في الشرق، كما كان علماء المشرق الذين ضاقت بهم الحال في بلادهم يجدون في الأندلس سوقاً رائجة لأفكارهم ومعلوماتهم، وكذلك كان كثيرون من محبي العلم في الأندلس يقصدون الشرق واردين العلم من منابعة الأصلية، فيمرون بمصر والشام وبغداد والحجاز وقد يذهبون إلى فارس. على أن الحياة الفكرية لم تبلغ أشدها في المغرب إلا في عهد المرابطين، ثم بلغت أوجها الذهبي في زمن الموحدين حيث ظهر ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وغيرهم. ويجدر بنا قبل الكلام عن ابن باجة أن نبدي الملحوظات الآتية:
1 - كان المغرب بعيداً عن المنازعات الدينية العنيفة التي ظهرت في الشرق، فلم يسد فيه إلا مذهب مالك، ولم يكن فيه لا مجوس ولا زنادقة، ولم يظفر فيه كثير من علماء الكلام والجدل. وكان أهم ما يعتني به أهله ولا سيما عصر الأمويين الطب والرياضيات والتنجيم. وكان الناس مشغوفين بالشعر والتاريخ والجغرافيا، ولم تكن موجه التفلسف قد غمرتهم وأفسدت عقولهم كما هو الحال في المشرق. هذه كانت حال الأندلس أول الأمر
2 - ولكن نجد أن المذهب الظاهري الذي يمثله ابن حزم - وهو من أشد المذاهب ضيقاً - يسيطر على الأندلس، حتى نرى كل من يفكر في الفلسفة يضطهد. فلما قدم عبد الله بن مرة القرطبي إلى بلاد الأندلس يحمل الفلسفة الطبيعية (التي يمثلها الكندي) في عهد عبد الرحمن الثالث أُحرقت كتبه أمام ناظريه ولهذا لم يجد الفلاسفة جواً من الحرية حتى ينشروا آراءهم. ولقد اضطهد ابن باجة وابن رشد من العامة والخاصة على السواء؛ ولهذا أيضاً اتخذ فلاسفة الأندلس النظرية القائلة بأن الفلسفة لا تصلح للعامة وإنما هي وقف على الموهوبين من الخاصة، وسنجد كذلك محاولتهم في التوفيق بين الفلسفة والدين
3 - لم يوجد في الأندلس جماعة يقومون بالنقل والترجمة ويتقدمون بعرض الآراء الفلسفية كاليعاقبة والنساطرة في الشام والعراق؛ أما اليهود الذين ادعى كثير من المستشرقين بأنهم كانوا الواسطة في نشر الفلسفة بين مسلمي الأندلس فأثرهم ضئيل، وهؤلاء كانوا تلامذة للمشارقة فتأثر باخيا بن باقودا بإخوان الصفاء وتأثر ابن جبرول وغيره بفلاسفة المشرق الإسلاميين
وعلى العموم فقد كانت الحياة بالأندلس غير ملائمة لجو الفلسفة، وكان الفيلسوف يشعر بوحشة نوعاً ما لشدة التعصب وضيق العقل(464/15)
من هو ابن باجة
هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المعروف بابن باجَّه ولد في مدينة سرقسطة في أواخر القرن الخامس الهجري في ذلك الوقت الذي عصفت فيه ريح الانحلال بدولة بني أُمية بالأندلس، وشب أبو بكر والمرابطون يحكمون في البلاد، فاتخذه حاكم سرقسطة أبو بكر بن إبراهيم صهر أمير المرابطين جليساً له ووزيراً مما أوغر صدر العساكر والفقهاء ولكن الأحوال في سرقسطة اضطربت وهاجمها الفونس الأول ملك أرجونة فسقطة في يده عام 512هـ و 1118. فرحل عنها ابن باجه، وذهب إلى أشبيلية، واستقر بها وألف فيها بعض رسائله في المنطق كما يقول مونك وقد فرغ من إحداها في شوال سنة 512هـ، وتوجد في مكتبة الأوسكوريال تحت رقم 609. ثم قصد ابن باجَّه مدينة غرناطة وأقام بها مدة، ومن ثم ذهب إلى بلاد المغرب. ولما مر بشاطبة اعتقله الأمير أبو اسحق بن يوسف بن تاشفين كما روى الفتح ابن خاقان بسبب لم يذكر ولعله الزندقة، ولكن ما لبث أن أطلق سراحه بشفاعة والد الفيلسوف - ابن رشد
وروى أن أبا بكر بن يحيى بن تاشفين استوزر ابن باجَّه عشرين سنة، ولكن (مونك) يشك في ذلك لأن الحوادث التاريخية لا توافق هذه الوزارة؛ إذ أن أبا بكر بن تاشفين كان قد فر من فاس سنة 501هـ - 1107م؛ وذلك قبل نزوح ابنه إلى بلاد المغرب فيظهر أن مسألة الوزارة هذه غير صحيحة
مات ابن باجه ولم يعدُ طور الشباب، وقيل إنه مات مسموماً إذ كاد أطباء بلده حسداً منهم وحقداً. وكان ابن باجه قد منى بأعداء كثيرين، وكانت وفاته في رمضان سنة 523هـ - 1138م بمدينة فاس، وكان قبره بجوار قبر القاضي ابن العربي
ومن أشهر أعدائه الذين حاربوه ورموه بالزندقة والكفر والخروج عن جادة الدين الفتحُ بن خاقان الفرناطي صاحب (قلائد العقيان)؛ ومما قاله قادحاً فيه: (إن ابن باجه رمد جفن الدين. وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة ولا استنجي من حدث، ولا أقر بباريه ومصوره. . . نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم، واقتصر على الهيئة: (الفلك)، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترأ عند سماع النهي والإيعاد، واستهزأ(464/16)
بقوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادُّكَ إلى معاد)؛ فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نَوْر، جمامه تمامه، واختطافه قطافه. وانتمت نفسه إلى الضلال وانتسبت، ونفت يوم تجزى كل نفس بما كسبت، فقصر عمره على طرب ولهو، وأقام سوق الموسيقى، فهو يعكف على سماع التلحين، ويعلن بذلك الاعتقاد ولا يؤمن بشيء قادنا إلى الله في أسلس قياد، مع منشأ وخيم ولؤم أصل وصورة شوهها الله وقبحها)
ولاشك عندي وعند كل ذي لب أن هذا كلام متحامل فيه كثير من لغو القول وسخف العقل وتحريض للعامة ضد الفلاسفة
منزلته
يقول ابن أبي أصيبعة عن ابن باجه: (كان في العلوم الحكمية علامة وقته وأوحد زمانه. وكان متميزاً في صناعة الطب، وكان متقناً لصناعة الموسيقى، جيد اللعب بالعود)؛ وعده ابن خلدون من أكابر فلاسفة الإسلام بالأندلس، وشهد له ابن طفيل في حي بن يقظان بالتقدم والفضل، كما أن ابن رشد أعجب به كثيراً وحاول شرح بعض كتبه؛ وعندنا أن لابن باجه ميزتين:
1 - إنه أول المشتغلين بالفلسفة في الأندلس بعد أن ظلت كتب الفلسفة زمناً طويلاً مطمورة في مكاتب المغرب، ولهذا كانت خطوته جريئة؛ إذ الغلبة الفكرية كانت لرجال الدين، وهذا يعلل لنا ما لاقاه من اضطهاد وعداوة ظاهرة، ويفسر لنا ما قاله الفتح بن خاقان آنفاً
2 - إنه أول فلاسفة الإسلام الذين حاولوا أن يبحثوا الفلسفة مستقلة عن الدين، وأن في إمكان العقل الإنساني أن يصل إلى المعرفة الحقيقية وكشف أسرار الوجود دون ما حاجة إلى التصوف والإجهاد بالعبادة
ومع ذلك لم يستطيع ابن باجه أن يتم مؤلفاته لانشغاله بأمور الدنيا، ولأن المنية اخترمته وهو في ريعان الشباب. واستمع لابن طفيل يقول فيه: (ثم خلف من بعدهم خلف آخر أحذق منهم نظراً وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثقب ذهناً ولا أصح نظراً ولا أصدق روية من أبي بكر بن الصائغ، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته. وأكثر ما يوجد له من التأليف إنما هي كاملة ومجزومة)؛ وقد تأثر(464/17)
به ابن طفيل في حي بن يقظان تأثراً عظيماً، وما حياة حي بن يقظان نفسه ووصوله إلى المعرفة الحقيقية في جزيرته الخالية من السكان إلا محاولة من ابن طفيل للبرهنة على رأي ابن باجه في تمكن العقل الإنساني من كشف أسرار الوجود وحده
مؤلفاته
ذكر ابن أبي أصيبعة عدداً كبيراً من كتب ابن باجه وأهمها: شرح كتاب السماعى الطبيعي، قول على بعض كتاب الآثار العلوية لأرسطو، قول على بعض كتاب الكون والفساد لأرسطو، ثم كتابيَ الحيوان والنبات لأرسطو، وله تعاليق على بعض المسائل الهندسية؛ أما مؤلفاته فكثيرة منها: كتاب في الاسطقسات: (النار والماء والهواء والتراب) وكلام في البرهان، وكتاب النفس، وكتاب اتصال العقل بالإنسان، ورسالة الوداع وكلام في الغاية الإنسانية، وفصول قليلة في السياسة المدنية، ورسالة تدبير المتوحد. . . إلى غير ذلك من الكتب
وليس لدينا وللأسف من كتب ابن باجه، ولقد أشار (مونك) إشارة موجزة إلى ما تحتويه رسالة الوداع سنذكرها فيما بعد؛ ولخص أيضاً رسالة تدبير المتوحد، أو نقلها عن العبرية رواية عن موسى الأربوني أحد فلاسفة اليهود في القرن الرابع عشر الميلادي، وشارح رسالة حي بن يقظان. وقد ذكر بروكلمن رسالة مخطوطة في مكتبة برلين حاول نشرها الدكتور فروخ، ولم ينشر منها إلا صفحتين هما عبارة عن جمل مقتضبة غير متماسكة. ويظهر إن موضوع هذه الرسالة هو الغاية الإنسانية، كما أن هناك رسالة في المنطق لابن باجة في مكتبة الأسكوريال سبقت الإشارة إليها في أول المقال، وقد كشف أبو ريدة مترجم دي بور جزءاً من رسالة تدبير المتوحد في المكتبة التيمورية بمصر (رقم 290)
1 - رسالة الوداع
كتب ابن باجه هذه الرسالة لأحد تلاميذه وأصدقائه قبيل اعتزامه رحلة طويلة حتى يكون على بينة من آرائه إذا قدر لهما ألا يلتقيا. وأول ما يظهر لقارئ رسالة الوداع رغبة المؤلف في إحياء معالم الفلسفة والعلم. لأنهما في رأيه جديران بإرشاد الإنسان إلى الإحاطة بالطبيعة، وبهدايته بعون الله إلى معرفة ذاته، وبالاتصال بالعقل الفعال الذي يفيض من الله.(464/18)
ويتكلم فيها عن خلود النفس البشرية، وعن العوامل التي تؤثر في الإنسان وتدفع العقل في سبيل الفكر، وشرح غاية الوجود الإنساني وغاية العلم وهما التقرب من الله عز وجل، وكلامه في خلود النفس مبهم، ويقول باتحاد النفوس، وقد أخذ بهذا الرأي ابن رشد وكان لرأيه أثر كبير عند الفرق المسيحية حتى اضطر القديس توماس وألبرت الكبير للرد عليه في مؤلفات خاصة. هذا وقد عاب ابن باجة الغزالي وقال: إنه خدع نفسه وخدع الناس حين قال في المنقذ من الضلال: إنه يستطيع أن يكشف العالم الحقيقي والعقلي ويرى الأمور الإلهية بالخلوة ويلتذ التذاذاً كبيراً
ومن هذا نرى أن ابن باجه يهاجم الغزالي بعد أن كان تأثيره عظيماً في بلاد المغرب، وبعد أن أسكت صوت الفلسفة في المشرق، ونراه لا يؤمن إلا بطريق العقل سبيلاً للوصول إلى المعرفة الإلهية
2 - رسالة تدبير المتوحد
ذكر هذه الرسالة ابن رشد في آخر كتابه على العقل الهيولاني حيث قال: (أراد أبو بكر بن الصائغ أن يختط خطة للمتوحد في هذه الأمة، ولكنه لم ينجزها وكثير منها غامض، وسنحاول في غير هذا المكان شرح غاية المؤلف من هذه الرسالة لأنه أول من سار في هذا المضمار ولم يسبقه فيه أحد). بيد أن ابن رشد لم ينجز وعده ولم يبق لنا إلا ما نقله مونك عن موسى الأربوني، وهذا المخطوط الموجود بالمكتبة التيمورية وهو غير كامل
وقد قسم الأربوني هذه الرسالة ثمانية فصول، ويظهر أن غاية ابن باجة فيها هي إثبات قدرة الإنسان المتوحد المنتفع بحسنات الحياة البعيد عن مفاسدها، على الاتصال بالعقل الفعال بقواه الفكرية وحدها. ولا يوصي ابن باجة بالخلوة - كما يفهم من لفظ المتوحد - إنما يرشد الإنسان المشتغل بشئون الحياة إلى سبل الوصول إلى الكمال، وهو يشير إلى إمكان ذلك سواء كان هناك رجل واحد أو عدة رجال في درجة واحدة من الفكر، وقد يستطيع هذا أهل بلد بأسره إذا كان تام النظام. ولم تخف على ابن باجة صعوبة هذا الأمر فأوصى المتوحد بالعيش في أغزر المدن علماً، أي في أقربها إلى الكمال، وأجمعها لأهل الفضل والحكمة. وسنعرض فيما يلي أهم ما جاء بهذه الرسالة نقلاً عن (مونك) مختصرين ما أمكن(464/19)
الفصل الأول
تكلم ابن باجة أولاً عن لفظ (تدبير) وأنه يدل في أوسع معانيه على مجموعة من الأعمال ترمي إلى غرض معلوم، فلا يمكن أن يستدل به على عمل واحد، بل على جملة أعمال تنجز تبعاً لخطة معينة كالتدبير السياسي والحربي. وينبغي أن يكون تدبير المتوحد على مثال تدبير الحكومة الكاملة، ومن علامات الحكومة الكاملة ألا يكون بها أطباء أو قضاة؛ لأن أهل هذه المدينة لا يتناولون من الغذاء إلا ما يوافقهم، وبذا تختفي الأمراض الناجمة من الغذاء، وأما الأمراض التي تصيبهم بسبب عوارض خارجية فتزول بنفسها. ولما كانت العلاقة بين أهل المدينة بعضهم مع بعض أساسها المحبة امتنع الخلاف فاستغنى عن القضاة. والحكومة الكاملة تكفل للفرد أن يبلغ فيها أرقى منزلة من الكمال؛ لأن الكل يفكرون بأعدل تفكير، وينظرون أدق نظر، ويطيع كل فرد ما تأمر به القوانين، لأنه يكون عالماً بها، وبذلك تخلص أعمال الإنسان من الخطأ والهذر والختل فلا يكون الناس بحاجة إلى الطب الأخلاقي وهو ما لا غنى للجمهوريات الناقصة عنه
(البقية في العدد القادم)
(بيروت)
عمر الدسوقي(464/20)
مرسلات. . .
الغيرة
إني لتدركني الشفقة أحياناً على هذه الكلمة المفردة، كما يشفق امرؤ ذو قلب على عزيز قوم ذلّ، وغني قوم افتقر. إن أحداث الزمان قد جارت عليها، وإن الدهر القلب الذي يتنكر لكل شئ قد تنكر لها. إنها كالموظف المعزول الذي لم يعد يظهر في ديوان عمله، أو كالعقد الثمين المتألق الذي لا يجد صدراً يزينه. إنها كالقلادة الرفيعة التي مات صاحبها وبقيت في (مخلفاته) تندبه في صمت، وتذكر به كلما رمقتها العيون!
لقد كانت (الغيرة) معنى مشرقاً في صدور الرجال، فأصبحت رسماً
باهتاً في بطون الكتب؛ وكانت (مادة) ملموسة بارزة الأثر في حياة
الناس، فأصبحت (مادة) قابعة في قواميس اللغة!
لقد فتشت عنها في نواح كثيرة من نواحي الحياة، فلم أجدها
كنت أحب أن أجدها: لم أجدها في البيت لأني وجدت (المرأة) تحكم (الرجل)، فلا يغار على حقه المغصوب، ولا يألم لسلطانه المسلوب؛ ولم أجدها في الطريق، لأني وجدت المخازي تعرض على قارعته في صور مألوفة، وأشكال معروفة، فلا يغضب عليها غضب ولا يحمي بها صدر مغيار! ولم أفتقدها بين سمار الليل في النوادي الآثمة والمجتمعات المتهتكة، لأني أعلم كيف تصرع هناك الفضيلة ويصفع الحياء! ولم أحدها في (مكاتب الموظفين)، لأني وجدت الأعمال فيها مهملة، والأوراق مكدسة والناس على أبوابها يستصرخون ولا من يجيب الصريخ!
وأخيراً، فتشت عنها عند الذين يتنادون (بالإصلاح)، ويتحلون (بالفضيلة) فلم أجدها: لم أجد من يغار على البرامج المعطلة، والأمانة المضيعة، والوعود المهملة، والفساد الذي استشرى، والنار التي تومض من حلال الرماد!
فأين - يا رب - أجدها؟ أين (الغيرة)؟!.
محمد محمد المدني(464/21)
السيلو هو السيرة والسير
للأب أنستاس ماري الكرملي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
4 - السيرة أو السير لمخزن الميرة في بعض لغات الشرق
الأولى
ذكرنا بعض الألفاظ المقابلة لهذه الكلمة في اليونانية، واللاتينية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية، فيحسن بنا الآن أن نذكر لها مقابلات في بعض اللغات المبثوثة في الشرق الأدنى. ففي التركية يسمى هذا المخزن (كندوج) بالفتح وقد نقلوها من الفارسية (كندو) بالفتح. (شئ يبني كهيئة الدن، فيجعل فيه الدقيق وغيره، وهي في التركية الكنجاكية. وأما الترك الصميم فيقولون: كَنْدُك، بفتح الكاف وإسكان النون وضم الدال المهملة وفي الأخر كاف. وقد توسعوا في معناها حتى أطلقوها على كل صبرة عظيمة من الطعام يصومع ويصمد حتى يظهر للناظر إليه كأنه دن كبير موضوع على وجه الأرض، فسبب التسمية واضح، فما الكندوج أو الكندك الآدن كبير أو كما يسميه الغربيون (سيلو).
وقد قال صاحب محيط بهذا الصدد ما هذا نصه بأصله: (الكندوج (وقد ضبطها ضبط قلم بالضم) شبه محزن من تراب أو خشب توضع فيه الحنطة ونحوها. معرب كندو بالفارسية) انتهى.
وهو ترجمة نص فريتغ ترجمة غير مضبوطة وهذه عباراته بحروفها اللاتينية:
) (كندو , , , كندوج
ومعناها على ما يبدو لي: الكَندوج بناية على هيئة مخزن فيها (الآنية وسائر الأشياء) انتهى. فالظاهر من هذا الكلام أن فريتغ لم يفهم كلام صاحب القاموس، فأساء فهماً وأساء نقلاً ثم أخطأ كل من جاء بعده نقلاً عنه. وعلى أثره أخطأ جميع اللغويين المحدثين من العرب وجماعات المستشرقين النقلة، وليس لنا متسع لإظهار شوائبهم ومعايبهم فهي أكثر من أن تحصى. فتكتفي بما نقله الشرثوني في أقرب الموارد.
قال: الكُندوج (وضبطها) بالضم جرياً على القياس اللغوي لا على السماع والنقل على حد(464/22)
ما فعل صاحب المصباح وهو ليس حجة يعتمد على لغته الفصحى لأن لغته عربية فقهية وهي عثرة في طريق المحققين: شبه محزن من تراب أو خشب توضع فيه الحنطة ونحوها (معرَّب) وفي المصباح: (ويطلق على الخزانة الصغيرة)
وقال صاحب البستان: الكندوج (وضم الأول أيضاً): شبه مخزن من تراب أو خشب تحتكر فيه الحنطة دخيل (5 - قلنا وقوله: نحتكر تغيير لقول الشرثوني (توضع فيه) وهذا هو الصواب لأن الغاية من وضعه في الكندوج حفظه من الآفات الجوية لا الاحتكار وهذا وهم منه، فأراد أن يغير عبارة الشرثوني في نصها ويحسنها ليبين تفوقه عليه أو اختلافه عنه فاضر نفسه إذ لم يخف على أحد نقله وفساد معناه.
وورد في معنى مخزن الطعام في الكردية: جال وجالو وجاله. ونكتفي بهذا القدر.
5 - المطمورة بمعنى مخزن الطعام
نظن أننا وفينا موضوع (السيرة) و (والسير) حقه من البحث. بقى علينا أن نعالج موضوع (المطمورة) وقبل أن نعرفها، نقول للواقفين على مقالنا هذا: إن المطمورة وردت بمعنيين: معنى ذكرته كتب اللغة ومعنى أهملته، فنبدأ بذكر الأول فنقول:
المطمورة على ما ورد في القاموس: (الحفيرة تحت الأرض) وزاد في التاج: يوسع أسافلها، تخبأ فيها الحبوب. والجمع المطامير: وطمرتها أنا: (ملأتها) - والكلمة قديمة في لغتنا الشريفة وهي في العراق من أقدم الألفاظ على ما نعهد. وقد ذكرها الليث في عينه فقال: (المطمورة: حفرة يطمر فيها الطعام أي يخبأ (ج) مطامير. وكل من جاء بعد الليث وألف كتاباً في اللغة نقل هذه العبارة ولم يعزها إلى قائلها الأول وهي نفس العبارة التي أخذها عنه الزمخشري في كتابه (مقدمة الأدب) في ص23 من نسخته المطبوعة وهذا نصها: (المطمورة: جاء. غلًّه وفي النسخة المحفوظة في الخزانة البدليانية في مدينة اكسونية زيادة هي: المطمورة حفرة يطمر فيها الطعام أي يخبأ. ج: مطامير) 51
وأهل العراقُ يُسمون بالمطمورة كل ما يتخذ لحفظ الطعام فيه، إن كان في بطن الأرض، وإن كان على وجهها، فهي كاللفظة الإفرنجية تتخذ للدلالة على المعنيين أي بمعنى السرداب في بطن الأرض والمخزن الذي يبنى على ظهرها. وهي عامة الاستعمال في شمال العراق إلى جنوبيه، ولا ينطقون بغيره، فإذا كان لحفظ الغلة في بطن الأرض كان(464/23)
الموطن مهيأ دائماً. أما إذا كان فوق الصعيد فإن أصحابه يجعلونه جرة عظيمة، ثم يسنمونها على هيئة مخروط ثم يسيّعونها ويصمدونها، حتى إذا نزلت بها نوائب الجو من مطر وثلج وبرد ورياح قاومتها أحسن مقاومة ودفعت أضرارها على أتقن وجه وأسدِّه
فتسمية أبناء الرافدين هذين الضربين من مخزن الطعام لا غبار عليه وإن اختلفت هيئتهما لأن أصل التسمية صار يقع على معنى (المخزن) الحافظ للغلة، أياً كان شكله. ولهذا فالعراقيون يحتفظون بهذا الاسم لقدمه عندهم، ولصحة عربيته، ولبقاء الأسماء على مسمياتها وإن اختلفت صورها وأشكالها وكيفية اتخاذها
وأهالي شمالي العراق يسمون مخزن الطعام على وجه الأرض اللوث، وتلفظ بالفتح أي ويجمع على ألواث على ما أفادني ولدي بالروح (ميخائيل حنا عواد) وهو من نوابغ الشبان، ويصنع بأن تحفر دائرة في الأرض عمقها بين 10 و 15 سنتمتراً تسع الكمية الموجودة عند صاحب الطعام، ثم تكدس الغلات شيئاً على شيء من تبن أو شعير أو حنطة وتجمع على هيئة مخروط ويُسيع خارجها ويصمد، حتى إذا جاءت الأمطار وانحدرت عليها ولت في وجهها بسرعة من غير أن تبقى فيها أثراً. والذين يكدسون الأطعمة على وجه الأرض من حنطة أو شعير يكونون أرباب حول وطول، ولهم نواطير أقوياء يذوبون عنها اللصوص والسراق. وأما الذين لا نواطير لهم فيجعلونها في جالأت (جمع جال) يحفرونها في الأرض ويقيدونها بالقار الحسن منعاً لتسرب الماء والرطوبة إليها وجال (ويقال جاله وجالو) كردية معناها هذه الحفيرة واللوث من أصل عربي فصيح معناه في أصل وضعه: القوة والشدة لأن جمعك الشيء على الشيء الأخر تعصبه وتشده، ومن هذا أيضاً قولهم: هذه ناقة ذات لوثة إذا كانت كبيرة الشحم واللحم معصوبة مشدودة ولا يمنعها ذلك من السرعة فهي صفة حسنة لها وقد ذكر لي ولدي ميخائيل أن بعض المزارعين في أنحاء بغداد يسمون (المطمورة) التي تقام على سطح الأرض (جبراية) والجمع جباري. وأما أهل ديار المنتفق في جنوبي العراق فينطقون بها على أصلها الفصيح بالميم، أي أنهم يقولون (جمرية) وهي من مادة جمر أي جمع شيئاً على شيء، ورفع رأس المجموع. وهذا التحقيق من وحي المؤرخ المحقق الأستاذ يعقوب نعوم سركيس حفظه الله ورعاه
ومما ذكره لي ولدي بالروح ميخائيل عواد أن لأهالي تكريت ومن في أنحائها لفظاً آخر(464/24)
لهذه المطمورة هي (اللود) وتلفظ وتجمع على ألواد، والهمزة لا تكاد تلفظ وكأنك تلفظ وكأنك بإسكان اللام وهي عندهم غرفة مستطيلة أو مربعة يخزن فيها التبن وأحياناً الحنطة والشعير ولا تكون مسقوفة في أغلب الأحيان، وتكاد تكون أرضها بمستوى سطح ما يجاورها من الأرضين أو ما أنخفض عنه بقليل. و (اللود) يعرفها بهذا اللفظ وهذا المعنى أعراب شمر من عشائر العراق وتشبه كل الشبة (اللوث) المار ذكرها والمستعملة في الموصل وأرجائها. ولعلها لغة فيها، وقد ورد مثل هذه اللغة عند كثيرين من الأقدمين فقد قالوا: مدد الخبز ومرثه. وقالوا: الشيث تعريب الفارسية شود وقد قلبت الواو ياء والدال المهملة الفارسية ثاء مثلثة
6 - المطمورة بمعنى السجن والمطبق
وأشرنا إلى أن للمطمورة معنى آخر، لم يرد في معاجم اللغة وكان معروفاً في القرون الوسطى أي في عهد العباسيين، بموجب التعبير العربي. وهذا المعنى هو السجن المظلم يسجن فيه المحكومون عليهم بالحبس الأبدي وورد أيضاً بمعنى جب عميق مغطى بغطاء ينقلب للحال بمن يطأه تخلصاً منه بسقوطه فيه وموته فيه حياً
جاء في تاريخ الرسل والملوك للطبري في 2207: 3 في طبعة الإفرنج ما هذا نقلة: (وفي يوم الثلاثاء لثمان خلون من جماد الأولى، دخل المكتفي إلى داره بالحسنى، فلما صار إلى منزله أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم). انتهى
وفي مروج الذهب (8: 215 من طبعة الإفرنج): (وأمر بهدم المطامير التي كان المعتضد اتخذها لعذاب الناس وإطلاق من كان محبوساً فيها، وأمر برد المنازل التي كان المعتضد اتخذها لموضع المطامير إلى أهلها وفرق فيهم أموالاً)
ويخيل ألي أنه كان في العراق وديار الشام ووادي النيل وسائر البلاد الشرقية مطامير مختلفة العدد وقد اتخذت في قرى عديدة حتى أن بعض القرى بقى أسم المطامير عليها لاشتهارها بها وإن زالت عنها. وقد جاء في معجم البلدان لياقوت: (مطامير جمع مطمورة، وهي حفرة أو مكان تحت الأرض وقد هيئ خفياً يطمر فيه الطعام أو المال، اسم قرية بحلوان العراق، وذات المطامير بلد للثغور الشامية له ذكر في كتاب الفتوح. . . ويقال له: المطامير أيضاً غير مضاف)(464/25)
وفي كتاب الأنساب للبلاذري بعد أن ذكر إلى أي ضيعة نسب أبو محمد المطاميري قال: (وتوفي في جمادي الآخرة سنة 163 هـ، وكان فتوحها على ما قال الطبري (2 - 1667) سنة 121هـ على يد مسلمة بن هشام بن عبد الملك) فيظهر من هذا أن العرب كانوا يعرفون المطامير واتخاذها للطعام وللسجن قبل الإسلام، على ما يرى في استعمالها لتلك الأسماء
ولما مر ابن بطوطة في المائة الثامنة للهجرة=14 للميلاد بنذربار من ديار الهند رأى أن كل مسلم يشرب الخمرة يحد ثمانين جلدة ويسجن في مطمورة ثلاثة أشهر لا تفتح عليه إلا حين طعامه) (راجع رحلة ابن بطوطة طبع الإفرنج 4: 52)
من يطالع في معجم دوزي ما جاء علي المطامير منقولاً عن المسافرين والكتبة بتحقيق أن المطامير كانت في جميع ديار الشرق الأدنى لغايات مختلفة فلتراجع فيه إذ قد ضاق بنا الموطن عن هذا البحث الجليل
أما من يحب أن يتابع في تصانيف الإفرنج هذا الموضوع فعليه بمطالعة ما جاء باسم الإنكليزية وبعنوان بالفرنسية فيقع على حكايات وتفاصيل في غاية الغرابة والعجب والاستفادة. ثم كتب عديدة تبحث في هذا الموضوع
7 - مترادفات المطمورة وما يقابلها في لغات الأمم الشرقية
رأينا العراقيين لا يستعملون إلى لليوم إلا لفظة واحدة هي (المطمورة) والآن أخذ بعضهم ينبذون استعمال هذه اللفظة ظناً منهم أنها عامية وأخذوا يستعملون في مكانها (الهُرْى) ويحمعونها على (أهراء قلنا: أنهم في ضلال مبين، لأن المطمورة وردت في جميع كتب الفصحاء التي تكلمت على أمثال هذه المخازن ولم تهملها. وثانياً لأنها صحيحة الاشتقاق من لغتنا المحضة وثالثاً لأن المطمورة استعملت لمخزن الطعام الذي تحت الأرض، ولما فوق الأرض. قال في النهاية في مادة (ط م ر) (وفي حديث مطرف: من نام تحت صدف مائل وهو ينوي التوكل فليرم نفسه من طمار وهو ينوي التوكل: طمار بوزن قطام: الموضع المرتفع العالي. وقيل: هو اسم جبل، أي لا ينبغي أن يعرض نفسه للمهالك ويقول: قد توكلت. انتهى كلام أبن الأثير فهنا نص واضح على أن مادة طمر تفيد الدفن والحبس وتفيد أيضاً العلو والارتفاع، فصحت إذن المطمورة للاستعمالين.(464/26)
ورابعاً أن الهرى يقابل الإفرنجية والإنكليزية فهو إذن غير المطمورة.
خامساً أن الهرى ليست عربية بل لاتينية ومعناها كما هو في العربية أي البيت الكبير يجمع فيه طعام السلطان فليست أذن في المطمورة وهل نبدل الصحيح الفصيح بالدخيل القبيح؟ وقد ذكرنا سابقاً ما يقابل مخزن الطعام في الأرض في الفارسية والتركية والكردية. وأما في الإرمية (السريانية والكلدانية) فالمطمورة تسمى (مطمورتا) وتجمع على (مطمورياتا) كما هو مدون في معاجمهم المعتمدة ومعناها المخبأة أيضاً
8 - خلاصة هذه المقالة وزبدتها
خلاصة هذه المقالة وزبدتها: أن اللفظ الغربية (سيلو من أصل عربي هو (سير) بالفتح، أو (سير) بالكسر، ثم نقل إلى الأوربية باللام، على لغة كانت لبعض قدماء العرب ينطقون بالراء لاماً في كثير من الألفاظ. ولا نزال نسمع مثل هذا الإبدال إلى عهدنا هذا، ولاسيما في ديار العراق
ولقد وجدنا أحسن لفضة تستعمل اليوم بمعناها هي (المطمورة) لأنها خالية من معنى ثان يشوهها، ولأنها عربية صميم لا غبار عليها ولأنها مستعملة في العراق منذ عهد العباسيين، بل قبل وجودهم فيه، ولان كل كلمة سواها كثيرة المعاني تفسد المعنى الرئيسي الأصيل، ولأن (الصومعه) وجمعها (صوامع) لا ينجلي لأبصار الأدباء إلا بمعنى مسكن الراهب أو ما يشبهه. فما بقي علينا إلا أن نتبع الفصيح الممتنع الذي قاوم الأدهار، وصبر على فساد الأشرار، وبلغ إلينا سالماً من كل الأخطار!
(بغداد)
الأب انستاس ماري الكرملي(464/27)
البريد الأدبي
حول غزل السلطان سليم
قرأت في عدد (الرسالة) الأخير قصيدة غزلية للسلطان سليم الأول فاتح مصر نشرها الأستاذ عبد الله مخلص، وقد سبق أن رأيت هذه الأبيات في مصادر أخرى غير التي استقى منها الأستاذ، وهي مباينة لما نشره الأستاذ منها، أما المصدر الذي تحت يدي فهو (عثمانلي تاريخ وأدبيات مجموعة س) بتاريخ 30 نيسان سنة 1334
وقد اطلعت على القصيدة أيضاً في (خلاصة الأثر في أعيان. القرن الحادي عشر). وهناك خلاف في نسبة هذه القصيدة فقد جاء في (دائرة المعارف) أنها للسلطان أحمد خان الأول، وجئ مكان البيت السادس يبيت آخر لطلائع ابن رزيك الوزير الشاعر العربي المتوفى سنة 556، وقيل إن البيتين الأخيرين مع بيت المقطع لأبن رزيك
وغزل ابن رزيك موجود في وفيات ابن خلكان وهو عبارة عن سبعة أبيات، وهو خلاف غزل السلطان سليم المنشور في عدد (الرسالة) 462، وهو برمته للسلطان نفسه
أما سبب الأخطاء التي وقع فيها صاحب خلاصة الأثر ودائرة المعارف، وبعض المجاميع الأدبية لتي تقول إنه للسلطان أحمد أو إن بعض أبياته لأبن رزيك فيرجع إلى أن غزل السلطان فيه تشابه مع أبيات ابن رزيك في الوزن والقافية.
ثم إن القصيدة التي بين سبعة يدي سبعة أبيات لا غير، أما التي جاء بها الأستاذ مخلص فأحد عشر بيتاً. هذا إلى أن الشطرات والمصاريع الموجودة بين الأبيات الكاملة غير موجودة فيما قرأت من المصادر. فما رأى الأستاذ في هذا؟
ثم هناك تباين بين نصي القصيدتين، فقد جاء في البيت الأول في القصيدة المنشورة بالرسالة (قمر يصول. . .) وعندي (ظبي يصول) ثم في البيت الثاني: (ما قام معتدلاً يهز قوامه) وعندي (وهز) إلى غير ذلك
والأبيات 6، 7، 9، 10 المذكورة في (الرسالة) غير موجودة أصلاً في المصادر التي أشرت إليها.
فإلي الأستاذ مخلص، والى جمهور قراء الرسالة من الباحثين أقدم هذه المشكلة لعل أحدهم يستطيع أن يلقي ضوء نستنير به(464/28)
إبراهيم أحمد أدهم
السلطان (سليم) والشعر
قرأت الشعر الذي أورده الأستاذ الفاضل عبد الله مخلص منسوباً إلى السلطان سليم العثماني؛ وأنا لا أجزم بتزوير هذا الشعر على السلطان؛ ولكني أقول: إنه (تخميس) لقصيدة في الغزل، من تلك (التخميسات) التي لهج بها شعراء العصر التركي. ويستطيع القارئ أن يستخرج القصيدة الأصلية من ثنايا الشعر، وأولها:
قمرٌ يصول ولا وصول إليه ... جرحَ الفؤاد بصارمي لحظَيه
فيجدها ملتئمة اللفظ، متسقة المعنى، بعد حذف هذه الإضافات الظاهرة بها، والتي استوجبها فن (التخميس)
فهل ينسب للسلطان أصل القصيدة أم تخميسها؟ أم هو صاحب الأصل والتخميس معاً؟ ذلك ما نسأل عنه الأستاذ المخلص على أن السلطان سليم لم يشهر بإجادته اللغة العربية، فضلاً عن نظمه الشعر فيها؛ وإن كان بعض المصادر يشير في معرض الحديث عنه إلى كثرة مطالعته للتواريخ وتفرسه في اللغتين: الفارسية والرومي (أخبار الأول للاسحاقي)
فإذا أضفنا إلى ذلك شهرة هذا السلطان التي قد تغري بعض الشعراء بنظم أشعار ينسبونها إليه، ويذكرون فيها (الملك والسلطان) تمويهاً على الرواة والناقلين - جاز لنا أن نشك في نسبة هذه القصيدة إليه، كما نشك فيما يذكرونه من أنه خط بيده على مقياس الروضة - حيث كان ينزل أثناء مقامه بمصر - هذين البيتين، وهما:
الملك لله، من يظفر بنيل مني ... يُردّ فقراً وينزلْ بعده الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملةٍ ... فوق التراب لصار الأمر مشتركا!
ولا يبعد أن يكون هذا من قبيل ما ينسب من الشعر إلى (آدم) أبي البشر، والى إبليس وبعض (الهواتف) من الجان. . . مما كان يتخطفه الرواة والناسخون، لطرفة مصدره، وغرابة مخبره
(جرجا)
محمود عزت عرفة(464/29)
لمن رسالة الحج
طلبت إلى الأستاذ حافظ عامر بك أن يكشف الغموض الذي ضربه بعضهم حول بعضهم حول تأليفه (رسالة الحج) فقال:
أتيح لي أن أؤدي فريضة الحج أيام كنت سفير مصر في جدة
عام 19311935 فجمعتني المناسبات بالفيلسوف الهندي الشيخ
عبيد الله السندي ومريده الدكتور سيد فيروز زيدي فتحدثت
إليهما عن أسرار الحج وفلسفته حديثاً حرصاً على حفظه لما
له من الأهمية
ولقد نعيت فيه على قادة الرأي الإسلامي إهمالهم قاعدة إسلامية أساسية ألا وهي حج بيت الله الحرام. ثم انفض موسم الحج وأخذت طريقي إلى جدة مقر عملي الرسمي في القنصلية المصرية. وما كاد يستقر بي المقام حتى لحق بي الدكتور فيروز زيدي موفداً من قبل أستاذه الشيخ السندي لأخذ مذكرات لشتى أحاديثي عن الشئون الإسلامية عامة ورسالة الحج خاصة، ولم يكن لدي من الأحاديث المدونة غير نقاط دونتها في مذكرتي، فاستبقيت الدكتور فيروز حتى أتممت له رسالة في أسرار الحج وفلسفته، وطلبت من الدكتور أن يكتب ما أمليته عليه من صورتين بالآلة الكاتبة، وأخذ الدكتور صورة للأستاذ الفيلسوف الهندي واحتفظ بالصورة الأصلية. ثم سافر الدكتور فيروز وهو يقول: (لقد أهديت إلى يا سيدي كنزاً ثميناً من التعاليم السامية التي لا تشترى بالذهب وهديتني بتوفيق الله ووجهتني توجيهاً صحيحاً نحو الإسلام الخالد الصالح لكل زمان ومكان)
وحدث أن زار حافظ بك مصر وطنه فانتهز هذه الفرصة لطبع الرسالة ونشرها في العالم الإسلامي وكذلك فعل فكانت الطبعة الأولى من رسالة الحج، ولقد كان نصيب الشيخ عبد الوهاب الدهلوي من رسالة الحج لحافظ بك أن أهديت إليه نسخة من الطبعة الأولى في أثناء تجواله ببغداد، فهل ترد الهدية بعد بضع سنين بالتجني على مهديها؟(464/30)
سيد عثمان المراغي
كم ذا من جديد
طلبت إلى حضرات القراء - في شئ من الرجاء - أن يدلوني على شاهد من الصحيح الفصيح وردت فيه (كم) مقترنة بـ (ذا) حتى يكون ذلك هو الفيصل بيني وبين إخواني الذين اختلفت معهم في بيت (حافظ) - كم ذا يكابد عاشق ويلاقي - فإني لم أعثر على بيت (المتنبي) - وكم ذا بمصر من المضحكات - وهو مما لا يصح الاستشهاد به من ناحيتين:
الأول: أن (أبا الطيب) لا يعتبر فيمن يؤخذ عنهم الفصيح الصحيح. . .
الثاني: أن الرواية متضاربة، فتارة: (كم ذا) وأخرى: (ماذا). . .
ولكن الأستاذ البشبيشي أبي إلا أن يشرفني بالرد، فراح يعرب ويخرج ويؤول. . . فهل يتفضل (من جديد) بإعادة النظر، لعله يأتي بما يقنع؟. . . فإني أرجو أن يكون (أبا حسن) هذه القضية. . .
إبراهيم علي أبو الخشب
في الفن الإسلامي
كتب إلى قارئ فاضل يسألني أن أكتب في ناحية معينة من (الفن الإسلامي)، وشاء أن أجيبه على صفحات (الرسالة الصديق) وإني إذ أشكر لحضرته ما غمرني به في خطابه من كلمات طيبة، أرجو أن تتيح لي الظروف قريباً إجابته إلى سؤله
محمد مصطفى
جريدة الوفاق في عامها الخامس عشر
استقبلت جريدة الوفاق عامها الخامس عشر من عمرها المديد؛ وهي تعالج الأدب والسياسة والاجتماع، ولم يفتها - وهي التي تصدر في غير العاصمة - أن تعني بالناحية الإخبارية فضربت في هذا المجال بنصيب(464/31)
القصص
قصة مصرية
واصلون ومنبتّون
للأديب لبيب السعيد
لم يكن يرى شيئاً من هذه المناظر الجميلة المتنوعة التي يمّر بها القطار، ولم يكن يسمع شيئاً مما يدور حوله من أحاديث الناس. كان في دنيا الماضي يجوس خلالها، ويقف على بعض مشاهدها وقفات طويلة مفكرة. هو ماضي أليم، ولقد كان نجح بعد جهود مرّة في إسدال الستار عليه، وفي نسيان ما فقد فيه من آمال عزيزة قرّح فقدها قلبه قبل جفنه، ولكن هذا الماضي انبعث الساعة أقوى وأوجع ما يكون!
كان يرتقب قطار الإسكندرية الذاهب إلى مصر، فما راعه إلا ضابط كبير من رتبة (قائمقام) يربت على كتفه في بعض العنف قائلا: (مجاهد! من أين وإلى أين). ولقد ذعر مجاهد أول الأمر إذ وجد صاحب اليد التي تربت على كتفه ضابطاً كبيراً لا يعرفه ولا يذكره، ولكنه ما لبث أن ملك نفسه حين تبسم الضابط ضاحكاً وهو يقول: (ألا تعرفني؟ ألا تذكر محمد رأفت زميلك في مدرسة القربية الابتدائية في مصر؟ ما أضعف ذاكرتك وأقل وفاءك! ألست تذكرني حقيقة؟ وهل نسيت ثالثنا إبراهيم عثمان؟ إني أذكر بيتكم في القربية، كم لعبنا فيه أنا وأنت وإبراهيم! وأين إبراهيم يا مجاهد؟ وأين مستقرك أنت الآن؟) وأجاب مجاهد في انكسار واختصار: (إبراهيم لا أعرف عنه شيئاً. إن خمسة وعشرين عاماً ليست قليلة يا بك. فأما أنا - وألقى بطرفه إلى الأرض خجلاً - فمدرس هنا في طنطا في شمس المعارف الأهلية. . .)
وجاء القطار، فتصافحا وافترقا: الضابط إلى عربات الدرجة الأولى، ومجاهد إلى عربات المؤخرة. . .
كان هذا اللقاء الشّرر الذي سعّر الوجد في صدر مجاهد، ليس من حقد على زميله الذي ابتسم له الزمان فسار إلى غايته، ولكن حقداً على الزمن الذي كاد له فرده خلف الصفوف. . .(464/32)
ما أمض أن يتطلع إنسان فيرى رفاقه تقدموه على حين يرى نفسه منبتّاً فاقد الأمل! لقد كان مجاهد أذكى لداته لبّا وأقواهم للتعلم استعداداً. . . ومحمد بك رأفت هذا الضابط العظيم الذي تنبئ شاراته النحاسية عن رتبته. كان أحد التلاميذ الكثيرين الذين كانوا يرنون دائماً إلى مجاهد معجبين، وادّين من كل قلوبهم لو يكون لهم بعض تفوقه وبعض رضاء المعلمين عنه. وآباء التلاميذ وأمهاتهم في حي القربية لم يكونوا يعرفون أنموذجاً ينبهون أبناءهم إلى احتذائه غير مجاهد. نعم، مجاهد! الذي يعمل ألان مدرساً أهلياً في مدرسة فقيرة، والعطل من حلية الدبلوم! والذي يتقاضى راتبه منجما من نصف جنيه ومن ريال!
كان مجاهد قد أحرز البكالوريا والتحق بمدرسة الحقوق، وكان جده وذكاؤه يسوقان له البشرى ويضيئان بين يديه مناهج الأمل، ولكن ظروفا ألمت بآله، فوجد نفسه يوماً مضطراً إلى العمل كيفما اتفق ليعول أسرة فيها بنات وبنون كالفراخ الزغب. . .
ولم يبح لأحد من لداته بأمره، ولم يفعل سوى أن مرّ بردهات المدرسة وأفنيتها جميعاً كأنما يأخذ لعينه الزّاد من منظرها وانطلق وراء أسرته في موطنها الأصلي، وهو ممسك بقلبه خشية أن يتصدع. . .
وحين بصر برفاقه الطنطاويين في إجازة العيد توارى منهم خجلا، وإشفاقاً من أسئلتهم المحرجة عن أسباب انقطاعه عن الدراسة، ولكن الحظ السيئ مع ذلك أوقعه فيهم غير مرّة، فعانى أسئلتهم، وأجاب والحزن يمزّقه والكلمات تحتضر على شفتيه، أنه يعمل مدرساً في مدرسة شمس المعارف. وتلقى من سخريتهم وضحكاتهم ما شاءوا وشاءت له الظروف. . .
وحين كانوا يقبلون على البلد صيفا، كان يلتقي ببعضهم أحياناً، فكانوا - وهم لم يتجاوزوا بعد عهد الطالب - يتكلمون إليه تكلم من تعلم لمن لم يعرف من العلم شيئاً. . . يتحدثون فيسرفون في الإساءة إليه من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، قال أحدهم مرة وهو ضاحك: مجاهد هذا يصلح وكيلاً لمكتبي حين أكون محامياً، فهو خير من يجمع لي عناصر الدفاع؛ وأردف آخر: ولكني لن أدعه لك فإني سآخذه في بطانتي حين أكون وزيراً. لقد كانوا يتحدثون منذ شبابهم الباكر حديث الحكام، فكانت لهجتهم الشامخة العابثة تدمي قلبه لم يكن وطّن للمصائب. ولقد كان يملأ نفسه الرقيقة العزيزة أنهم كانوا يفيضون أحياناً في(464/33)
الحديث عن موضوعات في القانون كان هو قد اطلع عليها قبل فراقه المدرسة وبدأ يشغف بها
كانت أياماً سودا. . كان يعرف أنه في عمله الضئيل يعيش بلا أمل. وكان يتنبأ بأنه لن يبتسم لنفسه البتة؛ فإن فعل فستكون بسمة غير بسمته المعهودة: بسمة أخرى هي بنت الكآبة وأخت الدمعة الحارة. لقد استبعد يومها أن يكون هو مجاهد صاحب الآمال المرسلة بالأمس، وود الموت صادقاً، وما منعه أن يقبل عليه غير خوف على أعزاء له صارت إليه أزمة أمورهم، وفي رقبته باتت مسؤولية رعايتهم
وهاهي السنون لم تنصف السبّاق المنبت، وتركته مردود الجماح مكفوف الطّماح، يريد التقدم فلا يستطيع. إنه منذ عمل مدرساً وهو يلوك منهج السنة الثالثة الابتدائية في الحساب والجغرافية والتاريخ. . . يشقى بتلاميذ لا يبدو فيهم النابغ إلا نادراً: مظهرهم لا يشرح صدراً، وعيونهم تنّم عن أنهم جياع، وملابسهم تنم عن أن أهليهم يعانون في معاشهم مصاعب شداداً. . .! وأبناء الميسورين منهم يذيقونه بعبثهم واستهتارهم عذاباً شديداً، فإن نهر واحداً منهم جاءه الناظر يقول حانقاً: تصرفاتك تنفّر التلاميذ وآباءهم من المدرسة وتحيلهم إلى مدرسة التاج التي تنافسنا!! ويتيه الناظر فيحتمل مجاهد، ويقول فيسمع، ويأمر فيطيع. . .
وهاهم بعض تلاميذه قد سبقوه أيضاً: نالوا حظ التعليم العالي، ثم تخرجوا إلى الحياة شباناً ناجحين. . . وبقى هو وحده خلف هؤلاء، وهؤلاء جميعاً، لا يصل أن يكون مرؤوساً للكثير منهم!
ما برح مجاهد في عمله الشاق يصحح أكداس الكراسات ويغدو على الصبيان الشياطين نحو ثلاثين حصة في الأسبوع، فيخلع من شبابه وصحته برداً بعد برد. . . وهو مع ما يبذل من جهود لا يتقدم ولا يزيد إلا ضنى كذبالة تضيء للناس وهي تحترق!
لقد كان يوشك أن يموت كمداً وألماً كلما ذكر أنه لا يحمل إلا شهادة يحملها الصبيان ويتقدم لها في العام أكثر من خمسة آلاف طالب. إن المفتش والناظر والمعلمين والطلاب لا يقيسون كفاية المعلم إلا بمقياس واحد: (الشهادة). . . وهو، سطا به الدهر سطوة حرمته هذه (الشهادة). . . فسلام على الحياة الرغدة، وعلى التقدم، وعلى الأمل. . .! وويل لابنه(464/34)
من الخجل الشديد حين يسأله زملاؤه عما يحمل أبوه من شهادات. . .!
هذه الآلام التي ظلت تعبث به سنين طويلة استطاع اليأس ولا شيء غير اليأس أن يواريها انكشفت اليوم حين التقى مجاهد برأفت بك. . . فهي تلذعه لذعاً أليماً، وتعيد له مأساته جديدة
أين أيام مدرسة القربية حين رأفت وإبراهيم عثمان لا يتركانه إلا لماماً، حين كانت الحياة لينة الأعطاف عليهم جميعاً، وكان هو أذكاهم وأقواهم! خفض الزمان الثقيل ورفع الخفيف!! هذا رأفت وصل يقيناً، فكيف بإبراهيم وهو كان أنشط من رأفت وأذكى وألمع؟. . . كيف وهو منذ طفولته أبعد مطمحا وأكبر لبانة؟ هو لا بد الآن يتسور المجد. . . حكم الله! اثنان يركضان دراكا وثالثهم يزحف زحف الكسيح! واضطراب كيان نفسه. . . وفاضت عيناه بالدمع الغزير. . . كأنما كان معه في القطار ميت عزيز! والتفت فرأى أناساً يرقبونه في تعجب، فاستحى أن يبدو أمامهم فيّاض الشؤون، وأحب أن يكذب ظنهم، فوقف في نافذة القطار ليدع للهواء تجفيف الدمع بدل المنديل. . .
أّنى لمجاهد بالعزاء وهو من بين أترابه الحي الميت؟ ما أشوق مجاهد إلى الانفراد بنفسه ليتعاطى البكاء دواء يشفى دائه الثائر!؟ ولكنه لا يستطيع حتى هذه اللذة، لأن السافرة كثيرون، والفضال كثير!
وحملق في السماء ضارعاً يشكو بثه وحزنه إلى الله، ولكنه ذكر أن الله عليه غضبان، فهو منذ خاطت له الأيام محنته يغسل أشجانه في الكأس المحرّمة، فأرجع بصره إلى الأرض خاسئاً ذليلاً حيران. . .
وخفف القطار الجاهد من سيره وهو داخل محطة بنها، وأقبل الباعة على السفر يصيحون: التين! الكازوزة! خبز وبيض! سجاير! كانت نداءاتهم عالية مسرعة ملحة كأنما يستنجزون بها المسافرين صدقة! وفي زحمة العربات وغمار اللغط، كان صوت عال مسرع ملح كسائر أصوات الباعة يرن أسود خاشعاً: الكتب! النتائج! القصص! طوالع الملوك. . . ونظر مجاهد إلى صاحب الصوت مأخوذاً. . . إنه رجل ترهقه ذلة ناطقة ويحوطه انكسار يروع. . . إنه رجل مشتعل الرأس شيباً وعلى صفحته خطوط تتكلم بما يؤوده من أوقار الدهر وبما يظلم عليه من شعاب الحياة. كل ما بين ذراعيه عدد من الكتب الرخيصة التي(464/35)
لا تروج إلا عند العوام وأشباههم وليس ثمنها يبالغ مهما بلغ عشرين قرشاً. هذا البائع المسكين يهيج موضع الإشفاق والحب والرحمة في مجاهد. ما أشبهه بإبراهيم عثمان في جملة سمته، ولكن هذا البائع بادي البؤس، وإبراهيم وهو ابن الأسرة الغنية يتفيأ ظلال النعمة. . . ولكن هذا البائع مكتئب وكأن الدموع في عينيه تضطرب، والعهد والظن في إبراهيم أنه مملوء الوجه بنضارة الحياة، منفرج الثغر دائماً عن بسمة لا تغيض. . . ولكن هذا البائع يزحف إلى الستين، وإبراهيم وهو في سن مجاهد لما يقتحم الأربعين
إن قلب مجاهد لينازعه إلى إبراهيم صديق الطفولة والصبا. يا رب يوم أمضياه في مرح لا تشوبه شائبة، ويا رب أقاصيص تبادلاها على صفاء ومحبة!
ليت مجاهداً يرى إبراهيم ليحيى وإياه ذكريات صباهما السعيد. ليته يراه فلقد يجد فيه متنفساً لصدره الضيق وروحاً لقلبه المحرور كما كان يجد فيه عوناً على مشاكله الصغيرة أيام الحداثة. . . بل ليته لا يراه مد العمر حتى لا يزداد قلبه احتراقاً حين يرى نفسه خلف الزحام وتربه في مقدمة الموكب. . .
يا ويلتا! أشرب أحد من لداته كأس البؤس مريرة كما شرب؟ لقد حادت عن قصدها أحلامه وصدعه وحده ريب الزمان!
ودنا البائع من مكان مجاهد يتخطى أمتعة المسافرين في عناء، ويرفع من نداءاته كأنما يسترحم بها وبنظرات عينيه سفاراً سيتركونه في جزيرة مهجورة. . . دنا من مجاهد، وما التقت عينيه بعينيه حتى هرع إليه: مجاهد؟ مجاهد أفندي. . . أإنك لأنت مجاهد!!
- نعم، هو أنا؛ وأنت؟ أتكون إبراهيم عثمان؟
وتعانق الصديقان القديمان. . . ولكن صفير القطار لم يمهلهما حتى يعرف كل منهما شيئاً عما كان في حياة صاحبه. . .
هبط إبراهيم. . . وانطلق القطار بمجاهد. . .
(المنصورة)
لبيب السعيد(464/36)
العدد 465 - بتاريخ: 01 - 06 - 1942(/)
صداقات الأدباء
للأستاذ عباس محمود العقاد
لو تكلم القدر لأسمعنا العجب من ظلم الناس، وهم يحسبون أنهم المظلومون لأنهم يطلبون ولا يجابون، ولا يسألون أنفسهم مرة لماذا يحال بينهم وبين ما يطلبون!
فربما طلبوا ما لا يكون، وربما طلبوا شيئاً وهم يريدون غيره بل يريدون نقيضه، وربما طلبوا الشيء وتوسلوا إليه بغير وسيلته، ثم يعرفون خطأهم فلا يطلبونه بعد ذلك بوسيلته المثلى
والأستاذ توفيق الحكيم أراد الصفاء بين جميع الأدباء؛ فهل أراد شيئاً يكون في هذه الدنيا؟ وهل أراد حقاً؟ وهل توسل إليه بالوسيلة المثلى؟
إن ثلاث (لاءات) مفخمات غير أصدق جواب على هذه الأسئلة الثلاث
فالصفاء بين جميع الأدباء معناه الصفاء بين جميع الناس، وليس هذا بميسور ولا هو بلازم للأدب ولا للأدباء
فلماذا تصفو العلاقات بين جميع الأدباء وهي لا تصفو بين جميع الآدميين؟ إن الصفاء قد يتحقق بين طبيب ومهندس ولا يتحقق بين مهندسين أو طبيبين. وقد يتاح لرهط من الأدباء كما يتاح لرهط من أبناء الصناعات المختلفة، ولكنه لن يتاح لجميع الأدباء في وقت واحد، ولن يتاح لجميع الناس من صناعات شتى ولا صناعات متفقة. وليس تخصيص الأدباء هنا بالمطلب المفهوم إلا إذا عممنا الطلبة للأدباء وغير الأدباء، ورفعنا الكدر من جميع الأحياء. وهذا ما ليس بكائن، ولا نراه مما يكون
فالأستاذ توفيق الحكيم هنا يطلب شيئاً يجاب
ولكننا نعود فنسأل: هل طلبه حقاً؟ وهل اجتهد في تحقيقه فتوسل إليه بوسيلته المثلى؟
إن الذي يطلب الصفاء لا يبحث عن أسباب الكدر بملقاط ليخلقها خلقاً بين رجلين على أحسن ما يكون من الصفاء؛ بل هو يمحو منها ما وجد إن كان له أثر محسوس، ولا يوجد منها ما ليس له وجود ولم يحسه أحد ولا توهمه، ولا وقع في ظن من الظنون
فماذا صنع الأستاذ توفيق الحكيم؟
حمل ملقاطه ووضع مجهره على أنفه وراح ينبش ما بين السطور وأطال النبش بينهما(465/1)
ليصيح بعد ذلك: وجدتها! وجدتها!. . . هنا سبب من أسباب الكدر كامن بين السطور لعله لا يظهر على وجه الكلام ولكنه مستور هنالك لمن يبحث عنه ويجري وراءه، وهو لهجة تعالٍ في الشكر، أو لهجة يخيل إلى من شاء التخيل أنها تشف عن التعالي ولا تبرئ الشكر من الجفاء
ثم يصيح برجلين يفهمان ما يقولان وما يقال لهما: أرأيتما؟ أليس خليقاً بكما ألا تصفوا؟ أيليق بكما أن تصفوا وبينكما هذا الذي أراه مانعاً للصفاء!
ذلك ما صنعه الأستاذ توفيق الحكيم
فهل في وصفه مبالغة؟ وهل صورناه بغير صورته القريبة التي تعرض نفسها لكل من ينظر إليها؟
أهدى إلي الدكتور طه حسين قصته (دعاء الكروان) فجعلت هذا الإهداء موضوع مقال من أعماق النفس في معنى الكروان ودعاء الكروان وذكريات الكروان، وقرأه كثيرون من الأدباء فحدثوني عنه حديث رضى وسرور، وفي مقدمتهم الدكتور طه مهدي دعاء الكروان
أما الأستاذ توفيق الحكيم فماذا صنع؟
لم يرضه ما أرضى الدكتور طه ولا ما أرضى الأدباء ولا ما أرضى كثرة القراء، وراح يتحدث ويكتب ليقول: هنا صفاء. . . فكيف بالله يليق هذا الصفاء؟
لو كان الأستاذ توفيق الحكيم يطلب الصفاء ويتوسل إليه بوسيلته المثلى لكانت له ندحه مما صنع ولو لم أكتب ذلك المقال عن دعاء الكروان.
نعم كان في وسعه أن يقول بينه وبين نفسه: لعل واجب الشكر قد أُدي في رسالة أو في مقابلة، أو سيؤدَّى في سانحة أدبية يأتي أوانها في حينها، أو لعلي أعرف الحقيقة إذا عنيت بالسؤال عنها عند أهلها.
هذا ما كان في وسع طالب الصفاء أن يصنعه ولو لم أكتب مقالي في (دعاء الكروان)
ولكن الأستاذ الحكيم لم يصنعه، ولم يزل يحمل ملقاطه ويضع مجهره على أنفه، ليخلق الكدر من شيء يبحث عنه بين السطور، ولا يراه على ظاهر السطور
أهذا هو طلب الصفاء والسعي إليه؟
فماذا يكون السعي إلى خلق الكدر والإشفاق من دوام الصفاء؟(465/2)
كانت المناقشة بين الأستاذين زكي مبارك وتوفيق الحكيم قائمة يوم لقيت الأستاذ توفيقاً في إحدى المكتبات وفيها صديقنا الأستاذ على أدهم. فجرى ذكر تلك المناقشة وصارحت الحكيم فيما أراه فقلت له: إنك لم تبحث عن أسباب الإنصاف بعض بحثك عن أسباب الجفاء؛ لأنني لا أعرف ولا أذكر أنني قصرت في حق زميل إبان اشتغالي بالصحافة وتولِّي فيها صفحةً للأدب ودراسة المصنفات. فكل أديب أرسل إليَّ كتاباً في هذه الأثناء فقد نوهت به وكتبت عنه، ولكنني أنا أرسلت كتباً إلى زملاء يعرضون للمصنفات في المجلات فلم يذكروها ولم يشيروا إلى صدورها. فلماذا نسيت هذا وحاسبتني على ما تقول إنه شكر لم يبلغ ما تتخيله من الرقة والنعومة؟ لماذا تحاسب من يكتب ولا تحاسب من يهمل؟ ما الذي يعفي أولئك الزملاء من عرفان حقي، ويوجب عليّ أنا أن أبلغ الغاية التي يتخيلها كل متخيل من عرفان الحقوق؟
وتكلم الأستاذ الحكيم عن أولئك الزملاء فقلت له: إنني لا أفردهم بالملاحظة ولا أستثنيك أنت منها. فقد كتبت عنك مرتين أو ثلاثاً فكم كتبت عني؟ وما الذي يعفيك من هذا الواجب الذي لا أذكرك به إلا لمناقشة رأيك لا لأنني أطلبه أو أحتاج إليه؟
ثم بينت له موقفي من تقريظات العظماء الذين يثنون على كتبي فأشكر لهم ثناءهم ولا أنشره فيما أطبعه من كتبي، وإن كان في نشره فخر أعتز به كما يعتز به سائر المؤلفين
بينت له ذلك لكي لا يقع في روعه أنني أطالبه بواجب الكتابة أو أتقاضاه حقاً من الحقوق. فلو أردت ذلك لعمدت من قبل في عشرات السنين الماضية إلى نشر الكتابات التي وصلت إلى يدي وهي مما يسمح بنشره في جميع البلدان
ثم افترقنا ولم أسمع من الأستاذ الحكيم في تلك المقابلة ما يذهب بدهشتي من سعيه إلى الصفاء بذلك الأسلوب، ومن محاسبته إياي على الوهم بين السطور وهو يرى أناساً يسهون كل السهو عن حق الأدب وحق الزمالة، فيغضي عن الحقيقة الماثلة، وينسى السطور وما بين السطور
وفارقني تلك الليلة ولا أدري ما في نفسه، ولعله كما علمت بعد أيام قد تبين صواباً فيما قلت أو في بعض ما قلت فعدل إليه وكتب مقاله المشكور عن كتابي (عبقرية محمد) فقدمه بكلمات يقول فيها: (وقد سمحت لنفسي بالسبق إلى أداء هذه التحية، لأني فطنت إلى أني(465/3)
المتخلف دون غيري عن أداء الواجبات، وليس لي من عذر إلا انصرافي عن باب النقد منذ أول الأمر). وهو موقف بار أحمده له كل الحمد وأعتقد أنه قد حُسب له عند القراء كما حسب له عندي في عداد الخلائق المرضية والفضائل الخلقية. ثم وجه إليّ بعد أيام أخرى خطاباً يقول فيه:
(إنك للمرة الأولى تخاطبني بهذه اللهجة التي كنت تخاطب بها الرافعي رحمه الله. أبهذه السرعة تضع الناس في صف أعدائك؟ لعلك لفرط ما قاسيت من شر الناس، ولقلة ما وجدت من خيرهم، أصبحت مثل (هملت) تستل سيفك لتضرب من خلف الأستار دون تبين الوجوه. فطعنت صديقاً وأنت لا تدري)
ولا أظن أنني أشبه (هملت) في كثير من خصاله وفعاله؛ ولكني إذا سئلت لم صنعت صنيع (هملت)؟ أفلا يجوز لي أن أسأل: ولم الوقوف وراء الأستار، وأولى من ذلك الخروج إلى وضح النهار؟ أليس هنالك بعض اللوم على من ينصت خلف الستر ليسمع ما لا يُسمع، أو ليقول ما لا يقال؟!
وبعد، فما العبرة من كل أولئك في تاريخ الأدب ونقده وسلوك الأدباء مشهورين كانوا أو غير مشهورين؟
العبرة من أولئك (أولاً) أن الأستاذ الحكيم يقول بعد الإشارة إلى ثناء الدكتور طه عليه منذّ سنوات: (. . . لم نسمع في غير مصر أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض، وأن على المؤلف واجباً مقدساً هو أن يشتري من فوره سبحة كيلا ينسى أن يسبح بحمد الناقد أناء الليل وأطراف النهار. . .)
كذلك يقول الأستاذ الحكيم اليوم. فليذكر مقاله الأدباء الناشئون الذين يؤمنون بكفاءة تشبه كفاءته الفنية، ليذكروا أنهم يطلبون شيئاً ينكرونه جاهدين بعد بضع سنوات: يطلبون التشجيع ثم ينكرون التشجيع، وكان أحرى بهم ألا يطلبوه وألا ينكروه، فما سمعنا في غير مصر أن الأدباء المشهورين مسئولون عن شهرة كل أديب ينشأ بعدهم ولا يعرف لهم حقهم، وإلا كانوا هم الملومين المقصرين
وعبرة أخرى أن الأستاذ الحكيم يذكر التعالي في موقف الكاتب وينسى أنه اختار لأدبه عنوان (البرج العاجي) وهو عنوان الأدب المصطلح على وصفه بالتعالي بين نقاد الغرب(465/4)
وشعرائه. فليترك برجه العاجي إذن أو فليتركنا نحن نتعالى ونتواضع كما نشاء
وعبرة ثالثة أن الأستاذ يحن إلى صداقات في الأدب المصري كالصداقات التي أثرت عن كبار الأدباء الغربيين
وأن أناساً لتأخذهم السمعة البعيدة في زمانها أو البعيدة في مكانها فليلحقونها بعالم الخيال وعالم المثال ويسهون عن الواقع الذي لا يقبل المحال
وأعيذ الأستاذ أن يكون من هؤلاء
فتاريخ الآداب الأوربية بين يديه يستطيع أن يرجع في كل ساعة إليه، ويستطيع أن يعلم بعد المراجعة أن في الأدب العربي حديثه وقديمه صداقات تضارع تلك الصداقات مع حسبان الفارق في البيئة والزمن والمناسبة
فهل يعني الأستاذ صداقة شعراء البحيرة في أنجلترا؟ هل يعني صداقة شلي وبيرون هناك؟ هل يعني صداقة جيتي وشلر بين شعراء الألمان؟ هل يعني صداقة تولستوي وتورجنيف وديستفسكي بين عظماء الأدب العالميين من الروسيين؟
إن كان يعني هؤلاء وأمثال هؤلاء فهو واجدٌ في الأدب العربي الحديث صداقات من طراز تلك الصداقات، وواجدٌ من هناتهم في الغرب نظائر لما يشكوه من هنات الزملاء المصريين والشرقيين
والطبيعة البشرية واحدة في كل مكان. . . تلك أصدق حكمة عن الناس قالها إنسان.
عباس محمود العقاد(465/5)
الخطاب الذي احترق بسعير الأنفاس
(للكاتب المجهول)
هو خطاب تلقيته من (فلانة) في سنة 1919
فما صبرُ القلب على غرام مشبوب يدوم ثلاثة وعشرين عاماً هي كألف سنة مما تعدّون؟ ما صبر القلب على (فلانة) وفي مثلها قال المجنون:
وشاب بنو ليلى وشبّ بنو ابنها ... وأعلاق ليلى باقياتٌ كما هيا
كان الدهر سمح في غفلة من غفلاته بأن ألقاها بعد طول الفراق، ثم استيقظ الدهر فعرفت ما لم أكن أعرف، عرفت أني لن ألقاها بعد ذلك ولو انتظرت إلى أن تشيب ناصية الزمان
فمن يبيعني مثقالاً من الصبر الجميل عساني أتناسى أحزاني وأشجاني؟
وهل يباع الصبر في هذه البلاد؟
وهل ترك الاتجار فيها بما تحدث عنه القرآن من عدس وبصل وفول مجالاً للاتجار بالصبر الجميل؟
خذوا أملاكي وخذوا حياتي في سبيل لحظة واحدة أقضيها في حضرة (فلانة) لأجدد التوبة من ذنوبي، ولأجدد العهد، إن كانت ترتاب فيما بيني وبينها من عهد
أكان ذلك اليوم آخر أيامي؟
أفي الحق أني لن ألقاها بعد الوشاية اللئيمة التي نفرتْها مني؟
دنيا من الأحلام تقوّضت في لحظة أو بعض لحظة بفضل كلمة نقلها أو اختلقها نمامٌ أثيم، فما ذنبي ولم أقل في (فلانة) غير الصدق؟
ما ذنبي ولم أقل إلا أنها كانت على تطاول الأيام أحب إلى قلبي من سائر عرائس الشعر والخيال؟
ما ذنبي ولم أوجه إليها في حياتي كلمة واحدة تجرح الذوق؟
إنما الذنب ذنب من ائتمنته فخان، وكنت أحسبه أهلاً لتلقي سرائر الروح الزين، وهل كنت أول عاشق خدعه الواشون والرقباء؟
الله يعلم كيف انخدعت، فقد حسبت أن طهارة القلب تُعدى، وظننتُ لجهلي أن في الدنيا ناساً يتذوقون أخبار الحب العفيف، ولم أكن أدري أني أكتب لنفسي صحيفة الاتهام وأنا(465/6)
بريء، وكم في السجن من أبرياء!
لن أرى ذلك الوجه الأصبح بعد اليوم لأن صاحبته لا تريد أن تراني
وكيف أراها وهي تصدر أمرها المطاع بأن أرد إليها الخطاب الوحيد الذي طلَّت به قلبي سنة 1919؟
ومن يصدق يا فلانة أننا كنا رفيقين في ذلك التاريخ؟
هو خطاب أحرقته أنفاس الوجد ولم يبق منه غير أطياف، فما حرصك عليه وهو خيال في خيال؟
سأردّ ذلك الخطاب بلا تسويف
لا، لا، لن أرد ذلك الخطاب ولو قُطِّعت أوصالي، فهو الوثيقة الباقية على أنك كنت رفيقة صباي، يا مثال الشرف والطهر والعفاف
سيوضع ذلك الخطاب في كفني يوم أموت، فانبشي قبري وخذيه إن عرفت طعم الحياة بعد موتي، يا قريبة العذول الذي أفسد ما بينك وبيني، وهي أول مرة عرفت فيها عن تجربة أن الدخان القريب يُعمي العيون
ولو كنت فاجراً لعرفت ذنبي واسترحت
وهل يكون الفجور أشنع مما وقعت فيه؟
أنا أسلمت زمام أسراري لمخلوق توهمته يدرك شرف الحب، فكان منه ما كان، فمن يصلح ما بيننا وقد ضاق في وجهي صدرك الرحب، ونقلك الغضب إلى الوقوف في صف الزمان
أنا حزين، حزين، حزين
وما أحزن على نفسي، فقد شبعت من الزمان وشبع مني، ولم يبق لي ما أخاف عليه بعد أن عانيت في دهري ما عانيت، وإنما أحزن لارتيابك في أمانتي، وعنك تلقيت دروس الأمانة والصدق والوفاء
فإن فقدت عطفك فقداً أبدياً فقد خسرت بجانبه مودة ذلك العذول، وكنت أحسبه أشرف الناس، وهو لك قريب، وظلم ذوى القربى أشد من وقع الجراز المصقول كما قال بعض القدماء
الوداع، يا رفيقة صباي، وداع الزهر الظامئ لقطرات الغيث. . . أما الخطاب فقد أحرقته(465/7)
أنفاسي، وأما العذول فسيحل عليه غضب الله ولعنة الحب، ولن يلقى في دهره غير الشتات، وسيكون هو وأهله ومن يحيط به طعاماً لنيران الوشايات والأباطيل
الوداع، يا رفيقة صباي، وداع الطفل لأمه الرءوم، وداع الموجة المتكسرة على شاطئ الأمين، وداع الوليد للحياة وقد أعجله الموت في يوم الميلاد!!
لقيتك بعد يأس، يا رفيقة صباي، فكاد يقتلني الجنون. . .
فما الذي سيجني الواشي وقد أفسد ما بينك وبيني بكلمة أقصر من ومضة البرق وأطول من كيد الزمان؟
ومن أعجب العجب أن يكون ذلك الواشي أنضر من طلعة الصباح في عين الشريد الذي طال شقاؤه بظلمات الليل
فما معنى ذلك؟
هو الحية الملساء التي تسربت إلى رياض الفردوس لفتنة أبينا (آدم) وأمنا (حواء)
هو السم المدُوف في طيات (البرشام) الملفوف
هو العذول الذي استعاذ من شره أقطاب الصبابة والوجد والحنين
لن أراك، يا رفيقة صباي، بعد اليوم، لأن قلبك أرق من أن يحتمل فظاظة الأراجيف، ولأن لك زوجاً يؤذيه أن يكون لزوجته في العشق تاريخ
الوداع، وداع القلب الخائف لأطّياف الأمان
الوداع، وداع الجسد للروح
الوداع، وداع الشاعر لديوان من أشعار الوجدان أكلته النار في يومٍ عاصف
الوداع، وداع المحب للمحبوب على غير أمل في اللقاء
الوداع، وداع المحكوم عليه بفراق الأهل إلى أن يموت في غيابات السجون
لن نلتقي بعد اليوم، يا رفيقة صباي، إلا في الفردوس
وأين أنا من الفردوس؟
وهل لمن باح بأسرار الحب أملٌ في الجنة والرضوان؟
زعم الإنسان أنه أعظم من سائر الحيوان بفضل النطق، وبالنطق هتكت أسرار الحب، فضاعت مني رفيقة صباي، فمتى أعرف فضل الصمت؟(465/8)
الوداع، الوداع، وداع الكاتب لبياض الورق وسواد المداد
الوداع، الوداع، وداع الشاعر لعباب النيل في ليلة قمراء من ليالي الصيف، وإلى غير ميعاد. . .
(الكاتب المجهول)(465/9)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
أغرب ما قرأت - نهاية فلان - بين الكفر والإيمان
أغرب ما قرأت
في بعض الأحيان نقرأ أشياء تلفت النظر لسبب أو أسباب، ثم نراها أهون وأصغر من أن يجري القلم فيما تنطوي عليه من غرض بعيد أو قريب
وآفة الأدب العربي لهذا العهد أنه لا يلتفت إلى الجزئيات، بحجة أنها في الغالب من توافه الشؤون، مع أن الحوادث الصغيرة قد تضمر في طياتها متاعب خطيرة، ومع أن العقل يوجب أن ندرس جميع الأشياء دراسة نقد وتشريح
وأنا اليوم أسوق خبراً تافهاً جداً، وإن كنت أعتقد أنه أغرب ما قرأت، فما ذلك الخبر التافه الغريب؟
للشركات الأجنبية في مصر أسلوب ظريف في اختيار اللغة التي تعامل بها الجماهير، فهي تكتب باللغة العربية في حال، وبإحدى اللغات الأوربية في أحوال، فإن كان ما تكتبه نوعاً من الإعلان جعلته باللغة العربية ليفهمه الجمهور بلا عناء، وإن كان ما تكتبه متصلاً بالعقود جعلته بلغةٍ أعجمية، لتخفي دقائقه على أكثر الناس!
هذا هو الخبر، فهل ترونه من التوافه؟ وهل ترون أنه على تفاهته يستحق الالتفات؟
نهاية فلان
هو كاتبٌ فصيح يعرفه قراء اللغة العربية من أعوام طوال، ثم تحوّل فجأةً إلى كاتبٍ عاميّ اللغة والمذهب، فما سببُ هذا التحول المزعج؟
كان في بداية حياته الأدبية يرتاب في قدرته على الإنشاء الفصيح، فكان يبحث عمن يقومون عباراته، ويرفعون عنها آصار العُجمة والتهافت، وبهذه الخطة كانت ثقته بنفسه تضعُف من يوم إلى يوم، ثم رأى أن يتحرر من سيطرة المراجعين والمصححين فأعلن أن اللغة العامية أحسن اللغات وأنه سيجعلها لغته المختارة إلى أن يقضي الله في أمره ما هو قاض.(465/10)
كان فلان ولن يزال من أهل الرأي وأصحاب الخيال، وكذب من ادعوا أنهم قولوه ما لم يقُل وأنهم مصدر الوحي لأدبه الجميل
فهل نرجو أن ينظر فلان من هذه الكلمة الخالصة لوجه الأدب والحق، فيكتب اللغة الفصيحة على سجيته وفي حدود ما يطيق ليصبح بعد قليل وهو من أساطين البيان؟
فلان شخصية كريمة الجوهر، وضياعُها على الأدب الفصيح ضربٌ من الخُسران، فهل يرفق بنفسه فيروضها رياضةً جديدة على أساليب الفصحاء بلا تكلف ولا افتعال؟
القليل من وحي الطبع أجدى وأنفع من الكثير المصنوع، فارجع إلى طبعك يا فلان، وانتفع بما فيه من ثروة أصيلة، قبل أن يصعُب انتشالك من هُوّة مذهبك الجديد، صانك الله وحَماك!
بين الكفر والإيمان
قِيل وقيل: إن الأدب سيجوز فيه ما يجوز في جميع الصناعات، فيحترفه من يشاء حين يشاء، ولو كان صغير الرأس أو نحيل الوجدان
وأقول: إن الأدب شريعة ربانية لا يصلُح لها غير المصطفَين من أرباب القلوب، فمن العسير أن يضاف إلى أهل الأدب من لا يخطُ حرفاً إلا وهو مَسُوقٌ بإرادة خارجية، على نحو ما يصنع الفارس الذي رسمتْه يد البهلوان في أحد الأشرطة السينمائية
الأدب إيمانٌ وثيق لا يعرف الأشخاص ولا الأزمان ولا الظروف، فليس بأديب من يفرح لأن صدراً يحتضنه بلؤم أو بشوق، ليجعل من أنامله أداةً يلتقط بها الأشواك، وليس بأديب من تخدعه الخوادع الوقتية، فيتوهم أن الخلود نعمةٌ يجود بها أهل الفناء
الأدب فوق ما يتوهم الأصاغر من طلاب المنح الذواهب، الأدب قوةٌ ذاتية يتوحّد بها صاحبها توحد الليث، فليس منا من يرى الحياة أو الجاه في التشرف بخدمة هذا المخلوق أو ذاك، وليس منا من يعقّ إخوانه ليظفر بالزاد المأدوم بالزور والبهتان. . . الأدب الحق منحة ربانية يجود بها الله على أرباب القلوب
زكي مبارك(465/11)
رسالة الطالب
(مهداة إلى طلاب العرب في جميع الأقطار)
للأستاذ سعيد الأفغاني
(سلمني طالب في طريقي كتاباً باسمي ففضضته فإذا هم يطلبون مني أن أجيب كتابة على هذا السؤال: ما هي السبل التي ترونها ناجعة فيتجه إليها الطلاب ليكونوا الجيل الجديد: عماد البلاد الحقيقي؟ وقد آثرت نشره هنا في مجلة العرب تعميما للفائدة، وسلكت في الإجابة طريق التبسيط والمثل، متجافياً عن القواعد والنظريات، وكل ما يحول دون فهم الطلاب لها الفهم الجيد)
أراد أحد كبار المحدثين أن يختصر الطريق على طالب يتخرّج عليه في الحديث، فحفَّظه مدة عشر سنين أربعمائة ألف حديث بأسانيدها. فلما أتقن الطالب الحفظ وودع أستاذه قبل سفره إلى أهله، لم ينس هذا الأستاذ أن يخبره: أن هذه الأحاديث أربعمائة الألف كلها موضوعة لا تصح. فأسقط في يد الطالب وقال: (أضعتَ يا سيدي عمري في حفظ ما لا يصح. أساغ في ذمتك إهدار عشر سنين هن أنضر العمر؟). فابتسم الأستاذ، وهدَّأ من حزن تلميذه قائلاً: (لم يضع شيء، الآن يا بني أبصرت الطريق، وصرت آمناً عليك كل تدليس، مطمئناً إلى دخولك غمار هذا المجتمع الزاخر بالوضع والكذب والتلفيق، ولن تعجزك بعد هذا معرفة الصحيح)
أعجبتني طريقة هذا المحدث، ووضحت لي حكمة الأصوليين القائلين: (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة). والخير في أن نحكم الوسائل السلبية لكل أمر قبل العناية بوسائله الإيجابية، وأن نعني بدفع الضار أضعاف ما نعني بجلب النافع. فهل من حرج علي إذاً، إن أنا عدلت عن بيان ما يجب لبناء الجيل الجديد إلى بيان أسباب إخفاقنا نحن أبناء الجيل الحاضر فلعل أول النجاح لأبناء المستقبل أن يتوُّقوا ما ارتطم فيه مَن قبلهم
تسألون - أيها الطلاب - عن السبل الناجعة في تكوين الجيل الجديد؛ ألا فاعلموا أنها سبيل واحدة فقط، خطوتها الأولى أن تتجنبوا ما تورطنا فيه نحن أبناء الجيل الحاضر، من عبودية لكل تقليد ضار في أخلاقنا وعاداتنا ونظمنا وتعليمنا. ولقد كان من أعظم الأسباب في إخفاقنا أمور ثلاثة: خلق منحل تستره دعاوٍ عريضة من الكمال والفضيلة والوطنية؛(465/12)
وعلم مزيف كاذب خير منه الجهل الصريح؛ وفقر في وسائل كسب العيش من طرقه الشريفة، هو أحد المظاهر في فقدان الرجولة. لم يثبت لنا - ولا حكم للنادر - أثر نافع في باب من أبواب الجد، ولم نستطع أن نحرر مما غرسوا في أفكارنا فأكثرنا مقلدون ببغاوات.
فإن رأيتمونا بعد هذا - والعالم من حولنا يجدّ - أحلاس الملاهي والمقامر والحانات، مبددين فيها دم الشعب وثروته، نصف نهارنا ومعظم ليلنا، حاملين لأنظاركم أخنث الهيئات و (أميع الموضات) من تلميع وجوهنا وأحذيتنا وتصفيف شعورنا حتى إطالة أظافرنا. . . إن رأيتمونا كذلك فاغفروا لنا هذه الإضاعة وهذا الانتحار، فلعلنا ضحايا خطط خفية محكمة
لا تمقتونا على إهانة الخلق وتبديد الثروة وقتل الوقت ووأد الكرامة والرجولة، فما ينتظرنا من مقت الله والوطن أكبر من مقتكم.
لا تقلدونا، فإنكم مخلوقون لزمان غير زماننا، لزمان صعب كله جد، لا مكان فيه لغير المجدين العاملين. . . وما كان زماننا لعباً، ولكنا طبعنا على غرار واحد: أن نكون أطفالاً كباراً عالة في كل شيء، لا نهتف إلا بما يوحي إلينا، معطلين عقولنا وضمائرنا، أبواق دعايات نموهها بالعلم أحياناً، وبالنهوض بالوطن والدين أحياناً، ثم نروغ إلى حيث نؤدي الحساب ونأخذ الأجر ونتلقى التعليمات لنعيد تمثيل الدور كرة أخرى
منا الذين ورثوا الثروات الطائلة، ولم يكن آباؤهم قد أخذوهم بتثقيف ولا تهذيب اعتماداً على غناهم، فلما آلت إليهم الثروة كانوا على جهل تام بطرق تنميتها وحفظها فوكلوا أمر تدبيرها إلى مرتزقين خانوهم، وانصرفوا إلى حاناتهم ومقامرهم ومحال رذائلهم فما زالوا بها حتى خرجوا عن آخر قرش منها؛ وألحت الرذيلة، ولم يكن بدٌ من كسبٍ ما بعد أن ركبتهم الديون، وكان هناك من يحتاج إلى أسماء أسرهم الفخمة فباعوه ضمائرهم ومصالح وطنهم وكانوا شر قدوة لمن دونهم
ومنا الذين آلت إليهم الضياع الواسعة والقرى الغنية، فأنفوا المكوث فيها ومباشرة الأعمال الزراعية، والزراعة لا تدر خيرها إلا على من يمنحها جهوده كلها، وهؤلاء استكبروا أن يكونوا (فلاحين) كآبائهم وأرادوا أن يعيشوا (بكوات) فما زالت زراعتهم تخسر حتى رهنوا القرى والضياع في مصارف أجنبية، تخلق بيدها الرهن، ثم صاروا إلى مآل أرباب(465/13)
الثروات
ومنا الذين أرسلتهم أممهم ليأتوها بعلم الغرب وثقافة الغرب ومحاسن الغرب؛ وأنفقت عليهم من أموال فقرائها ومساكينها، ولم يمنعها فقرها من السخاء بالإنفاق، رجاء أن يعوضوا عليها بعلمهم وخبرتهم أضعاف ما خسرت. . . ثم رجعوا. . . فإذا بعضهم عمى عن ذلك كله، وأتانا بمفاسد الغرب وانحلال الغرب وأزياء الغرب وخموره ورقصه. . . وأنا أقسم غير متحرج، أنك لو طفت الغرب كله لما رأيت من يعكف على الملاهي والقمار والخمور عشر الوقت الذي يعكفونه. . . وهؤلاء - كما تعلم - أرباب أعمال لو قاموا بواجباتهم لما فرغ أحدهم لغير طعامه يلتهمه التهاماً، ونومه يقطعه تقطيعاً
ومنا الذين أخفقوا في أن يعرف لهم أثرٌ ما في علم أو أدب، وأصر عليهم من منحهم الوظائف والشهادات أن يذكروا بشيء من الأشياء، فراموا شهرة من أخصر طريق. وهل أخصر من أن ينكر امرؤ الوحي حتى يسمى بيننا مفكراً، ولو جهل أين ولد الرسول، وأين تقع مكة من الشام؛ أو أن ينتقص من النبي والخلفاء فيكون مؤرخاً، ولو اعتقد أن فاتح بغداد هو عمر ابن الخطاب؛ أو يشتم الدين فيكون حر الأفكار. . . فيشتغل بعض الطلبة بالرد عليه في الصحف، فيشغل الناس بأمره ولو ساعة من نهار
ومنا الذين إذا كانوا في وظيفة لم يفهموا ما يفهمه كل موظف في العالم المتمدن من أن الموظف أجير لأرباب المعاملات، إذا قصر في الواجب عليه كان خائناً كالأجير الذي يسرق الوقت المأجور عليه. . . فهم لا يفهمون الوظيفة إلا كرسياً ينتفخون عليه مصعرين خدودهم، بأيديهم لفائفهم يدخنون ويتماجنون، وأرباب المصالح وقوف يتألمون!
ومنا المتبطلون المأجورون لكل دعاية أجنبية: يروجون لها ويؤلفون لها الجمعيات والأحزاب. . . فمنا بحمد الله دعاة الفاشية والشيوعية والديمقراطية والدكتاتورية والإباحية، وما شئت من مذاهب ونحل ودول. . . كل ذلك يجد من يخدمه ويتعصب له وينافح عنه؛ فإذا رحت تبحث عمن يخدم قضية بلاده خالصة، رجعت خجلاً من ضآلة عددهم في هذا الخضم الزاخر!
ومنا الذين خرجوا من حيث يدرسون، تحلقوا حلقاً في حانات موبوءة، وخيمة الهواء، منتنة الريح، إلى جانب مدارسهم، على مرأى من طلبتهم، يلقنونهم بذلك أقبح المثل وأحط(465/14)
الأخلاق وأبذأ الوقاحات. . . حتى إذا كان للمعارف يوماً من الأيام وزير قوي الخلق غيور ذو نخوة، وأذاع على موظفيه بلاغاً يحظر فيه رجال التعليم ارتياد مباءات السقوط، أمضى هؤلاء البلاغ، وهرعوا من فورهم سراعاً إلى حاناتهم تلك، فشربوا نخب البلاغ معربدين معطعطين، وأصابت فيهم الوقاحة المتسفلة أحط دركاتها
أجل. . . أيها الأعزاء. . . منا كل ذلك، ومنا شر من ذلك مما لا أستطيع التصريح به. . . فإن كنتم لا تتوقعون من هذه الجراثيم الطفيلية خيراً، لا لأنفسهم ولا لبلادهم ولا لأمتهم، فهذا هو الذي وقع، وإن قدّرتم أنهم يأتون على أمتن القواعد من أساسها، فهذا ما أريد منهم، وهذا ما عصف ببنائنا من قواعده. وإن عزوتم ما في البلاد من كرامة وفضيلة إلى غمار الشعب وطلبته المعصومين وبعض خاصته المهذبين فأنتم على صواب
وإياكم أن تظنوا أن هذه السموم التي حملناها - شاعرين أو غافلين - هي محصول وطنكم، أو أن بلدكم مما ينبت هذه الرذائل، وفي فطنتكم غنىً عن التصريح، وصدق الله العظيم
وبعد، فاحسبني عددت - بأوجز لفظ - بعض الأسباب في إخفاق جيلنا، مما تسمح به الظروف، وعسى أن ينفّس الله الخناق فأعود ببعض التفصيل لما أجملت؛ فإن وقاكم الله - أيها الطلاب - هذه الشرور، وحمى جيلكم من هذه الآفات وتوابعها، كونتم بأيسر سبيل عماد البلاد الحقيقي قوياً سليماً
وإن كان لا بد من نصيحة إيجابية بعد ما تقدم، فهي في أن تأخذوا من مدينة الغرب أسباب القوة المادية كلها: في العلم والتنظيم والصناعات. . . أما غذاء أرواحكم وقانون أخلاقكم، فانشدوهما في تراثكم المجيد. . . وحذار حذار أن تخدعوا عما مدت لصرفكم عنه الأحابيل، وتنوعت المكائد، ولطفت الحيل، ودقت الأساليب، وخفيت الحظوات. . . ألا وهو: دينكم وثقافتكم؛ عُضُّوا عليها بالنواجذ، ففيهما - أيها الناشئون - كل قوتكم وعماد سلامتكم، أفراداً وجماعات. . .
لا تحيدوا عن سماحة القرآن وسمّو الإسلام وتعاليمه قيد شعرة، وكونوا في ذلك رجالاً كل الرجال
وتضلعوا جهد طاقتكم من تاريخكم المجيد ولغتكم الكريمة، ساميين عظيمين كما خلقهما الله،(465/15)
لا كما ينشرهما أبواق الدس من الجاهلين الأدنياء. . . وإن آنستم من بعض مرشديكم انتقاصاً لأبطالكم، أو تزهيداً في تاريخكم، أو تحقيراً لكريم تقاليدكم، أو تهويناً للغتكم، فانبذوا إليه على سواء، واعلموا أنه مأجور جاهل، فلا تهتموا به، فإنه يزاد أجره، ويعلى مقامه على قدر ما يحدث من فتنة أو ضجة. . . دعوه يمت بدائه، واعكفوا أنتم على دراسة تاريخكم ولغتكم ودينكم في دور الكتب منقبين ممعنين فلكم على ذلك أجر المجاهدين الصابرين
ثم لا تسمحوا لأيٍ كان، مهما عظمت مكانته أو طغت سطوته، أن ينال من هذه الثلاث: كرامتكم ورجولتكم وعروبتكم. . . فإنه لا خير لنا ولا لبلادنا في شاب: لا كريم ولا عربي ولا رجل!!
وكل ما أسأل الله: أن يعزكم ويعز وطنكم بكم، وأن يجعلكم ممن قال فيهم: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين)
(دمشق)
سعيد الأفغاني(465/16)
في الفلسفة الإسلامية
ابن باجَّه
للأستاذ عمر الدسوقي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
الفصل الثاني من تدبير المتوحد
تكلم ابن باجَّه في هذا الفصل عن أعمال الإنسان، والفرق بينها وبين أعمال الحيوان. أمّا الأعمال البشرية المحضة الخاصة بالإنسان فهي الصادرة عن الإرادة المطلقة: أي الإرادة المصحوبة بالاختيار والروية والتفكير الحر، لا عن غريزة ثابتة في الإنسان ثبوتها في الحيوان. وقد يشارك الإنسان الحيوان في بعض أفعاله كأن يهرب من مفزع أو يكسر عوداً خدشه، لأنه خدشه فقط، فهذا عمل حيواني، أمّا أن يكسره لئلاّ يخدش غيره أو عن روية توجب كسره فذلك عمل إنساني.
فالعمل الحيواني إذاً هو الذي يصدر عن انفعال نفساني وغريزة ثابتة كالغضب والخوف، أمّا العمل الإنساني فهو الذي يوحيه الفكر سواءٌ تقدم الفكر انفعالٌ نفساني أو مؤثر غريزي أم أتى بعده، وسواء كانت الفكرة يقينية أو مظنونة. ويندر أن تكون أعمال الإنسان حيوانيةً على الإطلاق - لأنها على الأقل يصحبها التفكير في تنفيذها - أمّا الأعمال الإنسانية البحتة فقد توحد، وإذا تعاونت الغريزة والفكر كان النهوض للعقل أقوى.
وأمّا من يفعل الفعل لأجل الرأي والصواب، ولا يلتفت إلى ما يحدث في النفس البهيمية ففعله أولى أن يسمى إلهياً لا إنسانياً
ولهذا وجب على المتوحِّد أن يكون فاضلاً حتى إذا قضت النفس الناطقة بأمرٍ لم تعاند فيه النفس البهيمية، لأنها إذا عاندت وضعت العراقيل والصعاب، وكان حدوث العمل بكرهٍ وعسر. والرجل الذي تتغلب فيه النفس الحيوانية على الناطقة أقل من الحيوان لأن الحيوان يسير على طبيعته وسجيته، أمّا هذا النوع من الرجال الذي يملك الفكر الإنساني، ويمكنه أن يتقن العمل ويتقاعد عن ذلك فهو أقل من الحيوان؛ لأنه مع ذكائه ووقوفه على الخير والشر تراه يتبع الحيوان، ومثل الذكاء في هذه الحال مثل الغذاء الشهي يعطي لبدن(465/17)
سقيم.
إن الجماد يتحرك إلى أسفل بالطبيعة، وليس له قصد في حركته، والعمل الحيواني في النفس كالغذاء والتولد والنمو يتم بدون قصد أي يتم بالطبيعة والغريزة. أمّا العمل الإنساني فهو يصد دائماً عن تفكير وإرادة منَّا ولذلك كان في قدرتنا التحكم فيه، وعلى هذا فالغايات والعلل النهائية لا تعين ولا تحدّد إلا بالأعمال الإنسانية التي هي مدار البحث.
الفصل الثالث
بعد أن تكلم على الأعمال الإنسانية التي تحدد الغاية، وأن الغاية التي يجب أن يتوخاها المتوحد هي النفاذ إلى المعقولات أخذ يفرق بين الروح والنفس، وليس للمؤلف رأي خاص، وإنما يردد ما ارتآه الفلاسفة ثم يتطرق إلى العالم الروحاني ويرى ابن باجة أنه أربعة: العقول الفلكية، والعقل الفعّال، والعقل الهيولاني، والجزء المفكر من النفس الإنسانية بما يشتمل عليه من قوى كالغنطاسيا والخيال، والذاكرة والمفكرة. . . الخ.
أما العقول الفلكية فلا علاقة لها بالمادة، وأما العقل الفعال فهو الذي يشكل المادة ويظهرها في صور مختلفة، وأما العقل الهيولاني فهو الذي يشمل الأشياء المادية المعقولة
الفصل الرابع
في غايات أعمال الإنسان، فأعمال تخدم البدن، كالأكل والشرب واللبس، وغايتها التمتع المادي، وإتمام الشكل الجسماني ولا ينبغي إهمالها، وأعمال غايتها خدمة الروح وتشكيلها (الروح بما فيه الجزء الحيواني والمفكر) وتلك الأعمال تختلف باختلاف طبيعة الأشياء التي نقصد إليها نبلاً وخسة: (أ) فمنها ما يلذ للحس الباطني كغرور بعض الناس بارتداء الثياب الجميلة في الظاهر وهم يهملون الملابس الداخلية (ب) ومنها ما يلذ الخيال كأن يتسلح الإنسان في غير أوقات الحرب (ح) ومنها ما يقصد به التسلية والسرور كاجتماع الأحباب والألعاب، والعلاقات الشريفة بالمرأة والترفه والسكن الجميل، واقتناء الأثاث والبلاغة والشعر (د) الأعمال التي غايتها كمال العقل والفكر كأن يدرس رجل علماً لذاته كي يكمل عقله لا ليعود عليه بنفع مادي، أو كأن يقدم على الأعمال الشريفة الكريمة بدون ترقب نتيجة معينة(465/18)
الفصل الخامس
إن من يقتصر على الأعمال الجسمانية يضع نفسه في صفوف الحيوان، ومن يهمل الوجود الجسماني ألبته يعمل ضد القانون الطبيعي، هذا لا يجوز إلا في حالات استثنائية حيث يكون احتقار الحياة فرضاً على الإنسان كأن يموت في سبيل الدفاع عن الوطن أو الدين، ولا يمكن أن يصل الرجل المادي إلى السعادة
وعلى المتوحد ألا يتناول من الأعمال الجسمانية إلا ما كان وسيلة في مدِّ أجله، وعليه ألا يقدم العمل الجسماني على الروحاني أبداً؛ ثم لا يأخذ من أرقى أنواع الأعمال الروحانية إلا ما كان ضرورياً للمعقول؛ ثم يتعلق في النهاية بالمعقول المطلق؛ لأنه بالعمل الجسماني يكون مخلوقاً إنسانياً، وبالروحاني يكون مخلوقاً أرفع، وبالمعقول يصير معقولاً سامياً إلهياً.
فالفيلسوف إذاً إنسان سام إلهي على شرط أن يختار من كل نوع من الأعمال صفة، وأن يختلط بأهل كل طبقة من الناس لأجل أسمى ما في كل واحد منهم من الصفات، وأن يميز نفسه عن الجميع بأعماله المتناهية في الرفعة والمجد، فإذا ما وصل الإنسان إلى الغرض النهائي، أي عند ما يفقه العقول البسيطة والعقول المفارقة يصير واحداً منها (يظهر أن هذا في الحياة الدنيا وفيه مخالفة للفارابي، ويمكن أن يسمى مخلوقاً إلهياً بحق وجدارة
الفصل السادس والسابع والثامن
على الرغم من أن الفكرة التي يرمي إليها ابن باجه في هذه الفصول غامضة كما صرح بذلك ابن رشد، وعلى الرغم من أن الفصل الثامن والأخير وجد في النسخ ناقصاً فإنا نستطيع أن نوجز ما يريده ابن باجه فيما يأتي:
إن الهيولي لا يمكن أن توجد مجرد عن صورة ما، أما الصورة فقد توجد مجردة عن الهيولي، وإلا لما استطعنا أن نتصور إمكان أي تغير، لأن التغير إنما يكون ممكناً بتعاقب الصور الجوهرية، وهذه الصور من أدناها وهي الصورة الهيولانية إلى أعلاها وهي العقل المفارق - العقل الفعال - تؤلف سلسلة والعقل الإنساني يجتاز في تكامله مراحل تقابل تلك السلسلة حتى يصير عقلاً كاملاً
وفي النفس الإنسانية قوى مختلفة فمنها ما يدرك المحسوسات ومقره (الغنطاسيا) أو الحس(465/19)
المشترك، ومنها القوة المتخيلة التي تظهر في الميل الطبيعي ' والشهوة، وهذان مشتركان في الإنسان والحيوان، ومنها القوة الفكرية. وهناك نوعٌ موهوب من الناس عنده قوة أخرى لا تحتاج في إدراك الأشياء إلى برهان أو دليل، وإنما يكون ذلك بطريق الوحي والإلهام والرؤيا الصادقة، وهذان النوعان الأخيران خاصان بالإنسان
ولأجل أن يدرك الإنسان كماله يدرك أولاً الصور المعقولة للجسمانيات، ثم تصورات النفس المترددة بين الحس (القوة القوة المتخيلة)، ثم العقل الإنساني في ذاته، ثم العقل الفعال، الذي فوقه، وينتهي إلى إدراك عقول الأفلاك المفارقة، ويترقى الإنسان في هذا السلم ويصل إلى ما هو فوق طور العقل وإلى ما هو إلهي
ويقول المؤلف: (إن العقل الفعال لا ينقسم أي لا يتجزأ، وكل نوع من الكليات يوحد في العقل الفعال كوحدة، وعلى هذا فعلم هذا العقل المفارق واحد وإن كانت موضوعاته مختلفة بتعدد الأنواع، وإنما كانت متعددة لأنها تظهر في مواد مختلفة. وفي إمكان العقل بالفعل أن يقرب هذه الكليات منه ويدركها ولأجل هذا كان الإنسان أقرب المخلوقات إلى العقل الفعال. فالعقل الإنساني يصل إلى معرفة الكلي بشروق نور العقل الفعال، وكل إحساس أو تخيل غير معرفة الكلي فهو معرفة خادعة. إن العقل الإنساني يصل إلى كماله بالمعرفة العقلية لا بالخيالات الصوفية الدينية التي لا تبرأ من شوائب الحس. والنظر العقلي هو السعادة العظمى لأن غايته المعقولات كلها. وإذا كان الكلي بهذه المثابة فلا يمكن القول ببقاء العقول الإنسانية بعد هذه الحياة)
أما النفس التي تدرك الجزئيات بتخيلها لها على نحو يجمع بين الإحساس والتعقل والتي يتجلى وجودها في شهوات متعددة وأفعال متنوعة كما مر فقد تستطيع البقاء بعد الموت وتلقى الثواب والعقاب. إن العقل أو الجزء المفكر في النفس واحد في كل عاقل، وعقل الإنسانية في جملتها هو وحده الأزلي وذلك باتحاده بالعقل الفعال. وقد تأثرت الأفكار المسيحية بنظرية وحدة النفوس هذه إبان القرون الوسطى وعرفت بنظرية ابن رشد
ويقول مونك: (إن ابن باجه لا يوضح بجلاء الطريق التي تتم بها تلك الحركة السامية، وكيف يتصل العقل الإنساني والعقل الفعال العام، وقد رأينا في رسالة الوداع أنه مضطر إلى إدخال قوة فوق الطبيعية لإتمام هذا الاتصال) هي إشراق نور العقل الفعال على العقل(465/20)
الإنساني.
المتوحد
والواضح عند ابن باجه هو ذلك الطريق الخلقي الذي رسمه للمتوحد والذي ينصحه فيه ألا يرتبط بالرجل المادي ولا بالرجل الذي ليس له إلا غاية روحانية نفسانية (التي تتردد بين الحس والعقل)، ولو في أرقى أنواعها، وواجبه أن يرتبط بالفلاسفة والحكماء، ولما كان هؤلاء يوجدون بقلة في بعض الأمكنة وتخلو منهم أمكنة أخرى، وجب على المتوحد أن يبتعد عن الناس قدر الإمكان، ولا يختلط بهم إلا لأجل الضروريات بمقدار ضروري، كما يجب عليه أن يعطي نفسه بأكمله لتعليمه الإلهي، وأن يضيء لمن حوله كالنور، ويهب نفسه سراً لإدراك علم الخالق كما لو كان ذلك أمراً معيباً، وعليه أن يرتاد الأماكن التي بها العلماء والحكماء إن وجدهم، وأن يجتنب الشبان القليلي الخبرة. ولا يرى ابن باجه في هذا التوحد مناقضةً لعلوم السياسة التي تقول: إن مجانبة الناس خطأ؛ ولا العلوم الطبيعية التي تقول: بأن الإنسان مدني بالطبع؛ لأن هذين المبدأين صحيحان نظرياً إذا تملك الرجال كمالاتهم الطبيعية، ولما كان هذا بادراً وجب على المتوحد الابتعاد عن المجتمع.
(بيروت)
عمر الدسوقي(465/21)
بمناسبة مرور أربعين عاما على وفاة
السيدة عائشة عصمت تيمور
للأستاذ اسحق شموش
في مثل هذا الشهر (مايو) من عام 1902، فجع الأدب العربي بوفاة الأديبة الكبيرة عائشة عصمت تيمور، التي جدّدت في العصر الحديث عهد ربات الخدور بالأدب، وساهمت في النهضة النسائية العصرية بنصيب وافر وقسط عظيم
وهي تم إلى الدوحة التيمورية الكريمة التي منحت العربية ما لم تمنحه أية أسرة مصرية أخرى، لغويين وشعراء، وكتاب، وقصصيين، نهضوا بلغة الضاد وآدابها نهضة جبارة، وسعوا لرفعهما إلى مصاف سائر اللغات والآداب الراقية سعياً يبعث على التقدير والإعجاب
فالسيدة عائشة هي كريمة رب السيف والقلم إسماعيل باشا تيمور، وشقيقه اللغوي القدير أحمد باشا تيمور، وعمه القصصي الأستاذ محمود تيمور الذي يعد بحق خير خلف لخير سلف
وقد ولدت في مدينة القاهرة سنة 1256 هجرية الموافقة لسنة 1840 ميلادية، وأبدت منذ نعومة أظفارها ميلاً قوياً للدراسة، وشغفاً عظيما بالمطالعة، فتعلمت العربية، والتركية، والفارسية، وأجادت الكتابة والنظم في كل منها إجادة غير يسيرة؛ إلا أن والدتها حاولت صرفها عن الأدب إلى التطريز والنسج، ولكن بدون جدوى، فنشأ عن ذلك نزاع بينهما، وصفته عائشة في مواضع مختلفة من مؤلفاتها:
(لما تهيأ العقل للترقي، وبلغ الفهم درجة التلقي، تقدمت إليَّ ربة الحنان والعفاف، وذخيرة المعرفة والإتحاف، والدتي تغمدها الله بالرحمة والغفران، بأدوات التّطريز والنسيج، وصارت تجد في تعليمي، وتجتهد في تفطيني وتفهيمي، وأنا لا أستطيع التلقي، ولا أقبل في حرفة النساء الترقي، وكنت أفر منها فرار الصيد من الشباك، وأتهافت على حضور محافل الكتاب بدون ارتباك، فأجد صرير القلم في القرطاس أشهى نفحة، وأتحقق أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة، وكنت ألتمس من شوقي قطع القراطيس، وصغار الأقلام، وأعتكف منفردة عن الأنام، وأقلد الكتاب في التحرير، لأبتهج بسماع هذا الصرير، فتأتي والدتي(465/22)
وتعنفني بالتكدير والتهديد؛ فلم أزد إلا نفوراً، وعن صنعة التطريز قصوراً)
وعلى نقيض ذلك كان والدها يشجعها على دراسة الأدب وممارسته: (فبادر والدي تغمَّد الله بالغفران ثراه وقال لها: دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم)
وقد كررت الإشارة إلى تشجيع والدها بصورة أوضح في مقدمة ديوانها التركي الفارسي، فوضعت على لسانه وهو يخاطب والدتها العبارات التالية:
(ما دامت ابنتنا ميّالة بطبعها إلى المحابر والأوراق، فلا تقفي في سبيل ميلها ورغبتها، وتعالي نتقاسم بنتينا: فخذي (عفت) وأعطني (عصمت)؛ وإذا كان لي من (عصمت) كاتبة وشاعرة، فسيكون ذلك مجلبة الرحمة لي بعد مماتي).
وقد تحقق رجاء إسماعيل باشا تيمور، فكانت (عصمت) مجلبة رحمة له، بل ومجلبة شهرة وفخر كذلك
وتزوجت (عائشة) باكراً جداً في الرابعة عشرة (1854 - 1271) من محمد بك توفيق الاسلامبولي، ورزقت منه بـ (محمود) و (توحيدة)، غير أنها رزئت بفقد هذه الأخيرة قبل أن تتجاوز الربيع الثامن عشر، فبكتها أحر بكاء، إلى أن كلَّ بصرها، وأصيبت برمد شديد لبث يختلف عليها إلى آخر حياتها
وقد رثت (توحيدة) بقصيدة رائعة، مطلعها:
إن سال من غرب العيون بحور ... فالدهر باغ والزمان غدور
وربما كان أجود ما فيها البيت التالي:
لو بث حزني في الورى لم يلتفت ... لمصاب قيس، والمصاب كثير
وقد جمع شعرها العربي في ديوان (حلية الطراز) كما جمع شعرها التركي والفارسي في ديوان (شكوفه). ومن آثارها النثرية مجموعة قصص على نمط (ألف ليلة وليلة) دعتها (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال)، وأبحاث اجتماعية معروفة ب (مرآة التأمل في الأمور)
ويتسم شعرها بالنزوع إلى القديم نزوعاً قوياً، ولا سيما في تشبيهاته واستعاراته وكناياته، فاللحاظ سيوف، والخدود ورود، والقدود غصون، والأسنان درر، وباب الممدوح كعبة أولى السجود، وليس الممدوح سوى كوكب يتألق في سماء العز والمجد، أو بدر يلمع في ليالي(465/23)
الشقاء والبؤس. . . الخ
والميزة البارزة في شعرها التي تجعل له قيمة أدبية، هي الصدق في التعبير عن عواطفها، وهذا الصدق أكثر ما يتجلى في مراثيها التي تبكي فيها أعز الناس لديها، وأحبهم إليها
وقد قصرت شعرها، أو كادت تقصره على أغراض ثلاثة:
1 - (المدح): ويشكل قسماً كبيراً من شعرها، ويكاد ينحصر في خديو مصر الذي يمثل لديها الزعيم السياسي والديني معاً، الجدير بالطاعة العمياء والإعظام الذي لا يقف عند حد
ومما لا ريب فيه أنها كانت صادقة الولاء في مدحها، ولم تتخذه أداة للكسب كما كان يفعل كثير من شعراء عهدها
غير أنها أسرفت كثيراً في مدح الخديو حتى أنها لم تتورع عن رفعه إلى مصاف الملائكة، ونسب أكبر مقدار من أكرم الصفات والمزايا إليه:
لو قيل للشرف اختر قال خدمته ... أو قيل للدهر سابق عزمه افتضحا
فالنصر عونك، والزمان مطاوع ... والسعد عبد، والكمال صديق
ولا فرق عندها بين خديو وآخر، إذ أن مدحها للخديوية نفسها لا لشخص الخديو، وهذا هو السر في كونها مدحت الخديو سعيد والخديو إسماعيل، كما مدحت الخديو توفيق والخديو عباس؛ كأنما كل من يتسنم أريكة الخديوية يصبح أهلاً للمدح، وأي مدح!
2 - الرثاء: وقد توفرت على الرثاء بقدر ما توفرت على المدح، وكما قصرت مدحها أو كادت تقصره على الخديو، قصرت رثاءها أو كادت تقصره على أفراد أسرتها والمقرّبين إليها، فرثت ابنتها، ورثت شقيقتها ورثت والدها ووالدتها وأستاذها الشيخ إبراهيم السقا الخ. . .
وفي رثائها أيضاً لم تتحرّج من الغلو والإسراف
عزّ العزاء على بني الغبراء ... لما توارى البدر في الظلماء
أو:
إني ألفت الحزن حتى إنني ... لو غاب عني ساَءني التأخير
وقد برعت في هذا الضرب من الشعر براعة فائقة، ووفقت إلى تصوير لوعتها وحزنها عندما كانت تحد بها المصائب توفيقاً عظيماً مما يدل على أنها كانت ترثي عن حرقة(465/24)
حقيقية لا أثر للتكلف والتصنع فيها.
3 - الغزل: وأكثره من الغزل الصوفي الذي يكاد يكون مقصوراً على النبي العربي محمد بن عبد الله، وقد مهدت له ب (قالت مستغيثة) أو (قالت توسلاً) وما أشبه
ومن أروع قصائدها في هذا الغزل الديني ميميتها التي مطلعها:
أعن وميض سرى في حندس الظلم ... أم نسمة هاجت الأشواق من أضم
حيث تقول:
روحي الفداء ومن لي أن أكون له ... هذا الفداء وموجودي كمنعدم
وما هي الروح حتى أفتديه بها ... وهي البغاث بغاء الظلم والظلم
وتتخلل بعض قصائدها أبيات قليلة، فيها عن نفسها حديث لا يخلو من فخر وتحدٍ:
ولقد نظمت الشعر شيمة معشر ... قبلي ذوات الخدر والأحساب
وخصصت بالدر الثمين وحامت ال ... خنساء في صخر وجوب صعاب
كما لا يخلو من إشارة مزهوة إلى فضلها على سائر النساء اللواتي إن نظرن في المرآة فللتجمل والتزين، وأما هي:
فجعلت مرآتي جبين دفاتري ... وجعلت من نقش المداد خضابي
كم زخرفت وجنات طرسى أنملي ... بعذار خط أو إهاب شباب
ومع أنها شاعرة لا ناثرة فقد لجأت إلى النثر أحياناً لمعالجة بعض القضايا النسائية كقضية السفور والحجاب مثلاً التي أثارها في عهدها المصلح الاجتماعي الكبير قاسم بك أمين، إلا أنها لم تبد في هذه القضية رأياً صريحاً كما أنها لم تثبت على رأي واحد بصددها، فقد يفهم أنها حجابية من الأبيات التالية:
بيد العفاف أصون عز حجابي ... وبعصمتي أسمو على أترابي
ما ساءني خدري وعق عصابتي ... وطراز ثوبي واعتزاز رحابي
ما عاقني خجلي عن العليا ولا ... سدل الخمار بلمتي ونقابي
عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت ... صعب السباق مطامح الركاب
كما يفهم أنها سفورية من الجملة التالية:
(وأنا بين جدران الخدر كقطاط سجنها المطر، وعاقها عن الانسياب برق يخطف البصر)(465/25)
وأما موقفها من قضية المرأة المسلمة، فهو موقف المحافظات المسرفات في المحافظة، ولا أدل على ذلك من بحثها (مرآة التأمل في الوجود) حيث تصطنع لسان فقهاء الإسلام لمعالجة مواضيع على جانب كبير من الخطورة:
(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم. فالرجل يقوم بأمر الزوجة مجتهداً في حفظها وصيانتها وأداء كل ما تحتاج إليه؛ ثم إن الحق لم يكتف بالحكم حتى بين السبب بقوله بما فضل الله يعني بأمور لها وفرة في العقل والدين، ولذا جعل لهم الولاية والإمامة، وجعل فيهم الخلفاء والأئمة، وميزهم في الشهادة بين الأمة، فقال في آية أخرى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)
إن الرجال أسود عزت رفعة ... تسطو على روض العلا وتصول
لهم النضير بكل غصن مثمر ... وسواعد للساميات تطول
حازوا المكارم تحت عزة فضلهم ... وشهودهم بين الأنام عقول
وهي تخلص من ذلك إلى استنكار بحث الشبان حين الزواج (عن الحلي والحلل والضياع والعقار، لا عن النسب والتدين والعفة والوقار وتصب جام غضبها على الرجال الذين يتركون سلطتهم تنتقل إلى زوجاتهم، وتضرب لهم المثل التالي:
وهو أن أسداً تكاسل عن الصيد، وغله الجبن بالقيد، فأمر لبوته أن تنوب عنه، وتأتي بالفريسة بدلاً منه، فانقادت لأمره، وسارت على ما عهدته من سيره، واستمرت مدة على هذا الحال. فلما طال الشرح عليها صارت تصطاد وتأكل ما اشتهت من أطايب اللحوم ولذائد الأكباد، وتلقي إليه من فضلات ما بقي. فاستشاط الأسد غيظاً ورأى أن ذلك إهانة لوقاره، ومجلبة لعاره، فقال لها خزيت يا لكاع، كيف تأتيني بسقط المتاع، وتجسرين على أكل المطايب قبلي، وتخفضين رفعتي وتنسين فضلي؟ إن كان غلب الشره عليك، واستحيت أن تأكلي بحضرتي، فأعدي لي أطايب الطعام، وقدميها إليّ أولاً كما جرت به العادة في سالف الأيام. فضحكت اللبوة منه، وقالت قد أخطأ وهمك، وغلظ فهمك، إني لم أنس فضلك، ولم أجهل قدرك، ولكن كان ذلك مذ كنت أنت أنت وأنا أنا؛ وأما الآن فقد انعكس الحال وصرت أنا أنت، وأنت أنا، فلك علي ما كان لي عليك. فأفحم الأسد، ورجع(465/26)
على نفسه باللوم رجوعاً، وآل على نفسه ألا يستعين بها على الصيد ولو مات جوعاً
وهذا المثل كالأمثلة النثرية التي تقدمته - يدل دلالة واضحة على أن صلة نثرها بالقديم وثيقة، كصلة شعرها، إن لم تكن أقوى وأشد، إذ جرت فيه على نسق المقامات وكليلة ودمنة، فأغرقته في فيض من المحسنات البديعية، اللفظية منها والمعنوية، وأفعمته بالأمثلة على ألسنة الطيور والحيوانات
وعلى كل فمما لا ريب فيه أن تأثيرها فيمن تتلمذ عليها من ذوات الحجال كان عظيما، ولا سيما في الأدبيتين النابهتين أمينة نجيب وباحثة البادية (ملك حفني ناصف) اللتين برّزتا على أقرانهما، ونعمتا بشهرة أدبية واسعة
ونحن إذ نذكر اليوم السيدة عائشة تيمور، فإننا نذكر أول من رفعت لواء الأدب من ربات الخدور في النهضة الحديثة، وأول من لجأت في العصر الأخير لبيان بنات أفكارها إلى روائع النظيم والنثير.
ايزاك شموش
أستاذ الأدب العربي الحديث بالجامعة العبرية(465/27)
34 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)
هناك شعائر درويشية كأشكال الدعاء، وطرق الذكر لا يراعيها غير طوائف خاصة، كما توجد شعائر أخرى تقوم بها الطوائف المختلفة. ونذكر من هذه طقوس (الخلوتية) و (الشاذلية) وهما فرقتان كبيرتان لكل منهما شيخ. والفارق الرئيسي بينهما أن لكل منهما أسلوبه الخاص في الأدعية التي يرددونها صباح كل يوم، وأن السابقين يتميزون عن الآخرين بالخلوة أحياناً، ومن ثم سموا خلوتية. وهؤلاء يتلون دعاءهم قبل الفجر ويسمى (وِرْد السحر) أما دعاء الشاذلية فيقرءونه بعد الفجر ويسمى (حزب الشاذلي). وقد يعتكف الخلوتي أربعين يوماً وليلة في خلوته صائماً، من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس طول هذه المدة. ويعتكف جماعة منهم أحياناً في خلوات مسجد الشيخ الدمرداش شمال القاهرة ثلاثة أيام وليال بمناسبة مولد هذا الولي، ولا يتناولون أثناء ذلك غير قليل من الأرز وكوبة من الشراب عند المساء. ويشغلون أنفسهم بقراءة أدعية لا يعرفها غيرهم؛ ولا يخرجون من الخلوة إلا للصلاة جماعة في المسجد، ولا يجيبون أبداً من يكلمهم إلا بقولهم: (لا إله إلا الله). ويتبع هذا النظام تقريباً أولئك الذين يعتكفون مدة الأربعين يوماً فيقضون الوقت مرددين الشهادة سائلين العفو حامدين الله.
يكاد دراويش مصر جميعهم أن يكونوا تجاراً أو صناعاً أو مزارعين. وهم لا يحضرون طقوس بعضهم إلا مصادفة؛ غير أن بعضهم لا عمل له غير الذكر في الموالد والحفلات الخاصة والإنشاد في الجنازات. ويطلق على هؤلاء لفظ (فقير)؛ ومعنى ذلك المعوز عامة، إلا أنه يطلق على الأتقياء المساكين خاصة. ويعتاش البعض من تقديم الماء إلى المارة في(465/28)
شوارع القاهرة وزوار الأعياد الدينية. فيحملون الماء على ظهورهم في أباريق من الفخار أو من جلد الماعز. والقليل منهم يسلكون حياة التجول ويعيشون على الصدقات بلجاجة ووقاحة شديدتين. وبعض هؤلاء يميزون أنفسهم على طريقة الأولياء المشهورين بلبس (الدلق) أي السترة المرقعة، وحمل العصا المعلق في أعلاها قطع النسج المختلفة الألوان، ويلبس البعض الآخر ملابس غريبة مختلفة الألوان
ويتخذ بعض الرفاعية ممن لا يحترفون إخراج الثعابين من المنازل، حياة التجول في بلاد القطر مستفيدين من خرافة مضحكة أذكرها الآن: كان سي داود العزب وهو ولي مبجل من بلدة تفاهنه في الوجه البحري يملك عجلاً يقوم على خدمته. فتعود بعض الرفاعية منذ وفاته تربية العجول في بلدة هذا الولي أو مدفنه وتمرينها على صعود السلم والاضطجاع عندما تؤمر بذلك، ثم يذهب كل منهم وعجله متجولاً في البلاد لجمع الصدقات. ويسمى العجل (عجل العزب). وقد دعوت مرة أحد هؤلاء الدراويش إلى منزلي. وكان العجل - وهو الوحيد الذي رأيته - جاموساً يتدلى منه جرسان، أحدهما في طوق حول عنقه، والآخر في حزام حول جسمه. وقد صعد السلم جيداً، إلا أنه أظهر ضعف مرانه من كل الوجوه. ويعتقد العامة أن عجل العزب يجلب إلى المنزل لبركة الولي الذي سمى هذا الحيوان باسمه
وفي مصر دراويش جوالة من الترك والفرس، والى هؤلاء الدراويش تنسب صفة اللجاجة والوقاحة أكثر مما تنسب إلى القلائل من المصريين الذين يعيشون معيشتهم. ويحدث كثيراً في شهر رمضان خاصة أن يذهب درويش أجنبي إلى مسجد الحسين الذي يتردد إليه كثير من الترك والفرس، وقت صلاة الجمعة فيمر بين المصلين عندما يخطب الخطيب ويضع أمام كل امرئ قصاصة من الورق كتب عليها بعض كلمات تحث على الصدقة. وبهذه الطريقة يتناول من المصلين كلهم أو غالبهم قطعاً من ذوات الخمسة فضة أو العشرة فضة أو أكثر. ويحمل الكثير من دراويش الفرس في مصر ملعقة خشبية وطاسة مستطيلة من جوز الهند أو من الخشب أو المعدن حيث يتناولون الصدقات ويضعون الطعام. ويلبس أغلب الدراويش الأجانب ملابس خاصة تبعاً لطوائفهم. وأهم ما يميزهم لباس الرأس، وأكثر أنواعه شيوعاً ما صنع من اللبد على شكل قالب السكر المخروطي. وتتكون ملابسهم الأخرى من صدرية وسروال واسع أو آخر ضيق، أو قميص وحزام، وعباءة غليظة.(465/29)
ويتظاهر الفرس هنا بأنهم سنيون. ويعتبر الأتراك أكثر الطائفتين إزعاجاً ولجاجة. وأذكر هنا خرافة أخرى هي اعتقاد المصريين والعرب عامة بأن للطيور والحيوانات لغة تتفاهم بها وتسبح بحمد الله
ومن أهم المميزات في خرافات المصريين المحدثين اعتقادهم بالتمائم والاحجبة التي يستند أكثرها على السحر، ويشتغل بكتابة هذه التعاويذ أحياناً جميع مدرسي الكتاتيب القروية تقريباً. على أنه قلما يدرس من يقوم بهذا العمل شيئاً من السحر أكثر من الحصول على بعض صيغ من الاحجبة يتألف معظمها عادة من آيات قرآنية وأسماء الله مع أسماء الملائكة والجن والرسل، أو الأولياء المشهورين يختلط بها تركيبات عددية وأشكال هندسية ويتوهم الناس أن ذلك كله خاصية خفية عظيمة
وأكثر الاحجبة اعتباراً مصاحف القرآن، وقد جرت العادة أن يحمل أتراك الطبقتين الوسطى والعليا وغيرهم من المسلمين مصحفاً صغيراً في غلاف من الجلد المزركش أو المخمل يعلقونه على الجانب الأيمن بخيط من الحرير يمر فوق الكتف الأيسر. غير أن هذه العادة لم تعد شائعة كثيراً. وقد لاحظت أثناء زيارتي الأولى أنه قلما يرى تركي فاضل من السلك الحربي لا يحمل الغلاف السابق ذكره، مع أنه كثيراً ما لا يحوي حجاباً؛ ولا يزال النساء يحملن المصحف وغيره من الاحجبة، فيضعنها في أغلفة من الذهب أو من الفضة المذهبة أو الساذجة. ويعزو المسلمون إلى المصحف وأكثر الاحجبة قوة كبيرة، ويعتبرونها حافظة من المرض والسحر والحسد وغير ذلك من البلايا
وهناك كتاب أو دَرج يجيء بعد المصحف مكانةً به سور قرآنية تكون في العادة سبعاً كسور: الأنعام والكهف ويس والدخان والرحمن والملك والنبأ أو غيرها. ويوجد حجاب آخر يوضع عادة داخل غطاء الرأس، ويعتقد أنه يقي حامله من الشيطان ومن كل جن شرير. وهذا الحجاب قطعة ورق كتبت عليها الآيات التالية: (ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم): (سورة البقرة آية 255)؛ (فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين): (سورة يوسف آية 64)؛ (يحفظونه من أمر الله): (سورة الرعد آية 11)؛ (وحفظناها من كل شيطان رجيم): (سورة الحجر آية 17)؛ (وحفظاً من كل شيطان مارد): (سورة الصافات آية 7)؛ (وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم): (سورة يس)؛ (والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد(465/30)
في لوح محفوظ): (سورة البروج الآيات 20، 21، 22). وكثيراً ما تكتب أسماء الله التسعة والتسعون، في ورقة يحملها الشخص، فتجعله كما يعتقد محلاً خاصاً لرعاية هذه الصفات الكريمة جميعها. ويعتقد كذلك أن كتابة أسماء الرسول التسعة والتسعين على أي شيء تكون حجاباً كما روى الإمام علي عن النبي (ص) يبعد كل مصيبة ووباء ويحفظ من الضعف والحسد والسحر والحريق والدمار والقلق والحزن والضيق. ويضيف المسلم بعد ذكر كل من هذه الأسماء قوله: اللهم صل وسلم عليه. وتنسب مثل هذه الخصائص إلى حجاب يتضمن أصحاب الكهف واسم كلبهم. وتنقش هذه الأسماء أحياناً في قاع طاسات الشراب، وغالبا على صينية الطعام المستديرة من النحاس المبيض. وهناك حجاب آخر يظن أن له تأثيراً مماثلاً. ويتألف هذا الحجاب من أسماء مخلفات النبي وهي تتألف من سبحتين ومصحف في أجزاء غير مرتبة، ومكحلة وسجادتين ورحا وعصا وسواك وحلة والإبريق الذي كان يستعمله النبي صلعم للوضوء، ونعل وبردة وثلاث حصر ودرع ورداء طويل من الصوف، وبغله الأبيض (الدلدل) وناقته (العضباء). وتكتب أيضاً بعض الآيات القرآنية على قصاصات من الورق يحملها الناس وقاية من الشرور، واستشفاء أو اكتساباً للحب والصداقة الخ. ويحمل الكثير من المصريين المحدثين رجالاً ونساء وأطفالاً هذه الاحجبة وغيرها من أغلفة من الذهب أو الفضة أو القصدير أو الجلد أو الحرير الخ.
ومن الشائع أن ترى الأطفال المصريين يحملون احجبة ضد الحسد داخل غلاف مثلث الشكل يعلق في أعلى غطاء الرأس. وكثيراً ما يعلق على الجياد معلقات مماثلة. ويتقي المصريون الحسد بشتى الاحتياطات ويسعون قلقين لدفع نتائجه الوهمية عنهم. وقد يعبر البعض عن إعجابه بشيء إعجاباً يعتبر غير لائق فيعنفه من أزعجه هذا بقوله: (صلي على النبي) فإذا امتثل الحاسد وقال: (اللهم صلي عليه) لا يخشى شر. ومن غير اللائق أيضاً أن يعبر الشخص عن إعجابه بآخر أو بأي شيء لا يملكه بقوله: (يا سلام) (ما أجمله) ويستحسن في مثل هذه الأحوال أن يقول: (ما شاء الله) التي تشير إلى الإعجاب والخضوع لإرادة الله أو الرضا بها. فكثيراً ما يكون الأجدر بالمبدي إعجابه أن يقول ما شاء الله ويصلي على الرسول.
وقد بينت في الفصل الثاني من هذا الكتاب خوف نساء مصر من أثر الحسد على أولادهن.(465/31)
والعادة في هذا البلد أن يقول من يحمل ولد غيره بين ذراعيه: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلي على سيدنا محمد، ثم يقول ما شاء الله. والشائع أيضاً أن يقول المصري عندما يبدي إعجابه بصبي: (أعوذ برب الفلق لأجلك) مشيراً إلى سورة الفلق التي تنتهي بالتعوذ من شر الحسد. وقد ينظر بعض الناس إلى طفل أو يلوح أنه يحسده فيعمد الوالدان أحياناً إلى قطعة من أطراف ملابسه فيحرقانها مع قليل من الملح. ويضيف البعض إلى ذلك الكزبرة وحجر الشب الخ ويبخران الطفل بالدخان ويذران عليه الرماد، ويجب عمل هذا على ما يقال قبيل الغروب عندما يحمر قرص الشمس
ويستعمل المصريون الشب كثيراً لمنع أثر الحسد، فيضعون على الجمر قبيل الغروب قطعة منه بحجم الجوزة تقريباً حتى تنقطع عن الفوران، ويتلو من يقوم بهذا العمل أثناء احتراق الشب الفاتحة والسور الثلاثة الأخيرة ثلاث مرات. ويبدو كما قيل أن الشب عندما ترفع من النار تتخذ شكل الحاسد، ثم يسحقها ويمزجها بقليل من الطعام يرميه إلى كلب أسود ليأكله. وقد شاهدت هذه العملية يقوم بها رجل ظن أن امرأته نظرت إليه نظرة حاسدة. وقد اتخذت قطعة الشب وقتئذ شكلا يشبه شكل النساء كثيراً فقرر الرجل أنه وضعٌ خاص تعودت عليه امرأته. إلا أن الشكل الذي يتشكل به الشب يكاد يتوقف على ترتيب الجمر ومن الصعب أن يكون هذا الشكل بحيث لا يرى فيه الخيال بعض الشبه بالإنسان - وهناك طريقة أخرى يتوهم الناس أنها تدفع تأثير الحسد وهي أن توخز قطعة من الورق بإبرة ويقول المواخز هذه عين فلان الحاسد. ويعتبر الشب حجاباً ناجعاً ضد الحسد. وقد يعلق الناس أحياناً قطعة من حجر الشب مسطوحة ومزينة بشراريب في أعلى غطاء رأس الطفل. وتستعمل الأصداف والخرز بالطريقة نفسها وللغرض نفسه. وهناك أصداف صغيرة تعتبر واقية من الحسد خاصة تعلق في عدد الجمال والجياد وغيرها من الحيوان وعلى غطاء رأس الأطفال أحياناً. ولاشك أن هذه المعلقات يقصد بها جذب العين فتمنعها من رؤية الشيء المراد حفظه من الحسد
عدلي طاهر نور(465/32)
نعمة السلم
للأستاذ عبد اللطيف النشار
أكان خداع النفس للنفس أن أرى ... جميع عباد الله أهلاً وإخوانا
أنعمة سلم تلك أم تلك نقمة ... تَطَامُنُ إنسان يصاحب ذؤبانا
فإن تبؤ الحرب الضروس بشرها ... فيا رب خير جره الشر أحيانا
عرفنا العدى لا بارك الله في العدى ... وحسبك أن تتعاض بالجهل عرفانا
فيا نعمة للحرب باركت أنعماً ... لسلم جدير أن يعمر دنيانا
ودون الرضى أن يسلم الجسم وحده ... إذا المرء لم يسلم ضميراً ووجدانا
نعيم لعمري قد فقدناه إذ غدت ... بقاع الثرى والماء والجو ميدانا
ودونك فلتغرس سياجاً يحوطه ... من الشر إن أنشأت للخير بستانا
نعيم لعمري جلستي بين صبيتي ... أحادث أزهاراً وأنشق ريحانا
وأدني إلى النعمى يقينيَ أنني ... سألقي غداً هذا الجميع كما كانا
فلا سلم حتى يعرف المرء أنه ... يرد إذا ما شاء ختلاً وعدوانا
أيا خضرة الزرع النديَّ تألقي ... لهيباً وكوني يا شجيرات نيرانا
إذا ما عدا عادٍ عليك فإنما ... تعود القوى حسناً عليك وإحسانا
كذلك نعمى السلم يُحمد غهَّا ... تذكُرُها شوقاً إليها وتحنانا
إذا صوح الروض النضير ذممته ... فهلا حمدت الروض إذ كان ريانا
ولولا انصراف النفس عن خُدَع المنى ... لكان نعيماً أن نصادق أعدانا
فتوسيع آفاق المحبة مطلق ... من النفس أحقاداً تسوء وأضغانا
أسفت على الإنسان ليس بقادر ... على الحب إلا أن يعاديَ إنسانا
فقدنا نعيم السلم من طول حرصنا ... عليه وحبَّا أن نوسع دنيانا
متى نستعده نستعده وحكمة ... فنعطيَ كلاً مثلما كان أعطانا
وفي القصد إبقاء على كل نعمة ... فلست بمعطي الود غير الذي صانا
أمِنَّا فساوينا الأحباء بالعدى ... فيا ليتنا ننسى العدو وينسانا
حليفتنا، مدى اليمين وجددّي ... مواثق قد ضمتك أمس وإيانا(465/33)
صوالحنا في الحرب والسلم قاربت ... عقولاً وأدنى حافز الحب وجدانا
ألست التي أخلاقها جُلُّ مجدها ... وما أجمل الأخلاق للملك بنيانا
ونحن بني البرديِّ أقلامنا جرت ... وما كان في دنيا الكتابة إَّلانا
سننا العهود والمواثيق سنة ... وما كان أولانا بذاك وأحرانا
فنحن بني الشرق المضيء بنوره ... طلعنا على الدنيا يقيناً وإيمانا
ولن يخفر الشرقيَّ عهداً وذمة ... وقد خلق الشرقي للناس أديانا
عبد اللطيف النشار(465/34)
سلميون محاربون
للأستاذ حسين الظريفي
رعا الله فتيان البلاد فإنهم ... نسور هبوبٍ، أو ليوث وثوب
وأنهمو لا ينثنون عن المدى ... وليسوا بهيّا ًبين كل هيوب
إذا دخلوا الهيجاء يوم كريهة ... فهم بين طعَّان وبين ضَروب
وقاذف نار من حديد كأنها ... رجامُ سماءٍ من بنات شَعوب
يطير بجنح الطائرات إلى المدى ... بكل طلوع، أو بكل غروب
ويركب متن السائرات، وما له ... بها من ونى في جَيْئَةٍ وذُهوب
مصفحة الأطراف مضبورة القَرا ... تمج لهيباً موصلاً بلهيب
وليس بهم إن أوجب السِلم نفسَه ... سوى كل داعٍ بينهم ومجيب
يحيّون بالريحان كل مسالمٍ ... يخالص ودٍّ لم يكن بمشوب
وما فيهُم إلا أخو كل برَّةٍ ... وكل طليق الراحتين وهوب
لقد كتبوا تاريخهم بدمائهم ... على كل يومٍ بالجهاد عصيب
صحائف نصرٍ بالدماء خضيبةٌ ... وراء حروبٍ أوصلت بحروب
وساروا على أشلائهم لرجائهم ... ففازوا بنصر من لدنه قريب
هم النبع لطفاً والحجارة شدةً ... ونعجز أن تأتي لهم بضريب
حسين الظريفي(465/35)
البريد الأدبي
مذهب الشك قبل ديكارت
وردت كلمة للأستاذ (السيد يعقوب بكر) في العدد (463) من الرسالة يقارن فيها بين ديكارت في قوله: (أنا أشك فأنا أفكر فأنا موجود) وابن يعيش في كلمة له: (إنك إذا قلتُ: عدمتني، فمعناه علمتني غير موجود، لأنك إذا علمت كنت موجوداً وصحته على الاستعارة)
وقد أورد ابن يعيش هذه الكلمة في شرحه على مفصل الزمخشري في قواعد اللغة العربية - أوردها عرضاً وهو يناقش تركيباً من حيث معناه، ثم تركه ومضى فيما يعنيه من شرح القضايا الأخرى
فابن يعيش لم يكشف مذهباً فلسفياً، بل لم يجل بفكره أن يقف عند هذه القضية قليلاً ولا كثيراً، فكيف ينتظر منه أن يسايرها إلى غايتها ويتخذها أساساً لمنهج فلسفي؟
فليس الفرق أن هذا لم يصغ مع أنه السابق وذاك صاغ مع أنه اللاحق؛ ولكن الفرق هو أن ابن يعيش يناقش تركيباً عربياً من حيث معناه ثم يتركه إلى غيره، وديكارت درس طويلاً مختلف المذاهب الفلسفية التي تقدمته فرأى الفلاسفة عاجزين عن حل ما تصدوا لحله من المشاكل العقلية فتركهم يائساً (ألا يطفئ غلته من جداولهم). ولجأ إلى الشك بعد أن لج به اليأس، فشك في كل رأي وعقيدة في طريقي المعرفة: العقل والحواس، حتى لشك في وجوده فإذا هو مضطر أن يعترف بحقيقة لا شك فيها وهي أنه يشك أي يفكر فهو لابد أن يكون موجوداً، فوضع قاعدته: (أنا أفكر فأنا موجود) وهو لم يثبت بذلك وجود جسمه ولا نفسه بل ذاته المفكرة
ثم مضى في تفكيره على هذا الأسلوب حتى شاد فلسفة رفيعة تضيء الطريق لأصدقائها وأعدائها على السواء.
إن كان أحد قد سبق ديكارت بشيء من فلسفته - فيما أعلم - فليس ابن يعيش الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي متقدماً نحو أربعة قرون على ديكارت الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر (1596 - 1650) بل فيلسوف آخر عاش في القرون الوسطى الأوربية في عصرها الأول الذي يسمى في تاريخ الفلسفة (عصر آباء(465/36)
الكنيسة وقد سبق ديكارت بأكثر من أثني عشر قرناً، وهو القديس (أورليوس أوغسطين فيلسوف المسيحية. وقد ولد عام 353م في (تجستي في شمالي أفريقية لأب وثني وأم مسيحية ملؤها الإخلاص والحماسة لدينها فنشأ وثنياً على ملة أبيه، ثم اعتنق المسيحية في الرابعة والثلاثين من عمره، فصار فارسها الأوحد الذي يناضل عنها بكل ما أوتي من قوة وبراعة؛ ورأى فيه المسيحيون إمامهم الذي إليه يرجعون في مشاكلهم فلا يذكر اسمه في مجال خلافي حتى ينحسم الخلاف في رضا واستسلام فهو الفيصل الذي لا معقب له.
قرر أوغسطين - وهو يفصل رأيه في المعرفة - أنه إذا جاز للإنسان أن يرتاب فيما تمده به الحواس من معلومات فلا يجوز له الريب فيما يزوده به العقل؛ لأنه حق ثابت، إذ الشك لا يمتد إلى شعور الإنسان باحساساته الباطنة، كما أن الشك في الاحساسات الخارجية يتضمن الاعتراف بوجود ذات تشك، لأني إذا كنت أشك، فإني أعلم بشكي أني موجود؛ فالشك إذن يتضمن الاعتراف بوجود المفكر من غير شك ولا خطاء، فإذا تشككت في كل شيء، فلن أخطئ إذ لا بد أن يكون المخطئ موجوداً.
وهكذا يمضي الفيلسوف في فلسفته فيثبت وجود الله وقدرة العقل على تحصيل المعرفة التي مصدرها الله ويبين الكيفية التي خلق الله بها العالم، ويفصّل رأيه في الروح والمادة والأخلاق وطريق الاتحاد بالله والسعادة الأخروية. وقد توفي عام 430م.
ومن مفكرينا المسلمين اثنان شكا كديكارت في كل شيء وإن ينتهيا إلى ما انتهى إليه من خلق فلسفة شاملة تفيض باليقين والإيمان من طريق العقل: أحدهما فيلسوف المعرة أبو العلاء الذي انتهت به قسوة الحياة وآلامها الملحة إلى الشك بالتشاؤم فلم يبق له إلا الإيمان بالألم كما يرى ذلك من قرأ له لرومياته ورسائله إلى داعي الدعاة ورسالة الغفران. وثانيهما حجة الإسلام الإمام الغزالي الذي انتهى الشك إلى الإغراق في التصوف كما يرى ذلك من قرأ كتابه (المنقذ من الضلال). ومما هو جدير بالالتفات هنا تشابه القديس أوغسطين والإمام الغزالي في كثير من آرائهما وحياتهما ومنزلتهما في الدين، فأوغسطين في المسيحية هو الغزالي في الإسلام، وكل منهما اضطرته ظروفه المحيطة به، والتي كانت تهدد دينه أن ينبري ليدافع عنه أعداءه فوفق في دفاعه كل التوفيق
(سمالوط)(465/37)
محمد خليفة التونسي
من محام شرعي إلى قاض شرعي
حضرة الأستاذ علي الطنطاوي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله. . . جاء في مذكراتكم المنشورة في العدد (462) من (الرسالة) المجيدة ما نصه:
(ولا بد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات زور، وأن الشهود فساق لا عدالة لهم، ولا تقبل من مثلهم شهادة، وكانت القرائن تقطع بكذبهما - والقرائن والإمارات من أسباب الحكم - كما بين ذلك ابن قيم المدرسة الجوزية في كتابه الجليل (أعلام الموقعين)؛ ولكن لا سبيل إلى الأخذ بها إلا أن تنظر (وزارة العدل) في (دمشق) في الاقتراح الذي رفعته إليها في هذا الموضوع، وتتخذه أساساً لإصلاح شامل يخلص الناس من شهود الزور. . . فكيف يهدأ بال من يغلب على ظنه؛ أو يعلم فساد البيئة، ثم يضطرون إلى الحكم بها)
ألا فليهدأ الأستاذ بالاً، وليطمئن قلباً، وليقر عيناً. . . فليس في الأرض - أو على الأقل - ليس في بلاد من بلاد الإسلام قانون شرعي أو وضعي يجبر القاضي على الحكم ببينة يعلم أنها زور، لاسيما إذا كانت القرائن تقطع بكذبها، بل حتى إذا كانت القرائن توجب الشك فيها، أو تجبره على قبول شهادات الفساق الذين لا يقبل من مثلهم شهادة. ويكفي في تعليل إبطال هذه الشهادات وعدم العمل بها أن يقال: (لم تطمئن المحكمة لهذه الشهادات فردتها)؛ وإن استؤنف هذا الحكم فسيصدق (مائة في المائة)، إذ لا تملك محكمة الاستئناف القوة على جبر القاضي بالعمل بما يراه باطلاً
وانظر - رحمك الله - كم بالغ الفقهاء في وجوب تحري القاضي وبحثه عن أحوال الشهود، حتى لو ظهر كذبهم بعد التزكية لم يعمل بشهاداتهم. فهذا من جهة الشرع؛ وأما القوانين الوضعية، فقد جعلت تقدير الشهادات عائداً لضمير القاضي وألغت التزكية - وهي بحالها الحاضرة جديرة بالإلغاء -
إذن، لا يتوقف التخلص من شهادات الزور على نظر وزارة العدل في الاقتراح الذي(465/38)
رفعتموه إليها للأخذ بالقرائن والإمارات في هذا الموضوع
إنما الأخذ بالقرينة والأمارة موضعه فيما تنعدم فيه الشهادة فيكون الحق عرضة للضياع إذا لم يؤخذ بالقرينة والأمارة
ولو أن الأمر على ما ذكر الأستاذ من أن القاضي مضطر للحكم بشهادات يعلم أنها زور، لكان هذا هو الظلم الذي ليس بعده ظلم، ولما جاز للمسلمين أن يسكتوا عنه لحظة واحدة، حتى تبدل الأرض غير الأرض. . . وكيف يكون كذلك وهم - في محاكمهم الشرعية - يعملون بشريعة الإسلام. وهي وهذا ضدان مفترقان؟
نعم، بعض قوانيننا التي يجري العمل بها في المحاكم الشرعية - فيما سوى مصر - تحتاج إلى نظر وتعديل، ولكن ليس فيها هذا الظلم
وتعقيب آخر: قلتم في آخر مقالكم: (وقد فسروا حديث القاضي والقاضيين أن القاضيين اللذين في النار هما. . . الخ)؛ وهذا ليس تفسيراً للحديث، وإنما هو من صلب الحديث بلفظ آخر؛ ولفظة (في الجامع الصغير): (قاضيان في النار، وقاض في الجنة: قاض عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة؛ وقاض عرف الحق فجار متعمداً، أو قضى بغير علم، فهما في النار)
(اللد - فلسطين)
(داود حمدان)(465/39)
العدد 466 - بتاريخ: 08 - 06 - 1942(/)
الصفاء بين الأدباء أيضاً
للأستاذ توفيق الحكيم
كانت دعوتي إلى الصفاء بين الأدباء خالصة لوجه الأدب. فأدباء مصر البارزون الدائبون على الإنتاج لا يتجاوز عددهم العشرة مع التسامح الشديد، بينما نظراؤهم في بلد كفرنسا يبلغون أكثر من مائتين من المشهورين المنتجين، ومع ذلك نطلع على صحفهم الأدبية فلا نرى غير تكاتف وتساند على أداء رسالة الأدب والفكر. إن الفن الطويل والحياة قصيرة، وكان الأجدر بنا نحن العشرة أن نوجه صراعنا لا إلى بعضنا البعض، بل إلى الفن ومصاعبه وأسراره. إن (جوته) حتى وهو مستشار للدولة ما كان يستغني يوماً عن صديقه (شيلر) وهما يعملان في عين الفرع من الأدب التمثيلي، فكانت بينهما مراسلات لا تنقطع طول النهار على قرب الديار، جمعت في مجلدين يرى المطلع عليهما كيف أنهما كانا يتشاوران في تفاصيل القّصص الذي كانا ينشئان ويتحاوران في أمر بناء الوقائع ورسم الأشخاص، بل وفيما ينبغي أن يختار لذلك القصص من اسم وعنوان. . . كنت أحب لأنفسنا مثل هذا الصفاء الذي يخرج في جوه الفن الصافي. ولكن الأستاذ عباس محمود العقاد في مقاله (صداقات الأدباء) رد يقول إن صاحب الدعوة إلى الصفاء هو الذي بحث عن أسباب الكدر بملقاط ليخلقها خلقاً بين رجلين على أحسن ما يكون من الصفاء! فإذا صح هذا الزعم كان حقاً مما يدعو إلى الأسف بل إلى السخرية! وربما كان ظاهر الوقائع يدل على ذلك؛ ولكن هل كانت تلك حقيقة المقاصد والنوايا؟ ليس مَن واجب الأستاذ العقاد فيما أرى أن يبحث خلف أستار الظاهر، وليس من حقي أن أطالبه بالنفوذ إلى أعماق النفوس، فليكن الله وحده إذن شهيداً على ما أضمرت. وقد رأى الأستاذ العقاد أن يجزي واحدة بواحدة، فلم يفته في ختام مقاله أن يدس هو الآخر سبباً من أسباب الكدر بيني وبين الدكتور طه حسين بقوله: (إن الأستاذ الحكيم يقول بعد الإشارة إلى ثناء الدكتور طه عليه منذ سنوات: لم نسمع في غير مصر أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض الخ الخ). ومضي يصورني في هيئة الناكر للجميل، والأستاذ العقاد ولا شك قد فهم أني ما قصدت بإيراد هذه العبارة وأمثالها إلا مجرد إظهار الإساءة لطه حسين وهو في أوج نفوذه. فلقت ما نصه: (إن هذا الوقت هو أحب الأوقات(466/1)
عندي لإساءته لا لإرضائه. . . وأما مشاعري الخاصة كإنسان نحو الدكتور طه فليس الظرف اليوم مواتياً للإطناب في وصفها؛ وسأختار الزمان والمكان الملائمين للإفاضة بها دون أن يحمل فعلي على غير محمله). لكن. . ما دام الأمر قد حمل على غير وجهه وسجل عليّ سبباً من أسباب الكدر المانعة من الصفاء، فهل أحجم عن العمل على إزالة الأكدار؟ وإذا كانت الظروف هي التي شاءت أن تختار الزمان والمكان الملائمين للإفاضة بما عندي، فماذا يجب أن أصنع أمام مشيئة الأقدار؟ فلأتكلم إذن ولأقص القصة كما رأيتها وعشتها. . .
الحقيقة أنها كانت قصة انتهت مع الأسف بانهيار صداقة من أعظم الصداقات التي عرفها أدبنا المعاصر. لقد كان مبدأ ظهوري في الجو الأدبي كما هو معلوم نشر (أهل الكهف) عام 1933، ولم تكن هذه الرواية بالطبع بدايتي الأولى في هذا اللون من التأليف، بل كانت ثمرة تجاريب عشرة أعوام أو يزيد سابقة على الشروع في وضعها؛ فلقد كنت قبل ذلك أكتب للمسرح المصري روايات مما يلائم جمهور تلك الأيام. فمثلت لي أربع قصص وعهد بالخامسة إلى المرحوم سيد درويش ليضع ألحانها ولكنه اختلف مع المسرح على الأجر المطلوب. وكانت هنالك فيما أذكر سادسة وسابعة لست أدري ما حدث لهما. وإني وإن كنت أوثر نسيان هذه الروايات الأولى إلا أني لا يجب أن أنكر فضلها على تكويني الفني الأول، فلقد كانت هي خير مران لي على ممارسة الحوار، ثم اتسعت آفاقي باتساع نطاق مطالعاتي في أصول هذا الفن في الآداب الأجنبية. وضاقت بي مصر فرحلت إلى فرنسا بعد أن كنت قد سجلت اسمي في جدول المحامين ومهدت أمري لحياة مجدية. ولكن أي شيطان في أعماق نفسي كان يدفعني إلى إضاعة حياتي وراء فن لم يكن له بمصر أي احترام؟ وهنالك في فرنسا قرأت كثيراً وكتبت بالفرنسية نحو أربع روايات تمثيلية مزقت الواحدة تلو الأخرى تمزيقاً عقب الفراغ منها واطلاع بعض أرباب ذلك الفن عليها. فلم أكن قد اهتديت بها إلى شيء يذكر. ولبثت في هذا الجهاد زمناً لا أجد في آدابنا العربية مرجعاً لهذا الفن ولا مصدراً محترماً يجعلني أبدأ منه أو أضيف إليه. إنما كان عليَّ أنا أن أخلق البداية خلقاً. وكتبت بعد ذلك عدة روايات من بينها (أهل الكهف) دون أن أدري أنها موفية بالغرض بعض الشيء أو قريبة من الهدف الذي أسعى إليه. وقد اشتغلت بالقضاء فأنساني(466/2)
هذه (الخزعبلات) ودفنت مخطوطاتي في حقائبي طويلاً أتنقل بها من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية، حتى وقعت مخطوطة (أهل الكهف) ذات يوم في يد قاض مثقف من زملائي كان يذكر أيامي الماضية في مسارح القاهرة. وانتقل بالمخطوطة إلى العاصمة، ومن هناك أرسل إليَّ يقول إنه ساع في طبعها. فتملكني الدهش. ما معنى الطبع؟ ولماذا؟ وماذا يحدث إذا طبعت غير خسارة المصاريف؟ فلما أصر أصررت على ألا يتجاوز عدد المطبوع مائتين من النسخ. وهو أكبر عدد يمكن توزيعه على المعارف والإخوان. أما أكثر من هذا فلا أعرف ما أصنع به، وليس لدي مكان أخزن فيه هذه الأكداس من الورق.
ونشرت (أهل الكهف) وحدث ما يعرفه الناس. فقد قام الدكتور طه حسين يعلن في (الرسالة) بصراحة وقوة أن الأمر ليس فقط أمر كاتب وكتاب، إنما هو (باب أدبي جديد فتح في الأدب العربي. . . الخ الخ) وظلت تلك عقيدة طه حسين يناضل عنها حتى عندما عارضته بعدئذ بقولي إن الحوار الأدبي عرفه الجاحظ ووجد منه كثير في كتاب الأغاني، فقد أبى الاعتراف بذلك وأصر على اعتبار (أهل الكهف) مبدأ ظهور (الحوار الأدبي التمثيلي) باباً من أبواب الأدب العربي كما هو مقرر في الآداب الأجنبية باباً من أبوابه. ولقد كان طه حسين مخلصاً في مذهبه إلى حد اغضب الكثيرين وإلى حد استطاع معه أن يقنع صفوة من المفكرين، أذكر منهم (لطفي السيد) الذي استقبلني بعد نشر (شهرزاد) بقوله: (أنت شيخ طريقة. . . أقصد في الأدب. وطه حسين على حق. وطه بخيل وهو لا يصر هذا الإصرار إلا إذا اقنع)
تساءلت فيما مضى وأتساءل الآن مرة أخرى: هل كان في طاقتي أو طاقة إنسان فرد أن يشكر طه حسين على كل هذا؟! في الحق أن عمله كان أجل وأضخم من أن أتولى أنا وحدي شكره. لقد كان على الأدب العربي ممثلاً في رجاله وهيئاته أن يقوم بذلك. ولعل التاريخ يصنع هذا لو ثبت له أن طه مصيب
على أني في حقيقة الأمر لست أذكر ما اعتراني من شعور في ذلك الوقت، وأغلب الظن أني شغلت عن الأدب العربي وأبوابه ومذاهبه بشيء أجمل بكثير من كل هذا: هي صداقة طه حسين نفسها. فقد بعثت إليه ببرقية، وأنا لا أعرفه، غداة ظهور مقاله المشهور، أشكره فيها شكراً حاراً. ثم تركت إقليمي الذي كنت فيه وكيلاً للنائب العام وجئت مصر فلقيت طه(466/3)
حسين ونشأت بيننا مودة كانت أرفع وأجمل من أن تعيش طويلاً. لقد لبثنا شهوراً وكأن أحدنا قد عثر على شيء ثمين بعثوره على الآخر. إن طه شخصية عظيمة باهرة. إنه من شخصيات التاريخ بلا جدال. والتاريخ فيما يخيل إليَّ فنان، يتخير أشخاصه بيده ويطبعهم بخاتمة حتى قبل أن يلبسهم أدوارهم ويدفعهم إلى مصائرهم العظمى! لقد كان حديث طه يسحرني، وشئونه تعنيني. . . لقد كان مجرد اسمه يذكر أمامي يجعل نفسي تتفتح مبتهجة كأنها زهرة مر عليها نسيم! وربما كنت أنا أيضاً أنزل من نفسه بعض هذه المنزلة. فقد كتب ذات مرة يقول: (إني أسمع اللوم لأني أحب توفيق الحكيم، وأقرأ الشتم لأني أكبر توفيق الحكيم، وأنا أبسم للوم اللائمين وأضحك لشتم الشاتمين. لأني لم أحب هذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الحب، ولم أعجب بهذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الإعجاب!)
لكن. . . وا أسفاه! لقد تغلب أولئك الشاتمون واللائمون آخر الأمر، وفازوا بمأربهم وأشعلوا نار الوقيعة بيننا، واضعين أيديهم على مواطن الضعف فينا، وضعف الفنان هو عزته وكرامته وإن شئت فقل غروره. . . . وهكذا لم يستطع طه حسين أن يحتفظ طويلاً بابتسامه وضحكه أمام الساعين بالسوء؛ ولم أستطع أنا أن أحتفظ باتزاني، فأنقذ المودة الصادقة، وأضحي بالعزة الكاذبة. . . وبهذا حطمنا تلك الجوهرة التي منحتنا إياها السماء. . . من أجل. . . من أجل ماذا؟
لست أدري ما حدث بعد ذلك، فذاكرتي الآن لا تسعفني، كل ما أذكر أننا حاولنا أن نرم ما تحطم. . . ولقد أقمنا معاً بعض الصيف في جبال الألب. . . فضحكنا كثيراً، ولهونا طويلاً، بل لقد ألّفنا معاً هناك كتاباً. . . ولكن. . . ولكنها مع ذلك لم تكن الصداقة الأولى. . . لماذا؟ لعل شيئاً في نفسينا لم يكن صافياً كل الصفاء، أو في نفسي أنا على الأقل. . . إني أعترف، لقد كنت أمتنع عن كل ما يؤخذ على أنه ملق أو زلفى. . . لقد كان طه حسين وقتئذ كما هو الآن شخصية ذات نفوذ، وأنا أكره إرضاء أصحاب النفوذ
أنا الذي كان ينبغي له أن يهدي إلى طه حسين كثيراً من كتبه، أو على الأقل (أهل الكهف). . . كنت أتردد في كل طبعة تصدر لهذا الكتاب أو غيره، ولم أجد في نفسي الشجاعة أو القوة على القيام بهذا الواجب الضئيل. . . لماذا؟ لأن طه من أصحاب النفوذ! هذا أيضاً ما جعلني أصمت عن التنويه بآثاره وأنا أقدر الناس على فهم ملكاته وهباته. . .(466/4)
ولكني الآن وقد وضعت بين تهمتين: الزلفى أو نكران الجميل. . . فإني أوثر التهمة الأولى: فلقد سبق أن اتهمت بها في مجال السياسة، فلم تلبث براءتي أن ظهرت، فمن السخف أن أقيم لمثل هذه الأشياء بعد اليوم وزناً. . . لقد كادت تضيع بسببها أيضاً صداقتي (بمحمد العشماوي)، فلقد تجنبته عن عمد بلا جريرة يوم عين وكيلاً لوزارة المعارف منذ أعوام، لكنه فطن إلى الأمر، فما زال يظهر لي من المودة أضعاف ما كان يظهر من قبل، حتى اطمأنت نفسي، وأيقنت أنها صداقة حقيقية بين عقلين وروحين، لا شأن فيها للنفوذ، ولا دخل للمناصب
إن الخلق العظيم حِمل لا يقوم به غير العظماء. . .! هم وحدهم الذين أُعطوا الشجاعة والقوة على أن يسيروا قدماً نحو الجميل النبيل من الأخلاق دون أن يلتفتوا يميناً أو يساراً، ودون أن يصغوا إلى همس الهامسين وتأويل المؤولين!!
والآن، لعلي قد رددت على كلمة الدكتور طه حسين التي نشرها في (الأهرام)، ولعله اقتنع بأن الأمر لم يكن جحوداً ولكنه تردد، وهذا لا يغير من الموقف كثيراً، ولكن هذا خلقي، فليساعدني على علاجه أصدقائي!!
أنا الذي لا ينام الليل إذا استدان قرشاً حتى يوفيه، هل كنت أستطيع أن أنام طويلاً على دين مثل هذا الدين؟!
وبعد. . . فليسمح لي الدكتور طه أن أداعبه قليلاً: إنك - أيها الدكتور العزيز - قد شهرت أمري للناس هذه الشهرة الواسعة. . . ولكن. . . هل ترى وقد مضى على ذلك نحو عشرة أعوام - أن الأدب العربي قد أفاد حقّاً من ذلك شيئاً يستحق هذا العناء؟ قد تجيبني بابتسامتك الساخرة: (وما لنا وللأدب العربي؟ حسبك أنك أنت قد انتفعت يا توفيق الحكيم!)
آه. . . أيها الدكتور العزيز. . . هنا تجدني أجيبك بابتسامة حزينة: إني لم أنتفع بقدر ما أضعت، فإن الشهرة قد جاءتني حقيقة ببعض المال. . . ولكن، هل كنت محتاجاً إلى ذلك المال؟ إني لم أكن معسراً ولا فقيراً. أجاءتني بالمركز الاجتماعي؟ كلا. . . قد كنت قبلها من رجال القضاء المحترمين، ولو أني بقيت كذلك، ولا شيء غير ذلك، لظفرت بالحياة الهانئة الهادئة النافعة - على الأقل - للعدالة والناس، ولتزوجت الزوجة الصالحة، وأنجبت الأولاد البررة المفلحين. . .(466/5)
ولكن الشهرة وما يحيط بها من الإشاعات والأقاويل والأباطيل قد حالت بيني وبين ذلك الخير؛ فبعد أن كانت تسعى إلى طلبي الأسر وأنا في القضاء تحوطني الثقة والهيبة أصبحت تنفر مني اليوم ويحملني الجميع عبء الإثبات لأقنعهم بأني محل ثقة واطمئنان! لقد جاوزت الأربعين وما أبصر بعدُ في الأفق طيف واحة مورقة في صحراء حياتي المحرقة. ما قيمة الشهرة بغير سعادة؟ وفيم الأدب والفن بغير هناء؟ إن أردت الحقيقة أيها الصديق فإن خير ما أعطيتني كانت صداقتك الأولى التي دامت شهرين. . . ثم. . . ثم إذا كل شيء بعد ذلك يتحول إلى كلمات في كلمات وهباء في هباء. . . والسلام.
توفيق الحكيم(466/6)
الدكتور طه حسين يتحدث عن:
الحب الضَائع
للدكتور زكي مبارك
حين تلطّف صاحب العزة الدكتور طه بك حسين فأهدى إليّ نسخة من (دعاة الكروان) لم يفته أن يقول إنه سيعدي إليّ بعد أسابيع نسخة من (الحب الضائع)
وقد التفت ذهني إلى مدلول هذا القول، فمن عادة الدكتور طه أن يتظاهر بالتواضع، وأن يعلن أنه لا يعني ما يقول، وأن الناس لا يقبلون على مؤلفاته إلا متفضلين، فكيف حرص هذه المرة على التبشير بكتابه الجديد؟
وزرته بعد ذلك في مكتبة بوزارة المعارف لشأن من الشؤون التعليمية فأدركت من سياق كلامه أنه سيرسل إليّ كتابه الجديد يوم الخميس، فما هذا الكتاب الذي يحدثني عنه الدكتور طه مرتين قبل أن يظهر في أسواق الورّاقين؟
ثم جدّت شواغل صرفته وصرفتني عن التلافي نحو أسبوعين، فلم يُهد إليّ كتاب (الحب الضائع) إلا يوم أهديت إليه كتاب (ملامح المجتمع العراقي)، والجروحُ قِصاص!
كان من همي أن أعرف ماهيّة الكتاب الذي بشرني به الدكتور طه مرتين قبل أن يظهر في الأسواق، فكانت النتيجة أن أقرأ منه خمسين صفحة في الطريق، وأن أستأنف قراءته في العصرية لأفرغ منه قبل أن ينتصف الليل
فما جزاء المؤلف الذي يفرض علينا أن نقرأ نحو 224 صفحة في يوم واحد؟
جزاؤه أن نسوق له الحمد والثناء بغير حساب، فما تسمح الظروف بأن نجد في كل يوم كتاباً يجذبنا إليه بهذا السحر الغريب.
وما (الحب الضائع)؟
هو كتابٌ يصوّر العواطف الطبيعية في الريف الفرنسي لعهد الحرب الماضية. والكتاب ليس بجديد، لا في الروح ولا في الأسلوب، فله أمثال تعدّ بالعشرات أو بالمئات، ومع هذا فلن يقول الفرنسيون حين يُترجَم إلى لغتهم (هذه بضاعتنا رُدّت إلينا) لأن طه حسين حين يقتبس لا يفوته أن يضفي ثوب الابتكار على الاقتباس.
والمهمّ هو تنبيه القراء إلى قيمة هذا الكتاب، فمن المؤكد أن فيهم من تغيب عنه مراميه(466/7)
على وجهها الصحيح، وقد يكون فيهم من يتصور أنه كتابٌ في الحب، والحبُّ عند الغافلين عبثُ ومزاح!
هو كتابٌ في الحب، على نحو ما يتصور أديبنا العظيم طه حسين، والحبُّ عند من يكون في مثل حالته العقلية آصرةٌ معقّدة إلى أبعد الحدود، فهي تمسّ الآباء والأمهات قبل أن تمسّ البنين والبنات، وهي تقلقل المجتمع قلقة لا يعرف مداها غير المشغوفين بدراية أهواء العقول وأحلام القلوب
والمؤلف يُجري الحديث على لسان فتاة تؤرّخ حياتها من مساء إلى مساء، بعبارات فطرية قليلة التنميق والتهويل، وهو في أثناء ذلك يُنطق الفتاة بأقوال تفصّل من العُقد النفسية أشياء وأشياء
والمتأمل يرى في الكتاب دقائق يمسها المؤلف برفق، لأنه لا يريد أن يجعل فتاته كثيرة الأستقصاء، وإن زعمت لنفسها نية الاستقصاء، وهذه إحدى النواحي الطريفة في هذا الكتاب الطريف.
فالآنسة مادلين لم تلتفت إلى دفتر اليوميات إلا بعد عصرية قضتها مع صواحب ألِفن كتابة اليوميات، ومن هذا نعرف أن المؤلف يريد النص على أن النساء ينقلن عن النساء أكثر مما ينقلن عن الرجال
ثم نمضي مع صاحبة اليوميات فنعرف أنها تعيش بين أهل جعلت فواجعُ الحرب أيامهم بؤساً في بؤس، ومع هذا يحتال المؤلف فينطق الفتاة بكلمات نعرف منها أن للشباب أحلاماً تُنسي أصحابها فواجع الحرب، فقد رأينا مادلين تداعب خيال العيش المقبل من وقت إلى وقت، برغم ما يعاني أهِلها من متاعب وكروب
وكلام المؤلف في تصوير عواطف الأبوّة والأمومة عند الفرنسيين غاية في الصدق، وهو يسوق كلامه على قلم الفتاة بأسلوب حزين، يلائم الحياة في ذلك البيت الحزين.
والواقع أن (عاطفة السَّكن) قوية عند الدكتور طه إلى أبعد الحدود. والسكن هو الكلمة العربية التي تماثل الـ في اللغة الفرنسية، فهو حين يدور حول هذا المعنى يفصِّله أجمل تفصيل، وبلا تكلف ولا افتعال
ولم يكن يدٌّ من الحديث عن الوطنية الفرنسية لعهد الحرب الماضية، فهل ينشئ المؤلف(466/8)
خطبة على لسان تلك الفتاة؟
يكفي أن يشير إلى أن تلك الأسرة ظهرت فيها ظاهرة من جنون، وهي تطوُّع الأخ الأصغر للخدمة العسكرية قبل أن يبلغ سن الحرب، فقد كان يقول:
(صُرع أحد أخويَّ وجُرِح الآخر، وما ينبغي أن تخلو ميادين الحرب من أحدنا). وهي عبارة في غاية من القوة، وقد ساقها المؤلف في بساطة توهم أنه لا يعني ما تنطوي عليه من مقاصد وأغراض.
وهنالك نظرية أخلاقية تعرض لها المؤلف في عدة مواقف، وهي النظرية الخاصة بمواجهة الحياة، ومن رأى المؤلف أنه لابدَّ للأحياء من أن يعيشوا، وأن اجترار الأحزان مرض يجب دفعه بلا إمهال
ولا يفوت المؤلف أن ينص على ما يقع من المضارّة بين الأخ والأخت، ولا يفوته أن يجسِّم النفاق الذي يقع في البيوت عند تبادل الاستغفال بين الجيل القديم والجيل الجديد
وأقول مرة ثانية إني أريد تنبيه القراء إلى قيمة هذا الكتاب لأنه كُتِب بطريقة يغلب عليها الرمز والإيماء، وإن كان غاية في الصراحة والوضوح، عند من يساير المؤلف في أشواطه الطوال
وهل فيمن قرءوا هذا الكتاب من تنبَّه إلى نظرية دقيقة ساقها المؤلف في أسطر معدودات بالصفحة الثامنة والستين؟
في تلك الأسطر يشير المؤلف إلى أن الحيوان المتوحش يحتلّ صدر الإنسان المتحضر، ولم يفته إلا النص على أن الحضارة سلاح جديد يزيد التوحش ضراوة إلى ضراوة واستذآباً إلى استذآب
وهنالك صفحة عجيبة غريبة تذكِّر بأدب أبي حيّان التوحيدي في تشريح العواطف، وهي الصفحة الخاصة بالشوائب التي تفسد الوداد، ومن تلك الصفحة تعرف كيف جاز أن يتعرض الدكتور طه لتقلبات في المودَّات والصداقات يستفظعها منْ لا يعرف ما فُطِر عليه من توهج الإحساس
تلك الصفحة تفسر ما يقع فيه الدكتور طه من وقت إلى وقت، فهو يقطع ما بينه وبين أصدقاء لا يجود بأمثالهم الزمان، وهو قد يصل أقواماً لا يمتُّون إلى روحه بسبب قريب أو(466/9)
بعيد، ولعله أكثر الناس ابتلاءً بالمخادعين والمرائين، لأنهم أحرص على مراعاة الظواهر من المصافين والموافين، والكاذب يسبق الصادق إلى امتلاك القلوب الخواضع لخوادع الوداد
وتلك الصفحة غاية في القوة من الوجهة الأخلاقية، فالجهل يصدنا عن مراعاة الواجب في معاملة الأصدقاء، فتنوهمهم يقبلون منا كل شيء، ويغفرون لنا جميع الذنوب، ولو عقلنا لأدركنا أن الصديق ينتظر أن يسمع منا ما يحب في كل وقت، ويرجو أن نرى سيئاته أشرف من الحسنات، وأن نعدَّه أعظم مخلوق جادت به على الأرض السماء
ومن يُسمع الصديق كلمة اللطف إذا بخلنا بها عليه؟
وما حاجة الصديق إلينا إذا صارحناه بعيوبه كما نصارح الأعداء؟
آفة الصداقة أن نعاملها كما نعامل العداوة، باسم الحرص على الشجاعة الأدبية، مع أن للصداقة حقوقاً أيسرها التغاضي عن هفوات الصديق
ونحن في الغالب نلاطف الأعداء ليصيروا أصدقاء، ونتناسى حقوق الأصدقاء، لأن ودهم مضمون، ثم تكون النتيجة أن يعدّنا الأعداء من أهل الرياء، وأن يعدنا الأصدقاء من أهل العقوق
والدكتور طه لا يلتفت إلى ما يفسد الصداقة عن عمد وإصرار، لأنه أوضح من أن يحتاج إلى التفات، وإنما يلتفت إلى الشوائب التي تصدر عن نبرات الصوت، وحركات الجسم، ولحظات الطرف، وهي (أشياء يسيرة تحسُّ وتُلحظ، ولكنها لا تكاد تثبُت للتصوير والتعبير. هي أيسر من ذلك وأدق. هي تنفذ من أعماق النفوس إلى أعماق النفوس، لا تكاد تمر على الألسنة، ولا تكاد تستقر في العقول، ولا في مظاهر الحس والشعور، وهي من أجل ذلك مؤذية مهلكة شديدة الخطر على الحب والود، وعلى ما بين الناس من صلات، هي أشبه بهذه الجراثيم التي كانت تفتك بحياة الناس وتذيع فيهم ألوان الوباء والموت دون أن يحس لها الناس وجوداً، أو يستطيعوا منها احتياطاً. ولكن العلم قد كشف هذه الجراثيم، وأخذ يعلّم الناس كيف يعرفونها وكيف يدرسونها وكيف يتقونها. . . فمتى يستكشف العلم هذه الجراثيم المعنوية التي تفسد الود وتفتك بالحب وتقطع أمتن ما يكون بين الناس من صلات؟)(466/10)
وهذا كلامٌ نفيس جداًّ، وهو غرة هذا الكتاب النفيس
ثم تكون المشكلة الأساسية، وهي زعزعة الحب في قلوب الأزواج، وفي هذه المشكلة يتحدث الدكتور على لسان مادلين حديث الخبير بدقائق هذه الشئون، فيرينا أن عاطفة الحب تحتاج إلى رعاية موصولة، وأن المرأة قد تفقد قلب زوجها حين تُشغل عنه بشاغل شريف مثل تربيب الأبناء
وأقول: إن لهذه المشكلة جوانب مختلفة، فالذرية قد تقوّي الحب بين الزوجين، وربما جاز القول بأنها تخلِّد ذلك الحب، ولكن على شرط أن يَسلم الزوج من الفتن الخارجية، وهي فتن لم ينج منها زوج مادلين
والحق كل الحق أن المرأة لا تُشغل عن زوجها بشيء، وهي لا تحب أطفالها إلا لأنهم مظهر الصلة بالزوج، فإذا استطاعوا أن يصدوها عنه بسببٍ قريب أو بعيد، فهم لها أعداء
أما بعد، فلقصة (الحب الضائع) ذيول يضيق عنها هذا الحديث، وسيلّم بها القارئ في أناة وهدوء، فيدرك مقاصدها الصحاح، ومن المؤكد أنه سيعترف بقيمة هذه القصة من الناحية الأساسية، وهي تجسيم العُقد النفسية، وقد تكون هذه القصة فاتحة لفن جديد في أدب الدكتور طه حسين
فإن لم يكن بدٌّ من توجيه بعض المؤاخذات إلى المؤلف، فأنا أوجه إليه مؤاخذتين اثنتين: الأولى لفظية والثانية معنوية:
أما المؤاخذة الأولى، فأمرها هيّن، وهي الخطأ في بعض الأفعال، والتكلف في بعض التعابير؛ فهو قد استعمل الفعل (آويت إلى. . .) مرات كثيرة بهذه الصورة، وذلك يشهد بأنه ليس غلطة مطبعية، وإنما هو خطأ وقع فيه المؤلف؛ والصواب (أويت)، لأنه مجرد لا مزيد. . . وهو قد أكثر من عبارة (هاأنا هذه)، وهي عبارة ثقيلة لا تستحق غير الموت
أما المؤاخذة الثانية، فهي خطيرة، ولكن كيف؟
قصة (الحب الضائع) تسير في الطريق الذي يسميه الفرنسيون فهي قصة تشرح نظرية أو نظريات، والمؤلف نفسه حدثنا أن راوية الحديث ديكارتية العقل، فهل كان الأمر كذلك؟
الدكتور طه هو المنشئ الأول، فهو المسئول عن خطأ مادلين في التشريح والتعليل، ومادلين تنظر إلى المشكلات من جانب واحد، مع أن لكل مشكلة جوانب(466/11)
قد يجيب بأنه يسوق الحديث على لسان امرأة، والمرأة ترتكز عواطفها في ناحية واحدة، فلا ترى ما عداها من النواحي، ولو بلغت الغاية في التدقيق والاستقصاء
إن أجاب بهذا فسنقول: إنه أضاع فرصة النص على أن مادلين ضلّت سواء السبيل وهي تشرح ما تعرّضت له القصة من علل وأسباب، وكان هذا النص سهلاً على المؤلف لو التفت إليه، فهل يلتفت حين ينشئ قصة ثانية على هذا النحو من الإنشاء؟
بقيت ملاحظة أخيرة، وهي ملاحظة أراها على جانب من الأهمية، وإن تمثلت في صورة جنسية، ولا حياء في الأدب ولا في الدين:
في (دعاء الكروان) جرى الحديث على لسان امرأة، وفي (الحب الضائع) جرى الحديث على لسان امرأة، فما هذا البِدع في حياة رجل من أكابر الرجال؟
وهل يمضي الدكتور طه في إيثار هذا الوضع المقلوب؟
الرأي عندي أن يسير على السُّنة الطبيعية، فيشرح في أقاصيصه أهواء الرجال، ومتاعب الرجال، وأن يترك أهواء النساء ومتاعب النساء لإحدى بنات حواء
ثم أما بعد، فقد شغلت نفسي بالدكتور طه وكتابه سهرتين كاملتين، فمن حقي عليه أن يراعى ما نبهته إليه، وله مني خالص التحية وصادق الثناء
زكي مبارك(466/12)
(أرواح وأشباح)
تحفة فنية
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
خلقها صاحبها الأستاذ علي محمود طه الشاعر الملهم، فسواها صنيعاً شائقاً يمتع الأدباء أفئدتهم وألبابهم بجماله، ويكبرونه لطرافته وما فيه من أسرار الفن والشعر. . . فما هي هذه الأسرار؟
إن هذا الصنيع منظومة أنافت على أربعمائة بيت في شأن يعني الإنسانية بأسرها، لأنه يتعلق بالفطرة البشرية؛ استوحى الشاعر فيها أساطير الإغريق الشعرية، وسيرة (آدم) و (حواء)، ومعنى هبوطهما من الملأ الأعلى، وخبرة الفنان في حياة الإنسان؛ وفاض شعره من نفس جياشة ومخيلة قادرة أرته أبطاله كأنهم أحياء يسمع أصواتهم؛ وجادت قريحته في تصويرهم، حتى كان من سحر فنه أن جعل قراءه يرونهم ويسمعون حديثهم، كما رآهم في خياله
بهذه المميزات مجتمعة استحق الصنيع اسم ملحمة، وعظم شأنه في الأدب العربي
ليست ملحمة حماسية، بل هي قصة الروح والجسد في محاورة موضوعها تجاذب الرجل والمرأة وأثر الغريزة في الفن بينهما؛ وهذا موضوع جدّي بعيد الغور، أحسنَ معالجته شاعر مثقف
فما هي عناصر الشعر في هذه الملحمة؟ إنها أثمار المخيّلة والشعور وهِزَّة الإلهام. . .
إن الشاعر تخيّل الروح في عالم الأرواح، مجرّدةً يقظي لفضيلتها الملائكية؛ وَتخيّلها - على الأرض - ناعسة في طيفها منذ أمَّها وتضمَّنها ضعيفاً تصوّنها في الإنسان. . .
وتصوّر أرواحاً نزيهة تتحادث في الفن الرفيع بين الرجل والمرأة، وفي الجمال والشهوات والأهواء، وفي الخطيئة وتبعتها على الرجل هي أم على المرأة؟
واختار لهذه المحادثة روح فنان شاعر حان بعثه في الأرض، وأرواح شخصيات من عهد الآلهة والفنانين الذين تصفهم أساطير الأولين، ليدور الحديث بينها في الموضوع على المتبيِّن من سيرة الإنسانية منذ نشأتها حتى اليوم؛ وجعل رمزاً إلى القدرة سمَّاه: (صوتَ السماء)، ليهديها إلى حقيقة المقدور؛ وفرض أن حرم النزاهة والطهر في السماء مسرح(466/13)
فسيح الأرجاء، يقع فيه ما تصوّر من انطلاق تلك الأرواح في سحرها، ومن حركاتها وإشاراتها ودلالات ملامحها في محاورتها، ومن مرور الفنَّان بها وهو في صحبة ملّك يجوب به أجواز السماء، ومن اشتراك الثاني في المحاورة، ثم الأول إلى لحظة بعثه. . .
ذلك هو الخيال الأصلي في الملحمة؛ أما فروعه وحواشيه، فهي الخيالات البلاغية في الأسلوب، وقد زان الأصل والفرع من هذا الخيال، وزاد مزيته أعلاق فكرية تتعلَّق بالغريزة والنفس والجمال وبالحياة الاجتماعية، ولطائف أدبية كالإشارة إلى مانا وفنون هاواي، وإلى خروج موسى ببني إسرائيل من مصر، وقصته في أرض مدْين
فهذه مخيِّلة قادرة اقتطفت من معارف لشاعر، وغيّرت ما كان بين المقتطف وغيره من أوضاع العلاقة والمناسبة، وأنشأت بذلك معاني وصوراً ومشاهد مثالية، أي لم توجد مجتمعة في الحقيقة وإن عُرفت أقسامها متفرقةً؛ وأحيت أبطالاً خياليين فكأنك تراهم في مُتحدّثهم، وتداخلك حساسات وخوالج من مَحضرهم؛ وأودعت الملحمة أثمار فروعها من الألمعيّة والبديهة وغيرهما. . . فمن الألمعية في تشبيهات جديدة قوله:
على مذبح الحب من قلبها ... سراج يسبّح مَن لألأه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتمشى الحياة علي نوره ... وما نوره غير عين امرأة
أهلّ بقلب كفرخ القطا ... يرفرف تحت جناح القدر
هو المرح الشارد المستهام ... شرود الفراشة عند المساء
ومن الألمعية في إدراك ما لا يُرى في الشيء أول وهلة وهو على الحقيقة فيه:
هو الحب؟. . . لا. . . بل نداء الحياة ... تلبيه أجسادنا الظامئة
ومن الألمعيّة في توحيد المتضادين:
هنالك (في الأرض) حيث تشبّ الحياة ... وحيث الوجود جنين العدم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحيث السعادة بنت الخيال ... ولذتها من معاني الألم
سلا مجده الضخم في قبلة ... تذل وتسعد مَن ذاقها
ومن البديهة كلمة تاييس، حين وصل الشاعر في وصفه حواء إلى هذا البيت:(466/14)
فيا لَكِ من طفلة فذّة ... ورحماك سيّدة العالَم!
وقالت بليتيس: يحاول بالشعر إغراءنا:
هو الموقف الضنك ما يتّقيه ... كما يتَّقي باشق صائده
فجاءت بأبلغ ما يخطر للموافق ويناسب المقام.
أما الشعور فأثماره ما خامر الملحمة من الوجدانيات؛ وهي عنصر أساسي في كنه الشعر كالخيال: لأن الحب والبغض، واللذة والألم، أمور توجد في صميم الشهوات والأهواء والخوالج الإنسانية جميعاً، أيّا كان باعثها وكان الاسم الذي تسمى به؛ والأصل أن خاصَّة التلذذ والتألم والحب والبغض، وطلبِ كل جميل ونفع وخير، وتجنّبِ كل قبيح وضر وشر، هي خاصة في البشر أجمعين. ولذا فإن كل حسَّة تعرو نفس إنسان ويصفها وصفاً صادقاً تجدلها صدى في القلوب. وشاعرنا الملهم صادق الوصف في ملحمته. وحسبنا شاهداً وقع هذه الأبيات من وصفه حواء:
وكم ذكريات لها عذبة ... أعيش عليها وأحيا بها
. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . .
يسائلني القلب عن أمرها ... وأسأله أنا عن سرها
ويعطفني في الهوى ضعفها ... وأنسى بأني في أسرها
. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . .
أحاول أفهمها مرة ... فأعيا بها وبتفكيرها
ومن وصفه استنكار بليتيس في غضبتها على الفنان:
تأثَّم بالفن حتى غوى ... وما الفن بالمرأة الخاطئة
. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . .
ألم ينسم الخلد من عطرها ... ألم يعبد الحسن في زهرها؟
ومن وصفه هوى الانتقام في بليتيس إذ تقول:
أدلِّه هذا الفتى ... . . . . . . . . . . . .
وأغرس في قلبه زهرة ... من الشر راوية نامية
. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . .(466/15)
إذا استافها الرجل العبقري ... تحول كالحيوان الوخِم
تضج البلاهة من حوله ... وينظر كالصنم المبتسم
وإذا ما تضاعفت نشاط الذهن والمخيلة، وزادت يقظة الشعور حتى تناهى نشاطهما ويقظته معاً، فذلك فوران النفس الشحوذ في الشاعر الموهوب فوراناً يضطره إلى الإفضاء بما يخامرها، فيتبعّث منها الشعر؛ وذلك هو شيطان الشاعر في حسَّة تجليه؛ وتلك هي الملكة أعظم ما تكون حرية وانطلاقاً، وأرفع ما تكون سمواً، وهي بعينها هِزَّة الإلهام الذي ابتدع هذا الصنيع الباهر
ولقد كملت صفاته الشعرية بما عليه من مسحة عقلية، لا من العقل الفلسفي الهادئ، بل من العقل الذي جعل الملحمة مشابهة للحقيقة، إذ خلت من التناقض في مواقف أبطالها وفي نفوسهم الظاهرة أحوالها من كلامهم على ما شاءت لهم الفطرة والأقدار واستقام في خيال الشاعر.
ومما زاد الملحمة مشابهةً للحقيقة إتقان المحاورة بين أبطالها، إتقاناً جعلها حية، طبيعية، شائقة، فقد أبدى كل منهم رأياً وعرض حججه، وفي كل من آرائهم شيء مقبول، أو على ظاهر من الحق؛ وكان كلامهم سؤالاً يستدعي جواباً، أو قولاً يجلب اعتراضاً أو تحذيراً؛ واستيقافاً يسلِّم صاحبه جدلاً، أو يبدي تحفظاً؛ وبياناً يحوز موافقة، أو يثير دهشة أو إعجاباً
ثم إن هذا الموضوع خرج في وحدة سالمة من الاضطراب ومن النظام الرتيب، إذ له مدخل شعري لطيف الإشارة إلى الغرض منه، ووسط يشرحَه، وخاتمة يحسن السكوت عليها؛ وأجزاؤه مرتبة ترتيباً يوثق العلاقة بينها، ويشد فيه بعضها بعضاً، ويجمع بينها ارتباط قويّ.
ومن صفات هذه الملحمة وضوح موضوعها لأن وقائعه مختارة بذوق سليم، مسلسلة سلسلة طبيعية معقولة، خاصة من كل تفصيل لا طائل وراءه، ومن كل حادث أو موقف ليس يوافق شرح هذا الموضوع أو ليس بسبيله.
وزد أن الملحمة كلها شائقة جد شائقة بما بين أجزائها من تناسب موفَّق، وبما فيها من إشارة - عن بصيرة وفي قصد - إلى الأسباب في أقوال أبطالها وفي حركاتهم، ومن تشويق إلى الوقوف على الحكم في آرائهم الشائقة في ذاتها، وإن كانت لا تحول حيلولة(466/16)
دون تمكين البصير من حَزَره قبل الأوان؛ وأيضاً أن عنصر الوحدانيات داخل في المواضع الملائمة من الكلام المزدان - على اعتدال - بخواطر نيّرة، وعبارات أنيقة وإشارات بارعة. ومن إشارات:
دعي الوهم سافو ولا تحقري ... بليتيس معجزة الشاعر
فما نتّقيه بحيّاتنا ... إذا هو ألقى عصا الساحر
ومنها:
رأى جسم (حواء) فاشتاقه ... فهاجت به النزوة المسكرة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سما جسمها وتأبّى عليه ... فجرَّد في وجهها خنجره
هذه ملحمة شائقة أيضاً بأسلوب من الفصاحة والبلاغة لاءم موضوعها، وتلوَّنت لهجته تبعاً لطبيعة ما تضمن من خواطر وجدانيات؛ وهو أسلوب محكم الصياغة دقيق، إن أضيف إليه شيء - بغض النظر عن ميزان الشعر - أضعف المعنى فيه، وإن حذف شيء منه أحدث الحذف غموضاً؛ سليم من التصنع لخلوّه من مخالفة طبائع الأشياء بالغلو والإغراق في المعنى، أو بالمجازات والاستعارات البعيدة، أو بفرط المحسنات، أو بكل أولئك؛ أسلوب واضح من ذلك الوضوح الذي يكون في طبيعة ذهن المنشئ قبل أن يكون في معانيه، ويكون في معانيه قبل أن يكون في كلماته وكلمه، منسجم في ائتلاف شامل وجرس مطرب
ذلك هو الشعر المتدفق من ملكات طليقة حرّة، ومن عقلية مثقفة، في أسلوب عربي مبين، عليه طابع من الوضوح والأناقة، معتاد من صاحبه؛ وليس كشعر يتقطّر من ملكات طغت عليها الحافظة، ويقال في موضوعات لم يؤثر شيء منها في نفس الناظم، وإن كثرت في النظم كلمات ومعان يغلب وجودها في الشعر
وتلك أسرار الشعر والجمال والفن الرفيع في كتاب: (أرواح وأشباح): الذي جمع من المميزات ما جعله تحفة فنية بديعة ضُمَّت إلى كنز الأدب العربي الخالد، وبرهاناً على فضل المجدد والتجديد.
محمد توحيد السلحدار(466/17)
الزكاة
هي التأمين الاجتماعي من الفقر والجوع
للأستاذ عبد العليم رزق الدهشان
(إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم قدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم. ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً) (حديث)
(1) ما هو (التأمين الاجتماعي)؟ (2) أساسه (3) الفرق بينه وبين الإعانة (4) تطور فكرته واتساعها (5) التأمين ضد البطالة (6) الفكرة قديماً وحديثاً (7) المشرع الإسلامي أول من حقق الفكرة بفرضه (الزكاة) (8) مقارنة سريعة بين الزكاة وبين التأمينات الاجتماعية عامة (9) حاجتنا اليوم لضريبة خاصة تفرض لصالح الفقير.
1 - (التأمين الاجتماعي) تعبير حديث يطلقه المتشرعون على نظام من التأمين يقصد به حماية (الجماعة) ضد أخطار الطبيعة والاقتصاد التي لا يد لها فيها ولا حيلة لها لدفعها: كالموت والشيخوخة والبطالة. . . الخ. ويقصدون (بالجماعة) هنا مجموعة الأشخاص الذين اضطرتهم ظروفهم المادية إلى تكوين طبقة اجتماعية خاصة؛ ويخصصونها عادة لطبقة (العمال) لأنها الطبقة التي لا تستطيع - لفقرها - أن تدرأ عن نفسها وطأة هذه الأخطار
2 - وفكرة التأمين الاجتماعي هي فكرة التأمين العادي، فأساس كليهما الأقساط الدورية التي تدفع لضمان التعويض عن خطر متوقع. غير أن التأمين الاجتماعي يمتاز عن التأمين العادي بأنه ليس تأمين فرد لمصلحته الخاصة، ولكنه تأمين جماعة لصالح أفرادها. فهو مبني على فكرة التضامن بين أفراد الأمة، فيساهمون جميعاً - كل على قدر سعته - في دفع أقساط هذا التأمين، وتتولى الدولة جمعها منهم على شكل ضريبة أو رسم. فيصير التأمين بذلك التزاماً اجتماعياً عاماً كالخدمة العسكرية، والتعليم الإلزامي، والالتزامات الصحية وغيرها. وبهذا لا يتحمل المؤمن لمصلحته تكاليف التأمين الاجتماعي، بل يتحملها أفراد الجماعة القادرون، برغم عدم انتفاعهم بهذا التأمين
3 - ويختلف التأمين الاجتماعي عن (الإعانة) في أنه حق للعامل، له أن يطالب به(466/18)
بمقتضى نصوص القانون، دون أن يكون في هذا مساس بكرامته أو امتهان لآدميته، في حين أن الإعانة ليست إلا هبة لا حق له فيها؛ فهي صدقة تمنح أو تمنع بحسب رغبة المحسن، ولو كان هذا المحسن هو الدولة
4 - لهذا. . . أخذت التشريعات الحديثة بفكرة التأمين الاجتماعي، وطبقتها على كثير من أخطار النشاط الاقتصادي. وكان أول هذه المخاطر عناية منها (مخاطر الحرفة)، فأوجبت نوعاً من التأمين يقوم بدفع أقساطه أرباب الأعمال والدولة لصالح العمال ضد (حوادث العمل)
ثم اتسعت فكرة التأمين الاجتماعي، وشملت نواحي أخرى كثيرة، فظهر تامين ضد (المرض) يعطي العامل الحق في نفقات العلاج وتعويضه عما يخسره مدة مرضه؛ وتأمين ضد (العجز) يعطيه الحق في التعويض عما يفقده من قوته أثناء العمل، وتأمين لمصلحة (الأرامل والأيتام) ضد وفاة عائلهم، وتأمين ضد (الشيخوخة) يعطي لمن بلغ سناً معينة إيراداً سنوياً
5 - ولم تقف فكرة التأمين الاجتماعي عند هذا الحد، بل اتسعت غايتها واتجهت حديثاً نحو نوع هام من التأمين، هو التأمين ضد (البطالة) ذلك الخطر الاقتصادي الذي يلحق بالعامل فيحرمه عمله، مصدر قوته، وعماد حياته، رغماً عنه، وبدون خطأ منه. . . فليس من العدل ولا من المنطق أن يوجد نظام للتأمين ضد أخطار وقتية، كالإصابة والمرض، دون أن يفرض نظام للتأمين ضد هذا الخطر الفادح. وخاصة بعد ظهور النظريات الإدارية الحديثة التي جهرت بأن وظيفة الحكومات لم تعد قاصرة على الدفاع عن البلاد وضبط الأمن في داخلها، وإنما عليها - إلى جانب هذا - واجب هامٌّ هو: (الإسعاف الاجتماعي) لحماية الشعب من التفكك والانهيار. و (البطالة) من أهم عوامل الاضطراب الاجتماعي، لأنها تخلق في نفوس العمال وفي الأمة بأسرها روح عدم استقرار، كما أنها تعطل قوى الدولة المنتجة وتزيد فيها نسبة الجرائم
لهذا - وبرغم الاعتراضات الكثيرة التي ووجه بها هذا النوع الجديد من التأمين - اضطر بعض الدول - أخيراً - إلى الأخذ به حماية للعامل المتعطل من مفاسد الفقر والجوع، وحماية لكيانها من انتشار الأفكار المتطرفة الهدامة. وكانت إنجلترا أسبقها جميعاً في هذا(466/19)
المضمار، ففرضته بقانون 16 ديسمبر 1911 بينما لم تأخذ به ألمانيا إلا عام 1927. وقد قدر ما دفعته إنجلترا على هذا النوع من التأمين وحده في مدة عشر سنوات من 1920 إلى 1930 بمبلغ 640 مليوناً من الجنَيهات.
والتأمين ضد (البطالة) هو أسمى ما وصلت إليه فكرة التأمينات الاجتماعية من الرقي؛ وتحمل مزاياه - التي يجنيها العامل والدولة معاً - على الاعتقاد بوجوب تعميمه بين كافة أفراد الأمة ممن هم في حاجة إليه. على أن هذا الاعتقاد لا يعدو - حتى الوقت لحاضر - طور الفكر والخيال عند الدول التي أخذت بهذا النوع من التأمين، فما زالت هذه الدول تقصره على بعض طوائف العمال في بعض الصناعات، ولم تجرؤ أكثر الحكومات مشايعة للعمال على تعميمه لأن الحكومات تراه عبئاً على الميزانية، وإثقالاً لكاهل دافعي الضرائب من الأغنياء. . .
6 - دع ذلك. . . ففكرة تعميم هذا النظام التي تشغل الآن عقول الدول، كانت قد شغلت قبلهم منذ أقدم العصور، عقول الاقتصاديين والفلاسفة.
ففكر (أرسطو) في وجوب التعاون بين أفراد الشعب أغنياء وفقراء في نظريته: (النقود لا تلد النقود). وتكلم (سان توما داكان) على وجوب التعاون بين الطرفين على إيجاد معيشة هادئة، في نظريته (الثمن العادل) وأخرج (لا سال) نظريته عن (الأجر الحديدي) قاصداً بها هذا المعنى. وتعتبر أفكار (سيسموندي) أساساً لفكرة التأمين الاجتماعي عندما تكلم عن وجوب تدخل الدولة لحماية العمال من المرض والبطالة. كما يعتبر (لبلاي) صاحب مذهب الإصلاح الاجتماعي، لأنه فكر تفكيراً جدياً في وجوب بناء الجماعة على أساس من الأخلاق والدين، لا على المادة وحدها، وقال بأن وظيفة الدولة بالنسبة لأفرادها، ووظيفة رب العمل بالنسبة لعماله، يجب أن تكون هي وظيفة رئيس العائلة بالنسبة لأفراد أسرته. كذلك نادى (البرت دي من) بوجوب الاحتفاظ بكرامة الإنسان، فلا يصح اعتباره آلة يركن إليها وقت الحاجة فقط. وقال (ليون بورجوا) بوجوب التضامن بين أفراد الدولة بناء على نظريته (شبه العقد)؛ فالإنسان يولد مديناً للمجتمع بعمل الأجيال السابقة، ووفاء دينه لا يكون إلا بمساعدته بقية أفراد الأمة. وظهرت حديثاً نظرية (الفائض الاجتماعي) لـ (أفتاليون) وفيها يقول بوجوب تدخل الدولة لتفرض على الأغنياء القيام بالتضحية لصالح(466/20)
الفقراء، لا على سبيل الصدقة أو الإعانة، ولكن لأن الملكية الخاصة نوع من الامتياز تمنحه الهيئة الاجتماعية للأفراد بناء على فكرة المصلحة العامة. وعند (برناردشو) في كتابه (رأس المال) أن الذهب المودع في المصارف إنما هو قيمة معادلة لما زاد على حاجة الغنى من أرغفة الخبز وقطع الجبن واللحم، وعليه إعادة بعضها لأخيه الفقير ليستعين بها على القيام بالعمل المنتج.
7 - هذه هي فكرة التأمين الاجتماعي وما بلغته من رقي، وتلك هي أحلام الفلاسفة والاقتصاديين عنها؛ فهل جحدها المشرع الإسلامي أو وقف منها موقف العاجز؟!. . .
الحق الذي لا مراء فيه أن المشرع عندما فرض الزكاة ركناً من أركان الإسلام الخمسة، منذ ألف وثلاثمائة وستين عاماً قد حقق بها أحلام هؤلاء الفلاسفة، وأوجد في حيز الإمكان والعمل ما عجزت عنه - حتى اليوم - أحدث الحكومات. بل إنه قد سما بالفكرة إلى درجة التقديس، وأنزلها منزل العقيدة والإيمان، وذكرها مقرونة بالصلاة في اثنتين وثمانين آية من القرآن، فجعل إعطاء الفقير والبائس والمحروم، ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء ومأوى. . . عبادة لله. . .
8 - ولا شك أن (الزكاة) تأمين اجتماعي عام إجباري ضد الفقر والجوع:
(1) فهي (تأمين): لأنها مبنية على فكرة دفع أقساط حولية، لضمان التعويض عن خطر متوقع، أو واقع هو الفقر.
(ب) وهي تأمين (اجتماعي): لأنها مبنية على فكرة التضامن بين أفراد الأمة، فيساهم الأغنياء - كل بحسب ثروته - في دفع أقساطها لصالح الفقراء
وقد حدد الشرع فيصلاً بين الغنى والفقر بأشياء خمسة: منزل للسكنى، وملابس عادية ضرورية، وغذاء يوم كامل؛ وقال البعض شهراً: ودابة للركوب، وسلاح للجهاد. . . فمن زاد ماله على هذه الخمسة فهو غني تجب عليه الزكاة فيما زاد، ومن نقص ماله عنها، فهو فقير تجب له الزكاة
(ج) وهي تأمين (عام): لأنها لم تفرض لصالح فئة معينة أو طبقة معينة، ولكنها فرضت لصالح كل شخص اضطرته الظروف فأحوجته، سواء أكان عاملاً أم غير عامل.
(د) وهي تأمين (إجباري): لأنها واجب محتم على الأغنياء لصالح الفقراء، وعلى الحكومة(466/21)
أن تتقاضاها طوعاً أو كرهاً، حتى قال عنها الخليفة الأول (أبو بكر): (والله لو منعوني غفال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه)؛ وقد قاتلهم فعلاً. . .
وبهذا تمتاز عن التأمينات الاجتماعية الحديثة التي بقيت اختيارية في كثير من الدول فرنسا. . .!!
(هـ) وهي - أخيراً - تأمين ضد (الفقر والجوع): فهي لا تقتصر على نوع معين: كالإصابة، أو المرض، أو العجز، أو الشيخوخة؛ ولكنها تشمل هذا جميعاً، كما تشمل (البطالة) كسبب أساسي للفقر والجوع، بل وتمتد إلى الأخطار الطارئة، حتى تشمل من خانته الظروف، فأصبحت ثروته مثقلة بالديوان!!
ومن انقطعت به الطريق أثناء السفر فلم يجد ما يعينه على بلوغ الغاية أو الرجوع. . .
9 - هذه هي (الزكاة): تأمين الإسلام ضد الفقر والجوع، وركن من أركانه الخمسة، فهل فكر فيها ولاة الأمور - في دولة دينها الرسمي هو الإسلام - كحل حاسم لما يعانيه الشعب الآن من عنت وضيق وحرمان؟ أو هل فكر فيها ولاة الأمور، لا على أنها زكاة، فليست العبرة بالأسماء، ولكن بالمسميات، بل على أنها قانون يجب أن يُفرض لصالح الفقير، كما فرض في بلاد العالم المتمدينة التي تعمل حكوماتها لصالح الشعب، لا لصالح طبقة المترفين؟!
نذكر أنه في أواخر شهر مارس من العام الماضي، وجه أحد النواب سؤالاً إلى رئيس الوزراء عن (إلزام الأغنياء بدفع زكاة أموالهم. . .)؛ فأجابه دولة سري باشا بأن: (الحكومة ترى أن نظام الضرائب المتبع في مصر لا يخرج عن أن يكون صورة من صور الزكاة. . .)!! وقد قابل النواب هذه السؤال بضجة، اختلط فيها الضحك بالاحتجاج!! (هكذا): الصفحة الأولى من (أهرام) أول أبريل سنة 1941
أما ضحك نواب الأمة على هذا السؤال فإنما يذكرنا بقول المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا
وأما نظام الضرائب المتبع فليس صورة من صور الزكاة في شيء. فهذه التي تجبى، لا حق للفقير فيها، ولكنه حق الدولة تتقاضاه لتصرف منه على شئونها. . . ولا يوجد لصالح الفقير، في مصر، قانون ينظم له إعانة أو يفرض له حقاً. . بل على العكس يعتبر القانون(466/22)
طالب الإعانة متسولاً، والمتعطل ومن لا مأوى له متشرداً ومشبوهاً، ولا جزاء ولا صلاح لهؤلاء إلا السجن! وإعانة الحكومة - إن وجدت - فهي اختيارية، ويقتصر أكثرها على مكافحة الأمراض بإنشاء المستشفيات. فليس للفقير - في هذه الدولة أيضاً - أن يرغم الدولة على أن تبنى له مستشفى!
هذا. . . في حين أن (الزكاة) هي (تمليك مال معلوم لشخص معلوم) ذلك لأنها (تأمين) لا يصرف إلا للمؤمن له فحسب، أي للفقير. وقد قال أبو حنيفة: (لا يجوز أن تصرف الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو في حج أو جهاد أو في إصلاح طرق أو سقاية أو قنطرة، أو نحو ذلك من تكفين ميت. . . الخ وكل ما ليس فيه تمليك لمستحق الزكاة). ذلك لأن التمليك ركن من أركانها. . .
فما أوسع الفرق إذن بين (الزكاة) وبين الضرائب الحالية في مصر!!
وبعد. . لقد سمعنا، أخيراً، رئيس الحكومة يتحدث عن (العدل الاجتماعي) ويقول: (إن مصر ملك مشاع لجميع المصريين) و (أن هناك حداً أدنى لمطالب الحياة يجب على المضطلعين بتبعات الحكم أن يوفروه للفقراء. . .)
وسمعنا من مدير الجمعية الزراعية - في الاجتماع الزراعي - أنه يعمل شخصيَّاً في مزارعه الخاصة على أساس من الإصلاح الاشتراكي مستلهماً في ذلك أحكام القرآن الكريم؛ كما سمعنا مدير التفتيش الزراعي يتساءل قائلاً: (لماذا لا نسن قانوناً يحمي العامل عند الضعف أو الشيخوخة، كما يحمي من يتركهم بعده من ذرية ضعاف. . . .؟!)
سمعنا هذا إلى جانب ما سمعناه من صيحات دعاة الإصلاح، ومنهم الدكتور الهراوي الذي اقترح لعلاج مشكلة الفقر في مصر فرض نظام التأمين الاجتماعي (!!) الذي فرض في أوروبا منذ سنة 1880
هل معنى هذا الاتجاه الحديث أن النور بدأ يتسرب إلى قلوبنا وأن الإيمان سيصل حتماً إلى ضمائرنا. . . وإننا سنؤمن. . . قريباً بما آمن به الأوائل منا، والمحدثون في أوروبا وأمريكا، من أن الله قد فرض على الأغنياء في أموالهم قدر الذي يسع الفقراء. . . وأنه لن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع الأغنياء؟!!
عبد العليم رزق الدهشان المحامي(466/23)
على هامش كتاب عبقرية محمد
في مجلس الأستاذ
(أبي الوفاء الشرقاوي)
(مهداة إلى الأستاذ الكبير (عباس محمود العقاد))
للأستاذ محمد حسنين مخلوف
آذنت الشمس بالمغيب ونحن في حضرة الأستاذ أبي الوفاء الشرقاوي يحدثنا فننعم بسحر البيان، وعذوبة النغم الموسيقي ينبعث من قلبه المطمئن، ويتنقل في أبراج الفكر كما تجري الشمس في مسارها المقدر منذ الأزل وإلى الأبد، رتيبة الحركة، رصينة الخطوة، فيبعث في القلوب حرارة الإيمان، ويهبها نفحة من سر الوجود، ويضفي عليها من نعيم الأمل أشعة مضيئة قوية. وأشرقت نفسه العالية، وانطلق لسانه الفصيح، وضاء جبينه الأسمر العريض، بنور العقل القوي النادر، وراح يترسل ويتبسط وهو يمد يده للِصَّفِّي الحبيب يتناول الكتاب الجديد. ودار الحديث حول المؤلف الموهوب صاحب القلم الجبار، عدة العقل الشرقي وذخره في ميدان المنطق والبيان.
قلت: لقد كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) وإن لهذا الكتاب في النفس فرحة، كفرح المسلمين بعمر بن الخطاب. . .
قال الإمام: - بعض هذا. ولنجعل كتابه فيصلاً - أرأيتم قصة شيخ جليل كان يرشد ويعلم، وكان له تلاميذ ومريدون، وكان من أحبهم إليه شاب صاحب علم وقلم، وفلسفة وبلاغة، كتب في قصة آدم عليه السلام رسالة لطيفة، حتى إذا أتمها مضى بها إلى الشيخ يستأذنه في قراءتها، فأذن له. . . وجلس الشيخ يسمع والمؤلف يقرأ. . . وكانت العبارة عالية، والأسلوب خلاباً. ومضت آيات الإعجاب الشديد تتدفق من فم الشيخ عند كل مقطع. فهو لا يخفي سروره ولا يكتم طربه من قوة السبك وإشراق الديباجة، ويهز رأسه ويدق كفاً بأخرى وهو يقول: (الله الله يا شيخ علي) وكان هذا اسم المؤلف (إن من البيان لسحراً يا شيخ علي) (هكذا العلم يا شيخ علي) واتصلت حلقة الإعجاب وتدفق الشيخ علي يتابع فصول الرسالة تلاوة حتى جاء ذكر الشجرة والثمرة. . . فوصف الأمر بأنه معصية من آدم عليه(466/25)
السلام - وكان هذا يخالف ما يراه الشيخ الجليل - فإذا به يستمر في هز رأسه هكذا وفي دق كفيه هكذا ويصيح: (كفرت يا علي)
وطوى الشاب رسالته وعاد بها إلى حيث لا يعرف الرواة مصيرها. . .
وقام الإمام من المجلس وبقينا نحن لنقضي السهرة، وكتاب العقاد سميرنا المؤنس، نستروح نسمات الروح الأمين من ثنايا السطور والكلمات. وقد تحلقنا حول الشعلة الوهاجة المنبعثة من (عبقرية محمد) عليه السلام.
وأيم الحق لقد كانت براعة العقاد بما صورت من عظمة العبقرية المحمدية في بلاغة معجزة، ومنطق قوي، وعلم غزير. تأخذ بمجامع القلوب وتتكشف عن شخصيته الفذة
ولما كنا من غدنا لقينا الإمام في مجلسه وقد عاد يحنو على (عبقرية محمد) عليه السلام وتبددت في وجهه الوسيم تباشير الرضا. وعدنا نصل حديث الأمس فقلنا: وكيف حال صاحبنا؟! قال الإمام: لقد جاوز الشجرة والثمرة. . . وإذا كان للقصة أن تعود (فالله الله يا عقاد!)
قلنا: لقد جعل المؤلف فساد المجتمع. والبيئة والخلق وطغيان الشهوات واستشراء الضلال وانحلال الوشائج، كل أولئك إلى لهفة العقول على مخرج من ظلام الجاهلية وانحطاط الوثنية وشعوذة الكهان. . . مدعاة لتوقع رسالة نبي، أو هي إرهاص بمقدمه. . .
قال الإمام: إنه لحق. وإنه لنظر سديد ومنطق سليم. كان التوفيق رائد العقاد في تصويره وعرضه. وإنه ليحاصر شرود العقل بقوة الحجة. ويأخذ عليه المسالك ببراعة خلابة، كمهندس عبقري يوافيه السيل بالماء العمم فلا يزال به يجمعه ويركزه ويشق له المجرى العميق المستقيم، فيسيطر عليه ويحقق آية الله في إرساله. لقد بلغ المؤلف هنا غاية الروعة العقلية، وذروة القوة المنطقية
قلنا: أو نقيس فساد الماضي بفساد الحاضر؟ وضلال العقل الوثني الذي كلن يعبد الحجر والحيوان ويهيم في فيافي الظلام بين شهوة وقوة وفتنة. . بضلال العقل الوثني اليوم الذي يقدس الشهوة، ويتعبد بالرذيلة، ويهيم في فيافي الظلام بين مادية وقسوة وفتنة؟!
قال الإمام: إذا أغفلنا الفارق الجوهري بين الحالين جاز لنا أن نعقد القياس بينهما. . . ولكن إذا كانت البصيرة مشرقة والمحاجة بريئة والفهم مستقيما لم يقع هذا. . . فهم في(466/26)
الماضي كانوا في حيرة مرهقة. . . مرضى ينقصهم طبيب ودواء؛ ولكنهم اليوم مرضى لديهم الطبيب والدواء. وإنما ينقصهم عقل رشيد وإدراك سليم
قلنا: وهل لنا أن نسأل: (وأين النبي المنتظر؟!)
قال الإمام: كيف السؤال؟! عندما كان النهر يجري دافقاً سيالاً يحمل الخصب والنماء، تركوه ينحدر إلى البحر ويتلاشى بين أمواجه. فلما تكشفت عنهم غاشية الجهل، واستيقظت فطرة الإدراك، عرفوا نظام الري والزراعة؛ ولما تدرجت فطرة الإدراك في مراقي الكمال عرفوا كيف يستغلون مساقط المياه في توليد قوة الكهرباء؛ فاتسعت آفاق النفع وتعددت صوره وأشكاله. فإذا جئنا اليوم لنهرنا هذا - وأشار إلى النيل - وأردنا أن نفيد منه كما أفاد المتحضرون من أنهارهم، ترانا نبحث عن المخترع الذي يجري التجارب، ويفني العمر ليبتكر لنا نظام توليد الكهرباء من الماء؟! أم ترانا نعمد إلى ما وصلوا إليه هناك في الغرب من نتائج في هذا السبيل؟!
قلنا: إذا كتب لنا التوفيق فنحن نطبق ما علمناه منهم
قال الإمام: كذلك أمر الرسالة المحمدية. . . كانت البشرية في فساد يتطلب علاجاً. . . فجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم علاجاً، وجاءت رسالته دواء، فشرعت نظاماً وحققت نفعاً، وقررت للعمران دستوراً مكيناً، وأضاءت الشعلة المقدسة الباقية على الزمان، وتركتها في أمة الإسلام سراجاُ منيراً، ونظاماً قويماً، تسعد ما استضاءت بنورها، وتمسكت بعروتها؛ وتشقى ما بعدت عنها وجاوزت حدودها. وظلت هي على الدهر وهاجة النور خالدة الضياء. . . فإذا فسد أمر البشرية اليوم واختل نظامها وعادت إلى وثنية منحطة، وضلت في ظلام الرذيلة والشهوة والقسوة. . . لم تكن في حاجة إلى نبي جديد. . . بل في حاجة إلى عقل كهذا - ولوح بالكتاب - يعود بالناس إلى حيث يجدون الطبيب والدواء. وإلى ذهن خصيب موهوب يحسن مخاطبة العقول، وإلى رأس يحسن الفهم والتقدير ويملك البيان بمثل هذه الروعة في (عبقرية محمد). . . نبي جديد؟! لعمر الحق أتسألون جادين أم هازلين؟!
قلنا: معاذ الجلال في مجلس الإمام! إنما هي قولة أرسلها قلم في إحدى المجلات. . .
قال الإمام: خلوا عنكم هذا. . . وخذوا فيما أنتم بسبيله من هذا الجد الرصين. فإنما أنتم(466/27)
بصدد (عبقرية محمد) صلى الله عليه وسلم يصورها لكم (عباس محمود العقاد)
ونهض الإمام من مجلسه فقد آذنت صلاة العشاء
(نجع حمادي)
(لها بقية)
محمد حسنين مخلوف(466/28)
بعض ما نحب وما نكره
للأستاذ حسين الظريفي
لكل منا ما يحب وما يكره من الأشياء والأشخاص لغير علة ظاهرة لديه. وقد تمتلئ النفس بهذا الشعور إلى حد يبعث فيها الرغبة بالبحث عن العلة، فلا يكاد يجد لها وجهاً تحمل عليه، ويظل يحمل في طيات نفسه ما تنفعل به من الحب أو الكره لهذا أو ذاك، وهو في حيرة من أمر ما يملك عليه وعيه وما رواء وعيه من دفائن الشعور.
ولا يقف الشعور عند حد امتلاء النفس به، وإنما قد يفيض على اللسان ويظهر بأعمال الجوارح، فتندفع بقواه المجهولة، إلى استحسان أو استهجان ما لولاه لما بدا لنا رأي فيه. وقد نصدع أو ندع لمجرد إشباع تلك العاطفة العمياء، فتحدث لنا من المشاكل ما نحن في غنى عنه
ويظل أحدنا طول الحياة، وهو رهين حبه لهذا أو كرهه لذاك، وما حبه وكرهه إلا وليد نظرة عابرة، هي أجدر بأن تولد وتموت ولا تعقب. وقد يحاول الخلاص من هذا الشعور الخاص ولا يجد السبيل إليه
وقد يكون لهذا الشعور من الأثر في سلوكنا ما نظل رازحين تحت أعبائه مدى الحياة، فتسوء علائقنا بهذا، لا لشيء إلا لأن أول نظرة ألقيت عليه كانت وحياً بالنفرة منه. وقد يكون من الخير لنا أن نصل به ما انقطع، ولكن ذلك الشعور الغامض يأبى إلا أن يرى الشر فيه، وقد تكثر مظاهر هذا الشعور في ناحيتيه الإيجابية والسلبية، فتزداد به متاعبنا في الحياة، ونريد الخلاص ولات حين خلاص. ذلك لأن فيما وراء هذا الشعور باعثاً تطاول عليه الزمن ومحاه من الذاكرة، ولكنه بقي حياً فيما وراء الوعي، ولا يكاد يجد فرصة الظهور حتى ينساب إلى مجرى الشعور وبوقع أثره الخاص.
ويخطئ أولئك الذين يعللون هذا الانفعال بفعل الغريزة، فليس في الأمر شيء مما يتصل بالفطرة، وإنما هو من فعل التجارب الماضية. تلك التي حدثت لنا في فجر الحياة فأحدثت في نفوسنا هذا الانبساط أو الانقباض. ثم جللها الزمن برداء الصفاء من ساحة العقل الشاعر فانحدرت إلى ما وراءه واستقرت في قاع العقل الباطن حية فتية ولكنها لا تهز النفس إلا بيد ذات قفاز، ولا تظهر إلا بوجه مستعار. وذلك هو موضع الخطأ الذي وقع فيه(466/29)
أولئك الذين قالوا بأن هذا الحب أو الكره وليد الفطرة أو الغريزة وأنه لا يمكن أن يعلل بشيء آخر
ولا ريب في أن تجارب الماضي من الكثرة بحيث لا يمكن أن تعد أو تحد، وهي بالقياس إلى هذه الكثرة تحدث في نفوسنا مظاهر الانفعال بالسرور أو خلافه، ما قد يكون له الأثر البالغ في أسلوب تفكيرنا وفي اتجاه إرادتنا في الحياة. غير أننا مما لا ريب فيه أيضاً لا نقتصر في نفوسنا على جذوة هذا الحب أو الكره الذي يبعثه ما جوزينا به على تجاربنا الماضية من خير أو شر، فإن لنا من الحب ما هو ربيب رفقة وتصاف، وما هو وليد تصافح في المصالح، وإن من الكره ما تنشئه تجربة غير ذات علاقة بتجربة بعيدة
هنالك أمر له خطره في تحليل هذه الظاهرة النفسية، هو أن عامل انبعاث هذه الظاهرة، وأعني به الحدث الماضي الذي ارتبطت به وانبعثت عنه، قد يظل كامناً وراء حاجز من الزمن فلا تمتد يد الذاكرة إليه، ولكنه لا يندر أن يبعثَ أحدنا في عامل هذا الشعور الغامض فيقع على مصدره في تجربة ماضية شبيهة بهذه التجربة الجديدة، ويرجع وملؤه الاقتناع بأن رابطة التناظر كانت علة هذا الشعور الذي امتلأت به النفس بعد أول نظرة ألقتها العين. فإذا كان في المنفعل بهذا الشعور الجديد المفاجئ من قوة التذكر وبعد النفوذ إلى ما وراء الشعور، ما يمكن به الوصول إلى موضع التجربة الماضية من قاع النفس، وأخرجها إلى عقله الواعي، فقد أمكن له التغلب على عاطفة حبه أو كرهه الهوجاء، واستطاع أن ينظر إلى الشيء بنظرة حرة مستقلة، وأن يوليه ما يستحقه من رغبة فيه أو ميل عنه. وبتحديد موقفنا الجديد من الأشياء والأشخاص نريح أنفسنا من كثير من المتاعب
هنالك أمثلة كثيرة مما نحب متأثرين بالماضي الذي أحييناه وبالتجارب السارة التي خلت فيه. فنحن نحب الربع الذي وهبناه طفولتنا ومنحناه أيام صبانا، ونحب المنزل الذي عرفناه وألفناه، وقد تتطور بنا الحياة فننتقل إلى ربوع جديدة وديار جديدة هي أمثل وأكمل من تلك التي تركنا عليها أيام الشباب، ولكنا نظل حَمَلةً لأرقى عواطف الحب والولاء لذلك الوطن الأول. لأنا نرى فيه ظل ذلك الصبا الذي خلعناه، ولأنه يذكرنا بما كان لنا فيه من تجارب سارة. فكأنما نحن وإياه مزيج واحد
كذلك نحن نحب رفيق صبانا، لأن لصحبته ارتباطاً بكثير من تجاربنا السارة الماضية؛ فإذا(466/30)
نحن لازمناه بعد دور الشباب، كانت ملازمتنا إياه عاملاً في بعث كثير من صور الماضي الذي خلا. . . تلك الصور التي أحييناها بغفلات الشباب وملأناها بمسراته. . . فإذا هي انبعثت - ولو في الذاكرة - من جديد، كان في انبعاثها إعادة لذلك الشعور الذي رافقها أول مرة. . . وفي ذلك رجوع بالنفس إلى زمن الصبا عن طريق إثارة ما وعاه.
ونحن نحب أيضاً قراءة الكتب التي سبق أن قرأناها في فجر حياتنا وفي أيام دراستنا، لا لأنها من المعنى والمبنى ما تستحق عليه الإعادة، ولكن لأنها ترتبط في الذاكرة بسلسلة ما حدث لنا في شبابنا من الحوادث السارة، بحيث يصح الادعاء بأنا قد ننسى لحظتنا الحاضرة لنعود إلى الماضي ونحيا فيه، فنستمتع بذات اللذة التي تمتعنا بها لأول مرة، ونحيي نفس الشعور الذي أحييناه في ذلك الماضي البعيد
إن هذه الظاهرة النفسية - ولا ريب - تثبت لنا بقاء ما يحدث لنا في أيام الحياة؛ فالتجربة لا تفنى وإن تكن قد تنسى مهما ثقلت عليها وطأة الزمن في روحاته وغدواته، وإنما تنزوي في ركن قصي من أركان باطن العقل، حتى إذا حدث ما يرتبط وإياها برباط من التناظر، تحركت وهي في قاع النفس، ومدت يدها إلى رفيقها الجديد، فأوحت له بما عندها من معنى، وأحدثت في نفس صاحبه ما تفرضه عليه من شعور خاص
تلك هي العلة في أنا قد أحببنا هذا لأول لقاء، وأنا قد كرهنا ذلك بعد أول نظرة؛ فما ذلك الحب وهذا الكره إلا وليد تجربة سارة وأخرى غير سارة. فقد يكون وجه من أوليناه الحب شبيهاً بوجه رفيق لنا سبق أن أجبناه، وكان هذا علة في هذا الحب الجديد. وقد يكون صوت من كرهناه مضارعاً لصوت مربية لنا غير محبوبة، وكانت هذه المضارعة في الصوت باعثاً على نشوء كرهنا الحادث
إن في نفس كل منا كثيراً من التجارب السارة والمؤلمة، وهي تحدث في نفوسنا من المشاعر ما يتفق وإياها في جليل أو قليل، فنحب ونكره لعوامل دفينة في طيات النفس، وقد تبقى في أكثر الأحيان غير معروفة، ولكن ليس كل ما نحب وما نكره من هذا القبيل
(بغداد)
حسين الظريفي المحامي(466/31)
قبل الرحيل
نشيد الأغلال!!
(إلى ذات الرداء الجازع. . .!!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
سَئِمْتُ عَذَابَ الْحبِّ! فَلْيَمْضِ عِطْرُهُ ... وَسِحْرُ أَغَانِيهِ إلى غَيْرِ رَجْعَةِ!
سَقَانِي بِمَا لَمْ يُسْقَ مِنْهُ مُحَيَّرُ ... عَلَى اْلأَرْضِ. . . يُسْقَى الْمَوْتَ في كُلِّ خُطْوَةٍ
وَقَيِّدَ أيَّامي بِنَارٍ حَمَلْتُهَا ... مُقَيَّدَةَ اْلأَنْفَاسِ حَوْلَ سَريرَتي!
وَأَلْقَى شَبَابِي فِي هَشِيمٍ مُفَزَّعٍ ... يُبَاغِتُهُ الإِعْصَاُر مِنْ كُلِّ وِجْهَةِ. . .
فَيَا مَنْ أُنَادِيهَا. . . فَيَأَتِي جَوَابُهَا ... أَنَاشِيدَ أَحْزَانٍ تُفَتِّتُ مُهْجَتِي
وَيَا مَنْ أُوَافِيهَا وَقَلْبِي مُرَفْرِفٌ ... فَيَرْتَدٌّ مَخْنُوقَ اْلأَسَى كالذَّبِيحَةِ
وَيَا مَنْ أُغَنِّيهَا فَيَنْسَابُ دَمْعُهَا ... كأَنَّ أَغَارِيدِي مَعِينُ الْبَلِيَّةِ
وَيَا مَنْ يُحِبُّ الْقَلْبُ. . . دُنْيَاكِ طَلْقَةٌ ... فَخَلِّى بَقَايَا الْحُبِّ تُبْلِى بَقِيَّتِي!
هَبِينِي انْطِلاَقَ الرُّوحِ. . . إِنَّ صَبَابَةً ... مِنَ اْلأُفُقِ اًلأعْلَى تُنَادِي حُشَاشَتِي
عَبَدْتُكِ حَتَّى لَمْ أَدَعْ لِمُتَّيمٍ ... عَلَى هذِهِ الدُّنْيَا خَيَالاً لِنَشْوَةِ. . .
سَلَي الْعُشْبَ. . . هَلْ خَمْرُ اْلأَصِيلِ تَدَفَّقَتْ ... لِغَيْرِ خُطَانَا فَوْقَهُ كُلَّ زَوْرَةِ؟
سَلِي الرِّيحَ. . . كَمْ مَرَّتْ بنَا وَهْيَ زَامِرٌ ... يُرَنِّحُ باْلأَنْفَاسِ نَايَ (الْجَزِيرَةِ)؟
لَهَا زَجَلٌ دَامِي الرَّنِينِ كأَنَّمَا ... تُذِيعُ شِكاَيَاتِ الزَّمَانِ الْخَفيَّةِ
أَدَارَتْ كُؤَوساً أَتْرَعتْهَا بِحُبِّنَا ... غَرَاماً، وَطَارَتْ لِلضِّفَافِ الْبَعِيدَةِ. . .
هَبِينَا رِيَاحاً يَا رِيَاحُ! وَسَافِري ... سِرَاعاً بِنَا نَحْوَ الْمَغَانِي السَّعِيدَةِ
شَقِينَا عَلَى الدُّنْيَا فَلَمْ نَرَ فَوْقَهَا ... سِوىَ خُطُواتٍ حَائرَاتِ التَّلَفُّتَ
أَلاَ لَيْتَ هذَا الْعُمْرَ كأْساً، وَحُبَّنَا ... رَحِيقاً، فَنَحْسُو الْحُبَّ حَتَّى الثُّمَالَةِ!!
هَبِينِي انْطِلاَقَ الرُّوحِ. . . إِنِّي مُصَفَّدٌ ... يُجَرَّعُ مِنْ وَهْمِ الْهَوَى وَهْمَ خَمْرَةِ. . .
أَدُورُ بِعَيْنَيْ تَائهٍ فَأَرَى الصِّبَا ... ظَلاَماً شَقِيَّا فِي لَيَالٍ شَقِيَّةِ
وَأَسْكَرُ. . . لاَ مِنْ أَيِّ خَمْرٍ! وَإِنَّمَا ... غَرَامُكِ وَاْلأَشْعَارُ أَذْهَلْنَ يَقْظَتِي!!(466/33)
أَرَاكِ فَيَهْتَاجُ اْلأَسَى في سَريرَتِي ... كَمَا هَاجَتْ الذِّكْرَى بِنَفْسٍ حَزِينَة
بِعَيْنَيْكِ مَعْنىً لَسْتُ بَالِغَ سِرِّهِ ... وَلَوْ قَادَ نُورُ الْغَيْبِ أَسْرَارَ نَظْرَتِي
رَحِيقٌ بِكأْسٍ؟ أم سُكُونٌ بِوَاحَةٍ؟ ... وَرُؤْيَا بِفَجْرٍ؟ أم صَلاَةٌ بِكَعْبَةِ؟
وَفِي وَجْهِكِ النَّشْوَانِ عِطْرُ صَبَابَةٍ ... يُذَكِّرُ أَحْلاَمِي بِطُهْرِ النُّبُوَّةِ
وَصَوْتُكِ أم ذِكْرَى حَنِينٍ مُرَجَّعٍ ... يُدَنْدِنُ فِي قَلْبٍ غَرِيبٍ مُشَتَّتِ؟
أُحِسُّ بِهِ فِي كُلِّ فَجٍ بِخَاطِرِي ... صَدَى قُبْلةٍ حَيْرَى إلَيَّ تَهَادَت
رَفِيفٌ بأَيْكٍ؟ أمْ نَشِيدُ عَلَى فَمٍ ... إِلَى الْيَوْمِ لَمْ يَخْفِقْ صَدَاهُ بِنَبْرَةِ؟
سَرَقْتِ حَيَاةَ الْمَوْجِ، طَوْراً وَدِيعَةُ ... كَحُلْمٍ حَزِينٍ، أو تَبَسُّمِ طِفْلَةِ
وَطَوْراً هَدِيرُ الْبَحْرِ مِنْكِ ارْتِعَاشُهُ ... كأَنَّكِ بَحْرٌ مِنْ شَبَابٍ وَفِتْنَةِ!
وَصَدْرُكِ لَوْ يَدْرِي الْهَوَى وَهْوَ قَاتِلِي ... أَمَانٌ لِرُوحِيِ مِنْ رِيَاحِ الْمَنَّيةِ
نَشيدٌ بِهِ لْحَنَانِ مِنْ قَلْبِ مِزْهَرٍ ... يَدُ اللهِ كاَنَتْ فِيهِ أَقْدَسَ رِيشَةِ
وَطَيْرَانِ فِي أَيْكٍ زَوَى الْخُلْدُ عِطْرَهُ ... فَحُرِّمَ لاَ يَسْرِي بِهِ طَيْفُ نَسْمَةِ
وَحُلْمَانِ. . . لَكِنْ مِنْ لَهِيبٍ وَنَشْوَةٍ ... غَرِيقَانِ فِي الرُّؤْيَا بِأَطْهَرِ غَفْوَةِ!
وَذَاتُكِ فَجْرٌ فِي لَيَالِيَّ هَائمٌ ... يُبَارِك باْلأَنْوَارِ مِحْرَابَ عُزْلَتِي
تنزَّهَ عَنْ قَيْدِ الزَّمَانِ، فَعُمْرُهُ ... خُلُودٌ مُضِيءٌ فِي الضُّحَى وَالْعَشِيَّةِ
وَثَغْرُكِ يَا وَحْيَ اْلأَنَاشِيِد رَحْمَتِي ... إِذَا ظَمَأُ اْلإلْهَامِ أَشْعَلَ غُلَّتِي
غِنَائي، وَخَمْرِي، وِانْتِعَاشِي، وَسَكْرَتِي ... وَسِحْرِي، وَشِعْرِي، وَابِتَهالِي، وَسَجْدَتِي
تَمَنَّعَ حَتَّى كاَدَ لَوْ خَطَرَتْ بِهِ ... بَنَانُكِ يِسْقِيهَا عِتَابَ الْقَدَاسَةِ!
كأَنِّي بِهِ نَبْعٌ مِنَ النُّوِر وَالْهَوَى ... تَخَّيرَ لِلْحِرْمَانِ أَمْنَعَ ذِرْوَةِ
هَبِيِنِي شُعاَعاً فِي الضُّحَى رَفَّ حَوْلَهُ ... وَصَلَّى وَلاقَى اللهُ فِي خَيْرِ بُقْعَةِ. . .
سَلاَماً نَجِىَّ الرُّوحِ يَا طَيْفَ رُوحِها ... إذا هِيَ أَشْقَاها هَوَانَا فَمَلَّتِ
تَظَلُّ تُصَافِيني إذا صَدَّ نُورُها ... وَتَحْنُو إذا ازْوَرَّتْ دَلالاً وَتَاهَتِ
أُرِيدُ لأِنْسَاها. . . فأَلقَاكَ في دَمِي ... نَبِيّاً مِنَ الذِّكْرَى عَتِيَّ الرَّسَالِة
تُشَعْشِعُ بِاْلأَحْلاَمِ رُوحِي وَفي الْكَرَي ... تُفَجِّرُ مُوسِيقَا الْحَنَانِ الشَّجِيَّةِ. . .
سَلاَماً حَبِيبَ الرُّوحِ. . . يَا طَيْفَ رُوحِها ... أَغِثْ شَجَنِي، وَارْحَمْ شَبَابِي وَعَلَّتِي!(466/34)
أَعِنِّي عَلَى نِسْيَانِهَا. . . وَامْضِ طَائِراً ... يَعيِشُ عَلَى ذِكْرَى الْهَوَى في الْخَمِيلَةِ
تَرَكْتُ لَكَ الْماَضي رَبِيعاً مُقَدَّساً ... فأَيَّانَ تَطْرِقْ فِيِه تَسمَعْ تَمِيمَتِي
فَفِيِه جَلاَلٌ مِثْلماَ فِيكَ خَالِدٌ ... وَفيهِ كما فِيهَا عَوَالِمُ هَيْبَةِ
وَفِيِه رُبىً خُضْرُ الظِّلاَلِ عَوَارِفٌ ... بِسِرِّ هَواناَ في شَذَى كلِّ زَهْرَةِ
فَطُفْ مِثْلمَا طُفْنَا زَماناً بِساَحِهِ ... وَذُقْْ فيِهِ طَعْمَ السِّحْرِ مِنْ كلِّ ذَرَّةِ
وَنَاجِ طُيُوراً لَمْ يَزَلْنَ بِأُفْقِهِ ... يُرَتِّلْنَ تَوْرَاةَ الْهَوَى كلَّ لَيْلَةِ
وَحَوِّمْ عَلى غُذْرَانِهِ تَلْقَ عِنْدَها ... أَمَاسِيَنَا سَكْرَى عَلَى كلِّ ضِفَّةِ
وَعَلِّمْنِيَ السُّلْوَانَ إِنْ كُنْتَ سَالياً ... فإِنِّيَ عَنْهُ في عَماءٍ وَضَلْةِ
ظَلَلتُ عَلَى نَارِي أُرَاوِدُ طَيْفَهُ ... فَيَخْفَي وَيَرمِيني بِنَارٍ جَدِيدَةِ!
فيَا رَبَّةَ اْلأَحْلاَمِ فُكِّي وَثَاقَها ... وَلا تَحْسبِيها غَيْرَ رُؤْيَا جَمِيلَةِ
تُريديِنَ أَسْرِى في الْهَوَى، وَأَنَا الَّذِي ... تُحَطِّمُ أَغْلاَلَ الزَّمَانِ سَكيِنَتِي!
أَلاَ أَطْلِقِينِي للسَّماءِ، وَحَلِّقِي ... إِذا شِئْتِ في دُنْيَا خَيَالي الرَّهِيَبةِ
غَدَوْتُ رُمَاَداً أَنْتِ سِرُّ انْطفَاِئهِ ... وَأَنْتِ به سِرُّ يُخِّلدُ جَذْوَتي. . .
أَلاَ مَنْ لِطَيْر في رَوَابيكِ هَائمٍ ... وَيَشْتَاقُ لِلْحِرْمَانِ فِي كل لْحَظَةِ!
هَبِيهِ لِصَحْرَاءِ اْلأَسِى، فَلَرُبَّما ... يُضِيءُ مِنَ اْلأَحْزَانِ نُورُ الْحَقِيقَةِ!
محمود حسن إسماعيل(466/35)
البريد الأدبي
صاحب اللحية البيضاء
1 - سيدي الفاضل رئيس تحرير الرسالة الغراء
صورت لنا في عدد الرسالة الماضي بقلمك الممتاز صورة صادقة حية لمجرم بالطبع الذي نادى بوجود أمثاله العبقري الفذ لمبروزو إذ يقول إن عدداً كبيراً من المجرمين معرضون حتماً لارتكاب الجرائم إذ يولدون وتولد معهم غرائز سيئة تحول بينهم وبين المعيشة الصالحة، وما يستطيعون لنزعات الشر مقاومة. ويتميز هذا المجرم بصفات خَلقية وخُلقية: فهو قصير القامة كذي اللحية البيضاء، صغير الجمجمة؛ ضيق الجبهة، ناتئ عظام الخدين، دقيق الشفتين، غائر العينين، مفرطح الأذنين، كبير الفك الأسفل، بليد الحس الأدبي
ولئن فشلت نظرية هذا الجهبذ فما كان ذلك إلا لأنهم خشوا منها على الأخلاق، فما دام المجرم يعلم أن الجريمة مقدرة عليه كقسمة الأرزاق، مات ضميره واندفع كالتيار العرم يكتسح أمامه كل شيء، ولا يصبح لكلمات العدالة والجزاء والقصاص قيمة ما، ومعنى ذلك الفوضى المطلقة. على أن علماء الوراثة بما قاموا به من دراسات فنية وإحصائية قد أقاموا الدليل على وراثة صفات الإجرام من جيل لجيل تذكيها فساد البيئة وانحطاط الوسط الاجتماعي
فليتك يا سيدي المحترم ترشدنا نحن أعضاء معهد الدراسات الجنائية العليا إلى هذه الشخصية النادرة. فما وجدنا طيلة دراستنا بالسجون المصرية والإصلاحيات إلا إجراماً مكتسباً؛ فلعلنا نجد في ذي اللحية البيضاء ما يؤيد نظرية العالم الإيطالي
عباس فهمي محمد بدر
بالمعهد الجنائي
(الرسالة):
الصفات التي ذكرها الكاتب الفاضل تنطبق على ذي (اللحية البيضاء)، وهو الآن سجين بمركز طلخا، ومن الممكن زيارته فيه(466/36)
2 - سيدي الأستاذ الكبير رئيس التحرير
وبعد فأمر صاحب (اللحية البيضاء) موضوع حديثكم الشيق في الرسالة الماضية ليس بخاف على أهل العلم، فهذا الرجل يشكو إغراقاً في تعويض نقص، وهو علة نفسانية تنشأ مع من تجوهلت شخصيته في طفولته بتحكم الوسط الذي نشأ فيه فحد ذلك من التمتع بالقوة في كافة مظاهرها، وهي غرض كل كائن حي، ونتيجة هذا الحد أن القوة النفسية المحرومة من العمل تلجأ إلى الإغراق في إظهار كيانها لإثبات وجودها المنكور عليها. فالإجرام في ضوء علم النفس الحديث هو تعويض نقص تعويضا مغرقاً
وكان رأي لمبروزو في أوائل هذا القرن أن الإجرام استعداد وراثي، ولكن علم النفس الحديث لا يميل للأخذ بهذا الرأي الآن؛ ويرى أن التربية في سني حياة الطفل الست الأولى مصدر كثير من العلل النفسانية والاجتماعية
على أن هناك تعويضاً طبيعياً: فالأصم الذي تقعده أذنه عن إدراك ما يناله غيره تراه ينزع إلى تعويض هذا النقص بالنشاط في ناحية أخرى. وهنا يكون النبوغ عادة
قال أناتول فرانس مرة: إن نابليون كان متهماً في رجولته، فأشعل الحرب في كل أوربا إعلاناً لرجولته. ومثل هذا القول يقال في كل إنسان حدت ظروفه من ممارسته حقه الطبيعي من القوة
كامل يوسف
عضو المعهد البريطاني الفلسفي بلندن
مراكز الثقافة العربية في القاهرة ودمشق وبغداد
تقدمت المباحثات بين وزارة المعارف وبين الهيئات التعليمية المختصة في كل من العراق وسورية وفلسطين ولبنان في سبيل إنشاء مكتب التعاون الثقافي ين هذه البلاد وإيجاد وحدة ثقافية عربية تجمع الشباب العربي تحت علم هذه الثقافة
وقد علمنا أن النية متجهة إلى إنشاء مراكز لهذه الثقافة العربية الموحدة في كل من القاهرة ودمشق وبغداد يمكن من طريقها تبادل الآراء وإلقاء المحاضرات العلمية والأدبية التي يتردد صداها على نطاق واسع في هذا المحيط(466/37)
والمفهوم أن الأقطار العربية الشقيقة قابلت مشروع التعاون بينها وبين مصر بارتياح كبير
كم ذا. . .
1 - أشكر للأستاذ الفاضل إبراهيم أبي الخشب دقته وأدبه، ولكني أعجب من إنكاره على سلوك مذهب التخريج والتأويل والإعراب. . . في الحكم على (حافظ وأبي الطيب) حين استعملا هذا التعبير (كم ذا. . .) فقد أراد الأستاذ في كلمته الأولى إقامة هذه العبارة إلى جهة أو التماس شاهد من كلام يحتج به
فأما إقامتها إلى جهة فما أظنها تؤدي معنى غير تخريج العبارة على وجه من وجوه النحو والبلاغة، وهذا ما ذهبت إليه في كلمتي السابقة؛ وكنت ولا أزال أنتظر من الأستاذ أن ينظر في وجوه التخريج التي أخذت بها
وأما المشاهد الذي يتمسك به متابعة للآمدي وأمثاله من علماء أصول اللغة فلا يزال يعوزني، ولعل هذا التعبير من أوليات (أبي الطيب) وعهدنا به مبتدعاً جريئاً. وإني لحسن الظن به وإن غضب (ابن خالويه). والسلام
محمود البشبيشي
2 - قرأت إجابة أستاذنا الجليل البشبيشي؛ ثم عدم اقتناع الأستاذ (أبو الخشب) بما جاء فيها، فرأيت أن أدلي برأيٍ أعتقد أن فيه شفاء الغلة.
(ا) أرى أن بيت المتنبي (كم ذا بمصر من المضحكات. . .) على هذه الرواية، وعلتي في ذلك أن المتنبي كانت له ألفاظ يكثر استعمالها في شعره، ومن هذه الألفاظ (ذا) (راجع يتيمة الدهر ج1 ص137 طبعة الصاوي) وقد تابع حافظ المتنبي في مثل هذا التعبير.
(ب) لم أجد شاهداً من أشعار العرب، ولا من مأثور كلامهم على مجيء (ذا) بعد كم على طول ما بحثت، وإن كان هذا لا يمنع من جواز وجوده.
(جـ) مثل هذا التعبير لا يتنافى مع قواعد اللغة، ومن السهل تخريجه بأعراب ذا منادى حذف منه حرف النداء. وكم خبرية حذف تمييزها.
(د) قد يعترض على هذا التخريج من يقول إنني ارتكبت من أجله حذف تمييز كم الخبرية وحذف حرف النداء من اسم الإشارة. وردي على مثل هذا المعترض هين(466/38)
فأما حذف تمييز كم الخبرية فإن النحاة قالوا إنه غير حسن، ولم يمنعوه (راجع ابن يعيش ج4 ص129 المطبعة المنيرية) وإذا راعينا ما أبيح للشعراء من جواز الجري على الآراء غير الحسنة لم نجد في ذلك قبحاً. وإذا نحن احتكمنا إلى معنى البيتين وجدناه رائعاً
وأما حذف حرف النداء من أسم الإشارة فجرى فيه المتنبي على رأي الكوفيين الذي استدلوا على جواز ذلك بقوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم).
ومن المعروف أن المتنبي نشأ في الكوفة، فلا عجب إذا جرى على آرائهم في كثير من شعره مما عده العلماء - جهلاً منهم - خطأ من المتنبي. وهذا هو يقول:
(هذى برزت لنا فهجت رسيسا)
فحذف حرف النداء من اسم الإشارة مصداقاً لما ذهبت إليه.
(منيل الروضة)
راتب خليفة(466/39)
العدد 467 - بتاريخ: 15 - 06 - 1942(/)
مساجلات
للأستاذ عباس محمود العقاد
لقيني كاتب معروف يتشيع للبدع الحديثة حتى تقدم فيتركها ويتشيع لغيرها فقال لي:
إنك أنكرت (الوعي) الباطن في التصوير، وأخذت على غلاة المحدثين أنهم يعتمدونه في صورهم، مع أنك ترجع إليه في شعرك وترسم بالقلم نظائر لما يرسمونه بالريشة
قلت: مثل ماذا؟
قال: مثل قولك في وصف قبة الفضاء إحدى الليالي:
كأنها الهاوية المقلوبة
كأنها الجمجمة المنخوبة
تهمس فيها الذكر المحبوبة
وهذا من صور الوعي الباطن وليس من صور العيان
والذي قاله الكاتب المعروف يخالف الواقع ولا يؤيد المدرسة الغالية من المصورين، أو مدرسة (السريالزم) على وجه من الوجوه
فأنا، من جهة، لم أنكر الوعي الباطن ولا موجب لإنكاري إياه، وإنما أنكرت أن يكون وجود الوعي الباطن ملغياً للوعي الظاهر وللمشاهدة الحسية والمرئيات العيانية، وأنكرت أن يكون الوعي الباطن ملغياً لقواعد التصوير قديمها وحديثها، فلا تبقى للمصور مزية على الجاهل بفن التصوير، لأنهما على حد سواء يهملان التلوين والمشابهة وأصول الرسم والتمثيل، وأبيت أن أعتقد كما يعتقد الواهمون أن (الوعي الباطن) شيء جديد في هذه الدنيا، وهو هو تلك الملكة الراسخة في قرارة النفوس قبل ظهور التصوير والمصورين، فلم يكن رسوخها هذا حائلاً بين المصورين الأقدمين وبين رؤية الأشياء كما يمثلها العيان
إن الوعي الباطن ليس من اختراعات هارتمان ولا فرويد، ولا من مصنوعات القرن العشرين، ولكنه ملكة إنسانية وجدت في مصوري روما وهولندة وإسبانيا كما توجد في المصورين المحدثين؛ فلماذا نلغي العيون اليوم ولا نرى الأشياء إلا بالتنجيم والتخمين؟ ومن الذي قال إن حامل الريشة هو المتخصص في تنجيمات الوعي الباطن دون المعلم والمهندس والطبيب والكاتب والشاعر وسائر المثقفين وغير المثقفين؟(467/1)
هذا كلامي عن (الوعي الباطن) لا يدحضه الشعر الذي ذكره الكاتب المعروف وأراد أن يسلكني به في عدد أولئك المنجمين
على أن الشعر الذي ذكره الكاتب المعروف يعطي العيان حقه ويعتمد على الحس ولا ينسى المشاكلة ولا المشابهة من جانبها الظاهر ولا من جانبها الباطن أقل نسيان
فالتجويف ملحوظ في قبة الفضاء وفي الجمجمة المنخوبة؛ وهمس الذكر يقترن بالرأس ويقترن بالسماء في لياليها المرهوبة، وإذا تسربلت السماء بسربال الرهبة، فالشعور الذي توحيه إلى النفس أقرب شيء إلى شعور الإنسان أمام الرؤى التي أحاط بها عالم الفناء والأبدية
فالمشابهة الحسية والمشابهة المعنوية متوافرتان هنا كل التوافر، وليس في (السريالزم) أثر للمشابهات ولا للتوافق في الرسم والتصوير.
على أننا نذهب مع الكاتب المعروف إلى أقصى مداه ونفرض أن وصفي الفضاء في إحدى الليالي المرهوبة بالجمجمة المنخوبة وعي باطن ليس فيه من الوعي الظاهر كثير ولا قليل
نفرض أنني رجعت إلى (الوعي الباطن) في بيت أو بيتين أو عشرة أبيات من عشرة آلاف بيت. فأين هذا من إلغاء الحس والعيان كل الإلغاء وتطليق العيون والأسماع إلى آخر الزمان؟ إن تسلل الوعي الباطن مرة في كل ألف مرة لهو احتمال جائز موافق لطبيعة السوانح الباطنية. أما الوهم الذي لا يجوز ولا يوافق طبيعة من الطبائع، فهو أن نصبح كلنا وعياً باطناً وأن تصبح الدنيا كلها موعية باطنية لا تستخدم فيها عين ولا أذن كما يستخدمهما خلق الله في المسكن والملبس والطعام والشراب والدرس والتخيل والتفكير
هذا الذي ننكره وينكره كل ذي عينين وكل ذي وعي باطن مستقر في مكانه كما خلقه الله. أما المصورون الذين يقذفون بالألوان والرسوم إلى عرض الطريق ليحدثونا باسم (الوعي الباطن) فأول ما ينبغي أن يسمعوه منا أنكم يا هؤلاء لستم بأصحاب الاختصاص في هذه الأسرار. فإذا فشلتم في حمل الريشة وخلط الألوان فقد فشلتم في وظيفتكم المعترف بها وادعيتم لأنفسكم وظيفة لا يعترف لكم بها إنسان، ولا حاجة بالناس إليها لأنهم جميعاً أصحاب (وعي باطن) مثلكم وزيادة. . . فما حاجتهم إليكم وإلى غيركم من أدعياء هذه الكهانة المعروضة عليهم في ثوب التصوير؟(467/2)
ومن المساجلات التي نُبهت إليها كلمة لأديب يكتب في (الثقافة) بتوقيع (محمد مندور) قال فيها عني في صدد الكلام على أبي العلاء ورسالة الغفران:
(. . . والعقاد يبدأ فيؤكد - فيما يعلم - أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته في الأولمب والهاوية. وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيراً ما تدهشنا لجراءتها؛ ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسانية، عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء)
لا يا شيخ!
العالم الأخر قديم قبل لوسيان، والجنة والنار قديمتان قبل أبي العلاء!
سبحان الله! كنا نظن غير هذا. . . كنا نظن أن الجنة والنار خلقتا بعد المعري بثلاث أربع سنوات! وأن لوسيان ظهر على الأرض فظهر معه الجحيم السفلي الذي تحدث به اليونان
أما وصاحبنا المدهوش من جرأتنا يؤكد لنا أن الأمر على غير ذلك فلنرجع إذن عن توكيداتنا الجريئة، ولنعلن التوبة بين يديه لنقول له: صحيح. صحيح والله. . . الجنة والنار كانتا معروفتين قبل أبي العلاء، والعالم السفلي كان معروفاً قبل لوسيان. . . ولندن. . . لندن نعم لأجل خاطرك كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها، وكذلك والله باريس، وكذلك والله القاهرة، وكذلك والله الهند والصين وبلاد تركب الأفيال، أو بلاد تمشي على الأرض ولا تركب حتى النعال
أفادك الله يا مولانا الذي يتربع على الكرسي العريض لينكر على المساكين من أمثالنا توكيداتهم الجريئة ويعلمهم كيف تكون التوكيدات من آخر طراز
وأي توكيدات؟
توكيداته التي لا جرأة فيها هي أننا نحن المساكين، أو أن أحداً من خلق الله أجمعين، يجهل أن أبا العلاء قد تكلم عن شيء معروف حين تكلم عن الجنة والنار، وأن لوسيان لم يكن أول من سمع بالعالم السفلي بين قدماء اليونان
فنحن بعد الاستئذان في قليل من الجرأة التي يدهش لها صاحبنا نجترئ مرة أخرى فنقول له إننا لم نجهل معرفة الناس بالجنة والنار وهبوط الملائكة وصعود الشياطين قبل أبي(467/3)
العلاء، وأن أحداً من القارئين لم يجهل هذا، ولا يسحن بأحد أن يرمي أحداً بجْهله. فهذا تحصيل حاصل مفروغ منه، وليس أدعي إلى الدهشة من مجازف يجترئ على توكيده. . . ولكننا إذا تكلمنا عن الآثار الأدبية التي تتخذ من الرحلة بين الجنة والنار موضوعاً لها، فهذا كلام آخر يجمل به أن يصغي إليه؛ وإذا جمعنا بين المعري ولوسيان في هذا الصدد فذلك مبحث يصح النظر فيه والاستفادة منه؛ أما أن يتربع متربع على كرسي الفتاوى ليحدث قراءه بوجود السماء والأرض والملائكة والشياطين قبل الكتابة عنهم والرحلة إليهم، أو بوجود لندن وبرلين قبل كتب السياحة والرحالين، فلا يستغرب أن يجترئ بعض القراء، ويا له من اجتراء، فيزحزح له كرسيه قليلاً إلى الوراء!
بل لا نظن أن القارئ يكتفي بزحزحة الكرسي قليلاً إلى الوراء إذا كان ممن يعلمون أن (العقاد) قد سبق إلى كتابة هذا، فقال قبل عشرين سنة عن رحلة أبي العلاء: (أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفاً موصوفاً؟ وأي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهوداً للناس مألوفاً؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان. . .)
ثم قال: (فهي رحلة قديمة كما قلنا ولكنه أعادها علينا كأنه قد خطا خطواتها بقدميه وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتدعها أول مرة. . .)
ومن يدري؟ فقد يكون من اجتراء العقاد أنه اختلس هذه الحقيقة قبل عشرين سنة، ولم ينتظر الإذن قبل اجترائه على الاختلاس والإدعاء!
ولا شك أن (المندورين) في هذا البلد كثيرون مع اختلاف في الأسماء والعناوين. . . فمنهم ذلك الذي تسمي في إحدى المجلات باسم (مصطفى) ليستر ما في مقاله من سوء النية وهو يتكلم عن النبي العربي، ويتميز غيظاً لأننا عرضنا لتعدد زوجات النبي في كتابنا (عبقرية محمد) فرددنا أسبابه إلى مصلحة الدعوة الإسلامية ولم نتخذ منه ذريعة لتلويث السمعة كما فعل المتعصبون من المبشرين والمستشرقين. وليس هذا بالعلم ولا بالمنطق في رأي أذناب الاشتراكية الرعناء. . . إنما العلم والمنطق أن تلوث كل عظيم في تاريخ بني الإنسان، لأن مقاصد الاشتراكية الرعناء لا تستقيم لأصحابها وفي الدنيا عظمة شريفة تستحق التبجيل والولاء. وكفى بحقارة مذهب لا يستقيم إلا بتلويث كل عظيم!(467/4)
قال ذلك (المصطفى) المزعوم إننا دافعنا عن محمد فقلنا: (إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لأنه لم يتزوج قط؛ فلا ينبغي أن تصف محمداً بأنه مفرط الجنسية لأنه تزوج بتسع نساء)
ثم قال ذلك المصطفى المزعوم معقباً على كلامنا: (ولكن ما رأي العقاد لو قال الناقد: إني أرى المسيح قاصر الجنسية وما أنفي عنه هذه الصفة)
ورأي العقاد أن الناقد لن يقول ذلك لأنه كان من أساطين المبشرين. فإن أعْدته الاشتراكية الرعناء بسوء أدبها فجوابه إذن أن نرده إلى تاريخ النبي كما فعلنا فنريه بما يفقأ عينه أن الرجل الشهوان يجمع بين تسع زوجات من الأبكار الحسان وهو قادر على ذلك كل القدرة ولا يختار زوجاته كما صنع النبي من المسنات المتأيمات اللائى لم يشتهرن بالجمال، ثم تكون البكر الوحيدة منهن بنت أبي بكر الصديق التي يرجع التزوج بها إلى أسباب المصلحة الإسلامية قبل كل اعتبار
فهل (تنبسط) الاشتراكية بهذا الجواب أو يملأها سم البغضاء وصديده لأن في العالم الإنساني رجلاً باقياً بغير تلويث!
وقال ذلك المصطفى المزعوم: إن العقاد (يقيم الحجة على نبوة محمد باضطراب الأحوال وقت نشوئه في بلاد العرب. . . ترى أين يكون إقناع العقاد لو انبرى مسلم - قبل أن يتصدى من لا يدين بالإسلام - وقال: إن الأحوال الحاضرة أشد قساوة مما مضى في عهود الإنسانية جميعها. . . وإذن فالحال المعاصرة تستلزم نبياً ينشر الخير والعدل. فأين هذا النبي ممن عرفهم العالم حالياً. . .)
والعجيب أن يسألني هذا المصطفى المزعوم عن رأيي وقد بينته صريحاً في الكتاب نفسه حين قلت: إن العالم حائر في طلب العقيدة أو (طلب المسوغ للوجود. لأن الوجود وحده لا يكفي الإنسان إلا أن يكون على طبقته مع الحيوان. فالإيمان للمستقبل، وعسى أن يكون المستقبل للإيمان. . .)
قلت ذلك في ختام الكتاب وجعلته خلاصة الرأي فيه وموضع العبرة منه، ولا أزال أقول كما قلت دائماً إن خلاص العالم مرهون بالإيمان. وإن حياة الناس بغير عقيدة نبيلة هي حياة حشرات(467/5)
ولكن الإيمان الذي يحتاج إليه العالم لمن يكون إيمان المعدات والأمعاء، لأن الإنسانية لن تحتاج إلى رسل وحكماء ليعلموها عبادة الطعام والشراب، وإن أحقر حصان معلق في مركبة نقل ليعلم من هذه الفلسفة ما يعلمه كارل ماركس ولنين وإخوان هذه لعصبة أجمعين
إنما يحتاج العالم إلى إيمان يليق بأبناء آدم، ولا يحتاج إلى إيمان يزعم أنه يخلصه من ضرورات المعدة بعبادة هذه المعدة في الصباح والمساء، وفي ساعة العمل وساعة الرياضة، وفيما يدير عليه تجارب العلم ومطالب الفن وأشواق النفس وعقائد الضمير.
قبّحت عقيدةٌ كهذه العقيدة إن قضى بها النحس على أمة من الأمم. فهي عقيدة لن تخلص الناس من ضرورات المعدة وخسائسها بل تفرض عليهم عبادتها وتسجل عليهم الخضوع لرهبة الجوع إلى آخر الزمان. وقبّح من رسل أولئك الرسل الذين لا جديد عندهم يعلمونه الناس وراء ما علمته الحشرات قبل ملايين السنين. وأبى الله أن (تنبسط) الاشتراكية الرعناء إن كان تحقير عظماء الإنسانية وتحقير الإنسانية كلها فرضاً لزاماً لمن يسترون شرورهم بأمثال هذه الدعوات.
عباس محمود العقاد(467/6)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
عبد القادر حمزة باشا - موسم الامتحانات في المدارس
المصرية - أحزان (توفيق الحكيم) ونفوذ (طه حسين). . .
عبد القادر حمزة باشا
فاتني في العام الماضي أن أشهد مأتم الأستاذ عبد القادر حمزة - طابتْ تُربتُه، وكَرُمتْ ذكراه - ولم يفتني أن أشهد المأتم الذي أُقيم في هذا المساء بجوار دار (البلاغ)، تحيةً لروح ذلك الشهيد، شهيد القلم الحرّ، والرأي الصريح
وأقول: إني ما شعرت بحزن أو لوعة حين تجددت الصورة لموت ذلك الصديق، فهل خمد أسفي عليه وما قدُم العهد؟
أشهد أني لم أجد في نفسي استعداداً للتحسر والتفجع، كما ينبغي أن يقع في مثل هذا الظرف، وإنما توجهتْ نفسي إلى معنىً آخر هو نقد الأُسلوب المتبع في إقامة الذكريات لهذا الطراز من الرجال
وأشرح هذا المعنى فأقول: إن عبد القادر لم يمت إلا بعد أن أقام ألوف البراهين على أن للقلم دولة في هذه البلاد، وبعد أن أقام أُلوف الشواهد على أن الذاتية السليمة تصل بصاحبها إلى أشرف الغايات، وترقم أسمه في صحيفة الخلود
فما الذي يمنع من أن تكون الحفلة التي تقام لذاكره حفلة فرح وابتهاج؟
كنت أحب أن يتنادى من اشتركوا في تحرير (البلاغ) - وهم يعدُّون بالعشرات - إلى إقامة سهرة طريفة على متن النِّيل في ليلة قمراء، تحيةً للكاتب العظيم الذي أرَّخ مجد النيل أعظم تأريخ
كنت أحب أن نتنادى لإقامة حفلة بهيجة في (معبد الكرنك)، وهو المكان الذي أوحى إلى عبد القادر أن يكون إماماً في تاريخ مصر القديم، ولعله أول مؤرّخ جعل الإيمان بعظمة مصر عقيدة عقلية، وعقيدةُ العقل أَعظم من عقيدة الروح
لو سمحت شواغل الحياة بأن يتنادى أصدقاء (البلاغ) لتكريم صاحب (البلاغ) لكان لهم في(467/7)
تكريمه أسلوب لا يخطر لأهل هذا العصر في بال
لن نبكي على شيخ الصحافة المصرية، وهل مات حتى نبكي عليه؟
وما البكاء على كاتب لم يفارق دنياه إلا بعد أن ملأ صريرُ قلمه مسامع الزمان؟
الواجب أن نفرح لأن مصر أنجبت كاتباً سياسياً يندُر وجود مثله في الأقطار الأوربية والأمريكية. وأعيذ القارئ أن يتهمني بالمبالغة والتهويل، فالمصاعب التي قهرها عبد القادر لو صادفت أكبر كاتب في أعظم بلد لأضافته إلى المدحورين
الواجب أن نفرح لأن جو مصر سمح بأن يكون أحد أقطاب الصحافة من أكابر المؤلفين، وتلك إحدى الأعاجيب.
الواجب أن نفرح، لأن جو مصر سمح بأن يكتُم كاتبٌ بلاءه بأعدائه نحو ثلاث سنين، ليلقاهم بعد ذلك في ميدان لا يخرجون منه سالمين
كان عبد القادر كما وصفت، وفوق ما وصفت، فكيف تحيي ذاكره بالحزن والانقباض؟
ومتى نفرح إذا تناسينا اعتزاز الأقلام بتاريخ ذلك الشهيد؟
كان عبد القادر يحب جريدته أكثر مما يحب نفسه، ولهذا كان يستكتب رجالاً بينه وبينهم ضغائن وحقود، ليبرئ ذمته من حق جريدته عليه
وكانت البراعة القلمية هي الخصيصة الأساسية فيمن يعرف من الكتّاب، ولو كانوا من خصومه الألدَّاء
وكان لا يسمح بنشر كلمة تؤذي أحد محرري (البلاغ) من قرب أو من بعد، وقد اتفق لي أن أرجوه نشر مقال أرسله المرحوم مصطفى صادق الرافعي في إيذائي، لأقيم الدليل على تشجيع الحرية الفكرية، ولكنه رفض، وكانت حجته أن سماحي بنشر مقال الرافعي لا يعفيه من حقي عليه
عبد القادر!
هل تعرف أن قوماً زعموا أنك مت؟
كذَبوا، فما يموت من تحيا ذكراه على سنان قلمي!
موسم الامتحانات
وزارة المعارف في نظر المنصف أعظم الوزارات حيوية، بدليل ما نشاهد من كثرة(467/8)
التغيرات والتقلبات، وهل يتغير أو يتقلب غير الأحياء؟
ولكن هذه الوزارة التي تفكر في كل شيء، وتشغل بأخبارها جميع الناس، تنسى شيئاً في غاية من الأهمية، وهو تعديل مواعيد الامتحانات
ما الذي يوجب أن تكون تلك المواعيد في وهج لصيف؟ أيكون ذلك نقلاً عن الأمم الأوربية؟ هو ذلك، ولكن أين جو مصر بالقياس إلى الأجواء الأوربية؟
أعصاب التلاميذ في شهر يونيه لا تحتمل أي جهاد، ولو شئت لقلت إن التلاميذ يعانون التعب قبل يونيه بشهرين، فكيف تجود قواهم بالمحصول الذي يعيِّن منازلهم من الفوز أو الإخفاق! وهل سمعتم حديث المصحِّحين؟
التصحيح نوع من القضاء، ولا يجوز للقاضي أن يحكم إلا وهو سليم الأعصاب، فكيف تكون مصاير التلاميذ بأيدي مصححين لم تبق منهم متاعب العام الدراسي غير أشباح؟
يجب أن تكون الامتحانات في شهر مارس، أو يجب أن تكون أهم مواد الامتحان في شهر مارس، لنجد تلاميذ ومصححين، ولنطمئن إلى العدل في سلامة الحكم على أبناء الجيل الجديد
فإن عزَّ على وزارة المعارف أن تترك خطةً سارت عليها عشرات السنين فلتجعل التصحيح في أيدي رجال خُفِّف عنهم عناء العام الدراسي بعض التخفيف، ليراجعوا الأوراق بعناية والتفات، أو ليكونوا في حال غير الحال التي نعرف، فأكثر من يُدعَون إلى التصحيح يعتذرون، لأنهم لا يلقون الصيف إلا بعد طول العناء بالتدريس والتصحيح
أما بعد فقد أعلنت هذا الرأي مرات في الأعوام الماضية، ولم أجد من يسمع، فهل يكون من حظ هذا الرأي أن يضاف إلى الآراء التي يدرسها وزيرنا الحصيف؟
أحزان توفيق الحكيم
لم أكن أنتظر أن يكون عتْبي على الأستاذ توفيق الحكيم فرصة لمجادلات ومساجلات يجري بها قلمه مع الكاتبين العظيمين عباس العقاد وطه حسين
وعلى قلة ما يجشّم أخونا الزيات نفسَه في مراسلة أصدقاء الرسالة من مهجَره الجميل، فقد كتب إليّ يخبرني أنه خفّف كلمتي في عتب الأستاذ توفيق الحكيم، لأنه لا يقبل أن يفسُد ما بيني وبين توفيق لشبهة نفاها توفيق.(467/9)
وأحسنَ أخونا الزيات فيما صنع، فما أدري كيف كنت أثبُت أمام ضميري لو نُشرت كلمتي كاملة ثم ظهر أن أخانا الحكيم يطوي صدره على تلك الأحزان السّود.
لطف الله بي فنجاني من هول هذا الموقف بفضل حكمة (المهاجر الرفيق)، فله الحمد، وعلى المهاجر الثناء.
ولكن يظهر أن أحزان توفيق الحكيم لن تنجيه من (الوقوع في قبضة الأديب الفلاح) فسأسمعه اليوم كلاماً يسرّه في حين ويحزنه في أحايين، وفقاً لحالته النفسية وهو يقرأ ما أقصّه عليه بلا تخويف ولا ترهيب.
دار الأستاذ الحكيم في رده على الأستاذ العقاد حول (نفوذ) الدكتور طه حسين، فماذا يريد أن يقول؟
هل يتوهم أن (نفوذ) الدكتور طه تميمةٌ تعيذه شر أقلامنا إذا رأيناه أنحرف عن المقبول من شريعة الأدب الرفيع؟
وما احتياجُنا إلى (نفوذ) الدكتور طه حسين، ونحن نعرف أن ذلك النفوذ بلاء عليه، لأنه يبعده منا ويقرّبه إلى سوانا، وفردوس الأدب هو النعيم الباقي على الزمان.
يستطيع الدكتور طه بكفايته العلمية أن يكون أكبر موظف في الحكومة المصرية، ولكنه لا يستطيع الزعم بأن سلطان القلم يفوقه أيّ سلطان.
لقد أبيت أن أهنئ الدكتور طه بمنصبه الجديد في وزارة المعارف، لأني كرهت أن يقاس الفوز بمقياس الوظائف، ثم سارعتُ فهنأته بكتاب (الحب الضائع) لأغريه بالمضي في هذه الطريقة من طرائق التأليف، ولأُفهمه أني لا أقيم وزناً لغير محصول الأقلام الجياد.
الدكتور طه رجلٌ ضرَّار نفَّاع، ولكن من العيب على حامل القلم أن يرجوه أو يخشاه، فما هذا الذي تقول يا عمّ توفيق؟!
أترك هذا وأنتقل إلى مشكلة أساسية، وهي مشكلة قد تخرج الأستاذ الحكيم من فردوس الأدب الرفيع
صديقنا توفيق يتألم ويتوجع، لأن شهرته الأدبية أبعدته من الانخراط في سلك رجال القضاء. فما معنى ذلك؟
معناه أن هذا الرجل يعيش بين رجال الأدب عيش الغرباء، وإلا فهل يجوز لكاتب له عقيدة(467/10)
أدبية أن يتوهم أن في الدنيا حظاً أعظم من حظوظ أرباب الأقلام؟
وصديقنا توفيق يقول بعبارة صريحة إنه لا يجد أسرة تعطف عليه، فتزوِّجه بُنية يسكن إليها وتسكن إليه، لأن الشهرة الأدبية أضافته إلى المشبوهين!
غضبة الأدب عليك، يا توفيق! فما أوذيَ الأدب بأقبح ولا أبشع ولا أفظع مما جرى به قلمك الأهوج
وبمن تثق الأسر الكريمة إذا لم تثق برجال الأدب الرفيع؟
ولأي فارس تخضع المرأة النبيلة إذا فاتها الخضوع لأحد فرسان البيان؟
أتقول هذا الكلام يا توفيق في مجلة مثل الرسالة وهي عنوان الفحولة الأدبية، ثم تنتظر أن نراعي أحزانك فلا ترد عليك؟
وأرجع إلى الموازنة بين حال القاضي وحال الكاتب فأسألك: أتعتقد مؤمناً بأن القاضي يخدم العدالة بأكثر مما يخدمها الكاتب؟
قضاة مصر جديرون بالاحترام والتبجيل، فالشكوى من الفوضى مست أكثر الهيئات ثم استحيت فلم تمس رجال القضاء
ومع هذا فلا يسيغ ذهني أن يكون القاضي العادل أشرف من الكاتب الصادق، إلا أن يتبذل الكاتب فيقترح زواج هتلر من أم كلثوم لتنتهي الحرب!
أيهون الأدب على أهله إلى هذا الحد من الهوان البغيض؟
أيكون اليأس من الاقتران بامرأة لها سيارة وعمارة باعثاً على الضجر من صحبة الكتاب والخطباء والشعراء؟
أيكون (نفوذ) طه حسين شيئاً يُخاف فتُحبر فيه المقالات الطوال العراض؟
آه ثم آه!!
لو كان بيدي شيء من الأمر لقضيت بنفي توفيق الحكيم إلى جزيرة واق الواق، ليغرق أبناؤنا وتلاميذنا أن للأدب سيطرة سماوية تبغض التأدب مع غير صاحب السماء
أنت في جماعتنا دخيل، يا توفيق، لأنك تقدِّم علينا رجال القضاء، ولأنك تتهيّب أصحاب النفوذ، وبين النفوذ والنفوس جناس معلول، إن كنت تذكر المبادئ من علم البديع
مقالك الحزين كاد يبكبني، يا توفيق، ولكني تجلدتُ وتماسكت، فراراً من الرثاء لك والبكاء(467/11)
عليك.
أبعدَ عشرين سنة خدمت فيها القلم، على حد ما زعمت لنفسك، تعود فتمنّ على الأدب بأنك أضعت من أجله أشياء وأشياء؟!
نفيناك، نفيناك، ولن نلتفت إليك بعد اليوم، إلا أن تُستتاب فتتوب.
الخلوة إلى القلم نعمةٌ لا يدركها من يرى السعادة في الخلوة إلى امرأة.
وسواد المداد في بياض القرطاس أجمل من الخيلان السود في الخدود البيض، وهذا كلامٌ لا يفهمه الأدباء الدخلاء.
لا تؤاخذني، يا توفيق، في القسوة عليكَ فأنا أحاول رجعك إلى فردوس الأدب الرفيع، فهل ترجع؟ وهل تعود؟
عندنا (نفوذ) لا يقاس إليه النفوذ الذي تعرف
عندنا أرواح وقلوب. عندنا نار تصهر روحك حين تريد
فهل ترجع إلى عشك، أيها العصفور من الشرق؟
زكي مبارك(467/12)
مثال. . .
رأي الأزهريين في لبس القبعة
للأستاذ محمد محمد المدني
كتبت في إحدى (مرسلاتي) كلمة موجزة عن (اختلاف الأزهريين) سجلت فيها ظاهرة غريبة ربما عدت شأناً من شئون الأزهر الخاصة، وعلامة من علاماته المميزة: تلك هي التفاوت البعيد في النظر إلى الأشياء والحكم عليها مع أن القوم يشربون من معين واحد، ويصدرون عن ثقافة ما ترى في أصولها من تفاوت، وقد اختصرت في ذلك بعض الأمثلة، ولم أعرض لذكر الأسباب فكتب إليّ كاتبان فاضلان من قراء (الرسالة) يسألني أحدهما أن أذكر بعض المثل واضحة مفصلة، ويسألني الأخر أن أبين الأسباب التي تفضي بالأزهريين إلى هذا الخلاف في الحين بعد الحين. ولست أحب أن أعرض لذكر الأسباب كما يريدني أحد هذين الكاتبين، فأنه ليعلم أن القول في ذلك مؤلم موجع في بعض نواحيه، وفي الأزهر نفوس لا نحب لها أن تألم، وجنوب عزيز علينا أن تُقض، فحسبنا أن نذكر بعض المثل الواضحة في هذا الشأن تبصره وذكرى لعلهم يرجعون:
المثال الذي اخترته ليس فكرة من الفِكَر التي تشغل الناس اليوم وإنما هو فكرة تاريخية قد تداولتها عهود، ومرت بها أطوار تبتدئ من أواخر القرن الهجري الماضي: ذلك المثال هو (رأي الأزهريين في لبس البرنيطة). وقد اشتغل الأزهريون بهذا الموضوع أربع مرات: اشتغلوا به لأول مرة في عهد الشيخ محمد عليش مفتي السادة المالكية المتوفى سنة 1299هـ، وقد سجلت (الرسالة) رأي هذا الشيخ فيما نشرته (للناقد الأزهري) (بالعدد 416 ص813 من السنة التاسعة)، وقد جاء في ختام هذا الرأي ما نصه:
(إنه تقرر في شريعة المسلمين أن حكم هؤلاء - يقصد لابس البرنيطة - أمرهم بالتوبة والرجوع إلى دينهم، والتزيي بزي المسلمين، وإمهالهم لذلك ثلاثة أيام، فإن فعلوا ذلك قبلت توبتهم، وخلى سبيلهم؛ وإن تمت الأيام الثلاثة ولم يتوبوا قطعت رقابهم بالسيف، ولا يغسلون، ولا يصلى عليهم لموتهم على الكفر. . .)
واشتغل الأزهريون بهذا الموضوع مرة ثانية في عهد الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه وأرضاه، حينما سأله الحاج مصطفى الترنسفالي في أنه يوجد أفراد في بلاد(467/13)
الترنسفال تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعود الفوائد عليهم فهل يجوز ذلك؟ فأجابه بفتواه المختصرة التي أقامت الأزهر يومئذ وأقعدته. وهذا نصها كما جاء في محفوظات دار الإفتاء المصرية (رقم 190 - 6 شعبان 1321هـ): (أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفراً. وإذا كان اللبس لحاجة من حجب شمس أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك لزوال معنى التشبه بالمرة)
ثم عرض الأزهر لهذا الموضوع مرة ثالثة فقيل إن جماعة كبار العلماء أو لجنة منها بحثته وأصدرت فيه رأيها وهو يقضي بعدم جواز لبس البرنيطة. ولم أطلع على سند هذا الرأي لأنه ليس للجماعة مكتب ولا سجل منظم تقيد فيه بحوثها، وتسجل آراؤها. وقد أردت في العام الماضي أن أطلع على بعض الرسائل العلمية التي تنال بها عضوية الجماعة فتدافعني الموظفون في الإدارة العامة واحداً إلى واحد، ثم لم أهتد إليها ولم يبح لي أحد بسرها!
وأخيراً عرض لهذا الموضوع رجل الفقه والإفتاء الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم، وقد سأله مفتي مدينة كوملجنة بتراقيا الغربية بما خلاصته: (إنني بصفتي الرسمية لا أقر لمن يلبسون القبعة في بلادي ببدعتهم هذه، ولا أوقع على وراثتهم من المسلمين، ولا على زواجهم من المسلمات، فيسخطون عليّ، ويتخذونني شكية عند الناس وعند الحكومة، وفي اعتقادي أني لا أحكم فيهم بغير ما حكم به الشرع الإسلامي، فإن كنت على حق فساعدوني رحمكم الله وأيدوني بكلمتكم الفصل؛ وإلا فدلوني على ما هو الحق الحقيقي بالأتباع)
ولم يكن فضيلة الأستاذ الكبير عضواً بجماعة كبار العلماء حين صدر الرأي الذي أشرنا إليه، وإنما أسند إليه منصب الإفتاء وعين عضواً بالجماعة بعد ذلك، فماذا قال؟ إني أثبت هنا نص فتواه التي هي فصل الخطاب في هذا الباب، لما فيها من فقه جيد، ولما أرشدت إليه من مبدأ عام في الحكم على الناس بالكفر أو الإيمان:
نص الفتوى
(. . . أما بعد فاعلم - هداني الله وإياك إلى الحق ورزقنا اتباعه وجنبنا الزلل في القول والعمل - أن علماءنا قالوا إن الكفر شيء عظيم فلا نجعل المؤمن كافراً متى وجدنا رواية أنه لا يكفر، فلا يكفر مسلم إلا إذا اتفق العلماء على أن ما أتى به يوجب الردة، كما أنه لا يكفر مسلم متى كان لكلامه أو فعله احتمال ولو بعيداً يوجب عدم تكفيره، فقد روى(467/14)
الطحاوي عن أبي حنيفة رحمه الله وأصحابنا أنه لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما يتيقن بأنه ردة يحكم بها له، وما يشك بأنه ردة لا يحكم بها إذ الإسلام الثابت لا يزول بشك مع أن الإسلام يعلو. وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يفضي بصحة إسلام المكره، وقد قال صاحب جامع الفصولين بعد نقله هذه العبارة ما نصه: (أقول: قدمت هذه لتصير ميزاناً فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة) أهـ
وقالوا أيضاً: إن مناط الكفر والاكفار التكذيب أو الاستخفاف بالدين، فقد نقل صاحب نور العين على جامع الفصولين عن ابن الهمام في المسايرة أن مناط الاكفار هو التكذيب أو الاستخفاف بالدين. وقد قال في جامع الفصولين ما نصه: (شد زناراً على وسطه ودخل دار الحرب للتجارة كفر. قيل في لبس السواد وشد الفائزة على الوسط ولبس السراغج ينبغي ألا يكون كفراً، استحسنه مشايخنا في زماننا، وكذا في قلنسوة المغول إذ هذه الأشياء علامة ملكية لا تعلق لها بالدين) أهـ
إذا علمت هذا علمت أن مجرد لبس البرنيطة ليس كفراً لأنه لا يدل قطعاً على الاستخفاف بالدين الإسلامي ولا على التكذيب لشيء مما علم من الدين بالضرورة حتى يكون في ذلك ردة. نعم إذا وجد من لابس القبعة شيء يدل دلالة قطعية على الاستخفاف بالدين أو على تكذيب شيء مما علم من الدين بالضرورة كان ذلك ردة فيكفر. وعلى ذلك يكفر كل من حبذ أو أستحسن ما هو كفر إذا وجد منه ما يدل على ذلك دلالة قطعية، وإذا لبسها قاصداً التشبه بغير المسلمين ولم يوجد منه ما يدل على الاستخفاف بالدين ولا على التكذيب لشيء مما علم من الدين بالضرورة كان آثماً فقط لما روى أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة. حدثنا أبو النضر - يعني هاشم بن القاسم - حدثنا عبد الرحمن ابن ثابت. حدثنا حسّان بن هطية عن أبي جنيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا إسناد جيد، وبين ذلك في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام (فهو منهم) أنه كافر مثلهم إن تشبه بهم فيما هو كفر كأن عظم يوم عيدهم تبجيلاً لدينهم، أو لبس زنادهم، أو ما هو من شعارهم قاصداً بذلك التشبه بهم(467/15)
استخفافاً بالإسلام كما قيد به أبو السعود والحموي على الأشباه، وإلا فهو مثلهم في الإثم فقط لا في الكفر كما في الفتاوى المهدية. وإنما شرطنا في الإثم قصد التشبه لأن في الحديث ما يدل على ذلك إذ لفظ التشبه يدل على القصد؛ ومن أجل ذلك قال صاحب البحر ما نصه: (ثم اعلم أن التشبه بأهل الكتاب لا يكره في كل شيء، فأنا نأكل ونشرب كما يفعلون، إنما الحرام هو التشبه فيما كان مذموماً وفيما يقصد به التشبه. كذا ذكره قاضيخان في شرح الجامع الصغير)
وكتب ابن عابدين في حاشيته على البحر تعليقاً على هذا ما نصه: (أقول: قال في الذخيرة البرهانية قبيل كتاب التحري. قال هشام: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير فقلت: أترى بهذا الحديد بأساً؟ قال: لا. فقلت: إن سفيان وثور بن زيد رحمهما الله تعالى كرها ذلك لأن فيه تشبهاً بالرهبان: فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي لها شعر وإنها من لباس الرهبان. فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا تضر، وقد تعلق بهذا النوع من الأحكام صلاح العباد، فإن الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع) أهـ
وعلى هذا فهؤلاء الناس الذين لبسوا القبعة آثمون إذا قصدوا من لبسها التشبه بالكفار. أما إذا لبسوها غير قاصدين التشبه بهم كأن، كان لبسهم إياها لدفع برد أو حر أو غير ذلك من المصالح فلا إثم. وهذا كله إذا لم يوجد منهم ما يدل دلالة قطعية على استخفافهم بالدين أو تكذيبهم لشيء مما علم من الدين بالضرورة وإلا كانوا كفاراً مرتدين يحكم عليهم بأحكام المرتدين، من عدم صحة أنكحتهم وعدم توريثهم من الغير إلى غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم)
أما بعد. فهذا مثال نذكره لينتفع به من يريد الانتفاع، وليعلم الذين يعجلون بالحكم على آراء الناس أن الريث أولى بهم وأجدر أن يهديهم سبيل الرشاد، فإن قوماً منا قد اقترنت بعض الفِكر العلمية في أذهانهم بقداسة تجعلهم ينفرون ممن يعرض لها بوزن أو تمحيص ولو زيف أدلتها، وبين ما فيها من خطأ، فتراهم يجزعون لما يصيب هذه الفِكَر ويضطربون، وتراهم يسفون أحياناً ويتزيدون، وربما أضافوا إلى الباحثين ما لم يقولوا، أو أولوا في كلامهم ما لم يقصدوا؛ ذلك بأنهم لا يرجون علماً، ولا يقصدون حقاً، وإنما يريدون أن(467/16)
يثيروا كلاماً في مقابلة كلام ليقول العامة الذين لا يفقهون: لقد رد فلان على فلان! وآية ذلك أن كلامهم لا يصبر على البحث، ولا يثبت أمام النقاش العلمي، فتراه يتخاذل ويتهالك ويذوب كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس، ولو شئنا لضربنا في ذلك الأمثال، ولكنا نضن بأنفسنا وبقرائنا أن نشتغل بأكثر من هذا المثال
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(467/17)
التفاحة. . .
للأستاذ راشد رستم
عادل - أحبك يا (سهام)
سهام - تحبني!!
- نعم أحبك. . . وهل في الأمر غرابة؟!
- لا. . .
- ثم إني أحبك لأنك تحبينني
- ألهذا السبب أنت تحبني؟
- طبعاً لا. . . ومع ذلك لماذا لا؟. . .
سهام - ولكن كيف عرفت أنني أحبك؟
عادل - هذا سر. . .
- سر. . . وهل بين المحبين سر؟!
- وأيُّ سر. . . إن بين المحبين سر الأسرار، بل ليس بين غير المحبين سر مثل سر المحبين
- سر الأسرار أم لا أسرار!!
- إذا لم يكن بين المحبين سر، فإنه يجب عليهما أن يخلقا لهما (سرا) سرا. . .
- دعني من فلسفة الأسرار. . . أريد أن أعرف السر!!
- أي سر؟
- السر الذي تدعي الآن أنه سرك
- كيف. . . ألا تعرفينه؟
- إذا كنت أعرفه ما كنت سألتك عنه
- وما دمت لا تعرفينه فلا داعي لذكره
- بالعكس. . . يكون الحال أدعى لمعرفته
- لا أظن ذلك، فإنه شيء يدرك ولا يشرح
- ولكن أنت قلته الآن منذ قليل(467/18)
- إذن أنت تعرفينه
- وهل في هذا شك. . . بل ومنك عرفته
- إذن لماذا تحاورينني هكذا؟!
- لكي أمتحنك
- تمتحنينني! ولماذا تمتحنيني؟ وفي أي شيء؟ دعينا من هذا الكلام. . . ليس هذا هو سبب المحاورة. . . أفصحي. . . أفصحي
- ماذا تعني؟
- أعني أنه يهمك جداً أن تعرفي كيف. . .
سهام - اسمع يا (عادل)، أنت تحبني ما في هذا شك، ولكن، ألا تدري أنه يسر المرء أن يعرف كيف ولماذا أحبَّه غيره. . . ثم هل في هذا عيب؟!
عادل - كلا. . . ولكن عليه أن يبحث فيتعب فيعرف فيرتاح. . . وليس عليه أن يجلس فيسأل فيجاب فيرتاح. . .
- ألا تحب لي الراحة؟
- ليس في هذا شك. . . ولكن، أليس التعب في سبيل الحب راحة؟
- بالله لا تتعبني واختصر الطريق
- اسمعي يا (سهام)، أنا لا أريد تعبك ولا الإطالة عليك، ولكن الذي أحب هو الذي يعرف كيف أحب
- لا، أنت غلطان، إن الذي أحبَّ لا يعرف كيف أحب، ولكنه يعرف فقط أنه أحب
- إذن، لماذا تتعبينني؟!
- اتق الله، من الذي يتعب الآخر. . . ومع ذلك، فإن التعب في سبيل الحب راحة. أليس كذلك؟ ثم إن الذي أريدك أن تفهمه هو أن المحبوب يفرح ويفرح جداً إذا عرف كيف ولماذا أحبه حبيبه
- ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال
- ولكنك أحببتَ فجربتَ فعرفتَ
- وأنت يا سهام، ألم تحبي قبل هذه المرة؟(467/19)
سهام - أولاً، ما معنى هذه المرة؟
عادل - أريد أن أقول. . .
- لا تقل شيئاً. . . سأُريحك. . . نعم، كنتُ ظننت أنني أحببتُ قبل هذه المرة!!
- ولكن. . .؟
- ولكن لم أحب. . .
- والآن؟
- والآن. . . والآن. . . وقد أوقعتني. . . فماذا عساي أن أقول!!
- أولاً، لست أنا الذي أوقعك، ثم لا تنسى أن من حفر بئراً لأخيه وقع فيه!!
- وهل الحب يا عادل بئر؟
- بئر. . . وأيّ بئر!! إنه بحرُ. . . بل هو محيط. . .!!
- أعوذ بالله. . . إنه إذن مخيف!!
- إذا كان مخيفاً، فلماذا أوقعت نفسك فيه؟!
- يا ظالماً! حقَّا إنك مغالط كبير. . . هل أنا وقعت فيه، أم أنك أنت الذي أوقعتني فيه؟!
- أنا أوقعتك. . . أم أنت التي وقعت؟!
- أتريد أن تقول إنني أنا التي أوقعت نفسي وانك، لم تقع معي؟
- لا. . . أنا لا أريد أن أقول هذا. . . ثم كوني وقعت معك أو لم أقع - هذا شيء، وإنك وقعتِ أو لم تقعي - هذا شيء آخر. . . ومع ذلك، هل وقعت أنا معك؟
- هذا سؤال لا يوجه إليَّ. . . أنتَ الذي تجيب عليه!
- أنا لم أر أحداً أوقع غيره
- كيف. . . مع أنك وقعت مع الواقع!!
- هذا اعتراف آخر
- وهل أنت في حاجة إلى اعترافات؟
- لا. . . ولكنك أنتِ تحبين الاعتراف
- أنا. . .!!
- نعم. . . بدليل أنك تصرحين بها. . .(467/20)
- إنك أنتَ الذي تجعلني أُصرِّح
- الأمر على العكس، أنا لم أطلب منك تصريحاً، فإنني مقتنع بأنك تحبينني. . . كما أنني أحبك. . .!!
- هكذا. . . هكذا. . .!!
عادل - وهل عندك شك في هذا. . . ألم أذكره في أول حديثي في صراحة يعجب لها الكثيرون. . .
سهام - يعجب لها الكثيرون! ولماذا؟
- لأن أغلب الرجال لا يميلون إلى الابتداء بالاعتراف. . .
- وهل تظن أنك بدأت واعترفت!؟
- من غير شك. وقد قلت ذلك في أول كلمة لي معك. . .
- أتحسب هذا اعترافاً؟
- كيف لا؟ وإلا فما هي هذه الصراحة النادرة في مثل هذا الموقف بين رجل وسيدة؟
- عجباً. . . ما هذا التجني على المرأة؟ وهل محرَّم على الرجل أن يبادر ويبوح بحبه؟
- لا. ولكن بالله لا تخرجي عن الموضوع. . .
- إنني أتكلم في صميم الموضوع. . . أليس الحب هو شريعة البشر جميعاً. . . الرجل والمرأة على السواء؟
- نعم
- إذن لماذا هذه التفرقة. . . ألا تعلم أن المرأة والرجل يكمل بعضهما بعضاً؟
- هذا صحيح، ولم ينكره أحد، ولكن ما هي نسبة تكملة الواحد منهما للآخر؟
- سؤال غريب. . . إن الاثنين يتممان وحدة؛ وأما نسبة الواحد إلى الآخر في تكميل الوحدة فهي مسألة ثانوية. . .
- هذا القول يذكرني بأسطورة التفاحة. . .
- أسطورة التفاحة؟!
عادل - نعم. يولد أبن آدم فتقطع له تفاحة، يعطى نصيبه منها، والنصيب الآخر يعطى لمن ستكون شريكته في الحياة، وعندما يتلاقيان ينطبق النصيبان ويلتصق الجنبان(467/21)
سهام - ولكن هيهات أن يجد المرء الجزء الآخر من التفاحة نفسها بسهولة. . .
- إذ كتب له أن يجدها فإنه واجدها ولو كانت هي القشرة. . . ولو كانت كذلك في الطرف الآخر من العالم. . .
- ألهذا الحد تهزأ بالجزء الآخر من التفاحة؟
- يعلم الله ما أنا بهازيء، ولكني أقرر الحقائق وأنا آسف
- إذن على هذا الأساس يجب أن يفسح للحب المجال، فإنه هو عنصر التعارف والتقارب وهو عامل الانطباق والتوفيق
- هذا صحيح، ولذلك لست أرى حرجاً على الرجل في أن يبدأ فيبوح بحبه، فقط يبوح لمن؟
- لمن؟ وهل في هذا خلاف؟ طبعاً يبوح به إلى من احب
- إذن لماذا تنكرين على ما صرّحتُ به لك في أول الحديث؟
- وهل تظن أن هذا اعتراف منك؟
-!!. . . وإلا فما هو؟
- في الواقع لا أرى فيه إلا أنه خطة منك لتأخذ مني أنا الاعتراف. . .
- وهل تظنين يا سهام أنك اعترفت لي بشيء؟
- أتريد مني بهذه الطريقة اعترافاً آخر؟ ألم يكفك سرورك باعترافي السابق، أو بتعبير أصح بوقعتي التي وقعت فيها!. . .
- الواقع أنني مسرور جداً. . .
- أمر عجب!!
- حقاً، إنني مسرور جداً، لأنها حالة أنت ذاتك مسرورة منها. . .
- عجباً. . . ومن أدراك بأنني مسرورة و. . . جداً؟
- أنت. . .
- أنا. . .!
- نعم أنت. . .
- سبحان الله. . . وكيف. . .؟(467/22)
- بنظراتك. . .
- نظراتي!!
- أظنك ستقولين إنها خطة أخرى. . .
- ولكن هل تثق أنت بنظراتي؟
- ثقتك أنت بنظراتي
-!!. . .
- انظري في عينيَّ. ألا ترين عينيك فيهما؟!
-!!. . .
- إنها وحدة الوجود. . .
- وهي لذة الوجود
راشد رستم(467/23)
حنين مسلتين
'
للشاعر الفرنسي تيوفيل جوتييه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
بعد أن تغادر حدائق التويلري المغروسة أمام متحف اللوفر ترى ميدان الكونكورد أجمل ميادين باريس. وفي وسط هذا الميدان الفسيح الحي تنهض إحدى المسلات المصرية، وقد أقيم قريباً منها على الجانبين فوارتان. وإذا وقفت أمام هذه المسلة رأيت عن يمينك المعبد وعن يسارك مجلس نواب فرنسا مطلاً على نهر السين، وأمامك طريقاً يصل إلى غابة بولونيا
منذ زهاء ثلاثة وثلاثين قرناً أنشأ هذه المسلة وأختها إمبراطور مصر رمسيس الثاني، حيث أقامهما عند باب معبد الأقصر، وقد ظلت المسلتان معاً واقفتين أمام هذا المعبد الضخم حتى القرن الماضي حينما أهدى محمد علي الكبير إحداهما إلى ملك فرنسا لويس فيليب، وهي القائمة الآن بميدان الكونكورد، وأما المسلة الثانية فظلت حيث أنشئت وحيدة
أنشأ الشاعر الفرسي تيوفيل جوتييه قصيدتين إحداهما على لسان المسلة الغريبة بباريس، والأخرى على لسان المسلة المقيمة بالأقصر. وتيوفيل جوتييه من أدباء القرن التاسع عشر، ولد في أوائله وبدأ حياته رساماً، ثم ترك ريشة المصور إلى قلم الأديب؛ غير أنه ظل في الأدب رساماً كذلك؛ وهو يرى أن من حق الأدب أن ينافس الفنون الأخرى كالرسم والتصوير والحفر، فيما تتناوله من الموضوعات، وقد حقق فكرته في ديوانه فموضوعاته تصوير لما تراه العين قبل أن تكون تصويراً للإحساس والشعور؛ فتراه يصور لك مثلاً تمثالاً في متحف، أو آنية مزخرفة، أو باريس تغطيها الثلوج، إلى غير ذلك من صور. وهو الذي أذاع نظرية الفن للفنّ؛ فأهم شيء عنده هو الجمال الفني والأسلوب، أما الفكرة والأخلاق ففي المرتبة الثانية. وهو ممن حلّ الشعر من قيود الشخصية، وكان قدوة لغيره في استخدام الأساليب الدقيقة المصورة. ولعلنا نوفق يوماً إلى دراسة مذهبه في(467/24)
الفن، ونقد هذا المذهب
ولم يقتصر تيوفيل جوتييه على قرض الشعر؛ بل له قصص قصيرة، وروايات مطولة، منها رواية كتبها عن مصر، تسمى قصة المومياء، وصف فيها مصر القديمة، حياتها ومجدها. وقصيدتا المسلتين بديوانه الذي تحدثت عنه، وهأنذا أنقلهما إلى اللغة العربية، محافظاً كل المحافظة على ما قصد إليه الشاعر من صور وأفكار
1 - مسّلة باريس
في هذا الميدان أتضجر، أنا المسلة المبعدة عن أختها. الجمد والصقيع والرّذاذ والمطر، برّدت جنبي الذي علاه الصَّدأ
وقمتي المدببة العتيقة التي كانت محمرة في أتون سماء ذات لهب ارتدت الشحوب من حنينها إلى الوطن في جو لا يزرق أبداً
لِمَ لا أقف الآن قريبة من أختي ذات اللّون الورديّ، أمام التماثيل الضخمة العابسة، وأعمدة بيبان الأقصر، غامسة في الزّرقة الدّائمة رأسي الهرمي القرمزي، وكاتبة خُطى الشمس بظلي فوق الرمال.
رمسيس! كاد الخلود يوماً ما يتصدع حين تدحرج جسمي الجميل مقتلعاً كعود من عشب، باريس تتخذه لعبته.
الديدبان الصخري حارس الآثار الضخمة، يقف بين معبد كاذب قديم، وبين مجلس النواب.
فوق مقصلة لويس السادس عشر، أقيم صخر نسي مغزاه، وفيه سرّي الذي نسي منذ خمسة آلاف عام.
العصافير الطليقة تدنس رأسي الذي كان يطير مسرعاً حوله اللقلق الوردي، والصقر ذو الريش الأبيض، والمناسر الذهبية.
نهر السين الأسود، مأوى مياه الطرقات، النهر القذر، المكون من صغار الجداول، دنَّس قدمي التي كان يقبلها عند فيضانه النيل أبو الأنهار.
النيل العملاق، ذو اللحية البيضاء، المحفوف بنبات اللوتس والخيزران، والذي يصب منبعه المنحدر تماسيح بدل صفار الأسماك
العجلات الذهبية المطقمة بأصداف كالنجوم، عجلات الفراعنة العظام الأقدمين، كانت تمرّ(467/25)
بجانبي، أنا المجروحة الكبرياء، برؤية عربة الكراء، مقلة آخر ملوك فرنسا
قديماً أمام حجري العتيق، كان الكهنة الأبرار، وقلانسهم على جباههم، يتمشون في المحراب المقدّس الخفيّ ذي الرّموز المصوّرة المذهبة.
أما اليوم فأنا عمود ليست له قداسة الدين، أقيم بين فوارتين، وتمر بي بنت الهوى صريعة في مركبتها.
أرى طول العام مواكب الموسرين، وأتباع صولون ذاهبين إلى دار النيابة، والفجرة منطلقين إلى غابة بولونيا.
أفّ! في مائة عام أيّ هياكل عظمية قبيحة، سيصير إليها هذا الشعب الماجن المجنون الذي يرقد من غير لفائف، في ناووس يغلقه مسمار!
ليس له تحت الأرض مقابر في مأمن من الفساد، تلك المراقد التي ينام فيها الموتى جيلاً بعد جيل.
أيتها الأرض المقدسة، أرض الهيروغليف، وأرض الأسرار الكهنوتية، حيث آباء الهول تشحذ مخالبها على زوايا قواعد التماثيل
وحيث النواويس ترن تحت الأقدام، وحيث العقبان تبني عشاشها. إنني أبكيك يا مصري القديمة بدموع من جرانيت.
2 - مسلة الأقصر
هأنذي أسهر حارساً وحيداً لهذا القصر الكبير الخرب في وحدة أبدية وأمام اللانهاية، تنشر الصحراء تحت الشمس المحرقة ملاءتها الصفراء إلى أفق لا يحده شيء، أفق مجدب صامت لا نهاية له
وفوق الأرض العارية تبدو السماء - وهي صحراء أخرى زرقاء - نقية تامة النقاء لا تسبح فيها قطعة واحدة من السحاب
النيل ذو المياه الكدرة التي ينعكس الضوء فوق أديمها، كأنما هو قشرة رصاصية - يلمع تحت أضواء عمودية شاحبة، مكسر الصفحة بفرس النهر
والتماسيح الشرهة إلى الأقتناص، تكاد تنضج في جلودها فوق الرمال الملتهبة، تغرب في الضحك، وتخالها ترسل الزفرات(467/26)
واللّقلق: منقاره إلى حوصلته، ساكن فوق قدمه النحيلة يقرأ على قاعدة بعض الأعمدة الألقاب المقدسة للمعبود (توت)
والضبع يضحك، وابن آوى يموء، والصقر كأنه فاصلة سوداء في صفحة السماء النقية - جائع يصرصر، راسماً دوائر في الهواء
ولكن ضوضاء هذا القفر يحجبها تثاؤب تماثيل أبي الهول متعبة من احتفاظها السرمدي بالسكون
ضجر خلقته الأشعة البيضاء، تنعكس فوق الرمال، والشمس المتلألئة على الدوام، وأي ضجر يشبه ما يبعثه نور الشرق الحزين!
هنا الهواء لا يجفّف يوماً دمعة في عين السماء الجامدة، والزمن متعباً يتكئ على هذه القصور الصامتة
ليس عندي ما يغيّر وجه السرمدية، فمصر في هذا العالم الذي يتغير فيه كل شيء، تتربَّع فوق عرش الثبوت
عندما يساورني الضجر، أتخذ الفلاحين والموميات التي عاصرت رمسيس رفقاء وأصدقاء
هأنذي أرى عموداً مائلاً، وتمثالاً ضخماً بلا وجه، وزوارق ذات قلاع بيضاء صاعدة هابطة في النيل
كم أتمنى أن لو كنت كأختي، قد نقلت إلى باريس العظيمة وغرست هناك في ميدان، قريبة منها لأتسلى!
إنها ترى هناك شعباً حيّاً واقفاً يتأمل نقوشها وخطوطها المقدسة التي يسبح الفكر لدى قراءتها في عالم الأحلام. . .
الفوَّارتان المقامتان بجانبها تقذفان رذاذهما الملوَّن بألوان قوس قزح على غبار صخرها القرمزي الذي عاد إليه الشباب. . .
لقد نحتت مثلي من الصخور الوردية بأسوان، غير أنني بقيت في مكاني القديم. إنها حية. . . أما أنا. . . فقد مت!!
(حلوان)
أحمد أحمد بدري(467/27)
غزل الملوك
والقصيدة المنسوبة إلى السلطان سليم
للأستاذ عبد الله مخلص
أراني مديناً بالشكر للأديب الموهوب الأستاذ حسن القاياتي عضو مجلس النواب لاهتمامه وعنايته بالصفحة التي ملأتها من غزل الملوك بالرسالة الغراء. وكنت أتمنى لو أن أعمالي الطويلة العريضة تمكنني من النزول على رأي الأستاذ الكبير والغوص في بحار الغزليين من الملوك والأمراء والتقاط دراريهم اللامعة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله
وأشكر للأستاذين الفاضلين إبراهيم أحمد أدهم ومحمود عزت عرفة ملاحظاتهما القيمة على القصيدة المنسوبة إلى السلطان الدالة على رغبتهما في استكناه الحقائق وخدمة الآداب فأقول:
إن السلطان سليما الأول الملقب بـ (ياوز) هو ابن السلطان بايزيد الثاني وحفيد السلطان محمد الفاتح، وهو تاسع السلاطين العثمانيين وفاتح مصر والشام وبلاد العرب في آسية وأفريقية، وهو الذي نقل الخلافة الإسلامية من بقايا العباسيين في مصر إلى السلطنة العثمانية فجمعت بينهما من أيامه. وقد توفي هذا السلطان العظيم سنة 926 الهجرية الموافقة لسنة 1519 الميلادية
ويقول من ترجم له من المؤرخين إنه كان يقرض الشعر في اللغتين الفارسية والتركية ويأتون على ذلك بشواهد من شعره
إلا أن أحمد بن يوسف بن أحمد الشهير بالقرماني المتوفى سنة 1019هـ 1610م يقول عن السلطان إنه كان يجيد اللغة العربية أيضاً وينظم نظماً بارعاً حسناً
ومن هؤلاء المترجمين نامق كمال المعدود من أعاظم الأدباء والمجددين في الأدب التركي في أوائل القرن الرابع عشر الهجري المتوفى سنة 1305هـ 1887م
فقد قال عن السلطان سليم في صدد إيثاره المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتفضيله اختيار الضرر الخاص في سبيل النفع العام ما تعريبه:
(إن السلطان ضحى بنديمه يوسف الذي كان أعز عليه من نفسه، والذي أعلن حبه له وافتتانه به بالأشعار الرائقة التي نظمها فيه ومنها:(467/29)
لولا الإله وحرّ نار جهنم ... لعبدته وسجدت بين يديه
ضحى به في سبيل مقاصده بعد ما أحبه حباً يقرب من العبادة، وأظهر من بعده الصبر الجميل
فهذا البيت المفرد من القصيدة هو الدائر على الألسنة إلى الآن، وهو الذي حملني على نسبة القصيدة بتمامها إلى السلطان سليم
أما المخطوط الذي نقلتها منه فهو ينسبها إلى السلطان أحمد، ومن واجب الأمانة أن أنقل هنا عنوانها وهو: (ومما نظمه المرحوم المغفور السلطان بن السلطان السلطان أحمد خان)
أما السلطان احمد الأول بن السلطان محمد الثالث فقد كان من السلاطين الذين دافعوا عن البلاد وذادوا عن حياضها، وقد كان ينظم الشعر في اللغتين العربية والفارسية وقد توفي سنة 1026هـ - 1617م
وإذا اعتبرنا أن المخطوط الذي نقلنا منه القصيدة قد أُلف في سنة 1042هـ أي بعد وفاة السلطان (أحمد) بستة عشر عاماً فيكون مؤلفه أقرب إلى الزمن الذي عاش فيه صاحب القصيدة؛ ويجب علينا أن نقرّه على نقله وأن نقول: إن هذه القصيدة هي للسلطان احمد لا للسلطان سليم ما دمنا لا نجد مستنداً لمدعانا سوى البيت الذي استشهد به نامق كمال. وهذه هي القصيدة التي نسبها محمد المحّبي المتوفى سنة 1111هـ 1699م إلى السلطان أحمد:
ظبي يصول ولا اتصال إليه ... جرح الفؤاد بصارميْ لحظيه
ما قام معتدلاً وهزّ قوامه ... إلا تهتكت الستور عليه
يسقي المدامة من سلافة ريقه ... ويخصّنا بالغنج من جفنيه
عيناه نرجسنا وآس عذاره ... ريحاننا والورد من خديه
يا شعر في بصري ولا في خده ... إني أغار من النسيم عليه
عجبي لسلطان يعزّ بعدله ... ويجور سلطان الغرام عليه
لولا أخاف الله ثم جحيمه ... لعبدته وسجدت بين يديه
وأنت ترى أن هذه القصيدة تتألف من سبعة أبيات بينا القصيدة التي نقلناها من المخطوط ونشرت في العدد 462 من الرسالة الغراء هي أحد عشر بيتاً مخمّساً.
أما قصيدة طلائع بن رزيك الملقب بالملك الصالح من وزراء الدولة الفاطمية بمصر(467/30)
المتوفى سنة 556هـ 1160م فهي:
ومهفهف ثمل القوام سَرَت إلى ... أعطافه النشوات من عينيه
ماضي اللحاظ كأنما سلت يدي ... سيفي غداة الروع من جفنيه
قد قلت إذ خطّ العذار بمسكةٍ ... في خدّه ألفيه لا لاميه
ما الشعر دبّ بعارضيه وإنما ... أصداغه نفضت على خديه
الناس طوع يدي وأمري نافذ ... فيهم وقلبي الآن طوع يديه
فاعجب لسلطان يعمّ بعدله ... ويجور سلطان الغرام عليه
والله لولا اسم الفرار وإنه ... مستقبح لفررتُ منه إليه
وسواءً أكانت القصيدة للسلطان سليم كما ظن قبلاً أو للسلطان أحمد كما ترجح معنا الآن، فإن معانيها مقتبسة من قصيدة الملك الصالح، بل إن الرابع والخامس والسادس من أبيات هذه القصيدة قد نقلت بالحرف تقريباً، فلا وجه لاعتبار ذلك من قبيل توارد الخاطر ووقع الحافر على الحافر.
وبإضافة تلك الأبيات الثلاثة مع البيت القائل:
يا طيب ليلتنا ونحن بمجلس ... نهض الحبيب لنا على قدميه
إلى القصيدة الأصلية أصبحت أحد عشر بيتاً.
بقي علينا معرفة الذي خمس القصيدة وزاد فيها تلك الأبيات. وجواب هذا السؤال وارد في المخطوط من أنها للسلطان أحمد فيكون هو نفسه قد خمّسها بعدما زاد عليها تلك الأبيات وبينها أبيات الملك الصالح الثلاثة
أما القول بأن السلطان سليماً لم يؤثر عنه نظم الشعر بالعربية ففيه نظر؛ لأن المؤرخين يذكرون أنه عندما عاج بحماة الشام في طريقه إلى مصر وحل ضيفاً مكرماً في الزاوية القادرية ارتجل بيتين من الشعر في مدح بني الكيلاني من أحفاد عبد القادر وكتبهما في جدارها. ثم إنه عندما سمع خرير مياه نهر العاصي وصرير أخشاب النواعير التي تنتشل ماء النهر كأنها تئن نظم بيتين آخرين البيت الثاني منهما هو:
وإني على نفسي لأجدر بالبكا ... إذا كانت الأخشاب تبكي على العاصي
أما البيتان اللذان خطهما بيده على مقياس الروضة، فهما ليسا له، بل هما من قصيدة لأبي(467/31)
العلاء المعري هي:
الموت ربع فناء لم يضع قدما ... فيه امرؤ فثناها نحو ما تركا
(والملك لله من يظفر بنيل غنى ... يردده قسراً وتضمن نفسه الدركا)
(لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق التراب لكان الأمر مشتركا)
ولو صفا العقل ألقى الثقل حامله ... عنه ولم تر في الهيجاء معتركا
إن الأديم الذي أَلقاه صاحبه ... يُرضى القبيلة في تقسيمه شُركا
دع القطاة فإن تقدر لفيك تَبِت ... إليه تسري ولم تنصب لها شَركا
وللمنايا سعي الساعون مذ خلقوا ... فلا تبالي أَنصَّ الركب أم أَركا؟
والحتف أيسر والأرواح ناظرة ... طلاقها من حليلٍ طالما فُركا
والشخص مثل نجيب رام عنبرة ... من المنون فلمّا سافها بركا
في حين أن قطب الدين الحنفي المتوفى سنة 990هـ - 1582م يقول:
ورأيت بيتين بالعربي بخطه (أي خط السلطان سليم) الشريف كتبهما في علو المقياس في الكوشك الذي أمر ببنائه لما افتتح مصر وسكن الروضة قد انمحى لطول الزمان مداده، ومال إلى لون البياض سواده، وكان هذا الكوشك محترماً مقفلاً لا يصل إليه أحد لعظمة بانيه، ولا يتبذل بالدخول إليه لعظمة راعيه، فدخلت إلى مصر في سنة 943، وكان يوم كسر النيل السعيد ففتحوا هذا الكوشك لبكلر بكى مصر يومئذ خسرو باشا وكنت مصاحباً لمعلم مولانا عبد الكريم العجمي، فطلع وأطلعني معه في صحبة خسرو باشا المذكور، فرأيت على الرخام الأبيض كتابة خفية لا تكاد تظهر إلا بتأمل هذين البيتين:
الملك لله من يظفر بنيل مني ... يردده قسراً ويضمن من بعده الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق التراب لكان الأمر مشتركاً
وكتبه سليم بذلك الخط والقلم. ولعمري إن كان هذان البيتان من نظم المرحوم فهما غاية في البراعة، ونهاية في التمكن من الصناعة، فيدل على تمنكه - رحمه الله - في اللسان العربي أيضاً، لأنهما من أعلى طبقات الشعر العربي البليغ المنسجم؛ وإن كان قد تمثل بهما وهما لغيره، فهذه أيضاً مرتبة علية في حسن التمثيل وحسن الاستحضار وفهم الأشعار العربية وذوقه لها، وهذا القدر يستكثر على علماء الروم (أي العثمانيين)، وعلماء العجم(467/32)
المكبين على علوم العربية فضلاً عن سلاطينهم المشغولين بضبط الممالك وفتحها؛ والفائقون في ذوق الشعر العربي وحسن آدابه من العلماء والموالي في غاية القلة معدودين منهم، ولا يُعدّ هذا نقصاً فيهم، لأن فهم الشعر العربي على وجهه كما ينبغي قليل أيضاً في علماء العرب، إلا من توغل منهم في الأدب، وتعب في تحصيله ودأب
ويقول القرماني:
ولما كان (أي السلطان) بمصر كتب على رخام في حائط القصر الذي سكن فيه بخطه فقال: ونقل البيتين السابقين وقال محمد عبد المعطي بن أبي الفتح بن أحمد بن عبد الغني بن علي الاسحاقي المتوفى سنة 1032هـ 1622م ما قاله قطب الدين الحنفي وكأنه نقله عنه.
أما نامق كمال المتقدم ذكره فيقول عن هذين البيتين ما تعريبه:
لما ولي السلطان سليم الملك أنشد القطعة الشعرية التالية وهي من بنات أفكاره، وسجد أمام العظمة الإلهية معلناً عجزه ومسكنته فقال:
الملك لله من يظفر بنيل مني ... يرد قهراً ويهوى نفسه الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق التراب لكان الأمر مشتركا
وقد نقلنا البيتين المذكورين لوجود بعض المباينة في البيت الأول بين قول أبي العلاء المعري وبين ما نقله قطب الدين الحنفي والقرماني ونامق كمال.
هذا ما استطعت الإلمام به من أمر القصيدة المنسوبة إلى السلطان سليم بسطته للقارئ الكريم، وفوق كل ذي علم عليم
عبد الله مخلص(467/33)
أكذبيني
للشاعر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد
اكذبيني مرة أو فاكذبيني مرتين
ألفُ ألفٍ من أعاجيبك في غش ومين،
لن تُبيد الفارق الخالد يا قرة عيني
والسموات التي بينك في اللب وبيني
اكذبيني واكذبيني ... كلما شئت اكذبيني
ما غناء اللب عندي ... إنْ أَبَى أن تخدعيني؟
أنا في ثروةِ وفرٍ ... منه مهما تسلبيني
أنقصيها. . . أي ضير؟ ... درهماً أو درهمين!!
عباس محمود العقاد(467/34)
اجتماعيات
الحسن المبتذل. . .
للأستاذ حسن القاياتي
لقد أبدعَ الْحُسنُ حتى مَلكْ ... وَرَقَّ لَهُ الطُّهْرُ حتى هلكْ!!
تَسَامَى إلى الغيدِ كلُّ الْعُيون ... كأَنَّ الجمال بدا من فلكْ
مَضَى الْجَهْلُ يَقْرِي غَوِىَّ الْجَمَالْ ... كضيفِ الجراثيم عند الحلكْ
بَنَاتُ الْهوى ما بناتُ الهوَى ... حَلِيٌّ يُبَاعُ وَلاَ يَمْتَلَكْ!!
بِمَنْ أَنزل السحرَ سحرَ الجفونِ ... بعينيكَ يا بدرُ مَنْ أَنزلكْ؟!
تُبيحُ الغريرةَ بذلَ الضنين ... فتحنُو عليك بما ليس لكْ
سَلِ الْغُصْنَ مَالَتْ بِهِ الْمُصْيِبَاُت ... أَلمْ تأْسَ للزَّيْغِ إذ مَيَّلَكْ؟!
فَدَيْتُكَ يَا غُصْنُ أَنَّي هَويتَ ... وَباللهِ يا زهرُ مَنْ أَذْبلكْ؟!
إذا قمتَ يا وردُ في العابثين ... تلهَّى ببذلك مَنْ قَبَّلَكْ. . .
إذا فُجِعت حُرَّةٌ في العفاف ... فقيلَ: البغيُّ لطُهْرِ الْمَلَكْ!
هُوَ الْحُسْنُ يُلْثَمُ لَثمَ الْكؤوس ... ويؤْكل بالعذل أو يُعْتلَكْ
أعصرُ الْهَوَى مَثُلَتْكََ الْفَتَاةُ ... فَمَالُكَ تُزْرِي بِمَنْ مَثُلَكْ؟!
إذا كنتَ يا نبتُ صُنْعَ الزَّمانْ ... تَبَنَّاكَ لِلْغَيِّ أو عَدَّلَكْ
يَذُمُّ الغَوِيُّ سَبايا الغواة، ... نَبِيَّ الطهارة مَنْ أَرْسَلَكْ؟!
أَتبكي عَلَى الْحُسنِ إذ يَسْتَبِيكَ ... وَتُنْحِى عَلَى الْحُسْنَ إِذْنَوَّ لَكْ؟!
بِوُدِّكَ أَنَّ الْهَوَى كالْهَوَاءِ ... تَرِفُّ بِهِ الرُّوحَ أَنَّى سَلَكْ!
أَبِيحَ الْهَوَى فاستباحَ الَقلوبَ ... تباركْتَ يا حُسْنُ ما أَعْدَلَكْْ؟!
جمالَ الأَبِيَّاتِ كم تَسْتَطِيلُ ... تَحنَّنْ رَعَاكَ الذي عَدَّلَكْ!
بنفسِيَ ما أجمل التائهات ... وإن قلتُ: يا وَصْلُ ما أجملك!
شكاةُ الخرائد أَسْرُ الحجال ... فِدَاؤك يا حُسْنُ مَنْ عَطَّلَكْ!
إذ مُلِكَ الْحُسْنُ هَدَّ الْفؤادَ ... مَلالاً ويا طيبه إنْ مَلكْ!!
القاهرة: السكرية(467/35)
حسن القاياتي(467/36)
العودة إلى مسقط الرأس
(للامرتين)
للأستاذ علي شرف الدين
نعم عدتُ يا دَاريَ الغاليهْ ... ومهد طفولتيَ الخاليهْ
أعيشُ بظلِّك ما قد حييتُ ... لأقضِيَ أياميَ الباقيهْ
بعيداً عن المدن الصاخبات ... فثروتُهَا خُدعةٌ فانيهْ
نشأتُ من المهْدِ بين الرُّعاةِ ... أحِنُّ إلى الغنمِ الثَّاغَيِهْ
وأتبع في السهل ضِلَّ الخراف ... على هَدْى آثارها الباديه
أُتابِعُهَا خُطْوَةً خُطْوَةً ... إلى النجم في القبة الحاليهْ
ولي مِثلهُمْ في رَوَاح القطِيع ... أَغانِيُّ هاتفةُ شاديه
وأَغْسِلُ من بيضِ أصوافِهَا ... على ضفَّةِ البركة الجاريه
وأَصْبُو إلى هَزَجاتِ المساءِ ... تُبدِّدُهَا ريحُهُ السَّارِيَةْ
وأصغي إلى عرباتِ الحقول ... فأسمعُ ضجتَهَا النَّائيه
قسا حِمْلها فوق أعطافِها ... فناحَتْ بأجمالها القاسيه
أَحبُّ الرَّنينَ الأصمَّ الجميلَ ... لأِجْراسِ حُمْلانها الراعيه
تصلُّ هُناكَ بأعْناقها ... من الغاب، أو ذِرْوَةِ الرابيه
فيا وطني، لا عَدَتْني بكم ... ظِلالٌ مقدَّسةٌ واقيه
وصفصافة كلِّلَتْ بالنَّدى ... فتشهد أغْصانَهَا باكيه
بكَتْ تِرْبَهَا حينَ طال الغيابُ ... فجادَتْ بأدْمُعِهَا شاكيه
فيا سَرْحَتِي هَوِّني من شجاكِ ... وَأَحْنِى مِنً الْغُصُنِ العاليه
على غائبٍ كنتِ تبكينَهُ ... فعادَ لأوطانه ثانيه!!
علي شرف الدين(467/37)
البريد الأدبي
عدد الرسالة الخاص بالعراق
تُحسن (الرسالة) غاية الإحسان بما تتهيأ له من إصدار أعداد خاصة عن الأقطار العربية الشقيقة؛ فتلك لعَمري أجل خدمة تؤديها هيئة أو فرد، لنصرة هذه اللغة الشريفة، وإذكاء روح الوحدة والتعاون بين شعوبها التي ناء بها الضعف، وأذهب ريحَها التفرقُ والخذلان.
و (الرسالة) أقدر (هيئة ثقافية) على الاضطلاع بهذا العمل الذي تعرضت له؛ بل لا نغالي في الزعم بأنها تبلغ من هذا أضعافَ ما قد تبلغه (هيئة سياسية) تقيِّدها الرسميات، وتحوط عملها العراقيل الظاهرة والخفية. . . وشتان ما بين القوتين: قوة الأدب في صراحته ونفوذه وسلامة مقصده، وقوة السياسة في التوائها وتنكرها وتستر أغراضها ومراميها. . .
على أننا نحب - وعدد العراق بسبيل الإعداد - أن نوجه أنظار أدبائنا الأفاضل ممن سيتاح لهم الاشتراك في تهيئة هذا العدد إلى وجوب الإطناب في تاريخ العراق الحديث حتى يتهيأ لكل عربي طُلَعةٍ أن يعرف عن حياة العراق الاجتماعية والسياسية والأدبية والاقتصادية والعمرانية. . . ما فيه الغَناء. نحب أن نعرف عن بغداد فيصل وغازي مثل ما نعرف عن بغداد أبي جعفر وهرون، إن لم يكن أكثر؛. . . ولتكن محاسن نهضة العراق الحديثة موضعَ كلام كثير؛ ولكن لتذكروا لنا أيضاً بعض المساوئ التي قد تأخذها العين؛ ففي ذلك نفع للعراق وخدمة للعرب جميعاُ.
ولا نحب بذلك أن ترك الماضيَ إلى هذا الحاضر الحافل المتشعب، فماضي العراق وتاريخ دُوَله مما تلذّ لنا قراءته في كل وقت؛ لأنه تاريخنا جميعاُ: تاريخ حضارتنا وديننا ولغتنا وقوميتنا؛ وصورةٌ من مجدنا الذي نصبو إليه مخلصين، ونهفو إلى استعادة ذكرياته والتأسي بعبَرة، حتى تأذن لنا الأيام بأن نستعيد مفقوده ونحيي موءوده.
. . . . فلنقرأ من خير هذا الماضي وشره ما يعيننا على إدراك حقائق الحاضر حتى نعرف فيه طريقنا ونتميز موقفنا. . .
وأخيراً نسأل أدباءنا، ولتكن أجوبتهم على ذلك في العدد الخاص: أين من يعقد لنا مقارنة بين بغداد القديمة والحديثة (مع خريطتين لهما)؟
أين من يحدثنا عن آثار العراق الباقية إلى اليوم، والتي قد تُتاح مشاهدتُها لمن يزوره؟(467/38)
أين من يذكر لنا مشاهده المأثورة وقبوره المشهورة؟
أين من يذكر لنا لهجاته القديمة والحديثة؟
أين من يصف لنا أزياءه وما مرت به من أطوار وتغيرات؟
أين من يحدثنا عن خصائص شعبه في غير تمويه، وعن أنظمة حكومته في غير تعقيد، وعن جميع مواهبه ومقوماته في غير تحيُّف ولا مغالاة؟
أين من يطوي بنا المكان والزمان إلى حاضر العراق وغابره فنراهما ونعيش فيهما، ونتحدث عنهما حديث الواثقين العارفين؟
أين من يفعل ذلك كله؟
أين؟ أين؟. . . كما يقول الدكتور الجليل زكي مبارك، الذي نقترح عليه أن يحدثنا عن كل شيء في العراق سوى (ليلى المريضة). . . فقد آن لها - وحق أدبه الرفيع - أم تشفى!
(جرجا)
محمد عزت عرفة
رجع إلى ديكارت وابن يعيش
قرأت في العدد 465 من الرسالة كلمة قيمة للأستاذ (محمد خليفة التونسي) استهلها بالرد عليّ فيما قلته في العدد 463 من أن أبن يعيش سبق ديكارت إلى الشعور بالفكرة التي بنى عليها أبو الفلسفة الحديثة منهجه الموصِّل إلى اليقين بعد الشك، ومن أن ديكارت عمل ما لم يعمله ابن يعيش فصاغ هذه الفكرة في منهج فلسفي فكان هذا الفرق بينهما.
استهل الأستاذ كلمته بالرد عليّ فيما قلته؛ فقال إن ابن يعيش لم يكشف مذهباً فلسفياً، لأنه كان يناقش تركيباً عربياً من حيث معناه، ولأنه لم يجُلْ بفكره أن يقف عند هذه القضية قليلاً ولا كثيراً، فليس الفرق أن ديكارت صاغ وابن يعيش لم يصغ
وأنا أشكر للأستاذ عنايته بتمحيص ما قلت، ولكنني أرى أنه فهم كلامي على غير الوجه الذي قصدتُ، ومال به إلى غير الطريق الذي نهجت، فظن أنني أريد أن أقول إن ابن يعيش كشف مذهباً فلسفياً.
ففي الحق أنني ما أردت أن أقول ذلك، وما خطر لي ذلك ببال، فابن يعيش رجل نحوي(467/39)
قبل كل شيء، وهو في قوله لم يحاول مطلقاً أن يثبت وجود نفسه لأنه ما شك مطلقاً في وجود نفسه، وإنما كان - كما يقول الأستاذ - يناقش تركيباً عربياً من حيث معناه.
إنما أردت أن أقول إن الفكرة التي بني عليها ديكارت مذهبه وهي أن في تفكيره المرء برهاناً على وجوده قد شعر بها ابن يعيش مجرد شعور فقال في عرض كلام له عن تركيب عربي إن في علم المرء برهاناً على وجوده.
ففكرة ديكارت قريبة الشبه من فكرة ابن يعيش وأن لم تكن هي ذاتها. وذكره لها في عرض كلامه النحوي معناه أنه لم يصغ هذه الفكرة في منهج فلسفي. وما كان غرضي مما قلت أن أهزّ مؤرخي الفلسفة هزاً عنيفاً لينتبهوا إلى أن ابن يعيش سبق ديكارت في منهجه الذي انتقل به من الشك إلى اليقين، وإنما قصدت إلى أن أعرض مثالاً طريفاً لتوارد الخواطر بين الشرق والغرب.
فهذا تفصيل ما أجملت، لعله يوضح ما أنبهم ويفسر ما استسر
على أنني لا أود أن أترك القلم قبل أن أنبه الأستاذ إلى أن ابن يعيش - كغيره من النحويين المتأخرين - كان يعيش في بيئة فلسفية كلامية، فتأثر - كما تأثر هؤلاء - بهذه البيئة في منهج تفكيره وفي عرض تفكيره، وهذا يتضح لمن يقرأ في شرحه على المفصل.
وقصدي من هذا الكلام أن أنص على أنني وإن لم أحمل كلامه السابق على أنه كلام فلسفي إلا أنني أشم فيه رائحة فلسفية وألمح فيه مخايل التفلسف.
فهذا ما جوز لي قرن ديكارت بابن يعيش
وللأستاذ مني تحية صادقة.
السيد يعقوب بكر
إلى من يعنيهم الأمر في وزارة المعارف
لفت نظري أثناء مطالعتي ما جاء بالجزء الرابع من كتاب المقرر تدريسه لطلبة السنة الرابعة بالمدارس الابتدائية تأليف , و , المطبوع في مصر في 4 أغسطس سنة 1936 بالصفحة رقم 121 أثناء كلامهما عن الإسكندرية) قولهما: إن عمراً (بن العاص) عندما وصل إلى الإسكندرية على رأس جيشه الذي سلمه قيادته الخليفة عمر بن الخطاب(467/40)
في سنة 642 عمد إلى تخريب كثير من مبانيها كما أحرق مكتبتها في ثلاثة وثمانين ومائة يوم. وهو ما يأتي بنصه:
641 , , 183
واتهام عمرو بإحراق مكتبة الإسكندرية لم يكن سوى فرية قررها بعض المؤرخين لم تعدم من المنصفين من يفندها ويظهر زيفها. وإنه ليصعب على المرء أن يصدق هذه الفرية التي افتراها بعضهم على عمرو والعرب مع ما اشتهر عنهم من حبهم للعلوم وترجمتهم لآداب وفنون كثير من الدول الأجنبية عنهم والمخالفة لهم في اللغة والدين والجنس
وما دامت هذه الفرية لا تزال تتأرجح بين الإثبات والنفي والتقرير والتكذيب، فقد كان من الواجب حذفها من الكتاب خشية رسوخها في أذهان صغار الطلبة الذين يأخذون مثل هذا الكلام المرسل على عواهنه قضية مسلمة ويحسبونه من الحقائق الثابتة وهو محض اختلاق؟
هل تراجع مثل هذه الكتب في وزارة المعارف مراجعة دقيقة، أم أن المسئولين في وزارة المعارف لا يرون في مثل هذه الكتب ما يستحق عناء المراجعة والاهتمام؟
(الإسكندرية)
أحمد عبد اللطيف الحضراوي
الأدب بين الشيوخ والشبان
أذكرتني تلك الكلمات الرصينة التي تدبجها براعة الأستاذ الزيات في صدر رسالته، كما أكرتني كذلك ثورة الكاتب الكبير العقاد على الشاب الأديب الذي كتب إليه يقول له: (إنكم لا ترشدوننا، ولا تأخذون بأيدينا). . . بذلك العنوان
والخصومة بين الشيوخ والشبان، أو الشبان والشيوخ، خصومة قديمة يرجع تاريخها إلى عهد بعيد
وكان الظن إذا ثارت خصومة أدبية بين (الشبان والشيوخ) أن تكون على شاكلة تلك الخصومة التي كانت بين (الهمذاني والخوارزمي) والتي انكشف القناع فيها عن أن (الهمذاني) هذا شاب جدير بإكبار الشبان واحترام الشيوخ، إلا أن شبابنا - كما يقول(467/41)
(شوقي) - قُنَّعَ لا خير فيهم. . .
وأحب أن ألفت الذهن إلى أن الشيوخ كذلك قضت عليهم الزمانه، وقتلهم حب الظهور، فاكتفوا من الأدب بطنين اللقب وناموا إلى ذلك. ولا يعنيهم - حين يكتبون - أصابوا أم خابوا، ما دام لهم شهرة، ولقلمهم رواج
إبراهيم علي أبو الخشب
إلى الأب أنستاس الكرملي
بمناسبة ما سجله العلامة الفاضل الأب أنستاس الكرملي بمجلة (الرسالة) العدد (464) عن كلمة (المطمورة) العربية الخالصة يجدر بنا أن نقول: إن استعمال هذه الكلمة لم يختص به أهل العراق فحسب، وإنما ينطق بها أهل السودان أيضاً
وأهل السودان لا يعنون بها (ما يتخذ لحفظ الطعام إن كان على وجه الأرض أو كان على خارجها)، كما يفعل أهل العراق، وإنما يقصدون بها إلى المعنى الذي نصت عليه قواميس اللغة وهو: (المطمورة: حفرة يطمر فيها الطعام: أي يخبأ (ج) مطامير)
أما ما يتخذ لحفظ الطعام خارج الأرض، أو ما يكاد يعبر عنه قول الأب الفاضل: (أما إذا كان فوق الصعيد، فإن أصحابه يجعلونه جرة عظيمة، ثم يسنمونها على هيئة مخروط ثم يسيفونها ويصمدونها حتى إذا نزلت بها نوائب الجو من مطر وبرد وثلج ورياح قاومتها أحسن مقاومة، ودفعت أضرارها إلى أحسن الوجوه)؛ فإن أهالي السودان يعبرون عنه بكلمة (السِّوَيبهْ)
وعلى ذكر هذه الكلمة (السوبيه)، نتقدم بها إلى الأب الفاضل راجين منه أن يتفضل ويرشدنا: هل لهذه الكلمة أصل في اللغة العربية بما يفيد هذا المعنى الذي يقصد إليه بها أهل السودان، أو ما يقرب منه؟
(الأبيض - سودان)
عبد الرحمن أحمد سعد(467/42)
العدد 468 - بتاريخ: 22 - 06 - 1942(/)
مثل المصرية الحديثة
- 1 -
لا تزال السيدة و. . . على العهد بها طاهرة القلب حاضرة اللب
ساحرة الحديث حرة الفكر، لا تختلف وهي عقيلة تدبر البيت وتدير
المزرعة، عنها حين كانت معلمة تسوس الفصل وترأس المدرسة، ولا
يزال بهوها الجميل يستقبل في مساء الخميس من كل أسبوع نفراً من
خليط الخاصة فيهم الأديب والطبيب والمحامي والجندي والفلاح
والواعظ، وكلهم إما قريب أو صديق أو صهر
والسيدة و. . . مثل صادق للمصرية الحديثة حين تراها في ثوبها الأنيق، المحكم على قدها الرشيق، تتخذ من البهو مكان القلب، فترسل الدم بالحياة والنشاط والرغبة والبهجة إلى كل عضو من أعضاء المجلس
جمال السيدة فاتن؛ ولكن جلال الحشمة فيه يكف عنه النظر الشهوان فيقف على حدّ الإعجاب به
وأدب السيدة رائع؛ ولكن روعته آتية من قوة الذكاء لا من سعة الإطلاع؛ فهي ترى الرأي في بعض معاني الأدب فتحسبه من إلتماع الذهن فيه عالي النمط، وهو في حدود الوسط
وعلم السيدة دون الكفاية؛ ولكنها ترفده بقليل من الدعوى المقبولة، فترفعه المبالغة منها والمجاملة منك إلى المستوى اللائق بالمرأة المثقفة
وذوق السيدة رفيع؛ ولكنه ذوق الأنوثة الموهوب لا ذوق الحضارة المكتسب؛ أرهفته بالقراءة، وصقلته بالمران، حتى أوشك أن يكون من خلالها الأصيلة يصدر عنه ما يصدر عن الطبع السليم من حسن الاختيار وجمال التنسيق وصحة المواءمة.
وزوج السيدة طبيب؛ ولكنه يعمل في عيادته عمل المنهوم بالعلم والمال؛ فهو لا ينفك طول يومه بين تفريق (التذاكر) وجمع النقود ثم لا يعلم من دنياه شيئاً بعد ذلك. فهي التي تدبر المنزل وتدير العزبة وتربي الأولاد وتنمي الثروة وتراجع البنك وتعامل الناس، ثم تجعل من بيتها ومكتبتها وحديقتها جنة يسكن إليها زوجها المكدود وولدها المجهود وقريبها(468/1)
المكتئب وزائرها المتطلع
قد يكون لمزاولتها التعليم في شباب العمر بعض الأثر في تكوينها على هذه الشيمة من حسن الإدارة وحب النظام وبراعة الحيلة ولطف المداخلة؛ ولكن المرأة المصرية على الجملة تبذ الرجل في هذه الخلال متى سلمت فطرة الله فيها من بطر النعمة وزيف التربية وسوء المحاكاة
زرت ندَّيها في يومها المختار فوجدته حافلاً بمن يندون إليه في العادة من الأقارب الأدنين والأصدقاء الخلَّص؛ وكانت هي حين أخذت مجلسي تناقل المحامي حديث السياسة، وزوجها يساجل الواعظ حديث الدين، وكان الضابط البطين والفلاح البدين يلقيان السمع إلى هذين مرة، وإلى ذينك أخرى تبعاً لارتفاع الصوت واشتداد الجدل. وكان محضر السيدة في الصالون، ورشاقتها في الإشارة، ولباقتها في الحديث، وتجلي ذوقها وروحها في طراز الأثاث، وطرافة ألوانه، وانسجام قطعه، وحسن توزيعه، كان كل أولئك قد غمر الجالسين بشعور من السمو لم يألفوه، فرقت الأصوات، واتَّأدت الحركات، واتزنت الكلمات، وسما كل شيء في كل نفس. وللزي الذي ترتديه، وللمكان الذي تجلس فيه، وللرجل الذي تتحدث إليه، أثر في نفسك يصدر عنه الفعل مطابقاً للحال التي أحدثته
قالت لي السيدة وقد ترامى بنا الحديث إلى أثر المرأة في الإصلاح ومكانها في الأدب:
- ما بال فلان وفلان يحبان أن يُذكر بمعاداة المرأة وما أظنها وقعت في حياتهما موقع العائق عن إنتاج أو إصلاح أو سعادة؟
فقلت لها: ذلك في رأيي ضرب من الحب ونمط من الغزل! أما دعوة أحدهما إلى استعبادها فلأنه شقي في الحصول عليها، فهو ينتقم منها انتقام الصائد الأرعن من الطائر المسحور. وأما دعوة الآخر إلى استعبادها فلأنه يئس من الوصول إليها، فهو يزهد فيها زهد الفأر الأبتر في قدرة السن. والمثّلان معروفان!
فقالت: إذن لو كان نصيبهما من المرأة خيراً مما كان، لأصبحت حواء خيراً من آدم، ولكانت المرأة المصرية خيراً من المرأة الأوربية! وهنا ابتدرني الواعظ إلى الكلام فقال:
- لا يجوز في الدين ولا من العقل أن تكون حواء خيراً من آدم. ذلك أنها خلقت من ضلع أعوج، فمن طبيعتها ألا تستقيم. وما لا يستقيم لا يصدر عنه استقامة ولا عدل. ولو أن الله(468/2)
أراد لها غير ذلك لخلقها من رأس آدم فهيمنت عليه، أو من إحدى جوارحه فسعت معه
فقالت السيدة: ولم لا يكون لخلقها من ضلع آدم حكمة أخرى يا أستاذ؟ أليس في خلقها من أحناء صدره تعيين لوظيفتها وتوجيه لرسالتها؟ إن حنوها على الزوج والولد، كحنو الضلوع على القلب والكبد. والأسرة التي تشبل عليها المرأة هي العضو الرئيسي في جسم الأمة، كما أن الأجزاء التي تشبل عليها الضلوع هي الأعضاء الرئيسية في جسم الإنسان
قال الطبيب: معنى ذلك أن عمل المرأة لا يتعدى المنزل
فقالت السيدة: وهل ذلك يسير؟ إن المنزل عالم أصغر ينطوي فيه العالم الأكبر. وإذا كانت الأمة هي الأسرة مكرَّرة، والوطن هو الدار مكبَّرة، فإن المرأة القائمة على شؤونهما لتحتاج من الثقافة والحصافة ما يحتاجه رجل الدولة. إن في البيت حجرة طعام، وغرفة نوم، وبهو استقبال، وقاعة مكتبة، وحديقة زهر، ولكل مكان من هذه الأمكنة ثقافة خاصة لابد للمرأة الصالحة أن تحذقها جميعاً
ومضت السيدة في حديثها العذب تفصِّل هذا الأجمال، والطبيب والمحامي يصغيان إصغاء الإعجاب، والضابط والفلاح ينظران نظر العجّب؛ أما الشيخ فقد كان همه كله من هذا الحديث، أن يرقب اتفاقه أو اختلافه مع القرآن والحديث
(للحديث بقية)
أحمد حسن الزيات(468/3)
طلائع هجوم الصيف
رجال الأدب ورجال القضاء
(ما رأي الأستاذ الزيات والأستاذ العقاد في موضوع هذا
الحديث؟)
للدكتور زكي مبارك
أشرت فيما سلف إلى خطأ الأستاذ توفيق الحكيم حين (منَّ) على الأدب بأنه هجر من أجله القضاء، فقد كان (وكيل نيابة)، وكان يستطيع بقليل من الصبر أن يصير من القضاة المحترمين، على حدّ تعبيره الجميل!
ولو أن هذا (المنّ) صدّر عن رجل غير توفيق الحكيم، لكان من السهل أن نضيفه إلى العامية الفكرية، والأفكار كالناس فيها عوام وخواص، فلم يبق إلا أن نحكم بأن ذلك (المنّ) هفوة قلم وقع فيها توفيق الحكيم وهو يحاور طه حسين
وقبل أن أواجه موضوع هذا الحديث، أُسجِّل أن رجال القضاء في مصر أقاموا أُلوف البراهين على أنهم من أرباب الفكر المُشرق، وأن نزاهتهم فوق الأوهام والظنون
ولكني مع هذا لا أقبل القول بأن رجال القضاء أرفع منزلةً من رجال البيان، وما يسيغ ذهني أن يكون في خلق الله من يتفوق في الرفعة والشرف على صاحب القلم البليغ
ثم أواجه الموضوع فأقول، على أي أساس يقوم القولّ بأن رجال القضاء أعلى من رجال البيان؟!
أيكون الأساس هو الفرق بين تكوين القاضي وتكوين الأديب من النواحي العقلية والذوقية والروحية؟
إن كان ذلك هو الأساس، فنقضُه أسهل من السهل، والقضاة أنفسهم يعرفون أن تكوين الأديب من أخطر المعضلات، وأن الله قضى بأن تكون دولة القلم إلى آحاد، ولو كانت تلك الدولة في أمة يعد أفرادها بمئات الملايين
إن من حق كل متخرج في كلية الحقوق أن يكون من رجال القضاء، وليس من حق كل متخرج في كلية الآداب أن يصير من رجال البيان، لأن للأدب شرائط أساسية، ومن تلك(468/4)
الشرائط أن يكون المرشح للأهلية الأدبية له قلب وذوق وروح، وكلية الآداب هي التي تنطق بهذا الحكم، لأنها تريد أن يكون ميزانها أدق الموازين، ولأنها تعرف أن الأدب غايةٌ عزيزة المنال
ومهمة القاضي أسهل من مهمة الأديب، لأن القاضي يحكم وفقاً لقانون مكتوب، ولا يطالّب في كل يوم بالاجتهاد
هل سمعتم حديث عبد العزيز باشا فهمي؟ إن لم تكونوا سمعتموه فاسمعوه:
حين عُيِّن عبد العزيز باشا فهمي قاضي القضاة حكم على نفسه بالعزلة القاسية، فكان لا يذهب إلى المحكمة إلا في عربة (مقفولة)، وكان يرفض أن يستقبل أحد الزوَّار في البيت، ليسلم من جميع المؤثرات الخارجية
فهل ترون الأديب يملك هذا الحق من اعتزال الناس؟
هيهات، ثم هيهات!
واجب الأديب أن يدرُس جميع الخلائق، وأن يطلَّع على المستور من الطبائع، وأن يشارك العابدين في المساجد، واللاهين في الفنادق، ليعرف دخائل النفوس والقلوب، وليكون على بينة من تطور الأذواق والعقول
الوجود كله كتابٌ مفتوح ينظر فيه الأديب صباحَ مساء والقاضي لا يحس الوجود كما يحسه الأديب، إلا أن يكون قاضياً أدبياً، وفي القضاة أدباء تدل عليهم البوارق الفكرية من حين إلى حين
الأديب يتلقى وحي الحياة في كل وقت، وهدَف الأديب هو استجلاء الغوامض من السرائر، وقد يتسامى فيحاول قراءة المسطور في صحائف الغيوب
وظنُّ الأديب في بعض الأحوال أصدق من اليقين، لأن فطرته تخضع في كل لحظة إلى التقويم والتثقيف، فهو أعظم الناس روحانية بلا نزاع ولا جدال
قد يُصدر القاضي عشرات الأحكام أو مئات الأحكام بقليل من الجهد، حين تتقارب أو تتماثل موضوعات الخصومات، ثم تظل منزلته الرسمية في أمان، لأنه لا يطالّب بالابتكار في القضاء، ولو شئت لقتُ: إن الابتكار قد يحرَّم عليه في بعض الأحيان
فهل يظفر الأديب بمثل هذا الحق فيعالَج الموضوع الواحد بأسلوب واحد بضع مرات؟(468/5)
وهل يستطيع كاتبٌ مثلي أن ينشر في مجلة (الرسالة) مقالاً نشره من قبل في جردية (البلاغ) مع شيء من التبديل والتعديل؟
حرفه الأدب فظيعة فظيعة، فهي تقضي بأن يكون مصير صحبها مرهوناً بأقرب مثال أو أحدث قصيد، ولكل إنسان أن يكتفي بماضيه إلا الأديب، فهو مسئول أمام قرائه عن يومه الحاضر، وقد يُسأل عن جهاده في المستقبل البعيد!
فأين القاضي من هذه المتاعب؟
ومن يَسأل القاضي عن يومه أو غده، وهو عن ماضيه غير مسئول؟
بعد ثلاث دقائق من المدة المقررة لاستئناف الحكم لا يجوز للمظلوم أن يرفع شكواه إلى غير المساء
أما الأديب فيُسأل عن أحكامه بعد الأعوام الطوال، ومن حق كل مخلوق أن يتزيد عليه كما يريد
قولوا الحق، أيها القضاة العادلون
أفيكم من يشقى بحرفته كما يشقى الأديب؟
القانون يحميكم من عبث الجاهلين والسفهاء، فلا تُكتب عنكم كلمة مدخولة، ولا يتطاول عليكم أفّاك، ولا يعترض سبيلكم أبناء السبيل
ومن أجل هذا أقول بعبارة صريحة إن جهادنا في دنيانا أخطر من جهادكم في دنياكم، وإن تأهبنا لفهم معضلات الوجود أقوى من تأهبكم لفهم تلك المعضلات
فاعترفوا - غير مأمورين - بأن تكوين القاضي لا يقاس إلى تكوين الأديب
ثم ماذا؟ ثم يكون أساس المفاضلة أن القاضي يخدم العدالة، وهو الحظ الذي ضاع على الأستاذ توفيق الحكيم حين أغراه الدكتور طه حسين بأن يُحشر في زمرة الأدباء، وتلك أول مرة يحشر فيها (المؤمن) مع من يبغض!
وأقول إن خدمة العدالة من أهم أغراض الأديب، فهو أقدر الناس على وزن المعاني، وهو الفيصل في تقدير المناقب والمثالب، وعن قلم الأديب يأخذ القضاة دقائق المحاسن والعيوب وفي صدر كل قاض حاسة أدبية تهديه حين يوَّفق إلى الأحكام الصِّحاح
القاضي لا يتعرض لأي تعب حين يحكم بالعدل، وإنما يثاب على الحكم بالعدل، أما الأديب(468/6)
العادل فيقضي دهره في مكاره لا تطاق
إن حكم الأديب بالعدل في قضية الفن فهو ماجن، وإن حكم بالعدل في قضية الفكر فهو زنديق، وإن عادى الزعماء فهو من الخوارج، وإن صادق الزعماء فهو من الوصوليين، ولا تقع محنة في أي انقلاب إلا على رءوس رجال البيان
كل حكم يقابل بالرضا المطبوع أو المصنوع إلا حكم الأديب، لأن الجمهور يعرف أنه مؤزَّر بالقُوى الرسمية، وهل يهاب الناس القاضي إلا لأنهم يعرفون أنه يستطيع (حبس) من يشاء حين يشاء؟
الأديب يملك الحكم ولا يملك التنفيذ، والقاضي يملك الحكم والتنفيذ، فهو في نظر الدهماء أعظم من الأديب، وهو كذلك في نظر توفيق الحكيم!
نحن - رجالَ القلم - خدَّام العدالة في نصابها الحق، ولو خلت الدنيا من أسّنة أقلامنا لأضحت وهي أقفر من الجنة بعد خروج آدم المظلوم
بأقلامنا تصور الغرائب من أوهام العقول وأحلام القلوب، بالعدل والقسطاس. وعنا يأخذ القضاة أصول الحكم السليم من شوائب الأغراض
ومزية الأديب - مزيته الحقيقية - أن الشعوب لا تعرف قدره الصحيح إلا حين ترتفع، ولعل هذا هو السبب في أن قضاة المسلمين لأيام عزهم كانوا من رجال القلم البليغ
ما مجد وما سلطانها في العصر الحديث؟
أكان القضاة هم الذين سَموْا بها إلى تلك المكانة العالية؟
ما ارتفع من قضاة مصر غير الأدباء من أمثال سعد زغلول وقاسم أمين، ومن والاهم من كتَّاب التشريع بأسلوب الأدب الصحيح
العدالة عندنا - رجالَ القلم - وما نبغ نابغٌ إلا بوحي تلقَّاه عن أدبنا الرفيع. عندنا اللهب المقدَّس، عندنا الروح الأمين. فأين من يزعم أنه عرف فكرة العدل قبل أن يأخذ عنا فكرة القسطاس بين الألفاظ والمعاني؟
إن قيل إن لغة القانون أدقّ من لغة الأدب أَجبنا بأن القانون لا تكون له لغة إلا حين يكون المؤلفون فيه من أدباء المشرّعين.
ومن الذي يعلِّم الناس دقائق الفروق في التعابير الفقهية والاقتصادية والديبلوماسية؟(468/7)
عِلُم ذلك عند أصحاب الأقلام الجياد، وما جاز لمشرّع أن يوازن بين لفظ ولفظ، وبين عبارة وعبارة، إلا وهو مسيَّر بقوة أدبية تدله على ما في الألفاظ والعبارات من أعصاب وأحاسيس، والألفاظ تقتتل وتصطلح كما يفعل الأحياء.
إن رجال القضاء لا ينسون أبداً أن أحد أقطاب الأدب الفرنسي كان يقرأ صفحات من (القانون المدني) قبل أن يشرع في الإنشاء، وهم يذكرون هذه القصة كلما بدا لهم أن يفضّلوا اللغة القضائية على اللغة الأدبية، فكيف غاب عنهم أن القانون المدني أنشأه رجلٌ أديب؛ وكيف فاتهم أن الدقة والوضوح لا يصدُران إلا عمن تمرّس بالإنشاء البليغ عدداً من السنين؟
وما يقال عن (القانون المدني) يقال عن (الفقه الإسلامي) فرجال الفقه في الشريعة الإسلامية كانوا من أقطاب الأدباء، وكان جهادهم في تحرير الألفاظ والمعاني يفوق جهاد أبي تمام والبحتري والرضيّ، وإن تناساهم تاريخ الأدب فلم يذكر لهم ذلك المقام المحمود.
وأرجع مرة ثانية إلى كميّة الإحساس بالوجود عند القاضي وعند الأديب فأقول:
القاضي لا يلتفت إلى إشكال إلا حين يُدعى إليه، فهو في أغلب أحواله من المحايدين، بدليل أنه لا يُفتى إلا من يستفتيه، وقديماً قيل:
(لو أنصف الناس استراح القاضي)
فهل يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى الأديب؟
الأديب لا ينتظر قدوم المستفتين من الشرف أو الغرب، وإنما يمضي فيشرّح آلام الناس قبل أن يحسوا تلك الآلام، أو قبل أن يقهرهم استفحالها على الأنين والصراخ.
والأديب يدرس الوجوه بأعمق مما يدرسها الطبيب.
ومن غرائب الأديب أنه يعرف أعمار الأصوات والملامح والعيون، فإذا حدّثه محدّث عن طريق الهتّاف أدرك عُمر ذلك المحدّث وتبَّين ملامح وجهه ولفتات عينيه، وإن لم يره من قبل
ومن هنا كان الأديب أول من يدل أمته على المخوف من الحوادث والخطوب؛ ومن هنا أيضاً كان الأدب أسبق من الطب ومن القضاء، لأنه فطره وجودية عاصرتْ أقدم عهد من عهود التاريخ.(468/8)
ولو كان القاضي يحسّ الوجود بمقدار ما يحسه الأديب لانتفع أعظم الانتفاع من الوجهة الأدبية بما يشاهد كل يوم من اصطراع النوازع والأحاسيس في ساحات القضاء، ولكن الواقع يشهد أن محصول القضاة في الأدب قليل قليل، بالقياس إلى الفرص المتاحة لدرس نزعات النفوس وأهواء القلوب.
والإنصاف يوجب أن نقرر أن القاضي منهيٌّ عن تعقّب الناس، فلا يجوز له أن يمرّن قلمه بتصوير ما يُعرض عليه من آثام وذنوب، وقد يحرم عليه أن يحكم قبل استخبار البينات والشهود، وإن كان يعرف كيف يفصِل بأدلة نفسية في بعض الأحايين.
القاضي لا يطالَب بما يطالَب به الأديب، والناس أنفسهم يكرهون أن يعرف القاضي سرائرهم، ولكنهم يحبون أن يُفصح الأديب عما يضمرون، لأن علم القاضي بسرائرهم أخطر عاقبةً من علم الأديب، والإنسان حيوانٌ لئيم!
وإعفاء القاضي من تعقب الناس أراحه من درس مشكلات النحائز والطبائع، إلا في الشؤون القلائل، فهو بين أهل الفكر من السعداء.
أما الأديب فهو كلَّ يوم في حال أو أحوال.
على الأديب أن يحدثك عن نفسك بما تجهل من نفسك، وعليه أن يدخل فيما لا يَعنيه فينشر المطويّ من أخبار بيتك، وإن لم (يتشرف) بزيارة ذلك البيت.
الأديب مسئول عن تقديم صورة صحيحة لكل فضيلة، ولكل رذيلة، ولكل وهم، ولكل وسواس، وهو مع ذلك مطالبٌ بالتصوّن المطلَق، فلا يجوز له أن يعرف من يشاء من طبقات المجتمع، ولا يُقبل منه أن يتعرف إلى أولئك أو هؤلاء، وإلا تعرض للمرذول من إفك السفهاء.
أما القاضي - وما أسعد القاضي! - فهو لا يحكم إلا بعد أن يشتجر في حضرته المحامون والشهود، ليعرف خفايا القضايا بأيسر عناء، ولا مُعقّب لحمه حين يحكم، وهو نفسه لا يملك الرجوع في قضائه حين يريد.
وفي هذا المأزق تظهر قيمة المسئولية الأخلاقية في حياة القاضي وحياة الأديب
القاضي ينفض يديه من كل مسئولية بعد الحكم المؤَّيد بالبينات والشهود
أما الأديب فيستفتي ضميره فيما قضاه، ولو طال الزمان، وقد يتعرض لأقبح السخرية حين(468/9)
ينتقل من رأي إلى رأي، وما يعرف مخاصموه أنه لا يرجع عما رآه في الأمس القريب أو البعيد إلا لعرفانه بأنه المسئول الأول عن رعاية العدل
ومن الأسباب التي توجب أن يكون إحساس القاضي بمعضلات الوجود أقل من إحساس الأديب أن التنافس بين رجال القضاء لا يقاس إلى التنافس بين رجال البيان
القاضي في إحدى محاكم الإسكندرية لا يعرف شيئاً عن زميله بإحدى محاكم القاهرة أو المنصورة أو أسيوط، لأن (سِرية القضاء) مبدأ مصون
أما الأديب في القاهرة فأحكامه وأخباره منشورة بين جميع الناطقين بالضاد، وقد تنوشه أقلامٌ أجنبية لا يعرف ما ترمي إليه من خبيث المعاريض
لو تعرضتْ أحكام القضاء لنقد العلانية، كما تتعرض أحكام الأدباء لنقد العلانية، لعرفَ قومٌ أن أعصاب الأدباء الكبار صِيغتْ من الفولاذ، وأن الأديب لا يسيطر على زمانه إلا بعد أن يعجز عن هدمه أبناء الزمان
بقيت مشكلة خطيرة في الفرق بين مكانة القاضي ومكانة الأديب
للقاضي نظامٌ تضع رسومه كلية الحقوق، فما النظام المرسوم للأديب؟
أيكون الأديب من يظفر بدرجة جامعية تمنحها كلية الآداب؟
وكيف وكلية الآداب تنكر هذا الحكم، كما أشرت من قبل؟
إذن يكون من حق كل مخلوق أن يدّعي الأدب حين يشاء، وهذا هو الواقع بالفعل، وهو السبب في أن مِلكية الأدب المدّعاة صارت أعرض من الصحراء، فكيف يحفظ الأديب الموهوب مكانته في الوجود؟ وكيف يرفع العقبات التي يضعها في طريقه (كبار) الأدعياء؟
الجهاد الموصول هو سناد الأديب الحق، وما استطاع أديب أن يظفر بمكانة عالية إلا بعد جهاد يدوم عشرين سنة أو تزيد، وهي مدة كافية لموت الطفيليات
فليس بأديب من يقول: (خذوا بيدي) كما يقول الضعفاء
وليس بأديب من ينتظر العون من هذا الحزب أو ذاك
وليس بأديب من يتشبث بأذيال أحد النوابغ ليضمن له الرزق الحرام أو الحلال، كالرزق الذي يُضْمن للمستأدب المجهول حين يتصل بالأديب المعروف
الأدب الذاتيُّ هو شخصية ذاتية، وما يضيع أديبٌ إلا حين يَقْبل أن يكون من المحاسيب(468/10)
ألكم خصومٌ أموات كالخصوم الذين نعرف، أيها القضاة المحترمون؟
يخاصمكم من يخاصم وهو مدَّرع بعلوم الشرائع؛ ويخاصمنا من يخاصم وهو (لِبلاب) يعتصم بهذا الجِذع أو ذاك
أما بعد فهذه كلمة أردنا بها وجه الحق في إعزاز الأدب الرفيع، ومن موجبات الفوز أن يكون الطرف الثاني في القضية هم رجال العدل، وعليهم نعوِّل في تأييد ما قدمناه من البينات، ومنهم ننتظر إنصاف الأدب من القضاء
مضت أزمان وأزمان والأدب في محنة بسبب تخلف أهله عن الميادين الرسمية، أو بسبب تودد أهله إلى الميادين الرسمية، فمن واجبنا اليوم أن نرفع راية الأستقلال، وأن نعتزّ بالقلم الذي أقسم به ذو العرش المجيد
تستطيع كل أمة أن تخلق من الطبقات ما تشاء، ولكن الأمم مجتمعةً تعجز عن خلق أديب واحد، لأن الأدب منحة ربانية تفوق هبات الممالك والشعوب
فمن طاب له أن يمنّ علينا بأنه هجر من أجل الأدب هذه الطبقة أو تلك، فليعرف اليوم أننا أصحاب الحق في أن نمنّ على من نمنحه متفضلين لقب الزميل، أو لقب المُريد
الأدب شريعة من الشرائع، ومن واجب كل شريعة أن تنفي من يؤمن بها على حَرف
وصدق الله العظيم حين قال (وما على الرسول إلا البلاغ)
زكي مبارك(468/11)
الشخصية الهستيرية
للدكتور محمد حسني ولاية
وصف كريبلين الشخصية الهستيرية قال:
1 - لم يعثر على أي نقص في ذكاء 164 من المرضى بالهستريا إذ لم يكن هناك اضطراب في الإدراك أو قوة التدليل، بل الهستيري كثير التقلب فيما يفكر فيه، وتستحوذ عليه بدوات وأوهام قوية الحيوية، فإن أمانيه غير منظمة وسطحية ولو أنها متسعة النواحي والأرجاء، ومقدرته على تكييف نفسه لأي ظرف فائقةً ولكن ينقصه الثبات وقوة الاحتمال. ويمتاز بانقياده إلى كل شيء جديد، فإذا استعرضنا حوادث التاريخ وجدنا أن أول المناصرين وأكثر المحاربين حماسة لبلوغ الأهداف المعجزة هم الهستيريون
يدس الهستيري أنفه في شؤون الناس لاستنشاق أسرارهم والوقوف على أحوالهم، ويلذ له أن يكون ماثلاً في عيون الجماهير وأذهانهم فلا يفتأ ينقب عن وسائل جديدة للوصول إلى هذه الغاية
2 - إن الارتباطات العقلية سطحية في الهستيري الذي يمتاز بكونه متسرعاً ومركزاً اهتمامه في نفسه فقط. أما حكمه على أمر من الأمور فرهين أول أثر يتركه هذا الأمر في نفسه بما يتمشى مع نزواته الشخصية. وعلى الرغم من أنه شديد العناد، لا تلين له قناة، فإنه يغير مبادئه بسرعة لأنها لم تكن قط متغلغلة في أعماق نفسه.
وإن الميل إلى حلم اليقظة وثيق العلاقة بالخيالات والبداوات الممتلئة حيوية، فهو يتوهم نفسه في مواقف لا تمت إلى الحقيقة بصلة، ويحيك حول هذه المواقف خيالات متشعبة مترامية، فقد يرى نفسه بطل حوادث نظرية مختلفة أو ضحية هجمات أعداد وهميين. ومما يزيد الطين بلة أنه يترجم أوهامه وبدواته إلى لغة الحقيقة فيتمادى في اختلاق حوادث متصلة بالواقع يدعمها ببراهين تبدو قاطعة
3 - ذاكرة الهستيري واهية لا يعتد بها لأنها رهينة عوامل انفعالية شتى فهو ينسى الحوادث التي لا تروق له ويعلي من شأن ماضيه ويشوه حقائقه ليكون وفق رغباته الشخصية
4 - الهستيري ناري الانفعالات لا يستطيع أن يتحكم في أعصابه، متطرف في حبه(468/12)
وكرهه، يرتجف الناس خوفاً من غضباته وعنف هياجه، فهو شديد التقلب في سلوكه دون مقدمات ولا سابقة إنذار. وهو إما راتع في الفرح أو غارق في الهم
وتقترن بهذه الثروة الكبيرة من الانفعالات صفة الصلابة والعناد وعدم المبالاة التي تدعو الهستيري إلى الاختيال على جثث الموتى، وقد ارتسمت على فمه ابتسامة. أما السبب الذي يفسر هذا السلوك المتناقض المتنافر، فهو عدم التناسب بين الانفعال والتعبير عنه.
5 - لا يفكر الهستيري إلا في نفسه. وإن تقديره المبالغ فيه لنفسه متعطش دائماً إلى الإقرار والتثبيت، ويسره دائماً أن تتجه أنظار جميع الناس إليه. أما أمانيه فلن تقف عند حد.
ومما يحدوه إلى المجازفات، التنقيب عن كل شيء يمتاز به على الآخرين. وهو يعرف جيداً كيف يتحكم في بيئته ليكون طاغيتها بكل الوسائل الماثلة لديه.
ومن الطرق التي يلجأ إليها الهستيري في كفاحه لنيل تقدير الجماهير إنكار الذات (ظاهراً) والفدائية، واستعذاب العذاب في سبيل تحقيق المبادئ السامية، وهو يتشدق بأنه يضحي بنفسه في سبيل مساعدة الفقراء وخلاص المعوزين، وبأن حياته رهينة كل غاية تفيد الإنسانية، فليعترف له جميع الناس بفضله وتضحيته. وما حب الهستيري للعذاب إلا لكسب أهمية خاصة في أعين الناس. على أنه يلذ له أن يكون غامضاً غير مفهوم.
6 - يمتاز الهستيري بقوة فائقة على انتحال أعراض المرضى الآخرين وبإطالة مرضه عن طريق الإيحاء الذاتي - ويفيض سيل وحيه على الأشخاص الموالين له أو المقرين إليه.
وإن النفوذ الذي يستمتع به الهستيريون والجاذبية الشخصية التي تقود إليهم الناس أفواجاً مبنية على طبيعة قوة إيحائهم.
7 - على الرغم من وفرة الانفعالات السطحية تظل الغرائز الطبعية في سبات عميق؛ فالهستيري لا يبالي الجوع والتعب والأرق وحرمان غريزته الجنسية من الاستمتاع؛ فهو إما أن يكبتها أو يدعها تتخذ مظهراً شاذاً. وكثيراً ما يلجأ الهستيري إلى التهديد بالانتحار، وهذا يدل على المستوى الأدبي الدنيء الذي انحطت إليه شخصيته.
دكتور محمد حسني ولاية(468/13)
طبيب بصحة بلدية الإسكندرية(468/14)
من وثبات العبقرية
نظام الزكاة في الإسلام
وهل روعي فيه العدل
للسيد علي حسين الوردي
ذكرت في مقالي السابق أن الضرائب المباشرة لم تكن معروفة لدى الأمم القديمة إلا نادراً، إذ أن النضوج السياسي لم يكن قد وصل بالناس إلى تلك الدرجة التي يستسيغون فيها دفع ذلك النوع من الضرائب
لم يكن الفرد، في الزمن القديم، يعتبر الحكومة تمثله أو تمثل مصلحته العامة؛ إنما كان على العكس يرى فيها عدوه الأكبر الذي لا هم له إلا ابتزاز أمواله وامتصاص دمه من غير منفعة محسوسة تأتيه من وراء ذلك، ولهذا فقد كان الفرد يعتبر الضريبة عبئاً ثقيلاً ينبغي التهرب منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولم يكن جباة الملك يجرءون إذ ذاك أن يفرضوا الضريبة المباشرة على أموال الناس أو إنتاجهم حيث تجبي منهم حقاً مشروعاً كما هو الحال في هذا العصر، فجل ما كان الجباة يعملونه هو أن يقفوا عند مدخل البلد ليقتطعوا من التجار والفلاحين جزءاً مما يحملون على أنها حصة الملك جزاء حمايته إياهم أو سماحه لهم بتكسبهم في البلاد التي هي تحت سيطرته
هذا ولا ريب في أن في مثل هذه الضريبة غير المباشرة ظلماً لا شك فيه، إذ أن دافع الضريبة يستطيع عادة أن يحول عبئها إلى عاتق غيره، فإذا دفع التاجر مثلاً جزءاً من بضاعته إلى الحكومة أدخل ذلك غالباً في حساب تكليف البضاعة وأضافه إلى سعر البيع ليتحمل المشترون عبء الضريبة. وفي هذا يتمثل الظلم، لأن معظم الضريبة تقع حينئذ على كواهل الفقراء إذ أنهم هم معظم المستهلكين للبضائع ملابس وطعاماً. . . هذا بينما يدفع الأغنياء قسطاً ضئيلاً من الضريبة لا يتناسب مع ثرواتهم الطائلة. ولا مراء في أن ما نراه من تعسف في هذا النوع من الضرائب، لا يوجد إلا قليلاً في الضرائب المباشرة، لأن النسبة فيها تؤخذ ضخمة من الأغنياء، صغيرة من الكادحين، وحيث يعامل فيها كل فرد حسب مقدرته وظروفه الخاصة. وقد يُعفى منها كثير من الناس الذين كانوا يدفعون(468/15)
الضرائب غير المباشرة وهم لا يشعرون
ولكن الضريبة غير المباشرة، رغم هذه المساوئ، ظلت مستعملة طيلة القرون الماضية، ولا تزال مستعملة إلى اليوم في كثير من الأمم الحديثة، وذلك لسهولة جبايتها وقلة التكاليف فيها، إنما أخذت في الواقع تفقد أهميتها شيئاً فشيئاً، إذ بدأت الضرائب المباشرة تحتل مكانها، وهذا بلا شك سمو من المجتمع في أخلاقه السياسية
هذه نبذة موجزة من تاريخ الضرائب وددت أن أبين بها للقارئ شيئاً من مجرى التطور فيها حيث سار المجتمع في طريقه الطبيعي من غير تنكّب أو طفور. لكنّا إذا رجعنا إلى نظام الضريبة في الإسلام نجد ثم وثبة بذّت مجرى ذلك التطور وسارت في سبيل الكمال خطوات
لقد فرض الشارع الإسلامي أغلب صدقاته بنسبة معينة على ثروة الفرد أو إنتاجه تؤخذ منه مباشرة بعد النظر في ظروفه الخاصة وبعد استثناء حد أدنى من غير زكاة
لسنا ننكر أن من الصعب وضع حد فاصل يميز بين الضريبة المباشرة من غير المباشرة، فكثير من الضرائب التي نحسبها مباشرة لأول وهلة هي في الحقيقة غير مباشرة، لأن دافعها قد يستطيع بعد زمن تحويل عبئها إلى عاتق غيره. ولكنا على كل حال نستطيع أن نقول بأن الإسلام قد شرع في هذا الشأن شرعة جديدة لا شك في صلتها بالعدل والخير، إذ جعل الضريبة حقاً واجباً على الفرد يجب أن يؤديه للدولة بصفته عضواً فيها، وإذ أمر كذلك بأن تختلف نسبة الضريبة بين شخص وآخر نظراً إلى ما عليه الشخص من عسر أو يسر في وضعه الاقتصادي أو في إنتاجه
وهنا نصل بالقارئ إلى نقطة جوهرية من هذا الموضوع ألا وهو التفاوت في فرض الضريبة حسب تفاوت الناس في أرزاقهم وحظوظهم في الحياة. إذن يجب علينا أن نفهم أهمية ذلك في النظام الحديث إذ يعني به كتاب اليوم عناية كبرى لما له من مساس بالعدل الذي هو أحد الأركان الأربعة للضريبة المثالية، وأهم تلك الأركان على الإطلاق
لقد كانت الضريبة في الزمن القديم تجبى على السواء من جميع الناس إلا الذين يستثنيهم الملك من رجال دين أو نبلاء، فلم تكن الحكومات تعني إذ ذاك بما تعني به الحكومة الحديثة - كما ذكرنا - من تفريق في نسبة الضريبة أو إعفاء منها حسب ما يمليه العدل(468/16)
أو مصلحة الأمة
لقد وضع الكتَّاب المعاصرون لهذا الغرض في مسألة التفريق والإعفاء أربع قواعد فيما يخص دافع الضريبة أو ثروته:
فالقاعدة الأولى: مصدر الثروة - إذ يميز فيها بين الثروة التي تأتي صاحبها نتيجة للعمل والمكابدة، وبين التي تأتي صاحبها وهو في بحبوحة من الراحة والنعيم
هذان فلاحان مثلاً، أحدهما يملك الأرض الخصبة أو يسقي زرعه ديماً أو سيحاً، والآخر لا ينتج إلا في أسوأ الظروف من أرض ضعيفة وماء بعيد. فهل من العدل أن تفرض الضريبة بنسبة واحدة على إنتاج هذا وإنتاج ذلك؟ لابد إذن من تفريق
والقاعدة الثانية: طبيعة الثروة - إذ يميز فيها بين الثروة الصالحة التي تفيد الأمة والتي ينبغي تكثيرها، وبين غيرها من الثروات؛ وقد يفرَّق مثلاً بين إنتاج الخضر والفواكه التي يسرع إليهما الفناء، وبين إنتاج الحبوب التي يمكن خزنها وادخارها
والتفريق في هذا ضروري في العهد الذي تصعب فيه المواصلات وتقل فيه وسائل الخزن المبرَّدة، حيث يجب على زارع الثمار أن يبيع ثماره في أوانها المناسب، وإلا خسر مجهوده وخسر فوق ذلك الضريبة التي دفعها إذا كانت مفروضة عليه
والقاعدة الثالثة: مآل الثروة ومصيرها - هل تصرف في إطعام العائلة والضيوف وفي الإحسان، أم تبذَّر هنا وهنالك على موائد الخمر والميسر، أو تكدس قناطير مقنطرة من غير تنمية أو إنتاج؟
والقاعدة الرابعة: هي أن ينظر إلى حالة الشخص (دافع الضريبة نفسه): أمتزوِّج هو أم أعزب؟ أمدين أم دائن؟. . . الخ
هذه هي الأسس التي وضعها الكتاب المحدثون في تحري العدل والصالح العام عند فرض الضريبة إذ يفرَّق بين إنتاج وإنتاج وبن ثروة وثروة. ولكن يجب ألا يغرب عن بالنا أنه لم تصل اليوم أية دولة على وجه الأرض إلى تطبيق هاتيك الأسس جميعاً تطبيقاً تاماً، إذ أن ذلك يقتضي جهداً هائلاً ويصادف كثيراً من العقبات العملية التي تحول دون النجاح التام فيه أو التي قد تنتج من المساوي ما هو أعظم مما كان يخشى منه
إن التفريق في الضريبة خير لا مرية فيه، ولكن من أين لنا العبقري النزيه الذي يضع لكل(468/17)
حالة نسبتها العادلة. كذلك ما أعظم الصعوبة التي تعانيها الإدارة إذ ذاك - ارتباكاً وتعقيداً، وهؤلاء الطامعون الماكرون من موظفين في الضريبة أو دافعين سيجدون في هذا الوضع المعقد أعظم الفرصة لغشهم أو تهربهم من دفع بعض الضريبة أو كلها. ويظهر من هذا أن المشرع الحديث أصبح بين نارين بين سوء الظلم في عدم التفريق، وبين الصعوبة والارتباك في إدارة الضرائب عند التفريق إذ يكثر الاختلاس والروغان. وبذا يتضح السبب في قلة اندفاع القوم في هذا السبيل، إذ نجد التفريق مهملاً في الأمم الحديثة أحياناً
هذا مجمل الوضع كما نراه اليوم في العالم المتمدن، أما إذا رجعنا ببصرنا إلى الدولة الإسلامية فقد تأخذنا الدهشة لما نرى فيها من اهتمام جدي بهذه المسألة فقد ميز الإسلام إنتاج الأرض التي تسقى عذباً أو سبحاً من إنتاج الأرض التي تسقى بالدلو والقرب والساقية، حيث جعل العشر على الأولى بينما فرض نصف العشر على الأخرى وذلك لمؤونة القرب والساقية والدلاء
أما التفريق في الضريبة حسب خصوبة الأرض وكلفة الإنتاج فقد ألمح إليه محمد بن الحسن وأبو يوسف وغيرهما إذ قالا: لا يحسب العشر على نفقات البقر، أو أجرة العمال العاملين في الإنتاج
ومن هذا نستنتج أن زارع الأرض الضعيفة يؤدي زكاة أقل من غيره لأنه يخصم من إنتاجه نفقات البقر والعمال، وهي أكثر من نفقات الأرض الخصبة في ذلك طبعاً.
ويقول أبو يوسف: إنه إذا أطعم رب الأرض غيره من مزروعه أو أكل هو فليس على ذلك عشر.
وقد جعل بعض الفقهاء ربع العشر على ما تكثر مئونته من المعادن المستخرجة من باطن الأرض، أما التي تقل فيها المؤونة ففيها الخمس.
وعن علي بن أبي طالب أن الخمس في المعادن المستخرجة من أرض خراج أو عشر. ولا خمس في الفيروزج الذي يوجد في الجبال ولا في اللؤلؤ أو العنبر وكل حلية تخرج من البحر لأنها متعبة كبيرة الكلفة.
وعن أبي حنيفة في رجل مر على العاشر بمال فقال أصبت منذ شهر أو عليّ دين أو قال أديت الزكاة إلى عاشر آخر أو أديت زكاته أنا وحلف على ذلك فهو صادق.(468/18)
ولا تجب الزكاة عند الشافعي إلاّ فيما زرعه الآدميون قوتاً مدخراً؛ أما البقول والخضر التي ليس لها ثمرة باقية فلا زكاة فيها
أما المواشي فلا زكاة فيها إلا إذا كانت سائمة ترعى الكلأ فتقل مئونتها ويتوفر درها ونسلها، فإن كانت عاملة أو معلوفة لم تجب فيها زكاة. وبعدُ أليس في هذا كله تفريق؟. . .
وقبل أن نختم المقال يجب ألا يفوتنا ذكر النصاب الذي يحتم الفقه الإسلامي الوصول إليه حيث تؤخذ الضريبة متصاعدة بعده، ولا ضريبة على ما دون النصاب في جميع الممتلكات والثروة. وقد جعل الإسلام لكل شيء من ذلك نصابه المعلوم، فنصاب الغنم مثلاً أربعون، والبقر ثلاثون، ومحصول الزرع خمسة أو ست، والذهب عشرون مثقالاً، والفضة مائتان. . . الخ
ولا ريب أن في هذا عدلاً، إذ يستثني به كثير من الفقراء عن دفع الضريبة، ويقع معظم ثقلها على عاتق الموسرين المترفين
لعلي بهذا قد عرضت على القارئ صورة لما كان يراعَى في ضرائب الإسلام من العدل، ولكن تذكر يا سيدي القارئ، ما قلت لك آنفاً، من أن العدل ليس وحده هو ما يلزم للضريبة المثالية من أركان، فثمة، على الأقل، ثلاثة أركان أخرى، كما وضع آدم سميث، لازمة للضريبة المثلى هي:
(1) الإنتاج (2) والملاءمة (3) ثم اطمئنان الحكومة والدافعين إلى ما يؤخذ أو يعطى. . . ولكن يا ترى هل كان الإسلام معنيّاً بجميع هذا الأركان في صداقاته؟ أجل. . . ولعلي أستطيع أن أفي ذلك بعض حقه في فرصة أخرى
علي حسين الوردي
بالجامعة الأمريكية
ببيروت(468/19)
على هامش النقد
كتب وشخصيات
للأستاذ سيد قطب
1 - عبقرية محمد. . . . . . . . . . . . للعقاد
2 - بيجماليون. . . . . . . . . . . . لتوفيق الحكيم
3 - دعاء الكروان والحب الضائع. . . لطه حسين
تمهيد:
أردت أن أجمع بين هذه الكتب وهؤلاء الكتاب؛ لا لأنها تتفق في فكرة أو اتجاه، ولا لأن بينهم - في هذه الأيام - مصافاة أو مجافاة!. . . ولكن لأن كلاً منهم يجري في كتابه هذا على منهجه ويستخدم أفضل قواه
خطر لي مرة أن أكتب مقالاً أو مقالات تحت عنوان: (لا يعرفون أنفسهم!) وفي مقدمة من كنت أعنيهم بهذا العنوان ثلاثة من الكتاب: طه حسين، وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين!
من المبادئ الاقتصادية الأولية أن يستخدم الفرد أحسن مواهبه؛ وهؤلاء الكتَاب لا يستخدمون أحسن مواهبهم في كثير من الأحيان، فلو كنت أملك الحجر على الناس في بعض التصرفات، لحجرت على هؤلاء الثلاثة في بعض الاتجاهات! تحقيقاً لهذه القاعدة الاقتصادية، وتحقيقاً لمصلحتهم ومصلحة الأدب على السواء
فأما الدكتور طه حسين، فهو لا يعرف نفسه حقاً حين يحاول أن ينشئ أدباً غير ذلك الاستعراض الحلو لخطرات النفس وخلجات الضمير، وغير ذلك اللمس الخفيف الرفيق للانفعالات والوجدانات. الاستعراض هو فن طه حسين الأصيل الذي يجيده في (الأيام) و (على هامش السيرة) و (مع أبي العلاء في سجنه)، ثم في (دعاء الكروان) وفي (الحب الضائع) في هذه الأيام
فأما حين يسرف في استخدام مواهبه، حين يستخدم مواهب الصف الثاني لديه - إذا استعرنا الاصطلاحات الحربية - في مثل (الأدب الجاهلي) و (مع المتنبي) وفي نقد الكتب(468/20)
أو كتابة المقدمات. . . فإنما يسرف على نفسه أولاً وعلى مواهبه، ويسرف على الأدب ثانياً وعلى قرائه، أولئك الذين يريدونه في خير حالاته؛ وإن لم يكن في حالاته الأخرى من المتخلفين
وأما توفيق الحكيم فإنه لا يعرف نفسه أصلاً، حين يحاول أن ينشئ أدباً غير القصة، وغير الحوار بشكل خاص. الحوار هو فن توفيق الحكيم الأصيل، فما هي إلا كلمة خاطفة من هنا وجملة عابرة من هناك حتى تستوي الفكرة التي يعالجها حية شاخصة، أشبه شيء بالخطوط السريعة في تحديد ملامح الوجوه
وقد اهتدى إلى أحسن مواهبه في أهل الكهف وشهرزاد وبيجماليون في ناحية. . . وفي نهر الجنون) و (سر المنتحرة) و (الخروج من الجنة) في ناحية أخرى، عل تفاوت في الطاقة والاتجاه. . .
فأما حين تسوّل له نفسه أو يسوّل له بعض الصحفيين أن يكتب أشياء مما يكتب في شتى الصحف والمجلات؛ وحتى حين يكتب قصصاً غير الحوار وغير معالجة مشكلة فكرية في هذا الحوار، فإنه يجني على مواهبه ويجني على قرائه على تفاوت الجناية في هذين الاتجاهين، ويستحق الحجر الذي يضرب على المسرفين في الجهد أو في المال!
وأما أحمد أمين فقد ظهر أول ما ظهر بكتابه (فجر الإسلام) ثم تابع السلسلة في (ضحى الإسلام) بأجزائه الثلاثة، فقلنا: رجل متزن يهتدي إلى خير مواهبه فيستخدمها أحسن استخدام.
ثم صدرت (الثقافة) فاستهوته المقالة، وهنا خانه الاهتداء إلى أفضل ما فيه، واستمرأ هذا الجهد الوقتي المتقطع فكثرت مقالاته، وكثرت إذاعاته، وجمع هذه المقالات فيما أسماه (فيض الخاطر) على ثلاثة أجزاء.
هذا (الفيض الخاطر) هو اللفتة الخاطئة في حياة أحمد أمين الأدبية، وهو الانحراف عن الطريق السوي الذي خلق له، وهو التعطيل للوظيفة الأساسية التي انتدبته لها المكتبة العربية.
ولو أنه سار في الطريق، فوضع لنا - بدل الأجزاء الثلاثة من (فيض الخاطر) - ثلاث حلقات جديدة في سلسلة تاريخ الأدب العربي، ولو أنه تابع هذه السلسلة إلى عصر النهضة(468/21)
الحالية، لأدى للمكتبة العربية أجل الخدمات.
ولكنه استهواء الصحافة، وتوزيع الجهد، والإسراف على النفس وعلى القراء!
في الكتب الثلاثة أو الأربعة التي اخترت أن أجمع بينها في هذا الحديث يهتدي مؤلفوها إلى أفضل مواهبهم ويستخدمونها على أفضل الوجوه. فكل منهم يجري في ميدانه الأصيل، ويجري على أصول الجري في هذا الميدان؛ وهي - من هنا - تمثل أصحابها خير تمثيل، وترسم مناهجهم في الأداء وفي التفكير.
فأما العقاد فهو أبداً مهتد إلى مواهبه لم يضل في تقديره واحدة منها، وهي مواهب متنوعة ولكنها جميعاً أصيلة وتكاد أن تكون متكافئة، فإذا شئنا الاختيار والمفاضلة، فأفضلها فيما يبدو (دراسة الشخصيات)
وقد انساق العقاد منذ نشأته الأدبية تقريباً في هذا السياق عامداً أو غير عامد، فهو أكثر كتابنا المحدثين دراسة للشخصيات: الأدبية والفكرية والسياسية والإنسانية. كتب عن: المتنبي وابن الرومي وأبي العلاء وجيتي وتوماس هاردي وطاغور، وكثيرين من أمثالهم قدامى ومحدثين. كما كتب عن: كانت ونيتشه وماكس نوردو وشوبنهور، وكثيرين من أمثالهم. وكتب كذلك عن: هتلر ومصطفى كمال وسعد زغلول. وعن: محمد عبده وغاندي.
ثم هاهو ذا يكتب عن (محمد) كتابه الأخير
وليست كثرة الشخصيات التي كتب عنها (العقاد) هي التي تجعله دارس شخصيات، فكثيراً ما يكتب الكاتبون عن عشرات الشخصيات ومئات الأعلام أوصافاً لهم وحوادث في حياتهم، ثم يخرج القارئ من هذا كله بأوصاف ومعلومات لا يتبين منها ملامح شخصية واحدة من هذه الشخصيات
إنما ميزة (العقاد) الفذة أنه مصور ملامح، ومشخص هيئات، وراسم صور حية من اللحم والدم والصفات والسمات والهواجس والأفكار. . . لديه لكل شخصية يدرسها مفتاح يدير به اللولب، فإذا أنت أمام هذه الشخصية، وإذا أنت تملك هذا المفتاح، وإذا أنت تستطيع تفسير الحوادث التي ألمت بحياة هذا الإنسان، كما تملك تفسير استجاباته لهذه الحوادث
كل إنسان كتب عنه (العقاد) تستطيع أن تعرف (من هو)، وإن لم تعرف كل ما وقع له من أحداث(468/22)
تلك هي الموهبة المتفردة التي تجعل (العقاد) دارس شخصيات، لأنه هو نفسه شخصية واضحة المعالم والسمات
وفي هذا الكتاب الأخير (عبقرية محمد) تتجلى هذه الموهبة على أتمها وأكملها، وينضج نضجها واستواؤها على فصول الكتاب وجمله وفقراته. فهو من هذه الناحية أدل ما يكون على اكمل موهبة من مواهب (العقاد). فأما تفصيل ذلك، فعند الكلام عن الكتاب
وأما (بيجماليون) فيستوي فيه كذلك توفيق الحكيم على نهجه في (أهل الكهف) و (شهر زاد) بعدما بعد بنفسه طويلاً عن هذا النهج: حوار، حول مشكلة من مشاكل الفكر الإنساني. . . كم بلغ في هذا الحوار من الإجادة، كم خطا فيه إلى الأمام أو إلى الوراء؟ هذا ما يتبين في الحديث الخاص عن هذا الكتاب
وأما (دعاء الكروان. وعلى هامش الحب) فجدولان جديدان في إنتاج الدكتور طه حسين، ولكنهما ينبعان من نفس المعين الذي نبعث منه (الأيام). إلا أنهما مقدرة جديدة في هذا الاتجاه. فقد كنت أعجَبُ - ولكن لا أرى عجباً - في أن يكتب الدكتور (الأيام) فيصور خلجات نفسه وهواجس ضميره، ويتلمس وقائع حياته ويلم بحوادث أيامه. أما أن يصور خلجات نفس أخرى وهواجس ضمير آخر، وأما أن تكون تلك النفس نفس امرأة، وهذا الضمير ضمير امرأة - بل امرأتين بل امرءات! - وأما أن يطرد هذا التصوير بنفس القوة والعذوبة والوضاحة التي في (الأيام) فهذه هي المقدرة الجديدة التي سيبين عنها المقال
وأترك القارئ الآن وقد علم لماذا اخترت أن أجمع بين هذه الكتب وبين هؤلاء الأشخاص. وفي الأسبوع القادم سآخذ في الحديث الموضوعي إن شاء الله
سيد قطب(468/23)
دجلة يطغى
(بمناسبة فيضان دجلة هذا العام)
للأستاذ حامد مصطفى
أرأيت هذا الخلق العجيب الذي لم ينل منه مرّ الدهور ولا تقلب الحدثان. . . تمضي الحوادث وتتصرّم الأجيال ونحن نعتقد أن الإنسان إنما يجري لأجل ويسعى إلى أمد، ولكن كرّ الأيام واعتراض التجارب تكاد تجعلنا نوقن بأن البشر إنسان واحد منذ وجد إلى أن تقوم قيامته. . . وما هو ذلك الفارق بين إنسان اليوم وإنسان الماضي وإنسان المستقبل؟ ألسنا نوعاً واحداً ذا طبيعة واحدة وآمال متماثلة؟ خلق متماسك الحلقات متصل الوجود يسعى بعضه إلى خير باقيه؛ زرع أوله فحصد أخره، وبني ماضيه فتوطن حاضره، وجرب سلفه فأفاد الخلف؟
هذا دجلة يصخب؛ يزخر عبابه، وتزُم أمواجه، ويصمّ هديره، يمر ببغداد اليوم وقد مرّ بها من قبل أيام الرشيد، واخترق دولة بابل وآشور، وجرى قبل ذلك كله في أمم قد خلت لا يعلمهم إلا الله. فهل تغير الناس أم تغير دجلة؟ وهل كانت مياهه في تلك الأحقاب غيرها في أيامنا هذه. . . أم أن الناس اليوم هم غيرهم في تلك الأيام؟ ليس من البعيد أن يكون دجلةُ الماضي دجلةَ الحاضر بمائه وهديره وطغيانه؛ أما إنسان دجلة اليوم فلا يبعد أيضاً أن يكون هو إنسان دجلة الماضي. وما الذي يدرينا أن الحياة على وجه هذه الربوع لم تدُر وتتكرر كما دارت مياهها وتقلبت. ألم تسمع قول الماضين:
كالبحر يمطره السحاب وما له ... فضل عليه لأنه من مائه
وقولهم:
خفف الوطء ما أظن أديم الأ ... رض إلا من هذه الأجساد
زُمَّ يا دجلة بمائك واصخب وتهدّد فلن نفهم من لغتك حرفاً كما لم تفهم منها القرون الأولى شيئاً. الناس يحيون على شاطئيك ويمر بهم العيش ألواناً وأطواراً وهم لا يكادون يبدلون ولا يتبدلون: فظالم متمادٍ في ظلمه، وضال متفانٍ في ضلاله، وذو مال لم تشبعه الدنيا فتحيل لها شتى وجوه الحيل يبتغي الرفاه والمزيد، وشعوب رزحت في أطواق الذل والجهل وناءت بأغلال الاستضعاف فلم تتململ في أقفاص الهوان. . . لقد خدع جمال(468/24)
الحياة ولذة الدنيا وركود النعمة أقواماً لو غالبتهم على المال ما غلبوا، أو جاريتهم على كسب الحطام ما وهنوا
لقد ثار ثائر دجلة اليوم كما ثار ثائه من قبل فأقض على الناس المضاجع وهلعت طوله قلوب أهل الريف؛ أولئك يخشون على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، يخيل إليهم أن ما هم فيه من نعيم مقيم وعيش رغيد وآمال باسمة وحياة حالمة سيكون مآله مآل ثراء قارون ومدينة بابل. وأولاء يرون بين الأمواج القضاء النازل على ما بذروا وزرعوا وما أعدوا لنيل العيش وسد الجوع واتقاء الآفات. هذا شأن الناس على شاطئ دجلة والفرات وروافدها كل عام في مثل هذه الأيام
لقد استطاع سكان العراق القدماء اتقاء هذا البلاء الذي تناهب نفوس المعاصرين، فكانوا ينامون آمنين مطمئنين لا يخافون على نفس ولا مال، حتى لقد هزئوا بطغيان النهر ولم يغلبهم الصِّرْى وكانت القنى تنهب الماء نهباً فتملأ به رحاب العراق فتنقلب صحراؤه جناناً خضراً وحدائق غلباً حتى لقد كان الطير ينتقل بين الرقة والأبَّلة قرب خليج البصرة فلا يجد إلا ظلاً ظليلاً وماء سلسبيلاً، ويجري الأرنب بين الأشجار فيستريح إلى جانب النهر ولا يقف به خببه حتى يدرك غايته لا يشتكي عناء ولا لغوباً، ويجري ساعي البريد بين بغداد والشام لا يرى شمساً ولا زمهريراً. لقد كان (السواد) جنة الدنيا وقلب الأرض تجبى إليه ثمرات كل شيء، وتجتمع في سرته الدنيا؛ كل ذلك بهذا الفضل من الماء الذي يهددنا في هذا الشهر من كل عام، والذي صرنا نخافه ونخشاه ونتقيه ولا نكاد نملك في صده ودرء عاديته سوى جهد ضئيل لا يكاد يوازي جهد البغاث في دفع الطير الكاسر
يقولون إن في الهند والصين أنهاراً يتقرب إليها الناس بالارتماء في مياهها والغيبة بين أمواجها حتى لتتكاثر الجثث على شواطئها فما يزيد ذلك عابديها إلا رغبة في إرضائها وتزاحماً على الموت في أجوافها. وليس ذلك بالعجب الكبير؛ فإن القوم تمثلوا القوة في أعظم شيء في أعينهم فترضوه وخافوه وافتدوا منه الأجيال بعدد يسير من الضحايا ليس مصيرهم في عقيدتهم إلا نعيماً مقيماً؛ إنما العجب من قوم رقت عقائدهم ودقت إفهامهم ونضجت معارفهم ثم هم يرون الخلود لأجسادهم ولا يرونه لأرواحهم، فماتت قلوبهم وذلت نفوسهم. أما مادتهم فهي وارفة وأجسامهم فهي ناضرة يصح فيهم قوله تعالى: (وإذا رأيتهم(468/25)
تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم). أولئك تقربوا بالدنيا إلى الآخرة وبالأجسام إلى الأرواح، وهؤلاء تقربوا وأضاعوا الدنيا والآخرة، وزهدوا في الخير الدائم ونعيم الأجيال وحرية الأرواح ولم يروا شيئاً أن تكون لهم المادة ولا يكون لهم شيء من المعنى
لقد كان للناس عبرة في مظاهر الطبيعة وتقلبات الحوادث، وكان لهم عظات تتكرر وتقسو في التنبيه والإرشاد، وكان للناس أجمعين في كل ما يتقلبون فيه ويعانون تجارب يكفي أدناها لليقظة والاعتبار. . . ولكن هيهات، فإن الناس لا يفهمون من لغة الطبيعة وتضافر الآيات إلا عوارض لا رأي لها ولا غاية؛ وما الشمس في مجراها والقمر في دورته والأرض في حركتها وانسلاخ النهار من الليل وجري الأنهار وهديل الأطيار إلا ألوان من اختلاف المادة، واتصال الطبيعة لا شأن لها ولا غرض إلا خدمة الإنسان وتعرضها له بالمتعة والانتفاع. . . وكأن الطبيعة أدركت من الإنسان ذلك الهزؤ وتلك المهانة فأخذت تتحداه وتتعرض له بالنكبات تلو النكبات وبالمصائب بعد أمثالها؛ وكلما تقدم في المعرفة والعمران وازداد غروره في تملك ناصية الطبيعة والتمكن منها كانت هذه تجد الفلتات فتتسرب إليه من حيث اطمأن وتنوبه من حيث أمن؛ فتجد المصنع يتفجر، والمنجم يثور، والسفينة لا تنقذها مهارة ربانها، أو البركان يعصف بالأرض ومن عليها، وربما لا تجد يوماً يمر دون أن تفلت الطبيعة من يد الإنسان فتبدد آماله وتبدل خططه.
لقد مرت على دجلة القرون والأحقاب وهو يجري بمائه إلى البحر فيلقي فيه بالكنوز وبالقوة، ولم يحظ أهله منه إلا بالنزر اليسير من الحظ الكبير حين كان الناس جهالاً وحين كانت الطبيعة أقوى من الإنسان. إن في دجلة من الخير والقوة ما لا ينضب معينه ولا تنفد مادته. ولقد قعد ابن دجلة يتمطى على جانبيه عصوراً طوالاً حتى أدركه هذا العصر عصر القوة والابتداع فوجده قاعداً وقد قام الناس، وفقيراً وقد استمتع بالثراء كل ذي نأمة. أفلا تمتد الأيدي إلى مصدر الغنى وينبوع القوة فتجعل من الفقر غنى ومن الضعف قوة؟. . . أفلا يجدر بنا أن نكف من غرب دجلة بالآلة ووسائل الإنتاج الحديثة بدل أن نتعهد شاطئيه كل عام بالأيدي والمساحي و (الهزات) ثم نحن لا نصد من عادية النهر قليلاً ولا كثيراً، ولا يعود علينا ذلك بإصلاح دائم ولا بتقوى شاملة. . .؟ ألم يأنِ للذين يخشون طغيان دجلة(468/26)
كل عام أن يفكروا بالانتفاع من طغيانه فيكون لهم مورد خيرات ونعمة وجاه بدل أن يهتموا موسم كل فيضان بكفكفة ضفتيه خوف البلاء واتقاء الغرق؟ لقد ملأنا أنفسنا خوفاً من دجلة ورعباً من أمواجه، فقد تواردت علينا السنون ونحن لا نفكر في شيء من أمر الرافدين إلا أن نصد البلاء وندفع النكبة حتى خيل إلينا أن ليس في النهرين إلا الشر، وأنهما لا يحملان بين أمواجهما إلا الرعب، حتى صار لفظ (الطغيان) في إفهامنا مرادفاً للغرق. . . أتعجز ونحن في العصر العشرين عما عجز عنه قدماؤنا قبل الأدهار البعيدة والأزمنة السحيقة؟
تعاقب علينا يا دجلة بالطغيان بعد الطغيان، وخاطب المعاصرين كما خاطبت القدماء؛ فإن الناس لا يفهمون لغة الأمواج ولا يعقلون نداء النُّذُر، ولن تزال شواطئك صحارى يابسة ومنازل خاوية حتى تستبدل بالمسحاة (الحراثة) وبالهزة (الكراكة)، وحتى يكون الطغيان أملاً ورجاء، لا خوفاً وبلاءً.
حامد مصطفى
ليسانس في الآداب وفي القانون(468/27)
35 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)
يستعمل كثير من المصريين - والنساء غالباً - (الميعة المباركة) لإبطال الحسد. والميعة مزيج من عقاقير مختلفة ستذكر فيما بعد، وتجهز وتباع في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم فقط. وكثيراً ما نرى حينئذ بائعي الميعة يتجولون في شوارع القاهرة صائحين: (يا بركة عاشورا المبارك، أبرك السنين على المؤمنين يا ميعة مباركة) ويحمل بائع الميعة فوق رأسه صينية مستديرة يغطيها بقصاصات من الورق المختلف الألوان، ويضع عليها المزيج الثمين؛ ويتوسط الصينية كوم كبير من ثُفل مادة قاتمة الحمرة تستعمل للصبغة، وتمزج بقليل من الميعة والكزبرة، والحبة السوداء. ويحيط بالكوم الكبير أكوام أصغر، أولها من الملح الملون الأزرق والنيلج، وثانيها من الملح الملون الأحمر، وثالثها من اللون الأصفر، ورابعها من الشيح، وخامسها من تراب اللبان. وتلك هي مواد الميعة المباركة. ويدعو المشترين عادة البائع داخل المنازل، فيضع الصينية أمامه، ويتناول صحناً أو قطعة ورق حيث يضع من الميعة بقدر رغبة المشتري. فيأخذ من كل صنف قليلاً ويضيف إليه مقداراً آخر المرة بعد المرة منشداً أثناء ذلك دوراً طويلاً يبدأ هكذا: (باسم الله وبالله، ولا غالب إلا الله، رب المشارق والمغارب، كلنا عبيده، يلزمنا توحيده، وتوحيده جلاله) وبعد أن يثني على فضائل الملح يقول: (أرقيك من عين البنت، أحمي من الخشب، ومن عين المره، أحمي من الشرشرة، ومن عين الولد، أحمي من الزرد، ومن عين الراجل، أحد من المناجل. . . الخ) ثم يروي كيف أبطل سليمان حسد العين، ويعدد بعد ذلك الأمتعة التي لا يخلوا منها المنزل على الأرجح فيرقيها جميعاً من الحسد. واكثر عبارات هذه الرقية(468/28)
مضحكة جداً، إذ هي ألفاظ أدخلت للسجع فقط. ويحتفظ المشتري بالميعة المباركة التي تباع الحفنة منها بخمسة فضة طول العام التالي فيحرق قليلاً منها كلما خشي حسد العين بحيث يتصاعد الدخان إلى المحسود
جرت العادة عند طبقات القاهرة العليا والوسطى أن يعلقوا في احتفالهم بالعرس القناديل في الطريق أمام منزل العريس، وكثيراً ما يحتشد الجمهور حول قنديل كبير جميل لمشاهدته، فالعادة حينئذ أن يُلهوا المشاهدين بكسر جرة كبيرة، أو بحيلة أخرى حتى لا تسبب عين حاسد سقوط القنديل. وكثيراً ما تحدث حوادث تؤيد إيمان المصريين بخرافاتهم المتعلقة بالحسد. ومثل ذلك ما رواه صديق لي: من مدة قصيرة رأى جملاً يحمل جرتي زيت كبيرتين فصاحت امرأة أمام الجمل: يا سلام! يا لهما من جرتين عظيمتين! ولم يقل الجمّال: صلي على النبي؛ فلم يلبث الجمل أن سقط وكسرت رجله وكسرت الجرتان. وقد أخبرني أحد أصدقائي القاهريين بشكوى أسردها هنا توضيحاً لما قررت. قال صديقي: (لما عدل الباشا عن احتكار بيع اللحم منذ أيام أصبح الجزارون يذبحون الحيوانات ويبيعونها في حوانيتهم. ومن المزعج تماماً أن ترى الخروف الجميل معلقاُ أمام عين الجمهور كاملاً بذيله وأعضائها فيشتهيها كل سائل يمر بجانبها فكأنما يتناول المرء سماً) وقد شكا إلي طاهٍ الشكوى نفسها فكان يفضل أن يكلف نفسه مشقة الذهاب إلى دكان جزار لا يعرض اللحم على أنظار المارة ولو كان بعيداً.
يضع الكثير من تجار العاصمة وغيرها من المدن المصرية على واجهة حوانيتهم ورقة كتب عليها اسم الله أو اسم الرسول أو الاسمان معاً أو الشهادة أو البسملة أو حديث نبوي أو آية قرآنية مثل: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً (سورة الفتح الآية الأولى) نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) (سورة الصف آية 13) أو ابتهال إلى الله مثل (يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم). وكثيراً ما ينطق التاجر بهذا الابتهال عندما يشرع في فتح حانوته صباحاً، وكذلك الباعة المتجولون كبائعي السلع الصغيرة والخبز والخضر الخ. عندما يخرجون لجولاتهم اليومية. والعادة أيضاً أن يضع الرجل من الطبقة السفلى أول نقد يتناوله على شفته وجبهته ثم في جيبه
وكثيراً ما نرى في القاهرة غير الكتابات التي تعلق على الحوانيت هذا الدعاء (يا الله)(468/29)
ينقش على أبواب الدور الخاصة والعبارتين: (الخلاق العظيم هو الباقي) أو (هو الخلاق العظيم الباقي) ترسمان بأحرف كبيرة على الباب كحرز وتذكرة لرب الدار أنه بشر يتوفاه الله وكثيراً ما تكتب هذه الكلمات على باب الدار إذا كان صاحبه السابق أو أغلب سكانه السابقين أو جميعهم قد توفوا
إن أفضل الوسائل لإبعاد العلل والأمراض كتابة آيات من القرآن في وعاء من الفخار يصب فيه قليل من الماء. ويرج حتى تزول الكتابة ثم يشرب المريض الماء المنقوع فيه هذا الكلام المقدس وهو ما يلي: ويشف صدور قوم مؤمنين (سورة التوبة آية 14). يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور (سورة يونس آية 57). فيه شفاء للناس (سورة النحل آية 69). وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين (سورة الإسراء آية 82). فإذا مرضت فهو يشفيني (سورة الشعراء آية 80). قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء (سورة فصلت آية 44) ومن هذه الآيات أربع لا تشير إلى أمراض الجسم وإن استعملت لذلك، بل تشير إلى أمراض العقل. وتشير الآية الثالثة إلى فضائل العسل. وقد سألت شيخي أن يبين لي موضع هذه الآيات من القرآن فرجاني عندئذ ألا أترجمها بلغتي لأن ترجمة القرآن بغير ذكر النص الأصلي محرمة، لا لأنه خجل من جريان العادة باستعمال هذا الكلام طلسما فكره أن يعرف مواطني ذلك. وقد أوضح لي اعتقاده التام في تأثير هذه الآيات حتى على المريض الكافر وأظهر ثقته التامة بقوتها. وقال ملاحظاً: (إن الرسول (صلعم) قال: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). وقد هدأت وسواسه في ذلك بإخباره أن للقرآن ترجمة إنجليزية
ويعطى للمريض أحياناً لشفاء الأمراض وإزالة أثر السموم جرعة ماء في طاس معدني نقش بداخله آيات قرآنية ورسوم وأشكال طلسمية. وقد أهدى إلي أخيراً في القاهرة طاسة مثل هذه أعجب بها أصدقائي المسلمون كثيراً. وينقش أيضاً خارج الطاسة كتابات تعدد فضائلها، وتشير إلى خواصها من إبطال السموم، والحسد وشفاء الأمراض والعلل والموت. وقد رأيت هنا طاسة أخرى كالسابق وصفها تماماً، غير أن نقوشها زالت قليلاً ويعتقد أن أسرار القرآن كثيرة جداً. وفي ذات يوم رفضت أن أتناول طعاماً خشية الضرر فنصحني بقراءة سورة قريش إلى آخر (الذي أطعمهم من جوع) وأن أردد هذه العبارة الأخيرة ثلاث(468/30)
مرات. وقد جزم لي أن في هذا وقاية أكيدة من كل سوء أخشاه
عدلي طاهر نور(468/31)
مرسَلات. . .
الإصلاح
ما من رئيس أو وزير أو حاكم أو مدير في هذا البلد إلا وهو يتغنى بأُنشودة (الإصلاح)، ويضرب على وتيرته، ويومض للناس ببريقه الخلّب، ويلمهم حواليه باسمه الجذاب. . . ولكن دعوات (الإصلاح) تبدأ عندنا بَدأة سارَّة، ثم تنتهي إلى نهاية محزنة: تبدأ عالية مدوية يرتج لها الوادي من بطاحه ورعانه، ثم لا تلبث أن يأخذها الضعف شيئاً بعد شيء، حتى تعود همسات خافتة لا تكاد تسمعها الآذان، ثم تسكت بعد قليل سكتة الموت!
ولو أن امرأً عني بعرض ما ينشر في الصحف عن الإصلاح منذ النهضة الوطنية إلى اليوم، ولاسيما إبَّان تغيير الوزارات، وتقليد الرياسات، وافتتاح المجالس، وتأليف اللجان؛ لرأى في الخطب الطنانة، والأحاديث الرنانة، والمذكرات المحبرة، وعوداً بالعمل تتلوها وعود، وبشارات بالإصلاح تردفها بشارات. . . ولكن أعمار الرياسات المختلفة تنقضي - طال بها الزمان أو قصر - وشيء من ذلك لم يتحقق، ثم تتبدل الرجال غير الرجال، والعهودُ غير العهود، فيعود الناس كرة أخرى إلى الخطب والوعود!
أين (المصلح) الصادق الذي يخلص لفكرة (الإصلاح) أكثر مما يخلص لشيء سواها؟ إن الرجل ليضع بنفسه خطة النهوض، ويرفع بيمينه شعلة التجديد، حتى إذا اجتذب بها القلوب، ووجه إليها النفوس، ونال منها ما يصبو إليه من عرض هذا الأدنى، تركها في مهب العواصف الجامحة من رغبات أو شهوات، تتولاها شياطين الإفساد، وهو عنها نائم. ولعمري لو مُس هذا (المصلح) في شخصه من قريب أو من بعيد، لثار لنفسه ما لم يثر لفكرته، ثم لثار له عشرات من أوليائه ومن خادميه لا يسألونه: لم ثار؟
محمد محمد المدني(468/32)
البريد الأدبي
الصفاء بين الأدباء
صديقي الزيات
حتى أنت قد خاب أملي فيك! أنا الذي دعا إلى (الصفاء بين الأدباء) كما رأيت، وبذلت في ذلك ما بذلت، ورددت الحقوق إلى أصحابها، وأديت الواجبات على تمامها، وأزلت من النفس أسباب الكدر، وطهرت القلم من أدران الشر؛ فإذا كل هذا يسفر عن كلمة سمحتَ أنتً بنشرها في العدد الأخير من (الرسالة) كلها إيذاء لشخصي دون مبرر، كلمة لم تدع إليها مساجلة أدبية، ولم ينتفع بها الأدب والفكر؛ لكن دعت إليها شهوة الهجوم والتجريح لمجرد الزهو والخيلاء بالهجوم عليَّ وتجريحي. ولعل السبب الوحيد في ذلك أني رجل هادئ الطبع كما تعرف، نزَّاع إلى الخير، ينزه القلم عن أن يستخدم هراوة للبطش. . . وكنت أحسب الشجاعة الحقيقية هي في احترام أصحاب هذه المبادئ والنزعات؛ ولكن صدّمني حقاً ما رأيت من أن الأدباء في مصر - مع الأسف - لا يحسبون حساباً لغير الكاتب الذي يبرز مخالبه، ويكشر عن أنيابه، ويتهيأ دائماً للوثوب. . . أنا الذي أراد من الأدب أن يكون حديقة غنَّاء سياجها (الصفاء)، إذا بي أراه حرشاً من الأحراش المأهولة بالضواري. . . ما هي في واقع الأمر رسالة الأدب إلى البشر؟ أهي شيء آخر غير ترويض كواسر الناس وإفهامهم أنهم أرقى من الحيوان؟ إن الأدب الرفيع هو الذي يثير المشاعر الرفيعة، بما فيها من حق وحب وخير وجمال. . . وإن الأدب الوضيع هو الذي يهيِّج فينا الغرائز الحيوانية بشهواتها للفتك والبطش والعدوان. . . كنت أظن - يا صديقي الزيات - أن تلك هي رسالتك، وأن عملك في مجلتك هو توجيه الأدب إلى هذه الغاية الفضلى، حتى ينشأ جيل سليم فاضل يرى الأدب على حقيقته: جنة سامية طاهرة، لا مكان فيها لمن يبطش بالقلم، ولكنها مكان من يعلِّم بالقلم، يعلِّم الإنسان ما لم يعلم. . .!
خاب أملي فيك - أيها الصديق - لا لأني متألم من كلمة نابية نشرت، فما أكثر السهام التي يرشقني بها الناس في كل ظرف ومناسبة! فما من أحد مثلي يؤذي كل يوم ويشوه عمله وقصده وفكرة تشويهاً بما يكتب عنه وما يوضع على لسانه وضعاً. ومع ذلك فأنا أمام كل هذا من أكثر الكتاب احتمالاً وأقلهم احتفالاً، ولعلي من أشد الناس رسوخاً في عقيدتي: (لا(468/33)
ينبغي للأديب الفاضل على أي حال مقابلة القبيح بالقبيح، بل يجب عليه المضي قدماً في سبيل نثر الجميل النبيل من المشاعر في كل القلوب!). . . إنما الذي خيَّب أملي فيك هو أني رأيتك قد حدت قليلاً عن رسالتك في (الرسالة)، وفي هذا خطر على شرف الغاية التي عاهدت نفسك والناس عليها. . . قد أغتفر لك أهدارك حق الصداقة والزمالة؛ أما هذه، فلا. . . هنا ونفترق. . . وليكن اليوم آخر عهدي بك و (بالرسالة) والأدباء. . . لن أكتب شيئاً لك، ولن أذكر بعد اليوم أديباً بخير ولا بشر. . . سأصمت عن أشخاصهم صمت القبر، لأنصرف إلى الإنتاج وحده من حيث هو إنتاج، ماضياً في إصدار كتبي لقرائي الأوفياء. . . فلا حلم في صفاء، ولا أمل في مودة بين أدباء. على أني قبل ذلك أحب أن أنوه بحق لك عندي وفضل لا أود أن أنساه: لست أعني الآن فضل (الرسالة) المعروف في شهرتي الأدبية، بل فضلاً آخر لعلك تجهله أنت حتى الساعة: أتذكر يوم أعلنت إليَّ عزمك على إصدار مجلة (الرواية) واعتمادك عليّ فيها كل الأعتماد؟ لقد كنت أنت الذي اقترح عليّ فكرة تدوين ذكرياتي المنسية عن عهد اشتغالي بالقضاء، فخرج كتاب (يوميات نائب في الأرياف). ربما لولاك ما أتجه ذهني إلى هذا الأمر، ولضاعت إلى الأبد معالم تلك الأيام. . . أسجل لك مع الشكر هذا الصنيع، وليشكرك عليه كل من أحب هذا الأثر، واستودعك الله. . .
توفيق الحكيم
(الرسالة):
جوابنا عن رسالة الصديق العزيز في العدد القادم
التاريخ وشعر الملوك
لم يأت الأستاذ الفاضل عبد الله مخلص بما ينفي الشك فيما يتعلق بشعر السلطان سليم؛ وقد اتضح الآن أن بيتَيْ المعرِّي (المُلك لله من يظفر بنيل غنىً. . . الخ) منسوبان خطأ إلى السلطان سليم في الكتب الأربعة التالية:
1 - الإعلام لقطب الدين الحنفي
2 - أخبار الدول للقرماني(468/34)
3 - أخبار الأول للاسحاقي
4 - أوراق بريشان لنامق كمال
فهل لنا أن نثق الآن بهذه المصادر بعد أن وقعت جميعها في هذا الخطأ البيِّن؛ ودلت على أنها تتوارث الأغلاط كما يتوارث الناس المرض الدسيس؟. . .
هذا شيء. . . والشيء الآخر أن هذه الأبيات الغزلية تتردَّد في نسبتها بين السلطانين: أحمد وسليم تبعاً لاضطراب الروايات واختلافها؛ ثم هي مسروقة - أو جزءُ منها على الأقل - من أبيات للملك الصالح طلائع بين رزيك، كما يشير إلى ذلك مقال الأستاذ. . . فأي هذه الأقاويل أولى منا بالتصديق؟ بل أيها أبعد عن تهمة الكذب والتلبيس؟
. . . أخيراً يجيبني الأستاذ عن مسألة التخميس بقوله: (جواب هذا السؤال وارد في المخطوط من أنها للسلطان أحمد فيكون هو نفسه قد خمسها بعد ما زاد عليها تلك الأبيات، وبينها أبيات الملك الصالح الثلاثة) وأنا ما علمت قبل اليوم أن شاعراً يخمس لنفسه شعراً!
والأبيات بعد كل هذا ليست مما يستحق طول النقاش أو دقة التحري؛ فلا هي من جيد الشعر ولا من متوسطه، وإنما هي إلى المتكلَّف أقرب وفي باب المصنوع أدخل. وإذا كان لنا أن نخرج بثمرة من كل ذلك، فلتكن هذه الثمرة في اعترافنا بأن كتبَ التاريخ القديمةَ عندنا في حاجة إلى تحليل دقيق وتمحيص وافٍ نتميز بهما غثها من سمينها؛ وإلا فالكفُّ عن قراءتها وتركُ الاعتماد عليها أولى وأحرى. . .
ولنشكر أستاذنا الفاضل عبد الله مخلص الذي أتاح لنا ببحثه القيم، أن نسوق مثلَ هذه الكلمة الصريحة.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
1 - حول لبس القبعة، نصوص نواهض
قرأت الفتوى التي نشرها الأستاذ المدني في العدد 467 من مجلة الرسالة، فرأيت أن أذكر القارئ بما أورده الإمام البيضاوي في تفسير: (وإنما عد ليس الفيار - أي الشعار - وشد الزنار ونحوهما كفراً لأنها تدل على التكذيب، فان من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم(468/35)
لا يجترئ عليها ظاهراً، لا لأنها كفر في أنفسها) اهـ. وبما قاله العلامة السعد في شرح المقاصد: (لو كان الإيمان هو التصديق لكان كل مصدق بشيء مؤمناً، وعلى تقدير التقييد بالأمور المخصوصة لزم ألا يكون بغض النبي صلى الله عليه وسلم وإلقاء المصحف في القاذورات وسجدة الصنم ونحو ذلك كفراً ما دام تصديق القلب بجميع ما جاء به النبي عليه السلام باقياً، واللازم منتفٍ قطعاً. وأجيب بأن من المعاصي ما جعله الشارع إمارة عدم التصديق تنصيصاً عليه أو على دليله، والأمور المذكورة من هذا القبيل، بخلاف مثل الزنا وشرب الخمر من غير استحلال) أهـ
وحديث (من تشبه بقوم فهو منهم) قال الحافظ بن تيمية من كلامه فيه في كتاب اقتضاء السراط المستقيم: (وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم) اهـ. ووقع خطأ في سنده بتصحيف (أبي منيب) إلى (أبي جنيب)
2 - أبن بندار
قرأت قطعة من أوائل كتاب المعرب للجواليقي فرأيت مصححه الأستاذ أحمد شاكر يقول في ترجمة المؤلف ص28 - 29: (وقد حدث الجواليقي في المعرب عن شيخين لم أعرفهما: أحدهما ابن بندار. والثاني عبد الرحمن بن أحمد، روى عنه عن الحسن بن علي. . . وشيخه (الحسن بن علي) هو أبو محمد الجوهري الشيرازي مات سنة 454)
أقول: أما ابن بندار فهو أبو المعالي ثابت بن بندار المعروف بابن الحمامي ولد سنة 416 وسمع أبا الحسن بن رزمة وأبا بكر بن البرقاني وأبا علي بن شاذان في خلق كثير. قال ابن الجوزي: حدثنا عنه أشياخنا. توفي سنة 498
وأما الثاني فهو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف، سمع ابن المذهب والبرمكي وغيرهما وكان ثقة. . . قال ابن الجوزي: حدثنا عنه أشياخنا. توفي سنة 511
أحمد صفوان(468/36)
القصص
مرسى مطروح في شتاء عام 1938
عاصفة. . .
للأستاذ فؤاد البهي السيد
يوم عاصف. . .
وسماه مُربدة سوداء. . .
وريحٌ مجنونة هوجاء، تضج وتصخب في عنف وقوة، فتكاد تجتث الأشجار والأحياء. . .
وبحر ثائر، وأمواج مزبدة غاضبة، كأنما يعول فيها ألف مارد وشيطان.
تباً لهذه الصحراء من حرباء. . .
وبغضاً لهذا البحر من منافق. . .
لطالما كنت أحب هدوءهما، وأنعم بالسكينة في جوارهما، ولم أك أدري أنّ وراء هذا الهدوء كل هذه البراكين التي تقذف بالححم واللهب، ولم أك أعلم أن وراء هذه السكينة كل هذه الزلازل التي تحطم وتخرب. إنها الطبيعة انطلقت سافرة، ونضت عنها قناعها، وبان منها الناب والظفر. . .
أويت إلى داري، وأوصدت عليّ أبوابها ووقفت وراء زجاج النافذة أشهد عراك العناصر وانطلاقها، فإذا السماء ترجمني ببرد كالصخر، وإذا الزجاج يتحطم عن يميني وعن شمالي، وتتناثر شظاياه وتملأ أرض القاعة، وكأنما ساء الطبيعة أن تراني أتأمل وجهها الغاضب والغضب يمسخ الوجوه، ويضفي عليها ألواناً بغيضة، وهي لا تحب للإنسان أن يرى سوأتها وقبحها
صافح سمعي قرع خفيف على باب الدار فقلت لنفسي وأنا أشعل لفافتي، وأتأمل لهب الثقاب حتى لكأنما عزّ عليّ أن تخلوا هذه الثورة كلها من لهب ونار؟!
- ما خطب هذه الرياح التي ما تفتأ ترجمني، فما أنا بإبليس، وما داري بالعقبة وما تلك بشهور الحج. . . وما. . .
وعاد القرع قوياً شديداً، فنهضت لأستقبل طريد العاصفة، فإذا هو زنجي عملاق، ابتلت منه(468/37)
الثياب، واصطكت منه الأسنان، وامتدت منه اليدان ترجوان مأوى وملجأ، قلت في حيرة:
- تفضل
قال وهو يوصد الباب وراءه:
- شكراً
قلت أحاوره:
- ما دفعك على السير والعاصفة في نشوتها سكرى تحطم وتخرب؟
قال:
- إنما كنت في طريقي إلى دار مولاي السيد السنوسي
السنوسيون
إني أعرفهم وإن لم أكن قد رأيتهم بعد. . .
عرفتهم في مجدهم وإيمانهم وسحرهم الذي بسطوه على هذه الصحراء، فإذا كل ضارب في أرجائها ودروبها، وكل سار في لياليها وأمسياتها صديق لهم أو رفيق أو تابع
عرفتهم من هذه الصورة الحلوة التي رسمها لهم رحالتنا الكبير أحمد باشا حسنين (في صحراء ليبيا)
وعرفتهم مما كتبته عنهم (روزيتا فوربس) في مغامرتها في الصحراء الغربية مع رحالتنا، حينما ضلا طريقهما وظلا بين الحياة والموت أياماً كانا فيها كالمشرق على هاوية، يروعه عمقها وترعبه ظلمتها، وهو على حافتها، يهتز ويتأرجح في فزع مميت، ولقد نجت ونجا صاحبها، وأهدت كتابها إليه
وعرفتهم من أحاديث رفاقي عنهم بعد أن تركوا ديارهم، واحتموا بمرسى مطروح من عذاب الاستعمار وشره
وعرفتهم مما كتبت عنهم الصحف في قتالهم للمغتصب الفاتك
وعرفتهم في احتمالهم الأذى، واصطبارهم عليه وتجملهم له وعرفتهم بعد ذلك، ولقيتهم وصحبتهم طويلا. . .
صاح رفيقي وكأنما هو يقرأ كل ما يدور بخلدي:
- أتعرفهم(468/38)
فابتسمت له وأنا أقول:
أأنت تعرفهم. أعني أصحبتهم طويلاً؟!
فنظر إلي وهو يقول:
- أأعرفهم؟!
ثم ابتسم الرجل ابتسامة حزينة واستطرد قائلاً:
- لقد ولدتني أمي في دارهم، وعشت صباي وشبابي في واحتهم الكفرة، ثم رحلت عنها فيمن رحل لا ظاعنا لأعود ولكن طريداً فقد الدار والأهل، والله وحده يعلم ماذا حل بالأم والزوجة والأطفال من بعدي. لقد أسرعت إلى بعيري ورمحي، لكن ماذا يجدي البعير والرمح والرفاق من حولي يموتون من حيث أرى ولا أرى، ولقيت ابني الصغير يهيم على وجهه باكياً صارخاً فمددت له يدي وأردفته ورائي وأسرع بي البعير يعدو، وأحسست بالطفل يسقط فأمسكته من رجله وظل معلقاً هكذا ساعة أو بعض ساعة، وأنا أعدو به وهو يبكي، وأنا لا أكاد أسمع صراخه وبكاءه وسط هذا الصخب وتلك الضجة
ثم صمت الرجل ودوى صوت الرعد رهيباً قاسيا، وثارت الطبيعة من حوله ومن حولي، وعلا صوت ارتطام الأبواب والنوافذ ودقات قطرات المطر المتلاحقة السريعة على الزجاج. . .
واستطرد يقول وكأنما هذه الطبيعة الغاضبة لا تعنيه:
- وافقت لنفسي على تأرجح البعير وهو يمشي الهوينا، وقد صمتت الأصوات من حولي، وابتلعت الصحراء صوت كل صارخ فيها وهاتف، ونظرت لطفلي فإذا هو ثابت الإحداق، وأحسست ببرودة بدنه كبرودة البئر في ليالي الشتاء، فاحتضنته وأنا أبكي بكاء لم ابكه من قبل، وسار بي البعير في دروب لا أعلمها وضللت في الصحراء طويلاً، ونفق البعير ودفنته مع الطفل وسرت وحدي كمخلوق معتسف ضال يهيم على وجهه ظامئاً ككلب يلهث. . .
وصمت الرجل ولعله كان يجاهد عبرة تتألق في محجريه، وتنهدت وأنا أقول له:
- ما اسمك؟. . . قال:
- فرحات. . . فرحات يا سيدي، وإن كنت لم أنعم بهذه الفرحة التي وسموني بها قط!. . .(468/39)
ولعلهم كانوا يتشاءمون من مصيري فسموني بهذا الاسم، كما يسمون اللديغ سليما وهو يعاني نفثة الأفعى أو سم العقرب
وفي الصباح علمت بما فعل السيل ودمر
فلقد صعق رجل وجمل بالجبل!
واجتاحت السيول سيارة براكبها فأغرقته وهو في طريقه من السلوم إلى مرسى مطروح
وبعد أيام زارني فرحات، وتوثقت بيننا الألفة وظل عاماً معي
ولم أك أدري أن هذا العملاق الكبير يحمل بين جنبيه هذا القلب العطوف الحنون. . . لقد كان وديعاً كحمل طاهر بريء!
ما أظن يا فرحات أني سألقاك وقد ناءت بنا الديار
من يدري؟
أتهيم الآن في صحرائك ضالاً معتسفاً؟ أم عدت إلى واحتك؟ أم فاضت روحك. . .؟
الله وحده يعرف أبن ألقت بك العاصفة. . . . . . . . . . . .؟!
فؤاد البهي السيد(468/40)
العدد 469 - بتاريخ: 29 - 06 - 1942(/)
الحب الضائع
للأستاذ عباس محمود العقاد
تكلم سان بيف - إن صدقتني الذاكرة - على أدب المذكرات الخاصة الذي شاع بين القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر في طائفة المثقفين والمثقفات من أهل فرنسا فعلل شيوع هذا الأدب بحب الظهور أو حب التحدث عن النفس والعكوف عليها. وقال ما فحواه: إننا نحن الفرنسيين نحب أن يتحدث عنا الناس وأن نتحدث عن أنفسنا فكتبنا. فأن عز علينا ذلك في المحافل والأندية خلونا إلى أنفسنا فكتبنا عنها في مذكراتنا الخاصة وجعلنا من سيرتنا موضوعاً يشغلنا كأننا أبطال المسرح ونظارته في وقت واحد. وهذا هو عنده - إن صدقتني الذاكرة مرة أخرى - تعليل أدب المذكرات الذي شاع قبيل عصره بين الفرنسيين والفرنسيات
وصاحب هذا التعليل لم يوفّ السبب الصحيح كل التوفية فيما نراه
فإن المذكرات الخاصة لم تشع بين الفرنسيين وحدهم في تلك الفترة، ولكنها شاعت كذلك بين الإنجليز وبدأت عندهم على الأرجح قبل ابتدائها عند الفرنسيين. فأثرت عنهم اليوميات من أوائل القرن السادس عشر إلى أيام الثورة الفرنسية، وكانت لهم فيها أفانين لا تنحصر في نوع واحد من أنواع الملاحظة والتدوين
والأغلب في اعتقادنا أن كتابة المذكرات الخاصة عادة سرت إلى أبناء فرنسا وإنجلترا معاً من عادة الاعتراف التي دان بها التابعون للكنسية الكاثوليكية زمناً في كلتا الأمتين. فكان إفضاء الكاتب بأسراره إلى دفتره المكنون ضرباً من الاعتراف بين يدي الكاهن بالخطايا والذنوب وخفايا النيات، وأصبحت كتابة المذكرات هي باب الاعتراف الوحيد الذي ظل مفتوحاً لمن تحولوا عن الكنيسة الكاثوليكية وعدلوا عن الاعتراف بين أيدي الكهان
وربما أضيفت إلى هذا السبب أسبابٌ أخرى نفسية كمزاج البوح والمكاشفة الذي يطبع عليه بعض الناس، وأسباب أخرى سياسية واجتماعية كاضطرام الفتن واختلاف العادات، وصعوبة المفاتحة بالأسرار بين أناس متدابرين مستريبين فيما يضمر كل منهم من العقائد والميول
والدكتور طه حسين قد جمع بين حسن الإلهام وحسن التعليل حين عرض لهذا الأمر في(469/1)
الصفحات الأولى من روايته الجديدة (الحب الضائع) فقص لنا قصة الفتاة التي انتقلت من الاعتراف للقسيس إلى الاعتراف للدفتر وقال لنا بلسانها: (إني لأفكر في هذا فأذكر مواقف وقفتها في عهد الطفولة ولا أزال أقفها إلى الآن وقد كدت أبلغ العشرين من العمر. وهي مواقفي من القسيس. . .)
إلى أن تقول: (. . . فأخترع الخطايا اختراعاً وألقيها إلى القسيس متكلفة غالية في التكلف. فيقبل القسيس مني حيناً ويرفض حيناً آخر. حتى انتهى به الأمر ذات يوم إلى أن كلفني أن أعترف له بكل ما أثقلت به نفسي من هذه الأكاذيب والأباطيل ونبهني إلى أن الكذب عليه كذبٌ على الله، وإلى أن هذه الخطيئة الساذجة في ظاهر الأمر قد تستحيل إلى خطيئة مهلكة لأنها تعودني الكذب، وتغريني بالتكلف، وتدفعني إلى النفاق، وتنشئ بيني وبين الآثام صلات قد تنتهي بي إلى الشر. فأقلعت منذ ذلك اليوم عن انتحال الخطايا وتكلف الآثام للقسيس، ولكني ألاحظ الآن أني قد جلست إلى هذا الدفتر لأنتحل الأحاديث وأتكلف الأسرار وما في نفسي من حديث وما لضميري من سر. . .)
فها هنا طفلة أحبت الاعتراف لأنها أحبت أن تتشبه بالفتيات الناميات ولو في انتحال الخطايا واختلاف الذنوب، ثم حال القسيس بينها وبين الاعتراف الكاذب فرجعت إلى قسيس صامت لا يمنعها أن تعترف بما تشاء ولو لم تكن فيه مدعاة اعتراف، وهو الدفتر الذي تطويه عن الانتظار وتجد عنده مزيجاً من متعة البوح ومتعة الكتمان
هذا مزاج الاعتراف واتخاذ الدفاتر الخاصة معاً قد مثل لنا على صورته الجلية الصادقة في أطوار هذه الفتاة التي يحدثنا عنها مؤلف (الحب الضائع)
ولعلنا نلمس في هذه الحقيقة طابع الصدق الفني والصدق الواقعي الذي اتسمت به الرواية في سرد حوادثها ورصف نسائها ورجالها
تأخذ في قراءة هذه الرواية وتعبر منها صفحة بعد صفحة فلا يزال يرتفع في خلدك شعور بالسؤال: مني كنت هنا قبل الآن!
أو لا تزال تشعر كشعور الرجل الذي رأى وجهاً عرفه ولا يذكر أين رآه أول مرة، أو كشعور الرجل الذي رأى مكاناً تخيله ووصف له وظن أنه نزل به يوماً ولا يذكر متى كان ذلك اليوم(469/2)
ثم تعرض مقروءاتك من بعيد وقريب فيتراءى لك من بينها اسم (فرتر) الذي لا ينساه طويلاً من عرفه بعض حين
أي نعم هو (فرتر) بعينه. . . هو فرتر لا مراء
أفمعنى ذلك أن رواية الحب الضائع تشابه رواية فرتر في وقائعها؟
أفمعناه أنها تشابهها في سياقها أو أسلوب كتابتها أو طريقة في فن القصص أو مواقف الأبطال الموصوفين فيها؟
كلا. لا تشابه من هذا القبيل بين الروايتين، وكل ما بينهما من التشابه أنهما تتحدثان لنا عن حب يائس انتهى بامرأتين صديقتين إلى الموت. وهذا في الحقيقة موضوع عام تشترك فيه روايات لا تحصى، ثم لا تذكرك واحدة منها بالأخرى
إنما التشابه في جو الطيبة والوداعة الذي يغمر القارئ وهو يتقدم في قراءة الروايتين
وليس هذا كل ما هنالك وكفى!
بل هي طيبة لا تشبه كل طيبة في لبابها، لأنها طيبة جادة تعرف كيف تستسلم وكيف تجمح وكيف تنطوي على نفسها وكيف تقبل الحياة بشرائطها هي لا بشرائط الحياة
وهي كذلك طيبة لا تحسها من مصدر واحد في الرواية، فلا تحسها من الزوجة وحدها ولا من الزوج وحده ولا من الصديقة التي خانت فقتلت نفسها ولا من الأسرة التي فرقها الموت أو جمعتها الشيخوخة والأسى
بل هي طيبة الجو كله، وإن برزت فيه الخيانة كما تبرز الشياطين في حظيرة الملائكة العلويين
وهي طيبة العلاقات والأواصر التي تخلق البيئة وتشمل من فيها، فإذا هم كلهم طيبون يريدون ذلك أو لا يريدون
فتاة تتزوج بخطيبها الذي اختاره لها أهلها وقد فجعتهم الحرب في أعز الأبناء. ثم تحب هذا الزوج وتخلص له وترزق منه صبياً يؤكد هذا الحب بينهما، ثم تساق إلى الأسرة صديقةٌ فجعت في قرينها فيلقاها الزوجان بالحفاوة والمودة والمؤاساة، ثم تنشأ بين الصديقة والزوج علاقة لم يحسبا لها حساباً، وكان ينبغي أن يحسبا لها بعض الحساب، فتهرب الصديقة من خطر الخيانة إلى مكان بعيد، وتعالج المقاومة ما استطاعت حتى تعجز عنها وعن الصبر(469/3)
فتعود، ولكنها لا تطيق مقام الخيانة بين الزوجين فتحتال هي وعاشقها على اللقاء في مزار معهود. ويكبر على ضمير الرجل إثم الخيانة فيسوغه بالفلسفة التي يراها خيراً له من مصارحة نفسه بخيانة زوجة تخلص له ولا تفكر في غير الإخلاص ولو على سبيل القصاص. أما الفلسفة التي أهتدي إليها، فهي القول بتعدد الزوجات واستطاعة القلب أن يوفق بين حب اثنتين في كثير من الأوقات، أو كما قال الدفتر الذي تكتبه الزوجة لنفسها ونعلم منه وقائع القصة مروية بلسانها حيث تقول: (. . . كما نسمر في بيتنا كما تعودنا أن نفعل مع جماعة من الأصدقاء الذين تعرفينهم، وكنا نتجاذب الحوار في موضوعات مختلفة كما تعودنا أن نفعل، فانتهينا إلى الحب وانتهينا إلى الوفاء، وأفضنا في ذلك حتى عرض مكسيم لعادة تقرها بعض الجماعات المتحضرة: عادة تعدد الزوجات، وإذا مكسيم يدافع عن هذه العادة دفاعاً حاراً ويذود عنها ذياداً عنيفاُ، وأنا أسمع ذلك ضاحكة منه أول الأمر، ثم منكرة للغلو فيه، ثم دهشة لهذه الحماسة التي يظهرها مكسيم، ثم منتبهة لما كان يرد به فيليب من ألفاظ لا تخلو من تلميح وتعريض، ثم نتفرق وقد وقر في نفسي من هذا الحوار شيء لم يخل من تنغيص لما كان بيني وبين مكسيم من صفو. . .)
هرب الرجل من ألم الضمير إلى الفلسفة كما يفعل الرجال في معظم الأحوال.
أما المرأة، فقد هربت من ألم القلب إلى ملاذ آخر لعله أهون عليها من فلسفة الرجال، وهو الموت!
نعلم ذلك من الأسطر الأربعة التي هي كل ما نبأنا بها المؤلف بلسانه بعد ختام الدفتر على نحو من الاقتضاب كأنما هو اقتضاب القطع بالسكين. . . (وأصبح الناس ذات يوم وقد قرءوا في صحف الإقليم نعي سيدتين أهدت كل واحدة منهما نفسها إلى الموت، وجعل الناس في المدينة إذا لقي بعضهم بعضاً يلمون بهذا النبأ ويقول بعضهم لبعض: يا عجباً! كأنما كانت على ميعاد!)
هنا مظهر الطيبة القوية كلها أو مظهر القوة الطيبة كلها فهنا صدمة طاغية تودي بحياتين ويوشك أن تودي بثالثة، أو هي قد أودت فعلاً بما هو مساك تلك الحياة وهو الاطمئنان وسكينة الضمير
تمت هذه الخاتمة القاصمة دون أن تنفرج الشفاه بكلمة واحدة تبعثر آلام الصدور في آذان(469/4)
من يعنيهم الأمر ومن لا يعنيهم من الفضوليين
ولو كانت طيبة سخيفة لاستنفدت نفسها في اللجاجة والثرثرة والقال والقيل في غير طائل
ولو كانت قوة تخلو من الطيبة لما خلت من الإجرام والفضيحة والتنغيص الذي لا يطاق
ولكنها الطيبة التي قلنا إنها تعرف كيف تستسلم وكيف تجمح، وتعرف كيف تحب وكيف تموت. ومن عجائب الدنيا أنه لا يعرف كيف يحب وكيف يموت إلا من هو أحق الناس بالحياة
والسؤال الذي يخيل إلى أنني سامعه من كل لسان في هذا الموقف هو: أفي العالم اليوم مثل هذا الحب! وإن كان في العالم أفي أوربا؟ وإن كان في أوربا أفي الديار الفرنسية؟
وهنا الكشف الذي يستحق أن تكتب من أجله الروايات والمصنفات، لا الرواية الواحدة ولا المصنف الواحد
فحب النزوات ما استغرق قط نفوس بني الإنسان في هذا الزمان ولا في غير هذه النزوات
وفرنسا ليست ببدع في ذلك بين أمم العالم الحديث. فليست فرنسا كلها باريس ولا باريس كلها بأحياء السهر والمجون، بل هناك فرنسا أخرى كتب عنها العارفون واختبرها الناقدون الملهمون الذين لا يكذبون، وبسطوا للناس من أوصافها ما يأذن بحب كهذا الحب، وجدٍّ كهذا الجد، وطيبة كهذه الطيبة، وكرامة كهذه الكرامة، وإن كثرت من فوقها الفقاقيع التي تحجب القاع، وتخدع فيه الأبصار والأسماع
وضمان هذه الحقيقة أن القلب الإنساني حيث كان يفقد قابلية العيش إذا هو فقد قابلية الحب الذي يعز عليه أن يضيع، والذي يؤثر أن يضيع الحياة ولا يضيعه وهو باق بعده بين الأحياء
إذا فني من قلب الإنسان في أرجاء الدنيا هذا المعين المقدس فهي الدنيا الفانية أو هي الأسطورة التي يستحمقها الخيال قبل أن تستحمقها العقول
وهذا هو الكشف الذي من أجله وحده تستحق رواية (الحب الضائع) أن تقرأ وتحفظ، وفيها غير ذلك ما تستحق من أجله القراءة والحفظ والتأمل الطويل
وقد اشتمل غلاف الرواية على توابع أخرى من القصص الصغار التي تنتهي الواحدة منها في بضع صفحات، تختلف في نمط التأليف وفي سرد الحادث وصور الأبطال، ولكنها(469/5)
تتفق في مزية واحدة تحمد للمؤلف الكبير، وهي مزية الجد في تصوير العاطفة التي هانت على ألسنة الناس وعلى نفوسهم في مجالس أهل الفضول. فليس الحب الذي تحكيه هذه القصص الصغار نزوة جسد، ولا مشغلة فراغ ولا لعبة عازلين، ولكنه كما يجمل بالإنسان كأس تصلح أن يملأها الموت كما تصلح أن تملأها الحياة، وتغترف من معين كامن فيما وراء الطبيعة كما تغترف من معين يسطع عليه نور الشمس وتخفق عليه نسمات الفضاء.
عباس محمود العقاد(469/6)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
علاج النفس - الخادع المخدوع - مداخل الشيطان - صورة
إسلامية - المنافق الجميل
علاج النفس
كتب إلينا حضرة (. . .) الموظف بوزارة المالية خطاباً يذكر فيه أنه يعاني أزمات نفسية تتمثل في تجسيم الخلاف الذي يثور بينه وبين أهله وأصدقائه من حين إلى حين، وهو يستحلفنا بالله أن ندله على طريق الخلاص من هذه الأزمات السُّود
ونحن من جانبنا نستحلفه بالله أن ينظر في الصور آلاتية:
1 - رجلٌ صائم يشعر بأن الصيام قد يحمله على سرعة الانفعال، فهو يتجنب الاصطدام بالناس، لئلا يؤذيهم بغير حق
2 - رجلٌ ترك التدخين بعد طول العهد بالتدخين، فهو يعرف أنه في الأيام الأولى محتاج إلى التصبُّر، ومضطر إلى البعد قليلاً عن المجتمع، لئلا يحمله ضيق النفس على الوقوع في محرجات لا تليق
3 - رجلٌ مأزوم يخفي كربه عن زوجته وأبنائه، فهو يبتعد عامداً عن الحديث في المطالب المعاشية، لئلا تلوح فرصة يثور فيها كربه فتنفرج شفتاه عن بعض الألفاظ الغلاظ في إيذاء الزوجة والأبناء
4 - قاض ينسحب من الجلسة وقد أحسّ بنوبة مَرضية خوفاً من الإضرار بالمتقاضين، لأنه يعرف أن العلة ولو كانت خفيفة تعرّض أحكامه للاعتلال
5 - مدرس غاضب على أحد التلاميذ، وهو لحرصه على النزاهة يرفض امتحان ذلك التلميذ، لئلا يؤثر غضبه في تقدير الدرجات، وهو نوع من القضاء
6 - غريب يشعر بالضجر من أحد البلاد، فيمنعه العقل من اغتياب ذلك البلد، إيماناً بأن الغربة قد تلوِّن أحاسيس المغتربين بالحزن والانقباض، فهم يرون الدمامة ويعمَوْن عن الجمال(469/7)
7 - خصمٌ شريف يعرف أن الخصومة قد تُفسد أحكام الرجال على الرجال، فهو يحاسب نفسه قبل أن ينطق بكلمة تسيء خصمه اللدود
فما رأيك في هذه الصور السبع، ولها أمثال تفوق الإحصاء؟
إن كان حكمك على هذه الصور يوافق أحكام أولئك الرجال فادرس نفسك وزمانك لتعرف أنك معرض لآفات نفسية تفرضها عليك الظروف في هذه الأيام (البيض)
أحترس كل الاحتراس من نفسك في هذه الأوقات، واعلم أن سلامة الأعصاب تعرضتْ لمصاعب لا تطاق، ومن النادر أن تجد رجلاً يساير الحياة بقلبٍ سليم، وقد قضت متاعب الحرب بأن يصير الناس جميعاً مجنَّدين، ولو كانوا من سكان المغاور والكهوف
يومك الحاضر متعب، ولا تمر فيه لحظة بلا منغصات، ولذلك أرجوك أن تسارع فتتهم نفسك قبل أن تتهم الأهل والأصدقاء عند اشتجار الخلاف
ومن المؤكد أن (مرض العصر) لا يمسك وحدك، لأنه وباء، والوباء لا يقتصر شره على الأفراد، فهو يمس الجميع بلا استثناء
فهل تكون عند حسن الظن بك فتقف موقف الطبيب من مرضاه؟
ومع من تجسَّم الخلاف؟
إنك تعامل أقواماً ضعُفت أعصابهم أقبح الضعف، بسبب المضجرات التي ساقتها أعوام الحرب، فهم في حقيقة الأمر مرضى لا أصحاء، والعاقل لا يطالب المريض بما يطالب به الصحيح
وأنا مع هذا أنصحك بما لا أنصح به نفسي، فأنا أكتب هذه الكلمات في أعقاب ثورة نفسية قضت بالقطيعة بيني وبين صديق لا ذنب له غير العيش في أيام تُجسَّم فيها أشباح الهفوات
وما جاز عندي أن أنصحك بما لا أنصح به نفسي، إلا لأني أرجو أن تكون قدرتك على نفسك أكبر من قدرتي على نفسي. . . وليتك تتأدب بأدبي، فأنا لا أنفض يديَّ من صديق إلا بعد الصبر عليه عدداً من السنين الطوال، ثم لا يكون عقابه غير الهجر الجميل
لطف الله بي وبك، وهداني وهداك!!
الخادع المخدوع
هو من يوهمه اللؤم أو توهمه الحماقة أن صداقات الرجال تُنال بالرياء، وأن لُطف(469/8)
المحضر يغني عن صدق المَغيب
الصديق الحق هو الذي يستطيع أن يغزو قلبك بأشعة روحانية توحي إليك أنه أنيسك في النعماء، وحليفك في الضراء، وأن وداده الصحيح هو القبس الذي تستضيء به عند اعتكار الظلمات
الصديق الحق هو الذي يدرك بوضوح أن الصداقة تفرض عليه أن يكون سنادك في جميع الأحايين، وأن يؤاخي من آخاك ويعادي من عاداك، ولو كنت على ضلال. وهل يستطيع الصديق أن يرى في صديقه غير كرائم المناقب وروائع الخصال!
ليس بصديق من يرى عيوبك، أو يسمع فيك أقوال مبغضيك. وليس بصديق من يجوز عنده أنك واحد من الناس يقترب إليه باسم الصداقة، ويبتعد عنه باسم العقل. وليس بصديق من لا يراك في جميع أحوالك أشرف الرجال
إن استباح الصديق أن يتعقب صديقه بالملام، في جد أو في مزاح، فهو عدو يلبس ثوب الصديق
قال الرسول عليه السلام: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)
وقد أوَّل قومٌ هذا الحديث فقالوا إن نصر الأخ الظالم هو نهيه عن الظلم
وأقول إن هذا الحديث الشريف يرمى إلى غاية لم يفطن إليها أولئك المؤولون، وهو عندي دعوة إلى العصبية الأخوَّية، وهي الغاية في شرف الإخاء، وتلك العصبية توجب أن نكون في صفوف الإخوان ولو كانوا ظالمين، لأن الوداد الصحيح هو الاشتراك الوثيق في المحاسن والعيوب
أقول هذا وأنا أعلم أن في خلق الله من يثور على هفوات صديقه ليتسم بالنزاهة والعدل، ولو عقل لأدرك أن مؤاخذة الصديق - ولو بحق - هي أقبح ألوان الظلم والجور والإجحاف
مداخل الشيطان
إن جاريت العقائد الدينية فالشيطان مخلوق يوسوس لك بلا انقطاع ليضلك عن سواء السبيل. وإن جاريت المذاهب الفلسفية فالشيطان هو هواك، وأنت بين هذين الفرضين مسئول عن مقاومة هذا الهوى أو ذلك المخلوق، لأنه في حاليْة مشئوم مشئوم(469/9)
ينزع الشيطان فيقول: لك أن تختار بين إيثار صديقك وإيثار الحق
وعند هذه الفكرة المضللة تلتفت فترى الحق أجدر بإيثارك فتثور على الصديق
ثم تلتفت مرة ثانية فترى ناساً يُعجبون بشجاعتك ونزاهتك لأنك آثرت الحق على الصديق
وتلتفت مرة ثالثة فتراك وُصفتَ بأوصاف لطاف هي منحة الشيطان لمن يثور على الصديق
ثم تلتفت مرة رابعة فتراك مسئولاً عن تبرير ثورتك على الصديق، ولا يتم ذلك بغير مآثم يكون منها أنك أشرف من صديقك، ولا يقول رجلٌ إنه أشرف من صديقه إلا حين يُشرف على هاوية الانحطاط!
إن الإفك في محاربة عدوّك أشرف من الصدق في محاربة صديقك، ولك أن تقول إني أفضّل الإفك على الصدق في بعض الأحيان
عِرضُ الصديق هو عِرضُك، ولن تكون رجلاً إلا حين تفرح بضلال صديقك قبل أن تفرح بهُداه
كن صديقاً صدوقاً، ثم تجرّدْ من سائر الفضائل إن شئت، فما يقيم الله وزناً لغير أعمال الصديق الصدوق
اسمع كلامي، يا غافل، إن كان لك سمعٌ أو قلب، اسمع ثم أجبْ:
هل تعرف لأي سبب قلّت الصداقات في هذه السنين العجاف؟ وأساعدك على الجواب فأقول:
قّلت الصداقات، لأنها جواهر نفيسة وكريمة، ونحن في زمن لم يرتفع فيه غير ثمن الرغيف المخلوط بالتراب. . . وما أُحب أن أزيد!
صورة إسلامية
في أحد أيام سنة 1938 - وكنت ضيف العراق - أطلعني السيد صادق الوكيل رحمه الله على قصة صدرت في بيروت تسمى (خطيئة الشيخ) أو (توبة الشيخ) فما أذكر اسمها بالضبط، ولعل إحدى المكاتب ترسلها إليّ بالثمن محوّلاً على البريد فأعرف ما فيها من مقاصد وأغراض
أخذ السيد صادق الوكيل يقرأ من تلك القصة صفحات معيّنة، وهي الصفحات التي يشرح(469/10)
فيها المؤلف كيفية الوضوء وكيفية الصلاة، بصورة مُزِج فيها القَصص بالتعليم، ثم عقّب فقال: ترضيني هذه الطريقة، فأنا أخشى أن يجيء يوم ننسى فيه كيفية الوضوء وكيفية الصلاة!
وفي صيف سنة 1939 قضيتُ أياماً في الإسكندرية لأستكمل الصور المنشودة لكتاب (أدب الشواطئ) وهو كتابٌ صرفتني عنه صروف الحرب، أو صرفني عنه إقفار الشواطئ من احتراب العيون والقلوب، وسأرجع إلى إتمامه ونشره يوم يرجع الأمان إلى صدر الزمان
وأواجه الغرض من هذه الكلمة فأقول:
في ساحة الفتون بالشاطئ الإسكندري لقيني الشيخ محمد أبو العيون، وهو أزهريٌّ طيب القلب جداً، وقد تهمّ حين تراه بأن تسأله الدعاء، على قلة هذا النوع في هذا الجيل، وإني لأرجو أن يتفضل فيذكرني بالدعوات الصالحات حين أخطر في البال
كنت أمتع عينيّ بأحد ملاعب (التِّنِسْ) في الشاطئ حين لقيني الشيخ محمد أبو العيون، ولملاعب التنس فوق الشاطئ الإسكندري جاذبيه تفوق الوصف، ولكن قدوم هذا الشيخ الصالح صدّني عن ذلك النعيم، وأشعرني أن للتقوى جاذبية رائعة، وأن النظر في وجه الرجل العابد يوحي من اشعر ما لا يوحيه النظر في طلعة البدر الوهاج
ولم يكن بدٌّ من صحبة هذا الشيخ في ذلك الوقت، وكانت الشمس تتأهب للاستحمام، وهي تستحم في البحر كل يوم قُبَيل الغروب، ولعل هذا هو السبب في أن جسمها خالد الإشراق!
- هل يضايقك أن نتعشى معاً، يا حضرة الدكتور؟
- أنا لا أتناول طعاماً بالليل، ويكفي أن أكون في ضيافتك الروحية
- تعال معي إلى الفندق، فهنالك مشكلة ينفع في حلها تعاون الرفاق
- وما تلك المشكلة؟
- خادمٌ بالفندق يرفض أن يتعلم كيفية الوضوء وكيفية الصلاة، مع أني عرضت عليه خمسة قروش. ولو أنه استزادني لزدته؛ ولكنه يرفض
مضينا معاً إلى الفندق لحل تلك المشكلة، وأنا أبتسم ابتسامةً تخفي على الشيخ، فمن (المضحك) أن يُفكر روّاد الشواطئ في تعليم خدّمّة الفنادق كيفية الوضوء وكيفية الصلاة
ونظرتُ إلى الخادم فرأيته فتىً تشهد ملامحه بأنه مسلمٌ لفظاً لا معنىً، وأن طول عهده(469/11)
بخدمة الفنادق والقهوات راضه على اليقين بأن المصطافين ليس فيهم من يذكر الله بصدق وإخلاص. . . وهل تزار الإسكندرية في الصيف لأداء الصلوات؟
عَرض الشيخ من جديد خمسة قروش، وعرضتُ عشرة قروش فقبِل الخادم (وهو يضحك ضحكة السخرية) أن يطيعنا فيتعلم كيفية الوضوء وكيفية الصلاة
أخذ الشيخ يعلَّم الفتى كيفية الوضوء بإيجاز، وكان الموقف في جملته من غرائب المضحكات، لأن قروش الشيخ وقروشي جعلت الفتى من المأجورين المأزورين، ولا قيمة لعبادة يكون جزاؤها بأيدي الناس!
كان الفتى يضحك ويلعب، ثم تغيَّر وجهه فجأة فصار في خشوع النسّاك، واحتجزّنا ساعتين لنعلَّمه سائر الفروض الإسلامية، ولم يَفُته أن يردَ القرَوش التي أخذها من الشيخ والقروش التي أخذها مني، برغم الإلحاح في قبول الهدية، وكانت حجته أنه قضي في صحبتنا لحظات هي أثمن وأنفس من أطايب الأموال
وفي الأسبوع الماضي زرت الإسكندرية لبعض الشئون، فراعني أن أجد فتى يهجم على يدي فيقبّلها بحرارة وشوق، ثم يسألني الدعاء، وهو الفتى نفسه، الفتى الذي علَّمناه كيف يصلي وكيف يصوم
خُذ علمي وأعطني إيمانك، أيها الجاهل السعيد، فلا حياة للعلم بدون إيمان
المنافق الجميل
هو شجرة الخِلاف أو الصَّفصاف، وهي شجرة غرستُها بيدي عشرات المرات، قبل أن أهاجر من سنتريس إلى باريس
لا يدوم جمال هذه الشجرة غر سنتين أو ثلاث، ثم تُخّوَّخ، والتخويخ في عُرف أهل مصر هو أن تعتلّ الشجرة بعلة الجوف، فيكون لها ظاهرٌ صحيح، وباطنٌ عليل، على نحو ما تكون شجرة الصفصاف بعد أعوام قصار، وعلى نحو ما تكون ضمائر الأصدقاء المزيّفين بعد أيام طوال!
رجال القلم هم أطباء النفوس والقلوب والعقول، والطبيب بلا مَرَضى كالمحامي بلا قضايا والمدرس بلا تلاميذ
ومن أجل هذا أحبك، أيها المنافق الجميل، لأن وجودك فرصة لدرس الغرائز والسرائر(469/12)
والأهواء
أدامَ الله عليك نعمة الغدر، وأدام عليَّ نعمة الوفاء.
زكي مبارك(469/13)
التصوير عند العرب
للمرحوم أحمد تيمور باشا
للدكتور محمد مصطفى
خيل إليَّ وأنا أقرأ كتاب (التصوير عند العرب) أنني أجلس في (الخزانة التيمورية) أراقب صاحبها - رحمة الله عليه - فأراه يقوم إلى أحد الرفوف ويتناول كتاباً معيناً، من بين الكتب الكثيرة المرصوصة بعناية فائقة، ليقرأ فيه ويسجل على حواشيه ما يخطر له من آراء وأفكار. وأكاد أرى هذا الكتاب وهو يهتز بين يديه طرباً وسروراً، بل أكاد أسمع هذا الكتاب وهو يتغنى بمديح صاحبه ويفخر بين الكتب الأخرى بما خط على جوانب صفحاته من ملاحظات ترفع من قيمته في أعين العارفين. نعم. . . إن الكتب ترقص وتغني إذا هي وجدت من يعني بأمرها ويرعاها في عطف وحنان. ولو تركت (الخزانة التيمورية) وشأنها - وما فيها من عشرين ألف مجلد - لملأت جو القاهرة وضواحيها بما تتغنى به من أناشيد، تشيد فيها بذكرى صاحبها الراحل الكريم، ولكانت تجلب السلوة والعزاء إلى قلوب الكثيرين من سكان هذا القطر والأقطار الشقيقة، بل إلى قلوب أناس عديدين عصفت بهم الشدائد في تلك النواحي النائية البعيدة، ولكانت تكف عن هذا الصراخ والعويل الذي ينبعث من (قبر) شاءت الأحوال أن تظل حبيسة فيه، بعيدة عن عشاقها ومحبيها
حقاً كان المرحوم أحمد تيمور باشا صاحب (الخزانة التيمورية) ومؤلف كتاب (التصوير عند العرب) من أولئك الذين أسعدهم الدهر بأن يولدوا في وسط عائلي مولع بالأدب وقرض الشعر، فهو الذي قالت في ولادته أخته عائشة التيمورية من أبيات:
لاح السعود وأسفر التوفيق ... وتلا لنا سور العلا توفيق
وكان قد سمى عند ولادته (أحمد توفيق) ولكن لقب العائلة غلب عليه. وقامت أخته عائشة على تربيته بعد وفاة والده إسماعيل تيمور باشا، فتلقى علوم اللغة والمنطق والقراءات على فطاحل أساتذة ذلك العصر أمثال رضوان محمد وحسن الطويل والشنقيطي الكبير، وظل مثابراً على الدرس ومجالسة العلماء والأخذ عنهم، حتى أصبح الحجة في اللغة من بعدهم. وكانت داره بدرب سعادة منتدى يؤمه شيوخ الأدب واللغة للبحث والمناقشة أمثال: أحمد مفتاح، وطاهر الجزائرلي، ومحمد عبده، ويحيى الأفغاني، وغيرهم كثيرون من علماء(469/14)
وأدباء الشرق والغرب. وفي هذا الوسط شب على حب جمع الكتب والتفنن في اختيارها واقتنائها، حتى بلغ ما جمعه في خزانته 15. 000 كتاب في نحو 20. 000 مجلد أكثرها من المخطوطات. ويؤكد الأستاذ حسن عبد الوهاب - وقد كان على اتصال به - أن (هذا العدد من الكتب قد اطلع عليه رحمة الله وعلق عليه ملاحظات له، ما بين وفاة مؤلف أو بيان ذيول وضعت على الكتاب، أو الإشارة إلى قوة المؤلف والاعتماد عليه في النقل) مما يدل على سعة اطلاعه وحبه للآداب والعلوم والفنون.
وكان رحمه الله دقيقاً في بحوثه العلمية، متوفر النشاط، يكثر من الكتابة والتأليف. وله مقالات كثيرة في اللغة والأدب والحضارة العربية والتاريخ الإسلامي، نشرها في جرائد ومجلات عديدة: كالمؤيد والضياء والمقتطف والمقطم والأهرام والهلال والهندسة والزهراء والهداية الإسلامية. أما ما ألفه من كتب فكثير، ولم ينشر بعضها بعد، وإني أذكر البعض مما نشر منها مثل: تصحيح لسان العرب، تصحيح القاموس، نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة وانتشارها، أبو العلاء المعري، تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر، قبر الإمام السيوطي وتحقيق موضعه، وأخيراً كتابه الفذ التصوير عند العرب
وناشر هذا الكتاب - الدكتور زكي محمد حسن - غني عن التعريف، فقد تسنى لي أن أنشر على صفحات هذه المجلة حواراً علمياً بيني وبينه، قابله بما نعهده فيه من ترحاب وسعة صدر! والمؤلف والناشر يتشابهان في بعض الصفات كل على طريقته الخاصة وطريقة عنصره. فكلاهما من هواة جمع الكتب، الأول صاحب الخزانة الشهيرة في الشرق والغرب، والثاني كوَّن لنفسه مكتبة في الفن الإسلامي يتمنى الكثيرون - ومنهم كاتب هذه السطور - اقتناء مثلها. وكلاهما واسع الاطلاع، الأول يحفظ بالذاكرة ويدون ملاحظاته في (كراسات) للرجوع إليها، والثاني يعتمد في بحثه العلمي على طريقة (جذاذات الورق) - وإني أفضل الجمع بين الطريقتين. وكلاهما معتد بنفسه وبمركزه العلمي، الأول في تواضع، والثاني فيما تفرضه مقتضيات عصره من كبرياء لا ذنب له فيها
ولا غرابة إذن أن يقول الناشر في تصدير الكتاب: (إن المؤلف كان حجة في اللغة والأدب، واسع الاطلاع على كتب التاريخ والبلدان، نافذ البصيرة، دقيق الملاحظة. فكان طبيعياً أني لم أجد في متن الكتاب ما يحتاج إلى تقويم أو تصويب من الناحيتين الأدبية(469/15)
والتاريخية، ولكن دراسة الفنون والآثار الإسلامية لم تكن ناضجة في مصر حين كتب فصول هذا الكتاب ولم يكن المؤلف - رحمه الله - أخصائيا وثيق الصلة بالدراسات الفنية في الغرب، فدفعني هذا كله إلى الإقبال على التعليقات والدراسات الفنية مع توضيح الكتاب بالصور)
والحق يقال إن القارئ لا يدري هل هو تواضع المؤلف الذي يطغى على هذا الكتاب مع ما نراه من غزارة مادته في ناحيتي الأدب والتاريخ، أم كبرياء الناشر وما أظهر من سعة الإطلاع في تعليقاته ودراساته الفنية. وما الأدب والتاريخ سوى دعامتي الفن الإسلامي، بهما يثبت قوامه، وبدونهما تتقوض أركانه
وإني لا أجد لتوضيح ذلك أقوى مما قاله المؤلف في صلة الشعر بالفن، فهو يقول في مقدمة الكتاب: (وقد اعتمدت في كثير مما ذكرته على الشواهد الشعرية، لأني وجدت الشعر أصدق قيلاً وأفصح بياناً في هذه المواضيع، فالشاعر إذا وصف فإنما يصف شيئاً موجوداً وقع عليه نظرة فرواه لنا كما رآه، ولأنه يجتهد في تقريبه للأذهان فيصور من دقائقه في شعره ما لا تصوره عبارة أخرى، لا يقصد منها إلا رواية خبر ربما لا يهم راويه إلا ذكر جملته دون تفصيله)
وبدأ المؤلف كتابه بأنواع التصوير فذكر منها ما كان على الجدران والثياب والستور والأقداح والأواني والمصابيح والأثاث والسلاح والنقود والشارات والبنود، وفي الكتب والصحف والألواح. ثم أتبعها بذكر التماثيل على أنواعها من ثابتة ومتحركة ومصوتة بأنواع الحيل وتماثيل الحلوى والزهر والحقول واللعب وتماثيل الصبيان، وأتى بعد ذلك على ما عثر عليه من أسماء المصورين. ويقول في ذلك: (وفي هذا الفصل ما يدحض قول القائلين بقصور العرب في هذا الفن البديع)
ويقع هذا القسم من الكتاب في 114 صفحة هي متن الكتاب الذي حرره المؤلف مع الحواشي التي خطرت له. وليست قيمة هذا القسم في قلة عدد صفحاته أو كثرتها، بل فيما تحتويه هذه الصفحات من بيانات ونصوص، تدل على ما بذله المؤلف من جهود كبيرة ليجمعها من بطون الكثير من الكتب المطبوعة والمخطوطة. وليس أدل على ذلك من قول المؤلف في مقدمته: ثم لا يخفى على من عانى أمثال هذه المباحث أعتياص هذا الموضوع،(469/16)
والتواؤه على محاوله، لتشتته بين تضاعيف الأسفار بعد ذهاب ما كتب عنه، وجمع فيه. فلا غرو أن يعد صغيره كبيراً، ويسيره كثيراً، وألا يُستهان بما يظفر به منه، فإنه إن لم ينقع غُلَّة، ويصرح عن المحض، فلا أقل من أن يتخذ أُسًّا يبنى عليه)
وقد تحققت نبوءة المؤلف هذه واتخذ الكتاب أُسًّا وبُني عليه، وجاءت تعليقات الناشر ودراساته الفنية متممة لهذا (الصغير الكبير، واليسير الكثير) فرد النصوص إلى مصادرها، ووضح الكتاب بالصور، وعمل على إعداد فهرس هجائي طويل لمتن الكتاب وما كتبه من تعليقات وما رجع إليه من مصادر، وإني أشاركه رجاءه في أن يقبل المؤلفون على عمل مثل هذا الفهرس فيما يكتبون وينشرون
ولعل الناشر ظن أن ذكرى مؤلف الكتاب لا تزال حية في قلوب أفراد الجيل الحاضر، فرأى أن ذلك قد يعفيه من الترجمة له، على غير المألوف في نشر المخطوطات. وقد كنا نود لو أن الناشر كان قد افتتح هذا السفر الجليل بترجمة وافية لمؤلفه - رحمه الله - يجمع فيها شتات ما قيل وكتب عنه، لتبقى ذكراه خالدة مع كتابه، لنا وللأجيال القادمة. وإني أرجو أن يحقق الناشر هذه الرغبة إذا أُتيح له أن ينشر من هذا الكتاب طبعة ثانية
وتكلم الناشر في تعليقاته (ص 119 وما بعدها) عن موضوع (حكم التصوير في الإسلام) وأراد أن (يفند الحجج التي يسوقها أصحاب القول بأن التصوير لم يكن مكروها في فجر الإسلام). فحلل هذه الحجج تحليلاً علمياً ورد عليها. وقد تكون لي عودة لمناقشة هذا الموضوع في مقال آخر
وقد توخى الناشر الدقة التامة في تعليقاته وفي توضيح ما نشره من الصور؛ وليس أدل على ذلك من صورة لشخص على دعامة وجدت مدفونة تحت قاعة العرش في قصر الجوسق بمدينة سامرا، وصفها الناشر: (ص 143 وحاشية 1) بأنها لامرأة (تحمل على كتفيها عجلاً)؛ ثم قال في الحاشية: إن (أكبر الظن أن هذا الرسم توضيح لقصة فتنة محظية بهرام جور) وبعد أن سرد هذه القصة اختتم الحاشية بقوله: (ويرى القارئ صورة لهذا المشهد العجيب في مخطوط من المنظومات الخمسة للشاعر نظامي، كتب في تبريز للشاه طهماسب)؛ وقد بدا للناشر بعد ذلك أن يغير رأيه في شرح هذه الصورة فقال: (ص 253 وحاشية 1) إن هذا النقش (قد يمثل سيدة تحمل فوق كتفيها عجلاً، فيكون ذلك توضيحاً(469/17)
لقصة فتنة محظية بهرام جور)؛ وبعد أن تكلم باختصار عن هذه القصة قال: (ولكن الحق أننا لا نستطيع أن نجزم تماماً بأن الرسم يمثل سيدة وليس رجلاً، وبأن الحيوان المحمول عجلاً لا خروفاً؛ وإذا كان من المحتمل جداً أن يكون المقصود رسم رجل يحمل خروفاً فإن المنظر لا يكون من قصة محظية بهرام جور، بل يكون منظراً مسيحياً يمثل قصة الراعي الصالح)؛ وفي الحاشية روى هذه القصة وجاء بمراجع قيمة لبعض صور الراعي الصالح
والحق يقال أنه لا يمكن للقارئ أن يجزم بأي شيء من هذه الصورة وهي في حالتها الراهنة، والناشر على حق في كلا التفسيرين، ولكن إذا تأملنا الرسم الذي حاول فيه الأستاذ هرتزفلد (شكل 65 ص 88 من المرجع الذي ذكره الناشر) أن يرجع هذه الصورة إلى أصلها مع مقارنتها بمثيلاتها على جدران قصر الجوسق بسامرا، أمكننا أن نتبين أنه لامرأة تحمل على كتفيها عجلاً، وأن نستبعد قصة الراعي الصالح البيزنطية الأصل، لما نراه في الصورة من التأثير الساساني الشديد، ولمشابهة صورة المرأة فيها من حيث الرسم والملابس لصور الآلهات على تيجان أعمدة قصر الملك خسرو الثاني الساساني. وكذلك لم يذهب الناشر بعيداً في ظنه أن هذه الصورة تمثل الراعي الصالح إذ لا يبعد - كما أثبت الأستاذ هرتزفلد ذلك في ص 89 من المرجع السابق - أن تكون الصورة البيزنطية للراعي الصالح وعلى كتفيه الخروف قد أوحت للفنان الساساني أن يستبدل بالرجل امرأة وبالخروف عجلاً، فيمثل في صورته هذه (فتنة) محظية بهرام جور، وهي تحمل العجل على كتفيها، كي تتفق الصورة مع القصة الساسانية
ولاشك أن مراجع (الفن الإسلامي) التي ضمها الناشر لما ذكره المؤلف من مراجع الأدب والتاريخ، قد جعلت لهذا الكتاب ميزة خاصة به، فصار وافياً في الغرض الذي كتب من أجله
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية(469/18)
شعر علي بن أبي طالب
للأستاذ السيد يعقوب بكر
هل كان شاعراً؟
لعلنا في حاجة قبل كل شيء إلى أن نصل إلى رأي في هذه المسألة: وهي هل كان علي شاعراً أم لم يكن؟ ذلك لأنه قد ثارت حول هذه المسألة مجادلات؛ فذهب قوم إلى أن علياً كان شاعراً، وذهب آخرون إلى أنه لم يكن كذلك، وإنما كان كاتباً وخطيباً. أقول إننا في حاجة إلى أن نصل إلى رأي في هذه المسألة قبل كل شيء. والواقع أننا لسنا في حاجة إلى شيء بعد ذلك لأننا قد وصلنا إلى رأي في هذه المسألة: هو أن علياً كان من الشعراء. ولقد وصلنا إلى هذا الرأي بعد أن خطونا ثلاث خطوات:
1 - وجود الموهبة الشعرية عند علي
ونقصد بالموهبة الشعرية هنا تلك الموهبة التي تولد مع الشاعر وتنمو بنموه وتنضج بنضوجه، وتدفعه إلى قول الشعر ونظم القصيد. نقصد بها ذلك الاستعداد لقول الشعر واصطناعه وسيلة من وسائل التعبير عن النفس والتصوير لخلجات الوجدان ونوازع القلب
هذه الموهبة الشعرية يكفي في الدلالة عليها حياة النفس، ويقظة القلب، وتنبه الضمير، والتأثر السريع العميق بما من شأنه التأثير السريع العميق. يكفي في الدلالة عليها اتقاد العواطف وحرارة الانفعالات
ولقد كان علي بن أبي طالب موهبة شعرية على هذا الأساس. فلقد كان حي النفس، يقظ القلب، مُتنبِّه الضمير، يتأثر تأثراً سريعاً عميقاً بما من شأنه التأثير السريع العميق؛ ولقد كان متقد العواطف حار الانفعالات
ويكفي في التحقق من ذلك قراءة ما صح من خطبه وكتبه، ففي هذه الخطب والكتب نلمس الشعور الفياض ونحس به سارياً في أثناء الكلام. فنحن إذا قرأنا الخطبة الشقشقية شعرنا بما يضطرم في صدر علي من الألم لظفر أبي بكر ثم عمر ثم عثمان بالخلافة دونه، مع أنه - في نظره هو - أحق منهم بها لقربه من الرسول وتحدره من بيته. وهذا الألم الذي يضطرم في صدر علي ألم قوي شديد، ينفث في الكلام مرارة يستشعرها القارئ، وشكوى(469/19)
مفعمة بالأسى، وظلالاً من الشعور بالحرمان
ونحن إذا قرأنا جوابه عن كتاب معاوية إليه شعرنا بإيمان صاحب الحق بما له من حق، وحرصه عليه، وثورة نفسه على من يسعى لاغتصابه منه أو حرمانه إياه أو الاستئثار به دونه
وهكذا تنتظم خطب علي وكتبه نفسه الحماسية ووجدانه الثائر وعواطفه الجياشة، وتقوم دليلاً على أنه شاعري الروح عظيم الحظ من الموهبة الشعرية
ولقد أحسَّ بروكلمان هذه الموهبة الشعرية عند علي فقال في خلال حديثه عن الديوان المنسوب ج1 ص43: (ليس من شك في أن علياً كان ذا ملكة شعرية. . .)
2 - نسبة أشعار إليه في بعض المراجع العربية المعتمدة
(1) جاء في عيون الأخبار لأبن قتيبة (ج 3 ص 5 ط دار الكتب): (وقال علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه:
أخوك الذي إن أحوجتك ملمّة ... من الدهر لم يبرح لها الدهرَ واجما
وليس أخوك الحقُّ من أن تشعّبت ... عليك أمور ظل يلحاك لائما
(ب) جاء في معجم الأدباء لياقوت (ج 5 ص 263 ط مرجليوث): (قرأت بخط أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري اللغوي في كتاب التهذيب له قال أبو عثمان المازني لم يصح عندنا أن علي بن أبي طالب تكلم من الشعر غير هذين البيتين:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... ولا وَجدِّك ما بروا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهنٌ ذمتي لهم ... بذات روقين لا يعفو لها أثر
قال ويقال داهية ذات روقين وذات ودقين إذا كانت عظيمة
وجاء فيه أيضاً (ج 5 ص 266): (وما يروي أن معاوية كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أن لي فضائل: كان أبي سيّدا في الجاهلية وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخال المؤمنين وكاتب الوحي. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أبا الفضائل تفتخر على يا ابن آكلة الأكباد؟ أكتب إليه يا غلام:
محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن عمي(469/20)
وبنت محمد سكني وعرسي ... مشوب لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها ... فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طراً ... صغيراً ما بلغت أوان حلمي
فقال معاوية أخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب
(ج) جاء في مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني (ص 14 ط المطبعة الحيدرية بالنجف الأشرف): وكانت فاطمة بنت أسد أمُّه لما ولدته سمته حيدرة فغير أبو طالب اسمه وسماه علياً. وقيل إن ذلك اسم كانت قريش تسميه به. والقول الأول أصح، ويدل على ذلك خبره يوم خيبر وقد برز إليه مِرْحب اليهودي وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرَّب
إذا الحروب أقبلت تلهَّب
فبرز إليه علي عليه السلام وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرهْ ... كليث غاب في العرين قسورهْ
أكيلكم بالصاع كيل السندرهْ
(د) جاء في العمدة لأبن رشيق (ج 1 ص 14 ط الخانجي):
(ومن شعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان مجدداً قال له يوم صفين يدكر همْدان ونصرهم إياه
ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا ... نواصيها حمرَ النحور دوامي
وأعرض نقع في السماء كأنه ... عجاجة دجن ملبس بقتام
ونادى ابن هند في الطلاع وحمير ... وكندة في لخم وحيّ حذام
تيممت همدان الذين همُ همُ ... إذا ناب دهر جنتي وسهامي
فجاوبني من خيل همدان عصبة ... فوارس من همدان غير لئام
فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها ... وكانوا لدى الهيجا كِشرب مدام
فلو كنت بواباً على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وهو القائل بصفين أيضاً:
لمن راية حمراء يخفق ظلها ... إذا قلت قدمْها حصين تقدما(469/21)
فيوردها في الصف حتى يَرِدْ بها=حياض المنايا تقطر الموت والدما
(هـ) جاء في ديوان الحماسة للبحتري (ص 61 ليدن): وما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:
من أي يوميَّ من الموت أفرْ ... أيوم لم يقدر أم يوم قُدِرْ
وقال عليه السلام أيضاً:
أعلىَّ يقتحم الفوارس هكذا ... عني وعنهم خبروا أصحابي
اليوم تمنعني الفرار حفيظتي ... ومهنَّد بالكف ليس يناب
آلي ابن عبد حين شدَّ أليَّة ... وحلفت فاستمعوا من الكذاب
ألا يصد ولا أهلل فالتقى ... بطلان يضطربان كل ضراب
فصددت حين تركته متجدلاً ... كالجذع بين دكادك وروابي
وكففت عن أثوابه ولو أنني ... كنت المجدَّل بزني أثوابي
(و) جاء في الكامل للمبرد (ص 544 من الطبعة الأوربية): (ومن شعر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي لا اختلاف فيه أنه قاله وأنه كان يردده أنهم لما ساموه (يعني الخوارج) أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام؛ فقال: أبعد صحبة رسول الله عليه السلام والتفقه في الدين أرجع كافراً:
يا شاهد الله عليَّ فاشهد ... أني على دين النبي أحمد
من شك في الله فإني مهتدى
(ز) جاء في العقد الفريد لابن عبد ربه (ج 3 ص 123): (. . . ومن قول علي كرَّم الله وجهه بصفين:
أمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حصين تقدما
فيوردها في الصف حتى يردَّها ... حياض المنايا تقطر السم والدما
جزى الله عني والجزاءُ بكفه ... ربيعة خيرا ما أعف وأكرما)
فهو غير قليلاً في ألفاظ البيتين اللذين ذكرهما ابن رشيق، وزاد بيتاً ثالثاً
هذه جملة أشعار وجدناه منسوبةً إلى علي في هذه المراجع العربية المعتمدة، وهي بطبيعة الحال ليست كل ما في هذه المراجع، فإننا لو بحثنا فيها أكثر مما بحثنا، لوجدنا جملة(469/22)
أخرى من الأشعار المنسوبة إلى علي؛ ولكننا نستطيع أن نقول واثقين: إن هذه الأشعار التي وجدناه هي معظم ما في هذه المراجع من الشعر المنسوب إلى علي، وهي تكفينا على كل حال في هذا البحث
3 - هذه الأشعار مما يمكن صدوره عن علي وفي عصر
علي
هي مما يمكن أن يصدر عن علي، لأنها تشف عن شخصيته وتصور ما ألم به من الأحداث. فأنت إذا قرأت البيتين المذكورين له في عيون الأخبار طالعتك صورة الحكيم المجرب الذي يرى أن صداقة الصديق لا تكون إلا إذا حزن لحزنك وبكى لبكائك ووجم لوجومك ومن ينكر أن علياً كان حكيماً مجرباً؟ وكذلك إذا قرأت البيت المذكور له في ديوان الحماسة طالعتك صورة العاقل الذي يرى ألا فرار من الموت في أية حال من الأحوال، ومن ينكر أن علياً كان عاقلاً؟
وأنت إذا قرأت الرجز المذكور له في مقاتل الطالبين، والأبيات الستة المذكورة له في ديوان الحماسة، طالعتك صورة الشجاع المغوار الذي يعمل جاهداً في نشر الإسلام بالسيف بعد أن لم تُجدِ الحجة؛ ومن ينكر أن علياً كان شجاعاً مغواراً؟
وإذا قرأت الأبيات الخمسة المذكورة له في معجم الأدباء، طالعتك صورة صاحب الحق يدلِّل على ما له من حق، وكذلك كان علي طيلة حياته، فقد كان يشعر بمقر هذا ويألم لإغضاء أبي بكر وعمر وعثمان عنه ثم لتنكر معاوية آخر الأمر له.
فهذه الأبيات كلها تشف عن شخصيته، وتصور نوازعه وخوالجه وروحه. ثم إنك إذا قرأت سائر الأبيات وجدت فيها صوراً من الأحداث التي ألمت به؛ فالبيتان المشهوران المذكوران له في معجم الأدباء يصوران رغبة قريش في قتاله وقتله، تلك الرغبة التي ظهرت في سير طلحة والزبير وعائشة إليه ووقوع وقعة الجمل بعد ذلك. والرجز المذكور في الكامل على قِصَره يعطينا صورة عن خروج الخوارج عليه واعتقادهم كفره ثم استتابتهم إياه. والأبيات التي قالها في صفين تصور هذه الواقعة أجمل تصوير وأقواه
فأنت ترى إذن أن هذه الأبيات التي وجدناها له مما يمكن صدوره منه لأنها تصور(469/23)
شخصيته وحوادث عصره
ثم هي أيضاً مما يمكن صدوره في عصره، ونقصد بذلك أنها تتسم بالطابع الذي يطبع آداب هذا العصر وهو طابع القوة والصدق. فنحن نعرف أن هذا العصر عصر عربي خالص لم تشبه بعدُ شوائب العجمة، فهو إلى البداوة أقرب منه إلى الحضارة. ونحن نعرف أيضاً أن الروح العربية الخالصة روح قوية صادقة لم يُغَشِّها شيء ولم يلبسْها شيء. ولذلك وجدنا آداب هذا العصر العربي الخالص متسمة بهذه الروح العربية الخالصة بما فيها من قوة وصدق. وليست هذه الأشعار التي نقرأها لعلي ببعيدة عن هذا الطابع الذي يطبع آداب هذا العصر الذي عاش فيه علي. ويمكن لكل ذي ذوق أن يحس ذلك إحساساً واضحاً
هذه هي الخطوات الثلاث التي خطوناها فأدت إلى الرأي الذي قدمناه في أول هذا القسم من البحث وهو أن علياً كان من الشعراء. وليست الخطوة الواحدة من هذه الخطوات بقادرة وحدها على أن تؤدي بنا إلى هذا الرأي، وإنما هي تؤدي بنا إليه إذا تعاونت مع أختيها وانضمت إليهما
ونحن نحب بعد أن أثبتنا رأينا هذا أن نعود إليه فنقويه بأقوال بعض المؤيدين لنا من المتقدمين:
1 - يقول السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 70 ط الميمنية): (وأخرج عن الشعبي قال كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عثمان يقول الشعر وكان علي أشعر الثلاثة)
هكذا يقول الشعبي وهو ثقة، ثم هو أيضاً من المتقدمين فقد كان معاصراً للحجاج وعبد الملك ابن مروان
2 - يقول ابن عبد ربه (ج 2 ص 123): (وقال سعيد ابن المسيب كان أبو بكر شاعراً وعمر شاعراً وعلي أشعر الثلاثة)
فسعيد بن المسيب يقول قول الشعبي، وهو ثقة فقد كان أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ثم هو متقدم فقد كان معاصراً لعبد الملك وتوفي بالمدينة سنة 98هـ
(للبحث بقية)
السيد يعقوب بكر(469/24)
على هامش النقد
كتب وشخصيات
للأستاذ سيد قطب
1 - (عبقرية محمد) للعقاد
العقاد رجل متعب بالقياس إلى النقاد وبخاصة في كتاب (عبقرية محمد)، فالناقد لا يحس بلذة عمله إلا حين يجد مجالاً لمشاركة المؤلف في عملية الإنشاء والخلق. حين يجد مجالاً لمناقشة الفكرة، والزيادة عليها في بعض الأحيان، أو التعرض لها من زاوية غير التي تعرض لها المؤلف. . . وبالإجمال حين يجد له عملاً آخر بجانب المؤلف غير مجرد الاستعراض
والعقاد - وبخاصة في كتابه الأخير - يحرم الناقد هذه اللذة، ويكاد يقعده عن الكتابة. . . وما جدوى أن يكتب الناقد ليقول: (هذا جيد. . . وهذا جيد كذلك. . . وهذا كذلك جيداً أيضاً!) حتى ينتهي من صفحات الكتاب وفصوله، وهو يكرر جملة واحدة أو ما في معناها؟ إنها إذن تحية وليست نقداً كما يشاء النقاد!
الرجل موهوب - هذا ما لا شك فيه - ثم هو لا يقنع بهذه الهبة الضخمة - كما يقنع مع الأسف كثير من شبابنا المتطلعين إلى الشهرة في هذه الأيام لمجرد إحساسهم بنوع من الهبة الطبيعية - إنما هو كذلك قارئ عظيم، وقارئ يعرف كيف يقرأ وكيف يفيد من هذه القراءة؛ قارئ يحس أن القراءة وظيفة له في هذه الحياة، لا يجوز أن تعوقه عنها وظيفة أخرى، حتى وظائف كسب العيش، ووظائف الخدمة العامة
ومن الموهبة الضخمة والقراءة الكثيرة، كان هذا الذي يلاقيه الناقد من العنت والتعب حين يتعرض لأدب العقاد ولنثره خاصة، فشعره لإجماله ولأنه تعبير عن النفس الإنسانية، فيه مجال للشرح والتحليل واستخلاص ملامح النفس من خلاله، وفي هذا كله إرضاء لشعور الناقد، وإشعار له بأنه يعمل شيئاً بجوار الشاعر!
جالت في نفسي هذه الخواطر وأنا أقرأ كتاب (عبقرية محمد) للمرة الثالثة، عسى أن أجد ما أقوله غير (هذا جيد، وذاك جيد؛ وذلك كذلك جيد. . .) ثم عدت لأرى أن الاستعراض أسلم(469/26)
طريق.
ما موضع هذا الكتاب في مكتبة (محمد) وما وظيفته التي يؤديها ولا تؤديها المؤلفات الكثيرة والأخبار المروية، عنه عليه السلام؟
موضع هذا الكتاب أنه خلاصة لهذه المكتبة ولكنها خلاصة (مكيَّفة) تكاد أن تكون شيئاً آخر غير ما استخلصت منه (خلاصة ماهر) والعقاد يقول في أحد أبياته:
ليست خلاصة كل شيء غنية ... عنه وإن كانت خلاصة ماهر
ولكنها في هذه المرة خلاصة تغنى من يريد أن يعرف من هو محمد على وجه التحقيق، لأن فيها من التعليقات والتوضيحات والتحليلات ما يجعلها غنية وافية كل الوفاء، وليس بالقليل أن تستعيض من مكتبته كتاباً
ووظيفته التي يؤديها وينفرد في أدائها، أن كل من عرف (محمداً) من قبل في جميع الروايات والسير والأسانيد والشروح وكل من لم يعرفه كذلك، كلاهما في حاجة أن يعرف (محمداً) مرة أخرى في هذا الكتاب! وأن يرى صورته في هذه المرآة الوضيئة، وإنه لواجد حتماً في الصورة عامة، وفي كثير من جزئياتها جديداً لم يره من قبل في أية مرآة. . . وسينظر ويتأمل ثم يقول المرة بعد المرة: ويْ. . . إن هذا القسم من الصورة لم يكن هكذا في ضميري؛ أو يقول: نعم. . . كنت أعرف ذلك ولكن ليس على هذا النحو الذي أره الآن!!
ومع هذا وذلك، فليس في (عبقرية محمد) خبر غير مروي من قبل، ولا حادثة لم تكن كذلك معروفة، ولا جزئية واحدة لم يتعرض لها الرواة والمحدثون؛ وهذا ما يجعل البعض يقول لأول وهلة: كل ما في الكتاب معروف! وما قد يجعلهم يحسون بالسهولة واليسر في الجهد الذي بذله المؤلف!
والحقيقة أن هذا شعور خدَّاع، وأن عبقرية العقاد ونضوجه في هذه الأيام هما اللذان يهيئان ذلك؛ وإنها لعبقرية - لاشك - ونضوج أن تصنع من المادة الميسرة للجميع شيئاً لم يتيسر من قبل للجميع!
وإن العقاد لمحق حين يرى في مقدمة الكتاب أن الثلاثين عاماً التي مضت بين مولد هذه الفكرة في نفسه وبين تنفيذها، كانت لازمة لفسح نفسه، حتى تستطيع أن تستوعب انفساح(469/27)
(عبقرية محمد). . . وإن في الكتاب للفتات نفسية وفكرية لا تتيسر لكل إنسان، ولعلها لم تكن تتيسر للعقاد نفسه قبل هذا الزمان. . . وإنه ليقول:
(أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟
(إنها مسافات في عالم الفكر والروح، لو تمثلت مكاناً منظوراً، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار، وامتداد النظر بغير قرار)
والذين يعرفون طبيعة العقاد وانفساحها وتوفزها والتهامها لكل جديد، وتجددها حيناً بعد حين، وازدحامها بالخواطر عدد الثواني واللحظات، هم الذين يعرفون حقيقة هذه المسافات في عالم الفكر والروح، ويعرفون أنه يعني ما يقول حين يقول: (لو تمثلتْ مكاناً منظوراً، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار)!
قلت في التمهيد لهذه الكلمات: إن العقاد دارس شخصيات وإن كل إنسان يدرسه العقاد تستطيع أن تعرف (من هو) وإن لم يستوعب كل صفاته وكل ما وقع له في حياته؛ وهذا ما تجده في (عبقرية محمد) في نضج واستواء؛ وإنه ليبدأ بعد المقدمة مباشرة في ص 16 فيرسم بخطوط سريعة التصميم الأولى للصورة تحت عنوانات: (عالَم. أمة. قبيلة. بيت. أب. رجل). . . فتحس بعمل الريشة الماهرة المتيقظة لما تريد، العليمة بقواعد التصميم والتلوين؛ فإذا انتهى إلى ص 26 أحسست أن التصميم كله قد تهيأ على اللوحة، وأن صورة محمد وعصره ووظيفته في هذا العصر قد برزت من خلال هذه الخطوط السريعة، فلم يبق للريشة المدربة إلا التلوين، وملء الفجوات، وتوضيح القسمات، وذلك هو بقية فصول الكتاب!
وسنحاول أن نعرض هنا بعض لمسات هذه الريشة المدربة في تخطيط التصميم الأولى السريع:
يقول في ص 26 و27: (عالم يتطلع إلى نبي، وأمة تتطلع إلي نبي، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي. . . ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقوماته، ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة: في المدينة، وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره
(نبيل عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل فيصغر قدره في أمة الأنساب والأحساب(469/28)
(فقير وليس بالغني المترف، فيطغيه بأس النبلاء والأغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار
(يتيم بين رحماء، فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة الطموح وفضيلة العطف على الآخرين
(خبير بكل ما يختبره العربي من ضروب العيش في البادية والحاضرة: تربى في الصحراء وألف المدينة، ورعى القطعان واشتغل بالتجارة وشهد الحروب والأحلاف، واقترب من السراة ولم يبتعد من الفقراء
(فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية، وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه، فلا هو يجهلها فيغفل عنها، ولا هو يغامسها كل المغامسة فيغرق في لجتها.
(اصلح رجل من أصلح بين في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة على غير علم من الدنيا التي ترقبها
(ذلك محمد بن عبد الله عليه السلام. . .)
وذلك جانب من التصميم الأولي للصورة البارعة التي تأخذ هذه الريشة المدربة بعد ذلك في ملئها وتلوينها بما هو أبرع من هذه البراعة، وبما يتفق للألوان المنتقاة وللريشة الدقيقة في اليد البصيرة من الإبداع
وليس من المستطاع بطبيعة الحال أن أنقل هنا أكثر من هذه الفقرات، فهنالك أشياء أخرى لا بد أن تقال
قلت: إن كل الحوادث والأسانيد والروايات التي وردت في (عبقرية محمد) مروية معروفة وليس فيها من جديد. إنما الجديد هو عرضها واستخدامها واستخلاص النتائج منها. وهو اختيار الحادثة المناسبة في موضعها المناسب. ومن هذا كله تبدو الحوادث والروايات والنصوص في مواضعها وكأنها جديدة هناك، يطالعها القارئ لأول مرة، ويخطر له من معانيها في مواضعها هذه ما لم يخطر له قط وهو يراها من قبل مرة ومرة.
فسرية عبد الله بن جحش وأخبارها معروفة مكرورة ولكنها هناك تدل على (عبقرية محمد(469/29)
العسكرية) كأحسن ما تكون الدلالة بغير تعسف ولا عنت. وعهد الحديبية وأخباره معروفة كذلك مكرورة، ولكنها هناك تبرز بوضوح ويسر (عبقرية محمد السياسية) كأوضح ما تكون العبقرية السياسية بأي ميزان وزنتها به في جميع الأزمان. وقصة الإفك مذكورة في كل كتب السيرة والتفسير مشهورة عند المسلمين وغير المسلمين ولكنها هناك تصور (سماحة محمد) وتلمس النفس الإنسانية فتدرك حقيقة هذه السماحة ومداها الرفيع. وقصة المتاع وأزواج النبي التي ترويها الآية: (يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها. . . الخ) متداولة في السيرة والتفسير ولكنها هناك دليل نفسي وعقلي لا يرقى إليه الشك، ولا يجادل فيه إلا المكابرون على كذب ما افتراه المفترون من استغراق لذات الحس لمحمد عليه السلام
وهكذا وهكذا من حسن الاختيار ووضوح العرض، وبراعة التعليق، وعبقرية التحليل، ووضاحة التدليل.
(البقية في العدد القادم)
سيد قطب(469/30)
مطالعات في الأدب الغربي
عقليات الشعوب في معادلات رياضية
للأستاذ علي كمال
(لن يوتانج) أعظم الكتاب الصينيين المعاصرين، وهو من أشهر مفكري القرن العشرين وكتبه من أوسع الكتب الحديثة انتشاراً، أكتسب شهرة واسعة لتوفقه في فهم طبيعة العقل الغربي ومقارنته بأعرق العقليات الشرقية قدماً وهو العقل الغربي ومقارنته بأعرق العقليات الشرقية قدماً وهو العقل الصيني. وكتابه (أهمية الحياة) يعتبر أهم كتبه وقد أعيد طبعه في أمريكا أكثر من عشر مرات في نحو من سنتين. وفي هذا الكتاب فصول قيمة ننقل إلى القارئ منها خلاصة فصل طريف ضمنه دراسة لعقليات الشعوب حاول رسمها بمعادلات رياضة
(. . . يظهر أن الجنس البشري يقسم إلى طائفتين: الواحدة مثالية والأخرى واقعية. والمثالية والواقعية هما القوتان العظيمتان اللتان تتجاذبان التقدم الإنساني. فطَفْل الإنسانية قد صار ليناً مرناً بماء المثالية. . . إن هاتين القوتين المثالية في طرف والواقعية في طرف آخر تتجاذبان في جميع حقول النشاط الإنساني، والتقدم الحقيقي ممكن فقط بمزج هذين العنصرين بنسب موافقة حتى يظل الطين ليناً مرناً، فلا يشتد طبعه فيصعب تدبيره، ولا يلين قوامه فيصبح وحلاً. فالشعب الإنجليزي وهو أحكم الشعوب قد مزج الواقعية والمثالية بنسب موافقة فلم يترك المزيج قاسياً يصعب على الفنان تدبيره وتناوله، ولم يتركه مرقاً فلا يقوى على حفظ شكله وقوامه
وبعض الأمم في ثورات متتابعة، ذلك لأنه قد حقن في طينتهم الأصيلة بعض السائل من مثاليات الأمم الأجنبية التي لم تتمثل بعض في طبيعتهم، لهذا لم تقو طينتهم الأصيلة على حفظ شكلها
لقد فكرت في معادلات يمكن بواسطتها أن نعبر عن التقدم الإنساني وعن التغيرات التاريخية وهذه هي:
الحقيقة - الأحلام=كائن حيواني
الحقيقة + الأحلام=صداع القلب (يسمى عادة: المثالية)(469/31)
الحقيقة + روح النكتة=الواقعية
الأحلام - روح النكتة=التعصب
الأحلام + روح النكتة=الوهم
الحقيقة + الأحلام + روح النكتة=الحكمة
وعلى ذلك فالحكمة أو أرقى أنواع التفكير تتألف في ربط أحلامنا بروح الفكاهة والنكتة ودعمها بالحقيقة نفسها
ولعل المعادلات التالية تفصل ما وصلت إليه من دراسة عقليات الشعوب، والمجال واسع لمعارضتها ونقدها
إذا رمزنا للحقيقة أو الواقع بالحرف (ق) وللحلم بالحرف (ح) ولروح النكتة بالحرف (ن) وللعاطفة بالحرف (ع)، ثم استعملنا الأعداد 4، 3، 2، 1 لندلل على نسبة حظ الشعوب من هذه العناصر بنفس الطريقة التي تسلك فيها العناصر والمركبات الكيميائية في تفاعلها. وما دمنا لا نستطيع أن نخلق اصطلاحات كالمستعملة في علم الكيمياء مثلاً فلنا أن نعبر عن هذه المركبات بمقادير ذرية كأن نقول 3 ذرات في الحقيقة حق 3، وذرتين في الحلم ح 2 وهكذا
حق3 ح2 ن2 ع1=الإنجليزي
حق2 ح3 ع3=الفرنسي
حق3 ح3 ن2 ع2=الأمريكي
حق3 ح4 ن1 ع2=الألماني
حق2 ح4 ن1 ع1=الروسي
ح2 ح3 ن1 ع1=الياباني
ح4 ح1 ن3 ع3=الصيني
ولست أعلم عن الإيطاليين والأسبانيين والهنود ما يمكنني من وضع مثل هذه المعادلات لهم، وأنا واثق بأن هذا القليل الذي وضعته سيكفي لفتح سيل عرم على رأسي من النقد
ولابد من الملاحظة على هذه المعادلات، فمنها يظهر أن الفرنسيين أقرب الناس إلى الصينيين من حيث روح النكتة والعاطفية، كما يتضح ذلك في كيفية كتابة الفرنسيين لكتبهم(469/32)
وأكلهم وطعامهم. ولكن طبيعة الفرنسيين المتبخرة ناتجة عن مثالية أوسع تأخذ شكل الحب للفكر المجرد
واليابانيون والألمان متشابهون جداً في فقدانهم لروح النكتة والفكاهة، وما دام من غير الممكن وضع صفر كدرجة لهم في هذا العنصر من مركبهم العقلي فأنا أضع (1) وأعتقد بأنني محق في ذلك. غير أنني أعتقد بأن اليابانيين والألمان قد قاسوا كثيراً في حياتهم السياسية ويقاسون الآن بسبب إخفاقهم في امتلاك روح نكتة وفكاهة ملائمة. وعندما وضعت ح3. لليابانيين عنيت بذلك ولاءهم التعصبي لإمبراطورهم ولدولتهم الذي ما كان ممكناً لو أن في عقليتهم بعض الشيء من روح النكتة
. . . إن هنالك تجاذباً طريفاً في أمريكا بين المثالية والواقعية وكلتاهما متمثلتان بقوة كبيرة، وهذا يفسر لنا النشاط والقوة التي يتصف بها الأمريكيون. إن الكثير من مثالية الأمريكيين نبيل بمعنى أن الأمريكيين يلبون بسهولة دعوة نبيلة محقة، ولكن البعض من مثاليتهم يتصف بروح الأساطير
والإنجليز كما يظهر لي إجمالاً هم أحكم الشعوب، فإن (حق3 ح2) تنطق بالثبات والاتزان، وهي أقرب المعادلات للمعادلة المثالية في نظري، وهي (حق3 ح2 ن2 ع2) التي قصر الإنجليز عن بلوغها بدرجة واحدة في العاطفة
من دراسة عقليات الشعوب نخرج بهذه النتيجة: في الصين يعيش الرجل حياة أقرب إلى الطبيعة وأقرب إلى الطفولة، حياة تمارس فيها الغرائز والعواطف بحرية تامة، وتؤكد هذه الحياة بقوة ضد الفكر. وعلى هذا ففلسفتهم في الحياة توصف بما يلي:
أولاً: رؤية الحياة تامة في الفن، ثانياً: رجوع واعٍ للبساطة في الفلسفة، وثالثاً: (مثال) من التعقل في الحياة. وخلاصة هذه الفلسفة جميعها هي عبادة الشاعر والفلاح والمتشرد)
علي كمال(469/33)
يا سواقي. . .
(إلى التي ترعرع على غدرانها شبابي)
فَرَّقَ الدهرُ بيننا (يا سواقي) ... ومضى بي لغُربتي واشتياقي
أين للقلب لحظةٌ من ليالي ... ك وصفُو الحياةِ في إشراق
كان لي في رحابك الخْضْر دنيا ... من نعيم ومن أغانٍ رقاقِ
والمنى عذبةٌ كإشراقةِ الوص ... لِ بروح المعذَّبِ المشتاقِ
والصبا جنَّةٌ على ضفةِ الخل ... د ونورٌ يضيء في آفاقي
ولقد كنتِ للشباب سُلاَفاَ ... ونديماً جلوَ الحديثِ وساقي
كنتِ لي كوثراً يطهّر نفسي ... فَنَمَتْ منه عَفَّةً أخلاقي
يا (سواقي الفيوم) طال غيابي ... وفؤادي يذوب في الأشواق
كنتِ دنيا من فتنةٍ وخيالٍ ... وجمالٍ من الطبيعةِ راقِ
كنتِ سلوى لمهجةٍ قد تلظت ... في جحيم من جَفْوَةٍ وَشِقاق
كنتُ أبكي فتحبسين دموعي ... بعزاءٍ كم فيه من تِرياق
كم حَلالِي في نَبْعَتَيْكِ اصْطِباحِي ... وَصَفَا لِي من رَاحَتَيْكِ اغْتِبَاقِي
كنتِ نِعْمَ الَصديقُ إن عَبَسَ الده ... رُ وَنِعْمَ الْمُجِيرُ ممَّا أَلاقِي
ذقتُ طعمَ الوفاءِ من كُوبك الحل ... وبريئاً من خدعةٍ أو نفاق
عاش فكري مع الحياةِ أسيراً ... كَبَلّتْهُ بِشَرّهَا الدَّفَّاق
ورأى عندكِ البشاشةَ والصف ... وَفَغَنَّى فِي فَرْحَةِ وَانطِلاَق
حال بيني وبينك اليوم عيشٌ ... لم يَنْلِني منه سوى الإرهاق
أين موجٌ من (بحرِ يوسفَ) يسري ... والأغاني تسيلُ من أبواقي؟
ورياضُ (الفيوم) رَنَّحَهَا الحس ... نُ فَلاَحَتْ كَجنةِ الْعُشَّاقِ؟
وغرامي الذي نما عند شَطَّي ... كِ وباركتِهِ بماءٍ مُرَاق؟
وحبيبي الذي تلَهَّى به العي ... شُ وما فيه من كؤوس دِهاق؟
خَدَعَتْ روحهُ الزحارفُ في الأر ... ضِ فأَعْشَى من سحرها البرَّاق
كم بعثتُ الرجاَء شعراً فعادت ... همساتي بالعَجْزِ والإخْفاقِ!(469/34)
نسىَ الْحُبَّ والسَّواقي وصبَّا ... لم يزل سائراً على العهد باق
(يا سواقي) ذكراكِ تَغْشَى كياني ... فاحفظيني في روحِك الْخَفَّاقِ
وخذيني من قبضة الفكر يوماً ... إِنَّ عودي بنارِه في احتراقَ
صنتُ في مهجتي هواك فَصُوني ... عهدَ طِفْلٍ رَبَّيْتِهِ (يا سواقي)!
(سلاح خدمة الجيش الملكي)
أحمد إسماعيل المليجي(469/35)
البريد الأدبي
الصفاء بين الأدباء
صديقي (الحكيم)
لو لم يكن النسيان عرَضاً ملازماً لك يا صاحب (أهل الكهف) لذكرت
أن أسمي (الزيات) لا زكي مبارك؛ وأنك لسانٌ لحرية الفكر، لا عينٌ
في رقابة النشر؛ وأنك رسول الله إلى الأدباء، لا سفيرُ الشيطان بين
الأصدقاء. ولو أنك ذكرتَ واحدة من أولئك لما كان منك ذلك الكتاب،
ولا كان مني هذا الجواب
تستطيع أن تقول إنك حين كتبت ذكرتني وأردتني، لأن الناشر شريك الكاتب؛ وتستطيع كذلك أن تقول إنك تقدس حرية الفكر لو كان ما نُشر عنك في الرسالة قد انتفع به الفكر؛ ولكنك لا تستطيع أن تنكر أنك كفرت بنفسك وكذبت برسالتك؛ لأن الرسول الصادق لا ينذر بالكدر وهو يبشر بالصفو، ولا يبادر إلى القطيعة وهو يدعو إلى الصلة، ولا ينفض يده من الدعوة لأنه سمع بعض الإنكار ولقي بعض العَنت!
لم يكفر برسالتك إلى الأدباء غير (العقاد)، ولا شك في إخلاصك للأدب غير (المبارك)، فما بالك يا توفيق تئن قبل التعذيب، وتًلقى بيديك ورجليك إلى الصليب، وتفضح بهذا الجزع نبوة الأديب، وتقطع آياتك وبركاتك عن المؤمنين والكافرين على السواء؟!
تقول (إنني حِدت قليلاً عن رسالتي في (الرسالة)؛ (وقليلاً) هنا معناها زكي مبارك. وزكي مبارك يا توفيق لون من ألوان الأدب المعاصر لابد منه ولا حيلة فيه. هو الملاكم الأدبي في ثقافتنا الحديثة. والرياضة كما تعلم ضرورة من ضرورات الحياة لسلامة الجسم والعقل. أما عنفه وشِماسه فهما الصبغ المميز للونه. فلو شئت أن تجرد هذا الملاكم المبارك من عنف الهجوم وخشونة المِراس لما بقي منه غير توفيق الحكيم وأسلوب الحكيم و (حمار الحكيم)
على أنه هو نفسه أول الشاهدين على أن صفارتي قد بُحَّت من طول ما أهابت به وهو في قفازه السنتريسي يهدر في المجال بين الحبال مغضياً بعض الإغضاء عن قواعد الملاكمة(469/36)
وزكي مبارك بعد ذلك سليم الصدر، صريح القلب، رياضي الروح، لا يتحرج أن يطلب إلى (صديقه) في مقال هذا العدد أن ينصره ظالماً أو مظلوماً في حدود تفسيره الخاص!
ثم تقول: (إن الأدباء في مصر - مع الأسف - لا يحسبون حساباً لغير الكاتب الذي يبرز مخالبه، ويكشر عن أنيابه، ويتهيأ دائماً للوثوب)؛ فهل مصداق ذلك يا توفيق أنك أدرتَ ظهرك لخصمك وحملت عليّ؟ ولكنني يا صديقي أهشَ لإقبالك عليَّ ولو بالهجوم. إن كَشْرتك في نظري بسمة؛ وإن زأرتك في سمعي نغمة؛ وإن عقدتك معي أيسر حلاًّ من الأنشوطة!
أما قطعك الأسباب بينك وبين الرسالة والأدباء، فأمره يهون ما دمت تخرج كتبك إلى قرائك الأوفياء
وإذا جاز لي أن أوجهك مرة أخرى فإني أنصح لك يا توفيق أن تؤمن برسالتك كما آمن ذوو الفضل من الكتَاب، وأن تصبر على أذاها كما صبر أولو العزم من الرسل.
والسلام عليك من صديقك المخلص.
أحمد حسن الزيات
أحزان توفيق الحكيم
لم يبق ريب في أن صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم حزين، وإلا فكيف جاز له أن يقول إنه لن يكتب في (الرسالة) بعد اليوم، مع أنّ الرسالة صديق لجميع أرباب الأقلام، ولا يرضيها أن ينقطع ما بينها وبين أصدقاءها القدماء من صلات؟
الرسالة لا تترك أصدقاءها أبداً، ولن يتركوها، لأن الصلة بين الرسالة وأصدقائها صلة روحية لا تقطعها ثورة لحظة أو لحظين بعد قراءة كلمة نابية أو قاسية. والأدب كالحياة فيه كدر وصفاء. وسيشتاق الأستاذ الحكيم إلى (الرسالة) كما يشتاق الأليف إلى الأليف
ولكن ما الذي أغضبَ هذا الصديق حتى استباح ذلك الوعيد؟
كنت أنتظر أن يتلطف فيشكرني، بعد قراءة الكلمة التي وجهتها إليه، لأني أردت بها إعزاز الذاتية الأدبية، فما يرضيني ولا يرضيه أن تكون في الدنيا منزلة أشرف من منزلة رجال البيان، وإن قضت المقادير بأن يظل القلم مضطهداً في جميع العهود(469/37)
والأستاذ توفيق الحكيم هو الذي أعلن الندم على الانتظام في سِلك الحياة الأدبية، وكان في مقدوره أن ينخرط في سِلك الحياة القضائية، فهل يغضبه أن نعترض عليه فنقول: إن رجال الأدب يؤدون لأوطانهم خدمات تفوق ما يؤديه رجال القضاء، وإن القاضي لا يستطيع القول بأنه أعظم من الأديب؟
إن الأدب جعل من توفيق الحكيم شخصية يتكلم عنها الزيات والمازني والعقاد، فهل كان يظفر بمثل هذا الحظ لو أصبح من رجال القضاء؟
وقد عِبتُ عليه أن يبديء ويعيد في الكلام عن نفوذ طه حسين، وكانت حجتي أن الأديب يقتل نفسه بيديه حين يفرح بالمناصب الرسمية، لأن المنصب الحق للأديب هو الفناء في خدمة المعاني الروحية والعقلية. فماذا يملك الدكتور طه لنفسه حتى نرجوه أو نخشاه، إلا أن نكون في إيمان الرجل الذي وضع في سيرة الرسول (رواية تمثيلية)، وهو رجل يعرفه هذا الصديق الغضبان؟!
وعِبتُ على الأستاذ توفيق الحكيم أن يعلن أن العائلات صدفتْ عن عرض بناتها عليه بعد أن صار من الأدباء، فهل سمع الناس في الشرق أو في الغرب أن الأديب الفحل يُعجزه أن يقترن بمن يشاء من كرائم الملاح؟
على رِسْلك، أيها الأديب الحزين، فنحن أول طبقة تثق بها الأمة المصرية، وسنظل برعاية الله وسلطان الأدب في أعظم مكان.
زكي مبارك
لوبيا والبلاد العربية
فكرة صائبة ورأي سديد هذا الذي انتهى بتفكير الأستاذ الزيات بإصدار أعداد خاصة من مجلة الرسالة الغراء بالأقطار العربية تنويهاً بفضلها وتعريفاً بأهلها. وليست هذه الفكرة بجديدة على أستاذنا الكبير فقد سبق أن تنبهت إليها الرسالة في سنتها السابعة ولكن شاءت الظروف أن يمهل تنفيذها إلى أن بعثت من جديد؛ وقد وجدت ترحيباً من قراء العربية. وإنا ندعو الله أن يوفق الرسالة في خدمة البلاد العربية وبإصدارها لهذه الأعداد.
على أن الذي لفت نظرنا نحن معشر اللوبيين بهذه البلاد المناسبة هو ما كتبه الأستاذ(469/38)
الدكتور زكي مبارك سواء في ذلك عدد الرسالة 315 أو 463 فقد قال في العدد الأول مخاطباً الأستاذ الزيات: (ما رأيك إذا اقترحت عليك أن تصدر الرسالة أعداداً خاصة عن الحواضر المشهودة في البلاد العربية مثل تونس والجزائر ومراكش واليمن والحجاز. . .)، وقال في العدد الآخر مشجعاً الأستاذ الزيات على تنفيذ فكرته هذه (الخطب أسهل مما نتوهم ولكن. . . ولكن على شرط أن يهاجر الزيات من المنصورة إلى القاهرة ليستوحي من فيها من العارفين بخصائص الحياة الأدبية والاجتماعية في تونس والجزائر ومراكش واليمن والحجاز وسورية وفلسطين. . .)
فالأستاذ الدكتور قد ذكر بلاد أفريقية الشمالية قطراً قطراً وتناسي جيرانه الليبيين وبلادهم فأخرجهم بذلك من زمرة البلاد العربية، واستكثر عليهم أن تعنى مجلة الرسالة ببعض أخبارهم وسواء قصد هذا الأستاذ الدكتور أم لم يقصد فإنا لا نستطيع تفسير إغفاله لبلادنا في هاتين العبارتين اللتين كتبتا في وقتين متباعدين إلا بهذا المعنى.
ومما يؤسف له أن كثيراً من قادة الرأي والفكر في البلاد العربية عامة، وفي مصر خاصة، قد شاركوا الأستاذ الدكتور في فكرته هذه فكثيراً ما كتبوا عن الحلف العربي والوحدة العربية، وتجاهلوا لوبيا قصداً أو عفواً مما كان له أثره السيئ في نفوسنا
هذه كلمة صغيرة أردت بها دفع مظلمة عن وطني العزيز، طالما جرحت نفوسنا، خصوصاً وأنها قد بدرت من رجال لهم في قلوبنا كل احترام وتبجيل، وموعدنا إن شاء الله العدد الخاص فسيكون خير حكم على عربية لوبيا وأهلها.
مصطفى بعيو الطرابلسي
كلية الآداب - القاهرة
ألف مصطلح طبي يقررها المجمع اللغوي
أعلن المجمع اللغوي انفضاض دورته هذا العام، وقد بلغت جلساته التي عقدت خلال هذه الدورة ست عشرة جلسة، أما اللجان الفرعية التي تمهد عمل المجلس فقد بلغت عدتها خمسين جلسة أو أكثر. والمصطلحات التي عنى المجلس بدرسها في هذا العام هي مصطلحات الطب في علم الرمد والباثولوجية وغيرهما.(469/39)
ويبلغ عدد المصطلحات التي أقرها نحو ألف مصطلح، وستوضع لها تعريفات علمية لغوية تشرح معناها وتبين الصلة بين وضعها اللغوي ومدلولها العلمي
والمنتظر أن يتخذ المجمع ما يرى من الوسائل لنشر هذه المصطلحات في أنحاء البلاد العربية لاستخدامها في محيط الطب العربي.
1 - السناد في الشعر
أخطأ الأستاذ محمود حسن إسماعيل في صوغ قوافي قصيدته (نشيد الأغلال) المنشورة بالعدد 466 من (الرسالة)؛ فهو قد أردف في بعضها بحرف الياء قوله: سريرتي، البعيدة، الخميلة، جديدة. الخ، وأسس في بعضها الآخر، بجلْبه ألف التأسيس في مثل قوله: حشاشتي، الثمالة، تهادت، الرسالة الخ. . . في حين اكتفى بحرف الرويّ (وهو التاء) في سائر أبياتها مثل: وجهة، رجعة، وسجدتي، فملَّت. . .
ومثل هذا الخلط بين أحرف القافية يسمى (سناداً)؛ وهو من أبرز عيوب الشعر، فما كنا نحب للأستاذ أن يقع فيه. . .
2 - أبيات لولي الدين
كنت رددت على أديب فاضل أورد في الرسالة شعراً لولي الدين يكن وقال إنه لم يسبق نشره؛ فبينت أن هذا الشعر مطبوع بديوان الشاعر الذي صدر عام 1924م. ولكني عثرت - من جهتي - على ثلاثة أبيات لم ترد في هذا الديوان حقاً؛ فأحببت إثباتها لتلافي ذلك إن أمكن في الطبعات التالية. والأبيات واردة في العدد الصادر بتاريخ 15 يناير سنة 1909م من (مجلة سركيس) الأدبية، التي كان يصدرها المرحوم سليم سركيس. وها هي بنصها مع عنوانها:
لولي الدين بك يكن تحية للأحرار مرتجلاً:
سلامٌ على أبطال قومٍ تجمَّعوا ... ورائدهم حقٌّ وناطقهمْ فَخْرُ
أقاموا على ضَيْمٍ ثلاثين حِجَّةً ... ولكن سيحييهم - برغم العدا - النصر
يقولون: هذا الدَّهرُ رَبُّ تقلُّبٍ ... نعم صدقوا، قد قُلِّب التاج والصرُ!
(جرجا)(469/40)
محمود عزت عرفة(469/41)
العدد 470 - بتاريخ: 06 - 07 - 1942(/)
مثل المصرية الحديثة
- 2 -
قالت السيدة. و. . . تفصل ما أجملت من رأيها في معنى لفظ البيت الجدير بأن يكون بيت أسرة، وفي حقيقة معنى المرأة الجديرة بأن تكون ربة بيت:
قد تكون الزوجة أبصر النساء بفنون الطبخ وشؤون المطبخ وأصول المائدة، ولكنها تكون أجهلهن بما يجب لمهد الطفل وسرير الزوج ومدفأة الأسرة وبهو الضيوف، وإذن لا تعدو أن تكون طاهية
وقد تكون الزوجة أقوم على رعاية الطفل والزوج، واضبط لحساب الدخل والخرج، وأحزم في سياسة العمال والخدم، ولكنها تكون عامية الفكر خشنة الجانب مبتذلة الهندام فلا تعدو أن تكون قهرمانة
وقد تكون الزوجة بطبيعتها ولوداً فتتوزعها الآلام والأسقام والشواغل في الحمل والوضع والرضاع والفطام والترتيب والتهذيب والتمريض فلا يبقى من جهدها طاقة للبيت، ولا من وقتها ساعة للناس، ولا في قلبها مكانة للزوج، فلا تعدو أن تكون والدة
وقد تكون الزوجة أجذب أنوثة من كليوبطرة، وأعذب حديثاً من شهرزاد، وأفتن رشاقة من بنات هليوود، ولكنها تكون خرقاء لا تجيد العمل، حمقاء لا تحسن التدبير، فلا تعدو أن تكون خليلة
وقد يقتصر مدلول البيت في ذهن السيدة على غرفة الزينة وقاعة المطالعة وصالون الاستقبال، فهي ترقب الحديث من الثياب، وتقرأ الجديد من الكتب، وتناقش الطريف من الآراء، ولكنها تعيش على هامش الأسرة عيش الترف والظهور والحذلقة، فلا تعدو أن تكون أدبية
وليست المرأة الصالحة لملكوت البيت واحدة من أولئك، إنما هي هن جميعاً: هي مخلوقة من نوادر ركبها الله من مجموع ما تشتت من الفضائل في هؤلاء النسوة، كما ركَّب الإغريق (فينوس) من جملة ما تفوق من الجمال في مختلف الحسان
قال الطبيب الزوج: كأنك يا عزيزتي تنقلين عن نفسك صورة هذه المرأة. وأقسم لقد تعلمت في بعض بلاد أوربا تقلبت في بعضها الآخر فلم أر صاحبة بيت تفوقك فيما سردت من(470/1)
مزايا الزوجة الصالحة
فقالت الزوجة: قد يكون في شهادة الزوج لزوجه بعض الهوى الذي يميل ميزان الحكم، أو بعض الرضا الذي يُزيغ بصر الناقد
قال المحامي: ربما كان الهوى والرضا من شوائب الحكم في غير الزوج! فإن الغالب أن يُتهم الزوجان بعد طول العشرة، ودوام الخبرة، وسأم الخلاط، بقسوة العدل أو برقة الظلم في حكم أحدهما على الآخر. على أن صديقنا الدكتور لم يعدُ ما في نفوسنا جميعاً؛ وإنما المسألة الصريحة التي تطلب الجواب الصريح هي أنني عرفت من النساء من هن أوسع ثقافة وأرفع بيئة وأضخم ثروة وأكرم أسرة، ولكني لم أجد فيهن ما وجدت فيك من خلال الزوجة المرجوة التي تجمع حنان الأم وإخلاص الزوجة وبراعة القهرمانة ومهارة الطاهية وأناقة الحبيبة وثقافة الأديبة. فإذا لم تكن الثقافة أو البيئة أو الثروة أو الأسرة هي التي تكوِّن الفتاة على هذه المزايا فمن ترينه يكون؟
فقالت السيدة: إن أغلب في هذا الضرب من النساء أن يكون وليد الفطرة وربيب الطبيعة. وهو يكثر حيث يشتد التماسك ويقوى التضامن في الأسرة؛ لذلك تراه في القرى أكثر منه في المدن، وبين العامية أظهر منه بين الخاصة، وما دامت القسمة الطبيعية قائمة بين الشريكين الدائمين على أن يكون للزوجة البيت وللزوج ما وراءه، فإن هذه الخصائص الفطرية تنشأ في المرأة بحكم الضرورة، وتقوى بفعل المران، وتحكم بسلطان العادة. وليس التعليم والتمدين إلا ثقافاً وصقالاً لهذه الخصائص يقومانها ويرفعانها إلى المستوى الذي بلغه المجتمع. فإذا وجدت امرأة تجردت من هذه الشمائل كلها أو بعضها، فلا تشك في أن طبيعة الأنوثة قد فسدت لسبب من الأسباب، فغدت من شواذ الخَلق كالجمل المستنوق أو الناقة المستجملة
قال الفلاح: لقد كنت أتمثل في ذهني المرأة القروية حينما كنت تصفين ربة البيت. ولكني لم أستطع إقحامها في الحديث لأنها في رأي الجمهور عنوان الجهالة حتى سمعتك تقررين أن الزوجة الصالحة تكثر في القرية. والحق الذي يؤيده العيان أن الفلاحة تقوم على شئون البيت، وتنهض بأمور الأسرة، على المنهج الأعلى الذي رسمتِه في قولك واتبعِته في فعلك. والفرق بين القروية والمدنية هو الفرق بين بيت وبيت، وبيئة وبيئة، وحياة وحياة.(470/2)
وتجانس العقلية في المجتمع القروي يجعل مكان المرأة فيه أرفع، وسلطانها عليه أوسع، لتميزها عن الرجل في قوة النشاط ولطف الحيلة ويقظة الرأي
فقالت السيدة: ذلك يؤيد ما قلت من أن ربة البيت هي من صنع الضرورة والطبيعة، لا من صنع المدرسة والبيئة؛ والضرورة هي وجود البيت، والطبيعة هي توزيع العمل على حسب الاستعداد والقدرة. ولا أعني بالبيت المسكن، وإنما أعني به الأسرة. وللأسرة في النظام الاجتماعي مفهوم قلما يتضح في أكثر النفوس؛ فلا تظنوا أن قصور الخاصة بيوت تسكنها اُسر، إنما هي فنادق ينزلها أفراد. فللزوجين والأولاد غرف لا يدخلونها إلا وقت النوم، ومائدة لا يرونها إلا ساعة الأكل، وصالون لا يزورونه إلا يوم الاستقبال، ومرافق لا يعرفونها إلا عند الحاجة. أما القصر وما فيه ومن فيه ففي ذمة القهارمة والخدم. ومن المحال أن ينشأ في مثل هذه الجماعة المنتثرة سيدة تصلح لبيت، أو آنسة تصلح لزوج، وفي اعتقادي أن الكتّاب الذين يعادون المرأة المصرية بين رجلين: رجل أحبها ويريد بعدائها أن تتحدث عنه فهو خادع، ورجل كرهها لأنه عرفها في البيئات الممسوخة فهو مخدوع.
احمد حسن الزيات(470/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
أزمة المجلات الأدبية - خطر العلانية على الأدب الصحيح -
أين الأمة العربية - خطاب جميل - الجيش المرابط في
الميادين الفكرية
أزمة المجلات الأدبية
إنشاء مجلة في مصر أو في غير مصر عمل لا يعرفه إلا من يعانيه، وتزيد متاعب هذا العمل إذا أريد أن تكون المجلة مقصورة على الأدب الصِّرف، بحيث لا تكون لها موارد غير عواطف القراء، والقارئ لا يدفع قرشاً في مجلة أدبية إلا إذا وثق بأنه من الغانمين، ولا تظفر المجلة بثقة القارئ إلا بعد جهود تفر من حملها الجبال
وقد كنت فيما سلف من الأيام أثني على حصافة الأستاذ الزيات، كنت أقول إن العقل هداه إلى أن الضمير المصري لا بدَّ له من مجلة لا تهتم بغير الأدب الصِّرف، ولا تقبل مواجهة الجمهور بغير الفِكر المُشرِق في الأسلوب الجميل
ثم جدَّت شواهد أقنعتني بأن روح التضحية هو الأصل في إنشاء المجلة الأدبية، وإن كان الله عزّ شأنه تفضّل فجعل (الرسالة) مصدر خير لصديقنا الزيات، فقد قيل - ولله الحمد - إنها صيرته من الأغنياء بدليل سيطرته على بعض الشواطئ من (بحر شبين) وهو النهر الذي يسقي سنتريس!
فيا ساكني أكناف دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيبُ
يكون أُجاجاً دونكم فإذا انتهى ... إليكم تَلقَّى طيبكم فيطيبُ
ومع هذا فأنا أشعر بقيمة التضحية حين أكتفي بالكتابة في الشؤون الأدبية، ولتفصيل هذه اللمحة أذكر النكتة الآتية:
فلانٌ رجلٌ كريمٌ جدّاً، وهو حين يراني يطيب له أن يحييني فيقول: (لقد قرأت مقالك في مجلة الرسالة)
واكن هذا الرجل الكريم لا يُلقي هذه التحية إلا بلهجة المتصدِّق!(470/4)
فهل يكون الحال كذلك لو كنت أكتب في الشؤون السياسية وأستبيح إيذاء الناس بغير حساب، كما يصنع بعض الكتاب السياسيين؟
الصحافة الأدبية مسيَّرة بالضمير الأدبي، وهو يأبى على أصحابه أن يتزيدوا على الناس طاعة للأهواء، أو طاعة للأحزاب، فما خوف الناس منا ونحن لا نملك غير الصدق، ولا نصاول حين نصاول إلا في حدود الأدب والذوق؟
المجلة السياسية تصل إلى أيدي الوزراء قبل أن تصل إلى أيدي الجمهور، لأن الوزراء يحبون أن يعرفوا ما يقال فيهم بحق أو بغير حق، فهل تَلقي منهم المجلة الأدبية بعض هذا الاهتمام الطريف؟ وكيف وهُم من ظُلم المجلات الأدبية في أمان؟
ثم أثب إلى الغرض من هذه الكلمة فأقول:
أين معالي وزير التموين؟
لقد قرأت خطبته في الرد على الاستجواب المعروف، فرأيته تحدث عن جميع ضروب التموين، إلا الورق، ورق المجلات الأدبية، أما ورق الجرائد اليومية والمجلات السياسية فالمفهوم بداهةً أن الحكومة ستعرف ما تصنع إذا بخل به صنائع الجشع من الوراقين!
أنا لا أعرف وزير التموين معرفة شخصية حتى أحكم له أو عليه، ولكني أعرفه معرفة معنوية، وهذه المعرفة توجب أن أذكره بالواجب في رعاية أقوات العقول والإفهام والقلوب، فمن العقوق لمصر أن يقال إنها لم تُمتحن إلا بأزمة الرغيف، مع أن مصر أقدم أمة كان أكبر زادها العلم والأدب والبيان
أكتب هذا وأنا أخشى أن يقال بعد أسابيع: إن مجلة (الرسالة) عجزت عن الوصول إلى قُوتها من الورق. . . وأي قوت؟ ومن يعرف أن مجلة (الرسالة) لا تملك تزويد الأسواق الأدبية بما تحتاج إليه تلك الأسواق؟ من يعرف أن التضامن الصحفي أصبح في حكم العدم، وأن من العسير أن تقول أية مجلة: إن من حقها أن تعتمد على أريحية (نقيب الصحفيين)، وعنده فيما سمعت أكبر كمية من الورق المخزون؟
إن مجلة مثل (الرسالة) تقدم للجمهور شواغل نبيلة بالحديث عن العلوم والآداب والفنون، ولو التفتت الحكومة لأدركت أن انتشار مثل هذه المجلة يريحها كثيراً - أو قليلاً - من شيوع الأكاذيب والأراجيف، فهل من الإسراف أن نطالب الحكومة بإعانة أمثال هذه المجلة(470/5)
على الظفر بحاجتها من الورق، لتنهض الحجة على أن متاعب هذه الأيام لا تُنسي الحكومة واجبها في رعاية الأذواق والعقول؟
سأنظر كيف يجيب وزير التموين، إن تفضل بالجواب؟
خطر العلانية على الأدب الصحيح
من الآفات التي تعوق الأدب في هذا العصر أن الكتاب والشعراء لا يصبرون على طيّ ما يكتبون وما ينظمون، وإنما يبادرون إلى النشر في الجرائد والمجلات، ثم تكون النتيجة أن يُضطروا إلى مراعاة الجماهير في أكثر الشؤون، فيخلو أدبهم من الصراحة، ويغلب عليهم ما يُشبه الرياء من أمراض الكتمان
أهمَ المصاعب التي يعانيها الأدب أنه صار من الوسائل الشريفة لكسب الرزق الحلال، ومن الخير للأدب أنْ صار كذلك، ليعرف من لم يكن يعرف أن القلم نعمة من النعم السوابغ، وأنه خليقٌ بأن يفتح لحامليه كرائم الآفاق
ولكن من الشر للأدب أنْ صار كذلك، فقد أصبح أهله أسارى للمجتمع من قُرب أو من بُعد، وأصبح من المحتوم أن يراعوا طوائف من الرقباء، بغض النظر عن الرقيب الذي تفرضه أيام الحرب، لأنهٌ رقيب لطيف، لا يثور إلا في أندر الأحايين؛ وأنا بهذا الكلام أترضَّاه ليتغافل عني تغافل الكرماء قصَّر الله عُمر الحرب لأشفي غليلي من ذلك الرقيب اللطيف!!
الرقباء الحقيقيون هم القرَّاء، ومداراة القارئ مرضٌ قديم في الصحافة المصرية، وتلك المداراة هي علة العلل في جسم الأدب الحديث، ونحن نحارب هذه العلة بلا هوادة، ولكن في حدود يغلب فيها الترفق، ومعنى ذلك أننا شجعان جبناء، والعياذ بالذوق!
تلك الدنانير التي يجود بها الأدب على أصحابه ستَحرم الأدب أعظم صفاته من الصراحة والصدق، وقد تورثه عقابيل يعز منها الشفاء
وهنالك علةٌ أخطر وأفظع، هي علة الأديب الموظف: فالعُرف في الشرق لا يعترف بتعدد الشخصيات للرجل الواحد، ولا يسوغ في ذهن هذا العُرف البليد أن يكون للرجل شخصية حين يباشر عمله الرسمي في الديوان، وشخصيات حين يخلو إلى القلم، إن كان من رجال البيان
وأعجب العجب أن يرائي هذا العُرف نفسه بلا تأثّم ولا تحرّج، فهو يشتهي أن تكون في(470/6)
الدنيا أقلام تحدثه عن سرائره المطوية، وهو مع ذلك يكره أن يكون هذا الفضل من نصيب هذا الكاتب أو ذاك، وذلك عُرف الجمهور الذي نداريه كارهين، ولم يبق من البلايا إلا أن نتقي شر من نخدمهم بنزاهة وإخلاص. . . وعند الله، عند الله وحده الجزاء!
أقول هذا وقد مزَّقت خمسة أحاديث قبل هذا الحديث، فقد تحدثت فيها عن أشياء لا يجوز نشرها في هذا الوقت، وإن كانت في الصميم من دخائل النفس الإنسانية؛ فقد يقول عاقلٌ أو جاهل: إننا في أيام لا تتسع للحديث عن سرائر النفس كأن الضمير الأدبي يخضع لظرف الزمان وظرف المكان، وكأن العبقرية الروحية تعرف الرسوم والحدود، وكأن مخاطر الحرب ومتاعب البؤس ومصاعب التموين تصد الروح الظامئ عن هواه في ورود ينابيع الوجود
أبن الأمة العربية؟
عند الأمم الأوربية تقليد أدبية تستأهل التسجيل، فهنالك يؤمن الكاتب بأمته فيؤلف كتاباً في مئات أو ألوف من الصفحات ليُنشر بعد موته بأعوام طوال
فما معنى ذلك؟
معناه أن الكاتب يثق بأن الضمير الأدبي في بلاده سيعيش ويعيش إلى أن ينصفه من زمانه ولو بعد حين
ومعناه أن الكاتب يؤمن بالخلود
ومعناه أن الكاتب يشعر بنائرة الحقد بعد أن يموت
ومعناه أيضاً أن الكاتب يعرف كيف ينتقم وهو في غيابة الفناء، أو حصانة البقاء
فأين الأمة العربية لنودعها دفائن صدورنا منى أبناء هذا الزمان؟
وأين من يفتش في دفاترنا بعد الموت، ليرى ما سطرناه في أخلاق هذا الجيل؟
جهادنا في خدمة القلم أضيع من الضياع، ولولا الإيمان بأننا نؤدي خدمة قومية لقصفنا القلم بلا رحمة ولا إشفاق
وعند الله، عند الله وحده الجزاء
خطاب(470/7)
هو خطاب جميل، ولكنه ليس في جمال الخطابات التي أتلقاها من الشاعر أحمد العجمي، وإنما يرجع جمالة إلى أنه يؤكد نظرية أخلاقية يَكثُر كلامي عنها في هذه الأحاديث، وأنا لا أَملّ من نقد مسالك في معاملة الأصدقاء
هو إذن خطاب من صديق لا يعرف أدب الصديق مع الصديق، فقد شاء هواه أن يتوهم أن الصداقة تبيحه أن يخاطبني بما لا أحب، كأن الصداقة تعفيه من رعاية الذوق، وكأن المودّة تمنحه التحرر من قيود الآداب
إن في الناس من يتهمني بمحاباة أصدقائي، وإن فيهم من يقول إني أختلق الفرص لأتحدث عن أصدقائي بما يحبون في مقالاتي ومؤلفاتي، وأقول إن تلك التهمة صحيحة وإن هذا القول حق: فأنا أتحيّز لأصدقائي في السر والعلانية، وأحب من يحبهم، وأعادي من يعاديهم. وأنا أنكر على أهل هذا العصر أن يعيبوا تغضي الصديق عن عيوب الصديق، بحجة الحرص على سلامة المجتمع من العيوب
ومن يتعصب لأصدقائنا إذا لم نتعصب لهم؟ وإلى من يطمئنون إذا عرفوا أننا نتّعقب ما يجترحون من هفوات؟
أكتب هذا وقد تلقيت من أحد أصدقائي في بغداد خطاباً يعيب علىّ فيه أن أثبت في كتابَ (ملامح المجتمع العراقي) كلمة في الثناء على السيد عبد القادر الكيلاني، فهل يعرف ذلك الصديق لأيّ غرض أثبتّ تلك الكلمة الطيبة لوجه الله، ولوجه الحق؟
أثبتُّها لأني علمت أن السيد عبد القادر الكيلاني سيحاكم أما المحكمة العسكرية في بغداد، بعد زمن قصير أو طويل، والعراق الذي عرفته وعرفه التاريخ لاُ يصدر حكما إلا بعد سماع أقوال الشهود العدول، وأنا شاهدُ عدل في قضية هذا الرجل، ومن واجبي أن أسارع إلى كلمة الحق فيه، قبل أن يقف في ساحة القضاء. وكتمان الشهادة حيادُ يأباه قضاةُ بغداد
وأقول بصراحة إني كنت أخشى أن يُمنع كتاب (ملامح المجتمع العراقي) من دخول العراق، لأني تحدثت فيه عن رجال تغيّر فيهم رأي العراقيين، ثم ظهر أن العراق لا يرضيه أن يصادر كتاباً أملاه الصدق والإخلاص، وتنزه مؤلفه عن المداجاة والرياء
فهل أَتهم الصديق اللائم الظالم بأن نسبه إلى العراق يحتاج إلى برهان؟
أعزّ الله العراق، وحماه من جميع الأسواء(470/8)
الجيش المرابط في الميادين الفكرية
هو جيش الأدباء الصابرين على مكاره الحياة الأدبية، وهي حياةُ لا يصبر على مصاعبها الثقال، إلا من تقهره الفطرة على الأنس بالأدب في جميع الأحوال
وقد شهد التاريخ واعترف بأن الأمم لا يقام لها ميزان إلا يوم يثبت أن لها حظاً من الروحانية الفكرية والأدبية، لأن الفكر والأدب لا يكونان من أنصبة الشعوب، إلا بعد النضج المنشود في العقول والقلوب
فما بالُ قومٍ يزعمون أن اشتغال بعض المصريين بالشؤون الفكرية والأدبية في هذه الأيام دليلُ على أن مصر لا تشعر شعوراً صحيحاً بالمتاعب الدولية؟
هذا كلامُ قيل في بعض المجلات، وأضيفَ إليه أن فلاناً لا يعيش في زمانه، لأنه نسى أن الدنيا في حرب، فشغل نفسه بالحديث عن الفروق بين رجال الأدب ورجال القضاء
وأقول للمرة الأولى بعد الألف إن الأديب المفكر ليس أجيراً لزمانه، وليس أجيراً للوطن ولا للمجتمع، فمن توهَّم أن الأديب المفكر مسئول أمام قوة غير قوة الضمير فهو من أكابر الجاهلين!
نحن نخدم الوطن بأقلامنا خدمةً لا يعرفها المتحذلقون من عبيد الشواغل اليومية، تخدمه صادقين لا كاذبين، ولا ننتظر منه أي جزاء، لأن خدماتنا تجلّ عن الجزاء
وماذا يملك الوطن حتى يكافئ المجاهدين من أرباب الأقلام؟
أيمنحهم الألقاب؟ أيمنحهم الأموال؟
وأيّ لقبِ أفخم من لقب الأديب؟ وأي ثروةِ أعظم من روح الأديب؟
أستغفر الله، وأعتذر إلى الوطن الغالي
فجزاء الأديب من وطنه مضمونُ مضمون، لأن الوطن لا يتحدث بأفراحه وأتراحه إلا الأديب، ولا يجود بسرائره الروحية لغير الأديب، ولأن الوطن يأبى أن يكون أساته من طبقة غير طبقة الأوفياء من الأدباء
خدّام الوطن في غير ميدان الأدب يُجْزَون بالألقاب والأموال، لأن خدماتهم تحتاج إلى تشجيع من ألوان الجزاء، أما خّدام الوطن في ميدان الأدب فهم أعزّ وأشرف من أن تصدهم عن الواجب عوادي النكران والجحود(470/9)
وهل نخدم الوطن أو نحبه طائعين، حتى نمنّ عليه بالخدمة والحب؟
هيهات ثم هيهات!
إنما نحبّ مصر الغالية مأخوذين بسحرها الأّخاذ، ومفتونين بجمالها الفتّان وهل في الدنيا أكرم أو أجمل من مصر؟
إن مصر لم تبخل بالعيش على من يحارب الأدب والبيان، ولو شئت لقلت إن مصر تكرم أعداء الفكر والعقل تأسّياً بكرم الله، والكريم يُفِضل على الطفيليين بأغزر مما يفضل على المدعّوين
الدنيا في حرب، والقتال تدور رحاها حول الحدود المصرية، ومجلة الرسالة لا تجد قوتها من الورق إلا بشقّ النفس
وبالرغم من هذا وذاك فجذوة الفكر في اشتعال، وصوت مصر الأدبيّ في ارتفاع. والعاقبة للصابرين
الآن عرفتُك، يا وطني، عرفتُك
لا تستطيع الخطوب أن تُخرس بُلبلاً يغرّد في رياضك الّغناء، ولا يملك الدهر أن يُسكت صرير القلم في صحائفك البيضاء وطني
لو ظهرتْ أشراط الساعة، نذيراً بقيام القيامة، وخرست الألسنة وجفّت الأقلام، وشُغل المرء عن أخيه، وزوجته وبنيه، لرأيت من واجبي أن أرفع القلم لصوتك وقلمك، وأن أجعل آيتك في البيان خاتمة آيات الوجود
وطني
أنت أقدم وطن وأعظم وطن خطّ بالقلم، وسطّر مآسي الأرواح، ومصاير القلوب، فإليك اللأواء أهب سنان قلمي.
وطني
إن جهلت مَن أنا، فإني أعرف مَن أنت، والحياة صراعُ بين الجهل والعلم، واليأس والرجاء، وسأعرف كيف أجزيك على فنائي فيك
زكي مبارك(470/10)
المستوى الجامعي في مصر بين الجامعة والأزهر
للدكتور محمد البهي
لجامعة فؤاد الأول بالقاهرة دعاة ينادون بلا ملل وفي تكرار يشبه الإلحاح بمنزلة (الجامعة) وبالقداسة الجامعية وباستقلال (الجامعة) وبمنحها سلطة مطلقة ليست في البحوث العلمية فحسب، بل أيضاً في التعليم المدرسي والتثقيف الشعبي
وللأزهر من رجاله وأبنائه من يكثر الحديث عن الأزهر وعن تقصيره وعن المسافة التي يبتعد بها الأزهر في سيره العلمي عن المثال الجامعي
وبقدر نموّ سيطرة الدعاة لجامعة فؤاد الأول على الرأي العام المصري، بقدر ما يفقد الأزهر بمن يكثرون الحديث عن بطئه أو جموده في السير الجامعي، من سلطان كان له على الرأي العام الإسلامي وكسبه لمنزلته من العقيدة ومن الثقافة الشعبية
وربما كان هناك غلو فيما ينادي به دعاة جامعة فؤاد الأول، وربما كان هناك غلو أيضاً فيما يصوره بعض الكاتبين الأزهريين يحول بين الإنسان الذي تؤثر فيه الدعاية، إيجابية أو سلبية؛ وتتحكم فيه العاطفة، وبين معرفة الواقع. والرأي العام هو ذلك الإنسان في صورة مكبرة
وربما كانت مبالغة دعاة الجامعة لأنهم من رجال العصر، وربما كانت مبالغة بعض الكتاب الأزهريين لأنهم من رجال العهود السابقة وهي عهود قريبة إلى الطبيعة الساذجة التي لم تلتو بعد
ولكن وراء الداعين من رجال جامعة فؤاد الأول، ووراء المتحدثين عن الأزهر من رجال الأزهر حقيقة تدرك وتتضح في الإدراك، وتصور وتتضح كذلك في التصوير، مدركها من غير هؤلاء وهؤلاء، وهو المؤرخ وبالأخص مؤرخ الحياة العقلية والعلمية لشعب من الشعوب. ومصورها من غيرهم أيضاً، وهو معالج الظواهر الخاصة بأمة من الأمم.
ما هو المثال الجامعي الذي إذا وجد كان للجامعيين دولة هي دولة العلم والفكر، وكان للجامعة قداسة هي قداسة الإرشاد الواضح في النواحي المختلفة لحياة الجماعة الخاصة ثم للإنسانية؟ المثال الجامعي يكون إذا تجردت البحوث عن العوامل الشخصية؛ عن الطائفية وعن الحزبية وعن الدعاية. يوجد المثال الجامعي إذا خلصت البحوث للعلم - بقدر ما(470/11)
يمكن - وبعبارة أخرى إذا غلبت الحكمة على العاطفة والغريزة وسيطر العقل على النفس.
هل حققت جامعة فؤاد الأول هذا المثال الجامعي كما تعطيه دعاية الداعين؟ وهل يبتعد الأزهر كثيراً عن هذا المثال الجامعي كما يفرضه تصوير المتحدثين عن تقصير الأزهر من الأزهريين؟
جامعة فؤاد الأول حوَّلت المدارس العالية لوزارة المعارف في سنة 1925 إلى كليات. وجعلت داخل الكلية الواحدة أقساماً مختلفة حسب مواد الدراسة. وألحقت بكل قسم مكتبة خاصة به فوق المكتبة العامة. وعينت أساتذة مصريين وغير مصريين، ومساعدين للأساتذة، ومدرسين، ومعيدين. أي أنها أتمت النظام الجامعي.
والأزهر الذي أراد أن يكون جامعة منذ عشر سنوات تقريباً حولّ الدراسة العالية فيه إلى كليات وألحق بها أقساماً للدراسات العالية، وأوجد بكل كلية مكتبة خاصة بها غير مكتبته العامة. وانتدب أساتذة من رجال الجامعة، ورجال وزارة المعارف بجانب مدرسيه
والفرق في هذا فقط أن جامعة فؤاد الأول أغدق عليها من مال الدولة - وربما تحت تأثير الدعاية - فكانت لها أبنية فخمة؛ وأنشئ بها كراسي متنوعة للأساتذة ومساعديهم وجلبت لمكتبتها الكتب الحديثة والفنية. وأن الأزهر - ربما لإظهاره بمظهر المقصر في رسالته أو اضعف شيوخه - لم تقتنع الدولة بالزيادة السخية في ميزانيته، ولم يتضح لها من المبررات ما يزحزحها عما تعتقد من أنها متفضلة على الأزهر إذا هي تركت له ما اعتاد إنفاقه سنوياً. والزيادة في الإنفاق في العصر الحديث تكون لزيادة المقابل من منفعة عامة أو خاصة. والأزهر في أوقات كثيرة صور نفسه أو قبل أن يُصور بأنه يُمنح ولا يعطى
هذا الفرق لا يكسب جامعة فؤاد الأول قربها من المثال الجامعي، كما لا يصور الأزهر بعيداً عن هذا المثال، لأن هذا الفرق يتعلق بالشكل، ولأنه نتيجة لقوة سلطان وضعف سلطان آخر ليس سلطان العلم وليس سلطان البحث
رجال جامعة فؤاد الأول أخرجوا كتباً وألفوا. أخرجوا على الطريقة الجامعية كتباً مفهرسة حسنة التبويب والتنظيم، روعي في التعليق عليها إثبات الفروق بين الروايات المختلفة، والتعريف بما ورد فيها من مصادر متعددة. وألفوا كذلك كتباً؛ وألفوا في الفلسفة والتاريخ والأخلاق. ولكن الكثير من هذه الكتب المؤلفة يلازمه الغموض في التعبير عن الفكرة،(470/12)
وتندر أو تنعدم فيها شخصية المؤلف. والغموض في التعبير يدل غالباً على عدم نضوج الفكرة أو عدم هضمها عند المعبر، وضعف الشخصية في التأليف أو انعدامها يدل على سيطرة الروح المدرسية وضعف الروح الجامعية. فإخراج جامعة فؤاد الأول إخراج يسير على النهج الجامعي في العرض، وتأليف رجالها لم يخرج بعد عن النطاق المدرسي؛ وإذا كان للإخراج قيمته في تكييف المستوى الجامعي، فالمقدِّم الأول لهذا المستوى هو التأليف العلمي الذي تبدو فيه شخصية المؤلف واضحة، وليس هو جمعاً لمنثور الفكر أو تنظيماً لمشتت الآراء
فجامعة فؤاد الأول تسير بلا شك في الطريق الجامعي، وقطعت فيه شوطاً لا بأس به، ولكن دونها والوصول إلى المستوى الجامعي خطوات أخرى يشق فيها السير ويكثر فيها التعثر، وهي خطوات الشخصيات العلمية الجامعية
الأزهر أخرج في نطاق ضيق، وألِّف في نطاق ضيق كذلك، لأنه ابتدأ منذ وقت قريب فقط يدرك أنه في حاجة إلى إخراج، وفي حاجة إلى تأليف، وفي حاجة كذلك إلى ترجمة بعد أن كان لا يستطيع أن يتصور أنه في حاجة إلى غير المتوارث من كتب والى غير المألوف من نمط في إخراجها لضغط التقاليد على العقلية فيه، وكما تندر الشخصية أو تنعدم في تأليف جامعة فؤاد الأول، تندر أو تنعدم كذلك في تأليف الأزهريين. ولعل سبب هذه الظاهرة هنا وهناك هو قرب عهد مصر بالنهضة العلمية وقرب عهد المؤلفين - على الخصوص - بالاستقلال الشخصي. ولعل الرغبة في كسب الرأي العام - وهو على ما به من شدة الولع والحرص على التقاليد - من أسباب عدم الاستقلال أو من أسباب عدم الجرأة في الاستقلال
لا أنكر إذا على جامعة فؤاد الأول أنها بدأت العمل الجامعي، كما لا أنكر على الأزهر ذلك الآن؛ ولا أنكر على جامعة فؤاد الأول أن خطواتها في السير الجامعي أسرع من الأزهر، وأنها ستحقق المستوى الجامعي قبل الأزهر، لا لضعف في العقلية الأزهرية، بل لأن للأزهر من مهمته الأولى وهي الدين والمحافظة عليه - ويتبع ذلك التقاليد، وما أشق الفصل بينها وبين الدين - ما يقلل من سرعته في السير، ويعلل بطاه في الوصول إلى المستوى الجامعي، ولكنه سيصل(470/13)
هل لنا الآن - إنصافاً للواقع - أن نطالب الطرفين بالاعتدال في الدعوة لجامعة فؤاد الأول وبالاعتدال في التحدث عن تقصير الأزهر؟ أم لنا أن نطالب الكتاب من الأزهريين في الدعوة إلى أزهرهم بأن يحتذوا سنة رجال الجامعة، إذ ربما يكون هؤلاء أحسن خبرة بالنفسية المصرية وعقلية الرأي العام المصري؟ فالتهويل لم يزل بعد من أخص مظاهر الحياة الشرقية، ولم يزل كذلك سبباً قويًّا من أسباب النجاح في حياتنا المصرية!
محمد البهي(470/14)
مساجلات
جورجياس المصري
للأستاذ محمد مندور
كتب الأستاذ العقاد في العدد 476 من (الرسالة) تحت عنوان (مساجلات) يقول: (نبهت إلي كلمة لأديب يكتب في (الثقافة) بتوقيع (محمد مندور) قال فيها عني بصدد الكلام عن أبي العلاء ورسالة الغفران: (والعقاد يبدأ فيؤكد - فيما يعلم - أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليه أحد غير (لوسيان) في محاوراته في الأولمب والهاوية؛ وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيراً ما تدهشنا لجرأتها، ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسان: عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء).
وأنا أحمد الله إذ نبه الأستاذ إلى كلمة محمد مندور هذا، فالعقاد رجل لديه ما يشغله عن (الثقافة) وعن محمد مندور، وهو منهمك في قراءة أمُّهات كتب الأدب التي وجد فيها أن (فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته)؛ فأنى له بقراءة (الثقافة)، وما هي بشيء إلى جوار عيون الأدب؟ ومن هو محمد مندور، ليقرأ له وهو مأخوذ بسحر لوسيان؟
و (محمد مندور) يسره أن ينبه العقاد قبل أن يبدأ في مناقشته إلى تتمة جملته كما هي بالثقافة عدد 176 (والكل يعلم ما في أساطير اليونان من وصف لنزول أورفيوس إلى العالم الآخر ليسترد منه زوجه أوريديس؛ والكل يعلم وصف هوميروس لرحلة أوليس، ووصف فرجيلوس شاعر الإلياذة لرحلة أينوس بذلك العالم، كما نعلم جميعاً أشعار المتصوفة في أحلام يقظتهم ونومهم، ومن تلك الرحلات الرائع الجميل كوصف الحارث بن أسد المحاسبي في (التوهم) الذي نشره المستشرق آبري وصدر له الأستاذ أحمد بك أمين؛ وفي عصر مقارب لعصر أبي العلاء كتب أبن شهيد رسالة التوابع والزوابع المنشورة بكتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) (ج1 ص210) وهي شديدة الشبه برسالة الغفران؛ ومع ذلك يؤكد العقاد أن فكرة رسالة الغفران لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان)
وهذا فيما أظن كلام لا يستطيع العقاد ولا غير العقاد أن يدفعه، فهو يؤكد أن أدبياً لم يسبق(470/15)
أبا العلاء في وصف رحلة إلى العالم الآخر غير لوسيان، ونحن نقول له: بل سبقه هوميروس وفرجيليوس. . . و. . . فما الرأي إذن؟ وهل يقبل الأستاذ العقاد - وهو العالم بكل تراث الإنسانية الروحي المقدر لقيمته - أن نمحو من الوجود كل هؤلاء الفطاحل ليصح ما أكده؟ ألا ليتنا نستطيع ذلك لنرضي كبرياء العقاد وإن كان قد وضعه في غير موضعه.
وبعد فليس يضير العقاد أن يجهل وصف هوميروس أو فرجيليوس لرحلة كهذه، إذ لو علم العقاد بكل شيء لفقد أهم صفة يتميز بها جميع البشر بله الأدباء منهم وهي صفة الإنسانية، ونحن جميعاً نجهل أشياء كثيرة ولم أضفنا أعماراً إلى عمرنا ولو بذلنا جهد الرهبان في التحصيل، وإنما يضير العقاد ككاتب يجب أن يحترم كرامة العقل أن يصدر في محاجته للغير عن منهج معيب.
لم يرد العقاد على ما وجهته غليه بل نقل الحديث إلى وجود الجنة والنار قبل أبي العلاء وقبل لوسيان (على نحو ما يرى أن لندن كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها). وهذه سقطة ما كان يليق برجل كالعقاد أن يلجأ إليها في كبرياء المتعالي؛ فموضع الجدل ليس وجود النار والجنة، بل ولا علم الناس بهما، بل وصف الرحلة إليهما وفيهما وصفاً أدبيًّا فذِّيًّا على نحو ما فعل هوميروس وغيره ممن ذكرنا
ولقد كان العقاد يستطيع أن يغالط - كما كان يفعل جورجياس كبير السفسطائيين عند اليونان على نحو أرقى من هذا النحو. ألا ليته قال مثلاً إن اللغة كانت موجودة قبل وضع نحوها، وأن الطبيعة كانت قائمة قبل استنباط قوانينها، وأن العقل كان يعمل قبل صياغة المنطق، وأن المنطق أقدم وأصدق وأنبل من السفسطة. ولو أنه فعل لوجدنا في مغالطاته جلالاً، وأما أن (لندن وباريس وبلاد الأفيال) كانت موجودة قبل الرحلات إليها فهذه حقيقة مغالطة تافهة كنت أود أن يترفع عنها العقاد
أسرف العقاد إذن على نفسه وعلى القراء عندما أكد أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان، وهذه المسألة لا تقبل الدفع
فلنتركها إذن لما هو أهم وهو منهج العقاد في التفكير كما يطالعنا من رده وتلك مسألة يضطرنا العقاد إلى أن نثيرها لا بصدد حديثه عن أبي العلاء فحسب بل بوجه عام(470/16)
سمعت العقاد يوماً يناظر في الأثر الذي يمكن أن تحدثه الثقافة الأجنبية فينا فيقول: (إن الكتاب الأمريكي لا يمكن أن يجعلنا أمريكيين وإلا لجعلتنا الثقافة الأمريكية أمريكيين) وهذا مثل لكل ما كتب العقاد، فسبيله دائماً هو (المغالطة) ثم (القياس الفاسد)
ألا تراه كيف ينقل الحديث من الرحلة الأدبية في العالم الآخر إلى وجود ذلك العالم وتصور الناس له، وهذه هي (المغالطة) ثم ينتقل إلى قياس وجود العالم الآخر في الواقع أو في خيال البشر وجوداً مستقلاً سابقاً على وصف ذلك العالم في الأدب، بوجود باريس ولندن وبلاد الأفيال وجودا مستقلاً سابقاً على رحلة المسافرين إلى تلك البلاد وهذا هو (القياس الفاسد)
ووجه الفساد في كلا القياسين هو انعقاد بين أشياء مادية وأخرى روحية؛ فالتفاحة ليست كتاباً وإلا لكانت عقولنا معدات؛ ولندن ليست الجنة ولا باريس النار والسفر إليهما ليس وصفاً أدبياً للعالم الآخر نزوره بخيالنا
وهذه ليست إلا مجرد أمثلة؛ ففي كل صفحة مما كتب العقاد، بل في كل سطر نفس المنهج. وفي الحق أني لا أعرف عيباً في التفكير أخطر من هذا.
أما المغالطة فخطرها بين؛ ومن نافلة القول أن نقف عندها.
بقى القياس فاسداً وغير فاسد؛ ومن الثابت أن المنطق الشكلي كله لا القياس فحسب لا يمكن أن يوصل إلى الكشف عن حقيقة جديدة، وإنما تعمل الأقيسة في الحقائق المعروفة؛ فإذا كان القياس صحيحاً انتهى إلى إقحام مناظرنا، ولا أقول إلى إقناعه، لأن الإقناع إحساس وتسليم قلبي، وأما الإفحام فانعقاد اللسان أو شلل العقل وهذا هو الجدل. وإذا كان القياس فاسداً فتلك هي السفسطة التي لا تقنع ولا تفحم ولا تليق بالإنسان على أي نحو.
وإنما تكتشف الحقائق بالخيال والقلب، وتلك ملكات لا أحس لها بوجود فيما يكتب العقاد.
أنظر إليه في رده كيف يقول: (إن الجمع بين المعري ولوسيان مبحث يصح النظر فيه والاستفادة منه) وتلك لعمري مقارنة عجيبة، وأنا لا أرى أصلاً أي شبه بين أبي العلاء ولوسيان، بل ولا بين أبي العلاء وأي كاتب آخر؛ وذلك لإيماني بأن النفوس لا يمكن أن تتشابه أصالتها؛ وقد بينت ذلك في الثقافة، ولن أعود إليه.
واتجاه العقاد الخاطئ واضح في كل مقارناته. والذي أفهمه من المقارنة هي أن تكون إما(470/17)
(مقارنة تأثر) نبغي منها إيضاح أخذ كاتب عن آخر، والمنهج الصحيح في هذا هو أن نثبت قراءة هذا الكاتب لذاك وتأثره به تاريخياً، إذ لا يكفي مجرد التوافق على فكرة أو صورة؛ والجمع بين أبي العلاء ولوسيان لا يمكن أن يكون على هذا النحو. أو (مقارنة فهم) وذلك بأن نجمع بين كاتب وآخر لنفهم كليهما على ضوء ما اختلفا فيه تبعاً لاختلاف منحاهما النفسي رغم وحدة الموضوع الذي يتحادثان فيه أو المصدر الذي يأخذان عنه. وهذا ما لم يفعله العقاد؛ وإنما فعل وفعل دائماً أن حاول التماس أوجه شبه بين أناس وأشياء من السذاجة أن نجمع بينها، فهو طوراً يقول بأن أبا العلاء قد كان اشتراكياً، وطوراً أنه قد أخذ بمبدأ النشوء والارتقاء وبقاء الأصلح (الفصول). وهذه محاولات باطلة؛ فأبو العلاء لم يحلم بشيء من هذا؛ ومذاهب الاشتراكية والنشوء غير بيت من الشعر أو جملة منثورة. وإنه لتعسف باطل أن يرج العقاد بتلك الكلمات الضخمة في معرض الحديث عن شاعر مسكين كأبي العلاء
وشاء العقاد إلا أن يختم حديثه بتذكيرنا بقوله عن رسالة الغفران: (أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفاً موصوفاً؟ أي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهوداً للناس مألوفاً؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان. . .)
وهذا كلام لا علاقة له أصلاً بموضع المناقشة فهو لا يدل في شيء على (أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان (وإنما يدل على أن فكرة الجنة وأوصاف الجنة كانت معروفة عند الناس كما وردت في الديانات والكتب المقدسة. وأما أنها تستخدم الأدب قبل أبي العلاء إلا عند لوسيان فهذا ما لم يرد عليه العقاد
ثم إن هذه الجملة في ذاتها تأكيد آخر من تأكيدات العقاد الغير مقبولة، فأبو العلاء لم يعرف الجنة كما كان الناس يعرفونها أو يتصورونها؛ والجانب الهام من جنته هو دنيانا أو على الأصح دنيا العرب، إذ أنه قد نقل الدنيا إلى الآخرة وقد جمعت تلك الدنيا بتاريخها الطويل في صعيد واحد، فهناك ترى الهذلي يحلب ناقته، وابن القارح محمولاً زقفونة على السراط، وابن عدي يصيد، والأعشى في عينه حور، وكل أولئك أشياء لم يكن يعرفها أحد عن الجنة بل ولا يتصورها مجرد تصور، وما هي من الجنة كما وصفها القرآن في شيء
ويضيف العقاد تذكيرنا بقوله: (إنها رحلة قديمة ولكن أبا العلاء أعادها علينا كأنه قد خطا(470/18)
خطواتها بقدميه وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتدعها أول مرة. . .) وموضع البحث هو كما قلت وأكرر أن نعرف مدى قدم تلك الرحلة ومن سبقه إليها، أهو لوسيان فقط أم لوسيان وغير لوسيان ممن ذكرنا
والآن لم يبق لدي إلا أن أترك للقاري الحكم على طريقة الأستاذ العقاد في توجيه الخطاب من (لا يا شيخ!) إلى أمثال ذلك مما أمسك قلمي عن الرد بمثله، فهذا أمر سهل ميسور لكل إنسان.
محمد مندور(470/19)
مرسلات
ملق!
أعلنت الصحف ذات يوم أنَّ فلاناً سيتحدث ساعة كذا من المساء حديثاً علمياً، وفلان هذا رئيس مرجوّ مرهوب، يمتد سلطانه إلى الأقاليم، حيث ينبث له في أرجائها عمال ومرءوسون. . . فحدثني صديق من أصدقائي أنَّ كثيراً من هؤلاء المرءوسين قد فرغوا لهذا الحديث، واحتشدوا له حول (المذياع) ثُبات ثُبات: منهم من ينشد العلم، ومنهم من يتزود للملق والنفاق، وأزف الموعد. . . فلو ترى إذ خشعت الأصوات، وأرهفت الأسماع، والليل ساجٍ لا تسمع فيه إلا دقات (الاستراحة) تنبعث متقطعة من (المذياع)، كأنها دقات قلب مضطرب على موعد للقاء. . . ثم نطق المذيع:
(سيداتي، سادتي: لم يتمكن حضرة الأستاذ (. . .) من الحضور، وسنذيع عليكم بعض الأسطوانات!)
ورجَّع المذياع بعد ذلك رنيم (ليلى) وشدو (أم كلثوم) حنى انقضى وقت الحديث!
وزرت هذا الرئيس بعد يومين في مكتبه لشأن من الشئون، وكنت عرفت سر تخلفه عن موعده، فما راعني إلا كتاب يلقيه إليَّ ويطلب مني أن أقرأه، فإذا هو من شخصين مرءوسين له في بلد قريب من القاهرة؛ وإذا هما يقولان فيه: (أما والله لقد أجدت في حديثك ليلة كذا إجادة ما نحسب أن أحداً وفق إلى مثلها؛ ولقد كنا نستمع إليك في جمع من أصحابنا مزهوَّين بك، والقوم من حولنا في نشوة. . . فلما انتهى حديثك لم يبق أحد إلا حيَّاك على البعد ودعا لك، ثم انثنوا إلينا يُلقُّوننا عنك التهنئات. . . فهكذا فلتكن الأحاديث!)
قلت وقد أخذتني الدهشة: أيَّ حديث يريدان؟ قال: هذان شخصان مَلِقان تعوَّدا أن يلقياني في كل مناسبة بمثل ما ترى، وقد حسبا أنِّي ألقيت الحديث!
محمد محمد المدني(470/20)
على هامش النقد
كتب وشخصيات
للأستاذ سيد قطب
(عبقرية محمد) للعقاد
(تتمة ما نشر العدد الماضي)
للعقاد منطقه القوي في كل ما يكتب، فقد كان مهيأ أن يكون رياضياً لو لم يكن أدبياً. وتلك علامة الطبع المستقيم. إلا أن منطقه في كتاباته الأولى كان منطقاً وئيداً متمهلاً فيه أيد وصرامة. فأما في (عبقرية محمد) فهو المنطق الجارف المتطلق المتحدر عن غير طريق من طرق الإقناع. مع وضاءة شفافة وإشعاع لطيف.
وفي الكتابة لمسات بارعة من المنطق العميق، أدق ما يصورها قول العوام (ضربة معلم!) وهي كثيرة متناثرة في الكتاب نكتفي منها ببعضها:
يقول قوم: إن الإسلام أستهوى من أسلموا باللذائذ الحسية وبالتخويف من السيف. فما إن يعرض لهذا القول حتى يجهز عليه بلمسة تهتدي إلى موضع الإقناع، أو (بضربة معلم) بارعة في الصميم وإذا هو يقول في موضع: (لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر) ويقول في موضع آخر: (وما يقسم الطائفتين أحد فيضع أبا بكر وعمر وعثمان في جانب اللذة والخوف ويضع الطغاة من قريش في جانب العصمة والشجاعة) فيدرك القارئ أنها الضربة المجهزة التي لا تدع مجالاً للتعقيب، ويعلم كيف ينتفع المؤلف بالواقع المعروف على هذا الوجه الفريد.
ويعيب قوم على الإسلام التجاءه إلى السيف ويسمونه بميسم الإكراه على الدين. فما إن يعرض العقاد لهذه الفرية حتى يجهز عليها في لمسات متتالية أبرزها وأجدّها: (أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف (فكرة) يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع. ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف (سلطة) تقف في طريقه وتحول بينه وبين أسماع للإصغاء إليه. لأن السلطة تزال بلا سلطة ولا غنى في إخضاعها عن القوة. ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، وإنما كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد(470/21)
لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء. . . الخ) وعندئذ يبلغ العقاد بهذه اللمسة موضع الاقتناع من كل ذي طبع مستقيم
ويعيب بعض المتعصبين على النبي - عليه السلام - إقراره لقتل كعب بن الأشرف، ولم يكن وقت قتله محارباً بالسيف ويشبهون هذا بما عيب على نابليون من اختطاف الدوق دانجان. فما إن يعرض العقاد لهذا الاعتراض حتى يأخذه بضربة معلم فيقول: (الفارق عظيم بين الحالتين. لأن حروب الإسلام إنما هي حروب دعوة أو حروب عقيدة، وإنما هي في مصدرها وغايتها كفاح بين التوحيد والشرك أو بين الإلهية والوثنية، وليس وقوف الجيش أمام الجيش إلا سبيلاً من سبل الصراع في هذا الميدان. فليس في حالة سلم مع النبي إذن من يحاربه في صميم الدعوة الدينية، ويقصده بالطعن في لباب رسالته الإسلامية، وإن لم ينفر الناس لقتاله ولم يحرضهم على النكث بعهده. وإنما هو محارب في الميدان الأصيل ينتظر من أعدائه ما ينتظره المقاتل من المقاتلين. . . الخ) فتبلغ هذه اللمسة موضع الاقتناع ممن يقتنعون!
ويتحدث قوم عن قسوة محمد لأنه راح ينظر القتلى في ساحة الحرب بعد موقعة بدر، فيضرب العقاد ضربته على هذا الحديث بمثل هذه القوة في صفحات 97، 98، 99، 100 وخلاصتها (أن الرجل الذي يرى الدم في المدنية العصرية غير الرجل الذي يرى الدم في حروب البادية على الإجمال. ونعني بها حياة الرعاة التي تتكرر فيها إراقة الدم كل يوم، وحياة القبائل التي كانت تغزو وتغزي في كثير من الأيام). . . وأنه كذلك (كان على أولئك الناقدين أن يشهدوا بدراً لينظروا بعين النبي إلى عواقب هذه الوقعة التي أوشكت أن تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الإسلام)
وتلوك ألسنة أن محمداً كانت تستهويه لذائذ الحس ويتحدثون في هذا عن تعدد الزوجات. فيعرض العقاد لهذا بضربة من ضربات المعلم حين يقول: (حب المرأة لا معابة فيه. هذا هو سواء الفطرة لا مراء. وإنما المعابة أن يطغي هذا الحب حتى يخرج عن سوائه، وحتى يشغل المرء عن غرضه، وحتى يكلفه شططاً في طلابه، فهو عند ذلك مسخ للفطرة المستقيمة يعاب كما يعاب الجور في جميع الطباع فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته، ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير أو عن عمل صغير؟)(470/22)
ثم يقول: (وأعجب شيء أن يقال عن النبي إنه استسلم للذات الحس وقد أوشك أن يطلق نسائه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة وهو لا يستطيعها) ثم يقول: (ولو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه اللذات أن يجمع النبي إليه تسعاً من الفتيات الأبكار اللائى اشتهرن بفتنة الجمال. . . الخ) فينتهي الجدل عند المنصفين
وهكذا. . . من مثل هذا المنطق المتطلق الوضيء السريع
وللعقاد في (عبقرية محمد) لفتات نفسية وفكرية جديدة، هيأه لإدراكها انفساح في النفس وغنى في الشعور وحيوية في الطبع والضمير
من ذلك قياسه الجديد لعظمة محمد بمقدار ما استحقت من صداقات وبمقدار ما استجابت به لكل من هذه الصداقات: (تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم والحيلة والصراحة والألمعية والاجتهاد وحنكة السن وحمية الشباب)
وقياسه لهذه العظمة في موضع آخر بما انفسحت له من العطف على الصغير والتقدير العظيم، لأن إنصاف العظيم جميل كإنصاف الصغير
وقياسه لهذه العظمة في موضع ثالث بما انفسحت له من الجد والنهوض بعظائم الأمور مع تقبلها للفكاهة وعطفها على المتفكهين
وقياسه لهذه العظمة في موضع رابع بما انفسحت له من طبيعة العبادة وطبيعة التفكير وطبيعة التعبير الجميل وطبيعة العمل والحركة
ولولا الانفساح الكبير في طبيعة العقاد ما تهيأ لإدراك هذا الانفساح العظيم في مثله العليا في هذه النفس الرحيبة، ولما التفت إليه هذا الالتفات وصوره هذا التصوير
ومن هذه اللفتات التي لا محيص من ذكرها - وإن ضاق المقام - التفاته إلى تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أدواته وأسلحته بأسماء الأعلام وما فيها من (معنى الألفة التي تجعلها أشبه بالأحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين، كأن لها شخصية مقربة تميزها بين مثيلاتها كما يتميز الأحباب بالوجوه والملامح وبالكنى والألقاب)
لقد تحدث المتحدثون عن عطف النبي وحدبه فذكروا حوادث بره بالناس وبالحيوان. وممن(470/23)
كتبوا في ذلك حديثاً الدكتور هيكل في كتاب (حياة محمد) ثم تحدث العقاد فعرض بأسلوبه وطريقته مظاهر هذا العطف على الناس وعلى الحيوان، ثم تجاوزه إلى هذه اللفتة المشرقة. والزيادة هنا ليست لقصد الزيادة، ولا لمجرد الاستقراء، ولكنها تزاد لنوع جديد من الدلالة لا يدرك ما فيه من طبيعة الألفة والمودة لأول وهلة، ولا تدركه إلا بصيرة نافذة ونفس عطوف وحس شفيف
ويبلغ العقاد قمة اللفتات النفسية البارعة عند تحليله لعقوبة (الهجر في المضاجع) ويتجاوز الظواهر إلى حقيقة البواعث ومكامن الطبائع، وتبدو الخبرة بطبيعة المرأة واليقظة لسيكلوجيتها الصميمة. ولن يتسع المجال هنا لعرض هذه اللفتة، فهي هناك في الصفحات ما بين 214، 218 يرجع إليها من يريد
وفي (عبقرية محمد) بعد هذا كله قصائد إنسانية رفيعة، وإشراقات نفسية وذهنية وضيئة
فأما القصائد فهي هناك في مواضع متفرقة، ولكنها تروع وترفرف في ص26 حين يتحدث عن (عبد الله) فيقول: لكأنما كان بضعة من عالم الغيب أرسلت إلى هذه الدنيا لتعقب فيها نبياً وهي لا تراه. ثم تعود. . . الخ)
وحين يتحدث عن (مولد إبراهيم وموته) في فصل (الأب) فيقول: (ولد الطفل الذي نظر إليه أبوه يوم مولده فأمتد به الأمل مئات السنين بل ألوف السنين، وتخير له الاسم الذي وراءه أعقاب كأعقاب جده الأعلى ليكون أباً ويكون له أحفاد ويكون لأحفاده من بعدهم أحفاد. . .
(ثم مات ذلك الطفل الصغير
(ومات ذلك الأمل الكبير)
ثم يمضي في هذه القصيدة وفي تلك فتحس خفق قلب إنساني عطوف على مصاب قلب إنساني كبير وتلمح رفرفة نفس شفيفة على نفس لطيفة من وراء الآباد والقرون
وأما الإشراقات النفسية والذهنية فهي هناك في مواضع متفرقة، ولكنها تروع وتعجب عند الكلام على محمد (العابد) وهناك صفحات في الإيمان والتفكير كانت خليقة أن يكتبها أحد (الواصلين)! فلعلها محسوبة للعقاد عند جمع درجات الحساب في الكتاب المكنون، ولعله واصل بهذه الدرجات إلى عليين!!(470/24)
وفي عبقرية محمد تقويم صحيح لطبيعة العبقرية، ولطبائع كثير من المواهب والحقائق، عني فيها العقاد دائماً بتوكيد الباعث المكنون في الضمير وإيثاره على ظواهر الأمور (فالعبقرية قيمة في النفس قبل أن تبرزها الأعمال ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يغالي بها التقويم). . . (ولقد فتح الإسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالماً مغلقاً تحيط به الظلمات. فلم يزد الأرض بما استولى عليه من أقطارها، فإن الأرض لا تزيد بغلبة سيد على سيد، أو بامتداد التخوم وراء التخوم. ولكنه زاد الإنسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة فارتفع به مرتبة فوق طباق الحيوان السائم ودنا به مرتبة من الله. . .)
وبعد فإن الجديد في (عبقرية محمد) هو ضخامة الطاقة النفسية التي تستطيع أن تلم بنفس (محمد) هذا الإلمام. هذه الطاقة هي التي لم تتهيأ من قبل لأيٍِّ ممن كتبوا عن (محمد). وهي التي تشيع في جو الكتاب كله، ويتعذر لمسها في نقط خاصة منه
(إن (نفس) محمد العظيمة هي التي يصورها هذا الكتاب أبرع تصوير ويجلوها أحسن جلاء. وتلك هي (عبقرية العقاد) في (عبقرية محمد) على وجه الإجمال
سيد قطب(470/25)
36 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)
هناك أشياء مختلفة يعدها المسلمون كالاحجبة، مثل تراب القبر النبوي وماء زمزم المقدس وستار الكعبة الأسود. ويقدر المسلمون ماء زمزم كثيراً لأنه يُرش على الأكفان. وسمعني أعرابي كنت أعطيته في الصعيد أثناء زيارتي الأولى لمصر دواء (أفاده) أسأل عن قليل من ماء زمزم إذ أن الكثير من المراكب الغاصة بالحجاج العائدين من مكة كانت نازلة في مجرى النيل. وربما ظن الرجل لسؤالي هذا أنني مسلم تقي، ومن ثم منحني ما كنت أحاول الحصول عليه ليعبر عن امتنانه. فذهب إلى منزل صديق له وعاد إلى مركبي حاملاً ربطة صغيرة فتحها أمامي قائلاً: (هاهي ذي أشياء أعرف أنك ستقدرها تقديراً عظيماً. هاهما علبتان من القصدير ملآنتان بماء زمزم، إحداهما لك تحتفظ بها لترشها على كفنك. وهذا سواك غُمس في ماء زمزم فتقبله مني ونظف به أسنانك فلن تؤلمك ولن تتلف أبداً). وأضاف قائلاً، وهو يظهر لي ثلاث كعكات من التراب الأشهب صغيرة مستطيلة مسطحة طول كل منها قيراط تقريباً وقد طبع عليها: باسم الله، تراب من أرضنا، مزج بريق بعضنا. وهذه صنعت من تراب فوق قبر الرسول صلعم، وقد اشتريتها بنفسي عند عودتي من الحج، وإني أعطيك إحداها وستجد فيها شفاء من كل داء. وسأحتفظ بالثانية لي. أما الثالثة فنأكلها معاً. وعلى ذلك كسر إحدى الكعكات نصفين وأكل منا نصيبه. وقد وافقته على أنها لذيذة وقبلت هداياه مسروراً. وقد أمكنني فيما بعد أن أزيد ما عندي من تحف عن مكة ومن ذلك قطعة من ستار الكعبة أحضرها الشيخ إبراهيم (بركهارت) من مكة وأعطاني إياها وريثه عثمان. وتوضع الكعكة أحياناً في غلاف من الجلد وتحمل كتعويذة، وتصنع(470/26)
أحياناً أقراصاً على شكل الكمثري الصغيرة وبحجمها وتعلق على الستر المحيط بمقام الأولياء أو على المقام ذاته أو على نوافذ المقام أو بابه.
والأحجبة التي يستعملها المصريون لجلب السعادة أو منع الشقاء كثيرة؛ والعادات الخرافية التي يمارسونها لهذه الأغراض مختلفة بحيث لا يكفي لوصفها مفصلة مجلد كبير. وتسمى هذه الأساليب التي لا يكون أساسها الدين أو السحر أو التنجيم (علم الرُّكَّة) إشارة إلى سخافتها، ولأن النساء يعتمدن عليها غالباً. ويعتبر البعض هذه الكلمة تحريفاً علمياً لعبارة (علم الرُّقْية) أي علم السحر. ويرى البعض الآخر أنها حلت محل العبارة الأخيرة بطريق التورية. وقد ذكرت عرضاً بعض العادات مما وصفته، وسأذكر بعض أمثلة أخرى.
من الشائع كثيراً أن يعلق القاهريون عود الند فوق أبواب المنازل الجديدة خاصة. ويعتبر هذا حجاباً يكفل للسكان عمراً مديداً وحياة سعيدة وللمنزل بقاء طويلاً. ويعتقد النساء أيضاً أن الرسول يزور المنزل الذي يعلق فيه هذا النبات. ويبقى العود معلقاً هكذا بدون طين أو ماء سنوات عديدة. ويزهر أيضاً. وقد سمى لذلك (صبراً) وعلى الأصح (صبّارة) إذ أن كلمة (صبر) تطلق عامة على العصير.
وجرت العادة عندما يُخشى إنسان أن يكسر خلف ظهره وعاء من الفخار. ويُفعل هذا أيضاً لقطع كل علاقة أخرى مع مثل هذا الشخص.
ويعمد الجهلاء في مصر حيث ينتشر الرمد إلى الكثير من العادات الخرافية المضحكة لمعالجة هذا المرض فيأخذ البعض قطعة طين من جسر النيل عند بولاق أو بالقرب منها ثم يعبرون النيل ويضعون القطعة على الجسر الآخر عند (امبابه) وحسبهم هذا لضمان الشفاء. ويعلق آخرون للغرض ذاته في غطاء الرأس فوق الجبهة أو العين المريضة قطعة ذهبية (بندقي) ذات وصف خاص متقابلة النقشين غير أنه يعتقد أن دخول المرء، حاملاً في جيبه بندقيا أو ريالاً على المريض بالرمد أو بحمى مما يزيد المرض. والاعتقاد العام أيضاً أنه دخل لمرء غير طاهر على مصاب بالرمد يشتد المرض عليه وتظهر نقطة في إحدى عينيه أو في كلتيهما. وأعرف رجلاً أصيب بالرمد فحبس نفسه في غرفته ثلاثة شهور مدة المرض خوفاً من ذلك، فلم يسمح لأحد بالدخول عليه، وكان خادمه يضع الطعام خارج الغرفة عند الباب؛ وأصيب مع ذلك بنقطة على إحدى عينيه(470/27)
وكثيراً ما يقوم النساء بعادة أخرى شديدة الغرابة تتقزز منها النفس منعاً للعقم
تعد ساحة الرميلة الكبرى غربي القلعة مسرحاً لإعدام المجرمين. وكان فيما مضى يكاد يضرب عنق المحكوم عليهم بالإعدام في العاصمة دائماً في هذا المكان من المدينة. وجنوبي هذا المكان بناء يسمى (مغسل السلطان) حيث توضع جثة المضروب عنقه على مائدة حجرية لغسلها قبل الدفن. وتتجمع المياه في حوض لا يفرّغ أبداً فيظل ملوثاً بالدماء كريه الرائحة. فيذهب الكثير من النساء إلى ذلك المكان للبرء من الرمد أو للحصول على النسل أو لتعجيل الولادة في حالة الحمل المتأخر. فتمر المرأة صامتة، والصمت لازم إطلاقاً، تحت المائدة الحجرية متقدمة بالقدم اليسرى، ثم تمر فوق المائدة سبع مرات وتغسل بعد ذلك وجهها بالماء الدنس. وتعطي كهلاً وزوجه يلازمان هذا المكان خمس فضة أو عشرة ثم تنصرف وما زالت صامتة. وكثيراً ما يفعل ذلك المصابون بالرمد من الرجال. ويقال إن هذا المغسل بناه بيبرس الشهير قبل أن يصبح سلطاناً عندما لاحظ جثث المحكوم عليهم ترفس وتدفن دون أن تغسل. ويخطو بعض النساء جثة المعدم سبع مرات صامتات ليصحبن حبالى. ويغمس البعض الآخر، مدفوعاً بالرغبة نفسها، قطعة من القطن الزهر في الدم ويستعملها فيما بعد بطريقة يجب ألا أذكرها
وهناك عادة مضحكة يمارسها المصريون لعلاج بثرة تظهر على حافة الجفن ويسمونها (شحَّاتة) ومعنى هذه الكلمة الحرفي سائلة. فيذهب المصاب إلى سبع نساء تسمى كل منهن فاطمة في سبعة بيوت مختلفة؛ ويسأل كلاًّ منهن قطعة خبز. ويتكون الدواء من هذه القطع السبع. وأحياناً يخرج المصاب في حالة متشابهة وللغرض نفسه قبل طلوع الشمس إلى المقابر يدور حولها صامتاً من اليمين إلى اليسار بعكس الطريقة المعتادة. وهناك طريقة وهمية أخرى للعلاج وهي أن يثبت المصاب قطعة قطن على طرف عصا ثم يغمسها في أحد الأحواض التي يشرب منها الكلاب في شوارع القاهرة ويمسح العين بها. ويهتم المريض هكذا بوقاية يده من الماء المدنس عندما يوشك أن يضع منه على موضع آخر من جسمه
ويعلق بعض المصريات المسلمات في رقابهن إصبعاً مجففة فصلت عن جثة مسيحي أو يهودي متوهمات أن ذلك يعالج الحمى المتقطعة (الملاريا). وتدل هذه العادات دلالة تستحق(470/28)
الاعتبار على مفعول الخرافة المنحط وتأثيرها القوي على العقل، إذ أن المسلمين على العموم يدققون في مراعاة الفروض الدينية التي تأمرهم بالامتناع عن كل دنس أو قذر
جرت العادة عندما يعجز الطفل عن المشي بعد أن يدرك السن المناسبة أن توثق أمه قدميه بسعف تعقدها عقدات ثلاث وتضعه على باب مسجد أثناء صلاة الجمعة، وتسأل بعد الصلاة أول الخارجين وثانيهم وثالثهم أن يحل كل عقدة من السعف، ثم تحمل الطفل إلى المنزل مؤمنة أن هذا العمل سوف ينتج الأثر المراد عاجلاً
من العقاقير من يزعمون أنه ترياق أو شاف لبعض الأمراض. وقد يكون لهذه الأدوية بعض التأثير ولكن الخرافة تنسب إليها فضائل لا تُصدَّق. ويرى المصريون حتى غالبية المتعلمين والمهذَّبين في الخاصيات المفيدة أو المضرة لمختلف المواد النباتية والحيوانية أسخف الآراء. إذ يؤيدها في بعض الأحوال أحاديث تروى عن النبي ويدعمها اعتبار حكمائهم المشهورين. ويستعمل البادزهر ترياقاً بحكه مع قليل من الماء في طاس تملأ بعد ذلك ويشربها المصاب. ويستعمل لذلك أيضاً وبالطريقة نفسها قدح من قرن الخرتيت يدعك بقطعة من المادة نفسها. ويعالج الكثير من أهل القاهرة مرض اليرقان بالشرب من ماء (بئر اليرقان) وهو بئر تمتلكها عجوز وتجني منها فائدة كبيرة؛ فللبئر فوهتان أسفل إحداهما وعاء جاف للأشياء التي تقذف بها. فتطلب العجوز ممن يرغب استعمال الماء الطبي أن يسقط خلال هذه الفوهة ما تحتاج إليه من سكر وبن الخ
يلجأ المسلمون إلى عادات خرافية شتى يستشيرونها عند التردد في عمل ينتوون فعله أو تركه. فيستخدم البعض جدولاً يسمى (زائرجة). وهناك جدول من هذا النوع ينسب إلى إدريس أو أخنوخ. ويقسم الجدول إلى مائة خانة صغيرة يكتب في كل منها حرف. ويتلو من يستشير الجدول الفاتحة والآية التاسعة والخمسين من سورة الأنعام (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ثلاث مرات. ويضع بعد ذلك إصبعه على الجدول دون أن ينظر إليه ثم يعاين الحرف الذي يشير إليه إصبعه ويدونه، ثم يدون الحرف الخامس اللاحق للأول، فالخامس التابع للثاني، وهكذا حتى يعود إلى الحرف الأول. ويكون من مجموع هذه الحروف الجواب(470/29)
ويعمد البعض إلى القرآن لحل مشكلاتهم، ويسمون هذا (استخارة)، فيرددون الفاتحة وسورة الإخلاص والآية السابقة ثلاثاً، ثم يتركون المصحف يسقط مفتوحاً أو يفتحونه عرضاً، ويستخرجون الجواب من السطر السابع في الصفحة اليمنى، وكثيراً ما لا يحمل الكلام جواباً صريحاً، إلا أنه يعتبر إيجابياً أو سلبياً حسبما يدل معناه على الخير أو الشر، كأن يشير إلى وعد أو وعيد. ويعد البعض بدلاً من قراءة السطر السابع عدد الحرفين الخاء والشين في الصفحة كلها، فإذا غلبت الخاءات كانت النتيجة مناسبة: فالخاء تمثل الخير والشين الشر
(يتبع)
عدلي طاهر نور(470/30)
حماسيةٌ لا سياسية
لمعالي الأستاذ رضا الشبيبي
أَلا في سَبيلِ اللهِ وَالْوَطَنِ الْعَانِي ... سُهَادِي إذا جَنَّ الظَّلاَمُ وَأَشْجَانِي
وَفي ذِمَّةِ الشَّعْبِ المُضَيَّع حَمْلَةٌ ... مِنَ الدَّهْر أَلْقَاهَا - وَحِيداً - وَتَلْقَانِي
وَسَوْمِيَ نَفْسِي في الْكِفَاحِ رَخِيصَةً ... وكنتُ فتىً إِنْ سَامَنيِ الدّهْرُ أَغْلاَنِي
وَنَفْثِيَ مِنْ صَدْرِي شُواظاً تَضَرَّمَتْ ... بهِ وَسَرَتْ في فَحْمةِ اللَّيْلِ نيراني
وَرَدّيَ كَيْدَ الكَائدِينَ عَلَيْهُمُ ... وكان قميناً أن يضعضِعَ أركاني
إذا كادَ أَنْأَى النَّاسِ عَنَّيَ كِدْتُهُ ... وَإِنْ كادَ أَدْنى النَّاسِ مِنِّيَ أَعْيَاني
رِجَالٌ لَهُمْ في الْعرْبِ دَعْوَى كما ادّعَى ... (بِآلَ زِيَادٍ) قَبْلَهُمْ (آلُ سُفْيَانِ)
لهم ما استقامتْ قَطُّ عندي طريقةٌ ... وناهيك فيهم من وجوهٍ وألوانِ!
تَعَسَّفَ قَوْمٌ بالعراقِ وَسَاوَمُوا ... عَلَى وَطَنٍ مَا سِيمَ - يَوْماً - بَأَثْمَانِ
هُمُ احْتَقَبُوا الأَوْزَارَ يقترِفونها ... وقالوا: جَنَى عَمْداً وما هو بالجاني!
هُمُ استعجلوا اللذاتِ يَنْتَهِبُونَهَا ... وَهُمْ بَدلَوا بالجَوْهَرِ الْعَرَضَ الفاني
وقد تُنْكِرُ الحُرَّ العِرَاقَّيِ أَرْضُهُ ... فَيَنْأَي ليدنو منه من ليس بالداني!
(بغداد)
رضا الشبيبي(470/31)
معركة (بلنهايم)
للشاعر الإنجليزي روبرت سوثي
بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة
(بلنهايم قرية في بافاريا الغربية على ضفاف الدانوب الأعلى،
انتصر عندها الإنجليز وحلفاؤهم من الأوربيين بقيادة
مارلبورو (وهو جون تشرشل جد ونستن تشرشل الحالي،
يعاونه الأمير أوجين صاحب سافوي. . . على جيوش
الفرنسيين والبافاريين بقيادة المارشال تالارد؛ وكان ذلك في
13 أغسطس 1704 م
وقد أنشأ روبرت سوثي - وهو أحد شعراء البحيرة الثلاثة قصيدته هذه عام 1798)
كانت أُمسيَّة من أمسيَّات الصيف الرائعة؛ وقد أنهى (كَسْبَار) العجوز عمله في مزرعته، ثم احتبى أمام باب كوخه يرقب الشعاع الغارب في سكون. . . بينما انطلقت حفيدته (ولْهِلْمِينا) تلهو بجانبه على المرج الأخضر
وبعد هنيهة أقبل أخوها (بيتركين) يقلب في يده كرة بيضاء مستديرة، عثر بها وهو ينبش الأرض إلى جانب الجدول القريب. . .
وراح الصغير يتساءل في لهفة عن هذه الكرة المستديرة الملساء؛ فتناولها منه الجد وأقبل يفحصها بيده وبصره؛ بينا وقف أمامه الصغيران ينتظران جوابه في لهفة واشتياق
هزَّ الشيخ رأسه في أسف؛ وتنهد تنهيدة حرَّى ثم قال: (هذه جمجمة أحد أولئك المساكين الذين سقطوا صرعى يومَ الانتصار الكبير. . . لقد طالما عثرت بمثلها وأنا أنبش الأرض: في الحديقة. . . وفي المزرعة. . . وفي كل مكان. وكم من مرة ارتطمت سكة محراثي بجمجمة كهذه، حتى لأصبحت وما أكاد أحفِل بها أنّي أجدها. نعم؛ إن آلافاً وآلافاً من الرجال البواسل طحنتهم رحى القتال فلم تبق منهم إلا أشلاء مختلطة؛ في يوم هذا النصر(470/32)
الذي ارتفع ذكره ودوى صداه!
فهتف (بيتركين) في دهشة: ولكن. . . قل لي يا جدي علام اصطرع هؤلاء الرجال. وفيم استباحوا لأنفسهم أن يَحْضَأُوا نار هذه الفتنة المبيرة، ويتساقوا بأيمانهم كؤوس المنية دهاقاً؟. . .
وأصغتْ ولهلمينا إلى الجواب في لهفة، وقد حدقت في وجه جدها بعينين مستطلعتين
قال الشيخ الهرم: هذا سؤال لا يحضرني جوابه؛ ولكني سمعت الجميع يقولون: إنه كان انتصاراً رائعاً تردَّد صداه في كل مكان. . .
كان أبي يقيم يوم ذاك في (بِلِنْهايم) خلف هذا المجرى القريب؛ ولقد أضرم المتحاربون النار في بيته حتى تداعت أركانه وانهار بنيانه؛ فلاذ بأذيال النجاة، وشرد هائماً في السهل العريض، مع زوجة مكروبة، وطفل مزءود، يطاردهم الموت أنى ذهبوا، وتسد عليهم كوارث الحرب كل مسلك. . . فما يملكون لها دفعاً، ولا يجدون لهم من دونها موئلا. . .
لقد فعل الحديد والنار فعلهما في هذه الأنحاء، وانبثت نذر الهلاك والدمار فيها طولاً وعرضاً؛ حتى لذهلت كل مرضعة عما أرضعت، ووضعت كل ذات حمل حملها. ولكم من شيخ مات إعياء وضعف؛ وطفل اخترم جزعاً وخوفاً. . . ولكن أشياء كهذه تحدث دائماً - كم تعلمان - عند كل انتصار كبير!
إنهم ليتحدثون في ارتياع وذهول، عن بشاعة المنظر الذي كانت تقع عليه العين يوم انجلى غبار المعركة عن أكداس فوق أكداس من أشلاء ممزقة، وهامات مفلقة؛ قد صهرتها حرارة الشمس، ودب فيها دبيب البلي. ولكن هكذا الشأن في كل نصرة: مسرة تحفها الآلام، ونعمة يعاتقها الشقاء، وتسد سبيلها الكوارث والمفجعات. . .
لقد طوقت هذه الحرب (دوقَ مارلْبوردُ) بهالة من المجد والفخار، وأكسبه صدق بلائه فيها محبة وثيقة من كل قلب، وثناء رطيباً على كل لسان. وكذلك حظي أميرنا المحبوب (أُوجين) بقسط من الحمد عظيم، ونصيب من الثناء وافر. . . فاعترضت ولهلمينا تقول: عجباً! وفيم كل هذا؟ لقد ارتكبا والله شناعة، وأتيا أمراً إدَّا.
قال الشيخ في حدة: كلا، كلا يا فتاتي العزيزة؛ إنه لانتصار رائع وفوز مبين؛ وإن الجميعَ ليثنون على الدوق الشجاع الذي بلغ بمقدرته تلك الغاية، وسجل هذا النصر الأغر. . .(470/33)
وهنا عنَّ لبيتركين أن يسأل بدوره فقال:
ولكن حدثني يا جدي عما أفاده الناس من هذه المعركة الطاحنة، ذات الحوادث الرهيبة!
فأحس الشيخ بالحرَج. . . وكأنما قد فرغ رأسه بعد أن نفض عنه كل ما يعلم، فقال في لهجة من يختتم الحوار:
لا أستطيع يا بني أن أقول في هذه المعركة شيئاً، سوى أنها كانت نصراً حاسماً تردَّد صداه في كل مكان!!
(جرجا)
محمود عزت عرفة(470/34)
البريدُ الأدبي
محاولة قديمة جريئة في الفقه الإسلامي
كنت أعتقد إلى إطلاعي على هذه المحاولة أن عصرنا هو الذي يمتاز بهذه المحاولات الجريئة في الفقه الإسلامي، لأنه يمتاز على ما سبقه من العصور بما جد فيه من ظروف وأحوال انتهت بإبطال العمل بهذا الفقه في قسم المعاملات، فكان هذا سبباً في تلك المحاولات الجريئة التي يقصد منها تطويع هذا الفقه لمجاراة الظروف والأحوال، وإيثار العمل بروح الشريعة السمحة على الوقوف عندما تقضي به النصوص والألفاظ
ومن تلك المحاولات ما ذهب إليه بعضهم من أن الإسلام كغيره من الديانات لا يراد منه إلا تهذيب الروح، فلا يكون من صميمه إلا قسم العبادات؛ أما قسم المعاملات، فهو قسم دنيوي يقبل التغيير والتبديل، ولا يثبت على حال واحد كقسم (العبادات)
ومنها ما ذهب إليه بعضهم في مجلة (الرسالة) الغراء من تقسيم الإسلامي إلى دائم ومؤقت، وجعل قسم المعاملات من التشريع الثاني، لأنه صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بشخصية الإمام المجتهد، لا بشخصية الرسول المبلغ عن الوحي، وهذه المحاولة هي المحاولة الأولى بعينها في ثوب جديد وتمتاز عليها بقوة الأساس الذي بنيت عليه، وأنه كان بحيث لم يسع بعض المنكرين لتلك المحاولات، إلا قبوله بدون قيد ولا شرط.
أما تلك المحاولة القديمة، فقد ذكرها أبو جعفر النحاس في كتابه - الناسخ والمنسوخ - وجعلها مذهباً لبعض المتأخرين في النسخ، وهو يعني بالمتأخرين من جاء بعد الصحابة والتابعين؛ فقد ذكر لهم مذاهب في النسخ منها ما ذهب إليه بعضهم من أن يكون في الأخبار والأمر والنهي؛ وقد قال في رده: وهذا القول عظيم جدًّا يؤول إلى الكفر، لأن قائلاً لو قال: قام ثم قال: لم يقم؛ ثم قال: نسخته لكان كاذباً
ومنها هذا القول الذي يتضمن تلك المحاولة، وهو أن الناسخ والمنسوخ إلى الإمام ينسخ ما شاء، ولا شك أن المحاولتين السابقتين إنما تقصدان إلى هذه الغاية، وترميان إلى إعطاء الإمام هذه الحق؛ وقد قال أبو جعفر في رد ذلك القول: وهذا القول أعظم، لأنه النسخ لم يكن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي من الله؛ إما بقرآن مثله على رأي قوم، وإما بوحي من غير القرآن؛ فلما ارتفع هذان بموت النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع النسخ.(470/35)
(أزهري)
غطاء الرأس والأزياء
أجابت لجنة الفتاوي الأزهرية على سؤال وجه إليها من جمعية المشروعات الخيرية الإسلامية ببيروت في صدد غطاء الرأس والأزياء، بأن (الدين الإسلامي لم يفرض على الناس زياً خاصاً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس الملابس العربية التي كانت في وقته، والملابس غير العربية التي وصلت إليه، غير أن الإسلام استثنى من ذلك ما كان خاصاً بالطقوس الدينية أو كان مميزاً لطائفة من الطوائف غير الإسلامية، وإذ أن الطربوش والمعطف والسترة والبنطلون والبيجامة، ليست ملابس خاصة بطقوس دينية فإن لبسها للرجال جائز. أما البرنيطة فلم تعد زياً خاصاً لفريق من الناس، فيجوز لبسها في الأقطار التي تعد البرنيطة من الملابس الشائعة دون الأقطار التي تعدها من الملابس الخاصة بغير المسلمين)
أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً
يقول الدكتور زكي مبارك في إحدى كلماته: (قال الرسول عليه السلام: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. وقد أول قوم هذا الحديث فقالوا: إن نصر الأخ الظالم هو نهيه عن الظلم. وأقول إن الحديث الشريف يرمي إلى غاية لم يفطن لها أولئك المؤولون، وهو عندي دعوة إلى العصبية الأخوية، وهي الغاية في شرف الإخاء، وتلك العصبية توجب أن تكون في صفوف الإخوان ولو كانوا ظالمين، لأن الوداد الصحيح هو الاشتراك الوثيق في المحاسن والعيوب)
وهذا القول من شطحات الأديب الكبير، فإن النبي (ص) لما قال هذا الحديث سأله صحابته: قد علمنا أننا ننصر أخانا مظلوماً فكيف إذا كان ظالماً؟ فأجاب الرسول ما معناه: نصرته إذا كان ظالماً تردوه عن ظلمه. وهذا ما ذكر المحدِّثون عند رواية هذا الحديث؛ ولكن الدكتور عفا الله عنه أتى على صدر الكلام وتناسى عجزه.
وقال بعضهم إن هذه الكلمة قد أثرت عن العرب في الجاهلية ولكنهم قالوها على مذهب شاعرهم القائل:(470/36)
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا!
والقرآن والسنة يا دكتور لا يقال فيهما: (وهو عندي. . .) خصوصاً إذا سدت الرواية والأسانيد السبيل أمام الظنون والآراء، ورضى الله عن أبي بكر الصديق إذ يقول: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي!)
(البجلات)
أحمد الشرباصي
ذكرى الشاعر عبد الحليم المصري
حفل مسرح الأزبكية في الأسبوع الماضي بجمهرة من الأدباء والشعراء ورجال القلم احتفلت بذكرى الشاعر الكبير المرحوم عبد الحليم المصري برياسة صاحب المعالي نجيب الهلالي باشا وزير المعارف. وقد تفضل حضرة الجلالة الملك فأوفد صاحب العزة محمود يونس بك التشريفاتي لحضور هذا الاحتفال. وقد تعاقب الخطباء على منصة الخطابة فألقوا كلمات وقصائد عددوا فيها ما كان لهذا الشاعر من آثار على دولة الشعر والأدب في مصر. ثم اختتمت الحفلة بكلمة ألقاها اليوزباشي عصام حلمي المصري عن أسرة الفقيد شكر فيها للمحتفلين شعورهم
وقد عاش المرحوم عبد الحليم المصري فيما بين سنة 1887 وسنة 1922 ومات في منتصف العقد الرابع من عمره، وقرض الشعر في سن الثالثة عشرة. وأخذ نجمه في الشعر والأدب يصعد وهو في سن السابعة عشرة. وقد أفرد لمنشئ مصر الحديثة المغفور له محمد علي الكبير ديواناً خاصاً. وقربه المليك الراحل وعينه أميناً للمكتبة الملكية، ومات في اليوم الثاني من شهر يوليو سنة 1922، وكان يجري في الشعر على مذهب حافظ
الفدائية
ذكر الدكتور محمد حسني ولاية في مقاله (الشخصية الهستيرية في الرسالة: ومن الطرق التي يلجأ إليها الهستيري في كفاحه لنيل تقدير الجماهير إنكار الذات (ظاهراً) والفدائية، واستعذاب العذاب في سبيل تحقيق المبادئ السامية
فهل للدكتور الفاضل أن يتفضل فيبين لنا المبادئ التي كانت تعمل من أجلها جماعة(470/37)
الفدائيين، وهل كانت هذه المبادئ من السمو بحيث يضحي الفدائي نفسه في سبيل كل غاية تفيد الإنسانية، أم أن الدكتور الفاضل أراد بذكرهم في مثاله مجرد التشبيه فقط، باسترخاصهم النفس في سبيل غاياتهم.
وأنى لرد الدكتور الفاضل لمنتظر، فقد تعددت الآراء، وتضاربت الروايات بشأن هذه الجماعات. وللدكتور الفاضل خالص الشكر ووافر الامتنان
مصطفى عبد المجيد جابر
حول ترتيب القرآن
لا شك في أن ترتيب السور في القرآن الكريم الذي بأيدينا قد بُني على قاعدة معقولة مما أرضت جميع المسلمين على اختلاف طبقاتهم. . . فما هي هذه القاعدة التي رُتبتْ السور القرآنية بموجبها؛ أروعي في ترتيبها كبر السورة أم سبق النزول، وكلا الأمرين - كما هو ظاهر لم يراع في ترتيبها
فيا حبذا لو التُفتَ لهذا الموضوع الجليل وأُعطي ما يستحقه من العناية على صفحات (الرسالة) أسوة بالمواضيع الخطيرة التي تتناولها
قضاء الهندية - العراق
عيدان رشيد الكاتب
المهرجان الأدبي الرابع
يعتزم نادي الخريجين بالخرطوم إقامة المهرجان الأدبي الرابع في عيد الفطر المبارك المقبل وقد شكلت لهذا الغرض لجنة خاصة وهي الآن في حركة دائمة ونشاط متواصل وبدأت عملها بتوجيه الدعوة بالصحف السيارة لحملة الأقلام وقادة الفكر ليتأهبوا لهذا الحدث الأدبي الهام، وشفعت نداءها ببرنامج شامل للموضوعات التي ينبغي أن تلقى في تلك السوق الأدبية الحافلة
واللجنة وطيدة الأمل أن يساهم الأدباء المصريون الأعلام وغيرهم من أدباء الأقطار العربية الشقيقة في هذا العيد الأدبي بإرسال ما تجود به قرائحهم الوقادة برسم (سكرتير(470/38)
المهرجان الأدبي الخريجين بالخرطوم)
وفق الله الجميع لإعلاء كلمة الأدب والنهوض بلغة الضاد
حيدر موسى
من هيئة السكرتارية
كتاب (ديكارت) للأستاذ عثمان أمين
هذا الكتاب كسب للمكتبة العربية، ومذهب جديد في دقة البحث وحسن العرض. وما ظنك ببحث يعرض لك نوع الحياة التي عبرها لتقف على بواعث فكره الأصلية، ويبين لك كيف تفتحت هذه البواعث عن أفكار كملت واستقامت؛ ويريك كيف اقترع ديكارت منهجه الجديد ومذهبه الفلسفي، كل أولئك مع حيوية دافقة في بيان مواضع الخلاف بين ديكارت ومن سبقه من الفلاسفة، وإبداع في مناقشته تأويلات الفلاسفة لمذاهب ديكارت وأخلاقه. . . في أسلوب جلي واضح يقرب أغراضه من الفهم ولا ينبو عن الغرض. إن كتاباً يكون هذا منهجه ويكون موضوعه فلسفة ديكارت لهو كتاب حقيق أن يوفى حقه وواجب أن يحسن استقباله
وبعد فما نخالف المؤلف الفاضل إلا في ناحية واحدة لا تذهب بجلال البحث وهي قوله بأن تخلف ديكارت عن نصرة (غاليلي) لم يكن عن خوف وإنما كان عن رغبة في الهدوء!
ونحن نقول إنه كان عن خوف عارم، فقد كان الرجل شديد الحرص على أفكاره قوي الدفاع عنها. وإن مناقشاته الكثيرة مع ناقديه لتنهض دليلاً على ذلك، فهو كان يخشى أن تعارضه الكنيسة، فلا يستطيع أن يصاولها فتسكت! والسكوت عند من يتوهج غيرة على أفكاره أمر شديد وجيع. . . وإذن فقد آثر ديكارت السكوت عن نصرة (غاليلي) خوفاً على فلسفته ورهبة من الكنيسة
ولو كان ديكارت كشف عن رأيه في موقف الكنيسة من غاليلي لضاعت تلك الفلسفة التي وضعت للنفس روحية ثابتة، وقررت بفيزيقيتها (اليقين العلمي) و (الوجود الكوني)
حسين محمود البشبيشي
لحم اصطناعي(470/39)
حلت بنا أزمة اللحوم ومحنة حظر اللحوم فماذا أوحت إلينا؟ لقد أشعرتنا بالحاجة إلى بديل للحوم يشبهها من جميع الوجوه ويغني عنها: أي لحم اصطناعي. وسيزداد شعور العالم في المستقبل بهذه الحاجة لا بسبب الحروب بل بسبب تطور المدنية. نعم سوف ترهف مشاعر الإنسان فيشعر باحتجاج صامت من الحيوان الأعجم على سفك دمائه، وستنمو غريزة الشفقة وتطغى على البشر فلا يعودون يرون أن ذبح الحيوان يختلف عن ذبح الإنسان. ستسود المحبة والتآخي بين الإنسان والحيوان وتنسى الطيور غريزة الخوف من الإنسان فتراها لا تطير مدبرة إذا أقبل عليها بل تستقبله هاشة باشة مغردة بالتحية. وستتضح للناس أضرار صحية وخلقية لأكل لحم الحيوان، وغن من أكل لحم الحيوان قد تسربت إلى الإنسان ميول حيوانية وتفكير حيواني. وسينتصر العلم في إنقاذ الموقف باختراع لحم اصطناعي أشهى وأفضل من لحم الحيوان. وليس في هذا القول بدعة، فقد سار العالم فيه شوطاً ليس بالقصير، وانتشرت المطاعم النباتية في عواصم أوربا وتأسست فيها جمعيات لمكافحة أكل الحيوان، وصارت المصانع تخرج كل يوم أنواعاً جديدة من مستحضرات غير حيوانية تستعمل بدل اللحوم في شكل خلاصات لها طعم اللحوم أو دجاج أو السمك. حتى محار البحر أمكن تقليده. وعمد البعض إلى تقليد ألياف اللحوم لتقطع بالسكين على المائدة كأن عملية القطع بالسكين في حد ذاتها لذة
وأُسجل مع الأسف أن مطاعم القاهرة لم تظهر تفنناً كافياً في مقابلة نظام حظر اللحوم، ولم تبتكر أي طعام جديد خلاف الأطعمة العتيقة المشهورة. وذلك على رغم توفر الخضر والفواكه واللبن والبيض في بلادنا. حقاً لقد تجلت حاجتنا إلى إنشاء معهد للأغذية
دكتور علي عبد السلام(470/40)
العدد 471 - بتاريخ: 13 - 07 - 1942(/)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
تأريخ عصر النبوة
قرأت في مجلة (الثقافة) مقالاً جيداً للأستاذ محمد مندور عن اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث، فرأيت أن أخصه بشيء من التعقيب، عساه يلتفت إلى تحرير آرائه بعض الالتفات فهو صديقٌ عزيز وله علينا حقوق. واكتفى بالتعقيب على العبارة الآتية:
(ما بالُ معظم كتّابنا قد انتهوا بالكتابة عن (محمد)؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخِر؟ ذلك ما نرجوه. ولكن ثمة أمرٌ لا شك فيه، وهو أننا قد وصلنا من التزمت حدّاً نبرّئُ منه كل الأديان على السواء)
ومعنى هذه الفقرة أن الكتابة عن الرسول ضربٌ من المتاب، وأنها دليل على ابتلاء الجمهور المصري بالتزمت والجمود.
وأقول إن هذا التصور المنحرف ليس بجديد، فقد سبقته أوهامٌ تزعم أن الحديث عن الرسول بابٌ من الرجعية، وأن الاشتغال بأخبار النبي وأصحابه فنٌّ من التودد إلى الجماهير، وهي تحب الإفاضة في أمثال هذه الشؤون (؟!)
والحق أن عصر النبوّة الإسلامية يحتاج إلى دراسات كثيرة، وأن ما كُتب فيه لهذا العهد ليس إلا تباشير لدراسات تستغرق مئات المجلدات، لأن ذلك العصر كان مطلع نهضة إنسانية تركت أعظم الآثار الروحية والعقلية في المشرق والمغرب، وصبغت التفكير الإنساني بألوان تحتاج إلى من يدرسون عناصرها الجوهرية بتعمق واستقصاء
وإذا جاز اتهام المهتمين بتأريخ عصر النبوة بالغايات الدنيوية أو الأخروية، فلن يجوز القول بأن ذلك العصر قد وضّح في أذهان الجماهير وضوحاً يغنيهم عن التأليف الكاشف لما فيه من أسرار وآيات
ولو نظرنا في ما كتب الأوربيون في مدى عشرين سنة عن شاعر من شعراء الأساطير مثل هوميروس لوجدنا عنايتهم به تفوق عناية العرب بتأريخ حياة الرسول في مدى أجيال، مع العلم الوثيق بأن الرسول العربي ترك في الوجود آثاراً تفوق آثار من سبقه من الأنبياء، بّلْه الشعراء(471/1)
لم يقلٌ أحد إن هيكل كان رجعيّاً حين ترجم لجان جاك رُوسُّو، ولم يقل أحدٌ إن العقاد كان رجعيّاً حين ترجم لابن الرومي، ولا قال قائل برجعية طه حسين حين ترجم لأبي العلاء، ولكن الرجعية أصابت هؤلاء الأساتذة حين شغلوا أنفسهم بتأريخ عصر النبوّة، لأنه مصدر من المصادر الدينية، وأهل هذا الزمان يرون الحديث عن الديانات من المبتذلات!
أنا أبغض الرياء كل البغض، وأنا أسأل الله أن يصبّ جام غضبه الماحق على المرائين، ولكن ذهني لا يسيغ أن يكون ما كتب هيكل وطه والعقاد عن الرسول ضرباً من الرياء، لأن كتاباتهم في هذا الموضوع كتابة أصيلة، والكتابة الأصيلة لا تصدُر إلا عن ذوق وروح وإيمان
وقد حدثتكم مرة أن الدكتور طه حسين ليس له من (هامش السيرة) غير قصة الراهب في الجزء الأول. والأمانة توجب أن أحدثكم أن ناساً في العراق أخبروني أن في الجزء الثاني فصولاً أفاضت عيونهم بالدمع، فهل يبكي القارئ قبل أن يبكي المؤلف؟
أرجوكم أن تذكروا أن في الأدب العربي المصري لهذا العهد أصالة روحية وذوقية تستحق الإعجاب، ولو أعفتنا الخطوب مما يعوّق النهضة الأدبية في مصر لرجونا أن يكون للبيان العربي عصرٌ جديد يفوق في روعته أجمل ما أُثِر عن عصر بني أُمية وبني العباس، ونحن قد تفوقنا بلا ريب، ومحصولُنا الأدبي وصل إلى غاية من الروعة لم تخطر لأحد من القدماء في بال
وخلاصة القول أن تاريخ عصر النبوة لم يأخذ من عنايتنا كل ما يستحق، لأنه ليس مصدر ثروة روحية فحسب، وإنما هو مصادر لثروات أدبية واجتماعية وتشريعية. وتاريخنا الأدبي أجاز أن تؤلف رسالة في إعراب (جاء زيْدٌ) فكيف يُنكَر أن تؤلف رسائل في حياة الرسول؟
وهنا مَلْحَظٌ آخر: هو صدور المباحث الدينية في هذه الأيام من رجال ثقافتهم مدنية. فما معنى ذلك؟ معناه أن الإسلام بريء من الصبغة الكهنوتية، وأن كل مسلم مسئول عن شرح أغراض الدين الحنيف، ولو جهل موقع البلد الذي تقوم فيه إدارة الأزهر الشريف
حدثني أستاذنا الشيخ المراغي قال: (الإسلام خسارة في هؤلاء المسلمين). وهي كلمة هزّت قلبي حين سمعتها من هذا الرجل العظيم، فلو كان الإسلام دين أمة مثل الأمة الإنجليزية أو(471/2)
الأمة الألمانية لاستقلّ أتباعه أن يُنشر عنه في العام الواحد عشرات المجلدات
بين الأزهر والجامعة المصرية
نشرت (الرسالة) كلمة للدكتور محمد البهيّ عن المستوى الجامعي في مصر بين الأزهر والجامعة المصرية، وهي كلمة تؤكد المعنى الذي أراده أحد الشعراء حين قال:
اقتلوني ومالكاً ... واقتلوا مالكاً معي
فقد أراد أن يحكم بالعُقم على الأزهر وهو من أبنائه ليسهل عليه الحكم على الجامعة المصرية بالإفلاس!
والحق أن الجامعة أدخلت في الحيَواتَ الأدبية والعلمية والتشريعية فنوناً جديدة متسمة بالقوة والإشراق. ومن الظلم أن يقال: (إن الكثير من مؤلفات الجامعيين يلازمه الغموض في التعبير عن الفكرة، ويندر أو تنعدم فيه شخصية المؤلف)، فهذا القول يشهد على قائله بالبعد عن مسايرة النشاط الجامعي في الميادين الأدبية والعلمية والتشريعية، ويضيفه إلى المتجنين على الجامعة بلا بينة ولا برهان
نحن لا نقول بأن كليات الجامعة المصرية وصلت إلى الكمال المطلَق، ولكننا نرفض القول بأنها خدعت (عقلية الرأي العام المصري) كما قال هذا الباحث المفضال، فقد صدرت عن الجامعة المصرية مؤلفات وأبحاث ودراسات لم تشهد مثلها اللغة العربية منذ أجيال طوال؛ والمنصفون من رجال الأزهر الشريف لا ينكرون ذلك المحصول النفيس
ليت وهل ينفع شيئاً ليت؟
ليت المنافسة العلمية تثور بين الأزهر والجامعة المصرية!
ليت الأزهريين يجارون الجامعيين في البحث والتأليف، وفي السيطرة الفكرية على شباب هذا الجيل؟
لو استطاع الأزهر أن يصاول الجامعة لضمنتُ للفكر الجديد جذوةً كريمة الروح، ولكن الأزهر مكتف بمكانته في التاريخ، والموت من نصيب من يكتفون بالتاريخ
الجامعة المصرية هي اليوم صوت مصر في الشرق، وهي التي تشرع المبادئ للمعاهد العالية في الأمم الشرقية، فليأخذ الأزهر من يدها هذا الصولجان إن استطاع، فهل يستطيع؟
ليت ثم ليت!! وهل ينفع شيئاً ليت؟!(471/3)
روح الغزالي ينتقم
إن كان في قراء (الرسالة) من يرضى عن مقالاتي في هذه الأيام فأنا عن تلك المقالات من الساخطين، لأنها بعيدة عما أريد أن أقول، ولأنها تصورني بصورة من لا يشعر بما في الدنيا الحاضرة من هموم وأرزاء
وقد نظرت فعرفت أم روح الغزالي ينتقم مني، فقد جاء في (كتاب الأخلاق عند الغزالي) ما نصَّه بالحرف:
(بينما كان بطرس الناسك يقضي ليله ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل لحث أهل أوربا على امتلاك أقطار المسلمين، كان الغزالي غارقاً في خلوته، منكبّاً على أوراده، لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة إلى الجهاد. ويكفي أن نذكر أن الإفرنج قبضوا على أبي القاسم الرملي الحافظ يوم فتح بيت مقدس، ونادوا عليه ليُفتَدى فلم يَفده أحد، ثم قتلوه وقتلوا معه من العلماء عدداً لا يحصيه إلا الله، كما ذكر السبكي في الطبقات. . .
وما ذكرنا هذه المأساة إلا لنعدّ القارئ لفهم حياة الغزالي، ولنقنعه بأنه ليس من الحتم أن يكون الرجل الممتاز بعلمه صورةً لعصره، فإن كُتب الغزالي لا تنبئنا بشيء عن تلك الأزمة التي عاناها المسلمون حين ابتدأت الحروب الصليبية. . . ومن الخطأ أن نقصِر الأخلاق على سلوك المرء كفردٍ مستقلّ عن الحياة الاجتماعية، فلكل ظرفٍ واجباتُه، ويتعسر وجود حالة لا تقضي فيها الأخلاق)
كذلك قلتُ في التثريب على الغزالي بلا ترفق ولا استبقاء، فأين أنا اليوم؟ وما صلة ما أكتب بظروف هذه الأيام؟ وماذا يقول الإخلاف إذا نظروا فرأوا أن مقالاتي في سنة 1942 خَلتْ من الحديث عن معترك المطامع الأوربية في الأقطار الإسلامية؟
هل يوجد في الإخلاف المنتظرين من يعتذر عني فيقول إن الأدب الصِّرف كان في سنة 1942 باباً من أبواب الجهاد، وإنه كان يجوز للأديب أن يصم أذنيه عن أصوات المدافع ليتسمّع صرير الأقلام؟
لو اعتذرتُ عن الغزالي لوجدت من يعتذر عني. وكما يدين الفتى يُدان!
تقاليد مصرية(471/4)
لم يبق ريبٌ في أني مفتونٌ بوطني أعظم الفتون، ولهذه الفتنة أسبابٌ أهمُّها الشعور بأنه وطنٌ يمجد الذاتية، ويعين أهل الكرامة على الظفر بشرف الحرية والتفرد والاستقلال
وآيةُ ذلك أني قضيت من عمري ما قضيت في التمرد على أهل زماني، ولم أسمح لأحد بأن يأخذ بيدي في أي وقت، ولا رضيت بأن يكون زمامي في يد أي مخلوق، فكيف كانت العواقب؟
لم يضع مني شيء، ولا أُغلق في وجهي باب، ولا استجاز أحدٌ أن يتناسى أنني استغنيت بالله عن الناس. . . وهل أموت يوم أموت إلا بسبب الإفراط في الطعام والشراب؟
العزَّةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، وقد أكرم الله مصر فجعل للروح المصري خصائص لم يَهَبْها لأحدٍ من الشعوب
ولتوضيح جزئية من جزئيات هذا المعنى الكليّ أقول:
كانت مصر أول أمة انتفعت بالإذاعة اللاسلكية بين أمم الشرق، وقد رأت مصر أن يكون (القرآن) فاتحة إذاعات الصباح، وريحانة إذاعات المساء
فماذا وقع؟
رأت جميع الأمم الإسلامية أن تلاوة (القرآن) شرطٌ في صحة الإذاعة اللاسلكية
ثم ماذا؟
ثم رأى الإنجليز والألمان والطليان والفرنسيين أن إذاعاتهم العربية لا تصح إلا إذا افتُتحت بالآيات القرآنية
فما معنى ذلك؟!
معناه أن (مصر) وضعت شريعة للإذاعة اللاسلكية باللغة العربية
ومعناه أن مصر هي صوت العروبة والإسلام في الشرق والغرب
وطني. . .!
إن سنبلة القمح في أرضك أعظم من أختها في أي أرض!
وإن لوزة القطن في أرضك أعظم من أختها في أي أرض!
وما سطعت الشمس في سماء بأقوى مما تسطع في سمائك، ولا ازدان رأس بأكاليل المجد الأصيل كما ازدان رأسك، ولا ضُربَ المثل بالحلاوة والمرارة قبل المأثور من حلاوة(471/5)
نهرك، ومرارة بحرك. . .
وطني. . .!
إن المسيحية تؤرِّخ في كل أرض بميلاد المسيح، وفيك وحدك تؤرَّخ المسيحية بعذاب الشهداء، لأنك وطن المعاني!
وفي الإسلام مذاهب لا تجتمع في بلد إلا ذاق بعضها بأس بعض، وفيك وحدك تلتقي جميع المذاهب الإسلامية بلا بغي ولا عدوان، لأنك وطن الإخاء!
وطني. . .!
إن جنى أحدٌ على نفسه بالغباوة والدمامة، فجنايتك على نفسك هي ذكاؤك وجمالك، يا معترَك الذكاء والجمال في كل عصر وفي كل جيل
وطني. . .!
ماضيك أعظم وأضخم وأشهر من أن يحتاج إلى بيان، فما أنت في حاضرك، وهو ما أعرف وتعرف؟!
هل استطاعت الخطوب الثقال أن تطفئ أنوارك، أو تخمد نيرانك، أو تذبل ازهارك، أو تغيض أنهارك، أو تصدّك عن التحليق في سموات العلم والفكر والبيان؟
لو عانت كبار الشعوب معشار ما عانيتَ، يا وطني، لشالت كفتها في ميزان التاريخ، فكيف استطعت أنت برغم ما عانيت أن تظل مصدر العقل في الشرق، وأن تهتدي بنورك في اللغة والدين مئات الملايين؟
لا إله إلا الله ولا وطن إلا مصر!
ذلك نشيدي في حبك يا وطني، ولن تراني إلا حيث تحب، ولن يراني أعداؤك إلا حيث يكرهون، ولو زعموا أنهم في طهر ملائكة السماء!
الدول تحترب من أجلك، فكيف لا أحترب من أجلك؟ وكيف أهادن خصمائي فيك، وأنت صرحٌ أقام أساسه واهب الخلود؟!
في يدي حسامٌ هو قلمي، وفيه الحتف لأعدائك يا وطني، ولو استظهروا بجيوش البر والبحر والهواء. . . اللهم أعني على الوفاء بالعهد للوطن الغالي
زكي مبارك(471/6)
جيل وجيل
حيوية الفكر
للأستاذ محمود البشبيشي
حيوية الفكر وليدة الفطرة - تكوين الشخصية والحيوية -
الاتزان مع البيئة - الحيوية في الأدب - عبقرية محمد -
الأستاذ الزيات - آدم وحواء والدكتور مبارك - الحيوية في
الشعر - وأرواح وأشباح -
نصل حوارنا اليوم بفيض من الفكر، ينساب انسياب الطبيعة الحية في كل شيء، ويتألق تألق الشعاع اللماح يبيد غياهب الظلمات وتفتر مباسمه عن أنوار من الطفرات العقلية الطيبة الغاية، المأمونة العثار؛ فليس أحب إلى الكاتب المفكر من أن ينشر ما اضطرب في صدره من الخواطر، وجال في خاطره من المعاني. وحديث اليوم حديث الحيوية في الفكر
قلت لولدنا حسين: لنصل اليوم ما انقطع من حوارنا ففيه مسرح يروق عيني، ومستروح يبهج نفسي، مع ما في ذلك من مصابرة لمكاره الفكر المستغلقة، ومعالجة لأسرار الأمور. ولنرجع إلى حديث الحيوية الذي حدثني عنه في أول الأمر، فقد جدت أمور حركت ما كمن، وبعثت ما خمد
قال: أما العودة إلى الحوار فإني لأجد فيها من مباهج الفكر، ومراقي الإدراك، وفواتن المعاني. . . ما يسكن نفسي النفور، ويطرب قلبي المتطلع إلى مطالع المعرفة. وأما حديث الحيوية فأنا مشتاق إليه بما طبعت عليه نفسي، وانطوى عليه حسي، واضطرب به فكري. . . ولعلني اليوم أجد ما يثبت ما قلت بالأمس من أن الحيوية في كل شيء هي سر البقاء، وأن الرجل الحق من خلع على الحياة صور نفسه، وأخذ من صور الحياة ما يتجانس معه، ويساير حقيقته، ويلابس حدود حاجته
ولكن الحيوية يا سيدي الوالد وليدة الفطرة، مهما اختلفت صورها، وتباينت مناهجها، وتنافرت مقاصدها. وإن الحيوية الفكرية خاصة لأبعد من أن تنال بالاعتياد والدربة وان(471/8)
من ظن ذلك فقد قرنها بالصنعة، وفرق بين الطبيعة والصنعة. أما الطبيعة ففيض من الروح ونور من الإلهام، وأما الصنعة فألفاظ مرصوصة وصور منحوتة. وهيهات أن يصل كاتب حرم حيوية الفكرة إلى مراتب الكمال، فإن ذلك أبعد من تحقيق حلم الخيال. وفي مصر كثير من صناع الألفاظ، ونقلة الأفكار. وإنك لترى العجب كلما قلبت مجلة من المجلات؛ فهنا كاتب بلغ الغاية فاطمأن وظن أن على القارئ أن يقرأ كل ما يكتب ولو كان من عبث العابثين. وهناك كاتب انسلخ من ماضيه وساير ركب الحياة الضارب في كل متاهة ومضلة
قلت: حق هذا يا بني؛ بل إن الحيوية الفكرية لتكسب الكاتب شخصيته، وشخصية الكاتب في أسلوبه، وطريقة عرضه لأفكاره، ونقده لأفكار غيره، ونظرته وتأمله إلى كل ما يضطرب حوله من صور الحياة. فهذا كاتب اختصت حيويته بالنظرة النافذة، والرأي العميق، والفكرة الفلسفية. . . فتراه في كل مظهر من مظاهر إنتاجه قد ساير طبعه، وجانس حيويته. إن من الأفكار ما يكون باقياً على الدهر، يتنافس الرواة في حفظه ونقله، وتلهج الألسنة بترديده والتمثل به، ولا يزيد على الأيام إلا جدة وقوة؛ لأنه وليد مشاعر حية إنسانية، وعصير قلوب ذابت فجرت نغما. ذلك النوع من الفكر هو ما قام على قواعد من الحيوية، تحس في كل لفظ من ألفاظه حياة لا تقيدها الكلمات، ولا تتحكم فيها العبارة؛ هذا النوع من الفكر يساير الحياة لأنه وليد الحياة، ويضرب في نواحيها المتباينة فيكون منطقه فصلاً، وحكمه نافذاً. . . لا يسأم الإنسان من تكراره، ولا تنفر الآذان من سماعه، لأنه نغم القلب وصدى الروح
قال: إذا صح أن الحيوية تكوِّن الشخصية. . . فإنه يصح أيضاً أن تكون الحيوية الأساس الأول للاتزان مع البيئة. وأقصد بالاتزان مع البيئة مسايرتها وملابستها أصدق المسايرة والملابسة. . . فترى الكاتب المفكر الذي يخضع لحيوية قوية يحس مواضع القول، ويجيد اختيار المناسبة؛ ولاختيار المناسبة موضع وحدود، وليس من الحيوية أن يتخطاها الكاتب أو يعجز عن إدراكها. . . فقد تتواري السحب وراء الأفق البعيد فيظن الكاتب الذي تعود أن يرسل نفسه على سجيتها أن السماء صادقة في صفوها فيندفع وراء ما يحس هو لا ما يحس غيره، ويجري وراء ما يراه هو لا ما يراه المجتمع. . . فإذا به يقف أمام الحقيقة(471/9)
المرة، وإذا به يرى أن الأفق لم يك في صفائه صادقاً، وإذا به يطوي صفحة أفكاره وفي النفس حسرة وفي القلب ألم. . . ما الذنب الذي جنى؟ وما الشر الذي اقترف؟ الذنب الذي ارتكبه أنه لم يدرك معنى الاتزان مع البيئة فترك الأرض ليبحث في السماء. وما علم أن على الأرض من يجزع ويحقد على كل من يحاول الخلاص من قيود التراب الأرضي!!
قلت: هذا كلام يشعرني بأنك تريد أن تقول شيئاً وراء اللفظ، أو أنك تميل يا بني إلى توجيه القول لكاتب كبير فاضت حيويته وضاقت بقيود الأرض وكل ما يتصل بمعانيها. أكاد أشعر بهذا ولي الحق في أن أشعر به، بل أكاد ألمس غضبك كلما تذكرتَ اختناق تلك المعاني الرائعة التي انطلقت في غفوة من الزمن من روح هذا الكاتب الكبير. ولكن هذا الكاتب الكبير يعلم حق العلم أن الحيوية تفرض عليه الاتزان مع البيئة فلا محل للومه هو. . . بل اللوم كل اللوم لحيويته الدافقة التي ضاقت بالأرض فانطلقت إلى السماء. . .
الحيوية يا بني لها أكبر الخطر في الأدب. فالحيوية الفكرية ليست حبساً على غزارة مادة الكاتب أو الشاعر، ولا هي رهن بمقدار ما يروى عنه، وإنما هي سر من أسرار النفس والفطرة. يودعه الكاتب أو الشاعر قوله فيضمن له على الدهر الخلود. فإن من الشعر ما تزداد فيه الحيوية حتى لا تقف به عند حد الخلود، بل إنه ليضفي الحياة على ما يمسه من الموضوعات، ويكاد يبعث من طواهم الثرى من الناس بعثاً يختلف قوة وضعفاً، ويتباين سعادة وشقاء. فمن لا يذكر سيف الدولة كلما ذكر المتنبي؟ ومن لا يذكر كافوراً كلما تناول شعر أبي الطيب؟ ومن لا يذكر حرب البسوس كلما جال بخاطره رثاء مهلهل لأخيه كليب؟ ومن لا يذكر مالك بن نويرة كلما قرأ شعر أخيه متمم؟ ومن لا يرثي لمقتل (صخر) كلما سمع نواح الخنساء عليه؟ ومن لا يذوب أسى كلما ذكر قصيدة شوقي طيب الله ثراه في رثاء (مقدونية)؟ ولقد يكون من الشعر ما يُقوِّى عناصر الحياة حتى في الحقائق العلمية والاجتماعية، ومن حكم المتنبي ما هو أصدق شاهد على ما نقول، وليس بأقل منه قول شوقي في قصيدته (نهج البردة) يدفع عن الإسلام دعوى أنه قام على أعضاد السيوف:
قالوا: غزوت ورسل الله ما بعثوا ... بقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم!
قال: ومن حيوية الكاتب العبقري أن يخلص من قيود الحياة المضطربة الثائرة فينطوي(471/10)
على نفسه يراقبها ويحقق أغراضها، ويساير ميولها مهما كانت الظروف التي تحيط به. وخير دليل على هذا ما فعله الكاتب العبقري الأستاذ العقاد. . . إذا استطاع في مثل هذا الجو المضطرب بأحاديث الحرب، المرتعش في مهب المقادير. . . أن يبعث من نفسه صوراً حية تتناول أكبر شخصية حية تفخر بها الإنسانية وتعتز بها البشرية. . . أجل إن كتاباً روحياً صادقاً يخرج إلى الحياة في مثل هذه الأيام العجاف لهو كتاب جدير بالتأمل والإعجاب. بل إني لأرى في خروجه في مثل هذه الأيام لحكمة تصور صدق حيوية الأستاذ العقاد. فليس من شك في أنه أراد أن يقدم للإنسانية أروع المعاني الروحية تتألق حيوية في شخص الرسول. . . في زمن جنت فيه العقول، وتكلم لسان الدمار:
جنوا وعيَّ لسانهم فتفجرت ... لسن الدمار قنابلاً وبرودا
قلت: هذا حق يا بني، فكتاب عبقرية محمد كتاب تعتز به العربية في دقة الفهم، وروعة العرض، وسلامة النسج، وإني لأطرب يا بني كلما ذكرت أن في مصر كتاباً يكتبون في سيرة أشرف الخلق. فكم هزني إعجاباً كتاب (محمد المثل الكامل) للأستاذ محمد جاد المولى بك، ففيه تحقيق العالم الخبير، كما غمرني طرباً كتاب (على هامش السيرة) للدكتور طه ففيه سهولة وطلاوة. . . وإني لأنتظر من صديقنا الدكتور مبارك أن يكتب في هذه الناحية الشريفة النبيلة، كما آمل أن يعرج عليها صاحب الرسالة بما عهد فيه من دقة وروعة. ولو سمحت لنا الظروف ولم تقطعنا الشواغل لقمنا بهذا الواجب الروحي الجليل في أقرب فرصة يسمح بها الزمان يا بني. . .
ومن حيوية الفكر يا بني أن يساير الكاتب المجتمع ويلابسه أصدق الملابسة حتى يصيب الهدف ويبلغ الغاية، ويكون مثابة حق ومنار وهداية. وما كان قصور بعض المصلحين إلا من شأن عجزهم عن إدراك معاني الاتزان مع البيئة. فحقيق بالمصلح المتأمل والكاتب الاجتماعي أن يعقد القلب على إدراك أسرار هذا القانون الطبعي، فتتيسر له أسباب الأمور، وتسهل أمامه الصعاب. وإن الأستاذ الجليل الزيات لصورة صادقة لمسايرة الكاتب للمجتمع وأحواله، وما يضطرب فيه من ألم وفرح. فما من مقال له إلا وهو يرمي إلى هدف مقصود، وغاية معلومة؛ وما من رأي له إلا وهو يعالج حالة خاصة، ويدل على مذهب خاص. . . ولعلك يا بني تذكر كيف غلبته حيويته الاجتماعية فتفرد بالكتابة (في عدد(471/11)
الهجرة الخاص) في (مشكلة الفقر وعلاجه)، وكيف أسرع وكتب في (مشكلة الرغيف)، وكيف كان أول من كتب في الانتخابات وصورها تصويراً رائعاً. . .؟!
قال: و (آدم) و (حواء) يا والدي. . . إنها لأروع صورة لحيوية الفكرة المنطلقة التي لا تتقيد بشيء إلا بالحقيقة والضمير الحي. . . (آدم) و (حواء): بحث نابض بالحيوية، بل هو أعظم ما كتب الدكتور مبارك، فقد كانت الفكرة فيه تخرج في ثوب من الإيمان بالرأي والعقيدة، وفي لون من الفن الرائع لست أغالي إذا قلت إنه منقطع النظير في آداب العربية. . . وقرأتها لأول مرة، فابتسمت وقلت: إن الدكتور سيفترع فنٍّا جديداً يسد نقصاً كبيراً في أدبنا. . . وإني لأقول في صراحة إنني كنت أعتقد أن صاحب هذه الأفكار لا بد أن يكون من أبناء هذا الزمان، ولا بد أن يكون قرأ - على الأقل - فلسفة القرن التاسع عشر، ولا بد أن يكون في مثل حيوية دكتورنا المبارك، وليس في مثل حيوية (شيث)!
وإني لأذكر للدكتور المبارك أني جزعت كل الجزع عندما قرأت (ينبوع حلوان)! فقد أدركت منه ما لم يدركه غيري، وأحسست أن الفكرة التي انطلقت من الأرض قد قيِّدت!!
قلت: والحيوية في الشعر يا بني أن يكون في الشعر تجويد في اللفظ والمعنى. فإن ما يصدر عن الشاعر الموهوب العظيم لا بد أن يترك في النفوس آثاراً عظيمة، وما يصدر عن الشاعر الماجن الواهن الضعيف النفس، المستهتر بالملاهي، لا بد أن يحمل في طياته عناصر فنائه، وإن أغتر به صاحبه، وتناقلته أفواه الرواة الماجنين. إن النفس لتطرب بالنثر البليغ فهي بالشعر الجيد أشد طرباً. ولقوة الشاعرية، وغزارة المادة، وسعة الثقافة، وسلامة المنطق، أثر بعيد الغور في سلامة تفكير الشاعر، وجنوحه إلى الأسلوب المنطقي، وسوق القضايا في مساق الاستدلال كلما زاول معنى من المعاني، فهو لا يكتفي باللمحة العجلى يرسلها على المعنى فيجيء غامضاً فاتراً، أو يصل إلى النفوس قلقاً مضطرباً. فإذا قرأت للشاعر الحي شعراً رأيت لوناً واضحاً من الفكرة يسود القصيدة كلها، أو ينصّب على كل معنى من معانيها
قال: ما ظنك (بأرواح وأشباح) للأستاذ علي محمود طه. . . إنها لصورة لسعة الثقافة، وغزارة المادة، وسلامة المنطق والتغلغل في أسرار المعاني، افتن فيها الشاعر فجاءت فتنة، تصور الوجد اللاعج، والجوى المستعر، وانطلاق الشهوات من قيودها، وعبثها(471/12)
بروعة الفن وقداسته. ذهب فيها الشاعر مذهباً جديداً من الفن الشعري، عرض فيه لسلطان الشهوات الكامنة، والنزعات الدفينة، والأحاسيس الملتهبة. وهو في عرضه لها صاحب نظرة صادقة لا يأخذ الحياة كما هي، بل يخلع عليها من إشعاع روحه ما يكيفها التكييف الذي يريد. . .
قلت: ومتى وصلت الحقائق والأخيلة إلى النفس على تلك الصورة المحكمة، وراضها بيان طيع، وصاغها شاعر ملهم، كان لها في النفس مستقر ومقام. وإنك لتدرك ذلك من نفسك فيما يقع لك من شعر بعض المعاصرين، فقد تقرع أذنك قصيدة أخاذة المظهر، رائعة العنوان، فلا تجد لها عاضداً من فكرة متحدة، ولا ضابطاً من منطق متماسك، فلا تنتهي منها حتى تصير عرضاً لفظياً يذهب مع الهواء، ولا يجد لنفسك مدخلاً. وقد تقع لك أبيات قليلة أو قصيرة فيها فكرة وفيها تماسك، فتحل من نفسك في الضمير، ولا يعييك أن تحتفظ بمعناها، بل لا يستعصي عليك متى (شئت) استظهارها
محمود البشبيشي(471/13)
2 - شعر علي بن أبي طالب
للأستاذ السيد يعقوب بكر
على أننا وقد ذكرنا أقوال بعض المؤيدين نحب أن نعرّج على أحد المعارضين وهو الأب لامانس فنناقش مقالته وننقصها ليتم لنا بذلك وجه البرهان على الرأي الذي رأيناه.
فقد كان أنكر في كتابه (ص58) أن علياً كان شاعراً، واستشهد على ذلك بما ذُكر في الأغاني (ج4 ص137 ط دار الكتب) من أنه (كان يهجو رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة رهط من قريش: عبد الله بن الزبعري، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاصي؛ فقال قائل لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه: أهج عنا القوم الذين قد هجونا؛ فقال علي رضى الله عنه: إن أذن لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فعلتُ؛ فقال رجل: يا رسول الله، ائذن لعلي كي يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا؛ فقال: (ليس هناك) أو (ليس عنده ذلك).
ثم إن المستشرق الإيطالي الدكتور عارض الأب لامانس في رأيه هذا في بحث نشره بمجلة (مجلد 4 ص536 - 547). فقد ذهب إلى أن معنى النص المذكور في الأغاني هو أن محمداً رأى أن هجاء قرشيّ كعلي لقريش ليس من الأمور التي يتطلّبها الهجاء ليكون نافذاً لاذعاً مؤثراً، فإن هجاء غير القرشي لقريش يكون شديداً عليها ذا واقع كوقع السهام أو أشد. واستدل هذا المستشرق الإيطالي على ما ذهب إليه في هذا النص بأن الشعراء الذين كانوا ينافحون عن الرسول ودعوته ويدفعون عنه عادية شعراء قريش كانوا كلهم من المدينة أي من الأنصار مثل: حسان بن ثابت وكعب بن مالك.
فردّ عليه الأب لامانس رداً طويلاً تجده في مجلة: (مجلد 7 سنة 1921، ص320311)، وكذلك في أول كتابه: (ص1 - 7). ونحن سننقض هنا هذا الرد؛ ولكننا قبل هذا نورد خلاصة كلام قدمه بين يدي رده ونقول رأينا فيه، وذلك لأنه يتصل بموضوعنا من قريب
يبدأ الأب لامانس كلامه هذا بأن يقول: إن مكة لم تنجب قبل الهجرة أي شاعر ملحوظ المكانة ذائع الصيت، وإن هذه الحقيقة تقوم دليلاً على زيف ما في سيرة ابن هشام من أشعار كثيرة، كهذه الأشعار المنسوبة إلى عبد المطلب جد علي بن أبي طالب وإلى أبي(471/14)
طالب أبيه ثم إلى علي نفسه
ثم يقول بعد ذلك إن الشعراء كانوا في الجاهلية الحكماء وأصحاب الرأي، وإن الشعر كان فيها من الصفات اللازمة للرجل الكامل حتى يدعى كاملاً، وإنه قيل على هذا الأساس إن الخلفاء الأربعة الراشدين كانوا شعراء أو كانوا على الأقل أصحاب علم بالشعر العربي القديم. ولقد عنى أهل السنة بالنص على علم عمر الواسع بالشعر، وكان عمر منافساً لعلي ومنازعاً له، فكان أن قال الشيعة بعلم علي بالشعر وحاولوا تصويره لنا في مستوى عال جداً أو على الأقل في مستوى مساوي لمستوى منافسه الخليفة الثاني
ولقد أظهر علي أثناء حياته السياسة جهلاً تاماً بأساليب السياسة أو قل بأساليب الحياة، وجاء في الحديث وصفُه بأنه محدود، ووصفه معاصره غير المتشيعين له بأنه تلعابة
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن الشيعة لم يدخروا جهداً في إطراء علم علي. ولقد كان أهل السنة يمجدون عمر ويرون فيه الرجل المطلق، والمتمم العبقري لعمل محمد، والخليفة الذي لا تأخذه الأحداث على غرة؛ ولذلك وجدنا الشيعة يصورون بطلهم مخرجاً لعمر من حيرته وحرَج موقفه في الوقت المناسب بحصيف رأيه وصادق نظره. وكان الشيعة يدَّعون أن الله حبا عليًّا بتسعة أعشار العلم الإنساني، وقد بثُّوا هذا الإدعاء في حديث وضعوه، وادعوا أيضاً أشياء أكثر من هذا
هذه خلاصة الكلام الذي قاله لامانس قبل رده على المستشرق الإيطالي؛ ورأينا فيه أنه كلام متهافت لا يسند أوله آخره ولا آخره أوله، ونبين هذا فيما يلي:
1 - يشك لامانس في الشعر المنسوب إلى عليَّ في سيرة ابن هشام لما هو معروف من قلة شعراء مكة قبل الهجرة؛ ونحن إن قبلنا هذا الشك، فإننا لا نقبل الأساس الذي بُني عليه؛ وذلك لأننا نعرف أن علياً نشأ بنشأة الإسلام وترعرع في ظله فلم يكن وليد الجاهلية. وإنما كان وليد الإسلام. وعلى ذلك فإذا شككنا في الشعر المنسوب إليه في سيرة ابن هشام، لزم ألا يكون شكنا مبنيًّا على هذا الأساس الذي بنى لامانس عليه شكه، وإنما لزم أن يكون مبنيًّا على أساس آخر، كأن يكون مبنيًّا مثلاً على أن ابن اسحق الذي يروي عنه ابن هشام ممن لا يوثق بروايتهم للأشعار، أو يُعتمد عليها
2 - يرى لامانس أن الخلفاء الأربعة الراشدين إنما زُعم إنهم شعراء، أو - على الأقل -(471/15)
أصحاب علم بالشعر، لأن الشعر كان في الجاهلية من مستلزمات الكمال؛ وهذا الرأي لا أساس له، لأن الحياة العربية اختلفت مُثُلها في الإسلام عنها في الجاهلية، فأصبح العرب لا ينظرون إلى الشعر كما كانوا ينظرون إليه من قبل، وبعد أن كان الشعر من مستلزمات الكمال، أصبح وقد تحرّج من قوله كثير من الشعراء مثل لبيد
3 - مهما قيل من أن الشيعة أضفوْا على عليّ أثواباً من الكمال والحكمة وقوة العقل والقدرة على حل المشكلات، فلسنا نستطيع أن ننفى عن عليّ صفات الرجل العاقل، إذ يكفيه ليكون كذلك أن يربَّى في حجر محمد ويشبّ في كنف الإسلام. فمحاولة لامانس تجريده من العقل الحصيف محاولة غير ناجحة، فضلاً عن أن النصوص التي يستند إليها في محاولته هذه مما لم تثبت صحته
بعد هذا التفنيد لكلام لامانس، نعرِّج على ردِّه على المستشرق الإيطالي، فنأتي بخلاصته ثم نقول رأينا فيه
يقول لامانس إن العبارة التي وردت في الأغاني وهي (ليس هناك؛ أو ليس عنده ذلك) مكونة من جزأين، فالجزء الأخير منها هو الأدلُّ على المعنى والأعمق في الأثر، وليس الجزء الأول منها إلا مؤكداً له ومقوِّياً. وهذا الجزء الأول أوجز وأكثر إمعاناً في البداوة من الجزء الثاني
وبعد ذلك يورد لامانس العبارة التي وردت في أسد الغابة وهي (إن علياً ليس عنده ما يراد من ذلك)، ويبين كيف أنها تؤكد ما فهمه هو من عبارة الأغاني
ثم يأخذ في محاولة تحديد معنى عبارة (ليس هناك) المرادفة لعبارة (ليس عنده ذلك)؛ وذلك بالرجوع إلى استعمالاتها الواردة فيما يرويه صاحب الأغاني. وقد استخلص من هذه الاستعمالات أن عبارة (ليس هناك) تشير حين يكون المدار حول الشعر إلى عجز من تقال فيه عن قول الشعر ونظمه
وأخيراً ينهي لامانس رده بأن يقول إن أي مستشرق لا يمكنه قبول الأشعار المنسوبة إلى علي، وإن الأقدمين أنفسهم أحسوا بانتحال هذه الأشعار أو خامرهم الشك فيها، ومنهم أبن هشام ويونس بن حبيب
هذه خلاصة رد لامانس، ونحن نرد على هذا الرد فيما يلي:(471/16)
1 - صحيح أن عبارة (ليس هناك) تشير حين يكون المدار حول الشعر إلى عجز من تقال فيه عن قول الشعر ونظمه، ولكن لا يمكن أن تشير إلى ذلك إذا كانّ المدار حول فن من فنون الشعر كالهجاء وحده أو المدح وحده، فإنها تشير حينئذ إلى عجز من تقال فيه عن هذا الفن وحده دون سواه. وهذه هي الحال بالضبط في القصة التي يرويها أبو الفرج، فإن رجلاً سأل الرسول أن يأذن لعلي كي يهجو قريشاً فقال له الرسول: (ليس هناك) أو (ليس عنده ذلك) أي ليس هو بالقادر على الهجاء
ويؤيد رأينا هذا أننا لا نجد في الصحيح من شعر علي بيتاً واحداً في الهجاء
ثم إنه لو لم يكن علي شاعراً حقاً لما سأل هذا الرجل الرسول أن يأذن لعلي بهجاء قريش، لأن سؤاله هذا مبني على علمه بأن علياً شاعر قادر على نظم القصيد.
2 - إذا كان بعض الأقدمين شك في الأشعار المنسوبة إلى عليّ، فليس يمكن أن يكون هذا الشك حجة للامانس، لأن بعض الأقدمين أيضاً قال بأن علياً كان من الشعراء كما سبق أن بينّا
فعليّ إذن كان شاعراً، ولكن لا يمكن القول بأنه كان مكثراً، فهو كان في أغلب الظن مُقلاً، بدليل أنه لم يُرْو له شعر كثير في المراجع العربية المعتمدة؛ ولكننا على كل حال لا نسلم بأنه لم يقل غير بيتين كما يذكر ياقوت فيما سبق لأن نقلناه عنه وكما يذكر السيوطي فيما سبق أن نقلناه عنه كذلك. ونحن لا نسلم بهذا لأن المراجع العربية المعتمدة روت لنا أكثر من بيتين لعلي.
(للبحث بقية أخيرة)
السيد يعقوب بكر(471/17)
كتاب الإمتاع والمؤانسة
الجزء الثاني
للأب أنستاس ماري الكرملي
توطئة
كان وقع بيدي الجزء الأول من كتاب الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، فألفيتُهُ من أجلّ المصنفات لأنه اجتمع في صاحبه مزيتان، لم تجتمعا في الرجُل الواحد إلاّ نادراً، وهما: عُلُوّ النَّفَس والتفكير، وسمو النفس والتحرير، وفي مطاوي المطالعة، بدت لي بَدَوَاتٌ، أحببتُ إيداعها المَهارِق، قائلاً في نفسي: لعلها تفيد بعض الفائدة، مَنْ يقف عليها، أو لعلَّ المطالع ينبهني على غفلاتي، فيهديني إلى الصواب، فيكسب بعملِهِ الأجر والثواب، فبعثت بها إلى مجلة المقتطف، فنشر بعضها في المجلد 100: 245 إلى 250 ثم في 341 إلى 347 وبقي القسم الكبير منها، إلى أن يحين الوقت لنشره.
والآن وقع بيدي الجزء الثاني من الكتاب المذكور، فطالعته مسرعاً لأصِلَ بَدَوَاتي بعضها ببعض، من غير أن تفتر هِمَّة المطالع، ولإنشاطه فجئت بهذه النظرات، لعلَّ فيها بعض الفائدة، إن كان ما أبديه يستحق هذا الاسم؛ فأقول:
1 - ملاحظات عامة
قبل أن أتعرض لما أراهُ في الكتاب مَا يُخالف نظري، أقول بعض كلماتٍ هي عامّة، تتعلق بطبع فصولهِ، أو مسامراتهِ من تحسين وتزيين:
وأول كل شيء، كان يحسن بالناشرَيْن أن يجعلا تحت كل عنوان من عناوين المسامرات فحواها. مثلاً أن يجعل تحت عنوان الليلة السابعة عشر: (ما يحفظ من تَفْعال المفتوح وتِفْعال المكسور).
وثاني الحسنات: أن يُكتَبَ في صدر الصفحة اليمنى: الإمتاع والمؤانسة. وبازائها في صدر الصفحة اليسرى: المسامرة الأولى، أو الثانية، أو نحو ذلك.
وثالث الحسنات: أن يجعل في آخر الكتاب فهرس المسامرات
والرابع، أن يجمع في معجم صغير، الألفاظ الخاصّة بالمؤلف وهي كثيرة.(471/18)
والخامس، كان يحسن بهما أن يعارضا ما يجدانه من النصوص في هذا الكتاب بما يجدانهِ منقولاً في بعض الكتب. ففي هذا الجزء مثلاً نصوص منقولة في ابن القفطي، وابن أبي أصيبعة، وابن خلكان، والدميري، وقد نقل بعضاً منها الأمير شكيب أرسلان ونشره في مجلة المقتبس وشرح بعض الألفاظ.
والسادس كان يليق بالناشرين أن يهملا أغلب ما جاء من المسامرة في الليلة الثامنة عشر، فإن ما علقاهُ في الحاشية في ص50 (ولولا الأمانة العلمية والإخلاص للتاريخ لحذفنا أكثرها، واكتفينا بما لطف ودق، ولم ينب عنه الذوق) قلنا: (هذا عُذْر أقبح من ذنب) لأن أمانة العلماء والمخلصين للتاريخ هي أعظم في حفظ الآداب بين القراء من بث سمومها، وفحشها، ووبائها، فإذا لم يكن آداب، وحميد أخلاق في الناس، فالفحش مفسدة لها، ومهلكة. فالعلماء مكلفون بالمحافظة على مكارم الأخلاق، أكثر من المحافظة على الأمانة في نشر المجون وسخف الأقوال وسموم الآداب. هذا ما يتطلبه هذا العصر، وأهلوه ولو عاش التوحيديّ في هذا العهد، لما نطق بكلمة من هذه المُنْدِيات، المخزيات، المهلكات، المزيلات للأمم.
هذا رأينا، ولكلٍ رأي خاصً به.
2 - الأوهام في الأعلام
جاء ذكر العوفيّ - بالفاءِ - في ص5 س1، لكن أُصلح في ص25 من الفهارس بقوله العوقي - بالقاف - والذي رأيناهُ في تاريخ الحكماء لابن القفطي ص83 من طبع الإفرنج العوفيّ بالفاء. ومثل هذا الضبط ورد في مجلة المقتبس 1؛ 572، ومثل هذا التحقيق ورد في مجلة المنار لرشيد رضا في كلامه على إخوان الصفا، ولا أتذكر السنة، ولا الصفحة، لأن مجلة خزانتنا سرقت في سنة1917، ولم يبق منها شيء، وإن كنا الآن اشترينا كتباً ومطبوعات جديدة غير التي كانت عندنا.
والعَوْفيّ لم يدخل في فهرست أعلام الكتاب، ولا العوقي وتجهل السبب.
وورد في ص14 (ابن الخمّار) وقد ضبط بتشديد الميم، وكذلك في ص38 و83 وجاء في ص25 من الفهارس؛ والصواب: ابن خمار بدون تشديد أي كسَحَاب
وقيل هناك: وكذلك يصحح ما جاء في ص38 و83. والذي ورد في ابن أبي أصيبعة،(471/19)
وابن القفطي: ابن الخمار بتشديد الميم وبأل التعريف
ومن الأعلام التي لم نهتد إلى تحقيقها مقاريوس الوارد في ص37 ثم قيل مَنْقَاريوس، ثم مقاريوس، فاختلف اللفظ الواحد بين سطرين وسطرين، ولا جرم أن منقاريوس بميم ونون لا يعرف عند الأقدمين، لكن الثاني لم يصحح في الآخر، وهناك اسم آخر أعجمي ورد في ص37 و38 هو (ذيموس)، وفي كل صفحة ورد مرتين، ولم يذكر لنا الناشر إن ما يدلنا على زمنه ووطنه
ومن الأعلام التي صحفت قليلاً فقط: الصابئ، فإنه مهموز الآخر، ولا يجوز ترك همزه لئلا يخرج صاحبه من دينه ويجعله من أهل الصبا، لا من المنتمين إلى الصابئة
وليس من أعلم أتعبنا كل التعب مثل تيودسيوس وكنْتُسْ الواردين في ص153 و154 والأخير أُصلح في ص9 من الفهارس بقوله: (أيقوس الشاعر الإغريقي). وفي حاشية ص153 علَّقَا تعليقاً على يتودسيوس في (ا) قومودوس وفي (ب) تودورس؛ والصواب ما أثبتناه نقلاً عن كتب التاريخ). انتهى
قلنا: لم نجد في كتب التاريخ التي بأيدينا - وهي كثيرة - ملك يوناني اسمه تيودوسيوس. نعم كان للروم (وهم غير اليونانيين) تيودسيوس أول، وثان، وثالث، لكن التوحيدي يذكر أن ثيودسيوس هو ملك يونان (ص153) ثم كتب هذا الملك إلى كُنْتَس الشاعر) وصحح بايقوس الشاعر الإغريقي. . . ونحن لا نعرف شاعراً إغريقياً باسم كنتس، ولا باسم أبقوس؛ إنما نعرف معلم خطابة اسمه هيرودس أتيقوس أو أَتّقِس وهو روماني لا يوناني، فإذا كان الناشران يعرفان شيئاً ثبتاً عن ثيودسيوس الملك اليوناني، وأبقوس الإغريقي، فليذكرا لنا اسميهما بالحرف الإفرنجي، والعصر الذي عاشا فيه. والأسماء الإفرنجية يحسن أن تكتب بحروف الرومان، ليتمكن القارئ من مراجعة النصوص الإفرنجية عند محاولة تحقيق ما ينسب إلى أصحابها.
وجاء في ص 155 ذكر رجل اسمه أبو الحسن الفرضي، وصحح العرضي في ص26 من الفهارس والعرضي بضم العين، ويلي الاسم علامة الاستفهام أي (؟) كأنه يشك في صحة هذا العلم، والذي رأيناه في دواوين القوم: أبو الحسن أو أبو الحسين العروضي من العلماء الكبار وكان في أيام علي بن سينا؛ وآخر اسمه أبو الحسن المغربي، وكان معاصراً لويْجَن(471/20)
بن رستم، وكان من العلماء المشاهير أيضاً. أما أبو الحسن الفرضي أو العرضي، فلم نسمع بشهرته هذه
ورد في ص 180 اسم كبل البقال. وجاء في الحاشية: (كذا ورد هذا الاسم في كلتا النسختين ولم نتبين وجه الصواب فيه بعد طول المراجعة)؛ والذي سمعناه في العراق مما يشبه هذا الرسم: كتل (بالفتح)، وكُتَيْل (بالتصغير)؛ وهذا ورد في التاج، وكتيلة وهو اسم والي صُور، وقد ذكر ابن الأثير في الكامل في 10: 180 من طبعة الإفرنج
نرد على ذلك أن في نعت هذا العلم بالبقال تصريحاً بصحة كلمة (البقال) خلافاً لقول اللغويين أنه يقال (البدَّال)، مع أنه لم يقل أحد من اللغويين (بدَّالاً) حتى من منع استعمال الأولى فقد جاء في القاموس: والبقَّال لبيَّاع الأطعمة عامية، والصحيح (البدَّال)
قلنا: ليس هذا من كلام العوام بل من كلام العلماء الخواص فلقد فسر اللغويون، وبينهم المجد نفسه، الكاسور والرُّدْحي بقولهم: بقال القرى ولم يقولوا بدَّال القرى
ووردت البقال في كتاب الحيوان للجاحظ 1: 376 من طبعة البابي، وقال اللغويون في شرح الكديح: الحانوت: الدكان أو متاع حانوت البقال. وقالوا في (فوم) الغامي: البقال
وممن أثبت البقَّال في تصانيفه السمعانّي، صاحب كتاب الأنساب، فقد قال في مادة البقال ما هذا نقله: (البقال بفتح الباء الموحدة، وتشديد القاف، وفي آخرها اللام: هذه الحرفة لمن يبيع الأشياء المتفرقة من الفواكه اليابسة وغيرها. والمشهور البهاء أبو سعيد بن المرزبان البقال، مولى حذيفة بن اليمان، وكان أعور من أهل الكوفة. . .) اهـ
زد على ذلك أن البقال نسبته إلى البقل نسبة قياسية كالحنَّاط والتّمار والطّحان إلى غيرها. وأما البّدال فإلى أي شيء ينسب؟ قال صاحب التاج: (والبدَّال كشدَّاد، بياع المأكولات من كل شيء منها. هكذا تقوله العرب. قال أبو حاثم: سمى به لأنه يبدل بيعاً بيَيْع، فيبيع اليوم شيئاً وغداً شيئاً آخر. قال أبو الهيثم: والعامة تقول: (بقَّال) انتهى
قلنا: لو صدق أبو حاثم في تعليله لقيل لكل من يبدل بيعاً ببيع بدال. وليس الأمر كما قال. والصواب أن البدال هنا هو البقال. والبقال، هو الأصل، والبدّال هو من كلام العوام، لأنهم قلبوا القاف دالاً، وهذا هو من لغة بعض العرب الأقدمين. فقد قالوا مثلاً في المِنقل: المِندل، وفي الممعوق: الممعود. وفي القنقورة: الفندورة، وفي احقوقف الرمل: احْدَوْدَبَ، وفي نَقَلَه:(471/21)
نَدلَهُ إلى نظائرها. هذا فضلاً عن أن الأقدمين لم ينسبوا (رجلاً) إلى البدال. فليدون كل ذلك. وهذا كله نقلاً عن معجمنا الكبير المسمى بالمساعد.
(للبحث بقية)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول
للغة العربية(471/22)
أحِبَّني لوجه الحُب
للشاعرة اليزابث باريت براوننغ
زوجة الشاعر الإنجليزي المشهور براوننغ
بقلم الأستاذ صفاء خلوصي
إذا كان لا بد أن تحبني فليكن حبك خالصاً لوجه الحب
لا تقل: (إنني أحبها من أجل ابتسامتها، أو من أجل نظراتها، أو من أجل أسلوبها الظريف في الكلام، أو من أجل اتفاق بين فكرينا، أو من أجل أشياء جلبت لي الشعور باللذة والراحة يوماً ما).
لأن هذه الأشياء وإن كانت محبوبة لذاتها فقد تتغيّر تغيّراً جوهرياً أو تغّيراً بالنسبة إليك؛ والحب الذي يبدأ هكذا قد ينتهي بمثل الصورة التي بدأ بها.
لا تحبني من أجل عاطفة مسح الدموع المنحدرة على خديّ. إذ قد ينسى المخلوق الذي ذاق الرفاه الذي تيِّسره له، معنى البكاء، وبذلك تنقطع صلة الحب بينكما! ولكن أَحِبَّني لوجه الحب حتى تستطيع أن تحب على الدوام بكل ما في الحب من خلود وأزلية.
(بغداد)
صفاء خلوصي
(ب. ع.) بدرجة الشرف في الآداب
من جامعة لندن(471/23)
المؤلفات العربية القديمة وما طبع منها في سنة
1941
للأستاذ كوركيس عواد
نشرنا في هذه المجلة ثبتين بما تيسر لنا الوقوف عليه من المصنفات العربية القديمة التي تم طبعها في سنة 1939و1940، وهانحن أولاء نواصل ما بدأنا به، ذاكرين ما أتصل بنا من منشورات عام 1941، وقد رأينا أن نلحق بذلك أسماء بعض الكتب المطبوعة سنة 1940 مما لم نظفر به في حينه
أولا: مطبوعات 1941
1 - الأمالي في الفقه: لمحمد بن الحسن الشيباني (187هـ) جزء منه نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن في الهند (70ص)
2 - إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع: لتقي الدين المقريزي (845هـ) - الجزء الأول طبع على نفقة السيدة قوت القلوب الدمرداشية، بتصحيح وشرح الأستاذ محمود محمد شاكر مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة (686ص)
3 - الإيضاح في علم النكاح: لجلا الدين السيوطي (911هـ) كتب على غلافه أنه طبع بمصر (38ص)
4 - التاريخ الكبير: للإمام البخاري (256هـ) - الجزء الرابع، نشرته مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد (440 + 12ص) وهو يحتوي على 1916 من تراجم المحدثين مرتبة بحسب الهجاء، يبدأ هذا المجلد بمادة عباس بن عبد المطلب عم النبي، وينتهي بمادة مخلد بن هلال - سائر أجزاء الكتاب لمّا تطبع
5 - ديوان ابن الفرض: لعمر بن الفارض (632هـ)، نشره الكتبي محمود توفيق (القاهرة 120 ص) ويبدو أن هذه الطبعة التجارية منقولة عن طبعة سبقتها أغفل الناشر الإشارة إليها
6 - رؤيا اليمن: وهي الرحلة التي قام بها المستشرق يوسف هالوي (1828 -(471/24)
1916) في بلاد نجران سنة 1870م. ألَّفها دليله حَيِّيم حبشوش باللهجة العربية الصنعانية، وكتبها بحروف عبرية. وقد نشرها بهذه الحروف مصدَّرةً بمقدَّمة إنكليزية مطَّولة ومعجم الألفاظ العامية الواردة فيها: المستشرق غوتين بعنوان (مط الجامعة العبرية بالقدس 138 + 102 ص)
7 - السلوك لمعرفة دول الملوك: للمقريزي (845هـ). القسم الأول من الجزء الثاني، نشره الدكتور محمد مصطفى زيادة (مط لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة س + 305ص) في هذا المجلد حوادث السنين 804 - 728هـ. وهو نظير الأقسام المنشورة سابقاً (1934 - 1939) في التحقيق الواسع والعناية الفائقة
8 - شرح أسماء العَقَّار: للشيخ الرئيس أبي عمران موسى بن ميمون الإسرائيلي القرطبي (605هـ). صححه ونشره الدكتور مكس مايرهوف في المجلد 41 من مذكرات المجمع العلمي المصري مع ترجمة ومقدمة فرنسيتين وفهارس (مط المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة)
9 - كتاب الأمصار والعمران: وهو الباب الرابع من مقدمة ابن خلدون (808هـ). قدم له وضبطه وشرحه الأستاذ محمد سعيد العريان (طبع في القاهرة)
10 - كتاب في علل اختلاف الناس في أخلاقهم وسيرهم وشهواتهم واختياراتهم: لقسطا بن لوقا البعلبكي (المتوفى نحو سنة 311هـ). نشره الأب بولس سباط في مجلة المجمع العلمي المصري ونقله إلى الفرنسية
11 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: للحاج خليفة المعروف بكاتب جلبي (1067هـ). صححه على نسخة المؤلف، الأستاذان محمد شرف الدين بك يالتقايا، ورفعت بيلكه الكليسي. القسم الأول، فيه أسماء الكتب المبدوءة بالحروف من الألف إلى الراء، طبعته وكالة المعارف التركية في مطبعتها، في مجلد كبير قوامه 1008ص. وتمتاز هذه الطبعة عما تقدَّمها من طبعات لهذا الكتاب بمحاسن؛ منها أنَّ أسماء الكتب طبعت بحرف أكبر حجماً مخالف للمتن، ومنها أن كل كتابِ فيه جعل في راس سطر
12 - كليلة ودمنة: لعبد الله بن المقفع (143هـ) أخرجته مطبعة المعارف ومكتبتها في مصر، تذكاراً لعيدها الخمسيني الذهبي في شهر إبريل سنة 1941م. وهي طبعة نفيسة(471/25)
فاخرة نُقلت عن نسخة كتبت في أوائل المائة السابعة للهجرة وهي أقدم النسخ المعروفة لهذا الكتاب في وقتنا. وقد تولى درسها والتعليق عليها الدكتور عبد الوهاب عزام، وبها تصدير للدكتور طه حسين بك، وفيها 13 صورة ملونة رسمها ستريكالفسكي
13 - مجالس السلطان الغوري: وهي صفحات من تاريخ مصر في المائة العاشرة للهجرة. اختار موادها الدكتور عبد الوهاب عزام من كتابين وهما:
الأول: نفائس مجالس السلطانية في حقائق أسرار القرآنية (كذا) لحسين بن محمد الحسيني (المائة 10 هـ)
الثاني: الجزء الأول من الكوكب الدري في مسائل الغوري: فرغ منه مؤلفه سنة 919هـ. (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 303ص)
14 - مجموعة الوثائق السياسية في عهد النبي (ص) والخلفاء الراشدين: تضم جميع الوثائق والمعاهدات والمراسلات التي صدرت من الرسول والخلفاء الراشدين للقبائل والملوك والعمال وغيرهم. جمعها الدكتور محمد حميد الله الحيدر أبادي وقدم لها بمقدمة وأوضحها بتعليقات وشروح للألفاظ اللغوية وفهارس وتسع خرائط تبين مواقع الخرائط وخريطتين تبينان الأنساب العدبانية والقحطانية (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة 23 + 407ص)
15 - نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لأبي البركات الأنباري (577هـ). طبعة الأستاذ علي يوسف طبعاً تجارياً في القاهرة (9 + 277). وقد تصرف الناشر بالعنوان فسماه (تاريخ الأدباء والنحاة)
2 - المستدرك على مطبوعات سنة 1940
1 - الإكليل: للحسن بن أحمد بن يعقوب بن الحائك الهمداني اليمني (334هـ). الجزء الثامن في وصف آثار اليمن وبقايا أبنيتها وقصورها وسدودها التي شاهدها المؤلف. نشره الأستاذ نبيه أمين فارس، بمقدمة وتعليقات وفهارس، مستنداً إلى الطبعة السابقة بعد معارضتها ببعض النسخ الخطية
وكان الأستاذ النبيه قد نقل هذا الجزء إلى الإنكليزية سنة 1935 وأرفقه بحواش تاريخية وبلدانية ولغوية (مطبعة جامعة برنستين بالولايات المتحدة الأمريكية 12 + 247)(471/26)
2 - حيّ بن يقظان: لابن طُفَيل الأندلسي (581هـ) قدم له بدراسة وتحليل الدكتوران جميل صليبا، وكامل عياد (الطبعة الخامسة، مطبعة الترقي بدمشق، 196ص).
3 - الرعاية لحقوق الله (تصوّف): للحارث بن أسد المحاسبي (234هـ). النص العربي نشرته مع تمهيد ومقدمة بالإنكليزية، مرغريت سمث لندن 19 + 343ص).
4 - العقد الفريد: لابن عبد ربه (328هـ) المجلد الثاني نشر بعناية الأساتذة أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة 587ص).
5 - نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر (882 - 904هـ) أو تسليم غرناطة ونزوح الأندلسيين إلى المغرب: أستخرجه من عدة مخطوطات، ونشره الأستاذ ألفريد البستاني، ونقله إلى الإسبانية المستشرق كارلوس كيروس (منشورات مؤسسة الجنرال فرنكو للأبحاث العربية الإسبانية في طنجة، السلسلة الثانية، الرقم 2 مطبعة الفنون المصورة، بوسكا العرائش (المغرب) 186ص).
تعليق
1 - نشكر الأستاذ محمد أبو البهاء على تصحيحه المنشور في العدد 457 من الرسالة، لما أوردناه في لائحتنا السابقة عن كتاب (نصب الراية)
2 - نثني الثناء العاطر على اقتراح الأستاذ عصام الشريف في العدد 456 من الرسالة، بأن تتولى إحدى المؤسسات الثقافية في العالم العربي، إعداد ثبتٍ سنوي بكافة ما تخرجه المطبعة العربية في سائر الأقطار، وهو اقتراح حسن نرجو أن يتحقق يوماً ما
(بغداد)
كوركيس عواد(471/27)
رسَالة العلم
قلوب النجوم
للأستاذ خليل السالم
الكون كما يرى (إينشتين) قرص متحدب كحجر الطاحون، الشمسي قريبة من مركزه، وفي هذا القرص انتثرت النجوم دون نظام أو ترتيب، إلا أنك إذا نظرت في اتجاه أطراف الحجر تكون المسافة التي تنظر خلالها أكثر بعداً، فترى العدد الأكبر من النجوم المحتشدة في المجرة، وهذا سرها. أما إذا نظرت في اتجاه عمودي على الاتجاه الأول، رأيت تخلخلاً طبيعياً في عدد النجوم، ذلك لأننا ننظر خلال مسافة أقصر من الأولى، فيكون عدد النجوم أقل من العدد الأول. وليس نظامنا المجري هو كل الكون، فهناك عوالم أخرى من السدم المختلفة الأشكال والأحجام، وكل هذه تشغل حيزاً يتسع حتى لا يتسع له الخيال، فقطر القرص 180. 000 بليون ميل، وسمكه حوالي 30. 000 بليون ميل. وكل هذه أيضاً تشعرنا بضآلة الإنسان وحقارة شأنه، كما ترمز إلى جبروت عقله الذي يستوعب مثل هذه الأرقام الضخمة، ويتسع لهذه الصورة الزاخرة
أقرب النجوم إلينا نجم (رجل قنطورس) وبعده عنا 41 4 من
السنوات الضوئية، أي أن النور الذي يقطع 300. 000 ك.
م. في الثانية، في الزمن الذي يمضي بين ثلثي الساعة مرتين،
هذا المقدار العجيب يستغرق من الوقت 41 4 من السنوات
حتى يصل إلينا من أقرب النجوم في هذا الكون الشاسع الأبعاد
عدد النجوم كما يقدره الفلكيون يبلغ نحو 30 , 000 مليون نجم من كافة المقادير، وقد توزع هذا العدد الضخم في ذلك الحيز المتسع البعيد الغور، بحيث أصبحت أبعاد النجوم عن بعضها كبيرة جداً. ولتأخذوا عن هذه الأبعاد فكرة، أعطيكم مثلاً بسيطاً ورد في أحد كتب العلامة الإنجليزي المشهور السر جيمز جينز قال: لو أطلقنا في جميع المحيطات التي على الأرض أربع سمكات، وسبحت هذه كيفما اتفق، لكانت النسبة بين أبعادها تعادل مع(471/28)
الفارق الطبيعي أبعاد النجوم عن بعضها
وهذا العدد الكبير من النجوم توزع إلى أنواع عديدة: فهناك النجوم الكبار، والنجوم الجديدة، والنجوم المزدوجة، والنجوم المتغيرة، والنجوم القيفادية، والأقزام البيض، والعمالقة الحمر، والنجوم المجتمعة؛ ولكل من هذه الأنواع خواص تتميز بها وتختلف بها عن غيرها من النجوم
أكثف النجوم نجم فان ماتن، ومن أكثفها رفيق الشعري اليمانية، فكثافته تعادل كثافة الماء 53 , 000؛ وهو نجم مشهور كثير ما يرد ذكره في أبحاث الفيزيفا النظرية الحديثة؛ وقد استخدم في إثبات أحد قوانين النسبية، أعني قانون ميل الطيف نحو اللون الأحمر عندما ينبعث النور من جسم ثقيل. وسنأتي على تعليل هذه الكثافة العجيبة بعد قليل
لعلنا قد خرجنا عن الصدد فلنعد إلى موضوعنا الأصيل أعني قلوب النجوم. ولا يخفى أن الوسيلة الوحيدة في درس هذه المصابيح الجميلة إنما هي تلك الرسائل التي يحملها منها إلينا النور، وهذه الرسائل مكتوبة بلغة خاصة واضحة طوراً وغامضة طوراً آخر؛ فنلجأ إلى المرقب والمطياف والمطياف المصوِّر والمجهر وغيرها من الأجهزة الدقيقة فنستعين بها على فك تلك الطلاسم والألغاز.
وقبل أن نعني بهذه الرسائل حق العناية لا بد لنا من الاطلاع على بعض الحقائق والمبادئ الأساسية التي أثبتها المختبر، وانطبقت تمام الانطباق على الظواهر الطبيعية التي تجري في الكون على اتساعه وكثرة أنماط المادة فيه. وسنبدأ بعلم الحل الطيفي.
علم الحل الطيفي
مما يؤثر عن الفيلسوف الألماني الشهير (كانت) قوله: ليس ثمة أمور لا بد من أن للإنسان يبقى جاهلاً حقيقتها مثل معرفة تركيب الشمس والأجرام السماوية من الناحية الكيميائية. ولا يستنكر من الفيلسوف العظيم تورطه في هذا الحكم الذي أثبتت الأيام بطلانه، فقد كان يعلم وهو من يقدر الحواس حق قدرها أننا لا نستطيع أن نفهم المادة إلا عن طريق الحواس؛ ونحن طبعاً لا نستطيع أن نلمس النجوم أو نذوقها أو نشمها أو نسمعها، وليس لنا إلا حاسة النظر العاجزة عندما ننتقل إلى دراسة النجوم البعيدة دراسة عميقة دقيقة. إلا أن الإنسان عمد إلى الحيلة، وبدل أن يصعد إلى النجوم قربها إليه بأجهزته وصورها وكبّر(471/29)
تلك الصور ودرس الأطياف طبقاً لقوانين الحل الطيفي، تلك القوانين التي أثبتها المختبر، والتي ندين لها بكل التقدم العجيب في علم الفلك الحديث.
ورواية هذا العلم الجديد - أعني علم الحل الطيفي - ممتعة مدهشة. وسأذكر بإيجاز أشخاص المسرحية وملخص أدوارهم: أول ما يظهر على المسرح نيوتن الخالد الذي كانت اكتشافاته ولا تزال العامل المشترك الأعلى في جميع العلوم. ظهر على المسرح فأدهش الناس حين عرض عليهم نور الشمس وقد تحلل إلى ألوانه البديعة السبعة، تلك الألوان التي تبديها الطبيعة في أجمل مناظرها: قوس قزح. وتلاه في التمثيل العالم ولستن فأثبت أن لكل غاز طيفاً خاصاً وخطوطاً خاصة يتميز بها عن غيره من الغازات. هنا عرفنا أن بعض العناصر الموجودة على الأرض موجودة في السماء. ولعل الدور الحاسم كان دور فرنهوفر فقد دخل المسرح والناس قد اشرأبت أعناقهم لتتبع أحداث الرواية اللذيذة فاكتشف خطوط فرنهوفر التي تظهر في طيف الشمس وهي خطوط سوداء لا تتغير مواضعها، وسببها - كما عللها العالم الإنجليزي ستوكس - أن الغازات الموجودة في الشمس تمتص الأشعة الخاصة بها، فبدل أن تبدو خطوطها لامعة كما في طيفها المستقل تبدوا أماكن تلك الخطوط مظلمة سوداء. وهكذا تسنى للعالم كيرشوف أن يدرس الشمس في المختبر بعد الآن. وماذا كان عليه إلا أن يحلل النور القادم على متن الأثير ويقيس الأمواج ويقارنها بالأمواج التي يحصل عليها في المختبر من الشرارات الكهربائية والقوس الكهربائي والأنابيب المضيئة. ومن هنا أمكن كلا من العالمين (لُكير) و (جونسون) أن يكتشفا في وقت واحد غازاً جديداً في الشمس أسمياه باسمها (الهليوم)، وأثبتت الأيام صحة دعواهم فاكتشف الكيميائي رمزي غاز الهليوم على الأرض، وتبين أن له نفس الخواص الطيفية التي تنبأ العالمان لكير وجونسون من قبل باتصافه بها
بعدئذ أو بعد منتف القرن التاسع عشر إذا أردنا أن نعرف أين نحن من مر السنين، بدأت دراسة أطياف النجوم والأجرام السماوية دراسة واسعة النطاق. فقد فحص الأب أنجلو سيشي ما يقرب من أربعة آلاف نجم. وأحسن الدراسات الحديثة لأطياف النجوم وأعمقها وأكثرها شمولاً تمت على يدي الآنسة آني كانون فقد صنفت نحو ربع مليون نجم بحسب ترتيب خواصها الطيفية. وقد أسفر هذا التصنيف بكثير عن الحقائق عن(471/30)
تركيب النجوم ونشوئها. ولا يتسع لي المقام لبحث هذه النتائج، ولكنني بإيجاز أورد هنا خط التصنيف من دون تعليق:
الأصناف
رموزها بالإفرنجية
لونها
الخطوط الطيفية التي تقوى فيها
درجة حرارتها
الصنف الأول
زرقاء بيضاء
الهليوم المتأين
30 , 000ْ
الصنف الثاني
زرقاء بيضاء
الهليوم الحيادي
20 , 000ْ
الصنف الثالث
بيضاء
الهيدروجين (الشعري اليمانية نجم منه)
11 , 000
الصنف الرابع
وسطى(471/31)
تزيد خطوط الهيدرجين قوة
7 , 500
الصنف الخامس
صفراء
المعادن، الهيدروجين، الكالسيوم (الشمس)
6 , 000
الصنف السادس
برتقالية
المعادن الحيادية
4 , 200
الصنف السابع
حمراء
عصبة أكسيد التيتانيوم
3 , 000
الصنف الثامن
حمراء
عصبة خطوط الكربون
3 , 000
عالم الذرة
لا بد لما من معرفة بسيطة لتركيب الذرة لما لأبحاث الذرة الجديدة من علاقة وثيقة بعلم الفلك على وجه العموم، وقلوب النجوم على وجه الخصوص(471/32)
عالم الذرة الذي انحصر في أصغر جزء من المادة عالم زاخر مملوء بالرؤى والأخيلة الواسعة. وهو معقد بشكل لا نستطيع معه أن نلم بدقائقه فلنرسم لهذا العالم صورة خاطفة سريعة لتفي بغرضنا الذي نتوخاه
الذرة نظام شمسي، النواة فيها تقوم مقام الشمس، والكهارب (الإلكترونات) تمثل دور السيارات، فتدور حول النواة بسرعة غريبة جداً، وتدور كالسارات في أفلاك أهلجية وربما في أفلاك دائرية، ولكن لا ضابط لهذا الدوران، فأنت لا تستطيع أن تعرف مكان الكهيرب وسرعته في آن واحد، كما تستطيع أن تحسب مكان الأرض مثلاً وسرعتها بحيث تتنبأ بوقت خسوف أو كسوف لأقل من عشر الثانية. أقول لا تستطيع أن تعرف سرعة الكهيرب ومكانه في آن واحد؛ فإن عرفت السرعة تعذر تعيين المكان، وإن عرفت المكان تعذر تعيين السرعة. ومن هنا تسرب إلى العلم الحديث مبدأ عدم التثبت أو مبدأ الاحتمال. فلا تزيد القوانين الطبيعية - التي كان العلماء يتشدقون بدقتها وضبطها وأحكامها - أن تكون احتمالات كبيرة فحسب. واضطر العلماء إلى رسم صورة جديدة لذرة بوهر التي نصفها. وتم التعديل على يدي العالمين شرودنجر وهيزنبرج
الذرة متعادلة كهربائياً. قطر البروتون أقل جداً من قطر الذرة، فيكاد يكون الفراغ في الذرة قدر المادة (100. 000) مرة وعل ضوء هذه الحقيقة سريعاً ما نحكم أن المادة بصورتها المألوفة فراغ كبير، فلو خطر ببالك أن تزيل الفراغ بين (100) طن من القمح مثلاً لوفرت على نفسك المخزن المتسع الذي يتطلبه هذا الحجم الكبير، ولما شغل الباقي من المادة أكثر من قبضة يدك وأستطيع أن أضع في يدي مليون طن من المادة المحشوكة حشك النواة في الذرة
أبسط الذرات ذرة الهيدروجين؛ فهناك كهيرب واحد يدور حول بروتون واحد، وهو يدور على أبعاد مختلفة من النواة تتناسب مع مربعات الأعداد البسيطة أعني 1، 4، 9، 16 الخ. . . يكون مرة في الفلك الأول، ثم يقفز إلى الثاني فالرابع، ثم إلى آخر، ثم يعود وهكذا. فإذا ما امتص الكهيرب قدراً من الطاقة تهيج وتفلت من المدار الذي يدور فيه وقفز إلى مدار أبعد، ومقدار هذا البعد يعتمد على مقدار الطاقة التي امتصها
وإذا سقط من مدار أبعد إلى آخر أقرب منه أطلق إشعاعاً خاصاً يدلك على المسافة التي(471/33)
سقط فيها. والدخول في تفاصيل هذا الموضوع ينقلنا حتماً إلى نظرية الكم وهي نظرية جديدة في علم الفيزيقا لا تكفيها مقالات مسهبة لشرح قواعدها ومقرراتها.
بقى علينا أن نقول إن عدد الكهيربات حول النواة يكون في الفلك الأول اثنين، ثم ثمانية في كل فلك آخر، وفي الفلك الأخير يعين عدد الكهيربات تكافؤ العنصر كما تعلم في علم الكيمياء.
ماذا يهمنا من عالم الذرة؟ يهمنا أن درجة الحرارة تهيج الكهيرب فيبتعد عن النواة، ويبتعد كلما قويت الطاقة المؤثرة حتى إذا زادت عن قدر مخصوص ترك الذرة مطلقاً. ويهمنا أن نعلم أيضاً أن إشعاع الذرة يعتمد على مقدار التهيج ونوع الذرة كاملة الكهيربات كانت أو ناقصتها. وما دمنا في صدد الكلام عن الإشعاع ودرجة الحرارة فيجب أن نشير إلى قانون ستيفان - بولتزمان الذي ينص على أن إشعاع أي جسم يتناسب تناسباً طردياً مع القوة الرابعة لدرجة الحرارة المطلقة.
والآن ما هي الحقائق التي نستخلصها من رسائل النجوم البعيدة على ضوء هذه المعلومات الجديدة؟
(البقية في العدد القادم)
خليل السالم
(ب. ع) من الدرجة الأولى
في الرياضيات(471/34)
ظُلم
عشقتُ فما كنت إلاّ المُنَى ... تلوحُ بأنوارها الباسمة
وما كنتِ إلاّ ازدهار الصِّبا ... ترعرعَ في جَنَّتِي الساهمة
وما كنتِ إلاّ جُنون الغرام ... تَغَلْغَلَ في صبْوتي العارمة
رنوتُ إلى سحركِ العبقري ... بعين مسَّهدةٍ هائمة
فما انطفأَتْ غُلَّتي من نواك ... وما انتعشتْ مُهجتي الحالمة
تُرَاني أُحِب لأَلقي العذاب ... وَأَنتِ مُدَلَّلةً ناعِمَة؟
ويمشي فؤادي وراء الخيال ... يُمَنِّيه بالنَّشوة الواهمة
وهل يرسلُ النورَ بدرٌ بدا ... جميلاً. . . وآفاقُه غائمة؟
إذا لم يَهَشَّ لعيني الصباحُ ... فأنواره ظلمة قاتمة
كرهتُ من الناسِ طُغْيَانَهم ... وأَحْبَبْتُ ظُلْمَكِ يا ظالمة
سلاح خدمة الجيش الملكي
أحمد إسماعيل المليجي(471/35)
أشعار صينية
- 4 -
ورقة الصفصاف
للشاعر الصيني وان - تسي
(314 - ؟ م)
ورقة انفصلت عن صفصافة. وهي الآن تسبح فوق الماء.
وبقلبي، أيضاً، صنع الزمن ما صنع. فصلت عن سيدة جميلة أحبها كثيراً، وهأنذا أنتظر
مصيري في سلام
هأنذا أرقب ورقة الصفصاف. آه! إن الموج قد أعادها نحو الغصن الذي انفصلت عنه
- 5 -
أغنية مسافر
لشاعر صيني مجهول
(عاش حوالي عام 325 م)
عندما تملأ النسمة ثوبيك من الحرير، تشبهين ربة ترتدي بالسحاب
عندما تمرين، تتشمم عبيرك أزهار التوت. عندما تحملين الزنبق الذي جمعتِه، يرتعش
في يديم من الفرح
حلقات من الذهب تربط عقبيك. أحجار زرقاء تلمع حول خصرك. عصفور من اليشم قد
صنع عشه في شعرك. ورود خدودك تتراءى في حبات عقدك الكبيرة
عندما تنظرين إليّ، أرى نهر ليين يجري
عندما تخاطبيني، أسمع موسيقى الريح بين الصنوبر في وطني
عندما يلقاك فارس، عند الشفق، يعتقد أن الفجر هناك، ويوقف فرسه في قوة
عندما يلحظك ساغب، ينسى جوعه(471/36)
- 6 -
في الجبل - عند نبع الربيع
للشاعر الصيني رانج - بو
(550 - 618م)
الحزام منحل، الرداء مفتوح للريح الرطبة، كنا نصعد في الطريق الوعرة الضيقة التي
توصل إلى نبع الربيع
جلسنا على الحصير التي بسطها لنا الخدم قرب النبع، وأنصتنا أولاً إلى هدير أشجار
الصنوبر. رائحة الزنبق تعطر الخمر الذي يجري في غزارة
عندما تطول الظلال وعندما تبدأ ظلمة الليل تتأرجح بين الأشجار، يفرغ حينذاك حديثنا،
ذلك لأن ناي الرعاة يتجاوب غناؤه في الجبل.
م. وهبة(471/37)
عازفة القيثارة
للشاعر الإنجليزي ادموند وولر
(1605 - 1687)
مثل هذه الأنغام الشجية تثيرها لمسة خفيفة كهذه
لا تهمها هي في شيء أبداً، ولها في نفوسنا أبلغ الأثر!
فأي فن هذا الذي يستطيع - بمثل هذه الضربات البسيطة -
أن يملأ نفوسنا غبطة، ويستولي على مشاعرنا؟
حول أصابعها تزدحم الأوتار وهي ترتعش معبرة - عالياً - عن فرحها لكل قبلة،
قوة بسيطة تجعلها ترتعد هكذا
ومن ذا الذي لا تمسه هذه اليد، ولا يرتعش هو أيضاً؟
هنا يرابط إله الحب. وبينما تطرب هي السمع يفرغ هو كنانته على المستمع العزيز
هكذا فعل الموسيقى في الحس. ترهفه وتجرده من سلاحه حتى لا يستطيع أن يقاوم سهماً
واحداً
وهكذا تحتفل المستبدة الحسناء بغنيمتها
ممثلة لنفسها انتصار عينيها
كما كان نيرون ينظر إلى روما المشتعلة، والقيثارة في يده
وبينما كانت تحترق كان هو يعزف
عبد الحليم البشلاوي(471/38)
البريد الأدبي
الصداقات بين الأدباء
جاء في آخر مقال (الصداقات بين الأدباء) للأستاذ العقاد المنشور في عدد الرسالة رقم (465) ما يلي:
(فهل يعني الأستاذ - يعني الأستاذ توفيق الحكيم - شعراء البحيرة في إنجلترا؟ هل يعني صداقة شلي وبيرون هناك؟ هل يعني صداقة جيتي وشلر بين شعراء الألمان؟ هل يعني صداقة تولستوي وتورجنيف وديستفسكي بين عظماء الأدب العالميين من الروسيين؟)
وقد وجدنا في هذه النهاية استرسالا يتجاوز الحقيقة نفصله فيما يلي:
1 - لم يكن اللورد بيرون من شعراء البحيرة في إنجلترا. وكانت المدرسة الأدبية التي دعيت نسبة إلى منطقة البحيرة والتي أسسها الشاعر (وردز ورث) لوجود بيته في تلك المنطقة تضم (سوثي صموئيل تيلور كوليردج دي كوينزي
2 - لم يكن شلي أيضاً من شعراء البحيرة، وإنما كان له اتصال غير مباشر بسبب وجود مسكنه في تلك المقاطعة، وكان بذلك مثل (سكوت، وكارليل، ومسز هيمانز، ومتيو أرنولد، وإدوارد فتزجرالد، وتنسون، وجري، وشارلس لامب)
3 - إذا كان يعني الأستاذ العقاد بقوله (هناك)، أي (بإنجلترا) دون تحديد لمنطقة البحيرة، فهذا يتجاوز الحقيقة أيضاً؛ ذلك لأن الشاعرين بيرون وشلي لم يتفق لهما الالتقاء في أي مكان بإنجلترا، ثم لم يقم بينهما أي اتصال أدبي أو مراسلة تشير إلى معرفة أو صداقة. وما قدِّر لهما الالتقاء إلا في سويسرا أول مرة وذلك في شهر مايو سنة 1816، عندما كان بيرون قد ترك إنجلترا للمرة الأخيرة. وكلاهما لم يعد إلى وطنه بعد ذلك التاريخ. ذلك أن شلي توفي في إيطاليا سنة 1822، واللورد بيرون توفي في اليونان سنة 1824
والقضية الثانية تتعلق بما أورده عن صداقات تورجنيف وتولستوي ودستيوفسكي من مشاهير الأدب الروسي. وهذه الصداقة لا تنطبق على الواقع، بل لعلها أقرب إلى العداء بين بعضهم
1 - لم تكن هنالك صداقة بين تولستوي وتورجنيف. ولم يتجاوز الأمر إعجاب تورجنيف تولستوي. غير أن تولستوي لم يبادله إعجاباً بإعجاب بل كافأه عليه بالإهمال والكره، ولعل(471/39)
في العبارة التي كتبها تولستوي إلى (فث والتي قال فيها: (إني أحتقر الرجل) - يشير إلى تورجنيف ما يبدد أي زعم بقيام صداقة بينهما
2 - وفي ناحية أخرى لم تقم أي صداقة بين ديستوفسكي وتورجنيف، بل وجد بينهما عداء لم تسبقه صداقة ولم تتله صداقة. وفي كتاب ديستوفسكي نراه يصف تورجنيف بجميع نقائصه بأسلوب شديد المبالغة، ثم يقول عن تورجنيف بأنه من أولئك الكتاب الذين يؤثرون علي في جيل واحد، ولكن مصيرهم مناظر رواية تمثيلية على الرف
3 - وأخيراً لم تقم صداقة بين تولستوي وديستوفسكي، وليس ما يشير في تاريخ الأدب الروسي إلى التقاء هذين الأديبين. والفرصة الوحيدة التي أتاحت لتولستوي قضاء مدة طويلة في موطن ديستوفسكي - سان بطرسبورج، لننجراد الآن - كانت عندما ذهب تولستوي وهو شاب يدرس الحقوق في جامعتها، وصادف ذلك نفي ديستوفسكي مع جماعته إلى سيبريا
على أن ذلك لم يمنع إعجاب تولستوي بإنتاج ديستوفسكي، وليس في مقدورنا اعتبار الإعجاب صداقة، خصوصاً إذا كانت ذات طرف واحد.
(القدس)
علي كمال
حول إصلاح الأزهر
كنت آخر من تحدث في (الرسالة) عن الأزهر وإصلاحه بكلمة صريحة أغضبت بعض الناس، وقدّرها قدرها مفكرو الأزهر من المدرسين وغير المدرسين، وانتظروا أن تتبعها أخواتها حتى يتم الحديث. واليوم قرأت في الرسالة كلمة للزميل الفاضل الدكتور محمد البهي دفعه إليها فيما أعتقد عامل نبيل، إلا أني رأيت فيها عبارة أرسلها دون تحديد فلم تعبر فيما أظن عما أراد. إن حضرته يصف بعض الكتاب الأزهريين بالمغالاة (لأنهم - فيما يقول - من رجال العهود السابقة وهي عهود قريبة إلى الطبيعة الساذجة التي لم تلتو بعد)
للأستاذ الزميل رأي في الأزهر - يجهر به ولا يخفيه - لا يختلف عن رأينا، كما لا(471/40)
نختلف أيضاً في تقدير الجامعة وجهودها ومبلغ ما أصاب رجالها من حظ من النجاح في تأدية الرسالة الجامعية العلمية، فلا أفهم بعد هذا كيف يكون من يكتب عن الأزهر مشخصاً لداء واصفاً الدواء مبالغاً ساذجاً من رجال العهود السابقة! لعل الزميل الفاضل لو وصف هؤلاء الكاتبين بالشجاعة والصراحة والرغبة في الإصلاح والعمل له لكان مصيباً. ليست السذاجة في تعرف الداء ليتأتى أن نطبّ له بل في كتمه حتى يصير معضلاً. وكم كان حكيماً (كونفشيوس) حينما جعل من أسس منهجه الفلسفي (تحديد الألفاظ) حتى لا يكون ضلال في الأحكام!
محمد يوسف موسى
مجمع فؤاد الأول للغة العربية
انتهت وزارة المعارف من إعداد مشروع قانون بإنشاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية، بدلاً من المرسوم الحالي الخاص به
وترجع الحكمة في إصدار القانون الخاص بالمجمع إلى جعله مؤسسة مستقلة ذات شخصية معنوية
وينص المشروع على بقاء أغراض المجمع على ما كانت عليه مع إضافة مهمة جديدة هي تشجيع الإنتاج الأدبي العربي الحديث وإقامة المسابقات الأدبية وتقدير الجوائز لها
وقد حدد عدد أعضاء المجلس بثلاثين لا يزيد الأجانب منهم على عشرة
ونص المشروع على أن يكون لوزير المعارف حق تعيين رئيس للمجمع من بين ثلاثة يرشحهم أعضاؤه لمدة ثلاث سنوات وينتخب له وكيل مصري لمدة سنة
وقد منح وزير المعارف وحده سلطة إصدار القرارات التي تمس مادة اللغة العربية وجوهرها.
التعاون الثقافي بين مصر والعراق
رفعت وزارة المعارف إلى مجلس الوزراء مشروعاً بإنشاء مكتب للتعاون الثقافي بين مصر والعراق تكون مهمته وضع الأسس لمعاهدة ثقافية بين البلدين، والدعوة إلى عقد مؤتمرات ثقافية تمثل فيها البلاد العربية المختلفة.(471/41)
وسيعهد إلى هذا المكتب بإطلاع كل من وزارتي المعارف المصرية والعراقية على ما يحدث في الأخرى من تطور في شئون التربية والتعليم من حيث الأنظمة والقوانين والمناهج والكتب الدراسية وغيرها
ويبحث المكتب كذلك تبادل الطلبة والأساتذة الكتب والمطبوعات، ووضع نظام ثابت لذلك
وسيدعو المكتب إلى عقد مؤتمرات ثقافية عربية ويكون مقره متنقلاً بين القاهرة وبغداد وبالتناوب، ويرأسه وزير المعارف في البلد التي يكون بها، وأعضاء المجلس أربعة غير الرئيس، على أن يكون اثنان منهما عن كل بلد
وحين يتم عقد المعاهدة الثقافية بين البلدين يعهد إلى المكتب بتنفيذها.
وسيباح للبلدان العربية الانضمام للمكتب بعد موافقة الوزارتين المصرية والعراقية على ذلك
القصص الفائزة في مسابقة وزارة المعارف
وافق مجلس مجمع اللغة العربية الملكي على قرار لجنة مسابقة القصة لوزارة المعارف، وقدمه إلى معالي وزير المعارف فوافق عليه
وكان المقرر منح ثلاث جوائز: أولى وثانية وثالثة، ولكن اللجنة رأت العدول عن ذلك واختارت خمس قصص منحتها الجوائز دون مراعاة الأولية نظراً لامتياز كل منها من ناحية.
أما القصص الفائزة فهي: ملك من شعاع، للأستاذ عادل كامل؛ وزينات، للأستاذ حسين عفيف؛ وجهاد أو وا إسلاماه، للأستاذ علي أحمد باكثير؛ وعودة القافلة، للأستاذ يوسف جوهر؛ وكفاح طيبة، للأستاذ نجيب محفوظ
مسابقة الشعر العربي
أعلنت محطة الإذاعة المصرية أن الأستاذ محمد الأسمر الشاعر المعروف، قد فاز بالجائزة الأولى في مباراة الشعر العامة التي أقامتها محطة الإذاعة البريطانية.(471/42)
العدد 472 - بتاريخ: 20 - 07 - 1942(/)
غراب وطفل!
حادثان وقعا في نهار يوم وليلِه، لَها بهما من لَها، وتفكر فيهما من تفكر؛ وبات أثرهما الباقي يعمل في نفسي وفي رأسي ما يعمل الهم إذا جاش، والألم إذا برَّح، حتى أصبحت فإذا بي لا أجد في ذهني ما أكتبه إليك، غير أني أقص نبأ هذين الحادثين عليك.
نشب جناح أحد الغربان في مشتبك الغصون من أعالي (الكافورة)، وجهِد الطائر الأسير أن يخلص جناحه بالاضطراب والاجتذاب والخفق فما استطاع. وكان قد حط بالقرب منه غراب فهبّ ينعب نعيب المستغيث، ثم حاول أن يجتذب بمنقاره الجناح الناشب فأعياه ذلك، فارتد يثب من حوله صاعداً هابطاً وهو ينعب، حتى أقبل على صوت الاستغاثة غرابان، فحوّما هنيهة فوق أخيهما المصاب، ثم أطلقا في الفضاء نعيقهما المنذر. فلم تكن غير لحظات حتى تتابعت الغربان فكان منها على ذوائب الدوحة الفينانه عصابة، وعقدت هذه العصابة مناحة، وظلت هذه المناحة بقية النهار لا ينقطع لها صوت، ولا تفتُر بها حركة. وكأنما كانت الغربان تضرع إلى الناس أن يسعفوا أخاها المسكين بحيلهم البشرية؛ ولكن الناس كانوا قد تجمعوا على طِوارَىْ الشارع تجمع البَلَه، لينظروا إلى الحادث العجيب نظر الفضول! وقلما تجد بين البَلَه والفضول مكاناً للمروءة!
فلما دنا الليل واستيأست الغربان انصرف بعضها وبقي بعضها الآخر. ولم تقصِّر الأغربة الباقية في مواساته والترفيه عنه، حتى لقد زعم بعض أصحابنا أنه رأى غراباً يزقُه بالحب والماء. وانصرفنا نحن كذلك عن القهوة بعد موهن من الليل، وليس في نفسي غير هذا المظهر الأخوي الرائع في نوع من الطير لم يرسَل إليه رسول، ولم تُنشأ لتربيته جامعة؛ وما كنت رأيت ولا قرأت ولا سمعت من قبل ما يشبه ذلك في عالم الحيوان.
لم أكد أسكت المذياع بعد إعلانه الأنباء الأخيرة حتى سمعنا صراخ طفل حديث الولادة ينبعث في سكون الشارع على حال غير مألوفة. فأطَّلعت من النافذة فإذا الصراخ يتتابع من ركن مظلم أمام حانوت جارنا النجار. فظننت أول الأمر أن إحدى الوالدات جلست تسترفه من التعب، أو تستدني أكف المارة. وكانت امرأة من سواد الناس تمر في تلك اللحظة فعاجت بحكم غريزتها على الطفل الباكي، وجعلت تجسه بعينها ويدها، ثم صاحت تقول في ارتياع وحسرة:
الله يلعنها في كل كتاب! زِنّي وقتل؟!(472/1)
ثم اندفعت المرأة في طريقها تهرول وتدمدم كأنما تريد أن تنجو بنفسها عن موطن الشبهة!
ووقف عليها على الوليد المنبوذ كل سائر. وكان كل واقف يشعل ثقاباً وينظر إلى محيا الطفل البريء ثم يحوقل وينصرف.
وكان الطفل على ما فهمت من وصف الواصفين (الواصفين من الواقفين أزهر اللون جميل الصورة قد وضعته أمه (الحنون) في قفة جديدة من الخوص ملفوفاً في خرقة بالية من قماش مهلهل النسج لا نقش عليه ولا خيط فيه! ولعلها خشيت، إذا هي ألبسته بعض الثياب أن يستدل الشُّرط بها عليها! والاحتياط لسلامة الخدر المصون من سوء السماع ومض الملام فوق كل اعتبار!!
كان المارة يتجمعون على جوانب المهد الخشن والطفل يضطرب فيه بيديه ورجليه، ثم يتفرقون ولا يجرؤ أحد منهم أن يسبل غطاءه عليه، أو يمد يده إليه، كأنما هو في ذاته لعنة مجسدة تغلق بمن يمسها وتلحق بمن يقربها! والواقع أن اللقطاء أو أبناء السكك والدهاليز كما يسميهم الشرفاء، أشقياء بالولادة. وقد تشتمل الرحم الفاجرة على الشقي والشقاء في وقت معاً. فاللقيط وهو جنين يكون خطراً لا ينفك مهدداً بالعار إذا استمسك، وبالموت إذا سقط. فإذا سلم على طعن البطن باليد، وتسميم الرحم بالعقاقير، وُلد في الخفاء، وغمر بالظلام، وأحيط بالسكون، وأصبح في حجر أمه جريمة مولودة تطفئ نور البصر، وتذوي شباب القلب، وتقطع خيط الرجاء، فتحاول أن تتنصل من هذه الجريمة الواحدة، باقتراف جرائم متعددة! فإذا على سوء الولادة وجفاء المهد وقسوة الهجر، عاش موسوماً بالخزي، موصوفاً بالمهانة، لا يرتفع به بيت، ولا يشرف به منصب
يا حسرتا على اللقيط من بني آدم! يمر الإنسان بالمتروك أو الضال من جِرَاء الكلبة، أو خنانيص الخنزيرة، أو حملان النعجة، أو فراريج الدجاجة، فيؤويه إليه حتى يجد صاحبه؛ ثم يمر بالمتروك من جنسه فيشيح بوجهه وينأى بجانبه؛ لأنه إذا ضمه إليه اتهمته زوجه، وإذا أظهر العطف عليه اتهمه الناس. ومن ينكره أهله لا يعرفه أحد! ومن ضاق ذرعه بابنه لا يتسع صدره لمتبنّاه، لذلك كان الناس يمرون بالقفة المتروكة، وفيها ثمرة الحب يتضور ويبكي، فلا يجودون عليه لا بنظرة حنان، أو كلمة رثاء، أو إشارة إعجاب، أو لعنة انتقام. وخفت أن يبيت الطفل على قارعة الطريق فدعوت من حمله إلى مركز البوليس.(472/2)
وأصبح الصباح فقيض الله للغراب من عالج جناحه بعود طويل من الخشب حتى خلص، وانطلق الأسير في رفاقه الأوفياء يرفه عن الجناح العليل في العشّ الناعم والفضاء الحر والإخاء الوثيق. وذهب صديقنا علي يسأل رجال الشرطة عن مصير الطفل فقيل له: منحناه اسماً من الأسماء، ونحلناه أباً من الآباء، وسجلناه مجهول الأب والأم؛ ثم أرسلناه إلى الملجأ ليعيش عمره الطويل أو القصير من غير أسرة ولا كرامة ولا ثروة ولا رجاء!
أما بعد فذلك غراب وهذا طفل! أما الغراب فلم يتركه قومه حتى أنقذوه وأخذوه؛ وأما الطفل فقد تركه أبوه لأمه، وتركته أمه للناس، وتركه الناس للقدر! فمن ذا الذي يقول بعد ذلك إن ابن آدم خير من ابن آوى، وإن بنت حواء أفضل من بنت اللبون؟ إن جد هذا الغراب هو الذي علم قابيل جد هذا الطفل أن يوارى بالدفن سوءة أخيه المقتول! وهل تجد أبلغ في تسجيل العجز على الإنسان من قول قابيل حين رأى الطائر يبحث في التراب: (يا ويلتا! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟)
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(472/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
انتخاب بطرك الأقباط - أسئلة وأجوبة توضح المشكلة القبطية
- بين الصنعة والطبع - موقعة العلمين - اختيار لون الموت
يدل على حيوية الذوق
انتخاب بطرك الأقباط
البطريرك كلمة يونانية الأصل، أو لاتينية الأصل. ومن الطريف أن نذكر أن كازيميرسكي يجعل البطريق (بالقاف) من اللاتينية، ويجعل البطرك (بالكاف) من اليونانية، برغم تقارب مدلول الكلمتين. وأنا أترك تحقيق هذه المسألة لحضرة الباحث المفضال الأب أنستاس، فهو بها من الخبراء.
والذي يهمني هو أن أشرح لقراء الرسالة مشكلة تثور اليوم في البيئات القبطية، وشرحها لا يخلو من نفع، لأنها تنطوي على دقائق اجتماعية وأخلاقية، ولأن من الخير أن يعرف قراء المجلات الأسبوعية حقيقة ما يُنشر بلا شرح في الجرائد اليومية. فإن وقع في كلامي شيء من الخطأ فليتفضل بتصحيحه أحد المطّلعين من أفاضل الأقباط.
وأواجه الغرض فأقول: الأصل أن يُنتخَب البطرك من الرهبان، وقد سارت الأمور على هذا الأصل في جميع العصور الخوالي، ثم انحرفت عند انتخاب البطرك السابق، فقد انتُخب وهو مطران، وبانتخابه على ذلك الوصف ضاع أعظم حق من حقوق الرهبان.
والذين قرءوا ما نشره سعادة الأستاذ توفيق باشا دوس في جريدة لابورس يدركون أن المشكلة ستثار من جديد، مشكلة المفاضلة بين الراهب والمطران في انتخاب الرئيس الديني للأقباط. . . فما حجج الفريقين؟
حجة القائلين بأن يُنتخب البطرك من الرهبان تقوم على أساس متين، وهو سلامة الانتخاب من المؤثرات المالية، لأن الرهبان لا يملكون شيئاً على الإطلاق، فمن المستحيل أن يشتروا أصوات الناخبين، وإذن يكون مرجع المفاضلة بين راهب وراهب هو الشهرة بالتقوى والورع والقنوت.(472/4)
وحجة القائلين بأن ينتخب البطرك من المطارنة تقوم أيضاً على أساس، فهم يرون أن المطارنة قد يعرفون من شؤون المجتمع ما لا يعرف الرهبان، بغض النظر عن تعرّض الانتخاب لمؤثرات مالية أو اجتماعية.
وهنا يسأل القارئ عن المصادر التي تجعل المطارنة أغنياء، بحيث يتناضلون بالقُوى المالية عند الانتخاب.
ونجيب بأن البلاد المصرية من الوجهة القبطية مقسَّمة إلى أبرشيات (والأبرشية كلمة يونانية معناها الإقليم) ولكل أبرشية مطران، فيقال: مطران المنوفية، ومطران البحيرة، ومطران جرجا، ومطران أسيوط، إلى آخر التقاسيم.
ولكن كيف يغتني المطران؟
يغتني من (العوائد) وهي جمع عادة، كما تُجمع حاجة على حوائج، ولك أن تجعل مفردها عائدة، إن تناسيت العُرف، وهو من أهم الأسندة اللغوية. فما تلك العوائد؟
حين يتلطف المطران بزيارة أحد البيوت يكون على أهل ذلك البيت أن يتلطفوا بتقديم (العادة) وهي مبلغ من المال يقلّ أو يكثر تبعاً لقدرة أهل البيت، فيكون جنيهاً أو جنيهين، وقد يصل إلى عشرين. ومن هذه العوائد تتكون ثروة المطران، وهي ثروة مستورة لا تتعرض لرقيب ولا حسيب، وإن كان المفهوم أنها تُجمع لإسعاف المرضى ومواساة المحتاجين، وهي بالفعل مصدر خير لأولئك وهؤلاء.
بعد هذا الشرح نفهم كيف يخاف الراهب صولة المطران عند الانتخاب، فالراهب يتقدم بالدين، والمطران يتقدم بالدين والمال. وقد سمعت أن للمال سلطاناً على أصوات الناخبين، وسمعت أيضاً أنه يزيد الأتقياء جلالاً إلى جلال. وهذا وذاك يؤكدان خوف الراهب من مناضلة المطران.
أسئلة وأجوبة
س - هل من الحتم أن ينتخَب بطرك الأقباط من هيئة دينية؟
ج - يجوز انتخابه من هيئة مدنية إذا قلَّت الصلاحية لهذا المنصب في الهيئات الدينية، لأن الغرض هو إقامة راعٍ موصوف بالصدق والعدل، ولو كان من المدنيين
س - هل فكَّر أقباط مصر قبل اليوم في انتخاب بطرك من الهيئة المدنية؟(472/5)
ج - بعد موت البطرك الأسبق كان من بين المرشحين لهذا المنصب رجلٌ مدنيٌّ هو الأستاذ سابا حبشي؛ ويقال إنه نال كثيراً من الأصوات؛ وهذا يدل على استعداد الأقباط لتشجيع العقلية المدنية في الحياة الدينية
س - إذا توفرت الشروط في الرجل المدني، فما الواجب لإيثار الرجل الديني؟
ج - يرى الأقباط أن منصب البطرك هو مصدر الحياة للدير، فمن الخير أن تبقى لسكان الديارات آمال في السيطرة الروحية على الجمهور القبطي، وهي تُعرَّض للزعزعة إن ضاع منهم ذلك المنصب المرموق
س - وما الخطر من زعزعة مركز الدير؟
ج - الخطر عظيم، لأن الدير هو أكبر الخصائص في المسيحية؛ وضعضعة الدير تضعضع هيبة الرهبان
س - وما الموجب للإبقاء على الرهبانية؟
ج - الرهبانية مفروضة على البطرك، ولو انتُخب من بين المدنيين
س - ألا تظنَّ أن رهبنة المدنيّ أرقُّ وألطف؟
ج - أقباط مصر يقولون بغير ذلك، وهم يرون أن الرهبنة لا توصف بالرقة ولا باللطف، وإنما توصف بالتقشف والزهد والقنوت
س - هل ترى أن البطرك القادم من سجن الدير يصلح لمقابلة الوزراء والسفراء؟
ج - أقباط مصر لا يطلبون البطرك لمقابلة الوزراء والسفراء، وإنما يطلبونه لمواساة اليتامى وهداية الأشقياء، ولا يكون كذلك إلا حين تغلب عليه الهيبة الدينية
س - وإذا صَلَح الرجل المدني لتأدية هاتين الوظيفتين؟
ج - يكون أصلح الرجال على شرط أن ينتخَب من طريق لا تعترضه الشبهات
س - وما الشبهات التي تعترض ذلك الطريق؟
ج - هي الشبهات التي ألمعتُ إليها في مطلع هذا الحديث
أما بعد فهذه صورة لما يعتلج في صدور أقباط مصر بعد موت البطرك، وإني لأرجو أن يُكتب لهم التوفيق في اختيار البطرك الجديد، فهم مواطنون أعزاء، واطمئنانهم إلى رياستهم الدينية يقع من أنفسنا موقع الجذل والارتياح(472/6)
وسبحان من لا يقع في مُلكه إلا ما يريد
بين الصنعة والطبع
إذا كتبت خطاباً في المساء فأتركه بلا تظريف، لتَسهُل مراجعته في الصباح، ولتبقى فرصة للحذف منه أو الإضافة إليه، فمن المؤكد أن للرأي موجات تختلف باختلاف الأوقات. وقد تُنكر في بياض الصبح، بعض ما كتبت في سواد الليل. وأنت عن تموُّجات رأيك مسئول.
كذلك أصنع في خطاباتي ومقالاتي لهذا العهد، ولم أكن أصنع ذلك من قبل. وإن زمناً يكفُّ من جموحي لهو ألأم الأزمان!
ما كنت أعرف الفرق بين التسويد والتبييض، ولا كنت أستبيح معاونة الصنعة على مبالغة الطبع، وكنت أعجب حين أسمع أن في الكتَّاب من ينسخ مقاله مرات قبل أن يطمئن إلى صلاحيته لمواجهة القراء.
كان رأيي أن جري القلم في القرطاس هو جري الجواد في الميدان. . . وللقلم أن يتلفت قبل إصابة الهدف، إن كان للجواد أن يتلفت قبل بلوغ الغرض. . . ومن المحال أن يتلفت الجواد حين ينطلق في ميدان السباق، أو ميدان القتال.
وهذا المذهب في رياضة القلم هو الذي عرَّضني لكثير من الجراح، لأني لا أملك صده حين ينطلق، وهل يملك الجواد مجانبة العثرات حين ينطلق؟
فما بال الأقدار تروضني بعد الجموح، وتفرض عليَّ أن أتلَّفت ذات اليمين وذات الشمال وأنا أجري في ميدان البيان؟
وما هذا الذي أعاني من زماني؟
أليس من المزعج أن أصبح من مخاطر القلم في أمان، لأن الظروف توجب أن يراعي قلمي أشياء لا يراعيها الجواد حين ينطلق في الميدان؟
وما قيمة الحياة الأدبية إذا خلت من المخاطر والمهالك والحتوف؟
أنا لا أعدّ الكاتب فارساً إلا إذا استطاع بكل سطر، أو بكل حرف، أن يعرّض قراءه إلى الاشتباك في حروب مع معاني والآراء والأهواء.
فأين أنا مما أريد؟
وأين الفرص التي تسمح بأن أجرّد من قلمي مِشرطاً يرفع الغشاوة عن أعين أبناء الزمان؟(472/7)
أنا اليوم أضمن السلامة من جرائر قلمي، كارهاً غير طائع، لأن النظام في هذه الأيام يصدّ الأقلام عن عنت الجموح والطغيان
قلمي
كيف مرّت شهور بلا جراح يُدميها سنانُك؟
وكيف أمِنتُ شرَّك، ونجوت من طغيانك؟
كيف وكيف؟؟
بيني وبينك ميعاد وميثاق، والأحرار لا يخلفون المواعيد، ولا ينقضون المواثيق.
موقعة العلمين
العَلَمين اسم بقعة في الطريق بين الإسكندرية ومرسى مطروح، وهي مثنّى عَلَم، وقد صارت بفضل حرب الصحراء الغربية أشهر من نار على عَلَم أو على عَلَمين!
والذي يراجع أخبار الصيال بين قوات الحلفاء وقوات المحور في الصحراء يعرف أن تلك القوات لم تقف وقفة أطول من وقفتها في العلمين، فهل كانت المقادير أرادت أن يكون لتلك التسمية هذا المصير فتكون تلك البقعة مكان الصراع بين العَلم المهاجم والعَلم المدافع؟
اللهم حوالَيْنا ولا علينا!!
ألوان الموت
لك أن تقول ألوان الموت، كما تقول ألوان الطعام وأصناف الشراب، ومن حقك أن تختار لون الموت، لأنه فنٌّ من الفنون، أو صنفٌ من الصنوف، أو (ضربٌ) من الضروب، ولعل من واجبك أن تفكر في اختيار لون الموت، لأن ذلك يشهد بأنك من الأحياء. وهل يفاضِل المرء بين لون ولون إلا وهو في حيوية ذوقية أو روحية تضيفه إلى أكابر الفنانين؟
ولتوضيح هذا المعنى أسوق الحادثة الآتية، وقد وقعت في مساء اليوم السادس من هذا الشهر الميمون:
قُبَيْل الغروب هبّت عاصفة عنيفة، عاصفةٌ كادت تنقل إلى داري جميع رمال الصحراء، جزاءَ بما صنعتُ من التغنّي بإشراف داري على الصحراء!
وفي ثورة تلك العاصفة يترنم الهتَّاف، فأسمع صوت المسيو دي كومنين يدعوني إلى سهرة(472/8)
تدور فيها أكواب الحديث، وهو لا يقدِّم لأضيافه غير أكواب الحديث، لأنْ العقَل نهاه عن الشراب قبل أن ينهاه الطبيب.
وما كادت العاصفة تسكن حتى سلكت الطريق إلى ذلك الصديق، وهو لا يسلكه عابر في ليله ظلماء إلا إذا كان على مع حبيب
كان المسيو دي كومنين في توحد الليث، فقد قضت ظلمات الأيام الأخيرة بأن يقرّ الناس في بيوتهم، فلا يسمر صديق مع صديق. . . ولا تسأل كيف طابت نفسي حين عرفتُ أنني السمير الوحيد في ذلك المساء، مع رجلٍ صِيغَ روحه من لباب الضياء.
كانت غابة الليسيه في تلك الليلة تكابد الشوق إلى من يتنقل بين أشجارها من وقت إلى وقت، ليُشعرها بأن في الوجود أرواحاً لم تشغلها مزعجات الحوادث عن الاستماع للأغاريد المطوية في ضمير الحفيف. . . وهل تصمت أشجار مصر عن التناجي بالحفيف في أي زمان؟
تحدثنا بجانب كل شجرة، وسلَّمن على كل مكان، حتى المكان الذي أوصى المسيو دي كومنين بأن يدفن فيه، بعد العمر الطويل العريض.
وطال الحديث حتى استغرق أكثر من خمس ساعات، فأستاذنت في الانصراف، بعد أن شكرت للمسيو دي كومنين لطفه البالغ في إمتاع روحي وعقلي بذلك الحديث.
ويهتف هذا الصديق بالسائق ليوصلني بالسيارة إلى داري، فلا يجده، وينادي الحارس ليصل جناحي بضع خطوات، فيعرف أنه يرابط في ناحية نائية، فيعلن أسفه على أني أسير وحدي في ذلك الظلام المحفوف بالحتوف، ولكني أطمئنه فأقول: إني لا أعرف ولا أصدِّق أن في الدنيا رجلاً أقوى مني، فليجرب اللصوص حظهم في مصاولتي، إن كان في (مصر الجديدة) لصوص غير سُرَّاق القلوب، وأنا قد نجوت من المعاطب الوجدانية في مصر الجديدة، فما خوفي على جيبي وقد نجا قلبي؟!
كان الطريق موحشاً أعنف الإيحاش، وكان الليل كأنه الليل!
طاخ، طاخ، طاخ!!!
وألتفت فإذا المدافع تنطلق من كل صوب، ولم يسبقها نذيرٌ من صفارة أو بوق، وأنظر فأرى لهيبها ودخانها يثوران فوق رأسي، فأسرع بالدخول في بيت بلا أبواب، بيت لا يزال(472/9)
في مهد البناء، والمصريون لا يكفّون عن البناء ولو ارتفعت تكاليفه إلى عشرات الأضعاف.
طق، طق، طق!!!
وألتفت مرة ثانية فأرى الأخشاب التي تحمل السقف مهددة بالسقوط، فأقفز إلى الفضاء، وقد اخترت لون الموت، وللموت ألوان: رأيت الموت بشظية مِدفع أفضل من الموت بسقوط تخشيبة، كما أن الموت بالبِطنة أفضل من الموت بالجوع!
ثم نظرت فرأيت الضرب ابتعد، فهو ضرب طيارة إنجليزية تطارد طيارة ألمانية، وقد أفلح الضرب فسقطت الطيارة المطارَدة عند الكيلو رقم 3 بطريق السويس، وكفى الله رأسي شر الهلاك، وضاعت الفرصة على أعدائي، فلم يحبّروا المقالات الطوال في: (مصرع الملاكم الأدبي): والمستميت لا يموت، كما قال الحكماء!!
أفي هذه الأيام نقرأ ونكتُب، ونحاسب هذا الشاعر، ونصاول ذلك الكاتب؟!
نعم، ثم نعم. . . فليحاول الدهر بأحداثه وخطوبه زعزعة الفكر الثاقب والقلم البليغ!
محمد زكي مبارك(472/10)
شعر علي ابن أبي طالب
للأستاذ السيد يعقوب بكر
(تتمة)
هل علي حقاً صاحب الديوان المنسوب إليه؟
لعلّنا ملزمون، بعد أن انتهينا إلى أنه كان من الشعراء، بأن نصل إلى رأي في هذه المسألة: وهي هل علي حقاً صاحب الديوان المنسوب إليه؟ ولقد وصلنا فعلاً إلى رأي في هذه المسألة، ولكننا نحب قبل أن نذكره أن نذكر آراء بعض العلماء فيها:
فهناك رأي للأستاذ بروكلمان ذكره في كتابه سالف الذكر حيث يقول (ح1 ص 43): (ليس من شك في أن عليّا كان ذا ملكة شعرية، ولكن المشكوك فيه كثيراً وجود قصائد صحيحة له في ديوانه؛ وإلى جانب ذلك فإن هذه القصائد تحمل طابعاً من انتحال شيعي بلغ من البدوّ للعيان حدّا جعل النقاد من أهل السنة فيما مضى يدركون زيْفها)
وهناك رأي آخر للأستاذ هداية حسين ذكر الأستاذ بروكلمان في ملحق كتابه السابق؛ فقد قال (ح1 ص 73) إنه - أي هداية حسين - وصل إلى أن ناظم الديوان هو قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي (توفي 573 - 1177).
وهناك رأي أخير للأستاذ مستقيم زاده ذكره (هيار) في كتابه حيث يقول (ص 252): (وأكد الشارح مستقيم زاده أيضاً أنه (الحديث عن الشريف المرتضي) الناظم الحقيقي للديوان المنسوب إلى علي الذي لم يكن يستحيل عليه شيء).
فهذه آراء ثلاثة ذكرناها لنصوّر ذلك الاختلاف الشديد حول الديوان ونسبته، ولنخرج من هذا الاختلاف الشديد إلى رأي لنا في هذه المسألة نحن نستريح إليه ونرجو أن يستريح إليه القارئ أيضاً:
لا يمكن القول أن جميع ما في الديوان ليس لعلي؛ فهذه دعوى ينقصها من أساسها أنه قد ورد في هذا الديوان الشعر الذي وجدناه في تلك المراجع العربية المعتمدة سالفة الذكر والذي كان وجد إننا له فيها مما حملنا على التسليم بصدق نسبته إلى علي. فالبيتان المذكوران في عيون الأخبار تجدهما في الديوان ص 58 مع تغيير بسيط، والأبيات(472/11)
المذكورة في معجم الأدباء تجدها ف ص32 وص 63 مع بعض الزيادة والتغيير، والرجز المذكور في مقاتل الطالبيين تجده في ص33 مع زيادة وتغيير كثيرين، والأبيات المذكورة في العمدة مذكورة في ص 64 وص 65 مع زيادة وتغيير كثيرين، والأبيات المذكورة في حماسة البحتري تجدها في ص 30 وص 12 مع بعض الزيادة والتغيير، والرجز المذكور في الكامل تجده في ص 18 مع بعض الزيادة، والأبيات المذكورة في العقد الفريد تجدها في ص 65 مع زيادة وتغيير غير قليلين.
وإذن فالصواب هو أن بعض ما في الديوان لعلي، وبعضه الآخر ليس له. وهذا البعض الآخر إنما نستدل على أنه ليس لعلي بعدّة أشياء:
1 - أن بعض المتقدمين نبّه على أن بعضه ليس لعلي:
(ا) يقول ابن هشام في سيرته (ج2 ص 635 - 636 ط جوتنجن): (قال ابن اسحق وقال علي ابن أبي طالب رضوان الله عليه قال ابن هشام قالها رجل من المسلمين في يوم أحد فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالشعر ولم أر أحداً منهم يعرفها لعلي رحمه الله:
لا هُمَّ إن الحارث بن الصَّمَّهْ ... كان وفيّا وبنا ذا ذمّه
أقبل في مهامةٍ مُهِمَّهْ ... كليلة ظلماء مذلهمّهْ
بين سيوف ورماحٍ جَمّهْ ... يبغي رسول الله فيما ثمّه
وهذه الأبيات مذكورة في الديوان ص 66 مع تغيير كثير.
(ب) ويقول ابن هشام أيضاً (ص 656 - 657): (قال ابن إسحاق وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يذكر إجلاء بني النضير وقتل كعب بن الأشرف قال ابن هشام قال رجل من المسلمين غير علي ابن أبي طالب فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالشعر ولم أر أحداً منهم يعرفها لعلي رضي الله عنه:
عرفت ومن يعتدل يعرفِ ... وأيقنت حقاً ولم أصدفِ
الخ).
وهذه القصيدة مذكورة في الديوان ص 42 مع تغيير بسيط
(جـ) ويقول الطبري (الجزء الثالث من القسم الأول، ص 1426 ط ليدن): (وزعموا أن عل ابن طالب حين أعطى فاطمة عليهما السلام سيفه قال:(472/12)
أفاطم هاك السيف غير ذميم ... فلست برعديد ولا بُمليم
لعمري لقد قاتلت في حبّ أحمد ... وطاعة رب بالعباد رحيم
وسيفي بكفي كالشهاب أهزّه ... أجُذّ به من عاتق وصميم
فما زلت حتى فضَّ ربي جموعهم ... وحتى شفينا نفس كل حليم
والأبيات مذكورة في الديوان (ص 65) مع زيادة فيها وتغيير كثير.
2 - أن بعضه يحمل طابعاً شيعياً:
فمن هذا البعض القصيدة التي في (ص 3) من الديوان، والتي مطلعها:
وما طلب المعيشة بالتمنِّي ... ولكن أَلق دلوك في الدِّلاء
فإنها تنتهي بهذا البيت:
وهذا العلم لم يعلمه إلا ... نبيّ أو وصيّ الأنبياء
وغير خاف ما في (وصي الأنبياء) من دلالة.
ومنه القصيدة التي في (ص 48) وهي:
بُنيَّ إذا ما جاشت الترك فانتظر ... ولاية (مهديّ) يقوم فيعدل
وذلَّ ملوكُ الظلم من آل هاشم ... وبويع منهم من يلدَّ ويهزل
صبيَّ من الصبيان لا رأي عنده ... ولا عنده جِدْ ولا هو يعقل
فثمَّ يقوم القائم الحقُ منكم ... وبالحق يأتيكم وبالحق يعمل
سمَّي رسول الله نفسي فداؤه=فلا تخذلوه - يا بَنيَّ - وعجلوا
فغير خاف ما في القصيدة من حديث عن المهدي المنتظر.
3 - إن معاني بعضه أو أسلوبه مما لا يمكن صدوره عن علي أو في عصر علي:
فالقصيدة الواردة في (ص 4) من الديوان والتي مطلعها:
لبيك لبيك أنت مولاه ... فارحمُ عُبيْدا إليك ملجأه
مما لا يمكن صدوره عن علي؛ ففيها تصوير لحديث بين علي والله ولا شك أن عليَّا يتحرَّج من مثل هذا، وأغلب الظن أن مثل هذه القصيدة من وضع أحد متصوفي الشيعة.
والبيتان الواردان في (ص 4) أيضاً وهما:
دع ذكرهن فما لهن وفاء ... ريح الصبا وعهود دهن سواء(472/13)
يكسرن قلبك ثم لا يجبرنه ... وقلوبهن من الدواء خلاء
مما لا يصدر عن علي، إذ هما في الغزل، والغزل مما يتحرَّج منه عليَّ
وكذلك الأبيات الواردة في ص 18 وهي:
جنبي تجافى عن الوساد ... خوفاً من الموت والمعاد
من خاف من سكرة المنايا ... لم يدر ما لذة الرّقاد
قد بلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد
لا تصدر عن علي؛ إذ أن مثله لا يخاف الموت أو المعاد.
وهناك قصائد تظهر فيها ركة الأسلوب بحيث لا يمكن القول بأنها صدرت في عصر علي. ونضرب مثلاً لذلك القصيدة الواردة في ص 3 - 4 من الديوان ومطلعها:
وكم ساعٍ ليثري لم ينله ... وآخر ما سعي لحق الثراء
والبيتين الثلاثة الواردين الثلاثة في ص 7 وهما:
الدهر يخنق أحياناً قلادته ... عليك لا تضطرب فيه ولا تثب
حتى يفرجها في حال مدَّتها ... فقد يزيد اختناقاً كل مضطرب
والأبيات الواردة في ص 15 وأولها:
قد رأيت القرون كيف تفانت ... درست ثم قيل فكانت
والبيتين الواردين في ص 24 وهما:
أغض عينا على القذى ... وتصبَّر على الأذى
إنما الدهر ساعة ... يقطع الدهر كلَّ ذا
والأبيات الواردة في ص 25 وأولها:
عسى منهل يصفو فيروي ظمية ... أطال صداها المنهل المتكدِّر
ثم هناك قصيدة على نمط ألفية ابن مالك في آخر الديوان، لا شك في وضعها، لأن ذلك النمط من القصائد لم يكن موجوداً في عصر علي وإنما جاء في عهود متأخرة.
ثم إننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذه الأشعار الموضوعة لم يضعها شخص بعينه؛ وبذلك لأنها متفاوتة الأسلوب، ففيها القويُّ الرائع وفيها الضعيف الركيك. وإنما الذي نراه أن هذه الأشعار قد وضعها أناس مختلفون معظمهم من الشيعة، ونسبوها إلى علي حبا فيه ورغبة(472/14)
منهم في إسناد فضلهم في نظم هذه الأشعار إليه. ثم جاء جامع الديوان، فجمع كل ما عثر عليه من الشعر المنسوب إلى علي دون أن يميز بين صحيح النسبة وباطلها، ودون أن يفرِّق بين المصادر التي ذكرت فيها هذه الأشعار فينتقل عن الوثيق منها ويضرب صفحاً عن المتهم. فهذا إجمال رأينا في الديوان.
دراسة شعره الصحيح
هذا القسم الثالث من البحث لا بد منه لكي يتمَّ هذا البحث ويستكمل فروعه. غير أننا لسنا في حاجة الآن إلى تناوله؛ فقد سبق أن قلنا في الخطوة الثالثة من البرهان على أن علياً كان من الشعراء، ما يصلح أن يوضع هنا.
(تم البحث)
السيد يعقوب بكر(472/15)
من أدب الحرب
عندما يعود السلام!
عندما يعود السلام
سوف أضيء كل مصابيح منزلي
وسأفتح كل نافذة فيه على مصراعيها
وستنعكس الأنوار على صفحة البحر فيبدو منظرها الرائع فاتناً فوق الأثباج، ويتراقص ضوءها اللامع فوق الأمواج
سوف أعود ثانية فأضيء الأنوار في جميع جنبات الدار
عندما يعود السلام
عندما يعود السلام
سوف أسير في القمراء فوق الغبراء، وقد أشرقت بالضياء،
وسأنظر إلى القبة الزرقاء، وهي في سكون وصفاء
وسأعود إلى عشق الليالي المقمرة من جديد، وأنا جد سعيد،
عندما يعود السلام
عندما يعود السلام
سوف أتملى محاسن الكون وجمال الوجود
وسأمتع ناظري برؤية الغابات والتلال وقد كساها الجليد.
وسوف أسيح في الأرض حتى أبلغ التخوم والحدود!
وسأزور الدول الحرة مرة أخرى
عندما يعود السلام
عندما يعود السلام
سوف ألقى الناس جميعاً بعد طول الفراق، وأطفئ بلقائهم نار الأشواق
سوف ألتقي باخوتي وأصدقائي وأحبتي
سأقابل من ظل باقياً على قيد الحياة
وسأبكي على من قضى بكاء الحزين بالدمع السخين!(472/16)
عندما يعود السلام.
(عن الإنجليزية)
أحمد عبد اللطيف الحضراوي(472/17)
2 - كتاب الإمتاع والمؤانسة
الجزء الثاني
للأب أنستاس ماري الكرملي
3 - أوهام علم الحيوان
جاء في حاشية ص 31: (الأفلاء جمع فِلو بكسر الفاء. وهو المهر الذي لم يبلغ الفِطَام). والمشهور في لغة العراقيين، وهو كذلك في اللغة الفصحى: أن الفلو: المهر إذا فطم، أو بلغ السنة.
وورد في نص تلك الصفحة وفي نحو آخر سطر منها: كما أن الأفعى تأخذ السمَّ من (الأصِلَّة (وضبطت الأصِلَّة بهمزة القطع، وكسر الصاد، وشد اللام، وفي الآخر هاء. وهو لفظ لا وجود له في لغتنا الفصحى، ولعلَّ الناشرَيْن توهما أن الأصلة جمع الصِلَّ بكسر فشد اللام. قلنا: هذا لا يمكن أن يكون عقلاً، ولا نقلاً؛ أما أنه لا يكون عقلاً، فلأن الأفعى لا تأخذ سمها من عدة أصلالٍ، بل من صِل واحد. وأما أنهُ لا يكون نقلاً، فلأن صِلاَّ لا تجمع على أصِلَّة - كأهِلَّة - إنما تجمع على أصلال. وأما الأصلة هنا فزنتها قصبة؛ وهي حية صغيرة، أو عظيمة، قيل: تهلك بنفخها. وهي في نظرنا تعريب (باصلة) اليونانية ومعناها ملكة الحيات؛ وحذفت الباء من أولها ظناً أن الباء زائدة للجرِّ. ولهذا قال التوحيدي: كما أن الأفعى - وهي كل حية سامة - تأخذ السم من الأصلة. كأنه يقول: تأخذ سمها من الأفعى الملكة، كما أن الوالي، أو العامل، يأخذ سطوته وقوته من الملك أو السلطان، وحذفت الباء كما حذفت من فاندلس فقالوا: أندلس.
وفسر الكودن، الوارد في ص 59 بقول الناشرين في الحاشية: الكودن (البغل) قلنا: هذا من باب التوسع لا من باب التحقق، وإلا فالكودن - على ما في ديوان الشارح - الفرس الهجين، والبغل، والبرذون الرومي، إلا أن المسعودي استعملها لهذا الحيوان الهجيْن المتولد من الحصان والأتان، وهذا ما يجب أن نعرفه وندقق النظر في تحقيقه، لأننا أصبحنا في عصر نحتاج إلى هذا التمييز.
وقيل في ص 104: (إن العلماء بطابع الحيوان ذكروا أن الفيلة لا تتولد إلا في جزائر(472/18)
البحار الجنوبية) اهـ وكان يحسن بالناشرين أن يقولا: وقد ثبت اليوم أن الفيلة تكون في بلاد الهند، من غير أن يَحْصرا القول بقولهما: في جزائر البحار الجنوبية لأنها تكون في أفريقية.
وقال المؤلف في ص 14 أيضاً: والزرافة لا تكون إلا في بلاد الحبشة. قلنا: والذي أجمع علياء العلماء بطابع الحيوان أنها تكون في فلوات أفريقية وصحاريها.
وقال المذكور في تلك الصحيفة عينها: (والسمور وغزال المسك لا يكونان إلا في الصحارى الشرقية الشمالية).
قلنا وكان يحسن أن يعلق في الحاشية ما يصحح هذه القالة. فالسمور يُرى في شماليَّ أوربة، وآسية، ويعيش في كمنشكة وألاسكة. وغزال المسك يعيش في جبال آسية الشرقية، ويوجد منه في الصين، والتُبَّت، وبنغال، وديار التَتَر، والتَنْكينَ، كما ذكره علماء الحيوان.
وقال أيضاً في تلك الصفحة: (والعقاب والنعام لا تفرخ إلا في البراري والقفار والفلوات). وجاء في الحاشية: (في ب التي نقلت عنها هذه الزيادة وحدها: (والعطاف)، ولعل صوابه ما أثبتنا (أي العقاب) إذ لم نجد العطاف فيما راجعناه من كتب الحيوان. وفي كتاب (حياة الحيوان): إن من أنواع العقاب ما يأوي إلى الصحارى) أهـ.
قلنا: (لا يمكن) أن يكون الصواب ما أثبته الناشران، فلو فرضنا أن بعض أنواع العقاب يأوي إلى الصحارى، فمن المحال أن يفرخ فيها، لأن العقاب لا تفرخ إلا في أعالي الجبال وشواهق الهضاب. والتوحيدي يوجه النظر إلى أن هذا الطائر الذي يذكر اسمه يتخذ أفحوصَه في البراري والقفار والفلوات، ولا يكون إلا لنوع من القطا وهو الغَطَاط، بالغين المعجمة والواحدة غطاطة. وفي نسخة من حياة الحيوان: يرى العَطَاط بعين مهملة وفتحها كالغطاط بالمعجمة.
وقال المؤلف في تلك الصفحة أيضاً: (والوطواط والطيطوى وامثالهما في الطير لا تفرخ إلا على سواحل البحار وشطوط الأنهار والبطائح والآجام) اهـ
قلنا من معاني الوطواط: الخفاش لضرب من خطاطيف الجبال. وكل منهما لا يفرخ على سواحل البحار ولا على شطوط الأنهار ولا على شواطئ البطائح والآجام. فيجب أن نأتي باسم طائر يشبه لفظ الوطواط ويعشش في المواطن المذكورة وهذا الطائر يسمى اليوم في(472/19)
أنحاء البطائح في العراق البيبط أي
وتلفظ البيبط بكسر الباءين ومن الغريب أن هذا اللفظ معروف بهذا الضبط في فلسطين على ما صرَّح به القانوني تدسترام في ص 402 من كتابه. وذكره أيضاً دنبي وكذلك دوماس وذكره شربونو بصورة بيبيط بياء زائدة قبل الآخر. وسماه الدكتور حنا أبقاريوس بوطيط وغناج في ص 588 من معجمه الطبعة الثالثة. وسماه الكبتن هـ. ف. س امرى في معجمه الإنكليزي العربي في ص 204 هدهد (كذا). وسماه الأب بلو اليسوعي في معجمه الكبير الفرنسي العربي: طائر طويل الرجلين (كذا). وفي معجم الدكتور سعادة الإنكليزي العربي: نباح وطاتويت وفي معجم ج. ج. مارسيل الفرنسي العربي: بيبط بكسر الباء الأول وفتح الثالث.
قلنا والأصل هو بيبط مشتق من البط لأنه مغرم بالطين والتردد إليه، وسكناه الآجام والمستنقعات وهو يبطبط فيها: أي يدخل منقاره فيها وفي أوحالها وأطيانها، ويبحث فيها عن طعامه من دود وحشرات مسمعاً صوتاً يحكي: بط بط بط، ومنه اسم البط أيضاً واسم هذا البيبط. وأما أبو طيط وبوطيط في لغة عوام بعض الشاميين فهو من تصحيف البيبط. ونحن لا نشك أن الطيبط هو اللفظ الذي كان معروفاً في أنحاء البطائح منذ عهد العباسيين، وهو أيضاً اللفظ الذي عرفه التوحيدي.
وجاء ذكر الذر في حاشية ص 105 عند قول الناشرين: الذر النمل الأحمر الصغير. قلنا ونحن العراقيين نعرف الذر إلى يومنا هذا ونريد به صغار النمل بغض النظر عن لونه؛ وهو بهذا المعنى ورد في كلام اللغويين والبلغاء والكتاب الحذاق والأدباء البصراء.
وقيل في ص 108: (وكذلك اللُك فإنه (طل) يقع على نبات مخصوص ينعقد عليه) قلنا: والمشهور أن اللك ليس طلاً بل هو صمغ، أو راتينج، أو كما يقول علماء العرب: لثيً يسيل من بعض الأشجار في الهند كالتَّيْن الهندي، والتيْن الدَّيِّن، والعوسج العُنابي، ونظائرها، ويخرج بعد أن تجرحه أنثى حشرة نصفية الجناح أسمها الحبة اللكية فإذا ثحن هذا اللثي، تبيض فيه الهامة وتفرخ.
وفي تلك الصفحة عينها: (وكذلك الدُرُّ فإن طل يرسخ في أصداف نوع من الحيوان البحري، ثم يغلط ويجمد وينعقد فيه) - والمشهور اليوم عند المحققين أن الدرة إفراز يحدث(472/20)
أثر خدش تخدشهُ دُوَيْدَة، أو هي حبة رمل تقع في صَدَفَة حيوان هلاميَّ فتنحبس فيها، فتتحول درة، وليست بطلٍّ، ولا بندًي كما كان يظنه الأقدمون. فيجب أن تصحح آراء الأقدمين بعد تحقيق العلماء العصريين لها ولا تبقى على حالتها الأولى.
وفسر الناشران قول التوحيدي في حاشية ص 164 (ينكز) بقولهما: من النكز: وهو لسع الحية بأنفها، ومعلوم اليوم أن الأفعى لا تنكز بأنفها كما هو رأي الأقدمين، وإنما تنكز بناب في أعلى مقدم فمها؛ أما إذا أريد بالأنف هذه الناب، فالتعبير صحيح، وإلا فيجب أن يعدل عنه إلى ما يوافق تقدم العلم وتحقيقات المتخصصين فيه.
ومما يتعلق بعلم الحيوان، وبتعبير أصح، بعلم المواليد ما جاء بخصوص الماس. فقد ورد في ص 109: (ويقال: لا يوجد الماس إلا في معدن الذهب في بلد من ناحية المشرق) - قلنا: إنه يوجد في رمال الذهب في الهند، والبرازيل والأورال، فكان يجب أن تزاد هذه الكلمات.
(بغداد)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(472/21)
ترتيب القرآن
للأستاذ أبو طالب زيان
في العدد 470 من (الرسالة) سؤال الأستاذ عبد الله رشيد الكاتب عن القاعدة التي رتبت السور القرآنية بموجبها. أو روعي في ترتيبها كبر السورة أو سبق النزول. والأديب يوّجه الأدباء والمفكرين لبحث هذا الموضوع الخطير أسوة بالمواضيع الفذّة التي تتناولها الرسالة الغراء. ونحن مع تقديرنا لصاحب الرسالة نرجو أن يتسع المجال لمناقشة هذا الموضوع، والاهتداء إلى نتائجه القويمة عليها الباحث الفطن، وتأخذ الناشئة إلى البحث النبيل والطريق المستقيم.
ولا بد لنا من لمحة يسيرة حول ترتيب الآيات قبل الخوض في ترتيب السور ليستبين للقارئ الغرض الذي يرمي إليه الباحث. فقد أجمعت الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على النهج الذي نراه اليوم في المصاحف كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى. ولا مجال للرأي والاجتهاد في هذا، فقد كان جبريل عليه السلام ينزل بآيات القرآن منجمة فيوحيها إلى النبي عليه السلام ويدله على موضع كل آية من سورتها، فكان عليه السلام يبلغها للصحابة، ويأمر كتاب الوحي بكتابتها ويقول: (ضعوا هذه الآية في المكان الذي يذكر فيه كذا وكذا. وكان جبريل يعارضه بالقرآن في رمضان من كل عام مرة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤه في مدارسته له مرتب الآيات على النحو الذي نراه اليوم في المصاحف، حتى إذا تم نزول القرآن كانت كل آية مرتبة في سورها، وقد حفظها عنه الصحابة بترتيبها. فلما كان زمن أبي بكر وأراد جمع القرآن لم يكن عمله متناولاً لترتيب الآيات، وإنما كان مقصوراً على جمع القرآن بين دفتي مصحف واحد خشية عليه من التفرق والضياع إذا استمر القتل في حفاظه، ثم نسخ المصحف من عهد عثمان إلى عهدنا هذا مرتب الآيات كما تلقاها الصحابة عن الرسول صلوات الله عليه. وقد نقل الإجماع عن هذا كثير من العلماء منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر ابن الزبير في مناسباته. وروى ابن وهب عن مالك قال: إنما ألف قرآن على ما كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا الإجماع ما ورد من النصوص الدالة على أن ترتيب آياته توقيفي، تفصيلاً وإجمالاً.(472/22)
فمن هذه النصوص ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عثمان ابن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) إلى آخرها. فهذا الحديث صريح في أن جبريل علمه موضع هذه الآية من سورتها وكذلك كان دأبه في كل آية.
ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان ابن عفان (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً) نسختها الآية الأخرى فلن تكتبها أو تدعها. قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً من مكانه. فهذا الحديث صريح في أن إثباتها في مكانها من سورتها توقيفي، وأن عثمان وجدها مكتوبة في المصحف المنقول مما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغيرها من مكانها لأن هذا أمر لا مجال فيه للرأي. ومنها ما رواه مسلم عن عمر قال: بإصبعه في صدري وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء. فهذا الحديث يدل على أن آيات السور كانت مرتبة معلومة الترتيب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان معلوماً ما هو مقدم منها وما هو مؤخر؛ ولذلك قال النبي لعمر: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء فعين موضعها من السورة. وتلك الآية هي قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. . . الخ) ويدل على أن ترتيب الآيات توقيفي أيضاً ما ثبت في السنن الصحيحة من قراءته عليه السلام لسور عديدة كسورة البقرة وآل عمران والنساء، وما ورد في البخاري من قراءته سورة الأعراف في صلاة المغرب. وروى النسائي أنه قرأ سورة قد أفلح المؤمنون في صلاة الصبح. وقد كان عليه السلام يقرأ هذه الصور مرتبة الآيات بمشهد من الصحابة فتلقوا عنه ترتيب الآيات. وما كان الصحابة ليرتبوا القرآن ترتيباً مخالفاً لترتيب الرسول وهم أحرص الناس على أتباعه. فثبت بهذه النصوص أن ترتيب الآيات توقيفي لا مجال فيه للرأي وعلى ذلك انعقد الإجماع، فليس لأحد أن يغير في ترتيب الآيات فيقدم بعضها على بعض فإن ذلك بدعة ضالة لا يجوز الإقدام عليها.
أما ترتيب السور وتقديم الطوال منها، تم تعقيبها بالمئين، ثم بالمثاني، ثم بالمفصل، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء؛ وأشهر مذاهبهم في ذلك ثلاثة:(472/23)
الأول: أن ترتيبها كان باجتهاد من الصحابة. وقد مال إلى هذا الرأي الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، والقاضي أبو بكر في أحد قوليه.
الثاني: أن ترتيبها كان توقيفاً من رسول الله صلى الله علية وسلم ما عدا الأنفال وبراءة، فإن وضعهما في موضعهما كان باجتهاد عثمان رضي الله عنه ووافقه عليه الصحابة. ومن ذهب إلى ذلك البيهقي المحدث المشهور في كتاب المدخل، والسيوطي في كتاب الإتقان.
الثالث: أن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كان بتعليم النبي عليه السلام. وقد ذهب إلى ذلك جمع كبير من العلماء منهم أبو بكر بن الأنباري، والكرماني، والطيبي، وأبو جعفر النحاس وآخرون غيرهم. . .
استدل القائلون بأن ترتيبها كان باجتهاد الصحابة بأن مصاحف السلف من الصحابة كانت مختلفة في ترتيبها؛ فمنها ما رتبت فيه السور على حسب نزولها فجعل أوله سورة اقرأ، ثم المدثر، ثم نون، ثم المزمل. وهكذا إلى آخر السور المكية، ثم السور المدنية على حسب نزولها كالمصحف الذي نسبوه إلى علي رضي الله عنه. ومنها ما رُتِّب على خلاف ذلك كمصحف ابن مسعود الذي جعل أوله البقرة ثم النساء ثم آل عمران، وكمصحف أبي بن كعب. ولو كان ترتيب السور توقيفاً لما كان بينها اختلاف في ذلك.
وهذا الاستدلال ضعيف من وجهين: الأول. أنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن ترتيب بعض السور كان معلوماً في حياة النبي. الثاني: أن زيد بن ثابت الذي أسند إليه عثمان رياسة الجمع الذين رتبوا مصاحفه ونسخوها قد شهد العرضة الأخيرة للقرآن، وعلم ترتيب السور من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس من المعقول أن يحدث من عنده ترتيباً للسور غير ما علمه من رسول الله لأن ذلك لم يكن من عادتهم، فلا بد أن يكون ترتيبه للسور هو عين ما سمعه من رسول الله، ولذلك لم يرتض المحققون هذا الرأي.
واستدل أصحاب المذهب الثاني على أن ترتيب السور ما عدا الأنفال وبراءة كان توقيفاً بما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع(472/24)
الطوال؟ فقال عثمان كان رسول الله تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: (ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من أواخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يُبَيّن أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال. فهذا الحديث صريح في أنه وضع الأنفال وبراءة في موضعهما من المصحف كان باجتهاد عثمان، لأنه نسب وضعهما إلى نفسه ولم يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأما ما عداهما من بقية السور فلا بد أن يكون عثمان قد أتبع فيه ما علم من الرسول صلوات الله عليه.
وقد نازعهم أصحاب المذهب الثالث في الاستدلال بهذا الحديث. أما من جهة سنده فقد قالوا إن الترمذي - وهو أحد رواته قال فيه إنه أحسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس: 1هـ: والجزء الحادي عشر من تهذيب التهذيب لابن حجر يقول: إن المحدثين اختلفوا في يزيد هذا هل هو يزيد بن هرمز المشهور بأنه ثقة أو هو غيره؟ ثم قال والصحيح أنه غيره. وقد قال علي بن المديني: ذكرت ليحيى بن سعيد قول ابن مهدي إن يزيد الفارسي هو ابن هرمز فلم يعرفه. وكفى بذلك دليلاً على جهالة حاله. وقال أبو حاتم فيه لا بأس به أقول؛ ومثل هذا الرجل الذي لم يعرف حاله لا يصح الاعتماد على حديثه الذي انفرد به في ترتيب القرآن.
وأما من جهة متنه، فإن التمسك به يثير غبار إشكالات نحن في غنى عنها، لأنه يدل على أن آخر الأنفال لم يكن معلوماً بيقين؛ وكذلك أول براءة، بدليل أن عثمان ظن أن براءة من الأنفال، ولذلك لم يضع بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا يفتح باباً واسعة لشبهة فرقة جوزت الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك باطل باتفاق السلف والخلف. ويبعد جدًّاً إلا يبين الرسول آخر الأنفال وأول براءة. ويضعف التمسك به زيادة عما سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عارض جبريل بالقرآن في آخر سنة من حياته مرتين، فأين كان يضع هاتين السورتين في قراءته؟ فالتحقيق إذاً أن وضعهما في موضعهما توقيفي وإن فات ذلك عثمان أو نسيه؛ وإن بسم الله الرحمن الرحيم لم تكتب في أول براءة، لأنها لم تنزل(472/25)
معها كما نزلت مع غيرها من بقية السور.
واستدل جمهور العلماء على أن اتساق السور كاتساق الآيات كلاهما توقيفي بأنه ورد في أحاديث كثيرة أن ترتيب بعض السور في عهد رسول الله هو عين ترتيبها في المصاحف التي نسخها زيد بأمر عثمان. . . منها ما رواه البخاري عن ابن مسعود يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: أنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي؛ فذكرها نسقاً كما أسفر ترتيبها في المصحف.
وروى البخاري أن عليه السلام كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ (قل هو الله أحد) والمعوذتين، فذكرها مرتبة كما هي في المصحف. وروى مسلم أن صلى الله عليه وسلم قال اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران. فهذه الأحاديث وما شاكلها تدل على أن السور المذكورة فيها كان ترتيبها مسنداً إلى الرسول، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه عليه السلام قرأ القرآن كله بمشهد من زيد بن ثابت، وأن زيداً اختاره أبو بكر لجمع القرآن لقوة الثقة به، وكذلك اختاره عثمان رئيساً لمن نسخوه في المصاحف، تبينا أن هذا الترتيب الذي عمله زيد هو ما علمه رسول الله. . . وهذا ما يطمئن إليه القلب، وهو ما جنح إليه جمهور العلماء. . .
(للكلام بقية)
أبو طالب زيان(472/26)
37 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)
هناك طريق استخارة أخرى، وهي أن يمسك المستخير حبتين من حبات السبحة بعد أن يتلو الفاتحة ثلاث مرات، ثم يعد ما بينهما من الحبات قائلاً عند الأولى: سبحان الله؛ وعند الثانية: الحمد لله؛ والثالثة: لا إله إلا الله؛ ويردد هذه العبارات على التوالي حتى الحبة الأخيرة. فإذا وقعت العبارة الأولى على الحبة الأخيرة، كان الجواب إيجابياً ومناسباً. أما العبارة الثانية، فلا تدل على شيء والأخيرة نافية. ويمارس الكثيرون هذه الطريقة
وكذلك يلتمس البعض عندما يرقدون ليلاً أن يوجههم الله في المنام فيجعلهم يرون شيئاً أبيض أو أخضر أو ماء، إذا كان العمل المنتوي يستصوب، أو إذا كانوا يتوقعون توفيقاً قريباً، وإلا جعلهم يرون شيئاً أسود أو أحمر أو ناراً، فيقرءون لذلك الفاتحة عشر مرات ولا ينقطعون عن ترديد هذه العبارة (اللهم صل على سيدنا محمد) حتى يغلبهم النعاس
يؤمن المصريون بالأحلام إيماناً عظيماً. وكثيراً ما ترشدهم الأحلام في بعض أمور حياتهم المهمة. ولديهم في تفسير الأحلام مؤلفان كبيران لابن شاهين وابن سيرين. والأخير تلميذ السابق. ويستشير المصريون حتى المتعلمون منهم هذين الكتابين بثقة كاملة. وعندما يقول شخص لآخر: لقد رأيت رؤيا، يجيبه الآخر: خير، أو خير إن شاء الله. وقد جرت العادة عندما يرى أحدهم رؤيا سيئة أن يقول: اللهم صل على سيدنا محمد؛ ويبصق من فوق كتفه اليسرى ثلاث مرات لمنع كل شر.
ويوجد في مصر، كما يوجد في أكثر البلدان الأخرى، خرافات تتعلق بأيام الأسبوع فيعتبر بعضها سعيداً والآخر نحساً. ويعتبر المصريون يوم الأحد مشؤوماً بسبب الليلة التي تليه.(472/27)
إذ يعتبر المسلمون ليلة الاثنين منحوسة لأنها ليلة وفاة الرسول (صلعم): غير أن البعض يراها سعيدة للدخول بالعروس خاصة، وإن لم تعتبر موافقة لهذا الأمر بقدر ليلة الجمعة. ويعتبر البعض أيضاً اليوم التالي يوماً سعيداً والبعض الآخر يراه مشؤوماً. أما الثلاثاء فيعتقدون أنه منحوس ويسمى (يوم الدم). إذ يقال إن عدة شهداء أفاضل قتلوا في هذا اليوم، ولذلك يعتبرونه يوماً مناسباً للفصد. والأربعاء لا يدل على شيء. ويسمى الخميس (المبارك) ويستمد بركته خاصة من الليلة واليوم التاليين. ويعتبرون مساء الجمعة سعيداً جداً وخاصة للدخول بالزوجة. والجمعة أبرك الأيام إذ هو يوم الراحة عند المسلمين ويسمى (الفضيلة)، أما السبت فهو أنحس الأيام. ويرون من الخطأ العظيم أن يسافر المرء في ذلك اليوم. ويمتنع أكثرهم عن حلق الذقن أو تقليم الأظافر فيه. وكان أحد أصدقائي متردداً في رفع قضية على خصمين في مثل ذلك اليوم المنحوس. وقرر أخيراً أن ذلك اليوم هو خير أيام الأسبوع لرفع القضية، لأن النحس لا بد واقع على أحد طرفي الخصومة فقط. ولا شك أنه سيقع على خصميه لأنهما اثنان وهو واحد. وهناك أيام من السنة تعتبر ذات حظ كبير من اليمن مثل أيام العيدين الفطر والأضحى. والبعض الآخر يعتبر يوم الأربعاء من الأسبوع الأخير من شهر صفر نحساً، فيعمد الكثيرون إلى البقاء في منازلهم لاعتقادهم أن المصائب تقع على الإنسان في ذلك اليوم. ويستدل بعض الناس على الخير والشر من الأشياء التي يرونها عند خروجهم من المنزل صباحاً؛ فعلى حسبها يكون اليوم سعيداً أو نحساً. ويعتبرون الأعور علامة سوء وخاصة من فقد عينه اليسرى.
الفصل الثاني عشر
السحر والتنجيم والكيمياء
لو صدقنا ما يقصونه في مصر عادة لظهر لنا أن بهذا البلد في هذه الأيام سحرة لا يقلون مهارة عن حكماء فرعون وسحرته الذين تتحدث عنهم التوراة.
ويخلط عقلاء المصريين بين نوعين من السحر: (الروحاني) و (السيميا). والضرب الأول سحر روحي يعتقدون أنه يحدث عجائبه بفعل الملائكة والجن وأسرار بعض أسماء الله ووسائل أخرى خارقة للعادة. والضرب الآخر سحر احتيالي غير موحى به، ويعتقد أقل(472/28)
المسلمين تصديقاً أن أهم عامل في ذلك هو تأثير بعض العطور والعقاقير في البصر والمخيلة تأثير الأفيون تقريباً. ويظن البعض أن الأفيون يستخدم في أعمال هذا السحر الأخير.
وينقسم السحر الروحاني الذي يعتبره المصريون عموماً سحراً صادقاً، إلى (علوي) و (سفلي) أو (رحماني) نسبة إلى الرحمن إحدى صفات الله، و (شيطاني). ويقال إن السحر العلوي والرحماني علم يستند على عون الله وملائكته والجن الصالحين وعلى أسرار شرعية أخرى، وأنه يستخدم دائماً لأغراض طبية وأنه لا يدركه ويمارسه غير الصادقين الذين يتعلمون من الحديث أو القراءة أسماء هؤلاء العاملين الذين يفوقون الطبيعة البشرية، وأدعية تكفل إجابة رغباتهم. وتتصل كتابة الاحجبة لغرض صالح بهذا الفرع من السحر والتنجيم وعلى أسرار الأعداد. وأقصى ما يدرك في السحر العلوي هو معرفة (الاسم الأعظم) وهذا هو أعظم أسماء الله الذي يعتقد المتعلمون أنه لا يعرفه إلا الأنبياء والرسل. ويقال إن من يعرف هذا الاسم يستطيع بمجرد النطق به أن يحيي الميت ويميت الحي وينتقل على الفور حينما يشاء ويأتي بأي معجزة أخرى. ويظن البعض أن أفاضل الأولياء يعرفون هذا الاسم. ويعتقدون أن السحر السفلي يقوم على عمل الشيطان وأشرار الجن، وأن أشرار الرجال يستعملونه لأغراض خبيثة. وإلى هذا الفرع ينسب علم السحر الذي يطلقه العرب على الرقية الشريرة فقط.
ويعمد هؤلاء الذين يمارسون (ضرب المندل)، وسأسرد أمثلة له، إلى تنفيذه بواسطة الجن أي باستخدام علم الروحاني؛ إلا أن هناك رأياً آخر في هذا الموضوع سأذكره تواً. وقد بينت إحدى الوسائل التي يعتقد بعضهم أن الجن يساعدون بها السحرة في الفقرة الثانية من الفصل العاشر.
ويرى المتعلمون أن (السيميا) علم كاذب وفن احتيالي ينتج آثاره المدهشة بتلك الوسائل التي ذكرت سابقاً ويعتبرون أن (ضرب المندل) تابع للسميا بسبب استعمال البخور في إجرائه.
ويدرس الكثيرون في مصر علم النجوم والتنجيم. ويستخدمونه على الأخص لحساب المواليد وتعيين أوقات السعد الخ ولمعرفة أي البروج يخضع له الشخص، ويتم ذلك(472/29)
بحساب القيم العددية لحروف اسم الشخص واسم أمه. وكثيراً ما يكون ذلك في حالة إقدام اثنين على الزواج للتحقق من توافقهما. وقد أخبرت أن (علم الرمل) يسند غالباً على التنجيم. ويزعم القائمون به أنه يكشف الماضي والحاضر والمستقبل بواسطة علامات يرسمونها عرضاً على الورق أو الرمل ومن هنا سمي هذا العلم.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(472/30)
الإرادة والطريق
قطعة رمزية لوليم بليك
سألت لصَّا أن يسرق لي ثمرة شهية،
فنظهر هنا وهناك بين البساتين. وسألت
فتاة جميلة أن ترقد وتهبني أعذب أماني
الحب بلطف وقدسية، فبكت. وحينما
ذهبت هبط ملاك، فنظر إلى اللص
بغضب، والتفت إلى الفتاة بابتسام،
ودون أن ينطق بكلمة سرق لها
ثمرة حلوة وناولها إياها. وبين الجد
والدعابة استمتع بها ومضى. . .
(بغداد)
صفاء خلوصي(472/31)
رسالة العلم
قلوب النجوم
للأستاذ خليل السالم
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ارتأى كين - طبيعي أمريكي - منذ سنة 1870 أن النجوم كتل جبارة من غازات مشتعلة، ولكن رأيه بدا سخيفاً لأول وهلة لأن الفلكيين لم يجدوا نجوماً كثافتها غازية، ولكن هذه العقبة زالت عندما عثروا في النجوم على كثافات تقل جداً عن كثافة الغازات. وهذه الكتل المستعرة من الغاز تحافظ على شكلها في أكثر الأحيان. وتشذ عن هذا القانون النجوم الجديدة التي تلمع في صفحة السماء دون أن يكون لها وجود من قبل. وتعني محافظة النجم على شكله الخاص به أن القوى المؤثرة عليه في توازن مستمر وهذه القوى هي:
1 - قوة الجاذبية بين مختلف أجزاء النجم كقوة التجاذب على الأرض، وهذه القوة تتجه نحو المركز دائماً ولذا فهي تسعى لتجمع أجزاء النجم وتدمج بعضها في بعض، ومن ثم تحشك أجزاءه حشكاً قوياً وتزيد قوة التجاذب على سطح النجوم بحيث يكون وزن الرجل العادي هناك نحو (250) ألف طن، ويبلغ من شدة هذا الجذب على الرجل أن يسقط على السطح وينبسط وتتحطم أعضاؤه كما لو سقطت عليه إحدى ناطحات السحاب.
2 - ضغط الغازات الذي ينتج من حركة الغازات المستمرة واصطداماتها القوية، ويربو ضغط الغازات في النجوم على أربعين ألف مليون ضغط جوي على الأرض؛ والضغط يزيد بازدياد درجة الحرارة، وهذه القوة الناتجة عن الضغط تدفع الغازات المتحركة عن المركز، أي أنها تعاكس فعل الجاذبية وتباعد أجزاء النجم وتمدده.
3 - والقوة الثالثة هي قوة الضغط الإشعاعي، فقد ثبت أن للنور ضغطاً وقوة لم يكونا معروفين قبل السنوات الأخيرة، فقد كان الأستاذ ليبديو في موسكو أول من قاس ضغط الضوء في سنة 1901. وقد تنبأ بوجود هذا الضغط الرياضي الإنجليزي المشهور كلارك مكسويل كما تنبأ بوجود الأمواج الكهرطيسية التي تنقل لنا أعذب أنغام الراديو. وهذا الضغط قوي في القلب إذ من هناك مصدر النور والطاقة. ماذا نعني؟ نعني أن النجوم(472/32)
ليست غازات مشتعلة كما يخيل للبعض بمعنى أن النور والحرارة القادمين منها يحدثان نتيجة ذلك الاحتراق العادي. كلا. إنما ينتج النور والحرارة من تحطم الذرة في قلب النجم، وهذا التحطم وإن لم يدخل ضمن تحقيق المختبر إلا أن بعض الظواهر المكتشفة حديثاً عززت هذا الرأي وإن لم تقطع بصحته. وهذا التحول عفوي ذاتي، كما أن إشعاع الراديوم عفوي ذاتي لا ينتظر مؤثراً خارجياً ليتم بفصله. وهذا الفناه يحدث بعد تصادم الكهيرب المتحرك بسرعة عظيمة مع النواة فيمسك كل منهما الآخر بعد الاصطدام، ويتعادلان كهربائياً وينطلق الفوتون أو وحدة الضوء كمظهر جديد لطاقة الكهيرب والنواة السابقة. هذا الفوتون ينطلق من المركز وتكون موجته قصيرة فيجاهد ويجاهد لينفذ إلى السطح، ولا يتسنى له المخرج إلا بعد جهد لطول موجته بعدهما. ولكثرة الفوتونات في القلب وشدة محاولتها الانطلاق والانبعاث يكون ضغط الضوء الإشعاعي أضعافاً مضاعفة للضغط على السطح، ويبلغ هذا الأخير في بعض النجوم (170000) طن على البوصة المربعة، ويزيد الضغط بازدياد درجة الحرارة أيضاً، واتجاه محصلة قوته عكس اتجاه قوة الجاذبية إي إنه يدفع المادة عن المركز ويفرقها كما يفعل ضغط الغازات الآنف الذكر
بقى أن نشير إلى حرارة النجوم في بواطنها. ولا يسعني بادئ ذي بدء إلا أن أحمد الله على أن اختار لنا هذه الشمس لنستمد منها نورنا وحياتنا، فلو قدر أن يكون نجم كالشعري اليمانية مثلاً مكان شمسنا، لزال في لحظة واحدة كل أثر للحياة على الأرض، ولجفت الأنهار وتبخرت المياه وذهبت الأرض والتهبت ذراتها شذر مذر. فالحرارة على هذا النجم عجيبة لا يتسع لها أوسع الخيال. ومثله كثير من النجوم لا تقل درجة حرارتها عن 40 مليون درجة مئوية، وفي بعض النجوم الحمر تنقص عن هذا المستوى العالي. وقد اكتشف الدكتور هتزلر الراصد الأمريكي مؤخراً نوعاً من النجوم لا تزيد درجة حرارته عن ألف درجة مئوية؛ وهذه النجوم مظلمة لا تشرق، إلا أنه تمكن من تصويرها بأشعة الحرارة لا بأشعة الضوء، فبعض الألواح الفوتوغرافية تحس بحرارتها. ويخيل لكثيرين أن قبة الفضاء مملوءة بمثل هذا الصنف من النجوم
تصل حرارة النجوم في قلوب الأقزام البيض إلى ألف مليون درجة مئوية، ولكي تدرك معنى هذه الأرقام أورد مثلاً ضربه العلامة جينز في أحد كتبه قال: لو أخذت شلناً أو قطعة(472/33)
من الحديد بحجم الشلن وسخنتها إلى درجة تقرب من 40 مليون درجة مئوية، فإن الحرارة المنبعثة من هذه القطعة المعدنية الصغيرة تكفي لأن تصعق جميع الحيوانات الحية الموجودة على الأرض. وهذه الحرارة العالية في النجوم لا تترك للمادة أن تتمتع بحالاتها الثلاث: الصلبة والسائلة والغازية، بل تحول الجرم كله إلى غاز ملتهب. ولا تكتفي بهذا، فتعمد إلى ذرات الغازات وتهيج الكهيربات المطوَّفة حول النواة وتفك الأربطة التي تشدها إلى المركز وتقذف بها من أفلاكها الخارجية، فتترك الذرة مؤنية مكهربة. وكثيراً ما تطرد كل الكهيربات بحيث لا تبقى إلا النوى المجتمعة. وهذا ما حدث فعلاً في النجوم الثقيلة، إذ انعدم الفراغ بين النوى وبين مشتت المادة، بحيث أصبح وزن البوصة المكعبة 620 طنًّا، أي أن الرجل العادي يستطيع أن يحمل من هذه المادة حجماً لا يزيد على رأس الدبوس المفرطح. ولو وضعت في يدك قطعة بحجم الجوزة وسقطت على الأرض لأحدثت انفجاراً مروعاً كما تفعل القنابل الثقيلة، وتغور في الأرض كما تغيب قطعة من الرصاص سقطت من عل في لجة الماء
والخلاصة أن قلوب النجوم نابضة بالحياة مفعمة بالحركة ترف كقلوب العذارى. وأجمل تصوير لها وقفت عليه كان بريشة الفنان العظيم أدنفتون في كتابه النجوم والذرات & قال: إن باطن النجوم حشد (مهوَّش) غير منتظم من الذرات والكهيربات والأمواج الأثيرية، وهذه الدقائق تتحرك بسرعة 100 ميل في الثانية، فتفقد ذلك النظام الجميل من الكهيربات. أما هذه الكهيربات المضاعة فإنها لا تجد مكاناً تخلد فيه للحركة والسكون، فتبقى تدور بسرعة (100000) ميل في الثانية؛ وفي كل فترة قصيرة من الزمان تصطدم بإحدى الذرات فتدور عقيب الاصطدام في منعطف أكثر انحناء؛ وبعد كل اصطدام يزداد الانحناء حتى إذا بلغ عدد الاصطدامات حوالي ألف تحدث كلها في جزء من ألف مليون جزء من الثانية يعمل هذا السلوك المحموم غايته فتمسك إحدى الذرات بذلك الكهيرب. . . ولكن شعاعاً سينياً يعكر عليه أمنه وصفوه الجديدين فلا يكاد الكهيرب يستقر به المقام حتى يخرجه ذلك الشعاع عن طوره ويقذف به بعيداً عن النواه، فيطوف من جديد مبتدئاً رحلة جديدة ومخاطرة جديدة. . .
(شرق الأردن)(472/34)
خليل السالم
(ب. ع) من الدرجة الأولى في الرياضيات(472/35)
البريد الأدبي
باي تونس الجديد
قست الحوادث على الصحف المصرية فشغلتها عن وصف ما وقع في تونس الخضراء بموت الباي السابق وقيام الباي الجديد، فرأيت أن أكتب كلمة وجيزة أشرح بها لقراء (الرسالة) جانباً من حياة اليوم في ذلك القُطر الشقيق، نقلاً عما وعته أُذناي من إذاعة تونس العربية، وهو يصور بعض خواطر الناس هناك
الباي الجديد اسمه (محمد المنصف) ولقبه (المنصور بالله) وكان أبوه يلقَّب بالناصر، (ومن كان أبوه الناصر فهو المنصور) كما قال أحد خطبائهم في الاحتفال الذي أقيم بقاعة العرش
وسياق الخطب والقصائد يجعل الباي (صاحب الجلالة الملك) وهذا اتجاهٌ جديد فيما أفترض، وإن كان لقب (الباي) قد احتفظ بقدسيته في الأغاني والأناشيد
ويظهر بوضوح وجلاء أن نظام (البيعة) روعيت أصوله من الوجهة الشكلية، فالباي ورث أباه على العرش، ومع ذلك رأى التونسيون أن يقيموا البيعة بعد توليته بأيام، رعاية للتقاليد الإسلامية، وإن كان الأصل أن تكون البيعة أسبق من الولاية، لأنها بمثابة الترشيح الذي يسبق الانتخاب، وإلا فهي ضربٌ من المُلك العَضُوض
والطريف في هذه القضية أن المبايعين يفِدون من أسبوع إلى أسبوع بنظام وترتيب، فيكون لكل إقليم يوم، ويكون المبايعون من أعيان البلاد في الإقليم، البلاد التي لها شأن في القديم والحديث، وهذا المعنى يشار إليه في الخطب والقصائد بإجمال، ولكنه يذاع على الجمهور بالتفصيل. ولو كانت لنا سياسة عربية صريحة لرأت الإذاعة المصرية أن تسجل ما روته الإذاعة التونسية في هذا الموضوع، ففيه تفاصيل عن الأقاليم التونسية تستحق التسجيل. ولكن أين من يسمع؟!
ومما يجب النص عليه أن الخطب والقصائد التي ألقيت في المبايعة تمتاز بميزتين: الأولى سلامة اللغة من اللحن والتحريف، وذلك يشهد بأصالة العروبة هنالك
الميزة الثانية هي الحرص على القومية الإسلامية. فأكثر الخطب تُختم بعبارة دينية لطيفة، كأن يقول هذا الخطيب: (جعل الله غرر أيامك لائحة، بِسرّ الفاتحة)، وكأن يقول ذلك الخطيب: (حفظك الله في الذهاب والإياب، بجاه النبيّ الأوّاب، وبسرّ فاتحة الكتاب)، وقد(472/36)
التفتّ إلى كلمة (سرّ الفاتحة) فوجدتها وردت في جميع خُطب المبايعين.
وغنَّى المغني في تهنئة الباي قصيدةً حفظتُ منها هذين البيتين:
أضاءت بك (الخَضْرا) فأشرق نورُها ... فأنت عماد الدين ليس يزول
مددتَ علي الإسلام أكناف نِعمةٍ ... بأعطافها ظلٌ عليه ظليلُ
والخضراء لقب تونس، وبه توصف في الأشعار الشعبية المنظومة على لسان الزناتي خليفة وأبي زيد الهلالي. وهما شخصان حقيقيّان، لا خرافيان كما يتوهم جماعة من الخلائق
وإنما نصصت على الناحية الإسلامية، لأن الإسلام في تونس كان أكبر عقبة في طريق الاحتلال الفرنسي. ومع ذلك أن حكومة باريس كانت رأت تشجيع التونسيين على التجنس بالجنسية الفرنسية ليصيروا إلى ما صار إليه الجزائريون، فقرر أهل تونس أن من تجنس بالجنسية الفرنسية فلا يجوز دفنه في مقابر المسلمين، وبهذا صار الخروج على الجنسية التونسية بمثابة الخروج على الدين الحنيف.
وبالرغم من الدعايات الأجنبية في تونس فقد ظل التونسيون غاية في الوفاء بالعهد للعروبة والإسلام، وتلك مزية يشاطرهم فيها اللوبيون والجزائريون والمراكشيون، مع اختلاف قليل في لون العصبية قضت به ظروف لا تخفى على اللبيب.
وإذا تذكرنا أن فتح الأندلس يرجع في الأغلب إلى شهامة العرب في أفريقيا الشمالية أدركنا قيمة تلك البقاع في الحيوية العربية والإسلامية، ولن يمر زمن طويل قبل أن يكون لأولئك الأقوام تاريخ جديد.
وإذا تذكرنا أن (البحر الشامي) كما يسميه التاريخ العربي وهو الذي يسمَّى خطأً (بحر الروم) والذي أسميه (بحر العرب) إذا تذكرنا أن هذا البحر خدم العروبة والإسلام بفضل أبنائه من المصريين والفلسطينيين واللبنانيين عرفنا أنه لن يستغني عن خدمات أبنائه من اللوبيين والجزائريين والتونسيين والمراكشيين، وما أحسبه سيسكت عن ضياع لبنان الثاني وهو الأندلس، وستعرفون صدق هذه النبوءة بعد أزمان قصار لا طوال.
(وقُل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
زكي مبارك
الفدائية(472/37)
ردًّاً على حضرة الأديب مصطفى عبد المجيد جابر أقول:
حين يضحي الإنسان بنفسه إنما يقصد التضحية بموضوع كان خارجاً عن نطاق الذات ثم انطوى عليها فإذا رمى الموضوع أصابه سهمه
(الفدائية) ابنة عم الانتحار، وكلا الفدائية والانتحار يمتان إلى الماسوشية بأوثق الصلات.
إن الباعث على النزوع إلى الفدائية عقد نفسية زودت بطاقات وجدانية كبيرة تحت تأثير ظروف خاصة.
والواقع أن الإنسان أناني على وجه العموم سواء ضحى بنفسه أو بسواه، وليس هناك من هو أوفر أنانية من الهستيري.
إن السمو - الذي يعنيه العرب - غريب عن (الفدائية)، بل ربما كان غريباً عن (البشرية)!
محمد حسني ولاية
مساجلات
أطلعت في مجلة (الرسالة) الغراء على مقال تحت هذا العنوان بتوقيع الأستاذ محمد مندور، وقد أخذتني الدهشة لما وقع نظري عليه من اجتراء الكاتب وإنكاره الحقائق الواضحة فيما كتب الأستاذ العقاد بصدد رسالة الغفران.
إن الأستاذ العقاد لم ينكر فيما يكتب أن أناساً قبل لوسيان سبقوا المعري إلى فكرة الجنة والنار، حتى يعود الأستاذ محمد مندور فيؤكد ذلك.
وإنه لما يخجلني حقَّا أن أعيد هنا ما كتبه الأستاذ العقاد أو أن أشير على الكاتب بأن يعيد قراءته ليتبين أنه كانت لديه مندوحة عن هذا الرد الجاف.
ولكنه أراد أن يرد على الأستاذ العقاد، فكان له ما أراد، وإن كان لم يأت في كلامه بجديد غير ما أكده الأستاذ العقاد في أكثر من مقال، ثم عاد فأكده للأستاذ المندور على صفحات (الرسالة).
وإذا كان ما كتبه الأستاذ العقاد لم يكن مفهوماً لحضرة الكاتب - بعد كل هذا - فليس الذنب في ذلك بواقع على العقاد(472/38)
إن الرحلة إلى العالم الآخر معروفة قبل المعري وقبل لوسيان كما قال الأستاذ العقاد في كلام واضح لا لبس فيه؛ وليس موضوعها بحاجة إلى من ذكرهم الأستاذ مندور لتوكيده
وإن كان هذا لا يمنعنا أن نقول إن لوسيان كان أول من كتب رحلة إلى العالم الآخر، يصح أن يجمع بينها وبين رحلة أبي العلاء من حيث الطريقة والحوار، لا من حيث إنها رحلة إلى الجنة والنار كما ظن الأستاذ مندور
فإذا كان لدى الكاتب شيء غير هذا فليرشدنا إليه
أما حكمه على أدب العقاد فلنترك الحكم عليه للقراء، ما دام صاحبه لم يستطع ولن يستطع أن يدعمه بالحجة والبرهان.
(دمياط)
الجبلاوي
مؤلف في التاريخ العام تنقله وزارة المعارف إلى العربية
روت وكالة الأنباء العربية أن وزارة المعارف تعتزم القيام بأكبر عمل أدبي لم يسبق لها القيام بمثله. وذلك بنقل المؤلف القيم العظيم الذي وضع بالإنجليزية، ليكون مرجعاً لرواد التاريخ بعنوان التاريخ العام - إلى العربية. ويشتمل هذا السفر الفذ على مليونين ونصف مليون كلمة
وقد تحدث السير جون هامرتون ناشر الكتاب إلى وكالة الأنباء العربية في هذا الشأن؛ فقال إن السير والتر مونكتن كان له كبير الفضل في تيسير هذا العمل وتذليل مهمته
والمعروف أن السير جون هامرتون ومعاونيه قضوا أكثر من عامين في وضع هذا المجلد الضخم الذي ساهم في كتابة فصوله مائة وخمسون كاتباً من الكتاب المبرزين
وقد قال خلال حديثه السالف الذكر: لم يكن يسعني عند وضع هذا الكتاب وجمع فصوله، إلا الشعور من جديد بالإعجاب والاغتباط بذلك النصيب الكبير الذي ساهم به العقل العربي في تأسيس ثقافة العالم الإنساني وتكوين حضارته. وإني لفخور بأن جمهور قراء العربية في مصر والشرق الأوسط سوف يجدون في هذا المؤلف الضخم خير شاهد على جهود الإسلام في بناء الحضارة الإنسانية والتقدم العلمي. وإن إصرار وزارة المعارف على نقل(472/39)
الكتاب برمته دون الاكتفاء بترجمة مختصرة له لدليل رائع على أن الغذاء الروحي لم يستغن عنه في هذا العهد الذي يسوده الهدم والتخريب
طيلسان ابن حرب
جاء في ديوان إسماعيل صبري باشا ص 96 ما نصه: (طيلسان ابن حرب يضرب به المثل في القدم والبلى؛ وسبب ذلك أن ابن الرومي الشاعر المعروف كان قد مدح ابن حرب فخلع عليه طيلساناً بالياً، فقال في ذلك الطيلسان شعراً كثيراً حتى صيره مثلاً لكل ما بلى ورث. فمن ذلك قوله:
يا ابن حرب كسوتني طيلساناً - رقّ من صحبة الزمان وصدا
طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى)
وليس من شك في أن هذا القول لا نصيب له من الصحة؛ فالذي نعرفه أن محمداً بن حرب أهدى إلى الحمدوني طيلساناً خلقاً، وكان الحمدوني يحفظ قول أبي حمران السلمي في طيلسانه الذي يقول فيه:
إذا ارتداه لعيد أو لجمعته ... تنكب الناس لا يبلى من النظر
فجارى الحمدوني أبا حمران حتى بلغ ما قاله في طيلسانه حوالي مائتي مقطوعة منها:
يا ابن حرب كسوتني طيلساناً ... مل من صحبة الزمان وصدا
طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى
ومن ذلك نتبين أن البيتين للحمدوني وليسا لابن الرومي كما زعم الأستاذ شارح الديوان. ولعل اختلاط الأمر على الأستاذ جاء من أن ابن الرومي كان ممن قالوا شعراً في هذا الطيلسان نفسه
(المياسرة)
عوض الدحة
أين أخبار حافظ
شُغلت منذ حين بدراسة الناحية الفكاهية في حياة شاعر النيل المرحوم حافظ بك إبراهيم، إذ كان أعجوبة في مرحه ولهوه ودعابته، واقتضى ذلك البحث أن أجمع ما يمكن من الملح(472/40)
والطرف التي نسبت إلى هذا الشاعر الضحوك، فماذا كان من شأني؟. . .
تعددت مني الأسباب وتنوعت الأساليب، وراجعت شتى المصادر ومختلف الكتب والصحف، فجمعت من طرف حافظ، بعد اللتيا والتي، عشرات وعشرات؛ ولكن بعض أصدقائه يؤكد لي أن طرفه تزيد على مئات ومئات، فأين أجد هذا الزاد الأدبي النفيس؟. . .
لقد حسبت أن أصدقاء حافظ القدامى يعرفون من أخباره وأسراره ما لا يعرف أبناء هذا الزمان، فسألت شاعر القطرين مطران بك عما يعرفه فأجاب؛ إني نسيت! وسألت الدكتور مبارك فأجاب إني مشغول! وسألت الأستاذ البشري فما أجاب! وسألت الأستاذ عبد الله عفيفي بك، فأحالني على مجموعة قصاصات المرحوم محمد مسعود بك، ففزغتُ إليها لدى ولده الدكتور يحيى مسعود فاعتذر بأنها لم ترتب بعد، وأن الاطلاع عليها لن يتيسر قبل شهور! وسألت الدكتور منصور فهمي بك، فأحالني على فريق من أدباء دار الكتب الذين عاشروا حافظاً، فوجدت عندهم طرفة من هنا وطرفة من هناك، ثم. . . ثم اعتذار ببعد الشقة وداء النسيان! ثم سألت كثيرين غير هؤلاء فما تحقق لي رجاء! فأين أجد أخبار (حافظ) - أيها الناس - وقد مات في عام 1932، فهو لم يمض عليه أكثر من عشر سنوات؟ أين أجد أخبار حافظ، وقد كان بالأمس القريب ملء الأسماع والأبصار والقلوب؟. . . وماذا يكون حديث الأجيال القادمة عن حافظ وإخوانه من الأدباء والذين عاشروهم لا يعرفون عنهم ما يخف في الميزان أو يثقل؟. . . وماذا عندكم أيها الأدباء؟
(البجلات)
أحمد الشرباصي(472/41)
العدد 473 - بتاريخ: 27 - 07 - 1942(/)
الحديث ذو شجون
الوفاء للوطن الغالي
للدكتور زكي مبارك
عند هذه الكلمة ترنَّم الهتَّاف بعد انتصاف الليل. . . فمن الهاتف؟
هو أديب من قراء (الرسالة) أراد أن يستفهم عن معنى القول بأن المسيحية تؤَّخ في كل أرض بميلاد المسيح، وتؤَّرخ في مصر بعذاب الشهداء
وما كدت أنتهي من شرح هذا المعنى، حتى هتف ذلك الأديب داعياً أن يجعل الله الوطنية من عقائد الشباب في هذا الجيل
فمن أنت أيها الفتى؟
وما قيمتُك في نفسك وفي نفس إخوانك؟
هل تعرف وهل يعرفون أن اهتمامك بكلمة في تمجيد وطنك هي الشاهد على أنك مصريٌّ أصيل؟
أنا أدعو لك بطول العمر مع العافية، أيها الفتى الوطني، حرسك الله وحماك!
اسمع يا صديقي ثم اسمع:
في كل أرض يكون للشجر والنبات موسم يقظة وموسم خمود، إلا مصر فاليقظة فيها دائمة في جميع الأحايين.
وفي كل أرض يوجد الماء في مكان وينعدم في مكانات، إلا مصر، فالماء موجود في كل مكان. وأين من يصدّق أن سكان جبل المقطم يستقون الماء من بئر هناك؟!
وفي كل بلد تجاهد الأرض في الزراعة موسماً، ثم تستريح موسمين أو مواسم، إلا مصر، فأرضها تصلح للإنبات مرتين في العام الواحد أو مرات
وطنك، يا صديقي، جميلٌ وثمينٌ ونفيس
كان وطنك محور التوازن الدولي قبل أن يعرف بنو آدم ماهية التوازن الدولي، وكان وطنك أول وطن تنبه إلى أن الله واحد بلا شريك، وفي سبيل هذا المعنى الدقيق جاهد إخناتون الشهيد. . .
وكان وطنك، يا بنيَّ، أول وطن حارب السماء عن علم أو عن جهل(473/1)
وهل من القليل أن يكون الطغيان المصري أخطر طغيان حاربه القرآن؟
وطنك، يا صديقي، مذكورٌ بمحاسنه ومساويه في جميع البلاد، وستُنسى أمم وشعوب، ولا يُنسى وطنك، لأنه معتَرك الرشد والغي، والهدى والضلال، في جميع الأجيال
وطنك هو الوطن، وبلادك هي البلاد
وطنك هو الميزان في القضاء، قضاء الأمس وقضاء اليوم، والنصر لمن يظفر بقلبك، فلمن قلبك؟
قلبك لوطنك، وعقلك لوطنك، وهواك لوطنك. فلا تشرك به أحداً، ولا يخطر في بالك أن في الدنيا جمالاً أنضر من جماله، أو حمَى أعزَّ من حماه، وإن تناوشه الطامعون من كل جانب، فسيظل وطنك وحدك، ولن يكون لأعدائه غير العذاب في ميادين القتال، وبئس النصيب!
أدر المذياع إلى أية جهة من جهات الأرض، فستسمع اسم مصر. . . وسائلْ شركات البرق في أي بلد من البلاد، فستخبرك عن مبلغ اهتمامها بأخبار مصر. . . واستطلع المكنون من ضمائر الزعماء والملوك، فسترى أن مصر مُنْيَة الجميع، وبين المُنْية والمَنِيَّة صِلات
هل تعرف الحكمة التي تقول: رُبَّ أكلة مَتعت أكلات تلك الأكلة في مصر، فما طمع فيها طامع إلا قصمت ظهره. ولا دخلها غاضب إلا كانت وبالاً عليه، ولو استفتيت التاريخ لأفتاك ثم أفتاك
كنت أشارك المنفلوطي في السخرية من قول مصطفى كامل: (لو لم أكن مصريًّا لتمنيت أن أكون مصريًّا)
واليوم أعرف أن المنفلوطي كان من المخطئين الخاطئين، وأن كلمة مصطفى كامل أصدق من الصدق وأصوب من الصواب
ذلك بأن مصر غنية من جميع النواحي، وعظيمة من جميع الجوانب، وليس فيها شبرٌ إلا وهو مبعث حياة أو مصدر تاريخ
وما اقتتلت الأهواء، ولا اشتجرت الآراء، ولا اعتركت القلوب، ولا انتضلت العقول بأقوى وأعنف وأخطر مما يثور فوق الأديم الصحيح لهذه البلاد
يوم كان السلطان لأهل الشرق كانت مصر أول أمة تقاوم طغيان الشرق(473/2)
وحين كان السلطان لأهل الغرب كانت مصر أول أمة تحارب طغيان الغرب
وهل ينسى التاريخ أن عزَّة مصر هي التي جعلت واليها عَمْراً أول والٍ يخالف عن أمرِ الخليفة العادل عمر بن الخطاب؟
وهل ينسى التاريخ أن السلطنة العثمانية في أيام عزها المأثور عجزت عن تتريك الأمة المصرية؟
وهل ينسى التاريخ أن الإنجليز الذين سيطروا على كثير من ممالك الأرض عجزوا عن مقاومة العزة المصرية؟
نحن برعاية الله وكرامة مصر أعزَّاء وأعزاء وأعزاء.
النور أسرع من الضجيج
على حين غفلة أضاءت آفاقُ مصر الجديدة، وأضاءت ثم أضاءت ثم أضاءت؛ فقلت لصاحبي: في هذه اللحظة أُطلقت ثلاثة مدافع؛ فقال: ومن أين عرفت؟ فقلت: من هذه الومضات؛ فقال: ولكني لم أسمع ضجيج المدافع؛ فقلت: ستسمع بعد لُحَيْظات، وستؤمن بأن النور يسبق الضجيج
فيا ناشدي الشهرة باسم الأدب والحياة بلا قلب وبلا روح وبلا نور، فلن يكون له من مجد الأدب وشرف الحياة نصيب ولا خَلاَق
النور أسرع من الضجيج، لأنه أرقّ وألطف، وأقوى وأغلب، فاستعينوا بحرارة أرواحكم، قبل أن تستعينوا بجهارة أصواتكم، واعلموا أن النور وليد النار، وأن جوهر القبَس المتألق فيه أصالة حيوية لا يدرك مَداها غير أرباب القلوب
ومن أجل هذا كان الاضطهاد أعجز من أن يخمد حيوية الأديب، لأن الأدب نور، ولأن الاضطهاد ضجيج، والنور أقوى وأسرع من الضجيج
ثم ماذا؟
إن وضعت أصابعك في أذنيك، فقد حَجَبْتَ عن سمعك ما تحبّ وما لا تحبّ من الأصوات، وإن أغمضتَ عينيك، ثم عصبتهما بمنديل سَميك، فستحسّ النورَ عيناك، برغم ذلك الحجاب، أو برغم ذينك الحجابين، لأن النور أقوى وأسرع من الضجيج
فيا أعداء الأدب، متى تعقلون؟!(473/3)
ستضيء قُبوركم إن اعتصمتم منا بظلمات القبور، لأن من واجب النور أن يمزّق الظلمات. . . وسوف تعلمون!
أسرار وسرائر
في الحوار الذي دار بين الأستاذ محمود البشيشي وابنه النجيب حسين، مرّت إشارةٌ لطيفة إلى كاتب يجمجم ولا يفصح، وهو (كاتب من الكتَّاب) كان (حسين) - حرسه الله - كتب إليه يدعوه إلى ترك الإيماء والتلميح فيما يتناول من المعاني والأغراض
وأتولى الإجابة عن ذلك الكاتب فأقول:
لقد نشأ - يا بُنيَّ - في عصر من عصور الانقلاب، وفي مثل هذا العصر تكثرُ الأكاذيب والأراجيف، ويقلّ الفهم لدقائق المعاني، فهل يلام الكاتب إذا فرَّ من التصريح إلى التلميح؟
قد تقول: إن التلميح أخطر من التصريح، لأنه يفتح أمام المغرضين أبواب التفسير الخاطئ والتأويل المريب
وأقول: إني أحب أن يظلمني قومي عن شبهة لا عن يقين، فأنا أساور أهدافي بأسلوب يُعفي ظالميَّ من ربقة الظلم المبين؛ وإلا فمن يتوهم أن أغراضي تخفي على قرائي وهم من أُولى الألباب؟
بين مصر والعراق
في هذا الأسبوع أنِستُ بلقاء جمهور من الأساتذة المنتدبين للتدريس في العراق، وهم جميعاً ألسنةٌ تلهج بالثناء على الأريحية العراقية والذكاء العراقي. ومن كلام الدكتور راجح والدكتور غالي والأستاذ قنديل عرفت أن دار المعلمين العالية بلغتْ من التفوق مبلغاً يشرح صدور المؤمنين بعظمة العقلية العربية في العراق، وطن الأهل والأحباب.
ولكني تأذيت خين عرفت أن بعض المدرسين لا يريدون أن يعودوا لخدمة العلم في الوطن الشقيق، بحجة الخوف من تقلب الظروف، أو بحجة الشوق إلى الاستقرار في وطنهم الأول، وما درَوْا أن الاستقرار ضربٌ من ضروب الموت!
لو قلتُ الصدق كل الصدق لصرّحتُ بأن من يريدون قطع صلتهم العلمية بالعراق ليسوا إلا شباناً تعوزهم القدرة على فهم السرائر من الروحانية العراقية، فهم يعيشون هنالك عيش(473/4)
الغرباء بالفكر والروح، في بلاد قام كيانها على الفكر والروح.
في هؤلاء من يعتذر بأن العراق مهدّد بالغلاء في هذه الأيام، فهل يكون فيهم من يدرك أن في تمرة أو تمرتين كفاية لمن يدعوه الواجب للقيام بخدمة علمية؟
وفي هؤلاء من يقول: إن مصر تنساه حين تطول إقامته بالعراق فلا ينال حظه من الترقيات
وأقول إن هذا لن يقع بعد تنظيم التعاون الثقافي بين مصر والعراق.
كيف يصبر من عرف العراق على فراق العراق؟
أنا أخشى أن يكون مفارقوه لم يعرفوه. وهل يغيب عني أن في العراقيين أنفسهم من يجهل المحاسن الأصلية لوطنه الجميل؟
لقد عجب قومٌ من وفائي للعراق، وظنُّوني أستهديه منحةً من المِنح الذواهب، ثم انقضى عجبهم حين عرفوا أن وفائي للعراق وفاء القلب لا وفاء الجيب، ولكن عجبهم سيُبعث من جديد حين يعرفون أن في عنقي ديوناً للعراق، هي أكرم الأطواق، فما تلك الديون؟
رأيت العراق يكرم مصر في جميع مذاهبها العلمية والأدبية والتشريعية، ورأيته يفرح حين نفرح، ويلتاع حين نلتاع، ورأيت أنه بحق وصدق أخٌ شقيق.
مصر مسطورة الملامح فوق كل مكان في العراق، فما جزاءُ من يحبونها هذا الحب؟ وما جزاء من يعرفون من أقدارنا الأدبية أكثر مما نعرف؟
تلك معانٍ يجهلها من يبحث عن وظيفة توزن قيمتها بالدراهم والدنانير، وهي معانٍ يعرفها من يؤمن بأن الفناء في سبيل العروبة بابٌ من أبواب الخلود.
زكي مبارك(473/5)
أطوار الوحدة العربية
للأستاذ نسيب سعيد
(اغتبط قراء (الرسالة) - وما أكثرهم - للنبأ العظيم الذي
أذاعته عليهم في أعدادها الأخيرة من تخصيص بعض أعدادها
لخدمة الوحدة العربية، والقضية العربية، وقديماً عرفت
(الرسالة) بخدمتها لرسالة العروبة وفضلها الجزيل على الثقافة
العربية، مما جعل لها المقام الأول في قلوب أبناء العرب في
سائر الأقطار، وجعل صاحبها محبباً إلى القلوب جميعها،
كريماً على النفوس كلها. أدامه الله للعرب فخراً وللإسلام
ذخراً. . .)
القضية العربية
البحث عن (القضية العربية) طريف، والحديث عن العروبة ذو شجون وبخاصة في هذا العصر، عصر القوميات. ونحن نريد اليوم في حديثنا الأول نبحث للقراء في تاريخ الفكرة العربية الحديثة، ونستعرض لهم أدوار هذه الفكرة وأبطالها في التاريخ المعاصر، ثم ننتقل بهم بالحديث عن الخدمات الجلي التي قدمها العراق للوحدة العربية وعن أثره في القضية العربية الأخرى، وبخاصة عن المعاهدة العربية الأولى التي عقدها العراق عام 1936 مع المملكة العربية السعودية؛ وقد كانت هذه المعاهدة نواة الوحدة العربية، ثم كيف سافر جميل بك المدفعي رجل العراق من بغداد إلى صنعاء بطريق القاهرة في شهر أغسطس سنة 1937، وأشرك دولة اليمن السعيدة في معاهدة الوحدة، فأصبح الحلف العربي ثلاثياً بعد أن كان ثنائياً، وترك الباب مفتوحاً لسائر الدول العربية للدخول في هذه الوحدة، والانضمام إلى هذه المجموعة العربية، كما دخلها: العراق والحجاز واليمن.(473/6)
حلم محمد علي الكبير
وإذا أردنا الحديث عن فكرة الوحدة العربية والبحث عن الدولة العربية الموحدة في العصر الحديث، فلا بد لنا من الانتقال إلى الوادي السعيد، إلى ضفاف النيل، فمصر العزيزة هي البلد الأول الذي فكر في الدولة العربية الكبرى؛ وللقطر العربي قصب السبق في بعث فكرة الوحدة العربية الأولى، وخلق الوعي القومي. ولغريزة محمد علي الكبير الفضل الأول في إيجاد الفكرة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
كان ذلك في القرن الماضي يوم ظهر محمد على الكبير مؤسس البيت المالك المصري في وادي النيل، وسعى لتأسيس دولة عربية جديدة، وفكر في قلب المملكة المصرية إلى إمبراطورية عربية إسلامية كبرى تستطيع الظهور بين الدول الأوربية الحديثة. كذلك حارب الوهابيين في الجزيرة ليبسط نفوذه على سائر بلاد العرب، ويحقق حلمه الذهبي الجميل، ثم استولى على بلاد الشام وأعاد إلى سورية الإخاء والرخاء والخيرات، ومنع الجيش المصري الباسل قبائل البدو من الاعتداء على القرى والمزارع، ووضع حداً للصراع الذي كان لا ينقطع بين الدروز والمسيحيين في ديار الشام.
فالنتيجة التي نستطيع أن نقررها إذن، هي أن محمد علي الكبير عزيز مصر هو أول من فكر في الوحدة العربية، وأول من حلم بتأسيس دولة عربية جديدة مكان الرجل المريض أمين الدولة العثمانية، تعيد إلى دنيا العرب ذكريات الأمويين والعباسيين والفاطميين؛ ولكن الظروف السياسية القاهرة، والعوامل الدولية المختلفة، وقفت في وجهه، واضطرته إلى الانسحاب من سورية، فاقتصر حكمه بعد عام 1840 على مصر وحدها كما حدث التاريخ، وتبدد ذلك الحلم الذهبي الجميل في مصر.
كلمة إبراهيم باشا
وعلى كل حال فإننا لا نرى قبل القرن التاسع عشر ما يشير إلى قومية العرب، والتفات إلى دنيا العرب، أو إلى أي فكرة عربية؛ فقد كانت تلك القومية في سبات عميق، وفكرة العروبة كسراب خادع، وأول من حاول إيقاظها وتأسيس دولة عربية مركزها القاهرة محمد علي الكبير، وقل كذلك ابنه إبراهيم باشا. ولئن كان المشروع لم يتم فإن النواة قد وضعت(473/7)
في الأرض، وترك للزمن إنباتها وإحياؤها، وكيفما كان الأمر فإننا لا نرى في الشرق العربي منذ أيام إبراهيم باشا المصري حتى أواخر القرن التاسع عشر حركة جديدة للانفصال عن السلطنة العثمانية والاستقلال بكيان عربي منظم سوى تلك الحركة المباركة التي انبعثت في وادي النيل السعيد؛ لأنه ما من شك في أنه لم يكن لقطر عربي من الأسباب المهددة لظهور فكرة قومية عربية ما كان لمصر في القرن التاسع عشر؛ فهي أسبق البلاد العربية إلى إنشاء وحدة إدارية ذاتية، وحكومة شرعية صحيحة؛ بل هي أول تربة بعثت فيها الروح العربية الاستقلالية القدسية، بل روح العزة والكرامة والمجد كما يستدل عليه من سياسة إبراهيم باشا التي كانت ترمي إلى فصل بعض الأقطار العربية عن جسم الدولة العثمانية واستقلاله بها، فقد صرح (للبارون بوال كونت) بقوله: (ما أنا بتركي، بل أنا ابن مصر. إن شمسها قد غيرت دمي فجعلتني عربياً قحاً. . .).
وقد سارت مصر بعد ذلك بخطى ثابتة في ذلك السبيل فتأسست فيها عدة جمعيات عربية، ومنظمات سياسية تعمل للعروبة وللوحدة الكبرى؛ منها (الجمعية القحطانية) التي تأسست عام 1909، (والجامعة العربية) التي أنشئت سنة 1910، و (حزب اللامركزية) الذي تأسس في سنة 1912. وكذلك يجب إلا ننسى (جمعية العهد) التي أنشأها في الأستانة عزيز علي المصري يوم 28 أكتوبر سنة 1913 فقد خدمت القضية العربية كثيراً، وسنتحدث مفصلاً عن فضل مصر على القضية العربية وعن أثرها في الوحدة العربية يوم تخصص (الرسالة) الكريمة الكلام عنها ولكل حادث حديث.
المنظمات العربية
وكما تأسست في القاهرة جمعيات عربية تعمل للعروبة كذلك أنشئ في كل عاصمة من عواصم العرب: في العراق، والشام، والحجاز، واليمن، وفي كل بلد من بلدانهم ناد يضم الصفوة المختارة من أبناء العروبة. وكذلك على أثر إعلان الدستور العثماني سنة 1909 يوم تغير الحال غير الحال في البلاد العثمانية فأطلقت الألسنة من عقالها والأقلام من سجنها.
والواقع أنه لم يكن اغتباط العرب بالعهد الدستوري الجديد يقل عن اغتباط الترك؛ فقد ملئوا الجو هتافاً وصياحاً في بغداد والشام وغيرها، ونظم شعراؤهم القصائد، وحبر كتابهم(473/8)
المقالات، في التغني بمزايا العهد الجديد، وانضم رجالهم ومفكروهم من عراقيين وسوريين وحجازيين إلى الاتحاديين موالين ومؤيدين لاعتقادهم أن دولتهم ستجدد شبابها وتسترد مقامها، وأن الأمة العربية ستنصف، وكرامتها ستصان.
ولكن حينما بدرت بوادر الخلاف العنصري بين العرب والترك تحول الحال، إذ ظهر أن الاتحاديين يسيرون على سياسة قومية سداها ولحمتها تعزيز الجامعة الطورانية وتأييدها، وأن الفكرة العربية قد عفا أثرها؛ لذلك أقفرت أنديتهم وتفرق أنصارهم، وضعف نفوذهم، كما تخلى عنهم نواب البلاد العربية المؤمنون بالعروبة وأنشئوا كتلة مستقلة اتحدت مع النواب المعارضين للاتحاديين؛ وختم هذا الدور بإعلان الحب البلقانية في خريف عام 1912؛ وتألفت في خلال هذه الفترة جمعيات عربية عديدة كما قلنا، في مصر، وبغداد، ودمشق، وبيروت، والآستانة، لحمل مشعل الفكرة العربية، وتأدية رسالة العروبة، وتعزيز شأن العرب، وبعث الوعي القومي العربي، فأثرت هذه الجمعيات أثراً بليغاً في تكوين (الرأي العام العربي) وإليها يرجع معظم الفضل في إنشائه وإعداده بالتعاون مع الصحافة العربية في مصر والعراق والشام والآستانة؛ فقد ساعدت على تنمية الشعور القومي وإيقاظه وبعثه، كما ساعد الشعراء العرب بقصائدهم الحماسية والكتاب والخطباء بدررهم النثرية على خلق النهضة الوطنية العربية الجديدة.
وأهم تلك المنظمات العربية التي تأسست يومئذ هي: جمعية الإخاء العربي، المنتدى الأدبي، الجمعية العربية، (الفتاة)، الجمعية القحطانية، العلم الأخضر، حزب اللامركزية، جمعية بيروت الإصلاحية، جمعية العهد، مؤتمر باريس العربي، الجامعة العربية، النادي الوطني في بغداد، وجمعية البصرة الإصلاحية. ونتحدث اليوم عن هاتين الأخيرين فقط لأنهما نشآ في العراق وعملا فيه
الجمعيات العراقية
أما المؤسسة العربية الأولى في العراق فهي النادي الوطني في بغداد فقد أنشئ في الزوراء عام 1913 على أثر تأسيس حزب اللامركزية في مصر ليكون فرعاً له، وكان رئيس هذا النادي مزاحم الباجة جي صاحب جريدة النهضة العراقية أول جريدة في العراق خدمت القضية العربية الكبرى. وانتسب إلى هذا النادي كثير من الشباب العراقي المثقف، فنشر(473/9)
المبادئ القومية العربية وعززها. وكان يستظل بظل الزعيم العراقي حينئذ السيد طالب النقيب رئيس جمعية البصرة الإصلاحية الذي نشطه لإصدار جريدة النهضة فكان يصدرها مزاحم نفسه، فلما عطلها الاتحاديون الترك ولم يصدر منها سوى (12) عدداً وأمروا بالقبض على صاحبها فَرّ إلى البصرة ودخل في حمى السيد طالب النقيب
والمؤسسة العربية الثانية في العراق هي جمعية البصرة الإصلاحية التي أنشأها السيد طالب في مدينة البصرة، وقد كان يومئذ نائبها في مجلس النواب العثماني وأحد زعماء حزب الائتلاف، فانضم إليها عدد من كبير من رجالات البصرة وشبابها الناهض، كما انضم إليها أحرار العراق وزعماؤه المخلصون، فأصدرت جريدة النهضة في بغداد لتكون لسان حالها ولكنها لم تعش طويلاً كما قلنا. وحينما عقد مؤتمر باريس يوم الأربعاء في 18 يونيو عام 1913 في منتصف الساعة الثالثة بعد الظهر أبرق إليه في تلك الساعة السيد طالب الزعيم العراقي مؤيداً ومشجعاً، فخاف الترك العاقبة، ولذلك انتدبوا أحد رجالهم وهو القائمقام فريد بك وعينوه قائداً للبصرة، وناطوا به مهمة اغتيال السيد طالب؛ فجاء البصرة ومعه حاشية كبيرة فأسرع هذا وأرسل إليه من اغتاله. فرأى الترك أن من أرسل مصلحتهم الجنوح إلى المسالمة، فاستمالوا السيد طالب وأرسل إليه طلعت بك وزير الداخلية التركية يومئذ برقية مفرغة في قالب المجاملة، فأذاع على الأثر البيان التالي: (أعلن بكمال الفخر إلى عموم أهالي العراق (الولاية والملحقات) بأننا قد اتفقنا في أمر تشريك المساعي وكأننا روح واحدة، وجسد واحد، لأجل رفع شأن وشوكة حكومتنا السنية التي قدرت صداقتنا رسمياً، ولم يبق خلاف بيننا بأي صورة كانت، وقد زال ما كان من سوء التفاهم زوالاً قطعياً، وصرنا كتلة واحدة نعمل على سعادة دولتنا العلمية، ونسعى في محافظة وحدتنا العثمانية بكل قوانا حتى لا يبقى من فرد واحد، وللبيان حررت الكيفية وأعلنت في 7 ربيع الأول سنة 1332).
إلى هنا اكتفي اليوم بالبحث عن تطور (الفكرة العربية) وعن الجمعيات العراقية، وسأحاول في حديثي المقبل تصوير رجالات العراق الذين خدموا قضية العروبة، وحملوا رسالة (الوحدة العربية) وخاصة أولئك الذين اشتركوا في الثورتين: ثورة العراق وثورة الحجاز؛ وعملوا في الدولتين: دولة بغداد ودولة الشام، مع أقوالهم والوثائق والمستندات التاريخية(473/10)
التي تؤيد ذلك؛ فإلى اللقاء. . .
(دمشق)
نسيب سعيد
المحامي(473/11)
جيل وجيل
الحيوية الفكرية
للأستاذ محمود البشيسشي
تعدد المواهب والحيوية - الحيوية تحدد الاتجاه - جناية الحيوية على أربابها - إسحاق الموصلي - الحيوية الفكر التي تسبق الزمن وتقرر المستقبل - الشاعر البدوي عبد المطلب والرواية الشعرية تبعث إلى التأمل في أحوال المجتمع - حيوية الفكرة الدينية - حيوية الفكرة في الفنون.
نصل حوارنا اليوم في حيوية الفكرة ليكمل البحث، ويتم الغرض، ويستقيم المعنى، ويدرك الهدف. فليس أقبح من أن يجعل المرء بالحكم قبل استيفاء الحجة، ويبرم القضاء قبل امتحان الشهادة. وإن الاقتضاب في معالجة الأمور مدرجة الضلالة، والإسراع في الكشف عن منبهم الأسرار طريق العماية. . . وخير الباحثين من نهج سبيل التأني والاستقراء ليعقل ويفهم ويدرك تفاصيل ما يعالجه، وتراكيب ما يعرض له. . .
. . . قال ولدنا حسين: عرفنا من أسرار الحيوية الفكرية شيئاً وبقيت أشياء. فقد تتعدد المواهب وتكثر الاتجاهات للشخصية الواحدة؛ كأن يكون المرء شاعراً ضرب في الشاعرية بسهم وافر، وناثراً طلع في القدرة على بيان أفكاره مطالع عالية، وخطيباً بلغ من عبقرية الفصاحة الغاية التي تتقطع دونها الأعناق. . . ويكون له في مذهب من هذه المذاهب المتعددة المتباينة جودة واستواء، وموافقة وكمال، ورونق وعذوبة، واستيعاب وفهم.
فما كان الحيوية هنا؟ وهل تكون في كل ناحية على قدر معلوم؟ وهل لصاحبها القدرة على توجيهها والسيطرة عليها أو يكون موقفه منها موقف الأرض من الغيث. . . لا تستطيع إلا أن تنتظر وروده!
قلت: أما تعدد المواهب يا بني فأمر قد يكون إلى الفطرة أقرب منه إلى الاعتياد والدربة. على أن المواهب مهما تعددت ألوانها، وتشعبت مذاهبها، لا يمكن أن تكون في كل ناحية ومذهب على نسق واحد من القدرة، وفي قوة واحدة من الحيوية. . . ولا بد يا بني من تدفق الحيوية قوية عاتية في ناحية دون أخرى، وحينئذ يكون لها وحدها تقدير المصير،(473/12)
وتحديد الشخصية، وبيان موضع صاحبها وفنه الأصيل في معترك الحياة الصاخبة الدوّارة. فأنت يا بني تدهش من تعدد مواهبك، وتعجب من تباينها، وتحار في تعليل ميلك إليها، وتوفرك على أسبابها؛ ولكن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من التأمل في منابت هذه الاتجاهات وأصولها، فأنت تميل إلى الرسم وتمارسه، وتجيد الشعر وتطرب له، وتندفع وراء العمق في الفكرة جرياً وراء الفلسفة وطلباً لمنبهم الأسرار. . . وكل أولئك لو تأملت يا بني من مصدر ومبعث واحد يرجع إلى حساسية الشعور، وشفافية الوجدان، ويقظة التفكير. على أنك لو تأملت طويلاً لرأيت أن هناك حيوية خاصة غالبة على كل هذه الاتجاهات. . . تلك هي عمق الفكرة والجنوح إلى التأمل العميق. وإنك لتجد الصدق هذا القول صوراً من الشخصيات في مطاوي الزمن. فقد كان إسحاق الموصلي متعدد المواهب بعيد مدى الآمال، متباين الميول. وكان إذا ناظر أهل الكلام انتصف منهم، وإذا تكلم أو عالج الفقه أحسن وقاس واحتج وبلغ في قياسه واحتجاجه الغاية. وإذا أخذ بأسباب الشعر واللغة فاق وارتفع، ولكنه كان في الغناء أكثر حيوية، وكان الغناء أدنى ما يوصف به وإن كان الغالب عليه. على أنه كان أكره للاشتهار بالغناء والتسمي به!
قال: إن في نفور إسحاق يا والدي من الغناء وهو ما اشتهر به وذهب له صيت ذكر، لطرافة وموضعاً للتأمل.
فإن للحيوية جناية كبرى على أربابها. ولقد أصاب إسحاق من الحيوية ألم عظيم وضياع للفرص السوانح؛ فقد كان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس، وشُهر به من الغناء عندهم لوليته القضاء، فإنه أولى به، وأحق وأعف، وأصدق تديناً وأمانة من هؤلاء القضاة. . .! فما أشد ألم إسحاق لضياع ما كان يتطلع إليه! وما أخطر جناية الحيوية على أربابها! ولعل الهدف الأول لجناية الحيوية هو صاحب الفكر الحر من أنصار العقيدة، وأرباب المذاهب الفكرية. فكم رجل من حر العقيدة، صادق الإيمان، دفعت به حيوية الفكرة التي يعتنقها، ويتمسك بأسبابها، ويناضل في سبيلها إلى الخوض في مرابط الهلكة. . . لا تمنعه رهبة، ولا تقطعه هيبة، ولا يدركه نصب، ولا يتداخل جهاده تردد، فإذا رأيت في حياتك رجلاً قد طوقته الشرور، وترامت عليه النقم، وأقصى عن مواطن النعم، وحرم كل ما هو في متناول غيره، فلا تتردد في أن تنسبه إلى رجلين: رجل انسلخت حقيقته من(473/13)
معاني الإنسانية، فهو شر على نفسه وشر على غيره؛ ورجل ارتفعت حقيقته بمعاني الإنسانية إلى مرتبة عالية سامية ترقب العالم بعين الضمير الحي الذي لا يقيم وزناً للمظاهر الكواذب، ولا يحفل بالقوة إذا لم تقم على قواعد من الحق، وأسس من العدل. فهو بما طبعت عليه نفسه من حيوية الفكرة والعقيدة والحق عدو الباطل والقوة، وطريد الرياء والقسوة
قلت: وإن الحيوية يا بني لتقرر المصير، وتحدد الغاية، وتشير إلى مستقبل صاحبها من قبل أن يتأهب لغايته من الحياة وينتظرها، ومن قبل أن تستقر به الأيام، وتطمئن به الأسباب، وتصبح له يد باسطة في الناحية الأصلية من مواهبه واتجاهات شخصيته. فإنك لتلمح في طفولة الفنان العبقري بوارق من حيوية الفن والفكرة فيما يعرض له في سلوكه وأحواله ورغباته وآماله. فهو أبداً يميل إلى كل فاتن من الصور ورائع من الألوان. ويجد في الخيال المجنح نشوة تخفف على قلبه، وتتصل بروحه الفنية، وتقربه من غايته التي لم تزل في أكمام الغيب تناديه من وراء حجاب؛ ويجد لها في قرارة نفسه حنيناً لا يملك القدرة على بيان خصائصه في جلاء ووضوح، وإشراق وصفاء. ولكنه على رغم هذا يحس بدافع يسوقه إلى السير وراء كل ما هو أدنى بالقبول، وأحظى بطلاوة الفن، وأعلق بقلب الفنان. . . على أن صاحب الحيوية قد يدرك الغاية التي يسعى لها، وتدفعه حيويته إليها، وهو حينئذ يقصد أنبل المقاصد ولا يرهب أخطر المهالك، ويجد في نفسه الإيحاء الذي يقول في قوة وحيوية: هذا أمل واجب أن يكمل، وحقيق أن يوفى حقه، وليس يتحقق أبداً إلا بأن يتطلع المرء إلى أجل الأغراض مكاناً. والرجل الحي من كان في قوله وفعله كأنما أطلع على إرادة قومه وإرادة حيويته، فرمى عن قوس عقيدتهم وعقيدته
فقال: إذن فالحيوية الفكرية يا ولدي تسبق الزمن، فتحقق في التخيل والتصور ما يتمخض عنه الزمن بعد أجيال متعاقبة. فكم من مخترعات تفتَّق عنها زماننا وكانت في ألفاف الخيال سجينة من أزمان طويلة. فقد جالت فكرة الطيران بخلد الإنسان منذ تنف فجر الفكرة الحية في الإنسانية. وكم من أفكار كانت فطرية ساذجة ثم أصبحت مع الزمن فنوناً مع النظريات والعمليات الخالدة. . . أجل هذا حق لا يتداخله شك، ولا يشوبه إفراط. ومن طرائف هذه الحيوية التي تسبق الزمن ما عرض لي أثناء مطالعاتي يا والدي. . . فقد رأيت أن الشاعر(473/14)
البدوي الجليل (عبد المطلب) كان قد عالج الرواية الشعرية علاجاً استكمل شرائط الفن، واستوفي أوصاف الحيوية التي طالعتنا من فنون أمير الشعراء. . . فقد ألف عبد المطلب عدة روايات شعرية تمثيلية. وكان هذا منذ (29 عاماً) فعبد المطلب بذلك يتفرَّد وحده بفضل السبق في هذه الناحية الخطيرة من الفن الأدبي. فقد افترع هذا اللون من الشعر الروائي افتراعاً قبل أن تتفتح عنه عبقرية أمير الشعراء. ولا نسوق هذا القول من غير دليل ينهض شاهداً على صدقه؛ فإن الشاعر (البدوي) عدة روايات تمثيلية يوجد بدار الكتب منها روايتا (امرئ القيس) و (المهلهل): وقد قام - رحمه الله - بتأليف رواية اسمها (ليلى العفيفة) نشرت مجلة (المعرفة) جزءاً منها دليلاً على سبقه في هذا الفن. والمتأمل في هذه الرواية يرى كيف استطاع الشاعر أن يقنعنا بأنه كان مطبوعاً، حسن التصرف قد أغناه عفو قريحته عن التكلف، وبعد به عن التصنع. . . هذه بعض آثار الحيوية الفكرية يا والدي، وإنها لتدفع الناس إلى التأمل في حالهم، وربط ماضيهم بحاضرهم، والتطلع إلى مستقبلهم؛ وهذا التأمل والربط والتطلع، يجيء من بعده الرغبة في التقدم، والمطالبة بالحرية، والسعي وراء المجد. ويظهر هذا الأثر الأخير في حيوية الفكرة الدينية، وخاصة في حيوية الفكرة في الدين الإسلامي المجيد، فقد كانت الحقيقة المؤمنة تتطلق عزمة، وتتوهج رغبة. . . تنظر إلى أحابيل الشيطان نظرة القدرة القادرة، وتتأمل أضاليل الباطل بثقة الحكمة النافذة، فكان لها النصر المبين. بعثت حيوية الرسول في قلوب المؤمنين القوة التي قهرت الباطل، وبددت سحب الشيطان، وأقامت على أطلال الشرور والرياء والنفاق والفرقة والضلال مجداً عظيماً: قويّاً بالإيمان، ثابتاً بالعقيدة، صادقاً بكلمة السماء، خالداً بخلود الفضيلة والحق. وحيوية الفكرة في الفنون - يا والدي - هي دلالتها على زمنها، وعقلية أصحابها، وما يموج بأحاسيسهم، ويضطرب في ميولهم، ويختلج في صدورهم، ويساير نهضة علومهم وعقليتهم، ويلابس حقيقة مجتمعهم، ويرمي إلى مثلهم العليا في مفاتن الجمال، وروائع الحسن، وبدائع الفن، ومحامد الأخلاق. . . وحيوية الفن إذا اتسعت آفاقها، وعظم خطرها، بسطت حيويتها على فكرة وأمل وغاية، وخلعت على صاحبها أو الأمة التي نضجت فيها، لوناً خاصاً يحدد مكانها من عالم الفن. . . بل إنها لتجعل صاحبها يبعث روحه في كل ما يكتسبه من العالم الخارجي ويطبعه بطابعه الخاص. . . وهذه هي(473/15)
رسالة الحيوية الحق في الفن!
قلت: ما أحوجنا - يا بني - إلى هذه الحيوية، حتى لا نضرب في ظلمات التقليد الأعمى لكل ما هو غربي، من غير أن نعمل التأمل في أسبابه وغاياته وملابسته لأحوالنا، ومسايرته لميولنا وأحاسيسنا وتقاليدنا!
محمود البشبيشي(473/16)
قصة اجتماعية في رسالة
زوجة الأب
مترجمة عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة
عزيزتي هيلين. . .
لا ريب أنك ترتقبين البريد في لهفة كل يوم، على أمل أن يحمل إليك من أبيك خطاباً؛ بل إني لأكاد أتخيلك وأنت تشيعين الساعيَ بنظرة ملؤها الدهشة والألم معاً، في كل مرة يمضي فيها دون أن يترك لك هذا الخطاب المنشود. ولعل دهشتك ستكون أبلغ حينما تتلقِّين هذه الرسالة من (زوجة أبيك). وإني لا أستطيع أن أسمعك وأنت تقولين لصديقتك إيدنا:
- أبلغ من تأثير هذه المرأة عليه ألا يخاطبني إلا عن طريقها؟! على أني ألتمس إليك أن تبادري بتدارك هذا الوهم الذي تقعين فيه؛ فلم يسألني أبوك أن أكتب إليك، بل إنه ليجهل أني بعثت إليك بهذا الخطاب؛ ولعله لو عرف لغضب. وهو في الحقيقة لا يكاد يذكر اسمك أمامي، من يوم أن عدنا إلى المنزل فألفيناك قد هجرته غضبى. فكل ما أفعله إنما هو بإرادتي ومن محض تفكيري. . . وما أشك في غريزة حب الاستطلاع ستدفعك إلى قراءة كتابي حتى آخر كلمة فيه؛ فإن من غير المستساغ أن ترسل زوجة أب بخطاب مطول صريح اللهجة إلى ابنة زوجها الوحيدة، ولما تمض على نهاية رحلة الزواج أيام. . .!
ولكن. . . ماذا أنا قائلة لك؟ وكيف أوضح موقفي بحيث أستطيع - وحسبي هذا - ألا أزيد الأمور بيني وبينك تعقيداً؟
اعلمي أولاً أني لن أتوجه إليك بأدنى لائمة؛ بل إني لأقدر - بعطف بالغ - هذه الاحساسات التي دفعت بك إلى الرحيل، وأدرك أنك تنظرين إلى العلاقة بين زوجة أب وفتاة متحررة في التاسعة عشرة من عمرها، كأمر يصعب الاحتفاظ به؛ ولو كنت في موضعك لما وسعني إلا أن أتمرد مثلك، ولكن ليس بهذا الأسلوب الذي اصطنعت. . .!
واسمحي لي أن أذكرك - وملئ نفسي الأسى البالغ والأسف المرير - بأنك قد تصرفت تصرفاً انطوى على أبلغ القسوة وأشد الإهانة لي ولأبيك. وصدقيني حين أقول لك إني لا(473/17)
أشكو مما أصابني شخصياً؛ فقد كان عملك لطمةً موجهة إليَّ، ولكنها كانت أشد ما يكون وقعاً على والدك المسكين. . . لقد أمضه الألم وأمرضه الحزن حتى لاذ بالصمت؛ وبالتالي وجدتني متألمة لألمه. . .
واعترف لي بأني لم أكن أتوقع منك تصرفاً فجائياً مؤلماً كهذا. ففي مرحلة تعارفنا الأولى كانت تربطنا مودة صادقة؛ ولما بدا احتمال اتصالنا برباط أوثق عن طريق أبيك، استحال إخلاصك وثقتك السابقان إلى نفور مزاجه التأدب والتحفظ؛ وكان ذلك أمراً طبيعياً. . .
ولقد بدا لي أني أستطيع متى أظلنا سقف بيت واحد، أن أجعلك تفهمين مقصدي وحقيقة شعوري.
كنت ولا أزال أحبك كثيراً؛ أحبك لشخصك ثم لأنك ابنة (أبيك)! ولقد شجعني تصرفك قبل الخطبة وبعدها على الأمل في أن لأحل وإياك المشكلة التي طالما سببت المتاعب للأسر جميعاً: مشكلة العلاقة بين الأبناء وزوجات الأب. وعلى هذا الأمل قضيت (شهر العسل) في وافر من الغبطة والسعادة.
ولكن. . . أي استقبال هذا الذي أعددته لنا!
ليتك تعلمين يا هيلين كم كان أبوك يشتاق إلى لقائك طوال مدة رحلتنا!
لم نرك في انتظارنا على المحطة كما كنا نتوقع. قلنا: حسناً، إنك في المنزل بلا ريب تترقبين عودتنا؛ وقد أعددت لنا عشاء شهياً ينسينا مشقة سفرنا الطويل. ولما اقتربنا نفوس أبوك في نوافذ المنزل علَّهُ يراك؛ ولكنا لم نلمح غير السجوف المرخاة في عناية، وأطراف هذه الستائر الفرنسية التي شذبتها يداك منذ عام. واخترق والدك الممر وثباً. ثم فتح الباب بمفتاحه الخاص وهو يهتف في قلق:
هيلين، هيلين. . . أين أنت؟!. . .
وانفتح أحد الأبواب، وأطلت منه الخادم وعلى وجهها سمات الذعر؛ فبادرها بالسؤال: أين مس هيلين؟. . .
وكانت الحقيقة أروع من أن تعترف بها الفتاة، فاضطربت وهي تغمغم بأنها لا تَدري. . . ثم انزوت عن وجهه سريعاً.
أسرع أبوك إلى غرفتك (الاستديو) وفتح بابها؛ فدله المنظر الذي أماه على ما حدث بأتم(473/18)
وضوح. كان كل ما يخصك أو يهمك في الحجرة قد اختفى، فلم يكن ينقصه - ليعرف ما صنعت - أن يقرأ هذه الرقعة التي تركتها على رف الموقد بعد أن خططت عليها كلمتك القصيرة:
(لقد انتقلت عن هذا البيت لأقيم مع صديقتي إيدنا كوري) ومع ذلك فقد أطال أبوك التحديق في هذه الوريقة وهو يوليني ظهره، ثم استدار إليَّ بعد حين فالتقت أعيننا وأعتقد أننا تبادلنا في هذه اللحظة كل ما نستطيع التعبير عنه بالكلام.
وأخيراً مس ذراعي بيده مترفقاً وهو يقول: تستطيعين أن تهيئي طعامنا الآن. . . كان يتكلف الهدوء ويتظاهر بعدم المبالاة؛ فعجلت بالانصراف من أمامه قبل أن يتبين في وجهي أني أدرك حقيقة شعوره. وعندما التقينا بعد ذلك على مائدة الطعام كان يتصرف كما لو أن شيئاً هاماً لم يحدث! ولقد جاريته في رغبته؛ ولم يكن يتسنى إلا لمثلي ومثلك ممن يعرف خبايا نفسه أن يلحظ هذا الألم الذي يعصف في صدره. وإني لواثقة من أن أباك لن يلتمس إليك العودة بحال؛ وأنت الذي ورثت كبرياءه تدركين لم لا يفعل ذلك. أما من جهتي، فلن أطلب إليك شيئاً كهذا لعلمي أن أيسر ملتمس مني جوابه الرفض. وإنما سأخاطبك في وضوح. وسأحاول أن أبين لك أن زوجة الأب على رغم سمعتها السيئة تستطيع أن تكون أحياناً صادقة الرغبة في تفهم وجهة نظر ابنة زوجها، بل هي قد تقبل التضحية البالغة من جانبها في سبيل أن تخيم السعادة على الجميع. وما خطابي هذا إلا دليل ملموس على ذلك. قد لا تفهم فتاة مثلك لماذا يرغب أبوها في الزواج مرة أخرى؛ ويبدو لها طلب أبيها لزوجة جديدة أمراً شاذاً غريباً كما لو راحت هي تلتمس لنفسها أُماً أخرى! وهي ترى أن كائناً من كان لا يستطيع أن يملأ الفراغ الذي خلفته أمها؛ وبالتالي لا تكاد تصدق بوجود المرأة التي تملأ من أبيها فراغ الزوجة. ومن المشاهد أن تطفُّل امرأة أخرى - بعد ذهاب الأولى - من الأمور غير المرغوب فيها؛ حتى ولو كانت الأولى قد قصرت في أداء مهمتها كزوجة أو أم. فكيف يكون الحال مع امرأة فضلى كأمك جديرة بكل حب من زوجتها وطفلتها؟
لا ريب أن موضعها سيبقى شاغراً إلى الأبد!. . . لست أطالبك بأن تنظري إلى المسألة كما أنظر إليها، أو تضعي في ذهنك أن أباك هو أول من أحببت، وأنه عندما سألني(473/19)
الاقتران به أحسست بسعادة لم أكن أحلم بها. فستقولين - وأنت محقة - إن هذه أمور لا تعنيك في شيء؛ وعليه فلنجعل الأساس المشترك بيننا سعادة والدك، فعند هذه النقطة قد يلتقي سهمانا. . .
ولو أنك فكرت في الأمر قليلاً لوجدت أن مزايا والدتك وفضائلها، هي التي لجأت أباك إلى التزوج مرة أخرى. وقد يبدو لك هذا الكلام متناقضاً أو قائماً على الوهم؛ ولكنه في الواقع ينطوي على نتيجة طبيعية يفضي إليها منطق مستقيم. فإن الزواج إذا انفصمت عروته بالموت يترك من الفراغ والوحشة بقدر ما حقق من سعادة ونعيم. . .
وأنت - نفسك - لن تستطيعي الادعاء بأن حبك لوالدك بعد وفاة أمك، قد شغل أكثر من ركن صغير، وصغير جداً، من هذا الفراغ الذي خلفته وفاتها! وكذلك الحال مع الأب، فما حبه لطفله إلا تتمة حبه لزوجه. والعلاقة بين الأب وابنته تختلف - كما وكيفاً - عن علاقة الزوج بزوجه. وأنا لست أدعي في لحظة ما أني قد ملأت هذا الفراغ تماماً؛ ولكني أردد صادقة أني اكتسبت محبة أبيك وثقته، وأني أسعدته بحبي له سعادة لم يكن لينالها - على الأقل - بغير حب المرأة. . .
وما أخالك تنكرين أنه قد اختارني بمحض إرادته؛ وليس لمجرد دافع يسير، بل لحاجة ماسة إلى تجديد هذه العلاقة الوثيقة التي افتقدتها بموت والدتك. فإذا أنت أدنتِني فقد أدنتِ أباك، وبحكمك هذا يبدو مبلغ قصورك في إدراك حقيقة الطبائع البشرية
وقد تبدو نظريتك معقولة من فتاة غير متزوجة تفيض نفسها بالوفاء الخالص والطيبة الساذجة، ولكن لن يقاسمك هذه النظرة أي رجل ممن خبر الحياة وعرفها على حقيقتها.
والآن. . . دعيني أتقدمْ بك خطوة أخرى:
لا بد لك أن تسلمي - إن عاجلاً أو آجلاً - بأن أباك هو صاحب الحق المطلق في تقدير قيمة هذا الزواج الأخير الذي ارتبط به؛ ولكنك قد تحتجين بأن هذا التسليم لن يغير شيئاً من شعورك نحوي. ولعلي لا أكون مخطئة إذا قلت إنك قد قلبت هذه المسألة من جميع وجوهها مع صديقتك (إيدنا) فرثت لحالك وأقرتك على موقفك. وإني لأستطيع - متى شئت - أن أسرد عليك كل ما دار بينكما من حديث؛ أو بالأحرى كل ما أقمته من (حجة) وعقبتْ عليه من (تأييد). وأنا واثقة من أنك قد قلت الشيء الكثير مما كنت أقوله لو كنت في مثل(473/20)
هذا الموقف. كنت أقول إني أطلب حياة مستقلة لا تعترض سبيلي فيها امرأة أخرى كائنة من كانت؛ وكنت أذكر مبلغ حنيني إلى هذه المعيشة الحرة التي أنفقت فيها عاميَّ الأخيرين، أغدو وأروح في حرية تامة، وأختار أصدقائي وفق ما أشتهي، وأدبر شئون بيتي بأسلوبي الخاص؛ مستمتعةً بهوايتي، أرسم حيث أريد ومتى أشاء؛ أقضي أوقات فراغي في خمول إن أحببت، أو أدعو أصدقائي إلى تناول الشاي والرقص والحفلات التمثيلية الخاصة، آخذة من كل متعة بنصيب دون أن أجد من يعترض سبيلي أو يقول كلا. . . لست أرى لك ذلك يا عزيزتي.
كنت أرفض رفضاً باتاً كل تدخل - أو تهديد بالتدخل - بيني وبين هذه الحرية النفسية؛ وكنت أرى بالبداهة أن دخول زوجة الأب المنزل إنما هو قضاء عاجل محتوم على كل هذه المناعم والملاذ. . .
ألم أصور لك نفسك في جلاء؟. . . ألم تقولي كل هذا لصديقتك إيدنا فدعتك إلى هجر بيت أبيك والإقامة معها: ترسمين بـ (الباستيل) كما تشتهين، وتكتب هي القصص القصيرة على طريقة (موبسان)؛ فتقضيان حياة بويهمية رائعة؟. . . لست متيقنة من قدرتي على إقناعك بالخطأ الذي بنيت عليه هذا القرار المفاجئ بالرحيل عنّا، وهذا مما يزيدني شفقة عليك وعطفاً. قلت لك إنك أخطأت في الحكم علي، وسأوضح لك ذلك الآن فإن مما يؤلمني كثيراً أنك لم تقدري صعوبة تلك المهمة التي تكلفت بها، ولم تعامليني معاملة تدل على تقديرك لمشاعر المرأة التي تخيرها أبوك زوجة له. كنت قد وطنت نفسي - متى أظلني وإياك سقف بيت واحد - على أن أترك الأمور تسير في مجراها ما وسعني ذلك؛ فلا أتعرض لك في شيء ولا أحول بينك وبين تحقيق رغبة. . . كنت قد وطدت عزيمتي على أن أعاملك كما أعامل أختاً لي صغيرة، على أن أتخلى - مع ذلك - عن حق الأخت الكبرى في التوجيه وإسداء النصح، ما لم تطلبي إليَّ شيئاً من هذا. بل كان يرضيني أن تقومي على شئون المنزل دوني إذا سرك هذا وأرضي أباك؛ وأنت تعلمين مبلغ تضحيتي في ذلك، لأنك تدركين كما أدرك أباك كبرياء المرأة وشدة اعتزازها بالسيطرة على مرافق بيتها. لم أكن أريد أن أنتزع شيئاً من اختصاصاتك إلا ما أوجبه لي حق الزوجية، من ألا تحتفظي بأبيك خالصاً لك من دوني!(473/21)
ولقد ساغ لي هذا التفكير لأني أقرب في نشأتي من أبناء جيلك مني إلى أهل الجيل الماضي؛ فأنا متوسطة بين الجيلين، ولست متقدمة في السن كما قد تتصورين يا عزيزتي هيلين. ولقد ربِّيت منذ طفولتي على هذه الحرية التي تذوَّقتِ أنت حلاوتها، ولكني تخليت عن كل ذلك لأبيك وأنا راضية مختارة لأن ثمة في الحياة ما هو أثمن من الحرية؛ وإني لأرجو لك أن تتخليْ مثلي عن حريتك، في اليوم الذي يلقاك من يستأهل منك هذه التضحية. . .
شكوى أولاً وأخيراً أنك حكمت عليّ قبل التجربة، وجعلتني هدفاً لهذا التحامل الذي مُنيتْ به (زوجات الآباء) منذ بدأت الحياة!
وأنا لا أود أن تطول بنا هذه الحال، وأعترف لك بأن حجرة رسمك المهجورة ومخدعك الخالي قد أوحشا بعدك وحشة لا يسعني التعبير عنها. أما تأثير ذلك على أبيك فإني أترك لك تقديره
وإذا كان يهمك أن تتأكدي من مبلغ صدقي وصراحتي في كل ما ذكرته لك، فما أشك في أنك تمنحيني الفرصة التي أدلل لك فيها على ذلك؛ وكل ما أتمناه أن تنزعي ثوب (التحامل) وتعودي - ولو إلى فترة محدودة - حتى يتبين لك كل شيء. ومن المحتمل أنك لن تتأثري كثيراً بما أعرضه عليك من صداقتي، أو لعلك تعدين من الحماقة أن تأمل زوجة الأب - اللفظة القاسية - احتلال ركن من قلب ابنة زوجها؛ وقد يكون كل ما عرضته عليك أموراً سلبية: لن أصنع كذا. . . لن أقول كذا. . . على أن أدلتي الإيجابية كلها تلتقي عند أبيك؛ فكلتانا - لو علمت - تعيش له أكثر مما تعيش لنفسها. وأنا أعترف لك بأني لا أستطيع أن أملأ فراغ غرفتيك، مهما يكن ما بذلته أو سأبذله
وثمة أمر آخر يزعجني؛ فمنذ عودتنا لم تمس يد حجرتيك بتهوية أو تنظيف، إذ لم أُردْ أن يلمس أشياءَك أحد سواك. وتركُ الحجرتين بهذه الحال إلى مدًى طويل مما لا يرضي ربَّة بيت. . . ولكنك تريْن من هذا مبلغ جهادي في سبيل الاحتفاظ بأشيائك على حالها
وقد يكون من غرائب المصادفة، إن لم يكن من الفأل السيئ، أن أخط اسمي الجديد لأول مرة (تعني لقب الزوجية) في ذيل مثل هذا الخطاب الذي تُلْجِئني إلى كتابته ظروف كتلك التي نحن فيها. . . وتقبلي تحيات صديقتك المخلصة:(473/22)
(مرجريت كنيدي)
(جرجا)
محمود عزت عرفة(473/23)
3 - كتاب الإمتاع والمؤانسة
الجزء الثاني
للأب أنستاس ماري الكرملي
4 - أوهام التأويل والتفسير
جاء في حاشية ص6 تفسير قول المؤلف: (دونه حدد أي دفع ومنع). والصواب ما قاله الأمير شكيب أرسلان في حاشية الصفحة 573 من مجلة المقتبس، المجلّد الثامن: أي الممتنع الباطل
وورد في ص13: (ولا تحضّ على الدينونة بها. وضبطت بفتح الدال وضم النون؛ ثم وردت الدينونة في ص178 بفتح الدال والنونين، في هذه العبارة وهي: (والدينونة لمذهبك المستقيم). والذي نعرفه ان الدينونة من مصطلحات النصارى، وهي غير فصيحة، والصواب: (الدِّين) بكسر الدال؛ لأن الفعلولة في الأجوف خاصة باللازم في أكثر الأحيان، وعلى ذلك يقال: الذيعوعة، والشيعوعة، والصيرورة، والقيلولة، والبينونة، والديمومة، مصادر الأفعال اللازمة: ذاع، وشاع، وصار، وسار، وقال، وبان، ودام إلى نظائرهن
وفي ص59: (الجاثليق من رؤساء النصارى، معروف) قلنا: ولا نظن أن أحداً يعرف الجاثليق حتى أغلب النصارى، وما قاله الشارحان مُثَبت في كتب اللغة. ومثل هذا الشرح لا يرضى به أهل هذا العصر، وكان يجدر بهما أن يشرحاه شرحاً يخرجه من هذا القول الذي لا يستفاد منه فائدة صريحة، والأحسن أن يقال: الجاثليق رئيس الأساقفة عند النصارى الشرقيين، واليوم ليس له وجود، ويسمى بالفرنسية فكيف يقول الشارحان: معروف؟ وممَّن معروف؟ وعند من معروف؟
وفي ص60: (ويا قَصراً بلا مِسْنَاه) وضبطت الكلمة الثانية بكسر الميم، وإسكان السين، وفتح النون، وفي الآخر هاء. وفي الحاشية: المسناة المرقاة، من السنآء بالمدَّ وهو العلو والرفعة) - قلنا: لا وجود لهذه الكلمة بهذا الضبط، وهذا المعنى في لغة الضاد، فمن أتيا بها، وعمن نقلا هذا الشرح، أو هذا التخريج، أو هذا التأويل والتفسير. والمشهور عند العراقيين: أن للقصر مُسَنَّاة، وهي بضم الميم، وفتح السين، وتشديد النون، يليها ألف فهاء(473/24)
منقوطة، وهى العَرِم أي ما يبني بين يدي القصر الواقع على النهر ليرد الماء عنه.
وفي الصفحة المذكورة، فسرت البواري بتشديد الياء: ضرب من الحصر تعمل من البرديِّ معروفة بمصر إلى اليوم. اهـ.
والبواري عندنا في العراق تطلق على الحُصُر التي تتخذ من القصب. وفي الحديث: إنه كان لا يرى بأساً بالصلاة على البواري. قالوا: هي المعمولة بالقصب. راجع النهاية لابن الأثير والشارع في بور.
وفي ح ص65: (مبرسم: أي به برسام، وهو علة يهذي فيها) - قلنا: وهذا الشرح عام يصدق على كثير من الأمراض الذي يهذي فيها المريض. والصواب أن البِرْسام، على ما في بحر الجواهر - وهو معجم طبي قديم - وَرَمُ في الحجاب الحاجز نفسه، وهو الحجاب المعترض الذي بين القلب والمعدة، وأما الحجاب الحائل الذي بين المعدة والكبد، فمما لم يقل به أحد من الفضلاء غير الطبري) اهـ.
وفي ص51 و66 جاء ذكر السِكْباج. وفي ح51 قيل: (السكباجة: مرق يعمل من اللحم والخل. وهو فارسي معرَّب، وفي ح66 مثل هذا الكلام. وفي ح51: (الهُلام: مرق السكباج يبرَّد ويصفى من الدهن) - قلنا: وكل من السكباج والهلام طعام. فالهلام في كلام الشاعر طعام من لحم عجل بجلده، وله معنى آخر فرعي هو مرق. . . إلى آخر ما هناك. والسكباج: (لحم يقطع أوساطاً، ويجعل في القدر، ويغمر ماء، ويرمى فيه كسْفُرَة خضراء وعود دارصيني قدر الحاجة، وإذا إلى تخرج رغوته وزَبدُهُ بالمغرفة وترمى. . .)، (راجع كتاب الطبيخ لمحمد بن الحسن بن محمد بن الكريم الكاتب البغدادي - ص9 من طبعة الموصل بعناية الدكتور داود الجلبي).
وفي ص76: ولكن لما ضعف الدين وتحلحل ركنه. . . وفي الحاشية تحلحل ركنه أي تزعزع وزال عن موضعه. ونحن نظن أن الكلمة هي تجلجل بجيمين. قال اللغويون وفي رأسهم المجد الفيروزابادي: تجلجل الشيء تحرك وتضعضع. يقال: تجلجلت قواعد البيت أي تضعضعت.
ومن أغرب ما قرأته من التأويلات ما جاء في ح ص110 إذ قيل: القِلْيُ ويقال فيه قِلًى كالي: هو شب العصفر ويتخذ من حريق الحمض. فما الذي أراده الناشران بشب العصفر،(473/25)
وهو للعصفر شب؟ إنما الوارد في بعض كتب اللغة: وهو حب يشبب به العصفر بمعنى يزين ويحسن لونه، وهو من التشبيب؛ فأين الشب من التشبيب - يا سيديَّ الأكرمين - وهل الشب والتشبيب شيء واحد؟
وقال الناشران في ح ص136: الطنطنة: حكايات صوت الطنبور وشبهه؛ وصحيح التفسير هو: حكاية النقرات، فالهزج مثلاً هو الذي تتوالى فيه نقراته نقرة نقرة وهذا رسمه: طَنْ، طَنْ، طَنْ، طَنْ، طَنْ، طَنْ، طَنْ. ومنهم من يقول: مَنْ بالتاء المثناة الفوقية في مكان الطاء المثالة وهو الأشهر في كتب القوم (راجع كتاب (مفاتيح العلوم) من 245 من طبعة أوربة).
وورد في ص146: وهكذا مصاريع أبيات الشعر، فإنها تختلط بالنثر متقطعة وموزونة ومنتثرة ومنضودة؛ والصواب عندنا وموضونة من وضن الشيء أي نضده.
وفي ص148 ورد هذا المثل: البطنة تذهب الفطنة. وذكره التاج بصورتين. فقد في مستدرك أف ن: البطنة تأفن الفطنة. وهي الرواية المشهورة التي سمعناها ونحن أطفال. وذكرها في مادة ب ط ن: البطنة تذهب الفطنة. وهذه الرواية دون تلك شهرة.
وفي نص ص167: (ويُرْقي بهَيَا شَراهِيا. وعُلّق عليها في الحاشية: (هياشراهيا كلمة عبرانية مناها يا حي يا قيوم كما في المصباح. وفي القاموس مادة شره: أشَرْءِهْيا، بفتح الهمزة والشين: كلمة يونانية معناها، الأزلي الذي لم يزل. والناس يغلطون ويقولون: أهياشراهيا، وهو خطأ على ما يزعمه أحبار اليهود) اهـ.
قلنا: لو رجع الأستاذ أحمد أمين بك إلى أحد معلمي العبرية في الجامعة المصرية في لفظ هذه العبارة، وفي أي لغة هي، وما معناها، لقال له: وردت هذه الفقرة في سفر الخروج في 14: 3 بهذه الحروف: أهْيا أشر أهيا أي أنا هو الذي أنا أو: أنا هو الكائن. ويقابلها باللاتينية وباليونانية أو الإغريقية فهذه هي الفروق بين هذه اللغات الأربع، إذن الصواب أنها العبرية ويجب أن تكتب كما كتبناها، وما سواها فخطأ في خطأ والمعنى كما أعطيناهُ وهو يرجع إلى أن المراد من ذلك: أنا الموجود الذي لن أزال موجوداً.
وورد في ص168 هاتانِ الكلمتان: (وكُمَّيهِ المفَدَّرين) ونحن نرى أن الصواب هو (المفزَّرين. بمعنى المشقوقين، وشق الأكمام شقاً واسعاً أمر معروف إلى اليوم في العراق،(473/26)
وهو أمر يكاد يزول في العراق، لاتخاذ الناس الثياب الإفرنجية، لكنا رأينا هذا الأمر شائعاً في وادي الرافدين قبل نحو خمسين سنة.
على أن رأينا الأخير هو أن صواب العبارة: (وكُمَّيْهِ المُفَرْوَزَيْن، وزان المُدَحْرَجَيْنِ) والمُفرْوَز من الثياب ما كان محلى بالفرواز وهو هدْب منقش تزين به الأكمام والثياب ويسمى بالفرنسية والكلمة في الفارسية (بَرْوَاز) بالياء المثلثة المعقودة بهذا المعنى واشتق السلف منها فعلاً فقالوا: فَرْوَزَ الثوب أو الكم أي زيَّنه بالفرواز. وكان يتخذه أكابر الناس والعلماء في العهد العباسي. واستعماله باقٍ إلى اليوم عند أكابر شيوخ العرب وهو على شفا الزوال. ويزينون به أكمامهم إذا كانت طويلة واسعة مدخل اليد.
(يتبع)
الأب أنستاس ماري الكرملي
أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية.(473/27)
سر المهنة في التزوير الخطي
للأمير عبد القادر الشهابي
التزوير عمل إجرامي يقصد به جر مغنم أو دفع ضرر، وهذا يصح في عرف العلماء على وجوه ثلاثة هي:
الأول - خلق شيء لا وجود له كوضع توقيع.
الثاني - زيادة شيء من تاريخ أو رقم أو ما يماثل ذلك.
الثالث - حذف شيء، وهذا يتأنى الحك أو الطب الدقيق أو الإذابة أو الحل أو إزالة اللون بعرض الأشعة أو الأحماض أو بأي وسيلة أخرى. وخير وصف يطبق على هذا العمل الجنائي هو أن يقال: (إنه الإتيان بعمل لم يكن موجوداً). وله أركان لا بد من توفيرها:
1 - جلب النفع أو دفع الضرر.
2 - ألا يكون للشخص المجني عليه علم به.
3 - هناك عنصر دقيق نص عليه كثير من الفقهاء الفرنسيين والبلجيكيين والإيطاليين وفطنت له محكمة النقض والإبرام التركية في أحكام لها ما بين سنتي 1912 - 1916 وهو أن يشترط في التزوير تحقق ركن المحاكاة والمتشابهة، فإذا أريد تزوير ختم فلا يمكن أن يكون الشيء الذي يدعى تزويره ختماً مستطيلاً، بل ينبغي أن يكون مستديراً. وإذا كان الختم ذا زوايا فيجب أن يكون الختم مراد وصمه بالتزوير ذا زوايا. وهكذا يجب أن يتحقق عنصر المحاكاة والمتشابهة. فإذا فقد هذا الركن زال عنصر التزوير من أساسه.
على أن المشابهة والشكل لا يؤثران في الكتابة والإمضاءات بل في مواقع أخرى تختلف عن غيرها، إذ أحياناً لا يلزم استكتاب المتهم بحال وجود أوراق رسمية سابقة معترف بها تكون مداراً للتطبيق. ومن المهم حينئذ إلمام الخبير بروح الكتابة أي بمعنى (سر المهنة) وما زاد عليه من المشابهة والتناسب وتباعد النقط والأحرف فهذا شيء ثانوي بالنسبة للخبرة التامة بروح الكتابة، وهي بالأحرى سر المهنة لما ذكر؛ ويكفي الاستدلال بالسابق دون ما عداه مما يحدث أثناء التحقيق مثلاً، لأن السابق على التحقيق يعطي الخبير الملم صورة صادقة لنفسية الكاتب الطبيعية وحالته النفسية بأجلى مظاهرها دون أن يسيطر عليه الجزع أو الفزع أو تؤثر فيه عوامل التحوير والتصنع، فلا يكون إعطاء التقرير في حالة(473/28)
كهذه وفي جانب العدالة أقوى مما لو كان في حالة الهدوء الطبيعية السابقة.
كذلك لو وجدنا إمضاء مطابقة للأخرى في حجمها وشكلها وأبعادها حينئذ تعتبر إحداهما مزورة بلا نزاع.
ولا يمكن إعطاء تقارير عن صورة فوتوغرافية، ولا بد أن نلفت حماة العدالة إلى هذا، إذ كثيراً ما ينطوي تحته أمور أقل ما فيها وضع لثام كثيف على عيوب وجنايات تهضم بها الحقوق، فيجب ألا تعتبر الصور الفوتوغرافية، بل يلزم أن يجري التطبيق على نفس الأوراق الأصلية المطعون فيها مهما كانت الأسباب.
أما التزوير، فخير ما يقدم في موضعه الرجوع إلى ما ذكره غير واحد من أولئكم الفقهاء وهو قولهم أن كل فرد يستوحي غريزته حين العمل مهما كانت حاذفاً في مزاولته جريمته، ولا بد من أن تطل غريزته من إحدى جزيئات أعماله، فالكاتب الذي يبتدئ السطر أو الكلمة أو الحرف أو المقطع أو زاوية الحرف، أو اعتاد أن يرسمها، أو يحدث بها تعريجاً، أو يظهر منه اضطراب، لا بد وأن ينكشف أمره وتتغلب عليه عادته، ولهذا لجأ القضاة والخبراء إلى أن استكتاب المتهم المجني عليه في أغلب الأحيان، حتى قال بعض الباحثين الأمريكيين أن الخبير إذا كان حاذقاً ما استطاع أن يعرف الجاني فحسب، بل استطاع أن يغرف نفسيته والظروف التي كانت تسيطر عليه حين الكتابة؛ ولذلكم كان على الخبراء أول ما يبادرون إليه بعد استكتاب المتهم الجمل والكلمات والأحرف أن يدققوا في روح الكتابة. ومعنى هذا معرفة سر المهنة، وأن ينظروا في تلكم الزوايا ويدققوا فيه وفي مبادئ الكتابة وانتهائها، فإنها المظاهر التي يمكن أن تفضح الجاني. ولقد ارتقى فن كشف التزوير الخطي بارتقاء فن التزوير تبعاً لناموس الارتقاء العام. وأصبحت هنالكم الأشعة والأحماض والتلوينات ووسائل التحليل وما شابه ذلكم من فحص حياة المكروبات الموجودة في المادة التي كتب الخط بها لمعرفة عمر تلكم المواد والمقايسة بين هذا وبين تاريخ المستند أو الخط. وهكذا أصبح لدى العلم وسيلة كيميائية لا تكذب؛ فمثلاً إذا ادعى تزوير سند مؤرخ من ثلاثة أعوام، وأمكن فحص المداد الذي كتب به ذلكم المستند، وظهر أن عمر هذا المداد لا يتجاوز السنة، هنالكم يكون الإقناع التام بحدوث التزوير. وهكذا في كل شيء يمكن أن يستفاد بالعلم لكشف الجريمة. وقد قال بعض الباحثين يكفي أن يكون الخبير خبيراً بالخط(473/29)
بصيراً بفنونه وبالتصرف فيه فقط، بل ينبغي أن يكون عالماً، ولو على جانب لا بأس به من علم النفس والإحاطة بمقتضيات المجتمع الذي انتدب لفحص الخط المدعي تزويره فيه.
وهنالكم اعتبارات كثيرة ينبغي ألا تكون طبيعة فاحص الخط كطبيعة الإقليم الذي حدثت فيه عملية التزوير. فمثلاً البلاد المصرية وهي بلاد حارة قد يكون مرور بعض من الزمن فيهاً مؤثراً أضعاف مرور جزء من الزمن في بلاد أخرى. كذلكم تعاقب فصول متكررة من صيف بعد صيف على وقوع تزوير لا يمكن أن يمر دون أن يترك أثراً في تطور الخط فيما يمكن أن يعرض له من التطورات. على أنه في غضون خبرتنا وممارستنا للخطوط لاحظنا أن المداد العربي الأسود القديم الذي كتبت به المصاحف القديمة وغيرها كان أثبت على الزمن من غيره؛ وإن كان آخرون يرون أن العين المجردة قد لا تستطيع ما تستطيعه الآلات العلمية الحديثة من اكتشاف التطورات مهما كانت بسيطة ومحدودة. على أن هنالكم أنواعاً كثيرة من المواد المحدثة ضعيفة الثبوت تتنافى مع مستلزمات الأحوال؛ بل يكفي مرور يسير من الزمن لحدوث تغير فيها، بل إن تعرضها للنور والهواء أو لمؤثرات أخرى قد يكون سبباً في كشف حقيقتها. بقي الشيء الوحيد الذي يمكن إخفاؤه والذي لا يهتدي إليه إلا بالاستكتاب ألا وهو الكتابة بالآلات الكاتبة؛ فهذا الضرب من الكتابة قد يكون من الصعب اكتشافه لأن المصنع الواحد يخرج الآلات الكثيرة وكلها على غرار واحد، فمن العسير، بل من المعتذر معرفة الحقيقة، إذ يمكن أن تتشابه تلكم الآلات ولا يكون هنالكم مجال إلا لفحص المداد الذي كان في الآلة الكاتبة أو الشريط الذي يكتب به أو ما شاكل هذا. وما دام العلم قائماً وما دامت الغرائز البشرية واقعة تحت تأثير عبادة المال فسيظل الصراع عنيفاً بين العلم والإجرام حتى يعين الله العالم والعلم على وضع حد من نزوات الغرائز البشرية الجامحة هدانا الله إلى الحق وأذاقنا حلاوة اليقين.
(القدس)
الأمير عبد القادر الشهابي(473/30)
أضعنا العمر. . .
(إلى نشوة قمرية راحلة. . .)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
تعَاَلَىْ نَسْمَعِ اللَّيْلَ ... عَلَى الشَّطِّ يُنَادِينَا
وَفي كَفَّيْهِ خَمْرُ الْحُبِّ ... تَسْقِيهِ وَتَسْقِينَا
فَكَمْ دَارَتْ بِنَا الأَيَّا ... مُ لَمْ تَسْكَرْ لَيَالِينَا
وَكَمْ طاَفَتْ بِنَا الأَحْلاَ ... مُ لَمْ تَرْقُصْ أَغَانِينَا
تَعَالَى. . . فَالْهَوَى حَيرَا ... نُ يَبْكي في مَغَانِينَا
أَضَعْنَا الْعُمْرَ عُشَّاقاً ... وَضِعْنَا في أَمَانِينَا
فَهَيَّا يَا غَرَامَ الرُّوحِ ... نَنْسَى كُلَّ مَاضِينَا
وَهَيَّا نَسْكُبُ الأَشْوَا ... قَ نَاراً فَوْقَ وَادِينَا
هُنَا الدُّنْيَا تُنَادِينَا ... هُنَا الْحُبُّ يُغَنِّينَا
تَعَالَىْ. . . فَدُمُوعُ اللَّيْلِ ... ذّابَتْ في مَآقينَا
وَخَلَّى الْغَيْبَ مَهْمَا ... يَأْتِ بالأَسْرَارِ يَأتِينَا
إِذَا أّسْعَدَنَا الْحُبُّ ... فَمَا في الْكَوْنِ يُشْقِينَا؟
تَعَالَىْ. . . قَبْلَمَا نَغْدُو ... وَرِيحُ الْمَوْتِ تَطْوِينِا
فَلاَ سِحْرٌ، وَلاَ خَمْرٌ ... وَلاَ كَأْسٌ بِأَيْدِينَا. . .(473/31)
هنا القاهرة. . .
للأستاذ عبد اللطيف النشار
يقول (هُنا) كلٌ ويعني كأنه ... فهل (لنا) في اللفظ معنى مشاركُ؟
كقول (أنا) أو (أنت) أو كل لفظةٍ ... ألاَ (أَّنَّ) كلاً في المجاهل سالكُ
وأخدع نفسي إذا أحدث سامعي: ... متى اختلفت أغراضنا والمدارك؟
وقد بان وجه الخُلْفِ لو أَّنَّ بيناً ... من الكون شيء وهو أسود حالك
ولكن أمراً فاته الخلف وحده ... وذلك أن الكون أجمع هالك!(473/32)
سجين الأغصان
للأديب حسين محمود البشبيشي
(كان لي حظ مشاهدة الغراب - السجين بين أغصان الكافورة
الشجراء، وكانت لي فرصة التأمل في مقال أستاذنا الكبير
الزيات: (غراب وطفل). . . فصغت هذه القصيدة نفحة من
سحر مقال صاحب (الرسالة)
(حسين)
غمرته أوهام الحياة وفرحة الوكر الجميلْ
فمضى يصفق طائراً للعش والدوح الضليل
في قلبه أمل الحياة شدا بأنغام البقاء
وبثغره نغم الطبيعة رنَّ في أفق السماء
وبروحه من بهجة الدنيا نشيدٌ ونغم
وجناحه الجبار يسخر بالرياح وبالألم
وبعينه يتدفق الإيمان بالأمل القريب
يبدو وراء الأفق بساماً ومن خلف الغيوب!
فغدا يصفق في الفضاء يهيم بين ظنونهِ
يا ليته قد كان يعلم ما وراء حنينه!
غمرته آمال اللقاء وفرحة الدوح الحبيب
فمضى يجاهد طائراً. . . يا لهفة الطير الغريب!
أشجته أصداء العهود ترنّ في أفق الفضاء
أصداء أنغام الربيع تعيد أيام الصفاء
أصداء تغريد البلابل في تلافيف الغصون
كثرت عليه الذكريات فجن من فرط الحنين(473/33)
قد حنّ للوكر الجميل وللأزاهر والطيور
للفجر أقبل حالماً ليذوب في ثغر الزهور
للنجم. . . للنجم الشريد تبددت ألوانه
للنيل فاض على الضفاف وصفقت شطئانهُ
للزورق الفنان يرقص على ترانيم الوداع
هزّته أوتار الرياح سرتْ يداعبها الشراع!
كثرت عليه الذكريات فجن من فرط الحنين. . .
. . . فإذا به بين الغصون تكاد تقتله الغصون!!
عجباً. . . أتأسرك الغصون وكنت سر جمالها؟
غرَّدت في جنباتها ورتعت بين ظلالها
علمتها لحن القلوب جرى بثغرك وانسجم
وسكبت في أزهارها خمر الهناءة والنغم
لهفي عليك. . . بأي عين تبصر الدوح الخئون
وبأي قلب في القلوب تُحس آلام السجين
ماذا جنيت؟. . . وما جنيتَ سوى المحبة والوفاء!
للوكر والدوح الظليل وللأزاهر والإخاء. . .!(473/34)
البريد الأدبي
مثالان
على ذكر مقال فضيلة الأستاذ محمد محمد المدني وفتوى صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير عبد المجيد سليم قرأت في مخطوطة بعنوان (مثير الغرام بفضائل القدس والشام) تأليف الإمام أبو محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال بن تميم بن سرور المقدسي. قال: (وروينا في سنن ابن ماجة قال: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا (أبو) معاوية عن خالد بن أياس عن يحيى بن عبد الرحمن ابن خاطب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أول من أسرج المساجد تميم الداري.
وروى أبو القاسم مكي بن عبد السلام الحافظ بسنده إلى أبي الحسن البراد قال: قدم تميم الداري من الشام إلى المدينة وحمل معه قناديل وحبالاً وزيتاً وسبحة حتى قدمنا المدينة وكانوا إذا حضرت العتمة أوقدوا سعف النخيل؛ فلما أمسينا أمرني تميم فعلقت الحبال بالسواري وعلقت فيها القناديل وصببت فيها الماء والزيت ووضعت الفتل، فلما أمسينا أمرني أن أوقدها فأوقدتها؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نورت يا تميم نور الله عليك! أما إنه لو كانت لي ابنة لأنكحتها. قال نوفل بن الحارث بن عبد المطلب إن لي ابنة فأفعل فيها يا رسول الله ما رأيت؛ فأنكحه إياها.
قال أحمد بن الحسن: ودعي تميم جدي أبا الحسن البراد فأعقبه على المكان وأقمنا فلما كان يوم الجمعة خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قائماً؛ فلما انصرف قال له تميم: يا رسول الله إني قد رأيت بالشام شيئاً يضعونه في كنائسهم لأساقفتهم يسمى المرقاة؛ أفلا أعمل لك مرقاة تقوم عليها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعملها يا تميم. فخرج تميم إلى السوق فاشترى خشبة ونشرها وعمل منها ثلاث درجات المنبر ففضل من الخشب فضله فعملها تابوتاً فهي عندنا إلى اليوم نضع فيه نفاقاتنا وتتبرك به.
(بيت المقدس)
أحمد سامح الخالدي
إلى قراء الرسالة(473/35)
(1) طالعت في كتاب تأليف طبع سنة 1938 ما يأتي بالمقدمة:
,
'
,
,
فمن هو جلال الدين بن مكرم هذا؟ وما هو الأصل الشعري لما ترجمه كاتبنا فورستور؟
مصطفى الشهالي
مدرس الآداب بالناصرية
(2) جاء في كتاب عيون الأخبار (طبعة دار الكتب المصرية سنة 1930) بالجزء الثالث في الصحيفة ذات الرقم 20 ما نصه:
(وقال أكثم بن صيفي: أحق من يشركك في النعم شركاؤك في المكاره. أخذه دعبل فقال:
إن أولى البريا أن تواسيه ... عند السرور لمن آساك في الحزن
إن الكرام إذا ما سهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وجاء في ديوان أبي تمام (طبعة محمد صبيح سنة 1941) وفي الصحيفة ذات الرقم 255 ما نصه:
أولى البرايا حقاً أن تراعيه ... عند السرور الذي آسأك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
فلأي من الشاعرين البيتان؟ وما صحة رواية البيت الأول؟
موسى حقي
الجنس الرشيق(473/36)
أهدي إلى الأستاذ محمود يوسف كتابه (الجنس الرشيق) فتوقعت أن أرى فيه دفاعاً بحق وبغير حق عن المرأة في كل حالاتها، من كاتب ضالع في الحركة النسوية اختار لأول مؤلف له هذا الاسم. إلا أني وقد قرأته رأيت أني كنت مسرفاً في سوء الظن.
لقد عرض المؤلف لكثير من المسائل المتصلة بالمرأة في حذق ومهارة وبصراحة وجرأة جعلته شديداً بحق على من أساء من الفتيات وأولياء أمورهن فهم المرأة ورسالتها، وما يجب أن تكون عليه من الآداب الرفيعة الحازمة، ولم ينسى أن يلقي التبعة في كثير من الحالات على الرجال وأشباه الرجال من الذين يغررون بالمرأة ويزجون بها في حفلات هي مزالق للرذالة زاعمين أنهم يجمعون للبر. . .
لنسمع له يقول في حفلة الطفولة المشردة الآثمة: (أفهم أن في مصر طفولة مشردة، وأفهم أنه يجب أن يعمل على إنقاذ هذه الطفولة البريئة، وأفهم أيضاً أن للمرأة نصيباً كبيراً في هذا الإنقاذ؛ ولكني لا أستطيع أن أفهم مطلقاً أن وسيلة هذا الإنقاذ تكون مساهمة للمرأة مع الرجل في التهتك العلني والدعارة الممقوتة والتبذل الخليع من سهر الليل حتى الفجر. . . كل ذلك تلقاء قروش لا تسمن الطفولة المشردة ولا تقيها من جوع. لعمري إن مثل هذه الحفلة الراقصة. . . هي ويا للأسف معمل لتفريخ طفولة مشردة. . . موعدنا منها بعد تسعة شهور من تلك الحفلة الخيرية!).
هذا الكلام الحر الجريء نجد له أمثالاً كثراً في مناسبات عديدة بالكتاب الذي يجب أن يقرأه الشبان والشابات والأزواج والآباء، على ما فيه من آراء لا أتفق مع الأستاذ الكاتب فيها. من ذلك رأيه في أن المرأة نظير الرجل في الدين والدنيا. أفي كل الشئون؟ وإن من السهل أن توفق المرأة بين عمل وتكوين أسرة، ومطالبة بحق النيابة لها.
وللأستاذ الفاضل المؤلف خالص تحياتي.
محمد يوسف موسى
المدرس بالأزهر
تأبط شرّا
كتب الأستاذ أحمد أمين في مقاله (فارس كنانة) في العدد 184 من الثقافة ما نصه: (ثم(473/37)
يذكرون له من اشتهر بالفتك في الجاهلية، كثابت بن جابر، والبراض، وتأبَّط شرّا) ومدلول هذا الكلام يقضي:
1 - بأن تأبَّط شرّا من شعراء الجاهلية.
2 - أن تأبَّط شرّا فاتك آخر غير ثابت بن جابر وفي كلتا القضيتين نظر، كما يقول الأزهريون.
أما الأولى: فقد حكى شراح الحماسة أنه كان ربيب أبي كبير الهذلي، ونص التبريزي على أن أبا كبير أدرك الإسلام.
وإن كان صاحب بلوغ الأرب يقول: إنه من فحول الجاهلية وفرسانها، فلعله حكم عليه حكمه هذا باعتبار أنه أدرك طرفاً من الجاهلية فَنَسَبَهُ جاهلياً كما يجري على ذلك بعض المؤلفين.
وأما الثانية: فقد نصت كتب التراجم وكتب اللغة واتفقت على أن تأبَّط شرّا هو أبو زهير هو أبو زهير ثابت بن جابر من بني فهم ولم يحك أحد منهم في ذلك خلافاً - اللهم إلا ما حكاه صاحب بلوغ الأرب ج 2 ص143 قال:
(وزعم بعضهم أن اسم الشنفري ثابت بن جابر وهو غلط) اهـ.
ولعلَّ لدى الأستاذ الجليل سنداً لكلتا القضيتين.
كامل السيد شاهين
1 - تصويبات
جاء في العدد (469) من (الرسالة) الغراء في مقال الأستاذ السيد يعقوب بكر (شعر علي ابن طالب).
محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن عمي
والصواب (ابن أمي) كما في معجم ياقوت جـ14 ص48 ط دار المأمون، والسيرة النبوية ج1 ص177 ط المطبعة الأزهرية وديوان أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ص58 المطبعة العلمية.(473/38)
وقد جاء في معجم ياقوت بعد قوله: (سبقتكم إلى الإسلام طرا. . . الخ)
وأوصاني النبي على اختيار ... ببيعة غداة غد برحم
فويل ثم ويل ثم ويل ... لمن يلقي الإله غداً بظلم
وفي الديوان:
وأوجب لي ولايته عليكم ... رسول الله يوم غد برحم
أنا البطل الذي لم تنكروه ... ليوم كريهة وليوم سلم
وقد ذكر الأستاذ صاحب المقال بيتاً آخر للإمام علي هكذا:
من أي يوميّ من الموت أفرْ ... أيوم لم يقدر أم يوم قُدِرْ
والبيت على هذا الوضع لا يتفق مع ما جاء بعده لأنه من بحر الرجز وقد جاء في ديوان الإمام علي هكذا:
أي يوميَّ من الموت أفر ... يوم ما قدَّر أو يوم قدر
يوم ما قدر لم أخش الردى ... وإذا قدِّر لم يفن الحذر
وهما من الرمل، على أنه إذا صح أن ديوان الحماسة لم يذكر غيره فإنه يكون مكسوراً، لأن (لم) تقتضي الجزم وهو لا يتمشى مع الوزن.
2 - حول السناد في الشعر
وجاء في نفس العدد (البريد الأدبي) كلمة الأستاذ محمود عزت عرفة بعنوان (السناد في الشعر) خطَّأ فيها الأستاذ محمود حسن إسماعيل، حيث قال:
أخطأ الأستاذ محمود حسن إسماعيل في صوغ قوافي قصيدته (نشيد الأغلال) المنشورة بالعدد466 من الرسالة فهو قد أردف في بعضها بحرف الياء كقوله: سريرتي، البعيدة، الخميلة، جديدة. . . الخ).
وهنا لا يوجد ردف إذ أن الردف هو حرف مد قبل الروى كقول الشاعر:
طما بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
كم جاء في متن الكافي، وفرق بين مشيب وسريرتي وما دام قد التقى الردف فقد انتقى السناد. . . (وإذا كان ثم سناد فمن أي أنواع الخمس؟)
أحمد يوسف محمد(473/39)
العدد 474 - بتاريخ: 03 - 08 - 1942(/)
سجينة الزهرية
(كلمة تفصل ألواناً من أوهام العقول وأحلام القلوب. . .)
للدكتور زكي مبارك
الزهرية إناء صغير مختلف الأشكال، فيكون حيناً لحفظ الزهيرات أياماً بتغذية الماء، ويكون حيناً لحفظ الشجيرات أعواماً بتغذية الطين، وباختلاف ما يحفظ يختلف شكله بعض الاختلاف
وحديث اليوم عن شُجيْرَة حُفظَتْ في زَهرية، فظلت كيومها الأول في النمو والنضارة بضع سنين، مع أن أختها المنقولة إلى وعثاء الأرض في الريف بلغت مبلغ الدوحة الباسقة في أقصر زمن وبأيسر عناء
هل كان يغيب عني السبب في تفاوت الحظ والمصير عند هاتين الأختين؟ لا. . . وإنما أردت أن أعرف من أحوال (سجينة الزهرية) أكثر مما أعرف، فدار بيني وبينها الحوار الآتي ذات صباح:
- كيف حالك، أيتها الشجيرة الغالية؟
- حال من يعيش تحت حماية القوانين!
- أنت إذاً سعيدة؟
- سعيدة جداً، ألا ترى أن وجهي لم يتغير منذ التعارف الأول؟!
- وإلى أي عهد يرجع ذلك التعارف السعيد؟
- أنت تعرف التاريخ، فقد كنت أنا وأختي هديتين لك من حديقة الصديق (. . .)، ثم كانت السعادة من نصيب أختي، وكانت الشقاوة من نصيبي!
- ألم تقولي: إنك سعيدة؟
- حسُبتك فهمتَ مرادي حين أخبرتُك أن وجهي لم يتغير منذ التعارف الأول!
- وهل تكون السعادة في غير الثبات على نضارة الشباب؟
- أهذا هو فهمك للسعادة، أيها الآدمي الحصيف؟
- وما فهمُكِ أنتِ للسعادة، أيتها الشجيرة الحمقاء؟
- أخرجني من سجن القانون لأملك الرد عليك!(474/1)
- أي قانون؟
- قانون الزهرية
- وما عيب قانون الزهرية؟
- إنه يحبسني في تربة قصيرة المجال
- ولكنه لا يحبسك عن السماء، وهي أرقُ من الأرض وأنفس!
- السماء للفروع، والأرض للجذور، ولا فرع لشجرة لم يثَبتْ أصلها في الأرض، فأمكِنْ جذوري من الأرض، لأطاول السماء بفروعي، كما صنعت مع أختي
- لستُ مسئولاً عن تدليل الأخوات!
- ولست مسئولة عن إمتاعك بدوحة تصدُ الهجير عن دارك.
- أفصحي، أيتها الشجيرة، عما تريدين
- أنت فرقتني بيني وبين أختي، ثم أنصفتها وظلمتني!
- قولي غير هذا القول، فقد حفظتُكِ بداري في مصر الجديدة، وأرسلتها إلى داري في سنتريس، وداري هنا تنال من رعايتي أكثر مما تنال داري هناك. فما شكواك، أيتها البلهاء؟!
- شكواي من القانون!
- أي قانون؟
- قانون الزهرية
- وما عيبُ قانون الزهرية؟
- إنك تتجاهل تجاهل العارف
- ولعلني أتعالم تعالم الجاهل!
- حوشيتَ من تعالم الجاهلين! وهداك الله إلى إخراجي من سجن القوانين!
- أوضحي يا بُنَيَتي
- اخلع نعليك أوضح لك!
- يا سفيهة؟
- لست بسفيهة، وإنما أحبُ أن تحدثني عن السبب في طول قدميك(474/2)
- كان ذلك لأني كنت في طفولتي وحداثتي من الشياطين، والشياطين لا يلبسون النعال، فطالت قدماي!
- وهنا الشرح لقول العرب (فلان ثابت القدم) فالقدم لا تَثبُت إلا بعد اتصافها بالعَرض والطُّول
- تلك عبارة مجازية
- العبارة المجازية فرعٌ عن العبارة الحقيقية، فالقدم لا تطول إلا بفضل التحرر من القيد. والنعل قيد، وإن زعموا أنه يقي القدمين متاعب الحفاء، وهو يصنع بالأقدام بعض ما تصنع الزهريات بالشجيرات
- أوضحي، يا حمقاء!
- الزهرية حفظتْ عليَّ شكلي الأول، فأنا كما عهدتَ منذ سنين، والمخلوقُ الذي لا يتغَّير ميِّتٌ ميت، لأن الحياة تجدُّدٌ وتغيُّرٌ وتبديل، وذلك حظ أختي التي حُرِّرت من قانون الزهرية فأُلقيت في أحضان الأرض البَرَاحِ بسهول سنتريس
- أوضحي، ثم أوضحي!
- عند التحرر من سجن الزهرية يكون من حق الشجرة أن تساور ما في الأرض من زادٍ طيّب أو خبيث، فتكون لها طعوم مختلفات، ويكون لها في كل يوم لون أو ألوان، وكأنها الأديب الذي يقرأ في لغات مختلفة لحكماء مختلفي الأفكار والأذواق
- أوضحي، أوضحي!
- خلصني أول من سجن القانون
- أي قانون؟
- قانون الزهرية
- ولكن هذا القانون هو الذي حماك من التغير والتلون، وحفظ عليك هذا الشكل الجميل؟
- الجمال الذي لا يتغير ولا يتلون هو جمال التماثيل، وأنا شجرة لا تمثال
- أيجوز أن أساعدكِ على التغيُّر والتلوُّن والتقلُّب؟
- ليكون من حقك أن تقول إنك تتأدب بأدب الله، وهو عز شأنه قد أفتنّ أعظم الافتنان في إبداع الألوف والملايين والبلايين من الملامح المختلفات في اللغات والطباع والأحاسيس.(474/3)
وإذا كان رقم الديشيليون صورة وهمية فهو في أفعال الله صورة تقريبية، لأنه قد يعرّض الفرد الواحد من عباده لآراء وأهواء تفوق الدشالين
- وتريدين أيتها الشجيرة أن تكون أن تكوني كذلك؟
- خلِّصني أولاً من سجن القانون
- أي قانون
- قانون الزهرية!
- يظهر أننا لن ننتهي من هذا الحوار السخيف!
- أمِن السخف أن أطالب بحقي في الحرية؟
- أية حرية؟
- حرية الجذور في اعتصار أمواه الأرض
- وفي تلك الأمواه ما هو خبيث
- الحياة لا تعرف الفروق التي يعرفها الآدميون في تقسيم الأشياء
- ماذا تقولين؟
- أقول إن الحياة مزاجٌ من الحُلو والمُر، والطيِّب والخبيث، وهي نفسها لا تلتفت إلى هذه التقاسيم، ولعلها تجهل الفرق بين الريح الصَّرصر والنسيم العليل
- وإذن؟
- وإذن لا يكون الخير كل الخير لشجيرةٍ مثلي أن تكتفي بشرب الماء المقَّطر، وأن تعيش في تربة ضيقة الحدود، وإن كانت غاية في النقاء، ولا ينفعني بشيء أن تتلطف فتحييني في غدوك ورواحك مرة بالعربية ومرة بالفرنسية، كأنني إحدى بنات الجيران!
- ألم يثمر فيك الجميل، يا شقية!
- أيَّ جميل؟ خلَّصني من سجن الزهرية لأمتصَّ ما في الأرض من عذوبة ومُلوحة، ولأصاول ما فيها من أسباب النعيم والشقاء، فما تضخم شجرة، ولا تستفحل فِكرة، ولا يستحصد عقل، إلا بمكابدة ما في الوجود من أطايب وصعاب
- وما جزائي على الصنيع المنشود؟
- هل تجهل أني سأصير دوحة تصدُّ الهجير عن دارك؟(474/4)
- لا أجهل، ولكني أخاف عليك عواقب الطول والإبراق
- ما تلك العواقب؟
- أنتِ اليوم في أمان لأنك صغيرة محبوبة، فإذا ضخُمت وطُلت وعَظُمتِ فقد صار من حق كل سفيه أن يرجمك بالحصيات الغلاظ لتجودي عليه بشهي الثمار، أو لينتفع بأوراقك في تغذية الدوابّ
- الشجرة الكريمة تجود بالثمر والورق، قبل السؤال
- هذا كلام في كلام!
- خلَّصني من سجن الزهرية، ثم أختبر أخلاقي في البخل والجود
- أنا أعرفك أنكِ من سلالة بخيلة
- البخل عن إرادة بابٌ من أبواب العقل، ومهما بخلتُ فلن أبخل عليك، فلن يغيب عني أنك تملك إروائي وإظمائي، وإنك قد تصّيرني حَطباً حين تريد، فأنا مقهورةٌ مقهورة على مسايرة هواك
- ما أنت شجرةَ، إن أنتِ إلا روحٌ جريح
- نعم، فقد تقدَّم أترابي وتخلفتُ، بفضل الحياة تحت حماية القوانين
- قولي كلاماً غير هذا، فبفضل قانون الزهرية عشتِ في أمان، من الغربان
- لأني بقيْتُ صغيرة محبوبة أتلقّى التحيات الآدمية في الصباح والمساء؟
- هو ذلك!
- أنت إذن تجهل فرح الدوحة العظيمة بأن يكون عَرَقُها غذاءَ للسمَّال، وبأن يكون أعاليها ملاذاً لكل خائف، وبأن تكون ثمارها منية كل جائع، وبأن تكون عرضة في كل الأوقات لتطاول الأوباش والسفهاء
- وما الموجب لهذه المتاعب؟
- العظمة في جمع الخلائق من جماد ونبات وحيوان وإنسان لا يتصورها الوهم أو الحس أو العقل إلا محفوفة بالمكاره والصعاب. وليست السعادة بالميزان الذي نعرف به الأقدار الصحيحة لمختلف الخلائق، وإنما الميزان الحق هو الشقاء بالخلق وقد سمعت أنه أشرف ما ظفر به الأنبياء(474/5)
- إن كان الشقاء هو ما تبتغين فقاسميني حظي، يا شجيرتي الغالية
- أنا أطلب الاستقلال
- حتى في الشقاء؟
- حتى في الشقاء، لأشعر بقوة الذاتية
- وهل تضعف الذاتية حين يتساقى المحبون كأس العذاب، شفةً إلى شفة، وقلباً إلى قلب؟
- أنت تحبني؟
- وأي حبّ؟ ألا تذكرين أنني سقيتك مرات كثيرة من دموعي؟
- متى كان ذلك؟
- إن ذلك يقع في كل يوم، وفي غفلة الجنّان، فأنت وليدة الحب والدمع، لا سليلة الماء والطين
- وكيف خصصتني بهذا البِرّ النفيس؟
- جمع بيننا اليتم القاسي، فأنت يتيمة في صحراء مصر الجديدة، وأنا يتيم في بيداء الوجود، ولن تظمأي ولن تجوعي وأنت في ضيافة قلبي وروحي، وما حبستك في سجن الزهرية إلا رغبة في أن يطول نعيمُك بالطفولة الغافية، أيتها اليتيمة العصماء. . . خذي حياتك أيتها الشجيرة من عطفي وحناني، فما لك بعدي أبٌ ولا أخٌ ولا صديق، أنا نصيبُك من دنياك كما كنت نصيبي من دنياي، وضلوعي هي زادك من القُوت إن عزّت الأقوات
- أكنتُ حقَّاً نصيبك من دنياك؟
- أنت الصديق الذي لم يتغّير في مدى سبع سنين، فأوراقُكِ أوراقك، ومَرآك مرآك، بفضل القانون
- أي قانون؟
- قانون الزهرية، يا بلهاء، فهو الذي حفظ عليك نعمة الشباب
- وتريد أن أظل يتيمة طول حياتي؟
- لا يوصَف باليتم غير الأطفال، فإن أبحتُك مُلوحة الأرض فلن تظفري بعد اليوم بملوحة دمعي، لأن الأرض ستصيرك بعد قليل مرأةً شمطاء
- سعادة القاصرين لا تقاس إلى شقاوة الراشدين(474/6)
- أوضحي، يا حمقاء
- قد أوضحتُ، ثم أوضحت، فأتمم جميلك وامنحني الحرية والاستقلال
- منحتك الحرية والاستقلال
- كنت بالأمس راعياً وأنت اليومَ صديق، وما أبعد الفرق بين الراعي والصديق
زكي مبارك(474/7)
4 - كتاب الإمتاع والمؤانسة
الجزء الثاني
للأب أنستاس ماري الكرملي
قيل في نص ص169: (وغرَّق نفسه في كِرْدَاب كلواذي) وجاء في الحاشية: (والجرداب كلمة فارسية معناها دوامة الماء، وهي وسط البحر ولجته التي يدوم عليها الموج؛ وهي بالجيم. ولعل العرب كانوا ينطقونها بالكاف) قلنا: الكلمة الفارسية هي كرداب بكسر الكاف الفارسية أو المعقودة. ويعرب العرب هذه الكاف مرة بالجيم، وتارة بالقاف، وأخرى بالكاف العربية. أما هنا فلم يعربوها إلا بالكاف العربية. أما قول الناشرين في الحاشية: الجرداب. . . معناها دوامة الماء وهي وسط البحر ولجته التي يدوم عليها الموج) فتعبير غريب لم نجد نظيراً له، لأن دوامة الماء قد لا تكون في وسط البحر، بل في أعمق مكان من النهر، كما هو متعارف في دجلة واللجة غير الدوامة، وغير وسط البحر. وأما قولهما: (يدوم عليها الموج) فمشهور التعبير هو (يدوم فيها الماء) لا الموج. راجع ما قالوه في تعريف (الدُرْدُوْر) وهو يقابل الجِرْدَاب الفارسية.
وفي ص170: (ولعمري من غُلّطَ غَلِط) وعندنا أن الصواب هو من غَلّط (بصيغة المعلوم) غُلّط. (بصيغة المجهول من باب التفعيل).
وجاء في ص173: (وتفتلت وتقتلت) والصواب وتقلبت
ورد في ص175 (إن صرَّحت له كَنَى وإن كَنيْتَ له صرَّح) وعندنا الأحسن أن يقال: إن صرَّحت له كَنَّى وإن كنيت له صرح ليكون الفعلان من باب التفعيل، فيحسن وقعهما في السمع، ويكون أيضاً من باب المزاوجة في الوزن. هذا فضلاً عن أن التكنية شائعة كالكناية.
وشرح الناشران في ح ص180 الفقاع بقولهما: شراب يتخذ من الشعير. فهذا كلام اللغويين، وكنا نود أن ينقلا المصطلحات العلمية ومعانيها عن أهل الفن، ولا يكتفيا بتعريف اللغويين، لأن خاصية هؤلاء الأفاضل شرح معنى الكلمة من باب الإجمال لا من باب التخصيص؛ وذلك أن اللغويين شرحوا بشراب يتخذ من الشعير كلاًّ من الألفاظ الآتية: الفقاع، والمِزر والجعة. ولا جرم أن السلف ميزوا كل لفظ عن أخيه حتى لا يهيم القارئ(474/8)
في هيماء الضلال. فقد شرح التميمي الفقاع بقوله: يتخذ على ضروبٍ. وذلك أن منه ما يتخذ من دقيق الشعير المجفف المطحون المخمر بالنعنع والسذاب والطرخون وورق الأُترُجّ والفلفل. . . وأما المتخذ من الخبز السميد المحكم الصنعة، والكرفس ودقيق الحنطة المنبتة، أو من دقيق الشعير المنبت فإنه أقل ضرراً من الأول. . . وقد يتخذ منه ساذجاً بماء خبز السميد المحكم الصنعة مُروَّقاً، ونقيعة المسك والمصطكي فقط، مع قلب نعنع في كل كوز، وقلب طرخون فقط. . . وأما ما يتخذ من الحنطة والشعير والجاورس، المنبتة، من الشراب المسكر المسمى بِمْصر المِزْر، فإنها أنبذه تُسَكر إسكاراً شديداً غير أنها تبتعد عن قُوَّتهِ ومنافعهِ بُعداً شديداً)
ذكرنا بعض هذا الكلام مع طوله لنبين للقارئ أن الفقاع أضْرُبُ، وليعتمد على أهل الفن والصناعة في الأوضاع العلمية، ولا يكتفي بأقوال اللغويين
وجاء في ص196: وقال الوزير (أدام الله أيامه). . . قلنا: هذا دعاء بالخير لا يتحقق ألبته. والأحسن، أو الأقرب إلى الفعل، أن يدعو الإنسان بما يتحقق، فيقولا مثلاً: أطال الله أيامه!
وقال الناشران في ح ص 198: إذ المطرَّي هو المقلوب إلى مُطَّيرٍ فالمطَّير مقلوب إليه. ولعل الصواب: إذ المطري هو مقلوب مطّير فالمطير مقلوبة
وفي ح تلك ص: وعدة أبياتها أربعة وثلاثون بيتاً فيها. ولعل الأصوب أن يقال: وعدة أبياتها أربعة وثلاثون أو أبياتها أربعة وثلاثون، أو وعدة ما فيها أربعة وثلاثون بيتاً، أو نحو هذا التعبير
وفي ح ص199 في كلتا النسختين: يعين من لا يعين وهو تصحيف والتصويب عن شعر. . . والأحسن أن يقال: والتصحيح ليكون المعنى وتصحيح التصحيف، أما قولهما والتصويب، فيكون معناه وتصويب التصحيف. فيكون التصحيف صحيحاً لا خطأ، لأن اللغويين يقولون صوَّب فلاناً قال له أصبت وصوب رأيه، وقوله حكم له بالصواب. وقد جاءت التصويب مرتين في تلك الحاشية
وورد البيت ال 11 في ص 200 هكذا:
تكفيهُ حزَّة فِلذانٍ ألمَّ بها ... من الشواء ويكفي شربهُ الغمرُ(474/9)
وفي الحاشية الحزة القطعة من اللحم تقطع طولاً، والفلذان جمع فلذة وهي القطعة من الكبد واللحم. قلنا هنا خطأ غريب بل خطآن غريبان: الأول أنهما قالا الفلذان جمع فلذة وفِعلة بالكسر لا تجمع على فعلان بل فعل مكسور وبلا هاء في الآخر؛ والخطأ الثاني الغريب هو أنهما قرآها فلذان مع أن الصحيح هو فلذةِ كبد (بفتح الكاف أو كسرها) إن، كما قرأها أول مرة في ص198 س1. فيا للعجب لهذه القراءة ولهذا التأويل ولهذا الخطأ، إذ جعلا كلمة واحدة ما هو في كلمتين!
5 - أوهام التعبير والإنشاء والفكر
جاء في ح ص 27: (أو لعله كتبها واكتفى بإرسالها إلى الوزير). والصواب: (واكتفى بالإرسال بها إلى الوزير. (راجع شرح الطرة عن الغرة طبع في دمشق سنة 1301 ص156)
وفي ص39 (وهاهو بين يديك) والصواب: وهاهو ذا بين يديك (راجع مجلة المجمع العلمي العربي 17: 234و235)
وفي 42 (وقال السيد المسيح: إن استطعت أن تجعل كنزك لا يأكله السوس ولا تدركه اللصوص - فافعل - المشهور هو هذا: (لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والآكلة وينقب السارقون ويسرقون، لكن اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يفسد سوس ولا آكلة ولا ينقب السارقون ولا يسرقون (متي 6: 19 و20)
وفي 123 (وقال عيسى بن مريم: ما ينفع الأعمى ضوء الشمس ولا يبصرها) نحن لم نجد هذا القول المنسوب إلى عيسى بن مريم، فهل يتمكن الناشران من أن يدلانا على محل وروده من الإنجيل.
وفي ص127 (وقال عيسى - عليه السلام - يا بن آدم اعتبر رزقك بطير السماء لا يزرعن ولا يحصدن وإله السماء يرزقهن. فإن قلت لها أجنحة فاعتبر بحمر الوحش وبقر الوحش ما أسمنها وما أبشمها وأبدنها!)
والذي نعرفه شبيهاً بهذا القول من أقوال السيد المسيح ما يأتي (انظروا إلى طيور السماء، فإنها لا تزرع ولا تحصد، ولا تحزن في الأهراء، وأبوكم السمائي يقوتها، أفلستم أنتم أفضل منها (متي6: 28وما يليها)(474/10)
وفي ص 55 (لو كلمني عدوي لعقدت شعر أنفه إلى شعر. . .) والمشهور (شعر أنفه بشعر)
6 - أوهام الضبط والتقييد
وورد في ص2: (فلم يكن لهم فيها مَطْلع)، ونظن الصواب: مُطلّع، وزان محمد
وفي ص6: (المِجَسْطِي) وضبطت بكسر الميم، وفتح وإسكان السين، وكسر الطاء وفي الآخر ياء خفيفة. قلنا: هذا الضبط مخالف للاسم المعرَّب عنه وهو اللاتينية المولدة المركبة من (ال) العربية وهي أداة التعريف واليونانية: أي الأعظم. فيكون معناها العمل الأعظم. وفي ديوان الشارح في مادة (مجسط): المَجَسطي، بفتح الميم والجيم، اسم لعلم الهيئة (كذا) وبه سُمِّي الكتاب الذي وضعه بطليموس الحكيم، وُعرِّب في زمن المأمون. أهـ
وفي ص20: (أولوا) والصواب حذف الألف من الآخر. وفي تلك الصفحة: (دَهْرِيّين)، وضبطت الدال بالفتح، والمشهور ضبطها بالضم
وفي ص46: (علم مَقْبَرةُ) بضم الهاء والصواب بتثليث الباء وفتح الراء وكسر الهاء
وفي ص67: (أسكرُّجة) والمشهور أنها بلا ألف في الأول
وفي ص83 (وكذلك؟): الموسيقى، بكسر القاف والياء الخفيفة. والمشهور الموسيقى، بضم الميم، وكسر السين، وفتح القاف. قال نصر الهوريني في تعليقه على كلمة الربابي الواردة في القاموس في مادة (ر ب ب) في كلامه على ممدود ابن عبد الله الواسطي الربابي، الذي يضرب به المثل في معرفة الموسيقى بالرباب ما هذا نصه: (قوله الموسيقى. هكذا في النسخ بكسر القاف. وهو اشتباه سَبَّبه رسم الكلمة بالياء. وصوابه فتح القاف. كما هو في اللغة الرومية (أي والعامل بتلك الآلة يقال له موسيقار، بزيارة راء في الآخر، كأن هذه الزيادة عندهم كالنسب في جمال وحمار. اهـ
(البقية في العدد القادم)
الأب أنستاس ماري الكرملي
أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(474/11)
أشهر الكتاب الاجتماعيين العراقيين في القرن الرابع
الهجري
القاضي التنوخي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
يسرني أن أبدأ لك - أيها القارئ العزيز - بسرد حياة هذا القاضي الحجة، الكبير الهمة، الشاعر الفحل، والمحقق العدل، والأديب الأريب، العالم ابن العالم ابن الحسب والنسب من آل تنوخ الكرام
أما الذين ترجموه من العصور المتأخرة، فقد رووا عنه أخباراً جميلة وعددوا مؤلفاته التي لم نحصل منها - ويا للأسف - إلا على ثلاثة: أولها كتاب (الفرج بعد الشدة)، ذلك السفر المشحون بأخبار الأولين وكلها أقاصيص وحكايات واقعية تنبئ عن المآثر التي خلدت في عز العرب والإسلام. ترجمه إلى التركية لطف الله بن حسن التوقاني المقتول سنة 900هـ. وقد طبع الكتاب طبعتين: الأولى طبعة الهلال للمرحوم المؤرخ جورجي زيدان سنة 1903م. والثانية طبعة المكتبة العلامية بجوار الأزهر بمصر لصاحبها عبد القادر علام سنة 1938م. وأما ثانيها، فهو كتاب (جامع التواريخ) المسمى (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة)، وهو أحد عشر مجلداً على ما رواه ياقوت في معجم الأدباء اشترط فيه أنه لا يضمنه شيئاً نقله من كتاب. كل مجلد له فاتحة بخطبة. وقال غرس النعمة محمد بن هلال الصابي العلامة المؤرخ المشهور: صنف أبو علي المحسن كتاب (نشوار المحاضرة) في عشرين سنة أولها سنة ستين وثلاثمائة. وقد ذيله غرس النعمة بكتاب سماه كتاب (الربيع) قال: ابتدأته سنة ثمان وستين وأربعمائة. هذا ولم يحصل عالم الطبع منه إلا على جزئين وبعض جزء ثالث. فالأول قام بطبعه المستشرق العلامة مرجليوث، وطبع الجزء الثامن منه بدمشق سنة 1348هـ (1930م) بإرشاد الأستاذ مرجليوث. قال بعد أن سرد ترجمة التنوخي نقلاً عن معجم الأدباء لياقوت الحموي: (وأول مجلد منه نشرناه في سنة 1921م عن نسخة في مكتبة باريس العمومية. وبذل البحاثة الشهير أحمد باشا تيمور جهده في تفسير ما ورد فيه من الغريب، فنثر ثمرات أفكاره في المجلدين الثاني والثالث من(474/13)
مجلة مجمعنا العلمي العربي في دمشق، وقد أخبرنا أن عنده نسخة من الجزء الثاني). ونشر بعض الثالث في مجلة المجمع العلمي العربي بعد نشرها الثامن. هذا، وقد ذكره بعنوان (نشوان المحاضرة وأخبار المذاكرة) - ابن خلكان. ونقل عنه هذه اللفظة صاحب شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي في حوادث سنة 384هـ، وهي سنة وفاة التنوخي. ونقل عنهما الحاجي خليفة في كشف الظنون تلك اللفظة، إذ وضع اسم الكتاب في مادة النون. والكتاب الثالث هو كتاب المستجاد من فعلات الأجواد، لم يذكره سوى ابن خلكان، ونقل عنه صاحب شذرات الذهب. وقد طبع الكتاب حديثاً طبعة حجرية نشره ليوبولي في شتتجارت سنة 1939، طبقاً للمخطوطة الأصلية في 215 صفحة فيها الفهارس كاملة زيادة على ست وعشرين صفحة للمقدمة الألمانية. وقد علمت بأن نسخة خطية منه يملكها المنلا صابر بكركوك. وقد طالعت طائفة من أخباره فوجدته بديعاً لا يقل أسلوباً عن الكتب الأخرى المذكورة آنفاً والشائعة بين القراء والمتتبعين. إن أول من ترجم التنوخي على ما يستوجب سياق التاريخ هو هلال بن المحسن الصابي في تاريخ بغداد الذي وصل به تاريخ ثابت بن سنان، ثم الثعالبي صاحب يتيمة الدهر المتوفى سنة 429هـ حيث قال عنه بعد أن تكلم عن أبيه: (هلال ذلك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المثيل لأصله، والنائب عنه حياته، والقائم مقامه بعد وفاته. . . وله كتاب (الفرج بعد الشدة)، وناهيك بحسنه، وإمتاع فنه وما جرى من الفأل بيمينه، لا جرم أنه سير من الأمثال، وأسرى من الخيال. . . أخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان أنه رأى ديوان شعره ببغداد أكبر حجماً من ديوان شعر أبيه، وأن بعض العوائق حال بينه وبين تحصيله، حتى فاته واشتد الأسف عليه، ولو تقدر له استصحابه كسائر الدواوين البديعة، لكنت أتفسح في الانتخاب منه. ولكني الآن مقل من شعره، وسيقع لي ما أتكثر به، وألحق المختار منه بمكانه من هذا الباب بمشيئة الله تعالى وعونه، وفيه يقول أبو عبد الله بن الحجاج:
إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيرت الشباب على الشيوخ
ومن لم يرض لم أصفعه إلا ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي
وذكره بعدهما الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ في كتابه تاريخ بغداد، عده محدثاً(474/14)
ببغداد وعدد نسبه وحدد تاريخ مولده ووفاته إذ قال: (المحسن بن علي بن محمد بن أبي فهم أبو علي التنوخي القاضي بن القاضي، ولد بالبصرة وسمع بها من واهب ابن يحيى المازني وأبي العباس الأشرم ومحمد بن يحيى الصولي والحسن بن محمد بن عثمان النسوي وأبي بكر بن داسة واحمد بن عبد الصغار وطبقتهم ونزل بغداد وأقام بها وحدث بها إلى حين وفاته. وكان سماعه صحيحاً أديباً شاعراً أخبارياً. أخبرنا عنه أبنه أبو القاسم علي، أخبرنا التنوخي حدثنا أبي - من لفظه وحفظه ومن أصله - حدثنا واهب بن يحيى بن عبد الوهاب المازني البصري - بها من حفظه - قال التنوخي وحدثنا إدريس بن علي المؤدب؛ ورفع الإسناد إلى مسلمة بن مخلد قالْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. ومن فك عن مكروب فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) قال لي التنوخي قال قال لي أبي: مولدي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة. قال وكان مولده في ليلة الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الأول وأول سماعه في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وأول ما تقلد القضاء من قبل أبي السائب عتبة بن عبد الله بالقصر وبابل وصور (كذا) في سنة تسع وأربعين. ثم ولاه المطيع لله القضاء بعسكر مكرم وإيذج ورامهرمز. وتقلد بعد ذلك أعمالاً كثيرة في نواح مختلفة، وتوفي ببغداد في ليلة الاثنين لخمس بقين من المحرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة). أما من ذكره بعدهم فمنهم أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي صاحب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم المتوفى سنة 597هـ، فذكر نسبه ومولده وسماعه وتحديثه وأول سماعه الحديث وتقليده القضاء كما أسلفنا، ثم ذكر أيضاً وفاته كما ذكر سلفه الخطيب البغدادي. وقد ذكره ابن الأثير في كتابه الكامل في حوادث سنة 371هـ. ونقل أن عضد الدولة قبض عليه وألزمه منزله وعزله عن أعماله التي كان يتولاها، وذكره أيضاً في وفيات سنة 384هـ. وهي سنة وفاته سارداً تاريخ مولده أيضاً. قال وكان فاضلاً. وقد ذكر التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) أنه كان على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز سنة ست وأربعين وثلاثمائة. وذكر بعد ذلك بقليل أنه كان على القضاء في بجزيرة ابن عمر. وذكر ابن تغري بردي صاحب النجوم الزاهر المتوفى سنة 874هـ أنه تقلد القضاء بسر من رأى يشبه سوراً. قال: وكان أديباً شاعراً والذي عرفنا - أسباب توليته القضاء(474/15)
وعزله - ياقوت الحموي في كتابه المعروف بإرشاد الأريب في معرفة الأديب - أعني - معجم الأدباء وذلك بإسهاب يصعب علينا استيعابه فنختصره ونقول: (قال بعد ذكر نسبه ومولده سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بخلاف ما ذكره الخطيب البغدادي وابن الجوزي صاحب المنتظم وهما أسبق من ياقوت وذكر وفاته أيضاً من دون خلاف، وذكر تآليفه كما ذكرناه آنفاً: ولي القضاء بواسط وكان بها متولياً سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وقال في موضع آخر من كتابه نشوار المحاضرة: حضرت أنا مجلس أبي العباس أبي الشوارب قاضي القضاة إذ ذاك وكنت حينئذ أكتب له على الحكم والوقوف بمدينة السلام مضافاً إلى ما كنت أخلفه عليه بتكريت ودقوقا وخانيجار وقصر ابن هبيرة والجامعين، وسوراء وبابل والإيغاريين وخطرنية وذكر قصة. وذكر في موضع آخر - جاء قبلاً منقولاً عن الخطيب البغدادي - أنه كان يتقلد القضاء بعسكر مكرم في أيام المطيع لله، وعز الدولة بن بويه. وقد ذكر أبو الفرج الشلجي أنه تقلد القضاء بالأهواز نيابة عن القاضي أبي بكر بن قريعة. قال أبو الفرج: وحدثني أبو علي التنوخي القاضي قال: لما قلدني القاضي أبو بكر بن قريعة قضاء الأهواز خلافة له كتب إلى المعروف بابن سركس الشاهد، وكان خليفته على القضاء قبلي كتاباً على يدي وعنوانه: إلى المخالف الشاق، السيئ الأخلاق؛ الظاهر النفاق، محمد بن إسحاق. وقال ياقوت أيضاً: قرأت في كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس فقصدته للسلام عليه وتجديد العهد بخدمته، فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز قلت نعم. قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده وأنت ولدي وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: ألا أن في الشهادة عنده مع الحداثة جمالاً - وكانت سني يومئذ عشرين سنة - قال وجب أن تجيء إلى الحضرة لأتقدم إلى أبي السائب قاضي القضاة بتقليدك عملاً تقبل أنت فيه شهوداً (قلت ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب. فضحك وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه كيف اغتنمها؟ ثم قال لي أخرج معي إلى بغداد. فقبلت يده ودعوت له. وسار من السوس إلى بغداد. ووردت إلى بغداد في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فتقدم إلى أبي السائب في بما دعاه أن قلدني عملاً بسقي الفرات. وكنت ألازم الوزير أبا محمد وأحضر طعامه ومجالساته. واتفق أن جلس يوماً(474/16)
مجلساً عاماً وأنا بحضرته وقيل: أبو السائب في الدار، قال: يدخل. ثم أومأ إلي بأن أتقدم إليه، فتقدمت ومد يده ليسارّني فقبلتها، فمد يدي وقال ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب فيراك تسارّني في مثل هذا المجلس الحافل فلا يشك أنك معي في أمر من أمور الدولة فيرهبك ويحشمك ويتوفر عليك ويكرمك فإنه لا يجيء إلا بالرهبة، وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك. وأخذ يوصل معي في مثل هذا الفن من الحديث إلى أن دخل أبو السائب. فلما رآه في سرار وقف ولم يحب أن يجلس إلا بعد مشاهدة الوزير له تقرباً إليه وتلطفاً في استمالة قلبه، فإنه كان في ذلك الوقت فاسد الرأي فيه. فقال لأبي السائب يجلس قاضي القضاة، وسمعه الوزير فرفع رأسه وقال له أجلس يا سيدي، وعاد إلى سراري وقال لي: هذه أشد من تلك؛ فامض إليه في غد فسترى ما يعاملك به. وقطع السرار وقال لي ظاهراً: قم فامض بما أنفذتك فيه وعد إلي الساعة بما تعجله، فوهم أبا السائب بذاك أننا في مهم. فقمت ومضيت إلى بعض الحجر وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب فكاد يحملني على رأسه وأخذ يحادثني بضروب من المحادثة والمباسطة وكان ذلك دهراً طويلاً
(البقية في العدد القادم)
يوسف يعقوب مسكوني(474/17)
ترتيب القرآن
للأستاذ أبو طالب زيان
(تتمة ما نشر في العدد 472)
اتفق العلماء على أن هذا الترتيب إنما يجب التزامه في كتابة المصاحف. أما في القراءة فليس بواجب يدل على ذلك حديث عائشة في البخاري حيث قالت للعراقي الذي سألها عن تأليف القرآن: (لا يضرك أية قرأت). وقد حمله جمهور المحدثين على أنه في القراءة بأية سورة أراد دون أن يلتزم الترتيب. قال ابن بطال: لا نعلم أحداً قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة والحج قبل الكهف. وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوساً، فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها. وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها، وتذليلاً للسان في سردها؛ فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه. اهـ
والآن أعود إلى سبق النزول فأقول: لست في حاجة إلى أن أكرر أن القرآن ابتدأ نزوله من ليلة اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده عليه الصلاة والسلام حيث أوحى إليه في غار حراء الذي كان يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وأن أول آيات القرآن نزلت على النبي الكريم وهو بالغار، وأن آخر آية نزلت يوم الجمعة، يوم عرفة، عام حجة الوداع. يدل على هذا ما رواه البخاري بسنده عن طارق بن شهاب عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود. قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال أي آية؟ قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة. ولقد روي البخاري هذا الحديث في عدة مواضع من صحيحه. ورواه أصحاب السنن إلا أبا داود. . . ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها شيء من الفرائض ولا تحليل شيء ولا تحريمه. ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة
عن ابن عباس ومجاهد أن سورة (اقرأ) أول ما نزل من القرآن إلى قوله تعالى: (علم(474/18)
الإنسان ما لم يعلم) ثم نزل باقيها بعد. والجمهور على أن (الفاتحة) أول ما نزل ثم سورة (القلم) وسورة (الضحى) نزل منها أولاً إلى قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ثم نزل باقيها بعد، ولم ينزل من السور الطوال سورة بتمامها إلا سورة (الأنعام). فقد روي كثير من المحدثين نزولها جملة عن غير واحد من الصحابة والتابعين لأنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال المذاهب التي كذبت القرآن ولم يؤمن أصحابها بالبعث والنشور. وهي من المقاصد الأساسية للدين الحنيف التي لا يتوقف نزول آياتها على السؤال والحوادث أو الأسباب التي تقتضي الإنزال
ولقد رجح هذا المذهب الإمام الرازي في تفسيره الكبير والقرطبي وغيرهما من علماء التفسير، كالكشاف، والنسفي. ولم يضعفه إلا الأستاذ الألوسي في كتابه (روح المعاني) فقد أنكر نزول هذه السورة جملة وقال: كيف يمكن حينئذ أن يقال في كل واحدة من آياتها أن سبب نزولها كذا. . . ولكن إنكار الأستاذ. . . ضعيف لأن ما ذكره الجمهور في أسباب نزول آياتها بعضه لا يصح والبعض الآخر لا يدل على نزول تلك الآيات متفرقة لأن غاية ما قالوه أن تلك الآية نزلت في كذا وكذا أو في قول المشركين كيت وكيت. فإذا صح كان معناه أن تلك الآيات نزلت بعد الوقائع؛ وهذا لا يتنافى ونزولها دالة على ذلك في ضمن السورة. . .
ولقد نزل كتاب الله في تلك الفترة بين مبتدأ الوحي ومنتهاه مفرقاً إلى أجزاء كل جزء منها يسمى نجماً؛ وربما نزلت الآية المفردة وربما نزلت آيات عدة إلى عشر كما صح عند أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرق الرواة. فقد نزلت عشر آيات في قصة الإفك جملة، ونزلت عشر آيات من أول المؤمنين جملة، يدل على نزولها جملة ما رواه الإمام أحمد بسنده عن عمر بن الخطاب قال: كان إذا نزل على رسول الله الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: (اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا) ثم قال: لقد أنزل الله علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة. ثم قرأ: (قد أفلح المؤمنون) حتى ختم العشر. . . وصح نزول (غير أولي الضرر) وحدها، يدل على ذلك ما رواه البخاري في كتاب الجهاد من حديث البراء بن عازب قال: لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين)(474/19)
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، فجاء بكتف فكتبها. وشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر).
وفي هذه الرواية إبهام وضحته الرواية التي رواها البخاري أيضاً بعدها عن سهل بن سعد الساعدي، وفيها التصريح بأن الذي نزل غير أولي الضرر وحدها.
ومن السور القصار ما كان ينزل جملة ومنها ما كان ينزل مفرقاً. ولقد كان هذا التنجيم مثاراً لعجب المشركين ومنشأ لاعتراضهم على القرآن، فقد سمعوا أن الكتب السماوية السابقة كانت تنزل على الرسل جملة واحدة كما نزلت التوراة على موسى في الألواح مرة واحدة فقالوا إذا كان القرآن قد نزل على محمد من عند الله كما يدعي فما باله لم ينزل عليه جملة واحدة كما نزلت التوراة على موسى وما باله تنزل منه الآية أو الآيات تلو الآية أو الآيات في أزمنة متطاولة؟ أليست سنة الله في إنزال الكتب واحدة؟
ألا يكون مجيئه هكذا مفرقاً دليلاً على أن محمداً صلى الله عليه وسلم يصطنعه، ثم يدعي أنه من عند الله؟
نعم!! ليست هذا الشبهة بأولى جهالاتهم؛ فقد قالوا في القرآن ما هو أبشع من هذا، وغالطوا حسهم وعقلهم وكابروا وجدانهم؛ فقالوا: (إن هذا إلا أساطير الأولين)؛ وقالوا: (أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملي عليه بكرة وأصيلا)؛ وقالوا: (إن هذا إلا أفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون)؛ وقالوا: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات، قال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين)؛ وقال الوليد بن المغيرة: إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا قول البشر: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا أفك قديم). وهكذا شأن كل جهول يحكم على الأشياء بجهله، وبما يوحيه إليه فساده واستبداده، وتصوره له سخافة فكرة
ولقد جهل المشركون أن نزول القرآن منجماً أمر اقتضته حكمة الله التي سمت عن عقولهم، وضلت عنها أفكارهم؛ وأنه لولاه لما أحدث القرآن الكريم في الأمة العربية ذلك الانقلاب الخطير الذي تسري أثره في الأمم؛ فكان حداً فاصلاً بين عهدين: عهد طفولة النوع البشري، وعهد بلوغ أشده، واستكماله خصائصه التي ميزه الله بها على كثير من خلقه؛ وقد حكى الله تعالى شبهتهم هذه في سورة الفرقان بقوله: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)؛ وفندها ورد عليهم بقوله: (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا(474/20)
يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا). فبين أن حكمة تنجمه هي تثبيت فؤاد النبي عليه السلام في مواطن اللجاج والخصومة بينه وبين المكابرين من أعدائه، واقتصر في بيان حكمة التنجيم على هذه الحكمة لمناسبة المقام؛ فإن المشركين كانوا يظنون أن هذه الشبهة الواهية التي شنعوا بها على القرآن كافية في هدم دعائم الدعوة المحمدية، فعكس الله عليهم ظنهم وبين أن تنجيمه من أقوى العوامل في تثبيت قلبه، وتقوية شوكته، وإحكام دعوته. واقتصار القرآن على هذه الحكمة لا ينافي أن لتنجيمه حكماً أخرى يجتلي البصير نورها إذا تأمل في المناسبات التي نزل القرآن لأجلها، والغرض المنشود من إنزاله كله، والظروف التي أحاطت بالرسول والمسلمين حين نزوله، وإلى الباحث البيان:
الأول: أن نزوله منجماً كان يحسب الوقائع والحوادث التي كانت تحصل في المجتمع الإسلامي على عهد نزول التشريع والأسئلة والمقترحات التي كانت توجه من المسلمين أو غيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشبه التي كانت تدور في قلوب المشركين ويظهر القول بها على ألسنتهم ومما تقتضيه حالة المسلمين في أوقات السلم من تقرير عقائد الدين وشرائعه وفضائله، وقوانينه العامة التي يراد بها تنظيم المجتمع الإسلامي وتكوين أمة فتية متمتعة بكل خصائص الأمة الحية، وحالتهم في أوقات الحرب من الحث على الجهاد والغرض الذي يجب أن يقصد به، وبيان الأحكام المتعلقة به. كتقسيم الغنائم والفرد وحكم الأسارى وغير ذلك.
الثاني: أنه نزل تدريجياً ليكون أبلغ في التحدي وأظهر لإعجاز القرآن
الثالث: أنه نزل كذلك للتدريج في تربية الأمة العربية تربية دينية وخلقية واجتماعية وإعدادها لمنزلة الخلافة في الأرض ولقيامها مقام المصلح لما فسد من عقائد الأمم وما تسفل من أخلاقها وعاداتها وتقاليدها وما اختتل من أحوالها العامة ونظمها الاجتماعية
الرابع: وليسهل حفظه وفهمه والعمل به على المسلمين وامتزاجه بدمائهم حتى يصير جزءاً من نسيجهم العقلي ليمكنهم أن يضطلعوا بأعباء الدعوة المحمدية بعد رسول الله على بصيرة وهدى وأن يسيروا في هداية الأمم على نهج واضح، ولا تبعد عنهم الغايات التي ندبوا لتحقيقها في العالم الإنساني
الخامس: وليثبت الله تعالى به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن الخصومة: (كذلك(474/21)
لنثبت به فؤادك) رداً على قول المشركين (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) فالآية صريحة في نزوله منجماً كان المقصود منه تثبيت فؤاد النبي عليه السلام ليتفرغ لتبليغ الدعوة المحمدية بعزيمة قوية وهمة متقدة وقلب مطمئن لا تساوره الأحزان ولا تحتل ساحته الهموم والأكدار التي تكسر شوكة العزيمة وتضعف قوة إرادة وتطفئ جذوة النشاط الملتهب وتقيد الإنسان عن السير إلى المثل الأعلى الذي يتوخاه في عمله، خصوصاً في مثل المهمة الكبرى التي يراد بها صقل طبائع النفوس وتهذيب الفطر الإنسانية وإصلاح ما فسد من أحوال الأمم، وتوجيه العالم البشري في طريق الهدى والرشاد ليصل إلى سعادة الدنيا والآخرة
والخلاصة أنك ترى مما تقدم ذكره أن تنجيم القرآن الكريم مع كونه مقتضى الحكمة الإلهية كان ضرورة حتمية لا محيص عنها، وأنه لو أنزل جملة واحدة ما أتى بالنتيجة المطلوبة منه في تلك الأمة التي كانت عريقة في الجهالة والهمجية
أما بعد فلعلي بهذه العجالة ألقيت ضوءاً على هذا البحث الذي ألفيته من المباحث الشاقة في التنقيب، الوعرة في المسالك، فجاريته على سرعته. وصادقته على علاته فطرقت حكم التنجيم، لأنها منه كالتكملة والذيل والعلة للمعلول. ولعل من الباحثين من يبحثه بحثاً غير ما بحثت، ويحرره تحريراً غير ما حررت؛ ولنا في ثقافتهم آمال كبار.
أبو طالب زيان(474/22)
38 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثاني عشر - السمر والتنجيم والكيمياء
يدرس الكثيرون في مصر الكيمياء أيضاً. وهنالك فئة تنعم بمواهب يستطيعون أن يبلغوا بها شهرة أفضل مما يدركونه من هذه المهنة. ويواصل هؤلاء جهدهم العقيم حتى يبلغوا الكبر بالرغم مما يلاقون من سخرية حصفاء الرأي وذم الذين يغررون بهم عن غير قصد. ومع ذلك فقد يحصلون على معلومات كيميائية وافرة بدراسة هذا العلم الكاذب. والاهتمام بالكيمياء في حالة الانحطاط العلمي الموجودة الآن بمصر يبرهن على العقلية المصرية الرفيعة
وهناك أو كان هناك مصري يدعى الشيخ إسماعيل أبو الروس من مدينة دسوق، ذاع صيته في السحر الروحاني. ويتحدث المصريون حتى أكثرهم علماً ورزانة عن مهارته السحرية أحاديث لا تصدق. فيتحدث بعضهم مؤكداً زواجه بجنية، وآخرون عن استخدامه جنياً يستشيره ويأمره في الباطن دون أنه يستعمل طلسماً ما مثل مصباح علاء الدين. ويقال إن الشيخ كان يستخدم دائماً قوته الخارقة في أغراض طيبة أو بريئة، وأن محمد علي - كما يقول البعض - كان يكرمه ويستشيره كثيراً. وقد أخبرني أحد أصدقائي المسلمين الأذكياء في القاهرة أنه زار أبا الروس في دسوق بصحبة الشيخ الأمير بن الشيخ الأمير الكبير شيخ المالكية، فسأل صاحب صديقي مضيفهما أن يبين لهما بعض ما يدل على براعته في السحر، فأجابه إلى طلبه. فقال الشيخ الأمير: قدم إلينا القهوة في فناجين أبي الموجود بالقاهرة. وانتظرا قليلاً ثم أحضرت القهوة فنظر الشيخ الأمير إلى الفناجين وظروفها وصرح أنها طقم أبيه بلا شك. وبعد ذلك قدم الشراب في قلل أبيه. ثم كتب رسالة(474/23)
إلى أبيه وأعطاها لأبي الروس طالباً الحصول على الرد. فأخذها الساحر ووضعها وراء وساد الديوان، وبعد قليل رفع الوسادة وأراه أن رسالته اختفت وحلت محلها أخرى أخذها الشيخ الأمير وقرأها فوجد فها ردَّاً كاملاً على ما كتبه بخط صرحَّ بأنه خط أبيه، وأخباراً عن عائلته تبين له صحتها التامة بعيد عودته إلى القاهرة. وقد وقع أثناء زيارتي الأخيرة لمصر حادث سحري عجيب تدخلت فيه الحكومة وكان محل حديث الناس وتعجبهم في العاصمة كلها. وسأروي هذه الواقعة تماماً كما قصها عليَّ الكثيرون في القاهرة دون أن أحذف منها المبالغات التي دبجوا بها حديثهم، لا لأنني جاهل مبلغ صحتها فحسب، بل لأبين إلى أي حد عظيم يؤمن المصريون بالسحر
عُزل مصطفى الدجوي كبير الكتاب في مجلس القاضي من وظيفته، وحل مكانه آخر يسمى مصطفى كان صيرفياًّ. فأرسل الأول إلى الباشا التماساً لإعادته ثانية، إلا أنه مرض مرضاً شديداً قبل أن يصله رد. فاعتقد أن ذلك نتيجة سحر استخدمه مصطفى الصيرفي بكتابه شعوذة تسبب موته، ولذلك أرسل إلى الباشا مرة أخرى يتهم الصيرفي في بهذه الجريمة، فأحضر المتهم أمام الباشا فاعترف بفعله ودل على الساحر الذي استخدمه. ولما قبض على الساحر لم يستطيع إنكار التهمة، فسجن حتى ينجو الدجوي أو يموت، وأودع في حجرة صغيرة يتناوب حراستها حارسان - وهنا يبدأ القسم العجيب في القصة - عندما جن الليل، وبعد أن نام أحد الحارسين سمع الآخر صوت همهمة غريبة، فنظر من خصاص باب الحجرة، فرأى الساحر جالساً وسط الغرفة يدمدم ببعض كلمات لم يستطيع فهمها، وفي الحال انطفأت الشمعة التي كانت أمامه، وظهر في الوقت نفسه أربع شمعات أخرى في كل ركن من أركان الغرفة الغرفة، ثم وقف الساحر تجاه أحد الحوائط وضربة بجبهته ثلاثاً، وفي كل مرة كان الحائط ينفرج عن رجل يبدو أنه يخرج منها. ولم يلبث هؤلاء أن اختفوا بعد أن حدثهم الساحر قليلاً، وكذلك اختفت الشمعات الأربع، وعادت الشمعة الأولى وسط الغرفة مضيئة كما كانت قبلاً، ورجع الساحر إلى جلسته، وساد السكون. . . وهكذا أبطلت التعويذة التي كانت معدة لقتل الدجوي. ففي الصباح التالي شعر المريض بتحسن كبير بحيث توضأ وأقام صلاته. ومنذ ذلك الوقت تم شفاؤه سريعاً، وأعيد إلى وظيفته السابقة، ونفي الساحر من مصر. وقد نفى ساحر آخر بعد أيام قليلة لكتابته(474/24)
حجاباً جعل بنتاً مسلمة تصاب بحب قبطي حباً جامحاً.
وقد أثار فضولي في موضوع السحر بعيد قدومي إلى مصر حادث قصة عليّ مستر صولت قنصلنا العام؛ فقد سرقت من منزله أمتعة أتهم بسرقتها أحد خدمه. فاستدعى ساحراً مغربياً شهيراً ليحمل المذنب، إذا كان أحدهم مذنباً، إلى الاعتراف بذنبه. وحضر الساحر وقال إنه سيبين صورة اللص بحيث تبدو كاملة لأي صبي لم يبلغ سن المراهقة؛ وطلب من رب الدار أن يحضر أي ولد يختاره، وكان هناك عدة أولاد يعملون في حديقة مجاورة للمنزل، فدعي أحدهم لهذا الغرض. فرسم الساحر بالقلم على راحة يد الولد اليمني شكلاً هندسياً صب في وسطه ليلاً من الحبر؛ وطلب من الولد أن ينظر في الحبر بعزم؛ ثم حرق بعض البخور وعدة قصاصات من الورق كتب عليها تعاويذ؛ واستدعى في الوقت نفسه أشياء مختلفة تظهر في الحبر. وأعلن الولد أنه رأى هذه الأشياء وصورة المتهم أخيراً. فوصفه بقامته وهيئته وملبسة، وقال إنه عرفه، ونزل مباشرة إلى الحديقة وقبض على أحد العمال الذي اعترف أمام السيد بجرمه
وقد شوّقني الحديث السابق إلى مشاهدة حادث كهذا. ولكن لجهلي أسم الساحر ومكانه كنت عاجزاً عن الوصول إليه. على أنني علمت بعيد عودتي إلى إنجلترا أن هذا الساحر أشتهر بين السياح المتأخرين في مصر، وأنه يقيم في القاهرة، وأنه يسمى الشيخ عبد القادر المغربي. وقد أحضره جاري عثمان مترجم القنصلية البريطانية، بعيد قدومي الثاني إلى مصر. فضربت له موعداً ليثبت مهارته التي اشتهر بها. وحضر الساحر في الموعد المعين، قبل الظهر بساعتين تقريباً، ولكن كان يلوح عليه القلق وتطلع إلى السماء مراراً، ثم لا حظ أن الجو غير موافق. وكان اليوم عابساً كثير الضباب عاصف الهواء. وكانت التجربة قد عملت مع ثلاثة صبيان على التوالي، ولكنها لم تنجح تماماً مع أولهم وفشلت مع الآخرين. فقال الساحر إنه لا يستطيع أن يقوم اليوم بأكثر من ذلك، وأنه سيحضر مساء يوم ثانٍ. وقد حافظ على وعده وقرر أن الوقت ملائم؛ وأخذنا ندخن الشبك ونحتسي القهوة وهو يحدثني أحاديث مختلفة منتظرين جاري عثمان ليشاهد التجربة. والساحر جميل الشكل طويل القامة قوي البنية، وجهه أقرب إلى البياض، ولحيته شديدة السواد، رث الثياب أخضر العمة كبيرها، لانتسابه إلى النبي (ص) لطيف الحديث بلا تكلف. وقد(474/25)
أخبرني أنه يباشر أعماله العجيبة بواسطة الأرواح الطيبة، ولكنه قال لآخرين أن سحره شيطاني
وطلب الساحر أولاً قلماً وحبراً وقطعة ورق ومقصاً ليعد تجربة مرآة الحبر السحرية التي تسمى، مثل بعض الأعمال المشابهة الأخرى، ضرب المندل. ثم قطع قصاصة ضيقة كتب عليها بعض أدعية علاوة على تعويذة أخرى يعتقد أن التجربة تتم بها. ولم يحاول أن يخفي ذلك. ولما طلبت نسخة منها قبل بسهولة وكتبها في الحال موضحاً لي في الوقت نفسه أنه يبلغ غايته بفعل الكلمتين الأوليين (طرش) و (طريوشٌ) وهما أسماء تابعيه الجنيين. وقد قارنت النسخة بالأصل فوجدتها مطابقة تماماً. وهذا نصها:
طرْشٌ طريوشٌ انزلوا انزلوا، احضروا إلى مذهب الأمير وجنوده، إلى الأحمر الأمير وجنوده
احضروا يا خدام هذه الأسماء.
وهذا الكشف، فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد صحيح صح.
وبعد أن كتب هذه الكلمات، فصل الأدعية عن التعويذة وقطع الأولى إلى ست جذاذات. ثم شرح لي أن القصد من التعويذة التي تتضمن جزءاً من الآية الحادية والعشرين من سورة الكف، هو فتح عين الصبي بطريقة غير عادية وجعل بصره حاداً يرى مالا نراه
وكنت قد أعددت بإرشاد الساحر قليلاً من اللبان، والكزبرة ومجمرة بها جمر. فوضعت كل هذا في الغرفة مع الصبي الذي أعد لإجراء التجربة، وكانوا قد دعوه من الشارع بناء على طلبي من بين بعض الصبيان حين عودتهم من أحد المصانع. وكان الصبي يبلغ من العمر ثماني سنوات أو تسعاً. وعندما سألت الساحر أن يبين لي من يستطيع النظر في مرآة الحبر السحرية أجابني: الصبي دون البلوغ، والبنت العذراء، والجارية السوداء، والمرأة الحامل. ووضع الساحر المجمرة أمامه، ثم أجلس الصبي على كرسي وأمر خادمي أن يضع في المجمرة بعض لبان وكزبرة. ثم أمسك يد الصبي اليمين ورسم على راحته مربعاً سحرياً نقلت نسخة منه هنا (شكل رقم 53) ويتضمن هذا الشكل أرقاماً عربية ثم صب في وسطه قليلاً من الحبر وطلب من الصبي أن ينظر فيه ويخبره إذا كان يمكنه رؤية وجهه معكوساً فيه. فأجاب الصبي إنه يرى وجهه جلياً. فقال الساحر وهو يمسك بيد الصبي طول(474/26)
الوقت أن يظل محدَّق النظر وألا يرفع رأسه
ثم أخذ الساحر إحدى قصاصات الورقة المكتوبة عليها الأدعية وأسقطها في المجمرة على الجمر والبخور الذي كان قد ملأ الغرفة بدخانه. وبينما كان يفعل ذلك أخذ يدمدم دمدمة لم تنقطع طول العملية إلا حينما كان يوجه للصبي سؤالاً أو يعرفه ما يجب قوله. ووضع في مقدمة طاقية الطبي الورقة المكتوبة فيها الآية القرآنية. وسأله عند ذلك إذا كان يرى شيئاً في الحبر، فأجابه بالنفي؛ ولكنه لم يلبث أن قال وهو يرتعش ويبدو أكثر خوفاً: (أرى رجلاً يكنس الأرض) فقال الساحر أخبرني بعد أن ينتهي من الكنس. فقال الصبي في الحال (لقد فعل). فقطع الساحر إذ ذاك دمدمته مرة أخرى ليسأل الصبي إذ كان يعرف ما هو البيرق؛ فلما رد بالإيجاب أمره أن يقول: (هات بيرقاً). ففعل الصبي ذلك ولم يلبث أن قال: (لقد أحضروا بيرقاً). فسأله الساحر (على أي لون هو؟). فأجاب الصبي أحمر. فقال له أطلب بيرقاً آخر. فلم يلبث أن قال إنه رأى بيرقاً آخر، وأنه اسود اللون. وبالطريقة نفسها قال الساحر للصبي أن يطلب ثالثاً ورابعاً وخامساً وسادساً وسابعاً. فقال الصبي إنها أحضرت على التوالي وأنها أبيض وأخضر واسود وأحمر وأزرق. فسأله الساحر حينئذ (كم بيرقاً أمامك الآن؟) فأجابه (سبعة). ووضع الساحر أثناء ذلك ثاني القصاصات المكتوبة عليها الأدعية وثالثها في المجمرة. وإذ كان يضيف لباناً وكزبرة مراراً فقد أصبح الدخان يؤلم العين. وعندما أخبره الصبي أن البيارق السبعة ظهرت له أمره أن يقول: (أحضر خيمة السلطان وانصبها) ففعل ذلك وقال بعد لحظة: (لقد أحضر بعض الرجال الخيمة وهي خيمة كبيرة خضراء وهم ينصبونها) ثم أضاف تواً (لقد نصبوها) فقال الساحر: (الآن مر الجنود بالحضور وبنصب معسكرهم حول خيمة السلطان) ففعل الصبي كما أمره وقال على الفور: (أرى عدداً عظيماً من الجنود بخيمهم. لقد نصبوا خيمهم). فقال له حينئذ أن يأمر الجنود بالاصطفاف. ولم يكد يأمرهم حتى قال إنهم اصطفوا. ووضع الساحر رابع القصاصات في الجمر وسريعاً ما ألحق بها الخامسة. وقال تواً: (قل للبعض أن يحضروا ثوراً) فاصدر الصبي الأمر وقال: (أرى ثوراً أحمر يسحبه رجال أربعة ويضربه ثلاثة) فقال له أن يأمرهم بذبحه وتقطيعه ووضع لحمه في أوعية وطهيه. ففعل كما أمره ووصف هذه العمليات كما تمت حسب الظاهر أمام عينه. فقال الساحر: (قل للجنود يأكلون) ففعل الولد(474/27)
وقال: (إنهم يأكلون. لقد أكلوا وهو يغسلون أيديهم) فقال له الساحر إذ ذاك أن يدعو السلطان ففعل الولد وقال: (أرى السلطان ممتطياً جواداً أشهب وعلى رأسه قلنسوة مرتفعة حمراء. لقد ترجل عند خيمته وجلس داخلها) فقال الساحر: (مرهم بتقديم القهوة للسلطان وبتأليف المجلس) فاصدر الصبي هذه الأوامر وقال إنها نفذت. وكان الساحر قد وضع آخر القصاصات الست في المجمرة. ولم أميز من همهمته شيئاً غير ألفاظ الدعاء المكتوب التي رددها مراراً ماعدا مرتين أو ثلاثة سمعته يقول: (إذا استعلموا أخبرهم. وكونوا أنتم صادقين) إلا أن أكثر ما ردده كان غير مسموع. ولما لم أسأله أن يعلمني عِلمه فلا أدعي الجزم بأني أعرف تماماً أدعيته
عدلي طاهر نور(474/28)
مطالعات في الأدب الغربي
مقدمة في الفن
لأسكار وايلد
بقلم الأستاذ علي كمال
(أسكار وايلد أعظم من أن يعرف بغير ما كتب. وقصته
العظيمة التي اشتهر بها تعتبر سفراً فنياً عظيماً،
ومقدمتها القصيرة تلخص نظرات هذا الفنان في الفن، وهي
تضع قواعد جديدة في النقد الفني لا تسر المحافظتين من
أصحاب المدرسة الأخلاقية في النقد)
الفنان هو خالق الأشياء الجميلة
إظهار الفن وحجب الفنان هما غرض الفن
الناقد هو الذي يستطيع أن ينقل إلى صورة أخرى أو مادة أخرى تأثراته بالأشياء الجميلة
إن الذين يجدون معاني قبيحة في الأشياء الجميلة، إنما هم فاسدون مجردون عن الجمال
لطائفة مختارة تعني الأشياء الجميلة الجمال فقط
ليس هناك كتاب أخلاقي أو غير أخلاقي. الكتب إما أن تكتب كتابة جيدة أو رديئة، وهذا كل شيء
كره القرن التاسع للواقعية هو غيظ (كالبان) لرؤيته وجهه في الزجاج
وكره القرن التاسع عشر للرومانتيقية هو غيظ (كالبان) لعدم رؤيته وجهه في الزجاج
حياة الرجل الأخلاقية تكون جزءاً من مادة الفنان، غير أن أخلاق الفن تتألف من الاستعمال التام المادة ناقصة
ما من فنان يرغب في برهنة أي شيء. كل شيء تمكن البرهنة عليه حتى الأشياء الصادقة
ليس للفنان عواطف أخلاقية. والعاطفة الأخلاقية في فنان تأنق في الأسلوب لا يغفر له(474/29)
لا يمرض الفنان أبداً. الفنان قادر على التعبير عن كل شيء
الفكر واللغة للفنان أداة للفن
الرذيلة والفضيلة عند الفنان مادة للفن
مثال جميع الفنون من ناحية الشكل هو فن الموسيقى، وحرفة الممثل من ناحية الشعور هي المثال
الفن كله سطحي ورمزي. فالذين يذهبون إلى ما دون السطح يخاطرون بذلك على حسابهم. . . والذين يقرأون الرمز يخاطرون بذلك على حسابهم
المشاهد لا الحياة هو في الحقيقة ما يعكسه الفن
اختلاف الرأي في عمل فني يظهر أن العمل جديد حي معقد
عندما يختلف الناقدون يكون الفنان على وفاق مع نفسه
يمكننا أن نسامح الرجل الذي يصنع الأشياء المفيدة ما دام لا يعجب بها. والعذر الوحيد لصانع شيء غير مفيد هو إعجابه به بشدة
الفن بأجمعه لا فائدة منه أبداً. . .
علي كمال(474/30)
هنا القاهرة. . .
للأستاذ عبد اللطيف النشار
- 1 -
سَبَقَ المذيعُ إلى الهتاف بها ... أَوَعى المذيعُ جلالَ ما هتفا؟
أأقولها وأحس عن كثب ... دنيا فتنت بحسنها شغفاً
ما زرتها إلا على عجل ... إن قلت أقبل موعدي أزفا!
كالطير روحته وغدوته ... صنوان ما افترقا ولا اختلفا
طيف ألمٌ بها ولم يرها ... ورأته طيفاً دقً بل لطفاً
يا من (بمصر) وعندهم أملي ... أَيُحاَل دون لقائكم جنفا؟
تأبى إطاعةَ هاجس ثقتي ... بالله، فهو وكيلنا وكفى!
- 2 -
متى يا تُرى أدعو دعاَءكَ صادقاً ... بأنَّيَ قد أصبحت في (مصر) ثاويا؟
دعا الشاعر (العقاد) قبلَيِ دعوةً ... أجيبت، فهل رد الإلهُ دعائيا؟!
(أيا مرجع الأيام من حيثما ابتدت ... أعِدْ لي أيامي (بمصر) كما هيا)!
أجيبَ دعائيَ ومْضَةَ البرق، لا أرى ... سحاباً، ولكن أسمع الرعد داويا
ألا يا غدي، ماذا تخِّتبئ يا غدي؟ ... أأسكت، أم أفضي إليك شكاتيا؟!
سكت، فقد عاهدت ربيَ قبلها ... بالا يراني آخر الدهر شاكياً!
- 3 -
نفسي المقولة في خطابكمو ... لا شيء في لفظي سوى نفَسي
شعراء (مصرٍ) في حناجركم ... وتَرٌ يضخم اضعفَ الجرْس
يا ليت في أسماعكم وتراً ... أقوى فيسمع بينكم همس!
- 4 -
علمان في (العلمين) يقتتلان ... يا (مصر) ما (العلمين) ما العلمان؟
لا ابتغي غيظ النحاة ولم أمل ... (للأَين) إذ يرضى النحاةَ (الآنِ)(474/31)
يا نصف نحوي يجادل كله ... ليت العوالم كلها كلساني!
قل مخطئا واسمع مقالة مخطئ ... لا يحسن التصويبُ كل أوان
الجد ليس يريح من يمُنى به ... فتنقلوا - يا قوم - بالهذيان!
عبد اللطيف النشار(474/32)
فلسفة الحب
للشاعر بيرسي شيلي
إن الجداول تمتزج بالأنهار، والأنهار
بالبحار، والبحار بالمحيطات، ونسائم
الفردوس يمتزج إلى الأبد بعضها
ببعض بعاطفة عذبة. ليس في الكون
شيء منفرد بذاته؛ فكل شيء يمتزج
حسب قانون مقدس بشيء ثان.
فلماذا لا تمتزجين بي وأمتزج بك؟
انظري الجبال تقبل السماء العالية،
والأمواج تحتضن الأمواج، وليس
هناك من زهرة يمكن أن تعذر إذا بقيت
بمفردها محتقرة أختها الوردة، ونور
الشمس يحتضن الأرض، وأشعة القمر
تقبل وجه البحر؛ فما قيمة كل هذه
القبلات إذا لم تقبل شفتاك شفتي؟
(بغداد)
صفاء خلوصي(474/33)
البريد الأدبي
توثيق العلاقات الثقافية بين مصر والعراق
أقر مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة مشروع وزارة المعارف بتأليف مكتب لتوثيق العلاقات الثقافية بين مصر والعراق. وفيما يلي مذكرة معالي الأستاذ الوزير ننشرها لقيمتها التاريخية
(بتاريخ 30 أكتوبر سنة 1941 عرض وزير المعارف السابق على مجلس الوزراء فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر تعليمي للبلاد العربية؛ وقرر مجلس الوزراء تأجيل البت في هذا الأمر إلى أن تقدم إليه وزارة المعارف الموضوعات التي سيتناولها المؤتمر ومبلغ ما يحتاج إليه عقده من اعتمادات
وقدمت وزارة المعارف بتاريخ 11 ديسمبر سنة 1941 بياناً إلى مجلس الوزراء بما طلب من الموضوعات التي سيتناولها المؤتمر ومبلغ الاعتماد الذي سيحتاج إليه، فوافق مجلس الوزراء على عقد هذا المؤتمر في الخريف المقبل
ولما تألفت الوزارة القائمة، أعيد درس هذا الموضوع، وتبين أن وزارة المعارف لم تستشر لجنة المؤتمرات ولا وزارة الخارجية في عقد هذا المؤتمر؛ وقد انتهزت وزارة المعارف فرصة وجود مندوبين من وزارة المعارف العراقية في القاهرة في الشتاء الماضي لحضور مؤتمر تدريس العلوم، وهما الدكتور فاضل جمالي مدير التعليم العام بالعراق، والدكتور متي عقراوي مدير دار المعلمين العليا ببغداد، فتحدثت إليهما في موضوع عقد المؤتمر، وفي موضوع أهم منه، وهو تنظيم التعاون الثقافي بين مصر والعراق.
وانتهت هذه المحادثات الأولية إلى ضرورة إنشاء مكتب مشترك بين وزارة المعارف المصرية ووزارة المعارف العراقية، لتنظيم شئون التعاون الثقافي بين البلدين والإشراف عليها
واقترح أن يؤلف هذا المكتب من ممثلين لوزارتي المعارف في مصر وفي العراق، وأن يكون للبلاد العربية الحق في أن تشترك فيه إن أرادت، وأن يعقد المكتب اجتماعات دورية منظمة في كل عام لتبادل الرأي في الأغراض الثقافية والتعليمية التي تحدد؛ على أن يكون من بين المسائل التي يدرسها ويرفع من شأنها اقتراحاته إلى الحكومتين المصرية والعراقية(474/34)
الموضوعات الآتيان:
(أ) وضع الأسس لمعاهدة ثقافية بين مصر والعراق، على أن يكون لغيرهما من البلاد العربية الانضمام إليها
(ب) الدعوة إلى مؤتمرات ثقافية تمثل فيها البلاد العربية.
وفي الواقع أن بين مصر والعراق تعاوناً مستمراً. فالحكومة العراقية تطلب إلينا الأستاذة والمعلمين في كل عام، كما تطلب إلينا معونات أخرى تتصل بالكتب والأدوات الدراسية
ونحن نفعل ما نستطيع لإجابة الحكومة العراقية إلى ما تريد في حدود ظروفنا الخاصة. ولكن هذه الأمور تجري على غير نظام ثابت واضح، وتعمل فيها المصادفات أكثر من أي شيء آخر؛ والوسيلة العملية لتنظيم الصلات الثقافية القائمة بين البلدين وتوثيقها هي إنشاء هذا المكتب الدائم الذي يتولى هذه الشئون.
مشاكل التموين في الزمن القديم
تستفحل مشاكل التموين في أوقات الأزمات والحروب، حتى ليستعصي حلها على كثير من الدول ما لم تصطنع لها من وسائل الدقة وحسن التنظيم وكفاية التوزيع ما يستغرق أكبر مجهود ويقتضي أوفر عناية.
وقد يخيل إلى بعضنا أن توزيع المؤن والأقوات على مقتضى البطاقات وشبهها، من الأنظمة التي توصل إليها الغربيون قبلنا فنقلناها عنهم. ولكن الواقع يثبت غير ذلك؛ إذ قد عرفت حكومة الشرق الإسلامية هذه الوسائل منذ عهد بعيد؛ وقد التُجئ إليها حين أشتد القحط وشحت الأقوات في بلاد الهند، وقت زيارة الرحالة ابن بطوطة لهذه الأصقاع في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، على عهد السلطان أبي المجاهد محمد شاه صاحب دلهي وابن السلطان غياث الدين تُغْلُق شاه. . .
وقد ذكر ابن بطوطة أن ثمن المنَّ من القمح بلغ حينئذ ستة دنانير - والمن وزن يبلغ رطلين - فأمر السلطان بإعطاء جميع أهل دلهي نفقة ستة أشهر من المخازن؛ قال: (فكانت القضاء والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقة والحارات، ويكتبون الناس ويعطون كل أحد نفقة ستة أشهر، بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكل واحد. . .) وقد كان الرطل المغربي يعادل رطلاً وربعاً من الوزن المصري(474/35)
ثم لما اشتدت الضائقة وبلغت المجاعة من الناس، وزع السلطان مساكين بلده على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامهم. قال ابن بطوطة - وكان يتولى قضاء دلهي: (فكان عندي منهم خمسمائة نفس. فعمَّرت لهم سقائف في داري وأسكنتهم بها، وكنت أعطيهم نفقة خمسة أيام فخمسة أيام)
ولعل أشبه شيء بالمطاعم الشعبية عندنا اليوم، وأقومه بمثل خدمتها، ما أشار إليه الرحالة ابن بطوطة بقوله: (وكنت في تلك المدة أطعم الناس الطعام الذي أصنعه بمقبرة السلطان قطب الدين على ما يُذكر، فكان الناس ينتعشون بذلك والله تعالى ينفع بالقصد فيه. . .)
وقد كان السلطان أوقف ثلاثين قرية على الإطعام فوق هذه المقبرة، وجعل تدبيرها بيد ابن بطوطة على أن يكون له العُشر من فائدتها كما هو المتبع عندهم
(جرجا)
محمود عزت عرفة
عادة وعوائد
قرأت الجملة الآتية من مقال الدكتور زكي مبارك بالعدد 472 من (الرسالة):
(يغتني (أي المطران) من العوائد وهي جمع عادة كما تجمع حاجة على حوائج، ولك أن تجعل مفردها عائدة إن تناسيت العرف وهو من أهم الأسندة اللغوية. . .) اهـ
هذه عبارتك الصرفية يا سيدي الدكتور ليس فيها ما يدنيها من مقال (الحديث ذو شجون) من قريب أو بعيد إلا أن أردت أن تجمع إلى ما تقدمه لإخواننا الأقباط الأكرمين من ضوء رأيك في انتخاب المطران ما يغير نوع الحديث تنبيهاً للفكر كما تقدم بعض أصناف الطعام تنبيهاً للمعدة، أو أن نجمع إلى ما تسوقه للأمة من تحقيق مسألة تاريخية طرفة صرفية يأبى إعظامك للغة وتكريمك أهلها إلا أن تتحفهم بها. غير أنه استبهم عليك الجمع وما قسته به وما حكمت على العرف لأنه من أهم الأسندة اللغوية. واستبهم عليَّ كل ذلك لأني أقرب منك عهداً بتعلم لغة العرب ولأقل تنقيباً في كتبها؛ فما وصل إليه معلومي أن كلمة (عادة) لا تجمع على عوائد، وأن صيغة فواعل ينحصر اطرادها في ثمانية أنواع أو سبعة على الخلاف ليس منها ما أوردته وقد اختلف في نوع من أنواعها (فاعِل) بكسر العين وصفاً(474/36)
للمذكر غير العاقل، فقيل بشذوذه وقيل بغلطه وقيل بصحته، وما عدا ذلك شاذ إجماعاً؛ وقد حصروا الشاذ فلم يكن منه عوائد جمعاً لعادة، فهو منكور قياساً، ولم يسمع شذوذاً حتى جنبت ذكره المعاجم. وقد استساغ ابن منظور أن يورد في بحره الزاخر (لسان العرب) بعد ما ذكر ما ورد من جموعها كلمة عيد جمعاً لعادة، ونسبها إلى صاحبها تأكيداً لاستضعافها وعدم رضايته عنها؛ ولم يذكر عوائد جمعاً لعادة، وإن أورد الشرتوني في معجمه (اقرب الموارد) بعد أن أورد ما سمع من جموعها: العوائد جمعاً لعادة. غير أنه أردفه بقوله وكأنه جمع عائدة. ثم التبس عليَّ قياسك عوائد على حوائج، لأنه قياس ينبو عما قرأنا في كتب أصول النحو، ولم اسمع من أمثال سيدي الدكتور - حفظه الله - من جعل الشاذ مقيساً عليه لمخالفته الإجماع؛ لأن القياس - ومن شروطه ألا يقاس على الشاذ - هو حمل غير المنقول على المنقول، وليست كلمة الحوائج المقيس عليها منقول لنبوها عن القاعدة ولكنها مسموعة، على أنه مطعون في صحتها جمعاً لحاجة قال الدماميني:
(سمع في هذا المفرد حائجة فيجوز أن يكون حوائج جمعاً لها واستغنى عن جمع حاجة) اهـ
وقد أنكر (حقي) في فروقه وابن خالوبه في كتابه (ليس في كلام العرب) جمع الحوائج على حاجة؛ وكذا الحريري في (درة الغواص)، واستشهد بخير ما يستشهد به لصدق دعواه، وإن أظهر الشهاب الخفاجي في شرحه على الدرة جنوحاً عن رأي الحريري، ولكنه سار في غير مسار
(بثينة)
الفدائية أيضاً
طلبت من الدكتور الفاضل محمد حسني ولاية بعد أن ذكر (الفدائية) في مقاله (الشخصية الهستيرية) أن يتفضل فيبين لنا المبادئ التي كانت تعمل من أجلها جماعة الفدائيين، وهل كانت هذه المبادئ من السمو - كما ذكر الدكتور الفاضل - بحيث يضحي الفدائي نفسه في سبيل كل غاية تفيد الإنسانية، أم أن الدكتور الفاضل أراد بذكرهم في مثاله مجرد التشبيه فقط، باسترخاصهم النفس في سيبل غاياتهم(474/37)
فلم أصل برد الدكتور الفاضل لغرضي الذي عنيته، فقد خرج الدكتور الفاضل عن اتجاه السؤال، وأخذ في تفنيد نظريات علمية مسلم بها، كالعقد النفسية والتضحية للغاية الخ. . .
فإلى الدكتور الفاضل، وإلى جمهرة الباحثين من الكتاب والأدباء أرجو أن يتفضل أحدهم بالكتابة عن جماعة الفدائيين ومبادئهم، خصوصاً وقد كثر في هذه الأيام ذكرهم فكثيراً ما أسمع من يقول - هذا شخص فدائي - وكأن يقال في الصحف - وسيقوم جيش الفدائيون بكيت وزيت - فهل هذا مجرد التشبيه فقط، أم لتماثل مبادئ هؤلاء وهؤلاء
مصطفى عبد المجيد جابر
جلال الدين بن مكرم وأبياته في الإسكندرية
سأل الأستاذ مصطفى الشهابي بعدد الرسالة رقم 473 عن النص العربي لأبيات ترجمها (فورستر) إلى الإنجليزية في كتابه عن الإسكندرية. والأبيات مذكورة في الخطط المقريزية (ج1 ص262) وهذا نصها:
نزيلُ سَكندرية ليس يُقويَ ... بغير الماء أو نعت السواري
ويُتحف حين يُكرم بالهواء ال ... ملاتن والإشارة للمنار
وذكر البحر والأمواج فيه ... ووصف مراكب الروم الكبار
فلا يطمْع نزيلهمُ بخُبزٍ ... فما فيها لذاك الحرف قاري
وقد نسب المقريزي هذه الأبيات إلى جلال الدين مكرم ابن أبي الحسن بن أحمد الخزرجي ملك الحفاظ. وهذا الاسم يتفق تماماً مع أسم ابن منظور صاحب لسان العرب، إلا أن كنيته (جمال الدين) لا (جلال الدين)، وأغلب الظن أن ذلك عن سهو من المقريزي أو من ناسخ الكتاب. وقد أخطأ المترجم في كتابه (مكرم) والحقيقة أنها بتشديد الراء المفتوحة، وهي بغير شكل في كتاب المقريزي
عبد القادر حسن القط
هما لأبي تمام
تساءل الأستاذ موسى حقي عن صاحب البيتين الذين نسبهما صاحب عيون الأخبار إلى(474/38)
دعبل مع أنهما منسوبات إلى أبي تمام في ديوانه وهما:
إن أولي البرايا أن تواسيه ... عند السرور لمن آساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
ثم تساءل عن صحة البيت الأول
أما البيتان فهما لأبي تمام ونسبتهما إلى غيره وهم، وهما من قصيدة طويلة في مدح أبي الحسن على بن اسحق لما تولى دمشق؛ وقد ذكرها كلها الشيخ يوسف البديعي قاضي الموصل المتوفى سنة 1073هـ ـ في كتابه (هبة الأيام فيما يتعلق بابي تمام) وقال عن هذين البيتين ما نصه: (والبيتان الأخيران من هذه القصيدة نسبهما بعض المؤرخين لإبراهيم بن العباس الصولي وهو وهم، ويدل على أنهما لأبي تمام ما قاله أبو بكر الخوارزمي من رسالة كتبها كاتب خوارزم شاه، ثم ذكر نص كتاب أبي بكر الخوارزمي وفيه البيتان منسوبان إلى أبي تمام (هبة الأيام ص 125 - 126)
وذكرهما ابن عبد ربه في العقد ونسبهما إلى أبي تمام أيضاً (ج2 ص40) ط العريان
وأما صحة البيت الأول منهما فهو كما جاء في هبة الأيام والديوان مطبوع حديثاً:
أولى البرية حقاً أن تواسيه ... عند السرور الذي آساك في الحزن
وفي الديوان (تراعيه) بدل (تواسيه)
ورواية العقد في البيت الأول هي:
وإن أولي الموالي أن تواسيه ... عند السرور لمن واساك في الحزن
برهان الدين الداغستاني(474/39)
العدد 475 - بتاريخ: 10 - 08 - 1942(/)
سفارة (الرسالة)
للأستاذ عباس محمود العقاد
أعجلني السفر - وابتغاء القرار بعد السفر - أن أكتب إلى الرسالة في موعد كتابتي إليها. وقد فاتني أن أكتب إليها، ولم يفتني أن أذكرها؛ فليس بيدي ذلك وكل من لقيت مذكري بها، حتى في وعثاء الطريق.
برح القطار القاهرة، فلم يمض غير قليل حتى أثار علينا من العثير ما يملأ الخياشيم ويوشك أن يملأ الصدور؛ ووجدتني مرة أخرى في حياتي أوازن بين منفذ مفتوح وغبار ثائر، وبين منافذ مغلقة وجو رائق. ولا صعوبة في الموازنة إذا كان الجو الذي يثور فيه الغبار جو تفكير وشعور وارتياء، فالغبار الثائر هنا أرحم وأدنى إلى الاختيار.
ولا صعوبة في الموازنة كذلك إذا كان الجو الذي يثور فيه الغبار جو خياشيم وصدور؛ فالجو الرائق هنا هو الأرحم والأدنى إلى الاختيار، وإن ضاقت الصدور بالحر والحرج؛ فضيق الصدور في الواقع أهون من ضيق الصدور في المجاز.
أغلقت النافذة واسترسلت في نسق من هذا التفكير أدرى كيف بدأ ولا أدري كيف أنتهى، لأنني ختمته في عالم الأحلام، ونمت والضجة من حولي وقد كان النوم عصياً ومن حولي السكينة والقرار.
ثم مضى القطار لا أسأله أين مضى ولا يسألني أين مضيت؛ حتى أشرقت الشمس على معالم الإقليم القنائي الذي يصح أن أعيد فيه ما قاله أبن الرومي:
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد
لأنني قضيت فيه أوائل عهدي بالخدمة الحكومية، ولبثت فيه زمناً أنتظر التثبيت فيحول بيني وبينه عيب واحد يا له من عيب! وهو أنني دون الثامنة عشرة بسنتين.
وأطلت أنظر الثامنة عشرة التي انتظرتها هنالك فترة من تينك السنتين، وأطلت النظر في مكاني. وحسبني بعض الرفقاء في القطار: هل من خدمة؟ ثم أسرع قائلاً: لا تؤاخذني أن أتطفل عليك بالسؤال فإنني لست بمتطفل في الحقيقة! لأنني أعرفك منذ عهد بعيد: ألست فلاناً؟ إنني ليسرني يا سيدي أن أؤدي لك بعض الخدمة التي أستطيعها، فهي دَينٌ لك علينا أجمعين.(475/1)
قلت: يخيل إلي أنني أنا أيضاً أعرفك. ألست من برقة؟
قلت ذلك لأنني علمت أن في القطار نخبة من سراة برقة وأدبائها، وعرفت بلده من لهجته التي يسهر تمييزها بين لهجات مغربية عديدة لطول ما تحدثت إلى أبنائها في الصحراء.
فقال: نعم!
وبدأ الحديث في الأدب
وعطف بعد هنيهات إلى الرسالة وموضوعاتها وكتابها، فإذا صاحبي ملم بأدب مصر في هذا العصر إلماماً يندر بين شبان من المصريين. ولحق به أصحاب من قومه يكبرونه سناً ويشبهونه كياسة وأدباً، فإذا هم ملمون بشئون مصر العامة أحسن إلمام يتاح لغريب عنها، وإن كان اهتمامهم بالقادة والرؤساء أوفر من اهتمامهم بالكتاب والشعراء.
وإذا في برقة وطرابلس أحزاب لأدباء مصر وأحزاب لقادتها السياسيين، ومساجلات وفكاهات لا نسمع بمثلها في مصر، وهي أحق شيء أن نستمع إليه.
ولم أشأ أن يكون الحديث كله عن مصر وأدبائها، فسألته عن برقة وأدبائها، وما فيها من شعائر الحركة الأدبية، ولا سيما بعد احتلالها.
فراعني أن أسمع شعراً حسناً ينضج بالشاعرية المطبوعة، ويجري في صيغة عربية سائغة، وما سمعت بأسماء قائليه قبل ذاك وإنهم لأولى بالذكر من كثيرين.
أنشدني قصائد شتى لشاعرهم رفيق المهدوي، فاستزدته وقلت له: إنكم لعلى حق أن تفخروا به وأن تذكروه باسم (شاعرنا) كلما ذكرتموه، فرب قصيدة من هذه القصائد التي سمعتها هي أنفع في التعريف بكم والإصغاء إلى قضيتكم من دعاية الساسة الذين يجهلون الدعوة ولا يوجهونها إلى أحسن الأسماع وأصدق القلوب.
ومما أنشدنيه له قصيدة على وزن جديد يقرب من الوزن الذي اختاره الزهاوي لقصيدته:
ويلا يا ويلا! ... ما أقوى السيلا
ليلى سلَّيني ... سليني ليلى!
فقال في وصف الشاعر:
كالنحلة في الروضة تعبث بالنوار
إن رفرف كالواقف أو حوَّم أو طار(475/2)
لا يقنع بالورد ولا زهر النسرين
فيميل من السرو إلى شجر المرسلين
كالظامئ يتلهف واظَمَأ المسكين!
لم يرو صدى الغلة من نُطفِ الأزهار
ما لاح له زهر إلا وتمناه!
كم صادف ما يحذر من خادع مرآه
(يحذَره حيناً ويعود فيهواه)
قل واهاً للشاعر من واه محتار!
كالنحلة في الروضة تعبث بالنوار
وأنشدني أبياتاً له فيها مداعبة وشكاية، وقد نفي من وطنه وكتب إلى بعض أخواته:
بعد السلام وتقديم احتراماتي ... أهديك يا سيدي موسى تحياتي
إلى أن يقول:
والله ما باختياري أن أفارقه ... لو لم ينغصه حكم الظالم العاتي
فارقت موطن آبائي على مضض ... مما تجرعت من هم وويلات
تأثرتني عيون القوم ترصدني ... تحصي خطاي فتحصيها خطيئاتي
وما جنيت سوى إنكار منكرهم ... بمذودي فتغالوا في معاداتي!
وظل ينشدني للمهدوي وزملائه وأستزيده، لأعرف ليبيا حقاً، وقد عرفتها حقاً، وقلت لأصحابي: إن ليبيا حية وفيها من يعبر عنها هذا التعبير. فاستوصوا بشعرائكم خيراً، فأنهم لأدل عليكم وعلى قضيتكم من جميع ما عرفناه عنكم
وعبر القطار بأسوان عاجلاً، فإن كنت قد أطلت النظر عند (قنا) لأرى الثامنة عشرة وما دونها، فقد أطلت النظر إلى أرباض (أسوان) لأرى السادسة والخامسة وما دونهما. . . فرأيت حتى استوفيت.
وتبيت الباخرة على النيل بين الشلال وحلفا ليلتين.
ففي تينك الليلتين كان السمر إلى هزيع من الليل عربياً في كل فن من فنونه، فما أحسب أن أمراً يهم العرب قاطبة قد تركناه في سمرنا فلم نعرج عليه ولم نطل الوقوف عنده.(475/3)
ولم يرعنا مما ينغصنا إلا صوت طفل صغير من الليبيين يتكلم الإيطالية، لأنهم فرضوها على الصغار وأبعدوا ما بينهم وبين التمكن من العربية بمسافات وآفاق.
فعدنا إلى حياة اللغة العربية، وإلى مهمة أدباء العرب وصحافة العرب، ولا سيما الصحافة الأدبية.
ثم وصلنا إلى ما قبل حلفا وانتظرنا في الباخرة إنجاز مراسم الدخول والحيطة الصحية. فإني لأنظر من باب المقصورة إلى النيل إذ أقبل نفر من الفتيان الذين يلوح عليهم أنهم طلبة وموظفون. فسألوني: أأنت فلان؟ قلت: نعم. كيف عرفتم؟ فابتسموا وقالوا: لا تؤاخذنا إن قلنا من صور المجلات، ولا سيما الفكاهية!
قلت: يا أصحابي إن هذا لا يرضيني أو لا (يملقني) كما يقول الأوربيون. . . أو ترون الشبه قريباً بيني وبين تلك الصور إلى هذا الحد؟ قال قائل من الواقفين حولنا ليرضيني أو يملقني على حسب ذلك التعبير: بل هي مبالغة الرسامين في بعض معارف وجهك المميزة لك قد دلتهم عليك.
وما هو إلا أن فرغنا من شأن الباخرة وانتقلنا لقضاء الليل في مركبة القطار حتى كان أول حديث طرقه هؤلاء الفتيان ومن صحبهم بعد ذلك حديث الرسالة وآخر المساجلات الأدبية فيها. وبدأ لي في الخرطوم كذلك أن هذه المساجلات تعقد حولها حلقات مختلفات من المتشيعين لهذا الفريق أو لذاك، وبدا لي منذ أول الطريق أن أدباء ليبيا والأقطار العربية والسودان يأخذون علينا أنهم يعرفوننا ولا نعرفهم، ويتتبعون أخبارنا ولا نتتبع أخبارهم، وأن الأديب منهم يستطيع أن يحدثنا عن جميع كتابنا وشعرائنا ولا يستطيع أحد منا أن يحدثهم عن كتابهم وشعرائهم، وإن كانوا جدراء بالحديث.
وهذا كله صحيح ولكن السبب الذي يردونه إليه غير صحيح؛ فالمصريون لا يفوتهم ما يفوتهم من أدب ليبيا والأقطار العربية والسودان لأن اهتمامهم بالعرب أقل من اهتمام العرب بمصر، كلا وأقولها عن يقين، وإنما يفوتهم ما فاتهم لأن صحف مصر تصل إلى كل مكان في بلاد العربية، ولا يصل إلى مصر من صحف تلك البلاد إلا القليل.
ويخطر لي في هذا الصدد أن صديقنا الأستاذ الزيات قد فكر في تخصيص أعداد لكل أمة من أمم الضاد يحيط فيها بشئون تلك الأمة أدباً وثقافة ومرافق أخرى؛ فإذا مضى في تحقيق(475/4)
تلك الفكرة فقد أتم سفارة الرسالة فأصبحت لها السفارة المزدوجة بين مصر وجاراتها وأخواتها، فتسفر للمصريين عندهم، وتسفر لهم عند المصريين، وتعمل في وحدة العرب ما لا يرجى أن تعمله السياسة، لأنها تفرق ولا تؤلف، وتلتوي ولا تستقيم.
هذا بعض حديث تلك (السفارة) في رحلة عاجلة بين القاهرة والخرطوم. ولو شئت لطال وطال، لأنه حديث موصول يتجدد كل أسبوع، بل كل يوم اجتمع فيه ندى من القراء والأدباء، وهم يجتمعون هنا عامة الأيام.
لكني أختمه الآن بما لا يخرج عنه من مساجلات الرسالة أيضاً؛ فقد سئلت هنا رأيي في مناقشات بعضهم لي حول رسالة الغفران وصداقات الأدباء.
فأما رسالة الغفران والشبه في محاوراتها بين ما كتبه أبو العلاء وكتبه لوسيان فلست أنوي أن أعود إليه وقد أغناني عن العودة إليه ما كتبه الأديب الجبلاوي حين سأل المعترض أن يذكر أحداً غير لوسيان تقدم المعري بذلك الحوار. أما رحلات الجنة والنار فنحن قبل عشرين سنة قد ذكرنا وأكدنا إنها ليست بالشيء الجديد.
وأما صداقات الأدباء فالمناقشات فيها أعجب وأطرب! نحن نأخذ على الأستاذ الحكيم أن يضرب لنا المثل بصداقات الأدباء في أوربا لأنها لا تخلو من العلات، فيجيئنا من يعترض فلا يكون اعتراضه إلا تكريراً لما قلناه، وهو أن صداقات الأدباء الأوربيين ليست على المثال الذي تصوره الأستاذ الحكيم!
وأعجب من هذا وأطرب أن نشير إلى صداقات الأدباء في إنجلترا ونذكر بيرون وشيلي فيكون الاعتراض أنهما لم يتقابلا في إنجلترا بل تقابلا في إيطاليا. . . فهما إذاً قد أصبحا من أدباء الأمة الإيطالية وخرجا من عداد الأدباء في الأمة الإنجليزية!
مثل هذا المحال لا نرد عليه، ولا ننوي بعد اليوم أن نرد عليه. وحسبنا أننا لم نلق من قارئ هنا إلا وقد رد على ذلك الاعتراض بالإعراض.
الخرطوم
عباس محمود العقاد(475/5)
شبان اليوم الجديد في مصر المحروسة
للدكتور زكي مبارك
من عادة المربين والمصلحين أن يكثروا من اللوم والتثريب على أبناء الجيل الجديد، ليصوروا عيوبهم تصويراً يخوفهم عواقب التهاون والتفريط في حقوق الأدب والأخلاق
وتلك وسيلة صحيحة من وسائل التهذيب ورثناها عن الأسلاف، ولا بأس بالاعتماد عليها من حين إلى حين، إذا سلكنا في الدعوة إلى الأدب والأخلاق مسلك الترهيب، وهو مسلك مطروق منذ أجيال طوال
ولكن التجارب علمتني أن الترغيب أنفع من الترهيب، ومن تلك التجارب عرفت أن التنبيه إلى القوى الغافية في صدور الشبان قد يدلهم على حقائق أنفسهم فينقلهم من حال إلى أحوال
والحق أن الشاب المصري خلق ليكون رجلاً عظيماً، ومهما أسرفنا في سوء الظن بشبان مصر، فمن المؤكد أنهم بالإضافة إلى أمثالهم في الشرق والغرب أفضل وأشرف، ومن النادر أن تجد شاباً مصرياً بلا آمال تضيفه إلى أكابر الرجال، ولذلك شواهد يعرفها من يتصل بشبان (مصر) عن طريق الصحافة أو التأليف أو التدريس
الشاب المصري يبحث في كل لحظة عمن يدله إلى طريق المجد، ولو نشرت الصحف إعلاناً عن كتابين يختص أحدهما بوصف حياة الهزل والمجانة، ويختص ثانيهما بوصف حياة الجد والرصانة، لكان الكتاب الثاني هو الكتاب المنشود، لأن شبان هذه البلاد مفطورون على احترام الأدب السليم من شوائب الأمراض
وآية ذلك أن الذاتية الأدبية تجد أنصاراً من الشبان في كل وقت، وهم يتحمسون لها تحمساً لا يخطر في البال، وقد يتسامعون بمقالة جيدة، فيجدون في البحث عنها جداً يشهد بأنهم من أكابر أهل الأذواق والعقول
أكتب هذا وقد فاضت عيناي بالدمع حين تلقيت خطابات كريمة تصور فرح الشبان بالحديث عن أمجاد مصر المحروسة في القديم والحديث، وهم شبان كان التاريخ المغرض حدثهم أن مجد مصر ليس إلا أسطورة من أساطير الأولين
وآه ثم آه من التزوير في التاريخ!!(475/6)
يا بني الأعزاء، تذكروا - غير مأمورين - ثم تذكروا. . .
ومن حبات دمعي أنظم عقد الحديث فأقول:
في جميع الكنائس بالشرق والغرب تجدون صورة (العذراء) تحتضن (المسيح) وهو صبي في المهد، فهل تعرفون كيف عللت تلك الصورة الرمزية؟
عللتها منذ أعوام بأنها تصوير لحنان الأمومة الرقيقة، وجاز عندي القول بأن النصارى من اليونان هم المبدعون لذلك الرمز الدقيق. وهل ينكر أحد فضل البراعة اليونانية على الديانة المسيحية؟
لا جدال في أن من ابتكر صورة المسيح تحتضنه العذراء كان أعظم مبتكر في تاريخ الأخلاق. ولا جدال في أن تلك الصورة كان لها تأثير عظيم في عطف الآباء على الأبناء. ولا جدال في أن تلك الصورة لم تعرف قبل ميلاد المسيح، وقبل أن تتصل مأساته بتاريخ اليونان والرومان، كما كنت أقول، وكما كان يجب أن سأقول، لو طال جهلي إلى آخر الزمان!
ولكن الله لطيف بعباده، أراد أن يطب لجهلي برفق ولطف، لأني طالب علم، وطالب العلم لا يخطئه التوفيق!
فكيف اهتديت بعد ضلال؟
رأيت صورة في الجزء الثاني من (التاريخ المصري القديم) لأخي وصديقي، وصاحب الفضل الأعظم على أدبي وبياني، عبد القادر حمزة باشا، وهي صورة تغافل عنها عامداً متعمداً، لانتفع بمغزاها بعد أن يموت، وكان يعرف أني لن أرثه إلا بالفكر والروح، وذلك أشرف المواريث
عبد القادر الوفي أراد أن يمنحني فرصة من فرص التحليق في سماء الفكر والخيال، فأثبت في الجزء الثاني من كتابه صورة أعفاها من التفسير والتأويل، عن علم لا عن جهل، لأقول فيها ما أشاء.
فما تلك الصورة الرمزية؟
هي صورة (إيزيس) وهي ترضع أبنها (حوديس)
وإذا عرفنا أن عبادة إيزيس كانت عقيدة اليونان والألمان والطليان والأسبان والفرنسيس(475/7)
والإنجليز أكثر من خمسة قرون أدركنا أن صورة (العذراء) وهي تحتضن (المسيح) ليست إلا صورة (إيزيس) وهي ترضع (حوريس)
وإذن؟
وإذن تكون مصر هي التي أبدعت فكرة الأمومة في الصور المسيحية. ثم؟
ثم تكون مصر صاحبة الفضل على ما أبدعت صور العذراء من فنون.
عبد القادر لم يلتفت إلى الصورة التي وضعها في الجزء الثاني من كتابه النفيس، لأن الموت صرفه عما يريد أن يقول، أو لأنه أراد أن يترك تفسير المراد من تلك الصورة لأحد أصدقائه الأعزاء
والنتيجة أنه لا توجد صورة للعذراء في شرق أو في غرب إلا وهي مستوحاة من صورة إيزيس وهي ترضع حوريس.
ألم أقل لكم إن مصر هي وطن المعاني؟
من كان يصدق أن مصر هي الوطن الأصيل للصورة التي يخضع لصولتها الفرنسيس والإنجليز والأسبان والطليان والألمان؟
لم يكفر أحد بأقبح مما كفر المصريون، ولم يؤمن أحد بأوثق مما آمن المصريون، لأن مصر هي غاية الغايات في التعصب للكفر والإيمان.
وهل كفرت مصر في أيامها الخوالي حتى نجعل الكفران طوراً من أطوارها في التاريخ؟
إن القول بتعدد الآلهة كان في إحدى مراحل الإنسانية صورة من صور الهداية، وهو لم يصدر عن عناد، وإنما صدر عن يقين، ولله حكمة عالية في تنشئة الإفهام على نظام تنشئة الأبدان. فهو يسمو بها رويداً رويداً بترفق وتلطف، إلى أن تقوى وتستحصد، ثم يتركها لتصارع وتجالد في ميادين الزيغ والارتياب.
وتاريخ مصر يشهد بأنها فطرت على إيثار الجد في تناول المعاني، فكانت في عصر الوثنية أعظم أمم الوثنية، وكانت في عهد النصرانية أول أمة أرخت بمصارع الشهداء، فلما هداها الله إلى الإسلام كانت الحافظة الواعية للأمجاد العربية والإسلامية، ولو قال قائل بأن مصر هي التي وقت العروبة والإسلام من تطاول الغرب وتخاذل الشرق لكان أصدق الصادقين.(475/8)
اسألوا العلم قبل أن تسألوا التاريخ يحدثكم أن ضياء الشمس في مصر لا نظير له في أي أرض، حتى قيل أنه السبب الأول في كثرة أمراض العيون بهذه البلاد. واسألوا العلم أيضاً يحدثكم أن الخصب في أرض مصر يفعل بأهلها ما لا يفعل الجدب، لأن أبناءها يموتون بالبطنة، على حين يموت غيرهم بالجوع.
فما قولكم في أمة لا تعاني غير كثرة الزاد وقوة الضياء؟
أكتب هذه الفقرة من هذا المقال في منتصف الساعة الخامسة من صباح اليوم الثلاثين من يولية، بعد قضاء نحو ساعتين تحت أزيز الطيارات وضجيج المدافع، وكان القمر - القمر المصري - يغمر الليل بنور وهاج يسمح بنظم الخيط في الإبرة بلا عناء.
أنا لا أبالغ، فقد بدا لي أن أجرب ذلك في قمر هذه الليلة، ولم أفهم كيف تحرم وزارة الوقاية إضاءة المصابيح وقت الغارات في الليالي المقمرات، وهي تعلم أن اللئام المغيرين يهديهم القمر بأقوى مما تهديهم المصابيح؟
وهذا الطيران الذي يهدد مصر بوقاحة ونذالة وسفاهة هو نفسه والطيران المدين أثقل الدين لجو هذه البلاد.
هل نسيتم ما حدثتكم به على صفحات الرسالة قبل عامين؟ كنت حدثتكم أن الطائر المصري المسمى بالحدأة - وهو طير جارح لا ينجبه غير جو مصر، وإن وجد بقلة في بعض الديار الشامية - كنت حدثتكم أن الحدأة هي المعلم الأول لعلم الطيران، وبها استهدى (مويار) المسكين، الذي ظل على سرير الموت ثلاث أيام بإحدى الغرف السطحية في شارع الموسكي بالقاهرة، ولا أنيس لجسمه الميت غير أسراب من الحدأة تراوحه وتغاديه في حسرة والتياع، إلى أن تنبه لموته الجيران
في ليلتي هذه عانت (مصر الجديدة) من صراع الطيارات المغيرة والمدافعة ما عانت، مع أن مصر الجديدة هي الوطن لتمثال مويار، مويار الذي نقل عن (الحدأة المصرية) علم الطيران
فيا رب الأرباب، ما الذي بقى مما طويت عن أوربا من أعاصير الغدر والعقوق؟
إن الأمم الأوربية تحترم حياد الديار السويسرية، فهل تعرفون لأي سبب يحترم ذلك الحياد، في تلك البلاد؟(475/9)
هل كانت سويسرا مهد موسى أو عيسى أو محمد؟ هل نشأ فيها بوذا أو كونفشيوس؟ هل كانت ملاذ آدم حين هبط الأرض؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما يحترم زعماء أوربا حياد سويسرا لتكون تلك الديار خزائن أمينة لما يدخرون من نفائس الأموال، فهم يتضامنون تضامن الجشع لا تضامن الوفاء
فما ضرهم لو أعفوا مصر من صيال الطيارات، لأنها الوطن الذي أنجب علم الطيران؟
ما ضرهم لو تذكروا دين مصر في أعناقهم، وهي أول أمة وضعت التقويم الشمسي، فعلمت أمم الأرض مواعيد الزرع والحصاد؟
ما ضرهم لو تذكروا أن الفلاحين الذين سخروا لحفر قناة السويس ملئوا جيوب الأوربيين بالملايين والبلايين من قطع الذهب الفتان؟
ما ضرهم لو تذكروا أننا ما بغينا عليهم، وأن الفضل يرجع إلينا في نقد علومهم وآدابهم إلى أقطار الشرق؟
ما ضرهم لو تذكروا أن اليونان الذين علموهم لم يكونوا إلا تلاميذ المصريين؟ وما ضرهم لو تذكروا أنهم لم يفكروا في تخليد عظيم من عظمائهم إلا بوحي من علم قدماء المصريين؟
سويسرا تتمتع بالحياد الدائم، لأنها مستودع ذخائرهم وكنوزهم، أما مصر فليس لها في أذهانهم غير الصور التاريخية، والويل كل الويل لمن يكتفي بمجد التاريخ!
ولكن مصر، لو عقلوا، صاحبة الفضل على أبنائهم في العصر الحديث؛ فقد أغنت منهم الألوف وألوف الألوف، والضيم المخوف على مصر لن يعفي أولئك الأبناء، ولن تصاب مصر بأعنف مما يصابون، فليجرب الأوربيون حظهم في اضطهاد هذه البلاد، ليروا أن مآلهم إلى الخسران
هل تذكرون قصة (هيس) أحد زعماء الألمان؟
كان أول من فكر في الصلح بطريقة جدية فامتطى طيارته من أرض الألمان إلى أرض البريطان، ليتفاهم مع صديق له هناك، ثم شاء الحزم الإنجليزي أن يحتاط فأوثقه بالقيود لئلا يكون في دعوته من المحتالين
فكيف نشأت فكرة الصلح عند (هيس)؟
تلك فكرة نقلها عن الروح المصري، وقد ولد في مصر، ونشأ في مصر، محوطاً بالرعاية(475/10)
من جيرانه المسلمين، ولعله حفظ الآية التي تقول: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) فكان من أخباره في الاصطدام بالأثرة الأوربية ما كان. وسنعرف جلية هذا الخبر بعد زمن قصير أو طويل؛ ولكن المؤكد أن نشأة هيس في مصر التي فرضت عليه الشوق إلى الصفاء
أما بعد فأين أنا مما أريد أن أقول؟
هذا مقال غيرت عنوانه مرتين، فقد كتبت شطره الأول في صدر الليل، وكتبت شطره الثاني حين كانت (نجمة الفجر) توهمني أنها مصباح أرسلته الطائرات المغيرة لاستكشاف ضمير العداء
وكان لي مع نجمة الفجر تاريخ سجله (الموال) المعروف:
يا نجمة الفجر طُلِّي وارجعي روحي ... وسلِّمي لي على اللِّي عندهم روحي
كنت أراعي نجمة الفجر بسبب الحب، فصرت أراعيها بسبب الحرب، وإن شقائي ليتمرد كلما تذكرت أن موقفي موقف المشاهدين لا موقف المحاربين
ليس في نيتي أن أمحو حرفاً من هذا المقال، لأني لا أريد أن ارجع إليه بالتغيير والتبديل، فكيف كان البدء حتى ينسجم مع الختام؟
لعلني قلت إن صورة إيزيس وهي ترضع حوريس هي التي أوحت صورة العذراء وهي تحتضن المسيح. ولعلني قلت إن مصر وجهت العالم كله إلى فنون من معاني العظمة والخلود. ولعلني قلت إنها هدت بني آدم إلى فكرة الطيران في سماء الواقع بعد أن هدتهم إلى الطيران في سماء الخيال
وطني!
أنت كما أعرف، وفوق ما أعرف، ولو أن الله لم يبدع خلقاً سواك لكنت وحدك الآية الباقية على أنه الخلاق الوهاب
وطني!
في سبيل الظفر بآلائك ولألائك سهرت عيون وشقيت عقول، فكيف أمن عليك بليلة لم يكن فيها سهد عيني وجهد عقلي، إلا هتافاً بمجدك في حاضرك وماضيك، يا آية الله في هذا الوجود(475/11)
وطني!
أنا أسبح لله الذي أنشأك على خير مثال، فكانت فيك الخصائص الأصيلة لجميع الأوطان، من أنهار وبحار وصحراوات ومن آلام وأمال
وطني!
قال العلماء إنك اختصصت بالسمك المدرع بالكهرباء، فهل يقولون أيضاً إنك اختصصت بالقلب المدرع بالوفاء
زكي مبارك(475/12)
سيكولوجية إدلر
تلخيص وتبسيط
للأستاذ محمد أديب العامري
نظرة عامة
يرى الفرد إدلر أن اتصال الإنسان - ذكراً كان أو أنثى - بالحياة والناس يقوم على دعائم ثلاث: العمل والحب والعلاقة الاجتماعية. هذه عنده هي وظائف الفرد في الحياة؛ فإذا كان الفرد مطمئناً فيها جميعاً كان إنساناً سوياً هانئاً، وإلا فإنه لا ينجو حين تنقصه الحياة إحدى هذه الصفات الثلاث من أن يكون هدفاً لانحراف عصبي.
ولإدلر نظرية قائمة بذاتها في علم النفس مركزها فكرة (النقص). ويظهر من تجارب الناس في الحياة أن فلسفة إدلر النفسية تقوم على شيء من الصحة، إن لم تقم على الصحة كلها، بالرغم من النزاع العنيف بين أتباعه وأتباع فرويد.
ونظرية إدلر الأساسية في علم النفس بسيطة. وقد وضعها هو في عبارات وشروح سهلة تجعل كثيرين ينظرون إليها مرتابين أول الأمر، خشية أن تكون هذه الفكرة قولاً عادياً لا طائل وراءه. والذي قرب نظرية إدلر من الأذهان أمران: أولهما نزعته العنيفة إلى التبسيط، وثانيهما طواعية أمثلة كثيرة من الحياة لتكون شواهد عليها، وشعور كل إنسان بشيء منها في نفسه. والنظرية تؤول بعد إلى دعوة إصلاحية عامة ذات مساس شديد بمصالح الناس وهنائهم. ولا عجب في ذلك فإدلر يعتقد مع وليم جيمس (أن العلم الحقيقي ليس إلا العلم الذي يتصل بالحياة اتصالاً مباشراً).
وفلسفة إدلر في علم النفس تدعى (السيكولوجية الفردية). وهو يذكر أن هذه السيكولوجية إنما نتجت معه من دراسته لدوافع الحياة الخلاقة، أي الدوافع الخفية التي تحدو بالأحياء إلى الرقي والتطور، بالرغم من أي عائق يعوقها. ولذلك يرى أن الكائن البشري وحدة تستهدف غرضاً معيناً في اندفاعها نحو الرقي والتكامل. إن للنفس البشرية طابعاً خاصاً يتكون في الصغر. والنفس تحب أن تتكامل فتسد ما بها من نقص أو تندفع إلى الأمام نحو هدف ثابت للرقي.(475/13)
وإدلر قد لاحظ أن الجسم البشري تتساند جميع أعضائه لتحفظ الجسم وتسعده. بل هو يلاحظ أن أجزاء الجسم تحاول أن تسد أي نقص يطرأ عليه. فالجسم يجرح مثلاً فتعمل سائر أعضائه على تغذية المكان المجروح ووقايته حتى يلتئم ويذهب الألم والتشويه الناتجان من ذلك: (الحياة تحاول دائماً أن تستمر، وقوى الحياة لا تخضع قط لأي عائق من الخارج يحول دون استمرارها من غير أن تجهد نفسها في التغلب عليه. وأن حركة النفس لشبيهة بحركة الحياة العضوية)
وهذا معناه أن النفس البشرية كذلك تتعاون أجزاؤها في سبيل إسعاد النفس كلها ودفعها إلى الأمام في طريق السمو. فالنفس البشرية لها هدف أو مثل أعلى، وهي تحاول أن تتخطى الحالة التي تكون عليها. فلو كانت منقوصة حاولت أجزاؤها الأخرى أن تسد النقص. أما هذا الهدف فإنه يتكون في أول عهد الطفولة الباكر في السنوات الأربع أو الخمس الأولى من حياة الطفل. ويتركز الهدف الذي تستهدفه النفس حول نقص تحس به من جراء عضو مفقود أو مشوه. فالطفل ينقصه هذا وهدفه الذي تستهدفه نفسه من جراء هذا النقص يكون وحدة كاملة يسميها إدلر (النموذج الأول). . - وهذا النموذج الأول للطفل يظل هو في أساسه لا يتغير مدى حياة الطفل، وإنما يمكن تعديله وتوجيهه وجهات حسنة، وهذه هي فائدة السيكولوجية الفردية. وخير وقت لهذا التعديل والتوجيه هو في فترة العمر الباكرة، التي يتكون أثناءها النموذج الأول
وليس من الضروري أن يتشكل الشعور بالنقص من جراء فقدان عضو أو تشوهه، ولكن حرمان الطفل من مميزات الحياة، وخاصة بالنسبة إلى غيره من الناس، يولد فيه الشعور بالنقص. فالتربية الناعمة المرهفة (المدللة) للطفل التي تحفه بعناية زائدة لا حاجة إليها، أو الكره الشديد الذي يحس معه الطفل حرج مركزه بالنسبة إلى غيره، هي من الأمور التي تزرع فيه الشعور بالنقص من ناحية أخرى. إن الطفل المدلل يتعود الاعتماد على أهله، فإذا نما لم يستطع مقابلة الحياة، وإنما يطلبها على الشكل الذي كان يطالب به أهله وهو صغير؛ وبالطبع لا يجد من الحياة التلبية التي كان يجدها من أهله، فتتغلب عليه الحياة وتهزمه، وينحرف بذلك إلى نواحي الحياة الضارة. فالحياء الشديد، والادعاء، والقعود عن العمل، والإجرام، والجنون والإدمان على الخمر. . . الخ: هي مظاهر مما تؤول إليه حالة(475/14)
الطفل إذا نشأ غير سوي، واستولى عليه شعور بالنقص
وعندما يلخص إدلر نظريته يقول: (لا مندوحة من الاعتراف بأن طريقة السيكولوجية الفردية تبدأ وتنتهي بمشكلة النقص. . . فالنقص هو أساس الجهاد البشري والنجاح. غير أن الشعور بالنقص هو أساس جميع مشاكلنا النفسية. إن الفرد لم يجد هدفاً من الرفعة تعرض لشعوره بالنقص، وهذا الشعور يقوده إلى مخرج يخلصه من مواجهة الحياة، هذا المخرج هو الذي يدعى (مركب العظمة)؛ ولا يزيد هذا المركب عن كونه هدفاً عابثاً غير مفيد، يوهم بالرضا الذي يناله الإنسان من نجاح خيالي. . .)
وما دام الشعور بالنقص هذا هو أول ما تنحل إليه نظرية إدلر النفسية وآخره، فجدير بنا أن نبحث هذا الشعور بشيء من التفصيل:
الشعور بالنقص
فكما قد أسلفنا من قبل يبدأ الشعور بالنقص في الطفل من نقص أو ضعف في التركيب الجسماني، ومن الحرمان النفسي مهما كان نوعه. ويتوقف نوع الشعور على نوع الضعف أو على نوع الحرمان. ويشمل ذلك عوامل البيئة التي نشأ فيها الطفل، وخاصة طبائع الوالدين والناس المحيطين به وجميع الذين يؤثرون في تربيته أو الوضع الاقتصادي الذي ينشاً فيه
ومن البين المهم أن الطفل لا يقوى على العيش وحده حين يولد، ولذلك كان لا مناص له من أن يعتمد على غيره - عائلته - في مطلع حياته
واعتماده هو مبدأ إحساسه بالحاجة إلى غيره. وهذا الإحساس يستمر معه في الحياة؛ فمتى كبر وأضحى مستقلاً كان موضعه بالنسبة إلى المجتمع كما كان موضعه بالنسبة إلى عائلته وهو صغير؛ وبعبارة أخرى تنتقل حاجة الفرد إلى جماعة أكبر. ومن هنا يشعر الكبير بحاجة إلى الناس. وشعوره بالنقص يحمله على مواصلة العلاقة بالمجتمع. (فمبدأ الحياة الاجتماعية)، كما يقول إدلر (هو ضعف الفرد؛ واستمرار ضعفه بالنسبة للمجتمع يلزمه أن يكون اجتماعياً). وهذه الملاحظة مهمة من ناحيتين: أولاهما إشارتها إلى أن الإنسان اجتماعي بالطبع، والأخرى الإلماع إلى أن طمأنينة الفرد في المجتمع الذي يعيش فيه من أحق علاقات الشعور بالنقص كما سيجيء(475/15)
(البقية في العدد القادم)
محمد أديب العامري(475/16)
كتاب الإمتاع والمؤانسة
الجزء الثاني
للأب أنستاس ماري الكرملي
(تتمة)
وفي 85: وإن التذ بالدستنبان فلن يعد موسيقاراً؛ والصواب التذ بالدستان، والدستان أسم لكل لحن من الألحان المنسوبة إلى باربد. أما الدستنبان، فلم ترد في كلام العرب، ولا في كتب اللغة وجاء في ص 90: فإن الصانع لا يقدر على عمله الذي كان يعمله إلا أن يتخذ دكاناً آخر، وآلات جدداً أخر. وضبطت جدداً بضم ففتح. والصواب جُدُداً كعنق لأنها جميع جديد؛ لكن الذي غره هو سماعه الدائم للآية (ومن الجبال جدد بيض). فهنا جدد بضم ففتح لأنها جمع جُدّة كغرفة أي طريقة ظاهرة، وأما في نص التوحيدي فهي جمع جديد
وورد في ص 99 في الحاشية: الإسطام مسعار النار وهي الحديدة التي تسعر بها، والأحسن تحرك بها
وفي ح ص 105: هذا أوان الرطب بضم الراء؛ والصواب بضم الراء وفتح الطاء
وفي ص 110: ويجعلها (أي يجعل الأحجار) ملساء، وضبطت كحمراء؛ والصواب ملساً بضم الميم، وإسكان اللام، وفتح السين، لأن جمع أملس وملساء مذكراً ومؤنثاً ملس (راجع فساد قول القائل صخور ملساء في مجلة المجمع العلمي العربي 17: 233 و234)
وفي ص 87: الشُريان، وضبطت بضم الشين والصواب بفتحها وكسرها، لكن لا بضمها، لأن الضم غلط وفي تلك الصفحة نفسها (من الأربع)؛ والصواب الأربعة، لأن الاسطفس مذكر
وفي ص 110: فمثل النُوشاذر؛ والذي ورد في كتاب عجائب المخلوقات للقزويني المطبوع على حاشية حياة الحيوان من تأليف الدميري ص 327 النوشادر بالدال المهملة، والكلمة فارسية وهي في هذه اللغة بالدال المهملة؛ إلا أن هناك قاعدة عند المعربين أن كل دال مهملة فارسية قد تقلب ذالاً معجمة عند تعريبها، إذا سبقها حرف عليل ساكن؛ ومع ذلك فقد اشتهرت دال النوشادر بلا نقطة(475/17)
وفي ص 111: القلعي (وضبطها بالتحريك) قريب من الفضة في لونه؛ وصواب الضبط بفتح القاف وإسكان اللام، كما في معجم ياقوت في مادة (القلعة)، وكما في القاموس أيضاً وتاج العروس وجميع كتب اللغة التي يعتمد عليها
وفي تلك الصفحة: والزرقة للزهرة والبياض للقمر؛ وضبطت هاء الزهرة بالسكون، إذ لا حركة عليها، وضبطت ميم القمر ورائه بالفتحة والصواب للزهرة بالضم ففتح ففتح وصوابه للقمر، بفتح القاف والميم وكسر الراء
وفي ص 158: (قال: نعم وكرامة) - والصواب: قال: نعم، حباً وكرامة. هذا هو المشهور عندنا في العراق، وعند الأدباء الحذاق. ففي القاموس في مادة (ح ب ب):
(الحب (بالضم): الجرة، أو الضخمة منها، أو الخشبات الأربع توضع عليها الجرة ذات العروتين، والكرامة: غطاء الجرة. ومنه: حُبّاً وكرامة) انتهى
وفي ص 162: (وأما البركة فهي السماء والزيادة والرفع) والصواب: والرفع بغين معجمة في الآخر، وهو السعة والخصب
وفي ص 187: (وهاأنا آخذ في نشر ما جرى) والمشهور عند الفصحاء: (وهاأنذا آخذ. . .)
7 - أوهام الطبع والرسم
صفحةسطرخطأصوابه
تنبيهات4الجزآنالجزءان
2719يقرؤهايقرأها
294طيءطيّئ
353ملآىملأى
438مماثلةًمماثِلةً
4614العالالعالم
46: 7و 149: 12و184: 5 الرآسة: الرئاسة
483استطاعة الاستطاعة
495الشَهَويةالشَهْوية(475/18)
571وضوئيوضوءي
60 قبل السطر الأخير رآى رأى
63 قبل السطر الأخير ثماني أوافي ثماني أواقيّ
7514رءوساًرؤوساً
8113ثمان سنين ثماني سنين
1165فِكَّرٌفِكَرٌ
118 و168 و194 الجزأينالجزءين
12013أسئلهأسأله
1273مسكنمسكن بكسر الكاف هو الأفصح
1272المَرّيّالمُرّيّ
130 آخر سطر وأولى بالبراعة؟؟ - لا نفهم سبب وضع علامتين للاستفهام فهذا مخالف لما وضعه أرباب الرسم الذين أوجدوه
13713الشسعرالشعر
13717و18؟! استعمل الناشران أربع مرات علامة الاستفهام والهتاف؛ والعلماء واضعو هاتين العلامتين لا يستعملونهما معاً في آخر العبارة الواحدة، بل يستعملون سمة الاستفهام مرة واحدة إذا كان ثم ما يشعر بالاستفهام؛ وسمة الهتاف إذا كان ما يشعر بالألم أو نحوه، أما استعمال العلامتين معاً في آخر العبارة الواحدة فما لم يجر على قلم كاتب أو أديب منهم
185في قلب الصفحة هذا القسط؟! لا معنى لهاتين العلامتين معاً
139في قلب الصفحة: الأخفِش: الأخفَش (بفتح الفاء)
1621وشُؤِموشُئِم
1622ومشئومومشؤوم
1663أقحَوانأقحُوان (بضم الأول والثالث)
16810باهتةمبهوتة
17621تتبيننتبين
1995أخطأ نوأها أحوى نوءها(475/19)
1996من ليس في خيره شر من ليس في خيره من
1998اجلوّذ السفر اخرّوط السفر
2003لا يصعب الأمر لا يضعف الأمر
وفي ص 200 س21: (والصفر. زعموا أنها دويبة مثل الحية تكون في البطن تعتري من به شدة جوع)
كنا نود أن يقال: الصفر في زعم الأولين دويبة. . . وهو وهم منهم. والصواب أن مواد نسج الجسم الغذائية تضعف فيشعر مجموع الأعصاب بما ينتشر من ذلك الضعف في البدن كله، فتظهر الحاجة إلى ما يعوض عن ذلك الضعف
وفي ص 203 ص 9 يبدءوا والصواب يبدءوا
ومن الأغلاط الشائعة في مصر وتستحق أن يشار إليها إشارة
خصوصية، ما يأتي:
ص 23 س 18 أصواب هو أم خطأ. . . أم خطأ وزان سحاب لضد الصواب، على ما في كتب اللغة
ص 42 س 10 وبالجاذبة تجذب برفع الباء (يجزمون حيث لا موجب للجزم) والصواب تجذب برفع الباء
ص 81 س 14 بثمان سنين: بثماني سنين
ص 110 س 15 البَوْرق: البورق بضم الباء
ص 110 س 13 النوشاذر. لم ترد هذه الكلمة مضبوطة في كتب اللغة القديمة كاللسان والقاموس، ولا في تاج العروس مع حداثته، لكن الزمخشري ذكرها مضبوطة ضبطاً تاماً محكماً في كتاب مقدمة الأدب في ص 59 س 19 ووزن نوشاذر فوعالل الذي هو مد فعالل كجلاهق وعجاهن وسرادق. وليس في العربية فعالل بفتح ما قبل الآخر، ولهذا نستغرب ضبط نوشاذر بفتح الذال، إذ لا مثال له ولا لنشاذر، فضبط الأديبين الضبط الذي اعتمداه لا يدل على وقوفهما على أسرار العربية. زد على ذلك أنه ليس بالضبط الفارسي كما يتصوره القارئ.(475/20)
8 - مقابلة النص ومعارضته بما جاء منه في الكتب المنشورة
كنا نود أن نذكر في ختام هذه الكلمة معارضة نص هذا الكتاب المنشور حديثاً بما ورد مطبوعاً من الكتب التي صنفها الأقدمون، ممن كان في عصر المؤلف أو جاء بعده، فرأينا أن ما جاء مثبتاً في هذه النسخة من الزيادات، وبعض الأحيان من الحذف والنقص، ومعارضتها بعضها ببعض ينشئ في صدور القراء مللاً وضجراً، فعدلنا عن هذا القصد إلى الإشارة بمراجعة كتاب ابن القفطي في كلامه على مؤلفي كتاب إخوان الصفاء في ص 82 من طبعة الإفرنج؛ ثم مراجعة ديوان الأعشيين طبع أوربة في ص 198، ليتأكد القارئ أنه كان من اقدس الواجبات على الناشرين أن يراجعا هذين السفرين وغيرهما من المطبوعات، وإلا فعملهما هذا جاء خداجاً، ويحتاج إلى إعادة النظر في ما طبعاه، ومقابلته بما ذكرناه لهما
وعلى كل، فإننا نشكرهما كل الشكر على ما قاما به من إخراج هذه الدرة الثمينة من مكمنها، وعرضها على الناطقين بالضاد بهذه الحلي البديعة، والوشي الجاذب للأنظار، والمشوَّق لاقتنائه، ووضعه في مصف كنوز الأقدمين، ورفع منزلتهم بين علماء الأقوام المختلفة وكتابهم العظماء، ومصنفيهم البلغاء.
ونحن نتوقع أن يكون طبع المجلد الثالث بعناية أعظم وتحقيق بالغ أقصى المنى، ومنه تعالى التوفيق
(بغداد)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(475/21)
شجون ودروس. . .
للأستاذ إسماعيل حمدي
في مطلع العدد 471 من (الرسالة) العزيزة، وفي (شجون) قريعها الدَّارع الدكتور زكي مبارك، درس قيَّم تفضل به على من كتب في (اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث) وأحب الدكتور أن يكون في هذا الدرس على إيجازه بلاغ لمن يتورط في الكتابة والنشر وهو مفتقر إلى محض سلامة النظر، فضلاً عن قوتها وحدتها واستوائها جميعاً
والدكتور رغم كفاية الفطنة والخبرة لديه من طول (ما ابتلى بزمانه وأهل زمانه) لا يزال - بمعجزةٍ ما - يطمع في أن يعترف متورطٌ بتورطه، أو يتعلم مخطئ من خطئه، وخاصة في هذه الديار!
لا يا سيدي، عد إلى آلاف العقائد التي لا تستطيع أن تحصيها. . . آلاف العقائد التي كونتها ولا ريب عن الناس منذ احتككت بهم، وعالجت من حقهم وباطلهم، ورشدهم وسفههم، فأنت واجد فيها ما يردك إلى اليأس المطلق من هذا الطمع الذي طمعت، إلا إذا ضربت بلا رحمة، وانهالت ضرباتك على المقاتل فوجد صريعك مسَّ الأذى وفرط الألم، وبات بين فرار الهارب وصراخ التائب، وأيهما اختار فحسبْنا لتستأنف القافلة المسير، ويبلغ الكتاب أجَلَه
نعم. فما ينبغي أن نتسلَّى بالاقتراح على أحد أن ينحني على منطقة فيضع شيئاً مكان شيء، ويتخير مادة دون مادة؛ فحسب الطفل لكي يمتلئ رأسه الضئيل بالعناد أن نقترح عليه تغيير اللعبة التي في يده؛ فإن ذلك أحرى أن يزيده تشبثاً بها وتوهماً فيها، وشروداً في أخيلته حولها
ولا نودُّ المضي إلى بعيد في العتب على الدكتور، فقد يجد الناظر إلى درسه الموجز ما يشغله بشئون أخر:
ذلك أنه يرى التودُّد إلى الجماهير تهمة ظالمة يبرأ منها كرام الرجال الذين كتبوا في الإسلام ونبيه، ويستظهر لبراءتهم بما في الدراسات الفذة التي قدموها من روح يضطرم بالشعور والذوق والإيمان وسائر الذخائر التي لم يألف تجار (الزُّيوف) أن يتعاملوا بها مع (الجمهور)(475/22)
إن في إحساس الدكتور بضرورة التبرئة لأولئك الأساتذة الكرام هفوة أخرى - ويبدو أنني رجعت إلى عتابه - إذ كان إحساسه هذا ينطوي بداهة على التسليم بأن التودد إلى الجماهير تهمة! وما يتفاقم الغرور عند الصغير بأكثر من أن يكتشف في منطق الكبير نحواً من الموافقة على بعض أوهامه، ولن يتواضع هذا الغرور بعد ذلك حين يفزع الدكتور إلى واجب التبرئة لزملائه وفاء لهم وللحق العظيم في دينه وتراث قومه
ولسنا ندري لم يكون التودد إلى الجماهير - إذا افترضنا وقوعه - تهمة تثير الأنفة، وتحرَّض على المقاومة، إلا أن يكون هذا خوفاً في موطن الأمن، وخجلاً في مقام الزهو، لا يجملان بالقلب الكبير والجبين الفخور!
سوف لا نحاكم الدكتور إلى غير (شجونه) في نفس العدد من (الرسالة)، فليقرأ في آخرها هذه الكلمات من نشيده في حب وطنه: (ولو عانت كبار الشعوب ما عانيت لشالت كفتها في ميزان التاريخ، فكيف استطعت أنت برغم ما عانيت مصدر العقل في الشرق، وأن تهتدي ينورك في اللغة والدين مئات الملايين؟. . . لن تراني إلا حيث تحب، ولن يراني أعداؤك إلا حيث يكرهون، ولو زعموا أنهم في طهر ملائكة السماء). ما معنى هذا؟ معناه أنها وقفة شريفة لابن شريف بين يدي شعبه الذي لا يزال يقود شطراً ضخماً من العالم في اللغة والدين، والفكر، وطراز الحياة جملة؛ فهو يعلن العصبية في زمن العصبية الآكلة، ويجدد البيعة في زمن الإخاء في السلاح أن يكون لقومه قرة أعين، ولأعدائهم هولة حلم، ثم ماذا؟ ثم معناه أن الضلال القديم الذي طالما اغتال عقولاً في هذه البلاد فذهبت تفتري في الأدب مذاهب، وترتجل في الفكر طرائق، مهما نبا ذلك عن روح الشعب الحقيقية، ومهما تمزقت بذلك روابطنا بمن يحبوننا، ويصطفُّون من حولنا، من الأمة العربية الكبرى، والكتلة المسلمة العظمى؛ هذا الضلال ينبغي أن تنقشع بقاياه توَّا والى غير رجعه، ومن شاء أن يقول، ومن يشاء أن يفكر، ومن شاء أن يعمل فليأخذ مكانه الطبيعي تحت هذه الراية والسلام عليه ورحمة الله وبركاته؛ وإلا فهو خائن يطوَّق بعاره، ومجرم يشار إلى سيماه، وعدو لا نسلم عليه تسليماً، وإنما نثأر منه ثأراً وندسه في التراب، وننفض من غباره الأيدي
كأنَّ الدكتور يخطبنا هذه الخطبة تماماً حين هتف بذلك المقطع الذي نقلناه من نشيده، فكيف(475/23)
إذن نقبل منه التسليم بأن في التودد إلى الشعب ما يزرى، وهو لا يرى إلا أن يكون رجل الفكر والأدب (رجل الشعب) أولاً: في رأسه من خواطره، وفي صدره من عقائده، وفي ضميره من أشواقه. . .
فإذا كانت أشواق هذا الشعب الروحية والثقافية والاجتماعية ظاهرة ظهوراً صارخاً، بحيث لا تخطئها إلا العين المغلقة، ولا يمر بها ظرف أو مناسبة مواتية، إلا أثبتت بظهورها ذاك أنها ليست موجودة ومعروفة فحسب، بل وأصلية ونامية معاً، لأنها تنفجر من تاريخ ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن، بملء ما في هذا التاريخ من أقدارٍ كبيرة، وأطوار عميقة، لم تكن قط خرافة يزيَّفها لفظ، ولا سامراً يفضَّه صوت، ولأنها تدور مع الدم في أجساد الملايين الذين تضرب ظلالهم شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، على قارتين، وثلاثة بحار، وعديد من الأنهار، وتقع جباههم منذ هذا العمر المبارك على تلك الربوع والبطاح العريضة، ساجدة لله في كل يوم خمس مرات. . . نعم، وإذا كانت هذه الأشواق هي التي تملي قواعدها الخاصة لنهضة هذا الشعب بنفسه وبالصفوف الرائعة المتراصة من حوله، وهي التي تعيّن الأفق الذي يترامي إليه نظر الشعب قويَّ التحديق، شديد الحماليق. . . إذا كان ذلك كله كما نحس، وكما لا نشك، فما بد من أن يصطلي كل أديب، وكل مفكر، وكل منتج، بقبس من تلك الأشواق الحارة الخالدة. فهذا القبس وحده هو الذي يمده بالصواب في تصوره لنوع النهضة المنتظرة والمحتومة معاً، ويمده بالقدرة على المشاركة الفذة في إقامة الصرح وتأثيله، وبدونه لا يكون إلا متعسفاً حائراً، لا يبرح في حيرة وتعسف، يدور حول نفسه، ويكذب أبداً على نفسه، حتى تكبّه عثرة، أو تلقفه هاوية، وبدونه لا يكون نسبة في أدباء الشعب ودعواه العمل باسم الشعب، وعيشه على مرافق الشعب، إلا تزويراً ونفاقاً وسرقة، وما لا تُعِدُّه اللغة للتشريف، ولكن للسباب
ثم ما هو الأدب؟ أليس هو: كالعلم، والفن، وكالاقتصاد نفسه، قوة من القوى المختلفة في الحياة العامة، ينبغي أن تهدف كلها صوب غايات الشعب العليا؛ وفي خلال سيرها تلقاء هذه الغايات، ينبغي أن تستفتي حاجاته الحقيقية، وتستعين بأحلامه الروحية على ضمان النجاح، وسرعته أيضاً؟
هذا الذي نقرره من بدائة كل إصلاح وكل نهضة، وليس من فنهما المعقد، ولا من كهانتهما(475/24)
الغامضة، حتى يكون ثم موضع للجدل أو الحذلقة
فمن يحاول عزل (الأدب) عن كافة القوى الأخرى المتضامنة في الحياة العامة، ويشككه في واجب تضامنه مع تلك القوى، وارتكازه أبداً إلى ضمائر الشعب وأحلامه القدسية، ويزعم أن في عودة الأدباء بقلوبهم الشريدة إلى وطنها المأنوس بين قلوب قومهم بعد طول انتظار للوفاء والبرد والنبل ما يثير شهوة الفضول والعجب الأبله، لا يفهم الأدب إلا فهماً بوهيمياً، ولا ينتج فيه إلا ضرباً من الكلام ينهمك فيه الطابع، والمصحح والناشر، والناقد، ليعالج به أخيراً ملل تافه. . .!
إن هذا الذي كتب في اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث لا نتهمه بالمغالطة حين زعم ثانية أن تأريخ عصر النبوة رجعية، إذ كانت المغالطة مطوية على ذكاء وفهم في الواقع وإن لم يكن ذكاء شريفاً، وإنما نتهمه بالغلط الذي لا يرادف التجاهل ولكن يرادف لفظاً آخر. ما معنى الرجعية؟ أليست هي الانتكاس والتقهقر، وإيثار الأدنى على الأعلى؟ فأي سمو وقع دونه الرجال الذين يؤرخون عصر النبوة؟ وأية فكرة أو حقيقة تكشفها دراسة هذا العصر تنحط مرتبة عما تكشفه دراساتهم الأخرى في موضوعات أخرى؟ وأي شر تبتلي به حياتنا العقلية - ودع عنك حياتنا الوجدانية التي هي محور كل عمل أدبي - إذا أضيفت هذه الدراسة إلى سائر الدراسات التي استبدت بأقلام الكتاب منذ كانت لهم أقلام؟ ألا تجد عقولنا فيها من عافية الفكر وأريحيته ما يتلمسه الضمير الإنساني في كل ثقافة كائنة ما كانت ليصح به ويترعرع ويزكو؟!
هذه أسئلة لا تطلب جوابها من أحد، ولا تستجديه، فهو ملء كل نفس تفهم (الأدب) ولا نزري بقدره. لا، بل إنه إذا كان كل شيء في الحياة يتشكل ويتطور، لكي لا ينبو عن طبيعة جوه، ومقتضيات بيئته، فما بد من أن يتحدث الأدب في كل عهد بلغته، ويتوخى من هذه اللغة ما يشوق الأذن الماثلة، ويجاوب الحنين الساري، ويجعل البعث المرتقب، ونحن نعيش في حقبة من تاريخنا لا يصلح لها إلا هذا، فلو اشتغل الأدب بما يبعد كثيراً أو قليلاً عن هذا النهج لكان ملتوياً على روح الشعب، جامداً عن مجاوبته، وتلبية حاجته، ومثله في هذه الحالة - وفي المنطق البوهيمي - كمثل اللحن الناعم النائم تعزفه لجنديّ راحل إلى الجبهة!. . .(475/25)
فأي غلط بعد غلط يتعفن به منطق فرح به صاحبه فرحاً مضحكاً وهو يناقش (العقاد) في بعض ما كتب! نعم لقد كان يبدو في سياق فرحه ذاك أن منطقه لا يثقبه الرصاص نفسه!
كم اشتغل المستشرقون بتأريخ عصر النبوة، وهذه حقيقة معروفة نود أن نوجه إلى منطق صاحبنا سؤالاً خاصاً بها، وهو سؤال أخير نضيفه إلى تلك الأسئلة المخيفة التي وجهها إليه الدكتور في خلال درسه القيم، والتي تتضمنها هذه الفقرة بالذات: (لم يقل أحد إن هيكل كان رجعياً حين ترجم لجان جاك روسّو، ولم يقل أحد إن العقاد كان رجعياً حين ترجم لابن الرومي، ولا قال قائل برجعية طه حسين حين ترجم لأبي العلاء، ولكن الرجعيات أصابت هؤلاء الأساتذة حين شغلوا أنفسهم بتاريخ عصر النبوة!! لأنه مصدر من المصادر الدينية الخ) أإذا اشتغل المستشرقون بهذا الموضوع ومثله؛ وكتب فيه كتاب أوروبيون - وكم حدث ويحدث - يكون ذلك أيضاً (رجعية) و (تودداً للجمهور المصري)؟! أم ينعت ذلك عند صاحبنا ومنطقه العتيد بالفحولة العقلية، والثقافة الإنسانية، وما إليهما من النعوت التي تكبر على الرجعية، أو الرياء أو اللغو الذي تكرمنا عن مناقشته والذي سماه إيمان المقترب من اليوم الآخر؟!
ندع الآن المنطق العتيد يحصى قائمة الخسائر التي نزلت به، ونحن - فينفس الوقت - على استعداد لكي نضيف إلى هذه القائمة أرقاماً أخرى، نقول له ذلك قبل أن يتعجل فينشر مقالاً أو بعبارة أخرى - بلاغاً يزعم فيه أن الخسائر طفيفة!!
وبعد، فلم يفرغ درس الدكتور من نواح أخرى ذات بال، فحسبنا ذلك اليوم، وإلى فرصة قريبة.
(الأقصر)
إسماعيل حمدي(475/26)
ابنة الطحان
لللورد الفريد تينيسون
إنها ابنة الطحان، وقد نمت وتطورت
حتى غدت محبوبة فتانة. فيا ليتني جوهرة
في القرط الذي يرتجف معلقاً في أذنها،
لأنني إذ ذاك وأنا في حلقة من ذهب
أمُسّ رقبتها البيضاء الدافئة ليل نهار.
أو ليتني النطاق الذي يحيط بخصرها الدقيق
الرشيق فأحس بضربات قلبها في ساعات
الحزن وأويقات الراحة، وأعلم ما إذا
كانت الدقات متئدة منتظمة، وأحيط بها
من جميع أطرافها ضاغطاً عليها بحنان!
أو ليتني حلي معلقة في رقبتها فأرتفع وأهبط
بانتظام على صدرها البض، مع تصاعد ضحكاتها
وزفراتها، وأستقر في مكاني هادئاً جداًّ
بحيث لا تخلعني حتى عندما تذهب لتنام!
(بغداد)
صفاء خلوصي(475/27)
القاضي التنوخي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
(تتمة نشر في العدد الماضي)
وأما أسباب عزله فتلخص بما يأتي: قال الرئيس أبو الحسن هلال: وفي شهر ربيع الأول سخط عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي والزم منزله وصُرف عما كان يتقلده. وكان السبب في ذلك ما حدثني به أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال حدثني أبو علي والدي قال: كنت بهمذان مع الملك عضد الدولة فاتفق أن مضيت يوماً إلى أبي بكر بن شاهويه رسول القرامطة والمتوسط بين عضد الدولة وبينهم، وكان له صديقاً ومعي أبو علي الهائم وجلسنا نتحدث، وقعد أبو علي على باب خركاه كنا فيه وقدم إليه ما يأكله، فقال لي: اجعل أيها القاضي في نفسك المقام في هذه الشتوة في هذا البلد. فقلت لِمَ؟ فقال إن الملك مدبّر القبض على الصاحب أبي القاسم بن عبّاد، وكان قد ورد إلي حضرته بهمذان؛ وإذا كان كذلك تشاغل بما تتطاول معه الأيام. وانصرفت من عنده؛ فقال أبو علي الهائم قد سمعت ما كنتما فيه وهذا أمر ينبغي أن تطويه ولا تخرج به إلى أحد ولا سيما إلى أبي الفضل بن الشيرازي. فقلت أفعل، ونزلت إلى خيمتي، وجاءني من كانت له عادة جارية بملازمتي ومواصلتي ومواكلتي ومشاربتي وفيهم أبو الفضل بن أحمد الشيرازي، فقال لي: أيها القاضي أنت مشغول القلب فما الذي حدث؟ فاسترسلت على انس كان بيننا وقلت أما علمت أن الملك مقيم وقد عمل على كذا في أمر الصاحب وهذا دليل على تطاول السنة. فلم يتمالك أن أنصرف واستدعي ركابياً من ركابتي وقال له: أين كنتم اليوم؟ فقال عند أبي بكر بن شاهويه. قال: وما صنعتم؟ قال: لا أدري إلا أن القاضي أطال عنده الجلوس وانصرف إلى خيمته عنه ولم يمض إلى غيره. فكتب إلى عضد الدولة رقعة يقول فيها: كنت عند القاضي أبي علي التنوخي فقال كذا وكذا وذكر أنه قد عرفه من حيث لا يشك فيه وعرفت أنه كان عند أبي بكر ابن شاهويه وربما كان لهذا الحديث أصل؛ وإذا شاع الخير به وأظهر السر فيه فسد ما دُبّرَ في معناه. فلما وقف عضد الدولة على الرقعة وجم وجوماً شديداً وقام من سماط كان قد عمله في ذلك اليوم على منابت الزعفران للديلم مغيظاً، واستدعاني وقال لي: بلغني أنك قلت كذا وكذا حاكياً عن أبي بكر بن شاهوية فما(475/28)
الذي جرى بينكما في ذلك؟ فقلت لم أقل من ذلك شيئاً، فجمع بيني وبين أبي الفضل بن أبي أحمد وواقفني وأنكرته، وراجعني وكذبته؛ وأحضر أبو بكر بن شاهويه وسئل عن الحكاية، فقال: ما اعرفها، ولا جرى بيني وبين القاضي قول في معناها. وثقل على أبي بكر هذه المواقفة وقال: ما نعامل الأضياف بهذه المعاملة. وسئل أبو علي الهائم عما سمعه فقال: كنت خارج الحركة، وكنت مشغولاً بالأكل وما وقفت على ما كانا فيه. فمد وضرب مائتي مقرعة؛ وأقيم فنفض ثيابه. وخرج أبو عبد الله سعدان - وكان لي محباًّ - فقال لي: الملك يقول لك: ألم تكن صغيراً فكبرناك، ومتأخراً فقدمناك، وخاملاً فنبهنا عليك، ومقتراً فأحسنا إليك؟ فما بالك جحدت نعمتنا وسعيت في الفساد على دولتنا؟ قلت: أما اصطناع الملك لي فأنا معترف به، وأما الفساد على دولته فما عملت أنني فعلته! وجلست مكاني طويلاً، وعندي أنني مقبوض علَّي، تم حملت نفسي على أن أقوم واسبر الأمر، وقمت وخرجت من الخيمة، فدعا البوابون دابتي على العادة، ورجعت إلى خيمتي منكسر النفس منكسف البال؛ فصار الوقت الذي أدعي فيه للخدمة، فجاءني رسول ابن الحلاج على الرسم، وحضرت المجلس فلم يرفع الملك إلي طرفاً، ولا لوي إلي وجهاً؛ ولم يزل الحال على ذلك خمسة وأربعين يوماً، ثم استدعاني وهو في خركاه وبين يديه أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وعلى رأسه أبو الثناء شكرٌ الخادم فقال: ويلك! أصدقني عما حكاه أبو الفضل بن أحمد؛ فقلت كذبٌ منه؛ ولو ذكرت لمولانا ما يقوله لما أقاله العثرة؛ فقال: أو مِنْ حقوقي عليكم أن تسيئوا غيبتي وتتشاغلوا بذكري؟ فقلت: أما حقوق النعمة فظاهرة، وأما حديثك فنحن نتفاوضه دائماً. . . ثم قال عضد الدولة: عرَّفنا ما قاله أبو الفضل. قلت: هو ما لا ينطق لساني به؛ فقال: هاته. . . وكان يحب أن تعاد الأحاديث والأقاويل على وجهها من غير كناية عنها ولا احتشام فيها. فقلت: نعم؛ قال: (وذكر له بعض النقائص فقربها). . . ثم قال: وقد ذكر هذا الأستاذ وأومأت إلى أبي القاسم وأبي الريّان وجماعة الحواشي فقال: ما قال في أبي القاسم؟ قلت: قال: إنه ابتاع من ورثة ابن بقية ناحية الزاوية من رازان بأربعة آلاف درهم بعد أن أستأذنك استئذانا سلك فيه سبيل السخرية والمغالطة، واستغلها في سنة واحدة نيفاً على ثلاثين ألف درهم، وأنه أعطى فلاناً وفلاناً ثمانية آلاف درهم على ظاهر البضاعة والتجارة، فأعطاه نيفاً وستين ألف درهم. فمات أبو القاسم عند سماعه ذلك،(475/29)
وأوردت ما أوردته مقابلته - أي معارضته - على ما ذكرني به. وحضرت آخر النهار المجلس في ذلك اليوم على رسمي، فعاود التقريب لي والإقبال علىَّ. ثم رحلنا عائدين إلى بغداد، فرآني الملك في الطريق وعليَ ثياب حسنة وتحتي بغلة بمركب وجناغ جواد؛ فقال لي: من أين لك هذه البغلة؟ قلت: حمَّلني عليها الصاحب أبو القاسم بمركبها وجناغها، وأعطاني عشرين قطعة ثياباً، وسبعة آلاف درهم؛ فقال: هذا قليل لك مما تستحقه عليه. فعلمت أنه أتهمني به وبأني خرجت بذلك الحديث إليه، وما كنت حدثته به
وذكر غرس النعمة بن هلال قال: حدثني بعض السادة الأصدقاء، وأنسيته وأظنه أبا طاهر محمد بن محمد الكرخي قال: كانت بنت عضد الدولة لما زفت إلى الطائع بقيت بحالها لا يقربها خوفاً أن تحمل منه فتستولي الديلم على الخلافة، وكان الطائع يحبها حباً شديداً زائداً موفياً. . . . . وتقدم عضد الدولة إلى أبي على التنوخي في أواخر أيامه بأن يمضي إلى الطائع ويطارحه يناظره. . . في المعنى. . . بأسباب يتوصل إليها وأقوال يصفها، ويومئ إلى الغرض فيها. . . رتبها عضد الدولة ولقنه إياها وفهمه
قال التنوخي بعد قدومه إلى بغداد مع عضد الدولة فحكى لي أن الطائع لله متجاف عن ابنته المنقولة إليه. . . فثقل ذلك عليه وقال لي: تمضي إلى الخليفة. . . ويعود الأمر إلى ما يستقيم به الحال ويزول معه الانقباض فقد كنت وسيط هذه المصاهرة، فقلت: السمع والطاعة. وعدت إلى داري لألبس ثياب دار الخلافة، فاتفق أن زَلِقَتْ وَوَثِئَتْ رجلي، فأنفذت إلى الملك أعرفه عذري في تأخري عن أمره فلم يقبله وأنفذ إلى منْ يستعلم خبري، فرأى الرسول لي غلماناً رَوَقَةً وفرشاً جميلاً، فعاد إليه وقال: هو متعال وليس بعليل. وشاهدته على صورة كذا وكذا والناس يغشونه ويعودونه. فاغتاظ غيظاً مجدداً حرك ما في نفسه مني أولاً، فراسلني بأن الزم بيتك ولا تخرج عنه، ولا تأذن لأحد في الدخول عليك، فيه إلا نفرا من أصدقائي استأذنت فيهم فاستثني بهم. ومضت الأيام وأنفذ إلى أبو الريان فطالبني بعشرة آلاف درهم وكنت استلفتها من إقطاعي فأديتها إليه، واستمر علىّ السخط والصرف عن الأعمال إلى حين وفاة عضد الدولة. ثم قال غرس النعمة: فقال التنوخي السمع والطاعة، ومضى إلى بيته ولمُ يقدم على الطائع، وخاف عضد الدولة إن خالف ما رسمه له، فأظهر مرضاً أصدقاؤه وعاده منه واعتذر به إلى عضد الدولة، فوقع لعضد(475/30)
الدولة باطن الأمر وأمر بعض الخدم الخواص بالمضي إلى التنوخي لعيادته وتعرف خبره، وأن يخرج من عنده ويركب إلى أن يخرج من الدرب، ثم يعود فيدخل عليه هاجماً فإن كان على حاله في فراشة لم يتغيرَّ له أمر، أعطاه مائتي دينار أصحبه إياها لنفسه وأطهر أنه عاد لأجلها لأنه أنسيها معه؛ وإن وجده قاعداً أو قائماً عن الفراش قال له: الملك يقول لك لا تخرج عن دارك إلينا ولا إلى غيرنا وانصرف. قال الخادم: فدخلت إليه وهو في فراشه وعليه دثاره وخاطبته عن الملك وأعاد جواباً ضعيفاً لم أكد أفهمه، وخرجت ثم عدت على ما رسم الملك فهجمت عليه فوجدته قائماً يمشي حول البستان، فلما رآني اضطرب وتحيرَّ فقلت له: الملك يقول لا تبرَح دارك إلينا ولا إلى غيرنا، وخرجت فبقى على ذلك إلى أن مات عضد الدولة)
نقول وذكره من بعد هؤلاء ابن خلكان؛ ولم يزد على ما ذكره المؤرخون ممن ذكرنا هنا سوى كتاب (المستجاد من فعلات الأجداد) وقد نوهنا به وأشرنا إلى أمره آنفاً في غير هذا. وقد نقل ابن خلكان عن الثعالبي والخطيب البغدادي
أما شعره فإننا نذكر منه هنا ما ذكره المؤرخون استطراداً في ترجمته وما اختاروه من شعره لما كان ديوان شعره من الدواوين المفقودة، لعل فيه شيئاً من الفائدة. ومن السابقين إلى رواية شعره الثعالبي قال: ومما علق بحفظ أبي نصر سهل بن المرزبان وأنشدنيه للقاضي أبي علي قوله وهو معنى طريف ما أراه سبق إليه:
خرجنا لنستسقي بيمن دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرضا
فلما أبتدأ يدعو تقشعت السما ... فما تم إلا والغمام قد انفضّا
وأنشدني غيره له وأنا مرتاب به لفرط جودته وارتفاعه عن طبقته:
أقول لها والحي قد فطنوا بنا ... وما لي على أيدي المنون براح
لما ساءني أن وحشتني سيوفهم ... وإنك لي دون الوشاح وشاح
قال الثعالبي ومما أنشده لنفسه في كتاب الفرج بعد الشدة:
لئن أشمت الأعداء صرفي ورحلتي ... فما صرفوا فضلي ولا ارتحل المجد
مقام وترحال وقبض وبسطه ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد
وسنذكر بقية الأبيات من مقدمة ناشر كتاب (الفرج بعد الشدة). ولقد وجدت قطع لمؤلف(475/31)
الكتاب عينه مدرجة في الفصل الأخير من بحوثه تلائم مقاصد المؤلف لكتاب الفرج بعد الشدة. ومن أولى هذه القطع ما يأتي:
أصبر فليس الزمان مصطبراً ... وكل أحداثه فمنقشعه
كم من فقير غناه في شبعٍ ... قد نال خفضاً في عيشه ودعه
ومن جليل جلت مصائبه ... ثم تلافاه بعد ما وضعه
فعاد بالعز آمناً جذلاً ... وعاد أعداؤه له خضعه
والقطعة الثانية:
متى تصفو لك الدنيا بخير ... إذا لم ترض منها بالمزاج
ألم تر جوهر الدنيا المصَفّى ... ومخرجه من البحر الأجاج
ورب مخيفة فجأت بهولٍ ... جرت بمسرة لك وابتهاج
ورب سلامة بعد امتناع ... ورب مثقف بعد اعوجاج
والقطعة الثالثة، قال مؤلف الكتاب وفي محنة لحقتني فكشفها الله تعال فقلت:
هوّن على قلبك الهموم فكم ... قاسيت هماً أدنى إلى الفرح
ما الشر من حيث تتقيه ولا ... كل مخوف يفضي إلى الترح
والقطعة الرابعة:
لئن عداني عنك الدهر يا أملي ... وسل جسمي بالأسقام والعلل
وشت شمل تصافينا وألفتنا ... والدهر ذو غير والدهر ذو دول
الحمد لله حمد الشاكرين على ... ما شاء من حادث يوهي قوي الأمل
قد اشتكت بصروف الدهر والتحقت ... على فيك غواشي الحزن والوجل
واعتضت منك بسقم شأنه خلل ... ومن وصالك بالهجران والملل
وبعد أمني من عذر ومثنية ... عذراً يسرح بالألفاظ والرسل
ومن لقائك لقي الطب أرحمهم ... قسط وأرفقهم يدنى إلى الأجل
فلست آيس من رجع الوصال ولا ... عود العوافي ولا أمن من السبل
والقطعة الخامسة من قصيدة في محنة لحقته:
أما للدهر من حكم رضى ... يدال به الشريف من الدني(475/32)
ويستعلي الرؤوس من الذنابي ... وينتصف الذكي من الغبي
ومن عاصاه دمع في بلاء ... فليس بكاء عيني بالعصي
وما أبكي لوفر لم يفده ... زمان خان عهد فتى وفي
ولا آيس على زمن تولى ... بعيش ناضر غض نديّ
وما تلقي الحوادث إن ألمت ... سوى قلب عن الدنيا سخي
وصبر ليس تنزحه الليالي ... كنزح الدلو ضافية الركي
وليس بآيس من كان يخشى ... ويرجو الله من صنع قوي
أما القطعة السادسة فقد قال ناشر الكتاب: وله عند صرفه من تقلده القضاء بالأهواز وقبض ضيعة من ضياعه وحضوره إلى بغداد وقد نقلنا منها آنفاً بيتين مطلعهما: لئن أشمت الأعداد الخ
وما زلت جلداً في المهمات قبلها ... ولا غر وفي الأحيان أن يغلب الجلد
فكم ليث غاب شردته ثعالب ... وكم من حسامَ فلَّه غيلة غمد
وكم جيفة تعلو وترسب درة ... ومنحسة تقوي إذا ضعف السعد
ألم تر أن الغيث يجري على الربا ... فيحظى به إن جاد صيّبه الوهد
وكم فرج والخطب يعتاد نيله ... يجيء على يأس إذا ساعد الجد
لقد أقرض الدهر السرور فإن يكن ... أساء اقتضاء فالقروض لها رد
فكم فرحة تأتي على أثر ترحة ... وكم راحة تطوى إذا اتصل الكد
وكم منحة من محنة تستفيدها ... ومكروه أمر فيه للمرتجي وفد
على أنني أرجو لكشف الذي غدا ... مَليكاً لَهُ في كل نائبه وفد
فيمنع منا الخطب والخطب صاغر ... وتمس عيون الدهر عناهي الرمد
ونعتاض باللقيا من البين اعصرا ... مضاعفة تبقى ويستهلك البعد
والقطعة السابعة هي:
قل لمن أودى به الترح ... كل هم بعده فرح
غالط الأحداث مجتهداً ... كل ما قد حلّ منتزج
لا تضق ذرعاً بنازلة ... وارمها بالصّبر تنفسح(475/33)
وأزح بالراح طارقها ... فجلاء القربة القدح
ألق بالمزاج المريح أذى ... حدها إن شئت تنشرح
هذا ما تمكنت من العثور عليه عند مطالعتي لهذا الكتاب الجميل، ولعل له مقطوعات من شعره لم نعثر عليها بعد؛ وقد تحقق الأيام من ذلك شيئاً فنعود إلى ذكر ما تركه هذا الشاعر الفحل والكاتب البليغ والمؤرخ الثقة
قال الثعالبي ومما ينسب إليه قوله لبعض الرؤساء في التهنئة بشهر رمضان:
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه ... ووقاك الإله ما تتقيه
أنت في الناس مثل شهرك في الأ ... شهر بل ليلة القدر فيه
هذا وقد أورد ياقوت في معجم الأدباء أخباراً في ترجمته في نقد الشعر الذي يغني به عضد الدولة البويهي بحضرته ومجالس أنسه وصحة قائليه وناظميه وذلك ما يدل على قوته في نظم الشعر وحفظه أيضاً لمنظومات الشعراء الذين سبقوه، فكان خير حكم للتميز بين الغث والسمين منه؛ هذا علاوة على قوته في النثر، فقد أتبع أسلوب يكاد يكون خاصاً به لم يصل إلى مجاراته فيه أهل عصره
هذا ما تيسر لي جمعه من الأخبار عن نابغة القرن الرابع الهجري العباسي في القضاء والتأليف والشعر والأدب والاجتماع عسى أن أكون قد قمت بقسط مما يستحقه هذا العلم الفرد، وسنواصل بحول الله تعالى البحث عن غيره ممن كانت لهم المنزلة العظمى في دولتي العلم والأدب لذلك العهد العباسي الزاهر.
(بغداد)
يوسف يعقوب مسكوني(475/34)
غراب وطفل
(مهدأة إلى أستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات)
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
نَشِبَ اَلْجناَحُ وَضَلَّ في الأَغْصاَنِ ... فإِذَا الْغُرَابُ يَخِرُّ لِلأَذْقَانِ
حَيْرَانَ يَلْتَمِسُ النَّجاَةَ فَلاَ يرَىَ ... قَلْباً يَرقُّ بِذلِكَ اَلْحيْرَانِ
جَهِدَ الأَسِيرُ لِكْي يَفُكَّ جَنَاحَهُ ... بِاَلْخفْقِ آوِنَةً وَبالدَّوَرَانِ
لم يُغْنِ عَنْهُ كِفاَحُهُ فَأَثاَرَهاَ ... شَعْوَاَء تُسْمِعُ جَلْمَدَ الآْذَانِ
وَرَأى غُرَابٌ صِنْوَهُ في أَسْرِهِ ... فَمَضَى وأَسْرَعَ لِلأَسِير الْعاَنِي
وَهَوَى يحُاَولُ جَذْبَهُ. . . وَإَذَا بِهِ ... هُو والأْسِيرُ لِدَى الرَّدَى صِنْوَانِ
أعْياَهُ إِنْقاَذُ الزّمِيلُ، فَطاَرَ في ... فَزَعٍ يُناَدِي شِيَعَةَ الْغِرباَنِ
وَإذَا غُرَابٌ، ثُمَّ ثَانٍ، خَلْفَهُ ... مِنْ قَوْمِهِ زُمَرٌ. . . أَتَتْ لِثَوَانِ
وَتَجمَّعَ الْغِرْباَنُ في الدَّوْحِ الذي ... ضَمَّ الأَسِيرَ تَجَمُّعَ الْفرْساَنِ
عَقَدَتْ عَصاَئِبُهاَ عَلَيْهِ مَناَحَةً ... وَبَكَتْ لَدَيْهِ بِدَمْعِهاَ الْهَتَّانِ
وَكأَنَّماَ كاَنَتْ تَضَرَّعُ لِلْوَرَى ... أَنْ يُسْعِفُوا ذَاكَ الْمَهِيضَ الْفاَنِي
وَأَتَى بَنُوا الإنسان فاحْتَشَدُوا عَلَى ... بَلَهٍ. . . زَرَافَاتٍ بِلاَ وِجْدَانِ
وَتَجَمَعَّوُا شِيَعاً لِكيْ يُهْدُوا لَهُ ... نَظَرَ الْفُضُولِ، وَلَمْحَةَ الْمُجَّانِ
وَإذَا الْبَلاَهَةُ وَالْفُضُولُ تَجَمَّعاَ ... لَمْ تَلْقَ لِلأَخْلاَقِ أَيَّ مَكاَنِ. . .
وَأَتَى الظَّلاَمُ. . . وَلَفَّ في أَحْشَائهِ ... هذَا الْوُجُودَ. . . فَمَا تَرَى عَيْناَن
وَاسْتَيْأَسَ الْغِربْاَنُ فَانْصَرَفُوا عَلَى ... مَضَضٍ، وَلَمْ ينْسُوا فَتَى الأَغْصاَنَ
تَرَكُوا لَهُ بَعْضَ الرَّفاق تَزُقُّهُ ... باَلْحبَّ تَحْتَ رَعَايَةِ الرَّحمنَ
حَتَّى يَجِئَ الصُّبْحُ في أَعْطَافِهِ ... فَرَجُ الْكُرُوبِ وَجَلْوَةُ الأَحْزَانِ
ياَ لَلْوَفاَءِ وَلْلإخَاءِ نَرَاهُماَ ... بَلَغَاَ الذُّرَا في عَالَمِ اَلْحيَوَانِ. . .
لَمْ تَفْرُغِ الْغِرْباَنُ مِنْ أَشْجاَنِهاَ ... وَاللَّيْلَ مَهْدُ غَرَائِبِ الأَشْجاَنِ
وَإذَا صُراخٌ مِنْ وَليدٍ قَدْ بَدَا ... في اَلْجوَّ يَبْعَثُ كاَمِنَ التَّحْناَنِ
ياَ لَلشقاَءِ وَلِلتَّعاَسَةِ. . . جُمَّعاَ: ... هُوَ ذَا (لَقِيِطٌ) لُفَّ في أَكْفاَنِ!(475/35)
قَذَفَتْ بِهِ (الأَمُّ اَلْحنُونُ) جَريَمَةً ... وَرَمَتْهُ في رُكْنٍ مِنَ اْلأَرْكاَنِ!
وَتَسَلَّلَتْ طَيَّ الظَّلاَمِ، وَلَمْ تَخَفْ ... عِنْدَ اَلْجريِمَةِ نِقَمةَ (الدَّيَّانِ)!
وَتَحدَّث الرَّاءُونَ فِيماَ أَبْصَرُوا: ... أَنَّ اللَّقِيطَ كَزَهْرَةِ الْبُسْتاَنِ!
مَرَّتْ بِهِ أَنْثى، فَصاَحَتْ - بَعْدَمَا ... جَسَّتْهُ - صَيْحَةَ رَحْمَةٍ وَحَناَنِ:
ياَ لَعْنَةَ اَلْجبَّار: لُفَّي أُمَّهُ. . . ... أَزِنًي وَقَتْلٌ ياَ بَنِي الإنسان؟!
وَمَضَتْ تُهَرْوِلُ في الظَّلاَمِ كأَنَّماَ ... تَبْغي النَّجاَةَ، وَمَا لَهاَ كَفَّانِ. . .
وَتَجَمَّعَ السَّارُون حَوْلَ مِهاَدِهِ ... وَالطَّفْلُ مُضَّطَرِبٌ: يَداً لِلساَنِ
كُلُّ يُحَوْقِلُ، ثُمَّ يَرْكُضُ هَاَرباً ... فَكأَنَّهُ مِنْ لَعْنِةَ الشَّيْطاَنِ!
تَرَكُوُهُ خَوْفَ الْعاَرِ يَذْوِي عُودُهُ ... وَيَعيشُ في جَوِّ مِنَ اَلْحرِمْاَنِ!
وَأَتى الصَّباَحُ فَقَيَّضَ الرَّحمنُ مَنْ ... نَجَّى الْغُرابَ، وَفَازَ بالطَّيَرَانِ
وَمَضَى الأَسِيرُ مَعَ الرَّفَاقَ مُمَتَّعاً ... بالْعَيْشِ في صَفوٍ وَفي خِلاَّنِ. . .
وَمَضَى اللَّقِيطُ لِمَلْجَأٍ يَلْقىِ بِهِ ... عَيْشَ الْهَوَانٍ عَلَى مَدَى اْلأَزْمَانِ
لاَ أم رَاعِيَةً، وَلاَ أَبَ عَاطِفاً ... فَلْيَحْي بَيْنَ مَذَلَّةٍ وَهَوَانِ
تتَنَكَّرُ الدُّنْيَاَ لَهُ، وَتُذِيقُهُ ... هُوناً بِلاَ عَطْفٍ وَلاَ تَحَنْاَنِ. . .
ياَ لاَبْنِ (آدَمَ): عَاشَ فَي أَقْوامِهِ ... فَظاًّ بِرَغْمِ الْعِلْمِ وَالْعِرفْاَنِ!
ياَ لَلُّطيُورِ: تُرِيكَ مِنْ أَخْلاَقِهاَ ... مُثُلاً بِهاَ تَسْموُ عَلَى الإنسان!
لَمْ تَحْظَ بالتَّعْلِيمِ، أو يُبْعَثْ لَهاَ ... رُسُلٌ، وَلَمْ تَسْتَهْدِ باْلأَدْياَنِ
مَنْ عَلَّمَ اْلإنسان دَفْنَ سَمِيَّهِ؟ ... شَتَّانِ بَيْنَ اْلإنْسِ وَالْغِرْباَنِ!
ياَ لَيْتَ لِي خُلُقُ الطُّيُورِ، وَجَوَّهاَ ... وَصَفاََءهاَ. . . فأَعِيشَ في اطْمِئْناَنِ
مَنْ صَوَّرَ الْمأْساَةَ أَبْرعَ صُورَةٍ؟ ... مَنْ صاَغَهاَ لِلنَّاسِ سِحْرَ بَياَنِ؟
الْكاَتِبُ الْفَذُّ اْلأدِيِبُ هُوَ الَّذِي ... أَضْفَى عَلَيْهاَ باَهِرَ اْلأَلْوَانِ
وَتَمَثَّلَتْهاَ رُوحُهُ، فَبَدَتْ لَناَ ... سِفْراً يُرَدَّدُ آيَةُ الْمَلَوَانِ
أَذْكَتْ لَهيِبَ الْقَوْلِ بَيْنَ جَنُودِهِ ... وَمَضَتْ تُحَرَّكُ رَاقِدَ اْلأَذْهَاَنِ
كَمْ مِنْ فُؤَادٍ كَانَ شاَهِدَ أَمْرِهاَ ... مَا اهْتَزَّ أو نَطَقَتْ لَهُ شَفَتَانِ!
رَبَّ الرَّسَاَلَةِ: أَسْمِعْ الدُّنْياَ كَماَ ... شاََء النُّبُوغُ رَوَاِئِعَ التَّبْيَان(475/36)
هَذَّبْ شُعُورَ النَّاسِ وَاسْمُ بِرُحِهِمْ ... فَالنَّاسِ قَدْ جَازُو مَدَى الطَّغْياَنِ
مِنْ كُلَّ عَابرةٍ أَنِلْهُمُ عِبْرَةً ... فَلأَنْتَ فَارِسُ ذَلِكَ الْميدَانِ
صغْ مِنْ دُمُوِعِكَ آي وَحْيِكَ إِنَّهاَ ... ذَوْبٌ لأِكْرَمِ مُهْجَةٍ وَجَناَنِ. . .
حَسْبُ الْكُرَامِ الْكَاتِبينَ مَثُوبَةً ... مِنْ دَهَرِهِمْ شُكْرٌ بكُلَّ لِساَنِ. . .(475/37)
البريد الأدبي
الأستاذ العقاد في السودان
لا يزال الأستاذ الجليل عباس محمود العقاد منذ نزل الخرطوم موضع
التكريم والتجلة من أهله. وللسودان الكريم أريحية للأدب ورجاله هي
نصيب المصرية منه وسر العروبة فيه. وقد تعشت الروح الأدبية في
القطر الشقيق بزيارة الأستاذ له؛ فحفلت الأندية، ونشطت الصحافة،
وكثرت المآدب، وافتنت الأحاديث، وتلاقت الآراء، وتجاوبت المشاعر،
وبان من كل أولئك فضل الأدب على السياسة والاقتصاد في إبلاغ
الرسالة وإحسان السفارة؛ لأن رجال الأدب هم أهل الرأي والتوجيه،
فليس بعد اتفاقهم خلاف، ولا بعد اهتدائهم حيرة. وقد نشرنا في هذا
العدد أولى رسائل الأستاذ من الخرطوم؛ وستكون هذه الرسائل ولا
شك طُرفاً من الأدب الرفيع كان يتمناها قراء الرسالة وأصدقاء
السودان وعشاق الأدب. ومن طرائف هذه الرحلة المباركة أن العقاد
أرسل إلى جريدة النيل هذه الأبيات تحت هذا عنوان:
من جزيرة القاهرة إلى مقرن الخرطوم
تفسير حلمي بالجزير ... ة وقفتي في المقرن
حلمان حظهما خيا ... لاً دون حظ الأعين
ما دمت بينهما فما ... أنا سائل عن مسكني
وإذا التذكر عاد بي ... عطف الجديدُ فردني
يا جيرة (النيل) المبا ... رك، كل نيل موطني
وله سمىُّ في الصحا ... فة معرب لم يلحن
حييت فيه سميه ... وحمدت فيه مأمني(475/38)
(الخرطوم)
عباس محمود العقاد
فأجابه الأستاذ المبارك إبراهيم أحد محرري النيل بهذه الأبيات:
يا من نزلت أعالي الوا ... دي حميد المأمن
أهلاً، فمنزلك القلو ... ب وفي سواد الأعين
ولأنت يا بن النيل با ... قعة البيان الأرصن
فتغن في الخرطوم ما ... شاء التغني وافتن
فالنيل في أرض الكنا ... نة مثله بالمقرن
(وله سمىٌّ في الصحا ... فة معرب لم يلحن)
لهج يرمز العبقر ... ية أو بديع الأزمن
(دارة جريدة النيل بالخرطوم)
المبارك إبراهيم
أعداد الرسالة الخاصة
كبنا وما زلنا حريصين على أن يكون أكثر ما يُكتب في أعدادنا الخاصة بأقطار العروبة، لأقطاب البيان المسئولين في كل قطر يصدر عنه العدد. وكان هذا الحرص سبباً في هذا البطئ الملحوظ في إعداد هذه الأعداد، لأننا لم نتلق من العراق حتى اليوم ما طلبناه من المقالات والصور. وقد يكون للأحوال الحاضرة أثر في هذا البطء، ولكنه الأثر الذي لا يستطيع أن يتغلب على إرادة أمة تريد أن تتعارف أن وتتآلف وتسير في جهادها المشترك على هدى وعلم.
وإنا مع تكرار الرجاء لإخواننا الأدباء أن يستجيبوا لما طلبت الرسالة، نعلن إليهم أننا لم نكلف أحداً بجمع المقالات والوثائق غير الأستاذ فخري شهاب السعيدي في بغداد؛ أما في الأقطار الأخرى فلم يقع اختيارنا على أحد بعد.
وفاة السير وليم فليندرس بتري(475/39)
توفي مساء اليوم الثامن والعشرين من شهر يوليو بمستشفى الحكومة بالقدس السير وليم فليندرس بتري، عالم الآثار المصرية عن ستة وثمانين عاماً
وكان الفقيد من العلماء الثقات في تاريخ مصر القديم وتاريخ الغابرين في القسم الشرقي من حوض البحر المتوسط. وهو الذي وضع قواعد علم الآثار في مصر، واستخدام الآثار المدفونة في الكشف عن أسرار الحضارات القديمة
ومما كان يقوله، إن الخزف والجواهر من أهم موارد العلم له، وأن الأبنية كانت ترشيده إلى كل ما يريد الوقوف عليه، وإن لم يكن هناك شيء مكتوب عليها
وقد ولد السير فليندرس في 3 يونيو 1853 ببلدة (شابلتون) بجوار جرينوتش، وكان والده مهندساً، وجده لأمه ضابطاً بحرياً
ولما بلغ الثامنة من عمره كان يتكلم أربع لغات. وفي سن الخامسة عشرة كان طالباً مجداً في القسم المصري بالمتحف البريطاني
وفي السابعة والعشرين من عمره، قدم مصر حيث بدأ حياته العملية
وكان إلى جانب إلمامه التام باللغات القديمة، رياضياً من الطراز الأول، ومهندساً ومصوراً بارعاً
وأمضى السير وليم فلندرس العامين الأولين، من أعوام إقامته في مصر، وهو يقيس الأهرام والمعابد، ثم درب على ذلك جماعة من العمال المصريين، وبدأ أعمال التنقيب عن الآثار. وظل يقوم بهذه الأعمال وكتابة المذكرات عن استكشافه حتى سنة 1914
وقد ألف أكثر من مائة كتاب استغرق في كتابة أحدها وهو (تاريخ مصر) 19 عاماً، إذ بدأه في سنة 1894 وانتهى منه سنة 1923
وكذلك أنشأ مدرسة إنجليزية لتدريس الآثار في مصر ولبث يقوم بالتدريس فيها حتى سنة 1934، إذ غادرها إلى القدس، حيث بدأ أعمال الحفر في صحراء سينا وسورية
من أي يومي من الموت أفر
جاء في العدد 473 من (الرسالة) تحت عنوان (تصويبات) في مقال للأستاذ أحمد يونس محمد تعليقاً على البيت الآتي الذي ذكره الأستاذ السيد يعقوب بكر للأمام على:(475/40)
من أي يوميّ من الموت أفر ... أيوم لم يقدرَ أم يوم قُدر؟
أن البيت على هذا الوضع لا يتفق مع ما جاء بعده لأنه من بحر الرجز، وقد جاء في ديوان الإمام علي هكذا:
أيّ يوميّ من الموت أفر ... يوم ما قدر أو يوم قدر
يوم ما قدر لم أخش الردى ... وإذا قدر لم يفن الحذر
وهما من الرمل، ثم قال: على أنه إذا صح أن ديوان الحماسة لم يذكر غيره، فإنه يكون مكسوراً، لأن (لم) تقتضي الجزم، وهو لا يتمشى مع الوزن. انتهى كلامه
فالشق الأول لا اعتراض لي عليه. أما قوله بكسر البيت، فهذا خطأ، لأن الرواية بفتح راء يقدر، كما بسطت في كتب القواعد كالأشموني والمغني منسوبة للحارث بن منذر الجرمي؛ فقد زعم اللحياني أن بعض العرب ينصب بلم كقراءة بعضهم (ألم نشرح لك صدرك)؛ وقول الشاعر:
في أي يوميّ من الموت أفر ... أيوم لم يقدرَ أم يوم قدر؟
وخُرجا على أن الأصل نشرحن ويقدرن، ثم حذفت نون التوكيد الخفيفة، وبقيت الفتحة دليلاً عليها. وقال أبو الفتح: الأصل يقدر بالسكون، ثم لما تجاورت الهمزة المفتوحة والراء الساكنة، أبدلوا الهمزة المحركة ألفاً، كما تبدل الهمزة الساكنة بعد الفتحة (إعطاء للجار حكم مجاوره)؛ ثم أبدلت الألف همزة متحركة لالتقائها ساكنة مع الميم
وأقرب للقياس أن يقال: نقلت حركة همزة أم إلى وراء يقدر، ثم أبدلت الهمزة الساكنة ألفاً، ثم الألف همزة متحركة لالتقاء الساكنين، وكانت الحركة فتحة إتباعاً لفتحة الراء، كما في (ولا الضالين) فيمن همزه
قال الدماميني: ويمكن أن تكون الحركة حركة إتباع، وإن كان في كلمة
فعلى هذا يكون البيت موزوناً، حيث لا ضميمة إليه من أبيات أخر
علي حسين محمد
المدرس بمعلمات أسيوط
سير النبلاء للذهبي(475/41)
تذييلاً لما نشر الأستاذ الفاضل كوركيس عواد في العدد 471 من الرسالة، نشير هنا إلى أن الأستاذ سعيد الأفغاني نشر جزءاً في 40 صفحة من سير النبلاء للحافظ الذهبي بدمشق سنة 1941 وطبع بمطبعة الترقي. وهذا الجزء خاص بترجمة الإمام ابن حزم الظاهري مع مقدمة ضافية في حياة الذهبي بقلم الناشر، نسخ له من خزانة إمام اليمن صاحب الجلالة يحيى حميد الدين. وسير النبلاء كتاب ضخم للذهبي في عشرين مجلداً، وفي الخزانة المذكورة منه بضعة مجلدات.
وقد كتب وجيه الحجاز الشيخ محمد نصيف إلى الأستاذ الأفغاني يبشره أن جلالة الإمام يحيى أمر أن يبحث عن بقية المجلدات في أطراف المملكة اليمنية كما أمر بالشروع في نسخ المجلدات الموجودة لترسل النسخة إلى دمشق وتهيأ للطبع. وفي ذلك بشرى لأهل العلم والتاريخ في إحياء سفر نفيس يتفرد بمزايا ليست في مرجع آخر مطبوع ولا مخطوط كما يظهر ذلك من مقدمة هذا الجزء المطبوع.
(مطلع)
كم ذا
قرأت في العدد (462) من مجلتكم الغراء كلمة بعنوان (كم ذا) يستوضح فيها الكاتب عن مدى صحة قول حافظ رحمه الله:
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي=في حب مصر كثيرة العشاق
واطلعت على بعض الردود التي لم تنه الموضوع، لذلك أحببت الإدلاء بهذه الكلمة إكمالاً لما سلف أن نشر
إن (كم) في البيت استفهاميه ومميزها محذوف تقديره (كثيراً) أو ما هو معناه:
إلى كم ذا التملق والتواني ... وكم هذا التمادي في التمادي
و (ذا) في بيت حافظ في محل نصب مفعول مقدم لـ (يكابد) وهو مما أضعف التعبير إلى حد كبير وكان مثار استيضاحٍ الكاتب. وسبك الشطر منثوراً يكون هكذا: (كم كثيراً يكابد عاشق مصر هذا الألم)، و (يلاقي) زائدة جئ بها للوزن وللقافية. على أن في البيت غلطة نحوية باستعمال لفظة (كثيرة) فهي إن نصبت على الحالية لم يستقم المعنى، لان كثرة(475/42)
عشاق مصر لا يكون حالاً من المكابدة. وإن جرت على الصفة احتاجت إلى التحلية بال المعرفة. وبذلك ينكسر الوزن. وعليه يكون من الضرورة استبدال لفظة (الجمة) بلفظة (كثيرة) ليستقيم الوزن والمعنى معاً. وفي هذا الكفاية.
حسين الظريفي(475/43)
العدد 476 - بتاريخ: 17 - 08 - 1942(/)
الصدق في الأدب
الصدق هو جُمَّاع الصفات الجوهرية للأدب الصحيح. هو مطابقة الخير للواقع، ومجانسة الشيء للطبيعة، ومشابهة المثال للأصل، ومجاوبة العمل للعقيدة، وموافقة الأسلوب للقاعدة، ومناسبة الكلام للمقام، وملاءمة اللفظ للمعنى، ومواءمة الموضوع للكاتب. فلو ذهبت تتقصى أسباب ما تجد في العمل الأدبي من النقص أو الخطأ أو العبث أو الزيف أو الفساد أو التعمّل، لما وجدتها في غير الإخلال بالصدق في واحد أو أكثر من مدلولاته التي ذكرتُ. فالصفة التي لا تدل على شيء من حقيقة الموصوف، والكلمة التي لا تقع في وضعها من المعنى ولا في موضعها من الجملة، والصورة التي لا تتألف من خطوط الحاضر وألوان البيئة، والصناعة التي لا تقوم على أساس من الطبع والذوق، والحِلْية التي لا تساعد الأسلوب على التأثير والإبانة، والموضوع الذي لا يسفر عن جانب من الجمال أو الحق أو الخير، والكاتب الذي لا يقف عند ما يحسن من فنون القول؛ كل أولئك تزوير على الطبع، وافتئات على الفن، وتلفيق من الهراء لا يدخل في الأدب ولو دفعوه دفعاً في أوسع أبوابه
إذا حكَّمت الصدق في رأيك أمِنتَ التناقض؛ فلا يخالف ظاهرك باطنَك، ولا يعارض آخرك أولك. وإذا حكمتَ الصدق في أسلوبك أمنت الفضول؛ فلا تؤدي معنى بغير لفظه، ولا تضع لفظاً في غير موضعه. وإذا حكمت الصدق في نيتك أمنت النفاق؛ فلا تقول ما لا تعتقد، ولا تعتقد ما لا تؤمن بصحته. وإذا حكمت الصدق في كفايتك أمنت المجازفة؛ فلا تعالج ما لا تعلم، ولا تنقد ما لا تفهم، ولا تدَّعي ما لا تثبت. وإذا استحالت مراعاة الصدق في بعض فنون الأدب كالقَصص المتخَّيل، وجبتْ عليك مراعاة احتماله
على ذلك أسوق إليك إذا سمحت جملة من إحدى افتتاحيات الرسالة لأطبق عليها شرط الصدق في الشكل والموضوع والغرض. ولم أختر هذه الجملة لأنها من نوابغ الجمل، ولكنني اخترتها لغرض لا يشق عليك أن تلحظه فيما بعد
موضوع الجملة طفولة مجرم بالغريزة لم تفارقه نية الإجرام منذ درج إلى أن أكتهل. نشأ هذا الطفل في (قريتنا) وفي (حارتنا)، فأنا أصف حاله كما كان، وأقص أمره كما وقع. الحارة ساحة فسيحة تستدير عليها البيوت، فكأنها صحن دار كبيرة. والأطفال - وأنا منهم - يلعبون في بُهرتها شتى الألعاب في مرح وبهجة؛ فإذا طلع عليهم هذا الصبي الشرير من(476/1)
داره انقطع اللعب وخبّأ كل طفل لعبته ثم لا يلبث الشجار أن ينشب بينه وبين الأطفال بنين وبناتٍ بغير رفق؛ فالقوي يثبت له فيضربه، والضعيف يفر منه فيقذفه، والبنت ترتاع فلا تدفع عن لعبتها يده. والبيوت على الحارة مفتحة الأبواب لا يحرس أمتعتها غير الأمانة؛ ولكن المجرم الصغير ينتهز غفوة الأمانة في نفسه فيدخل هذه البيوت ليسرق حبلاً أو وتداً أو كرة صبي أو بيضة دجاجة. فلما أيفع دخل (صبياً) في خدمة (جدعان) القرية؛ وهم في الريف كالفتوات في المدن، دأبهم الشجار والسرقة والفجور. كان لهؤلاء الجدعان ليال مذكورة بالسطو واللهو؛ فكانوا إذا فرغوا من تدبير الجريمة وتنفيذها، أقاموا لزملائهم (وعملائهم) ولائم يكثر فيها اللحم والخمر والحشيش، ويقوم عليها أحداث المجرمين مقام الخدام والنُّدُل، كما يقومون في تدبير الجرائم مقام الطلائع والرُّسل. ولا أطيل عليك فقد صغَّرت هذه الصورة في هذه الجملة:
(نشأ من لِداته من أطفال القرية كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام؛ فكان لا ينفك ضارباً هذا بعصا؛ أو قاذفاً ذاك بحجر، أو خاطفاً لعبة من بنت، أو سارقاً شيئاً من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجًّار والمجَّان، فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم، ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم. . .)
فأنت ترى هذه الجملة على إيجازها قد صورت نشأة هذا الطفل على الإجرام بالمعنى الذي لا تزيد فيه، وباللفظ الذي لا بد منه، وبالبيان الذي لا بأس به؛ وإذا سلمت الجملة الفنية من اللغو والخطأ والغثاثة سلم فيها عنصر الصدق وهو جوهر الأدب
ولكنك مع ذلك لا تعدم ناقداً يزعم أنه يضع (الميزان الجديد) للنقد في (الثقافة)، ثم يجازف باستخدام علمه بالأدب الغربي، في الحكم على أساليب الأدب العربي، فيعتسف الرأي اعتسافاً لا يتسع له فيه عذر. فهو ينكر منطق العقاد، ويظلم شعر علي طه، ويغمز أسلوب طه حسين، ويحكم على سائر الأساليب المعروفة بمجافاة (الموسيقى والإيحاء والطبيعية)
هذا الناقد الفاضل قد اختار الجملة التي اخترتها ليبرهن بها على كذب الأسلوب لا على صدقه! فهو يقول أن أسلوبها أشبه بأسلوب (المقامات) (كذا والله!) وأن القارئ يقرأها (فلا يتصور أن مثل هذا الرجل موجود) ودليله على ذلك أن وجوده لو كان ممكناً ما سألني القراء عن حقيقته. والواقع أن الذي سأل في الرسالة طالبٌ في المعهد الجنائي، وما كان(476/2)
سؤاله إلا عن مكان المجرم لا عن حقيقته. ثم يمضي الناقد على أن القطعة من الأدب المصنوع فيقول: (يا لله! ولم لا يخطف لعبة من ولد وهو مجرم كبير؟ (كذا!) ولم لا يسرق من جامع وذلك أيسر من السرقة من بيت؟ وهل هو حقيقة لم يخطف إلا من بنت؟ ولم لا يسرق إلا من بيت؟. . . وهو يخدم المجرمين بتدبير الجرائم، ولكن لم لا يخدم المجان بأعداد المقاصف؟ وهل الوليمة أشهى من المقصف؟) فالناقد لا يرى بأساً في أن نضع الولد بدل البنت، والجامع بدل البيت، والمقصف بدل الوليمة، لأننا في ظنه لم نقصد إلى معاني هذه الكلمات وإنما قصدنا إلى المزاوجة والسجع! هذا النقد أعوزَه الصدق فصدر عن هوَى أو جهل. وأي الآفتين كانت المصدر فإنها ورَّطت الرجل في نقد كلام لا يصدُق نقده إلا على افتراض الكذب فيه!!
أحمد حسن الزيات(476/3)
أوهام تخلق متاعب
للدكتور زكي مبارك
في صدر هذه الليلة عانيتُ متاعب كادت تقصهم ظهري، وكدت أخشاها على حياتي، ثم لطف الله فتبددت بعد ساعات كانت أطول من الآبادَ
فما تلك المتاعب؟
هي متاعب خلقتها أوهام في غاية من السخف، ولكن النص عليها واجب لمنفعة القراء، فقد يكون فيهم من تعتريه مثل تلك الأوهام في بعض الأحوال
التفتّ بغتةً فرأيت نفسي تراجع طوائف من الذكريات الموصولة بمعاملاتي مع جماعات من المعارف والأصدقاء، فانقبض صدري أشد الانقباض، وتجسمت أمام خيالي ألوان الأوهام بصورة لم أشهد مثلها من قبل، صورة مروَّعة قاسيتُ منها ما تقاسي النار من الريح العَصُوف
وفي فورة تلك الكروب جاء لطف الله فرأيتني أقول: ومَن أولئك وهؤلاء حتى أعاني في العتب عليهم مثل هذا العذاب؟ إذا غدر بك القريب فليس بقريب، وإذا تجنى عليك الصديق فليس بصديق، ومن واجبك أن تحفر قبراً تدفن فيه من لا يرعى حق القرابة، ولا يحفظ عهد الإخاء. ما اهتمامُك بمن يرضيهم أن تَشقَى نفسك؟ وما عتبُك على من يسرهم أن تزلّ قدمك؟ وما حزنُك على ضياع مودّة كان يجب أن تضيع لأنها في رعاية الضائعين؟! أمن أجل خلائق مِراض القلوب تُمرض نفسك؟ أمن أجل إخوانٍ غَدَرة تؤذي قلبك؟ أهؤلاء وأولئك يستحقون أن تفكر فيهم ساعةً من ليل؟ وهل أكرموا أنفسهم حتى يكرموك؟ وهل أعزوا حياتهم حتى يُعزوك؟ إن حزنك لما صنعوا معك دليلٌ على أنك دائم الإشفاق عليهم، وقد نصحك الشاعر صادق رستم حين قال:
شرُّ البليَّة إشفاقٌ على فئةٍ ... لو كنت تؤكل ما عفُّوا ولا شبعوا
تبيتُ تبكي لَصرف الدهر يفجعهم ... ولو رأوك على الأعناق ما دمعوا؟
لا تشفق عليهم، وأشفق على نفسك أيها الغافل عن حقائق الخلائق؛ فلو أنك استبقيت ما أنفقت من الوقت في صحبتهم لتنفقه في تربية الخنازير، لكنتَ اليوم من كبار الأغنياء. . . وقد نصحك المثل المصري فما انتصحت، المَثل الذي يقول: (كلُّ ما تزرع ينفعك، إلا أبن(476/4)
آدم تزرعه فيقلعك)! وهؤلاء يحققون صدق هذا المثل أفظع تحقيق، فهم يقوّلونك ما لم تقل، ويذيعون عنك أغرب الأحاديث، وقولهم فيك مسموع، لأنهم عرفوك، ومن حق من عرفك أن يقول فيك ما يشاء
وما ضرَّني إلا الذين عرفتُهم ... جَزى الله خيراً كلَّ من لست أعرفُ
ما جزعك من غدر صديق؟ وما حزنُك من لؤم أليف؟ أنتَ أنتَ، ولن يكون بلاؤك بأولئك وهؤلاء غير سحابة صيف، ثم ترجع إلى إسباغ نعمائك على الجاحدين
تذكر يا غافل فضل الله عليك. تذكر أنه عصمك من الجحود حين أغناك عن الناس، والجحود رذيلة لا يتعرض لها غير المبتَلَيْن بتقبل إفضال المفضلين من أهل الكرم المطبوع أو المصنوع
أنت تتحدث كثيراً عن التأدب بأدب الله، فهل تأدبت بذلك الأدب الجميل؟
إن الله يسبغ نِعمه على الكافرين بعزته السامية. إن الله يعطي الملحدين أضعاف ما يعطي المؤمنين، كما يفعل الأب الرحيم حين يؤثِر الابن السقيم على الابن السليم، فما أنت وذلك الأدب الرفيع؟
وأراك تبدي وتعيد في أحاديث البر بأصدقائك، ولو ناقشوك لأفحموك، فما قبِلوا برِك إلا حين اطمأنوا إلى أنك رجلٌ كريم، والكريم غير منَّان
وما الوقت الذي تقول إنك أغدقته على الجاحدين من إخوانك؟ لقد دفعوا ثمن المعروف أضعافاً مضاعفة، لو كنت تنصف، دفعوه تحيات وابتسامات، وهي معان تفوق كرائم الأثمان، ودفعوا ما هو أعظم، لو كنت تعقل، فقد أشعروك بلسان المقال أو لسان الحال أنك رجلٌ نفَّاع، وذلك أعظم ما يوصف به أكابر الرجال
أنت تمن على أصدقائك؟ فماذا أبقيت للمتجرين بالأخلاق؟!
كان الظن أن تنسى جميلك إن كنت من أصحاب الجميل، ولكنك. . .
وهنا أفقتُ قليلاً فسألت نفسي عن سبب التفوه بذلك المن السخيف:
ماذا أكلت اليوم من الطعام؟ ومن لقيت من الناس؟
يجب أن أعرف ما وقع في يومي هذا، لأعرف سبب السخف الذي وقعت فيه حين مننت على معارفي وأصدقائي(476/5)
في عصرية اليوم - وهو الخامس من شهر آب - كنت أهنئ فلانة بعيد ميلادها السعيد، وفي لحظة من لحظات الصفاء حدثتها أني ولدت في مثل هذا اليوم، فهتفت بحماسة مصحوبة بالحنان:
نعم، يا سيدتي، وثمرات الأعناب في شهر آب
ثم قُلقِلتْ نفسي قلقلة عنيفة حين تذكرت أني لا أحتفل بعيد ميلادي كما يحتفل أكثر الناس، وكيف يتيسر ذلك وأنا أخلَق في كل لحظة خلقاً جديداً، باعتبار ما يَرِدُ على عقلي وروحي من شتيت الآراء والأهواء؟
وسألتني عما أستظرف من هدية الميلاد فأبيت الإفصاح عما أريد، وإن كنت أشرت إلى أني معجب بدالية مسلم بن الوليد!
وغفلة فلانة عن مدلول هذه الإشارة لم تزعجني، لأنها قليلة المعرفة بقصائد صريع الغواني!
فما السبب الأصيل لاضطرابي وانزعاجي في هذا المساء؟
لعل السبب يرجع إلى أني قضيت صباحية اليوم بوزارة المعارف، وهي مملوءة بالمراوح، ولتفصيل ذلك أقول:
في مكاتب كبار الموظفين بوزارة المعارف مراوح كهربائية تدور من جانب إلى جانب، ليقلَّ خطرها فيما يقال، وأنا رجلٌ يؤذيه البرد الطبيعي أشد الإيذاء، فكيف يتحمل البرد الصناعي وهو ثقيلٌ ثقيل؟
أنا لا أخاف المراوح الثابتة، لأن تجنب تيارها مستطاع، وإنما أخاف المراوح الدوارة، المراوح التي تغزو الصدور والمفاصل برغم التحرز والاحتراس
وهذه المراوح كثيرة في وزارة المعارف، وأنا منها في شقاء وعناء، ولا سيما المروحة الجاثمة بمكتب تفتيش اللغة العربية، ومن أجل هذا أوصي زائري بمقابلتي في مكتب الأستاذ علي أدهم سكرتير الرجل النبيل شفيق بك غربال، لأنه مكتبٌ مضنونٌ عليه بالمراوح ليساير الطبيعة في أمان
وآه ثم آه من المراوح في وزارة المعارف!(476/6)
إنها تخلق تيارات عنيفة الإيذاء، وهي السبب في بلبلة بالي في هذا المساء
وأعجب العجب أن المراوح الدوّارة تحتل جميع المكاتب الحكومية، وكأنها النمائم المبذولة بغير حساب، فأين من يرجمنا من تلك الرياح الباغية؟ وأين من يعرف أن القيظ في أحر أحواله أروح من البرد؟
عرفتُ بالضبط والتحديد سبب اعتكاري في هذا المساء، فما عن لؤم أو حقد غمزت معارفي وأصدقائي، وإنما هي جناية المراوح بوزارة المعارف، وسيأتي يومٌ قريب أو بعيد تُرفَع فيه تلك الآصار الثقال
إن قوماً يعجبون من ثورتي على الناس والزمان، فهل يعرفون أن المراوح تلفح وجهي في كل مكان؟
لو صفا دهري لصفوت، ولو عدل زمني لعدلت، واختلال الموزون يُخلْ الميزان
بمن أثق؟ وعلى من أعتمد؟ وما اطمأننت إلى صديق إلا رأيته بعد حين أو أحيان وصولياً عديم الروح والوجدان
ومع هذا أصفح عن أبناء زماني، لأنهم أبناء الزمان
ومع هذا أيضاً أبتسم حين يلقاني فلان وعلان
فضحتكم يا جماعة المنافقين، فالتمسوا قلباً غير قلبي، وجيباً غير جيبي، وانتظروا غضب الله على جميع المرائين
ثم ماذا؟
ثم أشير إلى غربتي في وطني بالفكر والروح، غربة قاسية لا ترحم ولا تلين، غربة أتوحُّد بها توحُّد الليث في العرين.
زكي مبارك(476/7)
سيكولوجية إدلر
تلخيص وتبسيط
للأستاذ محمد أديب العامري
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
مجتمعنا اليوم في الشرق قلما يضع الفرد في موضعه المناسب في الحياة. ولذلك يلازم المرء شعور الوحشة مما يجده في نفسه من نقص ومما يجده في المجتمع من عدم إفساح الطريق له ليعوض بالبروز في ناحية منه شعوره بالنقص. وليس المجتمع في الغرب أحسن بكثير مما هو في الشرق؛ ولكن إدلر يرى أن المجتمع الراقي لا يتخلف عن إسداء كل فرد منه ما يستحقه بالنسبة لكفايته. وهذا يفسح المجال للمواهب. فإذا فحصنا عباقرة التاريخ وجدنا في كل واحد منهم نوعاً من النقص. فضعف البصر ضعف شائع في العظماء. وبعض العظماء والناس ضعفاً في معدهم وأمعائهم. وفي الأطفال والناس من يكون أيسر فلا يستطيع أن يستعمل يده اليمنى، ومنهم من يكون غبياً يتلعثم، ومنهم من يكون بالغ القصر الخ. . . كل هذه عوامل تولد الشعور بالنقص
فإذا أثر النقص في الإنسان تأثيراً شديداً تولد فيه (مركب النقص)، وظهرت لذلك بوادر كثيرة مختلفة. فبعض الناس تراهم في حركة دائمة، فإذا مشوا ضربوا الأرض بأرجلهم، وإذا تحدثوا رفعوا أصواتهم ليسمعهم الناس، ولهم أمزجة حادة وانفجارات عاطفية فجائية. ومن الناس من يتناقض في آرائه وأعماله، ومنهم من يتردد تردداً عظيماً، فلا يستطيع أن يحزم في أمر. كل ذلك من علائم المرء وقد أصيب بشعور بالنقص. ومما يدل على شعور النقص في إنسان، الوقوف المعتدل المتوتر الذي يدفع المرء فيه برأسه إلى الأعلى على شكل ملحوظ، أو طأطأة الرأس إلى الأرض أثناء المشي، أو الاعتماد المستمر على الطاولة أو الجدار أو العصا حين الوقوف. والطفل الذي يحب الاستناد إلى أمه أو يخاف من مواجهة الناس فيظل متهيباً منفرداً طفل يحس بالنقص. والرجل الذي يتجافى عن المجتمع ويتحاشاه إنما يفعل ذلك في الغالب لأنه يتملكه شعور بالنقص. والخوف صفة من هذا القبيل كذلك. وهنالك نوع من الجرأة لا يختلف عن الخوف، فالإنسان أحياناً يتملكه تهور(476/8)
فجائي نادر يدفعه إلى الهلاك
ويرى إدلر أن الخوف والشجاعة مرتبطان بالإيمان بالقضاء والقدر. وهو يقول: (أن الإيمان بالقضاء والقدر مخرج يخلص به الإنسان من الجهاد والبناء المفيد في الحياة. إن هذا الإيمان دائماً دعامة واهية يستند إليها الإنسان)
والغيرة باعتدال صفة عادية معروفة، ولكنها إذا اشتدت كانت من علامات الشعور بالنقص. أما الحسد فدليل مركب نقص شديد عميق. ويوافق علم النفس الفردي على أن (الحسود لا يسود) وأنه لا يمكن أن يكون الحسد مفيداً على أي شكل من الأشكال.
التحليل النفسي
تصبح بذلك طريقة التحليل النفسي عند إدلر واضحة. إن هذه الطريقة تعتمد على فهم الشخصية الإنسانية المحللة، وترمي بشكل خاص إلى النفاذ إلى هدف هذه الشخصية في الحياة، وعلى أساس من ذلك يوصف العلاج النفسي. وللوصول إلى هذا يجب أن يفهم (طراز الحياة للإنسان المحلل. وأن تدرس التذكارات القديمة، والأحلام التي يحلمها. (وطراز الحياة) هذا هو الشكل الذي تكون شخصية المرء قد استوت عليه بعد نموها خلال السنوات الأولى. ويمكن أن يفهم هذا الطراز من دراسة أوضاع الإنسان وخاصة في حالاته غير الطبيعية؛ فالإنسان السوي هو الإنسان الذي يستفيد المجتمع منه، والذي يكون له من الإقدام والجهود ما يتقوى به على مشكلات الحياة. إن الرجل الذي ينحرف عن هذا لا يكون سوياً، ويمكن مراقبته ومعرفة دائه، ومن ثم معرفة طريقة إصلاحه
ويروي إدلر حكاية رجل كان من صفاته أنه خجول شديد الشك في أصدقائه. فمثل هذا الرجل لا يمكن بشكه أن يكون ذا أصدقاء، ولا يمكن لشدة خجله أن يخالط الناس. ثم إنه كان شديد الخوف من الفشل في عمله؛ فحمله ذلك على شدة العمل حتى أنهك نفسه. ويعتبر هذا الرجل فاشلاً في علاقاته الاجتماعية كما يعتبر فاشلاً في عمله. إنه يحس إحساساً عميقاً بالضعف. وقد لوحظ أنه في مشكلة الحياة الثالثة - الحب - كان شديد التردد. فإنه كان يتنقل في حبه من فتاة إلى أخرى، ثم لم يتزوج قط. وكان هذا الرجل بكر أبويه. وبكر أبويه في نظر إدلر يتعرض في الغالب للحرمان كله أو بعضه من جراء العناية بالطفل الثاني التي يشاهدها البكر. وهذا الحرمان يولد في نفسه الشعور بالنقص. ومثل هذا الرجل(476/9)
إذا أردت أن تمكنه من أن يتغلب على شعوره بالنقص وجب أولاً أن توضح له أنه يقدر نفسه دون ما تستحق، كما يجب أن توضح له تزمته في ملاقاة الناس ووجه خطئه في تخوفه من أن يفضل عليه أحد من الناس
وأما عن ذكريات الإنسان القديمة، فإن المرء يتذكر ما له أهمية في نفسه. ولا عبرة بأن تدل ذكريات الإنسان على نموذجه الأول الذي تقدم ذكره)، لأنها تشير إلى ما وقع من أمر هام، وإلى ما يقع على أمثاله، لأن شخصية الإنسان الأساسية لا تتغير. ويصلح هذا الموضوع للمقارنة بما اكتشف عن الإنسان بوسائط أخرى. وللحصول على الذكريات القديمة يطلب إلى الإنسان أن يرتد بذاكرته إلى حداثته وأن يتذكر من حداثته وأن يتذكر من ذلك ما يتذكره
وقد يجد المحلل صعوبة في هذا، لأن المريض قد يقول إنه لا يذكر شيئاً. ولكن الإلحاح عليه يثمر دائماً ثمرة طبية، فيذكر المريض شيئاً. إن ما يذكره الآن له أهمية لأنه يدل على وصفه الأول - الحالة التي نشأ عليها. والذاكرون من الناس يذكرون أشياء كثيرة مختلفة بالطبع، ولكن براعة المحلل تردها إلى أصول محدودة
فبعض الناس مثلاً يقول إنه يذكر أنه سمع صوت قاطرة، وبعضهم يذكر أنه أكل أكلة لذيذة، وبعضهم يذكر أشياء تتعلق بأمه وأبيه، وبعضهم يذكر حالات مرضية أصابته، وبعضهم يذكر شيئاً يتعلق بملابسه أو أنه خرب أو حرم. . . الخ فوظيفة المحلل هنا أن يرد هذه الأشياء إلى أصولها، ليجد منها شخصية المرء الأولية وليربط ذلك بشخصيته الحاضرة على اعتبار أن شخصية الإنسان لا يتغير بتقدم السن
يذكر الإنسان مثلاً من قديم ذكرياته أن أمه ضربته وعنفته حتى فر منها هارباً، وضل الطريق حتى خاف على نفسه الموت. فمثل هذه الذكرى تشير إلى عامل قوي من عوامل التخوف، لا بد وأن يكون قد دخل في تكوين شخصية الإنسان، وهذه الحالة تقرب من الواقعية، فإن صاحبها حين دخل الجامعة ليتعلم ظل خائفاً من الرسوب في الامتحانات الجامعية بالرغم من ذكائه. فلما تخرج قتل نفسه اجتهاداً في الحياة لئلا يفشل فيها، فهو يلعب في حياته من حيث الأساس دور الرجل الخائف، وهذا هو شعور النقص الأساسي في نفسه(476/10)
ونموذج الحياة الأول للإنسان يظهر منه شيء في الأحلام، فالحلم عند إدلر لا يخرج عن كونه قسماً من طراز الحياة. والنموذج الأول دائماً منطو فيه. ومن هنا كانت معرفتك لإنسان مؤدية إلى معرفة نوع أحلامه، ومعظم أحلام الناس أحلام خوف، لأن النوع البشري جبان. ويحلم المرء أحلاماً مخيفة، لأنه في يقظة، دائماً يتوجس من الفشل، ويحاول أن يتخلص من الحياة بالهرب من مشاكلها. هو يبحث عما يجنبه متاعبها، هذا هدفه، والحلم يؤيد له هذا الهدف، ولا فاصل عند إدلر بين النوم واليقظة، فإن طرف أحدهما منساب في طرف الآخر، فنحن في النوم نسمع ونفكر ونحس احساسات عامة، وتستهدف أحلامنا - على العموم - هدفاً من العظمة يخلصنا مما نحس به من شعور بالنقص، ولكن في الأحلام نوعاً من التشويش أو الغش والتمويه على النفس؛ ولذلك فالذين يفكرون تفكيراً منطقياً ويواجهون حقائق الحياة لا يحلمون إلا قليلاً، أو لا يحلمون قط. إن المرء يضع أحلامه، فأحلامه تتجه في محتوياتها إلى ما يتجه هو إليه في الحياة، ومن أحلامه يتضح لك شيء من هدفه فيها
فأنت تستطيع إذن بمختلف هذه الأساليب أن تتصل بمعرفة (النموذج الأول) الذي ينشأ عليه الإنسان و (طراز الحياة) الذي يتبعه. ونستطيع من ذلك أن نعرف النقطة المركزية التي يدور عليها شعوره بالنقص، والطريقة التي يحاول أن يعوض بها عن هذا النقص. وإن النقطة المركزية على كل حال نوع من النقص. وهذا الضعف نفسه يحمل المرء رجلاً، كما حمله طفلاً على التزام جانب المجتمع والشعور بحاجته إليه.
فطريق الإصلاح الأساسي لأي إنسان أصبح شعوره بالنقص مركباً أنه يؤثر في حياته فيدفع به إلى نواح غير مفيدة، هو تعديل مركز الفرد في المجتمع وتسويته. ومرة أخرى يتلخص هذا التعديل في تحسين موقف المرء من الناس ومن مهنته ومن مسألة زواجه
ولا أقصد أن أطيل أكثر مما قد فعلت؛ فالطريقة التي يمكن أن ينشأ بها طفل لكي يكون إنساناً سوياً هي أن يعامل بعدل واحترام. ولكن الشاب الذي يتم تكوين طراز حياته على صورة معوجة يجب أن يدرس وأن تعرف مزاياه وأن يوجه نظرة إليها. فإدلر يعتقد أن (كل إنسان يصلح لكل شيء). فإذا فتحت للشاب آفاق جديدة وسوعد في التغلب على ضعفه، اندفع في الحياة من جديد. وقد عولجت عملياً حالات كثيرين من المرضى(476/11)
العصبيين ومن حالات قريبة من الجنون على هذا الأساس فنجحت طريقة العلاج
أما في ناحية المهنة فيحذر إدلر من الاستعلاء الذي يجده كل شاب في نفسه حين يعمل مع غيره. هذا الاستعلاء يحمله على الفوضى وعدم الطاعة للرؤساء. وليس من السهل إيجاد عمل لمبتدئ لا يرأسه فيه أحد. فإذا لم يعرف كيف يتلقى الأمر من رئيس له لم يقدر على التقدم. وإذا لم يحسن التصرف مع الناس على اعتبار أنه رجل اجتماعي فلا سبيل إلى نجاحه ولا يعني إدلر فيما اطلعت عليه من كتاباته إلى اليوم، بمظالم عميقة تقترفها البشرية في حق نفسها ولا تفيد فيها نصائحه، ولكنا نغض النظر عن ذلك الآن
وحل مشكلة الحب عند إدلر يدخلنا في بحث يختلف عما تثيره حياتنا الاجتماعية في الشرق من مشكلات في هذا السبيل. ولكن مما لا ريب فيه أن الرجل المصاب بداء الشعور بالنقص قد يحجم عن الزواج خوفاً من تبعات الحياة الجديدة. وضعف الإنسان عامة عن مواجهة إنسان من الجنس الآخر ينتج عن إحساس بالنقص يحمل صاحبه على التردد والحياء
(السلط)
محمد أديب العامري(476/12)
شعر علي بن أبي طالب
للأستاذ محمد محمود رضوان
تمهيد
وفق الأستاذ السيد يعقوب بكر في بحثه الذي نشرته الرسالة عن شعر علي بن أبي طالب أحسن التوفيق. والحق أن هذه المسألة من المسائل المشكلة الكثيرة التي تحتاج إلى البحث والتمحيص في أدبنا العربي، وقد سبقنا المستشرقون إلى هذا النوع من البحث فجلوا كثيراً من الحقائق، وكشفوا كثيراً من الشبهات. ولولا ما يلبس آراءهم في كثير من الأحيان من تعصب تمليه النعرة الدينية، وما يجرمهم من شنآن تزكية العصبية الجنسية، لكان لبحوثهم شأن غير هذا الشأن.
وهذه المسألة - شعر علي بن أبي طالب - كتب فيها المستشرقون، وقد ناقش الأستاذ بكر في بحثه آراءهم ومن ثم اهتدى إلى رأيه الأخير. وعندي أنه أقرب إلى الحق والمعقول، وأعني به أن علي بن أبي طالب كان يقول الشعر وإن كان مقلاً، وأن بعض ما نسب إليه في المراجع العربية صحيح، وأن أكثر ما في ديوانه من الشعر مكذوب مصنوع.
لسنا نخالف الأستاذ إذن فيما وصل إليه؛ ولكن عنت لنا في بحثه بعض آراء ومآخذ نجملها فيما يلي:
الشعر المنسوب لعلي
ذكر الأستاذ جملة أشعار منسوبة إلى علي في عيون الأخبار ومعجم الأدباء ومقاتل الطالبين والعمدة وحماسة البحتري وكامل المبرد والعقد. ثم قال: (نستطيع أن نقول واثقين إن هذه الأشعار التي وجدناها هي معظم ما في هذه المراجع من الشعر المنسوب إلى علي) اهـ
وأقول إن ما رواه الأستاذ - وهو لا يعدو ثمانية وعشرين بيتاً - أقل من كثر مما نسب في المراجع العربية المعتمدة إلى علي، ولو أحصي لكان أضعاف ما روى. وأذكر على سبيل المثال ما رواه صاحب تاج العروس (ج7 ص85) أنه قال يوم خيبر:
دونكها مترعة دهاقا ... كأساً زعافاً مزجت زعاقا
وما رواه ابن هشام في المغنى. وقال السيوطي في شواهده (عزاه المصنف لعلي ابن أبي(476/13)
طالب):
فلما تبينا الهدى كان كلنا ... على طاعة الرحمن والحق والتقى
وغير ذلك كثير مما تجده في مروج الذهب والعقد وتاج العروس ونهاية الأرب، وشرح المضنون، وتاريخ ابن عساكر وكامل المبرد والتحفة الناصرية وجمهرة ابن دريد واللسان وغيرها.
ويلحق بهذا المأخذ فساد الاستدلال الذي بناه الكاتب على وجود هذه الأشعار في المراجع العربية إذ استدل بوجودها فيها ووجودها في ديوان علي على صدق نسبتها إلى علي.
أقول إن هذا استدلال فاسد إذ من البدهي أن الذي وضع ديوان علي أو جمعه قد نقل ما في المراجع العربية جميعاً منسوباً إلى علي ولعله زاد عليه. . . فليس في هذا دليل.
من أسباب الخطأ في نسبة الشعر إليه
ويرى الكاتب أن هذه الأشعار قد وضعها أناس مختلفون معظمهم من الشيعة وأنهم نسبوها إلى علي حباً فيه. . . ثم جاء جامع الديوان فجمع كل ما عثر عليه من الشعر المنسوب إلى علي الخ
وأنا مع موافقتي على هذا الرأي أرى أن هناك سبباً آخر غير مقصود في عزو كثير من هذه الأشعار لعلي، وذلك أن علياً رضي الله عنه كان كثير التمثل بشعر العرب. ومن ثم ظن الرواة أنه قائل الشعر الذي تمثل به فنسبوه له خطأ:
1 - خذ مثلاً قول الشاعر:
أفلح من كانت له مزخّة ... يزخُّها ثم ينام الفخَّة
ذكره صاحب اللسان فقال: (وفي حديث علي رضي الله عنه. . . أفلح. . . البيت) (اللسان ج4 ص10) وعبارة ابن الأثير (وفي حديث علي. . . أفلح. . . البيت) (النهاية ج3 ص187)
فأنت ترى أن البيت ورد في حديث لعلي، ومن ثم ظن الرواة أنه قائله فنسبوه إليه. . . ففي المزهر (ج2 ص206) ما نصه: (وقال ابن دريد: روي عن علي رضي الله عنه. أفلح. البيت). والذي رواه البطليموسي في (الاقتضاب ص383)
أفلح من كانت له قوصرَّة ... يأكل منها كل يوم مرَّة(476/14)
قال الشارح: (يروي هذا الرجز لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) ثم ذكر البيت الذي معنا على أنه مثل هذا البيت
2 - وقال المبرد في (الكامل ج2 ص15 طبعة التجارية) (وأحسن ما سمع في هذا ما يعزى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقائل يقول هو له، ويقول آخرون قاله متمثلاً، ولم يختلف في أنه كان يكثر إنشاده:
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً
فأنت ترى تشابه القول على الرواة فيما كان يتمثل به
3 - وأبلغ من هذين الشاهدين ما نقله العيني عن البيت المنسوب لعلي:
أي يومي من الموت أفر ... يوم لم يقدر أو يوم قدر
أن ابن الأعرابي قال: (هو للحارث ابن المنذر الجرمي وليس لعلي رضي الله عنه، ولكنه تمثل به) (المقاصد النحوية بهامش خزانة الأدب ج4 ص447)
الزيادة فيما صح من شعره
وثم طريق آخر سلكه المزيفون على علي رضي الله عنه من الشيعة وغيرهم. ذلك أنهم عمدوا إلى البيت أو الأبيات اشتهرت نسبتها لعلي فزادوا عليها - قبلها أو بعدها - وتستطيع بقليل من النظر أن تتبين الزيادة من اختلاف النظم والأسلوب وتهافت المعنى
خذ مثلاً بيتيه اللذين أجمعت كتب الأدب على أن علياً قائلهما، بل إن المازني - وصوبه الزمخشري - لم يكن يصحح نسبة الشعر لعلي إلا هذين البيتين وهما:
تلكم قريش تمنَّاني لتقتلني ... فلا وربك ما بروا وما ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر
ثم ارجع إلى شرح شواهد المغنى ص176 تجد قبلهما ثلاثة أبيات وبعدهما ثمانية أبيات لا تشك بعد أن تقرأها أنها مصنوعة وترى فيها أثر الصنعة والتشيع والحديث عن المهدي المنتظر
وسوف يبعث مهدي بسنته ... فينشر الوحي والدين الذي قهروا
وسوف يعمل فيهم بالقصاص كما ... كانوا يدينون أهل الحق إن قدروا(476/15)
وغير ذلك كثير نمسك عن ذكره خوف الإطالة
رأي آخر في شعر علي
وثم رأي آخر أرادوا به التوفيق بين ما قاله المازني والزمخشري ويونس وغيرهم أن علياً لم يقل من الشعر إلا البيتين السالفين، وبين ما ذكره الآخرون من شعره
وقد وجدت هذا الرأي للزبيدي في تاج العروس (مادة خيس) فقد روي أن علياً بنى سجناً سماه المخيس فقال فيه:
أما تراني كيِّساً مكيَّساً ... بنيت بعد نافع مخيَّسا
باباً حصيناً وأميناً كيِّسا
قال الزبيدي: (قال شيخنا تبعاً للبدر: وهذا ينافي ما سيأتي له في ورق أنه لم يثبت عنه أنه قال شعراً. . . الخ)؛ قلت: (ويمكن أن يجاب أن هذا رجز ولا يعد من الشعر عند جماعة)
وأنت ترى أنه تخريج تافه، لأن كثيراً مما روي لعلي من الشعر، وإن كان له بعض الرجز. والبيتان اللذان سلف القول في صحته نسبتهما له من الشعر لا الرجز. هذا علاوة على أن الرجز من الشعر كما صححه جلة العلماء
تصويبات في الشعر المنسوب له
1 - نقل الأستاذ عن العمدة لابن رشيق أبياتاً لعلي قالها يوم صفين يذكر همدان ونصرهم إياه، منها:
ونادى ابن هند في الطلاع وحميراً ... وكندة في لخم وحي جذام
قلت: يلوح لي أن في هذا البيت تحريفاً كبيراً؛ وأرى أن صوابه:
ونادى ابن هند ذا الكلاع وحميراً ... وكندة في لخم وحي جذام
و (ذو الكلاع): رجل من حمير قاتل مع معاوية في صفين أخرجه معاوية حين أخرج علي سعيد بن قيس الهمداني سيد همدان؛ وأخرج معاوية أيضاً عبيد الله بن عمر بن الخطاب في حمير ولخم وجذام: (راجع مروج الذهب ج2 ص20)؛ وقد قتل ذو الكلاع في صفين
2 - ونقل عن العمدة أيضاً من شعر علي في صفين:
لمن راية حمراء يخفق ظلها ... إذا قيل قدِّمها حصينُ تقدَّما(476/16)
فيوردها في الصف حتى يرَدْ بها ... حياضَ المنايا تقطر الموت والدما
قلت: في هذا الشعر تحريف في موضعين: الأول في حصين والصواب: (حضين) بالضاد المعجمة، وهو تحريف واقع في أكثر كتب الأدب: كالعمدة والعقد ومروج الذهب والبيان والتبيين والتصويب عن الأمالي (ج2 ص158) وسمط اللآلي ص817، وابن عساكر ج4 ص374، وتاج العروس ج7 ص80. قال البكري في سمط اللآلي: (هو حضين بالحاء المهملة والضاد المعجمة ابن المنذر بن الحارث الرقاشي يكنى أبا ساسان، وكان رئيس بكر وحامل رايتهم يوم صفين وله يقول علي بن أبي طالب: لمن راية، البيت)
وفي تاريخ ابن عساكر ترجمة له قال فيها: (ولا أعرف من يسمى حضيناً بالضاد المعجمة والنون وغيره)
والتحريف الثاني في (حتى يرد بها): وهو ظاهر لأنه لا عامل يجزم الفعل
والبيت ورد في (العقد الفريد) ثلاث مرات: ثنتان منهما (حتى يزيرها) وواحدة (حتى يردها)؛ وكل ذلك تحريف؛ والصواب: ما في تاريخ ابن عساكر من أبيات خمسة تختلف روايتها قليلاً: وفيها (حتى يقيلها)؛ وهي كذلك أيضاً في (تاج العروس) من أبيات أربعة ج7 ص85
هذا، ورواية العمدة (راية حمراء) أصح الروايات خلافاً لسائر كتب الأدب التي ترويها (راية سوداء)، لأن راية علي بصفين كانت حمراء لا سوداء
3 - ونقل عن حماسة البحتري لعلي - رضي الله عنه -:
من أي يوميَّ من الموت أفر ... أيومَ لم يقدرَ أم يوم قُدِرْ
قلت: الرواية كذلك في مروج الذهب (ج2 ص25)
وهذا البيت من شواهد الأشموني والمغني، والنحاة يستشهدون به في باب الجوازم على النصب بلم في لغة؛ ولهم في تخريجه كلام كثير وروايتهم له (في أي يومي الخ. . .)
والبيت كما ترى من بحر الرجز، ولكن كتب الأدب تذكر معه بيتاً ثانياً من بحر الرمل وتحرف في الأول بعض التحريف لإخراجه من الرجز إلى الرمل ليتفق البيتان، فرواية العقد الفريد (طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1 - 123، وطبعة العريان 1 - 83)
أي يوميّ من الموت أفر ... يوم لا يقدر أم يوم قدر(476/17)
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجي الحذر
وهي شبيهة بالرواية في ديوان علي
ولم يشذ عن ذلك - على ما أعلم - إلا النويري، فقد ذكر البيتين من الرجز فقال (نهاية الأرب 3 - 227)
من أي يومي من الموت أفر=أيوم لا يقدر أم يوم قدر
فيوم لا يقدر لا أرهبه=ثم من المقدور لا ينجي الحذر
ثم نعود إلى نسبة هذا البيت لقائله؛ فبعضهم ينسبه لعلي رضي الله عنه، وآخرون ينسبونه للحارث بن منذر الجرمي، ومن هؤلاء العلامة الأمير في حاشيته علي المغني (1 - 217) والسيوطي في شرح شواهد المغنى (231)، ويظهر أنهم نقلوا ذلك عن ابن الإعرابي الذي نسب له العيني هذا الرأي فيما ذكرناه آنفاً. أما العيني فيقول (أقول: قائله هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كذا قاله أبو عبادة البحتري في حماسته)
وقد أخطأ السيوطي، فذكر في شرح شواهد المغنى البيت - من الرجز - ثم قال إنه أول مقطوعة للحارث بن منذر الجرمي وذكر بعده أبياتاً منها
إن أخواليَ من شقرة قد ... لبسوا لي عمساً جلد النمِر
وهذه الأبيات من الرمل كما ترى. والبيت كما تذكره كتب النحاة ومنها المغنى من الرجز، فلا يكون مطلعاً لها إلا إذا رجحنا رواية العقد الفريد وديوان علي التي ذكرناها آنفاً
(بني سويف)
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة الابتدائية(476/18)
طلعت حرب
ورسالته الأدبية
لمناسبة الذكرى الأولى لوفاته
للأستاذ مصطفى كامل الفلكي
أشاد الكتاب بالناحية العامة من حياة فقيد الوطن (طلعت حرب) وهي الناحية المتصلة بالرسالة العظمى التي أداها لبلاده، رسالة الاقتصاد وتدبير المال وانتشال مصر من وهدة الخراب التي عمل الأجانب على سوقها إليها بإقبالهم على استثمار مرافقها جميعاً بحيث لم يدعوا لأبناء البلاد سبيلاً
وتلك هي الناحية العظمى في حياة الرجل الفذ، ولو أننا أنصفنا لحددنا هذه الناحية بأنها هي الغالبة عليه عند الناس لظهورها وبروزها
والواقع أن طلعت حرب كان ذا رسالة أدبية خاصة، فإن الأديب لا بد أن يكون ملماً بجميع أحوال أمته وأطوارها وعاداتها وتقاليدها مستخلصاً لنفسه فكرة عن إصلاح المعوج من أمورها، وذلك هو (طلعت حرب) في جميع أدوار حياته، فهو صاحب فكرة في الإصلاح القومي العام، ظل يدعو إليها من بدء حياته حتى وفاته
فقد عرفه الناس لأول مرة وفي صدر شبابه مؤلفاً تخرج له المطابع ثمرات ناضجة من تفكيره وشجونه، وتحتشد أنهار الصحف برائع مقالاته ودراساته، وله من الكتب كثير، منها:
المرأة والحجاب
وفصل الخطاب في المرأة والحجاب
وقناة السويس
وعلاج مصر الاقتصادي وإنشاء بنك للمصريين
وله رسالة في الإسلام، ورسالة أخرى باللغة الفرنسية في الرد على مسيو هانوتو الوزير الفرنسي المعروف حين هاجم المسلمين والإسلام.
هذا وغيره من إنتاج طلعت حرب نعرف نضوج الرأي والغيرة على ملته وقوميته، وتلمس(476/19)
فيه قوة الروح وشدة العارضة في إيراد الحجج والاعتماد على المنطق وحكم العقل ودراسات العلماء، فهو لا يرسل القول إرسالاً دون بيان، ولا يعتمد على الرجم بالظن، وإنما قوله كله تحقيق وتدقيق، وتأليفه توفيق في توفيق. وفضلاً عن هذا فإن خطبه الضافية العظيمة تعتبر مرجعاً من أهم المراجع للباحثين في الاقتصاد وفي أحوال المجتمع المصري، فكلها حافلة بالمعلومات، مليئة بالأفكار الناضجة والتعاليم الوطنية الرائعة، تشف عن قلب مفعم بحب بلاده، وعقل حاشد بأهم ما ينبغي لرجل العمل أن يعرفه وأن يلم به. على أنك حين تطالع هذه الكتب وتلك المقالات والخطب والأحاديث والرسائل تخرج منها بنتيجة في غاية العجب، إذ ما من رجل أشتهر بعلم أو شغل بعمل استطاع أن يجمع إلى علمه أو عمله قوة في البيان أو بلاغة في الأداء
ولكن طلعت حرب استطاع أن يفعل هذه الأعجوبة ويحقق ذلك المقصد البعيد المنال
فأنت حين تقرأ له لا تشعر أنك تقرأ لعالم كل همه إيراد علمه، وإنما تعتقد أن أدبياً كبيراً أو منشأ بليغاً يسوق إليك هذه المعلومات والبيانات ويعرض عليك ألواناً من المعرفة، وأشتاتاً من الثقافات
ولو أننا جمعنا الكتب والمقالات التي أنشأها طلعت حرب لكانت أسفاراً عديدة، فإذا أضفنا إليها الأحاديث الصحفية التي أدلى بها في شتى المناسبات، وما كتب من خطابات، لكان منذ ذلك مكتبة من أرقى وأضخم المكتبات، وهذا كله شيء معترف به، ليس في حاجة إلى إثباته، لأن الجميع يعرفونه ولا ينكرونه، فإعادته والإشارة إليه تكرار ليس ما يدعوا إليه
والآن وقد مر العام على وفاة طلعت حرب الأديب فماذا فعل الأدباء لتخليد ذكراه وقد كان نصير الكتاب والأدباء والصحفيين؟
لقد وعد الدكتور زكي مبارك أن يكتب أو أن يؤلف عن طلعت حرب الأديب فأين وعده؟
يا شباب مصر اذكروا طلعت تذكروا مجدكم، وتفخروا بما فعله لتمجيدكم.
مصطفى كامل الفلكي(476/20)
الفن
ليس من خصائص الإنسان أن يعرف الجمال الطبيعي ويحبه فحسب،
بل خلق مزوداً بالقدرة على إنتاجه أيضاً. فحين يرى جمالاً طبيعياً،
سواء أكان جمالاً فيزيقيا أم خلقيا، فإنه يحسه ويعجب به ويتأثر به،
فينجذب نحوه، وتتملكه عاطفة الجمال وتسيطر عليه. فإذا كانت تلك
العاطفة فعالة مثيرة ونشيطة، فإننا نميل إلى رؤية ما سبب لنا تلك اللذة
وإلى إحساسه ثانية، ونرغب في تحقيقه وإحيائه، لا كما هو عليه في
الخارج، بل كما تصوره لنا مخيلتنا، حتى تظهر فيه ذاتية خاصة،
وهذا هو الفن
فالفن إذن إنتاج حر للجمال، يصدر عن قوة كامنة في الإنسان هي ما نسميه العبقرية ويلزم لذلك الإنتاج الحر للجمال قُوى، هي نفس القوى اللازمة لمعرفته وإحساسه. فالعبقرية هي الذوق السامي، مضافاً إليه عنصر آخر هو القدرة على الإبداع. والذوق ملكة مركبة يدخل فيها ثلاث قوى، هي المخيلة والعاطفة والعقل. هذه القوى الثلاث لازمة بالضرورة للعبقرية، ولكنها ليست كافية، فإن الذي يميز العبقرية عن الذوق، إنما هو القدرة الخالقة، أو القدرة على الابتداع والابتكار. فالذوق يحس ويحكم ويناقش ويحلل ولكنه لا يبتكر، والعبقرية مبدعة وخالقة قبل كل شيء. والعبقري إنما يكون عبقرياً بواسطة رغبة مشبوبة لا يمكن مقاومتها للتعبير عما يحس به من عواطف وانفعالات وصور وأفكار تضطرم في صدره. وقد قيل: إنه لا يوجد رجل عظيم بدون بذرة من الحماقة فيه، هذه الحماقة هي الجزء الإلهي من العقل، وهذه القوة الخفية سَّماها (سقراط): (شيطانة)؛ وأسماها (فولتير): (بالشيطان في الجسد)، وهي التي تلهم العبقرية وتثيرها حتى تبوح بما أضناها. وعلى ذلك، فهناك شيئان يميزان العبقرية: حيوية الرغبة في الإنتاج، ثم القدرة على الإنتاج، لأن الرغبة بدون القدرة ليست إلا مرضاً.
فالعبقرية بالضرورة هي على العمل والإبداع والخلق، بينما يختص الذوق بالملاحظة والإعجاب. والعبقرية الزائفة - أعني المخيلة المشبوبة العاجزة معاً - تضني في الأحلام(476/21)
المجدبة، وتفنى دون أن تنتج شيئاً ذا أهمية، وقد لا تنتج شيئاً على الإطلاق؛ ولكن العبقرية هي التي يمكنها أن تحول تصوراتها إلى خلق وإبداع جديدين
وإذا كانت العبقرية تخلق، فإنها إذن لا تقلد، ولذا قد يظن أنها أعلى من الطبيعة ما دامت لا تقلدها، والطبيعة من صنع الله، فالإنسان بذلك منافس لله؛ ولكن ليس ذلك بصحيح فإن الطبيعة تفسر الأشياء وتنتجها حسب طبيعتها الخاصة، كذلك العبقرية الإنسانية تنتجها حسب طبيعتها هي. . . ولنقف لحظة أمام تلك المسألة التي أثيرت مراراً، وهي: هل الفن ليس شيئاً آخر إلا تقليد الطبيعة؟
الفن من جهته تقليد بدون شك، لأن الخلق المطلق لا يمكن أن يعزى لغير الله، والعبقرية لا تأتي بالعناصر التي تعمل عليها إلا من الطبيعة. . . ولكن، هل تقتصر العبقرية على إخراجها مثلما صنعتها الطبيعة؟ وهل هي ليست إلا مجرد نسخ ونقل للواقع؟ إذا كانت العبقرية كذلك، فإن ميزتها الوحيدة تكون هي الأمانة في النسخ والنقل، وإذا كان الأمر كذلك كان الفن عاجزاً، مثله مثل طالب كسول بليد، لا يفعل شيئاً إلا أن يقلد كل ما يفعله جاره، وينقله منه بكل أمانة
والفنان الحق يحس ويعجب بالطبيعة إحساساً وإعجاباً عميقين ولكن ليس كل ما في الطبيعة باهراً ومدهشاً بدرجة واحدة. وفي الطبيعة شيء ما تتخطى به الفن إلا مالا نهاية، أعنى الحياة؛ ولكن الفن يتخطى الطبيعة ويفوقها حين لا يقلدها تقليداً دقيقاً. وكل ما هو طبيعي لا بد أن يكون معيباً من ناحية ما مهما كانت درجة جماله. وكل ما هو واقعي لا بد أن يكون ناقصاً. وعلى ذلك نجد الشناعة والقبح مختلطين بالسمو والجلالة من ناحية، ونجد الظروف والرشاقة بعيدين عن العظمة والقوة من ناحية أخرى، وهكذا. وخطوط الجمال منفصلة بعضها عن بعض؛ فإذا اتحدت اتفاقاً وبدون قاعدة ينظم بمقتضاها هذا الاتحاد أخرجت لنا المسوخ. ولكن السماح بوجود قاعدة للنظام يعني السماح بوجود مثال يخالف جميع الأفراد. هذا المثال هو ما يؤلفه الفنان حين يدرس الطبيعة والواقع فيحكم عليهما وينازلهما به
والمثال موضوع تأمل عاطفي للفنان. فالتأمل الدائم الهادئ العميق الذي تحييه العاطفة يوقظ العبقرية ويثير فيها تلك الرغبة الملحة لرؤية ما يرغب فيه متحققاً وحياً؛ ولذلك تأخذ العبقرية من الطبيعة كل المواد التي يمكن أن تساعدها، وتضفي عليها يدها القوية مثلما(476/22)
فعل ميكلانج مثلاً بإزميله على الرخام الخام. فتخرج منها أعمالاً ليس لها نماذج في الطبيعة؛ أعمالاً لا تحاكي شيئاً آخر إلا المثال المتصورَّ؛ أعمالاً هي من ناحية خلق آخر أقل من الأول بالفردية والحياة، ولكنها من جهة أخرى أعلى منه بالجمال العقلي والخلقي
والجمال الخلقي أساس لكل جمال حقيقي، وهذا الأساس مغطى محجوب قليلاً في الطبيعة والفن يطلقه ويظهره. وغاية الفن هي التعبير عن الجمال الخلقي بمساعدة الجمال الفيزيقي، فهذا الأخير ليس إلا رمزاً لذاك، وهو مظلم غير واضح في الطبيعة، والفن حين يوضحه يصل إلى أعمال لا تنتجها الطبيعة دائماً. نعم إن الطبيعة قد تسبب سروراً وانشراحاً أكثر لأنها تحوز الحياة وتملكها، ولكن الفن يثير أكثر لأنه في تعبيره عن الجمال - وبخاصة عن الجمال الخلقي - يصل مباشرة إلى منبع الانفعالات العميقة. فالفن بذلك قد يكون ابعد تأثيراً من الطبيعة، والتأثير هو علامة الجمال ومقياسه
وطالب الفن ودارسه يجب عليه أن يعرف - في بدء دراسته - الواقع والمثال ويدرسهما معاً لا أحدهما أولاً. والطبيعة نفسها لا تقدم الجزئي بدون الكلي ولا الكلي بدون الجزئي، فالواقع والمثال شرطان من شروط الفن، والعبقري يعرف كيف يوحد بين المثال والواقع، بين الصورة والفكرة. وهذا الاتحاد هو كمال الفن. والأعمال الفنية الكبرى تقتضي هذا الثمن، ولكن يجب التفرقة والتميز بينهما ووضع كل منهما في مكانه الصحيح، فإنه لا يوجد مثال حقيقي بدون صورة معينة، ولا توجد وحدة بدون اختلاف، ولا نوع بدون أفراد؛ ولكن أساس الجمال هو الفكرة ' والذي ينتج الفن هو تحقيق تلك الفكرة لا تقليد الصورة الجزئية.
في بدء القرن التاسع عشر، عقد المجمع الفرنسي مسابقة عن أسباب كمال فن النحت القديم، وعن عوامل انحطاط ذلك الفن. وكان الفائز في هذه المسابقة إمري دافيد الذي قرر أن دراسة الجمال الطبيعي هي التي قادت وحدها الفن القديم نحو الكمال، وبالتالي تقليد الطبيعة هو الطريق الوحيد للوصول إلى الكمال. ولكن كاترمير دكانسي هاجم نظرية دافيد ودافع عن الجمال المثالي، وبين أن الفن عند الإغريق لم يعتمد على تقليد الطبيعة ولا على نموذج واقعي لأن النموذج ناقص مهما كان جميلاً، بل كان يعتمد في الحقيقة على الجمال المثالي الذي لا يوجد في الطبيعة. وكان دافيد قد ادعى أن كلمة(476/23)
(الجمال المثالي) تعني عند اليونان - بفرض أنهم كانوا يعرفها - (الجمال المرئي)، لأن (المثال يأتي من اليونانية وهذه تعني - في رأيه - (الصورة المرئية - ولكن دكانسي أتى بأثرين رد بهما على دافيد: أحدهما من طميادس حيث بين أفلاطون بوضوح كيف يكون الفنان الحق أعلى من الفنان العادي، والآخر من (الخطيب) حيث يشرح شيشرون كيفية عمل الفنانين العظام ممثلاً لذلك بعمل فيدياس أعظم أستاذ في أكمل عصر فني. فهو حين كان يصنع تمثالاً ما لم يضع تحت ناظريه نموذجاً معيناً يعكف على تقليده، ولكن كان يوجد في نفسه صورة أو مثالاً تام الجمال. وطريقة فيدياس هذه هي نفس طريقة رفائيل التي وصفها في خطابه إلى بقوله: (لما كان ينقصني نماذج جميلة استخدمت مثالاً معيناً صنعته بنفسي)
هناك نظرية تجعل من الوهم غاية للفن، وهي نظرية ترجع الفن إلى التقليد بطريق غير مباشر. فالجمال المثالي للنفس مثلاً هو وهم العين وخداعها، ومنتهى الفن في قطعة مسرحية هو أن تقنعك أنك أمام الواقع. وكل ما في هذا الرأي من حقيقة هو أن العمل الفني لا يكون إلا إذا كان حيا. ففي الدرامة مثلاً يجب ألا تأتي بأشباح الماضي الشاحبة، بل بشخصيات مستعارة من المخيلة أو من التاريخ، ولكنها شخصيات حية وعاطفية، تتكلم وتعمل كما يعمل الناس لا كما تعمل الأشباح. ولكننا لا يمكن أن نجعل الغاية من الفن هي الخداع والإيهام؛ فإننا لو جعلنا ممثل دور بروتس نسخة منه وألبسناه ملابسه وأعطيناه نفس الخنجر الذي طعن به بروتس قيصر، لما مس ذلك الخبراء الحقيقيين إلا مسا رفيقاً. والمغالاة في الخداع تجعل عاطفة الفن تختفي لتظهر مكانها عاطفة طبيعية صرفه، فإن كنت أتوهم أن أفيجينيا على وشك أن يذبحها أبوها على بعد عشرين خطوة مني، فإنني قد أخرج من صالة المسرح مرتعداً من الخوف
وقد يقال رداً على ذلك إن غاية الشاعر هي إثارة الشفقة والخوف مثلاً. هذا صحيح، ولكن إلى حد، وبعد ذلك يخلط بذلك عاطفة أخرى تعدَّل منهما أو تمحوهما وتكون لها غاية أخرى. فإن كان الغرض من الدرامة هو إثارة الشفقة والخوف والحزن فقط بدرجة كبيرة، فإن الفن يكون بذلك غريماً عاجزاً للطبيعة، وأي مستشفى أكبر امتلاء بالشفقة والرعب والحزن من كل مسارح العالم. ونحن حين نعجب بمنظر عاصفة أو حادثة غرق، فإن(476/24)
إعجابنا ليس ما يثيره هذا المنظر من شفقة أو رعب؛ بل هناك سبب آخر هو استيقاظ عاطفة الجمال والسمو التي هاجتها عظمة المنظر وامتداد البحر واصطخاب الأمواج المزبدة وقصف الرعود المدوية، ولكننا لا نفكر لحظة في أن هناك بؤساء يقاسون ويألمون وقد يموتون وإلا صار المنظر فظيعاً لا يمكن احتماله
وهناك نظرية أخرى تخلط عاطفة الجمال بالعاطفة الخلقية، والعاطفة الدينية، وتضع الفن في خدمة الدين والأخلاق، وتحيل غايته أن يرفعنا نحو الله ويهذب من أخلاقنا. وهنا يجب أن نذكر تفرقة ضرورية: إذا كان كل جمال يحوي جمالاً خلقياً، وإذا كان المثال يرقى دائماً نحو اللانهاية، فإن الفن المعبرَّ عن الجمال المثالي يطهر الروح ويرفعها نحو اللامتناهي أي نحو الله. فالفن يؤدي إذن إلى كمال الروح بطريق غير مباشر. والفيلسوف الذي يبحث عن المعلولات والعلل يعرف المبدأ الأخير للجمال ومعلولاته الحقيقية والبعيدة، ولكن الفنان فنان قبل كل شيء، وما يحييه هو عاطفة الجمال، وما يريد إيصاله إلى القلوب هو نفس العاطفة التي تملأ قلبه هو. هذه العاطفة هي رباطٌ بين العاطفة الخلقية والعاطفة الدينية، توقظهما وتحفظهما، ولكنها متميزة عنهما. والفن المؤسس على تلك العاطفة هو استطاعة غير حرة، فهو يشارك بطبعه في كل ما يعظم الروح في الأخلاق والدين، ولكنه لا يرقى إلا بنفسه. وحين يسترد الفن حريته وكرامته وغايته الذاتية، فإنه لا يمكن فصله عن الدين والأخلاق والوطن، لأن الفن يقتبس إلهاماته من هذه المنابع العميقة، كما يقتبسها من الطبيعة. والفن والوطن والدين قوى لكل منها عالمه الخاص، وبينهما اتحاد متبادل، فإذا ابتعد أحدها عن الآخرين ضل السبيل. ولكن ذلك لا يجعل الفن خاضعاً لقوانين الدين والوطن وإلا فقد سحره وجماله بفقدانه حريته
واتحاد الفن والدين والوطن لا يضر باستقلال كل منها، ونتأدى من ذلك إلى أن الفن نوع من الدين. فالله يتضح لنا بواسطة فكرة الحق وفكرة الخير وفكرة الجمال، وهي ثلاث فكرات متساوية فيما بينهما، تؤدي كل واحدة منهما إلى الله لأنها تأتي منه. والجمال الحقيقي هو الجمال المثالي، وهذا الأخير انعكاس اللامتناهي، وعليه فالفن يعبر في أعماله عن الجمال الأبدي. وكل عمل فني، إذا كان جميلاً سامياً، تمثالاً كان أو أغنية، أو غير ذلك، يلقى بالروح في حلم عظيم يحملها نحو اللامتناهي. واللامتناهي هو الحد المشترك(476/25)
الذي تتوق إليه الروح على أجنحة الخيال والعقل بواسطة الجمال والحق والخير
أحمد أبو زيد
كلية الآداب(476/26)
39 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثاني عشر - السحر والتنجيم والكيمياء
تحدث الساحر إليّ وسألني إذا كنت أرغب في أن يرى الصبي شخصاً ما غائباً أو متوفى. فذكرت اللورد نلسون؛ ومن الواضح أن الصبي لم يسمع عنه أبداً لأنه نطق اسمه بصعوبة كبيرة بعد محاولات. وأمر الساحر الصبي أن يقول للسلطان: (إن سيدي يحيك ويطلب منك إحضار اللورد نلسون. أحضره أمام عيني حتى يمكنني رؤيته سريعاً) فقال الصبي ذلك وأضاف في الحال: لقد ذهب رسول وعاد وأحضر رجلاً يلبس ملابس أوربية سوداء والرجل فقد ذراعه اليسرى. ثم وقف لحظة وقال وهو ينعم النظر عن قرب في الحبر: لا، إنه لم يفقد ذراعه اليسرى وإنما وضعها على صدره. وقد جعل هذا الاستدراك بيان الصبي أكثر تأثيراً مما لو كان بدونه، لأن اللورد نلسون كان يعلق كمه الخالي إلى صدر سترته، ولكنه فقد ذراعه اليمنى لا اليسرى. فسألت الساحر دون أن أبين أنني أتهم الصبي بالخطأ، إذا كانت الأشياء تبدو في الحبر كما لو كانت أمام العين فعلاً أو كما لو كانت تنعكس في المرآة التي تظهر اليمين يساراً. فأجابني إنها تبدو كما في المرآة. فجعل هذا وصف الصبي صحيحاً.
وكان ثاني من دعوتهم مصرياً أقام في إنجلترا بضع سنوات فاتخذ الملابس الأوربية. وكان المرض قد ألزمه الفراش طويلاً قبل إبحاري لمصر، فرأيت أن أسمه وهو شائع في مصر، قد يحمل الصبي على الخطأ في وصفه؛ مع أنه حدث في زيارتي السابقة للساحر أن وصف صبي آخر هذا الرجل ذاته بأنه يلبس ملبساً أوربياً مثل ذلك الذي رايته به آخر مرة. أما الآن فقد قال الصبي لها هو ذا رجل لف في ملاءة وجيء به على نعش. ويدل(476/27)
هذا الوصف على أن الشخص المذكور لا يزال ملازماً فراشه أو أنه مات. وقال الصبي إن وجهه مغطى، فقال له الساحر أن يأمر برفع الغطاء. ففعل ثم قال (إن وجهه شاحب، وله شاربان ولا لحية له) وهذا صحيح.
وقد استدعيت عدة أشخاص آخرين على التوالي ولكن أوصاف الولد لهم كانت ناقصة وإن لم تكن جميعها غير صحيحة. فكان كل وصف يبدو أقل وضوحاً عن السابق كما لو كان بصره يغشى شيئاً فشيئاً. فكان يلبث برهة أو أكثر قبل أن يستطيع أن يصف من يراهم. فقال الساحر إن من العبث إجراء التجربة معه؛ فجئ بصبي آخر ورسم المربع السحري على يده إلا أنه لم يستطيع رؤية شيء؛ فقال الساحر إنه فوق السن المناسبة.
أدهشتني هذه الأعمال تماماً، غير أنها خيبت ظني قليلاً لفشلها مرات في حضور بعض أصدقائي ومواطني. وقد سخر منها في إحدى هذه المناسبات إنجليزي من الحاضرين وقال: لا شيء يقنعه غير وصف صحيح لهيئة أبيه إذ كان على يقين من أن أحداً من الجالسين لا يعرف عنه شيئاً. فدعا الصبي والد الإنجليزي باسمه، ثم بين أنه يلبس الملابس الإفرنجية ويضع يده على رأسه، ويلبس منظاراً ويقف على قدم واحدة ويقيم الأخرى وراءه على نحو ما يفعل النازل من المقعد وكان الوصف دقيقاً من كل الوجوه. فقد كان وضع اليد على الرأس ناشئاً من صداع دائم، ووضع القدم من تصلب الركبة لسقوط الرجل عن ظهر حصانه أثناء الصيد. وقد أكد لي الحاضرون في هذه الجلسة أن الصبي أحكم الوصف في كل دعوة. ووصف الصبي مرة شكسبير شخصه وملبسه وصفاً دقيقاً. ويمكنني أن أضيف إلى ذلك عدة أحوال أخرى أثار فيها الساحر ذاته دهشة معارفي الرزناء من الإنجليز. وفي يوم آخر جهز الساحر، بعد أن قام بالتجربة بواسطة الصبي كالعادة، المرآة السحرية في يد إنجليزية شابة، فلم تكد تنظر فيها لحظة حتى قالت إنها ترى مكنسة تكنس الأرض دون أن يمسكها أحد. وتملكها الفزع فرفضت استئناف النظر
قررت هذه الوقائع بعضها من تجاربي الذاتية والبعض الآخر مما وصل إلى علمي عن قوم محترمين. وقد يظن القارئ أن الصبي كان يرى في كل مرة صوراً تنعكس في الحبر، أو أنه كان متفقاً مع الساحر، أو أنه يرشد بطريق الأسئلة. كل ذلك لم يكن. أما أنه لم يكن هناك اتفاق فقد تحققت من ذلك تحققاً مرضياً باختيار الصبي الذي قام بالعمل من بين(476/28)
المارين بالشارع، علاوة على رفضه رشوة عرضتها عليه فيما بعد لحثه على الاعتراف بأنه لم ير حقاً ما كان يقرر رؤيته. وقد امتحنت صدق صبي آخر في مناسبة لاحقة وبالطريقة نفسها، فكانت النتيجة واحدة. وكثيراً ما تخيب التجربة تماماً، ولكن عندما يصيب الصبي القائم بالعمل مرة يستمر في النجاح على العموم، وعندما يخطئ بادئ الأمر يصرفه الساحر تواً قائلاً إنه كبير السن. وقد يفترض البعض أن البخور أو الخيال المتأثر أو الخوف يؤثر في نظر الصبي؛ ولكن لو كان الأمر كذلك لما أبصر تماماً ما كان يطلب من أمور لا يمكن أن يكونّ عنها معلومات خاصة سابقة. ولم استطع أنا ولا غيري اكتشاف طريق ما ينفذ بنا إلى السر. ورجائي من القارئ إذا كان مثلنا عاجزاً عن إيجاد الحل ألا يدع البيان السابق يثير في ذهنه ريبة فيما يتعلق بأجزاء الكتاب الأخرى.
الفصل الثالث عشر
الأخلاق
إن طباع المصريين المحدثين تتأثر إلى درجة كبيرة بالدين والشرع والحكومة، كما تتأثر بالمناخ وأسباب أخرى. ومن ثم يصعب جداً أن نكون رأياً صحيحاً عنها. غير أنه يمكننا أن نقرر بثقة أن المصريين يمتازون أكثر من الشعوب الأخرى ببعض الصفات الذهنية العظيمة، وبخاصة سرعة الإدراك وحضور الذهن وقوة الحافظة. وهم في حداثتهم موهوبون على العموم بهذه الصفات وبقوى عقلية أخرى. غير أن العلل السابقة الذكر تحط منها تدريجاً
وليس في أخلاق المصريين الأصلية ما يستحق الاعتبار مثل الكبرياء الدينية. فهم يعتبرون كل من خالفهم في الدين هالكين. وقد ذكر القرآن في سورة المائدة في الآية الحادية والخمسين: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم)
ومن بواعث الأدب أو الصالح الذاتي أن يتحدث المسلم أحياناً إلى المسيحي، وخاصة الأوربي، بلهجة كريمة، وقد يصرح بصداقته وهو يضمر الازدراء له. ولما كان المصريون المسلمون يحكمون على الفرنج بمقتضى ما يظهر من الذين يسكنون مدنهم،(476/29)
وأكثرهم من شذاذ الآفاق ونفاية البلاد، فمن الصعب لومهم على ازدرائهم. ويعامل أهل مصر المسيحيين مع ذلك بلطف فالمسلمون قد عرفوا بالتسامح كما اشتهروا باحتقار الكفار.
ويعتقد المسلم أن التقي يرفع صاحبه، إلا أن رغبة الظهور بالتقوى تفضي بالكثيرين إلى الرياء. وكثيراً ما يلهج المسلم ببعض الأدعية إذا لم يكن مشغولاً بعمل أو تسلية أو حديث، وإذا أقلقته فكرة أثيمة أو ذكرى شر أرتكبه يصيح متنهداً (استغفر الله العظيم). وكثيراً ما يشغل التاجر نفسه في حانوته بتلاوة القرآن أو بالتسبيح إذا فرغ من مساومة حرفائه أو من تدخين شبكه
(يتبع)
عدلي طاهر نور(476/30)
الساقية الجافة
للأديب محمود عماد
برغميَ أيتها الساقية ... وقوفكِ صامتة صاديه
وبالأمس كنت تروَّين تلك ... الحقول بأمواهك الجاريه
فتجرى النضارة في زرعها ... وفي أهلها البِشْرُ والعافيه
وكم قد أغارت عصافيرَها ... أهازيجكِ العذبة الصافيه
فأين تحوَّل عنكِ الغديرٌ، ... وأين الهراوةُ والماشيه؟
وأضراسُكِ الصامداتُ الشَّدادُ ... هي اليوم من سوسها ما هيه؟
وصفصافك الغض كيف استحال ... عِصيَّا منكّسةً جافيه؟
يمرّ النسيم بها لا تميل، ... وكانت تراقصه حانيه!
وتَلقى العناكبُ منها سَدىً ... متيناً لِلُحْمتِها الواهيه
كأنكِ في نسجها جثة ... تردّت بأكفانها الباليه
وأنَّ طنين الذباب ترا ... تيل تزُجَى إلى روحكِ النائيه
فنحن أمام وفاةٍ. . . أجل ... وفاة تعِزّ على الناحيه
وإنَّ حياةً اليوم ماتت ... بموتكِ أيتها الساقيه
أليس دليلَ الحياةِ الكلامُ، ... فكم قد خطبت على الرابيه؟
وهل بعد موتٍ سوى وحشةٍ ... أرى وحشةً لكِ تغُرَى بيه
ألا أيها السالكانِ إلى الحيّ ... أقصَى الطريق، أَصيخاَ ليه
وقولا لزوَّارِ مقبرةِ الحيّ ... للحيّ مقبرة ثانية
تثير الشجون بإيحاشِها ... وأطيافِ أيامها الخاليه
فحيُّوا ثراها بِحَفْنِة ماء ... زلال وريحانةٍ ناديه
محمود عماد(476/31)
ذكريات. . .
للأديب مصطفى على عبد الرحمن
أَشرقي في نفسِيَ الحيرى مُنىً تُذْهِبُ ما بِي
من أسى دهري وما ألقاهُ من مُرَّ العذابِ
ودعيني أملأ العينين من نورِ الشَّبابِ. . .
فنِداء الحبَّ يدعو خافِقَيْناَ ... أَيْنَ ماضٍ من حُمياهُ انْتَشَيْنَا؟
قد مَلأْناهُ غَراما ... ورشفناهُ مُداما
وسعتْ في نورِهِ ... الدُّنيا إلينا
ذَاع أَمْري. . . آهِ من أمري ويا لي ... من هوى قلبي ومن كيد الليالي!
طالت الشكوى ولكن من يبُالي ... بشكاتي وعذَابي، من بُبالي؟
يا عزاء النفْسِ إن جلَّ العزاء
هلْ لنا من حُرْقَةِ الوجدِ ارتواءُ؟
أَيْنَ وَلى الأمس والدنيا هناءُ؟
ونعيمُ العمرِ نُعْمَى ولقِاءُ. . .
ورجاءُ شاعَ في ظلَّ الوصالِ ... وصفاء ذَاع في كلَّ مجالِ
(ذكرياتٌ) كلمات مرت ببالي ... هام قلبي بين شكي وضلالي. . .
يا ليالي. . . أَيْنَ أياميَ أينا. . .؟
أنا أَشْقى فإلاما ... لا ترى عيني الْمَنَامَا
ونداءُ الحبَّ يدعو خافقينا ... والمنى والسحر مِلْكٌ لِيديْناَ!
وشبابي لم يزل يَنْدَي بأنداءِ الشبابِ
وشِراعي يتغنَّى بأمانينا العِذابِ
فتعالىْ. . . كأْسُناَ نَشْوى وملأَى بالشرابِ
مصطفى علي عبد الرحمن(476/32)
البريد الأدبي
السويبة هي الصوبة أو الصوببة
سأل حضرة الأستاذ الفاضل عبد الرحمن أفندي أحمد سعد عن أصل (السويبة) في العربية، وعن دلالتها على معنى يقارب معنى المطمورة التي على وجه الأرض فنقول - قبل الجواب - هذه الكلمة:
زارني أحد أدباء البغداديين، بعد أن وقف على كلمة (المطمورة) المدرجة في العدد 464 من الرسالة فقال: (بأي لغة كتبت يا سيدي مقالتك على (المطمورة)؟) قلنا له: باللغة المالطية، وسبب هذا الجواب أني لاحظت في طبعها أغلاط طبع كثيرة، حتى كان يصعب علي معرفة ما كتبتُ. ولولا عناية خاصة من الله لما تمكنت من فهم ما جاء فيها. ولم أبعث بتصحيح ما جاء فيها من الأوهام، لبعد المسافة بين بغداد ومصر، ولكثرة ما كان فيها من الأوهام. ولهذا اكتفيت بأن خططت خطاً أزرق تحت كل زلةٍ وردت فيها، تنبيهاً للقارئ لا غير، وذلك في نسختين فقط.
وبعد أن نبهت هذا التنبيه العام أقول:
ورد في سؤال الأستاذ الأبيض الوارد في 632: 10 (ثم يسيفونها) والصواب (ثم يسيعونها) وقوله (ويصمدونها) والصواب (ويصومعونها).
والآن نجاوب على سؤاله فنقول:
إن (السويبة) من أفصح كلام العرب وأحسنه بعد إزالة التصحيف عنه. والصواب أن يقال (الصويبة) مصغرة، أو (الصوبة) مكبرة. وبكلا اللفظيين ينطق بعض أعراب العراقيين. قال الشارح:
(والصوبة، يالضم: كل مجتمع. عن كرابح، أو الصوبة: الجماعة من الطعام. والصوبة: الكدسة من الحنطة والتمر وغيرهما. والصوبة: الكبشة من التراب، أو غيره. عن ابن السكيت: الصوبة: الجرين، أي موضع التمر، وحكى اللحياني عن أبي الدينار الأعرابي دخلت على فلان، فإذا الدنانير صوبة بين يديه، أي كدس مهيلة. ومن رواه فإذا الدينار، ذهب بالدينار إلى معنى الجنس، لأن الدينار الواحد لا يكون صوبة. هكذا في لسان العرب؛ غير أني رأيت في الأساس قولهم: والدنانير صوبة بين يديه، مهانة. فلينظر انتهى. قلنا:(476/33)
قوله (مهانة) من خطأ الطبع. والصواب (مَهيلة) من هال التراب أو نحوه: إذا صَّبهُ
فأنت ترى من هذا أن أهل السودان متفقون وأهل العراق على اتخاذ هذه الكلمة، إلا أن أبناء الرافدين يستعملونها مكبرة ومصغرة على السواء من غير تفضيل صيغة على صيغة، إنما يأتون بها بحسب ما يمر بخواطرهم، ويفعلون مثل ذلك بكثير من الحروف
ثم إن نقل الصاد إلى السين كما في (الصُوَيْبة) و (السويبة) لغة قديمة معروفة عند العرب، فمنهم من كان يرقق الصاد فيجعلها سيناً، ومنهم من كان يفخم السين فيجعلها صاداً. والشواهد لا تحصى. والأمور جارية هذا المجرى إلى عهدنا هذا. ونحن نذكر بعض الشواهد من كلام الأقدمين فقد قالوا:
(الخِرس كالخِرص. والخربسيس والخربصيص. والسويق والصويق. قال ابنُ دُريد في الجمهرة: وبالصاد، أحسبها لغة لبني نميم، وهي لغة ابن الغبر خاصة) (كذا في تاج العروس. وهو خطأ أيضاً والصواب: (وهي لغة بني العنبر، إذ لا وجود لابن الغبر)
والتاج كثير أغلاط الطبع، ويجب أن يطالعه القارئ بكل تحفظ وتحرز وقد صححت فيه أوهاماً لا تحصى، ولو طبعت لجاءت في مجلد كبير، وكذلك يقال في لسان العرب، فإن مطبوعان مصر القديمة كانت تجئ بأقبح حلة وأسوأ حالة.
وأنتهز هذه الفرصة لأقول: إني لم آت على ذكر جميع مترادفات المطمورة أو ما يجالس معناها من الألفاظ المستعملة في العراق. فقد نسيت مثلاً الصوبة والصويبة. والمنثر، وزان المِنبر وهي مستعملة في ديار المنتفق وأرجائها، وهو مخزن الطعام في الصحراء ويسمى صاحبه الجَّبان بجيم مفتوحة، يليها باء موحدة تحتية مشدَّدة، فألف، فنون
والمنثر، غير واردة في معاجم اللغة، وقد وردت في (كتاب عمدة الطالب، في أنساب آل أبي طالب)، وصاحبه من أنباء المائة التاسعة للهجرة
هذا ما تيسر لنا جمعه. وهو الهادي إلى الصواب
(بغداد)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(476/34)
كم ذا
يرى الأستاذ الظريفي في العدد (475) من الرسالة الغراء أن الموضوع لم ينته بالردود التي قرأها في الأعداد السالفة، ثم بغُفل بيت أبي الطيب ويتناول بيت حافظ رحمه الله بالنقد القاسي تارة وبالتجريح تارة أخرى. ولنا أن نتناول كلمته بالنقد الهادئ تقريراً للحق ودفاعاً عن شاعر النيل. وإنا لنوجز البحث فنقول: ذهب الأستاذ إلى أن (كم) في بيت حافظ استفهامية ومميزها محذوف تقديره (كثيراً) أو ما هو في معناه؛ ثم أورد بيتاً لا ندرك تماماً صلته بالموضوع وهو قول أحد الشعراء:
إلى كم ذا التملق والتواني ... وما هذا التمادي في التمادي
فأما كون المميز (كثيراً أو نحوه) فلا نفهمه، والوَجْه أن يكون المميز (شدةً أو شوقاً مبرحاً) أو لفظاً مجروراً بمن مناسباً للمقام؛ وإذا فقول حافظ:
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ... في حب مصر كثيرة العشاق
يحمل على الصورة التالية (كم شدةً أو كم من الشدائد والأشواق المبرحة يكابد عاشق ويلاقي في حب مصر)؛ أما أن يكون المعنى (كم كثيراً يكابد عاشق مصر هذا الألم) فلا نكاد نسيغه.
وظاهر أن (ذا) في البيت الذي أورده الأستاذ اسم إشارة وليس بها رائحة الاستفهام بقرينة الاستفهام في الشطر الثاني. ثم يرى الأستاذ الظريفي أن (ذا) مفعول مقدم ليكابد؛ وقد يكون في هذا تعسف لا داعي إليه؛ وقد بدا اثر ذلك فيما أورده من تأويل. ويرى أن كلمة (يلاقي) حشو أريدَ به تكملة الوزن والقافية، ومثل هذا القول يفهم في مثل هذا القول يفهم في مثل قول الشاعر (وألقى قولها كذباً وميْنا) أما فرضه على قول حافظ فقسوة بالغة، فإن لكلمة (يلاقي) معنىً يزيد البيت قوة والمعنى روعة؛ فالشاعر يكابد في حب بلاده ما يكابد، ويلاقي كل يوم شوقاً وعنتاً جديداً في سبيل ذلك الحب. والقول بأن في البيت غلطة نحوية لا يقل عن سابقه قسوة. نعم إن إضافة (كثيرة) لا تكسبها تعريفاً فلا تصلح وصفاً لكلمة (مصر) وهي معرفة، ولكن من المكن قراءتها منصوبةً على الحالية من (مصر) لا من (يكابد) كما جاء في كلام الأستاذ. وقديماً قالوا: إن الحال وصفٌ لصاحبها قيدٌ في عاملها(476/35)
(فكثيرة العشاق) وصف لمصر قيد في المكابدة والملاقاة؛ كما يمكن حملها على أنها منصوبة بعامل مقدر مناسب للمقام، وقد يقع مثل ذلك للمدح (كما هنا) وللدم أو الترحم أحياناً. وإذا فلا موجب لتصويب البيت بالصورة التي رآها الأستاذ الظريفي بعد ما استقر في النفوس وتنقلت روعته في قلوب الأدباء جيلاً بعد جيل
وبعد، فقد أغفل الأستاذ بيت أبي الطيب (وكم ذا بمصر من المضحكات. . .) وقد أصبح شطراً ذا خطر في موضوع البحث، ولا أدري أهو مُسلَّم به، وإذاً ففيم قوله: إن الردود لم تنه الموضوع؟ أم هو لا يزال منه في ريب وإذا فما رأيه؟ على أني أعود فأقول: إن أبا الطيب جارٍ في بيته على عرف أهل الكوفة الذين أجازوا زيادة الأسماء ومنها (ذا) وجوزوا وقوع أسماء الإشارة أسماء موصولة ومنها موضوع النزاع. وفيم العجب والرجل واسع الثقافة متأثر بآراء مدرسة الكوفة، ثم هو بعد من دعائم الشعر ومفاخر العروبة؟!
غفر الله لك يا أبا الطيب؛ طالما عَنَّيْتَ حُسَّادك وأنصارك! وكأني بروحك اليوم تطل على هذا الخلاف، ثم تبتسم وتومئ إلى قولك الخالد:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... وتسهر الخلق جرَّاها وتختصم
(المنصورة)
محمود البشبيشي
حول الردف والسناد
ردّاً على كلمة الأديب الفاضل أحمد يونس محمد أقول: إن علماء العروض نصوا حقيقةً على أن الردف هو حرف مدٍّ قبل الروي؛ وعليه فتكون الياء في مثل: سريرتي والخميلة، ليست من قبيل الردف، لعدم وقوعها قبل حرف الروي مباشرة. . . ولكني أضيف إلى هذا أن الشعراء قد أجمعوا من قديم على التزام مثل هذه الياء - إذا وردت - في سائر الأبيات، حتى لتوهموها من الردف وأضافوها إليه؛ هم محقون في ذلك، لأنها لا تستساغ في الواقع إلا ملتزمة مع سائر الأبيات. . .
وقد بلغ من إجماعهم على اعتبارها ردفاً، واحترازهم من الوقوع في (سناد الردف) بإهمال التزامها، أن نص ابن رشيق على هذه الشبهة في كتابه (لعمدة)؛ فقال في باب القوافي (ص(476/36)
106 من الجزء الأول):
(وقد يلتبس بالمردف ما ليس بمردف، فيجتنبه الشعراء مثل (فيهم) مع (منهم) وهو جائز، لأن الهاء ليست رويَّا فتكون الياء ردفاً، وإنما الروي الميم): أي أن ياء (فيهم) لم تقع قبل حرف الروي (الميم) مباشرة، بل فصلت بينهما الهاء؛ فالياء هنا ليست ردفاً بسبب ذلك الفصل. . .
ونحن لم نضف هذه الياء إلى باب الردف إلا أخذاً بإجماع الشعراء، وهم إدراكاً لدقائق العروض من (العروضيين) أنفسهم. ولئن كان ابن رشيق شاعراً أيضاً، إلا أنه اصدر حكمه هذا وهو لا بس ثوب (العروضيين) ومتحدث بمنطقهم؛ وما نظن أنه أتى في شعره بمثل الذي أجازه هنا. . .
ثم إننا نحاسب الأستاذ محمود حسن إسماعيل باعتباره شاعراً مرهف الإحساس. . . لا نظَّاماً ولا عروضيَّاً
على أن قصيدته إن خلت من الردف ومن سنادِه، وفقاً للقاعدة العروضية فهي لم تخل من التأسيس - في بعض أبياتها دون بعض - كما أشرنا إلى هذا في كلمتنا السابقة؛ وعليه فيكون السناد الذي تطوق إليها، وهو سناد التأسيس دون غيره من (أنواع السناد الخمسة) التي يتساءل عنها الأديب صاحب الكلمة
(جرجا)
محمود عزت عرفه
في كتاب (الإمتاع والمؤانسة)
. . . أُصحح للأب الفاصل أنستاس ماري الكرملي خطأ وقع فيه وهو قوله إن (هيردوس أتيقوس) روماني لا يوناني؛ فهذا ابعد في الخطأ من استنكاره أن يعتبر (تيودسيوس) يونانياً، وذلك لأن (أتيقوس) هذا أي (الآتيكي) نسبة إلى (آتيكا) مقاطعة آتينا (معلم خطابة)، أو على الأصح (معلن بلاغة) يوناني صميم ولد في ماراتون سنة 101 بعد الميلاد وكان أبوه (آتينا) صميماً تولى القنصلية أيام (نرفا)، ولقد مات (أتيقوس) سنة 177م، ونحن نعرف عنه أنه أنفق شبابه في (آتينا)، وأنه درس بها الفلسفة آخذاً بمذهب(476/37)
(أفلاطون)، أنه أتى إلى (روما) ليشرف على تربية الإمبراطور الفيلسوف مارك أوريل وأخيه في التبني (نرفوس) وأنه بعد أن صار قنصلاً، وبعد أن جمع ثروة ضخمة، عاد إلى (آتينا)، حيث بنى عدة مبان هامة، لا يزال قائماً منها إلى اليوم (أوديون أتيقوس) الشهير بسفح (الأكروبول) وإذا، (فأتيقوس) يوناني، ولغته هي اليونانية
وإذا ذكرنا أن (كومودوس) هو ابن (مارك أوريل) وأن (أتيقوس) قد أشرف أيضاً على تربيته، كما اشرف على تربية أبيه، وإذا كان من الممكن أن يكون (قومودس) إمبراطور روما كتب إلى (أتيقوس) باللغة اليونانية يطلب إليه كتباً وأشعاراً، وأن العرب قد علموا بذلك - مترجماً عن اليونانية - ترجمة لا نعلم مبلغ دقتها فأي غرابة في أن يكونوا قد جعلوا من (أتيقوس) شاعراً يونانياً، ومن (قومودوس) ملكاً لليونان، ما دام مصدرهم كان يونانياً وما دام (التوحيدي) يورده علي سبيل الرواية؟ وهل العرب كانوا يعرفون شيئاً دقيقاً عن الشعراء اليونان ومعلمي البلاغة عندهم، حتى نستبعد أن يخلطوا بين الشاعر ومعلم البلاغة، أو أن يستنتجوا من يونانية النص أنه تبودل بين يونانيين؟
وأما قصة (الكراكي)، فقصة لا اثر لها فيما عثرت به من كتب اليونان، فهي خرافة لا نعلم عن نسبتها إلى قومودوس وأتيقوس شيئا، وإن يكن هناك احتمال في أن تكون من بين الأساطير الكثيرة التي راجت عن وفاة الشاعر اليوناني الكبير لوسيان المعاصر لقومودوس وأتيقوس
وهكذا يتضح أن القراءة التي نظمها أقرب ما تكون إلى الصحة، هي قومودوس وأتيقوس اللهم إلا أن تكون عند الأستاذ كرواس معرفة خاصة بأبقوس الشاعر اليوناني، وذلك ما ننتظره منه إن تفضل فجاد بعلمه الغزير
ولعل في هذه القراءة ما يطمئن إليه - ولو مؤقتاً - الأب الفاضل إلى أن يقترح غيرنا قراءة أصح
محمد مندور
مدرس بكلية الآداب(476/38)
العدد 477 - بتاريخ: 24 - 08 - 1942(/)
أبو سمبل
للأستاذ عباس محمود العقاد
أمسينا في جو مفعم بالزجر والعيافة، مغلف بالأحاجي والأسرار؛ يتكلم المتكلم فإذا هو عائف أو زاجر من حيث يريد ولا يريد، وإذا هو معرض عما بين يديه وتحت عينيه لينظر إلى عالم الغيب ويستعجل العلم بغده المحجوب، وبالذي يجري في ساعته تلك على مدى الألوف من الأميال
وحق للناظر تلك الليلة أن يعرض عما بين يديه وتحت عينيه! فماذا كان في الحق بين يديه وتحت عينيه؟
منظر واحد يتكرر ثم يتكرر ثم يتكرر في غير تبديل!
هضاب ورمال، ثم هضاب ورمال، ثم هضاب ورمال. . . ثم نيل ينتظمها ويجري في خلالها، ليزيد التشابه بينها ولا يزيدها شيئاً من التبديل أو التنويع
فإذا طالت نظرة العين إلى تلك المتشابهات فهي كالعين المنوَّمة التي حدجت بالنظر شيئاً واحداً حتى غاب عنها وغابت عنه، فاستسلمت لما يوحي إليها من الأنباء، وما يكشف لها من الأسرار
هنالك علمنا منشأ الزجر والعيافة من قديم. فلا يزجر الزاجر ولا يعيف العائف إلا وبه نقص من حظ العيان، وحاجة إلى العلم بالفهم والسماع
وكنا في مثل تلك الحاجة ليلة الزجر والعيافة
فتركنا معركة العلمين ناشبة في بدايتها ونحن لا نسمع كثيراً ولا قليلاً عنها، وانقضى الليل وطرف من النهار ولا خبر ولا رواية، ولا إشاعة كتلك الإشاعات التي يخترعها المرجفون ولها صبغة من الخبر والرواية
وما معركة العلمين في تلك الليلة وفي كل ليلة تأتي بعدها إلى أقاصي التاريخ؟
هي معركةٌ سماها القدر ولم يسمها الجيشان ولا صحف الأنباء أو مطلقو الأسماء على معارك القتال
هي معركة علمين اثنين تتلخص فيهما جميع الأعلام التي تظل المتقاتلين اليوم في كل ميدان(477/1)
علم الحرية وعلم الطغيان!
علم الدفاع وعلم الفتوح والغارات
وأي العلمين ارتفع في تلك المعركة ففيه مصير عالمين وخافقين ومشرقين، وفيه ابتداء زمان وانتهاء زمان
وتلك تلك المعركة التي انقطعنا عن أخبارها ليلة وطرفاً من نهار. ثم بلغنا الشلال، فعلمنا أننا سنقضي في الباخرة نيفاً وأربعين ساعة، لا نحن بالعالم متصلون، ولا العالم بنا متصل، حتى تستأنف الصلة به عند تخوم السودان
نيف وأربعون ساعة بغير أخبار!
وفي الباخرة مع ذلك طائفة من رجال الصحافة ورجال الأعمال تعودوا عشرين سنة على الأقل ألا تنقضي عليهم أربعون دقيقة بغير خبر جديد، عن أمور بالغ ما بلغ شأنها فهي من سفساف الحديث إلى جانب الحديث عن العلمين
فمن لم يتعلم الزجر والعيافة في تلك الليالي المحجبات فما هو متعلم، وقد تعلمناهما فأحسنَّا العلم بهما من درس واحد لم تسبقه دروس. . .
أقبل الليل فألقت الباخرة مراسيها عند الشاطئ إلى الصباح.
وخرجنا من المقاصير نتنسم الهواء جادين ونتنسم الأخبار متفكهين، وذهب كل منا يسأل صاحبه مازحاً: ما أحدث أنباء المساء؟ فيجيبه: أي مساء؟ الجمعة أو الخميس أو الأربعاء فكل أخبار هذه الأيام سواء
وإنّا لكذلك إذ انحدر أمامنا مركب سريع موقر بالأبقار السمان. . .
فصاح صائح: بشارة خير!
وصاح ثان: نعم، وأي خبر! فهي أبقار لا تذهب إلى مصر لتموين الأستاذ روميل وأصحابه بطبيعة الحال!. . . ولا تصل إلى القاهرة قبل ثلاثة أيام. .
وانطلقت الفكاهة والجد أي منطلق في ذيول هذه العجماوات؛ فمن قائل: إنها تكلمت وسكت الناس؛ ومن قائل: إن بقرات يوسف عليه السلام كانت سبعاً وكانت في المنام، وهذه سبعون وفوق السبعين تراها في اليقظة رأى العين. أحسن البشارة وما أصدق التعبير!
وكان صاحب القدح المعلى في تلك العيافات والتعبيرات طبيباً لوذعياً يسخر من الخرافات(477/2)
فقلنا: وقد تمت المعجزة بحمد الله، واصطلح الطب والسحر لحظة في هذه الليلة بفضل الجهل بالأنباء. . . وللجهل فضله الذي لا ينكر في بعض الأحايين
ثم توالت الأنباء من هذا الطراز: كل مركب منحدر يعبر عن شئ كثير، بغير سؤال وجواب، وبغير اعتساف في التأويل والتعبير
وأسفرت ليلة الزجر والعيافة عن صباح مشرق كأوضح ما يكون صباح وتشرق شمس في سماء
ونظرنا. . . فماذا رأينا؟
عجيبة من عجائب التوفيقات: فقد رأينا على الشاطئ قبالتنا هيكل الصباح المشهور بين الهياكل المصرية، ورأيناه في اللحظة التي بُني لها، وأعدت محاريبه للقائها والامتلاء بشعاعها وضيائها: وهي لحظة الشروق
هذه مطالع هاتور
هذه محاريب أبي سمبل، وهذه تماثيلها الأربعة الفخام لا تسأم النظر إلى الدنيا في مجلسها، ولا تسأم الدنيا من النظر إليها
وهذا هو الوادي الذي قدسوه قبل ثلاثة آلاف سنة، وجعلوه حرماً لربته هاتور، ولأرباب كثيرين
فهي إذن ظلال الهيكل الساحر التي شملتنا في جو الزجر والعيافة منذ ألممنا بواديها ونحن لا ندري
وهي إذن بقية من كهانات سبقت جميع الكهانات، وأخذ منها الوادي أو هي قد أخذت من الوادي بنصيب
وكان تمام التوفيق أن نبيت الليل في جوارها ثم لا نطلع عليها إلا مع طلوع الصباح، وقد فضت له مغالقها وكشفت له محاريبها، وعانقته هنيهة عابرة في لجة من النور
وعبرنا صامتين
وأنصتنا وأطلنا الإنصات، لأننا نختلس السمع من وراء ثلاثة آلاف عام. وماذا يمنعنا أن ننصت فنسمع؟. . . ثلاثة آلاف عام لا تنأى بنا عن السمع في ذلك السكوت
كانوا يقولون في تلك اللحظة من وراء الجدران الضخام، ومن وراء جدران أضخم منها(477/3)
وأفخم، وهي جدران الدهور:
(أتيت أيها البصر الهادئ وتمزقت الظلمات ورجعت الأشباح إلى ظلماتها، واهتزت الأرض بالبشائر، وافترت الثغور!
(تحيات يا رائد السماء، إنّا لك خاشعون
(وإن الحياة لتبتسم بك يا كريم. وإن الماء ليتنفس بك يا واهب الأنفاس، وإن الزهرة لبك تزهر، وإن الوردة لبك تعطر، وإنها لتحيات إليك يا رائد السماء، وإنا لك لخاشعون!
(صورت نفسك فما لك مصور، وكذلك صورت في ملكك أول نهار، وخلقت نفس الصباح، ونفس الإنسان، وكل ما نماه عالم الإنسان
(حجبت سرك في النور الأعظم فلا يستشفه بصر مبصر، وإنا لنحييك يا رائد السماء، وإنا لك في سرك لخاشعون!
(يأيها الوليد القديم لكل نهار جديد، نستقبلك فنرقص فرحاً في كرامتك، ونحنو لك خاشعين!)
كانوا ينشدون هذا النشيد من وراء الجدران
كانوا ينشدونه بكل لسان، ويرسلونه إلى كل سمع، فلا يضيرهم أن يخذلهم لسان واحد في تلك اللحظة، وهو اللسان الذي لا يقول بعد الموت، ولا يخترق حجاب القبور
إيه أيتها التماثيل الضخام! فيم تتحدثين في تلك الجلسة وقد طالت بك آلاف السنين؟
كم قلت؟ وكم لم تقولي؟! وكم رأيت وكأنك ما رأيت؟ وكم غمرتك الرمال وأنت لا تحفلين، وغمرتك الأنوار وأنت لا تحفلين، وغمرتك الأنظار المستطلعات وأنت لا تحفلين. . . فيم احتفالك! وفيم صبرك وانتظارك؟ وإلام تجلسين؟ إلام إلام تجلسين؟!
قلت لأصحابي: هذه جلسة تاريخية ليس لها قرار، لأنها كلها قرار!
قال قائل منهم: طوبى لها قرارها! وطوبى لها هذه الجلسة التي اطمأنت إليها: لا حروب ولا أشجان، ولا أهواء ولا أضغان، ولا اكتراث للإنسان ولا لعالم الإنسان
قلت: على رسلك يا صاح. . . لو استطاعت أن تبتسم لكلامك لامتلأت أفواهها بالابتسام، ثم جلجلت بالضحك حتى ارتجت لها الهضاب والآكام.
أهذه التماثيل الضخام بمعزل عن الحروب والأشجان، وعن الأهواء والأضغان، وعن(477/4)
الاكتراث للإنسان وعالم الإنسان؟
هي حديث حرب، وهي حديث حب، وهي حديث شجن، وهي حديث إنسان يتكلم من وراء الزمن إلى إنسان
وخطوة واحدة وراءها تريك رمسيس في مركبة الحرب يقلب الصفوف على الصفوف، ويرسل الحتوف وراء الحتوف، ويفخر بالنجاة وهو مارق من بين ألوف
وخطوة أخرى وراءها تريك الفاتنة (نفرتاري) وهي كالغصن الريان بهواه وهوى عاشقيه
وخطوة أخرى وراءها تريك المطامع والأهواء؛ تلعب بالكهان والرؤساء، وتزدلف إلى السطوة والثراء، وتنطق بالهجر والمراء
كلا. يا صاح! هي الحرب في هذا المكان والحرب في كل مكان، وهي الأهواء الآن والأهواء في كل آن، وهي الصخور الصلاب تسكت سكوتها فتسمع منها لجب الفرسان، ونجوى الحسان، وسعاية الأقران والأعوان
هي حرب ينبئنا بها حجر، وحرب ينبئنا بها بقر، وحرب ينبئنا بها كل قائل وأعجم، ولا يعوزه ترجمان
عباس محمود العقاد(477/5)
غرام (سعد زغلول)
للدكتور زكي مبارك
دَرجتُ في الأعوام الأخيرة على كتابة مقالة سنوية في (الرسالة) بمناسبة ذكرى (سعد)، رعايةً لفضل هذا الرجل في بعث الحياة الأدبية عند اختلافه مع زملائه الذين شاطروه أعباء الثورة المصرية، لا رعايةً لمقامه الوطني (وهو مقام محفوف بالإجلال عند جمهور المصريين والشرقيين)؛ وإنما أحترس هذا الاحتراس لأن حقدي على (سعد) كان يفوق الوصف، ومقالاتي في الهجوم عليه كانت أقوى مما كتبت في صدر شبابي، فقد كانت مبادئ الحزب الوطني غزت قلبي غزواً عنيفاً
أكتب هذا والحزن يعصر قلبي، فقد انقضى ذلك العهد، وخمدت النار التي كانت تتأجج في صدري، ولم أعد أقبل الانضمام إلى أي حزب من الأحزاب السياسية
كانت لدينا مبادئ نقتتل في سبيلها اقتتال المجاهدين الصادقين، وكنا نرحب من أجلها بالسجن والاعتقال طائعين فرحين، مبادئ سليمة تفرق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه، في غير بغي ولا عدوان، فعلى عهدها الكريم ألف تحية وألف سلام!
ولو لم يكن هذا الحديث متصلاً بذكرى (سعد) الذي عانى ما عانى من بلايا النفي والاعتقال لطويته بلا تردد، مراعاةً لظروف هذه الأيام، فلتكن هذه السطور فناً من الإحياء لذكراه بين أبناء هذا الجيل
حديث اليوم عن (غرام سعد زغلول)، وهو حديثٌ لم يُفْضِ به إلا لأفراد قلائل، فما ذلك الحديث؟
أذكر أولاً أنني لن أجترح إثماً، ولن أسنّ سنّة سيئة، حين أتحدث عن غرام رجل عظيم شرَّق صيته وغرّب، فمن المحال أن تخلو قلوب العظماء من صبوات وأهواء
يضاف إلى ذلك أنني سأتحدث يوماً عن (غرام مصطفى كامل)، الغرام الذي جعله من كبار الخطباء بلغة الفرنسيس، والذي فرض عليه أن يهتف هتاف الشوق إلى هواه، وهو يعاني سكرات الموت. . .
وأذكر ثانياً أن الدار التي سيجري أسمها في الحديث عن (غرام سعد) لن تتألم ولن تتأفف، لأن سعداً أحبها وأحب أهلها حب الشرفاء، ثم أرتدّ عنها بحسرة دامية لم يخف كربها إلا(477/6)
بعد سنين تزيد على الخمسين
فكيف كان (سعد) حين استعر في يصدره ذلك الحب؟
كان طالباً في الأزهر الشريف، وكان طلبة الأزهر في العهود السوالف على جانب كبير من التوقر والاستحياء
ولو شئت لقلت: إنه كان من الصعب على أي فتىً مصري أن يتخيل كيف تكون المرأة وهي عارية؛ ولو شئت لقلت أيضاً: إن التصون كان مما يتباهى به الفتيان، في ذلك الزمان، قبل أن تصاب الدنيا بأوضار التمدن الجديد
وكان (سعد) أزهرياً عفّ القلب، ولم يكن يعرف من نعيم الحواس غير اللحظات التي يقضيها مع زميله إبراهيم الهلباوي متربِّعَيْن على الرصيف بجانب المحكمة المختلطة لمشاهدة الرائحات والغاديات في عصرية كل خميس
فهل تكون تلك العصريات علَّمتْ سعداً معانيَ الغزَل الملفوف؟
هل تكون أوحت إليه أن قلب الفتى قد يتوهج من حين إلى حين؟
حين قصَ علينا الهلباوي بك - رحمه الله - تلك الحكاية لم يشأ أن يطنب في الشرح والتعليق، فقد كان في المجلس رجال يؤذيهم التبسط في مثل ذلك الحديث ولم أكن أنا أعرف أني سأتكلم عن غرام سعد بعد حين أو أحايين
المؤكد أن سعداً قضى شبابه في تصون وعفاف، ولولا ذلك لكان من العسير أن يظل في نشاطه المعروف إلى أن يجاوز السبعين
ومن هنا نعرف كيف اصطلى بنار الوجد في صباه، فالشاب المصون يعاني من الغرام لذعات أحر من لذع النار، لحرمانه من التصعيد الذي يجود به الحب الأثيم
فأين كان حب سعد، حبه السليم من آفات العبث والمجون؟
أطل يوماً من غرفته فرأى في دار الجوهري فتاةً كحيلة العينين مُشرقة الجبين، ثم غضّ بصره بسرعة حين تذكَّر أن ما زاد على النظرة الأولى حرام لا حلال
وما احتياجه إلى نظرة ثانية وقد رُسمت صورة الفتاة على ألفاف قلبه رسماً جعلها أقرب إليه من متن الألفية، وأوضح من شرح أبن عقيل؟
هل يُطلْ من النافذة فيراها مرة ثانية ليتأكد من التماثل بين الصورة والأصل؟(477/7)
لا بأس، ولكن الفتاة لم تكن تظهر في صحن البيت إلا عند الأصيل، وهو الوقت الذي يعود فيه فتحي أفندي من المدرسة، وهو شقيقه الذي صار فيما بعد فتحي باشا زغلول، وكان الشيخ سعد يراعي فتحي أفندي، ويتعمد الظهور أمامه بصورة الناسك المتعبد، ليصرف عنه سوء التلفت إلى النساء، فقد كان يعرف أن التلاميذ (الأفندية) معرَّضون من هذه الناحية لأخطار تزلزل رواسي الجبال
النظر إلى المرأة حرام، فما حكم الشرع في سماع بُغام الملاح؟
وإنما عرضَ له هذا الخاطر الطريف، لأن مناغاة الفتاة لأترابها كانت تداعب أذنيه من وقت إلى وقت، وكان شديد العجب من أن تكون لفتيات الحواضر أنغام لم يسمع مثلها من بنات الريف، أنغام تصنع بلُبّه ما تصنع الراح بألباب الشاربين
ما حكم الشرع في هذه القضية؟ أيستفتى أشياخه بالأزهر الشريف؟ أيرجع إلى مطولات الفقه بالكتبخانة الخديوية؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما اكتفى بوضع القطن في أذنيه عند سماع ذلك البُغام إلى أن يقضي الله في أمره ما هو قاض
كان يتمنى أن تتاح النظرة الأولى مرة ثانية، النظرة التي يرمي بها الفتى من غير عمد، وهي حلال على أرجح الأقوال، ولكن آبائنا قبل ستين سنة لم يكونوا يسمحون لفتاة بالخروج من البيت حين تصبح وهي في نضرة الغصن الفينان، فمن المستحيل أن يظفر الشيخ سعد بنظرة بريئة من تلك الفتاة عند الخروج لدروس الصباح، أو عند الرجوع لتناول الغداء
وهل كان الفتى الأزهري الذي يصلي ويصوم يستبيح التطلع إلى بنات الجيران؟ هيهات ثم هيهات، فقد حلف على المصحف ليصيرنَّ إلى آخر حياته وهو في طهارة القانت المنيب
ثم يضطرم قلب سعد أعنف الاضطرام، ويزداد بلاؤه بهواه المكتوم، من يوم إلى يوم، والفتاة لا تعرف أن بجوارها فتىً يدعو الله في أعقاب الصلوات أن يجعلها نصيبه من دنياه، أو يجعلها على فرض الحرمان نصيبه من الحُور العين
ويمضي فيقلب كتب النحو والفقه والتوحيد ليحفظ ما فيها من الأشعار الغزلية، ولا يكتفي بذلك، بل يمضي فينسخ ديوان أبن القارض، ليتخذ منه سميراً يؤنس وحشته حين تخفت(477/8)
الأصوات في دار الجيران
إن سعداً فلاّح وابن فلاّح، والفلاحون يخمدون نار الصبوة بالزواج، فما الذي يمنع من أن يسلك مسلك الفلاحين الشرفاء، فيطلب القرب من أهل تلك المليحة الحوراء؟
وهنا تثور مشكلة من أقبح المشكلات، مشكلة اجتماعية يعانيها الحي الأزهري في جميع الأزمان، وهي إصرار سكانه من كبار التجار على أن الأزهريين غرباء
لا جدال في أن الأزهريين هم شرايين الحياة في ذلك الحي، وبفضلهم تحيا متاجر وتقوم أسواق، ولكن هذا الفضل مجحود، لعله يحار في فهمها اللبيب. وقد كانت كلمة (مجاور) كلمة مدح، لأنها منقولة عن مجاورة الحرم النبويّ الظاهر، ثم صارت كلمة هجاء، بسبب التحامل على الأزهريين، فاعجبُ لكلمة ينقلها سوء المعاملة من مدلول إلى مدلول، بلا موجب معقول!
ومع أن الشيخ سعد زغلول كان يعرف أن حيّ الأزهر حيٌّ غادر ختّال، فقد قهره الهوى على أن يطلب يد ابنة الجوهري، ليسلم من وَقّد هواه، وليعرف كيف يُقبل على دروس الأزهر بعناية والتفات. وهل من المحال أن يفي ذلك الحيّ مرة في العُمر لمشرِّفيه من فتيان الريف؟
تشجّع الشيخ سعد فطلب يد ابنة الجوهري، فردّهُ الجوهري برفق، وهو يجهل ما ينتظر عمامة سعد من سيطرة أدبية وسياسية على أبناء هذه البلاد
ورجع سعدٌ حزين القلب، كاسف البال، وقد خاب أمله في هواه إلى آخر الزمان، ثم نظر فرأى أن الفرار من الحيّ الأزهري واجبٌ مفروض، لينجو من غمزات الذين شهدوا ردّهُ الأليم عن مناسك هواه. وأبناء الريف تؤذيهم ثرثرة السفهاء
لابُدّ من ترك الحيّ الأزهري، ولكن إلى أين؟ وماذا يصنع؟
إن أباه كان يرجو أن يصير من علماء الأزهر الشريف، ومن أئمة الدين الحنيف، فكيف يخلف ظن أبيه بلا تهيُّب ولا استحياء؟
ثم بدا له أن الكرامة الذاتية من مقاصد الكرامة الدينية، فخلع العمامة والجبة والقفطان، ولبس الحُلة الإفرنجية واحترف المحاماة، فأصبح وهو الأفوكاتو سعد أفندي زغلول، بشارع عابدين، وأمسى مكتبه سامراً يلتقي فيه كرام الرجال(477/9)
ولكن لوحة صغيرة كانت تُثير جواه حين يدخل ذلك المكتب، لوحة رُقِشَ في صدرها الأبيض هذا البيت:
وإذا دُعيتُ إلى تناسي عهدكم ... ألفيت أحشائي بذاك شِحاحا
ولم يكن بدٌ للقلب المجروح من دواء، وهل يُداويَ القلب المفطور بغير العمل الموصول؟
مرَّ عامٌ وعامٌ وأعوام، وسعدٌ يجاهد في سبيل المجد ليعرف من ردُّوه جاهلين أنهم أضاعوا (جوهرة) لن يرى (الجوهريُّ) مثلها ولو أضاع العمر في البحث والتنقيب
ثم استجاب الله لدعوات الوالدَين الصالحين، فاقترن سعدٌ بِفتاة كريمة العم والخال هي بنت مصطفى باشا فهمي رئيس الوزراء في ذلك العهد، وهي اليوم صفية زغلول أم المصريين، أسبغ الله عليها نعمة الصحة والعافية، إنه قريبٌ مجيب
وجاءت أيام في أثر أيام، وتنقل سعدٌ من حال إلى أحوال، إلى أن نفاه الإنجليز في سنة 1919 بسبب قضية الاستقلال
ثم سمح الإنجليز بأن يسافر من مالطة إلى باريس ليقنع (مؤتمر السلام) بعدالة القضية المصرية إن استطاع
وعجز سعدٌ وأصحابه عن الوصول إلى قصر فرساي، فرجع إلى مصر وهو آسف غضبان
فماذا رأى بعد الرجوع؟
أقيمت له حفلتان في الحيّ الأزهري، أولاهما في دار البكري، وقد فرح بها فرحاً عظيماً، فقد كان يظن أن خذلانه في الوصول إلى (مؤتمر السلام) قد يصرف عنه قلوب المصريين وفي تلك الحفلة هُتف عند دخول عدلي باشا بعبارة (تحيا وزارة الثقة) وهُتف لسعد باشا بعبارة يحيا (الشيخ سعد)
أما الحفلة الثانية فكانت. . . أين كانت؟
كانت في دار الجوهري، الدار التي ردَّت سعداً خائباً قبل أعوام تزيد على الخمسين
وجرى الهتاف لسعد: (يحيا الشيخ سعد)
والتفت سعد باشا ذات اليمين وذات الشمال، فرأى أنه في أمان من ثرثرة السفهاء، وأن الشيخ القديم لن يغلب الباشا الجديد، وأن من حق الأزهريين أن يفتخروا به مشكورين(477/10)
ثم التفت الرجل مرة ثانية ذات اليمين وذات الشمال، وسمح لعينيه بدمعتين محرقتين، هما التحية لهواه الذي ذهب إلى غير معاد
هذا سعد باشا خليفة الشيخ سعد، ولكن أين بنت الجوهري؟ وأين مكانها في هذا الوجود؟ أغلب الظن أنها ماتت وإلا فكيف صبرت عن خلع العذار لتقبِّل الحبيب الذي أنتصر على مكايد الزمان؟
وأقام سعد في (بيت الأمة) يتلقى تهنئة الوفود بعودته سالماً من باريس، وكان يمد يده فينزع اللثام عن كل امرأة تعتصم بالحجاب، وكانت حجته أنه يؤيد رأي صديقه الحميم قاسم أمين
ولعله كان يرجو أن يطلُع عليه القمر الجوهري، لو كان للقمر الآفل طلوع
لقد حدثتني النفس بزيارة دار الجوهري قبل أن اسطر هذا الحديث، ولكني خفت أن أضاف إلى المجانين
كان لي فيك هوىً، يا دار الهوى، فأين غرام سعد وأين غرامي؟
إن أعتدل الميزان فسنكتب على بابك العالي سطراً يقول:
(هنا تهاوتْ أحلام وقلوب)
وأين دار الجوهري؟ لا تسألوها عن مكانها ولا تسألوني، فقد ناب عني وعنها أبو تمام حين قل:
لا أنتِ أنتِ ولا الديار ديارُ ... خفَّ الهوى وتقضَّت الأوطارُ
وأنت، يا سعد باشا، ما رأيك في هذا الحديث؟ ألا ترى أنه من أشرف ما يتصل بتاريخك الجميل
زكي مبارك(477/11)
من معهد الإسكندرية
إلى جامعة فاروق الأول
للأستاذ محمد محمد المدني
أيتها الجامعة الناشئة:
سلام الله ورحمته وبركاته عليك، وهنيئاً لك هذا البدء السعيد لحياة أرجو أن تكون طويلة مباركة حافلة بالعمل والنشاط والإنتاج إن شاء الله!
أتدرين ممن تلقين هذا الكتاب؟ إنه من أخ لك لم تلده أمك الشابة الحسناء، المشرفة على ضفاف النيل بالجيزة الفيحاء، ولكن ولده عمك أو جدك (الأزهر)! ذلك الشيخ العجوز الرابض تحت سفح المقطم منذ ألف عام. . . أريد أن أهنئك من قلب مخلص صادق لم يداخله الحسد، ولم يكدره التعصب، بما تلقينه من عناية بك، واهتمام بأمرك. . . ثم أشكو إليك ما أتجرع أنا من غصص الضعف، وما أذوق من ذل الغربة وويل الشتات!
أنت الآن - أيتها الأخت - في فترة من الزمان تغبطين عليها: لم تبتدئي بعد عامك الدراسي الأول، وأرى الدنيا عليك مقبلة، والأيام عنك راضية، والدولة إليك دائلة!
أنت كالعروس المدللة الأثيرة عند أهلها: يعدون لها، ويتطلعون إلى يوم جلوتها، ولا يدخرون وسعاً في سبيل إرضائها، وتهيئة الحياة السعيدة المترفة الناعمة لها. . . وأهلك أغنياء كرماء قد عرفوا الحياة وأدركوا أسرارها، ومرنوا على السير فيها بخطوات ثابتة جريئة متوالية، حتى احتلوا المكان الأول، ونالوا الحظ الأوفر، وتركوا الخاملين المتخلفين من ورائهم، يكادون يتميزون غيظاً ويموتون غماً!
هذه وزارة المعارف كثيرة الحركة دائبة النشاط: قد حشدت قواها، وعبأت رجالها: تجتمع لجانها، وتنعقد مجالسها، وتكتب تقاريرها، وتؤلف فيها الهيئات الفنية وغير الفنية، ويسهر وزيرها، ويدأب في السعي مستشارها، وتشتغل الصحف والمجلات ودار الإذاعة بأمرها. . . وكل ذلك من أجلك أنت - أيتها الأخت - السعيدة! ومن قبل شغل المجلسان في دار الندوة بهذا الأمر: تقبلاه بقبول حسن، وأقراه في مثل لمح البصر، وأوسعا له في البذل والعطاء، ولم يضنا عليه بالحر من المال، والعالي من المناصب، والرفيع من الدرجات. . . فأسعدي - يا أخت - بهذا العطف، واهنئي بهذه الرعاية، واستمتعي بمجد آلك،(477/12)
واستطيلي فخراً بأسمائهم، واستظلي مما عقدوه عليك بلواء من الأمن والطمأنينة والرضا، واسلكي سبل العلم، وفجاج البحث، ذللاً لا أشواك فيها، ولا عقاب تعترض من دونها!
سيري يا أختاه بجنان ثابت ونفس مطمئنة وصدر لم تفسده الوساوس، ولم تحوم حوله الشكوك، فقد وفتك الدولة حقك، وكفتك ما يهمك، وجعلتك في يمنى يديها حين جعلت غيرك في يسارها ومن وراء ظهرها!
معاذ الله - أيتها الأخت الناشئة - أن أتطاول إلى مثل مقامك، أو أمني النفس بمثل منزلتك، فإنما أنا معهد ثانوي صغير لا يزيد على هذه المدارس الكثيرة التي تعمل في خدمتك، والتي ستمدك كما مدت أمك الرءوم من قبل بالبنين والبنات؛ ولست قريباً لك ولا نداً لخطابك، ولكني أشاركك فقط في معنى واحد، به أكتب إليك وبه أجترئ عليك: أنا معهد الإسكندرية وأنت جامعة الإسكندرية، ولقد كنت مثلك يوم نشأت منذ ثلاثين عاماً: كنت معهداً من المعاهد العليا عنيت به الدولة يومئذ كما تعني بك الآن، واحتفلت به الأمة كما تحتفل بك الآن، وأسندت إدارته إلى رجل عبقري حازم لم تزل آراؤه وإصلاحاته وهمته ونشاطه مسك الأحاديث وعطر المجالس، هو المغفور له الشيخ محمد شاكر، وقال الناس عني كلاماً كثيراً، قالوا: هذا معهد الإسكندرية عاصمة مصر الثانية، هذا هو (أزهر) الدولة المحمدية العلوية سينافس أزهر الدولة الفاطمية، وقد حققت بي الأيام بعض هذا الظن، فكنت نموذجاً في أساتذتي، وكنت نموذجاً في طلابي، وكنت نموذجاً في دراساتي ونظامي، وخرجت رجالاً أئمة يكادون يستأثرون بالفضل في كل ناحية من نواحي الأزهر الحاضر: في العلم، في الخلق، في الإدارة، في الحزم، في الشجاعة، ولكن الزمان صدمني مرتين: فأما إحداهما فيوم بدا لرجال الأزهر أن يجعلوني معهداً كمعاهد الأقاليم فأصبحت معهداً ثانوياً كمعاهد طنطا وشبين وقنا، أعد أبنائي، وأجد في تعليمهم وتثقيفهم وتهذيبهم وتقويم أخلاقهم؛ حتى إذا سويتهم فتيان علم وعمل وخلق كريم دفعت بهم إلى الأزهر فغرقوا في لجته وضلوا في تيه. والأزهر كما ينبئ عنه التاريخ قوة خارقة غلابة تحيل الأشياء ولا تحيلها الأشياء: كم من رجال تأبوا عليه ثم خضعوا له من حيث لا يشعرون، وأرادوا له صيداً فكانوا هم المصيدين! وكم من علوم لم تهضمه ولكنه هضمها، ورامت منه فأخضعها وأذلها! وكم من أخلاق فيه تبدلت وملكات ثابتة تأرجحت! فماذا عليهم لو يتركوني كما(477/13)
أنشأوني معهداً عالياً نموذجياً ولم تمتد أيديهم إلي، إذاً لكنت اليوم جديراً أن أكون قريناً لك بل منافساً شريفاً يحاول أن يسبقك في ميادين العلم والبحث والإنتاج!
وأما صدمتي الأخرى فقد أصابتني قريباً، وكانت صدمة عنيفة زلزلت مكاني، وقوضت أركاني، وشطرتني شطرين رمت أحدهما إلى العاصمة الغربية فزحمت به معهد طنطا، واحتفظت بأيسر الشطرين في دمنهور فأقامته في (كُتّاب) لجمعية تحفيظ القرآن ثم قالوا عن هذا (الكُتّاب) وأنا أكاد أذوب خجلاً: هذا معهد الإسكندرية
لقد أنزلوك على الرحب والسعة إحدى دورهم الفسيحة الأرجاء العالية البناء، ولن تمضي عليك بضع سنوات حتى تكون لك مدينة جامعية في رمل الإسكندرية تشرق على بحر الروم كما تشرق مدينة الجامعة الأولى على نهر النيل، أما أنا فقد قضيت حياتي في مكانين متباعدين في مدينة الإسكندرية شمالاً وغرباً: أحدهما زقاق غير نافذ من أزقة السيالة تكتنف البيوت فيه داري، ويعلو الباعة المتجولين في كل صباح ضجيج من حولي؛ والآخر دار بنوها، وكأنما كان مهندسها ينظر في ضمير الغيب إلى ما حدث الآن فبناها على نظام ثكنات الجيوش. نعم بنوها، ولكن في أي مكان؟ في (القباري) موطن المصانع ومستودعات البترول و (مغالق) الخشب، ومخازن السكك الحديدية وطريق الإسكندرية كلها إلى (السلخانة) ومدابغ الجلود!
(وفكر) الأستاذ الأكبر المراغي في أن يبني لي داراً تليق بمكانتي، فأمر رجاله أن يرودوا الإسكندرية وضواحيها مكاناً مكاناً فرادوها، وقيل للناس أنهم قد انتخبوا مكاناً فيها، ثم انتهى الأمر بالمشروع إلى هذا الحد فكتبت فيه تقريرات أضيفت إلى سجل التقريرات عن سائر المشروعات!
وليتني بقيت في الإسكندرية حيث كنت، ولكنهم حفظهم الله قد خافوا الغارات، وقذائف الطيارات، ففروا بي من قضاء الله إلى قضاء الله. فهذه هي صدمة الأخيرة التي حدثتك يا أخت عنها، فإذا بدا لك أن تسأليني: كيف جاز لمعهد أزهري أن يفر من الإسكندرية قبل أن تفر مدارسها الابتدائية بل مدارسها الإلزامية ورياض أطفالها، فإني أجيبك على البداهة بأن لنا معاشر الأزهريين فلسفة خاصة في القضاء والقدر والصبر على النوازل والثبات للشدائد؛ فلسفة تقضي علينا أن ننصح الناس بالرضا عن ذلك كله، واحتمال ذلك كله(477/14)
وننسى أنفسنا، وأن نبالغ في نهي الناس عن الجزع والفزع ثم نخالفهم إلى ما ننهاهم عنه! وقد يكون في الأمر سر آخر لا أعلمه ولا أعتقد بأنك حريصة على أن تعلميه، وربما علمه فضيلة شيخي الجليل الناشط الأستاذ الشيخ أبي العيون. وبهذه المناسبة أذكر لك أن هذا الشيخ الناشط لا يباشر عمله في إدارتي الآن منذ عام أو يزيد، لأن الأزهر رأى أن ينتفع بنشاطه في منصب من مناصب التفتيش (في إدارته العامة) فيا لله لمعهد قسمه الثانوي في طنطا وقسمه الابتدائي في دمنهور، وشيخه ومدير أدارته في القاهرة بين المفتشين!
أيتها الأخت السعيدة: هنيئاً لك، وعزاء لي.
أخوك
معهد الإسكندرية
(بطرف) جمعية المحافظة على القرآن الكريم بدمنهور
(طبق الأصل)
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(477/15)
من وثبات العبقرية
نظام الضرائب في الإسلام
وهل روعي فيه الوضوح والملاءمة
للأستاذ علي حسين الوردي
لقد وضع الاقتصادي الأشهر آدم سميث، كما سبق ذكره، أربع قواعد يجب أن تتوفر في الضريبة الصالحة: هي العدل والاقتصاد والوضوح والملاءمة.
أما وقد انتهينا في مقالاتنا السابقة من بحث قاعدتي العدل والاقتصاد في الضريبة، فقد بقي علينا أن نأتي إلى موضوع الوضوح والملاءمة فيها.
قاعدة الوضوح
يريد العلماء بالوضوح في الضريبة أن تكون الضريبة معينة في مقدارها وزمان جبايتها ومكانها، بحيث يكون الناس على علم من ذلك كله فلا يبقى إذن مجال للزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، مما يؤدي إلى إساءة الاستعمال والاختلاس والإرهاق، إذ يغتنم الجباة فرصة جهل الناس فيستخلصون منهم ما لاحق لهم به
والحكومات الحديثة تحرص على اتباع هذه القاعدة كل الحرص، فنجدها تنشر على الناس الميزانية العامة في رأس كل عام، وتحاول بكل وسيلة أن يطلع المكلفون على ما فرض عليهم من ضرائب لكي يعدوا أنفسهم وأعمالهم وأموالهم في سبيل ذلك، ولكي يعلموا بشيء من اليقين ما تزيد به الضريبة على كلفة الإنتاج وما ينبغي لهم من تقرير الأسعار وتهيئة العرض حسب الطلب المقبل.
ولقد قيل بهذه المناسبة إن القديم الخبيث من الضرائب خير من الطيب الجديد. ويريدون بهذا القول: أن الضريبة القديمة، مهما كانت سيئة، فقد عرفها الناس وتعودوا عليها منذ زمن طويل، ثم اطمئن المنتجون إلى آثارها فهم ينتجون بعد أن يضعوا مقدارها في حسابهم واضحاً معيناً. وإذا كان السعر من جرائها مرتفعاً علم المنتجون بما يستطيعون بها من بيع وما يأتيهم بعد ذلك من أرباح. وعلى هذا يكون ميزان العرض والطلب في الميدان الاقتصادي هادئاً، ومحتملاته المقبلة على شيء من الوضوح(477/16)
أما إذا وضعت الحكومة ضريبة جديدة، اختل هذا الميزان طبعاً وأخذ يترجح يمنة ويسرة، لأن المنتجين تفاجئهم الضريبة فيضطرون إلى تحملها في أرباحهم أو إلى زيادة أسعارهم بها، وفي كلا الحالتين يطرأ الارتباك على سوق البضاعة: لقلة في العرض ناتج عن ضآلة الأرباح، أو لقلة في الطلب ناتج عن ارتفاع الأسعار
هذا هو ما دعا الحكومات الرشيدة إلى الإبطاء في تبديل نظام الضرائب الجاري في بلادها وقصر التعديلات فيه على أقل حد ممكن، لأنها تعلم خطر التغييرات المتعاقبة على النظام الاقتصادي المستقر على حالة راهنة
وإذا نظرنا إلى الإسلام نجد ضرائبه على قسط كبير من الوضوح والاستقرار، ولعله قد فاق كل نظام في هذا المضمار، إذ أن رسول الله قد وضع نظاماً ثابتاً للصدقات لا يتغير على مدى الأيام، وهاهو ذا جزءاً من الفقه يتدارسه المسلمون جيلاً بعد جيل، وعندما حدثت في الإسلام أوضاع جديدة احتاجت إلى أنواع أخرى من الضرائب كما حدث في عهد عمر، وضع الفقهاء كما بينا سابقاً ضرائب جديدة أثرت من بعدهم واتبعت اتباعاً طويلاً
وكأن الإسلام قد شعر بما يشعر به علماء اليوم من أن الضريبة القديمة ليست ضريبة فشرع للناس شرعة الضرائب الثابتة، وهي ما كانت الأمم القديمة لا تعرفه ولا تهتم به
فلا ريب في أن الملك في الزمن القديم كان يبغت الناس بين كل آن وآخر بضريبة جديدة، تبعاً لما كان يشعر به من حاجة إلى مال، أو رغبة في ادخار
وبهذه المناسبة نود أن نطلع القارئ على طريقة في الجباية كانت مستعملة في الزمن القديم، ولا تزال بعض الدول اليوم تعتمد عليها أحياناً، تلك هي طريقة التوزيع ويلاحظ فيها أن الحكومة لا تعين نسبة الضريبة في قانون ثابت، حيث تؤخذ من الفرد كل سنة كما تقتضي قاعدة الوضوح إنما تعين الحكومة مقدار حاجتها من المال في رأس السنة المالية ثم تقسم هذا المقدار على الولايات لتؤدي كل منها حصتها المتناسبة من الضريبة العامة. وحاكم الولاية بدوره يفرض على أفراد ولايته ما يشاء من وزيعة، إذ هو مسؤول على وفاء ما تطلب منه الحكومة المركزية بكل وسيلة
حقاً، إن هذه الطريقة سهلة الإدارة واضحة المعالم بالنسبة للحكومة، لكن فيها ظلماً وفيها غموضاً بالنسبة لدافع الضريبة، ذلك لأنه لا يعرف مقدار الوزيعة التي تؤخذ منه كل سنة،(477/17)
فهي تختلف عاماً بعد عام
فإذا كانت حاجة الحكومة كبيرة في إحدى السنين، أرهق الفرد في دفع حصته من ذلك من غير اهتمام كبير في ما ينتج الفرد أو يستطيع؛ ولذلك يبقى حائراً في كل حين، لا يدري مقدار الوزيعة التي ستفرض عليه، ولا يقدر إذن أن يتضح أثرها الاقتصادي في تكاليفه المقبلة وأسعاره
أما الإسلام، فلا نعلم أنه لجأ مرة إلى مثل هذه الطريقة، وكل الذي نعرفه في هذا الموضوع، هو أنه كان يوصي عمال خراجه وصدقاته دائماً بالرفق والعدل من غير اكتراث بالمقدار الذي يستحصلونه بعد ذلك. وقد قال أحد العمال لعلي بن أبي طالب عندما أوصاه بالرفق: يا أمير المؤمنين، إذن أرجع إليك كما ذهبت من عندك (يعني من غير جباية)؛ فأجابه علي: وإن رجعت كما ذهبت. . . ويحك! إنَّا أمرنا أن نأخذ منهم العفو (يعني الفضل)
وقاعدة الوضوح هذه تكون واجبة أشد الوجوب عندما تجبى الضريبة بطريق الالتزام، لأن الملتزم الذي يتقبل جباية الضريبة على مقدار معين من المال، يرغب دائماً في أن يستفيد من غموض الضريبة، أو جهل الناس بها، وهو قد يتوخى تعمية الأمر ليتسع له مجال ابتزاز المال منهم تحت ستار من القانون!
وفي الحقيقة أن الحكومة مهما حاولت توضيح الضريبة للناس، فلا بد أن يبقى ثمة كثير من البلهاء الجاهلين
وهذه السيئة هي التي جعلت الحكومات الحديثة تتجنب - جهد الإمكان - منح الجباية إلى الملتزمين
هذا، والالتزام - فضلاً عن ذلك - مخالف لقاعدة الاقتصاد في الضريبة:
فلقد قلنا فيما مضى: إن الفرق بين ما يخرج من جيوب الدافعين، وما يدخل إلى خزينة الدولة، يجب أن يكون أقل ما يمكن، لكي يتوفر في الضريبة عنصر الاقتصاد
وفي جباية الضريبة عن طريق الالتزام، يحاول الملتزم أن يجبي لنفسه أكبر مقدار ممكن، لكي يوفر لجيبه الفرق العظيم بين ما يؤدى للحكومة وما يجبى من الناس، ونجده لذلك يعذب الناس باسم الحكومة ويرهقهم إرهاقاً(477/18)
وقد تضحك يا سيدي القارئ إذا علمت بما صنع عبد الله ابن العباس برجل جاء إليه فقال: أتقبّل منك الأُبُله بمائة ألف. فضربه ابن عباس مائة وصلبه حياً
من هذا نعلم إن الإسلام كان يبغض الالتزام كل البغض، ويحرمه كل التحريم. وإليك ما قال أبو يوسف في هذا الشأن يوصي به الخليفة هرون:
(ورأيت ألا تقبل شيئاً من السواد ولا غير السواد من البلاد فإن المتقبل (الملتزم) إذا كان في قبالته فضل عن الخراج عسف أهل الخراج وحمل عليهم ما لا يجب عليهم. وظلمهم وأخذهم بما يجحف بهم ليسلم مما دخل فيه. وفي ذلك وأمثاله خراب البلاد وهلاك الرعية. والمتقبل لا يبالي بهلاكهم بصلاح أمره في قبالته. ولعله أن يستفضل بعد ما يتقبل به فضلاً كثيراً، وليس يمكنه ذلك إلا بشدة منه على الرعية، وضرب لهم شديد، وإقامته لهم في الشمس، وتعليق الحجارة في الأعناق، وعذاب عظيم ينال أهل الخراج بما ليس يجب عليهم من الفساد الذي نهى الله عنه. إنما أمر الله أن يؤخذ منهم العفو، وليس يحل أن يكلفوا فوق طاقتهم. . .)
قاعدة الملاءمة
ويسميها بعض المؤلفين قاعدة الرفق والسهولة. يقول فيها آدم سميث: تجب جباية الضريبة في الزمان والمكان وبالطرق الأكثر ملاءمة للمكلف
وهذه القاعدة لم يكن معنياً بها كثيراً لدى الأمم القديمة، ذلك لأن علاقة المصلحة بين الحكومة والفرد لم تكن متبادلة
أما الحكومة الحديثة فقد بدأت تشعر بأهميتها في حياة الأمة، وبأثرها في الإنتاج العام. واليوم ينصح علماء المالية بأن الجباة يجب أن يذهبوا بأنفسهم إلى حيث يجبون الضريبة في الأماكن التي يختارها المكلف، وليس بجائز أن يتخذوا لهم المكان المطمئن ويأمرون المكلف بجلب الأموال إليهم وهم ناعمون. . .
والإسلام قد نظر في الأمر نفس هذه النظرة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا على مياههم وبأفنيتهم)
يقول الإمام القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 هجرية في شرح ذلك: (. . . لا ينبغي(477/19)
للمصدق (الجابي) أن يقيم بموضع ثم يرسل إلى أهل المياه ليجلبوا إليه مواشيهم فيصدقها، ولكن ليأتهم على مياههم حتى يصدقها هناك، وهو تأويل قوله على مياههم وبأفنيتهم)
أما وقت الجباية فيجب أن يكون في الحين الذي يستسهل فيه المكلف دفع الضريبة أو عندما تتوفر لديه النقود بعد حصاد زرعه أو بيع بضاعته
سأل عمر واليه على حمص سعيد بن عامر بن حذيم: ما لك تبطئ بالخراج؟ فأجابه أمرتنا ألا نزيد الفلاحين على أربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكنا نؤخرهم إلى غلاتهم. فقال عمر: لا عزلتك ما حييت
قال الإمام أبو عبيد القاسم: (لم يأت عن رسول الله أنه وقت للزكاة يوماً من الزمان معلوماً، إنما أوجبها في كل عام مرة. وذلك أن الناس تختلف عليهم استفادة المال، فيفيد الرجل نصاب المال في هذا الشهر، ويملكه الآخر في الشهر الثاني، ويكون للثالث في الشهر الذي بعدهما. ثم كذلك شهور السنة كلها. وإنما تجب على كل واحد منهم الزكاة في مثل الشهر الذي استفاده فيه من قابل. فاختلفت أوقاتهم في محل الزكاة عليهم لاختلاف أهل الملك. فكيف يجوز أن يكون للزكاة يوم معلوم يشترك فيه الناس. . .)
حقاً لقد كان الإسلام رفيقاً بدافعي الضرائب كل الرفق موصياً بهم من أجمل الإيصاء. أنظر إلى علي بن أبي طالب يوصي عامله على مصر في أهل الخراج: (. . . فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو باله أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ئنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم. . .)
تلك تعاليم سامية بلا ريب وهي مطابقة لما تملي قاعدة الرفق والملائمة ولما يلح على إتباعه علم المالية العامة إلحاحاً.
ولا مراء في إن الإسلام قد شرع للناس شريعة الضرائب الصالحة في الزمن الذي أنغمر فيه العالم في دياجير الظلم، وانحطت فيه الروابط الاجتماعية والاقتصادية انحطاطاً عظيماً. وكأن الإسلام قد جاء بتجربة اقتصادية كبرى برهنت للناس بالبرهان الحي على أن العدل(477/20)
أساس الملك حقاً، وإن الرفق أولى بإنماء الجباية من التعسف والتكالب. فقد يأخذنا العجب حين نرى الجباية قد بلغت - على عهد الإسلام - مبلغاً لم يحلم به القياصرة والأكاسرة، وهم الذين كانوا يستنزفون أموال الناس بالباطل، وهم على زعمهم غانمون. بلغت الجباية على عهد المأمون - حسب قائمة أبن خلدون التي أوردها في تاريخه - ما يناهز الأربعمائة مليون درهم عدا الحيوانات والسلع والعروض، وهي أموال طائلة لا يجوز مقارنتها بعملة اليوم لأن الدرهم كان حينذاك ذا قوة شرائية كبرى.
ولا يخفى أن هذا المبلغ كان حصة الخزينة المركزية الخاصة بالخليفة، حيث تأتي إليه خالصة بعد الإنفاق على إدارة الحكومات المحلية وإعانة الفقراء فيها. هي حصة الخليفة وحده يتصرف بها كما يرى في تدبير الشؤون العامة. فيا ليت شعري كم هو مجموع الجباية العامة إذاً قبل الإنفاق!
هذا مع العلم أن أقصى ما وصل إليه مجموع الجباية العامة عند الرومان في عنفوان مجدهم لم يتجاوز الأربعمائة مليون درهم، وهم الذين كانوا في دقة القانون وبراعة الإدارة مشهورين.
أليس في هذا حجة بالغة على أن العدل أساس الملك، وأن الرفق أولى من التعسف في إنماء الجباية
كاظمية - عراق
علي حسين الوردي(477/21)
المساهمة والشركة في مصر
بمناسبة ذكرى وفاة (طلعت حرب)
للأستاذ عبد الله حسين
في يوم الخميس 13 أغسطس أحتفُل بالذكرى الأولى لوفاة الزعيم الاقتصادي الكبير المغفور له محمد طلعت حرب باشا، المؤسس الأول لبنك مصر وشركاته المساهمة المعروفة. ولقد كان مما يتفق وطبائع الأمور، أن يعرض المحتفلون بهذه الذكرى، والمعزون والجماهير التي عرفت (طلعت)، أو استمعت إلى أحاديثه وخطبه، أو وقفت على آثاره وأعماله وتصرفاته، إلى بنك مصر وشركاته، وما يتصل بها من خطط، وما تعرضت له من أزمات؛ وكان من الطبيعي أيضاً أن يكون للفقد - شأن كل عظيم وعصامي ومبرز - الأصدقاء والحساد والأعداء. . . والخصومة للعظيم - وخاصة لمن بلغ منزلة (طلعت) - لا تغض من مكانته، بل لعلها تزيده منزلة، وتُجلَّى على الأيام فضائله وشمائله. ذلك أن النقد وحده هو الذي يستطيع أن يكشف عن اللؤلؤة الصحيحة من دفائن المعادن
لست أريد أن أتناول هنا ترجمة حياة الفقيد، ولا أن أقوم ببحث في شؤون الشركات الوطنية؛ وإنما حسبي أن أعرض لأشياء تحدث بها أناس منذ أعوام ثلاثة، وكان من وراء هذه الأحاديث ذلك القانون الذي صدر في العام الماضي بدعم بنك مصر وتقوية الروابط بينه وبين الحكومة
كانت هذه الأشياء من المسائل التي بالغ حساد (طلعت) وخصومه في الخفض من مكانته، والغض من شأوه، وفاتهم بادئ ذي بدء، أن (طلعت كان رجلاً، وكان مجرباً، وكان بادئاً، وكان بشراً، وكان يعمل في بيئة لم تُتَعهد من قبل. . . كل هذا قمين أن يدعوا إلى شيء من الخطأ والتراخي والتشاؤم. ولقد كنت أشفق من هذا الأشياء، وكنت أخشى أن تعدو من جرائها العوادي على البلاد والمشروعات الوطنية
غير أنني بعد أن هدأت العاصفة، وقضي (طلعت)، راجعت نفسي، وشئت أن أكون في منزلة القاضي، يفصل بالحق، ويورد في حيثيات حكمه الأسباب التي يتألف منها اعتقاده، والمقدمات التي انتهت إلى رأيه
أراد (طلعت - حين فكر وحين مضى يحقق ما فكر فيه - أن يستعين في مشروعه(477/22)
بالعناصر التالية:
1 - (الأعيان): للإفادة من أموالهم في الاكتتاب برأس المال، ثم يجذبهم إلى نقل مودعاتهم من البنوك الأجنبية إلى البنك الوليد
2 - (الحكومة): بوزاراتها ووزرائها وكبار موظفيها. لكي تكون يداً مع المشروع وما تفرع عنه من الشركات، وذلك بأن تودع أموالها البنك، وبأن توصي بتفضيل منتجات شركاته وما إلى ذلك من مزايا
3 - (الصحافة): للدعوة والدعاية والتخفف من المهاجمة أو النقد، إذ أن المشروع جديد ومالي يتأثر بالنقد السريع
4 - بالجمهور - عامة، وخاصة - الطلبة والشباب:
فإذا كان قد حدثت أشياء غير صالحة، فإن منجم ذلك هو العيوب التي نشهدها في تصرفات الأعيان والحكومات والمصالح الأميرية وبعض الصحافة والجمهور. ذلك أن كل عنصر من هذه العناصر، حسب أن له حقاً على طلعت أو على البنك، بأن يترخص وأن يتسامح فيما لا يجوز الترخيص والتسامح فيه. فإذا وقف طلعت موقف الحزم، غضب طلاب المنفعة؛ وإذا تسامح - وهذا ما كان يؤثر طلعت دفعاً للكيد - استتبع هذا ألواناً أخرى من التسامح، بالاستزادة من الإقراض والتراخي في الأداء. والرجل يريد أن يرضي جميع الحكومات خشية أن يقال إنه حزبي. على حين أن مشروعاته مستقلة وواجب أن تكون مستقلة عن الأحزاب السياسية والتجارية والشخصية.
وعندي أنه إذا شئنا أن نتقي ما حدث من الأزمات والأخطاء، أن نمضي قدماً في علاج شئوننا، فنعرف أين يبدأ حقنا وأين ينتهي عند حق غيرنا من بنك أو شركة أو مساهمة أو مصلحة عامة. علينا أن نفرق بين منافعنا الخاصة وبين المصالح العامة. بل علينا أن نعرف كيف نضحي منافعنا الخاصة لنصلح شئوننا العامة. فالمجاملة والتسامح (سياسة معلهش) والتراخي والاستغلال الحقير للنفوذ هذا كله مرجع العيوب في مشروعاتنا ومساهماتنا وشركاتنا. فإن أصلحنا، صلحت أداتنا المالية والاقتصادية، وأدركنا أن الداء فينا وعلاجه بين ظهرانينا، وأنصفنا الموتى من الأحياء
عبد الله حسين(477/23)
نحن في صراع دائم
للأستاذ حسين الظريفي
كان يعتقد في العقل أنه ليس إلا ما تمليه علينا تجارب الحياة؛ فالطفل يولد ولا عقل له، حتى يأخذ عن الوسط ما هو فيه، ويظل رهين شروط حياته الخاصة والعامة بلا حد ولا أمد، ومن شب عن الطوق وتفرد عن المجموع فقد أوتي حظاً كبيراً
تلك كانت نظرة العلم إلى العقل من حيث يظهر ومن حيث يتطور. غير أن فقهاً تمخضت عنه بداية القرن الحديث، نظر إلى هذا العقل الذي يولد بعد الولادة ويظل محدود في نموه وسموه بين المهد واللحد؛ فأحاط به ثم تجاوزه إلى ما وراءه فأيقن أن هناك عقلاً باطناً يكمن وراء عقلنا الظاهر أورثتنا إياه قرون تتصل بأول الخليقة؛ فهو ميراث ماضينا من حيث يبدأ إلى حيث يتصل به حاضرنا الذي نحن فيه، ولا تزيد الأحقاب إلا شداً ومداً
وقد أسفرت بحوث العلم عن إثبات ما لهذا العقل الكامن من الأثر البالغ، في تلوين النزعة والفكرة والإرادة واقتيادها إلى حيث يريد، على غير شعور منا بما نفعل ومالا نفعل
إن موضع القوة في هذا العقل قائم وراء ما له من مظهر الخفاء؛ ففي غفلة عما نعيه ونسترعيه من شئوون عقلنا الشاعر، يقوم العقل الباطن بعمليات التفاعل حتى تنبعث من أعماقه كلمته الآمرة أو الزاجرة فتدين لها الجوارح. ونحن لا نعي ما يدبر ويقرر إلا ذلك الأثر الذي نقوم به، غير شاعرين بالبواعث
إن قوة العقل الباطن آتية مما يبطن في فعله وانفعاله، في ذات نفسه وفيما وراءه من عقل واع تحيط به الظروف والوقائع. فالرغبة فيه خفية يضغط عليها ما تواضع عليه الناس من عرف وتقليد. والحركة فيه قائمة دائمة ولكنها في قعر غير قريب، وما أقول باستحالة الوصول إلى قاعه البعيد. ولكن دون ذلك أهوال
هنالك حيث لا يصل سمع ولا بصر، إلا ما ندر، تزدحم الرغائب وتتصادم، ويعلو بعضها على بعض درجات وطبقات، وكل رغبة منها تريد بلوغ القمة والخروج من الزاوية إلى النافذة، لتلقى النور، وتعرب عن نفسها بأعمال الجوارح؛ ولكنها لا تكاد تصل السلم حتى تجد عليه رقيباً عتيداً يدفع بها إلى الحضيض. وهكذا تبقى الرغائب حية في القبر تتنازع وتتصارع والرقيب يأبى عليها إلا أن تنحدر إلى ما وراء مجرى الشعور، مهما أستحرَّ(477/25)
هناك القتل وطال عليه الأمد. وما ذلك الرقيب إلا الضمير
فالرغبة الجامحة تصدم بقوة الضمير، فيضغط عليها حتى تنحدر إلى قاع النفس وتستقر فيه، غير قانطة من بلوغ منطقة الوعي من العقل وفرض نفسها عليه، وتحريك الجوارح به وفق ما تريد.
وما دامت الرغائب محجوراً عليها في قرارة النفس، فأنها تبقى في نزاع لا يهدأ، تستنفذ فيه ما هي بحاجة أليه مما نملك من طاقة. ونحن إن لم نشعر بجلبة هذا الصراع في داخل النفس فأن تأثرنا به ولا ريب كبير. وقد تبلغ شدة التنازع بين الرغائب إلى حد تبتلع فيه كل نشاطنا، حتى نظهر وكأنا لا نملك شيئاً من قوة الاندفاع إلى العمل وتجللنا مظاهر التردد والخمول.
إن الرغبة المقموعة تريد حرية التصرف فيأبى عليها العرف الاجتماعي إلا أن تقهر، حتى إذا كثرت الرغائب المقهورة واستطال عليها الزمن بلغ التنازع فيما بينها ذروته وأصبحنا ونحن من أنفسنا في ساحة حرب تضيع فيها الجهود سدى. ذلك لأن من طبيعة الرغبة أن تملك حرية الاستمتاع بالإرادة، فإذا هي قهرت وانحدرت إلى ما وراء الشعور، اتخذت لنفسها هناك موقفاً عدائياً لكل رغبة فيه، تليدة أو جديدة؛ حتى إذا ازدادت الرغائب وتمادت على ما هي فيه من تكالب على الظهور، نشأ عندنا ما يعبر عنه بالقلق الداخلي أو النفسي، ونحن في مثل هذه الحالة لا نشعر إلا بذلك الشعور الغامض العميق الذي تسودنا فيه بلبلة الفكر فلا نعرف ما ينبغي أن يدرك أو يترك. وبهذه الحرب الدائرة بين مختلف الرغائب نستهلك الكثير مما نملك من طاقة عصبية وذهنية، فيبدو احتياجنا إلى مثل هذه الطاقة في أعمال وعينا الأخرى، ونظهر وكأنا عاجزين.
إن مجهودنا العصبي محدود بقدر، فإذا نحن لم نحسن التصرف فيه ونضعه في موضعه الذي يجدي ظهر عجزنا عما خلقنا قادرين عليه. وما استنفاد هذا المجهود في صراع الرغائب إلا كذلك الجيش الذي اقتتل أفراده قبل منازلة العدو فأبيد بأيديه، والفارق هنا أن قتال الرغائب لا يزال ولا يفتر وإنما تزيده الأيام حدة وشدة، ويختلف مصير المصاب به باختلاف قوة احتماله لهذا العبء الثقيل.
والرغبة لا تقل مهما استطال زمن جهادها وجلادها في سبيل استعلائها على أخواتها من(477/26)
الرغائب، ولا يدركها الفناء مهما امتد بها عهد المكوث في باطن النفس، حيث لا يصل وعي ولا شعور، وإنما تبقى في القاع تفعل فيما فيه وتنفعل به، حتى تنفجر من النفس فتثور وتظهر بأعراض قد تصل إلى حد الجنون، أو تحتال على الوعي، بالرمز تارة وبالمظهر مرة أخرى، وتخدعه عن نفسه وتظهر فيه
كل أولئك يفصح لنا عن مدى صراعنا، ويبعث فينا الرغبة في الوقوف على تطورات هذا الصراع وما يستخدم فيه من معدات النزال والقتال، ويود كل امرئ لو يعجل ببدء المعركة الفاصلة، وانتصار التفريج فيها على القمع والإرهاب
ونشير إلى أن لنا من صراع الرغائب في عقلنا الواعي مثالاً متناهياً في الصغر قد يفصح - ولو من طرف خفي - عن هول المعارك التي تدور في منطقة العقل غير الواعي، وتلقي خافت النور على ما لها من مركز ثقل فيما ندرك وما نترك. وفي الواقع أن الرغائب المتناقضة لا يندر وجودها في ساحة العقل الشاعر، فقد تتنازعنا الرغبة في الراحة وفي الاستمرار على المطالعة، ونقف لحظة قد تطول وقد تقصر بين هاتين الرغبتين حتى تتغلب الواحدة على الأخرى فنجيب تلك دون هذه؛ غير أن الشأن في صراع العقل الباطن يصل إلى مدى يضيق عن تصوره خيال الشاعر العبقري؛ ونحن بعد ذلك لا ندري من أمره شيئاً إلا من أوتي حظاً غير قليل من علم النفس الحديث
حسين الظريفي(477/27)
كتاب الإمتاع والمؤانسة
حول نقد الأب أنستاس الكرملي
للأستاذ محمود البشبيشي
قرأت ما كتبه العلامة الأب أنستاس في (الرسالة) الغراء ناقداً طبعة كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وقد دفعني حب الإنصاف والغيرة على الحق والرغبة في تمحيص المسائل اللغوية إلى كتابة هذه الكلمات مخالفاً فيها الأب أنستاس في بعض ما أورده من النقدات؛ ويقيني أنه لا يضيق صدراً بها، فهو من رجال البحث الذين لا يبغون من وراء بحثهم إلا الحقيقة وحدها:
1 - رسم الحروف
خطَّأ الأب أنستاس كتابة (رءوساً. يبدءوا. مشئوم) بصورتها الحاضرة، ورأى أن الصواب أن تكتب هكذا: (رؤوساً - يبدأوا - مشؤوم) والقاعدة المأثورة تنص على أن (كل همزة بعدها حرف مدّ من جنس حركتها ترسم مفردة كما في (رءوس ويبدءوا) أو على نبرة إذا لم يمكن فصل ما بعدها عما قبلها كما في (مشئوم). وهذا ثابت في كتب الإملاء (رسم الحروف)، وقد يكون فيها رأي آخر، ولكن صحة رسمها على الصورة التي خطأها أمر لا شك فيه
2 - اللغة
خطَّأ قولهم (نعم وكرامة) ورأى أن الصواب أن يقال: (حباً وكرامة) والعبارتان صحيحتان، ولكن الجهة منفكة كما يقولون؛ فقد ورد في المحيط (افعلُ هذا وكرامةً لك)، وفي الأساس كذلك على معنى (وأكرمك إكراماً) فالكرامة هنا مصدر، وفي قولهم (حباً وكرامة) أسم ذات؛ فكل منهما في موضعه صحيحة
3 - الصرف:
خطَّأ (المسكَن) بفتح الكاف ورأى أن الصواب الكسر مع أن القياس الفتح والمحيط والمصباح ينصان على جواز الفتح والكسر معاً. وخطَّأ ضبط الدال الأولى من (جُددٍ) جمع جديد بالفتح والقياس يساعده ولكن ورد في المصباح ص959 الطبعة السادسة لسنة 1925(477/28)
بالمطبعة الأميرية بالقاهرة قوله: (بعض بني تميم يخفف الجمع في نحو سُرُر وذُلُل بفتح العين (الحرف الثاني) وَطَرَدَ بعض الأئمة ذلك في الصفات فيقال: (ثياب جُدَد). ولا أدعى أن الفتح كثير، ولكني أراه وجهاً أقره بعض الأئمة للتخفيف ونطق به من يوثق بعربيتهم فالتخطئة المطلقة هي محل الخلاف
4 - الرواية
خطأ رواية بعض أبيات لأعشى باهلة في رثاء أخيه المنتشر فقال ما معناه: الصواب أن يقال: (أحوى نوءُها المطر) بدل (أخطأ نوءَها المطر) وأن يقال: (لا يضعف الأمر) بدل (لا يصعب الأمر. . .) ولتمام الإيضاح نورد البيتين كما أوردهما الشيخ حمزة فتح الله في المواهب الفتحية (الجزء الثاني) ونصهما:
ينعى أمراً لا تغيب الحيَّ جفنته ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر
لا يُصِعب الأمرَ إلا ريث يركبه ... وكل أمر سوى الفحشاء يأتمر
وظاهر من سياق الكلام أن رواية المواهب صحيحة وقد أخذ بها الناشران وإن المعنى لا غبار عليه؛ وإذا فلا معنى لهذه التخطئة
5 - النمو
لا يزال الأب أنستاس مصمماً على وجوب جمع (أفعل وفعلاء) إذا كانا وصفين على (فُعْل) ولهذا خطأ قول الناشرين (حجارة ملساء) وأوجب أن يقال (حجارة مُلس). ولنا أن نطلب إلى حضرته نشر خلاصة رأيه الذي أوده في (مجلة المجمع العربي) ليمكن أن يبحث في روية. ونحن مع تسليمنا بأن هاتين الصيغتين لم تردا في الفصيح إلا مجموعتين على (فُعْل) نستطيع أن نحكم بجواز استعمال الوصف بهما مفرداً قياساً على قولهم: (إن الجمع بمعنى الجماعة فيجوز وصفه بالمفرد) ولذلك شواهد لا تحصى، والأصل عدم المنع إلا بنص قاطع؛ فهل عند الأب أنستاس ذلك النص؟
إني لأذكر ما دار بينه وبين الدكتور زكي مبارك حول هذا الموضوع في مجلة (أبولو) وأعلم رأي الأستاذ الجليل الشيخ عبد القادر المغربي في تخريج عبارة أبي العباس التي وردت في (الكامل) وتمسك بها الأب أنستاس، ولكني أرجو أن يزيد الرأي إيضاحاً،(477/29)
والحقيقة بنت البحث.
وخطأ الأب أنستاس هذه العبارة من الأستقُصات الأربع جارياً على أن (الاستقصى) مذكر فيجب تأنيث العدد بالتاء خضوعاً للقاعدة المشهورة (تذكير العدد مع المؤنث وتأنيثه مع المذكر). وهنا أكتفي بإيراد نص عبارة توارد عليها (الصبان والخضري) في باب العدد وهي:
(محل وجوب هذه القاعدة إذا ذكر المعدود بعد أسم العدد، فلو قُدمّ وجعل اسم العدد صفة له جاز إجراؤها وتركها كما لو حذف. تقول مسائل تسع ورجال تسعة وبالعكس كما نقله النَّووي عن النحاه)، ثم يقول الشيخان فاحفظها فإنها عزيزة النقل
وبعد فإني من المقربين للأب أنستاس بسعة العلم وغزارة الفضل.
(المنصورة)
محمود البشبيشي(477/30)
عدنا. . . والتقينا
للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد
التقينا!
والتقينا
عجباً كيف صحونا ذات يوم فالتقينا
بعد ما فرّق قطران وجيشان يدينا!
فتصافحنا بجسمينا وعدنا فالتقينا
بعد عصر
أيّ عصر
والنوى تجري وسر الحب في الأكوان يجري
ثم نادانا تعالوا فاهبطوها أرض مصر
قُضى الأمر كما شاء، فعدنا والتقينا
كم بكيتِ؟
واشتكيتِ
ثم أُلهمتِ على الغيب فأصغينا وقلت:
قلت في السابع والعاشر من شهر سيأتي
هاهنا سوف تراني، فرأينا والتقينا!
يوم ذكرى
هو أحرى
بالتقاء كلما دار به الحول وأسرى
في سماء تعبر الشعرى وتدني كل شعرَي
كيف يلقانا وحيدين غدٌ فيه التقينا
قبل عامٍ
ثم عام
كان يومٌ، أيّ يوم، في صفاء وابتسام(477/31)
يوم لاقى الحبُّ لحظينا على عهد الدوام
فتعاهدنا وقلنا: كلما عاد التقينا
وتدانى. . .
وكلانا
زائغ الطرف يناجي الأفق قلباً ولساناً
ثم ماذا؟ ثم كنْ يا بُعْدُ لي قرباً، فكانا!
واستعان الحب بالداء حليفاً، فالتقينا
كم غرام
وسقام
عرفا الحلف على غير سلام ووئام
فإذا ما اجتمعا فانتزعاني من مقامي
فبحسبي منهما أناَ شكونا فالتقينا
يا فتاتي
يا حياتي
لا تُراعى بعد هذا من فراق أو فوات
قَدَر الله كفيلٌ لك في ماض وآت
كلما فرّق شملنا دعانا فالتقينا. . .!
عباس محمود العقاد(477/32)
البريد الأدبي
الأب أنستاس ماري في عيد ميلاده
احتفل الشيخ الجليل الأب أنستاس ماري الكرملي في 5 آب بعيد ميلاده السادس والسبعين، منزوياً في صومعته الهادئة، منصوفاً إلى العمل الذي وقف عليه حياته
إن سيرة الأب الكرملي مثال حي للفكرة التي تتسلط على ذهن الإنسان فتعلق بشغاف قلبه، وتغدو جزءاً من أجزاء نفسه؛ وأية فكرة هذه التي ملكت لب الأب وهيمنت على جوارحه منذ حداثة عهده؟
هي اللغة العربية، وأكبِرْ بها فكرةً ينزع إليها العقل، وتروَى عنها النفس، تراءت له وهو فتى لم يكد يبلغ أشده، فبهره منها الحسن والسناء، وقطع لها راضياً عهد المودة والوفاء. وهاهو ذا بعد ستين سنة أو تزيد لا يزال وفيّاً بالعهد، متحمساً للغة الضاد حماسة الشباب الفوَّار، مخلصاً لها إخلاص الشيخوخة المحنكة الحكيمة
كانت اللغة العربية مذ وجدت - ولن تزال - وسيلة للخطاب والتفاهم، تحمل الأفكار من ذهن إلى ذهن، وتنقل الأخبار من جيل إلى جيل، حتى قرَّبت بين الناس، ووصلت بين الأزمنة الغابرة والحاضرة. وإذ أصبحت بعد تهذيب أطرافها وتنميق أسبابها أداة الآداب الرفيعة، لم تخرج عن كونها وسيلة لا غناءَ فيها إلا بما اتخذت له من غاية الإفصاح والتبيان. لكن لكلماتها وتراكيبها - مع ذلك - جِرْساً في الأذن، ورسماً على القرطاس حبباها أحياناً إلى النفوس، وقرباها من الأذهان بصرف النظر عن مدلولها ومؤداها
ولقد أشار إلى ذلك أناتول فرانس في كتابه: (الحياة الأدبية) عند الكلام على معجم جديد ظهر في اللغة الفرنسية، فقال إن بودلير كان يقرأ معجمات اللغة، ويبتهج بقراءتها، وأن تئوفيل غوتييه كان مولعاً بالكلمات يحبها حباً جماً، وأن جوزه ماريادي هريديا كان يجهر بان مطالعة المعجم تستشيره وتدخل على نفسه من اللذة والسرور ما لا تدخله قراءة رواية (الفرسان الثلاثة). وأضاف أناتول فرانس قائلاً بأسلوبه الساحر: (أما أنا فلا أجد عادة للكلمات معنى يفوق المعنى الذي تجعله لها المصطلحات، فقد كنت في أغلب الأوقات أهيم في معاجم كبيرة، كأنها الرياض الملتفة. وسبب ذلك أني أرى أن الألفاظ إنما هي صور، وما المعجم اللغوي سوى عالم قد رتب بحسب ترتيب حروف الهجاء. وإذا نظرنا إلى(477/33)
الأمور نظرة صادقة فإننا نجد أن معجم اللغة إنما هو الكتاب الذي لا يفوقه كتاب، فإنه يشتمل على التصانيف بأجمعها، فما عليك إلا أن تستدرجها منه. . . وإني لأشعر في قلبي بحنوّ عظيم إزاء كل كلمات اللغة. إني اشعر برأفة كبيرة أمام طائفة التعابير البسيطة والفخمة. إني أحبها كلها، فهي تستميلني وتستفزني، وإني لأمس الكتاب الذي يضمها مساً شديداً ينم على مبلغ تأثري وارتياحي)
غير أن هذه الوسيلة التي يستعملها الناس في خطابهم، ويستعين بها الأدباء في أداء رسالتهم، قد أصبحت غاية في حد ذاتها للعلماء الذين انقطعوا إلى دراستها، ووقفوا حياتهم على استجلاء غوامضها.
فلا عجب أن نهج لغوينا العربي نهج من سبقه من علماء اللغة الأعلام، من أبي منصور الأزهري صاحب التهذيب، وأبي نصر الجوهري صاحب الصحاح، ومجد الدين الفيروزابادي صاحب القاموس، إلى البستاني، والشدياق، والشرتوني، وسواهم من المحدثين، وأن ترسم خطى من سلف من أئمة التدقيق والتحقيق من أمثال جونسن ووبستر، وأميل لِتْره، فاتخذ من اللغة غاية ما بعدها غاية، يكب على نقد مفرداتها نقد الصيرفي
وما أشبه لغوينا من بعض الوجوه بزميله الإنجليزي ضموئيل جونسن الذي سبقه بنيف وخمسين ومائة سنة! فغيرة الأب على اللغة العربية تشبه غيرة جونسن على لغته الإنجليزية، وأسلوب الأب المتين اللاذع يعدل أسلوب جونسن (وأن يكن هذا الإنجليزي الصميم لم يرض قط أن ينزل إلى ميدان المساجلات والمناظرات بالرغم عن الحملات التي كثيراً ما حملت عليه.) ومجلس الأب شبيه بالمنتدى الأدبي الذي أنشأه الدكتور جونسن وصحبه وحضره مؤرخه بُوزْوِل، فسجل مباحثاته ومداولاته.
ومقام لغوينا العراقي بين أقطاب العربية معروف مرموق، وجهاده في سبيل الفصحى مرئي مسموع، ورأيه في التمسك بأهدابها مقبول متبوع. ولنا عليه أن يكلل مساعيه الموفقة في خدمة اللغة الشريفة بإخراج معجمه الكبير الذي وسمه (بالمساعد)، فيتفرغ لإنجازه وتنقيحه وتبيضه، فهو عصارة سعيه وخلاصة جهده.
(بغداد)
مير بصري(477/34)
(سعد زغلول من أقضيته)
لم يكن الأستاذ عبده حسن الزيات ينتظر أن أكتب كلمة عن كتابه الجديد (سعد زغلول من أقضيته)، لأنه يعرف أني فرطت في التنويه بمؤلفاته وأبحاثه التي ظهرت من قبل، وإن كان يعرف مع ذلك أن ثقتي بفضله وكفايته لا تحتاج إلى دليل
الكتاب يُعرَف من عنوانه، كما يقال، وعنوان هذا الكتاب غاية في الدقة والتحديد؛ ومن غريب ما وقع لهذا العنوان أن الخطاط الذي كتبه - وهو حسني - قد استطاع أن يبرزه في أبهى حلة من حلل الجمال، مع أنه يقع في أربع كلمات يصعب الربط بينهما برباط الانسجام والاتساق؛ وما اذكر أني رأيت الكتاب معروضاً في أية مكتبة، إلا وقفت أمتع ذوقي بخط العنوان. فإلى (حسني) الخطاط تحية خالصة لا يشوبها غير الحرص على إعزاز الفن الجميل
ثم أتحدث عن الكتاب بإيجاز، فأذكر أنه من أقوى الشواهد على حصافة المؤلف، وعلى مبلغ فهمه للدراسات الجدية، وعلى أنه جدير بثقة الذين كرَّموه عند ظهور هذا الكتاب النفيس
وأذكر أيضاً أنني ما تحدثت عن الأستاذ عبده حسن الزيات إلا وصفته بصدق الوطنية، فهو عندي من الشبان النوادر الذين يفهمون الوطنية على وجهها السليم، وقد جاء كتابه تأييداً لهذا الوصف: فهو خدمة صادقة لمصر، ممثلة في إبراز جوانب من الفقه والعدل عند أفراد من رجال القضاء، على رأسهم (سعد)، وهذه الخدمة تؤكد ما أشرنا إليه غير مرة من أن رجال القانون في مصر جعلوا لمصر المقام الأول بين الأمم الإسلامية في شرح القوانين باللغة العربية؛ ولو أن الأقدار كانت بخلت بأن يظفر (سعد زغلول) بذلك المجد الضخم، المجد الوطني والسياسي، ثم جاء كتاب الزيات يحدد نفسيته وعقليته من أقضيته، لكان كافياً في جعل (سعد) من أعاظم الرجال
هذا الكتاب جيد جداً، فليس من الإسراف أن نرجو عميد كلية الحقوق أن يؤلف لجنة تنظر فيه، تمهيداً لمنح المؤلف درجة جامعية، وإغراءٍ لأمثاله من الشبان بالتعمق والاستقصاء
وإذا كانت (ذكرى سعد) هي التي حدت المؤلف في بعض السنين الماضية على التفكير في(477/35)
موضوع كتابه الجليل، فأنا أرجو أن تكون كلمتي عن كتابه فنّاً من الاحتفال بذكرى (سعد)، سعد القاضي على أعدل ما تكون فكرة القضاء
فإن لم يكن بدُّ من النص على السرّ في التوفيق الذي يحالف الأستاذ عبده حسن الزيات، فأنا أرجح أنه يرجع إلى البر بالوالدين، كتب الله له دوام التوفيق. . . والسلام
زكي مبارك
تصحيح
نشرت (الرسالة) في العدد (475) كلمة للأستاذ الفاضل حسين الظريفي عن بيت حافظ:
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ... في حب مصر كثيرة العشاق
جاء فيها (على أن في البيت غلطة نحوية باستعمال لفظة (كثيرة) فهي إن نصبت على الحالية لم يستقم المعنى، لأن كثرة عشاق مصر لا يكون حالاً من المكابدة، وإن جرت على الصفة احتاجت إلى التحلية بأل المعرفة، وبذلك ينكسر الوزن، وعليه يكون من الضرورة استبدال لفظة (الجملة) بلفظة (كثيرة) ليستقيم الوزن والمعنى معاً) ا. هـ
أقول: وهذه غفلة عجيبة فإن (كثيرة) تصلح أن تكون حالاً وأن تكون صفة، فإذا كانت حالاً فهي حال من مصر، والعامل فيها ليس يكابد كما توهم الكاتب؛ بل هو لفظ (حب) المضاف؛ والمعنى يكابد العشاق في حب مصر حال كونها كثيرة العشاق أي حبهم لها في هذه الحال
وعلى أنها صفة تجري على الرأي القائل إن إضافة الصفة المشبهة محضة أي إضافة معرفة، وعلى ذلك فكثيرة معرفة
علي محمد حسن
في الشعر التمثيلي
كتب الأستاذ البشبيشي في العدد 473 من الرسالة يقول: (فقد رأيت أن الشاعر البدوي الجليل عبد المطلب كان قد عالج لرواية الشعرية علاجاً استكمل شرائط الفن واستوفى أوصاف الحيوية التي طالعتنا من فنون أمير الشعراء. . . فقد ألف عبد المطلب عدة روايات شعرية تمثيلية. . . وبذلك ينفرد وحده بفضل السبق في هذه الناحية الخطيرة من(477/36)
الفن الأدبي، فقد افترع هذا اللون من الشعر الروائي افتراعاً) وكل ذلك لم يكن؛ فعبد المطلب وإن عالج الشعر التمثيلي ومشى فيه خطوات لا تحمد ولا تذم، لم يكن السابق ولا المفترع، وإن كان له فضل الاستجابة السريعة لتلك الموجة الجديدة بين شطآن أدبنا العربي الحديث؛ وإنما السابق إلى ذلك؛ الشاعر خليل اليازجي كما يحدثنا أستاذنا المرحوم محمود مصطفى في الجزء الثالث من أدبه العربي حيث يقول ص 413 (وعلى ذكر روايات شوقي التمثيلية نذكر أن أول من حاول جعل الرواية العربية كلها شعراً هو المرحوم الشيخ خليل اليازجي في رواية (المروءة والوفاء) وقد مثلت في الشام، ويذكر المرحوم جورجي زيدان أنه شاهدها في بيروت 1878م) ولا شك أن حادثة كهذه بلقاء في الأدب قد وصلت إلى سمع الشيخ عبد المطلب، وعلى فرض أنها لم تصل إلى سمعه فقد ملأ الشعر التمثيلي في القرن التاسع عشر أرجاء أوربا، هذه واحدة؛ أما الثانية فعبد المطلب على فضله لم يستكمل شرائط الحيوية التي طالعتنا من فنون أمير الشعراء. فهذا القول أقرب إلى الغلو منه إلى شيء آخر؛ فشعر عبد المطلب في هذا الباب لا يصح أن يذكر بجانب شوقي وفحولته. فهما وإن اشتركا في الجنس فقد اختلفا في النوع أيما اختلاف، وإنك لن تستطيع أن تتم قراءة تمثيلية لعبد المطلب إلا بعد حمل على النفس وإعنات لها وإجهاد. حاشا شوقي فإنه يطير بك فلا تشعر أن لعقلك أو لقلبك منازعة معه، وإنما هي الفحولة الشعرية تفرض عليك أن تطير معها حيثما تطير
عبد الرحمن عيسى
خريج كلية اللغة العربية
من نوادر الخواطر
كتب (قاف) في العدد 188 من الثقافة تحت عنوان (شخصية العامل وعمله) ما يلي:
تعودنا منذ قريب أن نقول كلما عرضنا للحديث عن شخص من رجالنا العامين، وحاولنا الموازنة بين عمله وبعض شئونه الخاصة - تعودنا أن نقول معتذرين من بعض سلوكه (هذه مسائل شخصية)
وهو يضرب لذلك الأمثلة ثم يقول: (مستحيل أن يكون الرجل رجلين: رجلاً في الشارع(477/37)
والبيت، ورجلاً في الديوان. إن الرجل الذي هنا هو الرجل الذي هناك وإن اختلف الزي والشارة.
فهل يعلم (قاف) أن هذه الفكرة ذاتها قد وردت في مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف تحت عنوان (مقتول يبكي على قاتله) في العدد 371 من (الرسالة) الصادر في 12 أغسطس سنة 1940 حيث قال الأستاذ:
إن هذا التفريق بين السلوك السياسي والسلوك الروحي قد صار أمره عجباً من أعاجيب الحياة الأوربية! وقد بات خطراً على الحياة الإنسانية الشخصية، لأنه تسرب إلى موازين الحكم على الأفراد، فهم يحترمون الذكي ويقدرونه ولو كان شيطاناً شريراً مفسداً ويقولون هناك حياة خاصة يحل للإنسان فيها ما يحرم عليه في الحياة العامة حتى تعددت الشخصيات. ثم يقول بعد ذلك: هذا كذب وتدليس على الطبيعة كما أرادهما الله فاحذروه. (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) لي آخر المقالة
فهل يرى (قاف) أن هذا من توافق الخاطر؟
أحمد بدران(477/38)
العدد 478 - بتاريخ: 31 - 08 - 1942(/)
الحديث ذو شجون
عواطف عربية
للدكتور زكي مبارك
في خطاب من حضرة الأستاذ سعيد العيسى إشارة صريحة إلى أننا لا نهتم بالحديث عن الحياة الأدبية في (فلسطين)، وفي خطاب من حضرة الأستاذ رشاد المغربي عبارة تقول: إن مجلة (الرسالة) لم تنوه بروايته الجميلة (خطيئة الشيخ)؛ وفي مقال حضرة الأستاذ عباس العقاد أن جماعة من اللوبيين يأخذون على مصر سكوتها عن الأدب في وطنهم المحبوب.
وهذا العتاب ليس بجديد، وهو يعاد من يوم إلى يوم، وما دخل أديبٌ مصريٌ بلداً عربياً إلا سمع ألواناً من هذا العتاب، فهل أستطيع الجهر بكلمة الحق مرة واحدة، ليعرف الإخوان هنالك أن عليهم تبعات فيما يُنسب إلينا من تقصير وإهمال؟
ولشرح هذه الكلمة أقول:
أعلنت مجلة (الرسالة) أنها ستصدر أعداداً خاصة بالبلاد الأدبي لتلك الأعداد من أقلام كبار الباحثين بتلك البلاد، وأنها ستبدأ بالعراق.
فما الذي يُنتَظر لتحقيق هذا المشروع النافع؟
أتستطيع (الرسالة) إيفاد مندوبين إلى كل بلد لتحقق هذا الغرض على أكمل الوجوه؟
الجواب عند (خزينة الرسالة) إن كانت تستطيع، ولعلها تستطيع لأنوب عنها في زيارة بغداد أو دمشق أو بيروت بضعة أسابيع!
فلم يبق إلا أن نقترح خطة سديدة لتنفيذ الاقتراح بلا عناء.
والخطة سهلة جداً، فماذا نصنع إذا أردنا إصدار عدد خاص بالسودان؟
يقوم (نادي الخرّيجين) بواجبه: فيجمع الموادُ بعناية رجاله، ثم يرسلها إلى مجلة (الرسالة) قبل انعقاد مؤتمرهم السنوي بأكثر من أسبوعين؛ وعندئذ يسر مجلة (الرسالة) أن تشترك اشتراكاً فعلياً في ذلك المهرجان.
وماذا نصنع إذا أردنا إصدار عدد خاص بالعراق؟
يقوم (نادي القلم العراقي) بواجبه: فيجمع الموادُ بعناية رجاله، ثم يرسلها إلى مجلة(478/1)
(الرسالة) في الوقت الذي يريد، فيكون هو المسئول أمام قراء (الرسالة) في (العراق)، وهو بحمل هذه المسئولية خليق.
وفي العدد الخاص بسورية، يقوم رجال (المجمع العلمي) بواجبهم: فيصورون ما في وطنهم من أفكار وآراء وآمال. . .
وفي العدد الخاص بلبنان يُلقَى العبء على كاهل إحدى الجمعيات الأدبية هناك. . . وكذلك يقال في سائر البلاد!
تلك هي الخطة السديدة، ومن توهم أن مجلة (الرسالة) تصدر أعداداً خاصة بلا اطمئنان إلى هيئات تحمل المسئولية، فهو يهيم في بيداء الخيال. . .
وللأستاذ سعيد العيسى أن يتأمل في هذه لكلمة إن كان يجب أن نؤدي خدمة صحيحة لوطنه العزيز فلسطين.
العدد الخاص بالسودان
أنا أرجو من أخي الأستاذ الزيات أن يتفضل فيترك لي حرية التصرف في إعداد العدد الخاص بالسودان، لأستطيع القول بأني صدقت فيما وعدت به إخواني هناك، فإن سمح فأنا أرجو نادي الخريجين أن يشير على أعضائه بدرس الموضوعات الآتية:
1 - تحديد التاريخ الذي أشرق فيه الإسلام بآفاق السودان.
2 - المذاهب الفقهية والصوفية بالسودان.
3 - التيارات الفكرية الحديثة في الحواضر السودانية.
4 - اللهجات العربية في السودان.
5 - قيمة السودان من الوجهة الإقتصادية.
6 - الأساطير السودانية.
7 - منزلة السودان في تاريخ الأدب العربي.
8 - المعاهد المصرية في السودان.
9 - شعراء السودان وكتّابه وخطباؤه في القديم والحديث.
10 - مبلغ انتفاع الطلبة السودانيين بالحياة في المدارس المصرية.
11 - المكتبات العمومية والخصوصية في السودان.(478/2)
12 - الأغاني الشعبية ودلالتها على العواطف السودانية.
13 - تأثير الأدب المصري الحديث في الجيل الجديد بالسودان.
14 - آراء السودانيين في الروابط العربية والإسلامية.
15 - الفكاهة السودانية في الأشعار والأقاصيص.
تلك خمسة عشر موضوعاً تستحق اهتمام نادي الخريجين، وأنا لا أفرض وإنما أقترح، فقد تكون لديهم موضوعات أعظم من هذه الموضوعات، والمهم هو المبادرة إلى تحقيق الاقتراح بإرسال المواد قبل انتهاء الأسبوع الثاني من شهر رمضان.
إن وصلنا إلى إصدار عدد عن السودان بهذا الروح فلن يقول السودان إن مصر تنساه أو تتناساه، ولن يقول أبناؤه عادلين أو ظالمين إن أشقاءهم في مصر لا يحفظون عهد الإخاء.
وإلى الفتيان من أعضاء نادي الخريجين أعهد تحقيق هذا الأمل الجميل.
أراني الله وجوههم بخير وعافية، إنه قريبٌ مجيب.
مطلع قصيدة
كان نقاد الأدب من العرب ينصون على مطالع القصائد، كأن ينوهوا بهذا المطلع:
إنا محيُّوك فاسْلَمْ أيها الطللُ
فهل في مطالع القصائد لهذا العهد ملامح تذكِّر بتلك المعاني الصِّحاح؟
نعم، ثم نعم، فقد نظم الدكتور رشيد كرم قصيدة ليلقيها في المؤتمر الطبي العربي الذي سيُعقَد في بيروت، وكان سيُعقد في هذه الأيام، لو سمحت هذه الأيام!
ابتدأ قصيدته فقال:
متى كانت لنا (سينا) حدودا
وأنا أسأل السؤال نفسه فأقول:
متى كانت لنا (سينا) حدودا
ومتى ترفع الحواجز الجمركية بين الأمم العربية والإسلامية؟
إلى بعض الناس
إن شقاءكم بأنفسكم طال وطال ثم طال، ولن نملك إبراءكم من ذلك الشقاء، لأنه أخطر من أن يطب له أطباء النفوس والقلوب.(478/3)
لن تنفعكم الدسائس في كثير ولا قليل، فقد كانت الدسائس ولن تزال أسلحة الضعفاء.
استعينوا بالقوة مرةً واحدة، وحاربوا الحق بسلاح الظلم، لا بسلاح الإسفاف، فقد يعفو الله عن الظالمين الأقوياء، ولا يعفو عن الآثمين الضعفاء.
لن أفرَّط في تعليمكم أصول الأخلاق، فكونوا ظلامين، ولا تكونوا دساسين، لأن الظلم قوة، والدسيسة ضعف، وباطل الأقوياء أشرف من حق الضعفاء.
وطني وبلادي
إلى الفتييّن العظيمَيْن (م. ن. ج) و (ع. ع)
- وما اكتفيت بالتلميح إلا لأنني لم أستأذنهما في النص على أسمهما بالتصريح - إلى هذين الفتييّن العظيمَيْن أوجه القول:
إن بلادنا لن تُضام أبداً، ولن تكون لغير أهليها، ولو تألبت عليها جيوش البر والبحر والهواء.
بلادنا باقية باقية، في عزة وعافية، ولن تنال منها المطامع الدولية إلا بقدر ما ينال النسيم المعلول من قمم الجبال.
بلادنا طوّقت جميع البلاد بأغلال الديون العقلية والروحية، ولن يتنفس بلدٌ في شرق أو في غرب إلا وهو مدينٌ لمصر بديون ثقال.
لا تنسوا أن بلادكم دانت الفكر والعقل والروح ألوفاً من السنين؛ ولا تنسوا أن أكبر مجد يظفر به الأوربيُّ المثقَّف هو أن يحل رمزاً من رموز آبائكم الأولين.
كان الخط المصري القديم إشارات من ملامح الطير والحيوان، فما تفسير ذلك؟
يقول الجاهلون إنه دليل على الطفولة التاريخية.
وأقول أنه دليل على العبقرية المصرية، لأنه يجعل كل حرف كائناً حياً من طير أو حيوان، والحروف خلائق حية عند من يعقلون.
ثم ماذا؟
ثم أذكر أن بلادنا هي التي صدّت المغول الوافدين من الشرق، وهي التي صدت الصليبيين الوافدين من الغرب، فكنّا الميزان لأبناء ذلك الزمان.
ومن نحن اليوم؟(478/4)
برغم قسوة الظروف قد استطعنا أن نقول نحن، وأن نفي بالعهد؛ لأن مصر لا تكذب ولا تخون.
لن تضام مصر أبداً، لأنها وطن الرجال، ولأنها أول وطن غلب الدهر الخوَّان.
أحبك يا وطني، أحبك يا بلادي، حُّباً لا ينتظر أي جزاء، لأنه أعظم من أي جزاء!
زكي مبارك(478/5)
أطوار الوحدة العربية
الصراع بين العرب والترك
للأستاذ نسيب سعيد
حدثنا في مقالنا الأول عن مراحل الوحدة العربية، وكيف تطورت فكرة العروبة في التاريخ، فبعد أن كانت حلماً ذهبياً جميلاً في مخيلة محمد علي الكبير عزيز مصر خرجت إلى الوجود وأصبحت حقيقة واقعة؛ فالمرحلة الأولى إذن انقضت والوحدة العربية لا تزال حلماً من الأحلام، أما المرحلة الثانية فقد طبعها الجهاد في سبيل تحقيق هذا الحلم بطابعه الخاص. وقد استهل هذا الجهاد العربي المبين بالنضال بين أبناء العروبة الأبرار وبين الأتراك وانتهت هذه المرحلة من سلسلة تاريخ القضية العربية عام 1918 وتشمل حوادث الفترة الممتدة من إعلان الدستور العثماني سنة 1908 حتى دخول الجيش العربي إلى دمشق في أول أكتوبر سنة 1918، وإنشاء الحكومة الفيصلية في ربوع الشام.
ولئن ذهب بعض المؤرخين المعاصرين من الشرقيين والغربيين إلى اعتبار ما حدث في العهد الحميدي التركي من حوادث فردية لا انسجام بينها ولا ارتباط كصدور كتاب أم القرى وطبائع الاستبداد، ونشر كتاب يقظة العرب في آسية التركية بالفرنسية في باريس عام 1905 من مقدمات الحركة العربية وطلائعها، أو إنشاء الجمعية السرية التي أنشئت في بيروت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فالنهضة العربية المادية الحقيقية لم تبدأ إلا بعد إعلان الدستور سنة 1908 وقد قامت على دعامتين جديدتين: حرية الكلام، وحرية الاجتماع، فقد كفلها النظام الحكومي الجديد لسكان تلك المملكة، فانطلقت الألسنة والأقلام، وارتفع الضغط عن الأفكار، وانتشرت العلوم، فساعد هذا الانقلاب وهو خطير الشأن على إيقاظ العرب، فأدركوا أنهم كمية مهملة في العالم، وأن لهم حقوقاً يجب أن ينالوها، وكرامة يجب أن تصان، ومجداً يجب أن يعملوا لإحيائه وتجديده.
وصدرت صحف عربية عديدة في ظل النظام الدستوري الجديد في دمشق وبيروت والقدس وبغداد والبصرة وغيرهما من بلاد العرب، وفي الآستانة نفسها، وإلى هذه الصحف، وبصورة خاصة إلى الصحف العربية التي كانت تصدر في القطر المصري الحبيب، يعود معظم الفضل في تكوين (الرأي العام العربي) وإنشائه، وبث الروح القومية بين طبقاته.(478/6)
ولم يغتفر لها الترك ذنبها يوم نصبوا الميزان في عالية لمحاكمة أحرار العرب، فكان الصحافيون أكثر الطبقات ضحايا، فقد استشهد منهم في هذه المرحلة الكثيرون، وحكم في هذا الدور بالإعدام غيابياً على فريق من رجال الصحافة في مصر؛ ويأتي رجال الجمعيات والأحزاب السياسية بعد الصحافيين. ولئن كان ضحايا هؤلاء أقل من أولئك، فما ذلك إلا لعجز الترك عن اكتشاف أسرار الجمعيات السرية لما تذرع بها رجالها من تكتم شديد خلال التحقيق والمحاكمة. ومن تحصيل الحاصل القول بأن المنتدى الأدبي في الآستانة كان أكثر الجمعيات العربية ضحايا، لأنه كان أشهرها وأهمها، ولأنه كان مقر الدعاية العربية في الآستانة؛ فانتقم الترك من مؤسسيه انتقاماً مريعاً. ويأتي حزب اللامركزية بعد المنتدى الأدبي العربي، فقد فتك الترك بكل ما استطاعوا القبض عليه من رجاله، كما حكموا على المقيمين بمصر كافة بالإعدام. ثم يأتي بعد ذلك عنصر الضباط العرب في الجيش التركي، فكانوا يرسلونهم إلى خطوط النار في ميادين الحرب، وقد استشهد كثيرون منهم على هذا المنوال.
ولا بد لنا من القول بأن (القضية العربية) مرت في هذه المرحلة بثلاثة أدوار:
1 - يبدأ الدور الأول بإعلان الدستور سنة 1908، وينتهي بإعلان الحرب العظمى عام 1914، فقد نهج العرب في خلاله نهج الأمم المناهضة العاملة للحرية والاستقلال، فألفوا الجمعيات السرية، وأصدروا الصحف، ونظموا القصائد الحماسية القومية، وأنشئوا الأحزاب السياسية، وعملوا على التنظيم الداخلي، وانشئوا الروابط بين لجانهم وجمعياتهم وأنديتهم، واستعدوا للعمل الكبير الذي وضع نصب أعينهم القيام به، تحقيقاً لحلم عزيز مصر العظيم محمد علي باشا
ولا يسع الباحث في أعمال هذا الدور إلا الإعجاب بما يشهده من انتظام وتضامن وتعاون بين أبناء العرب في جميع الأقطار والأنحاء
2 - أما الدور الثاني، وهو دور الإرهاب والظلم، أو دور مطاردة رجال (القضية العربية) وأحرار العرب ومفكريهم، فيبدأ من أوائل عام 1915، أي من زمن وصول جمال باشا السفاح إلى دمشق وإصداره أمره بإلغاء كتيبة الضباط العرب الشباب من خريجي المدارس العليا؛ وكانوا يمرنونهم في دمشق ويعدونهم ليكونوا ضباطاً، على أثر ما سمعه من أناشيدهم(478/7)
القومية؛ فأرسلوا إلى ميادين القتال في شتى الجهات، وهلك معظمهم. وينتهي هذا الدور بإعلان الثورة العربية الكبرى رسمياً يوم 10يونيو سنة 1916
على أن أقطاب الاتحاديين قرروا في شهر يناير عام 1914، أي قبل وصول جمال باشا إلى سورية بسنة تقريباً اتخاذ تدابير متعددة للقضاء على الحركة العربية، وتتريك العرب، إلا أن تأثير هذه التدابير ظل محدوداً، لأنها سلبية في طبيعتها لا تتعدى المقاومة الخفية. ولقد تحول الحال حينما أعلنت الحرب العظمى عام 1914، وبسطت الأحكام العسكرية، ونصبت المحاكم العرفية وأوقف البرلمان، ووضعت المراقبة، وعطلت الصحافة، وانطلقت أيدي الاتحاديين في البلاد العربية يفعلون ما يشاءون، لا رقيب ولا حسيب. ويلوح لنا أن اختيار جمال باشا لمنصب القائد العام في بلاد العرب - وهو المعروف بشدة الشكيمة، والميل إلى سفك الدماء - وتحويله إلى سلطة لا حد لها، ليس من قبيل الصدف، بل هو نتيجة خطة أحكم الترك تدبيرها، وأرادوا من ورائها الفتك برجال العرب ومفكريهم وشبابهم الذين أشربوا الروح القومية أملاً بأن يخرجوا منصورين من الحرب الكبرى، وكانت الدلائل تدل في سنيها الأولى على أن النصر سيكون في جانبهم، فينفذون سياسة التتريك، ويقضون على كل نغمة عنصرية، وينشئون إمبراطورية طورانية تحيي مجد جنكيز خان وتيمورلنك، وبقية عهد الذئب الأغبر
لا تلحق تبعة ما جرى في ذلك العهد الدموي جمالاً وحده، بل تشمل أقطاب الاتحاديين الذين كانوا مسيطرين على البلاد العثمانية وفي مقدمتهم أنور باشا وزير الحربية ووكيل القائد العام والدكتاتور الحقيقي؛ فقد كان مصدر كل سلطة في الدولة. وقد استمد نفوذه من سيطرته على الجيش، ولو أراد لوضع حداً لتلك الأعمال، ولكنه تغاضى عنها ومنح جمالاً كل ما طلبه من سلطة، ووضع تحت تصرفه كل ما أراد من قوى. على أن سير الحوادث، وقد جرت على غير ما يشتهونه جعل أنور يعدل عن تلك السياسة فيضيق اختصاص صاحبه ويسلبه ما كان منحه إياه، يؤيد ذلك ما جرى حين النظر في قضية خان الباشا بالشام والحكم على أحرار العرب، فهو لم يجسر على إعداد الذين ألح بإصدار الحكم بإعدامهم بل أرسل الإعلام إلى ديوان التمييز العسكري لفحصه عملاً بالأوامر الجديدة، وقد سلبت منه اختصاصاته فعاد منقوضاً يقول إنه لا وجه لإقامة الدعوى على أحد لأن الجرم(478/8)
الذي حوكموا لأجله لم يدخل في حيز التنفيذ
وينقسم العمل السياسي في خلال هذا الدور إلى ثلاث حلقات:
(ا) فالحلقة الأولى تبدأ من إعلان الحرب العظمى أي من شهر أغسطس عام 1914 حتى شهر أغسطس 1915 وقد انضم العرب في خلال هذه الفترة إلى الدولة قلباً وقالباً وأيدوها رغم ما كان بينهم وبين الاتحاديين، ورغم ظهور دلائل تدل على سوء نية هؤلاء وترقبهم دوائر السوء بالعرب لأنهم أدركوا أن الاحتلال التركي أهون من الاحتلال الأجنبي مهما كان الحال وأقل شراً، ولأنهم اعتقدوا أنهم لا يعدمون وسيلة للتفاهم مع أوليائها حينما تضع الحرب أوزارها، وتنقشع غمامتها. وأطمع هذا العطف الاتحاديين كما غرهم ما كانوا ينعمون به من قوة ومن سلطان عظيم لم ينالوا مثله في غابر أيامهم فقالوا إنها فرصة ثمينة لا يجود الدهر بمثلها، فأقدموا على تصفية حساب الحركة العربية، ونصبوا الميزان في عاليه كما نصبوه من قبل في أشقودرة يوم أرسلوا شوكت طورغود إلى ألبانيا في سنة 1911 للقضاء على الحركة الألبانية القومية فعجلت أعمالهم تلك في إخراجهم من ألبانيا وطردهم من البلقان، كما عجلت حركة عالية على إخراجهم من بلاد العرب وطردهم منها.
ولا يسع المؤرخ النزيه إلا التنويه بإخلاص العرب للدولة في هذه الفترة، وإذا اضطروا إلى الاتصال بأعدائها بعد ذلك وتعاونوا معهم على هدمها أو القضاء عليها، فالذنب ذنب الترك أنفسهم قبل أن يكون ذنب العرب والتبعة لاحقة بهم وحدهم، فلو جزوا العرب على إخلاصهم بإخلاص، وصافحوا اليد الممتدة إليهم، وتغاضوا عن كل حادث في الماضي وهو ما جرى العرف أن يحدث في الشدائد، وأي شدة أعظم من تلك الحرب، لما وقع ما وقع ولما كان ما كان
(ب) وتبدأ الحلقة الثانية بعد إعدام الرعيل الأول من شهداء العرب ومجاهديهم الأبطال، فقد كشر (جمال) السفاح عن أنيابه وتنكر للعرب، ولبس ثوب الأسد بعد ما نزع ثوبه الجميل، وأخذ ينادي بأنه لا بد من عقاب الخونة، والخونة في عرفه واصطلاحه هم أحرار العرب، والناهضون المجاهدون من رجالهم، مع أنه دعا هؤلاء في الخطبة التي خطبها في النادي الشرقي شهر يناير عام 1915 إلى إحياء شهامة العرب، وإعادة مجد العرب. ولا بد لنا من الاعتراف بأن العرب فوجئوا بأعمال جمال السفاح مفاجأة، فتشتت رجال الجمعيات في كل(478/9)
ناحية من أنحاء السلطنة العثمانية بعضهم منفي، وبعضهم سجين، وبعضهم مقتول، وأرسل آخرون إلى ميدان الصراع العالمي وجند آخرون في الجيش، وفر غيرهم. أضف إلى هذا أن الصلة كانت مقطوعة بين الشام وبين العراق والحجاز من أقطار العرب فضلاً عن العالم الخارجي لصعوبة السفر والانتقال في تلك الأيام العصيبة السوداء، ولوجود مراقبة شديدة على المراسلات. والحقيقة أنه لم يبق خارج القفص في تلك الأيام سوى عدد ضئيل جداً كان يقيم في دمشق على حذر ووجل يترقب القبض عليه من ساعة إلى ساعة، ويودع أهله وأسرته عند خروجه من المنزل في الصباح لأنه قد لا يعود إليهم في الظهيرة، وكذلك يودعهم في الأصيل لأنه ما كان واثقاً من الرجوع إليهم في الغسق. فهذه الفئة القليلة كان بقاؤها في الفيحاء بفضل عوامل محلية خاصة؛ فبعضها أقام بضمانة الوالي خليص بك والي الشام كالمرحوم الدكتور شهبندر، وبعضها أقام في جلق لأن الوحدة العسكرية المنسوب إليها كانت تقيم فيها كالدكتور احمد قدري، ويسن الهاشمي وغيرهما، نقول أن هذه الفئة هي التي اتصلت بالأمير فيصل عند مروره من دمشق في غدوه إلى الآستانة ورواحه منها. وهي التي أطلعته على ما يقاسيه العرب من الترك، فنقل شكايتها إلى رجال الدولة، وعمل على تعديل هذه السياسة في دمشق فلم يوفق. وهي التي نفخت فيه روح الثورة، وكان معروفاً في إعلان الحرب العظمى بمصافاة الترك قائلاً بعدم الخروج عليهم مهما كانت الظروف. وهي التي أقنعته بوجوب العمل لإنقاذ العرب من خطر محقق؛ فضم جهوده إلى جهود أخيه الأمير عبد الله، وكان متصلاً بالبريطانيين فتقررت الثورة ووضعت أسسها. ومما لا ريب فيه أنه كان للعامل المحلي والشخصي يد لا تنكر في إعدادها وتكوينها
(ج) وتبدأ الحلقة الثالثة بمؤتمر الطائف في خريف سنة 1915 وقد قرر إعلان الثورة العربية، وإعداد معداتها في الداخل، والاتصال برجال بريطانيا العظمى في الخارج. وقد سارت الأمور على أفضل ما يرام، فأقام الأمير علي في المدينة يستميل القبائل الضاربة في تلك البطاح، وأخذ عليها العهود والمواثيق، كما انصرف الأمير عبد الله من ناحية إلى جمع كلمة قبائل العرب في الطائف وإعدادها لليوم العصيب
أما الأمير فيصل، فكان يقيم في دمشق يفتل خيوط الرأي ليجد مخرجاً يخرجه من معتقله،(478/10)
فقد استبقاه الترك رهينة يهددون بها والده، ويغلون يده عن كل عمل، ولولا تخلصه منهم بكل لباقة وإفلاته من قبضتهم الحديدية لتأخر إعلان الثورة ولسارت الأمور في غير هذا الاتجاه. وامتدت المكاتبات بين الحسين أمير الحجاز يومئذ والإنجليز سنتين وأشهراً، وانجلت عن تلك العهود التي بذلها السر هنري مكماهون للعرب باسم حكومة صاحب الجلالة البريطانية وبالإضافة إليها
(د) ويبدأ الدور الثالث بإعلان الثورة العربية الكبرى رسمياً، ونزول العرب إلى ميدان الصراع والنضال وينتهي بإرسال الحسين أمير الحجاز يومئذ بلاغه الشهير إلى الدول العظمى يوم 30 أغسطس عام 1918 مما سنفصله في حديثنا المقبل فقد ضاق النطاق اليوم، فإلى اللقاء. . .
(دمشق)
نسيب سعيد المحامي(478/11)
مفاوضات الفتح العربي لمصر
للأستاذ السيد يعقوب بكر
(هذا البحث قسمناه قسمين: ففي القسم الأول حققنا هذه
المفاوضات من الوجهة التاريخية ووصلنا إلى التسليم بصحة
وقوع بعضها ونفي وقوع البعض الآخر. وفي القسم الثاني
حاولنا أن نتلمس الروح المسيطرة على طرفي كل مفاوضة
صح عندنا وقوعها)
القسم الأول
(ا) المفاوضة الأولى
1 - ذكرها أبو المحاسن في النجوم الزاهرة (ج1 ص13 - 24ط دار الكتب) نقلاً عن ابن كثير في تاريخه المسمى بالبداية والنهاية. قال: (لما استكمل المسلمون فتح الشام، بعث عمر بن الخطاب عمرو بن العاص إلى مصر. وزعم سيف: أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس، وأردفه بالزبير بن العوام وفي صحبته بُسر بن أبي أرطاة وخارجة بن حذافة وعمير بن وهب الجمحي، فاجتمعوا على باب مصر، فلقيهم أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف أبو مريام في أهل النيات، بعثه المقوقس صاحب الإسكندرية لمنع بلادهم.
فلما تصافوا قال عمرو بن العاص: لا تعجلوا حتى نعذر إليكم. ليبرز إلى أبو مريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد فبرزا إليه، فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا: إن الله بعث محمداً بالحق وأمره به وأمرنا به محمد، وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الأعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة. وقد أعلمنا أننا مفتتحوكم وأوصينا بكم حفظاً لرحمنا منكم، وإن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة؛ ومما عهد إلينا أميرنا: (استوصوا بالقبطيين خيراً) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين(478/12)
خيراً لأن لهم ذمة ورحما
فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، معروفة شريفة كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل منف والملك منهم، فأديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم وأغربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام. مرحباً به وأهلاً وأمناً حتى نرجع إليك.
فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثاً، لتنظرا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجزتكم؛ قالا: زدنا، فزادهم يوماً؛ فقالا: زدنا، فزادهم يوماً؛ فرجعا إلى المقوقس. . .)
فواضح من هذا الكلام أن هذه المفاوضة وقعت عند باب مصر بين عمرو بن العاص من جانب وأبي مريم جاثليق مصر والأسقف أبي مريام من الجانب الآخر
2 - وذكرها ابن الأثير (ج2 ص440 - 441ط ليدن). قال: (فأخذ المسلمون باب اليون وساروا إلى مصر فلقيهم هناك أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف بعثه المقوقس لمنع بلادهم. فلما نزل بهم عمرو قاتلوه فأرسل إليهم لا تعجلونا حتى نعذر إليكم، وليبرز إلى أبو مريم وأبو مريام فكفوا وخرجا إليه فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية وأخبرهما بوصية النبي (ص) بأهل مصر بسبب هاجر أم إسماعيل عليه السلام؛ فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء. آمنا حتى نرجع إليك. فقال عمرو مثلي لا يخدع؛ ولكني أؤجلكما ثلاثاً لتنظرا وأمر بمناهدتهم)
فواضح من هذا أن ابن الأثير متفق مع ابن كثير في مكان المفاوضة وطرفيها
3 - وذكرها ابن خلدون (ج2 ص114 - 115 ط بولاق). قال: (ولما فتح عمر بيت المقدس استأذنه عمرو بن العاص في فتح مصر فأغزاه، ثم اتبعه الزبير ابن العوام، فساروا سنة عشرين أو إحدى وعشرين أو أثنين أو خمس فاقتحموا باب اليون ثم ساروا في قرى الريف إلى مصر. ولقيهم الجاثليق أبو مريم والأسقف قد بعثه المقوقس. وجاء أبو مريم إلى عمرو فعرض الجزية والمنع وأخبره بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم وأجلهم ثلاثاً ورجعوا إلى المقوقس)
فواضح من هذا أن ابن خلدون متفق مع ابن كثير وابن الأثير
4 - وذكرها الطبري (مجلد 5 ص2584 - 2589 ط ليدن). قال: (خرج عمرو بن العاص إلى مصر بعدما رجع عمر إلى المدينة حتى انتهى إلى باب اليون واتبعه الزبير(478/13)
فاجتمعا فلقيهم هنالك أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف في أهل النيات بعثه المقوقس لمنع بلادهم. فلما نزل بهم عمرو قاتلوه فأرسل إليهم: لا تعجلونا لنعذر إليكم وترون رأيكم بعد؛ فكفوا أصحابهم وأرسل إليهم عمرو أتى بارز فليبرز إلى أبو مريم وأبو مريام؛ فأجابوه إلى ذلك وآمن بعضهم بعضاً. فقال لهما عمرو: أنتما رهبا هذه البلدة فاسمعا. . .) ويذكر بقية الحديث بما يوافق ما ذكره ابن كثير تماماً
فواضح من هذا أن الطبري متفق مع المؤرخين الثلاثة في طرفي المفاوضة، ولكنه يختلف عنهما في مكان المفاوضة، فيقول أنها كانت عند باب اليون ويقولون أنها كانت عند مصر.
نترك الآن المؤرخين العرب وننتقل إلى كتاب حنا النقيوسي المؤرخ القبطي المشهور فلا نجد فيه ذكراً لهذه المفاوضة
ويقول الأستاذ بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر) (ص190 من الترجمة العربية) بصدد هذه المفاوضة: (والظاهر أن قصة بعث المقوقس باثنين من الأساقفة وهما أبو مريام أو (أبو مرتام) وأبو مريم لمفاوضة العرب لم تكن سوى قصة بعث بها الوهم. فلم يكن بين الأساقفة أحد بتلك الأسماء، ولعل تلك القصة لم تنشأ إلا من الخطأ العظيم الذي وقع فيه مؤرخو العرب عندما قرءوا أخبار هذه الحوادث، وقد اختلط فيها حوادث التاريخ بالخرافات اختلاطاً فاحشاً، ومسخها الناسخون عند نقلهم منها منذ لم يتحروا فيها الدقة. ولكننا مع ذلك نستطيع أن نقول إنه قد جاءت جماعة عليها أحد الأساقفة وإنهم فاوضوا عمراً في ذلك الوقت)
والأستاذ بتلر يقول هذا القول أثناء حديثه عن سير العرب الفاتحين إلى بلبيس، مما يفهم أنه يرى أن هذه المفاوضة كانت في بلبيس لا في مصر كما يقول ابن كثير وابن الأثير وابن خلدون. ثم هو يرى بعد ذلك أنها لم تكن بين عمرو من جانب وأبي مريم ومعه أبو مريام من جانب آخر؛ بل كانت بين عمرو وجماعة عليها أحد الأساقفة
ونحن لا نملك رفض ما يقوله الأستاذ بتلر؛ فنحن لا نملك رفض قوله بحصول المفاوضة في بلبيس، لأن اتفاق ابن كثير وابن الأثير وابن خلدون على أنها حصلت عند مصر وتفرد الطبري بأنها حصلت عند حصن بابليون مما لا يمكن التعويل عليه لما عرفناه ولمسناه من خلط مؤرخي العرب في كلامهم عن حوادث الفتح. أضف إلى ذلك أن جعل(478/14)
المفاوضة عند بلبيس أكثر ملاءمة لسير حوادث الفتح من جعلها عند مصر. والقارئ لحوادث الفتح يدرك هذا تمام الإدراك. ونحن بالطبع ليس لنا أن نطالب الأستاذ بتلر بالمصدر الذي اعتمد عليه في القول بأن المفاوضة حصلت في بلبيس، وذلك لأنه لم يعتمد في ذلك على مصدر ما وإنما قال به توفيقاً منه بين حوادث الفتح العربي التي تعرضت لشيء كثير من الخلط والتشويه في معظم المصادر العربية وغير العربية
هذا من ناحية مكان المفاوضة، وأما من ناحية طرفيها فنحن لا نستطيع رفض قوله في ذلك أيضاً، لأننا لا نملك على ذلك الرفض قدرة علمية، ولا سيما أنه عاد في الملحق الثالث من ملاحق كتابه فأكد قوله وقواه. قال (ص450 - 452): ((2) أبو مريم. وصف الأستاذ (لين بول) هذا الشخص بأنه جاثليق مصر، وأنه انضم إلى جيش عمرو. ولفظ جاثليق لا معنى له إلا (بطريق)، وأول من ذكره من مراجعنا الطبري، فقد جعلته معلوماته الفارسية يذكر ذلك اللفظ على أنه اسم كبير أساقفة مذاهب النسطوريين والأرمن. ويكثر ذكره في كتب سيبيوس وسواه، ويعرفه المعرفة. والحقيقة أن الطبري نفسه يفسر ذلك اللفظ بأنه كبير أساقفة النصارى، ولكنه يقول بعد ذلك عبارة محيرة وهي أن اسمه كان (أبن مريم). ويمكننا أن نسلم بأنه قد كان في مصر رئيسان للأساقفة أو بطريقان في وقت الفتح وهما قيرس وبنيامين؛ ونزيد على ذلك أنه قد يجوز أن بطريقاً ثالثاً كان موجوداً عند ذلك وهو بطريق مجهول (للجايانيين)، ولكن ذلك غير مهم فيما نحن فيه. وابن مريم لا يمكن أن يكون هو (فيرس)؛ ولكنه قد يمكن أن يكون المقصود به (بنيامين). ونرجو أن نستطيع البرهان على أن ذلك هو المقصود؛ فإنه في مدة ابن الأثير كان الاسم قد حرف إلى (أبو ميامين)، في حين أن أبا المحاسن يذكر - وهذا طبعاً صحيح - أن الأسقف القبطي في الإسكندرية كان اسمه بنيامين. ويذكر السيوطي أن الأسقف القبطي هو (أبو ميامين) وليس على المرء إلا أن يقرن هذه الحقائق بعضها إلى بعض فيرى لأول نظرة أن من أسهل الأمور تحريف اسم (أبا بنيامين) إلى (أبو ميامين) ثم إلى (أبو مريم)، في حين أن (ابن مريم) يجوز أن يكون تحريفاً للاسم بنيامين؛ فإن كتاب العرب كانوا يعرفون أن اسم مريم اسم يجله النصارى إجلالاً عظيماً، فأخطئوا في لفظ (أبا) فظنوا أنه اللفظ العربي (أبو)، في حين أنه نزع من الجزء الأول من (بنيامين) وهو (بن) وخلط باللفظ العربي (ابن) ونشأ(478/15)
من ذلك الخلط أسماء عجيبة زادها تحريف النساخ خطأ فذهبوا إلى تسمية الأسقف باسم (أبو مريم) و (ابن مريم).
ونستطيع الآن أن نستبعد اسم (أبو مريم) ونحن واثقون من أن ذلك الاسم لم يكن، وكذلك أسماء (أبو مرتم) و (ابن مريم) و (وأبو ميامين)؛ وأن نجعل مكان هذه الصور الغريبة اسم (بنيامين) الذي كان كبير أساقفة القبط في الإسكندرية. غير أنه لا يكفي أن نستبعد هذه الخيالات فإنا إذا سلمنا أن الشخص التاريخي المقصود هو بنيامين فإنه من المحال أن نقبل ما قيل عنه من أنه اشترك مع عمرو أي اشتراك فيما ذكر عنه، فلم يحاربه ولم يفاوضه. وأما ما ذكره الطبري ومن اتبعه كابن الأثير عن بنيامين فإنه قول سخيف. فقد جعلوه قائداً حربياً تحت حكم المقوقس. وقد سعى الطبري إلى جعل حبره مقبولاً لا تناقض فيه فجعل المقوقس أميراً للقبط؛ ولكن كل الأدلة المستمدة من المؤرخين المصريين تدل على أن هذين الرأيين غير صحيحين (وكان الطبري غريباً عن مصر، ولكنه زارها).
فالمؤرخون المصريون مجمعون على أن بنيامين بقي مختفياً في الصعيد مدة عشر سنوات قبل الفتح العربي، وثلاث سنوات في مدة الفتح. ولو لم يكن لدينا غير ما كتبه ساويرس (حياة بنيامين) لكان ذلك كافياً للبت في هذا الأمر. غير أن كل المؤرخين من حنا النقيوسي إلى ما بعده متفقون في هذا الرأي. فكيف إذن نستطيع أن ندرك علة ما يعزوه مؤرخو العرب إلى بنيامين من الاشتراك في الأمور عند الفتح؟ والتعليل هو ما يلي: أنهم وجدوا في الأخبار القديمة أو الروايات السابقة أن زعيم المدافعين والرئيس الذي فاوض في شروط الصلح مع الفاتحين هو كبير أساقفة الإسكندرية، ووجدوا بعد الفتح وفي التاريخ القبطي أن كبير الأساقفة في الإسكندرية المعترف به هو بنيامين؛ وفوق ذلك لقد كان بنيامين هو الذي جاء إلى عمرو وصالحه في وقت الفتح الثاني للإسكندرية عند ثورة منويل؛ فاختلط هذا الخبر بالصلح الذي كان مع قيرس؛ وعلى ذلك اختلط الشخصان وعزي إلى بنيامين ما فعله قيرس عند الفتح)
فبقي علينا إذن أن نأخذ برأي الأستاذ بتلر في هذه المفاوضة
(للبحث تتمة)
السيد يعقوب بكر(478/16)
نذر مقبول
للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد
أرأيتِ حين نذرتِ؟ ... ودعا (النوى) فدعوت؟
من ذا الذي لبّاك؟ ... من ذا أجاب مُناك؟
قدّيسةٌ عطفت على المكنو ... ن من نجواك
ووعدتها فوفيتِ
قدّيسة سمعت لنا ... وسعت لتجمع بيننا
من ذا يعيب هواك؟ ... من ذا إذن يلحاك؟
والعذر عذر صبابتي ... والحق حق صباك
كذبوا إذن وصدقت!
بالشمع كم أغريِتها ... أتراك أنت خدعتها؟!
كلا. وما أقواك ... في خدعة وشباك!
فالنور لب غذائها ... والنور صفو رضاك
شُغفتْ به وشُغفت
عباس محمود العقاد(478/18)
مشاركة الأدب الإنجليزي
في الدراسات العربية
نقلاً (عن برنارد لويس)
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
1 - العصور الوسطى
كان رأي الباحثين مجمعاً منذ مدة على أن أولى الاتصالات الثقافية المهمة بين الإسلام والفرنك كانت نتيجة الحروب الصليبية. وفي الحق أن الحروب الصليبية هي الفرصة الأولى التي اجتمع فيها الشرق العربي بالغرب المسيحي اجتماعاً قريباً، وجعلت من جراء ذلك مبادلات ثقافية؛ غير أن الدراسات التاريخية المتأخرة أبانت أن هذه المبادلات كانت محدودة من ناحيتي المجال والمفعول؛ وهو أمر يجب أن يكون منتظراً بسبب سيطرة الناحية العسكرية في ذلك الدور. ولقد وصل الفكر العربي عن طريق آخر إلى الغرب بصورة عامة، وإلى إنجلترا بصورة خاصة
لقد دخل العرب المنتصرون إلى أوربا بعد غزوهم شمال أفريقية، واستعمروا منطقتين في حوض البحر الأبيض المتوسط لمدة طويلة هما: أسبانيا وصقلية، وأنشئوا لهم مدينة بالغة التقدم ما لم يكن يوازيه أي تقدم آخر في الأراضي المسيحية في ذلك الحين. ذلك التقدم الذي لم يعجز عن التأثير على معاصريهم من المسيحيين، حتى أنه بعد أن استعاد المسيحيون تلك البلاد ظلت التعاليم العربية مزدهرة مدة طويلة. وكان الملوك المسيحيون يتكلمون العربية، ويؤازرون العلماء العرب، وبقيت الثقافة العربية العالية نافذة في بلاد الفرنك، وأصبح المسيحيون الذين يتكلمون في أسبانيا واسطة مهمة لبسط النفوذ، كما أن اليهود الذين ينطقون بالعربية في أسبانيا وصقلية - والذين كانت لهم لغة عامة هي العبرية - مع مشاركيهم في الدين من الفرنك، كانت لهم يد طولى في نشر الثقافة العربية في الغرب. وينبغي أن نشير في هذا المقام بصفة خاصة إلى الفيلسوف الأسباني اليهودي (إبراهام بن عزرا) من مدينة طليطلة الذي زار لندن في سنتي 1158 - 1159، واشتغل بالتعليم هناك مدة؛ كما أن الإنجليزي (توماس براون) ولي القضاء في صقلية، ويذكره(478/19)
العرب في كتاباتهم باسم (القائد برون)
وفي القرن الثاني عشر أخذ العلماء يفدون من الشمال، وعلى الأخص من إنجلترا، لزيارة الجامعات العربية في أسبانيا في سبيل تحصيل العلم، وكان أول كبير من هؤلاء هو الإنجليزي (أديلارد) من مدينة (باث) أحد رواد الثقافة العربية في الغرب
وقد ساح (أديلارد) في الربع الأول من القرن الثاني عشر في أسبانيا وسورية ودرس اللغة والعلوم العربية، وترجم كثيراً من الكتب العربية إلى اللاتينية لفائدة معاصريه من المسيحيين، واشتغل في عودته ترجماناً للملك هنري الثاني - ولم يصر بعد ملكاً - وكان قد أهدى إليه أحد كتبه أيضاً. ويتألف أهم كتبه وهو (القضايا الطبيعية) من حوار بينه وبين قريب له درس في الجامعات الفرنكية بينما درس (أديلارد) بين العرب. وعلى ذلك فأن الجدل الذي يقوم بين الاثنين يتطرق إلى المقابلة بين الدراستين، وقد قال في مقدمة كتابه هذا: (إني سأدافع عن قضية العرب، لا عن قضيتي) وشدد في نهاية كتابه على تفوق الطريقة العربية كما ساعد بنفوذه على نشرها في الغرب، فترجم عدداً من الكتب العربية في علم الهيئة والرياضيات وبذلك مد في نشر هذه العلوم في أوربا.
وقد اقتفى أثر (أديلارد) كثيرون من الإنجليز. فقد درس (روبرت) - وهو من أهالي جستر - في القرن الثاني عشر أيضاً، الرياضيات وترجم الكتب العربية. وهناك شخصية طريفة هي شخصية (دانيل مورلي) الذي يحدثنا عن نفسه أنه كان برماً بالجامعات الفرنكية فذهب إلى إسبانيا (في طلب أحكم الفلاسفة على وجه الأرض) على حد تعبيره، وقد عاد إلى إنجلترا بمجموعة كبيرة من الكتب التي لقيت جمهرة كبيرة من القراء. (وميخائيل سكوت) الذي درس - في القرن الثالث عشر - في صقلية وأتقى اللغتين العربية والعبرية، وترجم كتب أرسططاليس من اللغة العربية، وكان كثير منها قد تلقاه الغرب لأول مرة، كما أنه ترجم التعقيبات العربية على فلسفة أرسططاليس، وألف عدة كتب في علم التنجيم والكيمياء
ولقد كان عمل هؤلاء وغيرهم من الإنجليز المغامرين الذين زاروا بلاد العرب كبير الفائدة من الناحية الثقافية، فبفضل أعمالهم ذاعت آثار العرب الفلسفية والعلمية العظيمة في إنجلترا والغرب، وتقدمت الثقافة الأوربية خطوة كبيرة إلى الأمام. وكان التأثير الذي تركته كتبهم المترجمة والموضوعة عظيماً. وفي وسعنا أن نضع الفيلسوف الإنجليزي العظيم(478/20)
(روجر باكون) في عداد الذين تأثروا تأثراً عميقاً بالثقافة العربية، وكذلك الشاعران (شوصر) و (ليد كيت). ومن المهم ذكره في هذا المجال أن أول كتاب طبع في إنجلترا وهو كتاب (آمالي وأقوال الفلاسفة) (سنة 1477) وقد وضع على أساس كتاب عربي هو كتاب: (مختار الحكم ومحاسن الكلم) الذي صنَّفه في سنة 1053 الأمير المصري (مبشر بن فاتك)، ولم يطبع النص العربي، ولكن هناك نسخة خطية منه لا تزال موجودة في هولاندة، وهو مجموعة أمثال وأقوال حكيمة، وكان كثير الشيوع مدة من الزمن في الشرق وقد ترجم إلى لغات أوربية
إن الدَّين الذي تدين به أوربا في العصور الوسطى لمعاصريها من العرب ومترجميهم لهو دَين مضاعف، ففي الدرجة الأولى كان العرب هم الذين نشروا القسم الأكبر من ميراث الفكر والعلم الإغريقي الذي كان الغرب قد أضاعه، واحتفظ به العرب وأذاعوه؛ وفي الدرجة الثانية أن أوربا قد تعلمت من العرب طريقة جديدة في الدراسة، تلك الطريقة التي وضعت العقل فوق السلطة، ودافعت عن البحث العلمي الحر، وقد كان هذان الدرسان هما اللذين لعبا أكبر دور في إعطاء نهاية للعصور الوسطى، وبعث النهضة (الرينسانس) وولادة أوربا الجديدة، كما أن العلماء الإنجليز ساهموا بدور كبير في نقل هذه الدروس. وإن من مآسي التاريخ الآن أن العرب ينسون في هذا الوقت الأشياء التي علموها هم لأوربا، وأن يقوموا بدراستها مرة أخرى بعد مضي عدة عصور
ونود أن نختم هذا الفصل بالرجوع إلى أقوال (إديلارد) نفسه في حديثه مع قريبه عن الطريقة التي تعلمها في أسبانيا؛ ورأيه هذا قد سجل منذ ثمانمائة سنة:
(إنني، والعقل دليلي، قد تعلمت أمراً واحداً من أساتذتي العرب. أما أنت فعلى خلاف ذلك قد تلجمت بلجام من المظهر الخارجي للسلطة - وبماذا نصف السلطة إلا بأنها لجام؟ - على شاكلة الحيوانات المتوحشة، فإنها تساق إلى حيث يشاء المرء بدون أن نرى لماذا وإلى أين تساق، بل تتبع المِقْود الذي توقف به، وكذلك الكثير منكم قد رُبطوا بقيود وسلاسل من التسليم المنحط، وسيقوا إلى الخطر بسطوة الكتاب. . . لقد منح العقل للأفراد لكي يكون هو الحكم الرئيس للتفريق بين الحق والباطل. . . فيجب أن نسعى بداءة ذي بدء إلى البحث عن العقل، فمتى وجد قبلت حينئذ السلطة إذا أريد إضافتها إليه، فإن السلطة(478/21)
في حد ذاتها لا يمكن أن توحي بالثقة إلى الحكيم، ولا ينبغي لها أن تستعمل لهذه الغاية)
والذين يعرفون كتابات العرب سيؤيدون رأي (إديلارد) هذا على الفور، أما الذين يعرفون علم الغرب فسيدركون مغزاه حالاً
عبد الوهاب الأمين(478/22)
أرواح وأشباح
للأستاذ خليل هنداوي
لقد صدق حدسي! وهاهي تمر كرجع الطرف تزورنا فيها مواكب جديدة لهذا الشاعر المبدع من (أرواحه وأشباحه) والحق أن هذه القصيدة الجديدة تعد بذاتها فاتحة (للشعر العربي الحديث) الذي آن له أن يخلع تلك الثياب الرثة التي بالغنا في ترقيعها وتزويقها، حتى نصلت صبغتها، وبليت جدتها! ومما يزيد في قيمة هذه القصيدة أنها أول قصيدة تلدها مصر من الشعر الصحيح، ولا نستطيع القول أنها مبتكرة بأسلوبها وغرضها، لأن بعض السوريين سبقوا إلى هذا النوع من القصائد الواحدة التي يختلف وزنها وقافيتها، ويبقى غرضها واحداً. وأعرف من هذه القصائد (المواكب) لجبران خليل جبران، و (بساط الريح) لفوزي المعلوف، وعبقر (لشفيق المعلوف) و (إرم ذات العماد) لنسيب عريضة، ولكن قصيدة شاعرنا (الملاح التائه) قصيدة وحدها بميزاتها وغايتها، لأن صاحبها اتجه بها شطر الفن الخالص، وجردها من أي غرض يرمي بها إلى الأبتدال، اعتقاداً منه بنظرية (الفن الخالص للفن الخالص) بينما نجد قصيدة (المواكب) تزحف في جو ثقيل مرهق بالفلسفة الشاكة الحائرة، وقصيدة (على بساط الريح) ترمي إلى غرض فلسفي أخرى توجهه العاطفة، وقصيدة (عبقر) تكاد تكون أكثر تجرداً للفن؛ أما قصيدة (إرم ذات العماد) فهي أشواق صوفية هائمة على رمال الوجد والحنين. وأصحاب هذه القصائد جميعها ثائرون على ماضي الشعر العربي وأسلوبه الضيق الموروث، ولذلك تجردوا من قوالبه، وانطلقوا من غاياته، وانقادوا إلى عوالمهم الذاتية المجردة، ولكل غايات استقبلها وبلغها بمقدار ما هامت نفسه، وسما فنه. ولعل أبرز ما في (هذه القصائد) هذه الوحدة في الغاية، تنطلق معها من فاتحتها إلى خاتمتها. وإنا لنجد هذا النوع غريباً في أدبنا، لأن الأدب العربي لم يسجل مثله، في حين أن الآداب الغربية طافحة بهذا النوع الذي يدل على امتداد الفن، وبعد الغرض، وسمو التحليق. وهنالك دواوين قائمة بنفسها لتوحي إليك بفكرة واحدة، على طرائق مختلفة، كهذا الذي فعله الشاعر الفرنسي - فرناند جريك - في ديوانه جمال الحياة، فجمال الحياة فكرة تفاؤلية تسيطر على نفس الشاعر، والشاعر في كل مظهر من مظاهر الكون يتوسم هذا الجمال، ويتغنى به، ومهما يكن من شيء، فإن هذا يدلنا على أن الشاعر(478/23)
الحقيقي يعتنق رسالة أو فكرة يجمعها من مزاجه الخاص يحاول أن يبثها ويبشر بها
كانت هذه القصيدة بيدي فتناولها صديق لي أديب فما لبث أن أبدى نفوره منها واستنكاره لهذا الضرب من الشعر لأنه خالٍ - بحسب اعتقاده - من الغاية والغرض؛ وما كنت بلوَّام لمثل هذا الصديق على اعتقاده، لأن المدرسة الشعرية العتيقة لا تزال على اعتقادها في أن الشعر خاضع للغاية ينزع إلى الحكمة أو إلى القومية، أو. . . أما هذه القصيدة فما نزعتها؟ وما غايتها؟ إننا نحب أن نعتق شعرنا من هذه التقاليد، ونرفعه من هذه الأغراض الدانية، لنتوجه به شطر الفن الخالص. إذ أن الشعر العالي لا يتجلى في هذه العواطف الصافرة التي تؤز فوق الرؤوس، ولا في هذه الأصباغ الكثيفة غير المتناسقة؛ وإنما الشعر هذه اللمحات الفنية الهادئة والرعشات الوديعة التي تذكرك برعشة الطبيعة حين يقظتها. ومن عجب الدهر أننا نتخطى تعاليم المدرسة القديمة، ونلمس نقائصها، وننفي أكثر شعرها، ثم نرى من لا يزال يتحمس لها، ويناضل من أجلها الآن نستطيع القول - إزاء هذه المقطوعة - أننا إزاء قصيدة شعرية بلغت من السمو والفن والدقة ما لم تعرفه قصيدة عربية من قبل. ولكي يستطيع الشاعر أن يبث لمحادثة الفنية لم يجد إلا جوَّاً يونانياً. والعلة في ذلك أن الجو العربي نفسه محدود الشاعرية، محصور الخيال، ليس فيه هذه الوثبات التي توحي للشاعر المطلق أن يحلق في جو مطلق، فليس في هذا الالتجاء نفسه ما يعيب الشاعر أو القصيدة، لأن الجو اليوناني - في اعتقادي - برئ من كل غرض، يملكه الفن وحده ولا يجد الأدباء الغربيون حرجاً في الرجوع إلى هذه المملكة الغنية بشوارد الفن، على رسوخهم وغناهم. ولأدبائنا الحق في تفهم الأدب اليوناني والفن اليوناني. بعد أن درس العقل العربي العقل اليوناني، كانت بينهما صلات متينة، وجولات مشبعة بروح الصداقة. والفن اليوناني - على اعتقادي - أشد ضرورة للعرب من الفلسفة اليونانية
أشخاص هذه القطعة أشخاص يونانيون لهم محلهم في الفن اليوناني والجمال اليوناني. وقد أحسن المؤلف صنعاً في الإعلان عن كل شخص في مقدمته. ومن هؤلاء (سافو) الشاعرة الإغريقية، وتاييس الراقصة الأثينية، وبلتيس صاحبة الشاعر الإفرنسي (بيرلويس). أما الحديث فيدور حول روح شاعر يبعث بعثاً جديداً يزف إلى الأرض كالشبح العابر. أو الوهم مثله الخاطر. تعرفه إحدى الحوريات أو الأرواح - تاييس - وتقوله لسافو إنه (فتى(478/24)
تملأ ألحانه الأرض غداً). وبلتيس يؤلمها أن يمر متكبراً، وقد أصابته لوثه أهل الفنون فليمض شقياً! أما تاييس فهي أكثر إشفاقاً عليه. لا تلومه لأنه (كف عينيه برق الحياة) فتحاول بيلييس أن تثير حقد صاحبتها فتذكر لها ما صنع أترابه الشعراء من قبل يوم أغووا حواء ولدات حواء. والمرأة - دائماً - حديث الفن!
أنالته أجمل أزهارها، ... فأهدى لها شر أزهاره!
ولعل هذه الأزهار تذكرنا بأزهار بودلير!
وهنا نستشهد بيلتيس بقصيدة (الحية الخالدة) التي قدم لها صديقنا الأستاذ الكيالي بأن المرأة هي الحية الخالدة التي يشتهيها الفنانون والشعراء رغم لدغاتها. وفي هذه القصيدة يهبط الشاعر بمعشوقته من المنزلة العالية التي تصورها فيها إلي المنزلة الدانية التي تضج بها الشهوة الجائعة؛ وتصبح فيه المرأة كتلة من لحم يثير الدماء بعد أن كانت جمالاً صور من نقاء - فانحدرت المرأة وانحدر بانحدارها الرجل لأنه أصبح شيئاً ككل الرجال، وأصبحت هي شيئاً ككل النساء
أما بيليتس فلا تحب أن تعتقد بخطيئة المرأة؛ لأن الرجال. . .
وكم في الرجال سعار الوحوش ... إذا لمسوا الجثة الدافئة. . .
أما المرأة. . .!
ألم ينسم الخلد من عطرها ... ألم يعبد الحسنَ في زهرها
ألم يقبس النور من فجرها ... ألم يسرق الفن من سحرها
شفت غلة الفن حتى ارتوى ... وإن دنس الفن من طهرها
وهامت على ظمأ روحها ... وكم ملئوا الكأس من خمرها
والمرأة تبقى بعد هذا أحجية الفن.
(خطيئتها قصة الملهمين) ... (وإغراؤها الفرح المفتقد)
لقد قربت جداً عارياً ... وقلباً يضن بأسراره
ثم تنتقل هذه الغواني من حديث الشعر إلى الفن الممثل في - تمثال جميل - فلا تجد سافو الفنان أعلى روحاً من الشاعر لأنه كمثله.
غداً يستغل غرام الحسان ... سبيلاً إلى الشهرة الذائعة(478/25)
يصيب بهن خلود اسمه ... وهن قرابينه الضائعة
ولكن بيليتس تريد أن تنتقم لنفسها ولأترابها، وتطلب النزول إلى الأرض.
لنشرب من دم هذا الفتى ... مصفى الرحيق بأكوابنا
ونجعل من حشرجات الرجال ... تحية شاد لأنخابنا
ولكن تاييس تدرك أن الجمال والحب يضيع عالمهما بدون الشعراء والفنانين فتقول:
إذا خلت الأرض من طيرهم ... فمن ذا يحي الجمال القسيم؟
فتغضب بيليتس وتعود إلى حبها المعروف، كما أوحته (أغاني بيليتس)، هذا الحب الذي ليس به حاجة للرجال!!
وهنا تستعر المشادة بين وتاييس وبيليتس، هذه تميل إلى كل هوى بين أثنين، وتلك تمثل هوى المرأة المتعلق بالرجل، وترى هذا الهوى ضرورة لا مناص منها لحياة الفنون. والجمال وحده هو الذي يهذب قلب الرجل، وينيم فيه الشرس المستخف!
وبعد محاورة تختلف ألحانها بين هؤلاء، يعود الإله - هرميس - الذي ترك الشاعر على أفق الأرض، فيرى حورياته في غضب وثورة، فيصف لهن هذا الفنان الذي ساء أمره عندهن، وفي وصفه أروع ما وصل إليه فنان وهو يتحدث عن الفن. . .
الفنان عنده. . .
يسف إلى حيث لا ينتهي ... ويسمو إلي قمة لا ترام
ويُسقى بكأس إلهية ... مرنقة بالهوى والأثام
هو المرح الشارد المستهام ... شرود الفراشة عند المساء
ولعلك تلمس معي هذه القطعة المزدحمة باللمحة الفنية التي تظن أنها لا تنزل إلا على الشعراء الملهمين
أرته السماء أعاجيبها ... وروته من كل فن بديع
فضن بلألاء هذا الجمال ... وخاف على كنزه أن يضيع
أبي أن يبدده ناظراه ... فأطبق جفنيه ما يستطيع
فإن شارف الأرض نادت به ... ففتح عيناً كعين الربيع
أتستطيع أن تحدد لي عين الربيع هذه؟ ألمست معي هذه الدنيا من الرفيف والألوان(478/26)
والأعاجيب؟
ولا يزال - هرميس - يصف لحورياته هذا الفنان حتى يستل من أفئدتهن كل سخيمة ويعدن راضيات عنه، مؤنسات بفنه، مغضيات عن عثراته. لأن عثرات الفنان بشائر للفن، والفنان نفسه يعبد المرأة - على ما تحمله إليه - لأنه كما يقول:
وكانت حياتي محض اتباع ... فصارت طرائف من فنها
وكان شبابي صمت القفار ... ورجع الهواتف من جنها
فعادت ليالي الصبا والهوى ... أرق المقاطع في لحنها
وأفرغت بؤسي في حضنها ... وأترعت كاسي من دنها
وهكذا تنتهي القطعة برحيل الشاعر، بعد أن ترك في حورياته نظرات العطف والابتسام
هذه هي القصيدة التي أهداها الشاعر خالصة لوجه الفن، سلسة التعبير، لينة القوافي، هائمة الألوان، ولن يغني عن قراءتها شيء من هذا الموجز المشوه الذي ذكرته، لأن القطعة الفنية لا تنقل
والذين يتذوقون الشعر المجرد، ويحبون الفن المجرد، سيستمعون في هذه القطعة خير لحن يجاوب ألحانهم، ويتذوقون منها أصفى سلسال يروي ظمأهم
حقاً إن هذه القصيدة طليعة تلك المواكب الجديدة الهائمة في تيه المرح والعذاب والحب، وستتلو هذه الأرواح أرواح، وهذه الأشباح أشباح، ما دامت هنالك قيثارة صافية النغم، ومخيلة مجردة الخيال، هي قيثارة ومخيلة ملاحنا التائه.
(حلب) - (الحديث)
خليل هنداوي(478/27)
40 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق
كثيراً ما يقسم المسلم بالله وبالرسول وبرأس مخاطبه ولحيته. وعندما يخُبَر أحدٌ بخبر يثير دهشته وعدم تصديقه يصيح: والله؟ فيجيبه الآخر: والله. وكما أن العادة أن يبسمل المسلم قبل الطعام والشراب، يفعل ذلك أيضاً عندما يتناول دواءً أو يكتب شيئاً أو يبدأ مشروعاً مهماً، ثم يحمد الله بعد البسملة
وعندما يتعاقد اثنان يتلوان الفاتحة معاً. والعادة عندما يتجادل البعض في عمل أو رأي أن يصيح أحد الطرفين أو آخر يود فض النزاع أو تهدئة المتخاصمين: (الصلاة على النبي)، أو (صلوا على النبي) فيقولان بصوت منخفض: (اللهم صل عليه) ثم يستأنفان المجادلة ولكن باعتدال على العموم.
كثيراً ما يُسمع في المجتمع المصري العبارات الدينية تعترض الحديث في الأمور الحقيرة والخليعة أيضاً. وقد يكون ذلك أحياناً بطريقة تحمل من يجهل أخلاق هذا الشعب على أن يظنه هزؤا بالدين. ويكرر المصريون أسم الله في الكثير من أغانيهم الماجنة من غير قصد للإهانة طبعاً، وإنما يفعلون ذلك لاعتيادهم إقحام اسم الله في كل ما يدعو إلى الدهشة أو العجب، فيعبر الماجن عن انفعاله بالجمال عند رؤيته فتاة فاتنة بقوله أثناء كلامه الفاحش:
(تبارك الذي خلقك يا بدر)
وسأورد المقطوعة الأخيرة من أحد الموشحات مثالاً للطريقة الغريبة التي يختلط بها الفجور والدين في الأدب العامي المصري:
قابلني الرشيق بعد البعد والاحتجاب. فقبلت ثناياه وخده، ورن الكأس في يده، وفاح المسك(478/28)
والعنبر من محبوب أرشق قواماً من غصن البان. وبسط سريراً سندسياً، وقضيت الوقت في سعادة متصلة. لقد استبعدني ظبي تركي
والآن أستغفر الله ربي من كل خطاياي ومن كل ما هجس في نفسي. إن أعضائي تشهد عليّ. ومتى قهرني الحزن فأنت أملي يا ربي في كل ما يحزنني. أنت تعلم ما أقول وما أنوي. أنت الكريم الغفور. إني ألوذ بحماك فاغفر لي.
وقد زارني أحد أصدقائي المسلمين بعد كتابة الملاحظات السابقة توا فقرأت عليه القصيدة وسألته أيليق أن يمزج الدين بالخلاعة هكذا؟ فأجاب: (نعم، يليق كل اللياقة. فهذا رجل يذكر خطاياه ثم يستغفر الله ويصلي على الرسول). فقلت: (ولكن هذه قصيدة قيلت لتسلية هؤلاء الذين ينهمكون في اللذات المحرمة. ثم لاحظْ أن الصفحة التي تصف الفسق تقابل التي تذكر أسماء الله عندما أطوي الكتاب فيكون وصف الملذات الأثيمة فوق ذكر الاستغفار). فأجاب صديقي: (ذلك عبث. اقلب الكتاب جاعلاً أسفله أعلاه ينعكس الحال فيغطي الغفران المعصية. وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، وإن الله يغفر الذنوب جميعاً وهو الغفور الرحيم) (الآية 52 من سورة الزمر). وقد ذكرتني إجابته ما لاحظته كثيراً من أن غالبية العرب - وهم شعب كثير التناقض - يستمرون في مخالفة الشرع اعتماداً على أن عبارة: (أستغفر الله) تمحو كل خطية. وكان بين يدي صديقي نسخة من القرآن فوجدت فيها عند بحثي على الآية المقتبسة ورقة عليها كلمات من الكتاب الكريم، وكان الرجل على وشك أن يحرقها لئلا تسقط فتداس. فسألته: أيجوز ذلك؟ فأجاب: إما أن تحرق وإما أن تلقي في مجرى ماء. والأفضل حرقها، إذ أن الكلمات تصعد مع اللهب فتحملها الملائكة إلى السماء. ويستشهد المسلمون حتى أشدهم تُقي بالقرآن عند المزاح. وقد حدث مرة أن طلب أحدهم أن أهدي إليه ساعة فأوعز إليَّ بهذه العبارة الملتبسة: إن الساعة آتية أكاد أخفيها (الآية 15 من سورة طه)
وكثيراً ما يشاهد المرء في المجتمع المصري ناساً يتلون آيات وأحاديث تتناسب المقام، ولا يعتبر مثل هذا الاقتباس - كما هو الحال في مجتمعنا - نفاقاً أو مملاً، وإنما يثير إعجاب المستمعين ويصرفهم عن تافه الحديث إلى جده. ويشغف مسلمو مصر وغيرها من البلدان،(478/29)
على ما أعتقد، بالحديث الديني. وتُحَي أكثر الحفلات عند الطبقتين الوسطى والعليا في القاهرة بتلاوة (خاتمة) أو إقامة (ذكر). وقلما يجرؤ أحدهم على التصريح بتفضيل الموسيقى على الخاتمة أو الذكر اللذين لا جرم يبتهجون بهما. والحق أن الطريقة التي يرتل بها القرآن أحياناً حسنة جداً ولو أن سماع الخاتمة كلها قد يُمل غير المسلمين
يدهشني شدة تمسك المسلمين بدينهم على الدوام؛ غير أنني أعجب لقلة محاولتهم دعوة الغير إلى الإسلام. وكثيراً ما عبرت عن دهشتي لتغافلهم عن نشر دينهم مخالفين أسلافهم في صدر الإسلام فكانوا يجيبوني: (أي فائدة في هداية ألف كافر؟ هل يزيد ذلك عدد المؤمنين؟ أبداً. لقد قدر الله عدد المؤمنين ولا يستطيع الإنسان أن يزيده ولا أن ينقصه). ولم أخاطر بالرد خشية أن يؤدي أعترض إلى جدال لا حد له. وقد سمعتهم يدافعون عن إهمالهم إدخال الناس في دينهم بذكر الآية السادسة والأربعين من سورة العنكبوت: (ولا تجادلوا أهل الكتاب) دون أن يذكروا العبارة التالية مباشرة: (إلا بالتي هي أحسن، إلا اللذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد). ولو كان المسلمون عملوا بهذه الوصية لأدى جدلهم إلى تحرير أفكارهم وتزقية معارفهم
يقدس المسلمون المحدثون الرسول غاية القداسة ويقسمون كثيراً باسمه ويلتمس شفاعته المتعلمون والجاهلون على السواء. ويتأثر الحجاج من زيارة القبر النبوي أكثر مما يتأثرون بقيامهم بالشعائر الأخرى. وهناك فئة لا تأتي عملاً لم يتقرر قيام الرسول به فيمتنعون خاصة عن أكل ما لم يأكله ولو ثبت إباحة تناوله. وما كان الإمام أحمد بن حنبل يأكل البطيخ لأنه مع علمه أن الرسول أكله لم يستطيع أن يعرف ما إذا كان يتناوله بقشره أو بدونه أو إذا كان يكسره أو ينهشه أو يقطعه، كما أنه نهى امرأة جاءت تستفهمه عن الغزل ليلاً على ضوء مشاعل الغير أثناء مرورهم في الشارع، لأن الرسول لم يذكر شرعيتها ولا يعرف عنه أنه انتفع من ضوء غيره بدون إذن. وقد أعجبتُ مرة بمنافض جميلة ينفض فيها رماد الشبُك؛ فسألت صانعها لماذا لا يسمها باسمه؟ فأجاب: معاذ الله! إن اسمي أحمد هو أحد أسماء الرسول فهل تريد أن أضعه في النار؟ وقد سمعت شكوى الناس من الباشا لأنه وسم جمال الحكومة وجيادها باسمه (محمد علي). وقال الذي ذكر لي هذا الحادث: إن الميَسم الذي نقش عليه هذان الاسمان الواجب احترامهما، اسم الرسول (ص) واسم ابن(478/30)
عمه رضي الله عنه، توضع في النار وهذا منكر، ثم يوضع على رقبة الجمل فيسيل الدم النجس فيدنس الاسمين المقدسين على الحديد وعلى جلد الحيوان. والمحتمل عندما يندمل الجرح بل المحتم أن يضع الجمل وهو راقد رقبته على شيء قذر
ويبعث مثل هذا الشعور المسلمين على أن يعترضوا على طبع كتبهم. ويندر أن يكون لهم كتاب لا يتضمن أسم الله، ولا أذكر أني رأيت كتاباً خلا منه. فالقاعدة أن يصدر الكتاب بالبسملة وتبدأ المقدمة بحمد الله والصلاة على الرسول. ويخشى المسلمون أن يدنس المداد الذي يطبع به أسم الله، أو الورقة التي يطبع عليها. ويخشون أيضاً أن تصبح كتبهم عند طبعها رخيصة الثمن فتقع بين أيدي من لا يصونها. وفكرة استعمال فرجون من شعر الكلب، وكانت تستعمل أولاً هنا، لوضع الحبر على أسم الله أو على كلامه تكدرهم كثيراً. ومن ثم لم يطبع الكتب في مصر حتى الآن إلا الحكومة؛ غير أن أثنين أو ثلاثة استأذنوها في طبع بعض الكتب في مطبعتها فأذنت لهم. وأعرف كتبياً هنا رغب طويلاً في طبع كتب كان يثق بعظيم ربحها ولكنه لم يستطع أن يتغلب على تردده في شرعية هذا العمل
(يتبع)
عدلي طاهر نور(478/31)
من صور اليوم
فُسْتَانٌ قَصير
للأستاذ علي شرف الدين
باَلَغْتِ في التَّقْصِيرِ ياَ غَانِيَةْ ... خَلَّي قَصِيرَ الثَّوْبِ لِلْجَارِيةْ
ثَوْبٌ بخيلُ الذَّيلِ تمشِي بِهِ ... فَرَّارَةٌ مِنْ خدرِهَا نَائِيهْ
كالبائع الجوَّالِ في يومِهَا ... لم تخلُ من تَجْوَالَهِا ناَحيهْ
وتزرَعُ الأرضَ بريداً سرَى ... كأَنها في شَعبه ساَعيهْ
رِعايةُ الأطفالِ قد أصبحتْ ... - فيما تراهُ - عادةً باليهْ
وَتُرْسلُ الضَّحْكاَتِ إنْ أبصرَتْ ... سيدةً في بيتهاَ طاهيهْ
تَهَشُّ للناسِ وفي بيتهاَ ... عباسةٌ صخَّابةٌ عاويهْ
تمشي (كَبَلْقيسَ) وقد شمرتْ ... في القَصْرِ عن سيقانِهاَ العارِيهْ
والجودُ في الثوبِ دليلُ التُّقى ... وآيةٌ للعفّةِ الواقيهْ
جودي على ثوبك يا هذه ... جودي له بالفَضْلةِ الباقيهْ
إني - على فقري - كفيلٌ بها ... رخيصةً - في السعر - أو غاليهْ
مَنْ جاد بالجسم - على قدسه - ... ما بخلهُ باللبسةِ الفانيهْ؟!
مَنْ جَاوَزَتْ عِشرينَ أولى بها ... أن تلزمَ المنزِلَ في عافيهْ
يا ربَةَ المنزلِ ما بالهُ ... تصدّعتْ أركانهُ العاليهْ؟
في البيتِ مُلْكٌ أنتِ في عرشِهِ ... مَليكةٌ في شَعبها راعيهْ
عُودي إلى خِدْرِكِ واستأنفي ... سعادةً كانتْ به ماضيهْ
(فالنسرُ) لا ينقضُّ إلا على ... (حمامةٍ) عن وكرهِاَ نائيه
وإنما يفتكُ ذئبُ الوَرَىِ ... - في وثبه - بالنجعةِ القاصيهْ
علي شرف الدين(478/32)
مفارقات
للأستاذ عبد اللطيف النشار
كل ما في (مصر) يدعو للعجب! ... طالب الطب شغوف بالخطب
والحقوق بتدليل الدُّمَى ... والزراعي بأخبار الأدب
وبنو الأزهر صاروا ساسةً ... وبنو الآداب أعداء الكتب
والغواني رائحات غاديات ... في (عماد الدين) من غير سبب
ورجال الحكم للنرد خلوا ... وحديث الحكم يقضي في (الكُلُب)
ويد الضيف وما نجحدها ... تنبع الفضة منها والذهب
والسويسري بآثار اللغى ... والفرنسي بآثار العرب
وخطونا خطوة واحدة ... رحمة الله على قبر ابن حرب
عبد اللطيف النشار(478/33)
البريد الأدبي
كم ذا؟
ما كنت أعلم - حين تفضلت الرسالة بنشر كلمتي الأولى عن (كم ذا) هذه - أني أثير عاصفة يدوي صوتها في آذان هؤلاء القراء الكرام أمثال الأستاذ الكبير (البشبيشي) الذي تناولها بالرد والمناقشة أكبر من مرتين. . . ولا أزال آخذ عليه وعلى غيره أن المناقشة لم تذهب إلى ما نريد. . . وأنهم جنحوا إلى الإعراب والتخريج، وهو مطلب غير مطلوب، وبحث غير مرغوب. . . وقد طلب إلي بعض الأصدقاء أن أحسم النزاع في (كم ذا يكابد عاشق ويلاقي). . . فلم أجد أحسن من هذا الرأي القائل: (إن اللغة العربية - وإن كانت تعتمد على السماع والنقل - لا تحتم استعمال لفظ إلى جانب لفظ، أو كلمة إلى جانب أخرى، اللهم إذا اقتضاها المقام، أو دعت إليها المناسبة. فمثلاً اختص الفعل المضارع بالسين وسوف لأن معناها التنفيس والتسويف. . . وذلك لا يناسبه غير المضارع لوقوعه فيه. فلا نقول سَقُمتُ ولا سوف قام. وعلى هذا فلا مانع من دخول (كم) على (ذا) في التراكيب العربية وسواء لدينا كونها للاستفهام أو الإشارة أو الموصولية أو الزيادة، فإن هذا يرجع إلى الإعراب وهو لا يتأبى شيئاً، ولا يضيق عن تأويل
إبراهيم علي أبو الخشب
1 - شعر علي بن أبي طالب
أطلعت على مقالات الأستاذ السيد يعقوب بكر في تحقيق شعر علي بن أبي طالب رضى الله عنه، ثم قرأت ما عقب به الأستاذ محمد محمود رضوان (في العدد 469 من مجلة الرسالة وما بعده)
وإن من المصادر الوثيقة التي أوردت ذرواً من شعره كتاب (معجم الشعراء للمرزباني) وفيه زيادات أبيات في بعض القطع التي نشرها الأستاذ يعقوب، واختلاقات في بعض كلماتها، وبيان لرواتها:
قال المرزباني في الصفحة 279: أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. يروى له شعر كثير، منه قوله يوم خيبر لما خرج مرحب يقول:(478/34)
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
فقال علي رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
وله في رواية سعيد بن المسيب:
أفاطم هاك السيف غير ذميم ... فلست برعديد ولا بلئيم
لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد ... ومرضاة رب بالعباد عليم
أريد ثواب الله لا شيء غيره ... ورضوانه في جنة ونعيم
وله:
يا شاهد الله عليَّ فاشهد ... آمنت بالخالق رب أحمد
يا رب من ضل فإني مهتد ... يا رب فاجعل في الجنان مقعدي
إلى غير هذا مما أورده المرزباني في معجمه المذكور
2 - تخطئ
مررت على تصحيح الأب الكرملي للجزء الثاني من (الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي) في مجلة الرسالة، فرأيت فيه (في العدد 474): وفي ص67 (أسكرّجة)، والمشهور أنها بلا ألف في الأول
أقول: أغفل الأب تصحيح ضبط الراء. وفي المعرب للجواليقي: (السُّكُرَّجة بضم السين والكاف وفتح الراء وتشديدها فارسية معربة، وترجمتها: مقرب الخل، وكان بعض أهل اللغة يقول: الصواب أسكرَّجة)
وفي شفاء العليل للخفاجي: (الصواب فتح الراء المشددة)
محمد غسان
تصحيح بيتين
ورد في مقال (أوهام تخلق متاعب) للدكتور زكي مبارك بالعدد السابق من الرسالة بيتان للشاعر صادق رستم
هذا نصهما:(478/35)
شر البلية إشفاق على فئة ... لو كنت تؤكل ما عفوا ولا شبعوا
تبيت تبكي لصرف الدهر يفجعهم ... ولو رأوك على الأعناق ما دمعوا!
أما النص الذي جاء به الشاعر في قصيدته (أخلاق العصر)
بالعدد الثامن من مجلة الثقافة فهو:
رأس الحماقة إشفاق على نفر ... لو كنت تؤكل ما عفوا ولا شبعوا
تبيت تبكي لصرف الدهر يدهمهم ... ولو رأوك على الأعناق ما دمعوا!
هذا ومع أن النص الأول لم يحد عن المعنى الذي أراده الشاعر فإن من واجب الكاتب الحرص على أمانة الرواية والنقل مهما بلغت قدرته على توليد الألفاظ وتشقيق الجمل ومهما وصلت خبرته بأوزان الشعر وتفاعله خصوصاً، وإن البيتين المذكورين من الشعر الحديث الذي لم يغبر عليه الزمن، ولم يتقادم به العهد، ولم تختلف فيه الرواة.
محمود محمد حسن
المدرس بمدرسة البلينا الأولية
أغلاط
1 - كان سيدنا عبيد الله بن عباس جواداً وله قصص في الجود مذكورة في الكتب، وقد ظن كثيرون أن هذا الجواد هو سيدنا عبد الله الراوية المشهورة، وبالرغم من أن الكتب تذكره بصيغة التصغير، فإن بعض الخاصة لا يزالون يعتقدون أن الجواد هو عبد الله. وقد ترجم بعض الكاتبين لسيدنا عبد الله فساق هذه القصص، وجهدت جهدي لإقناع أحد أساتذتي بهذا الخطأ فما استطعت، وادعي أن غاية ما في الأمر أن الاسم ذكر مصغراً، وأخيراً في النوادر لأبي علي العالي فصلاً يذكر فيه أبناء العباس بن عبد المطلب فيقول: وعبد الله الحبر مات بالطائف وعبيد الله الجواد مات بالمدينة (رضي الله عن الجميع) فهو صريح في أنهما شخصان لا واحد ذكر مرة مكبراً ومرة مصغراً
2 - تعرض المرحوم الرافعي في كتابه (تاريخ الأدب العربي) للهجات العرب، فذكر أن هذيلا تقلب ألف المقصور ياء حين إضافته لياء المتكلم وتكسر ما قبل الياء قال شاعرهم:
سبقوا هوِىَ وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع(478/36)
وضبط هوِىّ بكسر الواو، وما هكذا تنطق هذيل، وإنما ينطقون بفتح الواو فيقولون (هوَىّ). . . قال العلماء: لمّا كان من الحتم كسر ما قبل ياء المتكلم، وهو غير ممكن في هذا، لأن الألف لا تقبل الحركة، قلبت هذيل الألف ياء، إذ الياء أخت الكسرة
فذهب على الرافعي - رحمة الله - إلى ما إليه قصد العلماء، فظن أن الكسرة قبل الياء المشددة لازمة؛ فليصحح ذلك من عنده نسخة من القراء
علي محمد حسن
في (عبقرية محمد)
هذا الكتاب جليل في بابه، زاد مكانة العقاد وسموه في الأدب والتفكير، وقد وقفني منه أمران:
1 - في ص144 يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله: فكان يقول مثلاً: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود)، لأنها لا تقبل التبديل، ولكنه إذا نطق بقول سحيم عبد بني الحسحاس (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً) قدَّم كلمة الإسلام فقال: كفى الإسلام والشيب للمرء ناهياً)
2 - وفي ص145 يورد الحديث هكذا: (كما تكونوا يولّ عليكم)
1 - وتقسيم ما يتمثل به الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ما يمكن تبديله لم يورد المؤلف ما يؤيده ويقتضيه. والمثال الذي ذكره لما لا يمكن تبديله غير صحيح؛ فإن تبديله ممكن، وقد روى أن الرسول عليه الصلاة والسلام تمثل به هكذا: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار. راجع السيرة الحلبية في باب الهجرة إلى المدينة
2 - والمعروف في رواية الحديث: كما تكونوا يوليّ عليكم. وحذف النون في تكنوا للتخفيف على حد لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لحمل ما المصدرية على أن في نصب الفعل بها، وروى كما تكونون يولي عليكم. راجع الجامع الصغير، والمغني قبيل ختامه والسلام.
محمد النجار
من صميم الواقع(478/37)
الحياة على المسرح تجري حارة في أوصال مضحكاته ومبكياته، رغم أنها فِكَرٌ مركزة، وصور مصغرة لما يجري في دنيانا، فماذا بنا إذن لو شاهدناها حقيقة واقعة على مسرح الحياة؟
إنها لمأساة وأية مأساة!!
هو اجتماعي زعيم نبض قلبه بحب الناس فوقف عليهم العمر دائباً يشتغل بحل عقدهم، فكم أنجى وأشقى. كان رحمة لم تحرمها أسرةٌ. أرشد وهدى، وهو في شغله وكدحه راض لسعيه، لا يطمع في غير جزاء الله الحسن، لكن الله اختار له سعادة الآخرة لا الأولى، فقاسى في حياته ما قاسى، مما يذيب النفس أسًى عليه وإشفاقاً. سيق سَوقاً إلى جحيم الحب فاكتوى بِحَرهَّ
لَبى نداء زوجته وراح ينقذ أختها. كانت تصغرها، وكان لها خطيب منذ صغرها شَبَّ فاجراً فسَّاقاً، وراح ينفق على قانصته من بنات الهوى باليمين وبالشمال. لكن أمَّهُ التي هي أصل جاهه ومصدر ثرائه، تريد خطيبة الصغر له زوجاً، وهو إن خالف أمه، فقد المالَ الذي من أجله يحُب، ومن أجله يحُترم. وإذ شكا الأمر إلى رفيقته الفاجرة، خشيت أن يفلت منها ذلك الصيد الثمين، فكادت ودبرت، وعمل هو بكيدها، فأقنع أمه بما جعلها هي نفسها ترجع عن تحقيق ذلك الزواج
لقد استغلا رقة عود تلك الخطيبة البريئة، وأشاعا عنها أنها مريضة بذلك المرض الذي تنفر الدنيا ممن يصاب به. . . السل. . . حرمت المسكينة إذن كل خطيب وفقدت الثقة بنفسها كانسان صحيح. وفقدان الثقة فيما يتعلق بهذين الأمرين هو اصل عقدة نفسها، واصل توهمها أنها مريضة، ذلك التوهم الذي خلق بالفعل علَّتَها.
لجأت الأخت الكبرى في ذلك إلى زوجها الإنساني الرحيم، مستنجدة متوسلة، عسى أن يفعل شيئاً لإنقاذ أختها البائسة التي تذوي سريعاً قبل أن يكمل ازدهارها. وعقدتها مزدوجة، وعلتها مشتركة. فحرمانها من الرجل في المرتبة الأولى وإن كان في تتابع الحوادث في المرتبة الثانية. لقد أرهقها فأضناها وهي الرقيقة التي لا تحتمل الضنى. أرهقها، فأعلها، بما ساعد على انتشار الإشاعة الخبيثة وزكاها. فالرجل داؤها، والرجل لا غير دواؤها.
المرأة كالعود الرطب، يينع وينضر ويفرع إذا ما تُعِهد فُغذَّى ورُوَّى بالأمل، وساقي ذلك(478/38)
الأمل هو الرجل، يسكبه في عبارات التقدير والإعجاب، ويفيضه من عيون البث والوجدان، فمن لهذه العطشى بساق يُرويَى، فيجري الحياة ويُحيي الموات؟!
شاء القدر ألا يكون غير الزوج الوفي، والمصلح الاجتماعي، فأقنعته زوجته بأن يمثل دور العاشق مع أختها
راح يقوم بدوره بإخلاص وبراءة. ومرت الأيام على تلك الحال، فما أعجب ما حدث للأختين! تعافت الصغرى، فاعتلت الكبرى! أجل. إن رشفة الحب الأولى حلوة ومسعدة، وجرعة الغيرة الأولى مرة ومجهدة. . .
وفي أثناء ذلك، كان يرنو القدر إلى ذلك المخلوق المُسَيَّر إلى هاوية شقائه، رُنوَّ طفل على فمه ابتسامة درجت معه تنمو ما نما، وتكبر ما كبر، وتشيب ما شاب، فإذا ما أخضرت على الشجرة ورقة، واصفرت أخرى، ونضج الثمر الشهي، وحان القطاف، خرجت البسمة العجوز عن صمتها، وأرسلها الكهل الرهيب قهقهة ساخرة مدوية، أثارت عاصفة هوجاء، وزعزعا نكباء، زلزلت في شبوبها أسس السعادة، فلم تبق ولم تذر غير مجد في الأثر
ناء الجسد بحمل ذلك القلب الكبير، وماد بذلك الصراع الجبار بين العاطفة والواجب، ففزع إلى أمه الأرض فاحتضنته
مات. . . لكنه عاش مجسداً في كل أثر من آثاره الطيبة، وعمل من أعماله الجليلة. عاش مخلداً في قلوب الناس وأفواههم يجتمعون كل عام حول نصبه التذكاري الذي أقاموه له، يتغنون بحمده والثناء عليه، وتتصاعد الأنغام تترى مستبقة إلى تمثاله العالي، فإذا ما بلغت مواطئ قدميه، ارتمت ركعاً سجداً.
عباس يونس
بين الفلسفة اليونانية والأدب اليوناني
ورد في مقال الأستاذ خليل هنداوي وهو يبحث الصلات الفنية اليونانية في قصيدة شاعر الحب والجمال (علي محمود طه) صاحب ملحمة (أرواح وأشباح) نص هذا الاقتراح:
(أكان خيراً للعرب تناولهم الفلسفة اليونانية كما فعلوا، أم أن يتناولوا الأدب اليوناني والفن اليوناني؟(478/39)
1 - ما هي الفوائد التي اجتناها العرب من الفلسفة اليونانية؟
2 - ما هي الفوائد التي كان بإمكان الأدب العربي أن يجنيها لو انكب على الأدب اليوناني وفنه؟
3 - أية فوائد ترجع للعرب؟
والمجلة تحمل هذا الاقتراح على أدباء الشباب ليتناولوه بالبحث والدرس، ومجلة (الحديث) الحلبية تمنح جائزة أدبية لأحسن مقال يعرض لهذا الموضوع عرضاً شاملاً.(478/40)
العدد 479 - بتاريخ: 07 - 09 - 1942(/)
كَررَي. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
وما كَررَي؟
شئ من الشرق أو من الغرب، ويشار إليه بضمير المذكر أو ضمير المؤنث، وقديم هو أم حديث؟ كثير من الناس لا يعلمون! وكان ينبغي أن يعلموا ولو بعض العلم، لأنه شئ متصل بما نحن فيه، وبما العالم كله فيه، ولو بعض الاتصال
اسم كَررَي متصل بتاريخ مصر والسودان في العصر الحديث.
ومما لا شك فيه أنه على اتصال بالحرب العالمية الحاضرة في جملة أسبابها البعيدة التي توارت الآن وراء أسبابها القريبة. فإن كانت للحرب العالمية الحاضرة، وللحرب العالمية التي قبلها أسبابٌ لها سنوات، فاسم كَررَي لا ينفصل من أسبابها الأولى أقل انفصال؛ لأن علاقته بالأطوار الأوربية أواخر القرن الماضي كأوثق علاقة تكون.
كَررَي كان له شأن في تحول المآرب الاستعمارية عند كثير من الدول التي أثارت الحرب العالمية الماضية، وعادت فأثارت الحرب العالمية الحاضرة
كان له شأن في سياسة (بين القاهرة ورأس الرجاء)، أو (بين القاهرة والكاب)
وكان له شأن في اندفاع الألمان إلى القارة الأفريقية، وفي موقف فرنسا من مراكش وأفريقية الشمالية، وفي ظهور إيطاليا على شواطئ البحر الأبيض بعد شواطئ البحر الأحمر، ثم فيما تلا ذلك في تجدد الأحلام بالدولة الرومانية
ومتى اتصل شأن كَررَي بهذا، فقد اتصل بجميع ما يخوض فيه العالم اليوم، وكان له من قبل ذلك اتصال بمصر والسودان.
كرري هو الوادي الذي انهزمت عنده جيوش الخليفة عبد الله، ودخل وادي النيل من جرائه في تاريخ جديد، ولك أن تقول: بل هو العالم كله قد دخل من جرائه في طور جديد.
وقفتُ على ساحة (كرري) في مثل الوقت الذي جرت فيه وقعته الفاصلة
كانت زيارتي للوادي في أوائل أغسطس، وكانت الوقعة في أوائل سبتمبر، قبل أربع وأربعين سنة
فالمنظر الذي رأيته هو منظر الوادي يوم الوقعة بغير كبير اختلاف: هو النهار الضاحي،(479/1)
وهي السحب التي تبشر وتنذر: تبشر بالمطر وتنذر بالصواعق، وكانت وما يبالي بها أحد صبيحة يومه المشهود، لأنهم كانوا يرجون ما هو أرجى من المطر، ويرهبون ما هو أرهب من الصواعق، ويستقبلون مشرقاً يعرفون ما يستقبلهم من مغربه إذا انتصروا، وما يستقبلهم منه إذا انهزموا: مجد أو موت، والفاصل بينهم وبين واحد منها بضع ساعات
وكم تصنع بضع ساعات في تواريخ الأمم؟
هناك التلال المتجهمات للشمس، أعلاها لا يعلو فوق مائة متر في الفضاء
وهناك الحجارة والحصباء، أحدث أخبارها التي تتحدث بها إليك غضبة بركان قديم!
وهناك الأخدود الذي كانوا يتوارون فيه من المستطلعين فيواريهم ويخفي آثارهم، لأن مطية الهواء لم تكن في ذلك العهد مما يكشف ذلك الخلاء، ولا أي خلاء
وهناك السكون ثم السكون ثم السكون. سكون اليوم، وسكون أمس، وسكون عام مضى، وسكون أعوام، ما عدا ذلك اليوم في ذلك العام
ولو أنك سألت (كرري) ماذا صنعت يا كرري؟ أو ماذا صُنع فيك؟ فيم تراه يجيب؟
أكبر الظن أنه يستعيدك السؤال مرات! ماذا صنعت؟ ماذا صنعت؟ لا أدري!
- لا بل صنعت كثيراً (يا كرري). . . أفلا تذكر؟ ألم يبق في ذكراك غير هذا السكون؟ ثم هذا السكون، ثم هذا السكون؟
- غضبة بركان قديم لم يغضب منذ آلاف السنين؟ أتسألني عن هذا وتلك آثاره تنبئك بغير سؤال؟
- لا. بل غضبة بركان أقرب من ذاك جداً إلى ذاكرة من يذكر، ولا أثر له فيك يغني عن سؤال! ألا تعرفه؟ ألا تعرف تلك الحمم؟ ألا تعرف تلك النيران؟
- تلك براكينكم يا صاح تسألون عنها أنفسكم وتصلون منها بحممكم ونيرانكم، وتحتفظون بآثارها وآثاركم، وتسمونها الأسماء، وإن هي إلا هواء يعبر بي كهذا الهواء
وكرري لا يقول غير هذا لسائله، إذا قال
لكن (كرري) جماد مسكين لا يعلم إلا ما يعلمه الجماد المسكين، ولم يدخل قط في علم الجماد المسكين أن براكينه صرخة في فضاء ما لم يتصل بهذا المخلوق الضئيل الذي هو نحن الآدميين! وأين غضبة ذلك البركان الذي تنبئنا به حجارة كرري من براكين هذه(479/2)
الأيام؟ وأين هو من معقبات ذلك اليوم الذي تقدم قبل أربعة وأربعين عاماً في خلاء أم درمان؟
ذلك بركان غضب ولم يعرف كيف يغضب. ذلك بركان حليم جد حليم. ذلك بركان يعرف نار الأرض ويعرف نار الصاعقة ولا يعرف النار التي يجمعها الإنسان في أوعية صغار، كل وعاء منها كأنه جبل من نار!
أو هو قد عرفها فمرت به كما يمر كل شئ بالجماد، وبالإنسان الذي فيه قرابة من الجماد
وغمضة العين هنا هي أولى بالنظر من فتحها في سطعة هذا الضياء، فلن ترى إن فتحت عينك في الوادي إلا يومك الذي أنت فيه، وقد تغمضها فترى أعواماً وراء أعوام
وكأني رأيت الوادي يموج بالعمائم البيض والطرابيش الحمر والقبعات الصفر والوجوه التي فيها من اختلاف الألوان كل ما في العمائم والطرابيش والقبعات
وكأني رأيت النصر يدور بين المعسكرين، فلا يدنو حتى يبتعد ولا يبتعد حتى يدنو، ولا يزال بين إقبال وأدبار، وبين طلوع وأفول في سحابة نهار
لقد كان في الميدان جيشان من الماضي والحاضر، ولم يكن به جيشان من عصر واحد. فحكم الزمن بمصير المعركة قبل أن يلتقي الجيشان
كانت الحضارة والمدفع الرشاش والأسطول الصغير في أحد الجانبين
وكانت البداوة في الجانب الذي يناضله، وليس معها من سلاح غير الحراب أو راميات بالنار تشبه الحراب، وكل أولئك من عمل الحضارة نفسها في أوان فات
وقيل إن السيف الذي شهره المهدي كان سيفاً لبعض الفرسان التيوثون في الحروب الصليبية عليه طابع شارل الخامس ثم انتقل إلى سلاطين دارفور، وهو تاريخ فيه من الحق أكثر مما فيه من الأساطير
فهذا السيف كان رمز القوة التي أعتز بها الخليفة عبد الله، فلم يزد عليه من العصر الحديث ما هو أقوى منه بكثير، إلى جانب المدفع الرشاش
لقد حارب بعد زمانه بسبعمائة عام، فأحرى ألا يصيب في غده ما لم يصيب في أمسه، وهو إذ ذاك أمضى سلاح
وأما الشجاعة فلا شجاعة فوقها، يتمناها لجيشه كل قائد في كل قتال(479/3)
وأما النظام فيخطئ من يحسبه لغواً في جيش الدراويش لأنهم كانوا على نظام في الحركة لا يخرج من زمام القيادة، وإن كانت القيادة نفسها مضللة الزمام
وأما الحيلة فهي ليست في ذلك الجيش بالقليلة، بل لعلها كانت وشيكة أن تفلح في يومها، لو لم يتأخر الموعد ببعض القادة عن الهجوم في حين الحاجة إليه
إنما كانت الغلبة لزمن على زمن، ولغد على أمس، وكل معركة فيها الغد والأمس قرنان متصاولان فالغد صاحب الغلبة فيها لا مراء
وكنت أقرأ عن حروب عمر بن الخطاب وأنا أطوف بين بيت الخليفة وكرري وأذكر هذا الصراع إلى جانب ذلك الصراع
أكان القدر هو الذي ساقني في تلك الفترة إلى كرري، أم هو الذهن يشتغل بالشيء في حين من الأحيان فيرد كل ما يراه وكل ما يسمع به إليه؟
ليكن هذا أو ذاك. فقد علمت شيئاً من (كرري) وأنا أنظر في حروب الفاروق مع دولتي الفرس والروم، ولم أكن لأجمع بين العبرتين لولا أن وقفت بكرري وعرضت فتوح عمر وأنا واقف هناك
إن العقيدة لتظفر بما تريد وهي مع الغد على وفاق، ولا تظفر بشيء ذي بال وهي مع الغد على عداء
ولم تكن العقيدة ناقصة في جيش الخليفة عبد الله، بل كان له حظ منها كأوفى الحظوظ، وكان الرجل من الدراويش يهجم على النار بغير سلاح ولا يبالي الموت، فقصارى جزائه من هذه الشجاعة كان أن يموت
وكانت العقيدة زاد المسلمين في جيوش عمر فشجعوا وظفروا وعاشت عقيدتهم بعد من ماتوا، لأنها كانت عقيدة يحارب معها الغد وتجري في طريق التقدم، فلا تتصارع العقيدة والغد إلا كان النصر للغد على العقيدة، ولا يتفقان ويغلبهما غالب كائناً ما كان حظه من الجند والسلاح.
عباس محمود العقاد(479/4)
منهاج الذاتية الأدبية
للدكتور زكي مبارك
صديقي. . .
كتبت إليّ تسأل عن المراد من (الذاتية الأدبية) وهي كلمة يكثر ورودها على سنان قلمي، ثم تدعوني إلى رسم المنهاج، إن كان لها منهاج
وأجيب بأن الذاتية الأدبية هي أن تكون أنت أنت فيما تكتب وفيما تقول، بحيث يشعر من يقرأ لك، أو يستمع إليك، أنك تنقل عن قلبك وضميرك، وأن لك خصائص ذاتية لا يزاحمك فيها سواك، وأنك لو نشرت مقالاً بدون إمضاء لتم عليك الروح قبل أن يتم عليك الأسلوب، فإن الأساليب قد تتشابه في كثير من الأحايين تشابهاً يسمح بإضافة آثار كاتب إلى كاتب، أو شاعر إلى شاعر، أو مؤلف إلى مؤلف، عند طيّ الأسماء
أما التشابه في الأرواح فهو نادر الوجود، ولعله لا يقع إلا عند ضعف الأرواح، كما تتشابه الغرائز أو تتماثل عند صغار الطير والحيوان
ولتوضيح هذه النظرية أذكرك بمعلقة امرئ القيس ومعلقة لبيد، فمعلقة امرئ القيس يمكن أن تضاف إلى غيره من الشعراء، ويمكن لأي شاعر أن ينظم مثلها بلا عناء، أما معلقة لبيد فهي شعر لبيد، ولن يحاكيه فيها شاعر، ولو قضى العمر في رياضة النفس على الاقتداء
وبفهم هذه النظرية تتضح مشكلةٌ عجز عن حلها من تحدثوا عن المتحول من الشعر الجاهلي، لأنهم يبنون أحكامهم على الأساليب لا على الأرواح؛ فرقّة الأسلوب هي عندهم خَصيصة حضرية، وجزالة الأسلوب خَصيصة بدوية، وعلى هذا يقاس، كما صنع سعادة الدكتور طه بك حسين
الروح هو الأصل في تقدير القيم الأدبية، وعن الروح يتفرع الأسلوب. ولو شئت لقلت إن لكل كاتب أساليب تختلف باختلاف مقامات الإنشاء، كما تختلف نظرات العيون باختلاف مقامات الحديث، وكما تختلف نبرات الأصوات لمثل تلك الأسباب، ثم يبقى الروح الذي يدل على صاحبه في جميع الحالات بلا استثناء
فانظر أين أنت من هذه الحدود: أينم عليك روحك؟ أينم عليك أسلوبك؟ أتنم عليك التبعية(479/5)
الذليلة في الروح والأسلوب لأحد الكتاب أو أحد الشعراء
أنظر أين أنت، فأنا أحب أن أعرفك بالروح قبل أن أعرفك بالأسلوب، وافهم جيداً أنه لا قيمة لأديب بلا روح، روح أصيل تعرفه بسيماه، ولو أقبل عليك ملَّثماً مع ألوف من الأرواح
هل قرأت سورة يوسف؟
في تلك السورة الكريمة آيةٌ صريحة في أن يعقوب وجد ريح يوسف قبل أن يصل القميص، وأنه شُفِي من عماه عند وصول القميص
فهل تفهم المراد من هذا الرمز الطريف؟
هل تفهم كيف يدرك الأعمى أشياء بطريق لا سمع فيه ولا لمس؟
هذا هو الروح الذي أحب أن تلتفت إليه في حياتك الأدبية؛ الروح الذي يدل عليك من أول سطر، أو من أول حرف، قبل أن يرى القارئ اسمك في خاتمة مقالك، فإن وصلت إلى هذا فأنت من أصحاب الذاتية
ولكن كيف تصل؟
هنا يبدأ الحديث عن المنهاج:
يجب أولاً أن تحرر عقلك وقلبك وروحك من جميع الأوهام والأباطيل والأضاليل. ومعنى هذه الوصية أنه يجب أن تنظر في جميع الأشياء وجميع المعاني نظرة استقلالية منزهة عن الخضوع لنظرات من سبقوك ولو كانوا من أعاظم الرجال، لأن الغرض هو أن تصبح روحك جارحة من الجوارح، وهي لا تصير كذلك إلا إن عودتها الفهم والإدراك بلا وسيط. وهل تكون الروح أقل قيمة من الرِّجل، يا بني آدم، والرجل لا تمشي إلا إن عودناها المشي؟
وإذا كان علم السباحة لا يُعّرف بالوصف، وإنما يُعَرّف بالتدريب على مغالبة الماء في أيام أو أسابيع، فعلم الروح لا يدرك بالوصف، وإنما يدرك بتدريب الروح على التذوق والتفهم في أعوام أو أزمان
أراد سابح عبور النيل فغرق، وأراد سابح عبور المانش فنجح، مع أن السباحين توأمان. فكيف نجح هذا وغرق ذلك؟ يرجع الفرق إلى اختلاف التمرين والتدريب. وما يقال في(479/6)
القوة الجسمية يقال في القوة الروحية. فعاود روحك بالتمرين والتدريب في كل وقت، واحفظها من الغفلة عن إدراك دقائق الفروق بين الأشياء والمعاني، وعودها التفكير في جميع ما ترى عيناك، وما تسمع أذناك، وما يهجس به الخاطر في اليقظة أو في المنام، فالنوم كلمة سوقية وليس له مع حياة الروح وجود
إن عملت بهذه الوصفة عاماً أو عامين ظفرت حتماً بالحاسة الذوقية، وهي مفتاح الظفر بالذاتية الأدبية، فتوكل على الله وابدأ من هذا اليوم
ويجب ثانياً أن توطن النفس على الغربة الأبدية ولو كنت في دارك وبين أهلك، فالمفكرون في جميع العصور غرباء
لن يكون لك ظهير غير قلمك، ولن يكون لك نصير غير روحك، فاعرف أين تضع قدمك قبل أن تخاطر بنفسك فتصحب رجال القلم البليغ
إن صحبتنا متعبة ومضنية ومؤذية، لأن طريقنا أشواك من تحتها أشواك، وقد رحبنا بالظمأ والجوع، وبما هو أفتك من الظمأ والجوع، في سبيل الذاتية الأدبية، فانظر كيف تصنع إذا ضَعُفتَ عن السير في بداية الطريق، أو في منتصف الطريق، طريق الموت أو الخلود
أنا أرحمك فأنهاك عن الاحتراق بنار الأدب، وليتني وجدت من ينهاني قبل أن أحترق!
إن صريع الأمواج يجد من يمدّ له يد الإنقاذ والإغاثة، أما صريع النيران فلا منقذ له ولا مغيث، ونحن صرعى النيران لا الأمواج
إن اللصوص يتعاطفون فلا يشهد بعضهم على بعض، ولا يكيد أحدهم لأخيه، ولسنا لصوصاً حتى نعِدك ونمنّيك، وإنما نحن أدباء يكتب أحدنا لزميله صحيفة الاتهام، بلا تورع ولا استحياء
ارجع قبل أن تحترق، أيها الخاطب لما يسمونه الأدب الرفيع
ولو أني أملك الرجوع لرجعت، فارجع أنت قبل أن يصعب عليك الرجوع، وقبل أن تصير الاستغاثة فوق ما تطيق
كان شيخنا العظيم (عبد الحميد بن يحيى الكاتب) زودنا بنصائح تحفظ كرامة رجال الأقلام، فهل سمعنا وأطعنا؟ هيهات ثم هيهات!
لا يخدعك السراب الخداع فتتوهم أن احتراف الأدب أنفع من الاتجار بالتراب، ولا تُطِع(479/7)
المضللين من أدعياء الأدب إلا إن ارتضيت إطاعة الشياطين
لقد نصحتك ونصحتك ثم نصحتك، فإن رأيت أن هذا النصح لم يؤثر في نفسك، ولم يصّدك عن عزمك، فأقبل ثم أقبل على الاحتراق باللهب المقدس، لهب الأدب، فنحن وحدنا الأحياء، ونحن وحدنا الخالدون، ولأعدائنا الموت والفناء!
إن كَلمةً تُضَمُّ إلى كلمة في ذكاء ولوذعية أشرف وأعظم وأنفع من كنوز تضاف إلى كنوز؛ وإن جود الله بالفكر والروح على من يصطفيهم من عباده، لهو أطيب الهبات، وأكرم الأرزاق
أقسم الله بالقلم ولم يقسم بالمال، ونحن بالله مؤمنون!
هل رأيت الله تخلى عن أديب سليم القلب قوي الروح؟
لقد خرج المتنبي هارباً من مصر في ليلة عيد، فكم ألوفاً من الدنانير أنفقت في مصر في تعليم أبنائها حكمة المتنبي؟
وقد مات محمد عبده بعلة أورثه إياها عقوق معاصريه، فكم أُلوفاً من النفوس حاولت التشرف بأنها رأته قبل أن يموت؟
وعانى مصطفى كامل الكاتب والخطيب أشتات التهم الأواثم، ثم كان من خصومه وحاسديه ومبغضيه من اشترك في صنع التمثال
ومرت آلاف السنين، والناس جميعاً يستوحشون من الليل، فكان غناء المصريين: يا ليل. . . يا ليل!!
صديقي:
أتراني شرحت المراد من الذاتية الأدبية، ثم رسمت لك المنهاج؟
هذه ومضة من ومضات، وسأرجع إلى إرشادك بالتفصيل، حين أطمئن إلى أنك أحد الأوفياء بالعهود.
زكي مبارك(479/8)
مهمة التعليم الجامعي
لمناسبة إنشاء جامعة فاروق الأول
للأستاذ عبد الله حسين
لعل من أمارات التوفيق أن يتاح لمصر إنشاء جامعة جديدة شاملة مختلف الكليات، وهي جامعة فاروق الأول في الإسكندرية التي ستفتتح في العام الدراسي الجامعي القريب. فقد حقق هذا أمنيةً طالما جاشت في الصدور؛ وسيكون من علائم التوفيق أيضاً أن يتاح لأبناء الصعيد جامعة في عاصمته (أسيوط)، وأن تتوالى بعدئذ الجامعات، فتصبح مصر موطناً صادقاً للثقافة في الشرق الأوسط، وتستعيد مصر حضارتها العلمية القديمة، حيث تخرج الأساتذة للعالم الشرقي العربي، وإن شئت للعالم كله
غير أن إنشاء الجامعات لا يحقق وحده هذه الأماني، متى كان الأمر مقصوراً على الصور والهياكل والأشكال. كما أن إنشاء البرلمانات وإقامة الدساتير ذات المواد الكثيرة، لا يحقق بذاته المعنى النيابي التمثيلي المنشود، مهما تتألف هذه البرلمانات من مجالس الشيوخ والنواب، بما تضمه من مكاتب ولجان؛ ومهما يكن للنواب من الحق في تقديم الأسئلة وتوجيه الاستجوابات وحق طرح الثقة، ما دام أن النواب لم يستطيعوا أو لا يستطيعون بالفعل، لا بعمل الدستور، أن يسقطوا الوزارات؛ بل إن من الوزارات ما يستطيع أن يسقط المجالس النيابية، ويلغي الدساتير، ويستبيح كل ما حرمته
ليس من شك في أن كل أمة تشغل بالعرض عن الجوهر، ويصرفها الشكل عن الموضوع - لن تظفر بما تبتغي من الأغراض، إذ أن هذه الأغراض ستظل أمنية وخيالاً بديعاً وحلماً جذاباً
من أجل هذا، نرجو أن يتاح لجامعة الإسكندرية ما لم تتحه الملابسات لجامعة القاهرة. فإن هذه الجامعة لا تزال جامعة شعبية أو في حقيقتها مجموعاً من المدارس العالية، غايتها عقد امتحانات وتوزيع شهادات، وانصراف حملتها بعدئذ إلى الوظيفة.
لم يتهيأ لجامعة القاهرة إلى اليوم أن ينصرف أساتذتها وطلبتها إلى البحث العلمي كغاية أولى للجامعة. ذلك أن نشأة الجامعة الأولى بجمع المدارس العالية التي كانت قائمة يومئذ تحت اسم الجامعة، والوقت السياسي، والتيار الحزبي الذي قامت فيه الجامعة، وفترة(479/9)
التحول من السيطرة الأجنبية على التعليم إلى الحكم التعليمي الوطني، وتشبع الكثيرين من رجال الجامعة وطلبتها بالطموح السياسي، والحفاوة بالأعمال الإدارية التي تطغي على القائمين بها لوناً من الجاه الحكومي؛ كل هذا قد صرف الأذهان كثيراً عن التجرد للبحث العلمي دون سواه من الغايات المادية والسياسية
وحسبنا أن نشير إلى ذلك العدد الكبير من رجال الجامعة الذين غادروا مقاعد التدريس إلى مناصب الدولة الأخرى، وتطلع من خلفوهم إلى هذه المناصب ذاتها
فإذا استطاعت الجامعة الوليدة، جامعة الإسكندرية الجديدة، أن تحقق المعنى الجامعي، بأن يقف أساتذتها وطلبتها جهدهم على المساهمة في البحوث العلمية، وأن يشاركوا في المجهود الذي تقوم به الجامعات الأخرى، حققنا الغاية من إنشاء الجامعة، على أن ندع لجامعة القاهرة مهمتها الشعبية من حيث تخرج حملة شهادات للتوظف، تاركين للزمان أن يهيئ لها تحولاً صادقاً إلى المعنى الجامعي الحقيقي.
كان المعنى الجامعي متحققاً في الأزهر في أشد الأزمات التي نزلت به، ذلك أنه كان هناك شيوخ وطلبة تجردوا عن المادة والجاه، للعلم الأزهري، يدرسونه في الأزهر والمسجد والدار وعلى قارعة الطريق وفي الأفراح والمآتم: كان الشيخ يتحدث إلى الناس في كل مكان جاعلاً علمه شائعاً لا يبغي من وراء ذلك جزاءً أو شكراً. أما إذا كان شيوخ الأزهر لم يوفقوا يومئذ في المساهمة العامة للبحث العلمي الإنساني، فإن مرجع هذا إلى الأحوال السياسية وفساد الحكم والحكام وعدم التشجيع.
فالتجرد للعلم والانصراف عن المادة أو توجيهها لخدمة البحث العلمي - هو العنصر الأول للجامعة لكي لا تكون اسماً أو رمزاً لا يدل على حقيقة
نريد علماء لا نشغلهم بالتقليب ولا يشغلون أنفسهم بالدرجات والرتب والأوسمة واتخاذ التدريس وسيلة إلى الجاه الحكومي على صورة من الصور. علماء يحج الناس من مختلف البقاع للتشرف بالاستمتاع إليهم والمباهاة بلقائهم واتخاذ مؤلفاتهم مصابيح للاهتداء ومراجع للاقتداء
وعندي أن هذا سيكون ميسوراً لجامعة الإسكندرية أكثر من جامعة القاهرة؛ حيث تتجمع فيها أندية السياسة والصحافة والأحزاب والألقاب وألوان الجاه، لن تفتأ تجلب إلى جاهها(479/10)
رجال الجامعة والتعليم. أما الإسكندرية فهي بمنجى عن هذا الجاه. في الإسكندرية الهدوء والصفاء وزرقة السماء والماء - الأمر الذي ينشده العلماء ولا يجدونه في القاهرة الصاخبة المتقلبة الضخمة
فعلى رجال الدولة - والأمر كما أوضحنا - أن يهيئوا الجامعة الإسكندرية ذلك الجو الجامعي، وتلك البيئة العلمية الحقة، لكي تستعيد مفاخر جامعة الإسكندرية القديمة
عبد الله حسين(479/11)
مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية
نقلاً عن (برنارد لويس)
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
2 - بداية الاستشراق
لقد رأينا كيف ذهب العلماء الإنجليز في القرون الوسطى إلى أسبانيا وصقلية لتلقي العلوم من العرب، وكيف نشروا ما اكتسبوه من عودتهم إلى إنجلترا. وسنتطرق الآن إلى تطوير جديد في الدراسات العربية، وهو ظهور ما ينبغي أن يسمي أوائل المستشرقين بالمعنى الذي تؤديه كلمة الاستشراق في العصر الحاضر. فقد حدثت تغيرات كبيرة في خلال السنين التي مرت على الزمن الذي مر بين الدور الذي درسناه في حديثنا السابق، والدور الذي سنأتي إليه الآن. فتقدمت أوربا تقدماً ذا شأن في العلم والمعرفة، وفقد العرب تفوقهم القديم، ولم يعد من الضروري للدارسين من الأوربيين أن يتطلعوا إلى مدرسين من العرب، ليتلقوا منهم العلوم العامة، وأخذنا نشاهد نوعاً جديداً من الاستشراق، وهو ذلك النوع الذي يعتبر أساً للاستشراق الحديث؛ فقد أخذ الباحث الإنجليزي يدرس العربية لا لتحصيل ما يمكن أن يأخذه من العالم العربي من فلسفة وعلم، بل من أجل الثقافة العربية نفسها. وللمرة الأولى شرع الإنجليز في دراسة اللغة العربية والآداب العربية دراسة جدية. وكان عملهم - كعمل المستشرقين المحدثين - ذا نفع للعرب بقدر نفعه للفرنك، وهو ينطوي على جمع القواميس العربية والنحو والصرف ونشر المخطوطات العربية - قبل أن يتم طبعها في الشرق بزمن طويل - والبحث العلمي في تاريخ العرب وآدابهم، وغير ذلك من مظاهر النشاط التي تدخل في هذا المضمار. وقد بدأت هذه الحركة في القرن السابع عشر، وفي هذا القرن أنشئ منصب أستاذية اللغة العربية في جامعتي أكسفورد وكامبردج؛ وأخذ الأساتذة الإنجليز يدرسون اللغة العربية لعدد من المتشوقين لها من الطلاب، وطبعت أوائل الكتب العربية في إنجلترا. وعلينا أن نأتي بشيء من التفصيل لحياة بضعة أفراد من ذوي المشاركة في هذه الأعمال:
إن الرجل الذي يعرف بصورة عامة بأنه (أبو الدراسات العربية) في إنجلترا هو (وليم(479/12)
بدويل) (1561 - 1632) وله مقالة طريفة يؤكد فيها أهمية اللغة العربية وضرورة تعلمها، وهو يصفها بكونها (لغة الدين الوحيدة، واللغة الرئيسية للدبلوماسية والأعمال من الجزر السعيدة إلى بحار الصين).
وتكلم عن نفعها في الآداب والعلوم. ولقد كان لبدويل بعض الشهرة في عصره، وعرف في جميع أوربا بأنه عالم بالعربية، وكان أهم أثاره معجماً عربياً في سبعة مجلدات لم يطبع لسوء الحظ.
وفي وسعنا أن نذكر في بعض كتبه بعض الأصول العربية التي طبعت في إنجلترا، وبعض الدراسات عن القرآن، ومعجما للألفاظ العربية المستعملة في اللغات الغربية من العهد البيزنطي إلى عهده هو
وهناك شخصية أخرى هي شخصية (أدموند كاستل) (1606 - 1658) وهو أحد أوائل أساتذة كامبردج في اللغة العربية، وقد كان الأثر الذي أفنى فيه حياته هو (قاموس اللغات السامية)، استنفد تصنيفه منه ثمانية عشر عاماً، وطبع لأول مرة في سنة 1669. ويتكلم مؤلفه في مقدمته عن (الإثني عشرة عاماً التي انقضت في العمل المستمر لما يزيد على 16 أو 18 ساعة في اليوم - ونادراً في ما قل عن هذا المقدار - من السهاد، وضنى الجسم، وضياع المال). وقد كان هذا القاموس - وهو الأول من نوعه - عظيم لأهميته وأعيد طبعه عدة مرات في إنجلترا وأوربا. ونذكر من جملة آثار كاستل الأخرى عجالة عن أهمية اللغة العربية، وتعليقاً على أبن سينا، ومجلد أشعار عربية مهدي إلى الملك شارلس الثاني ملك إنجلترا
ومنهم (جون كريس) (1602 - 1652)، وهو أحد الرياضيين المشهورين. وكان وقتاً ما أستاذ علم الهيئة في جامعة أكسفورد. وكان كثير الأسفار إلى الشرق الأدنى وعلى الأخص إلى مصر، ودرس اللغة العربية والفارسية دراسة جدية، واقتنى مجموعة كبيرة من المخطوطات العربية والفارسية، والنقود والجواهر، وطبع أجرومية صغيرة للغة الفارسية. وكان اهتمامه الرئيسي في الناحية الرياضية من أدب المسلمين فنشر عدة نصوص ودراسات في هذا الموضوع، وكان أخوه (توماس كريفس) يعرف العربية أيضاً والفارسية ونشر بضع مقالات(479/13)
ونذكر من جملة العلماء في العربية الآخرين في القرن السابع عشر (إبراهام ويلوك) وهو أول أستاذ للغة العربية في جامعة كامبردج؛ و (سامويل كلارك) صاحب عجالة في القريض العربي ومفردات بعض أسماء الأماكن العربية؛ و (بريان والتون) الذي طبع الإنجيل بعدة لغات شرقية؛ و (وددلي لوفتس) وهو أحد علماء وفقهاء القانون الإرلندي. وقد لعب (جون سلدان) (1584 - 1654)، السياسي القانوني دوراً مهماً في الحياة الإنجليزية في ذلك العهد، وكان يعرف عدة لغات شرقية منها اللغة العربية فضلاً عن معلوماته الأخرى. وقد نقح ونشر بعض النصوص التاريخية، وترك وراءه مجموعة من المخطوطات الشرقية
ولقد كان أعظم العلماء بالعربية في ذلك الحين بلا منازع هو (ادوارد بوكرك) (1604 - 1691) الذي كان أول من شغل منصب أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد، وأول المستشرقين الأوربيين الذين قاموا بأعمال من الدرجة الأولى حقاً؛ فقد بدأ بوكرك دراسته للغة العربية في أوائل عمره؛ وكان وليم بدويل يرعاه، كما قام (ماثياس باسور) - وهو أحد النازحين من ألمانيا بسبب الاضطهاد - بتعليمه مدة من الزمن في جامعة أكسفورد. وذهب في سنة (1630) إلى حلب حيث قضى هناك خمس سنوات أتقن في خلالها اللغة العربية كتابة ولفظاً، واقتنى مجموعة من نفيسة من المخطوطات العربية جاء بها معه عند عودته إلى أكسفورد، وبذلك أنقذها من التلف الذي كان من المحتمل أن يحل بها، وأنشأ لنفسه صداقات مع كثير من الحلبيين وعلى رأسهم (الشيخ فتح الله) أحد العلماء الذين درس عليهم، وقد بقى صديقاً له مدى حياته.
وفي سنة 1636 عندما عاد بوكرك إلى إنجلترا عين في المنصب الذي أنشئ حديثاً للغة العربية في أكسفورد، حيث حاضر في الأدب العربي وقواعد اللغة العربية، وبدأ فصوله تلك بمحاضرة عن أهمية اللغة العربية والأدب العربي. وشرع في سلسلة محاضرات يدرس فيها أقوال الإمام علي.
وفي سنة 1637 زار مصر للمرة الثانية بغية الحصول على معلومات جديدة ومخطوطات جديدة، وقد عاد إلى أكسفورد في سنة 1641 وخصص أيام حياته الأخيرة للعمل المنتج في إنجلترا، وكان (جون كريفس) الرياضي قد صاحبه في رحلته الثانية.(479/14)
وفي خلال إقامته الطويلة في أكسفورد - حيث كان يجلس في ظل شجرة التين التي جاء بها معه من سوريا، والتي لا تزال موجودة إلى الآن، وهي أقدم شجرة من نوعها في إنجلترا - أخرج بوكرك عدداً كبيراً من الكتب المهمة نذكر منها ما يلي:
1 - (نموذج من تاريخ العرب): وهو نصوص من تاريخ أبي الفرج، مردفة بسلسلة من الدراسات المستفيضة عن النواحي المختلفة لتاريخ العرب، وعلومهم، وآدابهم، ودينهم. وهذا الكتاب من أهم آثار المستشرقين، وظل يحيل هذه المنزلة لدى العالم مدة طويلة. طبع في أكسفورد سنة 1649 وأعيد طبعه في سنة 1806
2 - لامية العجم: وهي طبعة انتقادية لقصيدة الطغرائي الخالدة، وقد أوقفت بترجمة وشروح وملاحظات، وطبعت في أكسفورد سنة 1661
3 - المختصر في تاريخ الدول: وهو النصر الكامل لتاريخ أبي الفرج مع ترجمته.
لقد وسم (بورك) بحياته وأثاره دوراً من أدوار الدراسات الأوربية الشرقية بميسمه، وكان ذا شهرة مستفيضة في زمنه، ويدين له جميع أنحاء العالم الذين خلفوه بدين كبير. وكان العلماء في جميع أنحاء أوربا والشرق يكتبون إليه طالبين المعونة والإرشاد، ويفد إليه العدد الكبير من الطلاب من البلاد القصية - كرومانيا مثلاً - إلى أكسفرد، لدراسة اللغة العربية على يد أعظم أساتذتها الأحياء في أوربا. ولقد وصفه قرينه في معرفة اللغة العربية المستشرق الهولندي كوليوس أستاذ اللغة العربية في جامعة ليدن نفسه بأنه (لا يدانيه أحد في عالم الاستشراق). وقد ترك زيادة على الكتب التي مر ذكرها عدداً من الدراسات الأخرى ومجموعة من (420) مخطوطة اقتنتها بعد موته مكتبة أكسفورد ولا تزال هناك حتى الآن، وهي تكون جناحاً ذا قيمة من القسم العربي من تلك المكتبة.
ولقد خلف ستة أبناء كان أكبرهم - واسمه إدوارد بوكرك أيضاً - (1684 - 1727) قد تابع خطة أبيه واعتنق الدراسات المشرقية، وقام بطبع عدة كتب من ضمنها الطبعة التي لم تكمل لتاريخ مصر لعبد اللطيف، وترجمة لإحدى خوالد ابن طفيل الفلسفية
وعلى ذلك كان القرن السابغ عشر دور تطور عظيم في تاريخ الدراسات العربية في إنجلترا. ويمكن إرجاع سبب الاهتمام الجديد بالدراسات المشرقية إلى عدة عوامل يأتي العامل اللاهوتي في أولها ولا شك، فقد كان من المفهوم في ذلك الحين أن اللغتين العربية(479/15)
والعبرية متقاربتان كل التقارب. ومن المؤمل أن تؤدي دراسة اللغة العربية إلى إلقاء ضوء جديد على (العهد القديم). وأوغل من ذلك في الأهمية هو الإدراك الجديد لمنزلة اللغة العربية والتاريخ العربي من الوجهة الثقافية. ولقد شهد العصر المتقدم عهد إحياء جديدة للدراسة على أوسع معانيها؛ فشملت الاهتمام الجديد باللغات والدراسات الكلاسيكية، وكان من الطبيعي أن يدرك طلاب التاريخ البشري والمدنية أهمية اللغة العربية العظمى بين تواريخ الإنسان، وأن يعملوا على طلب المزيد من معرفتها. وقد كتب كل من بدويل وكاستل وبوكوك جميعاً مقالات عن أهمية اللغة العربية بصورة عامة، والحاجة إلى أن يدرسها رجال أكفاء
وينبغي أن نذكر أخيراً العلاقات المستجدة في التجارة والسياسة بين إنجلترا والشرق الأدنى، وما أطلقته من مصالح ومناسبات، فبفضل تلك المناسبات أتيح لبوكوك أن يقوم برحلتيه المثمرتين إلى الشرق، وكانت تلك المصالح متسعة الأرجاء ولم تقتصر على رئيس الأساقفة (لور) ولم يكن هو الوحيد الذي اهتم بنشر الدراسات العربية في إنجلترا، والمتبرع بالكرسي الأدبي للغة العربية في اكسفرد
وبالرغم من الاضطرابات التي أحدثتها الحرب الأهلية في نهاية القرن السابع عشر، فإن هذا العصر كان جديراً بالاعتبار، فقد تألفت فيه مراكز للدراسات العربية في اكسفورد وكامبردج، وطبع عدد كبير من الكتب، وأنشئ عالم جديد أنتج فيما تلا ذلك من العصور عدداً متتابعاً من الباحثين المشهورين الذين زادت آثارهم في ثروة الميراث الثقافي لكل من العرب وأوربا، وسنتكلم عنهم فيما يلي من هذه الفصول.
عبد الوهاب الأمين(479/16)
ضرورة الإفصاح عن الرغائب
للأستاذ حسين الظريفي
كان مما تناولناه في مقال لنا سابق عن الرغائب، تلك القوة الديناميكية التي تتمتع بها الرغبة، وتندفع إلى الظهور؛ وما تلك القوة إلا وليدة ذلك الرباط الذي تربط به بالغريزة. والغريزة لا ريب تراث ذلك الماضي الطويل الذي يظل يتقهقر ويتقهقر حتى يتصل بأول الخليقة؛ فليس مما يقع في الإمكان أو يتصور في الأذهان، أن تبطل هذه الغرائز، أو ينعدم ما تتمخض عنه من الرغائب، ونحن لم نزل في ظروف وبين وقائع إن لم تكن مثل تلك التي احتضنت الإنسان الأول فإنها لها مقاربة. وما كان لبشر أن يحيا مجرداً عن الرغائب، وهي التي تشعره بوجوده وتدفع في طريق الأمل والعمل
والحقيقة التي يدور عليها مركز ثقل الموضوع في هذا المقال، هي أن الرغبة لا تخلو إما أن تكون تطوراً لغريزة، أو عوضاً عنها. فنحن كنا نعيش بالغريزة العمياء، حتى إذا أبعدت الحياة في مراحل التقدم، أخذت بعض الغرائز تستحيل إلى رغائب بحيث لا يبقى لها من اثر فيما استحالت إليه، إلا ذلك المعنى الذي يدفع أو يمنع. ونحن إنما نطوّر الغريزة إلى رغبة، أو نستبدل هذه بتلك، بذلك العامل الفكري الذي تمتع به الإنسان منذ عهده الأول فحدا به إلى التقليد تارة وإلى التجربة مرة أخرى، حتى انتهى به المطاف في مراحله الكثيرة إلى أن اصبح مجموعة رغائب بقدر ما كان مجموعة غرائز
وأخذت الرغبة من أمها الغريزة ما لها من قوة وفتوة، وأصبحت في نفس الإنسان مظهر قلق من هذا، وعامل إقدام أو إحجام من ذاك، ولكنها على كل حال تأبى إلا أن تدُرك مالا يُترك، وإلا بقيت في النفس شغلاً شاغلاً أو علة دفينة. فنحن لا يمكن أن نشعر بالسعادة ولو كانت محدودة في النوع وفي الزمن، ما دامت إحدى رغائبنا القوية لا تصل إلى ما تريد الوصول إليه. تلك هي العلة في شكوى أكثرنا مما يقع لهم في الحياة، حتى تكاد تضيق بهم على الرغم ما لها من سعة وما فيها من متعة. فتيار هذا الشعور إنما يرجع إلى مصدره في أعماق النفس ولا شأن له مع الخارج
غير أن قضاء هذه الرغبة وحده لا يكفي في إيجاد الشعور بالسعادة، وإنما يجب أن يرى هذا القضاء على شكله النافع لمن قامت هي عنده ولغيره من الناس. فالرغبة في ذاتها لا(479/17)
تمثل خيراً ولا شراً، وإنما تضر أو تنفع بالقياس إلى طريق إشباعها من جوع وإروائها من ظمأ؛ لذلك أمكن أن نتخذ من الرغبة مهما كان نوعها أو لونها، عامل نصر في معركة الحياة
إن في طيات النفس ضروباً من الغرائز إحداهن غريزة المقاتلة، غير أن هذه الغريزة لم تَعُد تفصح عن نفسها في أوساط الحضارة وفي أغلب الأحيان، كما كان يفصح عنها الإنسان الأول في بيئته المتأخرة وإدراكه المحدود؛ فبعد أن كان الأوائل من أهل القرون الموغلة في القدم لا يكتفون في إشباع هذه الغريزة بغير القتل والتمثيل، أصبح لنا من وازع الضمير ومن قوة القانون ما يحول دون الإفصاح عن الغريزة بلغتها الأولى، فقد تثور في داخلنا الرغبة في القضاء على الخصم، إلا أن مانعاً يقيمه الضمير، أو رهبة تبعثها العقوبة، أو هذه وذاك مجتمعين، يحولان دون تلبية الرغبة الأولية بذلك اللسان القديم، فنختار طريقاً آخر في أمين حاجة النفس إلى إيذاء العدو، فنتعقب عيوبه ونعلنها للملأ أو نريه أنَّا له مهملون
إن من طبيعة الغريزة أنها لا تظهر إلا بما هي فيه وعليه من غير تلوين أو مراوغة. ذلك لأنها خلوة من التبصر والتدبر، فلا تعرف معنى لاختيار الأصلح في الهدف وطريقة الوصول إليه. ثم هي لا تقيم وزناً لقوة الظروف وماهية الوقائع، وإنما تتجه إلى الغاية في ذات الطريقة. لا تتلف ولا تتكلف. ولكن بظهور حياة التمدن وتقُّيد هذه الحياة بآداب الوسط الجديد وبأحكامه الآمرة أو الزاجرة، وجد المرء نفسه بحاجة إلى تعديل ما في بعض غرائزه الفطرية وإلى الاستعاضة عن بعضها الآخر بما دعوناه بالرغائب. وكانت هذه التطورات والتغيرات المتلاحقة على الغريزة أثراً لتلك المراحل الطويلة التي قطعها الإنسان في سبيل التقدم، وصدى لذلك الصوت العميق المنبعث من أعماق الضمير
يتضح من كل ما تقرر أن الخلق ليس إلا مظهراً لرغبة تقيم في العقل، ما أعلن منه وما أبطن، فإذا نحن أردنا استبدال خلق بآخر أو إجراء تعديل فيه، فلا مندوحة لنا عن التعرف بتلك الرغبة التي صدر عنها ذلك الخلق، ومن ثم إشباعها بصورة حميدة تقضي على شذوذ في السلوك. أما إذا نُظر إلى الخُلق وحده، وأهملت الرغبة التي تكمن وراءه، فإن كل مسعى في إصلاحه يذهب سدى(479/18)
وأفضل ما يضرب به المثال في هذا المجال، ذلك الباعث الأول والدافع الأصيل في النفس وأعنى به (الغريزة الجنسية) فإن إشباعها وإرواءها مما لا مفر منه ولا محيص عنه. فإذا اصطدمت هذه الغريزة بما حال دون الإفصاح عنها، واضطرها إلى التواري من مجرى الشعور إلى ما وراءه - أبت وهي في قاع النفس إلا أن تضطرب وتلتهب وترسل في وسطها المظلم تيارات خفية من الأوامر والنواهي، تظهر على المصاب عند تلبيتها بمظاهر الشذوذ
فنحن نبدو عاجزين عن معالجة العليل إذا فصلنا الشذوذ عن الرغبة الغريزية التي تحيط به وتغذَّيه؛ فالإصلاح يجب ألا يتناول الخلق ذاته، وإنما يجب أن يتجاوزه إلى ما وراءه من بواعث خفية هي ولية الأمر في كل شذوذ عن المجموع، وفي كل ظاهرة تمر، وأخرى قد تصل إلى مرتبة الجنون، أو تؤدي إلى ارتكاب الجريمة
وقد ظهر أن هذه الغريزة قد تستفيد طاقتها وتستفرغ وسعها في صور شتى هي خلاف اجتماع الذكر بالأنثى، كالانصراف إلى الرياضة، والاشتغال بالفنون الجميلة؛ فإذا نحن عرفنا مصدر الشذوذ في الخلق وأرجعناه إلى ظمأ هذه الغريزة، كان في مكنتنا تسوية هذا الشذوذ بإزالة ذلك الظمأ. . . تلك هي الطريقة الصحيحة في تقويم ما أعوج وبناء ما انهدم من جوانب أخلاقنا واتجاهاتنا وأهدافنا في الحياة. والأمر أهون مما يُظن متى كشف عن دخيلة النفس، واستجيبت دعوة تلك الرغبة بما يرفع عنها الضغط ويعلو بها القاع
حسين الظريفي(479/19)
التصوير عن العرب
كتاب المرحوم أحمد تيمور باشا
للأستاذ صلاح الدين المنجد
كان أحمد باشا تيمور، أمة في النبل والعلم والأخلاق؛ وركناً من أركان العربية في الشرق؛ وكان نقابة بحّاثة متتبعاً. ما طرق موضوعاً إلا محص وحقق وجلَّى، وما ألف إلا جمع وأطرف واستقصى. ثم مضى، يرحمه الله، وخلَّف ما يدل على سعة اطلاع، وغزارة علم وَفِرَة مطالعة. وما خزانته النادرة إلا دليل فضله وآية فُرارته وعلمه
كان، رحمه الله، إذا ألف أتى بما يعجز الكثيرون من المتتبعين والمحققين والجماعين عن إدراكه وجمعه. ولقد ترك لنا كثيراً من التواليف النوادر الحسان، منها كتاب (التصوير عند العرب) هذا. ولقد عنيت في الأيام الخوالي بهذا الموضوع، فلم أعرف أحداً بلغ فيه، من دقة الاستقصاء، وجودة الانتقاء، وندرة المنتخب، وحسن التبويب والترتيب، ما بلغة العلامة المؤلف. فقد جعله على خمسة عشر باباً؛ فساق ما جمعه عن التصوير على الثياب والستور، والأقداح والأواني، والمصابيح والسلاح، والنقود، والشارات والبنود، والكتب والصحف والألواح. ثم بحث في التماثيل، منذ أيام الجاهلية إلى عصور المتأخرين الثابتة منها والمتحركة، الصامتة والمصوَّته، وتماثيل الصبيان، وتماثيل الزهر، والحلوى؛ وختم الكتاب بفصل نادر ذي شأن عن المصورين العرب
وقد خص الدكتور زكي محمد حسن هذا الكتاب الثمين بعنايته، فرد نصوص الكتاب الثمين بعنايته، فرد نصوص الكتاب إلى أصولها وصفحاتها، وألحق به تعليقات وشروحاً وتفصيلات بلغ في بعضها الذروة من حيث التحقيق والتمحيص وجمال البحث، ككلامه على التصوير عند المسلمين
وقد بدت لي، أثناء مطالعتي هذا الكتاب، ملاحظات من مآخذ وإضافات أردت نشرها تباعاً في هذه المجلة الغراء
1 - ساق المؤلف خبر بساط أم المستعين الذي صُوّرت عليه صورة كل حيوان ص 29؛ فقال الأستاذ زكي محمد في التعليقة ذات الرقم (136): لم نقف على المرجع الذي أخذ هذا الخبر منه. وقد وجدنا نحن هذا الخبر في كتب شتى؛ كعيون التواريخ (مخطوطة المكتبة(479/20)
الظاهرية بدمشق) وكالمستطرف في كل فن مستطرف. فقد جاء في المستطرف، وهو لا يختلف عما ذكره ابن شاكر في عيون التواريخ ما يلي: (قال أحمد بن حمدون النديم: عملت أم المستعين بساطاً على صورة كل حيوان من جميع الأجناس، وصورة كل طائر من ذهب، وأعينها يواقيتُ وجواهر)
ويستدل من تتمة الخبر أن بعض هذه الصور كان تماثيل، وربما كانت كلها تماثيل. . . فقد جاء بعد ذلك (. . . وأنفقت عليه مائة ألف ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وسألته أن يقف عليه، وينظر إليه، فكسل ذلك اليوم عن رؤيته. قال ابن حمدون: فقال (يعني المستعين) لي ولأترجة الهاشمي اذهبا فانظر إليه. وكان معنا الحاجب، فمضينا ورأينا؛ فوالله ما رأينا في الدنيا شيئاً أحسن منه، ولا شيئاً حسناً إلا وقد عمل. فمددت يدي إلى غزال من ذهب عيناه ياقوتتان، فوضعته في كمي. ثم جئناه فوصفنا له حسن ما رأينا. فقال أترجة الهاشمي يا أمير المؤمنين إنه قد سَرقَ منه شيئاً، وغمز على كمي. فأريته الغزال. فقال بحياتي عليكما أرجعا فخذا ما أحببتما. فمضينا، فملأنا أكمامنا وأقبيتنا) واقبلنا نمشي كالحبالى فلما رآنا ضحك ضحكاً وسَر سروراً عظيماً. . .)
2 - نقل المؤلف عن النويري وصف قصر المتوكل (البرج) فقال:
(وكان فيه صور عظيمة من الذهب والفضة، وبركة عظيمة غشى ظاهرها وباطنها بصفائح الفضة وجعل عليها شجرة من ذهب فيها طيور تصفر سّماها طوبى. . .)
قلت: وفي كتاب الديارات للشابشتي الذي فرغت من تحقيقه تتمة للوصف لها علاقة بالبحث. قال الشابشتي: (وعُمل له سرير من الذهب كبير؛ عليه صورتا سبعين عظيمين، ودرج عليها صور السباع والنسور وغير ذلك مما يوصف به سرير سليمان ابن داود عليه السلام. وجعل حيطان القصر من داخل وخارج ملبسة بالفسيفساء والرخام المذهب)
3 - أضف إلى ما ذكره المؤلف في باب التصوير على الجدران ما يلي:
(وقد وجُد على جدران قصر الحير الغربي (وهو القصر الذي كان لهشام بن عبد الملك، واكتشف أخيراً في بادية الشام بين تدمر والقريتين؛ ونقل إلى دمشق، وأعيد تركيب أجزائه) أقول: وجدوا على جدرانه وأرضه كثيراً من الصور والزخارف الملونة؛ من أعظمها ما عُثر عليه داخل غرفتين فيه، رُصَّفتْ أرضها بالجصَّ المصور. تمثل الأولى(479/21)
سماوة امرأة تحمل بين ذراعيها سلَّة فيها ثمار، وقد التف حول عنقها ثعبان، وفوقها صورة (قنطورسين) بهيئة رَجُلين نصفهما الأسفل ثعبان له مخالب سبع. ورسم في أرض الغرفة الثانية مرزبان على جواده يطارد غزلاناً يرميها بالسهام. وصورة قينتين، الأولى تنفخ بمزمار، والثانية تضرب بمرهب الخشب على عود ذي خمسة أوتار. وحجم هذه الصورة يعادل حجم الإنسان ويزيد عنه في بعضها، وهي متقنة الصنع، زاهية الألوان، ساذجة الخطوط طبيعية الحركات)
4 - أضف إلى ما ورد في باب التماثيل ما يلي:
(ومما وحُد على قصر الحير المنوه به في الفقرة السابقة، تمثال امرأتين كانتا في مدخل القصر إحداهما جالسة، والثانية مستلقية على ظهرها تشبه صنعتهما التماثيل التدمرية المعروفة. وكأنهما نقلتا عن صورة الجاريتين اللتين مر بهما أوس بن ثعلبة فاستحسنهما وأنشد فيهما:
فتاتئ أهلُ تدمر خبِّراني=ألمَّا تسأما طول المقام
قيامكما على غير الحشايا=على جبل أصمَّ من الرُّخام
5 - أضف إلى الباب نفسه (التماثيل) ما ذكره البيروني في الجماهر (طبع كرنكو حيدر آباد الدكني) (أن زبيدة اشترت لعبد الله بن المخلوع قضيباً من زمرد قدر ذراع بأربعة وثمانين ألف دينار، ليلعب به يوم أعذاره. وكان على رأسه طائر من ياقوت أحمر وعيناه من الجوهر)
6 - ذكر المؤلف نقلاً عن طبقات الشافعية للسبكي ص 86 أن أبا علي الروذباري اشترى أحمالاً من السكر، فصُنع له منه جدار عليه شرفات)
قلت: وفي ربيع الأبرار للزمخشري خلاف هذا، قال: (أشترى رجل أحمالاً من السكر، وأمر باتخاذ مسجد من السكر ذي شَرفَ ومحاريب وأعمدة منقوشة. ثم دعا الفقراء فهدموه ونهبوه)
7 - وثمة خبر آخر عثرت عليه في هذا الباب. قال صاحب ذيل زهر الآداب عند كلامه على وليمة العباس بن الحسين ابن. . . لأحمد بن بويه (واصطنع في البستان الأعظم على البركة التي يجتمع بفنائها دجلة والفرات، قصراً مبنياً من السكر على أربع طبقات، بأبواب(479/22)
تدور به، وأبواب تغلق عليها، من فوقها طبقة فطبقة، تطلع تلك الأبواب صور من السكر على هيئة الجواري والغلمان، بصنوف الملاهي، في أحسن الملابس والحلل؛ وجعل على شرفاتها وطبقاتها وحناياها صور أنواع الطير والحيوان والوحش. وجعل من ورائها رجالاً تنفخ بالبوقات والمزامير، كل صنف يخرج منه صوت يليق بصورته، وكل ذلك من السكر المموه بصنوف الصباغ والنقوش والذهب)
8 - أضف إلى باب التماثيل، ما ذكره التنوخي في نشوار المحاضرة، وهو يدل على أنهم كانوا يصنعون تماثيل على هيئة الفاكهة. قال من قصة طويلة يصعب تلخيصها (. . . وأدخلنا إلى فازة لطيفة من ديباج (وهي مظلًّة كبيرة تمد بعمود على قول الجوهري، أو بعمودين على قول الفيروزابادي)؛ وفيها صندل محلاة بفضة؛ فيها دُسُت ديباج وُحُصر طبرية. ونحو ثلاثين طاولة مسبكة بالذهب كلها، عليها تماثيل العنبر على هيئة الأترج والبطيخ والدستبو. . .)
9 - أضف إلى ما ذكره المؤلف الفاضل عن تماثيل الأندلس ص 70 ما قاله ابن حمديس أيضاً في تماثيل أسود علي أبواب دار بناها المنصور بن أعلى الناس:
وإذا الولائد فتَّحت أبوابه ... جعلت ترحِّب بالعفاة صريرا
عضَّت على حلقاتهن ضراغم ... فغرب بها أفواهها تكبيرا
فهو يصف حلقات الأبواب، وكانت مصنوعة بحيث تعض عليها تماثيل اسود فاتحة أفواهها كأنها تكبر الله
10 - أضف إلى باب التصوير على الجدران. . . ما يروونه من أعمدة جامع قرطبة. قال المقري صاحب النفخ عند كلامه على جامع قرطبة نقلاً عن صاحب نشق الأزهار: (وفيه ثلاثة أعمدة من رخام أحمر، مكتوب على الواحد اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى، وأهل الكهف، وعلى الثالث صورة غراب نوح عليه السلام) وإن كان المقري يشك في ذلك
هذا ما رأيت إضافته إلى ما ساقه العلامة المرحوم تيمور باشا أما ما أخذته على الدكتور محمد حسن في تعليقاته فسيأتي
(دمشق)(479/23)
صلاح الدين المنجد(479/24)
من الأدب التركي
الدرويش العازف
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
في غُروبِ الشَّمْسِ، في اْلأفْقِ الْبَعِيدْ ... رَبْوَةٌ لاَحَتْ لِعَيْنِ النَّاظِرِ
مَنْ تُرَى يَمْشِي لَهاَ الْمَشْيَ الْوَئِيدْ؟ ... ياَ لَهُ تَحْتَ الدُّجَى مِنْ عَابرِ
صاَعِداً. . . في كَفِّهِ قِيثاَرُهُ ... يَمْلأُ اْلآفاَقَ بِالَّلحْنِ اَلْحنُونَ
مُفْرَداً. . . قَدْ عَافَهُ سُمَّارُهُ ... وَرَمَاهُ النَّاسُ طُراًّ بِاُلْجنُونْ
ياَ لَشَيْخٍ هَدَّلَتْ مِنْ شَعْرِهِ ... فَوْقَ فَوْدَيْهِ أَفاَعِيلُ السَّنينْ
اللَّيِالَي قَوَّسَتْ مِنْ ظَهْرِهِ ... وَالْعَوَادِي غَضَّنَتْ مِنْهُ اَلْجبِينْ
يَتَرَاَءى كُلَّ يَوْمٍ فيْ اْلأَصِيلْ ... في الْمُرُوجِ اُلْخضْرِ. . . في الْوَادِي اَلْخصِيبْ
يَصْعَدُ الرَّبْوَةَ لِلْكوخِ الضَّئيِلْ ... حَيْثُ يَأْوِى عِنْدَ مَا يَأْتِي الْغُرُوبْ
ساَرَ يَشْدُو لحْنَةُ اُلْحلْوَ الْبَدِيعْ ... وتبعثُ اَلْخطْوَ كالظِّلِّ النَّحِيليْ
وَالْمُرُوجُ اَلْخْضْرُ تُصْغِى وَالْقَطِيعْ ... وَالدُّجَى نَشْوَانُ بِالْعَزْفِ اَلْجمِيلْ. . .
وَبَدَا الْكُوخُ. . . فَوَلَّى فَجْأَةً ... وَاخْتَفَى فِيهِ، وَغَطَّاهُ الظَّلاَمْ
وَسَمِعْتُ الَّلحْنَ يَسْرِي خَافِتاً ... كأَنِينٍ مِنْ فُؤَادٍ مُسْتَهاَمْ
كاَنَ صَوْتاً هاَدئاً يُبْكِي الْقُلُوبْ ... صِيغَ مِنْ بُؤْسِ الّلياَلِي وَالدُّمُوعْ
رُحْتُ أُصْغِي، وَهْوَ يَشْدُو في لُغُوبْ ... يَسْكُبُ اْلأَلْحَانَ مِنْ ذَوْبِ الضُّلُوعْ:
(ياَ حُطَامَ الْمُنَى ... في الظَّلاَمِ الرَّهِيبْ)
(جِئْتُ أَشْدُو هُناَ ... فاَسْتَمِعْ لِلْغَرِيبْ)
(في يَدِي قِيثَارَةٌ مِنْ ذَهَبِ ... حَطَّمَتْهاَ كَفُّ دُنْياَيَ اَلْخئُونْ)
(لَمْ أَجِدْ الدَّهْرِ مَنْ يَحْفِلُ بِي ... قَدْ رَمَوْنِي - لَهْفَ نَفْسِي - بِاُلْجنُونْ)
(في يَمِينيِ عَازِفٌ يُمْتِعُنِي ... رَغْمَ مَا يَلْقَاُه مِنْ فِعْلِ الَّلياَلْ)
(لاَ أَرَى في النَّاسِ مَنْ يَسْمُعنِي ... حِينَ أَشْدُو، فاَسْمَعِي لِي ياَ جِباَلْ):
(يا طُيُورَ الرُّباَ ... ياَ عُيُونَ الزَّهَرْ)
(ياَ نَسِيمَ الصَّباَ ... ياَ غُصُونَ الشَّجَرْ)(479/25)
(اسْمَعِي عَنَّي أَغاَرِيدَ اَلْحياَهْ ... اسْمَعِيهاَ قَبْلمَاَ أَلْقَى الْمَنُونْ)
(اسْمَعِيهاَ فَهْيَ لِلْوَادِي شَذَاهْ ... وَارْسمِي عَنْهاَ نُفاَثاَتِ الشُّجُونْ)
(فَوْقَ هذِى اْلأرْضِ أَلْفاَ شاَعِرٍ ... لَفْظُهُمْ زَيْفٌ وَنَجْوَاُهْم هَوَاءْ)
(هَلْ لَهُمْ لَحْنٌ كلَحْنِي السَّاحِرِ ... وَأَناَ الْمَجْنُونُ مَنْبُوذُ اُلْعَرَاءْ؟):
(مَعْشَرٌ تاَجُهُمْ ... فَوْقَهُمْ زَائِفُ)
(بَيْنَماَ بَرْقُهُمْ ... خُلَّبٌ خَاطِفُ)
(مَعْشَرٌ: إِنْ يَكْتُبُواِ بالْقَلَمِ ... فَأَناَ الشَّادِي بأَوْتاَرِ الْفُؤَادْ)
(هَلْ لَهُمْ أَنْ يَخلُقُوا لِلنَّغَمِ ... مِنْ هَوَاءِ الْكُونِ، أو دُنْياَ اَلْجماَدْ؟)
(هَلْ لَهُمْ أَنْ يُخْضِعُوا مِثْليِ الْقَطِيعْ ... عِنْدَ مَا يَمْشِي بِلاَ رَاعٍ يَصُونْ؟)
(أَيْنَ صَوْتُ اَلحْلْقِ مِنْ صَوْتِ الضُّلُوعْ؟ ... أَيْنَ رَجْعُ الْقَوْلِ مِنْ شَدْوٍ الْغُصُونْ؟)
(ياَ بَقاَياَ الْمُنَى ... حَوْلَ كُوخِي الصَّغِيرْ)
(أَنْصِتِي. . . إِنَّناَ ... قَدْ حُرِمْناَ السَّمِيرْ)
(أنصِتِي لِي، وَاسْمَعِينِي ياَ جِباَلْ ... وَاحْفَظِي اْلأَلْحَانَ عَنَّي ياَ نُجُومْ)
(إِنَّ قِيثاَرِي فَرِيدٌ في اللياَلْ ... وَهْوَ في يُمْنَايَ سُلْوانُ الَهُمُوُمْ)
(كُلُّ مَا فيِ اْلأَرضِ مِلْكِي: مِنْ هَوَاءْ ... أَوْ جَمَادٍ، أو دُمُوعٍ، أو زُهُورْ)
(سَوْفَ أَشْدُو، فإذا حَلَّ الْقَضَاءْ ... لَمْ أُفَكَّرْ أَيْنَ تَطْويِنِي الْقُبُورْ. . .؟)
. . . وَانْتَهَى الْعاَزِفُ مِنْ أَلَحْانِهِ ... وَتَلاَشَىَ الصَّوْتُ في جُوفَ الْقَضَاءْ
وَانْطَوَتْ رُوحِي عَلَي أَحْزَانِهِ ... وَبَكَتْ عَيْني لَهُ دَمْعَ الْوفَاءْ!
ياَ لَشَادٍ لَفَّهُ هذَا الظَّلاَمْ ... لَيْتَ شِعْرِي: كَيْفَ يَحْظَى بالرُّقاَدْ؟!
أَتُرَاهُ ذائِقاً طِيبَ الْمَناَمْ؟ ... أَمْ سَيَقْضَي الَّليْلَ مَوْصُولَ السُّهاَدْ؟
أَيُّهاَ الْعازِفُ في الْكُوخِ الضَّئِيلْ: ... أَنْتَ أَسْمَى مُلْهَمٍ في ذَا الْوُجُودْ
كَيْفَ تَأْسى - أيُّهاَ الشَّادِي اَلْجمِيلْ - ... وَنصِيبُ الْفَذَّ في النَّاسِ اُلْجحُودْ؟
عِشْ عَلَى الدُّنْياَ كَمَا شاََء الصَّفاَءْ ... وَاصْطَبِرْ إِنْ رُحْتَ تَرُمْيِ باُلْجنُونْ
مَنْ يَسَعْ في قَلْبِهِ هذَا الْفَضَاء ... لَمْ يُنَغِّصْ عَيْشَهُ الدَّهْر اَلْخئُونْ(479/26)
البريد الأدبي
مسابقة كتب الدين للمدارس الابتدائية
إلى الأستاذ (قاف)
كتبت في عدد الثقافة الأخير كلمة عن المسابقة التي أذاعتها وزارة المعارف بشأن كتاب في الدين للمدارس الابتدائية. وقد قرأت كلمتك هذه بعجب وإعجاب. أما العجب فمن أنك تنعى على الوزارة اليوم ما كنت تتمناه عليها بالأمس؛ فلعلك تذكر - وما أظنك إلا ذاكراً - مجلسنا في أحد النوادي العلمية منذ قريب، وما كنا نتناوله فيه من أحاديث شتى أسلمتنا إلى تقرير الكتب وكيف تقرر لا لجودتها ولا لرسوخ قدم مؤلفها في مادتها بل لجاهه ونفوذه حتى احتكرها أصحاب الجاه والنفوذ وصارت وقفاً أهلياً عليهم - على حد تعبيرك - لا يغل إلا لكبار موظفي الديوان العام ومن إليهم من المراقبين والمفتشين الأوائل: ولعلك لم تنس كذلك ما قلته أنت في تلك في تلك الليلة - بل ما كتبته في الثقافة منذ شهر أو يزيد قليلاً من أن أولئك المؤلفين الكبار أو كبار المؤلفين لم يكن لهم في الحق والواقع من التأليف إلا تشريف الكتاب باسمهم ومداليد لتناول نصيبهم والوقوف في الميدان لمطاردة من تحدثه نفسه باقتحامه واتخاذ كل وسيلة شريفة وغير شريفة لإقصائه. لقد كنا سبعة نتعاور الكلام في هذا الموضوع وكنت - أنت - أصرحنا كلاماً وأبسطنا لساناً وأغزرنا استشهاداً حتى لقد ضربت بنفسك المثل وذكرت أنه قد طلب إليك أن تكون جندياً مجهولاً يصرع في الميدان ليرتفع القائد على أشلائه، فتأبيت على المريد. كل هذا عجيب، وأعجب منه أن تقترح على الوزارة في كلمتك الأخيرة ترك المدارس أحرارا في التأليف وفي اختيار ما يشاءون من الكتب لتلاميذهم. يا لله! أي حرية أو في من أن تدعو الوزارة رجالها جميعاً للتباري وتكافئ السباقين فيهم ولا تجعل الأمر احتكاراً أو وقفاً أهلياً على جماعة منهم؟ وأي حرية أسمى من أن تسوى في هذا الميدان بين المتسابقين جميعاً ولا تنظر إليهم من حيث الجاه والمنصب، وإنما تنظر إليهم من حيث البراعة والمقدرة والكفاية، وبهذا ترد إلى رجال التعليم اعتبارهم العلمي وتشجعهم على الإنتاج وتثبت فيهم روح الإقدام على التأليف الذي يهابونه لذاته أو للمحتكرين له! على أن للمسابقة فضلاً آخر أرشدت إليه المسابقات الماضية هي أنها تكشف عن بعض الأفذاذ المجلين الذين يعملون في وزارات أخرى غير(479/27)
وزارة المعارف، فليست الكفاية والبراعة والمقدرة وقفاً على هذه الوزارة
الحق أنه ليس لمنصف نزيه حصيف الرأي أن ينقد هذه الطريقة المثلى العادلة التي تقضي على القالة والقيل وتسد الطريق أمام الريب والشكوك. على أن الوزارة لم تلجأ إليها إلا بعد دراسة وبحوث وعقد لجان واستشارة مجربين فانتهى الأمر بهم جميعاً إليها
وأما ما يقوله الأستاذ (قاف) من ترك المدارس والمدرسين أحراراً في اختيار ما يشاءون من الكتب لتلاميذهم فحسبي في الرد عليه أن أردد له ما كان يقوله تلك الليلة من أنه جريمة رسمية تفسد الخلق والعلم، وأن المدارس - بالرغم من تحريمه ومحاربة الوزارة إياه محاربة لا هوادة فيها ولا لين - كانوا يتخذونه وسيلة دنيئة تقرب إلى ذوي الجاه من المؤلفين الرسميين وهؤلاء يستغلونه استغلال وضيعاً تأباه كرائم النفوس، فقضت على هذه المفاسد كلها طريقة المسابقات. ذلك عجبي. أما إعجابي فبقدرة الإنسان - وهو الذي حارت البرية فيه - على الدفاع عن رأيين متناقضين يدلي بأحدهما وهو يعمل في المدارس، وبالآخر وهو يعمل في الديوان حيث اختيار الأعضاء للجان التأليف.
(سمير)
استدراكان لغويان
في تصحيحات العلامة المحقق الأب الكرملي للجزء الثاني من كتاب الإمتاع والمؤانسة مواضع تحتاج إلى بيان، أعرض على الأب الفاضل منها موضعين في العدد (475) من الرسالة الغراء:
1 - قال: وفي ص 110 ويجعلها (أي الأحجار) ملساء، وضبطت كحمراء؛ والصواب مُلساً بضم الميم. . . (راجع فساد قول القائل صخور ملساء في مجلة المجمع العلمي العربي 233: 17 و 234) اهـ
وقد رجعنا إلى الموضع المذكور فلم نجد للأب مستنداً في إنكاره، لأن نص سيبويه قاصر على بيان أن جمع التكسير لأفعل فعلاء هو فعل بضم العين، وما أظن أن كيفية تكسير هذه الصيغة كانت محل خلاف، وليس فيها شاهد على خطأ قولهم صخور ملساء.
وإنما كان الأب بحاجة إلى نص صريح يستثنى فيه هذه الصيغة من القاعدة العامة التي(479/28)
جرى عليها كلام العرب وذكرها النحاة وهي: أن نعت جمع التكسير يكون بالفرد المؤنث وبالجمع على السواء، فلك أن تقول: أشهر محرمة وأشهر محرمات، و (أياماً معدودة) و (أياماً معدودات) كما في القرآن الكريم وغيره، فما الذي يفرد صيغة واحدة بين جمع صيغ النعت بحكم خاص؟ هذا ما يحوج الأب الإبراه عليه. أما استقراؤه الشخصي وطلبه من مخالفة الإتيان بشاهد فلا يردان حجة، لأن المقيس لا يلزم له شاهد.
2 - وقال: ومن الأغلاط الشائعة في مصر وتستحق أن يشار إليها خصوصية ما يأتي: ص 23 س 18 أصواب هو أم خطأ. . . أم خطاء وزان سحاب لضد الصواب، على ما في كتب اللغة. اهـ
وقد كتب الجمة الأولى بخط عريض مذيل بخط أفقي زيادة في لفت الأنظار. ولم يبين أي كتب اللغة هذه التي حرمت أن يقال خطأ لضد الصواب؛ وقد تصفحت بعض كتب اللغة فإذا هي تتفق جميعاً على أن الأب المفضال مخطئ كل المخطئ في ذلك وإليك الشواهد:
في لسان العرب: الخطأ والخطاء ضد الصواب
تاج العروس: الخطء والخطأ ضد الصواب
المصباح المنير: والخطأ مهموز بفتحتين ضد الصواب، ويقصر ويمد
الصحاح: الخطأ نقيض الصواب وقد يمد. . . الخ
فأنت ترى أن الخطأ قدمت على الخطاء في جميع هذه النقول، وأن أعلى هذه المصادر وهو الصحاح ضعف الحرف الذي ذكر الأب أنه هو الصواب دون غيره.
هذا ما أحببت عرضه على العلامة المحقق المفضال، وله إعجابي وتحيتي.
(دمشق)
سعيد الأفغاني
في الشعر التمثيلي
تعقيباً على ما نشر بالرسالة في عدديها 473 و 477 للأستاذين الأديبين البشبيشي وعبد الرحمن عيسى - لا جدال في أن واضع الحجر الأول في بناء الرواية الشعرية في الأدب العربي الحديث هو المرحوم الشيخ خليل اليازجي في روايته (المروءة والوفاء) وقد طبعت(479/29)
أكثر من مرة بمطبعة المعارف بالفجالة. ومن حق الأدب والتاريخ أن يعرف المتتبعون لهذه الناحية الجميلة من الفن الأدبي أن المرحوم الشيخ نجيب الحداد أول من ترسم خطى خاله المرحوم الشيخ خليل في معالجته الشعر التمثيلي قبل المرحومين شوقي وعبد المطلب في روايته (صدق الوداد) وقد طبعت من زهاء ثلاثين عاماً في مطبعة غرزوزي بالإسكندرية وقل أن يظفر أحد بنسخة منها الآن لكثيرة ما كان من الإقبال عليها ونفادها بمجرد ظهورها. والروايتان لا تقلان عن روايات المرحوم أمير الشعراء بلاغة وروعة وحسن سبك، وشعرهما يتدفق سلاسة وطبعاً وعذوبة
ولعلي أوفَّق في فرصةٍ أخرى إلى نشر شواهد من شعر الروايتين إذا اتسعت له صفحات (الرسالة) الغراء وآنست من قرائها الأدباء ترقباً وارتياحاً
يوسف كركور
تعقيب
جاء في بريد (الرسالة) الأدبي من العدد الـ (476) للأب الفاضل أنستاس الكرملي في بحث السوبية ما نصه: قال ابن دريد في الجمهرة: (وبالصاد (أي الخِص) أحسبها لغة لبني تميم، وهي لغة ابن الغبر خاصة) كذا في تاج العروس. وهو خطأ أيضاً والصواب: (وهي لغة بني العنبر، إذ لا وجود لابن الغبر) اهـ
وقد يقال: عدم الجزم بهذه التخطئة أولى، فبنو الغُبَّر لهم وجود. جاء في القاموس المحيط في (فصل الطاء وباب اللام): وككتاب (أي طحال) كلب وع لبني الغبر. راجع القاموس المحيط ففيه شاهد يليق ذكره
(اللد - فلسطين)
داود حمدان
حوائج
رداً على الكاتبة الفاضلة (بثينة) أقول إن هذه الكلمة (حوائج) وردت في الحديث الصحيح والشعر الفصيح. فقد روى عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (إن الله عباداً(479/30)
خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون يوم القيامة) وقال الشماخ:
تقطع بيننا الحاجات إلا ... حوائج يعتسفن مع الجري
وقال الفرزدق:
ولي ببلاد السند عند أميرها ... حوائج جمات وعندي ثوابها
إبراهيم السعيد عجلان
على هامش السيرة
لفت نظري وأنا أقرأ الجزء الثاني من كتاب (على هامش السيرة) للمرة الثالثة عبارة وردت في الحديث عن (راعي الغنم) ص 185 هذا نصها: (والغريب أن الخواطر التي كانت تملأ نفسها - يعني أبا طالب وخديجة - همَّاً وحزناً وتفعم قلبهما خوفاً وقلقلاً، هي بعينها تلك الخواطر التي كانت تملأ نفس عبد المطلب بن هاشم وآمنة بنت وهب، وتشغل قلبيهما منذ ستة عشر عاماً حين سافر عبد الله مع العير إلى الشام في التجارة لأول مرة ولآخر مرة أيضاً)
وهذا القول يناقض الحقيقة ويتعارض مع عبارة أخرى وردت في ص 161 وفيها يقول الدكتور: (ولكنه - يعني أبا طالب - كان يستحي أن تقول قريش: ضعف أبو طالب وجزع على فتى قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره)
والمعلوم أن رحلة عبد الله كانت بعد زواجه بأيام وكان محمد عليه السلام لا يزال جنيناً في بطن أمه، في حين أن الرسول صلوات الله عليه كان قد أوفى على الخامسة والعشرين أو كاد يوم أن رغبت إليه خديجة في أن يصحب تجارتها إلى الشام. وإذن تكون الفترة بين رحلة عبد الله ورحلة محمد عليه السلام حوالي خمسة وعشرين عاماً لا ستة عشر كما ذكر الدكتور، ولعله يكون أقرب إلى الصواب لو أنه قال ستة وعشرين عاماً
وذلك ما تكاد تجمع عليه كتب السيرة
عوض الدحة
استدراك(479/31)
في الحلقة السابقة من ترجمة كتاب (المصريون المحدثون)، وقع تحريف في الآية الكريمة: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم). فوجب نشرها صحيحة
عدلي طاهر نور(479/32)
القصص
الشيخ الأعزب
للأديب لبيب السعيد
في صدر أيامه لم يطاوعه طموحه على الزواج من ابنة عمه؛ بداله يومئذ أنه خليق بالفرار من بيئته إلى بيئة أعلى وأقدر.
ولما قيل له: بنت فلان أشهر تاجر في الحي مهذبة وجميلة، رأى أن آماله أسمى أيضاً من هذه البنت وأبيها، ورأى قدْرته أجدرَ أن تُنيله نسباً أجلً. . .
وأحس أن آمال كثيرات من صبايا الحيّ وذويهنّ تترامى إليه، لأنه موظف في الحكومة بخمسة عشر جنيهاً، والموظفون الماثلون من أبناء الحيّ آحاد، فزهاه ذلك وسره، ولكنه ظل على طموحه وعلى اعتقاده في إمكان إحراز زوجة غنية جداً من أسرة بارزة جدّاً، يتسامى بها في الوظيفة، ويواري في غناها فقره، ويجبر بجاه أبيها وذويها صدعة. . .
كان يأمل في زواج الغنية ذات الجاه دنيا سعيدة: دنيا خالها يرف عليها الروح والريحان، وتنتشر على مدارجها الزهور الضواحك
ومضت من عمره أربعون سنة. . .
وعرف عندئذ الهدف الذي ينبغي له - فيما يعتقد - الرمي إليه. . . عرف (حنيفة) بنت (أمجد باشا)، فعرف فتنةً ضلْ في تيهها فكرة. . . لقد رأى زواجه منها معراجاً إلى كل الغنى والشرف، وحلم سريعاً في قهر أعدائه من الأقارب وزملاء الديوان، ومواجهتهم بأنسباء يشرّفون، وأستحضر في خاطره ما سيلقي من سعادة حين يذكر اسمه إلى جانب اسم (أمجد باشا) وود من كل قلبه لم تمت الخِطبة حالاً، ونُشر اسمه واسم الباشا معاً ولو في إعلان وفاة!
وترقرق في صدره الأمل، فأذاع بالأمر لبعض خاصّته، وشاع لوضوعه ذكر.
ولكن (أمجد باشا) استمهل معتذراً، ثم ماطله غير مكترث، ثم ترامى عنه أنه يأبى هذا الزواج، لأن (أميناً) ليس من طبقته، ولأنه لم يستوف طَلِبَةَ فتاته من الغنى والمنزلة والوسامة.
وصدم هذا الفرض (أميناً)، ولكنه رأى أن لا بد من عدم التخاذل، وعزم ليستأسرن من أيَّ(479/33)
معقل مَن تعادل (حنيفة) نشباً ونسباً. ولكن - واخيبتاه - إن سنة الصاعدة، وراتبه المتواضع خيَّبا مطمحه وأعجزاه عن منيته
واليوم - وما أسرع كرّ الغداة ومرَّ العشى! - ذرَّف أمين على الخامسة والخمسين، فهو يطامن كثيراً من جماح آماله، ويتطلع راضياً إلى الأسر التي على شاكلته، ولكن مرضه الظاهر يصرف عنه النظر، وهو يعْدُ غادٍ قريباً على أمر شديد كريه: المعاش!
كل شيء يشعر أميناً أن الأيام تقف به على ثنية الوداع، ولكنه مع ذلك متشبث بالأمل. . . إنه ينشد زوجة تخلص له الحبَّ، وتأسو الجراحات، وإنَّ طيف هذه الزوجة المجهولة ليراوحه ويغاديه! لقد نهل في سني عمره الذاهب من كل شيء ولكنه يشكو الأوامٍ. . . فهو يريد لقلبه الكسير قلباً يروَى من رحمته؛ يريد مثابة ينفض لديها شكاياته ونجواه؛ يريد لنفسه المعنَّاة تسليةً وتأسيةً وولاءً. . . إن به حنيناً مبرَّحاً إلى جناح يكنفه في شيخوخته، ولكنَّ الحقيقة الممضة: حقيقةَ صحته التي تحيفَّ منها السنُّ والمرض، حقيقة معاشه المحدود الذي لا يكفل العيش الرافع لعروس تساق إلى شيخ، وطفل سيغشاه اليتم في مطالع حياته. هذه الحقيقة كانت تدفع ذلك الطيف في عنف، وتؤكد لأمين أن أمانيه فوق ما يجوز له تمنيه، وأنه يحاول العَدْوَ وراء فائتٍ ليس يُلْحق
ويرى (أمين) رجلاً وزوجته يسيران في طريق، أو يجلسان في طنف، فيغبط الرجلَ على نعمة الشريكة، ويبديء يُعيد فيما تريق الأليفة لأليفها من العطف، وتبذله من العون، وتطعمه من الحنان. . . ويسبح في خيالات ما لها قَرَار. . .
ويدعي (أمين) إلى حفلات الزواج، فتهفو مناظرها بروحه إلى الزوجة، وتصيب كلمات المأذون في فضل الزواج الوتر الأرنَّ من قلبه، وتطلق عاطفة الأبوة الحبيسة، وتزيده شعوراً بالوحشة
ويسائل (أمين) نفسه: أَلَمْ يأن لي أن أقعد هذا المقعد الحبيب: مقعد (عريس) من والد عروس، وأن أقوَل وأسمع هذه الصيغة العذبة: صيغة القرآن؟ أمات الأمل في أن يتجه إلى يوماً جمع من هذه الجموع بتلك العبارة العذبة: (مبروك، مبروك، يا عريس)؟
وينثني أمين وطرفه غارق في الدمع
ويزور أمين صديقاً مريضاً فيغبطه - مع ما يشاهد من كربات المرض - أشد الغبطة، لأنه(479/34)
يرى زوجته تحدب عليه، وتحتمل مشقة تمريضه، ولأنه رأى صبياً يافعاً يقود الطبيب إلى المنزل، ويجري إلى الصيدلية محزوناً، ويرى طفلاً مبغوم الكلام يخطر لا هياً أمام سرير أبيه المريض، فتأنس به نفس الأب وتُشْرق
هذه البسمات التي يراها في ثغور الأطفال لا بد أنها تنير لآبائهم سبل الحياة وتكشف عنهم غواشي اليأس! ليت له مثلها في دنياه التي لا شية فيها من النور!
ويرى أمين الآباء أشقياء مُملقين من كثرة الإنفاق على بنيهم، فيتمنى من كل قلبه لو شقي شقاءهم وأملق إملاقهم. إنه يؤمن بأن الآباء هم كل السعادة وهم كل الغنى، وأن في كلمة (بابا) وحدها كنوزاً يهون في سبيلها كل عزيز!
ويسائل نفسه أيضاً: هذا الكدَّ الذي أبذل، ما جناه؟ فينثني مسلوب اللَّبَّ حين تجيبه: لا شيء! وغداً تموت، ولكن لا كميتة الناس، فهم يَحْيَوْن في بنيهم، وأنت ستموت كأقسى وأوفى ما تعني اللّغة بلفظة الموت
بمن يتأسّى في أشجانه؟ الظاهر والبؤس فيما حوله هم كتبة الدرجة الثامنة والخارجون عن الهيئة وخدم المطعم ونُدُل القهوة، ولكنه أشقى من هؤلاء جميعاً. إنهم سَيحْيَوْن بعد مماتهم. . . وإن الفرد منهم ليجد آخر اليوم قسيمة لحياته، يطرح لديها أثقاله. فأما هو - فباويح له - محرومٌ يبثَّ شكاته جدراناً لا تسمع، وينشد الحنان والألفة هنا وهناك فلا يجد غير قسوة الحياة وظمأ الروح وشقوة الضمير
ما أشد عوزه إلى يد رقيقة يمسها وتمسه!! في صدر (أمين) فيوض من الحنان تريد الانسياب فليت له من يتلقاها! ألا قلوب تنبض مع قلبه نبضات واحدة بشعور واحد!؟
ويعالج (أمين) مع ذلك كله البسمات، ويتكلف جاهداً المظهر الشاب، ويحاول أن يدفع عنه الوهن، ولكن البسمات أماتها الزمان، والمظهر الشاب غطى عليه الجهد الثقيل والعمر اليأَس؛ والوهنَ. . . أحتلَّ بَدَنَ أمين في غير اكتراث!
حدثني عن (أمين) معارفه القدماء، فجلوا لي كثيراً من ماضيه. وكنت وإياه أخيراً منتدبين في الإسكندرية، وكنا في فندق واحد، فخلا إلى ذات مساء، وأفضي إلى بكل قصته. كان يتحدث بلهجة مذنب يريد أن يثأر لضميره من نفسه. . . وكان كطفل بيّن السذاجة لا يعمى على سامعه شيئاً من وصف مشاعره وسرائره؛ وكان يسرق الدمع حياءً؛ وكانت له زفرات(479/35)
وجيعة.
وأخرج فجأة من جيبه صورتين، فأطلعني عليهما. كانت إحداهما لفتاة رائعة الجمال، وكانت الأخرى لطفلين كلهما عذوبة. وسألته مستغرباً وأنا أرى من نظراته أنه جدَّ حفيٍ بأصحاب هاتين الصورتين: ما شأن هؤلاء؟ فأجاب، والبراءة في وجهه: (اخترت صورهم من محل بيع الصور. . . أعجبوني. . . أنظر. . . ما أحسن هذه زوجة تجمل بها الحياة! وما أحسن هذين ولدين ينضران العيش!)
أوجع أمين قلبي تلك الليلة!
وانقطع عن التردد علىَّ وعلى زملائنا أمسيتين على غير عادة، وسألناه في الصباح عن السبب، فأجاب في اختصار: أمر خاص
واستحينا أن نستجليه هذا الأمر فسكتنا
وأتى صبي إلى الفندق في الأمسية التالية يسأل عن الأستاذ (أمين) المقيم بالحجرة رقم 8، وكنا نحن زملاء أمين في بهرة الفندق جالسين نسمر، فسألنا: لم؟ فقال: لأعطيه صورة عائلته، فهو يتعجلها. وعجبنا، فأمين حقيقة ينزل في الحجرة رقم 8، ولكنه لا عائلة له. وسأل أحدنا الغلام: أية عائلة؟ ربما كنت تقصد أميناً آخر. فقال الغلام وهو يناوله الصورة: أريد الأستاذ أمين المرسوم هنا. وضحك صاحبنا ضحكات تمتزج فيها السخرية بالدهشة، وقام يطلعنا جميعاً على الصورة، والجمع يضج بالضحك. ونظرت فيها فوجدت أميناً بعينه، وقد جمع الرسام بينه وبين الصور التي سبق أن أبدى لي إعجابه بها: صورة الفتاة الرائعة الجمال التي يستحسنها زوجة، والطفلين العذبين اللذين يستحسنها ولدين. لقد أتخذ من هذه الصور المختارة أسرة طيبة يبدو هو فيها كأنه أب آمن السرب، له من أهله قرب وأنس، وله فيهم رجاء!
وأقبل أمين والصورة في أيدينا، فحاول الابتسام أولاً، ثم انطفأ وجهه مرة واحدة، ثم ارتمى في أقرب مقعد يبكى وينشج.
(المنصورة)
لبيب السعيد(479/36)
العدد 480 - بتاريخ: 14 - 09 - 1942(/)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
تخطيط القاهرة - فكاهات هندسية - النور القدير على تمزيق الظلمات - أبناء دار العلوم بوزارة المعارف
تخطيط القاهرة
أيام هذا الصيف آذتني أعنف الإيذاء، بسبب صعوبة المواصلات، الصعوبة التي خلقها الازدحام في الترام والاتوبيس في أكثر الأوقات، ولا سيما وقت انصراف الموظفين، فكنت أقطع الطريق على قدميَّ في حرِّ الظهيرة من وزارة المعارف إلى باب الحديد، وكانت الظروف قضت بأن تكون محطة المترو في باب الحديد بضعة أسابيع.
وقد غنمت من هذه الظروف غنيمتين: الغنيمة الأولى هي لفح الوجه بوهج الشمس، فما رآني صديق إلا توهم أني قضيت على شواطئ الإسكندرية شهراً أو شهرين. وليت الأمر كان كذلك، فقد سمعت بعد فوات الوقت أن شواطئ الإسكندرية كانت فتنة العيون والقلوب في هذا الصيف!
أما الغنيمة الثانية، فهي أغرب وأنفع، لأنها هدتني إلى أفكار تستحق التسجيل، أفكار متصلة بتخطيط القاهرة، عاصمة الشرق بلا نزاع، وأعظم مدينة دينها الإسلام ولغتها العربية.
هداني السير على قدميَّ في حرِّ الظهيرة إلى القول بأن القاهرة لم تجد مهندسين يراعون أصول الانسجام والتنسيق.
وقبل أن أفصِّل هذا القول، أرجو من زار القاهرة أن يتمثل شارع محمد علي فهو الشارع الوحيد الذي روعيت فيه أصول الانسجام والتنسيق، بحيث يجوز لك بعد مراعاة الأدب مع الله أن تقول إنه بين شوارع القاهرة واحدٌ بلا شريك.
تقف على رأس هذا الشارع من ميدان العتبة الخضراء (ميدان الملكة فريدة) ثم تنظر فتروعك منارة جامع السلطان حسن ومنارة جامع الرفاعي، مع أن بينك وبين هاتين المنارتين مسافات طويلات.
فما أسم المهندس الذي خط هذا الشارع منذ أعوام طوال؟(480/1)
وأين قبره لننثر عليه زهرات الإقحوان المقطورة على التنسيق؟
وفي ميدان العتبة الخضراء يبدأ شارع حديث العهد، شارع أنشأناه بعد أن كثر عندنا المهندسين، وهو شارع الأزهر الشريف.
وهنا أيضاً أرجو من زار القاهرة أن يتمثل واجهة الأزهر وما يصحبها من منارات رشيقات. . . ليعرف كيف كان من الجناية على تخطيط القاهرة أن تحجب واجهة الأزهر عمن يقف متطلعاً إلى محاسن القاهرة في ميدان العتبة الخضراء.
وما يقال في شارع الأزهر يقال في شارع الأمير فاروق، فقد كان يجب أن يستقيم هذا الشارع بحيث تمكن رؤية ميدان فاروق، وعلى ناصيته سيل أم عباس، لمن ينظر فيه من ميدان العتبة الخضراء.
فما اسم المهندس الذي خطط هذين الشارعين قبل بضع سنين لنغري به أحد المستجوبين في مجلس النواب؟
أنا لا أدعو إلى أن تكون جميع الشوارع بريئة من الانحراف إلى اليمين أو إلى الشمال، فذلك تكليف بما لا يطاق، وإنما أدعو إلى مراعاة الذوق في إبراز محاسن القاهرة عند التخطيط، ولتوضيح هذه الفكرة أقول:
أجمل واجهة في قصور القاهرة هي واجهة قصر عابدين، فهل يرى تلك الواجهة من يمرَّ بميدان الإسماعيلية، مع أنه منها قريب؟
ومن الواجهات الجميلة واجهة محطة باب الحديد، فهل يراها من يقف في ميدان إبراهيم؟
وعلى من يرتاب في صحة القول بأن مدينة القاهرة لا تجد من يفكر في الانسجام والتنسيق، على من يرتاب في صحة هذا القول أن يزور حيّ الأزهر في أحد الأيام ليرى العجب العاجب في تعمد الخروج على الذوق، فهنالك قامت بناية عالية في العهد الحديث، بعد إكتهال الزمان وبعد الشعور بقيمة التنسيق في التخطيط، فكانت حجاباً كثيفاً يفصل بين واجهتين جميلتين: واجهة الجامع الأزهر وواجهة جامع الحسين.
إن الذوق من أطيب الأرزاق، فهل يتفضل الله فيزيد مهندسي القاهرة ذوقاً إلى ذوق؟
فكاهات هندسية
حين زرت البصرة في سنة 1938 تلّطف معالي السيد تحسين علي فمضى بي في سيارته(480/2)
لنزهة جميلة تخترق غابة النخيل في طريق أسمه (طريق أبي الخصيب) وهو طريق كثير الاعوجاج بلا موجب معقول، فلما سألت معاليه عن سبب ذلك الاعوجاج ابتسم وقال: (كان المهندس الذي شق هذا الطريق يحب المال بعض الحب، فاعوج الطريق بعض الاعوجاج!!) فأدركت أن أصحاب الأملاك كانوا أصحاب الرأي في تخطيط ذلك الطريق.
وفي السنة التالية زرت الدير المحرَّق فرأيت في الذهاب إليه طريقاً كثير الاعوجاج بلا موجب معقول، فلما سألت عن سبب ذلك الاعوجاج كان الجواب أن المهندس الذي شق الطريق عُرف بشراهة الجيب فكان يراعي خواطر أصحاب الأملاك.
فليحذر من يشق طريقاً معوَّجاً في أي بقعة بعد اليوم، فقد يُتَهم بأنه من سلالة المهندس الذي شق طريق الدير المحرَّق، أو المهندس الذي شق طريق أبي الخصيب.
النور القدير على تمزيق الظلمات
هو نور الله، النور الغَّلاب القَّهار الذي لا يصده حجاب، ولو كان في كثافة أنفس المحجوبين عن كرم واجب الوجود.
وما تمر بنا لحظة من لحظات الكدر أو الغيظ إلا كانت شاهداً على أن إيماننا بالله إيمانٌ مدخول.
ولا تمر بنا لمحة نعتمد فيها على هذا المخلوق أو ذاك إلا كانت بعض دليلاً على أن ثقتنا بالله مزعزعة الأركان.
فما بالُ قومٍ تطير نفوسهم شَعاعاً حين يهدَّدون بغضب بعض الخلائق؟ وما بال قوم لا يستطيبون النوم إلا حين يطمئنون إلى أنهم تحت حماية بعض الخلائق؟
لا يجوز لمن يخاف الناس أن يرجو الله، فإنه عز شأنه لا يسبغ نعمته الصحيحة إلا على المؤمنين، والمؤمن لا يخاف الفانين.
وماذا يملك بنو آدم حتى يرجوهم من يرجو، أو يخافهم من يخاف؟
الأمر كله لله، ولا أمر لمخلوق، وإن زيّن الوهم للمخاليق أنهم أقوياء.
جرْب الثقة بالله، إن كنت لم تجرِّبها من قبل، فسترى أن الأنس بالله يرفع عنك آصار الثقة بالناس، وما أعتمد أحدٌ على خلق الله إلا باء بالخذلان.
كن رجلاً مؤمناً في جميع أحوالك، والرجل المؤمن ينظر إلى الناس كما ينظر الأسد إلى(480/3)
النمال.
تواضَعْ لله وحده، ولا تتواضعْ للناس، فهم بحكم فنائهم أذلاّء.
تواضع لله أدباً لا خوفاً، فهو يحب أن يراك في أخلاق السادة لا أخلاق العبيد.
لا تعامل باللطف والرفق إلا أهل اللطف والرفق، ثم أمنح ظلمك وعدوانك لمن تحدثهم النفوس الأواثم بالتطاول عليك.
نَزِّه نفسك عن الكفر بالله، ومن صور الكفر الموبق أن تقيم وزناً لمخلوق لا يؤمن بفكرة العدل، ولا يجعل هواه من هواك في الاحتكام إلى صاحب العزة والجبروت.
إن زمانك قد أصيب باختلال الموازين، ولم يبق من أهله من تحدثك ملامح وجهه بالخوف من الظلم والكذب والافتراء، فكن أوحد زمانك في الفرار من تلك الأخلاق السُّود، ولا عليك أن تعيش عيش الفقراء، فما يغتني في أزمان الانحطاط غير التجار السفهاء.
وما أوصيك إلا بما أوصيت به نفسي، فما يستطيع أبن أنثى أن يقول أني استعنت به في جليلٍ من الأمر أو دقيق، ولا خطرٍ في بال مخلوق أن ينال ودادي بغير الصدق في الوداد.
دنياكم سخيفة يا بني آدم، وأنتم منها أسخف، وسبحان من تجاوز عنها وعنكم فأمدّها وأمدّكم بالشمس والقمر، والماء والهواء!
لست منكم، ولستم مني، فبينيَ وبين الله عهد وثيق، وإلا فكيف جاز أن تحاربوني عشرين سنة، ثم لا تكون شكواي إلا من متاعب الغنى والثراء؟
آمنت بالله، آمنت، آمنت، وإني لأكاد أصافحه بيمناي.
ومن أنت يا ربي؟ أجبني، فأنني ... رأيتك بين الحُسن والزهّر والماءِ
في كلية الآداب
كتب إليَّ طالبٌ لا أسميه (إشفاقاً عليه من بعض المصاعب) كلمةً يقول فيها إن المحصول الأدبي في مجلة الرسالة قد استهواه فنقله من قسم اللغة الإنجليزية إلى قسم اللغة العربية، فماذا أقول في توجيه ذلك الطالب الأديب؟
أقول أن قسم اللغة الإنجليزية مطالبه أسهل من مطالب قسم اللغة العربية، وإليه البيان:
المتخرجون في قسم اللغة الإنجليزية لا يطالبون بالتفوق الذي يسمح بأن يكونوا من شُرَّاح الأدب الإنجليزي في مناحيه العقلية والاجتماعية، ولا يراد منهم إلا أن يكونوا أساتذة(480/4)
صالحين لتدريس اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية والثانوية.
أما المتخرجون في قسم اللغة العربية فهم مطالبون بالتفوق المطلق، التفوق الذي يسمح بأن يكونوا من أئمة الأدب العربي في هذا الجيل.
يضاف إلى ذلك أن كلية الآداب شحيحة بالرجال، فمنذ إنشائها في سنة 1908 إلى اليوم لم يبرز من أبنائها غير آحاد، لأن المثل الأعلى في تصور كلية الآداب لا يسمح بنبوغ العشرات والمئات. ومن حسن الحظ أنها كانت كذلك، ليظل النبوغ الأدبي بعيداً من أوضار النسبة العددية، ولتظل كلية الآداب كلية آداب.
والحياة الجامعية في مصر تؤرخ بنشأة هذه الكلية، فهي النواة الصحيحة للجامعة المصرية، وهي الفيصل بين عهدين: عهد المحاكاة وعهد الإبداع.
وكان قسم اللغة العربية أساس كلية الآداب، كما كانت كلية الآداب أساس الجامعة المصرية، وهي عصارة الأماني الوطنية، فقد أنشئت لأسباب ما أظنها تخفى عليك، إلا أن يجب العلم بالتاريخ القديم مع جواز الجهل بالتاريخ الحديث!!
وكليتنا الغالية موسومة بقوة الروح، فما ذكرت الحياة الجامعية إلا كانت أول ما يخطر في البال، ولا جاز الاضطهاد إلا على أبنائها الأوفياء، لأنهم سبقوا زمنهم بأزمان.
فإن وجدت من قوة العزيمة ما يساعد على أن تكون من أساطين قسم اللغة العربية فأقبل غير هياب، حرسك الله ورعاك!
أبناء دار العلوم بوزارة المعارف
أمضى معالي الأستاذ أحمد نجيب الهلالي باشا قراراً بترقية جماعة من كبار الموظفين بوزارة المعارف إلى الدرجة الأولى الفنية وعلى رأسهم الأستاذ جاد المولى بك كبير مفتشي اللغة العربية، فالتفت الذهن إلى نصيب أبناء العلوم من الترقيات بوزارة المعارف، وقد طالت شكواهم من الإغفال والإهمال عدداً من السنين الطوال.
والظاهر من البحث الذي بذلته في درس هذه القضية أن أبناء دار العلوم لم يفز منهم بالدرجة الأولى قبل جاد المولى بك غير رجلين أثنين: عاطف بركات وعبد العزيز جاويش.
ومع هذا فالطعم مختلف كل الاختلاف: فالمغفور له عاطف بركات رقَّته وزارة الحقانية لا(480/5)
وزارة المعارف، لأنه كان ناظر مدرسة القضاء الشرعي، وكانت تلك المدرسة تحت إشراف وزارة الحقانية، وكان مفهوماً أنها تملك في إنصاف الرجال ما لا تملك وزارة المعارف.
أما الشيخ عبد العزيز جاويش فلم يراع في منحه الدرجة الأولى أنه من أبناء دار العلوم، وإنما روعيت شخصيته العظيمة الفخيمة، وكان رجلاً ملء العين والقلب، وكان يتكلم الإنجليزية والألمانية والتركية بسهولة تستوجب الالتفات، وكان له في خدمة الوطنية تاريخ طويل عريض، فصار من الصعب أن تجعله وزارة المعارف في منزلة أي كبير من كبار الموظفين.
فكيف ظفر جاد المولى بك بالدرجة الأولى، وهو رجل لا يعرف غير عمله الرسمي وعمله الأدبي في هدوء وسكون، ولم يعرف عنه التقرب إلى هذا الحزب أو ذاك، ولو شئت لقلت إنه ضعيف الحيلة إلى أبعد الحدود؟ كيف ظفر بهذه الدرجة؟ كيف؟ كيف؟ وهو لا يرى وزير المعارف إلا إن دعاه للتشاور في بعض الشؤون، ولا يعرف من أندية القاهرة غير القهوة التي يَسمُر فيها مع بعض المفتشين بميدان الإسماعيلية في مساء كل خميس؟. . . تلك إلتفاتة نبيلة من الهلالي باشا أراد بها إعزاز اللغة العربية، ولعلها كرمٌ أضفاه الله على رجل يصلي ويصوم، في زمن جُهلت فيه آداب الصلاة والصيام عند بعض الكبار من الموظفين زاده الله فلاَحاً إلى فلاَح.
زكي مبارك(480/6)
تاريخ التاريخ
للدكتور محمد مصطفى صفوت
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
كان التاريخ أول أمره قصصاً يختار القصاص من أنبائه ما بهرهم وما يستثير إعجاب الجمهور، وكان يدور حول حوادث الآلهة والأبطال فكان عند اليونان مصوغاً شعراً قصصياً يرتل وينشد، شعراً يتغنى بمجد اليونان، ويشيد بما كان لأبطالهم من بلاء في الحروب؛ وأول أثر تاريخي وصلنا في ذلك القالب شعر (هوميروس).
ومثل ذلك كان موجوداً عند الشعوب التي لم تبلغ بعد حظاً من الحضارة، تاريخها قصص يتناقله الرواة ومركزه الأبطال. ظهر ذلك عند العرب في الجاهلية، وعند الترك قبل دخولهم المسيحية، وعند الفرس القدماء وغيرهم. ويغلب في ذلك النوع من التاريخ الأسطورة أو الأخبار، لأن العنصر الشخصي ظاهر فيه من ناحية الشاعر والناقل والقاص، فكل منهم ينتقي ما راقه - في الغالب - دون نقد أو تفكير، ثم يضيف إليه ما يضيف، أو ينقص منه ما شاء أن ينقص. فأمثال هوميروس ينسبون إلى أبطالهم وآلهتهم ما شاءوا من أعمال لا يستطيع العقل تصديقها، وسبح بهم الوهم والخيال. . . ولم يخف ذلك على بعض عقلاء اليونان من أمثال (أيزوكراتيس الذي يقول: (فلم ينسبوا إليهم - أي إلى الآلهة والأبطال - الوقوع في أسر من يموت ويفنى، ولكنهم يمثلونهم آكلين أطفالهم، معذبين آباءهم، ومقرنين أمهاتهم في الأصفاد).
وأول من أهتم بالتاريخ وبذل جهداً لجمع الأخبار بنفسه، ويهتم بالناحية الجغرافية في دراسته، ويعرض الآراء المختلفة أمام جمهرة قارئيه أو سامعيه ليختاروا منها ما شاءوا. ولكن هيرودتس كان قبل كل شئ قاصاً إخبارياً، يجمع ما له قيمة في نظره وما يلذ جمهوره فهو في الواقع أب المؤرخين القاصِّين الإخباريين.
وتمت المرحلة الثانية في البحث التاريخي على يد ثيوكيديدز مؤرخ حرب البلبونيز - انتقد ذلك الرجل سرعة الناس إلى التصديق، وعدم تمييزهم ما بين الصحيح وغير الصحيح ولذا فهو يهتم بتنظيم حقائق هذه الحرب حتى يبين الحوادث؛ وهو يعني بنقد حقائقه ويقول: (إنني ما وصفت شيئاً رأيته، أو سمعته، ولم أحققه بكل تدقيق وعناية).(480/7)
ويختلف في مرماه عن هيرودوتس فهو يرمي إلى غرض تعليمي وإلى إعطاء دروس في السياسة حقيقية.
ولم تهتم حكومة في القديم بتدوين أخبارها مثلما اهتمت الحكومة المصرية. فعنى الملوك والأمراء والعظماء بتسجيل أعمالهم، وتدوين حوادثهم، ووصف نواحي حياتهم المختلفة: الحياة السياسية والدينية والاجتماعية، وحاولوا إعطاء الخلف صورة واضحة عن حياة السلف. وكانت فلسفتهم التاريخية الاستعداد في هذه الحياة الدنيا للحياة الآخرة، فالحياة الدنيا ليست دار قرار ولا دار عدالة. وكما أهتم المصريون القدماء بتدوين أخبارهم حاولوا تشويه معالم تاريخهم. فكانت هناك محاولات فردية قام بها بعض الملوك لطمس معالم تاريخ من سبقوه. ولكن لحسن الحظ لم تنجح مثل هذه المحاولات نجاحاً تاماً.
وقد ظل مظهر القصص والسياسة يغلبان على دراسة التاريخ مدة طويلة في العصر القديم. ومن بعد عهد المؤرخين الرومان من أمثال سالوست وليفي وتاكيتوس أصبح التاريخ فرعاً من فروع الأدب وانحطت دراسته. ولقد أغفل المؤرخون القدماء ما نسميه الآن بالتاريخ العام فما كانوا يعترفون بغير الإغريق والرومان؛ وما عداهم من الأمم فكانوا (متبربرين).
ثم جاءت المسيحية ونمت، فلم يعد المؤرخون يهتمون بأنباء الوثنية أو بالماضي الوثني، وإنما اهتموا بالمسيحية ذاتها. وكان للمسيحية فلسفتها التاريخية الخاصة بها، فحوادث هذا العالم - كما ترى - سائرة وفق نظام إلهي لتمهيد الطريق لظهور المسيح؛ وعلى فكرة ظهور المسيح يتوقف تاريخ ما قبل المسيح وما بعده، فبعده تقاسي الإنسانية أنواع العذاب إلى يوم القيامة. وقد وجدت هذه الفلسفة أحسن تعبير لها في كتاب القديس أغسطين (مدينة الله). وقريب من هذا فلسفة المسلمين التاريخية في العصور الوسطى إذ يرون العالم سائر وفق نظام وضعه الله له إلى يوم القيامة، وفي ذلك اليوم يجزي الله الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
أما نظرية التطور والتقدم فلم تظهر واضحة في العصور الوسطى، وإن كانت مبادؤها قد وضعت في الماضي الإغريقي. لأن الفكرة المنتشرة في أوربا في هذه العصور كانت فكرة الخطيئة الأولى، خطيئة آدم وحواء وليس هناك مجال للتقدم والتحسن. ويغلب على التاريخ(480/8)
في ذلك الوقت نوع الجوليات، يضعه في الغالب رجال الدين الذين يهتمون بانتقاء المعجز والغريب من الأخبار، وربما كان خير مثل لهؤلاء جريجوري التوري. أما في الشرق عند المسلمين فكانت الحالة قريبة الشبه فكان الاهتمام (بالنقل) هو الظاهرة البارزة، وكانت النزعة الدينية غالبة، أما روح النقد الحقيقي كما نعرفه في الوقت الحاضر فما كانت موجودة إلا عند القليل.
سادت فكرة تفوق القديم بصفة عامة في العصور الوسطى، بل كانت مسيطرة على عقول عدد كبير من رجال النهضة. فكانوا يعتقدون في تفوق الإغريق والرومان فهم أرباب العلم والأدب والفن فما وصلوا إليه هو درجة الكمال لا يمكن الزيادة عليه. ولكنه بالرغم من ذلك بدأت تظهر فكرة التقدم واضحة في عصر النهضة نفسه. فكميافلي لا يرى الانسانية سائرة في طريق التقهقر - بدأت تظهر فكرة التقدم واضحة عندما أخذ الإنسان يشعر بأنه حر الإرادة يستطيع تحديد مستقبله إلى حد كبير. فبودن وهو من أعلام المؤرخين يرى أن التاريخ يعتمد على مشيئة الإنسان، ففي كل وقت تظهر قوانين وعادات ونظم جديدة كلها من صنع الإنسان، ويلاحظ قانوناً عاماً هو أنه ليس هناك انحطاط مستمر بل رقي تدريجي.
نشبت إذن معركة بين القدامى والمحدثين، بين الذين يقولون بتفوق الماضي وبين الذين يقولون بنفوق الحاضر، وظهر الإيمان بنظرية التقدم على يد فونتنل في القرن السابع عشر. يقول فونتنل: (ليس هناك فرق بيننا وبين أجدادنا إلا أنهم سبقونا في ميدان العلم فكانوا المخترعين الأول، ولو كنا محلهم لقمنا بمثل ما قاموا به، ولو كانوا محلنا لعملوا مثل ما نعمل، فنحن نجلهم أكثر مما ينبغي كما سيجلنا أبناؤنا فيما بعد). وجاءت ثورة ديكارت الفكرية التي أعلنت استقلال الإنسان في أعماله مؤيدة فكرة التقدم. ويضيف ليبنتز فيقول: (وعلى ممر الأيام سيصل الإنسان إلى درجة من الكمال لا نتصورها اليوم).
ازدادت العناية بالتاريخ في العصور الحديثة لحركة النهضة وللكشف الجغرافي. درس الانسانيون التاريخ، لأنه يفسر لهم العالم الإغريقي والروماني القديم، وكان في نظرهم خادماً للأدب، ولما قامت حركة الإصلاح الديني زادت أهمية التاريخ إذ وجد فيه المصلحون أسلحة قوية ضد ادعاءات البابا؛ واهتم به المفكرون الاجتماعيون لأنه يفسر في(480/9)
نظرهم نظرية التقدم والنمو. فلا عجب إذا عنى المؤرخون بجمع الوثائق وتنظيمها. والاهتمام بالعوامل الجغرافية في دراسة التاريخ.
ولقد جاء منتسيكو وفلتير وقالوا بقيمة العوامل الطبيعية في تسيير التاريخ (فليست الصدف هي التي تحكم العالم في نظر منتسيكو، فالظواهر السياسية كالظواهر الطبيعية لها قوانينها العامة) ويرى أن الأخلاق تعمل على رفع الشعوب وأن العوامل الجغرافية والمناخية تؤثر في مجرى الحياة الإنسانية. أما فلتير فقد اهتم بتاريخ الشعوب ففي كتابه (عصر لوي الرابع عشر) أعلن أن غايته ليست وصفاً لعمل فرد وإنما لعقل الأفراد وللروح التي تسيطر عليهم. ولقد نحا نحوها الطبيعيون أو الفيزيوقراط وقالوا أن الإنسانية ولو أنها ترتكب كثيراً من الأخطاء إلا أنها سائرة في طريق التقدم، وأن الناس يعملون بوحي قوانين إلهية لا يستطيعون النكول عنها، هذه القوانين ترمي إلى صالح الفرد وإلى صالح الجماعة.
وكان للثورة الفرنسية فلسفتها التاريخية، فكوندرسيه يرى أن التاريخ يوضح نظرية التقدم ويساعد على تعيين اتجاهها في المستقبل، وحوادث التاريخ في اعتقاده تدل على أن الطبيعة لم تضع حداً لنمو الإنسان، وأن رقيه نحو الكمال رهين ببقاء العالم، وأن تقدم الإنسان بطئ تارة وسريع تارة أخرى، ويستطيع الإنسان التكهن بالحوادث إذا عرف القوانين العامة للظواهر الاجتماعية، ويمكن معرفة هذه الظواهر من دراسة التاريخ.
ومن القرن الثامن عشر لم يعد الاهتمام التاريخي مقصوراً على دراسة الأشخاص والشعوب، بل أخذ يمتد إلى دراسة الحضارة أو ما يسميه الألمان وقد زاد الاهتمام بدراسة التاريخ في القرن التاسع عشر على يد نيبور رانكه المؤسس للمدرسة التاريخية الحديثة، فزادت العناية بالرجوع إلى المصادر الأصلية للتاريخ وإلى دراسة نواحيه المختلفة وامتد نفوذ هذه الدراسة إلى بقية أجزاء أوربا وأمريكا.
(البقية في العدد القادم)
محمد مصطفى صفوت(480/10)
مفاوضات الفتح العربي لمصر
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 2 -
(ب) المفاوضة الثانية
ورد لنا عنها روايتان:
الرواية الأولى
1 - ذكرها أبو المحاسن (ص 9) نقلاً عن ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر قال: (ودخل عمرو إلى صاحب الحصن فتناظرا في شيء مما هم فيه؛ فقال عمرو: أخرج وأستشير أصحابي؛ وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مر به عمرو يلقي صخرة فيقتله، فمر عمرو وهو يريد الخروج برجل من العرب فقال له: قد دخلت فانظر كيف تخرج. فرجع عمرو إلى صاحب الحصن فقال له: إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت. فقال العلج في نفسه قتل جماعة أحب ألي من قتل واحد؛ فأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره من أمر عمرو ألا يتعرض له رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم؛ فخرج عمرو).
فواضح من هذا أن المفاوضة كانت في حصن بابليون نفسه بين عمرو وصاحب الحصن (وهو المقوقس بدون شك؛ لأن ابن عبد الحكم يقول قبل ذلك فيما نقله عنه أبو المحاسن (ص 8) إن المقوقس كان حاضراً الحصن حين حاصره المسلمون).
2 - وذكرها المقريزي (الخطط ج 2 ص 65 ط النيل) نقلاً عن ابن الحكم أيضاً.
3 - وذكرها السيوطي (حسن المحاضرة ج 1 ص 64 - 65 ط إدارة الوطن) نقلاً عنه أيضاً.
4 - وذكرها الواقدي (فتوح الشام ومصر ج 2 ص 30 - 32 ط اليمنية). قال: (. . . وإذا برسول أرسطوليس قد قبل وقال: يا معشر العرب إن ولي عهد الملك يريد منكم أن تبعثوا له رجلاً منكم ليخاطبه بما في نفسه فلعل الله أن يصلح ذات بينكم. . . فلبس عمرو ثوباً من كرابيس الشام وتحته جبة صوف، وتقلد بسيفه، وركب جواده، وسار معه غلامه(480/11)
وردان، وسار الثلاثة إلى قصر الشمع. . . فدخل عمرو وهو راكب حتى وصل إلى قبة الملك، ورأى السريرية والحجاب وقوف والبطارقة وهم في زينة عظيمة، فلما رأى ذلك عمرو تبسم وقرأ: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خيراً وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون). . . فأمروا عمراً أن ينزل عن جواده، فنزل وترجل، وجلس حيث انتهى به المجلس، وأمسك عنان جواده بيده ويده اليسرى على مقبضة سيفه، ونظر إلى زينتهم وزخرفة قصرهم فقرأ: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون، وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) ثم قال: أعلموا أن الدنيا دار زوال وفناء، والآخرة هي دار البقاء. أما سمعتم ما كان من نبيكم عيسى وزهده وورعه؟ كان لباسه الشعر ووساده الحجر وسراجه القمر. وقد قال نبينا صلوات الله عليه: إن الله أوحى إلى عيسى أن نح على نفسك في الفلوات، وعاتبها في الخلوات، وسارع إلى الصلوات، واستعمل الحسنات، وتجنب السيئات، وابك على نفسك بكاء من ودع الأهل والأولاد، وأصبح وحيداً في البلاد. وكن يقظان إذا نامت العيون، خوف من أمر لابد أن يكون. فإذا كان روح الله وكلمته فخوف بهذا التخويف، فكيف يكون المكلف الضعيف؟ وأول من تكلم في المهد قال: إني عبد الله، فإذا كان أقر لله بالعبودية فلم تنسبون إليه الربوبية؟ تعالى الله ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا أشرك في حكمه أحدا، جل عن الصاحبة والأولاد، والشركاء والأضداد. لا صاحبة له ولا ولد ولا شريك له ولا وزير، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انتهاء، ولا يحويه مكان، ليس بجسم فيمس، ولا بجوهر فيحس، لا يوصف بالسكون والحركات، ولا بالحلول والكيفيات، ولا تحتوي عليه الكميات، ولا المنافع ولا الضارات. ثم إنه (يعني عمراً) قرأ (إن كل من في السموات والأرض إلا أتى الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتاهم يوم القيامة فردا). فقال له الوزير: أصح عندكم معاشر العرب أن المسيح تكلم في المهد؟ قال: نعم. قالوا له: فهذه فضيلة قد انفرد بها عن جميع الأنبياء. فقال عمروا: قد تكلم في المهد أطفال منهم صاحب يوسف وصاحب جريح وصاحب الأخدود وغيرهم. فقالوا يا عربي، أتكلم نبيك بغير العربية؟ قال: لا، قال الله في كتابه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء(480/12)
ويهدي من يشاء). قالوا: أبعث الله منكم أنبياء غير نبيكم؟ قال: نعم. قالوا: من؟ قال صالح وشعيب ولوط وهود. قال: فلما سمعوا كلام عمرو وفصاحته وجوابه الحاضر قالوا بالقبطية للملك: إن هذا العربي فصيح اللسان جريء الجنان ولا شك أنه المقدم على قومه وصاحب الجيش، فلو قبضت عليه لانهزم أصحابه عنا. قال وغلام عمرو وردان يسمع ذلك. فقال الملك أنه لا يجوز لنا أن نغدر برسول لا سيما ونحن استدعيناه إلينا. فقال وردان بلسان آخر ما قالوه، ففهم عمرو كلامه. ثم أن الملك قال: يا أخا العرب، ما الذي تريدون منا وما قصدنا أحد إلا ورجع بالخيبة؟ وإنا قد كتبنا إلى النوبة والبجاوة، وكأنكم بهم قد وصلوا إلينا. فقال عمرو: إننا لا نخاف من كثرة الجيوش والأمم وإن الله قد وعدنا النصر وأن يورثنا الأرض، ونحن ندعوكم إلى خصلة من ثلاث: إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال. فقالوا: أننا لا نبرم أمراً إلا بمشورة الملك المقوقس، وقد دخل خلوته، ولكن يا أخا العرب ما نظن أن في أصحابك من هو أقوى منك جناناً ولا أفصح منك لساناً. فقال عمرو: أنا ألكن لساناً ممن في أصحابي، ومنهم من لو تكلم لعلمت أني لا أقاس به. فقال الملك: هذا من المحال أن يكون فيهم مثلك. فقال: إن أحب الملك آتيه بعشرة منهم يسمع خطابهم. فقال الملك: أرسل فاطلبهم. فقال عمرو: لا يأتون برسالة وإنما إن أراد الملك مضيت وأتيت بهم. فقال الملك لوزرائه: إذا حضروا قبضنا عليهم، والأحد عشر أحسن من الواحد. ووردان يفهم ذلك. ثم أن الملك قال لعمرو: امض ولا تبطئ علي. فوثب عمرو قائماً وركب جواده، فقال الملك بالقبطية، لأقتلنهم أجمعين. فلما خرج من مصر قال له وردان ما قاله الملك. فلما وصل إلى الجيش أقبلت الصحابة وسلموا عليه وهم يقولون: والله يا عمرو لقد ساءت بك الظنون. فأقبل يحدثهم بما وقع له معهم وبما قالوه وبما قاله وردان فحمدوا الله على سلامته)
فواضح من هذا أن الواقدي متفق مع ابن عبد الحكم في مكان المفاوضة، ولكنه يختلف عنه في أحد طرفي المفاوضة؛ فبينما يقول ابن الحكم إنها كانت بين عمرو وصاحب الحصن المقوقس، يقول الواقدي إنها كانت بين عمرو وارسطوليس؛ وأرسطوليس هذا هو - فيما يحدثنا الواقدي (ص 25 - 30) ابن المقوقس، وقد قتل أباه لما أدركه من ميله إلى الإسلام ورغبته في أن يسلم ملكه للعرب، ثم قام مقامه والناس جميعاً يظنون أنه يقوم مقام أبيه(480/13)
أثناء غيبته تلك التي اعتاد أن يتغيبها طول شهر رمضان من كل سنة
ولا يرد ما يؤيد هذه الرواية في كتاب حنا النقيوسي
وإذا صح ما ترويه هذه الرواية العربية من وقوع مفاوضة في ذلك الوقت في حصن بابليون، فليس من شك في أنها كانت بين عمرو من ناحية، والمقوقس من ناحية ثانية كما يقول ابن الحكم، لا بين عمرو وأرسطوليس كما يزعم الواقدي. ونحن نرفض ما يقوله الواقدي لسببين جوهريين: الأول أننا لم نلتق بهذا الاسم (ارسطوليس) فيما قرأناه من سائر الكتب التي تتحدث عن وقائع الفتح. والثاني أن المقوقس توفي في 21 مارس 642 (بتلر ص 313) في حين أن الحصن سلم للعرب في 9 إبريل سنة 641 (بتلر ص 328)، فليس صحيحاً إذن أن المقوقس قتل قبل تسليم الحصن. ويخيل إلينا أن الواقدي قال بوقوع المفاوضة بين عمرو وأرسطوليس لا المقوقس، لأنه كان يعتقد في حب المقوقس للعرب، وإيمانه بدعوتهم، وتصديقه لرسولهم، صلوات الله عليه ونقده لما جاء به بولص (الواقدي ص 24 و27) فلا يكون من طبائع الأشياء إذن أن يحاول اغتيال عمرو قائد العرب، وإنما يلزم أن يكون غيره هو الذي دبر هذه المكيدة.
على أن الأستاذ بتلر يرفض هذه الرواية فيقول (تعليق 3 ص 223): (ولا تشك في تكذيب هذه الرواية ووصفها بأنها اختلاق ووهم، ونقول هنا إن هذه القصة نفسها قد ذكرها (ابن بطريق) عن غزة في فلسطين)
ونحن، اعتماداً على ما يلقيه الأستاذ بتلر على هذه الرواية من ظلال الشك، نرفض هذه الرواية كذلك أو نشك فيها على الأقل، وواضح جداً أن القصة التي تقصها إنما وضعت للتدليل على دهاء عمرو وسعة حيلته.
(للبحث بقية)
السيد يعقوب بكر(480/14)
سقوط بولندة
للشاعر (توماس كامبل)
للأستاذ محمود عزت عرفة
انطوت ثلاثة أعوام كوامل على حادث اجتياح (بولندة) الذي اندلعت بسببه نيران هذه الحرب القائمة؛ وفي الواقع أن بلداً من البلدان لم يُمَن بمثل ما مُنيتْ به (بولندة) من عدوان جاراتها المتتابع عليها. . . ففي منتصف القرن الثامن عشر - وكان نظام الإقطاع إذ ذاك يفتك بعوامل الاستقرار والهدوء فيها - أحست الدول الطامعة في امتلاكها - لأول مرة - بسنوح الفرصة التي طال ارتقابها؛ فاقترح فردريك الأكبر ملك بروسيا على كل من النمسا وروسيا الاشتراكَ معه في اجتياح هذه البلاد. وتم ذلك في عام 1772م، حيث اقتسم الجميع ثلث مساحتها، في حين وضعوا لسائرها استقلالاً اسميَّاً، وتركوا السلطة الحقيقية في يد معتمد روسي يقيم في (وارسو).
وبعد عشرين عاماً من هذا التاريخ، اتجهت أنظار أوربا جميعها إلى فرنسا وثورتها العارمة؛ واختلس الروس هذه الفرصة فاجتاحوا بقية بولندة واحتلوا عاصمتها عام 1792م.
وقد لاذ الوطنيون البولنديون بأذيال الفرار، حيث تجمعوا بإقليم سكسونيا (في شمال بوهيميا)، وكونوا حزباً سياسياً قوياً برياسة كوشيسكو.
وكان هذا الأخير ممن تعلموا في فرنسا، وتغلغلت في نفوسهم روح الحرية منذ طفولتهم؛ وقد اشترك في حرب الاستقلال الأمريكي انتصاراً منه للروح الوطنية أنى وجدت. . . فكان في الواقع خير من يقود مثل هذه الحركة!
وقد بدأ بتأليف جيش قوي تربص به حتى اندلع لهيب الثورة في بولندة عام 1794م، فدخل البلاد منتصراً، واحتل (وارسو)، حيث أنشأ حكومة وطنية حرة. . . وهنا استنجد الروس بالبروسيين، وتمكنوا متحدين من هزيمة الوطنيين واحتلال وارسو مرة أخرى عام 1795م.
وقد وقع (كوشيسكو) يوم ذاك أسيراً، وجرت مذبحة رهيبة عند جسر مدينة براغة (شرقي وارسو) راح ضحيتها عدد وفير من الوطنيين البولنديين. . . واتفقت حينئذ كلمة روسيا وبروسيا والنمسا على محو بولندة نهائياً من مصور أوربا السياسي! فكانت تلك أشنع(480/15)
صورة للطغيان يسجلها تاريخ القرن الثامن عشر؛ وقد ضجت أوربا والعالم المتحضر جميعاً لهذا الحادث الذي بدا فيه مبلغ استهتار القوة المسلحة بحقوق الأعزل الضعيف!
وفي هذه القصيدة يصور لنا (توماس كمبل) - وقد عاش بين سنتي: 1777م، 1844م - مأساة (بولندة) في عام 1795م.
وهو يبدو فيها معبراً عن شعور الوطنيين ومحبي الحرية في العالم جميعاً، ممن آسفهم هذا الحادث وأرمض نفوسهم. . . ولسنا هنا بسبيل ذكر كفاح بولندة لتخليص استقلالها طيلة القرن التاسع عشر، أو إيضاح ما تلا ذلك من أحداث انتهت باحتلالها الأخير في أول الحرب الحاضرة؛ فلكل ذلك مواضعه من أبحاث التاريخ؛ وإنما تختم هذه المقدمة الضرورية بقولنا: إن قصيدة (سقوط بولندة) نشرت - لأول مرة - في عام 1799م - أي بعد مأساة السقوط بأربع سنوات - ضمن ديوان للشاعر عنوانه (مباهج الأمل). . . وهاهي ترجمتها:
أيتها الحقيقة المقدسة! لقد تخلى عنك النصر، ولكن إلى حين، وفارقتْ أخاكِ (الأملَ) ابتسامتُه أسفاً عليك. . . عندما توجه الظلم الغاشم بجحافله إلى معترك الشمال، وتحركت فرسانه من العُتاة أولى القوة، ومشاته من (البندوريين) ذوي السبال والعثانين: خافقة أعلامهم الرهيبة مع نسمات الصباح مدويةً طبولهم في دقات كهزيم الرعد، مرتفعاً رنين أبواقهم في شبه العويل. . .!
إنه الفزع الأكبر في ضجيجه وعجيجه، يتحدَّر مع طلائع الشر منذراً بولندة والعالم كله بالويل والثبور!
. . . أشرف بطل فارسوفيا الأخير من مربأه العالي على سهول ألم بها الخراب واجتاحتها جوائح الدمار، فصاح من قلب منكوء:
يا أهلي، ضمد جراح وطني الكليم. . . أما ثمة يد قوية تشد أزر الأبطال المجاهدين؟ ولكن. . . لِتعْثُ في أرضنا شياطين الفناء، ولتُثْجِم عليها سحائب المنايا. . . فالوطن حي برغم ذلك باق؛ وباسمه الرهيب نشهر أسيافنا البواتر. . . فانهضوا يا رفاق؛ وأقسموا جميعاً أن تعيشوا من أجله أو تموتوا فداءً له!
قال البطل هذا، ثم انكفأ إلى رجاله البواسل ينظمهم صفوفاً خلف الأسوار الحصينة. . .(480/16)
فئة قليلة لا ينقصها الإيمان ولا تعوزها النجدة. . . قوة متماسكة مرهوبة السطوة، تخطو في ثبات وفي أناة معاً: مترفقة كأنها النسيم العابر، متدفقة كأنها العواصف الهوج!
. . . وانتقلت الأصوات خفيضة هامسة تموج مع الهواء موج البنود، مرددة شعارهم الذي به يتعارفون: (الانتقام. . . أو الموت)؛ ثم ارتفع الضجيج عالياً قوياً يستلب النهى، وطنّت نواقيس الإنذار تعلن الخطر الداهم، وتبلغ التحذير الأخير!
ولكن. . . يا للأسف! عبثاً أيتها القلة الباسلة أن تنثال قذائفك مدوية كالرعد بين الصفوف. . . إنها لأشنع صورة وأدماها يسجلها التاريخ في سِفر الأيام! (سَرْماتْيا) تسقط صريعة في غير جرم، فما تُبكَى عليها عينٌ بقطرة من دمع. . .!
واهاً لها. . . لم تجد الصديق كريماً ولا العدو رحيماً. . .!
لم تسعفها القوة وهي في سلاحها وعدتها، ولا أبقت عليها الرحمة وهي في محنتها وبلواها. . .
هو رديْنُّيها العسْال من يدها الواهنة قِصَداً، وأغمضت عيناها الوامضتان ببريق الحياة، وناءت بكاهلها أثقال الطغيان، فما أطاقت النهوض.
هاهو ذا الأمل يقرع سمع الدنيا بكلمة الوداع مولياً عنها إلى حين؛ والحرية تعول صارخة إذ ترى (كوشيسكو) يهوى من عليائه. . .
انحدرت الشمس إلى مغربها وما وقف سيل الدماء الموائر، وبدد ضجيج القتل والقتال سكون الليل الغارق في غفوته، وألقت لُهب الدمار ظلالها على قناطر (براعة) الفخمة؛ وتحدرت المياه من أسفلها مخضوبة بالدم القاني. ثم أعولت العاصفة فطغت على صرخات الجزع وصيحات الوهل المتصاعدة؛ بينا أفسحت الحصون الصماء للغزاة طريقاً مهادها الأشلاء.
ألا أصيخوا. . . إن الأبنية المحترقة لتنهار في دوي يصم الآذان؛ ومئات الأصوات الواهنة تجأر في طلب الرحمة والغوث وهي يائسة منهما؛ حتى لكأنما الأرض تزلزل زلزالها، والسماء ترمى من رجومها بكل شهاب ثاقب!. . .
إنها الطبيعة وقد أدركت هول الفاجعة تضطرب من أعماقها؛ والكون بأجمعه يهتز جزعاً لهذا البكاء والإعوال.(480/17)
أيتها الأرواح الذواهب. أرواح الأبطال الكماة وكل ذوي النجدة من الهالكين. . . يا من أستنزفوا دماءهم ولفظوا آخر أنفاسهم في ساحات القتال من مراثون ولكترا. . . يا حلفاء العالم وأصدقاء الإنسانية جميعاً: أشهروا سيوفكم من جديد لأجل (الإنسان)؛ حاربوا في سبيل غايته المقدسة؛ وقودوا طلائعه إلى النصر. ثم كفروا بالدم الصبيب عن دموع (سرماتيا) التي تحدرت وهي بالنجيع مخضوبة؛ واجعلوا لها من العتاد والعدة كما جعلتم لأوطانكم. . .
آه لو يرتد إلينا الزمن برب الوطنية وربيبها (تيل). . . أو بالملك الفارس (بروس) بطل (بانكبرن). . . إذن لكان للحرية بهما قوة؛ ولأوى الحق منهما إلى ركن شديد!
(جرجا)
محمود عزت عرفة(480/18)
في معبد الشاعر المصري
للأستاذ إبراهيم صبري
مترجمة بقلم الأستاذ عثمان علي عسل
إبراهيم صبري شاعر موهوب من شعراء اللغة التركية، وهو يعيش في مصر في غربة متصلة أكثر من عشرين عاماً، يعيش في داخله لا أنيس له إلا شيطان شعره. شاعر يترنم أو ينوح لنفسه. شعلة تتوهج لا يراها إلا الظلام الدامس، يا للعجب!
ثم انتقل الشاعر إلى جو جديد من الشعر بين صحابة يعيشون في بلادهم في غربة كغربته. استمع الشاعر التركي إلى أنين الشعر العربي الذي تناثر في جو (المعبد)، وأصغى إلى الترنم الحزين الذي اشتركت في إيقاعه نفوس تحن في غربتها، وتلقف روح الآلام العربية فعانقها بشوق وصبابة
احترقت النفوس في نار الغربة المستعرة، وحول دخانها العطري طافت أشباح الصحابة: (الشاعر محمود حسن إسماعيل الذي تهدي إليه هذه القصيدة، ويحيى. . . وسعيد. . .، وعبد السلام. . .، وعبد الرحيم. .، والشاعر التركي إبراهيم صبري، ومحمود. . . وعثمان. . .). وفي معبد الغربة المحترقة أقيمت شعائر الألم المتوهج، والأحزان المنصرمة، وانبعثت روح العطر تتصاعد من نار غريبة متأججة، ومن هذا الجو المشتعل قبس الشاعر التركي لأشعاره ناراً خالدة أضاء بها زاوية من المعبد قد نامت فيها ساعة من الزمن فرت إليه من جنة الخلد.
(عثمان)
ذات يوم حوم الشيطان شعري في جو حياتي، وحدثني حديثاً من الشعر، قال:
(لقد اتخذت من أودية الحقيقة مسكناً وبقيت فيها إلى الآن، فليكن هدف جناحك الذي يسف بك إلى الأرض جواً جديداً متعالياً. ولا ريب أن السموات الحرة لا تشبه منفاك الضيق، فليرافقني يراعك محلقاً في سماء الخيال، ليطلع على المعنى الخفي في (ديوان) الفلك، فيكتب أشعاراً اسطورية
دع عنك هذه الأفكار التي صورت بها هذه الأرض البالية، وليكن لون أشعارك من لون(480/19)
الفجر والشفق، ولتكن أنغام نظمك من وزن نظام النجوم)
وإذا بقوة سحرية قد تسلطت على سمعي وخيالي فعرجت إلى السماء كأني في غيبوبة، واحترقت روحي بلهيب لا يرى، وتصاعدت كالبخار حتى انتهت إلى السحاب. وكانت نظرتي هي صلتي الأخيرة بالأرض التي احتجبت وراء الغيوم. لا أدري كم مكثت في الظلام حين وجدت نفسي في ساحة معبد التقيت فيه بشيطان شعري؟ وبدا لي أن هذا المكان الذي يسمى (المعبد) كأنه يحتوي على الدهر: قبته رأس شاعر عبقري شيد عرشه السامي في مملكة الخيال، وقد بسط سلطانه على دولة الشعر، اشتعلت نار العبقرية في رأسه كالبركان فتألق جو المعبد بأضواء هذه النار. وبعد لحظة ترددت في المعبد أنغام وألحان، وتقدمت لاستقبالنا حور أمسكن بأيديهن مجامر البخور، فانتقلنا إلى عالم خرافي يفوح بالعطر، وقد تربع الشاعر منزوياً بغير اكتراث في زاوية الصمت، وأمامه موقد النار قد وضع على حجر سحري. من نظر إلى هذه النار خيل إليه أنها صيغت من الشمس لأنها تتوهج بضياء كأنه احتوى على لآلاء النجوم. وكأن الشاعر قد أذاب العلوم وألقاها في سعيرها فتصاعد دخان براق يتمثل فيه الذكاء. أنشأ في الجو قوساً متموجاً تخال أمواجه مصقولة من لجين وعسجد، فاعتلى الشاعر هذا القوس وبيده لآيات شعره، بينما رقصت أشباح أبدعت في الرقص وغنت بألحان لا تسمع، كأن في حلقات الدخان معاني مبهمة أحاطت بالنفوس فأثارت فيها عاطفة سامية غير بشرية تكاد تشبه السكر، لو أن السكر يأتلف مع العبقرية. كان بريق النظرات وهاجاً بينما كانت الأجسام خامدة كأنها احترقت بطلسم، تاركة الروح وحدها.
رقص الشاعر مع شيعته كأنهم يتهادون في الفضاء، وأقام شعائر المعبد، ثم أطرق كأنه يسجد. ولو أقامها كاهن مجوسي لما أبدع كما أبدع، ولما اهتزت له أركان المعبد كما اهتزت للشاعر، وكأنما الشاعر يستمد إلهامه من الهند والصين، فهو ينشر في جوه من محرابه خيالات تتضوع بالعطر، فتسري في نظمه قوة سحرية تجعل قوافيه تتجلى في صورة بوذا
اجتمعت بالشاعر في ساحة المعبد، وتآلفت روحي مع أعماق سريرته. لمحت في يده يراعاً قد أمسكه بقوة سحرية شيطانية؛ هو يصور العالم بهذا اليراع. إن شاء استرسل في وصف(480/20)
العشق فأبكى القلوب الميتة كما بكى هو من الهجر والضنى، وإن شاء أودع الرياح أسراراً تحملها إلى سوالف حبيبته. إن البحار صورة حية للحرية، لكنها تبدو له أحياناً كأنها أسرى مقيدة بسلاسل أمواجها؛ وإنه ليستنشق النسيم فيتحول في صدره إلى زفرات تترنم بالأنين. لو شاهدت ألهامه لرأيت عالماً آخر. العالم بلا حبيبة هو - عنده - عالم لا وجود له! ومن هي حبيبته؟ وماهي. سر مجهول!! في عينيه ظلال لا تزول حتى في الظلام. نظراته غاسقة كأنها ممتلئة بألوان حسناء سمراء. وهو يرسل هذه النظرات إلى النيل فيخيل إلى غرامه غارق في لجه، فهو يبقى على ضفافه ساهراً ساهداً لعل الحباب يتحدث بغرامه؛ والدموع تنحدر من مقلتيه في محاذاته كأنها تسيل وراء شعر حسناته المسترسل في مجراه. . .! لقد اتخذ وادي النيل معبداً لعبقريته، كأنه أفق يشرف على حدود الدهر المطلقة، والقارئ أمامه كذرة لا يدري ما هو هذا العالم، ولا يدرك ما هي هذه الأفلاك؟
عثمان علي عسل(480/21)
حق الإمام في نسخ الأحكام
لعالم فاضل
نشرت مجلة (الرسالة) الغراء كلمة قصيرة تحت عنوان (محاولة قديمة جريئة في الفقه الإسلامي)؛ وقد ذكر في هذه الكلمة أن من الفرق الإسلامية من يعطي الإمام حق نسخ الأحكام، وأن الإمام أبا جعفر النحاس في كتابه (الناسخ والمنسوخ)؛ ولا شك أن ما تذهب إليه من تلك الفرقة - إن صح - هو الوسيلة الوحيدة لما يراد الآن من تطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال، حتى لا يجد المسلمون في العمل به حرجاً في أي زمن من الأزمان؛ وقد قال الله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)؛ وقال أيضاً في بيان الغاية من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). فالدين الذي جاء لرفع ما كان في الأديان قبله من أغلال، لا يمكن أن يقر أغلالاً على أتباعه في أي زمن، لأن هذا لا يتفق مع غايته، ولا تتحقق معه تلك الميزة التي امتاز بها على الأديان قبله
وإنما كان ذلك هو الوسيلة الوحيدة لتطويع الفقه لمجاراة الظروف والأحوال، لأن ما يذهب إليه بعضهم في ذلك من جعل وظيفة الإسلام روحية بحتة، لا يتفق مع حقيقة هذا الدين، فقد جاء بعد أديان بعضها يغلب جانب الروح على المادة، وبعضها يغلب جانب المادة على الروح؛ فعمل على الموازنة بينهما، وجعل من غايته إعطاء كل منهما حقها، حتى لا تطغى إحداهما على الأخرى، ليتم بها نظام العمران، ويتلاءم الدين مع طبيعة الاجتماع البشري، لأن كل دين لا يتلاءم مع هذه الطبيعة، يكون غلا عليها، وتكون تكاليفه فوق طاقتها؛ وقد قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)
وكذلك ما ذهب إليه بعضهم من تقسيم التشريع الإسلامي إلى دائم ومؤقت؛ فهو لا يبقى أيضاً بتطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال، لأن جعل التشريع المؤقت ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بشخصية الإمام المجتهد، وجعل التشريع الدائم ما صدر عنه بشخصية الرسول المبلغ عن الوحي، ومن يدرس التشريع الإسلامي يعرف أنه من المتعذر تمييز ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الشخصيتين، ويرى أنه مع إقرار الوحي لأحكام الاجتهاد، لا يكون هناك فرقاً بينهما وبين الأحكام الصادرة عن(480/22)
الوحي الصرف، وهذا إلى أن ما يراد الآن هو تطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال ولو لم يكن مصدره شخصية الإمام المجتهد، حتى يكون تطويعاً شاملاً كاملاً، ولا يوجد فيه ما يعوق هذا الفقه عن مسايرة أي زمن؛ وهذا لا يمكن إلا بما تذهب إليه تلك الفرقة من إعطاء الإمام حق نسخ الأحكام؛ ولهذا قلنا: إنه هو الوسيلة الوحيدة لتطويع الفقه الإسلامي لمجاراة الظروف والأحوال
ونريد بعد هذا أن نبين أن الإمام أبا جعفر النحاس لم ينصف في عرض مذهب تلك الفرقة في إعطاء الإمام حق نسخ الأحكام لأنه لم يعن بالرد عليها، ولم يبين ما استندت عليه في إعطاء الإمام ذلك الحق، مع أن كل عاقل لا يمكن أن يصدر في أحكامه عن الهوى، بل لا بد له من سند قوي أو ضعيف يعتمد عليه في أحكامه، ويحمله على مخالفة غيره؛ وقد فاته أيضاً أن يبين كيف يستعمل الإمام هذا الحق عند تلك الفرقة؟ أيستعمله كما يشاء ويهوي، فيكون الحكم في ذلك للهوى المذموم ولمصلحة الإمام دون مصلحة الرعية؟ أم يستعجله للمصلحة العامة، ويحكم فيه بالاجتهاد منه ومن أهل الحل والعقد في الأمة؟ ولا بد أن هذه الفرقة لا تعطي الإمام حق نسخ الأحكام بحسب الهوى، فيكون عرضه لسوء استعماله، واستخدامه فيما يضر الرعية ولا ينفعها
وإذا كان الإمام أبو جعفر النحاس قد فاته بيان مستند تلك الفرقة، وجرى في ذلك على عادة فقهائنا في العمل على إماتة كل مذهب يخالف المذاهب المشهورة، حتى فقدنا بذلك ثروة فقهية لا يستهان بها، وكانت تنفعنا في كل أزمة تشريعية تحصل لنا، كالأزمة التشريعية التي نعانيها في عصرنا، إذا كان قد فاته ذلك فإنا نحاول أن نبين هنا ما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة فيما ذهبت إليه، بدون أن نحمل أنفسنا تبعة ما نسوقه ونحكيه، لأن من يحكي ما يمكن أن يكون مستند القول من الأقوال لا يصح في أدب المناظرة تحميله تبعته، وإنما هو كناقل لا يلزم إلا بتصحيح النقل
فمما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة أن الله تعالى ذكر في كتابه الكريم أنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحاً والأنبياء من بعده، فشريعة الله إذن واحدة لا تقبل التغيير والتبديل، وليس الإسلام في صميمه إلا تلك الشريعة الثابتة من عهد نوح، أما تلك الفروع التي تضاف إليها فإنها ليست من صميمها، ولهذا تخلف فيها الأنظار، وتقبل التغيير والتبديل(480/23)
بحسب الظروف والأحوال
ومما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة أن الله تعالى ذكر تشريع النصارى للرهبنية بعد عيسى عليه السلام، فلم يدم تشريعها منهم، بل أقر ابتداعهم بقوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) فلا بأس إذن في كل تشريع حسن بعد الأنبياء، والإسلام في ذلك مثل غيره من الأديان
ومما يمكن أن يكون مستند تلك الفرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المسلمين حق التشريع بعده، وذلك بقوله: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)، وبقوله أيضاً: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر فاعلها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر فاعلها إلى يوم القيامة)
ومنها أن أهل الصدر الأول لم يتحرجوا من التغيير والتبديل في الأحكام على ما اقتضته المصلحة العامة في عصرهم، فأبطل عمر التغريب في الزنا حين فرَّ بعض من غرَّبهم إلى بلاد الروم فتنصر، وقد طلب منه نصارى تغلب أن يجعل جزيتهم صدقة كالمسلمين على أن يدفعوا ضعفها له فقيل ذلك منهم، وكذلك زاد عثمان في أذان الجمعة حين كثر سكان المدينة في خلافته، واسقط معاوية حد السرقة عن قوم أشراف سرقوا في عهده، وقدم مروان بن الحكم خطبة العيد على صلاته حين رأى الناس ينصرفون بعد الصلاة ولا يجلسون للخطبة
فهذه كلها وجوه يمكن أستناد تلك الفرقة عليها، كما يمكن أيضاً ردَّها عليهم، ولو أن الأمام أبا جعفر ذكر ما تستند عليه لأغنانا عن تكلف تلك الوجوه، وقضى بذلك حق الإنصاف والتاريخ
(ع)(480/24)
الفن والحياة
فهم الشيء رؤيتُه في موضعه الحقيقي بين سائر الأشياء. ولا يقف العلم عند الجزئي أو عند الفرد إلا لكي يكشف عن القوانين التي تربط ذلك الجزئي أو ذلك الفرد بباقي العالم. ولكن إذا نظرنا إلى الأشياء من الناحية الجمالية، فإن كل شيء يبدو لنا كأنه كلٌّ متميز تام ومحدد، ونحن لا نتمتع بصورته إلا لأنها تمثل لنا شيئاً متميزاً له خصائص تعريفية خاصة. ولما كنا نحن - وحدنا - عاجزين عن خلق مثل تلك العورة، فإن الفن يسارع لمساعدتنا.
وتنتمي العاطفة العقلية إلى طائفة العواطف الوجدانية مثلها في كل ذلك مثل العاطفية الجمالية ولكن العاطفة الجمالية تتجلى فيها المشاركة الوجدانية أكثر مما يتجلى في العاطفة العقلية، لأن هذه الأخيرة تحددها علاقة الأشياء فيما بينها أكثر مما تتحدد بعلاقة الشيء الجزئي نفسه بماهيته الخاصة. كذلك تنتج العاطفة الجمالية مما نبحث عنه لنوحد به بيننا وبين الأشياء حياتها وندخل عنصر المخيلة في حياتنا الخاصة. وهناك لذة جمالية تنتج من استخدامنا لأعضائنا استخداماً حراً، أي أنها ترجع إلى اللعب الذي نقلد فيه أعمالاً يباشرها الإنسان بحكم العادة من أجل غايات هامة وعملية. ويمكن أن نسمى كل فن لعباً ما دام يقدم لنا صورة ما، أعني إنتاجاً مثالياً للحياة الواقعية كلها أو أجزاء منها.
وتتخذ العاطفة الجمالية في نموها وانتشارها مظهراً خلقياً هاماً، فحين تسيطر على الإنسان تجعله ينسى نفسه أمام قيمة الأشياء، فلا يعود يفكر في نفسه ذلك النوع من ذلك النوع من التفكير الأناني المبتذل. ويتضمن الجمال الحقيقي قوة تجبرنا على تذكره وإرادة رؤيته الأشياء ثانية الجميلة، مثل من ينظر إلى الأعمال الفنية أو أعمال الطبيعة من وجهة النظر الجمالية، يحس ميلاً نزيهاً نحوها (أي غير أناني) وفي نفس الوقت تتيقظ فيه قوى الحدس والانتباه والإنتاج قوية متسقة ويضاف إلى ذلك عنصر مثالي آخر.
عرف أرسطو التراجيديا بأنها تقليد حدث عظيم يثير الشفقة والخوف في الإنسان ويظهرهما. وما يقال عن التراجيديا يمكن أن يقال عن كل ألوان الفن المختلفة. فاللعب (وكذلك الصورة) يثير نفس ما يثيره الأحداث الواقعية التي يمثلها من عواطف، ولكن بشكل آخر تستخفي فيه العناصر المؤلمة والأنانية في تلك الأحداث. والحوادث الواقعية تفاجئنا وتقع مباغتة، فلا نتمكن من كشف ما بينها من الارتباط والاتصال، ولذا يبدو لنا(480/25)
أنها تحدث بمقتضى الاتفاق والصدفة فقط، وهذا هو السبب في أنها تقدم لنا أشكالاً متعددة ومختلفة تثير عواطف متعددة ومختلفة. ولكن الأمر على عكس ذلك في الغد؛ فكل شيء هنا له غرض معين هو إثارة انفعال كلي واحد يتناسب مع خطوط الشيء أو الحدث الضرورية والتعريفية المميزة. ويستخرج الفن سماته الضرورية من صورة الشيء الفردية دون أن يذهب إليها، وبذلك نتخلص من التنافر ونستقبل تأثيراً واحداً معيناً، فيكون من السهل أن نندمج ونتوحد بعواطفنا في الشيء الممثل، وهذا هو سبب أن الإنتاج الفني يجعلنا نفهم الأشياء فهماً أحسن، وإن كان لا يقدم لنا طبعاً شرحاً علمياً. ولكن إذا كانت التراجيديا تثير الشفقة والخوف وتظهرهما، فإن الكوميديا تطهر عاطفة القوة والعاطفة الشخصية؛ وما تثيره من ضحك ليس في الحقيقة تهكماً أو استهزاء، ولكنه عاطفة تحرر وخلاص، تأتي من رؤيتنا الصغائر والدنايا والمتناقضات والشرور ظاهرة عارية ساخرة، على معرفتنا في نفس الوقت أنها جزء من الحياة
وقد بحث كثيرون في علاقة الجمال بالأخلاق، وإلى أي حد يتفق العمل الجمالي أو الظاهرة الجمالية مع مطالب الأخلاق، وتساءلوا هل الصور والنقوش المحسوسة وغيرها جائزة ومباحة ولا تتعارض مع الأخلاق أم لا؟ وفي الحقيقة ليس هناك محل لمثل هذا التساؤل؛ ففيما يختص بمادة العرض وشكله لا يوجد أي اختلاف أو تنافر بين ما يقتضيه الجمال في الواقع وما تسمح به الأخلاق، فكل ما له قيمة جمالية لا بد أن يكون متفقاً مع التعاليم الأخلاقية. وفي صلة الفن بالبيداجوجيا نجد أنه لا يمكن السماح بوضع كل قصيدة، ولا أي قصيدة، بين أيدي الأطفال فيتداولونها فيما بينهم. ولكن ذلك لا يتصل بالقيمة الجمالية ولا يحط منها، فإن الذي تهيج نزعاته الحسية أو الشهوية من اثر نقش مثلاً إنما يحدث له ذلك لأنه لم ينظر إليه من الناحية الجمالية فلم يتطهر ميله وهواه، بل جاء الأمر على العكس وهاجاً بشدة وذلك الشاب الذي يحدثنا عن لوسيان أنه أغلق على نفسه معبد أفروديت وقضى فيه ليلة يعتنق تمثالها، لم تدفعه إلى ذلك في الواقع العاطفة الجمالية بل شيء آخر
وعليه، إذا كان الفن يعني حياة مثالية، فإن القيمة الفنية يجب أن تطابق القيمة وتناسبها. وبالتالي قيمة العمل الفني لا ترتكز فقط على النبوغ أو العبقرية، بل على الحياة التي يمثلها كذلك. ويجب على الفنان القيمي أن يصارع في سبيل سيادة وجهة نظره نحو الأشياء حتى(480/26)
يقبلها الناس. ويرجع سيادة وجهه نحو الأشياء حتى يقبلها الناس. ويرجع جزء كبير من المعارضة ضد الواقعية الجمالية الحديثة إلى أن الناس يبحثون في الفن عن اللهو أو الراحة فقط، فهم لا يحبون أن يواجهوا مرارة الحياة وأحزانها، ولا يريدون أن يثيرهم الخوف والشفقة؛ قد اعتادوا على تذوق التراجيديا القديمة والإعجاب بما فيها من ضربات القدر القاسية، ولكنهم لا يمكنهم احتمال تراجيديا حديثة مثل تراجيديا (إبسن) مثلاً المسماة (أشباح). والواقعية الحديثة في الأعمال الكبرى لم تصنع شيئاً إلا أن جعلت النظر إلى الحياة الواقعية أعمق من ذي قبل. فالفن إذن يباشر عملاً تربوياً إذ يفتح ويقوي مشاعرنا وأنفسنا لمقابلة الحياة وجدَّها، ويهيج وجداناتنا ضد ما فيها من شرور، ويرينا كيف أن الحياة الإنسانية مغلولة ومسجونة في سجن سحيق بعيد. فالشاعر مثلاً يمكنه أن يعلمنا ويهيئنا لتقويم الأعمال أحسن من أي فلسفة خلقية
وبالرغم من عِظَم المكان الذي يشغله الفن في الحياة، فإنه لا يمكن أن يقوم مقامها. ولا يمكن أن ينظر الفنان الحق إلى الحياة الواقعية كشيء فني بسيط. فهو في فنه يبحث عن العمل أكثر مما يبحث عن التسلية، وينظر إلى فنه كعمل جِدَّي اجتماعي. وَمثل الفنان مَثَل العالمِ يرى الحياة فيحاول أن يريها للآخرين مثلما رآها هو. ولكن الهواة يرون الحياة لعباً حتى إن شيللر يقول: (إن الإنسان لا يكون إنساناً إلا حين يلعب) فهو يرى أن العيش في دنيا الخيال واللعب هو عمل الإنسان الذاتي، ويجب أن يكون للإنسان قلب حر كيما يتخلص من ضغط الواقع وسيطرته ويذهب إلى الحياة المثالية والواقعية في الفن - مثلها في ذلك مثل الرومانتيكية تماماً - تجعلنا نعيش في عالم خيالي أغراباً عن الواقع. فالواقع حقيقة غارق بدوره في الخيال كالمثالي؛ وخطر ذلك أعظم على الواقعي منه على المثالي، لأن المثالي المعتدل يعيش في عالمين: عالم الأحلام المثالي، والعالم السفلي الوضيع، فهو يتهكم من هذا الأخير، ولكنه بالرغم من ذلك يعرف كيف يقبله ويراه على ما هو عليه، فلا يكون الاستهواء الجمالي عليه كبيراً مثلما هو عليه عند الواقعي الذي يريد إشباع مخيلته من المؤثرات الواقعية نفسها
وليس الفن عملاً صغيراً بسيطاً يختص به بعض الناس دون غيرهم، أو ينفرد به عصر دون غيره من العصور. بل الفن شيء عام لكل أمة ولكل عصر منه حظ مقسوم. فلا بد أن(480/27)
يكون لكل أمة فنها الخاص، ولا بد أن يكون لكل عصر فنه الذاتي. ومن العسير أن تكتفي أمة من الأمم بفن غيرها دون أن يكون لها فن خاص بها، لأن كل أمة لا تعرف تماماً إلا نفسها وما يمكن أن يؤثر فيها من مظاهر حياتها تأثيراً جمالياً. والفنان يعكس تلك المظاهر الجمالية انعكاساً كاملاً، لأنه يعيش فيها وقد أدمجت عواطف بها. وعلى العموم يمكن أن يُقال إن هناك أساساً مشتركاً من الفكر والحساسية لكل شعب وكل عصر يمثله فعل هوميروس، ودانتي، وشكسبير، وجوته، وغيرهم. إذ عرفونا تمام التعريف - خلال آثارهم وأعمالهم - بالحياة العقلية الإنسانية عند الأوربيين.
أحمد أبو زيد
كلية الآداب - جامعة فاروق الأول(480/28)
بجماليون
تحية للكاتب وعرض للكتاب
للأستاذ فخري شهاب السعيدي
جاء كتاب توفيق الحكيم الجديد في شكل حوار لأبطال بعثهم من أساطير اليونان، وابتداع لهم من خياله الخصب عبارات ذلك الحوار، وهيأ لهم رمزَّياً يصلح لهم، وتتناوبهم فيه العواطف والمشاعر
ما الحياة، وما الفن، وما ميزان الحكم عليهما؟ وما المرأة، وما الرجل، وما وجه المفاضلة بينهما؟ وما فكرة الآلهة والمخلوقات وما مقاييس الأحكام على الأمور عندهما؟ ما الخلود، وما الفناء؟ وما العقل، وما الجنون؟! ما هي الحكمة؟ وكيف توصف وتعرف وتقدر، وما البطش بالقياس إليها، وكيف يكون اتقاؤه والحذر من التورط فيه، وهل إلى ذلك من سبيل؟؟
وما هو الجمال وما هو الحب؟ وما مقدار لصوقهما بالحياة واتصالهما بها، وهل هملا وقف عليها؟!
تلك - ومثلها أكثر منها - أسئلة البشرية الخالدة التي مرت بكل فكر، وطلب أجوبتها من كل حكيم. . . وما دام البشر محدود القوى بالنقص والفناء، فإنه سيفتنّ في التسآل والأجابة، وفي الأخذ والرد، والإقناع والاقتناع، كل هذا تطميناً لفضول القوى العاقلة التي تثيرها في نفس مشاهد الكون!
. . أما عن الفن والحياة، فهما لدى توفيق الحكيم فكرتان إحداهما تتمّ الأخرى لإبداع الكمال المطلق الذي يتخيله في أذهانهم أرباب المثل العليا في الحياة، وهما من أجل إيجاد هذا الكمال ينبغي أن يكونا متلازمين يضيق عنه إدراك البشر المحدود؛ ومن هنا تبدأ عقد القصة الفلسفية في الظهور: فصانع التماثيل (المثال) (بجماليون) رجل فني نزاع إلى الكمال المطلق، ولكن نزوعه هذا نزوع يكتنفه الغموض، لأنه لا يدري به ولا يدري كيف يستقيم له هذا الكمال: هو يريد الحياة، لأن في أعماق نفسه شعور الإنسان الحي الذي إذا رنا إلى غاية نفسه الحية ألفاها متمثلة في الجسم النابضة عروقه بالحرارة والحياة. . . وهو يحب الفن لأن في طبيعته قبساً من عبقرية الخالقين المبدعين. . . وفي سريرة نفسه(480/29)
الصافية التي مزجت قوة الإبداع بجمال الحياة، استطاع أن يجمع بين النقيضين؛ وإلى ذلك توصلت روحه؛ ولكن عقله - وهو بشري محدود - لم يهتد إلى سر التوفيق بين ما يقع تحت فهمه من تناقض ظاهر في فكرتي خلود الفن وزوال الحياة، وبين طمأنينة روح (بجماليون) ونفسه إلى هذا التنافر البين الواضح. . .؟ وفي هذه المرحلة من القصة، تصل الفكرة الفلسفية إلى أبعد أغوارها، وتبدو عقدة الرمزية فيها رائعة الجمال، تمثل أبرع تمثيل وأصدقه ما يقوم من خلاف بين العقل في حدوده المادية من جهة، وبين الروح والنفس في جوهرهما المتجانس الموحد من جهة أخرى. وعلى قدر سعة اختلاف النظرتين، وبمقدار قصور العقل عن فهم ما تشمله الروح من آفاق، وما تصل إليه النفس من حقائق، يشتد الغموض على المثال البطل، ويشتد كرب نفسه، وتغشاه هموم العماء والعيش في المجهول. . . ولا يدرك هذا الألم النفسي الهائل الناشيء بين العقل والروح عن اختلافهما في الفهم واختلاف طبيعتهما في شمول الأشياء والنفوذ إليها، إلا عبقري كالبطل المثال، أو عبقري كالبطل الكاتب الحكيم!
وإذا عرفنا بعد هذا أن العقل هو الحكم في هذه الخصومة التي بينه وبين الروح عرفنا شقاء هذا البطل الشاب (بجماليون) ومقدار الحيف الذي لحق روحه الشاعرة وقواه المبدعة وصفاء نفسه الجميل!
قال: (قوة الفن! وما قوة الفن تلك التي يستطيع بها الهالك أن يخلق الخالد!)
وقال الفن: (ردوا علىّ عملي. . . ردوا عليّ (جالاتيا) كما كانت تمثالاً من عاج. . . أيها الآلهة، دعوني وشأني، لنفسي ومخلوقات نفسي، وما أنا إلا صنوكم ونظيركم؛ بل إني عليكم سموت، وعلى قدرتكم تفوقت، فأنتم ما فعلتم غير أن أفسدتم الجمال الذي أقمت. . أفسدتم جمالي الخالد، أفسدتم جمالي الخالد).
وقالت الحياة كلاماً كثيراً ولكن على غرار ما نطقت به قولها: (نعم! المودة والرحمة. . . أشياء تعطيها الحياة، ولا يستطيع أن يعطيها الفن!)
وقال المثال كلاماً أطول من كلام الحياة ولكن كلمتين صدرتا منه أدين بهما في هذه الخصومة، وهما قوله في موقف المقارنة بين (جالاتيا) صنماً و (جالاتيا) امرأة: (كل ما فيك محدود وكل ما فيها غير محدود) وقوله في معرض الاعتراف بانكساره وخطيئته:(480/30)
(الخطيئة التي كُتِبَ على كل فنّان أن يحمل وزرها. . . الافتتان بالنفس، الافتتان بالذات!) ولولا صدور هذين الاعترافين لما حُكِم على (بجاليون) المثال العبقري الحي أن يموت وعلى آيته (جالاتيا) الخالدة أن تحطم تحطيماً!
تلك هي الفكرة الرئيسة التي تقوم القصة عليها؛ ولكن ليس معنى ذلك أن الأفكار الفلسفية الأخرى أقل منها روعة أو اضعف شاناً؛ ففكرة الرجل والمرأة والمفاضلة بينهما، وتمييز الرجولة بشهامتها على الأنوثة بضعفها ومكرها، وحبها الإطراء وانخداعها به، وولوعها بالمكابرة ورغبتها في الانتقام، فكرة واضحة تامة الوضوح في تصرفات الآلهة (فينوس) وفي هباتها وكلامها وكل دورها الذي قامت به في المسرحية
أحب بعد هذا أن أشير إشارة شريعة إلى فكرة أحسبها أسمى الأفكار الرمزية التي وفق إليها الأستاذ في هذا الجهد الرائع الجديد، تلك الفكرة التي أزال بها الحجاب بين الحي والجماد، وسما إلى نوع من الرمزية الحلولية الروحية التي لم تُقم للفارق العقلي الذي يأبه الناس له وزناً في التفريق بينهما. بل اعتبرهما جدلين لا يلبثان أن ينصبَّا في خضم الوجود العظيم، وهما إذا نمَّا عن شيء فعن وحدة متجانسة ينضم إليها كل ما في الكون والوجود. وإنك لترى ذلك واضحاً متمثلاً في مخاطبة الجماد بأسلوب الأحياء، وإنطاقه بما يعرب عن مثل أحاسيسهم ومشاعرهم. على أنه في هذه المحاولة الناجحة لم يخرج عن كونه جاء بصورة أخرى للعذاب الذي لقيه المبدع البديع (بجماليون) حين تعذر عليه أن يمزج جمال الفن الخالد الذي أنطق الجماد به، برقة الطبيعة الحية الفانية التي تمثلها جلايتا امرأة سوية الخلقة رائعة التكوين. ولكن الفرق بين العبقريين: العبقري المثال، والعبقري الكاتب الأديب، أن الأول أطاع عقله واحترام مقاييسه المادية، أما الثاني فقد استعار الحلول وسيلة إلى إظهار ما يريد بمظهر يصدق الاعتماد عليه
أكتفي بهذا المقدار لأسمع رأي الناقدين في هذا الأثر الخالد المجيد. وإذا أذن الصديق في سماع تحيتي وقبول تهنئتي فليسمع ذلك إذاً متجلياً في قولي إن أثره هذا وإن آثره وإن يكن مصدره الغرب، سيرتد بعد أن اتشح بوشاح من عبقرية شرقية إلى مصدره بعد قليل على قلم ناقل أو أسلة مترجم معجب محب!
فخري شهاب السعيدي(480/31)
أشعار صينية
- 7 -
أغنية (لو - فوه)
لشاعر صيني مجهول
(عاش حوالي عام 600م)
إذا ما برزت الشمس من الأفق، أضاءت مسكننا، مسكننا المنير في أقليم تسان
في إقليم تسان فتاة جميلة، فتاة جميلة تسمى لو - فوه لو - فوه فاتنة وعاقلة، لو - فوه التي ترعى دائماً دود القز، تسير أشواطا بعيدة لتجمع له أوراق التوت
ولكي تذهب لجمع أوراق التوت، تلبس لو - فوه عصابة يابانية، تعلق أحجاراً مستديرة في أذنيها، ترتدي ثوبين: أحدهما أصفر، والآخر وردي، وتحمل سفطاً صغيراً مضفراً بالحرير الأزرق. . .
وفي ذات يوم قابل حاكم المقاطعة لو - فوه في طريق الغرب، فأوقف أفراسه الأربعة، وخاطب رئيس حراسه: (سل هذه الجميلة ما اسمها وكم عمرها؟)
أجابت أو - فوه: (في إقليم تسان فتاة جميلة تسمى لو - فوه لم تتعد العشرين، ولكنها لم تعُد صغيرة فقد جاوزت السادسة عشرة)
خاطب حاكم المقاطعة رئيس حراسه مرة أخرى: (اذهب واطلب إلى هذه الجميلة إذا كانت تريد أن تصعد إلى عربتي؟)
أجابت لو - فوه وعيناها إلى الأرض: (أليس للحاكم زوجة يحبها؟ للو - فوه في إقليم تسان خطيبها)
- 8 -
زهرة الخوخ
للشاعر الصيني نسيه - تيه (643 - 706م)
قطفت زهرة خوخ حمراء، وهديتها إلى حبيبتي، التي فمها صغير أيضاً كزهرة الخوخ،(480/33)
أحمر مثلها
أحضرت (سنونو) ذا أجنحة سود من عشه، وأهديته إلى حبيبتي التي حاجباها يشبهان جناحي السنونو
وفي الصباح، كانت زهرة الخوخ قد ذبلت، وطار السنونو من النافذة التي تطل على الجبل الأزرق
ولكن فم حبيبتي ظل دائماً أحمر، وحاجباها بقيا سوداوين
- 9 -
سري ليلة صيف
للشاعر الصيني لي. تين. يو (702 - 763م)
إنا نبتعد عن الجبل الأزرق، والقمر يتبعنا. الندى قد أثقل أكمام أثوابنا. إنا نعود ثانية قبل أن يطاول بنا السير، لكن ضباباً أبيض قد غطى القرية
اليد في اليد وقد اقتربنا من حاجز مسكننا القديم، حيث ينتظرنا أصدقاء
والآن نحن نسلك طريقاً على جانب الغاب الذي يمسنا مساً خفيفاً في سيرنا
نحن جميعاً مؤتلفون. أية سعاد! النبيذ المعطر يصب لي وأنا أغني أغنية الريح بين الصنوبر. البلابل تردد معي، والضفادع والحشرات كلها أيضاً
- 10 -
أمنية
للشاعر الصين هنج. سو. فان (1812 - 1861م)
أيها الليل الفاتر، يا نور القمر، يا رائحة أشجار التوت، هبوا حبيبتي حلماً لذيذاً. اجعلوها لا تطيق الصبر عن رؤيتي، يأتي عند الفجر تدق بابي. يا رائحة أشجار التوت، يا نور القمر، أيها الليل الفاتر، ستدفئني قبلاتها، إذا استمعتم إليّ
(بور سعيد)(480/34)
محمد وهبة(480/35)
البريد الأدبي
في ديوان صرَّدُر
اطلعت أخيراً على نسخة من ديوان (صرَّدُر) الذي أشرفت دار الكتب المصرية على طبعه، فأخرجته منقحاً مضبوطاً بالشكل مع شروح وتعليقات مفيدة. ولكن يبدو لي أن هذه العناية لم تحل دون وقوع أخطاء بَيَّنة ينبغي النص على أمثلة منها. وأنا مثبت هنا بعض ما عرض لي في القصيدة الأولى؛ وهي السينية التي قيلت في مدح الخليفة القائم بأمر الله، والتي مطلعها: (كما قُلتُما، بُرءُ الصبابة في اليَاسِ)
يقول صرَّدُر:
جيوشٌ من الأقدارِ تُفْني عداتِه ... بلا ضَرب إيتاخٍ ولا طعْن أَشناسِ
وقد جاء في شرح هذا البيت: (إيتاخ وأشناس: كذا بالأصل، ولعل الأولى (أثباج) جمع ثبج وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، والثانية لم نوفق إلى مراد الشاعر منها)!
وأقول إن الصواب في ذلك أن إيتاخ وأشناس اسمان لقائدين تركيين من اشهر قواد الخليفة المعتصم بالله العباسي: أشترى أولهما عام 199هـ - وكان غلاماً خَزَويا طباخاً - فرفع شأنه ورشحه لأخطر المناصب، حتى كان رأس إحدى الفرق الثلاث التي دخلت بلاد الروم لفتح حصن عمورية عام 223هـ. وكانت حاله عند الواثق كحاله عند أبيه
وقد قتل في أول عهد المتوكل عام 235هـ
أما اشناس فكان غلاماً تركياً اشتراه المعتصم ورباه، حتى نبوأ رفيع المراتب؛ وقد توجه ووشحه في احتفال مشهود عام 225هـ؛ وجدد الواثق من كرامته والاصطناع إليه سنة 228هـ وبعد عامين من ذلك التاريخ توفي وهو في أوج عظمته. . .
ويقول صردر بعد هذا ببيتين:
وقد عَلم المصريُّ أن جُنودَه ... سِنُو يوسفٍ منها وطاعون عَمواسٍ
أحاطتْ به حتى استراب بنفسه ... وأوجسَ منها خفيفةً أيً إيجاس
وجاء في التعليق على كلمة (المصري): يشير الشاعر إلى الغلاء الذي حصل في مصر أيام المنتصر العباسي الخ. والغريب أن هذا الخليفة الذي يذكره الشارح حكم في بغداد بين عامي (623 - 640هـ) في حين توفي صردر عام 465هـ؛ وتوفي ممدوحة القائم عام 467هـ(480/36)
أي قبل وفاة المستنصر العباسي بقرن وثلاثة أرباع القرن. فكل ما ذكره إنما هو خلط بين الحوادث ووهم في تبين مراد الشاعر: والذي يبدو لي أن صردر يشير في بيته إلى حادث تاريخي هام، أوجزه فيما يلي:
قبيل منتصف القرن الخامس الهجري تضعضع شأن آل بويه في بغداد وآذنت دولتهم بالزوال. وقد نجحت وقتئذ فتنة أبي الحارث أرسلان المعروف بالبساسيري (نسبة إلى بَسا: مدينة بفارس)؛ وهو غلام تركي من مماليك بهاء الدولة البويهي كاتب الخليفة المستنصر العلوي بمصر وعرض عليه الدخول في طاعته والقضاء على خلافة العباسيين في بغداد. ولما علم الخليفة القائم بذلك أستنجد بسلطان السلجوقين طُغرل بك الذي انتهز هذه الفرصة فدخل بغداد وقضى على بقية ملك البويهيين (أوائل عام 447هـ) ثم خرج بعد حين لقتال أخيه لأمة (إبراهيم ينال) الذي خانه بإغراء بعض المصريين ومكاتباتهم، فتمكن البساسيري في أواخر عام 450 من اقتحام بغداد؛ واستقام له الأمر فيها عاماً كاملاً لاذ الخليفة أثناءه ببعض من تكفلوا بحمايته من العرب.
ولما رجع السلطان من حربه عجز البساسيري عن الصمود له؛ فخرج بجيشه إلى الشام وتبعه طغرل بك إلى هنالك حيث أوقع به وقتله وحمل رأسه إلى بغداد
فالشاعر يشير بقوله: (وقد علم المصري أن جنوده الخ. . .)؛ إما إلى إبراهيم ينال الذي انتقض بتحريض المصريين، وإما إلى أبي الحارث البساسيري الذي كاتب خليفتهم ودخل حاضرة العراق باسمه، كما أنه لا يبعد أن تكون الإشارة إلى الخليفة المستنصر (العلوي) نفسه. ويكون ضمير (جنوده) في كل ذلك راجعاً إلى ممدوح الشاعر الخليفة العباسي القائم بأمر الله.
(جرجا)
محمود عزت عرفه
في الشعر التمثيلي
ردّاً على كلمة الأستاذ عبد الرحمن عيسى خريج كلية اللغات العربية - التي وجهها إلى والدي الأستاذ محمود البشبيشي وكان الصواب أن يوجهها إلى، لأن كل ما يدور على(480/37)
لساني في حوار (جيل وجيل) فهو لي صياغة ومعنى - نقول إننا لسنا ممن يعتسفون الأحكام اعتسافاً، وإنما استندنا في حكمنا إلى قراءة واستيعاب وإلى مقال نشرته مجلة (المعرفة، ثم إننا لم نرد غير التاريخ لشعراء مصر والاعتراف بفضل شاعر كبير منهم ولكن الأستاذ سكت طويلاً ثم وقف على الكنز الدفين فطلع على قراء (الرسالة) الغراء بحكم عام يصب النفي صباً على كل ما قررت، وقد أبث عليه ثورة الفكرة واعتلاج الرأي في صدره إلا أن يستعير صيغة عموم السلب المعروفة فيقول: (كل ذلك لم يكن) ولقد كان أليق بالأستاذ أن يقول: (لم يكن كل ذلك) وإذاً لها الخطب، وهو بحمد الله جد يسير، فأي منصف يكابر في أن عبد المطلب عالج الروية الشعرية؟ وأي منصف ينازع في أن لعبد المطلب حيوية شعرية دفعت به إلى أن يسبق غيره من فحول شعراء مصر في هذه الناحية؟. . . أما إقحام الأستاذ لانتشار الشعر التمثيلي في القرن التاسع عشر في أرجاء أوربا فلا نجد له مكاناً فيما ذهبنا إليه من الكشف عن اثر الحيوية في شعراء العربية بمصر فحسب. وفرق كبير بين الأدب العربي وألوربي!. . . وأما قوله: (ولا شك أن حادثة بلقاء كهذه قد وصلت إلى سمع عبد المطلب. . .) فنحن لا ننكر أن يكون شيخنا الجليل قد سمع بها، لأننا نعترف بصدق حيويته وسعة إطلاعه. ولكنا ننكر كل الإنكار توهم الأستاذ أننا قررنا حكمنا من غير أن نعلم (حادثة اليازجي البلقاء. . .) فإنا لم نرد غير التاريخ للشعراء المصريين
وأخيراً هل يتفضل الأستاذ فيذكر لنا أي شرائط الفن تنقص روايات عبد المطلب؟!. . . لسنا في مقام المفاضلة بين (عبد المطلب وشوقي) طيب الله ثراهما حتى نوازن بين شرائط الفن عند كليهما، ولكنا نعرض في حوارنا لحيوية الشاعرية ونثبت أنها تدفع بصاحبها دفعاً إلى أبعد الغايات. وهذا ما ظفر به عبد المطلب في مصر مهما تكن قيمة إنتاجه. ولن أندفع اليوم إلي ما ليس له صلة بموضوع الخلاف ويكفي أن نسجل على الأستاذ قوله: (إنهما اشتركا في الجنس) ولا يعنينا أن يكونا (مختلفين في النوع) - على حد تعبير الأستاذ -
وبعد، فما من شك عندي فيما قرره المرحوم الأستاذ محمود مصطفى. ومن حقي أن أقول إن المقام يحدد مجال البحث، وأنا إنما بحثت في حيوية عبد المطلب شاعراً مصرياً افترع فن الشعر التمثيلي بين شعراء مصر فلا يضيرني أن تنسب للشيخ اليازجي رواية مثلث أو(480/38)
طبعت في سنة (1878) أو قبلها
(المنصورة)
حسين محمود البشبيشي
الخطأ والخطأ
وقف (في العدد 479 من مجلة الرسالة) على استدراك الأستاذ الأفغاني على الأب الكرملي في تسرعه إلى تخطئة استعمال كلمة (الخطأ) وزعمه أن الصواب هو (الخطاء) بالمد.
وإليكم فرقاً دقيقاً بين (الخطأ والخطا) حققه الإمام أبو هلال العسكري في كتابه (الفروق اللغوية) حيث قال في الصفحة 40: (الفرق أن الخطأ هو أن تقصد الشيء حسناً، مثل أن يقصد القبيح فيصيب الحسن فيقال أخطأ ما أراد وإن لم يأت قبيحاً. والخطأ: تعمد الخطأ فلا يكون إلا قبحاً، والمصيب مثل المخطئ إذا أطلق لم يكن إلا ممدوحاً، وإذا قيد جاز أن يكون مذموماً كقولك مصيب في رميه قبيحاً. فالصواب لا يكون إلا حسناً والإصابة تكون حسنة وقبيحة. والخاطئ في الدين لا يكون إلا عاصياً لأنه قد زال عنه لقصده غيره، والمخطئ يخالفه لأنه قد زل عما قصد منه، وكذلك يكون المخطئ من طريق الاجتهاد مطيعاً لأنه قصد الحق واجتهد في إصابته)
محمد غسان(480/39)
العدد 481 - بتاريخ: 21 - 09 - 1942(/)
ما يمكن تبديله
للأستاذ عباس محمد العقاد
في عدد مضى من (الرسالة) تعقيب على كتاب (عبقرية محمد) يستدعي التعقيب عليه، لأن الكلام فيه باب من الكلام في الأدب والتأريخ
ونريد به ملاحظة الأديب (محمد النجار) على ما كتبناه عن رواية النبي عليه السلام للشعر إذ يقول: (. . . في ص 144 يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله. فكان يقول مثلاً: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) لأنها لا تقبل تبديل، ولكنه إذا نطق بقول سحيم بني الحسحاس (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا) قدم كلمة الإسلام فقال: (كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا)
ثم يعقب الأديب فيقول (وتقسيم ما يتمثل به الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ما يمكن تبديله لم يورد المؤلف ما يؤيده ويقتضيه. والمثال الذي ذكره لما لا يمكن تبديله غير صحيح، فإن تبديله ممكن، وقد روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام تمثل به هكذا (ويأتيك من لم تزود بالأخبار). راجع السيرة الحلبية في باب الهجرة إلى المدينة)
والذي نعقب به على تعقيب الأديب هو الكلام فيما يمكن تبديله من الشعر والنثر وكل ما له معنى من القول
فإذا كان المقصود بالتبديل هو نقل كلمة في موضع كلمة بغير نظر إلى المعنى والسياق فالتبديل ممكن في كل كلام بلا استثناء؛ إذ ليس للكلام قوة مادية تمنعك أن تقدم فيه وتؤخر كما تشاء، وفي وسع كل قارئ أن يعمد إلى كتاب من الكتب فيقرأه عكساً وطرداً ومن أسفله إلى أعلاه ويضع الأول في موضع الوسط والوسط في موضع الأول، ثم يعود فيصنع به مثل ذلك إلى غير انتهاء، فلا يستعصي عليه عصى ولا يحول دونه حائل
وليس هذا بالبداهة هو التبديل المقصود حين نقول بإمكان التبديل أو استعصائه، وإنما المقصود هو التبديل مع بقاء المعنى وبقاء المزية الكلامية أو المزية البلاغية التي من أجلها كان الشعر أو النثر مستحقاً لروايته والاستشهاد به
وكثير من المعنى ومن المزية البلاغية يتوقف على تقديم كلمة إلى موضع أخرى حتى في العبارة التي لا تتجاوز كلمتين أو ثلاث كلمات(481/1)
فالعالم زيد غير زيد العالم، وما اختلف منهما إلا تبديل موضع الكلمتين
لأن (العالم زيد) قد تقيد أنك تخص زيداً بالعلم وتنفيه عن غيره، وليس هذا مستفاداً من (زيد العالم) على هذا الوجه
وقد شرح علماء البلاغة دلالة التقديم والتأخير وعرض لها الإمام الجرجاني فقال مما قال في دلائل الإعجاز: (. . . إنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر به الأذى، إنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه ولا يعنيهم منه شئ، فإذا قتل وأراد مريد الأخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي فيقول: قتل الخارجي زيدُ: ولا يقول قتل زيد الخارجي، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له زيد جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم، ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه. متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد وإنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه. . .) إلى أخر ما قال
على أن الحكمة في التقديم والتأخير معنى من معاني العقل والمنطق وليست بقاعدة من قواعد اللغة وحسب
ولهذا ينص عليها في جميع اللغات ولا يقتصر التنبيه إليها على لسان دون لسان
فالإنجليز مثلاً ينبهون إلى الفرق بين معاني العبارات إذا تغير موضع كلمة واحدة فيها، ويمثلون لذلك بأمثلة كثيرة منها هذه الأمثلة الأربعة
1 - أنا (فقط) أتحدث بهذه القصة إلى فلان
2 - أنا أتحدث فقط بهذه القصة إلى فلان
3 - أنا أتحدث بهذه القصة فقط إلى فلان
4 - أنا أتحدث بهذه القصة إلى فلان فقط
فالفرق بعيد جداً بين كل عبارة من هذه العبارات وبين سائرها لتغير الموضع الذي توضع فيه كلمة واحدة
لأن العبارة الأولى معناها أنني وحدي أتحدث بهذه القصة إلى الشخص المذكور
والعبارة الثانية معناها أنني أتحدث فقط ولا يصدر مني شيء غير الحديث، وقد يتحدث به(481/2)
غيري كذلك
والعبارة الثالثة معناها أنني أتحدث بالقصة فقط إلى فلان، ولا يتعدى التخصيص ذلك، فكل ما عدا هذا التخصيص فهو عام لا تقييد فيه
والعبارة الرابعة معناها أن المتحدث إليه هو فلان فقط وليس إنساناً غيره، ولا تخصيص للقصة ولا للمتحدث ولا للحديث
وتبديل الموضع الذي توضع فيه كلمة فقط ممكن جداً لكل من أراده، ولكن المهم هو المعنى الذي يترتب على هذا الإمكان. فإن كان المقصود أن نحافظ على معنى لا يتغير فالتبديل مستحيل أو كالمستحيل، وإن لم يكن هنالك معنى مقصود فبدل وقدم وأخر كما تشاء
ونأتي إلى الأبيات التي نطق بها النبي عليه السلام فننظر ماذا كان يترتب على التبديل في مواضع كلماتها؟
إن منها لأبياتاً يتغير منها شيء غير الوزن كالبيت الذي أنشده عليه السلام حين قال للعباس بن مرداس: أأنت القائل: أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فإن البيت موزون على قول الشاعر:
وأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
ولا فرق بين الوضعين إلا كالفرق بين قولك إن طنطا واقعة بين القاهرة والإسكندرية، وقولك إنها واقعة بين الإسكندرية والقاهرة، أو كالفرق بين قولك إن زيداً يجلس بين بكر وخالد، وقولك إنه يجلس بين خالد وبكر
فهل الفرق بين قول الشاعر (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وقولنا (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) هو فرق من هذا القبيل؟
إن كان الفرق من هذا القبيل فالتبديل ممكن، وإن لم يكن كذلك فهو مستحيل أو كالمستحيل
والمفهوم الذي لا يغيب عن سيد الفصحاء هو أن المعنيين مختلفان.
فالمفهوم من قول الشاعر أن الأخبار هي المقصودة، وأن الشاعر يورد قوله على سبيل الاستغراب أو التحدث بالغريب الذي لا ينتظر في الأغلب الأعم أن يكون: تسمع الخبر الذي تنتظره من مسافر لم تودعه ولم تحفل بسفره ولم ننتظره إيابه، وهذه هي الغرابة! وهذا موقع التنويه والاستشهاد(481/3)
أما قولنا: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) فهو شيء آخر في معناه، أو هو شيء لا يستشهد به في الموقع الذي عناه الشاعر
فنحن لا نزود التاجر المسافر بزاد، ولكنه يعود إلينا من السفر بالبضائع والتحف ولا نستغرب ذلك، إذ لا وجه للغرابة في أن يسافر المسافر ولا تزوده ثم يعود إليك بشيء من الأشياء. أما أن عنيت غرابة الأمر، وعنيت الأخبار خاصة فلابد من التقديم ومن إظهار ما يفيد هذه الغرابة
وهذا فضلاً عن التباس آخر في قولنا: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار)
إذ يحتمل أن يفهم السامع أن المقصود: (من لم تزوده أنت بالأخبار) ثم ينتظر تتمة الكلام
ولا وجه لهذا الالتباس إذا لم يتبدل موضع الكلام
فتبديل مواضع الكلمات ممكن إذا نحن لم نحفل بهذا الالتباس وممكن إذا نحن تركنا المعنى الذي من أجله نظم البيت واستحق أن يروى في مقام الاستشهاد، وممكن إذا صرفنا النظر عن كل معنى وكل مقصد
ولكنه مستحيل أو كالمستحيل إذا أردنا المحافظة على معناه0 وهو فرق واضح لا يغيب عن سيد الفصحاء كما أسلفنا، ولهذا رجحنا الرواية الغالبة ولم نكترث لغيرها من الروايات، ولهذا كان ينبغي للأديب المعقب أن يتريث طويلاً قبل أن يجزم ويتحقق أن قولنا (لا يمكن تبديله غير الصحيح) فغير الصحيح هو ما قال وما قالته كل رواية توهم أن محمداً عليه السلام قد غاب عنه الفرق الواضح بين الروايتين
وما دمنا بصدد التعقيب على كتاب (عبقرية محمد) فلنذكر تعقيباً سمعناه من المذياع لطالب نجيب من طلاب الجامعة كان يتحدث عن هذا الكتاب؛ فقد أشار إلى كلامنا عن موت إبراهيم بن النبي عليه السلام حيث نقول: (مات ذلك الطفل الصغير ومات ذلك الأمل الكبير: مات كلاهما والأب في الستين. . . أي صدمة في ختام العمر؟ أي أمل في الحياة؟ الدين قد تم وهذه الآصرة قد انقطعت، فليس في الحياة ما يستقبل وينتظر: كل ما فيها للإشاحة والإدبار)
ثم عقب الطالب النجيب بما فحواه أن هذا يأس يتنزه عنه مقام الأنبياء
وكل ما نجيب به أن هذا ليس بيأس يتنزه عنه مقام الأنبياء، وإنما هو علم بأن الحياة قد(481/4)
أصبحت للإشاحة ولأدبار، ومحمد عليه السلام كان يقول إن (معترك المنايا بين الستين والسبعين) فلا يأس في انتظاره أدبار الحياة بعد الستين
إنما اليأس الذي يتنزه عنه مقام النبي أن بيأس من أداء الرسالة التي بعث بها إلى الناس، وهذه قد تمت يوم مات إبراهيم، فلا يأس فيها ولا حرج أن يقبل النبي بعدها على أخراه. وما قلنا عن محمد عليه السلام بعض ما قاله بلسانه الشريف حين قال إن ما به موت إبراهيم ليهد الجبال. ثم استرجع. وما يكون الاسترجاع إلا أن يذكر الإنسان في كل عمر أنه تارك الحياة وراجع إلى الله!
عباس محمود العقاد(481/5)
تحية الأزهر في عيده
للأستاذ محمد محمد المدني
(مرت بالأزهر في هذا الأسبوع ذكرى فريدة، لم يسجلها
التاريخ لجامعة سواه: أتم ألف عام من عمره المبارك في اليوم
السابع من هذا الشهر الكريم (رمضان سنة 1361هـ)، وقد
أثارت هذا الذكرى في نفس الكاتب ألواناً من المعاني رأى أن
يسجل بعضها في هذا الكتاب ويجعله تحية العيد)
أيها الشيخ الوقور:
يرفع هذا الكتاب إلى مقامك العظيم - في أدب واحترام، وإكبار وإجلال - واحد من أبنائك أنعم الله عليه وأنعمت عليه، إذ بسطت له جناحك غلاماً، وتعهدته برعايتك ناشئاً، ومددت له من ظلالك كهلاً، فأنت مولاه ذو الطول عليه، وهو غرسك وسقيك وثمرتك. يحبك ويحسب لفرط حبه أنه أبر الناس بك، وأوفاهم لعهدك، ويغار عليك فيحمل نفسه ما حملته وما لم تحمله من أعبائك، ويرى حقاً عليه أن يشاطرك - بروحه وقلبه وقلمه - أفراحك وأحزانك، فيشيد بأيامك، ويرثي لآلامك، ويكافح عنك، ويسهر الليالي ضنياً بك، مفكراً فيك، يود لو يمتد به العمر حتى يراك وقد عاد لك سابق مجدك، واجتمع إليك ما تفرق من أمرك!
واليوم، وهذه ذكرى من ذكرياتك المجيدة، يقف هذا الابن البار بين يديك خاشعاً مطرقاً، يفضي حياء من مهابتك، وينحني إجلالاً لماضيك، ويزجي إليك التهنئة فخوراً بك، ويحي فيك مهد العلم، ومهبط الحكمة، ومنبت الأدب، وحصن الدين واللغة، ومطلع الكواكب اللامعة من سماء مصر ينبعث بها النور في الشرق والغرب يفيد منه أصدقاؤك وأعداؤك، ويهتدي به من آمن بك ومن صد عنك!
هذا عيدك الألفي الفريد، ذكرى لم تعرف مثلها الدنيا، ولم يشهد مثلها الناس: ألف عام تقف من البشرية الحيرى موقف الرسل الهداة، تحمل على الجهل وتبدد ظلامه، وتنصر العلم(481/6)
وتحمي أعلامه
ألف عام تغالب الأهواء والنزعات، وتختلف عليك الدول والنظم والسياسات، ويبتسم لك الدهر حيناً، ويعبس في وجهك أحيانا؛ ومرة تحتضن فأنت العزيز المقرب، وأخرى تضطهد فأنت الشريد المطرح، ولكنك في جميع أحوالك ثابت كالطود الشامخ، تتكسر السهام حواليك، وتتفرق الأعاصير على جانبيك
أنت تلقيت ميراث الإسلام يوم خلت الأرض كلها ممن يتلقى هذا الميراث الكريم. تلقيته فصنته، وحفظت أمانته، ورعيت حقه، ووقفت دون العبث به والكيد له:
هذا كتاب الله بين يديك: تتلى آياته، وتجوَّد لهجاته، وتروى قراءاته، وتفسر معانيه، وتستنبط أحكامه، وتدرس أسراره!
وهذه هي السنة المطهرة قد أينعت بك ثماراً، وتباركت آثاراً، وزكت أصولاً وفروعاً!
وإليك صار علم المدينة، وفقه العراق، ونحو البصرة، وأدب الكوفة، وتصنيف بغداد، وفن قرطبة، وما كان من فلسفة المتفلسفة، وكلام المتكلمة، ونزعات المتصوفة!
وبك وقى الله المسلمين عوادي الفتن، فلم ترُج عندك شبهة، ولم تدخل عليك نحلة، ولم تخدع عن عقيدة، ولم تستدرج إلى الهوى، ولم يطمع فيك من المبطلين طامع!
أنت حملت شعلة العلم عالية السناء، وهاجة الضياء، حين كان العالم في أكثر بقاع الأرض سابحاً في الأوهام
ألف عام! ياله من ماض طويل، في جهاد نبيل! فما لي إذن أراك وقد انفردت في موقفك يوم عيدك الفريد؟ أين مهرجانك؟ أين مهنئوك؟ أين الوفود تفد إليك من الشرق والغرب لتجعل على مفرقك التاج؟ أين المستشرقون المستعربون ليضفروا لك أكاليل الغار؟ أين كتابك؟ أين شعراؤك؟ بل أين (لجانك) التي ألفوها لهذا العيد تحضر له، وتخط برنامجه، وترتب نظامه؟ أباقية هي؟ فأين أعمالها؟ أم حلت؟ فمن ذا الذي أشار بحلها؟ أم أدركها (داء اللجان) من قبلها ومن بعدها فقضى عليها في مهدها؟!
أيها المعهد العتيق:
لقد ختمت بأمس ألفاً، وبدأت اليوم ألفاً، ولكن ما أبعد الفرق بين أمسك ويومك:
كأني أرى حلقاتك العلمية تحفها السكينة، ويزينها الوقار! عرفتها قبل أن تعرف أوربا نظام(481/7)
المدرجات الجامعية، وأجريت فيها العقل على سجيته حراً كما خلقه الله، نافذاً كما يجب أن يكون: يقول الشيخ ما يريد أن يقول، ويناقش الطالب ما يرى أن يناقش، وتجلى الغوامض على هينة، وتحل العقد في صبر وتؤدة، لا وقت يعجلهم، ولا شغل يشغلهم، ولا رقيب عليهم إلا من ضمائرهم! فأين منك اليوم هذا المجالس العلمية الجادة؟ لقد أبدلك الزمان منها فصولاً دراسية متفرقة على نظم مقلدة غر أولياءك ظاهرها الجميل فاكتفوا به، وتغافلوا عما وراءه، ولو فتشوا عن العلم في هذه الفصول المبعثرة لما وجدوا إلا ألفاظاً وكلمات تلاك ولا تستساغ، وأطرافاً من أوائل الكتب ومقدمات العلوم تمس مساً ما رفيقاً في كل عام!
كأني أرى علماءك الأولين، وقد عكفوا على المكتبة العربية يدرسون نوادرها، ويقلبون صحفها، ويكشفون عن أسرارها، ويشتارون للناس جناها، ويعتصرون من ثمارها وثمارهم شراباً صافياً سائغاً للشاربين! فأين من هؤلاء علماؤك الحاضرون، وقد ذكروا أنفسهم ونسوك، واشتغلوا بشئونهم وتركوك؟ أليسوا إلى اليوم عالة على كتبك التي ألفها سلفهم الناشط، لولاها لضلوا في البحث والدرس سواء السبيل؟ بلى، وإن أحدهم على ذلك لو ألف كتاباً أو نشر بحثاً لتجدنه يملأ الدنيا صياحاً، وينفخ أوداجه كبراً، ويحسب أنه أتى بما لم يأت به أحد من الأولين والآخرين!
ما أبعد الفرق - أيها المعهد العتيق - بين يومك وأمسك! لقد كان طلابك مُثلاً عُليا في الجد والإقبال علي العلم، ينقطعون إليك، ويؤثرونك على أوطانهم وأهليهم، ويرتشفون من مناهل علمك، ويغترفون من بحار فضلك، تدفعهم الرغبة المخلصة، وتغريهم اللذة العلمية، وكانوا مثلاً عليا في الخلق والاستقامة وحسن الطاعة، لا يشارون ولا يمارون، ولا يصيحون ولا يصخبون، ويخفضون رءوسهم لأساتذتهم متأدبين، ويستمعون إلى رؤسائهم طائعين، أما اليوم فقد جرأهم الأساتذة ولحظهم الرؤساء، وشغلتهم عن العلم المطالب والرغاب، وأصبحوا لا يعملون إلا لاجتياز عقبة الامتحان: يسألون في ورقات معدودات دورين من لم يفز في أولهما كان في الآخر من الفائزين!
أيها المعهد العتيق
لقد كان الشعب كله: أغنياؤه وفقراؤه، حكامه ومحكوموه، ريفه وحضره، ينظرون إليك(481/8)
نظرة الإجلال والإكبار، ويرفعونك إلى مرتبة التقديس، ويمنحون أساتذتك ألقاب التكريم، وأوصاف التعظيم: فهم (العلماء) من بين أهل العلم أجمعين، وهم (أصحاب الفضيلة) من بين سائر الفاضلين، وهم أعلام التقى، ومثل الهدى، وأهل الرأي، وقادة الفكر، وحماة الدين، ورعاة الخلق! وكان (رجل الدين) إذا أهل بطلعته على أهل حي عظموه وأجلوه، والتمسوا بركته، ورجوا خيره. وكان إذا تكلم في قوم أصغوا إلى ما يقول في خشوع وخضوع: أمره الأمر، وحكمه الحكم، ورأيه في المعضلات هو الرأي!
أما اليوم فأنت ورجالك على هامش الحياة:
أنت سليب حريب. نقصوا أطرافك وعدوا على اختصاصك، واستباحوا حماك، وأغروا بك المنافسين، يمدونهم بالمال والمناصب، ويؤيدونهم بالجاه والسلطان، ويحاسبونك على النقير والقطمير، بينما يكيلون لغيرك بالشمال وباليمين!
ورجالك! وا لهف نفسي على رجالك! لقد احتواهم المجتمع، ونكرهم الناس، وهانوا حتى على أنفسهم، وفقدوا أو كادوا يفقدون مجدهم القديم، وكأني بهم الآن يقفون وراء الصفوف في معترك هذه الحياة، ينظرون بعيون كسيرة، وقد وضعوا أيديهم على قلوبهم، واحتبسوا أنفاسهم في صدورهم، خائفين وجلين لا يدرون متى تعصف العاصفة أو ترجف الراجفة!
أيها الأزهر:
بين ماضيك وحاضرك! أحدهما يثير الفخر والإعجاب، والآخر يثير الهم والاكتئاب! وإني مع ذلك أهنئك بالعيد، ولا أحب لك أن تيأس (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً) وإن الله الذي رفع لك ذكرك، سيضع عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك. سلام عليك في الأولين، وسلام عليك في الآخرين!
ابنك البار
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(481/9)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
فرحة الأديب بالأديب - عصا إلياس - مع الأستاذ علوبة باشا
- هلال شعبان وهلال رمضان - تقليد جميل - آداب إسلامية
فرحة الأديب بالأديب
عبارة (فرحة الأديب بالأديب) تعد من مبتكرات ابن الرومي من حيث الصورة والمعنى، برغم كثرة النظائر والأشباه في تصوير هذا الخاطر الطريف. ومع أن أدباء هذا الزمان لا يفرح بعضهم بلقاء بعض إلا في أندر الأحيان، فأنا أفرح من أعماق القلب حين يصل إلى سمعي أن أحد الأدباء بسم له الدهر بعد عبوس، وقد أطيل الشكر لله حين يظهر كتاب يشرف أحد الباحثين، كالذي صنعت حين ظهر كتاب (عيد الأزهر الألفي) للأستاذ محمد عبد الله عنان، وكالذي سأصنع كلما ظهر كتاب جيد، ولو كان مؤلفه من ألد خصومي، فقد قضيت أعواماً وأعواماً في الحديث عن الحب إلى أن فاض القلب وامتلأ فلم يبق فيه لناثرة الحقد مكان
ولكن ما سبب هذه الخاطرة الوجدانية؟
كان ذلك بعد قراءة مقال في مجلة الجمهور البيروتية، مجلة الأستاذ (ميشال أبو شهلا) وهو أديب مر بمصر مرة فرأى الأستاذ الزيات أن يكرمني بمعرفته في مسامرة أدبية، وكان الزيات يقيم بالقاهرة (في ذلك الزمان) وكانت أسمارنا لا تنقطع، فقد كنا نتلاقى روحاً إلى روح في كل مساء عن طريق الهتاف، وإن لم نتلاق وجهاً إلى وجه إلا لحظة واحدة في كل شهرين
متى يرجع الزيات إلى القاهرة؟ متى يرجع؟
المقال الذي أنار هذه الخاطرة الوجدانية هو مقال نشره الأستاذ (إلياس أبو شبكة) وهو أديب تحرش بي عدة مرات ولم أغضب عليه لأنه حقاً أديب، والأديب الحق مغفور الذنوب
وما أثارني هذا المقال إلا بفضل ما فيه من الدلالة علي حيوية الأريحية العربية في الديار(481/10)
السورية، فقد ذكرني بماضينا الغالي، يوم كان الأديب لا يتألم إلا تألمت له أقطار وديار وشعوب، ثم ذكرني بحاضرنا المزعج، الحاضر المثقل بالعقوق، الحاضر الذي يقضي بأن يعيش الأستاذ أحمد علام أسابيع وهو معصوب العينين بعد عملية خطيرة، ولكنها بإذن الله مرجوة النجاح، ثم لا نقرأ في إحدى المجلات الأدبية كلمة يتوجع كاتبها لفنان كانت عيناه أجمل ما رأت العيون
لقيني الأستاذ أحمد علام مرة بعد فراق طال، فاعتذرت عن تقصيري بكثرة الشواغل، فابتسم ابتسامة العاتب ثم قال: سيكون نصيبي منك نصيب الأستاذ محمد السباعي، فلا تؤدي حقي من الوفاء إلا بعد أن أموت!
ولقيني مرةً بعد ذلك فقال: كيف تشيد في مجلة الرسالة بمواهب الأستاذ إبراهيم الجزار في إنشاد الشعر ثم تنساني؟
فقلت: إن إبراهيم الجزار مات، ولم يبق له غير وفائي
فقال: عيب الدكتور مبارك أنه يذكر الأموات وينسى الأحياء
ومنذ يومين كنت أسير في شارع فؤاد فهتف هاتف والترام يعدو به عدواً: دكتور، دكتور، دكتور! فالتفت فإذا الأستاذ عباس فارس، فقلت: نعم، نعم، نعم! فقال: هل زرت الأستاذ أحمد علام؟
ومضيت إلى ما أريد قبل أن يمضي الترام إلى ما يريد، فلن أرى أحمد علام إلا بعد أن يرفع العصائب عن عينيه الساحرتين. فهل يكرمني الله فيبرئ هذا العليل النبيل لأزور مع شواطئ النيل قبيل الغروب، ولنقول معاً بصوت الشكران للواهب المنان: هنا وقفنا قبل عشرين عاماً أو تزيد!
أنا أقدم جائزة لمن يثبت ولو عن طريق التلفيق أن الأستاذ أحمد علام نكث بعد عهد، أو خان بعد وفاء
ذلك روح لا تجود بمثله الأقدار إلا في القلل من الأحايين
فارفع العصائب عن عينيك يا أحمد لتقرأ هذه الكلمات، ولتعرف أن أخاك لا ينساك، ولتفرح (فرحة الأديب بالأديب) يا أجمل أمثلة الأدب في هذا الجيل
عصا إلياس(481/11)
هي عصا شعرية، وإليها يرجع الفضل في تذكيري بالواجب نحو الأستاذ أحمد علام، عصا سوداء ورثها الأستاذ إلياس أبو شبكة عن أبيه، ثم أوحت إليه هذه الأبيات اللطاف:
عروسٌ تزيتْ بزِيَّ الدُجُنهْ ... ولقَنها ساحِرُ اللّيل فنهْ
تناهتْ إلى والدي من أبيه ... وأورثنيها عجوزاً مُسِنهْ
لئن كثرت في الدُجى عن بريق ... أخافت طيوف الظلام وَجِنَّهْ
إذا هَبطَ الليلُ أرخِي لها ... على حَصَبات الطريق الأعنَّهْ
فيَسمع من صُلبها العاشقون ... وقد أرِقوا رنْةً إثْر رَنهْ
أنينٌ سَرَى من عروق إليها ... فرَنَ بها كصَليل الأسِنَّهْ
ثم وقع أن أخذ أبو شبكة إلى دار الشرطة بتهمة التجمهر في أحد الأيام السود، ولم ينج من السجن إلا بعد أن سمع بخبره وزير الداخلية، وردت إليه الشرطة كل ما أخذت منه إلا عصاه، فصرخ: هاتوا عصاي! فقال أحد الرؤساء: عصاك التي قلت فيها شعراً؟ فأجاب: نعم، عصاي التي قلت فيها شعراً. ولم تعد العصا برغم هذا الصراخ، فكتب في جريدة المعرض يقول:
(أيها الجندي الذي خطف عصاي من يدي، من أنت؟ ومن تكون؟ وأي شأن لك بعصاي، عصاي التي قلت فيها شعراً؟)
وبعد أسبوع تبارى اللبنانيون بالهدايا، هدايا العصي إلى الشاعر الذي فقد عصاه الشعرية، وسرى الخبر إلى اللبنانيين في المهاجر فتلقى عصاً من الأرجنتين وعصاً من البلجيك، وبهذا كان أعظم شاعر (مضروب) في هذا الزمان
أكرم الله أهل لبنان، فما يزالون من أمثلة الأريحية العربية!
مع الأستاذ علوبة باشا
الحديث ذو شجون، كما يقال، فليس من الإسراف أن أستطرد فأقول:
منذ عامين لقيت الأستاذ الجليل محمد علي علوبة باشا بقصر عابدين وفي صحبته الأستاذ أنطون بك الجميل، فدعاني برفق ليسر إلي إحدى نصائحه الغالية، فاشترطت أن يسمع الأستاذ الجميل خشية أن يستوحش من إبعاده عن حديث هو منه قريب(481/12)
علوبة باشا - أنا أقرأ مقالاتك بإعجاب
زكي مبارك - يشرفني أن يكون معالي الباشا من قرائي
- ولكن. . .
- من حق القراء أن يعلقوا على مقالاتي بألف (لكن) لأني أكتب في كل يوم، ولا يسلم المكثار من العثار، فما (لكن) عندك يا معالي الباشا؟
- لكني أراك كثير الشكاية من زمانك
- هذا صحيح، و (لكن) هل يذكر الباشا أنه كان وزير المعارف؟
- أذكر ذلك، فما تريد أن تقول؟
- أريد أن أقول: إني لم أكن أملك الدخول عليك بدون استئذان، ولهذا صحت نيتي على أن لا أرى وجه وزير إلا إن دعاني
- أنت مسرف في سوء الظن بالوزراء، فلهم شواغل لا تخفى عليك
- هذا الاعتذار مقبول، إذا كان الزائر رجلاً من أصحاب المطالب، وأنا رجل نفضت يدي من الدنيا ومن الناس، فما حجة الوزير الذي لا يرى أن أراه بدون استئذان؟
- الوزراء مشاغيل
- والأديب غير مشغول، يا معالي الباشا؟ إن للأديب شواغل وجدانية وروحية وعقلية وفلسفية لا تخطر لبني آدم في بال، وهو مسئول عن رعاية وطنه في حاضره وماضيه، فيعادي من يعادي ويصادق من يصادق في سبيل الوطن الغالي، ثم يكون جزاؤه أن يعتذر أحد الوزراء عن مقابلته بحجة أنه مشغول
- أنت مزعج، يا دكتور مبارك!
- المزعج هو الذي يطالب بالإنصاف، وأنا لم أطلب من أحد إنصافي، وإنما أسأل كيف يسرني أن استصيح بوجه أحد الوزراء فلا يتم ذلك بدون استئذان؟
- إن رجعت إلى الوزارة فسأبلغ من إنصافك ما تريد
- وإن رجعت إلى الوزارة فلن تراني ولن أراك!!
- ما هذا الذي تقول؟
- أنظر ثم انظر إلي ذلك الجانب تر (معالي. . . باشا)، فهل تراني هرعت للتسليم عليه؟(481/13)
- أنت مخطئ، فهو رجل جليل
- ولكنه وزير أديب!
- وما عيب الوزراء الأدباء؟
- عيبهم أنهم كانوا معنا فطاروا عنا، وأنهم لا يحفظون حق الأديب على الأديب
- وهل تحفظ حق إخوانك إذا صرت من الوزراء؟
- حقق الله نبوءتك ليكون لي إخوان!
ثم نظرت فرأيت وزير المعارف السابق قد انصرف (بدون استئذان)، ورأيتني أهتف بقول أبن درَّاج:
سلامٌ على الإخوان تسليم يائس ... وسقياً لدهرٍ كان لي فيه إخوانُ
مضى عيشهم بعدي وعيشي بعدهم ... كأنيَ قد خنتُ الوداد وقد خانوا
هلال شعبان وهلال رمضان
في الأشعار الشعبية التي تقص أخبار الزناتي خليفة وأبي زيد الهلالي يوصف الوجه الجميل بأنه كهلال شعبان، وقد التفت إلى هذا المعنى مرات كثيرة فرأيت هلال شعبان يبدو غاية في الإشراق، بصورة تميزه عن سائر الشهور، وتجعله هلال شعبان بلا جدال، فهل يتفضل الفلكيون بتعليل هذه الظاهرة الطبيعية، وقد أدركت الجماهير آثارها منذ أزمان، ودونوها في أشعارهم الشعبية بدون تفكير في علتها الأساسية
أما هلال رمضان فهو في أغلب أحواله نحيل، وينبني على نحوله أن تراه عيون، ويغم على عيون، بحيث يجوز أن يصوم المصريون في يوم الأحد، ويصوم العراقيون في يوم الاثنين، والتونسيون في يوم الثلاثاء، كالذي وقع منذ بضع سنين
فما الحكمة في نحول هلال رمضان؟
إن راعينا الحساب الذي يجريه الفلكيون فالهلال يولد في وقت واحد، بلا تفريق بين هذا القطر أو ذاك؛ وإن راعينا (الرؤية) فهي تختلف في القطر الواحد، وقد صمنا مرة ثم افطرنا ثم صمنا، وكان لذلك حديث بين الشيخ سليم البشري والسلطان حسين، وهذا شاهد على نحول هلال رمضان
وفي حل هذه المشكلة رأى قوم أن نعتمد على الحساب لا على الرؤية، لنتقي شر الخلاف(481/14)
حول بداية الصوم، وهو في بعض مظاهره من المضحكات
ولكن الحساب في هذه السنة كان محرجاً، فهو يقول بأن هلال رمضان يمكث دقيقة واحدة بعد غروب شمس التاسع والعشرين من شعبان
وما دقيقة واحدة فيها الهلال بعد الغروب ثم يغيب؟
أمن أجل دقيقة واحدة نقطع ما بين الفجر والمغرب صائمين بدون تكليف من الشرع الشريف؟
لا، الرؤية هي الأساس، وهي أيضاً الشاهد على أن الإسلام يبني قواعده على أصول لا تحتمل الشك والامتراء. أصول يستوي في إدراكها العوام والخواص
وهنا تظهر الحكمة الحقيقية لاشتراط الرؤية في ثبوت هلال رمضان
تقليد جميل
قالت إحدى الجرائد أن المحكمة الشرعية جرت على العادة التقليدية في ثبوت الرؤيا فصنعت كيت وكيت
وأقول إن هذا تقليد جميل، ويعز على أن تضعف مظاهره من عام إلى عام، فلا نرى (موكب الرؤية) في الفخامة التي شهدها الآباء والأجداد
هذا الموكب هو (التهيؤ لاستقبال شهر الصيام، وهذا التهيؤ هو في ذاته قربان من أعظم القرابين، وهو يعد النفوس لروحانية هذا الشهر الجليل
أتذكرون اختلاف الفقهاء في صحة الصيام لمن فاته أن ينوي الصيام؟
هذا دليلٌ على أن النية هي الأساس في جميع الأعمال الأخلاقية، والنية رياضة تقوى بها عضلات النفوس. والنفوس كالأجسام لها جوارح وعضلات وأعضاء، ولكن أكثر الناس لا يفقهون
آداب إسلامية
إن من يقرأ كتب الفقه الإسلامي يعجب من ترفق الإسلام بالصائمين، فهو لا يفرض الصوم على من يتأذى بالصوم لسبب من الأسباب، ثم يفتح له باب التحرر من تلك الفريضة بتعويض خفيف تقدر عليه أكثر الجيوب، وهو الجود بصدقات ينتفع بها بعض الفقراء(481/15)
والمساكين
فإن عجزت عن الصوم فتصدق، وأنا أومن بأن الله يجزي المتصدقين أضعاف ما يجزي الصائمين، لأن الجود بالمال يحتاج إلى عزيمة دونها عزيمة الإمساك عن الطعام والشراب
ومع هذا، فلا يجوز لك الخروج على آداب الصيام بحجة الاعتصام بالصدقات، فما يخرج على آداب الصيام غير السفهاء
وإن استطعت إن تصوم وتتصدق، فتلك غاية لا يتسامى إليها غير عظماء المؤمنين
المهم هو أن تكون لك نية في جميع أفعالك، فتصوم عن نية، وتفطر عن نية. المهم هو أن تحفظ أدبك مع الله الذي ترفق بك فلم يكلفك ما لا تطيق، كن رجلً في إيمانك ليجعلك الله أحد عظماء الرجال!
زكي مبارك(481/16)
تاريخ التاريخ
للدكتور محمد مصطفى صفوت
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
هل التاريخ علم؟
يرى بعض المفكرين أن للتاريخ قوانينه الطبيعية، وقامت محاولات للوصول إلى معرفة هذه القوانين، وتوالت نظريات مختلفة: فهناك النظرية الدينية التي سادت العصور الوسطى، وهناك نظرية التقدم والنمو، وهناك محاولات باتستا ومنتسكيو وغيرهما، وهناك نظرية كارليل التي تقول بأن الأبطال وحدهم هم الذين يغيرون مجرى التاريخ؛ ونظرية هجل التي تجعل الدين مفتاح التطور والنمو، فاليهودية - في نظره - تمثل الواجب، والكونفيوشية تمثل النظام، والبوذية الصبر، والمسيحية الحب، والإسلام العدالة
ولقد تعرض أوجست كنت لتفسير قوانين التطور، فقال: إن التاريخ تفسره الأفكار؛ فالإنسان مر خلاله في ثلاث مراحل، المرحلة الأولى مرحلة تفسير الظواهر الطبيعية بأنها ناشئة من عمل آلهة خياليين؛ ثم مرحلة تفسير هذه الظواهر بمعنويات مجردة، والأخيرة محاولة فهمها بالطرق العلمية، بالملاحظة والتجريب
ولما وضع كارل ماركس نظريته المادية في تفسير التاريخ قال: إن تطور الجماعة متوقف على الظروف الاقتصادية وحدها. ولقد بني ماركس نظريته على أساس فكرة كفاح الطبقات في سبيل الرقي المادي، ذلك الكفاح الذي ينتهي، في نظره، بانتصار الطبقة الأكثر عدداً والأسوأ حالاُ على طبقة المثرين القليلة العدد. ويسمى ماركس ذلك قانون التطور الاجتماعي، ويظل ذلك التطور مستمراً حتى يتلاءم نظام الملكية مع نظام الإنتاج، أي إلى ذلك الوقت الذي تصير فيه الملكية اشتراكية وتنصر فيه طبقة العمال انتصاراً حاسماً. ولقد سبق كارل ماركس إلى الإشادة بأهمية العوامل الاقتصادية آدم سميث وأتباعه من أمثال ريكاردو
وجاء (بكل في كتابة (تاريخ التمدن في إنجلترا) ينحني باللائمة على المؤرخين لأنه لم(481/17)
يجد أحداً منهم اهتم بإيجاد وحدة مترابطة من حقائق التاريخ. وهو يرى أنه في كل ميادين البحث قد صار للتعميم قيمة عظمى، وبذلت جهود للخروج من حيز الحقائق الجزئية إلى المعاني العامة بينما لا يرى أثراً لذلك في التاريخ، فهم المؤرخين في نظره هو سرد الحقائق، ولذا يرى أنه أصبح من السهل على كل مكسال لا يحسن التفكير قراءة بضعة كتب ليصير مؤرخاً. ويرى (بكل) أن أعمال الإنسان ما زالت ترسف في أغلال القوى الروحية، فلا يمكن وجدان سبب أو نتيجة؛ ويقول لقد وجدنا في ناحية مهمة من الإعمال الإنسانية قوانين طبيعية، لا سيما في ميدان الاقتصاد السياسي، فقد فسرت لنا قوانين الاقتصاد الأزمات التي كانت تقع في الماضي. ويتساءل (بكل): لماذا لا نجد قوانين لأعمال الإنسان الأخرى. يرى أن هناك عوامل كالمركز الجغرافي والجو والتربة والوسط الاجتماعي تحدد أعمال الإنسان، ويعزو تقدم البشرية إلى العقل لا إلى العاطفة والأخلاق
ومن أهم من قال بوجود قوانين للتاريخ فسيولويوجي أمريكي (دريبر ففي تاريخه (نمو أوربا العقلي) يمثل المجتمع بالفرد ويرى أن التقدم الاجتماعي خاضع لقوانين طبيعية كالنمو الجسمي، فحياة الفرد ما هي إلا تصغير حياة الشعب. والاثنان لهما طفولتهما وشبابهما وكهولتهما وهرمهما
هذه المحاولة من جانب المؤرخين لوضع في التاريخ في مصاف العلوم، ناشئة عن أن الاستقراء والتجريب قد شملا كل العلوم الطبيعية في القرن التاسع عشر. والاستقراء والتجريب لا يمكن تحقيقهما في التاريخ، لأن العلم الطبيعي يبحث في أشياء هي في متناول الإنسان يستطيع أن يقلبها على وجوهها المختلفة ويجري تجاربه كما يريد. فالعلوم الوصفية والطبيعية دقيقة لأن البحث فيها موضوعي صرف. أما التاريخ فهو من العلوم الإنسانية، وكل العلوم الإنسانية غير دقيقة لأن حياة الإنسان لا يمكن قياسها ولا وصفها بنفس الدقة التي نستطيعها في العلوم الوصفية، فنحن لا نستطيع قياس عقلية الإنسان ولا عواطفه ولا معلوماته قياساً دقيقاً. بل وأكثر من هذا أن كلا منا لا يستطيع أن يتعرف ما نفوس الذين يشاركونه المعيشة، فنحن كما يقول برسي نان في كتابه: (التربية. . .) كجزائر منعزلة يفصلها بحر لا يمكن عبوره، وأن وسيلة التفاهم بيننا وهي اللغة غير كافية، فشتان بين ما يجده الإنسان في نفسه وبين ما يصنعه للغير. فكيف إذن يعرف(481/18)
الإنسان ما في نفوس الناس الذين مضوا، وكيف يقدر الدوافع لأعمالهم والظروف التي قامت فيها هذه الإعمال. ثم إن الإنسان من جهة أخرى يفسر أعمال الناس وفق شخصيته ومزاجه وثقافته لا يرى في الأشياء إلا ما يحب أو ما يستطيع أن يراه فيها. فقد يرى المؤرخ في عمل ما العظمة وما هو بعظيم، وذلك لتأثره بطريقة لا شعورية بشخصية من قام بذلك العمل. ومن جهة ثالثة هل لدنيا مقاييس ثابتة نحكم بها على أعمال الناس؟ هل نقيس هذه الإعمال بحب الشخص لذاته أو بحبه للآخرين أو برغبته في أداء الواجب. الواقع ليس هناك مقياس متفق عليه. وكيف نفسر الحوادث بمنطق العقل أم بمنطق الجموع أم بمنطق الدين؟ ثم بعد ذلك هل من الممكن في تقدير أعمال الناس في الماضي أن نفصل بين ما ورثه الإنسان من آبائه وأجداده وبين ما اكتسبه من بيئته؟
التاريخ يدرس حقائق الإنسانية الماضية، هذه الحقائق ليست في متناول أيدينا، وهي لن تعود مرة أخرى. ثم هي مجرد آثار ومخلفات تعطينا فكرة عامة، وعلينا نحن تكميل التفاصيل باستعمال الخيال. فهناك فعلاً حلقات مفقودة في التاريخ. وكثير من الحقائق المهمة قد عفا دون أن يترك وراءه أثراً. ثم من الذي كتب أو أنشأ هذه الآثار؟ أليسوا من بني الإنسان لهم ميولهم وأغراضهم الخاصة! ومصادر التاريخ فوق ذلك لا تستلزم معرفة بالتاريخ فحسب، بل معرفة تامة باللغات وطرق الكتابة والسياسة والاقتصاد والاجتماع مما جعل البحث في التاريخ عسيراً.
ويظهر أن محاولات بعض المفكرين لوضع قوانين للتاريخ لم تنجح تماماً، فالنظريات مختلفة، حتى نظرية التقدم لا زالت طائفة محترمة من المفكرين ترفضها لا سيما في النواحي الروحية. والديانات تحدثنا بأن الإنسان خرج من حياة نعيم دائم وعيش موفق إلى حياة كلها تعب وشقاء لا ينتهي. ثم ما الذي يدرينا أن العالم لا يزال في شبابه أو هو في طريق الفناء. وكثير من حوادث التاريخ بعد ذلك قائمة على الصدق لا دخل لإرادة الإنسان فيها ولا يمكن تعليلها.
ويرد على هذه الاعتراضات بالقول إن هناك ظروفاً تقع فتغير الموقف وليس للإنسان دخل فيها. ولكن بالرغم من ذلك هناك تطور وتقدم في الحياة لا يمكن مدافعته. وكما يرى جيبون بأن لكل عصر قيمته في زيادة ثروة الجنس الإنساني وسعادته ونواحي فضائله: فالإنسان(481/19)
في القديم عاري الجسم والعقل لا يعرف قانوناً ولا فناً ولا أفكاراً. ثم تحسنت حالته فعمل في الأرض وطوف في أرجاء المحيط واستثمر قواه الجسمية والعقلية كما استثمر قوى الطبيعة وذلك لنفسه. ثم إن كثيراً من الصعوبات السابقة قائمة على النقص وعدم الكمال الإنساني. ويجب ألا نبالغ فيها، فكثرة الناقدين والباحثين قد أظهرت إلى حد كبير ما هو صحيح وما هو خطأ، أو هي على الأقل تحاول ذلك. ولذلك لا محل للاعتقاد بأن التاريخ ما هو إلا جملة خرافات أجمع الناس على تصديقها. والواقع أننا نجد لمعظم عصور الماضي آثاراً خالدة مادية وروحية لا يمكن الطعن فيها. ومنها ما هو في أنفسنا وثقافتنا وعقائدنا وتقاليدنا.
التاريخ فن وعلم وفلسفة: فهو فن وفلسفة من حيث أنه يستلزم من المؤرخ معرفة واسعة بنواحي الثقافة وبأمور العالم، وقدرة على اللغة والتعبير والتصوير. فالمؤرخ كالمصور أمامه الحياة الاجتماعية وعليه هو وضع صور لها. وكما أن المصور يصور الناحية الطبيعية التي تروقه بالطريقة التي يرضاها، فكذلك المؤرخ. والتاريخ علم من حيث أنه قائم على أسس صحيحة في البحث والتفكير في المصادر الأصلية والوثائق ومقارنتها ومناقشتها والحكم عليها. وطريقة البحث في التاريخ ولو أنها علمية إلا أنها في ذات الوقت فنية وشخصية، لأن دراسة التاريخ ليس معناها كشف الماضي فحسب وإنما تقدير الماضي، فلا بد من إحساس بني الإنسان بشعور خاص عند دراستهم للإنسان. فهل هم إلا أبناؤه وورثته!
محمد مصطفى صفوت(481/20)
طلاب الالتحاق بالجامعة
للأستاذ عبد الله حسين
في ختام كل عام دراسي، تقترن بنتائج الامتحانات العامة صيحة تنادي بوجوب إنصاف الطلبة، حين يقدر الممتحنون الدراجات على الإجابة، أو بضرورة الرفق بحال الطالب لأسباب تبسط من أمثلتها صعوبة الأسئلة، أو ملابسات أحاطت بالطلبة ينبغي وزن آثارها في استذكارهم!
وفي مستهل كل عام دراسي ينادي الناس بوجوب فتح أبواب الكليات لجميع من يطلبون الالتحاق بها، حرصاً على مستقبلهم وتوطيداً لأركان التعليم الجامعي، أو استجابة لأسباب أخرى!
وقد روت إحدى الصحف اليومية - في معرض المباهاة والاغتباط - أن الذين طلبوا الالتحاق بالكلية الحربية بلغ عددهم حوالي الألفين. ثم عقبت الصحيفة على هذه الراوية بأن مدلولها يبرهن على أن الروح العسكرية قد أصبحت تملأ نفوس طلبتنا، بعد أن كان الالتحاق بالجندية أمراً لا يرتاح إليه الكثيرون منذ عهد غير بعيد
وثمة أنباء أخرى عن حركة الكليات وكثرة طلاب الالتحاق بها، وعن الجهد الذي يبذله المشرفون على التعليم، والقائمون على شؤون الجامعة في سبيل تيسير التحاق الطلبة بالكليات، وخاصة بعد أن وسع جامعة فاروق الأول في الإسكندرية أن تقبل ما يزيد على حاجة جامعة فؤاد الأول في القاهرة
وما من ريب في أن اطراد الزيادة في طلاب الالتحاق بالكليات والمعاهد أمر جدير بأن يقابل بالارتياح حقا من الوجهة النظرية
أما من الجهة العملية، فإن من بواعث الأسف حقا، أن يتبن أن طلاب الالتحاق بالكلية الحربية، لا يصدرون في طلبهم هذا عن رغبة صادقة في الجندية وفي المساهمة في ذلك الجهد الوطني الأول - وهو الدفاع عن البلاد بالتضحية بالذات وهو أعز ما يملك الإنسان - وإنما وجهتهم في هذا الطلب، أن يكفلوا لأنفسهم مستقبلاً ثابت الدعائم موفور الرزق والترقية المطردة، بأن يعين الطالب حين يتخرج من غير شفاعة شفيع ولا وساطة وسيط، وبأن يرقى سلم الترقي، فيبلغ أعلى رتب الجيش وهي الآن (الفريق)، وفي المستقبل غير(481/21)
البعيد (المشير) أو (المارشال)
كذلك مما يدعو إلى الألم والإشفاق أن يكثر طلاب الالتحاق بكلية التجارة، مع أنهم حملوا على هذا، لأن درجات نجاحهم لا تيسر لهم الالتحاق بكليات أخرى، دون الاستجابة إلى أية رغبة في العلوم التجارية، ودون التهيؤ السابق للنهوض بالأعمال الاقتصادية والحسابية
ومما يبعث على الأسف أيضاً، أن يكثر طلاب الالتحاق بكلية الزراعة، على حين أنهم لم يعدوا أنفسهم أو لم تعدهم دراستهم وطبائع نفوسهم، أو بيئتهم أو ثروتهم لمزاولة الأعمال الزراعية.
في كل أمة مهما تبلغ من الرقى ومهما تبلغ الذروة في الحضارة القائمة، فريقان من الناس: الفريق الأول وهو الأكبر أيضاً، هو الذي تعول عليه الأمة في العمل المأجور في الزراعة والصناعة، وهذا لا غنى لكل أمة عن استخدامه في سن مبكرة، لكي تستفيد من شبابه ونشاطه ومنته البدنية، ولكي يسعه أن يبادر إلى إعفاء ذويه الفقراء أو الدولة نفسها من نفقات تربيته، لأن ميزانية أية دولة في العالم لا يسعها أن تدفع نفقات مراحل التعليم كلها بالمجان إلى الجميع، حتى سن الثلاثين مثلاً
أما الفريق الثاني فهو الفريق الأقل عدداً وهو الذي لا غنى للدولة عن أن تتيح له أن يتفرغ لشئون الحكم وإرادة الأعمال والبحوث العلمية المنوعة
هذان الفريقان قائمان في كل أمة مهما يكن نوع نظام الحكم: فهو قائم في روسيا السوفيتية لأن المساواة النظرية فيها تقوم على إلغاء الرأسمالية لا على إلغاء نظرية التفوق العقلي الطبيعي، وفي البلاد الديكتاتورية ذاتها. أما في البلاد الديمقراطية فقيام الفريقين فخر من مفاخرها
ولما كانت الحضارة القائمة، هي حضارة صناعية أي مؤسسة على التقدم الصناعي الآلي، كان التخصص في كل فرع من فروع الحضارة ركناً من أركانها وظاهرة من ظواهرها
وعلى هذا أصبح لزاماً على القائمين بأمور التعليم الجامعي أن يتعرفوا مدى جدارة الطالب بدراسة العلوم التي اختصت بها الكلية التي طلب الالتحاق بها، لكي يتحقق المعنى الجامعي، وهو الرغبة الصادقة في متابعة دراسة هذه العلوم في الجامعة وبعدها وإلى ما يشاء الله، ولكي تحقق الأمة ما تطلبه من الكفاية الفنية الدقيقة في أبنائها البررة.(481/22)
ومن أجل هذا ينبغي أن يوجه المحبون للفنون العسكرية إلى الكليات الحربية، وأن يتجه المعدون للشئون الهندسية إلى كلية الهندسة وهكذا. . .
ومتى وفقنا إلى هذا، أي إلى رد الأمور إلى مستقرها الطبيعي وتوجيه كل طالب إلى ما يصلح له - حق لنا أن نبدي ما نشاء من الاغتباط. أما قبل هذا فليس يسعنا إلا أن نبدي الأسف والإشفاق ونطلب من الله الرحمة والمغفرة.
عبد الله حسين
المحامي(481/23)
مفاوضات الفتح العربي لمصر
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 3 -
الرواية الثانية
1 - يذكر أبو المحاسن (ص10 - 16) نقلاً عمن لا يسميه. ونحن نورد خلاصة ما قال:
لما حاصر المسلمون حصن بابليون وجدوا في فتحه خشي من في الحصن - وكانوا جماعة من الروم وأكابر القبط وعليهم المقوقس - أن يظهر عليهم المحاصرون، فلحق المقوقس وجماعة من أكابر القبط بالجزيرة تاركين وراءهم في الحصن جماعة لقتال العرب. ومن هناك - أي من الجزيرة - أرسل المقوقس إلى عمر رسلاً يحملون هذه الرسالة: (إنكم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا فابعثوا إلينا رجلاً منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن يغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفاً لمطلبكم ورجائكم فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء). فرد عمر على المقوقس رسله بعد يومين كاملين ومعهم هذا الجواب: (إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم مالنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين)
فلما رجع الرسل أتخبرهم المقوقس عما وجدوه من حال العرب، فأخبروه أنهم قوم يؤثرون الموت على الحياة والتواضع على الرفعة، وأنهم لا رغبة لهم في الدنيا ولا نهمة، وأنهم في معيشتهم سواء: وضيعهم كرفيعهم وسيدهم كعبدهم وأميرهم كواحد منهم، وأنهم لا يتخلفون عن صلاة. فلما سمع المقوقس من حال العرب ما سمع أيقن أنه إن لم يغتنم صلحهم وهم محصورون بالنيل فلن يغتنمه حين تمكنهم الأرض. فرد رسله إلى عمرو يقول له: (ابعثوا(481/24)
إلينا رسلاً منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه يكون فيه صلاح لنا ولكم)
فبعث عمر عشرة نفر جعل عليهم عبادة بن الصامت، وأمره ألا يجيب المقوقس إلى شيء غير هذه الخصال الثلاثة سالفة الذكر
وكان عبادة أسود طويلاً موغلاً في السواد والطول، فلما دخل على المقوقس هابه هذا وسأل النفر العرب الذين جاءوا معه أن ينحوه عنه ويقدموا غيره للكلام. فقالوا جميعاً إن عبادة أفضلهم رأياً وعلماً، وإن أميرهم قد أمره عليهم فهم لا يخالفونه في رأي أو قول. فدهش المقوقس وأظهر لهم عجبه من أن يفضلهم رجل أسود. فأجابوه بأن السواد لا ينكر فيهم، وأنه لا يضع لصاحبه رفعة هو قَمن بها أو يغمط له حقاً هو جدير به
فقال المقوقس لعبادة: (تقدم يا أسود وكلمني برفق، فإنني أهاب سوادك وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة). فتقدم إليه عبادة فقال: (قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سواداً منى وأفظع منظراً، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم مني. وأنا قد وليت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا حاجة للاستكثار منها، إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً. وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته ليلته ونهاره، وشملة يلتحفها؛ وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى. . . لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وامرنا به نبينا وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه)
فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله: (هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها). ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت فأقره على ما وصف به نفسه وأصحابه، ثم حاول أن يخوفه ويصرفه عن الهدف الذي(481/25)
يقصد إليه العرب فقال له: (وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لم تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم. وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلة ما بأيديكم. ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به). فقال عبادة: (يا هذا، لا تغرن نفسك ولا أصحابك. أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم لعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم. . . وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا. . . وأما قولك إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن فيه. . .). ثم يخير عبادة المقوقس بين هذه الخصال الثلاث التي عهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين وأمر أمير المؤمنين عمراً بها ثم تلقاها عبادة عن عمرو: إما الإجابة إلى الإسلام الذي يوحد بين معتنقيه ويكف بعضهم عن بعض، وإما جزية مقدرة يؤديها القبط والروم للعرب في كل عام ولهم في مقابل أدائها أن يقتل العرب عنهم من يناوئهم ويعرض لهم في شئ من أرضهم ودمائهم وأموالهم، وإما الاحتكام إلى السيف
فيقول المقوقس: (هذا لا يكون أبداً، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا). فيجيبه عبادة: (هو ذلك فاختر ما شئت). فيسأل المقوقس: (أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الثلاث الخصال؟). فيرفع عبادة يديه ويقول: (لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم)
فيلتفت المقوقس حينئذ لأصحابه ويسألهم رأيهم؛ فيجيبون بأنهم يأبون ترك دين المسيح بن مريم إلى دين لا يعرفونه، وانهم يرون الموت أيسر لهم من أن يذعنوا للعرب ويسلسوا لهم القياد ويملكوهم منهم الرقاب، وأنهم يرضون أن يضاعفوا للعرب من المال حتى يتركوهم ويتولوا عن ديارهم.(481/26)
ويخبر المقوقس عبادة بما انتهى إليه رأي أصحابه، فيقوم هذا وأصحابه. وهنا يقول المقوقس لصحبه: (أطيعوني وأجيبوا للقوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة؛ ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين) فيسألونه: (وأي خصلة نجيبهم إليها؟) فيجيب: (إذن أخبركم أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة). فيقولون: (فنكون لهم عبيداً أبداً؟). فيقول: (نعم، تكونون عبيداً مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم وتكونوا عبيداً تباعون وتمزقون في البلاد مستعبدين أبداً أنتم وأهلكم وذراريكم). فيقولون: (فالموت أهون علينا)
فواضح مما لخصناه عن أبي المحاسن أن المفاوضة كانت في جزيرة الروضة بين المقوقس وعبادة بن الصامت.
2 - ويذكرها المقريزي (ص 65 - 70) نقلاً عن كتاب ابن عبد الحكم بما لا يخرج عما ذكره أبو المحاسن.
3 - ويذكرها السيوطي (ص 65 - 69) نقلاً عن كتاب ابن عبد الحكم بما لا يخرج عما ذكره أبو المحاسن ايضاً
4 - ويشير إليها القضاعي فيها لخصه في كتابه (الخطط من قصة فتح مصر)؛ وذلك فيما ينقله عنه السيوطي (ص77) يقول القضاعي: إن العرب لما ظفروا بالحصن (حصن بابليون) لحق المقوقس وأهل القوة بالجزيرة، وتحصنوا هناك والنيل حينئذ في مده، فسأل المقوقس في الصلح، فبعث إليه عمرو بعبادة ابن الصامت، فصالحه المقوقس على القبط والروم، على أن للروم الخيار في الصلح إلى أن يوافي كتاب ملكهم، فإن رضي تم ذلك، وإن سخط انتقض ما بينه وبين الروم؛ وأما القبط، فبغير خيار. . .
فواضح أن القضاعي متفق مع من ينقل عنه أبو المحاسن، وكذلك مع ابن عبد الحكم في مكان المعاهدة وطرفيها، ولكنه مختلف عنهما في وقتها، فهو يقول: إنها كانت بعد سقوط (حصن بابليون)؛ وهم يقولون إنها كانت قبل ذلك
ولا يرد في كتاب حنا النقيوسي شيء من ذلك
والأستاذ بتار لا يجد ما يشككه في هذه الرواية، فهو يسلم بها ولا يرفضها؛ وهو ينقل إلينا(481/27)
في كتابه (ص223 - 277) طرفاً من هذه المفاوضة، وهو يتفق مع ابن عبد الحكم، ومن ينقل عنه أبو المحاسن في أن المفاوضة كانت قبل سقوط الحصن
ونحن نسلم بما يراه الأستاذ بتلر بصدد هذه الرواية، ولكننا لا نظن بعد ذلك أن الحديث الذي دار في المفاوضة هو نفس الحديث الذي نقلته إلينا تلك المراجع التاريخية العربية؛ إذ يظهر أن يد أديب صناع قد امتدت إلى هذا الحديث الذي دار في المفاوضة فنمقته ووشته وهذبت حواشيه وخرجت به عن صورته الأولى الساذجة، إلى صورة أخرى أدبية، لا نشك في روعتها وجمالها. . . نقول: إننا لا نظن أن الحديث الذي دار في المفاوضة هو نفس الحديث الذي نقلته إلينا المراجع التاريخية العربية؛ ولكننا - مع ذلك - لا نظن أن الحديثين يختلفان في الروح المسيطرة عليهما المنبثة فيهما
(للبحث بقية أخيرة)
السيد يعقوب بكر(481/28)