع محيطها للإحاطة بسبع مدائن مثل مدينة باريس، وكان ارتفاعه ثمانية وأربعين متراً، وعرضه سبعة وعشرون متراً، ومن حوله خندق عميق، وعليه أبراج متعددة، وله مائة باب من حديد
يقول المويلحي هذا الكلام المضحك مع أنه نص على أن حدائق بابل المعلقة كانت في اتساع أربعين فداناً، ومع أن من المستحيل أن تسمح ثروة العراق بإقامة سور له ذلك الطول وذلك العرض، وفي محيط يسع سبع مدائن مثل مدينة باريس، باريس التي يسكنها نحو خمسة ملايين، مع اتساع الشوارع والميادين، ومع ابتلاع نهر السين
طبعات الكتاب(486/9)
ظهرت الطبعة الأولى سنة 1907، وظهرت الطبعة الثانية سنة 1912، والطبعة الأخيرة هي الرابعة مع الرحلة الثانية، وهي موضوع الدرس، وعليها المعول في الامتحان، وقد عني المؤلف بتنقيحها قبل أن ينتقل إلى عالم الخلود
وكلمتي هذه تمهيد وجيز يحتاج إليه المتسابقون بعض الاحتياج أو كل الاحتياج، أما البحث المقبل فأنا أرجو أن يكون عندما أريد، إن تفضل الله بالتوفيق.
زكي مبارك(486/10)
عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه
أرواح وأشباح
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 1 -
اطلع الأستاذ توحيد بك على نقد في (الثقافة) لـ (أرواح وأشباح)، فحرك ذلك نشاطه لاستئناف البحث في هذه الملحمة الرفيعة تحليلاً لمغزى القصيدة، وتعقيباً على رأي الناقد.
(الرسالة)
هي الأرواح والأشباح المائلة في البشر أجمعين، ويمثلها أبطال يحييهم في المخيلة فن الشاعر المبتكر في تحفته العربية. ولا بأس بالعودة إلى الحديث في موضوعها: فإن التحف الفائقة من شأنها أن تحرك الخواطر والخوالج في كل وقت على الدهر، فيكثر الكلام عليها من كل وجه. فلننظر المرة فيما قدم إلينا هذا الشاعر المفلق من صنيع كما هو:
هو قصة الروح والجسد في محاورة مدارها السر في تجاذب الرجل والمرأة، وأثر الغريزة في الفن بينهما. وهذا موضوع جدي بعيد الغور، أحسن معالجته شاعر مثقف، وبناه على أساس متين من وجدانيات وفكر جديرة بالنظر
والفكرة الرئيسية في الموضوع، هي أن بين الروح والجسد تفاعلاً، وبين القيم الأخلاقية والغريزة تدافعاً؛ وإن هذا التفاعل وهذا التدافع هما العاملان الخفيان المسيران للحياة البشرية.
وهذه الفكرة الأصلية مستحكمة في صلب الصنيع، مرفرفة على كلامه من أوله إلى آخره؛ وهي لذلك أس الوحدة الجامعة لأطرافه، يؤيدها سائر الأسباب المتممة لهذه الوحدة المتينة.
أما خلاصة المحاورة فيما يتعلق بأثرالغريزة في الفن بين الرجل والمرأة، فهي أن المرأة تلهم الفنان بجمالها الجسدي وجمالها الروحي فيراها دمية صورت من نقاء، ويرى فيها ما لا تحد النهى، كأنها معنى وراء الخيال. غير أن الشهوة الجائعة فيها، بل الغريزة العاتية فيهما، توقعهما في الخطيئة؛ فالفنان يستلهم الشر سحر البيان، وتصير الفنون رمز الآثام. وتلك حال الآدمية، يريد الفن أن يعلو بها، فيقعدها الجسد بغرائزه. على أن أهل الفن منهم(486/11)
من يحتمل سعير الحياة فتقوى روحه، ومنهم من يعشو بنور هذا السعير فتغلبه الغريزة:
شفت غُلَّة الفن حتى ارتوى ... وإن دِنس الفن من طهرها
خطيئْتها قصة الملهمين ... وإغراؤها الفرح المفتقَد
بأرواحهم يرتقون الخلود ... على سُلَّم من متاع الجسد
وما الفن إلا سعير الحياة ... وثورتها في محيط الأبد
لهيب إذا الروح مرَّت به ... تضاعفتْ الروح في ناره
يُطيق القوى لظى جمره ... ويعشو الضعيف بأنواره
وما الآدمية بنت السماء ... ولكنها بنت ماء وطينّ
يريد لها الفن أُفق النجوم ... فيقعدها جسم عبد سجين
كلام في الفن والفنانين، تتحدث به في السماء أرواح أسماؤها إغريقية مستعارة من الأساطير؛ ولكن هذه الأرواح رموز إلى الآدميين؛ والفنانون بشر على كل حال؛ فحديث الغريزة العاملة فيهم يعني معهم سائر البشر. ولذا جاء الكلام في الفن وسيلة فنية شعرية إلى إبداع ملحمة في شأن الإنسانية منذ نشأتها، ومن أقدم عصور اليونان، ومن أيام السامري وبني إسرائيل وموسى في أرض مدين؛ وتعني البيض وغيرهم، حتى زنوج هاواي؛ وتقص طبيعة البشر وأثر الغريزة في الرجال والنساء طرَّا:
نعم، أنت هن. . . نعم، ما أرى؟ ... أرى الكل في امرأة واحدة
لقد فنيت فيك أرواحهن ... وها أنت أيتها الخالدة
أأبغض (حواء) وهي التي ... عرفتُ الحنان لها والرضى؟
ورثت هواها فرمت الحياة ... وحبَّب لي العالم المبغضا
هو الرجل القلب، لا غيره ... فأودعنه القبس المضرما
إذا ما اقتحمتّن هذا السياج ... فقد خضع الكون واستسلما
(على الأرض)
هنالك حيث تشبَّ الحياة ... وحيث الوجود جنين العدم
وحيث الطريدان شجَّا الكؤوسَ ... ومجَّا صُبابتها من قِدم
(في الزنوج)(486/12)
وما أخطأ الطيف ألوانه ... ولكنه اللهب الأحمر
لهم أعينٌ تتملى الجمال ... وأفئدة بالهوى تشعر
تفَّرد فْهمُ بالخفاء ... وصيغ بفطرتهم واتسم
له بأس (مانا) وإيحاؤه ... إذا اضطربت روحه بالألم
ورقت (هاواي) في شدوها ... إذا جاش خاطرها بالنغم
هم الناس لا يعشقون الخيال ... إذا لم يكن حافزاً للطماع
هم الناس لا يعبدون الجمال ... إذ لم يكن نهزة للمتاع
هم الناس لا يألفون الحياة ... إذا لم تكن معرضاً للخداع
هذا، إلى أن المقدمة الشعرية والملحمة ذاتها تدلان دلالة واضحة على أن الشاعر قد طافت خواطره المجنحة في أحوال البشرية منذ أقدم القدم إلى حاضرها؛ وإن مخيلته الخصبة، وقلبه الفياض، قد تأثرا من عقائد راسخة في نفسه. . . نفسه المستنيرة بأدب جم وبمأثور في الإنسانية؛ وإن هذه النفس الحية، عرتها هزة الإلهام، فتبعث منها هذا الشعور الصادق المشرق الآسر:
(من المقدمة الشعرية)
إلى قمة الزمن الغابر ... سمت ربة الشعر بالشاعر
يشق الأثير صدى عابراً ... وروحاً مجنّحة الخاطر
وأوفت على عاَلم لم يكن ... غريباً على أمسها الدابر
نمت فيه بين بنات السديم ... وشّبت مع الفلك الدائر
مشاهد شتى وعتها العقول ... وغابت صُواها عن الناظر
وجود حوى الروح قبل الوجود ... وماض تمثّل في حاضر
تبدَّى لها فأنجلي شكها ... وثابت إلى وعيها الذاكر
وأصغت فمرّت على سمعها ... رواية ميلادها الغابر
على مذبح الحب من قلبها ... سراج يسِّبح مَن لألأة
وتمشى الحياة على نوره ... وما نوره غير عين امرأة(486/13)
هو الحب؟. . لا. . بل نداء الحياة ... تلبيه أجسادنا الضامئة
يخفّ دمي لصداه الحبيب ... وتدفعني القدرة الهازئة
قلوب تلذّ بتعذيبها ... غرائز عانية عارمة
صحت من خُمار ملذاتها ... تعنِّف أهوائها الآثمة
هو ابن السماء. ولكن ... من النقص تركيبه والتمام
صناع الطبيعة بل صنعها ... فمنا دمامته والوسام
يسفّ إلى حيث لا ينتهي ... ويسمو إلى قمة لا ترام
ويسقى بكأس إلاهية ... مرنَّقة بالهوى والأثام
(من الخاتمة)
غدا تدرج الروح في طيفها ... وما الطيف للروح إلا قناع
سترقد في غورها الذكريات ... وتوقظهن السنون السراع
وتمشي لحاضرها في الحياة ... بمصباح ماض خفي الشعاع
وكم نبأت كالحديث الجديد ... وما هو إلا القديم السماع
من الخير والشر إلهامها ... مقادير تجري بهن اليراع
ما أحب هذا الشعر وأسرعه إلى القلب واللب! وما أنفسه في الأدب! ثم إنه قريب إلى المعقول على نظريتي الحياة في الفلسفة العلمية: النظرية الروحية والنظرية الآلية!
فقد فطر الإنسان على غريزتين أصليتين، تعمل أحدهما على حفظ الفرد وتعمل الأخرى على حفظ النوع، وهذه هي علة التجاذب القاهر بين الرجل والمرأة، ولو بطل عملها لا نقرض النوع
والجسد مكمن الغريزة، أما الروح فهي مجمع الملكات السامية من المخيلة والشعور أو الوجدان والعقل والإرادة؛ وهي مبتدعة القيم الأخلاقية العالية والشعر وجميع الفنون
والإنسان يسف بغرائزه الحيوانية، ويسمو بملكاته الروحية؛ وقد تدرج بها إلى إنسانيته الحاضرة في مراقي أطوار غابت معالمها في غياهب الدهارير. ولاحظ الآدمي في حين من الدهر طواه الماضي السحيق أن هذه الملكات التي يتفوق بها على الحيوان تذهب مع الروح، وإن من فارقته روحه بقي جثة هامدة من اللحم والدم لا تلبث أن تنحل؛ ولذا قيل(486/14)
إن الروح هي الأصل السماوي، وما الجسد إلا شبح تقمصته عند هبوطها من العالم العلوي
والملكات الروحية تؤثر في الجسد وغرائزه، كما أنها تتأثر منها. وما هذا التفاعل مختلف الأثر باختلاف عوامل شتى، كالوراثة والعادة والمعيشة والبيئة؛ مختلف الأثر في كيان كل شخصية، وفي شعورها بالذات والألم؛ وهذان هما سبب الفضيلة والخير، والرذيلة والشر جميعاً؛ والفضائل والرذائل خلال في البشر على نسب متفاوتة؛ فمنهم من هم أدنى إلى الحيوان، ومنهم من هم أدنى إلى الإنسان المثالي. وفي سورة (الشمس): (ونفسٍ وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد افلحَ مَنْ زكاها، وقد خاب من دساها)
تؤثر الملكات في غريزة حفظ النوع التي هي علة التجاذب القاهر بين الرجل والمرأة، فتلطف من حدتها وتهذبها بقيم أخلاقية هي قوام الحياة الاجتماعية؛ ولكن هذه الملكات لا تكف الغريزة عن العمل. ولذا فهي تخفي فعل الغريزة وراء أستار من المعاني والخيالات والأسماء الشريفة، إذ تسمي الجاذبية في الذكر والأنثى جمالاً، وسلطان الغريزة حباً؛ وتسمى اللذة من وصف الجمال والحب، أو من تصويرهما، فنا. بيد أنها لن تستطيع منع السنة الفطرية إن تبلغ غايتها في حفظ النوع. فإذا كان تغلب الغريزة خطيئة آدم وحواء، فهي خطيئة يذوق الإنسان مرغماً مر عواقبها وحلوه، ولن ينال الغفران وإن كفر عنها ما استطاع بفضائله
وفي ذلك حقائق كشفها الإنسان بخبرته وعلمه
وقد نظر الشاعر الملهم في ماضي الإنسانية البعيد وحاضرها، وأرادت خواطره المجنحة سيرة البشر، ثم عرض بفنه الجميل ما جنت من يانع الثمر، في ملحمة من كنه الشعر وسحر البيان.
(البقية في العدد القادم)
محمد توحيد السلحدار(486/15)
يوم من أيام دمشق الخالدة
وفاة الإمام ابن تيميه
في 20 ذي القعدة سنة 728 هـ
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر العام في سورية ولبنان
(في شهر أغسطس الماضي أم دمشق الأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر العام في سورية ولبنان، فزار فيما زار قبر
الإمام ابن تيميه، ووقف عليه مستحضراً سيرته، مستذكراً
نبوغه، ثم كان من وحي هذه الوقفة الشاعرة هذا المقال القيم)
في سحر ذلك اليوم نعى المؤذن بمنارة القلعة شيخ الإسلام ابن تيميه وتناقل نداء ذلك الحراس على أبراجها فأذاعته المآذن من الجوامع والمساجد الأخرى، فأصبح الناس في اليوم التالي وقد سرى هذا النبأ بينهم، وغمرت المدينة موجة حزن وأسف عندما سمعوا بنبأ هذا الخطب الجسيم الذي أصابهم بفقدان العالم الإمام المجاهد الفقيه الحافظ الزاهد العابد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيميه.
وكان الشيخ محبوساً بالقلعة التي أمر نائبها بفتح أبوابها، وجلس في حجرة الوفاة يتقبل المعزين وقد اجتمع بها خلق من أصحاب الشيخ ورجال الدين وغيرهم من أعيان البلد. أما جماهير الشعب فقد أحاطت بالقلعة ووفدت عليها من أحياء الصالحية ومن جهات الغوطة والمرج بعد أن أقفلت المدينة أسواقها.
ويطنب المؤرخون في وصف ذلك اليوم وكيف تلقى الناس أخباره، وكيف ساروا في جنازة الشيخ عشرات الآلاف، وكيف اقتحموا باب القلعة ودخلوا زرافات على الشيخ يقبلون وجهه، وكيف امتلأت أرجاء قلعة دمشق وضج الناس بالبكاء والنحيب عليه والثناء والدعاء والترحم له.(486/16)
فقالوا إن يوم جنازة ابن تيميه كان يوماً مشهوداً لم تر مثله دمشق في تاريخها، إلا أن يكون ذلك في أيام بني أمية حينما كانت قلب العالم المتمدين.
ولما أريد الصلاة عليه بجامع أمية خفت الجماعات إليه حتى امتلأت الرحبات والصحن وجيء بالجند لحراسة النعش؛ ولما صُلي عليه صاح صائح يقول: (هكذا تكون جنائز أهل السنة!) وخرجت جنازته من باب الجامع إلى مقابر الصوفية مارة بباب الفراديس وباب النصر وباب الجابية والقوم حولها خاشعون.
من هذا الشيخ الذي ارتجت له الشام بأسرها ونعته مآذن مصر، وأقيمت له كبرى جنائز أهل السنة بدمشق، ورفعته الجماعات إلى مصاف الأبطال برغم كونه سجين السلطة الحاكمة؟ ومن الذي ألقى الناس المناديل والعمائم على نعشه؟ ومن كانت تخشاه الدولة في الشام ومصر، ثم مات وعلى رأسه عمامة بيضاء بعذبات مغروزة وقد علا بعض رأسه الشيب؟
من هذا الذي فاضت روحه وقد تمتمت شفتاه بالآية الكريمة: (إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر) فكانت نهاية ثمانين ختمه لكتاب الله بدأها عند دخوله المعتقل، وبدأ الحادية والثمانين فأسلم الروح وهو يتلو هذه الآية الكريمة؟
لاشك في أنه من أولئك الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والعمل بما أمر به الله - هو صاحب دعوة قام بها مخلصاً وجهه لله وحده، له مذهبه وآراؤه. ولسنا نعرض لها فإن ما كتب فيها كثير، ولله الحمد، وهو متداول ومعروف، ولكنا نعرض لهذه الشخصية الإنسانية الفذة التي جمعت من الصفات والمزايا ما يضعها في مصاف عظماء الرجال من كل عصر
كان ابن تيميه شخصية فيها من الإيمان والقوة والإخلاص والجرأة والصلابة في الحق ما يجعله عالماً وحده. كان ابن تيميه صاحب رسالة من أولئك الذين بعثوا لينشروا بين الناس تعاليم وأفكاراً ومبادئ تهدم القديم الرث البالي، وتصور لهم المتناقضات السائدة في أوساطهم وتدعوهم إلى كلمة سواء، ثم ترسم لهم قيماً جديدة أخذها الشيخ من كتاب الله وسنة رسوله وهديه والعودة إلى السلف الصالح الذي كانت ترتجف لعزائمه الدنيا. واتخذ له نبراساً لا يحيد عنه هو تصفية العقيدة وتوجيهها إلى التوحيد والخضوع للذات السرمدية(486/17)
الأحدية التي تسيطر على هذا الكون وتقوده إلى الخير الصرف إن تعاليم ابن تيميه خالدة بين الناس، وهي لا تزال تشغلهم وسوف تشغلهم في المستقبل القريب والبعيد، ولكن شخصيته وعمله وبطولته أمور لا تزال خافية على الكثيرين، ولذلك سنحاول أن نعرض لبعض نواحيها. ويسرني أن أكون قد أديت بعض الدين لصاحبها ولمدينة (دمشق) التي ضمت رفاته، ولها في قلبي ونفسي أروع وأسمى مكان
ودمشق إذا افتخرت بتاريخها الخالد وأيامها الغر وآثارها التي نحج من مصر وغيرها لرؤيتها؛ وإذا افتخرت بدولها ورجالها وأبطالها، فمن حقها أن تفخر بابنها البار الإمام ابن تيميه الذي عرض حياته للموت من أجلها، والذي جاهد أكمل جهاد، وذاق مرارة السجن، وتحمل كيد الكائدين، فهو جدير بأن تقام باسمه مدرسة، أو ينشأ باسمه ميدان، أو أن يفرغ لذكراه يوم أو بعض يوم
ابن تيمية المجاهد المرابط ضد التتار
يموج وسط عجيج الناس في دهش ... من نبأة قد سرى في الحي سأريها
(من عمريه حافظ)
كانت سنة 699 هجرية سنة مهولة على البلاد، إذ قصد التتار تحت قيادة قازان الأراضي الشامية، ولم يكن هناك بيبرس أو قلاوون ليحميها أو ليخلق من الهزيمة نصراً كما حدث قبل ذلك في عين جالوت أو مرج حمص
كان التتار يغزون وهم على دين آبائهم؛ أما هذا العام فقد جاءوا واسم سلطانهم محمود، وهم يظهرون الإسلام ومعهم المؤذن والقاضي والشيخ والإمام، ليؤمهم في أوقات الصلاة.
جاءوا إلى الشام، وقد اختل أمر مصر والشام، وانضم فريق من أمراء البلاد إليهم، فسلمهم الجزء الشمالي من سورية بغير قتال
وصلوا النبك، واحتوا القطيفة، وانكفأ جيش مصر والشام إلى البقاع وبعلبك، وفتحت دمشق أبوابها عدا قلعتها العتيدة التي أبت أن تستسلم
وكان ابن تيميه في التاسعة والثلاثين من عمره في حركة دائمة، لا يستقر ولا يهمد، لم يقبل أن تترك دمشق بغير أمن، فذهب مع أعيان البلد وقابلوا عاهل التتار، واحتج عليه(486/18)
قائلاً: (أنت تزعم أنك مسلم، فلماذا أتيت إلينا غازياً وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت؟!)
واشتد اللجاج بينه وبين قازان وقطلوشاه وبولاي. وأتوا للوفد بطعام، فأكلوا منه إلا ابن تيميه. فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس؟!
قيل وطلب إليه عاهل التتار الدعاء فقال في دعائه: (اللهم إن كان عبدك محمود هذا إنما يقاتل لتكوم كلمتك هي العليا، وليكون الدين كله لك، فانصره وأيده وملكه البلاد والعباد. وإن قام رياءً وسمعة وطلباً للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الإسلام وأهله فاخذله وزلزله ودمره واقطع دابره) قال هذا وقازان يؤمن على كلامه. ولما خرج الوفد من حضرة العاهل التتري التفت بعضهم إليه قائلاً: كدت أن تهلكنا وتهلك نفسك. والله لا نصحبك من هنا.
والغريب في أمره بعد هذا أن يتبرك به جند التتار ويلوذون به فيدخل دمشق وفي ركابه ثلاثمائة منهم!
كان وقتاً شديداً على الناس، فتحت فيه السجون وخرج منها الأشرار ينهبون، وامتلأت القرى بالجنود، وكثرت المصادرات وراجت الأراجيف والإشاعات؛ كل هذا والشيخ لا ينفك يرأس الوفود ويفك الأسرى ويواسي المرضى
وفي يوم من الأيام رحل جند التتار عن البلاد وانسحبوا إلى عقبة (دمر) ومنها غادروا المدينة تاركين بها أحد الأمراء من الذين انضموا إليهم نائباً عنهم. كل هذا والقلعة صامدة وابن تيميه يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط
وأخيراً انكشفت الغمة بقدوم عسكر مصر وفتح لهم باب الفرج مضافاً إليه باب النصر. وجاء عسكر الشام وعلى رأسه نائب دمشق جمال الدين الأفرم وكان دخولهم في تجمل زائد الوصف.
ابن تيميه يلازم عسكر الشام في تنقلاته
نفخت روح الجهاد في نفسه نشاطاً جعله يختلف عن غيره من شيوخ عصره؛ فهو بمجرد(486/19)
عودة عسكر دمشق لا يتركهم بل يلازمهم في تنقلاتهم وفي ركابه خلق من أهل حوران يدعو إلى الهدى؛ فمر ببعلبك والبقاع وجبال الجرد والكسروان يخطب ويهدي؛ فتاب كثيرون على يديه وحسن معتقدهم، وكان كثيرون لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
وحينما عاد أمير دمشق وقد رأى من عمل الشيخ وفتوته ما رأى أمر لأول مرة أن يتعلم الفقهاء الرمي بالنشاب وأن يستعدوا بتعلم الفروسية وطرق القتال المختلفة ليواجهوا العدو إن حضر، ولا ريب في أن للشيخ يداً في ذلك الرأي السديد.
(البقية في العدد القادم)
احمد رمزي(486/20)
مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية
نقلاً عن (برنارد لويس)
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
3 - القرن التاسع عشر
(تابع)
خصص (لين) نفسه في السنين التي أعقبت عودته مباشرة لتحضير ترجمة إنجليزية لكتاب (ألف ليلة وليلة). وكانت الترجمات الأولى منه سبق أن ظهرت واكتسبت شهرة كبيرة ولكنها كانت غير دقيقة وغير علمية، فأخذ (لين) على نفسه أن يقوم بترجمة تحتفظ في غير الوقت بمعنى وجود النص الأصلي.
وقد أرفق ترجمته تلك بملاحظات وشروح عن العادات الإسلامية في العصور الوسطى وطبعت بعد ذلك منفصلة بعنوان:
(الحياة العربية في العصور الوسطى).
وكان في خلال ذلك الوقت يفكر في تصنيف قاموس عربي إنجليزي واسع، فقد كانت القواميس الأوربية السابقة للغربية - كقاموس جوليوس وفريتاغ وغيرهما - ذات نفع من بعض الوجوه؛ غير أنها وضعت على أساس غير دقيق، وهي ناقصة من عدة وجوه. فكانت فكرة (لين) أن يقوم بعمل منظم في القواميس العربية القديمة كتاج العروس وغيره، وعلى أساس ذلك العمل يقوم بإعداد معجمه، وفي يوليو سنة 1420 سافر للمرة الثالثة إلى مصر حاملاً هذه الفكرة، وشرع يعمل من سنة 1842 إلى سنة 1844 في القاهرة من 12 ساعة إلى 14 ساعة يومياً بصورة اعتيادية، ونادراً ما كان يغادر داره، وفي الأخير، عندما جمع المادة اللازمة من القواميس العربية - ويجب أن لا ننسى أنها لم تكن قد طبعت بعد، وأن الحصول عليها لم يكن ميسوراً - عاد إلى إنجلترا وقضى السنين الخمس والعشرين الأخيرة من حياته في إكمال هذا المعجم. ولقد كانت المهمة شاقة؛ فإن دراسة اللغة العربية - وهي في ذاتها مجهود كبير - لم تكن إلا بداية له، فيبقى من ورائها الغربلة والتحضير والتصنيف، أي - بالاختصار - يبقى العمل الشاق المضني لصنع معجم منظم منسق على(486/21)
الطريقة الأوروبية من بين المادة المشوشة التي كانت تحت يديه. ولم يكن العمل - حتى تاريخ وفاته في سنة 1876 - قد أنجز، غير أن الأجزاء العديدة التي كان قد نشرها تشكل جزءاً ثميناً من الدراسة الشرقية، وهو يعتبر بصورة عامة جزءاً لا يمكن الاستغناء عنه من المؤونة التي يتزود بها طالبو العربية الجدد. ومنذ ذلك الحين حتى اليوم بقي معجم (لين) الأول من نوعه كما أنه كان الأساس لمعظم القواميس العربية المتأخرة باللغات الأوربية.
وقد ظل (لين) طيلة حياته (أستاذ الدراسات العربية العظيم) كما نعته بذلك أحد العلماء المشتغلين بالعربية من الألمان، وقدرته الجمعيات الثقافية في عدة عواصم أوربية.
أما (إدوارد هنري بالمر) - وهو أحد العلماء الإنجليز المعروفين في القرن التاسع عشر - فربما كان أكثر اشتهاراً في الشرق باسم (الشيخ عبد الله). وقد ولد في كامبردج في سنة 1840 وتوفي في مصر سنة 1882 وهي السنة التي قامت فيها ثورة عرابي باشا. وأظهر منذ طفولته قدرة كبيرة على تعلم اللغات فأجاد الفرنسية والإيطالية بطلاقة. ولما بلغ العشرين من عمره تعرف إلى شخص يدعى (سيد عبد الله) وهو أحد المسلمين الهنود، وكان حينذاك محاضراً باللغة الهندستانية في جامعة كامبردج، واكتسب منه الاهتمام بالدراسات الشرقية؛ فقام بنشاطه المعهود بدراسة اللغات العربية والفارسية والأردية في آن واحد، ولم يمض عليه زمن طويل حتى شرع ينقل الشعر الإنجليزي إلى (لغته العربية المفضلة) وينظم بالفعل شعراً عربياً أصيلاً. وبعد ذلك مبشرة قرر أن خير طريق لتعلم اللغة العربية هو أن يتعلمها من العرب أنفسهم، فنراه يتصل بصلة قريبة بأعضاء عديدين من الجالية العربية في إنجلترا - وكان أحدهم وهو سوري من حلب يدعى (رزق الله حسون الحلبي) الذي أصبح صديقه المقرب، والذي كان له تأثير في مؤلفات بالمر وخلقه، فدرسه دروساً كثيرة، وكان بالمر يحترمه كثيراً - وبعد ذلك بقليل دخل (بالمر) جامعة كامبردج وواصل دراساته الشرقية بصورة أكثر تنظيماً، وكان يطمح منذ زمن بعيد أن يزور بلاد العرب ويتعرف شخصياً تلك الأمة التي كان يعجب كثيراً بلغتها وآدابها. وفي سنة 1869 أتيحت لفه تلك الفرصة؛ ففي تلك السنة والسنة التي تلتها، قام (بالمر) برحلتين إلى الشرق الأدنى، بالنيابة عن (جمعية كشف فلسطين)؛ وبذلك أتيحت له الفرصة الأولى(486/22)
لكي يدرس عن كثب الثقافة العربية واللهجات العربية، تلك الفرصة التي انتهزها كلها. وبعد أن عاد إلى إنجلترا بقليل عين أستاذاً للغة العربية في كامبردج، وقسم عمله عدة سنين بين العمل الأكاديمي والعمل الصحافي، وأصدر بضعة كتب مهمة. وفي سنة 1882، زار مصر مرة أخرى، وقام برحلة جريئة على ظهور الخيل في شبه جزيرة سيناء، وهي تلك المنطقة التي يعرفها جيداً من رحلاته السابقة. وقد أصبح ركوب (الشيخ عبد الله) في الصحراء يذكر الآن كما تذكر الأساطير، وكانت خاتمته فاجعة، فقد كان ذلك الوقت زمن اضطرابات في الشرق الأدنى؛ ولذلك كانت الأسفار فيه أكثر من مخاطرة اعتيادية، فقتله قطاع الطرق من البدو في عودته من رحلته في الصحراء، وانبتت تلك الحياة الحافلة عن عمر مبكر يناهز42 عاماً
ربما كان (بالمر) فريداً بين المستشرقين الأوربيين باعتبار أنه لم يقتصر على اكتساب المعلومات الأكاديمية للغة العربية فحسب، بل تعمق في روح الأمة العربية ولغتها. وكان من القليلين من المستشرقين الأوربيين الذين كانوا يستطيعون الكتابة باللغات الأجنبية بطلاقة ودقة، وبعض كتاباته باللغة الأردية تقرأ في الهند كثيراً. ويعتبر وصفه بالأردية لزيارة الشاه الإيراني لإنكلترا من الخوالد. وكان يكتب وينظم بالعربية والفارسية كلتيهما. ومن الطريف ذكره في هذا المجال، أنه عندما كان يكتب إلى زملائه المستشرقين خطاباته الخاصة، يجد أنه لا يستطيع الأداء عما في نفسه بصورة محكمة باللغة الإنكليزية، فيندفع كاتباً بالعربية. وقد ذكر عنه أحد أصدقائه وزملائه ج. ف نيكول أستاذ اللغة العربية في أكسفورد ما يلي: (لقد كان (بالمر) غير مستقر في رسائله التي كان يكتبها بالإنكليزية، فكان ينفجر تحت تأثير احساسات طارئة، أو بقصد النقد ذاكراً بعض النثر أو النظم الفارسي أو العربي).
ويمكن اعتبار القطعة التالية نموذجاً لشعر بالمر العربي:
ليت شعري، هل كفى ما قد جرى ... مذ جرى ما قد كفى من مقلتي؟
قد برى أعظمُ حزن أعظمي ... وفنى جسميَ حاشا أصغري
وبالرغم من قصر عمر بالمر، فإنه خلف قائمة كبيرة من الكتب المطبوعة، نجتزئ بذكر المهم منها فيما يلي:(486/23)
لقد قام قبيل وفاته بطبع النص الكامل لديوان البهاء زهير المصري مصحوباً بترجمة منظومة وشروح مقدمة. وفي السنة التي تلتها نشر أجرومية للغة العربية بالإنكليزية، وهي على خلاف الأجروميات السابقة قد وضعت على الطريقة التقليدية التي كان النحويون العرب يتبعونها، وحاول أن يقدم النحو العربي إلي الطلاب الإنكليز بالشكل الذي كان العرب أنفسهم يدرسونه. وقد ظهر هذا الكتاب في طبعته الثانية موسعاً في السنة التي تلت وفاته. وأهم من ذلك نوعاً ما كتابه عن حياة هارون الرشيد الذي قدم فيه (بالمر) صورة زاهية من العاصمة العباسية في عصر أشهر الخلفاء، كما أنه نشر عدة ترجمات شعرية من العربية والفارسية، وقاموساً فارسياً، وفهرساً انتقاديَّا للمخطوطات الشرقية في كامبردج، ووصفاً لرحلاته في شيه جزيرة الطور. وقد حزن لوفاته أصدقاؤه الكثيرون. والمعجبون به في جميع أنحاء العالم، وظهرت مراثٍ له فيما لا يقل عن الخمس عشرة لغة منها اللغة العربية
وهناك عالم آخر من الدرجة الأولى في الأهمية وهو (وليم رايث)، (1840 - 1889) وهو ابن ضابط إنكليزي في الهند، وقد ولد في ذلك القطر، وكانت أمه ضليعة في عدة لغات شرقية، فشجعته على أن يعتنق الدراسات الشرقية من باكر عمره، فدرس العربية في الجامعات الإنكليزية وفي القارة، وأشتغل مدة في ليدن على المستشرق الهولندي العظيم (راينهارت دوزي)، وكان أستاذ العربية في لندن ودبلن وكامبردج على التعاقب. وقد كتب إلى صديق له - وكان في الثانية والعشرين من عمره - انه اختط لنفسه خطة يهب فيها حياته لدراسة اللغة العربية. وكانت تلك الخطة طموحة، ولكن ما أعجب ما وصل (رايث) من المدى في تحقيقها في السنين التي تعاقبت بعد ذلك!
كان من أهم أعماله للأدب العربي عملان: أحدهما طبعته لرحلة ابن جبير، والآخر طبعة لكتاب المبرد المشهور (الكامل) واشترك مع دوزي في طبع تاريخ الأندلس للمقري. ونشر كذلك عدة نصوص عربية أخرى. ولا يزال كتابه عن النحو العربي (في مجلدين) من خيرة الكتب في هذا الموضوع، ويستعمله جميع الطلاب المتقدمين في البلاد التي تنطق الإنكليزية
وقد خلف (رايث) على كرسي اللغة العربية في كامبردج (روبر تسون سمث) (1846 -(486/24)
1894)، وهو إسكتلندي من (أبردين)، درس العربية في جامعة تلك المدينة وفي القارة، وسرعان ما اكتسب الشهرة، فقدم له جماعة من المعجبين به في سنة 1881 مجموعة من الكتب والمخطوطات العربية هدية تقدير، وقام بعدة رحلات إلى الشرق الأدنى بين سنتي 1879 و1881، وساح كثيراً في فلسطين ومصر وسورية، حتى الجزيرة العربية، حيث تغلغل إلى جدة والطائف. وتشمل كتبه المطبوعة دراسات عن: (القربى والزواج عند العرب القدماء)، ونواحي أخرى من تاريخ العرب قبل الإسلام. وكان محرر (الموسوعة البريطانية)؛ ولذلك فإنه يعتبر الشخص الوحيد الذي قرأ هذه الموسوعة كلها قراءة إمعان
ولقد كان ذا اطلاع عجيب، وكثيراً ما كان يستشير استغراب أصدقائه بعمق معلوماته وتشعبها في جميع أنواع الموضوعات. ولقد قيل عنه إنه أملى محاضرة كاملة عن تاريخ إنكلترا في العصور الوسطى، وهو في شبه غيبوبة، وعلى فراش الموت!!
ونذكر في الأخير (سر وليم موير) (1819 - 1907) وهو أحد المشتغلين بالعربية من الإسكتلنديين، وكان ذا سيرة حافلة كإداري في الهند وكعالم في جامعة أدنبرة. وقد نشر عدة كتب بالإنجليزية عن محمد صلى الله عليه وسلم، وعن التاريخ الإسلامي. ولا يزال عدد من هذه الكتب يستعمل أصولاً في الجامعات الإنجليزية والهندية، وأحقها بالذكر السيرة الكاملة لحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ذلك الكتاب الذي خلا من الغرض خلوَّا تاماً. ولا يزال كتابه عن تاريخ الخلافة الذي وضعه على أساس المصادر العربية - وكان الكثير منها في ذلك الحين مخطوطاً - خير الكتب في هذا الموضوع بالإنكليزية.
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين(486/25)
من ملاحق كتاب (رسوم دار الخلافة)
دَنّيَّةُ القاضي في العصر العباسي
للأستاذ ميخائيل عواد
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
كان ببغداد قاض يعرف بالجذوعي، واسمه محمد بن محمد ابن إسماعيل بن شداد أبو عبد الله الأنصاري (المتوفى سنة 291 هـ) حكى بن الجوزي قصة وقعت للجذوعي هذا مع غلام من متقدمي غلمان الموفق، وكان أميراً يوم ذاك، ومدار القصة دنية الجذوعي القاضي. قال أبو الفرج: (. . . فقال المعتمد من هذا؟ فقيل له الجذوعي البصري، قال وما إليه؟ قالوا ليس إليه شئ؛ فقيل مثل هذا لا ينبغي أن يكون مصروفاً فقلدوه واسطاً؛ فقلده إسماعيل وانحدر، فاحتاج الموفق يوماً إلى مشاورة الحاكم فيما يشاور في مثله، فقال استدعوا القاضي، فحضر وكان قصيراً وله دنية طويلة، فدخل في بعض الممرات ومعه غلام له، فلقيه غلام كان للموفق، وكان شديد التقدم عنده، وكان مخموراً؛ فصادفه في مكان خال من الممر، فوضع دنيته حتى غاص رأسه بها فتركه ومضى، فجلس الجذوعي في مكانه، وأقبل غلامه حتى فتقها وأخرج رأسه منها وثنى رداءه على رأسه وعاد إلى داره. وأحضر الشهود، فأمرهم بتسليم الديوان، ورسل الموفق يترددون، وقد سترت الحال عنه حتى ذكر بعض الشهود لبعض الرسل الخبر، فعاد إلى الموفق فأخبره بذلك؛ فأحضر صاحب الشرطة وأمر بتجريد الغلام وحمله إلى باب دار القاضي وضربه هناك ألف سوط. وكان والد هذا الغلام من جلة القواد، ومحله محل من لو هم بالعصيان لإطاعة أكثر الجيش، فلم يقل شيئاً. وترجل القواد وصاروا إليه وقالوا مرنا بأمرك، فقال إن الأمير الموفق أشفق عليه مني، فمشى القواد بأسرهم مع الغلام إلى باب دار الجذوعي فدخلوا إليه وضرعوا له، فأدخل صاحب الشرطة والغلام وقال له لا تضربه، فقال: لا أقدم على خلاف الموفق. قال: فإني أركب إليه وأزيل ذلك عنه، فركب فتشفع له وصفح عنه)
ومن ظريف الترادف قول بديع الزمان الهمذاني حينما كتب إلى القاضي أبي القاسم علي بن أحمد، يشكو أبا بكر الحيرى (. . . ثم يلبس دنيته، ليخلع دينيته، ويسوى طيلسانه،(486/26)
ليحرف يده ولسانه. . .)
وفي بعض أخبار الظراف والمتماجنين إن سعد بن إبراهيم الكاتب قال يوماً لعبادة المخنث: (يكون مخنث غير بغاء؟ قال: نعم. ولكن لا يكون مليح: يكون مثل قاضي بلا دنية)
ولقد تقاذفها الشعراء في هجوهم. فمن قائل في حث متحكم على إعطاء رشوة إلى قاضٍ:
يا خليّلي يا أبا الغيث درك ... نصب القاضي لكَ اليوم شرك
طلب البرطيل فأبذلهُ لهُ ... يسكت القاضي وإلاّ ذكرك
لا يهولنك دَنِّيَّته ... أعطه من رشوة ما حضرك
وعلى ذكر إعطاء الرشوة للقاضي، وكان أمرها مشتهراً يوم ذاك، قال عمارة اليمني (المتوفى سنة 569 هـ) في ترسلاته: (. . . وقاضي مصرك، قدمتا على الوالي، فأدلى القاضي بالدنيه، وأدليت أنت بالهدية. . .)
وكان أبو الحسين محمد بن محمد بن لنكك البصري مولعاً بهجو كلاب بن حمزة العقيلي أبي الهيذام اللغوي. فمن أهاجيه التي تعرض فيها للدنية قوله:
نفسي تقيك أبا الهيذام كل أذى ... إني بكل الذي ترضاه لي راضي
ما كان أبدى فقيهاً إذ ظفرت به ... فكيف ألبسته دنية القاضي
وهذا شاعر آخر من المائة الرابعة يسخر منها؛ فيذكرها مقرونة بغراب نوح؛ فيقول:
كأنّ دنِّيَّة عليها ... غراب نوح بلا جناح
وقال آخر:
ترى قلانسهم كالرمح طعنّها ... تخفي جراحاتها في جنب مغرور
وقال الصابئ:
وفوقه دنِّيَّة ... تذهب طوراً وتجي
وكانت بعض النساء يفزعن من رؤية القاضي بدنيته ولحيته الطويلتين. فقد ذكر متن نقلاً عن الذهبي أنه: (كان ببغداد في سنة 368 للهجرة، قاض يعرف بأحمد بن سيار، وكانت له هيئة وجثة مهولة (كذا؛ والصواب: هائلة)، ولحية طويلة، فقدم إليه امرأتان ادعت إحداهما على الأخرى. فقال: ما تقولين في دعواها؟ قالت: أفزع؛ أيد الله القاضي. قال: ماذا؟ قالت: لحية طولها ذراع، ووجه طوله ذراع، ودنية طولها ذراع؛ فأخذتني هيبتها. فوضع القاضي(486/27)
دنيته، وغطى بكمه لحيته؛ وقال: قد نقصتك (كذا؛ والصواب: نقصت منك) ذراعين. أجيبيني عن دعوتها)
وقد بالغ الناس في درجة استهزائهم بالدنية واحتقارهم لها. فمن ذلك ما حكي عن أبي الظاهر الذهلي الذي ولي قضاء مصر في شهر ربيع الأول من سنة 348 للهجرة أنه (كان في خلافة المطيع يلبس السواد، ويضع على رأسه دنية طويلة تزيد على الدماغ (كذا؛ والصواب: الذراع)، فتحاكم إليه زوجان؛ فبدر من المرأة في حق زوجها كلام، فقال لها: اسكتي هذا القاضي هو أبو الظاهر؛ متى زدت من هذا المعنى نزع الخف الذي على رأسه وقطعه على دماغك. فقال أبو الظاهر: قم يا كذا إلى لعنة الله! من أين لك أن هذا خف؟. . .)
هذه باقة أخبار في لطائف دنية القاضي تناثرت هنا وهناك، وكانت في جميعها مدعاة والسخرية، فكم جلبت تلك الدنيات من الأذى والألم لكثير من القضاة! وكم جرت عليهم من الويلات! وكم من دنية غاصت برأس صاحبها، وكم منها تعاورتها أيدي الصبيان والرعاع وتقاذفتها أرجلهم، وكم من قاض ترك عمله بسببها
فلا غرو أن هذا الملبوس الدخيل على العرب لم يرق لهم، ولم تستأنس عيونهم برؤيته فوق هام القضاة، فما أنفكوا يعرضون به ويستهجنون شكله حتى خف استعماله شيئاً فشيئاً على مر العصور، ثم زال من الوجود منذ عهد بعيد
(بغداد)
ميخائيل عواد(486/28)
2 - إلى المعترضين علينا
للأب أنستاس ماري الكرملي
3 - حل المعضلات
إننا لم نفكر يوماً، بل دقيقة، بل لحظة عين، أن نعت جمع التكسير يكون مفرداً مؤنثاً، أو جمعاً على السواء، والمطبوعات التي عنينا بنشرها - من تأليف ومقالات - مما طبع ولا نزال نتولى طبعه في المجلات والجرائد والكتب، نشهد شهادة تفقأ في العين حصرماً، وتذر فيها رماداً، في الوقت عينه بأننا عملنا - ولا نزال نعمل - بهذه الضابطة المطردة؛ ومن نسب إلينا الخلاف، فهو أعمى أو يتعامى، ولا يهمنا أمره، إنما إنكارنا كان لما كان على أفعل فعلاء وجمعهما على فعل لا غير؛ إذ لا يوصف الجمع المكسر والصحيح بغير هذه الصيغة الأخيرة؛ فإنك لا تقول البتة: رجال سوداء، ولا نساء سمراء؛ ولا نهارات زهراء، ولا ليلات بيضاء؛ حتى أن العوام لا تنطق بها. وكذلك لا تقول: كريات بيضاء، ولو علقت برجليك تلك الكرى دهوراً وعصوراً، توبة وندامة على ما سلف من أغلاطك، وعلى ما فرطت في حياتك
فالذي أنكرناه إذن - ولا نزال ننكره - هو قولك: كريات بيضاء. . . فهذا كفر نحوي عربي لم تنطق به العوام، ولا الأعاجم ولا الأروام!!
وقال أحد المعترضين المعاندين الذي لا يريد أن يهتدي إلى سواء السبيل: وبحسب قاعدة الكرملي، لا يجوز نعت المنازل بالأخرى ولا بالأولى، كما جاء في قول المتنبي:
هذى منازلك الأخرى نهنئها ... فمن يمر على الأولى يسليها!
لكن، هل يستطيع هذا المخالف أن يقول لنا: أين رأى كلامنا هذا؟ أليس هذا كذباً منه وبهتاناً وافتئاتاً؟! فهل في (أولى) (أخرى) لون، أو عيب، أو حلية؟ وهل تجمعان على (أول) و (أخر) بضم أوليهما؟ أفليس هذا مخالفاً للشرط الرابع؟ فما هذا التعامي والعمي أجارنا الله منه؟
وأما قول الخصم: إن (المتنبي) قال:
(وبستانيك الجياد وما تح_مل من سمهرية سمراء)
فالسمهرية هنا مفردة والسمراء كذلك. والمفردة هنا منكرة تدل على جمع، فهي من قبيل(486/29)
وضع الواحد موضع الجمع، وهذا معتاد في وضع الأجناس. قال هذا علي في المخصص 68: 1.
وقال هذا المعترض المسكين المغرور: السماع يؤيد القياس في هذا الشأن، فمن السماع قول طرفة:
ويوم رأينا الغيم فيه كأنه ... سماحيق ترب وهي حمراء حرجف
قلنا: (حمراء) هنا مجاورة (لهي)، وهي مفردة مؤنثة فحمراء صحيحة لما أشرنا إليه في الشرط الخامس
وقال المعترض أيضاً، محاولاً بكل قواه أن يضع رأيه الجامح موضع رأي ناجح، وذلك من العبث، فقال: (ومن ذلك قول الفند الزماني معاصر المهلهل)
(بقيت بعده الجليلة تبكي ... والخدود العيطاء تدعو لحاحاً)
ثم قال: (هكذا جاء في روضة الأدب (ص185)، وشعراء النصرانية (ص243) انتهى.
قلنا: وحسناً فعل حين قال: (هكذا جاء في روضة الأدب وشعراء النصرانية، لأن سليقته تقول له: ليس هذا العجز من العربية في شيء، إنما هو باللغة الشويرية، ولم تكن هذه اللغة يوماً لغة فصيحة، بل خليطاً من العربية، والرومية، واليونانية، والزعفرانية، والجلجلوتية!
زد على ذلك أن صاحب روضة الأدب اسكندر آغا أبكاريوس وهو أرمني فاسد الذوق العربي، فهو غثاء سيل؛ وصاحب شعراء النصرانية شيخو، وكان رحمه الله - حاطب ليل، على ما اشتهر عنه في سورية والعراق وديار النيل، فوقعنا بين غثاء سيل وحاطب ليل، لكن لا عتب على الأب شيخو، لأنه نقل أبياته الزمانية عن الأرمني المذكور، وهذا الرجل يكتب الأرمنية بحروف عربية، ويتوهم أنه يكتب المضرية، وإلا فما معنى قول الفند: (الخدود العيطاء)، وهل كانت أو تكون أو ستكون، أو سوف تكون، يوماً، الخدود عِيطاً (بكسر العين وإسكان الياء). فالعيطاء مؤنث الأعيط، والأعيط على ما في معاجم اللغة: (الطويل الرأس والعنق، والأبي الممتنع) فما معنى العيطاء وكيف تتفق مع الخدود؟ اللهم إلا أن يكون معناها غير هذا في إحدى اللغات الثلاث: المالطية والوقواقية، أو الشنقناقية؛ لكني أقر معترفاً أني أجهلهن كلهن. ولعل حضرة المجادل يفهمهن، فيفسر لنا الكلمة في موقعها هنا!(486/30)
ثم لو فرضنا أن لها معنى غير مدون في كتب متون اللغة فليس ذلك دليلاً على أنها وردت في كلام الشاعر الأصلي، إذ البيت ظاهر الوضع وليس من كلام الأقدمين.
ثم لو فرضنا ثانياً أن لها معنى حسناً يناسب المقام هنا، فإن الفند الزماني كان من ربيعه بن نزار، والعربية الفصحى لم تنقل إلا عن قريش، وأسد، وتميم، وقيس، وكلهم من مضر، فكيف يستشهد بكلام من هو من ربيعه؟
ثم لو فرضنا ثالثاً - وهو أمر قريب من المحال - أن المجادل وجد لنا عشرة أبيات شعر ممن يستشهد بكلامهم وفيها ما يثبت دعواه، فليس ذلك بشيء، لأن شواهده ليست من القرآن، ولا من الأحاديث النبوية، ولا من كلام الفصحاء، والبلغاء، الإثبات، إذ لا يكون الكلام ممن يوثق به إلا إذا جاء منقولاً عمن أخذت عنهم العربية المضرية الفصحى.
ثم لو فرضنا رابعاً أنه أتانا بعشرة شواهد ممن يوثق بعربيتهم من قريش، وأسد، وتميم، وقيس، فعشرة شواهد غير كافية لوضع قاعدة.
ثم لو فرضنا أن العشرة شواهد التي جاءنا بها من فحول شعراء مضر ومن عشرة منهم، فإننا لا نقبل الشعر في اتخاذ القياس، لأن النظم يتحمل ضرائر لا يقبلها النثر، فنحن لا نرضى إلا بنثر رصين يذكر مثل تلك الكلمة أي الكريات البيضاء، وإلا فنصيب تلك الشواهد سلة المهملات، أو سلة المحترقات
فليتدبر حضرة مخالفي هذه الأقوال كلمة كلمة، ثم يتعرض للرد علىِّ رداً معقولاً يفهمه الناطقون بالضاد لا أبناء الشوير فقط
وقال أيضاً المعترض: (ورد في كتب النحاة كشروح ألفية ابن مالك، وفي المعاجم كالقاموس والتاج: جاءوا الجماء الغفير، أي يقال: جاء العلماء الجماء الغفير)
لله درك يا سيدي من عالم بارع ولغوي عظيم! إننا لم نجد في التأليف التي تشير إليها ما تقول. ففي أي طبعة من طبعاتها؟ وفي أي بلد من البلدان طبعت تلك المصنفات؟ وفي أي سنة من السنين نشرت؟ إنك لم تقل لنا كل ذلك. أما في الكتب التي بأيدينا فإنها لا تقول ما تدعي. وكيف يكون كلامك صحيحاً وفيه من الخطأ ما ارتعد له الملأ الأعلى، وأهل الأرضيين السفلي!
كيف يكون معنى جاءوا الجماء الغفير: جاء العلماء الجماء الغفير؟ ففي أي لغة تتكلم، وهل(486/31)
تفهم ما تقول يا سيدي اللغوي القدير! أما نحن فنخالفك؛ فقد يقال: جاءوا الجماء الغفير من غير أن يكونوا علماء؛ إذ قد يكونون عوام وسوقة، فأين وجدت ما تقول؟ إننا نرى في تاج العروس في باب (جمم) ما هذا نقله: (وجاءوا جماً غفيراً، والجماء الغفير) أي (بأجمعهم) قال سيبوبه: (الجماء الغفير من الأسماء التي وضعت موضع الحال، ودخلتها اللام والألف، كما دخلت في العراك من قولهم: أرسلها العراك) اهـ. المقصود من إيراده وهنا كلام القاموس وكلام التاج أيضاً؛ فالذي بين هلالين هو للقاموس وما بقي هو للتاج على ما هو مقرر في هذا الديوان اللغوي
فيا سيدي وأستاذي العزيز، على من تريد أن تعبر عباراتك وآراؤك؟ وقراء هذه المجلة كلهم يفهمون ما تكتب وما تحاول أن تعبره عليهم من الأحلام والمنامات، وما شابه هذه الترهات والخزعبلات وأضغاث الأحلام
وقال حضرة سيدي وأستاذي الجليل: (وفي شرح الزوزني القاضي قول الحارث اليشكري: (وله فارسية خضراء) يقول: (وله دروع فارسية خضراء) فهذا كلام لا غبار عليه، لأن خضراء هنا مجاورة لفارسية، وفارسية كلمة مفردة مؤنثة وإن كان معناها يدل على جمع لأنها عائدة إلى (دروع). فراجع الشرط الخامس لتفهم سبب هذا القول، وإن كان يجوز لك أن تقول أيضاً: (وله دروع فارسية خضر) وهذه أفصح من تلك.
ثم من هو الزوزني، أبو الزوزني، وجد الزوزني بجانب نص القرآن، والأحاديث النبوية الصحيحة، وفصيح كلام البلغاء من العرب؟. أنسيت، يا سيدي وأستاذي، أن الزوزني قال هكذا في شرح بيت اليشكري: (يقول: ثم قابلنا بعد ذلك حجر بن أم قطام، وكانت له (كتيبة) فارسية خضراء لما ركب دروعها وبيضها من الصدأ. وقيل: بل أراد: وله دروع فارسية خضراء لصدئها) اهـ
فلو قال: أراد: وله (دروع خضراء) لما جاز لكنه قال: (وله دروع فارسية خضراء) فجاورت خضراء فارسية فجاز له هذا التعبير. ولا تنس انه قال في أول شرحه: (وكانت له (كتيبة) فارسية خضراء - فافهم يا سيدي، وتأمل وتدبر وترو إلى أن تروي من ماء الحقيقة ونميرها. والله المعين
(البقية في العدد القادم)(486/32)
الأب أنستاس ماري الكرملي
أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
بغداد في 2691942(486/33)
البريد الأدبي
1 - الحدية اللغوية!
أخذ الأب أنستاس ماري الكرملي على الأستاذ محمد مندور خطأً لغوياً وقع فيه حين قال: (وأما قصة الكراكي، فقصة لا أثر لها فيما (عثرت به) من كتب اليونان)؛ وذلك لأن وجه الصواب أن يقال: عثرت (عليه) لا عثرت (به)، والعثور بالشيء غير العثور عليه. وقد أراد الأب الكرملي أن يبين للأستاذ مندور - في تضاعيف كلامه - معنى قوله: (عثرت به)؛ فقال: (. . . ولعله أراد أن يقول: فيما عثرت (عليه) من كتب اليونان، (أقاله الله من كل عثرة)، وإن الجواد قد يعثر). ولكن الأستاذ لم يلتفت إلى هذه الإشارة المقصودة؛ لذلك رأيناه في تعقيبه على كلمة الأب أنستاس يعود فيقول: (. . . إنني لم أعثر بها، ولا أقول: لم أعثر عليها - كما يقترح اللغوي الكبير الأب الكرملي - لأن المعنى الذي أريد أن أعبر عنه، هو إنني لم أعثر بها، أي لم أقع عليها؛ وللأب الفاضل أن يظهر علمه - إذا أراد - في غير هذه التوافه، وأن يتفضل بأن يترك للكاتب الحق في أن يتصرف في اللغة، وفقاً للمعنى الذي في قلبه)!
ولو أن الأستاذ مندور توخى الحق في تعقيبه، لما انساق إلى هذا الرد؛ إذ إن غرض الأب الكرملي - فيما أعلم - أن يرشد الكاتب إلى التعبير الصحيح المتفق مع اللغة التي يكتب بها؛ وأي إنسان يجهل الفرق بين عثرت (به) وعثرت (عليه)؟
ثم أريد أن ألفت نظر الأستاذ إلى أن ما يسميه (توافه)، ليس كما يتوهم: وسبب ذلك أن اللغة العربية - على الرغم من رحبها وسعتها - لغة دقيقة، تتميز بالعمق وبعد الغور؛ فأي اختلاف في حرف الجر الذي يجيء بعد الفعل يترتب عليه اختلاف في المعنى قد لا يفطن إليه الكاتب الذي لا يتوخى الدقة في التعبير. . . وأما الحرية اللغوية التي يطالبنا بها الأستاذ، فهي حديث خرافة، لا أضن أحداً من المخلصين للغتنا العربية يقبل أن يسمعه، ولأ أعرف واحداً من كتاب الغرب يدعيه لنفسه. فأنا أفهم أن تكون هناك حرية في التعبير وتخير الألفاظ، وصوغ أساليب جديدة؛ وأما الحرية في اللغة نفسها بحيث يكون للكاتب الحق في أن يقول: (عثرت به) حين يكون يريد (عثرت عليه)؛ فهذه حرية لا أفهمها، ولا يفهمها أحد، لأنها فوضى لغوية لا تباح إلا حين يكون لكل منا أن يخترع لغة جديدة تلائم(486/34)
حريته!!
2 - تعريب الأسماء الأعجمية
لاحظ الأب أنستاس الكرملي في كلمة الأستاذ مندور أخطاء كثيرة (وأصر على تسميتها أخطاء) في تعريب بعض الأسماء الأعجمية؛ فهو يقول مثلاً: (لوسيان) و (مارك أوربل) والصواب: (لقيانس) و (مرقس أوراليوس). وقد وقع بين يدي - بعد قراءة هذه الملاحظة - كتاب (المجمل في التاريخ المصري): (وهو من تأليف بعض أساتذة التاريخ بالجامعة المصرية)، فوجدت فيه أخطاء كثيرة من هذا النوع: فالكاتب مثلاً يسمى يوليانوس جوليان (ص101)، ويسمى كيرلس (وهو اسم شاعر شائع بمصر خاصة، فقد كان البطريرك الأسبق يسمى كيرلس الخامس): (سيرل ويسمى ديوقلديانوس (ديوكليشان)، ويسمى هباتيا (هباشيا)، ويسمى ثيودوسيوس (ثيودوزيوس)، وأثناسيوس (أثنازيوس) ومرقيانوس (مارسيان) ص102، ويوستنيانس (جوستينيان) ص104 الخ. وسبب هذه الأخطاء كلها رجوع الكاتب إلى الاسم في لغة غير لغته الأصلية - كالإنجليزية والفرنسية - حتى لقد سمى بعضهم سقراط (سوكراتيز)، أو (سكرات)!
والواجب (أن نعود إلى لفظ الأعلام كما ينطق بها أصحابها): (كما قال الأب الكرملي في مقاله، وكما قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية). وذلك لأن الاسم الأصلي كثيراً ما يختلف عن الاسم الموضوع باللغات الأجنبية؛ والعرب لم يترجموا الأسماء إلا عن لغتها الأصلية، ومن ثم نجد اختلافاً كبيراً بين الأسماء العربية التي وضعوها نقلاً عن اللغة الأصلية نفسها، والأسماء العربية التي يضعها بعض الكتاب نقلاً عن الإنكليزية أو الفرنسية. وهذا الاختلاف كثيراً ما يضيق به الطالب الذي يرجع إلى المؤلفات التاريخية العربية، مع أن الألفاظ التي يجدها في كتب العرب هي الأصح، لأنها أقرب إلى الأصل من الألفاظ التي ألف استعمالها عن الإنكليزية والفرنسية
ومن الغريب أن بعض أساتذة الجامعة يصرون على استعمال طريقة النقل عن هاتين اللغتين في تعريبهم للأسماء الأعجمية0 وأني لأذكر أن أحد أساتذتنا في الجامعة - وهو يدرس لنا الفلسفة المسيحية - نطق باسم فرده طالب من بيننا قائلا له: الاسم بالعربية هو (أمبروسيوس)؛ ولكن الأستاذ أبى أن يأخذ باللفظ العربي، مع أن الاسم في لغته الأصلية(486/35)
ينطق بالسين لا بالزاي (كما يقال أيضاً فيلسوف لا فيلوزوف). ولا يفوتني أن أذكر في هذا الصدد أنني قرأت مقالاً في هذا الموضوع للفريق أمين باشا المعلوف، يتضمن بعض الأصول التي يجب التزامها في تعريب الأسماء الأعجمية (عن اللاتينية أو اليونانية)؛ فإلى هذا البحث أوجه نظر الأستاذ مندور - وغيره من أساتذة الجامعة المدققين - حتى يعم النطق الصحيح بين الطلاب، ولا يجد أحدهم صعوبة في تذوق اللفظ العربي الذي يعثر عليه في كتب التاريخ العربية.
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال
لم يكن لنا إلى ما قبل عشرين سنة أو ما حولها تاريخ مفصل لنهضة البلاد الوطنية يضمه كتاب، ولا سند صحيح لحركتها القومية يحتويه سفر، وإنما كان هذا التاريخ مطموس المعالم مبهم الحدود، حتى لو أراد دارس أن يقف عليه أو يلم به لأعياه السعي ولعميت عليه السبل، إذ لا يجد مهما جد في البحث وأمعن فيه إلا أنباء مبعثرة هنا وهناك بين صفحات أسفار لا يبلغها الحصر، ولو هو ظفر بشيء منها لوجده مما لا يشبع نهمه ولا يروي غليله. ومن الغريب أن يظل جهادنا لوطننا وكفاحنا في سبيل تحرير بلادنا، بغير تاريخ يبين أطواره، ويسجل أدواره، ويكشف عن نصيب كل جيل منه بما أنفق فيه من جهد وما قدم له من عمل!
وقد ظل هذا النقص بادياً في تاريخنا إلى أن قيض الله له مؤرخاً محققاً، وقانونياً كبيراً، وسياسياً محنكاً، ومجاهداً مخلصاً، هو الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك. توفر حفظه الله على دراسة هذا التاريخ والبحث عن تفاريقه الممزقة بين مئات الأسفار، واستقل بأعبائه وحده يؤلف بين هذه التفاريق ويجمع أشتاتها، مستنفداً ما وسعه من جهد في سبيل تمحيصها واستخلاص الحق منها، باذلاً في سبيل إحسان عمله كل نفيس من نفسه وماله، مما لا يكاد يستطيع فرد أن ينهض وحده به، حتى أخرج لنا في أصدق صورة وأبلغ بيان عملاً ضخماً، وعلى إنه ملأ مما عمل لهذا التاريخ تسعة أسفار كبار فإنه قد بقى منه أجزاءً(486/36)
أخرى ستظهر إن شاء الله
كان الذي بعث عزيمة المؤلف على هذا العمل أنه كان يريد أن يضع (تاريخاً لفقيد الوطن العظيم مصطفى كامل علي مثال كتاب (بول دشانل) عن (جامبتا) خدمة للقضية الوطنية وأداءً لواجب الوفاء نحو من تلقى عنه مبادئ الوطنية الأولى) ولكنه وجد أن تاريخ هذا الزعيم يستتبع (الكلام عن مبدأ ظهور الحركة القومية بمصر والتطورات التي تعاقبت عليهاِ) فجعل همه أن يدرس هذه الحركة (من بدء ظهورها إلى اليوم) ذلك بأن مصطفى كامل إنما كان (يمثل دوراً من أدوار الحركة القومية سبقته أدوار وتلته أخرى، ولا تكون دراسة الحركة القومية وافية إذا اقتصرت على عصر واحد من عصورها، بل يجب أن يتناولها البحث بأجمعها)
ولما أنشأ يدرس الأدوار التي تقدمت عصر مصطفى كامل لكي يصل إلى مبدأ هذه الأدوار، وجد بعد مواصلة الدرس ومطاولة البحث إن (للروح القومية التي بدأت تظهر في أواخر القرن الثامن عشر - يجب أن يرجع مبدأ الحركة القومية المصرية؛ وإن أول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر)
ولم يقف به البحث عند دراسة الحركة القومية، بل وجد إن تاريخ هذه الحركة يدعو إلى (دراسة نظم الحكم التي تخللت أدوارها، ذلك إن سياسة الحكم وأساليبه كانت في مختلف العصور والبلدان الرئيسية لظهور الانقلابات والحركات القومية كما إن لهذه الحركات أثراً فعالاً في تطور نظام الحكم)
ولما استوت له هذه الطريقة ووضع لها المعالم وأحكام الحدود، أخذ يؤرخ هذه الأدوار على ما قدمنا، ثم زاد عليها ما يلابسها وما يتصل بها من دراسة الحركات العلمية والفكرية والاقتصادية مما هو كمال لها، وتمام عليها، بما في ذلك من ترجمة رجال هذه الحركات كلها
ولقد كنت أود أن أفصل القول في وصف هذا العمل العظيم الذي يعد بلا ريب من أعظم الأعمال التي يقوم بها المجاهدون المخلصون في سبيل أوطانهم، وإن أبين شيئاً مما جاء في هذا التاريخ الزاخر الذي أوفى فيه مؤلفه الجليل على غاية ليس فوقها مرتقى لهمة، ولا وراءها مذهب لذي إحسان، حتى يعرف القارئ الكريم مقدار هذه المعلمة الوطنية ويقف(486/37)
على هذا النهج الفريد من التأليف الذي يجمع بين عف القول وصدق اللهجة وبين بلاغة العبير وتقرير الحق، ثم ما وراء ذلك من وزن الأمور بمعيار الدقة والنزاهة وهو ما اتصف به مؤلفنا الجليل سواء كان ذلك في أقواله وأفعاله أو في جهاده وتأليفه كنت أريد ذلك كله أو بعضه، ولكن ما أصاب الصحف في هذه الأيام من ضيق الصفحات وقلتها يضطر الكاتب إلى أن يلزم القصد في القول والإيجاز في التعبير
من أجل ذلك أراني مرغماً على الوقوف عند الكلام على هذا الجزء الذي عقدت من أجله هذه الكلمة ولكن بعبارة موجزة لا تعدو بضعة سطور. تكلم المؤلف الفاضل في هذا الجزء عن تاريخ مصر القومية مدى عشر سنوات (من سنة 1882 إلى سنة 1892) وهي السنوات الأولى للاحتلال وفصل القول في جميع ما جرى للبلاد في هذه الفترة من كل النواحي تفصيلاً لا يوجد مثله في كتاب. وبحسبك إنه قد جاء على غرار ما سبق من الأجزاء من حيث التحقيق والاستيعاب، فلم يدع صغيره ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا ترك ناحية من نواحي هذه الفترة من تاريخنا إلا بينها وجلاها. فجزاه الله بما قدم من عمل صالح لبلاده خير الجزاء، ووفقه بعنايته وفضله إلى إتمام ما بقي لهذا التاريخ من أجزاء، إنه سميع الدعاء.
(المنصورة)
محمود أبو ريه(486/38)
العدد 487 - بتاريخ: 02 - 11 - 1942(/)
أمثال أخرى وأفعال
للأستاذ عباس محمود العقاد
بين الروسيين والصينيين مشابهة محسوسة وهي اشتراك كل من الأمتين في الاتصال بالمغول من طريق المجاورة والمعاشرة والمصاهرة، واقتباس كل من الأمتين كثيرا من عادات المغول ومأثوراتهم في القصة والمثل والجديلة. فمن قرأ القصص والأمثال الصينية لم يعدم بينها وبين أمثال الروسيين وقصصهم مشابهة ظاهرة في الأسلوب والمزاج، ولم يكد يتخيل بين الأسلوبين فارقا بعيدا في غير الحواشي والتفصيلات. أما الجوهر فواحد أو يكاد أن يتوحد كما يتوحد الاقربون والصحبة المتلازمون
فإذا استحضرت أمثال الروسيين وتخيلت قائلها رجلا واحدا خيل إليك أنه إنسان صبور رصين مستسلم يعرف الدنيا معرفة هادئة، ويتحدث عنها تحدث سخر ممزوج بالآلفة والمحبة، وهذه هي الصورة التي تبدو لك من قراءة القصص وألا مثال الصينية مع فارق يسير تلمحه في جملة الأمثال وقد تخطئه في المثل الواحد والمثلين، ونريد به أن صقل الحضارة أظهر في أمثل الصينيين، وأن خشونة البداوة والفلاحة أظهر في أمثال الروسيين، ويتفرع على ذلك أن الصيني أقرب إلى السلم، وأن الروسي أقرب إلى الحرب، وان كانا يتلاقيان في خصلة متماثلة وهي أنهما يباشران الحرب دفاعا فيصبران عليها ويستبسلان فيها، ويباشرانها هجوما وعدوانا فلا يتحركان طويلا للهجوم ولا يحتفظان كثيرا بحماسة العدوان
وقد ظهر هذا جميعه في حرب الصين واليابان وفي حرب الروس والألمان، فظهرت شجاعة الصينيين وصبرهم كما ظهرت شجاعة الروسيين وصبرهم، ولم يعهد للأمتين قبل الآن مثل هذه الشجاعة ومثل هذا الصبر في حروب الهجوم والعدوان
وقد تحولت من أمثال الروسيين إلى أمثال الصينيين كما تتحول اليد من فاكهة إلى فاكهة مثلها على شجرتين متقاربتين في بستان واحد، فلم أشعر أنني أبعدت النقلة بين القطفتين وان كان لابد من خلاف بين ثمرة وثمرة وان قطفتا من شجرة واحدة
والصينيون أولع أمم العالم قاطبة بالمثل السائر والنادرة المنجمة على حسب العبر والوقائع. وليس هذا بعجيب مع ما هو معلوم من محافظة القوم على شعائر السلف(487/1)
وتبجيلهم لذكرى الآباء والأجداد ورجوعهم بالحكمة كلها إلى عظات الأقدمين. وفي ذلك تأييد لما أسلفناه في ختام مقالنا السابق عن أمثال الروسيين
قلنا في ختام ذلك المقال أن إهمال العصريين لرواية الأمثال غير عجيب إذا نظرنا إلى الخلق الغالب بينهم، (فقل في أبناء عصرنا من يقتدي بالسلف أو يحب أن يقال عنه انه من يقتدي بهم في المعيشة والسلوك، ولا معنى لسرد الأمثال ما لم يكن ديدن السلف حجة مقبولة بين القائلين والسامعين)
والصينيون يستحدثون اليوم ما يستحدثون في عادات المعيشة وآداب السلوك ولا يزالون على ديدنهم القديم من تقديس الآباء وتوقير السنن المأثورة عنهم، فلا جرم يحرصون على الأمثال حرصا لا نعهده بين المحدثين وطلاب الاستحداث في أنحاء العالم، ولا جرم يودعون في أمثالهم من روح الشعب ما هو أبلغ في الدلالة عليهم والإبانة عنهم من الأسفار والموسوعات
قال دكتور هنري هارت في مقدمة منتخباته من الأمثال الصينية: (كل إنسان في الصين يتمثل الأمثال. . . وقد سمعتها من لسان الإمبراطور كما سمعتها من لسان الخادم الوضيع، فهي عندهم العملة الجارية في اللغة، والدرب المختصر في المحادثة، وكثيرا ما تغنى عن الناقشات الطويلة وتحل العقد الشائكة. فيشوق المشاهد أن يصغي إلى المعارك الكلامية التي لا تني تتردد بين أهل تلك البلاد، إذ يعرض الخلاف الصغير فيزدحم حوله الجمع الكبير من الكسالى والمستطلعين، وإذ يحتدم المختلفان قليلا قليلا وكلهم مولود على استعداد للتمثيل، فيلوح للمشاهد أن العنف واقع لا محالة وان لم يكن الصينيون مشهورين بالملاكمة وقليلا ما يعتدي أحدهم باليد على أخيه، ثم يتفق فجأة يتقدم أحد الواقفين - ويغلب أن يكون من الكهول أو الشيوخ - فيتكلم ويأتي بمثل موجز موافق للمقام، فكأنما تلك الكلمة النافذة المحبوكة هي الكلمة التي كان ينتظرها الطرفان المتشاجران، فتنحل العقدة المعضلة، ويتراجع الخصمان، ويتخافت صوتاهما العاليان، وترتفع ابتسامة في مكان العبوس، وتنتهي المشاجرة على خلاف ما يود المشاهدون من طلاب الضجيج والعجيج)
وهذا المشهد الذي وصفه المؤلف قد نراه في مصر ونذكر الكلمات التي تفض بها مشاجرات الطريق، فهي في الغالب أمثال شائعة، وفي الأغلب عظات من الكتاب والسنة(487/2)
النبوية، ولكنها في القرى أعم منها في الحواضر الكبيرة، ولحكمة السلف ومقام الشيخوخة فيها أثر غير قليل
ولكنك لا تقرأ مئات الأمثال عندهم ومئات الأمثال عندنا حتى تلمح الفارق بين الأمتين وان اتفقنا على بعض العادات والخطرات
فأول ما يبدهك من جملة أمثالهم أنهم أبيقوريون يحبون الترف المريح، ويألفون الدعة الفلسفية التي تسكن إليها النفس كما يسكن إليها الجسد، ويؤثرون الترشف من النعيم على الغرق فيه، ويقنعون بتجزئة السعادة إذ لا سبيل إلى السعادة الكاملة التي تدوم ولا يخشى عليها زوال
ومن أبدع أمثالهم التي تنم على هذا المزاج قولهم: (من عاش يوما خاليا عاش يوما خالدا) وقولهم: (ألف ريال لا تشتري ضحكة واحدة)؛ وقولهم: (الأمراض تدخل من الفم والمصائب تخرج منه)؛ وقولهم: (البركة قلما تقبل أزواجا، والمصائب قلما تقبل فرادى)
وقد أوردنا للروسيين مثلا يعبر عن الفوارق الاجتماعية يقولون فيه: (أن عيوننا تملأها شمس واحدة وبطوننا لا يملأها طعام واحد). وهو شاهد بارع من شواهد الطبيعية يقاربه في معدنه قول الصينيين: (الصيف للجميع والشتاء على حسب الكساء)
وأوردنا للروسيين مثلا لرشوة الحكام إذ يقولون: (من باب الطريق صد ومن باب السر ترحيب) ويشبهه عند الصينيين في موضوع الرشوة وفعل المال في قضاء الحاجات قولهم وهو مختلف بعبارته متفق بمؤداه: (عشرة ريالات تحرك أرباب الهيكل ومائة ريال تحرك السماء نفسها!)
والقوم معروفون بقدم العهد بالدماثة المدنية وحسن الحفاوة في الاستقبال، وهو ظاهر من تعويلهم في التجارة على الابتسام إذ يقولون ما فحواه: (إن الذي لا ينفرج فمه بابتسامة لا ينفرج له باب دكان) ومن استعظامهم داء الجلافة إذ يقولون: (إنها داء ليس له عند الطبيب دواء)
ومن قولهم فيما يشبه ويتصل به: (إن فتح دكان لسهل، وإنما الصعوبة أن يظل مفتوحا. . .)
ومن أمثالهم التي تدل على الطبيعة الحذر فيهم أو تدل على نصحهم بالحذر والاحتراس:(487/3)
(أحمل مظلتك والسماء صاحية، وادخر مئونتك وجوفك شبعان) و (الجمال لا يوقع الرجال في الشرك، إنما هم الذين يقعون فيه) و (لا تشتم امرأتك في المساء وألا نمت وحدك!) و (المرأة الشائهة والخادمة الغبية كنزان لا يقومان) و (لا ترسل الباز حتى تبصر الأرنب) وهكذا في عشرات من الأمثال
وربما كان الصينيون في طليعة الأمم التي هانت فيها أقدار المقاتلين وعظمت أقدار الحكماء والنساك، ولهذا تتواتر عندهم الأمثال التي تدل على نفاسة الحكمة وصعوبة الحصول عليها من قبيل قولهم: (الذهب له ثمن والحكمة بغير ثمن) وقولهم: (طالب العلم كالصاعد في وجه التيار إن لم يتقدم فهو منحدر)
وقولهم: (خذ الخمر قطرات والحكمة جرعات!) وقولهم: (المعرفة كنز يتبع صاحبه حيثما ذهب) وقولهم: (العلماء ذخائر الأمم) وقولهم: (من علمني يوما فهو أبي مدى الحياة)
وقد اشتهروا كذلك بالسكن إلى حياة الأسرة وجيرة الوطن، فحفلت أمثالهم بالتغني بالبيت والوطن؛ واجتمع أفضل ما قالوه حول هذا الغرض في مثلين نموذجين أحدهما قولهم: (لا يخلو البيت من راحة ولا خارج البيت من تعب) وقولهم: (لتكن حسناء أو شوهاء فهي بلادي. وليكن قريبا أو غير قريب فهو أبن وطني!) وربما زادنا علما بقوام البيت عندهم قولهم: (الزوجة لفضيلتها والخليلة لجمالها)
ومن نماذج السخرية المطمئنة في أمثالهم قولهم: (بائع البطيخ يقول أنه حاو!) وقولهم: (كلب ينبح على شيء، وألف كلب تنبح على نباحه) وقولهم: (نولد ولا نحضر معنا شيئاً، ونموت ولا نذهب بشيء) وقولهم: (الغراب أسود هنا وأسود في كل مكان) وقولهم: (إذا خلقت السماء آنسانا فله طلب لا محالة!)
وهم قديرون كالروسيين أو قديرون كعامة الشرقيين، فليس أكثر في أمثالهم من التسليم للقدر وقلة الجدوى في خلافه على تعدد في اللفظ وتوحد في المعنى، كما يقولون، وفيه شيء من سخريتهم: (يقول الإنسان هكذا هكذا وتقول السماء ليس كذلك ليس كذلك!) أو يقولون: (ما يبرمه القضاء لا ينقصه إنسان) أو يقولون: (من خلق للسعادة فلا يعجل وراءها) أو يقولون (كل كأس وكل لقمة مقتدرتان لفم، لا يأخذهما غيره)
ولا نهاية للمواضع والمناسبات التي يستشهد فيها ببعض هذه الأمثال الصينية التي يخطئها(487/4)
الإحصاء
إلا أن الشاهد الأكبر فيما نحن بصدده هو هذا الاهتمام من قبل الأمم الغربية بكل جانب من جوانب البحث في البلدان التي تلتفت إليها أنظار الناس على أثر الحوادث الحربية أو السياسية التي تقع فيها. فما مضت أشهر على اشتغال الصحف بقضية الصين حتى امتلأت رفوف المكتبات بالمجلات والرسائل والمجلدات عن كل شيء يعرف - أو ينبغي أن يعرف - من أحوال تلك البلاد، فهذا يكتب عن النهضة الصينية، وذاك يكتب عن زعماء الصين، وغيرهما عن تاريخ السياسة الأوربية في الشرق الأقصى، وغيرهم يكتب عن فن الصين أو أغاني الصين أو عقائد الصين أو محاسن الصين، إلى أشباه ذلك مما يقترن بالصين وأبنائها ولو من بعيد
ومثل هذا حدث في اهتمامهم بروسيا بعد ثورتها الاجتماعية أو بعد حربها الأخيرة مع النازية، ويحدث مثله كذلك حول كل مسألة من المسائل القومية أو العالمية التي ترتبط ببلد من البلدان، حتى ليصح أن يقال إن الحرب عندهم ليست شرا محضا يجلب الخراب وينزل بالبلاء ثم ينتهي أثره عند ذلك، لأنها في الواقع سبيل من سبل المعرفة وباب من أبواب التعارف، وطريق إلى كشف الظلمات عن مجاهل العالم قاضية ودانية.
عباس محمود العقاد(487/5)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
2 - حديث عيسى بن هشام
للدكتور زكي مبارك
تأريخ المجتمع ونقد المجتمع - جريمة أدبية - سريرة المويلحي - التحرش بالأزهريين - صفحات تعليمية - كلمة إنصاف
تأريخ المجتمع ونقد المجتمع
المجتمع أسمه الجمعية في لغة المويلحي وفي لغة من عاصروه، فهو يقول الجمعية الإنسانية ويعني بها ما نسميه المجتمع الإنساني.
وقد لاحظنا فيما سلف أن (الجامعة المصرية) معناها في كتابات لطفي باشا السيد (الرابطة المصرية) وأن الجامعة بمعناها الجديد كانت تسمى الكلية، وقد وردت بهذا النص في مجلة المقتطف عند الكلام عن إنشاء الجامعة المصرية. وبعض جرائد الشام لهذا العهد تذكر (الجامعة البشرية) وهي تعني الرابطة الإنسانية. فليلتفت الطلبة إلى أن في كتابات المويلحي ألفاظا هجرها كتاب اليوم، أو نقلوها من وضع إلى وضع، وللألفاظ أعمار وأزمان!
ثم أذكر أنه يجب أن نلاحظ الفرق بين تأريخ المجتمع ونقد المجتمع، ففي الكتاب فقرات تؤرخ المجتمع من غير قصد، فنعرف منها بعض أحوال القاهرة منذ نحو خمسين عاما، كأن يصف المؤلف دارا بالعزة والرفاهية فيذكر أنها تضاء بالكهرباء.
ونحن اليوم لا نقول ذلك، لأن الأغلب في القاهرة أن تضاء الدور بالكهرباء، وان لم يكن أهلها أغنياء. وكأن يذكر المؤلف أن محكمة الاستئناف في حي الإسماعيلية وأنها لم تكن تستقر في مكان. وكأن يقول: أن سكان مصر عشرة ملايين. وكأن ينص على أن المحامين أمام المحاكم الأهلية لا يعرفون اللغات الأجنبية، وكأن يشير إلى متحف بولاق ومتحف الجيزة، وليس عندنا اليوم غير متحف قصر النيل. وكأن يذكر أن كتاب المحكمة الشرعية تنتظرهم حميرهم وبغالهم على الأبواب،
وكأن يجعل سدنة (الدفتر خانة) أشياخا يحملون الدوي النحاسية في أحزمة القفاطين. وكأن(487/6)
يقول التشخيص وهو يريد التمثيل. وكأن يذكر في القانون الجنائي أشياء لا يعرفها قضاة هذا الزمان
التأريخ المقصود
وقد يقصد المويلحي إلى تأريخ بعض تطورات المجتمع في الزمن الذي سبق تأليف الكتاب، كأن ينص على (سر الليل)، فمن هذا (السر) نفهم أن القاهرة كانت تغلق أبوابها بالليل فلا يدخلها أحد إلا بإشارة يفهم منها الشرطة أنه في غنى عن الاستئذان
وهنالك تأريخ معاني النقد، كأن ينطق (الباشا) بعبارات ندرك منها أن النزعة التركية كان لها في زمانه مكان.
ففي ص 24 يعجب الباشا من أن لا يكون لأمير على مصري أمر. وفي ص 27 ينكر الباشا (أن يحكم الناس فلاح وينوب عنها حراث). وفي ص 43 يعجب الباشا من أن (يتعدى المصري على الجندي). وفي ص 48 يصرح الباشا بأنه
عاش دهوره لا يعرف أن السجن يكون في عقاب الكبراء والأمراء، وإنما يكون في عقاب السفلة من العامة والغوغاء من الناس!
ثم ينفجر المؤلف في ص72 فيقول في الأتراك كلاما لا يقال اليوم، لأن هذه النزعة قد اختفت أو ماتت،
بغض النظر عن الحادث الذي وقع منذ بضع سنين
النقد المقصود
يجري قلم المؤلف بعبارات نقدية خفيفة من صفحة إلى صفحات، ثم يعمد إلى النقد عمدا فيسهب ويطيل. ولعل المحامين والقضاة والأعيان لم يصابوا في سمعتهم بأذى ولا أوجع مما رماهم به المويلحي في غرامة نادرة المثال
هل كان المجتمع المصري قبل خمسين سنة على النحو ما صوره ذلك القلم الفاتك؟ وهل كان يغلب أن يكون القضاة من الفتيان الأماليد؟ وهل كانت المحاماة نصباً في نصب وخداعاً في خداع؟ وهل كان (العمدة) الذي تعقبه المويلحي نموذجا في ذلك الزمان؟
جريمة أدبية(487/7)
هي جريمة المويلحي في تصوير المجتمع المصري، فقد أهتم بتجسيم العيوب تجسيما بلغ الغاية في القسوة والعنف، وسكت عما في المجتمع المصري من محاسن أصيلة هي سر بقائه في صحة وعافية، برغم ما أصاب هذه البلاد من كوارث وخطوب
وعذر المويلحي أن نقاد المجتمع لعهده كانوا جميعا متشائمين، ولو شئت لقلت أنهم كانوا يجدون لذة في التذمر والتقزز والتفجع، ولهذا الاتجاه شواهد نجدها في كتابات توفيق البكري، وفي قصائد حافظ ابراهيم، وفي تلك البيئة ظهر المنفلوطي
فكان أدبه من صور القلق والانزعاج
وما أقول بأن أمثال هؤلاء الكتاب يفترون على المجتمع، لا، فقد صوروا بيئات موجودة بالفعل؛ وقد لا تنقرض، فلن تخلو الدنيا من محام نصاب، أو قاض كسلان، أو تاجر غشاش؛ وانما أنكر التعميم في الأحكام النقدية، التعميم الذي يضم المجتمع في جميع طبقاته بالتفكك والانحلال، مع أنه في الحقيقة لا يخلو من تماسك يضمن له البقاء
وانما عددت هذا المذهب جريمة أدبية لأنه ينتهي إلى التعجيز والتيئيس، ولأن أثره في تقويم المجتمع أثر ضئيل
يضاف إلى ذلك، أصحاب هذا المذهب لا يضعون النماذج للمجتمع المنشود، وان فعلوا فلن يكون المجتمع الصالح في نظرهم إلا بيئة خيالية لا يعرفها سكان الكرة الأرضية
سريرة المويلحي
حديث عيسى بن هشام يشهد شهادة صريحة بأن المويلحي قد ارتطم في حياته بمشكلات ومعضلات خلقتها معاملاته مع الناس. والظاهر أنه عرف المحاكم المصرية من مختلطة وأهلية وشرعية، عرفها مدعيا ومدعى علية. والظاهر أيضا
أنه أبتلى بمزعجات الأوقاف. ولا جدال في أنه عانى الغدر من بعض الأصدقاء، فله في الأصدقاء كلمات سارت مسير الأمثال. ويظهر كذلك أنه أتصل اتصالا وثيقا بالملاعب القاهرية في مكايدها الليلية، ثم يظهر أنه بادل الصحفيين من معاصريه ظلما بظلم، وعدوانا بعدوان
أقل هذا لأدفع تهمة وجهت إلى المويلحي من أديب عظيم هو أخونا الأستاذ الزيات الذي(487/8)
يرى في (الرحلة الثانية) شاهدا على أن الرحلتين ليستا لكاتب واحد، لأن الفرق بين الرحلة الأولى والرحلة الثانية بعيد بعيد
والحق أن الرحلة الثانية ضعيفة كل الضعف، بالقياس إلى الرحلة الأولى، ولكن ما سبب ذلك الضعف، مع تقارب الأسلوب في الرحلتين تقاربا يشهد بأن الكاتب هنا هو الكاتب هناك؟
يرجع السبب إلى أن المويلحي لم يعرف من أوربا غير فرنسا، ولم يعرف من فرنسا غير باريس، ولم يعرف من باريس غير ظواهر سطحية لا تقلقل الخاطر، ولا تبلبل الوجدان، فكيف جاز أن يدعي القدرة على تصوير المدنية الغربية؟
المويلحي لا يعرف باريس، وان زار باريس، ولو أنه عرف تلك المدينة في حياتها الحقيقية (كما عرف القاهرة في حياتها الحقيقية) لقال فيها كلاما غير الذي قال، ولكان من الجائز أن يفردها بكتاب يشرح ما تعاني من اصطراع المذاهب والآراء، فقد زار باريس وهي في عنفوان الفتوة، وفي اتصال وثيق بأمم الغرب والشرق، ومع هذا لم يستطع أن يدون حيواتها غير بوارق مهددة بالخمود
بدا لي أن أعرف ما ألف عن الحي اللاتيني، فجمعت نحو ثلاثين كتابا، منها كتاب يصور ما يعاني طلبة السوربون من اليهود المربين
وبدا لي مرة ثانية أن أحصي المكتبات القائمة بالحي اللاتيني وهو مهد الفكر الحر، فهالي أن أجد فيه مكتبة لا تبيع مؤلفات رينان بحجة أنه زنديق
وبدا لي مرة ثالثة أن أعرف إلى أي مدى تتصل باريس بأساطير الأولين فجمعت من ذلك أشياء وأشياء. . . فأين المويلحي من ذلك التعقيد العنيف؟
وخلاصة القول أن إخفاق المويلحي في تصوير الحياة الباريسية يرجع إلى أنه لم يعان فيها مشكلات تزلزل العقل أو تثير الوجدان، فجاء حديثه عن تلك الحياة أضعف وأضعف من أن يسامي حديثه الأول في وصف الحياة المصرية. . . والأدب يأخذ قوته من التجارب والمشاهدات، لا من الحدس والتخمين. وكذب من ادعوا أن الأدب أوهام وظنون
ومن الواجب أن نسجل أن المويلحي نظر إلى المدنية الغربية بالعين الشرقية، فلم يحاول إبراز ما فيها من خصائص إيجابية، كما حاول إبراز ما فيها من خصائص سلبية. وهو مع(487/9)
ذلك محمود الصنيع، فقد جاهد في حدود طاقته جهاد الرجال، ومن كان كذلك فهو جدير بكل ثناء.
التحرش بالأزهريين
والمويلحي لا يكف عن التنديد بالعقلية الأزهرية، فما تعليل هذه النزعة عند ذلك الأديب؟
يرجع السبب إلى أن انقسام المتعاملين إلى معممين ومطربشين كان في عهد المويلحي فتنة تثور بين طبقتين. . . كان المطربشون يرون أنفسهم طلائع الجيل الجديد، وكان المعممون يرون أنفسهم حماة الدين الحنيف. . . وكانت الدولة نفسها لا تسند المناصب الإدارية لغير المطربشين، بحجة أنهم أعرف بالأنظمة المدنية وأقدر على سياسة الناس. . . وهل ننسى أن منصب الوزير عرض على الشيخ محمد عبده فرفضه بأباء، لأن من عرضوا عليه ذلك المنصب دعوه إلى خلع العمامة ولبس الطربوش؟
كانت الفتنة قائمة بين هاتين الطبقتين، وكان من العسير أن توجد بينهما صلات خالية من شوائب التحاسد المستور أو المكشوف. ولتلك الفتنة عقابيل باقية إلى اليوم ولا موجب للتفصيل!
هذا هو السبب في حرص المويلحي على التنديد بالأزهريين، وهو أيضا السبب في أنه هادنهم بعد انقطاع أسباب الشقاق. ولكن كيف؟
قلت أن الطبعة الأخيرة هي الطبعة الرابعة، وأنا لم أقرأ هذا الكتاب إلا في الطبعة الثانية، وقد ظهرت منذ أكثر من ربع قرن، ومع هذا بقيت في ذاكرتي منها أشياء لم أجدها في الطبعة الأخيرة. وبرغم ضيق الوقت عن مراجعة الطبعة الأولى أو الثانية فأنا أذكر جيدا أن (عيسى بن هشام) مضى مع (الباشا) لزيارة الأزهر الشريف، وأذكر انهما سمعا الأزهريين يتحاورون ويتجادلون في بدعة إصدار الجرائد والمجلات، وانتهى الرأي إلى الأزهري يستطيع أن يكون صحفيا إن أراد، وقرأ أحدهم مقالة نشرها أحد الأزهريين، وهي مقالة افتعلها المويلحي، فقد كانت فيما أتذكر غاية في الركاكة والإسفاف، على نحو ما صنع وهو يفتعل ما يلقى في الأعراس من الخطب الرنانة والقصائد الجياد!!
فكيف استجاز المويلحي أن ينال كتابه بالتعديل فيما يتصل بحياة الأزهريين؟
كان ذلك لأنه أراد أن يقرر كتابه للمطالعة في المدارس الثانوية، وكان يعلم أن المفتشين(487/10)
الذين يحكمون لكتابه أو عليه هم في الأصل أزهريون، ومن الحزم أن يتقي شرهم بحذف ذلك الحديث. . . وآفة الأدب ان يعرض للمنافع، وأن تراعي فيه خواطر بعض الناس
وأذن يكون من الحزم - ونحن نؤرخ الحياة الأدبية والاجتماعية - أن نقرر أن الطبعات القديمة من هذا الكتاب هي الأساس في تصوير ما سماه المويلحي (فترة من الزمن)، بدون مبالاة للمجاملات اليومية على حساب التأريخ.
صفحات تعليمية
في الكتاب صفحات أريد بها التعليم، أعني أن المؤلف أراد بها شرح ما جد في مصر من الأنظمة واللوائح والقوانين، فما منهاجه المختار في الشرح؟
هو يشرح وينقد، يشرح أمورا وينقد أمورا كانت لعهده تحتاج إلى إيضاح مصحوب بالاعتراض، كالذي وقع في الصفحات 41 و42 و43، وهو يفصل أنواع المحاكم بهذه البلاد
يحدثنا المؤلف أن مفتي نظارة الحقانية - وزارة العدل - أقسم الأيمان المغلظة أن القانون الفرنسي غير مخالف للشرع الإسلامي، مع أنه لا يعاقب على الفسق أن تجاوز عمر المفسوق به الثانية عشر بيوم واحد ومع أنه ومع أنه لا يعاقب من يزني بأمه إذا هي رضيت وكانت غير متزوجة، ومع أنه يعد الأخ مجرما جانيا إذا تعرض للمدافعة عن أخته، ولا يعطي حق الدفاع لغير الزوج، ومع أنه يقبل شهادة المرأة الواحدة على الرجل، ولا يعاقب الزوج إذا سرق من امرأته ولا المرأة من زوجها ولا الولد من أبيه ولا الأب من أبنه
ويتكلم المؤلف عن المجالس التأديبية، فنعرف منه أنها خاصة بعقاب الموظف يخل بتأدية وظيفته، وأنها في الغالب تتألف من رؤسائه الذين يتهمونه ظالمين أو عادلين
أما حكم المؤلف على المحاكم القنصلية فلا يخففه غير الاطمئنان إلى ذهاب عهد الامتيازات الأجنبية
كلمة إنصاف
كان المويلحي فيما يظهر مفطورا على حاسة العدل، وهي حاسة تميل من الوجهة التشكيلية(487/11)
إلى تجسيم العيوب، وتغفل أو تتغافل عن مكافأة من يتهمون وهم أبرياء
أعظم ما يجازى به المتهم البريء هو الحكم بأنه بريء، ولم نسمع أن متهما بريئا جازاه قاضيه بجائزة تذهب عنه أفاك المرجفين
لا رجاء في الدنيا ولا أمل في الناس، أن لم يأت يوم يكون فيه حكم البراءة بشيرا بالرفاهية والرخاء
فأين المويلحي من هذه المعاني؟
ظلمه معاصروه فظلم معاصريه، والظلم بالظلم بغي وعدوان كان المويلحي ابن زمانه، فلم يهتد إلى فكرة العدل الصحيح، ولو أنه عقل لأدرك أن المظلوم لا ينبغي له الوقوف في صفوف الظالمين
لو كان للمويلحي نصيب من الروحانية الصوفية لأدرك أن اضطراب المجتمع المصري عقوبة فرضها التفريط الذي توارثته أجيال عن أجيال، وعجز عن طبه الدهر والزمان
ونحن في مصر، ومصر أمةآذت وأوذيت، وقاتلت وقوتلت، وهي إلى الأبد في عراك وقتال وصيال
ليت المويلحي أدرك هذه المعاني، وليته فهم أننا نجرجر تاريخا له في ضمير الإنسانية جذور وجذوع وفروع.
لو عقل المويلحي لقال في مصر كلاما غير الذي قال
ولكنه معذور، لأن (العدل الرسمي) ساقه إلى أن يقول ما يقول
وفي الكلمة الآتية فصل القول في ذلك الأديب الفنان.
زكي مبارك(487/12)
عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه
أرواح وأشباح
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 2 -
فرض الشاعر بمخيلته القادرة أن الأرواح المجردة تتكالم، في السماء، عن البشر وغريزتهم في الأرض. وهذا يعتبر فرضا فنيا يزيد في فهم القارئ وضوح الفرق، في تكافح الروح والجسد، بين نزعتها العلوية السماوية ونزعته السفلية الأرضية. وهو أيضا خيال أدخل في الصنيع البديع عنصرا مخففا من عناصر الملاحم: لأن أيجاد الخوارق فيها - بإدخال كائنات فائقة قوى الطبيعية في حوادثها - كان أمرا جوهريا، ثم أصبحت الخوارق محسنا اختياريا يرعى فيه احتمال الذوق العصري. وكأن هذا الخيال اتفاق أدبي مضمر بين الشاعر وقرائه، كالاتفاق الروائي الضمني في الروايات، بين المؤلف والنظارة: كأنهم اتفقوا معه على التسليم بالفرض الأول في روايته، ليضحكهم أو يبكيهم بما بنى عليه من مواقف، وبنا أنطق فيها أبطاله من كلام
واختار الشاعر من أسماء الأساطير الإغريقية أسماء لأبطاله؛ وهو اختار موفق لما تشير أليه هذه الأسماء - بتداعي المعاني في ذهن القارئ - من أن القصص يصف غريزة الإنسان وأخلاقه من ماض بعيد؛ ولأن أسماء أهل الفنون أليق بملحمة فيها كلام على الفنان وعلاقته بالمرأة. وفي اختيار تلك الأسماء القديمة مزية أخرى: فقد حسن وجودها في هذه الملحمة من حيث أن العتيق أشعر من الحديث، كالسيف مازال أحب في الشعر من المدفع. فما ظنك بمن لم يجد أسماء عربية تجمع مزايا تلك الأسماء الإغريقية، وتحسن حسنها إن حلت محلها في الملحمة، فود لو أن الشاعر تبدل بها أرقاما في شعره ولم يضيع دلالتها على شخصيات معروفة في الأساطير أو التأريخ!
واتهم شاعرنا بالغريزة في الأشباح، وبرأ الأرواح المجردة. فالأرواح ذوات الأسماء الإغريقية تتكلم في العالم العلوي طليقة من قيود أشباحها، تتكلم قبيل بعثها بما يصف سجايا الفنانين الآدميين وغرائز الإنسان؛ وفي كلامها أنها حين تهبط في أشباحها إلى الأرض،(487/13)
سيعروها ما عرا أرواح البشر:
لنا مثلهم في غد غشيه ... إذا ما حللنا رحاب الثرى
وإذا قال ناقد أن لتلك الأرواح أسماء تلازمها دلالاتها على شخصيات أصحابها المعينة في الخرافات أو الأساطير أو في التأريخ، وان الشاعر أهمل في قصيدته هذه الدلالات - لأنه لم يدرس الأساطير الإغريقية كما يجب ولم يتفقه اليونانيات،
فان هذا القول اللطيف ليس يمنع أنها أسماء أناس كانوا من البشر، ما عدا هرميس (هرمس)، ولم يكونوا من أنصاف الآلهة ولا من الآلهة اليونانيين الذين خلقهم البشر؛ ولا يمنع أن منطق هذه التحفة يقتضي ألا تظل أرواحهم في السماء على حالها في حياتهم الأرضية الغابرة من الانقياد الكلي للغريزة والشهوات الحسية.
ومع أن هذه الملحمة - في رأينا إنسانية لا إغريقية، فان كلام أبطالها متصل بدلالة أسمائهم المعروفة. فهرميس الذي يقود الأرواح، في الأساطير، يقود هنا روح الشاعر. وروح بليتيس، البريئة في السماء، لا تكون بحالها يوم كانت حبيسة في شبحها على الأرض، أو بحالها يوم تبعث؛ لكن تنم ذكريات من ماضيها الأرضي وماضي سافو في مثل قولها:
حمت رقة الجنس رباته ... فليس بها حاجة للرجال
لكل اثنتين هوى واحد ... تَلاقي على سرّه مهجتان
وفي إجابة تاييس:
حديثك أن لم يكن بدعة ... فحلم جرى في قديم الزمان
وصيحة مخفقة في الهوى ... معربدة الروح سكرى اللسان
أما غضب بليتيس وصاحبتها من أن روح الشاعر مر أمامهن ورآهن فأعرض عنهن (ولم يحي السماء)، فهو غضب ليس يعد من (كبرياء النساء) في شيء، والكبرياء عظمة وتجبر، وانما هذا الغضب ثورة على إهانة. وان امرأة ما من أقل النساء عفة وأكثرهن استهتارا واستسلاما للشهوات، وانهماكاً في الملذات، لتغضب من تغافل رجل عنها، وقد تتظاهر بالأعراض عن رجل لتوقعه في شركها. وروح تاييس ألهمتها الذكريات الأرضية اعتراضها على صاحبتيها اعتراضا يشف عن حقيقة أمرهن جميعا بقولها في الرجال:
إذا خلت الأرض من طيرهم ... فمن ذا يحي الجمال القسيم(487/14)
ومن يطلق الحب من وكره ... على خطرات الغناء الرخيم
وفيمَ نرقِّش هذا الجناح ... ونصقله ببنان النعيم
بقيت سافو (سفون)؛ فهل كانت حسية بالمعنى الشائع؟ أليس في مؤلفات الذين استوعبوا دراسة اليونانيات رأي آخر أوفي تحقيقا؟ بلى، وهذه هي خلاصته:
أن سافو اتهمت في أخلاقها، لكن يبدو أن أخلاقها كانت سليمة. ويجب أن نلاحظ أنها من قوم ايوليين، كان نساؤهم كنساء الدوريين أكثر حرية من نساء الايونيين الذين كانوا يحجروهن في الحريم: فان هذه المغايرة تعلل ما لمؤلوفي الملاهي الأثينيين من دعابات سيئة القصد، وتعلل تلك الأقاويل المنحولة في سيرة سافو. ويجب أيضا ألا يغرب عن الخاطر أن الإغريق في ذلك العهد ما كانوا وصلوا إلى معرفة التمييز في الأدب بين الهوى الحسي والهوى العذري؛ ولكن لا صلة بين اللذة الحسية التي يصفها الشعر المنسوب خطأ إلى أنا كريون وبين لاعج الغرام الذي تعبر عنه سافو في القليل الموجود من شعرها
وبالنظر إلى هذا الرأي، أن لم يكن بالنظر إلى أن الملحمة إنسانية لا إغريقية، وأن أحوال أبطالها تختلف في السماء عنها في الأرض، جاز لشاعرنا أن يجعل روح سافو في السماء أهدأ منها في تلك القصة المأثورة عنها، ولا غرابة في أن تقول:
رأيت الرجولة كل الجمال ... هو الرجل الفرد في المزدحم
ويحدو العذارى إلى دراهن ... حيَ الخطى موسوي القدم
كلا، أن الشاعر لم يهمل تلك الدلالات التي يغلو بإيجاب مراعاتها المغالون في الإعجاب بمبلغ دراستهم لليونانيات.
فأولئك حوريات في السماء غصبن على الشاعر فاتهمنه في غريزته وفنه. لكن هرميس اله البلاغة ومبتكر الفنون عطفهن معتذرا عنه بأنه رآهن في قلبه، وحيا بقلبه وأطبق ناظريه على ما فيه ضنا بلألاء جمالهن. ودنامنهن روح الشاعر في شبحه قبيل بعثهن فأعجبن بالرجل: استلمت بليتيس صدره وجبينه مستجملة سائلة: أمن حمأ الأرض هذا الجبين؟ فأجاب هرميس: دعى طيفه وانظري روحه. فسألت متجاهلة: هل الرجل الروح؟ فأجابت تاييس: انه محيا وعينان! فقالت سافو: ما في الرجال سوى كل أصيد سبط القوام:
ذراعاه تستدرجان الخصور ... وفي شفتيه حديث الغرام(487/15)
فصاح هرميس مسيئا بهن الظن: تنزهت عالمي! أينطق فيك روح بهذا الكلم! لقد سبى السحر أجمل أرواح السماء! فقال صوت السماء: بل البعث آذنهن الغداة، وهي الآدمية طافت بهن، فلا تلحهن ولا تلم. وغضب الحوريات حيلة من ناظم الملحة جعلتهن يظهرن شرفهن أو سموهن الروحاني، وينعين على الفنان غريزته وأثرها في فنه أو انحطاطه الجسدي؛ وهي حيلة أثبتت مهارة الشاعر الفنية، ولا سيما أنه نجح بها أولا في شغلهن بمحاورة وصفت ما أراد. شغلهن حديث الفن
في السماء، وكان الفن يشغلهن في حياتهن الأرضية. وغضبن على الفنان الرجل، لكن ما لبثن أن رضين عنه وتهافتهن عليه في نزعة إلى الحسيات، فلم تضع الصلة بينهن وبين تلك الدلالات الغريزة، وبدا طبعهن في حالي السخط والرضى، وأثرهما واحد في كل البشر وان اختلفت درجاته، فهو لا يضر وحدة الشخصية في ذوات الأسماء الإغريقية، لأنهن في الحقيقة يمثلن النساء لا الملائكة
وعندنا أن الشاعر لم يتخذ من الأساطير مادة شعره، وأن اختار منها أسماء، وانما نحت شعره كله من صميم الحياة الإنسانية بالروح والجسد والغريزة جميعا على ما تبين في صنيعه، فلم يكن عليه أن يتقيد بدلالة تلك الأسماء
وتقرير هذه الحقيقة، بعد ما تقدم ذكره هنا وفي المقالة السابقة، تقرير واجب، إذ ليس يجوز التساهل في فهم المادة التي صدر عنها خيال الشاعر
ما القول أذن في البياناتالنثرية الوجيزة الواردة قبل القصيدة عن أصحاب تلك الأسماء؟
الجواب قريب: فهي في نظرنا بيانات تذكر بأنهم كانوا من أهل الفنون، ليكون كلام أرواحهم في الفن وأهله، والقلب وشأنه، والإنسان وغرائزه وخلاله، أحسن وقعا في النفس. وجمالك أيها القارئ الكريم ألا تخدع نفسك بهذه البيانات. أما الذين يتبحرون في العلم بالأساطير واليونانيات فقد يأخذهم الوجد بها حتى يصبح هجيراهم التشبث بدلالة تلك الأسماءكلما صادفتهم في أدب أيا كان وجهه
والبيانات النثرية الأخرى أيضا تذكر بمضمونها لكي يسهل فهم الإشارة في الملحمة إلى السامري وموسى، ومانا وهاواي، وغير ذلك؛ وذكر آدم وحواء في القصيدة فيه كذلك إشارة ضمينة إلى براءة الروح لبراءتهما قبل الخطيئة في الجنة وهو رمز إلى الرجل(487/16)
والمرأة وخطاياهما في كفاح الأرواح والأشباح البشرية، ولم يذكرا لإيراد قصتهما المعروفة الحبيسة في المعتقدات الدينية
(البقية في العدد القادم)
محمد توحيد السلحدار(487/17)
الأزهر والإمام محمد عبده
للدكتور محمد البهي
. . . أليس من العجب أن يكون من أبناء الأزهر من بعث إلى أوربا باسم محمد عبده، ثم لا يكون الأزهر معنياً بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده؟. . .
إحدى الملاحظات التي ساقها الأستاذ الفاضل (م. . .) في عدد الرسالة 482 الصادرة في 17 رمضان سنة 1361 هـ تحت عنوان ذكرى الأستاذ الزنكلوني
أن الأمام محمد عبده والأستاذ الزنكلوني لم يكونا للأزهر وحده ولا شك؛ وان الأزهريين لم يعرفوا محمد عبده والزنكلوني وامثالهما ولاشك. ولهذا إذا لم يذكروا محمد عبده ولم يذكروا الزنكلوني لا يعود عدم ذكرهما إلى إهمال أو إلى نكران الجميل.
الأزهريون لم يعرفوا محمد عبده، لا لانهم لم يريدون أن يعرفوه، أو لأنهم أو لأنهم أرادوا أن يعرفونه فخفي عليهم، بل لأنهم دفعوا إلى عدم معرفته ودفعوا أيضا إلى استمرارهم على عدم معرفته. فقد شاع عن محمد عبده أنه شاذ وأنه خارج. . . وأخيرا شاع عنه أنه حر. وشاع كل هذا عن محمد عبده لأنه كان يكتب، وكان يفكر، وكان يتفلسف، ولأنه أراد أن يكون من الأمة، وأراد أن تسمع الأمة لأزهره وأن تسترشد بإسلامه في قضائها، في تثقيفها، وفي تسوية مشاكلها الاجتماعية والقومية، بينما كان الأزهريون في وقته يقرءون فقط، ويقلدون فقط، ويتبعون فحسب، وبينما كانوا يؤثرون العزلة ويؤثرون المحافظة على الأوضاع التي سبقوا بها في القضاء والتهذيب على رغم تجدد الزمن وتعقد مشاكل الإنسان تبعا لعوامل التطور المختلفة.
محمد عبده - أصاب أم أخطأ - كان في طرف، والأزهريون - أصابوا أم أخطئوا - كانوا أيضا في طرف مقابل له. ولو كان الفكر الفلسفي هو السائد في التوجيه العقلي أيام محمد عبده لعرف محمد عبده وارتفعت الهوة بينه وبين الأزهريين في زمن وجيز. لأن الفكر الفلسفي هو التأمل قبل إصدار الحكم، والروية في ربط الأسباب بالمسببات، وحرمان العاطفة - أيا كانت عواملها أو أيا كان لونها - من التدخل في قضاء العقل. ولكن التقليد هو الذي كانت له السيطرة على العمل العقلي الأزهري، وبقي أيضا مسيطرا بعد وفاة محمد عبده، ولم تزل كفته هي الراجحة الآن(487/18)
وإذا كانت السيطرة للتقليد في توجيه جماعة من الجماعات، وفي عملها العقلي، لا يتحدث المؤرخ النفسي للجماعة عن أرادتها أو عن عدم أرادتها، بل عن دفع وانسياق في اتجاه معين محدود
نعم إن محمد عبدة كان له تلاميذ من الأزهريين، وله منهم ألان عدد غير قليل - وان اختلفوا في الإيمان بفكرته درجات - ومع ذلك لم يعرف محمد عبدة من الأزهريين تمام المعرفة حتى يرددوا فكرته ويخلدوا في نفوسهم ذكراه؛ لان اللحظة التي يعرف فيها محمد عبده هي اللحظة التي يتم فيها تحويل الجامع الأزهر إلى جامعة؛ وهي اللحظة التي ترتفع فيها قيمة الفكر الفلسفي لدى الأزهريين أنفسهم في البحوث العلمية وفي التفكير الأزهري
ولهذا ليس من العجيب أن لا يكون الذي فكر في إرسال بعوث أزهرية إلى أوربا باسم محمد عبده من الأزهريين. فعبد السلام الشاذلي باشا هو الذي فكر في تخليد ذكرى محمد عبده، وهو الذي أرسل باسم محمد عبده بعثة من الأزهر إلى أوربا على نفقة مجلس مديرية البحيرة، وهو الذي عمل على ربط ما للشرق الإسلامي من ثقافة عقلية وتاريخية بما للغرب من إنتاج عقلي منذ العصر الذي طرح فيه سلطة التقليد وهو عصر النهضة. وهو من أجل هذا قد ساهم في تكوين عنصر من المثقفين داخل البيئة المصرية يجمع بين ما للعنصر الشرقي المحض وما للعنصر المدني الآخر من مزايا؛ يضم إلى تراثه الشرقي الماضي ما يتلاءم من نتاج الغربيين.
و (ليس من العجيب كذلك ألا يكون الأزهر معنياً بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده). لأن الأزهر إنما يعني بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده إذا تمت معرفته لمحمد عبده.
وليس تمام معرفته بسرد تاريخه أو التحدث عن أفكاره، وإنما يكون أولاً بتهيئة العقلية الأزهرية لقبول محمد عبده وأمثال محمد عبده، وذلك بإبراز مزايا التفكير الفلسفي وسط البيئة الأزهرية، فإذا اتضحت هذه المزايا لدى العقل الأزهري عرف محمد عبده من نفسه؛ لأن إنتاج محمد عبده أكثر شبهاً بإنتاج ديكارت. كل منهما قصد إلى التوجيه أكثر من محاولة الابتكار في الفكرة والرأي. فمحمد عبده نادى بالا يكون للتقليد سلطان على التفكير في حياتنا العقلية؛ وديكارت أقام منهجه في البحث على إبعاد السلطات التي كانت تهيمن في وقته وقبل وقته على التفكير الأوربي وهي كلها مظاهر لشيء واحد، هو التقليد(487/19)
وليس لنا أن نيأس من قرب الزمن الذي يتمكن فيه الفكر الفلسفي من نفوس الأزهريين، على رغم أننا نعرف أن ممن يشرفون على التوجيه العلمي في الأزهر من يحاول أن يفهم أن الفلسفة مادة، وأنها يجب أن تخضع في بحوثها إلى المنقول أو إلى التقاليد، أو على الأقل يجب أن تؤمن في بحوثها الميتافيزيكية بسلطان بعض المؤلفين في العقيدة، لهم صبغتهم الحزبية في كتبهم المذهبية - لأنه من الشيوخ المحبب إلى نفوسهم ترديد معارف الماضي فحسب، والوقوف في دائرتها دون مجاوزتها إلى الحاضر، بل من هؤلاء الذين لا يزالون شديدي النفرة من اسم الحاضر، ومعارف الحاضر، ورجال الحاضر - ليس لنا أن نيأس لأنه يوجد في الصف الأول في قيادة التفكير الأزهري أمثال: المراغي وعبد المجيد سليم وشلتوت. . . ثم من ورائهم الشبان الأزهريون
حقاً، فيه رغبة قوية من الشبان الأزهريين في تعرف محمد عبده ومشايخ محمد عبده وتلاميذ محمد عبده ممن تتكون منهم المدرسة الجديدة في الإصلاح الديني والتفكير العلمي، ولكن مع ذلك، ليس من السهل أن تلقى عليهم أفكار محمد عبده، أو جمال الدين الأفغاني، أو أمثال الزنكلوني، قبل أن نهيئ هؤلاء الشبان ونزيل من نفوسهم، أو على الأقل نضعف عندهم ما تكون من عقيدة ضد محمد عبده، منذ أن درست لهم (السنوسية)، وقرىء عليهم تفسير (الخازن)
من الخير للأزهريين أن تتم معرفتهم بمحمد عبده؛ ومن الخير للشبان الأزهريين - على الخصوص - أن يعلموا من هو محمد عبده كقائد وإمام في الحركات الإصلاحية الدينية والعلمية والقومية، وأن يعلموا من هو محمد عبده في المحافظة على الكرامة الشخصية والكرامة الدينية، وأن يعلموا من هو محمد عبده في عزلته إذا اعتزل، وفي تقديره للأفراد والجماعات إذا اتصل واختلط؟
من الخير للإسلام ولمستقبل الدين أن يعرف الأزهريون دينهم كما عرفه محمد عبده، وأن يفهموه عقيدةً ونظرةً في الحياة لا أن يميلوا به إلى حرفة ومهنة لطائفة
ومن الخير للأمة المصرية أن يعرف الأزهريون محمد عبده؛ ومن الخير للدولة المصرية إذا ابتغت انسجاماً داخل الأمة المصرية، أو على الأقل قرباً في التفكير المصري والعقلية المصرية أن تنشئ باسم محمد عبده كرسيّا في الأزهر كما تعمل على إنشائه في جامعة(487/20)
فؤاد الأول
وأخيراً أقول للأستاذ الفاضل (م. . .): إن من بعثوا إلى أوربا باسم محمد عبده لم يهملوا محمد عبده عملهم العلمي؛ فقد بدأت التعريف بمحمد عبده في الحياة الجامعية الألمانية بعقد موازنة بين نظرته إلى الإسلام ونظرة هيجل إليه في رسالة صغيرة؛ ثم كتبت عنه رسالة الدكتوراه في جامعة هامبرج. وهنا في أزهرهم لم يهملوه أيضاً. وإنما رأوا مهمتهم أولاً وبالذات في التوجيه، إذ فيه الضمان الكافي لقبول تاريخ محمد عبده، وأفكار محمد عبده، وبالتالي للتعرف بمحمد عبده.
محمد البهي(487/21)
يوم من أيام دمشق الخالدة
وفاة الإمام ابن تيميه
في 20 ذي القعدة سنة 728هـ
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر العام في سورية ولبنان
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
- 3 -
لم يكن ثبات القلعة بدمشق وعودة الجند ليزيلا القلق من النفوس، فقد أقسم عاهل التتار هذه المرة أن يملك الشام ويفتح مصر عنوة، وملأ الدنيا بإشاعته والناس أشد ما يكونون ذعراً؛ كل هذا وابن تيميه لا يبالي، يقعد بمجلسه كالعادة في الجامع يحرض الناس كل يوم على القتال، ويسوق الآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى، ويحرم الفرار ويرغب الناس في إنفاق الأموال، وأن ما ينفق في الهجرة إذا أنفق في سبيل الله كان خيراً
اضطرت السلطات إزاء هذه الهجرة نحو مصر والكرك والشوبك أن تمنع الخروج بغير ترخيص خاص، وكانت الأنباء قد وصلت بوصول التتار إلى الشمال مرة أخرى، وتراجع جند الممالك الحلبية، ثم الأمطار فأعاقت السير إلى الجنوب وإلى الشمال
- 4 -
كان موقفاً رائعا فذاً في التاريخ أقرأه ونفسي تضطرب حينما خرج الشيخ في صباح السبت من مستهل جمادى الأولى سنة 700 هجرية وقابل نائب الشام بالمرج فواجه الجنود وثبتهم وقوّى جأشهم وطيب قلوبهم ووعدهم بالنصر والظفر على الأعداء وتلا قوله تعالى: (ومن عاقب بمثل ما عوقب به، ثم بُغى عليه، لينصرنه الله إن الله غفور رحيم)
وبات ليلته وسط العسكر وهم يحيون هذه الروح التي وضعوا آمالهم فيها
أتدري ماذا يطلب منه أمير الشام ونائب السلطنة فيها؟
يطلب إليه أن يركب على البريد إلى مصر ليستحث السلطان على المجيء إليهم. ويسوق(487/22)
الشيخ على خيل البريد إلى القاهرة، وهو أينما يحل يستحث الناس إلى المبادرة
أقام الشيخ في قلعة مصر ثمانية أيام، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروج، وكان فيما قاله لهم: (إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه - لو أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم نصره - فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وأنتم مسئولون عنه؟)
ثم عاد كما أتى على البريد من مصر، وقد أدى أمانته ونفخ في النفوس روحاً للكفاح جديدة
- 5 -
استمر المد والجزر بين الفرقين والرسل تتوالى إلى أن دخلت سنة 702 هجرية؛ وقد قدم جيش مصر وعلى رأسه الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وزحف التتار من جهتين من الشمال فوصلوا إلى البقاع واحتلوا بعلبك، ومن الشرق وصلت طلائعهم القريتين. كل هذا والتتار لا يعلمون بقدوم السلطان من مصر.
ولما وصل دمشق قرر أن يكون المصاف في جنوب دمشق بقرية شقحب، وأتم التعبئة والحشود ومشى السلطان والخليفة بجانبه ومعهما القراء يتلون القرآن، ويحثون على الجهاد، ويشقون إلى الجنة.
في هذا الموقف العصيب يقوم الطابور الخامس بدعايته فيقول: كيف تحاربون قوماً أسلموا وهم إخوان لكم؟ وهنا برز الشيخ بقوته ومضاء فكره فألهمه المولى هذه العبارة:
(هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي وعلى معاوية ورأوا أنهم أحقبالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين ويعيبون على الناس ما هم فيه من المعاصي والظلم، ولكنهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، والله لو رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني) فقويت النفوس وانقطعت دعاية الضلال.
فلما تم الترتيب أخذت كراديس التتار تزحف كقطع الليل والتحم القتال على طول الجبهة قتالاً هائلاً رائعاً بيعت فيه النفوس بغير حساب. كل هذا والجاشنكير يسيطر على المعركة بجند مصر والشام. وهنا مال قطلوشاه القائد التتري إلى جبل قريب ونظر إلى السهل والجبال المحيطة فإذا المسيرة السلطانية ثابتة لا تتزعزع، والأعلام خافقة. وجئ إليه(487/23)
الأسرى فسأله من أنت؟ فقال من أمراء مصر. فعلم بأنه قد خسر المعركة.
معركة فاصلة دامت أربعة أيام أظهرت فن القيادة والتعبئة لدى القواد المصريين والشوام، واختتمت بالنصر الباهر الذي نفخ فيه ابن تيميه من روحه.
وقبل اختتامها حاول قطلوشاه للمرة الأخيرة أن يجازف فقذف بما بقي لديه من جنده فرساناً ومشاة. وقد ترجل الخيالة فلقيتهم المماليك السلطانية من البرجية بسور من الفولاذ مزقهم شر ممزق وحلت بهم الهزيمة فانتشروا منهزمين إلى القريتين وقد تتبعهم العامة
وتقهقر قائدهم عائداً إلى بلاده فلم يعبر الفرات إلا في شرذمة قليلة من هذا الجيش اللجب الذي عبأ لفتح مصر والشام.
وبات السلطان بالكسوة ثم دخل دمشق وقد فتحت قلبها وتلقته لقاء الأبطال بعد أن أزال الهم والغمة عنها.
وفي مكان المعركة وبغير غسل ولا كفن جمع من استشهد من أبطالها فدفنوا في موضع واحد وبنيت عليهم قبة أرجوان تكون باقية إلى اليوم.
وكان الشيخ أول من فرح قلبه لهذا النصر المبين.
- 6 -
مرت ابتداء من سنة 705 سنوات كفاح للشيخ من أجل المبدأ يقارع الأيام وتقارعه، وتغمره موجة من الدسائس فيخرج منها سالماً، وتعقد المجالس لامتحان عقيدته فيخرج من هذه المغامرات أحياناً إلى الحرية وحيناً إلى السجن. وطلب إلى مصر، فلما أزمع السفر ازدحم الناس لوداعه. وفي إبان سفره لم يترك فرصة تمر دون أن يقف واعظاً للناس. ولما وصل القاهرة واجتمع له العلماء واختلف معهم أدخل في أحد أبراج القلعة وبقي بها محبوساً. وكلما نجحت محاولة لإخراجه أبي إلا أن يبقى، والناس تقصده وترسل أليه المشكل من الأمور لاستفتائه فيه
- 7 -
انتقل ابن تيميه إلى الثغر الإسكندري في صفر سنة 809 بصحبة أمير من الأمراء فأدخل في دار السلطان وأنزل في برج فسيح منها. ووصلت أخباره إلى دمشق بعد عشرة أيام من(487/24)
سفره من القاهرة، فقلقت الخواطر عليه وتألم أنصاره وخلفوا سطوة أعدائه الذين عقدوا النية على النيل منه. وكان الشيخ يحضر الجماعات ويقيم الوعظ فيأتي إليه الناس من أهل الإسكندرية أفواجاً ينصتون إليه ويقرءون العلم عليه، وقد ازدادوا تعلقاً به ومحبة له وتقرباً منه
ووصل إلى دمشق كتاب من أخيه يقول: (. . . إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط فإن أعداء الله قصدوا بذلك أموراً يكيدونه بها. . . وقد انقلب أهل الثغر أجمعون إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له في وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقربه أعين المؤمنين، ولقد استتاب جماعة منهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه)
ويقول ابن كثير - وهو من المراجع التي اعتمدنا عليها مع غيره -: (إن الشيخ أقام بالإسكندرية ثمانية أشهر، وكان سكنه في برج متسع مليح نظيف له شباكان أحدهما إلى جهة البحر والآخر إلى جهة المدينة، وكان ينزل عنده من شاء ويتردد عليه الأكابر والأعيان والفقهاء يقرءون عليه ويستفيدون منه وهو في أطيب عيش وأشرح صدر)
- 8 -
دارت الأيام دورتها وعاد الملك الناصر إلى عاصمة ملكه بعد زوال حكم أعدائه، وكان ذلك في عيد الفطر المبارك من سنة 709 وقد استقبلته في القاهرة، وقبل ذلك بدمشق، دنيا من الأفراح إذ استبشرت العاصمتان بعودة ابن قلاوون إلى ملكه وحيته الجماهير وهتف له ذلك الهتاف المحبوب: (يا ناصر يا منصور).
ولم ينس المليك الشاب في أفراحه الشيخ المجاهد ابن تيميه فأرسل أليه وحضر إلى القلعة معززاً مكرماً مبجلاً. وكان قدومه في 18 شوال، وقد خرج مع الشيخ خلق عظيم من الثغر الإسكندري يودعونه بالبكاء لتركه مدينتهم. ولما دخل على الناصر تلقاه ومشى إليه وأنس به في محفل كبير جمع قضاة مصر والشام فأصلح السلطان بينه وبينهم. ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من المشهد الحسيني والناس يترددون عليه من الأمراء والجند وهو يقول لكل من يعتذر أليه: (أنا حللت كل من آذاني)؛ وجدد الشيخ سابق عهده بدمشق ولكن بمدينة القاهرة المعزية - قلب العروبة - فأخذ يقيم حلقات الدروس وبدأ حياة كفاح وجهاد(487/25)
في سبيل العلم
هذا هو الشيخ الذي يضم عظامه قبر بسيط بفناء الجامعة السورية، والذي كان يمثل دنيا وحده وكانت شخصيته فذة جديرة بالبحث والدرس
إننا في حاجة إلى أن نستلهم الماضي ونستوحي صفحاته؛ وابن تيميه رجل من رجال الماضي وشخصيته تطل علينا من وراء القرون
كان ابن تيميه دمشقياً مائة في المائة، وكان مصرياً مائة في المائة؛ فهو حلقة الوصل بين البلدين في عصر مضى. وأنني كلما دققت النظر في تاريخه وعمقت التأمل في أقواله أجد نفسي إزاء رجل أقف أمام ذكراه والاحترام يملأ نفسي
والآن في أرض هذه العاصمة الخالدة وفي فناء جامعتها المباركة أقول: (هنا يرقد رجل).
أحمد رمزي(487/26)
ذكرى أم كلثوم
للشاعر التركي إبراهيم صبري
(نشرت الرسالة في عددها (480) تعريفاً بالشاعر التركي
إبراهيم صبري وترجمة لقصيدة من شعره. وهذه القصيدة
التي ترجمها الأستاذ (محمود محمد شاكر) تعطي صورة
جديدة من الشعر التركي بل من الشعر التركي في غربته.
وفيها يصف الشاعر ذلك الصوت الشعري السامي الذي يسحر
السمع، ويسبح بالروح في جو ممتد كامتداده، مرتعش
كرعشته، منتحب كانتحابه: صوت أم كلثوم)
إلى أخي محمود محمد شاكر
انصرفت من دعوتك الماضية وقد احتفظت بشعور وإحساس كتب في ذاكرتي هذه الأبيات:
كان يوماً بديعاً مِلْؤُه السرور! واحسرتا لذلك اليوم! لقد مضى!
ألوان من الطعام لذيذة اتصلت بموسيقى السحر التي فاضت على شفتي أم كلثوم الفاتنة،
قصيدة وردية من أباريق اللحن انسكبت في أرواحنا.
حين يأخذني سكر الإبداع أجد قلبي نشوانَ،
وتذهب أعصابي في سُبات عميق من فرط ما ثملت.
حينئذ أشعر بعروج خيالي وحده إلى عالم الأرواح
تاركاً على الأرض كل ما هو نقيض لهذا الصوت السماوي.
أراني أصل بخيالي إلى قمر في آفاقه نغم ألحانه من عالم الحور والسحر:
هو ذرة أثيرية أخرى لا أبعاد لها، تكِّون هواء ذلك القمر وماءه وأرضه ونوره الشفاف.
إن هذا الصوت ليس للتراب، إنما حقه أن يسمع في السماوات.
في مصر التي تشعرك بالبقاء أدوارها التاريخية المديدة(487/27)
وفي مصر التي يشبه الأهرام فيها صوت أم كلثوم
لا أقف لأستمع بل أُبادر لأنظر وأشاهد.
(ليلى والدهر) في ذلك الصوت كلاهما كمومياء مذهَّبةٍ جديرة بالمشاهدة.
في هذا الصوت تتمزق صدور العشاق إرباُ إرباً،
وكيف لا تتمزق فيه صدور العشاق، وقد ورث نبئ موسيقار لوعة نايه من هذا الوادي.
وإن حفر البشر الهواء في المستقبل، فلعلهم يكتشفون في صوتها صوت المزامير.
حين تبدأ تغني ينبعث صوتها كأنهُ وسوسةُ ذاتُ ألوان من الحباب المنطفئ على النيل
الأخضر الذي يجري أمام الشمس النَّارنجِيَّة؛
ثم إذا بك تراه ينقلب إلى أمواج في بحر تندفع كل موجاته فترتطم على قلب؛
ثم إذا بك تراه ينتصر على البعد المطلق.
تخال رَجْع (نواه) آتياً من وراء الفضاء.
هذا الصوت يغرِد كتغريد البلبل في الجنة،
كأنما تفوح منه رائحة ماءِ الورد وشجرة العود؛
كأنه نطفة يجري فيها ماء الحياة، لو انصبت قطرة منها على أجساد الموتى لشعروا بها.
هذا الصوت يمسُّ خدَّ السمع كمنديل من الحرير في كف معطّرة،
كم من ناصية قد اعتمدت على هذه اليد الساحرة
تبكي وتنوح، غارقة في حنانها،
لذلك ينبعث ترديده منتحباً
ولذلك يحرق كما يحرق البكاء
حين غربت الشمس - انطفأ اللون الأحمر للرمال المتوهجة في جفون الصحراء فكأنها
استحالت رماداً،
وتردد في نفسي صدى النغمة الأخيرة لهذا الصوت فأثار وجدي فقمت للوداع من زاويتي
حيث كنت مستغرقاً في خواطر.
كأن ذاكرتي لم تكن معي
عادت كأنما عادت من وراء أفق بعيد؛(487/28)
وكأنها يد وضعت على كتف روحي
وأعادتني إلى الحقيقة.
تذكرت حينئذ زمناً من الأزمنة الماضية:
اجتمعت ليلة في بيت صديق ومعنا (سامي)
ما كان أبدع ما غنى من (الغزل) والأصوات!
كيف كوى بها قلوبنا؟
وكيف امتلأت جفوننا بالدموع ككؤوس خمر؟
وكيف أصبح شيطان ألحانه ساقياً للعبرات؟
إذا فاضت دموع التأثر من هذه العيون التي كانت ترسل دموع اللذة في ذلك الزمن، فلا
بأس!
فإن في هذه الأرض أصواتاً تجعل الغربة أُنساً
وفها مودتك المخلصة الغالية
ترجمة
محمود محمد شاكر(487/29)
إلى المعترضين علينا
للأب أنستاس ماري الكرملي
(تتمة)
4 - نتيجة كلامنا مع الأستاذ المكابر
لا يقال إلا البساتين الغن، وإلا الدروع الحصد، وإلا الكريات البيض، وإلا الدروع الخضر. وأما قول القائل: البساتين الغناء، والدروع الحصداء، والكريات البيضاء، فخطأ ثم خطأ ثم خطأ. اللهم إلا إذا قدمت على هذه النعوت كلمات منسوبة مفردة مؤنثة، فيصح حينئذ مثل هذا القول: بساتين عبقرية غناء، ودروع فارسية خضراء، وكريات بيضيه بيضاء؛ وهذا القدر كاف لهذا الموضوع اليابس الناشف، ولا نعود إليه بعد، بل نحول أنظار السائلين إليه، وهو الهادي إلى الصواب!
5 - إلى الأستاذ الأفغاني
كنا نود - يا سيدي الكريم الجليل - أن تكلمني بالعربية، لأني عربي وأجدادي من بني مراد، لا بالأفغانية لسان أجدادك أهل الحسب والنسب. . . نعم، إني كنت قد اجتلبت كتباً أفغانية من باريس، لأدرس هذه اللغة البديعة لكن الزمان لم يساعدني على المطالعة، فبقيت الكتب في الخزانة من غير أن أنتفع بها إلى اليوم
قلت لي في نبذتك في (الرسالة) 869: 10: وقد كتب (أي الأب أنستاس ماري الكرملي) الجملة الأولى بخط عريض وأنا لم أكتب عنوان المقال إلا بالقلم الدقيق كما يمكنك أن تطلب الأصل من صاحب (الرسالة) ليطلعك عليه. أما الذي رسمه بالقلم الريان، وحضرتك تسميه الخط العريض، فمن منضد (الرسالة)، تزييناً للطبع ولسطور الصفحة، فلو جعلها كلها بقلم واحد، لملت النفس، ونبا البصر، وعاف القارئ المطالعة ونبذ الصحيفة من يده. وهذا ما تحققه بنفسك في جميع نبذ (البريد الأدبي). . . إذن، ليس المزكزك بأنيئهن
وقلت لي: بخط عريض مذيل؛ ولم أذيل الخط بشيء، لعلمي أن ذيل الشيء جعل له ذيلاً، وذيل الصحيفة كتب شيئاً في ذيلها زيادة على ما فيها، وهذا لم أفعله، ولا أرى هناك ما يؤيد هذا الكلام(487/30)
وقولك يا سيدي: بخط أفقي، لا ينطق به فصيح، إنما ينطق به أرباب الهندسة، وهو من معرب الكلام الحديث، ورائحة التعبير الأجنبي تفوح منه. وأما ابن الناطق بالضاد، فيقول: وتحته خط. وأحسن من ذلك أن يقال: وقد رسم بخط ريان (أو عريض؟)، وخطّ تحته خطاً توجيهاً للأنظار.
ثم نقلت، يا سيدي، بعض العبارات من المعاجم تأييداً للخطأ وأنه أحسن من الخطآء. والدليل الذي أتيت به هو أن: أرباب الدواوين ذكروا الخطأ المقصور قبل الخطآء الممدود. وهذا برهان ينطبق به الأطفال قبل الحلم، وهل تكون إلى الآن بهذه السن؟ ألا تعلم يا سيدي أن أرباب كتب متون اللغة يقدمون الكلمة القليلة الأحرف، على الكلمة الكثيرتها. خذ بيدك أيّ معجم شئت، وانظر إلى المصادر، أو إلى الأسماء أياً كانت، تر أن الكلمة القليلة الأحرف مقدمة على غيرها. وكذلك يفعل أهل الحساب فإنهم يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، إلى آخرها.
وأما أن صاحب (الصحاح) ضعف الحرف الذي (ذكر الأب أنه الصواب دون غيره) فهذا لا يعني أنه مصيب فيما قال.
يا سيدي إنك تعلم أن مؤلف الصحاح خّطئ في كثير من أقواله الغوية والنحوية، فكيف تحتج بكلامه، وتسر كل السرور لكونه نطق بتلك الكلم؟ وهناك من أعلى مقاماً منه وهو صاحب الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، وكان معاصراً للجوهري، وقد انتبه لهذه الحقيقة الأستاذ اللوذعي محمد غسان فنقل في الرسالة (892: 10) ما ورد في ذلك التصنيف المفيد من المقال الزاري على اللآل
زد على ذلك أني أحاول في كل ما أكتب أن أتأثر أحسن من نطق باللغة المضرية باتفاق شهادة جميع قبائل العرب وجميع أمم الأرض قاطبة، فانه كان يحب الازدواج والمشاكلة والإمتاع والمجانسة، فقد قال مثلاً: ارجعن مأجورات غير مأزورات، مع ما في مأجورات من الغلط في نظر بعض حمقى اللغويين. فلما قلت الخطاء أردت أن أبين أن ما كتبه الناشران لكتاب الإمتاع في آخره، حين كتبا: خطأ وصواب، كان يحسن بهما أن يقولا: خطأ (بالمد) وصواب، مجانسة للوزن، لأن كليهما على وزن سحاب، فالقارئ يتذوق طيب هذه المشاكلة إذا ما رأى فيها هذه الموازنة(487/31)
هذا ما أحببت عرضه على العلامة المحقق (الأستاذ الأفغاني) وله إعجابي وتحيتي!
6 - إلى الأستاذ داود حمدان
كتبت يا سيدي في الرسالة (870: 10) مخطئاً قولي: (قال ابن دريد في الجمهرة: (وبالصاد (أي ألخص) أحسبها لغة لبني تميم، وهي لغة ابن الغبر خاصة). كذا في تاج العروس وهو خطأ أيضاً. والصواب: (وهي لغة بني العنبر، إذ لا وجود لابن العنبر) أهـ
فانبرت لي من أقصى اللد وكتب: (وقد يقال: عدم الجزم بهذه التخطئة أولى، فبنو الغبر لهم وجود. جاء في القاموس المحيط في (فصل الطاء وباب اللام): وككتاب (أي طحال) كلب وع لبنى الغبر. راجع القاموس المحيط ففيه شاهد لا يليق ذكره.) أهـ
قلنا: لو كسرت يراعتك المرضوضة، وألقيت بها في التنور، وبقيت ساكتاً إلى أن يفيض التنور، لكان ذلك أحسن لك! وأنصحك نصيحة لله: ألا تكتب كلمة قبل أن تتدبرها كل التدبر ثم تعرضها على أصدقائك، ثم تتأملها ثانية، وتعرضها على أعدائك، وحينئذ ابعث بها إلى أصحاب الجرائد والمجلات.
وإلا فمثل هذه الخربشة والخربقة لا ترفع قدرك ولا تبقى لك أثراً طيباً!
أنك يا سيدي رأيت في القاموس أن (طحال كلب وع لبنى الغير. . .) وضبطت: (الغبر) في قولك هذا بضم وفتح مشددة فكم من غلط في كلمة واحدة!
وأول كل شيء، أن الغبر، التي ضبطتها كسكر، ضبطت في القاموس المشكوك كما ضبطتها. وأما يا قوت الحموي فضبطها في معجمه: غُبر كزُفر. والغلط الثاني أنه لم يدخل عليها أل، وكذا ضبطها ابن دريد في كتاب الاشتقاق ص 205 من طبع أوربة قال: (ومن قبائلهم بنو غُبَر بن غَنم، وغُبَر فُعَل، ولم يعرفها باللام هو أيضاً وضبطها صاحب جزيرة العرب - وهو الحجة العظمى في هذه المادة (بنو غُبَر) على حد ما ضبطها يا قوت وابن دريد. وعندنا عدة نسخ خطية قديمة من القاموس وكلها تضبطها كزُفر وبلا لام التعريف. وقد قال صاحب القاموس نفسه في مادة (غ ب ر): غبر كزفر ولم يذكر في ذلك التركيب (غُبَّر) كسكر
ثم لو فرضنا أننا صدقنا رواية القاموس الواردة في مادة طحال، فمن قال لك إن أولئك(487/32)
المسلمين بني الغبر هم أصحاب تلك اللغة أي لغة قلب السين صاداً؟ وقلنا: (وبالصاد (أي الصديق) وأنت كتبتها (الخص) فما هذه الخربشة؟)
نحن نقلنا ما نقلنا وقلنا ما قلنا لا على مجرد الوهم والتخيل، على الحقيقة. فإن الجمهرة لابن دريد مطبوعة في الهند وما ذكرناه منقول عنها مع بعض الاختلاف هو الوارد في التاج لكنه قال: (لغة بني العنبر) لا لغة بني الغبر. وإن شككت في ما أقول فما عليك إلا مراجعة الجمهرة فهي في الأيدي لابتذالها في الطبع. فما معنى هذا التحكك الذي أظهرته يا سيدي وأنت لا تملك من الكتب ما تؤيد مدعاتك؟ فبنو الغبر كسكر لا وجود لهم ولا للغتهم. فإياك إياك يا سيدي العودة إلى هذا الميدان، فإنه لا يصيبك منه إلا الهوان، بعد هذا الامتحان!
(تم)
الأب أنستاس ماري الكرملي
أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
بغداد في 2691942(487/33)
اذهب. . .
للأستاذ علي متولي صلاح
إذهبْ فإِنِّي قد سلوتُ غرامي ... وملكتُ نفسي وانتهَتْ آلامي
إذهبْ فقد وضح الصواب ولم أعدْ ... عبد الخيال ولا فتى الأحلام
إذهبْ فإني قد تركتُ عواطفي ... وجعلتُ عقلي في الطريق أمامي
يا طالما أرسلتُ فيك مدامعي ... يا طالما شرَّدتُ فيك منامي
يا طالما ذقتُ الهوان ولم أكنْ ... لولاك في يوم يهون مقامي
صدَّا لقيتُ وذقتُ ألوان الجوى ... وحملْتُ مصطبراً أذى لوَّامي
حيران في أهلي وبين صحابتي ... أسوان أشكر للنجوم هيامي
الناس من حولي ولستُ أراهمو ... وأراك في عقلي وفي أوهامي
والنور في الأرض العريضة مشرقٌ ... لكنني أحيا بأرض ظلام
والزهر في عيني مريضٌ ذابلٌ ... والجدول الرقراق جوف رجام
والشعر في صدري ذبيحٌ ميت ... والنَّوْح صدْحي والبكا أنغامي
حتى كأَنَّ الفلك غيَّرَ نهْجه ... ومحا السطور البيض من أيامي
ماذا رأيتُ أنك خائني ... ورأيتُ أنك لا تصون زمامي
ورأيت أنك ساخرٌ بمدامعي ... ورأيت حبك ليس غير كلام!
فالآن فاذهبْ قد سلوتُ غرامي ... والآن فاذهبْ قد مضت آلامي
وعلى جمالك من مُحِبٍ سابقٍ ... وعلى غرامك ألف ألف سلام
على متولي صلاح(487/34)
المقابر. . .
للأستاذ محمد برهام
وقفت في حذر فيها فروعني ... ما تبصر العين من صمت وإظلام
تطلعت لي عيون الدوح في دهش ... وأنعمت في خيالي أي إنعام
وعاد يهمس هذا الدوح في أذني ... أركن لقوم ببطن الأرض نوام
تعال مت مثلما ماتوا فسوف غدا ... تعل كأْس الردى من بحره الطامي
تعال مت ميتة في العمر واحدة ... فقد تميتك ألفاً دورة العام
كأْس المنية خذها عن طواعية ... من قبل أن تتلقاها بإرغام
ولم أكد أبصر الأحجار قائمة ... والترب يضرب أكواماً بأكوام
حتى نسيت حياة الناس ناحية ... وعاد عيشي بها أضغاث أحلام
ورحت في عالم الأموات مبتعداً ... عن كل باعث أشجان وآلام
يا ليت كان هنا مثوى أقيم به ... ولا أعود إلى عيشي وأيامي
(عن العبرية)
محمد برهام(487/35)
البريد الأدبي
في جماعة كبار العلماء: مصادرة كتاب ومؤاخذة عالم
روت البلاغ أن قد عرض على جماعة كبار العلماء في اجتماعها الأخير التقرير الذي كانت وضعته اللجنة المؤلفة من بعض أصحاب الفضيلة أعضاء الجماعة عن كتاب (رد الدرامي على المريس) الذي طبعه ونشره وكتب مقدمته الشيخ حامد الفقي من علماء الأزهر الشريف.
وقصة هذا الكتاب ترجع إلى أن أحد كبار العلماء وجد فيه أحاديث شك في نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فعرض الكتاب على الجماعة وطلب بحثه فألفت اللجنة السالفة الذكر.
وقد رأت اللجنة في الكتاب جملة مآخذ خلاصتها أن الأحاديث التي يستند عليها المؤلف في روايته غير صحيحة، وأن الكتاب يدعو إلى عقيدة التجسيم للخالق سبحانه وتعالى، وأن مقدمة الكتاب فيها مآخذ شديد وطعن على علماء الكلام، واتهام صريح لهم بأنهم أفسدوا العقائد ببحوثهم والتغالي فيها وزيفوها وخرجوا بها عن سلامتها. وانتهت اللجنة في تقريرها إلى أن نشر هذا الكتاب وإباحة تداوله هو ترويج لمبادئ باطلة عفي عليها الزمان، وطلبت مصادرته ومحاسبة ناشره على نشره وعلى ما جاء في مقدمته من طعن على العلماء خصوصاً وأنه يرأس جماعة إسلامية للدعوة للدين هي جماعة أنصار السنةالمحمدية.
وقد طبع هذا التقرير ووزع على أعضاء الجماعة لبحثه. ورأى فضيلة الشيخ محمود شلتوت عضو الجماعة أن يرد عليه فكتب تقريراً وقدمه للجماعة ووزع على الأعضاء وقد عرض في الاجتماع نفسه. وقد تضمن أن الأحاديث التي طعن فيها والموجودة في هذا الكتاب لها أصل في كتب الأحاديث رواها أبو داود وابن كثير، وكثير من علماء الحديث. وقال عما جاء في المقدمة من كلمات نابية في حق علماء الكلام الإسلاميين أن المقصود بها أولئك الذين دخلوا في الإسلام تظاهراً وهدفهم الأول الإساءة إلى العقائد الإسلامية وتعاليم الإسلام السليمة، وهذا المعنى يتجلى في سياق كلام المقدمة، وضرب الأمثال الكثيرة لذلك
وعلى الجماعة أن تقرر مبدأ بالنسبة لهذا الكتاب وما يوجد من الكتب الأخرى وهو دراسته(487/36)
والرد على ما فيه؛ وهذا أسلوب القرآن الكريم؛ فسبحانه جل شأنه ساق آراء المشركين والمعارضين للإسلام وحجهم ودعاواهم وعقب عليها بالرد والتنفيذ. وهكذا كان شأن علماء الإسلام الأول يسردون أقوال معارضيهم ويردون عليها. وفي الكتب التي بين أيدينا آراء وأقوال لكثير من الطوائف الإسلامية رد عليها رووها وكان في هذا تنوير للباحثين والدارسين والوقوف على المزيف منها والسليم.
وقد أفاد هذا الأسلوب ونفع وأوجد ثروة واسعة للمكتبة الإسلامية وأدى إلى الوقوف على الحركات العلمية التي كانت موجودة في العهود السابقة. ولعل الأزهر لم ينس بعد الموقف الذي كان منه في سنة 37 إزاء كتاب تاريخ بغداد ومصادرته ثم فك المصادرة عنه.
وانتهى الأستاذ الشيخ شلتوت من تقرير إلى الاقتراح باتباع أسلوب السلف في حماية العقائد والدين بتنفيذ ما يرى أن فيه مساساً بهما والرد عليه وعدم مصادرة الكتاب أو مؤاخذة الناشر على نشره وما جاء في مقدمته.
في نسب العبيدين
في العدد 485 من الرسالة كلمة بعنوان (حول الفاطميين) تراءى كاتبها برأي ابن خلدون في تصديق دعواهم في نسبهم المخالف لجماهير أهل التحقيق في التاريخ والأنساب العلوية، قال ابن خلكان في ترجمة عبيد الله المهدي: (أهل العلم بالأنساب من المحققين ينكرون دعواهم في النسب). وابن خلدون ليس بأقل خطأ في رأيه منه في (العرب والحضارة) و (العرب والعلوم)، وأغلاطه في ما دونه من أخبار الشرق غير مجهولة. إلا أن له هنا دافعاً نفسياً أوقعه في الشذوذ عن الجماعة، كما نص على ذلك المؤرخ الكبير السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ) نقلاً عن شيخه الحافظ بن حجر، وذكر فيه أيضاً سبب شذوذ المقريزي في ذلك
هذا ورد كل شيء إلى السياسة مضيعة للحقائق، وليست كلمة (الغاية تبرر الواسطة) سوى قاعدة (مكيفلية) واهية يبرأ منها علماء الإسلام في جميع العصور. والحكم الذي أصدره كبار الأئمة من علماء بغداد في تزييف نسب العبيديين وافقهم عليه علماء الأمصار كالقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي منصور عبد القاهر التميمي وأبي المظفر الإسفرايني ومؤرخ الإسلام الذهبي وابن تيميه وغيرهم. ومن درس سير أولئك العلماء الذين وقعوا(487/37)
ذلك الحكم استيقن أن أحدهم يفضل الموت على إصدار حكم مخالف للشرع في نظره. ولم يكن الخليفة يومئذ القادر بالله بقادر على إكراههم على القول بما لا يعتقدونه لأنهمكانوا أهل الحل والعقد في الدولة مع عظم منازلهم في الأمة، على أن القادر بالله لم يوصم في التاريخ بظلم ولا عدوان بل ذكر بالدين والتقوى. ومما يدل على بطلان دعواهم في الانتساب إلى محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق: أن إسماعيل مات في حياة والده، ومحمد لم يعقب كما قال النسابون الثقات على ما هو مبسوط (في الفرق بين) وغيره، فصلتهم بإسماعيل بن جعفر الإمام كصلتهم بالإسلام. وقال ابن طولن في (اللمعات البرقية في النكت التاريخية) في ترجمة الحاكم: وكان هو وأسلافه يدعون الشرف ويقولون: أبونا على وأمنا فاطمة، كان في كل أسبوع يقول ذلك على المنبر، وكانت الرقاع ترفع إليه وهو على المنبر فرفعت إليه رقعة مكتوب فيها هذه الأبيات:
إنا سمعنا نسباً منكراً ... يتلى على المنبر في الجامع
إن كنت فيما قلته صادقاً ... فأنسب لنا نفسك كالطالع
أو كان حقاً كلُّ ما تدعي ... فاعدد لنا بعد الأب السابع
وزاد غيره:
أو فدع الأشياء مستورةً ... وادخل بنا النسب الواسع
فرماها ولم ينتسب فيما بعد. ولما دخل المعز العبيدي مصر وسُئل عن نسبه سل سيفه وقال (هذا نسبي) ونثر الذهب وقال (وهذا حسبي)
ثم إن الكاتب لو رجع إلى بعض كتب الأصول لعلم أن الأحكام الفقهية مسائل كلية لا جزئية، فلا وجه لا دعاء تأثرها بالظروف والأحوال فضلاً عن ادعاء الحاجة إلى نسخها بالاجتهاد، وإنما الأحكام الجزئية هي أحكام القضاة في القضايا الجزئية؛ ولعلم كذلك أن (الأحكام) في كلمته جمع محلى باللام فيفيد العموم، فيكون حملها على بعض الأحكام تراجعاً عن نص المدعى ودلالته. على أن القول بنسخ حكم من أحكام الشرع بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم مما لا يعلمه الدين الإسلامي، ولذلك ترى إجماع الأئمة خلفاً عن سلف على إكفار من يقول بذلك، كما في مراتب الإجماع لابن حزم وغيره
صلاح الدين شفيق(487/38)
العدد 488 - بتاريخ: 09 - 11 - 1942(/)
دفاع عن البلاغة
أسباب التنكر للبلاغة، البلاغة، الذوق، الأسلوب
السرعة، والصحافة، والتطفل، هي البلايا الثلاث التي تكابدها البلاغة في هذا العصر
فالسرعة - وهي جناية اختراع الآلة على الناس - كانت جريرتها على الفكر بوجه أعم، أن استحال تقدير القيم التي يحتاج وزنها إلى الروية والتأمل، أو إلى الأناة والصبر، فظهر الخبيث في صورة الطيب، ودخل الرديء في حكم الجيد، وقيس كل عمل بمقياس السرعة لا بمقياس الجودة!
وكانت جريرتها على البلاغة بوجه أخص، أنها أصابت الأذهان فلم تملك أن تحيط بالأطراف، ولا أن تغوص إلى الأعماق، فجاء أكثر ما تنتج من الزبد الذي لا رجع منه ولا بقاء له.
وأصابت الإفهام فلم تصبر على معاناة الجد من بليغ الكلام، فكان أغلب ما تقرأ من الأدب الخفيف الذي لا غناء فيه ولا وزن له
وأصابت الأذواق فلم تستطيع أن تميز الفروق الدقيقة بين الطعوم المختلفة، فاختلط الحلو، بالمر، والتبس الفج بالناضح. فالكاتب البليغ قد بعجله الحافز الملح عن تعهد كلامه فيأتي بالركيك التافه. والكلام البليغ قد يسرع فيه النظر فلا يفطن إلى عبقريات الفن في تصوره وتصويره فيذهب في ذمة الغث. وقد السرعة خطأ في موازين بعض النقاد فيحسبونها شرطاً في حسن الإنتاج. وربما عابوا الكاتب المرويبالإبطاء وغمزوه بالتجويد وسفهوا قول الحكيم القائل: (لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرغ، وإنما يسألون عن جودته وإتقانه).
والصحافة - وهي من فنون الأدب المستحدثة - كانت جريرتها على البلاغة أنها أوشكت أن تستبد بالمجال الحيوي للكتابة. وليس في هذا الأمر على ظاهره نكير ولا مؤاخذة، ولكن عمل الصحافة رواية الأخبار العالمية، وتسجيل الأحداث اليومية، ونشر الثقافة العامة؛ وهي في كل أولئك تخاطب الجمهور فلا مندوحة لها عن التبذل والتبسط والإسفاف والمط مراعاة للموضوعات التي تكتب فيها، وللطبقات التي تكتب لها، وللسرعة التي تعمل بها. ولو كان للصحافة كتابها وللتأليف كتابه لما لقيت البلاغة منها أذاه ولا مضرة؛ ولكن حالها(488/1)
مع الكتاب كحال السينما مع المسرح. فهي أوفر في المال، وأقوى في السلطان، وأوسع في الانتشار، وأشمل في المعرفة، وأغنى في الوسائل، ولذلك غلبت الكتاب على أمراء القلم؛ فهم يعملون فيها على ما تقتضيه أحوالها من مجاوبة السرعة وتوخي السهولة وإيثار العامية. وللصحافة سبعة أبواب لا يدخل بلغاء الكتاب إلا من باب واحد. أما سائر الأبواب فهي لأنماط من ذوي الثقافات المختلفة هيأتهم ملكاتهم ونزعاتهم ليكونوا جنوداً في جيش (صاحبة الجلالة)، فحملوا القلم لأنهم لا بد أن يكتبوا، ثم حملهم إدمان الكتابة ومواتاة النشر على أن يعالجوا الأدب الرفيع فقعد بأكثرهم وهن السليقة وضعف الاطلاع عن مجاراة الموهوبين من أهله؛ فسول لهم الغرور أن يخفضوا مستوى البلاغة، ويبتذلوا حرم الفن، ويوهموا الناس أن أدب الدهماء هو أدب المستقبل، لأن العصر عصر السرعة، ولأن الشأن شأن العامة، ولأن الديمقراطية تقضي باختيار لغة الشعب وإيثاره أدبه. وما داموا هم الكثرة وقراؤهم هم الكثرة؛ فإنهم بحكم الديمقراطية يملكون وحدهم حتى التشريع في الأدب: فينهجون القواعد، ويقررون الأساليب، ويعينون الكتاب ويوجهون الرأي
من أجل ذلك طغت العامية، وفشت الركاكة، وفسد الذوق، وأصبحت العناية بجمال الأسلوب تكلفاً في الأداء، والمحافظة على سر البلاغة إلى الوراء، ولم يبق للمخلصين للغة الوحي وأدب الرسالة إلا أن يكتبوا لأنفسهم ولمن يعصمهم الله من أعقاب هذا الجيل
على أن العامية الأدبية عرض من أعراض العامية الاجتماعية. فمتى برئ المجتمع من أمراض الضعة فجنح للقوة وطمح للكمال، ظهرت الأصالة في فكره، والمتانة في خلقه، والسلامة في ذوقه؛ وحينئذ يتكون الرأي الأدبي العام، وهو وحده الذي يراقب ويحاسب، ويؤيد ويعارض، فلا تجوز عليه دعوى، ولا ينفق فيه زيف، ولا يطفر به مئوف
أما التطفل فقد رأيته ظاهر الأثر على موائد الصحافة! ولكن هناك ضرباً من التطفل المغرور يجوز أن نفرده بالذكر: ذلك هو تطفل فئة من أرباب المناصب لا يقدح في كفايتهم ألا يكونوا كتاباً ولا شعراء؛ ولكنهم يأبون إلا أن يضموا المجد من جميع حواشيه فيتكلفون ما ليس في طباعهم من صناعة البيان فيقمون في النقص وهم يريدون الكمال!
قد ينبغ أولئك السادة فيما يملك بالتحصيل والمزاولة، كالتعليم والتأليف والمحاماة والسياسة؛ ولكنهم أعجز من أن يخلقوا في رؤوسهم ملكة الفن بمجرد الإرادة أو الأمر أو الادعاء.(488/2)
فإصرارهم على أن يعدوا في كبار الكتاب على ما فيهم من تخلف الطبع وخمود القريحة وضعف الأداة، دفعهم إلى مشايعة الجهلاء في تنقص البلاغة وخفض مستواها إلى الدرك الذي لا يعز مناله على القاعدة. وهذه المشايعة من قوم لهم في التوجيه الثقافي رأي مسموع وأثر ملحوظ أخطر على البلاغة من كل ماتعانيه في هذه المحنة
لذلك كان من البر بالأدب والإخلاص للفن أن نتقدم إلى قرائنا بهذه الفصول.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات(488/3)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
حديث عيسى بن هشام
للدكتور زكي مبارك
الأسلوب - الفكاهات - الرحلة الثانية - الرحلة الفكرية - أسلوب وأسلوب - كلمة ختامية
الأسلوب
أشرنا من قبل إلى أن أسلوب المويلحي يغلب عليه السجع فلنقرر أنه لا يعفى نفسه من أثقال هذه الحلية إلا حين يخوض قي أحاديث يطلب فيها الإقناع لا الإمتاع. ومعنى هذا أن مقامات الكلام ترجع في جملتها إلى مقامين: مقام تخاطب فيه العقول، ومقام تناجى فيه القلوب. فالترسل الحر هو أسلوب الإقناع، والنثر الفني هو أسلوب الإمتاع، وبين هذين المقامين صلات دقيقة يعرفها جهابذة القلم البليغ
فهل التزم المويلحي هذه الخطة في جميع الأحوال؟
الظاهر انه لم يراعها كل المراعاة، فقد سجع في مواطن لا يجوز فيها السجع، وحار قلمه بين موجبات العقل، وموحيات الذوق، فلم يسلم في بعض الظروف من الإسفاف
نص شوقي على سجع المويلحي حين رثاه فقال:
رُبَّ سجعٍ كمرقص الروض لمَّا ... يختلف لحنُهُ ولا إيقاعُهْ
أو كسجع الحمام لو فصلتْهُ ... وتأنتْ به ودقَّ اختراعُهْ
هو فيه بديع كل زمانٍ ... ما بديعُ الزمان ما أسجاعه؟
ومن الواضح أن شوقي يرثي، والرثاء يبيح التهويل، ولهذا جاز أن يكون سجع المويلحي أبرع من سجع بديع الزمان، مع أن الفرق بين فن المويلحي وفن البديع، كالفرق بين (عيسى بن هشام) الجديد، و (عيسى بن هشام) القديم؛ وسيظل بديع الزمان هو البديع، لأنه المبتكر الأول لهذا الفن الجميل، الفن الذي ينقد المجتمع عن طريق الأسمار والأحاديث، باللمحة البارعة والأسلوب الرشيق
المويلحي يتعثر في الأسجاع، ولكنه قد يبلغ الغاية في بعض الفقرات، كأن يقول على لسان المحامي وهو يخاطب موكلا رجاه أن يرجئ الأجر إلى أخر الشهر:(488/4)
(أتظن أن هذه الوعود، تقوم لدينا مقام النقود، في بلد كثر فيه الإنفاق وزادت الضرورات، وقل فيه الربح كما قلت المروءات، وصار الدرهم أعز عند الأب من بنيه، وعند الابن من أبيه؟ وقد تعبت في القضية تعبين: باللسان وبالجنان، ولا أستريح منهما إلا بنقد الأصفر الرنان. فلا تجعل الخلاص من قضية بقضية، والفكاك من بلية ببلية، فذلك ما لا يأتيه العقلاء، ولا يرتضيه الأمراء)
وكأن يقول: إنه رأى في ساحة المحكمة: (وجوهاَ مكفهرة، وألواناَ مصفرة، وأنفاساَ مقطوعة، وأكفاً مرفوعة، وباطلا يذكر، وحقاَ ينكر، وشاكياَ يتوعد، وجانياَ يتودد، وشاهداَ يتردد، وجندياَِ يتهدد، وحاجياَ يستبد، ومحامياَ يستعد، وأما تنوح، وطفلاَ يصيح، وفتاة تتلهف، وشيخاَ يتأفف)
وجملة القول أن الأسجاع الجيدة عند المويلحي كثيرة، أليس هو الذي يسجع فيقول في التبرم بالناس:
(إن سالمتهم حاربوك، وإن وادعتهم ناصبوك، وأن صادقتهم خانوك، وإن واثقتهم كادوك، وإذا خالطتهم لا تأمن الاعتداء، وإذا مازحتهم لا تعدم الافتراء، وإن طالبتهم بحق، فانك لا تسمع الصم الدعاء)
الفكاهات
المويلحي كثير التندر والدعاية، وهو ألطف ما يكون حين يسوق الفكاهة بطريق النقد الملفوف. . . أراد أن يعيب عدم استقرار محكمة الاستئناف في مكان فقال وهو ذاهب إليها مع الباشا: (ولعلنا نجدها بإذن الله في مكانها، فقد تعودت التنقل من مكان إلى مكان، ثم اقتربنا فوجدناها)
والكلمة الأخيرة من دقيق التنكيت. . . وقد عاش المويلحي إلى أن رأى محكمة الاستئناف قد استقرت في مكان!
وأراد أن يفصح عن جرأة (المحامي الشرعي) في ذلك الزمان فأدار الحديث على مثل هذه الصورة:
- علمنا أنك رجلٌ عدلٌ عفّ، فجئناك لقضية في وقت
- أتطلبون ريعه؟ أم تريدون بيعه؟(488/5)
- سبحان الله! وهل تباع الأوقاف؟
- نعم، ويباع جبل قاف!
ثم يصير السجع نفسه فكاهة في هذا الموضع (تنحنح الشيخ وسعل، وبصق وتفل، وتسعط، ثم تمخط، واقترب منا ودنا، ثم قال لنا)
وأراد أن يصور بلاء الناس بطول الإجراءات في المحاكم فقال:
(نسأل الله أن ينقذنا مما أصابنا من حكم الدهر، وأن يعجل بانقضاء القضية قبل انقضاء العمر)
وهذه فكاهة مرة المذاق، فلعل إجراءات المحاكم المصرية أصبحت أقصر مما كانت في ذلك الزمان
المرحلة الثانية َ
وعد المويلحي في نهاية الرحلة الأولى بأنه سيقوم برحلة ثانية ليصور المجتمع في الأقطار الغربية، وقد انتظر القراء هذه الرحلة عشرين سنة، انتظروها من سنة 1907 إلى سنة 1937
فمتى قام المويلحي بالرحلة الثانية؟
حدثني الأديب إبراهيم المويلحي تلفونياَ أن هذه الرحلة كانت سنة 1889، فعارضته في التاريخ، لأن معرض باريس لسنة 1889 هو المعرض الذي أقيم فيه برج أيفل أول مرة، وفي الرحلة الثانية فقرات صريحة في أن المعرض الذي زاره المويلحي لم يكن ذلك المعرض، لأنه يتحدث عن (إيراد البرج في المعرض السابق) ولأنه يتحدث عما انتهى إليه أمر (المسيو أيفل) وقد اتهم بالسرقة والاختلاس وسجن في قضية (بناما) ولا يمكن أن يقع ذلك في سنة 1889
وبعد يومين تفضل الأديب إبراهيم المويلحي فاخبرني انه راجع ما عنده من دقائق فعرف أن الرحلة الثانية كانت في صيف سنة 1900 وأن أصولها أرسلت من باريس ونشرت في (مصباح الشرق) على فترات
وإذن يكون المويلحي قبر الرحلة الثانية سبعاَ وعشرين سنة، فما سبب ذلك؟
لعل السبب يرجع إلى أن المويلحي كان يستصغر محصول الرحلة الثانية، ولعل كان يرجو(488/6)
أن تتاح فرصة يزور فيها أوربا زيارة الباحث المدقق، ليؤلف كتاباَ في قوة كتابه الأول، ثم صنع الدهر ما صنع فصرفه عما يريد، ولم يبق إلا أن يقنع بالمحصول السابق من الرحلة الثانية، فطبعها قبل أن يموت بثلاث سنين
رحلة أمين فكري
والمؤكد عندي أن رحلة أمين باشا فكري كانت السبب في تردد المويلحي، فقد كان يحب أن يصل إلى دقائق تفوق ما احتوت عليه (الرحلة الفكرية) فما تلك الرحلة؟
الجمهور يجهل أن القاهر شهدت في سنة 1892 ظهور كتاب لم تعرف مثله اللغة العربية، وهو كتاب (السفر إلى المؤتمر) في صفحات بلغت 823 بالقطع الكبير. وفيه وصف للحيوية الصناعية في البلاد الأوربية، وصف لم يكتب مثله كاتب في الشرق الحديث. وقد كنت شرعت في كتابة بحث أصور به قيمة هذا الكتاب النفيس ثم انصرفت عنه لبعض الشؤون، ولعلي أرجع إليه بعد حين
نحن في صحبة كاتبين وصف أولها معرض باريس سنة 1888 ثم وصفه الثاني في سنة 1900، فما الفروق بين هذين الكاتبين؟
لا جدال في أن أسلوب المويلحي أروع وأرشق، ولا جدال في أن المويلحي مفطور على الحاسة الفنية؛ ولكن عند الباحث أمين فكري نزعة علمية قليلة الأمثال، فقد وصف المعرض وصفاَ هو الغاية في تعقب الأصول والفروع من حيوات العلوم والفنون
قضى الباحث أمين فكري تسعة أيام في زيارة المعرض، وهو في صحبة أبيه عبد الله باشا فكري، أحد أئمة الأدب في الجيل الماضي، ورئيس الوفد المصري إلى مؤتمر المستشرقين الذي عقد في بلاد السويد والنرويج سنة 1889
كان أمين فكري يسجل مشاهداته في كل يوم، وأي مشاهدات؟ كان يتعقب ما ترى عيناه بالبحث والفحص والتشريح ثم يسجل ما يراه بعبارات فصيحة بليغة أغناها الوضوح والتحديد عن التزويق والتنميق
إذا قال محمد المويلحي إن برج أيفل هو أرم ذات العماد، أخذ أمين فكري في سرد تاريخ البرج وتصميماته الهندسية، وانطلق فتحدث عن طبيعة الأرض القريبة من نهر السين، وطاف بشؤون علمية لا تخطر للمويلحي في بال(488/7)
والحق أن أمين باشا فكري آية من آيات النبوغ المصري، وما كان بينه وبين أبيه يشابه ما كان بين المويلحي وأبيه، فشهرة عبد الله فكري طغت على منزلة أمين فكري، كما أن شهرة إبراهيم المويلحي طغت على منزلة محمد المويلحي وأمين فكري نفسه يحدثنا في المقدمة أن أباه عبد الله باشا فكري كان ينوي كتابة هذه الرحلة، وأنه ألمع إلى ذلك في خطاب أرسله من لوسرن إلى الوزير علي باشا مبارك، ثم دهمه المرض والموت، فكان مصير الكتاب إلى ابنه أمين.
أسلوب وأسلوب
في (السفر إلى المؤتمر) صحائف من إنشاء عبد الله فكري، وهي تشهد شهادة قاطعة بأن أسلوب الأب وأسلوب الابن يختلفان بعض الاختلاف
فمتى نصل إلى مثل هذا اليقين في التميز بين أسلوب محمد المويلحي أبيه إبراهيم؟
محمد المويلحي ترك (حديث عيسى بن هشام) وإبراهيم المويلحي ترك (حديث موسى بن عصام) وهو منشور بجريدة (مصباح الشرق) فإن سمح الوقت يوماَ بالموازنة بين الحديثين فستعرف مدى الفرق بين الأسلوب.
إحدى الطرائف
من طريف ما لاحظت أن أسلوب عبد الله فكري تغلب عليه النزعة الأدبية، على حين تغلب النزعة العلمية على أسلوب ابنه أمين
ولا كذلك الحال بين المويلحي وأبيه، فالابن تغلب على أسلوبه النزعة الأدبية، أما الأب فتغلب على أسلوبه النزعة العلمية والظاهر أن الجيل الماضي في مصر يحتاج إلى دراسات، فهو الذي وضع الأساس لبناء الجيل الجديد، وكان فيما أرى على جانب من العافية، تصوره النكتة الآتية:
كان الوزير علي باشا مبارك رجلاَ من أهل الجد الرزين، ومع هذا استطاع عبد الله باشا فكري أن يصف له ملاعب أوربا في خطاب يقول فيه:
(وكم رأينا في تلك البطاح، من صباح ملاح، كل خود رداح، شاكية السلاح، من الحاظ كالصفاح، مراض صحاح، وقدود كالرماح، دامية الجراح، فاتكة في الأرواح، وليس عليها(488/8)
لدى القانون فيما جرحت جناح، وكل ما أجترحت مباح، وهن منتشرات في تلك الجهات كعقد خانه السمط فانتثرت درره، وروض ألحت عليه الريح فتبدد زهره، فهن ظباء في هذه المراتع روائع، وأقمار من هذه المطالع طوالع، وأنوار في تلك المواضع سواطع، قد ربين في مهاد الدلال رواضع، وغذتهن بلبان الجمال لا الجمال المراضع، فبرزن كالحور، في غلائل نور، أو ورد جور، في زجاج بلور، تراهن بين الأشجار، فتراهن بعض الأزهار)
أيكتب هذا الكلام إلى وزير اسمه علي مبارك لا زكي مبارك؟
كان أسلافنا في عافية، وكانوا يرون التشبيب فنا من البيان، ولم يكن من العيب أن يوضع مثل هذا الخطاب في وثائق مجلس الوزراء. فعلى رجال الجيل الماضي ألف تحية وألف سلام!
كلمة ختامية
بهذا المقال الثالث نختم القول في توجيه الطلاب إلى فهم سريرة عيسى بن هشام، فقد أفصحنا عن أهم الدقائق من تلك السريرة، ورفعنا عن المؤلف بعض الآصار التي أثقله بها معاصروه وأزحنا الستار عن حقائق كانت مجهولة عند الكثير من أبناء هذا الجيل
وأنا وأرجو من ينظر في كتاب (حديث عيسى بن هشام) أن يتذكرانه كتب في عصر كانت لأبنائه عقيدة أدبية، فما كانوا يخطون حرفاَ إلا بميزان، ولا كان الفتى منهم يتطاول إلى تسطير مقال إلا بعد أن يستوعب ما يصل إليه من أثار القدماء، ولا كان يتسامى إلى الأدب إلا من زود بمواهب تضمن له الخلود
وما ظنكم بجيل كان من أبنائه محمد عبده وسعد زغلول وتوفيق البكري واحمد تيمور وإبراهيم المويلحي ومحمود البارودي وعبد الله فكري وعلي يوسف وعبد العزيز جاويش؟
لا تنسوا أن الجيل الماضي كانت له عقيدة أدبية وعقيدة قومية. لا تنسوا أنه ترك أثاراَ تستحق الدرس والاقتداء. لا تنسوا أنه لا يليق أن نكون أقل منهم حرصاَ على التلحيق، ونحن نملك من الوسائل ما لم يكونوا يملكون
إن (حديث عيسى بن هشام) صورة من صور القلق الاجتماعي، وهو يشهد أن مؤلفه كان يتجه إلى خلق جيل جديد يسلم من أوضار الجيل العتيق إن وقعت في الكتاب سجعة لا ترضيكم فلا تبتسموا ابتسام السخرية، فهي الدليل على ابتلاء المؤلف بمحنة الفنون(488/9)
على أني أحب أن تكون لكم عيوب المويلحي، وهي عيوب رجال، وأكره أن تكون لكم محاسن أهل الغفلة، وهي محاسن أطفال
كونوا مبدعين في جميع الميادين، وكونوا أنتم أنتم، ولتكن صورة الوجه هي التي تميزكم بعد صورة الأسلوب.
زكي مبارك(488/10)
عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه
أرواح وأشباح
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
(تتمة)
ألم يتضح بعد أن كلام الشاعر في الفنان وعلاقته بالمرآة ليس جماع ملحمته، على ما قد يذهب إليه وهم واهم؟ أليس ذلك الكلام سبيلاَ إلى وصف الكفاح بين الروح والجسد بذكر حقائق بشرية عامة هي المادة التي صدر عنها خيال الشاعر؟ ألحق أن شعره تحفة من الأدب الإنساني الصادق بعينه. ويجعل بالقارئ وهو يطالع مثل هذه التحفة ألا يميل إلى الكسل كي لا يمنعه من البحث فيها عن المميزات التي تدخلها في نوعها من الأدب. فإن هو أدرك هذه المميزات رأى أن التحفة فتحت باباَ جديداَ واسعاَ في الأدب العربي بالاقتباس من أنواع الأدب الأجنبي، وعرف قدرها خصوصاَ من هذا الوجه
فقد توافرت فيها مميزات النوع المعروف عند الغربيين باسم ملحمة: شعر في الإنسانية يعبر عن وجدانيات وفكر معروفة في المأثور من أساطيرها الشرقية والغربية، وفي المعهود من طبعها وعاداتها وخلالها وعقائدها، وفي علمها وأدبها. وهو شعر رفيع صادر عن إيمان من الشاعر برأيه، ويشف عن إيمانه لهجته وبلاغته فيما قص؛ وقد مزج الحقيقة والخيال في قصصه، وبعث فيه الحركة والحياة بفنه؛ وطالت قصيدته حتى بلغت أربعمائة بيت ونيفاَ. فهي ملحمة ليست يونانية موقوفة على تمثيل شخصيات بعينها من جيل إغريقي معين، ولا مترجمة، ولا فرنسية، بل هي إنسانية مبتكرة في الأدب العربي وإذا كانت العزة القومية تغرى بأن نسر لمثل هذا التجديد فإنما وجه السرور أننا نأخذ من الأجنبي ما يلائمنا ويندمج في آدابنا وأساليبنا، كما أخذ أسلافنا وكما هو منهم وأفلح، وأنها جاءت ملحمة عربية من أدبنا في القرن الرابع عشر الهجري، ومعنى ذلك أننا ما كنا لننفر من أدب بني جنسنا، بل إننا نرجو له أن يتلخص كل التخلص من الجمود ليتصل كمال الاتصال بحركة الحياة الإنسانية الحاضرة فيعود إلى ما كان عليه من خصب في أيامه الذهبية
وهذه الملحمة أدب عربي لا يقاس على كل مقاييس الآداب الأجنبية حتى يقال، مثلا - من(488/11)
أجل بيت أو بيتين - هذا شعر رومانتيكي، ولم يكن للأدب العربي عصر رومانتيكي بمدلول هذه الكلمة الأجنبية، أو حتى يقال إن نظرة الشاعر إلى الفن والحياة في ملحمة نظرة رومانيتكية جعلت من الفنان (صدى عابراَ. . . ورحاَ مجنحة الخاطر) في حين أن نظرته إنسانية اجتماعية لا فردية، وعقلية لا وجدانية، وأن عرض هذه النظرة بشعر مزاجه الخيال والوجدانيات وبلاغة هزة الإلهام، وكان فيه ما في طبائع البشر التي وصفها من انفعالية وشهوانية
ألا أن هذه التحفة شعر يملا النفس جلاله، ويثير الفكر في موضوعه الذي تترامى آفاقه كلما حاول النظر أن يتتبعها؛ وإن صاحب التحفة لشاعر شاعر، أسلوبه ساحر، وهو قادر حتى على تشريف كلام يعد خارج شعره من السهل غير الممتنع، كالبيت الثالث من قوله:
وكنت فتى ساذجاَ لا أرى ... سوى دمية صُوِّرت من نقاء
أنيل الثرى قدمَي عابر ... يعيش بأحلامه في السماء
فأصبحت شيئاَ ككل الرجال ... وأصبحت شيئاَ ككل النساء
أليس في ثالث هذه الأبيات كل حسرة الفنان المؤلمة على روحه الخائبة، وكل لهفة على ما استحال من نظرته العفيفة إلى الجمال يوم كان فتى ساذجاَ لا يرى مكر الغريزة به لشغله عنها بخواطر وخوالجه السامية، ومثله العليا في الحياة؟ أليس ما أفعم قلبه من أسف مصوباَ كله في قوله (شيئاَ) للتحقير؟ وقد قوى التنكير ما حملت كلمته من معنى التحقير في موضعها من سياق البيت تلو البيتين البليغين الأولين، وانتقل هذا المعنى بأداة التشبيه إلى كل الرجال. ثم أليس شجوه لتدهور المرأة معه، أو تدهوره معها، مركزاَ في الشطرة الثانية من البيت؟ ألم يصبح كلامه من السهل الممتنع؟ الحق أن ما فيه من مزية شعرية، وروعة معنى، وسحر بيان، هو شيء بليغ يعلى النفس ويعلو على كل تقدير. وهو شيء ليس يستطيع إنكاره سوى الذين لا يعرفون كنه الشعر فيظنون أن الشعر هو ما تزدان به ماهيته الخافية عنهم من التشبيه الجميل، والمجاز البارع، والكناية البديعة؛ وإنما أولئك زينة الأبواب، وقد يكون لؤلؤها بهرجا، وزواقها خادعا، فتكون معارض زائفة تنقص قيمة الشعر أو لا شعر تحتها.
وهل من قول في أسلوب علي طه بعد أن كتب إليه خليل بك مطران: (جئت بالطريف من(488/12)
المعنى، في الصريح الشائق من المبنى. . . إن في مطالعة أرواح وأشباح لمتعة فكري ولذة فنية)؛ وبعد أن كتب صاحب الرسالة: (هي في الصياغة مشرقة البيان، منتقاة اللفظ. . . هزت نفسي هزاَ شديداَ، فكنت أطيل الوقوف عند كل رباعية، أديم النظر في كل بيت، أتذوق جمال صياغته برفق، وأستجلي سر بلاغته في أناة)
هزت نفسه، فأدام النظر في كل بيت ليتذوق ويستجلي. ذلك لأن اللذة التي يجدها الذوق يكشف التحليل سرها فيضاعفها في النفس
فأن الذوق ملكة مركبة من الشعور، أي الانفعال، لأن المحاسن والعيوب تؤثر فيها بالطبع؛ ومن الذكاء، لأنها تجلل تأثرها باحثة عن أسباب الاستحسان وأسباب الاستهجان، وتنظر فيها تجد من دواعي الإعجاب ودواعي الإنكار، وتوازن بينها. وأثر الانفعال، أي وقع الشيء، هو الحاكم الطبيعي أول وهلة، أما النظر فهو الحكم بعد ذلك. والمعتاد من هذا الحكم إذا اقترن عند صاحبه الانفعال السريع بالعقل الثاقب النير، ألا يجيء قضاؤه إلا مؤيداَ لقضاء الحاكم الأول. ولذلك كتب الأستاذ الزيات، بعد إدامة النظر: (إن أسلوب هذه الملحمة ليس بدعاَ من أسلوب علي طه، فإن الصفات الغالبة على أسلوبه كله، هي الوضوح والأناقة، والسهولة والسلامة)
أما بعد، فقد تبين من مزايا (أرواح وأشباح) أن إمعان النظر في هذا الصنيع - كما هو، يزيد الناظر إعجاباَ به في ذاته، وإعجابا على إعجاب بطبعته. وما أجمل ائتلاف الظرف والمظروف في مثل هذه التحفة!
فإن للمؤلفات النفيسة عند الغربيين في هذا العصر طبعات فاخرة، محلاة بصور يصنعها أبرع الفنانين؛ وهم في ذلك يتبعون عادة أسلافهم في كتبهم الخطية. وقديماَ كان هذا هو الشأن عند الشرقيين من فرس وعرب وغيرهم؛ وزين السلف الصالح مصحفنا الشريف - على جلال القران الكريم - بأجمل الخطوط والنقوش العربية، وموهوه بمختلف الألوان والمياه الفضية والذهبية، إجلالاَ للكتاب المجيد. ثم ضاع منا العلم وضاعت الفنون والأذواق؛ ثم ظهرت عندنا تلك المطبوعات القبيحة التي تعمى الأبصار. ومنذ شرعت مصر تنهض أخذنا نجود الطبع، وونحلي المطبوعات أحياناَ. وفي ذلك وقاية للنظر، وتهذيب للذوق، وتحبيب في الإتقان، وخدمة للطابع وللفنان. لكننا ما زلنا في المرحلة(488/13)
الأولى على هذا الطريق
من أجل ذلك، لا من أجل ما يعنى التلميح السخيف، لم يقنع صاحب هذه التحفة بنفاستها الأدبية، بل زين طبعتها بصور بارعة من ريشة الفنان محمد سليم شوقي، تروق في النواظر، وكأنها في البصائر عناوين فنية لمقاصد الشاعر وأغراضه في شعره.
وقد اختار لكتابه أحسن طبع بحبور مختلفة ألوانها، مؤتلفة كألوان الصور؛ بأحرف جميلة بينة في أسطر متباعدة بين حواش عريضة؛ وتجود من أصناف للكتابة وللغلاف المحلى بصورة لآخر مشاهد القصص
وليس يجمع أجمل الصفات الأدبية والمادية في وحدة محكمة البناء، متقنة التأليف، عظيمة الإشراق، فتانة الرونق، إلا روح فنان وذوق ممتاز.
محمد توحيد السلحدار(488/14)
عقيدة البعث
للأستاذ محمد عرفه
عضو جماعة كبار العلماء
لا أعلم شيئاَ أعظم بركة على البشر من عقيدة البعث، وقيام الأموات من القبور، ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته
ولا أعلم شيئاَ أعظم شؤماَ على البشر من تحطم هذه العقيدة، واعتقاد الناس أنهم لا يجزون بخير يعلمونه، ولا بشر يقترفونه
ولا أعلم زماناَ كان الناس فيه أحوج إلى اعتقاد البعث من هذا الزمان.
إن روح الشر التي تسيطر على البشر الآن، ويشكو منها القادة والمصلحون هي من ضياع هذه العقيدة
خوت القلوب من عقيدة البعث والجزاء، فقادت الناس شهواتهم، وضاعت الشكائم التي كانت تكفهم، وأصبح المرء يرى أن لا حياة له إلا هذه الحياة، وأنه إن لم يمتع نفسه بكل الشهوات خسر خسراناَ مبيناَ، فاندفع يحصل هذه الشهوات من كل سبيل. فقد الإيمان بجزاء الأعمال فاستوت عنده الحسنة والسيئة، فاندفع إلى السيئات يقترفها، وكأنما يأتي حسنات.
تنبهت غرائزه الدنيئة، وفتحت فاها فلم يكفها شيء تلقمه؛ واختفت غرائزه العلوية، وأصبحت الحدود التي تفصل بينه وبين الحيوان الأعجم دقيقة وتكاد تمحي.
أقفر المستقبل من الجنات التي أعدت له جزاء فعل الخير فلم تتحرك فيه إرادة الخير، وأقفر أيضاَ من الجحيم الذي كان ينتظره جزاء فعل الشر فلم ينزجر عن شر، فهتك الحرمات، واستباح المعاصي، وسار في هذه الحياة لا دين يردعه، ولا فضيلة تزجره.
كانت مقاييس الخير والشر عنده رضا الله وغضبه، ونفع الناس وضرهم، فأصبحت مقاييس الخير والشر إتباع شهواته وإجاعتها، ورضا ميوله وغضبها.
كان الفقير والمريض والمبتلى يجد كل منهم في هذه الدنيا سلواه لأنه يعلم أن وراء هذا الفقر في الدنيا غنى الآخرة، ووراء هذا المرض صحة، ووراء هذه البلوى عافية، فكان في وسط هذه الشدائد والآلام راضي النفس، باسم الأمل، راجي الرحمة، فأوصدوا هذه البواب في وجهه، فلا أمل، ولا رحمة، ولا رضى، ولا رجاء.(488/15)
كان الغنى يحسن إلى البائس الفقير لأنه يعلم أن ما يدفعه الآن سيأخذه أضعافاَ مضاعفة، وسيجزى بذلك النعيم المقيم، فأوصدوا باب الجزاء في وجهه، وأوصدوا بإيصاده باب الإحسان
كان يعمر قلبه الله والخير والفضيلة والعدل، ويخيفه الشيطان والشر والرذيلة والظلم، فشك في ذلك وأصبح يتساءل ما الله؟ وما الشيطان؟ ما الخير؟ وما الشر؟ وما الفضيلة والرذيلة؟ وما العدل وما الظلم؟ هذه كلها من أوهام الماضي، وخرافات الأجيال
أعلم أن الذي حول العالم إلى هذه الحال القلقة، وورطه في هذا الجحيم هو اندفاع فلاسفة القرن التاسع عشر والقرن العشرين في مقاومة الدين ونقصه - كان هؤلاء الفلاسفة يجهلون قيمة الدين في حياة الشعوب والأفراد، وكانوا يرونه يعيش على هامش الحياة، بل ربما رأوه كلا عليها، فاندفعوا يقاومونه وينقضونه حجراَ بعد حجر، ويشككون في مبادئه السامية، فضعفت قيمة الدين في النفوس بما ألقوا من شبهات وما أثاروا حوله من استهزاء، ولم يعلموا أنهم بذلك يفتحون باب المقبرة للعالم، وينقضون أخلاقه العلوية السامية.
أرجعوا إلى الناس إيمانهم إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجزاء بالأعمال ترجع إليهم عفتهم وطهارتهم وصيانتهم.
أرجعوا إلى الناس إيمانهم ترجع إليهم أمانتهم ووفاؤهم وعدالتهم.
أرجعوا إلى الناس إيمانهم يرجع إليهم أملهم الضائع، وأمانيهم المنشودة، ومستقبلهم الزاهر، وعزاؤهم على ما يلاقون من آلام الحياة.
أرجعوا إلى الناس إيمانهم ترجع إلى الأرض الرحمة، وإلى البشر العدل، ويهبط على الكون السلام.
محمد عرفه(488/16)
في فن الحرب
من الخنادق إلى حرب الحركة
للأستاذ (ذ. ص)
قال برناردشو:
(إن صنعة الحرب تنحصر في الهجوم بقسوة المستضعف على من هو أقل منك عدداَ وعدة، وفي التهرب من لقاء الند. والسر في النجاح الحربي هو أن تتحايل على الخصم: تنصب له الفخاخ وتمد له الأحابيل؛ فإذا تعثر أو كبا، انقضضت عليه بلا شفقة انقضاض الغادر. ولكن إياك إياك من مجابهته وهو منتصب على قدم الاستعداد!) كلمات لاذعة ساخرة. . . ولكنها من صلب الحقيقة. القائد الناجح هو ذلك الذي يخادع ثم يقاتل، ويراوغ ويخاتل ثم ينقص بتلك الأساليب الملتوية، والحيل الماكرة، والطرق المتعرجة المنثنية، حيث الدهاء والفطنة متآلفان، والخبث والذكاء متعاونان
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، وانتقل ذلك الفن العريق من أفقه الشاسع الفسيح، أو قل من جحيمه العميق، إلى حيز ضيق محدود: فالتجنيد الإجباري قد أعطى الدول المقدرة على تغطية كل شبر من أراضيها المتاخمة لحدود الأعداء، فأصبحت الجيوش متجابهة، ولزم عليها صراع الخصم صراع الند للند، والقريع للقريع، كما حدث في الميدان الغربي أثناء الحرب الماضية.
تضاءل مجال مناورات الاستراتيك، ولم يجد القواد فرصة للالتفاف حول الأجناب، وليس هناك أجناب، وحاروا في كيفية الإغارة على المؤخرات، دون الاضطرار إلى اختراق الواجهات، بل وكيف يكون الاختراق وقد أعطت الأسلحة الآلية التفوق المطلق لمواقع الدفاع؟
إن الحرب بأساليبها وخططها ورجالها وعدتها ترتكز على ركنين أساسيين: قوة النيران، وسرعة الحركة. وما الهجوم إلا الحركة صوب العدو، وما الدفاع إلا محاولة وقف تلك الحركة بالنيران المحكمة التصويب. وهذه الأخيرة هي التي كانت أسبق إلى التحرر من قيود الطاقة البشرية، حين تحولت إلى قوى الطبيعة تستمد منها القدرة على الفتك، فلم تعد السواعد هي التي تلوح بالرماح أو تطعن بالسيوف، بل أصبحت المفرقعات هي قوتها(488/17)
الدافعة، بل وزادت على ذلك وأدت إلى اختراع السلاح الآلي السريع الطلقات الذي طفر بمقدرة الدفاع إلى الأمام طفرات هائلة. فمنذ قرن مضى وقف ولنجتون أمام وترلو يصد هجمات نابليون العنيفة، وقد رص رجاله رصا، وتعلق مصير أوربا بمقدرته على وقف جيوش الإمبراطور، حتى يلحق به بلوخر، لحظات معدودات أطلقت خلالها الكتائب البريطانية النيران بمعدل ألفي رصاصة في الدقيقة الواحدة لكل كتيبة (أورطه)، ولو كان الزمان انتقل فجأة بولنجتون إلى عهد السلاح الآلي، لأمكنه استبدال كل كتيبة من كتائبه برجالها وبنادقها وقائدها وضباطها بثلاثة جنود خلف ثلاثة رشاشات، ليحصد نابليون حصداَ ويشتته تشتيتاَ
هذا في حين أن الهجوم ظليعتمد على الطاقتين: البشرية والحيوانية. وكانت تعبئة الجيوش تتم حقيقة بقوة البخار على خطوط الحديد، ولكنه أثناء تلك اللحظات الحاسمة التي ترفرف على الميدان خلال القتال، ظلت الحركة هي هي كما كانت أيام هنيبال: أدواتها أقدم بني الإنسان على الدوام، تعاونها ظهور الجياد في بعض الأحيان
زادت إذن قوة الدفاع أضعاف الأضعاف، فكانت النتيجة الحتمية شل كل هجوم، وتثبيت الخطوط، وتحويل الحروب من ميدان البراعة والفن، إلى التطاحن المنهك الممل، والحصر الاقتصادي الطويل
لم تعد المعركة موضع حسم النزاع ولا الجنود هي العامل الفعال، بل انتقل الزمام إلى مقدرة المدنيين على الاحتمال ومهارة ربات المنازل في الاقتصاد من مستلزمات الحياة - كان سيأتي الوقت الذي يحل فيه التدبير المنزلي محل التدريب العسكري، وتكتفي الدول بخطوط (ماجينوية) أو (سجفريدية) مجهزة بالمقاعد الوثيرة ولوحات التليفزيون، يضطجع بداخلها الجندي في دعة وتراخ، فإذا لمع مصباح من المصابيح وجه الرجل عينيه إلى شاشة مخصوصة، ثم ضغط على زر معلوم، فتنطلق من أعلى الحصن عدة طلقات، يكون فيها إسكات المهاجمين وعودة المدافعين إلى النوم الهنيء والسبات العميق؟
ذاك ما تخيلته بعض العقول العسكرية وخاصة الفرنسية منها فأقامت خط ماجينو، ولكن هناك آخرون كان في التفكير مذهب جد مختلف، فقد احتفظوا في ذاكرتهم ببعض تفاصيل الحرب الماضية، من تلك التي كان لها تأثيرات شديدة، ولو أنها لم تكن نسبياَ إلا نتائج(488/18)
محدودة لمجهود محدود، حده أول مرة قلة الأدوات وصغر المكان، وفي الأخرى تخلف الزمان عن التفتح لاستثمار عبقرية ظهرت قبل الأوان
أول هذين الحدثين استعمال الطاقة الميكانيكية في ميدان المعركة، عند ما هجم البريطانيون في نوفمبر 1917 ببضع عشرة دبابة، فانكسر الخط الألماني؛ دهشة الإنجليز أنقسم أنفسهم وعدم وجود الاحتياطي الكافي عاقاهم عن استغلال ذلك النجاح المباغت
وثانيهما تفتحت عنه عبقرية لودندرف من طرائق للهجوم جديدة - وهو من أبناء المدرسة الألمانية المتشبعة بروح الهجوم - والهجوم الناجح يتطلب المناورة والالتفاف وكما ذكرنا آنفا: لم يكن هناك أجناب، فما العمل إذن؟ أيستسلم لودندرف ويرضى بالحال؟ كلا فهذا من المحال. إنه يريد الهجوم، يريد إحراز نتيجة إيجابية بأي ثمن كان، إذن. . . فلتخلق لجيوش الأعداء أجناب!. . . يبتكر لودندرف وينفذ نظريته الجديدة: نظرية التسلل؛ وهي إرسال بعض الجنود يتسللون مواطن الضعف في خطوط الأعداء حتى إذا وجدوها تسللوا خلالها وأحدثوا بها ثغرة أو ثغرات، فيها يجري الحشد الجديد، ومنها يكون الالتفاف والتطويق والهجوم وحسم النزاع
صادف لودندرف بعض النجاح، ولكن حركات الجنود في الميدان بطيئة، فيتنبه لها الدفاع قبل الاستفحال؛ ويسارع إليها بالنيران يصلها وبالفتك الذريع يرميها، فتنبطح للتستر وتعود إلى الثبات، أو ربما تذعر وتولى، فتكون الهزيمة والفرار ويجلس القائد الألماني بعد الحرب بسنين، وفي قلبه حسرة وبقلمه رعشة، ويقرر حزيناَ كئيبا: (إن مناوراتي الأستراتيكية خذلتها نقائض التكتيك)
ولكن نظرياته لا تنسى ولا تزول، بل تنزوي حية في بعض العقول، حتى يخلق لها الجو الملائم فتعود إلى الظهور؛ وتنشر هنا وهناك بعض المؤلفات تهيئ لها الجو، إن عفواَ وأن قصداَ، أهمها (نحو الجيوش المحترفة) للجنرال ديجول عام 1934، ثم (حرب الدبابات) للجنرال إيمنزبرج النمسوي. وأخيراَ كتاب جودريان الفذ: (حذار!. . . إنها الدراعات) عام 1938
تنبهت القيادة الألمانية لمميزات الدبابات، ورأت أنها هي، وهي وحدها، الكفيلة بمضاعفة سرعة الجيوش في ميادين القتال، بل وإلى جعلها قادرة على إدماج الضرب مع الحركة،(488/19)
فمن قبل كان الجندي المهاجم يقف عن الحركة ليطلق النيران، ثم يكف عن إطلاقها إذ عاد إلى الحركة، وهذا مضيعة للوقت وأي مضيعة، وإعاقة للتقدم وأي إعاقة! وهكذا قدر للهجوم أن يعود إلى عرشه المفقود، فينقلب ثبات المدافعين إلى جمود الحائرين، ثم إلى خنوع المستسلمين.
(ذ. ص)(488/20)
مشاركة الأدب الإنجليزي
في الدراسات العربية
نقل اعن (برنارد لويس)
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
4 - القرن التاسع عشر وما بعده
لقد درسنا حتى الآن حياة رجال ذوي شخصيات أكاديمية، فلنقف قليلاَ لننظر في حياة ثلاثة من رجال الإنجليز الذين كان اهتمامهم باللغة العربية وببلاد العرب ينبع من معين أخر، والذين يختلف عملهم الذي ملأ حياتهم كلها، عن عمل أولئك الذين سبق أن درسناهم
وأول هؤلاء وأشهرهم هو (سررجارد برتون) (1821 - 1892) فبالرغم من أنه بدأ دراسته للغة العربية مبكراَ وهو في أكسفورد فانه ترك الجامعة قبل أن يتمها، وذهب إلى الهند لكي يعمل في الجيش البريطاني. وعاش هناك بضع سنين، قضى أكثرها في المناطق الإسلامية، ودرس اللغتين العربية والفارسية، واللغات الإسلامية الأخرى على أيدي مدرسين من المسلمين، وعند عودته إلى إنجلترا نشر أربعة كتب عن الهند
وفي سنة 1853 زار مصر زيارته الأولى، وقام برحلة على ظهور الجمال من القاهرة إلى السويس. وبعد سفر ملئ بالحوادث غادر ذلك الميناء قاصداَ ينبع في باخرة حجاج؛ وتغلغل في الحجاز قاصداَ زيارة المدينة ومكة، ثم عاد إلى إنجلترا عن طريق جدة ومصر. ونشر بعد عودته وصفاَ لرحلاته هذه في ثلاثة مجلدات طبعت عدة طبعات، ولا تزال تعتبر مرجعاَ عن البلاد التي وصفها. ثم أعقب ذلك عدة سنين من أسفار متعاقبة
وفي إحدى المرات قام برحلة استكشاف في المناطق المتوحشة من شرقي أفريقيا والحبشة، متنكراَ في زي تاجر عربي. وقد عاد بمعلومات ثمينة عن المناطق التي تكاد تكون مجهولة. وفيها تلا ذلك من السنين ساح في وسط وغرب أفريقيا، والأقسام المغمورة من الأمريكتين. ونراه في سنة 1855 في الفرم يخدم مع القوات البريطانية. وفي خلال المدة ما بين سنة 1869 و1871 كان في دمشق وساح في سورية ومعه زوجته و (إدوارد هنري بالمر) ونشر هو وزوجته وصفاَ لتلك البلاد، وعاد بعد سنوات إلى مصر وأشرف(488/21)
على أعمال جيولوجية كانت قائمة في مناطق من البلاد كانت في ذلك الحين أبعد أقسامها عن المدينة
وعلى هذا فقد كانت حياته كلها مغامرة وخطراَ متصلاَ، ذهب أغلبها في السفر والسياحة في أقطار الأرض المتباعدة، ومع كل ذلك فقد وجد من وقته متسعاَ ينشر فيه عدة كتب تكلمنا عن بعضها، ويضم الباقي ترجمة كاملة لكتاب (آلف ليلة وليلة) وهي ترجمة فريدة بين الترجمات الأوربية بالنظر لتمسكها المخلص بالنص الأصلي: ذلك التمسك الذي أثار فضيحة ضئيلة بين معاصريه الشديدي التزمت
ومن بين الرحالين الإنجليز المشهورين في الشرق الأوسط (ولفريد سكادن بلنت) (1840 - 1922) وقد بدأ حياته بداية دبلوماسية، ومع ذلك فقد أخذ اهتمامه يطرد وينمو بقضايا الشعوب المظلومة في العالم، وكرس أخر أيامه للمطالبة بحقوقها. وكان اهتمامه منصرفاَ بصورة خاصة إلى الهند وأيرلندة ومصر. وكان من كبار السائحين وزار أقطاراَ عديدة. فقام - بصحبة زوجته - بزيارة البلاد العربية في الشرق الأدنى وفي شمالي أفريقيا. وفي سنة 1878 زار نجداَ حيث استقبله وزوجته أمير حائل استقبالاَ حسناَ، وقدم لهما بعض الخيول المنتقاة، وقام بإبلاغهما مخفورين إلى بغداد. وقد اتصل في خلال زياراته لمصر والهند بالزعماء الوطنيين ويعرفه كل من جمال الدين الأفغاني وعرابي باشا معرفة تامة. وقد نشر عدة كتب في تأييد القضية المصرية. وفي سنة 1881 استقر في دار له قرب القاهرة حيث عاش عيشة المصريين: يرتدي الملابس المصرية ويتكلم اللغة العربية وكانت زوجته (الليدي آن بلنت) عالمة باللغة العربية بالإضافة إلى خبرتها بالفروسية والأسفار، تشتمل كتبها المطبوعة على كتاب عن العراق وآخر عن نجد، وترجمة للمعلقات نظمها زوجها بالإنكليزية شعراَ.
وهناك رحالة ثالث هو (جايس دوتي) (1843 - 1926) الذي يذكر بكتابه الخالد عن جزيرة العرب. فقد قام - بعد تحضير لمدة سنة كاملة في دمشق بدراسة متسعة للغة العربية - برحلة استكشافية في قلب بلاد العرب. وعلى عكس ما قام به من سبقه من الرحالين، فإنه كره أن يخفى قوميته ودينه، فساح في كل مكان كإنجليزي مسيحي ولم يقلل هذا الإصرار من جانبه من أخطار رحلاته. وزاد كتابه الذي نشر في إنجلترا بعد عودته في(488/22)
سنة 1878في إنماء معلوماتنا عن بلاد العرب. ويحتوي سجل أسفاره على ثروة من المعلومات عن جغرافية تلك البلاد وطبيعة أرضها، كان أغلبها غير معروف قبل ذلك. وقد أعيد طبع كتابه قبل حوالي العشرين عاماَ وكتب له (لورنس) مقدمة
ولنعد الآن إلى علماء العربية في الجامعات. فقد أظهرت السنين الأولى من القرن العشرين أن مستوى الدراسات العربية لم يكن بأية حال أقل منه في أعظم أيام القرن التاسع عشر، فقد أنشئت الدوائر العربية في الجامعات الاسكتلندية والجامعات الفرعية. وأنشأت جامعة لندن في الحرب الماضية كلية جديدة مقتصرة على العلوم الشرقية هي (معهد الدراسات الشرقية).
أما العلماء الذين سنتطرق إليهم الآن، فهم من الجدة بحيث يذكرهم الطلاب والزملاء بعطف في إنجلترا والشرق. فقد كان السرتوماس أرنولد الذي توفي في سنة 1930، أول من شغل كرسي الدراسات العربية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية في لندن. وقد تثقف في اكسفورد، وأنفق عدة سنين في الهند أستاذا للفلسفة في الكلية الإسلامية في عليكرة. واشهر مؤلفاته هو (تعاليم الإسلام): وهو وصف لامتداد العقيدة الإسلامية أكسبه في التو منزلة ملحوظة، وترجم إلى اللغتين: التركية والأوربية. وفي كتابه الآخر (الخلافة) تعقب تاريخ هذا النظام، وناقشه من وجهتي النظر الفلسفية والفقهية. ونشر بالإضافة إلى ذلك عدة دراسات قيمة عن الرسم والتصوير الإسلاميين: ذلك الموضوع الذي كرس له عدة سنين من حياته. وذهب في سنة1930 إلى القاهرة فتوفي هناك على الأثر
وهناك مستشرق آخر ذو مكانه هو (لي سترانج) الذي توفي في سنة 1934، ويمكن أن يكون القول الآتي له مفتاحاَ لآثاره: (إذا كان المطلوب جعل تاريخ الإسلام شيقاَ، وإذا كان المقصود في الحقيقة فهمه على الوجه الصحيح، فمن الواجب إعداد الجغرافيا التاريخية للعصور الوسطى إعداداَ دقيقا). وقد كرس (لي سترانج) افضل سني عمره لدراسة الأدب العربي والفارسي الخاص بالجغرافيا. وتعتبر كتبه التالية: (بغداد في عهد الخلافة العباسية) و (فلسطين تحت حكم المسلمين) و (أراضي الخلافة الشرقية) خيرة الكتب في هذه الموضوعات. ونشر أيضا عدداَ من النصوص الجغرافية، وكثيراَ من الدراسات القصيرة. ومنذ سنة 1912 قد عمى تقريباَ. غير أن نقصا خطيرا كهذه في كيانه لم يعقه عن(488/23)
الاستمرار في عمله
ومات عالم آخر في العربية مشهور في السنة التي توفي فيها (لي سترانج) هو (أ. أبيغان) تلميذ (وليم رايت) وكان أكبر همه منصباَ على الشعر العربي القديم. وقد نشر نقائض جرير والفرزدق على عهدته. والنادرة التالية تعطى فكرة عن دقته العظيمة: فقد روى زميله (ا. ج. براون) العالم المعروف بالفارسية أن بيغان زاره يوماَ، وكان شديد الحزن حتى لقد خيل له أن كارثة حاقت به، ولكن حقيقة ما كان قد وقع هو أن (بيغان) اكتشف خللاَ في أحد الأبيات في طبعته للنقائض!
ولا يتسع المجال للكلام عن كثيرين من العلماء في هذا العهد كليال محرر (المفضليات) و (لين - بول) مؤلف عدة من الكتب عن تاريخ الإسلام، وعن المسكوكات، و (امبروز) محرر عدد كبير من النصوص العربية التاريخية المهمة وكثير غيرهم. غير أن هناك عالماَ واحداَ يستحق أكثر من الذكر العارض هو (د. س. مارجليوث) الذي كان أستاذ اللغة العربية في اكسفورد عدة سنين، والذي اعتبر الشخصية الأولى بين علماء العربية من الإنجليز مدة طويلة من الزمن؛ وكان عضواَ في المجمع العلمي العربي في دمشق. بالرغم من أنه نشر عدة دراسات باللغة الإنجليزية ذات قيمة عن التاريخ الإسلامي وعن الدين الإسلامي فأنه سيذكر بالخير لطبعاته العديدة وترجماته لأمهات الأدب العربي، وربما كان خير أولئك طبعته الفائقة لمعجم الأدباء لياقوت. وقد نشر أيضاَ رسائل أبي العلاء، ومحاضرات التنوخي ومختصر ابن مسكوبة
أما أولئك الذين لا يزالون بين ظهرانينا فلن نتكلم عنهم، لأن الكلام سابق لأوانه. وأعمال علماء كنكلسون وجب وستورى وكثيرين غيرهم ممن يخرجون آثاراَ مهمة لن يبت فيها من وجهة النقد إلا الأجيال المقبلة. وفي خلال ذلك يمكن القطع بالقول واثقين أن سيرة الدراسات العربية في إنجلترا - التي سبق أن تكلمنا عن تطورها في خلال العصور السابقة - لا تزال قوية الحيوية. ولعلها تستمر في الازدهار
عبد الوهاب الآمين(488/24)
مرسلات مع الريح
ارسطوقراطية الوضاعة
للأستاذ إسماعيل مظهر
قال أرسطوقراطية الرومي: تكليف النفس ما ليس من طبعها، دخول على الناس بخدعة ما ينبغي المرء أن يسكن إليها. وإرسال النفس على سجيتها تقرير لواقع الطبع ومسايرة لحقيقة الأشياء. فاختر لنفسك أمراَ: فأما أن تعايش الناس صورة مزورة على الطبيعة، وإما أن تعايشهم صورة حقيقة لما بثت الطبيعة في تضاعيفك من عناصرها. فأذا اخترت الأولى فأنت منافق. وإذا اخترت الثانية فأنت صريح النسب إلى الفضيلة.
قرأت هذه الكلمات. أقرنيها رجل أمي لم يفتح كتاباَ غير كتاب الدنيا؛ ولا عرف صحيفة إلا صحيفة الأيام. رمته الدنيا بالفقر. والفقر، كما يقول الإنجليز، إذا نقر على الباب قفز الحب من النافذة. ورمته مع الفقر بالبغضاء: يحملها له أهله وأبناؤه وذوو قرباه. ومع البغضاء رمته بالحقد. الحقد الذي يأكل صدره على كل من جادت عليه الدنيا بشيء من نعائمها رزأه أحد أقاربه الأغنياء في شيء من ماله القليل، أخذه وأنكره عليه. فراح يستنصر آخر منهم حمت نفسه بمرضين: كراهية البشر، وتكلف العظمة، ومعهما أنتحل الأرسطوقراطية؛ ولكنها أرسطوقراطية الوضاعة. وكان وقوعه على هذا العتل حلقة في سلسلة مصائبه
هو إنسان إذا طرق بابه إنسان امتقع وجهه، وابيضت خرطومته من النكد والهم؛ فجلس إليه يعلو صدره ثم يهبط كأنه كير حداد. وتكلف الأدب تكلفاَ ينم عن سوء أدبه؛ وتكلف الكلام، فتحس وهو يتكلم كأنما صدره مرجل يغلي، والكلمات تهدار ما في ذلك المرجل الثائر. قد يلتفت إليك إذا هو أراد أن يبالغ في إيلامك، وقد ينأى عنك بجانبه إذا هو أراد ملاطفتك. ذلك بأنه إذا التفت إليك فكي يريك الحقد مجسماَ في ملامحه، والكراهية مرسومة في محياة. وإذا نأى عنك فكي يخفى عنك هذه المعاني المرتسمة في وجهه. فكأنه بذلك يمن ويشفق بك. وقد يبدؤك الكلام؛ فإذا كان هو البادئ فطامتك عظمى، ومصيبتك سوادء، ويومك أنكد الأيام، وساعتك أنحس الساعات، وبرهتك القيامة، نصب ميزاتها وبدأ الحساب
هيه. . . كيف عرفت بيتي؟ تكلم. . .
ويحدجك بنظرة، تتمنى لو أن الأرض تغور بك، أو يفتح لك فوهة من فوهات جهنم تلقفك،(488/25)
قبل أن تستقر معاني تلك النظرة في نفسك. فأن كل معنى من معانيها رمح يستقر في قلبك فينزفه، وفأس تنزل على عنقك فتفصله عن جسدك.
قد يجود عليك حرج الموقف بكلمة، ولكن الغالب أن تغص فلا تتكلم. فإما أن تبقى ساكنا والعرق يتصبب من جبينك، وأما أن تتحفز للقيام فراراَ من سوء ما أنت فيه. فإذا ارتج عليك وثبت في مكانك، انفتحت شفتاه العريضتان عن ابتسامة تترجم لك عن قوله: أكره البشر يا أبن (آدم)، فإليك بغضي) أما إذا ساعدك الحظ وحملتك رجلاك فقمت، فإن يدك معصورة في يده، وذراعك مهتزة كأنها القصبة المنخورة، ليشعرك أنه انتصر وآذى الإنسانية وانتقم منها في ذاتك، وفتك بأبناء (آدم) ومثل بهم في شخصك، ولكنه انتصار أشبه بانتصار الخراب على الفقر، كما يقول سير ولتر سكوت. غير أنه هنا خراب النفس، يستقوى ويستلئم، منهزاَ له فرصاَ من نكد الدنيا وسألته: ثم ماذا يا شيخ محمود؟ قال: لاشيء، إلا أن هذا الإنسان لدنو مكانته في الأولى ورفعته في الثانية، أصيب بمرضين هما ما ذكرت: إنسان نشأ في الحضيض، درج على التراب أول ما درج، ولبس الأسمال أول ما لبس، وعاشر السفهاء والذؤبان أول ما عاشر، ونام عنه القدر، فلف ودار، ثم تسلق حائط المجد، فأصبح شيئاَ ما في دنيا مجهولة، أشبه شيء بالبقعة الخراب في المصور الجغرافي، فحقد على البشر لأنه نشا من أدناهم مكاناَ وأرذلهم موضعا، ثم أراد أن يعمى على سوء منشئه، فتكلف أشياء ليست من طبعه، فطغى على الناس كبراَ والناس - يا أخي - لا يعاملون أمثاله بالحكمة النبوية الكريمة: (التكبر على أهلا الكبر صدقة)
واطرق الشيخ محمود هنيهة، ثم نظر إلي بعينيه الواسعتين وسأل: أليس الذي وضع مبدأ الأرستقراطية هو أرسطوقراطيس الرومي؟ قلت: كلا إنك واهم، وليس من الروم من هذا اسمه، وإنما هو مبدأ اعتنقه بعض مقاديم اللصوص في الأزمان القديمة، وكان منهم قتلة وقطاع طرق وقراصنة، ثم قلدهم فيه لصوص آخرون أشد منهم غباء، وأقل إقداماَ، فانحدر إلينا بعض المقلدين، ولكنهم بيننا كالأحياء البائدة التي حفظت الطبيعة هياكلها في طبقات الأرض، وليس لنا منها إلا الصورة؛ أما الحقيقة فقد انحدرت في جوف الزمان
فأطرق الشيخ محمود إطراقه ثانية يتأمل كلامي، وحبات مسبحته تتساقط، فتحدث ذلك النقر المنتظم الذي يمثل تتابع فكراته وتأملاته، ثم ما لبث أن فاضت عيناه مرسلتين دموعا(488/26)
تترامى على يديه، كأنها الندى البارد على وريقات الخريف
إسماعيل مظهر(488/27)
43 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي أدورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق
يشتهر المصريون بفضيلة الحب البنوي. وقد سبق أن ذكرت الاحترام الظاهر الذي يؤديه الولد إلى والديه. ويظهر المصريون أيضاَ احتراماَ زائداَ للمسنين وبخاصة المشهورين بالتقي والعلم. ويعتبر حب المصرين لوطنهم وعلى الأخص مسكنهم صفة بارزة أخرى في طباعهم. ويخشى المصريون على العموم هجر مسقط رأسهم. وقد سمعت الكثيرين يقررون السفر إلى الخارج بغية كسب عظيم ولكن عزمهم يفتر عند ما يقترب موعد السفر. وقد خخف أخيرا من حدة هذا الشعور ما يعانيه البعض من شدة الظلم. ولا شك أن هذا الشعور نشأ إلى درجة عظيمة من جهل الناس لحالة البلاد الأجنبية وسكانها. وقد سمعت البعض يدلل على حب المصريين العجيب لمسقط رأسهم بأنه يندر أن ترضى امرأة أو فتاة، أو يسمح والدها، بالاقتران بمن لا يعد بالبقاء في مدينتها أو بلدتها. ولكني أظن أن الأحجام عن ترك المواطن في هذه الحالة ينتج من خوف المرأة أن تفتقر إلى حماية أهلها. ويتعلق البدو بصحراواتهم ويحتقرون الحضريين والفلاحين ولكن الكثيرين منهم يميلون إلى الاستقرار على شواطئ النيل الخصبة أيضاَ. ومع أن المصريين من نسل البدو إلى حد كبير فهم لا يشابهونهم في حب الصحراء وأن شابهوهم في حب الوطن. وتزود الرحلة إلى الصحراء من يقوم بها من المصريين بقصص مطنبة في المتاعب والمجازفات والعجائب التي يعرفون بروايتها إلى مواطنيهم ذوي الخبرة القليلة
يعم الكسل جميع طبقات المصريين ما عدا الذين يضطرون إلى كسب حياتهم بالأشغال اليدوية الشاقة. وهذا الكسل نتيجة المناخ وخصوبة الأرض. ويبذل العامل بالآلات أيضاَ بالرغم من شدة طمعه في الربح يومين في عمل يستطيع بسهولة إنجازه في يوم، ويهمل اكثر الأعمال ربحاَ ليصرف وقته في التدخين. غير أن البواب والسائس الذي يجري أمام(488/28)
جواد سيده والنوتية الذين يستخدمون في جر المراكب صاعدين في النهر وقت سكون الجو واشتداد حرارته يقاسون، مثل الكثير من الفعلة الآخرين، تعبا شديداَ.
يعرف المصريون أيضاَ بصلابة الرأي إلى حد الإفراط. وقد ذكرت في فصل سابق أن المصريين اشتهروا منذ عصر الرومان، بامتناعهم عن دفع الضرائب حتى يضربوا ضرباَ موجعاَ. وبأنهم كثيراَ ما يفتخرون بمقدار الجلدات التي ينالونها قبل أن يتخلوا عن نقودهم. وهم لا يرون غرابة في مثل هذا التصرف. وقد حكي لي مرة فلاحاَ فرض عليه الحاكم ما قيمته خمسة شلنات تقريباَ ففضل أن يقاسى الجلد على أن يدفع هذا المبلغ الزهيد، وقرر أنه لا يملكه. فأمره الحاكم بالانصراف وقبل أن ينصرف لطمه على وجهه فسقطت من فمه قطعة ذهبية بقدر المبلغ المطلوب تماماَ، فكان الضرب مع قسوته عجز عن حمله عن الدفع. وتبدو هذه الحال غريبة في طباع المصريين ولكن يسهل تبريرها بأن المصريين يعلمون تماماَ أنه كلما دفعوا عن طيب خاطر طمع الحاكم في أموالهم. على أن المصريين بوجه آخر يمتازون بشدة العناد وصعوبة المقادة بالرغم من امتثالهم الشديد في طباعهم ومهنهم. ويندر أن يحمل المرء الصانع المصري على أن يصنع شيئاَ حسب الطلب تماماَ. فلا بد أن يفضل رأيه على رأي مستخدمه، ويصعب أبداَ أن ينجز عمله في الميعاد المضروب. ولا يعوز فلاحي مصر، مع خضوعهم الشديد لحكامهم، الشجاعة عند ما ينهضون لخصومة بينهم. وهم يبرعون في الجندية ولا شك أن المصريين مثل شعوب الأقاليم الحارة يفوقون الشعوب الشمالية في الاستسلام للشهوات. على أن هذا الإفراط لا ينسب إلى المناخ فقط، ولكن ينسب على الأخص إلى نظام تعدد الزوجات وسهولة الطلاق كلما اشتهى الرجل زوجه جديدة، وإلى عادة التسري. ويقال أيضاَ كما أعتقد حقا أن المصريين، فيما يختص ذلك، يسبقون الشعوب المجاورة التي تماثلهم في الدين والنظم الدينية، وان بلدهم لا يزال يستحق تسمية (دار الفاسقين) التي أطلقها القرآن على مصر القديمة طبقاَ لرأي خير المفسرين، وقد أشاع المماليك الفاحشة في مصر فاصبح الفسق هنا أكثر انتشاراَ منه في البلدان الشرقية، ولكنه على حد القول قل كثيراَ في السنوات الأخيرة
يستبيح المصريين من الجنسين وفي كل طبقة، البذاءة المفرطة في الحديث، حتى أعف النساء وأوقرهن عدا القليل منهن يستعملن الكلام الغليظ، ولكن دون بذاءة. وكثيراَ ما ينطق(488/29)
المثقفون عبارات فاحشة لا تلائم غير أحط المواخير. ويذكر ارق النساء في حضرة الرجال أشياء وأحاديث. وقد تعف العاهرات بلادنا عن ذكرها دون أن يدركن مخالفة ذلك للآداب توصف نساء مصر بأنهن، في أهوائهن، أفسد النساء اللاتي ينتمين إلى أمة متحضرة. ويخلع مواطنيهن من الرجال هذه الصفة عليهن بسخاء حتى في أحاديثهم مع الأجانب. ولا شك أن في المصريات كثيرات يشذذن عن ذلك. ويسرني أن أسوق هنا تعليقاَ لصديقي الشيخ محمد عياد الطنطاوي على عبارة في ألف ليلة وليلة، قال: (يعد الكثيرون الزواج مرة ثانية من الأعمال الشائنة ويسود هذا لرأى مدن الريف وقراه. ويمتاز أخوالي بهذا، حتى أن المرأة عندهم إذا توفي زوجها أو طلقها في شبابها تترمل ما بقيت فلا تتزوج مرة أخرى أبداَ. ولكني أخشى انه ينبغي التسليم، نظراَ إلى غالبية المصريات بأنهن جد فاجرات. وقد اشتط أكثرهن كما يقال في استعمال الحرية. ولا يعتبر أغلبهن مصونات إلا إذا أغلقت عليهن الدار. وقل منهن من يخضعن لهذا القصر. ومن المعتقد أن المصريات يملكن شيئاَ من الدهاء في تدبير الحيل التي يعجز الزوج عن تجنبها مهما كانت فطنته وحرسه، وانه قلما تخيب لذلك حيلهم مهما عظم الخطر الظاهر لما يباشرنه. وقد يكون الزوج نفسه أحياناَ وسيلة لإشباع ميول زوجه الإجرامية بدون علمه. وتعرض لنا بعض قصص ألف ليلة وليلة في مكائد النساء صوراَ صادقة عن حوادث لا يندر وقوعها في عاصمة مصر الحديثة. ويرى كثيرون في القاهرة أن جميع النساء تقريباَ على استعداد أن يدبرون الدسائس متى استطعن ذلك بدون خطر، وأن الكثيرات يباشرن ذلك فعلا. ويؤلمني أن يكون الرأي السابق صحيحاَ، وأكاد أكون مقتنعاَ أن الحكم الأخير شديد القسوة، إذ يبدو من التقاليد السائدة المتعلقة بالمرأة أنه لا بد مكذوب. ويصعب على من لا يعرف العادات والطباع الشرقية معرفة كافية أن يدرك مشتقة الاختلاط بالمرأة في هذا البلد. فلا يصعب على المرأة من الطبقة الوسطى أو العليا إدخال عشيقها في مسكنها فحسب، بل يستحيل عليها تقريباَ أن تلقى رجلا ذا حريم على انفراد في منزله الخاص، أو تدخل منزل رجل أعزب دون أن تثير ملاحظات الجيران وتدخلهم المباشر. وإذا لم يكن بد من التسليم بأقدم الكثيرات من المصريات على المكائد مع وجود مثل هذه المخاطر، فقد يكون صحيحاَ أن الصعوبات التي تعترضهن هي العائق الرئيسي لكثير من المكائد. أما عند نساء الطبقة(488/30)
السفلى، فالمكائد أكثر وقوعاَ وأسهل إنجاز.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(488/31)
البريد الأدبي
حول حديث (حديث عيسى بن هشام)
طالعت في العدد (486) من مجلة (الرسالة) الغراء ما دبجه يراع الدكتور زكي مبارك عن (حديث عيسى بن هشام) لمنشئه المرحوم عمي محمد بك المويلحي. وأني أعقب اليوم على مقال الدكتور بدافع الرغبة الصادقة في لفت نظره إلى بعض ملحوظات رأيت من واجبي أن أدلي بها خدمة للحقيقة وللتاريخ
يقول الأستاذ: إن عيسى بن هشام ينسب بالباطل أو بالحق إلى أبيه إبراهيم، تاركاَ القارئ بين الشك واليقين. والأدباء الذين تذوقوا أدب المويلحي الأب والمويلحي الابن يعرفون أن لكل منهما ميزات خاصة في الكتابة. ثم إن المرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، وأصحاب المقطم، والمرحوم شوقي بك، وحافظ بك إبراهيم، والشيخ محمد عبده، والبارودي، والشنقيطي، كانوا معاصرين له، فلو أن (عيسى) كان لغير (محمد) لأذاعوا به
والبرهان القاطع بأن عيسى هو من إنشاء محمد لا من إنشاء أبيه ما احتوته الديباجة التالية في العدد 109 من (مصباح الشرق)؛ وقد توقف المرحوم جدي عن متابعة رسالة (مرآة العالم) أو (موسى ابن عصام)، تاركاَ الكلام لعيسى بن هشام قال: (شغل حديث عيسى بن هشام، عن متابعة ما يحكيه موسى بن عصام، فمرت الأشهر والأيام، حتى انقضت مدة العام، وسافر إلى المعرض، وعاد موسى إلى ما انقطع من كلامه، وعدنا إلى ما يدور بينه وبين شيخه وإمامه)
هذا، وقد أشار المرحوم جدي في العدد (107) من (المصباح) عن سفر عمي إلى باريس بالعبارة التالية:
(يسافر محمد المويلحي إلى معرض باريس في يوم الأحد الآتي (10 يونيو سنة 1900)؛ وسينشر (المصباح) ما يوافيه به عيسى بن هشام من غرائب المعرض وعجائبه، بعد الوقوف على إجماله وتفصيله، كما يعلم ذلك من رسالته في صدر الجريدة اليوم: (يعنى حديث عيسى بن هشام)
وجاء في العدد (116) من (المصباح): (هذه الرسالة الأولى من حديث عيسى بن هشام عن زيارة معرض باريس، بعث بها إلينا السيد محمد المويلحي بعد رسالته التي نشرها في(488/32)
أحد أعدادنا الماضية عن زيارة سمو الجناب العالي الخديوي لجلالة ملكة الإنجليز في بلادها)
كذلك نأخذ على الدكتور مبارك حكمه على محمد بك من أول جلسة جلسها معه عند المرحوم أحمد باشا شفيق، لأن الرجال أسرار، وقيمة الرجل لا تعرف إلا بعد طول المعاشرة.
ولم يعتزل محمد بك الكتابة كلية بعد موت أبيه كما قال الدكتور، وإنما اعتزلها حيناَ من الدهر حين اشتغل مديراَ لإدارة الأوقاف العمومية بعد مديرها أحمد شفيق باشا. ومع كل فقد كان ينتشر في الصحف اليومية المقالات الضافيةفي المناسبات الهامة كما ذكر بنفسه ذلك في المؤيد بتاريخ 9 فبراير سنة 1908 تحت عنوان: (كلمة مفروضة)، وكان الكلام يدور حول منع نصب تمثال (دانتي الإيطالي) في مدينة الإسكندرية. ولا يفوتني ذكر مقالته (صوت من العزلة) التي افتتح بها الأهرام صحيفته في30 ديسمبر سنة 1921 وفيها يذكر محمد بك سبب عزلته ويرحب باتحاد الأحزاب في مصر وما في الاتحاد من عزة للشرق
وفي سنة 1925 طلب منه صاحب جزيرة مشهورة في مصر أن يكتب مقالين في الشهر مختاراَ له لونا معيناَ من السياسة ويأخذ عليهما ثمانين جنيهاَ؛ فأجابه المويلحي الصغير بكلمته المشهورة: (قلم المويلحي لا يباع)
أما سور بابل فلا مبالغة فيه إذا علم الأستاذ مبارك أن المهندس كان يعيش في القرن الثاني قبل المسيح هو أول من جمع في مؤلف واحد وصف عجائب الدنيا السبع بكل ما أوتي من دقة تكون أهلاَ لمهندس. ولم يقصد محمد بك بقوله إن السور يتسع للإحاطة بسبع مدائن كمدينة باريس (في سنة 1900 طبعاً) إلا على الطريقة الحسابية التي سبقه بها في مثل هذه العمليات الحسابية المهندس الفرنسي (لينان باشا) حيث قال: إن حجارة الأهرام تكفي لبناء قناطر محمد علي.
إبراهيم المويلحي
اللغة والتعريب
تحركني كلمة الأستاذ زكريا إبراهيم إلى الرد لأنها تتناول مسألتين جوهرتين: أولاهما(488/33)
مسألة الخطأ والصواب بمناسبة (عثرت به) و (عثرت عليه) وثانيتهما مسألة تعريب الأسماء الأعجمية.
فأما عن (عثرت به) فقد قلت إن المعنى الذي أريد التعبير عنه هو العثور بالشيء أي ملاقاته اتفاقاَ، ولم أرد (العثور عليه) أي الاطلاع الذي يدل على علم ومعرفة وبحث وجهبدة لا أدعيها.
والذي يدهشني هو تفضل هؤلاء العلماء بلفت نظري إلى مختار الصحاح ودوائر المعارف وتراكيب اللغة الإنجليزية وهذه كلها مراجع ما كنت أحلم بوجودها.
وآفة هذه المهازل هي قول بيكون: (العلم الصغير شيء خطر) وهذا طبعاَ لا علاقة له بالعلماء الكبار أمثال الكرملي وزكريا إبراهيم؛ وهما بلا ريب يعلمان أن لغات العالم كلها مجازاة ميتة وأن تلك المجازاة رغم موتها تحتفظ دائماَ بشيء من معناها الحقيقي.
فأنا عندما أقول (عثرت بالشيء) مفسراَ بقولي (وقعت عليه) يكون معنى ذلك أنني اطلعت عليه ولكن مصادقة كما يعثر حافر الجواد بأحد الكنوز. وبذلك أعبر عن المعنى الذي في قلبي تعبيراَ لا تحققه (علي) بما تفيده من إلى غاية وسعي لبلوغها.
ثم إن مسألة الصحة والخطأ في اللغات أصبحت مسألة تافهة لا يحرص عليها في غير مجال التعليم المدرسي. وأما العلم فقد تقدم وأصبحت المناهج تاريخية فترى العلماء اليوم لا يقررون الخطأ والصواب في اللغات وإنما يستقرون الاستعمالات عند كبار الكتاب ويفسرون ما يطرأ على اللغة من تطور. ومن الغريب أن نظل نحن متردين في طرق التفكير التي تخلص منها العالم المتحضر منذ أكثر من قرن. فاللغة العامية ذاتها ليست مجموعة أخطاء، وأنما هي تطور عادي مألوف في كل اللغات. واللغة الفرنسية والإيطالية كذلك ليستا أخطاء اللغة اللاتينية.
وإذن فكلام الكرملي وكلام زكريا إبراهيم حذلقة تافهة ومماحكات لا علاقة لها بمناهج البحث في اللغات التي لم تعد تقريرية في شيء.
وأما عنصر الثبات في اللغة وهو ما يطالب به الأستاذ زكريا حتى لا يصير الأمر فوضى، فذلك مالا أستطيع أنا أن أدخله في اللغة بل ولا المجمع اللغوي نفسه. عنصر الثبات هو استعمال كبار الكتاب لمفردات اللغة وتراكيبها، ثم قراءة مؤلفات كبار الكتاب في المدارس(488/34)
والجامعات لتشيع تلك الاستعمالات. وكل محاولة في غير هذه السبيل لن تجدي شيئاَ.
اللغة كائن حي لا يقنن له وأكبر دليل على صحة ما أقول هو أن المجمع اللغوي لم يستطيع شيئاَ في هذا الباب ولن يستطيع. وأنا أشكر الأستاذ زكريا إبراهيم إذ نبهني ونبه زملائي أساتذة الجامعة إلى وجوب ترجمة أسماء الأعلام كما ينطق بها أهلها. فهذا لا ريب مبدأ سليم ولكن على شرط أن نعرف كيف كان ينطق بها أولئك الأهل. ونحن لسوء الحظ لا نعرف ذلك دائماَ. ولقد ثار الأستاذ زكريا على أساتذة الجامعة وثار الأب الكرملي لأننا نعرف أحياناَ عن الإنجليزية والفرنسية مع أنني أستطيع أن أؤكد لهذين العالمين أننا نعرف مبادئ اللغات الأندو أوربية وبخاصة اللاتينية واليونانية، ولكننا مع ذلك نؤثر أن نترجم عن اللغات الحديثة لأننا لسنا على ثقة من نطق هاتين اللغتين، وهما لغتان ميتتان، والعلماء مختلفون في نطقهما الآن أشد الاختلاف. وأنا وإن كنت لا أستطيع أن أدخل هنا في التفاصيل إلا أنني أضرب لذلك مثلاَ باسم الخطيب الروماني الشهير فهذا الاسم ينطقه اليوم علماء الإنسانيات الإيطاليون (شيشرو) كأنه لفظ من ألفاظ اللغة الإيطالية الحديثة. والفرنسيون كذلك ينطقونه (شيشرو) والإنجليز (كيكرو) فأيها أصح؟
نعم لقد ماتت في السنين الأخيرة دعوة كان من أكبر زعمائهم العالم الفرنسي إلى محاولة النطق نطقاَ تاريخياَ أي نطقاَ يقارب النطق القديم يستنتجونه من بعض الكتابات الصوتية القديمة ومن العناصر الموسيقية في الشعر ومن نتائج علم الأصوات التاريخي وتطور نطق الحروف المختلفة كما يستعينون بآراء العالم إرزم ومحاولاته في هذه السبيل، أقول إن ذلك كله قد كان، ولكن هذه المحاولات لم تنجح. ولا يزال علماء كل بلد في أوربا ينطقون اللاتينية واليونانية كأنهما من لغاتهم. وإذن فنحن حتى في هاتين اللغتين مضطرون إلى أن نتخير نطقاَ نأخذه عن علماء أحد هذه البلاد. وذلك إلى أن يستقر النطق أسس ثابتة مقبولة من الجميع
ويزيد الأمر تعقيداَ أن مسألة تعريب الأسماء لا يمكن أن يكون وفقاَ لقرارا ت يصدرها المجمع اللغوي أو الأستاذان الكرملي وزكريا إبراهيم، وإنما الأمر أمر استعمال: استعمال كبار الكتاب الذين لهم من الشهرة ما يجعل تعريبهم يذيع بين الناس
خذ لذلك مثلاَ ما استقر عليه العرف في فرنسا منذ القرن السابع عشر تجد أن أسماء(488/35)
الأعلام الشهيرة التي تتداولها الألسن قد أعطيت صيغة فرنسية، ولذلك يقولون فرجيل وهومير وسوفوكل واوربيد وإشهل. وأما الأسماء التي لا ترد إلا على ألسنة الخواص من العلماء فقد تركت لها صيغتها اللاتينية واليونانية، ولذلك يقولون: كورينلوس نبوس وإبيكوس وبيوس ومورسكوس ومن إليهم
وإذن فالأمر أعقد مما ظن الأستاذ زكريا إبراهيم. وأساتذة الجامعة يؤلمهم أن يبلبلوا أذهان القراء. ولكن ما الحيلة والمسائل معقدة؟ أليس من الأجدى علينا وعليكم أن تتركونا نتحسس السبل ونجاهد حتى نصل إلى تعريب سهل قريب مستساغ نرجو معه أن تنتشر الألفاظ التي نفضلها فتنحل المشاكل ويرتفع اللبس؟ ثم أليس من الخير أن نعرب عن إحدى اللغات المنتشرة في بلادنا بدلاً من التعريب عن لغات قديمة لا يعدو من يعرفها من مواطنينا الذين نكتب لهم عدد الأصابع؟
محمد مندور
سبب مجهول من أسباب اختلاف القراءات
المعروف أن أقوى سبب لاختلاف القراءات يرجع إلى اختلاف اللهجات العربية، فجاء الأذن بقراءة القرآن على الفصيح من تلك اللهجات، ولم تتعين قراءته باللغة التي نزل بها وهي لغة قريش، تيسراَ على غيرها من القبائل العربية
ولكن هناك سبباَ آخر لم يذكروه في أسباب اختلاف القراءات، مع أن من هذه القراءات ما يظهر غاية الظهور أنه راجع إليه، ولا يظهر أنه راجع إلى اختلاف اللهجات، وذلك نحو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) ففي بعض القراءات (فتثبتوا) بدل (فتبينوا) ولاشك أن مثل هذا في القراءات وهو كثير لا يظهر إرجاعه إلى اختلاف اللهجات، وأنما يظهر إرجاعه إلى ما كانت عليه الكتابة العربية قبل اختراع النقط والشكل فيها، لأن مثل هذا يقف القارئ فيه متحيراَ، فلا بد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته، وقد يكون بعيداَ عنه فيتعذر رجوعه إليه، فقضت رأفة الله أن يقرأ القرآن بما يحتمله من ذلك تيسراَ على المسلمين في عصر الوحي، وثقة بملكة العربي في ذلك الوقت. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يعين أمثال تلك المواضع، أو كانت ترد إليه فيقر ما(488/36)
يراه منها. ومما يظهر حمله على ذلك أيضاَ قوله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه) فقد قرأ الحسن وحماد الرواية (وعدها أباه) بالباء، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم، فإذا كنت أصبت في حملها على ذلك السبب فهو من فضل الله، وقد يكون الصواب في غير ما رأيت من ذلك، والعصمة لله وحده
عبد المتعال الصعيدي
(الرسالة): أشرنا إلى هذا الرأي بإيجاز في كتابنا (تاريخ
الأدب العربي)
الشاعر المظلوم
الأستاذ الدكتور زكي مبارك
عددت على شاعرنا (إسماعيل صبري باشا) أن اشترك في (عام الكف) مع أنه مدح الشيخ أحمد الزين!
كذلك جاء مقالك الأخير بالرسالة الذي تحلل به المويلحي في فقرة جعلت عنوانها (الأديب المضطهد) فأوحيت إلي بهذا العنوان
ومدح الشاعر صبري باشا للشيخ أحمد الزين له قصة رواها على ملأ من كرام العلماء والأدباء إمامٌ من أئمة الأدب والعلم والفضل هو شيخناَ مصطفى عبد الرازق باشا يجب إيرادها إنصافاَ للشاعر الغائب:
كان ذلك منذ عامين، وبيت عبد الرازق بعابدين على عهدك به في ليلة من ليا لي رمضان؛ ولم يكن الشيخ احمد الزين وطائفة من أصدقائه غائبين عن هذه الجلسة، وجرى ذكر الشعر والشعراء وصلتهم بالنحو واللغة فقال الدكتور هيكل باشا: لعل الشاعر إسماعيل صبري باشا لم يكن واسع المحصول اللغوي سعة تحميه من التورط أحياناَ في بعض الأخطاء. فالتقت الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا يدفع غيبة صديقه صبري باشا فقال له هيكل باشا: لقد أسمعني بعضهم شعراَ له جاء فيه كلمة (خلاق) بمعنى خلق وهي ليست كذلك فيما يقول الشيوخ!(488/37)
فقال عبد الرازق باشا - والشيخ احمد الزين حاضر - إنني أنكرت ذلك أيضا، فلما لقيت صبري باشا لم أكتمها عنه فكان جوابه: إن الشيخ الزين رجل مثابر علي الود، فلما هم بطبع ديوانه سألني أبياتاَ فلم تسعفني القريحة. ولما تكرر منه الطلب لم يسعني إلا أن أقول له - وهو شاعر أيضا - اصنع أبياتا لنفسك على لساني. فلما أهدي إلي ديوانه قرأتها كما قرأتموها، وصبرت على ما لم تصبروا عليه
وأقول: إنك يا دكتور - وأنت ذواقة - حين تقرأ الأبيات لا ريب تنكر نسبتها إلى سائر شعر صبري باشا، أو تتردد طويلاَ جداَ على الأقل. وهاهي ذي ليشترك معك ومعي قراء الرسالة في الحكم:
إذا كنت يا زين زين الأدب ... فأن كتابك زين الكتب
قلائد طوقت جيد البيا ... ن بهن وحليت جيد العرب
خلائق تزري بنفع الرياض ... إذا ضحكت من بكاء السحب
وما المرء إلا (خلاق) كريم ... وليس بما قد حوى من نشب
(المجمع اللغوي)
علي فوده(488/38)
العدد 489 - بتاريخ: 16 - 11 - 1942(/)
الجامعة العالمية
للأستاذ عباس محمود العقاد
تستعد الأمم المقاتلة للحرب في المدرسة كما تستعد لها في مصانع الذخيرة والسلاح، فليس من النافع منع التسليح أو قصره على مقدار مرسوم إذا لم يكن مقترناً بمنع الأسلحة الفكرية والعدد الخلقية التي تتحفز أبداً للحرب ولا تستريح طويلا إلى عهد السلام
هكذا يقول الفيلسوف الرياضي الكبير (برتراند رسل) في مجلة (الفورتنتلي) من مقال عن الجامعة العالمية أو عن التعليم العالمي الذي يمحو العصبية ويهيئ العقول للسلم والمعاونة بين الأقوام والأجناس والأوطان
وبرتراند رسل كما يعرفه قراؤه رجل من أقدم دعاة السلم بين كبار الحكماء والعلماء، وكانت دعوته إلى السلم في إبان الحرب الماضية سبباً لحبسه وتغريمه وانقطاعه عن التعليم
فهو الآن يتأهب لدعوة جديدة من طريق جديد، وتلك هي طريق التربية العلمية التي ينبغي أن تعم جميع الطلاب في جميع الأوطان، وأن يكون لها غرضان مقترنان ولا تكتفي بغرض واحد ينحصر في العلم والمعرفة (الأكاديمية) كما يسميها. فإنما الغرض الأكبر أن يكون التعليم على نهج يؤدي إلى تعميم السلم وحسم بواعث القتال، خلافاً للنهج الذي سار عليه حتى الآن في معظم البلدان
قال: (من الواجب أن تكون للجامعة المنشودة وثيقة تشتمل على حقوق مرعية تقضي فيما يتعلق بالأساتذة والطلاب على السواء أن تفتح أبوابها لجميع الأجناس وجميع الأديان وجميع الآراء السياسية؛ ما عدا تلك التي ترفض المعاونة العالمية، إذ هي لن تفلح في دعوتها العالمية إن أخفقت في تحقيق هذه الشريطة، ولكل رجل أو امرأة على استعداد علمي أن يدخلها فلا يحول بينه وبين دخولها لونه الأصفر أو لونه الأسمر أو لونه الأسود، ولا إنه من بني إسرائيل أو من البوذيين أو المسلمين أو الهندوكيين، بل لا يجوز فوق هذا أن يحول بينه وبين دخولها إنه لا يؤمن ببعض العقائد والمقررات كائناً ما كان)
وعنده أن ما جرى عليه العرف حتى اليوم يناقض هذه المساواة العالمية حتى في تدوين تواريخ العلوم. فالقاعدة التي تعرف عند الإنجليز باسم قاعدة بويل تسمى قاعدة مارييت بين(489/1)
الفرنسيين، ويذكر الكتاب الإنجليز أحياناً أن بريستلي هو كاشف الأوكسجين، وفي ذلك غبن للعالم لافوازييه. ويميل الرياضيون الألمان إلى اعتبار جاوس مؤسساً للهندسة (غير الإقليدسية)، وقد أسسها في الواقع لاباتشفسكي الروسي. وطالما اختلفت الكتب الإنجليزية والأمريكية في الكلام على اختراع زورق البخار، إلى اختلافات أخرى من هذا القبيل أشهرها الاختلاف بين نيوتن وليبنتز على اختراع حساب التفاضل والتكامل مما عاق جورج الأول عن اصطحاب ليبنتز عند قدومه إلى البلاد الإنجليزية وما جر إليه ذلك من تعطيل الرياضيات في هذه البلاد قرناً من الزمان أو يزيد
ويقول الفيلسوف: (إن الأمم الكبرى جميعاً على تفاوت في الدرجة تزيف التاريخ وتتعرض له بالتمويه والتعديل. فحركة العصيان الهندية يتعلمها الأطفال الإنجليز من وجهة نظر واحدة، والواجب في الجامعة العالمية أن تعطي وجهة النظر الهندية من الرجاحة ما تعطاه وجهة النظر الإنجليزية. وكذلك يجب عند شرح تاريخ الحرب الإسبانية الأمريكية أن تلاحظ الحيدة المستقلة بين أسبانيا والولايات المتحدة. وهذه وما شابهها نقائص لا تسلم منها أمة واحدة في العالم بأسره ولكنها أسوأ ما تكون في ألمانيا وإيطاليا واليابان)
إلى أن يقول: (إن هيجل في فلسفته التاريخية يرى أن (الروح) الذي يسيطر على عظائم الحوادث يتجسم تارة في هذه الأمة وتارة في تلك، وأن كبار الرجال الذين يختارهم ذلك الروح المسيطر على الحوادث لبلوغ غايته هم أناس مرفوعون فوق قوانين الأخلاق والآداب على مثال الإسكندر وقيصر. وقد اختار الروح أمة الجرمان لتحقيق ما يريد في عصرنا هذا)
وبعد أن شرح الفيلسوف الرياضي الكبير نظام الإدارة ونظام التعليم وتحضير الكتب للدراسة في الجامعة العالمية قال: (إن الدعوات الوطنية إنما نجحت في الأغلب الأعم لإحساسهم أنها تجري مع المصالح الوطنية في مجرى واحد. فإذا أريد للنظرة العالمية الجديدة أن تفلح وتؤتي ثمرها فمن الضروري أن تتمثل للناس موافقة للمصالح الوطنية على ذلك المنوال)
وهنا تتلاقى آراء كثيرة قد تتشعب وتتدابر في غير هذا الملتقى الواضح المأمون من جميع نواحيه(489/2)
فليس المقصود بالتعليم العالمي أن يجور على المصالح الوطنية، وإنما المقصود به أن يبطل النزعات التي تجور على مصلحة العالم بأسره أو مصالح الأمم الأخرى في تعاونها على السلم والحضارة.
فالوطنية والعالمية لا تتناقضان، لأن خدمة العالم بأسره لن تضير وطناً من الأوطان، ولاسيما الأوطان التي لا تملك القوة ولا تتذرع بها أن ملكتها إلى الطغيان على الآخرين.
وقد رأينا بعض المفكرين الداعين إلى التآلف بين الشعوب على أساس العالمية أو أساس الحكومات المشتركة ينزعون إلى التشكيك في عناصر الوطنية لأنها شيء يصعب التعريف به وفهم معناه، فإذا قيل مثلاً إنها قائمة على الوحدة الجغرافية فالفاصل بين الأرض الفرنسية والأرض الجرمانية فاصل اتفاقي من معظم نواحيه، وإذا قيل إنها الوحدة الجنسية فليس في الأرض أمة تخلو من مزيج الأجناس، وإذا قيل إنها الوحدة اللغوية فليس باللازم أن تقترن المشاركة في الوطن الواحد والمشاركة في اللغة الواحدة، وإذا قيل إنها وحدة الدين فقد تجتمع في الأرض الواحدة عدة أديان وعدة مذاهب من دين واحد، وإذا قيل إنها وحدة الحكومة فقد يخضع الناس لحكومة واحدة مكرهين مستعبدين، وإذا قيل إنها التراث التاريخي فهذا ولاشك من أقوى عناصر القومية ولكنه لا يخلقها ولا يمنع التفاهم بين أصحاب التراث المختلف على حكم واحد أو صلة حكومية متكافلة.
إلى آخر ما يقول أولئك المفكرون الداعون إلى التآلف العالمي وهم مخطئون فيما نراه
وقد ناقشنا هذا الرأي في موقف كموقفنا الحاضر منذ سنين فقلنا: (إن كلاماً كهذا يمكن أن يساق لإضعاف المزايا الإنسانية وتقريب الفوارق بين الإنسان والحيوان، ثم هو لا يفضي إلى نتيجة ولا يدل على معنى مستقيم. . . قد تقول مثلاً ما هي معالم الإنسانية التي تفرق بين الإنسان والحيوان؟ أهي اللغة؟ كلا! فإن أناساً كثيرين يولدون بكما لا ينطقون ولا يعقلون. أهي أعضاء الأجسام؟ كلا! فإنه ما من عضو في إنسان إلا يقابله عضو مثله أو يقوم مقامه في حيوان: أهي انتصاب القامة؟ كلا! فإن بعض الأحياء تمشي على قدمين وبعض الناس يزحفون على الأربع. أهي عناصر الدم؟ كلا! فإن التحليل قد يكشف فرقاً بين دم الرجل ودم المرأة وبين دم الشيخ ودم الصبي وكلهم من بني الإنسان؛ وزد على هذا أن الدم ليس بمزية الإنسانية العليا، فإن أناساً في ذروة العظمة قد يرجح عليهم في نقاوة(489/3)
الدم وصحة تركيبه أناس في حضيض الذل والجهالة. أهي قابلية التناسل؟ كلا! فإن الخيل والحمير تتلاقح وهي من نوعين، والبغال لا تتناسل وهي من نوع واحد، وقد يعيش الرجل والمرأة معاً عيشة الأزواج ولا ينسلان)
فصعوبة التعريف والتفريق لا تنفي وجود الأشياء التي نريد أن نعرفها ونفرق بينها، والوطنية شيء موجود لاشك في وجوده وإن تعددت عناصره حتى تعذر الجمع بينها في وطن واحد
ومن الخطأ أن نناقض بين العالمية لأنهما في الواقع غير متناقضين، وإذا بنيت الدعوة إلى التعاون بين شعوب العالم على أن هذا التعاون يغض من الغيرة الوطنية فمصير تلك الدعوة معروف من الآن، وهو الإخفاق السريع
وإنما الصواب ما قال الفيلسوف الرياضي الكبير حيث رأى أن ضمان النجاح للدعوة العالمية مكفول بالتوفيق بينها وبين مصالح كل أمة تلبي تلك الدعوة وتشترك في المعونة
وهذا الذي نرجو أن يكون وأن يتوافى إليه شعور الأقوياء والضعفاء معاً بعد الحرب الحاضرة
ويبدو لنا أن تعدد الأقوياء سيلجئهم قسراً إلى التعاون بينهم على رعاية حقوق الضعفاء فينفتح من ثم باب التعاون بين هؤلاء وهؤلاء
فليس في الوسع أن يطغي قوي واحد على أنداده الأقوياء، وليس في الوسع أن يتفقوا على قسط متساو من المصلحة المشتركة يمنع التنافس ويحسم النزاع. فلا نغلو بالأمل إذا قلنا إن الطريق الأيسر لهم والأجدى عليهم هو الاتفاق على التعاون بينهم وبين الضعفاء، والتفاهم على معاملة وسطى فيها رعاية للحق ورعاية للمصلحة الجامعة ورعاية لمصلحة الأمم أمة أمة على حدة. فقلما يرجى فلاح لمطلب من مطالب بني الإنسان يبنى على الحق وتنسى فيه المصلحة، أو يبنى على المصلحة وينسى فيه الحق، وآية الرجاء في مصير الدعوة العالمية أن الحاسة الخلقية وأن الوجهة النفعية فيها تتقاربان وتتساندان
عباس محمود العقاد(489/4)
محي الدين النووي
والسلطان بيبرس
للدكتور عبد الوهاب عزام
كان شيخ الإسلام أبو زكريا يحيى النووي من أعلام العلماء في القرن السابع الهجري، ذا مكانة عالية بين علماء الفقه والحديث. وكان له في التقوى والورع والزهد سيرة محمودة، وفي نصرة الحق وتأييده مواقف مشهودة. ولا بأس أن نثبت هنا بعض سجعات ابن السبكي: (كان يحيى رحمه الله سيداً وحصورا، وليثا على نفسه هصورا، وزاهداً لم يبال بخراب الدنيا إذا صير ربع دينه معمورا. له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة. هذا مع التفنن في أصناف العلوم: متون أحاديث، وأسماء رجال، ولغة وصرفا، إلى غير ذلك).
ولست أبغي هنا ترجمة النواوي، ولكن أذكر واقعة كانت بينه وبين الظاهر بيبرس، وهي واحدة لها أمثال في سيرة الشيخ، ولها نظائر كثيرة في تاريخ الإسلام:
كان بيبرس ملكاً مجاهداً أبلى في قتال التتار والصليبيين بلاء عظيما، وقد انتظمت شجاعته وعزيمته مع شجاعة أسلافه وأخلافه من الأيوبيين والمماليك، فكانت سراً من الجهاد والجلاد، وفي البلاد المصرية مصائب الغزاة، وخيب دونها آمال الصليبيين مائتي سنة. وكذلك كانت همته وإقدامه هو وجنوده في مصر والشام، كالطود ارتد عنه سيل التتار بعد أن جرف البلاد الإسلامية من سمرقند وخوارزم إلى حلب ودمشق؛ فعلموا جنود هولاكو في (موقعة عين جالوت) وما بعدها أن مصر أبعد من أن يطمعوا فيها، وأن الشام أعز من أن يسيطروا عليه
وكان بيبرس في جهاده المستمر، وحربه المتمادية، يتوسل إلى المال يستعين به على جهاده، وكان الشيخ النووي يكتب إليه ناصحاً كلما رأى في عمل السلطان شدة، أو جوراً، أو مخالفة للشرع، لا يني في هذا ولا يداهن، ولا تأخذه رغبة ولا رهبة
كتب مرة إلى السلطان هو وبعض العلماء، يطلبون رفع بعض المكوس، ويوصون بالعدل والشفقة، فكان في الجواب إنكار وتوبيخ وتهديد، فكتب الشيخ النووي يجادل فيما تضمنه جواب السلطان ويقول:(489/5)
(وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، وتهديد طائفة العلماء فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين في الناصحين نصيحة للسلطان ولهم ولا علم لهم به؟ وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟ وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان، فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري. وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى. (إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار). (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد). وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيثما كنا وألا نخاف في الله لومة لائم)
ولما ذهب السلطان إلى الشام لمحاربة التتار أراد أن يأخذ مالاً من الرعية يستظهر به على العدو واستفتى العلماء فأفتوه. ثم سأل عن الشيخ النووي أن يشارك العلماء في الفتوى. فلما حضر الشيخ قال السلطان: اكتب خطك مع الفقهاء. فامتنع. قال السلطان: لماذا لا تكتب؟ قال الشيخ: (أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال. ثم من الله عليك وجعلك ملكا. وسمعت أن عندك ألف مملوك كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية لكل جارية حق من الحلي. فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت ممالكك بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي أفتيتك بأخذ المال من الرعية)
قال الظاهر للشيخ: أخرج من بلدي (يعني دمشق)
قال الشيخ: السمع والطاعة. وخرج إلى نوى
فأنكر الفقهاء أن يُخرج مثل النووي من المدينة، وسألوا السلطان أن يرجعه. فأمر السلطان بإرجاعه. فأبى الشيخ وقال: لا أدخلها والظاهر بها
لست ادري أكان السلطان محقا في فرض ما فرض من المال أم لا. ولست لذلك أعرف أكان الشيخ محقا في مجابهة السلطان بما جابهه به، ولكن لا ريب عندي أن السلطان أحسن حين التمس فتوى العلماء قبل أن يجمع المال، وأن الشيخ أدى واجبه حين صارح السلطان بما يعتقد، ولم يأخذه في الحق خوف ولا طمع، وأن محي الدين النووي قد فقه أحسن الفقه ما على العلماء من النصيحة لأولى الأمر، والجهر بالحق في غير مداهنة ولا خوف. رحم الله النووي؛ لقد كان من علماء المسلمين. ولله تاريخ المسلمين كم فيه من أمثال محي(489/6)
الدين!
عبد الوهاب عزام(489/7)
الهدف الأدبي
للدكتور زكي مبارك
(في الاحتفال الذي أقيم بدار الجمعية الجغرافية لافتتاح الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية ألقيت ثلاث خطب في تحديد أهداف الموسم: خطبة الدكتور منصور بك فهمي في الهدف الروحي، وخطبة الدكتور حسن إبراهيم في الهدف الاجتماعي، وخطبة الدكتور زكي مبارك في الهدف الأدبي. وحال مرض الدكتور عبد الوهاب عزام دون خطبته في الهدف العلمي)
هذه فاتحة الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية، والجامعة أول مظهر من إرادة الأمة في العصر الحديث، فقد أنشأتها الأمة قبل أن تفكر فيها الحكومة، والأمم لا تسبق الحكومات إلا حين تكتمل فيها الحيوية الروحية والعقلية. وقد كان من أثر ذلك أن صارت الجامعة منذ إنشائها إلى اليوم مثابة لحرية الفكر والرأي. ولعلكم تذكرون إنها لم تقبل الانضمام إلى الحكومة إلا بعد إعلان الاستقلال، وبعد أن صارت الفكرة القومية هي التي توجه مذاهب التعليم والتثقيف إلى خير البلاد
كان الموسم الثقافي لخريجي الجامعة حلماً يعتاد خاطري من حين إلى حين، وكان الرأي عندي أن ينهض به الخريجون المستقلون، وأعني بهم من لا يتصلون بالجامعة عن طريق التدريس، لأن الجامعة أعدت هؤلاء لتثقيف الطلبة، وأعفتهم من تثقيف الجماهير، ولأن لبث الثقافة الجامعية خارج أروقة الكليات أساليب يجيدها الجامعيون المستقلون بأقوى مما يجيدها الجامعيون الرسميون. . . وهل ننسى أن للتدريس قيوداً تحصر المدرس في آفاق لا تتسع في كل وقت لدرس ما يتصل بالمجتمع من معضلات لا يلتفت إليها الطلبة إلا بعد أن تكتوي أيديهم بنيران المجتمع؟
إن الجامعي المدرس يكون في أحسن أحواله يوم يصبح على رأي الفراء حين قال: سأموت وفي نفسي شيء من حتى!
ومعنى ذلك أن أفضل حياة للجامعي المدرس هي الحياة التي تفرض عليه أن يكون إماماً في تشريح الجزئيات، عساه يصل بتلاميذه إلى تصور الكليات، في تواضع محبوب ينسيه وجوده الذاتي، ويحبب إليه الرضا بحظ الجندي المجهول في تثقيف العقول(489/8)
الجامعي المدرس لا يعاب عليه أن يجهل المجتمع الذي يعيش فيه، ما دام يعرف الدقائق من العلم الذي انقطع إليه. وقد رأيت من أساتذة السوربون من يجهلون زمانهم بعض الجهل، أو كل الجهل، لأنهم تخصصوا في دراسات سبقت زمانهم بأجيال.
أما الجامعي المفكر فله أسلوب غير هذا الأسلوب. الجامعي المفكر يتخذ من الدراسات الجامعية موازين يزن بها ما في المجتمع من أحلام وأوهام، وحقائق وأباطيل. الجامعي المفكر يرى جميع العلوم وسائل لا غايات، فالغاية الصحيحة عند الجامعي المفكر هي أن ينقل المجتمع من حال إلى أحوال في مذاهب الفكر والمعاش. الغاية عنده هي الإبداع لا التحصيل، الغاية عنده أن تكون آراؤه موضوعات الدرس في الجامعات، لا أن يكون شارحاً لآراء الناس. ومن اجل هذا اختلف المحصول الذي يصدر عن الجامعي المفكر والمحصول الذي يصدر عن الجامعي المدرس، فالأول يبدع والثاني يشرح، وهما في منزلة سواء في نظر العدل، لأن الغرض الأصيل هو خدمة الحق بأي أسلوب وفي أي موضوع.
ومن آفات الحياة في مصر أن يتوهم أهلها أن الفكرة الجامعية لا تتمثل إلا في الجامعي المدرس، وكان ذلك لأن مصر طال عهدها باحترام الوظيفة الرسمية، فلم تعد تدرك أي قيمة للوظيفة الروحية
وقد انساق الجامعيون هذا المساق، فلم نسمع أن فيهم من يحمل راية الجامعة، وهو غير مدرس بالجامعة، فكانت النتيجة أن يحبس صوت الجامعة في حدائق الأورمان، وأن تشعر الحواضر والأقاليم بأن الجامعة صورة من صنع الخيال
والحق أن الجامعة أرادت لأبنائها ما لم يريدوا لأنفسهم، هي أرادت أن يكونوا مفكرين، وهم أرادوا أن يكونوا موظفين، وبين الإرادتين فرق بعيد
ومن أجل هذه الأسباب ضاعت محاولاتي في خلق الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية، وهو موسم دعوت إليه منذ أعوام ولم أجد من يستجيب، إلى أن لاحت فرصة لا يجود بها الزمان، إلا في أندر الأحيان
فما تلك الفرصة الذهبية؟
رأيت جماعة من خريجي الجامعة يتشكون على صفحات الجرائد من قلة الرواتب،(489/9)
فأسرعت إلى نهيهم عن هذا التشكي، وأفهمتهم أن للجامعة رسالة غير رسالة القوت، وأن مبدأنا أن نجوع لتشبع الأمة، وأن نتعب لتستريح. . . وهل تعرفنا الجامعة إن صرنا طلاب أموال، لا عشاق آمال؟
وسمع خريجو الجامعة صوتاً لم يسمعوه من قبل، فدعوني لأشرح لهم رأيي، فقلت: إني لا أثق إلا بمن يحلفون على المصحف، فقالوا: إن اليمين لا تطلب إلا من المرتابين، وسترى كيف نصدق بدون يمين
كان ذلك في يوم جمعة من شهر رمضان، فهل تكون الأقدار أرادت أن توقظ المعاني الروحية في أنفس الجامعيين، بلمحة كريمة من لمحات شهر الصيام عن الآثام؟
أؤكد لكم أني لم أكن أنتظر أن يتقبل أولئك الشبان هذا الصوت بمثل ذلك القبول، فقد ابتلتهم الأيام بعصر منحرف عن المعاني. وهل فينا من ينكر أن الموظف الذي يزيد مرتبه عن زميله خمسة قروش يعتقد إنه أرقى من ذلك الزميل؟
البحث عن الدرجات المالية ليس من عيوب الفكرة الجامعية، ولكنه من عيوب الحياة الديوانية. وسيذكر أبناء الجامعة واجبهم، سيذكرون أن إنشاء الجامعة كان في الأصل غضبة على سياسة التعليم للتوظيف، وصاحب الوظيف وصيف، كما يقول أهل تونس الخضراء
ما الذي يوجب أن يبحث الشاب المتخرج في كلية التجارة أو كلية الزراعة عن وظيفة كتابية؟
إن هذه الظاهرة تشهد بأن بعض الكليات تعجز من رياضة أبنائها على الإيمان بما تخصصوا فيه، إيماناً يجعلهم أقطاباً فيما تخصصوا فيه، ويفرض عليهم أن يعينوا الدولة على تحقيق ما تريد من كرائم الأغراض
إني أتمنى أن يقترب اليوم الذي تفرض فيه الدولة على خريجي الجامعة ضرائب فكرية، اليوم الذي يقال فيه إن خريجي الجامعة يملكون ثروات لا يملكها أصحاب الملايين، وإن من الواجب أن تفرض عليهم الضرائب، لتستطيع الدولة أن تقيم أود المنكوبين بالزهد في كرائم المعاني
يجب أن يكون من أغراض الجامعيين أن يطمئنوا الدولة على أن أملها فيهم لم يضع ولن(489/10)
يضيع
إن هذا اليوم قريب قريب، وسنخلقه خلقاً إن تأبى وامتنع، وسيعلم الذين آمنوا بجهادنا فمنحونا ألقاب الجامعة أن إيمانهم كان الإيمان، وأنهم سلموا راية الجامعة إلى جنود هم الرجال
لقد استضعفنا حيناً أو أحايين، والله قد يمن على الذين استضعفوا فيجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين
ولكن الله على كرمه لا يجود إلا بميزان، ليعلم عباده معنى النظام ومعنى العدل؛ فإن جاز في وهمنا أن الألقاب الجامعية تغني عن الجهاد الموصول في سبيل المجد، فقد ضللنا سواء السبيل
هل تفهمون معنى كلمة (ليسانس) وهي أول درجة من الدرجات الجامعية؟
الليسانس كلمة فرنسية معناها الحرية، وحرية الجسم لا تتم إلا بسلامة جميع الأعضاء، وكذلك حرية العقل وحرية الروح، فلا حرية لعقل تعوزه المواهب، ولا حرية لروح يعوزه الصفاء.
وأشرح كلمة الليسانس من ثانية فأقول:
الغرض من هذه الكلمة هو إعطاء الطالب راية الحرية، الحرية من جميع ما قرأ وما سمع، ليكون من المبدعين
فأين حَمَلة الليسانس من هذا الغرض؟
إن أعفتهم الدولة من تحقيق هذا الغرض فلن يعفيهم الوطن، ولن يرحمهم الله الذي علم آدم في الفردوس ليكون رسوله إلى ممالك الأرض
إن للجامعة المصرية رسالة ندور حولها من وقت إلى وقت، وإن كان لها في أنفسنا صورة لا يتمثلها أبرع فنان، ولو استوحى نجوم السماء
وتلك الصورة هي سبب شقائي، وأنا الجامعي المخضرم الذي ظفر بألقاب الجامعة القديمة والجامعة الجديدة، فماذا صنعت في دنياي؟
إن قصائدي ومؤلفاتي ومقالاتي لا توحي إلى نفسي شيئاً من الازدهاء، لأني أفهم جيداً أن للنبوغ والعبقرية غاية إنسانية لا غاية محلية، فأنا لا أقنع بأن يكون الجامعي هو المصري(489/11)
الأول، وإنما أسمو إلى أن يكون الإنسان الأول، فاستعدوا للنضال في ميدان تكونون فيه أوائل الأبطال
لا قيمة للأرقام في حياة الوجود، ولن يكون من أسباب ازدهاء الجامعيين أنهم بلغوا بضع ألوف، فالشمس واحدة والقمر واحد، وهما عندنا أنفع من النجوم التي تفوق الإحصاء
وأنا من أجل هذا المعنى لا أقيم وزناً للتضامن الجامعي، لأن التضامن سناد الضعفاء، أعاذني الله وأعاذكم من وباء الضعف. وهل تتجمع في الأرض أمة كما تتجمع أمة النمل؟
الجامعي الحق هو الذي يسير في كل ارض وفي عقله فكرة الجامعة، كما يسير المسلم في كل ارض وفي روحه هدى المصحف
كونوا آحادا، ولا تكونوا جماعات، فالوحدانية هي العقيدة التي ارتفع بها الشرق، وبها ارتفع الغرب، إن كنتم تذكرون طلائع النهضات في التاريخ
إن الأدب الإسلامي أوصاكم بالتخلق بأخلاق الله، وأعظم صفات الله هي صفة الوحدانية. ولن يكون للتضامن قيمة إلا أن كان أرقاماً صحاحاً تضاف إلى أرقام صحاح، وأعيذكم أن تكونوا أصفاراً تزيد قيمة الرقم الصحيح
الصفر وحده عدم، ثم تكون له قيمة إن تضامن مع الرقم الموجود، فماذا تريدون بأنفسكم، يا أبناء الجامعة في هذا الجيل؟
أنا أحب لكم ما أحب لنفسي، وأنا أكره أن يكون لأي مخلوق عليّ سلطان، فتحرروا من بوارق الدنيا كما تحررت، ليسبغ الله عليكم نعمة الأدب الرفيع
لا تنشروا بعد اليوم على صفحات الجرائد شكايتكم من قلة الرواتب، فإن سطراً تكتبونه صادقين هو الرزق النبيل. وذكاء المرء محسوب عليه، كما قال الأسلاف
العقيدة الادبية والعلمية هي الأبوة الكريمة للرجل الحصيف، فلا تعرضوا مواهبكم لليتم الدميم. . . وفي الناس أيتام آباؤهم أحياء!
يجب أن يكون للجامعة في كل ميدان جنود. يجب أن يكون إليها الرأي في جميع المعضلات الأدبية والفلسفية والتشريعية والهندسية والطبية والعلمية
ويجب أن يكون الجوع أشرف قوت يقتات به الجامعيون الأصلاء
أترونني أسرف في الأماني؟(489/12)
إن قلتم هذا القول فإني أجيب بأن ليس في الخير إسراف
لقد كانت بلادنا أول مشرق للعلوم والآداب والفنون، وكانت وثباتها العلمية والأدبية والفنية موكولة إلى رجال لا يقيمون وزناً للأقوات، فكيف نيأس وتأخرنا المادي هو الشاهد على صدق بنوتنا لأولئك الآباء؟
أما بعد فماذا أريد أن أقول؟
لم أقل شيئاً، لأني قلت أشياء، وبعض الإيجاز أبلغ من الإطناب
الهدف الأدبي لهذا الموسم هو أن نخلق للقاهرة شواغل جدية، بعد أن طال عهدها باستصغار قيمة الوقت، وبعد أن كان غذاؤها لا يزيد عن اجترار القيل والقال
الهدف الأدبي لهذا الموسم هو أن ننطق بعض الكليات التي لا تنطق!
الهدف الأدبي لهذا الموسم أن ننقل القاهريين من الاختصام في التوافه، إلى الاختصام في الحقائق
باسم الله نفتتح هذا الموسم، ولن يتخلى الله عن بناء كان اسمه أول ما سطر على حجر الأساس (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
زكي مبارك(489/13)
في الغاب
للأستاذ عبد الحليم عباس
قلت لصاحبي، ونحن نعتسف الغاب، نطامن من رأسينا لنتقي أذرع الشجر المتشابكة والممتدة في غير استواء، ونراوغ في السير مخافة أن نصطدم في فرع شائك، أو تزل بنا القدم في هذه الأرض الوعثاء. يشبه السير في الغاب، السير في الحياة. أعني، لابد من المراوغة. فعقب وهو ينحى فرع شجرة، ولابد من أن يطامن المرء من رأسه - كما أفعل الآن - لينجو من الصدمة. . .
- حسن، فنحن في هذه الغاب، نمثل قصة الأحياء، أعني أن كل حي يطامن من رأسه - في حال من الحالات - ويراوغ في مشيته، في شوطه المقدور، في دروب الحياة، كما نفعل الآن، حذوك النعل بالنعل، هذا إن أراد أن يستقيم معه الأمر. وإن ركبه الغرور فمشى رافع الرأس، مستقيم الخطوة، فلابد من صدمة يبين أثرها في وجهه، أو في جسده أو. . . يخر صريعاً إن كانت الصدمة قوية بالغة. . . ولكن قل لي هاهنا الشجر والحجر يصدم السائر، وفي الحياة. ماذا؟
- إرادة الأحياء العنيدة الضاربة في النفس، كجذور هذه الشجرة، المستحكمة في باطن الأرض - وراح يهز شجرة سنديان استحكمت ساقها، ونفض من فعل الزمن، ويتطلع فيّ، فعل المفكر المتألم
- إرادة الأحياء لفظة شاملة، وفي الشمول غموض وإبهام. ولكن قل لي: نستطيع أن نجتث هذه الأشجار، فيصبح السير فيها - الغاب - بخطوات مستقيمة وخدود مصعرة، وقلوب أمنت أن يفاجئها من بين ملتف الشجر، وخفي الأحجار حيوان مؤذ مفترس، فكيف نجعل الدرب في الحياة كهذه؟ أتنفي منها إرادة الأحياء؟ ومعنى هذا أن ننفي منها الأحياء. وقد قال بهذا كثير من المفكرين، ولكن قولتهم هذه لم تتحقق في الواقع، لأن الحياة أقدر على المحافظة على ذاتها من أن تذهب وتمحوها كلمة من يائس
- فماذا تمحو من الحياة؟
- شيئاً واحداً ليصبح السير فيها كالغاب بعد أن تجتث جذور أشجارها
فزم ما بين عينيه، وقال: أمحو منها القوة، فيصبح الإنسان آمناً، والأمن هو الحياة. . .(489/14)
وتابع قوله: ولكن من القوة ما هو جميل، وللخلق والإنشاء. . . أريد القوة الظالمة. . .
- اسمع يا صاحبي. أقوى ما في الغاب الأسد، وليس هو شر ما فيها، يأتي الفريسة، فيدلها على نفسه، بفضل قوته المرعدة فتتقيه، وقد تنجو. ومن الضعف ما هو ظالم، أنسيت النفاق؟ وما قولك في الكذب؟ أليس ضعفاً؟ وما نلقى منه شر البلاء
فأطرق صاحبي، وفي إطراقه قفز من بين يديه (ابن آوى) فجفل من المفاجأة، ولما تحققه يستن في عدوه، صاح: لقد وجدتها! أمحو منها هذا؟ جنس الثعالب؛ الثعلبة، بربك ألا تراني مصيبا؟. . .
- أتمنى أن أراك مصيباً اليوم، ولكن لو محوتها لبقيت الغاب بعدها غاباً، تطامن لها رأسك، وتراوغ في مشيتك، وتقف عند حنية لتجمع نفسك، وتلم قوتك من حيوان متوثب، أو وحش غادر، كشأنك في الحياة؛ فالثعلب جنس من أجناس. وثعالب الأحياء كل خستها أنها تمشي إلى مطلبها بين مظاهر الجبن والتدليس، وهي تلقى جزاء خستها هذه. أنها تخشى افتضاح أمرها، وانكشاف مهارتها الحقيرة. وإن أحقر منها وأحقر، جنس الأفاعي: تطل برؤوسها وجلة، ثم تنساب ناعمة، لا يسمع لها حفيف، إلى الضحية الساهية اللاهية، ثم تنهشها لغير ما فائدة، إلا حب الأذى ولذة الإجرام. . . أرأيت الحية؟ أنتبه. إنها أخطر ما في الغاب
- وهل هي أخطر ما في الحياة؟ أو رأيتها أنت؟
- لقد رايتها كادت تنهشني؛ لولا أني فطنت لها، فركلتها فعادت تتغذى من التراب. ومن العجب أنها تضع على عينها دوماً منظاراً، ولها صوت موسيقي ناعم جذاب. وهكذا ترى انك كلما محوت جنساً نبتت لك أجناس، وكلما أردت أن تقضي على نحيزة نجمت لك نحائز ثم. . .؟
- لم يبق شيء عندي، أراك معنثاً اليوم. هات وخلني أنا السائل، وستراني لا أقل عنك إعناتاً. الهدم أسهل من البناء
- هكذا تقول، وليس هو عند الحق كذلك، ليس الهدم بأسهل من البناء
- كيف؟ سنتكلم في هذا مرة أخرى. والآن. أليس كل ما في الغاب يطلب أن يعيش وهو يصطنع لهذا مطالبه الخاصة: ثعلبة، مراوغة، قوة، إلى آخر هذه المسميات. . . وكذلك(489/15)
الشأن في الحياة والأحياء. . . ما رأيك لو جعلنا العيش ميسوراً لكل طالب. . . ألا تمحي المنازعات وتذوب الشرور، ويمشي الإنسان ثابت القدم، مرفوع الرأس. كل ما أطلبه أن تمحى أنا، وتحل محلها نحن. ليتم كل شيء
- ولكن تبقى الغاب بعد هذا غاباً، وحيوان الغاب من طبعه الافتراس. إنه يعقل. أرأيت ثعلباً يفترس ثعلباً؟
- لا. . . وهذه نقطة الاختلاف عن بني الإنسان. فالناس جنس والغاب أجناس، هذه هي الطبيعة، ولكن (أنا) جعلت كل واحد جنساً متميزاً بذاته، منفصلاً عن بقية جنسه. فكل (أنا) لابد من أن يطامن من رأسه ويزحف على بطنه حذرا من (أنا) الثانية والثالثة. أما (نحن) فلا نمشي إلا مرفوعي الرؤوس. أمح قليلاً من (أنا) غير آسف. لو كان الغاب ملكاً لفصيلة واحدة، أكان يمشي أبناؤها وجلين مروعين، كما يمشي البشر في درب الحياة. . . أينا أعقل؟ إن جماع الرذائل في هذا الزائد في (أنا) عن حاجة المرء في الحياة. . .
- أو يكون ذلك؟
- سيكون في يوم ما، إنها الضرورة، أن الإنسانية لتعيش مروعة من الذل والخراب والجوع. وإنك لتعرف أن القلق حالة طارئة وأن الشيء الطبيعي هو حالة الاستقرار. وإلى أن يجيء هذا خلنا نضحك من زرادشت، ونردد قولته، ولكن على غير قصده وهواه. . . أهذه هي الحياة؟
هاتها إذن مرة ثانية وثالثة.
وأخيراً يا صاح هانحن أولاء أنسانا الحديث متاعب الطريق، واستحققنا متعة هذا المرج الضاحك النضير.
(شرق الأردن)
عبد الحليم عباس(489/16)
أطوار الوحدة العربية
ثورة العرب الكبرى
للأستاذ نسيب سعيد
قلنا في حديثنا الماضي إن الطور الثالث (للقضية العربية) يبدأ بإعلان الثورة الكبرى رسمياً يوم 10 يونيو عام 1916، ونزول العرب إلى ميادين الصراع والكفاح، وينتهي بإرسال الحسين بلاغه ما أجملناه أمس، ونقول: إن (القضية العربية) كانت في خلال هذه المرحلة - وقد امتدت عامين ونيفا - عرضة لتيارات مختلفة، وعوامل متناقضة، لأنها أعظم الأطوار التي اجتازتها شأناً. وقد ظن بها الكثيرون من كبار السياسيين الظنون، واعتقدوا أنه قد لا يكتب لها التغلب على المصاعب التي أحدقت بها من كل جانب، فكان جمال السفاح يهاجمها من الداخل بكل قواه، ويبذل جهوده للقضاء عليها، والتخلص منها فيتم بذلك عمله الأصلي، ويقضي على كل حركة عربية، فينال إكليل الغار والظفر. ولا ريب أن فشله في احتلال مكة وفي إنقاذ الحجاز أفقده ما كان يتمتع به من نفوذ في دوائر الأستانة، وجعل حكومتها تقلص ظله، وتنقص سلطته تدريجياً حتى جردته من كل حول وطول، فطلب أن يقال، وكانت الحرب في عامها الثالث، فأقيل وعاد حزيناً مغموماً إلى الاستانة، يعض كفيه شجناً وأسى، وقبع في وزارة الحربية هناك ينتظر ما خبأه له القدر، ولم يطل به المقام حتى فرّ إلى روسية فعاش فيها شريداً طريداً، ومات قتيلاً منبوذاً، وتلك عقبى الطاغين
ويجب علينا أن نعترف في هذا المقام أن معظم الفضل في إنقاذ الثورة، بل في إنقاذ القضية العربية في هذا الدور يعود إلى الجهود الخاصة التي بذلها الحسين وأولاده في الأشهر الأولى للثورة الكبرى، ولولا ذلك لتم لفخري باشا القائد التركي العام بلوغ مكة، واحتلالها، والقضاء على الثورة في مهدها
وعلى كل حال لابد لنا قبل الحديث عن حوادث الثورة ووقائعها، من دراسة مقدمات هذه الثورة وأسبابها وعواملها فقد يساعد هذا الدرس - كما نعتقد - على استخراج نتائج إيجابية تنير السبيل، وتجلي الحقيقة عن ثورة العرب الجبارة
وإذا أردنا البحث عن أسباب الثورة ومقدماتها، يجب علينا قبل كل شيء، استعراض(489/17)
علاقات العرب بالترك منذ اتحدا في ظل الهلال العثماني خلال القرون الوسطى، يوم كان للوازع الديني المقام الأول، وكان الشرق يعيش في عزلة تامة عن الغرب، ويدور في دائرة ضيقة من التقاليد والأساليب، تسللت إليه من أسلافه الأولين، وأجداده الأقدمين؛ فكل من يستعرض هذه العلاقات بين الأمتين المسلمتين، يسلم بأن العرب لم يجدوا غضاضة في الخضوع لسلطان العثمانيين حينما فرق يوم مرج دابق جيش السلطان (طومان باي خليفة الغوري) آخر المماليك المصريين، وتقدم إلى دمشق، فالقدس، فالقاهرة فاتحاً، فقد رحبوا به في كل بلد من بلدانهم، وقطر من أقطارهم، وبلغ من شريف مكة يومئذ وهو الأمير بركات أن أرسل إلى القاهرة من حمل إلى السلطان المنتصر كتاب بيعته ودخوله في طاعته، وبهذا الاعتراف اكتسب لقب خادم الحرمين الشريفين. والتعليل الصحيح لهذه الظاهرة الاجتماعية هو الفكرة الدينية ولاشك، فقد سرى في ذهن العرب من أبناء هذه الأقطار أن في تأييد السلطان الجديد تأييداً للإسلام وإعلاء لشأن الشريعة السمحاء فبايعوه سيداً وإماماً
وهبت على ديار الغرب بعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر ريح القومية، وتنشق العالم نسمات روح جديدة، حاملة معها حضارة الغرب الحديثة؛ وكانت بضاعة القومية في جملة صادرات الغرب الجديدة إلى الشرق القديم، فجاءت تجر ثوباً قشيباً فضفاضاً يغري ويفتن؛ إلا أن تأثيرها ظل محدوداً خلال القرن الماضي بسبب الجهل الذي كان مسيطراً وسائداً. حتى إذا بدت طلائع القرن الجديد شرع العرب ينتعشون تدريجاً، ويفتحون عيونهم لاستقبال نور الحياة المشرقة عليهم، المهيبة بهم إلى النهضة والعمل، لاحتلال المنزلة اللائقة بين الأمم. بدأت هذه الروح القومية الجديدة تهب عليهم نسمات خفيفة رقيقة، ثم أخذت تتابع وتقوى بتقدم الأيام والليالي، حتى كانت الحرب العظمى الماضية فإذا بتلك النسمات الرقيقة قد أصبحت ريحاً صرصراً عاتية، بل عاصفة هوجاء تتلاعب بالأمة العربية، وتقذف بها ذات اليمين وذات الشمال.
وما زال العرب اليوم يعيشون في وسط هذه العاصفة، وفي ملتقى التيارات المنصبة عليهم من كل صوب وناحية فإذا نحن تقصينا الأثر البارز للقوى العظيمة المتفاعلة وإياهم وجدناه في هذه الهبة القومية التي تدفعهم إلى استكشاف نفسهم، وتحرير أفرادهم ومجموعهم، واستعادة سالف مجدهم، وإثبات مكانتهم في المجتمع البشري. وما من أحد يلمس الحياة(489/18)
العربية الحاضرة إلا ويشعر بهذه الهبة المرتفعة من صدور العرب في شتى أقطارهم، المبشرة بنهضة جديدة، يرجى لها ما كان لسابقتها في العصور الوسطى - من عز منيع، ومجد رفيع، ومساهمة ذات شأن في تقدم التمدن الإنساني، والحضارة العالمية
وكما هبت ريح القومية على العرب، كذلك هبت على الترك حتى أن بعضهم تشبع بفكرة القومية الطورانية، فكان ذلك مقدمة تحول عظيم في صلات الأمتين: العربية والتركية، وقد ختم هذا الدور (23 يوليو عام 1908 - 30 أكتوبر عام 1918) بانفصالهما عن بعض بعدما عاشا متحدين مدى أربعة قرون، يخضعان لنظام واحد، ولعلم واحد؛ فانهار بذلك الانفصال بناء الإمبراطورية العثمانية، وقام مقامه صرح جمهورية أنقرة الجديدة، كما قامت هذه الدول العربية المنبثة في بلاد العرب من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال
أما الخلاف العنصري الذي نشأ بين العرب والترك، فمقدمته كانت - ولاشك - قضية إبعاد العرب عن وظائف الدولة؛ وقد بلغ اشده عن طريق الصحافة، إذ كانت الصحف التركية الجديدة تدعو إلى تعزيز القومية الطورانية، والتحامل على القوميات الأخرى، وتحض الحكومة على مقاومتها والقضاء عليها. ولم تقصر صحافتا الترك والعرب في التراشق بالألفاظ والجمل، والغمز واللمز، كما لم يقصر شعراء الأمتين في نظم القصائد والمقطوعات التي تزكي نيران القومية في القلوب.
أضف إلى ذلك عمل الكتاب العرب الذين نزحوا إلى وادي النيل السعيد، فقد أذكوا روح القومية العربية بما كتبوا ونظموا، فكان عملهم أشبه بعمل روسو وفولتير ومنتسكيو وديدرو في إذكاء ثورة فرنسا الكبرى سنة 1789
تلك هي إذن مقدمات الثورة العربية وأسبابها البعيدة، أضف إليها عمل الجمعيات العربية بصورة خاصة. أما الأسباب القريبة أو المباشرة لها، فهي تصرفات جمال السفاح ومظالمه التي ريعت لها دنيا العرب، وجزعت، فعجلت في إضرام ثورة لا تبقي ولا تذر، حتى قبل أن تعد معداتها وتهيئ أسبابها، بل وقبل أن يأتي أوانها؛ مما أثر في تطورها وحال بين العرب وبين اجتناء الثمرات التي كانوا يرجون اجتناءها في ختام جهادهم الأكبر، كما كانت سبباً في تنفير الرأي العام المتمدن من الاتحاديين الترك واحتقاره لحكومتهم
وكيف لا يجزع العالم العربي لتلك المظالم التي أقدم عليها جمال السفاح، وتلك الفظائع التي(489/19)
ارتكبها رجل الظلم والإرهاب من شنق أحرار العرب والتنكيل بأسرهم والتقليل من أمجادهم، مما لم يعرف التاريخ في صفحاته له مثيلاً؛ وكذلك كان لبعض رجال العرب من الذين أفلتوا من قبضة الظلم والإرهاق فلجئوا إلى مصر والعراق والحجاز، يد كبيرة في إثارة (الرأي العام العربي) على الترك، وتنفيره منهم، وتفهيمه (القضية العربية) على وجهها الصحيح، وفي إعداده للثورة الكبرى والغضبة المضرية العظمى طلباً للثأر والانتقام، كما بكى شعراء العرب وكتابهم في مصر والعراق والحجاز وأمريكا الشهداء الأبرار، مستنزلين سخط العالم المتمدن على الطغاة الظالمين
ويجب علينا هنا قبل الحديث عن وقائع الثورة وحوادثها أيضاً درس العلاقات التي كانت قائمة بين زعيم الثورة شريف مكة، وبين الاتحاديين الترك قبل الحرب الماضية، فإن هذا الشريف لم يبق في استطاعته أن يتجنب الاصطدام بالترك، وأن يحجم عن مصارحتهم الشر والعدوان بعد ما وصلت الحالة في بلاد العرب إلى الدرجة القصوى من الانحطاط والعدوان، رغم اصطناع المودة بينهما، وقد ظل كل فريق يبديها للفريق الأخر حتى اللحظة الأخيرة لظهور نيات الترك واضحة جلية إزاء (الحسين) شريف مكة، وإزاء أولاده أولاً، وإزاء قومه العرب ثانياً، وما كان هؤلاء يضمرون شراً للدولة العثمانية؛ وما كانوا - علم الله - يتمنون زوالها أو الخروج عن طاعتها لولا إنها بادتهم الشر
والواقع إنه كانت هناك جملة عوامل بعضها شخصي، وبعضها قومي، وبعضها ديني ترغم (الحسين) على التفكير فيما فكر فيه قبله عزيز مصر الخالد (محمد علي الكبير) في العمل على وحدة العرب، وضم شملهم، ولم شعثهم، وتأسيس دولة عربية كبرى لهم، تعيد مجدهم التليد، وعزهم المجيد. وهذه العوامل نفسها هي التي أهابت (بالحسين) لركوب هذا المركب الخشن، الوعر المسالك، العويص المرامي واضطرته إلى أن ينقض عهده مع الدولة العثمانية، وساقته إلى محالفة بريطانيا العظمى بعدما عرضت عليه من الشروط الرائعة ما يغري كل عربي، وأعلنت استعدادها لتنفيذ كل ما يطلبه. فأهم العوامل المباشرة للثورة العربية الكبرى إذن هي:
1 - العامل الشخصي
2 - العامل الإقليمي(489/20)
3 - العامل القومي
4 - العامل الديني
وسنتحدث في مقالنا المقبل عن هذه العوامل مفصلاً فإلى اللقاء
(دمشق)
نسيب سعيد المحامي(489/21)
إلى المجمع الملكي للغة العربية
للأستاذ نجيب شاهين
أمنية ورجاء
تتناقل صحفنا كلمات ليست من كلام العرب، وأعلاماً لأمكنة تخالف في صورتها ما كان معروفاً عندهم وما نقله مؤرخوهم لنا، فإذا دام الحال على هذا المنوال لم تمض السنون حتى يرى الخلف لغة لم يعرفها السلف كما طرأ على لغات أوربا مع فرق. ذلك بأن ما طرأ عليها تجديد، وما يراد إدخاله على لغتنا مسخ وتشويه يذهبان بها بعيداً عن الصورة التي أنزل القرآن بها. وإليكم بعض الأمثلة فراراً من التطويل:
لا زالت
لا زالت لفظة للدعاء ومدرسو مدارسنا لا يفرقون بينها وبين ما زالت فينشأ الطلاب على هذا الخطأ. وهؤلاء الطلاب هم كتاب صحفنا اليوم. ومن الغريب أن الإذاعات العربية في الخارج تقع في هذا الخطأ مؤتمة بمعظم صحفنا وبإذاعتنا
قاصر بدل مقصور
في كتاب قواعد اللغة العربية الذي كان يدرس في المدارس ووقف عليه جهابذة اللغة، لفظة قاصر بدلاً من مقصور. ووقع في هذا الغلط ابن خلدون. ومن غلطاته جمع صناعة على صنائع، وعادة على عوائد دائماً لا يشذ عن هذا. وكلاهما غلط شائع
شؤون
ويكتبونها شئون بالنبرة أو كرسي الياء مع أن ما قبلها مضموم، ولا فرق بينها وبين رؤوس أو رءوس جمع رأس. أنظر كتابتها في لسان العرب مثلاً، فلماذا نكتب شئون ولا نكتب رؤوس. وكنت قد كلمت المرحوم الشيخ الإسكندراني في ذلك فوافقني وكتب شؤون بواوين في مجلة المجمع
جبهة
أي ميدان أو ساحة أو حلبة. وصحافيونا أو صحفيونا بحثوا عن كلمة ? فيما يسمونها(489/22)
القواميس من إنجليزية وفرنسية فوجدوها جبهة، ومعنى جبهة هنا جبين أو مقدم الشيء. وقد استعار القوم الجبهة للميدان فلماذا نتابعهم وعندنا مترادفات كثيرة له
بواسل
كلمة شجعان ما لها؟ ولكن جميع الكتاب والمترجمين يقولون بواسل. وبواسل جمع باسلة أو باسل لغير العاقل ومعناه الأسد. وهي خطأ لباسل العاقل إذ لم يسمع جمع فواعل لفاعل العاقل غير ثلاث كلمات وهي فوارس وهوالك ونواكس. ورأيت في كتب اللغة عواجز جمع عاجز وتوابع جمع تابع أي خادم، ودوارس جمع دارس للعاقل. وفي ذلك تفصيل ليس هذا محله
سمى
لا تجد في أنباء المواليد في معظم الصحف سوى قولهم: (ولد لفلان ولد أسماه لا سماه)، وعند ذكر المصدر يعودون إلى مصدر سمى تسمية لا إلى مصدر أسمى إسماء. وليس في القرآن سوى سمى. نعم إن أسمى صحيحة، ولكنها مرجوحة مهجورة حتى صارت كالمماتة. وفي القرآن أسماء سميتموها
أفاد مكان استفاد
ومثلها أفاد بمعنى استفاد، فلماذا نلجأ إليها مكان استفاد وهي هي الصحيحة والغالبة والمسموعة في لغتنا السماعية. وفي أفاد بمعنى استفاد أقوال. جاء في المصباح: (وقالوا استفاد مالاً استفادة وكرهوا أن يقال أفاد الرجل مالاً أي استفاده، وبعض العرب يقوله) انتهى أي إنه لغة في استفاد ومعنى لغة هنا قليل
وفي الحق أن استعمال أفاد مكان استفاد فيه لبس لا لزوم له إلا إرادة الكاتب للبس وإيهام القارئ.
كبد وتكبد وتكبيد
وكم يقول لنا المترجمون والإذاعة من ورائهم بالطبع كبدنا العدد خسارة، وتكبد خسارة، وتكبيده الخسارة، يريدون حمل وتحمل وتحميل مصدر حمل. فإذا أرادوا تكبد فصحتها كابد. أما تكبد فمعناها نزل في الكبد كقولنا تكبدت الشمس السموات نزلت في كبدها أو(489/23)
كبيداتها
تعريب وترجمة
إنما كانت لفظة تعريب بمعنى ترجمة أكثر الغلطات الحديثة شيوعاً حتى على أقلام أشهر الكتاب، فيقولون لك أنهم عربوا مكان ترجموا، وتعريب مكان ترجمة، وإنما يسمون ترجمتهم تعريباً ظناً منهم - وبعض الظن إثم - أن الترجمة (عرة) خلافاً للخليفة أبي جعفر المنصور الذي انتدب بعض أعلام عهده لترجمة بعض الكتب اليونانية فكان ذلك أعظم ما عمله من أعمال النهضة العربية أو (الرينسانس العربي)
غلطات النسبة
يقولون: الألمان بالرفع والنصب والجر ترجمة عن الفرنسية. ودرجت صحفنا إلا واحدة على ذلك بغير مراعاة لقواعد النسبة، ومع ذلك تراها تقول إيطاليون وإيطاليين لا إيطاليان ولا طليان، وبريطانيون لا بريطان، وأمريكيون لا أمريكان. وسمعت ألفاظ الروس والبلغار أو بلغر والترك والعرب والعجم والديلم ولكنها ألفاظ سماعية لا يقاس عليها
شخصية
وفي الإفرنجية لفظة برسوناج أو برسوندج وهي نسبة إلى الشخص، ويريدون بها شخصاً معروفاً ترجمتها كتب الترجمة التي نسميها قواميس شخصية فتلقف مترجمونا هذه اللفظة وجعلوها بمعنى شخص كبير. فقالوا وحضر الاحتفال كثيرون من الشخصيات البارزة يريدون الأشخاص والشخوص وقديماً قال عمر بن أبي ربيعه:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومُعصر
والصحيح أن يقال وحضر الاحتفال كثير من الشخوص البارزين أو كثير من الكبراء. أما الشخصية فنسبة إلى الشخص تقول فلان ذو شخصية بارزة مثلاً إذا كان لابد من هذا القول والا فقل كثير من أعلام الرجال
الأعلام
أكثرت الصحف هذه الأيام الكلام عن بحر قزوين، وهذا الاسم غير معروف لهذا البحر، بل إن قزوين مدينة في فارس أو إيران بعيدة عن البحر في الداخلية، وسمى الفرنجة البحر(489/24)
كازبيان أو كاسبيان، ونقلته كتب الجغرافية الأولى في العربية قزيين. واسمه العربي بحر الخزر أو طبرستان. وفي الخرائط المدرسية هذان الاسمان، وهكذا ضبطا في خريطة بلاد العرب القديمة التي وضعها المرحوم أمين بك واصف ووقف عليها المرحوم أحمد زكي باشا.
دهلي لا دلها
دلهي الإنجليزية هي دهلي العربية وضبطها ابن بطوطة بكسر الدال. وبقي الإنجليز يحرفون سواكن إلى سواكم حتى عهد قريب ثم عادوا إلى رشدهم. فلتعد صحفنا إلى رشدها في لفظة دهلي وقد كانت من أعاظم مدائنهم هناك في القرون الوسطى.
أفريقية لا أفريقا
هكذا وردت في التواريخ العربية ومنها ابن خلدون لا أفريقيا بالأف ولا أفريقا وزان أمريقا كما تخرج مضخمة من فم مذيعنا الفاضل. ومن شاء أن يكتب أمريكا أو أميركا كاملة، وأما أفرقية فهكذا كتبت منذ قرون. وعند المجمع العربي السوري أن تكتب الأعلام العربية التي على مثالها بالتاء كلها فيقول فرنسة وأنجلطرة وإسبانية وروسية إلى آخر ما هناك.
قبرس
جميع الأعلام اليونانية المعربة تعرب بحرف السين في آخرها لا الصاد مثل: قبرس ورودس وساموس وبطرس وغيرها إلا قبرس وبولس ومرقس فإن بعض الكتاب يحاول كتابتها بالصاد وهذا خطأ، فقد عربت بالسين في الأناجيل وفي التواريخ العربية القديمة ورأيت قبرس مرة بالصاد في ابن خلدون.
الأعلام المعربة بال التعريف
وحبذا لو عني المجمع فوق هذا كله بتوحيد كتابة الأعلام الإفرنجية المؤنثة المعرفة بأل التعريف وهي كثيرة مثل البرازيل والروسيا والبلجيك والمرتينيك والأرجنتين وغيرها مما لم يسمع في العربية القديمة
طبرق وليبيا(489/25)
ومن الأعلام التي يصر مذيعنا على التلفظ بها خطأ طبرق فإنه يلفظها بفتح الطاء وكسر الراء وقد نقلها الفرنجة واللفظ بالضمتين، وضبطها أحمد حسنين باشا طبروق بالواو وضبط معها ليبيا بالياء في كتابه المشهور (في صحراء ليبيا) وفي ترجمة الإنجيل وردت (ليبيه) بالهاء
هذا بعض من كل أعوذ بالمجمع الكريم منه فلعله يدبج لنا رسالة فيه وينشرها لزيادة الفائدة؛ ولاسيما أن هذا العمل من اختصاصه وهو يقطع به قول كل خطيب ويحفظ للغة شخصيتها وينقيها من شوائب دخيل لا حاجة بنا إليه؛ وفيه فوق ذلك تشويه لها يبعدها عن شخصيتها النقية القديمة ويدنيها من شخصيات لغات لا تمت إليها بصلة وتفسد عليها شخصيتها
نجيب شاهين(489/26)
خزانة الرءوس
في دار الخلافة العباسية ببغداد
للأستاذ ميخائيل عواد
تمهيد
اشتهرت دور الخلفاء بكثرة المرافق، كالغرف والصحون، والرواشن، والحدائق، والبرك، والأحيار لأصناف الحيوان، والبساتين لأنواع الطيور، ومواطن الأنس والتنزه، وغيرها
وكانت الخزائن في طليعة ما تضمه دار الخليفة. وقد كانت متعددة متباينة. فللكتب خزانة، وللسلاح خزانة، ومثل ذلك قل عن الكسوة والفرش والسروج والأدم والبنود والمال والطعام والشراب والتجمل والجوهر والطيب وغيرها. (وكان الخليفة يمضي إلى موضع من هذه الخزائن؛ وفي كل خزانة دكة عليها طراحة، ولها فرّاش يخدمها وينظفها طول السنة وله جارٍ في كل شهر فيطوفها كلها في السنة)
وأمر هذه الخزائن وما تحويه من مختلف الأشياء مشهور معروف في كتب التاريخ والأدب، ولكن هنالك خزانة ندر ذكرها بين الخزائن، أمرها عجيب غريب، لم نسمع بها إلا في دار الخلافة العباسية ببغداد. تلكم هي (خزانة الرءوس)!
فلا سلاح فيها، ولا طعام، ولا شراب، ولا لباس، ولا كتب، بل كل ما فيها رءوس بشر، بدرت منهم إعمال أدت إلى قطف رءوسهم حين أينعت وإيداعها في هذا المستقر
والظاهر أن هاتيك الخزانة كانت واسعة، وضعت فيها الرءوس في أسفاط من البردي والخيزران ونضدت في رفوف
فبعد أن يؤتى بالرءوس، توضع بين يدي الخليفة فيشاهدها هو ورجال دولته، ثم تنصب أياماً على بعض المواطن البارزة من البلد؛ فيراها الناس وتكون عبرة لمن اعتبر، وتحط بعد ذلك، وتسلم إلى الموكل بأمرها فيعمل على إصلاحها وتنظيفها وتفريغ أمخاخها، ورفع باقي أجزائها المعرضة للتلف والفساد، ثم طليها بالأدوية القابضة الماسكة لضمان بقائها كالصبر والكافور والصندل، وإلصاق رقعة صغيرة على كل رأس كتب عليها اسم صاحبه، وتاريخ قطافه، وما جدر ذكره. وقد أضيف إلى بعضهم العبارة التالية: (هذا جزاء من(489/27)
يخون الإمام ويسعى في فساد دولته) أو (هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته)
وقد انفردت هذه الخزانة على ما بلغنا بوجود يد واحدة؛ هي اليد اليمنى لأبي علي بن مقلة الوزير، العلم المشار إليه في حسن الخط. وهو الذي قال فيها بعد قطعها: (قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبت بها القرآن دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص!). فليت شعري، ألا تكون هذه اليد قد كتبت أيضاً بعض رقاع هذه الرءوس! وهي الآن حبيسة هذه الخزانة، شريدة غريبة بين الرءوس؟
وقد رتب لهذه الخزانة غير موكل يقومون بأمرها ومداراتها، واستقبال الرءوس الجديدة
وما ورد في التاريخ بصدد الرءوس شيء كثير، نورد في مقالنا أهمه وأبرزه
1 - حفظ الرءوس في خزانة الرءوس
(1) رأس يلبق، رأس علي بن يلبق، رأس مؤنس، رأس يمن الخادم، رأس ابن زيرك:
كانت سنة 321 للهجرة مشحونة بالأحداث الجسام التي وقعت في دولة بني العباس. وكان بعض النفر من القواد الأعاجم والموالي قد استبدوا بالأمر، فاضطرب حال المملكة وأمست على شفا هول شديد، وشغب هؤلاء غير مرة وحركوا الجند، وقر رأيهم أخيراً على خلع القاهر بالله واستخلاف أبي أحمد بن المكتفي، فعقدوا له الأمر سراً. فلما سمع القاهر ذلك أخذ حذره، وبث لهم العيون حتى صاروا بقبضته، فاعتقلهم وغلهم بأغلال الحديد، ثم ذبحهم ذبح الشياه، وأودع رؤوسهم خزانة الرؤوس على الرسم المتبع. وإليك خبر هذه الرؤوس عن أوثق المصادر:
قال مسكويه (المتوفى سنة 421 للهجرة): (. . . ودخل القاهر إلى الموضع الذي كان فيه مؤنس، ويلبق، وابنه معتقلين، فذبح علي بن يلبق بحضرته ووجه برأسه إلى أبيه؛ فلما رآه جزع وبكى بكاءً عظيماً. ثم ذبح يلبق ووجه برأسه ورأس ابنه إلى مؤنس، فلما رآهما لعن قاتلهما، فأمر به فجر إلى البالوعة وذبح كما تذبح الشاة والقاهر يراه. وأخرجت الرؤوس الثلاثة في ثلاث طسات إلى الميدان حتى شاهدها الناس؛ وطيف برأس علي بن يلبق في جانبي بغداد، ثم رد إلى دار السلطان وجعل مع سائر الرؤوس في خزانة الرؤوس على الرسم)
وزاد الذهبي صاحب تاريخ الإسلام على ذلك بقوله (ثم ذبح يمن وابن زيرك، ثم أطلقت(489/28)
أرزاق الجند فسكنوا واستقامت الأمور للقاهر. وعظم في القلوب، وزيد في ألقابه: (المنتقم من أعداء دين الله)، ونقش ذلك على السكة،. . . قال أبو بكر الصولي في كتاب الأوراق: حدثني الراضي، قال: لما قتل القاهر مؤنساً ويلبق وابن يلبق أنفذ رؤوسهم إلي مع الخدم يتهددني بذلك وأنا في حبسه لأني كنت في حجر مؤنس؛ ففطنت لما أراد وقلت: (ليس إلا مغالطته) فسجدت شكراً لله وأظهرت للخدم من السرور ما حملهم على أن جعلوا التهدد بشارة، وجعلت أشكره وأدعو له فرجعوا بذلك)
وروى ابن الأثير (المتوفى سنة 630هـ) قصة هؤلاء ثم أضاف إلى ذلك قوله: (. . . ومضى حتى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه، فلما رأى الرأسين تشاهد واسترجع ولعن قاتلهما. فقال القاهر جروا برجل الكلب الملعون؛ فجروه وذبحوه وجعلوا رأسه في طشت، وأمر وطيف بالرؤوس في جانبي بغداد ونودي عليها: هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته. ثم أعيدت ونظفت وجعلت في خزانة الرؤوس كما جرت العادة. . .)
وقد نقل إلينا شاهد عيان، أعني به ثابت بن سنان (المتوفى سنة 365هـ) خبراً طريفاً عن أحد هذه الرؤوس، فقال: (حدثنا سلامة الطوراني الحاجب إنه لما أخرج إليه رأس مؤنس ليصلحه؛ فرغ الدماغ منه ووزنه، فكان ستة أرطال، وسمعت أنا ذلك من الجفني وكان حاضره)
(ب) رأس نازوك، رأس أبي الهجاء بن حمدان
قام هذان القائدان بفتنة كبيرة أدت إلى خلع المقتدر بالله من الخلافة في يوم السبت النصف من المحرم من سنة 317هـ، وتقليد القاهر بالله، ثم رد المقتدر إليها ثانية في يوم الاثنين السابع عشر من المحرم، أي بعد ثلاثة أيام! فكان جزاء هذين القائدين القتل ودفع رأسيهما إلى خزانة الرؤوس. وقد تبسط في هذا الحادث التاريخي الخطير جملة من المؤرخين، منهم مسكويه، فمما قاله في هذا الشأن أن الرجالة (وصلوا إليه (إلى نازوك) وقتلوه، وقد كانوا قتلوا قبله عجيباً وصاحوا: مقتدر يا منصور. . .)، ثم قال: (وصلب الرجالة نازوك وعجيباً على خشب الستارة التي على شاطئ دجلة. . .)
وواصل كلامه حتى جاء على خبر أبي الهيجاء إذ قال (. . . فرماه خمار جويه بسهم(489/29)
أصابه تحت ثديه، وأتبعه بسهم آخر فأصاب ترقوته، ورماه بسهم ثالث وقد اضطرب فشك فخذيه. قال بشرى: وهو الحاكي لهذه الصورة عن مشاهدة: فقد رأيت أبا الهيجاء وقد ضرب السهم الذي شك فخذيه فقطعه وجذب السهم الذي أصابه تحت ثديه فانتزعه ورمى به، ومضى نحو البيت فسقط قبل أن يصل إليه على وجهه، فأسرع إليه أحد الأسودين فضرب يده اليمنى فقطعها وفيها السيف، وأخذ السيف، وغشيه الأسود الآخر فخر رأسه، فأسرع بعض الخدم فانتزع الرأس من يد الأسود ومضى مبادراً به)
وكان المصير أن (أخرج رأس نازوك ورأس أبي الهيجاء وشهرا في الشوارع، ونودي عليهما: (هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته)، وسكن الهيج)، وردا إلى دار الخلافة وجعلا في خزانة الرؤوس
(يتبع)
ميخائيل عواد(489/30)
كلمات. . .
في يوم 29 أكتوبر الماضي أقامت تركيا الجمهورية احتفالات حكومتها ومهرجانات شعبها بعيد الجمهورية والتحرير قبل ثماني عشرة سنة.
وتركيا القديمة كانت (الرجل المريض) المحتضر الذي تتقاسم الدول كبراها وصغراها مخلفاته وأسلابه. وتتحيف حدودها وتهزم جيوشها دول كانت ولايات محكومة لها بحد السيف؛ تركيا القديمة التي كان شعبها جاهلاً فقيراً مريضاً منحل الخلق متلاشياً، والتي كانت حكومتها وتاجها وخلافتها شخوصاً لا حول لها ولا قوة؛ تركيا المهيضة الجناح قد استحالت في ثماني عشرة سنة إلى دولة، واستحال شعبها أمة لها عزة وكرامة ولها جيش تتحدث صحف العالم به، وأصبحت تركيا الجديدة لها صوت ولها اعتبار وأكثر من اعتبار في معركة السياسة والحرب القائمة، ونحن نعرف ما هي السياسة والحرب القائمة.
نحن كانت لنا نهضة قريبة الاتصال الزمني بالنهضة التركية، أو نستطيع مع التواضع أن نقول: كانت لنا هبة وانتباهة منذ ثلاث وعشرين سنة وكنا نستطيع أن نصل بهذه الهبة وبداية اليقظة إلى ما استطاعت تركيا أن تصل إليه.
والآن عندما نذكر نهضة تركيا ويتحدث الناس أو يكتبون عن تركيا الحديثة في هذه الحرب القائمة: حرب الحديد وحرب العقول والأذهان، نذكر زعماء تركيا وقادة جهادها في هذا السبيل، قادتها في بدء نهضتها وفي تسربها وفي بدء شبابها وشرف كفاحها
ونحن كان لنهضتنا زعماء وقادة سنذكرهم بالخير عندما نذكر النهضة المصرية، ولكن يجب علينا أن نتمم ما بدءوه لنصل إلى ما وصل إليه غيرنا من القوة والعظمة
(المعتز)(489/31)
ذات المنظار الأسود
للأستاذ علي الجندي
أقبلت على موقف الترام تتخايل في ملابس الخريف كأنها طاووس!! وقد لاثت على رأسها عمامة رقيقة من لون معرضها زادتها فتنة!! وحجبت عينيها النجلاوين بمنظار أسود براق تختلج من تحته أهدابها الوطف فتمس وجنتيها!! فلما رأت العيون تكاد تلتهمها، ساورتها عزة الحسن وكبرياء الملاحة، فنصت جيدها وطمحت ببصرها إلى السماء كأنها تستشف الغيوب! فقال أحد الظرفاء هامساً:
مَا لِمَنْ تَمّتْ محاسنُه ... أَنْ يعادي لحظَ من نظَرا
لكِ أن تُبدِي لنا حَسَناً ... ولنا أن نُعمِل البصرا
فأجابه ظريف آخر:
وكنتَ إذا أرسلت طرفَك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتْك المناظرُ
رأيتَ الذي لا كله أنتَ قادرٌ ... عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
قال الظريفان ذلك وقال ثالث:
لاَ يَحْجُبُ السِّحْرَ مِنْ عَيْنَيْكِ مِنْظاَرُ ... كُلٌّ إليكِ - عَلَى الْمِنْظاَرِ - نَظَّارُ
مَا زَادَ عَيْنَيْكِ إِلاَّ فِتْنَةً، فَسَليِ ... أَيُّ الْجَوَانَحِ لَمْ تَعْلَقْ بِهاَ النَّارُ
قَدْ رَفَّ مِنْ تَحِتْهِ خَدَّاكِ فيِ وَهَجٍ ... كَماَ أَضاََءتْ خِلاَلَ الْعُشْبِ أَزْهاَرُ
وَشَبَّ لَوْنَكِ حَتَّى قُلْتُ، بَعْضُ دُجىً ... باَقٍ مِنَ الَّليْلِ قَدْ حَفَّتْهُ أَنْوَارُ
أَوْ بَدْرٌ ثِمٍ تَمَشَّتْ فَوْقَ صَفْحَتِهِ ... غَمَامَةٌ بَرْقُهاَ الَّلَّماعُ غَرَّارُ
لاَ تَحْسَبيِ جفَنَكِ الْمَكْحُولَ تَمْنعُهُ ... مِنْ أَنْ يَصُولَ عَلَى الْعُشَّاقِ أَسْتاَرُ
السَّيْفُ فيِ الْغِمْدِ لاَ تُخْشَى بَوَادِرُهُ ... وَسَيْفُ جَفْنِكِ فيِ الْحَاَلينِ بَتَّارُ
دَعِي عُيَوْنَكِ تَلْقاَناَ بِلاَ حُجُبِ ... فَلَلعْيُوُنِ مُناَجَاةٌ وَأَسْرارُ
وَلاَ تَخَافيِ عَلَى الْمُضْنَي لَوَاحِظَهاَ ... فَجُرْحُهُ مِنْ عُيُونِ الْعَيْنِ تَغَّارُ
لَوْ لَمْ أُحِلَّ لْمَنْ أَهْوَاهُ سَفْكَ دَمِي ... لَمْ تَبْقَ حَسْناَء إِلاَّ وَهْيَ ليِ ثَارُ
تِلْكَ السِّهاَمُ - وَإنْ أَصْمَتْ - مُحَبَّبَةٌ ... كَمْ مْنْ قَتِيلٍ لَهُ فيِ الْقَتْلِ أَوْطَارُ
أَغْرَي بِنَا السَّقْمَ أَنِّا فيِ صَباَبَتِناَ ... تُخْفِي الْجَوَى وَالْمُعَنَّى الصَّبُّ صَبَّارُ(489/32)
نَرَى الدَّوَاَء وَتَأْباَهُ مَكاَرِمُناَ ... لاَ خَيْرَ فيِ الْحُبِّ إِن شاَبَتْهُ أَوْزَارُ
علي الجندي(489/33)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ مندور
كتب الأستاذ محمد مندور تعقيباً، على كلمتي المنشورة بالعدد 486 من الرسالة، فراعني ما في تعقيبه من انحراف عن جادة الحق؛ ووقع في نفسي أن أبين له ما انساق إليه من تعسف واجتلاب للنقد. فقد التجأ الكاتب إلى أساليب ملتوية معقدة، يبرر بها نفسه، وينفي عنه الخطأ، كأنما عز عليه أن يسلم بخطاه؛ وهو لو أنصف لعلم أن ليس مما يحط من قدره أن يخطئ، وإنما يحط منه أن يصر على خطأه ويكابر فيه. ولا ريب أن الأستاذ يعرف المثل اللاتيني القائل: إن من طبيعة الإنسان أن يخطئ: والخطأ كثيراً ما يكون طريق الصواب كما يقول ليبنتز
بيد أن الأستاذ مندور - وقد أغرم بالسوفسطائية - شاء ألا ينهج نهج الميغاريين الذين نزعوا منزع السوفسطائيين، فكانوا في جدلهم لا يرمون إلى معرفة الحق والتوصل إليه، وإنما يهتم الواحد منهم بشيء واحد فقط؛ هو أن يجمل خصمه ينقطع. ومن أجل هذا رأيناه يتصدى للرد على كل معترض عليه، ولا يتوخى الحق في هذا الرد، وإنما يهتم بأن ينفي عنه الخطأ، مهما كان في ذلك من التجني على الحق!
لقد قلنا له أن قوله (عثرت به) بمعنى ملاقاته اتفاقاً، ليس تعبيراً عربياً صحيحاً، إذ الصواب أن يقال: (عثرت عليه). فعاد الأستاذ يقول: (فأما عن (عثرت به) فقد قلت أن المعنى الذي أريد التعبير عنه هو العثور بالشيء أي ملاقاته اتفاقاً، ولم أرد (العثور عليه) أي الاطلاع الذي يدل على علم ومعرفة وبحث وجهبذة لا أدعيها). ولو إنه كلف نفسه عناء البحث في المعاجم اللغوية، لما اضطرنا إلى العودة إلى هذا الموضوع مرة أخرى. . . ولكنه يطلق أحكامه إطلاقاً، ولا يستقصي المصادر ليتحقق مما يقول، بل يكتفي بأن يقول في جرأة غريبة: (والذي يدهشني هو تفضل هؤلاء العلماء بلفت نظري إلى مختار الصحاح ودوائر المعارف وتراكيب اللغة الإنجليزية، وهذه كلها مراجع ما كنت أحلم بوجودها). فنحن لم نرتجل أحكامنا ارتجالاً، ولم نطلق أقوالنا اعتباطاً، بل استقصينا المراجع استقصاء شاملاً، ثم أعلنا من بعد نتيجة بحثنا واستقصائنا. وإذا كنا قد أشفقنا على الأستاذ مندور، فكفيناه مؤونة البحث، وعرضنا عليه النتيجة التي توصلنا إليها دون أن(489/34)
نحشد له أقوال أصحاب المعاجم ورجال اللغة، فما ذلك إلا لأننا نعلم علم الواثق، أنه يدرك ذلك باعتباره باحثاً قد خبر الحياة العلمية وعرف ما يستلزمه البحث العلمي
ومع ذلك، فإننا نروي للأستاذ مندور فيما يلي ما جاء في المعاجم اللغوية تحت مادة (عثر): جاء في (لسان العرب): (عثر يعثر عثراً وعثاراً وتعثر كبا. . . والعثرة الزلة، ويقال عثر به فرسه فسقط، وتعثر لسانه تلعثم. . . وعثر على الأمر يعثر عثراً وعثوراً اطلع وأعثرته عليه أطلعته، وفي التنزيل العزيز: وكذلك أعثرنا عليهم، أي أعثرنا عليهم غيرهم فحذف المفعول، وقال تعالى فإن عثر على أنهما استحقا إثماً، معناه فإن اطلع على أنهما قد خانا. . . الخ)
وجاء في القاموس المحيط: (والعثور الاطلاع كالعثر، وأعثره أطلعه. . . الخ) وجاء في صحاح الجوهري: (العثرة الزلة، وقد عثر في ثوبه يعثر عثارا؛ يقال عثر به فرسه فسقط، وعثر عليه أيضاً يعثر عثراً وعثوراً، أي اطلع عليه. وأعثره عليه غيره أطلعه، ومنه قوله تعالى: وكذلك أعثرنا عليهم. . . الخ)
وجاء في أساس البلاغة للزمخشري: (. . . ومن المجاز: عثر في كلامه وتعثر. وأقال الله عثرتك. وعثر الزمان به. وجد عثور. . . وعثر على كذا: اطلع عليه. وأعثره على كذا: أطلعه. وأعثره على أصحابه: دله عليهم. . . الخ)
وفي أقرب الموارد للشرتوني: (عثر على السر وغيره: اطلع عليه وعلمه. وعثر به فرسه فسقط ومنه يقال عثر جده أي بخته تعس وذهب أمره وهلك. . . وعثر بهم الزمان: أخفى عليهم. . . وأعثر فلاناً على السر وغيره: أطلعه. . . الخ)
فكل هذه المعاجم إذن تتفق في القول بأن معنى (عثرت عليه) هو اطلعت عليه أو وقفت عليه. ولا يفيد الاطلاع معنى البحث والجهبذة - كما يتوهم الأستاذ مندور - وإنما معناه ملاقاة الشيء والوقوف عليه. لأن أصل الكلمة (اطلّع) مأخوذ من (طالع) بمعنى نظر كما يقال: أتيت قومي فطالعتهم، أي نظرت ما عندهم. . .
وزيادة في تأكيد المعنى وإيضاحه، أنقل للأستاذ مندور عن المعجم الذي وضعه المستشرق (وليم لين ' - ما جاء تحت مادة (عثر):
(. . . (عثر عليه). . . ; ;) , , ; ; ; ; ,(489/35)
فمن هذا يتضح أن العثور على الشيء يفيد معنى ملاقاته اتفاقاً، حتى أن هناك تعبيراً مشتقاً من هذه الكلمة وهو (عثري) يوضح هذا المعنى بشكل أظهر، إذ ورد في لسان العرب: (هو من عثري النخل، سمى به لأنه لا يحتاج في سقيه إلى تعب بدالية وغيرها، كأنه عثر على الماء عثراً بلا عمل من صاحبه). فالعثور إذن لا يفيد معنى العلم والجهبذة؛ وهو المعنى الذي شاء تواضع الأستاذ مندور أن ينفيه عن نفسه، وإنما يفيد معنى الملاقاة العرضية التي تتم بغير قصد
وأما (عثر به) بهذا المعنى، فلم أجدها في أي معجم من المعاجم التي رجعت إليها، وأحسب أنها من اختراع الأستاذ الفاضل، وقد كان موفقاً في التمثيل لها بعبارة من صوغه فقال: (. . . كما يعثر حافر الجواد بأحد الكنوز. . .)!
بقيت مسألة أحب أن أقف عندها وقفة طويلة، وتلك هي مسألة الحرية اللغوية التي يدعو إليها الكاتب، وقد سبق لي أن أشرت إلى هذه المسألة إشارة غامضة، ولكني أحب أن أعود إليها فأسهب في الحديث عنها، حتى أعرف ماذا يقصد الأستاذ مندور بقوله: (إن مسألة الصحة والخطأ في اللغات أصبحت مسألة تافهة لا يحرص عليها في غير مجال التعليم المدرسي). وماذا يعني بقوله: (وإذن فكلام الكرملي وكلام زكريا إبراهيم حذلقة (كذا) تافهة، ومماحكات لا علاقة لها بمناهج البحث في اللغات التي لم تعد تقريرية في شيء)؟
ولما كان المجال لا يتسع هنا للحديث عن هذه المسألة الهامة، فإني أرجئ الكلام عنها إلى عدد قادم، كما أرجئ التعقيب على رأي الأستاذ مندور في تعريب الأسماء الأعجمية إلى حين يقرأ الأستاذ الفاضل البحث الذي وجهت نظره إليه، ولعلي يومئذ لا أكون بحاجة إلى التعقيب أصلاً
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
حول اختلاف القراءات في القرآن
من المعلوم أن المسلمين على عهد الرسول كانوا يتلقون القرآن منه سماعاً، ويطوون صدورهم عليه حفظاً وفهماً، دون ما حاجة منهم إلى النظر في شيء من آياته مخطوطاً. .(489/36)
والقراءات التي من أمثالها (فتثبتوا) بدل (فتبينوا) و (وعدها أباه) بدل (وعدها إياه) لا ترجع في تعليلها إلى اختلاف لهجات العرب - كما يقول صادقاً الأستاذ عبد المتعال الصعيدي - وإنما هي إلى باب التصحيف أقرب؛ وقد نص على ذلك بعض العلماء كما سنذكره.
والتصحيف كما يجده اللغويون هو: (أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة، ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب)، راجع قول السيوطي في المزهر.
فالتصحيف إذن خطأ منشؤه الوهم؛ ولا ينبغي أن نتبعه إلا ريثما نهتدي إلى النطق الصحيح فنعدل إليه. . .
والآن يحق لنا أن نتساءل: كيف وقعت هذه التصحيفات على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تكن حاجة المسلمين يومئذ ماسة إلى القراءة في صحيفة، استغناء منهم بقراءة الرسول وقراءة أصحابه ممن أجادوا النقل عنه؟. . . وإذا كانت تلك التصحيفات قد وقعت بعد عهد الرسول، فكيف راجت وتداولتها ألسن القراء حتى أصبحت من القراءات المعروفة، مع أنها تصحيف كان ينبغي العدول عنه بمجرد الوقوف عليه؟. . . لا نستطيع أن نؤيد الأستاذ عبد المتعال في قوله: (لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يعين أمثال تلك المواضع، أو كانت ترد إليه فيقر ما يراه منها) لأن هذا إنما كان يحدث في المواضع التي تختلف فيها اللهجات؛ فتقرأ اللفظة بأكثر من لهجة واحدة تخفيفاً عن مسلمي العرب من مختلف القبائل، ولاسيما أن المعنى في كل ذلك واحد لا يتغير. أما أن يحدث هذا في مثل قوله: وعدها أباه معدولاً بها عن وعدها إياه، وقوله فتثبتوا بدل فتبينوا، مما لا يبدو فيه اختلاف في اللهجة مع ثبوت التغير في المعنى؛ فذلك أمر يحتاج إلى بحث دقيق وتمحيص واف حتى نعرف عن يقين مأتى هذه القراءات وأصل اعتمادها.
ويهمنا هنا أن نقول إنه إذا كان بعض المفسرين يعدون هذه الأمثلة من القراءات، كالزمخشري صاحب الكشاف، فإن آخرين من جلة العلماء يعتبرونها تصحيفاً، كجلال الدين السيوطي صاحب (المزهر) التي ادرج أمثلة منها ضمن الفصل الذي عقده بعنوان (التصحيف والتحريف) ص230 ج2 من كتابه. قال - نقلاً عن بعض المجاميع -:(489/37)
(صحف حماد بن الزبرقان ثلاثة ألفاظ في القرآن لو قرء بها لكانت صواباً، وذلك أنه حفظ القرآن من مصحف ولم يقرأه على أحد. واللفظ الأول (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه) يريد إياه. والثاني (بل الذين كفروا في غِرة وشقاق) والثالث (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه)) انتهى ما أورده السيوطي - ويفهم من العبارة أن مثل هذه الأمثلة لم تكن تعتبر قراءة أصلاً عند عدد من العلماء. فلعل بعض أشياخنا من ذوي التثبت والإلمام بهذا الموضوع، يدلي لنا برأي يكون فيه الشفاء والاكتفاء. . .
(جرجا)
محمود عزت عرفة
رابطة العروبة
تكونت في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول رابطة باسم (رابطة العروبة) قوامها طلبة الأقطار العربية الملتحقين بالكلية وبعض من طلبتها المصريين العرب
أغراضها:
1 - العمل بكل الطرق المجدية والوسائل الفعالة على تحقيق الوحدة العربية المنشودة
2 - توثيق صلاة الأخوة والثقافة بين الطلبة المصريين وطلبة الأقطار العربية الشقيقة في مصر وخارجها
3 - تنظيم رحلات سنوية إلى سائر البلاد العربية
4 - الدعوة إلى عقد مؤتمرات دورية لطلبة الجامعات العربية في مختلف أقطارهم للبحث في توحيد الثقافة وشتى النواحي والشؤون العربية الهامة
5 - تنظيم محاضرات يلقيها كبار رجال العروبة في مصر عن كيفية معالجة الأحوال الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد العربية تمهيداً لتحقيق وحدتها
6 - تنظيم رحلات علمية أسبوعية إلى بلدان القطر المصري
فمن يود الاشتراك في هذه الرابطة من طلبة الكلية كأعضاء عاملين أو من غيرها كأعضاء فخريين عليه المبادرة إلى قيد اسمه في سجل الرابطة الموجود مع القائم بأعمالها الطالب (منيب الماضي) بكلية الحقوق(489/38)
العدد 490 - بتاريخ: 23 - 11 - 1942(/)
2 - دفاع عن البلاغة
البلاغة بين الطبع والصنعة
البلاغة كسائر الفنون طبيعة موهوبة لا صناعة مكسوبة. فمن حاول أن ينالها بإعداد الآلة وإدمان المزاولة وطول العلاج وهو لا يجد أصلها في فطرته، أضاع جهده ووقته فيما لا رجع منه ولا طائل فيه. قال أبو العباس المبرد: (إنه ليس أحد في الخافقين من يختلج في نفسه مسألة مشكلة إلا لقيني بها وأعدني لها؛ فأنا عالم ومتعلم وحافظ ودارس لا يخفى علي مشتبه من الشعر والنحو والخطب والرسائل، ولربما احتجت إلى اعتذار عن فلتة، أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذي أقصده نصب عيني، ثم لا أجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد ولا لسان. ولقد بلغني أن عبيد الله ابن سليمان ذكرني بجميل فحاولت أن أكتب إليه رقعة اشكره فيها، فأتعبت نفسي يوماً في ذلك فلم أقدر على ما أرتضيه منها. وكنت أحاول الإفصاح عما في ضميري فينصرف لساني إلى غيره)
ذلك اعتراف صادق من أبي العباس يقصد به توجيه الحائر إلى التوفر على ما يحسن، وتنبيه المغرور إلى الانصراف عما يسيء
الناس كلهم يتكلمون ولكنهم ليسوا جميعاً خطباء؛ والمتعلمون كلهم يكتبون ولكنهم لا يستطيعون أن يكونوا كلهم بلغاء؛ والرسم مادة مقررة في مدارس الدنيا ولكنها لا تخرج في كل حقبة غير رفائيل واحد. والموسيقيون ألوف في كل أمة، ولكن الذين يستطيعون أن يؤلفوا رواية غنائية نفر قليل.
والمعضل من الأمر تعرف الطبع الأدبي في صاحبه إبان التنشئة، فقد تكمن العبقرية في الفنان حتى يبلغ الأربعين، كما حدث للنابغة الذبياني في الشعر، ولجان جاك روسو في الكتابة. وقد يجر كمون الطبع في سن التوجيه إلى الخطأ في استغلال المواهب، فيتعلم المرء علماً أو يعمل عملا وهو بطبعه مخلوق لغيره؛ فبيير لوتي خُلق أديباً كاتباً ولكنه دفع إلى البحارة؛ وعلي طه خلق أديباً شاعراً ولكنه دفع إلى الهندسة، وحافظ عفيفي خلق مصلحاً اجتماعياً ولكنه دفع إلى الطب؛ فلو أن هؤلاء العباقرة نشئوا على مقتضى الطبع والاستعداد منذ الحداثة لكان نبوغهم أتم ونفعهم أعم ونتاجهم أوفر
وقد يخدع المرء عن طبعه فيظن نفسه كاتباً وهو معلم، أو فيلسوفاً وهو صوفي، أو مؤرخاً(490/1)
وهو صحفي، أو شاعراً وهو عروضي، أو ناقداً وهو هجاء، أو قصصياً وهو حكاء، أو وصافاً وهو محلل
وللخيال إذا امتد سراب يخدع الظمآن إلى المجد والشهرة؛ فقد يستهوي الناشئ وميض الهالة من حول العبقرية الفنانة فيسول له الغرور أن يقرض الشعر، أو يقص القصص، أو يدير الحوار، أو ينشئ المقالة، فينبهر في أول الشوط وينبت في بداية الطريق
قد تحب الأدب ككل إنسان؛ ولكن حبك الشيء ليس دليلا على قوة استعدادك له، فقد يكون ذلك من تأثير البيئة وتغرير الخلاط. وربما كانت نقائص المرء أحب خلاله إلى نفسه؛ فالإمام مالك بن أنس دفعته بيئة المدينة اللاهية إلى أن يتتبع في صباه المغنين يأخذ عنهم حتى صرفته أمه عن الغناء إلى الفقه فصار فيه إمام الأئمة
على أن الطبع والقريحة لا يغنيان في البلاغة عن الفن. وربما كان فيهما ذلك الغناء في العصر الجاهلي وصدر الإسلام حين كانت الأهواء صادقة والأخلاق صريحة والحياة بسيطة؛ أما وقد زيف الصادق وشيب الصريح وركب البسيط، فلابد من حذق الصناعة وهدى القواعد لمعالجة ذلك، كالمسايفة، كانت في أول أمرها سهلة يستعمل فيها السائف سيفه كما يستعمل الواكز يده؛ فلما كثرت فيها الحيل وتعددت الوجوه أصبحت فناً له قواعد وأصول لابد أن يراعيها المسايف وإلا هلك. وإذا كانت القواعد هي النتائج التي استنبطتها الأذهان القوية من وسائل الطبيعة وطرقها على طول القرون، فإن الشأن في البلاغة يجب أن يكون هو الشأن في سائر الفنون التي اخترعتها الغريزة وأصلحتها التجربة ورقاها المران
فعلم البيان إذن هو الجزء النظري من فن الإقناع والبلاغة هي الجزء العملي منه: هو ينهج الطرق وهي تسلكها، وهو يعين الوسائل وهي تملكها، وهو يرشد إلى الينبوع وهي تغترف منه
إن القواعد البيانية لم يضعها الواضعون إلا بعد أن رجعوا إلى أصول الأشياء ودرسوا علاقتها بالنفس والحس، وعرفوا نتائج هذه العلائق من الألم واللذة، ثم استخلصوا من تجارب العصور المستنيرة النتائج الصحيحة، ثم صاغوها قواعد وقالوا إنها أمثل الطرق لإحسان العمل دون أن يخضعوا قريحتك لها، ولا أن يسمحوا لهواك بالخروج عنها، فإن(490/2)
بين الاستبداد والفوضى نظاماً هو أحق أن يؤثر ويتبع
كذلك الذوق - وهو أداة الجمال كما أن العقل أداة الحق - لا يمكن أن يكون بغير القواعد طريقاً مأمونة إلى عمل من أعمال الأدب؛ فأنه موهبة طبيعية تختلف في الناس وفي الأجناس، وتحتاج إلى المران بالدرس والعادة، وليس له ما للعقل من سلطان واطمئنان وثبوت. وإنك لتجد في الناس العقل المطلق المستقل الذي لا يختلف ولا يتغير، لأن هناك حقيقة مستقلة تتميز بالوضوح والخلوص، ولكنك لا تجد مهما استقصيت واستقريت ذلك الذوق المطلق المستقل الذي لا يختلف باختلاف الألوان والأزمان والأمكنة. وفي الأقوال المأثورة: لا جدال في الذوق. لذلك لا نستطيع أن نطلقه في الأدب حتى لا تكون الفوضى، ولا نقيده بالقواعد حتى لا يكون الجمود.
أحمد حسن الزيات(490/3)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
1 - الشوقيات
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - تأريخ القصائد - من كل فاكهة زوجان: عواطف
فرنسية وتركية ومصرية ولبنانية وأموية - مصرية شوقي -
حكاية المستر روزفلت أول دكتور من الجامعة المصرية -
قصيدة أنس الوجود - دفاع شوقي عن الوثنية المصرية
تمهيد
المقرر من الشوقيات لهذا العام هو الجزء الثاني، وسنتحدث عنه في مقالين اثنين مراعاة للوقت، فأمامنا مؤلفات ستنتهب المدة التي تسبق ميعاد الامتحان.
من أهم أبواب هذا الجزء باب النسيب، ومن أهم قصائده قصيدة (يا نائح الطلح)، ولن أتكلم عن هذه القصيدة ولا عن ذلك الباب، لأني أكره أن أنشر في مجلة الرسالة بحثاً نشرته من قبل، وأنا تكلمت بالتفصيل عن نونية شوقي في الطبعة الثانية من كتاب (الموازنة بين الشعراء) وتكلمت عن غزليات شوقي بالتفصيل في الطبعة الثانية من كتاب (البدائع)، فليرجع المتسابقون إلى هذين الكتابين في هذين الغرضين
وهذا إعلان عن مؤلفاتي أنشره في (الرسالة) بالمجان!!
تأريخ القصائد
شوقي لم يؤرخ قصائده جميعاً، ولو أنه فعل لأعفى النقد الأدبي من التعب في تعقب أسباب الضعف والقوة في شاعريته العصماء. والظاهر أن وضوح التواريخ أمام عينيه أوهمه أن الناس لن يحتاجوا عند النظر في قصائده إلى تأريخ. والأمر كذلك بالفعل، فقد كنت أعرف المناسبات التي قيلت فيها تلك القصائد، ثم طغت الشواغل فأنستني ما لم أكن أحب أن أنساه. ولعل أبناء شوقي يلاحظون هذا المعنى فيذكروا جميع التواريخ في الطبعة الثانية(490/4)
أقدم القصائد المؤرخة قصيدة (طابع البريد) في العاشر من سبتمبر سنة 1900، وتليها أبياته في وصف معرض الأزهار والثمار في باريس سنة 1901، ثم وصف المرقص الذي أقيم في قصر عابدين سنة 1903، والمرقص الذي تلاه في سنة 1904
وهذه القصائد لا ترتقي إلى منزلة القصائد التي نظمها بعد أن استحصدت قواه الشعرية، ولكنها مع ذلك تشهد بأن شوقي فُطر منذ البداية على إجادة الغناء.
من كل فاكهة زوجان
في هذا الجزء ترى قصائد فرنسية وقصائد تركية وقصائد مصرية وقصائد سورية ولبنانية، قصائد وصف بها عواطفه الصحاح نحو فرنسا وتركيا ومصر وسورية ولبنان، قصائد تقيم أصح البراهين على أن شوقي أحب جميع ما عرف من البلاد، وأنس إلى أكثر من عرف من الناس
وهنالك ظاهرة يجب النص على تفسيرها الصحيح، وهي إفراط شوقي في أخريات أيامه على الإشادة بمحاسن الشام ولبنان
فما تفسير هذه الظاهرة النفسية؟
كان شوقي لا يحب إلا من يروي شعره، وكان هواه مقصوراً على من يؤمنون بأنه أشعر الناس. وقد وجد في سورية ولبنان جماعات كثيرة تعرف من سرائر شعره أكثر مما يعرف، وتذهب في تمجيده إلى آفاق لا يطيف بها الخيال
وهل أُسرفُ إذا قلت إن تلطف شوقي في الحديث عن المسيحية يرجع إلى مراعاة عشاق شعره من النصارى العرب؟
الإسلام يحكم بكفر من يتطاول على المسيح، ولكنه لا يفرض على المسلم أن يتغنى بمجد المسيح، فكيف جاز لشوقي أن يجعل الثناء على المسيحية من أغراضه الشعرية؟
السبب هو ما أقول، هو أن شوقي وجد في نصارى لبنان رجالا يؤمنون بأدبه الرفيع، فجازاهم وفاءً بوفاء، وقال في المسيح كلاماً يقره أدب القرآن، وهل وصف المسيح بأفضل مما وصفه القرآن؟
كان شوقي ينعطف من لبنان إلى سورية بروحانية قليلة الأمثال:
خلَّفتُ لبنان جنات النعيم وما ... نُبئتُ أن طريق الخلد لبنانُ(490/5)
حتى انحدرتُ إلى فيحاَء وارفةٍ ... فيها الندى وبها (طيٌّ) و (شيبان)
نزلتُ بفتيان جحاجِحةٍ ... آباؤهم في شباب الدهر غسانُ
بِيض الأسرة باقٍ فيهُم صَيَدٌ ... من (عبد شمسٍ) وإن لم تَبق تيجانُ
يا فتية الشام شكراً لا انقضاَء له ... لو أن إحسانكم يجزيه شكرانُ
ما فوق راحاتكم يوم السماح يدٌ ... ولا كأوطانكم في البِشر أوطان
فما هو الكرم الذي أضفاه الشاميون على شوقي، وكان أغنى الناس عن سخاء الأسخياء؟
هو الكرم الذي وصفه في قصيدة ثانية حين قال:
رُواة قصائدي، فأعجَب لشعرٍ ... بكل محلةٍ يرويه خَلقُ
والواضح مما قرأت وما سمعت أن شوقي لم يذق طعم النعيم
إلا في سورية ولبنان، فقد كان في أبناء تلك البلاد الجميلة من يُسمع شوقي آلاف الأبيات من شعره في اليوم الواحد، وكان فيهم من يُسمعه قصائد غابت عن وعيه الدقيق. وكان شوقي يتلقى تلك التحيات بالبكاء. ولبكائه هنالك صورة يتحدث عنها الشاعر أمين نخلة، إن صحت رواية الأستاذ صلاح الأمير
وحب شوقي للشام هو الذي جعل عواطفه أموية:
بنو أمية للأنباء ما فَتَحوا ... وللأحاديث ما سادوا وما دانوا
كانوا ملوكاً سريرُ الشرق تحتهمُ ... فهل سألتَ سرير الغرب ما كانوا
عالين كالشمس في أطراف دولتها ... في كل ناحية مُلكٌ وسلطانُ
يا ويحَ قلبيَ مهما انتاب أرسمهم ... سرَى به الهمُّ أو عادته أشجان
بالأمس قمت على (الزهراء) أندبهم ... واليوم دمعي على (الفيحاء) هتّان
في الأرض منهم سماواتٌ وألويةٌ ... ونِّيراتٌ وأنواءٌ وعِقبان
معادن العزّ قد مال الرَّغام بهم ... لو هان في تُربه الإبريزُ ما هانوا
لولا دمشقٌ لما كانت طُلَيْطلةٌ ... ولا زهت ببني العباس بغدانُ
مررتُ بالمسجد المحزون أسألهُ ... هل في المصلَّى أو المحراب (مروانُ)
تغيَّر المسجد المحزون واختلفت ... على المنابر أحرارٌ وعبدان
فلا الأذان أذانٌ في منارتهِ ... إذا تعالى ولا الآذان آذان(490/6)
ومع هذا لم ينس شوقي حتى العلويين فتحدث عنهم في مواطن كثيرة، أشهرها الموطن الذي اختلقه اختلاقاً في مسرحية (مجنون ليلى)، إن صدقنا افتراض الدكتور طه حسين
وخلاصة القول أن عواطف شوقي منوعة الأصول والفروع فقد سما بنفسه عن الشعوبية، ورأى أن يكون شعره ميراث الشرق على ما فيه من اختلاف النوازع والميول:
كان شعري الغناء في فرح الشر ... ق وكان العزاَء في أحزانه
قد قضى الله أن يؤلفنا الجر ... ح وأن نلتقي على أشجانه
كلما أنَّ بالعراق جريحٌ ... لمس الشرق جنبه في عماته
وعلينا كما عليكم حديدٌ ... تتنزَّى الليوثُ في قضبانه
نحن في الفكر بالديار سواءٌ ... كلنا مشفقٌ على أوطانه
مصرية شوقي
وبرغم هذا التنوع في العواطف كان شوقي شاعر القومية المصرية، ولعله أول شاعر جعل من همه وصف مصر في أحلامها وأهوائها وأمانيها بما هي له أهل، وأول شاعر ذاق ما في مصر من قرارة النعيم والبؤس، وإن كان شفى ما في نفسه حين قال في غمز الحكومة التي سمحت بنفيه في أوائل الحرب الماضية: (وطن توالت عليه حكومات وحكومات، تقول فتجد وتعمل فتهزل، ولا تحسن من ضروب الإصلاح إلا أن تولي وتعزل)
حكاية المستر روزفلت
هو الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، لا رئيسها الحاضر، وكان زار مصر في سنة 1911، أو قريباً من ذلك، فما يتسع وقتي لتحديد التاريخ
والظاهر أن روزفلت السابق فاه عند زيارة السودان بكلام لا يرتضيه المصريون، فرد عليه الشيخ علي يوسف في جريدة المؤيد بمقال كان آية في البيان، ثم اندفع شوقي فحاوره بأسلوب غير ذلك الأسلوب، اندفع فحدثه عن عظمة مصر الممثلة في (قصر أنس الوجود)
أيها المنتحي بأُسوان داراً ... كالثريا تريد أن تنقضَّا
اخلع النعل واخفض الطرف واخشعْ ... لا تُحاولْ من آية الدهر غضَّا
وهي قصيدة نفيسة المعاني، وقد يُسأل عنها الطلبة في الامتحان لأنها من عيون الشرقيات(490/7)
أول دكتور من الجامعة المصرية
هو المستر روزفلت، الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، فقد مُنح الدكتوراه الفخرية، وكان ذلك أول لقب منحته الجامعة المصرية، فاعترض (الغزالي أباظة) على صفحات إحدى الجرائد، وكانت حجته أنه أولى بذلك اللقب، لأنه يستطيع أن يغضب المصريين بأكثر مما يستطيع أن يغضبهم أي مخلوق!
والغزالي أباظة هو الأستاذ دسوقي بك أباظة، الوزير السابق لوزارة الشؤون الاجتماعية، فهل يذكر ذلك التاريخ؟!
قصيدة النيل
هي قافية في 153 بيت، أرسلها إلى المستشرق مرجوليوت مع مقدمة نثرية قلقة الأسجاع، قصيدة يرجع عهدها فيما أفترض إلى أيام حرب البلقان، فهي إذاً من غرر شعره القديم. وليس من العدل أن نجاري الأستاذ المازني في القول بأن شاعرية شوقي لم تتفتح إلا بعد المنفى، فأنا أرى أن قصيدة (الأندلس الجديدة) التي قالها بمناسبة سقوط أدرنة في سنة 1912 لا تقل جودة عن أبرع ما جاد به خاطره في النفي وبعد النفي. . . والحق أن شوقي نضج في وقت مبكر، فقصيدته التي قالها في المؤتمر الشرقي بمدينة جنيف سنة 1894 تعد من القصائد الجياد، وهي الباكورة التي بشرت بأن سيكون له مقام بين شعراء القصص التاريخي
ونرجع إلى قصيدة النيل فنقول:
أراد شوقي بهذه القصيدة تمجيد العنصرية المصرية ممثلة في النيل السعيد، وقد رحب الشاعر بالألفاظ الجارية على ألسنة الفلاحين في أعمال السقي والغرس والحصاد. وطاف به الخيال حول عهود التاريخ، فشرح ما مر بهذه البلاد من عقائد وديانات، شرحها برفق، لأنه لم يرد النقد وإنما أراد التسجيل. ولو شئت لقلت إنه اعتذر عن ظلم الفراعين، فقد عد إرهاقهم للشعب في بناء الهياكل باباً من المجد المرموق
هي من بناء الظُّلم إلا أنهُ ... يبيضُّ وجه الظلم منه ويشرق
لم يرهق الأممَ الملوكُ بمثلها ... مجداً لهم يبقى وذِكراً يَعبَقُ(490/8)
ويرى الشاعر أن الأرض والسماء لا تبيدان إلا برجفة (القيامة)، أما (قيامة) مصر فهي جفاف النيل الذي خاطبه الشاعر فقال:
من أي عهد في القُرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تُغدقُ
ومن السماء نزلت أم فُجرت من ... عُليا الجِنان جداولاًتترقرق
وبأيِّ عينٍ أم بأيَّة مُزنةٍ ... أم أي طوفانٍ تفيض وتفهق
وبأي نَول أنت ناسجُ بردةٍ ... للضَّفتين جديدُها لا يخلق
تسودُّ ديباجاً إذا فارقتها ... فإذا حضرت اخضوضر الإستبرق
في كل آونةٍ تبدِّل صِبغةً ... عجباً وأنت الصابغ المتأِّنقُ
أتت الدهور عليك مهدُك مترعٌ ... وحياضك الشُّرقُ الشهية دُفق
تَسقى وتُطعم لا إناؤك ضائقٌ ... بالواردين ولا خِوانك يَنفَق
والماءُ تسكبه فيسَبك عسجداً ... والأرض تغرقها فيحيا المغرَق
ونظر الشاعر فرأى الوثنية المصرية تأمر بعبادة النيل، فشاء له الأدب أن يوجه تلك العبادة توجيهاً يرفع عنها أصر الشرك بواجب الوجود:
دينُ الأوائل فيك دينُ مُروءةٍ ... لم لا يُؤَّله من يَقوت ويرزُق
لو أن مخلوقاً يُؤَّله لم تكن ... لسواك مرتبة الألوهة تخلَق
جعلوا الهوى لك والوقار عبادة ... إن العبادة خشيةٌ وتعلُّق
ثم نظر الشاعر فرأى أن المصريين القدماء كانوا يهتمون ببناء القبور أضعاف ما يهتمون ببناء البيوت، فاتخذ من ذلك دليلا على حبهم للخلود:
بلغوا الحقيقة من حياة عِلمُها ... حُجُبٌ مكثَّفة وسرٌّ مغلق
وتبينوا معنى الوجود فلم يروا ... دون الخلود سعادةً تتحقَّقُ
يبنون للدنيا كما تبني لهم ... خرباً غرابُ البين فيها ينعق
فقصورهم كوخٌ وبيت بداوةٍ ... وقبورهم صرحٌ أشمُّ وجوسق
ولم يفكر الشاعر في تفنيد خرافة (عروس النيل) وإنما جعلها حقيقة شعرية حين قال:
ونجيبةٍ بين الطفولة والصبا ... عذراء تشربها القلوب وتعلَق
كان الزفاف إليك غاية حظها ... والحظ إن بلغ النهاية موبِقُ(490/9)
لاقيت أعراساً ولاقت مأتماً ... كالشيخ ينعم بالفتاة وتزهق
إلى آخر ما قال في هذا المعنى الدقيق. وقد اعتذر عن أسطورة (أبيس) فجعلها نوعاً من الوفاء للدين:
قومٌ وقارُ الدين في أخلاقهم ... والشعب ما يعتاد أو يتخَلقُ
ولم يفت الشاعر أن يسجل في أبيات كريمة أن مصر التي كانت موئلا للديانة الفرعونية هي مصر التي آوت الديانة الموسوية والديانة العيسوية والديانة المحمدية، ولم يفته أيضاً أن ينص على عدالة عمرو بن العاص الذي ضرب ابنه بالسوط حين سمع إنه أهان أحد الأقباط، وقال في ذلك كلمته التاريخية: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)
ثم ماذا؟
ثم يختم شوقي قصيدة النيل بأبيات تفسر معنى الوطنية، فالناس عنده يحبون الوطن لأنه مصدر سعادتهم، ولأنه المستقر الأمين لأبنائهم:
مما يحمِّلنا الهوى لك أفرُخٌ ... سنطير عنها وهي عندك ترزَقُ
تهفو إليهم في الترابِ قلوُبنا ... وتكاد فيه بغير عرقٍ تخفُق
تُرَجى لهم، والله جلَّ جلاله ... منا ومنك وبهم أبرُّ وأرفق
زكي مبارك(490/10)
الملك الظاهر
زيارة ضريحه بدمشق
للأستاذ أبي أسامة
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً
قلت: مهلا فإني أنحدر من تاريخ طويل من المجد والبطولة؛ وليس في وسعنا نحن أبناء هذا الجيل الزاحف أن ننساه أو نغض الطرف عنه، بل إني لأشعر بالفخر يملأ نفسي، نعم لأني أشعر بالبطولة تملأ جوانب تاريخي
قالت: ومن هم أبطالك؟
قلت: كنجوم السماء لا تملك لهم عدا
قالت: حدثنا عن النفس القوية عندكم التي لا تربط حظها بما تؤمله من مساعدة الغير لها، ولا تعتمد على أهواء الناس وآرائهم وأحكامهم، وإنما تعتمد على عملها وحده الذي يخلق لها الحظ الذي تستحقه والذي هو جدير بها
قلت: اخترت الملك الظاهر بيبرس، إذ هو في نظري من أولئك الذين يعتمدون على القوة الكامنة في شخصيتهم، بل من الذين اتخذوا من أنفسهم قوة منظمة مدركة للعوامل المحيطة بهم، فوضع كل عامل في مركزه الخاص به، ثم جمعها وحشدها ووزعها، فاستعملها للوصول إلى الأهداف التي قصد تحقيقها، وكان النصر حليفه وطوع بنانه
قالت: آتنا من بعض أخباره
قلت: لست بمؤرخ، وإنما سأحاول أن أرسم التاريخ وأخرجه صورة حية:
نحن في سيارة من بيروت إلى دمشق ومعي صديقي، وكان ذلك في صيف 1942، فإذا أنا أرتل قول القائل:
لئن عاينت عيناي أعلام جلق ... وبان من القصر المشيد قبابه
تيقنت أن البين قد بان والنوى ... نأى شحطها والعيش عاد شبابه
هذه دمشق قد بدت تطل بوادرها عليك من وراء عقبة دمر، فإذا بالمرجة الخضراء تغمرك بروحها كما تغمر الأرض مياه بردى المندفعة، فتشعر بأنك تدخل عالماً لم يكن غريباً عنك في يوم من أيام حياتك(490/11)
بدأت أستعرض ذكريات التاريخ الذي هو جزء منا، وأتحدث عنها، ودمشق عاصمة وثغر ورباط للعلم وموئل للعز التالد وللمجد القادم، كلما دخلتها شعرت بأن مصر تعيش في دمشق، كما أشعر في القاهرة بأن الشام تعيش بمصر. انظر إلى مساجد العاصمتين: تجد وحدة البناء والزخرفة، ووحدة التفكير والروح. أنظر إلى مئذنة الجامع الأموي الواقعة على يمين مدخله، ألا تذكرك بمآذن الأزهر بالقاهرة؟ وانظر إلى مئذنتي الغورى وقايتباي بمصر، ألا تذكرك بمآذن الشام؟
وأذكر أنني خرجت يوماً من الجامع الكبير فوقفت على قبر صلاح الدين وواصلت سيري إلى المجمع العلمي ومنه اتجهت إلى الظاهرية، فإذا أمام ما سطرته يد الزمن السالف الغابر لأقرأ ما يأتي:
(بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بإنشاء هذه التربة المباركة والمدرستين المعمورتين المولى السلطان الملك السعيد أبو المعالي محمد بركة بن السلطان الشهيد الملك الظاهر والمجاهد ركن الدين أبو الفتوح بيبرس الصالحي أنشأها لدفن والده الشهيد وألحق به عن قريب فاحتوى الضريح على ملكين عظيمين ظاهر وسعيد. أمر بإتمام عملها السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قسيم أمير المؤمنين خلد الله سلطانه)
هذه دار العقيقي من رجال الدولة الفاطمية المصرية، بنيت منذ تسعة قرون ولا تزال حجارتها العتيقة ظاهرة وفاصل البناء تلمسه بين القديم وما استجد في أيام السعيد. ارجع إلى مدخل الظاهرية وانظر إلى جمال الباب وتناسقه والى المقرنصات بسقفه، إنه لتحفة من ريازة القرن السابع الهجري فإذا اخترقت الباب فاتجه يميناً إلى القبة
هنا ضريح الملكين الشهيدين تحت قبة قد ازدانت جدرانها بالفسيفساء قلد راسمها جدران المسجد الأموي ورسومه، فإذا اتجهت إلى المحراب تجده تحفة أخرى من زخرفة هذا العصر يمتاز بالصدف الملبس في أعلاه وجوانبه فجاء كإطار ركب حول العمودين. اقرأ الآية التي كتبت على اليمين: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) وعلى اليسار: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) أما ما تحت الفسيفساء من الجدران فقد ركب عليه الرخام المجزع، اختلف صديقان لي في أصله أهو من الشرق أم من الغرب.
ووقفت أمام هذا الضريح وقد غمرتني نفحة فانتبهت أمام رهبة الراقد كأني أتلقى الأمر(490/12)
ممن كانت بيده مقاليد آلاف الرجال وأعنة آلاف الخيل، وأحنيت رأسي احتراماً وإجلالا إذ هنا الملك الظاهر من كان اسمه يدوي في أرجاء ممالك ثلاث قارات من العالم المعروف في عصره. ومرت أمامي أدوار البطولة والمجد التي أوحتها إلي هذه البقعة الطاهرة
قد مر بمخيلتي في تلك اللحظة لفتة من الدهر تملأها الثقة بالنفس وتمثل الإرادة القوية التي أنشرها لاعتقادي ووثوقي في أن الأمة التي تحترم نفسها هي التي تشيد بأبطالها، وحينئذ تستحق احترام العالم المتمدين وتقديره لها.
كان عصر الظاهر عصراً فذاً في التاريخ ماجت فيه الأمم والشعوب والجماعات، وتمخضت أيامه بالحوادث الجسام والمعارك الكبرى، وقذفت فيه الأقدار بقوات هائلة من الخير والشر معاً؛ وكان هذا الركن من العالم الذي نعيش فيه الآن، يواجه أشد الأخطار ويمتحن بأقوى المحن التي مرت في تاريخه - فهو لم يكن قد أفاق بعد من النكبة الكبرى والصدمة المروعة التي أصابته في بغداد يوم استباحها هولاكو سنة 656 وكان صدى استشهاد الخليفة العباسي لا يزال يهز النفوس ويدوي في الدنيا
كانت النكبات تتوالى من ذات اليمين وذات الشمال؛ وهذا العالم العربي يعاني الشدة أثر الشدة ويقارع ويكافح ضد الفناء أمام قوات تفوق طاقته وقد انسابت عليه من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، والناس في دهش يتساءلون أأذنت الساعة؟ لم استعجلهم ربهم بالعذاب؟ (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض، أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون)
(قرآن كريم: الأنعام)
إن ما أصاب الشرق العربي في ذلك العصر الرهيب كان من قبيل الانقلابات الأرضية التي تثيرها عوامل الطبيعة فتدك الأرض دكاً وتهبط على أثرها المحيطات وتظهر بعدها القارات، أو كأعاصير هائلة برق ورعد وظلمات، ثم يعقبها طوفان يأتي على الأخضر واليابس ويهدم أحسن ما بناه الإنسان وما أخرجه العقل البشري. كان هذا حال أجدادنا في القرن السابع الهجري حينما قذفت عليهم الأقدار بتيارات متعاقبة من جماعات البشر تهاجمهم في عقر ديارهم فتخرجهم منها، وتنتزع من أيديهم فلذة أكبادهم وتهدم وتحرق(490/13)
وتخرب وهم لا يستطيعون لها دفعاً إلا بقدر ما في أيديهم من قوة وصبر
في وسط هذا الوقت العصيب والليل المدلهم سطع في السماء نجم الظاهر، وظهرت على مسرح شرقنا شخصيته الجبارة فقال عنه المؤرخون في عصره (هو الأسد الضاري كان شهماً شجاعاً أقامه الله للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والأمر العسير)
ولقد قامت قيامة الدنيا، وكشر إله المعارك عن أنيابه، ولعب الرجال والأبطال أدوارهم ثم انتهت القوى الجامحة التي أثارتها الطبيعة فألقت قيادها إلى رجل قد اختارته العناية من مصر وهيأته بمصر، فما أن رأته العناصر الهائجة حتى خفتت لدى طلعته، ثم خبت فسلمت إليه طائعة مختارة
وأطلت شخصية الملك الظاهر على القرن السابع الهجري، فإذا هي تكشف ما حولها وتظهر واضحة براقة قوية وكأن إرادة الملايين التي تمثلت في إرادته وآمال الناس التي تحققت على يديه وأكبرت عمله قد تجمعت في بقعة واحدة وأخذت تنشد بصوت واحد في مواجهة عالم بأكمله:
(إني أرفع يدي إلى السماء وأقول: حي أنا إلى الأبد)
(يتبع)
(أبو أسامة)(490/14)
حديث عيسى بن هشام
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
كتب الدكتور (زكي مبارك) بحثاً قيماً في حديث عيسى بن هشام شرح فيه كثيراً من الحقائق التي تهم كل مطلع على هذا الكتاب، وكشف عن كثير من النواحي التي تهدي الطلاب إلى الصواب، وتأخذهم بأيديهم إلى طرق البحث المجدي والاطلاع المفيد؛ ولكن الدكتور لم يرد ببحثه الاستيعاب والاستقصاء وذلك ليترك للطالب مجالا للتفكير والتنقيب
هذا ما رآه الدكتور وهو رأي فيه صواب وفيه حكمة؛ ولكن الطالب في كثير من الأحيان يحتاج إلى شيء من البسط والإيضاح؛ ولهذا رأيت أن أكتب هذه الكلمة الموجزة تتميماً للفائدة في أسلوب الكتاب ومنزلته القصصية
1 - المنزلة القصصية للكتاب
حديث عيسى بن هشام تصوير رائع للمجتمع المصري في فترة من الزمن، وعرض شائق للحياة المصرية وما فيها من أخلاق وعادات وأنظمة في أسلوب قصصي جميل
ولا يشك أحد في أن هذا الكتاب يعتبر بداية طيبة للقصة المصرية وفتحاً جديداً للون جديد من الأدب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ذلك لأن القصة المصرية منذ بداية العصر الحديث كانت مقصورة على المقامة والقصص العامية، وما خرج منها عن هذه الدائرة كان منقولا عن اللغات الأجنبية لا يمثل الحياة المصرية في قليل ولا كثير - ولقد كان إخواننا السوريون أسبق إلى النقل والتأليف في هذا الفن؛ فاهتموا به منذ منتصف القرن التاسع عشر ونقلوا كثيراً من القصص التي لا تمثل الحياة الشرقية، ثم ألفوا بعضاً منها يمثل الحياة العربية (كالمروءة والوفاء) للشيخ خليل اليازجي
ونحن حين نقول إن حديث عيسى بن هشام كان بداية طيبة للقصة لا ندعي أنه استوفى شروطها وأنه سلم من الأخطاء الفنية التي تخرج الكتاب عن الروح القصصي، فالقارئ يلحظ التقصير في كثير من المواقف التي عالجها الكتاب، ويحس أن المويلحي كان سارداً لمظاهر الحياة المصرية لا كاتباً قصصياً. ويكفي للبرهان على هذا الرأي أن يرجع القارئ إلى المجالس التي شهدها عيسى بن هشام مع الباشا، فهما يحضران مجلس التاجر وغيره بعد الاستئذان ويسمعان كل ما يقال، ثم يخرجان دون أن يشعر بهما أحد ودون أن يشتركا(490/15)
في الحديث مع الجالسين، وهذا مناف للعادات المألوفة؛ فالزائر الغريب دائماً يكون موضع السؤال والاهتمام والعناية؛ وكثيراً ما يكون قدومه سبباً في تغيير سياق الحديث
ثم إن الكاتب بالغ إلى حد كبير في الاستقصاء وتتبع نواحي المجتمع وكان يتلمس المناسبات في كثير من الأبواب ليشرح موضوعاً من الموضوعات، وكان الاتصال بين الأفكار أحياناً لا يجري على المألوف المستساغ. والمعروف أن القصص لا تحتمل هذا التكلف، ويكفي أن يلم الكاتب في قصته ببعض هذه الموضوعات.
ولكنا مع هذا لا نغض من قدر الكتاب فهو توجيه جديد إلى لون من الأدب ولا يسلم مثل هذا الانتقال من المآخذ والنقص
2 - أسلوب الكتاب
لقد كتب الدكتور في هذا الموضوع كلمة قيمة وضح فيها أن أسلوب الكتاب نوعان: أسلوب فني أريد به الإمتاع، وأسلوب علمي توخيت فيه السهولة والبساطة.
وهنا يتساءل بعض القارئين: لم اختلف الأسلوب في كتاب واحد لمؤلف واحد؟
والمعهود أن لكل كاتب أسلوبه الخاص الذي يمتاز به ويحمل طابعه في كل كتابة له، ولم نعرف لكبار الكتاب الأقدمين والحديثين نوعين من الأساليب؛ فأسلوب الجاحظ له طابعه ولأسلوب الزيات مميزاته الخاصة.
وأقول في الإجابة عن هذا: إن السر في اختلاف الأسلوب في حديث عيسى بن هشام راجع إلى أن الكتاب وضع في عهد انتقال للأدب؛ فقد اضطرب الأدب والأدباء في نهاية القرن التاسع عشر، وكان الأدباء بين عاملين: عامل الحنين إلى القديم المملوء بالجمال الفني والمحسنات البديعية، وعامل النزوع إلى الطريقة الجديدة التي تعني بالمعنى والسهولة والوضوح قبل كل شيء. وقد جاء حديث عيسى بن هشام معبراً عن هاتين النزعتين أصدق تعبير؛ فهو حين يجد مجالا للجمال والإمتاع يستعير قلم من يعنون بالديباجة والصياغة اللفظية؛ وحينما يقف أمام موضوع علمي يتناوله بقلم المجددين الذين يعنون بالمعاني والبساطة في الأسلوب. وقد كان هذا التردد بين الأسلوبين ظاهراً في أسلوب كثير من الأدباء الذين ظهروا في هذه الفترة من الزمن ومنهم الشيخ محمد عبده وعبد الله فكري. وما زال الأدباء على هذا النحو من التردد حتى ظهر الأدب في ثوبه الجديد واستقر في(490/16)
اتجاهه الذي نشهده الآن فصار لكل أديب أسلوبه الخاص الذي يعرف به.
ويلحظ القارئ في حديث عيسى بن هشام أن المويلحي لا يلجأ إلى تنميق العبارة والعناية بالأسلوب إلا إذا كان الحديث على لسان عيسى بن هشام أو الباشا؛ أما غيرهما من أشخاص الكتاب فيجري الحديث على ألسنتهم سهلاً لا أثر فيه للتنميق والتجميل. ولم يشذ عن هذه الطريقة إلا في الحوار، فهو يتوخى فيه السهولة ولو كان بين عيسى والباشا.
ونستطيع أن نلخص مميزات الأسلوب الفني في حديث عيسى بن هشام فيما يلي:
(أ) السجع ولم يظهر فيه التكلف إلا قليلاً لاقتدار المويلحي على تخير الألفاظ الملائمة
(ب) الاستشهاد بالشعر والتضمين في كثير من المناسبات، وقد أكثر من ذلك المويلحي وكان اختياره يدل على سعة اطلاعه وصفاء ذوقه
(جـ) الاقتباس من القرآن الكريم
(د) ومن المحسنات الكثيرة التي حسن بها كلامه الجناس وفي بعض ما أتي به مغالاة وإكثار ومن ذلك قوله: (وغيرها ترضع طفلين في حذاء وزوجها يضرب رأسها بالحذاء. وأخرى آخذة بضفيرة ضرتها ورضيعها يتلهف على ضرتها)
(هـ) وهو يأتي بالتورية في موضعها، ويعزب في بعض التعبيرات فتأتي عالية الأسلوب بين التعبيرات الأخرى السهلة
(و) يستعير خيال الشاعر في كثير من الأبواب وبخاصة في الوصف
وبعد فإن للكتاب نواحي كثيرة لا يتسع المقام لشرحها، ومن بينها النقد الأدبي في الكتاب والاتجاهات الأدبية التي يرمي إليها المؤلف، والإصلاح الاجتماعي الذي يبغيه. . . وهكذا. وعلى الطالب أن يستوعب كل هذا ويلم بأطرافه والله الموفق الهادي.
(الفيوم)
أحمد أبو بكر إبراهيم(490/17)
الدبابات أمام المدن
للأستاذ (ذ. ص)
بعد أن تنتهي هذه الحرب تدخل في سجل التاريخ ونكون قد نسيناها أو تناسينا ما مر بنا من أهوال، سيقبل علينا أطفال الجيل الجديد يسألون ويلحفون في السؤال، فنحيلهم على كتبهم المدرسية حيث الأحداث قد صبت في كلمات وجمل تعجز عن تصوير ما خيم على العالم من خوف وهلع، ولا نقدم لهم إلا الأيام والشهور والأسماء والأرقام.
والأرقام والتواريخ كما كانت وكما ستكون، ثقيلة على الذاكرة، عسرة على اللسان، فلذلك ستبرز الأسماء إلى الأمام وتكون موضع التذاكر والنقاش، وخاصة ما دل منها على المعارك انتسبت حيناً إلى بقاع مترامية الأطراف كفرنسا والاطلنطي، ولم تحمل حيناً آخر إلا اسم مدينة أو بلدة، لا تحتل من خرائطهم إلا مقدار الثقب الصغير.
اتسعت رقعة المعارك قدماً مع نمو الجيوش، حتى إنها شغلت في الحرب الماضية مقاطعات شاسعة أو امتدت بطول بعض الأنهار، أما المدن فلم يكن لها كبير شأن إلا في أحوال خاصة، إذ كانت قلاعاً قوية منعزلة كلييج ونامور، أو نقط ارتكاز لخط دفاعي طويل كفردون.
وبدأت هذه الحرب وسمعنا بمعركة بولندا ثم النرويج، بل أن بلاداً فسيحة كالدنمرك ذهبت في ليلة لم يعقبها نهار، ثم البلاد الواطئة والفلندر وفرنسا. وفجأة ظهرت أسماء من نوع هو علينا جديد، احتلت مكانة خاصة، بل واعتبرها البعض من نقط التحول الهامة في تيار الحوادث، ومن هذه يكفيني أن أذكر على سبيل المثال: سمولنسك واستالنجراد.
كانت المدن في قديم الزمان حصوناً تصمد للأعداء شهوراً بل سنين، تغنى بحوادثها الشعراء وخلدت أسماؤها في تاريخ الحروب؛ فمن ذا الذي ينسى طروادة وحصانها الخشبي، وسقوط القسطنطينية أمام عبقرية محمد الفاتح، وارتداد نابليون تحت أسوار عكا وهو كظيم؛ ولكن الحروب ظلت تتطور ووسائلها تتعدد؛ حتى أصبحت مدافع الحصار أكملها استعداداً واشدها فتكاً، ولم تعد المدن - كما رأينا في الحرب الماضية - إلا مصايد للموت، فلم يرتد إليها المتقهقرون، بداخلها يحتمون، بل فضلوا الأرض الفضاء، ينبطحون خلف ثناياها، ويحتفرون في سطحها الخنادق ويمدون بجوفها السراديب(490/18)
ولما قامت الحرب الإسبانية حولها الألمان إلى معمل تجارب لقيادتهم العسكرية، فيها يحللون ومنها يستنبطون، يلقون فيها بالسلاح الجديد يبلونه؛ ويقحمون نظرياتهم في تكتيكات فرنكو يختبرونها. واستمرت الحرب بين مد وجزر؛ وكان الجمهوريون كلما اكتسحتهم الدبابات ذعروا، وارتدوا إلى الوراء، والتجئوا إلى مدنهم يحتمون بها بعد أن كانوا حماتها؛ وكم دهشوا حين لم تخذلهم هذه كما خذلوها
لم تقف المدن في وجه الدبابات سداً منيعاً كما كانوا يأملون (وهم في قرارة نفوسهم من ذلك يائسون)، بل ظهرت لهم بمظهر جديد، لا تتمنع للداخلين بل تغريهم وترحب بهم، فإذا أصبحوا وسطها وخبروها، وجدوها الهوة التي ليس لها قرار، تجتذب الأجساد إلى الأعماق ولا تلفظ إلا الأرواح
استدعى ذلك الحال من الألمان لفتة أو لفتين، ولكنهم لم يعلقوا به كبير اهتمام، بل ظنوا الأمر طارئاً أسبابه ظرفية أكثر من أن تكون فطرية، فهذه حرب ليست ككل الحروب، هي حرب أهلية بين أفراد جنس واحد، انحدر من فرع لاتيني (وكم كان التتون يحتقرون اللاتين!)، وهذه الخطط هي من عصارة عقولهم، هم الجرمان، فهذا الأمر إذن لا يحتمل أدنى شك ولا يقبل أي جدال: كل نجاح هو إذن وليد خططهم ونظرياتهم، أما كل نقيصة أو كل خذلان فهو راجع لا محالة إلى طرق اللاتين في التنفيذ
اندلعت الحرب في سبتمبر سنة 1939، وتدفقت جيوش الألمان على بولندا، جارفة ما في طريقها من رجال وعتاد وحصون وقلاع، ولكن. . . ما هذا؟ رينهارت يصد؟. . . رينهارت الفذ يصل إلى غرضه ثم يرتد. . .؟، تخطى الجنرال رينهارت حدود بروسيا الشرقية على رأس جيشه المدرع أول أيام الحرب متجهاً صوب (وارسو)، ولكنه ما وصل إلى شوارع العاصمة البولندية حتى دفع إلى الخلف، وهجم الألمان ثانية ثم ثالثة، ولكنه في كل مرة كان على أعقابه يُرد.
تمزقت بولندا شر ممزق وقُطعت أوصالها تقطيعاً، وهرست أرضها هرساً، ووارسو لا تزال صامدة. نحن في أول أيام الحرب وكل قائد ألماني متعطش إلى إحراز السبق في النصر، ليسمع من زعيمه كلمة الثناء الموعودة، وينجز لبلاده ما ألقت عليه من أعباء؛ هذا فون بوك قد هصر الممر البولندي هصراً وهبط كالصاعقة من الشمال الغربي، وهذا فون(490/19)
رنشتيد قد اخترق حصون المنطقة الصناعية عند (كراكاو)، والتف هاجماً من الجنوب الغربي. يتململ رينهارت ويرغي ويزيد، وينقض على وارسو يدكها دكا، ويطلق طائراته عليها: بالقنابل تقذفها وبالأرض تسويها، ثم تعود دباباته إليها تقتحمها، وتنساب في أزقتها، وتنعطف في منحنياتها وتضرب يميناً وشمالا. ولكن قليلاً قليلاً يهبط عليها نفس الشعور القلق ويكتنفها نفس الإحساس المبهم اللذان حلا بها في الهجمات السابقة، فتشلها الحيرة ويخنقها الارتباك؛ عدوها لا يزال مراوغاً غير مرئي. أين هو وأين يختفي؟. . . تجحظ عيون الألمان من فتحات الفولاذ الضيقة باحثة منقبة، ولكنها لا ترى إلا طريقاً خلواً طويلاً، منثنياً متعرجاً بين ديار وإن تكن قد خربت، ومنازل وإن تكن أجنابها قد صدعت، إلا إنها، هذه وتلك، لا تزال تؤوي مئات الجنود وآلاف السكان - هؤلاء الزاحفون داخل الفولاذ، مجال الرؤية أمامهم محدود، في حين أنهم ظاهرون بكل جلاء، واضحون وضوح الشمس والنهار - ينصب المدفع خلف أحد الأبواب، وبمجرد ظهور الدبابة أول الشارع يعد المدفع ويجهز، بينما لا تراه هذه حتى تكون بحذائه، وفي لمح البصر تصيبها الصدمة، فتمزق أجنابها وتهشم أفرادها، وتقذف أشلاءهم متشابكة مع فولاذها المتناثرة، متعلقة بأجزائها المتطايرة هنا وهناك. وهذه أخرى أوقفتها المتاريس لحظة فتساقطت عليها فجأة زجاجات البترول المندلعة، تشعل فيها النار وتشوى رجالها شياً، فتتعالى صيحاتهم المروعة، متجاوبة في آذان زملائهم المتقدمين خلفهم. . . فبالله عليك ماذا تنتظر من هؤلاء وقد رأوا عدوهم الخفي لا يظهر إلا ليضرب الضربة الصائبة، وإذا قضوا عليه آخر الأمر، فهناك غيره مئات بل آلاف، الموت لهم بالمرصاد، جاثم متربص في كل منعطف وفي كل ركن، وفي كل نافذة وفي كل قبو
ولم يكتو أحد بهذه الحوادث مثلما اكتوت به الجيوش الألمانية، وصممت ألا تقع في مثلها ثانية، وساعدها على ذلك غفلة العدو عن التقاط خبرة الغير والانتفاع بدروسها، ولذا رأينا الألمان يقذفون المدن الهولندية قذفاً ويمحقونها محقاً، واختصت روتردام بأكبر نصيب، ثم أسقطوا عليها الآلاف من جنود المظلات، يئدون المقاومة في مهدها، ويستحوذون أول الأمر بثمن بخس ومجهود ضئيل على تلك المراكز التي ربما تحولت آخر الأمر - إن هم تركوها إلى أوكار للدفاع - تستنزف من المجهود ما ضخم، بل ما استعصى: من توتر في(490/20)
أعصاب القواد شديد، وثمن في سوق الأرواح مرتفع
وفصلت جيوش الشمال فكانت (دنكرك)، ودار الهاجمون نحو الجنوب. . . صوب باريس، وكانت القيادة الألمانية تعلم بتفكك الروح المعنوية في فرنسا، وما وصل إليه الأفراد فيها من أثرة وأنانية، فقررت الامتناع عن ضرب باريس، ذلك الضرب الذي ربما أحيا ما مات فيهم من شعور، فلم يخب ظنهم بل فتحت لهم الأبواب دون قيد أو شرط
أما الروس فكانوا هم وحدهم الذين تفتحت أذهانهم لمقتضيات الظروف، وحولوا مدنهم إلى مراكز دفاع قوية، سلح فيها المدنيون قبل العسكريين، فأمسك الزاحفون عن دخولها خشية التعرض لاستنزاف قواهم في شوارعها، ولم يجسروا على تركها خلفهم خشية التعرض لتقطيع خطوط مواصلاتهم، حول ضواحيها، بل فضلوا على كره وقف زحفهم الدقيق التوقيت مترقبين بقلوب قلقة جازعة وصول مدفعيتهم الضخمة الجاهدة وسط الأوحال على طرق وعرة حفت بها عصابات الأعداء، ثم ينصبونها إما وصلت، لتقوم بالدك والتحطيم أمداً من الزمان، وأخيراً يتبعونها بجنودهم الراجلة لاقتحام المباني منزلا بعد منزل ثم غرفة بعد غرفة
أصبحت المدن العائق الأكبر للجيوش المدرعة، فهذه تعتمد على السرعة أكبر اعتماد، مزيتها الأولى هي سرعة الاندفاع من مكان إلى مكان، وتلك تعمل على العرقلة والتعطيل، واجتذاب العدو وربطه بالمكان
لم يصب الجيش الألماني في جميع معاركه بخسائر تذكر بجانب ما حاق به في سمولنسك وسبستبول وستالنجراد وسائر المدن الروسية الكبرى، بل أن أكواخ بيتر حكيم القليلة العدد ذات القوالب الطينية، كلفتهم ما يفوق خسارة اليابانيين أمام رنجون؛ فالأولى أحسن الحلفاء استعمالها، أما الثانية فقد بادروا فيها إلى الإخلاء، ولم تساعدهم روح أهاليها المعنوية على إعداد الدفاع.
(ذ. ص)(490/21)
الأزهر والإصلاح
هل للأزهر فكرة إصلاحية. . .؟
للأستاذ محمود الشرقاوي
في سنة 1928 ونحن نطلب (العلم) في الدراسات الأخيرة للأزهر انتبهت نفوسنا وأذهاننا لأمر جديد اسمه الإصلاح، أقصد إصلاح الأزهر. وكان مثار هذا التنبه المفاجئ أن شيخاً مصلحاً عظيماً ولى مشيخة الأزهر عرفناه باسم الشيخ المراغي وبوصف الإمام المصلح خليفة الشيخ محمد عبده.
ثم انتهينا من طلب (العلم) ولم تنته نفوسنا ولا أذهاننا من الانتباه بل الاندفاع مع ما فاضت به قلوبنا من الرغبة ومن الاقتناع بضرورة الإصلاح للأزهر. ومن الرغبة والاقتناع بضرورة (تجديد الحياة الدينية) في مصر والشرق.
وبقي الشيخ المراغي في الأزهر فترة ثم تركه، ولكن الحديث عن الإصلاح والتجديد ظل مقروناً باسم الشيخ المراغي، وظل وصفه بالإمامة والإصلاح والخلافة للشيخ محمد عبده قائماً.
وسارت بنا الحياة هذه السنين الكثيرة العدد ما ننفك نكتب ونتحدث ونفكر في الإصلاح والتجديد. وسارت الحياة بالأزهر هذه السنين الكثيرة العدد فتقدم فيها نحو الإصلاح والتجديد خطوات ليس من حقي الآن وليس مقصودا إلى أن أبين عنها ولا أن أبدي رأياً فيها. بل من حقي ومن واجبي أن أعدل بما كنت فلا أقول إن الأزهر في هذه السنين الكثيرة العدد قد (تقدم) نحو الإصلاح والتجديد، بل أقول إنه قد (تغير) عما كانت عليه حاله قبل هذه السنين، ولك أنت - ولي أنا أيضاً - أن أفهم وأن أحكم وأن أصف هذا التغيير هل كان إلى حسن أو إلى غير حسن. وهل كان تقدما نحو الإصلاح والتجديد أم لم يكن. وهل كان الأزهر بهذا (التغيير) كاسباً أم خاسراً، والى أي مدى كان ربحه وكانت خسارته في الثانية أو في الأولى. أم أن هذا التغيير الذي صار إليه الأزهر في هذه السنين الكثيرة لم يكن تجديداً ولا رجعة ولا تقدماً ولا تخلفاً، وإنما هو تخبط وتخليط، وأن الأزهر صار به ومنه كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
من حقك ومن حقي أن نفكر وان نحكم وأن نصف ما فعل الأزهر أو فعل به في هذه(490/22)
السنين. ففكر - إن لم تكن - واحكم وصف. أما أنا فقد فكرت وحكمت وليس من شأني اليوم ولا مقصوداً لي أن أصف، أما الذي هو من شأني اليوم ومقصود لي فهو أن أكتب هذا الفصل (للرسالة) عن: (فكرة الإصلاح) في الأزهر. ما هي. . .؟
فلنسلم جدلا أو اقتناعاً بأن الأزهر له فكرة إصلاحية. وبأن الكلام عن الإصلاح التعليمي في الأزهر وعن الإصلاح الخلقي فيه. والكلام عن إصلاح الحياة الدينية في مصر ليس مقصوداً بهما الدعاية ولا التظاهر ولا عرض من متاع الحياة أو جاهها، وليس لصوقاً بوصف معين فيه ربح أو فيه متاع لنفس أو إرضاء لشهوة
فلنسلم جدلا أو اقتناعاً بأن للأزهر فكرة الإصلاحية لتجديد الحياة العقلية والحياة التعليمية والحياة الخلقية بين أهله، وأن للأزهر فكرة إصلاحية لتجديد الحياة الدينية في مصر أو في الشرق. . . فما هي هذه الفكرة الإصلاحية التي وضع الأزهر أو وضع رجاله حدودها ورسموا معالمها وخطوطها وحددوا أهدافها القريبة أو البعيدة. . .؟
وهل استبان الأزهر واتضحت له الطريق التي يسلكها إلى أهدافه القريبة أو البعيدة، حتى يأخذ بأسبابها ويتلمس نهجها ويعرف أين هو مما كان وأين هو مما يريد أن يكون؟
نحن نعرف أن الأزهر - في هذه السنين الكثيرة العدد - قد وسع على طلبته في منهج الدراسة للعلوم الحديثة، وأنشأ لهم المعامل للكيمياء، ورحلهم الرحلات، وأنه أنشأ لهم الكليات خمساً أو ثلاثاً ولوى ألسنتهم أو ألسنة بعضهم بلغات الإنجليز والفرنسيين والألمان. بل - والله قادر علمهم أو مكن لهم أن يتعلموا لغات أهل الصين واليابانيين والفرس والترك إلى ما لست أدري من لغات أهل الأرض، وأنه أخرج طلبة العلم فيه من قباتهم القديمة والجديدة، ومن صحن أزهرهم وأروقتهم إلى حيث يجلسون على الكراسي في عمائر جديدة في سفح الجبل بين مقابر الموتى، وفي أحياء متباينة متباعدة في القاهرة بين مقابر الأحياء
ونحن نعرف أن الأزهر - في هذه السنين الكثيرة العدد - قد قدم إلى طلبته المذكرات والملخصات والمختصرات، واستعان عليهم بطائفة من الأساتذة في دار العلوم ومن المطربشين في مدارس الحكومة، وأنه حفظ لأهله كرامة المال أو بعض كرامته فزاد لهم في الأموال وضخم لهم الميزانية عاماً بعد عام(490/23)
ونحن نعرف أن الأزهر في هذه السنين قد جمع بين أهله عقولا تفكر في الإصلاح وقلوباً تشغل به وجهوداً تسعى إليه. وأن في الأزهر الحديث الشيخ المراغي والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ شلتوت ومن ورائهم جمع أو جموع من الشباب والطلبة يهتدون بدهيهم ويستجيبون لما يريدونه عليه للإصلاح والخير والتجديد
فهل الإصلاح للأزهر هو العلوم الحديثة ولو لم يكن لها أثر في الإفراج عن عقول أهل الأزهر وإخراجها من عبودية التقليد إلى حرية النقد والموازنة والرأي؟ أم هو معامل الكيمياء والرحلات والتواء ألسنتهم أو ألسنة بعضهم بكلمات قليلة، أو كثيرة من لغات أهل الأرض ولو لم يكن لها أثر في الإفراج عن عقول أهل الأزهر وإخراجها من ظلماتها إلى نور هذه اللغات وكنوزها وحرية التفكير فيها وبراعة النظم. . .؟ أم هو الفرار من القبلة القديمة والجديدة ومن الرواق العباسي إلى عمائر جديدة أو بالية بين مقابر الأحياء أو مقابر الموتى. . .؟ أم هو الملخصات والمذكرات والمطربشون من المدرسين وأن تضخم الأموال في العام بعد العام. . .؟
نحن نعرف أن الأزهر قد تغير في هذه السنين الكثيرة العدد، وأن الكلام عن تجديده وإصلاحه لم ينقطع يوماً، وأن فيه عقولا تفكر وقلوباً تشتغل وألسنة تتكلم وأقلاماً تكتب وخطباً تحرر وتحبر، وجموعاً من الشباب والطلبة ومن الغيورين المملوءة قلوبهم حماسة وإخلاصاً وصادق رغبة. ولكن الذي نريد أن نعرفه: هل فكرة الإصلاح للأزهر وللحياة الدينية في مصر والشرق واضحة الحدود عند الأزهريين مستبينة المعالم؟ وهل تجمع بين أصحاب العقول التي تفكر والقلوب التي تنشغل والجهود التي تسعى والألسنة التي تتحدث؟ هل بين هؤلاء جميعاً رباط من غرض أو غاية توحد بينهم في الفهم والسعي والكفاح في سبيل ما يؤمنون به. . .؟
من حقك ومن حقي أن نفكر وأن نحكم وأن نجيب، ففكر واحكم وأجب، أما أنا فقد فكرت وحكمت وليس من مقصودي اليوم أن أجيب، بل أن أعرض ما بنفسي أو بعض ما بنفسي وأن أسأل من يجيب. فهل من يجيب؟
محمود الشرقاوي(490/24)
44 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق
يمكن أن نعزو ميل المصريات إلى الذات الشهوانية وفساد أخلاق الكثيرات منهن إلى عدة أسباب ينسب بعضها إلى المناخ والبعض الآخر إلى حاجتهن إلى التعليم المناسب والتسلية البريئة والاشتغال بعمل. ولكن ذلك يرجع على الأكثر إلى سلوك الأزواج أنفسهم، وهو سلوك أكثر خزيا لهم من الصرامة الشديدة التي يستعملونها في تنظيم الحريم. فجميع الأزواج في مصر يسعون إلى تحريك شهوة نسائهم بكافة الوسائل التي في قدرتهم، مع أنهم في الوقت ذاته يكدون ويثابرون لمنع زوجاتهم من إشباع هذه الشهوة بطريق يخالف الشرع. وهم يسمحون للنساء بالإصغاء من وراء الشبابيك إلى الأغاني الخليعة والروايات الفاحشة التي ينشدها في الشارع رجال يؤجرون لذلك، كما يسمحون لهن بمشاهدة رقص (الغوازي) الشهواني (والخولات) المخنثين. ويأذنون للغوازي، وحرفتهن الدعارة، بدخول حريم الأغنياء، لا لتسلية السيدات بالرقص فحسب بل لتعليمهن الفنون الشهوانية. وقد يجلب أحياناً لتسلية الحريم دمى لا حشمة فيها
روى لي عن كيد المصريات حكايات لا حصر لها. أذكر نموذجاً منها القصة التالية وقد حدثت أخيراً: تزوج نخاس شابة جميلة من هذه المدينة، وكان يملك مالاً يهيئ له عيشاً رغداً، ولكنه فقد أكثره، فكان له في ثروة امرأته عوض. ولم يلبث الرجل مع ذلك أن أهمل زوجه. ولكنه كان قد قضى عهد الشبان فلم تكترث زوجه لذلك، ومالت إلى رجل آخر يعمل زبالا وكان قد تعود الحضور إلى منزلها. فاشترت لهذا الزبال دكاناً بجانب المنزل ونفحته مبلغاً من المال يصلح من شأنه. ثم أخبرته أنها ابتكرت طريقة ليزورها في(490/25)
اطمئنان تام. وكان لحريمها شباك بمصراعين قامت أمامه على قرب منه نخلة تعلو المنزل، فلاحظت أن الشجرة تقدم لعشيقها وسيلة للوصول إلى غرفتها والهرب منها وقت الخطر. وكان لها خادمة واحدة تعهدت بمساعدتها على تحقيق رغباتها. وفي اليوم السابق لأول زيارة لعشيقها أمرت خادمتها أن تخبر الزوج بما سيحدث في الليلة التالية. فعزم الزوج على مراقبة زوجه، وأخبرها أنه لن يعود إلى المنزل تلك الليلة، ثم اختبأ في غرفة سفلى. ولما جن الليل جاءته الخادمة تخبره بحضور الزائر إلى الحريم فصعد إلى أعلى ولكنه وجد باب الحريم مقفلاً. وعندما حاول فتحه صرخت زوجه، وحينئذ هرب عشيقها من الشباك عن طريق النخلة. واستغاثت الزوجة بجيرانها وأخبرتهم أن لصاً في دارها. ولم يلبث أن حضر كثيرون منهم فوجدوها قد أوصدت باب غرفتها على نفسها وزوجها في الخارج، فأخبروها أن ليس بالبيت غير زوجها وخادمتها، فقالت إن من يدعونه زوجها هو اللص لأن زوجها يبيت خارج المنزل. فأخبرهم الزوج حينئذ بما حدث وأكد أن رجلا معها، وكسر الباب وبحث في الغرفة ولكنه لم يجد أحداً. فلامه الجيران وشتمته زوجته لافترائه عليها. واصطحبت في اليوم التالي اثنين من جيرانها الذين حضروا على صراخها ليشهدا أن زوجها قذفها في عرضها واتهمته في المحكمة إنه رمى امرأة عفيفة دون رؤية أو شهود. فحكم عليه بثمانين جلدة تبعاً لشريعة (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة). وطلبت الزوجة بعد ذلك من زوجها أن يطلقها فرفض. وعاشا معاً ثلاثة أيام بعد هذا الحادث في سلام. وفي الليلة الثالثة دعت الزوجة عشيقها ليزورها وقيدت زوجها يديه ورجليه أثناء نومه وشدته إلى حشيته. وجاء عشيقها فأيقظ الزوج وهدده بالموت العاجل أن صاح. ومكث مع الزوجة ساعات في حضوره. ولما خرج المعتدي فكت الزوجة وثاق زوجها، فنادى الجيران وأخذ يضربها بقسوة وهي تستغيث. وحضر الجيران ورأوه هائجاً، فلم يشكوا في قولها أن الرجل مجنون. فخلصوها من قبضته وهم يحاولون تهدئته بالكلام اللطيف ويدعون الله أن يشفيه. وأسرعت الزوجة باستدعاء رسول القاضي وذهبت معه هي وزوجها وكثير من الجيران الذين شاهدوا الحادث إلى القاضي. وأجمع الجيران على أن الزوج مجنون فأمر القاضي بوجوب إرساله إلى المارستان. ولكن الزوجة تكلفت الشفقة والتمست السماح لها بتقييده في غرفة من(490/26)
غرف منزلها حتى يمكنها أن تخفف من آلامه بالاعتناء به. فوافق القاضي مثنياً على عطف المرأة وداعياً الله أن يكافئها. وحصلت الزوجة بعد ذلك على طرق من حديد وسلسلة من المارستان. وقيدت زوجها في حجرة سفلى من المنزل. وجعل عشيقها يزورها كل ليلة في حضور الزوج. ثم تلح عليه بعد ذلك ليطلقها بلا جدوى. وكان الجيران يحضرون يومياً للسؤال عنه. فيشكو لهم من امرأته ويتهمها فلا يجيبونه بغير قولهم: (شفاك الله! شفاك الله!) واستمر هكذا شهراً فلما تبين للزوجة إصراره على الرفض أرسلت في طلب حارس من المارستان لينقله إليه. والتف الجيران حوله عند خروجه من المنزل وصاح أحدهم: (لا حول ولا قوة إلا بالله! شفاك الله!) وقال آخر: (يا خسارة. . . كان رجلا فاضلا حقا!) وقال ثالث ملاحظاً: (حقاً. . . إن الباذنجان كثير الآن!. . .) وأخذت الزوجة تزور زوجها كل يوم في المارستان ملحة في طلب الطلاق وهو يرفض. فتقول له: (ستظل إذن مقيداً حتى تموت، وسيأتي عشيقي عندي على الدوام!) وأخيراً رضى الزوج بالطلاق بعد حبس سبعة أشهر. فأخرجته من المارستان ونفذ وعده. وكان عشيق الزوجة من طبقة دون طبقتها فلا يمكن أن يكون زوجاً لها فبقيت عزبة وظلت تستقبله متى تشاء. غير أن الخادمة كشفت عن حقيقة الأمر. ولم يلبث الحادث أن أصبح حديث الناس.
تتعرض الزانية إذا كانت زوجة لثري أو لذي منصب، كما يتعرض عشيقها، لأهوال عظيمة. وقد حدثا أخيراً أن انتهزت زوجة أحد ضباط الجيش الكبار فرصة غياب زوجها عن العاصمة، فدعت لزيارتها تاجراً مسيحياً اعتادت أن تشتري منه الحرائر. فذهب التاجر إلى منزلها في الوقت المعين فوجد عند الباب أحد الأغوات قاده إلى منزل آخر وجعله يتنكر في ملابس سيدة. ثم عاد به وأدخله على سيدته. وقضى التاجر الليل كله تقريباً في بيت المرأة، ثم نهض قبل أن تستيقظ وأخذ في جيبه كيس نقود كان قد أعطاه إياها. ونزل إلى الأغا ليقوده مرة أخرى إلى المنزل الذي تنكر فيه.
فاسترد ملابسه وقصد دكانه. ولم تلبث السيدة التي افتقدت الكيس أن ذهبت إليه واتهمته بأخذه. ثم أخبرته إنها لا تريد نقوداً ولكنها تبغي رفقته فقط. ورجته أن يعود إليها في الليلة التالية، فوعد بالحضور. غير أن إحدى خادمات السيدة حضرت إلى دكان التاجر عصراً وأخبرته أن سيدتها مزجت بعض السم في الماء لتقدمه إليه. ويقال أن المرأة كثيراً ما(490/27)
تختار هذه الطريقة لتنتقم من عشيقها لأقل إهانة.
يندر أن ترتكب الزوجة المسلمة الزنا دون أن تعاقب بالموت إذا شهد على الواقعة أربعة شهود. ويرفع الشهود أو الزوج دعوى الزنا. وقلما تنجو الزانية من العقاب إذا ضبطها أحد الضباط. فلا يلزم في الحالة الأخيرة شهود أربعة، وإنما تعدم المرأة سراً، إذا كانت من عائلة محترمة، تحت سلطة الحكومة الاستبدادية. غير أن الرشوة قد تخلصها أحياناً لأنها تقبل دائماً إذا لم يكن هناك خطر. وتكاد عقوبة إغراق الزانية تحل الآن محل الرجم في القاهرة وغيرها من مدن مصر الكبيرة.
ويحكى أن امرأة فقيرة من هذه المدينة تزوجت من بائع طيور؛ وبينما هي تعيش مع زوجها وأمها في سكن، اتخذت ثلاثة مساكن أخرى وتزوجت ثلاثة أزواج آخرين كانوا جميعاً يتغيبون عن القاهرة. وحسبت هكذا إنه يسهل عليها إذا جاء أحد الثلاثة إلى المدينة لبعض أيام أن تجد عذراً للذهاب إليه. ولكن حدث لسوء حظها أن قدم الثلاثة في اليوم نفسه وذهبوا في مساء ذلك اليوم يسألون عنها في منزل أمها. فارتبكت لحضورهم معاً ولوجود زوجها الأول أيضاً. فتظاهرت بالمرض وسريعاً ما تصنعت الإغماء، فحملتها أمها إلى غرفة داخلية. واقترح أحد الأزواج إعطاءها شيئاً يقويها. وأراد آخر تجربة دواء مختلف. وأخذ الجميع يتناقشون في أي الأدوية أفضل. وقال أحدهم: (سأعطيها ما يحلو لي. أليست امرأتي؟) فصاح الآخرون في صوت واحد: (امرأتك! إنها امرأتي) وأثبت كل منهم زواجه. فقدمت الزوجة إلى المحكمة وحكم بإدانتها وقذف بها في النيل. وقد حدث حادث مشابه لهذا أثناء زيارتي الأولى فقد تزوجت امرأة ثلاثة من جنود النظام، فدفنت في حفرة إلى صدرها وأعدمت بالرصاص
عدلي طاهر نور(490/28)
من خمر الزوال. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(إلى التي سقتني ولم تشرب معي خمر الزوال، والى الذين
يشربونها مثلي من يد الزمان!!)
لا تَترُكينِي في ضَلالْ ... بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالخَياَلْ
إنِّي شَرِبتُ عَلَى يَدْي ... كِ مَعَ الهَوَى خَمرَ الزَّوِالْ
أصْبَحتُ لا نَغَمٌ يُفجِّ ... رُ لي السُّلوَّ وَلا رَبَابْ!
قَلْبي حُشاشةُ طائْرٍ ... في الصَّيفِ أحْرقُهُ اليَباَبْ
عُمري بَقيةُ مَوجةٍ ... حَيرَى تَخَطَّفَها العُبَابْ
في زَاخرً لَمْ يَدرِ ساَ ... بحُهُ أَبحرٌ أَمْ سَرَابْ؟!
رُحماَكَ. . لَمْ أُصْبحْ سوَى ... شَبَحٍ يَسيرُ عَلَى تُرابْ. .
لا تَترُكيِنيَ زَلةً ... في الأرْضِ تاَئِهِة المَتاَبْ
إنِّي شَربْتُ عَلَى يَدَيْ ... كِ مَعَ الهَوَى حَمْرَ الْعَذَابْ
أصْبحْتُ أشْوَاقاً مُعَذَّ ... بةً تُضِيء مِنْ الْحنَانْ
وَأسًى يدُورُ فَلا تَقَ ... رُّ لهُ عَلَى كبدٍ يَدَانْ
وَصَدى تَجَسَّدَ في الأثِيرِ ... فَكادَ يُلْمَسُ بالْبنانْ
وَرُفاتَ أُغْنيةٍ لِحب ... كِ لَمْ تَزَلْ تُشْجِي الزَّماَنْ
رُحْماكِ. . . مَا بيَدَيَّ إلاَّ ... منْ - غَرَامكِ - دَمْعَتانْ
لا تتْرُكِينيَ فِيهمَا ... لَهَباً يُذَوِّبهُ الْجَنانْ
إنِّي شَرِبْتُ عَلَى يَدَي ... كِ مَعَ الهَوَى خَمْرَ الْهوانْ!
أصْبَحتُ لَمْ أُصْبِحْ! وَلَمْ ... يُشرِقْ عَلَى خَلَدِي صَبَاحْ
أنا ظُلمةٌ سَكرَي بأق ... دَاحٍ تطُوفُ بِهَا الرِّياحْ
في قَفرَةٍ نُسيتْ فَلَمْ ... يَخْفِقُ لِطَائِرَها جَنَاحْ
وَبَكَى بِهَا الصَّمتُ الْغَرِي ... بُ وَنَاحَ مِنْ فَمِهِ النُّوَاحْ(490/29)
رُحماكِ! نُورُكِ فَوقهَا ... قَدَرٌ لِغَيرِي لا يُتَاحْ!
لا تَترُكِينيَ ذَاهباً ... كَخَريفَ لَحنٍ في صُدَاحْ
إنِّي شَربتُ عَلَى يَدَي ... كِ مَعَ الهَوَى خَمرَ الْجِرَاحْ
الَّليلُ ياَ لَيْلايَ لَمْ ... يَترُكْ عَلى كَبدِي أنيِنْ. . .
إِلا وَسَارَ بِهِ غِنَ ... اءً في صَحَارَى العَاشِقينْ. . .
وَسَرَى بِلَوعَتِهِ شِرَا ... عاً لا يَسيرُ بِهِ سَفِينْ. . .
يَجْرِي عَلَى مَوْجِ الْحَياَ ... ةِ عُلالةً للِبَائِسينْ
أَرَأَيتِ حَيرْاناً يَلُو ... ذُ بِهِ عَذَابُ الْحَائرينْ؟!
لاَ تَترُكِينَي ياَ شَقِي ... ةُ غُنْوةَ الزَّمَنِ الْحزِينْ
إِنِّي شَرِبتُ عَلَى يَدَي ... كِ مَعَ الْهَوَى خَمرَ السِّنيِنْ. . .
بَكتْ الْجَزِيرةُ حِينَ قُ ... لتُ لَهاَ وَداعاً لَنْ أَعُود!
وَتَأَوَّهَ العُشبُ الْحَبي ... بُ وَوَلْوَلتْ فيِه الْعُهُودُ
وًالرِّيحُ رَوعَهَا الرَّحِ ... يلُ كأنَّها فَزَعٌ شَرُود. . .
وَالمَوجُ إِعْصارٌ تَمَ ... زَّقَ أَوْ تَباَريحُ النُّهُودْ
أَرَأَيتِ كَيفَ غَدَا الهَوَى ... عَدَماً تَوَّهمهُ وُجُودْ!!
لا تَترُكِينَي بَعْدَهُ ... حَسَرَاتِ لْحَنٍ فَوْقَ (عُودْ)
إِنِّي شَربتُ عَلَى يَدَي ... كِ مَعَ الْهَوَى خَمْرَ الخُلُودْ. . .
مَرَّتْ لَياَليناَ كما الأوْ ... هَامُ. . . عُودِي يَا لَياَلي!!
إِنِّي كَتَبتُكِ في الزَّمَا - نِ خُطُوطَ غَيبٍ في خَيالٍ
إِنِّي سَمِعتُكِ في الْحَياَ ... ةِ أَنِينَ صَوتِ في رِمَالِ
إِنِّي رَاَيتُكِ أَدْمعُاً ... سَودَاَء جَاثِمةً حِيالِي
أَرَأَيتِ كَيفَ طَوَتْ صِبَا ... يَ، فمَاتَ، أَحزَانُ الْجَمالِ!؟
لاَ تَترُكِينَي كالرَّدَى ... أَرِدُ الْفَنَاَء وَلا أُبالِي
إِنِّي شَرِبتُ عَلَى يَدَيْ ... كِ مَعَ الْهَوَى خَمرَ الضَّلالِ
أَذَكرتِ حينَ جَثَتْ لَدْي ... كِ صَبَابةُ الليْلِ الجَميلْ؟(490/30)
وَسَندتِ رَأْسكِ فَوقَ صَدْ ... رٍ لا يفُارقُهُ الغليلْ
فَشَجَتكِ في الْقَفَصِ الْمُحط ... مِ ذَبحةُ الطَّيرِ الْقَتيل. . .
وَسَمعتِ منهُ مَعَ الظَّلا ... مِ تَفَجعَ الماضِي الطَّويلْ
وَرَأيتِ فِيهِ خُطَا غَرَا ... مِك في ضَبَابِ المُستحيلْ
لا تترُكينَي عَاصفاً ... في البيدِ يُزهقهُ العَويلْ
إِنِّي شرِبتُ عَلى يَدَي ... كِ مَعَ الهَوَى لَهَبَ الرَّحِيلْ
أوَّاهُ. . . إِن وَلى هَوَا ... كِ وَجَاَء يصرُخ لي هَوَاي!
وَدَعوتُ نُورَكِ للغَرَا ... مِ فَرَدَّ جُرحٌ من صَدَاي!
وَمَددتُ كفِّي للسَّلا ... مِ فَصَافحتك عَلَى حَشَايْ!
وَذَهبتُ مَلهُوفاً إلي ... كِ فَلَم أجِدْ إِلا خُطايْ
وَبَقَّيةً مِمَّا وَعَى ... طَيرُ الْجزِيرَةِ مِنْ بُكاي!
لا تَترُكيني عَارِفاً ... أرِدُ الضِّفَافَ بِغيرِ نايْ
إِنِّي شَربتُ على يَدَي ... كِ مَعَ الهَوَى بلْوَى صِباَيْ!
مَاذَا أَقُولُ إِذَا الهَوَى ... أوْما إليَّ وَلَمْ يُنادِ؟!
وَإذَا الرَّحيقُ دَعَا فَكَي ... فَ يُجيبُ خَمرَتهُ فُؤادِي؟!
وَإذا تألقَتِ الرُّؤى ... وَمَضَت تَوَهَّجُ في وِسَادي؟!
وَرَنَا لي المَاضي بِطَي ... فٍ مِنكِ مُرتعشِ الْحِدادِ
فَبأيِّ كأسٍ مِنْ دَمي ... اسْقِيهِ أحْزانَ المَعادِ؟!
لا تَترُكِينَي ضَلةً ... في الأرضِ ثاكلِةَ الرَّشادْ
إِنِّي شَربتُ عَلى يَدَي ... كِ مَعَ الهَوَى نَدمَ الرَّمادْ. . .
لا تَسألِينْي بَعدَ يَو ... مكِ كَيفَ أياَمي تَسيرْ!!
إِنِّي حُداءٌ سَاخرٌ ... بِقوافلِ الَّزمنِ الكَبيرْ
لَكنْ سَأصبحُ آهةً ... وَلهى مُضيَّعةَ الْمَصيرْ
في صَدرِ مَصلوبٍ شَ ... قيِ الْموتِ مَظلُومِ الضَّميرْ
فإذَا سَمعتِ صَبابةً ... غَنَّى بِها وَتَري الأخيرْ. . .(490/31)
لا تَترُكينَي بَعدَها ... أهْوَى الَّسماَء ولا أَطيرْ!
إِنِّي شَربتُ عَلَى يَدَي ... كِ مَعَ الهَوَى جَزعَ الْهجيرْ
وَإذا تُسائلكِ المَغَا ... ني: أيْنَ شاَعرُهَا الْحبِيبْ؟
قُولي لَهَا: بَل أيْنَ في ... كِ خَيالهُ الغَردُ الرَّطيبْ؟
إنَّا وَهبناَ رُوحهَ ... قبَساً لِعاَلمهِ الرَّهيب. . .
فَغَدا شُعاعاً هَائِماً ... يَهتزُّ في فَلكٍ غَريبْ
ياَ فِتنةَ الْماضِي حَنا ... نكِ وارَحمي نَغمِي الكَئيبْ
لا تَترُكينَي مَوجةً ... تَفنى وَشاَطِئُها قَريبْ
إِنِّي شَربتُ عَلَى يَدَي ... كِ مَعَ الهَوَى وَلَه الْمَغِيبْ!
مِنْ أيِّ نُورٍ بَعدَ نُو ... ركِ يَستَقي زَمَني سَناهْ؟!
وَبأيِّ عِطرٍ بَعدَ عِطر ... كِ يَحتَسِي قَلبِي شَذَاهْ؟!
وَبأَيِّ خَمرٍ بَعدَ خَم ... ركِ خَافقِي يَنسى أسَاهْ؟!
وَبأَيَّ سِحرٍ بَعدَ سِح ... ركِ أشتِهِي مَا لا أَرَاهْ؟!
وَبأَيَّ وَحيٍ بَعدَ وَح ... يِ هَواكِ يُلهُمني الإلهْ؟!
لا تَترُكينَي دَمعةً ... تَجرِي بأَجفانِ الحَياهْ
إِنِّي شَربتُ عَلَى يَدي ... كِ مَعَ الهَوَى وا حَسرَتاهْ!
لا تَترُكينَي في ضَلالْ ... بَينَ الْحَقيقةِ وَالخيَالْ
فَلرُبماَ أفْنىَ ولا ... يَفنَى مَعي طيفُ الْجمالْ
وَلرُبمَا أَنسَى وَناَ ... ركِ في رَمَاديَ لا تَزَالْ
إَنِّي تُرابٌ لا يُر ... يدُ الْبعْثَ من فَرْط لْمَلال
شَربَ الهَوَى مِنْ رَاحَتي ... كِ فَراحَ يَشربُهُ الزَّوَال
محمود حسن إسماعيل(490/32)
البريد الأدبي
أرقام وأصفار
في خطبتي التي نشرت في (الرسالة) عن (الهدف الأدبي للموسم الثقافي) عبارات لم ألقها في حفلة الافتتاح لأنها لم تكن تناسب المقام، ولكل مقام مقال، وهي العبارات التي تشكك في قيمة التضامن وتجعله سناد الضعفاء
فأين وجه الحق فيما قلت؟
لقد وفقت إلى عبارة طريفة حين سألت: (وهل تتجمع في الدنيا أمة كما تتجمع أمة النمل؟) ولكن هل يكون معنى هذا الكلام أن النمل أمة ضعيفة، لأنها لا تبني المعاقل والحصون في حدود ما نتصور، ولا تزحم البحار بالغواصات والأجواء بالطيارات؟
لقد وقعت في خطأ فظيع، فأمة النمل في تكوينها المرسوم أمة على جانب من النظام، والنظام هو الذي حماها من الانقراض، ومن آيات النظام عند أمة النمل أنها لا تفرق بين النهار والليل، فهي تشتغل بالنهار والليل، وقد جربت ذلك بنفسي
أترك هذا وأنتقل إلى مسألة الأرقام والأصفار، وهي مسألة لم يخلُ كلامي فيها من اعتساف. فهل من الحق إنه يجب أن يكون الناس جميعاً أرقاماً لا أصفاراً؟ وكيف وأنا نفسي اعترفت بأن الصفر تكون له قيمة حين يضاف إلى الرقم الصحيح؟
إن المسألة المطلقة لم تتحقق ولن تتحقق، لأنها ضلال في ضلال، ولأنها لن تكون إلا باباً من الانحلال، فالناس يختلفون كما يختلف الشجر والنبات لغاية حقيقية هي الترابط بين أجزاء الوجود، وكما تختلف المسامير التي تربط أجزاء السفين
وإذن يكون الرأي أن نقرر أن للصفر قيمة، على شرط أن يتجنب الانحراف، فيكون على اليمين لا على الشمال
لو وقف كل مخلوق في الموقف الذي يأمر به العقل لظفر بالقيمة الحقيقية لوجوده الأصيل. وأين العقل الذي يأمر الصفر بأن يكون على الشمال؟
في مقدور الصفر أن يكون أكبر من بعض الأرقام إن راعى الواجب، ولهذه الكلمة الأخيرة تفسير أو تفاسير قد نتحدث عنها بعد حين.
زكي مبارك(490/33)
في اللغة
كتب الأستاذ نجيب شاهين في العدد 489 تحت عنوان (إلى المجمع الملكي) ما رآه أنه الصواب لبعض الألفاظ والعبارات
غير إنه لم يكتب له التوفيق في بعض ما رآه فمن ذلك:
1 - (لا زالت) يرى الأستاذ (أنها لفظة للدعاء وأن مدرسي مدارسنا لا يفرقون بينها وبين (ما زالت) فينشأ الطلاب على هذا الخطأ).
(ا) فما رأي الأستاذ في كتب اللغة التي أوجبت أن تعتمد أفعال الاستمرار على نفي أو نهي أو دعاء وذكرت من حروف النفي لا، ما (وقال علماء المعاني إن لكل مكانا) وقال النحاة: إن خروج (لا) من النفي إلى الدعاء لا يكون إلا بقرينة تعين الدعاء ومثلوا لذلك بـ (ولا زال منهلا بجرعائك القطر)
(ب) وما رأيه في أن القرآن الكريم استعمل زال معتمدة على النفي بلا في قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين) كما ورد في الأثر (لا تزال أمتي بخير ما فعلت كذا وكذا. . .)
2 - (شئون) يرى الأستاذ أن تكتب هكذا (شؤون) لأن ما قبلها مضموم وقياساً على رؤوس، وما رأيه في أن جميع كتب الإملاء ذكرت القاعدة الآتية:
(كل همزة وليها حرف مد كصورتها ليس ألف اثنين ترسم مفردة. . .)
وليست كتابتها في قاموس ما حجة تلزم أن تنقص القاعدة لتكون كما يرى الأستاذ.
محمد عبد الفتاح المقدم
مدرس بمدرسة حلوان الثانوية للبنات
حول اختلاف القراءات في القرآن
قرأت ما كتبه الأستاذ محمود عرفة تعقيباً على ما رأيته في سبب بعض القراءات، فوجدته يتفق معي في أن هذه القراءات لا ترجع إلى اختلاف اللهجات، ويخالفني في إرجاعها إلى قصد التيسير على المسلمين في القراءة على عهد النبوة، لأن الحروف العربية في ذلك الوقت كانت كلها غير منقوطة، وهذا يدعو إلى ذلك التيسير كاختلاف اللهجات سواء(490/34)
بسواء. وقد بنى الأستاذ إنكاره ما رأيت من ذلك على سبب غريب، هو أن المسلمين على عهد الرسول كانوا يتلقون القرآن منه سماعاً، ويطوون صدورهم عليه حفظاً وفهماً، دون ما حاجة منهم إلى النظر في شيء من آياته مخطوطاً، فهذا بلا شك أمر غريب لا يتفق مع المعروف عن المسلمين في ذلك العهد، فإن جمهورهم لم يكن يأخذ نفسه بحفظ القرآن، وكان القليل منهم يحفظ منه السورة أو السورتين، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحفظ القرآن كله منهم إلا عدد لا يكاد يتجاوز عدد الأصابع
أما كتابة القرآن وقراءته فكان فيهما إذن عام من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك إذن في كتابة الحديث لئلا يشتبه بالقرآن، فكانت كتابة القرآن وقراءته في ذلك العهد منتشرة بين المسلمين، وإذا كان كثير منهم لا يحفظه فإنه بلا شك تعتريه تلك الصعوبة في بعض الكلمات، ومن هذا يجيء التيسير في قراءتها على ما تحتمله من الوجوه
أما حمل مثل هذه القراءات على التصحيف فأمر لا يصح أن يقال وخصوصاً مع وجود هذا المحمل السائغ، وهو محمل يمكن أن يشمله ما ورد من نزول القرآن على سبعة أحرف، لأن هذه القراءات ورد كثير منها في قراءات سبعية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير منها روي عن بعض أصحاب النبي رضوان الله عليهم ولا تقتصر روايته على حماد وأمثاله
عبد المتعال الصعيدي
حول اختلاف القراءات
رداً على كلمة الأستاذ عبد المتعال الصعيدي المنشورة في العدد 488 من مجلة الرسالة بعنوان (سبب مجهول من أسباب اختلاف القراءات) أقول: إن القراءات التي تعد أبعاضاً للقرآن يشترط فيها موافقتها للرسم المتواتر عن الصحابة، وتواتر سماعها، وموافقتها للعربية. فالمدار في كون القراءة بعضاً من القرآن على تواتر سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم على أنها قرآن مبلغ عن الله تعالى. فقراءة (فتثبتوا) وقراءة (فتبينوا) قراءتان متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناهما واحد، لا أن الخط يحتملهما فقرأها فريق على أحد الاحتمالين، وفريق على الاحتمال الاخر، فإنكار أحدهما إنكار لبعض(490/35)
القرآن
وأما تجويز القراءة بما يحتمله الرسم وتظاهره العربية بدون نظر إلى الرواية فرأي شاذ لابن مقسم العطار وهو محمد بن الحسن المتوفى سنة 453 استثيب بسببه (انظر شذرات الذهب في أخبار من ذهب وتاريخ بغداد)
وقراءة (أباه) بدل (إياه) شاذة قرأ بها الحسن البصري وابن السميفع اليماني وغيرهما. والقراءة الشاذة تكون في الأكثر مفسرة للقراءة المشهورة. فقراءة أباه تعين رجوع ضمير (إياه) إلى الأب مع احتمال رجوعه إلى إبراهيم باعتبار أن الأب ربما كان هو الذي وعد ابنه بالإيمان، وفهم الحسن البصري عكس ذلك فقال إن الواعد هو إبراهيم حيث وعد أباه بالاستغفار.
ولو أن الأستاذ عبد المتعال اطلع على (تاريخ الأدب العربي للأستاذ الزيات) ص89، 90 أو على كتاب في الفن (كمسجد المقرئين لابن الجزري) لما ذهب إلى هذا الرأي
محمد غسان(490/36)
العدد 491 - بتاريخ: 30 - 11 - 1942(/)
إن هي إلا أسماء
للأستاذ عباس محمود العقاد
في ليالي القمر، وفيما بين الخريف والشتاء، ليس أجمل ولا أروع من مشية طويلة في صحراء (ألماظة) أو ما يليها من الطرق المعبدة بين الحدائق والرمال
هاتيك ليالٍ تسبح في بحار من سحر النور وسحر الصحارى وسحر التاريخ، بل النبوة إن صح ما قيل معززاً بالأسانيد أن موسى عليه السلام تلقى العلم هو وبنتاءور ونخبة من الحكماء والعظماء بجامعة (أون) في هذا الجوار، على أزمنة مختلفات
وما أذكر أنني مشيت في هذه الطرقات مع أحد إلا سألني: على اسم مَن من العظيمات أو الجميلات سميت هذه الصحراء بالماظة؟ وما معنى كلمة الكربة أو القربة أو القربى التي يطلقها الناس على الطريق المؤدي إليها من غير طريق قصر البارون؟
ومجال التخيل أو مجال العبث هنا فسيح
أما مجال الصدق والتحقيق فهو لا يتسع لأكثر من سطور: ألماظة هي (المجزا) أو الـ بالإيطالية ترجمة للمخزن بالعربية، والكربة أو القربى كما يكتبها بعضهم هي الـ بالإيطالية ومعناها (المتحني) أو المتعرج كما يترجمها زميلنا (المرصفي) رحمه الله لو سئل فيها
وقد نعلم أن بعض المهندسين والمفتشين في ترام مصر الجديدة كانوا عند نشأتها من الطليان، وكانوا يتحدثون عن المخزن فيقولون (المجزا) وينطقها العمال بعدهم (المازا) أو ألماظة على سبيل التصحيح، وخير من ذلك أن يقال على سبيل التغليط!
وكانوا إذا ذكروا المحطة الأخيرة قبل مدخل ألماظة ذكروا (الكرفا) أو موضع الانحناء فينطقها العمال بعدهم (الكربة) ويعربها بعضهم (بالقربى) على سبيل الحذلقة أو التحريف
فهذا هو الجد في أصل (ألماظة) و (الكربة) في غير تخيل ولا عبث ولا اختراع
أما مجال التخيل والعبث فكما قلنا فسيح، وكما يستطيع كل مخترع أن يخترع باب على صحراء!
ونحن نعرف الذين يسألون فيجيبون ولا يسكتون، ونعرف الذين يخلقون الأسماء أو يخلقون القصص والتواريخ حول الأسماء، فلو سئل واحد من هؤلاء: ما ألماظة؟ ومن هي رحمها(491/1)
الله؟ أو سئل: ما القربى؟ ومن أي شيء تقترب بإذن الله؟ فماذا تراه يقول؟ وأي قصة لا يجوز أن تتألف وتتضخم في جواب هذا السؤال، وتفسير معنى الاسمين العجيبين وما فيهما من الشعر ما يغري بالاختراع؟
لقد رأينا كيف اخترعت قصة (أنس الوجود والورد في الأكمام) حول قصر مهجور بجزيرة (فيلة) عند الشلال؟ ورأينا أن القصر أصبح معقلاً مبنياً لفتاة يعشقها فتى مفتون بها يتعقبها من وراء البحار والأنهار والجبال والرمال؟ ولمن يبنى مثل هذا القصر إن لم يبن لبنت وزير؟ ولماذا يبنى إلا للحيلولة بين عاشقين؟ ذلك أمر معقول أدنى إلى العقل من التاريخ، ولهذا غلب اسم أنس الوجود على القصر حتى عرف به في الكتب وضاع بين الألسنة والأسماع ذلك الاسم الذي يسميه به المؤرخون
قال الراوي: أما ألماظة والقربى وقصر البارون فلها حديث عجاب، ونبأ مستطاب، يدهش الألباب، وتتحلى به الصحيفة والكتاب.
فالأصل في ألماظة (ألماسة) على التحقيق، لأنها كانت جوهرة مكنونة تحاط بالظلمات والسدود، ويقام من حولها الحراس والأجناد
وكانت (ألماسة) هذه جوهرة موموقة على سبيل المجاز، وفتاة معشوقة على سبيل الحقيقة التي يعلمها الراسخون. حجبوها لأنهم عشقوها فتعقبوها، وحاروا كيف يخفونها ويكتمون سرها لأن الذين تعقبوها كانوا ينفذون إلى كل سر ويحيطون بكل مكان. . . بنت وزير ولابد أن تكون حتى يستطاع نقلها من سهل إلى جبل ومن بحر إلى بر ومن بستان إلى صحراء، وابن أمير لابد أن يكون ذلك الذي هام بها وتعقبها حتى يستطيع أن يخيف الوزير على فتاته ويستطيع فوق هذا أن يهتدي إليها حيثما ضلله المضللون، وأن يطمع في اغتصابها ولو حماها منه الكماة المستبسلون
عرفنا السر إذن ووضعنا أيدينا على مفتاحه المكنون، ولم يبق إلا أن نتعقب المتعقبين إلى حيث يفلحون أو يخفقون
قال الراوي: وخرج الأمير الصغير يتنسم الأخبار، ويجوب الأقطار، ويتقلب بين الجزر والبحار، فوقف على كل جزيرة، ومخر في كل بحر، وسأل كل راكب، وتحير عند كل طريق؛ إلى أن أراد الله اللقاء، وأذن بانقضاء الفرقة والجفاء. فوقع المحب الوامق على(491/2)
المسئول الذي يجيب عن كل سؤال، لأنه ساحر يضرب الرمل ويعرف طريق الرمال
قال له يا بني، إن نجم صاحبتك في الرمل وليس في الماء، فاخرج إلى صحراء مصر بعيداً من بحر القلزم وبعيداً من بحر الروم، وعلى ملتقى الخطين من هذين البحرين، وامش كذا مئات من الخطوات، واتل كذا صفحات من الرقى والتعاويذ، وأدن إلى قصر شامخ وصرح باذخ، فاحمد الله على بلوغ المراد، وانحر هناك الجزور للقصاد والوراد، ولكن حذار أن يخدعوك، وإياك إياك أن يسترجعوك، فإنك إن دخلت القصر الشامخ وجدته خواء لا أنيس فيه، فزعمت أنهم كانوا فيه ثم تركوه ينعي من بناه، ونكصت على أعقابك وأنت على مدى لحظات من ديار الحبيب الموعود
حذار يا بني أن يخدعوك، وإياك إياك أن يسترجعوك
فإذا بلغت تلك القصور، فلا تقف عندها إلا ريثما تنحر الجزور، وتنصب القدور، وتطلق البخور، وتشكر ربك الشكور، ثم دع القصر المعمور، واضرب في الخلاء المهجور، فهنالك تنحني وتدور، وعند المنحنى تستقبل مطالع النور، ومنازل البدور، وتنادي يا ألماسة يا ألماسة فينكشف المستور، وينفتح ما وراء السور، ولي منك البشارة يوم تقام الأعراس ويشدو في الحي قمري السرور، وبشير الحبور
قال الراوي، فلما جاوز القصر، وانحنى إلى القفر، صاح وا فرحاه! وا طرباه. . . دنت القربى والحمد لله!
وكان وراءه مسجل الأسماء الذي حضر كل تسمية في الأرض والسماء، فقال: هذا هو حي (القربى). . . فسمع الناس الدعاء، وكانت (الكربة) على منعرج الصحراء!
قصة أين منها قصة أنس الوجود والورد في الأكمام؟ وأين التوفيق بين ألماظة والقصر الهندي بصحراء مصر الجديدة، من التوفيق بين أنس الوجود ومعابد البطالة بجزيرة الشلال؟
في ليلة من ليالي القمر الماضي كنت أتمشى مع صاحب يُستحب الحديث معه على مقربة من تلك الصحراء، فبدر السؤال الذي بدر قبل الآن عشرات المرات، وكنت أستطيع الإيجاز فأروي لصاحبي قصة (المجزا) و (الكرفا) في كلمتين معجلتين، وأستطيع الإطالة فأنسج له رواية مسهبة تطول وتطول، ثم تعاد فتجر من ورائها الذيول. فآثرت الإطالة(491/3)
على الإيجاز، وأفضت في الاختراع والتلفيق على نحو يجمع بين التاريخ والرواية، وذكرت السنوات وسميت الأسماء وأصحبت الحديث بالتعليق، الذي ينوب عن (التأثر) والتصفيق، وانتهيت من القصة كأنني أشكك فيها، وألقي التبعة على ناقلها وحاكيها، فكان شكي مدعاة لقبولها، والجنوح إلى تصديقها، والنفرة من مكذبيها، ثم انتهت الإطالة إلى مداها، فأردت أن أصلها بإيجاز من غير لحمتها وسداها، فلا يسألني القارئ عن الخيبة التي قوبلت بها الحقيقة الواقعة، فلعلها كانت ابلغ من الحماسة التي قوبل بها التلفيق والاختراع، ولا يعجبني كراهة المخزن والكرفا فإنها لن تروق القلوب الفتية كما تروقها ألماسة والقربى، وهكذا معظم الحقائق ومعظم الأوهام ومعظم الأسماع ومعظم العقول
وكم للحق من وحشة! وكم للوهم من حظوة! وكم من الناس يأبون أن يصدقوا ما يرون ويسمعون لأن صدق الحياة أليم، فإذا هم يصدقون من يحجبون الصدق عنهم لأنه حجاب مزخرف وثير
وعدنا في الطريق فإذا نحن على مقربة من مسجد يتوسط بين القصر والمنحنى، فعاد صاحبي يقول وكأنه ينتقم مني بما يقول: وأظن هاهنا كان موضع الجذور والقدور، ومقام الصلاة من ذلك المحب الشكور!
قلت: مرحى! مرحى! فهكذا قال الراوي ونسيت، وهكذا يفيد التعليم في السامع النجيب!
يقول شكسبير: وماذا في اسم؟
كثير يا شكسبير!
عباس محمود العقاد(491/4)
السوقية في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
قرأت مقال الأستاذ الزيات الذي عنوانه (دفاع عن البلاغة)، فوقع في نفسي على القبول والاستحسان، وألفيته ترجماناً عن معان ترددت في نفسي ورددها لساني، وذكرني بحديث تحدثت به في دمشق في دار الأستاذ الصديق العلامة محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي
أذكر أني جلست والأستاذ مرة فأخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وأفضنا في أمور شتى حتى دفعنا في الكلام عن الأدب وما عرض له من آفات، وما حاق به من مساوئ الاتجار، ومسايرة الآلات الحديثة عجلة واندفاعاً، ومن تملق الجمهور بالإسفاف إليه، والتيسير عليه، وإمتاعه وتلهيته بما يلائم القراءة العجلى والنظرة السريعة، وقد أجملت هذا كله في كلمة، فقلت: (قد غلبت السوقية على الأدب) قال الأستاذ: أصبت المحز بهذه الكلمة، وأحسنت التعبير عما يسميه الفرنسيون:
وبيان هذا أن الآلات الحديثة يسرت الصناعة، وعممتها، وزوقتها، ولبست الجيد الثمين والرديء الرخيص في بعض المظاهر. فطمح كل في اقتناء الأمتعة التي كان لا يطمع فيها إلا الأغنياء، وطمع الفقراء في منافسة الأثرياء بأمتعة تقارب أمتعتهم أو تشبهها شكلا ولوناً، وقابل الصناع والتجار هذا الطموح وذاك الطمع بما يسده من بضاعة مزيفة مزينة خداعة، وكسدت الصناعات اليدوية الجيدة التي تكلف الصانع عمل الأشهر أو السنين، وأعرض الناس عنها مشفقين من تكاليفها. فمن لم يملك ثمن الحرير الطبيعي أو لم تسخ يده به عمد إلى الحرير الصناعي، ومن لم يستطع اقتناء الذهب اقتنى المذهب أو المموه. ومن لم يتسع ماله لاشتراء الماس اشترى ما يشبه الماس، ومن لم يقدر على اللؤلؤ البحري لجأ إلى اللؤلؤ الصناعي، وهلم جرا. فشاع بين الناس الصناعي إلى جانب الطبيعي، والمقلد إلى جانب الأصلي، والسوقي إلى جانب المتصنع، والزيوف إلى جانب الجود، والبهرج بجانب الصحيح
والعلم على هذا القياس، فقد تولت الحكومات التعليم فيما تولت، فحددت زمانه ومكانه وموضوعه ودرجاته، وخطت الخطط لتعميمه، وجعلت له شهادات تشهد لصاحبها بالعلم(491/5)
وعلى من لا يحملها بالجهل، وحشر إلى دور العلم الراغب والكاره والأهل وغير الأهل، ووجه الأحداث الوجهة التي يريدها العرف أو النظام أو الضرورة لا التي تميل إليها نفسه، وتختارها مواهبه. وجرف التيار الناس، فصارت المدارس مصانع تصنع التلاميذ على قوالب متماثلة أو متشابهة، أو مطابع تخرج آلاف النسخ من كتاب واحد، وتقدم أصحاب الشهادات إلى الأعمال كما تعرض السلع في الأسواق
قال بعض السامعين: أليس نشر العلم وتعميمه خيرا للناس؟ قلت لا ريب إنه خير ولكن معه شرا هو الذي حدثتك عنه. ولست أبغي الآن أن أفيض في هذا الداء وأدويته ولكن ساقنا إليه الحديث في الأدب
قال أحد الأصحاب وهو الحديث الذي بدأناه ثم حدنا عنه فلم نعد إليه
قلت: والأدب على هذا النسق. الجرائد والمجلات والكتب شاعت وانتشرت، وصار الكاتب بهذه الوسائل الحديثة السريعة يعرض على الناس ما يكتب وكأنه ماثل أمامهم يحدثهم به أو يخطب فيهم. فهو يسايرهم مسايرة المحدث أو الخطيب، ويلقاهم كل يوم على صفحات الصحف، يلتمس رأيهم فيما كتب، ويتعرف موقعه من نفوسهم. وكلما أرضى الكاتب جمهرة القراء سمع ثناءهم عليه وإكبارهم إياه فحرص على هذا الرضا رغبة في علو المكانة وبعد الصيت. واضطر إلى أن يسف إليهم دون أن يرفعهم إليه، وأن يجاريهم دون أن يصدهم عما يشتهون، وأن يلاينهم دون أن يحملهم على ما يكرهون أو يكبحهم عما يهوون، وأن يلهيهم ويضحكهم لا يشق عليهم ولا يسومهم عناء. فكأن الكاتب تاجر وكأن كتابته سلع في الأسواق أيضاً. والتاجر يلتمس لكل سوق ما يروج فيها. والرديء الرائج خير له من الجيد الكاسد.
ووراء هذا أصحاب الصحف والمكتبات والمطابع يبغون الربح في تجارتهم، والربح على قدر إقبال الجمهور على ما يخرجون، وإقبال الجمهور على قدر هواه ومتعته ولهوه. فالكاتب الذي يرضي الجمهور ويمتعه ويلهيه أقرب إلى أصحاب الصحف والمكتبات والمطابع، يبذلون له المال، ويسارعون إلى نشر ما يريد. على حين يجفون الكاتب المبدع الذي يحمل الناس على المكره، ويقودهم على الطريقة التي فيها صلاحهم وإن نفروا عنها نفور المريض من الأدوية الكريهة.(491/6)
قال صاحبي الملول: وما وراء هذا؟ قلت: وراءه ما زعمته أول الحديث من غلبة السوقية في الأدب؛ فقد صار بضاعة في السوق أو تلهية في الملاهي، أروجها أقربها إلى عقول الناس، وطباعهم وإن تفهت وحقرت، وانتهت بهم إلى المهالك. وأكسدها ما علا عن إدراك العامة وأشباه العامة، وما اقتضى فهمه عقلاً وعلماً وضاق عن الجمهور ووسع الخاصة وحدهم. فمن شاء مالاً ورواجاً وصيتاً ومكانة عند العديد الأكثر فليطلع على الناس كل يوم بقصة أو نادرة أو ملهاة مما يقرأ في القطار والترام وحين انتظارهما؛ وليتجنب الموضوعات التي تحوج القارئ إلى الجد والكد، والألفاظ التي تحتاج إلى علم باللغة واسع، والأساليب التي تقتضي التمهل والتأمل لإدراك ما فيها من جودة وبراعة وجمال.
ومن ابتغى إصلاح الجمهور وتهذيبه وتعليمه وشاء الخير العام للناس، ورغب في الحقيقة والجمال لا يبالي أين يقعان من نفوس الدهماء فلا يتعجلن المكانة والصيت والمال وليكتب ابتغاء مرضاة الله، وليدع إلى الخطة الرشيدة، وليسم إلى مستوى الحق والخير والجمال، وليبلغ ما يوحي إليه ربه، ويهدي إليه قلبه. وإن طمع في المكانة وحسن الأحدوثة فليعلم إنه منته إليهما لا محالة؛ ولن يضيع الخير والحق والإجادة والإتقان على مر الزمان، ولن يذهب العرف بين الله والناس.
فإن سأل سائل: أتريد الناس كلهم على قراءة الأدب الرفيع والفلسفة العالية؟ قلت لا لا، بل أريد ألا تتحكم السوقة في الأفكار والأقلام، وألا يطغى الرواج على الجودة. أريد أن يؤدي الكاتب أمانته، ويبين عقيدته، غير حاسب حساب السوق، وليكن بعد هذا في الكتابة ما يلائم العامة وما يلائم الخاصة، وما يجمع بينهما. أريد أن يعلو الكاتب ما مكنه طبعه، وأن يدق ما شاء له فنه، لا يعنيه إلا أن يؤدي واجبه على الوجه الأكمل. وكذلك أريد أن ينزل الكاتب الآخر كما يريد طبعه، وأن يسهل ويدنو كما يشاء فنه. لكل وجهة، ولكل مجال، ولكل قراء. وإذا صدق كل كاتب نفسه، وأخلص لعمله، فرقت الكتاب المعارف والطبائع؛ فعلا جماعة وهبط آخرون، وبعد كاتب وقرب آخر، وكانت ضروب الكتابة معربة عن ثقافة الأمة وأذواقها، ملاقية أصناف الناس بما يسد حاجاتهم، ووجد الناس الصعب والسهل، والبعيد والداني، والغالي والرخيص، كلاً في بيئته وفي مظانه. لا أدعو إلى أن يصير الأدباء فناً واحداً في البيان وأسلوباً عالياً في الكتابة، ولكن أخشى أن تذهب السرعة(491/7)
بالإتقان، وتطغى التجارة على الإحسان، ويمتحن الكتاب حتى يروا حسناً ما ليس بالحسن، ويجرفهم السيل فيتجهوا حيث يريد الناس لا حيث يريدون، وينتقل الزمام من يد القائد إلى يد المقود، ويسير الإمام خلف المأموم، فتنبهم الغايات، وتلتبس الطرق، وتشتبه الأعلام. وما ظنك بجماعة تسير على غير سبيل إلى غير غاية؟
عبد الوهاب عزام(491/8)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
2 - الشوقيات
للدكتور زكي مبارك
مصاير الأيام - قصائد سورية - قصائد لبنانية - مصرع
شوقي - شعور شوقي بالوجود - بين أحمد شوقي وحافظ
إبراهيم
مصاير الأيام
هذا عنوان قصيدة صور بها شوقي صروف الحياة من عهد الطفولة إلى عهد المشيب. . . ابتدأ الشاعر بحياة الطفل في (المكتب)، والمكتب كلمة جديدة يراد بها المدرسة الأولية، وهي كذلك في عرف وزارة المعارف، فهي تقول المكاتب العامة بعد أن كانت تقول المدارس الأولية. وكان العرف المدرسي قبل سنين يعمم كلمة المكتب بحيث تشمل حجرة الدرس، ولو كانت في مدرسة عالية
وشوقي في هذه القصيدة يتمثل حياة الأطفال، ويحسها أصدق إحساس
ألاَ حبذا صحبةُ المكتبِ ... وأحبِبْ بأيامها أحبِبِ
ويا حبذا صِبْيةٌ يلعبون ... عِنانُ الحياة عليهم صَبي
كأنهم بَسَمات الحياة ... وأنفاس ريحانها الطيّب
وعبارة (عِنان الحياة عليهم صَبِي) عبارة طريفة، والمراد بصبا العنان هو الرقة واللين
ثم يلتفت الشاعر فيرى أن الأطفال لا يفرحون بالمكتب كل الفرح، ولا يرتاحون إليه كل الارتياح، وكيف والأمر كما قال:
يُراح ويُغدَى بهم كالقطيع ... على مشرق الشمس والمغربِ
إلى مرتعٍ ألِفُوا غيره ... وراعٍ غريب العصا أجنبي
وهذان البيتان من أروع ما صورت به حياة الأطفال في رعاية المعلمين!
وصور اختلاف قواهم باختلاف أسنانهم فقال:(491/9)
فراخٌ بأيكٍ فمن ناهضٍ ... يروض الجناح ومن أزغب
وصور غفلتهم عن المصير المرتقب فقال:
مقاعدهم من جَناح الزمان ... وما علموا خَطَر المركب
وقد جاد الوحي على شوقي ببيتين في غاية من العذوبة والصدق، أما البيت الأول فهو قوله في تلوين حيوية الأطفال:
عصافير عند تهجّي الدروس ... مهارٌ عرابيد في الملعبِ
وأما البيت الثاني فهو قوله في اختلاف الإحساس باختلاف أوقات الجرس:
لهم جرَسٌ مُطربٌ في السراح ... وليس إذا جدَّ بالمطربِ
وهل ينسى المدرسون لا التلاميذ أن جرس الانصراف محبوب الرنين، وأن جرس الدرس بغيض الضجيج؟
وأذكر من باب الفكاهة أني كنت أشرح لأحد نظار المدارس قيمة الطرافة في هذا البيت فقال: إن شوقي نسي جرس الغداء! ثم قال شوقي:
جنون الحداثة من حولهم ... تضيق به سَعةُ المذهب
عدا فاستبدّ بعقل الصبيّ ... وأعدى المؤدب حتى صبى
والغرض قد التوى على شوقي في هذين البيتين بعض الالتواء، لأنه ساوى بين الجنونين: جنون الأطفال وجنون المعلمين
وأخطأ شوقي في اختيار كلمة (المؤدب)، والصواب أن يقول (المعلم). فهناك فرق بين التأديب والتعليم، فالتأديب هو التثقيف، والتعليم هو الترتيب. وفي كلام الجاحظ عبارة تفصح عن الفرق بين المؤدب والمعلم، وتدل بوضوح على أن المؤدبين أكبر من المعلمين
ثم نقل شوقي تلاميذه من المكتب إلى المدرسة ثم إلى الحياة فقال:
فيا ويحهم! هل أحسوا الحياة ... لقد لعبوا وهي لم تلعب
تجرب فيهم وما يعلمون ... كتجربة الطب في الأرنب
سقتهم بسم جرى في الأصول ... وروَّى الفروع ولم ينضب
ودارَ الزمان فدال الصِّبا ... وشب الصغار عن المكتب
وجدَّ الطِّلاب وكدَّ الشبا ... ب وأوغل في الصعب فالأصعب(491/10)
وعادتْ نواعمُ أيامه ... سنينَ من الدأَب المنصِب
وعُذِّبَ بالعلم طُلابهُ ... وغصُّوا بمنهله الأعذَب
والمجال يضيق عن تشريح هذه القصيدة، القصيدة التي قال فيها شوقي:
وكم منجب في تَلقي الدروس ... تَلَقّى الحياةَ فلم يُنجبِ
فأرجو أن يلتفت إليها المتسابقون، لأنها من غرو الشوقيات
قصائد سورية
في المقال السالف نصصنا على السر في اهتمام شوقي بأخبار سورية ولبنان، فلنذكر اليوم أن الشعر تحدث عن سورية في قصائد جياد، منها القصيدة التي تحدث فيها عن الشهداء في سبيل الاستقلال:
بني سوريةَ التئموا ليومٍ ... خرجتم تطلبون به النزالا
سلوا الحرية الزهراء عنا ... وعنكم هل أذاقتنا الوصالا
وهل نِلنا كلانا اليومَ إلا ... عراقيب المواعد والمطالا
عرفتم مهرها فمهرتموها ... دماً صَبَغ السباسب والدغالا
وقمتم دونها حتى خضبتم ... هوادجها الشريفة والحجالا
دعُوا في الناس مفتوناُ جباناً ... يقول: الحرب قد كانت وبالا
أيطلب حقهم بالروح قومٌ ... فتسمع قائلاً ركبوا الضلالا
ومنها القصيدة الأموية، وقد أشرنا إليها في المقالة الماضية. ومنها القصيد الذي لا يطاوله قصيد، فما نظم شاعر أروع مما نظم شوقي في (نكبة دمشق)، ولا ارتاع شاعر كما ارتاع شوقي لنكبة دمشق:
لحاها الله أنباءً توالتْ ... على سمع الوليِّ بما يَشُقُّ
يفصِّلها إلى الدنيا بريدٌ ... ويجملها إلى الآفاقِ بَرقُ
تكاد لروعة الأحداث فيها ... تخال من الخرافة وهي صدق
وقيل معالم التاريخ دُكَّتْ ... وقيل أصابها تَلفٌ وحَرْق
ألستِ دمشق للإسلام ظئراً ... ومرضعةُ الأبوَّة لا تُعَق
وفي هذه القصيدة يقول شوقي في وصف ما صنعت النكبة بنساء دمشق:(491/11)
بَرزْنَ في نواحي الأيك نارٌ ... وخَلْفَ الأيك أفراخ تُزقُّ
إذا رمنَ السلامةَ من طريقٍ ... أتتْ من دونه للموتِ طُرْق
بليل للقذائفِ والمنايا ... وراء سمائه خطفٌ وصعْق
إذا عَصَف الحديد احمرَّ أُفقٌ ... على جَنَباتِهِ واسودَّ أُفق
ثم توحي إليه ملائكة الشعر أن يقول:
بني سورية اطّرحوا الأماني ... وألقوا عنكم الأحلامَ ألقُوا
فمن خِدَع السياسة أن تُغَرُّوا ... بألقاب الإمارة وهي رِقُّ
وكم صَيَدٍ بدا لك من ذليل ... كما مالتْ من المصلوب عُنْق
نصحت ونحن مختلفون داراً ... ولكن كلنا في الهمِّ شرق
ويجمعنا إذا اختلفتْ بلادٌ ... بيانٌ غيرُ مختلف ونُطْق
وقفتم بين موتٍ أو حياةٍ ... فإن رمتم نعيم الدهر فاشقُوا
ومن يسقى ويشرب بالمنايا ... إذا الأحرار لم يُسقَوا ويَسقُوا
ففي القَتْلى لأجيالٍ حياةٌ ... وفي الأسرى فدًى لهم وعتق
وللحرية الحمراء بابٌ ... بكل يَدٍ مضرَّجة يُدقُّ
هل يحتاج هذا الشعر إلى شرح؟ هيهات!
قصائد لبنانية
المذاق يختلف بعض الاختلاف أو كل الاختلاف بين قصائد شوقي السورية وقصائده اللبنانية، فهو في الشام يعاني نارين: الذكريات للأمجاد الأموية، ونار الحقد على الاستعمار الفرنسي، وقد جاهده السوريون أصدق الجهاد، وعانوا في دفعه مكاره لا تطاق
ولا كذلك حال شوقي في لبنان، فهو هنالك شاعر يصدح فوق أفنان الجمال، ولا يرى ما يسوءه من الاضطهاد، لأن الظواهر كانت تزعم أن الفرنسيين واللبنانيين على وفاق
كان لبنان لعهد زيارات شوقي وطن الشعر والجمال والأمان والرخاء. وكان اللبنانيون على فطرتهم الأصيلة من الترحيب الصادق بكل من يزور وطنهم الجميل، فأنس بهم شوقي كل الأنس، واطمأن إليهم كل الاطمئنان
أيام شوقي في سورية كانت أيام جهاد، أما أيامه في لبنان فكانت أيام شهاد(491/12)
كان شوقي يكره أن يقول إن شبابه إلى أفول، وإن جاوز الستين، ثم شاء شيطانه أن ينقله إلى (زحلة) وطن الرحيق، ومعه المحامي فكري أباظة والموسيقار محمد عبد الوهاب. وفي لحظة من لحظات الصراع بين العيون والقلوب هان عليه أن يبكي الشباب الذاهب فيقول:
شيعتُ أحلامي بقلبٍ باكِ ... ولممت من طُرُق الملاح شباكي
ورجعتُ أدراجَ الشباب ووَردهُ ... أمشي مكانهما على الأشواك
وبجانبي واهٍ كأن خفوقه ... لما تلفت جهشة المتباكي
شاكي السلاح إذا خلا بضلوعه ... فإذا أهيبَ به فليس بشاكي
قد راعه أني طويت حبائلي ... من بَعد طول تناولٍ وفكاك
ويح ابن جنبي، كل غاية لذة ... بعد الشباب عزيزة الإدراك
لم تبق منا يا فؤاد بقية ... لفتوّة أو فضلةٌ لِعراك
كنا إذا صَفقتَ نستبقُ الهوى ... ونَشُدّ شدَّ العُصبة الفُتّاك
واليومَ تبعثُ في حين تهزّني ... ما يبعث الناقوس في النُّسّاك
وكان الرأي أن تُلقى هذه القصيدة في حفلة أعدها أهل زحلة لتكريم شوقي، وكان الأستاذ فكري أباظة هو الأثير عند شوقي حينذاك في إلقاء شعره البليغ، فاعترض الموسيقار عبد الوهاب قائلاً إن هذه القصيدة للغناء، وليست للإلقاء، ثم صدح بصوته الرنان:
يا جارة الوادي طربت وعادني ... ما يشبه الأحلام من ذكراك
مثّلتُ في الذكرى هواك وفي الكرى ... والذكريات صدى السنين الحاكي
لم أدر ما طيبُ العناق على الهوى ... حتى ترفّقَ ساعدي فطواك
لا أمس من عمر الزمان ولا غدٌ ... جُمِع الزمان فكان يوم لقاك
وفي هذه القصيدة يقول شوقي على عادته في التخوف من محجب الغيوب:
لبنان ردَّتني إليك من النوى ... أقدار سير للحياة دِرَاكِ
نمشي عليها فوق كل فجاءةٍ ... كالطير فوق مكامن الإشراك
مصرع شوقي
في مكتبة الدكتور طه بك حسين ظرف مختوم كتب عليه: (مصرع شوقي) فما الذي يحتويه ذلك الظرف المختوم؟(491/13)
في إحدى العصريات من صيف سنة 1925 أو سنة 1926 حدثني الدكتور طه حسين أن شوقي أسفّ أبشع الإسفاف بقصيدة نشرتها جريدة المقطم عن هوى شوقي في لبنان
وأعترف أني كنت أرى ما يرى الدكتور طه في تلك القصيدة يومذاك، فقد نشرت في المقطم على أسوأ حال من التحريف
ثم دارت الأيام وعرفنا إنها أجود مما كنا نتوهم، وأنها في كل خاطر وعلى كل لسان في لبنان
ثم دارت الأيام مرة ثانية فعرفنا أن الأريحية اللبنانية سمحت بأن يكثر من يقولون إن شوقي عناهم بذلك القصيد، القصيد الذي يهتف:
وأغرَّ أكحلَ من مَها (بكْفَّية) ... عَلِقَتْ محاجرُه دمى وعَلِقْتُه
لُبنانُ دارتُهُ وفيه كِناسهُ ... بين القنا الخطاّر خُطّ نَحيتُهُ
السلسبيلُ من الجداول وِردهُ ... والآسُ من خُضْر الخمائل قوتُه
دخلَ الكنيسة فارتقبت فلم يُطل ... فأتيت دون طريقه فزحمتُه
فازورَّ غضبانا وأعرض نافراً ... حالٌ من الغِيد الملاح عرفتُهُ
فصرفت تلعابي إلى أترابه ... وزعمتُهنّ لبانتي فأغرتُه
فمشى إليَّ وليس أول جؤذر ... وقعت عليه حبائلي فقنصته
قد جاء من سحر الجفون فصادني ... وأتيت من سِحر البيان فصدته
لما ظفرت به، على حَرَم الهدى ... لابن البَتُول وللصلاة وهبتُه
إلى آخر القصيد
شعور شوقي بالوجود
بين قصائد شوقي في سورية ولبنان وقصائده في البلاد التركية والفرنسية آماد طوال، ومع هذا نجد أن إحساسه بالوجود على اختلاف الأزمان غاية في القوة والبريق
وهل ننسى أن الجرائد المصرية لم تجد عند مصرع باريس في الحرب الحاضرة غير ما توجع به شوقي لباريس في الحرب الماضية؟
ولقد أقول وأدمعي منهلَّةٌ ... باريسُ لم يعرفك من يغزُوكِ
زعموك دار خلاعةٍ ومجانةٍ ... ودعارةٍ، يا إفكَ ما زعموكِ(491/14)
إن كنتِ للشهوات رِيَّا فالعُلاَ ... شهواتُهنّ مروَّياتٌ فيكِ
ومن هذا الكلام نعرف أن للعلا شهوات أعنف من شهوات الأهواء.
وقصيدة شوقي في غاية بولونيا قديمة العهد، وهي مع ذلك لطيفة النفس، ذكية الروح
وأبياته في (شبه أمينة) أبيات لطاف، وقد رأيت بعيني صورة أمينة في غرف كثيرة من دار شوقي، بدون استثناء لحجرة الاستقبال، وهي البنية التي قال فيها ذلك الأب الحنان:
وكم قد خلَتْ من أبيك الجيوب ... وليست جيوبك بالخاليهْ
ثم ماذا؟
ثم يبقى الحديث عن القصيدة التي حفظها غريم شوقي في الشعر والبيان، وهو حافظ إبراهيم، مع تفاصيل يوجبها التاريخ، ليعرف المتسابقون سرائر هذين الشاعرين، وليواجهوا يوم الامتحان مدرعين بالبصيرة واليقين. والله عز شأنه هو القادر على أن يجعلهم طلائع الفكر والرأي في هذا الجيل.
زكي مبارك(491/15)
عثرت به وعثرت عليه
للأستاذ محمد مندور
لم يكن في عزمي أن أرد على زكريا أفندي إبراهيم لأن المناقشة لم تكن بيني وبينه، وإنما فعلت لأنني رأيته قد أثار مسألتين حسبت في إيضاحهما فائدة لعامة القراء وقد اعتمدت في تأييد استعمالي (لعثرت ب) على مبادئ لغوية عامة لم يقتصر العلم بها على الباحثين في علم اللسان بل سبقهم إليها ولحقهم الفلاسفة وكافة المفكرين. فاللغات كما قلت مجازات ميتة في الكثير من مفرداتها، فنحن عندما نقول بالفرنسية مثلا بمعنى (أتلف) نستعمل مجازاً ميتاً لم يعد يحس به أحد، وذلك لأن معنى هذا الفعل الاشتقاقي في اللغة الفرنسية هو (يلقى في هاوية) (هاوية: وكذلك الأمر في اللغة العربية، فالرفعة والسمو والانحطاط مثلاً كل هذه الألفاظ كانت معانيها الأولى حسية، ثم ماتت تلك المعاني وأصبحنا نستعمل تلك الألفاظ في الدلالة على الصفات المعنوية المعروفة، وهكذا مما لا حصر له في كافة اللغات. ولقد كانت هذه الحقيقة من الأسس التي بني عليها الفلاسفة الإنجليز أصحاب المذهب الحسي في المعرفة ومنابعها مذهبهم، إذ لاحظوا أن معظم ألفاظ اللغة كانت في الأصل تدل على معان تدركها الحواس ثم انتقلت إلى المعنويات
وعلى هذا يتضح لنا أن عثر في معناها الأصلي لم تكن تفيد الاطلاع مصادفة أو عن بحث في شيء، وإنما أفادت هذين المعنيين تجوزاً، وحروف الجر في كافة اللغات من أدوات نقل المعنى، ومن ثم فعندما نقول عثر ب، أو عثر على، يجب أن نحدد المفارقات بين الاستعمالين تبعاً لدلالة حرفي جر ومنحاهما في نقل المعنى. والذي لا أشك فيه أننا نقول (عثر الجواد بحجر) ونكون بذلك في حدود المعنى الحقيقي بحيث إذا تجوزنا أو قلنا عثرت بفكرة نكون أقرب ما يكون إلى مضمون المعنى الحقيقي أيضاً. ومن الواضح أن في ذلك المعنى ما يدل على المصادفة لأن الجواد لا يبحث عن حجر ليعثر به. وأما عندما نقول عثرت على فكرة، فالحس اللغوي يبصرنا بأننا هنا قد بعدنا عن المعني الحقيقي وما يحمل من دلالة المصادفة لأنه على الأقل يتضمن العثور بالفكرة ثم الوقوع عليها، وليس من الضروري أن نعثر بالشيء ثم نقع عليه إذ قد يفلت منا؛ فالعثور على الشيء فيه معنى إيجابي هو ما أحسست ولا أزال أحس فيه بمدلول البحث(491/16)
وأياً ما يكون الأمر فأنا بعد لا أرى مانعاً ما دام المجاز قد مات في عثر وأصبح الفعل يدل على الاطلاع في الاستعمالين من أن نقصد (يعثر ب) إلى الاطلاع مصادفة و (عثر على) إلى الاطلاع عن بحث. واللغة، كما قلت، كائن حي من الواجب أن نغذيه باستمرار بأن ننوع من طرق الأداء فيها كما نحدد من تلك الطرق على نحو ما نشاهد في لغات الأمم المتحضرة كلها
هذا رأيي أقف عنده لأن الأصول العامة تكفي لتأييده. ومع ذلك فقد حمل إليّ البريد هذا الصباح خطاباً من صديقي عبد الرحمن بدوي الأستاذ بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول؛ وهاأنا أنسخ لكم خطابه. قال بعد المقدمة:
(أود أن ألفت نظرك إلى نقط لعل بعدك عن المصادر هو الذي حال بينك وبين التنبه إليها وفيها تأييد لما تقوله فيما يتصل بالتعبير (عثر به)
وأولى هذه النقط خيانة زكريا إبراهيم (وهو من تلاميذي الآن بالسنة الثالثة قسم الفلسفة) لنص (لين) إذ هو بتمامه يؤيد استعمال (عثر به) بمعنى اطلع عليه فهو يقول ما نصه:
: ; , ; عثر به
((وأشرس وعثر به
معجم لين ص1952 عمود (1) س3، 4 من أسفل.
وتحت مادة (أشرس) يذكر الشاهد الثاني: عثر بأشرس الدهر (أمثال الميداني المطبعة الخيرية بالقاهرة سنة 1310 ج1 ص313 س1 - 2)
وثاني هذه النقط أن (عثر على) بمعنى الاطلاع مصادفة وبلا طلب ليس متفقاً عليها بين اللغويين والمفسرين. فالذي يوردها صراحة من بين اللغويين الراغب الأصفهاني في (مفرداته) (تاج العروس) للزبيدي (وهو الذي يشير إليه لين هنا في الإشارة وغالب المفسرين عند كلامهم على الآية (وكذلك أعثرنا عليهم) والآية (فإذا عثر على أنهما استحقا إثما) يقولون إنها لا تدل على الاطلاع مصادفة. فالقرطبي يقول: (الجامع لأحكام القرآن ج6 ص358 طبع دار الكتب سنة 1938) (ومنه قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم) لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم) أي الناس الذين كانوا يبحثون عن أهل الكهف. ويرجح رأي هؤلاء أن الآية (فإذا عثر على أنهما استحقا إثما) يقصد منها كما يقول الرازي(491/17)
(ج3 ص478 المطبعة العامرة الشرقية. الطبعة الأولى سنة 1308 بالقاهرة). (فإن حصل العثور والوقوف على أنهما (أي الأمينين على الوصية التي يوصي بها من بات بأرض ليس فيها مسلم) أتيا بخيانة واستحقا الإثم بسبب اليمين الكاذبة، أي أن المعنى هو (فإن وجد أنهما. . .) وإلا فلا يصح حكم الآية إن وجد بعد التحقيق أنهما خانا. وهذا ما لا يمكن أن يكون القرآن قد قصده. وفيما يتصل بآية أهل الكهف (وكذلك أعثرنا عليهم) فالقصد هنا من الله واضح لأنه قصد أن يدل بعض الناس على وجود أهل الكهف فليس هنا مصادفة إذن.
ويؤيد كلامك أو شعورك بوجود معنى المصادفة في (عثر به) أكثر مما هو في (عثر عليه) أن الأصل في (عثر عليه) هو (أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو، فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفياً عليه قد عثر عليه) (الرازي في الموضع نفسه)، فعثر به هي الأصل، وعثر عليه هي المجاز؛ وعثر فيها معنى المصادفة من أصلها فما هو أقرب إلى الأصل وهو عثر به يكون معنى المصادفة فيه أقوى
ونقطة ثالثة هي أنك لست أول من استعملها بهذا المعنى فقد وجدت إنها استعملت مرارا من قبل. أذكر منها الآن ما يلي إلى جانب ما أورده لين في المثل: (عثر بأشرس الدهر)
(1) استعملها ابن هانئ الأندلسي المتوفى سنة 362هـ حين قال:
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو ... عثروا بطيفٍ طارقٍ ظنوك
(راجع ديوان ابن هانئ تصحيح الدكتور زاهد علي. مطبعة المعارف سنة 1352هـ ص531)
(ب) واستعملها ابن خلدون المتوفى سنة 808هـ حين قال:
(عثر بمجمعهم اتفاقاً) (تاريخ ابن خلدون طبعة دي سلان. الجزائر سنة 1847 ج2 ص342 س10 - وراجع دوزي: ملحق المعاجم العربية تحت مادة عثر ج2 ص95 عمود1 - الطبعة الثانية سنة 1927). . . . . .)
عبد الرحمن بدوي
. . . انتهى خطاب الأستاذ عن هذه المسألة.
وإذن فأنت ترى - كرئيس تحرير لمجلة محترمة - ولاشك يرى معك القراء أنني لست ميجارياً في محاجتي كما وصفني تلميذنا زكريا إبراهيم ونحن لا ريب نفتح صدورنا لنقد(491/18)
تلاميذنا، بل وأقول مخلصاً إننا نفرح به ونحثهم عليه، ولكن على أن يكون في حدود اللياقة؛ بل وخير من ذلك أن يكون في حدود الحقيقة والعلم الصحيح، وذلك لأنني لا أرى سفسطة في دفاعي عن عثرت به التي أفادت المعنى الذي أردت العبارة عنه مع عدم خروجها عن أصول اللغات عامة بما فيها لغتنا
وإن كان هناك شيء أنكره من زكريا إبراهيم، فهو عدم الأمانة العلمية، لأن اليوم الذي نرى فيه طلبتنا يتصرفون في نص لكي يحاجوا أستاذهم محاجة في هذا العناد أعتبره يوم فشل لكل مجهوداتنا العلمية ويوم حزن لي لا يعرف مداه إلا الله
محمد مندور(491/19)
الطريق إلى الحق
للأستاذ محمود محمد شاكر
كتب الأخ الصديق الأستاذ محمد مندور كلمة في البريد الأدبي من الرسالة (488) بعنوان (اللغة والتعريب)، عرض فيها لمسألتين: إحداهما: مسألة الصواب والخطأ في اللغة، والأخرى: هي عنصر الثبات في اللغة كما سماه. وقد دفعه إلى الحديث عنهما ما كان من تخطئة الأب أنستاس الكرملي إياه في حرف من اللغة استعمله في كلامه، وهو (عثرت بالشيء) وهو يريد (عثرت عليه) وأحب أن أقدم بين يدي كلامي بعض ما أعرفه عن (مندور)، فقد كنا زميلين في الجامعة، فكان أحد الشبان الأذكياء المتدفقين. وإن فيه من ثورة النفس ما أرجو أن يبقى له على الشباب الهرم. ثم عرفته من بعد مطلعا حريصاً على العلم قليل العناد فيما لا خطر له، ثم هو لا يزال يدأب إلى الحق في غير هوادة. فكل هذه الصفات تجعله عندي غير متعنت ولا مكابر. ولكني رأيت الأب أنستاس قد سلك إلى (مندور) طريقاً، فاندفع كلاهما يطاعن أخاه بعنف لا يهدأ. وأنا لا أحب أن أدخل بين الرجلين فيما هما بسبيله، ولكني أحرص على أن أدل (مندوراً) على الحق الذي كنا ولا زلنا نميل إليه بكل وجهٍ، ونسعى إليه في كل سبيل
وينبغي لي أن أعرض للكلام على الفرق بين الحرفين (عثرت به) و (عثرت عليه) قبل أن أتحرى إلى (مندور) طريق الحق في المسألتين اللتين ذكرهما في كلامه
فأصل اللغة في هذه المادة (عَثَر يعْثُر عَثْراً وعِثَاراً)، وهو فعل لازم لا يتعدى إلى مفعول، ويأتي هكذا غير مصاحب لحرفٍ من حروف الجر. ولكل فعل في اللغة معنى يقوم بذاته، ودلالات يقتضيها بطريق التضمن أو الالتزام
فقولك (عثر الرجل) معناه (تهيأ الرجل للسقوط): فالمراد بالفعل هو حدوث (حركة سقوط) الرجل، ولا يقصد به السقوط نفسه، أي إنه يدل بذاته على الحركة التي تسبق السقوط. وأما الدلالات التي يقتضيها الفعل فأولها: سبب حركة السقوط، وهذا السبب عقلي محض يتضمن الفعل ويقوم فيه مقام الفاعل (كالحجر) مثلاً. وثانيها: الفعل الذي فعله هذا السبب وهو (الصدم)، وثالثها: الحالة التي تلحق الرجل من جراء اصطدامه وهي التنبه والتماسك قبل السقوط. أما الدلالة الرابعة. . .(491/20)
فلو شئت أن تفسر (عثر الرجل) لقلت: (صدم الحجر الرجل فكاد يسقط)، فكأن (عثر) قامت مقام الكلمات (صدم الحجر. . . فكاد يسقط). وأنت ترى أن (الرجل) هنا هو الذي وقع عليه الفعل (أي المفعول به)، لأنه هو الذي صدم فكاد يسقط. فلما كتم هذا الفعل (عثر) فاعله الحقيقي - وهو الحجر مثلا -، وكتم (الصدم) الذي فعل الفاعل الحقيقي، نسب فعله إلى الرجل، مع إنه ليس فاعلا بل مفعولاً به. فهذا يدل على إنه ليس مريداً للفعل (وهو العثرة)، كما يكون مريداً للفعل في قولك: (قام الرجل) إذ إنه مريد هنا للقيام. وشبيه به قولك: (مات الرجل) و (نام الرجل)، فالرجل هنا - على إنه (فاعل) في عبارة النحاة - ليس فاعلا في حقيقة المعنى بل هو (مفعول به) لأنه غير مريد في حالة الموت أو النوم
فإذا صح لديك أن الرجل غير مريد للعثرة في قولك (عثر الرجل)، رأيت الدلالة الرابعة لهذا الفعل وهي أن الشيء الذي فعل العثرة - وهو الحجر مثلاً - كان صغيراً لم يتبينه الرجل، أو لم يتوقع وجوده في المكان الذي كان فيه، فلذلك كاد يسقط على غير إرادة من الرجل لذلك
وإذا تأملت قليلاً رأيت أن قولك (عثر الرجل) لا يراد به الإخبار عن حدوث الصدم، بل المراد أن تصور هيئة الحركة التي جاءت بعد الصدم، وهي حركة السقوط. ولذلك بني مصدرها على هيئة المصادر التي تدل على عيوب الحركة في أصل الخلقة كالتي تكون في الدابة وغيرها من كل ما يمشي أو يتحرك. وذلك هو وزن (فعال) كالشماس، والجماح، والنفار، والشراد، والهياج، والطماح، والحران، والعضاض، والخراط، والضراح، والرماح، والفرار. فأنت ترى من ذلك أن المصدر قد نظر فيه إلى أن المراد في الفعل هو حركة السقوط لا الصدم، فإن الصدمة ليست عيباً، وإنما العيب في هيئة الحركة. وكثيراً ما يستعمل العثار للخيل يقال: (عثر الفرس) أو غيره من الدواب
هذا. . . وحروف الجر التي تأتي لمصاحبة الأفعال إنما تأتي لمعان يتعين بها للفعل معنى لم يكن ظاهراً فيه قبل دخولها، بل ربما اضطر الحرف الفعل أن ينتقل من الحقيقة إلى المجاز، ولذلك تسمى حروف المعاني
ثم إن كل حرف من هذه الحروف له معنى أصلي يقوم به، ثم تتفرع منه معان أخرى لا تزال متصلة إلى المعنى الأول بسبب. فالياء مثلاً هي في حقيقة معناها على إلصاق شيء(491/21)
بشيء أو دنوه منه حتى يمسه أو يكاد. ففي قولك (ألصقت شيئاً بشيء) تقع الباء في معناها الأول وهو الإلصاق الحقيقي. وفي قولك (مررت بزيد) تكون مجازاً لأنها تدل على الدنو والمقاربة الشديدة، كأنك ألصقت مرورك بالمكان الذي يتصل بمكان زيد. وينتقل الحرف من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي بدليل من الفعل الذي يشترك معه في الدلالة. ولذلك تخرج من معناها الحقيقي إلى معنى السببية أو التعليل أو المصاحبة أو الاستعانة مما يذكر في باب معانيها، ولكنها في جميع ذلك تدل على الإلصاق الحقيقي أو المجازي
فإذا جاءت الباء بعد فعل يقتضي معناه بذاته أو بدلالته معنى من الإلصاق، تعين لها أن تكون واقعة في معناها الحقيقي، ويكون دخولها مبالغة في إظهار معنى الإلصاق. وذلك كقولك: (أمسكت الشيء)، و (أمسكت بالشيء) فالباء هنا تزيد في معنى الفعل تقوية الإمساك إذ أن الإلصاق مما يدل عليه هذا الفعل بدلالة التضمن أو الالتزام
فإذا قلت (عثر الرجل بحجر) فمعناه كما بينا آنفاً (صدم الرجل حجر فكاد يسقط). والباء قد دخلت على الفاعل الحقيقي للعثرة وهو (الحجر)، فهي إذن مكملة لمعنى الفعل، ولم تأت لتعدية الفعل إلى مفعول، كالذي يكون في قولك (ذهب الرجل) و (ذهب الرجل بمحمد)
فإذا كان الفعل دالاً بالتضمن على الصدم، والصدم يقتضي الإلصاق، وجاءت الباء مكملة لمعنى (عثر) تجر وراءها الفاعل الحقيقي للصدم، فالباء إذن ستزيد في معنى الفعل، وذلك بأن تظهر الصدم - المقتضي للإلصاق - بعد أن كان مكتوماً في الفعل، ويقوي ذلك أيضاً ظهور الفاعل الحقيقي للعثرة بعد أن كان مكتوماً في (عثر)
فقول الأستاذ (مندور) إنه أراد بقوله (عثرت بالشيء) إنه لاقاه اتفاقاً غير ممكن؛ لأن الباء وافقت الفعل فزادت في الإبانة عما يضمره من دلالة (الصدم) الحقيقي، ولم يكن فيها من المخالفة ما يحمل هذا الفعل على الميل إلى المجاز (أي إلى الصدم المجازي). وليس من شك في أن قوله (لاقاه اتفاقاً) مجاز في تأويل (عثر بالشيء)، فإذا كانت الباء إنما تزيد حقيقة الفعل قوة وبياناً، فكيف إذن تصير بعد ذلك مجازاً بغير عامل يحملها إلى المجاز؟
وقد يستخدم مع هذا الفعل حرف آخر هو (في) فتقول (عثر الرجل في ثوبه) إذا كان واسع الثوب طويل الذيل، فهو يطأ بعض ذيله كلما مشى، فتشد الوطأة الثوب عليه، فيميل كأنه يتهيأ للسقوط فيتماسك(491/22)
فهذا الحرف (في) يدل في أصل معناه على الظرفية الزمانية أو المكانية، وينسحب بها على سائر معانيه. وهو بذلك يدل على استقرار لا على حركة كالحركة التي تكون في الإلصاق. ولما كان الفعل يدل دلالة ظاهرة على حركة السقوط وجاء الحرف (في) يطالب الحركة بالاستقرار، أسرع الفعل إليه، وذلك إنه حين يقول لك (عثر الرجل) لم تكد تجاوز تصور حركة السقوط حتى يفجؤك بقوله (في ثوبه)، فيطالبك بإقرار هذه الحركة ثم تصورها في جوف الثوب. وهذه السرعة التي يتطلبها الانتقال تضعف دلالات الفعل التي كان يدل عليها مستقلا بذاته أي في قولك (عثر الرجل) مجردا، وهي كما ذكرناها آنفاً: فاعل حركة السقوط، وفعله وهو الصدم، وحالة التنبيه والتماسك قبل السقوط، وعدم التوقع أو الاتفاق
فدخول (في) على (الثوب) أبعدت عن أول التصور أن يكون الثوب فاعل الصدم المؤدي إلى حركة السقوط، وبذلك أيضاً أضعفت دلالة الفعل على (الصدم)، إذ أن (الصدم) لا يشبه أن يكون من فعل الثوب؛ فيتغير ما يتضمنه الفعل (عثر) من الدلالة، وتضمن وطء الثوب المفضي إلى شده
ولما كان لابس الثوب الطويل ينبغي له أن يعلم أن طوله يؤدي إلى وطء ذيله فيعثر، اختفت من الفعل - إلا قليلا - دلالة الاتفاق من غير تعمد. ولذلك تستطيع أن تقول (جاء فلان يعثر في ثوبه)، ولا تستطيع أن تقول (جاء فلان يعثر بثوبه)، لأن الأولى قد ذهب منها الاتفاق من غير تعمد، فجائز أن تستمر، وأما الأخرى فمحتفظة بالاتفاق من غير عمد، فهي لا يمكن أن تستمر.
ومع ذلك فهذا الحرف (في) لم يستطع أن يغير من حقيقة (عثر) لأنه دان منها، أو هو مستقر لها، إذ سوف تنتهي حركتها إلى استقراره
وأما (على) فحرف يدل على الاستعلاء في جميع معانيه دلالة مطلقة، والاستعلاء المطلق لا يوجب الإلصاق كما في الباء، ولا يوجب الاستقرار كما في (في). فاستعمالها مع (عثر) سيحدث في معناها أثراً جديداً ينقلها من حال إلى حال
فحين تقول (عثرت على الكرسي) يقتضيك فيها معنى (عثرت) - وهو تهيؤك للسقوط وتماسكك دون السقوط - ألا تجعل معنى (على) استعلاءً ملاصقاً كما في قولك (وقعت على الكرسي)، وذلك لأنك لم تسقط بل كدت ثم تماسكت. وإذن فالحرف (على) هنا يدل على(491/23)
الاستعلاء المطلق الذي يقتضي نفي الملاصقة كقولك: (فضلت فلاناً على فلان)
والاستعلاء المطلق مناقض كل المناقضة لمعنى (الصدم) لأن الصدم يقتضي الملاصقة، فلما جاءت (على) خلعت عن الفعل (عثر) كل ما كان يتضمنه من معنى الصدم الحقيقي (لا المجازي)، ولما خلعته عن الفعل خلعته أيضاً عن الفاعل (الكرسي) الذي كان فعله الصدم الحقيقي (لا المجازي). ولكن هذا الفعل لا ينفك من أحد دلالاته وهو (الصدم) سواء أكان حقيقياً أم مجازياً، فإذا خلعت (على) عنه الصدم الحقيقي بقي الصدم المجازي مكتوماً فيه قائماً مقام الصدم الحقيقي؛ وإذا كان ذلك فلابد من حدوث تغير في الفعل وفي معناه، لأن الصدم قد انتقل من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، والصدم وفاعله سببان في (عثر) التي تدل على حركة السقوط. فإذا صار الصدم من الحقيقة إلى المجاز - وهو أحد مقومات حركة السقوط - فلابد من أن تصير (عثر) إلى المجاز أيضاً لأنها صارت مسببة عن مجاز.
فأنت ترى أن هذا الفعل لم ينقله من الحقيقة إلى المجاز إلا حرف واحد هو (على) الذي يدل على استعلاء مطلق يناقض معنى الصدم الحقيقي الذي كان ثابتاً في الفعل بدلالة التضمن أو الالتزام
وعلى ذلك لا يزال هذا الفعل مع (على) يدل على حركة السقوط المجازية، ويتضمن بدلالة الالتزام فاعل هذه الحركة، وفعله وهو الصدم المجازي، ثم حالة التنبه والتماسك قبل هذه الحركة، ثم عدم التوقع أو الاتفاق، وهذا بعينه ما يريده الأخ (مندور) بقوله في تأويل (عثرت به) إنه لاقاه اتفاقاً
وانظر الآن إلى سليقة هذه اللغة فإنها إذا كانت قد جعلت مصدر (عثر وعثر به) و (عثر فيه) عثاراً بوزن (فعال) الدال على عيوب الحركة، أو على الحركة نفسها: كالمزاح والضراب والنزال، والصراع، فإنها تجعل مصدر (عثر عليه) عثوراً على وزن (فعول) الذي يدل أكثره على مجرد الحركة، كالنزول، والسقوط، والقعود، والجلوس، والشرود، والنفور، والجموح والطموح. وبذلك خالفت بين المصدرين مع اشتراك الوزنين في معنى الحركة، لأن الفعل انتقل من الحقيقة إلى المجاز
وفي الآيتين من كتاب الله: المائدة (110) (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً)، وآية أصحاب(491/24)
الكهف (20) (وكذلك أعثرنا عليهم) جاء الفعل بالمعنى المجازي الذي يقتضي حركة السقوط المجازية، والصدم المجازي، وحالة التنبه والتماسك قبل حركة السقوط، وعدم التوقع أي الوقوف على الشيء بغير طلب أو بحث أو كشف
ولكن الأخ مندور يقول: (ولم أرد (العثور عليه) أي الاطلاع الذي يدل على علم ومعرفة وبحث وجهبذة لا أدعيها). والذي أوقعه في هذا التأويل قول أصحاب اللغة (عثر على الأمر عثوراً) اطلع. فتفسيرهم مقصر عن الغاية كل التقصير لأنه يدل على جزء واحد من الدلالات التي يتضمنهما الفعل، وهي حالة التنبه التي تلحق الرجل من الصدمة فينظر ويتبين ما صدمه، وأهملوا بقولهم (اطلع) المعنى الأصلي للفعل (عثر) وهي حالة السقوط المجازي، والصدمة المجازية، وعدم التوقع. وهذا نقص مخل في عبارة كتب أصحاب اللغة
وأنا أقرر أن أكثر ما في كتب اللغة عندنا من تفسير الألفاظ إنما هو تفسير مخل فاسد، لأنه قد أهمل فيه أصل الاشتقاق، وأصل المعنى الذي يدل عليه اللفظ بذاته كما رأيت هنا. وإذا أهمل هذان فقد اضطرب الكلام واضطربت دلالاته، وأوقع من يأخذ اللغة بغير تدبر في حالة من التعبد بالنصوص كتعبد الوثني للصنم. وأيضا فهو يوقع بعض النابهين من الكتاب في أوهام ليست من الحق في شيء، يحملهم عليها تكرار هذا التفسير الفاسد فيسلمون به على غير تبين، كما رأيت في تفسير قولهم (عثرت عليه) إنه (اطلعت عليه)، فانك حين تقول: (عثر على الكلمة في الكتاب) فلست تقولها إلا حين تريد أن تصور الكلمة كأنها فاعل الصدم، وتصور رؤيتها كأنه صدم لك، وهذا الصدم يستدعي تنبهك فتتماسك وتنظر إلى ما صدمك، وإن هذا كله كان بغير طلب أو بحث وإنما جاءك اتفاقاً على غير تعمد كان منك.
هذا وأنا لم أقصد ببحثي هذا إلى اللغة، بل قصدت إلى الدلالة على طريق الحق إلى فهمها. وأحب أن أظهر من يقرأ كلامي هذا على أنني لا أجعل مفردات اللغات كل الهم في عملي أو عمل غيري. ويقيني أن أكثر من يطيق التدبر والتأمل يستطيع أن يصل إلى فهم اللغة فهماً صحيحاً نافعاً معيناً على حسن العبارة ودقتها في البيان عن المراد، وهو لم يتكلف إلى ذلك إلا قليلا من الجهد(491/25)
واحسبني قد سلكت إلى أخي مندور طريق العلم إلى غاية الحق، وهي غايته التي أعلمه لا يعمل إلا لها. وسواء عليه بعد ذلك أكان الحق له أم عليه
أما مسألة الخطأ والصواب في اللغة، ومسألة عنصر الثبات فيها، فنتركهما إلى العدد التالي من الرسالة، ولأخي مندور تحيتي وشكري.
محمود محمد شاكر(491/26)
2 - خزانة الرؤوس
في دار الخلافة العباسية ببغداد
للأستاذ ميخائيل عواد
(ج) رأس يهبوذ صاحب الزنج
روى خبره أبو الفرج ابن الجوزي في جملة حوادث سنة 270هـ قال بعد أن شرح عيثه وفساده: (وجاء البشير بقتل الفاسق، ثم جاء رجل معه رأس الفاسق، فسجد الناس شكراً، وأمر أبو أحمد أن يكتب إلى أمصار المسلمين. . . وقدم ابنه العباس إلى بغداد ومعه رأس الخبيث ليراه الناس فيسروا. فوافى بغداد يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى في هذه السنة والرأس بين يديه على قناة، فأكثر الناس التكبير والشكر لله والمدح لابن الموفق وأبيه. ودخل أحمد بن الموفق بغداد برأس الخبيث وركب في جيش لم ير مثله من سوق الثلاثاء إلى المخرم وباب الطاق وسوق يحيى حتى هبط إلى الحربية، ثم انحدر في دجلة إلى قصر الخلافة في جمادى الأولى هذه السنة، وضربت القباب وزينت الحيطان)
قلنا: لم يصرح ابن الجوزي بوضع رأس هذا الخبيث في خزانة الرؤوس، ونحن نرجح إنه استقر في هذه الخزانة، بعد أن عرفنا إدخاله دار الخلافة
(د) راس البساسيري
كان أرسلان التركي المعروف بالبساسيري قد عظم شأنه، واستفحل أمره، وانتشر ذكره، وقد هابته ملوك العرب والعجم حتى دعي له على المنابر، وعزم الاستيلاء على بغداد ونهب دار الخلافة والقبض على الخليفة وهو يومذاك القائم بأمر الله، فتم له ما أراد إذ دخل بغداد، وقبض على الخليفة وسيره إلى بلد عانة على الفرات فحبسه فيها، ثم دار الفلك دورته؛ فوقع البساسيري في الفخ، فكان مصيره حز رأسه وحمله إلى خزانة الرؤوس. وقد صدقت فيه الآية: (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون بما كنتم تكسبون)
قال ابن الجوزي في حوادث سنة 451هـ (. . . وانهزم البساسيري على فرسه فلم ينجه، وضرب فرسه بنشابة فرمته إلى الأرض، وأدركه بعض الغلمان، فضربه ضربة على(491/27)
وجهه ولم يعرفه، وأسره كمشتكين دواتي عميد الملك، وحز رأسه وحمل إلى السلطان. ولما حمل إلى السلطان حكى له الذي أسره إنه وجد في جيبه خمسة دنانير وأحضرها، فتقدم السلطان إلى أن يفرغ المخ من رأسه ويأخذ الخمسة دنانير، ثم أنفذه حينئذ إلى دار الخلافة؛ فوصل في يوم السبت النصف من ذي الحجة، فغسل ونظف، ثم ترك على قناة وطيف به من غد، وضربت البوقات والدبادب بين يديه، واجتمع من النساء والنفاطين وغيرهم بالدفوف ومن يغني بين يديه، ونصب من بعد ذلك على رأس الطيار بإزار دار الخلافة ثم أخذ إلى الدار)
(هـ) رأس البريدي:
أبو الحسين البريدي أحد العابثين الخارجين على سياسة دولة بني العباس. ارتكب من الظلم أمراً عظيما. فقد أرعب الخلق وكثرت جموعه، وتزلزل له الخليفة. وكان ظهوره في نواحي البصرة، حيث سعى غير مرة لفتحها والاستيلاء عليها؛ لكنه رد على أعقابه ولم ينل وطره، فقد خانه أكثر أصحابه وأعوانه، ثم قبض عليه وأودع دار السلطان.
قال مسكويه في أحداث سنة 333هـ: (وكان أبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي أخذ في أيام ناصر الدولة فتوى الفقهاء والقضاة بإحلال دمه؛ فأظهرها في هذا الوقت، فلما كان بعد أسبوع من القبض عليه استحضر الفقهاء والقضاة، وأحضر أبو الحسين البريدي، وجمعوا بين يدي المستكفي بالله، وأحضر السيف والنطع، ووقف السياف بيده السيف، وحضر ابن أبي موسى الهاشمي، ووقف فقرأ ما أفتى به واحدا واحداً من إباحة دمه على رؤوس الأشهاد؛ وكلما قرأ فتوى واحد منهم سأله هل هي فتواه فيعترف بها حتى أتى على جماعتهم، وأبو الحسين البريدي يسمع ذلك كله ويراه، ورأسه مشدود، والسيف مسلول بازائه في يد السياف، فلما أعترف القضاة والفقهاء بالفتوى أمر المستكفي بالله بضرب عنقه، فضربت من غير أن يحتج لنفسه بشيء أو يعاود بكلمة أو ينطق بحرف، وأخذ رأسه وطيف به في جانبي بغداد ورد إلى دار السلطان. . .)
(و) رأس الخليفة الأمين، رأس عيسى بن ماهان، رأس أبي
السرايا:(491/28)
من يستعرض خزانة الرؤوس في دار الخلافة العباسية ببغداد، ير فيها رؤوس أمراء، ووزراء، وقواد، وصنوف شتى من طبقات الناس، من عرب وأمم مختلفة، ولكنها لم تكتف بهؤلاء أصحابا، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، إلى رؤوس أفراد بيدهم تدبير الملك وسياسة الرعية، أولئك هم الخلفاء؛ وإن في هذا الأمر الخطير لعبرة مؤلمة وموعظة بليغة.
كان رأس الأمين أول ما وضع من رؤوس الخلفاء في هذه الخزانة. ولا ندري أوضع بجانب رأس بهبوذ الزنجي، أم إلى جانب غيره من رؤوس المارقين العابثين، أم أفرد له فيها مكان خاص؟ ومهما يكن من أمر فهو لم ينج من هذه الخزانة العجيبة. وأمر الأمين مشتهر يوم نكب، ويوم قتل وقطف رأسه، ودعنا نأخذ بعض خبره، وخبر رأسه من شيخ المؤرخين محمد بن جرير الطبري؛ فانه روى في ماجريات سنة 198هـ هذه الأحدوثة (. . . قال: فقمت فصرت خلف الحصر المدرجة في زاوية البيت، وقام محمد (الأمين) فأخذ بيده وسادة وجعل يقول: ويحكم أني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون، الله الله في دمي. قال: فدخل عليه رجل منهم يقال له خمارويه غلام لقريش الدنداني مولى طاهر، فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه، وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده، فصاح خمارويه: قتلتني قتلتني بالفارسية. قال: فدخل منهم جماعة فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحاً من قفاه، وأخذوا رأسه فمضوا به إلى طاهر وتركوا جثته. قال: ولما كان في وقت السحر جاءوا إلى جثته فأدرجوها في جلد وحملوها. . . قال: وبينا نحن كذلك إذ هدة تكاد الأرض ترجف منها، وإذا أصحاب طاهر قد دخلوا الدار وأرادوا البيت، وكان في الباب ضيق، فدافعهم محمد بمجنة كانت معه في البيت، فما وصلوا إليه حتى عرقبوه ثم هجموا عليه فحزوا رأسه واستقبلوا به طاهراً وحملوا جثته إلى بستان مؤنسة إلى معسكره؛ إذ أقبل عبد السلام بن العلاء صاحب حرس هرثمة، فأذن له، وكان عبر إليه على الجسر الذي كان بالشماسية. فقال له: أخوك يقرئك السلام فما خبرك؟ قال: يا غلام هات الطس فجاءوا به وفيه رأس محمد. فقال: هذا خبري فاعلمه. فلما أصبح نصب رأس محمد على باب الأنبار؛ وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم. وأقبل طاهر يقول: رأس المخلوع محمد. وذكر عنه (عن الحسن ابن أبي سعيد) إنه ذكر أن(491/29)
الخزانة التي كان فيها رأس محمد، ورأس عيسى بن ماهان، ورأس أبي السرايا؛ كانت إليه. قال: فنظرت في رأس محمد، فإذا فيه ضربة في وجهه وشعر رأسه ولحيته صحيح لم ينجاب منه شيء، ولونه على حاله. قال: وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع البردة والقضيب والمصلى. . . فرأيت ذا الرئاستين وقد أدخل رأس محمد على ترسٍ بيده إلى المأمون، فلما رآه سجد. . .)
(يتبع)
ميخائيل عواد(491/30)
رسالة الشعر
في أخريات الخريف
للأستاذ محمود الخفيف
تُنذِرُني أَوْرَاقُ هُذِى الكُرُومُ ... تَساَقَطتْ ذَاوِيَهْ
وَفِي حَوَاشِي الأفْقِ تِلْكَ الْغُيُومْ ... غاَرِقِةً طاَفَيِهْ
وَفي وُجِوهِ النَّاسِ هذا الوُجُومْ ... بَادِيَةً أسْبَابُهُ خَافِيَهْ
خَشْخَشَةُ الأغْصَانِ كم زَيَّنتْ ... للِنَّفسِ أشْجَانَهاَ
وَصُفرةُ العِيدَانِ كَمْ لَوَّنتْ ... بالْمَوتِ ألْحَانَهاَ
وَالرِّيحُ كَمْ وَلْولَةٍ أعْلَنَتْ ... مِثلِ التي حَاوَلتُ كِتْماَنَهاَ
حَتَّامَ تُوحي أُخْرَياتُ الْخَرِيفْ ... للِنَّفسِ هَذا الْحَزنْ
وَاعَجَباَ: هذا النَّسيِمُ الْخَفِيفْ ... يَفَرَقُ مِنْهُ البَدَنْ
وَكُلُّ شَيءٍ فِيِه مَعْنًى مُخِيفْ ... ألْبَسهُ حَوْلِي خَيَالَ الكَفَرْ
تَلُوحُ في أوْرَاقِهِ الذَّابِلَهْ ... كلُّ مَعَاني الشَّقاَءْ
فِيها جُسُومٌ تَرْتَمِي ناَحِلَهْ ... أومَى إليْهاَ الْفَنَاءْ
يُطِلُّ مِنْ أعْيُنِها الذَّاهِلَهْ ... الْجُوعُ والسُّقْمُ وَقُرُّ الشِّتَاءْ
وَأَلمَحُ الآلافَ ألْقَى بِها ... لِحِتْفهِا طَاغِيَهْ
طَعِينَةَ تَشْكُو إِلى رَبَّهَا ... مِنْ يَدِهِ الْعَاتِيَهْ
لاَئِذَةً بالمَوْتِ مِنْ رُعْبِهاَ ... مَّمِا تَرَى في هَذِه الْغَاشِيَهْ
وَصَوَّرتْ أَيَّامِيَ الذَّاهِبَهْ ... مَا إِنْ لَهَا مِنْ مَآبْ
وَكَمْ تَهَادَتْ كالمُنَى الكاذِبهْ ... لاحَتَ كلَمْح السَّرابْ
للِمَوتِ تَمْضِي زُمَراً وَاثِبَهْ ... مُعَجَّلةً أغْرَى بِهِنَّ الوِثاَبْ
وَاحَزَناَ أغْصَانُها الْعَارِيَهْ ... تكْسَى غَدَاةَ الرَّبِيعْ
هَلْ مِنْ رَبيعٍ للمُنَى الذَّاوَيهْ ... وَالقَلْبُ ذَاوٍ صَدِيعْ
باَتَتْ شِتاءً كلُّ أيَّامِيهْ ... يا هَوْلهُ بَعدَ رَبيعٍ مريعْ
الخفيف(491/31)
البريد الأدبي
إعجاب
قبل أن تنسيني الشواغل أني قرأت مقالا نفيساً للأستاذ (أبي أسامة) أسجل إعجابي، وأرجوه أن يذكر حقوق الأدب والتاريخ على قلمه البليغ
زاده الله توفيقاً إلى توفيق، ورفع بأمثاله أعلام البيان.
زكي مبارك
تصحيح بعض سقطات الكرملي
أنا أعلم أني طلبت إلى الأب أنستاس الكرملي أن يكون دقيقاً أميناً واعياً. . . أكون قد كلفته ما ليس من عادته، بل فوق ما يطيق. ولذا فغرضي من كلمتي ليس الأب نفسه، وإنما أكتب تحذيراً لبعض من يقرأ كلامه من ضعاف الطلاب حذراً أن ينخدع به ويعتمده من غير تحقيق
ادعى الأب في العدد (475) من الرسالة الغراء أن استعمال خطأ لضد الصواب (من الأغلاط الشائعة في مصر). ثم قال: (على ما كتب اللغة) فنبهنا في العدد (479) إلى أن هذا الرأي ليس في كتاب من كتب اللغة، ونقلنا له نقولاً أجمعت كلها - بلا استثناء - على أن (الخطأ) كلمة صحيحة وبعضها ذكر (الخطاء) بعد (الخطأ) وبعضها لم يذكر وبعضها وهاها وهو صاحب الصحاح. فسبب وهيهاً إذاً عدم ذكرها في بعض المعاجم ونص بعضها على توهينها
فلما صرعه الحق حاول أن يبتعد عنه فكان مما قال في العدد (487) من الرسالة: (خذ بيدك أي معجم شئت. . . تر أن الكلمة القليلة الأحرف مقدمة على غيرها)
وهذا - وإن وقع كثيراً - إلا إنه لا يطرد. وعلى ذلك تكون كلمة الأب تخرصاً، فقد فتحنا القاموس المحيط كما اتفق فرأيناه يقول: (خنز اللحم خنوزاً وخنزاً) فأطبقناه وكتبنا الكلمة منبهين على عدم تدقيق الأب وأمانته
أنا أريد أن (أفترض جدلا) أن (الخطاء) قد تسمو في بعض الأحيان إلى درجة (الخطأ) وإذاً يكون الأب قد جهل بديهة من البدائه اللغوية التي يتعلمها شادي العربية(491/33)
أعلم أيهذا الأب إنه إذا أتتك كلمتان فصيحتان من مادة واحدة فقدم الأخف حروفاً فإنها أفصح. وهل أنت بحاجة إلى ردك إلى مصدر ما؟ نعم فراجع إذاً كتاباً صغيراً لأحد المتأخرين هو (البلغة لحسن صديق خان) ثم الفهم الفهم والأناة الأناة، ولك عطفي الخالص.
(دمشق)
سعيد الأفغاني
تصحيحان
1 - جاء في البريد الأدبي من مجلة (الرسالة) الغراء (العدد 483) كلمة بعنوان: (رواية فاطمة البتول لمعروف الأرناءوط) وقد كتب هاته الكلمة الأديب لبيب السعيد حول الرواية المذكورة مقرظاً وناقداً. وجاءت في الكلمة هذه الجملة: (وفي وادي العقيق حيال قبر حمزة رضي الله عنه). والمتبادر المفهوم من سياق هذه الجملة أن قبر حمزة رضي الله عنه واقع في العقيق. وليس الأمر كذلك فإنه استشهد في وقعة أحد على سفح جبل الرماة الصغير القائم في قلب وادي قناة - لا وادي العقيق - وبينهما في هذه النقطة بون شاسع. وقد دفن سيد الشهداء بعد مصرعه ببطن وادي قناة، ثم نقل إلى شاطئ الوادي للشمالي في نقطة تسامت منتصف جبل أحد، وبغربي قبره قبور الشهداء في تلك المعركة
3 - وجاء في هامش مقال (الحديث ذو شجون المنشور في (العدد 484) من مجلة الرسالة أيضاً تفسير لنسبة الظواهري بأنها (نسبة قديمة إلى الظواهر، وهي ضواحي مكة وبها كان يقيم أجداد الشيخ الظواهري في سالف الزمان، وإليهم ينسب كفر الظواهرية بمركز ههيا بمديرية الشرقية) اهـ
والحقيقة أن الظواهر - كما هو معروف - هم فخذ من بني سالم أحد بطون حرب. ويقيم هذا الفخذ لهذا العهد وما قبله بوادي الصفراء الواقع بين المدينة المنورة وينبع. وممن نص على ذلك الأستاذ فؤاد بك حمزة في كتابه (قلب جزيرة العرب) في الصفحة 142. والى هذا الفخذ نسبة الظواهري وكل ظواهري
(مكة المكرمة)
عبد القدوس الأنصاري(491/34)
تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها
يذكر كثير من المتحدثين عن الفضيلة والأخلاق المثل العربي القائل: (تجوع الحرة ولا تأكل بثديها) ولكنهم يخطئون في فهمه، إذ أنهم يفهمون منه أن المرأة الحرة يجب أن تتحمل الجوع ولا تتخذ عرضها وسيلة لدفعه، وهم لا يذكرونه إلا في موقف يفهم منه هذا المعنى. ولعلهم يظنون أن كلمة (ثدييها) يكنى بها في هذا المثل عن عرض المرأة؛ والحق غير ذلك، فأصل هذا المثل أن أغلب نساء العرب كن يرين قيام إحداهن بإرضاع غير أولادهن مقابل أجر - قل أو كثر - مما يشين المرأة العربية، فقالوا: (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها) من أجل ذلك. بل كانت نساء بعض القبائل العربية كقريش لا يرضعن أولادهن، وكن يعددن ذلك عاراً، لأنه قد يدل على الفقر والفاقة، فكيف لهن إذن بإرضاع الأولاد الأجانب عنهن؟!
أحمد الشرباصي
حول اختلاف القراءات
قرأت ما كتبه الأستاذ محمد غسان حول اختلاف القراءات رداً على الأستاذ عبد المتعال الصعيدي، فوجدته قد اشتبه عليه رأي الأستاذ الكبير حتى ظنه ما يراه ابن المقسم من تجويز القراءة بما يحتمله الرسم وتظاهره العربية بدون نظر إلى الرواية. . . وشتان بين الرأيين، لأن رأي أستاذنا لا يراد منه تجويز قراءات لم ترد، وإنما يراد منه توجيه قراءات واردة بالتواتر أو الآحاد، ولا تدخل في باب اختلاف اللهجات بسبب جديد يرتاح إليه العقل، وتطمئن إليه النفس، ولا يبقى معه احتمال لما يزعم من نشوء ذلك من تصحيف. . . وهذا غرض يتفق مع ما أخذ به أستاذنا نفسه للدفاع عن الإسلام وأحكامه بما يتفق مع ذوق هذا العصر. وهو الطريق الذي سنه المصلحون من أئمة الدين قبله، فأفادوا الإسلام بآرائهم وأفكارهم إفادة جليلة سامية. فالأستاذ غسان لم يفهم كلمة أستاذنا كما فهمها الأستاذ عزت عرفة ولهذا جاء رده بعيداً عن الصواب
عبد العليم عيسى(491/35)
رسالة عمر بن الخطاب في القضاء
كان مما قررته وزارة المعارف على طلاب الثقافة هذا العام رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري، وهذه الرسالة واردة في كتاب المنتخب للسنة الرابعة الثانوية وفيها قليل من التحريف، وعلى هذا الكتاب اعتمد المؤلفون الذين قاموا بشرح النصوص وطبعها ونشرها؛ ونحن نصحح هذه الأخطاء معتمدين في ذلك على كتاب رغبة الأمل من كتاب الكامل، للمرحوم إمام الأدب سيد بن علي المرصفي.
1 - ورد في أخر الرسالة (فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته) والصواب فما ظنك بثواب عند الله عز وجل. . . الخ، ولا وجه للنص محرفاً، وقوله في عاجل رزقه وخزائن رحمته وصف لثواب الله لا ثواب غيره
2 - (وإياك والقلق والضجر) والصواب الغلق، لأن القلق والضجر بمعنى واحد، والغلق يؤدي معنى أكثر من القلق؛ إذ هو ضيق الصدر وقلة الصبر فهو سبب الضجر.
زكي غانم
دنية القاضي في العصر العباسي
أما بعد: فقد بعثت إليكم في 15 أيلول سنة 1942 بمقال عنوانه (دنية القاضي في العصر العباسي). وقد جاء في المقال المذكور حاشية تحققت منها الآن أنها مغلوطة، فأبادر الآن لتصحيحها، إذ يعز عليّ أن أرى غلطاً فيما أحرره
قلت في نحو أواسط هذا المقال: (وللدنيّة أخبار طريفة كانت في أكثرها مدعاة للسخرية منها، والتمثيل بها. فقد روى أبو الفرج الأصفهاني حكاية قال فيها: (أخبرنا) محمد بن خلف وكيع قال: كان الخليجي القاضي، واسمه عبد الله (بن محمد) ابن أخت علوية المغني، وكان تياهاً صلفاً، فتقلد في خلافة الأمين قضاء الشرقية؛ فكان يجلس إلى اسطوانة من أساطين المسجد. . .) وذكرت في الحاشية أن الشرقية يقصد بها الجانب الشرقي من بغداد. والصواب: أن الشرقية على ما في معجم البلدان (3: 279؛ طبعة وستنفلد): (محلّة بالجانب الغربي من بغداد، وفيها مسجد الشرقية في شرقي باب النصر. قيل لها الشرقية لأنها شرقي مدينة المنصور لا لأنها في الجانب الشرقي)(491/36)
(بغداد)
ميخائيل عواد(491/37)
الكتب
عبقرية عمر
للأستاذ عباس محمود العقاد
بقلم الأستاذ محمود أبو رية
لما نشرت الصحف أن الأستاذ عباس محمود العقاد قد أجمع النية على وضع كتاب عن (عبقرية عمر) قلنا إنها آية جديدة على بعد إدراكه وسعة عقله ما دام هو بسبيل الكتابة عن العبقرية الإسلامية، فانه ليس أحرى بالدرس والتأريخ بعد رسول الله صلوات الله عليه من عمر. ذلك بأن التأريخ الإسلامي لم يشهد من العدل والحزم وحكمة السياسة والقيام على أمور الرعية بالنصفة والمعدلة مثل ما شهد في عهده، حتى لقد كانت أيامه مضرب المثل الصالح في العدل والإصلاح على مدى التاريخ كله. ولقد اعتز به الإسلام من أول يوم أسلم فيه وظل عزيزاً به طول حياته، ولم يكد ينقلب إلى ربه حتى انقلبت الأحوال وتبدلت الأمور وانبعث بنو أمية بما كان جاثماً في صدورهم من الحقد والشنآن على بني هاشم، فأحاطوا بعثمان واستحوذوا على الملك، وقام الأمر منذ يومئذ على قوة العصبية والغلب، وتصدع البناء الإسلامي الذي كان قد أقيم على الشورى والعدل. وكذلك أخذ داء التفرق الديني واليأس يدب في جسم الأمة الإسلامية حتى أنهك قواها وأذهب ريحها. ولقد صدق علي في قوله يوم موته: (إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا ترتق إلى يوم القيامة)
وثم أمر آخر يوجب تقديم هذا الرجل في التاريخ على غيره قد بينه الأستاذ المؤلف في أصدق عبارة فقال: (إن دراسة عمر غنيمة لكل علم متصل بالحياة الإنسانية كعلم الأخلاق وعلم الاجتماع وعلم السياسة، ولم تقتصر مزايا هذه الدراسة على علم النفس وكفى)
ولئن كان مؤلفنا الكبير قد عاجله التوفيق في وضع عمر في مكانه اللائق به في التاريخ، فإنه قد أحسن غاية الإحسان في إنه لم يتخذ في كتابه سبيل من كتب قبله فقال:
(وكتابي هذا ليس بسيرة لعمر ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له ودراسة لأطواره ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة)(491/38)
وإنه لعلى حق فيما نهج لنفسه، لأن طريقة التأليف التي تقوم على سرد الحوادث وإيراد الوقائع وبخاصة إذا كان ذلك قد صار من علم الناس أصبحت من الأمور التي تبعث الضيق إلى الصدر والسأم إلى النفس، ولو أن الأستاذ العقاد كان قد اتبع سنن من قبله الذين يتزيدون من نقل الحوادث بغية الجمع، ويتوسعون بتدوين الوقائع ابتغاء الحشد، فإنه لا يكون قد أربى عليهم بشيء ولا تكون المكتبة العربية قد غنمت منه إلا زيادة كتاب فيها!
كان الناس لا يعلمون بما درسوا من كتب السيرة كل ما يجب أن يعرف عن عظمة هذا الرجل الذي كان (ممتازاً بعمله ممتازاً بتكوينه، وكان وفاء شرط الامتياز والتفرد في عرف الأقدمين والمحدثين من المؤمنين بدينه وغير المؤمنين)
ولئن كان المؤرخون قد أطالوا في سرد تاريخه وأكثروا من بيان أعماله فإنهم لم يصلوا إلى دراسة حقيقة هذه النفس الكبيرة، ولا عرفوا كيف يتغلغلون إلى آفاقها الواسعة ومراميها البعيدة، وهذا لعمرك هو الفارق بين الكتاب الذي لا يرعف قلمه إلا مداداً يسيل على الصحف سطوراً سوداء وبين الكاتب الملهم الذي ينبثق من قلمه نور يشق الحجب لينفذ إلى ما وراءها، ويمزق الغلف ليصل إلى خفاياها
إن أظهر صفة لعمر قد أشاد التاريخ بها وحفظها له رائعة جليلة هي صفة (العدل)، وعلى أنك ترى أصحاب السير قد ملئوا بطون الأسفار من الأنباء التي تثبت هذه الصفة وتدل عليها، فإنك لا تجد أحداً منهم قد هدى إلى إظهار حقيقة هذا العدل العمري، ولا استطاع أن يصل إلى كنه أسبابه حتى يعلم الناس كيف امتاز عدل عمر من عدل غيره فبلغ به ما لم يبلغ سواه من الثناء والإعجاب ما دام يجري على وجه الأرض حكم، ولكنك لو رجعت إلى كتاب (عبقرية عمر) لوجدته قد وقفك على مرد هذا العدل وكشف لك عن أسبابه فيقول: (إن له روافد شتى بعضها من وراثة أهله، وبعضها من تكوين شخصه، وبعضها من عبر أيامه، وبعضها من تعليم دينه، وكلها بعد ذلك تمضي في اتجاه قويم إلى غاية واحدة لا تنم على افتراق). ولا يدعك على هذا الإجمال بل يفصل لك القول عن هذه الروافد حتى تصير وملء نفسك الإعجاب والرضا
ولا يكتفي بدرس هذه الصفة بل يمضي في استقصاء دراسة سائر خلائقه وصفاته فيقول:
(إن خلائقه الكبرى كانت بارزة جداً لا يسترها حجاب؛ فما من قارئ ألم بفذلكة صالحة من(491/39)
ترجمته إلا استطاع أن يعلم أن عمر بن الخطاب كان عادلاً وكان رحيماً وكان غيوراً وكان فطناً وكان وثيق الإيمان عظيم الاستعداد للنخوة الدينية). وبعد أن يحدثك بأن هذه الصفات مكيفة فيه وأنها تتجه (إلى جهة واحدة، ولا تتشعب في اتجاهها طرائق قدداً كما يتفق في صفات بعض العظماء). وأن هذه الصفات يتمم بعضها بعضاً (حتى كأنها صفة واحدة متصلة الأجزاء متلاحقة الألوان) يمضي فيقول: (وأعجب من هذا التوافق بين صفاته أن الصفة الواحدة تستمد عناصرها من روافد شتى ولا تستمدها من ينبوع واحد، ثم هي مع ذلك متفقة لا تتناقض متساندة لا تتخاذل كأنها لا تعرف التعدد والتكاثر في شيء)
وهل تراه يقف بك عند هذا الاستقصاء البعيد أو يقنع بما قدمه من بحث ليس وراءه من مزيد؟ إن فلسفته لتأبى عليه إلا أن يمعن في الاستيعاب ويبالغ في الدرس فيقول (وما العدل والرحمة والغيرة والفطنة بغير الإيمان الذي هو الرقيب الأعلى فوق كل رقيب، والوازع الأخير بعد كل وازع، والمرجع الذي لا مرجع بعده لطالب الإنصاف) (إن إيمان عمر هو الضابط الذي يسيطر على أخلاقه وأفكاره، كما يسيطر على دوافعه وسوراته) ثم لا تدعه فلسفته العميقة حتى تظفره بسر لم يهتد إليه أحد من قبل ذلك هو (مفتاح الشخصية العمرية) ذاك الذي عرفه الأستاذ العقاد بأنه (السمة التي تميزه بين العظماء حتى في الإيمان، وسيطرته على الأخلاق والأفكار والدوافع والسورات، فإن الإيمان ليقوى في نفوس كثيرات ثم تختلف آياته وشواهده باختلاف تلك النفوس. . . والذي نراه أن (طبيعة الجندي) في صفتها المثلى هي أصدق مفتاح (للشخصية العمرية) في جملة ما يؤثر أو يروى عن هذا الرجل العظيم)
ولم يستأثر بهذا المفتاح بل تناوله بيد ماهرة وفتح به مغاليق هذه النفس الكبيرة ليبين للناس بقلمه البليغ خصائص عظمتها وما استفادت الحياة منها مما يجعلك تشهد مقراً بنفاذ بصره وقوة ذهنه
وبحسبك أن تراه لا يتولى ناحية من نواحي هذه العظمة إلا أتى على أطرافها وأحاط بجميع أكنافها، ولا درس جانباً من جوانبها إلا هتك من سره، وأظهر المكنون من أمره
ولا نذهب نستزيد في بيان ما اشتمل عليه كتاب (عبقرية عمر)، لأن ذلك يحتاج إلى مقالات مستفيضة، وإنما نجعل كلمتنا دالة تشير إلى جملة هذا الكتاب دون تفصيله، فإذا لم(491/40)
يكن فيها كل البيان عنه فليكن فيها شيء من دليله
ولعل هذه اللمحة تبين موضع هذا الكتاب الممتع الذي صور فيه العقاد عبقرية عمر أصدق تصوير وسايرها من إسلامه إلى عمله في الدولة ومعاملته للرسول وأصحابه، ثم ما كان عليه من ثقافة وغير ذلك مما لا تجد مثله في كتاب قبل اليوم
ولئن كان العقاد قد كشف بكتابه هذا عن عبقرية عمر وجلاها للناس في أروع مظهر وأبلغ بيان، فإنه قد أثبت العبقرية لنفسه في هذا الكتاب الفريد حتى لا يكاد يختلف في ذلك اثنان.
(المنصورة)
محمود أبو رية(491/41)
العدد 492 - بتاريخ: 07 - 12 - 1942(/)
3 - دفاع عن البلاغة
حد البلاغة
تسألني بعد ذلك عن البلاغة التي أعنيها وأدفع عنها: أهي بلاغة العقل العربي التي تجلت في نثر ابن المقفع والجاحظ والبديع، وارتسمت في منهج أبي هلال وعبد القاهر؛ أم هي بلاغة العقل اليوناني التي تمثلت في كلام الأصوليين والجدليين والمناطقة، واستسرت في قواعد السكاكي والسعد؟ أهي بلاغة المعنى أم بلاغة اللفظ؟ أهي بلاغة الفكر أم بلاغة الأسلوب؟
والجواب أن البلاغة التي أعنيها وأدفع عنها هي البلاغة التي تحدى بها القرآن أمراء القول في عهد كان الأدب فيه صورة الحياة وترجمة الشعور وعبارة العقل. هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل؛ إذ الكلام كائن حي، روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفساً لا يتمثل، والجسم جماداً لا يحس
ومن العجيب أن كان في أمم البلاغة الثلاث: اليونان والرومان والعرب، من فصلوا بين القلب واللسان، وفرقوا بين المنطق والفن. ففي اليونان - وهي الأمة التي نشأت البلاغة في حضانة الفلسفة، وجعلت الشعر والخطابة قسمين من أقسام المنطق - كان للبلاغة مذهبان: مذهب الفلاسفة؛ ومن رجاله بركليس وديمستين؛ ومذهب البيانيين؛ ومن رجاله السوفسطائيون والمتشدقون من أمثال طراسيماك وجرجياس.
وفي العرب كان مذهب المعنويين ومذهب اللفظيين، أو مذهب أهل العراق، ومذهب أهل الشام. وكان هذان المذهبان أول الأمر يتماسان من شدة القرب كما تراهما بين أسلوب الجاحظ وأسلوب ابن العميد. فلما فسدت الطباع وأمحلت القرائح صار بينهما من البعد ما بين براعة ابن خلدون وغثاثة القاضي الفاضل
ولقد اختلفت التعريفات على مدلول البلاغة باختلاف تصور الناس لها وتأثرهم بها وغرضهم منها، ولكنها تعريفات مقتضبة لا تكاد تكشف عن جوهرها الفني لا من جهة النظر ولا من جهة العمل. ولعل أول من حاول شرح البلاغة على نحو يشبه الفن ابن المقفع إذ قال: (البلاغة اسم لمعان تجري في وجوه كثيرة: منها ما يكون في السكوت،(492/1)
ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، ومنها ما يكون خطبا، وربما كانت رسائل. فعامة ما يكون من هذه الأبواب، فالوحي فيها والإشارة إلى المعنى ابلغ. والإيجاز هو البلاغة). ومن الأمثلة الأقوال المقتضبة قول ابن المعتز: (البلاغة هي البلوغ إلى المعنى ولما يطل سفر الكلام). وقول الخليل: (البلاغة هي ما قرب طرفاه وبعد منتهاه)
ولبلغاء الغرب في البلاغة أقوال تشبه ما قال بلغاء العرب في إجمال المعنى وبعد الإشارة. قال لاهارب: (البلاغة هي التعبير الصحيح عن عاطفة حق). وقال سورين: (هي الفكرة الصائبة، ثم الكلمة المناسبة). وقال لابرويير: (هي نعمة روحية تولينا السيطرة على النفوس). ولقد تخيلها (سنيك) إلهاً مجهولا في صدر الإنسان. ومثلها القدماء في صورة إله يتكلم فيخرج من فيه سلاسل من الذهب تسلك السامعين فلا يفلت منهم أحد. والتمثال على هذا الوضع لا يمثل غير بلاغة الخطيب
والناظر المتقصي في أقوال هؤلاء وأولئك يستطيع أن يستخلص من جملتها أن البلاغة هي بمعناها الشامل الكامل ملكة يؤثر بها صاحبها في عقول الناس وقلوبهم من طريق الكتابة أو الكلام. فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة؛ والتأثير في القلوب عمل الموهبة الجاذبة المؤثرة؛ وفي هاتين الموهبتين تنشأ موهبة الإقناع على أكمل صورة. وتحليل ذلك أن بلاغة الكلام هي تأثير نفس في نفس، وفكر في فكر. والأثر الحاصل من ذلك التأثير هو التغلب على مقاومة في هوى المخاطب أو في رأيه. وهذه المقاومة قد تكون فاعلة كسبق الإصرار أو الليل أو العزم؛ وقد تكون منفعلة كالجهل أو الشك أو التردد أو خلو الذهن. فإذا كانت منفعلة كانت ضعيفة لا يحتاج في قهرها إلى الوسائل البلاغية القوية؛ فالمرء يجهل أو يشك أو يتردد ريثما يتهيأ له أن يعلم أو يستيقن أو يجزم؛ وهو في مثل هذه الأحوال تكفيه الحقيقة البسيطة للاستفادة من (التعليم). وقد يكون مع الجهل زيف العلم، واعتساف الحكم، وخطل الرأي الثابت باستمرار العادة، وفساد الوهم القائم على قوة القرينة. وحينئذ لابد أن تتناصر قوى العقل جمعاء على كسر هذه المقاومة من طريق البرهان؛ وذلك عمل الجدل، والجدل عصب البلاغة. وربما حدث مع ذلك كله أو بدون ذلك كله، فتور في الطبع فلا ينشط الحديث ولا يرتاح إلى رأي. وهنا يجب على صاحب(492/2)
البلاغة أن يدفع السأم ويحرك النشاط، فيوشي الحقيقة بخياله، ويحي الأسلوب بروحه، ويجذب القارئ بفنه. وفي هذه الحال يظهر فضل البلاغة على الفلسفة
وقد تكون المقاومة ضعيفة أو معدومة من جهة العقل؛ ولكنها تكون قوية عارمة من جهة النفس. فأنا لا أماري في أن هذا هو الحق ولكني أستثقله، أو هو الفضل ولكني استرذله، أو هو النفع ولكنه يجهد نفسي ويبهر قواي، أو هو العدل ولكنه يعارض نفعي ويصادم هواي. فجهد البلاغة هنا يجب أن يوجه إلى النفس من طريق التأثير، لا إلى العقل من طريق الإقناع
فإذا اجتمع على مقاومة البلاغة العقل والهوى: هذا بميله أو نفوره، وذاك بإصراره أو قصوره، كان هنا ميدانها الأول وجهادها الخطير. لقد حشد لها العدو جميع قواه فيجب أن تربع حجره وتستعد له. وهي على حسب ما تقتضيه الحال أما أن تهاجم الرأي فتخضع بخضوعه الإرادة كحالها مع القاضي، وإما أن تهاجم الإرادة فيخضع بخضوعها الرأي كحالها مع الجمهور
أما الغرض من تحليل هذا التعريف فهو تجلية المراد من قول البيانيين أن البلاغة هي مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال. فليست الأحوال المعروضة أو المفروضة إلا انفعالات العواطف في النفس، أو اتجاهات الخواطر في الذهن. وليست مقتضياتها إلا الصور البلاغية المناسبة التي يهتدي إليها البليغ بطبعه أو فنه فيؤثر بها في هذه العواطف أو في تلك الخواطر التأثير الذي يريد. . .
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(492/3)
الشباب والكهولة
بين توديع وترحيب
لصاحب العزة الأستاذ محمد كامل سليم بك
سكرتير عام مجلس النواب
إذا بلغ الإنسان الأربعين من عمره، وزحف منحدراً إلى الخمسين، شعر بتطور حاسم في مجرى حياته: هي فترة من العمر ظاهرة المعالم واضحة الحدود. قد يتجاهلها أناس فيمرون بها سراعاً ومن غير مبالاة. وقد يضطرب لها أناس فيحزنون أشد الحزن على شباب ولّى وأدبر بنضرته وروعته، وكهولة حلت بآثارها وأثقالها. وآخرون مثلي يقفون هنيهة، ويفكرون ثم يفكرون، ويودعون عهداً أدبر، ويستقبلون عهداً أقبل، ثم يبتسمون ويسيرون في الطريق المنحدر الذي يقاس بالأعوام، أو يقاس بالشهور والأيام. . . علم ذلك عند علام الغيوب
هي على كل حال فترة فاصلة حاسمة، تنطق بعبارة واضحة حازمة، لا لبس فيها ولا إبهام؛ إذ تقول: (أيها الرجل. قد انتهى شبابك. قد تضحك ساخراً؛ وقد تتحدى وتنكر، وتزعم أن رأسك لم يشتعل بعد شيباً، أو أن أسنانك سليمة، وقوتك عظيمة، وأنك في صحة الشباب وعافية الشباب. . . وإني لمصدقك؛ ولكن صدقني أنت كذلك: إنك لست الآن شاباً بل أنت كهل، فما رأيك؟)
والرأي هنا يتوقف على عوامل شتى أخص بالذكر منها اثنين أو ثلاثة:
(الأول) نظرة الإنسان إلى الحياة عامة
(الثاني) الحالة الباطنية أو الصحية
(الثالث) الحالة الظاهرة أو الشكلية
وما يعنيني الآن في هذا المقام أن أشرح هذه العوامل وأبين أثرها ومبلغ خطرها في تكوين الرأي؛ وإنما يعنيني (ونحن في زمن الحرب) أن أهجم على الموضوع هجوماً خاطفاً، فأقول: إني أحب الكهولة لأسباب أوجزها فيما يلي:
- لأني أصبحت بعد التجارب أعرف ما أريد وما لا أريد(492/4)
- ولأني أصبحت أعرف نفسي وأعيش عيشة تتفق ومزاجها الخاص
- ولأني ما زلت والحمد سليم الصحة معافى البدن
- ولأني تعلمت ضبط النفس
- ولأني أقدر مما كنت على احتمال الآلام وصدمات الحياة
- ولأني أقدر على خدمة وطني وإسعاد من حولي
- ولأني أحمل كنوزاً من الأسرار والذكريات
- ولأني أصبحت أنعم بالهدوء والاستقرار والسلام
ذكرت رأيي هذا ذات يوم لصديق حميم فقال: هذا حسن. ولكن هل نسيت أن للشباب هزاته ولذاته، خفقاته وغزواته، أحلامه ومطامعه، قوته ونضرته؟ وهل الشباب إلا الحياة الحافلة؟ وهل الكهولة إلا الحياة الفاترة؟
فقلت له: مهلا. لم أنس شيئاً وإني بما ذكرته عليم خبير. بل من أعلم به مني وأخبر؟ ولكن مالك أنت قد ذكرت حسناته ونسيت سيئاته؟ فللشباب كما تعلم نقائصه وهفواته، كبواته وانفعالاته، حماقاته وجهالاته. فليس الشباب حلاوة صرفاً كما تزعم. ولقد عرفت أناساً كان شبابهم عذاباً وجحيماً، فجاءتهم الكهولة راحة ونعيما. وعرفت العكس مع أناس آخرين
أن السعادة ميسورة في الشباب وميسورة في الكهولة إذا عرف الإنسان كيف يعيش وفق طبائع العهدين ومميزات العمرين
فالشباب عواطف أولاً وعقل ثانياً، فهو حماسة وتدفق وإقدام
والكهولة عقل أولاً وعواطف ثانياً؛ فهي اتزان وحساب وسير إلى الأمام
والشباب طائرة في السماء، ودبابة في الأرض، وغواصة في البحار
والكهولة سيارة فخمة تطوي الأرض أو باخرة ضخمة تمخر البحار
والشباب فراشة هائمة على وجهها طلباً للنور الوهاج، أو نملة سابحة فوق أطباق العسل المصفى
والكهولة فراشة هدأت وسكنت بعد طول المطاف واحتراق الجناح، أو نملة شبعت وارتوت وما هي بحاجة إلى التكرار
دعني يا صديقي أنعم بالكهولة نعيماً هادئاً معتدلا لا أشعر فيه بالاكتئاب والضجر، ولا(492/5)
بالتعب والملل، لأنه نعيم النفس والروح الخالدة، لا يتطرق إليها الاكتظاظ والسأم الكريه.
إن الشباب كلباس الحمام، ينفع للسباحة العنيفة في البحار. والكهولة كالمعطف ينفع للتدفئة عند مقدم الشتاء
فعلي بهذا المعطف المريح ألبسه في بر السلام، وقد أخذت نصيبي وأكثر من نصيبي في السباحة والتعرض لأخطار البحار
الآن أصبحت أعرف نفسي وما تريد. وكنت في الشباب أجهل نفسي وأسعى وراء ما لا أريد أو ما لا خير فيه. والآن أعرف ضبط النفس وجمال التسامح، وهما سر السعادة والإسعاد. وكنت في الشباب على النقيض: ثورة مشبوبة حينا أو سيارة من غير فرامل أحياناً أخرى
ولكن ما هذا؟ هل الكهولة خير كل الخير، لا عيب فيها، ولا غبار عليها؟ كلا فقد أراد الله أن يمزج الخير بالشر، والشر بالخير، ليخرج من المزيج مزاجاً معقولا، ونظاماً مقبولا. ففي الشباب كفة الجسم وجماله ترجح كفة العقل. وفي الكهولة كفة العقل وكماله ترجح كفة الجسم. فكل شيء بميزان وقدر
أن الرجل إذا جاوز الأربعين واقترب من الخمسين لا محالة شاعر بنوع من الحرمان ونوع من الإذلال. فهذه بعض أسنان تتزعزع فتتخلع؛ وهذا شعر يبيض أو يتساقط؛ وهذه عيون كانت قوية نافذة، أصبحت ضعيفة حاسرة: في حاجة إلى منظار للقراءة ومنظار للمسير. وهنا وهناك خطوط تنذر بتجاعيد وأخاديد. ثم هضم يضعف، وغذاء ينتقي وشراب يدرس وكل شيء وإلا وقع العقاب، فإذا مرضت يا صاحبي جاءك الطبيب المعالج، ولا يتركك إلا وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة جمة المعاني. إذ يقول لك: (يا عزيزي خفف من نشاطك وجهودك. واكثر من أسباب الراحة. ولا تنس أنك لست اليوم شاباً)
هذا وقد تشتهي نفسك أمراً فيه رياضة أو متاع أو غذاء، فلا يسعفك جسمك في همة ونشاط كما كان العهد في الشباب، وإنما يتباطأ أو يتخاذل بالإعياء. هذه هي الكهولة في أخف أعبائها. وقد تثقل وتقسو وتشتد حين تجعل من نفسها باباً تدخل منه العلل والأوصاب إلى الجسم، والحسرة والاكتئاب إلى النفس. على أني والحمد لله أسعد حالا من هذه الصورة، فما زلت كامل الصحة، معافى البدن، جم الحيوية والنشاط، ولهذا تراني أحب الكهولة لأني(492/6)
أحب النضج، وأحب النضج لأني أصبحت أفضل حكم العقل على تحكم الغرائز، وأوثر الروحانيات على الماديات. والشباب في نظري حرب قائمة، والكهولة سلام مقيم. قد تقول ساخراً إن هذا السلام ركود، والركود من مظاهر الموت. وإني لا أقر هذا القول ولا أوافق عليه. فأنا لا أقول بالسلام العقيم ولا بالاستسلام وانعدام النشاط؛ إنما أقصد سلاماً كسلام الدولة القوية الغنية، لا تحب الحرب ولا تسرع إليها مختارة، بل تعمل في شتى مرافق الحياة بنشاط أي نشاط. أقصد السلام الذي يشعر به المجاهد الذي ناضل طويلا، وأدرك ما أراد، ثم هدأ واستقر ليستريح وينعم بمزايا السلام. هو سلام لا يعرفه الشاب بحال من الأحوال، لأن الشباب يسبح في غمرات متلاحقات. فهو يطمح ويطمع. وينهك نفسه ليكون في الحياة شيئاً مذكوراً، وليحصل على المال والمجد والشهرة. يطالع ويدرس في نهم شديد ليعرف كل شيء. ويظل ريشة في مهب العواطف العواصف: من حب وكره، ورضا وسخط، وأمل وألم. فيظل على الدوام مشرد القلب في فرح يمازجه اضطراب، أو في حزن يلازمه اكتئاب، إن أخطأ أو أصاب. ضع هذا كله في كفة الخسائر للشباب، وانظر ما يقابلها في كفة المكاسب للكهولة. ترى الكهل ينعم بمزية التحرر والخلاص: التحرر من قيود كانت في الشباب ثقيلة، والخلاص من جهود كانت مضنية. لأنه أدرك ما أراد، ويئس في الغالب من إدراك البعض الآخر. واليأس إحدى الراحتين. . .
لهذا أراني أشد ما أكون اغتباطاً بالكهولة. لأنها خلصتني من مطالب كانت على نفسي ثقيلة الوطأة شديدة الإلحاح. ولأنها منحتني القدرة على خدمة بلادي على وجه معين ظاهر الأثر معروف الدائرة. كما منحتني القدرة على إسعاد من حولي على وجه أدق وأشمل. وفي هذا كله أنس للروح وغبطة للنفس، ليس إلى وصفهما من سبيل.
وأخيراً ما هذا الهدوء النفسي الفريد الذي يملأ صدري في الكهولة؟ أهو وليد الثقة بالنفس بعد طول التجارب على مر الأعوام؟ قد تحدث الآن أمور مروعة فأتألم لها من غير هلع أو جزع. وأراني أتحمل الألم في جلد وصبر وإيمان. لماذا؟ لست أدري. وإنما أدري أن هذا سلاح للروح معدوم النظير، لا يعرفه الشباب الذي تراه من هول كل صدمة يطير.
هو هدوء أشبه بالهدوء الذي يلي العاصفة: هدوء يطلق النفس من عقالها، ويفتح أمام العقل آفاقاً لم يكن يراها. ويا له من هدوء مريح حين أخلو إلى نفسي في مقعدي الوثير، أطالع ما(492/7)
أشاء كما أشاء، أو أفكر فيما أشاء عندما أشاء، أو أرجع إلى ذخائر الذاكرة أستثير منها ذكريات الماضي البعيد أو القريب، وأنها لمفعمة الأسرار، بعضها خاص لا يذاع، وبعضها عام سوف ينشر يوماً من الأيام. حينذاك يستقر رجل الأسرار مبتسماً هادئاً في مكانه المختار، ثم يتنفس في عمق واسترخاء وسكون. يا له من شعور لذيذ كامل الصفاء. هيهات هيهات للشباب أن يدرك مداه أو يفهم معناه؛ لأن الشباب كما قلت دائب الحركة، يعدو ويلهث وراء متع ليس فيها ري ولا شبع، ووراء فرص الحياة يطاردها في حماسة الصبا، وخلابة المطامع وسراب الغايات.
هذا هو الشباب. وهذه هي الكهولة.
فوداعاً يا شبابي فقد كانت سعادتي بك أضعاف أضعاف ألمي منك
ومرحباً بالكهولة فقد سعدت بمقدمها، واستبشرت بطلائع ثمارها، وأصبحت لا أقوى على فراقها الآن. ورحم الله المتنبي الذي قال:
خُلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
محمد كامل سليم(492/8)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
3 - الشوقيات
للدكتور زكي مبارك
توت عنخ آمون - لعنة الفراعنة - حقيقة أغرب من الخيال - بين حافظ وشوقي - بين الظلم والعدل - أحقاد العبقريين - ألاعيب الحظوظ - توضيح - النونية الآمونية - ثورة الجيل - خلاصة البحث
توت عنخ آمون
في الجزء الثاني من الشوقيات قصيدتان في توت عنخ آمون، ولهاتين القصيدتين قيمة عظيمة، فقد صرح شوقي نفسه أن أعظم قصائده هي النونية الآمونية:
درجتْ على الكنز القرون ... وأتت على الدَّنَ السنون
أما حافظ إبراهيم فكان يرى أن أعظم قصيدة نظمها شوقي هي البائية الكازنارفونية:
في الموت ما أعيا وفي أسبابهِ ... كل امرئ رهنٌ بطيّ كتابهِ
فما حديث هذه القصائد الجياد؟
كان اللورد كارنارفون من المولعين بالآثار المصرية، وقد سمح له غناه أن ينفق على الحفريات بسخاء، فكلف المستر كارتر أن يحفر في (وادي الملوك) بالأقصر عساه يهتدي إلى مقبرة لم يهتد إليها اللصوص في العصور الخوالي
وبعد متاعب كادت تودي بصبر اللورد كارنارفون عثر المستر كارتر على مقبرة توت عنخ آمون في سنة 1922
وقد التفت الباحثون من الأوربيين والأمريكيين إلى هذا الكشف أعظم التفات وقدمت التهاني إلى كارتر وكارنارفون من الهيئات العلمية في الغرب والشرق، ودعيت الصحافة إلى معاينة ذلك الكشف الخطير فذهب لمعاينته ثلاثة من الصحفيين: زكي مبارك مندوباً عن جريدة الأفكار، والدكتور هيكل مندوباً عن جريدة السياسة، والأستاذ المازني مندوبا عن جريدة الأخبار
ولن أنسى أن المستر كارتر حدثنا عن السبب في نقص بعض محتويات المقبرة، وكان(492/9)
الرأي عنده أن أيدي اللصوص قد امتدت إليها في عهد (الأسرة العشرين) فكتبت في (الأفكار) أقول إني أرجح إنها سرقت في (القرن العشرين) ولم يفت مراسل (التيمس) أن يبرق إلى جريدته بهذا التلميح، فنشرته بدون تسويف، لتداعب به اللورد كارنارفون، وكانت النتيجة أن يمتنع المستر كارتر عن السماح للصحفيين بزيارة المقبرة، ولهذا الامتناع صدى في شعر شوقي سنشير إليه قبل ختام هذا الحديث.
لعنة الفراعنة
هنالك خرافة تقول بأن الفراعنة يلعنون من ينبش قبورهم بعد الموت. ولهذا الخرافة أصل، فقد وجد على كثير من القبور المصرية والكلدانية دعوات حرار على من ينبشون قبور الملوك. وفي القبور المصرية ما يسمى (الرصد) وهو تمثال يقام في مدخل القبر لتخويف اللصوص، وهو حقا مخيف، لأن القدماء كانوا يتوهمون إنه مزود بالروح وبالسلاح، وأنه يقتل من يدخل القبر بدون استئذان. وهل يستأذن اللصوص؟
فماذا صنعت لعنة الفراعنة باللورد كارنافون؟
أبرق إليه المستر كارتر فحضر على عجل ليشهد الكشف الجديد، وبعد أيام لسعته بعوضة وهو نائم في خيمة بجوار المقبرة فمات.
حقيقة أغرب من الخيال
كان اللورد كارنافون أهدى إلى بنت ملك الإنجليز عقدا من العقود القديمة، ففرحت به فرحاً عظيماً، وأثابت مهديه أجزل الثواب، فلما سمعت أن بعوضة لسعته فمات نزعت العقد من جيدها لئلا تلحقها لعنة الفراعين
وفي قصة البعوضة يقول شوقي:
صادت بقارعة (الصعيد) بعوضةٌ ... في الجوّ صائدَ بازه وعقابهِ
وأصاب خرطوم الذبابة صفحةً ... خُلقت لسيف الهند أو للذبابه
طارت بخافية القضاء ورأرأتْ ... بكريمتيه ولامستْ بلعابه
ثم يعلل شوقي تلك الحادثة تعليلا علمياً فيذكر إنها من نتائج الوهم الذي يضعف الأعصاب:
لا تسمعنْ لعصبة الأرواح ما ... قالوا بباطل علمهم وكذابهِ(492/10)
الروح للرحمن جلّ جلالهُ ... هي من ضغائن علمه وغيابه
غلبوا على أعصابهم فتوهموا ... أوهام مغلوبٍ على أعصابه
بين حافظ وشوقي
كان التنافس بين حافظ وشوقي قد وصل إلى أبعد الحدود، وزاد في خطر ذلك التنافس أن حافظا كان رجلا عذب الروح، وكانت له مع الصحفيين صلات يؤرث بها أحقادهم على شوقي حين يشاء
وما أذكر غلبة شوقي على حافظ إلا تعجبت. فقد كان حافظ غاية في الذكاء واللوذعية، وكان علمه بتاريخ العرب وآدابهم علما يفوق الوصف، وكان فهمه لدقائق الحياة المصرية أعجوبة الأعاجيب، فكيف تفوق عليه شوقي وكان رجلا يدل مظهره وحديثه على إنه فرد من سواد الناس لا يمتاز بعبقرية ولا نبوغ؟
أكاد أجزم بأن (شهوة الحديث) هي التي أضعفت شاعرية حافظ، فقد كان كثير الحديث، وبالحديث وصل إلى ألوف القلوب، وبالحديث ضاع، لأن الحديث يأخذ من القوى النفسية طاقات لا تصلح بعدها للغناء
لو أن أحاديث حافظ دونت لكان فيها ثروة فكرية تفوق ما ترك شوقي من الثروة الشعرية، ولكان من الممكن أن يعد من أقطاب التاريخ الأدبي في هذا الباب، ولكن هذا الزمن لا تتسع تقاليده الأدبية لمثل ما كانت تحرص عليه عناية القدماء في أمثال هذه الشؤون
أما شوقي فكان يؤثر الصمت ليحتفظ بالمدخر من قواه النفسية، وليلقى الناس بالقصيد لا بالحديث، فظفرت جهوده بالخلود.
كان حافظ يحدث من يلقاه بإطناب وإسهاب، فلا يقتضي اليوم إلا وهو متهالك من فرط الإعياء، وكان شوقي يهرب من الناس حين يشرع في النظم، فلا تراه إلا هائماً على وجهه من طريق إلى طريق، وفي حال تنذر بالجنون
كان حافظ يطيل محاورتي حين كنت موظفا بدار الكتب المصرية في سنة 1925، فبدا للمرحوم أحمد نسيم أن يدلني على أحد مقاتله النفسية، فحدثني أن أعظم ما يغيظ حافظاً أن تخبره أنك رأيت شوقي ينتقل من ترام إلى ترام وفي يده سيجارة وعلى وجهه أمارات الذهول.(492/11)
وحملني النزق على تجربة هذه الوصية، فأخبرت حافظا أني رأين شوقي كثير التنقل في الشوارع، وفي حال يغلب عليه الانفعال، فصرخ حافظ: في أي غرض يعالج الشعر هذا المخبول؟ إنه يكره أن يقترن اسمي باسمه، مع أن الناس ظلوا يقولون في أكثر من عشرين سنة: شوقي وحافظ كما يقولون: بيض وسميط
بين الظلم والعدل
كانت الأقدار سمحت بأن تنعقد بيني وبين شوقي مودة دامت نحو سنتين. وفي تلك الأيام عرفت من أحوال شوقي أشياء وأشياء. ومن المؤكد إنه من أعاظم الرجال الذين عرفتهم في حياتي، فقد كانت أستاذيته في نقد المجتمع مضرب الأمثال، وكان روحه من ألطف الأرواح، وفي لحظة من لحظات الحوار حول مقاصد الشعراء سألته عن قصيدة حافظ في مجاريته، وهو منفي بالأندلس، فأجاب وقد تربد وجهه بالغيظ، أنا لا أروي غير شعري
فقلت: ومن الوفاء للأدب أن تروي شعر من يناجيك وأنت غريب
وفي اليوم التالي لقيت حافظا فسألته برفق: أتحفظ شيئا من شعر شوقي؟ فأجاب: لقد قتلني شوقي حين قال في اللورد كارنارفون:
أفضى إلى ختم الزمان ففضهُ ... وحبا إلى التاريخ في محرابهِ
وطوى القرون القهقرى حتى أني ... فرعونَ بين طعامهِ وشرابه
أحقاد العبقريين
ومع هذا فأحقاد العبقريين كأحقاد الأطفال تذوب بعد ليال. ففي سنة 1927 أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقي، فأنشد حافظ قصيداً جاء فيه:
أميرَ القوافي قد أتيت مبايعاً ... وهذى وفود الشرق قد بايعت معي
فدعاه شوقي وقبّل جبينه والدمع في عينيه. . . ثم شاء القدر أن يموت حافظ قبل شوقي بأسابيع، فقال شوقي يبكيه:
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي ... يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقتَ وكل طول سلامة ... قدرٌ، وكل منية بقضاء
ووددت لو أني فداك من الردى ... والكاذبون المرجفون فدائي(492/12)
الناطقون عن الضغينة والهوى ... الموغرو الموتى على الأحياء
من كل هدّامٍ ويبني مجدهُ ... بكرائم الأنقاض والأشلاء
ما حطّموك وإنما بك حُطّموا ... من ذا يحطّم رفرفَ الجوزاء
أنظُر فأنت كأمس شأنك باذخٌ ... في الشرق واسُمك أرفع الأسماء
بالأمس قد حلّيتني بقصيدة ... غراء تُحفَظُ كاليد البيضاء
غِيظَ الحسود لها وقمت بشكرها ... وكما علمتَ مودتي ووفائي
وهي أعظم قصيدة قالها شوقي قبيل الموت. ولعلها خير ما جاد به خاطره برفق وحنان
ألاعيب الحظوظ
مات حافظ وشوقي في موسمً واحد هو صيف سنة 1932 فارتجت الأقطار العربية لموت شاعرين كانت إليهما قيثارة الغناء في أعوام تزيد على الثلاثين
وفي خريف تلك السنة بدا لإحدى شركات السجائر أن تخرج علبة باسم شوقي وعلبة باسم حافظ، فجعلت ثمن العلبة الأولى خمسة قروش وثمن العلبة الثانية أربعة قروش
وسعيد الدنيا سعيد الآخرة، كما يقول المصريون
توضيح
لهذا الاستطراد غاية، هي خلق جو يفسر ما كان بين شوقي وحافظ، ولهما مجال في مسابقة الأدب العربي لهذا العام السعيد. وما يليق بأديب أن يجهل ما كان بين حافظ وشوقي من مصاولات عادت على الشعر بأطيب الثمرات
النونية الآمونية
مراجعة هذه القصيدة بتأمل وتدقيق ترينا كيف قال شوقي إنها أعظم ما خطته يمناه، فقد حاور الحياة وحاور الوجود بأسلوب الأديب الفيلسوف، وزعم خياله أن الموتى لو شعروا بما في قبر ذلك الملك لنبشوه بدون استحياء ثم مضى فصور حياة ذلك الفرعون في حدود التصاوير المرسومة بجدران قبره المطموس
والتلطف مع شوقي لا ينسيني واجب النقد الأدبي، وهذا الواجب يدعوني إلى النص على أن شوقي أسرف في وصف مقبرة توت عنخ آمون، فقد ذكر لها خصائص غير حقيقية،(492/13)
خصائص لم ترها عيناي حين زرتها قبل عشرين عاماً، ولعل شوقي لم يرها بعينه قبل نظم هذا القصيد، وإنما تمثل ما رآه في بعض المقابر الفرعونية فقال ما قال بلا تحفظ ولا احتراس
ثورة الجيل
في هذه النونية تحدث شوقي عن عصر توت عنخ آمون وعده عهد (الفرد اللعين) ليجوز له في قصيدة ثانية أن يقول إن الدستور جعل عصره دون عصر (فؤاد)
والقصيدة الثانية تحفة أدبية تخيل فيها الشاعر أن توت عنخ آمون:
سافرَ أربعينَ قرناً وعدَّها ... حتى أتى الدار فألفَي عندها
إنجلترا وجيشها ولُرْدها ... مسلولة الهنديِّ تحمي هندها
قامت على السودان تحمي سدَّها ... وركزت دون (القناة) بَندها
فقال والحسرةُ ما أشدَّها ... ليت جدار القبر ما تدهدها
وليت عيني لم تفارق رَقْدها ... قم نَبِّنِي يا بَنْتَئورُ ما دها
مصرُ فتاتي لم تُوقِّر جدها ... دقت وراء مضجعي جزْبندها
وخلطتْ ظباءها وأُسدها ... وسكب الساقي الطلا وبَدَّها
قد سحبتْ على جلالي بُردها ... ليت جلال الموت كان صدها
وهذا شعر يفسده الشرح، وهو أيضاً شعر لا يقوله غير شوقي إمام الصياغة الشعرية، وأصدق من تغنى بأمجاد النيل وفي هذه القصيدة نص شوقي على أن:
مصر الفتاة بلغت أشدَّها ... وأثبت الدم الزكيُّ رُشدها
فأرسلت دهاتها ولُدَّها ... في الغرب سدوا عنده مسدَّها
وبعثتْ للبرلمان جندها ... وحشدتْ للمهرجان حشدها
ثم أشار إلى معارضة المستر كارتر في زيارة المقبرة فقال يخاطب الفرعون:
لحدك ودَّتْه النجوم لحدها ... أريتنا الدنيا به وجدها
سلطانَها وعزها ورغدها ... وكيف يُعطَى المتقون خُلدها
أبوابك اللائى قصدنا قصدها ... كارترُ في وجه الوفود ردَّها
لولا جهودٌ لا نريد جحدها ... وحُرمةٌ من قربك استمدَّها(492/14)
قلتُ لك اضربْ يده وقُدَّها ... وابعث له من البعوض نُكدها
والقارئ يفهم إنه يشير إلى البعوض الذي صرع اللورد كارنارفون، وهو بعوض ظالم، فقد حدثنا شوقي في البائية أن اللورد كارنارفون أهدى إلى توت عنخ آمون هدية أعظم من الهرمين، لأنه عرف به أمماً لم يعرفها عصر الفراعين. ألم تكتب فيه عشرات البحوث في بلاد الأمريكان؟
خلاصة البحث
قد فرغت من الكلام عن عيون الجزء الثاني من الشوقيات في الحدود التي يسمح بها الوقت، وإني لواثق بأن هذه الإشارات تكفي لهداية المتسابقين إلى اجتياز الامتحان بأمان
ولكن الواجب يحتم عليّ أن أشير على الطلبة بأن يسألوا أساتذتهم عما فاتني النص عليه، فقد يكون في أساتذتهم من هو أعرف بسرائر الشوقيات
وقد سكت عن سينية شوقي في معارضة سينية البحتري، لأني تحدثت عنها بإطناب في كتاب (الموازنة بين الشعراء) وأنا أكره الحديث المعاد
أما بعد خلاصة هذا البحث؟
هو إشارات ورموز لا ينتفع بها غير من يقرأ الشوقيات بإمعان. والنقد الأدبي توجيه لا تلخيص. والله وليّ التوفيق
زكي مبارك(492/15)
مرسلات مع الريح
نعش وباب
للأستاذ إسماعيل مظهر
نحو الشمال. . . وسرنا في ليل معتم، والمطر ينهمر كأن السماء تحاول أن تدك بمائها الغمر ذلك الأديم الذي تنزلق من فوقه حوافر الجياد
مال ميزان النهار، واكتهل اليوم الخامس عشر من شهر يناير سنة 1931، قبل أن ندلف بجيادنا في قفر سبسبٍ في شمال الدقهلية وقصدنا بلدة يقال لها (غرور). وكان ثلاثتنا في صمت محزن، فلا ينبس أحدنا ببنت شفة. وكنا في حالة ترقب بعد أن انحدرت الشمس نحو المغيب، وأرسلت من خلال فجوة في السحب الدهم، غلالة حمراء من غلائلها التي تتيه بها في أشهر الشتاء
وهبّ ريح لافح تضرب وجوهنا بألسنة من الزمهرير، وتعصف بشجيرات من الطرفاء هنالك، فتسمع لها نواحاً أشبه بأنين البوم يتداعى ويتجاوب
وقد تراكب في السماء سحاب من فوقه سحاب، وانحدرت نحونا سحابة كأنها المداد، فخيل إليّ أنها قضاء الله في الظالمين، ينحدر إلينا متثاقلاً وفي تمهل العالم بأنه لابد من أن يصيب حيث يرمي. ولم تلبث أن رمتنا بذلك السيل المنهمر
مدت الجياد أعناقها نحو الأرض لتتقي بذلك انهمار المطر، وراحت تمشي حذرة متلكئة. فالأرض سبخة والطريق وعر، وقد استحال آلافاً من البرك الصغيرة، في كل منها منزلق، وفي كل منها مهواة؛ حتى لقد تذكرت في تلك الآونة جنة ذلك الرجل الذي كفر بربه، فأصبحت صعيداً زلقاً
وأين نحن من (غرور)؟ إنا منها على عشرة فراسخ، في ليل ممطر شديد السواد، قارس البرد، قر الرياح. وقد ابتلت ثيابنا وأخذ الماء يسري فيها، كما تسري الخمر في أعصاب المنتشين، حتى إذا بلغ جلودنا مضينا ننتفض ملتزمين ذلك الصمت الرهيب
ذلك القفر السبسب ملك لحكومتنا. وقد تبلغ مساحته آلافاً وآلافاً من الأفدنة، لا يؤنسه غير نبات البردي بنيت حيث تجتمع المياه، ونبات الطرفاء يحتل نبكاته المرتفعة، متشبثاً بها وكأن كل نبتة منه غريق في لج مائج(492/16)
وكنت أعرف أن في جوف ذلك القفر مقاماً لولي من أولياء الله، شاده هنالك جماعة من مريديه، وأقاموا إلى جانبه مسجداً، فأخذت تتناثر من حوله القبور: قبور أولئك الذين يوصون بأن يدفنوا بمقربة من ولي الله زلفى إلى الآخرة. وكنت أعلم أن لذلك المسجد حارساً يضيء فيه، إذا جن الليل، مصباحاً يهتدي به في ذلك القفر من تدهمهم مثل تلك الليلة الليلاء
رميت بصري في جوانب ذلك القفر، وقد ضللنا طريقنا، وأخذت الجياد تضرب بنا في نواحيه ضرب المتخبط المذهول، أتطلع لعلي أقع على شعاع ذلك الولي الكريم. وأنّا للبصر أن يهتدي في تلك الظلمات الهابطة علينا كسفاً؟
ولكن الصمت الذي لزمناه قد انتهى أجله؛ فقد تحرك لسان كبيرنا بكلمات وسمعته يقول إنه يرى ومض مصباح إلى الشمال منا. إذن فألي الشمال
وانتحينا بجيادنا نحو الشمال، وحثثناها على المسير. ولكن أين الوميض؟ لقد أخفناه الليل أو عصف به عاصف من الريح. وخيل إلي أن ذلك الوميض الذي لاح لكبيرنا ليس إلا سراب الليل، أو إنه الوهم ضخمه الأمل في النجاة من الليل والماء والرياح. وثبت نظري نحو الشمال وحدقت تحديقاً تراءت معه لناظري أشباح غريبة، وطيوف تبدو وتخبو كأنها في صراع، وشعرت أني أميل وأترنح من فوق جوادي، وأن يداً خفية تأخذ بأطراف معطفي وتجذبني إلى الوراء، فأعتدل في سرجي وأتثبت من ركابي لأستوثق من محلي، وأني على ظهر الجواد، وما زلت مالكا حواسي. غير أن كل هذه الخيالات قد تبددت فجأة لما أن وقع بصري على لمع ذلك القبس الخافت المريض الذي تراءى لصاحبي من قبل، ثم اختفى في جوف ذلك البحر اللجي من الليل ومن الماء ومن الرياح. وكنا كلما ضربت بنا الجياد في جوف ذلك القفر الأملس المجرود، توالت ومضات ذلك القبس الذي علقنا عليه الأمل، وربطنا حياتنا بتراوحه بين الظهور والخفاء. حتى إذا كنا بمقربة منه عرفنا إنه مصباح وليّ الله يتلاعب به الريح العاصف فيتنوح رواحاً وجيئة، وقد علا جوانبه سواد كاد يخفي عن الأبصار ومضاته الضئيلة.
بلغنا عتبة المسجد القائم هنالك في فجوة من فجوات ذلك القضاء المترامي وحيداً كأنه الأمل الباسم العريض في وحشة الفراق. وكنت أول الواثبين إلى الباب أعالج اقتحامه إلى(492/17)
الصحن فإذا بالباب مغلق، ومن دونه دريئة هي نعش من خشب يحمل الموتى إلى أول السفر وآخر المعاد.
جمدت هنالك ذا هلاً عن جوادي وعن صاحبي أتأمل النعش ومن ورائه الباب. فكل من يحمل في ذلك النعش، لابد له من إنه يجتاز ذلك الباب. فإذا جاوزه، فإلى سفر الأبد المديد.
الباب والنعش. ثم صلاة تقام تكفيراً واستغفاراً، فإذا دلف به الدالفون نحو الحفرة العميقة، فقد دلفوا به ليسلموه إلى الآخرة، ثم فلسفة في شعر:
تطوِّف ما نُطوِّف ثم نأوي ... ذوو الأموال منَّا والعديم
إلى حفر أَسافلُهنَّ جرف ... وأعلاهن سفاح مُقيم
ثم تأملات رهين المحبسين:
سأفعل خيراً ما استطعت فلا تقم ... عليَّ صلاة يوم أصبح هالكاً
فما فيكم من خَيِّر يُدّعى به ... يُفرِّج عني بالمضيق المسالكا
ومن ذا الذي أستنجد به هنالك ليفرح عني في ذلك المسلك الرهيب: النعش ومن ورائه الباب. ليس ثمة من شيء غير عزيمتي. وأنا حي بيني وبين النعش والباب شقة، بعدها بعد الشرق من الغرب:
والشرق نحو الغرب أقرب شقة ... من بُعد تلك الخمسة الأشبار
فأزحت النعش جانباً، واقتحمت الباب، فإذا الظلام مخيم على صحن المسجد والرياح حيرى في جوانبه، تنهد منحدرة من منافذه العليا، فتدور متلوية، ثم تندفع نحو الباب، كأنها أسير أفلت من قيود الحديد:
تمشي الرياح به حْيرى مدلَّهة ... حسرَى تلوذ بأكناف الجلاميد
خلعت معطفي وألقيت به جانباً، وجلست مسنداً ظهري إلى الجدار البارد المقرور، وما لبث كبيرنا أن انتحى موضعاً آخر، ثم التفت إليَّ وقال:
(إذا بزغت الشمس يممنا نحو (غرور)، فقابلنا عمدتها ووجهاءها، واستوثقنا من أنهم سوف يعضدوننا، ثم انحدرنا نحو (زفر) فنأخذ على أهلها المواثيق ونقيدهم بالعهود ثم. . .)
غير إنه لزم الصمت إذ بادرته بسؤال لم يكن يتوقعه من فتى ينتمي إليه بروابط الرحم: فصرخ مهتاجاً:(492/18)
(ألم تر كيف صار فلان عضواً بمجلس النواب، وفلان عضواً بمجلس الشيوخ، وفلان وكيل وزارة، وليس منهم من يدانينا جاهاً وثروة. إنك ما تزال جاهلاً بأمور دنياك فاسكت وأطع)
قلت نعم إني أصغر منك سناً، وربما كنت أقل تجربة، ولكني سأصارحك برأيي فيمن ينبغي أن تكون لهم هذه المراكز العليا: هي يا سيدي لمن يقال له هي لك، لا لمن يقول هي لي. هذه هي الحقيقة برغم القوانين، وبرغم الشرائع. . .
ثم لزمت الصمت ولزمه. حتى إذا تنفس الصبح وبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، عمدت إلى معطفي المبلل فوضعته فوق كتفي، وهممت بالخروج من المسجد، فنظر إلي صاحبي نظرة تساؤل فلم آبه به، ولم أحفل بما نمت عنه نظراته، بل ألقيت على الباب نظرة وعلى النعش أخرى، وكأنما يحدثهما قلبي هاجساً: عندكما يقف كل مغرور بدنياه
وامتطيت جوادي. وأدرت وجهه نحو الجنوب، ومضيت أضرب في ذلك القفر، ولكن إلى عشي، إلى زوجي وأولادي؛ إلى موضع حبي وحنيني. إلى من هم لعيني النور، ولقلبي الرجاء، ولحياتي الأمل، ولنفسي الطمأنينة. إلى وكري الصغير الذي أصبح لي في جنبات هذه الدنيا الصماء الغرور، بمثابة البيضة والعش، والسكن والوطن والكون
إسماعيل مظهر(492/19)
من أطرف ما قرأت
ميليزاند الأميرة
للأستاذ صلاح الدين المنجد
تمثلتها في قصرها الضاحك، فوق صخور الشاطئ، رافعة يدها تومئ (أن هلموا إلي. . . أنا ميليزاند، أنا الأميرة الحسناء)
إنها أسطورة ملؤها الخيال والجمال، والمغامرة والشعر إنها حلم زاهٍ رفاف، ومعنى بعيد بعيد
في بلدة هادئة من (بلاي) كان (روديل) الفتى الجميل، ذو الجسم القوي، والوجه الصبيح، يرسل أشعاره الملأى بالشجو والحب والأنين. لقد كان يحب ميليزاند الحلوة كالصبح، المشرقة كالنور، الرفافة كالورد. فكان يتمثلها في خاطره، ويداعبها في خياله، ولا يستطيع أن يراها. ما أبعدها عنه. . . هي في الشرق المسحور القاصي، وهو في (بلاي)
ولم يطق صبراً عنها، فقد كانت نفسه ناعمة يهزها كل شيء ويؤثر فيها كل شيء. كانت كالقيثارة تمر عليها النسمة الخفيفة، فتترك وراءها نغمة مطربة أو هزجة ناعمة
وكان يرسل أشعاره في هدأة الليل، تحت القمر. وكان يحب تغريد العصافير، فإذا صمتت ذكرته حبه البعيد. يقول:
(عندما تطول أيام مايو، تلذ لي أغرودات العصافير. فإذا صمتت هاجت في قلبي ذكرى حب بعيد. فأعود مفكراً مطرقاً، فلا أناشيد الرفاق تفرح القلب الحزين، ولا رفيف الزهر يبهج النفس الكلوم
(أي فرح سيشرق في نفسي عندما أراها وأطلب أن تضيفني سأسألها الضيافة، بالله، وبالغربة. وعندئذ، يا ما ألذ أحاديث العاشق البعيد، بقرب الأميرة البعيدة. وهو ينعم بصفاء عينيها الحلوتين)
(ثم. . . ثم أتركها، وا حسرتاه، حزنان أو فرحان، راضياً أو كارهاً، فلا أراها أبداً
(لن أنعم بالحب إن لم أنعم بها، لأني ما رأيت سيدة أنبل ولا أحسن منها. . . آه، يا ليتني كنت عبداً لها
(اللهم يا من خلقت كل شيء. . . كل ما يموت ويحيا، صل أسبابي بأسبابها، في أي مكان(492/20)
شئت)
تلك كانت أغانيه. إن فيها حنينا ولوعة، كأنها نغمات من نغمات مالارميه أو فيرلين
وما زال (روديل) يسعى حتى سافر مع أهل الصليب. وقطع طريقه يغني، ويمني نفسه بحلاوة اللقاء. وما كادت الباخرة تقرب من طرابلس حتى فاض سروره وزاد وجده. لقد كاد يرى ميليزاند وهاهو ذا قصرها ينادي الناس. فيغلب عليه الوجد، ويطغى عليه الفرح؛ فيعل ويمرض، ويحمل إلى المدينة، ويوضع في كوخ حقير، وهو يلفظ أنفاسه
وأسرعوا إلى الأميرة الحسناء فحدثوها عنه (لقد كان يغني مع الموج أغنيات حبه، وكان ما يفتأ يلهج باسمك ويسبح بجمالك. . .) فخفت إليه. ولما اقتربت منه، وأسندت إلى صدرها رأسه، دبت في جسمه الحياة ففتح عينيه، وأرهف أذنيه، وتدفق الدم في خديه، وجلس يسمعها أشعاره، ويؤنسها بأغانيه فتطرب ميليزاند، وتنحني فتيل بثغرها الريان فمه وشفتيه
وعجب الناس من الأميرة كيف تحيي الموتى، وعجبوا من العاشق الميت كيف يحيا. . .؟
وما أشبه ميليزاند، بمحبوبة الأعشى التي قال فيها:
لو أسندت ميتاً إلى صدرها ... عاشَ ولم يُنقلْ إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشر
وأخذ (روديل) يحدثها عن تهيامه وتحنانه، وأخذت تطرفه بأعذب الأحاديث، حتى إذا قص عليها كل شيء وأسمعها كل شيء، عاد، فأغمض عينيه. . . ومات
وأعجب الناس بروديل، وجعلوا حبه أسطورة. فرنت في أوربة ودوت؛ وهام الناس بالشرق. وجعلوا الأميرة ميليزاند رمزا. . . وصوروها واقفة على شاطئ البحر، بين يدي الأمواج تنادي الأمراء، وتنادي الملوك، وتنادي الناس (تعالوا وانظروا إلى الأميرة البعيدة. . . تعالوا إلى البلاد المقدسة)
صلاح الدين المنجد
3 - خزانة الرؤوس
في دار الخلافة العباسية ببغداد
للأستاذ ميخائيل عواد(492/21)
(ز) رأس بدر مولى المعتضد:
كان سبب قتله على ما أجمعت عليه الروايات، أن الوزير (القاسم بن عبيد الله كان همّ بتصيير الخلافة من بعد المعتضد في غير ولد المعتضد، وأنه كان ناظر بدراً في ذلك، فامتنع بدر عليه قوال: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي الذي ولى نعمتي. فلما رأى القاسم ذلك وعلم إنه لا سبيل إلى مخالفة بدر؛ إذ كان بدل صاحب جيش المعتضد والمستولي على أمره والمطاع في خدمه وغلمانه، اضطغنها على بدر. وحدث بالمعتضد حدث الموت وبدر بفارس، فعقد للمكتفي عقد الخلافة وبايع له وهو بالرقة لما كان بين المكتفي وبين بدر من التباعد في حياة والده. . . فقدم بغداد المكتفي وبدر بفارس؛ فلما قدمها عمل القاسم في هلاك بدر. . .)
قال المسعودي: (. . . فلما امتنع عليه أحضر أبا عمر محمد ابن يوسف القاضي فأرسل به إلى بدر في شذاه (قلنا: الشذاء والشذاة والشذاوة؛ تجمع على الشذاءات والشذوات: ضرب من السفن النهرية الصغيرة في العصر العباسي) فأعطاه الأمان والعهود والمواثيق عن المكتفي، وضمن له إنه لا يسلمه عن يده إلا عن رؤية أمير المؤمنين؛ فخلى عسكره وجلس معه في الشذاء مصعدين، فلما انتهوا إلى ناحية المدائن والسيب تلقاه جماعة من الخدم، فأحاطوا بالشذاء، وتنحى أبو عمر إلى طيار فركب فيه، وقرب بدر إلى الشط وسألهم أن يصلي ركعتين وذلك في يوم الجمعة لست خلون من (شهر) رمضان سنة تسع وثمانين ومائتين وقت الزوال من ذلك اليوم؛ فأمهلوه للصلاة. فلما كان في الركعة الثانية قطعت عنقه وأخذ رأسه فحمل إلى المكتفي. فلما وضع الرأس بين يدي المكتفي سجد وقال: الآن ذقت طعم الحياة ولذة الخلافة. . .)
وزاد الطبري على ذلك قوله: (. . . وورد الخبر على المكتفي بما كان من قتل بدر. . . فرحل منصرفاً إلى مدينة السلام، ورحل معه من كان معه من الجند، وجيء برأس بدر إليه؛ فوصل إليه قبل ارتحاله من موضع معسكره، فأمر به فنظف ورفع في الخزانة)
(ح) رأس الوزير الحسين بن القاسم بن عبيد الابن سليمان ابن
وهب. بن أبي علي بن مقلد(492/22)
قصة هذين الوزيرين إحدى عبر الدهر. قال ابن الطقطقي في الحسين بن القاسم إنه (لم يكن بارعاً في صناعته، ولا شكرت سيرته في وزارته، ولم تطل له المدة حتى عجز واختلت الأحوال عليه. . .، ولما ظهر للمقتدر نقصه وعجزه؛ قبض عليه وصادره، ثم بقى إلى أيام الراضي وأبعد عن العراق. فلما تولى ابن مقلة الوزارة؛ تقدم بقتله؛ وأرسل إليه من قطع رأسه، وحمل رأسه إلى دار الخلافة في سفط، فجعل السفط في الخزانة، وكانت لهم عادة بمثل ذلك. فحدث إنه لما وقعت الفتنة ببغداد في أيام المتقي؛ أخرج من الخزانة سفط فيه يد مقطوعة ورأس مقطوع؛ وعلى اليد رقعة ملصقة عليها مكتوب؛ هذه اليد يد أبي علي بن مقلة، وهذا الرأس راس الحسين بن القاسم، وهذه اليد هي التي وقعت بقطع هذا الرأس. فعجب الناس من ذلك)
2 - حمل الرءوس إلى بغداد
كان حمل رءوس العصاة، والخارجين على الدولة، والفارين من وجه العدالة، ومن جرى مجراهم؛ إلى دار الخلافة العباسية ببغداد، أصدق شاهد على الفوز والانتصار، وكان هذا الأمر من الرسوم الجارية في تلك الأيام، فكانت بغداد تستقبل هذه الرؤوس بين حين واخر، فتدخلها مشهرة، ثم يؤتى بها فتوضع بين يدي الخليفة ليشاهدها هو ورجال دولته، وفي ذلك أمر يبتغيه الخليفة. ثم إنها تنصب على المواطن البارزة من البلد كالجسور، وأبواب دار الخلافة؛ ليشاهدها كافة الناس فيعتبرون بها ومن ثمة تستقر في خزانة الرءوس.
(ا) رأس خارجي ظهر ببلاد الحبشة
كان رأس هذا الخارجي من أوائل الرءوس التي حملت إلى بغداد، فقد ذكر المقريزي أن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب ابن أبي صفرة حج (في سنة سبع وأربعين (ومائة)، واستخلف عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج صاحب شرطته، وبعث جيشاً لغزو الحبشة من أجل خارجي ظهر هناك؛ فظفر به الجيش وقدم رأسه في عدة رءوس فحملت إلى بغداد. . .)
(ب) رأس أبي الليث الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف
انفرد أبو الليث بذبح نفسه بيده، دون قصد أو تعمد. فقد جاء في جملة حوادث سنة(492/23)
284هـ أن فيها (ورد الخبر بقتل أبي الليث الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف بسيفه لنفسه في الحرب، وذلك أن سيفه كان على عاتقه مشهراً فكبا به فرسه فذبحه سيفه، فأخذ عيسى النوشري رأسه وأنفذه إلى بغداد)
(يتبع)
ميخائيل عواد(492/24)
الكرملي في قبضة الحق
للأستاذ سعيد الأفغاني
1 - كان الأب أنستاس ماري الكرملي قد تعرض لتصحيح بعض الخطأ في كتاب الإمتاع والمؤانسة الذي صححه الأستاذان أحمد أمين وأحمد الزين ولم يشركا الأب في التصحيح ولا الربح. وكان في جملة ما خطأ: قول القائل: (ويجعلها (أي الأحجار) ملساء) فقال حضرته مصححاً: (والصواب ملساً بضم الميم. . . الخ) فصححناً له فهمه في العدد (479) (من (الرسالة)، وكان قد استند إلى كلام لسيبويه فأوضحنا له - برفق وعطف - أن كلام سيبويه ليس فيه ما زعم حضرته. ثم شرحنا له القاعدة العامة (التي اعترف بصحتها واطرادها) في العدد (486) من هذه المجلة. وقلنا له: (إن نعت جمع التكسير يكون بالمفرد والمؤنث وبالجمع على السواء، فلك أن تقول: أشهر محرمة وأشهر محرمات، و (أياماً معدودة) و (أياماً معدودات) كما في القرآن الكريم وغيره، فما الذي يفرد صيغة واحدة بين جميع صيغ النعت بحكم خاص؟ هذا ما يحوج الأب الإبراه عليه. أما استقراؤه الشخصي وطلبه من مخالفه الإتيان بشاهد فلا يردان حجة، لأن المقيس لا يلزم له شاهد)
فلما ألجأه الحق إلى أضيق من جحر الضب، انبرى يرد علينا وعلى غيرنا ممن صححوا له تهافته في ثلاث مقالات طوال، نسي فيها الموضوع والزمان، وخلت من شيء واحد هو المطلوب كله وهو مدار البحث وحده، فلم يأتنا بالنص المطلوب ولن يأتينا به ولو دخل بعضه في بعض غيظاً وكداً
فعلى هذا يبقى قولهم: (صخور ملساء وكريات بيضاء) مما لا يجوز لصحيح الفهم أن يخطئه. وإن مما يعلمه بالضرورة من له أدنى إلمام بلغة العرب أن الموافق للقاعدة المطردة غير محتاج إلى شاهد وكل جائز له شاهد مدون
2 - وقال حضرته: (ومن الأغلاط الشائعة في مصر وتستحق أن يشار إليها إشارة خصوصية (كذا) ما يأتي: ص23 س18 أصواب هو أم خطأ. . . أم خطاء وزان سحاب لضد الصواب على ما في كتب اللغة) أهـ
وهذا زعم غير صحيح؛ وقد نقلت له من الكتب نصوصاً لقفت كل ما أفك، وأفهمته أن الخطأ هنا هو الأفصح والأشهر. والغريب المضحك حقا أن يحتج الأب بما هو حجة عليه(492/25)
واضحة وهو الكلام الذي نشرته الرسالة لأبي هلال العسكري وفيه (أن الخطأ هو أن تقصد الشيء فتصيب غيره. . . والخطاء تعمد الخطأ). وبعد أن عاب هذا الأب سيبويه والخليل. . . أنكر علينا احتجاجنا بمؤلف الصحاح، وذكر أن العسكري أعلى منه مقاماً!! فيا أيها الأب إن الجوهري والعسكري متفقان ولكنك لم تدرك لا كلام الجوهري ولا كلام العسكري. والبلاء الأكبر في أن يأتي متحذلق في آخر الزمان يوازن بين إمامين ثم لا يستطيع أن يفهم كلامهما
أما بعد أيها الأب أنستاس ماري الكرملي، إن فيما نسبت قوله إلى ما هو كذب وافتراء. فأنا لم أقل: سيبويه غير موثوق به. ولم أقل: نص جمع التكسير، إنما قلت: نعت جمع التكسير. ولم أقل. . . ولم أقل. . . مما يمل بيانه للقارئ
فإذا كان هذا شأنك مع حي يملك أن يدفع عن نفسه، فكيف نثق بما ننقل عن أولئك الأئمة المساكين الناعمين في عالم الخلود؟
وأدهى من ذلك أنك كنت ادعيت إنه لا يقال خطأ بل خطاء وامتلأت زهواً إذ زعمت أن هذا غلط شائع في مصر، فلما بينا لك أنك أنت المخطئ، تواريت خجلا ثم انبريت تدعي إنما أردت أن خطاء أحسن من خطأ موازنة لصواب؛ بين كلمتك الأولى المنشورة في العدد (475) من الرسالة، والثانية المنشورة في العدد (487) مدى قليل جداً، فما أسرع ما يفضح الباطل والادعاء الأجوف صاحبهما! وأمر آخر: متى عهدك، عافاك الله، بالذوق الموسيقي؟ أحين احتشدت فلم تجد أحلى وقعاً من (ليس المزكزك بأنيئهن) فإن يكن لك - وأنت عجوز - عذر من هرمك ومرض أذنك فاعلم أن الله لم يخلق رجلاً صحيح الذوق سليم الأذن يستسيغ (الخطاء والصواب) أكثر من (الخطأ والصواب)، ورحم الله امرأ صيرك - وأنت تريد الكلام في اللغة - إلى الجرس والموسيقى
ولست أوفى (الرسالة) ما يجب لها من شكري وشكر العلم والأدب على نشرها مقالاتك كما هي: فقد رأيتك يا سيدي تدعي - بعد كلامك في الموسيقى - أن نسبك ينتهي إلى بني مراد!! (تشرفنا)؛ ولقد تواضعت جداً إذ لم تنتسب في بني هاشم وأنت تشعر في صميمك شعوراً غالباً عليك بالحاجة الماسة إلى نسب ما بعد هذا التخبط
أتسمح لي بطلب متواضع جداً؟ إنك ستفعل مشكوراً(492/26)
1 - كن أمينا فيما تنقل عن الأحياء والأموات
2 - احتط فيما تكتب في اللغة العربية، فإن عارفيها كثيرون، وليست كذلك السريانية والآشورية. فلك في هؤلاء الأخريات ميدان تصول فيه وحدك
3 - إن أبيت إلا الخوض فاسلك من المسائل ما كان (آليا) بحتا وتجنب ما يحتاج إلى ذوق وعلم وحسن فهم، وإلا وقعت في مثل ما وقعت فيه حين زعمت أن قولك: لا يقال كريات بيضاء مستنداً إلى قول سيبويه
4 - إنك لا تستطيع فقد كلام حتى تفهمه، ولن تفهمه حتى تحسن قراءته، ولن تحسن قراءته حتى تتخلق بأخلاق المتعلمين
5 - لقد غبر زمان - لا رده الله - كانت الشهرة فيه عن طريق الدعوى والتحرش بمن لا يبلغ المتحرش أن يكون أصغر تلاميذهم، وأصبح يقاس فضل المرء بقوة حجته وحسن خلقه لا بسلاطته وتلبيسه. هذا وللب المفضال أنستاس ماري الكرملي جزيل احترامي.
(دمشق)
سعيد الأفغاني(492/27)
45 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق
قد تعتمد المرأة أحياناً على الظروف المخففة أو على معونة أصدقاء أقوياء، لتنجو من عقوبة الإعدام إذا ضبطت في معاشرة أثيمة. وذلك كالحادث التالي: زوج الباشا إحدى جواريه من نخاس غني كان الباشا قد اشترى منه كثيراً من مماليكه وجواريه. ولم يكن الرجل يخون زوجه فحسب بل كان يهملها تماماً. فصاحبت تاجراً كانت تعامله صحبة غير لائقة. وجدث ذات يوم في غيبة الزوج أن رأى أحد عبيده السود رجلا في شباك الحريم. فذهب توا إلى غرفة الزوجة ليبحث عن الرجل. وسمعته الزوجة قادماً فأدخلت عشيقها في غرفة ملحقة وأغلقتها عليه. ففتح العبد الباب عنوة. فهجم عليه الرجل بخنجر كان يحمله في حزامه، ولكن العبد قبض على النصل بيده. وعاقته الزوجة حتى هرب عشيقها ثم قبلت يده وتوسلت إليه ألا يخبر زوجها فيسبب قتلها. غير أنها وجدته صلباً لا يلين. وذهب العبد في الحال إلى سيده وأراه يده الدامية وأخبره بالحادث. وهربت المرأة في أثناء ذلك تنشد الحماية في حريم الباشا. وطلب من الباشا أن يرد زوجته عليه ليقتلها. فاستدعاها الباشا وسألها عن جريمتها فرمت بنفسها عند قدميه وقبلت طرف ثوبه وأخبرته بسوء أخلاق زوجها وإهماله الشديد لها. فبصق الباشا في وجه النخاس لأنه اعتبر أن سلوكه إهانة له. وأعاد الزوجة إلى حريمه. ولم يعش عشيقها طويلاً بعد ذلك فقد خنق في منزل بعض البغايا ولم تعاقب البغي لعدم ثبوت التهمة عليها
يؤخذ على المصريين والمسلمين عامة القسوة الشديدة في معاملة النساء. حقاً إنهم لا يعتبرون استشارة الفتاة القاصر قبل زواجها ضرورياً. ولكن الغالب أن الرجل في الطبقتين(492/28)
الوسطى والعليا يكاد يختار زوجه على السماع دون أن يراها، إذ لا حيلة له رؤيتها قبل أن يعقد العقد وتنقل إلى منزله. فيستحيل لذلك أن يكون هناك محبة متبادلة قبل الزواج. والحقيقة أن الجنسين معاً تثقل عليهما القوانين والعادات الجائرة، ولكنهما من حسن الحظ يعتبران هذه القيود ملائمة مشرفة. وقد يشعران بالعار في التخلص من هذه العادات. وقد لاحظت أن الحجاب الواقع على النساء يكون باختيارهن إلى حد كبير. وأعتقد إنه أقل صرامة في مصر منه في أي بلد آخر من بلاد الدولة العثمانية. ومن المؤكد إن هذا الحجاب اقل جداً مما صوره لي الكثيرون. وينظر النساء إلى هذا الاحتجاب بفخر من حيث إنه يدل على عناية الزوج بهن. كما أنهن يقدرن أنفسهن بقدر حجبهن كالكنوز ولا يليق في المجتمعات الطيبة أن يستفسر المرء بطريقة مباشرة عن حال زوجة الصديق أو امرأة ما في منزله إلا إذا كانت قريبة له. وسأل أحد معارفي المصريين آخر كان في باريس عن أغرب الأشياء التي رآها في بلاد الكفار فأجابه الآخر: إن كل ما شاهده حري أن يثير إعجاب العاقل البعيد عن التعصيب ولم أر شيئاً يستحق الاعتبار مثل هذه الحال: فقد جرت العادة في باريس وغيرها من مدن فرنسا أن يدعو كل من الأغنياء والعظماء أصدقاءهم ومعارفهم رجالا ونساء معاً إلى حفل في منزله. ويستقبل الضيوف في غرف تضاء بعدة شموع وقناديل. وهناك يختلط الرجال بالنساء، وأولئك كما تعلم سافرات. ويستطيع الرجل أن يجالس زوجة رجل آخر وهو لم يرها من قبل. ويستطيع أن يسايرها ويحادثها ويراقصها أيضاً في حضور زوجها الذي لا يغضب ولا يغير لمثل هذا السلوك المخزي)
يشتهر المصريون أيضاً بكرمهم وجشعهم على السواء. وإن اجتماع مثل هاتين الصفتين المتناقضتين في ضمير واحد قلما يدهش. ولكن هذا هو الحال مع هذا الشعب. ويعتبر الغش والمكر في التجارة، وذلك في جميع الشعوب، إحدى نقائص المصريين الذائعة. وقلما يتردد المصري في مثل هذه الأحوال عن الكذب ليكسب. ويميل الشعب الذي يئن تحت نير الجور والجشع، الذي امتازت به حكومات مصر طويلا، إلى الشح دائماً. لأن المرء بالطبع يتمسك بما هو أكثر عرضة للضياع. ولذلك يعمد المصري المضيم إذا ملك مبلغاً من المال لا يلزمه حالا إلى شراء مصاغ لامرأته أو لنسائه، إذ يسهل عليه تحويل المصاغ ثانية إلى(492/29)
نقود. ومن ثم أيضاً جرت العادة في هذا البلد، وفي أكثر البلدان التي تخضع لهذه الظروف السياسية، أن يخبئ الرجل أمواله في منزله تحت البلاط أو في أي موضع آخر. ولما كان الكثيرون من هؤلاء يموتون فجأة دون أن يطلعوا أسرهم على مكان المخبأ فإن من المألوف أن تكتشف نقود عند هدم المنازل. وهناك رذيلة تقرب من الجشع وهي الحسد. وأعتقد أنها تكثر بين المصريين المحدثين والشعوب العربية بأجمعها على السواء. ويعترف الكثيرون مدفوعين بسلامة النية أن هذا الميل الكريه يكاد يتركز في أذهان شعوبهم تماماً.
والمصريون أمناء في الوفاء بديونهم. وقد بين الرسول صلعم أن لا شيء حتى الاستشهاد، يكفر عن دين لم يوف. وقل من المصريين من يقبل فائدة على قرض أقرضه إذ أن الشرع يشتد في تحريم ذلك.
إن دوام الصدق فضيلة نادرة للغاية في مصر الحديثة. وقد ترخص الرسول في الكذب إذا وفق بين الناس في منازعة أو أرضى زوجة أو أفاد في حرب على أعداء الدين. غير أن الكذب في أحوال أخرى محظور بشدة. ويبرر ذلك بعض التبرير عادة الكذب السائدة بين العرب المحدثين إذ أن السماح لشعب بالكذب في أحوال يعوده بالتدريج الكذب في غيرها. ومع أن أكثر المصريين يكذبون عمداً فقلما تسمعهم يرجعون عن تحريف غير مقصود دون أن يقولوا: (لا. أستغفر الله إنه كذا وكذا) كما يقولون عندما يقررون شيئاً لا يتأكدون منه تماماً: الله أعلم
ويمكنني أن أذكر هنا، وأنا أشعر بالفخر، الحادث التالي: كان في القاهرة صائغ أرمني اشتهر بالصدق إلى درجة أن عملاؤه قرروا تسميته اسماً يدل على تمتعه بفضيلة قلما توجد فيهم، فلقبوه بالإنجليزي وصار من بعد ذلك لقباً لعائلته. والمعتاد أن تسمع التجار هنا يقولون عندما يطلبون ثمناً لا ينوون إنقاصه: كلمة واحدة. (كلمة الإنجليز). وكثيراً ما يقولون أيضاً في هذا المعنى: كلمة (الإفرنج). ولكني لم أسمع أبدا بأمة كرمت هذا التكريم غير الإنجليز والمغاربة. وقد اشتهر هؤلاء دون أغلب العرب الآخرين بالصدق في القول
أشرت سابقاً إلى عادة القسم بالله السائدة بين المصريين. وينبغي أن أضيف هنا أن الكثيرين منهم لا يترددون عن القسم ليدرءوا عن أنفسهم تهمة الكذب. وقد يقولون في هذه الحالة أحياناً. والله (بكسر الهاء) أو عادة: والله. كأنهم يزعمون أن الصيغة الأخيرة يجوز(492/30)
استعمالها في الدعاء. أما (والله (بالكسر) فهو قسم صريح والنطق به كذباً، إثم كبير. ويكفر عن هذه اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة أيام. على أن هذه الكفارة رخص القرآن بها لقسم طائش فقط. ولكن المصريين المحدثين يراعونها أحياناً ليحرروا أنفسهم من وزر قسم كاذب مقصود. ويفضلون الصوم على الكفارات الأخرى. وهناك أيمان أعتقد أن بعض المسلمين لا يترددون في القسم بها كذباً مثل قولهم ثلاثاً: (والله العظيم) أو القسم على المصحف بقولهم: (بما يحتوي هذا من كلام الله)، ولكن القسم الذي لا يزال يعتمدون عليه هو قولهم: (عليّ الطلاق) أو (عليّ الحرام) أو (عليّ الطلاق بالثلاثة). فإذا كذب الرجل في أحد هذه الأقسام الثلاثة تصبح امرأته طالقاً إذا ثبت حنثه. وإذا كان للرجل أكثر من زوجة وجب حينئذ أن يختار إحداهن فيخصص بها الطلاق. غير أن هناك كاذبين فاسدين يقسمون زوراً بأشد الأيمان إلزاماً. وقد قال الشاعر يصف هذا الخلق.
وأكذب ما يكون أبو المعلَّى ... إذا آلي يميناً بالطلاق
ويسهل تحريض المصريين إلى المشاجرة وخاصة السفلة الذين يتشاتمون في ثورتهم بسب الآباء والأمهات واللحى الخ. ويسرفون في نعت كل من الآخر بأحط النعوت كأن يقول: يا أبن الكلب، أو يا قواد، أو يا خنزير، وهناك تسمية أخرى يرونها أشد الشتائم على الدوام وهي قولهم: يا يهودي. وعندما يسب أحد المتخاصمين الآخر يجاوبه هذا بلعن أبيه وأمه وأحياناً بلعن العائلة جميعها. ويهدد كل منهما الآخر ولكن قلما يبادران إلى الضرب. غير أنني رأيت في أحوال قليلة بعض السفلة ثائرين إلى درجة أن كلا من المتشاجرين كان يعض الآخر ويقبض عليه من حلقه. وشاهدت أيضاً عدة مرات أفراداً من الطبقتين الوسطى والسفلى يتحملون السب الغليظ. وكثيراً ما سمعت المصري يقول عندما يضربه ندّ له: (الله يبارك فيك. الله يجازيك خيراً. اضربني مرة أخرى). وتنتهي المشاجرة عادة بأن يقول أحد الطرفين أو كليهما: (الحق علي) وكثيرا ما يقرأن الفاتحة بعد ذلك ثم يتعانقان ويقبل كل منهما الآخر أحياناً
ويميل المصريون خاصة إلى الهجاء. وكثيراً ما يظهرون ذكاء في تهكمهم ومرحهم. وتساعدهم اللغة العربية على استعمال التورية والحديث المبهم الذي يتهكمون فيه بكثرة.(492/31)
وتهجو الطبقات السفلى أحياناً حكامها في الأغاني ويسخرون من هذه القوانين التي يقاسونها كثيراً. وقد تسليت مرة بأغنية شائعة في أسوان وإقليمها. وكانت هذه الأغنية دعاء صادقاً بأن يبيد الطاعون حاكمهم المستبد وكاتبه القبطي. وكانت في مصر كلها أغنية ذائعة أثناء زيارتي الأولى ألفت لزيادة ضريبة (الفردة) وكانت تبدأ هكذا: (يا للي عندك لبده، بعها وادفع الفردة) واللبدة كما ذكرت قبلا غطاء رأس من اللبد يلبس تحت العمامة أو بدلها. ويعتبر من ليس له غطاء رأس غير اللبدة فقيراً جداً.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(492/32)
البريد الأدبي
آراء جديدة في السجع
1 - في كتاب (النثر الفني) للدكتور زكي مبارك جزء أول ص25 ما يلي (أذكر أنني كنت أحاور المسيو مرسيه في تطور السجع فأخرج رسائل الجاحظ وفيها هذه العبارة: (إن معاوية مع تخلفه عن مراتب أهل السابقة أملى كتاباً إلى رجل فقال فيه (لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من كلاب الحرة)، ثم قال: (امح من كلاب الحرة واكتب من الكلاب) كأنه كره اتصال الكلام والمزاوجة، وما أشبه السجع، ورأى إنه ليس في موضعه) وكان المسيو مرسيه يظن أن في هذه العبارة دلالة على أنهم كانوا إذ ذاك لا يستحبون الكلام المسجوع، فوجهت نظره إلى أن لهذه العبارة معنى آخر، ذلك أن السجع فن رقيق لا يصلح في ذلك المقام، وهو مقام تهديد ووعيد)
إلى هنا انتهى كلام الدكتور. وقد قرأت في كتاب (عبقرية محمد) للأستاذ العقاد ما يلي: (أجاب الرسول أبا سفيان عندما خيره بين نصف نخل المدينة أو الخراب والدمار فقال: (وصل كتاب أهل الشرك والنفاق، والكفر والشقاق، وفهمت مقالتكم، فوالله ما عندي جواب إلا أطراف الرماح، وأشفار الصفاح!)
(فهذا السجع في هذا المقام أصلح لخطاب الجاهلين لأنهم يعرفون منه معنى التوثيق والتمكن، كما يعرفون منه معنى المناجزة والتخويف)
هذان رأيان في السجع متعارضان. أما الدكتور زكي مبارك فهو يرى أن السجع فن رقيق لا يصلح في مقام التهديد والوعيد، وأما الأستاذ فيرى في السجع ضخامة وفخامة وهما أصلح في المناجزة والتخويف. . . فما رأي الأستاذين؟
2 - يخبرنا الدكتور زكي في كتابه (النثر الفني) ص64 أن المسيو مرسيه والدكتور طه حسين ومن شايعهما قرروا أن السجع لم يلتزم إلا في القرن الرابع، وأن المسيو مرسيه وجد كتاباً لمؤلف قديم اسمه الأخضري، وأنه منسوب إلى القرن الثالث، وأصر مرسيه على ضمه إلى كتّاب القرن الرابع ووافقه الدكتور طه لهذا السبب. وللأستاذ أحمد أمين حادثة مثل هذه؛ ففي كتاب ضحى الإسلام ص236ج1 أنكر نسبة كتاب (الرد على ابن المقفع) إلى القاسم بن إبراهيم وكانت حجته (أن القاسم عاش في النصف الأول من القرن(492/33)
الثالث والكتاب مسجوع. ونحن نعلم أن هذا العصر (عصر الجاحظ) لم يتكلف فيه سجع، ولم تؤلف فيه كتب مسجوعة. . .)
ولكن ما رأيهم في كتاب (الحاسد والمحسود) الذي كتبه الجاحظ نفسه، ونظرة فيه تقنعهم بأن نظريتهم خاطئة، أو على الأقل مبالغ فيها إلى حد بعيد. فكتاب الجاحظ في الحسد أغلبه سجع متكلف. وإني أورد هنا بعض فقرات منه لأثبت ما أقول: (الحسد أبقاك الله داء ينهك الجسد، ويفسد الأود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر. . . قاطع كل رحم بين الأقرباء، وملقح الشر بين الخلطاء. . . والحسد هو الذي جعل (ابن آدم يلقى على أخيه الحجر شادخاً، فيصبح عليه نادماً صارخاً. . . وعبد الله بن أبي تبين للناس عقله، وافتقدوا منه جهله، ورأوه لذلك أهلا، لما أطاق حملا. . . والمحسود لولا عناية الله لأمسى وماله مسلوب، ودمه مصبوب، مهراق مسفوك، وعرضه بالضرب منهوك. . .
ثم ختم الرسالة بقوله: وما أرى السلامة إلا في قطع الحاسد، ولا السرور إلا في افتقاد وجهه، ولا الراحة إلا في مرم مداراته، ولا الربح إلا في ترك مصافاته، فإذا فعلت ذلك فكل هنيئاً، واشرب مريئاً، ونم رخياً، وعش في السرور ملياً. . .)
هذه فقرات من كتاب (الحاسد والمحسود) والمطلع عليه يجد السجع فيه غالباً، فهل ننكر نسبته إلى الجاحظ؟ أم هل نزحزح الجاحظ إلى القرن الرابع؟؟
3 - في الحق أن أصحاب هذا المذهب غالوا وبالغوا في تعنتهم وغلوهم وما كان ذلك منهم إلا ليثبتوا نظرية نادوا بها من قبل، وهو أن السجع من الزخرف الفني الذي اكتسبته العربية من اتصالها بالفارسية واليونانية. والواقع أن السجع كما يقول الدكتور مبارك (من مميزات البلاغة الفطرية)، وقد اعترف المسيو مرسيه بذلك عندما قال: (وكأنهم بدءوا يكرهون السجع في العصر الأموي) أي إنه اعترف بأن كان هناك سجع ثم بدأ الناس يكرهونه، والسجع من الزخرف الفني الذي زعموا أن العربية لم تعرفه إلا بعد اتصالها بالفارسية واليونانية.
محمود السيد أبو السعود
حول اختلاف القراءات أيضاً(492/34)
ينكر الأستاذ الفاضل عبد المتعال الصعيدي ما ذكرته من أن: المسلمين على عهد الرسول كانوا يتلقون القرآن منه سماعاً ويطوون صدورهم عليه حفظاً وفهماً، دون ما حاجة منهم إلى النظر في شيء من آياته مخطوطاً. وهو ينعت هذا الكلام بالغرابة، وبأنه (لا يتفق مع المعروف عن المسلمين في ذلك العهد). ويلزمني الآن أن أنص على أن تلقي القرآن شيء، وحفظه كله أو بعضه أو عدم حفظه البتة، شيء آخر
فزعم الأستاذ أن جمهور المسلمين (لم يكن يأخذ نفسه بحفظ القرآن) - وحاشا أن يصح ذلك - لا يعتبر رداً على ما حاول نقضه من كلامي السابق. لأن موضوع الحديث هنا هو تلقي القرآن، أعني إجادة تلاوته على وجهه الصحيح، بطريق ما؛ كيف يكون هذا التلقي؟ وما مبلغ العلاقة فيه بين السماع شفاها والقرآن في مخطوط؟
لست أشك في أن الأستاذ يوافقني على أن الأساس في التلقي هو السماع من الرسول، ثم من صحابته الذين أجادوا النقل عنه. فذلك ما يقول به كل ملم بهذا الموضوع؛ ولكن الأستاذ يضيف من عنده إلى هذا قصة طريفة، فهو يتخيل - ويريدنا على أن نتخيل معه - أن المسلم من هؤلاء كان يمضي إلى بيته وفي يده أديم أو عظم فيه الآية والآيات، فيكب على قراءته في مشقة وصعوبة. وتلتبس عليه خلال ذلك حروف متشابهة، كالياء مع الباء (وعدها إياه، وعدها أباه) والثاء والتاء مع الباء والنون (فتثبتوا، فتبينوا). وينبهم عليه وجه الصواب في كل ذلك، فيرجع إلى الرسول يستفتيه، فيقول له: اقرأ بكلام الحرفين، فالباء أخت الياء، وغيرك قد استعصى عليه ذلك أيضاً. فذلك معنى الرجوع إلى الرسول وإقراره ما يراه للتخفيف عن المسلمين في مثل هذه الكلمات التي اشتهت حروفها، مما يشير إليه الأستاذ في كلمته الأولى (ع488) من (الرسالة)
والأستاذ عبد المتعال يعتنق بهذا الكلام - دون أن يشعر - مذهب القائلين إن القرآن نزل بمعانيه دون ألفاظه وتراكيبه، وهو مذهب لم يحيى إلا على ألسنة بعض ذوي المقاصد السيئة من المستشرقين؛ وإلا فما معنى أن يذكر لنا ما يؤدي إلى الاعتقاد بأن الرسول كان ممن يبدلون كلمة بكلمة أخرى تباينها في معناه، لمجرد الاشتباه بين حرفين متقاربين في رسمهما العربي؛ وقد يكون هذا الاشتباه راجعاً إلى ضعف بصر القارئ، أو رداءة الخط، أو رثاثة الأديم مثلا؟!(492/35)
إن الضابط المشترط في القراءة الصحيحة معروف، وقد أشار إلى هذا بإيجاز الأستاذ الفاضل محمد غسان في كلمته. . . وإلى القارئ ما قاله ابن الجزري بصدد ذلك في كتابه (النشر)
(كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها؛ فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن)
ومن ذلك الوجه صحت هذه القراءات لدى أكثر المفسرين - وقد ذكرنا منهم فيما قبل صاحب الكشاف - ولم يكن لتشابه الحرف دخل في تصحيح هذه القراءات؛ بل أن هذا التشابه نفسه، قد أدى ببعضهم إلى اعتبارها تصحيفاً كالسيوطي صاحب المزهر والذين نقل عنهم. . .
هذا وإن إذن الرسول في كتابة القرآن وقراءته أمر معلوم لدى كل مسلم، وأسماء كتاب الوحي وسيرهم معروفة لنا جميعاً، فلم يأت الأستاذ بجديد في إشارته إلى ذلك؛ وهو لم يعد وجه الصواب في قوله أن من لا يحفظ القرآن كانت تعتريه الصعوبة في نطق بعض الكلمات، ولكنه أخطأ حين عقب على تلك الحقيقة فقال: (ومن هذا يجيء التيسير في قراءتها - يعني بعض الكلمات - على ما تحتمله من الوجوه!) فليس مجرد الصعوبة في القراءة هو علة هذا التيسير كما ذكرنا.
بقي أن نشير إلى أن الأستاذ عبد المتعال يبالغ في شأن الرقاع المخطوطة كثيراً، وما أشك في إنه يعلم ما فيه الكفاية عن حياة (الحفاظ) الذين كانوا يمضون بأمر الرسول إلى الجهات النائية لتحفيظ المسلمين آيات القرآن، وتلقينهم أوجه التلاوة الصحيحة؛ بل لعله يعلم أيضاً أن الرسول قبل الهجرة بعث إلى المدينة من يحفظ أهلها من المسلمين ما كان قد نزل من السور؛ فلم يكن يجزئ في كل هذا قراءة مخطوط دون الرجوع إلى تلاوة القراءة والحفاظ الموثقين والإثبات.
ومن الأمور المعروفة أيضاً أن عمر بن الخطاب لم يشعر بالحاجة إلى جمع الرقاع، وينصح للخليفة الصديق بذلك، إلا بعد أن تفرق هؤلاء الحفاظ في أطراف البلاد وفني كثير منهم في الوقائع والغزوات. إذ كان في هؤلاء - على حياة الرسول ومن بعده - الغناء كل(492/36)
الغناء عن القراءة في صحيفة أو النظر في مخطوط. ومعلوم أن المرجع كان إلى هؤلاء أيضاً في توثيق ما ورد بهذه الرقاع، لما قد عرفوا به من جودة الحفظ وصحة السماع، مع إدمان التلاوة على نهجها الصحيح.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
حفاظ القرآن في عصر النبوة
قال الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في كلمته (حول اختلاف القراءات في القرآن) في العدد (490): (وكان القليل منهم - أي المسلمين في عهد النبوة - يحفظ الصورة أو الصورتين وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحفظ القرآن كله منهم إلا عدد لا يكاد يتجاوز عدد الأصابع)
وهذا غير صحيح لأن حفاظ القرآن كله في عصر النبوة لا يحصون بفضل تحضيض النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على حفظه، وتفانيهم في إطاعة أمره، حتى أن داراً للقراء كانت أنشئت بالمدينة المنورة قبل الهجرة، وندب القارئ المشهور مصعب بن عمير رضي الله عنه لتحفيظ القرآن فيها، وكانت صفة مسجد النبي عليه السلام مجمعاً له دوى بمدارسة القرآن وحفظه، وكان صلوات الله عليه يبعث من أصحاب هذه الصفة عشرات إلى القبائل التي يسلم أهلها لتعليمهم القرآن. وقد استشهد في وقعة بئر معونة زهاء سبعين من الحفظة، واستشهد في وقعة اليمامة نحو ذلك
وما يذكر في بعض الكتب من أسماء قراء الصحابة رضي الله عنهم إنما يذكر لمناسبات لا بقصد الاستقصاء، وقد سرد منهم ابن حجر في (فتح الباري) تسعة وعشرين حافظاً ممن يستظهرون القرآن جميعه (ج9 ص43). ولعل الأستاذ الصعيدي اشتبه عليه ما يروى عن أنس رضي الله عنه من أن حفاظ القرآن أربعه، فلم يفهم أن الظاهر من طرق الحديث أن هذا القصر إضافي لأن مورده في مفاخرة بين الأوس والخزرج، أي أن حفاظ القرآن هؤلاء هم من الخزرج لا من الأوس. ومن الجلي أن هذا القصر الإضافي إنما هو بالنظر إلى علم أنس ليس غير(492/37)
وأما الذين كانوا يحفظون بعض القرآن فما أكثر عديدهم كذلك، فهذه كتب الصحاح والسنن والمسانيد تحدثنا بما كان يتلى في الصلوات الجهرية من السبع الطوال وغيرها مما يدل على كثرة من كان يحفظ شتى الصور من الصحابة رضي الله عنهم. وكان دأبهم في تعليم من لا يتيسر له حفظ القرآن كله أن يعلموه سوراً منه ولغيره سوراً آخر، فوجد بذلك كثيرون ممن يحفظون صور القرآن متفرقة، عدا حفاظ القرآن جميعه
وأما قول الأستاذ الصعيدي: (أما كتابة القرآن وقراءته فكان فيهما إذن عام من النبي صلى الله عليه وسلم. . . الخ) فأجتزئ في رده بما ورد في الأقوال المأثورة: (لا تأخذ القرآن من مصحفي لأن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول مشافهة
محمد غسان
نسبة شعر
كنت قرأت مقالا عنوانه (مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية) نقلا عن (برنارد لويس) للأستاذ عبد الوهاب الأمين في عدد الرسالة رقم (486). وقد ذكر الكاتب فيما ذكر بيتين نسبهما إلى المستشرق (بالمر) قائلا ما نصه بالحرف: (وتعتبر القطعة التالية نموذجاً لشعر بالمر العربي:
ليت شعري هل كفى ما قد جرى ... مذ جرى ما قد كفى في مقلتي؟
قد برى أعظم حزن أعظمي ... وفني جسمي حاشا أصغري)
وكنت قبل قراءتي للمقال أتصفح ديوان ابن الفارض وقد ورد هذان البيتان في قصيدته التي مطلعها:
سائق الأظعان يطوي البيد طي ... منعماً عرج على كثبان طي
فهل من يتكرم بما يفيد عما إذا كان البيتان حقيقة من شعر بالمر وأنهما نسبا خطأ لابن الفارض، أم أنهما حقيقة لابن الفارض وأن الكاتب قد وقع في خطأ نسبتهما لبالمر
(السودان)
محمد بشير(492/38)
العدد 493 - بتاريخ: 14 - 12 - 1942(/)
التلباثي
للأستاذ عباس محمود العقاد
(. . . نطالع كتابكم الكبير عبقرية عمر الذي تجلت فيه عبقريتكم الفريدة. . . ونرجو منكم خدمة للعلم التكرم بشرح التلباثي على صفحات مجلة الرسالة الغراء. . .)
(سنهور المدينة)
محمد السيد علي بدر
والإشارة إلى التلباثي في كتاب (عبقرية عمر) قد جاءت في سياق الكلام على قصة سارية حيث روينا أنه (كان رضي الله عنه يخطب بالمدينة خطبة الجمعة فالتفت من الخطبة ونادى: يا سارية بن حصن. . . الجبل الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم
(فلم يفهم السامعون مراده، وقضى صلاته فسأله علي رضي الله عنه: ما هذا الذي ناديت به؟ قال: أو سمعته؟ قال: نعم، أنا وكل من في المسجد. فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا اكتافهم، وانهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا. فخرج مني هذا الكلام)
وأنه (جاء البشير بعد شهر فذكر انهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتاً يشبه صوت عمر يقول: يا سارية بن حصن! الجبل الجبل. فعدلنا إليه ففتح الله علينا)
ثم عقبنا على القصة قائلين: (إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهوراً بين معاصريه بمكاشفته الأسرار الغيبية أما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد)
وهذه - كما هو ظاهر - حالة من حالات التلباثي التي يسال عنها الأديب صاحب الكتاب الذي اقتبسنا منه ما تقدم.
ونحن نترجم التلباثي بالشعور عن بعد، أو (بالنظر البعيد) إذا أردنا تعميم النظر حتى يشمل الرؤية والمكاشفة، أو يشمل الـ في اصطلاح بعض العلماء النفسانيين
وهي حالة متكررة يحسها كثيرون ويسجل وقائعها أناس من المتدينين وغير المتدينين.(493/1)
واشهر القائلين بها في عصرنا كاتب أمريكي ملحد هو ابتون سنكلير يقيم التجارب التي تثبت النظر على البعد أو الشعور على البعد، ويسجل فيها سجل تجاربه مع زوجته حيث كانا يجلسان في مدينتين بعيدتين ويحيط بكل منهما شهود كثيرون منهم المنكرون ومنهم المصدقون، فيطلب إليه بعضهم أن يرسم شكلاً هندسياً وأن يوجه شعره إلى امرأته لترسم مثله في تلك اللحظة، ويطوي الرسمان حتى يعلنا بعد ذلك فيتفق في كثير من الأحوال أن يتشابها في الخطوط، وإن اختلفا في الأبعاد كما يختلف المثلث الكبير والمثلث الصغير مع اتفاق الزوايا والنسب الهندسية
هذه التجارب يقول بها ويسجلها ويعلنها في الكتب السيارة رجل قلنا إنه ملحد لنقول إنه لا يقصد من كلامه تبشيراً بعقيدة أو خدمة لمذهب اجتماعي، لأن مذهبه الاجتماعي يقوم على (الفهم المادي) للتاريخ ولا يحوجه إلى التبشير بهذه الهبات النفسية، بل لعله ينفره منها ويحبب إليه السكوت عنها
واعتقادنا في (التلباثي) أنه هبة نفسية جائزة لا تناقص العقل ولا يمنعها العلم بدليل
لأنها تستند إلى الحس، ولا فرق بينها وبين هبات الحس التي نباشرها كل يوم إلا في طول المسافة، وهو فرق اعتباري غير قاطع بين حالة وحالة. إذ من ذا الذي يستطيع أن يقول إن الحس ينتهي عند هذه المسافة ولا يجوز عقلاً أن يتعداها ويذهب إلى ما وراءها!
أننا نرى كل يوم في العصر الحاضر أن صوتاً يصدر من أمريكا أو اليابان ويسمع كما يسمع فيها حديث الجلساء. ولولا المذياع لعددنا من يزعم هذا الزعم ممخرقاً يعبث بعقول سامعيه
فإذا جاز سماع الصوت على هذه المسافات الشاسعة بجهاز من الأجهزة المصنوعة فلماذا يمتنع على قوى الذهن أو قوى الشعور أن تحس على هذه المسافة أو تتصل بنفس أُخرى وذهن آخر متى تهيأت لها أسباب اتصال؟
فالتصديق بالتلباثي لا يدعونا إلى اختراع حس جديد أو ملكة غيبية من وراء الطبيعة، ولكنه يدعونا إلى تصديق هذا الحس الذي نباشره كل يوم في مختلف شؤون الحياة، مع السماح له بالامتداد والتكبير، وهما غير ممنوعين ولا مناقضين للمعقول أو المشهود
والحس نفسه لا يقل في غرابته عن (التلباثي) كما يقول بها اشد الغلاة المؤمنين بها من(493/2)
النفسانيين
فأنت تفتح عينك فترى
شيء بسيط جدا في حسابنا، بل هو ابسط شيء يخطر على بالنا. . . افتح عينك تر!. . . أي شيء ابسط من ذلك وابعد من الغرابة؟
نعم هو كذلك لأننا نعالجه ونرى الألوف ممن يعالجونه كل لحظة، ولا يخطر لنا أننا نأتي بشيء غريب
ولكننا إذا رجعنا إلى أنفسنا فسألناها: ما هي الرؤية؟ وما هو معنى القوة العجيبة التي تحيط بشيء على مسافة منك وتعرف ما لونه وما شكله وما أثره وما حركاته وسكناته، ولا صلة بينك وبينه إلا الضياء؟
نسأل أنفسنا في هذا ونفكر ملياً في معناه فتستغرب النظر من قريب كما نستغرب النظر من بعيد، ونعلم أن معجزة الحس حاصلة قبل أن نسمع بالتلباثي والتلفزيون وما إليهما من وسائل الإحساس
وما قربنا المسالة حين نقول أنا ننقل الأشياء إلى حسنا بالنظر لأن بيننا وبينها الضياء
إذ ما هو الضياء؟
ولماذا يكون حتماً لزاماً متى وجد الضياء أن يكون هناك نظر وإن يكون النظر على نحو ما وعيناه؟
فالتلباثي غريبة جداً عند من تنسيه الألفة اليومية غرابة النظر والسمع والذوق وسائر المحسوسات
والتلباثي جائزة جدا عند من علم أن النظر جائز ثم سال نفسه في معنى هذا الجواز
واحسب أن الكثيرين من القراء قد جربوا هبة التلباثي كما جربتها ووقفوا منها على مبادئ تدل على نهايتها القصوى، إن لم يكتب لهم أن يملكوا هذه الهبة على أقصاها
فإنني لا أقول بجواز التلباثي معتمداً على العقل والقياس دون التجربة والمشاهدة، ولكنني أقول بذلك لأنني (جربت) بعض الوقائع التي تقربني من تصديق (التلباثي) وتنفي الغرابة عنه أو تنفي استحالته على ايسر تقدير
يحدث مرات أن اذكر إنساناً بعد سهو طويل عنه فإذا هو ماثل أمامي في اللحظة التي(493/3)
ذكرته فيها
ولو كان هذا الإنسان صاحبها يعاودني التفكير فيه حيناً بعد حين لقلت الغرابة في تذكره ولو بعد السهو الطويل
ولو كان المكان الذي ذكرته فيه متصلاً بإقامته أو بالمقابلات بيني وبينه لقلت الغرابة كذلك في ثارة ذلك المكان لذكراه
ولكنه لا يكون أحياناً ممن طالت الصحبة بيني وبينه، ولا يكون الموضع الذي اذكرني به موضعا تقابلنا فيه قبل ذلك أو تحدثنا به يوماً من الأيام. وكل ما هنالك أنه إنسان جمعت بيني وبينه المصادفات فترة من الزمن ثم انطوت عني أخباره سنوات لا أراه ولا يعرض لي ما يدعوني أن اشتاق إلى رؤيته، ثم يمر بخاطري فما هو إلا أن أثبته واستعيد ذكره حتى أراه في عرض الطريق
ويحدث مرات أن يتولاني انقباض شديد تتخلله صورة إنسان عزيزي يكرثني جداً أن يصاب بمكروه، ويلج بي هذا الانقباض حتى كأنما الذي أخشاه قد وقع أو هو مرقوب الوقوع. فأبادر بالكتابة من طريق البرق أو البريد، ويحدث في هذه الحالة أن يجيئني خطاب قبل وصول سؤالي إلى وجهته يدعو إلى الطمأنينة، أو يرد ألي الجواب بعد قليل وفيه إشارة إلى خطر زال
واحسب أن هذه العوارض أشيع من أن تحصى في عداد النوادر والفلتات، فقد سمعت ما يشبهها من بعض الأصدقاء المصدقين. وقد اخبرني بعضهم بقلقه على غائب يعزه وهو لا يعرف سبباً واضحاً للقلق الذي يساوره حتى فاتح فيه غيره. ثم تبين أنه لم يقلق يومئذ بغير داع معقول
إلا أن النوادر والفلتات في التلباثي هي العوارض التي تشبه قصة سارية فيما روي عن عمر بن الخطاب
فالذين يشعرون على البعد بمثل هذه القوة والوضوح قليلون، ولكن المسالة - بعد - مسالة فرق في القوة والوضوح، وليست بفرق في أساس الشعور يماثل الفرق بين من يبصر ولا يبصر، وبين من يسمع ومن ليست له إذن للسمع، وبين من يحس ومن ليست له قابلية للإحساس(493/4)
فالشعور على البعد كالشعور على القرب جائزان، ووسيلة الشعور على البعد ليست بأصعب من وسيلة الشعور على القرب بالعيون والاذان، وإن كنا لا نستغرب هذه كما نستغرب تلك لطول لالفة وتكرار المشاهدة بين جميع الأحياء
وحد التصديق عندي لهذه العوارض هو وجود الأساس الذي تعتمد عليه
فإذا كان كل ما في أمر أنه تكبير للحس الذي تعودناه أو مضاعفة له وتقريب لإبعاده ومسافاته فلا مانع من صدقه، وإذا كان في الدعوى ما يحوجنا إلى فروض لا أساس لها من المشاهدات والمعقولات فهنالك موضع للتردد والاشتباه
وعلى هذا اقبل دعوى التنويم المغناطيسي - مثلاً - إذا ادعى للنائم أنه يبصر شيئاً موجوداً على مسافات بعيدة، ولكني لا اقبل منه هذه الدعوى إذا تعدى ذلك بما سيكون بعد عام أو بعد شهر أو بعد يوم، وليس له وجود قائم الآن
وكذلك اقبل دعوى الشعور البعيد أو النظر البعيد إذا كان بمثابة السمع المضاعف أو البصر المضاعف، لأن امتناع ذلك يحتاج إلى مانع قاطع ولا سبيل إلى القطع فيه، ولان القول بجوازه لا يتعدى كثيراً أن نقول بجواز رؤية العيون وسماع الآذان
وينبغي للعقل أن يتمهل في قول (لا) كما يتمهل في قول (نعم) كلما سمع بما يشككه ولا يوافق معهوده. فإن العقل ليكون خرافياً بقول (لا) في غير موضعها كما يكون خرافياً بقول (نعم) في غير موضعها؛ وإنما هذه خرافة تثبت بالباطل وتلك خرافة تنفي بالباطل، ولا فرق في الباطل بين نفي واثبات
الشعور على البعد جائز ما جازت الصلة بين الإنسان وموضوع شعوره وقد رأينا أن هذه الصلة لا تنقطع في طريق صوت كالهمس على مسافات الألوف من الفراسخ والأميال، فقبل أن ننفي الصلة بين نفسين يبتغي أن نتمهل طويلاً حتى نوقن من وجه الاستحالة والامتناع؛ ولن يكون هذا اليقين إلا ببرهان قاطع. والقول بهذا البرهان القاطع قبل أن يوجد ويتقرر هو أجرأ على العلم والعقل من التصديق بغير برهان اعتماداً على المروي والمشاع.
عباس محمود العقاد(493/5)
راية الروحية الأدبية
للدكتور زكي مبارك
فيما كتب الأستاذ الزيات والدكتور عزام عن (البلايا التي تكابدها البلاغة في هذا العصر) تذكير بغضبات ابن قتيبة في القرن الثالث، والجرجاني في القرن الخامس. وقد جاء هذا التذكير في الوقت المطلوب، جاء بعد انحراف قد يزعزع مركز مصر الأدبي في الشرق، إن لم تسنده الأقلام المصرية بأسندة متينة من الحق والصدق واليقين
وأقول من جديد أنه لا حياة للأديب مصر إن لم تكن لأهله عقيدة أدبية، عقيدة يرحب صاحبها بجميع المتاعب في سبيل الأدب الصحيح، ولا يبالي أين يكون مصرعه ما دام على وفاق مع ملائكة الفكر وشياطين البيان
والعقيدة الأدبية توجب أن نكون صادقين فيما نكتب وفيما نقول، بحيث يطمئن القراء إلينا كل الاطمئنان، وبحيث لا تخفى عليهم خافية من سرائرنا الفكرية، ولو جنحنا في التعبير إلى الرموز والتلاميح
القارئ صديق - وإن لم يتعرف إلينا بصورة شخصية - وللصديق حقوق أهمها اطراح الرياء، فمن العبث أن يخطب قوم وداد القارئ وهم لا يلقونه إلا مرائين
والأصل في الأدب أنه تعبير طريف عن أغراض الحياة والأحياء. وإنما قلت (تعبير طريف) لابدد الشبهة التي تقول بأن الأدب هو تصوير المشاعر والعواطف بالصدق الذي يماثل صدق الصورة الشمسية، فالقارئ لا يفرح بأن الكاتب حدثه عما يجول في صدره بالحرف، وإنما يسره ويبهره أن يجد في تلك الصورة ألواناً لم يلتفت إلى مثلها من قبل، على شرط أن لا يزيغه التلوين عن الصدق، وعلى شرط أن يكون الجانب الطريف اظهر الجوانب في الأداء
فأين نحن من هذه المعاني في هذا الزمان؟
من المحقق أن الأدب عندنا في ازدهار، ولكني مع ذلك أعاني ضروباً من التخوف. فالجماهير في مصر لم تشعر إلى اليوم بأن الأدب صار قوتاً لا تطيب بدونه الحياة. ولم نسمع أن الجماهير مستعدة للمساعدة على نشر كتاب يعجز عن نشره أحد كبار المؤلفين. ولم نسمع أن كتاباً أعيد طبعه عشرين مرة في اشهر معدودات، كما يقع ذلك في بعض(493/6)
الممالك التي تعاني شهوات العقول
فما أسباب هذا الخمود؟
أخشى أن أقول أننا لم نصر كتاباً ولا مؤلفين بالمعنى الصحيح للكتابة والتأليف
أخشى أن أقول أننا عجزنا عن خلق الجاذبية الادبية، وسيحكم علينا التاريخ بما لا نريد، فسيقول أقوام إن مصر عانت زمناً لم يعرف أدباؤه كيف يرفعون البراقع عن الاقلام، ولم يفكروا في رفع الأمية الفكرية عن عقول القراء
أعوذ بالله من بعض ما أرى وبعض ما أقرأ وبعض ما اسمع!
وبالله استعيذ من زمن تضعف فيه الأبوة الروحية، أبوة الباحثين والمفكرين!
ومع هذا فالأمة المصرية هي هي لم تتغير ولم تتبدل، الأمة التي تستمع كل قول، وتستجيب لكل نداء، ولم يفتر نشاطها الذهني في أي وقت، ولكن أين من ينتفع بالحيوية المكنونة في ضمير الأمة المصرية؟
انتفع السياسيون من أمثال: مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، لأنهم جاهدوا وناضلوا وكافحوا، ولأنهم جددوا أهدافهم تحديداً لا يتطرق إليه الارتياب، ثم رحبوا بجميع المتاعب في سبيل تلك الأهداف
فماذا صنع الأدباء ليسيطروا بالقوة الروحية، كما سيطر أولئك بالقوة السياسية؟
قد يقال إن الوطنية وتر حساس، فهي السر في نجاح أولئك الرجال
وأقول إن النزعة الإنسانية اقدم واعمق من النزعة الوطنية، فلو جاهد الأدباء جهاد الصدق لكان لهم في أمتهم تأثير لا يصل إليه كبار الوطنيين، ولكان من السهل أن تكون مبادئهم شرائع يعتصم بها السياسيون
واعجب العجب أن يكون في الأدباء من يطلبون الاستقلال لامتهم ولا يطلبونه لأنفسهم، كالأدباء الذين يعيشون تحت وصاية الأحزاب السياسية راضين وادعين ناعمين، كيانهم ظفروا بكنوز قارون، وكأن آلهة الفن هي التي ألهمتهم ذلك المذهب من مذاهب المعاش، مع أن القلم أكبر واعظم واشرف من أن يتشوف صاحبه إلى الاستظلال بظلال الأحزاب
لا عيب في أن يكون للأديب حزب ينتمي إليه إذا اقتنع بالتحزب في سبيل القومية. ولا عيب في أن تكون للأديب مطامع سياسية، ولكن العيب كل العيب أن يكون الأدباء ذيولاً(493/7)
تجرجرهم التقلبات الحزبية، وتدوسهم سنابك الأهواء
إن جهاد مصر الأدبي لا يقل عن جهادها السياسي، فقد استطاع فريق من أدباء مصر أن يرفعوا اسم وطنهم في الشرق، ولكنهم مع الأسف عجزوا عن رفع اسم الأدب في وطنهم، لأنهم غفلوا عن واجب المصابرة تحت الراية الأدبية، واكتفوا بالتغني تحت الراية الوطنية
ألم اقل لكم إن الأديب ليس أجيراً للوطن ولا أسيراً للمجتمع؟
وما قيمة الوطن إن لم يفرح بأن ينبغ فيه المفترعون لأبكار المعاني؟
في القسم المصري بمتحف اللوفر في باريس تمثالان ناطقان: تمثال الفلاح المتربع تحت الشمس وهو يتذوق السكون والخمود، وتمثال الكاتب المتربع وهو مهموم يستعد للإنشاء. وتلك صورة مصر في القديم والحديث، فمن أبنائها من يفرح بالنعيم البليد، ومن أبنائها من يفرح بالشقاء السعيد. والأشقياء بالمعاني هم السعداء، يوم يوضع للسعادة تعريف صحيح
ألم يأن للأدباء أن يعرفوا واجبهم نحو الأدب؟
ألم يان للزمن أن يسمح بأن تقوم في مصر دولة أدبية لا تعرف غير الصدق في البيان عن أوهام الأهواء وأحلام القلوب واوطار العقول؟
أمن المستحيل أن يقول أديب (أنا) في هذه البلاد؟
ألا يوجد فينا من يتوكل على الله وحده ليملك الغنى عن الناس فيكتب ما يكتب ويقول ما يقول في صراحة وإخلاص؟
عذرت من عاشوا في زمان الظلم، فما عذر من يعيشون في هذا الزمان؟
إن حرية التفكير مكفولة للجميع، على شرط السلامة الفكرية، فما الذي يوجب أن يكون الأديب إمعة لا ينطق أو يصمت إلا وفقاً لبعض الموحيات الأجنبية عن جو العقل والروح؟
وما الموجب لأن يتفاضل الأدباء بالقدرة على الرياء، وهو سناد المهازيل، وعماد المعاليل، ودعام المناخيب؟
لقد وضع الورق في التسعيرة الجبرية قبل أن يوضع الفول، ومع هذا لا يفهم ناس أن قوت العقول يسبق قوت البطون!
إن الأدب الكاذب ينفع، فكيف يضر الأدب الصادق؟
والأدباء المستعبدون يفلحون، فكيف يخيب الأدباء المستقلون؟(493/8)
جربوا الصدق مرة واحدة، يا أدباء هذا الزمان، وحاولوا مرة واحدة أن يكون لكم وجود منزه عن التبعية، ولو كانت في اشرف الأوضاع، ليصح لكم القول بأنكم من دعاة الحرية والاستقلال
إن محنة الأدب في هذا العصر محنة عاتية، وهل توجد محنة أقسى من محنة العبودية؟ ولأي سبب؟ للقوت الذي لا يبخل الله به على ضعاف النمال!
إن الأديب المصري لم يخلق بعد، الأديب الذي يستوحي نجوم السماء لا نجوم الأرض، الأديب الذي لا يخاف الجوع، لأن له زاداً من الحب والنسيم، الأديب الذي لا يخشى التوحد، لأن التوحد هو انس الأسود
التصوف خلق أول مرة في مصر، في عهود سبقت عهود الفراعين. عنا اخذ الناس معاني الروحية، فهل يعاب علينا أن ندعو إلى الصوفية الأدبية؟
ولكن أين الأديب؟ أين لا أين، فقد طوقت المنافع الباب الأدباء في هذا الزمان؟!
أن وجد الأديب المصري المنشود فسيكون المرجع لأقطاب السياسة واعيان المال، لأن الأدب هو الميزان لفهم مطالب الحياة وحقائق الوجود
وهنا تظهر إحدى الدقائق الروحية: فالميزان لا يستفيد مما يزن، وإنما يستفيد الوزان، فيا أدباء مصر كونوا موازين لا وزانين
آه ثم آه!!
إن الذي يملك بعض المنافع في هذه البلاد يعتز ويستطيل، فكيف يجوز لحامل القلم أن ينسى نعمة الله عليه فيتمسح بهذا الركن أو ذاك؟
وما الذي يمنع من أن نجرب حظنا مع الله، وقد جربنا الحظوظ مع الخلائق؟
لقد عفا الله عن سفهاء الأدب فأورثهم الخلود، برغم ترديهم في هوة التزلف إلى الوزراء والأمراء والخلفاء
قال أبو نواس في مدح الأمين:
عقتُ بحبل من حبال محمد ... أمِنتُ به من طارق الحدثانِ
فغضب الله عليه وعلى اللامين وأوردهما موارد البلاء
واعتر البحتري بصحبة المتوكل فضاع الأول وهلك الثاني(493/9)
أنا أدعو الأدباء إلى التخلق بأخلاق الصوفية. . . هل تذكرون بعض مذاهب الصوفية؟
اسمعوا هذا الحديث:
انتفع الصوفية بسماحة الإسلام، وهو دين إيابي أن يكون بين المسلم وربه وسيط، فقرروا انهم ارفع من الانبياء، وهذا كفر بظاهر القول، ولكنه في الجوهر غاية الإيمان، لأن المهم أن تصح الصلة بصاحب العزة والجبروت، والإنباء عباد الله قبل أن يكونوا مرسلين وبعد أن كانوا مرسلين، وهم اشرف من أن يدعوا مشاركة الخالق في طاعة المخلوق
ومشكلة الأدباء أيهون من مشكلة الصوفية، فنحن لا ندعوهم إلى الترفع على الأنبياء، وإنما ندعوهم إلى الترفع على الناس. ندعوهم إلى أن يعرفوا أنفسهم. ندعوهم إلى أن يعرفوا نعمة الله عليهم. ندعوهم إلى التنسك في سبيل المبادئ الروحية. ندعوهم إلى إنقاذ الأدب من مزالق الرياء
فلان الذي يكتب في المجلة الفلانية عن الدين والأخلاق لا يستبيح المرور بشارع فؤاد ولا عبور جسر قصر النيل، مخافة أن يقول الناس انهم راوغه يسير هنا أو هناك
فكيف تعبدون الله يا عبيد الناس، وهل يعبد الله من يخاف الناس؟
اطرحوا هذه البراقع. اطرحوها، اطرحوها، والله المسؤول عن أقواتكم، أن ضاعت بسبب الصدق، فبينكم وبين الله عهد وثيق، عهد يقضي بأن لا تكون العزة لغير الصادقين، والله لا ينقض الميثاق
في كل ميدان فرص ينفع فيها التمرين والتدريب، إلا الأدب، فهو موهبة ربانية لا تنال بجهاد الأنفس والاموال، ولا يظفر بها الملوك، إلا إن كانوا موهوبين
تستطيع الشعوب أن تجلس على عرش الملك من تشاء، ولكنها تعجز عن خلق الأديب، لأن الأديب من إبداع المبدع الوهاب، ومن كرم الله على الإنباء أن جعلهم فصحاء. وهل فات موسى أن يسال الله تأييده بلسان هارون؟
الأدب سلطنة لا يجوز عليها الذل
والكفر بالأدب كفر بحق الله في اصطفاء من يشاء
ثم ماذا؟
ثم يبقى القول بأن إيمان الأدباء بالله ضعيف ضعيف، فما زالوا يتوهمون أن لهم حوائج مع(493/10)
الخلائق، وهذا شرك لا يرضاه الله ولا نرضاه
أنا أعرف السر في انهيار دولة الأدب في جميع الأجيال، فقد كان الأدباء يجافون الله ويصافون الناس
فيا أيها المبدع الأول والأخير لأنوار القلوب وأضواء العقول، تفضل فاجذبنا اليك، حتى لا نرى روحاً سواك، ولا نشهد إلا اياك، ولا نستجير بغير حماك، ولا نعتمد إلا عليك فما يعتمد على الخلائق غير الأذلاء
الأدب خير ما أبدعت، فهو منك واليك، ولك الحمد وعليك الثناء.
زكي مبارك(493/11)
في الأدب المقارن
الندوات الأدبية الخاصة
في الغرب
للأستاذ صلاح الدين المنجد
عني مؤرخو آداب الأمم الغربية بتصوير المجالس الأدبية التي كانت تعقد في أوربا في القرون الخوالي. فقد لاحظوا أن أبهاء الأمراء والنبلاء، وانداء الفلاسفة والعلماء، ومجامع الشعراء والادباء، كان لها في أحايين كثيرة اثر بالغ في توجيه الأدب وجهة معينة، وإكسابه لوناً لا عهد له به من قبل، وتوشيته بصور طريفات فيها جمال وحياة
كانت وحدة الأذواق والميول، تدفع في الغالب إلى عقد هذه المجامع، وربما كان السبب في بعض الأحايين، نبل أميرة، أو ذكاء سيدة، أو عبقرية أديب، أو الطمع في غرض نبيل والسعي وراء غاية مثلى. وقد بدأت هذه المجامع تظهر منذ القرن السادس عشر؛ ففي إسبانيا أسس أول مجمع أدبي حوالي سنة (1530) وكان يرأسه (دلافيرجا وكان ينهج هو وصديقه نهج الشعراء الإيطاليين ويقلدون أثارهم تقليداً شديداً
وجعل فريق من المعجبين بالشاعر الإيطالي (بترارك) في فرنسة، مدرسة خاصة به في (ليون)، في منتصف القرن السادس عشر. وكان أفراد هذه المدرسة يتتبعون أثار ذلك الشاعر، ويسلكون نهجه، وينشرون مبادئه لأخلاقية، ويرون أن شعره احسن وارفع شعر ينبغي للشعراء أن يغترفوا من معينه دائماً
وفي هذه الحقبة، اعني في منتصف القرن السادس عشر، أسس في باريس مجمع سموه (بلياد (1550). وكان يرأسه (رونسار الشاعر، وفيه ستة آخرون، وقد كان هذا الاسم يطلق في القرون الخالية على بنات أطلس وبليون السبع اللواتي قتلن أنفسهن من الخيبة، ثم انقلبن إلى نجوم تسطع في السماء، كما تروي الأساطير. وقد اتخذ هذا الاسم سبعة من الشعراء اليونانيين لمجمع لهم؛ ثم أطلقه رونسار على مجمعه بعدهم. وكان رونسار وأصدقاؤه ينشرون الشعر الإيطالي وينقلونه إلى الفرنسية. وقد بينا هذا في مقالنا عن اثر الآداب الأجنبية في الأدب الفرنسي في هذه المجلة، فليرجع إليه(493/12)
وفي إنجلترا جمعت (الكونتس دوبمروك حولها فئة من الشعراء الذين كانوا يقلدون ماسي الشاعر الفرنسي (كهيبوليت و (اليهود وغيرهما، وكانوا يحاولون الوقوف دون انتشار الدرام الحرة التي قامت قبل شكسبير
وفي سنة (1770) قام فريق من الأدباء في غوتنجن فأسسوا مجمعاً سموه (مجمع الاتحاد وكان هدفهم تمجيد (فولتير الشاعر الفرنسي و (ويلند الشاعر الألماني، الذي أطلقوا عليه اسم (فولتير ألمانية) وكانوا معجبين أيضاً بالشعراء الإنجليز
وفي الوقت نفسه أسس في ألمانية المجمع المسمى: وكان يمجد (اوسيان) و (شكسبير) الإنجليزي، وروسو الفرنسي
وفي أواخر القرن الثامن عشر، كانت المدرسة الابتداعية الألمانية التي كان يرأسها (شلجل تتعطش لآثار شكسبير و (سيرفانتس الإسباني، وأدباء الماسي في إسبانية والبرتغال
وقامت في السويد، في أوائل القرن التاسع عشر، جمعية العصبة السويدية المسماة لتنقل إلى شعرها محاسن الشعر الابتداعي الألماني والإنجليزي.
أما في فرنسة، فقد قامت في القرن التاسع عشر عدة ندوات أدبية؛ فقد كان (ستاندال) الروائي، و (آمبير الأديب المؤرخ، و (جاكومونت الرحالة، و (ميريمه الكاتب الروائي، يجتمعون في دار (دليكلوز المصور الشهير والنقاد اللاذع، ليقروا أثار اوسيان الايقوسي، وروائع شكسبير، ويمجدوا آياتهما
وكان هناك عصبة هوغو المسماة (سيناكل ومعنى هذا الاسم، صومعات صغار أدبية. وكان يطلق في الزمن الغابر على الغرفة التي كان المسيح عليه السلام يجمع فيها تلاميذه ثم أصبحت تطلق على كل اجتماع، وخصت أخيراً بمجمع هوغو في فرنسة. وكان من أفراد هذا المجمع (دفيني الشاعر المتشائم، و (نودييه القصصي، وديشامب الروائي، ودموسيه صاحب الليالي، وغيرهم. وكانوا مأخوذين بروائع شكسبير و (بيرون و (سكوت يتتبعون أثارهم ويستوحونها في كثير من الأحايين
وقد نجد في بعض الأحايين مجامع أدبية كانت تقوم حول مجلة أفرادها هم مؤسسوها والمحررون فيها. كالمجمع الذي قام حول مجلة وفي فرنسة، ومجلة (? في إسبانية، ومجلة في السويد، ومجلة (? في ألمانية، ومجلة في إيطالية.(493/13)
والى جانب هذه المجامع، كانت تقوم أبهاء الأدب وصالوناته. وقد كان لها اثر في نمو الأدب ونهضته وبعثه. واقدم بهو هو بهو اوتيل درامبويه (? وكان لصالونات باريس في القرن الثامن عشر أثر وصدى بعيد، وساعدت على انتشار ألوان طريفة من الآداب الأجنبية. كصالون مدام ديفاند، والآنسة دلسبيناس. . . وكان رجال هذه الأبهاء متأثرين بالأدب الإنجليزي. وفي ستوكهولم كانت سيدتان مركزين للأدب فتحا قصريهما لاهله، وهما: السيدة نوردينفلخت والسيدة لينوجرن ووفي لوندرة قام صالون الدوقة دمازاران في القرن السابع عشر، وصالون اللادي هولاند في القرن الثالث عشر. وكانت هذه الأبهاء وسيطة لنقل الأدب الأجنبي إلى إنجلترا، ومن إنجلترا إلى فرنسة.
وفي القرن التاسع عشر نجد في فرنسة صالون (مدام موهل و (مس ماري كلارك). على أن اعظم هذه الصالونات أثرا، صالون (مدام دستال) في قصر (كوبه) الذي فتح أبوابه من سنة 1795 إلى سنة 1811. وكان مهبطاً للعلماء ومزاراً للأدباء
وتبيان اثر هذه المجامع والأبهاء في نشر الآداب وإحيائها، بصورة أكثر تفصيلاً يحتاج إلى صفحات مطولات. غير أن من المقرر أنها كانت وسيلة إحياء وتلقيح وازدهار، وأنها كانت سبباً في تقدم ونمو وانتشار
هذه لمح عن مجامع الأدب الخاصة في الغرب، ذكرت ما كان له منها شان واثر كبير. وهناك مجامع وأبهاء اقل شأناً أغفلتها. وليت أدباءنا يعنون بنشر ما يعرفونه عن المجامع الأدبية الخاصة في مصر والشام والعراق، في العصر الحالي أو العصر الحاضر، في هذه المجلة. فإن في ذلك طرافة ومتعة وتسجيلاً لصفحة من صفحات تاريخ أدبنا الذي نكتبه اليوم.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(493/14)
الشعب الحبشي
للدكتور فؤاد حسنين
إذا تحدثت لقراء الرسالة عن الحبشة فإنما أتحدث عن بلاد تربطها بالشعوب العربية روابط عديدة اذكر منها على سبيل المثال إلى جانب الجنس واللغة، الدين والجوار. الشعب الحبشي في مجموعه سامي حامي، ولفظ حبشة إن دل على شيء، فإنما يدل على تلك القبائل التي استوطنت بلاد العرب الجنوبية ولعبت دوراً هاماً في التاريخ المعيني السبائي. والتاريخ يحدثنا أن هذه القبائل، اعني قبائل حبشة، هاجرت من بلاد العرب الجنوبية حوالي القرن العاشر قبل الميلاد واستوطنت الجزء الشمالي من بلاد الحبشة فأطلق على ذلك الجزء اسمها. ومن ثم عمم العرب هذه التسمية فأطلقوها على هذه البلاد الواقعة بين خطي عرض 4 و15 شمال خط الاستواء. فسكان البلاد الذين أطلق اسمهم على تلك البلاد عرب وعرب خلص نزحوا من بلاد معين وسبأ في عصر كان يطلق فيه بحق على بلاد اليمن بلاد العرب السعيدة حيث المدنية زاهرة والحضارة زاخرة. نزحت تلك القبائل إلى القارة السوداء فحملت معها كثيراً من معالم الحضارة العربية الجنوبية من دين وكتابة وعلم وأدب، فغزت العقول كما غزت البلاد، وأقامت هناك الدعائم الأولى للحضارة الأثيوبية وأزالت العقبات التي كانت تعترض تقدم العقل الإفريقي ومهدت للديانات السامية السماوية كاليهودية والمسيحية والإسلام بفتح تلك البلاد وتثبيت إقدامها. نزلت قبائل الحبشة ذلك الصقع الإفريقي فوجدت فيه عنصراً إفريقياً وأخر حامياً انفصل عن أرومته السامية الأصلية فامتزجت بهما وتكون من هذا المزيج الشعب الحبشي الحالي، فهو إذاً شعب مركب من عنصر إفريقي قديم، وأخر حامي أو كوشي، وثالث سامي. فنحن نرى من هذا أن سكان البلاد ينتمون إلى جنس هو جنسنا، ولسانهم، قديمه وحديثه، ينتمي إلى الأسرة السامية الحامية التي تضم كثيراً من اللغات كالعربية والمصرية القديمة. وقد عرضت لإثبات هذه العلاقة بين الأحباش والساميين أسطورة حبشية قديمة تتصل عناصرها بقصة من قصص الكتاب المقدس والقران الكريم اعني قصة ملكة سبأ وسليمان. فالأسطورة الحبشية ككثير من الأساطير تتحدث عن تنين عظيم كان يحكم البلاد قروناً عديدة وكان على جانب عظيم من البشاعة والشراهة إذ كان يفترس يومياً ما لا يقل عن عشرة بقرات(493/15)
ومثلها من الثيران وألف رأس من المعز ومائة من الضان وكثيراً من طيور السماء إلى جانب ما يقدم له من العذارى، فضاق السكان به ذرعاً فلجئوا إلى شخص اشتهر بالقوة يسمى (انجابو) وفاوضوه في أن يقتل التنين ويتولى هو الملك عليهم، فقبل (انجابو) وقتل التنين وتولى الملك وانجب ابنة تسمى (ماكدا) وهي التي تعرف في التاريخ باسم ملكة سبأ ودخلت ملكة سبأ في حرم سليمان، وفي طريقها إلى بلادها وضعت غلاماً أسمته (ابن حكيم) أو ابن سليمان، وهو المعروف في التاريخ الحبشي باسم (منليك الأول) مؤسس الأسرة السليمانية التي جلست على عرش الحبشة من (950 ق. م إلى 1855 م.). فمن هذه الأسطورة تعرف العلاقة بين الفرعين الساميين من ناحية، ونفهم الحكمة في أن نجاشي الحبشة يعتبر نفسه أسد سبط يهوذا الذي رمز إليه في العلم الحبشي بأسد متوج شاهراً بيمينه صولجان القوة والجبروت.
وكما أن بلاد الحبشة هي الملتقى لهذه العناصر السامية الحامية، فهي الأرض التي نجد من بين سكانها الوثنيين واليهوديين والمسيحيين والمسلمين. فالوثنيين يدينون بوثنية تحمل إلى جانب طابعها الأفريقي طابعاً أسيوياً يمنياً، فإلى اليوم ما زلنا نقرأ في الكتب الحبشية والآثار الأدبية كثيراً من الألفاظ الوثنية القديمة مثل (محرم) اله الحرب، و (عستر) اله السماء، و (مدر) اله الأرض، و (بحر) اله البحر. والى اليوم أيضاً ما زال أصحاب هذه الديانة يلعبون دوراً هاماً في التنافس القائم بين المسيحية والاسلام، فمن بين العشرة ملايين نسمة التي يتكون منها الشعب الحبشي نجد نحو ثلاثة ملايين يدينون بالمسيحية التي ادخلها المبشرون البلاد في القرن الرابع الميلادي، وأصبحت دين الأسرة الحاكمة الرسمي عام 350 م عندما اعتنقها الملك (عزانا). أما البقية الباقية من السكان فكثرتها تدين بالإسلام ولا يقل معتنقوه عن خمسة ملايين نسمة. ومن الجدير بالذكر هنا أن قبائل كثيرة مسيحية ووثنية أخذت تسارع إلى الدخول في الإسلام في السنوات الأخيرة حتى أزعج ذلك كثيراً من الدول الأوربية فسارعت إلى مكافحته والوقوف في وجهه. وهذا التنافس بين الإسلام والمسيحية ليس حديث عهد في الحبشة. فالتاريخ الحبشي نفسه يحدثنا أن تاريخ المسيحية هناك عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح لتثبيت قدمها ومقاومة انتشار الإسلام. ولعل أهم عصر يتجلى لنا فيه هذا الصراع الديني هو الزمن الممتد ما بين عامي 1541(493/16)
و1543؛ ففي ذلك الوقت ظهر قائد حبشي مسلم يسمى أحمد بن إبراهيم، اشتهر ببسالته ومهارته الحربية، فبعد أن كان جندياً بسيطاً اصبح أميراً على هرر. وفي عام 1527 هاجم بقية الولايات الحبشية واستولى عليها وأخضعها لسلطان المسلمين، وهرب الملك المسيحي (لبنا دنجل) واعتصم بالجبال، ولولا أنه استعان بالبرتغاليين الذين خفوا لمساعدته ما استطاعت المسيحية أن تعود ثانية إلى الحبشة. لكن هذا النفوذ الأوربي الذي استعانت به المسيحية في ذلك العصر عاد على الحبشة بأوخم العواقب؛ فمنذ النصف الثاني من القرن السادس عشر أخذت تعنى بعض الدول الأوربية بالحبشة وظهرت في عالم السياسة المسالة الحبشية التي كانت سبباً قوياً من أسباب انقسام أوربا إلى معسكرين عظيمين لن يحل السلام بلادهما إلا بعد أن تتقوض انظمة، ويعم الخراب، ويكثر الدمار. وبيان ذلك الاهتمام بالمسالة الحبشية أن أوربا منذ ذلك الحين أخذت تبعث الجمعيات التبشيرية إلى جانب بعض الرحالة والعلماء. وفي القرن السابع عشر اخذ المستشرقون الألمان يعنون بتاريخ الحبشة ولغتها. وفي القرن الثامن عشر نجد الرحالة والمستشرق الإنجليزي (بروس) يدخل الحبشة عن طريق مصر مكتشفاً منابع النيل. وفي عام 1855 نجد أحد قطاع الطريق من الأحباش الذي كان راهباً هرب من الدير يشن الغارات على سائر الأمراء وينتزع السلطان من أيديهم ويكلف (أبونا) أن يتوجه (نجوس نجست ذَ إيتيوبيا) أي ملك ملوك إيتيوبيا وتسمى باسم (تيودور الثاني) واخذ يقوم بإصلاحات داخلية كبيرة، فألغى الرق وحرم تعدد الزوجات وضم إليه إقليم (شوا) واصبح ذلك الملك الذي كان في صباه فقيراً مشرداً والذي كان يسمى (كسا) والذي كانت أمه تبيع في أسواق (جندار) غنياً قوياً وحد الحبشة واخذ يخلق من شعبه أمة قوية مهيبة الجانب، فاصطدم ببعض الأجانب المقيمين في بلاده، فأرسلت إنجلترا عام 1867 اللورد (نابيير) على رأس حملة تأديبية للحبشة استولت بدون كبير عناء على حصن (مجدلا)، ولما أيقن الملك بالهزيمة انتحر، فكان موته سبباً في تفكك الوحدة الحبشية أيام خلفه الملك (يوحنا الرابع) الذي توجه الإنجليز عام 1872. وفي أيامه قام ابن والي إقليم (شوا) وطالب بإعادة إقليمه إليه فمنحه واصبح ملكاً عليه وتسمى باسم (منليك)، ومن حسن حظه أن يوحنا قتل في حربه مع الدراويش عام 1889 فأعلن (منليك) نفسه ملك ملوك واخذ يعمل جهده لجمع صفوف أفراد شعبه فهاجمته إيطاليا فهزمها شر(493/17)
هزيمة في موقعة عدوة عام 1896. وقد كان منليك هذا محبوباً من شعبه، حتى أنه يقسم به إلى اليوم، كما تم في أيامه الخط الحديدي من جيبوتي إلى اديس ابابا. وفي عام 1908 مرض مرضاً أقعده عن القيام بمهام الحكم، فتنازل عن الملك لامرأته (تيتو) وتوفي هو في 12 ديسمبر عام 1913، وتولى الملك بعد وفاته حفيدة (ليدو يسوع) وكان يميل إلى الإسلام فلما ظهرت ميوله إلى الإسلام والمسلمين اجتمعت عليه عوامل مختلفة خارجية وداخلية وخلعته وزجت به في السجن عام 1917، وتولت بعده الأميرة (زوديتو) ابنة (منليك) والى جانبها الرأس (تفاري) ابن عم (ليدو يسوع) حاكما على البلاد، وبقيت السلطة في يد (زوديتو) حتى 7 أكتوبر 1928 إذ نودي بالراس (تفاري) ملكاً فقط. وبعد وفاة القيصرة عام 1930 اصبح ملك ملوك في 2 نوفمبر 1930 ولقب بلقب (هيلا سلاسي) أي قوة الثالوث. وما كاد يجمع عزيمته للعمل على رفع مستوى شعبه علمياً وأدبياً وعسكرياً حتى انقضت عليه إيطاليا الفاشستية واغتصبت منه عرشه. لكن هذا النصر الإيطالي لم يكن في الحقيقة إلا انتصار الحديد ووسائل القتال الحديثة التي لم تكن متوفرة عند الحبش على الشجاعة والبطولة والإيمان بالقول المأثور (النصر مكتوب لأسد سبط يهوذا) الذي تحقق أخيراً بفضل تعاون الأسدين اليهوذي والسكسوني.
فؤاد حسنين
مدرس بكلية الآداب - جامعة فؤاد الأول(493/18)
أطوار الوحدة العربية
عوامل ثورة العرب
للأستاذ نسيب سعيد
أظنك لا تزال تذكر أني وعدتك في حديثي الماضي أن افصل لك ما أجملت من الأسباب المباشرة لثورة العرب الكبرى. وقد رددت هذه الأسباب إلى عوامل أربعة، وهي: العامل الشخصي، والإقليمي، والديني، والقومي. وهاأنا الآن - برا بالوعد الذي قطعته على نفسي - اشرع بالإسهاب والتفصيل فأقول:
1 - العامل الشخصي
يذهب الباحثون إلى القول أن في مقدمة العوامل المباشرة للثورة العربية اعتقاد زعيمها (الحسين بن علي) بأن رجال الدولة العثمانية قد انتزعوا كل ثقة منه ومن انجاله، وانهم يتحينون الفرص للقبض عليه وإقصائه ونفيه إلى أقاصي البلاد. ولا يخفى عليك أن الغاية الأساسية للترك من إرسال وهيب باشا القائد التركي العام إلى الحجاز وتزويده بما زود به من سلطة واسعة، هو لأجل القضاء على كل ما (للحسين) من نفوذ وشوكة في البلاد العربية. ويعترف جمال السفاح في مذكراته أن وهيب باشا هذا طلب من الحكومة إرسال فرقة من الجند لتنفيذ مشروعه، ولولا مفاجأة الحرب العظمى - وقد جاءت على حين غرة - لنفذ ذلك المشروع الظالم، ولقضوا على (الحسين) قضاء أبدياً، بل لقضوا على كل حركة أو نهضة قومية في بلاد العرب
ويضاف إلى ذلك ما يردده البعض من المؤرخين وهو أنه كان (للحسين) عيون في ديوان حكومة مكة، وفي مكتب برقها، وفي الباب العالي أيضاً يوافونه بكل ما يدور بشأنه من مكاتبات بين الأستانة ومكة، ويطلعونه على جميع الخطط والتدابير. وما كان باستطاعة الاتحاديين الترك معرفة شيء من إسراره وخططه لأنه كان حذراً، شديد التكتم؛ وقد ظل يجاملهم ويلاطفهم، حتى اضطرهم إلى استبدال وهيب باشا بغالب باشا في أوائل زمن الحرب الماضية، فارتاح من خصم شديد المراس، وخلا له الجو في العاصمة العربية فتصرف كما أراد وتسنى له أن يستأثر بمقادير كبيرة من السلاح في خلال سنتي الحرب(493/19)
الأوليتين، كما استطاع الحصول على مبلغ كبير من المال لا يقل عن 60 ألف ليرة عثمانية ذهب من جمال السفاح. ولعل خوفه من الانتقام هو الذي جعله يشترط على الترك في خلال المفاوضات التي دارت بينه وبينهم جعل الأمارة العربية وراثة في أنجاله لأنه كان يخشى إقصاءه في أول فرصة تسنح، فأراد لذلك أن ينال من الدولة العثمانية عهداً باستبقاء الأمارة في بيته وذريته فيطمئن ويرتاح، فأبى عليه رجال الترك ذلك
2 - العامل الإقليمي
ويأتي العامل الإقليمي أو الاقتصادي بعد العامل الشخصي، ويجب أن يحسب حسابه أيضاً؛ وقد نشأ عن مركز الحجاز الاقتصادي وعن حالته الاستثنائية. فالحجاز قطر مجدب أو واد غير ذي زرع كما وصفه التنزيل العزيز. وقد اعتاد سكانه أن يعيشوا مما يدره عليهم موسم الحجيج. ولا يخفى أن الحرب العظمى أعلنت في شهر رمضان عام 1332 أي قبل موسم الحجيج بثلاثة اشهر تقريباً، فضرب الحصار البحري على سواحل الحجاز في البحر الأحمر فتعطل بذلك موسم الحج، وشعر سكان الحجاز بالضائقة الاقتصادية الخانقة، وشعروا كذلك بألم الجوع، فكاتب الشريف (حسين) الحكومة وبسط لها الموقف الاقتصادي في القطر المقدس بسبب تعطيل موسم الحجيج فاعتذرت بسوء الحالة، وبحاجة الجيش إلى القوت، ولم ترسل شيئاً يهون على العرب هناك أمرهم وما هم فيه من ضنك وضيق فجاءوا الحسين يتوسلون إليه أن يعمل لإنقاذهم، والوسيلة الوحيدة للخلاص من تلك الضائقة المستحكمة الحلقات كانت بمحالفة البريطانيين، والاتفاق معهم على إلغاء الحصار البحري فتعود السفن والبواخر إلى زيارة الحجاج حاملة الميرة والحجاج والأموال والخيرات
3 - العامل القومي
وخلاصة ما يقال فيه أن الحسين، وقد كان العرب ينظرون إليه كأكبر زعيم عربي في ذلك العهد كبر عليه أن تساق الحرائر من أبناء أمته إلى الأناضول سبايا تحت ستار النفي والإبعاد، وإن يقتل كبار قومه، ويقبلوا ويمحوا من الأرض ويشتت شملهم لا لذنب جنوه ولا لاثم اقترفوه، وإنما لأنهم طالبوا الدولة العثمانية بإصلاح بلادهم العربية خوفاً من أن يؤدي الإهمال فيها إلى تدخل الدول الأجنبية في شؤونها باسم الإصلاح - كما جره من قبل(493/20)
في البلقان - ولذلك لم يجد الأمير العربي بداً حينما وقعت الواقعة، واصم الترك آذانهم، من إجابة ملتمسة بالعفو عن زعماء العرب وأحرارهم من إعلان الثورة الكبرى انتقاماً لهم من الترك، وطلباً للثار، ولإنقاذ بقايا السيوف من أبناء العروبة الأحرار، وقد كانوا مهددين بالفناء والموت المحتم.
وهنالك شبه إجماع بين الباحثين في القضية العربية على أن إسراع (الحسين) في إعلان ثورة العرب بعد الفتك بالرعيل الأول والثاني من الشهداء الأبرار، ونفي الأسر الكبيرة العربية إلى أقاصي الأناضول، حمل الترك على تغيير سياستهم وأساليبهم كما اضطرهم إلى استقدام جمال باشا وتنحيته عن العمل في بلاد الشام، فعاد إلى عاصمة الترك يجر أذيال الخيبة والانكسار بعدما فشلت مساعيه، وخابت أماله في إنشاء عرش له في دمشق يتبواه ويورثه لأبنائه من بعده وعلى الباغي تدور الدوائر
هذا من ناحية واحدة، أما من الناحية الأُخرى فقد كان الاعتقاد سائداً بين العقلاء أن النصر في ختام الحرب سيكون للإنكليز وحلفائهم، فتدور الدائرة على الألمان وأنصارهم ومنهم الترك فتنقرض الدولة العثمانية، ويموت الرجل المريض، ويستولي بالتالي - الحلفاء على أراضي تلك الإمبراطورية الواسعة، وبلاد العرب من جملتها، وهكذا يقع العرب في أيدي الدول الغربية الكبرى؛ ولذلك كان لابد للحسين بصفته زعيم العرب الأكبر يومئذ من الاتصال بخصوم الترك والألمان، وعقد المواثيق معهم لإنقاذ دنيا العرب من أيدي الظلم والاستعباد، وإنشاء الدولة العربية الكبرى الموحدة، فتحل في الشرق مكان الدولة العثمانية المنقرضة، وتجدد مجد العرب الخالد، تبعث عزهم الطريف التالد، وتحيي دولتهم العظيمة
4 - العامل الديني
وأخيراً يجب إلا ننسى العامل الديني أيضاً، فقد كان الحسين، وهو صلب في دينه، شديد التمسك بأحكام الشريعة السمحاء، مغرقاً في المحافظة على التقاليد الإسلامية الحنيفة، يعتقد بكفر الاتحاديين الترك وخروجهم على الإسلام لإعمال بسطها بسطاً وافياً في المنشور الذي أذاعه على العالم الإسلامي يوم إعلان ثورة العرب، وقد تنتهي من هذه المقدمة السلبية إلى نتيجة إيجابية وهي فرض قتالهم على كل مسلم، والجهاد فيهم إنقاذاً للامة من شرورهم. وقد قام بهذا الواجب حين أعلن الثورة عليهم وقاتلهم قتالاً رهيباً. . .(493/21)
تلك هي خلاصة العوامل التي عجلت في إعلان ثورة العرب الكبرى، ودفعت أميرهم (الحسين) إلى الصراع مع الترك وأنصارهم، والانضمام إلى البريطانيين وحلفائهم.
والباحث المدقق في هذه الثورة التي نشبت في الحجاز أولاً ثم امتدت إلى بلاد الشام وغيرها من أقطار العروبة يجد أنها تمتاز عن الثورات والحركات العربية القومية الأخرى، بكونها أول حركة استقلالية قام بها العرب مطالبين بالحرية والاستقلال، والانفصال عن الترك والإفلات من نير الدولة العثمانية الجائر لتأسيس ملك عربي مجيد، وتقلدوا السلاح لأجل ذلك. كما أنها كانت اعم ثوراتهم وأوسعها نطاقاً فقد اشترك فيها أبناء الحجاز، ومصر والشام والعراق واليمن ونجد والشمال الأفريقي فوقفوا جنباً إلى جنب يقاتلون الترك تحت راية العروبة الخفاقة، فأنقذوا الحجاز وحرروه من كل نفوذ أجنبي، ثم واصلوا السير نحو الشام فاستولوا على جنوب القطر الشامي ثم اخترقوه وبلغوا أقصى حدوده الشمالية، ولو ساعدتهم الظروف لواصلوا التقدم إلى العراق، ولاستولوا عليه أيضاً. على أن ما فاتهم في عام 1918 أدركوه في سنة 1920 فقد انشئوا حينئذ حكومة عربية برئاسة أحد أبناء (الحسين) في تلك الربوع
فهذا الطابع الخاص الذي طبعت به ثورة (الحسين) جعل لها مقاماً ممتازاً في نفوس العرب على اختلاف أقطارهم، وتباعد ديارهم، وجعلهم يكبرون شانها، ويحتفلون بذكراها، يضاف إلى ذلك أنها أنقذت الكثيرين من رجال سوريا والعراق من موت محتم أو من شقاء دائم، فقد كانت الخطة التي سار عليها الاتحاديون الترك في ذلك العهد المظلم تقضي بنفي الأسر العربية الكبرى إلى أقاصي الأناضول لتتريكها وإفنائها، واحتلال الأرمن محلها فيصبح الناس في الشام بلا سراة، كما أنها اضطرت الترك لإطلاق سراح كثيرين من الذين كانوا معتقلين في غياهب السجون، وكانوا ينتظرون صدور الأمر بإعدامهم من آن لآخر شان إخوانهم الشهداء الذين سبقوهم.
وسيقدر العرب الأبرار - كلما طال بهم الزمن وامتد - ثورة أجدادهم هذه حق قدرها ويكبرونها ويجلونها ويدركون أنها من أنبل الثورات وأشرفها، وإن الدعايات التي بثها الترك والألمان ضدها في أبان الحرب الماضية لتشويه سمعتها، ما كانت سوى أضاليل اقتضتها مصلحتهم السياسية؛ ورغم النقائص التي اقترنت بها أسدت للعرب يداً كبرى،(493/22)
وفتحت لهم باب الحياة القومية، وعلمتهم كيف يثورون على الظلم والاستبداد، ويقاتلون الظلام والمستبدين، وكيف يطلبون الثار والانتقام لأحرارهم وزعمائهم ومفكريهم الذين غدر بهم الترك، وسقوهم كاس الردى لأنهم نشروا (الفكرة القومية) المقدسة ودعوا إليها. أما كيف أعلنت الثورة، وأين كانت ميادين الصراع، فهذا سيكون موضوع حديثنا المقبل، فإلى اللقاء.
(دمشق)
نسيب سعيد المحامي(493/23)
4 - خزانة الرؤوس
في دار الخلافة العباسية ببغداد
للأستاذ ميخائيل عواد
(ج) رأس بن الحسن بن حمدان، رؤوس جماعة من أصحابه
ذكر مسكويه في حوادث سنة 304هـ أنه (قبض على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وجميع اخوته وحبسوا في دار السلطان. وكان هرب ابن الحسين بن حمدان في جماعة من أصحابه وبلغت هزيمته أمد، فأوقع بهم الجزري وقتل ابن الحسين وجماعة من أصحابه وحملت رؤوسهم إلى الحضرة)
(د) رأس ليلى بن النعمان الديلمي
كان من ماجريات سنة 309هـ، أنه (دخل رسول صاحب خراسان براس ليلى بن النعمان الديلمي الذي خرج بطبرستان
(هـ) رأس أحمد بن علي
ارتكب أحمد بن علي وهو من أمراء الأعاجم من الظلم والشر أمراً عظيما، وذاع خبر شره؛ فخافه الناس. ولكن أمد الظلم قصير، (فلما كان في ذي الحجة من سنة 311هـ، ورد الخبر على ابن الفرات بإيقاع ابن أبي الساج بأحمد بن علي أخي صعلوك، وقتله إياه، وأنه اخذ رأسه وهو على حمله إلى بغداد)
ثم قال مسكويه في أحداث سنة 312هـ، إن (في هذه السنة ورد الكتاب بشرح الخبر في مصير ابن أبي الساج من أذربيجان إلى الري ومحاربته أحمد بن علي، وحمل رأس أحمد ابن علي وجثته إلى مدينة السلام)
(و) رأس لصيدلاوي
لم تخل خزانة الرؤوس حتى من رؤوس العيارين، والشطار وقطاع الطرق: فهذا المعروف بالصيدلاوي كان (يقطع الطريق فاحتال عليه بعض الولاة فدس إليه جماعة من الصعاليك اظهروا الانحياز اليه، فلما خالطوه؛ قبضوا عليه وحملوه أسيراً إلى الكوفة، فقتل وحمل رأسه إلى بغداد)(493/24)
(ز) رؤوس جماعة من الفرنج:
كان من أجل أنباء سنة 552هـ: الواقعة بين الإسلام وبين الفرنج. قال ابن الجوزي: (وكانت وقعة عظيمة بين محمود بن زنكي وبين الإفرنج، وفتح عسكر مصر غزة واستعادوها من الإفرنج، ووصل رسول محمود بتحف وهدايا ورؤوس الإفرنج وسلاحهم واتراسهم)
3 - نصب الرؤوس في جانبي بغداد
(ا) رأس رافع بن هرثمة:
من الأنباء التي حفلت بها سنة 284هـ: (قدوم رسول عمرو بن الليث الصغار براس رافع بن هرثمة في يوم الخميس لأربع خلون من المحرم على المعتضد، فأمر بنصبه في المجلس بالجانب الشرقي إلى الظهر، ثم تحويله إلى الجانب الغربي ونصبه هنالك إلى الليل، ثم رده إلى دار السلطان. وخلع على الرسول وقت وصوله إلى المعتضد بالرأس)
4 - نصب الرؤوس على جسور بغداد
(ا) رأس القرمطي، رؤوس جماعة من قواده وأصحابه:
والقرمطي هذا، هو الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، الذي اشتهر امره، وبالغ في الظلم والفساد، وهزم جيوش الخليفة غير مرة: وقد شرح أمره وأعماله جملة من المؤرخين، فإذا أردتها فارجع إلى سنة 291هـ وما قبلها تجد أخباره مفصلة. والذي يهمنا هاهنا رواية تعذيبه وقطع رأسه إذ كان قد حان قطافه. ودعنا نستل خبره من الطبري الذي قال في الوقعة بين القرمطي هذا وبين أصحاب الخليفة: (. . . ولما تقدمت (الكلام لمحمد بن سليمان الكاتب) في جمع الرؤوس، وجد رأس أبى الحمل، وراس أبي العذاب، وأبي البغل وقيل النعمان قد قتل؛ وقد تقدمت في طلبه واخذ رأسه وحمله مع الرؤوس إلى حضرة أمير المؤمنين أن شاء الله)
وهاهو ذا يحدثنا عن القرمطي وأصحابه يوم جيء بهم أسرى إلى بغداد لينالوا جزاء ظلمهم وعيشهم، ولا يبعد أنه رأى المشهد بعينه؛ فأمعن في الوصف وبالغ بذكر هذه الحقيقة.(493/25)
ودونك ما قاله: (. . . ولما كان يوم الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الأول أمر المكتفي القواد والغلمان بحضور الدكة التي أمر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها فحضروها؛ وحضر أحمد بن محمد الواثقي وهو يومئذ يلي الشرطة بمدينة السلام، ومحمد بن سليمان كاتب الجيش، الدكة فقعدا عليها. وحمل الأسرى الذين جاء بهم المكتفي معه من الرقة، والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة الذين جمعوا من الكوفة، وقوم من أهل بغداد كانوا على رأي القرامطة وقوم من الرفوغ من سائر البلدان من غير القرامطة، وكانوا قليلاً، فجيء بهم على جمال واحضروا الدكة ووقفوا على جمالهم، ووكل بكل رجل منهم عونان، فقيل انهم كانوا ثلاثمائة ونيفاً وعشرين وقيل ثلاثمائة وستين. وجيء بالقرمطي الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة ومعه ابن عمه المعروف بالمدثر على بغل في عمارية، وقد اسبل عليهما الغشاء ومعهما جماعة من الفرسان والرجالة، فصعد بهما إلى الدكة واقعدا، وقدم أربعة وثلاثون إنساناً من هؤلاء الأسارى؛ فقطعت أيديهم وأرجلهم، وضربت أعناقهم واحداً بعد واحد؛ كان يؤخذ الرجل فيبطح على وجهه فيتقطع يمنى يديه ويحلق بها إلى اسفل ليراها الناس؛ ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يسرى يديه، ثم يمنى رجليه، ويرمى بما قطع منه إلى اسفل، ثم يقعد فيمد رأسه فيضرب عنقه ويرمي برأسه وجثته إلى اسفل. فلما فرغ من قتل هؤلاء الأربعة والثلاثين نفساً، وكانوا من وجوه أصحاب القرمطي فيما ذكر وكابرائهم، قدم المدثر فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه. ثم قدم القرمطي فضرب مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى فغشى عليه ثم اخذ خشب فأضرمت فيها النار ووضع في خواصره وبطنه، فجعل يفتح عينيه ثم يغمضها؛ فلما خافوا أن يموت ضربت عنقه، ورفع رأسه على خشبة. وأقام الواثقي في جماعة من أصحابه في ذلك الموضع إلى وقت العشاء الآخرة، حتى ضرب أعناق باقي الأسرى الذين احضروا الدكة، ثم انصرف، فلما كان من غد هذا اليوم حملت رؤوس القتلى من المصلى إلى الجسر، وصلب بدن القرمطي في طرف الجسر الأعلى ببغداد)
(ب) رؤوس جماعة من الاباضية
من الأحداث التي وقعت في سنة 280هـ؛ في خلافة المعتضد، على ما نقله المسعودي أن(493/26)
(افتتح أحمد بن ثور عمان، وكان مسيره إليها من بلاد البحرين، فواقع الاباضية من الشراة وكانوا في نحو من مائتي ألف، وكان أمامهم الصلت بن ملك ببلاد يروى من ارض عمان، وكانت له عليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وحمل كثيراً من رؤوسهم إلى بغداد فنصبت بالجسر)
(يتبع)
ميخائيل عواد(493/27)
ليالي القاهرة
للدكتور إبراهيم ناجي
أليلايَ ما أبقى الهوى بيَ من رُشْد ... فرُدِّي على المشتاق مهجته ردِّي
أينسى تلاقينا وأنتِ حزينة ... ورأسك كابٍ من عَياء ومن سهد
أقول وقد وسدتُه راحتي كما ... توسد طفلٌ مُتْعَبٌ راحة المهد
تعالي إِلى صدر رحيب وساعد ... حبيب وركن في الهوى غير منهد
بنفسي هذا الشَّعر والْخُصَل التي ... تهاوتْ على نحر من العاج منقدِّ
ترامتْ كما شاءتْ وشاَء لها الهوى ... تميلُ على خدٍ وتصدفُ عن خَدِّ
وهذي الكرومُ الدانياتُ لقاطف ... بياضَ الأماني من عناقيدها الرُّبدِ
فيالكَ عندي من ظلامٍ مُحَبَّبٍ ... تَأَلَّقَ فيه الفرقُ كالزمن الرغد
ألا كلُّ حسنٍ في البرَّية خادمٌ ... لسلطانة العينين والْجِيد والقدِّ
وكل جمال في الوجود حياله ... به ذلة الشاكي ومرحمةُ العبدِ
وما راع قلبي منكِ إِلا فراشةٌ ... من الدمع حامتْ فوق عرشٍ من الوَجد
مجنحةٌ صيغتْ من النور والندى ... ترف على روض وتهفو إِلى وِرْد
بها مثلُ ما بي يا حبيبي وسيدي ... من الشجن القتَّال والظمأ المردى
لقد أقفرَ المحرابٌ من صلواته ... فليس به من عابد ساهر بعدي!
وقفنا وقد حان النوىَ أي موقف ... نحاول فيه الصبر والصبر لا يجدي
كأن طيوف الرعب والبيْن موشكٌ ... ومزدحِم الآلام والدمع في حشْدي
ومضطرب الأنفاس والضيقُ جاثمٌ ... ومشتبكُ النجوى ومعتنق الأيدي
مَواكبُ خرسٌ في جحيم مؤبَّد ... بغير رجاء في سلام ولا برْد!!
فيا أيكةً مَدَّ الهوىَ من ظلالها ... ربيعاً على قلبي، وفيْئاً من السَّعد
تقلَّصتِ إِلا طيفَ حب محيَّر ... على درَجٍ خابي الجوانب مسودِّ
تردَّد واسْتأْنَى لوعد ومَوْثق ... وأدبرَ مخنوقاً وقد غصَّ بالوعد
وأسلمني لليل والقبر باردا ... يَهُبُّ على وجهي به نفَس اللَّحد
وأسلمني لليل والوحش راقدا ... تمزقني أنيابه في الدجَى وحدي(493/28)
كأن على مصر ظلامين: أعكرٌ، ... وآخرُ من خافي المقادير مُرْبد
رُكودٌ، وَإبهْاَمٌ، وَصَمْتٌ، وَوَحْشَةٌ ... وَقَدْ ضَمَّهَا الْغَيْبُ الْمُحَجَّبُ في بُرْدَ
كأن سماء النيل لم تلقَ حادثا ... ولا قصفتْ فيها القواصفُ بالرعدَ
أحقا تولَّى ذلك الهولُ، وأمَّحتْ ... خواطرُ ذاك الويلِ والرعب والحقد
فيا لَلْقُلوُبِ الصابرات وقد غفتْ ... على نعمةِ الإيمانِ والشكرِ والحمدِّ
ويا للقلوب المؤمنات وأمنها ... وضجعتها في رحمة الصمد الفرد
أهذا الربيعُ الفخم والروضةُ التي ... تَزُفُّ إِلى المستاف رائحةَ الخلد
تصير إذا رانَ الظلامُ ولفها ... بجنحٍ من الأحلام والصمت ممتدِّ
مباءةَ خمار وحانوتَ بائع ... شقي الأماني يشتري الرزق بالسهد
وقد وقفَ المصباحُ وقفةَ حارسٍ ... رقيبٍ على الأسرار داعٍ إلى الجد
كأن تقيّاً غارقاً في عبادة ... يقوم الدجى أو يقطع الليل بالزهد
فيا عالَمِ الأسرار، في الحي نائم ... قضى يومَه في حومة البؤس يستجدي
وسادتُه الأحجارُ والمضجعُ الثرى ... ويفترشُ الإفريز في الحر والبرد
وسيارة تجري لأمر مغيَّب ... محجبةَ الأسرار خافَيةَ القصد
إلى الهدف المستور تنتهب الثرى ... وتلمعُ لمعَ البرق يومضُ عن بعُد
متى ينجلي هذا الدجى عن مسالك ... مرنَّقة بالجوع والصبر والكد
ينقِّبُ كلبٌ في الحطام، وربما ... رعى الليلِ هَرٌّ ساهر وغفا الْجُندي
أيا مصر ما فيك العشية سامرٌ ... ولا فيك من مُصْغٍ لشاعرك الفَرد
أهاجرتي طال النوى فارحمي الذي ... تركتِ بديدَ الشملِ منتثر العقدِ
فقدتُكِ فقدان الربيع وطيبه ... وعدتُ إلى الإعياء والسقم والسهد
وليس الذي ضَّيعتُ فيك بهيِّنٍ ... ولا أنتِ في الغُيَّابِ هينة الفقد
أتيتُك أستسقي فكيف تركتِني ... لهذي الفيافي الصُّمِّ والكثُب الْجُرد
أتيتك أستعدي فكيف تركتِني ... إلى هذه الدنيا وأحداثها اللدِّ
أتيتك أستهدي فكيف تركتِني ... لهذا الظلام المطبق الجَهم أستهدي
أتيتُكِ أستشفي فكيف تركتِني ... ولم يبق غير العظم والروح والجِلْد(493/29)
وهذي المنايا الحمر ترقصُ في دمي ... وهذي المنايا البيضُ تختالُ في فودي
وكنتُ إذا شاكيتُ خففتِ محمل ... فهان الذي ألقاه في العيش من جَهد
وكنتُ إذا انهار البناءُ رفعتهِ ... فلم تكنِ الأيامُ تقوىَ على هَدِّي
وكنتُ إذا ناديتُ لبَّيْتِ صرختي ... فوا حَربَا كم بيننا اليوم من سدِّ!
وقد كان لي العطف والحب مسلك ... فأغلقتِه دوني فبتُّ بلا رَدِّ!!
سلام على عينيك ماذا أجنتا ... من العطف والتحنان والحب والود
إذا كان في لحظيك سيف ومصرع ... فمنك الذي يحي ومنك الذي يردي
إذا جُرِّدا لم يفتكا عن تعمد ... وإن اغمدا فالفتك أروع في الغمد
هنيئاً لقلبي ما صنعتِ ومرحباً ... وأهلاً به لو كان فتكك عن عمد
فإنيِ إذا جن الظلام وعادني ... هواك فأبديتُ الذي لم اكن ابدي
وملتُ برأسي كابياً أو مواسيا ... وعندي من الأشجان والحب ما عندي
أقبِّلُ في قلبي مكاناًُ حَلّلْتهِ ... وجرحاً أناجيه على القرب والبعد
ويا دارَ من أهوى، عليك تحية ... على اكرم الذكرى، على اشرف العهد
على الأمسيات الساحرات ومجلس ... كريم الهوى عَف المآرب والقصد
تنادِمنا فيه تباريحُ شاعر ... على الدم والأشواك يمشي إلى الخلد
(فبودلير) محزونٌ و (فرلين) بائسٌ ... (وميسيه) مجروح الهوى عاثر الجد
(وللمتنبي) غضبة مضرية ... وثورةُ مظلومٍ وصيحة مستعدي
دموعٌ يذوب الصخر منها فإن مضوا ... فقد نقشوا الأسماء في الحجر الصلد
وماذا عليهم أن بكوا وتعذبوا ... فإن دموع البؤس من ثمن المجد
ناجي(493/30)
من أغاني الجسد
ليتني زورق. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ظَمِئْتُ إِلَى الله يَوماً. . . فَلَمْ ... أجِدْ خَمْرَتي غَيْرَ هذا الْجَسَد
عَلَى ثَغْرِهِ آيَةٌ أَفْلَتَتْ ... بأَسْرَارِهاَ مِنْ نَبِيِّ الأَبَدْ
عَلَى شَعْرِهِ عَاَلمٌ فَوْقَهُ ... وُعُودُ الُهَوَى مُبْهمَاتُ الأَمَدْ
عَلَى نَحْرِه هاَلَةٌ حَدَّثَتْ ... برُِؤيَا مَلاَكٍ عَلَيْهاَ سَجَدْ
وَفيِ جَفْنِهِ نَبَأٌ تاَئِهٌ ... لِغَيْرِ الْهَوَى فيِ دَميِ لَمْ يَردْ
وَفيِ هُدْبِهِ بَغْتَةٌ عَذْبَةٌ ... كأَنِّي بِهاَ ساَحِرٌ مُسْتَبِدْ
وَفيِ قَدِّهِ. . . جلَّ بَارِي الصِّبَا ... صَلاَةٌ مُقَيَّدَةٌ فيِ جَسَدْ
سَجَا نَهْرُهُ. . . لَيْتَنِي زَوْرَقٌ ... مَدَى الْعُمْر فيِ لُجِّهِِ يَرْتَعِدْ!
وَقاَلَ: الْهَوَى! قُلْتُ: هَاتِ الْهَوَى ... فَذَاتِي بِذَاتِكَ حُلْمٌ شَرَدْ
أَذِبْنيِ بِنارٍ تَعَبَّدْتُهاَ ... وَلَمْ يُلْهِني عَنْ لَظَاهَا أحَدْ
ظَمِئْتُ لَهاَ وَالدُّجَى مَارِدٌ ... يُفَرَقِّ مَا بَيْنَ كأسٍ وَيَدْ!
فَلَمْ تَسْقِنِي غَيْرَ هَذَا السِّرَابَ ... وَهَذاَ الْعَذَابَ، وَهَذَا الْكَمَدْ
فَعُدْتُ بِأيَّامِيَ اللاَّهِثَاتِ ... صَدَى آهَةٍ فيِ حَناَيا كَبِدْ
تَباَرَكْتَ يا رَبِّ! هذا الجَمَالُ ... طَرِيقٌ إليْكَ انْتَهى وَاتَّحَدْ. . .
محمود حسن إسماعيل(493/31)
البريد الأدبي
حقائق أدبية وذوقية
أخونا الزيات يخاف أن تصنع الصحافة بالكتاب ما صنعت السينما بالمسرح، وكان ذلك لأن السرعة السينمائية قضت على التؤدة المسرحية، وفي التؤدة والتروي فرص للتجويد والتجميل. وسرعة الصحافة قد تفسد الأقلام إفساداً لا تصلح بعده لإجادة التأليف، وبذلك ينقرض الكتاب، وهو المرجع الأصيل لتثقيف العقول
حول هذه القضية ثارت آخر معركة بيني وبين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في سنة 1937، وكان ميدانه مجلة الرسالة وميداني جريدة المصري، وهي معركة مشئومة فقد أنذرته بالموت فما قبل أن تنتهي أشواط الصيال.
ومع احترامي لأراء الرافعي والزيات في هذه القضية فأنا لا أخاف على الأدب من السرعة، ولا أراها من الجانيات على الإتقان، ما دامت أثراً من ثورة العقل، وفورة الطبع، وما دامت صورة من اصطخاب العواطف واضطرام الأحاسيس.
والحق أن الكاتب المجيد لا يفوته أبداً أن يدقق في الأسلوب ولو اشتهر بكثرة الإنتاج، والحق أيضاً أن البط ليس دائماً من الشواهد على أيثار التروي، فقد يكون من أثار البلادة الذهنية عند بعض الناس
وبأي حق يخرج الكاتب على روح العصر؟
العصر الحاضر عصر السرعة، فكيف نخرج عليه؟
وكيف نجهل فضل السرعة في تهذيب الأساليب من اوضار التكلف والافتعال؟
وهل عرفت مرونة التعبير إلا عند الأدباء الذين قهرتهم سرعة الصحافة على مواجهة القراء في كل يوم أو كل أسبوع؟
كان المازني جاحظي الأسلوب قبل أن يشتغل بالصحافة، ثم جرفته السرعة فصار المازني الذي نعرف، المازني الذي يكتب بلا تزين ولا تهويل، في حدود هي الغاية في البيان
وهل ينسى الزيات نفسه فضل الصحافة عليه؟
هل كان (وحي الرسالة) إلا دراسات فرضت عليه فرضاً بحكم السرعة التي يوجبها إصدار صحيفة أسبوعية؟ وهل كان من الممكن أن يجود ذهنه بذلك المحصول. لو ترك للظروف(493/32)
التي توحي القول حين تريد؟
السرعة أدل على الحيوية من البط، إلا أن يكون البطء صورة نفسية أصيلة تشبه البطء الطبيعة في تكوين الجنين
على أني أنكر أن تكون سرعة الكاتب المبدع من ضروب الارتجال، فنحن نسرع في التعبير لا في التفكير، لأن محصولنا الذهني وليد لتاملات قضينا في ترجيعها شهوراً أو سنين، فما نكتبه اليوم ليس ابن اليوم إلا من حيث التدوين
ثم انتقل إلى مناقشة الدكتور عزام فيما سماه (السوقية في الأدب) وهو ما يسميه الفرنسيون بجامع الصلة بين الاتجار بالبضائع والاتجار بالأدب
والرأي عندي أن قلوب الجماهير أسواق نشتري فيها ونبيع، ومن واجبنا أن نكسب تلك القلوب قبل أن يكسبها الدجالون
يجب أن تكون لنا غاية صريحة هي غزو القلوب بالأدب الصحيح، وهذا الغزو لا يتيسر إلا إن كان للأدب جاذبية روحية تدخل على القلوب بدون استئذان
الأدب الحق هو الذي يضرم في القلوب والعقول نار الشوق إلى معرفة الحقائق الأدبية والذوقية والعقلية، وهو الذي يفرض على الجماهير أن تقيم أخلاقها على قواعد من المنطق السليم، وهو الذي يجعل للحياة غايات روحية لا يفطن إليها غير من يسايرون أقطاب البيان
التجارة لا تعاب وإنما يعاب الربح عن طريق التزييف، فمن استطاع أن يكسب قلوب الجماهير عن طريق الصدق فهو الأديب الحصيف أو التاجر الشريف
قلوب الناس تضيع من ايدينا، لأننا لا نفكر في رياضتهم على أيثار الصدق، ولأننا نترفع عليهم فلا ندعوهم إلى الحق إلا بتعابير محملة بالكبرياء
متى يصبح الأدب قوتاً لا تطيب بدونه الحياة في أنظار جميع الأحياء؟
يكون ذلك يوم يصير الأدب افصح معبر عن سريرة الوجود.
زكي مبارك
خطأ رواية حديث(493/33)
زعم الأب انستاس ماري الكرملي في دفاعه أنه يتأثر احسن من نطق باللغة المصرية. . . الخ ثم قال:
(فقد قال: ارجعن مأجورات غير مازورات، مع ما في ماجورات من الغلط في نظر بعض حمقى اللغويين)
فيا أيها الأب انستاس ماري الكرملي عضو مجمع. . . الخ:
1 - الحديث الذي نقلته خطأ، فقد قلبت المعنى واللفظ رأساً على عقب. ولفظه كما لا يخفى على أحد هو هذا: (ارجعن مازورات غير ماجورات).
2 - ثم قلت: (مع ما في ماجورات من الغلط في نظر بعض حمقى اللغويين!!)
والعدول عن القياس - وحضرتك تسميه بالغلط - ليس في (ماجورات) كما زعمت إذ هي اسم مفعول من الاجر؛ ولكنه في (مازورات) لأنها من الوزر، فالقياس: (موزورات) فاقتضى الذوق والحرس الحسن العدول عن المقيس لاتباعها (ماجورات)
3 - (لو كسرت يراعتك المرضوضة، والقيت بها في التنور. وبقيت ساكتاً إلى أن يفيض التنور، لكان ذلك احسن لك! وأنصحك نصيحة لله: إلا تكتب كلمة قبل أن تتدبرها كل التدبر ثم تعرضها على أصدقائك، ثم تتاملها ثانية، وتعرضها على أعدائك، وحينئذ ابعث بها إلى أصحاب الجرائد والمجلات. وإلا فمثل هذه الخربشة والخربقة لا ترفع قدرك ولا تبقي لك أثراً طيبا!)
قلنا ولم يصدق الأب إلا في هذه الكلمة بشرط أن يوجهها إلى من يتخبط في سطر واحد هذه التخبطات الشائنة الشوهاء.
وله فائق احتراماتي.
(دمشق)
سعيد الأفغاني
البيتان لابن الفارض
تساءل الأديب محمد بشير عن صاحب هذين البيتين:
ليت شعري هل كفى ما قد جرى ... مذ جرى ما قد كفي من مقلتي(493/34)
قد برى اعظم حزن أعظمي ... وغنى جسمي حاشا اصغري
أهو ابن الفارض؛ لأن البيتين مذكوران في قصيدته البائية المشهورة التي أولها: (سائق الإظعان يطوي البيد طي)؟ أم هو المستشرق المعروف (بالمر) كما ذكر الأستاذ عبد الوهاب الأمين في الرسالة (486: 1004)؟
أقول: لاشك أن هذين البيتين من شعر ابن الفارض، وانهما من يائيته المعروفة. والدليل الذي لا يقبل الشك في ذلك هو انهما موجودان في نسخة الديوان التي حررت وصححت بقلم ابن بنت الشيخ عمر بن الفارض نقلاً عن الشيخ كمال الدين محمد ابن عمر بن الفارض. وعلى هذه النسخة كتب الشيخ حسن البوريني شرحاً طويلاً كثير الفوائد واثبت هذين البيتين وشرحهما. وقد فرغ من شرح القصيدة اليائية سنة 1010هـ (1601م). وكذلك أثبتهما الشيخ عبد الغني النابلسي في شرحه وكتب عليهما وقد فرغ النابلسي من شرحه لديوان ابن الفارض سنة 1123هـ - 1711م
فالبوريني شرح البيتين في ديوان ابن الفارض قبل مولد (بالمر) بنحو 339 سنة، والنابلسي شرحهما قبل أن يولد هذا المستشرق بنحو 129 سنة
برهان الدين الدغستاني
كلمة أخيرة في اختلاف القراءات
ما كنت أريد أن أعود إلى الكتابة في موضوع اختلاف القراءات بعد كلمة الأستاذ الفاضل عبد العليم عيسى، ولكني قرأت كلمة للأستاذ الفاضل محمود عرفة يحاول فيها أن يحرف رأيي تحريفاً آخر إلى مذهب القائلين أن القرآن نزل بمعانيه دون ألفاظه وحروفه، وهو مذهب لم يحيي إلا على السنة بعض ذوي المقاصد السيئة من المستشرقين، مع أنه هو الذي اعتنق مذهب أولئك المستشرقين في كلمته الاولى، إذ حمل كل ما لا يدخل من القراءات في باب اختلاف اللهجات على التصحيف، ولم يفرق في ذلك بين قراءات شاذة ومتواترة
ولست أدري كيف يحرف الأستاذ محمود عرفة رأيي هذا التحريف، مع أنه لا يراد منه إلا توجيه هذه القراءات توجيهاً تظهر به الحاجة إليها في عهد النبوة، ويقطع الطريق على من(493/35)
يزعم أنها حصلت بتحريف بعدها، وإني بعد هذا لست أخالف الأستاذ عرفة في أن القرآن كان يؤخذ من النبي صلى الله عليه وسلم بالتلقي، ولكن كثيراً ممن كان يتلقاه لم يكن يحفظه، فإذا قراه بعد التلقي في مخطوط حصل له الاشتباه الذي ذكرته وقلت أن تلك القراءات والنسيان؛ وهذا هو غرضي من رأيي واضح لدى كل منصف
عبد المتعال الصعيدي
حول كتاب ديكارت للأستاذ عثمان أمين
لاحظت في كتاب (ديكارت) للأستاذ عثمان أمين مدرس تاريخ الفلسفة بكلية الآداب في الفصل الرابع (ص140) المعنون (بالشك المنهجي) فقرات مأخذوة من كتاب (آراء غربية في مسائل شرقية) تعريب الأستاذ عمر فاخوري، من الفصل الذي عنوانه: (الغزالي وديكارت) للكاتب الفرنسي شارل سومان (ص83) دون أن يشير الأستاذ الفاضل إلى هذا الكتاب سواء في مجموعة المصادر التي ذكرها أو في الحواشي التي أوردها واليك نمطاً من الفقرات المتشابهة في الكتابين:
يقول الأستاذ عثمان أمين في الصفحة (140) من كتابه (ديكارت): اختار ديكارت كما فعل الغزالي من قبل، أقوى الأسلحة والحجج الجدلية التي جمعها الشكاك اليونان من عهد (سكستوس أمير بقوس) وسائر أنصار (بيرون) وادخروها في معاقل المذهب الارتيابي، هي الأسلحة التي لجا إليها (منتيني) صاحب (المقالات) المشهورة وبعده (شرون) في كتابه (الحكمة) (1603)
وفي الصفحة 89 من كتاب (آراء غربية في مسائل شرقية) نجد الكلمات التالية (فإن الغزالي وديكارت كليهما اختارا أقوى الأسلحة الجدلية التي جمعتها البرونية الأفريقية من عهد سكسيوس واونسيدام وادخرتها في ثكنات الشكوكية وهي الأسلحة التي ضرب بها مونتاني وقبله شارون في مؤلفه (الحكمة))
وهناك فقرة في الصفحة (141) من كتاب (ديكارت) تقول: (استبعد ديكارت شهادة لأنها تخدعنا أحياناً، ومن الفطنة إلا نأمن أمنا تاماً لمن خدعنا مرة)
وترجمة الأستاذ عمر فاخوري تقول (ص87) ما يلي: (قال ديكارت لما كانت حواسنا(493/36)
تخدعنا وتخوننا أحياناً أردت نفسي على الاعتقاد بأن لا شيء في حقيقته هو كما تخيله حواسنا، وقال أيضاً: لقد ثبت لي أكثر من مرة أن هذه الحوادث خادعة فمن الرشد إلا تأمن أمناً تاماً لمن خانك وخدعك مرة)
وقد اخذ الأستاذ عثمان أمين كذلك مقارنة بين فقرة من كتاب المنقذ من الضلال للغزالي، وفقرة من كتاب التاملات لديكارت وهما نفس الفقرتين اللتين أوردهما شارل سومان وترجمة الفقرة عن ديكارت هي نفس ترجمة الأستاذ فاخوري، وقد وقع الأستاذ عثمان أمين كل ذلك في حاشية (ص140) و (ص141). فلماذا اغفل الأستاذ اسم شارل سومان وعمر فاخوري من بين أسماء مراجعه؟
(بغداد)
صفاء خلوصي(493/37)
العدد 494 - بتاريخ: 21 - 12 - 1942(/)
4 - دفاع عن البلاغة
2 - حد البلاغة
قلنا إن البلاغة توجه إلى العقل أو إلى القلب أو أليهما معاً تبعاً لما تقتضيه حالات المخاطبين من مقاومة الجهل والرأي والهوى منفردة أو مجتمعة. فإذا كان غرض البليغ نفي جهالة أو توضيح فكرة أو تقرير رأي، جزاه في إصابة غرضه الصحة والوضوح والمناسبة. فإذا أراد التعليم أو الإقناع وكان قوام الموضوع طائفة من الفكر أو الأدلة وجب عليه أن ينسقها ويسلسلها على مقتضى الأصول المقررة في المنهج العلمي الحديث. أما إذا قصد إلى التأثير والإمتاع لا إلى التعليم والإقناع، كان سبيله أن يتأنق في اختيار لفظه، ويتفنن في تحرير أسلوبه، ويستعين على اجتذاب الأذهان واختلاب الآذان بإبداع الملكة والهام الروح وتشويق المخيلة وتزويق الفن
والبلوغ إلى قرارة النفوس أخص صفات البليغ في كل ما يكتب. فلو أن كاتباً وقع على طائفة من الحقائق، أو حصل على مجموعة من الوثائق، ثم حققها ونسقها وأداها في اجمل لفظ وأجود صياغة؛ ولكنه لم يبلغ بها كنه القلوب كان حرياً أن ينعت بما شاء من النعوت إلا البلاغة
والسر في ذلك أن ضروب المعرفة إنما تقوم على الملكات المحصلة، وتعتمد على العقل المجرد، وتثبت بالدليل القاطع. ولكن الإثبات ليس معناه الإقناع، فإن الإقناع لا يكون بغير السيطرة على النفس، والسيطرة على النفس لا تتم بغير البلاغة. هي وحدها التي تعد بالعقل في أدراك الحق، وبالشعور في أدراك الخير، وبالذوق في أدراك الجمال. وهي وحدها التي تنفذ إلى القلب بسلطان غير ملحوظ، وتؤثر في الذهن ببرهان غير ملفوظ، وتذهب في تصوير الواقع وتقرير الحق مذهب الوحي الإلهي الخالد
فالوظيفة الأولى للبلاغة هي الإقناع من طريق التأثير، والإمتاع من طريق التشويق، ولذلك كان اتجاهها إلى تحريك النفس اكثر، وعنايتها بتجويد الأسلوب اشد. وربما جعلوا سر البلاغة في جمال الصياغة
قال أبو هلال: (وليس الشأن في أيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة(494/1)
السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت. . . ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة والخطيب في الخطبة والشاعر في القصيدة، يبالغون في تجويدها، ويغلون في ترتيبها، ليدلوا على براعتهم. . . ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثر ذلك فربحوا كداً كثيراً)
والحق أن اظهر الدلالات في مفهوم البلاغة هي أناقة الديباجة ووثاقة السرد ونصاعة الإيجاز وبراعة الصنعة؛ فإذا كان مع كل ذلك المعنى البكر والشعور الصادق كان الأعجاز. وليس أدل على أن الشان الأول في البلاغة إنما هو لرونق اللفظ وبراعة التركيب، أن المعنى المبذول أو المرذول أو التافه قد يتسم بالجمال ويظفر بالخلود إذا جاد سبكه وحسن معرضه. ولا باس أن اقدم إليك مثلاً من آلاف الأمثلة بلغ معناه الغاية في السوقية والفحش، ومع ذلك تحب أن تسمعه وتحفظه وتعيده لأنه بلغ من سر الصناعة غاية تظلع دونها أكثر الأقلام
قال أبو العيناء الأعمى لابن ثوابة: بلغني ما خاطبت به أبا الصقر؛ وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم ير عرضاً فيمضغه، ولا مجداً فيهدمه
فقال له ابن ثوابة: ما أنت والكلام يا مكدي؟
فقال أبو العيناء: لا ينكر على ابن ثمانين سنة قد ذهب بصره، وجفاه سلطانه، أن يعول على إخوانه. . . ثم رماه بمعنى فاحش مكشوف. فقال له ابن ثوابة: (الساعة آمر أحد غلماني بك). فقال أبو العيناء: (أيهما؟ الذي إذا خلوت ركب، أم الذي إذا ركبت خلا؟)
فانظر في هذه الجملة الأخيرة تره رمي ابن ثوابة في نفسه وفي زوجه، وهما معنيان سوقين يترددان كل ساعة على السنة السبابين من أوشاب العامة، وانك مع ذلك تقف من هذه الجملة موقف المشدوه والمعجب، تحرك بها لسانك، وتعمل فيها فكرك، وتعرضها على مقاييس البلاغة وشروطها فتطول على كل قياس وتزيد على كل شرط. تأمل هذا الإيجاز البارع بحذف متعلقات الفعلين وفيها جوهر المعنى وإصابة الغرض، تجد سر البلاغة كله فيه؛ لأن هذا الحذف مع وضوح المعنى قد نزه الكلام عن صراحة الفحش، وصان المتكلم عن ذكر القبيح، فلو أنه قال خلوت بكذا وخلا بكذا، وركبت كذا وركب كذا، لانحط الكلام(494/2)
عن مقام البلاغة وصار بهذر العامة أشبه. وكان بحسب البليغ هذا الإيجاز المشرق، ولكنه ضم إليه من أنواع البديع (العكس) و (أسلوب الحكيم) فعكس الفعلين، واستعملهما في معنيين مختلفين، وكل ذلك في غير تكلف ولا تعسف ولا غموض.
فأنت ترى أن الصياغة وحدها هي التي سمت بهذه المعاني الخسيسة إلى أفق البلاغة فتداولتها الألسن وتناقلتها الكتب. وليس حال المعنى في ذلك حال اللفظ؛ فإن اللفظ في ذاته كالموسيقى يخلب الأُذن ويلذ الشعور وإن لم يترجم؛ أما المعنى فالكهرباء، إذا لم يكن لفظه جيد التوصيل انقطع تياره فلا يعرب ولا يطرب. أقرأ قول القائل:
لما أطعناكمُ في سخط خالقنا ... لاشك سلّ علينا سيف نقمته
ثم وازن معناه الشريف ونسجه السخيف، بما رويت لك من كلام أبي العيناء، فلا يسعك إلا أن تقول كما أقول: إن القذر يوضع في آنية الذهب فيقبل ويحمل؛ وإن المسك يوضع في نافجة الطين فيرفض ويهمل.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(494/3)
دار الهوى
في عيد القمر
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
هل تذكر أني وجهت إليك مقالاً من بغداد عن (القلب الغريب في ليلة عيد) منذ نحو أربع سنين؟ وهل تذكر أني تشوقت إلى دار تحب العيد وتحن إليه لأنها تراني مع العيد؟
ذلك مقال قبسته من نار قلبي، وأخذت مداده من دمي، وأرسلته تحية إلى دار عظمت ديونها على قلمي
وإنما وجهت إليك ذلك المقال لأثير في روحك التشوف إلى تعليل ما تعاني الأرواح من متاعب ليس لها في الظاهر سناد من مطالب المجد في هذا الوجود
فهل فكرت في تعليل هذا المعنى؟
وهل حاولت الدفاع عن الأعمار التي تضيع في تشريح نوازع الوجدان؟
أنا أطالبك بالرجوع إلى الوجدانيات، بجانب ما أقبلت عليه من الاجتماعيات، فقد كاد الأدب يخلو من الحديث عن أوطار الأرواح والقلوب ولا قيمة للأدب إن اغفل الحديث عن أوطار الأرواح والقلوب
واليك القصة آلاتية:
في حفلة من حفلات إحدى الطوائف المسيحية تسابق الحاضرون لتقبيل يد البطريرك، فرايته ينهض بقوة ليعانق من يسارعون إلى التسليم عليه، مع أنه فيما سمعت قد جاوز التسعين
وعندئذ غلبني الفكر الفلسفي فقلت لجاري في المحفل: إن راحة رجال الدين من هموم الحياة تمنحهم طول الصحة والعافية
فقال جاري بتحمس: كيف ترى ذلك وغبطة البطريرك يحمل هموم الطائفة كلها، ويعني نفسه بالدقائق الخفية لجميع البيوت؟
فقلت: المتاعب الفردية اعنف من المتاعب العمومية، فالرجل الذي يحمل هموم بيت يعد أهله بالآحاد أشقى من الرجل الذي يحمل هموم طائفة يعد أبناؤها بالألوف أو الملايين.(494/4)
وهل يحزن وزير المعارف لسوء نتائج الامتحانات العمومية بقدر ما يحزن لو رسب ابنه في الامتحان؟
إحساسنا الصادق يصدر عن متاعبنا الذاتية أولاً وقبل كل شئ، ثم يتفرع فيتصل بالمجتمع القريب أو البعيد، وهل بكى النبي محمد لوفاة أي طفل كما بكى لوفاة ابنه إبراهيم؟
وإذن يكون من حقي أن أقول إن الأدب الذي يصور الذاتيات هو اصدق الآداب، وهو الآية الباقية على الصدق الأصيل، فمن الجناية على الأدب أن نشغل أقلامنا بهموم خارجية قبل أن نستوفي التعبير عن همومنا الداخلية
للمجتمع حقوق على القلم البليغ، يوم يتأثر الكاتب بتلك الحقوق، ويوم يرى أنه عن تأييدها مسؤول أمام الضمير الأدبي لا أمام الناس
وأنت ذلك الكاتب، يا صديقي، فاتجاهاتك الاجتماعية تشهد بأنك تحس آلام المجتمع اصدق إحساس، وسيكون لك في هذا الميدان مكان يحفظه التاريخ
وأنا ارتضي لنفسي ما ارتضي لك، لولا تلك الدار التي أسرت قلبي عدداً من السني، ولم استطع التحرر من أسرها بأي جهاد
إن تاب الله علي من الهيام بتلك الدار فسأجاريك في ميدانك، وسيطول بيني وبينك السجال، ولكني أرى الله اكرم من أن يجود بذلك المتاب، لأن نعمته علي في هذه الضلالة اعظم من نعمته بالهداية على من يغضون أبصارهم عن سحر الجمال
وهل كان من العبث أن يتفضل الله فينوع الخلائق بهذا الوجود؟
إنه نوع الخلائق لينوع العواطف
هل تذكر ما تصنع النسائم بالسحاب والرمال؟
رأيت بالأمس عجباً من العجب: رأيت سحباً مطرزة بسماء (مصر الجديدة) على اظرف ما يكون التطريز. وبدأ لي أن أجوب الصحراء في ذلك الوقت فرأيت النسائم صنعت بالرمال ذلك الصنيع
أيعجز قلم الكاتب الصوال عما يقدر عليه النسيم الجوال؟
النسيم يبعث، وما وصف النسيم بغير العبث، ثم تكون له القدرة على هذا الافتنان، فكيف نعجز في الجد عما استطاعه النسيم في الهزل؟(494/5)
الدار التي أهوى تضلني وتغلي عقلي بأوثق الأغلال
الدار التي أهوى تصنع بقلبي فوق ما تصنع النسائم العوابث بالسحائب والرمال
الدار التي أهوى حرمت أضواء المصابيح أكثر من شهرين، إلى معاد، أو إلى غير معاد، فما أدري ما تضمر الأقدار لمصاير ذلك الهوى النبيل، ولا أعرف متى نلتقي طائعين أو كارهين
كلَّ يومٍ لنا عتابٌ جديدٌ ... ينقضي دهرنا ونحنِ غضابُ
إن تلاقينا - ومتى التلاقي - فستكون لنا شؤون وشجون
إن عادت الدار إلى العهد الذي أعرف فساكون من الحجاج في العام المقبل، وسأنفق جميع أموالي على الفقراء والمساكين.
ثم ماذا؟
ثم أقص على الأستاذ الزيات هذا الحديث:
في صباح اليوم وأنا في طريقي إلى الواجب قرأت في إحدى الجرائد أن المحكمة الشرعية أعلنت أن شهر ذي الحجة يبتدئ بيوم الأربعاء، فعرفت أنني حرمت رؤية الهلال ثلاث ليال. ثم خف حزني حين تذكرت أن القمر غاب عن تلك الدار أكثر من شهرين
ما هذه اللجاجة في الحب؟
وما الطمع في كرم الزمان البخيل؟
ارجعوا إلى الدار، دار الهوى، قبل أن تسمعوا من نذير الأقدار ما لا تحبون
ارجعوا إلى دار الهوى في عيد القمر غير مأمورين
ارجعوا، فللدار التي شهدت مولد هوانا حقوق
ارجعوا، فالفضيحة في غرامي تكريم وتشريف، لأني قيثارة الغرام في الحان الخلود
عيد القمر آت بعد ليال، فهل أراكم في غرة تلك الليال؟
القمر يفي، فهل تفون؟
القمر يساير الفصول من شتاء وربيع وصيف وخريف، فهل تسايرون أحوالي من نزق وطيش وقرار وجمود؟
أنا أنا، فهل انتم انتم؟(494/6)
لقد صبرت وصابرت لتشهد أحجار تلك الدار أن لها بقايا من الوفاء التي تدخره كرام القلوب
سينطق الحجر قبل أن تنطقوا، ولقد نطق فحياني ألوف المرات وانتم في غيابة العقوق
وماذا تنتظر مني تلك الأحجار؟
أنها ترجو مني ما أرجو منكم، ترجو سلاماً من عابر سبيل، وانتم هددتم وتوعدتم بأن لا لقاء في غير الفضاء
عودوا إلى الدار، دار الهوى، عودوا إليها سالمين غانمين، فأني اعد لكم قتالاً الطف وارفق من السلام
عودوا إلى الدار في عيد القمر، وهو آت بعد ليال
عودوا إلي فما قلبي بمصطبر ... على نواكم ولا في العمر متسعُ
إن متُّ قبل لقاكم أو فقدتكمُ ... قبل الممات فحظي عاثرٌ ظَلِعُ
أنا في انتظار القمر بعيد القمر، فهل يعود مع العيد؟ وهل اشهد كلف جبينه وهو غضبان؟
عودوا إلى الدار لا إلي، فقد كادت أحجارها تذوب من نار الاشتياق
يا غاضبين علينا كيف حالكمُ ... وكيف دارٌ بها للروح مرتَبَعُ
دارٌ جَلَوْنا بها حيناً سرائرنا ... كأن أيامها في صَفْوها جُمَعُ
لمُ يغدق الله فضلاً فاق نعمتهُ ... بوصل روحي بكم والشمل مجتمعُ
أما بعد فما رأي صديقي الزيات في هذا الحديث؟ وهل يراني في ضلال وأنا أناجيه بما لا يريد بعد أن هجر صديقه لامرتين؟
حال العين حال القلب، وللعيون والقلوب أحوال
وقد أشار طبيبي بنظارة تمنع التشرد من أضواء عيني، فمتى يشير طبيبي بنظارة تمنع التشرد من أضواء قلبي؟
لن يكون لقلبي حدود. لن تكون تلك الحدود ولن تكون، وسيعجز الطب عن جمع الأشعة من أنوار القلوب
متى نلتقي يا دار هواي؟ متى؟
عيد القمر آتٍ بعد ليال، فهل نتقاتل بعد ليال؟(494/7)
زكي مبارك(494/8)
العيد
للأستاذ محمد عرفة
- 1 -
لست مسرفاً إذا قلت إن كثيراً من الناس يعيدون ولا يدركون معنى العيد، ولا الغرض المقصود منه. لا يدركون من العيد إلا أنه يوم عطلة، يفرغ الناس فيه من أعمالهم، ويتفرغون إلى طعامهم وشرابهم ولعبهم ولهوهم
فعلينا أن نعمل لنفهم معنى العيد لنودعه على الوجه الأكمل. إن الناظر إلى أعيادنا الإسلامية التي شرعها الإسلام يرى أنها تكون عقب عبادة طويلة شاقة مضنية، فيها جهاد للنفس والشهوات. فعيد الفطر يأتي في أعقاب الصيام، والصيام عبادة شاقة، فيه منع النفس من شهواتها، وفيه الصبر عن الطعام والشراب، فإذا انتهى شهر الصوم حل عيد الفطر، فيفرح فيه المسلمون ويوسعون على أنفسهم وعيالهم وعلى فقرائهم. وعيد الأضحى يقبل بعد أن كادت تتم أعمال الحج، وفي الحج سفر طويل، ونفقة كثيرة، ومنع النفس من بعض الطيبات، فإذا جاء عيد الأضحى ذبح المسلمون ذبائحهم ووسعوا على أنفسهم وعيالهم وفقرائهم
ولعلكم بعد هذا قد أدركتم معنى العيد، وفهمتم سر فرح المسلمين فيه. لعلكم أدركتم انهم يفرحون في عيد الفطر بشيء سام، هو النصر: النصر على الشهوات، لأنهم مكثوا شهراً يمنعون أنفسهم في نهاره عن الطعام والشراب وبقية الشهوات الشهية إلى النفس والمحببة إليها فانتصروا؛ والنصر على الشيطان، فقد أراد إغواءهم وإضلالهم، واستعان على ذلك بالشهوات الممنوعة، والنوازع القوية، فانتصروا، لم تتغلب عليهم الشهوة، ولم يتغلب عليهم الشيطان، في هذا الكفاح. وما قلناه في عيد الفطر يقال في عيد لأضحى، فهو عيد النصر: النصر على النفس، والنصر على الشيطان؛ وسواء فيه الحاج وغير الحاج، فالحاج جاهد وصابر واحتمل الآلام واجتاز الأهوال وخرج من المعركة مظفراً منصوراً. وكذلك من لم يحج، العيد عيده، وهو به جد فرح مستبشر، وبشره بشر المسلم بالنعمة تتم على أخيه المسلم، ونصره وظفره لأن الله نصر إخوانه الحجاج، فوفقهم جميعاً لأداء الحج وإتمام عبادة من أسمى العبادات، ومسرته لأن الله اقدر المسلمين على إتمام موسم الحج، فلم(494/9)
يمنعهم قاهر ولا متسلط عن أقامته، فهو مزهو فخور وفرح مستبشر بعزة الإسلام وتمكين الله له في الأرض
وفي العيد - فوق هذا النصر وذلكم التوفيق - تقوية للروابط الوثيقة بين المسلمين، لأنهم يشتركون جميعاً في استقباله والترحيب والسرور به؛ والاشتراك في العاطفة داع إلى المحبة، واشتراك الجماعة في أمر يعمهم ويشملهم مشعر لهم بأنهم وحدة، عواطفهم واحدة، وآمالهم واحدة، وآلامهم واحدة. ولست تجد ادعى إلى المحبة من الاشتراك، ولا ادعى إلى التنافر من الاختلاف. ثم هم يشتركون قبل ذلك كله في أيام أعيادهم في شؤون الحياة وأمور القوت اشتراكاً يظهرهم في أروع مظهر من مظاهر التضامن الاجتماعي الوثيق، ففي عيد الفطر يخرج المسلم صدقة الفطر قبل صلاة العيد، وفي عيد الأضحى يذبح أضحيته ضحى يوم العيد، ويأخذ الفقراء حقوقهم من الصدقة والأضحية، فيفرغون إلى العيد واستقباله والفرح به والشعور بجماله، لا يشغلهم عن ذلك طلب القوت ومشكلات المعيشة؛ ويعم البشر والسعادة الناس جميعاً، فالأغنياء يفيضون من سعادتهم وبشرهم على إخوانهم من الفقراء
وفي العيد معان كثيرة أروعها أنه عيد النصر وعيد الظفر على النفس والشيطان؛ والمسلمون يفرحون بالعيد، لأن الله امتحن عزائمهم فوجدها قوية، وصبرهم فألفاه ثابتاً، وأيمانهم فألفاه راسخاً، وخرجوا من الامتحان مؤمنين، أقوياء، راسخين، بل خرجوا منه اشد واعظم شعوراً بمعاني القوة والإيمان.
وهذا المعنى في العيد يجعل الفرح فيه عبادة، لأن الفرح بإتمام العبادة عبادة، والفرح بقهر الشهوات عبادة، والفرح بالتغلب على الشيطان وجنده عبادة.
هذا المعنى في العيد يسمو بالعيد عن العبث، ويجعله معنى سامياً يوحي إلى النفس معنى العزة بالنفس، ومعنى القوة والغلبة، ومعنى العظمة والانتصار، يوحي إلى النفس معنى قوة الإرادة، ويوحي إلى الناس معنى تثبيت إنسانيتهم، وانهم خرجوا عن الأفق الذي تملكهم فيه شهواتهم إلى الأفق الذي يملكون فيه شهواتهم. والنفوس إذا أوحي إليها بما فيها من معان سامية ازدادت فيها رسوخاً، وحفرها هذا إلى تحصيل غيرها من الخلق الفاضل الكريم
أرايتم كيف كان العيد معنى إنسانياً سامياً بعد أن كان أمراً حيوانياً ضئيلاً جافاً لا حياة فيه(494/10)
ولا روح؟ أرايتم كيف صار شيئاً نافعاً مفيداً يوحي إلى النفوس معانيها من القوة والنصر على الأعداء، والارتفاع عن أفق الحيوانية المحدود، بعد أن كان شيئاً مغسولاً من النفع والسمو والخير والإفادة؟
إنما العيد عيد المجاهدين الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فانتصروا على النفس والشيطان؛ أما هؤلاء الذين غلبتهم أنفسهم وشهواتهم، واخلدوا إلى الأرض، فليس لهم منه إلا الهم والحسرة، لأن الناس خرجوا منه أقوياء منتصرين، من حيث منوا هم فيه بالضعف والهزيمة وبالارتكاس والخذلان.
محمد عرفة(494/11)
نشأة النطق بالكلام
وعلاقته بأصل اللغة وتطورها ولهجاتها
للأستاذ إبراهيم إبراهيم يوسف
مقدمة
أتى على موطن العربية حين من الدهر، خفي علينا ميقاته، تضافرت أبانه عصبة من العوامل الاجتماعية القاهرة، فقست على أبناء العربية قسوة كان من بعض شانها أن أخرجت فريقاً منهم من ديارهم، يضربون في الارض، يقتبلون مواطن جديدة ويسيرون في كل صوب زرافات ووحداناً مهاجرين ساعين في طلب الرزق. والرأي عندي أن تباعد هؤلاء وتنائيهم عن ديارهم، وتفرقهم وتشتتهم في أصقاع مختلفة، قد حفز الأكثرين نظراً في بواطن أمورهم إلى البحث في مآل الله التي يتفاهمون بها، فتبين لهم أن الدهر سوف ينال منها منالاً إذا ما تركوا أمرها للقدر، وأن لا عاصم لها من قسوته إذا ما تقاعسوا عن تحصين جزيئاتها وكلياتها، وأن لا مناص من أن تتستر معالمها، وتتنكر معارفها، وتتبلبل السن الناطقين بها يوم يخذلونها. وأكبر ظني أن كانت العربية لذلك العهد قد تبلورت وصارت أكثر ما تكون قرابة للغة الأدب التي ورثنا إياها التاريخ. فعزت على القوم أن تصاب لغتهم بذلك الذي توقعه أهل الرأي عندهم. ومن ثم قام أجلتهم يحتاطون للأمر؛ وذهب نفر من علمائهم إلى وجوب وضع دساتير للغة تحميها شر عدوان الزمن، وتحفظها على طول الأمد، وما إن استقر الرأي على هذا، حتى بدءوا العمل به. فكانت هذه فيما أرى، البداية المباركة في وضع علوم اللغة للسان العرب
وإذاً، فقد نشأت هذه العلوم في كنف من الغموض، يحجبها عنا عصر خفي علينا زمانه، واختفى معه كل اثر لمحاولات الأئمة الأول، تلك المحاولات التي انتهت بهذه الدساتير المسوقة إلينا من نحو وصرف وإعراب وغيره
وكان من الطبيعي أن يجر البحث في وضع دساتير اللغة إلى محاولة التفلسف فيها. وهكذا كان شأن علماء العربية، إذ نجد أن بعض الباحثين من علماء العصر الأول الإسلامي لهم فيها مسائل، ومن بينها مسألة النطق بالكلام. وهذه المسالة إذاً، ليست وليدة الأبحاث العلمية(494/12)
في علوم اللغة لعصر من العصور الحديثة، كما يزعم الزاعمون من رجال العلم في الغرب، بل هي - على حد ما وصل إليه تحقيقنا - مسألة ترتقي عند أبناء العربية إلى أول عهدهم بالقران الكريم، حين اقبلوا على تفسيره ودراسته دراسة لغوية توطئة لفقه دقائق ما جاء به. بل ومن المحتمل غاية الاحتمال أن تكون هذه المسالة ابعد غوراً مما ذكرنا وذلك استناداً إلى ما وضح لنا من أن نشأة علوم اللغة قد سبقت العصر الإسلامي، وأن التفلسف فيها كان ملازما لنشأتها. وقد يصبح هذا الاحتمال يقيناً لا مريه فيه. حين تتجه الأبحاث العلمية إلى تحقيق تاريخ وضع دساتير اللغة، وتنتهي إلى ما تظمئن إليه في هذه الناحية
وسواء أصحت هذه الدعوى الثانية أم لم تصح، فليس هذا الذي قام به أفاضل المسلمين الأول من تفلسف في الأبحاث اللغوية بالأمر اليسير الشأن، ولا هو بالمستكثر عليهم. فالعرب، ويشاركهم في ذلك أبناء الصين، يفضلون في رأي جمهرة اللغويين الحديثين، بقية الشعوب بنزعتهم إلى التفقه في اللغة. وهذه النزعة هي التي حملتهم على النهوض بالدراسات اللغوية نهوضاً مبكراً، تجلى أثره في وفرة ما صنفه العرب من كتب ورسائل في علوم اللغة، كما تبين خبره في كثير مما تفرق لهم من أبحاث في مختلف مسائلها جاءت ضمن عدد آخر من موسوع مؤلفاتهم. وليس بغريب - وهذه حالهم - أن نجد في بعض مصنفاتهم الخاصة بعلوم اللغة، وكذلك تلك التي لها بعلوم اللغة صلة، نزعة فلسفية واضحة
ويمكننا القول، استناداً إلى ما وسعته المكتبة العربية من مصنفات وصلت ألينا، أن الفخر الرازي كان أول من تقصى آراء المتقدمين، وذهب إلى نقد فريق ممن تفلسفوا في هذه المسائل. وأن السيوطي كان أول من عنى من المتأخرين بإيضاح هذه الناحية، وعمل على بسط آراء من تقدموه بسطاً مجملاً. وأن جولد تسهير كان أول من اهتدى من المستشرقين إلى هذا. فلما أن وقف الغربيون على مجرى تفكير العرب هذا، أكبروا فيهم تفقههم المبكر في اللغة، ودهشوا لعناية العرب بهذا الضرب من التفكير الفلسفي، قبل أن يتقدم إليه أساتذتهم اليونانيون في الفلسفة
ولعل الذي حدا بالعرب إلى هذا النوع من التفكير الفلسفي ما أثير من قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها). فذهب جماعة من أهل السنة إلى أن لغة العرب توقيف ووحي. واتفق(494/13)
آخرون من أهل النظر، وأكثرهم من المعتزلة، على أن اصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، وجرهم هذا الخلاف في الرأي إلى النظر في أمر وضع اللغة وأوليتها ومنشئها. وسلكوا في ذلك مذاهب؛ فالتزمت فئة منهم التحقيق العلمي لا تميل عنه في أبحاثها، واستسلمت فئة أخرى إلى ظنون تعوزها الأدلة، فراحت تستجدي من الدين المعونة. وكان كلما اتسع الخلاف في الرأي على هذه المسائل، كان الاقتراب من الحقيقة أدنى. وكان هذا اقرب للوقوع كلما أحيطت حرية الرأي بسياج من الضمان يكفل ازدهارها. ثم صار ذلك الضمان دستوراً نافذ المفعول للدولة الإسلامية أبان سؤددها. وبقيت حرية الفكر قائمة، مدعمة من الجميع، مكفولة للجميع، فأينعت علوم الدين وعلوم الدنيا. وكانت علوم اللغة إذ ذاك مشاعة بين هذه وتلك. فعلماء الدين يعتبرونها من نصيبهم، إذ هي دعامة تفهم الديانة. وعلماء الدنيا يعدونها حقاً من حقوقهم، إذ هي مفتاح سائر العلوم. وهكذا فازت اللغة بما لم تحظ به بقية العلوم، إذ ارتشفت عصارة فكر الفريقين جميعاً
إلا أن هذا التهافت على خدمة اللغة اصبح لا وجود له، بعد أن فشا استبداد الرأي في الحكم والعلم، وضاق النطاق على حرية القول والفكر. فكان ذلك إيذاناً بانتهاء العصر الذهبي للغة العربية. وما كان ذلك ليقع إلا ويختفي بوقوعه أعمال رهط من جهابذة علماء اللغة. فحيل بينها وبين الظهور أعماراً عديدة، أو هي اندثرت إلى غير بعث أو نشر. ومن ثم ضاع الكثير من الدرر الغوالي التي ازدانت بها مصنفات اللغة في العصور الإسلامية المتقدمة، كما ضاع غيرها للعصر الجاهلي. ولا عجب وقد تمثل لنا بعض ما أصاب لغتنا، أن يتفق الرأي، عند أهل التحقيق من أصحاب علم العربية، على أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل. وما كان هذا الحال ليقعد علماء العربية عن واجبهم، أو ليدفعهم إلى شيء من التفريط في أمانتهم التي تشرفوا بحملها. فظهر منهم في العصور المتأخرة عدد من المجتهدين أرادوا بعلوم اللغة خيراً، فعمدوا إلى ما ورثه لنا أسلافنا الأول يريدون تنميته وتعزيزه. ولكنهم أبوا أن يسايروا الزمن فيما تطورت إليه العلوم، وما استنبط من طرائق ووسائل للقيام بأبحاث علمية، اهتدى إليها المفكرون في الأمم النابهة، فأصابهم ما أعجزهم عن متابعة السير، وبقيت علوم اللغة حيث كانت.(494/14)
والآن، وقد أصاب العربية الفصحى ما أصابها، وأدركها الركود، فباعد بينها وبين أن تفي بحاجات الحياة في العصر الحاضر، أو تفي بمطالب العلوم والفنون في تقدمها المطرد، فلا سبيل لإحيائها إلا بانتهاج نهج علمي غير الذي سار عليه المتأخرون من أبناء العربية إلى اليوم. وهو إن يكن في مجموعه جديداً بالنسبة لنا، فقد سبقتنا إليه أمم الغرب وبعض أمم الشرق، فجدت طلائع علمائهم في دراسة لغاتهم، وعكف نفر منهم على دراسة لغتنا على أساس من العلم صحيح. وكان أن وفقوا إلى استنباط علوم جديدة يستكملون بها علوم العربية؛ فافردوا لكل من اللهجات والأصوات والدلالات اللفظية والمفردات وتشكل الكلمات والأساليب علوماً قائمة برأسها، ثم ربطوا هذه العلوم بعضها ببعض. والتزموا فوق هذا وذاك دراسة جميع اللغات الشرقية وغيرها مما له بالعربية صلة، وذلك توطئة لدراسة النحو المقارن للغات السامية، وتوصلاً إلى معرفة اصل الكلمات ونسبها. وفي ذلك كله تيسير لمعرفة التطور التاريخي لمعاني الكلمات، وتذليل لمعرفة التطور العام للغة. وما كان لهؤلاء الآجلة من العلماء ليتجشموا كل ذلك الذي وجب علينا أن نتجشمه، إلا ابتغاء الكشف عن أسرار العربية والتشبع بروح هذه اللغة الشريفة. ولكن قد لا يتهيأ لنا ولهم الاستفادة من هذه العلوم، استفادة ترضي الوجه الصحيح من البحث العلمي، حتى يخرج لنا المحققون ثمين ما صنفه الأقدمون في علوم اللغة، وفي سائر العلوم التي لها بالعربية صلة، وذلك من عالم المخطوطات إلى عالم المطبوعات، على أن تكون طبعات علمية صحيحة
ومن ذلك كله يتضح لنا إن هذا النهج رغم وفرته لا مفر من انتهاجه. وإنه وإن يكن نهجاً وعر المسالك كثير الشعب، إلا أنه كفيل بأحياء العربية والمد في عمرها ابد الآبدين. فإذا ما صحت عزيمتنا على السير فيه أدينا للعربية أجل خدمة ترتجي لها في وقفتها هذه. ولاشك أن حب اللغة، ذلك الحب الذي يفضل به الإنسان الحيوان، سوف ييسر لنا هذه المهمة الشاقة فيدفعنا إلى تحقيقها دفعاً في عزيمة صادقة ثابتة، وبنفس راضية مطمئنة. وحين يعمل علماؤنا على أداء هذه الرسالة يتبارون ضمناً في إشعال جذوة الثقافة بين أبناء العربية، ويساهمون فوراً في تفجر نهضة صحيحة. وقد ثبت أن لا قيام لنهضة فكرية ما لم تبدأ بإنهاض اللغة
وقد أدرك القدامى من أهل التحقيق ذلك، إذ قالوا: لا تعمر عراص الدين والعلم والأدب إلا(494/15)
بطول عمر اللغة. نعم، ولكن لا يطول عمر اللغة حتى يحال بينها وبين اكتهالها فشيخوختها، ولا يقيها شر الشيخوخة إلا ضمان فتوتها، ولا بقاء لفتوة إلا مع التجديد، ولا يكون التجديد حتى يدرك تطورها، ولا تطور يرتجي حتى يتبين اصلها ونشاتها، ولا تعرف لها نشأة حتى نهتدي إلى نشأة النطق بالكلام. وهذا ما أرجو أن أحاول بحثه في غير إطالة متوخياً عقده في فصول متتابعة.
إبراهيم إبراهيم يوسف
مساعد الأستاذ أ. فيشر
بمجمع فؤاد الأول للغة العربية(494/16)
من القصص الإسلامي
جارية البصرة
للأستاذ صلاح الدين المنجد
كانت الجمال تميس ميساناً هادئاً، تحمل الخليفة الرشيد إلى الحج. وكان لابد لها، وقد بلغت البصرة، من الوقوف بها ليتمتع الركب بما فيها من جمال وجلال؛ فقد كانت هادئة انيقة، تستفيق على همس النخيل كأنه وسوسة القبل، وتنام على دغدغات دجلة كأنها مناغاة ألام، وزغردة الوليد. وكان أهلها، إلى ذلك، من أكثر الناس اقتناء للعاج والديباج، وكان نساؤها مشهورات بالدلال، وبيوتها ضاحكات بالفضة باسمات بالذهب. . . ونهرها يفيض متدفقاً صخوباً يتساقط في أوله الرطب، ويتمايل على حفافيه النخيل والقصب.
ونزل الخليفة، ومعه جعفر بن يحيى، ووراءهما حاشية عريضة من الملهين والمغنين والزهاد.
ولم ير الرشيد أن يتحول عن هذه المدينة قبل أن يعلم أحوال الناس فيها؛ فدفع جعفراً إلى الطواف بها، ليتحسس اخبارها ثم يعود فيخبره بما سمع وبما رأى.
فلما عاد عشية ذلك اليوم قال له الرشيد: (إيه يا جعفر! حدثني بعجيب ما رأيت. . .)
قال جعفر: (لقد طوفت في المدينة يا أمير المؤمنين، فسمعت من ناسها ما يشكون وما يرغبون. وكنت اعلم كل شيء من غير عناء لتنكري. فلما كنت في إحدى الأسواق، اقبل علي نخاس يبيع الجواري والقيان، وهمس في أذني أن لديه جارية مغنية تباع، وأن مولاها ممتنع من عرضها إلا في داره؛ فتطلعت نفسي إلى معرفة أمرها، وتاقت لرؤيتها، فمضيت معه. . . حتى وقف عند باب شاهق يدل على نعمة وثراء، فطرقه؛ وإذا شاب حسن الوجه، دقيق العود، عليه قميص ممزق، يفتح لنا. فدخلنا إلى دهليز طويل مظلم. . . وانتهينا إلى دار واسعة خراب. فاخرج لنا الفتى من غرفة قطعة متآكلة من حصير، ففرشها لنا، وجلسنا عليها، ثم مضى ليحضر المغنية، فأخذت أفكر في أمر هذه الجارية، وتساءلت لم تعيش في هذه الخرائب؟ ومن تكون. . .؟ وما شأن هذا الفتى معها؟. . . وإذا بها تخرج علينا، زهراء غيداء، وعليها القميص الممزق الذي كان يلبسه الفتى منذ لحظات. فرايتها صبيحة الوجه، مياسة القد، حلوة العينين، ناهدة الثديين، وأدهشتني ببراعة جمالها ونضارة(494/17)
جسمها؛ فأمرتها بالجلوس وتقدمت إليها بالغناء. فضربت على عود ضرباً ما سمعت ارق ولا أحلى حلاوة منه، واندفعت تغني:
نمّتْ علينا زفرةٌ صاعدهْ ... وملّني العائدُ والعائدْ
فلم اسمع يا أمير المؤمنين أشجى ولا افجع ولا اطرب من غنائها. ثم أخذت تبكي، وذرفت دمعاً هاج حزني ولكم قلبي، وأرسلت آهات ناعمات من صدر ملوع وقلب مفجع. ثم سمعنا فجأة بكاء الفتى من الغرفة المجاورة. فقامت الجارية إليه. وطرق آذاننا صوت بكاء محزن، وشهيق اليم؛ ثم سكنت الأصوات حتى حسبنا انهما ماتاً. فعجبنا من أمرهما، وقلت للنخاس: (ويحك! قم فانظر ماذا أصابهما. . .) وإذا بالفتى يخرج قائلاً: (عفواً يا سادتي. . .!) ثم غلبه البكاء فلم يستطع الكلام. فأشفقت عليه وقلت: (ما حالك يا فتى؟) فبكى. فأعدت عليه السؤال وألححت في الطلب، فتحرك وقال:
(نشأت نشأة فريدة مغمورة بالعطف والدلال. وكان أبي موسراً، أزهرت النعمة في دياره وتدفقت الدنانير عليه. وكنت ألهو في بستان يحيط بالقصر مع هذه الجارية التي ربتها أمي. فكنا نرتع فوق العشب، ونغوص في الماء، ونتسلق النخيل، ونطلق أنفسنا في لهو الطفولة الحلو. على أني كنت أحس بانقباض في صدري إذا ابتعدت مني؛ واشعر بالوحشة تغمرني كلما غابت عني، فلما بلغت السابعة وبلغتها، جيء لي بمؤدب يؤدبني، واتى لها بمغنية تتخرج عليها. أما أنا فتوفرت على الأدب التقط النوادر، واحفظ الفرائد، واروي الأشعار والأحاديث. وأما هي فقد انقطعت إلى الغناء لتمهر في طرائقه وتبرع في أصواته. فلما أورق غصني ورف صباي، ازداد حبها في قلبي؛ وخطبني وجوه أهل البصرة لبناتهم، وذاع صيتي في البيوتات، وأصبحت أمنية العذارى والفتيات، ورغبن فيّ لفصاحتي وأدبي ووفرة مالي. فأعرضت عنهن جميعاً وصبوت إلى هذه الجارية التي كان الجمال يرتع في جسمها، والفتنة تسجو في عينيها، فيتحرق قلبي ويتألم، ويضؤل جسمي ويرق
لقد كان صوتها، يا مولاي، مسكراً ناعماً حلواً. كنت انتشى فاغمر فمها الحلو الصغير بقبلي. . . أو اجثوا أمام قدميها فيزداد طربي. . . لقد كان في صوتها شيء يداعب الروح لا أدري كنه؛ شيء فيه نعومة وشهوة وحنين. فكانت إذا فرغت من الغناء جلست أمامي لأطربها بالأشعار، وأضحكها بالنوادر، وأطرفها بالأحاديث(494/18)
فلم بلغ بها الغناء مبلغاً بعيداً، عزمت أمي على بيعها، وهي لا تدري ما في نفسي من وجد وشوق. فغامت الدنيا في عيني، ولجت نفسي في ألوان من الأفعال اقلها الانتحار. ثم قررت أن اصدق أمي خبري فأخبرتها. فأشفقت علي ووهبتها لي، وجهزها أبي كما يجهز أهل البيوتات بناتهن وجواريهن
ونعمت معها دهراً لهوت بها عن الدنيا وما فيها. وكنت احب سماع صوتها في ألاماسي والأصابيح تحت ظلال النخيل، وبين القصب؛ فكانت تغنيني فأتيه وأغيب. ولكني وا أسفاه! لم اصح من هدهدات الغناء إلا على نوح النائحات وبكاء الباكيات؛ فقد مات أبي، وأنا ما أزال في ريعان الصبا
وانتقل إليّ بوفاته ما لا أحصيه من الأموال. على أني لم أكد أسلو لوعة الفقد الأولى. حتى عاجل الموت أمي. فبكيت وحزنت، ثم أغواني الشيطان وقال: مالك وللحزن! إن شبابك يفنى وعمرك ينقضي، فانعم ولذ بجاريتك. فأسأت تدبير الأموال، وعكفت على اللهو والقيان، فتلفت نعمتي، وابتزت الحسان مالي، فعشت في هذه الخرائب كما ترى؛ بكاء على الماضي وحنين لأيام الهناءة والنعيم
وذرف دمعة، يا أمير المؤمنين، وصمت. فقلت له: ثم ماذا؟ أتمم. . . أتمم. . .! قال: (وبقيت على ذلك سنتين، لا نذوق طعم اللحم إلا لماماً. وكانت يا مولاي وفية، لا تستطيع مفارقتي رغم ما تلاقيه من ضنك العيش ومرارة الإقلال. وكانت تحبني حباً عنيفاً، فادركتني الشفقة عليها، وقلت لها: استمعي يا أختاه! لقد عبست لنا الأيام، فأصبحنا كما ترين، وأنت ما تزالين غضة الصبا، ريانة الشباب، وأنا آلم لما تكابدينه من البؤس والفقر، واعلم أني تالف متى فارقتك، ولكني أوثر أن أراك منعمة هانئة، فدعيني أعرضك على أصحاب الخليفة، فلعل واحداً يشتريك فتنعمي معه برغد العيش!
فبكت بكاء كله وله وحنين وقالت: (مالي وللطعام، مالي وللثياب، وأنت إلى جانبي. أنا أريدك أنت، أنت وحدك، لا أريد مالاً ولا ثياباً. . .!) فحزنت وقلقت، ولكني خرجت سراً إلى هذا النخاس فأطلعته طلع أمري، وأعلمته أني لا اعرضها إلا في داري لئلا تمتهن بالأسواق ويراها السوقة والعوام.
فلما جئتنا الساعة، بقيت في الغرفة، وألبستها ثوبي الممزق فما عندي ولا عندها غيره.(494/19)
وجلست ابكي. ولما دخلت عليّ بعد غنائها قالت لي: (الست مللتني، وآثرت فراقي؟ فلم تبكي؟ بعد هذا علي!) فقلت لها: (إن فراق نفسي اسهل علي من فراقك، وإنما أردت أن أخلصك من هذا الشقاء!) قالت: (الست أنا راضية بهذا الشقاء؟) فاضطربت، وخرجت إليك يا مولاي لأخبرك أني عدلت عن البيع!)
واهتز الرشيد لطرافة الأحدوثة وحلاوة الكلام وقال: (إلا فليكن هكذا المتحابون. . .! فماذا حدث بعد ذلك يا جعفر؟)
قال: (تركتهما يبكيان، وأرسلت صاحب الشرطة ليبتاعها لي غصباً!) قال الرشيد: (ويحك! أهكذا تكون المروءة؟ كيف تفرق بينهما وتشتت شملهما؟ تعال يا غلام، قم يا حماد ثم يا جعفر، ردوا هذين المحبين إلى رغادة عيشهما وهناءة حبهما. اجمعوهما بالوئام، وأفرحوهما باللقاء والسلام، وانثروا هذه الآلاف الثلاثة من الدنانير أمامهما؛ فليس أثوب من جمع المتحابين! وإن شاءا فاحملوهما إلينا واخلطوهما بحاشيتنا، فانهما يستحقان معاشرة الملوك
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(494/20)
5 - خزانة الرؤوس
في دار الخلافة العباسية ببغداد
للأستاذ ميخائيل عواد
(ج) رأس صالح بن مدرك، رأس جمبش بن ذبال، رأس غلام
لصالح بن مدرك
لا تخلوا أخبار الحاج في كل سنة من أحداث خطيرة تلم بهم يتعمدها قطاع الطرق والفساق ومن خرج على الدولة يومذاك؛ فتسلب أموالهم، ويقتل اكثرهم، ويتيه بعضهم في بطن الصحراء فيهلك من العطش والجوع والحر. ولا يسلم منهم إلا نفر قليل
فمن تلك الأحداث ما وقع في سنة 286هـ، والخليفة يومذاك المعتضد. ذكر المسعودي أن في هذه السنة (ظفر أبو الأغر خليفة بن المبارك السلمي بصالح بن مدرك الطائي بناحية فيد مكراً في ذهابهم إلى مكة، وقد كانت الأعراب جمعت لأبي الأغر ليستنقذوا صالحاً من يديه، فواقعهم فقتل رئيسهم جحيش ابن ذيال وجماعة معه واخذ رأسه، فلما علم صالح بن مدرك بقتل جحيش بن ذيال يئس من الخلاص من يد أبي الأغر؛ فلما نزل المنزل المعروف بمنزل القرشي أتاهم غلام بطعام فاستلب منه سكيناً وقتل نفسه، فاخذ أبو الأغر رأسه وأظهره بالمدينة فتباشر الحاج. وكان لأبي الأغر في رجوعه وقعة عظيمة اجتمع هو وتحرير وغيرهما من أمراء قوافل الحاج من الأعراب؛ وكانت الأعراب قد اجتمعت وتحشدت من طي وأحلافها، فكانت رجالتها نحواً من ثلاثة آلاف راجل، والخيل نحو من ذلك، فكانت الحرب بينهم ثلاثاً وذلك بين معدن القرشي والحاجر، ثم انهزمت الأعراب وسلم الناس. وكان ممن تولى بابي الأغر الحيلة على صالح بن مدرك سعيد بن عبد الأعلى، ودخل أبو الأغر مدينة السلام وقدامه رأس صالح وجحيش، ورأس غلام لصالح اسود، وأربعة أسارى وهم بنو عم صالح بن مدرك. فخلع السلطان في ذلك اليوم علي أبي الأغر وطوقه بطوق من ذهب، ونصبت الرؤوس على الجسر من الجانب الغربي، وادخل الاسارى المطبق)
(د) رأس ابن الرضا:(494/21)
وابن الرضا هذا، هو محسن بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد، ظهر (في أعمال دمشق في سنة ثلاثمائة، وكانت له مع أبي العباس أحمد بن كيغلغ وقعة، فقتل صبراً، وقيل قتل في المعركة وحمل رأسه إلى مدينة السلام، فنصب على الجسر الجديد بالجانب الغربي)
5 - تعليق الرؤوس بازاء دار الخلافة العباسية ببغداد:
(ا) رأس بزبه
روى خبره ابن الجوزي في حوادث سنة 542هـ قائلا: (. . . وورد الخبر أن بزبه راسل سحنة اصبهان فاستماله ورحل إليها ومعه محمد شاه. وكان السلطان مسعود مقيماً بهمذان وعساكره قليلة؛ فأرسل إلى عساكر اذربيجان فتأخروا عنه، فسار بزبه من اصبهان سيراً يمهل فيه، فلما قاربها وصلت عساكر أذربيجان إلى السلطان، وكان بزبه قد جاء جريدة في خمسة آلاف فارس، فضرب على عسكر السلطان فكسر الميمنة والميسرة، وكان مسعود قد تأخر عن المصاف في ألف فارس، وكان عسكره عشرة آلاف، فاشتغل عسكر بزبه بالنهب والقتل، فجاء مسعود فحمل عليهم، فالتقى هو وبزبه، فكبت الفرس ببزبه فوقع، فجيء به إلى مسعود فقطع نصفين، وجيء برأسه فعلق بازاء دار الخلافة. . .)
6 - تعليق الرؤوس فوق باب النوبي
(ا) رأس ابن سنكا:
من الأخبار الواردة إلى بغداد في شعبان من سنة 569هـ: (أن ابن أخي شملة التركماني ويعرف بابي سنكا قد استحدث قلعة في ولاية باذرايا بقرب من قلعة الماهكي، ليتخذها ذريعة إلى الإغارة على البلاد، ونقل إليها الميرة؛ فبعث السلطان إليه الجيوش فالتقوا، فحمل بنفسه عليهم، فطحن الميمنة، فتقدم قيماز العميدي إلى الأمراء فحثهم على خوض الماء، وكان قد فتح البثوق يحتج بها، فخاض قيماز ومعه جماعة فغرقوا ثم اقتتلوا، واسر ابن سنكا، ثم قتل وجيء برأسه فعلق بباب النوبة (كذا والصواب: النوبي). . .)
(ب) رأس طغرلبك السلجوقي(494/22)
هو السلطان طغرلبك شاه بن أرسلان شاه بن طغر شاه ابن محمد بن ملكشاه بن ألب ارسلان بن داود بن ميكائيل ابن سلجوق السلجوقي آخر ملوك السلجوقية بالعراق كان سفاكاً للدماء وقد هابته الملوك. قتل وزيره رضي الدين الغزنوي وفخر الدين العلوي رئيس همذان. وكان مصرعه في سنة 590هـ قال ابن كثير في حوادث هذه السنة: (وفيها ملك السلطان خوارزم شاه تكش - ويقال له ابن الاصباعي - بلاد الري وغيرها؛ واصطلح مع السلطان طغرلبك السلجوقي، وكان قد تسلم بلاد الري وسائر مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه، وعظم شانه. ثم التقى هو والسلطان طغرلبك في شهر ربيع الأول من هذه السنة، فقتل السلطان طغرلبك، وارسل رأسه إلى الخليفة فعلق على باب النوبة (كذا والصواب: النوبي) عدة أيام. . .)
7 - نصب الرؤوس على باب العامة
(ا) رأس هرون بن غريب الخال، رؤوس جماعة من قواده
وهرون هذا هو ابن خال المقتدر بالله. كان ذا شان كبير في أيام المقتدر والقاهر، ولما بلغه خلع القاهر وتقليد الراضي الخلافة؛ وكان يقيم بالدينور - وهي قصبة أعمال ماه الكوفة - متقلداً أعمال المعاون بها، وبمسبذان ومهرجا نقذق وحلوان؛ رأى أنه أحق بالدولة من غيره لقرابته من الراضي، فغلظ ذلك على ابن مقلة الوزير، وعلى محمد بن ياقوت صاحب الشرطة، وعلى الحجرية والساجية والمؤنسية، فسار إلى بغداد حتى وافى خانقين فخاطبوا بأجمعهم الراضي؛ فقال: أنا كاره له فامنعوه من دخول الحضرة وحاربوه إن أحوج إلى ذلك
وهكذا اشتعلت الحرب بين هؤلاء، وبين هرون وأصحابه حتى كان فيها هلاكه. قال مسكويه في رواية مقتله: (ولم تزل الحرب غليظة إلى أن قارب انتصاف النهار، وركب هرون بن غريب مبادران وسار متفرداً عن أصحابه على شاطئ نهر بين يريد قنطرته لما بلغه أن ابن ياقوت قد عبر القنطرة، وقدر أنه يقتله أو يأسره، فتقطر به فرسه فسقط منه في ساقية، فلحقه يمن غلامه فضربه حتى أثخنه بالطبرزينات، ثم سل سيقه ليذبحه فقال له هرون: يا عبد السوء أنت تفعل هذا وتتولى بيدك قتلي أي شيء أذنبت به إليك؟ فقال له: نعم أنا افعل بك هذا وحز رأسه ورفعه وكبر فتبدد رجال هرون. . . وسار محمد بن(494/23)
ياقوت إلى موضع جثة هرون فأمر بحملها إلى مضربه فحملت وأمر بتكفينه ودفنه. ودخل بغداد وبين يديه رأس هرون وعدة من قواده فأمر الراضي بنصب الرؤوس على باب العامة)
8 - نصب الرؤوس على أسوار السجون ببغداد
(ا) رأس أبى يزيد خالد بن محمد الشعراني
ذكر قصته الطريفة عريب بن سعد القرطبي في مدار كلامه على أخبار بني العباس في سنة 304هـ، فقال: (وفي المحرم من هذه السنة ورد كتاب صاحب البريد بكرمان يذكر أن خالد بن محمد الشعراني المعروف بابي يزيد؛ وكان علي بن عيسى الوزير ولاه الخراج بكرمان وسجستان، خالف علي السلطان، ودعي أميراً وجمع الناس إلى نفسه. . . فكتب المقتدر إلى بدر الحمامي في إنفاذ جيش إليه ومعاجلته، فوجه إليه بدر قائداً من قواده يعرف بدرك، وكتب بدر قبل إنفاذ الجيش إلى أبى يزيد الشعراني يرغبه في الطاعة، ويتضمن له العافية مع الإنهاض في المنزلة وخوفه وبال المعصية فجاوبه أبو يزيد: والله ما اخافك، لاني فتحت المصحف فبدر إلي منه قول الله عز وجل (لا تخاف دركا ولا تخشى) ومع ذلك ففي طالعي كوكب بياني لابد أن يبلغني غاية ما أريد. فانفذ بدر الجيش إليه، وحوصر حتى اخذ أسيراً فقيلت فيه أشعار منها:
يَابَا يَزيد قاتل البُهتان ... لا تَغترر بالكوكب البَيْباني
واعلم بأن القتل غاية جاهلٍ ... باع الهدى بالغي والعصيانِ
قد كنت بالسلطان عَالي رتبةٍ ... من ذا الذي أغراك بالسلطانِ
ثم آتى الخبر بأن أبا يزيد هذا مات في طريقه، فحمل رأسه إلى مدينة السلام، ونصب على سور السجن الجديد)
(ب) رؤوس ثلاثة رجال من أصحاب الحلاج:
بعد مقتل الحلاج تفرق أصحابه أيدي سبا: فمنهم من ذهب إلى خراسان، ومنهم من بقي في العراق متوارياً عن الأنظار، بينا رجال الشرطة وأصحاب الأخبار لا يألون جهداً في البحث عنهم. فمن أخبارهم في سنة 312هـ أن نازوك، وكان يومذاك صاحب الشرطة(494/24)
(جلس في مجلس الشرطة ببغداد، فاحضر له ثلاثة نفر من أصحاب الحلاج، وهم حيدرة والشعراني، وابن منصور. فطالبهم بالرجوع عن مذهب الحلاج فأبوا؛ فضرب أعناقهم ثم صلبهم في الجانب الشرقي من بغداد، ووضع رؤوسهم على سور السجن في الجانب الغربي
(يتبع)
ميخائيل عواد(494/25)
46 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
الفصل الرابع
الصناعة
من المحزن أن يوازن المرء بين فقر مصر الآن، وبين رخائها قديماً حينما كان اختلاف الصناعات وأناقتها وإتقانها تثير إعجاب الأمم المجاورة. وكان المصريون في غنى عن التجارة الخارجية لتنمية الثروة أو زيادة الرفاهية. وقد دل الكشف عن الآثار على أن المصريين انفردوا إلى حد كبير في السمو بالفنون في عهد موسى وقبل ذلك أيضاً. ولم يكن الفراعنة والكهنة وقواد الجيش في تلك الأزمنة الغابرة يعيشون وحدهم في ترف رفيع ويلبسون ارق الأنسجة الكتانية ويجلسون على سرر وكراسي نستخدمها نماذج لأثاث ابهائنا الحديثة، بل كان لكثير من أغنياء المزارعين وغيرهم من الأفراد كأولئك. ولا تزال الطبيعة تجود بنعمها على سكان وادي النيل، كما كانت في قديم الزمن. غير أن المصريين لم يعودوا ينعمون لعدة أجيال بحكومة مستقرة، فكان كل من الولاة المتعاقبين في هذه المدة الطويلة يعمد إلى تنمية ثروته الخاصة، لعدم توطد ولايته. وهكذا هلك بالتدريج كثير من المصريين وقضي على الباقين أن يعيشوا في عوز اليم. وإذ كان الذكور من السكان يكاد عددهم يزيد على القدر اللازم لزراعة الأراضي التي يغمرها الفيضان أو يسهل ريها بالوسائل الصناعية، كان عدد هؤلاء الذين يجترفون الصناعة في هذا البلد شديد القلة نسبياً. ولا تتم أعمال المصريين عن براعة كبيرة لقلة التنافس وعدم تشجيع الأغنياء. غير أن انحطاط الصناعات اليدوية يرجع إلى حد بعيد إلى سبب آخر وهو أن السلطان سليم التركي بعد أن غزا مصر نقل على ما قال الجبرتي عدداً كبيراً من البارعين في الحرف(494/26)
التي لا تمارس في تركيا فقضي بذلك على أكثر من خمسين صناعة يدوية في مصر
حرم الإسلام كما سبق أن بينت، استخدام التصوير والنحت في رسم الأحياء، غير أن بعض المسلمين المصريين يحاول رسم الرجال والأسود والجمال وغيرها من الحيوان والزهور والقوارب وذلك على الأخص لزخرفة واجهات الحوانيت وأبواب الحجاج كما يقولون، وإن كانت محاولاتهم هذه تفوقها رسوم صغار الأطفال عندنا. ولكن الدين الإسلامي يسر الصناعة خاصة باستلزامه أن يعرف كل امرئ فناً أو عملاً يمكنه وقت الضرورة من سد حاجته وإعالة من يتولى أمرهم والقيام بواجباته الدينية والأدبية. ويبرع المصريون على الأكثر في فن العمارة، فتجد اجمل نماذج العمارة العربية في العاصمة المصرية وضواحيها. وليست المساجد والأبنية العامة الأخرى وحدها هي التي تستحق الاعتبار لعظمتها وجمالها، ولكن الكثير من المساكن الخاصة أيضاً تثير الإعجاب ولاسيما هيئتها الداخلية وزخرفتها. على أن هذا الفن كأغلب الفنون الأخرى انحط كثيراً في السنوات الأخيرة؛ فقد اخذ المصريون عن الأتراك طرازاً جديداً ساذج الشكل بعضه شرقي وبعضه أوربي وفضلوه على العربي. وتنم الأبنية ذات الطراز القديم، أبوابها وسقوفها وبلاطها، التي سبق وصفها، عن ذوق فريد. وكذلك أكثر الصناعات المصرية تنم عن الذوق وإن كان الكثير منها ينقصه الإتقان. وكان الخراطون، وشغلهم الأول عمل الشبابيك، كثيري العدد، وكان عملهم حينذاك أكثر اتقاناً؛ أما الآن فقد قلت أعمالهم، لأن نوافذ المنازل الحديثة تصنع من الزجاج. ولا يظهر المصريون المحدثون في صناعة الزجاج التي اشتهروا بها قديماً مهارة كبيرة، فقد انحط عندهم فن الزجاج الملون؛ غير انهم لا يزالون موضع الإعجاب في صناعة النوافذ الزجاجية وإن لم يكن ذلك بقدر ما كان في السنوات الماضية قبل أن ينقص تفضيل الطرز الجديد من أعمالهم. والصناعة الخزفية في مصر غليظة، وهي تشمل عمل القلل والجرار لحفظ المياه وتبريدها. ويستحق المصريون الشهرة التي نالوها في مهارة أعدادهم السختيان. ويستعمل المصريون السعف وأوراق النخيل في صناعات مختلفة فيصنعون من السعف الأقفاص والكراسي والصناديق والسرر الخ. . . ومن الأوراق السلال والقفف والحصر والمكانس والمذبات، وغير ذلك من الآلات. ويفتلون من ألياف النخيل أكثر الحبال المصرية. ويصنعون احسن الحصر التي يستخدمونها صيفاَ(494/27)
بدل البسط، من البردي. وقد فقدت مصر الشهرة الني نعمت بها قديماً في صناعة الكتان الرقيق؛ فالملابس الكتانية والقطنية والصوفية التي تغزل في هذا البلد غليظة الصنف حقيرته
اشتهر المصريون طويلاً في صناعة التفريخ. ويبدو أن هذه الصناعة كانت شائعة في مصر في سالف الأزمنة وإن وصفها الكتاب الأولون وصفاً غامضاً. وهم يطلقون في الوجه البحري على البناء الذي يتم فيه التفريخ (معمل الفراخ) وفي الصعيد (معمل الفروج). وفي الوجه البحري أكثر من مائة معمل، وفي الصعيد أكثر من نصف ذلك العدد. ويعين اغلب مراقبي هذه المعامل إن لم يكن جميعهم من الأقباط. وتفرض الحكومة على هذه المعامل ضريبة. ويبنى المعمل بالأجر أو اللبن ويتكون من أفراد ومواقد صغيرة للنار على صفين متوازيين يفصل بينهما دهليز معقود ضيق. ويبلغ حجم كل من الأفران تسع أقدام أو عشرا طولاً تقريباً، وثماني أقدام عرضاً، وخمسا أو ستا ارتفاعاً. ويعلو كلا منها موقد مقبولا يختلف عنها حجماً والأفضل أن يكون اقل ارتفاعاً. ويتصل الفرن بالدهليز بواسطة فتحة تسمح للإنسان بالدخول كما يتصل الموقد بفتحة مماثلة. وتتصل المواقد في الصف نفسه بعضها ببعض أيضاً لكل كوة في قبوه لمرور الدخان ولا تفتح إلا عرضاً. وكذلك الدهليز يوجد به عدد كوى كالسابقة في سقفه المعقود. ويوضع البيض في الأفران، فوق الحصر أو على القش عادة، على طبقات ثلاث يعلو بعضها بعضاً. ويحرقون السرقين (الجلة) في المواقد التي تعلو الأفران ثم يقفلون مدخل المعمل بأحكام. ويتقدم المعمل حجرتان أو ثلاث حجرات صغيرة للمراقب والوقود والفراخ الناقفة حديثاً. ويجري هذا المعمل شهرين أو ثلاثة في صيف كل عام. ويبدأ التفريخ مبكراً في الصعيد. ويشمل كل معمل بين اثني عشر وأربعة وعشرين فرناً، ويتلقى حوالي مائة وخمسين ألف بيضة في الموسم السنوي، يخيب منها ربعها أو ثلثها. ويورد الفلاح البيض فيفحصه المراقب ويناول الفلاح عادة مقابل كل بيضتين فرخة صغيرة. ويستعمل نصف الأفران في الأيام العشرة الأولى، وتوقد النار في المواقد العشرة التي تعلوها، ثم تطفأ في اليوم الحادي عشر. وتوقد المواقد الأخرى ويوضع البيض الطازج في اسفل الأفران. وفي اليوم التالي ينقل بعض البيض من الأفران السابقة ويوضع في رماد مواقدها. وتظل الحرارة أثناء العملية بين مائة ومائة وثلاث(494/28)
درجات بقياس فارنيهايت. ويعرف القائم بهذا العمل من تجاربه الطويلة الحرارة اللازمة لنجاح العملية دون الاستعانة بالة ترشده لتعوده هذا العمل من صغره. وفي اليوم العشرين ينقف بعض البيض الموضوع أولاً. ولكن اغلبه يفرخ في اليوم الحادي والعشرين. وتوضع الفراريج الضعيفة في الدهليز وما بقي يوضع في أقصى الغرف الداخلية حيث تبقى يوماً أو اثنين قبل أن تسلم مستحقيها. وعندما تنقف البيضات الأولى ونصف الثانية تتلقى الأفران التي كانت فيها دفعة ثالثة، ثم توضع دفعة رابعة بالطريقة نفسها عندما تفرخ الدفعة الثانية. ولا يقل الدجاج الذي نقف بهذه الطريقة طعماً عن دجاج البيض الذي يحتضن طبيعياً. ويقل دجاج مصر وبيضه في كلتا الحالتين حجما وطعماً عن دجاج بلادنا وبيضه. وقد وجدت في إحدى الجرائد المصرية التي تنشر بأمر الحكومة (العدد 248: 18 رمضان سنة 1346، 3 مارس سنة 1831) الإحصاء التالي:
الوجه البحري
الوجه القبلي
عدد معامل التفريخ في العام الحالي
105
59
عدد البيض المستخدم
19 , 325 , 600
6 , 878 , 900
عدد البيض المعطوب
6 , 255 , 867
2 , 529 , 360
عدد البيض المفقس
3 , 069 , 733
4 , 349 , 240
لا تزال تارة مصر عظيمة وإن انحط شانها كثيراً منذ اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح(494/29)
بين أوربا والهند، ونتيجة لسياسة محمد علي وخلفائه باحتكار التجارة والاستيلاء على البضائع. وقد تقدمت التجارة كثيراً في السنوات القليلة الأخيرة لاستخدام البواخر الكثيرة بين الإسكندرية وإنكلترا وفرنسا والنمسا من ناحية، وبين السويس والهند من ناحية أخرى، وبإنشاء السكك الحديدية في الوجه البحري.
تستورد مصر الأقمشة الصوفية من أوربا ومن فرنسا خاصة، والشيت والموصلي الساذج والمصور للعمائم من اسكتلندة، والحراير والمخمل والكريشة والشيلان المقلدة عن الكشميري من سكوتلندا وإنجلترا وفرنسا، وورق الكتابة من البندقية خاصة، والأسلحة النارية والنصال المستقيمة من ألمانيا وتستورد هذه للنوبيين الخ. والساعات والفناجين والأواني الخزفية والزجاجية المختلفة واغلبها من ألمانيا والخردة والألواح الخشبية والمعادن والخرز والنبيذ وغيره من المشربات. وكذلك يستوردون الرقيق الأبيض والحرير والمناديل والفوط المطرزة ومباسم الشبك والبوابيج وضروباً من السلع المصنوعة والأدوات النحاسية والبرنزية الخ. من الآستانة، ويستوردون من آسيا الصغرى البسط وسجاجيد الصلاة والتين الخ، ومن سوريا الدخان والحراير المخططة والعباءات والصابون، ومن جزيرة العرب البن والتوابل وعقاقير عديدة والسلع الهندية كالشيلان والحرير الموصلية الخ، ومن الحبشة وسنار أقراص التمر الهندي والصموغ والسنا المكي، ومن الغرب، أي شمال أفريقيا غرب مصر، الطرابيش والبرانس والاحرمة وأحذية الجلد السختيان الأصفر.
واهم ما يصدر إلى أوربا القمح والذرة والأرز والفول والقطن والعنب واللب والنيلج والبن والتوابل المختلفة والصموغ والسني والعاج وريش النعام، والى تركيا العبيد السود والأحباش ذكورا وإناثاً والاغاوات والأرز والبن والتوابل والحناء الخ، والى سوريا العبيد والأرز الخ، والى جزيرة العرب الحبوب خاصة والى سنار والبلدان المجاورة القطن والكتان والصوف وبعض الحراير المخططة السورية والمصرية والابسطة الصغيرة والخرز وحلي أخرى، والصابون والسيوف المستقيمة السابق ذكرها والأسلحة النارية والأدوات النحاسية وورق الكتابة.
(يتبع)(494/30)
عدلي طاهر نور(494/31)
بين الحب والحظ
سلْمَى
للأستاذ علي شرف الدين
حَنِينُ فُؤادٍ عادَ لي مِنْهُ مَا بَدَا ... وَكم رَائحٍ يَأْتِي بِأَخْبَارٍ مَنْ غَدَا
بِقيَّةُ دَمْعٍ في جُفُونِي تنبَّهتْ ... وَآثاَرُ جَمرٍ في ضُلُوعِي توَقَّدَا
وَقَدْ كُنْتُ وَدَّعْتُ الْهَوَى وَشُجُونَهُ ... فلَمَّا رَأَتْ عَيْناَيَ (سَلْمَى) تَجَدَّدَا
قَصِيدَةُ شِعْرٍ صَاغَهَا اللهُ فِتْنَةً ... سَماَوِيَّةُ الألحَانِ عُلويَّةُ الصدَا
يَطوفُ بِها في رَفرفِ الْخلدِ طَائرٌ ... إِذَا لاحَ ضَوءُ الصَّبحِ رَاحَ مُغَردا
وَزَهرةَ رَوضٍ قَبلَ الْفجرُ ثَغرَهَا ... وَألقَى لَهاَ فيِ جَيبَها العِطْر وَالنَّدا
أرَقُّ مِن الأطيافِ في قَلبٍ رَاهبٍ ... تَبّتلَ حَتّىَ صَارَ روُحاً مُجَرَّدا
وَأجَملُ مِنْ عُرسِ الرَّبيعِ بِربَوةٍ ... وَأروَعُ مِن فَخرٍ عَلَى الرِّيفِ قَدْ بَداَ
تَوَدَّ النُّجُومُ الزُّهْر لو كان نظمُها ... عَلَى جِيدِهَا المَطلُولِ عِقداً مُنضَّدا
وَطَير مُروُجِ الرِّيفِ لَوْ سَال لَحنُهاَ ... مَعَ الصُّبحِ منْ سَلمَى حَديِثاً مُرَددَا
فَيَا ظَبيَةَ الفْردَوسِ فَرتْ وَلَمْ تَعُد ... عَجْبِتُ لَمن لا يَرتَضي الْخلدَ مَعْهَدا
وَيَا فَرحَةَ الدُّنياَ التَّي هَزَّ بِشرهُا ... جَوَانِح قَلبٍ كانَ للحُزنِ مَعبَدا
وَيَا سَلوةَ المَحزُونِ ضَاعَ جِهادُهُ ... حَوَى شَبحاً نضْراً وَفِكراً مُشردا
وَيَا أمَلَ المُظلومِ عُفِّرَ حَظَّهُ ... فَعادَ كَسيرَ القَلبِ حَيرانَ مُجهدا
لئنْ حَجبتْ نَجميِ عَلى الأفْقِ غَيمةٌ ... فَقدْ مَلأتْ سَلمَى سَمائيَ فَرقدَا
وَإِن صَيرتنْي كَبوةُ الحظِّ مُخفقاً ... فحسبِي نَجاحاً أنْ أرَاهَا فأسْعدا
نسيتُ بِكِ الآلامَ وَهَي كثيرةٌ ... وَبَدلتنيِ منهاَ السُّرور المُجددَّا
وَأبصرتُ جُنحَ الَّليل أزْهَر مُشرِقاً ... وَكُنتُ أرَى قَبلاً سَناَ الصُّبح أرْبدَا
وَشاعَ الرِّضا في جَبهةٍ فاضَ نُورُها ... وَقد كُنتُ عُمري سَاخطاً مُتمرِّدا
وَإنِّي عَلى حُبي الحَياةَ وَهدبهاَ ... مَدينٌ لسَلمى بالحَياةِ وَبالهُدى
خَيالٌ لَها مثلُ الحقيقةَ طيفهُ ... أكادُ مَع النَّجوى أمُدُّ لهُ يَدا
لَعمرُك مَا سَلمى سِوىَ أقحُوانةً ... لَها صَورةَ الإنِسان جِسماً مُجسدا(494/32)
علي شرف الدين(494/33)
البريد الأدبي
من شاعر إلى شاعر
(أهدي الأستاذ الشاعر علي محمود طه نسخة من ملحمته
الرائعة (أرواح وأشباح) إلى صديقه الأستاذ محمد عبد الغني
حسن ولم يكن قد أتيحت له قراءتها إلا بعد أن سلم من ثورة
نفسية جامحة فأرسل إليه هذه الأبيات):
هذا كتابك أشباحٌ وأرواحُ ... شعر من النغم العلويِّ لمَّاحُ
فيه من الفنِّ إشراقٌ وتجليةٌ ... وفيه من ومضات الروح أوْضاح
فيه من السحر ما هاروتُ يصنعُه ... وخمرِ بابلَ ما لا تصنعُ الراح
أقررتَ عيني وعين المعجبين به ... بكل معنى إليه النفس ترتاح
الشعر ما الشعر إلا روضة عبقت ... وأنت فيها طليق الصوت صدَّاح
سريتَ في الشعر مَسرى الملهمين كما ... يسري نسيم على الأسحار فوَّاح
فأنتَ في جوِّه العلويِّ منطلق ... وأنتَ في بحره اللجيِّ ملاَّح
محمد عبد الغني حسن
إنصاف الأب الكرملي
اطلعت في العدد الأخير من (الرسالة) على قطعة بعنوان (الكرملي في قبضة الحق) بقلم الأستاذ سعيد الأفغاني في دمشق. وإنصافاً للأب المحترم أقول:
خطأ الكاتب الأب، لأنه أنكر (أحجاراً ملساء) وصححها (بأحجار ملس) وقال: (لك أن تقول أشهر محرمة ومحرمات وأياماً معدودة ومعدودات) ولم يأتنا بمثل من القرآن أو الحديث أو كلام بليغ على مثل (مباسم فلجاء وعيون دعجاء وحواجب بلجاء)، بل الذي ورد من ذلك (لو رأيتم العيون الدعج تحت الحواجب البلج فوق المباسم الفلج لاتخذتموها اللات والعزى) ولم يرد غير ذلك على الإطلاق في كلام فصيح(494/34)
وغريب قول الأفغاني (أما استقراؤه الشخصي أي الأب وطلبه من مخالفيه الآتيان بشاهد فلا يردان حجة، لأن المقيس لا يلزم له (يريد يلزمه) شاهد. يريد أن يقول إن عندنا قاعدة جميع شواهد اللغة شواذ منها
لكن مجمعنا اللغوي فهم ما لا يفهمه الكاتب ولا احسب الكاتب ينكر أن مجمعنا يحتج بكلامه. فقد جاء في الصفحة 204 من الجزء الرابع من مجلته قوله:
القاعدة: فعلاء مؤنث افعل كحمراء تجمع باطراد على فعل قال ابن يعيش: (فأما فعل فهو جمع فعلاء صفة إذا كانت مؤنثة افعل نحو حمراء وحمر وصفراء وصفر جمعوه على فعل جمع ما لا زائد فيه الخ. . .
فكريات بيضاء ليست صحيحة، وهذا ما كلت ألسنتنا وحفيت أقلامنا لإفهام أدبائنا إياه
نجيب شاهين
شبهة في تاريخ وفاة ياقوت
من المعروف أن صاحب معجم الأدباء (ياقوت بن عبد الله الرومي) توفي عام 626 من الهجرة. . وقد نص على هذا ابن خلكان في تاريخه؛ عندما ختم ترجمته لحياته بقوله: وتوفي يوم الأحد لعشرين من شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة في الخان، بظاهر مدينة حلب
وعن ابن خلكان نقل ابن العماد صاحب (شذرات الذهب في أخبار من ذهب)، وجرى على هذا جميع أصحاب التراجم من المتأخرين. . .
ولكني وجدت ياقوتاً في معجمه (ج2، ص 198، طبع دار المأمون) يتحدث عن الحسن بن أبي المعالي المعروف بابن الباقلاني النحوي. . . ثم يختم حديثه عنه بقوله: (لقيته ببغداد سنة سبع وثلاثين وستمائة، وكان آخر العهد به). ونفهم من هذا أن ياقوتاً كان يعيش في ذلك التاريخ، بل يمكن أن نستنبط من قوله (وكان آخر العهد به) أنه يشير إلى وفاة ابن الباقلاني، وحدوثها في تلك السنة. ويؤيد هذا ما أورده السيوطي في كتابة (بغية الوعاة في ذكر طبقات النحاة)؛ فقد نقل عن ابن النجار صاحب تاريخ بغداد أن وفاة الباقلاني كانت (يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وستمائة)(494/35)
هذه حقائق تاريخية تصطدم في ذهن القارئ ولا يجد لواحدة منها مرجحا؛ فهل نشك في صحة ما اجمع عليه المؤرخون من تاريخ وفاة ياقوت، أم نخطئ ما ورد بمعجمه من تاريخ التقائه بابن الباقلاني؟ وإذا اخذنا بالرأي الأخير، فهل نحمل السهو في ذلك على ياقوت نفسه، أم نحمله على ناسخي معجمه والقائمين بطبعه من القدماء والمحدثين؟. . .
هذا شيء، والشيء الآخر أن مكان هذه المقابلة - فضلاً عن تاريخها - موضع (للتفكير. فياقوت، كما نفهم من كلام ابن خلكان، لم يطرق بغداد منذ حوالي سنة 600هـ، بل إنه (تحامى دخولها) وهو يقترب منها عند انتقاله متخفياً من إربل إلى خراسان عام 613هـ؛ لأن له غريماً (علويا) من أهلها كان قد ناظره في دمشق وألب عليه العامة حتى كادوا يقتلونه؛ وكان هذا سبب هروبه إلى خراسان، فكيف إذن يزعم ياقوت أنه لقي ابن الباقلاني في بغداد؟ وإذا قلنا إنه لقيه بها قبل عام ستمائة (أي تسع وتسعين وخمسمائة فما قبله) فكيف يتفق أن يقع الخطأ أو التحريف في ثلاثة أرقام كاملة، فنقرأ أن هذا اللقاء كان في سنة (سبع وثلاثين وستمائة)؟. . .
(جرجا)
محمود عزت عرفة
المكتب
قال الدكتور زكي مبارك وهو يدرس الشوقيات عندما تعرض لقصيدة (مصاير الأيام) ما يلي: (. . . ابتدأ الشاعر يريد شوقي) بحياة الطفل في المكتب، والمكتب كلمة جديدة يراد بها المدرسة الأولية، وهي كذلك في عرف وزارة المعارف فهي تقول المكاتب العامة بعد أن تقول المدارس الأولية)
وقد نفهم من ذلك أن المكتب بمعنى المدرسة الأولية وضع جديد والصحيح أنه استعمال قديم، ودليلي على ذلك ما يلي:
1 - قال المبرد: (المكتب موضع التعليم والمكتب المعلم، والكتاب الصبيان، ومن جعل الموضع الكتاب فقد اخطأ) ويرى هذا الرأي صاحب القاموس ولكن صاحب تاج العروس رده.(494/36)
2 - قال ابن خلكان في ترجمة أبي مسلم الخراساني: (أنه نشأ عند عيسى بن معقل فلما ترعرع اختلف هو ووالده إلى المكتب) وغير خاف أنه في هذا الدرر من حياته يتعلم التعليم الأولي.
3 - روي ابن قتيبة في كتاب المعارف: (أن من المعلمين علقمة بن أبي علقمة مولى عائشة. . . كان له مكتب يعلم فيه العربية)
4 - وأوضح من هذا ما قاله الغزالي في كتاب الأحياء في باب رياضة النفس جـ ثالث: (ويشغل الطفل في المكتب بتعلم القرآن، وأحاديث الأخيار وحكايات الأبرار وأحوالهم. . . وينبغي أن يؤذن للطفل بعد الانصراف من المكتب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب التعلم).
محمود السيد أبو السعود
بني أمية والإسلام
قرأت ما كتبه الأستاذ محمود أبو رية حول كتاب (عبقرية عمر) للأستاذ عباس محمود العقاد. والحق يقال إن الأستاذ قد غالى كثيراً في قوله إن البناء الإسلامي قد تصدع، وإن اليأس اخذ يدب في جسم الدولة الإسلامية في عهد بني أمية، واستشهد على ذلك بقول الإمام علي: (إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا ترتق إلى يوم القيامة)
والباحث المنصف في تاريخ الإسلام لا يسعه إلا أن يقرر أن الدولة الإسلامية لم تصب حظاً من العظمة وامتداد السلطان مثل ما أصابته في عصر الدولة الأموية
وكيف يدب اليأس في قلوب المسلمين في عصر بني أمية وهم الذين ركبوا البحر في هذا العهد لأول مرة، وكان لهم فوق الخضم المتلاطم صولات وجولات هي صفحة بيضاء في كتاب الشجاعة الإسلامية؟! وهذا عقبة بن نافع يسير بكتائب المسلمين في محاذاة الشاطئ الأفريقي مخترقاً المجاهل والقفار حاملاً لواء الإسلام خفاقاً في بلاد كل ما يعرفه عنها أن أهلها همج متوحشون لم تصلهم مدنية ولا حضارة!
أما قول الإمام علي، فما أظن أن الإمام كان يقصد أن البناء الإسلامي قد تصدع بموت عمر، إنما كان قصده أن الإسلام قد خسر بموت عمر رجلاً من خيرة رجالاته ومن العسير(494/37)
أن يجد الناس منه عوضاً.
أحمد البديني
فلسفة الأخلاق في الإسلام
الأستاذ محمد يوسف من العلماء الباحثين والكتاب المروين الذين عناهم الأستاذ الزيات في مقالته الغراء (دفاع عن البلاغة)
فهو يكتب عن دراسة مستفيضة وتحليل عميق، فيخرج الفكرة ناضجة، ويبدي الرأي خميراً، ويجلي البحث مكتملاً من جميع نواحيه
ولعل هذا هو السر في ظواهر ثلاث نلمسها لمساً في كتابه (فلسفة الأخلاق في الإسلام)
1 - النشر والطي، والتفصيل والأجمال، والعرض والتلخيص؛ مما يبلغ حد التكرار أحياناً ويؤاخذ به من لم يقصد إلى الإيضاح والتحرير
2 - الدقة البالغة في الشرح والموازنة، وتجلية الغامض من عبارات الفلاسفة ومصطلحات الصوفية، إلى أمانة في النقل نادرة؛ مما حداه إلى كثرة الاستدراك، وإيراد الجمل المعترضة التي لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة واثبات النصوص مسندة إلى مصادرها الكثيرة المتنوعة
3 - السداد في النظر، والعدالة في الحكم بعد استقصاء وجوه الرأي، من غير ما سفه ولا شطط حتى لا تحوك في الصدر شبهة دون أن يذيبها بقول سديد أو رأي رشيد
غير أن إصابة الأستاذ للغرض، ومصاحبته للتوفيق، ونزاهته في الحكم - لا تحول بيننا وبين الإدلاء بهذه الملاحظات الخفيفة خدمة للعلم ووفاء للحق (والحق لا يصح أن نجامل على حسابه أحداً من الناس وإن كان زين الدين وحجة الإسلام والمسلمين)
(ا) كنا نود أن يقتصد المؤلف ولو صفحة واحدة مما كتب في ابن عربي الذي هو إلى فلاسفة التصوف اقرب منه إلى فلاسفة الأخلاق، فيضمها إلى الكتابة عن أبي الحسن البصري المارودي الذي أشار الأستاذ بحق إلى أن كتابه (أدب الدنيا والدين) مما يمثل الأخلاق الإسلامية اصدق تمثيل على حين لم يظفر من الكتاب إلا ببضعة اسطر. وإذا لم تكن ترجمة أبي الحسن من أغراض الكتاب فلا ريب أنها - على الأقل - من قبيل(494/38)
الاستطراد المفيد
(ب) مما يثير العجب والأسف معاً أن بعض أئمة الأخلاق والتصوف - بله الأدب والفلسفة - ليسوا من أهل البصر في علم الحديث؛ ولقد روي عن الغزالي رحمه الله أنه قال: بضاعتي في هذا العلم مزجاة؛ وسبب ذلك عند علماء الحديث معروف؛ فكنا نأمل ألا يروي المؤلف حديثاً عن الأحياء أو غيره - وهو من أجلة المدرسين في كلية أصول الدين - إلا مع الإشارة إلى درجته على الأقل. ورحم الله الحافظ العراقي فقد كفانا المئونة في تخريج أحاديث الأحياء كتابه (المغنى) وقد جمع بينهما الحلبي في طبعته؛ ولكن الأستاذ اعتمد على نسخة مجردة. على أن المؤلف نقل تزييف الحفاظ للحديث الصوفي المشهور: (كنت كنزاً مخفيا. . .) وأبان اعتراف الصوفية أنفسهم بأنه لم يثبت نقلاً وإن ثبت كشفاً
وحبذا لو أشار إلى تزييف العراقي للحديث الذي ساقه الغزالي في الزهد (من أراد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا) وما أكثر أمثال هذا الحديث في كتب الغزالي.
(ج) في الكتاب أعلام وكلمات غربية، كان يحسن أن يضبطها الأستاذ فيكفي القارئ مئونة البحث والتنقير، ولكن عذره - ويظهر أنه لابد من الاستدراك دائما - أن الكتاب موضوع لطائفة مفروض عليها البحث والتنقيب.
وبعد فما قرأت كتاباً في الأخلاق أو الفلسفة وأحببت أن أعود إليه بشغف وعناية قبل هذا الكتاب. وهذا - فيما أعتقد - أمارة على إخلاص المؤلف وحبه للحق ودءوبه على البحث عنه والوصول إليه؛ في أدب جم وخلق كريم.
طه محمد الساكت
المدرس بمعهد القاهرة(494/39)
العدد 495 - بتاريخ: 28 - 12 - 1942(/)
2 - التلباثي
للأستاذ عباس محمود العقاد
كثر الذين حادثوني أو كتبوا إلي بصدد مقالي عن (التلباثي) الذي نشرته الرسالة في عدد مضى؛ وبدا لي من أحاديثهم ومن رسائلهم أن بعضهم فهم المقال كما أردت أن يفهم؛ وبعضهم تجاوز به إلى الحد الذي أريده. وقد استزادني أناس من الكتابة فيه، وسألني أناس غيرهم أسئلة يقترحون الإجابة عليها. واحسبني ألبي مقترحاتهم جميعاً بما آثرت من الإجابة عن خطاب كتبه إلى صديقنا الأستاذ محمد شاهين حمزة نائب الدر السابق ولخص ما قراه تعليلا لأمثال هذه الحوادث - حوادث التلباثي - فقال:
(. . . ذكر بعض العلماء أن الأجسام تصدر منها أثناء حركتها الآلية إشارات ورسائل تنطلق على أمواج الأثير كأنها محطات الإصدار في اللاسلكي، وهذه الرسائل التي تشير إلى شخصيات مصدريها وتحمل بعض أفكارهم تهز مراكز خاصة في أدمغة من لهم سابق معرفة بأصحابها أثناء انطلاقها، فتلتقطها هذه وكأنها محطات الاستقبال تقابل محطات الإصدار الأولى، وكان لكل إنسان محطتين أو جهازين للإصدار والاستقبال. ولما كانت هذه الرسائل متفاوتة القوى كانت هناك رسائل تصدر ميتة أو ضعيفة فلا تصل إلى أحد، وأخرى تصدر قوية لكن ضعفاً أو خللاً في محطة الاستقبال يحول دون تلقيها)
ثم سألني الأستاذ رأيي في هذا وختم خطابه قائلاً:
ونقطة أخرى أحسبها تحتاج إلى جلاء علمي هي: كيف بلغ صوت عمر بن الخطاب سارية وصحبه حين ناداهم بقوله: (يا سارية بن حصن. الجبل الجبل! فاستجابوا له؟)
ومن اللازم فيما أرى أن أبداً بتقرير الحد الذي يكفينا أن نقف عنده فيما يرجع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وملكة التلباثي أو التلفزيون
فقد أردنا أن نذكر علامات العبقرية عند بعض النفسانيين المحدثين، ومنها (الحساسية) الخاصة التي تلاحظ على بعضهم فيشتهرون بالغرابة في إيحاء الأفكار واستيحائها، وقلنا إن عمر بن الخطاب قد لوحظت عليه من ذلك علامات كثيرة كالفراسة وصدق الظن وسرعة التنبه إلى الفوارق الدقيقة بين المذوقات كما تنبه إلى الفارق بين لبن ناقة ولبن ناقة أخرى، وكلتاهما في مكان واحد ومرعى واحد(495/1)
ومما روي عنه حديث سارية الذي أشرنا إليه. وقد لخصناه وقلنا بعد تلخيصه: (لا داعي للجزم بنفي هذه القصة استناداً إلى العقل والى العلم أو إلى التجربة الشائعة. فإن العقل لا يمنعها، والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها ونفي أمثالها)
ثم عقبنا على ذلك قائلين: (إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهوراً بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية أما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد، وهي الهبات التي يلحقها بالعبقرية علماء العصر الذين درسوا هذه المزية الإنسانية النادرة وراقبوها)
فسواه صحت قصة سارية أو صح جزء منها أو لم يصح شئ منها على الإطلاق، فيكفي أن تروى عن عمر بين معاصريه، ليثبت لنا أمر محقق لا شك فيه، وهو أن (الحساسية الخاصة) كانت ملحوظة فيه حتى تنس إليه الناس ما نسبوا من رؤيته جيش سارية على البعد وندائه عليه. فهو قبل أن تقع هذه القصة كان من أصحاب (الحساسية الخاصة) التي يلحظها من حوله وينسبون إليها الحوادث التي تناسيها
وهذه وحدها علامة كافية من علامات العبقرية، ولا حاجة معها إلى تحقيق ندائه على سارية واستماع سارية له كما جاء في القصة المروية أو على نحو يقاربها
فهو في رأي من حوله رجل يحس الأشياء التي لا يحسونها، ويملك القوى النفسية التي لا يملكونها، وهذا كاف لا تصافه بعلامة بارزة من علامات العبقرية في رأي النفسانيين المحدثين
وهنا نحن على (بر الأمان) الذي لا مجازفة فيه، ولا يكلفنا كثيراً ولا قليلاً في التعرض للتلباثي بالنفي والإثبات
ولكننا إذا تجاوزنا هذا وتعرضنا لتحقيق التلباثي للحكم بإمكانها أو استحالتها، ففي وسعنا أن ننتقل من بر أمان إلى بر أمان مثله لا مجازفة فيه، وهو مطالبة الذين يجزمون باستحالتها بالدليل على ما يقولون
لأن الجزم باستحالة شئ بغير دليل كالجزم بوقوعه عياناً بغير دليل، كلاهما خرافة لا يقبلها العقل، وإن جاء أحدهما من ناحية الإثبات
وإنما الموقف السليم بين الإنكار والقبول أنك تترك الباب مفتوحاً لمن يثبت وينفي على(495/2)
السواء، فيجوز أن يأتي غداً من يثبتها ثبوتاً قاطعاً شك فيه؛ ويجوز كذلك أن يأتي غداً من ينفيها نفياً قاطعا لا شك فيه، ولا يجوز - حتى ذلك اليوم - أن تقطع باستحالتها على وجه من الوجوه. وكل ما امتنع القول باستحالته فهو معلق بالممكنات، ولا سيما إذا كثرت بيننا مشبهاته وشاع بيننا على درجات دون درجته القصوى، باتفاق الشعور بين ألوف من الناس
يسألني الأستاذ شاهين: (كيف بلغ صوت عمر سارية وصحبه فاستجابوا له؟)
فالجواب المأمون هنا أنني لا أعلم ولا أجزم بأن الصوت وصل واستجيب، ولا أجزم كذلك بأنه ممتنع الوصول والاستجابة
ولكننا إذا قلنا بوصوله واستجابته فإنما يتصور العقل وقوع ذلك على صورة من صور ثلاث:
الأولى: أن الصوت الذي سمعه سارية كان صوتاً مادياً يبلغ الأسماع كما يبلغها اليوم صوت المتكلم في المذياع على مسافات بعيدة
والصورة الثانية: أن الصوت وصل بالإيحاء النفسي إلى الجيش كله فاتفقت نفوسهم جميعاً في لحظة واحدة على الاتجاه والاستيحاء والسماع
والصورة الثالثة: أن الصوت وصل بالإيحاء النفسي إلى سارية وحده أو إلى سارية ومن شاركه في هموم القيادة، فشعر به فرد واحد أو أفراد قليلون
وأسهل هذه الصور الثلاثة قبولاً في العقل، على ما نعتقد، هي الصورة الثالثة، وهي أن سارية توجه بنفسه إلى نفس عمر في مأزق شديد عليه وعلى عمر معاً فشهر به الخليفة وناداه وهما في لحظة التقابل بالوحي والاستيحاء
هذه الصورة اسهل قبولاً من الصورتين الأخريين
لأن الصورة الأولى وهي انتقال الصوت المادي مئات الأميال بغير الوسائل الصناعية التي نستخدمها في عصرنا يكلفنا أن نطبع العناصر المادية بطابع لم تعرف به قط فيما مضى وفيما حضر، ويقتضي أن يكون صوت سارية قد سمع في الجيش الذي معه وهو يستغيث، وقد سمع في المسجد الذي كان عمر يخطب فيه، وقد سمع الصوتان: صوت الاستغاثة وصوت الاستجابة على طول الطريق، ولم يذكر لنا رواة القصة شيئاً من ذلك، ولو ذكروه لتحدث به الألوف من جند سارية ومن المصلين مع عمر ولم يقتصر حديثه على بشير(495/3)
واحد أو نفر قليلين
أما الصورتان الأخريان فكلتاهما تمثل لنا وصول الصوت أو وصول الخاطر على الأصح بطريق الإيحاء من نفس عمر إلى نفوس سامعيه، ولكن التقاء نفسين أيسر قبولاً من التقاء نفس واحدة من جانب، وألوف النفوس من جانب آخر، ولهذا قلنا أن التقاء الشعورين بين عمر وسارية أسهل الصور الثلاث قبولاً، متى قلنا بوقوع الاستغاثة ووقوع الاستجابة
والأستاذ شاهين قد سأل في خطابه سؤالاً يشتمل على بعض الجواب الذي أجبناه حيث قال:
(إذا كان الأمر أمر رؤية بعيدة فهل تقف الرؤية عند الماديات أو تتعداها إلى الافكار؟ فقد يحدث أن يذكر الإنسان شخصاً ويذكر معه أمراً معيناً، ولا يلبث أن يلقى الشخص الذي ذكره فيبادره هذا بحديث عن ذلك الأمر المعين بنفسه، كما حدث لي مراراً، وهذا مما يغري بالميل إلى الفكرة القائلة بحركة الأجسام والإشارات الصدارة منها والتي يلتقطها جانب ثان)
فالتمثيل بمحطات الإرسال ومحطات الاستقبال هنا تمثيل مقبول لتقريب التصور وسهولة التشبيه، ولا مانع من اتصال النفوس على البعد وهي تتصل على القرب اتصالاً لاشك فيه، فإذا اتفق أن نفسين توجهتا كلتاهما إلى الأخرى - في وقت واحد فذلك أحرى بتوافق الشعور وتوافق الخاطر، والجزم بإمكان هذا اصح من الجزم بامتناعه إذا لم يكن بد من أحد الأمرين
يحدث كثيراً - كثيراً جداً - بين الصديقين المتفاهمين أن يطيلا الجلوس معاً صامتين، ثم يعودا إلى الحديث فجأة فإذا هما يطرقان موضوعاً واحداً أو يسألان عن شئ واحد. ولو كان هذا الموضوع على اتصال بما كانا يتكلمان فيه قبل ذلك لقلت الغرابة في اتفاقها عليه بعد صمت طويل، ولكنه يكون أحياناً بمعزل عن كل موضوع طرقاه ذلك اليوم
فما تعليل ذلك؟
تعليله تقارب الشعور والتفكير، وهما لا يتقاربان هنا بأداة مادية حتى يقال بالفرق بين حصوله في حجرة واحدة وحصوله على مسافة أميال
فإنكار هذا الاتصال أصعب من إثباته، والقول بإمكانه قول تعززه احتمالات قوية(495/4)
ومشابهات مألوفة وروايات متواترة، ولا يقف أمامها من ناحية النفي إلا مجرد الإنكار أو سوء فهم الواقعيات والماديات
وقد وصلنا في زماننا بالماديات إلى حدود الروحيات، فانتقلنا بها من هذه الأجسام التي تلمس وتدرك بالحس إلى الذرات، ثم إلى الطاقة، ثم إلى الإشعاع الذي يدركه الفكر ولا تمسكه الحواس؛ فمن الحيطة أن نقل من الإنكار بعد أن أسرفنا فيه، وقد جاء زمان كان الإنكار فيه حسنا بعد إفراط الناس في الإثبات، فهل تدور الآن دورة من تلك الدورات الفكرية المعهودة فنسرف في القبول بعد إسرافنا في الإنكار؟
لا هذا ولا ذاك بالحسن المأمون، وإنما الحسن المأمون أن نأخذ بدليل ونرفض بدليل، وإن نعلم أن العجائب في الدنيا لا تنتهي فلا نغلق على أنفسنا بابها مختارين.
عباس محمود العقاد(495/5)
مسابقة الأدب العربي
1 - ديوان حافظ إبراهيم
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - شاعر القصر وشاعر الشعب - دسائس أدبية - ميدان حافظ - هزيمة حافظ - عريضة اتهام - هزائم فظيعة - قصيدة قصر الزعفران
تمهيد:
المقرر لمسابقة هذا العام هو الجزء الثاني. ومن الخير أن يرجع المتسابقون إلى مجموعة السنة الماضية من مجلة الرسالة، ففيها تفاصيل عن شاعرية حافظ لا تملك تلخيصها في هذا الحديث، وفيها أيضاً تفاصيل عن شاعرية شوقي، تفاصيل تكمل الدراسات التي قدمناها في الأسابيع السوالف، وتوضح اتجاهات شوقي في طوائف من الأغراض
السياسيات
أهم أبواب الجزء الثاني من ديوان حافظ هو باب السياسيات، وسيسأل فيه المتسابقون بكل تأكيد، لأن الجانب السياسي من شعر حافظ هو أبرز الجوانب في حياته الشعرية، فمن الواجب أن يجعله المتسابقون أول ما يدرسون بعناية وتدقيق
شاعر القصر وشاعر الشعب
لم تكن الحياة المصرية قبل الحرب الماضية شبيهة بالحياة التي جدت بعد تلك الحرب، ومعنى هذا أن أيام الخديو عباس تختلف عن أيام الملك فؤاد؛ ففي عهد عباس كان للقصر شعراء وللشعب شعراء، ولا كذلك الحال في عهد فؤاد، فقد أراد القصر أن يحول الشعر إلى وجهة قومية، ولم يقبل الملك فؤاد أن يكون له شعراء بالمعنى المعروف لعهد الخديو عباس، وإن كان تغاضي عن دعوى الشاعر عبد الحليم المصري رعاية لما كان ليه من أدب وإخلاص
دسائس أدبية
أنا مقبل على تسجيل حقائق لم تسجل قبل اليوم، ولن يعرفها التاريخ الأدبي إلا عن طريق(495/6)
هذه الأحاديث، وما يدعوني إلى تسجيلها إلا الخوف من أن تضيغ
شعر حافظ السياسي يبتدئ في سنة 1904، وشعر شوقي السياسي يبتدئ في سنة 1894، وقد انتهيا معاً في سنة 1932 عليهما أطيب الرحمات!
فكيف صار شوقي وحده شاعر القصر؟ وكيف اكتفى حافظ بأن يكون شاعر الشعب؟
يرجع السبب إلى أن شوقي كان مفطوراً على حاسة سميتها منذ سنين (حاسة المعاش) وهي حاسة ورثها عن أبويه، وكان لهما بالقصر اتصال، وشوقي نفسه قال كلاماً يؤيد هذا المعنى في مقدمة الطبعة الأولى من الشوقيات، وهي مقدمة تجاهلها شوقي فيها بعد، وتمنى أن تضيع من ذاكرة التاريخ، ولكن هيهات!
كانت في عيني شوقي علة شعرية هي النظر دائماً إلى السماء، علة تمنعه من أن يرى ما بين يديه، ثم اتفق أن زارت جدته الخديو إسماعيل وهو معها، وكان طفلاً رائع الجمال، فسألها الخديو عن أحوال ذلك الطفل الجميل، فقالت بتحسر وتوجع: أن في عينيه آفة تمنعه من رؤية الأرض؛ فنثر الخديو بدرة من النقود الذهبية على البساط، فاعتدلت عينا الطفل وأقبل على الذهب يجمعه بشراهة نادرة المثال!
قال إسماعيل: هذا دواء هاتين العينين العليلتين!
فأجابت الجدة: ولكنه دواء لا يوجد إلا في صيدلية إسماعيل!
وعرف أهل الطفل دواء عينيه فكانوا ينثرون ما يملكون من النقود لينظر إلى الأرض، عساه يستريح من إدمان النظر إلى السماء
وشب الطفل وصار له حمار يمتطيه في العصريات، يوم كان القاهريون يغنون:
(أحب مشي العصاري لاجل ما أشوفك)
وكانت (دار شوقي) في تلك الأيام تقري من (دار الرسالة) في هذه الأيام، ولم يكن له بد من عبور ميدان عابدين وهو على صهوة حماره في نزهة الأصيل
وغلبت شوقي علة عينيه فنظر إلى فوق، فلمح الخديو توفيق في إحدى الشرفات، فنزل عن حماره وعبر الميدان على قدميه. وراع الخديو أن يرى شاباً يراعي هذا المعنى، فقرر أن يدعوه إليه بلا تسويف، ليبشره بوظيفة في ديوان المعية
لا يعرف أحد كيف كان شوقي في لك الوقت، ولكني أعرف كيف رأيته بعد نحو ثلاثين(495/7)
سنة من ذلك التاريخ، حين عاد من منفاه، وحين تفضل عبد اللطيف بك الصوفاني فجمع بيننا في حفلة عشاء بالدار التي أجهل ما صنعت بها الأيام!
هالني أن أرى شوقي الذي كان أمير الشعراء قبل أن تواجه عيناي نور الوجود قد احتفظ من أطلال صباه بنونتين تزينان خديه عند الابتسام، وأي ابتسام؟
وأقول بصراحة إني لم أر وجهاً أجمل من وجه شوقي، ولا روحاً الطف من روح شوقي
ولكن هذا الجمال الجسدي والروحي كانت له غدرات، منها حسب التفرد بالسيطرة والاستعلاء. . . وهنا بيت القصيد!
كان شوقي يحب أن يكون وحده شاعر القصر في عهد عباس. وقد تسبب للقصر في متاعب، فقد دخل لورد كرومر على الخديو عباس وهو غضبان، وحجته أنه علم أن أحمد شوقي وعلي فهمي كامل يدبران أموراً لا يجوز عليها السكوت، والخديو عنهما مسؤول مسؤول. وما أحب أن أزيد!
هل كان شوقي الذي يحارب إنجلترا في السر يهادن خصومه من الشعراء؟
وهل كان يسمح بأن يكون لخصومه ومنافسيه في قلب الخديو مكان؟
ارجعوا إلى ما كتب فضيلة الشيخ عبد القادر المغربي في مجلة الرسالة منذ سنين لتروا كيف استطاع شوقي أن يمنع كرم الخديو عباس عن الشيخ عبد المحسن الكاظمي، ثم ابحثوا بعد ذلك عن السر في عطف الشيخ محمد عبده على الشيخ الكاظمي، فأنا أفترض أن الفتور بين الخديو والمفتي كان له أثر في تقوية ذلك العطف الرفيق.
صيدان حافظ
لم يستطع حافظ مجاراة شوقي في الحياة الرسمية، فانحاز إلى ميدان الوطنية، وصار بعد قليل شاعر الشعب، الشاعر الأول المحبوب، وكان الاتجاه الشعبي صريحاً في مقاومة الاحتلال، وصريحاً في تقوية الأواصر الإسلامية، فكان لحافظ قصيدة في كل مناسبة وطنية، وقصيدة في كل مناسبة دينية. ولم يفته أن يتغنى في أشعاره بأكثر أمم الشرق، ولا سيما اليابان، وما كانت اليابان أقرب إلينا في الوجوه والأفكار من إيطاليا أو فرنسا، ولا كانت لنا باليابان صلات أدبية أو اقتصادية، وإنما كانت اليابان في الاصطلاح الجغرافي أمة شرقية، وكان المهم هو إفهام الشعب أن الشرق يستطيع مجاراة الغرب في جميع(495/8)
الميادين أن تسلح بأسلحة هذا الزمان، ولهذا السبب سارع الزعيم الوطني مصطفى كامل فألف كتاباً عن نهضة اليابان ليضرب لقومه الأمثال
هزيمة حافظ
كان حافظ أطال القول في شكري البؤس، فعينه الوزير حشمت باشا في وظيفة بدار الكتب المصرية، فسكت عن اغاريده الوطنية، وعند ذلك كثرت فيه الأقاويل، وجالت في غمزه الألسنة والأقلام كل مجال
ثم جاءت فرصة مشؤومة عليه، هي ظهور ثلاث قصائد في يوم واحد بجريدة الأهرام عند اعتلاء السلطان حسين كامل أريكة العرش: قصيدة أحمد شوقي وقصيدة حافظ إبراهيم وقصيدة أحمد نسيم
كانت الحرب في تلك الأيام تجتاز مسالك شوائك، فخاف حافظ وخاف نسيم عواقب المشي على الشوك. أما شوقي فهتف بقصيدة رمزية شغلت الجماهير بالتفاسير والتآويل، فعده المصريون شاعرهم الأول، وزادوا إيماناً بعبقريته حين رأوا أن تلك القصيدة قضت عليه بالخروج من البلاد
وكان في مصر جريدة أسبوعية اسمها (عكاظ)، وقد رأى صاحبها الشيخ فهيم قنديل أن يتودد إلى الجمهور بنشر ما طوى من أشعار شوقي، ولم يكن يكتفي بتسميته (أمير الشعراء) وإنما كان يسميه (شاعر الدنيا والآخرة) فحفظ سمعته الشعرية في أعوام الحرب الماضية، وعطر باسمه جميع أندية الأدبية
وفي ثورة سنة 1919 تخاذل حافظ فلم ينطق بحرف
دخلت الأزهر ذات مساء فسمعت خطيباً يعيب عليه التخاذل، فعلوت المنبر وفندت اتهامات ذلك الخطيب
وفي اليوم التالي لقيت حافظاً بمنزل محمود باشا سليمان، فقال له حفني بك محمود: هل تعرف يا حافظ بك أن الأستاذ مبارك دافع عنك في الليلة الماضية؟
فأدار حافظ بصره إلي وقال: ماذا تريدون مني؟
قلت: نريد قصائد وطنية
قال: والاعتقال؟(495/9)
قلت: وما خطر الاعتقال؟
فأيجاب في هدوء: لن أجد في المعتقل هذا السيجار (وكان في يده سيجار)
فقلت: لن تكون شاعر مصر الوطني وأنت أسير هذا السيجار البغيض!
عريضة اتهام
الغرض من هذه الدراسات هو إرشاد المسابقين إلى إدراك السرائر من الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، وأنا قلت أن حافظاً تخاذل عن الثورة فلم ينطق بحرف، ونحن في مقام التاريخ وهو مقام يوجب الصدق، فلينظر المتسابقون في ص87 بالجزء الثاني من ديوان حافظ، ليروا أن قصيدته التي نظمها عن مظاهرة السيدات في سنة 1919 لم تنشر إلا في سنة 1929، ومعنى ذلك أنها كتمت نحو عشر سنين!
أتريدون الحق؟
لقد نسيت تلك القصيدة في ذلك الوقت إلى جماعة من الشعراء منهم الأستاذ محمد الهراوي، ولم ير حافظ أن يصحح النسب، لئلا يقال أو يقال!!
هزائم فظيعة!
بعد عودة شوقي من منفاه حاول أن يتصل بالقصر من جديد، فحبر القصائد الطوال في مدح الملك فؤاد، ولكنه نسى أن الملوك لا يعرفون غير القلب البكر، فهم لا يأنسون بمن استأنسوا لسواهم في أحد العهود
كان الملك فؤاد غاية في الجبروت العقلي، وكانت عيناه أحد من عيني النسر الظامئ، وكان يحب أن يكون عرش مصر أعظم العروش، ولهذا بخل بالرتب والألقاب، إلا أن تكون جزاء على خدمة قومية تستحق التمجيد
وكان للشاعر شوقي تاريخ في شؤون الرتب والألقاب، فصد عنه الملك فؤاد، ولم يجد عليه بأي انعطاف
وهنا سنحت الفرصة للشاعر حافظ، فماذا صنع؟
أراد أن يؤلف جماعة من الشعراء يسميهم (شعراء القصر) فلم يظفر بغير الإخفاق
دعاني حافظ ذات يوم إلى موافاته بقهوة النيوبار ليحدثني في مسألة خصوصية، وكان(495/10)
الغرض أن يدعوني للانضمام إلى تلك الجماعة الشعرية، فاعتذرت بأن شيطاني لا يوافيني إلا في ميدان الغزل والتشبيب، ومن الصعب على أن أنظم شعراً في غير هذا الميدان، وأنا تلميذ عمر بن أبي ربيعة، ولم يكن عمر يجيد مدح الملوك
قال حافظ: أنت أحمق يا مبارك!
فقلت: علمني يا معلمي كيف أداوي هذا الحمق
قال حافظ: ستمدح فؤاداً العظيم
فقلت: أمدحه أجزل المدح بالنثر لا بالشعر، فأقول فيه أعظم مما تقول، والآفة الوحيدة هي آفة شيطاني، وهو لا يوحي إلى من الشعر غير الغزل والتشبيب، ولو كان أمري بيدي لنظمت القصائد الطوال في مدح الملك فؤاد، فهو في نظري أعظم الملوك
قال حافظ: أتكون أصدق مني؟
فقلت: إني لا أجود بغير ما أملك، وطاقتي الشعرية لا تسمح بغير ذلك الفن الذي تعرف. فهل تريد أن تفضحني بين الشعراء؟
ثم؟ ثم؟
ثم غدر المتشاعرون بحافظ فورطوه في متاعب أفسدت ما بينه وبين القصر إفساداً ليس بعده صلاح، وسأتحدث عن هذه النقطة السوداء بعد حين!
قصيدة قصر الزعفران
هي قصيدة غابت عن الأستاذ أحمد بك أمين وهو يجمع ديوان حافظ إبراهيم، وهي بشهادة حافظ نفسه أروع ما صدر عن موهبته الشعرية
فما حديث تلك القصيدة؟
في سنة 1925 تحولت الجامعة المصرية إلى جامعة أميرية، واختير لها قصر الزعفران، وفكرت وزارة المعارف في إقامة حفلة رسمية لافتتاح الجامعة في عهدها الجديد، وكانت التقاليد أن يرجع إلى القصر قبل إعداد أية حفلة يشرفها المليك، فدعي حافظ إلى مقابلة نشأت باشا، وكلف إعداد قصيدة يلقيها في حضرة الملك فؤاد يوم الاحتفال
لن أنسى أبداً فرح شاعر النيل بذلك التكليف، ولن أنسى أنه غناني أجمل غناء في أيام لطاف لم تعد عليه بغير العذاب، كما سنرى بعد لمحات(495/11)
كنت في ذلك العهد موظفاً بدار الكتب المصرية، وكان حافظ يشرف على القسم الذي أعمل فيه إشرافاً روحياً، فكان يدعوني كل يوم إلى سماع ما جد من القصيدة الجديدة، وكان يصرح بأنها الختام لحياته الشعرية، وأنه لن ينظم بعدها أي بيت
كان الخاطر جميلاً، ومن البر بحافظ أن نسجل ذلك الخاطر الجميل
الجامعة المصرية الحديثة في قصر الزعفران، وقصر الزعفران يجاوره (عين شمس) وفي (عين الشمس) كانت الجامعة المصرية القديمة التي تخرج فيها فلاسفة اليونان
وعلى هذا الوتر غنى حافظ وأجاد الغناء
ولكن الأقدار أرادت غير ما أراد حافظ، فثارت مشكلة حول قصر الزعفران، مشكلة قوى غبارها سعد باشا زغلول وهو رئيس مجلس النواب
قصر الزعفران من قصور إسماعيل، وهو يوم ذاك من أملاك الخاصة الملكية، فما الذي تقدم الحكومة من أملاك الدولة في المبادلة بذلك القصر الخاص؟
كانت الحكومة ترى أن تقدم حديقة الأرمان لتجعل منها الخاصة الملكية (مربط خيل)، فرأى فريق من رجال - الأمة أن هذا البدل غير مستساغ، وأن الأفضل أن تكون مباني الجامعة في حدائق الأرمان
وبهذا ضاعت قصيدة حافظ، وتهشم خاطره الجميل!
فأين قصيدة قصر الزعفران؟ أين أين؟؟
قسمها حافظ إلى مقطوعات باختلاف ما دارت عليه من الموضوعات، ونشرت له جريدة البلاغ في الصفحة الأولى من صفحات سنة 1926 مقطوعة بعنوان (بني وطني)!
يرحمك الله يا حافظ، فقد حالفك الشقاء إلى آخر الزمان!
ثم ماذا؟
ثم كانت القصيدة التي ألقيت في الاحتفال بافتتاح الجامعة المصرية بعد أن قرت بحدائق الأورمان قصيدة شوقي لا قصيدة حافظ، ولهذه الشؤون تواريخ يضيق عنها هذا الحديث
أما بعد فقد يرى قوم أن هذا كلام لا يفيد، وهل اتفقنا على المراد من الكلام المفيد؟
احفظوا هذا الكلام المفيد؟
احفظوا هذا الكلام، فينفع يوم تفكرون في تأريخ الأدب لهذا الجيل(495/12)
سيأتي يوم لا تعرفون فيه كيف استطاع شوقي أن يمدح الزعيم سعد زغلول فيقول:
فإن شئتَ فاوِضْ وإن شئت دَعْ ... فأنت الحقوق وميزانُها
مع أن شوقي نفسه حدثني مرتين أن بينه وبين سعد أحقاداً وترات، ومع أن أهاجي في سعد زغلول، أهاجي لم تنشر، وفي الذاكرة منها أشياء
هادن شوقي سعداً لأسباب (انتخابية) يعرفها نسيبه حامد بك العلايلي
وتصافى حافظ مع سعد ليصرع غريمه شوقي
وخلاصة القول أن هذين الشاعرين كانا على جانب من فيض الحيوية، وبهذا الفيض سيطرا على الجيل الجديد
هل تعرفون قصيدة شوقي في عرابي؟
وهل تعرفون ما طوى حافظ وشوقي من القصائد السياسية؟
ستلوح فرصة قريبة لتسجيل تلك الطوائف قبل أن تضيع، فللتاريخ الأدبي حقوق، والجهل بالتاريخ الأدبي أخطر من الجهل بالتاريخ السياسي، لأن الأدب هو التعبير الصحيح عن ضمائر الشعوب
زكي مبارك(495/13)
العيد
للأستاذ محمد عرفة
- 2 -
ماذا جرى للعيد، أو ماذا جرى لنا في العيد!
أتغير العيد، فلم يعد هذا الذي كان يبعث فينا السعادة: أم تغيرنا نحن، فلم نعد نصلح مهبطاً للسعادة؟
لقد كنا نحيا في العيد حياة أهل الجنة في الجنة؛ وكنا نفرح بالثوب الجديد فرح الفاتح المنتصر، ونرى في الدريهمات التي يمنحنا إياها أهلونا ثروة وأي ثروة؛ وكنا بامتلاكها كأنما نملك الدنيا، وكنا نرى في العيد كل شئ ضاحكاً زاهياً، وكنا نشعر أن الأنهار والوديان والنبات والحيوان والأرض والسماء تشاركنا كلها في سعادتنا وفرحنا؛ ثم أصبح العيد يقبل كما تقبل سائر الأيام، ويذهب كما تذهب، لا يهزمنا عاطفة ولا نرى فيه معنى جهيداً
لقد صرنا نملك الضياع والدور فلا تستخرج منا من السرور ما كان يستخرجه ثوب جديد، وصرنا نملك المال فلا يسعدنا إسعاد هذه الدريهمات التي كنا نأخذها يوم العيد؛ ولقد كان هذا الفرح بما نملك من ثوب ودريهمات فيه معنى الرضا والقناعة، فصار هذا الوجوم وهدم الشعور بما نملك فيه عدم الرضا وعدم القناعة
الحق أننا كنا نفرح بالعيد صغاراً، لأننا كنا على الفطرة الطيبة التي خلق الله الناس عليها، فلما انحرفنا عن هذه الفطرة أخطأنا الفرح بالعيد بقدر هذا الانحراف، وكان علينا أن نحافظ على روح الطفولة البريئة فينا، لنسعد بالأيام، ولا نشقى بالعيش والحياة. كان علينا أن نحتفظ بسرورنا، لنحتفظ بنشاطنا، وتقوى على ملاقاة أحداث الحياة. فالسرور استجمام واستعداد، والقلب المسرور المغتبط المستبشر أقوى على تحمل الحوادث من القلب الحزين المنقبض المكتئب. وإن الأمم التي تفرح كثيراً أقوى على تحمل الشدائد وعلى النجاح في الحياة من الأمم التي يقل نصيبها من الفرح والبشر والمسرة
وإنكم لتجدون في هذه الأيام أمماً تحمل من الشدائد ما تنوء به الجبال، ولا تتململ ولا تضجر، ولا تهن ولا تستكين، لأنها قوت أعصابها بالسرور، فجعلها أقوى على الاحتمال.(495/14)
وما أظن هذا الإخفاق الذي يصيب بعض أمم الشرق في عصرنا الحديث إلا من هذه الكآبة المستولية على نفوس الشرقيين، والتي تعم وديانه الضاحكة، وربوعه الجميلة
نعم، إنك تجد القوة حيث تجد الفرح والسرور، والأمم العظيمة تشعر بالقوة لأنها أشعرت قلبها المرح والسرور
أيها الناس، افرحوا بالعيد، واعتدوه عيد النصر على النفس وشهواتها، وأعظم بذلك من نصر في ميدان الجهاد
روى أن رسول الله (ص) قال وقد رجع من غزوة: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)؛ يعني جهاد النفس، فإذا كان جهاد النفس أكبر الجهادين كان النصر عليها أكبر النصرين
ألا إن الإسلام يدعوكم إلى الفرح والسرور، ولذلك سن لكم الأعياد. إلا أن الإسلام يدعوكم إلى الفرح والسرور في يوم العيد بما يهديكم إليه نبي الإسلام من قول وعمل
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزأمير الشيطان في بيت رسول الله (ص) وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله: يا أبا بكر أن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا
نعم، فلتلتهموا السعادة التهاماً، ولتغتنموا المسرة البريئة اغتناماً، فلقد بينا لكم من معنى العيد ما يعينكم على جلب المسرة، وبينا لكم من تعاليم الإسلام ما ينفي عنكم الحرج في المسرة؛ ولتبتعدوا عن السرور بالإثم والباطل، فإنه مسرة تعقبها ندامة، وفرح تتلوه الكآبة، وبشر مصيره إلى يأس وقنوط وخذلان
إنما الفرح عنوان الأمل والرجاء، ومظهر الحياة والأقدام، ودليل الرجولة العاملة الفائزة
وما خلق الله النجوم المتلألئة بأنوارها لنشقى بل لنسعد
وما خلق الله الرياض الضاحكة بأزهارها لنشقى بل لنسعد
وما خلق الله الطيور المغردة بألحانها لنشقى بل لنسعد
وما خلق الله الأشجار الراقصة بأغصانها لنشقى بل لنسعد
وما خلق الله الأنهار المصفقة بأمواجها لنشقى بل لنسعد(495/15)
وما خلق الله هذا الكون البديع الجميل لنشقى بل لنسعد
كل ما في الكون يوحي بالمسرة والسعادة فلماذا الكآبة والشقاء؟
محمد عرفة(495/16)
خزانة الرءوس
في دار الخلافة العباسية ببغداد
للأستاذ ميخائيل عواد
(تتمة)
9 - تغريق الرءوس في دجلة
رأس علي بن محمد بن الفرات، رأس المحسن بن علي بن محمد الفرات
كان بنو الفرات الوزراء، زينة الدولة العباسية خاصة في أيام المقتدر، فقد تقلد علي بن الفرات الوزارة ثلاث مرات، وكاد يتقلدها رابعة. وكان واسع الثروة حتى قال صولي في حقه وكان شاهداً ومشرقاً على أخباره: (ما سمعنا بوزير جلس في الوزارة، وهو يملك من العين والورق والضياع والأثاث ما يحيط بعشرة آلاف ألف عير ابن الفرات)؛ ومع ذلك كله لم يكن ليتحرج أو يتهيب من مد يده إلى خزانة الدولة، حتى أفرط في الأمر هو وابنه المحسن وأخوه العباس، فأضافوا كثيراً من ضياع السلطان إلى أملاكهم. وقد ساق هلال الصابئي خبراً غريباً مؤداه أن علي بن الفرات (سرق في عشر خطوات سبعمائة ألف دينار)، ففتحت هذه الأمور وغيرها عليه وعلى أهله وأصحابه باب الطن والضغينة من أعدائه وحساده، فحركوا قلب المقتدر عليه، حتى نكبه غير مرة، وفي النهاية قضى عليه وعلى ابنه المحسن، وشتت شمل عائلته، ونكب أصحابه وأعوانه. قال عريب في صفة مقتلهما: (. . . فأمر المقتدر بقتل ابن الفرات وابنه، وتقدم إلى نازوك بأن يضرب أعناقهما في الدار التي كانت لابن الفرات ويوجه إليه برأسيهما، فنفذ ذلك من وقته، وبعث بالرأسين في سفط، ثم رد السفط إلى شفيع اللؤلؤي، فوضع الرأسين في مخلاة وثقلهما بالرمل وغرقهما في دجلة)
10 - صيانة الرءوس من التلف
كان الرسم عند إحضار الرأس إلى دار الخلافة، أن يسلم إلى الموكل، فيعمل هذا على غسله وتنظيفه وإصلاحه، فيفرغ منه المخ، ويستأصل كل الأعضاء القابلة للفساد، ثم يغسله ببعض الأدوية المعقمة المعروفة يومذاك، وكذلك بماء الطيب أو بماء الورد؛ حتى إذا فرغ(495/17)
من هذا كله، يحشيه بالقطن المخلوط بمواد مختلفة من شأنها إطالة بقاء الرأس، ثم يطليه من خارجه ببعض الأطلية الماسكة لأجزائه.
ودنك رأي طبيب بهذا الشأن، كان عائشاً في حدود سنة 305هـ، وهو المعروف بابن حمدان الطبيب الذي حكى: (أدخلت على أبي الفضل، فوجدت بين يديه أطباقاً عليها رءوس جماعة؛ فسجدت له كعادتهم والناس حوله قيام وفيهم أبو طاهر، فقال لأبي طاهر: إن الملوك لم تزل تعد الرءوس في خزائنها فسلوه - وأشار إلي - كيف الحيلة في بقائها بغير تغيير، فسألني أبو طاهر فقلت: إلهنا أعلم ويعلم إن هذا الأمر ما علمته؛ ولكن أقول على التقدير إن جملة الإنسان إذا مات يحتاج إلى كذا وكذا صبر وكافور والرأس جزء من الإنسان فيؤخذ بحسابه فقال أبو الفضل ما أحسن ما قال)
وبهذه المواد والأطلية، كان طُلي جسم وصيف الخادم حيث بقي مدة طويلة دون أن يعتريه الفساد والبلى. قال المسعودي: (وفي أول يوم من المحرم وهو يوم الثلاثاء من سنة تسع وثمانين ومائتين توفي وصيف الخادم وأُخرج وصلب على الجسر بدناً بلا رأس. . . وطلي بدنه بالصبر وغيره من الأطلية القابضة الماسكة لأجزاء جسمه، فأقام مصلوباً على الجسر لا يبلى إلى سنة ثلاثمائة في خلافة المقتدر بالله أو نحو هذه السنة. . .)
الخاتمة
يبدو لنا من تتبع هذا الموضوع أن اتخاذ خزانة الرءوس في دار الخلافة ببغداد، كان في صدر الدولة العباسية، غير أننا لم نتحقق من السنة التي بدأوا فيها بحفظ الرءوس.
وما قلناه عن بدء أمر الخزانة؛ نقوله في تعيين زوال ظلها، فإن التاريخ يحيلنا إلى سقوط بغداد في سنة 656 للهجرة؛ أفلا تكون خزانة الرءوس هذه ذهبت بذهاب بغداد ودار خلافتها؟
(بغداد)
ميخائيل عواد(495/18)
ألحان الشاطئ
(إلى ضفاف النوبة الساخرة)
أَيْنَ مِنَّا يا حبيبي أين منَّا ... شَاطئٌ طاف به الحبُّ وغنَّى
أتراهُ في النوى يسألُ عنَّا ... أم سَلاَنا بعدَ ما كان وكنَّا؟
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضِي السَّعيدْ
وَنُغَنِّى الشَّطَّ أحلامَ اللَّيالِي ... كُلَّمَا فَاضَ علينا بالجمالِ
آهِ من سحرٍ بواديهِ حَلالِ ... بْينَ عَزْفِ النُّورِ أو صَمْتِ الظِّلاَل
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
أينَ منَّا ذلك الأفْقُ الجميلْ ... تَتَدَانَى في مجاليِه النَّخيلْ
راقصاتٍ طَوْعَ أَنْسَامِ الأصِيلْ ... هامساتٍ بالهوى حيثُ تَمِيلْ
آهِ لو نسرِي عليه من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضي السعيدْ
ذلك الزورقُ ينسابُ وَيَجْرِي ... فيهِ آمالِي وأحلامِي وفِكْرِي
كُلمَا أذكُرُ مَسْرَاهُ بِنَهْرِ ... وَدَتْ الأشْجانُ أن تفضَحَ سِرِّي
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
يا شِراعاً وَدَّ تقبيلَ المِياهْ ... أنت أغْريتَ شِفَاهاً بِشِفاَهْ
يا حبيبي، آه هل أظمأ آهْ ... وعَلَى لمغرِك ينبُوعُ الْحَياةْ؟!
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديد
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
أين يا ملاحُ ألحانُ الهوَى ... تملأُ الشطَّ حَيَاةً وجَوَى
أتُرَى جَارَتْ عَلَى سَمْعِي النَّوَى ... بعدما عبَّ الأغانِي وارتوَى؟
آه ِلو نسرِي عليهِ من جديد(495/19)
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
أترى تبسمُ حيناَ يا زَمَاني ... فنرَى الشَّطَّ وهاتيك المغانِي
ونغني للهوى عذبَ الأغانِي ... كلما هاجَ هَوانَا الشاطِئانِ
آهِ لو نسرِي عليهِ من جديدْ
فيعودَ الحبُّ والماضي السَّعيدْ
محمد عبد الرحيم أدريس
(شاعر النوبة)(495/20)
البريد الأدبي
حول التلباثي
قرأت بإعجاب كبير مقال الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد عن (التلباثي) وأنا أورد هنا - تأييداً لما جاء في مقال لأستاذ الكبير - حادثة ذكرها المرحوم الشيخ رشيد رضا صاحب المنار في تعليقاته القيمة على رسالة التوحيد للإمام محمد عبده قال الشيخ: (. . . ثبت بتجارب الأطباء حتى الماديين منهم أن بعض هؤلاء المرضى - يعني المرضى بأمراض خاصة - يخبر ببعض المغيبات وبالأمور قبل وقوعها فيصدق. قال مريض منهم كثرت أخباره في ذلك وكان بمصر: إن فلاناً من أقربائه في الإسكندرية خرج من داره إلى محطتها قاصداً السفر إلى مصر لعيادتي. . . ثم أخبر أنه وصل إلى محطتها ودخل القطار؛ ثم شغله الطبيب بأمور تهمه، حتى إذا ما جاء موعد وصول قطار الإسكندرية إلى مصر قال المريض: قد وصل القطار ونزل فلان منه. هاهو ذا خرج من المحطة وركب مركبة تحمله إلى هنا. ثم قال: هاهو ذا قد وصل، فإذا هو بالباب وقد دخل، فالروح التي تدرك مثل هذا وهو غائب عنها تعطينا دليلاً حسياً على إمكان إدراك روح أكمل منها لعلوم من الغيب أعلى مما أدركته هي)
وللأستاذ الكبير إعجابي الكبير، وتحيتي الخالصة.
إبراهيم محمد نجا
حول كتاب ديكارت
1 - أورد الأستاذ صفاء خلوصي في العدد 439 من (الرسالة) فقرات من كتابي (ديكارت) زعم أنها منقولة عن كتاب (آراء غربية في مسائل شرقية) تعريب الأستاذ عمر فاخوري. والحقيقة أنني لم أنقل شيئاً عن ذلك التعريب إذ لم يكن لي علم بوجوده - وإنما اقتبست عن الأصل وهو بحث كتبه شارل سومان، وكنت قرأته في باريس منذ عهد بعيد، فأعجبني واستنسخته واحتفظت به في لغته الأصلية التي كتب بها. وبقي في أوراقي، إلى أن عدت إلى ديكارت فتذكرته واقتبست منه، وأحببت الإشارة إليه في المراجع، تبعا للخطة التي رسمتها في كتابي كله. ولكن حال دون القيام بهذا الواجب، أنه كان قد فاتني حين احتفظت(495/21)
بالبحث أن أقيد على وجه التدقيق عنوانه الكامل والموضع الذي نشر فيه وتاريخ نشره وترقيم صفحاته وما إلى ذلك مما ينبغي استيفاؤه في كل عمل من هذا القبيل يتم وفقاً للطريقة العلمية في سرد المظان وبيان المراجع. فكان لابد أذن من إغفال اسم ذلك المصدر والاكتفاء بإيراد النصوص والشواهد من الغزالي ومن ديكارت، مع ذكر مواقعها من مؤلفات هذين الفيلسوفين. ولم أشك في أن ما صنعت من الإحالة إلى الفيلسوفين مباشرة أقوى حجة وأجدى على القراء من الإشارة - دون تثبيت ويقين - إلى ذكرياتي عما كتب عنهما
هذا ولست أدري ما مراد الأستاذ خلوصي من قوله - بعد أن أورد بعض الفقرات المتشابهة في كتابي وفي البحث الذي كتبه سومان -: (وقد أخذ الأستاذ عثمان أمين كذلك مقارنة بين فقرة من كتاب المنقذ من الضلال للغزالي وفقرة من كتاب التأملات لديكارت). وإني أتساءل ما وجه الغرابة في هذا؟ وأي عيب فيه؟ أليس الأجدر بنا في مثل هذه الشؤون أن تعمد إلى النصوص الواضحة نستفتيها، بدلاً من الالتجاء إلى الأقوال المبهمة والفروض العامة؟
أما كون الفقرتين اللتين أوردتهما في كتابي (هما نفس الفقرتين اللتين أوردهما شرل سومان) فهذا أمر طبيعي، ما دمت - كما قلت - قد اقتبست من البحث المشار إليه ما احتجت إليه في المقارنة بين الغزالي وديكارت؛ ولقد كان بمقدوري أن أورد في المقارنة بينهما أقوالاً وفقرات أخرى كثيرة ذكرها سومان و (ليون جوتييه) وغيرهما من المستشرقين. ولكني لم أرد أن يتشعب البحث فيخرج عما كنت بسبيله، فاقتصرت على إيراد هاتين الفقرتين في الهامش مشيراً إلى موضعهما من (المنقذ) و (التأملات)
وأما قول الكاتب إن (ترجمة الفقرة عن ديكارت هي نفس ترجمة الأستاذ فاخوري) فهو قول لا يخلو من إسراف. ولو كان الكاتب الفاضل موقناً منه لأورد نص الترجمتين ليرى القراء مصداق ما قال. أما أنا فإن كنت لا استبعد مبدئيا أن يكون قد وقع بين الترجمتين بعض شبابه، إلا أنني أستطيع أن اجزم منذ الساعة (أي قبل الاطلاع على كتاب (آراء غريبة). . .) باستحالة انطباق الترجمتين انطباقاً تاماً بحيث تكون الواحدة منهما هي (نفس) الأخرى كما زعم الكاتب. ويحملني على الجزم بهذه الاستحالة ثقتي من أنني إنما(495/22)
قرأت البحث الأصلي دون غيره، وأنني توخيت المنهج العلمي في كتابي، فلم أورد شيئاً إلا ذكرت مظانه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. ولعل الكاتب نفسه لا ينازع في هذا إن كان من المنصفين.
عثمان أمين
2 - ومن كلمة في هذا الموضوع للفاضل زكريا إبراهيم هذه الفقرة:
الواقع أن الأستاذ (عثمان أمين) لم يأخذ هذه العبارة من ترجمة الأستاذ عمر فاخوري، وإنما أورد نصاً لديكارت نفسه، وهو نص معروف يجده قارئ كتاب (مبادئ الفلسفة) لديكارت. واليك هذا النص في الترجمة الفرنسية للكتاب:
. . .) ,. . ' ' , ' '. .) , 1 , 4.)
وترجمة هذا النص هي كما يلي:
(إن حواسنا قد خدعتنا في كثير من الأحيان، ومن قلة الحزم أن نثق تمام الثقة في أولئك الذين خدعونا ولو مرة واحدة)
فالأستاذ عثمان أمين لم يأخذ هذه العبارة إلا عن ديكارت نفسه، ولم يكن بوسعه أن يتصرف في النص الأصلي، لأن واحداً سبقه إلى ترجمته!
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
في أزهار الرياض
1 - قصدت في مبحث لي إلى الجزءين المطبوعين حديثاً من (أزهار الرياض) الذي ينشره المعهد الخليفي للأبحاث المغربية فقرأت فيهما بضع صفحات فرأيت أخطاء يجدر بمصححي الكتاب أن ينبهوا عليها، منها في الجزء الأول ص2 في التعليق (وقد ذكر المؤلف هنا على سبيل التورية أسماء طائفة من الكتب للقاضي عياض وغيره وهي. . . الخ). والصواب أن يقولوا: (منها) بدل (وهي) لأنهم لم يذكروا جميع أسماء الكتب التي ذكرت في المقدمة كالإلماع بأصول الرواية والسماع للقاضي عياض، وغيره. وفي ص109:(495/23)
سلامٌ على مولاي مِنْ دار ملكه ... قُسنطينةٍ أكرم بها من مدينة
الصواب:
سلام على مولاي من دارُ ملكه ... قُسنطينةٍ أكرم بها من مدينة
لأن السلام من الأندلس على السلطان أبي يزيد العثماني في القسطنطينة. وفي ص113 (وجنسهم المغلوب في حفظ ديننا) والصواب (وحبسهم المغلوب). وفي ص114:
وساقوا عقود الزور ممن أطاعهم ... ووالله ما نرضى بتلك الشهادة
الصواب (وساقوا شهور الزور). وفي الجزء الثاني ص160: (مرثيته) بتشديد الياء. والصواب (مرثيته) بالتخفيف. وفي ص359: (ولا تعد عيناك عنهم) بضم الياء، وصوابها (عيناك). وفي ص414 في الفهرس (الديباج المذهب في علماء المذهب لابن فرون) الصواب (لابن فرجون) ولم يذكروا رقم الصفحة الموجود فيها اسم هذا الكتاب. وفي ص403 (السلفي 354) وفي ص399: (أبو الطاهر السلفي الأصبهاني 354، 372) وكلا الاسمين لرجل واحد. ولم يذكروا في الفهرس (تاريخ ابن حيان) وقد ورد في هذا الجزء في الصفحة 258 وغيرها
ابن الفتح
2 - ومما أخذه على التصحيح الأديب عبد الله الصادق قوله:
(1) في صفحة 16س9 (ومن تنديداته على أبي الحسن) الصواب (تنديراته) كما في نفح الطيب الذي يرجعون إليه ويصححون عليه وهو من قولهم: فلان يتنادر علينا (الأساس) ولو كان من التنديد لعديت بالباء إذ يقال ندد به، لا عليه (القاموس)
(2) في ص39 س2
إن لوحقوا في المعلوات فإنهم ... طلعوا بآفاق العلاء بدورا
قالوا في الهامش: المعلوات جمع معلوة كمكرمة يريد بها المعالي، ولم نجد المعلوة بوزن المكرمة في المعاجم التي بين أيدينا.
أقول: هي جمع معلاة وهي كسب الشرف كما في القاموس، وأصل المعلاة معلوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قبلت ألفاً. وقد أرجعها الشاعر إلى الأصل ضرورة. فعدم ورودها في المعاجم ليس تقصيراً لأنها من القواعد المشهورة(495/24)
(3) في ص207 س3 وكان المخترع لها - أي الموشحات - بجزيرة الأندلس مقدم بن معافى القبري). وأطالوا في الهامش ليصححوا تحريفاتهم فضلوا الصواب لأن (معافى) محرفة عن (معافر) أنظر مقدمة ابن خلدون ص305 طبع بولاق. و (القبري) محرفة أيضاً عن (الفريري) نسبة إلى فريرة قرية بالأندلس كما في معجم البلدان لياقوت. وقد غلط مصحح مقدمة ابن خلدون فرسمها (الفريري) بالباء، والصواب بالياء.
بنو أمية وحلم الشورى والعدل
كتب الأديب أحمد البديني سطوراً في العدد الماضي من الرسالة قال فيها عني: (إنه قد غالى كثيراً في قوله إن البناء الإسلامي قد تصدع، وإن اليأس اخذ يدب في جسم الدول الإسلامية في عهد بني أمية). وإني أنتهز هذه الفرصة لأصحح لفظة من كلمتي التي نشرتها عن كتاب (عبقرية عمر) قد حرفتها المطبعة فجاءت على غير حقيقتها وقراها الأديب البديني على تحريفها ثم كتب ما كتب على ما أخذه فهمه منها
ذكرت في هذه الكلمة، أنه لما استحوذ بنو أمية على الملك (قام الأمر منذ يومئذ على قوة العصبية والغلب وتصدع البناء الإسلامي الذي كان قد أقيم على (الشورى والعدل)، وكذلك أخذ داء التفرق الديني والسياسي (لا اليأس كما نشر خطأ) يدب في جسم الأمة الإسلامية حتى أنهك قواها وأذهب ريحها).
ولقد كنا سكتنا عن تصحيح هذه اللفظة لأن السياق كما ترى يدل عليها، وفطنة قارئ الرسالة المثقف لا تلبث أن تلمحها وتنفذ إليها
محمود أبو ريه
هل الأنصار من قريش؟
ستشغل المكتبة العربية حيناً من الدهر بالكتابين الكريمين اللذين أخرجهما أخيراً الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد. ففي كليهما اتجاهات فذة تفصح عن نواحي العظمة في أستاذنا الجليل
ولقد أجمع النقاد على إكبار عبقرية محمد، ولم يكن حظ عبقرية عمر من الإجلال والتقدير بأقل من حظ الأول(495/25)
على أننا في قراءتنا لعبقرية عمر بالصفحة 319 استوقف نظرنا قول المؤلف في صدد النزاع الذي نجم على الخلافة عقب موت الرسول ما نصه:
(فالأنصار يقولون انهم أحق بالخلافة من المهاجرين لأنهم كثرة والمهاجرون قلة، ولأنهم في ديارهم والمهاجرون طارئون عليهم، ولأنهم جميعاً من قريش ولهم فضل التأييد والإيواء)
والعبارة على هذه الصورة توهم أن الأنصار من قريش وهم بالطبع ليسوا كذلك
(المنصورة)
خالد عبد المنعم(495/26)
العدد 496 - بتاريخ: 04 - 01 - 1943(/)
الرسالة في عامها الحادي عشر
أقبل العام الميلادي تسعى بين يديه الشمس، ومن ورائه يقبل العام الهجري يسعى بين يديه القمر؛ وبين هذين النيرين الإلهيين تبلغ (الرسالة) مرحلتها الحادية عشرة في سبيلها الشاقة، إلى غايتها الحاقة، ومنهما معرفتها ورشادها، وفيهما تضحيتها وجهادها؛ ومن نور القمرين نور الدنيا، ومن هدى التاريخيين هدى الناس؛ فإذا تعسر الخطو وتعثر الخطاة فذلك لأن النور الإلهي احتجب، والبصر الإنساني كلّ. على أن نور الله تدركه البصائر لا الأبصار؛ فإذا عميت القلوب تخبط الناس في ظلام جهنمي تموج فيه تهاويل الشر، فأفسدوا كل صالح، وبددوا كل منتظم، وهددوا كل حي. وما محنة العالم اليوم إلا ضلال عن الطريق. والضال إذا لم يهتد هالك لا محالة. ومن يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً
كلما عاد عيد الهجرة أو عيد الميلاد صاح بالضالين المتفانين شيخ الإسلام أو حبر النصرانية: أن تعالوا إلى الطريق! ولكن كلا الدليلين - وا أسفاه! - يقف على رأس الجادة المهجورة داعياً ولا سميع، وراعياً ولا قطيع!
فمتى يا إله الناس تنحسر عن العيون السادرة أغشية الضلالة فيعود الجائر إلى القصد، ويرجع الشارد إلى الحظيرة؟
لقد طغي الفناء على الكون، وأرسل على ملكوت الله سمائمه السود تعصف في كل مكان بالخوف والجوع والدمار والموت لا تكف ولا تخف حتى لا يدري الممسي كيف يصبح، ولا الغادي كيف يروح!
هذا هو الشتاء الرابع يقبل على هذه الرجفة الآدمية العالمية وهي راعدة لا ينقطع لها دوي ولا حمم ولا نار ولا ضحايا؛ وبنو آدم المتمدنون لا يفتئون يسخرون العلم الذليل الخاضع في تأريث براكينها المزمجرة، فتقذف الردى شهباً في السماء، وتصحبه حميماً في الماء، وتشعله جحيماً في الأرض، وأولادهم هم أشلاء هذه المقتلة، وحضارتهم هي أنقاض هذه الزلزلة. وكل أولئك في سبيل الرغيف. ورزق الله موفور ميسور ما دامت السماء تمطر والأرض تنبت؛ ولكن الإنسان مهما تعلم وتقدم لا يزال في سياسة معدته على الفطرة الأولى من حب الاستئثار والاحتكار، فلا يعرف القناعة في الرزق، ولا يقبل العدالة في القسمة، ولا يحسم الخلاف على القوت إلا بالقوة إذا تأسد، وبالمراوغة إذا تثعلب. وقد(496/1)
تتفانى الدول وتبقى الأرض، كما يتفانى الأسود وتبقى الفريسة
والخاسرون في معركة الحياة هم عبيد الطمع من الأفراد والأمم. يبذلون دماءهم في سبيل الحياة لا لينعموا بها، ولكن ليحافظوا عليها. وهم مادة الغذاء في يد الطبيعة: ترعاهم ليأمنوا، وتدر عليهم ليسمنوا؛ فإذا ما تكاثروا وامتلئوا قدمتهم إلى الحياة العامة فكانوا سماد الزرع ليخصب، وقلامة الشجر ليغلظ!
كان الشأن في الحرب القديمة أن يخرس اللسان والقلم إذا نطق السيف والرمح. وكانت نيرانها المحصورة لا يصلاها إلا المتحاربون، رجلاً لرجل، أو فئة لفئة؛ ولكن هذه الحرب الجديدة في خططها وعددها، جندت كل قوة وأوعدت كل حياة: جندت العلم والأدب والفن والصحافة والإذاعة والتمثيل والسينما، وعبأت الزراع والصناع والتجار والمدنيين والعسكريين والمحايدين والمحاربين والأطفال والشيوخ، فلم تدع أحداً في العالم كله يفكر إلا فيها، ولا يشغل إلا بها، ولا يعمل إلا لها، ولا يألم إلا منها؛ فكأنها أصبحت المحرك الأول لآلة العيش، استولت عليه الشياطين فأنتجوا به من أداة الشر ما لم يقع في سماع التاريخ ولم يخطر ببال الناس ليهلكوا ما ادخرته القرون، ويهدموا ما شاده الله!
لذلك نما وطما كل ما يمت إلى هذه الحرب بسبب من الإنتاج المادي والفكري، وذبل وضؤل منهما مالا يحارب ولا يدعوا. والأدب في الحرب القديمة كان تشجيعاً، ولكنه في هذه الحرب أصبح دعاية. وقد نفق هذا النوع من الأدب نفوقاً عجيباً في كل أمه، لأن الحكومات على اختلافها وائتلافها تتملقه وتتعهده وتنفق عليه. والأدب كالحرب عصبة المال: بفضله يخصب ويزدهر، وبحوله يتسع وينتشر. أما الأدب الذي لا يحارب ولا يدعو، فقد ظل كالشعب المحايد، يعاني الحرمان ولا يد له فيه، ويقاسي الغلاء ولا ربح له منه
والصحافة الأدبية من هذا النوع، ألحّ عليها فحش الغلاء وحرمان العوز حتى نحل بدنها وشحب لونها، وكادت تنبت من فرط الضنى في وسط الطريق
أصبحت لا تجد الورق إذا وجدت المال، ولا تملك زيادة العرض إذا ملكت زيادة الطلب، ولا تضمن بقاء الغد إذا اطمأنت على بقاء اليوم. فإذا قدر الله لها أن تخرج من محنة هذه الحرب وفيها حشاشة نفس، كانت حرية بعد ذلك أن تستهين بكل صعب، وتثبت على كل(496/2)
خطب. ورجاء الرسالة في الله أن يرزقها من الجلد ما تتماسك به على عرك هذه الشدائد. وحسبها من صدق الأماني أن تعيش حتى ترى الطريق قد استبصر، والسلام قد استقر، والأمر قد استقام. ويومئذ يتسع لها المجال فتشارك جاهدة مخلصة في رأب ما تصدع وتجديد ما تهدم
وإذا كانت للرسالة في مستهل هذا العام ما تغتبط به من فوز جهادها ونجاح دعوتها، فذلك توفيقها في معالجة الإصلاح الاجتماعي توفيقاً لمست أثره في منهاج وزارة الشؤون الاجتماعية في عهد وزيرها القائم بأمرها اليوم. فلقد آتاه الله حزم الحكماء وعزم المصلحين فطوى فؤاده الشهم على نية الإصلاح بالفعل لا بالقول، فرفع شأن العربية في دواوين الحكومة، ومهد السبل المؤدية إلى تنظيم الإحسان وجباية الزكاة ومحاربة الأمية ومطاردة الفقر على نحو يشبه ما نحته الرسالة في معالجة هذه الشؤون
وأمنية أخرى طالما تمنتها ورددتها الرسالة توشك أن تكون من مقاصد الحكم في هذا العهد: تلك الأمنية هي الاتحاد العربي على أي صورة يكون. وفي كلام الزعماء ومنطق الحوادث ما يعزز الرجاء في تحقيق هذا الأمل؛ وفي توفيق الله وجهاد الصادقين ما يحقق النفع المرجو من هذا العمل
أحمد حسن الزيات(496/3)
خواطر ليلة الميلاد
للدكتور زكي مبارك
كان لي مع هذه الليلة تواريخ في القاهرة وباريس، تواريخ أبدعها الجو الطروب أو الجو العبوس، فقد كان يتفق في أحيان كثيرة أن تحمل ليلة الميلاد أكداراً ومنغصات، لأن الغالب في البيوت الفرنسية أن يكون الزوجان عاشقين، وأن تكون نيران الغيرة مما يشب في ليلة العيد حول (شجرة الميلاد)، وما أسعد من يعيش وهو معذب بلواذع الوجدان!
ما أذكر مرة أن تلك الليلة مضت بدون عواصف، إلا أن تكون في بيوت فرغ أهلها من مصارعة الأهواء، وهي فيما عدا ذلك ليلة متاعب وكروب
وهذه الظاهرة هي سر جمال هذه الليلة، فاصطراع العواطف ميلادٌ جديد، وقد يفعل فعل السحر في إحياء المشاعر والقلوب
كنت أقضي هذه الليلة في بيوت أعرف من أحوالها أشياء، فكنت أفهم الرموز والتلاميح، وكنت أجد التفاسير لبعض دقائق الأدب الفرنسي، وهو أدبٌ قام على أساس الفهم للسريرة الإنسانية، وسيعيش إلى أزمان وأزمان، ما دام في الدنيا ناس يحبون الأدب الصادق الصريح
ثم جاءت هذه الحرب فقضت في مصير فرنسا بما قضيت، ولم يبق لأصدقائي الفرنسيين من زاد غير الحزن الوجيع، فأنا لا أزورهم في ليلة الميلاد كما كنت أصنع، ولا ألقاهم إلا في الحين بعد الحين، فهناك أحزان تؤرثها المؤاساة وتزيدها اشتعالاً إلى اشتعال
وهنا أذكر أني عرفت أخيراً أن سقوط باريس لم يحزن أهل باريس بقدر ما نتصور، ولم يشعرهم بمعاني الامتهان. وتفسير ذلك عند الأستاذ توفيق وهبة أنهم قوم تعودوا الهزائم والانتصارات، ولم تكن الدنيا في أنظارهم غير مواسم للانخفاض والارتفاع
ولكني مع هذا أقرر أن حال الفرنسيين المقيمين بمصر يختلف عن حال مواطنيهم هناك، لأن المغترب يتعلق بوطنه تعلقاً لا يحسه المقيم، وقد تأكد عندي هذا المعنى في الأعوام التي قضيتها في باريس وفي بغداد، فقد كان الخبر السيئ يؤرق نومي مهما صغر وهان، وكان أي حرف يكتب ضد مصر يؤذيني، فأرد عليه في الحال
أكتب هذه السطور في ليلة الميلاد، وفي خيالي بيوت عزيزة كنت أحب أن أراها وكانت(496/4)
تحب أن تراني. وسيقول قومٌ كلاماً كالذي قالوه يوم نشرت (الرسالة) مقالي في التفجع لسقوط باريس!
كانت فرنسا أمةً استعمارية فشمت بانهزامها من يؤذيهم بغيُ المستعمرين، وفاتهم أن فرنسا أعطت جميع الشعوب درساً سينتفعون به حامدين أو جاحدين
كانت فرنسا ترى أن اللغة هي عنوان الأمة، وكانت ترى أن الوطن الذي لا يسيطر بالفكر على خصومه ومنافسيه وطن ضعيف. ومن أجل هذا أنفقت فرنسا ما أنفقت من الأموال ليكون لها مدارس في جميع البلاد، وبفضل هذه العناية صارت اللغة الفرنسية لغة دولية، وصار من حق الفرنسي أن يعفي نفسه من العناء في تعلم اللغات، لأنه سيجد من يتفاهم معهم بلغته في أي بلد يتوجه إليه، ولو في الصين!
اقترحتُ في سنة 1938 أن ننشئ مدرسة مصرية تنافس المدرسة الفرنسية في طهران، فلم أجد من يسمع كلامي. وأين من يعرف أن طهران جريدة إيرانية لغتها الفرنسية؟
فوجئت يوماً وأنا بدار المعلمين العالية في بغداد بمجموعات فخمة ضخمة من المؤلفات الفرنسية، وحين سألت عن مصدرها عرفت أنها هدية مرسلة من باريس
وقد استوحيت هذا الشاهد فاقترحت فيما بعد أن ترسل وزارة المعارف المصرية هدايا من الكتب المكدسة في المخازن إلى المدارس الأجنبية، فترددت الوزارة عامين، ثم تلطفت فأهدت مجموعات هزيلة، مع أن في مخازنها مجلدات مهجورة ستباع يوماً بلا ميزان، لأن حراستها وصيانتها تجشمان الوزارة ضروباً من التكاليف
كانت فرنسا تقول بمبادلة الأساتذة والتلاميذ، لتعطي وتأخذ، ولتفيد وتستفيد، وقد أقامت في إحدى ضواحي باريس مدينة تبني فيها أية أمة لأبنائها ما تشاء، ولقد استفادت أممٌ كثيرة من هذه المزية، إلا مصر، ولهذا تفضيلٌ قد يتأذى الشمسي باشا من تسجيله في هذا الحديث
ونحن اليوم في أوج صلاتنا مع الشرق، فعند الشرق مدرسون مصريون يعدون بالمئات، ومع هذا لم تفكر مصر في رد الجميل
ما الذي يمنع من أن تستقدم مصر بعض الأساتذة من الشرق ليدرسوا في معاهدها العالية بأساليبهم الخواص: فهذا في كلية الآداب، وذاك في دار العلوم، وذلك في كلية اللغة العربية، إلى آخر ما يصلح له علماء الشرق؟(496/5)
ليس معنى هذا أن مصر في احتياج إلى مدرسين، وكيف وفي خريجي المعاهد العالية شبان أكفاء لا يجدون ما أعدوا له من المناصب التعليمية؟
إن لهذه المسألة وضعاً غير هذا الوضع، والمراد هو أن تفكير مصر في إتاحة الفرصة لبعض أساتذة الشرق، الفرصة التي تمكنهم من الوقوف على التيارات العلمية والأدبية في الديار المصرية؛ فمصر اليوم في ازدهار علمي وأدبي لم تشهد مثله من قبل، وهو ازدهار يوحي إلى الأساتذة أكثر مما يوحي إلى الطلاب، وقد يكون في وجود أولئك الأساتذة فرص لمنافسات علمية وأدبية تعود علينا بأجزل النفع، وقد يكون في وجودهم خير للطلبة الذين حضروا إلينا من بلادهم، فأنا ألاحظ أن أكثر الطلبة الشرقيين لا يجدون من يعاونهم على الاستفادة الصحيحة من الإقامة بهذه البلاد
خطر في بالي مرة أن أقترح على مشيخة الأزهر الشريف أن تنشئ كرسياً للفقه الجعفري، وكان هذا الخاطر لأني لاحظت أن النضال بين المذاهب الفقهية قد انعدم في مصر أو كاد، مع أن لمصر في التشريع الإسلامي تاريخاً من أمجد التواريخ
إن مناصب (شيوخ المذاهب) صارت مناصب شكلية بسبب السلام الذي ساد بين المذاهب، وهل نسمع اليوم خبراً عن شيخ الشافعية أو شيخ المالكية؟
إن النضال بين المذاهب أدى للتفكير الإسلامي خدمات تفوق الإحصاء، وله فضلٌ عظيم في مرونة اللغة العربية، وأكاد أجزم بأن الفقهاء خدموا اللغة أكثر مما خدمها الشعراء
لو استقدمنا عالما شرقياً لتدريس الفقه الجعفري بالأزهر لأثرنا النضال بين المذاهب من جديد، وأعطينا مصر فرصة عظيمة ليقظة فكرية نادرة المثال
إن مصر في عهدها الحاضر تنشئ تاريخاً جديداً في الشرق، وهي في طريق الوصول إلى عقد معاهدات ثقافية مع أكثر أمم الشرق، وهذا يوجب عليها أن تعرف الشرق أكثر مما تعرف، فيكون لها فيه سفراء روحيون، ويكون عندها منه سفراء روحيون
لو دعونا جماعة من أساتذة الشرق ليحدثونا عما في بلادهم من تقاليد وآراء وآداب لحمدوا لنا هذا الصنيع، وعدوه تلطفاً يستحق الثناء
ويظهر أنه لا بد من إنشاء قلم بوزارة الخارجية لمراجعة ما يكتب عن مصر في جرائد الشرق، وتكون مهمته المبادرة إلى تصحيح ما يستوجب التصحيح، وتكون مهمته أيضاً أن(496/6)
يستصدر أعداداً خاصة من بعض جرائد الشرق للتعريف بمصر كالذي تصنع وزارة الخارجية في استصدار أعداد خاصة من بعض الجرائد الإنجليزية والأمريكية
وهنا أشير إلى حادث ما ذكرته إلا شعرت بالحزن يعصر قلبي
في سنة 1939 أصدرت مجلة (الحديث) ومجلة (العرفان) ومجلة (المكشوف) أعداداً خاصة بمصر، أعداداً نفسية جداً، ومع هذا لم أستطع إقناع وزارة المعارف بأن تشتري من تلك الأعداد مجموعات لمكتبات المدارس، ليعرف الذين فكروا في التنويه بمصر أن كرمهم لا يضيع
وفي تلك الأيام كنت أقترح على الأستاذ الزيات أن تصدر الرسالة أعداداً خاصة عن الأمم العربية فرحب بالاقتراح وأجل تنفيذه إلى انقضاء الصيف، ثم بدا له بعد ذلك أن يواجه المشروع من جديد، فصدته أزمة الورق عما يريد
مالي ولهذا الكلام؟
هذه ليلة الميلاد، والأثير ينقل إلى سمعي بعض ما يثور في شوارع مصر الجديدة من عجيج وضجيج، فكيف آثرتُ الاعتكاف في هذه الليلة، وقد تفضل شهر ذي الحجة فجعلها قمراء؟
لعني أردت الخلوة إلى قلمي، وهو الأنس الأنيس عند اعتكار الظلمات في دياجي الزمان
لعني أردت بهذه الخطوات القومية أن أتجنب الخلوة إلى قلبي، وهو عدوٌ صديق
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواٌ لهُ ما من صداقته بُدُ
قضيت ما قضيت من حياتي في دراسة الجمال، حيثما كان الجمال، فأنا لا أضيف حرفاً إلى حرف إلا بميزان، وأنا أصادق وأعادي بوحي الذوق لا بوحي النفع، وما الموجب لأن أكون نفعياً وقد أغناني الله عن جميع الخلائق، ولم أعرف ما الظمأ والجوع في أي يوم، ولا جاز في وهمي أن أتصور أن الله قد يتخلى عني؟
لي صداقات كثيرة مع أرواح تنطق بالأوراق لا بالألفاظ، وأقسم جهد اليمين أن بحديقة داري في سنتريس أشجاراً يعتريها الذبول إن صدقت عنها أسابيع
لي صديق هو اليوم أحد مدرسي الفلسفة بكلية الآداب، وهو الأستاذ محمود الخضيري، وكان لي معه حديث في (ايسكوار مونج) في نوفمبر سنة 1930، فما ذلك الحديث؟(496/7)
كنت أجلس في بعض الضحوات (بذلك الإيكسوار)، وهو حديقة الحي في الإصلاح الفرنسي، كنت أجلس تحت شجرة يؤنسها أن ترى رجلاً بيده كتاب، وكان أصدقائي من بعثة الجامعة المصرية يعرفون كيف يلقونني هناك. وفي ذات يوم حضر الأستاذ محمود الخضيري فوجدني أجادل رجلاً يحاول تشذيب تلك الشجرة بعنف، فأنكر عليّ ما أصنع، فقلت إن الشجرة تصرخ، ومن واجب من استظل بظلها أن يدفع عنها العدوان. فقال: وهل يحس الشجر والنبات؟ فقلت: نعم، ويتألم الشجر والنبات كما يتألم الحيوان!
وبعد شهور حدثتنا جرائد باريس أن جلالة الملك فؤاد قد استقدم عالماً هندياً اسمه (بوز) ليلقي في الجمعية الجغرافية محاضرات عن نظريته في إحساس النبات!
إحساسي بالوجود هو سبب عنائي، ولو عرف الناس هذا العناء لقاتلوني عليه، فهو أطيب الأطايب في ثمرات الحياة
لم أدخل بلداً إلا أحببته أصدق الحب، لأني أرى بضميري وجه الله في كل مكان. وما صادقت إنساناً وغدرت به أبداً، لأني أرى الصداقة من أظهر الدلائل على صحة القول بوحدة الوجود
وأنا أترحم وأتحسر وأنفجع كلما رأيت إنساناً يكذب أو ينافق في سبيل العيش، فالموت الذي يخافه الناس لن يصل يوماً عن طريق الجوع. ولو نظر الناس في أسباب أمراضهم لوجودها ترجع إلى الإفراط في الطعام والشراب ولو كانوا من الفقراء
ثم ماذا؟ ثم يبقى جواب الخطاب الوارد من (الأرمان) فماذا يريد ذلك الخطاب؟
هو يريد أن تكون مقالاتي كلها على غرار (دار الهوى في عيد القمر)، فأين أنا مما يريد؟ وأين الأعصاب التي تستطيع تدبيج تلك الأحاسيس في كل أسبوع؟
أمام عيني وبين يدي أرواحٌ موقوذة هي المقالات التي سطرتها بدمي، ولا أستطيع نشرها بأي حال، لأنها تخالف المألوف من تقاليد هذا الزمان
ثم يحاسبني ذلك الخطاب على هفوات قلمي، كأنه يجهل أني أمتشق القلم في كل مساء، وأني أراود أبكار المعاني في يقظتي ومنامي
أما بعد فهذه ليلة الميلاد، وقد قضيتها وحيداً فريداً لأتقي الله في نفسي فلا أعرضها لشواجر الأرواح وعواطف القلوب(496/8)
وقد بقيت ليلة ستأتي بعد ليال، وهي ليلة العام الجديد، وأغلب الظن أني سأحرم نعيمها على نفسي، لأني نذرت التبتل بعد فراق من تلقيت عنهم وحي الروح في اللحظة التي تفصِل بين العام الذاهب والعام الوليد
ما جزعي على ما مضى من أيامي، ولم يعيش أحد كما عشت، ولا استجاب الوجود لنداء شاعر كما استجاب لندائي؟
ماذا صنع الدهر بهم؟ ماذا صنع؟
إن دنياي بعدهم وهمٌ في وهم، وخيالٌ في خيال، ولن أتذوق طيب الحياة إلا بعد أن يصفحوا عني
إن ذنبي عندهم أني صيرت حياتهم أفانين من الارتياع والانزعاج. . . فهل يجهلون ما صنعوا بحياتي؟ وهل يجهلون أن الجروح قصاص؟
قد كان لي قبلكم حبٌ وكنت فتى ... لظل سلطانهِ أهلُ الهوى تَبَعُ
فكيف أشقيتموني كيف لا رَضِيَتْ ... ولا أرتني الليالي كيف أرتدعُ
هبوا فؤادي سلا واجتاز محنتهُ ... فمن بسلوة قلب الصب ينتفع
يا غاضبين تعالَوْا تشهدوا كبداً ... رجاؤها في خيال البرء منقطع
هوًى تهاوت أمانيه فليس لهُ ... فيما تجود به الأوهامُ منتفَع
هوى خلقتم وأفنيتم، ولا عجبٌ ... بعض الأحباء في قتل الهوى صَنَعُ
لا تحسبوا هجركم خطباً يروِّعني ... إني بوأد بنات الدهر مضطلعُ
زكي مبارك(496/9)
أيها الأصحاء. . .
للأستاذ راشد رستم
ها أنتم أولاء تمرحون وتلعبون، تستنشقون عبير الأزاهير والرياحين من الرياض وبين الفياض، وتستبدلون كما تشاءون مكاناً بمكان، وتستلذون طيب العيش، وتسكنون بيوتاً جعلتموها كما تريدون، وتستطيبون ألوان الراحة ومباهج الحياة، وترقبون شؤون دنياكم في رغبة ونشاط ونظام، وقد تصعدون إلى السماء فتطيرون تقضون مآربكم عجالاً - وهكذا تروحون وتغدون، أحراراً صحاحاً خفافاً كراماً. . .
جعل الله أيامكم كلها هكذا دواماً
والآن. ألا تقفون قليلاً!
نعم قليلاً. سائلوا ذلك الذي يناديكم، فإنه لا يبغي منكم تغييراً وتبديلاً، وإنما يطلب لكم صحة وسلاماً، ثم يهمس في صوت خافت لين صريح ساذج. . .
أيها الأصحاء! زوروا عيادات الأطباء. . .
زوروها واجلسوا في ركن منها هادئين
اذهبوا إليها في ساعة تختارونها، ولتكن هي الساعة التي تحارون كيف تقضونها. . . تلك الساعة التي تتكرر كثيراً وكثيراً لذوي الوفرة في الجاه، والوفرة في الفراغ، والوفرة في المال
هنالك في تلك الساعة تعلمون أن المرض شيء من الحياة، وأن في العالم مرضى، وأنكم أنتم الأصحاء. . .
فإذا جاءكم الطبيب يسألكم عما تشكون وما تريدون، فقولوا له القول الصريح، القول الصحيح - (إنما نحن أصحاء، جئنا إلى هنا لكي نبقى أصحاء، وأنا لا نشكوا مرضاً ولا نريد شيئاً كما لا نريد أن نشكوا شيئاً أبداً)
ثم تحولوا قليلاً، وزوروا المستشفيات والمصحات، لا تسألوا المرضى عن أمراضهم، ولا الأطباء عن مرضاهم، ولا الممرضات عن أعمالهم، ولكن انظروا إلى المرضى في حالاتهم، ولاحظوا يقظاتهم ورقداتهم، واسمعوا في صبر آهاتهم وأناتهم. راقبوا في عطفٍ أهلهم وزوارهم. انظروا إلى طعامهم وشرابهم ولباسهم، ولا تنزعجوا خائفين، ولا تسرعوا(496/10)
هاربين، إذ هناك تعلمون وتعلمون حقاً أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، وأنها هي الحياة، وأنكم أنتم الأصحاء. . .
ثم اخرجوا آمنين، واهدءوا مطمئنين، وجانبوا الناس قليلاً سالمين. ثم اسكنوا إلى أنفسكم خاشعين. كل ذلك وأنتم في يقظة عالية وإحساس رفيع. اجلسوا ساعة أو بعض ساعة في النجوى صامتين: ساعة صلاة وحمد وتسبيح، ثم اجعلوها كذلك ساعة ذكرى دائمة الذكرى، فإن نعمة الصحة قد لا تدوم، وهي كالشباب لا يعرف فضلها إلا من فقدها. فأحيوا تلك الساعة بمظهر من مظاهر العطف والعاطفة، إحساناً بإحسان، وزكاة عن الصحة والعافية
ثم عودوا إلى لهو الحياة إن شاء الله آمنين أصحاء دائمين. . .
إن العواطف لا يدركها إلا المنكوبون
والرحمة لا تدخل القلب إلا إذا كان القلب يرى
وإن أبصر الناس من يرى بقلبه
وأرحمهم من يبكي بقلبه
وأصحهم من سلم في قلبه
(لوكاندة بحيرة فاروق)
راشد رستم(496/11)
خطرات شاعر
ليلة عيد الميلاد
للأستاذ علي محمود طه
اسمعي أيَّتُها الروحُ! أفي الكون غِناءُ
وانظري. . . هل في نواحي الأرض بالليل ضياءُ؟
لا تُرَاِعي إنْ يكنْ قَصَّر عنك البشراء
فالنواقيس التي حَّيْتكِ أشَجاها القضاء
الشَّجَي رَجْعَ صداها والأسَىِ والُبرَحاء
والتراتيلُ من البِيعَة نَوحٌ وبكاء
رددتهنَّ الثكالى واليتامى الشهداء
والمصابيحُ التي كان بها يُزْهَي المساء
خنقتها قبضةُ الشرِّ فما فيها ذَماء
صبغوها بسوادٍ فهيَ والليلُ سواءُ
مأتمٌ للنور قام الويلُ فيهُ والشقاء
تحت ليلٍ ما له بدءٌ، ولا منهُ انتهاء
أيها المبعوث، لا ضَنَّتْ بِرُجعاكَ السماء
أنظِر الأرضَ. . . فهل في الأرض حبٌّ وإخاء؟
نسىَ القوم وصاياك وضلوا وأساءوا!
وكما باعوك يا منقذُ بِيعَ الأبرياءُ!!
ليلةَ الميلاد، والدنيا دموعٌ ودماء
في ربوع كان فيها لك بالسلم ازدهاء
باسمه يشدو المغُّنون ويشدو الشعراء
أين ولَّت هذه الفرحة؟ أم أين الصفاء؟
لم تصافحك من الأطفال أحلامُ وِضاء
رقدوا غيرَ عيونٍ ريعَ منهن الفضاء(496/12)
ترقب الآباء، هل عادوا؟ وهل حان اللقاء؟
بين أيدي أمهات، بِتنَ، والليل جفاء
في طوايا النفس وقد عز الرجاء!
ويحهم أين تُراهم، هؤلاء التعساء؟
هم وراء الليل أجسادٌ وأرواحٌ هباء
ووجوهٌ رسم الرعبُ عليها ما يشاء
خندقوا في مأزقِ الموتِ وما منه نجاء
بين موج من سعير يتوقَّاه الفناء
وجبالٍ من رُكام الثلج يُرسيها الشتاء
وحديدٍ طائر يحذر مسراه الهواء
وعجيبٌ! فيمَ للموت يساق الأشقياء؟
في سبيل الحقِّ؟ والحق لدى القوم طلاء!
في سبيل المجد؟ والمجد من البغي بَراء!
أوَ في المجزرة الكبرى تنال المجدَ شاء؟
كذب الباغي وللسيف بكفَّيه مَضاء
وخداعٌ كل ما قال، وزورُ وافتراء!!
أيها الشرق الذي خصَّته بالرٌّوح السماء
هذه الروح التي شِيدَ بكفيها البناء
والتي من نورها العالم يُجْلي ويُضاء
يا أبا الحكمة، لا هان عليك الحكماء!
ناد (أوربا) فقد ينفعها منك النداء:
دِنْتِ بالقوة حتى صَرَعَتْكِ الكبرياءُ
حانتِ الساعةُ يا أختاه أم حَقَّ الجزاء؟
أرقصي في النار، أنتِ اليوم للنار غذاء
وأشربي في حانة الشيطان ما فاض الإناء(496/13)
حانة للموت فيها من دم القتلى انتشاء
نادمي من شئت فيها، فالمنايا الندماء
فارفعي الكأس وغّني وعلى الدنيا العناء!
يا قويا لم يَهُنْ يوماً عليه الضعفاءُ
وضعيفاً واسمه يُصرع منه الأقوياء
وأنا المسلم لا يُجحد عندي الأنبياء
أنت في القرآن حب وجمالٌ ونقاء
عَجبٌ فِدْيتُك المثلى! وفي القول عزاء!
ألهذا العالم الشرِّير؟ قد ضاع الفداء!(496/14)
كلمة عن التلباثي
للدكتور رمزي مفتاح
كتب الأستاذ العقاد مقالاً عن التلباثي؛ وليس قصدنا أن نناقشه فيما كتب أو نوضح من هذا العلم الغامض. ولكننا نلخص الموضوع باختصار شديد فنقول:
1 - ليس معنى التلباثي هو أو الرؤية عن بعد، وليس هو المكاشفة، ولكنه: (أ) انتقال إحساس قوي، أو انتقال فكرة واحدة مجردة؛ فقد تشعر الأم بوقوع ابنها في حريق وهي بعيدة عنه. وقد يحس الابن ضيقاً وكرباً وأبوه يناديه وهو على فراش الموت وبينهما بحار وأقطار.
(ب) تبادل الأفكار الذي يكون بين اثنين من المشتغلين بهذا العلم، ويتم بعد تدريب طويل بالطرق العلمية
(ج) إرسال فكرة أو أمر من فرد إلى آخر؛ وتقتضي أن يكون الأول عالماً بعلم النفس الحديث ومتدرباً على التأثير من بعد
2 - يمكن الوسيط المغنطيسي أن يرى أو يسمع أو يقرأ عن بعد، وقد نجح وسيطنا في هذه التجارب. أما الحاصلون على هذه الموهبة وهم في حالتهم العادية فعددهم فرد واحد في كل أربعة ملايين
فلو كان المقاتلون قد سمعوا صوت عمر وهم مئات، ولو كان ذلك قد تم بواسطة التلباثي، لا قتضى الأمر أن يكونوا كلهم موهوبين أو وسطاء وهو ما لا يعقل. والحقيقة أنه هو الموهوب وحده، وأن هذه الظاهرة ليست تلباثي. أما في المثالين المذكورين في (أ) وما يشبهها فلا تسمع فيها الأصوات. ويلزم أن يكون بين الفردين صلة أبوة أو زواج ويكون مرسل الرسالة وقد انطلق عقله الباطن من عقاله في سكرة الموت أو في توقعه
3 - أما الرؤية من بعد فنقسمها قسمين:
الأول: أن يراك غيرك وهو بعيد
والثاني: أن تنظر غيرك
فالأول كان يسمى قديماً إرسال المثال الكوكبي وهو من أعقد المباحث العلمية. وخلاصته أنه يمكن أحد الموهوبين - وهم بنسبة فرد في كل 100 مليون في المدن، وفرد(496/15)
في كل مليون في البدو - أن يرسل طيفه المثالي إلى أي مكان حيث لا يرى في ضوء النهار، ولكن قد يسمع صوته؛ ويرى في الغبش أو الليل على صورة المرسل ضباباً متجمعاً. والهنود يسمون هذا الضباب ويسميه العلماء الأقدمون أطياف الأثير، وهم جميعاً يعتقدون أنها ذرات كونية تتجمع وتكون شكلاً خاصاً بتأثير قوة خاصة ليست مجهولة منا الآن. وقليل من علماء النفس الحديثين من يعرف أن هذا الضباب مكون من ذرات الأشعة الكونية ' وهي التي كان العالم مسمر الشهير يسميها السيال المغنطيسي الكوكبي. وإنه لمطلب عجيب نمسك الآن عن البحث فيه. وبالمقدرة على إظهار الطيف الكوكبي يمكن أن ترى رجلاً تعرفه يمشي على الماء وتسمع صوته
القسم الثاني يختص بالوسطاء المغنطيسيين أو الموهوبين كما بيننا.
والوسيط أو الموهوب يرى ولكن الآخر لا يراه ولا يشعر به.
وتسمى هذه الظاهرة وهو موضوع آخر بالمرة غير التلباثي الذي ذكره الأستاذ. ومن أمثلته عند العرب زرقاء اليمامة
4 - سماع الأصوات عن بُعد ويسمى وهو موضوع آخر غير التلباثي وهو الذي يقال فيه إن فلاناً يسمع الهاتف. وكل هذه الظاهرات من قوى الوسيط المغنطيسي أو الروحاني الموهوب - وكذلك لا يسمعه الطرف الآخر
5 - كل مقال الأستاذ العقاد منصب على إثبات وجود التلباثي بأدلة منطقية قياسية. وقد فرغ العلماء من إثباته منذ أكثر من 85 سنة. وتدرس هذه العلوم كدراسات عليا في جامعات إنجلترا الكبرى. ومحاولة الأستاذ إثباتها كمن يحاول إثبات وجود أشعة إكس بالاستنتاج. وقد صدر في أمريكا وأوربا في السنوات العشر الأخيرة نحو ألف كتاب فيها مباحث عن التلباثي والعقل الباطن
(مصر الجديدة)
رمزي مفتاح(496/16)
(توبال فايين) أو:
معجزة الحديد
للشاعر الإنجليزي تشارلس ماكاي
للأستاذ محمود عزت عرفة
(وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)
سورة الحديد: الآية 25
(وصلة أيضاً ولدت توبال فايين الضارب كل آلة من نحاس
وحديد)
سفر التكوين: 4: 22
تقدمة
كانت قصص الكتاب المقدس - وما تزال - مصدر وحي عميق لكتاب الغرب وشعرائه؛ فهي قد تركت بسهولة تعبيرها وبلاغة حكمتها ودقة تصويرها، أثراً بالغاً وسمةً واضحة الظهور في تفكير القوم وفي أسلوبهم؛ كما ترك القرآن الكريم أثره البالغ الخالد في مختلف علوم اللغة العربية وآدابها. . .
وهذه حقائق لا يتسع المقام هنا لشرحها. على أن في قصائد: مهلك جند سنحاريب، ورؤيا الملك بيلشاصر، ومرثية داود لأبنه أبشالوم وغيرها وغيرها من نفائس الأدب الإنجليزي، ما يعتبر دليلاً واضحاً على صحة ما أشرنا إليه آنفاً. . . والقصيدة التي نترجمها اليوم مما يدخل في هذا الباب.
وهي من نظم الشاعر الإنجليزي تشارلز ما كاي الذي عاش بين عامي 1814، و1889 م؛ وقد اشتهر بمقطوعاته الغنائية الرائعة، كما أنه ساهم في تحرير كثير من الصحف الصادرة على عهده، في إنجلترا واسكتلندا. وقد ورد في (معجم السير القومي: البريطاني أن هذه القصيدة نشرت لأول مرة في صحيفة (لندن المصورة) عام 1851 م.(496/17)
ولكن المحقق الإنجليزي س. ب. هويكر يقول إنه لم يعثر عليها في هذا المصدر، وإنها نشرت لأول مرة عام 1856م ضمن ديوان للشاعر عنوانه: أغاني وأناشيد شعرية.
ترجمة القصيدة
عاش توبال قابين في بدء الحياة والكون طفل يحبو؛ وكان قيناً صَناعاً ذا أيدٍ وقوة، لا ينفك لمطرقته دويّ ولأتونه لهيب ولظى. . . كان يرفع مطرقته بساعده القوى المفتول ويهوي بها على الحديد الأحمر الوهاج، فيترامى من حوله الشرر كأنه شآبيب المطر الأرجواني. وما يزال حتى يستوي الحديد أمامه سيفاً قاطعاً أو سناناً لا معاً، وإذ ذاك يصيح من قلب جذلان:
ألا بورك في هذه من صنعة بورك في تلك الظُّبا وهاتيك الشَّبا! بورك لمن هزَّ مشرفياً أو اعتقل ردينيا فبهذين تمتلك النواصي، وتستدنى الآمال القواصي!
وكانت الرجال ما تنفك تهوى من كل فج إلى توبال قابين وهو على عمله عاكف يلتمس كلٌّ لنفسه سيفاً جزاراً أو نصلاً قاطعاً، ليحقق في الحياة مأرباً أو يحتاز رغبة. فكان يمدهم من السلاح فأنفذه ومن العدة بأقواها، حتى ليهتفون باسمه في نشوة من السرور، ويغمرونه بعطاياهم من نفائس النضار وكرائم الجوهر وهم يقولون: ألا بورك فيك يا توبال قابين؛ يا من تسبغ علينا من القوة لَبُوساً، ومن البأسِ سرابيل ودروعاً
بورك في القين وبورك في النار! بورك في الحديد ذي البأس الشديد!
على أن خاطراً فجائياً احتل موطنه - في إحدى الليالي - من قلب توبال قايين، فجاشت نفسه بالألم الممض، وامتلأ صدره من الكمد الموجع والهم المقعد المقيم على ما قدم من الشر وأسلف من سوء الصنيع!
رأى الناس قد اذكروا فيما بينهم نار حرب عوان، بدافع من نزوات الغضب ونفثات الحقد؛ وخضبوا وجه الأرض بمسفوح الدم، في لحظات من جنونهم ونشوات نفوسهم العوارم، فصاح من قلب مفجع منكوء:
وا أسفاه على ما قدمت يداي! وتعساً لتلك المهارة التي هيأت لهؤلاء القوم من آلات التخريب ومعدات الدمار ما تمادوا به في تقتيل أنفسهم؛ حتى اقتضبوا طويل أعمارهم، وخربوا معمور ديارهم!(496/18)
وقضى توبال قايين أياماً طوالاً يقض مضجعه التفكير في محنته، وقد أمسكتا يداه عن العمل، فما إن تطرقان قضيباً أو تضرمان لهيباً
وإنه لكذلك، إذ نهض ذات يوم بوجه متهلل ضحوك، وعينين ملتمعتين ببريق الرجاء والأمل، وشمر عن ساعده المفتول ليستأنف عمله من جديد؛ بيننا ارتفع لهيب أتونه المضطرم في الجو عالياً، وترامى الهواء من حوله بشرر كالقصر
وراح توبال قايين يغني وهو يعمل قائلاً: ألا بورك في هذه من صنعة. . . فما للسيوف دون غيرها نصقل الحديد أو نطرق المعدن. وأتم في هذه اللحظة عمل أول سكة لمحراث!
وكان الناس قد لقنوا الحكمة من ماضيهم، فتصافحت أيمانهم على عهد من المودة وثيق؛ ثم أغمدوا سيوفهم وركزوا رماحهم وأقبلوا على الأرض المدرة المعطاء يفلحونها ويجنون يانع ثمراتها وهم يغنون:
لنشكر جميعاً صديقنا الطيب توبال قايين، هذا الذي حقن دماءنا وحفظ ذماءنا؛ ولنتقدم إليه من الحمد بأبلغه ومن الثناء بأجزله على ما أولانا من صنعة هذا المحراث النافع
على أنه ترفع الفتنة يوماً رأسها، أو يطمع في السيطرة علينا طاغية متجبر؛ فلنكن مع شكرنا له على الانتفاع بمحراثه، غير جاحدين له مزية الدفاع بسيفه.
(جرجا)
محمود عزت عرفة(496/19)
علاقة شوقي باللبنانيين في نظر الدكتور مبارك
للأستاذ نجيب شاهين
قال شوقي في يوبيله إنه يهتدي بهدى المتنبي في أدبه واعترف له بالسبق اعتراف أبي العلاء به قبله
وشوقي في ملتي واعتقادي - كلمتي أبي العلاء - أعظم شاعر بعد أبي الطيب بغير استثناء، ولا يخرج من هذا الاستثناء أبو العلاء. وله مواقف لم يقفها المتنبي نفسه بل سائر من سبقه
هذا هو رأيي وقد أكون مغالياً، ويكون سبب هذه المغالاة لوثة باطنية مما اصطلحوا عليه بلفظة ذاتية، وأكون مخالفاً فيها لجمهرة غالبة من أهل الرأي في الأدب والشعر وما يشتق عنهما. وقد أكون مصيباً، وفوق كل ذي علم عليم
جالست حافظاً حقبة من العمر في القهوة المناوحة (لدار الكتب الملكية) في باب الخلق كنت أوافيه فيها أياماً من الأسبوع وكلانا يدخن فيها نرجيلته، وكان حافظ هو المتكلم في الغالب، وكنت أنا السامع كعادته مع أصحابه، وكان أثناء بساطته (مباسطته) يمزح ذاماً للمتنبي مفضلاً عليه البحتري ناسباً انتصار الشاميين له إلى كونه شامياً مثلهم. ولم يكن كذلك تماماً لأنه ولد في بادية الشام وطوف في الشام ومصر وعاد إلى الشمال فمدح سيف الدولة الحمداني هناك، ثم هبط إلى طرابلس (الشام طبعاً) في أواسط الشام وأنشد فيها بعض مدائحه، ورحل إلى دمشق فأنشد فيها قصيدته الشينية على ثقلها، وأنتقل إلى فلسطين فمدح بدر بن عمار وقال فيه قصائده ومنها القصيدة المشهورة التي وصف فيها قنصه للأسود على ضفاف الأردن وبحيرة طبرية. ومنها يستدل على وجود الأسود هناك حينئذ مع أنها انقرضت الآن. وتنقله الكثير هذا بين الشام ومصر جاء مصدقاً لبيته الذي يقول فيه:
بأي بلاد لم أجرَّ ذؤابتي ... وأي مكان لم تطأهُ ركائبي
فإن كان الشام وطناً له فقد كان وطناً ثانياً، وهل أقول إنه كان دخيلاً فيه!
وكان يعرض لنا في مجلسنا ذكر شوقي طبعاً، فإذا ذكره بعض حساده بسوء ولغوا في ذمة تصريحاً أو تعريضاً لم يشاركهم حافظ ولم يردهم، بل كان يلقي لهم الحبل على الغارب تساهلاً وتهويناً لا تشجيعاً لأنه كان من أشد المعجبين بشوقي حقاً(496/20)
أجيء الآن إلى تعليل قول الدكتور مبارك إن شوقي تغنى بالمسيح إيفاء لمتأخرات دين عليه للسوريين؛ وهو تعليل واهٍ، لأن أعظم إشادة لشوقي بالسيد المسيح احتوتها قصيدة الهمزية التي نظمها في أواخر القرن الماضي وألقاها في مؤتمر جنيف سنة 1894 أي منذ نحو نصف قرن وفيها:
ولد الرفق يوم مولد عبسى ... والمروءات والهدى والحياءُ
وازدهي الكون بالوليد وضاءت ... بسناه من الثرى الأرجاءُ
وسرت آية المسيح كما يسري ... من البحر في الوجود الضياءُ
تملأ الأرض والعوالم نوراً ... فالثرى مائج بها وضاءُ
لا وعيد، لا صولة، لا انتقام، ... لا حسام، لا غزوة، لا دماءُ
لم يكن شوقي حينئذ قد اشتهر ولا عرف الشام أو عرفه أهله وسمع به أدباؤه وشعراؤه. وكانت بضاعته قليلة على سمو نوعها، ورأس ماله، صغيراً، ولا دين له أو عليه يوفي به دائنته.
فليس تعليل الدكتور بحاو شيئاً من حسن التعليل. وكنت قد عللت مدائحه للمسيح بقراءته للتوراة والإنجيل قراءة دارس لها شأن كل أديب شاعر بلغ من الأدب شأواً رفيعاً ولا سيما أن الأدباء الغربيين متفقون على القول أن سفر النبي أشعياء في التوراة قطعة راقية من النثر الشعري بالعبرية، فرأى شوقي من الغضاضة عليه كشاعر فحل ألا يلم بذلك السفر ويعرف ما يحويه كأدباء الغرب وكما يناسب مقامه كشاعر شوقي من الطراز المعلم
والظاهر أنه قرأ سفر أشعياء، وما ورد في قصيدته الأندلسية الميمية مقتبس منه. فقد جاء فيها قوله:
عيسى سبيلك رحمة ومحبة ... في العالمين وعصمة وسلام
ما كنت سفاك الدماء ولا امرأ ... هان الضِّعاف عليه والأيتام
يا حامل الآلام عن هذه الورى ... كثرت عليه باسمك الآلام
فهذا البيت الأخير مقتبس من قول أشعياء في نبوته عن المسيح: (لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها. . . وعبدي البار يبر كثيرين وآثامهم هو يحملها. . . ولقد حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين)(496/21)
ولست أذكر: أقال شوقي (يا حامل الآلام) أم (يا حامل الآثام) وكلا القولين واحد لأنه كُنى بالآلام على الصليب في اعتقاد المسيحيين عن آثامهم الموروثة عن آدم الأول. ويقول علماء المسيحية إن أشعياء تكلم عن المسيح بروح النبوة قبل مجيء المسيح بما يقرب من ألف سنة
بهذا الاتفاق في قول أشعياء وشوقي يبعد أن يكون توارد خواطر بينهما
وإذا تغنى لبناني بشعر شوقي فللسبب الذي يتغنى بشعر المتنبي اللبناني وشوقي، لا لجامعة جنسية أو دينية بين الثلاثة، بل بجامعة الأدب التي لا تميز بين الأديان والأوطان والتي من أجلها قدم امرؤ القيس النصراني على غيره من شعراء الجاهلية، وسوى بين الفرزدق وجرير المسلمين والأخطل النصراني في الدولة الأموية. وفتح لبنان أبوابه مرحباً بشوقي، وفتح أدباء مصر صدورهم لشبلي الملاط وللأخطل الصغير
نجيب شاهين(496/22)
وحي العام الجديد
المصباح الأحمر
للأستاذ محمود الشرقاوي
هاأنذا أعود إليك. أيها المصباح الأحمر!
أعود إليك يا مصباحي الأحمر ولكني إنسان جديد.
ها أنت ذا كما كنت. يسطع نورك على قرطاسي ويغمر وجهي وأشعر بدفئك الرقيق يلمس جبيني في برد هذا الليل.
هذا هو الليل الساكن والدهر يحبو إلى عام جديد. وهذا نورك في غرفتي وبهجة لونك، هذا كل شيء كما كان، ولكني أنا إنسان جديد.
إني أكاد أشعر منك بالحياة يا مصباحي الأحمر ويخيل لي أنك تهمس وأنك تناجي وتذكر، لا بل إنك تنبض وتخفق أو تكاد تنطق.
إني أحس ما تريد أن تهمس وأن تقول، وإني أناجيك به وحدك وقد سكن الليل كأنما الليل وظلامه قد سكنا إلى النوم كما نام السعداء من الناس؛ لم يبق سواك وسواي يقظان.
لا تسلني أيها المصباح الأحمر فسأحدثك، وحديثي لك وحدك. لم يبق من يستمع حديثي ويصغي. لقد كنت منذ سنين شاهدي وسميري حين أكتب إلى من أعزهم، وكنت تبهج مكاني ويغمر جبيني دفئك في برد هذا الليل، كما يغمر قلبي ويشمل كياني الفرح الشامل السعيد حين أكتب لمن أحب. وحين يغمر قلبي ويغمر كياني ذلك الفرح الهادئ البهيج والنشوة التي تكاد تحملني فأخف معها وأنا أتلو رسائل من أحب، أسترجعها وأتلوها وأقف عند كل حرف فيها أستوحيه وأشعر منه بالسعادة وباللذة لا تساوي عندي الدنيا كلها رسالةً منها.
كنت شاهدي وسميري أكاد أحس فرحتك معي وبهجة نورك من بهجتي ومن نور قلبي، والآن أنت وحدك الذي أخاطب وأنت الشاهد والغائب، فقد ذهب العزيزان ولم يبق لي سواكَ من يصغي.
لا تسلني أيها المصباح الأحمر عن رسائل الثلاثاء من كل أسبوع، ولا عن رسائل الأحد من كل أسبوعين، ولا عن رسائل الغائب البعيد من وراء البحار(496/23)
إنك تعرف وتذكر من أمسياتي ومن ليالي هذه الساعات الطويلة يتبع بعضها بعضاً وأنت تفيض بالدفء على جبيني وبالنور على وجهي وقرطاسي وأنا مستغرق كما يستغرق الصوفي غيبوبة السعادة والمناجاة والتوجه، وهذه السطور والكلمات تلتوي وتنحدر ولا أشعر كيف تكتب ولا كيف يجري بها قلمي، ولكني أعرف كيف يمتلئ بها كياني وكيف يفيض بها قلبي وكيف يتحرق بها دمي. والليل ساج وليس من ساهر سواك وسواي، وأنا بالغيبوبة سعيد وبالليل سعيد
لقد ذهب العزيزان أيها المصباح فماذا أبقيا لقلبي؟
فرحت بهما حيناً من الدهر وأحببتهما الدهر كله وأقمت منهما وبهما القصور الشوامخ من الرجاء ومن بهيج الأمل، وكنت شاهدي وسميري حين أكتب إليهما في سكون الليل فأشد من عزم أحدهما وأهون له الأمور الصعاب أمنية بالرجاء والأمل، وأضع حياتي وقوتي وكدح نهاري وسهد ليلي له وحده، إنه أخي
وكنت شاهدي وسميري حين أكتب إلى أحدهما أقويه وأحييه وأبثه، وأرقب معه الحياة والصفو، وأجعل ما بقي من قوتي، وأجعل شبابي ومنامي ومقبل أيامي وهنيء عيشي بعد الكفاح المبذول والجهد الموصول، أجعل هذا كله منه وله؛ إنه حبيبي
كان سندي وكان محرابي وكان الواحة الهنيئة الحلوة المظلة في جدب أيامي، فانهار منه سندي وانهدم المحراب على العابد، وما خلته الواحة الهنيئة الحلوة كان السراب، وكان بردُ مائها العلقم. . .
قال لي وقلت: أصبر. فصبرت، حتى أفناني الصبر. وما صبر هو
أنت تعرف أيها المصباح الأحمر، إنهما كانا أخي وحبيبي.
أما أحدهما فقد خبطه الموت عشواء، وأما الآخر فقد خبطته الحياة، وللحياة خبط أشد مما يخبط الموت
لم أعد أكتب على ضوئك ودفئك أيها المصباح الأحمر رسائل الثلاثاء، ولا رسائل الأحد، ولا أكتب للغائب البعيد.
الذين أحببتهم ورجوتهم، والذين أناجيهم وأريدهم، وأناديهم وأفتقدهم، والذين قضيت عمري كله أرتقب قربهم ذهبوا لا يعودون، أحدهما بين التراب، والأخر أبعد من رفيع السحاب(496/24)
والذين لا أريدهم ولا أرجوهم ولا أفتقد بعدهم يعودون فأذكر بهم من لا يعودون فهم لقلبي حرقة
والذين أجدهم وقد أرجوهم. . . أيها المصباح الأحمر. . . إنك في زعمي تحس وتعرف فلن أبوح إليك
ماذا أقول يا مصباحي الأحمر؟ هذا لونك البهيج فيه الحياة والدم والفتوة؛ وهذا هو الزمن يحبو إلى عام جديد، وهذا دفئك يلمس جبيني ويغمر وجهي وقرطاسي. . . أكاد أسمع وقع إشعاعك وأسمع لمس دفئك في سكون الليل وأنا أكتب
أكتب عن عزيزي لا لهما، ويا بعد ما أكتب وما كنت أكتب! وما كل طلٍ طل، أكتب على ضوئك أبكيهم لا أناديهم وهيهات. . .! ما مضى لن يعود
هذا عام جديد كنت سوالفه أكتب لهما بالأمل والنجوى عن مقبل الأيام
والآن كلما حل عام جديد كتب وقد أغلقت قلبي وأغمضت عن مقبل أيامي، أنطوي على سالف الذي كان
هذا ضوءك أيها المصباح وهذه غرفتي، غرفة باردة، طقسها بارد، ولكنها حارة الذكريات
كل شيء كما كان، لم يتغير سواي. هل تقول أيها المصباح إني ما تغيرت، بل تلاشيت وانتهيت؟ لعني أيها المصباح الأحمر!
لقد ذهب العزيزان فماذا أبقيا لقلبي؟ إنها الحسرات
وقد أحسست من قلبي أيها المصباح كيف كان قلبي يعرف السعادة، ويشعر بالحب، ويبتهج بالرجاء، ويرتقب الأمل، ويصبر على الأيام. أحسست من قلبي حبه الصارم العارم الفاتك قوياً كالإعصار، راسخاً كالجبل، ثابتاً كسواد هذا الليل، بهيجاً كصحبه أحسست من قلبي أيها المصباح الأحمر حبه عزيزية كيف كان، فاعرف الآن أيها المصباح كيف يحس هذا القلب ما أبقيا من الحسرات!
محمود الشرقاوي(496/25)
لا تثوروا على المدينة الحاضرة
للأستاذ محمد أيوب مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
إذا عجبت فإنما أعجب لكل من يفكر في التمرد أو الثورة على المدينة الحاضرة. وإني أنظر حولي فأجد أناساً كثيرون يحملون حملة شديدة على هذه المدينة ويودون إلغاءها بجرة قلم حتى تعود الإنسانية إلى الحياة البدائية الأولى، حياة البساطة والسذاجة لأنها في نظرهم خالية من التعقيد، قريبة من الطبيعة، وكل شيء قريب من الطبيعة جميل. وإني أسائل نفسي لماذا يريد هؤلاء الناس العودة بنا إلى الوراء حتى نعيش تلك الحياة التي يسمونها حياة بسيطة وما هي إلا حياة بدائية تقرب الإنسان من الحيوان، فقد كان الإنسان في القرون الخوالي كالحيوان يهيم على وجهه في القفار لا يعرف إذا كان يعيش أو لا يعيش.
فالمدينة الحاضرة أسمى ما وصل إليه العقل البشري، وهي عبارة عن تطور العقل البشري في مختلف القرون الماضية، بل هي التراث المجيد الذي تركه لنا العقل منذ حياة الإنسان الأولى، فكل المدنيات متصلة بل ومتمم بعضها للبعض الآخر، بحيث لا نستطيع أن نقيم حاجزاً بين مدنية ومدنية. فنقول إن هنا حدود المدنية المصرية، وأن تلك حدود المدنية اليونانية، بل ونحن لا نستطيع أن نوجد حلقة فاصلة بين المدنية الحاضرة وبين مدنية أخرى أجنبية عنها، إذ لا بد من التطور. وليس هناك من شك في أن هذه المدنية ستتطور في الأجيال القادمة كما سبق لها أن تطورت في الأجيال الماضية، فالمدنية الحاضرة وهي التي ابتدأت بإحياء العلوم ونهضة الآداب، متممة للحضارات القديمة، حضارات اليونان والرومان. وليس منا من يستطيع أن ينكر فضل تلك العقول الجبارة، عقول اليونان والرومان فيما أنتجته لنا في ميادين الفلسفة والعلم والآداب والقانون
ويخطئ من يظن أن المدنية الحاضرة عبارة عن الناحية المادية فحسب، وهي التي نتج عنها ما نراه اليوم من تحسين في أمورنا العامة وفي أمورنا الخاصة. كلا! هي لا تقتصر على هذه المخترعات العظيمة كالسكك الحديدية، والطيارات والسيارات التي قربت المسافات بين الأمم، وكالتلفون والتلغراف والراديو، وهي التي جعلت أنحاء العالم كلها تشعر بأنها عالم واحد، تربط بين أجزائها رابطة قوية؛ أقول ليست تقتصر هذه المدينة على هذه النواحي التي جعلت الإنسان يتحكم إلى حد كبير، في نظام هذا العالم الذي نعيش(496/26)
فيه، إنما المدينة الحاضرة تشمل أيضاً الناحية المعنوية التي شأنها أن حررت الفكر وأبطلت الرق وضمنت حقوق الإنسان. تشمل ناحية العلوم التي كشفت عن أسرار الطبيعة، وناحية الآداب التي سمت بالعالم إلى جو من الخيال جعله يبهج مشاعر النفس، وناحية الفنون التي أخذت بالذوق إلى أسمى درجة من درجات الرقي
على أن المدنية الحاضرة، وهي التي ظهرت في أوربا، تختلف عن غيرها من المدنيات القديمة التي ظهرت في الشرق عامة وفي حوض البحر الأبيض المتوسط خاصة؛ فالمدنية في الشرق خاضعة للدين متأثرة بالطبيعة، بينما هي في الغرب خاضعة للعقل مؤثرة في الطبيعة. ففي الشرق الجو حار والشمس ساطعة تغذي الجسم بأشعتها، والأرض خصبة تنتج المحصول الكثير والخير الوفير، مما جعلنا نحن الشرقيين نميل إلى التراخي والكسل لكثرة ما نرى أمامنا من المحاصيل التي تكفي لغذائنا دون مشقة كبيرة. وكان من أثر هذا الفتور والتراخي أن ركن الإنسان إلى الطبيعة وأخذ ينظر إليها ويتأمل فيها، فرآها تجود عليه بالمياه لري أراضيه، وبالشمس لإنضاج محصوله، فأكبرها ومجدها وأخذ يعبدها ويعبد مظاهرها كالشمس والقمر وخلافهما. من هذا كان خيال الشرقيين خصباً، فتخيلوا أدياناً مختلفة، وتصوروا مظاهر مختلفة للعبادات وهذا آت من الفراغ وقلة النشاط الذي يسد هذا الفراغ. فالشرقي بوجه عام، عابد للطبيعة متأمل فيها خاضع للدين ناظر فيه، فأثر الخيال عليه عظيم، وأثر الدين عليه عظيم، وكذلك أثر الطبيعة عليه عظيم. أما في أوربا فإن الجو بارد لا تظهر الشمس إلا في أحوال نادرة؛ لذلك احتاج الفرد إلى الكد والجهد لاستغلال الأرض حتى تنتج أكثر ما يمكنها إنتاجاً، ولاستغلال مظاهر الطبيعة ما يفيد منها أكبر إفادة، فهو مضطر لأن يأكل كثيراً ليتقي بذلك برودة الجو، وهو مضطر لأن يتدثر بالملابس الثقيلة لكي تبعد عنه أثر البرد القارس؛ من أجل هذا كان عقله كثير الاختراع وافر الإنتاج، وقد وجه هذا العقل نشاطه لتسخير قوى الطبيعة، ونجح في هذا الميدان إلى حد بعيد إذ أصبح هو المسيطر على هذه الطبيعة بدل أن تكون هي المسيطرة عليه
فكيف يجوز لنا أن نثور على المدنية الحاضرة وهي التي حكمت العقل في أمور كثيرة، أخذت ما يأخذ به ورفضت ما يرفظه، وقد غلبت الناحية العقلية على هذه المدنية، حتى كان لهذا أثر عظيم في تاريخ التطور البشري، فأول نتائج تحكيم العقل في كل شيء أن قل(496/27)
تعصب الناس للدين، فأصحاب المدنية الحاضرة لا يشنون الحرب على غيرهم بسبب اختلاف في الدين كما كان يحدث في القرون الوسطى مثلاً. ضعف إذن التعصب الديني إلى حد كبير، وليس معنى ذلك أن هذا التعصب القديم لم يصبح له أثر، كلا! بل أقول إن الدين لم يعد له تأثير كبير في سياسة الدولة وتوجيه الحكومات حتى تشن الحروب على غيرها بسببه، فهذا التعصب أصبح ضعيفاً جداً وهو إن وجد فإنما يوجد بين الطبقات الجاهلة من الشعب وهي التي لا تحكم العقل في قليل ولا كثير وإنما تخضع للعاطفة والوجدان والخيال أكثر من أن تخضع للعقل
ونحن لا نستطيع أن نبين مزايا المدنية الحاضرة إلا إذا وازنا بين الشعوب المتمدينة والشعوب غير المتمدينة، أما الأولى فيحكمها القانون وتسيطر عليها هيئة منظمة تحقق فيها التوازن بين مختلف الفرق والطوائف والطبقات، ويسود مجتمعها الهدوء والسكينة، فإذا طغت سلطة على سلطة فإنما الهيئة العليا هي التي تحد من هذا الطغيان. وهي فضلاً عن هذا النظام الذي نتمتع به لها جميع وسائل الراحة التي أنتجها العقل البشري. والثانية في فوضى لا ضابط لها، لا تخضع إلا للغريزة، وفيها يحاول الإنسان أن يأكل أخاه الإنسان، وفيها يعيش الإنسان وكأنه لا يعيش، لا يعرف من أحوال هذا العالم شيئاً. ينتقل من مكان إلى مكان كالحيوان حينما ينتقل من شجرة إلى شجرة، لا يدري ما أحدث العلم من تقدم ولا يعرف ما قدمه العقل من وسائل الرفاهية والسعادة. فالفرق عظيم بين الشعوب الأولى والشعوب الأخرى، كالفرق بين الإنسان المثقف والغير مثقف، الأول يحاول أن ينفذ ببصره إلى أعماق الأشياء فيعمل على تفهم أسرار الطبيعة، أما الآخر فإن العالم مغلق في وجهه، أسراره محجوبة عليه لا يستطيع لها كشفاً
فالمدنية الحاضرة تعمل أن يسود النظام المجتمع، وعلى أن يطيع الإنسان القانون، وعلى أن تكون العلاقة بين الأفراد علاقة منظمة أساسها الاحترام والود، ورائدها المنفعة العامة للدولة وللناس جميعاً. وتعمل أيضاً على تنظيم العلاقات بين الدول بحيث تكون خاضعة لعادات وتقاليد وقوانين، وبحيث تشرف على هذا هيئة عليا كجمعية أو عصبة عامة أو محكمة عليا. وليس منا من يفضل الفوضى على النظام أو التمرد على الطاعة
وكيف يجوز لنا إذن أن نثور على المدنية الحاضرة وهي التي أشعرت الفرد بكرامته وقوة(496/28)
شخصيته وجعلته يعرف حقوقه وواجباته، بل وذهبت إلى أبعد من هذا فحققت المساواة بين أفراد البشر جميعاً. وقديماً كانت المدنيات القديمة تعمل على تحقيق المساواة بين أفرادها الخاضعين لها: أي أن المدنية اليونانية مثلاً تنظر بعين المساواة إلى اليونان فقط، أما غيرهم من الشعوب الأجنبية فهي تلفظها وتحتقرها وتبعدها عن ميدانها. تحققت إذن المساواة بين أفراد الدولة في الداخل، فالكل سواء أمام القانون، لا عبد هناك ولا سيد، ولا فرق بين الصغير والكبير أو الغني والفقير أو المواطن ورئيس الدولة، فالكل متساوون أمام القانون. وهي لم تقتصر على تحقيق المساواة فقط، بل عملت على تحقيق الحرية لبني الإنسان، فألغت الرق وحررت العبيد، وقد كان الرق شيئاً عادياً طبيعياً تقول وتأخذ به المدنيات القديمة. ونحن نعجب كيف أن عقولاً جبارة كعقول سقراط وأفلاطون وأرسطو كانت توافق على استخدام فرد لفرد آخر، وإخضاع هذا الفرد لاستغلال فرد آخر يكبره من حيث الثروة أو الجنس أو المولد
بل وتعدت المدنية الحاضرة حدود الفرد وذهبت إلى ميدان الشعوب فعملت على رفع الظلم عن كاهله. حررت الشعب وضمنت له حقوقه وحددت له واجباته بهذه النظم الديمقراطية التي تعتبر أرقى ما وصل إليه العقل البشري من تصور لتنظيم الجماعة وحكمها فقضت على النظم الطاغية، نظم الظلم والاستعباد؛ فقد كان الفرد فيما مضى يخشى السلطان، وكان السلطان إذا تكلم كان هذا الكلام قانوناً مقدساً وإرادة لا نقض لها. كانت سلطة السلطان مطلقة مستبدة، ورغبته هي النافذة، وإرادته هي القانون والقانون هو إرادته. فجاءت المدنية الحاضرة وقضت على هذا كله، وأصبحت الهيئة الحاكمة تعترف بأنها تحكم لا لتستبد بل لتخدم الشعب ولتقوم على مصالحه. وقد سرت هذه المبادئ الحديثة بين الأمم سريان الكهرباء وانتشرت انتشار الهواء، لما عرف القوم من مزايا هذه الديمقراطية التي ترتكز على المبادئ الشعبية الخالدة، وهي التي تقدس الحقوق والحريات العامة. فالديمقراطية أثر من آثار هذه المدنية، وهي التي جعلت الإنسان يشعر بشخصيته ويحافظ على حقوقه، ويقوم بواجباته بدافع من نفسه. ولهذه الديمقراطية مزايا ومنافع، فهي التي تعمل على تساوي الحظوظ بين أفراد المجتمع فلا تقصر الفوائد كنشر الثقافة والتعليم على طبقة دون طبقة. إنما الجميع في نظرها سواء، لكل فرد الحق في أن يتعلم، ولكل فرد(496/29)
الحق في أن يشترك في إدارة شؤون الدولة
وللمدنية الحاضرة فضل آخر هو الخاص بتحرير المرأة من عقالها، إذ جعلتها تشعر بأنها عضو نافع من أعضاء المجتمع، فقد سوت بين المرأة والرجل، وقضت على هوة الخلاف بين النوعين وأصبح للمرأة ما للرجل من حقوق وعليها ما عليه من واجبات، وأشعرت المرأة أنها تستطيع أن تعطي رأيها في المسائل، وأن تشارك الرجل في إدارة شؤون بيته وأعماله، بل وتعاونه معاونة تامة سواء أكان ذلك في الحياة الخاصة أو الحياة العامة. وهي التي أعطتها هذا الغذاء العقلي غذاء العلم والثقافة، فأصبحت تتعلم في المدارس على قدم المساواة مع النوع الآخر، وبذلك أصبحت تحس بأنها تعيش حقاً، تهنأ لسعادة المجموع وتبأس لشقائه
وقد يقول بعض المكارين إن هذا صحيح، ولكن أنظر إلى هذا الاستعمار الأوربي وليد الحضارة الحالية، ألم يعتد هذا الاستعمار على مصير الشعوب وحريات الأمم؟ وقد يكون هذا صحيحاً إذا كان الاستعمار ظهر في عهد هذه المدنية ولم يظهر في عهد غيرها من المدنيات الأخرى؛ فالاستعمار عرفه قدماء المصريين واليونان والرومان وكذلك العرب، فهو يرجع إلى طبيعة الإنسان لا إلى طبيعة المدنية، والإنسان بطبعه تواق إلى التحكم والسيطرة، فإذا وجد أمامه إنساناً ضعيفاً فرض عليه سلطانه وسيادته، وكذلك الدولة الضعيفة، وهذا من طبيعة الناموس البشري، فلا بد للضعيف من أن يخضع للقوي، ولا بد للقوي من أن يسود الضعيف؛ فللقوي البقاء، وللضعيف الفناء
وقد يقول هذا النفر أيضاً: أنظر إلى هذه الحرب التي تفتك بالناس فتكاً ذريعاً، والتي تأتي على اليابس فتأكله، وعلى العامر فتخربه؛ وانظر إلى هذه المخترعات الفتاكة، وهذه القنابل التي لا تفرق بين المحارب وغير المحارب؛ وانظر إلى هذه الوحشية التي تتطاير من أبراج الطائرات، أفبعد هذا تقول إنه خير لنا أن نؤيد المدنية الحاضرة وهي التي أنتجت كل هذه الأشياء الفتاكة؟ أما عن الحرب فإنها قد وجدت في كل زمان وفي كل مكان. والحرب لا تتصف بالوداعة ولا الهدوء، وإنما تصحبها الوحشية؛ فالمحارب يبغي من الحرب القضاء على قوة خصمه بأي وسيلة، سواء أكانت هذه الوسيلة مشروعة أم غير مشروعة. ففي كل حرب وقعت كانت الجيوش لا ترتدع عن إتيان كل أعمال الوحشية(496/30)
والهمجية من قتل وتدمير وتخريب، بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن هذه المدنية نفسها اخترعت وسائل أخرى تتقي بها شر الوسائل الفتاكة، وهذبت من طباع البشر فجعلت الدول تراعي في الحرب بعض القواعد الإنسانية والمبادئ السمحة الكريمة التي لم تكن تتبع في عهد المدنيات السابقة. وبعد هذا نستطيع أن نقول إن الحرب لازمة لرقي المجتمع الإنساني، فهي موافقة للطبيعة البشرية ولهذا القانون الخالد: البقاء للأصلح؛ فالسمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة، والفرد القوي يستغل الفرد الضعيف. وكذلك الحال بين الأمم، فالصراع بين الأمم القوية والأمم الضعيفة قديم قدم الإنسان. الصراع قديم بين القوة والضعف، فالقوي يسود الضعيف، وخليق بالأمم القوية أن تتزعم الأمم الضعيفة، وللأمم الضعيفة بعد ذلك أن تعمل، إذا أرادت أن تعيش، على تنظيم أمرها وتحسين حالها. فالحرب تحفز الأمم الضعيفة التي تخاف على نفسها فتدفعها إلى أن تتقوى وتشتد فتستيقظ من نومها وإلا طال عليها الرقاد، وخيم عليها حكم الاستعباد. فالنزاع إذن سيظل ما دام في الإنسان الضعيف والقوي. سيظل دائماً بين عامل الخير وعامل الشر. وما الحرب إلا عامل من عوامل الشر ولكنها عامل مطهر كالنار، فهي تقضي على العناصر الفاسدة. وما الحرب إلا محنة من المحن لا بد منها في أطوار التاريخ، لأن الشعوب تخرج منها نقية طاهرة كأقوى ما تكون. والشعوب التي لا تحارب، تخلد إلى الراحة وتقبل على الترف وترتوي من المتعة واللذة، فيدركها الضعف والوهن، وهي بعد ذلك تفقد أسس النضال وعوامل الكفاح، ويكون مصيرها آخر الأمر إلى الفناء. فالحرب وإن كانت عاملاً من عوامل التدمير، تعمل على إذاعة الأخلاق المتينة بين الأفراد وإشاعة الصفات القوية بين الأمم، فهي تمجد البطولة والشجاعة والصبر والاعتماد على النفس، فهي مفيدة إذن للإنسان والإنسانية.
ونحن نرى من تطور التاريخ في مختلف عصوره أن الحرب يعقبها طور رقي وتقدم، فالإنسانية سائرة أبداً في طريقها نحو التقدم. من أجل هذا يجدر بنا أن ننظر إلى المستقبل نظرة آمنة مطمئنة معتقدين أن النصر سيكون دائماً في جانب الخير.
يجب علينا أن ننظر إلى المستقبل لا إلى الماضي، وأن نطمئن إلى أن هذه المدنية ستتطور لا شك إلى مدنية أرقى. أما النظر إلى الماضي والتمسك به فهذا شأن الطاعنين في السن(496/31)
الذين في عروقهم فقتل حيويتهم ويفتر نشاطهم، وهم لهذا السبب لا يستطيعون إلا البكاء على الماضي.
لذلك أومنبالمدنية الحاضرة إيماناً شديداً، لاعتقادي في الإنسان وفي قدرته على التطور. ونحن بدلاً من أن نحاول الرجوع إلى الماضي ونتعلل به، يجب أن ننظر إلى المستقبل وكلنا تفاؤل واطمئنان إلى قدرة الإنسانية على السير بالمدنية في طريق التطور حتى تصل إلى أسمى ما يعرف العقل البشري من تقدم ورقي. فيجب ألا نثور على المدنية الحاضرة، وألا نقيم العراقيل والصعاب في طريقها، بل نؤيدها بكل ما نملك فلا ندخر وسعاً إلا بذلناه حتى تسير هذه المدنية في طريقها الطبيعي، وهو طريق التطور والرقي.
محمد أيوب(496/32)
ذكرى المغفور له
أمين الرافعي بك
للأستاذ علي عبد الله
كان اليوم التاسع والعشرون من ديسمبر الماضي موعد الذكرى الخامسة عشرة لوفاة فقيد الوطن المغفور له أمين الرافعي بك
وليس أحق بالتكريم ولا أولى بالوفاء من ذكرى هذا الرجل الذي عاش حياته كلها يدافع عن الحق ويدعو إلى الله على بصيرة، ويبذل من ماله ومن دمه في سبيل أمته ما ليس وراءه غاية لمريد، ولا زيادة لمستزيد. ولو عرفنا أقدار الرجال بالمعنى الذي تعرفه الأمم الأخرى، لجعلنا ذكرى وفاة هذا المجاهد الصادق يوماً من أيام القومية المصرية، ولاتخذنا حياته الحافلة بالعظائم والجلائل نموذجاً لكمال الأخلاق، وشرف التضحية، والنزاهة المطلقة، وجعلنا من سيرته العاطرة كتاباً في الوطنية يدرسه الناشئون، ويسير على قواعده العاملون!
ولكنا من سوء الحظ نؤمن بالمظاهر دون الحقائق، ولا نعرف قيم الرجال إلا بمقدار ما لهم من الحول والطول، وما حولهم من المتاع والحطام! ولست أدري كيف ترجو الخير أمة تنسى حقوق أبنائها الذين استشهدوا في ميدان التضحية، وكتبوا صحائف جهادها الوطني بمداد من دمائهم، وقطرات من ذوب نفوسهم! ومن المؤلم حقاً أن يوجد في الأمة المصرية من يجهل فضل أمين الرافعي عليها، وهو رجل يعتبر تاريخه تاريخاً للحركة الوطنية في جميع أدوارها؛ إذ كان له في كل ميدان جولة، وفي كل معترك صولة؛ وكان قلمه سيفاً في يد الحق، إذا تصدى للباطل زهق، وإذا انبرى للطغيان مرق؛ كأنما كانت تؤيده السماء بالتوفيق، وتمده القدرة بالإلهام، ويوجهه الإيمان إلى السداد. ما عالج موضوعاً إلا أصاب الهدف، ونفذ إلى الصميم، وانتهى منه إلى الغاية المرجوة، لا سلاح له غير الحجة البالغة، والدليل الواضح، وقواعد البحث الدقيق، وقضايا المنطق السليم!
ولقد كان أمين عليه رحمة الله الكاتب الوحيد الذي حفظ الله قلمه من العثار، وعصم لسانه من الفحش؛ فما جارت الخصومة في يوم من الأيام على أخلاقه ولا ورطته العداوة في الكتابة إلى كلمة نابية أو عبارة مؤذية لا يرضى عنها الخلق، ولا يطمئن إليها الضمير.(496/33)
على أنه لم يكن يخاصم إلا في الله والوطن والحق. ولم تعرف له في حياته خصومة شخصية، لأنه كان ينظر إلى زخارف هذه الدنيا بعين الزهد والاحتقار. ولقد حاول الكثيرون أن يشتروا قلمه أو يخففوا من حدته بالكثير من المال والجاه فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وعرضت عليه وظائف الدولة الكبرى، فكان جوابه: (لا تفسدوا عليّ إيماني؛ فأنا لم أخلق لهذه الوظائف!) وكان نعم العون للمرحوم سعد باشا زغلول؛ وكان سعد يؤثره برسائله وهو مع الوفد في باريس ويبدأ كتبه إليه بقوله: أخي أمين!. . .
وحينما اختلف معه في مبدأ المفاوضات، كان سعد مع ذلك يثق به ويلقبه بالخصم الشريف، والرجل النزيه. وكان يستعير منه الوثائق الخاصة بتسجيل أعمال الوزارات. ولما نفي إلى سيشل كان أمين أول المدافعين عنه مع اختلافه معه في الرأي، كما كان أول من نقد طريقة وضع الدستور. وفي ذلك يقول سعد باشا: إن أميناً كأنما يستمليني ما يكتبه. . . ومن مفاخر أمين التي تدل على التضحية والشجاعة أنه في سنة 1914 حينما أعلنت إنجلترا الحماية على مصر وقضت الأحكام العرفية على الصحف بنشر البلاغات الرسمية ومنها بلاغ الحماية، لم يشأ أمين أن ينشر في جريدة الشعب - الذي كان يتولى تحريرها في ذلك الحين - بلاغ الحماية، وقرر تعطيلها من تلقاء نفسه لكيلا ينشر فيها هذا البلاغ، ورضى بما ترتب على ذلك من السجن والاعتقال؛ وقضى مدة السجن صابراً راضياً وخرج منه مؤمناً قوي النفس والقلب. ونستطيع أن ندرك مبلغ التضحية إذا عرفنا أن جريدة الشعب كانت كل شيء في البلد لأنها كانت جريدة الحركة الوطنية، وكان الشعب يتلقف أعدادها بشوق وشغف. ثم تستطيع أن تؤمن بالرجولة الكاملة حين تعرف أن أمين الرافعي كان الرجل الوحيد الذي احتج على بلاغ الحماية البريطانية بعدم نشره!!
ومن أعظم الأمثلة الدالة على عبقريته وسعة علمه بالشؤون الدستورية - أنه الصحفي الوحيد الذي نبه الأمة والزعماء والأحزاب إلى أن قرار حل مجلس النواب يعتبر باطلاً لأنه لم يحدد فيه موعد الانتخاب والتاريخ الذي يجتمع فيه المجلس. وما دام البرلمان لم يدع فإن من حقه أن يستأنف وجوده؛ لأن قرار الحل يعتبر ملغي. وأخذ الزعماء بهذا الرأي واجتمع البرلمان في فندق الكونتنيتال في يوم السبت الثالث من نوفمبر سنة 1925 واتحدت الأمة والأحزاب، وعادت الحياة النيابية إلى البلاد، وانتفع الجميع بفضل هذا(496/34)
الرأي ما عدا أمين الرافعي فقد كان الشخص الوحيد الذي لم ينتفع بشيء من هذا، واكتفى من كل ذلك بقوله: (لقد سررت بإنقاذ الدستور وفوز الأمة وارتاح ضميري ارتياح من يشعر بأن الله قد وفقه إلى دعوة صالحة كتب لها التحقيق والنجاح!)
وفي وسعنا أن نعرف مبلغ إيمان أمين وثباته من قوله: (يرى المؤمن الثابت العقيدة أن عقيدته مقدسة لا تحتمل تفريطاً ولا زعزعة، وأن لها من ضميره حارساً قوياً، فإذا وسوس له الشيطان أن يهمل هذه العقيدة على أية صورة من الصور، كان صوت الضمير وحده كافياً لأن يقطع على الشيطان وسوسته ويرده مدحوراً. وإذا ما تقدم خصوم العقيدة الثابتة بأموالهم الوفيرة، وهباتهم العظيمة، ووعودهم الخلابة؛ كي يلعبوا بالعقول ويزعزعوا الإيمان، وجدوا من يقظة ضمير المؤمن أكبر مخيب لآمالهم؛ لأن هذا الضمير الخالص الذي لا يخضع للماديات ولا يتأثر بأثرها المفسد لا يلبث أن يصيح بصاحبه: إياك والانخداع بما يعرضون عليك مهما عظم شأنه، فإن كنوز الأرض لا تعدل شرف الإنسان. ومتى استطاع المرء أن يحتفظ بشرفه فكل ما يفقده بعد ذلك لا يقام له وزن. لأن الحياة الشريفة يمكن احتمالها مهما بلغت مرارتها، أما الحياة المجردة من الشرف فإنها لا تساوي قلامة ظفر. وليست أيام الجهود والتعب والألم أسوأ أيام الإنسان. ويكفي صاحب المبدأ تشجيعاً أن ينال شيئاً من المكافأة المعنوية بأن يرى مبدأه يصيب بعض الفوز. . .
ومن المقرر أن المرء لا يجوز أن يشغل نفسه بمستقبل نفسه متى كان ضميره مرتاحاً وروحه مطمئنة وشعاره القيام بالواجب، وفعل ما يأمر به الضمير. وما عدا ذلك فليدعه لله تعالى لأنه من خصائصه وشئونه. وإذا كان في تأدية الواجب ما يورث الألم، فيجب أن يتحمل الإنسان الألم بغير مضض. لأن الآلام موجودة في هذا العالم ولكل مخلوق نصيبه منها)
وكان أمين عليه رضوان الله يستفتح يومه بتلاوة القرآن ويدعو بدعاء الرسول عليه السلام: (اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حرباً لأعدائك. نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة. وهذا الجهد، وعليك التكلان) ثم يتلو هذه الآية الكريمة (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)(496/35)
وبعد، فهذا قليل مما أعرف عن هذا الرجل العظيم أكتبه في مناسبة ذكراه الكريمة، وأبعث إلى روحه في مقاعد الصديقين والأبرار بأعطر التحيات وأطيب السلام
(المنصورة)
علي عبد الله(496/36)
البريد الأدبي
أدباء. . .!
قرأت في مجلة الثقافة العدد (209) كلمة تحت عنوان (الصحافة والأدب في أسبوع)، فرأيت كتاباً من صديقي الشاعر الأستاذ محمود حسن إسماعيل إلى صديقي أيضاً. . . الأستاذ (ق). وفي هذا الكتاب ذكرُ بعض أصحابنا وذكرى، ويصفنا الصديق الأستاذ الشاعر بصفات جميلة محببة كاللجاج، والتهاتر، والكسل، والجبن، والغفلة، والتخلف عن سير الزمان، ويدعونا إلى ملازمة الصمت على رفوفنا الجامدة حتى يتحرك بنا أو ينسانا الزمان!. . . وهو كذلك
لا أدري! فقد سمعت أن الأوائل قالوا: (عقل المرء مخبوءٌ تحت
لسانه)، وأنهم قالوا:
إذا لم يكن للمرء عقْلٌ يَكفُّه ... عن الجهل، لم يستحي وانتهَكَ السِّتر
وللصديقين مني تحية المخلص المعجب بأدبهما وبيانهما
محمود محمد شاكر
تجارب على التلباثي
كان لظاهرة التلباثي التي أثارها الكاتب العظيم الأستاذ العقاد في (عبقرية عمر) وعلى صفحات الرسالة نصيب كبير من الدراسة، ومن عناية علماء النفس في أوربا بها؛ ولكنها بالرغم من ذلك ظلت مستغلقة عليهم فلم تتضح تماماً. ومن أكبر الأوساط العلمية الأوربية التي تبحث في هذه الظاهرة جمعية في إنكلترا تسمى: شغلت بهذه الظاهرة منذ زمن طويل، وكتبت الكثير من النتائج التي وصل إليها أعضاؤها في مجلتها الخاصة. ولعل من الطريف أن نذكر أن هذه الجمعية لم تكتف بدراسة هذه الظاهرة دراسة نظرية فحسب، بل أجرت تجارب عديدة لتأييد هذه الظاهرة، وقد توصلت فعلاً إلى نتائج مدهشة وطريفة، وقد ذكر الأستاذ باريت الأستاذ بكلية العلوم الملكية بأيرلندة بعض هذه التجارب في كتابة: ومن أهم هذه التجارب، ما قامت به سيدتان من أعضاء الجمعية إحداهما تدعى المس هـ. رامسدن والأخرى المس ك. ميلز فكانت المس ميلز في وقت كل تجربة تسجل في مذكرة(496/37)
خاصة ما تريد نقله إلى المس رامسدن من أفكار أو صور، بينما تكتب المس رامسدن التأثيرات التي يستقبلها مخها، وترسل تقريرها إلى ميلز قبل أن تعرف ما كتبته هذه الأخيرة من ناحيتها. قد نجح الكثير من تجاربهما وإن فشل البعض الآخر. ولنذكر الآن بعض هذه التجارب الناجحة التي ذكرها الأستاذ باريت في كتابه:
كانت المس ميلز تنتظر في عصر يوم 27 أكتوبر 1905 اجتماع الجمعية في لندن، فاسترعى انتباهها نظارة غريبة الشكل يضعها على أنفه رجل يجلس بجانبها، فرأت أن هذه الملاحظة قد تصلح موضوعاً لتجاربها مع مس رامسدن. وحين رجعت إلى منزلها كتبت في مذكرتها: (27 أكتوبر - نظارات - ك. م) وكانت المس رامسدن في ذلك الوقت في بكنجها مشير على بعد حوالي عشرين ميلاً من لندن، ولكنها كتبت هذا المساء: 27 أكتوبر - 7 - مساء. - نظارات هذه هي الفكرة الوحيدة التي جاءتني بعد انتظار وقت طويل - هـ. ر) ويقول باريت إن الأمر لا يمكن أن يكون مجرد تخمين لأن المس ميلز لا تضع نظارات
وتجربة ثانية. . . كتبت المس ميلز في كراستها الفكرة التي تريد إرسالها إلى المس رامسدن: (2 نوفمبر. - يد - ل. م) وكتبت المس رامسدن في نفس الوقت: (2 نوفمبر، 7 مساء، ابتدأت أن أرى يداً صغيرة سوداء. . .) وتفسير ذلك، كما يقول باريت، أن المس ميلز كانت في ذلك الوقت ترسم يدي صورة بالفحم، وكانت والدة المس رامسدن حاضرة عند ميلز في ذلك الوقت فذكرت أن ذلك صحيح
وقد أجريت تجارب عديدة، وكان البعد بينهما حوالي 400 ميل، وكانت الخطة المتبعة في تجاربهما أن رامسدن تبعد نفسها عن التفكير في أي شيء كان، وتحصر تفكيرها في ميلز كل يوم في وقت معين، ثم تكتب ما تستقبله من تأثيرات وترسل ذلك إلى ميلز، وتكتب ميلز في نفس الوقت ما كانت تفكر فيه وترسله إلى رامسدن بالبريد. ويذكر باريت أنه أطلع على الرسائل المتبادلة فوجد حالات كثيرة تتفق فيها النتائج اتفاقاً كبيراً جداً أو اتفاقاً كلياً
وفي ذات مرة كانت ميلز مع والدة رامسدن في إحدى الرحلات، وكانت رامسدن في اسكتلندة، وفي أثناء عودتهما من رحلتهما ذهبتا بنوبري في مقاطعة بركشير ونزلتا في(496/38)
فندق هناك، وكان لصاحب الفندق فتاة صغيرة لطيفة أعجبت ميلز بها كثيراً. وأصبحت ميلز، وإذا بها تستلم من رامسدن خطاباً جاء فيه: (31 أكتوبر 1907، أظن أنك تريدين مني أن أرى فتاة صغيرة لها شعر كستنائي مسترسل وراءها، ومربوط بشريط على الطريقة المعتادة. وهي تجلس على منضدة وقد أدارت ظهرها، ويظهر أنها مشغولة. . . بقطع قصاصات بالمقص. وهي ترتدي (مريلة) بيضاء، وأظن أن عمرها بين الثامنة والثانية عشرة. - هـ. ر)، وقد وصفت صاحبة الفندق الفتاة بقولها: (عندي فتاة صغيرة في الحادية عشرة من عمرها، ذات شعر كستنائي مربوط بشريط وترتدي (مريلة). ولما كانت مريضة فإنها تستلي نفسها بقطع القصاصات. وقد تكلمت طويلاً (عنها؟) مع المس ميلز يوم 31 أكتوبر. - ل. لفجروف.)
هذه بعض التجارب على التلباثي. ويذكر باريت إلى جانبها حالات أخرى وحوادث جاءت عفواً، أي دون أن يقصد بها إلى التجربة، وهو تؤيد ظاهرة التلباثي، وقد استقاها من مصادر ثقة لا يمكن الشك فيها، ويذكر أن معظم هذه الحالات تحدث أثناء النوم.
من هذه الحوادث حادثة وقعت لسيدة تدعى لويزا. أ. هاريسون، فأرسلت يوم حدوثها تقريراً إلى الجمعية المذكورة آنفاً، ومع تقريرها خطاب من زوجها يؤمن على ما تقوله الزوجة التي تذكر أنها بينما كانت مستغرقة في النوم استيقظت فجأة على صوت زوجها وهو يتأوه من الألم، فنظرت حولها ولكنها لم تجده في الحجرة، فنظرت في الساعة فألفتها الثالثة والنصف مساء. وعاد زوجها من الخارج في الساعة السادسة وقد ظهرت بعض الكدمات على جبهته، نتجت عن وقوعه أثناء وجوده في (حمام تركي) واصطدام جبهته بدرجاته الحجرية فقالت له زوجه: (إنني أعرف متى حدث ذلك كان ذلك في الثالثة والنصف لأنني سمعتك تتأوه من الألم في ذلك الوقت) فأجابها: (نعم، ذلك هو الوقت بالضبط، لأنني أذكر أنني نظرت إلى الساعة بعد ذلك مباشرة.) وقد حضر هذه المناقشة بين الزوجين شاهد شهد بذلك!
كذلك أرسلت سيدة تدعى آرثر سيفرن كتاباً إلى الجمعية تقرر فيه أنها استيقظت يوماً من نومها فجأة إثر إحساسها بلطمة عنيفة تنزل على فمها وتجرح شفتها العليا جرحاً بليغاً، ولكنها حين رفعت منديلها إلى فمها لتوقف الدم لم تجد شيئاً، ونظرت إلى الساعة فوجدتها(496/39)
السابعة صباحاً. وكان زوجها في الخارج، فعاد في التاسعة والنصف وقد وضع منديله على شفته، فأخبرها أنه بينما كان يتنزه في قاربه، هبت ريح عنيفة أزاحت (الدفة) فأصابته في شفته العليا؛ وسألته زوجه متى كان ذلك؟ فأجابها: حوالي الساعة السابعة!
وحادثة أخرى. . . استيقظت آنسة تدعى مس كينج من نومها في أحد أيام الأحد في الساعة الرابعة على صوت يناديها: (تعالي إلي يا تريكس، إنني مريضة جداً). وأرسلت الآنسة كينج إلى الجمعية كتاباً تذكر فيه أنها عرفت صاحبة الصوت وهي إحدى صديقاتها وتدعى المس ريد، وهي الوحيدة التي تناديها باسم (تريكس). فكتبت في نفس اليوم إلى المس ريد - على مبعدة مائتي ميل من صديقتها - تخبرها بما سمعت، فردت عليها المس ريد تخبرها بأنها في ذلك اليوم وفي تلك الساعة أحست بألم شديد، وظنت أنها سوف تموت، فمدت يدها إلى صورتها (صورة المس كينج) وقالت لها: (تعالي إلي يا تريكس إنني مريضة جداً، تعالي إلي)!
هذه التجارب والوقائع وغيرها تثبت ظاهرة التلباثي. ولكن كيف ينتقل التلباثي وينتشر؟ ذلك سؤال لم يجب عليه العلم جواباً شافياً. ويقول الأستاذ باريت: إنه ليس عندنا عنه أي فكرة، ولكنه يرى أنه لا ينتقل خلال أي وسط مادي أو أي عامل فيزيقي معروف، وقد يقربنا وجود اللاسلكي بأن نظن بأن الفكر ينتقل بنفس طريقة الرسائل اللاسلكية، أي بواسطة موجات أثيرية يمكن تسميتها (بالموجات المخية). ولا شك في أن حقيقة اللاسلكي تقرب إلى الأذهان ظاهرة التلباثي، ولكن ذلك لا يكفي.
أحمد أبو زيد
كلية الآداب - جامعة فاروق الأول(496/40)
العدد 497 - بتاريخ: 11 - 01 - 1943(/)
مستدركات
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأديب (خالد عبد المنعم) في عدد ماضٍ من الرسالة كلمة طيبة عن كتابي (عبقرية عمر) ختمها بقوله:
(على أننا في قراءتنا لعبقرية عمر بالصفحة 319 استوقف نظرنا قول المؤلف في صدد النزاع الذي نجم عن الخلاف عقب موت الرسالة ما نصه:
(. . . فالأنصار يقولون إنهم أحق بالخلافة من المهاجرين لأنهم كثرة والمهاجرون قلة، ولأنهم في ديارهم والمهاجرون طارئون عليهم، ولأنهم جميعاً من قريش ولهم فضل التأييد والإيواء)
(والعبارة على هذه الصورة توهم أن الأنصار من قريش وهم بالطبع ليسوا كذلك)
وقد أصاب الأديب في قوله إن العبارة توهم أن الأنصار من قريش، وليسوا منها
ولكن المسألة - كما هو ظاهر - مسألة سهولا أكثر ولا أقل، إذ لا يطلع أحد على ما جرى في سقيفة بني ساعدة ثم يفوته أن الأنصار كانوا ينازعون قريشاً الخلافة، وأن قريشاً قبيلة والأنصار قبائل أخرى، وقد كان المتكلمون في السقيفة يجرون كلامهم على حق قريش في الخلافة وهل هم الأمراء دون غيرهم أو يجوز لغيرهم أن يشاركهم فيها. فتكلم في ذلك أبو بكر وعمر وتكلم فيه كل متكلم من الأنصار، من نقل عن زعيمهم ومن استقل يومئذ بالمقال
فليس بجائز أن يطلع أحد على كلام عمر يومئذ أو كلام أبي بكر أو كلام من خالفوهما ثم يفوته أن الأنصار من غير قريش وأنهم كانوا يقفون منها موقف المنازع الذي يطلب الاستبداد بالأمر دونها أو لا يقنع بما دون مشاركتها في الإمارة
وليس بجائز أن يعرف أحد ما هي مكة وما هي المدينة ومن هم الذين هاجروا ومن هم الذين نصروا ثم يفوته أن يفرق بين قريش وبين الأوس والخزرج ومن عاش معهم من أهل المدينة
فالسهو هنا - بالطبع - كما قال الأديب المستدرك، لأن الأنصار - بالطبع - لم يكونوا قرشيين
والذي يخطر ببالي الآن أنني أردت أن أكتب (من المسلمين) فسبق القلم بكتابة قريش لغلبة(497/1)
ذكرها والخلاف عليها في الذهن وقيام الخلاف حولها في ذلك اليوم، وهو سهو يقع فيه القلم كما يقع فيه اللسان
فللأديب الشكر على تنبيهه، فإن ما توهم العبارة التي نقلها يحتاج إلى تصحيح وإن بدرت صحتها إلى البداهة بغير عناء
ذلك استدراك على كتاب
وهناك استدراك آخر على كتاب آخر، أو على كلمة في مقدمة ذلك الكتاب، وهو (أعاصير مغرب) ديوان شعري الجديد
والكلمة المستدرك عليها هي قولي في مقدمة الأعاصير: (يصح على هذا أن يكون الشباب عهد ابتداء العاطفة وافتتاحها على صورتها الأولى، أو هو العهد الذي تفاجأ فيه البنية بشعور جديد لم تكن لها خبرة من قبل، فيشاهد عليها ما يشاهد على كل بنية تفاجئها حالة طارئة. فإن المفاجأة إذا عرضت لإنسان بدا لك في حالة كحالة الشاب في أول عشقه: وجه ساهم، وفم مغفور، وطرف ذاهل، ولسان معقود، ونفس مطرود. . . وهذه هي الحالة التي يخيل إلى من يراها أنها العشق دون غيره.
مع أنها أحرى أن تدل على أن العشق مفاجأة لم تعهدها البنية ولم تألفها النفس، فلم تزل بها حاجة إلى التثبت منها والرياضة عليها. ثم تأتي هذه الرياضة شيئاً فشيئاً مع تعاقب الأيام وتعاقب ألوان الشعور. . .)
يقول الأديب المستدرك (حسن رياض) إنني قلت غريباً لم يسمع به من قبل، وهو أن الحب والغزل مستغربان في الشباب ولكنهما لا يستغربان فيما بعد الشباب في سن الشيخوخة. . . إلى آخر ما قال
وأنا أشهد الله والقراء أنني لم أقل ذلك، ولم أقل ما يوهم ذلك، ولو من بعيد
فإن القول بأن الحب مفاجأة في سن الشباب شيء، والقول بأنه غريب في تلك السن شيء آخر
لأن المفاجأة قد تتكرر ملايين المرات فلا تكون غريبة بعد هذا التكرار، وإن سميت مفاجأة في كل مرة من هذه المرات
فهذا الشاب تفاجئه العاطفة الغرامية في مطلع شبابه بعارض جديد في حياته، فهي مفاجأة لا(497/2)
ريب فيها
ولكن هكذا كل شاب تعرض للعاطفة الغرامية منذ كان الإنسان كما نعرفه الآن إلى آخر الزمان
كل شاب يفاجأ هذه المفاجأة، فلا غرابة إذن في وقوعها ولا في ملازمتها لمطلع الشبيبة في ريعانها لأن هذا الواقع المتكرر الذي لا يصدمنا بغير ما عهدناه
إلا أنني لا أريد أن أكتفي بدفع هذا اللبس الذي لا يحتاج إلى مناقشة طويلة، فقد يغني في دفعه نقل الكلمة التي وقع عليها الاستدراك ثم الوقوف عند نقلها بغير تعقيب
وإنما أردت أن أتجاوز هذا اللبس العارض إلى الأساس الذي يقوم على كل لبس من هذا القبيل، وهو من جنايات اللغة أو من جنايات (التسمية) حيث كانت فيما أراه
تطلق اللغة كلمة واحدة على عاطفة أو شعور أو حالة نفسية تلم بجميع الناس، فيسبق إلى الوهم أننا أمام شيء واحد لأننا نعبر عنه بكلمة واحدة، ويطرأ التناقض واللبس والاستغراب من هذا الوهم الذي يصعب التنبه إليه في كثير من الأحيان
(فالحب) مثلاً كلمة واحدة بل كلمة واحدة مختصرة في حروف ثلاثة خفيفة على كل لسان
فهل هي شيء واحد مختصر هذا الاختصار، مجموع في هذه الحروف، سريع إلى الفهم كسرعة اللسان في النطق بحروف اسمه الصغير؟
أجهل الناس بالشعور الإنساني لا يقول (نعم) في جواب هذا السؤال
فالحب يتناول مئات من الأشياء التي لا تحدها أسماؤها لاختلافها هي أيضاً في الصفات والعوارض والعلاقات والمناسبات
الحب يتناول الغريزة النوعية، ويتناول ذوق الجمال، ويتناول الشعور الاجتماعي الذي يدعو إلى التآلف ويقال في تعليله إن الإنسان مدني بطبعه، ويتناول فهم الميول الإنسانية والإيمان بأخلاق الوفاء والصدق والمجاملة، ويتناول التقارب بالعقول والمدارك والنزاعات، ولا توجد في الإنسان واشجه من وشائج النفس والجسد لا تتناولها هذه الكلمة ذات الثلاثة الحروف
ثم ما هي الغريزة النوعية التي هي جزء مما تنتظم في الحب من بعض نواحيه؟
هي أيضاً شيء كثير الشعب كثير الأطوار كثير الأوصاف على حسب الأمزجة والأعمار(497/3)
والعقول
وما هو ذوق الجمال؟ وما هو شعور المدنية الطبيعية؟ وما هي الأخلاق التي تفرض الصدق والوفاء؟ وما مبلغ سلطانها على أناس وانقطاعها عن آخرين؟
وما هو العقل؟ وكيف يتقارب ويتباعد؟ وإذا تقارب بين إنسانيين فهل يتقارب بينهما في جميع الأمور؟ وإذا تقارب بينهما في جميع الأمور فهل يتقارب في جميع الأوقات؟ وإذا تقارب حيناً بين إنسانيين ألا يجوز في ذلك الحين أن يتقارب بين إنسانيين آخرين؟
ثم ما هو الشعور نفسه إذا وصفنا الحب إجمالاً بأنه ضرب من الشعور؟ ما سلطانه على الإرادة أو ما سلطان الإرادة عليه؟ وما هي الإرادة بعد هذا وذاك؟ ولماذا تضعف في ساعة وتقوى في ساعة أخرى؟ ولماذا تكون في ساعة واحدة ضعيفة أمام أحد الناس وقوية أمام غيره!
كل أولئك حالات تقبل التنويع والتلوين والتدريج وكل أولئك تجمعه كلمة واحدة في ثلاثة حروف
فإذا حضرناه بمقدار حروفه إذن محدود يكون على حالة واحدة ولا يكون على غيرها. ويسهل أن نستغربه كلما رأيناه على غير ما تصورناه
وإذا نظرنا إلى شعابه وفروعه وألوانه ودرجاته جاز أن نراه في ألف حالة متناقضة ولا نستغربه في جميع هذه الحالات أقل استغراب.
جاز أن تسيطر عليه الغريزة النوعية، وجاز أن يسيطر عليه ذوق الجمال وفنون الجمال، وجاز أن يسيطر عليه التفاهم ورعاية الأخلاق، وجاز أن تسيطر عليه هذه البواعث مختلفات في المقادير والمظاهر والدرجات
كل أولئك جائز، وكل أولئك حب، وكل أولئك عارض من عوارض النفس الإنسانية في جميع الأعمار
ولكننا وضعنا اللغة فحبسنا تلك المردة أو تلك الأرواح أو تلك الأشباح في قمقم صغير من ثلاثة حروف خفاف على اللسان
قل (حب) فقد قلت كل شيء ولفظت بالطلسم الذي يحبس المردة في (القمقم) الصغير
ولكنك إذا جاوزت القول إلى الدخول في أعماقها والتفرقة بين شياطينها واللعب بأسرارها(497/4)
ثارت بك والتوت عليك، وكسرت القمقم شر كسرة، فإذا هو يتطاير شعاعاً هنا وهناك ولا تجتمع منه هباءة على هباءة، ولو سلطت عليها ألف حرف وألف كلمة وألف لغة تضيق بها المعجميات
فما هو الحب الذي تستغربه ولا ترى أنه يكون في إبان الشباب؟ وما هو الحب الذي تستغربه ولا ترى أنه يكون بعد الشباب؟
هو على كل حال كلمة واحدة ولكنه ليس بشيء واحد.
وعليك قبل استغرابه أن تميزه في جميع حالاته، فإذا ميزته فقد عددته وفرقته وجاز - بل وجب - أن تراه في جملة حالات ولا تقصره على حالة واحدة تستغربه فيما عداها
من فضائل اللغة أنها قيدت المردة في القماقم، ومن جناياتها أنها قليلة القماقم فوضعت في قمقم واحد ما من حقه أن يوضع في ألوف!! وعلينا نحن أن نحترس من جناياتها بحساب، ونستفيد من فضائلها بحساب
ونلحق بما تقدم استدراكاً قرأناه في العدد الأخير من الرسالة جاء فيه تعقيباً على مقالنا في التلباثي:
(لو كان المقاتلون قد سمعوا صوت عمر وهم مئات، ولو كان ذلك قد تم بواسطة التلباثي لاقتضى الأمر أن يكونوا كلهم موهوبين أو وسطاء، وهو ما لا يعقل. . .)
ثم جاء فيه: (كل مقال الأستاذ العقاد منصب على إثبات وجود التلباثي بأدلة منطقية قياسية، وقد فرغ العلماء من إثباته منذ 85 سنة، وتدرس هذه العلوم كدراسات عليا في جامعات إنجلترا الكبرى. ومحاولة الأستاذ إثباتها كمن يحاول إثبات وجود أشعة إكس بالاستنتاج الخ)
أما أن مقالي منصب على إثبات وجود التلباثي فغير صحيح، لأنني لم أتجاوز تخطئة الذين يجزمون بنفيه. وقلت: (يجوز أن يأتي غداً من يثبت - هذه الملكة - ثبوتاً قاطعاً لا شك فيه، ويجوز أن يأتي غداً من ينفيها نفياً قاطعاً لا شك فيه).
وأما أن وجود التلباثي ثابت كوجود أشعة إكس فذلك قول يدعيه المدعي وعليه إثباته. وقد نقنع منه بتقرير ثلاثة من المشتغلين بالعلم عندنا يؤيدونه فيما قال. وأول ما يقتضيه هذا الرأي أنه يبطل القول بالملكة النفسية ويجعلها خاصة من الخواص التي تتكرر في كل(497/5)
جسم وفي كل معمل من معامل الطبيعة، وهذا كلام لا يقره النفسيون ولا الطبيعيون ولا المنطقيون
وأما ما قاله صاحب الاستدراك عن سماع الأصوات على البعد فما زاد فيه على ما رأيناه حيث قلنا في مقالنا السابق: (إن التقاء نفسين أيسر قبولاً من التقاء نفس واحدة من جانب وألوف النفوس من جانب آخر)
أو حيث قلنا: إن انتقال الصوت المادي مئات الأميال يقتضي أن يكون صوت سارية قد سُمع في الجيش الذي معه وهو يستغيث وقد سمع في المسجد الذي كان عمر يخطب فيه، وقد سمع الصوتان: صوت الاستغاثة وصوت الاستجابة على طول الطريق، ولم يذكر لنا رواة القصة شيئاً من ذلك)
وهذا ما نجيب به عن استدراك المستدرك ولا نجيب عن غيره من كلامه الذي لا نرى فيه ما يناقش أو يجاب.
عباس محمود العقاد(497/6)
مسابقة الأدب العربي
2 - ديوان حافظ إبراهيم
للدكتور زكي مبارك
مواساة طرابلس - مواساة بيروت - آمال مصرية
مواساة طرابلس
في شهر سبتمبر من سنة 1911 أغارت إيطاليا على طرابلس - وهي يومئذ ولاية تركية - فنهض المصريون لمعاونة طرابلس بالطب والشعر والمال والرجال، فمضى إلى الميدان أطباء مصريون لمعالجة الجرحى الطرابلسيين، منهم الدكاترة حافظ عفيفي وسيد شكري ونصر فريد؛ ومضى إلى الميدان مجاهدون مصريون أشهرهم عزيز باشا المصري، ومحمد بك القناشي؛ وجمعت أموال كثيرة لتموين الجيش الطرابلسي. وبفضل تلك الحرب أنشئت جمعية الهلال الأحمر المصري، وكان لقلم الشيخ علي يوسف تأثير في إنشاء تلك الجمعية، وهي لا تزال من كبريات جمعياتنا الخيرية.
وانطلق الشعراء فقالوا في تشجيع الطرابلسيين وتخذيل الإيطاليين عشرات القصائد الجياد
في تلك الحرب قال حافظ قصيدته الميمية:
طمع ألقي عن الغرب اللثاما ... فأستفق يا شرق وأحذر أن تناما
وفيها قال عبد المطلب قصيدته البائية:
بني أمنا، أين الخميس المدرَّبُ ... وأين العوالي والحسام المذرَّب
و (بنو أمنا) في قصيدة عبد المطلب هم الأتراك، وكانوا كذلك بحكم الأخوة الإسلامية، وهو معنى فسره شوقي أحسن تفسير حين قال في التوجع لسقوط (أدرنه) في الحرب البلقانية:
مقدونيا - والمسلمون عشيرة - ... كيف الخئولة فيك والأعمام
وبمناسبة قصيدة عبد المطلب أذكر أنه قال في التمهيد إن نفسه جاشت حزنا حين لاحظ أن القوة المدافعة من الطرابلسيين وأن الأتراك لم يكونوا إلا مديرين
وقد فكرت في مراجعة الجرائد المصرية لذلك العهد عساني أعرف السبب في تخلف الجيش التركي عن معاونة الجيش الطرابلسي، ثم اتفق أن لقيت الأستاذ عبد الرحمن بك(497/7)
عزام في قصر الزعفران يوم مضيت للتسليم على حضرة صاحب السمو الأمير عبد الإله، فسألته عن سبب ذلك التخلف، فأفهمني أن إنجلترا اعترضت على مرور الجيش التركي بالأرض المصرية بحجة أن مصر على الحياد، فلم تستطع تركيا إنجاد طرابلس بغير القواد من أمثال أنور وفتحي ومصطفى كمال
كانت تلك الحرب مثاراً لحركة فكرية وأدبية، ففيها أختصم المصريون حول الموجب لمعاونة الأمم الأسلامية، وكان ذلك الاختصام بمناسبة مقالة نشرها لطفي باشا السيد عن الأموال التي تجمع لمواساة الجرحى من المجاهدين المسلمين. فقد أعلن أن الأفضل أن تجمع تلك الأموال بأسم الإنسانية لا بأسم الدين، فثار الجدل هنا وهناك، لأن مثل هذا الرأي في ذلك الوقت كان يثير الجدال
وفي غمرة الكروب التي أثارتها تلك الحرب أعلن الشام أنه يريد الاستقلال، بتوجيهات خفية من خصوم الأتراك، فثارت الجرائد المصرية وعدت ذلك تأييداً لعدوان الطليان
شبكة بيروت
ولم تنتظر إيطاليا حتى تنجح الدسائس الخفية في تحريض البلاد الشامية على الدول التركية، فأرسلت أسطولها لضرب ميناء بيروت بمدافع الأسطول الثقال، انتقاماً من الأتراك، والأحمق يؤذي نفسه من حيث لا يريد
كان من السهل في تلك الأيام أن يميل نصارى لبنان إلى تأييد الطليان - فقد كانت بينهم الأتراك عداوات - ولكن ضرب بيروت بمدافع الأسطول الإيطالي أغضبت نصارى لبنان وملأت قلوبهم بالغيظ فثلبوها بما يملكون من أسلحة الهجاء في الجرائد والمجلات
وفي تلك النكبة ثار الشعراء المصريون على الطليان، ثاروا انتصاراً للأتراك وانتصاراً لأهل لبنان
وفي نكبة بيروت نظم شوقي قصيدةُ الرائع:
يا ربّ أمرُك في الممالك نافِذٌ ... والحكم حكمك في الدم المسفوك
إن شئت أهرقه وإن شئت أحمه ... هو لم يكن لسواك بالمملوك
واحكم بعد لك إن عدلك لم يكن ... بالممترَي فيه ولا المشكوك
ألأجل آجالٍ دنت وتهيأت ... قدّرت ضرب الشاطئ المتروك(497/8)
بيروتُ مات الأُسد حتف أنوفهم ... لم يشهروا سيفاً ولم يحموك
كلٌ يصيد الليث وهو مقيدٌ ... ويعزُّ صيدُ الضَّيغم المفكوك
يا مَضربَ الِخَيم المنيفة للقِرى ... ما أنصت العُجمُ الآلي ضربوك
ما كنتِ يوماً للقنابل موضعاً ... ولو أنها من عسجدٍ مسبوك
بيروتُ يا راحَ النزيل وأُنسهُ ... يمضي الزمان عليَّ لا أسلوك
الحسنُ لفظٌ في المدائن كلها ... ووجدته لفظاً ومعنًى فيك
وفي نكبة بيروت نظم حافظ (رواية تمثيلية) جديرة بالإعجاب، وفيها أدار الحوار بين جريح من أهل بيروت وزوجة له اسمها (ليلى) وطبيب ورجل بدوي
وترجع أهمية هذه المنظومة إلى ما اشتملت عليه من الصدق في تصوير العاطفة الإنسانية، العاطفة التي تجمع بين قسوة الرجولة ورقة الوجدان؛ فالجريح فتى لبناني عجز عن مقاومة النار بالنار، فما كان لبلده أسطول يقاوم به أسطول الطليان، ولا أتيحت له فرصة يلتقي فيها سيفاً لسيف مع أحد جنود الأعداء، وإنما رمى وهو عاجز عن أن يرمي، فهو وقيذ الاغتيال. وفي تلك المحنة يتذكر مهد غرامه وهو بيروت، بيروت التي جمعت بينه وبين ليلاه في فجر الشباب
ولنترك حافظاً يصور آلام هذا الجريح بشعره الرقيق:
ليلايَ ما أنا حيٌّ ... يُرجَى ولا أنا مَيْتُ
لم أَقضِ حقَّ بلادي ... وها أنا قد قضيت
شفيت نفسي لو أني ... لما رُميت رَميت
بيروت لو أن خصماً ... مَشى إليَّ مشيت
أو داسَ أرضَك باغٍ ... لدُستُه وبغيتُ
أو حلّ فيك عدوٌّ ... منازلٌ ما اتقيتُ
لكنْ رماك جبان ... لو بان لي لا شتفيتُ
ليلاي لا تحسبيني ... عليَّ الحياة بكيتُ
ولا تظني شكاتي ... من مصرعي إن شكوتُ
ولا يُخيفنْك ذِكرى ... بيروتَ أني سلوتُ(497/9)
بيروت عهد غرامي ... فيها وفيك صَبْوتُ
جررت ذيل شبابي لهواً وفيها جريتُ
فيها عرفتُك طفلاً ... ومن هواك انتشيتُ
ومن عيون رُباها ... وعذب فيك ارتويتُ
فيها لليلى كِناسٌ ... ولي من العز بيتُ
فيها بنَى ليَ مجداً ... أوائلي وبنيتُ
ليَلى، سراج حياتي ... خبَا فما فيه زيتُ
قد أطفأته كُرَاتٌ ... ما من لظاهنّ فوت
رَمَى بهنّ بُغاةٌ ... أصبنني فثويت
ثم يمضي الحوار بين الجريح وليلاه، ثم يتدخل البدوي والطبيب، فلا تنتهي المنظومة إلا بعد أن يستوفي حافظ تصوير ذلك المشهد الحزين
ونرجع إلى القصيدة فنقول:
في تلك القصيد صور حافظ عدة مشاهد، صور انتفاع الطرابلسيين بالذخائر التي تركها الجيش الإيطالي عند انهزامه بإحدى المواقع فقال:
حاِتمَ الطليان قد قلدتنا ... مِنةً نذكرها عاماً فعاما
أنت أهديت إلينا عُدّةً ... ولباساً وشراباً وطَعاما
وسلاحاً كان في أيديكمُ ... ذا كَلالٍ فغدا يَفْري العظاما
أكثروا النزهة في أحيائنا ... ورُبانا إنها تشفي السقاما
وأقيموا كل عام موسما ... يُشبع الأيتام منا والأيامى
وصور استخفاف الإيطاليين بالمعاهدات وبالدين فقال:
أحرقوا الدور، استحلوا كل ما ... حرّمت (لاهاي) في العهد احتراما
بارك المطران في أعمالهم ... فسَلُوه: بارك القوم علاما
أبهذا جاءهم إنجيلهم ... آمراً يلقي على الأرض السلاما
كشفوا عن نية الغرب لنا ... وجَلوا عن أفق الشرق الظلاما
فقرأناها سطوراً من دمٍ ... أقسمت تلتهم الشرق التهاما(497/10)
وخلاصة القول أن حافظاً صور عواطف المصريين في الثورة على الأمة الباغية التي عدت على إحدى البقاع الإسلامية، بحيث استطاع أن يسبق شوقي في هذا الميدان
آمال مصرية
وهناك تاريخ مجهول هو تاريخ جهاد المصريين لتحرير طرابلس من نير الطليان في أعوام الحرب الماضية، وذلك الجهاد يرجع إلى نزعة أصلية هي شوق مصر إلى التلاقي مع جميع الولايات التي تشرف على شواطئ البحر الأحمر وشواطئ البحر الأبيض، فقد كانت مصر في أكثر عهود التاريخ متصلة بتلك البلاد اتصال وداد وإخاء، وبلادنا كانت الملتقى لآمال الرجال في تلك البلاد، فأكابر الأغنياء من اليمن والحجاز وفلسطين والشام ولبنان وليبيا والجزائر وتونس ومراكش قد انتفعوا جميعاً بمركز مصر مفتاح الشرق
وكبار الوطنيين في مصر لهم أصول في تلك البلاد، فقد عير عبد الرحمن الرافعي بأنه شامي الأصل، وعير عبد العزيز جاويش بأنه مغربي، ونحن مع هذا نرى هذين الرجلين غاية في شرف الوطنية المصرية
ما معنى ذلك؟ معناه أن الوطن المصري هو الوطن الذي ينظم شواطئ البحر الأحمر وشواطئ البحر الأبيض، وقد حفظ التاريخ أن جنودنا استنزلوا في المعارك التي انتهت بفتح الأندلس وشهد التاريخ أيضاً أن عرب الأندلس لم يجدوا في محنتهم مأوى غير وادي النيل
متاعب الدنيا في هذه الأيام لن تنسينا ما يجب أن يحفظ، ولن ننسى أبداً أن لنا إخواناً هواهم من هوانا في جميع الشئون.
الحرب الحاضرة موجة عابرة، وميزان الوجود لا تزلزله قلقةٌ وقتية سيزول صداها بعد حين
مصر هي مصر، والشرق هو الشرق، ورجاؤه فيها هو رجاؤها فيه، ولن ينفصم ما بينها وبينه من مواثيق
سنكون فيما بعد أصدق مما كنا فيما قبل (والله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين)
زكي مبارك(497/11)
من أظرف ما قرأت
كزينوقراط الفيلسوف
للأستاذ صلاح الدين المنجد
كان في أثينا، أيام أرسطوفان، مائة وخمس وثلاثون حظية، كن زهوراً فواحة فيها، ونجوماً رفافة في سمائها؛ وقد أوتين الخلابة والظرافة والجمال. وكانت لاييس أخلبهن جمالاً وأبرعهن حسناً وأكثرهن دلاً وظرفاً
ويقولون إن فينوس، ربة الجمال والحب، تجلت لها في الحلم فأرتها ما ستحظها به من حظ، وما ستنعم به من نعيمات. . . ومسحت بكفها الصغيرة جسمها الغض، فجعلته مثار غوايات وينبوع شهوات
ولم يخلب الملوك، ولم يشرد نوم الكهان، ولم يُذهل أحلام الفلاسفة، غير لاييس؛ الطروب المدلة، ذات العين الضحوك والجسم الريان. فكان أهل أثينا يجتمعون في (الكورنث) مسرح اللهو واللذاذات، يتمتعون منها بمحاسن تتجدد وملاحات ليس تنفذ، فإذا مضت إلى معبد فينوس، فيا لسحر الجمال! هنالك ترى الشعب يتبعها كالخراف لا يدعون فينوس، ولا يبتهلون إلى آلهة الأولمب، ولكنهم ينظرون إلى لاييس
وفلك ثدياها فكانا شركاً وفتنة: غضوضة تأسر اللب ونعومة تشل الحس، واهتزاز يفتن الناظر. فكان المثالون يعطون فينوس، إذا نحتوا لها التماثيل، ثدي لاييس الحظية أو فرينه اللعوب
وكانت الدنانير تنثر تحت أقدامها كما تنثر الأزاهير لنظرة حنونٍ منها أو بسمة خلوب
ودوخت لاييس أثينا كلها، واشتد سلطان جمالها، وتيمت الأرواح وأذهلت الأحلام، إلا رجلاً واحداً، كان يتجلد ويصبر ولا يذعن لسلطانها. هو كزينوقراط الفيلسوف.
لقد طلبت منه مالاً من ماله. . . (فإذا أعطيتنيه، سكبت في فمك لذة الدنيا، وأذقتك هناءة العمر، في ليلة واحدة!)
ورفض الفيلسوف طلبة لاييس، فأقسمت لتغوينه، ولتجعلنه من عباد جمالها المخلصين، وتخاطرت على الهزء به مع أناس كثيرين.
وطرقت باب مأواه، وقد عبس الليل، مذعورة الجنان دامعة العينين. فقال لها: (ما ذعرك يا(497/13)
لاييس. . . وما أصابك في هذا الليل البهيم. . .؟) قالت: (لقد تبعني قُطاع الطريق وأرعبني سُفاك الدماء، يريدون اختطافي. . . فأوني في دارك حتى يبرق لي النور. . .!)
وأدخلها الفيلسوف غرفته، وقدم إليها سريره.
يا عجباً! لقد اختفت تلك الدموع الغزار التي كانت تساقطها، منذ لحظات، كحبات المطر، فتنحدر على خدودها كالدرر.
وابتسمت لاييس. . . وابتدأت الفتنة!
لقد وقفت أمامه، فرأى ما يسحر وما يغري: فهذه البسمة الفاتنة كأنها وعد بلذة صخوب، وهاتة الشفاه المفترة التي تقطر الشهد والرحيق، وهاتان العينان اللتان ترسلان لهباً فاتر يوهن القوي، وينظران نظرات حالمة فيهن ظمأ وعتب وأسى. وهذان الذراعان البضان اللذان يمتدان للعناق. وهذه الحركة الرشيقة التي تثير الوجد، والضحكة البارعة التي تفلق الكبد، والغمزة الساحرة التي ينخلع لها الفؤاد. . . ثم هذا الغضب الجميل، والنفور اللطيف، وذاك الدلال الحلو والإقبال الظريف. . . ثم ما شئت من مراح ومزاح، ورقص وشدو، وبكاء وأنين. كل أولئك ما هز الفيلسوف وما أثر فيه.
لقد قطعت الليل تحاول إغراء كزينوقراط، فما خلبته فتنتها، ولا هاجه سحرها؛ لكنه لبث أمامها ينظر متجلداً، كأنه قطعة من حجر أو قدة من جليد.
ولملمت لاييس أثوابها، وخرجت من دار الفيلسوف مع الفجر وفي عينيها الحلوتين دموع الخيبة والفشل
وانتشر الخبر مع النور، فجاء صواحبها مسرعات، فابتسمت لاييس، وقالت: (لقد راهنت على إغواء إنسان. أما كزينوقراط فتمثال من جليد. . .!)
ونظر لداتها بعضهن إلى بعض دهشات، وقلن: (لك عذرك يا لاييس!)
هذا حديث أرسطوفان، ما أدري مبلغ التزويق أو التهويل فيه، ولكني ذكرت، وقد تمثلت في خاطري صورة الفيلسوف حديثاً طريفاً للجاحظ، عن نديم أسمه أبو المبارك الصابئ، كان أحلى خلق الله حلاوة وظرافة وفكراً، وابرعهن حديثاً ونادرة وعلماً، وألطفهن مذهباً وطريقة وفهماً. وكان قد خصي نفسه وأربى على المائة. وكان ينادم الخلفاء والوزراء ويغشي بيوت حرمهن، ويقضي الأوقات الطوال عندهن. وكان قلبه علوقاً بالجمال يتتبعه(497/14)
ويهيم في أثره. فسئل عن ميله إلى النساء، وقد تخطى المائة؛ فزفر زفرة كادت تقصف ضلوعه وقال: (إني لأسمع نغمة المرأة، فأظن مرة أن كبدي قد ذابت، وأضن مرة أنها قد انصدعت، وأظن مرة أن عقلي قد اختلس، وربما اضطرب فؤادي عند ضحك إحداهن، حتى أظن أنه خرج من فمي. . . فكيف ألوم غيري عليهن؟)
فما أشد اختلاف الطباع!
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(497/15)
رفيق الصبا
للأستاذ محمد مندور
ها أنا اليوم أتماسك فأستطيع أن أذكر رفيق صباي الدكتور محمد الشحات أيوب الذي نقلت إلى الصحف خبر وفاته. ولقد بكاه قلبي فكان البكاء رحمة من الله وقد أوشكت حياتي أن تختنق ضيقاً بوفاته.
أيوب رفيق صباي منذ مدرسة الألفي الابتدائية بمنيا القمح سنة 1917 إلى آخر عهدنا بتحصيل العلم سنة 1939 بباريس.
وهو زميلي في دراستي، كان يحب كما أحب حضارة اليونان لأنها تسمو بالروح إلى أفق لا يمكن أن يدركه إلا من يصل إليه بنفسه بعد جهد طويل. ولقد علقت روحه بمثل اليونان: الخير والحق والجمال، فأبغض الظلم والشر والقبح. من لي اليوم برفيق سواه؟ كنت ألقاه فنرفع من قلوبنا بذكر من نحب من كتاب تلك الحضارة المشرقة. ولقد عرف أيوب كما عرفناه مرارة الظلم الذي ينزله الجهل بالنفوس الخيرة. ولقد تعزى أيوب كما تعزينا بالقيم الروحية. ولقد جاهد أيوب معنا لأننا عقدنا العزم على أن نكسب النفوس بأيماننا. وهاهو أيوب يغادرنا ونحن لم نكد نبدأ الشوط. أيها الأخ الراحل: لقد كنا بحاجة إليك. ها أشعة الأمل تشرق في الأفق البعيد. عزيز على نفسي أن نستأثر بنصيبك فيها. اللهم أملأ قبره ضوءاً. اللهم اهد إليه ضوء قلوبنا.
قد يجهل الناس أيوباً، فهل لي أن يصدقوني إن قلت إنه أمل خبا، أمل قوي لا أعرف أملاً يساويه. لقد كان أيوب (مدرس) التاريخ القديم بجامعة فؤاد الأول (أستاذاً) منقطع النظير. كانت له قدرة عجيبة على البناء التاريخي. كنت تراه يجمع مواده لا من ملخصات التاريخ بل من مصادر التاريخ. وكان رحمه الله يعلم ويحس أن التاريخ قصة نفاذ الروح البشرية إلى العالم والكائنات، ولهذا كان يتتبع مسارب تلك الروح في مظانها. مصادر التاريخ عنده كانت تماثيل فدياس وبراكستيل، خطب بركليس وديموستين، مسرحيات سوفكليس وأربيدس، ملاحم هوميروس، وأغاني بنداروس، قصص هيرودوت، وتحليل توكيديدس. التاريخ عنده كان شيئاً واحداً: الروح البشرية في مظاهرها المتعددة. جاءني يوماً يطلب إلى رواية الفُرس لأيسكيلوس ليتخذها مصدراً من مصادر المعرفة الحقة. المعرفة الإنسانية(497/16)
بمعركة سلامين.
درس أيوب التاريخ بمصر فكان الأول بين أقرانه؛ وأرسل أيوب في بعثة إلى باريس ثماني سنوات حيث أخذ العلم عن جلوتز وجنبير وسينوبوس وأمثالهم ممن تتطأطأ لهم الهامات في العالم أجمع. ولم يكتف بتحصيل المعرفة من بطون الكتب وأفواه الأساتذة بل ذهب عاماً كاملاً إلى بلاد اليونان يقلب آثار الماضي المجيد ويستنطق الحجارة. وعاد أيوب إلى مصر بعد أن طوف بدلف وديلوس وفيليب وأولمبي وقد انصهرت المعرفة بنفسه فإذا بالتاريخ القديم عنده كذكريات حياته الخاصة يحدثك عنه في طلاقة وحرارة وقوة فيكسبك.
عجيب أن يموت أيوب! عجيب أن يجف هذا النبع قبل أن يتدفق! لقد حاضر أيوب بالجامعة ثلاث سنوات فقط. لكن سل زملاءه، سل تلاميذه وهم موضع أمله، سلهم يخبروك عن هذا العالم الثبت الذكي الفؤاد الفصيح اللسان. لقد أخصب أيوب نفوساً سيتذكره بالرحمة.
لم يتوان أيوب عن أداء رسالته. ولقد عقد العزم ونحن معه على أن نؤديها، تنكر الناس أو رضوا، ظلموا أو أنصفوا. ولقد أحس بالظلم تكوينا ناره فصمد له وشمر عن ساعده فترجم جزءاً هاماً من (تاريخ مصر) لهانوتو، ذلك الكتاب الضخم الذي وضعته جماعة من علماء فرنسا بتكليف من ملكنا العظيم فؤاد الأول رحمه، ورأت وزارة المعارف أن تنقله إلى لغتنا، فأدرك بعض رجالها أن أيوباً في طليعة من ينهضون بهذا العمل الجليل الشاق
وقالوا إن المرء لا يثبت علمه إلا إذا كان (دكتوراً)، وكان أيوب يعد رسالة أصيلة باللغة الفرنسية عن تاريخ طيبة اليونانية. وقسموا على أيوب فلم يرد أن ينتظر حتى تسكن الحرب، فيقدم رسالته إلى السوريون بل قدمها إلى جامعة فؤاد الأول، فإذا به يمنح أعلى درجة تعرفها جامعتنا. وهذا ليس موضع فخارنا بأيوب، وإنما نفخر بأنه استطاع أن يتمتع بصداقة أستاذنا جميعاً البروفسير جوجيه أستاذ التاريخ القديم بجامعات فرنسا سابقاً ومدير المعهد الفرنسي بالقاهرة في السنين الأخيرة، والذي كان من حظ جامعة فؤاد الأول أن تنتدبه للتدريس بها. لقد كان البروفسير جوجيه ولا يزال يعز أيوباً بل يحبه حب تقدير لعلمه وإخلاصه وتفتح نفسه، وكان يخصه دائماً بالثناء. وكانت محبة البروفسير لتلميذه(497/17)
وزميله محبة فعالة لأنها قامت على أساس شريف: أساس العلم. فكنت تراه يعين أيوباً على كل أموره. صغيرها وكبيرها. عامها وخاصها. كم اهتزت نفسي لنبل هذا الأستاذ الكريم إذ حدثني أصدقاء القاهرة أن البروفسير جوجيه لم يتخل عن أيوب أثناء مرضه ولا نسيه بل تردد عليه في كل حين وأعانه على تلقي الموت بروح مطمئنة
وأحس أيوب أن ضعف المؤلفات العلمية من أكبر أسباب انحطاط التعليم ببلادنا لاشك فيه، فأخذ نفسه بوضع مؤلفين أحدهما عن النظم اليونانية والآخر عن النظم الرومانية. ولقد افترقنا منذ أشهر، فلم أدر إلى أي مرحلة وصل في كتابيه، ولكنني على ثقة من أنه قد خطا بهما خطوات واسعة، لأن أيوبا كان عقلاً نشيطاً، وكان إذا قال نفذ وإذا وعد صدق. ترى ما مصير هذه الكتب؟! إن كاتب هذه الأسطر يعتبرها نعمة من الله أن يستطيع ترتيب المواد وإتمام التفاصيل وإيضاح الغامض والإشراف على نشر تلك الأبحاث القيمة التي خلفها رفيق صباه؛ وكلي أمل أن الجامعة والوزارة ستقدران قيمة هذه الأشياء فترصد المال اللازم لإذاعتها بين الناس
يجب أن ننشر رسالة الدكتوراه لأيوب، والجزء الذي ترجمه أيوب من هانوتو، ومذكرات أيوب ومقالاته. هذه كنوز. وقد ذاق أيوب المر في حياته، فهل لنا أن نكفر عن ذلك بالإحسان إلى ذكراه؟
أما حزني على هذا الصديق فأعز من أن يحتويه لفظ. اللهم ارحمه!
أيها الصديق الراحل! سنجاهد كما جاهدت حتى نلحق بك. سنظل كما عهدتنا جنداً في خدمة الروح. إلى اللقاء.
(الإسكندرية)
محمد مندور(497/18)
عيد الهجرة
للأستاذ علي محمود طه
غنِّ بالهجرة عاماً بعد عاِم ... وادْعُ للحقِّ وبشِّرْ بالسلاِم
وترسَّلْ يا قصيدي نغماً ... وتنقَّلْ بين موج وغمام
صوتُكَ الحقُّ فلا يأخذكَ ما ... في نواحي الأرض من بغْيٍ وذْام
كنْ بشير الحبِّ والنور إلي ... مُهَجٍ كلْمَي وأكبادٍ دوامي
هجرتْ أوطانها واغتربتْ ... في مِثاليٍ من المبدأ سامي
أَنِفَتْ عيش الرقيق المُجتبَي ... وأَبَتْ ذُلِّ الضمير المستضام
يا دُعاةَ الحقِّ هذي محنةٌ ... تُشعلُ الرُّوح بمسعور الضرام
هذه حرب حياة أو حمام ... وصراعُ الخير والشرِّ العقام
خاضَها الإسلامُ فرداً، وهدَى ... بيراعٍ، وتحدَّي بحسام
هجرةً كانت إلى الله وفي ... خطوها مولدُ أحداث جسام
أخطأ الشيطانُ مسراها، فيا ... ضَلَّةَ الشيطانِ في تلك الموامي
آبَ بالخيبةِ من غايتهِ ... وهو فوق الأرض ملعونُ المقام
صفحاتٌ من صراع خالدٍ ... ضِّمنتْ كلَّ فخارٍ ووَسام
لم تُتَحْ يوَماً لجَّبارٍ طغَى ... أو لباغِ فاتك السيفِ عُرام
بل لداعٍ أعزلٍ في قومهِ ... مستباح الدَّمِ مهدورِ الذمام
زلزلَ العاَلم من أقطاره ... بقُوّى الرُّوح على القوم الطغام
وبنى أوَّلَ دنيا حُرَّةٍ ... بَرِئَتْ من كلِّ ظلم وأثام
تسعُ الناسَ على ألوانهم ... لم تفرِّقْ بين آريٍ وسامي
حاطمَ الأصناِم هل منكَ يدُ ... تَذَرمُ الظلمَ صعيداً من حُطام؟
لم تُطْقها حجراً أو خشباً ... ويُطاقُ اليومَ أصنامُ الأنام!
وعجيبٌ صُنْعُهم في زمنٍ ... أبصرَ الأعمى به والمتعامي
آدميُّون قَزَامى انتحلوا ... منطقَ الآلهةِ الشمِّ العظام
وتراهم مثلما تسمعهم ... صُوَرَ الوهم وأحلامَ النيام(497/19)
بَشَّروا الناس بدنيا، ويحهم! ... أيُّ دُنيا من دَمارٍ وَحِمام؟
تسلُبُ العالم حُرَّيِاتهِ ... وترى الناسَ قطيعاً من سوام
قيل للحق، وما أعجبه ... في مجال حيوي ونظام!
قيل للخبز، فهل أطعمهم ... حلمَ الحرب سوى الموت الزؤام؟
أنت يا أيَّتُها الشمسُ أطلُعي ... من وراء الليل والنعيمِ الرُّكامِ
سَدِّدِي بالنار قوساً واصرعي ... ماردَ الشرِّ بمشبوب السهام
ضَلَّتَ الأرضُ بليلٍ داهمٍ ... يَحَذرُ النجمُ دُجَاةُ المترامي
دَمِيَتْ أعينُنا في جنحه ... واشتكت حتى خفافيشُ الظلام
يا شعوباً جَمَعَتْها أمةٌ ... بين مصرٍ وعراقٍ وشآِم
وبطوناً من بقايا (طارقٍ) ... في الجبال اُلْجْردِ واُلْخْضر النوامي
صاَغها الإسلام في إقليدهِ ... خرزاتٍ من فريد وتُؤّام
ما شدا شعري بها إلا هفَتْ ... بالقباب البيض أو حُمْر الخيام
كلُّ روحٍ بهدىً من حُبِّها ... كلُّ قلبٍ بشعاع من غرام
تذكر القُرْبَى وتستدني بها ... مشرقَ الآمال في مطلعِ عاِم
وتُرَجِّي عودةً المجد الذي ... أعجز الباني وأعيا المتسامي
في بيوتٍ هاشميات البِنَي ... وعروش أموّيات الدِّعام
ونتاجٍ من نُهىً جَّبارةٍ ... وتراث من حضارات ضخام
قُلْ لها يا عامُ لا هُنْتِ ولا ... كنتِ إلا مهد أحرار كرام
ذاك مجد لم ينله أهله ... بالتمني والتغني والكلام
بل بالآم وصبري وضني ... ودموعٍ ودم حُرٍ سِجَام
قُلْ لها إنَّ الرحى دائرة ... والليالي بين كرٍ وصدام
فاستعدِّي لغدٍ إن غداً ... نُهْزَةُ السبَّاق في هذا الزحام
وأجمعي أمركِ لليوم الذي ... يحمل البشرى لعشَّاق السلام
علي محمود طه(497/20)
إلى الأستاذ البشبيشي
للأب أنستاس ماري الكرملي
(تأخرت في البريد)
1 - تمهيد
أشكرك، يا سيدي الشكر الجزيل الصادق، على مطالعتك لمقالتي التي نشرتها لي (الرسالة)، بخصوص كتاب (الإمتاع والمؤانسة)، وأشكرك شكراً أعظم، على أنك تنازلت فأبديت بعض ملاحظات تتعلق بكلمتي تلك. والآن أستأذنك في إبداء ما عندي من النظرات. وأول كل شيء، أود أن أقول كلمة في تاريخ رسم الحروف في مصر، وهي:
2 - تاريخ رسم الحروف في ديار النيل
كان كتبة وادي النيل، قبل سنة 1275 للهجرة، يختلف بعضهم عن بعض، في رسم بعض الأحرف، ككتابة الأعلام المؤنثة المنتهية بالياء والهاء كأفريقية، أو بالياء والألف كبادوراية، أو بالألف القائمة كبخارا، أو بالألف الجالسة، وهي الألف المصورة بصورة الياء كبخاري أيضاً (على رأى من يكتبها بهذا الرسم)، وكالمهموز الآخر الوارد على وزن التفاعل كالتخاجؤ والتخاجئ، وكان أغلب اختلافهم في رسم الهمزة الواقعة في قلب الكلمة كرؤوس، وبدءوا، ومشؤوم
وسبب ذلك جميعه، أن كل واحد من أولئك الكتبة المصريين، اتخذ له إماماً نحوياً أو لغوياً، وحاول اقتفاء آثاره. ولما كان الأئمة الأقدمون كثيرين، ويختلف بعضهم عن بعض في هذه الأمور، اختلف أيضاً متتبعوهم ومقلدوهم في هذه الأزمان الأخيرة
أما بعد سنة 1275، فقد أخذ الاختلاف يزول شيئاً بعد شيء من بين ظهراني أبناء النيل، أو كاد يزول. وذلك لأن الشيخ العلامة نصر الهوريني وضع رسالة في ذلك العام (المطلع النصرية، للمطابع المصرية)، ووشاها بقواعد لم يتبع فيها إماماً واحداً من أئمة العربية ولغويها، بل جمع بينهم؛ لأن اختياره لهم لم يكن موفقاً ولا دائماً حسناً، فقد خالف أحياناً سيبوبه والحريري والخفاجي وغيرهم من أولئك الأساطين العظام الأقدمين، بل خالف أيضاً ثقات المتأخرين كجماعة الألوسيين: شهاب الدين ونعمان ومحمود شكري، فجاء تأليفه كفلك(497/21)
نوح، الذي كان يحوي زوجين من أطايب الحيوان وخبائثه، أي أن كتابه حوى أطايب القواعد وخبائثها. ومع ذلك راج كتابه أي رواج ولا سيما لأنه تولى تصحيح كثير من أسفار مشاهير الأقدمين، وكانت تطبع في مطبعة بولاق للحكومة المصرية، منذ أن تولى تصحيح ما يصدر فيها، حتى شاع رسم الهمزة في تلك المطبوعات على ما أراد لا على ما كان رسمها المؤلف الأصيل في كتابه
ومما زاد الطين بلة، أن جماعة ممن جاء بعده من المؤلفين أصدروا كتباً للمدارس، فأشاعوا وأذاعوا تلك القواعد التي سورها الشيخ الهوريني بأسوار من فولاذ، بل أقوى وأصلب، فكانت الطامة الكبرى ولا سيما جاء الشيخ العلامة حسين والي وكان ينتظر أن يصلح ما أفسده سلفهُ، لكنه تابعه في جل قواعده، ألم نقل في كلها، وسمى تأليفه (كتاب الإملاء) (كذا)، مع أنه كتاب الرسم، إذ الإملاء بهذا المعنى من كلام الترك واصطلاحهم. لا من كلام العرب، كما كتب لي بذلك المؤلف نفسه في كتاب أحفظه، وكان جواباً على ما بينته له. فسارت تلك القواعد سير النار في هشيم التين بين جميع المعلمين والمتعلمين، وهي لا تزال سائرة إلى هذا اليوم الذي نكتب فيه هذه الكلمة
إلا أنه - والحمد لله - قام مناوئاً للعالمين أعظم لغوي فخالفهما، وهو الشيخ محمد بن أحمد بن محمود التركزي المشهور بابن التلاميد (بدال مهملة في الآخر)؛ الشنقيطي: المغربي الأصل، فإنه تولى طبع (المخصص) لابن سيده (بهاء محضة في الآخر)، وعلق عليه حواشي هي درر بل دراري، فزاد قدر المخصص في عيون الناس زيادة لا تضاهي في شيء، وقد رسم الهمزات في مواطنها، كما يجب أن ترسم على مذهب السادة الأئمة الفصحاء كسيبويه وابن الأنباري وابن جني والحريري والخفاجي وإضرابهم في هذا الأوان كأبناء الألوسي والزهاوي والرصافي
وقد اتفق للشنقيطي أن فند بعض الأحيان تفنيداً فلسفياً وبصريح العبارة، كلام الشيخ الهوريني وزيف أقواله، وبذات الوقت لم يوافق على رأى الشيخ العلامة حسين والي، ونحن نورد لك هنا نموذجاً مما قال، وقد عثرنا عليه نبهاً، وقد جاء ذلك في المخصص 178: 8
3 - الآئب لا الآيب(497/22)
(آئب، الصواب أن يكتب بالهمزة بعد المد على قاعدة إبدال عين فاعل، لمعتل فعله همزة، وهي قاعدة مطردة لم يستثن منها حرف واحد بالإجماع. وقد عد في المغنى من اللحن قول الفقهاء: (بايع) بالياء غير مهموز. ولا عبرة بما كتبه الشيخ نصر الهوريني في مطالعه، حيث ذكر في صحيفة 48 (من الطبعة الأولى وص 71 من الطبعة الثانية) حكم الهمزة المكسورة المصورة ياء، وقال هناك: (نعم، إذا كان قبلها ألف نحو آبل وآيس وآيب، تبدل ياء حقيقية بمقتضى القياس الصرفي في نظير ما قالوه في جمع ذؤابة على ذوائب، حيث لم يجمعوه على أصله ذائب. وقد ورد من حديث الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: آيبون تائبون عابدون. ولم يروه أحد بالهمزة) انتهى لفظه بحروفه وهذا كله خطأ مخالف للقياس والرواية، فلا يجوز التعويل عليه. ونحو ذوائب في جمع ذؤابة مما شذ عن القياس، والشاذ لا يقاس عليه. والدليل على صحة ما قلته من إثبات همزة آئب وتحقيقها قول النابغة:
تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآئب
وقول ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحرث الصابح فالغانم فالآئب
وقول تأبط شراً:
فأبت إلى فهم وما كدتُ آئباً
وقول الأخنس بن شهاب:
تطير على أعجاز حوشٍ كأنها ... جهام هراق ماؤهُ فهو آئب
ونحو هذا كثير مما أجمعوا على روايته بالهمزة فقط. وكتبه محققه محمد محمود لطف الله به. آمين.
إلى (آمين) هو كلام الشيخ الشنقيطي العلامة الأكبر، وهو في الوقت نفسه يرد على الشيخ حسين والي. وقد ورد كلامة مثل كلام الشيخ الهوريني في ص192 من الطبعة الثانية من كتاب الإملاء فلا حاجة لنا إلى نقله على غير جدوى.
4 - رؤوس. يبدءوا. مشؤوم. شؤم. شأم(497/23)
قال الحريري في درة الغوّاص، طبعة الجوائب في سنة 1299 في قسطنطينية في ص128
(فأما سؤول، ويؤوس، وشؤون، ومؤونة، وموؤودة، فالأحسن أن يكتبن بواوين، ومنهم من كتبها بواو واحد) اهـ ولم يقل وترسم مفردة أو على نبرة إذا لم يكن فصل ما بعدها عما قبلها كما في مشئوم، وكما قال حضرة أستاذي المحترم محمود البشبيشي
ومثل كلام الحريري، قال الشيخ الأجل الآلوسي في كتابه (كشف الطرة من الغرَّة في ص468)
فيؤخذ من كلام الحريري والآلوسي أن الهمزة إذا وقعت في قلب الكلمة، فإن كانت متحركة، كتبت على حرف علة يجانس حركة ما قبلها كما في رؤوس. وعليه تكتب (يبدءوا) على الألف لهذا السبب نفسه لأن حركة الدال فتحة.
أما مشؤوم فقد قال في التاج في مادة (ش أم): وشؤم عليهم ككرم ويَمن. . . ورجل مشؤوم، بالهمزة على مفعول، وكذلك يَمُنَ عليهم فهو ميمون. ومشؤم، كمقول والجمع مشائيم، نادر وحكمة السلامة. . .) والذي ورد مطبوعاً (مشؤم) وهي - ولاشك في النادر - من الناشر لا من المؤلف، لأن هذا يقول: بالهمزة على مفعول، وفي مفعول خمسة أحرف، فإذا كتبناها (مشؤم) كانت الأحرف أربعة، فظهر الخطأ من الطابع أو من الناشر، ولم يكتبها أحد من العلماء الثقات الإثبات (مشؤم على وزن مفعُل بضم العين، لأن هذا الوزن نادر في كلامهم وليس مشؤم منه.
فتكون القاعدة: إذا وقعت الهمزة متحركة في الوسط وسكن ما قبلها كتبت على حرف علة يجانس حركتها. ولما كانت حركة مشؤوم ضمة كتبت على الواو، وهي غير واو مفعول الملازمة له
أما إذا كانت الهمزة الواقعة في الوسط ساكنة فترسم على حرف علة يجانس حركة ما قبلها. فتكتب شؤم على الواو، وشأم على الألف، وبئس على الياء. وهذا كل ما يقال في رسم الهمزة الواقعة في الوسط
وقد تكلم الشيخ نصر الهوريني على الهمزة في كتابه المطالع النصرية في 44 صفحة، وبعد أن يتم القارئ الوقوف عليها، يقول في نفسه: هل عرفت كيفية رسم الهمزة؟ أما(497/24)
الشيخ أحمد فارس الشدياق، فقد تكلم عليها وعلى مواطنها من الكلم في كتابه (غنية الطالب) المطبوع في قسطنطينية سنة 1289 في 13 سطراً لا غير. ونحن ننقل هنا نصه ليطلع عليه من لا يملك الكتاب. وهذه هي وقد جاءت في آخر ص31 وبلء 32:
(إن كانت الهمزة في الابتداء كتبت بصورة الألف دائماً نحو أنصر وأضرب وأكرم. وإن كانت متوسطة ساكنة كتبت بحرف يجانس حركة ما قبلها، نحو: يأس وبؤس وبئس. وإن كانت متحركة وما قبلها ساكن نحو: يسأل ويلؤم وييئس، لغة في ييأس بمعنى يقنط، أو كانت متحركة وما قبلها متحرك نحو سأل ولؤم وبئس
وإذا كانت متطرفة، فإن كان ما قبلها متحركاً كتبت بحرف حركته نحو: قرأ وقرئ وقمؤ. وإلا فتكتب من دون حرف، نحو وبلء وجزء
وإذا وقعت همزتان ثانيتهما ساكنة قلبت ألفاً لينة وكتبتا بصورة المد نحو: آمن أصله أأمن على وزن أفعل. وأهل الغرب يكتبون الهمزة منقطعة وبعدها ألف نحو ءامن. وكذلك إذا وقع بعد الهمزة ألف نحو: المآكل جمع مأكل
وإذا اجتمع همزتان متحركتان، جاز لك أن تفصل بينهما بألف نحو آأنت أم أُمْ سالم. أما ماضي مهموز اللام المثنى فيبقى كتبهُ بألفين نحو قرأا
وللهمزة أحكام كثيرة قد أختلف فيها أهل الرسم؛ ولو أنها رسمت من الأصل بصورة معلومة خاصة بها، لما نشأ من هذا الخلاف) انتهى كلام الشدياق
والسوريون المعاصرون، والعراقيون واللبنانيون جروا ويجرون على هذه القواعد المذكورة هنا، وهي أيضاً قواعد الحريري والخفاجي والآلوسي والشدياق، ولا يخالفونهم في شيء
وإذا كان ثم من يجاري كتاب وادي النيل، فهو لأنه تعلم في مدارس أبناء مضر من المصريين، وطالع أشعارهم فخالف بذلك أهالي وطنه وعلماءه، من عهد غير بعيد
والآن، وقد بسطنا كل ما يهم القارئ في هذا الموضوع فهل يستطيع الأستاذ البشبيشي أو غيره من العلماء أن يأتي لنا بنص صريح يرتقي إلى أربعمائة سنة أو تدوينها وفيه نلغي رسم الهمزة وحدها في حشو الكلمة في أي حال من الأحوال، ويكون النص لعالم ثبت ثقة يعتمد عليه. فإننا نتحداهم حاق التحدي!
يا سيدي الأستاذ البشبيشي، إننا نعلم العلم اليقين، أن أسلافنا العرب كانوا فلاسفة إجلاء في(497/25)
سليقتهم، حتى في قواعدهم الصرفية، والنحوية واللغوية، فهي تتدفق منطقاً، وفلسفة، وحكمة؛ ونظن أن الذي حملهم على أن يرسموا الهمزة الواقعة في قلب الكلمة على حرف، هو أنهم شبهوها بحشو البطن، أو بقلب الإنسان. فكما أن الأحشاء لا تكون وحدها، بل تقع بين الصدر والطرفين، أي الرجلين، كذلك الهمزة لا تكون وحدها، بل تقع على ما يسندها بصدرها وطرفها
أفبعد هذه الفلسفة أو الحكمة العميقة، والواضحة لكل ذي عينين نيرتين من يدم أحكام العربية وقواعدها؟ - فإذا كان هناك من يفعل ذلك، فهو من الشعوبية وأعدى أعداء العرب كهتلر ومصوليني!
ونظن أن في هذا القدر في هذا الموضوع، مجزأة، بل مكرهة لكل قارئ. فالعفو يا سادتي الكرام، والمغفرة من شيم العرب الفخام!
(البقية في العدد القادم)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(497/26)
المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي أدورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الرابع عشر - الصناعة
ليتبين القارئ قيمة النقود في القاهرة أثناء السنوات الأخيرة أقدم فيما يلي قائمة أسعار بعض الأطعمة العادية أثناء زيارتي الثانية. ومنذ أن أصبحت مصر مرة ثانية طريق الهند ومجمع السائحين الذين زاد عددهم على السنوات السابقة، زادت أسعار السلع المختلفة زيادة عظيمة، وتقل الأسعار في مدن الأرياف وقراها عنها في العاصمة، فيكون سعر اللحم والطيور والحمام نصف الأسعار المذكورة هنا تقريباً، وسعر القمح والخبز يكون ثلثها أو نصفها:
فضة قرش
القمح: الأردب من 50 إلى. . 63
الأرز: (حوالي. . 240
الضأن: الرطل. . 1
لحم البقر: (35. .
الطيور: الواحد من قرش وعشرة فضة إلى20 1
الحمام: الزوج (((((20 1
البيض: الثلاث بيضات5. .
الزبد: الرطل. . 2
السمن: (من قرشين إلى 10 2
البن: (من ستة قروش إلى. . 7(497/27)
التبغ الجبلي: الأقة من 15 قرشاً إلى. . 18
(السوري: من خمسة قروش إلى. . 10
السكر المصري المخروط: الرطل. . 2
السكر الأوربي: (10 2
العنب في موسمه: (10. .
العنب المتأخر: الرطل من 20 فضة إلى 30. .
البسكويت: القنطار. . 160
الماء: القربة من 10 فضة إلى 20. .
خشب الوقود: حمل الحمار. . 11
الفحم: الأقة من 20 فضة إلى 30. .
الصابون: الرطل30 1
الشمع المصنوع من الشحم: الأقة20 8
الشمع الجيد: (. . 25
وفي القاهرة أبنية عديدة تسمى الواحدة منها (وكالة) تخصص لإيواء التجار وخزن بضائعهم. والوكالة بناء يحيط بساحة مربعة أو مستطيلة، وتتكون طبقتها السفلى من مخازن مقببة للبضائع تواجه الساحة، وتستعمل أحياناً حوانيت. ويعلوا هذه المخازن مساكن يدخل إليها من رواق يمتد على طول جوانب الساحة الأربعة. وقد يعلو هذه المخازن بدلاً من المساكن مخازن أخرى. وتستعمل الغرف المعدة للسكنى في أكثر الوكالات مخازن ولا يكون للوكالة غير باب عام واحد يقفل ليلاً ويحرسه بواب، وفي القاهرة من هذا النوع حوالي مائتي وكالة. ويقع ثلاثة أرباعها في نطاق المدينة الأصلية
ذكرت قبلاً في مقدمة هذا الكتاب أن شوارع القاهرة الكبرى يقوم على جانبيها صفان من الدكاكين لا تتصل بالبناء الأعلى (شكل رقم 55) ويلاحظ ذلك في أكثر الشوارع الفرعية أيضاً. وتخصص الدكاكين عادة في الشارع الواحد بعضه أو كله لتجارة واحدة فيسمى السواق باسم هذه التجارة أو بأسم المسجد المقام هناك. ويطلقون على أقسام الشارع الرئيسي في هذه المدينة: (سوق النحاسين) أو (النحاسين) فقط لأنهم يسقطون عادة لفظة(497/28)
(سوق) و (الجوهرية) و (الخردجية) و (الغورية) وهذا القسم الأخير بأسم المسجد المقام فيه؛ وهذه هي بعض أسواق المدينة المهمة. ويطلقون على السوق التركي الرئيسي: (خان الخليلي). ويغطون بعض الأسواق بحصر أو ألواح تحملها عوارض تمتد في الشارع أعلى الدكاكين قليلاً أو فوق المنازل
يتكون الدكان من كوة مربعة الشكل، أو حجرة صغيرة (شكل 56) ارتفاعها ست أقدام أو سبع تقريباً، وعرضها بين ثلاث أقدام وأربع. وقد يتألف الدكان من حجرتين تتقدم الواحدة الأخرى، وتستعمل الأخيرة مخزناً ويقام أمام الدكان مصطبة بالحجر أو الآجر يستوي سطحها بأرضية الدكان. وترتفع المصطبة عادة حوالي قدمين ونصف أو ثلاث أقدام، ويكون عرضها كارتفاعها. وتجهز واجهة الدكان بمصاريع ثلاثة سهلة الطي يعلو بعضها بعضاً، فيثني أعلاها إلى فوق ويطوي الآخران إلى أسفل فوق المصطبة، فتكون مقعداً مستوياً يفرش بالحصر أو بالبسط وبالوسائد أحياناً. وتستبدل بعض الدكاكين بالمصاريع السابق ذكرها أبواب منثنية. ويجلس التاجر غالباً على المصطبة ما لم يضطر إلى الانسحاب قليلاً داخل الدكان ليخلي المكان لمن يصعد إليه من حرفائه الذين يخلعون أحذيتهم قبل أن يطئوا الحصيرة أو البساط بأقدامهم. ويقدم التاجر الشبك إلى حرفائه الدائمين أو من يشتري بضاعة كثيرة إلا إذا كان هؤلاء يحملون شبكهم. ثم يرسل إلى أقرب مقهى في طلب القهوة التي تقدم في فناجين صغيرة من الخزف الصيني داخل ظروف من النحاس الأحمر. ولا يستطيع أكثر من شخصين أن يجلسوا براحة على مصطبة الدكان ما لم تكن هذه أوسع من المعتاد. غير أن بعض المصاطب تمتد إلى ثلاث أقدام أو أربع، فيكون عرض الدكان حينئذ خمس أقدام أو ستا، فيفسح المجال لأربعة أشخاص أو أكثر يجلسون الجلسة الشرقية. ويقيم التاجر صلاته على مصطبة على مرأى من المارة. وقد يترك التاجر دكانه وقتاً فيطلب من جاره أن يخفره له أو يعلق شبكة على بابه. ويندر أن يفكر التاجر في ضرورة إغلاق دكانه قبل الانصراف إلى منزله ليلاً أو الذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة. أما الغرف التي تعلو الدكاكين فقد وصفتها في مقدمة الكتاب
(يتبع)(497/29)
عدلي طاهر نور(497/30)
دفنتها بيدي!. . .
للشاعر التركي عبد الحق حامد بك
أيتها العيون التي أمست ثقوباً! أيتها العظام الدائرة النخرة، انظري. . . انظري إلى جلال هذا التابوت الجميل المزهر. . . انظري ثم ارقدي بسكون حتى البعث. . . تحت لحافٍ من تراب في ظلمة القبر، وعدي هذا اليوم قيامةً صغرى!
الناس والدواب والطيور والأشجار والأحجار. . . كلها وشيكة البكاء من فرط الألم، والسحب القاتمة في حزنها العميق، تبكي تارة، وأخرى تتئر النظر الواله إلي في سكون موحش. إنها جميعاً تشاطرني لواعج الحزن بصمتٍ ناطقٍ مشوب بالذهول. . .!
يا ناشداً العبرة، كفكف العبر، وانظر في هذه الحفرة، تجد ثم جمال الوجود منظوماً في قصيدٍ من الحسن، تجده ممثلاً في صاحبة التابوت. . . لقد كانت أجمل من السماء الحالية بأملاكها. كانت أحلى من رحيق الأزاهر ورضابها، كانت أجمل من الطفولة في براءتها ونضارتها، ومن الملائكة في علائها وجلالها. كانت أجمل من الحور الكاسية بنور الإله في جنات النعيم.
يا لشعرها! كان أجمل من الشمس في شروقها، وهي ترسل شعاعها اللألاء من الورود والرياحين
يا لعيونها! كانت مرآة مجلوة للخيال الحالم.
يا لنظراتها الوادعة! كانت ينبوعاً للرحمة يتدفق منه ماء سائغ سلسبيل. . .
ولكنها الآن كأمواجٍ من جمد!
وبستان دلالها؟ لقد كان يموج بحلال من السحر والفتنة، ولكنه ذوي وتغشاه سكون رهيب ساخر!. . .
كان وجهها المزدان بهالة شعرها أجمل من البدر يتلمس السفور من فرج السحاب. . .
والأحزان التي تراءت على وجهها قبل أن تزهف نفسها إلى الموت، لكالشمس ساعة رؤيتنا لها تحتضر، في غروبها وراء أثباج من الموج. . .
كفى. . . . . .!
أرى القلم يئن من لذع الألم التأثر، وأحس المداد يبكيها وهو متشح بثوب الحداد. . .(497/31)
مهلاً أيها القبر، هلا صنعتها بين أحضانك وأطبقت إطباق البحر المظلم على لؤلؤة بين أصدافه؟
وأنت يا أحجار القبر ويا أتربته، هل تَرَين الناس عليكٍ بُكاة كما بكوها؟. . .
ترى لمن كانت آمالُ مندثرة بين القبور، وآلام جمدت على صفحات الرموس. . .
حدثني بربك يا قبر، هل بكوا عليك بكاءهم عليها حين الممات؟. . .
ألا خبروني كيف انقلبَ البكاء الواله إلى سُكون وصمت، ثم إلى قبر مهجور، فأحجار بعثرها البلى وسط القبور. . . كم مكثت شريداً أيها القبر، يتراوح عليك صباح ومساء، بين هديل للحمام ونعيب للبوم؟!
احفظ العهد بإحسان ورفق
ألا فاشهدوا يا سكان القبور. . .
(حلوان)
ترجمة
محمد أمين نور الدين
المحامي(497/32)
رسالة الشعر
يا ريح الشتاء!
(إلى الصديق الدكتور المبارك أهدي هذه العاصفة)
للأستاذ محمود الخفيف
اِعْصِفِي يَا رِيحَ الَّشتاءِ اعْصفِي ... مِلَْء سَمْعِي وَنَاضِري
اِصْفِري يَا ريحُ اصْفرِي واعْنُفيِ ... مَثِّلي مَا بخَاطِرِي
صَرْصِري، ثم صَرْصِري وَصفِي ... بَيْنَ جَنْبَيَّ ثوَرَة الثَّاِئرِ!
اِعْصِفِي يَا رِيحَ لاَ تَسْكنُي ... أْرِعِشي كلَّ جَانِب
اِغضَبِي يَا رِيحَ اِغضَبِي إنَّني ... عَاشِقٌ كلَّ غَاضِبِ
أمعنِي. . . هيه. . . أمْعنِي، أمْعنِي ... عَلِّمينِي مِنْ لَحِنِك الصَّاخِبِ
عَفِّرِي، عَفِّرِي هنا، عَفِّرِي ... وَعَلى الُبْعِد عَفِّرِي
غَبِّرِي الَجْوَّ غَبِّرِي ... رَاقَ ليِ أنْ تُغَبِّري
كلَّ صفْوٍ ذَكَرْتُهُ عَكِّرِي ... كلَّ ضَعْفٍ أوْدِي بِهِ أقْبِرِي
ياَ رِيَاَح الشِّتاءِ لاَ تَهْدَئِي ... إِيهِ يَا رِيحُ دَمْدِمِي
عَجِّليِ بالصَّفِير لاَ تُبْطئِي ... يَا لهُ مِنْ مُعَلمِ!
الأَهَازِيجُ عِفْتُها فَادْرَإِي ... سأماً بَاتَ طُولهُ مُسْقِمي
أقْبِلي يَا رِيَاحَ ذَارَيةً ... أينمَا سِرْتِ عَاصِفَةْ
أنسُ رُوحِي إِنْ لْحتِ آتيَةً ... أنْ أرَى الأَرَضَ رَاجِفةْ
ليتَ رُوحاً ليِ مِنْكِ عَاِتَية ... لَيْتَ صَوتاً كالرَّعْدَةِ القاَصِفةْ
زَلْزِلي كلَّ سَاكِنٍ ناَعسِ ... وَاحْطِمِي كلَّ جَاِمِد
واكْنُسي كلَّ يَابسٍ دَارِسِ ... عَاقِر العُودِ فاَسِدِ
واسْلُكي بَعْد مَسْلكَ الغاَرِسِ ... لا يُبَالي أيَّ امرئ حَاصِدِ
دَوِّخي الدَّوْحَ دَوِّخي وَابْعَثي ... بالأَعاصِيِر عَاتَيهْ
يَتَراقَصْنَ خِفيةً فاعبَثِي ... بِعَمَاليقَ راسِيهْ(497/33)
حَدِّثِيِني فِما أرَى حَدِّثي ... عنْ مَعَانٍ في مُهْجِتي ثاَويهْ
كلَّ لاهٍ أوْ مُبْصرٍ ذكِّرى ... كمْ لَهُ فِيكِ تذْكِرَهْ
سَيْطِري لاَ تُغَادري سَيْطري ... لكِ روَحٌ مُسَيْطرةْ
ألْهَمَتني في عَصْفِها أسْطُرِي ... غْيَر مَعْنًى أمْسكْتُ أنْ أذْكُرَهْ
الخفيف(497/34)
تحية (الرسالة)
للأديب عمر حافظ شريف
أشاهد من نور السنا ما أشاهدُ ... فأسأل خلي ما عسى أنت واجد
أذاك شعاع للرسالة أم ترى ... بدا للورى صرح من النور خالد
تمر بها الأيام يسمو مكانها ... وتسعى إلى غاياتها وتجاهد
كحكم ابن يعقوب لها النصر مرشد ... تطالعها الأعوام عشرٌ وواحد
كواكب سعد حالفتها وأقبلت ... تناصرها والكل للنور ساجد
أضاءت محاريب البيان بسحرها ... فحازت مكاناً تبتغيه الفراقد
هي السحر والنبراس تبدي لنا الهدى ... بآياتها للقلب والعقل قائد
فسيري يواليك الكمال إلى العلا ... لك الشعر وشيٌ والمعاني قلائد
عمر حافظ شريف(497/35)
البريد الأدبي
التوأمان
قيض لي أن أزور توأمين ذكرين في العشرين من العمر متماثلين من جهة الصورة والأخلاق والوجدان والذكاء.
ومن طريف ما يذكر أن الأم تعرف أول من رأى منهما النور، وقد أخبرتني أن ولادتهما كانت يسيرة وأن الفرق بين عمريهما خمس دقائق.
مات أبوهما منذ بضع سنوات وقامت بأودهما أختهما التي تكبرهما بنحو خمس سنوات. وتحدب أمهما عليهما وتعاملهما على قدم المساواة. وقد علمت أنهما نشآ في بيئة واحدة وعاشا في ظل ظروف واحدة. وما زالا يتعلمان حرفة واحدة هي البرادة.
والعجيب أنهما يخطئان في نفس المسائل التي يطلب إليهما حلها. وقد اتفق أن رسب أحدهما في الامتحان لمرضه بينما نجح الآخر، ولعدم معرفة تميز أحدهما من الآخر في المدرسة أعيد امتحان الناجح منهما على اعتبار أنه الراسب فنجح للمرة الثانية في نفس السنة.
قالت لي أمهما: إنهما عندما كانا رضيعين كانا يستيقضان في نفس الوقت تقريباً أثناء الليل فترضعهما معاً.
ومما ذكرته لي أختهما: أن أحدهما حضر على عجل إلى المنزل فلم يجد أخاه فترك المنزل حالاً بحثاً عن أخيه، وفي هذه الأثناء حضر أخوه باحثاً عنه فلم يجده فترك المنزل على الفور، وتكرر هذا الأمر مرات عديدة إذ لم يملك أحدهما الصبر لينتظر أخاه ريثما يحضر.
وعلى الرغم من أن هذين التوأمين يحب أحدهما الآخر حباً جماً، فقد انتابت أحدهما نوبة هستيرية دلت على ما يخالج عقله الباطن من الغيرة الشديدة من أخيه. وفي هذه النوبة فقد قوة معرفته لأفراد العائلة، ولكن أول عمل قام به أثناء هذه النوبة ضربه أخاه ضرباً مبرحاً وهو لا يدري أنه أخوه، ولكن عقله الباطن كان بذلك بصيراً، على أن عقل أخيه الباطن لم يكن خالياً من هذه العقدة فكان لا بد لهذه العقدة من أن تعبر عن نفسها على الصورة التي عبرت بها عقدة الأخ المريض.
وقد أمكن بالتحليل النفسي شفاء المريض وإنقاذ الأخ من الاستسلام لنوبة هستيرية مماثلة.(497/36)
محمد حسني ولاية
طبيب بصحة بلدية الإسكندرية
قصيدة حافظ النونية
. . . قال صديقنا الدكتور زكي مبارك في العدد السابق من الرسالة: (ونحن في مقام التأريخ وهو مقام يوجب الصدق. فلينظر المتسابقون في ص87 بالجزء الثاني من ديوان حافظ، ليروا أن قصيدته التي نظمها عن مظاهرة السيدات في سنة 1919 لم تنشر إلا في سنة 1929، ومعنى ذلك أنها كتمت نحو عشر سنوات) ثم قال مخاطباً الطلبة: (أتريدون الحق؟ لقد نسبت تلك القصيدة في ذلك الوقت إلى جماعة من الشعراء منهم الأستاذ محمد الهراوي، ولم ير حافظ أن يصحح النسب لئلا يقال أو يقال!)
والحقيقة التي أعرفها عن هذه القصيدة بالذات هي ما يأتي:
كنت في مجلس من مجالس السياسة والأدب، ولم تكن المجالس على أنواعها في ذلك العام السعيد سوى مجالس للثورة والحياة، وإذا بالمرحوم سليم سركيس مقبل علينا بوجه مشرق ولهفة بادية المعاني وقال: أخبار اليوم هي أخبار حافظ، ومد يده إلى جيبه فأخرج منها ورقات وأخذ يتلو علينا القصيدة النووية التي نحن في صددها، ومطلعها:
خرج الغواني يحتججن ... ورحت أرقب جمعهن
نسخت القصيدة، وهي بخط المرحوم حافظ إبراهيم وبعثت بها إلى الصحف السورية التي كنت أراسلها آنذاك، وقد نشرها المرحوم سركيس بمجلته المعروفة باسمه
فلا يعقل والحالة كما ذكرت أن تنسب تلك القصيدة إلى غير ناظمها، وقد سمعته ينشدها في أحد المجالس، ولا أن يقال إنها كتمت عشر سنوات.
حبيب الزحلاوي
إجابة
الكيك والكيكة في اللسان العربي مثل البيض والبيضة وزناً ومعنىً، ولهذا أرى أن منه المأكول المعروف الذي يقال له (كيك)(497/37)
طلاء - بالضم - الزكام
(وحيد)
أصدقاء. . .!
قيل إنني كتبت كلمة في مجلة الثقافة أحد بها من استطراد الباحثين في (لغوية) شغلت أذهان رهط من فضلاء الباحثين عدة أسابيع، متعلياً بهم أن يجرهم التحمس لآرائهم في هذه الهاجسة إلى المنابذة. وقيل إن الكلمة كانت غذاء متخماً لشهوة الخلاف، حين التهمها الاستغلال الصحفي (لقاف الثقافة) الأستاذ محمد سعيد العريان، فخدش أمانة القلم فيها. . . وعرضها بالطريقة التي كان من آثارها أن يرمد شعور الصداقة بيني وبين صديقي الكاتب البليغ الأستاذ (محمود شاكر) حتى خدزته شائعة الألم؛ فقال في كلمته بالعدد الماضي من الرسالة (عقل المرء مخبوء تحت لسانه) وأورد بيتاً من الشعر خانه ترويض غضبه به. . . وما لي بهذا شأن فهو انتقال من موضوع واضح إلى غبار مجرد لا أجيد التطارح به ولا سيما مع من له في رأيي ونفسي ما لمحمود شاكر
وأنا أقول إني عند رأيي في فكرة الموضوع، على غير قصد شائك لحضرات الأدباء الذين ورد ذكرهم. أما صداقتي بالأستاذ شاكر فهي اعتي من أن يوهنها نمل الصحافة، أو يسكر بصدعها (قاف الثقافة). . .!
محمود إسماعيل
إلى الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
تعجبني أفكارك يا سيدي، ويسرني منهاجك المستقيم في البحث والنقاش؛ ولكني لم أستسغ أن تتهمني في كلمتك الأخيرة على غير أساس، بتهمة وجهتها إليك على أساس. . .
كنت قد قلتُ إنك تشايع بعض المستشرقين القائلين بنزول القرآن بمعانيه دون ألفاظه، حين تزعم أن الرسول عليه الصلوات كان ممن يبدلون لفظاً بلفظ آخر يغايره في معناه، لمجرد التشابه بين حروف اللفظيين والتباسهما على القارئ بطريق ما. وقد جعلت هذا دون غيره أساساً لتهمتي؛ ولم أضف إليه وقتذاك ما زعمته أيضاً في كلمتك من أن هذا التبديل كان من(497/38)
حق كل مسلم عربي دون رجوع فيه إلى الرسول حين (يكون بعيداً عنه فيتعذر رجوعه إليه. . . ثقة بملكة العربي في ذلك الوقت)!
وهذا نص تعبيرٍ لك لم أرد أن ألح عليك بالإشارة إليه ثقةً مني بأن صدوره لم يكن إلا نتيجة سرعة تحريرك، وسبق قلمك لمجرى تفكيرك، ولكنك تأبى يا سيدي وقد تبرأت من تهمة الأخذ برأي أولئك المستشرقين - في غير حجاج مقنع - إلا أن تعود فتنسبها إلي، لأني كما تزعم (حملت كل مالا يدخل من القراءات في باب اختلاف اللهجات على التصحيف، ولم أفرق في ذلك بين قراءات شاذة ومتواترة). وأنت تعرف أني لم أزد في كلامي عن هذا التصحيف على ما أورده السيوطي؛ بل لقد أتيت بما يشكك في قوله حين ذكرت أن صاحب الكشاف مع أكثر المفسرين يعتبرون هذا النوع من الكلام قراءة صحيحة لا تصحيفاً
فما كان أجراك يا سيدي وقد نفيت التهمة عن نفسك ألا تعود فتلصقها بمن لوح إليك بها في تأدب مع إقناع، لأن من دأب الفضلاء وأنت أحدهم، أن يميطوا الأذى عن طريقهم - إذا شاءوا - لا ليطرحوه مرة أخرى في طريق الناس.
ولك أزكى تحياتي واحترامي
(جرجا)
محمود عزت عرفة
تاريخ وفاة ياقوت
أورد الأستاذ البحاث محمود عزت عرفة في العدد 494 من مجلة (الرسالة) شبهة في تاريخ وفاة ياقوت الرومي الحموي. والذي يبدو أن وفاته كانت سنة 626 كما أجمع عليه المترجمون له؛ وأما الجملة المقحمة في النسخ المطبوعة من معجمه أثناء كلامه عن الحسن بن الباقلاني، وهي (لقيته ببغداد سنة 637. . .) فالراجح أنها كانت مزيدة في الهامش من صاحب النسخة الأصلية المخطوطة، أو من أحد المطالعين فيها، ثم أدرجها النساخ في الكتاب، كما يقع كذلك كثيراً ولا سيما في كتب التاريخ، فترى نظائره في تاريخ بغداد للخطيب ووفيات الأعيان وفوات الوفيات وحسن المحاضرة وغيرها، فإن فيها وفيات أناس(497/39)
ماتوا بعد المؤلف. وقد أصاب الأستاذ عرفة في الإشارة إلى ما يؤيد أن يكون ذلك مقحماً في المعجم بعد وفاة ياقوت
فنرجو الدكتور أحمد فريد بك رفاعي ناشر المعجم أن يكون محققاً فيما ينشره من آثار السلف.
محمد غسان
غلطة تاريخية
قال الدكتور زكي مبارك في مقالته عن الشوقيات أثناء الكلام عن قصيدة (النيل) ما نصه:
. . . ولم يفته أن ينص على عدالة عمرو بن العاص الذي ضرب ابنه بالسوط حين سمع أنه أهان أحد الأقباط وقال في ذلك كلمته التاريخية: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً
فعزا هذا الضرب إلى عمرو بن العاص مع أن الضارب هو مصري ضرب أبن عمرو بأمر الخليفة عمر، وأسند الكلمة التاريخية إليه مع أن المعروف أن القائل هو عمر الفاروق. أنظر الصفحة الثانية من الجزء الثاني من كتاب (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة)
وهبي الحاج إسماعيل حقي
مجلة الانتصار
استقبلت زميلتنا (الأنصار) عامها الهجري الثالث فصدرت في أول المحرم حافلة بالأبحاث القيمة والموضوعات الجديدة، متقدمة إلى القراء بأسلوبها الخاص في خدمة الفكرة العربية والثقافة الإسلامية، معتمدة في تناول الثقافة العصرية على أساس البحث العلمي. والعدد الجديد الذي قرأناه من الأنصار يدل على تقدمها خطوة واسعة في سبيل فكرتها فنتمنى لها النجاح والتوفيق.
المفضليات
تناولت كتاب المفضليات للرضى الذي خرج أخيراً للناس بتحقيق وشرح الأستاذين الشيخ(497/40)
أحمد محمد شاكر والسيد عبد السلام محمد هارون، وكنت أظن أني سأجده لا يمتاز من طبعته الأولى إلا ببعض شروح وتحقيقات، ولن ما كدت أقرأه فاتحته حتى رأيتني أمام عمل جليل يستأهل النظر فيه، ويستوجب الإقبال عليه، ذلك أني وجدت الشارحين قد صحت نيتهما على نشر نفائس الشعر العربي في العصور الأولى وما بعدها، وذلك لأن هذا الشعر (ديوان العرب وترجمان أفكارهم وعنوان مفاخرهم ورافع ألوية عظمتهم، ثم هو المرآة الصادقة لحياتهم) ورأيا أن يبدأ بنشر كتب الأئمة المتقدمين التي اختاروا فيها عيون الشعر ومحاسنه
فهذه المفضليات التي ظهرت اليوم إن هي إلا حلقة من تلك السلسلة الذهبية التي سينشرونها من نفيس الشعر؛ وهذا ولا ريب عمل جليل طالما تمنيناه وعدنا إليه. ولو أنك قرأت هذا الكتاب لوجدت فيه بحثاُ قيماً عن أصل المفضليات وتاريخها لا تجد مثله في كتاب آخر
ومما انفرد به شرح هذا الكتاب أنه قد اشتمل على أمرين لم نجدهما في شروح كتب الأدب قبل اليوم أولهما (التخريج) وثانيهما (جو القصيدة) وهذان الأمران قد جاءا من طريقة المحدثين إذ التخريج عندهم هو بيان الكتب التي تخرج الحديث الديني يبين ما فيه من معنى وما كان له من سبب
ولا نطل الكلام عن هذا الشرح وما فيه من الفوائد الجزيلة في اللغة والصرف والنحو والبلاغة وما إلى ذلك، وبحسبنا أن نقول إنه بمثل هذا الشرح الذي أخذ نصيبه من التحميص والتحقيق والاستيعاب يجب أن ينشر تراثنا القديم، حتى يؤدي في هذا العصر ما كان يؤديه شيوخ الرواية من قبل بعد أن أصبحنا ولا سبيل لأخذ اللغة وآدابها إلا من الكتب
وأنا نرجو أن يوفق الله الشارحين في عملهما حتى يخرجاه في أجمل صورة وأكمل وجه.
(المنصورة)
محمود أبو ريه(497/41)
العدد 498 - بتاريخ: 18 - 01 - 1943(/)
5 - دفاع عن البلاغ
آلة البلاغة
آفة الفن الكتابي أن يتعاطاه من لم يتهيأ له بطبعه ولم يستعن عليه بأداته. وأكثر المزاولين اليوم لصناعة القلم متطفلون عليها، أغراهم بها رخص المداد وسهولة النشر وإغضاء النقد، فأقبلوا يتملقون بها الشهرة، أو يُزَجون بها الفراغ، أو يطلبون من ورائها العيش، وكل جَهازهم لها ثقافة ضحْلة وقريحة مَحْلة ومحاكاة رقيعة؛ ومن هنا شاع المبتذل وندر الحر، ونفق الرخيص وكسد الغالي، وكثر الكَّتاب وقلت الكتابة
وادعاء الكتابة داء لا ينتشر إلى حين تضعف السلائق وتفسد الأذواق وتطغى العامية، فيصبح التفيهق علماً، والشعوذة فنّاً، والثرثرة بلاغة، واللحن تجديداً، والركاكة رقة. وفي مثل هذه الحال قال صاحب المثل السائر: (ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طامعاً في هذا الفن مدعياً له على خلوه من تحصيل آلاته وأسبابه. ولا أرى أحداً يطمع في فن من الفنون غيره ولا يدعيه. هذا وهو بحر لا ساحل له، يحتاج صاحبه إلى تحصيل علوم كثيرة حتى ينتهي إليه ويحتوي عليه. فسبحان الله! هل يدعي بعض هؤلاء أنه فقيه أو طبيب أو حاسب أو غير ذلك من غير أن يحصل آلات ذلك ويتقن معرفتها؟ فإذا كان العلم الواحد من هذه العلوم الذي يمكن تحصيله في سنة أو سنتين من الزمان لا يدعيه أحد من هؤلاء، فكيف يجيء إلى فن الكتابة وهو ما لا تحصل معرفته إلا في سنين كثيرة فيدعيه وهو جاهل؟)
وعجبُ ابن الأثير لن ينقضي حتى يعتدل الزمان بأهل العربية فتنضح الحدود، وتستقيم الموازين، وتصح الأقيسة، فلا يتدخل أعجمي في نسب آل البيت، ولا يجري حمارٌ في حَلبة الكميت!
أما بعد فإن آلة البلاغة الطبع الموهوب والعلم المكتسب. والمراد بالطبع ملّكات النفس الأربع التي لابد من وجودها في البليغ، ولا حيلة في إيجادها لغير الخالق. وهي الذهن الثاقب، والخيال الخصب، والعاطفة القوية، والأذن الموسيقية. فإن كنت على يقين جازم من وجود هذه الملكات في نفسك فامض على ضوئها في طلب هذا الفن فإنك لا محالة واصل.(498/1)
وسألقي عليك بعض الأسئلة لتعلم من أجوبتك عنها إن كنت موهوباً أو غير موهوب:
هل يتأثر خيالك في يسر ويتحرك فؤادك في سهولة، ثم يكون بين الخيال والقلب تجاوب سريع؟ هل تجد لأذنك الحساسية الرهيفة لانسجام الألفاظ وازدواج الفِقر وإيقاع التراكيب؟ هل يملك مشاعرك جمال البلاغة في روائع الشعر والنثر؟ هل تحس في نفسك السمو إذا حَمَّسها الاطلاع على النماذج الرفيعة من البلاغة فتتحرك للمنافسة والمباراة؟ هل تشعر حين يتجه فكرك إلى موضوعٍ ما أن فكرته الجوهرية الأولية لا تلبث في ذهنك أن تحيا وتنمو، ثم تتشكل وتتلون، ثم تتوالد وتنتشر؟ هل تشعر بالحاجة الملحة والتوَقان الشديد إلى الإنتاج الناشئ عن فيض القريحة وحرارة الفكر؟ هل يسهل عليك إدراك العلاقة بين الأفكار المجردة والموضوعات المحسَّة فتخرجها في الصور المقبولة والألوان المناسبة؟ هل تتمثل المعاني في ذهنك من تلقاء نفسها على أفضل الوجوه الصالحة للتعبير والتصوير؟ هل تحس حين تفكر في موضوع شعري أن العواطف تنثال على نفسك ثم تتزاحم وتتدافع طالبة الانبثاق والتدفق؟
إن كانت أجوبتك عن هذه الأسئلة بنعم، فتعال ننظر معاً في الآلة الأخرى للبلاغة فإنه لا مندوحة لك عنها إذا شئت أن تستغل ما وهبك الله من قريحة خصبة وملكة مواتية
آلة البلاغة الأخرى هي العلم بمعناه الأعم، أو المعرفة بمدلولها الأشمل. فالكاتب، إذا كان ناقص العلم أو قليل الإطلاع، يدركه الجفاف والنضوب فلا يكون في آخر أمره إلا سارد ألفاظ ومقطّع جمل. ذلك أن معارف الكاتب هي منابع إنتاجه. وألوان المعرفة له كألوان التصوير للمصور يجب أن تكون كلها على اللوحة قبل أن يقبض على الريشة. والمعارف لا تستفاد إلا بمواصلة الدرس وإدمان القراءة.
وأقل ما يجب على طالب البلاغة درسه، هو اللغة والطبيعة، والنفس
أما اللغة فلأنها أداة القول والكتابة. وللثقافة العامة منها قدر مشترك يجب تحصيله على كل مثقف؛ ولكن الكاتب أو الشاعر محتوم عليه أن يدرسها دراسة خاصة: يتضلع من مادتها، ويتعمق في فقهها، ويتبسط في أدبها، ويحيط بعلومها، ويوغل ما استطاع في استبطان أسرارها، واستقراء أطوارها، حتى تكون للسانة وقلمه أطوع من الشمع ليد المثّال الماهر. ومن زعم أن النحو والعروض وسائر علوم اللسان لا ينبغي حذقها لغير الأزهريين فهو(498/2)
هازل لا يريد أن يكون شيئاً مذكوراً في هذا الفن
ولكل لغة من اللغات المتمدنة عبقرية تستكنّ في طرق الأداء وتنوع الصور وتلاؤم الألفاظ؛ وهذه العبقرية لا تدرَك إلا بالذوق؛ والذوق لا يُعَلَّم، وإنما يكتسب بمخالطة الصفوة المختارة من رجال الأدب، ومطالعة الروائع العالمية لعباقرة الفن. واطلاع الكاتب على النماذج الرفيعة من البيان الخالد يرهف ذوقه، ويوسع أُفقه، ويريِه كيف تؤدى المعاني الدقيقة، وتحيي الكلمات الميتة
ولقد علمتَ أن الجاحظ والبديع والخوارزمي في الكتّاب، وأبا نواس وأبا تمام وأبا العلاء في الشعراء، كانوا مضرب المثل في كثرة القراءة وسعة الحفظ. وكان فلويير لا يقع في يده كتاب إلا استوعبه. ولم يعالج روسو الكتابة إلا بعد أن حفظ مونتيني وبلوتارك. وبوسويه كان يحمل على ظهر قلبه التوراة وأحاديث الرسل ومواعظ الأحبار. وقد اعترف شاتوبريان بأنه كان يدمن قراءة برنار دي سان بيير. فإذا كان هؤلاء العباقرة قد رأوا أن الاستمرار على دراسة الروائع الأدبية ضروري لضمان الخلود، فإنه ولا ريب يكون لذوي القرائح الناشئة ضرورياً لاستكمال الوجود
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(498/3)
الثالوث الجامعي!
للدكتور زكي مبارك
هذا العنوان من ابتداع الأديب حسين فهمي صادق، وقد نَصّ في خطابه على أنه يَعني به الأزهر وجامعتي فؤاد وفاروق، وهو يسأل عن جوهر الحياة العلمية والأدبية في هذه الجامعات الثلاث، ويطلب أن (تُظهِر شيئاً يعلن عن نفسه على رءوس الأشهاد)
ومن قبل هذا الخطاب قرأت في مجلة الصباح مقالاً يسألني فيه الأستاذ عبد الحليم عبد البر عما صنع الأزهر وما صنعت دار العلوم في تخريج الأدباء، وكان من رأيه أن دار العلوم لم تخرج في ستين سنة ستين أديباً وأن الأزهر لم يخرج في ألف سنة ألف أديب (؟!)
وأقول إن الفكرة الجامعية لم تُشرح في مصر على الوجه الصحيح، ففي مصر أقوامٌ يتوهمون أن محصول الجامعة هو محصول مدرسيها في النواحي العلمية والأدبية، وهذا خطأ، لأن أساتذة الجامعات لهم صفةٌ غير صفة التأليف، هم يوجّهون ولا يُبدعون، إلا أن يكون فيهم رجالٌ مفطورون على الإبداع
الأستاذ في الجامعة لا يطاَلب بالمساهمة العلنية في نشر الثقافة العلمية والأدبية، وإنما يُسأل عن الصدق في توجيه الطلاب إلى فهم دقائق العلم الذي تخصص فيه، ومن حقه أن يتَسم بالخمول على أنه تشريف، ومن واجب الدولة أن تثيبه عليه، حين يصح عندها أنه خمول لا خمود
الأستاذ في الجامعة مسئول عن رعاية الأستاذية، والأستاذية نشأت في جوّ الرهبانية، فما يجوز له ما يجوز لسائر الرجال من مسايرة المجتمع في جميع الأحوال، إلا أن يكون فيلسوفاً يأخذ مادته الفلسفية من درس الأحلام والأهواء والأضاليل، وهذا نموذج لا يوجد في كل يوم، وإنما تُبدعه الأقدار من حين إلى أحايين
لأساتذة الجامعة واجبات نرجو أن يعرفها تلاميذهم على النحو الذي نريد، وتلك الواجبات ترجع في جملتها إلى خصيصة أساسية، هي الفناء المطلق في الدرس والبحث والتنقيب، ولو انتهى الأمر إلى أن يعيشوا مجهولين
فإن لم يكن بدٌّ من أن تتعرف الجامعة إلى الجمهور فذلك واجب الخِرّيجين، لا واجب المدرسين. وإليكم الشواهد الآتية:(498/4)
1 - نشاط كلية الحقوق لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من القضاة والمحامين، وهؤلاء هم البرهان على قوتها الذاتية
2 - نشاط كلية الآداب لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من المؤلفين والمترجمين والمدرسين والمفكرين، وهؤلاء هم البرهان على قوتها الذاتية
3 - نشاط كلية الهندسة لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من كبار المهندسين، وإليهم يرجع الفضل في شؤون تفوق الإحصاء
4 - نشاط كلية الطب لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من أطباء لهم مركز ممتاز في مصر والشرق
5 - نشاط كلية الزراعة لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل في خريجيها النوابغ، وقد أدوا خدمات جديرة بالثناء
6 - نشاط الأزهر لا يمثله أساتذة الأزهر، وإنما تمثله تلك الجيوش التي أخرجها الأزهر من وّعاظ وأساتذة وقضاة وباحثين
7 - نشاط دار العلوم لا يمثله أساتذة دار العلوم، وإنما يمثله المدرسون الذين أنجبتهم دار العلوم، ولهم في كل بلدة مصرية صوت
وعلى هذا يُقاس، فالأساتذة يوجّهون ولا يُبدعون، وأنا أرى أن المعاهد المصرية أدّت واجبها خير الأداء، فهي جديرة بالتبجيل.
هذا هو الرأي في تقدير الذاتية الجامعية من ناحية الصلة الخارجية، ولكني مع ذلك أرى من الواجب أن أرجع إلى هذا الرأي بشيء من التعديل فأقول:
يبدو لي أن ابتعاد الأساتذة عن المشاركة في الجانب العلني من الحياة العلمية والأدبية يعرّضهم لخطرين، فهو أولاً يهوّن أقدارهم في أنفس الطلاب، وهو ثانياً يضيع عليهم فوائد كثيرة، فوائد تخلقها مواجهة المجتمع في موجاته النفسانية والروحانية
والذي يعرف شيئاً من أحوال الشبان يلاحظ أن استفادتهم مما يقرءون تفوق استفادتهم ما يسمعون، فهم تلاميذ للكتاب والمؤلفين قبل أن يكونوا تلاميذ لأساتذة الكليات. وهذه الظاهرة لا تحتاج إلى توضيح
وإذن يجب على أساتذة الجامعة أن يخلقوا لأنفسهم جواً خارجياً يساعد على تجديد الهواء(498/5)
في جو الكليات، ويشعر الطلبة بأن لأساتذتهم قدرة على فهم ما في المجتمع من آلام وآمال، ويبدد الشبهة التي تزعم أن الأساتذة يعيشون في زمانهم غرباء
والحق أن الأدب الذي يقف عند درس الكتب وتحقيق الأسانيد هو (أدب الجماجم) لا أدب الأرواح
والنصوص القديمة لا تفهم جيداً إلا إذا عولجت بالروح الجديد، وقد كان أستاذنا برونو يوصينا بأن نتسمّع لما يدور من المحاورات في قهوات باريس، عسانا نستفيد شيئاً ن المرونة التي يبدعها الحوار الخالي من شوائب التكلف والافتعال
والحق أيضاً أن الرهبانية التي حاصرت حياة الأستاذية لم يبق لها في هذا العصر مكان، فهي تزمتٌ موروث عن عصور الرياء، وهي الثوب الذي يدارى الهزال عند بعض المهازيل
هل تعرفون السبب في ضعف الفكرة التشريعية عند مدرسي القوانين في هذا الجيل؟
يرجع السبب إلى أن أكثر أولئك المدرسين لم تكتو أيديهم بنيران المعاملات، فلم يعرفوا احتياج التشريع إلى التجديد الموصول
وسيأتي يومٌ نعرف فيه أن تدريس القوانين يجب أن يوكل إلى قدماء المحامين، لأن صلتهم بما في المجتمع من متاعب ومصاعب تبّصرهم بما يعتور الفكرة التشريعية من عقابيل
وما يقال في أساتذة الحقوق يقال في أساتذة الآداب
فأستاذ الأدب يجب أن يكون أديباً بالقول والفعل، أديباً مبدعاً لا أديباً مدرساً، أديباً من رجال الصناعتين: صناعة الشعر وصناعة الكتابة
بين الكلمة والكلمة صلات لا يدركها إلا من عانى المكاره التي يوجبها ضم كلمة في الحدود التي يوجبها روح البيان
الكلمة في المعجم غير الكلمة في الجملة؛ هي في المعجم سمكة محنَّطة، وهي في الجملة سمكة حية، وبين موت الكلمة وحياتها برزخٌ لا يَعبُره إلا من يملك إنقاذها من الموت، وهو الأديب الفنّان
ومن مقاتل الأستاذية في الأدب لهذا العهد أن بعض الأساتذة لا يلتفتون لا يلتفتون إلى الوشائج الأصيلة بين الأدب وسائر العلوم والفنون، مع أن أسلافنا نصوا على هذه الوشائج(498/6)
منذ أجيال وأجيال
كل ما في الوجود مواد أساسية لعقل الأديب، وروح الأديب. هو مسئول عن فهم جميع الحقائق بقدر ما يستطيع، وفي حدود ما يطيق
فهل ترون أستاذ الأدب يقل في المسئولية عن الأديب؟
آفة الأستاذية في هذا العصر أنها صارت وظيفة، وجّو الوظائف عجيبٌ غريب. ألم تسمعوا أن رجالاً تركوا كراسّيهم في الجامعة ليظفروا بوظائف ضخمة الرواتب؟
الغرض من هذا الكلام هو توجيه أساتذة الأدب إلى فهم واجباتهم الحقيقية، وأنا أحذِّرهم عواقب ما اطمأنوا إليه من الرضا بزخرف الحياة الجامعية، فزمام التوجيه الأدبي كاد يضيع من أيديهم، إن لم يكن ضاع
كان في مصر قتال بين الأفندية والمشايخ، وكان المفهوم أن الأفندية رجال الدنيا وأن المشايخ رجال الدين
ثم دار الزمن دورته فأصبح كتاب المباحث الإسلامية رجالاً مطربشين، أشهرهم فريد وجدي ومحمد هيكل وعباس العقاد
وإن طال سبات رجال الأدب من أهل (الثالوث الجامعي) فستكون لهم مصاير لا يعلمها غير علام الغيوب
أذهان الطلاب في الجامعات الثلاث محتلة بأفكار وآراء لم تصدر عن تلك الجامعات، فمن يمنّ على هؤلاء الطلاب بنعمة الاستقلال؟
من يدري؟
لعل الخيرة فيما اختاره الله! ولعل الله أراد أن تكون وظيفة الأدب وظيفة روحية لا رسمية! ولعل الله أراد لطلبة الجامعات خيراً مما نريد، فأباحهم ما في الحدائق الخصوصية والعمومية من أزهار وثمرات
من يدري؟ من يدري؟
الهواء الطلق هو الأصل، وهل تنفَّس سقراط وأفلاطون في كلية لها جدران وأبواب؟
الحرية الروحية والعقلية هي أساس العبقرية، ولا حياة لأدب لا يتمتع بحرية العقل والروح
لم تقبل جامعة باريس أن يكون جوستاف لوبون أستاذاً للفلسفة بالسوربون، لأنه دكتور في(498/7)
الطب لا في الآداب، فهل أنصفت جامعة باريس؟
وهل كان أستاذنا فلان الذي أضحكني مضغه للألفاظ اليونانية الميتة أعرف بدقائق الفلسفة من جوستاف لوبون؟
كان أستاذنا ذاك مقبول الرأي في أكثر ما يقول، إلا حين يمضغ الألفاظ اليونانية، وعند الدكتور مصطفى زيور نوادر لذلك الأستاذ الجليل!
كنا ندخل عليه فيهولنا أن نراه يترجم ويبرجم بأسلوب فظيع، وهو يعرف أن اليونانية القديمة لن تبعث أبداً، وهل بعثها اليونان حتى يبعثها الفرنسيس؟
آلآن فهمت كيف احتلت برلين باريس؟
كان الأساتذة الذين يراجعون رسالتي المقدمة إلى السوربون يكرهون أن يقع فيها بيت من الشعر، لأن موضوعها هو النثر الفني
وشكوت هذا التحكم إلى المسيو ديبويه فقال: إن جامعة باريس محتلة بالفكر الألماني منذ انتصار الألمان في حرب السبعين، والألمان غاية في التدقيق والاستقصاء
ثم ماذا؟
ثم عرفت بعد لأي أن الألمان خدعوا الفرنسيس بزخرف الوسوسة البحثية، ليصرفوهم عن التفكير في إعداد وسائل الموت لمن يعادون
كانت فرنسا بعد انتصارها في الحرب الماضية تتوهم أن غاية المجد أن يكون لها معهد مثل السوربون، وكانت تصرّح بأن الشهادات التي تعطيها الجامعات الألمانية شهادات تجارية، وأنها بذلك تتودد إلى الأغنياء من الطلبة الغرباء
وكان الأمر كذلك بالفعل، وكانت النتيجة أن لا تقيم الحكومة المصرية وزناً للشهادات الألمانية، لأنها شهادات مبذولة بلا تعب ولا عناء، كالشهادات التي تعطيها أمة الطليان
ثم ظهر أن لألمانيا سريرة غير سريرة السوربون، وهي النية المستورة لأكابر الفلاسفة من الألمان
وهنا أشهد أني قرأت بالفرنسية نحو خمسين كتاباً تصور انحلال الألمان من الناحية المعنوية بسبب طغيان الشهوة الجنسية
فهل التفت الألمان إلى هذا الاتهام الخسيس؟(498/8)
مضوا يعملون في السراديب الخفية ليلقوا خصومهم بعد حين أو أحايين
أما بعد فالأدب عندي هو أن تسبق زمانك، وأن تقتل خصومك. الأدب عندي أن تكون قوة تزلزل الزمان، ولا تقنع بشهادة التاريخ
لأساتذة الجامعات شواغل من العلاوات والترقيات والدرجات، فدعهم في غيهم يعمهون، واجعل همك الأول والأخير أن ترفع راية القلم البليغ
زكي مبارك(498/9)
أطوار الوحدة العربية
المفوضات بين العرب والحلفاء
للأستاذ نسيب سعيد
قلت لك في حديثي الماضي أن الحالة بلغت أشدها من التوتر والجفاء بين العرب والترك، ما ينذر بشر مستطير، بل بثورة عربية كبرى، وغضبة مضربة جبارة. . . وأقول لك اليوم إن البريطانيين ما كانوا غافلين عن كل ذلك، وعما هنالك أيضاً من نضال داخلي، ومشادة سرية بين (الحسين) و (الاتحاديين) ذاع خبرها واشتهر أمرها
وكان اللورد (كتشنر) معتمد بريطانيا العظمى في مصر قبيل الحرب الماضية، ووزير حربيتها في أبانها، أول سياسي بريطاني عمل للتقرب بين العرب والحلفاء، وخاصة بين (آل الحسين) والإنجليز، وسعى لإنشاء صلات ودية منهم وبين حكومته، أملا في اجتذابهم واكتسابهم بعد ما اكتسب الألمان الترك
ففي أواخر شهر سبتمبر (أيلول) عام 1914 وصل إلى مكة تاجر مصري من حي الجمالية اسمه علي أفندي أصفر يحمل إلى الشريف عبد الله (أمير شرق الأردن اليوم) من المستر (ستورس) السكرتير الشرقي لدار الحماية كتاباً خاصاً عن الصداقة العربية - البريطانية، فلم يطلع الأمير عبد الله والده (الحسين) على الكتاب بل أكرم الضيف المصري وصرفه بسلام. غير أن الرسول عاد بعد أسبوعين يحمل كتاباً آخر من المستر (ستورس) نفسه كله وصداقة وإخلاص، فاطلع الأمير حينئذ والده على الكتابين، وبحثا في الأمر مليا
وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1914 عاد السيد علي المصري إلى الحجاز يحمل كتاباً ثالثاً من المستر (ستورس) كان السبب في ابتداء المفاوضات والمكاتبات بين العرب والحلفاء بصورة عامة، وبين الحسين والإنجليز بصورة خاصة
وفي شهر أكتوبر 0تشرين الأول) عام 1915 عقد (مؤتمر الطائف) بين الحسين وأنجاله، وفيه قرروا إعلان الثورة العربية بالاتفاق مع البريطانيين على أساس استقلال العرب وتحريرهم ووحدتهم. ومما قرروه في هذا المؤتمر أيضاً أن يعود الأمير فيصل (ملك العراق بعد ذلك رحمه الله) إلى الشام فيتصل برجال العرب فيها، وكانوا يفكرون في أن تبدأ الثورة هنا في ديار الشام فيدرس التدابير ويضع الخطط لتكون عامة تشمل الحجاز(498/10)
والشام والعراق، وأن يسافر الأمير علي إلى المدينة ويقيم فيها تحت ستار قيادة المتطوعين، فيتفق مع شيوخ القبائل وينظم أمرهم استعداداً ليوم الثورة، وأن يتولى الأمير عبد الله تنظيم قبائل الطائف والقبائل المجاورة لمكة، ويعد معدات العمل، وأن يشترك كذلك مع والده في المكاتبات والمفاوضات التي تدور مع البريطانيين. ولما رجعوا من الطائف انصرف كل منهم إلى إتمام ما اختص به من المهمات
وبينما كانت المفاوضات والمكاتبات السرية تدور بين دار الحماية البريطانية بمصر وشريف مكة بالحجاز، كان المستر (ستورس) يتصل بأقطاب حزب اللامركزية العربي في القاهرة، ويباحثهم في (القضية العربية)، ويدعوهم إلى زيارته في قصر الدوبارة ويسألهم عن خططهم وبرامجهم فيما لو دخلت تركيا الحرب، وماذا يكون موقفهم لو عمل الحلفاء على استقلال بلاد العرب، وهل يستطيع أبناء العروبة مؤازرتهم والنهوض بأعباء استقلالهم، فأجابوه:
(إن العرب يتمون استقلال وطنهم وإعادة غابر مجدهم وعزهم إذا كان لابد من انهيار دولة الترك. وهم على استعداد تام لتأييد كل سانحة وبارقة ترمى إلى استقلال العربي مهما كان شأنها. . .)
ولقد دارت مكاتبات سرية يومئذ بين الشريف حسين باسم العرب، والسر هنري مكماهون نائب جلالة الملك بمصر باسم بريطانيا العظمى لأجل إعلان الثورة أدت إلى الاتفاق على البنود الخمسة التالية التي تمت الموافقة عليها في الشهر الأول مع عام 1916 وهي:
أولاً: تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، حدودها شرقاً: خليج فارس، وغرباً: بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات ومجتمعه مع الدجلة إلى مصبهما في خليج فارس ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود بأنها تحل محلها في رعاية وصيانة حقوق تلك الاتفاقيات مع أربابها أمراء كانوا أو من الأفراد
ثانياً: تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي تدخل كان(498/11)
وبأي صورة كانت في داخليتها، وبسلامة حدودها البرية والبحرية من كل تعد كان أياً كان الشكل، حتى ولو وقعت فتنة داخلية من دسائس الأعداد أو من حسد بعض الأمراء، تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع تل الفتنة، وهذه المساعدة في الفتن والثورات الداخلية تكون مدتها محدودة أي إلى حين تتم للحكومة العربية تنظيماتها المادية
ثالثاً: تكون ولاية البصرة تحت مشارفة بريطانيا العظمى إلى أن تتم للحكومة الجديدة المذكورة تنظيماتها المادية. ويعين من جانب بريطانيا العظمى في مقابل تلك المشارفة مبلغ من المال يراعى فيه حالة الحكومة العربية
رابعاً: تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاج إليه ربيبتها الحكومة العربية من الأسلحة والذخائر والمال مدة الحرب
خامساً: تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو من نقطة مناسبة في تلك المنطقة لتخفيف وطأة الحرب عن بلاد ليست مستعدة لها)
وظل الشريف حسين حتى بعد هذا الاتفاق الذي تم في شهر يناير (كانون الثاني) من سنة 1916 يعد ويسوف البريطانيين، وبعد العدة سراً للعمل الخطير، ويتأهب للوثوب. . .
وكان قد كتب إلى المندوب السامي في مصر كتاباً يعلمه بذلك فأجابه السر (أرثور مكماهون) في كتاب مؤرخ في 10 مارس (آذار) عام 1916 (6 جمادى الأولى سنة 1334) يقول فيه: (قد تلقينا رقيمكم المؤرخ في 14 ربيع الآخر 1334 عن يد رسولكم الأمين. وسررنا لوقوفنا على التدابير الفعلية التي تنوون اتخاذها وترونها موافقة للأحوال الحاضرة. إن حكومة جلالة ملك بريطانية العظمى تجيزها. ويسرني أن أخبركم بأن حكومة جلالة الملك وافقت على جميع مطالبكم، وإن كل شيء رغبتُّم بالإسراع فيه وفي إرساله هو مرسل مع رسولكم حامل هذا. وستحضر الأشياء الباقية بكل سرعة ممكنة. فتبقى في بور سودان تحت أمركم إلى حين ابتداء الحركة وإعلامنا رسمياً بها. وقد انتهت إلينا إشاعات مؤداها أن أعداءنا باذلون الجهد في أعمال السفن ليبثوا بواسطتها الألغام في البحر الأحمر، لإلحاق الضرر بمصالحنا هناك. فنرجوكم أن تسرعوا بإخبارنا إذا تحقق ذلك لديكم)
ومرت أربعة أشهر على هذا الاتفاق العربي - البريطاني قبل أن يطلق الشريف حسين(498/12)
بندقية من قصر الأمارة بمكة. وكان الحجاز كما قلنا يعاني من شدة الحرب وأهوالها أكثر من سواه من الأقطار العربية. فسدت أبواب البحر، وانقطع الحجيج، ونفذ القليل مما كان في البلاد من زاد، فضجت الناس، وهلك مئات من الجوع، وقد قال (الحسين) إنه ظل هو وأهل منزله سنتين يأكلون الدخن
مرت الأربعة أشهر وكان قد أصبح الأمير فيصل في مأمن من الأعداء، ولديه فوق ذلك من مالهم وسلاحهم ما لا يستهان به. وكانت الذخائر والسلاح والمال بدأت ترد عن طريق (بور سودان) من المصدر الذي أشار إليه المندوب السامي البريطاني في كتابه
فتوكل الشريف حسين علي الله، ونهض في صباح اليوم التاسع من شعبان سنة 1324 2يونيو (حزيران) عام 1916 قبل الفجر وبيده بندقية أطلقها طلقة واحدة كان لدويها صدى في جدة والطائف والمدينة، بل في سائر أنحاء العالم العربي
فأعلنت الثورة في مكة وجدة في اليوم الأول، وفي الطائف والمدينة في اليوم الثاني، وكان ما لدى العرب من القوات العسكرية موزعة متأهبة كلها، فحاصر الأمير زيد بجنوده قلعة (اجياد) بمكة وهجم الأمير عبد الله على الطائف، وكان الشريف محسن قائداً في جدة، والأميران علي وفيصل، وقد خرجا من المدينة يجمعان العربان ليحاصرا الترك فيها
وقد برهن أبناء الشريف على بسالة فيهم أظهرها القتال والصراع، وعززها الجلد في النضال والكفاح. ولم يمر شهر على حصار قلعة (أجياد) التي كانت تصب نارها على مكة، وخصوصاً على قصر الأمارة فيها، والشريف حسين في غرفته الخاصة في ذلك القصر يدير الحركة ولا يبالي بشظايا القنابل التي كانت تخترق السقوف والجدران؛ فلم يمر شهر كما قلنا حتى كلل الحصار بالنصر؛ فسلمت اجياد في 4 رمضان ثم استولى الأمير عبد الله على الطائف في 26 ي الحجة من تلك السنة
وفي 2 محرم عام 1335 الموافق يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1916 بويع الشريف حسين بالملك. وفي الشهر التالي اعترفت به دول الحلفاء الكبرى أي بريطانيا وفرنسا ملكاً على الحجاز، وجاء الأسطولان الإنجليزي والفرنسي إلى جدة يحملان إلى جلالة الملك تهاني تلك الدول، فخطب في حضرته أميرال الأسطول الفرنسي ودعاه بأعظم أمراء العرب(498/13)
ونختم حديثنا اليوم بكتاب صغير وجهّه إلى الشريف (حسين) خلف السر (أرثور مكماهون) في مصر المندوب السامي السر (ردجنلد ونجت) مؤرخ في 19 إبريل (نيسان عام 1927 و27 جمادى الثانية سنة 1335 وفيه ما يلي:
(فأؤمل ألا يبرح من بال جلالتكم أن الحكومة البريطانية هي التي تحترم المعاهدات، وهي حامية زمام الحق والعدل، والحليفة الوفية التي لا تخون العهود)
(دمشق)
نسيب سعيد
المحامي(498/14)
إلى الأستاذ البشبيشي
للأب أنستاس ماري الكرملي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
5 - نعم وكرامة
يا سيدي البشبيشي، إننا نستشهد دائماً بأقوال الفصحاء حينما نرد على أحد الأدباء. وقد بينا للقراء صحة قول أبناء مضر (حبا وكرامة) أما حضرتك فلم تذكر لنا أسم من قال: (نعم وكرامة) فننتظر استشهادك لنسلم لك بما تقوله، وإلى أن تفعل، نقول: إن قولهم: (حبا وكرامة) أصح من قولهم: (نعم وكرامة لكثرة ورود الأول في أقوالهم، وقلة ورود الثاني فيها
6 - المسكن والمسكن
الذي قلناه في الرسالة (782: 10): مَسكن. مَسكِن بكسر الكاف هو الأفصح، ولم نخطئ الأول إذ قلنا الأفصح، فهذا معناه أن مسكناً بالفتح فصيح لكن الأفصح بالكسر. ففي غنية الطالب في ص24 من الطبعة الأولى: (وإذا كانت العين مكسورة، فأبقها على كسرتها نحو: مجلِس، ومضرِب. وشذَّ المسجد والمغرِب، والمطلع، والمجزِر، والمرفِق، والمفرِق و (المسكِن) والمنسك والمنبت، والمسقط، فإنها جاءت بكسر العين، مع أن مضارعها مضموم. و (أجيز) استعمالها على الأصل) اهـ
7 - الجدُدُ أفصح من الجدُدَ
نعم، إن الجدُدَ بفتح العين واردة في كلام (بعضهم)، لكن أنسير على كلام (بعضهم) ونترك جمهورهم. أليس اتباع الجماعة أحسن وأسْلَم لنا من اتباع البعض؟ قال صاحب التاج في ترجمة آخر هذه اللفظة: (والأكثرون على الضم)
8 - رواية الأشعار القديمة
من المشهور عند الأدباء المحققين، إن رواية الأشعار القديمة، يجب أن تنقل عن الأقدمين، لا عن المحدثين، ولا سيما المتأخرون منهم، لأنهم عبثوا بكل شيء قديم، ولهذا يجب أن(498/15)
ننبذ نبذ النواة، ولو صحت روايتهم، أو وجهت توجيهاً حسناً، أو أُوْلت تأويلاً بديعاً، بل أبدع من رواية الأقدمين. والذي رويناه نحن نقلناه عن أصح كتاب رويت فيه أبيات أعشى باهلة، أي عن الديوان المروي عن أبي العباس ثعلب وشرحِهِ له، (المطبوع في مطبعة) دلف هلزهوسن في بيانه سنة 1927 بعناية رودلف جير ص266 وما يليها
وأما رواية الشيخ حمزة فتح الله فليست بشيء بالنسبة إلى قدم ثعلب وقد توفي سنة 297 للهجرة، وأما الشيخ حمزة ففي سنة 1336. فأين الثري من الثريا؟ وقد قيل في ثعلب إنه (كان راوية للشعر، مشهوراً بالحفظ، وصدق اللهجة، ثقةً حجة).
وأما الشيخ حمزة - رحمه الله - فما كان يعرف أن يوقع اسمه حينما كان مفتشاً بوزارة المعارف المصرية فقد كان يكتب (حمزة فتح الله مفتش أول اللغة العربية بنظارة المعارف العمومية) فكأن للعربية أولاً وأخراً، وكان هو مفتش أول اللغة تاركاً لغيره أن يكون مفتشاً لآخرها!
فإذا كان الشيخ حمزة فتح الله لا يحسن النطق بثلاث كلمات صغار فكيف نعتمد عليه وعلى روايته للشعر القديم؟ - فأين الطمطمانية من العربية المبينة؟ وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
فانصفنا يا سيدي البشبيشي، ولا تحد عن الصراط المستقيم، ذباً عن الصديق الحميم
9 - جمع أفعل وفعلاء على فعل
ليس لنا رأي خاص في جمع أفعل فعلاء على فُعل، وإنما نحن تابعون لرأي الفصحاء الصميم من الأئمة الأعلام. فقد قال سيبويه في كتابه (2: 211 من طبعة بولاق): (وأما أفعل، إذا كان صفة فإنه يكسر على فُعل، كما كسروا فعولاً على فُعل، لأن أفعل من الثلاثة وفيه زائدة، كما أن في فعول زيادة، وعدة حروفه كعدة حروف فعول، إلا أنهم لا يثقلون في أفعل في الجمع العين، إلا أن يضطر شاعر، وذلك: أحمر وحمر، وأخضر وخضر، وأبيض وبيض، وأسود وسود؛ وهو مما يكسر على فُعْلان. وذلك كحمران، وسودان، وبيضان، وشمطان، وأدمان
(والمؤنث من هذا يجمع على فُعل. وذلك: حمراء وحُمر، وصفراء وصفر. وأما الأصفر والأكبر فإنه يكسر على أفاعل. ألا ترى أنك لا تصف به كما تصف بأحمر ونحوه. لا(498/16)
تقول رجل أصفر ولا رجل أكبر. سمعنا العرب تقول الأصاغر كما تقول: القشاعمة والمصيارفة حيث خرج على هذا المثال. فلما لم يتمكن هذا في الصفة كتمكن أحرم، أجرى مجرى أجدل وأفكل، كما قالوا: الأباطح والأساود، حيث استعمل استعمال الأسماء. وإن شئت قلت: الأصغرون والأكبرون. فاجتمع الواو والنون والتكسير ههنا، كما اجتمع هنا الفعل والفعلان. وقالوا الآخرون ولم يقولوا غيره كراهية أن يلتبس بجماع آخر؛ ولأنه خالف إخوانه في الصفة فلم يتمكن تمكنها؛ كما لم يصرف في النكرة. ونظير الأصغرين قوله تعالى: بالأخسرين أعمالاً) اهـ
وفي مختار الصحاح: (الأسود: العظيم من الحيات، وفيه سواد والجمع الأساود، لأنه اسم، ولو كان صفه لجمع على فُعُل) اهـ
وفي لسان العرب في مادة (ج ح م): (الأجحم: الشديد حمرة العينين مع سعتهما. والأنثى جحماء، من نسوة جحم وجحمي). قلنا: وهو الصواب بخلاف ما جاء في القاموس، إذ قال: الأجحم. . . وهي جحماء والجمع جُحم ككتب وسكرى) اهـ
وكلام آثمة البصريين والكوفيين من صرفيين ونحاة ولغويين مبنى كله على الآيات القرآنية. ففي سورة الملائكة ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود). ولم يقل بيضاء ولا حمراء ولا سوداء.
وفي سورة الإنسان: (عاليهم ثياب سندس خضر)
وفي سورة يوسف: (وسبع سنبلات خضر)
وفي سورة الرحمن: (متكئين على رفرف خضر وعبقريّ حسان)
وفي سورة الكهف: (ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق). ولم يقل مرة واحدة خضراء
والآيات كثيرة ولم ترد فعلاء مرة واحدة صفة لجمع، أيّاً كان
وأما ما قاله سيدي وأستاذي البشبيشي: (نستطيع أن نحكم بجواز استعمال الوصف بهما مفرداً قياساً على قولهم: إن الجمع بمعنى الجماعة، فيجوز وصفه بالمفرد: ولذلك شواهد لا تحصى. . .) ومن هذه الشواهد التي لا تحصى كنا نود أن نرى واحداً، لنرى أهي من باب أفعل فعلاء، أم من غيره - ثم إن هذا الباب الذي يذكره يسمى باب التخريج، وهو(498/17)
باب واسع يلجه الحيوان الأكبر والأصغر من الهوام والحشرات وأنواع العجماوات. أما الحيوان فيعدل عنه ولا يلجه، نظراً إلى شرفه وإجلالاً لقدره، وإعزازاً لشرفه وحبه، وخشية أن يقال عنه: (ولج العاقل باباً لا يلجه إلا الحيوان الأعجم) أعاذنا الله من أن نكون منه!
10 - الأربعة الاستقصات لا الأربع
في جميع ما نكتب نتوخى الفصيح والأفصح من كلام السلف الصالح بقدر الطاقة. وأفصح كلام العرب يرى في الآيات القرآنية. وقد جاء في سورة النساء: (ولا تقولوا ثلثة) أي ثلاثة آلهة. ولم يقل ثلاثا
وفي سورة الطلاق: (فعدتهن ثلاثة أشهر
وفي سورة الكهف: (سيقولون ثلثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) إلى غيرها من الآيات وهي كثيرة لا حاجة لنا إلى ذكرها كلها فاجترأنا ما ذكر منها
وجميع ما ورد في تلك الآيات، مختوم بخاتم الإحكام المتقن، ومطبوع بطابع الصحة المنيعة، وفيه أقصى التحقيق والتدقيق إذ (لا نرى بينها عوجاً ولا أمْتا)، ولا يهمنا بعد الكلام خرفشة النحاة ولا حذلقة الصرفيين، إذ يسمع لها جعجعة ولا طِمن!
فالاستقص (بصاد مشددة في الآخر) والاصطقسّ بصاد وطاء وقاف وسين، مذكرة، ولا يقول الفصحاء والحذاق والبصراء من السلف إلا الاستقصات الأربعة لا الأربع. ونحن نتبع الآيات المحكمات وكتاب سيبويه وجماعة علماء البصرة والكوفة، وليتبع غيرنا ما شاء من المجوزين، والمخرجين، والمفسرين. وعلمه فوق كل ذي علم
11 - الخلاصة
إننا نتبع الفصيح من كلام الناطقين بالضاد، ونترك الغير يتبع ما شاء من لغات العرب ولغيَّاتهم، أولئك الذين جاوروا الأعاجم فركت عبارتهم، وفسدت تراكيبهم وغمضت ألفاظهم وغلظت كلمتهم، فوقعوا في أوهام لا تعد
وهذا آخر ما نكتب في هذا الموضوع وقد أوصدنا بابه علينا، فلا نريد سماع ما يخالف أحكام اللغة المتينة ولا قواعدها المبنية، وإن فاض التنور وقامت القيامة، وكان اليوم(498/18)
الأخير.
الأب انستاس ماري الكرمل
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(498/19)
الحضارات القديمة
في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
ظهر الإسلام بين أمة وصلت في البداوة إلى أبعد حدودها، وكانت طبيعة بلادها تجعلها بداوة قاسية، يشتد فيها النزاع والخصام بين الأفراد والقبائل، ويكون السلب والنهب أظهر عمل فيها لكسب العيش، وفي هذا تنتصر القوة الغاشمة، ويظفر الباطل بالحق
وكان يحيط بهذه البداوة الغاشمة حضارتان مختلتان، حضارة الفرس بالمشرق، وحضارة الروم بالمغرب، قد سرى الفساد فيهما حتى أنهكهما، فلم يكونا أقل ضلالاً من تلك البداوة، ولم يكن أهلهما أقل شقاء من أهل تلك الصحراء
فكان من أهم أغراض الإسلام القضاء على تلك البداوة وآثارها في بلاد العرب، وإنشاء حضارة جديدة صالحة للبشر عامة، يرتفع فيها لواء العدل، وينتصر الحق على الباطل، وتنتشر المساواة بين الشعوب والأفراد، فلا يظلم قوي ضعيفاً، ولا يأكل غني فقيراً، وبذلك يسود السلام بين الشعوب بالمساواة بينهم، ويجعلهم جميعاً عناصر لأمة واحدة لا يمتاز فيها على شعب، ولا تفرق بينهم الفوارق أيا كان أمرها
ولا غرو في أن يكون مثل هذا من أغرض الإسلام، بل لا غرو في أن يكون هذا من أهم أغراضه، لأن الإسلام يمتاز على غيره من الأديان بأنه لم يشرع للآخرة وحدها، ولم يعمل لسعادة البشر فيها فقط، بل شرع لسعادة الدنيا والآخرة، وعمل على أن يكون البشر سعداء في دنياهم، قبل أن يكونوا سعداء في أخراهم
وقد صرح القرآن الكريم بذلك الغرض العظيم في بعض آياته، فقال تعالى في الآية (55) من سورة النور (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) وقد بين في آية أخرى أهم شيء تمتاز به هذه الأمة في حضارتها الجديدة، فقال في الآية (110) من سورة(498/20)
آل عمران: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باله؛ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون)
ومما يتفق مع هذا كل الاتفاق ما جاء في القرآن الكريم عن البداوة العربية وأهلها، وما جاء فيه عن الحضارات القديمة وآثارها، فهو إذا ذكر الأعراب - وهم سكان البادية - يكون شديداً عليهم، ويجعل بداوتهم هي السبب في جهلهم وانحرافهم. وقد وصفهم الله بقلة الإيمان في الآية 14 من سورة الحجرات: قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً، إن الله غفور رحيم). وإنما سميت هذه السورة بذلك الاسم لأنها نزلت في نفر من الأعراب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائل في أهله، فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمد أخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه، فأنزل الله فيهم من هذه السورة: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم) وقد قيل إن هؤلاء الأعراب كانوا من بني تميم، وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعُيَيْنة بن حصن، والزبرقان بن بدر، فنادوا على باب الحجرات قالوا: يا محمد، اخرج إلينا، فإن مدحنا زين، وذمنا شين. فخرج رسول الله صلى الله عليه وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمه شين. فقالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا، جئنا نشاعرك ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه: ما بالشعر بعثت، ولا بالفخر أمرت، ولكن هاتوا. فقام منهم شاب فذكر فضله وفضل قومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس، وكان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قم فأجبه. فقام فأجابه.
ثم قام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البِيِع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتََّبع
ونحن نطعم عند القحطُ مطعمنا ... من الشواءِ إذا لم يؤنس القزَع
فننحر الكوم عبطاً في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أُنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حيٍّ نفاخرهم ... إلا استقادوا فكانوا الرأس يٌقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تُستمع(498/21)
إنا أبينا ولا يأبَى أحدٌ ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال النبي الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: قم فأجبه. فقام فقال:
إن الذوائب منِ فِهرو اخوتهم ... قد بينوا سُنة للناس تُتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يُصطنع
قوم إذا حاربوا ضَرُّوا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدَّثةٍ ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
أعِفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يَطبعون ولا يرديهم طمعُ
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مَطمع طَبَعُ
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلعُ
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع
وقد جاء ذكر أهل البادية أيضاً في سورة التوبة، فوصموا فيها هذه الوصمة التي جاءت في قوله تعالى (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم)
ولكن الله تعالى بعد أن أطلقها كلمة فيهم، لأن ذلك شأنهم وديدنهم، وهو الطبع الغالب، والحال الظاهر، عاد فذكر أن قليلاً منهم يخالفهم في هذه الطباع؛ فقال: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول إلا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم)
فهذا اجاء في القرآن الكريم عن البادية وأهلها، وهو حرب ظاهر عليها، وقد جاهد الإسلام حتى قضي على آثارها بين العرب، وجعل منهم أمة عالمة متحضرة متآلفة متحابة، وموعدنا بما جاء في القرآن الكريم عن الحضارات القديمة الأعداد الآتية.
عبد المتعال الصعيدي(498/22)
عندما فاض النيل. . .
للشاعر التركي إبراهيم صبري
بقلم الأستاذ عثمان علي عسل
بحثت عن شاطئ حصباؤه تلمع، شاطئ منحدر
رحب. وقد غطيت حصباؤه برمل ناعم كريش
الطيور. إن اشتياقي إليه كالحنين إلى الوطن.
فما وقع بصري على شاطئ إلا تعلقت به. هناك
أنعم النظر في الشمس. فما أجمل نزولها في اليم.
حينما يحجب نصف قرصها سحاب أسود. تغيب
عن الأنظار كأنما تخلع رداء أشعتها. فيخيل إلى
الناظر أن السحاب يستر وراءه قواماً جميلاً.
وإذا بألوان الأفق تمتد وتعانق سطح البحر.
وعلى هذا الجيد الفضي ترتجف أمواج هادئة تخالها
رعشات. . وبينما الألوان الوردية والبنفسجية
والحمراء. تنشئ في السماء قوساً شبيهاً بعالم
خرافي، يبدو البحر كأنما ارتفعت أعماقه.
فيتراءى كسماء مقلوبة غاصت في قراره. سماء
تتجلى فيها الأفلاك. ولكي تصعد الأنظار إلى
هذه القبة العميقة، تهبط كأنها تنزلق على سطح
زجاجي. ومن احتضان البحر للسموات يتجلى
في روع الناظر عالم آخر فيرى في ضفافه حدود
الأبدية. إن اتساع البحر يجعل الأنظار التي ترى
اللانهائي تبحث عن عالم مجهول. أما الآفاق فهي
ستار أزرق أسدل على الأفكار، يحول بين المتأمل
وبين النفاذ في محيط الكون. إن الثرى إزاء الماء(498/23)
فانٍ. ففي كل قطرة من الماء قوة كامنة خالقة لا تحد.
وحكم التراب كالعدم فهو نهاية. عجباً لهذا التراب
إنه من أسباب الفناء، وإنه لمن أسباب الحياة!
ومصير المخلوقات إليه. وكأنما الأمواج حينما تتبخر
تهرب من الفناء. وهذا الإنسان اليائس الذي
يلقي بنفسه في اليم، يشتاق إلى حياة أبدية
في عبابه، ليعيش بعيداً عن التراب.
لاشك أن الشمس قد ذابت اليوم في أفق
مصر. هاهي أشعتها مادة سائلة، تنحدر من
السماء كأنها حمم تذيب الأرض معها. بحثت
كسائر الناس عن خميلة أتفيأ ظلها، فذهبت
إلى شاطئ النيل، وإذا بالنيل قد فاض وغمر.
فأين مني الآن قوافل الجمال ذات اللون الأغبر
التي ترسم على الشاطئ صورة الخمائل؟ أين تلك
الأشرعة التي ترفرف بين الأشجار كأجنحة
فراشة فضية؟ وأين هاتيك الكواعب الريفيات
اللائى يحملن على رءوسهن جرات ذات قوام له
دلال العرائس يباهي دلال من يحملنها، وقد
عكست ظلالها على سطح النيل. . . يا للعجب
إن هذا الماء كلما تدفق أسرع جريانه. أين
هذا النيل الذي رصع جِيد (أم الدنيا) بعقد
من الياقوت بمجراه الذي تسري في أمواجه
ثمار النخيل الحمراء؟ أين تلك المياه التي تفيض
بالأسرار كمقلة خضراء تزخر أعماقها بألوان
مباينة؟ أين هذا النيل الذي يتجلى في لونه(498/24)
الزمر ذي إشراق الفجر. هذا النيل الذي تمس
أعماقُهُ الأهرامَ والسماءَ والكواكبَ. هيهات!
ليس أمامي الساعة غير نهر من اللهيب. بحثت
عن ضفافه فألفيتها قد سالت معه، وبدا لي
أن هذا الفيضان يندفع كالكارثة. لم يكن
هناك في هذا المحيط اللجي موطئ لقدم، كأن
الطوفان قد ابتلع الغبراء. هاهو النيل يجري
كنهر من الطين انطلق إلى الشمس، كأن
من أجراه يريد أن يبني أجراماً في السماء،
وهو يجيش بأمواج فوارة تكاد الشمس وهي
في مغربها تغرق في تيارها. كأن هناك عاصفة
هوجاء تكتسح هذه الأمواج، فلا يسمع
إلا زمجرة صاخبة. ربما كان في هذا الطين
أسرار، فهو لا يخرِّب بل يعمِّر. أما حقول
بلادي الظامئة فإنها تتلهف إلى قطرات تتساقط
من سماء الحظ، كأنما النيل سحر قد انساب
ماء، فهو يجعل الرمال أخصب من أي تراب
آخر. هو يتدفق إلى الحقول وإلى القرى وإلى
المساكن، فالنيل هو مصر، ومصر هي النيل.
ما أعجب هذا السيل إنه قوام الحياة. ما أعجب
هذا السيل فهو أينما جرى وأينما طغي انبثق
النبات واستحال القفار عماراً. قد منح أهلَ
بلاده قدرة فوق طاقتهم. هل السحر جاء إلى
مصر مع النيل، فهو كبحر مطلسم غمر أرضاً
وجرى نحو محيط في أغوار الأساطير، وكأنما(498/25)
الأهرام أحجار رسبت من مجراه في وادي
الشياطين. وإنه ليرد من أرض حزينة؛ فهو
يسيل أحياناً كالدم وأحياناً كدموع تنحدر
من عيون تلك الأرض التي حرموها نعمة
الأبصار. إنهم يروون أن غادة كانت في الزمان
الغابر تلقى في عبابه. إنني أعتقد أنها أسطورة،
غير أن هذا الفيضان الذي يدعو إلى الحيرة،
لابد له من سرّ خارق كهذه الأسطورة.
ترجمة
عثمان علي عسل(498/26)
المنطق المنظور والمنطق المستور
للأستاذ عبد الله حسين
ألف الناس أن يطلقوا على ما يقع لهم أفراداً أو جماعات، من الأحداث، اسم الغرابة والمفاجأة والشذوذ، وأن يبدئوا ويعيدوا في وصف كل حدث من الأحداث، كأنه شيء لا يقع إلا في الخيال ولا مثيل له في حوادث التاريخ، أو كأنه قد وقع من غير مقدمات ولغير علل وأسباب!
ولعل مرجع هذا عندهم إلى أنهم يحرصون على حياة السلامة والدعة التي ألفوها قبل أن يتأوَّد مجرى حياتهم، ويزور مستقر شأنهم وقبل أن يشهدوا انحرافاً في ميزان حياتهم
ذلك، أن الناس كانوا ولا يزالون حريصين على ما يدعونه (الحقوق المكتسبة) ينعمون بثمارها. فإذا اعتاص عليهم أمر من الأمور، لعقبة أو نازلة أو عرضٍ من أعراض الحياة وأطوارها المتناقضة ظاهراً، نادوا بالويل والثبور، وحسبوا ما واجههم من عظائم الأمور، ومن المنطق المستور!
قال أحد فلاسفة فرنسا: (وليس يقع في الدنيا غير الشاذ)
أولم يقولوا في الحرب إنها حالة شاذة، كأن السلم هي الحال الدائمة الطويلة؟
أولم يتطير الناس من الحروب والثورات وما إليها من الفتن والاضطرابات وألوان الانقلابات حتى الاقتصادية منها؟
يذهب الناس إلى هذا مع إنهم لو عَمَدوا إلى الاستقراء وفتحوا عيونهم على العالم كله قديماً وحديثاً، لفقهوا أن الحياة الاعتيادية ليست دعةً وسكوناً وأمناً وسلاماً إلا في حيز محدود وزمان غير طويل؛ فإن الدنيا لا تعرف السكون الطويل، والحياة ليست بالمستقرة المطمئنة إلى قواعد ثابتة، وأسس لا يعفى عليها تقلب الحدثان
وقد تأثر الكتاب والأدباء يحسبان الحياة سلماً واطمئناناً وأمناً إلا في النادر وعند المفاجأة وشواهد الغرابة، فبالغوا في تصوير الأحداث التي تقع على غير ما كان يتوقع أصحاب (المنطق المنظور) ونعني به منطق الحوادث اليومية الاعتيادية المألوفة التي تكاد تجري على صورة واحدة، فإن الاستمساك بهذا المنطق السطحي الضيق، هو آفة النظر الفاحص البعيد، الذي يزن الأشياء بميزان (المنطق المستور) الذي يستطيع أن يبلغ حقائق، ويكشف(498/27)
عن مقدماتها وعللها، ويتنبأ بنتائجها وآثارها؛ وأصحاب هذا المنطق هم أولئك الذين لم يخدعهم (المنطق المنظور) الضيق
كم من تقلبات شهدنا في خلال العشرين عاماً الأخيرة أو منذ شبت نار حرب 1914 أو منذ وضعت أوزارها وأعلنت الهدنة ووقعت شروط الصلح وبادت دول وظهرت أخرى. وكم عجبنا وأغربنا في الدهش والحيرة لأحداث وقعت بين ظهرانينا لأننا كنا ننظر إلى شئوننا بعين (المنطق المنظور)، فلما خلونا إلى أنفسنا قهرنا على مقابلة الخطوب، ورضنا أنفسنا على متابعة التقلبات، عرفنا بعين (المنطق المستور) أن ما وقع إنما جاء نتيجة منطقية لحوادث سابقة وأخطاء قائمة واستسلام (للمنطق المنظور)
وليس الأمر بمقصور على الشئون العامة، بل إن شئوننا الخاصة يجري عليها هذا المقياس، فالأمراض المستعصية ونكبات الأسرة والصداقة من طلاق وأزمات مالية وخصومات وانتقامات، كلها ترجع إلى مقدمات وحوادث وعلل، لا يقرأها ولا يدركها (المنطق المنظور) المنطق السطحي المستسلم، ولكن عين (المنطق المستور) تجلوها لنا سافرة طبيعية لا غرابة فيها ولا مفاجأة ولا شذوذ
عبد الله حسين
المحامي(498/28)
ذكرى. . .
للدكتور عزيز فهمي
الدكتور عزيز فهمي نجل صاحب السعادة الأستاذ عبد السلام
فهمي جمعة باشا في طليعة الشباب الجامعي المثقف، ومن
شعراء الشباب الموهوبين الذين أذكوا بأدبهم الذكي المشبوب
النهضة المصرية. وهذه من بواكير شعره بعد عودته من
باريس إلى وطنه منذ شهور قلائل:
يا لياليَّ طال فيكنَّ سهدي ... مَن مُجِيرِي من الليالي ووجدي
قّدّرٌ صاح بالمنى فتداعتْ ... وقضاءٌ، وما له من مردّ
أيها الليل يا نجييِّ وحسبي ... أنتَ يا ليلُ، كم يَدٍ لك عندي
حال طعمُ الحياة بعد هناءٍ ... وشرِبتُ الحميمَ من كل وِرْدِ
إنه يا ليلُ كم كتمتَ هوانا ... يومَ كان الزمان طوعي وجندي
فانشر اليوم من زفيري نشيداً ... يطرب الدهر بعد طول التحدي
كان ما كان، لا مردَّ لعهدٍ ... غاله الدهر بعد سعيٍ وكدِّ
كان ما كان، كل حُلْمٍ لصحوٍ ... وانتباهٍ، وكل سيفٍ لغمد
أيها الحِبُّ ليس لي منك إلا ... ذكريات تُلحُّ في غير قصد
ذكرياتٌ أعيش فيها ومنها ... ليتها ليتها تُلحُّ وتجدي
طائف كالفَراش حول شعاع ... محرقٍ يبعثُ الحياةَ ويُردي
ذكرياتٌ تمرُّ حيناً وتحلو ... بعد حين، وأول الخمر يُصدي
يوم كنَّا في ميعة العمر نلهو ... لهوَ طفلين جاوزا سنَّ رشد
نتلاقى على صفاء قلوبٍ ... لم تُدَنَّسْ على الزمان بحقد
وأناجيك في خشوع وصمت ... وبودِّي لو استجبت بودي
وأناغيك يا حبيبي وتصغي ... وأعيد الحديث فيك وأُبدي(498/29)
وعلى وجهك المضيء تباش ... ير كوشّيِ النَّدى على دوْح وَرْد
ويدي في يديك ترعَش حتى ... تهدأ النفس بعد لهث وجَهد
وذراعايَ حول خصرك في عن ... فٍ ورفق ما بين جَزْرٍ ومدِّ
وعلى صدرك الحنون همومي ... غارقات ما بين نحر ونهد
والنسيمُ العليلُ يذكي عبيراً ... من ثناياك شاع في كل برد
جَنَّةٌ أنتَ كنت فيها ملاكي ... كيف منها جَزَيْتُ نفسي بطرد
أنتَ رَحَّبْتَ بي مُضيفاً وضيفاً ... كسف لم أجْزك الوداد بودي
يعلم الله ما جحدتُ ولكن ... ذادني عنك طالع جِدُّ نكد
ما أنا إلا آدمي وهل آثر ... إِلا الهبوطَ آدمُ جَدي؟
نحن فيها مسيرون وكلُّ ... مُجْبَرٌ لا خيار للمرءً عندي
أيها الغائب المقيم بأرض ... عهدت مولدَ الغرام وسعدي
بالجنين الوليد ينمو ويقوي ... في رفيق من الأمانيِّ رغد
كل شيء كما عهدت مقيم ... وأنا النازح الوفي بعهد
فالتفت يَمْنةً وأخرى يساراً ... واستمع عامداً وفي غير عمد
عزيز فهمي(498/30)
الطيران بين أسلحة الحرب
للملازم الأول حسين ذو الفقار صبري
لم تعد الحرب في مختلف نواحيها بقادرة على الاستغناء عن سلاحها الجديد: (الطيران)، الذي لم يكن بالأمس إلا بدعة طارئة، وأصبح اليوم ضرورة أُقحمت على كل فكر وكل رأي، حتى ذهب الكثيرون، ممن قنعوا بعابر الملاحظة دون عميق البحث، إلى القطع بأن أهميته تفوق غيره من الأسلحة، فهو منها المحورُ والدولاب، وله عليها العرش والسلطان؛ وتمادوا في إغضاء الطرف عن نقائصه، مُعْلين من شأنه، رافعين من ذكره، حتى وُصف بما لا قدرة عليه، ونعت بما لا طاقة له به.
جاب الإنسان الأرض شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، وسبح في الماء وارتقى الجبال، وحاول ثم حاول محاكاة الطيور بالتحليق في الفضاء، ولكنه هنا فشل مرراً، وارتد عن أحلامه تكراراً، حتى ظن أن التصاقه بالأرض قانون لا يُخْرق، وأن تحليقه في الهواء أمنية لن تُحقّق. فلما حلّق أول من حلق، انبهر البشر وتلمسوا طريق التأويل والتعليل، فرموا الطائرة بصفات تخيلوها، وحبوها بأحوال ليست لها. وقد انساقوا في ذلك السبيل وراء ما أحرزه الطيران من تقدم حثيث ملموس، نتيجة طبيعية لما زامل زمانه من اطراد مستمر في شؤون الآلات والكهرباء وصناعة المعادن، مما خف وزنه واشتدت صلابته. كل تلك الأشياء وغيرها تضافرت فأغدقت على الطيران من عندها، ودفعت به إلى الأمام عدة مرات؛ ولكنا إذا تأملنا الأمر قليلاً وجدنا الطائرة جسماً كسائر الأجسام، يخضع لقوانين الطبيعة كل الخضوع. هي جسم ساير تلك القوانين، وتحايل عليها واسترضاها فانقادت له تساعده وتحابيه وتزينه للناظرين
سرُّ الطائرة في استخدامها فراغاً لا نراه ولا نلمسه، سرُّها في استمدادها القوة من انضغاط هواء تحت سطح جناح انطلق انطلاق الشهاب، سرها في التفاتها إلى عنصر أحاط بنا منذ الأزل فألفناه، حتى انقلبت الألفة إلى عدم اهتمام بل إلى إهمال
استمدت الطائرة قدرتها على الارتفاع من الهواء المضغوط تحت الجناح، فغالبت جاذبية الأرض وقهرتها، قهرت تلك القوة التي ألصقتنا بالأرض دواماً، والتي لم نتفهمها جيداً حتى ترجم العلم مفعولها إلى لغة قريبة من مداركنا، لغة الكتل والأثقال والأوزان. الجاذبية(498/31)
مقدارها ثابت لا يتغير، أما جسم الطائرة - أو بالأحرى ثقلها - فهو العامل المتقلب، المتزايد أو المتناقص. هو الخصم الذي يهاجمه المهندس على أوراقه أولاً، وفي المصانع ثانياً، ليستخلص من عنصر الهواء أكبر غنم، ويستخلص لطائراته أنْفَذَ الخواص، ولصفاتها أعلى منسوب.
تتباين خواص الطائرات المختلفة تبعاً لتباين طرق توزيع وزنها على مختلف أجزائها. وطائرات الحرب أغراضها كثيرة متنافرة: هذه تحتاج لسرعة فائقة، وتلك لسعة في النقل عظيمة، وهذا يطالب بطائرة مدافعها فتاكة، وذلك بأخرى قنابلها كثيرة. هذه الأمور وغيرها تعرض للمهندس فيوازن بينه، ويقارن ويعادل، حتى يصل آخر الأمر - بعد مجهود طويل وتجاريب عديدة - إلى أحسن الحلول، أو على الأقل إلى أقرب من الغرض المطلوب
يتكون ثقل الطائرة من وزن أشياء شتى: أهمها المحرك. والهيكل بما فيه الأجنحة، والوقود، والمدافع، وذخيرتها، والقنابل وصفائح الفولاذ الواقية. يختص المحرك منها بأكبر نصيب، كيف لا وهو القوة الدافعة، تزيد سرعة الطائرة بزيادته، وتنمو مقدرتها التسلقية بنموه
ولكن هذه المهارة في المناورة، يلزمها علاوة على القوة الدافعة أجنحة سميكة، معدنها متين، أقدر من غيرها على احتمال الضغط العنيف، الطارئ من حركات انقلاب حادة فجائية. ومدى التسلق يحتاج، علاوة على المحرك القوي، إلى أجنحة طويلة عريضة تعترف من الهواء كثيراً. أما السرعة، فهي وحدها التي تقنع بتركيز الوزن كله في المحرك
ويا ليت الأمر يقف بالمحرك عند هذا الحد، فهو لا يكتفي باستحواذه على نصيب الأسد، بل يتطاول أيضاً إلى ما بقى من ثقل يحتجز منه لملحقاته. الزيت والوقود؛ تلك السوائل الثقيلة الوزن التي لا غنى له عنها، تغذيه بحيويتها، وتخلق منه قلباً نابضاً لجسم كان هامداً. لم يبق إذن من ثقل الطائرة إلا جزء ضئيل تتنازعه المدافع وذخيرتها، والقنابل وأدوات تصويبها، والدروع الواقية لأرواح الطيارين. تنازع عظيم لا يفصل فيه المهندسون ولا يبتون فيه بقرار، إلا على ضوء نسب مخصوصة ترتفع وتنخفض تبعاً لما تقوم به الطائرة من واجبات سواء أكانت متعددة النوع أم محدودة
فإذا تأملنا المقاتلات مثلاً وجدناها تحتاج إلى سرعة فائقة تلاحق بها ما تتخطى الحدود من(498/32)
قاذفات، أي أنها - بلغة النسب - تحتاج لضآلة في الجسم إزاء قوة المحرك؛ ولكنها ضآلة تقف عند حده، إذ ما قيمة تلك الطائرة دون مدافع عديدة وكمية من الذخيرة كبير: مدافع قد تبلغ الثمانية عداً، وذخيرة قد يتعدى معدل إطلاقها الخمسة آلاف رصاصة في الدقيقة الواحدة. هذه الضآلة إذن يجب أن تتسع لتلك المدافع وهذا الرصاص، ولمقدار ضخم من الوقود فرضه علينا محرك قوي، مقدرته على الالتهام عظيمة
هذه أخيراً طائراتنا، توصلنا إلى اصطناعها سريعة ما وسعنا الاصطناع، وأوجزنا من طول أجنحتها ما أوجزنا، وضمَّرنا من خصرها حتى ضمرت ما وسعها الضمور. ولكن تلك السرعة اللعينة تعلق بها علوقاً حتى عند الهبوط، فترى الطائرة تنهب الأرض نهباً، ولا تستطيع الوقوف إلا إذا انفسح لها المجال في المطارات. والمطارات الفسيحة لا تتسع لها كل أرض، ولا تتسع لتكاليفها حتى الميزانيات، فنضطر إلى إلحاق بعض القلابات بسطوح الأجنحة السفلى لتحد من سرعة الطائرة عند الهبوط. وهذه القلابات تعني زيادة في الحجم، وزيادة في الوزن
وأحياناً لا نشعر بالقاذفات إلا وهي قريبة منا على أهبة الهجوم، فنطلق المقاتلات من معاقلها. ولكن هذه الطائرات القصيرة الأجنحة، السريعة كل السرعة في الاتجاه الأفقي، تعجز عن الارتفاع إليها في مدى الزمن المطلوب، فنعود إلى المهندسين يطيلون أجنحتها، ويزيدون من مساحتها، ليعينوها على التسلق العاجل، مضطرين إلى التنازل عن قليل من سرعة الانطلاق، مقابل بعض الربح في سرعة التصاعد
وإذا انتقلنا إلى القاذفات، وهي أداة التحطيم الاستراتيكي وجدناها في حاجة إلى كثير من الوقود، وكثير من القنابل، وبعض الرشاشات تذود عنها فتك المقاتلات، كما هي طائرات كبيرة الحجم ضخمة الجسم، وهذا يحد من سرعتها كثيراً، ورشاشاتها تلك لا تحميها كل الحماية، فتعمد إلى تغليف مواطنها الحساسة بالصفائح السميكة، وهذا أيضاً عبء كبير يزيد تباطؤها أن لم نعوضه بالتقتير عليها في إحدى وديعتها الأساسيتين: أو القنابل. فإن شح وقودها عجزت القاذفة عن إدراك بعيد الأهداف ولزمت دائرة القريب منها، وإن ضُنَّ عليها بالقنابل قنعت بإغارة ضعيفة عجفاء على الأهداف القاصية. وقد تتدرج الحالات من هذه إلى تلك. على أن يظل مجموع ما حمِّلت به الطائرة من أثقال داخل النطاق المسموح.(498/33)
ولكنا أحياناً نواجه ضرورات قاسية تحتم علينا تحطيم بعض مرافق العدو النائية تحطيماً فعالاً. فنود لو تمكنا من الارتفاع بالزاخر من الوقود والوافر من القنابل، فلا تسعفنا عندئذ إلا (القلاع الطائرة) البطيئة الحركة، المعرضة كل التعرض لهجمات المقاتلات، نراوغ هذه إما بالتسلسل تحت جنح الظلام، وإما بالتصاعد إلى طبقات عليا: هبط فيها ضغط الهواء إلى ما تحت الحدود اللازمة لاستيفاء أسباب الحياة. نتحايل على تلك الحال بإحكام منافذ غلاف الطائرة على جوف اصطنع فيه ضغط جوي يقارب الضغط العادي، بواسطة آلات ضخمة تعجز طائرات المطاردة الخفيفة الوزن عن حملها والصعود بها إلى هذه السموات البعاد
(البقية في العدد القادم)
حسين ذو الفقار صبري(498/34)
البريد الأدبي
أول احتفال بالعام الهجري
ذكرتُ بحسن احتفال الأمة والحكومة بالعام الهجري في هذه السنة حقيقة تاريخية قد لا يعرفها الكثيرون: وهي أن الحكومة المصرية إلى سنة 1327هـ لم تكن تعترف به كعيد من الأعياد، حتى نبهها إلى ذلك قادة الحركة القومية، برآسة المرحوم محمد بك فريد، فأصدرت وزارة المرحوم بطرس غالي باشا قراراً بجعله يوم عيد رسمي تعطل فيه مصالح الحكومة. وقد صدر هذا القرار في ملحق لعدد 20 يناير سنة 1909 من الوقائع المصرية وهذا نصه.
(بمناسبة أول السنة الهجرية الجديدة ستقفل نظارات الحكومة ومصالحها في يوم السبت أول محرم سنة 1327هـ - 23 يناير 1909م)
وقد كان أروع احتفال أقيم في هذه السنة، هو الذي أقامه رجال الحزب الوطني في دار التمثيل العربي برآسة المرحوم أحمد بك لطفي المحامي، وكان من خطبائه الأساتذة: أحمد وجدي المحامي، ومحمد توفيق العطار، ومحمد راضي، وإمام واكد، وعبد المجيد إبراهيم صالح (باشا) الطالب بمدرسة الحقوق، وألقى حافظ قصيدته المشهورة:
أطلّ على الأكوان والخلق تنظر ... هلال رآه المسلمون فكبروا
تجلى لهم في صورة زاد حسنها ... على الدهر حسناً أنها تتكرر
وقد أشار إلى هذا الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك، مؤرخ الحركة الوطنية، في كتابه عن المرحوم فريد بك، فليراجعه من أراد التفصيل.
(المنصورة)
علي عبد الله
تاريخ وفاة ياقوت
وبعد فقد قرأت الملاحظة الدقيقة التي أوردها الأستاذ الفاضل محمود عزت عرفة في الصفحة 1170 من مجلة (الرسالة) الغراء لسنة 1942 عن الشبهة التي تولدت لديه في تاريخ وفاة ياقوت الحموي بسبب ما جاء في الجزء (9) والصفحة (198) من معجم الأدباء(498/35)
طبعة دار المأمون في ترجمة الحسن بن أبي المعالي من أن ياقوت الحموي لقيه ببغداد سنة 637 وهو يخالف المعروف عن وفاة الثاني التي كانت في سنة 626
وقد رجعت إلى كتاب معجم الأدباء طبعة مرجليوث على نفقة لجنة ذكرى جبّ فوجدته يذكر في الصفحة الأولى من الجزء الرابع في ترجمة الحسن المذكور ولقيته ببغداد سنة 603. ولذلك فإن نقل التاريخ المذكور إلى طبعة دار المأمون بزيادة 34 سنة وجعله 637 جدير بالاهتمام الذي أثارته في نفسي تلك الغلطة الغريبة
إلا أنه قد يكون الدكتور أحمد فريد رفاعي - كما قال في كلمة الإهداء التي بدأ بها الجزء الأول من طبعة دار المأمون - قد استفاد من نصيحة ناشر الكتاب الأول له أو من الصور الشمسية للصفحات التي تركت في الطبعة الأولى ووصلت إليه، وأدرك وقوع الخطأ في تاريخ لقاء ياقوت بالحسن بن أبي المعالي المذكور فصححها على الصورة المتقدمة، وهذا يعرفه هو، وعليه إن شاء أن يثبته بالبرهان؛ وإلا فإن تاريخ وفاة ياقوت ستظل كما هي مدونة في كتب التراجم سنة 626 ولا عبرة لتاريخ وفاة الحسن المذكور الواردة في كتاب السيوطي لأنها ليست حجة على وفاة ياقوت
عبد الله مخلص
تجديد اللغة
لغتنا العربية لغة عميقة تتميز بسعة ومرونة وحسن انقياد؛ ومن هذه الصفات استقامت لها قابلية المطاوعة، فكانت أكثر اللغات كفاية. وليس أدل على ذلك من كثرة مشتقاتها ووفرة تعبيراتها، مما لا يكاد المرء يعثر على نظير له في غيرها من اللغات. وحسبك أن ترجع إلى ما خلفه لنا أعلام الأدب العربي في ثنايا كتبهم وتضاعيف مصنفاتهم. من تعبيرات تترقرق فيها المعاني، وتركيبات تتألق خلالها الأفكار، لكي تتحقق من غناء هذه اللغة التي وصمت بالفقر وهي على قدر من الثراء كبير.
أجل إن لغتنا زاخرة بالمفردات والتعبيرات؛ ولكنها في حاجة إلى من يستخرج من تضاعيفها تلك الكنوز التي غبَّرها الزمن فانقطعت بنا صلتها، مع أنها إذا ما أزيح ما عليها من غبار، عادت إليها جِدتها، فانفتح لنا مغلقها، واتضح لنا غامضها. وليست هذه بمهمة(498/36)
هينة، لأن القدرة على تصيد مثل هذه الألفاظ الشاردة، وردها إلى حظيرة الاستعمال اللغوي بعد أن طال عهدها، لا تتوافر لكل باحث لغوي، ولا تتهيأ لكل منقطع إلى المطالعة. وإنما هناك نفوس طبعت على تذوق المعاني، فلا تكاد تبدهها الجمل منثورة هنا وهناك، حتى تضع يدها على الألفاظ السهلة التي صيغت فيها المعاني الكبيرة؛ فإذا ما قصدت إلي الكتابة بادرت إليها تلك الألفاظ طائعة مختارة، فترد على قلمها وكأنها جديدة ما عرفت النور من قبل!
من ذلك ما ورد في مقال أستاذنا الأب أنستاس ماري الكرملي الأخير (الرسالة 11: 497) في العبارة التالية: (ونحن نورد لك نموذجاً مما قال، وقد عثرنا عليه نَبَهاً) إذ نجد في هذه العبارة كلمة سهلة سلسة، قلما تدور على أقلام كتابنا، على الرغم من أنها تعبر عن معنىً زعم قوم أنه لا سبيل إلى التعبير عنه إلا بالخروج على اللغة! ومعنى كلمة (نَبَه) - كما جاء في المخصص لابن سيده، ج13 ص73 - (الضالة توجد عن غفلة؛ وجدته نبهاً أي من غير طلب، وأضللته نبهاً أي لم أدر متى ضَلّ. . .) وقد وردت هذه الكلمة في بيت لذي الرمُة، يصف فيه ظبياً قد انحنى في نومه، وهو قوله:
كأنه دُمْلُج من فِضّة نَبَهٍ ... في مَلْعب من عَذارى الحيّ مفصوم
وجاء في لسان العرب: (النَبَهُ الضالة توجد عن غفلة لا عن طلب، يقال وجدت الضالة نبهاً من غير طلب، وأضللته نبهاً لم تعلم متى ضل. وقول ذي الرمة كأنه دملج من فضة نَبَه وضعه في غير موضعه، كان ينبغي له أن يقول كأنه دملج فُقِدَ نَبَهاً. . .)
والذي عندي أن قولنا: عثرت على الشيء نبهاً، قول يؤدي معنى الوقوف على الشيء من غير طلب، خاصته وقد جاءت كلمة (نَبَه) فأكدت معنى الالتقاء الذي يفيده (العثور على الشيء). فعسى أن يلقى هذا التعبير موافقة وقبولاً.
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
إلى الأستاذ محمود عزت عرفة
نسبت إليَّ أيها الأستاذ أني زعمت أن الرسول عليه الصلوات كان ممن يبدلون في القرآن(498/37)
لفظاً بلفظ آخر يغايره في معناه. ومثل هذا لا يصح مني أن أقوله أو أزعمه، ولكن كثيراً من الناس يقرؤون ما كتبت فيصدقونه، ولا يكلفون أنفسهم أن يرجعوا إلى ما كتبت أنا، ليعلموا أني لم أقصد إلا توجيه قراءات منزلة بسبب هداني الله إليه، وهو جدير بالتقدير من كل منصف. وقد قلت في ذلك - فقضت رأفة الله أن يقرأ القرآن بما يحتمله من ذك تيسيراً على المسلمين في عصر الوحي الخ - فجعلت مرجع ذلك إلى الله تعالى، لا إلى النبي ولا إلى أحد من خلقه، ثم ذكرت أن النبي كان يعين أمثال تلك المواضع ابتداء أو بعد رجوع أصحابه إليه، فقطعت بهذا كل ليس في رأيي، ولكن الناس يأبون إلا أن يحملوا كل جديد على خلاف ظاهر، وعلى أسوأ ما يمكن أن يحتمله ولو بتكليف، لأنهم يكرهون التجديد ويسيئون الظن بمن يدعوا إليه. وإنه لغريب أن تثير كلمتي في اختلاف القراءات ما أثارته، مع أني أردت فيها بخصوصها أن أعرضها قبل نشرها على أخ لي من العلماء لا يتهم بالتجديد مثلي، فأقرني على نشرها ولم ير شيئاً فيها. أما أنك أيها الأستاذ لم تزد في كلامك فيما رأيته من التصحيف على ما أورده السيوطي فهو التراجع بعينه، ولعلك تذكر أيضاً أنك أضفت إلى ذلك قراءة - فتثبتوا - وهي قراءة سبعية متواترة.
عبد المتعال الصعيدي
حديث الجهاد الأصغر والأكبر
جاء بالكلمة الثانية التي نشرها الأستاذ الفاضل محمد عرفه عن العيد في العدد 495 (أن رسول الله (ص) قال وقد رجع من غزوه، رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر يعني جهاد النفس)
وهذا الحديث قال عنه الحافظ بن حجر: (إنه مشهور على الألسنة ولكنه من كلام إبراهيم بن عيلة) اهـ
وقد رواه الغزالي في كتاب الأحياء ولكن كم في هذا الكتاب من ضعيف وموضوع.
محمود أبو ربه
من عجائب البريد
جناب السيد الجليل الأفخم صاحب مجلة (الرسالة) البهية طال بقاؤه:(498/38)
أحمد الله إليكم. وبعد فإنكم في العدد 486 من السنة العاشرة لمجلتكم نشرتم مقالاً عنوانه (إلى المعترضين علينا) للأب (أنستاس ماري الكرملي، وأنا المقصود في قوله (المعترضين علينا) أو أنا أحدهم، ولم ترسلوا إليّ عدداً لأقف عليه. وعدم إرسالكم عدداً يفسح لي أن أرفع عليكم دعوى في محاكم مصر الجزائية وأطالبكم بما يعدُّه القضاء السوري (عطلاً وضرراً) والآن أرسل إليكم رداً بالبريد المسجل وأصبر شهراً عليكم لنشره، فإذا لم يكن منكم رضى بنشره سأقصد مصر وأداعيكم لدى قضاءه العادل. إني أعمل بمقتضى الشرع السوري وأحسب أنه شرع مصر أيضاً. وأنتظر شهراً لجوابكم على كتابي هذا وقد أعذر من أنذر.
دمشق24 كانون الأول سنة 1942
الداعي
أمين طاهر خير الله
(الرسالة): ألقى إلينا البريد هذا الكتاب فأحببنا أن يطلع قراؤنا
عليه ليتفقهوا أو يتفكهوا، فان للأساتذة اللغويين في بعض
الأحيان جداً يشبه الهزل. أما الرد المسجل فكله على هذا
النحو من المنطق؛ وأربعة أخماسه في شرح (النقطة القانونية)
التي سيبني عليها الأستاذ رفع دعواه. فرأينا من التكرمة
لرجال الأدب ألا ننشره.(498/39)
العدد 499 - بتاريخ: 25 - 01 - 1943(/)
ضحك كالبكي
للأستاذ عباس محمود العقاد
الضحك في صورته الجسدية تنفيس عن الجسد المكظوم
ذلك معناه الحرفي كما نراه رأى العين. فالضحك في صورته الجسدية حركة متتابعة في الصدر والحلق والفم يكثر بها تجدد الهواء في الجسم المكظوم، فيشعر على أثر هذه الحركة بطلاقة بعد حبس، وفرج بعد ضيق
وخليق بهذه الحقيقة المحسوسة أن تقودنا إلى عرفان معنى الضحك من الوجهة النفسية، أو من الوجهة الفكرية
فهو أيضاً تنفيس عن النفس المكظومة، أو الفكر المكظوم، وهو تعويض للحرية الضائعة، والطلاقة المحدودة
ولهذا تكثر الحاجة إليه في أيام الاستبداد
ولهذا تشتهر الأمم التي طالت فيها عهود الاستبداد بكثرة التنكيت، وشيوع النوادر المضحكة بين أبنائها
وربما كان هذا مرجع الشهرة التي اشتهر بها المصريون في طوال العصور الغابرة، حين كانوا يُبتلون بالدولة الطاغية بعد الدولة الطاغية، تنالهم بالعسف والجور، وينالونها بالنكات والنوادر، فإذا هم يلوذون من الضحك بدرع تعينهم على الصبر وسلاح يعينهم على الانتقام.
وللاستبداد موقفان متناقضان من الضحك والضاحكين
فالمستبد المسيطر على الناس بالجبروت والطغيان يريد أن يهولهم وينزل منهم منزلة القداسة والتنزيه، فلا يحب أن يصبح بينهم عرضة للضحك، ولا أن يجترئوا عليه بالعبث والاستهزاء، ولو من وراء ظهره
ولكنه بعلم أنه يضيق عليهم الخناق، وأنه يلجئهم إلى التنفيس عن صدرهم بوسيلة من الوسائل، ولو على حسابه كما يقولون إن لم تكن ثمة وسيلة أخرى. ولهذا قيل إن الزعماء النازيين - وفي مقدمتهم هتلر - يقربون إليهم فئة من المضحكين والمتندرين يسمعون منهم نكات الجماهير وفكاهات العامة والخاصة، ويجتهدون مع هذا في تحويل النكات والفكاهات(499/1)
عنهم ما استطاعوا، ليضحك الشعب ويحتفظ الحكام المستبدون بهالة الرهبة والوقار في وقت واحد
ولست أذكر أن أصحاب الدعوة النازية غضبوا لشيء قبل الحرب كغضبهم لقول الخصوم عن الشعب الألماني إنه شعب محروم من ملكة الفكاهة، وأنه لا يعرف الضحك والسخرية، وإلا لما طال صبره على المظاهر الحكومية التي هي أدعى الأشياء إلى الضحك والسخرية!
فقد أثارت هذه التهمة غضب جوبلز وتلاميذه فأوعزوا إلى الصحف الناقدة عندهم أن تقيم الدليل على بطلانها، وراحت هذه الصحف تعقد عندهم أن تقيم الدليل على بطلانها، وراحت هذه الصحف تعقد المباريات لأصحاب النوادر والتعليقات الفكاهية وتغريهم على الظهور تارة بالتنويه والثناء، وتارة بالجوائز والمكافآت. وكانت البدعة الشائعة في تلك الأيام بدعة تقصير الملابس والإفراط في التجرد بين النساء الأوربيات ومنهن الألمانيات، فانهال المتندرون على هذه البدعة بالتنكيت والتسخيف واتخذوها هدفاً للمباريات والمسابقات. وأذكر من نوادرهم في ذلك نادرة لا بأس بها فاز صاحبها بإحدى الجوائز الأولى، وهي أن رجلاً دخل المنزل فرأى امرأته في كساء جديد يشبه أكسية الحمام في القصر والخفة، فبادرته قائلة: ألا تعلم يا فلان أنني ظفرت بخائط يبيعني الكسوة التي أحتاج إليها بالتقسيط؟
فنظر إليها حانقاً وقال: (وأظن هذا هو القسط الأول من الكسوة؟. . .)
واعتقد الدعاة النازيون أنهم أبطلوا تهمة خصومهم بجملة هذه النكات، وأثبتوا للشعب الألماني ملكة الفكاهة التي ينكرها عليه المنكرون
على أن الواقع - بنجوة من المفاخرات القومية والخصومات السياسية - أن أبناء الحواضر في ألمانيا لا تفوتهم النكتة اللاذعة، ولا تخلوا تعليقاتهم على الحكام والنظم الحكومية من الفكاهة الصادقة، وإن لم يبلغوا فيها شأو أبناء العواصم الأخرى كفينا وموسكو ولندن وباريس
ويغلب على اعتقادنا أن الصرامة النازية قد شحذت هذه الملكة ولم تقتلها، لأن هذه الصرامة تلجئ الناس إلى التنفيس عن صدورهم بالنكات والفكاهات، وكل ما هنالك أنها لا(499/2)
تنطلق على الألسنة ولا في الصحف كما تنطق في البلدان التي تملك القول والنشر ولا تبتلي فيهما بالحجر الشديد
وقلما خرج من برلين - أو من ألمانيا على العموم - صحفي أو ناشر أو مذيع من الذين أقاموا فيها أيام الحرب إلا جاء معه بجعبة حافلة بالنوادر والفكاهات التي يتهامس بها أبناء برلين وميونيخ وغيرهما من الحواضر الكبرى
أحد هؤلاء وليام شيرر الذي كان يذيع من ألمانيا لمحطات الإذاعة الأمريكية المعروفة باسم (اتحاد كولومبيا) وقضى في أواسط أوربا سبع سنوات ثم غادرها بعد أن ضاقت به الحال وتعذر عليه أن يبلغ سامعيه شيئاً يستحق عناء التبليغ
ضاقت به أسباب الإذاعة لأنهم كانوا يحذفون معظم كلامه أو يحذفون كلامه كله في بعض الأيام، وكانوا إذا حذفوا كلامه كله خشوا أن يعزو السامعون ذلك إلى شدة الرقابة على الأنباء فاعتذورا عنه بغير علمه قائلين: إنه لا يذيع الليلة لأنه تأخر عن الموعد! ولم يقولوا إنه لا يذيع لأن الكلام الذي أعده للإذاعة قد حذف كله، أو لم يبق منه ما يستغرق الوقت المقدور لأنبائه
وحاول في بداية الأمر أن يعالج ذلك بما في وسعه فأقلع عن الصراحة ما استطاع وتعرَّض منها بالتلميحات والإشارات وتحميل اللهجة شيئاً من معاني السخر أو التوكيد أو الإيحاء. فما راعه ذات يوم إلا رقيب يلازمه ويشير على بعض الكلمات بالمداد الأحمر، ويقيس الفواصل بين جملة وجملة في أثناء الإلقاء حذراً من أن يكون المتكلم قد أراد بطول السكوت أن يلفت السامعين إلى أطواء كلامه السابق أو المقبل. فلما استحال عليه أن يقول كل ما يريد، وأن يقول بعض ما يريد، وأن يقول بالإشارة والسكوت ما يستحق أن يقال، لم يجد بداً من الرحيل، فرحل وفي ذاكرته وأوراقه جعبة من الخواطر والحواشي والتعقيبات تنبئ العالم بأضعاف ما كان ينبئهم به في أحاديثه ورسائله، وضمنها جميعاً كتاباً من الكتب النادرة في تاريخ الحرب الحاضرة، فما انقضى على صدوره عام واحد حتى كان قد أعيد طبعه ثماني مرات
في هذا الكتاب طرَف من فكاهات أهل برلين وفكاهات الموقف هنالك على الإجمال، تدل على أن الإنسان في إبان الخطر يحتاج إلى منفس الفكاهة - إلى الضحك - حاجة لا يبالي(499/3)
معها بالموت أو العذاب، لأنها حاجة فردية شعبية لا حيلة فيها للحرب وضروراتها ولا للسطوة وطغيانها. فلا بد من التنفيس أو الانفجار
قال فيما رواه من تلك النوادر إن مدير مصلحة الوقاية نصح إلى الناس أن يبكروا بالنوم أول الليل قبل موعد الطائرات المغيرة. فكان أناس منهم يستمعون نصحه وأناس يؤثرون السهر وانتظار الموعد وهم أيقاظ
فإذا انطلقت زمارات الإنذار أقبل اللاجئون إلى المخابئ يحي بعضهم بعضاً بمختلف التحيات
أسعد الله صباحكم!. . . تلك تحية الذين بكروا بالنوم فلما استيقظوا تبادلوا التحية التي تعودوا أن يتبادلوها عند اليقظة
أسعد الله مساءكم!. . . تلك تحية الذين لم يناموا بعد، فهم يتبادلون تحيات السامرين في المساء
هيل هتلر!. . . تلك تحية الذين ناموا من أول الحرب، ولا يزالون نائمين. . .
وقال إن أهل برلين يزعمون أن هتلر وجورنج وجوبلز ركبوا طيارة فسقطت وهلكوا. . . ومن الذي نجا؟. . . الشعب الألماني
وربما كانت فكاهة الموقف أدعي إلى السخر من الفكاهة التي يخترعها المخترعون
فمن ذلك ما سمعه المراسل من بعض أهل (كولون) وأكد صدقه، وهو عجيب لولا أن الحروب لا تخلوا من عجيب
قال: إن الكساوى الرسمية قد كثرت في البلاد الألمانية أثناء الحرب حتى تعذر التمييز بينها
فمن ذلك أن ضابطاً من سلاح الطيران البريطاني تلكأت به طيارته على مقربة من كولون فهبط على الأرض ودخل إلى المدينة يائساً من النجاة لتسليم نفسه، وتوقع أن يقبض عليه الشرطة أو من يصادفه من رجال الحكومة فلم يقبض عليه أحد ممن رأوه، بل كانوا يقفون له ويتلقونه بالتحية ويخلون له الطريق فاطمأن بعض الاطمئنان
وكانت معه ورقات من عملة النقد الألمانية يحملها الضباط الطيارون عادة كلما حلقوا فوق ألمانيا، فخطر له أن يمضي بعض الوقت في دار للصور المتحركة ريثما يتفق له ما هو(499/4)
مقدور له من الاعتقال أو النجاة
فطلبت منه العاملة نصف الأجر المكتوب على التذكرة، لأنه يلبس الكسوة العسكرية
ثم خرج من دار الصور إلى حيث سلم نفسه إلى ديوان الحكومة، وذكر لهم أنه أمضى بعض الوقت في المدينة ولم يقبض عليه أحد. فلما سألوا عاملة التذاكر فيمن سألوه: هل بعتِ هذا الرجل تذكرة لحضور الصور المتحركة هذا المساء؟
قالت نعم. وبنصف الأجرة مع السرور، لأننا لا نظفر في كل ليلة برجل من سلاح هتلر الممتاز!
ذلك أن الضابط كان يحمل على كتفه هذه الحروف الثلاثة: (س. هـ. م) أي سلاح هوائي ملكي. . . ففهمت العاملة وفهم السابلة معها أن الحروف اختصار لسلاح هتلر الممتاز، وهو أحق الأسلحة عندهم بالتوقير، وأندرها في أطراف البلاد!
إن صحت هذه القصة فهي من فكاهات القدر، وعندما تجب الفكاهة على الناس لا تندر بينهم فكاهة الأقدار
ولكنه ضحك كالبكي
وصدق ابن الرومي حيث قال:
إن من نابه الزمان بخطب ... لأَحق امرئ بأن يتسلى
ومن كان في وسعه تسلية الفكاهة، ففي وسعه من التسلية كثير.
عباس محمود العقاد(499/5)
مسابقة الأدبي العربي
3 - ديوان حافظ إبراهيم
للدكتور زكي مبارك
فن جديد ابتكره حافظ - هجريات حافظ - الشعر السياسي قبل الاستقلال - عبقرية حافظ في مقاومة الاحتلال - الشاعر المظلوم - بقية القول
فن جديد ابتكره حافظ
لم تكن المواسم الدينية ملحوظة في الشعر العربي على نحو ما نرى في هذا العهد؛ فقد كان يتفق أن يهنئ الشعراء ممدوحيهم بقدوم شهر الصيام وحلول العيدين. وتفرد الشيعة بإقامة المآتم يوم عاشوراء بكاء على الحسين
وما أذكر أن الشعراء كانوا يهتمون بالعام الهجري فينظمون القصائد في استقباله، كما كانوا يصنعون في استقبال النيروز، وإنما هي سنة حسنة نشأت في مصر منذ ثلاثين عاماً. سنةٌ دعا إليها فريق من شباب الحزب الوطني وعلى رأسهم (إمام واكد)، وقد استطاع أولئك الشباب أن يحملوا الحكومة على جعل اليوم الأول عطلة رسمية، وهي الفرصة التي أتاحت لحافظ أن يبتكر هذا الفن الجديد
وإنما أعد هذا ابتكاراً من ناحية الالتزام، وأعني أن حافظاً جعل هذا الفن من الفنون الموسمية، فكان يستقبل هلال المحرم بقصيد جديد. ثم عصفت الحوادث فشغلت مصر عن الاحتفال بعيد الهجرة عدداً من السنين، وتناسى حافظ واجبه فلم يقل في عيد الهجرة شيئاً يذكر بالعهد الذي انتفع به في صباه يوم كان قيثارة الحزب الوطني
ثم كان التوجيه الجميل الذي صدر من قلب الملك الشاب فاروق ابن فؤاد، التوجيه الذي يوجب أن تحتفل الحكومة المصرية احتفالاً عاماً تظهر آثاره في جميع البلاد، وتُطلَق فيه المدافع، وترن أصوات الموسيقى في الحدائق والبساتين، وتعد فيه دفاتر التشريف بقصر جلالة الملك، ويتبادل فيه الناس التهاني بأسلوب لم يألفوه قبل هذا العهد
المهم هو النص على هذه الظاهرة الجديدة في الحياة المصرية لنعرف متى ابتدأ الشعراء هذا الفن الجديد، راجين أن تكون لهم تحليقات يفوقون بها مبتكر هذا الفن الجديد(499/6)
هجريات حافظ
ولكن ما طريقة حافظ في تلك الهجريات؟
لا تظنوها قصائد دينية يبين فيها الحكمة من هجرة الرسول - وإن ألمع إلى شيء من ذلك - وإنما هي قصائد يسجل بها حوادث العام الماضي ويسطر فيها ما يرجو في العام الجديد، ومن أجل هذا يستبيح الهجوم على هلال العام السابق إن أخلف الرجاء، كأن يقول في هلال سنة 1327
هللت حين لمحت نور جبينه ... ورجوت فيه الخير حين تألقنا
وهززته بقصيدة لو أنها ... تُليت على الصخر الأصم لأغدقا
فنأى بجانبه وخص بنحسه ... مصراً وأسرف في النحوس وأغرقا
لو كنت أعلم ما يخبِّئه لنا ... لسألت ربي ضارعاً أن يمُحقا
وبهذا تجرد هلال المحرم عند حافظ من حليته الدينية، واحتفظ بصبغته الزمانية، فهو بدء مرحلة جديدة من مراحل التاريخ يسعد بها قوم ويشقى بها أقوام
وهجريات حافظ تمثل اتجاهات الرأي العام المصري في الوقت التي قيلت فيه، وتدلنا على أن المصريين كانوا يسايرون الحوادث في الأقطار العربية والإسلامية، فهم يعرفون أشياء من أحوال الترك، وأشياء من أحوال الفرس، وأشياء من أحوال الأفغان، وعندهم أخبار عن الجزائر ومراكش وجاوة والهند، ويتأثرون بما يقع في تلك الأقطار من حوادث وخطوب. ومراجعة الرائية والقافية تؤيد ما نقول. ولنقرأ معاً هذه الأبيات في الموازنة بين حال الترك وحال الفرس عام 1908
سلو الترك عما أدركوا فيه من منىً ... وما بدَّلوا في المشرقيْن وغيَّروا
وإن لم يقم إلا نيازي وأنورٌ ... فقد ملأ الدنيا نيازي وأنور
تواصوا بصبر ثم سلوا من الحجا ... سيوفاً وجدُّوا جدهم وتدبروا
سلو الفرس عن ماضي أياديه عندهم ... فقد كان فيه الفرس عمياً فأبصروا
جلاَ لهم وجهَ الحياة فشاقهم ... فباتوا على أبوابها وتجمهروا
ينادون أن منِّى علينا بنظرةٍ ... وأحيي قلوباً أوشكت تتفطر
والشاعر يطيل القول في فوز الترك بالدستور، وحرمان الفرس من الدستور. فإذا حال(499/7)
الحول وجاءت تحية العام الجديد كانت الفرس ظفرت بالدستور، وكان على الشاعر أن يقول:
أولَى الأعاجم منَةً مذكورةً ... وأعاد للأتراك ذاك الرونقا
وتغيرتْ فيه الخطوب بفارسٍ ... حتى رأيت الشاه يخشى البيدقا
ثم يلتفت الشاعر فيرى مصر لم تظفر بشيء، لا بالدستور ولا بالاستقلال، وفي ذلك العام نُفِّذ قانون المطبوعات فقَصَّتْ أجنحة الجرائد المصرية، وجاز للشاعر أن يقول:
فتقيدت فيه الصحافة عنوةً ... ومشى الهوى بين الرعية مطلقا
كانت تواسينا على آلامنا ... صُحُفٌ إذا نزل البلاء وأطبقا
كانت لنا يوم الشدائد أسهماً ... نرمي بها سوابقاً يوم اللقا
كانت صِماماً للنفوس إذا غلت ... فيها الهموم وأوشكت أن تزهقا
كم نفّستْ عن صدر حرٍَّ واجدٍ ... لولا الصمام من الأذى لتمزّقا
مالي أنوح على الصحافة جازعاً ... ماذا ألمّ بها وماذا أحدقا
قصّوا حواشيها وظنوا أنهم ... أمِنوا صواعقها فكانت اصعقا
ثم يتكلم عما وقع في ذلك العام من محاولة تجيد امتياز قناة السويس، وهي محاولة أثارت الجمهور المصري في سنة 1910، ثم يوجه القول إلى الشبان:
لا تيأسوا أن تستردّوا مجدكم ... فلربّ مغلوبٍ هوَى ثم ارتقى
مدْت له الآمال من أفلاكها ... خيط الرجاء إلى العُلا فتسلقا
فتجشَّموا للمجد كل عظيمة ... إني رأيت المجد صعب المرتقَى
من رام وصل الشمس حاك خيوطها ... سبباً إلى آماله وتعلقا
عارٌ على ابن النيل سّباق الورى ... مهما تقلب دهره أن يُسبَقا
أوَ كلما قالوا تجمّع شملهم ... لعب الشقاق بجمعنا فتفرقا
إلى آخر ما قال من هذا النصح الثمين.
الشعر السياسي قبل الاستقلال
سياسيات حافظ وقعت في عهد الاحتلال، السياسيات التي جعلته شاعر النيل، أما سياسياته بعد إعلان الاستقلال فهي مشوبة بالضعف، لأنه كان تعب من النضال، ولأنه كان استراح(499/8)
إلى مطارحة الأحاديث في الأندية والبيوت والقهوات
فما سياسيات حافظ في عهده الأول؟
كان يشارك الجمهور المصري في مقاومة الاحتلال بعبارات هي الغاية في صدق الوطنية، ولكنه كان يقول كلاماً نَعدُّه اليوم من الكفر بالوطنية، فقد كان يطالب المحتلين بإصلاح البلاد، ويدعوهم إلى التحرز في اختيار الوزراء. . . أليس هو الذي يقول في مخاطبة السير جورست:
إذا ما شئت فاستوزر علينا ... فتىً كالفضل أو كابن العميد
ولا تُثْقِل مطاه بمستشارٍ ... يحيد به عن القصد الحميد
ولم يفت حافظاً أن يدعو جورست إلى إنشاء الجامعة المصرية فيقول:
وأسعدْنا بجامعةٍ وشيّدْ ... لنا من مجد دولتك المشيد
وإن أنعمتَ بالإصلاح فابدأ ... بتلك فإنها بيت القصيد
وقد أخطأ شارحو الديوان حين قالوا إن الجامعة المصرية لم تكن أُنشِئت بعدُ، فقصيدة حافظ في استقبال جورست نُشرت في وقت كانت فيه الأمة استعدت بقوتها الذاتية إلى إنشاء الجامعة المصرية، كما يشهد التاريخ الذي سنسطره بعد حين.
عبقرية حافظ في مقاومة الاحتلال
لن نعفر لحافظ أنه استنصر بجورست فقال:
تَداركْ أمةٍ بالشرق أمست ... على الأيام عاثرة الجدودِ
وأيِّدْ مصر والسودان واغنمْ ... ثناَء القوم من بيضٍ وسود
فهذا كلامٌ لا تقوله اليوم، ولن نقوله بعد اليوم، لأنه كلامُ لا يقاوم له ميزان
ولكنّ حافظاً له عبقرية في مقاومة الاحتلال لم نجدها عند غريمه شوقي، فما تلك العبقرية؟
إنها تتمثل في البيت الطريف:
لقد كان فينا الظلم فوضى فهُذِّبتْ ... حواشيه حتى بات ظُلماً منظّما
وتتمثل في الأبيات التي نص فيها على تدريس العلوم باللغة الإنجليزية في المدارس الثانوية إضراراً باللغة العربية، وتتمثل في قصائده في وصف مأساة دنشواي، وهي مأساة لم تغب فجائعها عن الإنجليز أنفسهم، فسمعوا صوت الزعيم الوطني (مصطفى كامل)،(499/9)
ونقلوا لورد كرومر إلى حيث لا يريد. وسيقول التاريخ إن صوت قَرَع سمع الاحتلال هو صوت المنوفية روضة البحرَيْن وزينة الوجود.
الشاعر المظلوم
هو حافظ إبراهيم الذي نحاكمه ظالمين، الشاعر الذي صرخَ فقال:
إلى من نشتكي عنَت الليالي ... إلى (العباس) أم (عبد الحميد)
ودون حماها قامت رجالٌ ... تهددنا بأصناف الوعيد
وكان هذا الأتهام ينشر بطريقة علنية في الجرائد المصرية، فكان شاهداً على خمود حاسة العدل هنا وهناك
ومما يُشرِّف الجيل الحديث أن نصرّح بأنه استطاع في عهد الشدة ما لم يستطع أسلافه في عهد الرخاء، فمصر التي كانت تقاوم الاحتلال وهي مؤيدة بالدولة العلية، لم تكن أقوى من مصر التي تقاوم جميع المكاره وهي مؤيدة بقوتها الذاتية
بقية القول
سياسيات حافظ ليس فيها كذبٌ ولا رياء، فقد عرفتُ من مسالك حافظ أنه لم يكن ينشر قصيداً إلا بعد أن يعرضه على جميع من يصادف من رجال السياسة والبيان، فشعره صورة صحيحة لزمانه، وهو زمان جمع بين الغرائب في الإفهام والأذواق، وكذلك تكون الأزمان التي تُعدُّ الأمم للنهوض والتحليق
مداراة حافظ للاحتلال لون من السياسية الوقتية، أما ضمير حافظ فهو ضمير الوطني الصادق، ضمير الشاعر الذي يدرك في سريره وطنه ما يدرك سائر الناس. أليس هو الذي أنبأنا أن مصر قالت:
وقف الخلقُ ينظرون جميعاً ... كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناة الأهرام في سالف الده ... ر كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق الشر ... ق ودرَّاته فرائد عقدي
أي شيء في الغرب قد بَهَر النا ... س جمالاً ولم يكنْ من عندي
فترابي تبرٌ، ونهري فراتٌ ... وسمائي مصقولة كالفِرِند(499/10)
أينما سرت جدول عند كرم، ... عند زهر مدنَّرٍ، عند رند
ورجالي لو أنصفوهم لسادوا ... عن كهول ملء العيون ومُرْد
لو أصابوا لهم مجالاً لأبدوا ... معجزات الذكاء في كل قصد
إنهم كالظُّبا ألحّ عليها ... صدأ الدهر من ثواء وغمد
فإذا صَيْقل القضاء جلاها ... كن كالموت ما له من مردّ
أنا إن قدر الإله مماتي ... لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
ما رماني رامٍ سليماً ... من قديمٍ عناية الله جُندي
كم بغَت دولةٌ عليّ وجارت ... ثم زالت وتلك عٌقبَي التعدي
وتلك قصيدة نفيسة أحب أن يلتفت إليها من يستعدون لمسابقة الأدب العربي، فقد يسألون عنها يوم الامتحان
في تلك القصيدة قال حافظ أبياتاً في تصوير الأخلاق التي ترفع الشعوب، وفيها أبياتٌ صوّر بها حافظ ما بيننا وبين الغرب من صلات، فقد أنبأنا أن مصر أوصت أبناءها فقالت:
إن في الغرب أعيناً راصداتٍ ... كحلتها الأطماع فيكم بسهد
فوقها مِجْهرٌ يريها خفايا ... كمْ ويطوى شعاعه كل بُعد
فاتقوها بجُنةٍ من وئامٍ ... غير رثّ العرا وسعيٍ وكدَ
وهذا القصيد موصول المعاني بالقصيدة الذي قال فيه:
- أبناؤنا وهمُ أحاديث الندى - ... ليسوا على أوطانهم بِشِحاح
صبروا على مُرّ الخطوب فأدركوا ... حُلو المُنَى معسولة الأقداح
شاكي سلاح الصبر ليس بأعزل ... يغزوه ربُّ عواملٍ وصِفاح
الصبر إن فكرت أعظم عُدةٍ ... والحق لو يدرون خير سلاح
وفي القصيدة السالف حدثنا حافظ أن الصبر هو عُدَّة من نطالبهم بالجلاء.
خُلُق الصبر وحده نصرَ القو ... مَ وأغنَى عن اختراع وعَدّ
شهدوا حومة الوغى بنفوسٍ ... صابراتٍ وأوجهٍ غير ربُد
فحما الصبرُ آيةَ العلم في الحر ... ب وأنحى على القويِّ الأشد(499/11)
وهذا أعظم ما قيل في الإنجليز، فما كانوا أذكي من الفرنسيس ولا أعلم من الألمان، وإنما اعتصموا بالصبر الجميل فظفروا بما ظفر به العرب القدماء
ثم ماذا؟ ثم بقي القول عما نظم حافظ في المراثي وفي شكوى الزمان، وأهمية هذين البابين أهمية ثانوية بالقياس إلى باب السياسيات.
ادرسوا سياسيات حافظ بعناية لتفوزوا، جعلكم الله جميعاً فائزين.
زكي مبارك(499/12)
مطالعاتي حول المدفأة
الفنانون والمال
للأستاذ صلاح الدين المنجد
يذهب دافنيل ' في كتابه عن (تاريخ الملكية الاقتصادي. . .) أن العمل الفني الذي أخرجه أناس مجهولون أوتى، منذ القرن السابع عشر، ربحاً يعادل ثلاثة أضعاف الربح الذي قدر للآثار الفنية الرائعة التي أبدعها فنانون عباقرة عرفهم الناس فسار اسمهم، وشردت روائعهم في كل مكان
أفيكون للمال الذي يربحه الفنان، والرواج الذي يُقَدَّر لآثاره ورائعاته، أثر في قريحته ونبوغه؟ أيدب اليأس في نفسه عند رؤيته الغث يروج وينفق، والحسن يكسد ويهمل؟
هذا الأثر، كما أعتقد، يظهر في عدد المؤلفات، وفي شكل الآثار عند من يبتغي المال، ويتخذ الفن سبيلاً له، ويبدع، إن أبدع للسوقة لا للخواص
لا جرم أن هناك فنانين ذوي اقتصاد أو بخل أو تفتير، وأن هناك آخرين ذوي سرف وترف وتبذير، وأن فيهم جميعاً من يحب المال ويسعى إليه؛ ولكن ذلك كله لا يؤثر في عبقرية الفنان فيشلها أو يعلها. لقد كان من المقترين الموسيقي الإيطالي (باليسترينا وفيكتور هوغو، وميكيل آنج. . . وكان من المبذرين موزار، ولامرتين، ورامبراند. . . ولكن لم نر أن حبهم للمال أو تقتيرهم فيه أو حرصهم عليه، كان سبباً في خصب قرائحهم أو جديها؛ لأن الحقيقة هي أن هؤلاء، ونعني الفنانين الموهوبين، سواء أمبذرين كانوا أم مقترين، يجدون في الفن حاجة لا يتحولون عنها، لأن فيها متعة ولذة. فهم لا يعلمون، كل في فنه، ابتغاء المال، لكن إرضاء لأنفسهم. إذ ليس بهم سبيل إلى الصدوف عن الفن؛ فهم يعملون للفن، كما يعملون، بقدر، للحياة. ينظمون كما يبصرون، ويشعرون كما يأكلون؛ ويصورون كما ينامون. . . فإذا أشبعوا نفوسهم الجياع ورووا أرواحهم الظمآء بإبداع متع الفن الخالدات. . . تطلعوا إلى المال. فحاسة الفن، فما هي غير الرغبة في المال. لأن الرغبة في المال حاسة تساعد الفن، فما هي بالتي تبدع وتخلق، ولكنها تدفع وتهيج
وقد يكون من النزوع عن جدد العقل أن نقدر قيمة مؤلف من التواليف، أو أثر من الآثار، بما يقدم لصاحبه من الأموال. فقد يخرج الفنان آية من آيات الفن تتجلى فيها العبقرية(499/13)
والنبوغ والسمو، فلا يقدِّر لها النجاح، ولا يقدِّم لصاحبها إلا فلوس غير كثار؛ وقد يخرج متأدب، من الأدب السوقي، ما يوافق عقل العامي ويطابق هواه. . . فينال النَّفاق والرواج. ولقد ربح كورنيل الكبير من مسرحيته (آتيلا و (تيت وبيرينيس ما لم يربحه من (السيد أو (هوراس فقد نال في كل منهما ما كان يعادل في القرن الخالي سبعة آلاف من الفرنكات. وهذا مبلغ في القرن السابع عشر، عظيم. رغم أن هاتين المسرحيتين لم تبلغا ذروة الفن. ونال (توماس كورنيل) من مسرحيته (تيموقراط ما يفوق هذا المبلغ، من أن توماس كان لا يجاري أخاه كورنيل الكبير في البراعة. وكانت الآثار التي جلبت لرسُّو الأموال، هي آثاره التي نسيها الناس في هذه الأيام. فلقد مهد معجمه السبيل للمال ليصل إلى جيبه. وربح هوغو من البائسين أربعمائة ألف فرنك؛ وما كانت بأروع آثاره. وقد أوتي الروائي الفرنسي (أوجين سو هذا المبلغ من كتابيه (خفايا باريس) و (اليهودي التائه وتخطاه ربح (بونسون داتيراي من كتابه (روكومبول
فمن أراد الفن لا يحفل المال. ويقول الدكتور لالو إذا أردت أن تعيش عيشة طيبة فاكتب وريقات، وميلدرامات وضع للتمثيل الموضوعات. . . أما إذا أردت أن تخدم الفن، وتخرج رائعات فاتنات، فاعزف عن العيش الناعم، والمال الكثير. فإذا كان عيشك الساذج آنئذ مترعاً بالفن والجمال، فإنه لعيش لا يقدر عليه من البشر غير أفراد قِلال.
وقد يخشى أن يسفل الفن إذا سعى وراء المال. ويقول (برودون في كتابه (ليس لدينا في مكان الأدب والفن، غير صناعة مقدّرة لخدمة الترف العامل على الفساد والخراب) ولقد احتج على الملكية الفنية وحقوق الفنانين في القرن الخالي، وقال إنه ليس من يكتب للفن، وليس من يبدع للفن، فهم جميعاً يبتغون التجارة؛ ويساعدون بما يكتبون على فساد البلاغة. . . وخراب الروح. وكان (شارل نوديير الروائي المعروف، يحسب عندما يكتب، أن كل ثماني كلمات تؤلف سطراً، وأن السطر ثمنه فرنك واحد. . . وقد عللوا وفرة حروف الاستفهام والتعجب. عند أبطال (دوماس الكبير) في رواياته كقولهم (أوه!) أو (آه!. . .) أو (آية!) بأن ثمن السطر كان فرنكاً ونصف فرنك؛ وهذه الحروف كانت تحسب في السطر من الكلمات التسع.
وقد لاحظ النقّادة الفرنسي (سانت بوف) هذا فقال: (إذا كنت تجد عند مؤلِّف بارع كهذا(499/14)
(يعني دوماس الأب) جملاً فارغة جوفاً، فذلك لأنه قد اعتاد منذ الصبا، أن يشوه جمله، فيضع أقلَّ ما يكون من الفِكَر في أكثر ما يكون من الكلمات. . .) وما ذلك الإسهاب إلا لإكثار عدد السطور، وإكثار عدد الفرنكات.
فبرودون يغضب ويثور، لأن الفن لا ينبغي أن يصبح سلعة يلتمس من ورائها المال فتبتذل، ولكن يجب أن يبقي متعة يلتمس فيها الجمال والخلود.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(499/15)
أهمية دراسة التاريخ
للدكتور محمد مصطفى صفوت
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
(أنشودة الزمن خلدت في ذاكرة الناس) هذا ما ألفاه شاعر في التاريخ. وما يجده الشاعر في قراءة التاريخ لا يختلف كثيراً عما يجده الفيلسوف أو المؤرخ. فالفيلسوف يجد التاريخ طرائق متعددة للحياة الإنسانية، ويسمع فيه صوتاً خالداً يردد قوانين الحق وأصداء الباطل، ويدرس فيه الفلسفة دراسة الواقع. وأما المؤرخ فيجد متعته في الوصول إلى الحقيقة، وذلك بدراسة الآثار والوثائق التي خلفتها الإنسانية في مناحيها المادية والروحية.
ويتساءل المؤرخون فيما بينهم عن موضوع علم التاريخ. هل التاريخ سيرة الملوك والأمراء، أم هو سيرة الشخصيات الكبيرة والأبطال الذين قادوا الأمم وغيروا مجرى حياة الشعوب؟ هل التاريخ قصة لحياة طبقة دون سواها؟ هل التاريخ دراسة للناحية السياسية فحسب، أم هو شامل للنواحي الاقتصادية والاجتماعية والعقلية والفنية للحياة الإنسانية؟ ولعل الرأي الذي يقول بأن التاريخ يبحث في حياة الإنسان في الماضي من كل نواحيها وفي تطورها ونموها أقرب إلى الحقيقة. ولكنا نرجع فنجدد دراستنا للحياة الإنسانية بالمدة التاريخية، وهي المدة التي وجدنا لها آثاراً ومخلفات نستطيع الاعتماد عليها والوثوق بها. فالتاريخ يعرض أمامنا ثمرات العقل الإنساني والعاطفة الإنسانية من أدب وعلم وقوة ودين، يرينا ما مرت به الدول والشعوب والطبقات والأفراد من محن ومصاعب وما سمت إليه من مجد وعظمة: هو يوضح لنا التطور السياسي والاجتماعي والفني.
شعر الناس منذ القدم بما للتاريخ من قيمة، فعنوا بدراسته وسارعوا إلى تدوين أخبار الإنسانية على صفحات الذاكرة، ثم على مبانيهم ومنشآتهم، ثم سجلوها في كتبهم، وهم يحسون بضرورة صيانة تراث الآباء والأجداد. على أن قيمة هذه الأخبار تتباين في أنظارهم بتباين الزمان والمكان، فحينما كان التاريخ قصصاً يختار الرواة من حوادثه ما يبهرهم ويثير إعجاب الجمهور كانت قيمته في التسلية وكسب الرزق. وحينما تغلبت فكرة السياسة أو الأخلاق، أو الدين أو الاقتصاد أصبح التاريخ يخدم غرضاً سياسياً، دينياً أو اجتماعياً. ثم لما اهتم المؤرخون بتنظيم حقائقه وترتيب وقائعه، ونقدها، كانت قيمة التاريخ(499/16)
في ذاته، في السعي إلى الوصول إلى الحقيقة
ولننظر إلى أهمية التاريخ في تربية الدارسين وتثقيف عقولهم. ما قيمة التاريخ في ذلك النوع من التربية الذي يرمى إلى إعداد الأفراد للقيام بحرفة بنجاح وكفاية؟ رمى التعليم في القديم إلى غرض مهني، فكان مرمى من توافروا على معرفة التاريخ كسب العيش. فمنذ أزمنة سحيقة من عهد هوميروس، وجد قوم انهمكوا في دراسة القصص القومي وما يحويه من سير الأبطال، وساروا به خلال الديار اليونانية ينشدونه أمام الناس ويتقبلون ما يمنحونهم من هبات. وفي التاريخ الإسلامي كانت طائفة من الناس تعمل على حفظ أخبار العرب وأيامها وآدابها للتقرب من الخلفاء ونيل عطاياهم. ولم تكن طريقة الدراسة تعتمد على الأخذ من أفواه الرواة فحسب، بل كثيراً ما كانت تلجأ هذه الطائفة إلى الرحلة إلى الأقاليم التي يراد دراستها والوقوف على عجائبها وطبقات أهلها. ومثل هذه الطائفة كان يطوف في أوربا في العصور الوسطى
عرف المسلمون للتاريخ فوائد أخلاقية (دنيوية وأخروية) فكان عند الدول الإسلامية مادة حرفية تعد لمهنة الكتابة والإنشاء. وفي أوربا في العصور الحديثة كان التاريخ يدرس لأولاد النبلاء والأمراء كوسيلة من وسائل تدريبهم على ممارسة أمور الحكم. وهو الآن يدرس في بعض المعاهد العليا والجامعات لإعداد مُدرسي التاريخ والخُبراء السياسيين. أما في المدارس الثانوية والابتدائية فتتغلب الفكرة الثقافية التي ترمي إلى تكوين الدارس عقلاً وروحاً وإعداده لتذوق الفن والجمال
مركز التاريخ مهم بين العلوم الثقافية، فالاهتمام به إنما هو اهتمام بتركة الإنسان وآثار لجهد الإنساني. قد يشك بعض الناس في قيمة تثقيف الطلبة بمعلومات عن أشخاص أو حضارات أصبحت الآن طي الفناء كما يحاولون. هؤلاء الأشخاص وهذه الحضارات لم تعف آثارها فما زالت مقيمة بيننا مؤثرة فينا ملهمة لنا؛ وما قيمة المعلومات الأخرى للإنسان إذا لم يعرف نفسه وماضي حياته وتفكيره في أطواره المختلفة؟ فدراسة الإنسان ينبغي أن يكون محور كل دراسة ومركز كل بحث
أما مركز التاريخ في التربية الخلقية الاجتماعية فلا يقل أهمية. يرمي ذلك النوع من التربية إلى تكوين الأخلاق الشخصية. ولقد ولد الإنسان في مجتمع يعد أفراده للحياة فيه(499/17)
وفق عاداته ونظمه ومثله العليا. ولا ريب في أن التاريخ يكاد يكون من ألزم العلوم لهذا النوع من التربية، لأن التاريخ يدرس ماضي الإنسانية وتراثها الاجتماعي
وهناك اعتراضات قد تثور في ذهن بعض المفكرين؛ فيرى فريق أن التاريخ لا يعرض أمامنا أمثلة حسنة للسلوك المرضي فحسب، بل كثيراً ما يضرب أمثلة للقسوة والغدر والأنانية. ولو أن المؤرخ أو المعلم أراد استبعاد ذلك الجانب من التاريخ لجعل من شخصياته أبطالاً خياليين لا يدأبون وراء شيء غير الفضيلة، وهذا في ذاته مخالف للأمانة العلمية. ويقول فريق آخر (لقد أصبحنا لا نرجع للتاريخ لنجد دروساً في الأخلاق أو مثلاً عليا للسلوك أو مواقف باهرة. نحن نفهم أن القصة الخيالية لتحقيق ذلك المتفقة مع آرائنا في العدالة). ويرى فريق ثالث أن ليس ثمة فائدة أخلاقية نافعة من دراسة التاريخ، فهل دراستنا لتاريخ روما التي هوى بها الانهماك في اللذات والترف منذرة لعصرنا الحاضر بالاضمحلال؟ ويؤيد ذلك الفريق فكرته بأنه لم توجد فترتان متشابهتين من كل الوجوه في حياة الأفراد، فكيف في حياة الشعوب. وفريق رابع يندد بأن الماضي قد سيطر على عقولنا وتفكيرنا، فنحن نفكر بتفكير الماضي، ونحن منغمسون دائماً في الماضي، مع أن ظروف الحياة قد تغيرت وتبدلت، ولابد من زيادة الاهتمام بالحاضر والنظر إلى المستقبل
ويرد على هذه الآراء بالقول إن التاريخ مفسر للحياة الإنسانية الماضية، فهو موضح لناحيتي الخير والشر. والتربية الاجتماعية لا ترمى إلا لأعداد الفرد للحياة بما فيها من مفارقات. وهي تعمل دائماً على إيجاد التوازن بين الغرائز الاجتماعية للإنسان وغريزة حب الذات. لا ننكر أننا نرمي بمثلنا التاريخية إلى رفع مستوى الحياة وتطهيرها من أدرانها، ولكنا نعمل في نفس الوقت على إعداد شخصية حقيقية لا خيالية. ومن ناحية أخرى، كثير من الشرور التاريخية لا تستقر في أذهاننا، فقليل من الناس من إذا ذكر اسم شكسبير أو خالد بن الوليد يذكر هنأتهما الشخصية. ولا جدال في أن التاريخ ممتلئ بالشخصيات التي تتمثل فيها البطولة وبالمواقف الخلابة، وإذا وجد الأطفال في القصة الخيالية ما يشفي غليلهم، فلا يجد الدارسون ممن ارتقى بهم العمر في غير قصص التاريخ الحقيقية ما يهيج كوامن نفوسهم. وهل هناك ما يمنع من أن نضع لصغار التلاميذ قصصاً تاريخية في شكل جذاب تتجلى فيها الحقيقة، لهذه الأعمال أعمال حقيقية قام بها أناس(499/18)
حقيقيون عاشوا على وجه الأرض. ثم هل من التعليم في شيء الإكثار من ملء عقول صغار الدارسين بخرافات وأوهام في مرحلة من العمر هم محتاجون فيها لضبط خيالهم، وفي وقت تناثر عقولهم بكل شيء، وأن هذه المعلومات المملوءة بالأوهام سوف تشكل ما يتلقونه من معلومات في المستقبل؟ وأخيراً لا نستطيع إنكار استفادة الإنسان من تجارب آبائه، واستفادة الأمم من تجارب من سبقها، فحياة الإنسان والأمم قصيرة ومعظم تجارب الإنسان ومعلوماته مستقى من الآخرين. ويمتاز الإنسان عن الحيوان بذكائه وقدرته الكبيرة على التعلم. وما نظم الحياة الحاضرة إلا تعديل لنظم الحياة الماضية. على أنه في دراستنا للماضي لا ينبغي نسيان الحاضر أو إهماله؛ فيجب دائماً ربط الماضي بالحاضر وتبين أثر الماضي في النظم الموجودة، كما يجب ألا تكون دراسة الماضي إعجاب فحسب، بل دراسة تفكير فيه ونقد له. ويلزم العناية بانتقاء الأمثلة التاريخية لأنها خير أثراً من كثير من النظريات الأخلاقية. وكلما كان المثل مأخوذاً من الحياة كان أكثر بقاء في النفس وأعمق قراراً فيها. وليست قيمة هذه الأمثلة مقصورة على عملها على استقرار الحياة وإنما في توجيهها لها. وفائدة هذه الأمثلة ليست في المبادئ التي تمثلها فحسب بل في الشعور والعواطف التي تستثيرها في نفس القارئ أو المتعلم. والتاريخ قصة لمحاولات الناس في سبيل الحياة، ولذا فدراسته ذات قيمة وفائدة لمن يتأهب للسير في هذا السبيل.
(البقية في العدد القادم)
محمد مصطفى صفوت(499/19)
أطوار الوحدة العربية
العرب في ميادين الكفاح
للأستاذ نسيب سعيد
سأحدثك اليوم عن نزول العرب فعلاً إلى ميادين الصراع والنضال، وعن تأليف الجيش العربي واشتراكه بالمعارك والمواقع الحربية إلى جيوش الحلفاء فأقول:
لقد كان سفر الأميرين (علي) و (فيصل) من أبناء (الحسين) مع المتطوعين العرب، من معسكر (حمزة) في فجر أول يونيو (حزيران) عام 1916، أول نذير أنذر به الترك بخروج العرب عليهم، وانفضاضهم من حولهم. فاتجه الأميران العربيان بعد مغادرتهما الثكنة العسكرية إلى (الخانق) سالكين الطريق الشرقي، ثم عادا إلى (بيار علي) وهو موقع بقرب المدينة فخَّيما هنالك، وكاتبا القبائل العربية، وأخذ يجمعان القوى والجنود والأنصار
وفي صباح الثامن منه هاجما بستة آلاف مقاتل محطة (المحيط) مع حاميتها، ودارت أول معركة بين الترك والعرب؛ واستأنفا الغارة صباح 9 منه فهاجما الحسا، ودارت معركة عنيفة امتدت من الصباح حتى الظهر. وعلى هذا المنوال بدأت المعارك حول المدينة المنورة بين العرب والترك قبل أن تعلن الثورة رسمياً لأن الثورة الكبرى - كما قلت لك في حديثي السابق - بدأت في مكة صباح يوم السبت 9 شعبان سنة 1334 الموافق 10 يونيو (حزيران) عام 1916. وذلك أن الحسين أوعز إلى رجاله - وكان قد أعدهم من قبل - بأن يهاجموا الثكنة العسكرية في (جردل) - كما حصل في المدينة والطائف - وكان الترك غافلين عما يدبر لهم في الخفاء، وكان قادتهم وكبار ضباطهم في الطائف؛ ويتولى القيادة على الجيش التركي وقتئذ بكباشي اسمه (درويش) بك
وفي ذلك الصباح الأعز بدأ (الحسين) نفسه الثورة على الدامية بأن أطلق رصاصة من قصره على ثكنة الترك فكانت الإعلان الرسمي للثورة العربية الكبرى، كما كانت الإشارة التي اتفق عليها بينه وبين رجاله فشرعوا بالهجوم على أثرها. وكانوا قد احتشدوا في مكان مجاور قبيل الفجر
وأدرك درويش بك قائد الجند التركي حراج الموقف، وعرف أن مصير جنده إلى الفناء لأنهم كانوا يقومون بالتمرينات الرياضية المعتادة في خارج الثكنة، بلا سلاح ولا عتاد،(499/20)
فعمد إلى الحيلة لإنقاذهم، فخاطب الشريف تليفونياً وسأله عن السبب فيما وقع فأجابه:
(إن العرب لا يرضونكم حكاماً عليهم بعد ما قتلتموهم، وأهنتموهم وعاديتموهم)
فقال له: (ما دام الأمر كذلك فأرسل من قبلك من تعتمد عليه لنسلمه السلاح والجند، فنحن لا نريد إراقة الدماء عبثاً) فقصد الشريف عبد المحسن البركاني على الفور لمقابلة درويش بك وأمر الثوار بالتفرق. فدخل الجند الثكنة فوراً وأخذوا السلاح وأخذوا أهبة النضال والقتال، ونبه أحد الضباط العرب الشريف إلى الحيلة والمكيدة، فنجا بنفسه
وهاجم الشريف محسن بن أحمد منصور جدة صباح الأحد في 11 يونيو (حزيران) على رأس أربعة آلاف مقاتل، فتحصنت حاميتها التركية في شمالها وجنوبها، وصمدت للكفاح. وقد اشتركت - لأول مرة - ثلاث بوارج بريطانية. في هذا الهجوم يوم 13 منه وأصلت أماكن الترك نيراناً حامية. وكذلك طارت الطائرات البحرية البريطانية في سماء جدة يوم 14 منه وألقت على معسكر الترك منشوراً يعلن ثورة العرب على أحقاد جنكيز. وفي يوم 16 يونيو (حزيران) رفعت حامية جدة راية التسليم، فأنذرت بعدم إتلاف مدافعها وأسلحتها. وبلغ عدد الجنود الترك الذين استسلموا للعرب يومئذ (1346) جندياً يقودهم (47) ضابطاً مع غنائم كثيرة جداً
وفي يوم 27 وصل إلى جدة (ولسن) باشا حاكم بور سودان يحمل كتباً إلى الشريف (حسين) يتضمن تهنئة العرب بالنصر والاستقلال ويعرب فيه عن الإعجاب والإكبار لهذه الأعمال المجيدة التي يقوم بها العرب، وقال انه من البريطانيين الذين يحبون الشرق ولا سيما العرب منذ نعومة أظفاره. وجاء في الكتاب أيضاً أن الحكومة البريطانية أرسلت مع هذه التهنئة والتحية قوة بسيطة من قبلها لمساعدة العرب في جهادهم الجبار. . .
وفي يوم 25 شعبان سنة 1334 و 26 يونيو (حزيران) تم طبع منشور الثورة، وقد وضعه الشريف (حسين) بنفسه وبسط فيه الأسباب التي أهابت به إلى مقاتلة الترك بسطاً وافياً
ولا ريب أن أقطاب العثمانيين ريعوا لإعلان الثورة العربية في الحجاز، وكان جمال باشا أشدهم حسرة وألماً، لأنه أدرك أنه كان مخدوعاً، وعرف أنه لم يحسن التصرف مع (الحسين) وأبنائه الذين أفلتوا من يده بعد ما أخذوا المال والسلاح. ولقد كان فخري باشا(499/21)
محافظ المدينة المنورة أول من تنبه إلى هذه الحقيقة، كان يدعو إلى الفتك بالشريف وأبنائه، ويشير باتباع سياسة الشدة والحزم في الحجاز فقال كلمته المأثورة: (لقد انتصر الذكاء العربي في هذه المرة على الذكاء التركي وفاز عليه).
وقبض فخري باشا على ناصية الحال في المدينة على الأثر، وأخذ يستعد لمنازلة العرب الذين نزلوا إلى ميدان النضال والصراع، وشرعوا يقاتلون الترك بلا هوادة ولا توقف ولا رحمة. . .
وكذلك نزل العرب إلى ميادين الكفاح لأول مرة بعد نزولهم الحرب أيام الجيش المصري، بقيادة البطل الخالد إبراهيم باشا من القاهرة إلى فلسطين عام 1831 لمقاتلة الجيش التركي ففتحها بدون صعوبة ولا عناء بفضل تأييد عرب فلسطين إياه وانضمامهم إليه، وأكثر من ذلك بفضل شجاعة الجندي المصري وقوة بأسه وشدة فراسته، وواصل التقدم إلى دمشق وإلى حلب فاحتلهما، وكان العرب يقاتلونه في كل مكان بالهتاف والتصفيق والاستبشار وينضمون إليه ويرون فيه محرراً ومنقذاً مما سنفصله تفصيلاً حين الحديث على فضل مصر على القضية العربية
على أن إقدام (الحسين) وأولاده على إعلان الثورة وهم مجردون من كل قوة منظمة، ولا يملكون سوى مقادير قليلة من البنادق، وهي التي أخذوها من الترك للمتطوعة، ولا يجهلون أنهم سيستهدفون لقتال قوات كبيرة تنزل في ديارهم، وتحيط بهم، وتسد عليهم المسالك، ومن ورائها جيوش جرارة، تسرع لنجدتها؛ وأن هذا الإقدام ينطوي ولاشك على كثير من الجرأة، وصدق العزيمة. ولو تسنى لفخري باشا بلوغ مكة كما تصور جمال باشا لقضي على الثورة وأبادها في مهدها، بيد أن ثبات رجال العرب في وجهه واستماتتهم في المقاومة والكفاح، جعله يعدل عن خطة الهجوم، ويكتفي بالدفاع، فاستصفى العرب بذلك مدن الحجاز الواحدة بعد الأخرى بعد أن نزل (الجيش العربي) إلى القتال، ثم اتجهوا نحو الشمال، لتحرير سورية وإنقاذ بلاد الشام
ولقد أظهر الجيش العربي في خلال الأدوار التي اجتازها أثناء الحرب الماضية من الشجاعة والإقدام - على حداثة عهده - ما نال إعجاب الأعداء قبل الأصدقاء، وجعل قادة الحلفاء وفي مقدمتهم اللورد (اللنبي) يعترفون بما أسداه من خدمات جلى. أما أهم المعارك(499/22)
التي خاضها الجيش العربي فهي معركة جدة وهي أول معركة ربحها العرب في الحجاز، ثم معركة مكة والليثي وأوملج، والطائف، والمدينة، ورابغ، والوجه، والمويلح، وخبا، وحروب المحطات، والعقبة، ووادي موسى، والطفيلة، ومعان، والأزرق، وحوران، ومعركة الشام الكبرى، وغير ذلك من الحروب التي أظهر بها الجيش العربي الباسل كل ضروب القوة والشجاعة والعبر رغم حداثته وقلة أفراده، مما لا يتسع المقام لتفصيلها. ولقد انتصر هذا الجيش الفتي في جميع هذه المعارك والحروب انتصاراً مبيناً، وسجل آيات الظفر بأحرف من نور. وكذلك انتهت الحرب التي افتتحت بمعارك الحجاز واختتمت بحروب الشام بفوز العرب وكانت قوة الترك لا تقل عن عشرين ألف محارب مجهزة بأفضل الأسلحة الحديثة. وقد قطع العرب خط الرجعة على الجيش التركي المتقهقر من فلسطين ووادي الأردن، ومنطقتي معانة وعمان، وما كان يقل عن ثلاثين ألف محارب، فقد ارتد على جناح السرعة من دون أن يشتبك مع البريطانيين في قتال بسبب ظهور العرب وراء خطوطه، فانسحب بسرعة لكيلا يقع بين نارين، ولولا جهود العرب في الصحراء، وقطعهم الطريق على الجيش العثماني، وحاجتهم للمحطات على طول الطريق، لما وقع ما وقع ولارتد الجيش سالماً ولأنشأ خطوط دفاع جديدة في حوران وحول دمشق. ولقد سلم الترك والألمان بهذه الحقيقة الرائعة قبل الحلفاء، فقال المارشال (ليمان فون ساندرس) القائد العام للجيوش التركية في بلاد العرب في مذكراته التي نشرها بعد الحرب الماضية ما نصه: (لقد اتفق شريف مكة وأميرها مع الحلفاء في صيف عام 1912 على الاشتراك في الحرب، وأعلن استقلال العرب، فنشطت بذلك حركاتهم الثورية في بلاد الشام، وكان الحلفاء يحمونها، واتسع نطاقها، وخصوصاً بعد إفلاس سياسة الشدة التي سار عليها جمال باشا، في معاملة الشعب العربي. ولقد أراد أنور باشا إعداد حملة عسكرية كبيرة تزحف على مكة، وتنصب أميراً جديداً عليها، بيد أن عدم ملاءة الظروف الحربية، وعدم جواز اشتراك جنود مسيحيين في الحرب، حال دون إتمام ذلك فعدل عنه. ولقد أدت الثورة العربية خدمات جلى للجيش البريطاني، خلال تقدمه في شبه جزيرة سينا فكان الإنجليز آمنين مطمئنين يفعلون ما يشاءون كأنهم في داخل بلادهم، بعكس الترك الذين مقتهم أهل البلاد، وملوهم فكانوا يسوقون جيوشهم وكأنهم في بلاد معادية لهم). . .(499/23)
(دمشق)
نسيب سعيد
المحامي(499/24)
الحضارات القديمة في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
الحضارة المصرية القديمة
كان لقدماء المصريين حضارة رائعة يعتز بها الآن أبناء مصر، ويفد السائحون من سائر الأقطار لمشاهدة آثارها الباقية، والتمتع برؤية عجائبها التي تملأ النفس روعة، وتفعم القلب إعجاباً. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحضارة العظيمة فيما قصه من أخبار فرعون وموسى عليه السلام، ولكنه لم يمدح منها إلا ما يستحق المدح، ولم يطر منها إلا ما يستحق الإطراء، وذلك ما كان منها متجهاً إلى مصلحة الرعية، نم شق الأنهار، وتعمير الأرض، والعناية بتوفير خيراتها للناس، حتى تنمو بذلك ثروتهم، وتسعد به حياتهم، فلا يتمتع الملك وحده بالحياة السعيدة، بينما تعيش الرعية بجانبه في الذل والشقاء. وقد كان للحضارة المصرية عيوب بجانب هذه المحاسن فأشار القرآن الكريم إليها، وندد أشد تنديد بها، وذكر أنها هي التي قوضت بنيان هذه الحضارة، وجعلتها تنتقل إلى قوم آخرين، ساروا في الأرض سيرة صالحة، وأقاموا فيها موازين العدل، وتلك سنة الله في الخلق، كما قال تعالى في الآية - 150 - من سورة الأنبياء: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) فالمراد بذلك الصالحون لعمارتها، وإقامة بنيان الحضارة فيها، وهذا هو الذي يشهد به التاريخ القديم والحديث، فأنا نرى فيه أن الحضارة الإنسانية لم تكن وقفاً على أمة من الأمم، ولم يستأثر بها شعب من الشعوب، وكم من شعوب ظهرت بهم الحضارة فأبطرتهم، وأخذوا ينظرون إلى أنفسهم نظرة إعجاب وإكبار، وينظرون إلى غيرهم نظرة استهزاء واحتقار، ويرون أنهم أوثروا بالتقدم على غيرهم إيثاراً، وقد بلغ من بعضهم أن زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، فلم تكن إلا عشية وضحاها حتى سلبهم الله عزهم، وأورثه ثوماً آخرين صالحين متواضعين، ديدنهم العمل، ولا يأخذهم شيء من الغرور والكسل
وهذه هي الآيات التي وردت فيما يستحق المدح والإطراء من الحضارة المصرية القديمة،(499/25)
وهي تصف ما تركه فرعون من آثار هذه الحضارة في مصر، حين غرق هو وجنوده في البحر، ففي هذا يقول الله تعالى في الآيات: 24، 25، 26، 27، 28، 29 - من سورة الدخان: (واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون، كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء وما كانوا منظرين)
ويقول أيضاً في الآيات - 57، 58، 59، 60 - من سورة الشعراء (فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين)
ولاشك أن القرآن بهذا المدح والإطراء لما كان في مصر على ذلك العهد، يتفق مع الغاية التي قلنا إن الإسلام جاء من أجلها، وينادي بأنه ليس ديناً يدعو إلى إقامة نساك وعباد في الأرض لا غير، ويزهد الناس في تعميرها بشق الأنهار، وإقامة الزروع والبساتين، وغير ذلك من معالم الحضارة، ووسائل السعادة في هذه الحياة، بل يدعو مع العبادة والنسك إلى ذلك كله، ويرى أنه لا تتم سعادة الآخرة، إلا بسعادة الدنيا
وقد ذكر المفسرون في تلك الجنات والعيون أن البساتين كانت ممتدة في حافتي النيل فيها عيون وأنهار جارية، وذكروا في ذلك المقام الكريم أنه أراد به مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم، وقيل إن فرعون كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلثماثة كرسي من ذهب، يجلس عليها الأمراء والأشراف من قومه، وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب
ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى خطأ المفسرين فيما ذكر الله من إرث بني إسرائيل في تلك الآيات، فقد ذكروا أن الله عز وجل رد بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والأماكن الحسنة. ولاشك أن من يدرس تاريخ بني إسرائيل من عهد موسى إلى ظهور الإسلام، وكذلك تاريخ مصر في ذلك العهد، لا يجد شيئاً فيهما يثبت أن بني إسرائيل قام لهم فيه ملك في مصر، أو أنهم ردوا إليها فأعطوا ما كان لفرعون وقومه من الأموال والأماكن الحسنة. والحق أن الله تعالى يشير بذلك إلى بساتين وعيون كانت لبني إسرائيل في فلسطين، وذلك بعد أن قامت لهم فيها تلك الدولة العظيمة، وبلغت أوج عظمتها في عهد داود وسليمان عليهما السلام. فالضمير في (أورثناها) يعود إلى مطلق الجنات والعيون وما ذكر معها، ولا يعود إلى خصوص ما كان(499/26)
منها في مصر على ذلك العهد، وهذا من أسلوب الاستخدام المألوف في لغة العرب، ويعتمد في بيان المراد منه على السياق وقرائن الأحوال
وأما الآيات الواردة فيما يستحق الذم من الحضارة المصرية القديمة، فهي التي وردت في قيام الحكم فيها على التفريق بين الشعوب، واستخدام الشعوب الضعيفة في مصلحة الشعوب القوية، وذلك قوله تعالى في الآيات - 4، 5، 6 - من سورة القصص، (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفدسين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)، وقد ذم القرآن الكريم من ذلك ما يستحق الذم، لأن الحكم الصالح يجب أن يقوم على التسوية بين الشعوب، وعلى الأخذ بيد الشعب الضعيف حتى يصل إلى ما وصل إليه الشعب القوي، فلا يرهق شعب في العمل لسعادة شعب أقوى منه، ولا يرى شعب أن يستأثر بأسباب السعادة لنفسه، لأن هذا مما يثير الأحقاد بين الشعوب ويعوقها عن التعاون في العمل لسعادة البشر في هذه الحياة، بما يقوم بينها من المنازعات والحروب، ولا سعادة لها إلا بالسلام، ولا سلام لها إلا بالعدل والمساواة.
(يتبع)
عبد المتعال الصعيدي(499/27)
الطيران بين أسلحة الحرب
الملازم الأول حسين ذو الفقار صبري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
سنجد إذا نظرنا في أمر (الناقلات) أن ما ذكرناه عن القاذفات ينطبق عليها تماماً، إذ أنهما نوعان متماثلان، لا يختلفان في شيء اللهم إلا في تصنيف الأحمال، وليس في تقدير الأحجام والأثقال؛ هذه ارتحلت بالقنابل والمقذوفات، وتلك نقلت الرجال والعتاد أو ربما نقلت جنود الهابطات
أما (المنقضات)، أدوات التحطيم التكتيكي، فهي طائرات تعمل ضد أهداف ضاقت مساحتها وإن عظمت أهميتها كمدافع الميدان، أو معاقل المقاومة، أهداف لا تميز إلا من ارتفاع بسيط، إصابتها عسيرة إلا إذا هوت عليها الطائرات كالعقبان. فهذه إذن طائرات مقدرتها على الاحتمال عظيمة: هياكلها متينة، تغالب ضغوطاً نشأت عن حركات اعتدال عنيفة إثر سقطات هاوية، وطائرات كهذه يجب أن يكون ثقلها محدوداً حتى لا تؤثر جاذبية الأرض عليها تأثيراً كبيراً، فيا حبذا لو تمكنا من اجتجاز ما تبقى من ثقلها هذا المحدود. لحساب محرك قوي يساعدها على الانطلاق سريعاً. ولكن هل ترانا نسينا أنه يجب عليه اقتسام ذلك الثقل الفائض مع قنابل ضخمة لولاها لما أنشئت تلك الطائرات ولا كان لها وجود؟ فلتقنع (المنقضات) إذن بمحرك ضعيف يتركها فريسة سهلة لطائرات الأعداء، إلا إذا أحطناها بالمقاتلات تحرسها وتحمي ظهرها، فتعينها ولو قليلاً على القيام بواجبها وتنفيذ مآربها
تلك هي أنواع الطائرات الرئيسية، وياليتها كانت مقسمة ذلك التقسيم البسيط! إن واجبات الطيران أصبحت عديدة متفرقة، لا تؤديها على الوجه الصحيح إلا أنواع من الطائرات تعددت بتعددها، وتخصص كل نوع منها كل التخصص، كل منها يخالف الآخر في خواصه بل يناقضه أحياناً وإن تضافروا جميعاً نحو الغاية وتكاتفوا على الهدف
وتعدد أنواع الطائرات هنا هو بالذات السبب الرئيسي الذي وقف في سبيل سيطرة الطيران سيطرة تامة على ميادين القتال؛ فإن السلاح الذي كتب له التحكم والسيطرة يجب أن يكون سلاحاً مرناً متعدد النواحي لا الأنواع، يقابل كل حالة طارئة بأسلوب جديد يناسبها، أو بحل(499/28)
مبتدع يعالجها. وما الحرب إلا ظاهرة اجتماعية لبشر يعيشون على وجه الأرض، ولذا سيظل سلاحها الأساسي جيوشاً تعمل مثلهم على وجه الأرض
بعد الحرب الماضية بقليل، غمرنا الجنرال الإيطالي (دوهيه) بمقالات عديدة ومؤلفات كثيرة ما قرأها قارئ إلا انقاد لآرائه وسلم بصحتها. فوثق من أن حروب المستقبل القريب هي حروب الفناء، حين تبسط الطائرات أجنحتها من شرق السماء إلى غربها، وتنقض على البلاد تمحوها، وعلى معالمها تدرسها
ولم يكتف (دوهيه) بالوصف والتصوير، بل قدم برنامجاً مفصلاً شاملاً، لم يترك فيه صغيرة إلا ذاكرها، ولم يمنعه الإمعان الطويل في الزوايا والأركان، من الابتعاد بين الحين والحين ليرنوا إلى هيكل بنائه كاملاًن فيضع قواعده، ويرسم خطوطه، بحيث تتسق بداخله التفاصيل، وتتماسك لتكون وحدة لا تنفصم
ولكن ذاك البرنامج عسير التنفيذ إلا على دولة ملكت من الطائرات عدداً عديداً، وكان لها منها وفرة وفيرة. فيقوم الإيطالي يدعو بعدم (تبذير) الميزانيات على الجيوش والأساطيل، فهي في نظره أشياء لا نفع فيها، ويتشبث بوجوب إنفاق أموال الدولة كلها في سبيل بناء الطائرات، بل يذهب إلى أن يخص منها بالذكر القاذفات، ويهمل المقاتلات وطائرات الاستطلاع. ويجب علينا هنا الانتباه إلى إحساس (دوهيه) العميق: باستحالة ضمان السيطرة للطيران إلا إذا تمكنا من تركيز قوتنا في نوع واحد من الطائرات، ظنه قادراً على مجابهة جميع الطوارئ. وهذه لم تكن طوارئ بمعنى الكلمة، بل تيارات مرسومة يسيرها المهاجم كيفما شاء، (وهيهات أن تنعدم في هذا العالم المفاجئات)، فهو إذن مشروع جامد تنقصه المرونة اللازمة لكل أداة يريدها الإنسان لمجابهة مشاكل الكفاح في سبيل الحياة، تلك المشاكل التي لا تبرز مجسمة كل التجسم إلا أثناء الحروب التي هي أشد مظاهر كفاح الحياة تركيزاً وأعنفها صورة
ومع ذلك فقد أرتكن مشروع (دوهيه) هذا على كثير من الأسس الواهية
قسم (دوهيه) مراحل الهجوم إلى ثلاث؛ أولاها: مرحلة تحطيم مطارات الأعداء وتدمير قوتهم الجوية، فما يكاد يجهز عليها حتى ينتقل إلى مناطق الصناعة يدك أركانها ويقوض أساسها؛ ثم يلتفت أخيراً إلى مساكن المدنيين يصدّع أجنابها ويهدّم سُقفها. هي (الحرب(499/29)
الكلية) لا تبقى على شيء ولا تذر؛ هي حرب سلاحها القاذفات تحمل أسباب الهلاك والفناء على دفعات ثلاث، دفعات متعاقبة متلاحقة؛ السابقة منها تمهد السبيل للاحقة، واللاحقة منها تباري السابقة في افتنان وسائل الدمار، أولاها قذائفها ثقيلة ضخمة، والأخيرة سلاحها أرق من النسيم، وأفتك من ألف قنبلة تدافعت نحو الهدف. هذه هي جراثيم أمراض وبائية حشرت في أنابيب صغيرة، ولكنها سلاح يعجز عن إلحاق الضرر الشامل إلا إذا سبقتها حالة عم فيها الفزع، واختلط خلالها الحابل بالنابل، وانقلب أثناءها العالي على السافل؛ حالة شُلت فيها وسائل الوقاية، وانعدمت أثناءها أسباب العلاج. حالة تخلقها القاذفات بإشعال الحرائق الكبيرة تستعر وتمتد حتى لا يعود إنسان يفكر في رفيق، ولا أخ في شقيق، ولا أم في وليد. ولكن هل يسعنا إشعال تلك الحرائق ما دام هناك على الأرض أفراد لها مترقبون. وبكامل الوسائل مستعدون؟ لا مناص إذن من إقصائهم عن مراكزهم أو تحويل رقابتهم بقنابل قاصفة شديدة الانفجار، تهز أعصابهم إن لم تنثر أشلاءهم.
تلك هي المراحل الثلاث، وهي كما ترى مرتبطة ببعضها، متسلسلة الترتيب، ممهدة لأخيرتها التي هي أصدقها إصابة، وأمضاها نتيجة
طبق الألمان نظريات (دوهيه) على عمليات بولندا فنجحت نجاحاً لا بأس به: فَقَدَ البولنديون سلاحهم الجوي إثر هجوم خاطف شنته قاذفات الألمان على المطارات، ووقفت جيوشهم مشلولة حيرى لا تدري عما حولها شيئاً. كيف لا؟ وقد فقدت طائراتها وأصبحت كالساري في ظلام دامس، يتحسس الطريق فيتعثر، ويتنسم الاتجاه فيتخبط! أما المصانع فلم تدمر تدميراً تاماً كما أمل الألمان؛ وأمام المدن عجز برنامج (دوهيه) عن شق طريقه إلى سُبُل التنفيذ والتحقيق. ولا داعي لتذكير القارئ أن ألمانيا أحجمت عن استعمال الجراثيم الوبائية حرصاً على موقفها إزاء الدول، وخوفاً من استفزاز الرأي العام.
وفي صيف 1940 حاول الألمان معاودة تطبيق تلك النظريات على مطارات بريطانيا ففشلوا فشلاً تاماً، إذ هبت المقاتلات في وجه القاذفات المغيرة تردها وتقصيها، حتى فاه تشر شل بكلمته المشهورة في الإشارة بأعمال رجال الطيران البريطاني: (لم يسبق قط في تاريخ الحروب أن علقت فئة قليلة كهذه على أعناق شعب مثلنا، جموعه زاخرة بالأفراد، مائجة بالأعداد، دّيْناً كهذا، قيمته تفوق كل قيمة)؛ وهكذا أصبح القسم الأول نفسه من(499/30)
برنامج (دوهيه) عسير التحقيق، إلا في تلك الأحوال الخاصة التي أنقضَّت فيها دول كبرى على دول صغرى ضعيفة لا تملك من تلك المقاتلات كثيراً
انهار إذن صرح (دوهيه) وهو أحسن ما شيد في سبيل تحقيق سيادة الطيران على ميادين القتال. فدعونا إذن من تخيلات المتخيلين، ولنخضع لما لا محيد عنه وهو أن الجيوش الزاحفة على الأرض ستظل العامل المسيطر ما عش الإنسان مثلها على سطح الأرض، وأن الأساطيل البحرية ستظل أقوى ما يؤثر على نشاط الصناعة والاقتصاد ما شقت السفن التجارية عباب الماء بشحناتها الغذائية أو مواد الصناعة الأولية. أما الطيران فستحتل ولاشك مكاناً تزيد أهميته بمر السنين، ولكنه سيظل دائماً أبداً السلاح المعاون لا الركن والأساس
أظهر الطيران تفوقه على غيره من وسائل الحرب في شئون الاستطلاع، فعم استعماله هناك، وفضل المدفعية في المقدرة على المسارعة بنيران تساعد قوات شقت طريقها للأمام سريعاً، بواسطة منقضات بنيت لهذا الغرض خصيصاً. وتمكن من التوغل بالقاذفات داخل بلاد الأعداء، وهذا ما لم يتوصل إليه أحد من قبل، وقدم المقاتلات تمد من تلك القاذفات، بل تشتتها أحياناً قبل وصولها إلى الأهداف، وهذا ما لم تقو عليه المدافع المضادة للطائرات.
وهكذا أصبح الطيران من أهم الأسلحة المعاونة، لا يجوز الاستغناء عنه بأية حال، خصوصاً إذا ارتد جيش منهزم أمام عدو يلاحقه، أو ارتحلت فوق البحر قوات حوصرت من البر، أو انتقلت جنود أثقلها العتاد من سفن حملتها إلى شواطئ الأعداء؛ أحوال تكون فيها الجيوش أو السفن متعرضة أشد التعرض لهجمات الجو، وتكون طائرات الأعداء فيها متهالكة على الأهداف، لا يردعها إلا سلاح من نوعها أقدر على محاربتها في نفس ميدانها، ومنازلتها بنفس وسائلها.
حسين ذو الفقار صبري(499/31)
أشواق. . .!
إلَيكِ تَسَامَي هَائِماً رُوحُ شَاعِرِ ... وَفِيكِ تَغَنَّى ضَارِعاً لَحْنُ سَاحِرِ!
عَلَىَ لَهَوَابِ الطَّيْرِ مِنَّي تَحِيَّةٌ ... إِلَى كلِّ قَلْبٍ بالصَّبَاباتِ عَامِرِ
وَفِي صَبَوَاتِ الغِيِدِ عَنِّى رِوَايةٌ ... تُرَدِّدْهَا الأَنْسَامُ في كلِّ سَامِرِ!
ضَرَاعًةَ مُشْتَاقٍ إِلى رُوحِ فَاتِنٍ ... وَدَعْوةَ مهجورٍ إِلى قَلْبِ هَاجِرِ!
دَعًينًي أَرَى الدُّنْيَا كما يُبْصِرُ الْوَرَى ... فَقَدْ كادَ نُورُ الْحُبِّ يُعشِي نَوَاظِرِي!
أَرَاكِ فما أَدْري إِلى أَيِّ سِدْرَةٍ ... مِنَ الْمَلإ الأَعْلَى تَنَاهَتْ خَوَاطرِيِ
صبَابْةُ وَلْهَانٍ وَأَلْحَانُ ضَارِعٍ ... وَأَوْهَامُ مُشْتَاقٍ وَأَحْلاَمُ شِاعِر
فَلا تَتْرُكِينِي لِلأَسَى. . . أَنْتِ فَرْحَةٌ ... مِنَ الْحُسْنِ تَهْدِي بِالْهَوَى كلَّ حَائِر
وَلاَ تَجْحَديِنِي. . . إِنَّ لي قَلْبَ مُؤْمنٍ ... وَلِي رُوحُ صَدَّاحٍ وَلِي نَفْسُ طَاهِر!
لِعَيْنَيِكِ أَحْيَا فِكْرَةً لاَ يَحُدُّهَا ... زَمَانٌ وَلاَ يَرْقَى لَهَا وَهْمُ خَاطِر
إِذَا كانَ لِي فِي الْحُبِّ طَاعَةَ عَاجِزٍ ... فَقَدْ كانَ لِي بِالْحُبِّ صَوْلةُ قَادِر
نَسِيتُ بكِ الْمَاضِي. . . وَلَوْلاَ بَقِيَّةٌ ... مِنَ الرُّشْدِ تَهْديِني لأُنْسِيتُ حَاضِرِي
إذَا سَئِمَتْ رُوحِي مِنَ الْعُمْرِ وَحْدَتِي ... فَطَيْفُكِ أُنْسِى فِي حَيَاتِي وَسَامِرِي!
فَيَا أَيُّهَا الطَّيْفُ الْحَبِيِبُ بَعَثْتَنِي ... فَغَنَّتْ بِأَلْحَانِ الأَمَانِي مَزَاهِري
وَأَنْسَيْتَنِي مَا كانَ مِنْ طُولِ شِقْوَتي ... كأَنَّ الأَسَى مَا طَافَ يَوْماً بِخَاطِرِي!
فَهَبْنِي مَعَ الأَطْيَارِ بُلبلَ أَيْكةٍ ... يَلَقِّنُ أَسْرَارَ الْهَوى كلِّ عَابِر
وَخُذْ كَبَدِي لِلنَّارِ زَاداً فَرُبَّمَا ... هَدَى نُورُهَا حَيْرَانَ بَيْنَ الدَّياجِر
طَوَيْتُ عَلَى نَجَواكِ نَشْوَانَ أَضْلُعِي ... فَكُنْ عِنْدَهَا يا طَيْفُ بالْحُبِّ ذَاكِري
تَرُومُ لِيَ السُّلْوانَ. . . يا مَنْ لِطَائِرٍ ... جَريح غَريبَ الرُّوح في كَف آسِر!
هِجِيرُ الصَّحَارَى لَمْ يَزَلْ فِي جَوَانِحي ... وَصَمْتُ الْحَيَارَى لَمْ يَزَلْ فِي نَوَاظِرِي
عَلَى شَفَتِي سِحرُ مِنَ اللهِ فَاطْرَبي ... فَما كلُّ مَنْ غَنَّاكِ لحناً بِسَاحِر
بَدَأْتُ وُجُوِدِي مِنْكِ لَحْناً مِنَ الْهَوَى ... لَهُ أَوَّلٌ يَسْعَى إِلَى غَيْرِ آخِر!
خَلَودُ عَلَى رَغْمِِ الْبِلَي لاَ تَمُسُّهُ ... مَعَ الزَّمَنِ الْفَاني حُتُوفُ المقَادِر
طَوَيْتُ عَلَى الصَّبْر الْجَمِيلِ جَوَانِحي ... ومَا كَنْتُ عَنْ نَجْوَاك يَوْماً بِصَابرِ
وِكِدْتُّ أَرَى حُبِّي وَأَسْمَعُ هَمْسَهُ ... هُنَا فِي دَمِي. فِي مَسْمَعِي. فِي خَوَاطِري!(499/32)
وَقُلْتُ: وَدَاعاً!. . . فِي غَدٍ سَوْفَ نَلْتَقِي ... فَكانَ الْغَدُ الْمَأْمُولُ أَوْهَامَ شَاعِر. . .!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان(499/33)
البريد الأدبي
الرقص الخليع
أكتب هذه الكلمة على أثر مشاهدتي لفلم جديد من أفلامنا المصرية، أجمع النقّاد الفنيون على استحسانه، وفاتهم جميعاً أن يشيروا إلى ما أقحم فيه من الرقصات الخليعة التي انتقصت من قدره، وما كان أغناه عنها. وإنني لأعلم إذْ أكتب هذه الكلمة، أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية تحاول أن تطهر الفن من الخلاعة التي تسيء إليه، ولكنني أريد أن أسّجل ظاهرة مؤلمة، لشَدّ ما ترمض قلب كل وطني مخلص: تلك هي مجاراة أرباب الفن لشهوات سفلة القوم. وما يجب على الفنان أن ينزل بفنه إلى هذا المستوى الوضيع، فيقدم للعامة ما تتطلَّب ولو كان في ذلك ما ينتقض من قيمته؛ وإنما يجب عليه أن يرفع العامة إلى المستوى الرفيع، فيسمو بهم إلى قمة الفن، ولو كان في ذلك تضحية منه ببعض الشهرة العاجلة والربح الوفير
. . . إنهم يسيئون إلى الفنّ بهذه الرقصات الفاضحة التي لا يصحبها غير فوره الشهوة وطغيان الجسد، إذ ما كان الرقص أداة لإرضاء الشهوة، وما كانت الراقصة أمتوعةً لكل حيواني متهتك. فهلاّ عمل اهل الفنّ - دون تدخلٍ من رجال الحكم - على القضاء التام على الرقص الخليع الذي لا أثر فيه لمعنى الفن؟
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
خط المصاحف وقواعد الإملاء
من العقبات التي تعترض المعلمين في مدارس التعليم الأولي - حين يقومون بتعليم القرآن الكريم لتلاميذهم - اختلاف خط المصاحف التي بأيدي هؤلاء التلاميذ، مع ما تعلموه من قواعد القراءة والكتابة، ويؤدي هذا الاختلاف دائماً إلى اللحن والتحريف في الآيات القرآنية، بالرغم من الجهد الكبير الذي ينفقه المعلم في الإرشاد والتصحيح، ولكن هذا الجهد يذهب عبثاً، حين يقرأ التلميذ لنفسه، وحين يستذكر دروسه، وهو بعيد عن معلمه. ولاشك أن عقلية الطفل لا تتسع لإدراك اصطلاحات الضبط التي تختلف عما انطبع في ذهنه من(499/34)
قواعد الإملاء. وتظهر الصعوبة في صورة أوضح حين نعرف أن تحفيظ القرآن في الأيام الخوالي كان بطريقة التلقين، وكان التلاميذ ينقطعون لدراسته واستذكاره، فلا يشتغلون بغيره من العلوم، إلا بعد إتمام حفظه وتجويده. أما اليوم فالقرآن يدرس في المدارس الأولية مع كثير من مبادئ العلوم الحديثة، وزمنه محدود، والتلاميذ يحفظون بالقراءة في المصاحف لا بالتلقين، والزمن المخصص لا يكفي للمراجعة ودراسة مواضع الاختلاف بين خط المصاحف والكتب
ولا أستطيع أن افهم السبب في سكوت وزارة المعارف على هذا، وعدم قيامها بطبع مصاحف تتفق في الرسم مع قواعد الكتابة المعروفة. ولو فعلت ليسرت للناشئين الحفظ مع القصد في الزمن والجهد. على أنى لا ادري سر جمودنا وتعصبنا للخط الذي كتبت به المصاحف، وهو لم ينزل مع القرآن من السماء! اللهم إلا إذا كان القدم يكسب الخطأ صفة الخلود!
وبعد، فهل لمعالي وزير المعارف أن يضع هذه المسألة مع ما اعتزم أن يعالجه من مشكلات العلم، وشؤون التعليم؟
ليته بفعل، فيكسب ثواب العاملين، وحسن ثواب المخلصين
(المنصورة)
علي عبد الله
كلمة حرة للتاريخ
ذكر الدكتور زكي مبارك في مقاله المنشور في العددن497 تحت عنوان (حافظ إبراهيم) أنه:
(في شهر سبتمبر سنة 1911 أغارت إيطاليا على طرابلس - وهي يومئذ ولاية تركية - فنهض المصريون لمعاونة طرابلس بالطب والشعر والمال والرجال. . . وبفضل تلك الحرب أنشئت جمعية الهلال الأحمر المصري، وكان لقلم الشيخ علي يوسف تأثير في إنشاء تلك الجمعية، وهي لا تزال من كبريات جمعياتنا الخيرية
والحقيقة أن الشيخ علي يوسف هو مؤسسها الأول. وكنت أتمنى أن أذكر أشياء كثيرة عن(499/35)
هذه الجمعية لولا أن هذا لم يحن وقته. وفي 15 فبراير سنة 1940 افتتح رسمياً مستشفى هذه الجمعية بشارع الملكة نازلي بحضور صاحب الجلالة الملك ووقف صاحب السعادة علي باشا إبراهيم وقال:
(مولاي! يرجع تاريخ إنشاء جمعية الهلال الأحمر إلى الحرب الطرابلسية عام 1911 وقد أسسها المرحوم السيد علي يوسف باشا ونخبة من كرماء الأمة المصرية لإسداء المعونة الطبية والمادية لجرحى الطرابلسيين ومنكوبي الحرب منهم. . .) الخ
عطية شلبي
بحكمدراية بوليس مصر
إجابة
السليط بالفتح: الزيت أو الزيت الجيّد، أرى أنّ منه ما يقال له (سلطة) بفتحتين
يستعمل الفعل (صمد) في بعض الصحف وفي أنباء الحرب بغير معناه، وأظن أن المراد (صمل) أي أشتد وثبت. صمد وصمد له وإليه: قصد، والصمد - بفتحتين - الذي يُصمد إليه في الحوائج أي يُقصد، والله الصمد (عن الحسن) الذي أُصمدت إليه الأمور فلا يقضي فيها غيره ولا يقضى دونه
ألمها - في عبارة السائل الفاضل - الثغر النقي، قال الأعشى:
ومهاً ترفّ غُروبُهُ ... يسقى المتيّم ذا الحرارةْ
وأنشد الجوهري للأعشى:
وتبسم عن مهاً شبم غريّ ... إذا تعطى المقبَّل يستزيد
(وحيد)
القراءات والتصحيف
اطلعت على ما دار حول القراءات في الأعداد الأخيرة من مجلة الرسالة، فرأيت ما يتعلق بالتصحيف لم يوف حقه من التمحيص، فأقول بإيجاز: إن ما عزاه الحافظ السيوطي في المزهر (2 - 230) إلى بعض المجامع من أن حماد بن الزبرقان صحف (إياه) إلى (أباه)(499/36)
و (في عزة) إلى (في غرة) و (شأن يغنيه) إلى (شأن يعنيه) هو غير الصواب، لأن الأولى هي قراءة الحسن البصري وابن السميفع، والثانية قراءة الكسائي، والثالثة قراءة ابن محيصن والزهري
وحماد بن الزبرقان ظنين لا قيمة لما ينفرد به، وشواذه مدونة في كتاب ابن خالويه، بل يستقصيها أبو حيان في البحر. وما صح سندة من الشواذ يصلح لتفسير القراءات المشهورة، وما لم يصح سنده منها يكون من قبيل وهم الراوي وكذبه، وهؤلاء ما كانوا ينفون القراءة المتواترة في تلك الألفاظ حتى يظن بهم التصحيف
والحافظ السيوطي رحمه الله على كثرة مؤلفاته كثيراً ما يشط قلمه عن الصواب. وقد ألف شرح الشاطبية في القراءات السبع مع اعترافه بأنه لم يتلق علم القراءات عن شيخ. فمثله إذا نقل عن مجموعة مجهولة ما يتعلق بالقراءة سقط نقله من رتبة الاعتداد به.
(أبو أمية)
في رسالة عمر
للأستاذ زكي غانم كلمة بعدد الرسالة (491) يرى فيها أن رسالة عمر في القضاء قد أصابها تحريف في كتاب المنتخب للسنة الرابعة الثانوية، وفي كتاب شرح النصوص الذي اعتمد على المنتخب. وهو وضع كلمة (غير) مكان كلمة (عند) في العبارة الآتية: (فما ظنك بثواب غير الله - عز وجل - في عاجل رزقه وخزائن رحمته؟) وقال الأستاذ: (ولا وجه للنص محرفاً، وقوله: (في عاجل رزقه وخزائن رحمته) وصف لثواب الله لا ثواب غيره)
ولا أوافق الأستاذ على هذا الرأي؛ بل أرى أن كلمة (غير) هي المناسبة هنا، ولا يؤدي المعنى المراد بغيرها.
ومما يوضح رأيي أن عمر يقول قبل ذلك: (فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله. فما ظنك. . . الخ)
فعمر يدعو إلى مراقبة الله، وموافقة السر للعلن؛ وبنفّر من الرياء، والتظاهر للناس بغير ما(499/37)
تنطوي عليه النفس تقرباً إليهم، وطعماً في ثنائهم، ورغبة في ثوابهم. فالمعنى الذي يرمي إليه عمر: أن ثواب غير الله حقير إذا قيس إلى ثوابه؛ فلا يجدر بمؤمن أن يؤثره عليه. ولذلك صح ارتباط الفقرتين، فكانت اللاحقة تعليلاً لمعنى السابقة، وموازنة بين ثواب الناس وثواب الله، وتحقيراً لما يرجوه المرائي عند الخلق بجانب ما يأمله المحسن عند الخالق، وبالقياس إلى رزق الله الذي يفيضه على من يراقبه، وخيره الذي يدخره لمن صحت نيته وأقبل على نفسه.
ومما يوضح ذلك أن الحرف (في) هنا (في عاجل. . .) إنما جاء للموازنة والمقارنة؛ كما في قوله تعالى: (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) بعد قوله: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) (سورة التوبة: 28)
ولما قرأت هذه الرسالة قديماً التوى على معنى هذه الفقرة، إذ لم أتبين موقع هذا الحرف (في) من العبارة؛ ولعل هذا هو السبب في اعتراض الأستاذ؛ ولكني رأيت في الكتب التي تعنى بحروف المعاني أن (في) يستعمل للمفاضلة، فاستقر المعنى عندي.
قال ابن هشام في باب حروف الجر من التوضيح أن المقايسة من معاني (في) وقال في المعنى: (الثامن (أي من معاني في) المقايسة، وهي الداخلة بين مفضول سابق، وفاضل لاحق، وقد استشهد في كلا الكتابين بالآية الكريمة: (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)
وبهذا يزول اللبس الذي حدا بالأستاذ أن يجعل الظرف (في عاجل) وصفاً لصواب الله لا ثواب غيره. فإنه في موضع الحال من (ثواب غير الله) أي: فما ظنك بثواب غير الله مقيساً إلى ثواب الله. ومرجع الضمير في (رزقه، رحمته) هو الله
المتولي قاسم
المتهمة
هذا هو عنوان الفلم الجديد الذي أنتجته شركة لوتس فلم ووضع قصته الأستاذ حسن عبد الوهاب وقام بعمل حواره الأستاذ يوسف جوهر، وهو من إخراج الأستاذ بركات. وقد قامت بالدور الأول فيه الممثلة السينمائية المعروفة آسيا بالاشتراك مع مجموعة كبيرة من(499/38)
الممثلين والممثلات. وموضوع الرواية يدور حول امرأة كانت تعيش مع زوجها وابنها عيشة سعيدة هادئة، ولكن الأيام سخرت منها وانتزعتها من حياتها إلى حياة أخرى شقية تعسة. وقد استطاع المخرج بركات أن يظهر الموضوع في صورة واضحة قوية. وبالرغم من أن هذا الفلم من النوع الدرامي العنيف فإنه لا يخلو من طرائف تبعث الضحك في وسط هذه العاصفة الهوجاء. وقد استطاع كل ممثل أن يؤدي دوره على خير وجه
نكتفي الآن بهذه الكلمة ونتمنى للسيدة آسيا كل تقدم ونجاح.
عبد الفتاح متولي غبن(499/39)
العدد 500 - بتاريخ: 01 - 02 - 1943(/)
6 - دفاع عن البلاغة
2 - آلة البلاغة
أشرنا في كلام سبق إلى أن طالب البلاغة الموهوبَ لابد له من درس اللغة، والطبيعة، والنفس، على الأخص؛ ثم أجملنا المراد بدرس اللغة، وألمعنا في صدد ذلك إلى منهاج يبتدئ بتقويم السليقة وينتهي باكتساب الذوق
وكان الأشبه بطبيعة الموضوع أن نفصل الكلام في تحصيل علوم اللسان ووضع الخطة لها وبيان الفائدة منها؛ ولكننا في مقام من يدافع ولا يعلِّم، ويوجه ولا يقود. وقديماً شكا عبد القاهر ما نشكو من زهادة الكتاب في اللغة، وأنصرافهم عن النحو، واستخفافهم بالبيان، وتنكرهم للشعر، وجريهم في الصياغة على الاحتذاء، وظنهم أن الكاتب متى (عرف أوضاع لغة من اللغات. . . وعرف المغزى من كل لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بيّن في تبك اللغة كامل الأداة. . .) على أن (ههنا دقائق وأسراراً طريق العلم بها الروية والفكر، لطائف مستقاها العقل، وخصائص معانٍ ينفرد بها قوم هُدوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكشف لهم عنها. . . وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجب أن يفضُل بعضه بعضاً، وأن يبعد الشأو في ذلك وتمتد الغاية، ويعلو المرتقى ويعز المطلب حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز. . .)
ولقد حاول عبد القاهر أن يطبَّ لهذا الداء فوضع كتابيه القيمين (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة)؛ ولكن الداء كان قد استشرى فلم يصحّ عليهما إلا أفذاذُ رزقوا شدة الأسر وقوة الفطرة. ثم عقم الدهر بمثل عبد القاهر، وانقطعت الأسباب بين كتابيه وبين الزمن، فتجددت معانٍ وصور، وتولدت أغراض وأساليب، وأصبح هذان الكتابان في أول الطريق مناراً لا ترى بعده إلا إغفالاً ومجاهل! فهل في البيانيين من أساتذة جامعاتنا الثلاث من يحاول في البلاغة الحديثة ما حاول عبد القاهر في البلاغة القديمة، فيجددوا ما درس، ويكملوا ما نقص، ويقيموا أدب الكتابة وأدب النقد على قواعد ثابتة من الفن الصحيح والعلم الحديث؟
ذلك، وأما درس طالب البلاغة للطبيعة فلأنها كتاب الفنان الجامع ومصوَّره العجيب. منها موضوعه ومادته، وعنها اقتباسه ووحيه، وفيها دليله ونموذجه، وبها أخيلته وصوره، فيجب(500/1)
أن يطيل فيها النظر، ويشغل بها الفكر، ويرجع في كل ما يعمل لأصولها الثابتة وقواعدها المقررة، ليتقي الضلال والخطأ، ويأمن الإغراق والتكلف
هذا الكتاب المحيط المعجز الذي ألفته يد القدرة قد تجمعت على هوامش متنه الهائل عقول بني آدم منذ استبصوا، يحاولون كشف أسراره وفهم حقائقه؛ فوفِّقوا بالاستقراء والاستنباط إلى ابتكار علوم، وابتداع فنون، تخصص في هذه أقوام، وفي تلك أقوام، كالجيولوجيين والجغرافيين والطبيعيين والكيميائيين والفلكيين والمهندسين وسائر من يتصل علمهم أو عملهم بالأرض والسماء، واليبس والماء، والجماد والحي. والأديب وحده هو الذي يجب عليه أن يشارك في كل علم ويلم بكل فن؛ لأنه عرضة لأن يكتب في كل أولئك ولو على سبيل التصوير والتشبيه. فإذا لم يكن واقفاً على مصطلحات الفنون والعلوم، عارفاً بمختلف الحدود والرسوم، قدح ذلك في ثقافته وغض من كفايته. ولقد عبرنا بالمشاركة والإلمام لأن دراسة الأديب للطبيعة تختلف عن دراسة الفيلسوف لها: الفيلسوف يدرسها ليعرف، والأديب يدرسها ليحتذي. الفيلسوف يشرح ويحلل، والأديب يصور ويمثّل. فحظ الأديب من درس الطبيعة هو حظ المصور من درس التشريح: لا يزيد على القدر الذي يضيف إلى جمال التخيل جمال الحقيقة، ويجمع إلى دقة المثال براعة الطريقة
إن الأسباب لا تعني الأديب وإنما تعنيه النتائج. فالفلكي يرقب فعل الجاذبية، ويرصد حركة الأفلاك؛ ولكن الشاعر يصور نظامها الدقيق وتلاؤمها العجيب وتطورها الدائم. والطبيعي يحلل الضوء والصوت؛ ولكن الشاعر يُسمعك في شعره هزيم الرعد من جبل إلى جبل، وزفيف الريح من واد إلى واد، فيقذف في قلبك الرهبة. ويريك وميض البروق الزُّهر تتكسر في الأفق صفائح وهاجة تشق رُكام السحائب الجون، فتبعث في نفسك الروعة. والكيميائي يشرح سطوع الروائح على طريقته الخاصة؛ ولكن الشاعر يصورها لذهنك في النسيم الرفاف يصفق في الهواء بأجنحته المخضلة بأنداء الفجر، المضمخة بعطور الصباح
وأما دراسته للطبيعة فلأنها الينبوع الثّرُّ لما يزخر به الشعر والنثر من مختلق الغرائز والعواطف والأفكار والأحاسيس؛ ومعرفة الينبوع في مصدرِه وجوهره ومداه، شرط في معرفة ما يصدر عنه على حقيقته وطبيعته وأثره. وإذا كان من خصائص فن الكاتب أن يخلق أشخاصاً للقصص، ويمثل أهواءً على المسرح، يعالج أخلاقاً في المجتمع، ويحلل(500/2)
عقّداً في الناس، فمن غير المعقول أن يحسن شيئاً من أولئك إذا لم يكن عليناً بأسرار القلوب وأهواء النفوس وما ينشأ من التعارض والتصادم بين الغرائز والأخلاق، وبين العواطف والمنافع. وإذا كان مدار البلاغة على مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال، فإن إدراك الفروق الدقيقة بين الحالات المختلفة للمخاطب، وصياغةَ الكلام على قوالب المقتضيات المناسبة للخطاب، وتصويرَ الأخلاق على نحو يغرى بالخير أو يحذر من الشر، والقدرةَ على خلق الجمال في الأسلوب، أو التعبير عما يخلقه الجمال فينا من العواطف؛ كل أولئك يسلتزم دراسة خاصة لعلم النفس وعلم الأخلاق وعلم الجمال
هذا كلام أشبه بالمتن في تعميمه وإيجازه. والعذر المسوغ لهذا الأسلوب أننا نخاطب الكتّاب ونبين الحدود وتبرز الخصائص؛ ومن اجل ذلك قصرنا الكلام على اللغة والطبيعة والنفس من جملة ما يجب على طالب البلاغة درسه؛ لأنها في رأينا أشبه بعلوم التخصص له. والمفروض أن يخصها بطول النظر بعد أن يأخذ قسطه الأوفى من ضورب الثقافة
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(500/3)
رسالة وجدانية
ألوان وألوان
(للكاتب المجهول)
مولاتي!
كان الظن أن ينتهي ما بيننا بعد الجدال الذي ثار في الليلة الماضية، أو السنة الماضية، فما أدري متى التقينا آخر مرة. وكيف أدري واللحظة القصيرة من الفراق تتمثل لقلبي وكأنها أجيال وتواريخ؟
كان الظن أن ينتهي ما بيننا فلا تعود أحلامه ولا أهواله، ولا ترجع أيامه ولا لياليه، ولا يمر بالخاطر في لحظة من زمان
كان الظن أن نفترق، بعد أن تشهينا أن نفترق، ومعاقرة الكأس توحي بصدع الكأس، فكيف أراجع هواك يا ظلوم، بعد أن نويت المتاب، على أعظم حال من الشوق إلى المتاب؟! قد تشهينا أن نفترق، فمتى تفترق؟ ومتى نذوق طعم الأمان من عدوان الأشجان؟
كان اللقاء الأخير بلية من البلايا المواحق، فقد تناظرنا بشراهة تفوق الوصف، وكأننا نريد أن نلتهم ما بقي من زاد الحب، وأن نتزود للأعوام البواقي، وأن نقول إننا لا نواجه بيداء الصدود بغير زاد
لقد أخطأنا فيما صنعنا، والمحبون كبار لا يدرون عواقب ما يصنعون من مرارة الافتراق، وهو غير الفراق!
لن ينقضي ما بيننا أبداً، ولن تبيد تلك الألوان، ألوان الأثواب وألوان القلوب
كنت تلقينني في كل مرة بثوب جديد، وكنت ألقاك في كل مرة بقلب جديد. وما أبعد الفروق بين ألوان الأثواب وألوان القلوب!
لن ينقضي ما بيننا أبداً. وبالرغم مني أن يكون ما بيننا أوثق مما بين العين والضياء، فلك بدوات تجعل الإيمان بحنانك أضعف من الإيمان بأمانة المحتالين
لم تكن لي يدٌ فيما صرنا إليه، فقد فررت من هواك ألف مرة، وانتقلت من محلة إلى محلة ومن إقليم إلى إقليم، لأنجو بنفسي، فهل نجوت؟
إن الشمس تلاحقني حيثما توجهتن فأين الفرار من وَهَج الشمس؟(500/4)