الضاري، حتى إذا عَبرَ إليها وقف يستأنس متلفَّتاً يريد ما يختلج أو يتحرَّك، فما هو إلا أن يُهويِ إليه فيبطش به، أو ينشب فيه براثنه ينفضه ثم يقضقضُه حتى يهمد. وإذا خُلَّى السبع لا يُذَاد يُطْرد بقي يتأبَّد ويستوحش. ولا يزال على عادته يستمرئ كل ساعة فريسته يغمس في دمها أو يَلغ، ثم لا يطفُّ حتى تكفُّ الحياة عما ينبض أو يتنفس.
وأخذتْ أزورَّ له الأحاديث في نفسي. فلما هممت بها لم أقل إلا ما يقول الناس: عزاءك يا أبا محمد! فوالله كأنما بها الطير الجثوم، وظل وجه ابن أبي عتيق يروح الدم فيه ويغدو، وجعلت عيناه ترسلان على نظراتهما الدمعَ الذي لا يسفح، والعَتْب الذي لا يتكلم، وظلّ صامتاً، وراحت نفسي تنخزل عما أقدمت عليه، ولكنه لم يلبث أن زَفر إليَّ زفرةً خلت في نفثاتها شرراً يتطاير. ثم قعد يتململ حتى قال:
إن أيامي - يا أبا الخطاب - قد استحالت تيهاً أمشي فيه على مثل هذه الجَمَرات، ولقد كنتما عَهِدتُني، والأيام من حولي عُرْسٌ لا أعدم فيها ما أطربُ له. كَنت إذا ما حزن بعض أيامي، أجد من أفراح الماضي ما أهرب إليه بالذكرى، وأتوهَّم من نشوة الآتي ما أترامي إليه بالأمل، فكنت أعيش بفرحةٍ أحضرُها أو تحضرني لا أخاف ولا أجزع ولا أتوهم في الحياة إلا الخير. فأنا وقد أبت بغتات القدر إلا أن تنتزع منِ كفَّيَّ ما كنت أضنَّ عليه، فهيهات لها بعد اليوم أن تطيق انتزاعه من فكري. آه. . . آه يا عمر! كانت ملئ عيني وروحي وقلبي. كنت أعيش تحت نسيمها كالنشوان ذاهلاً عن الألم مهما أمضَّ، مستصغراً للكبير وإن فَدحَ، راضياً باسماً متحفَّفاً. . . إذ كانت هي هي الأماني تتجدَّدْ مع أيامي علىّ علىَّ وتتبلّج مع كل فجر في قلبي، ما كنت جزوعاً ولقد جزعت! كيف قلت: عزاءً يا أبا محمد! ها الله يا أبن أبي ربيعه
كيف صبري عن بعض نفسي! وهل يصبِرَ عن بعض نفسه الإنسان؟
كانت بيني وبين الدنيا، وكانت آية الرفق والفرح، فكنت أرى الدنيا بعينها مشرقةً من تحت غياهب الأحداث، فالآن إذ نامت عني، كيف أرى إلا قِطعاً من الليل تغتالني من كل وجه، أو أشلاءً من الدياجي تجثم لي بكل سبيل؟
ثم رأيت في عينيه المَلل وهو يطوي على نظراته ما نشرتْهُ الحياة من همه النفس؛ وتخيلته - حتى كدت أتبينه - شبحاً ينساب في ظُلمة الليل فرداً قد انخلع من الحياة وأسبابها، فهو(449/98)
يضرب في حشا الظلماء بسآمةٍ لا تهتدي ولا تريد أن تهتدي، وقد كدت مما شجيتُ له أن أدع إليه الحديث حتى يَستِتمَّه، ولكني أعرف في قلبه الرَّقةَ، فخشيتُ أن يمضي به الحزن على غَلْوائه، فقلت له:
مَهْ مَهْ يا أبا محمد، والله ما أنكرتك منذ عرفتك، ولكني اليوم منكر لك أو كالمنكر. أليس لك في إيمانك وإيمان آبائك معتصم أيها الشيخ؟ ما إسلامك النفس للجزع وما غلوُّك فيه؟ إن امرأً يؤمن بالله واليوم الآخر لخليق أن يستكين إلى قضاء الله استكانة الوليد إلى أمه. وإن أمراً يختاره الله لامرئ هو أهدى سبيليه لا ريب، شَقِي بذلك أم سَعِد، وما يمسك النفس على أحزانها للأمر من قدر الله إلا الشيطان. خبرنَّي يا أبا محمد! هل ابتُلِىَ الناس فيما ابتلُوا به بما هو أفضع من فجيعتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا! فقد حزن الناس حتى أخذتهم آخذة، وحتى أنكر أحلمهم حلمه، وحتى إن بعضهم ليوسوس، فقام إليهم جدَّك الصديق فرد الناس إلى أحلامهم، وهو أشدهم حزناً على صاحبه ورفيقه؛ فعلم الناس أن الحزن للقلب وحده، وأن العقل والجوارح إنما هي للعمل، وأن هذا هو طريق الإيمان بالله وبقضائه: خيره وشره، أفأنت من يجوز عن سنة الله وسنة المهتدين من آبائه يا أبا محمد؟ كنتَ المرءَ الصالح الذي يرى الدنيا بعينيْ زائل، فما بالك اليوم تراها بِعَيْني متشبث قد أنشب فيها أمثال البراثن من عقله وفكره، فهو يتأَّبى أن يدور في وهمه أنه مفارقها؟
قال ابن أبي عتيق:
حنانيك يا عمر! فوالله ما تعلمين يا ابن أبي ربيعه إلا ما علمت. لقد عَجمت مني الحوادث صخرة مُلمْلمة لا تضرع. كم سحرْت من الدنيا وأحداثها، فجعلت أطويها في دعابتي طيَّ المُلاءة! كنت أتخففُ منها بنشوة أحْدثها في قلبي، فلو كان عليه مثل الجبل من الهمَّ لطار فيها كما تطير خافية من جناح. ولكني اليوم. . آه! لقلَّ ما جرَّبتَ يا عمر! أسلمت لله مُقَبِل أمري ومُدْبرَه يصرَّفه شاء. ولكني أجدُ هذا القلب المعُني لا يزال يخفق بالذكرى؛ أفأنت منكرٌ علىّ يا عمر أن أذكرها نسيماً رَفرفَ بين الجوانح والقلب؟ أني لي أن ألوِيَ النفس عن آثارها، وما أكاد أرى شيئاً إلا خلته يحدثني حديث الثاكِل: أنينٌ وحنين؟ فأين المهرب؟ دع عنك يا أبا الخطاب! أأراك تَلْحاني على اَلَجزَع، وما على ظهرُها أشقى ممنُ يصبح ليفتقد في نهاره حُلماً ضَلَّ عنه مع الفجر؟ كم خلوت إلى هذه النفس ألومها كالذي تلوم؟ وكم(449/99)
وقفت على هذا القلب أذكره ما يذكرُ الناس مني، فإذا الذي كان بالأمس قد اصبح وكأنه أديم مرقوم قد تفَرَّى عاثَ البلى فمحاه. أريد، ويا لضلَّتي فما أريد! أنا كالساري في لجَّة الليل يلطم في سوادها، قد أضاع لؤلؤة يبحثُ عنها بين الحصى والرمال!. . . لن أعودَ إلى الناس حتى أجد لؤلؤتي يا أبا الخطاب. . . لن أعود
ورأيت الرجل ينتفض انتفاضة المحموم من هول ما يجد، فرَحَمْته، ولكني آثرت أن أدور على بُنَيَّاته، عسى أن يأوى لهن فيؤوب إلى كبعض ما كان، قلت:
ظلمت نفسكَ يا أبن أخي فظلمت من لا يلوذ إلا بظلك. صغيراتٌ ضعيفات ضائعات: فمن لهن بعدك؟ لو كنتَ وشأنك لها الأمر، ولكنك استُحْفظتَ من لا يحفظه بعد الله إلا رحمتك، ومن لا يغذوه بعد الطعام إلا حديثك، ومن لا يضئ له وجه الدنيا بعد النهار إلا ابتسامك، ومن إذا أهمل ضاع عليك ضيعة الأبد. إنهن بناتك منها وبناتُها منك، فوالله ما تذكرها ذكراً في شيء هو أكرم واحب وأرضى عندها منهن. أجمل يا أبا محمد، أجمل! فرفع إليَّ رأسه ونظر، ربا صدره بالزفرات وهو يقول:
لقد كنت أخشى لو تمليتِ خشيتي! ... عليك الليالي كرَّها وانفتالها
فأما وقد أصبحت في قبضةِ الرَّدَى ... فشأن المنايا، فلتُصِب من بَدَالها
. . . لولا علمتَ يا عمر! كيف - بربك - كنتَ تراني أحبوهنَّ من قلبي خفقات لامعات باسمات؟ كنتُ لو أطقتُ أن أجعل قلبي بينهن لهواً يتلَعَّبْنَ به لفعلت! فانظر إليك ماذا ترى؟ ما شيء أجتلب به على قلبي ألماً كنوافذ الإبر إلا رؤية هؤلاء الصغيرات الضعيفات الضائعات؛ وإن إحداهن لتعدوا إلي تستأوى فأحملها؛ فكأن قد والله حملت بها صخرة مسرفة يعي حملها، لولا بقية من رحمةٍ - يا عمر - عنهن نفرةً واحد لا أراهن ولا يرينني
أفزعني والله الرجل، ولكني فهمت عنه ما يأتي به. إنه لا يزال يراها بعينيه تحول بينه وبين صغاره. إنه يريدها ويريدهن جملة واحدة، فإذ ذهبت هي، فكأنما ذهب منهن الذي كان يراه فيهن. يرحمك الله يا أبن أبي عتيق! فأما إذ بلغ به حبها هذا المبلغ من اليأس، فلا والله ما ينجيه إلا أن يحتال، فقلت له:
أأراك أنسيت ذكر ربك يا أبا محمد! أتُرانا نعيش في هذه الأرض إلا بما نرجوه عند الله في غيب الله؟ فلولا ما نمثله في أنفسنا من الرجاء، ما نبض لامرئ عرقٌ مما يأخذه من(449/100)
السَّأم. وأنت، أفيغبى على امرئ في مثل عقلك أن يجعل من مفقودٍ يحبه رجاءً يستمسك به؟ أنظرها يا ابن أبي عتيق بين عينيك، ولا تدع البدن الراحل يغلبُك على ما يحركُ من روحها. إنك بعينها ما عشت، فلا تحسبنَّ أحزانك التي تبتغي أن تنسلّب بها في حياتك، تجعلها تنظر إليك راضية مطمئنة
لا تشكّنَّ يا أبن أخي، فوالله إن الجسد ليذهب إلى البلى، وإن الرُّوح ليخلد، فما ترضى من يحبُّك بأمثل من أن تكون في غيْبهِ ما كنت في محضَره: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول ما يغضب ربنا) وصدق رسول الله. وما ذلك إلا أن نقصر الحزن، وأن نجعل أقوالنا وأفعالنا مرضاة لمن نحب وطاعة. ولا تستطيلنَّ ما بين الحي والميت؛ فإنما هي ساعات قلت وإن أطلت لها. يا أبا محمد أرض ربك وأرض صاحبتك، واجهد أن تكون كما أحبت لك، فإنك عن قليل تلقاها، فلا يلقها منك إلا ما تعرفه دون ما تنكره. . .
محمود محمد شاكر(449/101)
هجرة في سبيل الله
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
هَجَرْتَ بِطاَحَ مَكَّهَ وَالشَّعَاباَ ... وَوَدَّعْتَ الْمَنَازلَ وَالرَّحَاباَ
تَخِذْتَ مِنَ الُّدجى ياَ بْدرُ سِتْراً ... وَمِنْ مَرْهُوبِ حُلْكَتِهَ ثِياَبا
فكَيْفَ تَركْتَ خَلْفَكَ كُلَّ شأَنٍ ... وَخَلَّيْتَ الْقَرَابةَ وَالصَّحَابا؟
وَشَرُّ مَوَاطِنِ الإنسان دَارٌ ... يَرَىْ مِنْ أَهْلِهِ فيِهاَ عَذَاباً
يُناَدِيْهمْ فَلاَ يَلْقيَ سَمِيْعاً ... وَيَدْعُوهُمْ فَلاَ يَجِدُ الَجْوَابا
صَبَرتَ وَكُلُّ دَاعِيَةٍ يُلاَقِي ... مِنَ الأَهوَال ماَ يُوْهِي الصَّلاَبا
تَمرُّ بِكَ الَحْوَادِثُ وَهْيَ كَلْمى ... كَأنَّ مِزَاجَهَا الصَّخْريَّ ذَابا
فَمَا أَلقَيْتَ مِنْ رَهَبٍ سِلاَحاً ... وَلاَ خَلَّيْتَ مِنْ نَصَبٍ حِرَابا
تَزيدُك كُلُّ حَادِثةٍ ثَباَتاً ... وَصَبراً فيِ الْمَوَاقِفِ وَانْكِبَابا
أتَعْرِفُ دَعْوَةً للهِ قَامَتْ ... وَكاَنَ قِوَامُهاَ شَهْداً مُذاباَ؟
سَبِيلُ اَلحْقَّ حُفَّتْ بِشَوْكٍ ... وَلمْ تُمْلأَ عَلَى دَعَةٍ رُضَاباَ
وَمَا غَلَبَ اللَّيَاِليِ مِثْلُ قَلْبٍ ... تَجَرَّعَ كَأْسَهاَ عَسَلاً وَصَابا
نَبَتْ بك أرض مَكَّةَ وَهْيَ أَوْفَي ... وَأرْحَبُ فيِ سَبِيلِ الشَّركِ باَباَ
وَضَاَقَتْ بالَحْنِيْفَةِ فيِ إلاَهٍ ... وَمَا ضَاقَتْ بآلهِةٍ جَنَابا
أَمَا عُبِدَتْ بِهاَ الْعُزَّى قَديماً ... أمَا شَبَّ الضَّلاَلُ بِهاَ وَشَابا؟
لَقَدْ وَسَعَتْ الأَدْياَنِ بُطْلاً ... وَلمْ تَسَعِ الَحْقِيقَةَ والصَّوَابا
وَمِنْ عَجَبٍ تُسِيءُ إِليْكَ أَرضٌ ... شَبَبْتَ فمَا أَسَأْتَ بِهاَ الشَّبَابا
مَنَازلُ كُنْتَ تَنْزِلهُاَ طَهُوراً ... وَتَلْقَى الْوَحْيِ فِيهاَ وَالْكِتَابا
فَمَا عَرَفوا عَلَيْكَ بِهِنَّ نَقْصاً ... وَلاَ أَخَذُوا عَلَيْكَ بِهنَّ عَابا
تَقُومُ الَّليْلَ فيِ جَنَبَاتِ غَارٍ ... وَتَقْطَعُهُ زَكَاَةً وَاحْتِسَابا
وَتَدْعُو وَالْمَضَاجِعُ غَارقَاتٌ ... بأَهْلِيهاَ وَتَنَتْظُرِ الثَّوَابا
تُزَلْزِلُ بالدُّعَاءِ ذُرَا (حِرَاءٍ) ... فَلَوْلاَ الله يُمْسِكُهُ لَذَابا
لَقَدْ آذَاكَ أَهْلُكَ فيِ حِمَاهُمْ ... فَكَانَ أَذَاهُمُ الْعَجَبَ الْعُجَابا(449/102)
رَمَوْا وَاللهُ جَارُكَ مِنْ أَذَاهُم ... فَأَخْطَأَ سهمُ رَمِيهمْ وَخَابا
فَلاَ تَرْجُ السَّلامَةَ مِنْ قَريبٍ ... ولاَ تَأْمَنْ مِنَ الأهْلِ انْقِلاَبا
فَرُبَّ أَباَعِدٍ كاَنوُا رَجَاءً ... وَرُبَّ أَقَارِبٍ كاَنوُا مُصَابا
أَمِينَ اللهِ أَهْلُكَ قَدْ أَسَاءُوا ... وَلَجَّ لِساَنُهُمْ إِثْماً وَعَابا
وَقًاَلُوا السَّاحرُ الْكَذَّابُ حَاشَى ... لِرَبَّكَ لَمْ تَقُلْ يَومْاً كِذَابا
وَكَانُوا مِنْ صِفَاتِكَ فيِ يَقينٍ ... فكَيْفَ يَرَوْنَ دعْوتَكَ ارْتيِاَبا
وَلكِنْ دَوْلَةُ الأَغْراضِ تُعمْيِ ... وَتلُقْيِ فَوْقَ أَعْيُنِهاَ حِجَابا
لَقَدْ جَحَدُاوَ ضيائَكَ هْو سَارٍ ... يَشُقُّ الْبيِدَ أو يَطْوِي الْهِضَابا
كَأَنَّ مِنَ الْهُدَى فيهِ سِرَاجاً ... وَمِنْ وَضَحِ الْيَقِينِ بِهِ شِهاَبا
وَمَنْ تَكُنِ الْمآرِبُ ضَلَّلَتْهُ ... يَرَى فيِ الَحْقَّ زيغاً وَاضْطِرَابا
يِعَيبُ ذوي الْمَبَاَدِئ وَهْوَاهْلٌ ... لأِنْ يُرْمَي وَأجْدَرُ أن يُعاَبا
أَمِيْنَ اللهِ قَوْمْكُ قَدْ أَسَاءُوا ... وَطاَرَ صَوَابُهُم وَمَضَى وَغَابا
لَقَدْ عَادَوْكَ مَوْجِدَةً وَكبرًا ... وَربَّ مُكاَبِرٍ فَقَدَ الصَّوَابا
مَضَوا يَسْتَكْثِرون عَلَيْكَ فَضَلاً ... مِنَ اللهِ الذِي يُعْطِي الرَّغابا
هُوَ الْحَسدَ الّذِي أَكَلَ الْبَرَاياَ ... وَصَيَّرَهُمْ عَلَى أَنَسٍ ذِئاَبا
يَكَادُ الِحْقدُ يَمْسَخُهُمْ قُرُوداً ... وَيَخْلُقُ فِيهِمُو ظُفْراً وَناَبا
وَلَمَّا أَنْ قَدَرْتَ عَفَوْتَ عَنْهُمْ ... وَلَمْ تَفَرْضْ عَلَى اَلْجانِي عِقاَبا
دَعَوْتَ لَهُمْ بِمَغْفِرَةٍ وَصَفْحٍ ... فَكَانَ دُعَاؤُكَ الْعَاليِ مُجاَبا
مَلكْتَ رِقَابَهُمْ عَفْواً فَلاَنُوا ... وَلمْ أَرَ مِثْلَهُ مَلَكَ الرَّقَابا
خَرَجْتَ إلى الْمَديِنَة وَهْيَ دَاَرٌ ... شَهِدتَ بِهاَ عَلَى الْكُفْرِ اْنقِلابا
لَقَدْ آوَاكَ أَهْلُوهاَ وَقاَمُوا ... لِيُنْسوكَ الرَّحِيلَ وَالاْغتِرَابا
وََجَدْتَ بَهاَ مِنَ الأَنْصَارِ أَهْلاً ... وَزِدْتَ بِهِمْ عَلىَ الْبُعدِ اقِترَابا
وَرُبَّ أَباعِدٍ لَكَ قَدْ أَجَابوا ... وَمَا سَمعَ الْقَرِيبُ وَلاَ أَجَابا
رَجَوتَ بِهِمْ لِدِينَ اللهِ نَصْراً ... وَلمْ أَر رَاجِياً فِي اللهِ خَابا
محمد عبد الغني حسن(449/103)
روح الهجرة
للأستاذ محمود البشبيشي
الليل ينشر على الكون وحشة ورهبة، والظلم يغمر النَّفوس رعدة ورهبة، ولكن الحقيقة المؤمنة تتطلق عزمه ورغبة. تنظر إلى أحابيل الشيطان نظرة القدرة القادرة، وتتأمل أباطيل الباطل بثقة الحكمة النافذة، وليكن ما يكون!
في بطون الوهاد وأعالي الجبال عيون تترصد، وفي خفايا المنافذ وحفايا البطاح أرصاد تترقب، وفي جوار كل جدار ووراء كل باب آذان تتسمّع، ولكن الحقيقة المؤمنة في قلب الرسول تتوثب عزمه، وتتوهج قوة. وليكن ما يكون!
الشيطان قد فعل فعله في النفوس الضالة، والأحقاد قد بلغت الغاية في القلوب الغُلْف، ولم تبق بارقة تسطع من خلال رؤى الآمال!
كل شيء في الجزيرة يحس أن شيئاً سيحدث، وأنه سيكون حدثاً عظيماً. . . كل شيء في الجزيرة يدرك أو يكاد أن أمراً ستتفتح عنه مغاليق الغيب، وأنه سيكون أمراً خطيراً. ولكن ما من شيء كان يعلم أن ظنون الكفار المتبلدة بسواد النيات ستنهار كخيال الوهم. ولكن ما من شيء كان يعلم أن أماني الرسول الكريم ستتوج بالنصر كحقيقة الواقع. . . ولقد كان ما كان
وانطلقت الحقيقة المؤمنة من قيود الباطلٍ، وانبثق النور السماوي من خلال سحب الضلال. إن محمداً قد هاجرا، وكتب للرمال أن تقبل الخطا المباركة، وللغار أن يتيه على أعظم القصور عزة وفخامة. إن محمداً قد لاذ به من كيد المشركين
أجل لقد كان ما كان. بل ما كان يجب أن يكون فأتلق في جبين الزمان نور جديد. فكان يوم الهجرة المباركة. وكان للإسلام عيداً، وأنه لعيد مجيد. فلئن اعتزَّت الأمم بأعيادها المختلفة، وخلَّدتها بأيام من عمر الزمن محدودة، والتفتت إليها من حين إلى حين تعيد إلى ذكرياتها القوة، وتجد ما تقادم من حيويتها، وتبعث فيها الروح بالاحتفال بها. . . أجل لئن اعتزت الأمم بأعيادها وحرصت كل الحرص على أن تعيد إليها القوة بالاحتفال. إن الإسلام ليحتفل بعيد الهجرة. . . لا ليعيد للهجرة حيوية ضعفت، ولا ليجدد للهجرة ذكريات تقادمت، ولا ليبعث في الهجرة روحاً خمدت، بل ليستمد القوة من عزمة الرسول صاحبها، ويقيس من(449/105)
أنوار أقباس الحيوية السماوية القادرة. وإن أعياد الأمم مهما اختلفت أغراضاً، وتفاوتت مقاصيدَ، لا تزيد على أن تكون رمزاً لناحية واحدة مجيدة اجتماعية أو غير اجتماعية، فردية أو غير فردية، على حين تجتمع في عيد الهجرة أعياد وأعياد
في عيد الهجرة أعياد. ومن أعياده الرائعة المتألقة الوضيئة عيد الوفاء في أروع مظاهره، والفداء في أبهى صوره، والصبر في أكمل معانيه، والجهاد في أعظم غاياته، والإيثار في أنبل مواضعه، وحب الوطن في أقوى حالاته، والثبات على المبدأ في أثبت دعائه
لنا في الهجرة مثال للوفاء يحتذي، وإنه لمثال يتألق حقاً في رفيق الرسول أبي بكر الصديق؛ فقد كانت براثن الخطر تترقب، ومخالب الشيطان تتوثب، وكل شيء في شعاب الطريق ومسالكه يستر خطراً يكاد يهجم، فالأحقاد تلهب الصدور، والصدور تضطرب بنزوة الدم وثورة الضغينة
أجل كان كل هذا ولكن الصديق كان وفياً. ولكن الصديق كان ثبتاً؛ ولكن الصديق كان قد انتضى للأمر عزائمه وتغلغلت في روحه روح الوفاء فأبي أن يكون هيابة نكساً. ووجد الوفاء في قلبه أرضاً طيبة فأينع وأثمر، فذلل له كل مستصعب. فكان خير مثال لمصابرة المكاره، ومعالجة البأساء. تحمل في سبيل الوفاء وعثاء الطريق ولم يضطرب قلبه لمخاوف الرحيل في هذا الجو الملبد بالأخطار. فياله من رجل ترك الأهل والمال والولد ورافق الرسول الكريم لغاية لا يعلمها إلا الله. مثل هذا الوفاء جدير بأن نقيم له الأعياد لنستمد منه أروع المعاني، ونهرع إليه كلما دهمتنا الأحداث ولاحت لنا الخطوب
للهجرة أعياد، ومن أعيادها عيد الفداء
وإن لنا من على كرم الله وجهه لمثلاً للفداء حياً
وما ظنك بالرجل الذي يعلم علم اليقين أن الموت يلمع في أسنة السيوف بباب مرقده، والهلاك يترصد في كل زاوية من دارٍ هو فيها سجين أو شبه سجين؟ ما ظنك برجل يحس بالخطر يتوثب ويترقب، وهو في موقف يؤرق العين ويعذب القلب؟ فالكفار بالباب قد أعلنوا حرباً مصرحة مستعلنة، والكائدون قد نصبوا الحبائل ومدوا الشباك يترقبون الرسول الكريم. . . وهيهات، فإن عليًّا هنالك، وإنه لنائم مكانه
أيها الفداء العجيب في شخص علىّ، إنك لخير مثال تتطلع إليه القلوب في مثل أيامنا(449/106)
العجاف
للهجرة أعياد، ومن أعيادها عيد الصبر
ومن ذا الذي صَبر صبر الرسول على المكاره، وتحمل من لأعداء والأهل مالا تتحمله النفوس البشرية؟. . . في ظلال الإرهاب سار وبليْل الأخطار أدلج؛ رأى الموت فلم يفزع، وكيف تفزع النفس المؤمنة، ومن فيضها اقتبس الإسلام قوة جهاده، واستمدت العروبة عزمتها القادرة وقوتها القاهرة؟ من ذا الذي سواه يستطيع أن يخلع علي مكاره الأيام من روحه المؤمنة روحاً تسهَّل كل صعب وتنال من كل مستحيل. . .؟
يا عجباً! لقد استطاعت القوة المؤمنة أن تفك الحبالة وتسلك إلى النفوس في جوٍ كانت تسير فيه قاله السوء كومض البروق، في جو اجتمع فيه الأشرار على باطل وتفرقوا عن كل حق. . . ومن صبر الرسول الكريم وصبر أصحابه الأبرار ما نزال نستمد العون كلما طرقنا من الحوادث أمر طروق
للهجرة أعياد، ومن أعيادها عيد الجهاد
وجهاد المؤمنين لا ينقصه الدليل ليصدق، ولا يتطرق إليه الشك فينقص؛ فلقد كانت الحقيقة المؤمنة في نفوسهم قوة، وفي قلوبهم حيوية، وفي سيوفهم قدراً عاصفاً، وفي عيونهم أملاً يعلم أنه محقق!
جاهدوا وثابروا فنالوا ما أرادوا، وبعون الله كشفوا عن القلوب غطاء الجهالة؛ فتناثرت أباطيل الظلال أمام يقينهم، وانطمست شمس الضلالة الزائفة أمام إشعاع إيمانهم، وسقطت آمال المنافقين أمام إعصار الحق، كما تتساقط أوراق الدوحة الهزيلة عندما تطيح بها العاصفة
فإلى جهاد المؤمنين في فجر الإسلام توجهوا أيها المسلمون في أقطار الأرض، واستلهموا من معانيه الحيوية معاني العزة القومية، والقوة والإباء، والصبر والجلاد
تلك بعض أعياد الهجرة، ومن أعيادها عيد الإيثار وحب الوطن والثبات على المبدأ
أما الإيثار، فينطق به الأنصار عندما نسوا الأثرة واستقبلوا المهاجرين بكرم اليد وكرم والقلب، وقاسموهم الخير والأرض، وعطفوا عليهم عطف العالم بما لا قوا، المقدر لما تحملوا، المعجب بما أظهروا(449/107)
وأما حب الوطن والحنين إليه، فيتألق فيما كان يضطرب بين أضلاع الرسول الكريم وهو في الغربة يناضل ويناوص ويستعد ويستجم ليرجع إلى الوطن الذي ترعرع فيه، إلى الوطن الذي غدر به وحجب القلوب عنه، فهو يحن إلى الحج، فيفاوض المشركين رحمة بالأهل، وحرصاً على الدم من أن يهدر. . . وإنه لدم غال عزيز. أفليس هو دم الأعمام وأبناء الأعمام؟
وأما الثبات على المبدأ، فيظهر ناصعاً في كل مراحل الجهاد، في صبر الرسول على الكيد، وتحمل المهاجرين لألم فراق الأهل والمال والولد
وبعد، فقد قهرت القوة المؤمنة القوة الضالة، وقهرت حقيقة الحق رياء الباطل، وارتدت السهام إلى نحور الكائدين، وانطلق النور السماوي من روح الرسول، فبدد سحب المنافقين، وطوى ظلال الشيطان
ولئن استمدت أعياد الأمم القوة بالاحتفال، إن عيد الهجرة ليجدد حيوية الأمم المسلمة. . . ولئن كانت الأعياد وليدة تاريخ الأمم، إن تاريخ الأمم الإسلامية وليد عيد الهجرة
أيها العيد، في ظلالك أعياد، وإنها لأعياد تعتز بها العروبة والإسلام. جمعت الوفاء والفداء، والصبر والجهاد والإيثار وحب الوطن، والثبات على المبدأ والعقيدة.
إن كنت في لغة الحياة وركبها ... يوماً فكن يا ابن الخلود عهودا
(المنصورة)
محمود البشبيشي(449/108)
العدد 450 - بتاريخ: 16 - 02 - 1942(/)
ماضي الإسلام وحاضره
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
احتفلت مصر بأول السنة الهجرية، فجيَّ في الخواطر ذكر الهجرة النبوية؛ وتمثل للأذهان المثقفة ما سبقها وما وليها وتتابع بعدها من حوادث جِسام بنتائجها القريبة والبعيدة؛ واتجهت القلوب الشاعرة إلى ذلك الوطن الإسلامي المجيد الذي سطع منه نور الحقيقة الدينية فأضاء الآفاق.
وتلك ستون وثلاثمائة وألف سنة خلت بخيرها وشرها وتركت عبرها لمن يعتبر، فيرى أن الله أسعد المسلمين بدينه الكريم، وإنما هم أشقوا أنفسهم بميلهم عن صراطه المستقيم.
قام محمد بالرسالة والعرب على شفا حفرة من النار بما كان لهم من دين وثني في تأخر، وأخلاق في تدهور؛ فأنكروا عليه سعيه وائتمروا به، فهاجر إلى المدينة، ثم عاد إلى مكة المكرمة منصوراً بإذن الله؛ وأدخل الرسول في عقولهم الضالّة وأفئدتهم الشاردة عقيدة التوحيد الذي تجلّى في القرآن الشريف بمنتهى القوة وأروع الجلال، والذي هو جوهر الإسلام المتين على قواعده الخمس.
فاعتدلت أحوال العرب بقواعد الإسلام وعباداته وآدابه، وأصبح المؤمنون بفضل التوحيد أخوة في الدين، وجلَّ به شأن المسلمين. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خير المحسنين إلى الإنسانية بأمانته في إبلاغ الرسالة، وبعظمِه في سيرته الدينية والأخلاقية.
وما أجلَّ قوة الإسلام الذي انتشر سريعاً واستمكن في قارتين على حين كان القتلة يغتالون الخلفاء في أسوأ الحوادث! وأعظِم بها من قوة مدت سلطان الدولة الأموية من الشرق الأقصى إلى الغرب الأنأى في أقل من قرن إن هو إلا لحظة من الدهر! وأكرِم به من دين أزهرت بحسناته المدنية الإسلامية لعهد العباسيين!
فهذا هو الرسول يؤدي الرسالة، وهذا أبو بكر أقلّ عناية بوضع الخطط الحربية منه بالدعوة وجمع القرآن، وبتوطيد الوحدة الإسلامية، وتأسيس حكومة عربية؛ وهذا عمر لا يقلَّ عدلاً عن أبي بكر، وإن زاد ميلاً إلى الفتح وأشرف من الحجاز على جملة الأعمال الحربية؛ وقد كان بقوة يده وشدة شكيمته هو الرئيس الذي تحتاج إليه أمة حديثة التكوّن، يفتْها فيض مغانمها ويظل هو هادئ النفس الأبية، يضاعف بساطة عيشه، ويفخر بثوبه(450/1)
المرقع، ولا ينال منه التعب، وليس له من الأغراض سوى أن يزيد الإسلام نصراً على نصر؛ وهؤلاء هم الصحابة والأنصار والأبرار، ثم الخلفاء العظماء والقواد الكبار: معاوية وعبد الملك والوليد وعمر وعبد الرحمن، وأبو جعفر المنصور والرشيد والمأمون، وأسامة، وأبو عبيدة، وأبن العاص، وخالد، وعقبة، وطارق، وأبن نصير، والحجاج.
رحم الله الجميع بما خدموا الإسلام في الفتح بالعقيدة والحسام والله (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذّكر إلا أولوا الألباب).
طغي الحكم المطلق لعهد المعتصم وبعده في جماعات إسلامية مختلفة دماؤها وذكرياتها القديمة؛ تقرأ في الكتاب المجيد: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون)؛ وترى الموالي يبلغون أسمى المراتب، ويداخلها من روح الإسلام الآمر بالشورى والعدل ما يشبه شعور الديمقراطيات في أيامنا بلذة المساواة والحرية، فكان التناقض بين ذلك الطغيان وهذا الروح سبباً من أسباب قلقٍ سياسي واجتماعي مستمر في تلك الجماعات.
وجاء الانحطاط مع ضِعاف الخلفاء ذكاءً وعقلاً، فأصبحت الخلافات العباسية من عهد المعتصم متعثرة في غير الطريق الأقوم تزداد فيها القسوة ويقل التسامح، وتكثر الفتوق والمطامع والمطامح، ويتعدد الانقسام وتنفصل الولايات؛ ثم كثرت حركات الاستقلال في القرون التالية، وتضاعف عدد الأسر الحاكمة في كل صوب، فداول الله الأيام بين الدويلات حتى تضعضع الدهر بالشعوب الإسلامية، وأمست بلادها في النهاية أسواقاً للغاشمين ومستغلات ومسالك للغالبين، ومستعمرات تتبدَّل أسماء بأسماء، ولا تتغير المسميات (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)؛ (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).
أما ذلك الطود الأشم، العزيز بالتوحيد، الثابت على قواعد الإسلام الخمس وحِكمه الخلقية وعلى السّنة المحمدية، فهو راسخ لم تذهب به زعازع القرون، ولن تذهب.
ولقد أثبت نجاح الدعوة نجاحاً متواصلاً أن الأخلاق الإسلامية لاءمت كل العصور، ودلَّ على أن الإسلام يوائم نور العقل الإنساني. وقد أيد مبشِّرون مسيحيون أن هذا الدين القويم ينتشر ويمد رواقه في الآفاق؛ وبديهي أن هذه الشهادة هي، بالنظر إلى علة انتشاره، إقرار(450/2)
منهم بفضل الإسلام وسموّه من حيث هو دين، ومن حيث هو سبب للمدنية.
تلك الحقائق الواضحة ينكرها فريق من أصحاب المصالح الاستعمارية، الحريصين على نفوذهم أو سيطرتهم في البلاد الإسلامية؛ بل هو يزعم أن عالم الإسلام قوة من القصور الذاتي والقدرة على عدم المطاوعة تعارض بطبعها مدنية الغربيين؛ وإنه عالَم لا يقبل التغيير وعاجز بكيانه وأخلاقه عن التطور الصحيح النافع؛ فهو كتلة تظّل أبد الدهر غير قادرة على مساواة أمم غربية في الجَلَد والضمير، والصفات النفسية، برغم الظواهر وبعضِ التأويلات التي تخدع من لا خِبرة لهم برجال هذه الكتلة وشؤونها؛ ومواهبُ الشرق الفطرية مناحسُ، هي الخلو من المثل الأعلى ومن الفضائل القومية؛ وهي الجَوْر، والرغبة عن المشروعات التي يطول بتنفيذها الزمن؛ وهي البلادة في رخاوة وتثاقل، والجمود تتخلله أزَمات عنيفة قصيرة ليس فيها كبير طائل؛ فأحسن حال تحدث للبلاد الإسلامية هي أن تدخل، طوعاً أو كرهاً، في وصاية حكومات أجنبية تنيلها، بالتوجيه الحازم، خيرات النظام الذي تمنعها عوائقها أن تقيمه هي من تلقاء نفسها.
ألا إن الإسلام دين الفطرة واليُسْر، ولا تعقيد فيه. وأصله الاعتقاد بالله الأحد، وبالرسالة المحمدية. والقرآن هدى للمؤمنين لا عقبة في سبيل فلاحهم الاجتماعي والأخلاقي، والشرعي والفكري. وقد أصلح النبي على نوره شأنَ العرب وصَلُح به شأن أمم شتى. وكان تقييد العقول أبعَد الأشياء عن خاطر الرسول الذي أوحى إليه: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) و (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب).
وليس الإسلام بذلك النظام الجامد الذي لا يراه إلا أهل النظر السطحي أو أولو الأغراض. ولقد كانت المدنية الإسلامية، قبل قرون، أزهر مدنية في الدنيا، يوم كان شارلمان فارساً خشناً بالنسبة إلى هارون الرشيد؛ وكان العالم المسيحي، لأوائل عهد الإصلاح الديني في أوربا، على حال سادت فيها العقيدة على العقل، وعمّ الرضى الأعمى بالتعاليم وبالسلطة، والعداء لحرية الفكر والعلم، والارتيابُ بهما.
كلا، ليس الإسلام في شيء من المعارضة للعلم والمدنية؛ وقد قضى العالم الإسلامي عهداً مديداً في فتور وحياة متئدة، ولكنه آخذ في الخروج من حال تخلُّفه. فمن ذا الذي يستطيع أن يحكم بأنه لن ينطلق إلى طور جديد يعيش فيه عيشة مصححة بلا معين، محتفظاً(450/3)
بمعيِّناته الأصلية؟؟
والحق أن للإسلام أثراً جليلاً في حياة الإنسان الدينية، ومكاناً فسيحاً في الدنيا. وله فيهما شأن عظيم سواء أكان من حيث هو دين أم من حيث هو عالَم يضم شعوباً على إيمان واحد، ومظهر أخوّتهم الدينية حجُّهم البيت في الوطن الأصلي الذي نشأ فيه دينهم: يدعوهم الإسلام فيخفّون إلى القبلةِ ويحتشدون فيها على رغم انقسامهم شيعاً ومذاهب، واختلاف نزعاتهم وتبعياتهم. فالإسلام قوة روحانية، وهو من ههنا قوة سياسية واجتماعية من الطراز الأول.
من أجل ذلك فشل طالبو محوه من الوجود ومحاربوه وجهاً لوجه؛ وأصبح في الغرب من يقول: (إن في العالم الإسلامي رجالاً لهم نزعة محمودة يعملون على التوفيق بينه وبين العالم الأوربي؛ وإن في الجانب الأوربي والمسيحي رجالاً أمثالهم يسعون سعيهم، ويدفع الجميعَ وجدانيّ واحد هو الشعور بواجب السعي في تحقيق هذا التوفيق الضروري. وإن هؤلاء الأفاضل - من الطرفين - هم وحدهم الأقدرون على تحقيق (الاتفاق) المنشود بين العالم الإسلامي والعالم الغربي المسيحي).
ويقول أيضاً إن كلمة (الاتفاق) - المطلقة المعنى الواسع العام - مستعملة عن عمد في هذا الكلام الذي لم يُرَد به سوى علاقات حسنة تسهّل الحياة فتروّج التجارة والصناعة، لأن الدين الإسلامي سلطان روحي هو من القوة وزَيْد الجدارة بالاحترام في مقام لا يمكن معه أن يُقصد هنا غير الاتفاق الودي. (ودَّتْ طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون).
وليس شك في أن العاقل يسره التفاهم بين الناس والتوفيق بين مصالحهم، وإيتاء صاحب الحق حقه لا وكس فيه ولا شطط. غير أن كلام الغربي - في هذا الصدد - يشفّ عن الحقيقة وإن ظهرت وراءه في خفاء. فعسى الساعون من رجال البلاد الإسلامية في تحقيق الاتفاق بين الطرفين أن يتبينوا هذه الحقيقة تفادياً من أن يشوب خيره شر لأوطانهم يُطيل أمْد بقائها تحت ألوان الحكم الأجنبي، وهو إسار وإن تموّهت أسماؤه الحسنى.
ذلك بعض ما يرى الناظر في ماضي الإسلام وحاضره، وما يجمعه تداعي المعاني في خاطره من حقائق عظيمة الشأن. وفي القرآن: (فذكِّر إن نفعت الذكرى، سيذكَّر من يخشى(450/4)
ويتجنَّبها الأشقى).
فليت المسلمين يلتفتون إلى تلك الحقائق في فاتحة هذه السنة الهجرية المباركة، إذ يبدأ فيها الإصلاح الذي يتوخاه جماعة كبار العلماء، والعمل الجليل الذي عهدوا إلى لجنتهم في القيام به، والحمد لله! (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
محمد توحيد السلحدار(450/5)
الهجرة والأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
الهجرة من الناحية التاريخية حادث من أبرز الحوادث في تاريخ الإسلام إذ كانت فاتحة مجده، ومقدمة علو كلمته على الشرك والمشركين. بها أعز الله الإسلام، وصار المسلمون بعد أن كانوا يستخفون من قلته، ويتسللون لواذاً للمدينة فارين بدينهم وأنفسهم، أقوياء بعد ضعف، فيهاجمون قريشاً ومن حالفها، وقد كانوا لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم عدوان المشركين وجبروتهم. لا جرم أن أفاض المؤرخون والكتاب في هذا الحادث؛ يصفونه، ويقصون ما كان من أمره في بدئه ونهايته.
لكن للهجرة نواحيها الأخرى التي لا تقل عن الناحية التاريخية خطراً، والتي يجب فيما أرى أن نتذكرها ففي هذا عظة وخير. من هذه النواحي الناحية التي تتصل بالأخلاق.
كلما تذكرنا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مثابة قومه إلى المدينة مستقر أنصاره، نتمثل المبدأ القويم واعتزاز صاحبه به، ومحافظته عليه، ولو وقف الموت في سبيله أو عرضت عليه الدنيا بأسرها، كما نتمثل التضحية في سبيل المبدأ بالمال والولد وسائر ما تحرص عليه فطرة الإنسان وطبيعته. لقد صدع الرسول الشجاع بما أمر به، فلقي قومه من ذلك عظيماً، ورأوا فيه تسفيهاً لأحلامهم، وسباً لآلهتهم، واستهانة بما كان أسلافهم عليه من عقائد موروثة ودين مقدس عزيز. هبت قريش تتلمس السبل للتخلص من هذا الذي أقض عليهم مضاجعهم، وكان لهم في هذا محاولات عدة، باءوا من جميعها بالفشل؛ ومنها ما عرضوه من أن يُملِّكوه عليهم، فيكون الملك المطاع، وهم الرعية الخاضعة. رفض الرسول إذاً كل ما تقدمت به قريش؛ إذ وجد في ذلك ما يحول دونه ودون ما أخذ نفسه به من الجهر بالدين حتى ينال النصر، وتكون كلمة الله هي العليا. وفي ذلك موضع الذكرى والعظة!
ورأت قريش مع هذا أن تعالج الأمر من ناحية أخرى بالقوة العارمة والعذاب الشديد للمستضعفين من المسلمين تريد فتنتهم وردهم للكفر وقد نجاهم الله منه. لكن هؤلاء قابلوا الفتنة بالصبر والتضحية قبل الهجرة وحين شرعوا فيها. كان أول من هاجر إلى المدينة - فيما يروى ابن إسحاق - أبو سلمة عبد الله. فلما أجمع الخروج فرقت قريش بينه وبين(450/6)
زوجه وأبنه، فطاب عنهما نفساً وبقيا بمكة ولم يلحقا به إلا بعد سنة أو قريباً منها. وصهيب بن سنان يروي ابن هشام حديثه لما أزمع الهجرة فيقول: إنه لما أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك. والله لا يكون ذلك! فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ربح صهيب، ربح صهيب.
هكذا كان ثبات النبي وصحبه على المبدأ وتضحيتهم في سبيله بالنفس والنفيس وصبرهم على الأذى. أما نحن فإن الواحد منا يرى وجهاً من وجوه الإصلاح ويعتقد أن في الدعوة إليه ونشره وأخذ الناس به الخير كل الخير لأمته؛ ثم يعد العدة للتبشير به مؤكداً لنفسه ولمن يحيط به أنه جاد فيما يرى، صادق فيما يقول، قائم بالدعوة مهما لقي في سبيلها، باذل في ذلك من وقته وماله ونفسه. وما هو إلا أن يلتف فريق من الناس حوله وإلا أن يلوّح له بعض ذوي الجاه والسلطان بسيف المعز وذهبه حتى ينكشف ويتضاءل فيعود مَسخاً ليس له من الرجولة إلا الإسم؛ وليس له من ماضيه وما كان أعتزم وقدر وقرر إلا الذكريات التي تتراءى له صوراً وأشباحاً تألم لها نفسه إن كان لم يفقد ضميره بعد، أو لا يأبه لها ولا يباليها؛ بل ويسخر منها إن كان فقد مع رجولته الضمير الحر الحساس أيضاً!
هل نحن في حاجة لضرب الأمثال لهذا الداء الذي شرى فما أظن أن من السهل أن نطب له ونبرأ منه، أعني داء عدم الاعتداء بالمبدأ والتمسك به، مهما قامت العقبات وتعقدت الأمور ما دام في التمسك به خير وصلاح الأمة. المثل لهذا كثيرة؛ نجدها في الميدان السياسي، ونجدها في الميدان الاجتماعي، ونجدها في الميدان الاقتصادي؛ وأخيراً نجدها في الميدان الديني. لنلق نظرة على ما صدر من الصحف في هذه السنوات الأخيرة نجدها ملأا بالدعوات الحارة لمبادئ مختلفة رأى الدعاة إليها خيراً كثيراً في تحققها، وربما ألفت لجان لبعضها تفحصها وتشير إلى وسائل جعلها حقائق فعلية بدل أن تظل أماني تجيش بها الصدور وتلج بها الألسنة. ولكن ما هي إلا أيام أو شهور ونرى الدعاة قد استوعروا الطريق واستطالوا الشقة، أو رأوا فيما يدعون إليه ما ينفر رئيساً أو ذا جاه، في ترك ما حسبوه جرى منهم مجرى الدم من مبدأ أو فكرة ما يقربهم زلفى إلى هذا الرئيس أو ذي(450/7)
الجاه؛ حينئذ ينقلب الواحد من هؤلاء على عقبيه، وينكر ماضيه ويترك مبدأه ويعيش متمتعاً بما نال من حظوة وكسب من صيت وشهرة باعتباره رجلاً من رجال الإصلاح!
إن كنت مبالغاً في هذا الذي أقول فلنتذكر أن لنا بالقاهرة وحدها عشرات من الجمعيات الدينية والاجتماعية ولكل منها مبادئ قامت بها فيما تزعم عليها. وأنه ما من واحدة من هذه الجمعيات أخلصت أو تخلص لمبادئها وجدت أو تجد في الدعوة إليها أو تحقيقها! هل ربت جماعات الكشافة التي تزخر بها المدارس تلميذاً واحداً على الصدق في القول والاستقلال في الرأي والاكتفاء بالنفس، ومعاونة الغير، ونحو هذا من مبادئ الكشف والكشافة؟ هل أفلحت جمعيات المسلمين في جعل فريق من الناس ولو من أعضاءها مسلمين حقاً يعرفون - ويعلمون بما يعرفون - أن الصدق في المعاملة من الدين، وأن اعتبار المؤمنين جميعاً اخوة أساس الدين، وأن كراهة الظلم والظالمين مما يحتمه الدين ويدعو إلى أن يظهر بطريقة عملية تردع هؤلاء الظالمين؟ هل أخذ أعضاء هذه الجمعيات الدينية - التي تدعو للحشمة والصون والعفاف، وتحارب فيما تزعم التبرج والخروج عن الدين - أهلهم وأولادهم جميعاً بحدود الدين وألزموهم سننه وشرائعه؟ معاذ الله أن يفعلوا هذا وأن يلتزموا المبادئ التي يدعو إليها وأن يكون لهم في ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصادقين على المبدأ الحق عظة وذكرى!
إذا تركتا هذا النحو من القول، وانعطفنا ثانية لحادث الهجرة نجد فيه مجالاً لعظات أخر من الخير أن نشير إلى بعضها.
هاجر النبي وصاحبه الصديق إلى المدينة فماذا فعل؟ كان أول ما عمل أن آخى بين المهاجرين والأنصار ليكونوا يداً واحدة عل من عاداهم؛ وكان من هؤلاء الأنصار أن واسوا إخوانهم المهاجرين وشاطروهم ما يملكون، وآثروهم ولو كان بهم خصاصة، فكانوا بذلك مؤمنين حقاً؛ حسن إيمانهم، وخلصت قلوبهم، ورأوا من الكذب والزور أن يزعم الواحد منهم أنه أخ لمن يشركه في الدين ثم يستأثر بما أنعم الله عليه به، ويزوي عنه حقه فيه؛ ويحتجن دونه نصيبه منه
أما نحن فنلوك بألسنتنا أن المؤمن أخ المؤمن لا يظلمه ولا يسلمه؛ ونقرأ كثيراً قول الله تعالى: (إنما المؤمنون اخوة)؛ وقول الرسول الحكيم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما(450/8)
يحب لنفسه). نعلم هذا كله لا نؤدي الزكاة، ولا نواسي المحتاج؛ ولا نرحم البائس الفقير؛ ونزعم مع ذلك أننا مؤمنون حقاً؛ وأننا بمنجاة من سخط الله وعذابه لأننا قائمون له بما يجب! ناسين أو متناسين ما رواه عبد الله بن عمر إذ يقول: (أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا؛ ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المثونة وجور السلطان عليهم؛ ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا؛ ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم؛ وما لم تحكم أئمتهم بما أنزل الله؛ ويتخيروا مما أنزل إليهم إلا جعل بأسهم بينهم)!
يميناً بالله أنني أرى أنا نستحق الآن أن يعمنا الله بعذاب من عنده، لولا ما فينا من شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع! لقد اجتمعت فينا هذه الخمس التي خافها الرسول على المؤمنين المهاجرين. فقد منعنا الزكاة والتمسنا لهذا الفتاوى الباطلة والتعلات الكاذبة! وظهرت الفاحشة فينا، بل جعلنا لها ولحمايتها اللوائح والقوانين! وفشا الغش والتدليس في المعاملة، وصار ذلك باباً من المهارة يطلب أن يحذقه التاجر والصانع ومن إليهما! واستعرنا ما تتحاكم إليه من قوانين من فرنسا وغير فرنسا نابذين كتاب الله وما جاء به من شرائع ظهرياً! وصار الغني لا يملك باساً في أن يسكن القصر ويملك الآلاف ويبيت يشكو البطنة والتخمة، وبجواره وحواليه المئات من إخوانه في الدين والوطن جياعاً معدمين! ومع هذا كله نزعم أننا بخير، وأن الدين لا يزال ثابت الدعائم مرعى السنن والآداب والأحكام!
بذلك الإهمال للدين، واطراح ما يأمر به الله من سنن وتشاريع، وبترك النصح للعامة والخاصة، صرنا في أمر مريج ولبس شديد، وصار المرام صعباً، والمطلب وعراً، والمسلك حزناً. ولو أننا اتعظنا بالحادثات وراعينا صالح الدين والوطن قبل كل شيء وائتمرنا بما يأمر به الله وانتهينا بنهيه، لسهل الأمر وسلس، وصار قريب التناول، سهل المقاد!(450/9)
بقيت كلمة أخيرة تخطر بالبال كلما انتهى العام وبدأ آخر: هي أنه كما يقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رضوان الله عليه: ترى التجار يحاسب الواحد منهم نفسه في شهر أو عام ليعرف كسبه من خسرانه؛ فإن كان الأول حمد الله واستزاده منه، وإن كان الآخر بحث الأسباب ليتلافاها فلا يقع فيها مرة أخرى؛ إذا كان هذا عادة التجار، مع أن الخسارة أو الكسب لن يكون إلا شيئاً من حطام هذه الدنيا، فكيف يليق بالعاقل ألا يحاسب نفسه كل ليلة ساعة يأوي لفراشه على ما عمل سحابة نهاره!
لست أطمع في الوفاء بما يطلب الغزالي من حساب المرء نفسه كل ليلة، وغاية الذي أرجو أن يكون الحساب آخر كل عام؛ حتى نستقبل العام الجديد بنفوس راضية تائبة عازمة على أن تكون فيه خيراً منها في العام الذي انتهى. هدانا الله إلى الصراط المستقيم؛ وجعلنا من الذين إن تقلد الواحد منهم عملاً سواه، وإن رأى ضالاً هداه، وإن آنس أوداً ثقفه. إنه المستعان
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(450/10)
الإسلام في أوله وحاضره
للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى
أظهر ما توحي به الهجرة إلى النفس، ما كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعند أصحابه الأخيار من قوة العزيمة ورسوخ الإيمان، قوة ورسوخاً تغلباً على جميع ما لاقوه من شدائد ومصاعب
فقد احتمل الرسول ألوان الكيد وصنوف المشقات من أعدائه بعزيمة لا تعرف الكلل ولا التواني ولا الخنوع. وتحمل المسلمون الأولون معه مثل ذلك بعزائم مقتبسة من عزيمته، حتى كان الواحد منهم يمشط بأمشاط الحديد فلا يصرفه ذاك عن قصده ولا يلويه عن عقيدته. تحملوا هذا الضيم وهم أباته في سبيل نشر الدعوة التي تفتحت لها قلوبهم فاعتنقوها وأخلصوا إليها. وما زالت المتاعب وضروب الإيذاء تغالب عزائمهم تبتغي وهنها والحد من نشاطها، حتى صرعتها هذه العزائم في جلد وصبر واستهزاء، فإذا دين الله ينتشر عزيزاً في بقاع المعمورة، وعلمه يرفرف على أمم وممالك لم تكن للعرب بها صلة قبل ذلك. ثم كانت تلك الفتوحات العظيمة أثراً من آثار رسوخ عقيدة الأولين وإيمانهم بفكرتهم وتفانيهم في الدفاع عنها والعمل على نفوذ سلطانها
إن الحوادث التاريخية منذ القديم إلى اليوم تدل دلالة واضحة أنه على قدر إيمان الدعاة والأتباع بفكرتهم ويقينهم بها يكون عملهم لرفعتها ونجاحهم في نشرها وتحقيق سيادتها. كذلك نشاهد أن الأمم الحديثة التي تؤمن بفكرة اقتصادية واجتماعية وتعتقدها وتفنى فيها تحاول جاهدة بسطها على الناس بالدعاية والإقناع تارة، وبالسيف والنار أخرى. وما التطاحن الحالي إلا مظهر من مظاهر ذلك
على هذا النحو كان المسلمون الأولون في إيمانهم بفكرتهم وعملهم لها. وليس من شك أن للإيمان بالفكرة والانسياب في كل ما ينهض بها وجعلها الشغل الشاغل لصاحبها أثراً جليلاً في قبول دعوتها وتوجه الناس إليها وتفكيرهم في أمرها
إن الشعوب الأجنبية تنظر إلى الإسلام في أشخاص أصحابه وأعمالهم وأوصافهم، وقديماً كانت الأفراد والشعوب تنظر إلى المبادئ والفكر في تصرفات أصحابها وأحوالهم. وما زلنا نحن نحكم على الأحزاب والجماعات هذا الحكم؛ لأن ذلك أول مظهر ينجلي فيه الإخلاص(450/11)
للفكرة والاقتناع بها والإعلان عنها. ومن ثم كان من يحاول انتزاع صفات الإسلام والوقوف على مبادئه وغاياته من أعمال شيعته الأولين وتصرفات أحوالهم ومظاهر حياتهم بنتائج تصرفه إلى الاعتراف بصلاحه وتجعله دائم التفكير في الركون إليه.
أما اليوم فمن يحاول انتزاع هذه الصفات والمبادئ من مظاهر أحوال معتنقيه في كافة الشعوب التي تتغنى بأن دينها الإسلام، فإنه يظفر بما لا يجعله شديد الرغبة في هذا الدين ولا كثير التفكير فيه؛ لأن مسلمي اليوم - لا فرق بين جمهورهم وسادتهم - في ضعف واستكانة وذلة؛ وتحلل من جميع الصفات التي ساد بها السابقون وعليها ارتقت دولتهم وعظم سلطانهم.
وهذه المظاهر لا تدل على ضعف في المبادئ ذاتها. لأن هذه المبادئ هي التي نهضت بالسابقين نهضة ما يزال التاريخ يزهي بها؛ وإنما تدل على ضعف في إيمان أصحابها اليوم. ونقص في إخلاصهم للفكرة وانصرافهم إليها. وإن تعجب فعجب أنهم ما يزالون يسمون أنفسهم مسلمين.
ليت شعري متى كان الإسلام كلاماً ودعاوى، ومتى نهضت المبادئ مع تحلل أصحابها عنها وتركها وراءهم ظهرياً! إن الذي يتوهم أن المبادئ تعلو مع خذلان أصحابها لها، وتنتصر مع انصرافهم عنها، وتنهض وهم يعوقون حركتها؛ إن الذي يتوهم ذلك يجري وراء شيء أبعد من الخيال. والرأي عندي لهذا أن الخلاف بين الكلاميين في التفرقة بين الإيمان والإسلام يرجع إلى أمر جدلي أكثر مما يرجع إلى الحقيقة
هناك فرق بين الإيمان بالفكرة والتسليم بها. الإيمان بالفكرة يستلزم التفاني في خدمتها والنهوض بها. ويتبعه جهاد عنيف شاق وعمل دائب متصل لأجل سيادتها وذيوعها وبسط سلطانها؛ ولأن هذه الرغبة تحدو المؤمن بفكرته يحاول جهده أن يقف عند تعاليمها وتأثر خطاها ويترسم حدودها، ويبتعد عن كل مظهر يخالقها أو تلمح فيها مدافعتها. أما التسليم بالفكرة فيكتفي صاحبه باستحسانها وعدم معارضتها دون أن يتبع ذلك عملاً حاسماً في سبيل نصرتها ورفعة شأنها؛ وسواء لديه بعد ذلك أنهضت الفكرة أم ماتت؛ لأنه لم يؤمن بها ولم يخلص إليها ولم يأبه لرواجها
وإذا أردنا استخلاص شيء من ذلك خلص لنا أن المسلمين اليوم ضعاف الإيمان؛ لأن(450/12)
مظاهر قوة الإيمان غير متحققة فيما بينهم ولا جلية في أعمالهم وأوصافهم؛ وكل ما يبدو من تصرفاتهم عنوان هذا الضعف ودليله
لهذا كله نراهم محتاجين إلى قيادة وتوجيه حتى يتزايد عندهم الإيمان ويتولد الشعور بقوته وكماله فينصرفوا كما انصرف السابقون يثبتون دعائمه ويبسطون سلطانه
وموقف القيادة والتوجيه لذلك يتطلب من صاحبه أن يكون مثلاً أعلى فيما يدعو إليه؛ مؤمناً بفكرته، مخلصاً لها، حريصاً على نجاحها؛ لا يبدو عليه في قول ولا عمل ما يشعر بعدوله عنها أو ضعف يقينه فيها. فإذا وجد ذلك القائد اقبل الناس عليه واستجابوا دعوته
إن مصر فيما يرى الناس زعيمة الشرق الإسلامي، فمن حقها إذن أن تكون القائد الموجه له في ذلك. فهل تستطيع أن تعمل بحرارة وإخلاص لفكرة سيادة الإسلام وسيطرته؟ وهل تستطيع النهوض بهذا العبء الشاق وتقوى على تكاليفه وتبعاته؟
إنها لتستطيع ذلك وتقدر عليه عن طريق الأزهر ورجاله، أزهر الشباب المملوء توثباً وأملاً وقوة، (أزهر القرن الرابع عشر - كما يسميه الأستاذ الزيات - الذي يضع لثقافة الشعب أساساً من الدين، ويقيم عليه من القواعد والنظم والأوضاع ما يقره العقل ويتقبله العصر وتقتضيه الحاجة)؛ الأزهر الذي يتفانى في سبيل ذلك ويكافح وينافح ويلجئ بسلطانه الروحي رجال الحكم وذوي الرياسات على تنفيذ ما رسم والإيمان بما آمن، لا يعرف من أجل هذه الغاية النبيلة هوادة ولا انتظاراً ولا مجاملة؛ الأزهر المخلص الذي يراه الشعب كذلك فيكون حليفه وناصره، ينقاد لأمره ويعمل برأيه ويسير بخطواته؛ الأزهر الذي يقتفى بحق اثر صاحب الهجرة، فيؤمن إيمانه، ويكافح كفاحه، ويثق في الله ونصره وثوقه، ويعتمد عليه اعتماده
يقول الأستاذ الأكبر: (كانت الهجرة حداً فاصلاً بين الذلة والعزة وبين الضعف والقوة)؛ فهل يعيد التاريخ نفسه فتكون ذكرى الهجرة اليوم حداً فاصلاً بين ذلة الحاضر وعزة المستقبل، وبين ضعف اليوم وقوة الغد؟ وهل تكون رمزاً لانتصار حق الدين على باطل المدنية الكاذبة الخداعة، فينخلع المسلمون عامة مما هم فيه من مجائبة لنظم الإسلام وتعاليمه وإرشاداته، ويعودوا إلى الحنيفية البيضاء يترسمون خططها ويتبعون هداها وينزلون على أحكامها؟(450/13)
وهل يقف الأزهر من المسلمين اليوم موقف القائد الجريء الواثق من النصر، المؤمن بمبدئه الراسخ العقيدة فيه؟ وهل تتجه نظمه ودراساته إلى ما يخلق في نفوس أبنائه الإيمان بالفكرة والعمل على إنجاحها وسيادتها؟ وهل يتفانى أهله في سبيل سيطرتها ونصرتها وتغلغلها في صدور الناس فلا يرى من أحوالهم وتصرفاتهم إلا ما ينميها ويحسن الإعلان عنها ويفسح الطريق أمامها؟
ذلك أمل عسى أن يتحقق قريباً
ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز
عبد العزيز محمد عيسى
مدرس بمعهد القاهرة(450/14)
كيف استفتى العلم
في أول وحي إسلامي؟
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
جاء الإسلام وقد آن للبشرية أن تدخل في عصر يجمع بين الدين والعلم، ليتضافرا على هناءتها، ويكفلا لها السعادة في دنياها وآخرتها. فكان لها من الإسلام الدين الذي يحقق لها هذا الغرض، ويمد يده إلى العلم من أول يوم يولد فيه، ليعلم الناس من أول الأمر أنه دين يؤاخي العلم، ويقدر فضل رجاله ويرجع إليهم فيما يفيد الرجوع فيه، ولا ينأى بجانبه عنهم كما نأت الأديان الأخرى، فذمت الحكمة والحكماء، وقالت في بعض رسائلها المقدسة: الرب يعلم أفكار الحكماء أنها باطلة. كما قالت في نص آخر: لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله
فلم يغض الإسلام من الحكمة كما غضت منها هذه الأديان، بل مدحها في إطراء، ورفع من شأنها، وعدها أكبر نعمة من الله على بني الإنسان: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب)
وقد فتح الإسلام بذلك عصراً جديداً في تاريخ الإنسانية، وانتقل بها من دور الطفولة الذي لم تكن تؤمن فيه بالعلم والنظر، بل كانت تؤخذ إلى الإيمان بوساطة المعجزات، وخوارق العادات لقصور عقلها، وعجزها عن فهم الإيمان إلا بهذه الوسيلة التي تؤخذ فيها بالدهشة، ولا تحتاج إلا إلى قليل من إعمال الفكر والنظر
فانتقل الإسلام من ذلك إلى معجزة تنظر إلى من قصد بها كإنسان كامل، له عقل يفكر به، ويمكن أخذه بطريق النظر إلى الإيمان، ليؤمن عن عقل وتدبر، ولا تنفرد بإيمانه المعجزة وحدها، وليقوم إيمانه على أساس العقل، ويتضافر في تشييد بنائه الوحي والعلم
والآن فلنبين كيف استفتى العلم في أول وحي إسلامي:
نشأ النبي صلى الله عليه وسلم بين قومه في مكة، فرعى الغنم صغيراً، ثم اشتغل بالتجارة بعد رعي الغنم، ثم تزوج خديجة رضي الله عنها، ووجد من وقته فسحة بعد تزوجها، فكان يقصد إلى غار حراء يتعبد فيه الفينة بعد الفينة، فيقضي فيه الليالي ذات العدد، ثم يعود إلى زوجه فيمكث معها أياماً، إلى أن يقصد الغار مرة أخرى؛ ولم يكن هو الذي يفعل ذلك(450/15)
وحده، بل كان يشاركه فيه كثير من متنسكة قريش
وقضى في ذلك أربعين عاماً لا يفكر في غيره، ولا تحدثه نفسه بما صار إليه حاله بعدها، بل كان راضياً بحالة فيها كل الرضا، إذ كان يجد من زوجه شريكة بارة صالحة، ومن نفسه طهارة واستقامة وقناعة، ومن قومه ثقة وتقديراً وإكباراً، حتى كانوا يلقبونه الأمين تشريفاً له وتعظيماً، وليس بعد هذه الأمور من سعادة للنفس الراضية، كنفس محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك العهد فلما جاءه الوحي لأول مرة في غار حراء صادف نفساً لم تكن تنتظره، وكانت مفاجأة أثرت فيها أكبر تأثير؛ فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل، إذ ظهر له شخص غريب لم يشاهد مثله في حياته، فقال له: أبشر يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: أقرأ. فقال: ما أنا بقارئ؛ لأنه كان أمياً لم يتعلم القراءة؛ فأخذه جبريل فغطه بالنمط الذي كان ينام عليه، حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ؛ فأخذه فغطه ثانية ثم قال: أقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. فأخذه فغطه ثالثة ثم قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم
ثم اختفى جبريل بعد هذا الوحي الأول، ورجع محمد صلى الله عليه وسلم وقد بلغ ذلك من نفسه مبلغه، لأنه فوجئ به مفاجأة ولم يكن يعرف من هو جبريل، لأن ذلك لم يكن معروفاً بين قومه. وهو اسم غريب لا يمت إلى العربية بصلة، فسار إلى خديجة يرجف فؤاده مما ألم به من الفزع، فدخل عليها فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى زالت عنه هذه القشعريرة، وذهب عنه الفزع، ثم أخبر خديجة بأمره من أوله إلى آخره، وخشي على نفسه أن يكون أصابها شيء؛ وألا يكون هذا الشخص ملكاً من ملائكة الله تعالى. فطمأنته خديجة رضي الله عنها، وقالت له: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلا يسلط الله عليك الشياطين أو الأوهام، ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك.
فاطمأن محمد بهذا الكلام الطيب من تلك الزوج البارة؛ واطمأنت خديجة على زوجها بعد أن زال عنه ما ألم به من الفزع؛ ولكنهما أرادا أن يزيدا اطمئناناً بعلم العلماء من قومهما، وأن يستفتيا منهم من له علم بحال الرسل ممن اطلعوا على كتب الأقدمين. وهنا يمد(450/16)
الإسلام يده إلى العلم من أول يوم يولد فيه، وتظهر فضيلته في مؤاخاة العلم والاعتراف بالحاجة إليه في هذه الدنيا. فلا يكون هناك عداء بين العلم والدين. ولا يقف أحدهما حجر عثرة في سبيل الآخر. وهذا هو الذي حصل في تاريخ الإسلام إذ كان يفهم فهماً صحيحاً، ولا يتسلط فيه متنطعون يعادون العلم باسم الدين، والدين براء مما يصنعون
وكان لخديجة ابن عم من علماء قريش يقال له ورقة بن نوفل، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخاً كبيراً قد عمى وانقطع للعلم، وأخلص له نفسه فصفت به وطابت، حتى أورثها تواضعاً وإذعاناً للحق، وبعداً عن المراء والتمادي في الباطل، وكراهة للتعصب الممقوت، وبغضاً للجمود على القديم، ومعاداة الإصلاح والمصلحين
فأخذت خديجة زوجها إليه، وقالت له: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك
فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره عليه السلام خبر ما رأى
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى؛ لأنه يعرف أن رسول الله إلى أنبيائه هو جبريل
ثم قال: يا ليتني فيها جذع، إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها، لمعاداتهم إياك، وكراهيتهم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقادات وجدوا عليها آباءهم
فاستغرب عليه السلام ما نسبه ورقة إلى قومه من معاداته، مع ما يعلمه من حبهم له، لاتصافه بمكارم الأخلاق وصدق القول حتى إنه لم يلق منهم أذى في هذا العمر الطويل الذي قضاه معهم، فقال لورقة: أو مخرجي هم؟
فقال له ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً
وهكذا مد العلم يده إلى الدين حين مد الدين يده إلى العلم، فآمن به حين مد يده إليه، وزاد في يقينه حين طلب منه أن يزيد فيه، وبذل له المعونة التي يريدها، وتطوع لنصره إذا صادف من أعدائه إنكاراً، وأثبت بذلك أن العلم الصحيح لا يعادي الدين، كما أن الدين الصحيح لا يعادي العلم، لأن الغاية منهما واحدة في هذه الحياة، وهي الوصول إلى هناءتها(450/17)
وسعادتها، ولا يمكن أن يكون هناك عداء بين شيئين تتحد غايتهما، ويرمي أحدهما إلى الغرض الذي يرمي إليه الآخر، واختلاف الوسائل في ذلك الأمر لا يؤثر شيئاً، لأن اتحاد الغرض هو الذي يجمع بين الأشياء، ولا تهم الوسيلة إليه بعد ذلك في شيء
فإذا وجدنا أهل العلم يعادون الدين في يوم من الأيام، فإن هذا يكون ناشئاً عن جهلهم بالدين؛ وإذا وجدنا أهل الدين يعادون العلم في يوم من الأيام، فإن هذا يكون ناشئاً عن جهلهم بالعلم ولهذا كان لزاماً على أهل العلم أن يعنوا بدرس الدين، وكان لزاماً على أهل الدين أن يعنوا بدرس العلم، لتهنأ الإنسانية بالوفاق بين الاثنين، وتفوز منهما بسعادة الدارين
عبد المتعال الصعيدي(450/18)
بهرام جور
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية
هو بهرام الخامس بن يزدجرد المسالم أحد ملوك الدولة الساسانية المعروف (ببهرام جور) حكم إيران سنتي 420 و438 ميلادية. وقد استطاع بعدله وسخائه وفروسيته وشجاعته أن يصير محبباً إلى رعيته بعد أن كرهوا أباه (يزدجرد) الذي اضطهد المجوس في سبيل تمكين المسيحيين من العبادة جهاراً في بلاده. وقد هاجمه خاقان التركستان الصينية بجيش قوامه 125. 000 رجل، فاستطاع (بهرام جور) أن يصده بجيش من 10. 000 رجل من خيرة محاربيه وأن يقتله بيده. وكان (بهرام) موفقاً في سياسته، فقد صالح الروم على شروط عادلة بعد أن هزموا جيشه، وحث الناس على الزراعة وأعانهم عليها، وكان يشجع العلماء والأدباء والفنانين والموسيقيين ويدعوهم إلى بلاطه من البلاد الأخرى، حتى أنه استحضر ذات مرة من الهند ألفي موسيقي من الذكور والإناث وفرقهم في بلاده ليطربوا فقراء المزارعين دون أجر، فتوالدوا فيما بينهم وصار منهم القوم المعروفون (بالغجر) وانتشروا من (إيران) إلى البلاد الأخرى. وقد كان (بهرام جور) فوق ذلك أديباً شاعراً، تعلم الشعر في صباه بين العرب في الحيرة، وقد بقيت هذه الذكرى في الأدب الفارسي والعربي على السواء، فالفرس يقولون إنه أول من قال الشعر وأنه أخذه عن العرب، ويروون له أبياتاً فارسية، والعرب يروون من شعره العربي والفارسي
وبقيت (لبهرام جور) ذكرى حسنة بين رعيته فاخترعوا له قصصاً تعبر عن مكانته في نفوسهم وتبين عن فروسيته وبطولته ومقدرته في القنص والصيد. وصاروا يتناقلون هذه القصص جيلاً عن جيل حتى نظمها (الفردوسي) في (الشاهنامه) حوالي سنة 400 هجرية. ثم اتخذها الشاعر نظامي الكنجوي موضوعاً لإحدى منظوماته الخمس، فنظمها مرة أخرى حوالي سنة 596هـ بعد أن البسها ثوباً جديداً من خياله وشاعريته
واستلهم الفنانون وقائع (بهرام جور) في الصيد ومهارته في الرمي بالنشاب في رسم(450/19)
صورهم التفسيرية في مخطوطات كتابي: (الشاهنامه) و (خمسة نظامي)؛ كما صوروها على الخزف والقاشاني وحفروها على الأواني المعدنية ونسجوها في الأقمشة، وصارت هذه الوقائع موضوعات محببة إلى الفنانين في جميع فروع الفن، متنقلين بها من الفن الساساني إلى الفن الإسلامي، حتى وصلوا بها إلى العصر التركي
ونرى في شكل (1) صينية من الفضة المذهبة عليها صورة (بهرام جور) يشج بسيفه رأس أسد ويمسك بيده اليسرى شبلاً صغيراً، بينما هجمت عليه لبوة تريد تمزيق رأس جواده. وهذه الصينية محفوظة في متحف الأرميتاج بالروسيا. وهي من القرن 5 - 7 ميلادي، مما يدل على قدم هذا الموضوع الزخرفي في (إيران) قبل انتقاله إلى الفن الإسلامي
يقول الشاعر نظامي الكنجوي في منظومته (هفت بيكر)؛ أي الصور السبع: إن الملك الساساني يزدجرد الأول، عند ولادة ابنه بهرام، عهد به إلى النعمان ابن المنذر ملك الحيرة ليقوم على تربيته، وذلك عملاً بمشورة مستشاريه من المجوس، رغبة منه في إبعاده عنه، كي لا يتخلق الصبي بأخلاق أبيه البغيض لهم. فسلمه النعمان إلى أربعة نسوة اختارهن له فأرضعنه ولم يفطمنه حتى بلغ الرابعة من عمره. وبنى النعمان قصر (الخورنق) لسكنى بهرام، بناه له معمار من بلاد الروم اسمه (سمنار) استدعاه إليه لشهرته في بناء القصور، فجاء قصراً منيفاً من أجمل الأبنية. فأهلك النعمان سمنار كي لا يعود لبناء مثله ويبقى القصر فريداً - وضرب العرب المثل بجزاء (سمنار)
وتعلم بهرام الكتابة والقراءة، والتاريخ والعلوم، والرماية والصول والجول، والصيد والطرد، فأتقنها جميعاً. واشتهر ببراعته في صيد نوع من الغزلان كبير الحجم، يعيش في تلك الجهات، ويسمى بالفارسية (كور) فعرف ببهرام كور، وعربته العرب فقالوا بهرام جور.
وذات يوم بعد ما بلغ بهرام جور أشده وصار شاباً يافعاً قوياً وشاباً فتياً، ركب وخرج للصيد، وكان في معيته النعمان وابنه المنذر، وإذا به يرى فجأة سحابة من التراب ترتفع من الأرض، فاقترب منها، ولما تبينها رأى في وسطها أسداً قد هجم على غزال، وامتطاه وراح يعمل أنيابه في عنقه ليفترسه. فأخرج بهرام جور من جعبته سهماً مدبباً، وضعه في وتر قوسه، وجذبه بشدة، ثم أطلقه، فانطلق السهم في عنف وقوة وأصاب كلا الحيوانين(450/20)
تحت الكتف الأيسر، واخترق قلبيهما وجسديهما، ثم غار في الأرض من تحتهما وإلى جانبه سقط الحيوانان كل منهما جثة هامدة. فلما رأى العرب ذلك أعجبوا ببهرام جور أيما إعجاب، وأمر النعمان المصورين أن يصوروا هذه الواقعة على حائط إحدى قاعات قصر الخورنق.
وفي شكل (2) نرى بهرام جور في وسط الصورة على جواد وأمامه الأسد والغزال وقد أصابهما بسهم واحد، ويلاحظ ما أسبغه الفنان على هذه الصورة من جمال الحركة وروح الحياة، وهي من تصوير الفنان الإيراني سلطان محمد، من مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي محفوظ في المتحف البريطاني، كتب للشاه طهماسب بين سنتي 946 - 950 هجرية في تبريز، واشترك في تصوير الصور التفسيرية التي به خمسة من كبار مصوري ذلك العصر هم: سلطان محمد، ومظفر علي، واقأميرك، وميرزا علي، ومير سيد علي. وقد كان سلطان محمد من أساتذة الشاه طهماسب في التصوير، ويقال إنه خلف المصور بهزاد، عميد فناني إيران، في إدارة (الورشة) الملكية في لفنون الكتاب
أتقن بهرام جور الصيد والطرد، واعتاد أن يخرج إلى الأحراج المجاورة لصيد الوحوش والغزلان، وكان أن شرب يوماً مقداراً من الشراب، وخرج للصيد فقابل قطيعاً كبيراً من الغزلان، وأصاب منها الكثير، إلى أن رأى ظبياً جميلاً، رشيق الحركات أراد أن يقتنصه، فأطلق الظبي ساقيه الرشيقتين الطويلتين للريح يسابقها، وأعمل بهرام جور مهمازيه في جانبي الجواد فانطلق يجري، يطلب الظبي، واستمر على ذلك مسافة طويلة إلى أن وصل الظبي إلى فوهة كهف ربض أمامها تنين هائل، بشع الخلقة ذو رأسين عظيمين مد أحدهما إلى الظبي فابتلعه، وكان التنين جائعاً وما كان الظبي إلا ليثير شهيته لافتراس الفارس القادم عليه بجواده، فأخذ بهرام جور سهماً عريضاً من جعبته، وأطلقه على التنين
فأعماه، ثم استل سيفه الكبير وضرب به التنين بين رأسيه فشطره إلى بطنه، حيث وجد الظبي قابعاً، وما كاد هذا يرى الحرية أمامه حتى قفز من بطن التنين وجرى إلى أن دخل الكهف، وتبعه بهرام جور فوجد في الكهف كنزاً عظيماً من قدور ملأا بالذهب والأحجار الكريمة، مما استدعى نقله إلى قصر الخورنق مائة جمل، أرسل عشرة منها إلى أبيه يزدجرد، ووهب النعمان عشرة أخرى، واستمتع هو بالباقي على أن ينفق منها بغير رقيب(450/21)
وفي شكل (3) نرى بهرام جور على جواد في وسط الصورة يرمي التنين بالنشاب، وهذه الصورة من مخطوط لنظامي محفوظ في المتحف البريطاني ومؤرخ سنة 900 هجرية، وهي من تصوير الفنان الإيراني قاسم علي، أحد تلاميذ بهزاد في هرات، وكان قاسم علي ينقل في صوره الكثير من موضوعات أستاذه، فمثلاً هذه الصورة منقولة عن صورة مماثلة لها صورها بهزاد في مخطوط آخر لنظامي محفوظ بالمتحف البريطاني
وبقى بهرام جور في الحيرة إلى أن مات يزدجرد، وأزمع أعيان الفرس ألا يولوا من أولاده أحداً لما نالهم من ظلمه وجوره، وأجلسوا على العرش رجلاً من بينهم يدعى خسرو؛ فأيد النعمان وابنه المذر بهرام جور وأمداه بالجند، حتى أرغم الكارهين على تمليكه. واتفق معهم على أن يضعوا التاج بين أسدين جائعين؛ فإذا انتشله من بينهما كان له ملك إيران، وقد كان ذلك وقتل بهرام جور الأسدين ولبس التاج؛ فكان خسرو أول من هنأه بالعرش
ولما كان بهرام جور في الحيرة تجول ذات مرة في أنحاء قصر الخورنق، ووجد قاعة مغلقة لم يدخلها من قبل، فطلب مفتاح بابها ودخلها فإذا به يرى سبع صور، لسبع أميرات، هن بنات ملوك الأقاليم السبعة، وكن آيات من آيات الجمال، فسار يلتفت للواحدة بعد الأخرى ويبتسم لها، وفي غرور الرجل القوي المعتد بنفسه، يظن أن ابتسامته حازت قبولاً لديها، وأنها تومئ إليه إشارة إلى ذلك، وما جاء إلى الأخيرة حتى افتتن بهن جميعاً وتملك قلبه حبهن؛ فأغلق الباب وأخذ المفتاح معه، وصار يخرج للصيد ثم يعود فيدخل هذه القاعة ليناجي حبيباته السبع، وقد هام بهن هياماً شديداً
وفي (شكل 4) ترى بهرام جور في الركن الأيسر إلى الأمام ينظر إلى الصور السبع في قاعة بقصر الخورنق. وهذه الصورة في مخطوط لنظامي كتب في شيراز ومؤرخ سنة 813 هجرية ومحفوظ في مجموعة جلبنكيان
ولما تولى ملك إيران، واستتبت له الحال، أرسل الرسل إلى الملوك السبعة يطلب من كل منهم يد ابنته، وكان أن تم له ذلك فجئن إليه مع الكثير من الهدايا والتحف وتزوجهن جميعاً، فأتاه معمار يسمى (شيدا) وعرض عليه أن يبني له قصراً ذا سبع قباب، ويفرش كل قبة بلون خاص بها، ويرصعها بأحجار كريمة من لونها، فقبل ذلك وبنى شيدا القصر، وصار بهرام جور يقضي كل يوم من أيام الأسبوع في قبة مع إحدى الأميرات؛ فيوم(450/22)
السبت في القبة السوداء مع الأميرة الهندية، ويوم الأحد في القبة الصفراء مع الأميرة المغربية، ويوم الاثنين في القبة الفضية مع الأميرة التترية، ويوم الثلاثاء في القبة الحمراء مع الأميرة الصقلبية، ويوم الأربعاء في القبة الزرقاء مع الأميرة الخوارزمية، ويوم الخميس في القبة ذات لون الخشب الصندل مع الأميرة الصينية، ويوم الجمعة في القبة البيضاء مع الأميرة الرومية. وكان إذا ذهب إلى إحداهن لبس ثوباً من لون القبة إكراماً لها
وفي شكل (5) يجلس بهرام جور في القبة الصفراء مع الأميرة المغربية. وهذه الصورة في مخطوط لنظامي محفوظ في متحف المتروبوليتان بنيويورك، كتب في هرات ومؤرخ سنة 931 هجرية وهي من تصوير محمود مذهب أحد الفنانين الذين انتقلوا من هرات بعد أن هاجمها الأتابك في سنة 942 هجرية وهاجر إلى بخارى عاصمة الأسرة الشيبانية في ذلك الوقت
يقول الشاعر نظامي الكنجوي إنه كان لبهرام جور جارية من التركستان الصينية، جميلة كالبدر، اسمها (فتنة) بها ألف نوع من المغريات، لها وجه صبوح كالربيع المبكر في جنات عدن. أو هي - على حد قول الشاعر نظامي - قطعة من حلوى العسل مدهونة بالزيت، أو صحن من الفالوذج، أو كليهما معاً، فهي سمينة وحلوة. ولم تكن جميلة فقط، بل كانت تجيد الغناء والعزف على الجنك والرقص. وقد اعتاد بهرام جور أن يصطحب جاريته فتنة كلما خرج للصيد. وفي ذات يوم خرجا معاً فقابلا قطيعاً من الغزلان، فأصاب منها عدداً كبيراً. كل ذلك والجارية تحتال بكل ما أوتيت من أنواع الإغراء والدلال أن تكبح نفسها من أن تعطيه ما يستحق من الإطراء والمديح. صبر الملك برهة إلى أن مر غزال عن بعد، فالتفت إليها وقال لها ألا أيتها التترية ذات العينين الضيقتين، لم لا تفتحين عينيك لتري ما أصيد؛ هاهو ذا غزال آت فأخبريني أي جزء من جسمه أصيب؟ فالتفتت إليه الجارية بشفتيها الجميلتين في حركة طبيعية - وقد كانت امرأة بكل معاني الكلمة - وقالت: اعمل عملاً يشرفك: سمّر حافر هذا الغزال في أذنه بسهم واحد وقد فعل بهرام جور ذلك، فأخذ حصاة وأطلقها على أذن الغزال فرفع المسكين حافره ليحك أذنه، وفي ذات اللحظة أطلق الملك سهماً سمر به الحافر والأذن إلى رأس الغزال، فسقط هذا على الأرض. والتفت الملك إلى الفتاة التترية وقال: لقد نجحت فماذا ترين في ذلك؟ فقالت: لقد اعتاد الملك عمل(450/23)
ذلك فأجاده، وأصبح عمله لا يتطلب منه أية قوة خارقة. فاغتاظ الملك لهذه الإجابة، وأمر ضابطاً أن يقتل الفتاة، فأخذها الضابط إلى منزله لينفذ فيها أمره. ولكن الفتاة نظرت إليه بعينين دامعتين متوسلة وأفلحت في أن تقنعه بأن يبقي على حياتها، واتفقا على أن تعمل في منزله كخادمة حتى لا تثير الشبهات. وكان في أعلى المنزل منظرة عالية تصعد إليها ستون درجة، وقد اعتادت الفتاة كل يوم أن تحمل عجلة صغيرة ولدت حديثاً وتصعد بها الستين درجة إلى المنظرة، فكانت قوتها تنمو تدريجياً بما يتناسب مع نمو العجل، إلى أن صارت بعد ست سنوات بقرة كاملة النمو دون أن تجد مشقة في حملها. وذات مساء أعطت الفتاة الضابط بعض لآلئها، وطلبت منه أن يهيئ بثمنها مأدبة فاخرة ينتهز فرصة مرور الملك للصيد ويدعوه إليها. فعمل الضابط ذلك، وجاء الملك إلى المأدبة وجلس في المنظرة، فصعدت الفتاة تحمل البقرة على كتفها لتحلب لهم من لبنها أثناء الطعام، فنظر إليه الملك وقال: لقد تعودت حملها، فأنت الآن لا تحتاجين إلى قوة خارقة لعمل ذلك. فقالت له الفتاة: وهل كان الغزال يحتاج إلى قوة خارقة؟ فعرفها الملك وقام إليها فرفع نقابها واحتضنها، ولم يفصلهما بعد ذلك سوى الموت
وفي شكل (6) بهرام جور على جواد في الوسط وقد أطلق سهماً أصاب غزالاً أمامه فسمر حافره بأذنه. وإلى يسار بهرام جور نرى (فتنة) على جواد وفي يدها الجنك. وهذه الصورة من مخطوط نظامي للشاه طهماسب السالف الذكر، صورها مظفر على أحد تلاميذ بهزاد
وفي شكل (7) صينية من الفضة المذهبة عليها رسم بهرام جور يصطاد الغزال وهو جالس على هجين يرتدف جاريته المغنية وهذه الصينية من عصر الانتقال من الفن الساساني إلى الإسلامي. وهي محفوظة في متحف الإرميتاج بالروسيا
وفي شكل (8) صحن من الخزف من صناعة قاشان في القرن السادس الهجري (12 الميلادي) مرسوم بالألوان فوق الدهان، به صورة بهرام جور وقد أصاب الغزال فسمر حافره بأذنه بسهم واحد، وهو راكب على هجين ويرتدف جاريته المغنية ممسكة بالجنك، وقد تتبع الفنان في رسمه قصة بهرام جور والجارية كما نظمها الفردوسي في الشاهنامة وهي تنتهي بأن يغتاظ بهرام جور من إجابتها فيلقيها على الأرض ويطأها بالهجين إلى أن تموت ونرى في هذه الصورة أن الفنان لم ينس تصوير الجارية وهي على الأرض(450/24)
والهجين يطأ صدرها، وقد كان لبهرام جور - كما وصفه الفردوسي - (هجين مسرج بسرج مغطى بالديباج له أربعة ركب: ركابان من الذهب وركابان من الفضة، فيركبه ويرتدف الجارية وفي حجرها الجنك). أما في قصة الشاعر نظامي فيركب كل منهما جواداً كما رأينا ذلك في الصور السابقة
وفي شكل (9) تربيعة من القاشاني عليها رسم بهرام جور على العجين يرتدف فتاته المغنية وهي من القرن السابع الهجري (13 الميلادي) ومحفوظة بدار الآثار العربية برقم 11590
قال الشاعر نظامي الكنجوي إن الملك بهرام جور ذات يوم للصيد، فشاء حظه العاثر - وهو ذلك الفارس البارع والصياد الماهر - أن يسقط في بئر صادفته في طريقه فيغرق فيها، ولم يعد إلى حبيبته، لا ولا إلى زوجاته السبع، في القصر ذي السبع قباب. (وكذا كانت الأيام وكذا تكون، فلا يكن منك إليها سكون ولا ركون)
(حلوان)
محمد مصطفى(450/25)
سيدي رسول الله
الأستاذ شكري فيصل
يا سيدي الرسول:
أتراني أملك منك النجوى، وأستطيع إليك البث، وابلغ من ذلك السبيل، وأنا غائب في فيض من روعتك، ذاهل في فضاء من جلالك، فإن فيّ دنيا من قدسيتك. . . أذكر دعوتك الكريمة. . . فأنساق في جمالها المشرق. . . منذ بدأتها فتى تأنف نفسه الجهل، وتعاف بصيرته التقليد، ويحس في قراءته همسات من النور، وقبسات من الحق. . . حتى أختارك الله داعياً لا يهاب، ورسولاً لا يجبن، وقائداً لا يضعف. . . واتسقُ في ذلك التاريخ. . . يغمرني ألقه الندي، وتتولاني بهجته الطروب؛ وتطالعني فيه العزمات التي لم يفل منها عدد، ولم تقو عليها عدد، ولم يبلغ إليها هدوء أو خور. . .
إن المشاعر لتختلط عليَّ. . . وإنَّ الروعة لتملأ مني كل ثنايا النفس. . . وإني لأحس الرعدة التي تكاد تصرفني عن الحديث، وتقعد بي عنه، وتغمرني بالنشوة الحالمة، فأصفو معها وأرق. . . وأخف معها وأدق. . . وأمتزج بها امتزاج الفناء. . . حتى لا أعي مكاني من الدنيا، ولا موضعي من الغرفة، ولا جواري من الناس.
يا لجلال دعوتك، يا سيدي الرسول. . . إني لأحاول أن أحدق في مشاهدها، وأجول في ثناياها، وأقف عند تفاصيلها، فإذا هذا الجلال المهيب يحول بيني وبين أن أكون من هذه المعجزة القدسية، كما نكون من أحداث التاريخ، ووقائع الأيام، نقبل عليها بالدرس، ونمضي بها في التحليل، ونفصل منها الأجزاء، ونركب عليها النتائج، ونخرج بعد وقد أدركنا منها كل ما خالطها من مؤثرات، ومازجها من عوامل، وما انكشفت عنه من اثر. . . وإذا هذا الكمال الرهيب يطغى على كياني كله، ليسكب عليه ألواناً من الروعة: أخاذة ساحرة. . . تهتز معها المشاعر اهتزازة الانفعال اللذيذ العميق. . .
هاهنا في دعوتك. . . يا سيدي الرسول. . . عالم متسق من الحق البين، والهدى الواضح، ومن السنن القويم والخلق الكريم، ومن العزمات الأبية والرجولة القوية، ومن الخير المتدفق والفضل العميم. . . ومن الجمال الذي ينساب في ذلك كله، فيفيض عليه الرداء، ويشيع فيه البهاء، ويجعل منه الحادث الفذ(450/26)
أين تقف عيناي من دعوتك الكريمة يا سيدي رسول الله. . . إنهما لتتقلبان في مدى واسع الفضاء، فسيح الأرجاء، بعيد الأطراف. . . وإنهما لتزوغان وتضلان. . . وإن إحداهما لتظلم الأخرى حين تحاول أن تقف بها عند حادث من الحادثات التي يملوها ذكرك الرطب، أو في مرحلة من المراحل التي يغشاها خيالك الندى. . . وإني لأحاول أن استقر في هذه المشاهد التي تتنازعني. . . فما أسرع ما تنتابني السنون. . . وتنثال من أمامي صور كلها كريم. . . عزيز. . . نادر. . . وتنبعث في ذهني لوحات كلها قوى. . . أبي. . . جريء. . . فأحار أين أبدؤ منها، وأين أنتهي فيها، وكيف أستقر عند واحد منها. . . وأتيه بينها. . . كما يتيه الإنسان في النغم الخالد: لا يستطيع أن يفصل أجزاءه، أو يمايز بين مقاطعة، أو يدري سرَّ الخلود فيه. . . لأن الخلود قائم في كل نغماته، منساب في كل ضرباته. . .
فاغفر لي يا سيدي رسول الله. . هذه الجرأة: أن أرتفع ببصري الكليل لأدرك البصيرة المتقدة. . . أن أفتح عينيَّ الضعيفتين لأصوّبهما إلى الشمس. . . فلن أملك بعد إلا أن أغمضهما على الإكبار الذي يخالط الشغاف، والإجلال الذي يستقر في الحنايا. . . والحب الذي يطأطِي مني ما لم يطأطأ لإنسان. . .
وسأظل أسير في ركابك يا سيدي الرسول. . . خافض الرأس. . . لأن مهابتك أجل من أن تمتد إليها عيون أو ترتفع إليها نواظر. . . وسأعيش في ظلالك الرحيبة تملؤني فكرتك، وتبهرني دعوتك، ويمضي بي هديك. . . وسأهيم في هذا الهدى، وسأنطلق في أرجاء هذه الدعوة. . . نفساً سئمت كل ما يحيط بها من عوائق، وما يحدها من علائق، وما يربطها من قيود. . . وروحاً مستها أنوارك فألهبتها، وصهرتها، ونقّت جوهرها. . . فعاشت بعد أملاً واسعاً، ورجاءً عريضاً، وشوقاً محرقاً. . .
وستستغفر يا سيدي الرسول. . . لي. . . ولهؤلاء الذين ضلوا من قبل، وسيضلون من بعد. . . هؤلاء الذين فتنتهم المادة، واستهواهم العقل، وزاغت بهم المناهج في بيداء قاحلة مجدبة. . . فعرضوا الذهب على النار كما يعرضون عليها الحديد والتراب. . . فاستبان لهم الهدى، وأنكشف لهم الحق، وظهرت لهم السبيل النيرة فدخلوا جنتك الممرعة. . .
. . . إنها يا سيدي رسول الله إغفاءة الروح التي استيقظت معها المادة، وصدأ النفس الذي(450/27)
فاقت عليه الغريزة، وخبو الإشراق الذي سعى في ظلمته العقل، وكبر الحدس الذي نشط في خموده الذهن. . . وضلال الأهواء العاتية الذي فترت معه الأحاسيس. . فإذا رؤى الجمال، ومعاني الحق، ومثل الخير لا تنبجس في النفوس إشراقاً، ولا تنبعث في العقول إلهاباً، ولا تلقي في الروع إلقاء. . . وإنما هي في حاجة إلى المقدمات والحجج، وفي ضرورة إلى البيان والشرح!!
لشد ما أبغض أن ألقي جمال الزهرة في تشريح أجزائها ومعرفة أعضائها وتمزيق أوراقها وبتر سوقها، والهبوط بها من عرشها الزاهي. . .! إني لأفضل أن أترك هذا الأسلوب لطائفة غيري من الناس واسأل لهم منه العافية. . . فما يجب لنا أن ننشد جمال الزهرة في غير عرشها الزاهي، وتوردها الملهم، وساقها القائمة، وانحناءتها الحييَّة، وتفتحها بيد الله. . . لا بيد الإنسان!
فلْتعش سيرتك يا سيدي يا رسول الله. . . انفعالاً حلواً، وعاطفة لذيذة. . . وهيجاناً يذكر بآيات الله، ويقرب إليه، ويدنى منه. . . ولتبق هذه السيرة الكريمة فكرة ومثلاً. . . فكرة سامية نبيلة، ومثلاً عالياً كريماً. . . ولتخفق نفوسنا من حول هذه الفكرة، ولتحوم في ثنايا هذا المثل كما يحوم الحجيج حول البيت المقدس. . . في خشوع الإيمان القوي، وروعة الجلال المهيب، وإطراقة المستغرق الذاهل. . . ولتنطلق. . . وقد انعتقنا من هذه القيود، وبرئينا من هذه الأغلال، وتجردنا عن أوضار المادة وآثام العقل. . لنغتسل في أضوائك الطهور ونتمسح بهديك الرشيد، ونستقي أمواهك الألقة. . . ولنغب في دنياك البريئة عبرْ الفضاء البعيد البعيد. . . أرواحاً صافية صفاء النسيم، نقية نقاء السماء، خالصة خلوص الشعاع. . . لنلتقي في ظلال الروح الأعلى. . .
سأعب من كوثرك الخالد - يا سيدي يا رسول الله - فأنا ظمآن حرَّان. . . وسأقطف من جناتك المترعة، فأنا نهم شره، ولقد طال بي الظمأ، واشتد عليَ الجوع، وضل بي الركب في قافلة تظن الهداية وهي حيرى، وتدعي الهناءة وهي شقية، وتحسب الراحة وهي في عذاب غليظ، وتمضي على الشوك وينفر من جراحها الدم، فلا تدرك لذع الشوك وألم الدم. . . لأنها فقدت في الحياة النفسية أحفل عناصرها بالإحساس واشدها أثراً في التفكير وأقربها خطى من الخير. . . ولا تزال تزعم أنها في سند من جفاف العقل، وفي كفالة من(450/28)
صلابة المادة!
فاستغفر لي يا سيدي الرسول، إني إنسان لا يرى بعينيه ولكنه يحس ببصيرته. . . ولا ينطوي في عقله، ولكنه ينطوي معه في حدسه، ولا يتحجر مع المادة ولكنه يبلّها بعصارة من قلبه: يبعث فيها جانب الحياة، ويثير منها معنى الوجود، كما يبل الطبيب وجه المريض يدفع عنه غفلته، ويصرف عنه إغماءته. .
أدع لي. . . واستغفر لي. . . فما أحوجني يا سيدي يا رسول الله إلى الدعاء والاستغفار. . .!
(القاهرة)
شكري فيصل(450/29)
صورة من عنت الجاهلية
فرعون قريش
للأستاذ كامل محمود حبيب
(أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى، أرأيت إن كان على الهدى
أو أمر بالتقوى، أرأيت إن كذب وتولى، ألم يعلم بأن الله يرى،
كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة، فليدع
ناديه، سندع الزبانية، كلا لا تطعه وأسجد واقترب)
(قرآن كريم)
يا عجبا! إن الإنسان ليخلو إلى نفسه أحياناً - فينتضي ما يرائي به الناس، ويبدو عارياً عن كل شيء إلا ما اقترف من إثم أو ما اكتسب من خطيئة؛ فيحاسبها وتعاتبه، ويلومها وتؤنبه، ثم يخرج من هذا العراك النفساني وقد فاء وأناب. . . أما الفاجر الفظ فلا يرتدع ولا يتصونَّ، لأن الشر يتدفق في عروقه فيسيطر عليه فيسوَّل له أشياء ليست هي من الإنسانية ولا من الضمير ولا من العقل، ولأن الشيطان أتخذه ولياً فأضله عن سواء السبيل
الليل ساج ساكن والقمر يخفق في السماء يشع نوراً جميلاً يجذب القلب، والقوم منبثون في أرجاء المكان بالعدوة القصوى ليلة سبع عشرة من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة؛ وهم في حركة صامتة يتهيئون لأمر ذي بال قد شغلهم عن كل ما حولهم، لا تسمع إلا صليل الحديد وحنين الإبل، وإلا صهيل الخيل ونباح الكلاب، وإلا همسات فئة يتشاورون في أمر قد أهمهم. . . هذا وفرعون قريش أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة جالس وحده في ناحية وبين يديه درع له قد نثلها من جرابها فهو يَهْنئها. وعملت في نفسه الخلوة حين أخذ الناس يتسللون إلى مضاجعهم، فراحت خواطره تسبح بين ثنايا عمره الغابر. وأطرق فرعون قريش طويلاً فإذا آثامه وأوزاره منشورة أمام عينيه تسخر منه وتهزأ به، وإذا غده الأسود يرنو إليه عابساً مكفهراً وهو لا يدري ما وراء. إنه سيغدو على حرب حطبها رجال من قومه وعشيرته، هم أترابه ورفقاء صباه، وهم علية قومه وساداتهم.(450/30)
وتمثلت له أفكاره أشباحاً تضطرب في الفضاء اللانهائي تحجب عنه نور القمر البهيج، فانطوى يحدث نفسه حديث فلسفته الجديدة، فلسفة الشك والحيرة، قال:
(رُب يوم قضيت في أمن ودعة، ناعم البال مطمئن الخاطر؛ فما لهذا القمر يبدو كاسفاً حزيناً، وما لهذه الجبال تتراءى معفرة غبراء، ومالي أحس كأن أنفاس الليل الهادئة تهب قاسية لتصدع صدري في غير رحمة ولا شفقة! إن قلبي لتهده الوحشة وأنا بين أهلي. أفيكون هذا لأنني سأغدو على حرب قوم هم مني وأنا منهم؟ لقد صبئوا واعتدوا فحق عليهم عقاب
(يا ويلي! أفحقاً ما جاء به محمد؟
(تاالله إنه لأمر عظيم. لقد عرضنا عليه المال حتى يكون أكثرنا مالاً، والشرف والملك حتى يكون سيدنا ومليكنا، فأبى وتعفف وقال: ما بي ما تقولون. . . فماذا بقي من عَرضَ الدنيا يبتغيه ذو حاجة!
(وتسللت - مرة ومرة - في خفية وحذر أتسمع ما يقول وأرى رأيي فيه - وعندي أنه كان بيننا غلاماً حدثاً غير متهم في قول أو فعل، فغير جدير به أن يتقول علينا بعض الأقاويل بعد إذ بدأ الشيب في صدغيه - فألقيت كلاماً حلواً عذباً ليس بينه وبين قلب اللبيب من حجاب، فصبوت إليه وهفوت نحوه؛ غير أن عنتاً أصابني فقلت للأخنس بن شريق حين سألني رأيي: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا؛ حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه
(هذا هذا، يا قلبي!
(وتأججت نار الحسد والبغضاء في قلبي، فاندفعت أريد أن أقتله أو يقتله عصبة منا فما استطاع واحد أن يخلص إليه. يا لقلبي، كيف حيل بيني وبينه؟ لا ريب فهو قد سحرني أو أن خادماً من الجن أزعجني عنه
(كلا، كلا؛ فو الله ما هو بساحر!
(آه؛ لطالما سكنت إلى نفسي فما ودت إثماً قد قارفه، غير أن له رأياً هو جعلني أحمل له ضغناً، فانطلقت أشتط في السخرية منه، أسفه من حمله، وأضع من شرفه، وأعذب(450/31)
صحابته، وأفتنهم في دينهم، لا أرعوي ولا أستقر؛ ومضت الأيام وأنا احتدم احتداماً لا تهدأ لي ثورة ولا ينطفئ غل
(ماذا عساه يبتغي؟ لعمري إن أمر هذا الرجل لعجيب
(الله! نعم، الله!)
وصمت الرجل برهة من زمان يتأمل. . . ثم ثاب إلى نفسه يحدثها مرة أخرى:
(ثم. . . ثم ما اللات والعزى، وما مناة الثالثة الأخرى؟ أفليست بعض هذه الصخور المنثورة حوالي عاثت بها يد إنسان فصورتها آلهة تعبد؟ أفحقاً أن الله يسكنها فيدبر الأمر من ورائها على حين هي ذرات في هذا العالم اللانهائي لا حول لها ولا طول؟ يا لشد جهلي! أاسجد وأقوم واعبد وأقدم القرابين لمثل هذه الصخرة الواهية؟ وما إساف ونائلة؟ أفكانا غير رجل وامرأة أحدثا في الكعبة فمسخهما الله فاتخذناهما إلهين؟
(ليت شعري أين العقل والحكمة؟
(ليتني أستطيع أن أنزل عن كبريائي فأرجع بهذا الناس، فمالي بقتله من أرب، وأذر الرجل يناجي ربه ويعبده ويتهجد له ما شاء، وينشر دينه أنى شاء وكيف شاء! ليته يعبد آلهتنا فنعبد إلهه، ونرجع سيرتنا الأولى قبل أن تستيطر عليه هذه الأخيلة. . . ليتني وليته. . . ولكن؟
(ولكن أفننتظم تحت رايته وما هو بشيء؟ فو الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه فيكون له الشرف والملك علينا، ونكون نحن في دولته كبعض أراذلنا
(آه لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!)
وراح الرجل في ضمير الليل يحدث عقله حديث الفيلسوف قد ضربه الشك فلا يستطيع أن يرى الضلالة التي تردى فيها. وخشي الشيطان غب الأمر فصاح من أقصى الأفق صيحة صكت مسمعي الرجل فانتزعته من خواطره، ودوى صوت الشيطان يبدد أخيلته ويطم على ضميره ويناديه بأن ستكون لكم الغلبة فأفق من غرات الشك والتخاذل. غداً تهدأ الثائرة، وينطوي تاريخ هذا الرجل، وتكون أنت. . . أنت يا أبا الحكم السيد المطاع
وهب الرجل من مكانه يجر درعه، في هدأة الليل، صوب مضجعه وقد سكنت كل نأمة. . . ذهب إلى مضجعه لينام فألفى الشيطان هناك ينتظره ليحدثه حديث الكفر والفسوق حتى(450/32)
مطلع الشمس
وفي الصباح دفعه الشيطان إلى الحومة ليلقى - أول ما يلقى - معاذ بن عمرو بن الجموح فضربه ضربة أطنَّتْ قدمه بنصف ساقه فسقط رأس الكفر يتضرج في دمه، ونظر فإذا الأرض من حوله خلاء إلا من الشيطان يعبث به ويسخر من آلهته، ويقول له: إني بريء منك ومما تعبد من دون الله. وتدفقت الحسرات في قلب الفاسق تأكله فما أنقذه منها إلا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فاحتز رأسه وحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو فرعون قريش أبو جهل - لعنه الله - إلى مثوى الكافرين. هوى إلى غضب الله يوم بدر. . . يوم النصر. . . يوم سطع أول شعاع أخاذ من نور النبوة على جزيرة العرب
(المحلة الكبرى الثانوية)
كامل محمود حبيب(450/33)
القائد الشاب. . .
للأستاذ أحمد فتحي مرسي
(لقد بلغني أن قوماً يقولون في إمارة (أسامة) ولعمري لئن
قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه
لخليقاً بالأمارة وإنه لخليق لها.)
(حديث شريف)
جرى على شفاه القوم في المدينة في ضحوة ذلك اليوم من ربيع السنة الحادية عشرة للهجرة أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أمر بالعدة لغزو الروم وأَمرَّ على الجيش (أسامة بن زيد بن حارثة)
ووقع هذا الخبر من الناس موقعين: وقع من نفس قوم موقع العجب والدهشة، ووقع من نفس أقوام موقع التجِلَّةِ والطاعة. وكان الناس في المدينة بين هؤلاء وأولئك. . . فأما الأولون فقد عجبوا كيف يؤمَّر على جيش يضم صفوة المهاجرين والأنصار شاب حدَثٌ كأسامة لم يَعْدُ العشرين ربيعاً بعد، وكيف ينفرون للغزو وهم لم يعودوا من حجة البلاغ أو الوداع إلا من زمن قريب، ولم يستقر بهم المقام بعدُ في المدينة، حتى وقع في روع بعضهم أنهم سيحيون حياة دَعَة وهدوء، بعد أن نصر الله دينهم، ودخل الناس فيه أفواجاً، ودانت شبه الجزيرة جميعها لدعوة الرسول الجديد. فما بهم حاجة لغزو آخر بعد هذا الجهاد الواصب الطويل، وبعد أن أكمل الله لهم دينهم، وأتمَّ عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام ديناً
ثم إن الروم عدو لا يهون أمره، ولا تلين قناته، فقد قهر الفرس ولم يستطع العرب أن يقهروه، وهو حامي المسيحية، وإن به لشوقاً للقاء هؤلاء القوم الذين أجلو المسيحية عن أوكارها من شبه الجزيرة. . . وهم مازالوا يذكرون غزوة (مؤتة) وكيف خرج لهم الروم من مائة ألف، وكيف ذهبت هذه الغزوة بثلاثة من صفوة قواد المسلمين؛ ولولا مهارة رابعهم خالد بن الوليد في الانسحاب للحق بهم ولفتك الروم بالجيش، وإنهم ليذكرون أيضاً كيف تقاس الناس بعد خبر (مؤتة) عن لقاء الروم في تبوك، حتى قال بعض ضعاف النفوس للناس: لا تنفروا في الحر إلى تلك الأصقاع. فنزل قوله تعالى (وقالوا لا تَنْفِروا في(450/34)
الحرَّ قُلْ نارُ جَهَنمَ أَشَدَّ حَراَّ لَو كانوا يَفْقَهُون). . . وحتى ذهب البعض الآخر يتلمس الحجج الواهية ليأذن له النبي في البقاء كما فعل الجدُّ بن قيس حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟) فقال: (يا رسول الله أو تأذنْ لي ولا تَفتِنيَّ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من أحد أشدُّ عجباً بالنساء مني. وإنيَّ لأخشى إن رأيت بني الأصفر ألا اصبر) فأعرض عنه الرسول ونزلت فيه الآية (ومنهمْ منْ يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)
فعدوَّ تلك حاله وحال المسلمين معه، كيف يكون على رأس جيشه غلام حدث كاسامة، وكيف يعقد له اللواء في جيش يضم صفوة الأنصار، وشيوخ المهاجرين الأولين كابي بكر وعمر؟
تلك قصة القوم من ضعاف الإيمان فما خبر المؤمنين؟
لقد قال المؤمنون إن هذا أمر الرسول فعليهم طاعته. ألم يقل الله تعالى: (ومن يُطع الرسول فقد أطاع الله). ألم يقل عز وجل: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوَلَّهِ ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيراً). ثم إن الغزو جهاد في سبيل الله، وإن المرء لفائز فيه بأحد الحسنيين: الاستشهاد أو الظهور، وما أحدهما إلا خير عند الله من الآخر. . . صحيح إن أسامة شاب لم يعدُ العشرين ربيعاً، ولكن أليس الشباب أنفذ عزماً، وأنهض همه، وأبعث للحمية في النفوس؟. . . ألم يحن الوقت بعد ليحمل الشباب لواء هذا الدين الجديد، وينهض بأمره، ويشترك في تحمل تبعاته الجسام؟ ثم أليس أسامة من خيرة شباب الإسلام: أليس أبوه زيد بن حارثة مولى رسول الله صاحب ثقته، وثاني من آمن به من الرجال بعد علي بن أبي طالب، وأول من استشهد في غزو الروم في مؤتة وبين يديه لواء الإسلام؟ أليس أسامة من استشاره النبي في حديث الإفك عن عائشة وهو صبي صغير؟ إن المسلمين ما زالوا يذكرون يوم دعاه النبي ودعا معه علي بن أبي طالب إلى منزل أبي بكر ليستشيرهما في أمر عائشة وصفوان، وقد استفاض حديث الناس وكثر القول. فأما أسامة فقد قضى أن حديث إفك وبهتان عظيم. وأما عليّ فقد قضى قائلاً: إن النساء لكثير غيرها. وأما الوحي فقد قضى بما قضى به أسامة: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم)(450/35)
أليس أسامة بعد هذا كله حقيقاً بهذه الثقة الغالية؟ إذن فليمض على بركة الله، ولينتقم لأبيه الشهيد، وليضرب للشباب مثلاً يخلد على الدهر
ودعا النبي أسامة فعقد له اللواء وأوصاه أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم في أرض فلسطين على مقربة من (مُؤتْة) حيث قتل أبوه، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عَمَايَة الصبح، وأن يمعن فيهم قتلاً، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتم ذلك دَراكاً حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه، واستوصاه بالنساء والأطفال خيراً، وأمر بأن يخرج إلى الجرف - على مقربة من المدينة - حتى يتم جهاز الجيش. . . وخرج أسامة فضرب لواءه بالجرف، وأقام في انتظار أمر الله وأمر الرسول
وإن أسامة لفي ارتقاب أمر المسير، وإن الجيش لفي جهازه وعدته، وإن الناس لفي حديثهم عن إمرة أسامة على شيوخ الإسلام، إذ مرض الرسول عليه الصلاة والسلام مرضه الأخير بعد جهادين طويلين في سبيل الله: جهاد الروح في الرسالة، وجهاد الجسم في الغزوات والحروب. واشتد به المرض حتى لم يقو على مجالسة أصحابه. . . ولكن يشاء الله أن تبلغ همسات الناس في أسامة آذان ذلك الراقد على فراش مرضه، الذي برحت به الحمى حتى عاد يشعر كأن به منها لهباً، يشاء الله أن يبلغ أذنيه أن الناس يقولون إنه أمَّرَ على جُلَّة المهاجرين والأنصار غلاماً حدثاً. فيعز عليه ذلك ويخشى أن تقع الفتنة في الناس، فيطلب إلى أهل بيته أن يُرِيقوا عليه سبع قرب من آبار شتى حتى يذهب الماء ببعض حرارة الحمة. ثم يعصب رأسه ويتحامل على نفسه ويتساند حتى يبلغ المسجد، فيجلس على المنبر فيحمد الله ويصلي على أصحاب أحد ثم يقول:
(لقد بلغني أن قوماً في إمارة أسامة، ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله - وإن كان أبوه لخليق بالإمارة - وإنه لخليق لها فأنفذوا بعث أسامة) ثم يقول: (أن عبداً من عباده خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله). . . ويدرك أبو بكر والناس ما بهذه العبارة من إيماء فيتأثر الناس ويبكي أبو بكر. . .
ويثقل المرض على المريض بعد ذلك الماء الذي صُبَّ عليه وهو في لهب الحمى، وبعد ذلك الجهد الذي بذله في خطاب الناس فيأمر آبا بكر أن يصلي بالناس، ولا يلبث أياماً حتى يسلم أنفاسه الطاهرة في حجر عائشة وهو يقول هامساً: (بل الرفيق الأعلى من الجنة)(450/36)
ويبلغ نعي رسول الله أسامة بالجرف، فيهبط وجيشه إلى المدينة ويركز لواءه بباب عائشة. . . ثم تتعاقب الأحداث، ويلي أبو بكر الخلافة، ويعود الناس إلى حديثهم عن إمرة أسامة. . . لقد مات الرسول فما ضرهم لو عاودوا الأمر على أبي بكر لعله يلين حيث صَلُبَ النبيَّ، ويولي أمرهم رجلاً أقدم سناً
ويجتمع الأنصار ويحملون رسالتهم عمر بن الخطاب ويقولون له: (أطلب إلى خليفة المسلمين أن يولّيَ أمرنا رجلاً اقدم سناً من أسامة). ولعل عمر كان يجاريهم هذا الرأي. لعله كان يشق عليه وهو الذي قدمه أبو بكر للخلافة بعد رسول الله في اجتماع السقيفة أن يتأمَّر عليه شاب حدث لم يكن له مثل جهاده في الدين. لعل ذلك جال في ذهن عمر لأنه سارع يحمل الرسالة إلى أبي بكر
ويصل عمر بالرسالة ويبلغها أبا بكر فيغضب أبو بكر ويقول: - (ثكلتك أمك يا أبن الخطاب. . . استأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمر أن أنزعه. . .) ثم يقوم الخليفة الشيخ ويأمر بإنفاذ الجيش، ويخرج يستنهض الناس، حتى إذا تم جهاز الجيش سار يشيعه وهو ماش وأسامة راكب. فيعز على أسامة أن يسير خليفة المسلمين - وهو إذ ذاك شيخ في الستين - وهو راكب إلى جواره فيقول له: (يا خليفة رسول الله والله لتركبن أو لأنزلن). فيرد أبو بكر: (والله لا تنزل ووالله لا اركب، وما عليَّ إلا أن أغبرَّ قدميَّ في سبيل الله ساعة فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة معصية ترفع عنه)
ويخرج الجيش إلى الصحراء، وهنالك يدعو له أبو بكر ويطلب إلى إسامة أن يأذن لعمر في البقاء ليشير عليه فيأذن أسامة ويسير الجيش على بركة الله ورعايته
تُرى هل يحقق أسامة ثقة النبي به؟ ترى هل يفلح حيث أخفق أبوه وثلاثة من خيرة قواد المسلمين؟ ترى هل يقهر عدواً لم يقهره أحد من أهل زمانه؟ ترى هل يقطع ألسنة المجادلين المكابرين القليلي الثقة به وبالشباب؟ ترى هل يرفع رأس شباب الإسلام، ويمهد له الاضطلاع بما يثقل من الأعباء؟
تعاقبت شهور وأيام. . .
فمن ذلك العائد إلى المدينة يتخطَّر على ظهر جواده؟ ولمن هذا الجيش المقبل وقد عقد من(450/37)
خلفه النقع وأثار رمال الصحراء؟ ولمن هذه الوجه المتهللة المزْهُوَّة بالنصر؟
إنه لأسامة، وإنه لجيشه. . .
لقد فاز وسلم وغنم. . .
رحمك الله يا أسامة، وطيب ثراك، وخلّد ذكراك، فقد حققت ثقة النبي في وقت ضعفت فيه الثقة بك، وقهرت عدواً للإسلام عزَّ على غيرك قهره، وضربت لشباب اليوم مثلاً من شباب الأمس
أحمد فتحي مرسي
المحامي(450/38)
عزاء من الله. . .
للأديب لبيب السعيد
علم رسول الله بالنّازلة الجليلة، فغشيه من الحزن ما لم يستطع ردّه، وشاع في نفسه الهمّ الشديد حتى ليبدو للعيان في صفحة وجهه الوضاء.
إن بينه وبين فقيد اليوم قربة الروح والدين فوق قرابة الدم. . . فالفقيد هو جعفر بن أبي طالب أحد (الرّفقاء النجباء) الذين يعتز بهم ويشيد بفضلهم؛ وفي سبيل دعوته الناشئة آثر الاغتراب في البلد النازح على الإذعان لأعداء الدعوة في أرض الوطن، فتحمل بزوجه إلى الحبشة، حيث جعل الله على يديه إسلام عاهلها ومن تبعه. والفقيد من أبرّ الناس بالمسلمين، و (أبو المساكين) كما هو يكنيه؛ وهو أحرص الناس على الأخذ بأخلاقه حتى ليبدو أشبه الناس به خُلُقاً إلى كونة أشبههم به خَلْقاً.
وهو بعدُ ابن عمّه. . .
لقد كانت أوبةُ جعفر من مُهَاجره قريبة العهد، فما انقضى عليها غير عام وأربعة أشهر. ولقد آب يوم فتح الله على رسوله والمؤمنين حصون (خيبر) بعد عراك وجهد، فكان الرّسول صلى الله عليه وسلم في غمرة الأفراح يقبّله بين عينيه، ويلتزمه، ويقول: (ما أدري أيّهما أنا اسّر؟ بفتح خيبر أنم بقدوم جعفر؟) ويقول له كذلك: (أشبهتني خُلُقاً وخَلْقاً) فكانت نشوة الفرح والاعتزاز بهذه العواطف وهذه التشريف تأخذ جعفراً حتى ليرقص من فرط الطرّب والسّعادة.
فوا أسفا! أأقبل حعفر ليدبر؟ أتحقّقت لقلب الرسول رجيّته ليثكلها بعد حين قليل؟ يا رحمتاه لهذا القلب!!
ولقد كان جعفر أمس القريب حين خرج مع السّريّة يكلم رسول الله في ألا يقدَّم عليه زيد بن حارثة، لا إيثاراً لنفسه على زيد، ولكن رجاوة السّبق إلى لقاء المكاره في سبيل دينه. . . واستصغاراً للنّصيب الذي فرض له من أعباء الجهاد؛ ورغبة حارة في أحسن بلاء يتاح لمسلم.
فأين أمس، حين النبيّ يجيبه: (أمض، فأنك لا تدري أي ذلك خير)، وحين النبي في توديعه هو والجيش، وحين المسلمون ينظرون إليه وإلى الغُزاة نظرة الأمل، ويدعون لهم أطيب(450/39)
الدعاء؟
أين أمس؟. . . لقد كان آخر العهد وفرقة الدهر!!
وجعفر تخطّفه الموت وهو يطاحن مع ثلاثة آلاف من إخوانه المسلمين مأتي ألف جمّعها (هرقل) وزودها بما استطاع من عدّة. . .
ولم يلق جعفر حتفه كما يتَّفق، بل لقيه على نحو سيظل في القرون والأجيال آية مثالية باهرةً، وذكرى مروَّيةً لن تبيد. . .
كان زيد بن حارثة يقاتل براية رسول الله عليه الصلوات (حتى شاط في رماح القوم) فتلقف جعفر الراية، وانطلق يقاتل بها قتال المتشوق لإحدى الحسنيَيْن، حتى إذا ما ألجمه القتال اقتحم عن فرسه، فعقرها، كيلا ينتفع بها العدو، وما برح يقاتل - كما أوصى الرسول يوم هيأهم للخروج - (باسم الله في سبيل الله من كفر بالله)، ولواء النبي الأبيض في يمينه تباهي به ويباهي بها. . . حتى جاءته ضربة أطاحت بهذه اليمين. . .
وكان طَبَيعياً لمن فقد يمينه أن يسُلَّم الراية لغيره - إن قدر على حفظها - ويتخلف بعض الوقت لينظر أمره. . . ولكن جعفراً الذي أعار الله حياته، والذي لا يعرف شيئاً يمنعه عن المضيء في شرف الجهاد، والذي لا يمكن أن يذل في قراع النوائب خذ اللواء الكريم بشماله، وما أنفك يصاول العدو أروع الصيَّال مرتجزاً:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيّبة وباردٌ شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إذ لاقيتها ضِرابها
حتى جاءته ضربة أخرى أطاحت بيساره. . .
أخمدَت لجعفر الصيَّب المنقطع ذراعاه همة؟ أو فُلَّت له عزمة؟ كلا! فهو لم يدع اللواء العزيز المزهوّ يسقط أو يخزى وإنما احتضنه بعضديه، منشوراً لاُ يطوى، كريماً لا يهون، والطعان تتري على جعفر فلا يولّيها دبره، وإنما يتلقاها في استعذاب حتى لتبلغ جراحه بضعة وسبعين كلها فيما أقبل من بدنه. ولا يزال جعفر في المعمعة يهدر بنشيده القوى: (يا حبذا الجنة واقترابها) حتى تتحقق له الشهادة، إذ يجيئه رومي فيضربه ضربة تقطعه نصفين. . .(450/40)
وهنالك فقط يدع الراية لمسلم ثالث؟
هذا هو الفقيد. . .
وأتى الرسول صلوات الله عليه إلى بيت جعفر يتفقد يتامى تركهم من خلفه خُضراً كأفراخ القطا، ويعزي عن المصاب فيه شريكته المرزّأة: أسماء بنت عميس؛ وإنه ليطلب إليها أن تأتيه ببنيها، وهو يحبس عنها النبأ الفاجع، ويأخذ أطفالها فيشمهم، وينظر إليهم نظرة الأسى المرير. . . فيتمثل - إذ يراهم - وجه أبيهم الذي لقي حتفه في غرب شبابه، ويتمثل حلاوة أخلاقه وأن كان يداً قوية للمسلمين على عدوهم، وقلباً انطوت على حب الله ورسوله والإسلام لفائفه، وأترعت بالإيمان والإخلاص والعزم جوانبه، فتفيض عيناه الشريفتان رحمة وحناناً. . .
وأسماء تستوضحه: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله. . .! ما يبكيك؟)
وتصيح من هول ما تسمع. . . ويجتمع إليها النساء، فيعزيها الرسول في حنوٍ وعطف وينهاها: (يا أسماء! لا تقولي: هجرا، ولا تضربي خداً). . . ويتوجه إلى الله ضارعاً: (اللهم قدّمه إلى أحسن الثواب، وأخلفه في ذريته بأحسن ما خلقتَ أحداً من عبادك في ذريته!
كان خطب البيت النبوي في جعفر خطباً أحسوا له جميعاً لوعة متسعرة؛ وانظر كيف تدخل فاطمة على أبيها رسول الله وهي تبكي وتقول: (وأعمَّاه!). . . فيقول والأشجان ملء فؤاده: (على مثل جعفر فلتبك البواكي!!)
ويشاء الله برحمته أن يمسح بيده الآسية على قلب نبيه وآله، وأن يعزَّيهم عن فجيعتهم الحمراء عزاءً فذاًّ كمصابهم الفذ، فهذا الروحٍ الأمين ينزل على الرسول المحزون، فيبلغه أن الله قد عوض جعفراً عن ذراعيه بجناحين مضرجين بالدماء، يطير بهما مع الملائكة في الجنة. . .
يا بشرى!! وهل يبغي حبيب لحبيبه شيئاً وراء ذلك؟
ثم هذا النبي عليه الصلاة السلام يرفع مرة رأسه إلى السماء فيقول: (. . . وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!) فيقول الناس: (يا رسول الله! ما كنت تصنع هذا) فيجيبهم: (مرَّ بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلم عليَّ. . .)(450/41)
ندى هذا العزاء الإلهي الأكباد القريحة وصرف عنها الجزع ونِعم الأسى آسٍ من روح الله، ونعم العزاء عزاء بقدر البلاء!
(المنصورة)
لبيب السعدي(450/42)
العذاب!
للدكتور إبراهيم ناجي
أَلَمي مَحَا ذّنْبي إليك وَكَفَّرَا ... هَبْنِي أَسَأْتُ أَلَمْ يَحُنْ أَنْ تْغَفْرِاَ؟
رُوِحي مُمَزَّقَةٌ وَأَنْتَ تَرَكْتَها ... لِمخاَلِبِ الدُّنْيا وَأَنْيَابِ الوَرَى
رُوِحي مُمَزَّقةٌ وَلوْ أَدْرَكْتَها ... جَمَّعْتَ مِنْ أَشْلاَئها مَا بُعْثِرا
أَوَ لَيْسَ لَيِ في ظِلَّ عَطْفِكَ مَوْضعٌ ... أَحْبُو إليه وَأَرْتمي مُسْتَنصِرا
مَا كُنْتُ أَصْبِرُ عَنْ لِقاَئِكَ ساعةً ... كَيْفَ السَّبِيلُ إلى اصْطِبَاري أَشْهُرا؟
مَنْ بَدَّلَ الثَّغْرَ الَجْيِلَ عُبُوسةً؟ ... وَمضَى إلى وَجْهِ السَّمَاءِ فَغَيَّرا؟
يَا هَاتِهِ الأَقْدَارُ! يا كَفاً جَرَتْ ... عَسْرَاَء تمْنَعُ أُفْقَها أَنْ يُمْطِرَا
يَا هَاتِهِ الأقْدَارُ! عَينُكِ لاَ تَرَى ... خَلْفَ الدُّجَى سَأْمَانَ مُمْتَنِعَ الْكَرَى
ظَمْآنَ لَوْ باَعَ الأَحِبَّةَ قَطْرَةً ... بِالْعُمْرِ والدَّنْيا جَمِيعاً لاَشْتَرى
أَخْفَى جِرَاحَكِ وَاسْتَعَزَّ بِفَتْكِها ... غِرَّيدُكِ الشَّادِي الْمُحَلَّقُ في الذَّرَى
يَرْنَوُ إليك عَلَى البعَادِ فَيَعْتَليِ ... وَيَجُرهُ اُلْجْرحُ الْممِضُّ إلى الثَّرى
قَدْ عَاشَ وَهْوَ مُعذَّبٌ بإبَائهِ ... وَلَقدْ يُلاَقيِ حَتْفَهُ مٌسْتَكْبرا
حَتَّامَ كِتْماني وَطُولُ تَجَلّدِي ... يَا أَيُّها الَجْاني عَلَيّ وَمَا دَرَى
وَمَتَى الْمَآبُ إلى رِحابِكَ سَاَعةً ... لأرِيكَ جُرْحي وَالدَّماء وَالخِنجَرا(450/43)
جنتي. . .
للآنسة الفاضلة دنانير
يا جَنَّةًَ لُذْتُ بأَفْياَئهاَ ... في غَفْوةٍ مِنْ غَفَواتِ الزَّمانْ
لماَّ تَطَوَّفْتُ بأَرْجَائها ... ألْتَمسُ الصَّفْوَ وَأَبغي الأَمَانْ
رَفَّتْ عَلَى قَلْبِي بأضْوَائها ... وَظَلَّلَتْهُ بالرضَى وَالَحْنَانْ
يَا قَلْبُ إِنْ تَكْفُرْ بآلاَئها ... فليسَ مَن حَقَّكَ سُكْنَى الجنانْ
آوِى إليها من جحيمِ العذابْ ... ضحى فتلقاني بوجهٍ طليقْ
وتُطفئُ النارَ بِبرد الشراب ... من سَلْسَلٍ عذبٍ شهيِّ الرحيق
كأْسِيَ من أوراقِ وَردٍ رطاب ... مكلَّلاتٍ بمذابِ العقيق
كم أنتشي بالنَّفَحات العِذاب ... منها فما أدري متى أستفيق
قلبي في ظِلَّكِ يا جنتي ... قد مَسَّهُ نورُ الهوى فاشتَعلْ
وكنتُ من قبلِكِ في وحشتي ... لا فَرَحٌ يُؤْنِسني أو جَذَل
أهيمُ لا أبصُر في حَيْرتي ... إلا ظلامَ اليأسِ يَغْشَى الأمل
حتى تجلّيْتِ على ظلمتي ... بالنورِ يُوحي بفنونِ الغزل
يا شِقْوَةَ النَّفس إذا ما انقضى ... عهدٌ ملئ بالهوى والفتُونْ
وباتَ عيشي فيكِ حلُماً مضى ... تَهيجُ لي ذِكْراهُ شَجْوَ الحنين
عيشٌ غضيرٌ، حافلٌ بالرَّضى ... يا حسْرة القلبِ له إذ يَبين
يا قلبُ من يمْحُو سطورَ القَضا ... ويَضْمَنُ المقدورَ ألاّ يكون
هيهاتَ هيهاتَ فلا بدَّ لي ... من ساعةٍ تصدعُ ما بيننا
خيالُها المفزعُ ما يأْتلي ... يُساوِرُ القلبَ هُنا أو هُنا
غداً، وَياَ وَيْلِي لما يَنجلي ... عنه غدٌ من مُوجِعاتِ الضَّنى
كيفِ نَجائي في غَدي المقبلِ ... من كأْسِ بيْنٍ قدْ أُعِدَّتْ لنا
أهواك أهواك وهذا دَمي ... أَوْغَلَ فيه حبُّكِ القاهرُ
كمذا تُراعُ النفس يا ملُهمي ... مما يُسِرُّ القدرُ الساَّخرُ
سأنْثَني عنك وقلبي ظمي ... يُلْهبِه حِرْمَانه السَّاعرُ(450/44)
واْسمك في الخاطرِ أو في الفَمِ ... بهِ يلَذُّ الفمُ والخاطرُ
يا ليتَ شعري ما حياةُ القلوبْ ... إن لَمْ يُطَهَّرْهَا جحيمُ الهوى
فَتَمَّحِي آثامُها والذُّنوب ... في لَهَبِ الوجدِ وحرَّ الجوى
ولم تَسِمْها من هَواها نُدُوب ... تَظَلُّ إنْ فَاتَ الصَّبَى وَانْطَوَى
تَنْكَأُ فيها ذكرياتٌ تَؤَوب ... من غابرٍ ماتَ وَمَاضٍ ثوَى
أخشَى وما أخشَى سوى عَوْدتي ... لوحشَتي في عزُلْتي النائيَةْ
فلا أرَى بعدك في وحدتي ... سوى صبابتي وآلاميَهْ
وأنت في شُغْلٍ وفي غَفْلَةِ ... عن ذمَّتي الحافظِةِ الوافية
من لي بكأس الموت يا فتنتي ... فهي شفائي يومِ تَنْسَانيَهْ
(فلسطين)
دنانير(450/45)
البريد الأدبي
قلوب تتناجى وأفكار تتلاقى
حفل عدد (الرسالة) الهجري الممتاز بخير ما تجود به أقلام الكتاب، وانفس ما تتمخض عنه قرائح المفكرين، فلاطتْ أحاديثه بكل قلب، وتغلغلت في كل ضمير؛ وأثارت في النفوس المؤمنة شعوراً قوياً من اليقين والأمل والثقة بمستقبل الإسلام وما ينتظره من خير على أيدي رجاله العاملين.
ونحن خليقون أن ننتفع من هذا الشعور، لا أن نكتفيَ بإدراكه وتسجيله؛ فهو الحافز الأقوى إلى التقدم، والسبب الأوثق إلى بلوغ الغاية، وهو أيضاً البشير الأصدق بأننا نسير على الجادة، ونمضي قدماً إلى ما عقدنا العزم عليه من النهوض بأنفسنا، وفي ظل هذا الدين الذي شرَّفنا الله به.
وإذا تجانسَ الشعور العام نحو أمرٍ ما، وتقاربت الأفكار حوله بل تلاقت؛ دل صحةٍ في النظر، وصدقٍ في الوسيلة، وشرفٍ في القصد والغاية. ولا أدلَّ على أن هذه حالنا اليوم، من ذلك الإحساس المتبادل الذي جاشت به قلوب كتابنا، ففاض على أسلات أقلامهم وحياً من الوحي، وآياً من الآي!. لقد هتفوا جميعاً بنداء واحد، ودعوا إلي كلمة سواء، هي أن نقف عند حدود شريعتنا فلا نعدوها، وأن نستغْنَي بقانونها عن كل قانون، ونادوا جميعاً أنظمة الغرب في حل مشاكل الحياة، وهداية البشر إلى طريق الخير والصلاح. . .
فعالج الأستاذ الجليل (صاحب الرسالة) مشكلة الفقر كمرض اجتماعيّ له خطورته؛ وبين ما طبَّ له به الإسلام من ضروب العلاج. ثم ذكر أن هذا العلاج (على إحاطته وبساطته ونجوعه ينهض وحده دليلاً على أفَن الذين يقولون إن دستور القرآن لا يأتلف مع المدنية، وشريعة نابليون أصلح للناس من شريعة الله، ونظام مَرْكس أجدى على العالم من نظام محمد)
وفي كلمة الإمام الأكبر الأستاذ المراغي ما نصه: (لا يزكو بأهل القِبلة أن يولوا وجوههم شطر المغرب يأخذون عنه من المذاهب والنظم والتقاليد ما أضل به أهله. إنما النور في الشرق مطلع الأديان، والهدى في شريعة الله مُنزل القرآن، والدليل في سنة الرسول صاحب الهجرة، والسبيل ما سلكه السلف الصالح فأوفي بهم على الغاية).(450/46)
وفي كلام الأستاذ محمد المدني ما يدخل تحت هذا المعنى؛ فقد تحدث عن الفقه وكيف ركدت ريحه، وعن الفقهاء وكيف غلّقوا أبواب الاجتهاد، حتى أعرض عنهم أهل التشريع وأصحاب النفوذ والسلطان، وانقطع ما بينهم وبين المجتمع من أسباب؛ ثم قال: (وكان من آثار ذلك أن ذلك أن دخلت التشريعات الأجنبية على بلاد المسلمين، فأصبحت دستور الحكم، وأساس الإدارة، وقانون القضاء، وعماد النظام في كل ناحية من نواحي الأعمال!)
والأستاذ محمد الغمراوي يحدثنا في (تأملاته) عن المدنية الغربية؛ وكيف جنى بعدها عن الدين؛ ويبين ضرورة الرجوع إلى مبادئ الإسلام والأخذ بشريعة ثم يقول: (أعجب عجباً بعد عجب من قوم. . . يتطلبون الحياة ممن ضل عن روحه ونوره، ويولون وجوههم وقلوبهم لا شطر المدينة الإسلامية التي أقامها الرسول بتطبيق كتاب الله فكانت مثلاً عملياً أعلى للإنسانية كلها، ولكن شطر المدنية الغربية التي ضلت عن ربها وعبدت المال والقوة والجاه فأداها هذا إلى التهلكة التي ترى والتي تحاول التخلص منها فلا تستطيع. . .)
هذا بعض ما نبضت به قلوب قادة الرأي فينا، وما تحركت بتسجيله أقلامهم؛ أفلا يحق لنا أن نطمئن ونستبشر، ونرجو من هذا الشعور المشترك خيراً؟؟
يقول أستاذنا المفتي الأكبر في حديثه المنشور بنفس العدد من الرسالة: (قد اتجهت أفكار المفكرين وآراء المصلحين إلى هذه الشريعة يلتمسون أن تكون نظام حياتهم، وأساس مدنيتهم فلا بد لنا إذن من العمل، ولا بد لنا من تلبية نداء الأمة، وإعداد أنفسنا لهذه المهمة السامية)
. . . وهذا كلام نؤمن عليه مغتبطين، وغاية نبيلة نرجو ألا يقف رجال الإسلام دون تحقيقها؛ والله يكلؤهم برعايته، ويمدهم بعونه وتوفيقه إنه نعم المستعان.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
إلى الدكتور عبد الوهاب عزام
الآن وقد وضعت آخر كتاب قرأته لكم: كتاب (رحلات) تجلت لي منكم خلال (عزامية)، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولمست فيكم تلك الروح الشرقية العربية الإسلامية بأجلى(450/47)
مظاهرها وأسمى حلاها؛ عرفت فيكم ذلك الأستاذ المثقف الذي لم تغره زخارف المدنية الأوربية ووقف عند كل (أثر) إسلامي يناجيه بروح رفاقه وقلب متوثب وعزيمة وقادة. أين موقفك عند مواطن (بغداد) و (الموصل) و (دمشق) و (طرسوس) وحتى (البحر الأبيض) جعلته مثاراً لذكرى الفاتحين المسلمين الأولين. ثم أين موقفك (عند قبر صلاح الدين) وأين كلماتك التي نفثها يراعك الأكرم ثم ختمت مناجاتك وأمانيك عند البيت الحرام والقبة الخضراء الشريفة. فيا لله من مواقف عظام وذكريات فيها الذكر والعبر كما حدثت
وبهذه المناسبة أتقدم إليكم لأستفسر منكم عن موقف من مواقف المتجادلين في هذا العصر، فبينا أخط هذا إذ وردت مجلة الرسالة (الغراء) وفيها فتوى (في مذاهب الصوفية) نقلها كاتب عن (الطرطوسي) وسجل فيها ما سجل من خزعبلات المتصوفة لا الصوفيين بحق؟ على أن هذا لا يعتبر شاهداً على صوفية أو متصوفة هذا الزمن. ومن مواقفك الحسان في كتاب (رحلات) أنك تركت إخوان (الخيام) لتزور ذلك الصوفي الذي لقيت في سبيل زيارته ما لقيت. على أني وإن لم أكن صوفياً بمعنى الكلمة أكره التجني وأعلم أن هناك أناساً مخلصين يذكرون الله جهراً في حلقات، ثم يتدارسون العلم على يد فقيه عالم فيلقون إليه قيادهم فيبصرهم بأمور دنياهم، ولم يكن هناك نقر على (الدفوف) ولا (جبي ضرائب) ولا (هيولة) معظمة ولا ولا الخ إنما يريدون اخوة في الله، والله لا يرضى عنهم إلا إن كانوا مجدين في عمل الدنيا، وما عليهم إلا (الاستغفار والصلوات على النبي صلوات الله عليه وتكرار اللفظ الأكرم (لا أله ألا الله) ويقولون لسنا إلا على الشرع. أرجو بيان هذا الموضوع ببيانك المعهود على صفحات الرسالة الغراء
إبراهيم السعيد محمد عجلان
الإسلام دين ومدنية
في العدد الممتاز وقع خطأ في عنوان مقالي فصار (الإسلام دينٌ لا دولة) والصواب (الإسلام دين ومدنية) كما ورد في الفهرس وكما ورد في الأصل قبل أن يصاب بذلك التحريف. وإنما اهتمت بتصحيح العنوان لأنه حين حُرف دلّ على معنىّ لا أرضاه للإسلام على الإطلاق، وإن ارتضاه بعض الباحثين(450/48)
وبعد فهل قرأتم في العدد الممتاز مقال الأستاذ الشيخ محمود شلتوت عن (شخصيات الرسول)
أقرءوا ذلك المقال مرة ثانية لتذكروا أنه متسم بالروح الذي كتبنا به مقالاً في أحد الأعداد الممتازة من الرسالة عن (النواحي الإنسانية في الرسول) وهو مقال سبّب لنا متاعب كثيرة وأستوجب أن تنوشنا المجلات الدينية في مدى يزيد على عامين بلا ترفق ولا استبقاء، مع أننا لم نقل غير الحق
واليوم يستطيع خصومنا أن يوجهوا خصومتهم إلى فضيلة الشيخ شلتوت إن أرادوا، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا فمن حقنا أن نرجوهم هم أن يتريثوا في الحكم على ضمائر الرجال قبل أن يسوقوا التهم الجوارح بلا بينة ولا برهان
هدانا الله وإياهم إلى ما يحبه ويرضاه
زكي مبارك
حول محاضرة الدكتور زكي مبارك
كنت من اشد الناس إعجاباً بهذه المحاضرة القيمة التي ألقاها الدكتور في دار اتحاد الشباب المسلمين بالقاهرة لأنها كانت تعالج موضوعاً خطيراً هو (اتجاهات مصر الأدبية وأثرها الضار أو النافع في مركز مصر في الشرق) إلا أن لي عليها ملاحظتين:
الأولى: أنه حينما ذكر أن مصر في سبيل تعزيز اللغة العربية، وتقوية العلاقات بينها وبين الأمم الشرقية، قد أنشأت قسماً داخلياً في مدرسة دار العلوم لإيواء طلبة الأمم الشرقية فسهَّلت لهم سبيل الثقافة والمعرفة، وهذا عمل مشكور لوزارة المعارف المصرية؛ ولكن أليس من الحق أن نقول أيضاً إن الجامعة الأزهرية قد أسهمت في هذا الموضوع وكان لها فيه القدح المعلي، وأكبر دليل على ذلك أنه لما فكر المرحوم الملك فؤاد الأول في إنشاء أبنية فخمة تضم كليات الجامعة الأزهرية، رأت إدارة الجامعة الأزهرية أن تجعل من بعض هذه العمارات مساكن لطلبة الأمم الشرقية موفورا فيها كل أسباب الراحة؛ وقد جعلت في كل قسم مكتبة علمية لتزويدهم بمختلف الثقافات والمعارف. هذا ما عدا ما في الجامع الأزهر، وما في العمارات الأخرى التي استأجرتها إدارة الجامعة الأزهرية، وهي في أفخم(450/49)
أحياء القاهرة، وكل هذه الأماكن لا تضم أفراداً من العراق والشام فحسب، بل فيها طلبة من السودان وشمال أفريقيا والعراق والشام والهند والأتراك وداغستان والصين وغير ذلك من الأمم الشرقية؛ وقد رتبت لهم المكافآت المالية الكثيرة
الملاحظة الثانية: أنه قال (في مناحيَ) ونطقها بثبوت الياء مفتوحة في حالة الجر ونص على هذا قائلاً إنه هو الصحيح. وإني مع احترامي لرأي الدكتور أرجو أن يدلني على وجه الصحة في هذا، لأن المسموع في أفصح كلم وأبلغه وهو القرآن عدم ذكر الياء مفتوحة في مثل هذه الكلمة، قال الله تعالى: (والفجر وليالٍ عشر). (ومن فوقهم غواشٍ). وأما ما ذكره الدكتور فهو خاص بحالة النصب
وقد أجمع النحويون على معاملة مثل هذا الجمع معاملة قاض. هذا ما أعرفه؛ وللأستاذ مني أصدق التحية
(القاهرة)
عبد المنعم سليمان مسلم
بين أغسطين والغزالي
ذكر العلامة المحقق الدكتور جواد على، وجه الشبه بين اعترافات القديس (أوغسطين) وبين اعترافات الغزالي في كتابه (المنقذ من الظلال)، وقد حار في تعليل هذا التشابه. وقد حملتني بعض الغرائب في أخلاق المتصوفة على دراسة هذا الموضوع من الناحية الطبيعية السيكولوجية زهاء سبعة عشر عاماً، رجعت في خلالها إلى شتى المصادر العلمية، وخرجت من بحثي بأن التصوف ضرب من الانحراف الذهني يحدث ما يشبه الضغط في بعض مراكز الفكر، وهذا ما يعلل ما يتسم به المتصوفة في كل عصر ومن كل جنس ومن كل دين من الاتفاق في الأفكار الأساسية التي يجمع عليها المتصوفون
وقد عثرتُ أثناء دراستي الطويلة على أمثلة رائعة لهذا التشابه بين متصوفين يفصلهم عن بعض الزمن والثقافة والجنسية والديانة؛ فالحلاج يفكر في مسألة الحلول نفس تفكير القديسة تريزا، ولا يخرج تفكير ابن العربي وابن الفارض في الحب الإلهي عن تفكير سويدنبرج السويدي. وقد كان البسطامي في حدبه على النمل كثير الشبه بالقديس فرنسيس الأسيسي(450/50)
في مناجاته للطير ونعته بالأخوة.
وأرجو أن أوفق إلى نشر بحثي مع ما فيه مما يخالف المألوف في القريب العاجل. . .
كامل يوسف
عضو بالمعهد الفلسفي البريطاني بلندن
تبرئة القضاء العربي من وصمة
أورد صاحب مقال (التبعة والعقوبة في المجتمع البشري) قصة للحزين الديلي بنى عليها أحكاماً منها أن العرب (أقروا شهادة الحيوان أمام القضاء)، وأن ذلك (بمثابة رجوع العربي إلى المنطق القبلي الذي كان يأخذ الحيوان بالتبعة)
ومن الواجب - وللرسالة مكانتها وتحريها - أن أنبه إلى أن
الخبر الذي ذكره الفاضل نقلاً عن الأغاني محرف ملفق، فلا
صاحب الأغاني ذكره ولا غيره. وكل ما في الأغاني خبر
صغير عن الحزين الديلي خلاصته أن طائفاً وجده سكران
فحبسه مع حماره إلى الصباح ثم ضربه الحد وأطلقه والحمار
(الأغاني 1477)، وأما بقية القصة التي أوردها فممسوخ عن
قصة أخرى تذكرها كتب النوادر لأحد المتماجنين لا علاقة لها
ألبته بالحزين الديلي. وفي القصتين لا ورود لذكر قاض ولا
لمجلس قضاء. وإذاً ينهار كل ما بناه عليهما الكاتب من
أحكام. وأرجو أن أفرغ لتفصيل هذا الإجمال.
(دمشق)(450/51)
سعيد الأفغاني
حول المرحوم معاوية محمد نور
قرأت في عدد (الرسالة) الغراء رقم 445 الكلمة الموجزة التي كتبها الأستاذ محمد أمين حسونة عن أخي المرحوم معاوية؛ وإني نيابة عن أسرة الفقيد أشكر له هذا الشعور الكريم
غير أنه قد وقع فيها بعض الخطأ عن عهد دراسة الفقيد الجامعية إذ قال: إن معاوية بعد أن اكمل دراسته الثانوية بكلية غردون قصد إلى مصر للالتحاق بجامعتها وحالت بينه وبين الجامعة بعض الحوائل ووصل ذلك إلى علم صاحب السمو الأمير عمر طوسون فأرسله إلى الجامعة الأمريكية بيروت على نفقته وهذا الكلام لا يتفق والواقع
فإن الحقيقة أن معاوية أمضى دراسته في بيروت على نفقته الخاصة، وعلى نفقة أهله وذويه بالسودان وهم والحمد لله على خير ما يكون العبد الشاكر لنعمة ربه
السبكي خالد(450/52)
المسرح والسينما
توطئة
قد اتسع أفق الفن التمثيلي في مصر أتساعاً نغبط عليه من حيث هو اتساع فحسب. وقد كثرت الأصباغ الفنية فيه وتعددت الألوان. وما من ريب في أن بعض هذه الأصباغ تؤدي مشاهدتها العين. ومن شأن النقد أن يوجه المنقود إلى السبيل السوي، وأن يبين الحسن في مواطنه ويرشد إليه، وأن يفضح القبح وإن خفي وينفر منه. . .
وإني لأستعين بالله على كتابة هذه الصفحة عن: السينما. والمسرح. والإذاعة. وأحب أن ألفت أنظار أصحاب هذه الفنون والمشرفين عليها إلى أن مجلة (الرسالة) قد أفسحت صدرها لقلمي الضعيف على رغم إلحاح أزمة الورق للاتجاه بالنقد الصريح إلى ما فيه الخير للفن المصري الشرقي. . . فلينتظر هؤلاء كلمة الحق لهم أو عليهم
كتاب عن السينما
أخرج الأديب الشاب الأستاذ محمد عبد القادر المازني أول كتاب له تحت عنوان: (السينما مفخرة القرن العشرين) وقد جاء كتابه هذا في الوقت الذي تلح الحاجة فيه على قراء العربية أن يعرفوا شيئاً عن فن السينما وتاريخها. فليس أقبح من الجهل بأسرار مظهر من مظاهر الحياة نراه ونلمسه. . . والسينما مظهر قوي من مظاهر حياة البشر في القرن العشرين. فلا مندوحة للناس من أن يلموا بسر هذا الفن؛ ومعرفة المظهر تستدعي معرفة النشأة والتطور
وقد تناول الأديب في كتابه نشأة السينما وتطورها وسرد تاريخها سرداً مجملاً أتى فيه على أهم ما يعني القارئ من أمورها. وهو بهذا العمل الفني الأدبي قد سد نقصاً في الثقافة العربية
الفرقة القومية
قدمت الفرقة القومية في الأسبوع الماضي رواية (صلاح الدين ومملكة أورشليم) مأساة من أربعة فصول ألفها الأستاذ فرح أنطوان وأخرجها الأستاذ سراج منير وقام بتمثيل أدوارها عدد كبير من ممثلي الفرقة القومية. ولقد أحسنت الفرقة في تقديم مثل هذه الرواية التي(450/53)
تعالج فكرة تاريخية وطنية في ظروف كهذه. وقد نجحت الرواية تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً بالرغم من بعض الهنات التي ظهرت في تكلف بعض الممثلين وفي عدم ملاءمة الإضاءة في مواقف كثيرة. . . ويسرنا أن نشير إلى النشاط الذي بدا على الفرقة وهو يبشر بالانتعاش والحياة. وأحسب أن سر ذلك النشاط راجع إلى الأستاذ سليمان نجيب الذي عين مديراً للأعمال الفنية فيها. وإنا لنرجوا للفرقة وأفرادها ومديرها اطراد التقدم
فرقة ملك
قدمت فرقة ملك على مسرحها الجديد رواية (بنت بغداد)
وهي نوع من الأوبريت ألفها ونظم أغانيها الأستاذ بيرم التونسي. ولا يسعنا إزاء مجهود (ملك) القوي إلا أن نهنئها على هذا الإقدام. ونرجو أن تعمل على استكمال أدوات (الأوبريت) الفنية حتى تستطيع أن تؤدي واجبها الفني على الوجه الأكمل. ولسنا نغفل مجهودها المبذول في التلحين والغناء فذلك شيء مشهود لها به
أفلام جديدة
انتهت شركة أفلام الشباب من عمل فلمها الجديد: (أحب الغلط) الذي أعده للسينما وقام بإخراجه الأستاذ حسين فوزي. وقد اشترك في تمثيله لفيف من نجوم السينما نذكر منهم تحية كاريوكا - حسين صدقي - منسي فهمي وغيرهم. وكذلك انتهت السيدة آسيا من فلم (الشريد) الذي ألفه الأستاذ فتوح نشاطي وأخرجه الأستاذ هنري بركات، وأشترك في تمثيله حسين رياض - زكي رستم - أمينة نور الدين - نادية - وهناك أفلام جديدة أخرى يجري العمل فيها في استديو مصر وغيره من الشركات المصرية سنتحدث عنها في أعداد قادمة إن شاء الله
عبد الفتاح متولي غبن(450/54)
العدد 451 - بتاريخ: 23 - 02 - 1942(/)
التنجيم والحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
نتكلم بلغة الاقتصاد فنقول: إن التنجيم بضاعة يكثر طلبها في أيام الحروب فيكثر عرضها
لأن الناس يتوقون إلى العلم بالمصير، فيظهر لهم من ينبئهم صادقاً أو كاذباً بما يراه من مصير
ولأن الناس جميعاً يخشون شيئاً ويرجون شيئاً في أيام الحروب، فيحبون من يجلب إليهم الطمأنينة بما يزيل من خشية أو يعزز من رجاء، ويتسع من ثمة مجال التنجيم والاستطلاع
ولأن الناس، ولاسيما الجند، يحتاجون إلى الثقة بالغلب، أو ما يسمونه في الاصطلاح الحديث بتقوية الروح المعنوية، فيأنسون إلى ما يوافقهم من كلام المنجمين
ولأن الحوادث الجسام توحي إلى كل نفس أن الأمر فوق طاقة الإنسان، وأن أعنة الأقدار في يد غير يده وعلم غير علمه، فيتجه الذهن إلى عالم الغيب وإلى الذين يدعون له العلم به والإنباء عنه
ولأن النزاع بين طرفين من شأنه في كل حين أن يشحذ غريزة الرهان والسباق حتى في الألعاب التي ليس لها عند الناس خطر الحروب، ومتى شحذت غريزة الرهان فقد شحذت معها غريزة التطلع إلى نجاح هذا وفشل ذاك، أو شحذت معها غريزة الاستطلاع والتخمين، ومنها التنجيم
هذه بعض الأسباب التي تروج صناعة التنجيم في أيام الحرب كالحرب الحاضرة، ولا ندري أهو سوء حظ أم حسن حظ ذلك الذي أغرى الصحف الكبرى في حواضر العالم بأن تتحرى كل ما يروج وتهيئ للقراء كل ما يتوقون إليه من أنباء اليوم والغد، وما يحصل الآن وما سيحصل بعد حين
ولكن الصحف على أية حال تصنع ذلك ولا تبالي أكان حسناً أم كان سيئاً ما تصنع. ففي كثير من صحف أوربا الكبرى أبواب يكتبها مخبرون (مستقبليون) غير الأبواب التي يكتبها مخبرو الوقائع الحاضرة والأنباء الجارية؛ وهؤلاء المخبرون (المستقبليون) هم أناس يحترفون بالتنجيم ويتخذونه جداً يدافعون عنه كما يدافع العالم عن علمه والتاجر عن تجارته، وينكرون أنه لعب مصادفات أو أنه تزجية فراغ أشد إنكار(451/1)
جاءتنا صحف إنجلترا في البريد الأخير وفيها أحاديث شتى عن مأدبة أقيمت للمنجمين يحاضرون فيها عن صناعتهم ويدفعون فيها ما يتجه إليهم من نقد وريبة، ويذكرون لقرائهم والمستمعين إليهم شيئاً عن أسرار هذه الصناعة وأسسها، فلم يتفقوا لها على أسس ولا أسرار
فمنهم من أثبت للنجوم سلطاناً على حوادث هذه الدنيا وأخصها حوادث الحروب والنكبات، ومنهم من نفى العلاقة بين النجوم وبين الحوادث الأرضية في (علم) التنجيم الحديث
وقال بعضهم أن التنجيم يصيب ويخطئ كما يقع الصواب والخطأ في أصح العلوم، إلا أن الخطأ قليل في حساب المنجم الماهر كثير في حساب المنجم القاصر، وقد يقع الخطأ في خبرين من عشرة أخبار أو في خبرين من أثنى عشر خبراً ولا يقدح ذلك في صحة الحساب ولا في صحة (العلم) أو صحة الأساس الذي يقع عليه
وقد أطلعنا نحن على طائفة كبيرة من نبوءات الحرب الحاضرة فلم نعثر بينها على نبوءة واحدة تقطع بصحة (علم) التنجيم وتحوجنا إلى قبول دعوى المنجمين، وكلها داخل في مستطاع من ينجم ومن لا ينجم ومن يعرف أسرار العلم المزعومة ومن يجهل تلك الأسرار
فالإنباء بما سيأتي قد يتاح لأناس لهم اتصال بمصادر الأخبار أو لهم نصيب من بعد النظر، وهم في هذه الحالة يبلغون من الصدق ما لم يبلغه منجم ولا مصطنع نبوءات
فمن أمثلة الاتصال بمصادر الأخبار أن الصحفي الأمريكي ريتشارد بوير كتب في الثالث من شهر نوفمبر سنة 1940 يقول: (إنهم ينظرون في جميع أنحاء الدنيا إلى روسيا وألمانيا نظرتهم إلى حليفتين. ومع هذا يبدو من الأمور المفروغ منها في الدوائر النازية أن ألمانيا ستغزو روسيا في السنة المقبلة. ويرى رجال الحكومة النازية بشيء من التقية وإن لم يبلغ مبلغ الأسرار المكتومة أن اتحاد السوفييت إما أن يسلم في إقليم أوكرانيا وإقليم النفط في باكو وولايات البحر البلطي، أو تستولي عليها ألمانيا عنوة حيثما تسنى لها أن تفرغ من إنجلترا. وقد يزعم بعض الموظفين في الحزب النازي أن الحرب بين الولايات المتحدة وألمانيا غير ضرورية على خلاف ما تبينته بين كبار الرؤساء من جزم بضرورة هذه الحرب وأنها واقعة لا محالة. . .)
فهذه أنباء لو اتفقت لمنجم لباهى بها أقرانه واتخذها حجة لصناعته في أساسها، ولمهارته(451/2)
هو في كشف خباياها؛ ولكن الرجل الذي أذاعها قبل وقوعها صحفي لا يدعي لنفسه صفة غير صفة المخبرين الصحفيين ولا يسلك نفسه في عداد المنجمين
وإلى جانب هذا يكتب المنجم المختص بباب النبوءات في صحيفة أنباء الدنيا (أن أموراً على أعظم خطر سيتفق عليها رأسان من رؤوس الدول الكبار - ولعلهم ثلاثة - فيرتبط بها خلاص بني الإنسان)
ثم يزعم له مصدقوه أنه أحسن التنجيم لأنه كتب نبوءته في العاشر من شهر أغسطس ووقعت مقابلة الرئيسين روزفلت وشرشل بعد ذلك بأيام فتم فيها الميثاق الذي أشار إليه وربط به خلاص بني الإنسان!
إلا أن إشاعات المقابلة كانت تحوم في الجو كما يقولون قبل نشر النبوءة بثلاثة أيام، فسرى بين الصحفيين نبأ فحواه أن روزفلت وشرشل قد ذهبا إلى ألاسكا لمقابلة ستالين هناك، وكذبت هذه الإشاعة في حينها وهي بلا شك مصدر النبوءة التي أسرع بنشرها منجم الصحيفة ليواجه بها القراء وهم أكبر عدداً من زمرة الصحفيين القلائل الذين تنسموا النبأ على تلك الصورة قبل وقوع المقابلة، ولهذا تردد المنجم في عدد رءوس الدول فجعله بين الاثنين والثلاثة، واستفاد بين ألوف القراء سمعة التنجيم الصادق لأن هؤلاء القراء يجهلون الإشاعات الخفية التي ينفرد بعلمها بعض المخبرين في دوائر الصحافة، فيسهل إقناعهم بأنها سر من أسرار النجوم
وهكذا يقال في كل نبوءة وقفنا عليها من نبوءات الحرب الحاضرة، فهي إما اتصال بمراجع الأخبار العليا، أو صدق نظر في قياس المجهول على المعلوم
إلا أننا لا نريد أن ننكر الشعور بالأمور المقبلة من طريق غير طريق المراجع العليا، أو بعد النظر الذي يدخل في عداد الأقيسة العقلية
فقد يرى الإنسان ما سيأتي على نحو يشبه رؤية العين لأشباح الظلام، ولكنها رؤية لا تقبل التمحيص والمراجعة ولا تدخل في صناعة التنجيم، وهي مع ذلك مما ينقض التنجيم وليست مما يؤيده ويزكيه، لأنها ترد الشعور بالأمور المقبلة إلى الحس الباطن أو إلى الواعية ولا ترده إلى حساب النجوم أو إلى صناعة قابلة للتعلم والتعليم. وقد يقوى هذا الشعور حتى يتضح للعقل فيفسره كما يفسر الأقيسة ومدركات الأفكار(451/3)
أما الحقيقة التي لا شك فيها فهي أن البنية الإنسانية تحس ما يهددها من الأخطار الدخيلة قبل وقوعها في بعض الأحايين. كما يقول أبن الرومي:
وللنفس حالات تظل كأنها ... بما سوف تلقى من أذاها تهدد
فتحس الأمراض المقبلة والعلل المنذرة، ولا تدري لإحساسها سبباً في كثير من الأحوال، وإن كان هذا الإحساس مقدمة للعلة وعرضاً سابقاً من أعراضها بغير نزاع
وقد يهزأ بعضهم بتطبيق أبن الرومي لرأيه حين يقول:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأرحب مما كان فيه وأرغد
ولكنه على ما نعتقد هزؤ ظالم أو مبالغ فيه، لأن الأسباب الطبيعية التي تدعو إلى بكاء الطفل عند ولادته هي مقياس لسنة الدنيا في اقتران كل وظيفة بجهد ناصب، وفي تقاضيها ثمناً لكل فتح من فتوح الحياة. فهي شيء ملازم للبنية الحية، يدل عليه أن أول تنفس للهواء هو أيضاً لون من ألوان البكاء
غير أن إحساس الإنسان بما سيصيب بنيته شيء وإحساسه بما سيصيب الدنيا شيء آخر، ولا سيما ذلك الإحساس الذي يدعيه المنجمون
والمسألة بعد لا تخلو من عزائها وسلواها، فإذا أمتعض أناس منا لما يرونه من تهافت جهلائنا على العرافين والمشعوذين فهذه أوربا تهون عليهم مضضهم بإقبال أهلها (المتعلمين) على لغو العرافة والشعوذة وإقبال صحفها الكبرى على باب من الأبواب مقصور عندنا على منشورات يزهد فيها العقلاء!
عباس محمود العقاد(451/4)
رسالة الطالب العربي
لصاحب العزة الأستاذ محمد العشماوي بك
لقد قصدت حين اخترت (رسالة الطالب العربي) موضوعاً لحديث أن أتحرر مما تقتضيه المحاضرات من جهد وعمق فلا يرتفع بحثي إلى مرتبة المحاضرة وما تتطلبه المحاضرة من تقدمة وتفصيل وتحليل، وأن يكون سبيلي حديثاً مرسلاً له صفة الحديث، وهي أنه ذو شجون، فأطالعكم بما يعرض للذهن من خواطر وذكريات يطمئن لها خيالي وشعوري حين يجري حديث العرب. وهأنذا في مكاني هذا أذكر مواقف ماثلة أمامي على الرغم من بعد الشقة وتتابع الأحداث. ففي صيف سنة 1937 وقفت على رابية من ربى لبنان الجميل أخطب كشافة العرب: لبنانيين وعراقيين وشاميين وفلسطينيين، فكنت أبصر بعيني بعض البقاع العربية وأستجمع بخيالي نائي الأقطار والديار، فلا ألمح حدوداً بين بعضها وبعض، إن هي إلا أمة واحدة في رقعة من الأرض واحدة، يؤلف بين أجزائها ماض واحد وحاضر مشترك ومستقبل منشود، ويحفز شبابها المتوثب أمل قوي في تجديد الحضارة العربية، وبعث المجد الذي حفلت به صفائح التاريخ. وكذلك لا أنسى أني وقفت أخطب شباب العراق وأتحدث في مذياع بغداد، فجعلت أسائل نفسي: أفي بغداد أنا أم في القاهرة، وعلى ضفاف دجلة أو على شاطئ النيل السعيد، أغريب أنا في هذه الديار، أم أنعم بين عشيرتي وأهلي؟
والآن أقف في جمع يضم شباب العرب من أقطار شتى في ظلال الجامعة المصرية، فلا أجد في نفسي شعور الغريب يتحدث إلى الغريب، وإنما أشعر حق الشعور بأني أتحدث إلى طائفة من بني قومي ليس بيننا وبينهم من الفوارق غير نأى الدار وشط المزار توثق بيننا أمتن الروابط الثقافية والروحية، ويهدينا إلى المستقبل قبس تلك الحضارة العتيدة التي انتظمتنا في الماضي، فجعلت منا أمة موحدة في عقيدتها وأهدافها من المثل العليا
إن رسالة الطالب العربي هي رسالة الجيل الجديد، وهي رسالة المستقبل القريب، فهذه الجماعة التي تألقت من الطلاب العرب في كلية الآداب لترسم الطريق لتحقيق الرسالة، عليها أن تبدأ بتهيئة نفسها لخوض غمارها، وتستوفي من ألوان الإعداد ما يكفل لها النجاح في مهمتها، فأول ما يجب أن يفكر فيه الطالب العربي هو إعداد نفسه وتكوين ذاته،(451/5)
وأرباب الرسالات لا يلون مهمتهم ارتجالاً ولا يرقبونها عفواً، وإنما يحققون في أنفسهم قدرة الاضطلاع بالأعباء. ومما لا ريب فيه أن الإعداد الصحيح للطالب العربي يجب أن يتناول الجسم والخلق والثقافة، وهؤلاء فريق من طلاب العرب قدموا مصر ليغترفوا من جامعتها ثقافة وعلماً؛ ومصر حين تقوم نحوهم بواجبها وتفسح لهم صدرها، إنما تؤدي إليهم ديناً في عنقها، فإن علماءهم وأدباءهم دانوها في مفتتح نهضتها وفي ماضي حضارتها، وقد بايعت الأمم العربية اليوم مصر بالزعامة في الأدب والثقافة والاجتماع والسياسة، فمن واجب مصر الزعيمة أن تعرف لهذه الزعامة حقها، وأن تنهض بتكاليفها، وأن تخص الطلاب العرب برعايتها
ولعل مما يحسن أن يتوجه إليه الطالب العربي في الأخذ بأسباب رسالته أن تكون ثقافته كاملة؛ فنحن بنو زمان هيمن فيه العلم على الأدب والقانون وعلى الطب والهندسة ومرافق الحياة كلها في السلم والحرب. فالإعداد العلمي ضروري لمغالبة هذه الحياة. ولن يصلح الآن أن يستقبل المرء حياته معتمداً على التجربة أو متكلاً على الحظ؛ فذلك إن أجدى عرضاً على فرد فلا يجدي على أمة؛ وإن صلح فلا يصلح لهذا العصر الذي يهيمن العلم على كل مرافقه وأوضاعه.
وعلى الطالب العربي وهو يستكمل ثقافته أن يضع ماضي العروبة نصب عينيه؛ فإن كان خيراً ترسمه أجمع، وإن كان الخير فيه مخلوطاً بالشر نفى عنه شره واستبقى الخير، وإن كان قد غلب الشر في حقبة من الزمن وجب اختطاط خطة تقوم على الخير الغالب. وإن وراء العرب لماضياً حافلاً بالمفاخر، وحضارة امتدت إلى ما وراء العمران. وكان سبيل الأولين من أسلافنا أن ينتفعوا بما يستطيعون الانتفاع به من علوم الأمم وفلسفاتها ونظم الحياة فيها، فاتخذوا من مختلف الأخلاط مزاجاً جديداً له روعته؛ وبقى هذا المزاج حتى صار أساساً لحضارة العرب الحديثة، فرده الغرب إلينا غريباً علينا. فمن واجب الطالب العربي أن لا ينسى ماضيه لأنه حلقة الاتصال بالحاضر والامتداد إلى المستقبل، وإذا أهملنا هذا الماضي فقد أهملنا مجداً عظيماً تتقطع بنا الأسباب دونه، ونفقد ما لنا من طابع وروح. وكيف نزهد في ماض ينطوي على المثل العالية في التفدية والجهاد، ويصور لنا عظمة في الخلق، وقوة في العقيدة دانت بها ممالك الدنيا جمعاء؟ فلنتبين سر هذا الماضي،(451/6)
ولنتعرف كنه هذه الحضارة، ولنتدبر الأسباب التي نقضت هذا الحكم، وهدمت ذلك البناء. وليكن ذلك التدبر وسيلة إلى العظة والاعتبار، فنأخذ من الذرائع ما يكفل النهوض، ونتجنب من العلل ما طوى للعظمة العربية علمها الخفاق.
فإذا عرف الطالب العربي ماضي الأمة العربية بأمجادها ومفاخرها، ووضحت له أسباب تدهورها وخمود جذوتها، وكان قبل ذلك آخذاً من المعرفة بالقسط الأوفى، بدأ يدرس الحاضر وأدواءه، فالطبيب لا يجدي علاجه إذا لم يكن تشخيصه للمرض صحيحاً، ولن تفيد العقاقير مهما تكن قيمتها شيئاً. وإن كثيراً من المصلحين لتذهب جهودهم هباء على الرغم من قوة عزيمتهم وحسن بلائهم، لأنهم لم يفقهوا البيئة التي حاولوا إصلاحها، ولم يتلمسوا العوامل المؤثرة فيها، ولم يتعلموا كيف توجه الشعوب وكيف تواجه العلل
فليكن هم الطالب العربي أن يدرس العلل الخلقية والاقتصادية التي أثرت في البلاد العربية فردتها عن الصدر، وقد تكون هذه العلل واحدة تشترك في معاناتها سائر أقطار العرب، وقد تكون لكل قطر علته الخاصة به، فعلى كل الطالب أن يتفهم العلل التي ينفرد بها وطنه الأصغر، ثم يتفهم العلل المشتركة التي تصيب وطنه الأكبر؛ فإن كان هناك فرقة استجلي أسبابها ودواعيها، وإن كان هناك جهل أو ضعف خلقي تفحص مصادره وبواعثه، وإن وجد تخلفاً في ميدان الصناعة أو التجارة استهدى إلى بواطن هذا التخلف. ومتى فرغ من هذا الدرس والفحص أمكنه أن يرسم منهاجاً سليماً لنهضة علمية خلقية عملية على أساس قويم.
وجدير بكل طالب عربي أن يتمثل له الوطن الأصغر والوطن الأكبر. فوطنه الأصغر شبيه بالأسرة تضم ما لها من أبناء، ووطنه الأكبر شبيه بالأمة تحتوي سائر الأسر. وإني لأتصور الأمم العربية كلها أسرة كبيرة واحدة لها أب واحد وأم واحدة، فشاء ذلك الأب أن يوفر لبنيه الكثيرين أسباب الاستقلال والنماء ففرقهم في منازل شتى يعنى كل منهم بشأنه، ولكن تبقى بينهم أواصر القربى تجمعهم تحت لواء واحد تؤلف بينهم عند الأحداث فإذا هم كالبنيان المرصوص. والحق أن من يزور الأقطار الشقيقة يحس هذا الشعور وهو يجتاز بلداً إلى بلد، ويتنقل بين أهل وأهل، فلا حدود ولا فوارق، وإنما هو وطن بعيد الأطراف وحدت بين أجزائه المترامية روابط الدين واللغة والثقافة، وألفت بين قلوب أبنائه آمال(451/7)
متشابهة وأهداف مشتركة.
ولا أظن أن ثمة رابطة أقوى من الرابطة الثقافية في وصل الشعوب بعضها ببعض. فالأمم العربية بخير ما توثقت روابط الثقافة بين شباب العرب لأنها توحد بين الأفكار، وتجمع بين القلوب، ويتسنى بها لكل رابطة سياسية أو اقتصادية أن تجد طريقها إلى القبول. ولا يستطيع أحد أن يتصور أمماً تتفرق بعد أن يتم التوحد بين قلوبها وأفكارها وأمانيها جميعاً.
ومما نوصي به الطالب العربي أن يؤمن إيماناً عميقاً بأن اللغة الفصحى هي أداة الاتصال بين الأمم، وإنه يجب أن يقوم على دعائمها صرح الثقافة العامة، فلقد طوفت في الشام والعراق وغيرهما فما كان يتيسر لي تقارب الفهم والإفصاح عن مكنونات النفس إلا حين اخترت الفصحى أسلوباً لحديثي؛ فإذا تدسست اللهجات أفسدت ما بيني وبين محدثي من تعارف، وأسلمتنا إلى التناكر البغيض. فالفصحى هي التي تجمع شملنا؛ وهي التي تقارب تفكيرنا، فليكن من مهمتنا نحن الدعاة إلى الوحدة العربية أن نحرص على الفصحى، وأن نداني بين الأساليب في شتى الأقطار، وأن نعمل على تيسير هذه اللغة لكي يسهل لنا استخدامها في الثقافة المشتركة بين الناطقين بالضاد
ولقد أشرت في مطلع حديثي إلى ضرورة إحيائنا لماضينا. وقد يقال إن لكل أمة من الأمم العربية ماضياً خاصاً، والواقع أن هذا الماضي مشترك بين أمم العرب لأنها كانت تخضع في حقيقة الأمر لنظام واحد، وتستمد حضارتها وأنماط حياتها وتفكيرها من منبع واحد في الأكثر الغالب؛ فمن أركان رسالة الطالب العربي إحياء ماضي العروبة في التفكير، وعرض هذا التراث الفكري العظيم في إطار جديد. فذلك الماضي يستند إلى دين محكم وضع نظامه ليواجه مشكلات الحياة في كل عصر وكل بيئة؛ ولكن لا بد لنا من أن نتفهم روح الدين السامية على وجهها الصحيح خالصة من البدع محررة من الجمود. فلو استمسكنا بذلك النظام الذي وضع أساسه ديننا القويم لاستطعنا الخروج سالمين من نوائب الزمن التي يرجع مصابنا بها إلى تنكبنا ذلك الطريق المستقيم. وعلى أن لنا مع ذلك ماضياً تاريخياً يجمل بنا أن نحييه في أنفسنا معتزين به ليكون حافزاً لنا على التوثب والرقي. ولنا كذلك تراث أدبي وعلمي عني به علماء الغرب قبلنا وكان له أثره في اتساع آفاق تفكيرهم الفلسفي والاجتماعي. فيجب أن يكون لنا في هذا التراث مأرب عظيم وأن نعمل على(451/8)
تجديده وتنظيمه بما يلائم تطور الفكر الإنساني، وأن نقرب موارده للدارسين والباحثين وطالبي المعرفة. فقد طالما طالعتنا الحقائق بأن كثيراً من نظريات آبائنا السالفين في نواحي العلم يؤيدها الفكر الحديث ويحتفل بها العلماء المعاصرون
غير أننا مع احتفائنا بذلك التراث العظيم ودعوتنا إلى إحيائه والانتفاع به لا يجوز أن نتعصب له ونطرح ما عداه فنقول إن ثقافتنا كل شيء في الحياة، وأننا نستغني بها عما سواها، بل نعمل كما عمل أجدادنا العرب، وننهج طريقهم في اكتساب المعرفة، فلقد نشدوا العلم من شتى مصادره وفرضوه على كل مسلم ومسلمة، وقربوا إليهم العلماء دون تفرقة بين أصيل ودخيل فانعقد لهم لواء الحضارة في فجر نهضتهم، وسخروه لدولتهم وصولتهم. فلنتزود من العلم الصحيح حيث يكون فالعلم لا حكر فيه لأحد ولا وطن له ولا دين
وإنه من تباشير الخير في الشرق أن يوفد أبناءه ليتلقوا العلم من جامعة مصر. ومن تباشير الخير في مصر أن تفتح جامعتها الأبواب لكل وافد عربي. ولقد كنت أتحدث إلى بعض أولي الأمر في البلاد الشرقية أثناء جولاتي فقلت له في سياق الحديث لم تنشئ كل من سورية والعراق وفلسطين جامعة، وليس إنشاء الجامعات بالأمر الهين ولا يقصد به مجرد المظهر، فقليلاً ما يتوافر العلماء، وقليلاً ما يتيسر المال اللازم للإنشاء؟ ولم لا تكون الثقافة الجامعية في الشرق موحدة فتكون جامعة فؤاد الأول في مصر جامعة الشرق كله يفد إليها الطلاب العرب فيتزودون زاد إخوانهم طلاب مصر العرب
إني كلما أفضت في حديث مشكلة اجتماعية يتملكني عاملان: عامل يأس وعامل رجاء. وهذا هو شعوري بعد أن ألمعت لكم برسالة الطالب العربي؛ فيحضرني عامل الرجاء حين أرى طائفة من شباب العرب فيها مخايل الرجولة الكاملة تفكر في العرب وثقافة العرب ومستقبل العرب، وتكون من أنفسها جماعة تدعو إلى رسالتها، وتنظم المحاضرات في موضوعاتها، فهنا يقوى الرجاء ويبتسم المستقبل. ويحضرني عامل اليأس حين أتفرس في الحياة الاجتماعية التي يحيا العرب في أكنافها، فأرى في بعض ما أرى نوعاً من الانقسام، وألاحظ بلبلة في الرأي، وتباعداً عن فكرة الوطن الأكبر، واشتغالاً بتوافه الأمور عن جلائلها. وهنا يلحقني التردد في الاطمئنان إلى الأمل والرجاء؛ ولكن إذا كانت عوامل اليأس مما تجوز لمن هم على عتبة الشيخوخة أمثالي فإن الشباب يجب أن يمتثلوا أملاً(451/9)
وطموحاً وثقة بالغد المنتظر، وأن يكونوا رسل إيمان ويقين في المستقبل المنشود، فإنهم بهذه الروح تلين لهم الصعاب وتنفتح لهم أبواب الجهاد لتأدية رسالتهم العظمى رسالة الإنهاض للشعب العربي ورده إلى مكانه في الصدر الأول وإسلامه إلى مستقبل ميمون الطلعة مبارك النفع إن شاء الله
محمد العشماوي(451/10)
من دقائق إعجاز القرآن
للأستاذ محمد احمد الغمراوي
قمت أجمع ما تفرق في مكتبتي من أعداد (الرسالة)، فإذا بعدد منها غلافه لم يفض هو العدد (441). فضضته وجعلت أقرأ ما استرعاني من فهرسه، فبدأت بما كتبه الأستاذ احمد صفوان بعنوان (غلطة مفسر كبير)، وإذا المفسر الكبير هو الإمام أبو بكر بن العربي، وإذا به يورد من سورة التوبة آية على غير نصها، فأبدل كلمة مكان كلمة - غير عامد طبعاً - وجعل يفسر الكلمة التي أبدل كأنما هي الكلمة التي أنزل الله. والآية القرآنية هي: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمع كلام الله ثم أبلغْه مأمَنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون). فجعل الإمام أبو بكر كلمة (لا يعقلون) مكان (لا يعلمون) وطفق يفسر وعلل لماذا نفى الله عنهم العقل. . . إلى آخر ما روى له الكاتب الفاضل الذي نبه إلى هذه الغلطة الفذة
والغلطة في ذاتها مألوف مثلها في التلاوة حين يتلوا الحافظ غير المتمكن عن ظهر غيب تلاوة من لا يتتبع المعنى ولا يتفقه وهو يقرأ. لكنها غلطة نادرة من مفسر إمام مفروض أنه يستوثق من النص قبل أن يبدأ التفسير. لكن الإمام أبا بكر ابن العربي غفر الله له اعتمد على ذاكرته فيما يظهر فخانته هذه اللفظة، وكان حسن الظن بحفظه فيما يبدو فلم يسترعه أي تفاوت في المعنى يحمله على الرجوع إلى المصحف للتأكد من النص
والواقع أن أمثال هذه الغلطة من إمام مفسر، وبعد ما بين المعنى على أصله والمعنى بعد تحريفه، من أقوى الدلائل عندي على أن القرآن ليس من عند بشر وأنه من عند خالق البشر، فشتان بين المعنى لو كان النص كما أورده ابن العربي وبينه كما ورد في القرآن الكريم. شتان بين تعليل أمر الله نبيه أن يجير المشرك حتى يسمع كلام الله ثم يبلغه مأمنه بأن المشرك لا يعقل، وبين تعليل ذلك بأن المشرك لا يعلم. فمن المعقول من الحكمة أن يجار المشرك الذي لم تبلغه الرسالة حتى تبلغه على وجهها بسماع كلام الله، ثم من المعقول ومن الحكمة بعد إذ سمع كلام الله أن يبلغ مأمنه ويترك لنفسه ليتدبر ما سمع بعقله غير مروع ولا خائف، ثم هو بعد ذلك وما يختار لنفسه، فإذا دخل في الدين دخل غير مكره، وإذا لم يدخل عن اختيار، ولكل جزاؤه، إن دخل كان أخاً لجميع المسلمين، وإن لم يدخل كان عدواً ينفذ فيه ما أنزلت سورة براءة من أجله. ولكن المهم أن مدار ذلك جعله الله(451/11)
سبحانه على علم المشرك الدعوة أولاً، ثم على إعطائه فرصة لتدبرها في أمن وحرية ثانياً، فالعلم بالدعوة على وجهها كما يدل عليه قوله تعالى (حتى يسمع كلام الله)، وتدبر الدعوة في حرية وأمن كما يدل عليه قوله تعالى (ثم أبلغه مأمنه)، هما ركنان للدعوة الإسلامية يدل عليهما دلالة واضحة العلة التي بنى الله سبحانه عليها أمره في قوله (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)
وإذا عرفت الآيات قبل هذه الآية وما تأمر به من تأجيل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، حتى إذا انسلخت الأشهر الحرم - والسورة العزيزة نزلت وتليت على الناس في الحج وفيه المشرك والمسلم - قتل المشركون بكل وجه وقعد لهم كل مرصد، إلا أولي العهد فيوفى للموفين منهم عهدهم إلى مدتهم: إذا عرفت هذا عرفت الحكمة البالغة الكامنة في ذلك التعليل الإلهي لذلك الأمر الإلهي
إن ذلك التعليل مظهر من مظاهر العدل الإلهي في الدين والرحمة في الدعوة، إذ ما كان الله ليأمر بقتل حتى المشرك قبل أن يدعى إلى الله دعوة مؤثرة. واشد الكلام تأثيراً في نفس العربي هو كلام الله العربي المنزل، لذلك أمر الله نبيه حين أراد تطهير الأرض من الشرك أن يجير المشرك حتى يسمع كلام الله. ثم ما كان المشرك ليقتل حتى يأنس إلى كلام الله، بعد سماعه، مدة قد يجد فيها كلام الله إلى نفسه سبيلاً. وهذا ليس من العدل فقط. بل ومن الرحمة والحكمة؛ وهو في ذاته دليل على أن هذا الأمر للنبي هو من عند خالق النفس وعالم ما هي وما فطرت عليه. فقد علم الله سبحانه بعد ما بين الدعوة إلى الإسلام وبين ما نشأ المشرك عليه، وعلم أنه إن كان في المشركين من أوتي من صفاء العقل ما يدرك به عند سماع الدعوة فضل ما بينها وبين ما هو عليه، فيستجيب لها غير متردد، ويدخل في الإسلام غير مسوف، فإن في المشركين أيضاً الرجل العادي وهو سوادهم: ينفر نفسه مما لم نألف، ونكون له كبوة عند الدعوة مهما بلغ فضلها من الوضوح وبلغت هي من الإشراق. فلو أخذ المشرك بأول رأيه أو شعوره عند سماع كلام الله لكان نصيب أكثر المشركين القتل. لكن الله سبحانه وتعالى أجلهم حتى يأنسوا بكلامه ويتدبروه ويتذاكروه بينهم فعندئذ تكبر فرصة استجاباتهم له بعد أن يزداد فهمهم إياه، ويزول النفور الأول الناشئ عن مخالفة الدعوة لمألوفهم على وضوح خطئه وصوابها، وضعته وشرفها. وفعلاً(451/12)
تحققت حكمة الله ودخل المشركون في دين الله أفواجاً.
والمهم ملاحظة أن المشركين ما كانوا ليدخلوا كما دخلوا في دين الله أفواجاً لو كان المانع لهم من قبول الدعوة أو الأمر قلة العقل بدلاً من قلة العلم، فالعاقل الذي لا يعلم مرجو أن يستجيب للحق إذا زال جهله به، وأعطى فرصة لتدبر ما دعي إليه. لكن لا رجاء في استجابة من لا يعقل، أو من كان على حال من الإصرار والعناد يحول بينه وبين قبول الحق وينزله منزلة من لا يعقل. فالحكمة واضحة في تأجيل من لا يعلم حتى يعلم وحتى يتدبر ما علم. لكن أي حكمة هناك في تأجيل من لا يعقل، وهو مهما علم لن يفقه لأنه ليس لديه عقل يفقه به، وتأجيله إلى أجل طال أو قصر لن يؤتيه ذلك العقل؟ إن الفرق هائل بين قول الله سبحانه (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) وفي موضعها من الآية الكريمة من سورة التوبة، وبين قول ابن العربي في نفس الموضع (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)
والغريب العجيب أن الجملة (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) فهي مما أنزله الله في مواطن أخرى من القرآن. فهي في موضعها من القرآن الكريم من كلام الله سبحانه لها كل ما لكلام الله سبحانه من روعة وجمال وجلال وإعجاز. فلما نقلها الإمام أبو بكر بن العربي خطأ أو سهواً عن موضعها التي نزلت فيه إلى غير موضعها في تلك الآية من سورة التوبة أصبحت من كلام البشر لا من كلام الله، ولم تتلاءم مع بقية الآية التي هي من كلام الله، كالرجل أو العين الصناعية شتان بينها وبين الطبيعة، أو كالعضو المنقول - لو أمكن النقل - إلى غير موضعه من جسم الإنسان
أنظر إليها في موضعها من سورة الحشر في قوله تعالى يخاطب المؤمنين منبئاً عن المنافقين: (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)، هي هنا من كلام الله سبحانه. وهي حيث أقحمها الإمام ابن العربي في آية التوبة غير قاصد ولا عامد من غير كلام الله، بل لقد أفسدت من المعنى. فأعجب إذن لكلام إذا التبس الأمر فيه على الإنسان العاقل العالم فأبدل كلمة أو كلمات مكان أخرى تشبهها فقد صبغته وخرج من حيز الإعجاز إلى حيز غير الإعجاز
ذاك مثال من أمثلة دقة الإعجاز في القرآن. ومن غريب المصادفة أني وجدت في نفس(451/13)
العدد من الرسالة مثلاً آخر، إذ وجدت غلطة أخرى في آية أخرى لرجل من رجال العربية المحدثين له إيمان ويقين إلا أنه لم يقع في غلطته في معرض تفسير القرآن، فقد قرأت في العدد نفسه من الرسالة مقال أخي عبد المنعم خلاف (الحياة صادقة) وإذا فيه:
(إن الحياة هي كلمة الله النافذة إلى القلوب لا يحسها إلا من يحملها بأعبائها ثم يحاول أن يسلمها لغيره، وقد أودعها الله قلب آدم (فجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم يرجعون)
والآية ليست بالفاء في أولها ولكن بالواو، لكن لعل الفاء جيء بها لربط الكلام بالمقتبس من الآية فأدخلها الطابع في القوس. إنما موضع النقد الكبير والاستدراك هو ما دخل على آخر الآية، فليست الآية (إلى يوم يرجعون)، ولكن (لعلهم يرجعون). ومن هنا يبدو لأول وهلة الفرق في المعنى بين الصيغتين، ويبدو ذلك بصورة أوضح إذا عرفت سياق الآية الكريمة (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) في موضعها من سورة الزخرف
فلنأخذ في الفرق الأول: الأستاذ عبد المنعم خلاف يريد بيوم يرجعون يوم الحشر، فهو يقول إن الحياة باقية في عقب آدم إلى يوم الحشر؛ ومن هنا يظهر بعد هذا المعنى عن الواقع، لأن الحياة كما يعلم الأستاذ ستزول عن عقب آدم قبل يوم الحشر بأمد لا يعلمه إلا الله، فسيشمل الموت بني آدم فترة يغلب أن تكون طويلة كما جرت العادة في أيام الله في الخلق، ثم بعد ذلك يكون البعث ويقوم الناس، والآيات متظاهرة على ذلك، لكن يكفي هنا الاستشهاد بقوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء الله. ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيان ينظرون). فالحياة ليست باقية في عقب آدم إلى يوم يرجعون في المعنى الذي أورده أخونا عبد المنعم، ولا كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم إلى يوم يرجعون إذا أخذنا لفظ الأستاذ عبد المنعم وطبقناه على ما أخبرنا به الله سبحانه عن سيدنا إبراهيم في القرآن
إن النص القرآني بتمامه هو:
(وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)، وهنا يتبين أي فرق في المعنى دخل على الآية الكريمة يجعل كلمة (إلى يوم) مكان كلمة (لعلهم). فالمعنى القرآني أن إبراهيم صلوات الله عليه - أو الحق سبحانه، والآية تحتمل المعنيين - جعل كلمة براءة مما يعبد من دون الله(451/14)
باقية في عقب إبراهيم لعلهم يرجعون عن عبادة ما سوى الله، إن كانت الكلمة هنا هي الدعوة إلى التبرؤ مما سوى الله، أو يرجعون إلى ما تستلزمه كلمة التوحيد من أحكام، وعن كل ما ينافيها من سلوك، إن كانت الكلمة الباقية في عقب إبراهيم عليه السلام هي كلمة التوحيد. ووجود كلمة التوحيد بين العرب وسائر المسلمين هو من غير شك مناط الأمل وموضع الرجاء أن ينتبهوا يوماً ما إليها وإلى ما تستلزمه من إقامة دين الله، ومن إسلام الوجه والقلب إلى الله، وجعل الصلاة والنُّسك والمحيا والممات (لله رب العالمين لا شريك له) كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
فكلمة (لعلهم) فيها ما فيها من الترجي، وفيها ما فيها من التذكير. لكن كل ذلك يتغير ويزول إذا قيل: (إلى يوم يرجعون) بدلاً من (لعلهم يرجعون)؛ إذ تصبح الآية إخباراً عن بقاء الإيمان والتوحيد في ذرية إبراهيم عليه السلام إلى يوم البعث، ولم يخبرنا القرآن بشيء كهذا. أما (لعلهم يرجعون) فتشعر بأنه سيكون من عقبه عليه السلام طائفة غير مؤمنة يرجى أن تعتبر بالطائفة المؤمنة من عقبه وترجع معها إلى الله. لكن أكبر دلالتها - والله أعلم - أن المؤمنين من ذرية إبراهيم سيكون منهم تفريط في توابع الإيمان ومستلزماته، وإن شئت فقل في حقيقة الإيمان، وأن كلمة الإخلاص والتوحيد ستكون دائماً فيهم منذرة ومبشرة وداعية إياهم إلى الله وإلى إقامة شرع الله الذي قام على التوحيد، وأنها ما دامت فيهم فسيرجى لهم ومنهم الخير
فأنظر إلى جيش المعاني هذا الجائش من كلمة واحدة هي كلمة (لعلهم) في موضعها من الآية الكريمة، وإلى التفاوت البالغ الطارئ على المعنى حين اعتمد الأستاذ عبد المنعم على ذاكرته من غير رجوع إلى المصحف للاستيثاق من النص، فأبدلته ذاكرته من (لعلهم يرجعون) (إلى يوم يرجعون). وخرج الكلام بهذا التبديل الطفيف في ظاهره من دائرة الإحكام
هذان مثلان يوضحان مقدار ما أودع الله في القرآن من إحكام يزول إذا امتدت يد أو عقل أو ذاكرة إليه بأدنى تغيير أو تحريف أو تصحيف. ولو تتبع تالي القرآن ما يسبق إلى لسانه من غلطات أثناء التلاوة، وتدبر بعد ما بينها وبين النص كما أنزله الله سبحانه،(451/15)
لوقف من كل مثل على مثال جديد لإحكام القرآن، وحجة جديدة لإعجاز القرآن
محمد أحمد الغمراوي(451/16)
للحقيقة والتاريخ
بين آدم وحواء
للدكتور زكي مبارك
كثر الكلام في هذه الأيام عما كان بين آدم وحواء لعهد الجنة وعهد الأرض. وقد تورط صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم فأقحم خياله الروائي في شؤون فصل فيها التاريخ منذ أجيال طوال ولم يبق موجب لذلك التورط بعد حكم التاريخ، فهذا الصديق يعرف أن آدم من الأنبياء والتزيد عليه لا يجوز وإن احتال فزعم أنه يكتب باسم الفن لا باسم التاريخ
وهل يستطيع بفنه الروائي أن يخلق من الصور مثل ما سجل المؤرخ شيث بن عربانوس، طيب الله ثراه؟
ولكن ما حديث ذلك المؤرخ المجهول؟
لم أكن أعرف عنه شيئاً قبل سنة 1933، وإنما هداني إليه أستاذنا المرحوم احمد زكي باشا بعد أن انتهى ما كان بيني وبينه من خصومة وصيال
فإن سألتم كيف ابتدأت تلك الخصومة وكيف انتهت فأنا أدونها في سطور ثم أمضي إلى ترجمة شيث بن عربانوس بإيجاز، تمهيداً لشرح آرائه في آدم وحواء بإطناب:
كانت وزارة المعارف قررت إقامة حفلة تأبين للشاعر احمد شوقي، حفلة يشترك فيها أقطاب البلاد العربية، وكان منهاج الحفلة يوجب أن يتكلم الضيوف في الأوبرا الملكية تكريماً لمقدمهم الحميد. أما أدباء مصر فيتكلمون في الحفلات التي تقام بكلية التجارة، وهي حفلات دامت ثلاثة أيام، وكانت أشبه بسوق عكاظ، فقد اتسع فناء الكلية للمئات أو الألوف ممن يسرهم أن يستمعوا كلمات الخطباء وقصائد الشعراء
ومضيت لأشهد الحفلة الأولى بكلية التجارة فهالني أن أسمع خطيباً يتنحنح بعنف، مع أني لم أكن اجتزت عتبة الكلية، فسألت نفسي كيف يصل صوت التنحنح برغم تلك الأبعاد الطوال وبعد لحظة فهمت أن الحفلة أقيم لها ميكروفون، وأقيم لذلك الميكروفون مسامع في جميع الأركان. فمن السهل أن يسمع صوت الخطيب جميع المارة بشارع (قصر العيني) أو شارع (أفر الأنجال)، ولا تسأل عما تصنع النحنحة وقد ضجت بها مسامع ذلك المذياع؟
ونظرت فإذا الخطيب أحمد زكي باشا. فكيف غاب عنه وهو عالم علامة أن الميكروفون(451/17)
سينقل إلى الجيران وجيران الجيران نحنحته القوراء؟
أمَا كان في مقدوره أن يدير وجهه أو يدير الميكروفون قبل أن يقترف ذلك الصوت؟
أضحكني أن يقع شيخ العروبة فيما وقع فيه فأخذت أترصد له غلطة أدبية أو تاريخية لأهجم عليه في جريدة البلاغ، ثم اتفق لحسن الحظ قال كلاماً غير صحيح، وهو يتكلم عن مدح الرسول في (نهج البردة)، وكنت يومئذ مشغولاً بتأليف كتاب (المدائح النبوية) فوجدت عندي من المحصول الأدبي والتاريخي ما يكفي لإفحامه بلا عناء
وما كادت تظهر كلمتي فيه حتى اندفع الرجل لمصاولتي على صفحات البلاغ بأسلوب ساحق ماحق، وكان رحمه الله آية في الكر والفرّ، وكان لا يهجم على باحث إلا تركه كالرفات، بفضل اطلاعه الشامل وذكائه الوهاج
كنت يومئذ بين نارين: نار الخوف من التطاول على شيخ جليل خدم اللغة والأدب والتاريخ، ونار الخوف من الهزيمة أمام القراء، وأنا محرر الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ
وفي تلك المعمعة قدم الباشا للبحث عني في الجريدة ومعه الأستاذ عبد الرحمن بك عزام فحدق في وجهي وقال: أما تستحي من شتمي وأنا أستاذك؟
فتماسكت قليلاً ثم قلت: وأنت يا باشا. أما تكف شرك عن تلميذك؟
فابتسم عبد الرحمن بك وقال: لا موجب للجدل بعد هذا العتاب اللطيف!
ولكن زكي باشا لم يسكت عني، ومضى يلاحقني بإيذاء لم يفضه غير الحادث الآتي:
كانت حوادث فلسطين وصلت إلى آلام وجراح، فأرسل زكي باشا إلى الحاج أمين الحسيني برقية مطولة كلفته أحد عشر جنيهاً، وكان ينتظر أن يصل إليه جواب رقيق، ولكنه لم يتلق أي رد من الحاج أمين، فكتب إليه يسأل عن سر ذلك السكوت فكان الجواب أن البرقية وصلت، ولكنها لم تكن بإمضاء (زكي باشا) وإنما كانت بإمضاء (زكي مبارك)!
وامتشق زكي باشا قلمه وأنشأ مقالاً أخذ أربعة أنهر من جريدة الأهرام، وكان في مقاله أن عامل التلغراف حرف الإمضاء، فإن كان من مصر فإلى (الليمان) وإن كان من فلسطين فإلى (البحر الميت) وأعلن زكي باشا أن التحريف مقصود، وكانت حجته أن (زكي باشا) قد تحرف إلى (زكي الابراشي) بسبب (الشين) ولكنها لا تُحرّف إلى (زكي مبارك)
وامتشقت قلمي فكتبت رداً وجيزاً نشرته الأهرام في أول نهر من الصحيفة الأولى، وكان(451/18)
الرد يتلخص في أن (زكي باشا) هو نفسه الذي أمضى باسم (زكي مبارك)، وحجتي أن الباشا مشغول بمناوشتي على صفحات البلاغ، فأنا ملء قلبه، ومن السهل أن ينسى اسمه ويذكر أسمي؛ ورأى زكي باشا أن التعليل مقبول، فذهب إلى إدارة التلغراف وطلب أصل البرقية، ثم ابتسم حين شاهد أنها باسم زكي مبارك، وبخط الباشا الظريف؟
لم يكن بد من أن يدرك زكي باشا أن الأقدار أرادت أن تطوقه بالخطأ ليكف عني أذاه. فاتصل بي تليفونياً ليدعوني إلى العشاء وإمضاء عقد الصلح، فأجبت بالقبول
دخلت على الباشا العلام العلامة (العالم حقاً والعلامة صدقاً، فزكي باشا طراز وحيد من العلماء، وليس من السهل أن يجود بمثله الزمان). دخلت على الباشا فوجدته في ثياب البيت وهو يلعب الشطرنج مع الدكتور (أحمد عيسى) فأشار بعد السلام إلى أن انتظر لحظات، فسيغلب الدكتور أحمد عيسى ثم يلتفت إلى واجب الترحيب!
ومرت ساعة وساعة والخلائق تتقاطر بميعاد وبدون ميعاد؛ فعرفت أن العشاء في بيت زكي باشا ليس لمن دعي إليه، وإنما هو لمن تداعوا إليه!
ثم مُدَّ السماط على الطريقة العربية، وأقبل خادم فقدم إلى الباشا ورقة مطوية فمحا الباشا كلمة وأبقى على كلمة. فماذا محا؟ وماذا ثبت؟
كان التفاضل بين نوعين من الشراب: أحدهما عصير الشعير وثانيهما منقوع الخروب. وقد رأى الباشا أن يكرم ضيفه المتخرج في السوربون فاختار الشراب الأول وهو شراب أصهب يستطاب في ليالي الصيف!
لم أكن دخلت (دار العروبة) من قبل، ولا كنت عرفت كيف ظفرت بذلك اللقب الظريف؛ وكان مبلغ علمي أن صاحبها يتحدث عن العروبة في كل يوم؛ فهي دار العروبة لأنه شيخ العروبة، والألقاب لا تعسر على أحد في هذا الزمان!
وفي تلك الليلة عرفت ما لم أكن أعرف: عرفت أن زكي باشا يسير سيرة العرب القدماء، فبيته مفتوح للجميع، ومن حق أي إنسان أن يحضر وقت الغذاء أو وقت العشاء بدون احتياج إلى استئذان، على شرط أن يترك للباشا حرية التصرف في وقته بعد رفع السماط
والحق أن زكي باشا كان ينوب عن مصر في مهمة من أصعب المهمات؛ فقد كانت داره مثابة الوافدين من الشرق، ولم يكن لأي ضيف أن يتهم مصر بالبخل وزكي باشا موجود.(451/19)
وإنما نصصت على هذا الجانب من شمائل زكي باشا رعاية للتاريخ، وأملاً في أن يقتدي به من يسرهم إكرام من يفد على مصر من أهل الشرق. فمن العيب أن يذهب السخاء العربي إلى غير معاد وكانت له مواسم في هذه البلاد!
وقد سمعت عن كرم زكي باشا في سره وعلانيته أخباراً لا يصدقها العقل، جزاه الله عما صنع خير الجزاء، وحفظ اسمه بين الكرماء، كما حفظ اسمه بين العلماء
ثم أرجع إلى الغرض من هذا الحديث فأقول: جلست أسامر زكي باشا بعد العشاء تمهيداً للصلح المنشود؛ فقد كنت في سريرة نفسي أومن بأن التطاول على مثل ذلك الرجل قد يعرضني لغضب الله. وأنا أخاف الله أشد الخوف لأنه حماني من أن أخاف أحداً سواه؛ فمن المخاطرة أن أشجع في موطن لا تكون فيه الشجاعة من رضاه. وكذلك عزمت على أن أتلطف ما استطعت لأظفر من زكي باشا بالصفح الجميل
- هذه أول مرة تأنس فيها (دار العروبة) بزيارة الدكتور مبارك
- ليست هذه أول مرة أتشرف فيها بزيارة (دار العروبة) أعزها الحب!
- ما هذا الكلام؟ وما رأيتك هنا قبل اليوم!
- سمعت أخبار دارك، أيها الشيخ الجليل، وكنت أشعر أني شريك بالقلب لكل من يفد عليها من أهل الشرق، وما غاب عني كرم تؤدي به فرض الكفاية عن بلادنا الغالية
فابتسم زكي باشا وقال:
- ما كان ضرك لو قلت هذه الكلمة وأنت تلاحيني على صفحات البلاغ ليخف عتبي عليك!
- سأقولها يا مولاي لجميع الناس، وسأملأ بها مسامع الأرض والسماء
- أسمع يا مبارك، أسمع، إن أدبك في هذه اللحظة يستأهل جائزة سنية، جائزة تذكرني بها طول حياتك، وقد تكشف لك عن أشياء من غوامض التاريخ القديم، وهو التاريخ الذي أرادت شراستك أن تجعله ظنوناً في ظنون!
- أعظم جائزة أتلقاها من أستاذي هي رضاه عني
- الجائزة العظمى لمن كان في مثل أدبك أن تهدي إليه النسخة الوحيدة من كتاب شيث بن عربانوس. أما رضاي عنك فهو مضمون مضمون(451/20)
ومضى الباشا لإحضار الهدية، ثم عاد ومعه كتاب في أكثر من خمسمائة صفحة بالخط الكوفي، وهو مجلد على طراز المصاحف المحفوظة بدور العاديات
أقبلت على الكتاب بلهفة وشوق، ثم لاحظت أن منزلتي عظمت في قلب زكي باشا حين رآني أقرأ الخط الكوفي بلا عناء، وعندئذ تذكرت جناياتي على نفسي وعلى مصيري في هذا الوجود
وما تلك الجنايات؟
سأتكلم بصراحة لأخدم قرائي، فقد يكون فيهم من انحرف عن طريق النفع كما انحرفت
يعرف الناس أني مثال الحرص على طلب العلم والأدب وتعرف مكتبتي أني صديق يزورها في كل يوم، ويعرف قلمي أني أخلو إليه في كل ليلة ساعة أو ساعتين
فكيف تخلفت مع ذلك الحرص؛ وكيف جاز أن أكون واحداً من الناس، وكفاحي يوجب أن أكون أوحد الناس، لو نجوت من ذلك الانحراف؟
يرجع التخلف الذي أعانيه إلى أني أقبلت على علوم وفنون يقبل عليها أكثر الناس، ويصعب فيها الادعاء، لأن عليها رقباء يعدون بالألوف
أردت التفوق في علوم اللغة العربية فوصلت إلى أشياء، ولكن علوم اللغة العربية مبذولة لجميع الطالبين، وليس من العسير أن يكون لي نظراء في كثير من البلاد
وأردت التفوق في الدراسات الجامعية فنلت إجازة الليسانس مرة وإجازة الدكتوراه مرات، ولكن الدراسات الجامعية لم تعد من الأسرار، فمن السهل أن يكون لي فيها منافسون
وأردت أن أكون من كتاب اللغة العربية وشعرائها وخطبائها فكان ما أردت، ولكن هذا الميدان محفوف بالأخطار في كل صباح وفي كل مساء بسبب نشاط الزملاء
وأردت أن أتفوق في اللغة الفرنسية فبلغت ما أريد، ولكن اللغة الفرنسية يجيدها ألوف أو ملايين، فأين مجال التفرد والازدهار؟
آه، ثم آه!!
كان الرأي أن أقصر جهودي على اللغات الميتة، وهي لغات يدعيها من شاء كيف شاء، بلا رقيب ولا حسيب. ألم تسمعوا أن في الناس من يزعم أنه يجيد عشر لغات من لغات القدماء: كاللاتينية واليونانية والديموتيقية والسريانية والبابلية والحبشية والسنسكريتية(451/21)
والفهلوية، إلى آخر ما تعرف الأنظمة الجامعية؟!
من الذي يحاسب مدرس اللغة اللاتينية إذا أخطأ؟ ومن الذي يجادل مدرس اللغة الديموتيقية إذا انحرف؟ ومن الذي يراجع مدرس اللغة البابلية إذا حاد؟ ومن الذي يتقدم فيردع من يخلط بين النصوص الحبشية والحميرية؟
عرفت فيمن عرفت رجلاً يعجز عن كتابة صفحة سليمة باللغة العربية، مع أنه من أبوين عربيين، ولم يمنعه ذلك الضعف من أن يكون أستاذ اللغة البابلية في إحدى الجامعات الأمريكية!
وعرفت فيمن عرفت شخصاً يتصدر لتدريس إحدى اللغات الميتة في كلية تحيط بها حديقة بالقرب من نهر له مكانة في التاريخ، وهو لا يجيد لغة قومه الأحياء، فكيف يسهل عليه فهم لغة مات أهلوها منذ أزمان؟
لو أني التفت إلى هذه الناحية لأرحت نفسي من منافسات لا تطاق.
كان من السهل أن أتعلم الأبجدية من إحدى اللغات الميتة، فالأبجدية تكفي للتفوق في اللغات البوائد!!
وهل فُضح فلان لأنه أخطأ عشر مرات في خمسة سطور كتبها باللغة العربية إلى عميد إحدى الكليات بأحد البلاد؟
هو متخصص في اللغة الأكادية، أو اللغة القنقلية، فكيف يطالب بإجادة اللغة العربية؟
وهل يستطيع أحدٌ أن يطالب الدولة بمحاسبة هؤلاء وهو يعرف أن الدولة تريد أن تسامي الأمم الأوربية والأمريكية في الحذلقة الجامعية؟
الدولة على حق والشاهد الآتي يؤكد ذلك الحق:
قال فلان: القنقلون كلمة آرامية، وهي الكنكلون في السريانية، والفنكلون في البابلية، والكنفلون في الآشورية، ومعناها القنقلون، والوصف منها متقنقل ومتكنكل، ومتفنكل، ومتكنفل، على خلاف في صياغة الأوصاف
ومن أجل هذا العلم الغزير تنفق الدولة ما تنفق لإحياء لغات ماتت في بلادها الأصيلة بسبب انعدام الحيوية، وعلينا نحن أن ننفض عنها أتربة القبور، لأننا موكلون ببعث الأموات(451/22)
الأوربيون يدرسون اللغة اللاتينية واللغة اليونانية ليعرفوا أصول لغاتهم ولينقلوا ما في هاتين اللغتين من نفائس الآداب.
وقد عرفت اللغات الحية في أوربا خير ما أثر عن اللاتينية واليونانية، ونحن لن ننقل تلك الآثار إلى لغتنا إلا عن الفرنسية أو الإنجليزية، فما الموجب لقتل الوقت في درس لغات ميتة لن ننقل عنها أي حرف؟
يضاف إلى ذلك أن الشواهد تنطق بأن الشبان الذين قهرناهم على درس اللغات الميتة قد ضاعوا على مصر وعلى أنفسهم من الوجه العقلية، وأن كانوا أساتذة محترمين، وكيف لا نحترم من يعرف من أسرار القنقلون ما لا نعرف؟
أتريدون الحق؟
الحق أن مصر تبتدئ من حيث انتهى الناس
والحق أن مصر تحاول أن تخلق من الدراسات الجامعية لوحة إعلانات عن قربها من العقلية الأوربية، وكأنها لم تسمع أن أوربا بدأت تنفض يديها من التعصب للأموات
لو أن ما أنفق على درس اللغات الميتة كان أنفق على ترجمة ما آثر من تلك اللغات لظفرنا بنفائس تزيد في ثروتنا الذوقية والأدبية، ولكننا أطعنا الوهم فأضعنا أموال الدولة وأعمار الطلبة في شؤون قليلة النفع والغناء، مالي ولهذا؟
أنا أضعت الفرص السوانح في درس أبجديات تلك اللغات، وهي فرض لن تعود، فما تستطيع الأمة بعد اليوم أن تنفق درهماً فيما لا يفيد، إن صح أن الأمة صَحَتْ من غفوتها فأدركت الفرق بين ما يفيد وما لا يفيد!
إن زكي باشا طرب حين رآني اقرأ الخط الكوفي بل اعناء، فكيف يكون حاله لو نظر فرآني أقرأ الخط السنسِكريتي؟
وهل أجهل الخط السنسِكريتي؟
أنا أعرف منه ما لا يعرف فلان، فليجادلني فيه إن استطاع!
افتحوا أعينكم يا بني آدم من أهل هذه البلاد، واعرفوا أن الحذلقة الجامعية لن تنفعكم في كثير أو قليل، وتذكروا جيداً أن العلم الصحيح هو علم هذا الزمان، وستأثم الجامعة المصرية إن شغلت عنه بأوهام التاريخ(451/23)
اسمعوا قبل أن لا تسمعوا، فأنا أخاف عليكم أشياء لا تخطر لكم في بال، وهذا نذيرٌ من النذر الأولى يصوبه إلى عقولكم كاتب يبغض المداهنة والرياء.
(للحديث شجون)
زكي مبارك(451/24)
محمد بن عبد الله الجبلي الباطني
للدكتور جواد علي
اتخذت محمد بن عبد الله (أو عبدون) الجبلي موضوعاً لحديثي، لأن الجبلي من الشخصيات الفذة التي يجب أن تدرس ويجب أن تقرأ ويجب أن يذكر عنها شيء، وذلك بالرغم من إهمال المؤرخين والمترجمين شأن هذا الفيلسوف وغضهم النظر عنه؛ فلم يذكروه إلا عرضاً ولم يحفلوا به إلا قليلاً، وبالرغم من إعراض قومه وهم سكان الأندلس وعرب الغرب عنه وإغفالهم أمره لسبب كانوا يذكرونه بمرارة عنه، وحقد قديم كان قد علق في قلوبهم ضد فيلسوفهم؛ ذلك لأنه كان يدين بعقيدة تختلف نوعاً ما عن عقيدتهم، ويقدس فيلسوفاً أعجمياً غريباً تقديساً يكاد يصل حدود الغلو والإغراق؛ وهذا ما كان يزعجهم ويؤذيهم
وكان هذا الفيلسوف الأعجمي الغريب الذي قدسه محمد ابن عبد الله بن ميسرة (مسرة) ابن نجيح القرطبي هو الفيلسوف اليوناني بندقليس أو أبيذقليس أحد فلاسفة اليونان القدماء وأول الفلاسفة الخمسة الذين وضعهم العرب في قائمة الحكماء اليونانيين الممتازين وقد ميز هؤلاء عن بقية الفلاسفة بنعوت تدل على مقدار تقدير العرب لهم وإعجابهم بهم. نعتوهم مرة (بالحكماء الخمسة) ونعتوهم أخرى بأساطين الحكمة). سلكوا في ذلك سبيل اليونانيين ونهجهم. وكان اليونان قد اختارواقديماً سبعة أشخاص الفلاسفة القدماء لقبوهم (بالحكماء السبعة) وأسبغوا عليهم صفات في العلم والاطلاع والحكمة تكاد ترفعهم من صفوف البشر إلى صفوف سكان السموات
وقد ميز العرب أيضاً بين هؤلاء الحكماء فجعلوا أفلاطون مثلاً رئيساً على الحكماء الإشراقيين. وجعلوا أرسطو زعيماً على رأس الفلاسفة المشائين المعروفين. وأحاطوا هؤلاء الفلاسفة الحكماء بهالة من التقديس والتعظيم، وزادوا على زمان بعضهم أزمنة ليزيدوا على رأيهم في كثير من المسائل التي تستهويهم تعظيماً وفي شانهم شأناً، فقالوا عن بندقليس مثلاً إنه كان في زمان داود النبي، وأنه أخذ الحكمة عن لقمان بالشام، إلى أمثال ذلك من روايات. ولعل مصدر ذلك الكتب التي دونها أتباع مذهب هذا الفيلسوف والتي وجدت لها سبيلاً إلى اللغة العربية، والذين كانوا لا يكتفون بالمبالغات عن زعيمهم بل(451/25)
نسبوا إلى زعيمهم المعجزات والكرامات والقدسية الإلهية، وقالوا بأن أرواح الآلهة حلت فيه
وكان صاحبنا محمد بن عبد الله الجبلي الباطني كلفا بفلسفة بندقليس دؤوباً على دراستها ملازماً لها مجاهراً بغرامه العلمي هذا، فاتهمه أبناء قومه لذلك بالزندقة والإلحاد، وغضبوا عليه حتى أضطر إلى الخروج إلى المشرق فاراً سنة سبع وأربعين وثلثمائة (958م) ودخل البصرة ومصر ودبر مارستانيهما وتمهر في الطب ونبل فيه، وأحكم كثيراً من أصوله، وعانى صناعة المنطق عناية صحيحة واشتغل بملاحاة أهل الجدل وأصحاب الكلام وأتصل بأساطين هذه المواضيع؛ وهذا ما زاد في قوة علم صاحبنا قوة وفي منطقه فصاحة وبلاغة
ذهب أصحاب بندقليس مذهب الفيثاغورثيين في العدد وفي الرموز والإشارات وتناسخ الأرواح. حولوا الفلسفة من فلسفة ظاهرة واضحة ذات قواعد معينة إلى فلسفة ورموز وإشارات وأسرار دينية فانتقلت هذه الفلسفة من الفيتاغورثيين إلى المسلمين فظهرت فلسفة قائمة بذاتها اعتقدها جماعة من المسلمين حتى العصور المتأخرة واكتسبت صبغة خاصة دينية لدى جماعة (الحروفية) من المسلمين. ونظراً لغموض تعاليمهم الفلسفية هذه أطلق عليهم اسم (الباطنية) أيضاً وهم غير الباطنية المعروفين الذين كان منهم الإسماعيلية، وإلى الباطنية الفلسفية نسب صاحبنا محمد بن عبد الله الجبلي
أتصل محمد بن عبد الله أثناء إقامته ببغداد بشخصية كبيرة من شخصيات العلم في العراق هي شخصية محمد بن طاهر أبي سليمان ابن بهرام السجستاني البغدادي، وهي شخصية كبيرة ذات مركز مهم خطير في عالم المنطق والجدل. فاستفاد الباطني منه كثيراً وتعلم من هذا الأستاذ فن الإقناع والتأثير في الجمهور والقدرة على البحث في شتى المواضيع المتنوعة، وكانت له قابلية عجيبة على التأثير في المستمعين: له لسان خلاب يتوصل به إلى حرارة، وقابلية عجيبة على إبداء الحجج والإقناع. فلما عاد إلى وطنه الأندلس أظهر النسك والورع والتقوى وأغتر الناس بظاهره واختلفوا إليه وسمعوا منه وتكونت له جماعة التفت حوله ودانت بعقيدته وظلت تلازمه وتجتمع به سراً حتى توفي 151)
حمل الجبلي إلى الأندلس منطق السجستاني وقواعد أهل العراق في الجدل والمناظرة، وقد(451/26)
جدد بذلك ما كان قد بدأ به محمد ابن إسماعيل المعروف بالحكيم، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن زيد المعروف بالإقلقدي، وهو صاحب تأليف مشهور لدى أهل الأندلس في اختصار الكتب الثمانية في المنطق، وعلي بن أحمد بن حزم وكان من أهم أركان هذه الحركة في الأندلس فقد انصرف هذا العالم هو وابنه من بعده خاصة إلى المنطق دون سائر الفلسفة إلا أن هذه الحركة لم تكن مستقلة كتلك الحركة التي ظهرت في الشرق ولم تكن قوية. كان عماد منطق أهل الأندلس على منطق أهل العراق وعلى الأخص منطق السجستاني ومنطق متي ابن يونس والفارابي وأمثالهم من زعماء هذه الزمرة
حاول علماء الشرق أن يرفعوا المنطق إلى مصارف علم الفراسة أو علم النفس، حاولوا أن يستدلوا به على معرفة دخائل أمور الفرد وطراز تفكيره، وحاولوا أن يجعلوه سلاحاً ماضياً بأيديهم يسكتون به الخصم، حتى أطلق عليه الرئيس الفيلسوف ابن سينا (علم الفراسة) في رسالته (قصة حي بن يقظان). أما أهل الغرب فكانوا يرون فيه - وعلى الأخص رجال الحكم والسياسة - شيئاً لا يليق بأهل التقي والدين
جواد علي(451/27)
الديمقراطية ومستقبلها
للأستاذ محمود تيمور
الأصل في الديمقراطية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، لا رئيس ولا مرءوس، ولا قاض ولا محكوم؛ فقد ابتدع بعض مفكري الإغريق هذا النظام كأنه حلم خيالي لتحقيق العدالة، وإيجاد نوع من المدينة الفاضلة، حيث يعرف كلُّ حقه لنفسه، ويؤدي واجبه لغيره، فيرتفع الظلم، ويعيش الناس أخواناً
وقد تطور هذا المعنى للديمقراطية تطوراً ينزل به من آفاق الخيال، فأصبح رمزاً للنظام النيابيّ، إذ ينتخب الشعب من بين ثقاته نواباً يتولى مجلسهم مراقبة الحكومة فيما تأخذ وما تدع، ويحث الحكام على تحقيق الأغراض التي يدعوا إليها الصالح العام. وهذا النظام يختلف باختلاف البلاد وخصائص الأمم، فكان في اليونان جمهورياتٍ متعددة بتعدد المدائن، وكان في الرومان يتمثل في مجالس الشيوخ والأعيان؛ وهو في العهد الأخير: ملكية ديمقراطية كما في إنجلترا، وجمهورية ديمقراطية كما في فرنسا، والمدلول في كل هذا واحد، هو أن تكون بيد الشعب مقاليد حكمه، وإليه يصير الأمر في الهيمنة والسلطان
ومما بعث مفكري الأمم وساستها على اقتراح هذا النظام، رغبتهم في أن يدرءوا طغيان بعض الطبقات على بعض، فارتأوا أن النظام النيابي كفيل بضبط الحقوق العامة، وبسط المساواة بين الناس
ونحن إذا نظرنا إلى هذا الأسلوب في الحكم من ناحية تَمَثُّلِه في هيئات نيابية صحيحة، لم يقم شك في أن العرب الأولين لم يعرفوه؛ فلقد كانوا في رحاب الصحراء يعيشون على نظام القبائل، وكانت العصبية والأنفة تحول بينهم وبين الاندماج، فكل قبيلة تتفرد بأبنائها، وتعتز بحرياتها بقدر مالها من سطوة ونفوذ؛ وكل شخص يتفرد بنفسه ويعتز بحريته في حدود ما تفرضه عليه قبيلته من واجبات وتبعات. فلما جمع الإسلام شملهم كان من العسير إخضاعهم لنظام نيابي كالذي شاع عند الإغريق، لأنهم حديثو عهد بالنظام القَبَليّ، وما يزال فيهم من العصبية الجاهلية أثر. وليس يعيب الأمم العربية أنها عدلت عن أسلوب الإغريق في الحكم، واقتربت من أسلوب الفرس؛ فإنما تصطنع الأمم من نظم السياسة ما يلائم البيئة والطبع(451/28)
ولكن الدول العربية التي لم تتخذ مظاهر الحكم الديمقراطي كما رسمه واضعو هذا النظام، كانت في حقيقتها وجوهرها - في كثير من العهود - حافلة بثمرات الديمقراطية في القيام على صوالح الرعية. فالخلفاء والأمراء الذين حكموا البلاد حكماً قد يعتبر أوتقراطياً في المظهر، كانوا يتبعون تعاليم الإسلام في التشريع والتنفيذ، وهي تعاليم ديمقراطية الروح. ولذلك نعم الناس في ظلال هذا الحكم عهوداً كثيرة بالمساواة في الحقوق والواجبات، وبالحريات الفردية في تصريف الشئون. وكان الحاكم حريصاً على ذلك ابتغاء مرضات الدين، واستجلاباً لتأييد الأمة، عليه من ذمته وضميره رقيب فوق رقابة الرأي العام. فإن أخل بشرائط العدالة، وتجافى عن النزعة الديمقراطية في السياسة، ثارت عليه الأمة حين تُمْكِن الفرصة، واستبدلت به حاكماً يوفر لها حرياتها على النهج القويم
والآن نسأل: هل يصلح النظام الديمقراطي للحكم؟ الحق أن هذا النظام الديمقراطي القائم على أساس الانتخاب النيابي أفضل نظام عرف حتى اليوم لنشر العدالة، ودفع الطغيان الحكومي، ولكنه لا ينتج نتاجه الطيب في الأمم العربية إلا إذا توافر له أمران: الأول قلة الأحزاب، فإن الأحزاب ضرورية للتنافس والمراقبة، ولكن الإقلال منها ضروري أيضاً لما أدت إليه كثرتها من اضطراب وزعزعة في الحكم. والأمر الآخر: تربية الشعب، فلا بد أن يكون على درجة من الثقافة والتربية الخلقية والاقتصادية يتمكن بها من الهيمنة على نفسه، وانتخاب الأكفاء الصالحين للنيابة عنه
ولسنا ننكر أن الإصلاح في ظلال الحكم الديمقراطي بطئ الخطأ، وذلك لخضوعه للرقابة وما تتطلبه من تعدد جهات النظر؛ إلا أنه على أية حال يأتي بالنتائج المرضية، وهو أوفى نظام يقر الطمأنينة في نفوس الأمة على اختلاف طبقاتها. وإذا اجتمعت لتنفيذه أيد رشيدة وقلوب مخلصة كان أحسن نظام لإقرار العدل وإيتاء النفع العام
فأما القول بأن الديمقراطية أعلنت إفلاسها في سوق الحكم، فهو قول يلقى على عواهنه في غير تبصر، لأنه حكم الواقع الوقتي بحالته الخاصة. وما الديمقراطية إلا نظام يجب أن تجري عليه سنة التطور؛ ولكن روح الديمقراطية حقيقة صالحة يجب أن تبقى وأن ترعى. والذي أنكرناه قبيل هذه الحرب الراهنة، مما سميناه إخفاق الديمقراطية، كان خليطاً من الأسباب والآثار، منها ما أعقب الحرب الماضية من اضطراب الميزان الاقتصادي، وتزايد(451/29)
العمال المتعطلين نتيجة تغلب الآلة الأيدي العاملة؛ أضف إلى ذلك تفشي الآراء الخيالية في إيجاد نظام يضمن المساواة الاقتصادية بين عامة الناس. وواضح أن ذلك ليس وليد الفساد في النظام الديمقراطي وإنما نشأ من عوامل عمرانية واجتماعية اقتضاها تطور الحياة
فالديمقراطية لم تستطع إزاء هذه المشكلات أن تحل عقدتها بالسرعة الواجبة لها، لطبيعة البطء فيما تعالج من حلول. ولم يدركها في ذاتها التطور المنشود حتى تعالج بعقلية جديدة تلك المشكلات الإنسانية الناشبة؛ فانطلقت الطبيعة البشرية ثائرة فائرة، تبغي نظاماً في الحكم يستقيم به الميزان الاقتصادي والاجتماعي، ويرفرف به الرخاء الممكن على مختلف الشعوب
وإذا جاز لنا أن نقدر ما يجئ به الغد المرتقب رجحنا أن تتمخض هذه الثورة العالمية عن المحافظة على الروح الديمقراطي الصالح، مع تجديد في نظام الحكم. ومعنى ذلك أن تتطور الديمقراطية تطوراً يوائم البيئة الجديدة والعقلية الجديدة التي تسود بعد هذه الحرب القائمة. وإننا لنلمح من الآن بوادر هذا التطور في الأمم الديمقراطية العريقة
واليقين أن العالم سيشهد في مستقبله السلمي نظاماً مستحدثاً يمكن للسعادة بقدر المستطاع بين طبقات الشعب، ولكن هذا النظام ستحل فيه روح الديمقراطية دائماً.
محمود تيمور(451/30)
مطالعاتي حول المدفأة
ساحرة الجبال
للأستاذ صلاح الدين المنجد
نَعِمْت الليلة بزورة من آنستي. فجفوتُ حديقة أبيقور، وكنتُ أرتع فيها منذ ثلاث، وجلست بين يديها؛ فهي كتاب حي كله إبداع وإغراء. وهي بساّمة جذابة، كأن جسمها الأهيف ظَرْفُ فتونٍ وعطور، وكأن ثغرها الحبيب جمرة ترفّ ولهب يفور. ولا سبيل إلى الإنكار فهي حلوة بارعة الجمال
دخلت عليّ تقفز وتضحك، وإذا ضحكت آنستي، فالدلُ الناعم، والنَغْم الجذاب. فرمت قفازها في الأرض، وفراءها الأشقر على نضد الزهور، واقتربت من المدفأة جذلى وهي تقول:
- مررتُ، وأنا آتية إليك، بعجوز. فدفعُتها فانغمست في الطين!
ثم قهقت، فقلت
- أوه. . .! ولم إذاً؟. . .
- طلبت قرشاً وألحت، ثم أمسكت بفرائي، فزجرتها، فتبعتني، فدفعتُها وأسرعت!
وآنستي لعوب يروقها أن تعبث بالعجائز كلما صادفتهن، فتغمز بهن، وتسخر منهن، كأن ثاراً لا يدرك بينها وبينهنّ.
قلت لها وقد جلست أمامي تجعد شعرها والمقعد يصيح تحتها:
- أراكِ مسرورة، ألا تخافين؟
- هه. . . ومما أخاف؟. . .
- أن يصيبك - مثلاً - ما أصاب الأميرة التي طردت الساحرة العجوز لماّ سألتْها قطعة من اللحم
- وماذا أصابها. . .
- انقلبت عجوزاً ذات شعور بيض، وأسنان دُرْدْ، بعد أن كانت فتّانة الصبا جذابة الجمال
فضحكت ضحكة طويلة. . . وقالت مستغربة:
- وكيف صارت عجوزاً؟(451/31)
- قلبتها ساحرة الجبال. . . لأن العجائز مصونات محوطات، ما آذاهن أحد إلا مسّه السوء. . .
- وكيف كان ذلك. . .؟
- لا تسخري، أصغي إلّي، أقرأْ عليك قصّتها:
وتناولت كتاباً من جانبي وقرأت: (هاهي ذي تترك كهفها المظلم، مأوى الخفافيش، لتحدر إلى السهل من مهاوي الجبال، وتزور القصور والسفوح.
(إنها قصيرة، قصيرة جداً. تلبس رداء من جلد الذئاب، وتسعى وراء الفلوس والقروش؛ فهي عطشى للمال على رغم غناها. لقد قالوا إن الغيران التي تملكها في الجبال مترعة بأساور من فضة بيضاء، وأن بقراتها ذوات القرون المذهبة ترعى في الأهاضيب الخضر، على شطآن السهول.
(لقد عجب الناس إذ رأوها، وقالوا: ماذا أتت تفعل في السهول، ولِمْ تركتْ كهوف الذئاب. . .؟
(إنها عجوز هَرمة. يا بعد وجهها الأصفر القبيح، الرفاف بالدهون، وأنفها الغليظ النافر، وعينيها الصغيرتين الوامضتين تحت الأوساخ كالجمرات تحت الرماد. . . يا بعد ذلك من صباحة العذارى وحلاوة الفتيات!
(لقد زعموا أن لها من العمر مئات السنين، وأنها قادرة على إنزال البَردَ وإيماض البرق. وهي تضلّ القطعان، وتسلّط الذئاب على الخرفان؛ وفي إكرامها الخير والبركة. . . فمن حَقَرَها فجزاؤه أن بنفر الحصان، ويحترق الكوخ، وتعلّ البقرة، وتجن الزوج. . .
(يا ويحها! لَمَ هبطت من ذرى الجبال. . .؟ لِمَ تركت غيران الذئاب. . .؟ ولماذا يصحبها البوم، وترف حواليها الخفافيش، وتخرج الحدآت فيملان الأفق ويغزون الدور والقصور. .؟
(إنها تمشي مطمئنة، لا تخاف شيئاً ولا تفزع من مخلوق، وهل هي ذي تصل إلى قصر الأميرة الشامخ ذي العُمُد البيض والجدران الشواهق
(وداست بحذائها الغليظ المصنوع من قشور الأشجار العتاق مماشي الحديقة المطرَّزة بالأزهار، ثم صعدت السلم إلى الطبقات العُلى(451/32)
(وكانت الأميرة في روشن القصر تتمتع بروعة السماء وأناقة الرياض، وقد حمل لها خادمان قطعاً من اللحم المشوي ذي الرائحة الطيبة. . .
(وبدت العجوز ومدت يدها إلى اللحم. . .
وشدهت الأميرة فنادت:
- ويلك أيتها العجوز السارقة. . . أذهبي. . .
فقالت العجوز:
- أعطيني قطعة لحم. . . أعطيني. . .
- مجنونة. . سارقة. . . أخرجوها. . .!
- أعطيني قطعة من اللحم الأشقر المشوي. . .
- لا. . . لن أعطيك يا عجوز القبح. . . لن أعطيك فأذهبي. . . أطعمها للخفافيش ولا تذوقين طعمها. . .
واضطربت العجوز، ثم أخرجت قضيبها الأخضر المسحور وتمتمت وبربرت، ثم قالت:
- إذن فلتفترسك الخفافيش!
وكنت أرامق آنستي وأنا أقرأ لها، فرأيتها قد فغرت فمها الصغير، وتورَّدت وجنتاها الريانتان، وحملقت عينيها الناعستين فبدت كالطفل المذعور، فقالت:
- ثم ماذا أصابها. . . أتمم. . . أتمم. . .؟!
(وجمدت الأميرة من الخوف: أرادت أن تضحك فلم تستطع وحاولت البكاء فجمد الدمع. . .!
(وأقبلت خفافيش الغاب، مناقيرهن حمر، يبتغين افتراسها وكن يضحكن ضحكات ملأى بالسخرية. تنشر الذعر وتبعث الخوف!
(لقد أسرعت الأميرة إلى مخدعها وأغلقت الباب، ولكن رنين الضحكات واصطفاق الأجنحة كانا يسمعان في كل مكان!
(وعاشت الأميرة فلم تر عيناها بعد ذلك اليوم عذوبة الصباح، ومتوع المساء، وفرح الحياة. . . واختبأت في الظلام وراء السُجف الصّفاق خوفاً من الخفافيش
(وأصبحت بعد أيام، وإذا شعورها تبيض، ووجها يتجعد، وإذا هي عجوز(451/33)
(أين صباحتها الضاحكة، أين شعرها الناعم، أين جسمها الطري. . . أين. . .؟)
ونظرت إلى آنستي، فإذا بها قد اقتربت مني وأمسكن بيدي، وإذا رأسها الجميل الأشقر يميل برفق على كتفي. . . كأنما خدَّرها دفء الهواء، وأفزعتها خفافيش الغاب، وأحزنها دفعها السائلة، فخافت أن يدركها الهرم، ويضحك في رأسها المشيب
نامي آنستي. . . نامي. . . ولا تفزعي، فتلك أساطير وأوهام
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(451/34)
24 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - عاداتهم
يقوم الخادمات المصريات بأحقر الأعمال. ويغطين وجوههن في حضرة سادتهن فيسحبن بعض الطرحة على الوجه فلا يظهرن غير عين ويد للقيام بالعمل. وإذا ما أستقبل ضيف في حجرة من حجر الحريم انسحبت النساء إلى حجرة أخرى وبقيت خادمة منتقبة لخدمته
تلك هي أحوال طبقات النساء المختلفة، ويجب علاوة على ذلك أن نصف عاداتهن وأعمالهن وصفاً سريعاً
لا تحرم الزوجات كما تحرم الجواري من امتياز تناول الطعام مع رب العائلة غالباً فحسب، بل يجب عليهن أيضاً أن يقمن على خدمته أثناء طعامه أو عندما يدخن شبكه ويحتسي قهوته في الحريم. وكثيراً ما تشتغل الزوجات كالخادمات فيحشون الشبك ويشعلنه ويصنعن القهوة ويجهزن الطعام أو بعض الأصناف اللذيذة على الأقل. وإذا استطعت الحكم تبعاً لتجربتي الخاصة قلت إن أغلبهن طاهيات بارعات. وكلما أوصي إلي بطبق صنعته زوجة مضيفي وجدته لذيذاً بصفة خاصة. وتهتم السيدات في الطبقات العليا والوسطى بإرضاء أزواجهن وجذب قلوبهم اهتماماً متواصلاً بحيل شتى. ويظهر دلال النساء حتى في مشيتهن العادية عندما يخرجن، بهز الجسم هزاً خاصاً. وتضبط الزوجات أنفسهن عادة في حضرة الزوج قليلاً أو كثيراً. ولذلك يسرهن ألا تتكرر زيارة الزوج للحريم أو تطول أثناء النهار. وكثيراً ما يستسلمن في غيابه إلى ابتهاج صاخب
ولا يختلف طعام المرأة عن طعام الرجل إلا في قلة مقداره ولا تختلف كذلك طريقة تناول الطعام. ويسمح لأغلب النساء أن ينعمن بترف التدخين. ولا يعتبر النساء مهما علا(451/35)
مركزهن هذه العادة غير لائقة بهن، إذ أن رائحة أنواع التبغ الجيد المستعمل في مصر لطيفة جداً. ويلاحظ عادة أن شبك النساء أرشق من شبك الرجال وأكثر زخرفة. ويكون مبسم الشبك أحياناً من المرجان بدلاً من الكهرمان. ويستعمل النساء العطور مثل المسك وقط الزباد الخ وكذلك الأدهان بكثرة. ويستعملن بضعة عقاقير تؤكل أو تشرب للحصول على بدانة ملائمة وبعض هذه المسمنات تثير الاشمئزاز إلى أقصى حد، لأنها تتكون خاصة من الخنافس المسحوقة. وقد تعود كثير من النساء مضغ اللبان واللادن اللذين يطيبان النكهة، كما تعودن كثرة الوضوء ليكن طاهرات. ولا يبذل النساء وقتاً طويلاً في التبرج، وقلما يغيرن ملابسهن طول اليوم بعد أن يلبسن في الصباح. ويضفرن شعرهن في الحمام ولا يحللنه بعد ذلك عدة أيام
والاعتناء بالأطفال أول ما يهتم به السيدات المصريات، وعليهن أيضاً إدارة الشئون المنزلية؛ إلا أن الزوج وحده في أغلب الأسر يقوم بنفقات المنزل. ويمضي السيدات ساعات الفراغ غالباً في الأشغال بالإبرة، وعلى الأخص في تطريز المناديل والطرح بالحرير الملون والذهب على إطار يسمي (منسج) أنظر شكل 49، وتكسب الكثيرات، حتى في منازل الأثرياء، من تطريز المناديل وغيرها بهذه الطريقة إذ يستخدمن (دلالة) تبيعها في السوق أو في حريم آخر. وكثيراً ما تشغل زيارة حريم لحريم آخر اليوم كله تقريباً. ولا تخرج تسلية النساء عن الأكل والتدخين واحتساء القهوة والأشربة والثرثرة وعرض زينتهن. ولا يسمح لرب الدار في مثل هذه الأحوال أن يدخل الحريم إلا لعمل خاص لابد منه. ويجب عليه في هذه الحالة أن يعلن قدومه، ويترك للزائرات الوقت الكافي للاحتجاب أو الانسحاب إلى غرفة أخرى. وينغمس النساء في المرح والبهجة لاطمئنانهن بالوحدة وعدم المفاجأة، ولميلهن بطبيعتهن إلى الجذل والتبسط. وقد تقوم إحدى السيدات أحياناً بتسلية الجماعة عندما ينضب الحديث العادي بسرد القصص العجيبة أو الفكاهية. وقلما يعلم السيدات المصريات الموسيقى أو الرقص، ولكنهن يتلذذن كثيراً بسماع محترفي الموسيقى والرقص ورؤيتهم. وكثيراً ما يسلين أنفسهن وضيفاتهن بالضرب على (الدرابكة) و (الطار) إذا لم يتيسر وجود العازفين. ويندر ذلك في المنازل التي يستطيع المارة أن يسمعوا منها أصداء الاحتفال. وكثيراً ما يستخدم القيان (العوالم) في أي مناسبة تبهج النساء(451/36)
كميلاد طفل أو الاحتفال بختان أو عرس الخ. ولكن ذلك لا يحدث عند العائلات الجليلة في المناسبات العادية لاعتبارها إياه مخالفاً للآداب. وقلما يقبل في الحريم الغوازي اللاتي يعرضن رقصاتهن سافرات في الشوارع؛ ولكنهن يرقصن أمام المنزل أو في الفناء في مثل المناسبات السالفة الذكر، وإن كان هذا يبدو للكثيرين غير لائق. ولا يستأجر (الآلاتية) دون غيرهم لتسلية النساء، وإنما يستأجرون خاصة لتسلية الرجال ويعزفون دائماً في مجتمعاتهم، ويسمعون مع ذلك بوضوح داخل الحريم.
يركب نساء الطبقتين العليا والوسطى الحمير عندما يخرجن للزيارة أو لغيرها ويجلسن على براذع مرتفعة عريضة تغطى بسجادة صغيرة (أنظر شكل رقم 50) ويسير في ركابهن رجل واحداً أو اثنان كل منهما في جانب. ويركب نساء الحريم جميعهن معاً الواحدة خلف الأخرى. ويظهرون وهن راكبات بالطريقة الموصوفة في هيئة غريبة جداً، فيبدون غير مطمئنات في جلستهن على هذا الارتفاع. ويطلق على الحمار الذي يجهز بالبرذعة المرتفعة: (الحمار العالي) ولكني أعتقد أن الحال ليست من الصعوبة بحيث تظهر، فإن الحمار قد شد حزامه جيداً ورسخت مشيته فهو يسير ببطء ورهو وحركة سهلة. ويركب سيدات الطبقات العليا كما يركب سيدات الطبقات الوسطى، الحمير المجهزة بهذه الطريقة. ويندر أن يرين فوق البغال أو الجياد. وتكرى الحمير على العموم؛ وإذا لم تستطيع السيدة الحصول على حمار عال تركب آخر مما يركبه الرجال بعد أن يوضع على البرذعة سجادة. وكثيراً ما يفعل ذلك نساء الطبقة الدنيا ونساء الطبقة الوسطى. ولا يمشي السيدات أبداً في الخارج إلا إذا قصدن مكاناً قريباً جداً؛ فيمشين ببطء وارتباك لصعوبة الاحتفاظ بالخف في أقدامهن، ويمسكن أطراف الحبرة الأمامية بالطريقة الموضحة في شكل 27. ويتمتع النساء سواء ركبن أو مشين بالاحترام الزائد عند العامة؛ فلا يشخص إليهن حسن التربية وإنما يحول نظره إلى اتجاه آخر. ولا يرى النساء في الخارج ليلاً أبداً إلا إذا اضطرهن إلى ذلك ضرورة ملحة. والقاعدة العامة أن يعود النساء من الزيارة قبل غروب الشمس. ولا يذهب سيدات الطبقة الراقية إلى الحوانيت أبداً وإنما يرسلن في طلب ما يشأن. وهناك (دلالات) يدخلن الحريم لعرض أنواع الزينة وأمتعة النساء الخ. ولا يذهب أولئك السيدات إلى الحمام العمومي إلا إذا دعين لمرافقة بعض صديقاتهن إذ أن لأغلبهن(451/37)
حماماً في المنزل
أما الحياة المنزلية عند الطبقات السفلى فهي بسيطة إلى حد أنها بمقارنتها بحياة الطبقات الوسطى والعليا التي تكلمنا عنها الآن لا يفيدنا العلم بها شيئاً كبيراً
تتكون الطبقات السفلى من الفلاحين، ما عدا فئة قليلة جداً تسكن المدن الكبيرة على الأخص. وأغلب هؤلاء الذين يسكنون المدن الكبيرة والقليل ممن يسكن المدن الصغيرة وبعض القرويين هم من صغار التجار أو أهل الحرف أو ممن يكتسبون معاشهم بالخدمة أو بمختلف الأعمال. وأرباحهم على أي حال طفيفة تكاد تكفيهم. وقد لا تضمن لهم ولعائلاتهم ضروريات الحياة
ويتكون طعام الطبقة السفلى على الأخص من الخبز المصنوع من الدخن أو الذرة، وثم من اللبن والبيض والفسيخ والخيار والشمام والقرع على أنواع كثيرة الاختلاف، والبصل والكراث والفول والحمص والترمس والعدس الخ، والبلح الطازج والمجفف والمخللات، ويأكلون أكثر الخضروات نيئة. ويقطع الفلاحون كيزان الذرة عندما تقرب من النضج ويأكلونها مشوية أو مطبوخة. ولا يدخل الفلاحون الأرز في طعامهم العادي لغلو ثمنه. وقلما يذوقون اللحم. وينعم أغلبهم مع ذلك بترف تدخين تبغ بلدهم الرخيص الذي يجفف ويفرم. ولون هذا التبغ يضرب إلى الخضرة وهو لطيف العطر. وكثيراً ما لا يجد الفقراء غير (الدقة) التي وصفتها في فصل سابق يغمسون فيها خبزهم بالرغم من بخس أثمان الأطعمة المذكورة آنفاً. ومما يثير الدهشة أن يكون الفلاح قوياً صحيحاً مع بساطة طعامه وقلته وما يعانيه من كد
وقلما يحيا نساء الطبقات السفلى حياة الخمول؛ وإن بعضهن ليكد أكثر من الرجال. وأهم أشغال النساء تجهيز الطعام، وجلب المياه، في جرار كبيرة يحملنها على الرأس من الموارد وغزل القطن والكتان أو الصوف، وعمل (الجلَّة) أقراصاً مستديرة مسطوحة من روث البهائم المخلوط بالتبن، للوقود، ويقمن هذه الأقراص على حوائط منازلهن أو فوق أسطحها أو على الأرض لتجفف في الشمس ثم يستعملنها لوقود الأفران ولأغراض أخرى. ويخضع نساء الطبقة السفلى لأزواجهن أكثر من خضوع نساء الطبقات الراقية. ولا يسمح دائماً للمرأة الفقيرة أن تتناول الطعام مع زوجها. وإذا خرجت معه سارت وراءه. والعادة أن(451/38)
تحمل الزوجة كل شيء إلا الشبك أو العصا. ويفتح بعض النساء في المدينة حوانيت يبعن فيها الخبز والخضر الخ. . . فيساعدن مساعدة الزوج أو أكثر في الإنفاق على الأسرة. ويضع الفقير الذي يرغب في الزواج مسألة المهر موضع الاعتبار. ويكون المهر عادة من عشرين ريالاً إلى أربعة أضعاف هذا المبلغ إذا كان نقوداً فقط، ويقل إذا شمل بعض الملابس كما هو الحال في معظم القطر المصري. وقلما يتردد الفقير في الزواج إذا استطاع أن يقدم المهر، فأي مجهود إضافي يساعده على قوت زوجه وطفلين أو ثلاثة أطفال. ويصلح الأطفال عند سن الخامسة أو السادسة لرعي القطعان، ويساعدون آباءهم في أعمال الفلاحة عندما يتقدم بهم السن إلى أن يتزوجوا. وكثيراً ما يعتمد الفقير في مصر على أولاده الاعتماد التام لمعيشته في سن الكهولة؛ ولكن أغلب الآباء يحرمون من يحرمون من هذه المساعدة؛ فيقضون حياتهم على السؤال أو يموتون جوعاً. وقد حدث من زمن غير بعيد أن ألقى محمد مرساه في قرية على شاطئ النيل أثناء سفر له من الإسكندرية إلى القاهرة، فأسرع إليه رجل فقير وأمسك بكمه بقوة لم يستطيع معها أحد من الحاشية منعه، وشكا إليه أنه كان وقتاً ما في رغد، ثم تحول الأمر إلى عوز تام بتجنيد أولاده في الجيش وهو كبير السن. فخفف عنه الباشا بأن أمر أن يعطي له أغنى رجل في القرية بقرة.
وقد يكون الأطفال مع ذلك حملاً ثقيلاً على والديهم الفقراء، ولذلك لا تجد من النادر في مصر أن يباع الأطفال علناً بواسطة أمهاتهم أو نساء أخريات يستخدمهن الآباء لذلك. ولكن هذا لا يكون إلا في حالة الضيق الشديد.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(451/39)
ساعة حب. .
للدكتور زكي مبارك
(قصيدة يغنيها الموسيقار عبد العزيز محمود عن طريق
الإذاعة اللاسلكية)
يا مليكَ الُحسن عزَّتْ دولُتلكْ ... ورَعَت آلهِةُ الجبَّ صِباكْ
شِرْعةٌ الإسعاد فينا شِرعتُكْ ... وهُدَى الإشفاق والعطف هُداكْ
أنتَ أنقذْت فؤادي من جَوَاهْ ... وسَقيتَ الروحَ أكوابَ الصفاءْ
آن أن يَنْسَى فؤادي ما شجاهْ ... نَسَخ الإقبالُ أيام الشقاءْ
ساعةٌ مرَّت وفي القلب هواكْ ... ساحرَ النَّغَمة خفاَّقَ الجَناح
يَرْشُفُ اللَّثمةَ من كأْسِ لمَاكْ ... في ظِلال الأنسِ والصَّفو المتُاح
سَكَبَتْ نجواكَ في الروح الأمانْ ... وأراني الوصلُ أسرارَ جمالِكْ
فتمثَّلْت فراديسَ الجِنانْ ... ورأيت الُخلدَ منَضْوُرَ وصالِكْ
وقَفَ النَّجْمُ وَألْقَى بالهُ ... ليَعُدَّ اللَّمحَ من قلبي وقلبكْ
وَيْحَ هذا النجمِ مماّ هاَلهُ ... في ضمير الليل مني حبي وحبَّكْ
غارت الأنجم من قلبي الطَّرُبْ ... ما يقول الناسُ لو شامُوا غرامي
أنا بالأفنان فتَّاك لَعُوب ... يزدهيني الغيَّ في تِيِه هيُامي
شُبْهَةٌ في قلبك البِكرْ يَلُوحْ ... طيفها المرُتاَب في إنسان عينكْ
أنا يا مولايَ لو تَعلَمُ روُحْ ... يَهْصِر المطلولَ من مائدِ غُصْنِكْ
تَنْظُرُ الساعة من حينٍ لحينْ ... لَيْتَ شعري ما الذي يَسْتعجِلُكْ
إن هذا الوصل أحلامُ سنينْ ... فاتق الحبّ ودّعْ ما يشَلُكْ
زكي مبارك(451/40)
بين عهدين
للأستاذ سيد قطب
1 - العش المهجور
طِرْتِ عَنْ عُشَّكِ الَجْمِيلِ فأُوبي ... شَدَّ مَا اشْتَاقَ طَيْرُهُ أَن تَؤَوبي!
كانَ دِفئاً وَكانَ مَرْتَعَ صَفْوٍ ... فكَسَاهُ الصِقَّيع ثُوبَ القُطوب
مُنْذُ غَادَرْتِهِ قَدِا اْنَتَثَرَ الَحْبُّ ... وَطاَحَتْ بهِ رِيَاحُ الْهُبُوبِ
وَتخَلَّتْ عِنَايةُ اللهِ عَنْهُ ... فَهُوَ في وَحْشةِ الغرِيبِ الكئِيب
وَلَيَالِيهِ شاَجيَاتٌ حَيَارَى ... يَتَرَامَيْنَ حَوْلَهُ مِنْ لُغُوبِ
2 - نداء العودة
عُودي إلى الْعُشَّ عودِي ... وَرَفْرفِي مِنْ جَدِيد
وَرَنَّميِ بالأَغَاني ... في جَوَّهِ وَاستَعِيديِ
وَأَدْفئِي بالأَمَاني ... مَا مَسَّهُ مِنْ جُمُوِدِ
وَتَمْتِمِيِ بالتَّعَاوِيذِ (م) ... وَالرُّقَى وَالنَّشِيدِ
وأطْلِقيِ فِيهِ لَحْناً ... يَشْدُو لِحُبٍّ سَعِيدِ
وَيَطْرُدُ الْيَأْسَ عنْهُ ... بالشَّدْوِ وَالتَّغْرِيدِ
طَالَ انْتِظاَرُكِ وَهْناً ... في ظُلْمَةٍ وَكنُوُدِ
وَالرَّيحُ تَعْبثُ فيهِ ... بكلَّ غالٍ مَجِيدِ
وَكلُّ خَفْق جناحٍ ... أَوْ رَجْفَةٍ مِنْ بَعِيدِ
يخاَلُ فِيها مَآباً ... بَعْدَ النَّوَى وَالشرودِ
عُوديِ إلى الْعُشَّ عُوديِ ... وَرَفْرِفِيِ من جدَيدِ
أَضْنَاكِ طُولُ الشُّرُودِ ... وَلَذَّةُ التَّصْعِيدِ
عُودِيْ إلى الدَّفءْ فِي عُشَّ ... كِ الأَمِينِ الوَدَودِ
الْعُمْرُ يَمْضيِ فَهَيَّا ... نُعِيدُهُ لِلْوُجُودِ
سيد قطب(451/41)
البريد الأدبي
إلى الدكتور زكي مبارك
في أي عصر نحن حتى توجه هذه الكلمات المخزية إلى شخص المرأة وهي التي ولدت العباقر وساعدت على قيام الحضارة؟ وكيف تستطيع هذه المرأة التي وصفتها بهذا الوصف ورميتها بهذا الخلق أن تنشئ طفلاً على الكرامة، أو تطبع أمة على الاستقلال؟ ثق يا أستاذ أن الأمم الشرقية ما سهل عليها تحمل الاستعباد والذل الجيل بعد الجيل إلا لأن الزوجات كن مستعبدات مستذلات. وهل تراني في حاجة إلى أن أذكرك بهند أم معاوية التي لم تخضع لزوجها أبي سفيان زعيم مكة وسيد قريش بل رمته بالحصباء وأغلظت له القول وعيرته وطردته حين آتاها يزف إليها البشرى يوم الفتح أن من دخل بيته فهو آمن. هل تجهل أنها أنجبت خير ملوك المسلمين سياسة، وأكيسهم معاملة: معاوية الذي أنشأ دولة وحكم عشرين سنة استطاع بعدها أن يبايع لابنه الفاسق دون أن يعارض معارض؟ حسبي ما ذكرت؛ ولعلك راجع عما كتب
(سوهاج)
(بثينة)
(الرسالة):
جاءنا في هذا الموضوع كلمات أخرى لبعض السيدات الفضليات فيها كثير من القسوة والعنف. وقد لامت إحداهن الرسالة على أن نشرت هذه الكلمة؛ والرسالة التي تسجل ألوان الأدب الحديث لا تؤدي واجبها لتاريخ الأدب إذا مثل هذا الرأي من آراء كاتب معروف
في المجتمع اللغوي
أجتمع مجلس المجمع اللغوي في الأسبوع الماضي، ونظر في. كثير من الأعمال، وكان في مقدمة ما تناوله بالبحث مسألة الأعضاء الشرقيين والمستشرقين، وهل يمكن دعوتهم هذا العام، ليتسنى عقد المؤثر السنوي، فعرض المجلس ما يقوم في سبيل ذلك من العقبات، واستقر رأيه على أن يصرف النظر عن عقد المؤتمر، وأن يحاول المجمع ما أمكن لتوثيق(451/43)
الصلات بينه وبين الأعضاء غير المقيمين بالقطر المصري، كل في مكانه، وذلك باطلاعهم على قرارات المجمع ومصطلحاته وسائر أعماله، والرغبة إليهم أن يوافوا إدارة المجمع بنقداتهم واقتراحاتهم فيما يعود بالفائدة على اللغة العربية، حتى يكون في هذه الصلة بعض العوض عن المؤتمر المتعذر عقده بسبب الظروف الدولية الراهنة
وقد تقرر أن يعقد مجلس المجمع في الثاني والعشرين من فبراير الحاضر ليوالي النظر في الأعمال المطروحة عليه، وفي طليعتها ما أنتجته لجان المجمع المختلفة من المصطلحات في ضروب العلوم والفنون والآداب.
وينتظر أن يفتتح المجلس درسه للمصطلحات بما أتمته اللجنة الطبية من أشتات الكلمات في فروع الطب، وسيتابع المجلس عقد جلساته مرتين في كل شهر.
في مطالعاتي
كثيراً ما يمر القارئ في كتبنا على أغلاط فلا يلقي لها بالاً وهي ذات شأن، ولقد كنت جمعت من ذلك مجموعة ثم أهملتها فما انتفعت بها ولا انتفع الناس، لذلك رأيت أن أبادر بنشر كل ما أعثر عليه من ذلك:
1 - يروى كثيرون هذا البيت المشهور هكذا:
وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه (بيثرب)
و (يثرب) هي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء في القاموس في مادة ترب ما نصبه: (ويترب كيمنع موضع قرب اليمامة وهو المراد بقوله: مواعيد عرقوب أخاه بيترب)؛ وإذن فالكلمة بالتاء المثناة لا بالثاء
وفي لسان العرب ج1 ص224 قوله: (ويترب بفتح الراء موضع قرب اليمامة؛ قال الأشجعي (وذكر البيت السابق)؛ ثم قال: هكذا رواه أبو عبيدة (بيترب) وأنكر (يثرب)؛ وقال عرقوب من العماليق: ويترب من بلادهم ولم تسكن العماليق (يثرب)).
والميداني في كتابه (مجمع الأمثال) روى البيت بالتاء وذكر بيتاً آخر بالتاء، وقال يروى: (يعني البيت الأول) (بيثرب)
2 - ذكر الكتاب الكبير المرحوم جورجي زيدان في كتابه (تاريخ آداب العرب) الشاعر عبد الله بن الدَّمَيْنة في الشعراء الجاهليين في غير موضع من كتابه، وعند الترجمة له قال:(451/44)
(وبقي جماعة منهم - بعثي الشعراء الجاهليين - لا يجتمعون في باب وهم كثيرون نكتفي بذكر أشهرهم)
ثم ذكر ابن الدمينة، وهذا الكلام خطأ من وجهتين: الأول أن ابن الدمينة شاعر أموي لا جاهلي؛ والثاني أنه من أكبر شعراء الغزل الرقيق
3 - قال الأستاذ الرافعي في كتابه (تاريخ آداب العرب) عند الكلام على أسواق العرب: (أما عكاظ فهي أعظم أسواقهم اتخذت سوقاً بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة (540 للميلاد)) وكنت أظن أن هذا الرقم خطأ مطبعي حتى رجعت إلى دائرة معارف القرن العشرين للأستاذ وجدي فوجدته بنصه
ومعرف أن عام الفيل هو العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عام 570 للميلاد، كما في تاريخ الطبري وأبي الفداء وكتاب الكامل لأبن الأثير، وكتاب أخبار الدول وآثار الأول وفي العقد الفريد؛ قالوا: ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول وقال بعضهم لليلتين خلتا منه؛ وقال بعضهم بعد الفيل بثلاثين يوماً؛ فهذا جمع ما اختلفوا في مولده
وهذه العبارة الأخيرة من صاحب العقد خطأ، فإنهم اختلفوا في مولده صلى الله عليه وسلم على أقوال كثيرة
وبعد، فجمهرة الكتب على أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وعلى أن عكاظ قامت بعد الفيل بخمس عشرة سنة، فتكون أقيمت في سنة 585 للميلاد
علي محمد حسن
حول مقال
كنت كتبت في العدد (438) من (الرسالة) الزهراء كلمة صريحة بعنوان: (بين الأدبين المصري والسوري) وبتوقيع (كاتب لبناني) أنعى فيها على الأدباء السوريين واللبنانيين غرورهم وزهوهم اللذين كانا السبب الأول في اقتصارهم على إنتاج ضئيل هيهات أن يقاس بإنتاج المصريين الغزير
ولم يكن من عجب أن تنبري جريدة (المكشوف) الغراء دفاعاً عن الأدب اللبناني من أن(451/45)
يخدش أو يُمس. فكان أن نشرت المقال لتطلعَ عليه القراء اللبنانيين، ولمُ تُعلق علي الكلمة إلا بقولها:
(على أننا نشك في أن يكون هذا الكاتب لبنانياً على الرغم من توقيعه؛ فإن بعض تعابيره (ك) يقرزم وغيرها لا تمتُ إلى الذوق بصلة، ونلاحظ أن الكمية عنده تفضل القيمة. . .)
وكل ما أملك من قول، هو أنني لن أقسم أنن لبناني، فبحسب (المكشوف) أن ترجع إلى غير عددٍ من أعدادها لترى أسمي الكامل، وبحسبها كذلك أن تعود إلى المقال فتروَّى فيه لتتبين خطأ (ملاحظتها). . .
بيد أن الذي سرني هو أن (المكشوف) الغراء لم ترفع علم النكير في هذه المرة، فقد أيقنت أن الكلمة التي نشرتها لم تعدُ الحقيقة
(بيروت)
سهيل إدريس
إلى الأستاذ ناجي الطنطاوي
كنت أقرأ في كتاب (كشف الحجاب والران، عن وجه أسئلة الجان) للشعراني، حتى وصلت إلى السؤال (56) وهو:
ما أقرب الطرق إلى دخول حضرة الله تعالى؟ فأجاب بما ملخصه أقرب الطرق كثرة ذكر الله تعالى، فلا يزال العبد يذكر ربه، والحجب تتمزق عنه شيئاً بعد شيء؛ حتى يقع (الشهود القلبي) فإذا حصل الشهود، استغنى عن الذكر بمشاهدة المذكور، فلو ذكر العبد ربه في تلك الحضرة، كان غير لائق بالأدب.
إلى أن قال: وقد أنشدوا في حضرة المشهود:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنكشف الرذائل والغيوب
وترك الذكر أفضل كل شيء ... وشمس الذات ليس لها مغيب
وختم جوابه بقوله: وأنشدوا في ترك الذكر في حضرة الشهود
فترك الذكر أولى بالشهود ... وذكر الله أولي بالوجود
فكن إن شئت في وجد الشهود ... وكن إن شئت في فضل الوجود(451/46)
عند ذلك وضح لي معنى البيتين الأوليين وضوحاً لا يحتاج إلى تبيان، وتذكرت ما دار في مجلتنا المحبوبة (الرسالة) حول هذين البيتين في الأعداد 375، 378، 382 بحالة تغاير ما هو مذكور هنا، اضطرت الأستاذ سعيد جمعة إلى تأويل معناهما. ولو أنه شرحهما بحالتهما الراهنة لما احتاج إلى تأويل وعناء وشرح حال.
هذا ما عن لي أن أذكره وفاء لمجلتنا الرشيدة المحبوبة.
(شطانوف)
محمد منصور خضر
نسبة شعر
في أثناء مطالعاتي ما يختص بالأدب العباسي رأيت الكامل للمبرد (ج2 ص254) يورد هذه القصة: (دخل شبل بن عبد الله مولى بن هاشم على عبد الله بن علي وقد أجلس ثمانين رجلاً من بني أمية على سُمُطِ الطعام فمثل بين يديه فقال:
أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميْل من الزمان وياس
لا تقيلن عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رَقْلَةِ وعراس
خوفها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواسي
إلى أن قال:
نعم شبل الهراش مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسطت عليهم البسط، وجلس عليها ودعا بالطعام وإنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً. وقال لشبل لولا أنك خلطت كلامك بالمسألة لأغنمتك جميع أموالهم). وقد عجبت كثيراً بعد أن فرغت من تلاوة هذه القصة؛ إذ أنني أحفظ من قديم هذا الشعر منسوباً إلى رجل آخر غير شبل يخاطب به رجلاً آخر غير (عبد الله). . . فرجعت بالذاكرة حتى اهتديت إلى الكتاب الذي أخذت عنه، وهو (الأغاني) فصاحبة أبو الفرج الذي ينتسب إلى بني أمية يعنون فصلاً في (ج4 ص92 - 96) بقوله (ذكر من قتل أبو العباس السفاح من بني أمية) ويدير أبو الفرج فصله هذا على قصة سديف بن ميمون(451/47)
الشاعر فيزعم أنه دخل على أبي العباس بالحيرة وعنده بنو هاشم وبنو أمية فأنشده قصيدته:
أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العباس. . . الخ
ثم قال بعد أن روى الشعر: (فتغير لون أبي العباس وأمر بمن في مجلسه من الأمويين فأهمدوا)
قلت لنفس بعد أن تلوت هذا وذاك. . . إنه لو صحت الرواية الأولى (وهذا ما نعتقده) لوجب أن يغير الحكم على أبي العباس بأنه كان سفاكا للدماء بهذه الصورة المرعبة التي يصوره بها المؤرخون فإنهم لا يكادون يستدلون على فظاعته وقساوته إلا بهذه الرواية
ثم قلت لنفسي أيضاً وأنا حائر بين هذا وذاك: ما أحْوجَ أدبنا العربي إلى غربال دقيق
عبد العليم عيسى
(الرسالة):
لقد نشرت الرسالة في تحقيق هذا الموضوع مالا مزيد عليه، مما كتبه الأساتذة: عبد الحميد العبادي، ومحمود شاكر، وعبد المتعال الصعيدي، فارجع إليه(451/48)
الكتب
المؤلفات العربية القديمة
وما نشر منها في سنة 1940
للأستاذ كوركيس عواد
(تتمه)
33 - المفاضلة بين الصحابة
لابن حزم الأندلسي (456هـ). نشره الأستاذ سعيد الأفغاني بعد أن قدّم له ببحثٍ ضافٍ في ابن حزم. وقع في 160 صفحة من الكتاب، وذّيله بفهارس متعددة للأعلام والأماكن والشعار. (المطبعة الهاشمية، دمشق، 420ص)
34 - مقدمة تحفة الأحوذي لجامع الترمذي
(الترمذي، صاحب أحد الكتب الستة في الحديث، توفي سنة 279هـ)، نشرته مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن في الهند
35 - المكافأة وحسن العقبى
لأحمد بن يوسف الكاتب المعروف بابن الداية (340هـ). حققه وشرحه وصححه الأستاذ محمود شاكر. مطبعة الاستقامة القاهرة، 14 صفحة لمقدمة التي درس فيها حياة المؤلف، و 160ص للمتن والتعليقات والفهارس
36 - المنتظم في تاريخ الأمم
لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي البغدادي (597هـ). المجلدات 5 - 10 نشرتها مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن في الهند. المجلدات 1 - 5 ظهرت سابقاً
37 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
لابن تغرى بردى (874هـ). المجلد الثامن، نشره القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، العناية(451/49)
بهذا المجلد بادية في التعليقات والشروح والفهارس، كما هو الشأن في المجلدات السابقة (مطبعة دار الكتب المصرية. القاهرة، 342ص) المجلدات 1 - 7 صدرت خلال 1929 - 1938. في هذا المجلد حوادث السنين 690 - 709هـ ـ، وسيليه التاسع
38 - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية
للشيخ جمال الدين يوسف الزيلعي (762هـ ـ). نشرته مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن في الهند، الكتاب في علم الحديث
39 - وثائق تاريخية عن حلب
فيها حوادث حلب وأخبارها، للسنوات 1855 - 865 م أخذاً عن يومية نعوم بخاش وغيرها من المخطوطات، نشرها الأب فردينال توتل اليسوعي، بتعاليق وفهارس، (المطبعة الكاثوليكية بيروت، 234 + 10ص)، ظهرت هذه الوثائق متتابعة في مجلة المشرق، ثم طبعت على حدة
المستدرك على مطبوعات سنة 1939
1 - إغاثة اللهفان في مصايد الشطان
لابن القيم الجوزية (751هـ ـ)، المجلد الأول، نشره الأستاذ أحمد حامد الفقي (مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 386ص)
2 - الثمالة
لجميل صدقي الزهاوي (1936م) وهي الأشعار التي عملها الزهاوي في أواخر أدوار حياته (مطبعة التفيض الأهلية، بغداد 76ص)
3 - الجامع لأحكام القرآن
لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (671هـ ـ) الجزء التاسع، نشرة القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، (مطبعة دار الكتب المصرية، 386ص) الأجزاء 1 - 8 صدرت سابقاً
4 - درة الناصحين(451/50)
لعثمان بن حسن بن أحمد الخوبوي (فرغ من تأليفه سنة 224هـ)، وهي مجالس مشتملة على تفسير آيات من القرآن وشرح أحاديث في الوعظ أيضاً نشرتها المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة (320ص)، الكتاب طبع قبل هذا
5 - ديوان حافظ إبراهيم
لحافظ بك إبراهيم (1932م)، الطبعة الثانية، أظهرتها وزارة المعارف المصرية. ضبطها وصححها وشرحها ورتبها الأساتذة: أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الإبياري، وبمراجعة محمد مختار يونس. (مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة. مجلدان: الأول 47 + 318 والثاني 262ص)
6 - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة
لأبي الحسن علي المعروف بابن بسّام الشنتريني الأندلسي (542هـ ـ). القسم الأول من المجلد الأول نشرته كلية الآداب بالجامعة المصرية (مطبوع رقم 26)؛ مستعينة بمراجعة السادة: محمد عبده عزام، خليل عساكر، بخاطره الشافعي. وأشرف على عملهم أساتذة الجامعة: أحمد أمين، مصطفى عبد الرازق، عبد الحميد العبادي، عبد الوهاب عزام، طه حسين. وشاركهم في بعض ذلك المستشرق ليفي بروفنسال - (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ي + 416ص) الكتاب مرجع هام في تاريخ الأندلس وشعرائها وبلغائها وكتابها. بقية أقسامه شيئاً بعد شيء
7 - رسائل فلسفية
لأبي بكر محمد بن زكرياء الرازي (320هـ ـ)، مع قِطَع من كتبه المفقودة؛ جمعها وصححها المستشرق (باول كراوس) الجزء الأول، نشرته الجامعة المصرية (القاهرة، ص316)؛ يتألف هذا المجلد من الرسائل التالية:
1 - كتاب الطب الروحاني
2 - كتاب السيرة الفلسفية
3 - مقالة فيما بعد الطبيعة
4 - مقالات في أمارات الإقبال والدولة(451/51)
5 - من كتاب اللذة
6 - من كتاب العلم الإلهي
7 - القول في القدماء الخمسة
8 - القول في الهيولي
9 - القول في الزمان والمكان
10 - القول في النفس والعالم
11 - المناظرات بين أبي حاتم الرازي وأبي بكر الرازي
8 - شرح ألفية بن مالك
لنور الدين أبي الحسن الأشموني (900هـ ـ). نشرهُ الأستاذ محمد محي الدين عبد الحميد (مجلدات، 532 + 528ص. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة). ابن مالك صاحب الألفية في النحو، توفي سنة 672هـ ـ.
9 - شرح ديوان امرئ القيس ومعه أخبار المراقسة وأشعارهم
في الجاهلية وصور الإسلام
أشعار امرئ القيس (566م) جمعها ورتبها وشرحها الأستاذ حسن السندوبي، وأضاف إليها أخبار المراقسة (مطبعة الاستقامة، القاهرة، 192 + 112ص)
10 - شرح ديوان الحماسة
لأبي زكرياء يحيى بن عليّ، الشهير بالخطيب التبريزي (502هـ ـ) حققه وضبط غريبة وعلق حواشيه ووضع فهارسة، الأستاذ محمد محي الدين عبد الحميد (4مجلدات، مطبعة حجازي، القاهرة 464 + 464 + 420 + 440ص). وديوان الحماسة، هو لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي (231هـ ـ)، جمع فيه ما اختاره من أشعار العرب الأقدمين، ورتبه على عشرة أبواب: الحماسة، المراثي، الأدب، التشبيب، الهجاء الإضافات، الصفات، سيرة الملح، مذمة النساء، وقد اشتهر الكتاب ببابه الأول.
11 - الكليات في الطب(451/52)
لابن رشد الفيلسوف الطبيب الأندلسي (595هـ). نشرته بالتصوير الشمسي، لجنة الأبحاث العربية الأسبانية، ضمن منشورات معهد الجنرال فرانكوا. (مطبعة الفنون المصور، بوسكا، العرائش (المغرب)، 30 + 34 + 231ص)
12 - المثل السائر في أدب الكتاب والشاعر
لضياء الدين بن الأثير الموصلي (637هـ ـ). حققه الأستاذ محمد محي الدين عبد الحميد. (مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده) القاهرة. مجلدان، الأول: ز + 429 والثاني 419ص)
13 - مختار الصحاح
لمحمد بن أبي بكر الرازي (620هـ ـ) طبع هذا المعجم على الحجر بحجم صغير للجيب. (مطبعة الترقي دمشق، 641ص)
14 - نزهة الرفاق عن شرح حال الأسواق بدمشق
ليوسف بن عبد الهادي المعروف بابن المبرد) (فرغ منه سنة 883هـ ـ). وهي رسالة نشرها الأستاذ حبيب زيات في مجلة المشرق بيروت (27 (1939) ص 18 - 28) في هذه الرسالة بيان بجملة أسواق دمشق في المائة التاسعة للهجرة التاسعة للهجرة وما يتعلق بها وما كان يباع فيها
هذا ما أمكنني الوقوف عليه حتى هذه الساعة، وإنني موقن أن قد فاتني طائفة منها على الرغم من تتبعي لها، وقد سقت وجه العذر عن هذا التقصير في صدر المقال، ورجائي من القراء أن يتفضلوا باستدراك ما لم أقف عليه، ولهم أخلص الشكر وأطيب الثناء.
كوركيس عواد(451/53)
المسرح والسينما
محطة الإذاعة
إن محطة الإذاعة وسيلة من وسائل التهذيب والترقي عند الأمم، ولكنها في مصر بوق تنفخ فيه فئة معينة من الناس. واقفة عند حدود بدائية من الفن والفكر. وأبين ما يتضح من هذه الحدود تلك الأغاني الخائرة (معنىً وموسيقى) التي تجأر بها حناجر المطربين فتتناقلها أفواه الناس في سائر الأقطار - صورة من الفن المصري والأدب المصري!
يا ضيعة الشعر والغناء في هذا البلد. . . هل يحسب المشرفون على أمر المحطة أن ما يختارونه ليذاع لا تردده إلا أركان مصر حتى يتساهلوا كل هذا التساهل في توخي الدقة والصلاحية فيما يذاع؟
إن البلدان العربية تعني بالاستماع إلى الإذاعة المصرية فيجب أن نعطيها أمثلة صادقة عن الشعر والغناء في مصر، ولكن المحطة - سامحها الله - تسرف في تنكب الصراط المستقيم ولا يقع اختيارها إلا على الأزجال الرخيصة، والموسيقي المتهالكة، والمطرب الناشئ المضطرب
إن الغناء والشعر غذاء الأرواح في كل بلاد الله. فماذا يمنع محطة الإذاعة أن تقدم شعراً طيباً فيه قوة الشباب وعفاف الهوى العذري بدلاًٍ مما نسمع من لغة ركيكة ومعان مبتذلة ولدينا - والحمد الله - شعراء موهوبون لهم من القصائد ما يبهر القلب، وما لو تغني به المغني الموهوب لأعطى المستمع فكرة سليمة عن الشعر والفن والغناء. ماذا يمنعها؟! أحد أمرين: إما أن المشرفين عليها جهلة، وهذا ما لا نعتقد. وإما أنها المحسوبية العمياء التي تسد الطريق إلى الحق والصواب. نرجو الله أن يوفق أولي أمر هذه المحطة إلى ما فيه الخير
صالات الرقص
إن جبين الحر ليندي خزياً كلما استعرض صالات الرقص في هذه الأيام السود
أي مصر! يا بلد الإسلام والمسلمين! كيف يسمح القوم أن تدار في رحابك المواخير علناً باسم الحرية؟! وكيف يرفع المصري وجهه وقد وصمه العار بأبشع ما يوصم به الرجل الشريف؟ لقد آن لنا أن نحارب هذه المباءات المتناثرة في أحضان القاهرة، فنأتي على ما(451/54)
فيها من أسباب الإجرام
قالوا يوم افتتحوا هذه الصالات: إنها لون من التسلية لا بد منه للبلد الراقي. وكانوا يعرضون فيه الرقص والغناء والرواية الهزلية ثم أضافوا (الفتح) إلى البرنامج، ثم هم يقتصرون الآن على شرب الخمور وارتطام الصدور في الصدور، وامتصاص دماء الرواد. . . فما معنى أن يسمح بفتح هذه المحلات (وهي عمومية) خاصة للشابين الماجنين. لا يدخلها عامر الجيوب إلا ويخرج منه صفر الجيب من المال مفلس الروح من الإيمان.
يخيل إلي أن انصراف الناس عن التمسك بالدين يغرى في نفوس بعض المسئولين نوعاً من أنواع الخمسة الجوعى.
أفلام جديدة
يدور العمل (الآن) بين جدران استديو مصر في صنع أفلام جديدة نذكر منها فلم (محطة الأنس) سيناريو وإخراج الأستاذ عبد الفتاح حسن، وتمثيل: علي الكسار، عبد العزيز خليل، عقيلة راتب، ماري منيب، وغيرهم. وفلم (الستات في خطر) تأليف الأستاذ فؤاد الجزايرلي وإخراج الأستاذ إبراهيم عمارة وتمثيل: فوزي الجزايرلي، مختار عثمان، عبد العزيز خليل، تحية كاريوكا، إحسان الجزايرلي، أمينه فهمي. وقد أوشك الأستاذ (محمد عبد الوهاب) أن ينتهي من فلمه الجديد (ممنوع الحب) الذي أخرجه الأستاذ محمد كريم. وقد انتهت شركة أفلام جلال من فلم (رباب) الذي ألفه وأخرجه الأستاذ أحمد جلال والذي سنشاهد فيه: ماري كويني، ثريا فخري، سميرة كمال، أحمد جلال، عمر جميعي، عبد الحميد زكي. ونذكر بهذه المناسبة أن أحد تجار الحمزاوي يعمل على تأليف شركة سينمائية جديدة اسمها (شركة أفلام عبد الجليل غازي) ولا يسعنا إزاء هذا المجهود إلا أن نرجو الله أن يوفق الجميع إلى ما فيه الخير للفن المصري الشرقي.
عبد الفتاح متولي غبن(451/55)
العدد 452 - بتاريخ: 02 - 03 - 1942(/)
من صور الريف
على المصطبة
على المصطبة الغبراء وفوق حصيرها الخشن جلس (البك) وفي عينيه نظرة يكسر من طولها الخجل، وعلى شفتيه بسمة يمد في عرضها الملق، وفي يمناه مسبحة يقطر من حباتها الرياء، وفي يسراه صحيفة وفدية لا تزال على طية البريد، وتحت قدميه بقية من وحل الشتاء تهدد حذاءه اللامع، وبين يديه وعن يمينه وعن شماله جلس الفلاحون يسارق بعضهم بعضا نظر المستفهم عن سر هذا التواضع الغريب، وسبب هذا التنازل المفاجئ، ورب الدار يذهب ويجيء في ربكة تبدو دلائلها على حركاته المضطربة، وكلماته المتقطعة، وتحياته المتكررة
صحيح أن صاحب المصطبة رفيع الصوت في القرية، نافذ الرأي في الناس؛ ولكنه منذ أيام قلائل كان في (دائرة) البك فريسة لغضبة هوجاء من غضباته أخذته بالشتم واللطم والسخرية، لأنه جرؤ على أن يسأل (الكاتب) عما له من حساب الإجارة، وأن يعترض على (الناظر) فيما عليه من نفقات الإدارة. ومن العسير على المنطق المحض أن يستخرج هذه النتيجة من تلك المقدمة!
كان البك المالك يرد التحيات الساذجة بالانحناء والإيماء والتحني؛ فكأنما انقلب جانبا معطفه الأسود جناحين رءومين يرفرف بهما على بنيه! وكان أكابر القرية قد تسامعوا بمقدم (مالكهم) على حال من التطامن والتبسط لم يألفوها منه، فأقبلوا على المجلس الذي شرفته سيارته بالوقوف عنده
ومهما يكن البك عيي اللسان كليل الذهن فلابد أن يتكلم ليكشف عن سر قدومه. وقد استأذنت الشيخ منصور راوي هذا الحديث أن أترجمه بلغة الناس فأذن
قال البك: لم أزركم منذ خمس سنوات لأن أعمال مجلس النواب لم تدع لي وقتا يتسع للاهتمام أسرتي، ولا للتفكير في معدتي، فكنت في أغلب الأحيان لا آنس بأهلي ولا أهنأ بطعامي. . .
فقال الشيخ منصور مقاطعا: ولكننا يا صاحب السعادة لم نقرأ لك كلمة واحدة في محضر من محاضر المجلس.(452/1)
فقال البك: ذلك لأن في المجلس فريقا يتكلمون وفريقا يعملون؛ وأنا من هذا الفريق
فقال الشيخ منصور بلهجة المستدرك الخبيث: ولكنك لم تفارق العزبة في أكثر الأيام التي ينعقد فيها المجلس!
فقال البك: ذلك لأن الكلام يكون في داخل المجلس؛ وأما العمل فيكون في خارجه
واندلق مالك القرية في الكلام ليأخذ علي الشيخ منصور سبيل الرد فقال: وقد أخذت الحكومة برأيي في كثير من مشكلات التموين وأزمات الحكم، واستفاد النواب من اقتراحاتي واعتراضاتي في (بوفية) المجلس وفي لجانه؛ ولكنني إذا انتخبت هذه المرة فسأوزع مواهبي وجهودي بالعدل بين الحكومة والأمة، وبين القرية و (الدائرة). سأنظر بعين الرحمة إلى ما يكابده إخواننا الفلاحون من الغلاء المرهق، والعناء المعني، والمرض المضني، والجهل المطبق، والعيش الخسيس؛ فأخفض الإيجار، وأردم البرك، وأرمم المسجد، وأعيد المدرسة، وأحمل الحكومة على أن تمدكم بالماء النقي والنور والكهربائي، وأن تخصكم بوحدة طبية أقل ما يكون فيها صيدلية وطبيب.
ولعلي بذلك أكون قد أوفيت لكم بذمتي، للوطن واجب خدمتي، وأديت لله زكاة قدرتي وثروتي
وكانت عين البك لا تنفك تراقب وجه الشيخ منصور، فلما رآه يتحفز للكلام بادره بقوله:
- وأنت يا شيخ منصور! ما هذا الحديث الذي قرأته لك في (الرسالة)؟
- أي حديث تعني يا بك؟
- حديثك عن صحة الفقير وثروة الغني
- لقد قلت شيئاً كهذا ولكنني لم أنشره
- زرني غدا في العزبة فأريك عدد الرسالة وأسر إليك بعض الحديث
قال البك ذلك ونهض فودع الناس ثم ركب سيارته الفخمة وذهب يعيد هذه الأسطوانة نفسها في قرية أخرى!
وأقبل القوم بعضهم على بعض يتساءلون: لماذا يعنى البك نفسه هذا العناء، ويستخذى الناس هذا الاستخذاء، وهو بحمد الله ضخم الثروة فلا يحتاج إلى مكافأة البرلمان، زمن المروءة فلا يصلح بطبعه لخدمة إنسان؟ فقال الشيخ منصور: إن في أربعين جنيها(452/2)
لمضربا، وإن في مزايا النيابة لطماعية. وإن الله الذي فطر بعض النفوس على الأثرة والشح جعل من خصائصها الوضاعة إذا تسامى المطلب، والضراعة إذا تجافى المطمع. وقد رأيتهم هذا الرجل المتكبر المترفع الكز كيف طامن من كبره، ورد من جماحه، وبسط من يده، لتعطوه أصواتكم في الانتخاب، حتى إذا انتخب عاد إلى معاملتكم بالسفه، ومحاسبتكم بالدناءة، واستغلالكم بالشره، ومقاطعتكم بالأنفة. إنه هو وأمثاله لا يرون للفلاح قيمة ولا كرامة إلا الانتخاب. وقد كنا أحرياء ألا نعطي أصواتنا إلا من يعيش عيشنا ويشعر شعورنا ويتألم ألمنا؛ فإن منطق الطبع يقول إن خصمك لا يدافع عنك، وسيدك لا يحب حريتك.
فصاح أحد الحضور: ولم لا ترشح نفسك ونحن نضمن لك أصوات القرية؟
فقال الشيخ منصور: إني - وا أسفاه - لا أحرز من النصاب قيراطا، ولا أملك من التأمين بارة! والنصاب والتأمين عقبتان وضعهما قانون الانتخاب في سبيل الكفايات الفقيرة؛ كأن المال شرط في صدق الجهاد للوطن، وإخلاص النيابة عن الأمة! وإن مثلك في ضمان أصوات القرية واستسهال ما بعدها كمثل السائح الذي لقي في بعض طريقه نعل حصان واحدة فالتقطها ثم ضمها إلى صدره وقال:
آه! وا فرحتاه! بقي ثلاث كهذه وحصان ثم أركب!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(452/3)
2 - الحياة صادقة!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
وراثة التشاؤم - خطأ في فهم الفكرة الأساسية في الحياة - نتائج خطيرة تتصل بالعقائد الثلاث في الحياة وواهبها والإنسان - الإنسان مبعث أكثر الشر - ضيوف الحياة يسخطون على المضيف! - الحياة جديرة باختيار الخروج إليها من العدم - لا خلط بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان - في عالم الكلام كثير مما لا وجود له في الطبيعة - تنقيح سجل الفضائل وسجل الرذائل - الأخلاق (تفاعلات) أرضية وليست منزلة من السماء - إلى الذين يديمون التفكير في الإنسان والطبيعة
قال المتنبي:
صحب الناسُ قبلنا ذا الزمانا ... وعناهم من أمره ما عنانا
وتولوا بغصةٍ كلهم من ... هـ وإن سَرَّ بعضَهم أحياناً
ربما تحسن الصنيعَ ليالي ... هـ ولكن تكدر الإحسانا
وكأنَّا لم يرض فينا بريب ال ... دهر حتى أعانه من أعانا
كلما أنبت الزمان قناةً ... ركب المرء في القناة سنانا!
وهكذا تلقى أكثر الناس ساخطاً على الحياة متبرماً بها، ناقماً على القدر، يستشعر في قلبه غيظاً دفيناً قد يكتبه الإيمان حيناً وقد يبعثه الجحود أحياناً، فيثور حتى يسخط على اليد التي أخرجته إلى الحياة ووضعت في قلبه شعلتها. . . وقد وقر في الصدور أن الحياة محنة وعناء أكثر مما هي فرصة للذات واهتبال الخيرات واكتساب المعارف وخروج من دائرة الجمود والموت والعدم إلى نطاق الإحساس والانفعال والنمو والمعرفة.
وقد ترجم الأدب القديم والأدب الحديث عن تلك الآراء المتشائمة السوداء ترجمة ملأت كثيراً من الصحف، وتوارثها الخلف عن السلف وزاد كل عصر في مجموعها، حتى صارت نظريات مسلمة رضيها أكثر الناس وتدارسوها فيما بينهم وعلموها ناشئيهم قبل أن يختبر هؤلاء الناشئون وجوه الحياة بأنفسهم وتجاربهم، فلونت مناظيرهم بالألوان القاتمة، واستقبلوا الحياة بوجوه عابسة، حتى في أدوار الشباب اللاهي القوي المتفتح الضليع الخليق بحب الكفاح وطلب المجد عن طريق القوة والفتوة، وترصدوا الأقدار على أنها(452/4)
معادية لهم مريدة الشر دائماً بهم، جاهدة أن تضع في سبيلهم العوائق والعراقيل، كأن رب الأقدار مولع بالتنكيل والعذاب يصبه على من يخرجهم إلى رحاب ملكوته، مغرم بفرض الأوامر والنواهي التي لا معنى لها إلا إظهار السلطان وإرهاق عبده الإنسان! فهم لذلك حريصون على اهتبال اللذات خلسة وجهرة، وعلى الثورة على الأوامر والنواهي تحرراً وانطلاقاً. . .
وقد وقر في الأذهان كذلك أن الدنيا لا احتمال لمكارهها وآلامها وتكليفاتها، ولا طاقة للقلوب البشرية على حمل أماناتها وأعبائها، فاجتزت الأفكار معاني العجز والكسل والتسليم الذليل القاصر الذي لم يحاول شيئاً أمام ما زعموه سلطة القدر، ورددت الأفواه ألفاظ الجزع والهلع والضعف والقنوط والهروب من مواجهة الحياة، وجلس الرجال، نعم الرجال! عنصر الكفاح في الحياة مجالس الأطفال القاصرين العاجزين على التراب يبكون ويئنون ويضمرون الغيظ الأليم من الحرمان، وينظرون إلى السماء نظر الفقد والثكل حتى يوم الإقبار. . .
ومن هذه الفكرة الواحدة الأساسية الأولى ولدت جميع المصائب والمكاره التي ضاعفت سواد الحياة في نظر الناس وجعلتها سلسلة من الآلام، وأخرجتها مخرج المأساة الدامية التي يدور فيها سوط القدر على ظهورهم وسيفه على رقابهم. . .
كانت نتائج هذا الفهم المخطئ والوضع المغلوط لهذه الفكرة الأولى، ذات أثر عميق في مجرى الحياة يتصل بالعقائد الأصلية فيها: وهي العقيدة في الحياة نفسها، والعقيدة في واهبها، والعقيدة في الإنسان. . .
فأما العقيدة في الحياة فقلما تحظى من فكر الفرد أو فكر الأمة أو فكر الإنسانية بما يجب لها من التأمل والفهم قبل البدء بالسير في طريق الحياة. . . أعني عند تفتح المدارك وابتداء عهد الرشد وإدراك النسب الكثيرة بين الأشياء. . .
وإنك إذا سألت أكثر المتعلمين - دع الجاهلين - عن مدى فهمه لحياته وإحساسه بها، وعن الفكرة الأولى التي بنى عليها معاني نفسه، ووجه إلى قطبها إبرة قلبه، وأدرك أنها هدف الإنسانية جميعها وجدت أكثرهم يتلجلج ولا يكاد يبين؛ لأنه دخل الحياة في ذهول الطفولة، ثم درج إليها في عبث الشباب، ثم أخذته غمرة مشاغل الجماعة في عهد الكهولة، ثم هدمته(452/5)
عقابيل المرض والانحلال في عهد الشيخوخة، وإذا هو بعد ذلك مدرج في الأكفان، ملقىً إلى ظلمات القبور.
هو في مراحل عمره مشغول بكل شيء إلا ما يجب أن يشغل به أولاً. . .
ولكن قد يصحو أحدهم من ذهول الطفولة أو من عبث الشباب صحوة المحموم الهادي، فترة قصيرة يرى فيها وجه الحياة، ثم تعاوده أخذة الحمى فينتكس. . .
وقد يدرك أحدهم وجه الحياة وهو في مشاغل الكهولة، ولكن يعز عليه أن يفارق طريق الجماعة ويبتدئ بناء حياته على ما أدرك فيمضي في طريق القافلة التائهة. . .
وقد يصحو أحدهم الصحوة الدائمة وهو في انحلال الشيخوخة فيعوزه ويؤوده أن يجاهد في سبيل إفهام الناس وإقناعهم بما أدرك فيمضي مغيظا محسوراً يردد:
أواهُ لو عرف الشبا ... بُ، وآهِ لو قدر المشيب!
ما استقامت قناةُ رأييَ إلا ... بعد أن عوَّج الزمان قناتي
فلا مفر إذاً من ترقب عهد اليقظة وتفتح المدارك عند الطفولة والشباب، لإدخال الفكرة الصحيحة عن الحياة، وغايتها إلى أذهانهم.
والفكرة الصحيحة - في رأيي - عن الحياة هي فكرة التفاؤل الرحب والتأويل الواسع لما عسى أن يكون في الحياة الطبيعية من آلام، وفهم الحياة على أنها فرصة للفرجة والاطلاع على أسرارها، وأنها سفر في مجاهل الكون. ولابد للسفر من بعض المشقة. . . ولكنها ليست مشقة النزاع والخلاف بين الركب المسافر، فإن ذلك جناية الركب وليست جناية الطريق. . .
ومن الهين على العقل أن يهدأ ويستريح لهذه الفكرة متى أدرك أن دخولنا إلى الحياة لم يكن باختيارنا، وأن إنشاء الكون وتهيئة الأرض وإعدادها للسكنى بالحرارة والماء والضوء والغذاء والهواء والإنبات والإنسال ليس لنا أيضاً رأي فيه أو اختيار، فلا مفر لنا إذاً من الخضوع والتسليم والاندفاع مع عجلة الحياة، والاجتهاد في التحري عن قوانين الطبيعة التي وجدنا أنفسنا في نطاقها وإسارها، والتلمس للغايات التي يصح أن تكون أهدافاً لإيجادنا في الحياة
وما أريد أن أستند في تركيز هذه الفكرة إلى دين متوارث أو إلى رأي مأثور، وإنما(452/6)
الاستناد إلى الواقع المحسوس والمنطق الوضعي الذي في الطبيعة.
ولو سألت الإنسانية نفسها: من أدخلني إلى رحاب الحياة وجعلني أحرص عليها مع أني لم أدخلها باختياري؟ والتزمت ما يوحيه الجواب على هذا السؤال إذاَ لنبت إيمان كل فرد من قلبه هو قبل أن يقرأ كتاب دين أو يرث عقيدة أمه وأبيه
لأن سر الحياة العميق الملتهب الذي يسكن أجسامنا يحملنا على المحافظة عليه دافع مبهم مجهول عجيب مهما لقينا في سبيل الاحتفاظ به من آلام وعناء. . . ولم يفر من حملة إلا الأقلون من المنتحرين؛ وهم القلة بحيث لا يعتد بهم
هذا الدافع العجيب هو صوت خفي بعيد عن غير (المؤمنين) وواضح قريب عند المؤمنين. وما يعنينا البحث عن الصوت الواضح عند هؤلاء؛ وإنما يعنينا البحث عن ذلك الخفي البعيد عند أولئك. . .
ونسألهم: لماذا لا يفرون من الحياة وينتحرون ما داموا بها غير مؤمنين؟
لماذا يستمرون في الصراخ والعويل والإزراء على الحياة والأقدار العمياء أو المبصرة، واليد المقدرة أو الصدفة الخابطة. ويصدعون أسماع الناس بالأنين والتشاؤم مع أن الأولى بهم أن يريحوا أنفسهم من عناء الأحوال والأعمال والأقوال فيرجعوا إلى عالم الجمود والموت كما تمنى قائلهم:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حَجَرٌ ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم!
ونسألهم لماذا يقعد بهم الجبن عن مفارقة الحياة ثم تذهب بهم الشجاعة إلى السباب والسخط على من أدخلهم إليها؟! فأين أدب الضيوف؟!
إن للحياة نبأ عظيما يدركه الفكر المقدر لتلك الأعمال العظيمة التي يدور بها دولاب الفلك في هول واتساع وقوة ورهبة! و (إن في السماء لخبرا) كلمة جاهلية العصر؛ ولكنها لباب العلم في كل زمان
وما يعنيني شخصيتي المحدودة، ما دمت قد حظيت برؤية هذه الدار الهائلة ذات الأعاجيب اللانهائية.
وما تضيرني حوصلتي الضيقة المظلمة الفقيرة ما دمت قد رأيت رحاب الفضاء ومصادر النور وخزائن الغنى والثراء التي ما لها من نفاد(452/7)
لقد تمتعت على الأقل بأحلام الفاقدين وأنها لمتاع أي متاع! وتطلعت إلى عالم الانطلاق وأنا في القيود. . . وأدركت الباقي الخالد حين أدركت الفاني البائد. . .
وإنها لمعانٍ جديرة أن يخرج إليها الإنسان باختياره من سكون العدم وجموده، ويقتنيها ببعض الآلام والمكاره، ويصطبر على الحياة من أجلها حتى توفى إلى غايتها، ويبالغ دائما في حب من أخرجه إليها. . .
ولكن أفي الحق أن طبيعة الحياة تحمل هذا الجانب البالغ من المكاره التي يزعمها الناس ويتوارثون الحديث عنها ويفيضون فيه شعراً ونثراً وحكماً ووصايا وأمثالاً؟ أم أن تلك المبالغة من جناية الإنسان الظلوم الجهول على الحياة وعلى نفسه وعلى واهب الحياة وبارئ النفس؟
أم إنها من جناية (تجار الكلام!) وحدهم الذين يرسلون زخرف القول غروراَ لا يبالون ما فيه من الصدق أو الكذب ما داموا قد عبروا فيه عن حالة من مكارههم وسوداويتهم، وما داموا قد أرضوا غرامهم الفني بحسن الصياغة والإغراب في المعاني والإتيان بغير المألوف وإرسال الخيال في أودية الأوهام والضلال؟
أما اعتقادي فهو أن الآلام الأصيلة في طبيعة الحياة قليلة جدا لا تتعدى ما يتصل بالكوارث الطبيعية والأمراض. وإن كانت الكوارث الطبيعية والأمراض قد تغلبت على الإنسان قديما فهو الآن مستطيع دفاعها والتحصن منها وتقليل آثارها إلى حد كبير، فلا داعي لاجترار أقوال المتشائمين القدماء.
وقلما تصيب الأمم كارثة طبيعية الآن. ولن يبلغ مجموع الكوارث الطبيعية عشر معشار ما كسبت أيدي الناس وما بغى به بعضهم على بعض
فأكثرية آلام الإنسان ناشئة من جناياته هو على نفسه وعلى جنسه، فهو يجني على نفسه بالإفراط في اللذات والشهوات حتى يتهدم جسمه، وبالتفريط في وقايتها من أسباب الأمراض حتى يدب إليه المرض وآلامه ويتسرب منه لذريته
وهو يجني على جنسه بالشره والطمع فيما ليس له، وبالتوزيع الظالم للثروة، وباغتصاب حقوق الضعفاء والعجزة الذين لا يستطيعون حيلة، ويجب الغلبة والتسلط وإهدار الدماء وإهلاك الحرث والنسل في سبيل ذلك، وبتلويث الذرية بالأمراض الخبيثة، وبالنزاع(452/8)
والخلاف لمجرد الحسد والحقد ومطاوعة الغرائز الدنيا التي يجب أن يحد من شرتها ما دام قد ارتضى حياة المدنية والجماعة المتعاونة المتفاوتة في الكفايات
وإذا نحن تأملنا عالم الشر والألم وجدنا أكثر من تسعة وتسعين في المائة منه ناشئا من جنايات الإنسان، والباقي مرده إلى الأسباب الطبيعية
وصدق قول القرآن: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا)
وصدقت الخنساء:
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس
فليس من الإنصاف إذاً في الحكم على الحياة أن نخلط بين الأسباب الصناعية والأسباب الطبيعية للآلام فندخل جنايات الإنسان في نطاق الطبيعة، ونجعل فساده سبباً في إرسال خواطر الشؤم والسخط على الحياة وواهبها. وإنما الإنصاف أن نعمد إلى النفس البشرية فنجعلها في انسجام وتوافق مع قوانين الطبيعة فلا نضيف للطبيعة شراً ليس فيها. . .
ونحن قد حملنا الأقدار العليا أكثر مما تحتمل، فنسبنا إليها ما نقترفه نحن من جرائم، وزعمنا إنها راضية عن حياة الاجتماع الحالية، ووقفنا منها موقف اللائمين. ولو فهمنا الأقدار التي استأثرت بها اليد والأقدار التي خولت الإنسان التصرف فيها، وفهمنا القدرة العجيبة التي للفكر البشري والجهد البشري على تغيير الأوضاع في الأرض، وتأملنا تغير الإنسان وثبات الطبيعة في دوراتها الأبدية الكبرى، وطواعية كل شيء للإنسان بسلطان العلم والتنظيم، وأخذنا عقائدنا في الحياة وفي النفس مما تسمح الطبيعة لنا بالتصرف فيه، وأدركنا الخطوات السريعة التي خطاها الإنسان في سبيل الانطلاق والسيطرة والتحرر من القيود والقدرة على طرح كثير من القيود على مرافق الطبيعة لتسخيرها، إذاً لكان لنا من ذلك كله رأي جديد في أنفسنا وفي الحياة وفي سلطاننا عليها، ولحملنا ذلك على تلمس النقص والفساد في نفوسنا لإكماله وإصلاحه لا في الطبيعة البريئة من كثير مما تنسبه إليها.
ولكننا مع الأسف الشديد لا نزال نأخذ عقائدنا في الحياة وفي الإنسان من منطق العجزة الأولين الذين كانت الأرض مغلقة الأبواب في وجوههم، وكانت الحياة جديدة عليهم، وكانوا(452/9)
وسط ألغازها ومشقاتها كأطفال في صحراء، وكانت أكثر علومهم نظرية تجريدية تتخيل، وتفرض وقليلاً ما تجرب وتعمل، وكانت آراؤهم مبنية على ما يأخذونه من الأقوال المأثورة التي هي خواطر ابتدائية لفهم الحياة، وكانت الأرض نفسها مبهمة مجهولة لديهم، والأهوية والأمواه والنباتات والأمراض والنجوم ومواقع البلاد وأجناس العباد والنباتات والحيوان مجهولة العناصر والمناشئ. . .
أما الآن فالناس جميعاً يقرءون أو تقرأ ناشئتهم المثقفة على الأقل كتاباً واحداً هو الطبيعة ذات العلوم (الموضوعية) التي لا تتبدل بتبدل الأمكنة والأزمنة والأجناس
فجدير بهم ان يأخذوا عقائد جديدة من الحياة الجديدة. ولاشك إنها ستكون واحدة لوحدة المصدر الذي يأخذونها منه؛ ثم يرتدوا بعد ذلك للعقائد المسطورة في الصحف الموروثة، فما وجدوا فيه مصداقاً لما أخذوه من الطبيعة أبقوه، وما وجدوا فيه خلافاً عليها طرحوه وراءهم ظهرياً، وحاذروا أن يلقنوه الناشئين فيزيفوا عقائدهم.
أجل، في عالم الكلام المسجل كثير من القضايا التي لا وجود لها في الطبيعة. وكل ما في الطبيعة حق يجب الاعتراف به حتى الشر! فهو مخلوق بالحق وللخير: يخدمه ويشير إليه
ولو علم المتكلمون ووارثو الكلام انهم كثيراً ما يقولون ما لي له وجود، وأنهم يخلقون عوالم من الأفكار والآراء لا تمكن الحياة فيها، وأن الأحلام والأماني الكواذب وضباب الأفكار كثيراً ما تسبق إلى ألسنتهم وأقلامهم، إذاً لحرصوا غاية الحرص - إن كانوا أمناء على الحياة - على أن يكون كلامهم وفنهم مرآة للحق الذي في الطبيعة وحده!
إن الطبيعة ثابتة كما نعلم، ولكن النفس فيها طبيعة التغير والتطبع والمرونة تحت تأثير الأفكار، والأفكار أمهات الأعمال
وضلال أكثر النفوس ناشئ من أنها لو توضع في المواضع التي تتسلط عليها فيها عوامل الطبيعة المباشرة ليكون عقلها صورة من التجارب التي فيها، بل وضعت تحت تأثير تلك الأقوال المغلوطة عن الحياة والقدر والعجز الإنساني والأحلام الكواذب فهي تنظر للحياة بما في نفوسها من آثار ذلك وتحكم عليها به
ولو ذهبت أتقصى الضلالات المسطورة في الكتب والموروثة في العقول سواء في الفضائل أم في الرذائل، إذاً لأخرجت عددا من الفضائل ووضعته في الرذائل وعكس ذلك(452/10)
وكم أود لو أظفرنا باستخلاص الأخلاق الإنسانية الثابتة من الطبيعة وحدها حتى نضع من ذلك قانون الأخلاق للجميع! وإن الأخلاق تفاعلات بين النفس والطبيعة وبين النفوس والنفوس، وليست منزلة من السماء، وإنما الذي ينزل من السماء هو الإرشاد إليها حين يضل الإنسان طريقها.
إن العلم الطبيعي هو أعظم أبواق الحياة في دعوة الناس إلى اللقاء والسير في طريق التعارف والتكافل. والشقاء الحالي الذي تصلي الإنسانية نيرانه ناشئ من إنها لم تستجب لدعوة العلم والخضوع لما يوحيه من وحدة المصلحة والمنفعة والطريق. . .
وفي اليوم الذي تتسع فيه أخلاق الفرد لبني أمته وأخلاق الأمم بعضها لبعض، ويؤمنون بضرورة ضبط النفوس وتوزيع الموارد الاقتصادية - وهي كثيرة كافية في الطبيعة - توزيعاً عادلاً، والتعاون على مكافحة الشر والألم: الشر الذي مبعثه الغضبية والأنانية الفردية والقومية، والألم الذي مبعثه أذى الطبيعة وآفاتها؛ فلا شك يسعدون في جنة موقوتة يجدونها في الأرض قبل الجنة الموعودة في السماء!
قد يبدو هذا الكلام لكثير من الذين لا يدمنون التفكير في الطبيعة والنفس والقضايا العليا للوجود، المغمورين بالمنازعات والشهوات، غير المعنيين بالسؤال عن وضع الإنسان في الحياة، الخاضعين لسلطان الأنانية الفردية والقومية، الجاهلين خطوات سير الإنسان منذ وجوده ساذجاً إلى صيرورته عالماً معقداً، الذين لا يسألون عن ماضي الإنسانية ولا يتساءلون عن مستقبلها، وإنما يدخلون الحياة ويخرجون منها كأنهم أوراق أشجار تجف وتذروها الرياح، أو تحرق في المواقد، أو تطرح في المزابل والعفونات، أو كأنهم ذئاب عاتية خلقت للشر والفتك، أو خرفان بلهاء خلقت للذبح والافتراس، أو ذباب قذر يطير ويحط على الأقذار. . . الذين لم يأخذوا من الطبيعة أسرارها أو يعملوا فيها عملا عظيماً، أو يصافحوا يد الله على بساطها ويأخذوا منها بعض أفانين صنعها. . . الذين يولدون عمياً، ويعيشون عمياً، ويموتون عمياً. . . قد يبدو هذا الكلام لدى هؤلاء بعيداً أو مستحيلاً. . .
ولكن الذين تركوا حماقات الأنفس وضلالات الجهل وتجردوا للحق، واتسعت نفوسهم باتساع الطبيعة، ونظروا لقضايا الوجود نظرة الاهتمام، وعرفوا أن وسائل تحقيق هذه(452/11)
الآمال حاضرة. . . يرون كل أولئك حقا لاشك فيه!
عبد المنعم خلاف
-(452/12)
للحقيقة والتاريخ
2 - بين آدم وحواء
للدكتور زكي مبارك
أرجع ثانيةً إلى الغرض من هذه الأحاديث فأقول:
كتاب شيث بن عربانوس يؤرخ عهد آدم في الجنة وعهده في الأرض، وكان ذلك لأن المؤلف قريب الزمن نسبياً من هذين العهدين؛ فقد ولد في العام الثاني بعد انحسار الطوفان، وإذا فهو أقدم نسلٍ حفظته الأرض بعد نجاة من نجا من قوم نوح، وأول عقلية علمية في ذلك العهد البعيد، إن صح إنه شخصية حقيقية من شخصيات التاريخ
ولكن ما قيمة هذا الكتاب؟ وما وزن حديثه عن آدم وحواء؟
عرضته على دار الكتب المصرية وعلى مكتبة وزارة المعارف وعلى مكتبة الجامعة المصرية فلم أجد من يعترف بقيمته التاريخية، وإن كان مكتوبا بالخط الكوفي. . . وهل كنت أجهل أن الطعن في صحته من الممكنات؟ إنما كان همي أن أنتفع بثمنه، وأن أمكن الجمهور من الاطلاع على ما فيه من مقاصد وأغراض، ولكن الأمل في الانتفاع بثمنه أمسى خيالاً في خيال، ولو ثبت إنه نسخة قديمة من نسخ الإنجيل، وهل زكتني سفارة غربية أو شرقية حتى أبيع من المخطوطات ما أشاء. . .؟ أنا مصري وآبائي مصريون، فكيف أنتفع من مصر باسم العلم والأدب والتاريخ؟
ألم تسمعوا حديث الأجنبي الذي استمصر في سنة 1937؟
كان أحد الأجانب يدرس إحدى اللغات الحية بالمدارس الأميرية وبالمرتب الذي يتقاضاه الأجانب من المدرسين، ثم لاحت له فرصة للتجنس بالجنسية المصرية، فأسرعت وزارة المعارف وردته إلى (الكادر) الذي تعامل به المدرسين من المصريين، كأنه انتقل من الهدى إلى الضلال؛ وكان الظن أن تراه انتقل من الخوف إلى الأمان!
وإذا كانت المتاعب تلاحق من يستمصر من الأجانب، فكيف تصنع بالمصري الأصيل؟!
إلى الله يشكو المصريون شقاءهم وعناءهم من التغاضي عن حقهم في الانتفاع بثمرات البلاد!
إلى الله نشكو الغربة في الوطن الغالي، ومنه نستمد العون على مكاره الزمان!(452/13)
ما لي ولهذه الخواطر المزعجات؟ وهل قلت المتاعب الجديدة حتى نؤزرها بمتاعب قديمة تأخذ وقودها من الذكريات؟
أرجع إلى الغرض مرة ثالثة فأقول:
قبل الشروع في تلخيص كتاب شيث بن عربانوس أسجل أني غير مطمئن إلى إنه ألف في العصر الذي تلا الطوفان - وما أقول بأن ذلك مستحيل - فقد يكون من الممكن أن ننظر إلى الطوفان من وجهة معنوية، فنعده مرحلة من مراحل الغفوات الروحية في الحياة الإنسانية، ونعد العصر الذي تلاه عصر يقظة ونهضة وإحياء، وعندئذ يصبح من السهل أن نفترض أن ذلك العصر يصلح لما صدر عن شيث بن عربانوس من أفكار وآراء
ولكن هنالك عقبة تمنع من ذلك الافتراض، وهي إجماع الكتب الدينية على أن الطوفان وقع بالفعل، وأنه لم يبق من السلالة الإنسانية إلا ما حفظته سفينة نوح. . . ومن الواضح أن تلك البقايا كانت في شغل بتدبير حياتها المعاشية؛ فمن العسير أن نتصور أنها عرفت التأليف والمؤلفين إلا أن توغلنا في شعاب الفروض!؟
يضاف إلى ذلك أن المصادر التي تحت أيدينا لم تتحدث عن شيث بن عربانوس؛ ولم نسمع أن اسمه ورد في كتب المستشرقين - وهم حجة فيما يتصل بمجاهل التاريخ في الشرق - وقد يعرفون منه ما يجهل الشرقيون!
فأين وجد زكي باشا ذلك الكتاب؟
كان في النية أن أوجه إليه هذا السؤال، ولكن المنية عاجلته فقضت بأن تطول الحيرة في مصدر ذلك السفر الغريب
وفي الحق أني غير مصدق لكتابٍ لغته العربية مع إنه ألف بعيد الطوفان
وهنا أذكر حادثةً في نهاية من الغرابة، ولكنها وقعت على مسمع من جمهور كبير في أروقة السوربون يوم أديت امتحان الدكتوراه في الخامس والعشرين من أبريل سنة 1931؛ فقد حاجني المسيو ماسينيون حجاجاً عنيفاً حين رآني أنكر أن تنشأ اللغات بالتوقيف. . . وإن عادت الدنيا إلى ما كانت عليه ورايت المسيو ماسينيون بعافية فسأراجعه في هذا الحجاج؛ فما يستطيع ذهني أن يبغ فكرة التوقيف؛ وإنما أعتقد أن اللغات ظاهرة إنسانية يصنع بها التطور ما يصنع على اختلاف الأجيال(452/14)
المهم أن أسجل أني مرتاب في كتاب شيث بن عربانوس، ولن أقبل نسبته إلى ذلك العهد البعيد، العهد الذي تلا الطوفان. وأين نحن من الطوفان وهو صورة حائرة لم يبق من ملامحها غير أطياف؟
فمتى ألف هذا الكتاب، إن صح ذلك الارتياب؟
إن لغته مزيج من القرشية والحميرية، فهل ألف قبل أن تصير لغة قريش لغة التخاطب والتأليف في أشتات الجزيرة العربية وفيما خضع لسلطانها الأدبي من الممالك الإسلامية؟
ألا يكون مؤلفه صنع ذلك عمداً على سبيل التضليل؟
الله وحده هو الذي يعلم ما مر بهذه الوثيقة التاريخية من تمحل واحتيال
المشكلة الأساسية
أترك الكلام عن صحة كتاب شيث، وأنتقل إلى تشريح ما فيه من معاني وأغراض فأقول:
يقع الفصل الأول في صفحات تصل إلى الخمسين، وفي هذا الفصل نقض للنظرية التي تقرر أن آدم استكان لحواء، فتركها تعصي الله كيف تشاء، فالمؤلف يقر أن آدم كان تعب من الإقامة في الجنة، وكان يتمنى لو استطاع أن يخرج منها بأي حال وعلى أي أسلوب ليتنسم روح الوجود، لا روح الخلود، فقد كان يعرف بفطرته أن الخلود إنما يأخذ صورته من الوجود
وثورة آدم على الجنة لها أصل: فقد كان يرى إنه لا يليق بالإنسان أن يأكل طعامه بلا جهاد. وكان يرى من الضمة والمهانة أن يترك المرء بلا متاعب ولا تجارب، وهو لم يخلق إلا للكفاح والنضال
وزاد في هم آدم أن حواء كانت في الجنة بلا ضرة، فلم تقهرها الغيرة على التسابق إلى مواقع هواه! بدليل إنها كانت تنساه أو تتناساه عاماً أو عامين، بلا تلهف ولا تشوف، لأنها تعلم إنه لن يكون لسواها من النساء، ولو أضمر من ضروب الخيانة ما يريد خياله الحبيس، وإلا فكيف جاز أن تقضي في الجنة أعواماً بلا تبرح ولا اختيال؟
وفي هذا المقام نقل شيث أبياتاً عزاها إلى آدم عليه السلام، وهي من النظم الركيك، فلا موجب لإثباتها في هذا التلخيص، ويكفي أن نشير إلى معناه لجودته وصدق مغزاه، وهو يقول بعبارة صريحة إن حواء لم تكن تفرق بين البلادة والعقل، ولم تكن تعرف أن التودد(452/15)
إلى الرجل والترامي عليه في رقة ودلال لا ينافي الأدب والحياء
كذلك قال آدم في رواية شيث. وعلى فرض أن الرواية صحيحة فآدم مخطئ - وأنا أريد آدم الرجل لا آدم الرسول - وإنما أخطأ لأنه تصور أن التلطف يجب أن يصدر أولاً عن المرأة والتلطف، هنا معناه الفتك وهو من جانب المرأة دلال، ومن جانب الرجل صيال
إذا كانت حواء أجرمت في ترك آدم عاماً أو عامين فآدم أجرم أيضاً بسكوته عن شكل تلك الظبية النفور بشكل من الحب العارم والوجد العصوف
وهنا تظهر مفاجأة من أغرب المفاجئآت، فشيث ينقل عن تأملات آدم خطوات تبدد ما وجهنا إليه من اعتراض
وسأنقل تلك الخطوات بعبارة سهلة تقربها من أذهان القراء بعض التقريب (لأنها في لغة شيث لا تخلو من غموض والتواء) ثم أنقدها برفق رعاية لمكان ذلك الجد الجليل
كان جلوس آدم على شط الكوثر من وقت إلى وقت يوحي إليه أفكاراً في غاية من الطرافة النسبية، لأنه أول إنسان شهد الوجود، على أرجح الفروض
كان يعرف أن الجنة في غاية من العرض والطول، بحيث تتسع لسكان الأرض والسموات فكيف جاز أن لا يكون فيها غير نهر واحد؟
كذلك قال آدم في رواية شيث، وهو قول خاطئ، فوحدة النهر في الجنة لها مغزًى جميل، لأنها ترد أهل الجنة إلى مزاجٍ متقارب في فهم الأشياء. وهل يختلف سكان الأرض إلا باختلاف الطعوم فيما يأكلون وما يشربون؟ لو اتحد مذاق الطعام والشراب بين جميع سكان الأرض لقل بينهم الخلاف. ألم تروا كيف تختلف الطبائع بين الحيوانات اللحمية والحيوانات النباتية؟
إن القط في صورة الأسد، ولكنه ليس في صولة الأسد، لأن معدته لا تأخذ من اللحم إلا عشر معشار ما تأخذه معدة الأسد؛ وهو يروع الكلب الضخم بأقل إشارة، لأن الكلب لغفلته قد يكتفي بالأطعمة المكونة من عناصر نباتية!
وما أقول بأن اللحم أفضل من النبات في جميع الأحوال، وإنما أقرر أن اختلاف الأغذية هو السبب في اختلاف الطبائع. وكذلك أقول في اختلاف الفصول، وهل كان اطراد الجو في الجنة على نسق واحد إلا بشيراً بما سيكون بين أهل الجنة من وفاق وصفاء؟(452/16)
وكانت غيبة حواء عن آدم توحي إليه التفكير في منافع الأعضاء
كان يتأمل فيرى أن الله خلق للإنسان عينين وأذنين ولساناً واحداً فما سر ذلك؟
يجيب آدم - فيما روى عنه شيث - بأن الله أراد أن يكثر زاد الإنسان من المرئيات والمسموعات، ولا بأس بأن يقل نصيبه من المنطوقات، لأن الرؤية والسماع من ضروب الانتهاب، أما النطق فمن صنوف الإعطاء، والانتهاب هو الشاهد الأول والأخير على قوة الحيوية، أما الإعطاء فهو تسليم وانسحاب
وقد ابتسمت حين قرأت هذا الكلام، فعنه أخذ الشاعر الذي سجل أن المرء يقبض يده عند الولادة ويبسطها عند الموت، وإن جهل التعليل على وجهه الصحيح
وتحرير هذا المعنى أن المرء عند الولادة مقبل على الحياة، فهو يقبض يده ليشير إلى أن وظيفته هي الأخذ والنهب، وهو يبسط يده عند الموت ليشير إلى أن التبذير من صور الفناء
ثم يمضي آدم في تأملاته فيقول: كيف يقنع من رزق عينين باصرتين بوجهٍ واحد: هو وجه حواء؟ وكيف يقنع من رزق أذنين واعيتين بصوتٍ واحد: هو صوت حواء؟
ومن هذا التأمل العارم كان ضجر آدم من وحدته في الفردوس
ويظهر أن آدم كان وهب فكرة الاعتراض والجواب، فقد خطر له أن حواء لها أيضاً عينان وأذنان، وأن من حقها أن تفكر في مثل ما فكر فيه، إن أقيم للعدل ميزان
ثم يجيب آدم بأن تساوى الجوارح بين الرجل والمرأة ليس دليلاً على التساوي في المواهب ولا دليلاً على التساوي في الإحساس. ويبلغ غاية الشوط فيقرر أن المرأة كانت بعينين وأذنين لأنها أخذت من ضلع الرجل فهي من صوره الوجودية، أو هي الشكل الذي يرضيه أن تكون عليه ليتم بينهما الانسجام في حدود الإمكان
وأقول إن هذا الكلام هداني إلى كثير من المعاني:
فالحول يكثر في النساء ويقل في الرجال، ومعنى ذلك أن للذكر مثل حظ الأنثيين، حتى في القوة البصرية
وإذا وجد العور في إحدى السلالات فالطفلة ترثه قبل الطفل
وإذا كان أحد الأبوين غبياً دميماً وثانيهما ذكياً جميلاً فالغالب أن يرث المولود الذكر ما عند(452/17)
أبويه من الذكاء والجمال ويؤيد هذا أن الديك أجمل من الدجاجة، وأن الجواد أجمل من الفرس، وهذا الحكم مطرد في أكثر المخلوقات، وهو يظهر واضحاً في أشجار التوت، بغض النظر عن ظهوره في سائر الأشياء
وإذا صدقنا رؤية شيث عما كان بين آدم وحواء فلن يفوتنا أن نسجل أن آدم هو الذي نطق قبل أن تنطق حواء، وهل كان لتلك المرأة تاريخ في الجنة غير انصياعها لدسيسة الحية، وعن الأنثى تنقل الأنثى أصول الفساد؟
الظاهر أن للذكورة خصائص لا تصل إليها الأنوثة بأي حال. والظاهر أيضاً أن الرجال لن يزالوا بخير ما فطنوا لمكر النساء. وهل انخدع آدم بحيلة حواء أو حيلة الحية إلا في لحظة من لحظات الضعف؟!
وأستطرد قليلا فأقول:
وقع في هذه الأيام حادث فظيع، هو اصطدام أحد كبار الموظفين بسيارة يقودها أجنبي سكران، وعلق الموظف بمقدم السيارة، ومضى السائق ينهب الأرض لينجو من العقاب. وتنبهت لخطر الفادحة سيدة مثقفة، فمضت بسيارتها في ملاحقة ذلك الجاني الأثيم، ولكنها فوجئت بإشارة المرور فوقفت!!
وهنا الشاهد الذي أريد: فلو كان في سيارتها رجل لداس إشارة المرور في سبيل الواجب؛ ولم يترك ذلك الجاني الهارب بلا اقتناص أو افتراس
هي امرأة وإن نالت إجازة الحقوق، وطاعة إشارة المرور هي في نفسها الصورة الحرفية لطاعة الواجب، أما تشريح هذه الدقائق فهو من خصائص الرجال، والرجل هو الذي يدوس جميع الأنظمة في سبيل الإعزاز لما يؤمن بأنه حق
وجملة القول أن سخرية آدم من مواهب حواء لم تكن طغياناً في طغيان، وإنما اعتمدت على قواعد وأصول. ولم تقع من آدم إلا لأنه كان يستوحي الفطرة والطبع، ولو أن الجنة لعهده كان فيها مدارس وكليات لكان من المرجح أن يكون حديثه عن حواء مغلفا بالرياء!
ثم تجيء عقدة أغرب وأعجب، وهي تفكير آدم في مسألة النسل، وهي مسألة لم يفكر فيها آدم إلا بعد تأمله لما في الجنة من فصائل الطير والحيوان، ولم يكن فطن إلى إنها مسألة تلحق عالم النبات، وقد تمس عالم الجماد(452/18)
ومن كلام شيث نفهم أن تفكير آدم في مسألة النسل لم يصر من المعضلات النفسية، وإنما كان يعتاده من حين إلى حين، ثم ينصرف عنه بالاشتغال بمداعبة حواء، كأن يرميها بنواة من نوى الجوز، أو يقذف بها في (الكوثر) على حين غفلة، أو يدوس شعرها الذيال
والحق أن عقم آدم وحواء في الجنة يحتاج إلى تأويل
أليس من العجب أن يكون ما في الجنة خصباً في خصب ونماء في نماء، إلا فيما يتصل بآدم وحواء؟
كان الشجر والزهر والنبات والطير والحيوان، كان كل أولئك في حيوية مخصبة لا يعتريها ضعف ولا خمود؟ وكان ثرى الجنة ينبت الأفانين من الألوان في كل يوم: وكان هواؤها يتجدد في كل لحظة بأسلوب يدل على أن الهواء مخلوق له روح، وكانت أسماك الكوثر تجتمع وتفترق بأريحية ودلال. . . كان كل ما في الجنة على جانب من الذاتية، ولو كان من صغار الدواب والحشرات، أو ضعاف الذباب والبعوض، ولجميع الخلائق في الجنة مكان.
ازدهرت الجنة في أغلب مناحيها وأثمرت، وخص بالعقم آدم وحواء، فما هي الأسباب؟
لم يفكر شيث في عربانوس في تعليل هذه الظاهرة الغريبة. ونحاول تعليلها فنقول:
كان سبب ذلك العقم فيما نفترض أن حياة آدم وحواء في الجنة كانت حياة دعة وهدوء واطمئنان وأمان، وهذا اللون من الحياة يخمد الحيوية الجنسية والمعنوية، ويحول الرجل والمرأة إلى حيوانين جامدين لا يفكران في التسلح لدفع عوادي الوجود
والذي يقرأ ما أثر من الآداب الفطرية يلاحظ أن النسل لم يكن يبتغى للزينة، وإنما يبتغى للدفاع والحفاظ؛ ومن هنا كانت قلة النسل من خصائص الأمم التي يقل خوفها من العدوان أو تقل رغبتها في السيطرة والاستعلاء؛ ومن هنا أيضاً كان الناس يفضلون البنين على البنات، لأنهم لا يبتغون من الذرية غير القدرة على مكافحة الباغين والعادين من الخصوم والنظراء.
ولم يكن لآدم في الجنة نصيب من الخوف، فقد كان ينام حيث يريد بكل اطمئنان، وكان يتفق له أن يجعل صدر الأسد الرابض وسادة الرفيق، وقد طاب له مرة أن يطوق (حواء) بعقد مؤلف من أفراخ الثعابين.(452/19)
ومع هذا لم يكن (آدم) يدرك ما في هذه المظاهر من غرابة وشذوذ، فما كان سمع ولا عرف أن في الوجود أشياء فيها إيذاء.
وأقول: إن ذلك الأمان الموصول هو الذي أخمد عواطف (آدم) وأغناه عن التسلح بالنسل، وحبب إليه طعم القرار والهدوء والخمود. وكذلك صنع الأمان (بحواء)، فغفت عواطفها الجنسية، واستنامت إلى العقم، وهو مرض لم تلتفت إليه إلا حين رأت إحدى الظبيات تباغم رشأها الوليد في بعض غياض الفردوس.
ويؤيد هذه النظرية أن (آدم) لم ينجب إلا حين هبط الأرض، فقد شعر بالخوف، وأدرك أن لابد له من أنصار وأعوان من الأبناء.
ومعنى ذلك أن الذرية ضرب من الفاعلية الحيوانية، وهي تصدر عن الرجل كما يصدر السم عن ناب الثعبان.
وفي هذا المقام نشرح ظاهرةً لم تشرح من قبل، وهي ما يلاحظ من قلة النسل عند العبقريين، فما التعليل الصحيح؟
يرجع السر إلى أن السلاح الماضي في يد الرجل العبقري هو مواهبه الذاتية، فهو يحارب بالفكر قبل أن يحارب بالنسل، وهواه لا يقف عند إخضاع الخصوم من الأهل والجيران، وإنما يمتد إلى إخضاع الألوف والملايين من سكان الشرق والغرب والشمال والجنوب.
والنسل الحسي عند الجاهل سلاح موقوت يخلقه الخوف؛ أما النسل المعنوي عند العالم، فهو سلاح موصول تخلقه الرغبة في السيطرة الدائمة على الأفكار والعقول.
ولهذا السبب كانت ذخائر الأمم من الذرية لا تصل عن طريق العبقريين، لأن هؤلاء لا يشعرون بالانفعال الحيواني شعوراً يكفي لأن تصدر عنهم الأنسال الكثيرة، وإنما يتجه انفعالهم إلى جانبٍ آخر هو الرغبة العاتية في غزو العالم عن طريق الفكر والبيان.
وهل فطن أحد إلى المعنى المطوي في قول كثير:
يُغاثُ الطير أكثرها فراخاً ... وأمّ الصقر مِقلاتٌ نَزُورُ
فما معنى ذلك؟ معناه أن أم الصقر لا تحتاج إلى حماية، فهي لا تكثر من الذرية. ومعناه أن ضعف البغاث يوحي إليها بالإكثار من الأفراخ لتقاوم خصومها بالقوة العددية في حدود ما تطيق.(452/20)
والمشاهد أن المرأة الدميمة هي في الأغلب ولود، كما أن المرأة الجميلة هي في الأغلب عقيم، وكان ذلك لأن الدمامة تحتاج إلى حماية من الذرية؛ أما الجمال فهو في ذاته قوة وسلطان
وللملائكة في أذهان الناس صور مجردة من النسل، لأن الملائكة مؤيدون بقوة ربانية تغنيهم عن الاعتزاز بالأبناء
والله عز شأنه (لم يلد ولم يولد) لأنه منزه عن الضعف تنزيهاً خالياً من الشوائب، وهذا لا يمنع من أبوته الروحية لجميع ما في الوجود، إن صح التعبير بالأبوة في الدلالة على رفق الخالق بالمخلوق
وصفوة القول أن عقم آدم في الجنة له أصل، فقد كان أكرم من في الجنة، وكان المنطق يوجب أن يعيش بلا أسندة من الذرية بفضل غناه عن الكفاح والنضال
ولكن. . . ولكن الأقدار أرادت غير ما يريد، فنقلته من الجنة إلى الأرض، ليشعر بالخوف، وليحتاج إلى معاصم من الأبناء، وليذوق طعوماً من الأفراح والأحزان لم تكن تخطر له في بال
والواقع أن الله كان أراد بآدم أشياء، حين خلق له حواء، فقد شغلته عن التكبير والتسبيح والتهليل، وزينت له الثورة على ما في الجنة من أنظمة وقوانين
وشيث يحدثنا أن آدم كان صدره ضاق بالجنة بسبب ما لها من أسوار وجدران تجعل من المستحيل أن يسلم من تعقب حواء، وتفرض عليه التفكير في طلب النجاة ولو بالارتماء في أحضان الأرض، مع أن بين الجنة والأرض فراغاً لا يعبره الهابط إلا في أعوام أطول من أعمار الأشجان. وسنرى فيما بعد إنه لم يفق عند هبوط الأرض إلا بعد أزمان وأزمان
هل كان آدم سعيداً في الجنة؟
الظاهر إنه كان من السعداء، ولكن شيث بن عربانوس يحدثنا إنه طفح الدم في الجنة بسبب صحبة حواء. فكيف وقع ذلك البلاء؟!
وقع من عدم التكافؤ الروحي بين الرجل والمرأة، فهما مخلوقان مختلفان إلى أبعد حدود الاختلاف. وزاد في النفرة أن آدم كان يميل إلى طاعة الله. وأن حواء كانت تشتهي الخروج على طاعة الله. وتعليل ذلك سهل: فأسرع الناس إلى المخالفة عن أمر الحق هم(452/21)
الضعفاء
صبر آدم ما صبر إلى أن وقع (حديث السدرة)، وهو حديث سجله شيث بن عربانوس بأمانة ونزاهة وإخلاص. فما ذلك الحديث؟!
زكي مبارك(452/22)
في الفلسفة الإسلامية
2 - إخوان الصفاء
للأستاذ عمر الدسوقي
هل هم شيعة باطنية؟
لقد أقر إخوان الصفاء على أنفسهم بالتشييع في غير ما موضع من الرسائل. فمن ذلك قولهم عن السبب الذي حداهم لكتابة هذه الرسائل: (لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا وفهموا بعض معانيها، وعرفوا حقيقة ما هم مقرون به من تفضيل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خزان علم الله ووارثوا علم النبوات، وتبين لهم تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة والفهم والتمييز والبصيرة في الآفاق)
ومنها: (واعلم يا أخي بأن لكل نفس من المؤمنين أبوين في عالم الروح كما أن لأجسادهم أبوين في عالم الأجساد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضى الله عنه: أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة. وهذه الأبوة روحانية لا جسمانية)
هذا وقد عقدوا فصلاً خاصاً بينوا فيه الطوائف التي تنتمي إلى الشيعة، وقد انتقدوا بعضها واسترضوا بعضها، وأخذوا يتبرءون ممن يدعى التشيع وهو يرتكب المنكرات ويقترف الموبقات، ويحملون على من يقول بأن المهدي المنتظر مستتر من خوف المخالفين، كما أنهم حملوا على من يبكي الأموات من أهل البيت حملة شعواء، وهاك ما يقولون: (إن قوماً من أشرار الناس جعلوا التشيع ستراً لهم عما يحذرون من الآمرين عليهم بالمعروف. . . وإذا نهوا عن منكر فعلوه بارزوا بإظهار التشيع واستعاذوا بالعلوية على من ينكر عليهم أو ينهاهم. لبئس ما كانوا يعملون. ومن الناس طائفة ينسبون إلينا بأجسادهم وهم براء بنفوسهم منا ويسمون أنفسهم بالعلوية وما هم من العلويين، ولكنهم من أسفل السافلين، لا يعرفون من أمرنا إلا نسبة الأجساد. . . فهم أبعد الناس عن أهل ملتنا، وأعدى الناس لشيعتنا، وأغفل الناس عن حقيقة أمرنا وأسرار حكمتنا. . . ومن الناس طائفة قد جعلت التشيع مكسباً لهم مثل النائحة والقصاص لا يعرفون من التشيع إلا التبري والشتم والطعن واللعن والبكاء وترك طلب العلم وتعلم القرآن. وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور كالنساء(452/23)
الثواكل، يبكون على فقد أجسامنا وهم بالبكاء على أنفسهم أولى. ومن الشيعة من يقول: إن الأئمة يسمعون النداء ويجيبون الدعاء، ولا يدرون حقيقة ما يقرون به وصحة ما يعتقدون. ومنهم من يقول: إن الإمام المنتظر مختف من خوف المخالفين. كلا! بل هو ظاهر بين ظهرانيهم يعرفهم وهم له منكرون كما قيل:
يعرفه الباحث من جنسه ... وسائر الناس له منكر
نرى مما تقدم أنهم لا ينكرون التشيع ولكنهم يريدونه على شكل خاص، وأنهم يبرءون من هؤلاء الذين لوثوا اسمهم وارتكبوا المنكرات والموبقات وادعوا أنهم علويون. فهم بذلك فرقة من الشيعة ترمي إلى تعاليم خاصة. وغايتها إصلاح الطائفة وتهذيبها بالتعليم. ونرى كذلك أنهم يقولون بالمهدي المنتظر وأنه كان موجودا إبان تأليف هذه الرسائل، ولعله أحد من ألفها كما يذهب إلى ذلك بعض المستشرقين. وأنهم كانوا يقولون بأن عليا وصي النبي عليه السلام. وليس في ذلك أصرح من قولهم في باب مخاطبة المتشيعين: (ومما يجمعنا وإياك أيها الأخ البار الرحيم محبة نبينا عليه السلام وأهل بيته الطاهرين، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير الوصيين صلوات الله عليهم أجمعين)
أما نسبتهم إلى الإسماعيلية الباطنية فلم تثبت بصفة جازمة، بيد أن من يدرس آراء هذه الطائفة وآراء إخوان الصفا يجد تشابها عجيبا، وإن كان الأولون أكثر صراحة من الآخرين. على أن الأستاذ كازانوفا يقول: (لقد وجدت مخطوطة في المكتبة الأهلية بباريس مفقودة الصفحات الأولى والعنوان، وتقرأ على الصفحة السادسة منها ما يلي: فصل من رسائل إخوان الصفا، وفي ابتدائها: القول على السر المخزون والعلم المصون من باطن الرسالة الجامعة من رسائل إخوان الصفا. ووردت فيها الجملة المشهورة: اعلم يا أخي أيدنا الله وإياك بروح منه التي يتكرر ذكرها في كل صفحة من الرسائل). وقد وجد كازانوفا أن هذه الرسالة الجامعة مصطبغة بالصبغة الإسماعيلية، متلبسة بشمول الألوهية، ونظرية الفيثاغوريين في الأعداد. ويقول في ذلك: (ما أراني إلا مصيبا في القول بأن فلسفة الإسماعيلية جميعها مبثوثة في رسائل إخوان الصفا؛ فالقول بالإمام المنتظر الذي سوف يظهر ليعيد السلام إلى العالم يمثل امتزاج نظريات الأفلاطونية الحديثة بالاعتقاد بعودة المسيح)(452/24)
وقد جاء في أحد أعداد جريدة آسيا فصل هذا عنوانه: (بحث جديد على الإسماعيلية أو الباطنية بالشام المعروفين بالحشاشين). وقد قال كاتبه ما يأتي: (إن سنان بن سليمان الملقب برشيد الدين هو من أجل وأفخم رؤساء الإسماعيلية، وقد خدم في ألموت المقدمين الذين كانوا قبله، وزاول علوم الفلسفة وأطال نظره في كتب الجدل والخلاف، وأكب على مطالعة رسائل إخوان الصفا)
ويقول المحبي في خلاصة الأثر: (وحاصل تلك الرسائل ليس إلا مذهب الباطنية الإسماعيلية، وهم أنحاء شتى، ومعظم القول في هذه الشيعة، من شيعتهم تناسخ الأرواح، وادعاء حلول الباري تعالى في الأنبياء المشهورين من آدم إلى محمد عليهم السلام وفي أئمة آل البيت - وأخرهم المهدي - ويعظمونه على الجميع. والإسماعيلية يوافقون الإمامية في ذلك)
وقد ثبت تاريخياً أن المغول عند فتحهم لقلعة (ألموت) مركز رؤساء الإسماعيلية عثروا على كثير من نسخ رسائل إخوان الصفا. وقد جاء في رسالة الإنسان والحيوان المطبوعة في مصر خطأ تحت عنوان الجامعة: (نحن لسنا السواد وطلبنا بثأر الحسين بن علي عليهما السلام وطردنا البغاة بن مروان. . . ونحن نرجو أن يظهر من بلادنا الإمام المنتظر)
وقد تضافر الكتاب قديماً وحديثاً على نسبة هذه الجماعة إلى الإسماعيلية الباطنية، ومنهم ابن تيمية وابن حجر والألوس وغيرهم، وقد دعاهم إلى ذلك أن نشاط الإخوان في بث تعاليمهم يشبه نشاط الإسماعيلية وجدهم في نشر مذهبهم وتشكلهم بما يلائم مصلحتهم، ولبسهم لكل حال لبوسها، ومخاطبتهم الناس على حب أهوائهم وأمزجتهم، واستعمالهم السحر والطلاسم والرقى والتعاويذ في إقناع الناس بمقدرتهم ومبلغ علمهم. ثم في تكتمهم وشدة حرصهم على ألا يطلع على مذهبهم إلا من دخل في شيعتهم وقولهم بالتقية والإمام المنتظر ووصاية علي رضى الله عنه. . . الخ
تسامحهم الديني
ومما يقوي صلتهم بالإسماعيلية رحابة صدرهم لجميع المذاهب والديانات والعلوم، فقد ثبت أن الإسماعيلية في أوائل دخولهم بلاد الهند كانوا يوافقون البوذيين على عقائدهم حتى(452/25)
يستميلوهم إليهم، ثم يكملون النقص في هذه العقائد بنظرية الإسماعيلية الأساسية، وهي قداسة علي رضى الله عنه وعودته، ثم يجعلون برهما محمداَ، ووصنو عليا، وآدم سيفا
أما إخوان الصفا، فكانوا أمام جميع المذاهب والديانات غير متعصبين: (وبالجملة ينبغي لإخواننا - أيدهم الله تعالى - ألا يعادوا علماً من العلوم، أو يهجروا كتاباً من الكتب، وألا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم كلها)
ويقولون: (واعلم بأن غرض الأنبياء - عليهم السلام - وواضعي النواميس الإلهية أجمع غرض واحد وقصد واحد وإن اختلفت شرائعهم وأزمان عباداتهم وأماكن بيوتهم وصلواتهم، كما أن غرض الأطباء كلهم غرض واحد في حفظ الصحة الموجودة واسترجاع الصحة المفقودة وإن اختلفت علاجاتهم باختلاف الأمراض العارضة للأبدان). فالتوراة والإنجيل والقرآن وغيرها من الكتب الدينية، السماوية وغير السماوية، عندهم سواء. وكأني بهم يحاولون أن يستوعبوا الديانات كلها في دين واحد ومذهب واحد. وليس هناك أوضح من قولهم: (فالله أرسل روحه إلى كل الناس، لا فرق بين النصراني والمسلم وبين الأسود والأبيض)
وقد ثبت أن جمعية بغداد التي هي فرع من جمعية إخوان الصفا، والتي كان يختلف إليها أبو العلاء المعري كما مر بنا، كانت تجمع السني والشيعي واليهودي والنصراني والصابئي والدهري
وقد حدثنا أبو حيان التوحيدي في المقايسات قائلاً: (إن من أعضائها يحيى بن عدي وأبو إسحق الصابي وأبو إسحق النصيبي وماني المجوسي. . . الخ) وهذا دليل واضح على رحابة صدرهم وعظم دعايتهم وتعدد طرق تبشيرهم
(يتبع)
عمر السوقي
مدير كلية الميقاصد الإسلامية ببيروت(452/26)
إذا. . .
قصيدة من الشعر الإنجليزي
إذا احتفظت بصوابك بينا يفقد كل من حولك صوابهم فيتهمونك بما لم تجرم يداك؛
إذا وثقت بنفسك بينا يتردد الرجال في أمرك وحسبت مع ذلك لترددهم حسابه؛
إذا صبرت وانتظرت ولم يضجرك الصبر والانتظار، أو تقولوا عليك ولم تغرك أقاويلهم بأقاويل مثلها تبتدعها؛
إذا كرهوك وملكت نفسك فأمسكت عن كراهتهم، ومع هذا لم تدغل في الظهور بالطيبة أو الثرثرة بالحكمة؛
إذا استطعت أن تحلم ولم تجعل أحلامك سلطانك، وأن تفكر ولم تجعل التفكير كل غايتك، بل قمت تسعى لتحقيق ما انتهيت إليه من رأيك؛
إذا جاءك النصر أو نزلت بك المصيبة، فسويت لهذين الضيفين الختالين المخادعين من نفسك، وعدلت بينهما في النصب من لقائك ومعالجتك؛
إذا استطعت أن تسمع الحق الذي قلت يحرف كلمة أدنياء، ويلوي معانيه سفلة خبثاء، يحفرون به الحفر للوقيعة بله أغبياء، أو أطلقت أن تقف تنظر إلى أشيائك التي أنفقت ساعات حياتك في صنعها تكسر وتحطم، ثم قمت تبنيها بأداة مبروة بالية؛
إذا استطعت أن تكون كل مكاسبك كومة واحدة وتقاس بها فتفقدها كلها مرة واحدة، ثم عدت تبدأ من حيث بدأت أولاً، ولم تخرج أنفاسك بكلمة تنبس بها عن خسائرك؛
إذا قدرت وقد أدبر عنك كل شيء أن تهيب بقلبك وأعصابك وأوتار عضلاتك لترجع لك المدبر وقد فات وتولى بعيدا فتثابر جميعا حين لا شيء فيك يهتف لها بالمثابرة إلا إرادتك؛
إذا استطعت أن تخاطب عامة الناس ودهماءهم وتحفظ على نفسك فضيلتها، أو تسير مع الملوك جنباً إلى جنب ولا تضيع مع ذلك مسحةً تميز عامة الناس ودهمائهم؛
إذا عجز الأعداء الألداء والأحباب والأقربون عن أن ينالوك بأذى؛
إذا اعتمد عليك كل الناس ولم يغلوا في ذلك؛
إذا قضيت الدقيقة القاسية التي لا ترحم من دقائقك بحرية تجريها تدوم ستين ثانية؛
إذا كان ذلك فلك الأرض وما عليها، وأفضل من هذا انك تكون رجلاً يا بني(452/27)
(زكي)(452/28)
الأحلام
للعالم النفساني (ألفرد أدلر)
بقلم الدكتور محمد حسني ولاية
يقول فرويد: إن الحلم يمثل رغبات جنسية طفلية لم تستوف بعد. وإن الحالم يشبع رغباته المحرمة في محيط أوهامه على الرغم من التقييدات التي فرضتها المدنية عليه.
إني أرى أن هذا الرأي لا يقوم على أساس، وان تفسير الأمراض النفسية ومظاهر المدنية على أساس جنسي لا أقره عليه
يقصد الحالم بحلمه تأكيد أهمية الذات ورفعتها. والحلم كالأخلاق والانفعالات والأعراض النفسية قد جهزه الحالم لغرض صمم من قبل.
يكافح الحالم في حلمه لتبرير شخصيته إزاء صعوبات حيوية قائمة. وليحل مشكلاً من مشاكل الحياة يلجأ إلى تصويره تصويراً طفولياً بسيطاً كأن يكنى عن المشكل بالامتحان، وعن فكرة الانتصار بالطيران إلى السماء، وعن الخطر بهوة سحيقة.
زارتني سيدة في الثامنة والثلاثين شاكية من نوبات متكررة من القلق وخفقان القلب وألم في الثدي والمعدة، وقصت علي الحلم الآتي:
(رأيتني أهرب من فهدين فصعدت إلى أعلى صدر رجل ثم استيقظت وقد استبد بي الخوف)
تمخض تحليل الحلم عن سلسلة من الأفكار ترمي إلى تفادي إنجاب طفل آخر. وليس الصعود إلى أعلى صدر الرجل إلا رمزاً للجنوح إلى الذكورة. وكان الخوف والقلق عرضها النفسي الرئيسي الذي يرمي إلى التهرب من وظيفة الأمومة. وقد صورت في الحلم والديها بفهدين كناية عن خطر داهم يهددها فصعدت إلى أعلى لتنجو منهما لأنهما كانا يعارضان في زواجها
ظهرت الأعراض النفسية الأولى عندما كانت في التاسعة عشرة بعد أن خطبت سراً إلى زوجها الحالي. وقد استغرقت خطبتها ثماني سنوات رغم معارضة العائلة؛ وتفتق هذا عن حدوث نوبات ثورية إلى أن تم الزواج، ولكنها عادت مباشرة بعد ولادة ابنتها الوحيدة البالغة من العمر عشر سنوات(452/29)
وقد أماط التحليل النفسي اللثام عن تكوينها الهستيري عن تلون صفاتها بلون الذكورة إذ كانت كثيرة التحدي محبة للتسلط متكبرة
ابتدعت لنفسها خطة تؤمن حياتها بعد أن تعرفت إلى زوجها باستغلال القلق المستحوذ عليها. وعملت على ترتيب هذه الخطة على نمط هلوسي في سريرتها دون أن تعي. وأضاف إليها آلاماً في الثدي والمعدة لتجعل كل العلاقات الجنسية غير القانونية مستحيلة. . .
وكانت تعنى بالتشنجات الليلية التي أقضت رقاد زوجها إنه من المقلق جداً أن يصحو زوجها على أثر صياح طفل. ولم تكن نوبات ضيق التنفس التي كانت تعتريها إلا تحذيراً لزوجها من احتمال إصابتها بالسل الذي قد ينجم عن الحمل
والآن ننتقل إلى حلم آخر للشاعر (ميتور سيمونيدس) رآه قبل الإبحار في رحلة إلى آسيا:
(حذره شخص من الإبحار في رحلة مقررة)؛ وكان هذا الشخص ميتاً، وقد سبق أن تولى هذا الشاعر أمر دفنه، فعدل حينئذ عن الرحيل
ونحن نفترض أن سيمونيدس كان خائفاً من هذه الرحلة فاستغل الشخص الميت ليخيفه منها ومن نهاية مريرة قد تؤدي إلى القبر لأن الذي حذره منها ميت
رغب الحالم على وجه العموم - كما يتضح من هذا الحلم - أن يضع نفسه في مركز خاص يصل إليه من أحسن الطرق التي تتلائم مع شخصيته وطبيعته وأخلاقه.
(للبحث صلة)
محمد حسني ولاية(452/30)
صفحة من كتاب
حنين
للأستاذ شكري فيصل
سكن الكون، فما في الكون إلا همسات. . . من حديث النجم أو بث المحبين الشكاة. . . ينفثون الآهة الحرى، ويلقون السهاد. . . وينادون محبيهم فهل يدري محبوهم نداءً؟. . . ويثور الدمع في أجفانهم فيضاً غزيراً. . . أترى يدرك ذلك الذين تطفر الدموع من أجلهم، وتتمتم الشفاه بالحنين إليهم، وينبض القلب بذكرهم المستطاب؟!
سكن الكون، فثارت وحدتي تتلوى. . . وتذكرت العهود الزاهرات النضر. . . وتراءت من أمامي صور من الماضي القريب. ويحها من صور! فتنهدت حزيناً أسفاً، وتمنيت لها منصرفاً؛ وذرفت الدمع هتاناً إذ وجدت في الدمع خفوت السورة، وبرودة الثورة، وبعض العزاء
. . . وصمت الليل، كأنما كان يعد على الناس أنفاسهم المتصاعدة. . . وقد أووا إلى فرشتهم الدافئة، يجدون فيها الهدوء، وينعمون فيها بالدفء. . . ويحسون أنهم يرتعون في أحضان الأبوة، وفي سماحة الأمومة، وفي جمال القرابة الدانية
ودقت الساعة الثانية عشرة، وانبعثت ضرباتها على صفحة الأفق الساكنة. . . كأنما كانت اثنتي عشرة قطرة من الماء تنصب على قطعة من الصفيح اللامع، فيكون لها بريق متلألئ كهذا الصدى الموغل في جوف الظلام البعيد
وامتد رواق الليل كما يمتد حنين إنسان غريب. . . يدثر الماضي ليجد فيه الذكرى، ويتطلع إلى المستقبل ليفسح فيه فرجة الأمل. . . كذلك كان رواق الليل، لا يحتجزه حد ولا يقهره سلطان، ولا يقف من دونه عائق. . . كما لا يحتجز الحنين سلوى ولا يقهره ضر، ولا تقف من دونه الدنيا بكل صورها وألوانها
إلا هذه النجوم. . . لقد كانت في منجاة ومأمن. . . لكأن عالمها الحلو، وشعاعاتها المتراقصة تكيد لليل وتتحداه. . . وكأنما هي في أنوارها الحنون تبعث في نفوس المحبين الولهى الأضواء الطروب. . .
سيظل هذا الحنين المتصل يهفو حول الأمل الناعم، ويغرد في حفافيه الندية. . . وينثر(452/31)
عليه الورود والرياحين كما تنثر دنيا النجوم من عالمها العلوي ذراتها اللامعة في أجنحة الليل السود
وسكن الكون. . . واستلقى الليل على صدر الدنيا. ونشر عليها أذياله وأردانه. . . كأنما كان يريد أن يكبت فيها الحركة، ويقتل فيها النشاط، ويقطع ما بينها وبين السماء. . . كان كالساعات اليائسة في حياة المحبين. . . مزهقة، مرهقة، ثقيلة الظل شديدة الوطأة، كأنما تحاول أن ترين فتحول بيننا وبين الرحمة. . . ولكن الرحمة القريبة لا تدع السبيل إلى اليأس، والحب القوي لا تقل منه المصاعب، والسماء الكريمة لا تقطع ما بينها وبين الناس. . . إنها تشق ثوب الليل الصفيق لتنبت النجوم النيرة على ظهره وفي أطرافه ومن بين يديه. . . كما تنبت الخزامى في الأرض القفر عطرة الطيب، شذية الروح. . . وأنها لتمزقه في كل جوانبه، وترقمه في كل ثناياه كما ترقم قطرات الماء سطح البحيرة الهادئ بدوائرها المترجرجات
هكذا الحنين. . . أيتها الكريمة الرءوم. . . كهذا الليل. . . تضحك على جوانبه المترعة بالأسى منى، وترق في ساعاته المريرة رؤى. . . وتنتثر في لياليه الكئيبة أحلام بيضاء كهذه النجوم.
واستغرق الكون في سكونه. وأحس الليل ما يقلى من عنت. لقد فرض سلطانه فتمزق. . . ومد رواقه فتخرق. . . ونشر جناحه البهيم فهاض النور جناحه البهيم. . . وغص بالحادثات. . . والنجوم من حواليه ترقص رقصة الظفر، وتنشد نشيد الحياة، وتهزأ هزأ المتحدي. . . وترسم شعاعاتها دعوة كريمة للفجر المستكن.
وارتمى يفكر. . . واستعرض تاريخه الطويل، وبكى مجده المندثر وساعاته الخاليات، وذكر كيف اكتسح الأفق المديد، وغطى الشمس المشرقة. . . ثم جاءت هذه النجوم الصغيرة تعبث به وتهزأ منه، فلم يملك أن بكى. . . وانثالت دمعاته على كل نبتة وفوق كل غصن. وكان بكاؤه هذا الندى الطري الذي اندفع بتلقي بسمة الصباح
. . . وهكذا تتراقص الأماني من حوالينا. . . أيتها الإنسانة الكريمة. . . وتنبثق شعاعاتها الناعمة تخط الفجر الذي نرنو إليه؛ وتنسق ألوانها الزاهية السبع لتنسج بردة الشمس، ولكنها تمضي في هدوء واتزان؛ فلن تمر بنا في كل مرحلة، ولن تقف بنا عند كل لون.(452/32)
ولكنها ستفجؤنا هالة بيضاء نيرة؛ فهلا وفرت عليك بعض الجهد، وحفظت عليك بعض القوة، وكففت عن ارتقاب المشرق كما أرقب، والتحديق فيه كما أحدق؟!
ولكن لا عليك، لا عليك يا أماه؛ حدقي، وارقبي، إن نظراتنا كهذه النجوم ترقص رقصة الظفر، وتنشد نشيد الحياة، وترسم للقاء دعوة كريمة!
(القاهرة)
شكري فيصل(452/33)
يوم الزهاوي
للأستاذ يحيى محمد علي
إنه ليوم وإن احتوته لجج الزمن العاتية واستقرت به في أغوار الماضي، فإن له بين شفاف القلوب الذاكرة للجميل، وفي أعماق النفوس المطوية على الوفاء، أثراً لا أحسب النسيان يقوى على طمس معالمه. إذ امتدت فيه يد القدر من بطون الغيب إلى قلب (الزهاوي) فأسكنته، وإلى لسانه فأسكتته، وبذلك غيضت من مناهل الحكمة منهلاً دفاق الفيض، وأطفأت من مشاعل العرفان مشعلاً وضاء السنا، وقطعت من قيثارة الشعر وتراً رنان الصوت، وتركت في كل فؤاد حسرات تضطرم، وفي كل عين عبرات تختنق!
فكان يوماً لا نملك حين ينساب إلينا من مطاوي كل عام إلا أن نقف فيه وقفة الذاكر المحزون لنحلق بأجنحة الذكرى إلى أجواء رفيعة من النبوغ والعبقرية، وآفاق مترامية من الإبداع والعظمة، تزيدنا إعجاباً بالزهاوي، وإجلالاً لقدره، ويقيناً بأن خسارتنا فيه كانت أعظم مما قدرناه بكثير
ثم لا تلبث الذكرى أن تفتح لنا من أسفار المجد سفراً أفعم (الزهاوي) صفحاته بمآثره ومفاخره لنستمد منه لضلالنا هدى ولمحنتنا تجربة، ولنستوحي كلمة حتى نفرغها في مسامع أولئك الذين بخسوا (الزهاوي) حقه، وأنكروا عليه نضاله المجيد وكفاحه الخالد وما كانوا إلا أنفسهم يظلمون، وستبقى آثار (الزهاوي) لنهضتنا معيناً ثراً لا ينضب سيله الطامي ولا يغور. . .
وحسبنا - ومجال البحث لا يتسع للإطالة والإسهاب - صفحات من هذا السفر نقلبها بين أيديهم، لينعموا النظر فيها، وليحكموا بعقول سالمة من الأهواء، وضمائر خالصة من الأحقاد، على أدب (الزهاوي) وجهاده.
يقول الزهاوي: (. . . غنيت لأبناء وطني أريد إيقاظهم، فلما فتحوا عيونهم شتموني، ثم غنيت، فأخذوا ينظرون إلي شزراً، ثم غنيت فابتسموا لي، ثم هتفوا لي وبقى فيهم من يشتم، وغنيت وسأغني إلى أن يسكتني الموت، وسوف تبقى بعدي كلماتي معربة عن شعوري وما كابدته في حياتي من شقاء واضطهاد، فهي دموع ذرفتها براعتي على الطرس ناطقة بآلامي وهي خليقة بأن تذرف من عيون قارئها دمعة هي كل جزائي من نظمها. .(452/34)
)!
فهو الشاعر الذي عاش لأمته فاستوحاها وأوحى إليها، والذي ما خفق قلبه إلا بحبها، وما توجع واضطرب إلا لمصائبها وهوانها، والذي ما جرى لسانه إلا بذكرها، وما شدا إلا بآمالها وأمانيها
غنى لها، وغنى، ولكنها تجاهلته حينا واضطهدته أحياناً أخرى واهتزت جزعاً وحزناً حين فقدته
غنى لها حين ألفاها سادرة في الضلال تتثبط في رهج الوني والعجز، وتتعثر في دياجير الخمول والفتور، ليوقظها من سباتها العميق ويمهد لها سبل الإفلات من ربقة هذه الغفلة، فهو القائل:
تيَّقظت الأقوام من غفلة لها ... ونحن بحال لم نزل فيه نهجع
والقائل:
أيها الشعب طال نومك فأيقظ ... للمساعي فالليل صار نهارا
وليبعث فيها من الثقة والعزم ما ييسر لها تحطيم أصفاد اليأس ونضو ثياب الذل ومجاراة الأمم التي سبقتها في مضمار التقدم والرقي فقال:
يا قوم قد وعر الطريق أمامكم ... فإذا عزمتم تسهل الأوعار
إن التوقف في زمان حازم ... فيه تقدمت الشعوب، لعار
والقائل:
أمة تكسر الرتاج إذا ما ... وجدت دون ما تريد رتاجا
وغنى حين رأى الجهل يرين على العقول فيكبحها عن الرشاد والسداد ويهوي بها إلى وهدة الزيغ، ليرفع عن مداركها آصار الأفن ويدر أعوادي الطيش ويخفف عرام الأمية فقال:
العلم ثروة أمة ويسار ... والجهل حرمان لها وبوار
وقال:
لا يأمن المدلج الساري تورطه ... ما لم يوطد له من عقله سندا
وقال:
استنيروا بالعلم فالعلم نور ... إنما بالعلوم تنفي الشرور(452/35)
وليهيب بها للتهافت على ينابيع العلم ونشر التعليم فقال:
أليس الرضى بالعلم أكبر حطة ... أليس ذراع العلم أقدر دافع
خذ العلم إن العلم مال لمعدم ... ورِيٌّ لعطشان وقوت لجائع
وقال:
تشق حياة ما لها من مدرب ... وتشفى بلاد ليس فيها مدارس
ثم غنى لما وجد الرجعية تحدق بالحقائق فتشوهها وتمسخها، وتنأى بالعقائد عن هدفها السامي وغايتها المثلى، فقال حاثاً على التمسك بالحقائق دون الأوهام والتحرر من نير الخرافات والنزوع إلى التجدد ومماشاة روح العصر الذي لم يعد يأتلف وهذه الأوهام
يا قومنا لا نفع في أحلامكم ... فخذوا الحقائق وانبذوا الأحلاما
جهل الذين على قديم عولوا ... إن الزمان يغير الأحكاما
وقال:
أنضو القديم وبالجديد توشحوا ... حتام تختالون في الاطمار
وتملصوا من نير كل خرافة ... خرقاء تلقى الربن في الأفكار
وغنى حينما تبين المرأة ترزح تحت أعباء التقاليد البالية وينوء بها الحجاب، مدافعا عنها، زائدا عن حقوقها السلبية طالباً إنصافها فقال:
غصبوا النساء حقوقهن ... فلا تصان ولا تؤدي
وإذا النساء ردين في ... شعب فإن الشعب يردى
وقال:
طالما قد وقفت أدرأ عنهن الرزايا فيالها وقفلت ثم غنى. . . وغنى. . .
وما كان ليفت في عضد الزهاوي أو يثنيه عن عزمه طعن أو ثلب وإعانات أو إرهاق ورائدة نصرة الحق؛ وحسبه ذلك مسيغاً لغصة الجحود، ومخففا لوطأة النكران، وإن قوله:
هي الحقيقة أرضاها وإن غضبوا ... وأدعيها وإن صاحوا وإن جلبوا
أقولها غير هياب وإن حنقوا ... وإن أهانوا وإن سبوا وإن ثلبوا
لأقوى دليل وأنصع برهان على تفانيه في سبيل الحقيقة!
هذا هو الزهاوي وهذه بعض مآثره وألحانه. .(452/36)
أفليس من حقه على أمته التي حمل نفسه من أجلها علي المعاطب وجوزي منها بالصدود والإغفال أن تعني بأحياء ذكراه براً منها بالأدب واعترافاً بالفضل ووفاء بالعهد؟!
أمثل الزهاوي من يمر يوم ذكراه كسائر الأيام؟!
لطفك اللهم بالأدب. . . فإن ما يلقه من عقوق الناس لعظيم
وأنتم أيها الجاحدون لفضله. . . أليس في كل ما أداه الزهاوي لأمته ما يستدر من مآقيكم دمعة حبسها الغرور ومنعها الحقد؟
حسبك يا جميل أنك القائل:
كنت للحق كل عمري وفيّاً ... وسأبقى حتى أموت وفيّا
وقد أديت رسالتك على الوجه الأكمل ففي ذمة الخلود.
(بغداد - مصرف الرافدين)
يحيى محمد علي(452/37)
لكي تعيش. . .!!
للأستاذ م دراج
أليس عجيباً أن يتعارض المنطق من القانون؟ إن منطق الحياة ليقول: الحياة تبرر نفسها! ولكن القانون لا يخضع دائماً لمثل هذا القول! (الحياة تبرر نفسها) منطق عجيب حقاً بنسف دعائم الجريمة والعقاب، ومع ذلك فالقانون باق، وسنة الحياة لا تتغير! أجل. . . إن القانون يثور على المجرمين، ولكنه لا يفهم لماذا أجرموا؟ يصليهم العذاب في أركان مظلمة يسميها (دور التأديب والإصلاح)! ولكن هذه الدور تزداد دائماً، وتتسع، وتكتظ، ومع ذلك يصر على إنها ليست للإفساد، لسبب الانحطاط في طبقة ما من الأمة، ويتعلل بتدهور أخلاقها، ثم ينسى التفسير الصحيح لهذا التدهور، وكيف تسببت أعراضه وتفاقمت، لأنه لا يريد أن يقول: إنه الجوع أو الجهل، أو الحرمان أو الفقر بمعنى أقرب وأوضح. . .
هذه هي القصة، قصة المرأة التي خلقت التاريخ، وبقيت المحور الذي تدور عليه حوادث العالم حتى اليوم. . . رأيتها بالأمس تسير الهوينا إلى جانب الطريق: تتصفح الوجوه صفحة صفحة بعينين لهما منطق مفضوح! لقد طال سيرها على غير هدى، حتى كاد التعب يهوي بفرعها إلى الأرض، فأسندت ظهرها إلى جذع شجرة عتيقة كمن يريد انتظار شيء معلوم. . . فوقفت على بعد منها، لأني لمحت على وجهها سمة التضليل واضحة، ولم يخف عني أنها تنتظر المجهول. . . المجهول الذي يقودها من هذه السوق التي أقامتها مدنية القرن العشرين لتجارة الرق المشروعة، فماذا رأيت؟ رأيت قطعة من جسم الإنسانية، تتمرغ في الوحل، والناس يطربون لهذا المنظر البشع، ويتهافتون على مشاهدته، فبعضهم من ذوي (الرؤوس البيضاء) كانوا يرمقونها بنظرة التهكم والسخرية؛ أما البعض الآخر فمن ذوي الشعور اللامعة والحواجب المزججة، فإنهم يصارعونها النظرات أولاً ثم يفتشون في مظهر الثديين، ثم يهبطون بأنظارهم حتى قدميها، وكثيراً ما كان بعضهم يتعمد المرور من ورائها ليطمئن إلى حكمه الأخير! وهم لا يكفون عن اللف والدوران، وكأنهم جيوش من النحل تطوف حول زهرة من أزهار الربيع. . . إن منظرها على هذا الوضع ليضايقني ويثير في غيرة لا أعرف مصدرها، لعلها الثورة على الإنسانة الذليلة، أو لعلها الأنانية التي لا يخلو من بعضها كائن بشري. . . وجدتني مضطراً إلى الابتعاد، فقد كان(452/38)
يؤلمني أن أكون أحد المتحفزين للدخول في صفقة كهذه. ولم أكد أبتعد خطوتين، حتى أعود فألقى عليها نظرة أخيرة، فأجد سيارة ضخمة لها طنين العظمة والكبرياء تتباطأ رويداً رويداً، ثم نقف عن الحركة، ويتحرك بابها، ولا ينزل منه أحد. . . لقد حجبت عني هذه السيارة منظر الفتاة، فقفزت كذلك خطوتين بعض الشيء، وخيل إلي إنها تسأل عن الثمن. . . وأخيراً تقفز إلى جوار السائق وتندفع السيارة بصيدها الحرام، مخلفة وراءها عثاراً مشيعاً بدخان العظمة والكبرياء. . .
ويضيق صدري، فأمشي مسلوب العاطفة والفكر معاً. أمشي أنا أيضاً على غير هدى، هنا وهناك لا ألوي على شيء. وفجأة أسمع طنيناً بعيد إلى صوابي، فأدرك أن حياتي كانت معرضة للخطر، كنت مهدداً بالفناء من هذه السيارة الماجنة، فقد وقفت مني على بعد أمتار. وألقت صيدها المذبوح إلى الطريق! وعلى غير وعي مني أتبع خطواتها، فهي تسير في نفس الاتجاه الذي يصل بي إلى مسكني. ولكني لا آبه بالوقت، ولا بحاجتي إلى الراحة، وأتابع السير وراءها حتى تعرج على دكانه تبيع (سمكا مشويا) ثم إلى بائع الخبز فتبتاع منه حاجتها. . . وتواصل السير وأنا أتبعها. . . لقد اندفعت اندفاعاً غريباً لأعرف شيئاً عن قصتها. سلكت شوارع مظلمة، وحارات، ودروباً ما كنت أتصور أن القاهرة، هذه المدينة الجميلة الضاحكة. . . ذات القصور والفنادق والملاهي والأحياء التي تضارع أرقى العواصم في الغرب، هذه المدينة التي يسمونها كذباً وتضليلاً عروس الشرق، تضم هذه المباءات القذرة، تلك التي لا تجد لها مثيلاً بين زنوج أفريقيا أو بلاد نيام نيام أو أي أرض شئت
وأخيراً أراها تحيي أمها العجوز، وتنحدر إلى باب مسكنها الغائر في بطن الجبل. فأتذكر المرأة التي أمر بها كل يوم وهي جالسة إلى صندوق القمامة تفتش فيه جاهدة عن شيء يؤكل، والرجل الذي تسلل إلى فضلات طعام إحدى الفرق المعسكرة، فأرداه الجندي صريعاً بالرصاص. والفلاح الذي يأكل الحشائش من الأرض كالحيوان. والعامل الذي يقسره الجوع أن يسرق قطعة من (العجوة) ليبلع بها رغيفه. . . كل أولاء كهذه المرأة هم في العذر والحاجة سواء. لقد فقدوا كل إحساس لأنهم جياع فما يهمهم عرف ولا قانون. وهل في عداد القوانين التي تنظم حياة المجتمع قانون واحد يجنب الفقير عواقب الشطط!! آه. .(452/39)
لقد تذكرت! هناك السجون! وهل رأيت في السجون إلا فقيراً أو محروماً أو مطروداً؟ هذه السجون بنيت لفريق واحد من الناس، وليس هذا الفريق من الأغنياء!
وعدت إلى داري مهموم القلب، يحتدم بيني وبين نفسي عراك عنيف: إنها ساقطة. . . بغي. . . عاهرة تفسد في الأرض. أثور، وهي تهدئني: (ألا تدري أن صفقة كهذه لا غبار عليها، ما دام الخمر والجوع هما وسيطاها! إن الخمر والجوع كليهما كأس يثمل شاربها. فكل كأس من الخمر رصيد من العرق أو الدموع! فلم لا ترى مثل هذا يحدث على الشاطئ الغربي من النيل. . . حيث تقوم القصور الشاهقة مطلة على الأكواخ والكهوف لا محل للأسطورة القديمة التي كانوا يسمونها الفضائل، والشرف. والكرامة. والمروءة! كل هذه أكاذيب قد عفت منذ زمن بعيد. إن الإنسانية تتقدم، وتتطور، دائماً، دائماً، حتى في تجارة الرقيق. ولكنها تجارة منظمة. أجل تجارة منظمة تتفق وأسلوب القرن العشرين. . .
لا يا صاحبي، إنها إنسانة لابد لها من القوت لتعيش. ومن يدري؟ ربما أعيتها الحيل في البحث عنه. أذلتها الحاجة. والجواب بغير ثمن ليس من طبيعة هذا العصر، ولا من تعاليمه. فما الكرامة، وما الشرف، وما العرض، أمام الحاجة الملحة للطعام؟ وما دمنا قد رضينا أن يحيا كل إنسان لنفسه، فليس لك أن تلوم المرأة العاطلة، التي لا عائل لها ولا قانون يحميها، إذا انغمست في الظلام تفتش عن شيء أعياها البحث عنه في النور. إن لغة العطف والرحمة لم تعد من مصطلحات هذا الزمن. فالرجل القادر على أن يمنح العطف والرحمة في شكل كسرة تمسك الرمق أو ثوب يستر الجسد قد طغت عليه تكاليف المدنية، فهو يرى أن (جالوناً) من البنزين لسيارته، أو كأساً من الشراب يذهب بصوابه، أو حفلة ساهرة ترمز إلى عظمته، أحق وأولى من معونة لا يطالبه بها القانون، ولا تعترف بوجوبها الدولة!
صدقني إذا قلت لك: إن يد المدنية الحديثة قد قلبت صفحة الزمن، فطوت معها كل أثر للفضائل في العهد القديم. نحن الآن أمام صفحة جديدة، تختلف في تعاليمها ومراميها، وليس من معانيها شيء اسمه الرحمة!!
إن القوة الآلية التي جعلت الثروة تتركز في يد عدد قليل من الناس، وتتزايد بأرقام مخيفة، هي بعينها التي سلبت الكثرة الهائلة النزر الضئيل الذي بيدها حتى باتت تبحث عن(452/40)
الرغيف فلا تجده. فالزيادة المطردة في جانب، والنقص المستمر في جانب، قد أوجدا ميزاناً عجيباً تعلو فيه كفة إلى السماء، وتهبط أخرى حتى تلاصق الأرض. وليس القب الذي يرفع هذا الميزان هو توراة (موسى) ولا إنجيل (عيسى)، ولا هو القرآن الذي بلغه (محمد)، كما أن صنجاته ليست من المروءة أو الكرم أو الزهد، ولكنها من نوع آخر تبيحه المدنية وتشجعه، من الغش، والطمع، والمكر، والاستغلال الشنيع الذي لا يصده حتى عرض فتاة مسكينة تتضور جوعاً!
فكيف إذن تطلب من امرأة ضعيفة جائعة محرومة من شريعة الدين وشريعة المدنية، أن تفهم معنى الكرامة والشرف وقداسة العرض في هذا المعترك الضال؟ الإنسان ظل للنظام الذي يعيش فيه، فكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟
كيف؟ كيف؟ لم يعجبني دفاع نفسي عن البغي. رأيت فيه دفاعا عاطفيا لا يجوز على العقل، فاختلفنا. واتفقنا أن نقدم (للرسالة) هذه القضية.
م. دراج(452/41)
الإمبراطورية اليابانية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
ليس من شك في أن أنظار العالم في هذه الأيام تتجه صوب ميادين القتال المختلفة: في ليبيا وروسيا وفي الشرق الأقصى، وفي المحيطين الأطلنطي والهادي، وتتلهف إلى استماع أنبائه عسى أن تنفذ أبصارهم إلى غياهب المستقبل فيعرفوا بعض ما ينتظرهم. وليس من شك في أن أنباء القتال في الشرق الأقصى تستأثر في الوقت الحاضر بالجانب الأكبر من اهتمامهم. لقد بدأ المستر تشرشل حديثه الذي أذاعه في مساء يوم الأحد 15 من فبراير سنة 1942 بإذاعة نبأ سقوط سنغافورة في يد اليابانيين. قال مخاطباً شعوب الإمبراطورية: (أتحدث إليكم جميعاً في ظل هزيمة عسكرية شديدة بعيدة المدى. لقد سقطت سنغافورة، واجتيحت شبه جزيرة الملايا كلها)
ومضى يقول: (لقد تعرضنا جميعاً لهجوم شعب محارب يتجاوز عدده التسعين مليونا من الأنفس تسلح بأمضى أنواع الأسلحة) ووصف شجاعة اليابانيين في ميدان القتال، وقوة اليابان الحربية فقال: (وخليق بكل إنسان ألا يقلل من شأن قوة اليابان الحربية وقوتها في الجو أو في البحر أو في ميادين القتال البرية يوم ينازل رجل رجلاً، فقد أثبتوا أنهم محاربون بواسل حقاً) ولاشك أن الناس يتوقون إلى معرفة الكثير عن اليابان. وهل تستطيع أن تصمد طويلاً في هذه الحرب أم لا. وهانحن في مقالنا هذا نحاول أن نمدهم بما يتسع له المقال من معلومات.
اليابان إحدى الدول العظمى التي ما تزال تحتفظ بالنظام الملكي؛ وإمبراطورها يلقب بالميكادو وله سلطان عظيم على رعاياه. ويطلق على اليابان لقب إمبراطورية مع إنها لم تكن قبل فتوحاتها الحديثة أكبر من فرنسا بل كانت أصغر مساحة من شبه جزيرة اسكندناوة وإن كان عدد سكانها يزيد على التسعين مليونا. ويمتاز اليابانيون بنشاطهم وذكائهم؛ ولكن هذه الصفات لا تساعدهم على أن يجعلوا من طبيعة بلادهم الجبلية حدائق غناء أو مزارع خصبة؛ ومن ثم اضطر اليابانيون إلى الالتجاء إلى الصناعة (كما حدث في بريطانيا) واستبدال مصنوعاتهم بما يحتاجون إليه من مواد غذائية ومواد خام - ويشتغل معظم سكانها بالزراعة، ومع هذا يعتقد كثير من الكتاب إنه لولا التجاء اليابانيين إلى البحر(452/42)
المجاور طلباً للسمك لما استطاعوا تموين أنفسهم. ولم يشعر اليابانيون بالضغط الناشئ من ازدحام السكان في بلادهم؛ ولعلهم لا يشعرون بذلك لأنهم ملاحون يستطيعون أن ينشئوا علاقات تجارية مع العالم الخارجي ويحصلوا على ما يبتغون من مواد خام ومواد غذائية. وقد كانت اليابان تستورد الأرز من الهند الصينية، والنترات من شيلي، والأخشاب من استراليا.
تتكون اليابان من أربع جزائر كبيرة: هندو، وهكايدو، وكيوشو، وشيكوكو، وعدد عديد من الجزائر الصغيرة. وهي كإنجلترا بمعزل عن القارة الآسيوية يفصلها عنها بحر اليابان؛ وقد أتاح لها فرصة جعلتها تنمو وتنهض وتنشئ حضارة خاصة بها ودولة مستقلة لا تخضع لغيرها. يمتد الأرخبيل الياباني من جنوب شبه جزيرة كمنشتكا في عروض لندن إلى فرموزة في العروض الحارة؛ ومن ثم نجد مناخ أجزائها الشمالية بارداً؛ ويزيد في برودته هبوب الرياح الشمالية الباردة عليه شتاء، وهبوب تيار كوريل البارد، بينما جنوبها حار. على أن معظم أجزائها يقع في مهب الرياح الموسمية الصيفية ويتمتع بكميات كبيرة من المطر، وسطحها جبلي ولذا كانت أنهارها قصيرة تكثر بها المساقط وهذه قد استخدمت في توليد الكهرباء.
الغلات والنباتات
اليابان فقيرة من حيث مواردها الزراعية؛ فثلث مساحتها صالح للزراعة. وأهم ما يزرع به الأرز هو الغذاء الرئيسي للسكان، والقمح والشعير والفواكه والخضر، وفي الأجزاء الجنوبية يزرع الشاي وشجر التوت. واليابان من أكبر الدول إنتاجاً للحرير الطبيعي. وفي فرموزة تنمو الغابات التي من أهم أشجارها الكافور. وفي وديانها يزرع الأرز وقصب السكر ويصدر إلى اليابان الأصلية وتستورد اليابان مقادير كبيرة من المواد الغذائية من بلاد آسيا المجاورة. وتغطي الغابات كثيرا من أرضها وتمدها بالأخشاب اللازمة لصناعاتها
المعادن والصناعة
يوجد باليابان الفحم؛ ولكن المقدار المستخرج منه لا يزيد على
ثمن (81) الناتج من بريطانيا؛ ولذا لا تعتبر اليابان من الدول(452/43)
الهامة في إنتاجه ولا ينتظر لها مستقبل صناعي عظيم. وتوجد
بها كميات من الحديد، ولكن جل اعتمادها في صناعاتها على
ما تستورده من حديد أملاكها الأسيوية. وهي من أكبر دول
العالم إنتاجاً للنحاس
وقد تقدمت الصناعة باليابان ولكن ما زال عدد المشتغلين بها من السكان قليلاً. وأهم الصناعات صناعة المنسوجات القطنية والحريرية والورق والخزف واللعب وبناء السفن
واليابان من الدول البحرية الكبيرة ولها أسطول عظيم وقد اضطر سكانها لركوب البحر لصيد السمك. ويبلغ عدد الصيادين حوالي المليون
موازنة بين بريطانيا واليابان
يشبه كثير من الكتاب اليابان ببريطانيا ويطلقون عليها التشبيه صحيح من بعض وجوهه؛ ولكن هناك أوجه كثيرة للخلاف: فاليابان أقرب إلى خط الاستواء من بريطانيا؛ فهي تقع في عروض البحر الأبيض. ويختلف مناخها ومناظرها ومحصولاتها عن نظيراتها ببريطانيا. ويختلف الإنجليز عن اليابانيين في مظهرهم وأخلاقهم وطرق حياتهم. وتعتمد بريطانيا على الصناعة بينما اليابان ما زال أكبر اعتمادها على الزراعة. ويشك كثير من الكتاب في مقدرتها على أن تصبح دولة صناعية. فموارد الفحم بها لا يمكن أن تستمر طويلاً برغم ضآلة المستهلك منها. وتنقص صناعاتها الجودة والإتقان، أما إنجلترا فمواردها وموارد إمبراطوريتها لا تنفد
ويرى كثير من الكتاب أن اليابان يمكن أن تكون موضعاً حسناً للمقارنة بإيطاليا لا ببريطانيا؛ فتركيبهما الجغرافي وعروضهما، وكثافة السكان بكل منهما، وانتشار الزراعة وقلة الممتلكات تجعل المقارنة بينهما ممكنة، بينما لا يمكن تشبيه اليابان ببريطانيا!
(للبحث بقية)
أبو الفتوح عطية(452/44)
25 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - عاداتهم
كثيراً ما يلجأ الأب والأقارب الفقراء إلى التخلص من الطفل الذي ماتت أمه ولم يفطم عندما لا يستطيعون الحصول على ظئر له. وقد يوضع الطفل أحياناً على باب المسجد ساعة صلاة الجمعة، فيحدث عادة أن تأخذ الشفقة بعض المصلين عند خروجه من المسجد فيحمله إلى منزله حيث ينشأ في أسرته كطفل متبنى لا رقيق. وقد يعتني بعضهم بالطفل حتى يجد له رجلاً أو امرأة تتبناه. وقد حدث من زمن غير بعيد أن عرضت امرأة على سيدة من أسرة يعرفها صديق لي أن تبيعها طفلاً سنة بضعة أيام وجدته على باب مسجد؛ فقبلت السيدة تربية الطفل لوجه الله رجاء أن يحفظ لها طفلها الوحيد جزاء هذا الإحسان.
ثم ناولت المرأة التي أحضرت الطفل عشرة قروش ولكنها رفضت الأجر المقدم. وهذا يبين أن الأطفال يصبحون أحياناً مجرد سلع، ويستطيع من يشتريهم أن يجعلهم عبيداً له يتصرف فيهم كما يشاء. وقد أخبرني أحد النخاسين وأكد لي غيره خبره هذا أن الوالدين قد يبيعان الصغيرات أحياناً باعتبارهن جواري مجلوبات من بلاد أخرى؛ وأن كثيراً من أولئك البنات سلمن إليه بإرادتهن ليبيعهن؛ وقد ألقى في روعهن أنهن سينعمن بالملابس الفاخرة والترف العظيم، وعلمن أن يقلن أنهن أحضرن من بلادهن في سن الثالثة أو الرابعة ولذلك يجهلن لغتهن الأصلية، وإنما يمكنهن التكلم بالعربية فقط.
وكثيراً ما يحدث أيضاً أن الفلاح يضطره الضنك الشديد إلى وضع ابنه - مقابل مبلغ من المال - وضعاً أسوأ بكثير من الرق. وذلك عندما يطلب مجندون أولاد من يقتنون وهؤلاء يستطيعون أن يخلصوا أولادهم من الجندية بأن يعرضوا على الفلاحين الفقراء أن يجندوا(452/46)
أولادهم بدل مقابل جنيه أو جنيهين لكل ولد. ويفوزون بطلبهم عادة مع إنه حب البنوة سائد عند المصريين بقدر حب الأبناء لوالديهم. ويكره أغلب الوالدين مفارقة أولادهم عندما يجندون خاصة كما يدل على ذلك الوسائل التي يعمدون إليها لمنع تجنيدهم. وقد لاحظت أثناء زيارتي الثانية لمصر أنك لا تكاد تجد في أي قرية شاباً صحيح الجسم ليس بأسنانه كسر (حتى لا يمكنه أن يقرض الفشكة) أو بأصابعه أو بعينيه إصابة أو عمى حتى لا يجند. ويتخذ النساء المتقدمات في السن وغيرهن هذا الأمر حرفة منتظمة، فيدرن على القرى لتنفيذ هذه العمليات؛ وقد يقوم أبوا الولد أنفسهما بهذا الأمر. ويبدو مما قيل آنفاً أن العاطفة ليست وحدها دائماً السبب الذي يدفع أهل الطفل إلى الالتجاء إلى مثل هذه الوسائل حتى لا يحرموا أطفالهم.
ولا يمكن تصوير فلاحي مصر من حيث حالتهم المنزلية والاجتماعية وشمائلهم صورة ملائمة. ويشبه الفلاحون على أسوأ الاعتبارات أسلافهم البدو دون أن ينعموا بكثير من فضائل أهل الصحراء إلا في درجة منحطة. وكثيراً ما أحدث ما ورثوه عن أجدادهم أسوأ تأثير في حياتهم الداخلية. وقد ذكرنا من قبل أن المصريين انحدروا من عدة قبائل سكنت مصر في عصور مختلفة، واصهروا إلى الأقباط، وان التمييز بين القبائل لا يزال قائماً بين سكان القرى في القطر كله. وقد انشعبت بمرور السنين سلالة كل قبيلة من المقيمين إلى عدة فروع؛ وسميت هذه القبائل الصغيرة بأسماء متميزة أطلقت على القرية أو القرى أو المركز الذي يقيمون فيه. ولم يحتفظ الذين أقاموا طويلاً في مصر بالعادات البدوية الكثيرة، ولم يصونوا نقاوة جنسهم، وإنما اصهروا إلى الأقباط الداخلين في دين الإسلام أو سلالتهم؛ ولذلك تحتقرهم القبائل التي أقامت في مصر بعدهم فيسمونهم ازدراء (فلاحين) بينما يجعلون لأنفسهم تسمية العرب أو البدو؛ ويتزوج هؤلاء الآخرون متى شاءوا من بنات الأولين، ولكنهم لا يزوجون بناتهم لهم؛ ويثأرون للدم إذا قتل شخص من قبيلة وضيعة أحدهم بقتل اثنين أو ثلاثة أو أربعة؛ وقد أشير إلى تلك الشريعة البدوية الوحشية الخاصة بثأر الدم وسيادتها بين سكان قرى مصر في فصل لاحق. فيقتل أحد أقارب القتيل من ذريته أو من سلالة الجد الأكبر لأبيه القاتل، أو أحد الأقارب المذكورين من ناحيته؛ ولذلك كثيراً ما ينشب القتال بين قبيلتي القاتل والقتيل، وقد يستمر أو يتجدد كل حين عدة سنين.(452/47)
وكثيراً ما يكون الأمر كذلك نتيجة إهانة يسيرة بين شخصين ينتميان إلى قبيلتين مختلفتين. وكثيرا ما يعود الثأر بعد جيل أو أكثر من ارتكاب القتل، بينما كانت الخصومة في ذلك الوقت هادئة، وربما لم يكن يذكرها أكثر من شخص واحد. وهناك قبيلتان في الوجه البحري إحداهما (سعد) والأخرى (حرام) اشتهرتا بهذه الحروب والخصومات الصغيرة، ولذلك يطلق اسمها عادة على أي شخصين أو فريقين عدوين. ومما يثير الدهشة أن يباح في الأيام الحاضرة مثل هذه الأعمال التي إذا ارتكبت في مدينة من مدن مصر عوقب عليها بالموت أكثر من شخص. وقد أباح القرآن الثأر ولكنه قيد تنفيذه بالعدل والاعتدال. وتخالف هذه الخصومات حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، ويشبه الفلاحون البدو في أحوال أخرى؛ فعندما تخون الفلاحة زوجها يقذف بها هذا أو أخوها في النيل بعد أن يربط في عنقها حجر أو تقطع إرباً ويقذف ببقاياها في النهر. وقد يعاقب الأب أو الأخ العذراء التي تتهم بمنكر. ويعتبر أهل المرأة أن جريمتها تمسهم أكثر ما تمس الزوج، وكثيراً ما يحتقرون إذا لم يعاقبوها(452/48)
الفصل الثامن
عادات المجتمع العامة
يؤدي احترام المسلم للتجارة إلى اتساع دائرة معرفته بالناس على اختلاف درجاتهم اتساعاً عظيماً؛ وينشط قانون انفصال الجنسين حرية المعاملات بين التجار إلى مدى بعيد، إذ يسمح للتاجر أن يشارك غيره - بصرف النظر عن اختلاف الثروة أو الدرجة - دون خشية اقتران شخصين متفاوتين بالزواج؛ وتتمتع النساء مثل الرجال بسعة المعاملات التجارية مع الغير من جنسهن
ويتكلف المسلمون ويدققون في شمائلهم الاجتماعية إلى أقصى حد؛ ويقوم الكثير من عاداتهم الشائعة على تعاليم الدين، وذلك يميزهم في مجتمعاتهم من كل قوم آخرين. ومن عاداتهم تحية بعضهم بعضاً بقولهم: (السلام عليكم) فيرد من يحيونه بقوله: (عليكم السلام ورحمة الله وبركاته). ولا يوجه المسلم هذا السلام إلى من يخالفه في الدين ولا بالعكس؛ ويجب على المسلم أن يحيي المسلم بهذه التحية، إلا أن إهمال هذا الواجب لا حرج فيه. ويجب رد التحية على الإطلاق؛ فالتحية (سنة) وردها (فرض). وقد يحيى المسلم مع ذلك خطأ من يخالفه في الدين، وليس على هذا أن يرد التحية. وينقض المسلم تحيته عندما يتبين خطأه بقوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)؛ وكذلك يفعل أحياناً إذا حيا مسلماً ورفض أن يرد السلام
وأهم آداب السلام كما أملاها الرسول (ص) وكما يتبعها المصريون المحدثون ما يأتي: يبدأ الراكب بالسلام على الراجل، وألعابر على الجالسين قلوا أو كثروا، والفئة القليلة أو أحدهم على الفئة الكبيرة، والصغير على الكبير، ولما كان يكفي أن يوجه السلام واحد من الجماعة فكذلك يكفي أن يرده واحد. ويجب على المسلم أيضاً أن يحيي أهل المنزل عند دخوله وخروجه؛ ويجب دائماً أن يبدأ بالتحية ثم يتحدث. وللآداب السابقة بعض الشواذ فلا يلزم مثلاً في المدينة المزدحمة تحية أكثر هؤلاء الذين قد يمر بهم الإنسان ولا في الطريق حيث يقابل المرء عدة عابرين. إلا أن العادة جرت على أن يحيي الرجل الموسر أو الحسن الهندام أو الشيخ المحترم أو أي شخص وجيه من يبدو إنه رفيع المكانة أو عظيم الثروة أو من رجال العلم ولو كان الطريق حافلاً. وعادة المهذبين أن يضع من يسلم أو من يرد(452/49)
السلام يده اليمنى على صدره أو يلمس شفتيه ثم جبهته أو عمامته ويسمى ذلك (تيمينة). وتؤدي التيمينة الأخيرة، وهي أكثر احتراماً، لمن علا قدره لا مع السلام فحسب، ولكن أثناء الحديث أيضاً وبدون سلام حينئذ
ولا يؤدي من كان من الطبقة الدنيا السلام إلى العظيم دائماً وعلى الأخص إذا كان تركياً، وإنما يكتفي بأداء التيمينة. ويظهر احترامه لمن سما مركزه بإحناء اليد إلى أسفل ثم رفعها إلى شفتيه وجبهته دون أن ينطق بالسلام. ومن العادات الشائعة أيضاً أن يقبل الرجل يد العظيم، ظهرها وحده أو ظهرها وباطنها أحياناً، ثم يضعها على جبهته لإظهار احترامه الخاص. إلا أن العظيم لا يسمح بذلك في أغلب الأحوال، وإنما يلمس اليد التي تمد إليه فيضع المحيي حينئذ يده على شفتيه وجبهته فقط. وتقبل القدمان دلالة على الخضوع والمذلة لالتماس العفو عن ذنب أو للشفاعة لشخص آخر، أو لطلب إحسان من عظيم. ويقبل الولد يد أبيه والزوجة يد زوجها والعبد والخادم الحر غالباً يد السيد. ويقبل أرقاء العظيم وخدمه كم ملابسه أو طرفها
وعندما يحيي الأصدقاء الخواص بعضهم بعضاً يتصافحون باليمنى، ثم يقبل كل منهم يده أو يضعها على شفتيه وجبهته أو يرفعها إلى جبهته فقط أو يضعها على صدره دون أن يقبلها. ويتعانقون بعد الغياب الطويل وفي بعض المناسبات الأخرى. فيقبل كل منهم الآخر على الناحيتين اليمنى واليسرى. وهناك طريقة أخرى للتحية شائعة الاستعمال بين الطبقات الدنيا. فعندما يتقابل صديقان بعد سفر يتصافحان بعد سفر يتصافحان ويهنئ كل منهما الآخر على سلامته ويتمنى له الهناءة والرفاهية مرددا عبارتي: (سلامات) و (طيبين) على التعاقب ومراراً. وعندما يبدأن هذه التحية التي تدوم وقتاً، وقبل أن يأخذا في الحديث يتصافحان كالعادة المتبعة عندنا، ويغيران وضع اليد كلما يلفظان العبارتين السابقتين فيدير كل منهما إصبعه على إبهام الآخر عندما يردد العبارة الثانية ويعود إلى الوضع عند العبارة الأولى
(يتبع)
عدلي طاهر نور(452/50)
أغنية
من ليالي الدانوب
للأستاذ أحمد فتحي مرسي
يا ليالي الحبِّ عاد الحبُّ ذكرًى، يا ليالي
يا مَجالي النهرِ أينَ النهرُ مِنَّا، يا مجالي
غابَ عن عيني وما غابَتْ رُؤَاهُ عن خَيالي
وسلام يا مِهادَ الحبِّ يا نْبعَ الجَمال
يا ليالي الحبِّ عاد الحبِّ ذكرًى، يا ليالي
أينَ تحتَ الدَّوْحةِ السكْرَى أماسيُّ اللقاء
حينما أرختْ بنانُ الكونِ أهدابَ المساءِِ
أينَ ضفَّاتُكَ يا نهرُ الندِيَّات اللَّوائي
لَقِيْتنَاَ بين ألحانٍ وأزهارٍ وماء
حُلُمٌ من غفوةِ الماضي تراءَى في جلالِ
يا ليالي الحبِّ. . . . . . . . . . . .
حدِّثي يا سرحةَ الوادي ويا خُضْرَ الرحابِ
واذكري يا كأسُ أحلامَ ليالينا العِذابِ
واروِ يا نهرُ ترانيمي وأصْغي يا رَوابي
أنا من خلَّقْتُُ في واديكَ أياَّمَ الشبابِ
وانطوتْ صفحةُ أحلامي على تلكَ الرمالِ
يا ليالي الحبِّ. . . . . . . . . . . .
هاهُنا كَمْ صافحَ الزهرُ وندَّى راحَتْيها
والفَراشاتُ إلى الضوءِ تَسَامَى واليْها
ترتجِي الأمواجُ لو فاضتْ فمسَّت قدميها
وتودُّ الكأسُ لو تبقى طويلاً في يديْها
والغُصونُ الخُضرُ ما بينَ سُجودٍ وابتهالِ(452/52)
يا ليالي الحبِّ. . . . . . . . . . . .
سألتني أترَى النهرَ جميلاً في سُرَاهُ
لِمَ يبدو أزرقَ الصفحةِ يَسْي من رآهُ
قلتُ يا أنشودةَ القلبِ، ويا حُلْمَ هواهُ
هذه الزُّرقةُ من عَيْنَيْكِ لَصَّتْها المياهُ
وتهادتْ راقصاتٍ بين زَهْوٍ واختيالِ
يا ليالي الحب. . . . . . . . . . . .
أيها الأزرقُ يا مَسبحَ أحلامِ الحسانِ
والَّذِي غنَّتهُ قِيثارِي شجِيَّاتِ الأغاني
أنا من غنَّت بألحانِيَ أيَّامَ الزمانِ
وشدا كلُّ لسانٍ بالذي يشدُو لساني
وحيُ أيَّامِكَ يا نهرُ وأيَّامِي الخوَالي
يا ليالي الحب. . . . . . . . . . . .
يا ليالي الحبِّ عاد الحبُّ ذكرًى يا ليالي
يا مجالي النهرِ أين النهرُ منَّا يا مجالي
غابَ عن عينِي وما غابتْ رُؤَاهُ عن خيالي
وسلامٌ يا مِهادَ الحبَّ، يا نبعَ الجمالِ
يا ليالي الحبَّ عاد الحبُّ ذكرًى يا ليالي
أحمد فتحي مرسي
المحامي(452/53)
البريد الأدبي
تواضع الأديب الحق
مما يسترعي الالتفات أحياناً تلك اللغة التي يخاطب بها بعض الأدباء زملاءهم، فتراهم يقولون: (زميلنا أو صديقنا فلان يطلب إلينا كذا، ونحن نقول له كذا، والأجدر به أن يسألنا كذا) إلى آخر هذا الكبر والتكبر في التعبير
هؤلاء قد نسوا من غير شك أو تناسوا أن تكبر الأديب الحق وتعاليه هو في الفكر والتفكير لا في مخاطبة الآخرين. إني أرى شعار الأديب الحق هو: (تواضع في معاملة الناس، وتعال في معالجة الأفكار). لقد آن الأوان لأذكياء القراء أن يقفوا بالمرصاد لكل أديب يحاول أن يتعاظم بالحط من غيره، وأن يرفع قدر نفسه بوسائل لا تتصل بجوهر الرسالة العليا للفكر والأدب
حدث ذات مرة أن تفضل أحدهم فذكرني بقوله: (صديقنا فلان)! فتساءلت: (أهو يريد أن يشرفني بصداقته أم يشرف نفسه بتعظيمها على حسابي)؟!
يقولون إن الذوق شيء ليس في الكتب؛ ولكني أقول إن الذوق شيء ينبغي أن يكون في طبيعة كل كاتب
توفيق الحكيم
على هامش العدد الممتاز
ظهر هذا العدد حافلاً كما تعود القراء بالآراء المنخولة، والعلم المصفى، والأدب الحي، الذي يبعث الحياة قوية في النفوس التي نال منها الجهد. وقد وقفني، وأنا أطالع بعض ما فيه من بحوث كلمات - هي لفتات قوية - جعلتني أكتب هذه الكلمة القصيرة
1 - يقول الأستاذ الجليل الزيات: (إن عمر رضى الله عنه رأى من العدل أن ينال اليهودي الذي عجز عن كسب حياته، من بيت المال ما يمسك نفسه). ذكرني هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد أهل الحيرة في كتابه الذي جاء فيه: (وأيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت المال وعياله وما أقام بدار الهجرة والإسلام) أين هذا العدل مما نراه(452/54)
اليوم من ضياع حقوق الفقراء المسلمين عند الأغنياء المسلمين ولدى الحكومة في دار الإسلام!
2 - ويذكر المؤمن حقاً الأستاذ الغمراوي في تأملاته أن الفضيلة جعلت في هذا الزمن الضال بأهله وسيلة للغلب: فالأمم تتعاهد فان وجدت في الوفاء ربحاً وفت، وإن وجدت الربح في النكث نكثت. هذه الحقيقة المؤلمة أذكرتني كذلك ما جاء في كتاب الفاروق عمر إلى سعد بن أبي وقاص وهو في حربه مع الفرس: (فإن لاعب أحد منكم أحداً من العجم بأمان، أو فرقة بإشارة أو بلسان كان لا يدري الأعجمي ما كلمه به وكان عندهم أمانا، فأجروا ذلك مجرى الأمان. وإياكم والضحك، والوفاء الوفاء!)
هل ترى أنبل من هذا وأشرف! يحض الفاروق على الوفاء بكلمة تبدو من لأعجمي لا يدري معناها ولا يدور بخلده أنها أمان، أما الأمم التي ترى أنها أوفت على الغاية من المدنية والحضارة، والتي يأخذ عنها سادتنا وزعماؤنا ورجالاتنا العادات والتقاليد، فتتعاهد وتحكم العهد، حتى لا تترك فيه لفظة ينفذ منها شك، أو حرف يكون تعلة للبس؛ ثم إذا رأت إحداها أن خيرها في النكث نكثت، إن مكنها هذا ما تملك من حول وطول، ومن قوى الدمار والهلاك!
يا قومنا! يجب أن نعتز بتراثنا وآدابنا وأمجادنا التي تصمد في مقام الاعتزاز والفخر. بذلك تحترمنا الأمم الأخرى، ونسير في طريق المجد. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
إلى الدكتور زكي مبارك
قرأت ما كتبته في العدد (448) من مجلة الرسالة الغراء تحت عنوان (أعدى الأعداء) ولست أقول فيه شيئاً، غير أني أحيلك إلى ما كتبه الدكتور طه حسين بك في العدد (399) من مجلة الاثنين ففيه خير جواب لك
ولعل من الخير أن أذكرك بكلمة قالها الجاحظ في كتابه عن النساء وهي: (لسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل أن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر)(452/55)
وبما لقلمك من فضل على الأدب العربي الحديث لا يسعني إلا أن أقول: (هداك الله للحق وأبعد كيد الشيطان عنك).
(بنت بغداد)
حول الهجرة وشخصيات الرسول
أولى المجلات عناية بما ينشر فيها بحثاً ونقداً (مجلة الرسالة الغراء) لأنها أصبحت حقا مشاعاً للطبقة الراقية من رجال الدين والعلم والأدب، فلا غرو أن ينتظر القراء منها تحقيق ما ينشر فيها من بحث أو يذاع فيها من رأي. كتب صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت كلمة ضافية في العدد 449 ناشد فيها أمنية له حارة أن يعني العلماء بجمع ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يميز من ذلك ما كان بصفته رسولاً وما كان بصفته إماماً أو قاضياً أو مفتياً، بعد أن مهد لذلك بمقدمة نعى فيها على علماء الإسلام حرمانهم النبي صلى الله عليه وسلم من حق الاجتهاد وصورهم كأنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم اسطوانة لجبريل حيث غلبوا صفة الرسالة على صفة البشرية، إلى أن قال فيهم: ومن زعم ذلك فقد لاقى في رأيه من قريب أو بعيد بالذين يقولون (أبعث الله بشراً رسولاً). ومعلوم أن قائلي ذلك هم الكفار
وماذا يقول الأستاذ في أن كتب الأصول من أولها إلى آخرها تقول بصحة اجتهاد الرسول، وأنه إذا أخطأ في الاجتهاد نزل الوحي بتصحيح الخطأ، لأننا مأمورون في القرآن الكريم بالاقتداء به ولا نقر بحال على الاقتداء به خطأ. كذلك نصت جميع كتب الأصول وكتب الشريعة جمعاء على تقسيم أفعاله صلى الله عليه وسلم إلى ما كان منها جبلياً أو من قبيل العادات فلا يكون شريعة ولا نحن مأمورون بالاقتداء به فيها، وإلى ما هو بيان لما جاء في القرآن أو نزل بالوحي فيجب أن يكون تشريعاً عاماً، وتحدثوا عن ذلك بإفاضة حتى مازوا ما يصدر عنه بصفة كونه إماماً، وما يصدر منه بصفته مبلغاً أو قاضياً أو مفتياً وهي الشخصيات التي أرادها الأستاذ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من أمر الصحابة بالتفرقة بين ما يصدر عنه بصفته رسولاً وما يصدر عنه بصفته من البشر. جاء في صحيح مسلم عنه قال: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم(452/56)
بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) واتخذ العلماء ذلك قاعدة شرعية بنوا عليها تفصيل الكلام فيما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من تصرفاته، حتى اختلفت الأئمة الأربعة في كثير من المسائل بناء على هذا الأساس نفسه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلاً فله سلبه) حملها بعض المذاهب على إنه تشريع عام ودائم، ورأى مالك إنه تصرف منه بصفته إماما. كذلك ورد (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) رأى مالك والشافعي أن ذلك من باب التبليغ والرسالة فهو تشريع دائم، ورأى أبو حنيفة أن ذلك إنما صدر عنه بصفته إماماً. إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الخلاف
هذا حديث العلماء في القديم والحديث في الفقه واختلافه باختلاف النظر إلى شخصيات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يصدر عنه من قول أو فعل، بسطوا القول في ذلك ووضعوا له الأبواب والقواعد في كتب الأصول وكتب القواعد وأحكام القرآن والسنة
فأمنية الأستاذ محققة بحمد الله، وأما الخلاف في الفروع الجزئية فهو ضرورة اجتماعية في كل تشريع، ويمتاز التشريع الإسلامي بأنه فيه مصحوب بحسن التفاهم وعمق النظر إلى اختلاف أحوال الأفراد والطوائف مما لا يوجد في التشريع الوضعي.
محمد عبد السلام القباني
المدرس بكلية الشريعة
البراق النبوي وقصة المعراج في التصوير الإسلامي
نشرت مجلة المقتطف في عدد فبراير 1942 مقالاً للأستاذ (عمر حمدي) خريج معهد الآثار الإسلامية عن: (البراق النبوي) كنا ننتظر أن يذكر الأستاذ في ذيله إنه ترجمة لفصل من كتاب (التصوير في لمؤلفه (السير توماس أرنولد)، وهذا الفصل في الكتاب المذكور من صفحة 117 - 122 بعنوان (البراق)
والأجدر بخريج معهد الآثار الإسلامية أن يلجأ في كتابة مقال إلى الطريقة العلمية الصحيحة من إرجاع الفضل لذويه، والاعتماد على المراجع؛ فتلك هي الأمانة العلمية الواجبة، فنحن الآن في عصر زخرت فيه المكتبات بالكتب، وصار فضل كتّاب المقالات، بل فضل المؤلفين أنفسهم هو فضل إسناد الآراء إلى مصادرها الأصلية. ذلك ما يطلب(452/57)
منهم، إذا لم يكن أن يكون لهم في مضمار العلم فضل الابتكار.
ونأمل أن يتفضل المقتطف الأغر بنشر هذا الاستدراك في عدده القادم.
السيد العجمي
رأي الأئمة في المذاهب الصوفية
بعد أن أطلعت - أيها القارئ الكريم - على فتوى الإمام (الطرطوشي) بالشين في المذاهب الصوفية، يجدر بك أن تسمع رأي أئمة الفقه المجتهدين في هذه المذاهب الصوفية التي ذر قرنها في أواخر القرن الثاني للهجرة، وظهر الشذوذ في المنتحلين لها في القرن الثالث للهجرة
قال الإمام الشافعي الذي توفى سنة 204هـ: إذا تصوف الرجل في الصباح لا يأتي المساء إلا وهو مجنون. وأنكر الإمام أحمد الذي توفى سنة 241هـ بعده على خيارهم، ونهى عن قراءة كتب الحارث المحاسبي على التزامه الكتاب والسنة علماً وعملاً. وروى الخطيب بسند صحيح أن الإمام أحمد سمع كلام المحاسبي فقال لبعض أصحابه: ما سمعت في الحقائق مثل كلام هذا الرجل، ولا أرى لك صحبتهم. وسئل الإمام أبو زرعة عن الحارث المحاسبي وعن كتبه التي ألفها في: أصول الديانات، والزهد على طريق الصوفية؛ فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، بدع وضلالات. عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب؛ فقيل له: في هذه الكتب عبرة؛ فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة، فليس له في هذه عبرة - بلغكم أن مالكاً أو الثوري أو الأوزاعي أو الأئمة صنفوا كتبا في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟ هؤلاء قوم قد خالفوا أهل العلم. ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع!
ومن خيار الصوفية الوعاظ المتقدمين منصور بن عمار، وقد ذكر بن مفلح في كتاب (الآداب الشرعية) أن الإمام أحمد نهى عن كلامه. وقد أنكر الغزالي في كتاب (الغرور من الإحياء) على المتشبهين بالصوفية، وكان ذلك في أواخر القرن الخامس، فإن الغزالي توفى سنة 505، وكان قد تاب إلى الله من علوم التصوف والكلام وانقطع إلى علم السنة. ثم أن ابن الحاج المالي المتوفى سنة 737هـ تكلم في كتابه (المدخل) على هؤلاء المتشبهين(452/58)
بالمشايخ من أهل عصره في القرن الثامن وبين ما لهم من المنكرات، وفند ما يدعونه من الكرامات
وبعد، فهذا نموذج من كلام أئمة الإسلام ندعم به فتوى الإمام الطرطوشي في المذاهب الصوفية، وحسبي ذلك وكفى
(كفر المندرة)
أحمد أحمد القصير
مات حتف أنفه
في الطبعة الرابعة لكتاب (إعجاز القرآن) للرافعي رحمه الله ص332 في الكلام عن البلاغة النبوية وتحت عنوان (تأثيره في اللغة صلى الله عليه وسلم) يقول المؤلف: فلا جرم كان صلى الله عليه وسلم على حد الكفاية في قدرته على الوضع والتشقيق من الألفاظ وانتزاع المذاهب البيانية حتى اقتضب ألفاظاً كثيرة لم تسمع من العرب قبله. . . إلى أن يقول (وكلها قد صار مثلاً وأصبح ميراثاً خالداً في البيان العربي كقوله: مات حتف أنفه. وقد روى عن علي بن أبي طالب (رضى الله عنه) إنه قال: ما سمعت كلمة غريبة من العرب (يريد التركيب البياني) ألا وسمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسمعته يقول: (مات حتف أنفه) وما سمعتها من عربي قبله) ا. هـ
ولكنا نرى في لامية السموأل بن عادياء المشهورة قوله:
وما مات منا سيّد (حتف أنفه) ... ولا طُلّ منا حيث كان قتيل
فكيف توفق بين هذا وذاك؟. . .
الرجاء أن تطرحوا السؤال على القراء، ليجيب عليه من حضراتهم من يشاء.
(البصرة)
خالد الشواف(452/59)
العدد 453 - بتاريخ: 09 - 03 - 1942(/)
دروس في الحرب
هل تنسى؟. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
واحدة. اثنتان. ثلاث. . . ثمان. . .
ومضى صاحبي يعد الفتيات اللائي يعبرن بنا في الظلام واحدة بعد واحدة حتى أربى العد على العشرين، وكلهن يعبرن الطريق منفردات كأنهن رجال، وقل في الطريق من يلتفت إليهن، أو يريهن أنهن أخطأن بالخروج في هذا الليل على انفراد، أو يعجب كما عجب القائل:
ثم قالت وأحسّتْ عَجبي ... من سُراها حيث لا تسري الأسود
لا تَعجّب يا حبيبي فالسرى ... عادة الأقمار والناس هجود
قال صاحبي: لو خرج هؤلاء في ليلة كليلتنا هذه في القرن الماضي كيف كن يخرجن؟
كن يخرجن والمصباح أمامهن في يد الخصي أو الخادم إن كن من ربات الخدم والخصيان، أو كن يتسللن في استخفاء كتسلل اللصوص إن لم يكنّ من ذوات اليسار.
قلت: فإن كانت فتيات اليوم لا يحتمين بحارس ولا مصباح فما أظن العلامة كلها علامة خير! من يدريك يا صاحبي لم لا يلتفت إليهن أحد من أولئك المدلجين في الظلام ولم لا يلتفتن إلى أحد؟ لعل كل عابر من أولئك المدلجين ذاهب إلى موعد! ولعل كل عابرة من أولئك المدلجات ذاهبة إلى موعد مثله! ومن لم يكن من الرجال على موعد فلعل الذي يثنيه عن المناوشة والمغازلة علمه أن الفتاة العصرية تجرؤ الابتداء أو على الإيماء والإيحاء ولا تنتظر حتى يجيء الابتداء من الرجال. فإذا رآها معرضة أو جادة في الطريق علم أن ابتداءه بالمناوشة والمغازلة لا يفيد، وأن الأكرم له أن يمضي في سبيله حتى تبدو له إشارة من إشارات التشجيع.
ليس كله يا صاحبي بخير!
ليس كل هذا من الصيانة بل فيه كثير من الابتذال والهوان، وليست كل شجاعة المرأة خيرا بل حياؤها وجبنها أكرم لها من هذه الشجاعة في بعض الآراء.
وانتقل الحديث من عابرات الظلام إلى الظلام نفسه فقال الصديق: والله لقد ألفناه حتى(453/1)
استحببناه، ووالله إن الإنسان ليخرج من البيت إلى الطريق كأنه على العكس خارج من الطريق إلى البيت، لأن في الظلام معنى الاستكنان والإيواء، وفي النور معنى العموم والشيوع. فإذا تجاوز أحدنا الباب فكأنه خارج من عالم حافل بالناس والمناظر إلى عالم لا مناظر ولا ناس فيه.
قلت: ما أدري إن عشنا كيف تفاجئنا القاهرة أول ما تضاء كما تضاء في أيام السلم قبل سنوات؟ أخالنا سنحسبها ليلة عيد أو مهرجان؛ وأخالهم لا يصنعون في احتفالهم بالسلم أكثر من إضاءتهم المدن كما كانت تضاء.
قال صاحبي وكأنه خاف على ظلامه الذي ألفه واستراح إليه: أو عائدون نحن إلى تلك الأضواء المسرفة لا محالة؟ لم لا نستفيد من دروس الحرب ونقنع بهذا النصيب من النور الذي يهدينا إلى حيث نشاء؟ فإن لم يقنعنا هذا النصيب فلم لا نزيده بمقدار ما نتقي بعض الأضرار التي نحذرها الآن؟. . . لم لا نقنع بربع ذلك الضوء الذي كنا نسفكه على الأرض أو على الوجوه التي هي شر من الأرض قبل سنوات؟
قلت أداعبه: نعم. أو على الوجوه التي تعدها الآن ولا تراها!! ولو رايتها لما كنت ارتقيت بالتعداد إلى العشرين وما فوق العشرين!
وكان صاحبي جائعا فوقف عند دكان من دكاكين الشطائر وقال: بإذنك يا عضو المجمع اللغوي. . . ألا تأذن لنا في (شاطر ومشطور والطازج بينهما)؟
يريد صاحبي ما شاع على ألسنة العامة من تسمية المجمع للشطيرة أو (السندويتش) بذلك الاسم المطول الذي يدل على وليمة كاملة، لا على لقمة تتناولها الإصبعان.
قلت أداعبه أيضاً أو أنتقم منه: بل في بلغة إن أردت!!
قال: أو هذه تسمية المجمع؟ أو هو تصحيح وترجيح؟
قلت: إنك لأحرى أن تصدق هذه التسمية الصحيحة من تصديقك تلك التسمية التي لا تساغ ولو على سبيل المزاح. والبلغة أخف من الطازج بين الشاطر والمشطور.
ثم ذكر صاحبي أن اليوم من أيام النبات وليس من أيام اللحوم. فعاد إلي يرد انتقامي وسألني:
أو يعجب هذا صاحبك المعري؟. . . ما زلتم تهتفون باسم هذا الرجل حتى أوشكنا أن(453/2)
نقتصر على العدس والتين مثله. فلا تزيدوا بربكم من ذكره لكيلا نلتزم البيوت ولا نرى في الدنيا غير الظلام. . .!
قلت: وما بالك لا تحسبه درسا من دروس الحرب الباقية؟ وما بالك لا تحمد لنا أن ذكرنا المعري حتى أوشكنا أن نرضيه وأن نقتدي به في طعامه؟
وكانت نوبة الاعتبار والاتعاظ مالكة زمام الصديق في تلك الليلة، فأخذ في تفصيل هذا الدرس الجديد، وطفق يقول ويكرر: ولم لا؟ ولم لا؟ إننا تعودنا ونعم العادة ما تعودنا. . . فلنمض في ذلك طائعين ننسى غدا أننا مضينا فيه أيام الحرب ونحن كارهون.
وراح يقول: أو ليس هذا ضرباً من الصيام المحمود؟ أليس فيه ما في الصيام من شعور بالمساواة بين الأغنياء والفقراء؟ أليس فيه ما في الصيام من ضبط للنفس وكبح للشهوات؟ أليس فيه قصد ومنفعة؟ أليس فيه صحة وحمية؟ أليس فيه تآزر بين البيت والأمة فلا يأكل البيت إلا بمقدار ما تسمح الأمة؟
قلت: بلى، فيه هذا وفوق هذا
فظن أنني أمزح سأهزأ به فتأهب قائلا: وما فوق هذا؟
قلت: على ربعك! لست أمزح ولا أنوي أن أستهزئ بنوبة عظاتك في هذه النوبة. . . إن الأيام التي خلت من اللحوم لفيها ما ذكرت وزيادة: فيها الحمية والقصد وضبط النفس والمساواة بين الغني والفقير، وفيها أنها ستبصرنا بمنافع السمك وطالما عجبت لإهمال المصريين إياه.
فمصر يحف بها بحران عظيمان، وفيها بحيرات كبار، ويتخللها النيل وليس هو أغنى هذه الموارد بالسمك النافع، ولكنه مورد لا نستفيد منه كل ما يستفاد
وقد كانوا في مصر القديمة يستفيدون منه ويأكلون سمكه أيام الفيضان، ويملحونه ليحفظوه إلى الفيضان المقبل، لأنهم كانوا يجهلون من أساليب الصيد في البحار وتوليد الأسماك فيها ما نعلمه الآن
أما نحن فعندنا الزوارق البخارية والوسائل العصرية والمعرفة بعلوم الأحياء. فلماذا لا نستكثر من أكل السمك وهو غذاء صالح للأجسام والعقول؟
فصاح مستفهما: وللعقول؟(453/3)
قلت نعم. . . وإن أناسا جادين في القول والبحث ليزعمون أن الفلسفة اليونانية مدينة للسمك بالشيء الكثير، وإن حكماء الإغريق نبغوا على الشواطئ وبين أبناء الجزر، لأنهم كانوا يستكثرون من أكل السمك وفيه (الفسفور) كما تعلم، وفي الفسفور غذاء للمخ والأعصاب، وغذاء للعقل والإدراك من هذا الطريق.
ومن فكاهات العصر الحديث ما يؤيد أولئك الباحثين الجادين فيما زعموه. . . أو لم تسمع بحوار الإنجليزي والاسكتلندي على السمك ومناصب الدولة؟
قال: لا
قلت: فاعلم أن إنجليزياً سأل رجلاً من أذكياء اسكتلندة متعجباً: ما بالكم يا هؤلاء وليست في بلادكم العاصمة ولا مراكز الدولة، تشغلون أكبر مناصبها، وتستأثرون فيها أحيانا بالوزارة والقيادة والقضاء؟
فارتد إليه الاسكتلندي مجيباً: أو لا تدري؟ إنه الدماغ، وإنه السمك. . .!
قال الإنجليزي: وما العلاقة بين الدماغ والسمك وأبناء اسكتلندة؟
فقال الاسكتلندي: إن السمك فيه الفسفور وإن المخ لا يعمل بغيره، وإنه كثير في سمك بلادنا. . .!
قال الإنجليزي: أئذا أكلت من سمك بلادكم رشحت نفسي بعد حين لمنصب من تلك المناصب الرفيعة؟
قال: بلا جدال
ونقده الإنجليزي جنيهاً وأرسل إليه الاسكتلندي سمكة وعاد بعد أيام يسأله: كيف أنت واقترابك من المناصب الرفيعة!
فهز الإنجليزي كتفيه وأجابه: كما أنا!
قال: إذن كرر التجربة
وكرر التجربة، وأعطاه الجنيه، وأكل السمكة، وعاد إليه بالسؤال مرتين وعاد إليه بالجواب عينه، فلما قال له: كرر التجربة إذا بالإنجليزي يقاطعه هذه المرة صائحا:
- أولاً يباع بالجنيه عندكم أكثر من سمكة واحدة؟!
فابتسم الاسكتلندي وربت على كتفيه وهو يقول: هذا معقول السمك قد آذن أن يظهر يا(453/4)
صاح!
ومن أين لنا أننا إذا طالت التجربة في مصر، قلنا لمن فهموا بعد أن كانوا لا يفهمون: هذا مفعول السمك يا هؤلاء، وهذه بركة الأيام التي لا تحمدونها الآن!
دروس من الحرب، وكم للحرب من دروس. . . فهل نذكرها؟ وهل ننساه فيضيرنا نسيانها!
ويح بني الإنسان! لو أن درساً من دروس جيل ينفع الجيل الذي بعده لما تلاحقت المصائب عليهم جيلا بعد جيل.
وويحهم مرتين! لو أن الأجيال السابقة تجرب للأجيال التي بعدها وتعيش لها لبطل عيش اللاحقين وأصبح كالنسخة المكررة من عيش السابقين
فليجربوا أو لا يجربوا، ولينسوا أو لا ينسوا، فما هم بناجين، وما هم عن تكرار التجربة بمستغنين، ولو كلفتهم السمكة أكثر من جنيه، وأبطأ مفعولها بعد قضاء الثمن مرات.
عباس محمود العقاد(453/5)
نظرة عاجلة
في ديوان الشبيبي
للدكتور عبد الوهاب عزام
حسبت، وديوان الشبيبي في المطبعة، أني سأسبق الكتّاب إلى الكتابة عنه حين ينجز طبعه؛ ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. فقد لبثت حقبة أتربص فرصة بين الأشغال المتتابعة، وأرتقب فترة من المسرعة، وكلما صرفتني الشواغل عن مقصدي أنشدت قول الأنوري الشاعر الفارسي:
أكَر محوّل أحوالِ جهانيان نه قضاست ... جرا مجاري أحوال برخلاف رضاست
ويمكن أن يؤدي معناه في العربية بهذا البيت:
لماذا يخيب رجاء البشر ... إذا لم يكن أمرهم للقدر
وكانت عطلة عيد الأضحى، ودعيت إلى المشاركة في المؤتمر الطبي العربي الذي اجتمع في مدينة أسوان فقلت هي فرصة: أصحب ديوان الشبيبي في القطار كما صحبت ديوان البحتري في سفري من حلب إلى استانبول قبل أربع سنين. ورحم الله أبا الطيب الذي قال: وخير جليس في الزمان كتاب.
عبرت ديوان الشبيبي عبرة وعزمت على أن أبادر بالكتابة عنه حينما أعود إلى القاهرة. ثم سارت الأيام سيرتها، وجرت الأمور مجراها، فإذا شهر ونصف يمضيان من الزمن الطيار الذي قال فيه المعري:
وأصغر كون تحته كل عاَلم ... ولا تدرك الأكوانَ جردٌ صلادم
وقال عبد الحق حامد شاعر الترك الأكبر:
كجمز، صانيرم، بوردز كاري ... سر عتيلدر أو لقدرَ كَذارى
(وترجمته:
ويسرع هذا الزمانُ المرورَ ... إلى أن أُرى أنه لا يمرّ)
ثم تسنت لي جلسة خالية مختلسة من بين المشاغل التي تعبدنا وتستبد بعقولنا وقلوبنا فاستطعت أن أخط كلمات قليلة عن ديوان الشبيبي، وما هي إلا نظرة عاجلة غير شاملة حاولت جهدي، حين الكتابة، أن أتجاهل السيد رضا الشبيبي، وأقدر أنني لا أعرفه وأني لا(453/6)
أكن له في نفسي وداً وإعجاباً ليتيسر لي أن أزن الكلام بقيمته لا بمكانة قائله. ولكن كان كل بيت تقع العين عليه يذكر بأن بيت الشبيبي تتمثل فيه الأديب الوقور جالساً جلسته، متحدثاً حديثه؛ فلم أستطع أن أخادع نفسي عن الشبيبي ساعة واحدة أصف فيها الديوان. قلت لنفسي كيف الحكم وقد قال النقاد ينبغي ألا يكون لمعرفة الإنسان وميله أثر في حكمه؟ قالت: قد حكمت ولم تشعر. قلت كيف؟ قالت: ألست تقول إن كلام الشبيبي يذكر به، ويصدق الحديث عنه؟ وخير الكلام ما شف عن صاحبه ومثله لقارئه.
- 1 -
يفيض قلب الشبيبي بحب قومه العرب، وينطق شعره بالغضب لهم والتوجع لما أصابهم والفخر بماضيهم والثقة بمستقبلهم. وحسبك بقصيدته القافية التي يتناشدها أهل الشام:
ببغداد أشتاق العراق وإنني ... إلى الكرخ من بغداد جمُّ التشوق
فما أنا في أرض الشام بمشئم ... ولا أنا في أرض العراق بمعرق
هما وطنٌ فرد وقد فرقوهما= (رمى الله بالتشتيت شمل المفرق)
وشد ما يعجبني ويطربني قوله فيها:
وما الأرض - لولا أربُع عربية - ... سوى عطنٍ بالعبقرية ضّيق
وقد ذكرني قوله في حلوان العراق:
فيا ليتها كانت رباً عربية ... مكرّمة منهن رضَوى وثهلان
بقصيدة أبي الطيب في شعب بوان حينما افتقد وجه العربي ويده ولسانه ثم قال:
ولو كانت دمشق ثنى عناني ... ليبقُ الثرد صينيّ الجفان
وكذلك يذكر بأبي الطيب قوله:
وافت عجائبُ أجيال وأعجبها ... إذا تأملت، جيلٌ عُربه عجم
واقرأ قصيدته: (دمشق وبغداد)، وقف على هذا البيت الذي فاضت فيه أنهر العرب الأربعة:
برَدَى وأودية الفرات ودجلة ... والنيل غصَّ بمائكِ الوُراد
ويتبين الإباء العربي حتى في غزله:
تعفّف بعد العجز قوم فما حكموا ... خلائق أقوام متى قدروا عفّوا(453/7)
وأشقى الهوى ما كان غاية أهله ... وُعقباهم منه الخلاعة واللهوا
ومن خير ما يقرأ في هذا قصيدته الحب الطاهر.
- 2 -
وأما العراق فقد وهبه الشاعر عقله وقلبه. ما يذكره إلا يجب قلبه ويفيض دمعه، أو تثور نفسه، حزنا لما يرى وطموحا إلى ما يبقى له من العزة والسؤدد والسعادة:
أي دمع يفيض من أي مقله ... لوقوف بين الفرات ودجلة
ما أخال الخرير والماء إلا ... صوت حزن وعبرة مستهلة
يا خليلي إن تشاءا أسعداني ... في شجوني فالخل يسعد خلَّه
عللاني بذكر نهضة قومي ... قبل ألا أرى لقلبي تعلّه
أين ذاك العراق؟ أين بنوه؟ ... ليتهم أبصروا العراق وأهله
وقوله:
نظرت بني الدنيا فأصررت أنها ... على الشر لا تنفك تجري النحائت
هم أضمروا حب المظالم فاستوت ... دخائلهم والظاهر المتفاوت
سوائم يرعى بعضها دم بعضها ... شتاتاً وهل تحمى السروح الشتائت؟
- 3 -
وللأستاذ الشبيبي نظرات في الحياة تعرب عن ضيقه بها وانقباضه وارتيابه في الناس، وتذكر أحيانا بأبى العلاء المعري:
من الناس خافي أيها النفس واحذري ... ولا تأمني إن المخافة في الأمن
وكأنك تقرأ للمعري حين تقرأ القطعة التي سماها (من لزوم ما لا يلزم):
حياتي هذه ليل ... إذا متّ غدا يُجلى
وما آسى على شيء ... من الدنيا وإن جلاّ
- 4 -
وللأستاذ شعر فلسفي يسمو إلى النظر العالي في الكون والإبانة عن جلاله وجماله. اقرأ قصيدته على ضفاف دجلة:(453/8)
يد لدجلة عندي لست أجحدها ... إلا إذا جحدت سلسالَها الهِيمُ
حلقت ليلة تعريسي بشاطئها ... ألا يميل برأسي عنك تهويم
إذ كل زمزمة في الكون هينمة ... بل كل ما فيه تغريد وترنيم
لي في الرياض إذا أمْرَ عن فلسفة ... وحكمة ملء مرآها تعاليم. . الخ
وبعد فقارئ ديوان الشبيبي يمر بصور صادقة، صور إنسانية عالية وأخرى قومية رائعة. ويرى من آمال الحياة وآلامها، وسعادتها وشقائها، وجمالها وقبحها، ما يحسن الشاعر الإبانة عنه، ويصدق التصوير فيه، حتى تحسب خياله حسا ومجازه حقيقة.
والخلاصة أن شعره يصدق قوله في الشعر:
إذا أنت كابرت الحقيقة عبَّرت ... فصاحة قُسّ عن فهاهة باقل
إذا قلتُ إن الشعر بحر غبنته ... متى يستقيم البحر من غير ساحل؟
قرائحنا منه بحور خضارم ... ومنها - إذا جربت - رشحُ الجداول
وأجمع أقوال الرجال أشدها ... معان كبار في حروف قلائل
ولله ما أبصره بالشعر الحر العالي حين يقول:
ما من بصير بحق الشعر يحفظه ... كن شاعر الوقت أو كن شاعر الزمن
زن قبل لفظك معنى البيت تُنشِئه ... فرُبَّ بيتٍ بمعنى غير مُتزن
ولعل لنا نظرة أخرى شاملة مفصلة في الديوان إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام(453/9)
بين آدم وحواء
حديث السدرة
للدكتور زكي مبارك
كانت حواء تعبت من عقل آدم، وكان آدم تعب من جهل حواء، وكان جو الخلاف ينذر بأن صاعقة ستنقض على رأسيهما بعد حين. . . ولذلك الخلاف المزعج تفاصيل في كلام شيث بن عربانوس، فما تلك التفاصيل؟
كانت الأوامر والنواهي ثقلت على آدم وحواء (لحكمة يعلمها الله) وكان آدم مع ذلك يدرع بالصبر الجميل، فيراعي الحدود بقدر ما يستطيع. أما حواء فكانت تتمرد من حين إلى حين، وان كان شيث يؤكد أن تمردها لم يكن في جوهره إلا فنا من فنون الدلال.
ويظهر من كلام شيث أن حواء لم تكن تدرك أن النعيم قد يزول بالعصيان، فما دار في خلدها أن في الوجود مكانا غير الفردوس ينفى إليه العصاة والمتمردون، ولا جاز في وهمها أن ينقل الإنسان من دار إلى دار بسبب الثورة على الأدب والذوق. وكيف تدرك حواء هذا المعنى وقد ولدت في جنة دانية القطوف، ولم تسمع بأخبار الأرض إلا بعد أن قضى الله في أمرها بما أراد؟
ويظهر أيضاً من كلام شيث أن آدم كان يخاف الله أشد الخوف، وكان يدرك بفطرته أن النعيم قد يزول بالعصيان، وأن لابد من تأديب حواء إن تمادت في الضلال.
كان آدم يفهم جيدا أن الله لا يتأذى بجهل الناس، وإنما يوقع العقاب بالجاهلين لخروجهم على نظام الوجود، وهو نظام يتأثر باليسير التافه من الانحراف، لأنه غاية في الدقة والترتيب، ولا يحتمل الثبات على الاعوجاج.
وكان آدم يقسم لئن رأى حواء ليذيقنها العذاب على ما اعتزمت من قرب شجرة التين؛ ولكنه كان يتخاذل حين تقبل عليه بجسمها الفينان، وثغرها الرشوف، فقد كانت ثناياها أحب إليه من حب الزمان، وكان قدها الرشيق نهاية ما يتصور من روعة الخطرات.
كان آدم يشعر بأن عزيمته تتحلل إلى أوهام حين يرى جسم حواء، وكان يعجب من أن يكون في الأوامر والنواهي ما يضع حدوداً لسيطرة تلك الضبية العصماء.
والظاهر أن الجسد الجميل يزيغ البصائر والعقول، وينقل الرجل من حال إلى أحوال،(453/10)
ويضيف الحليم إلى طوائف السفهاء، ولا عاصم للرجل من فتنة الجمال إلا إن حمته وقاية الله.
وكان قدّ حواء من القدود السمهرية، وكانت لها مشية تزلزل القلب والوجدان، وكان لها في الضوء لون وفي الظل لون، وكانت ظلال الأهداب توهم أن على خديها زغبا يشبه زغب الخوخ، وكان غضبها أحلى من الرضا وقطيعتها أطيب من الوصال، وكان تثنيها وهي تتخطر فوق شط الكوثر غريبة الغرائب في السحر والفتون.
وكان آدم أضعف من أن يقاوم حواء، فقد كان في فورة الشباب، والشباب جهل، وكان أعجز من أن يرجع على نفسه بالتأديب والتهذيب وهو يعاقر الجمال لأول عهده بالوجود، وأخطر الحب هو الحب الأول، ولكل آدم في الدنيا حواء
كان آدم يقسم ويقسم ثم يقسم لئن رأى حواء ليقطعنها إلى قطع صغيرة حقيرة ثم يقدمها إلى ما في أرباض الجنة من ثعالب وذئاب، جزاء بما تقترف من التفكير في قرب شجرة التين، ولكنه كان يصعق حين تشرف عليه بقدها المرهف وطرفها النشوان.
كان يبدأ بالزجر، ثم ينتقل إلى العتاب، ثم ينتهي بالاستسلام، وذلك مصير الغرماء لأمثال حواء
دعاها مرة إلى أحد الأدغال ليقتلها في خفية ويستريح، فحماها منه جسمها المجدول بأسلاك الكهرباء، فارتد وهو هائم حيران، وعرف أن الهوى فرض على من وهبه الله نعمة الشعور بعبقرية الجمال.
كان آدم رجلا وكانت حواء امرأة، وإذا تلاقى الرجل والمرأة فلا مجال لغير الغي والضلال، وقد غوى آدم بطاعة حواء فقضى الله في أمره بما سجل التاريخ.
جسد حواء صنع ما صنع. جسد حواء غفر جهل حواء جسد حواء فعل بآدم الأفاعيل، فزين له الخضوع لهواها الأثيم
كان آدم يضطرب ويرتعد، حين تختال أمامه حواء بقدها المؤلف من الأحلام والأهواء، وكان لا يعرف أين يضع قدميه وهي تساوره بعينين غافلتين عما تصنعان بقلبه المأخوذ، وعقله الموقوذ، وهل يبقى لمن يصارع الجمال قلب أو عقل؟
جسد حواء صنع بآدم ما صنع، ولكنه تماسك في إحدى اللحظات وقد جالسها تحت السدرة(453/11)
فدار بينه وبينها ما سجل شيث من هذه الأحاديث:
- أين كنت يا حواء؟
- وما أنت وهذا السؤال؟
- من حقي أن أسأل
- وليس من واجبي أن أجيب!
- إذن نفترق؟
- والى أين تذهب، وللجنة أسوار أمنع من الجبال؟
- السور الحصين هو أنت يا شقية، فإذا نجوت منك فقد نجوت من جميع المهالك والحتوف
- أنت تنجو مني يا آدم؟ أنت تنجو مني؟
(ونظرت إليه بعينين نجلاوين فخشع واستكان وهم بأشياء)
- كل ما فيك جميل يا حواء، إلا التفكير في قرب شجرة التين. . .
- والموت أهون من الصدوف عن شجرة التين
- هي محرمة بأمر الله
- وكيف وقد رأيت ظبية تعطو إلى أوراقها منذ لحظات بلا تهيب ولا تخوف ولا احتراس؟
- الظبية حيوان
- ونحن من الحيوان
- ولكن التكاليف تجعلنا أعظم من الحيوان
- وما قيمة التكاليف؟
- التكاليف لا توجه إلا إلى الحيوانات الراقية
- وأنت حيوان راق يا آدم؟
- لأني في صحبة حواء!
(هنا وقع اشتباك بين خلقتين فطريتين لم يؤهلهما التهذيب لمراعاة الأدب في النضال والصيال)(453/12)
- كان الظن أن تعرف ما نعاني من الظلم في الفردوس
- وماذا نعاني يا حواء؟
- نعاني الخضوع للأوامر والنواهي، وتلك أول مرة أفهم فيها المراد من وصف الله بأنه صاحب العزة والجبروت
- وهل يظلمنا الله يا حواء؟
- انعدام المساواة من صور الإجحاف
- أتريدين أن نكون أشباها لما في الجنة من طير وحيوان؟
- وما المانع من ذلك؟
- المانع أننا ارتقينا؛ وللرقي تكاليف
- وما حظنا من الرقي المقيد بواجبات وفروض؟
- هو حظ عظيم، يا حواء
- وكيف؟
- لأنه يجعل لنا إرادة ذاتية
- ومعنى ذلك إنه يبيحني أن أصارعك فأصرعك؟
(وتصارع آدم وحواء فانصرعت حواء)
- لا تنزعجي من الهزيمة، أيتها الشقية!
- أحب أن أعرف ماذا تأكل حتى صرت أقوى مني
- طعامنا واحد، ولكن الروح مختلف
- يظهر أنك تأكل من شجرة التين
- قوتي الحقيقية ترجع إلي الانتهاء عن أكل شجرة التين، وطاعة الله هي أعظم سلاح يتسلح به الرجال
- والنساء؟
- الطاعة قوة ينتفع بها جميع الخلائق، حتى الشجر والنبات
- نحن إذا خلقنا للمتاعب، فالطاعة لا تتم إلا بجهاد عنيف
- الجهاد الصادق رزق نفيس، يا حواء، ولا يكون إلا بتوفيق، فهو يستحق الشكران(453/13)
- أتريد أن أجاهد نفسي فأبتعد عن شجرة التين؟
- ليتك تفعلين!
- أسمع يا آدم، فعندي فتوى تنفعك
- أنت تفتين يا حواء؟!
- دع اللجاجة ثم اسمع. . . حدثتني الحية أن النهي عن شجرة التين نهي تنزيه لا نهي تحريم
- وإذن
- وإذن يجوز قرب الشجرة بلا تعرض لغضب الله، وإن تعرضنا للعتاب
- اسمعي يا حواء واعقلي. . . أنا لا أعرف الفرق بين نهى التنزيه ونهى التحريم. إنما أعرف أن الله نهى عن الشجرة، وأعرف أن الطاعة واجبة، وأنا أخشى عواقب العصيان
- قلت لك أن الحية حدثتني. . .
- أنت في نعيم يحتاج إلى حراسة، فاحترسي من الدسائس يا شقية!
- كل شئ جائز، إلا أن تكون في الجنة دسائس، فهذب كلامك يا آدم!
- الدسيسة لا تلاحق غير السعداء بالعيش الطيب والمواهب السامية. وستعرفين يا حواء صدق ما أقول إن استمعت كلام تلك الرقطاء
- قلت لك أن قرب الشجرة لن يعرضنا لغضب الله
- ولا يعرضنا للعتاب؟
- عواقب العتاب هينة، وهو في الأغلب يتوج بالأعتاب
- المهم في نظري أن نقف حيث وقفتنا الإرادة الربانية، بلا تخريج ولا تأويل، فكل خروج على الطاعة يترك في القلب حفرة، والحفرة قد تتحول إلى هاوية، وإذا تذوق المرء أو المرأة طعم الجموح فعلى الأخلاق العفاء
- أنا لا افهم معنى النهى عن شجرة التين، ولها ثمرة معسول
- من حق الله أن ينهى عن الطيبات
- لأي غرض؟
- ليختبر قدرتنا على ضبط النفس، فلا قيمة لترك الأشياء الكريهة، وإنما القيمة في ترك(453/14)
الأشياء الشهية حين يوجه إليها النهي، ولو عن طريق التنزيه، كما أفتت الحية الباغية
- لا تذكر الحية بسوء أن تكون للمرأة صديقات!
- هل يغيظك أن يكون لي في الجنة رفيقة اسكن إليها من وقت إلى وقت؟ أنت إذن لا تحبني
- احبك حباً لا يطاق، ولهذا الحب عواقب ستعملين أنباءها بعد حين!
- قبلني أن كنت تحبني
- ستقبلك الحية فهي أقرب إليك مني!
(وفي تلك اللحظة سمع فحيح هو دعوة الحية فجرت إليها حواء، وتركت آدم لمصارعة ما في صدره من آراء وأهواء)
فماذا قال آدم لضميره وهو يحاوره تحت السدرة بعد انصراف حواء؟
من كلام شيث نفهم أن آدم زلزل بعد ذلك الحوار، فقد تأهبت نفسه لمناقشة الأوامر والنواهي، وصح عنده أن لكل مسالة وجهين، وان من حقه كمخلوق مفكر أن يدرس ما يعرض لذهنه من حقائق وأباطيل
بدا له أولاً أن الطاعة أفضل، وأن الهيام بالتخريج والتأويل قد يكون من نزغات الشياطين؛ ثم رجع فرجح أن النهي قد يكون ضرباً من الإغراء، فليس بمعقول أن تكون ثمرة التين من الخبائث وهي فيما يظهر طيبة المذاق.
والتفت مرة ثالثة فرأى من الحمق أن يخالف الرجل عن أمر الله من أجل امرأة
ثم عاد فرأى أن تلك المرأة هي رفيقه الأول والأخير في الفردوس، فما ارتاحت نفسه لرؤية الأشجار والأزهار إلا وهو مأهول الروح بهوى حواء
هي امرأة لا تخلو من هوج وطيش وسخف، ولكنها من ذوات المعاني، فقد كانت تعرف كيف تصيره جذوة من الصبوة حين تشاء، وكان آدم لا يتمتع بإشراق الفكر إلا في لحظات الصبوات.
ومن عجيب أمره أنه كان يتمثلها حين تغيب، فقد كانت ذاكرته تعي الأصوات والألوان والحركات إلى الحد الذي يسمح بأن يعانق حواء وبينه وبينها فراسخ وأميال
ولكن. . . ولكن الله نهاه عن الشجرة، فماذا يصنع؟(453/15)
توجه إلى الله بهذا الدعاء:
(يا خالق الكوثر، ويا فاطر الأعناب والنخيل، بك استجير ُظلم الجمال!
يا مبدع العيون الكحيلة، والخدود الاسيلة، بك استغيث من سحر الفتون!
أنت سويتني بيديك من جسد وروح، وأنا بالروح أطيعك وبالجسد أعصيك، فهل ترى عدالتك أن الحسنات يذهبن السيئات؟
أن كنت ترى أن شجرة التين شجرة مسمومة فاصرف عنها حواء، فلم تعد لي طاقة على مقاومة حواء؛ ولطف صنعتك هو الذي جذبني إلى تلك الهوجاء.
وإن كنت ترى أن الهاوية تترقب من يعصيك فجرد حواء من سحرها الفتان لأملك من أمري ما لا أملك، لأستطيع الصبر عن ثغرها الرشوف، فأنت يا مولاي تعلم أني بها من الهائمين
أنا عبدك وحواء أمتك، فاقض في أمرنا بما تشاء، يا أحكم الحاكمين)
وانتظر أدم أن يغير الله ما بنفسه بعد هذا الدعاء الصادق، ولكن الأقدار سكتت عنه فظل مخلوقا من جسد وروح، أو من طين وماء
وفي لحطة من لحظات الضجر عزم على المعصية ليعرف مكانه من الوجود
في تلك اللحظة ظهرت حواء، فهتف:
- إلى شجرة التين، يا حواء!
- هل غيرت رأيك، يا آدم؟
- بعض الشيء!
- أنت إذن تحبني؟
- ومن أجل هذا الحب أتعرض لمكاره وخوب، فقلبي يحدثني بأننا مقبلون على بلاء!
- لا تحزن فأنا معك
- من موجبات الحزن انك معي، يا حمقاء!
فكيف انتهت بهما الأمور تحت شجرة التين؟
(للحديث شجون)
زكي مبارك(453/16)
العادات والإصلاح
كيف نعود إلى التشريع الإسلامي
للأستاذ محمد محمد المدني
يشعر كل امرئ منا بأنه خاضع في نفسه، وفي نظام بيئته، وفي دائرة عمله، وفي كل ناحية من نواحي حياته ونشاطه إلى عادات متنوعة تتحكم فيه، وتفرض عليه سلطانها الجبار وإرادتها القاهرة، وتطبعه بطابعها من حيث يريد أو لا يريد.
يشعر كل منا بذلك في نفسه، ويشعر به في الناس من حوله لا فرق فيه بين طبقة وطبقة، ولا بين بيئة وبيئة، ولا يختلف فيه غنى عن فقير، ولا كبير عن صغير، ولا متعلم عن جاهل.
في الطعام والشراب عادات، وفي اللباس والزي عادات، وفي الجلوس إلى الناس والتحدث معهم عادات، وفي البيت عادات، وفي الطريق عادات. . . وهكذا
وإننا لننتهز فرص الأيام والحوادث، والأعياد والمواسم فنتخذ منها مناسبات لعادات شتى نحافظ عليها ولا نتسامح فيها، وربما عددناها من شعائرنا، وحسبناها من تقاليد ديننا!
هذه فطرة في الإنسان لا بد له منها بقطع النظر عن شريف العادات وذميمها. قضت بذلك حكمة العليم الخبير، ليكون الاستقرار والهدوء، ولتتركز شؤون الحياة، ولينجو الناس من الاضطراب والمفاجآت وأخطار التقلب السريع والتطوير العنيف لذلك يجب أن يدخل في حساب كل مصلح ما للعادات من سلطان على النفوس، ورسوخ في الأذهان، واستقرار في المجتمع ولكن بجانب هذه الفطرة في الإنسان طبيعة أخرى هي طبيعة هذه الحياة نفسها، أن الحياة تأبى الركود، ولا يصلح معها الجمود، ولا بد لمن في سبيل الرقي والكمال؛ فإذا ظل الإنسان عبدا لعاداته، رازحا تحت سلطانها، لا يفكر في التحول عن نظامها المفروض قيد شعرة، بل ينقد غيره ويعنف عليه في النقد إذا رآه يفكر في التحويل أو يدعو إليه، ويقف في سبيل دعوات الإصلاح والتجديد لاوياً عنقه، مثيراً المشاكل، فإنه يكون محتقرا لإنسانيته ملغيا لعقله جاهلاً بالحياة وما ينبغي للحياة!
وإذا أصرت طائفة من الناس على أن نصادر دعوات الإصلاح في دائرتها، أو على أن تقف في طريق الحياة العاملة الناصبة المنتجة المجددة في غير دائرتها لمجرد المحافظة(453/18)
على العادات والتقاليد الموروثة، فقد عرضت نفسها لعوامل الانحلال والفناء.
هي إذن معركة حامية الوطيس بين طبيعتين متقابلتين: طبيعة الخضوع للعادات والتأثر بسلطانها، وطبيعة الحياة التي تطلب إلى كل حي أن يسايرها ويتدرج معها، ولا بد من تدخل العقل للفصل في هذه المعركة ووضع علاج يوجد به التوازن بين هاتين القوتين الضروريتين للإنسان. لا بد أن نزن كل شيء بميزان العقل، وان نسترشد بنور هداه في كل طريق نسلكه، وأن ننزل على حكمة راضين غير متبرمين
في كل أمة دعاة إلى الإصلاح يقفون منها موقف المرشد الناصح، ويعكفون على مشاكلها ليضعوا لها الحلول، وعلى أمراضها ليصفوا لها العلاج
وكثيرا ما يقع بين الناس وبين هؤلاء الدعاة المنادين بمبادئ الإصلاح خلاف، وقد يؤدي هذا الخلاف إلى إثارة المتاعب ووضع العقبات في طريقهم، بل قد يؤدي إلى التشكك في نياتهم وأغراضهم وانصراف النفوس عن دعوتهم. ولست أرى في ذلك شذوذاً، وإنما هو شيء طبيعي، لأن المصلح الداعي إلى الخير يحاول أن يلفت الناس عما ألفوا. يحاول أن ينتزعهم من أحضان عادات حبيبة إلى نفوسهم، عزيزة عليهم. يحاول أن يصادر الأهواء والنزعات وشهوات النفوس، فلا عجب أن تكون دعواته ثقيلة على الأسماع، كثيرة الخصوم والمستهزئين.
وقديما جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب بدين العقل والفطرة والسيادة والعزم والكرامة الإنسانية، فقاوموه ووقفوا في سبيل دعوته استكبارا أن يتركوا ما ألفوا، أو ينخلعوا مما ورثوا، وقالوا: أنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون! ولم يقفوا عند هذا الحد بل زعموا انهم لا يدركون ما يقول، وان قلوبهم في أكنة مما يدعو إليه، بل رموه بالكذب والافتراء وهم الذين لقبوه من قبل بالصادق الأمين؛ ورموه بالجنون وهم يعلمون أنه أقواهم عقلاً وأعظمهم رشادا.
هكذا قابل الناس دعوة سيد المصلحين، وبمثل هذه الدعاوي والتهم واجهوه. والتاريخ يحدثنا عن كل مصلح بمثل ما حدثنا به عنه، فكم شرد المصلحون وعذبوا، وكم أوذوا واضطهدوا، وكم قذفوا بالتهم، ودبرت لهم المؤامرات، وحيكت من حولهم الاكاذيب، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين.(453/19)
لا بد لدعاة الإصلاح إذن من الصبر وتحمل المشاق، ولكن هذا وحده لا يكفي، لا بد إلى جانبه من اللباقة وحسن التصرف وتقدير الظروف والأحوال حق قدرها؛ وإنما يكون ذلك بالتدرج دون الطفرة. لقد تدرج القرآن بالمسلمين من قبل، فكان ينزل أولاً في بيان العقيدة والاستدلال عليها؛ وكان ينزل بمكارم الأخلاق؛ وكان ينزل في الزراية على العادات الذميمة. ثم جعل - بعد أن استقرت الدعوة - ينزل بتشريع الأحكام شيئاً فشيئاً، حتى أن قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، لم ينزل إلا في العام الذي توفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يفاجئهم بالدين كاملا قد استوفى جميع مبادئه وأحكامه، ولو فاجأهم بذلك لفشلت دعوته، وقل أنصاره وحماته!
لقد تناولت هذا المعنى في مقال لي قبل اليوم، وإنما أسوقه الآن ليتخذ منه المصلحون عبرة وليعرفوا ما فيه من موضع الأسوة الحسنة، فيتدرجوا بالأمة كما تدرج القرآن
لقد بدأ هذا الدين غريبا، وهاهو ذا يعود غريبا كما بدأ: أصبحت تقاليدنا غير تقاليد الإسلام، وأخلاقنا غير أخلاق الإسلام، وأحكامنا غير أحكام الإسلام، وقوانيننا غير قوانين الإسلام. أصبحنا نحرص على العادات التي ورثناها عن الآباء والأجداد أكثر من حرصنا على الدين. وإن أحدنا ليثور ويتألم إذا حاول محاول أن يصادره في عادة من عاداته، ولا يثور إذا اعتدى معتد على دينه، زاعماً أن للدين ربا يحميه، وما يريد بذلك إلا تبرير سكوته على العدوان وإيثاره للسلامة!
عندما أبطلت عادة الاحتفال بالمحمل انقطعت العلاقة بيننا وبين حكومة الحجاز، وظل حكامنا ووزراؤنا معنيين بهذا الشأن في كل مفاوضة لإعادة هذه العلاقة، حتى إذا نجح وزير من وزرائنا في إعادة الاحتفال بالمحمل وإرسال الكسوة عددنا ذلك ظفراً بتبادل الناس التهنئات بالتوفيق إليه، ولكننا مع هذه الغيرة الشديدة على تقليد من تقاليدنا نرضى بهذه التشريعات المجلوبة، والأوضاع المقلوبة، والنظم المستعارة! نرضى بشرائع فرنسا وبلجيكا ونحن أمة القرآن!
يتساءل الناس: ماذا نصنع لكي نعود إلى أحضان الإسلام ونعمل لمبادئ الإسلام؟ ماذا نصنع ليعود التشريع الإسلامي مصدرا للقانون العام في مصر والشرق؟ ماذا نصنع(453/20)
لنستظل بلواء القرآن ونهتدي بهدى القرآن؟
والجواب في ذلك عند الذين بيدهم الحول والطول، ولهم الإشراف على مناصب التشريع والتنفيذ في البلاد: إنهم يرونه بعيدا ونراه قريباً. يقولون: ماذا نصنع وقد أصبح للأمة نظام ثابت متركز، وقانون قد ألفه الناس، ووضع اقتصادي قد سرى إلى سائر معاملاتها ولن تستطيع التخلص منه؟ ماذا نصنع وقد ألفنا في الأحكام والقضاء والعقوبات نظاماً معيناً لا تسمح لنا المعاهدات والقيود الدولية بالخروج عنه؟
يقولون هذا، ويردون به دعوة الدعاة إلى هذه الشريعة، وهم يعلمون أن هذه الشريعة لا تجافي أصول المدنية الحديثة، ولا تنفر من مجاراة النهوض والتقدم، وأن مؤتمرات أوربا قد شهدت لها بذلك وسجلته في قراراتها، وأن ما لا يدرك بالطفرة يدرك بالتدرج وحسن التأتي.
لا نقول لكم: اقلبوا التشريع في البلاد رأسا على عقب، ولا نقول لكم فضوا الشركات والمصارف التي تتعامل بغير ما يقضي به الدين فيما بين يوم وليلة، ولا نقول لكم نفذوا ما جاءت به الشريعة الإسلامية في أحكام القضاء والعقوبات دفعة واحدة؛ وإنما نقول لكم تدرجوا بالأمة في سبيل العودة إلى أحكام الإسلام كما تدرج القرآن بالمسلمين من قبل: خذوا في كل قانون تضعونه منذ اليوم، وفي كل تعديل تقررونه، بمبادئ القرآن، ولا بأس من أن تؤجلوا ما لا تقدرون عليه حتى تعدوا النفوس له، وتقنعوا أنفسكم وتقنعوا الناس به. فإنكم إذا بدأتم السير في هذا الطريق تمهد أمامكم وتيسر لكم، ولم تصادموا به تعهدا من تعهداتكم!
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون؟)
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(453/21)
يحيى النحوي
للدكتور جواد علي
ومن هو يحيى النحوي ذلك العالم الذي يرد اسمه كثيراً في كتب الفلسفة والطب والطبيعيات لدى العرب؟ يرد كمؤلف وكمنتقد لكتب اليونان السابقين، وكطبيب، ويرد كوسيط بين الحضارة اليونانية المسيحية وبين الحضارة العربية الإسلامية فيدخل اسمه بين مؤلفات كثير من علماء المسلمين ويستشهد بأقواله جماعة من أسلافنا العلماء.
قالوا إنه كان يحيى الإسكندراني الأسكلاني تلميذ ساوداي وانه كان أسقفا في بعض الكنائس بمصر ويعتقد مذهب النصارى اليعقوبية، ثم رجع عما يعتقده النصارى في التثليث فاجتمعت الأساقفة وناظرته فغلبهم واستعطفته وآنسته وسألته الرجوع عما هو عليه وترك إظهاره فأقام على ما كان عليه وأبى أن يرجع فأسقطوه وعاش إلى أن فتحت مصر على يد عمرو بن العاص فدخل إليه وأكرمه ورأى له موضعاً. وقد فسر كتب أرسطو طاليس وكتب عن طب جالينوس الشهير.
وقد ذكر الوزير جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي (المتوفى عام 646هـ) في كتابه أخبار الحكماء نفس القصة التي ذكرها ابن النديم بعد أن أضاف إليها أن عمرو بن العاص لما سمع من ألفاظه الفلسفية وحججه المنطقية التي لم يكن للعرب بها أنسة لازمه وكان لا يكاد يفارقه، وأنه نظراً لهذه الدالة التي كانت ليحيي على عمرو طلب منه ذات يوم تسلم بعض ما في خزائن الإسكندرية من كتب لينتفع بها. ولما كتب عمرو إلى الخليفة يستأذنه أمره الخليفة بإحراق ما في الإسكندرية من كتب.
وذكر الوزير قصة أخرى سندها رواية أبي عبيد الله بن جبريل ابن عبيد الله بن بختيشوع الطبيب في كيفية نبوغ يحيى في الفلسفة والمنطق دون سائر العلوم. وهي قصة وردت في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أيضاً؛ وسندها كتاب مناقب الأطباء لعبيد الله بن جبريل على ما يقوله صاحبنا ابن أبي أصيبعة هذا، ويضيف إليها رواية نقلها من تعاليق الشيخ أبى سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني في أن يحيى كان في أيام عمرو بن العاص وأنه شهد الفتح الإسلامي لمصر.
وقد عرف اليونان والسريان هذه الشخصية ولكنهم عرفوها في وقت آخر غير الوقت الذي(453/22)
حدده المسلمون وسموها اسما يختلف قليلا عن هذا الاسم: سموه يوحنا فيلوبونس ومعناه يوحنا الحريص؛ وسموه أيضاً يوحنا الغراماطيقي أي يوحنا النحوي (يحيى) وقالوا عنه: إنه كان أحد تلامذة أمونياس بن هرمياس. وكان يعلم في الإسكندرية نحو السنة 480 الميلادية وانه كان من رجال القرن السادس. وقال عنه ميخائيل إنه ظهر سنة 550 ميلادية وانه اتبع بدعة المثلثين وأنه ألف كتبا يدافع عنها. فلما عرف به الإسكندريون حرموه كما حرمه رؤساء ذلك أديرة بلاد العرب نحو سنة 573 الميلادية. فأنت ترى من ذلك أن الرجل عاش ومات في عصر لم يكن العرب فيه قد فتحوا مصر بعد؛ ولا يعقل أن يكون قد شهد هذا الفتح أيضاً، فكيف السبيل؟
حاول جرجيس أفندي فيلوثاوس عوض من أقباط مصر وحاول الأب لويس شيخو اليسوعي إيجاد حل معقول لهذه المشكلة التاريخية، فقالا: المعقول أن يكون مقصود العرب من يحيى النحوي هو يوحنا النقوي أو النخوي أسقف مدينة نخو، المعروفة عند اليونانيين باسم نيقيوس أو نيكيو وعند اللاتين باسم أو وإن هذا الاشتباه الذي حصل لدى العرب إنما كان من قبيل التصحيف. وتكاد الظروف التي أحاطت بالأسقف يوحنا النخوي تنطبق مع الظروف والتفصيلات التي تنقلها الرواية العربية المذكورة عن يحيى النحوي، فقد ذكر هذا الأسقف في جملة من حوكم أمام سيمون أسقف الإسكندرية الذي ترأس محاكمة أصحاب البدع عام 683 الميلادية وذكر أنه ألف كتابا في التاريخ باللغة اليونانية ذكر فيه فتح العرب لمصر، عرّبه أحد الأقباط ونقل هذا التعريب إلى الحبشية، وتوجد النسخة الحبشية في جملة مخطوطات المتحف البريطاني. وذكر عنه أيضاً أنه كان صديقا موالياً لقورس بطريرك الإسكندرية وزعيم المنوثلين، وهو الذي يدعوه العرب بالمقوقس، وقد ناصرهم في فتح الإسكندرية. فهذه الصداقة على ما يقوله الأب لويس شيخو قربته من العرب وجعلته من أصدقاء عمرو بن العاص.
وهذا الحل لا يخلو من اعتراضات أيضاً. فالمعروف عن يحيى النحوي أنه كان من الأطباء وأنه كان من الفلاسفة أيضاً، وكتبه تدل على رجل عالم بالطب والفلسفة معاً على رجل ديني فحسب كما هو شأن الأسقف يوحنا النخوي. والمعروف عنه أيضاً إنه كان أسقفاً من أساقفة الإسكندرية، ولم يكن النخوي أسقفاً على الإسكندرية أبداً. على أن الإمام(453/23)
ظهير الدين أبا الحسن علي ابن أبى القاسم زيد البيهقي (المتوفى عام 565 هجرية) يحدثنا في كتابه (تتمة صوان الحكمة) عن رجل يعرف بيحيى النحوي الديلمي الاسكندراني الملقب بالبطريق، فيقول عنه إنه كان من قدماء الحكماء وأنه كان نصرانياً فيلسوفاً، فأراد عامل علي بن أبي طالب إزعاجه عن فارس وتخريب ديره فكتب يحيي قصة إلى أمير المؤمنين وطلب منه الأمان، فكتب محمد ابن الحنفية له كتاب الأمان بأمر أمير المؤمنين. ويقول مؤلف الكتاب أنه رأى نسخة هذا الكتاب في يدي الحكيم أبى الفتوح المستوفي النصراني الطوسي وكان توقيع علي بن أبي طالب عليه.
ويضيف البيهقي على روايات من تقدمه من المؤلفين قوله إن خالد بن يزيد بن معاوية أخذ الطب عنه، وإن أكثر ما أورده الإمام حجة الإسلام الغزالي في تهافت الفلاسفة هو تقرير كلام يحيى النحوي، وقد وافقه على هذا الرأي الشهرزوري الشهير أيضاً وقد قال إنه ألف كتباً ورد بها وفيها على أفلاطون وأرسطو حين همت النصارى بقتله، ولا يتعرض بعد ذلك إلى حادثة التقائه بعمرو ولا إلى قصة الحريق المزعومة.
ومشكلة المشكلات هي قول الرواة العرب إنه كان أسقفاً على الإسكندرية وانه عاش في زمان عمرو. وعلى كل فالرواية اليونانية السريانية تعارض هذه الرواية العربية ولا تعترف به كأسقف على الإسكندرية أبدا. والرواية العربية على ما يظهر مستقاة بعضها من بعض؛ فقصة الحريق مأخوذة عن ابن العبري وابن العبري ينقل عن ابن القفطي، وابن القفطي ينقل متن الرواية بدون ذكر حادثة الحريق من الفهرست لابن النديم؛ ولم يذكر ابن العبري نفسه في كتبه السريانية: الكنيسة منها والمدنية، قصة الحريق مما يدل على إنه لم يجد ذلك في كتب السريان.
الحق أننا أمام مشكلة تاريخية فلسفية عويصة، فالرجل مهم جداً في بحث الفلسفة العربية والعقلية الإسلامية، والموضوع معقد لا يعالج في صفحات. ولابد للباحث من تقليب المصادر اليونانية والسريانية والقبطية والعربية أيضاً للحكم بصورة قطعية على شخصية وعصر هذا الفيلسوف الذي هو حلقة وصل بين العقليتين: العقلية اليونانية المسيحية، والعقلية العربية الإسلامية.
(بغداد)(453/24)
جواد علي(453/25)
تطور العلوم الاجتماعية
للأستاذ محمد جلال عبد الحميد
يتبين من تاريخ علم الاجتماع إنه لا يزال في دور التكوين. ولعل سبب ذلك يرجع إلى ما يشوبه من نظريات فلسفية أفسدت عليه استقامة عوده، والى عدم استقرار فروعه وتحديد غايتها واستخلاص طرقها.
فنرى تاريخ الأديان مثلا تتنازعه تيارات كثيرة؛ وعلى حسب اختلاف اتجاه تلك التيارات وقوتها تختلف طريقة البحث ونتيجته. وكثير من مؤرخي الأديان الكبرى كاليهودية والنصرانية والإسلام يرون أن للأديان منشأ واحدا لأنها جميعا تعترف بوجود قوة خالقة واحدة لهذا الكون يشعر بوجودها الإنسان حين النظر في أمر تكوينه والبحث عن آثار تلك القوة الممثلة في وجدانه. أخذ هؤلاء العلماء يردون ويفسرون جميع الظواهر الكونية والاجتماعية والنفسية إلى أصل واحد يحيط بها ويعبر عنها بأسلوب لا يأتيه الباطل ولا يتطرق إليه الشك، وهذا الأصل هو الكتب المقدسة وآثار الأنبياء. من أجل ذلك توفرت جهود المؤرخين على جمع وترتيب شتات هذه الكتب وتلك الآثار، وانكبوا على دراستها ليستخرجوا منها أسباب الحوادث والوقائع التاريخية مفسرين كل هذا حسب ما لديهم من اعتقادات راسخة وإيمان ثابت في صحة روايات ووقائع تلك الكتب والأحاديث.
وهناك فريق آخر - وهم الفلاسفة ومن إليهم - يرى أن نشأة الأديان ترجع في أصلها إلى عوامل نفسية لما فطر عليه الإنسان من حب ولما تكون فيه من غرائز، وإن هذين العاملين يتنازعان القوى الروحية للإنسان، وعلى قدر تغلب أحد هذين العاملين على الآخر تتعين طبيعة الدين وقوته. فالدين عند الأمم المحدودة المدنية مثلا هو دين غريزي، لأن أصله غريزة الخوف والتنازع على البقاء. وقد نعته (برجسن) بأنه دين خامد لخلوه من عناصر التطور والتجدد. وأما الأديان الكبيرة كاليهودية والنصرانية والإسلام والبرهمية فإنها تصدر عن عاطفة الحب التي يتميز بها الصوفي في تلك الأديان. ومن أجل ذلك اعتبر موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام أنبياء لتميزهم بحبهم الخالص للعالم كله، وتفانيهم في العمل من أجل سعادته، وقدرتهم على الإشراق والتقمص في قوة الكون ذاتها، ليمثلوها في أجلى مظاهرها وأتم معانيها من خلق وتجديد، وهذه هي الأديان (المتطورة)(453/26)
ولكن علماء الاجتماع لم يرضهم هذا الرأي أو ذاك، لأن العوامل النفسية والاعتقاد بوجود قوة خالقة ومدبرة لهذا الكون لا يمكن اعتبارها أساساً ومصدراً للأديان، فهناك أديان كبيرة كالبرهمية والبوذية - نشأت وانتشرت ولم تزل تعم جزءا كبيراً من العالم، على رغم إنها خالية من مثل هذا الاعتقاد. ونرى أيضاً أن هناك أدياناً متعددة عند الأمم المحدودة المدنية
- كالقبائل الأسترالية والزنجية وغيرها - لها أوضاع وأسس تشبه في كثير من ظواهرها الأديان الكبيرة، لأنها قادرة على التمييز بين الحلال والحرام وأمر القيام بعبادات منظمة؛ وهذه الأديان أيضاً لم تقم ولم تحدد بمثل ما تتقيد به النصرانية أو الإسلام من ضرورة الشعور بوجود هذه القوة الذاتية؛ وكما إنها لا تشعر الفرد بأن هناك قوة روحية كامنة في الإنسان وخارقة للعادة تدفع الزنجي أو الأسترالي إلى حب غير بني جنسه كما يعمل الصوفي في اليهودية أو النصرانية. فالزنجي أو الأسترالي يتقرب لأبناء جنسه ويفنى فيهم لأنه لا يرى سواهم حوله، فقبيلته هي كل شيء كذلك حين يقدس هذا الزنجي معبوده (أي توتمه) ويفنى فيه بحبه له، يفعل ذلك، بل وأكثر من ذلك، لأن معبوده هو رمز قبيلته، وأن الفرد والقبيلة هما وحدة لا تتجزأ. وأما الصوفي فحبه الشامل للكون وتفانيه في القوة الخافقة له، لأنه مجبر على الإحساس - دون وعي لحالته - بهذا الشعور، لأن الجماعة التي يعيش فيها تلهمه ضرورة حب غيره من عامة البشر، بل وحب الكون عامة، لأن هذه الجماعة هي خلاصة العناصر المادية والروحية للإنسانية كلها، ولأنها رمز قوة الكون، لذلك كان هم الصوفي أن يسعى ليفنى في هذه القوة ذاتها.
من أجل ذلك يقرر علماء الاجتماع أنه إذا فرض واعتبرت الجماعة البشرية مصدر الأديان مهما اختلفت عصورها وتباينت بيئاتها فقد يكون في ذلك حالة أدعى للطمأنينة وأدنى للصواب حين يعمل الإنسان لكشف حقيقة الأديان وتحليلها إلى عناصرها الأساسية، وفي هذا الاتجاه سار إميل دركيم وتلامذته بفرنسا.
وهذه وإن كانت محاولة جريئة قد تهيئ لنا مجالا أوسع للبحث والتنقيب عن أصل كثير من الظواهر الدينية ومعتقداتنا وأساس إيماننا.
ولم يكن حظ الجغرافيا البشرية أوفر من حظ علم تاريخ الأديان من حيث القدرة على استخلاص قوانينها العامة والاسترسال في تحقيقها. فكثير من الجغرافيين يرون أن البيئة(453/27)
الاجتماعية - بما فيها من تنوع في النشاط المادي والروحي - هي نتيجة حتمية للتأثيرات والعوامل الطبيعية للمنطقة التي تشغلها تلك البيئة الاجتماعية؛ فإذا أينعت الأرض وعم خيرها وصلح جوها شبعت الجماعة وكثر نشاطها وعم فرحها وتنوعت ظواهرها الاجتماعية وتميزت عناصرها الجنسية.
وهناك فريق آخر من العلماء يقولون إن غاية علم الجغرافيا البشرية هي دراسة العلاقة بين الإنسان وبين البيئة الجغرافية التي يسكنها وأثر كل منهما في الآخر وتحديد ما يتركه هذا الأثر في التكوين الاجتماعي. ويظهر أن هذا هو الرأي الأخير الذي استقر عليه عامة الجغرافيين والاجتماعيين.
وأما علم الأنتولوجيا فإنه لم ينج أيضاً من تلك العقبات الموضعية عند نشأته، فقد اعتبره (كترفاج) أحد فروع الزيولوجيا وجاء بعده (بروكا) وتلامذته (أرنست هامي) (وفرنو) فتوسعوا في فهم هذا العلم ووضعوا أسسه المختلفة، فضموا إليه دراسة المدنيات واللغات، وتسابقت الدول بعد ذلك في إدخال تعديلات وزيادات في مناهجه وأسسه كل منها حسب فهمها له والغاية التي ترجوها منه؛ فبعض هذه الدول كان يتخذه أداة صالحة للاستعمار، وبعضها الآخر يتناوله على أنه علم قائم بذاته له تجارية وأوضاعه؛ وغنى به كثيراً في الفترة الأخيرة في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا.
وهكذا حال بقية العلوم الاجتماعية الأخرى مثل علم النفس الاجتماعي وعلم الاقتصادي الاجتماعي وغيرهما لم تكن أثبت وأدعى للطمأنينة فيما سبق من العلوم، لأن ميادين تجاربها لم تتعين إلا قليلا ولم يتنوع العمل فيها إلا يسيرا
وبرغم هذا فإن تطور علم الاجتماع وبلوغه الدرجة التي يقف عندها الآن مدين في كثير منه إلى تلك العلوم، لأنها عملت وما زالت تتعاون فيما بينها على كشف حقيقة عدد قليل من الظواهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية. وكثيرا ما استفاد إميل دركيم من البحوث الأثنولوجية التي قام بها (سبنسر وجلن) & على قبائل استراليا؛ وذلك حينما حاول دركيم عام 1912 تفسير الظواهر الدينية لدى الأمم المحدودة المدنية. ونرى كذلك (ليفي برهل) - يرجع دائما إلى نتائج البحوث الأثنولوجية حينما يريد أن يحدد ويحلل عناصر التفكير ووسائل التعبير عنه لدى الأممالمحدودة المدنية. وتجد أيضاً (ومرجان) (ووستر مارك)(453/28)
(ومارسل موس) وغيرهم من الاجتماعيين لم يتمكنوا من التقدم خطوة واحدة في بحوثهم وتحقيق نتائجها دون الرجوع إلى بحوث الأثنحرافيين.
وإذا أنعمنا النظر يظهر لنا الفرق الحقيقي بين العلوم الاجتماعية من حيث فائدتها لعلم الاجتماع؛ فالأتنولوجيا هو الطريق المباشر الذي يسلكه الاجتماعي للبحث عن اصل كثير من الظواهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية بل والمبادئ العلمية نفسها؛ لأننا لم نزل نشاهد في كثير من بقاع الأرض أمماً وقبائل تتبع في طريقة عيشتها وسائل بسيطة، وتتبع في التعبير عن تفكيرها وشعورها صوراً متناهية في البساطة إلى درجة يمكن اعتبارها إحدى صور الحياة والتفكير للأمم التي سكنت أوربا وغيرها في عصور ما قبل التاريخ. فهي صور خالية من التعقيد والتنوع اللذين تمتاز بهما حياة الأمم الراقية. وإن البحث عن أصل تلك الظواهر وكيفية نشأتها وطريقة تكوينها ثم العناية بترتيبها وتبويبها بطريقة علمية منظمة هو غاية الأثنولوجي؛ وبعمله هذا يكون ثروة علمية لا تفنى لدى العالم الاجتماعي.
وسنبحث في الكلمة القادمة عن أهمية البحوث الأثنولوجية بحوض النيل والعمل على تنظيم تلك البحوث وإدخالها ضمن التعليم العالي بمصر.
محمد جلال عبد الحميد(453/29)
صور من العصر العباسي
عشق القيان
للأستاذ صلاح الدين المنجد
كان للقيان في العصر العباسي الشأن العظيم والمنزلة العليا. ولم تشغل الحرائر ما شغلته القيان في الأدب والتاريخ والاجتماع، ولم يكن لهن ما كان لأولاء من أثر في تهذيب النفوس وصقل الطباع وانتشار المجانات؛ إلا من أوتيت منهن الإمارة والجاه والسلطان، شبيهات علية وزبيدة والعباسة والخيزران.
وقد خلا الأدب من صور المخدرات، ولكنه رف بكثير من صور هؤلاء الجاريات؛ ففيه عنهن أشاوى حسان، وأحاديث ظراف، وأوصاف بارعات
ولم تبلغ القيان هذه الرفعة وتلك المنزلة إلا بعد الجد والجهد، والتعليم والتلقين، والصقل والتهذيب؛ فكن يتخرجن على المغنين الكبار أشباه الموصلي وابن المهدي، ويحذقن العزف والضرب، ويتفقهن في العربية، يحفظن نوادر الأحاديث وفرائد اللغة، وأمالي المجالس وشوارد الأشعار؛ ثم يبر في إظهار الأناثة والدل، حتى تصبح الفينة مصدر غواية وفتون، ومثار دعابة وفجور، وبهجة الأرواح ومنية النفوس؛ فلا غرو إن أقبل عليهن الشيخان والشبان، ولا عجب إن هن أتقن فن العشق وأصابت سهامهن قلوب الأبعاد والأحباب.
وقد ألفوا عنهن رسائل حسانا، منها رسالة القيان للجاحظ، وكتاب القينات لإسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكتاب القينات للمدائني، وكتاب القينات ليونس بن سليمان المغنى، وغيرهن كثار.
على إنه لم يصل إلينا من هذه الرسائل كلها غير رسالة الجاحظ التي ذكر فيها الكثير من أحوال القيان وطبائعهن وميولهن وأخلاقهن وطرقهن في الإغواء. وقد خصهن أبو الطيب الوشاء في كتابه (الموشى) بفصل ممتع عن عشقهن وغرامهن، زاد فيه على ما ذكره الجاحظ وأفاد.
وقد لا تجد في أدبنا العربي صفحة أكثر متوعاً وأبرع وصفاً وأشد دقة من وصف الجاحظ والوشاء لعشق القيان، والحيل التي يتبعنها لاستمالة الشبان، والسبل التي يسلكنها لطردهم إذا نفذت دنانيرهم وأفلسوا. فلقد بلغا في وصفهما الذروة التي لا تسامي، والغاية التي لا(453/30)
تدانى.
لا جرم أن الجاحظ كان أسبق إلى وصف ذلك، ولكنه أجمل وأوجز؛ أما الوشاء فلم يتعد ما قاله الجاحظ إلا قليلاً ولكنه شرح وفصل
والمهم في وصف عشق القيان أن الكاتبين أبانا فيه عن عواطف كامنات، وحيل مكنونات، وطرق مغريات، حتى تشعر وأنت تقرأ أنك اليوم بين يدي غانية من غواني الحانات اللواتي تخرجن في الفتنة والإغواء
فقد قرروا أن القينة لا تكاد تخلص في عشقها، أو تناصح في ودها، لأنها مجبولة على نصب الحبالات والشراك للمتربطين ليقعوا في أنشوطتها. ذلك لأن حبهن كلهن كذوب، وعشقهن متبدل غير ثابت. فهو لطمع وغرض، ولذا كن يقصدن أهل النشب واليسار، ويصدفن عن ذوي الإقتار.
وكان من عادة القينة إذا رأت في مجلس فتى له غنى وكثرة مال وحسن حال، أن تميل إليه لتخدعه؛ فتمنحه بادئ بدء نظرها، وغمزته بطرفها، وأشارت إليه بكفها، وداعبته بالتبسم، وغازلته بأشعار الغناء، فغنت على كاساته، ومالت إلى مرضاته، ثم تظهر الشوق إلى طول مكثه، والميل إلى سرعة عوده؛ حتى توقع المسكين في حبالها، وتعلق قلبه بحبها، وتطعمه في قربها ثم تحزن لزواجه، وتبكي لفراقه، وتكاتبه تشكو إليه هواها، وتقسم له إنه ضميرها في ليلها ونهارها، وأنها لا تريد سواه، ولا تؤثر أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه؛ ثم تعزز ذلك بالرسل، وتخبره عن سهرها، وتنبئه عن فكرها، وتشكو إليها القلق، وتخبره بالأرق، وتبعث إليه بخاتمها وفضلة من شعرها، وقلامة من ظفرها، وقطعة من مسواكها، ولبان قد جعلته عوضا من قبلتها، وكتاب قد نمقته بظرفها، ونقطت عليه قطرات من دمعها، وضمنته الشوق والشكوى، وسألته المواتاة على حبها. . . وربما منحته من ريحانها، وأهدت إليه في النيروز سكراً وفي المهرجان خاتماً، وأخبرته إنها لا تمل الدموع إذا غاب، ولا ذكرته إلا تنغصت، ولا هتفت باسمه إلا ارتاعت. . . فلا يشك المسكين في إخلاص حبها، فيميل إليها بوده. . . حتى إذا رأت إنها حوت عقله، وصارت شغله، واستمالت لبه، وسلبت قلبه، وعلمت أنه غريق في بحر حبها. . . أخذت في طلب الهدايا، فتشهت الثياب والأزر والأردية والعمائم والتكك والخفاف. والعصائب المرصعة،(453/31)
وخواتيم الياقوت، ثم تمارضت من غير سقم، وتعالجت من غير حاجة منها إلى الدواء لتجيئها هدايا ذوي الوجد، من القمص المعنبرة، والغلائل الممسكة، والأردية المرشوشة، ومخانق الكافور، والمسك الأذفر، والعنبر الأشهب، والعود الهندي، والماورد الجوري، والفراريج، والجداء الرضع، والدجاج الفائق، والفراخ المسمنة، والفاكهة والرياحين؛ يتبعها صنوف من الشراب: من العسل والمطبوخ والمشمس، ثم تلحقها الدنانير والدراهم، فلا تزال في هدايا متواترة، وألطاف متتابعة. حتى إذا نفد اليسار وذهب الإكثار، وأتلف المال وجاء الإقلال، وأحست بالإفلاس. . . أظهرت الملل، وتبرمت بكلامه، وضجرت بسلامه، وتفقدت منه الزلل، وتتبعت عليه سقطاته، وأخذت في الجفاء والعتاب والقلى والإبعاد، وصرفت عنها هواه ومالت إلى سواه، فحينئذ يدرك المغرور الندم والأسف.
ولقد كانت القيان ينظرن إلى المال، وكن يحتملن القبح والشيب مع اليسار ويكرهنهما مع الفقر. وهذا شأن الحسان كلهن. . . (فليس للفقر مع الحب عمل)
وربما اجتمع عند القينة من مربوطيها ثلاثة أو أربعة، وعندئذ يتحامون الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء، فتبكي لواحد بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي واحدا سرها، والآخر علانيتها، وتوهم أنها له دون الآخر، وتكتب لهم عند الانصراف كتبا على نسخة واحدة تذكر لكل واحد منهم تبرمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم جميعاً.
وبعد، فما رأيت ابرع، ولا أحسن، ولا أرق، ولا أملح، ولا أنفذ في العواطف، ولا أكسب للقلوب من هذا الوصف. حتى لتحسب أنك أمام عالم نفسي لا يدع غمزة ولا إشارة ولا عاطفة ولا حيلة إلا أحصاها. وليت شعري أكان الجاحظ والوشاء عاشقين للقيان لقيا في سبيلهما الجهد والعناء، فثأرا منهن بهذا الوصف؟ وكأني بالجاحظ (وهو الذي عابوه بملك القيان) قد تيمه هواهن، وأذبل غصنه حبهن. . . أو أنه رأى عن قرب ما كن يصنعن.
فقال: (ولو لم يكن لإبليس شرك يقتل به ولا علم يدعو إليه ولا فتنة يستهوي بها إلا القيان لكفاه) ثم يستدرك فيقول (وليس هذا بذم لهن، ولكنه من فرط المدح، وليس يحسن هاروت وماروت، وعصا موسى وسحرة فرعون، إلا دون ما يحسن)
على أن الجاحظ إذا قسا عليهن فقد اتخذ لهن أعذاراً. قال: (وكيف تسلم القينة من الفتنة، أو(453/32)
يمكنها أن تكون عفيفة، وإنما تكتسب الأهواء، وتتعلم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث وصنوف اللعب والأخابيث، وبين الخلعاء والمجان، وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت فصاعداً؛ يكون الصوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، إذا ضرب بعضه ببعض يكون عشرة آلاف بيت ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة، ولا ترهيب عن عقاب، ولا ترغيب في ثواب، وإنما بنيت كلها على ذكر الزنا والقيادة والعشق والصبوة والشوق والغلمة؛ ثم لا تنفك من الدراسة لصناعتها، منكبة عليها، تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كله تجميش، وإنشادهم مراودة، وهي مضطرة إلى ذلك في صناعتها، لأنها إن جفتها تفلتت، وإن أهملتها نقصت، وإن لم تستفد منها وقفت).
تلك صفحة من أدبنا العربي ما أحسب إنها تقل عن أدب كبار الوصافين والنفسيين في الغرب، لأنها صورة حية تشيع منها القوة والصدق، ما نزال نراها كل يوم.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(453/33)
في الفلسفة الإسلامية
3 - إخوان الصفاء
للأستاذ عمر الدسوقي
رسائلهم
هي موسوعة ضمت بين دفتيها مبادئ العلوم التي كانت معروفة في البلاد العربية حتى القرن الرابع الهجري، ولاسيما تلك التي ترجمت من اليونانية. وقد اعترف إخوان الصفاء بأنهم ألفوها كنماذج ومقدمات للعلوم فلم يتوسعوا في بسط قضاياها. ويقولون في ذلك: (قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم، كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج).
ويظهر أنهم ألفوها للإخوان الأبرار الذين هم أولى طبقات هذه الجماعة، ولم يقتصروا فيها على مبادئ الفلسفة والعلم، وإنما خلطوها بكثير من الخرافات والأساطير؛ وحاولوا أن يوفقوا بين الدين والفلسفة محاولين أن يجدوا من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية ما يؤيد نظريات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم. وخير ما قيل في وصفها رأى أبى حيان التوحيدي: (هي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وهي خرافات وكتابات وتلفيقات وتلزيقات) وذلك أنهم قالوا: (إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية)؛ وزعموا: (أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة الإسلامية فقد حصل الكمال)؛ وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية، والأمثال الشرعية، والحروف المحتملة، والطرق المهملة.
والواقع يثبت رأي أبى حيان، فالرسائل لا تعمق فيها، ولا نظام يربط بين فصولها، وفيها تكرار وحشو. وعندي أن الرسائل كانت بمثابة موسوعة تبسط فيها المسائل الفلسفية الأولية بأسلوب يوافق عقلية العامة. وحتى لا ينفر هؤلاء من الفلسفة أخذ مؤلفوها يستشهدون بالآيات والأحاديث الكريمة وبأقوال من التوراة والإنجيل، وينسبون أشياء إلى نوح وإبراهيم وعيسى، ويروون قصصاً وأساطير إذا حاولوا البرهنة على مسألة من المسائل(453/34)
بدلاً من استعمال الأسلوب المنطقي الفلسفي. خذ مثلاً محاولتهم البرهنة على خلود النفس فإنك لا ترى سوى أساطير تحكي عن الأنبياء وآل البيت وسقراط وإبراهيم ونوح وأفلاطون وأرسطو وفيثاغور وما قاله كل منهم وما عمله كل. وتخرج من هذا الموضوع إذا بحثته بحثاً علمياً كما ابتدأت فيه دون أن تقتنع، ولكن عقلية العامة يوافقها هذا الأسلوب تماما.
هذا وقد وضع الإخوان لرسائلهم مقدمة أشبه بالفهرست بينوا فيها بإيجاز عدد الرسائل والموضوعات التي تعرض لها بحثهم: (وهذه فهرست رسائل إخوان الصفا، وخلان الوفا، وأهل العدل، وأبناء الحمد، يجمل معانيها وماهية أغراضهم فيها: وهي اثنتان وخمسون رسالة في فنون العلم وغرائب الحكم وطرائف الآداب وحقائق المعاني من كلام الخلصاء الصوفية، صان الله قدرهم وحرسهم حيث كانوا في البلاد؛ وهي مقسومة على أربعة أقسام: فمنها رياضية تعليمية، ومنها جسمانية طبيعية، ومنها نفسانية عقلية، ومنها ناموسية إلهية). ثم أخذوا يبينون موضوع كل قسم: فالرياضيات تشمل العدد والهندسة والموسيقى والفلك والصنائع والمنطق بمقولاته وعباراته وبراهينه؛ والطبيعيات يتكلمون فيها على الهيولي والصورة والسماء والعالم والكون والفساد وكيفية تكوين المعادن وفي النبات والحيوان؛ والرسائل النفسانية تبحث في المبادئ العقلية وفي البعث والصور والنشور والقيامة؛ والإلهية تبحث في الآراء والمذاهب، وبيان اعتقاد إخوان الصفاء وكيفية أنواع السياسات وماهية السحر والعزائم. ويختمونها بالرسالة الجامعة التي لم تصل إلينا والتي كشف فيها كما يقولون عن كثير من الرموز والكنايات التي امتلأت بها رسائلهم: (وتليها الرسالة الجامعة. . . . . . المشتملة على حقائقها بأسرارها. . . إذ هذه الرسائل كلها كالمقدمات لها والمدخل إليها والأدلة عليها والأنموذج منها. . . وهي منتهى الغرض لما قدمناه.
ومثلهم في ذلك - على حد تعبيرهم - كمثل بستاني له حديقة لم تر العين مثلها حسناً وإبداعاً، وأراد لكرمه أن يدعو الناس إليها والتمتع بما فيها، فأخذ نماذج من أزهارها ورياحينها وفاكهتها ووقف أمام بابها يعرضها على الناس، حتى إذا تذوقوها وعرفوا مزاياها واشتاقت نفوسهم لدخول البستان أفسح لهم الطريق كي يتمتعوا ما شاءوا ويتلذذوا ويطربوا.(453/35)
ويختم إخوان الصفاء كل رسالة بنصيحة للأخ البار الرحيم حتى يتفهم غرضها ويعرف أسرارها. ثم إنهم كانوا يكثرون من القصص على لسان الحيوان، ويدلون بأشياء لو صرحوا بها لفضح أمرهم وانكشف سترهم. ومهما يكن الأمر فرسائلهم سهلة الأسلوب خالية من السجع والمحسنات البديعية، واضحة العبارة أحياناً، غامضة في الغالب من حيث المقصد والغاية. وقد ذكرنا في المقدمة أن الغرض من تأليفهم هذه الرسائل بث تعاليمهم السرية وإيجاد طبقة من الشعب مثقفة تقود الرأي العام إلى أغراضهم السياسية وهي قلب نظام الدولة.
آراؤهم الخيالية
لا نريد أن نتعرض في هذا البحث إلى كل ما تناوله إخوان الصفا في رسائلهم من خرافات، وإنما الذي يهمنا أن نضرب أمثلة على إغراقهم في الخيال أحياناً. فأنت تراهم مثلا في رسالة العدد، وعلى العموم في الرياضيات يتبعون الفيثاغوريين، فلا يهتمون في البحث في علم الحساب كما يهتمون بتبيان خواص الأعداد والكلام عن موسيقى الأفلاك. . . الخ؛ وهاك مثلاً على ذلك: (اعلم بأن كون العدد أربع مراتب آحاد وعشرات ومئات وألوف ليس أمرا ضروريا لازما لطبيعة العدد، ولكنه أمر وضعي رتبته الحكماء باختيار منهم، وإنما فعلوا ذلك لتكون الأمور العددية مطابقة لمراتب الأمور الطبيعية، وذلك أن الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري والبرودة جل ثناؤه مربعات منها: الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل: الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والصفراء والسوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع. . . الخ)
والواحد من الأعداد هو أصل كل الأعداد، وعنه تصدر بالتكرار ويذهبون مذهب الفيثاغوريين في ذلك وهو أن الواحد أصل الوجود وإن حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة: (واعلم أن الباري جل ثناؤه أول شيء اخترعه وأبدعه من نوره جوهر بسيط يقال له العقل الفعال كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار، ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين؛ ثم أنشأ الهيولي الأولى من حركة النفس كما أنشأ(453/36)
الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة. ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولي ورتبها بتوسط العقل والنفس؛ كما أنشأ سائر العدد من الأربعة بإضافة ما قبلها إليها) ومن ذلك قولهم: (إن منفعة الشكل المتسع تسهيل الولادة إذا كتب على خزفين لم يصبهما الماء وعلقتهما المرأة التي ضربها الطلق)
ويقولون في نشأة علم الفلك: (إن هرمس المثلث الحكمة وهو إدريس النبي عليه السلام صعد إلى فلك زحل ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد جميع أحوال الفلك؛ ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم، قال تعالى (ورفعناه مكاناً علياً). ويعتقدون بتأثير الكواكب في السعد والنحس (الكواكب السبعة السيارة اثنان منها نيران، واثنان منها سعدان، واثنان نحسان، وواحد ممتزج. أما النيران فالشمس والقمر، والسعدان المشتري والزهرة، والنحسان زحل والمريخ، وأما الممتزج فعطارد)
وأكثر من ذلك خرفة قولهم: (اعلم يا أخي أن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك السموات، خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه وتدبير خلائقه وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله في أرضه) ويعتقدون أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحاناً طيبة لذيذة مفرحة لنفوس أهلها الذين هم الملائكة؛ فإن قال قائل: (لابد إذا أن يكون لهم شم وذوق ولمس) قلنا: (إن هذه حاجة التسبيح، الآكل للطعام والشارب للشراب؛ أما هم فغذاؤهم التسبيح، وشرابهم التهليل، وفاكهتهم الفكر والروية واللذة والفرح. . . ويقال إن فيثاغور الحكيم سمع بصفاء جوهره وذكاء قلبه نغمات الأفلاك والكواكب، فاستخرج بجودة فطرته أصل الموسيقى ونغمات الأفلاك، وهو أول من تكلم في هذا العلم). ولولا خليفة الإطالة لذكرت كثيرا من هذه الآراء الخرافية، وحسبك أن تقرأ رسالة السحر والطلاسم والتعاويذ، وكيف يحاولون معرفة الجنين وقدوم الرسول ومعرفة الكتاب قبل فضه واللص وماذا سرق ومعرفة الحروب وأسبابها. . . الخ
مراتب الوجود:
(اعلم يا أخي أن الله تعالى لما كان تام الوجود كامل الفضائل ملماً بالكائنات قبل كونها، قادراً على إيجادها متى شاء لم يكن من الحكمة أن يحدث تلك الفضائل في ذاته، فلا يجود بها ولا يفيضها؛ فإذا بواجب الحكمة أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض من عين(453/37)
الشمس النور والضياء)
وقد استمر هذا الفيض فنشأ عنه العالم، وأنت ترى أنهم يأخذون بنظرية الفيض التي ابتدعها الأفلاطونية الحديثة، وأنهم يقولون بالعناية الإلهية التي وضحها ابن سينا فيما بعد بقوله: (لما كان المبدع الأول يعلم ذاته ويعلم لذلك نظام الخير في الوجود المطلق كان علة للخير والكمال اللذين فاضا على الوجود عندما فاض الوجود نفسه، فانتقل بذلك نظام الخير إلى العالم بحسب القدر الممكن لهذا العالم)
والعالم عندهم على الترتيب الآتي:
1 - العقل الفعال: وهو جوهر بسيط روحاني أبسط من النفس وأشرف منها قابل لتأييد الباري تعالى علام بالفعل.
2 - النفس الكلية: وهي جوهرة بسيطة روحانية علامة بالقوة فعالة بالطبع قابلة فضائل العقل بلا زمان، فعالة في الهيولي بالتحريك لها؟
3 - الهيولي الأولى: وهي جوهرة بسيطة روحانية معقولة غير علامة ولا فعالة بل قابلة آثار النفس بالزمان منفعلة لها.
4 - الطبيعة الفاعلة: وهي قوة من قوى النفس الكلية سارية في جميع الأجسام محركة مدبرة لها وتسمى النفوس الجزئية أو الملائكة.
5 - الجسم المطلق: ذو الطول والعرض والعمق وهو الهيولي الثانية.
6 - عالم الأفلاك: وسنتكلم عليه بالتفصيل فيما بعد.
7 - العناصر السفلى: كالنار والهواء والماء والأرض.
8 - المعادن والنبات والحيوان المكون من العناصر السابقة. وقد فاضت كلها من الله، ولكن وقف الفيض بعد الجسم المطلق الذي لم يفض منه جوهر آخر لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانية.
عالم الأفلاك:
الأفلاك أجسام كرية شفافة مجوفة، وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقة البصلة، وهناك كرتان ليستا من الأفلاك، وهما كرة الهواء وكرة الأرض، فيكون المجموع إحدى عشرة كرة. وتقع الشمس في الوسط، وفوقها خمس كرات وتحتها خمس؛ فالتي فوقها(453/38)
على الترتيب. . . كرة المريخ، المشتري، زحل، الكواكب الثابتة، ثم فلك المحيط، والتي تحتها على الترتيب. . . الزهرة وعطارد، والقمر، ثم كرة الهواء، ثم كرة الأرض التي هي المركز، وليست مجوفة ولكن متخلخلة.
والشكل الكري أفضل الأشكال كلها، وحركته تامة، وأفضل الحركات. والفلك المحيط ألطف الأجسام وأشدها روحانية وأشفها نوراً لقربه من الهيولي الأولى. والأرض أغلظ الأجسام كلها وأشدها ظلمة لبعدها عن الفلك المحيط. والقمر هو السماء الأولى وعطارد السماء الثانية وهكذا حتى تنتهي من السموات السبع التي آخرها زحل. أما فلك الكواكب الثابتة فهو الكرسي الذي وسع السموات والأرض، والفلك المحيط هو العرش العظيم الذي يحمله يومئذ ثمانية.
هل قالوا بالنشوء والارتقاء؟
ذهب بعض الباحثين إلى أن إخوان الصفا كانوا يقولون بنظرية النشوء والارتقاء. والواقع أنهم كانوا بعيدين كل البعد عن هذا، بيد أن لهم نظرية خاصة في تدرج الأجسام المولدة: (واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصل بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول مرتبة المعدنية متصل بالتراب والماء. فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط كالحلزون والديدان التي تتكون في الطين وقعر النهر. . .
فهذا النوع حيوان نباتي لأن جسمه ينبت كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه. ولما كان جسمه يتحرك حركة اختيارية كان حيوانا. (أما رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان فليست من وجه واحد، ولكن من عدة وجوه، فمنها ما قارب رتبة الإنسان بصورة جسده كالقرد، ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه، ومنها كالطائر الإنساني أيضاً، ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزار ونحوهما، ومنها النحل اللطيف الصنائع. . . إلى ما شاكل هذه الأجناس. فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية)
ولاشك أن هذه النظرية بعيدة كل البعد عن مذهب النشوء والارتقاء الحديث، إذ جعلوا الفيل والنحل والطائر قريبة الشبه بالإنسان وفي أعلى مراتب الحيوان. ولعلنا إذا أخذنا(453/39)
رأيهم من الناحية العضوية البيولوجية توجد عندما شبهة للقول بمذهب النشوء، فالحلزون حيوان نباتي، والقرد قريب للإنسان جسمياً. ولكن حتى مع هذا لم يقل إخوان الصفا بأن الإنسان هو والقرد متفرعان من أرومة واحدة. وهم يعتقدون أن النبات متقدم في الوجود على الحيوان لأنه غذاء له، والحيوان متقدم على الإنسان لأن وجوده لخدمته ومنفعته.
(يتبع)
عمر الدسوقي
مدير كلية المقاصد الإسلامية ببيروت(453/40)
26 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثامن - عادات المجتمع العامة
للطبقة المهذبة تحيات وتهنئات أخرى متكلفة تتبع السلام. كما أن هناك عبارات خاصة للرد على أكثرها أو عبارتين أو أكثر قد تستعملان في بعض الأحوال. غير أن الرد الذي لم تلزمه العادة قد يعتبر دليلاً على الجهل أو الخساسة. وعندما يسأل رجل صديقه (كيف صحتك) يجيبه الآخر (الحمد لله) ويستدل المستفهم باللهجة التي يرد بها الآخر إذا كان صديقه معافى أو مريضاً، وعندما يقول الواحد للآخر (طيبين) يجيب الآخر عادة (الله يبارك فيك) أو (الله يسلمك)، وعندما يتقابل صديقان لم يلتقيا عدة أيام أو وقتا طويلاً يقول أحدهما بعد السلام (أوحشتنا) فيجيبه الآخر: (الله لا يوحشنا منك). وقد يشغل ذكر التهنئات الفخمة التي يستعملها المصريون عادة صفحات من هذا الكتاب.
ولا يدخل الرجل منزل غيره بدون استئذان لأن القرآن حرم ذلك صراحة، وعلى الأخص إذا كان يريد أن يصعد إلى إحدى الغرف العليا، فلابد في هذه الحالة أن يصيح طالباً الإذن، أو يعلن قدومه عندما يصعد السلم بالطريقة التي وصفتها سابقاً. وإذا لم يجد أحدا أسفل المنزل يصفق بيديه عند الباب أو في الفناء وينتظر نزول الخادم إليه أو الإذن له بالجلوس في حجرة سفلى أو بالصعود إلى غرفة عليا. ثم يحيي رب الدار عندما يدخل الغرفة التي يجلس فيها، فيرد عليه رب الدار ويرحب به بأدب وبشاشة. ويقف رب الدار لمن كان أعظم منه ولأقرانه على العموم، ويتقدم لاستقبال من هم أعلى منه مركزا إلى الفناء أو بين الفناء وغرفة الاستقبال، أو في مدخل الغرفة أو وسطها، أو على بعد خطوة من مكان جلوسه. وكثيراً ما يكتفي عند استقبال أقرانه بأن يتحرك حركة خفيفة كما لو كان يهم(453/41)
بالوقوف. ولا يتحرك لمن دونه مقاماً. ويقدم رب الدار إلى الرفيع القدر وإلى أقرانه غالبا أفضل مكان في ركن من الديوان على يمين من يواجه (صدر) الغرفة أي طرفها الأعلى، ويعتبر المجلس الممتد بطول (الصدر) أكثر إجلالاً من المجلسين الممتدين على الجانبين، ويسمي كل منهما (جنببا)، ولا يجلس من هم دون رب الدار في الصدر أبداً إلا إذا دعاهم إلى ذلك. وكثيراً ما يرفضون هذا الشرف. ويجلس أقران رب الدار واضعين رجلاً على رجل، أو رافعين ركبتهم ومستندين على المساند. وكثيراً ما يجلس من دونه بادئ الأمر على الأقل، على أعقابهم أو على حافة الديوان أو على الحصير أو البساط إذا كان فرق المكانة بينهما كبيراً. وتقتضي دقة الآداب ألا يظهر الزائر يديه عند دخول الغرفة أو عند الجلوس، ويجب أن يسبل كميه عليهما، وألا يمد رجليه عندما يجلس على الديوان، وألا يترك قدميه مكشوفتين، ولكن هذه القواعد لا تراعى إلا في منازل العظماء. وتردد التهاني والتحيات بعد السلام وعلى الأخص عبارتا (طيبين) و (إيش حالكم) مرات عديدة أثناء المحادثة.
وقد يقوم أحياناً خادم الزائر نفسه بتقديم الشبك، فيخرج السيد كيس التبغ من عبه ويناوله الخادم الذي يملأ الشبك منه ثم يطويه ويعيده بعد ذلك أو عند انتهاء الزيارة. وفي غير هذه الحالة يقدم خادم المضيف شبكا إلى الزائر وآخر إلى سيده ثم يتناول القهوة لأن التدخين بدون قهوة الطعام بلا ملح، كما يقول الغرب. ويحيي الزائر رب الدار عندما يتناول الشبك والقهوة بالتمنية فيردها الأخير إليه، وكذلك الأمر عندما يعيد الفنجان إلى الخادم، كما أن رب الدار يحيي ضيفه بالطريقة نفسها إذا لم يكن الفرق بينهما كبيراً. وكثيراً ما يلبث الخدم في الغرفة مدة الزيارة واقفين باحترام عند طرفي الغرفة الأسفل ضامين اليدين (اليسرى في اليمنى) فوق الحزام، وينادي على الخدم عادة بالتصفيق بأصابع اليمنى على راحة اليسرى، ويسمع صوت التصفيق في المنزل لأن النوافذ من الخشب المشبك. ويدور الحديث على الأخبار اليومية وحال التجارة وأسعار المؤن، والدين والعلوم أحياناً، وتروي الحكايات الفكاهية. ويحدث كثيراً أن تسرد القصص والأمثال البذيئة في غير المجتمعات. وقلما يتحدث الناس في المجتمعات الطيبة عن نسائهم، ولكن كثيراً ما يفعل ذلك الأصدقاء الخلص ومن لا يراعي دقة قواعد الأدب بطريقة لا تكون لطيفة دائماً. ويستفسر المهذبون(453/42)
كل عن (منزل) الآخر للاطمئنان على الزوجة والعائلة. وكثيراً ما تشغل الزيارات وقتاً طويلاً، وقد تستمر أحياناً طول اليوم وعلى الأخص زيارات الحريم. ويتكرر حشو الشبك أو تبدل بغيرها كلما اقتضت الضرورة ذلك لأن الزائر لا ينقطع عن التدخين مدة بقائه. ويعاد تقديم القهوة والأشربة أحياناً. وقد سبق وصف طريقة تقديم القهوة والأشربة. وتقدم التهاني نفسها إلى الزائر بعد الشراب كما تقدم كذلك بعد جرعة ماء.
وجرت العادة في منازل الأثرياء أن يرش الضيوف قبل انصرافهم بماء الورد وماء الزهر، ويطيبون ببخور بعض المواد العطرية. وقد أصبحت هذه العادة شائعة في السنوات الأخيرة. وتكون قارورة العطر المسماة (قمقماً) من الفضة الساذجة أو المذهبة، أو من النحاس الدقيق أو من الفخار الصيني أو من الزجاج ولها غطاء به ثقب صغير. أما أداة البخور المسماة (مبخرة) فتكون من أحد المعادن المذكورة ويجهز وعاء الجمر بالجص أو يملأ نصفه، وبغطائه عدة ثقوب لصعود الدخان (أنظر شكل رقم51). وتستعمل المبخرة بعد القمقم. ويقدمها الخادم إلى الزائر أو السيد فيحول البخور نحو وجهه ولحيته الخ، بيمناه. وتفتح المبخرة أحيانا لإرسال البخور بلا عائق. وأكثر المواد استعمالاً: العود والجاوي وقشر العنبر. ويبلل الخشب العطري قبل أن يوضع على الجمر. ويستعمل العنبر للغرض نفسه ولكن يندر استعماله إلا في منازل الأثرياء لغلو ثمنه. وينصرف الزائر بعد أن يعطر؛ ولكنه لا يخرج قبل أن يستأذن ثم يقرأ السلام ويقدم غير ذلك من التحيات والتمنيات التي يرد عليها رداً موافقاً. ويجب على رب الدار إذا كان الزائر يفضله مركزا ألا يقوم له فحسب، بل يرافقه إلى أعلى السلم أو إلى باب الغرفة ثم يودعه في أمان الله.
ومن المعتاد أن يعطي الزائر قبل انصرافه من الزيارات العظيمة هدية صغيرة قرشين أو ثلاثة قروش أو أكثر حسب الظروف، إلى أحد الخدم أو بعضهم. ويرافق الزائر أحد الخدم إذا كان مطيته على الباب أو في الفناء ليساعده على الركوب، وينتظر هذا الخادم الحسن الالتفات - على الأخص - عطية، وعندما يعطي الزائر الخدم نقوداً فعلى السيد أن يرد المثل تماما عند رده الزيارة.
وكثيراً ما يتبادل الأصدقاء الهدايا تبعا للعادة العامة، ويقدم الأصدقاء الهدايا عند أي حفل خاص، والقاعدة العامة أن يرد إلى مقدم الهدية واحدة مماثلة أو في قيمتها عند مناسبة(453/43)
مماثلة. والشائع أن يعبر المهدى إليه في مثل هذا الحفل عن رجائه استطاعة رد الهدية في مناسبة مشابهة، ويعتبر هذا الشكر المصحوب بالإشارة إلى وفاء دين الهدية أدباً وتلطفاً في هذا البلد وإن كان الأوربي الكريم يراه إهانة له. وتلف الهدية في منديل مطرز يعاد إلى الرسول مع منحة مالية صغيرة. ومن الهدايا الشائعة الفاكهة تقدم على أوراق الشجر، والحلوى في طبق أو على صينية تغطى بمنديل ثمين أو بمفرش. وكثيراً ما تقدم الهدية إلى العظيم لأجل الحصول على هدية أثمن، ويفعل هذا غالبا الخادم. وقلما يرفض السيد الهدية، ولكنه يدفع في الحال نقوداً تفوق قيمتها. وليست عادة منح الخدم منحة بعد الزيارة شائعة الآن كما كانت منذ بضع سنوات. إلا أنه لا يزال أغلب الناس يراعون ذلك في الزيارات الكبيرة وعلى الأخص في العيدين، كما يراعى ذلك المدعوون إلى الحفلات الخاصة، وسنصف عادات أخرى مثل العادات الأولى يراعيها المصريون في هذه الحفلات في الفصل السابع والعشرين ويعتبر رفض الهدية إهانة لمقدمها، وتعبيراً عن زوال الحظوة.
وهناك عادات كثيرة يراعيها المصريون، لا في الزيارات الكبيرة، أو في حضرة الغرباء، أو عند مقابلة الأصدقاء العارضة فحسب، بل في العلاقات العادية، فعندما يعطس الرجل يقول: الحمد لله، فيقول كل من الحاضرين حينئذ ما عدا الخدم: يرحمكم الله، فيرد عليهم: يهدينا ويهديكم الله، أو بعبارة مماثلة. وإذا تثاءب يضع ظهر يسراه على فمه، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ولا يقال له شيء في هذه الحالة، لأن تجنب ذلك أجدر، إذ المعتقد أن الشيطان يقفز إلى فم المتثائب. والعادة أن يستغفر الله من يخالف قواعد الآداب بدلا من الاعتذار للحاضرين. وهناك عدة عبارات تقال بعد الحلاقة أو الاستحمام أو الوضوء أو الصلاة، أو أي فعل يستحق الثواب، أو عند القيام من النوم أو عندما تشترى ملابس جديدة أو تلبس، وفي عدة مناسبات أخرى، ولتلك العبارات أجوبة خاصة.
والقاعدة أن يكرم المسلمون يمناهم يداً وقدماً، فيستعملون اليد اليمنى للأغراض الجليلة واليسرى للأعمال التي تعتبر على رغم ضرورتها حقيرة، ويلبسون الحذاء الأيمن ويخلعونه قبل الأيسر، ويخطون عتبة الباب بالقدم اليمنى قبل اليسرى.
ويجامل المصريون بعضهم بعضاً إلى أقصى حد. ولتحيتهم وسلوكهم العام رقة ووقار خاصان ومهارة سلسلة تبدو أنها في طبيعتهم لملاحظتها في الفلاحين أيضاً. ويتفاخر أهل(453/44)
المدن من الطبقتين الوسطى والعليا بحسن الأدب ورشاقة المنهج وقوة الذكاء وطلاقة اللسان؛ إلا أنهم ليسوا أقل خلاعة في أحاديثهم من مواطنيهم الأقل تربية. ويمتاز المصري على اختلاف طبقاته بالبشاشة والأنس. ومن المألوف أن ترى غريبين يتحدثان بحرية كما لو كانا صديقين قديمين في أي مكان، ويقدم أحدهما شيكه إلى الآخر، وليس من غير المعتاد ولا من سوء الأدب أن يستفسر الغريب في أول مقابلة عرضية عن اسم الآخر وصناعته أو تجارته ومسكنه. وكثيراً ما تنشأ في مثل هذه المناسبات صداقة دائمة بينهما. وقلما يسمع في مجتمعات الطبقتين العليا والوسطى ما يمس شعور الحاضرين؛ ولا يجرؤ الخليع مهما كانت خلاعته أن ينطق أي عبارة يقصد بها الهزؤ. ومع ذلك فأغلب الناس من جميع الطبقات هم خلعاء في أحاديثهم ويحبون الدعاية إلى أقصى حد. وحديث المصريين مؤثر حار، ولكن أفراحهم تكون أبداً بلا جلبة تقريباً. وقلما يستسلمون للضحك العالي وإنما يعبرون عن سرورهم بالابتسام أو الهتاف.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(453/45)
نجوى المغني. . .
(مهداة إلى الموسيقي النابغ الأستاذ محمد عبد الوهاب)
للأستاذ محمود عماد
يا نضيرَ العودِ هاتِ ال ... عودَ إني سأُغنِّي
واجلُ لي حسنَك إني ... منهُ قد أُلهمتُ فني
كل معنى فيك يوحي ... ليَ لحناً بعد لحنِ
إن تكن ماءً فألحا ... نيَ للماء خريرْ
أو تكن ناراً فمنه ... نَّ شهيقُ وزفير
وإذا ما كنت زهراً ... لم يفتهن العبير
مثلما ألقاك تلقا ... ني على العود أُغني
فيكَ للشِّعر معانٍ ... غالياتٌ كالجواهرْ
فيك للتصوير ألوا ... نٌ كألوان الأزاهر
كيفَ لا يجلوك لحني ... في مجاليك البواهر
سأغنيك إلى الدّ ... نيا فتروِي ما أغني
يا حبيبي هاتِ لي العو ... دَ وهاتِ الخدَّ هاتِ
رَوِّ عينَّي ورَوِّ ال ... عودَ من ماء فُراتِ
فإذا الألحانُ تَهمي ... حانياتٍ عاطراتِ
كندىَ الوردِ، فَغَنِّ ... بفمي حين أغني
مَن ترَى غيري إن غنَّا ... كَ يا فاتن أبدَعْ
إنني أعطيكَ ما مِن ... زهرِ بستانِك أجمعْ
فأنلني يا حبيبي ... خيرَ ما فيه وأمتع
واصرف الحارسَ عني ... أو فإني لا أغني
محمود عماد(453/46)
أغنية
ضفاف النيل
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
صفَّق الموجُ وغنَّانا أناشيدَ الجمالِ
ومضى الزورقُ يجري مطمِئناً لا يُبالي
يا ضفافَ النيلِ روّي القلبَ من خمرِ الليالي
جددي عرسي وأفراحي وأُنسي ... واسكبي النشوة في روحي وحسي
ودعيني قبلما تفرغُ كأسي ... وأرَى الدنيا فما تضحكُ نفسي
واجْرِ يا زورق نشوان على نورِ الأماني
حولك الدنيا صفاءُ وضياءٌ وأغان
ضحك الكونُ وغنى بهوانا الشاطئان
فأعيدي فتنة الماضي إليَّا ... يا ضفاف النيل رَوِّي مقلتيَّا
من ضياءٍ يملأ الأرواح رِيَّا ... قد دعا الحْبُّ إلى دنياي هيَّا
نعبرُ الشطآن في ظلٍ من النُّعمى نغني
فابتعدْ يا دهرُ لا تحرمْ فؤاديْنا ودعني
لا تقفْ بين هوى نفسي وآمالي وبيني
أيها النيلُ على صدرِك يجري ... زورقٌ تَحدوه آمالٌ بِصدري
أنت تدري ما بقلبي أنت تدري ... وتعي سِرّي ولا تجهل أمري
كُنْ رفيقاً أيها النيلُ ودعْنا وهوانا
غنِّنا لَحنَ صِبانا، واسقنا وأطفئ صَدانا
واملأ الجو فتوناً وأماناً وحنانا
يا حبيبي هاهي الدنيا أراها ... مثلما أهوى بعيني وتراها
آه لو تغفلُ عنا مقلتاها ... أبد الدهرِ وهل تُغنيك آها!
(الإسكندرية)(453/47)
مصطفى علي عبد الرحمن(453/48)
البريد الأدبي
اتجاهات جديدة لرجال التعليم
في الأسبوع الماضي أقيم في القاهرة مؤتمران: مؤتمر التفتيش ومؤتمر تدريس العلوم. وإنما أقيم المؤتمران في أسبوع واحد، لأن (إجازة نصف السنة) هي الفرصة التي تسمح بأن يلتقي المفتشون والمدرسون في القاهرة بلا عناء.
وقبل أن نشير إلى أهمية هذين المؤتمرين نسجل أن (الظروف الحاضرة) لم تمنع رجال التعليم من أن يشغلوا أنفسهم بشئون لا يطالبهم بها أحد في هذه الأيام، وذلك يشهد بأن النزعة العلمية تأصلت في النفوس، ولم تعد تحتاج إلى بواعث وأسباب. ولو أضفنا إلى ذلك أن مؤتمر تدريس العلوم حضره مندوبان عن وزارة المعارف العراقية: هما الدكتور فاضل الجمالي والدكتور متي عقراوي، لعرفنا أن أصدقاء مصر في الشرق يلتفتون إلى أخبارها العلمية بأسلوب يستحق الثناء.
أقيم الاجتماع الأول لمؤتمر التفتيش في مدرسة فاروق الثانوية، وألقى فيه الأستاذ سامي بك حسونة كلمة ضافية حدد بها الأغراض المنشودة من التفتيش، ثم تفرع المؤتمر إلى لجان تدرس ما يعترض التفتيش من مصاعب ومشكلات.
وأقيم مؤتمر تدريس العلوم بالجمعية الجغرافية، وقد افتتحه سعادة الأستاذ شفيق بك غربال بالنيابة عن معالي وزير المعارف الرئيس الفخري للمؤتمر، وتكلم في اليوم الأول الأساتذة محمد فؤاد جلال وأحمد زكي بك والمستر هملي والدكتور الجمالي والدكتور الكرداني، ثم استمر في الأيام التالية يقوم بدراسات على جانب عظيم من الأهمية حضرها مئات المدرسين.
والمهم هو أن نذكر بصراحة أن الذين حضروا هذين المؤتمرين راعهم أن يشهدوا وثبات فكرية وعقلية تستوجب الإعجاب، وتجدد الثقة برجال التربية والتعليم في هذه البلاد.
وقد لاحظت أن اللغة العربية أصبحت في غاية من المرونة والقدرة على شرح أدق الأغراض، فقد كان الخطباء يتدفقون بأساليب منوعة الألوان، وكان تعبيرهم يشهد بأننا نعاصر (لغة علمية) تعرف كيف تحيط بدقائق المعضلات.
أما بعد فمن حق من شهدوا هذين المؤتمرين أن يرجوا أن تدوم هذه السنة الحميدة، وأن(453/49)
تكون (إجازة نصف السنة) فرصة سنوية لإذكاء الأفكار والآراء في التربية والتعليم، والله بالتوفيق كفيل، وهو القادر على إثابة أهل الصدق والإخلاص.
زكي مبارك
نزع العمائم في دور الخلفاء والأمراء والسلاطين وبحضرتهم
قرأت في باب البريد الأدبي من الرسالة الغراء (العدد429) ص1191) كلمة بعث بها الأستاذ عبد المجيد الساكني من بغداد يسأل فيها الدكتور زكي مبارك عن (البيئة ونزع العمائم) في عرض كلامه عن تأثير البيئة في بعض عادات أهل الأندلس (الرسالة العدد418؛ ص862: تأثير البيئة)
وقد وقفت أثناء مطالعاتي على ما له صلة بهذا الموضوع أحببت أن أبينه فيما يلي لأنه يرينا ناحية من مناحي الرسوم المتبعة عند الإسلام بشأن العمامة.
قال محمد بن عبدوس الجهشياري المتوفى سنة331 للهجرة ما هذا نصه: (وكان عيسى (بن عبد الرحمن) كاتب طاهر (بن الحسين) لما دخل مجلس الفضل (بن سهل) نزع قلنسوته وجعلها إلى جانبه، ثم فعل ذلك مراراً، فقال نعيم بن حازم ليعقوب بن عبد الله، وكان يعقوب آلفا لعيسى: إن أبا العباس - يعني عيسى - إذا جلس في مجلس الأمير - يعني الفضل - رفع قلنسوته عن رأسه، وهذا استخفاف منه بالأمير، قد أنكره الناس، وتكلموا فيه، فأعلمه ذلك ليمسك عنه فيما يستقبل، فإنه إن عاود دنوت منه ورددتها على رأسه بعنف وإنكار. فقال يعقوب لعيسى ذلك؛ فقال له: بأي شيء رددت عليه؟ قال قلت له: إنه محرور، ولعله قد استأذن الأمير في ذلك، أن كان لا يجهل ما يأتي ويذر. فقال: والله ما بي أني محرور، وما استأذنت، ولكني أريد أن يعلم الفضل أولاً، ثم من حوله إنه أهون علي وأدق في عيني ما دام صاحبي - أعزه الله - حيا، من هذه الشعرة - وقلع شعرة من عرف دابته - ومن فوق نعيم، فضلا عن نعيم، أشد تهيبا للإقدام عليّ بشيء أنكره، فلا يدخلك من قولهم شيء، وعرف نعيم ابن حازم ما قلته)
ونظير هذا النبأ ما أورده هلال بن المحسن الصابي المتوفى سنة448 للهجرة، قال: (وحدثني جدي (أبو أسحق إبراهيم الصابي) أن المكنى أبا الهيثم حضر يوماً في دار عضد(453/50)
الدولة وأخذ عمامته من رأسه ووضعها بين يديه، ورآه بعض أصحاب الأخبار فكتب بما كان منه، وخرج أستاذ دار، فخرق به وشتمه، وأخذ العمامة وضرب بها رأسه حتى تقطعت قطعاً، ووكل به واعتقله. فسئل فيد عضد الدولة، وقيل: هذا رجل محرور الرأس، ولا يستطيع ترك العمامة على رأسه، وإنما فعل هذا لذاك، لا لجهل بأدب الخدمة. فبعد مراجعات ما. أمر بإطلاقه)
(بغداد)
ميخائيل عواد
إلى الدكتور زكي مبارك
قرأت بمزيد الأسف ما كتبته في رسالة هذا الأسبوع من حديث تهكمت فيه بمن يدرس اللغات الميتة كما سميتها أنت، ونعيت فيه على الجامعة المصرية التي تعنى بإحياء ما اندثر وباد وانقطعت صلته بالحياة، وأنا في هذه الكلمة أضرب صفحاً عما أدخلته في هذه المسألة من جوانب شخصية، فإن هذا لا يعنيني، وإنما أنفذ إلى لب المسألة فأقول:
يؤسفني أن أرى الدكتور زكي مبارك - وهو الرجل العظيم الذي أحبه أشد الحب وأعجب بشخصيته أعظم الإعجاب - يتجرد من ثياب العالم الواسع الأفق والباحث الطويل الباع، وكيف يكون عالماً واسع الأفق وباحثاً طويل الباع من يجهل صلات العربية بهذه اللغة الميتة؟ كيف يكون كذلك من يجهل أن خدمة اللغة العربية خدمة صادقة حقاً تستلزم معرفة واسعة بلغات عاصرتها في أجيال طويلة من التاريخ فأثرت فيها وتأثرت بها؟ بل كيف يكون كذلك من يريد أن يفهم لغة بله أن يدرسها فلا ينظر إلى أخواتها التي تفرعت معها من أصل واحد؟
هل يصح في أذهان العلماء أن تدرس اللغة العربية دراسة لغوية لا تستند إلى مقارنات شتى بينها وبين العبرية والسريانية وسائر الأخوات؟ وهل ينكر أثر اليونانية واللاتينية في قاموس اللغة العربية؟ ثم هل ينكر وجوب دراسة الصلات بين الأدب السريانية والعبرية والأدب العربي، تلك الصلات التي لم أجد أحدا تنبه إليها حتى الآن إلا البعض القليل؟ ثم هل ينكر أثر الوراثة الأجنبية فيما نظمه ابن الرومي وأبو تمام؟(453/51)
لئن كان الفرنجة يدرسون اللاتينية واليونانية كوسيلة لدراسة لغاتهم، فنحن يجب علينا أن ندرس اللغات السامية أولاً ثم اللاتينية واليونانية ثانيا لدراسة لغتنا العربية التي نتعشقها ونفنى أعمارنا في خدمتها.
السيد يعقوب بكر
حول مقال الأستاذ المازني
يقول الأستاذ في مقاله تحت عنوان (بطولة محمد) في العدد (449) الهجري ما نصه:
(فما كان صلى الله عليه وسلم يعنى بالاشتراك في القتال بسيف أو رمح، وكان يشهد المعارك ويصحب رجاله، ولكنه لا ينزل إلى الحومة بنفسه، ولا يخوض المعمعة مع أنصاره، وإن كان يوجههم)
وهذا يخالف الواقع والتاريخ؛ فقد ثبت إنه كر على الأعداء في بعض الغزوات كراً عنيفاً قائلاً متحمساً: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) وثبت أنه كسرت رباعيته وجرح حتى سال منه الدم، فجعل يمسح الدم ويقول: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم)؟ وفي تفسير الكشاف الجزء الأول ص (214) في ذكر غزوة أُحد ما نصه: (وكان نزوله في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أُحد، وأمر عبد الله ابن جبير على الرماة وقال لهم: انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا)
وفي الجزء الأول من السيرة الحلبية ص (550، 551) في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاث حصيات فرمى بهن في وجوه المشركين يمنة ويسرة، وحين رمى بذلك قال لأصحابه شدوا، فكانت الهزيمة. وأنزل الله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بنفسه قتالاً شديداً)
هذا وغيره كثير يدل دلالة واضحة أن رسول الله خاض المعمعة بنفسه وقاتل بسيفه.
إبراهيم محمد عيسى
إجازة القضاء الشرعي
مات حتف أنفه(453/52)
تحت هذا العنوان كتب الأديب خالد الشواف كلمة في البريد الأدبي بعدد (الرسالة) الأخير تساءل فيها: كيف يمكن التوفيق بين ما روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من قوله: (ما سمعت كلمة غريبة من العرب إلا وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته يقول: (مات حتف أنفه)، وما سمعتها من عربي قبله)، وبين ما يروى للسموءل بن عادياء من قوله في لاميته:
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل؟
وطلب الأديب الإجابة عن هذا السؤال ممن يشاء من القراء فإليه الجواب:
رويت هذه القصيدة لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، وهو شاعر إسلامي شامي من شعراء الحماسة. ولئن اعتمدنا هذه الرواية فلا إشكال. . . على أن البيت في بعض الروايات هكذا: (وما مات منا سيد في فراشه. . . الخ)
قال الخطيب التبريزي تعقيباً على هذه الرواية في شرحه للبيت في الجزء الأول من الحماسة صفحة113، تحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد: (وهذه الرواية رواية من يجعل القصيدة جاهلية). وعليها فالبيت مني بالتحريف، وكم عدا التحريف البغيض على آثار العبقرية العربية الشاعرة.
ولقد ذهب الأستاذ الزيات في كتابه (تاريخ الأدب العربي) صفحة177 الطبعة السادسة، إلى أن ما روى عن علي دليل على أن قصيدة السموءل منحولة كلها أو بعضها. . .
ولعل في هذا ما يكشف الريب.
محمد فهيم عبيد
عام الفيل ومولد الرسول
في بريد العدد451 من (الرسالة)، يذكر الأديب الفاضل علي محمد حسن في الفقرة الثالثة من كلمته (في مطالعاتي) أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل الموافق سنة (570م) وبالرجوع إلى العدد349 من (الرسالة)، نرى الأستاذ البحاثة المرحوم (إسماعيل أحمد أدهم) في مقالة له عنوانها (عام الفيل وميلاد الرسول) يثبت ويؤكد بالأدلة القاطعة، أن عام الفيل كان يوافق سنة (540م)، وميلاد الرسول يوافق سنة (570م). وهذا يدل على(453/53)
أن الصلة مفصومة بين ميلاد الرسول وعام الفيل، وأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه ولد بعد عام الفيل بنحو ثلاثين سنة، ويوجه في ختام بحثه أنظار المشتغلين بالتاريخ الإسلامي، وخاصة أساتيذ الجامعة إلى هذه الحقيقة. ورجا أن يكون في (بحثه هذا) تصحيح لما تجري به أقلام الباحثين في العالم العربي، من أن رسول الله ولد عام الفيل.
وبعد. فإلى الأديب الفاضل أقدم هذا البحث القيم للاطلاع عليه في ص450 من العدد349 في السنة الثامنة من عمر (الرسالة) المديد.
وإلى جمهرة المؤرخين الأفاضل، أرجو بسط هذا الموضوع وبحثه على صفحات (الرسالة) الغراء لحيويته وخطورته بالنسبة لتاريخ مولد سيد العالمين، وحقيقة صلة هذا الميلاد بعام الفيل.
(ديروط)
أحمد محمد فرج(453/54)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(453/55)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(453/56)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(453/57)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(453/58)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(453/59)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(453/60)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(453/61)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(453/62)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(453/63)
العدد 454 - بتاريخ: 16 - 03 - 1942(/)
بين ناخب ونائب
بين غداة وعشية أمسى غنينا الطافح عضواً بالتزكية في مجلس النواب. والفوز بالتزكية هنا معناه امتناع المنافس لا انقطاع النظير، وخلو الميدان لا بطولة الفارس؛ ومع ذلك نصب البك السرادق، وقدم الحلوى، وتقبل التهنئات، وسمع بأذنيه الطويلتين القصائد العور والخطب البتر في الإشادة بالكفاية العالية فيه، والثقة الغالية به، والخير المرجو منه. وللريف شعراء وخطباء كعصافير الحصاد: تقع في الجرن ولا تقع في الروض، وتزقزق للحبة ولا تزقزق للزهرة، وتكرر أغرودتها الواحدة ولا تقصد بها معنى غير فرحها هي بسمة البيدر وضخامة العرمة!
ولكن البك وحده هو الذي صدق هذه التفاعيل العروضية فانتفش انتفاش الديك، وراح يعد ويمني، ويعدد ويمن، ويفخر ويفيش، ويزعم أنه باجتهاده وجهاده سيجعل المجلس يبسط الأرزاق، ويطيل الأعمار، ويضمن لكل ناخب في دائرته قصراً في الدنيا وقصراً في الجنة. كان الرجل يتنفخ والناس يجاملون بالاصغاء، ويتجملون بالصبر، إلا صديقنا الشيخ منصوراً فقد قال له في شيء من حدة الصراحة وشدة الحجاج:
- ذلك يا بك كلام من لغة التحيات والمجاملات تردده الألسن بحكم العادة ولا تريد به شيئاً. هو أشبه بقولي: (أهنئك بالفوز) وما كنت أريد انتخابك، أو قول اللص: (السلام عليك) وهو يريد انتهابك. ولو كانت الوعود البرلمانية في آخر الانتخاب، والبرامج الوزارية في أول الدورة، من الكلام الذي يقصد به معناه، لما بقى في صحارى مصر شبر يشكو الظمأ، ولا في مساكين مصر فرد يشكو الجوع! لقد قلتم كثيراً ولم تفعلوا، فحاولوا هذه المرة أن تفعلوا ولا تقولوا!
- أنت يا شيخ منصور كالضرس المخالف في دولاب الساقية! لا يجري كلامك مع الكلام، ولا يقف رأيك مع الآراء! ماذا تريد أن يفعل النائب أكثر من أن يمثل الأمة، ويشرع القوانين، ويبحث الميزانية، ويراقب الحكومة؟
- ذلك هو المفروض يا بك! أما الواقع فهو أن بعضكم متى دخل البرلمان لا يمثل إلا نفسه، ولا يقضي إلا حاجه، ولا يراقب إلا عدوه. ويصوت على القانون في قاعة المجلس بالإقرار، ثم يكون هو أول من يطلب خرقه في ديوان الحكومة بالوساطة!
أن ما يطلب من الحكومة والبرلمان في شؤوننا العامة، لا يزيد كثيراً على ما يطلب من(454/1)
صاحب العزبة في شؤونه الخاصة: استصلاح الأرض والانتفاع بكل ما فيها؛ ثم تدبير القوت والصحة والمعرفة لكل من يقوم عليها. ليس لنا مستعمرات تقتضي إدارتها النشاط والحكمة، ولا أسواق تجارية تطلب مراقبتها الذكاء والخبرة، ولا سياسة خارجية تحتاج معالجتها الدهاء والقوة. هاهي ذي عشرون سنة مرت على مصر ولها استقلال وفيها برلمان، فهل تستطيع أن تقول أن المصري الآن، اصبح خيراً مما كان؟ أن هذه العشرين سنة غيرت نظماً وخلقت أمما وقلبت الدنيا كلها رأساً على عقب؛ ولكنها مرت على النائمين في الكهف مرور الحلم المزعج، حرك الأجسام بعض الحركة، وترك المشاعر ساكنة كل السكون
- ما هذه الفلسفة يا شيخ منصور؟ هل تستطيع أن تقول لي أنت متى تركوا الحكومة تستقر، وخلوا البرلمان يعمل؟ أن الدستور في الأمة كالمصباح في الصحراء، لا ينشر ضوءه إلا إذا تركته الرياح آمناً
- لو تفلسفت يا بك كما أتفلسف لتبينت أن استقرار الحكومة واستمرار البرلمان لا يكونان مع سياسة الكلام، فإن سياسة الكلام هي سياسة الفراغ، وإذا شغلها شال فهو المراء والمكابرة والمهاترة والخصومة. وكلما علا صوت عل صوت، وظهرت دعاية على دعاية، انقلبت الأوضاع، وتغيرت المكاتب، وتبدلت المناصب، وتعطلت المواهب، وتقوض المبنى، وانتكث المفتول، وتوقف السائر. أما سياسة العمل فتهيئ لكل ذهن ما يشغله، ولك يد ما تعمله. وذا اشتغلت الأذهان وعملت الأيدي، عيت الألسنة فلا تجادل، وائتلفت القلوب فلا تختلف، وانقطع دابر القوالين فلا تعود الحزبية تجارة ولا السياسة حرفة
- أن الدلائل يا شيخ منصور تبشر بصلاح الحال. وما دام الأمر في يد أهله فانظر إلى المستقبل نظر المتفائل الآمل
- لا تكلني إلى المستقبل يا بك. أن من يضيع يومه لا يجد غده. ومن يفرط في عاجل الشهادة طمعاً في آجل الغيب كان حقيقاً إلا يدرك شيئاً
- وماذا تريد أن اصنع لك الآن؟
- أريد أن تنزل عن مكافأتك النيابية لدائرتك الانتخابية. أنك والحمد لله ضخم الثراء رفيع العيش، فلا أقول أنك طلبت النيابة كما يطلب الناس الوظيفة. وإن أربعين جنيهاً في كل(454/2)
شهر تقسم على ثماني قرى لا تدع فيها أمياً واحداً قبل انقضاء الدورة. ولا اعتقد أنك تؤدي إلى أمتك في طول نيابتك عملاً ارفع ولا انفع من هذا العمل. أنك تعلم أن في مركزين من مراكز الغربية ثلاث عيلات تملك سبعة وعشرين ألف فدان، وتشغل سبعة كراسي في البرلمان، تكافأ على شغلها بأربعين ألف جنيه في العام؛ فقدر في نفسك يا بك ماذا يجدي على دوائرهم الفقيرة هذا المبلغ وهو لا يقدم في ثرواتهم العريضة ولا يؤخر
- ولكنك تطلب ما لا يطلبه أحد في أمة من الأمم
- وهل تجد في أمة من الأمم فقراء في مثل فقرنا يعطون، وأغنياء في مثل غناكم يأخذون؟ أن النيابة عندهم بذل وتكليف، ولكنها عندنا ربح وتشريف. وإن أكثركم ليسخو بالآلاف في سبيل الدعاية لها والظفر بها؛ فهل يضيركم أن تنزلوا لنا عن هذه العشرات فتحفظوا مهجا من التلف وعقولاً من الجهالة؟
- كلامك يا شيخ منصور سديد ورأيك أسد. وإني أعدك إلا أعارض إذا قبل الآخرون
- أي آخرين تريد يا بك؟ ولم لا تسن أنت هذه السنة الحسنة فيكون لك اجرها واجر من عمل بها إلى يوم يحل المجلس؟
- يحل المجلس؟ قل إلى يوم تنتهي الدورة يا شيخ؟ فأل الله ولا فألك! لقد شغلتنا بثرثرتك عن تحية الناس. ثم أشاح البك عن الشيخ وأقبل على المهنئين يوزع عليهم تحياته الشريفة! فلما أعدناها على ترتيبه خرجت لحسن حظ الأدب منظومة في هذا البيت:
أهلاً وسهلاً، طيبونَ، وحشِتنا ... سَلماتِ، إزَّيّك، وكيف الحال؟
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(454/3)
بين آدم وحواء:
تحت شجرة التين
للدكتور زكي مبارك
جاهد آدم نفسه في حدود ما يطيق. . . وماذا يطيق المرء وهو يجاهد النفس في أهواء تسوقها امراة؟ سينتهي أمره إلى الهزيمة، إلا أن تؤيده قوة ربانية تصرف عنه السوء وترده إلى الاعتصام بالعقل. ولحكمة يعلمها الله ضعف آدم عن مقاومة حواء، ودعاها إلى التلاقي تحت شجرة التين
وهنا يذكر شيث في كتابه أن حواء تلكأت في الاستجابة لذلك الدعاء، ولزمت مكانها تحت شجرة الطلح، كأنها تريد أن تحمله على الإلحاح فيكون البادئ بالعصيان
ولو تأمل شيث قليلاً لذكر تعليلاً غير هذا التعليل، فالرأي عندي أن حواء توهمت أن لآدم رغبة في شجرة التين، وإن تمنعه لم يكن عن صدق، وإنما كان يريد أن يحملها تبعة العصيان
والحوادث تؤيد هذا الافتراض، فما كاد آدم يخبر حواء بأنه سيسايرها فيما تريد حتى فترت رغبتها في قرب الشجرة المحرمة، وأعلنت اكتفاءها بما احل الله من طيبات الفردوس
فما معنى ذلك؟ وما مغزاه؟
معناه أن حواء تحب أن تسلك في جانب يغاير ما يسلك آدم من الجوانب، فقد أحبت حواء التين حين ثار آدم عليه، ثم زهدت فيه حين رأته من هواه، وإلا فكيف جاز أن يدعوها فلا تجيب وهي التي قهرته قهرا على أن يذعن لما تريد من قرب شجرة التين؟
وابتسم آدم حين رأى حواء تهدأ بعد ثورة وتلين بعد شماس، ثم حمد الله على انحسار الغمة وانجلاء الضيق، واخذ في الاستغفار من الذنب الذي اقترف. فقد حدثه الضمير بأنه أذنب بالفعل، وإن لم يذق الثمر الممنوع، لأن نية السوء لا تقل بشاعة عن السوء في نظر الأخلاق، وكان آدم يعرف أنه يعامل الله، والله يحاسب على النيات بأقسى مما يحاسب على الأقوال والأفعال، لأنه يحب لعباده أدب الملوك لا أدب العبيد
ثم نظر آدم فلم ير حواء، فأين ذهبت؟
فتش عنها في غياضٍ كثيرة، وسال عنها أسراباً من الطير والظباء فلم يظفر بجواب، فأين(454/4)
ذهبت؟ وكيف ضاعت؟ وما السبيل إلى مكانها في الجنة الفيحاء؟
أتكون غضبت من طاعة آدم وكانت تحب أن يتمرد؟
لقد خطر لآدم هذا الخاطر، فقد علمته التجارب أن حواء لا تتمتع بالصحوة الجسدية والروحية إلا في أوقات الخلاف. وهل ذاق آدم حلاوة حواء إلا في لحظات الثورة على الأوامر الربانية؟
أمر هذه المخلوقة أعجب من العجب، فهي لا تحلو ولا تطيب إلا عند النضال، وهي تفقد كل قيمتها حين تتناول شؤون الحب في طاعة مجردة من الإحساس، كالطاعة التي تصدر عن فتاة لم تبلغ سن الكيد، وكيد المرأة إثم جميل!
فكر آدم طويلا في غيبة حواء، وانزعج حين خطر له أن تكون حرمت الثورة على ما ترى وما تسمع، وأنها لذلك سكنت العزلة في جنينة مهجورة يسقيها نهير مجهول من رواضع الكوثر وهي رواضع تعد بالألوف
وعاد آدم لنفسه ليعرف حاله في غيبة حواء، فصح عنده بعد التأمل أن العبادة الصحيحة لا تكون إلا بالجهاد، ولا جهاد بدون أهواء
يجب أن يكون في الوجود حرام وحلال، لنشعر بالذاتية في قرب هذا واجتناب ذاك، وإلا صرنا خلائق تواجه الوجود بلا اكتراث، وإذا انعدم الاكتراث فقد انعدمت الأخلاق. وقد يكون العصيان عن نية افضل من الطاعة بلا إحساس، لأن المهم أن ندان حين عصي، ونثاب حين نطيع، ولا يتم ذلك بغير النية الواضحة فيما نباشر من مختلف الأعمال.
أتكون حواء ترهبت فلاذت بأحد الكهوف؟
ذلك ما خاف آدم أن يكون، فالترهب نذير الموت، وهو يكره لحواء أن تموت.
وكيف يعيش آدم إذا غفا كيد حواء؟
لقد أبدعته إبداعاً وإنشائه إنشاءً، حين تولت إضرام الجمر المكنون في قلبه الوسنان، وآدم رجل، والرجل يحفظ الجميل.
ومر حين وأحيان وأحايين وحواء لا تعود.
وشعر آدم بانعدام أسباب الثورة والهدوء فأيقن بقرب الفناء
وما حياة الرجل إذا خلت من الأحلام والحقائق والأباطيل؟(454/5)
ما حياته إذا حرم التنقل من ضلال إلى هدىً، ومن هدىً إلى ضلال؟
قيمة الرجل بالجهاد، ولا جهاد بدون أهواء، وقد أمسى صدر (آدم) وهو جلمود أملس لا ينبت الأزهار ولا الأشواك ولا يثبت فوقه تراب ولا ماء
والتفت (آدم) فرأى من الخير أن ينقطع للاستغفار ليتوب الله عليه، وهل أذنب حتى يتوب؟
أن كان كل حظه من المعصية أنه رضى مسايرة (حواء)، وقد ذهبت (حواء) ولم يبق موجب للقنوت والابتهال
الموت افضل من حياة تخلو من مقارعة هوى النفس في كل يوم. والرجل الذي يواجه المعاني بقلبٍ أغلف شبيه بالرجل الذي يطالع سفر الوجود وهو معصوب العينين. وهل كان الموت فناءً إلا لأنه يصدنا عن صنع الخير واجتراح الآثام؟
وما طعم الاستغفار على لسان من لم يذنب؟ وما لون الطاعة في عين من لم يقاوم الأهواء؟
لقد مات (آدم) وهو حي، فلم يعد يدرك ما في الفردوس من سحر وفتون
كان (آدم) يجد لذة في ضرب (حواء)، فأين هي الآن ليتمتع بلطم خدها الأسيل؟!
وكانت (حواء) تجر (آدم) إلى مآزق تشعره بقوة الحيوانية، فأين هو اليوم من تلك المآزق، وأين سبيله إلى الفتك والجنون؟
لقد خلت حياته من جميع المعاني بعد غيبة (حواء)، وما كان يعرف أنها تملك من الروحانية الأثيمة ذلك الحظ العظيم
وانطلق (آدم) يراود معاهد الحب، عله يجد (حواء) مختبئة في بعض ألفاف البواسق، على نحو ما كان يقع في الأوقات السوالف، ولكنه لم يظفر بغير اليأس
أين (حواء) أين (حواء)؟
أين الصبية الجميلة التي أوحت إليه فكرة الثورة على الشرائع؟
أين الحلقة الحلوة التي زينت له طعم العصيان؟
كان آدم يشتهي جميع ما في الجنة من أطايب قبل أن تفارقه حواء، ثم أمسى وهو موقوذ الشهية بسبب الفراق، وهل تطيب الحياة لمن يعيش بلا أنيس موسوم بالصباحة والجمال؟
ذلك نعيم ذهب، وأمل ضاع، فليقتل آدم نفسه أن شاء هي امرأة مخبولة، ولكنها مشتهاة،(454/6)
والشهوة رزق من الأرزاق، وإن قيل في تجريحها ما قيل
كان آدم يهز الشجرات المثمرات ليطعم حواء، وهو اليوم يرضى بما يسقط من الثمر المعطوب، أن بقي له شيء من نعمة الجوع، والجوع نعمة لا يحسها غير الأصحاء
كان لآدم في الجنة تاريخ بسبب اللجاجة التي كانت تثور عن حواء من حين إلى حين، فما حياته وقد أمسى مغسول القلب والروح والوجدان؟
أيعبد الله بالاستغفار؟ ومم يستغفر وهو مقتول الأهواء؟
أيسبح لله؟ وكيف؟ أن التسبيح تنزيه وهو ممنى لا يدرك بعير القياس؟
لو عادت حواء لاستطاب آدم شجرة التين، ولكن متى تعود؟
لقد اكتفت الشقية بنا تطمئن إلى أنها مصدر ضلاله وهداه؛ وكذلك رأت أن تتركه في حيرة دامية عدداً من الأعوام العجاف؛ وبغي المرأة لا يحتاج إلى برهان
استيأس آدم فرضى بالانزواء في أحد الأدغال، وعند ذلك شعرت حواء بالشوق إلى مصاولته من جديد، والمرأة يؤذيها أن يهدأ الرجل، ولو كان في المحراب
- آدم! آدم!
- حواء؟
- نعم، حواء، إلا تراني؟
- كنت حسبت أنك ذهبت إلى غير مآب
- قبل أن نأكل معاً من شجرة التين؟ هذا مستحيل!
- وهل نعصى الله يا حواء؟
- سترى أن المعصية طيبة المذاق (؟!)
وتنبه آدم فرأى أنه مقبل على خطر جديد، فدار الحوار بأسلوب جديد
(للحديث شجون)
زكي مبارك(454/7)
النبي المقنع
بقلم الإمبراطور نابليون بونابرت
نقلها إلى العربية عن الترجمة الإنكليزية
الأستاذ إبراهيم عبد الحميد زكي
مقدمة
لا تنحصر أهمية هذه القصة في كونها أثراً من آثار رجل عظيم فحسب، بل تتعدى ذلك إلى ما تكشف للناس عنه من اتجاه نابليون وطموحه قبل أن تتيح له الثورة الفرنسية فرصة إظهار عبقريته ونبوغه في الحرب والقيادة. فقد كان نابليون حتى عام 1789 ضابطاً صغيراً في الجيش الفرنسي، ولم يكن قد ظهر له من المواهب شئ يسترعي الأنظار، وكانت أسرته الكورسيكية قد أخنى عليها الدهر وقضت الأيام بأن تعاني شدائد العسر والضيق المالي، فرأى الشاب أن يحزم أمره ويعقد عزمه على إصلاح شؤونها وتفريج كربتها بالالتجاء إلى الأدب عسى أن يظهر فيه ويذيع اسمه فينال من الشهرة ما يكفل له رواج كتبه وسعة رزقه، فاتجه بجميع قواه نحو تحقيق هذه الغاية، وبذل من الجهد في هذا الميدان مثلما قدر له أن يبذل في ميدان الحرب والقتال، فوضع كتابا في تاريخ جزيرة كورسيكا وهذبه على الأقل ثلاث مرات؛ وألف رواية كورسيكية أيضاً وعدة قصص صغيرة وبضع قصائد شعرية ومقالات كثيرة. فعل هذا كله ولم يبلغ سن العشرين، ولكن ذلك لم يجد عليه نفعا ولم يحقق ما كان يطمح إليه، فلم ينشر كتاب التاريخ، وظلت روايته مخطوطة، ولم تر مقالاته ولا قصصه الضوء إلا بعد سنوات كثيرة من تأليفها
ولقد قيل عن قصة (النبي المقنع) أنها محض خيال، وإنها لا تستند إلى شئ من الواقع، ولكن هذا غير صحيح. حقاً أن نابليون لم يتبع الدقة التامة في ذكر التفاصيل، ولكن هذا لا يعني أن القصة لا تقوم على أساس تاريخي صحيح، بل أن المرء يلاحظ أنه عرض حوادثها عرضاً تمثيلياً (دراماتيكياً) قوياً. وقد كتبها نابليون عام 1787، وجرى في تأليفها على أسلوب فولتير ونشرت عام 1821 - أي عام وفاته
القصة(454/8)
في سنة 776 ميلادية، أي بعد مائة وستين عاماً من هجرة النبي محمد، كان ميكادي خليفة في بغداد؛ وكان أميراً نبيلاً ذا بأس وقوة، فخشيه جيرانه وقدروه وبجلوه. وفي ظل حكمه العادل تمتعت بلاد العرب بالسلم والرخاء. وكان الخليفة راعياً للعلوم والفنون فتقدمت الحضارة في عهده تقدماً سريعاً، إلى أن كدر صفو هذا الهدوء، والتقدم قيام متنبئ جديد. ظهر هذا الرجل واسمه حكيم في مدينة خراسان فتبعه خلق كثير في وقت قصير. وكان طويل القامة فصيح اللسان فادعى أنه صوت الله على الأرض وقال: أن الواجب أن يكون الناس جميعاً من حيث المراتب والثروة سواء. واستهوى هذا القانون أفئدة الدهماء فهرع إليه ألوف من الناس وكان له بذلك جيش عظيم
ولما رأى الخليفة والنبلاء خطر هذه الثورة عقدوا العزم على خنقها في المهد؛ ولكن جيوشهم كانت تلاقي الهزيمة تلو الهزيمة فازداد بذلك أنصار حكيم يوماً بعد يوم
وبينما كان هذا النبي في أوج مجده إذا به يصاب بمرض شديد، وكان هذا المرض نتيجة الجهد المضني الذي بذله في المعارك التي خاض غمارها. فلما خفت وطأة المرض ونال الشفاء أيقن أن حسنه قد ذهب، وأنه لم يعد بعد خير رجال العرب وأوسمهم إذ كان قد عمى وخبا إلى الأبد ضوء عينيه الرائع
ولما أحس بأن هذا التشويه الطارئ قد يفقده السيطرة على اتباعه والتأثير فيهم، رأى أن يحجبه عن أعينهم بقناع من فضة وضعه على وجهه. فلما فعل ذلك عاد إلى الاتصال بهم والتجول بينهم يخطبهم ويؤثر فيهم بفصاحته المعهودة، فظل الناس مأخوذين بعذوبة لسانه وسحر بيانه كما كانوا من قبل؛ وكان يعلل لهم إخفاء وجهه عنهم بأنه يخشى عليهم أن يبهر أعينهم ذلك الضوء الفياض الخارق للطبيعة الذي ينبعث منه. إذ تبين له أن الظرف الحالي يقضي عليه بأن يعتمد أكثر من ذي قبل على الحماس الديني الذي أوقد شعلته وأثار كوامنه في نفوسهم
ولكن هذه الحال لم تدم كثيراً إذ أصيب اتباعه فجأة بهزيمة منكرة على أيدي جيوش الخليفة؛ فكانت هذه الهزيمة صدمة عنيفة وجهت إلى صميم هذا الدين الجديد؛ فهجر حكيما كثير من أنصاره، وتراجع هو ومن بقي معه من اتباع قلائل إلى مدينة محصنة محوطة بأسوار عالية؛ ولكنه لم يلبث قليلاً حتى أحدق به جند الخليفة وحاصروه(454/9)
وتبين الآن أن أمام حكيم أحد طريقين: فإما أن يموت، وأما أن يحدث له ما هو أسوأ من الموت وهو الوقوع أسيراً في أيدي اعداه، فجمع أتباعه وخطب فيهم قال:
أيها المؤمنون! لقد اختارنا الله ورسوله لإعادة بناء هذه الأمة واسترجاع مجد الإنسان؟ فلماذا إذن يثبط من عزمنا ويلقى اليأس في قلوبنا كثرة أعدائنا؟ أصغوا إلي! في الليلة البارحة والناس نيام سجدت لله طويلاً ودعوته في حرارة قلت: أبتاه! لقد رعيتني وحميتني هذه السنين الطوال فهل أثمت أو أثم أحد من اتباعي حتى تخليت عنا؟ فسمعت صوتاً يجيب: يا حكيم أن اتباعك الذين حافظوا على عهودهم وظلوا معك يناصرونك ولم يتخلوا عنك في ساعة الحرج، أولئك هم الذين سأنجيهم وأنصرهم، وأولئك هم الذين سيقاسمونك غنائم أعدائهم الطغاة وأموالهم. انتظر حتى يبزغ القمر الجدي، فإذا بزغ فأمرهم أن يحفروا خنادق في الأرض كثيرة فيسقط أعداؤهم فيها ويهلكون
ففعلوا ما أمروا به، وحفرت الخنادق وألقى فيها مقادير هائلة من الجير، ووضع على حافاتها أوان من النحاس كبيرة ملئت زيوتاً قابلة للاشتعال
وعندئذ أقام حكيم حفلاً كبيراً دعا إليه أنصاره فأكلوا وشربوا من الخمر الذي قدم إليهم
ولكنهم لم يلبثوا أن وقعوا على الأرض صرعى يألمون اشد الألم من السم الزعاف الذي مزجت به الخمر، ثم فارقوا الحياة. وكان حكيم وحده لم يذق هذه الخمر فاخذ جثثهم وألقاها في الخنادق ليتلفها الجير ثم سكب عليها الزيوت وأشعل فيها النيران؛ فلما تصاعدت أعمدة اللهب والدخان قفز فوق اتباعه فاحترق وكان من الهالكين
وفي اليوم التالي تقدم الخليفة وجيوشه صوب المدينة وأرادوا اقتحامها ولكنهم عندما اقتربوا من أبوابها وجدوها مفتوحة على مصراعيها بغير حراسة، فوقفوا قليلاً وترددوا خشية أن يقعوا في كمين أعد لهم؛ ثم دخلوها بعد قليل فإذ بها خالية من الناس، وإذا بالنبي وأتباعه جميعاً قد هلكوا إلا امرأة واحدة ن حظايا حكيم
قصة يكاد العقل يأبى تصديقها لغرابتها، وهي تبين المدى البعيد الذي يذهب إليه الناس أحيانا طمعا في الشهرة وبعد الصيت
تعليق
هذه هي القصة كما كتبها نابليون وهي تتفق في جملتها مع الرواية العربية التي سنأتي(454/10)
بخلاصتها في الأسطر التالية:
ظهر المقنع كما يقول ابن الأثير في حوادث سنة تسع وخمسين ومائة بمدينة خراسان، وكان رجلاً اعور قصيراً من أهل مرو يسمى حكيما. وكان قد اتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه لئلا يرى، فسمي المقنع وادعى الألوهية، ولم يظهر ذلك إلى جميع أصحابه. وكان يقول بالتناسخ فيزعم أن الله خلق آدم فتحول في صورته ثم في صورة نوح وهلم جرا إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إلى هاشم؛ وهاشم في دعواه هو المقنع. وتبعه خلق كثير من ضلال الناس؛ وكانوا يسجدون له من أي النواحي كانوا؛ واجتمع إليه خلق كثير وظهرت المبيضه ببخاري والصفد معاونين له
وكان يعتقد أن أبا مسلم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل المهدي إليه أبا النعمان والجنيد وليث بن نصر فحاربوه مرة بعد مرة، ثم انفذ إليه جبرائيل بن يحيى وأخاه يزيد فاشتغلوا بالمبيضة الذين كانوا بنحارى فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكت فقتل منهم سبعمائة منهزموهم بالمقنع؛ ثم سير المهدي أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ في قتاله واستعمل معاذ بن مسلم
وفي سنة إحدى وستين ومائة سار معاذ بن مسلم وجماعة من القواد والعساكر إلى المقنع وأوقعوا بأصحابه وهزموهم، وقصد المنهزمون إلى المقنع بسبام فعمل خندقها وحصنها. ووقع بعد ذلك نفرة بين معاذ واحد القواد وهو سعيد الحرشي فكتب الحرشي إلى المهدي يقع في معاذ ويضمن له الكفاية أن أفراده بحرب المقنع؛ فأجابه المهدي إلى ذلك، فحاصر المقنع وأطال الحصار، فطلب أصحاب حكيم الأمان سراً فأجابهم الحرشي إلى ذلك فخرج نحو ثلاثين ألفاً، وبقي مع المقنع زهاء ألفين من أرباب البصائر. وتحول رجاء بن معاذ وغيره فنزلوا خندق المقنع في أصل القلعة وضايقوه. فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وأهله وسقاهم السم فأتى عليهم، وأمر أن يحرق هو بالنار لئلا يقدر على جثته. وقيل بل احرق كل ما في قلعته من دابة وثوب وغير ذلك؛ ثم قال من احب أن يرتفع معي إلى السماء فليلق نفسه في هذه النار. وألقى بنفسه مع أهله ونسائه وخواصه فاحترقوا. ودخل العسكر القلعة فوجدها خاوية، وكان ذلك مما زاد في افتتان من بقي من أصحابه والذين يسمون المبيضة فيما وراء النهر، إلا انهم يسرون اعتقادهم. وقيل بل شرب هو أيضاً من السم(454/11)
فمات. فأنفذ الحرشي رأسه إلى المهدي فوصل إليه وهو بحلب سنة ثلاث وستين ومائة في غزواته
وقد كانت هذه الرواية وغيرها معروفة على الأرجح في القرن الثامن عشر عند أكثر الأدباء الغربيين فاستهوت أفئدتهم وأثارت أخيلتهم لغرابتها وطرافتها، ولانتحار المقنع هذا الانتحار المروع، فاتخذها بعض الأدباء والشعراء موضوعا لقصصهم وأشعارهم. ولعل أشهر من تناولها بشيء من الاحتفال والعناية في القرن التاسع عشر هو الشاعر الإنكليزي المشهور توماس مور (1779 - 1852) وهو صديق الشاعر الكبير لورد بيرون وكاتب ترجمة حياته ورسائله. وقد افرد لقصة المقنع الجزء الأول من قصيدته الكبرى فأثنى النقاد على هذه القصيدة ثناء عظيما لدقة وصف الشاعر للبلاد الشرقية وروحها؛ ولكن هازلت الناقد المعروف أنكر شاعريتها ورأى فيها من آثار الصنعة أشياء كثيرة تفوق ما انطوت عليه القصيدة من روح شعرية صافية
إبراهيم عبد الحميد زكي(454/12)
اختباراتي في الأحلام
للدكتور محمد حسني ولاية
أن الأخذ بنظرية خاصة في تفسير الأحلام لا يؤدي إلى نتائج صحيحة في كثير من الاحوال؛ فمرامي الإنسان كثيرة التشعب وظروفه مستمرة التقلب، وأهدافه تتغير بتغير الظروف والملابسات وتفاوت السن، وتطور العقلية بحيث يكون من الخطأ أن يولي الحالم القبلة التي يرتضيها مفسر الحلم تبعاً لنظريته.
وإني أرى أنه لا توجد نظرية واحدة يمكن تفسير جميع الأحلام بمقتضاها. ونحن لا نستطيع أن نقول: أن كل حالم ينشد إرضاء رغبات طفلية محتبسة في العقل الباطن، أو أنه يسعى إلى توكيد أهمية ذاته في الحلم، كما أنا لا نستطيع أن نجزم بأن الأحلام التي تنشأ مما يسميه يونج (اللاوعي الشامل) تتحدى أية محاولة لتبريرها.
أن ما لا نستطيع تبريره ليس معناه أنه لا يمكن تبريره والتدليل عليه. ولا ينبغي لنا أن نقول: أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة لانا لم نستطع الوصول إليها؛ فما زال مجال البحث والاستقصاء متسعا، وما زالت العقلية البشرية تسمو نحو الكمال رويداً رويداً على مر الزمن.
على أن هذا ليس من شأنه أن يبخس النظريات التي وضعها علماء النفس حقها، إذ يكفيهم فخراً أنهم فتحوا أذهاننا للبحث، واستكشفوا آفاقاً مجهولة من العقل البشري، وأرسلوا بصيصاً من النور على كثير من الحقائق. ومع ذلك فإن بعض النظريات التي وضعت تصلح لتفسير بعض الأحلام دون البعض الآخر. ومن الممكن أن يفسر حلم واحد على أساس نظريتين أو أكثر نظراً لتعدد جوانب بعض الأحلام وتشعب مراميها.
كثير من الأحلام تافه القيمة من الوجهة النفسية، فهو أشبه بالأحاديث العادية التي يدلي بها الشخص بمناسبة وبغير مناسبة، لأنه لا يستطيع الصمت في اغلب الأحوال، فلابد أن يقول شيئاً أيا كان للتفريج عن الطاقات الفائضة في نفسه.
وقد تعبر الأحلام على وتيرة الأحاديث البادية أو على نمط الرموز البدائية أو على نهج الأفكار والنزعات الطفلية. على أو لبعض الأحلام قيمة المقطوعات الشعرية الرائعة، أو الصور الزيتية الجميلة، أو النغمات الموسيقية الساحرة.(454/13)
يستفسر بعض الناس عن السبب في كونهم لا يرون أحلاماً إلا فيما ندر؛ ورداً على هذا أقول: أنه قد يكون راجعاً إلى كون الطاقة الكاتبة (الرقيب الحلمي) لديهم قوية بحيث لا تستطيع المنبهات الكامنة في العقل الباطن التعبير عن نفسها، وقد يؤدي احتباسها في السريرة إلى القلق.
ومن الناس من يعبرون في اليقظة عن أفكارهم ووجدانهم وعواطفهم بوسائل تشبه وسائل الرجل الفطري الذي يستعين بالرموز ويعتقد في السحر لأن قواهم الكاتبة ضعيفة، وهذا يؤدي إلى طغيان عقلهم الباطن على عقلهم الواعي، فتبدوا أفكارهم عجيبة لا يهضمها المنطق لكونها مؤسسة على البدوات مفتقرة إلى الانسجام والتماسك. وقد يبلغ بعض هؤلاء ذروة الذكاء ولكنهم مع ذلك يشبهون الأطفال في تصرفاتهم ولا يستطيعون تكييف أنفسهم للبيئة. ولما كان هؤلاء يعبرون باستمرار عما يدور في سرائرهم في حالة اليقظة فهم لا يدخرون طاقات عقلية مستفيضة تسعى إلى التعبير عن نفسها إبان النوم في شكل أحلام.
وهاك بضعة أحلام وتفسيرها بإيجاز:
1 - رأى شاب شارع في الزواج أنه موجود في غرفة بيضاء مستديرة الشكل، وقد دهش في الحلم من طراز الغرفة ولعدم وجود أبواب لها.
وقد قال لي أنه عندما استيقظ فطن إلى أن الغرفة تشبه صندوق الحلوى الذي يوزع على المدعوين بعد تحرير عقود الزواج
وفي نفس الليلة رأى في حلم آخر فريقا من السيدات والرجال والأطفال مجتمعين على شكل دائري، وكان هو خارج الدائرة، ثم ما لبث أن نفذ كالسهم إلى داخلها.
إذا أنعمنا النظر في هذين الحلمين اتضح لنا أن الأول يعني عقد الزواج وما يصحبه من توزيع صناديق الحلوى. كما أن وجوده في غرفة لا أبواب لها يعني أن هذا العقد قيد لا مخرج منه.
ويمثل الحلم الثاني الزواج نفسه، فالدائرة ترمز إلى عضو الانوثة، والاشخاص يمثلون المحتفلين بالعرس، ويعني الدخول إلى الدائرة العملية الجنسية ذاتها
2 - خطبت شقيقة صديق لي إلى شاب ثم ألغيت الخطبة، وقد قص علي الحلم الآتي:
(رأيتني في قاعة إلى جانب شقيقتي، وجلس إزائي الأستاذ أحمد بدرخان والسيدة أسمهان،(454/14)
وبعد مدة وجيزة اقبل كلبان توأمان ورقصا على نغمات موسيقية)
المقصود من هذا الحلم التحذير من إتمام صفقة الزواج، إذ هو يعني أنه إذا تم الزواج فمصيره إلى الإخفاق مثلما اخفق زواج الأستاذ بدرخان بالسيدة أسمهان. أما الكلبان التوأمان فدخيلان على الحلم. والسبب في رؤية الحالم لهما أنه كان يقرأ موضوعاً عن التوائم في الليلة التي رأى فيها الحلم؛ على أن رقصهما على النغمات الموسيقية يقصد به التعبير عن السرور بالتخلص من خطيب غير مرغوب فيه
3 - طلب شاب منذ عشر سنوات يد فتاة فرفضته فتزوج بفتاة أخرى. وقد رأت الفتاة الأولى على أثر إصابة الشاب بكارثة منذ عهد قريب أنها تلبس حذاء ذا كعب مكسور ثم خلعته وناولته زوجة الشاب
يرمز الحذاء في هذا الحلم إلى الزواج، وتقصد الحالمة به تحقير خطيبها السابق، ويمثل الكعب المكسور الكارثة؛ وكأن الحالمة تقول لخطيبها السابق: (الآن أسلمك للفتاة التي تليق بك فما أنت أهل لي بسبب وقوعك في الكارثة التي تمخضت عنها تصرفاتك الشائنة)
واضح من هذا الحلم أنه يمزج حوادث ماضية بأخرى حديثة، فالعقل الباطن لا يعي الزمن وليس لمحتوياته انسجام ولا ترتيب
4 - رأى شاب أنه يسير نحو هوة سحيقة بمحض اختياره على الرغم من أنه يعلم أن تصرفه يؤدي بحياته. وقد قضى نحبه في اليوم التالي للحلم بأن سار نحو مركبة كهربائية في شبه ذهول فاصطدمت به
وهكذا تغلبت رغبات العقل الباطن على ميول العقل الواعي لأنه كانت مزودة بطاقات انفعالية كبيرة. وقد كان عيشه رغيدا فلم يكن هنالك داع لالتماسه الموت، ولكن الميول المحتبسة في العقل الباطن من زمن بعيد عبرت عن نفسها بطريقة عملية فانتهت حياته إلى هذه النهاية المريرة
5 - رأت فتاة مخطوبة أنها تملأ طبقاً بأوراق من شجرة سلق بدت في الحلم على هيئة شجرة عنب، وقد دهشت من شكلها لعلمها أن السلق ينمو في شكل عشبي
يمثل هذا الحلم الزواج، فالطبق يرمز إلى عضو الأنوثة، والشجرة عضو الذكورة بما تمتاز به من قوة الزحف والتشبث(454/15)
ولما كان الخاطب أنثوي التكوين مثلته بشجرة السلق، وكانت تريده كشجرة العنب المثمرة، وهي تعني بهذا أنه لا يستطيع إنجاب أطفال
6 - رأت فتاة أنها في قطار يجري بسرعة شديدة بين بساتين دانية القطوف حتى وصل إلى بحيرة جميلة أينعت على صفحتها زهور النبات الطافي، وسبحت فيها قوارب خضراء
يمثل هذا الحلم رغبة الفتاة الدفينة في الزواج وإعقاب الذراري فالقطار يمثل الرجل، والبحيرة ترمز اليها، والقوارب تعني الأطفال
7 - رأت سيدة نفسها ترتدي ثوب الزفاف وتتزين كالعروس. كانت هذه السيدة مريضة بمرض خطير يستدعي إجراء عملية جراحية وكأنها تقول في الحلم: (سأسمح بإجراء العملية الجراحية فإذا شفيت فسأستقبل حياة جديدة)
وقد تحققت نبوءتها، فأجريت لها العملية وشفيت
(البحث الآتي (أحلام اليقظة))
محمد حسني ولاية(454/16)
حاجتنا إلى معهد أثنولوجي
بجامعة فؤاد الأول
للأستاذ محمد جلال عبد الحميد
نعرض في هذه الكلمة الموجزة لضرورة العمل على إنشاء معهد ومتحف بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول يكون الغرض منهما دراسة الإنسان وجميع عناصر نشاطه المادي والروحي في المجتمعات البشرية المحدودة المدنية. وفي هذا المعهد يعني بوجه خاص بدراسة سكان حوض النيل واثر البيئة الجغرافية في حياتهم
وسنتكلم أولاً عن المقدمات والأسباب التي نشأت عنها فكرة وجود معهد الأثنولوجية وملحقاته، ثم ننتقل بعد ذلك للحديث عن الطرق والوسائل والخطوات التي يمكن اتباعها للوصول إلى تحقيق فكرة وجود هذا المعهد، مراعين في ذلك الحالات المادية والمستوى العلمي بمصر في الوقت الحاضر. وفي النهاية نعرض لبرنامج الدراسة فيه وجمع الأشياء وترتيبها بالمتحف
كيف بدأت البحوث الأتنولوجية بمصر
المؤسسات العلمية بمصر
إذا استثنينا بحوث (جيرارد) أحد أعضاء الحملة الفرنسية ووصفه الشامل لبعض نواحي الحياة المصرية، وألقينا نظرة عامة على تاريخ المؤسسات العلمية بمصر، ثم تصفحنا بحوثها الأتنوجرافية وقسنا مجهوداتها لنلمس ما قدمته من فوائد لعلم الاجتماع بوجه عام، ولإتنوجرافية حوض النيل بوجه خاص، وجدنا أن الجمعية الجغرافية الملكية هي أسبق لك المؤسسات إلى تحديد غايتها من حيث العمل على دراسة البيئة الجغرافية والاجتماعية بحوض النيل، إذ نقرأ في منهجها الموضوع عام 1918: أن (الجمعية ترغب بوجه خاص في توسيع وتهذيب البحوث الأتنولوجية):
وجاء في موضع آخر من هذا المنهج أن (البيئة الجغرافية لا تدرس إلا في الحالات التي تتأثر بها طرق حياة الإنسان):(454/17)
' ' '
ولتحقيق تلك الغاية اتبعت الجمعية الجغرافية عدة طرق، منها القيام بعمل بحوث علمية على البيئات الجغرافية بحوض النيل والأمم والقبائل المنتشرة فوقه لتحديد مميزات تلك البيئات ومعرفة اختلاف تلك القبائل والأمم من حيث الجنس والعادات والتقاليد ونوع نشاطها المادي، وأن تتعهد الجمعية بنشر تلك البحوث وإلقاء المحاضرات التي تعالجها. يضاف إلى هذا أنها أنشأت متحفاً بدارها يضم كثيراً من أنواع الحرف والصناعات التي يمكن اعتبارها إلى حد ما من مميزات البيئة المصرية ممثلة في مدينة القاهرة. ولها أيضاً مكتبة غنية بما فيها من كتب ومراجع تاريخية وجغرافية عامة
ولو حاولنا أن نحصي نتائج البحوث العلمية التي قامت بها الجمعية منذ نشأتها إلى اليوم لظهر لنا أن قيمة هذه النتائج محدودة، وخصوصا إذا قيست هذه النتائج بما استنفد فيها من مجهودات في مدة خمس وسبعين تقريباً. إذ أننا لم نر لها بحثاً علمياً كاملاً في أية ناحية من نواحي الحياة المصرية، أو بما له اتصال مباشر بحوض النيل. هذا إذا استثنينا بعض المقالات والفصول التي تظهر بين وقت وآخر في مطبوعاتها؛ فهي أقرب إلى أن تكون إعلانات عن موضوعات يتناولها فيما بعد علماء مختصون يعنون بدراستها دراسة علمية منظمة. ولا تزال تجهل كثيراً من الظواهر الاجتماعية والدينية واللغوية بحوض النيل. ولا تزال تجهل أيضاً كيفية تعليل تلك الظواهر أوضاعها
وأما قسم المحاضرات بالجمعية الجغرافية فإنه لم ينهض لتحقيق الغرض الذي أنشئ من أجله، إذا لم يعمل على تنظيم إلقاء المحاضرات العلمية التي تتناول في مجملها دراسة أحد الموضوعات والمشكلات التي هي وليدة البيئة المصرية وغيرها
ولعل سبب هذا الجمود الملحوظ من جانب الجمعية الجغرافية الملكية يرجع إلى أنها هيئة لم تشرف عليها الحكومة إشرافاً فعلياً لتخصص لها العلماء وتنفق عليها الأموال اللازمة لتحقيق غرضها العلمي كما جاء في برنامجها السالف الذكر. وما دام هذا هو شان هذه الجمعية فلا يحق لنا أن نعول عليها كثيرا وأن نحملها ما لا طاقة لها به من العمل على درس وتحليل البيئات الجغرافية والاجتماعية المختلفة الموجودة بحوض النيل، مع بدل الجهود في جمع وترتيب ما اشتملت عليه العناصر المادية لتلك البيئات. فضلاً عما يطلب(454/18)
إليها من العمل على المساهمة في بناء علم الأتتولوجيا مع المؤسسات العلمية في البلاد الأجنبية
ثروة حوض النيل العلمية
حين يتجول المرء بحوض النيل من منبعه إلى مصبه، ومن شرقه إلى غربه، لا يكاد ينتقل من مكان إلى آخر دون أن يلحظ كثيراً من التشابه تارة، ومن التباين تارة أخرى، بين البيئات الجغرافية والاجتماعية المختلفة. فمن منطقة جبال وغابات وبحيرات في الجنوب، إلى منطقة تلال وصحار في الشمال. وكذلك نشاهد على ضفاف النيل وعلى روافده كثيراً من القبائل الزنجية عراة الأجسام مثل الأشولي والمادي والباري والشلوك والدنكا وغيرهم؛ وفي مناطق أخرى نجد قبائل أفرادها نصف عراة مثل الانجستا والبرتا والتعايشة وما إليهم؛ وفي شمال السودان ومصر نجد العرب والفلاحين وهم خليط من الدم السامي والزنجي وقليل من الدم الآري. ونلاحظ أن كل تلك الجماعات البشرية تختلف كثيراً فيما بينها من حيث التكوين الاجتماعي وعناصر التفكير والشعور واللغة وطرق الحياة؛ وأن من تلك الظواهر ما هو بسيط في تكوينه، ومنها ما هو كثير التعقد والتنوع؛ ولكل من هذه الأمم تاريخ قد يكون حديثاً فيرجع إلى مائة عام أو أقل، وقد يكون قديماً فيرجع إلى آلاف السنين
هذه هي حال الأمم والقبائل التي تسكن الآن حوض النيل. أما رجل ما قبل التاريخ والجماعات التي كونها والآثار التي خلفها فوق هذا الوادي فلا زلنا نجهل حقيقة أمرها. وإن بحوث جاك دي مرجان وهنري دي مرجان وفلندرز بتري وغيرهم تدلنا على أن من الممكن عمل دراسة وافية مقارنة لآثار ما قبل التاريخ بحوض النيل إذا تعددت البحوث وتوفرت الوثائق
من هنا يظهر جلياً ميزة الثروة العلمية الموجودة بحوض النيل، وأنها تفوق بكثير ما عداها من ثروات أوربا وآسيا واستراليا. فنرى مثلاً في أوربا نوعاً واحداً من المدنية هي المدنية الغربية الحالية، وفي استراليا نوعاً واحداً من المدنية كذلك وهي (المدنية المحدودة) وهكذا؛ ولكننا نشاهد بحوض النيل (مدنيات محدودة) عند الأشولي والمادي والأدك وغيرهم، ومدنيات متوسطة مثل مدنية شمال السودان وريف مصر، ومدنيات راقية مثل المدنية(454/19)
المصرية القديمة. ونشاهد أيضاً أن كثيراً من معالم تلك المدنيات لم تزل باقية على حالتها الأولى برغم ما طرأ عليها من عناصر مدنيات أجنبية مختلفة
وإذا عنينا بدراسة تلك المدنيات وأسرعنا في جمع معالمها وتحديد أوضاعها مناطقها تهيأت فرصة طيبة لعلم الاجتماع وعلم تاريخ الأديان والجغرافيا البشرية واللغات وغيرها من العلوم الاجتماعية الأخرى للاستفادة والاستزادة من الأدلة والبراهين في توضيح نظرياتها وتنميتها
تلك هي الفائدة العامة المرجوة من البحوث الأتنولوجية بحوض النيل؛ أما فائدتها لمصر والسودان فإنه يكون من السهل استخلاص العناصر الرئيسية لمدنية كل منهما مع معرفة اتصال تلك المدنيات ببعضها وأثر المدنيات الأخرى فيها، فضلاً عما يكون لتلك البحوث من أثر واضح في توجيه المصلحين الاجتماعيين والدينيين وغيرهم نحو الغاية المنشودة في جهادهم ونضالهم لرفع مستوى الشعب المادي والأدبي. وإذا تعينت أوضاع كل مدنية وحدودها بحوض النيل سهل على أبناء هذا الوادي أن يؤمنوا بحقيقة قوميتهم
(البقية في العدد القادم)
محمد جلال عبد الحميد(454/20)
ابن خُرْدَاذبَه
للأستاذ كوركيس عواد
1 - تصدير
كانت مجموعة التصانيف الثمينة، التي طبعها دي غويه المستشرق الهولندي الذائع الصيت، بعنوان (الخزانة الجغرافية العربية)، قد نالت استحسان جمهرة الباحثين، وتقدير كبار العلماء، ولا مراء أن تلك المؤلفات، سطرت لأصحابها اسماً ذهبياً على جبين الدهر وأبقت لهم ذكراً خالداً. وقد كان اهتمام ناشرها العلامة بتصحيحها ومقابلة روايات نسخها، مدعاةً لإعجاب كل من وقف عليها ومجلبةً لإكبار ما عاناه في تحريرها، ودليلاً على ما اتصف به من علم واسع وصبر جميل
والذي يؤسف له أشد الأسف، أن أكثر مؤلفي هذه (الخزانة) هم من صنف العلماء المغمورين الذين نجهل الشيء الكثير من أمرهم. وحسبك أن تعلم أن أغلب كتب التراجم لم تتعرض لذكرهم، وإن فعلت فبالشح والتقتير! وكان المستشرق المذكور، وقد صرف جانباً من عنايته في التعريف بكل واحد منهم فدوَّن ما وسعه تدوينه؛ ومع ذلك ظلت هاتيك التراجم بحاجة إلى من يتبسط فيها، ويزيل عنها ما هو عالق بها من الاقتضاب. وقام بعد دي غويه من اهتم بهذا الشأن أيضاً، فنشر الأب لامنس ترجمة حسنة للبشاري المقدسي، وتلاه الأستاذ أحمد أمين بك فكتب ترجمة ثانية له. ودوَّن أخي ميخائيل عواد ترجمة وافية لابن حوقل. وهانحن أولاء نعرض على القراء ترجمة (ابن خرداذبه) مستقاة من المراجع الموثوق بصحتها. ومن الله التوفيق
2 - لفظة خرداذبه
اختلفت المراجع القديمة في ضبط لفظة (خرداذبة) أيما اختلاف: فبعضها ضبطها بإسكان الراء، وبعضها بفتحها مع التشديد. ومنها من كتبها بذالين معجمتين بينهما ألف، أو بدالين مهملتين بينهما ألف؛ في حين أن فريقاً آخر جعل من الدال الثانية ذالاً معجمة، وهي الأوفق. فإن الكلمة فارسية على ما تجيء بنا، والدال الواقعة بعد حرف علة تُعْجَم على القاعدة المشهورة. وهناك من أورد الباء مكسورة، أو من أوردها مفتوحة، أو من جعلها(454/21)
ياء، فقد قال السيد مرتضى الزبيدي: (خرداذيه: بضم الخاء وسكون الراء وفتح الدال بعدها ألف وكسر الذال وسكون الياء التحتية وآخره هاء)
وهنالك اختلافات عديدة غير ما ذكرنا، حصلت من جراء التلاعب بأحرف لفظة (خرداذبه). ونحن على يقين من أن أغلب ذلك إنما جاء على أيدي جهلة النساخ. ومما وقفنا عليه من الصور الممسوخة لهذه اللفظة: جرداذه، وجرداذبه، وجرداويه، وحرادو، وحراذيه، وحرداديه، وخرداذبه، وحردازبه، وخراداذبة، وخرداد، وخردادة، وخردادية، وخرداذه، وخرزاد، ودارية!
فهذه اثنتان وعشرون صورة مضطربة مشوشة، جرت على أسل الكتبة والنساخ، وإنما أوردناها بهذا الوجه من التفصيل ليكون القارئ على بينة من أمرها حين مراجعته المصنفات التي نوهنا بها في الحواشي
وفي عجم ريشاردسن الفارسي - العربي - الإنكليزي تفسير لمعنى لفظة خرداذبة. قال: أن معنى (خرداذ) بالفارسية مَلاَك، و (بًه)، والباء موحدة مفتوحة: جيد أو صالح. فيكون مدلول اللفظة: الملاك الصالح
نخرج بالقارئ مما ذكرنا آنفاً، أن أحسن الوجوه وأصحها في كتابة هذه التسمية الأعجمية هو (خرداذبه) بالضبط الذي نقلناه عن صاحب التاج مع مراعاة تصحيح الياء المثناة باء موحدة مفتوحة
3 - من عرف باسم خرداذبة
ويحدثنا التاريخ، أنه نشأ غير واحد ممن عرف بهذه التسمية هدانا البحث إلى أسماء خمسة منهم، ودونك شيئاً عنهم:
الأول - خرداذبة الرازي الراوي: ذكره الطبري في حوادث سنة 31 للهجرة. وهذا لا يمت بصلة ما إلى الأربعة الآخرين الآتي ذكرهم.
الثاني - خرداذبة: جد أسرته الأعلى. وهو رجل فارسي من بلاد خراسان، كان في أول عهده مجوسياً، ثم أسلم على يد البرامكة. وهو أول من أسلم من أفراد أسرته.
الثالث - أبو عبد الله ابن خرداذبة: وهو ابن لخرداذبة المتقدم ذكره. لم نقف على ما يستحق التدوين من أخباره.(454/22)
الرابع - عبد الله ابن خرداذبة ابن السابق ذكره. وهذا قام بفتوحات مهمة، وأسند إليه منصب كبير في عهد العباسيين، أعني به ولاية طبرستان. فقد روي الطبري، وتابعه في ذلك ابن الأثير، وأبو الفداء، في حوادث سنة 201 للهجرة، أن (في هذه السنة، افتتح عبد الله بن خرداذبة، وهو وآلي طبرستان، اللارز والشرز من بلاد الديلم، وزاهدما في بلاد الإسلام. وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شروين عنها، فقال سلام الخاسر:
إنما لنأمل فتح الروم والصين ... بمن أذل لنا من مُلك شروين
فاشدد يديك لعبد الله إن له ... مع الأمانة رأيا غير موهون
وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليلى ملك الديلم في غير عهد في هذه السنة). انتهى كلام الطبري
وقد تعرض ابن كثير لهذه الحادثة دون أن يذكر ابن خرداذبه وهذا نص كلامه: (وفيها (سنة 201هـ) افتتح نائب طبرستان جبالها وبلاد اللارز والشيرز (كذا). وذكر ابن حزم أن سلماً الخاسر قال في ذلك شعراً. وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن سلماً توفي قبل ذلك بسنين. فالله أعلم) أهـ
وقد أشار إليه الشابشتي بقوله: (فذكر عبد الله ابن خرداذبه، أنه حضر مجلس المأمون يوماً، وقد عرض عليه أحمد بن أبى خالد رقاعاً. . .)
وذكره أبو الفرج الأصفهاني بما يلي: (أخبرني الحرمي قال: حدثنا الديناري قال: حدثنا إسحاق قال: قالت لي زهراء الكلابية: ما فعل عبد الله بن خرداذبه؟ فقلت: مات! فقالت: غير ذميم ولا لئيم. غفر الله لصداه لقد كان يحبك ويعجبه ما سرك. . .)
الخامس - أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه. وهو الذي عليه مدار كلامنا في هذا البحث
4 - عبيد الله بن خرداذبه
وهذا أشهر من ذكرنا من هؤلاء القوم، وأعظمهم مكانة، وأبقاهم اسماً. كان قد أنيط به منصب (صاحب البريد والخبر) بناحية الجبل بفارس. على أن ما زاد في شهرته وتخليد اسمه في التاريخ، هو المؤلفات التي صنفها، وسيأتي الكلام عليها في موطن آخر من هذا المقال(454/23)
وكان ابن خرداذبه قد نادم (المعتمد) خامس عشر الخلفاء العباسيين وخص به. وقد ساق المسعودي (المقالة الموسيقية) لابن خرداذبه، ومما جاء في ثناياها قوله:
(وذكر عبيد الله بن خرداذبه أنه دخل عليه (على المعتمد) ذات يوم وفي المجلس عدة من ندمائه من ذوي العقول والمعرفة والحجى؟ فقال له: اخبرني من أول من اتخذ العود؟ قال ابن خرداذبه: قد قيل في ذلك يا أمير المؤمنين أقاويل كثيرة. الخ)
إلى أن يقول: (قال المعتمد: قد قلت يخاطب (ابن خرداذبه) فاحسنت، ووصفت فأطنبت، وأقمت في هذا اليوم سوقا للغناء وعيدا لأنواع الملاهي. وإن كلامك لمثل الثوب الوشي، يجتمع فيه الأحمر والأصفر والأخضر وسائر الألوان. فما صفة المغني الحاذق؟ قال ابن خرداذبه: المغني الحاذق يا أمير المؤمنين. . . الخ)
ويختم المسعودي الحكاية بقوله:
(فهذه - يا أمير المؤمنين - جوامع في صفة الإيقاع ومنتهى حدوده. ففرح المعتمد في هذا اليوم وخلع على ابن خرداذبه وعلى من حضره من ندمائه، وفضله عليهم، وكان يوم لهو وسرور)
(يتبع - بغداد)
كوركيس عواد(454/24)
في الفلسفة الإسلامية:
إخوان الصفاء
للأستاذ عمر الدسوقي
- 4 -
النفس الإنسانية
تستعد النفس الإنسانية قوتها من النفس الكلية؛ ومراتب النفوس ثلاثة أنواع: منها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما فوقها وما دونها. والمعروف من هذه النفوس خمس، فالتي فوقها اثنتان: رتبة الملكية، ورتبة القدسية، فرتبة الملكية هي رتبة الحكمة، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة. والتي دونها اثنتان: النفس الحيوانية والنفس النباتية
ومن الأخلاق والقوى ما ينسب إلى النفس النباتية الشهوانية، ومنا ما ينسب إلى الحيوانية الغضبية، ومنها ما ينسب إلى النفس الإنسانية الناطقة، ومنها ما ينسب إلى النفس العاقلة الحكيمة، ومنها ما ينسب إلى القدسية. فالمنسوب إلى النباتية: الغذاء، والرغبة في المشروبات، والحرص في طلب الشهوات. والمنسوب إلى الحيوانية الغضبية: الشهوة الجنسية، والانتقام، وشهوة الرئاسة، وكل الغرائز الشهوانية، والمحافظة على بقاء النوع؛ ويشترك في هذه الحيوان والإنسان. والمنسوب إلى النفس الناطقة: شهوة العلم والمعرفة، والعز والرفعة. والمنسوب إلى الملكية والقدسية: شهوة التقرب لربها والزلفى لديه. والسبب في وجود هذه الغرائز بنفوسنا أنه يوجد في المعلول دائماً شيء من العلة، فإن انعدم في المعلول سبب أو غير ذلك فهي كما في الحيوان والنبات؛ والله الذي هو علة الوجود حي باق لا يعرض له الفناء، ولهذا صارت الموجودات محبة للبقاء كارهة للفناء؛ ولهذه فالسعادة هي أن يبقى كل موجود أطول ما يمكن على أفضل حالاته وأتم غاياته لا ينقصه شئ؛ حتى يكون شبيهاً بالإله
الفضيلة
إذا ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركزة في الجبلة، وكانت على ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي من أجل ما ينبغي سميت خيراً؛ ومتى كانت بخلافه سميت شرا. وإذا فعل(454/25)
الإنسان ذلك باختياره وإرادته على ما ينبغي بمقدار ما ينبغي، من أجل ما ينبغي، كان صاحبه محموداً؛ ومتى كان بخلاف ذلك كان سفيهاً جاهلا وكل نفس خادمة للنفس التي أعلى منها، وصلاحها في امتثالها لأوامرها
قوى النفس
وللنفس الإنسانية قوى كثيرة تساعدها على أن تصير عقلا بالفعل، وأفضلها القوى المفكرة لأنها تؤدي إلى المعرفة، والمعرفة لباب حياة النفس. ونفس الطفل في أولها صحيفة بيضاء لم ينقش عليها شيء، وكل ما تحمله إليها الحواس الخمس تتناوله القوة المتخيلة وتجمعه، ومجرى هذه القوة مقدم الدماغ، ثم تدفعه إلى القوة المفكرة ومسكنها وسط الدماغ، وهي تميز بعضه من بعض وتعرف الحق والباطل، ثم تؤديه إلى الحافظة التي مجراها مؤخر الدماغ. والقوة الناطقة تعبر عما في النفس بالألفاظ للسامعين، أو تقيدها بصناعة الكتابة، فيكون للنفس خمس حواس باطنة تقابل الخمس الظاهرة
الموت والحياة
الإنسان مكون من جسم ونفس روحاني، والجسم يريد البقاء في الدنيا، والنفس الروحانية تريد الرحيل إلى الآخرة؛ وعلى هذا فالموت والحياة نوعان: جسدي ونفساني، والحياة الجسدية ليست شيئا سوى استعمال النفس الجسد، والموت الجسدي ليس شيئاً سوى تركها استعماله؛ كما أن اليقظة ليست شيئاً سوى استعمال النفس الحواس، وليس النوم شيئاً سوى تركها استعمالها، أما النفس فحياتها ذاتية لها، وذلك أنها بجوهرها حية بالفعل علامة بالقوة فعالة في الأجسام والأشكال، وموتها هو جهالتها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، وذلك عارض لها من شدة استغراقها في بحر الهيولي، فكما أن ولادة الطفل ليست شيئاً سوى خروجه من الرحم، فكذلك ولادة النفس ليست شيئاً سوى مفارقة النفس إياه، والنفس لا تعرف السعادة إلا بعد ما تفارق الجسم، وعلى ذلك فالموت حكمة لأنه سبب لحياة الأبد
وبعد مفارقة النفس الجسد تبقى الشقية هائمة بهمومها معذبة دون فلك القمر، سائحة في بحر الهيولي، هاوية في عالم الكون والفساد مع أبناء جنسها من الأمم الخالية إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين: (كلما دخلت أمة لعنت أختها)(454/26)
وهذه هي جهنم عند أخوان الصفاء، ونراهم يتابعون فلاسفة اليونان والمسلمين في قولهم يحشر الأرواح دون الأجسام، وإن العذاب عذاب الروح لا الجسد. ولقد رد عليهم الغزالي في تهافت الفلسفة رداً لا باس به
أما النفوس الخيرة عند أخوان الصفاء فتصعد إلى عالم الأفلاك وتصير ملائكة بالفعل، وهذه هي الجنة عندهم؛ والثواب هنا ثواب روحي لا جسدي. ولقد فصل الفارابي هذه النظرية في مدنيته الفاضلة ووضحها ابن سينا في النجاة والشقاء
خلود النفس
يعتقد إخوان الصفاء اعتقاداً جازماً الأجساد حبس للنفوس أو حجاب لها أو صراط أو برزخ، والنفوس تعلم تمام العلم بأن لها وجوداً آخر خيراً وأبقى وألذ وأحسن من هذا الوجود والبقاء الذي مع الجسد، فإذا استتمت الأنفس الجزئية وكملت صورتها ومعارفها، واستيقظت من هذه الغفلة وأحست بغربتها في هذا العالم الجسماني وأنها في أسر الطبيعة تائهة في بحر الهيولى، وعرفت فضيلة جوهرها ونظرت إلى عالمها، وشاهدت تلك الصور الروحانية المفارقة للمادة، إذا أدركت هذا كله هانت عليها مفارقة الجسد وسمحت بإتلافه وفي هذا سعادتها
وموت النفس هو جهلها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، والنفوس السعيدة هي التي قطعت أيام الحياة الدنيا بالأعمال الصالحة وسارت سيرة عادلة، وتخلقت بأخلاق جميلة، وبحثت عن حقائق المعقولات وأحكمتها؛ فإذا ما بلغت آخر العمر اشتاقت إلى مفارقة هذه الحياة، فلو لم يكن الموت لما أمكنها الصعود إلى ملكوت السماء ولا الوصول إلى الجنة
وعلى العكس من ذلك نفوس الأشقياء، فإنها بما اعتادته من لذات هذه المحسوسات، وقد منعت الوصول إليها والعودة للجسم نقول: (يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) وتبقى متألمة بذاتها معذبة من سوء عاداتها دون فلك القمر
وعلى هذا فالنفوس البشرية الخيرة ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل. والنفوس الشريرة شياطين بالقوة فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل
أما يوم القيامة ونهاية العالم فيكون بمفارقة النفس الكلية للعالم ورجوعها إلى الله
الله والعالم(454/27)
لما كان الله تام الوجود كامل الفضائل عالماً بالكائنات قبل كونها، قادراً على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته فلا يجود بها ويفيضها؛ فإذا بواجب الوجود قد أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض النور والضياء من عين الشمس. والله سبحانه لا يباشر الأفعال بذاته، بل يقتصر على الأعمال الكلية، أما التفصيلات فيدعها لملائكته الموكلين (وما أمْرُنا إلا واحدةٌ كلمحٍ البصر)، ويقول تعال كذلك: (وما خلْقُكُم ولا بعْثُكُم إلا كنفْس واحدة). ونسبة الأفعال التي تجري على أيدي عباده إلى الباري سبحانه كنسبة أفعال الملوك إذا قيل بني فلان الملك مدينة كذا، وحفر نهر كذا، فهؤلاء الملوك قد أمروا فقط، أما مباشرة العمل فتركت لغيرهم
وعلم الله تعالى محيط بما يحوي العقل من المعقولات، والفعل محيط بما تحوى النفس الكلية من الصور، والنفس محيطة بما تحوى الطبيعة من الكائنات، والطبيعة محيطة بما تحوى الهيولي من المصنوعات
تأثير أخوان الصفا
قد بينا سابقاً تلك الدعاية المنظمة التي قام بها أخوان الصفا لحمل الناس على الدخول في مذهبهم، وقد أدى نشر هذه الرسائل الآنفة الذكر إلى نشر الفلسفة ومبادئها، واشتغال الناس بها؛ إذ كتبوها بلغة سهلة تناسب عقلية الجمهور، ومزجوها بالدين مقتبسين كثيراً من آي القرآن الكريم حتى لا ينفرون منها، ووضعوا فيها مبادئ عامة من كل فن، فكانت من الوجهة العلمية موسوعة احتذى حذوها كثير من المؤلفين فيما بعد
وقد حملت الرسائل على رجال الدين والفقه، وأدى ذلك إلى اشتغال كثير من هؤلاء بالرد عليهم وتكفيرهم كابن تيمية وابن حجر وغيرهما. ثم أن رسائل إخوان الصفا كانت أول محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة، تلك الخطة التي اقتفاها الفارابي وابن سينا وابن رشد فيما بعد، والتي تأثروا فيها بإخوان الصفا كما تأثر هؤلاء بالأفلاطونية الحديثة بعد أن تنصرت ونقلها السريان إلى لغتهم محاولين أن يتخذوا منها دعامة لتأييد مذاهبهم المتعددة. . .
والرسائل كانت دستورا لطائفة الإسماعيلية كما رأينا من قبل فيها رموز وإشارات(454/28)
واصطلاحات لا يعرفها إلا الأتباع المخلصون. على أن هناك طائفة ممن اشتهروا بالعلم والفلسفة قد تأثروا بهم ومنهم: أبو حيان التوحيدي، وقد عرفنا أنه كان الصلة بين جماعة البصرة وجماعة بغداد، وقد اتهم بالزندقة من أجل ذلك، حتى جاء في طبقات الشافعية ما يأتي: (زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري)، ومنهم يحيى بن عدي المترجم المشهور والذي كان أحد أعضاء فرقة بغداد، وقد نشرت له مجلة اللغات السامية الأمريكية كتاباً في تهذيب الأخلاق تشبه تعاليمه ما عند أخوان الصفا في كثير من الموضوعات: ومنهم كذلك جماعة بغداد ورئيسهم السجستاني أبو سليمان وقد رأينا كيف أن أبا حيان قد اخذ رسائل إخوان الصفا وعرضها عليه؛ وعرفنا ما قاله أبو العلاء المعري فيهم عند مغادرته بغداد وكيف سماهم إخوان الصفا
نعم أن الغزالي يعرض بفلسفة أخوان الصفا، ويعدها فلسفة العامة من الناس، بيد أنه لا يتحرج من الاقتباس منها، وهو مدين لفلسفتهم بأكثر مما يعترف
(بيروت)
عمر الدسوقي(454/29)
آثار من أولية الشعر
في الشعر الجاهلي
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ظهرت في عصرنا دعوى عريضة، يذهب أصحابها إلى إنكار صحة الشعر الجاهلي، وكان من أكبر ما قامت عليه تلك الدعوى أن هذا الشعر على حسب ما روي لنا يخالف سنة النشوء والارتقاء فيظهر أول ما يظهر بالغاً غاية الكمال، لا شئ ينقصه من جهة الوزن، ولا من جهة القافية، ولا من جهة اللفظ، ولا من جهة المعنى، ومثل هذا لا يمكن قبوله، لأن سنة النشوء والارتقاء من السنن الطبيعية التي لا يشذ شيء عن حكمها، ويجب إنكار ما يأتي على خلاف مقتضاها
فإذا قيل لهؤلاء الناس أن هذا الشعر الجاهلي كان قبله شعر قديم لم يصل إلينا، وقد مر هذا الشعر القديم في أطوار تدرج فيها على سنة النشوء والارتقاء، حتى وصل إلى هذا الشعر الجاهلي فجرى أمره على تلك السنة أيضا، ولم يكن فيه شذوذ عنها، يتخذ ذريعة الى إنكار صحته، والطعن في نسبته إلى عصره
إذا قيل لهم هذا قالوا أن هذا الشعر القديم حديث خرافة أيضا، لأنه لو صح وجوده لكانت له آثار ولو قليلة في الشعر الجاهلي، ولم ينقطع أثره هكذا مرة واحدة، لأن هذا يخالف سنة النشوء والارتقاء أيضاً، فهي كما تقضي بالتدرج من غير الأصلح إلى الأصلح، تقضي ببقاء آثار قديمة فيما تتدرج اليه، لتكون شاهدة بهذا التدرج، وهي المعروفة في مذهب النشوء والارتقاء باسم الأعضاء الأثرية
ولاشك أن هذا اعتراض له قيمته، لأنه يقوم على شاهد من العلم، فلا يقوم في وجهه إلا شاهد يعتمد على العلم كما يعتمد ويتفق مع ما يقضي به مذهب النشوء والارتقاء من سنة التدرج ولا يكفي في إثبات ذلك الشعر القديم الإشارة إليه في مثل قول امرئ القيس:
عُوجَا على الطَّل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابنِ خذامِ
وقول عنترة:
هل غادرَ الشعراءُ من مُترَدَّمِ ... أم هل عرفتَ الدار بعد توُّهمِ
وقول زهير:(454/30)
ما أُرانا نقول إلا مُعاراً ... أو معاداً من لفظنا مَكرُورا
لأنه لا قيمة لهذه النصوص إذا لم يوجد في الشعر الجاهلي آثار من ذلك الشعر القديم تشهد بوجوده، وتبين بعضاً من حاله قبل أن يصل إلى طور الشعر الجاهلي، لأنه لا يعقل أن يطفر الشعراء كلهم إلى هذا الطور كما طفر مهلهل وامرؤ القيس وغيرهما من القدماء، ولا يوجد بينهم متخلفون قد تبثوا بشيء مما كان عليه الشعر قبل هذا الطور
فذلك الشعر القديم لابد أنه لم يكن مستقيم الوزن، ولم يكن يجري على هذه البحور التي يجري عليها الشعر الجاهلي، فأين أثر ذلك في هذا الشعر؟
وهو أيضاً لابد أن يكون مضطرب القافية، لا يجري فيها على سنن مطرد، ولا يتأنق فيها كما تأنق الشعراء الجاهليون، فأين اثر ذلك في شعرهم؟
فإذا كان ذلك الشعر قد وجد حقاً، فانه لابد أن يبقى اثر من فساد وزنه وقافيته في الشعر الجاهلي، حتى يكون دليلاً ناطقاً بأنه درج على سنة الدرج، ويكون لوجوده فيه دلالة الأعضاء الأثرية على أصلها، وهي دلالة لا تقبل شكا، ولا يمكن أن يجادل فيها أولئك الذين ينكرون صحة الشعر الجاهلي.
وقد عثرت على بعض من هذه الآثار في هذه الأيام، ولا أنكر أنها في كتب متداولة بين الناس، ولكنهم يمرون عليها ولا يعرفون قيمة دلالتها، ولا يلتفتون إلى أنها آثار من ذلك الشعر القديم الذي انطوى عنا خبره، ولا يدركون أن منزلتها في الدلالة على ذلك الشعر، كمنزلة تلك الآثار المطوية في بطون الأرض، في دلالتها على تاريخ آبائنا الأقدمين.
وممن وجد في شعره بعض هذه الآثار عبيد بن الأبرص، وهو شاعر قديم معاصر لمهلهل وامرئ القيس، وقد روي صاحب الأغاني عن محمد بن سلام أنه قال:
عبيد بن الأبرص قديم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب لا أعرف له إلا قوله:
أفقرَ من أهله مَلْحوبُ
ولا أدري له ما بعد ذلك
وهذه القصيدة التي ذكرها ابن سلام أشهر قصائد عبيد ابن الأبرص، ولكنها مع هذا مضطربة الوزن، مختلة القافية، ولا يزال علماء العروض مختلفين في أمرها، فمن قائل(454/31)
أنها من البسيط، ومن قائل أنها من الرجز، ومن قائل أنها خليط منهما، وذلك أنك تراه يقول في مطلعها:
أقفر من أهله ملحوبُ ... فالْقُطَّيِبَّاتُ فالذّنُوبُ
وهذا من مخلع البسيط، ثم تراه يقول:
أفلحْ بما شئت فقد يُدرَكُ بالض ... عفِ وقد يُخْدَعُ الأريبُ
وشطره الأول من الرجز، وشطره الثاني من مخلع البسيط
ثم يقول بعد هذا في اختلال وزن واضطراب قافية:
لا يعظ الناسُ من لا يعظ الدّ ... هْرُ ولا ينفع التَّلْبِيبُ
إلا سَجِيّاتُ ما لقلوبِ ... وكم يصيرَنَّ شائنا حبيبُ
وقد ذكر ابن رشيق أن هذه القصيدة كادت تكون كلاما غير موزون بعلة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: أنها خطبة ارتجلها، فاتزن له أكثرها
والحق عندي أن هذه القصيدة تمثل أولية الشعر العربي خير تمثيل، وتبين أنه لم يكن له أوزان محدودة يتقيد بها، ولا بحور متميزة لا يتعدادها، ولا تجري فيه الحركات والسكنات على لحن مطرد، لا يتغير ولا يتبدل في القصيدة الواحدة، وإن عبيدا في هذا يمثل بين شعراء عصره حال الشاعر المتخلف، لأنه لم يتهيأ له من أسباب النهوض ما تهيأ لهم، فجرى في شعره مجراه الأول، ولم يعبأ بما تقيد به شعراء عصره في أمر الوزن
ومما يروى لعبيد أيضاً من الشعر المختل الوزن قوله:
هي الخمر تكني الطَّلاَ ... كما الذئب يكنى أبا جعده
ومما وقع من هذا الشعر قول علقمة الفحل، وهو شاعر قديم
دافعت عنه بشعري إذا ... كان في الغد أجحد
فكان فيه ما أتاك وفي ... تسعين أسرى مقرنين في صفد
دافع قومي في الكسر إذ ... طار بإظهار الظباة وقد
فأصبحوا عند جفنة في الأغ ... لال منهم والحديد عقد
إذ مجنب في المجنبين وفي ... النكهة عن باد ورشد
فهذه القطعة مما أدخل في جملة شعر علقمة، وهي مختلة الوزن حتى قال بعضهم إنها(454/32)
ليست بشعر
وأما القافية فإنها لدقتها كانت أحكامها تخفي على كثير من الشعراء الجاهليين، فبقي فيها كثير من آثار أولية الشعر كالإقواء والسناد وغيرهما من عيوب القافية، حتى قيل أن الإقواء كان مذهب العرب في شعرهم، ومن ذلك قول امرئ القيس:
أحنظلُ لو حامِيتمُ وصبرتُمُ ... لأثنيتُ خيراً صالحاً ولأرْضاني
ثياب بني عوف طُهارًى نقيَّة ... وأوجههم عند المشاهد غرانُ
عُوَيْرٌ ومن مثل العوير ورهه ... وأَسْعَدَ في ليل البلابل صفوانُ
فقد أصبحوا والله أصفاهم به ... أبَرَّ بأيمان وأوْفَي بجيرانِ
وكذلك كان النابغة الذيباني يقوى في شعره - وهو من متأخري شعراء العصر الجاهلي - وكان لا يعرف أن الإقواء من عيوب القافية، ومن إقوائه قوله في داليته:
أَمِنَ مَيَّة رائحٌ أو مُغْتَدٍ ... عجلانَ ذا زادٍ وغير مُزَوَّدِ
زعم البوارحُ أن رحلتنا غداً ... وبذاك خيرنا الغرابُ الأسودُ
وقوله أيضاً:
سقط النصيفُ ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليدِ
بمُخَضَّب رخْص كأن بَنانه ... عَنَمٌ يكاد من اللطافة يُعْقَدُ
فلما ظهر الإسلام نهض العرب ورق وجدانهم، ولطف ذوقهم، فعرفوا هذه العيوب وتجنبوها، وافتخروا بذلك على الشعراء قبلهم، كما قال ذو الرمة:
وشعرٍ قد أَرْقتُ له طريفٍ ... أجانبه المُسَانَدَ والمحالا
وقال جرير:
فلا إقواء إذ مَرِسَ القوافي ... بأفواه الرواة ولا سِنَادا
وبهذا استقامت قوافي الشعر، واتسقت أوزانه، بعد أن مر في تلك الاطوار، ولم يشذ في ذلك عن سنة النشوء والارتقاء
عبد المتعال الصعيدي(454/33)
27 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرآن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنكليزي إدوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
الفصل التاسع
اللغة والأدب والعلوم
احتفظت القاهرة بشهرتها النسبية التي امتازت بها عدة قرون، أنها خير مدرسة للأدب العربي وعلم التوحيد والفقه الإسلامي. ولا جرم أن التعليم انحط كثيراً عند العرب عامة إلا أنه كان أقل انحطاطا في القاهرة. فشهرة علماء هذه المدينة لا تدانيها شهرة. ولا يزال مسجدها (الجامع الأزهر) يجذب إليه الطلاب من كافة أنحاء العالم الإسلامي.
ويلاحظ أن اللهجة العربية التي يتكلمها أهل القاهرة من الطبقتين الوسطى والعليا أدنى من لهجات بدو الجزيرة العربية وسكان المدن المجاورة مباشرة من حيث النطق وقواعد الصرف والنحو؛ إلا أنها تفضل اللهجات السورية كثيراً، واللهجات المغربية أكثر. وأهم الخصائص التي تلاحظ في نطق المصريين ما يأتي: ينطق القاهريون ومعظم المصريين حرف الجيم جامداً بينما يعطشه عرب الجزيرة وسورية وغيرهما. ولكن يجدر أن نلاحظ أن حرف الجيم ينطق جامداً في بعض جنوب جزيرة العرب وهو منشأ اللغة العربية كما يقال. وينطق حرف القاف همزة حيث يسود نطق الجيم الأول، غير أن المثقفين ينطقونه قافا على حقيقته. وتنطق الجيم معطشة أو قريبة من ذلك في بعض مناطق مصر، كما تنطق القاف جيما. وينطق المصريون جميعاً وكذلك اغلب الشعوب التي تتكلم العربية حرف الثاء تاءً والذال دالاً والظاء ضاداً أو زاياً أحياناً. ومن أهم خصائص اللهجة العربية المصرية من حيث التركيب إضافة حرف الشين للدلالة على النفي، مثل (ما يرضاش) بدلاً من (ما يرضى) و (ما هوش طيب) (ويقول العامة موش طيب) بدلاً من (ما هو طيب)(454/34)
ووضع اسم الإشارة بعد المشار إليه مثل (البيت ده)، وكثرة استعمال التصغير في الصفات بلا مسوغ مثل (صغير) بدلاً من صغير و (قريب) بدلاً من قريب
ولا يوجد فرق كبير بين اللهجة الدارجة والفصحى كما يفرض المستشرقون الأوربيون. ويمكن وصف اللهجة الدارجة أنها تبسيط للهجة القديمة بحذف حركات الكلام الأخيرة خاصة، وبوجه آخر إهمال التفرقة بين أنواع إعراب الاسم المختلفة وبعض أشخاص الأفعال. كما أنه لا يوجد فرق كبير بين اللهجات العربية في البلدان المختلفة كما يتصور بعض من لم يخالط أهل هذه البلاد. وتتشبه هذه اللهجات أكثر مما تتشابه لهجات بعض مناطق إنجلترا المختلفة. وتفيض اللغة العربية بكلماتها المترادفة، فتجد بعض الكلمات تستعمل في بلد ما وما يرادفها في بلد آخر. فيقول المصريون مثلاً (لبناً) بينما يقول السوريون (حليباً)، ويطلق السوريون (اللبن) على الصريب (اللبن الحامض). وكذلك الخبز يسميه المصريون (عيشاً) بينما يطلق عليه في البلدان العربية الأخرى خبزاً، إلى غير ذلك من الأمثلة العديدة من هذا النوع. ويلاحظ أن نطق المصريين ألطف وأعذب من نطق السوريين وأكثر البلدان التي تتكلم العربية
والأدب العربي غني شامل، وأهميته في كمية كتبه أكثر مما هي في كيفيتها. ويبلغ عدد الكتب التي تبحث في الدين والفقه الربع تقريباً، يتلو ذلك كتب النحو والصرف والمعاني والبيان والفروع المختلفة لعلم اللغة وتشغل كتب التاريخ (وعلى الأخص تاريخ الأمة العربية) والجغرافية المرتبة الثالثة، وأخيراً الشعر. أما المؤلفات الطبية والكيميائية والرياضية والجبرية وغيرها فقليلة جداً بالنسبة لغيرها
ويوجد في القاهرة عدة مكتبات كبرى، ويلحق أغلبها بالمساجد، ويتألف معظمها من كتب التوحيد والفقه ومعاجم اللغة؛ إلا أن هذه المكتبات مهملة إهمالاً يرثى له، وتفنى محتوياتها بسرعة والى حد بعيد لعدم أمانة القائمين بأمرها أو باستعمالها وإهمالهم. ويقتني بعض التجار الأثرياء وغيرهم مكتبات حسنة. ويبلغ عدد تجار الكتب في القاهرة - كما أخبرت - ثمانية فقط. إلا أن حوانيتهم غير مجهزة تجهيزاً حسناً. ويدور الكتبي كلما عثر على كتاب نفيس على حرفائه وهو يكاد يثق بالحصول على مشتر. وقلما تخاط أوراق الكتاب معا وإنما يدرج الكتاب عادة في غطاء مجلد، وكثيراً ما يكون له غلاف خارجي من الورق(454/35)
المقوى والجلد
وتتكون (الكراسة) من خمس ورقات مزدوجة كل منها في الأخرى، وترتب الأوراق ملازم صغيرة دون أن تخاط فيستطيع أكثر من قارئ استعمال الكتاب معاً، فيتناول كل كراساً، وتوضع الكتب مسطوحة الواحد فوق الاخر، ويكتب عنوان الكتاب على واجهة الغلاف الخارجي أو طرف الأوراق، وورق الكتب غليظ لامع، ويستورد غالباً من البندقية ويلمع في مصر. والحبر كثيف لزج، ويستعمل القلم للكتابة وهو أكثر ملاءمة للخط العربي. وعندما يكتب العربي يضع الورق فوق ركبته أو على راحته اليسرى، أو على (مسندة) تتكون من بعض أوراق قد يزيد عددها عن دستجة وتشد معاً عند الأطراف الأربعة فتكون كالكتاب الرقيق، ويجعل الكاتب الحبر والأقلام في (الدواية) المذكورة في الفصل الأول من هذا الكتاب، ويوضع معهما المقشط والمقطة: وهي آلة من العاج يوضع عليها القلم ليقط. ويسطر الكاتب الورق بالمسطرة: وهي قطعة من الورق المقوى يشد عليه بعرض الورق خيوط ملصقة بالغراء، فيجعل المسطرة تحت الورقة ويضغط على كل خيط بخفة، وتتضمن عدة الكاتب مقصاً لقطع الورق، إذ لا يليق أن يكون أطراف الورق ممزقة. ويعيش الكثيرون في القاهرة على نسخ المخطوطات ويبلغ اجر نسخ الكراسة وهي عشرون صفحة في كل صفحة خمسة وعشرون سطرا بالخط العادي، ثلاثة قروش، ويزيد المبلغ إذا حسن الخط ويتضاعف إذا شكل الكلام
ويتلقى الذين يعدون أنفسهم لوظيفة دينية أو علمية دروسهم في الأزهر، ويعلمون قبل ذلك القراءة والكتابة وتلاوة القرآن أحياناً. والأزهر - جامعة الشرق عامة - بنيان واسع الأرجاء، يحيط بفناء مربع فسيح. ويوجد على أحد جوانب الفناء من جهة القبلة مكان الصلاة الرئيسي: وهو رواق فسيح، وعلى كل جانب من الجوانب الثلاثة الأخرى أروقة صغيرة مقسمة إلى عدة أقسام يخصص الواحد منها للطلبة بلد معين أو مديرية خاصة من مديريات مصر. ويقع الأزهر في قلب القاهرة، وعمارته لا تستحق الاعتبار، وإحاطته بالمنازل تخفي خارجه إلا قليلاً. ويسمى من يتلقى العلم في الأزهر (مجاورا)، ولكل رواق مكتبة لاستعمال الطلبة، ويتعلم الطلبة من الدروس التي يلقيها المدرسون ومن محتويات الكتب الموجودة بمكاتب الأروقة(454/36)
ويتكون برنامج الدراسة من علم الصرف والنحو والمعاني والبيان والعروض والمنطق والتوحيد والتفسير والحديث والفقه والحساب في حدود المسائل الشرعية. وهناك دروس في الجبر والمقابلة والميقات. ويجلس الشيخ على الأرض عند اسفل عمود من الأعمدة، ويتحلق حوله الطلبة. ويقرأ طلبة المذاهب المختلفة كتباً مختلفة. وأغلب الطلبة قاهريون، وهم لذلك شافعيون، وشيخ الأزهر شافعي دائماً. ولا يدافع الطلبة للدراسة في الأزهر أجراً إذ أن أغلبهم فقراء. ويتناول أغلب الأجانب الذين لهم أروقة خاصة راتباً من الطعام يومياً يصرف لهم من إيراد العقارات الموقوفة عليهم. والعادة أن يتناول طلبة القاهرة وما جاورها مثل هذا الرتب إلا انهم لا يتمتعون بذلك طويلاً، خلا شهر رمضان، لأن (محمد علي) استولى على جميع الأراضي الزراعية الموقوفة على المساجد ففقد الأزهر أكبر جزء مما وقف عليه. ولا تنفق الحكومة شيئا غير مصاريف الصيانة اللازمة وأجور المستخدمين الرئيسيين. ولا يتناول المدرسون أجراً. وليس لهم وسيلة منظمة لكسب معيشتهم غير التدريس في المنازل ونسخ الكتب الخ. . . إلا إذا ورثوا ملكاً أو كان لهم أقارب يعولونهم. وقد يتناول المدرس هدية من الأغنياء. ويستطيع أي طالب كفء أن يصبح مدرساً بإجازة شيخ الجامع. ويتبع الطلبة غالباً طريقة المدرسين لكسب معاشهم، أو يتلون القرآن في المنازل أو على القبور أو في مكان آخر. وعندما يتقدم الطلبة في دروسهم التقدم الكافي يدخل بعضهم في القضاء أو الإفتاء أو إمامة المساجد أو التدريس في قراهم أو مدنهم أو في القاهرة. ويحترف البعض الآخر التجارة، وقد يستمر بعضهم طول حياته يتلقى العلم مبتغياً الوصول إلى صاف كبار العلماء. وقد نقص عدد هؤلاء الطلبة الذين لا رواق لهم كثيراً منذ الاستيلاء على الأراضي الموقوفة على الأزهر. ويبلغ عدد طلبة الأزهر ما خلا العميان حوالي ألف وخمسمائة كما اخبرني أحد المدرسين.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(454/37)
فوق االحياة
إِنِّي احْتَرقْتُ وَلَمْ تَدَعْ أَشْلاَئِي ... نِيرَانُ تِلْكَ الْحَسْرَةِ الْهَوْجَاءِ
قَدْ أَوْغَلِتْ بِي نَزْعَةٌ مَدْفُوعَةٌ ... نَحْوَ الْكَمَالِ تَمُدُّ في بُرَحَائي
إِذْ أَنَّ مَا يَسْبِي قُلُوبَ النَّاسِ لاَ ... أَلْقَاهُ حَتَّى فِي ذُيُولِ سَمَائي
أَقْبَلْتُ مِلَْء دَمِي عَلَى الدُّنْيَا وَفي ... قَلْبِي حَيَاةٌ جَمَّةُ الأَهْوَاءِ
وَطَرَحْتُ أَعْوَاِمي عَلَيْهَا شَادِياً ... مُتَنَقَّلاً في الزَّرْعِ والصَّحْرَاءِ
وَنَزَعْتُ عَنِّي كُلَّ مَعْنًى كاَذِبٍ ... وَنَشَدْتُ وَجْهَ النُّورِ في الظَّلْمَاءِ
وَتأَمَّلتْ رُوحِي أَسَارِيرَ الدُّجى ... وَتَغَلْغَلَتْ في ذَاتِهِ السَّوْدَاءِ
وَإِذَا الرِّياحُ تَقُولُ لِي في نُصْحِهَا: ... قِفْ أَيُّهَا السَّارِي إِلى التَّيْهَاءِ!
مَنْ لَمْ تَشُقْهُ اْلأَرْضُ وَهْوَ مُكَبَّلٌ ... نَبَذَتْهُ عَنْهَا عِبْرَةَ الأَحْيَاءِ!
تِلْكَ السُّدُودُ أَقَامَهَا فَوْقَ الثّرَى ... رَبُّ الْوُجُودِ وَضَارِبُ الْجَوْزَاءِ
قُلْتُ اهْدئَي يَا رِيحُ مَا أَنَا مُسْرفٌ ... مُتَطَلِّبٌ في الصَّخْرِ دَفْقَةَ مَاءِ!
وَطَفِقْتُ أّخْبِطُ في الظَّلاَمِ مُنَقِّباً ... عَمَّا وَرَاَء اللَّيْلِ مِنْ أَشْيَاءِ
حَتَّى بَدَا لِي خَلْفَ أَحْجَارِ الدُّجى ... نَهْرٌ يَعِجُّ بأَعْذَبِ الأَضْوَاءِ
وَنَهَلْتُ مِنْهُ فَاكْتَمَلْتُ كَأَننِي ... أَصْبَحْتُ أَسْمَى مِنْ بَنِي حَوَّاءِ
وَتَأَلَّقَتْ مِنْ حَوِلهِ لِي جَنَّةٌ ... عُلْوَّيةٌ مَطْلُوَلَةُ الأَرْجَاءِ
هِيَ عَالَمُ اْلُمُثلِ الرَّفِيَعةِ صَاَغَهَا ... (فَوْقَ الْحَيَاةِ) تَدَفُّقُ الإِيحاَءِِ
أَظْلاَلُها فَوْقَ الزُّرُوعِ مَدِيدَةٌ ... وَنَسِيمُها مُتَعَطِّرُ الأَحْنَاء
وَطَيُورُهَا ذَهَبِيَّةٌ مَسْحُوَرَةٌ ... تَشْدُو فَيَهْتَزُّ الْفَضَاءُ إِزَائي
وَأَخَذْتُ أُرْشِدُ َمْن أُحبُّ إِلى السَّنَى ... وَمَسَابِهِ، وَالنَّهْلَةِ الْبَيْضَاءِ
وَاْلَحَقِّ وَالْخَيْرِ الْذِي يَمْشِي عَلى ... رَبَوَاتِ تِلْكَ الْجَنَّةِ الْعَذْرَاء
لَكِنَّهُم ضَجَّتْ بِهِمْ أَرْوَاحَهُمْ ... ظَمْأَي إِلى الأَوْحَالِ وَالأَنْوَاء
عَادُوا وَفي أَلْبَابِهِمْ لِي لَعْنَةٌ ... مَكْنُوَنةٌ كالسُّمِّ فِي الرَّقْطاَء
قَالوا لقَدْ عِشْنَا عَلَى الدُّنْيَا كَمَا ... شِئْنَا وَشَاَءتْ رِبْقَةُ الأَحْيَاء
مسُتْعَذِ بيِنَ قُيُوَدنَا لاَ تَنْجَليِ ... عَنَّا عَمَايَةُ هذِهِ الظَّلْمَاء
تِلْكَ الْحَوَاجِزُ لاَ نُحِبُّ عُبُورَهَا ... نَحْوَ الّذِي نَخْشَاهُ مِنْ أَجْوَاء(454/38)
ياَ أَيُّهَا الْمَجْنُونُ! إِنَّكَ شَاعِرٌ ... يَقْتَاتُ مِنْ أَوْهَامِهِ الْحَسْنَاءِ
اذْهَبْ فَلاَ كاَنَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَعِشْ ... في بُرْجِكَ الْمَمْلُوءِ بِالْخُيَلاَء!
لَكِنَّنِي نَادَيْتُ مِنْ عَلْيَائِي ... مُسْتَعْصِما بِالذِّرْوَةِ الْقَعْسَاءِ:
الْبَرْقُ يُكْسِبُنِي الْتِماَعاً إِنَّنِي ... أُفُقٌ فَضِجُّوا في رِحَابِ فَضَائي!
وَالنَّارُ تَمْنَحُنِي حَيَاةً إِنَّنِي ... ذَهَبٌ فَبُثُّوا النَّارَ في أَحْشَائي!
عبد الرحمن الخميسي(454/39)
غَيران. . .
إذا الفجرُ لاحَ وحيَّا العذارى ... وحييَّتْهِ بابتسامٍ رقيقْ
تلَفَّتَ قلبي له واستطارا ... كأنَّ به سَكرةً لا يُفيقْ
يَغارُ عليكِ إذا الفجرُ لاحْ
وإنْ جِئتِ في خِفَّةٍ تَخْطُرِينْ ... ومالتْ عليكِ غصونُ الطريقْ
فما أشفقَ الغصنَ بالعاشقينْ ... ولكنْ بقلبي زَفيرُ الحريقْ
يغارُ عليكِ إذا الغصنُ مالْ
وإنْ رقَّ بين يدْيكِ النسيمْ ... يُسايرُ ظِلَّكِ مثلَ الرفيقْ
فلا كانَ هذا النسيمُ الكريم ... أَلَمْ يَدْرِ أنَّ فُؤَادي عشيقْ
يغارُ عليكِ إذا الظلُّ سارْ
وإن نطقُوا باسمِكِ الطَّاهِرِ ... وخَفَّ له كلُّ سَمْعٍ طَليقْ
ترامى صَدَاهُ إلى خَاطِرِي ... ولكنَّ قلبَ المُحِبِّ المَشُوقْ
يغارُ عليك إِذا الاسمُ ذاعْ
وإِن ضمَّكِ البحرُ يا فاتنةْ ... وداعبَ منك القَوامَ الرشيقْ
فيا حُسْنَ أَمواجِهِ الساكنهْ ... وقلبي الذي هو دجاهُ عريقْ
يغارُ عليكِ إِذا البحر ماج
وإن رقص الليل في راحتيك ... واهديته بسمة من رحيق
فها قد حرمت سنى ناظريك ... وقلبي الذي في دجااه غريق
يغار عليك إذا الليلُ جاءْ
محمد محمود زيتون(454/40)
البريد الأدبي
التعاون الثقافي بين مصر والعراق
أقامت المفوضية العراقية بالقاهرة حفلة شاي دعت إليها جمهورا كبيراً من رجال التربية والتعليم بمناسبة انتهاء (مؤتمر تدريس العلوم)، وقد اشتركت فيه الحكومة العراقية بإيفاد اثنين من رجالها الفضلاء: هما الدكتور الجمالي والدكتور عقراوي. أما الحكومة السورية، فقد اعتذرت بخطاب كريم نصت فيه على أن ضيق الوقت حال بينها وبين ما تريد من الاشتراك، وتمنت أن يديم الله على رجال العلم في مصر نعمة التوفيق
وفي الحفلة دار الحديث حول نشاط أعضاء المؤتمر فقلت: أن الذي شرح صدري هو أن أرى وزير العراق المفوض يحضر جميع الجلسات وعلى صدره شارة المؤتمر؛ فقال الدكتور عقراوي: هذا اقتداء بالتقليد الذي سنه صاحب سمو الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق، فهو يحضر جميع المحاضرات التي تلقى في بغداد باسم التعاون الثقافي بين مصر والعراق وفي معيته جمهور من الوزراء والنواب والأعيان، وتلك االتفاتة نبيلة تبين لك عظمة ذلك الأمير الجليل
وانتهزت الفرصة فسألت الدكتور عقراوي عن شعوره نحو المؤتمر فقال: دلني هذا المؤتمر على نواحي جديدة من النهضة المصرية، فأنا الآن أومن بأن لرجال التعليم في مصر آراء لا تقل وجاهة عن آراءً رجال التعليم في الأقطار الأوربية والأمريكية
والحق أن الصلات العلمية والأدبية بين مصر والعراق قويت جدا بفضل تعاون الأمتين، وبفضل الأساتذة الذين أسسوا ذلك التعاون من مثال: السنهوري والزيات وعزام؛ ولم يبلق إلا أن نفهم أن تلك الجاذبية الروحية تحتاج إلى أسندة من الصدق والإخلاص في كل يوم، لتصل إلى كمالها المنشود
وفي هذا المقام اذكر أن سعادة الدكتور فاضل الجمالي حدثني أن معالي السيد تحسين علي، وزير المعارف العراقية، أوصاه بأن يصحبني معه إلى بغداد، وقد أجبت بأن التشوق سيحملني إلى بغداد على غير ميعاد، ولكن الذي يهمني هو أن يوجد مصريون بعواطف عراقية، وعراقيون بعواطف مصرية؛ وعند ذلك ابتسم سعادة الأستاذ شفيق بك غربال وقال: أنت هنا والجمالي هناك!(454/41)
زكي مبارك
أولية سوق عكاظ
ذكر الأستاذ (علي محمد حسن) في الرسالة الغراء (العدد 451) تصيحاً لما في دائرة معارف وجدي إذ جعلت افتتاح عكاظ سنة 540م، قال في خاتمته: (وبعد، فجمهرة الكتب على أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وعلى أن عكاظ قامت بعد الفيل بخمس عشرة سنة فتكون قد أقيمت في سنة 585)
والواقع أن جمهرة الكتب ذهبت إلى هذا، إلا أنه لا يثبت على التحقيق، بل أن سوق عكاظ ليرتفع تاريخها إلى ما قبل سنة 500 ميلادية لهذه الأسباب:
1 - أجمعت كتب السير على أن رسول الله حضر حرب الفجار بنفسه ويحدد بعضها سنة إذ ذاك مستنداً على الحديث: (كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار وأنا ابن أربع عشرة سنة) وحرب الفجار كانت في عكاظ إبان الموسم، وذلك بعد عام الفيل بأربع عشرة سنة، فكيف يقولون أن عكاظ أقيمت بعد الفيل بخمس عشرة (انظر أسواق العرب ص 146 فما بعد).
2 - تزوج عبد شمس بن عبد مناف امرأة بعد أن طلقها زوجها لبيعها السمن وراحلتين بخمر شربتها في عكاظ. وهذا الحادث قبل عام الفيل بعقود السنين (أسواق العرب ص290)
3 - قالوا أن عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة عاش حول سنة (500م)، وعمرو أنشد معلقته في عكاظ بالموسم، فلا شك إذن في أن السوق كانت قبل هذا التاريخ بسنوات.
مما تقدم لأسباب أخرى لنا أن السوق أقيمت قبل التواريخ التي يذكرونها بأزمان وهي على اقل تقدير كانت قبل القرن السادس الميلادي، ومن أراد زيادة في التحقيق فليرجع إلى كتابنا (أسواق العرب في الجاهلية ولإسلام ص294، 295، 146 فما بعد
سعيد الأفغاني
(أبو العلاء) و (إخوان الصفاء)
نقل الأستاذ عمر الدسوقي في العدد (246) من هذه المجلة الرفيعة قول الدكتور طه حسين بك أن (أبا العلاء المعري) قد اجتمع بإخوان الصفاء إبان إقامته في بغداد؛ وقد استدل(454/42)
الأستاذ الدكتور على ذلك بالبيتين الآتيين:
كم بلدة فارقتها ومعاشر ... يذرون من أسف علىَّ دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى ... لوداد (إخوان الصفاء) مضيعا
لورود (إخوان الصفاء) فيهما.
وقد كتب الأستاذ سليم الجندي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق مقالاً في مجلة المجمع المذكور: (العدد الثامن، المجلد السادس عشر، 941) بين فيه التناقض الذي وقع فيه الدكتور فيما ذهب إليه، ونفى أن يكون أبو العلاء قد اجتمع بإخوان الصفاء مستدلاً بأمرين:
الأول: أن وقوع كلمة (إخوان الصفاء) في هذين البيتين لا يدل دلالة واضحة على اجتماع أبي العلاء بهم، فقد وردت في شعر كثير من الشعراء الجاهليين والإسلاميين والعباسيين: كالخنساء وأبي حبال البراء بن ربعي الفقعسي، ويسار بن إسماعيل، وعبد السلام بن رغبان، وابن الرومي، وصريع الفواني، وابن المقفع (في كلية ودمنة، باب الحمامة المطوقة)؛ وبدهي أن هؤلاء جميعاً لم يقصدوا بإخوان الصفاء (الجمعية المعروفة)، وإنما أرادوا إخوان المودة الصافية الخالصة
والأمر الثاني: أن معرفة سبب قول هذين البيتين تنفي ما ذهب إليه الدكتور؛ فقد روي ياقوت في معجم لأدباء (ج1 ص175) عن أبي الوليد الدربندي قال: أنشدني أبو العلاء التنوخي في داره عند وداعي إياه (وذكر الأبيات. . .)
هذا، وفي المقال أشياء آخر ذات شان يحسن الرجوع إليها
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
في الكتب لا في الصدور
نعم كل شئ في الكتب؛ من يغض في أعماق تلك البحار يجد العب العجاب، ويعثر بالفريد المستطاب، وإن تراثنا العربي لا يمكن أن نهضمه في أعوام ولا قرون، ولا نسيغه بكلمة أو مقال: أنه تراث غني ولكنه مدفون
وما كان الأستاذ الجليل (شلتوت) وهو يتحدث عن (شخصيات الرسول) يجهل أن الذي(454/43)
تحدث به مدفون في بطون الحواشي والمتون، وما كان يجهل أن العلماء أقاموا من أجله العراك والخصام. كان يعلم ذلك، ويعلم أيضاً أن الناس معنيون بالظاهر، واقفون عند القريب، قانعون بالميسور، فأراد أن يضع أيديهم على الداء والدواء ويلفت أعينهم إلى ما خلف الستار والحجاب
وكيف يجهل الأستاذ ذلك وهو أحد مؤلفي كتاب (مقارنة المذاهب)، وهو بحث طريف، وإن كنت أعتب عليه أن يحصر مثل هذا النوع من التفكير بين جدران الكليات، ولا يذاع ليعرف الناس، وليقول المنصفون!
ولقد قال الأستاذ شلتوت في حديث لي معه: أن صح أن ديننا الحنيف يحتاج إلى شيء فهو حسن العرض والإعلان لنلفت إليه أنظار المفتونين بزخرف الأوربيين، فيروا ما فيه من خبايا ودفائن، وميزات وحسنات. ثم قال: أنريد من الناس أن يلتمسوا الدين من حواشي ابن عابدين، وحواشي القليوبي والأسنوي والمحلي؟ الخ
وقد يكون هذا هو الحافز لأستاذنا الجليل إلى أن يلفت لهذه الناحية الأنظار، وخاصة أنظار الذين عموا وضلوا وحسبوا ديننا الكريم عصبية عمياء، فذهبوا ينالون أحرار الفكر بالإيذاء
السيد جمعة
إيجبت
قرأت في جريدة الأهرام كلمة للأستاذ محمد حسني عبد الله تحت عنوان: (لفظة (إيجبت) ولم سميت بها مصر) ذكر فيها أسطورة يونانية، ثم طلب ممن يعلم شيئاً في هذا الموضوع أن يذكره. والى القارئ خلاصة ما وقفت عليه في مطالعاتي:
أطلق اليونان لفظة اجيبتوس على مصر ولا نعرف تمام تاريخ هذه التسمية، إلا أن مصر لم تكن تسمى دائماً أجيبتوس وإنما عرفت قديما بأسماء مختلفة أهمها: كيمي أو كاميت أو خمي بمعنى الأرض السوداء أي الخصبة؛ ومن هذا الاسم اشتقت لفظة كيمياء؛ وذلك هو الاسم الشائع. وسميت أيضاً نهى بفتح النون أو ضمها وأي بلد الجميز؛ وتوميرا - أي الأرض المغمورة، لفيضان النيل عليها. وأطلق عليها الساميون: عبرانيون وفينيقيون وعرب، لفظة مصر، ولعل أصل هذه التسمية جاء من أن معنى مصر في لغاتهم: البلد(454/44)
العظيم. أما كلمة اجيبتوس فلا يزال تدل عليه اصلها موضع التخمين والاستنساج، ولم يستطع أحد أن يقطع فيه برأي. وقد رأيت هذه الكلمة في الأوديسة تشير تارة إلى مصر والمصريين، وتارة أخرى إلى نهر مصر أي النيل؛ وقد أطلق فيما بعد على هذا النهر اسم نيلوس وأصله مجهول أيضاً
وهناك رأي يقول أن لفظة إجيبتوس أصلها مصري. ويحاول هذا الرأي أن يرجع هذه التسمية إلى (هاكابتاح - أو (هاكوبتاح وهو الاسم المقدس لمدينة منف في عهد مينا ومعناه (مكان عبادة بتاح) إذ كان بتاح يعبد في هذه المدينة
وأذكر أني قرأت في كتاب أو مقالة أن هاكابتاح ورد في نص من النصوص القديمة بمعنى مصر، لا مدينة منف، وإن هذه الكلمة نقلها الفينيقيون إلى اليونان فجعلوا منها إيجبتوس. ولو صح ذلك لكان مؤيداً للرأي السابق.
وهناك رأي للدكتور أبات باشا ورد في كتابه مصريات: في فصل أفرده لكلمة إيجيبت تحت عنوان: ' يخالف فيه الرأي السابق ويرجعه إلى العالم بروكش إذ يرى أن اليونان انتشروا في مصر في وقت قريب فتر فيه نفوذ مدينة منف العاصمة وعبادة بتاح المعبود، وقوى سلطان مدينة وقد شاركت مدينة فقط مدينة طيبة في علو الشأن وذيوع الصيت لموقعها على طريق البحر الأحمر ومحاجر وقد لعبت هذه المدينة دوراً كبيراً، وأصبحت مركز التجارة بين مصر وبلاد العرب والهند. ولابد أن اليونان الذين جذبتهم روح التجارة إلى (كيمي) أولاً انتشروا في منطقة فقط وجعلوا من اسمها اسما عامة لمصر فقالوا إجيبتوس أي بلد كبتوس. ويحتمل أن يكون أصل القبط من ذلك. وهكذا إجيبتوس فيما بعد محل كيمي التي اقتصر على نقشها في الآثار
وكثيراً ما أشارت النصوص القديمة إلى الصعيد باسم وقد ذكر العالم لبسيوس عند الكلام على مصادر الذهب: ذهب الحبشة وذهب بلد كبتوس (وقد يكون أصل تسمية بلاد النوبة بوجود الذهب بها فكلمة تعني الذهب). كما أنه ورد في حجر رشيد كلمتا الواحد ترجمة للأخرى
وإذن تكون أرض فقط، وقد يكون اليونان قد وضعوا مكان الفرعونية، الموصول الحرفي اليوناني الذي يدخل على الكلمة لتوضيحها أو للدلالة على صدارة الشيء(454/45)
عدلي طاهر نور(454/46)
القصص
المصابيح السبعة
قصة من القصص الشعبي لسكان جزيرة بورينو
مترجمة عن الإنكليزية
عندما كبر والد الأبناء السبعة وطالت لحيته البيضاء بطول عمر، دعا إليه ثمار بذوره وتحدث إليهم في صوت خافت: (أبنائي! أنني أقف هنا في مكان مظلم وتقفون أنتم حولي ولكن انظروا: هاهي أمامكم سبعة مصابيح عددها كعددكم، فليختر كل منكم مصباحاً يستضيء به ويتبع نوره، ولا يأخذنكم الإعجاب بشدة ضوئها الحالي، فإني أنصحكم أن لا تتخيروا ما قد يبدوا لكم الآن أنه احسن المصابيح وأسطعها ضوءاً. انظروا إليها نظرة فاحصة ثم تخيروا ما شئتم، وإني لكم لنذير بأن اختياركم ذا اختيار نهائي لا رجعة فيه. فتبينوا الأمر قبل أن تقدموا، فإذا أقدمتم وتخيرتم ما استقر عليه رأيكم فلا تتحولوا عنه وأصروا على الاستضاءة به إصراراً، إذ الأفضل أن يؤمن المرء إيماناً تاماً برأي ما ويتبعه في إخلاص وأمانة، وفي ثبات وإصرار - ولو كان هذا الرأي خطا في جوهره - أقول أن هذا أفضل من أن يتبع المرء في تردد وضعف رأياً يؤمن في قرارة نفسه ببطلانه، ولو كان هذا الرأي في جوهره هو الحق والصواب).
فتقدم عند إذ الابن الأكبر ومد يده نحو المصباح الأحمر، ثم تمنطق بسيفه ودرعه وبدا على وجهه إمارات الجشع والطمع؛ ثم صاح صيحة الوداع وانقلب على وجهه مسرعاً ليقضي حياته كلها في السلب والنهب والإجرام.
ورأى الوالد سوء طالع ابنه وفساد رأيه، ولكنه لزم الصمت وأدار وجهه نحو الباقين مكن أبنائه ليرقب ما استقر عليه رأي ابنه الثاني، وكان ضعيف الجسم قوي العقل، فتقدم ببطء وتردد وأخذ يعمل فكره في تؤدة شأن الحكماء من بني الإنسان، ثم ترنح قليلا ومد يده نحو المصباح الأزرق وقبض عليه. فاغتبط الأب بهذا الاختيار أياما غبطة وقال:
(اذهب أنك لمن المبرزين، وإنك سوف تظهر على الناس أجمعين)!
وكان المصباح الأزرق - مصباح الحق - يتلألأ أثناء ذلك(454/47)
وتقدم الابن الثالث وكان جميل الوجه حسن السمات. . . فأعجبت به النساء وشغفن به حباً، فتخير المصباح الأخضر ذا اللهب الخافق الحائر وأخذه بين يديه، ثم انصرف. فلما خرج من الباب لمح والده (صاندال) تجري في إثره وكانت هذه المرأة مضغة الأفواه لقبح سيرتها وفساد أخلاقها، فطأطأ الشيخ رأسه وقال: أن الرجل الذي يجعل النساء الجميلات قبيلته وغاية سيعه، فيخضع لهن ويرضى أهوائهن، لهو رجل خاسر، إذ لا يتيسر له أن يتجه وجهة أخرى أو يعمل عملاً آخر
ولم يكن يختفي هذا الابن الذي جعل النساء شغله الشاغل في هذه الحياة حتى سمع الجميع صوت النقود ورنين الذهب، إذ تقدم الابن الخامس وعلى وجهه تعلو سمة المرابي، فاختطف المصباح الأصفر وولى مسرعاً
وجاء الابن الخامس خائفا مسرعا يترقب، يلتفت يمنة ويسرة، ويتقدم رجلاً ويؤخر أخري أصفر الوجه، مرتجف اليد. . . ونظر إلى المصابيح البقية فتخير المصباح الرمادي - مصباح الخوف والجزع - فقبض عليه بيده الحائرة، وتولى من مجلس أبيه وهو يرتجف فرقاً. . .
وتبعه الابن السادس: وكان مدللاً ملحوظاً من يوم ولادته بعناية والديه، فشب أنانياً محباً لذاته، فلم يتردد ولم يتمهل، بل اندفع نحو المصباح الأسمر - مصباح الأثرة والضوء القاتم الخائر وقبض عليه. . .
وأخيرا. . . وقف الابن الأصغر في تواضع وخشوع بين يدي والده، ثم ركع على ركبته واخذ المصباح الأبيض - مصباح الإيمان بالله - وقال: يا أبت. . . لسوف أتبع هذا النور على الدوام في كل مكان وكل زمان، في السراء والضراء. . .
ومرت الأعوام. . . فضمر جسم الوالد، وانحنى ظهره، وطال شعره. . . ولكن ظلت عيناه الحادتان ترقبان - على الدوام - عودة أبنائه السبعة. . .
وقرع الباب يوماً، فلما فتحه الوالد الشيخ وجد أمامه الابن الثالث الذي تخير المصباح الأخضر فقال له: (أبي لقد تبين لي أن النساء مخادعات غادرات. ولقد احترق زيت مصباحي عن آخره. وهاأنذا شريد بائس، ولقد قابلت أخي الذي شغف بجمع المال وطلبت مساعدته، ولكنه أبي على ذلك)(454/48)
ثم عاد بعد ذلك الابن الرابع صاحب المصباح الأصفر فإذا بمصباحه قد خبأ ضوؤه وهو ما يزال يسعى وراء المال وجمعه؛ وكان هذا هو كل ما حصل عليه. فقال: (يا أبي، أنني رجعت دارنا لأموت) ثم سقط على الأرض وفارق الحياة
وعاد الابن الخامس ذو المصباح الأسمر وكان سلطان شهواته ورغباته وأثرته لم يبق له خليلاً ولا صديقاً، ولم يجلب له سلاماً أو طمأنينة فرجع إلى أبيه بائسا مسكيناً
وعاد بعد ذلك الابن الخامس ذو المصباح الأخضر فإذا به قد قضى حياته كلها يحيه الخوف والجزع، ذلك فانه لم يؤمن بالله، ولم يعرف أنه أرحم الراحمين، فاحترق مصباحه بين يديه، ونفذ زيته، وأخذه الشك والخوف من كل مكان، وكان نصيبه الوحدة والهزؤ من الناس أجمعين
وأخيراً رجع الأبناء معاً يحمل أحدهم المصباح الأخضر - مصباح الحق - ويحمل الآخر مصباح الأبيض - مصباح الإيمان بالله - فقال للشيخ: (يا أبانا، لقد هدانا المصباحان سواء السبيل فاسترشدنا بهما وسط العواصف والأنواء، وكلما حزب الأمر واشتد الإغراء وجدناهما خير معوان لنا على مقاومة النفس والشر أينما كان. وهانحن أولاء نعود إليك نشكرك ونحييك ونخلص لك)
إبراهيم عبد الحميد زكي(454/49)
العدد 455 - بتاريخ: 23 - 03 - 1942(/)
الربيع في غير مكانه!
للأستاذ عباس محمود العقاد
الربيع. الربيع. الربيع!
وكررها ما شئت، فما أنت ببالغ من تكرارها بعض ما تراه من اسم الربيع مرقوماً بشتى الحروف، في كل صفحة من صفحات الكون
كل بستان يقول لك الربيع، وكل شجرة في بستان تقول لك الربيع، وكل طائرة غادية أو رائحة بين الزهر والشجر تقول لك الربيع. . .!
وتقول لك الربيع كل عين لامعة، وكل وجفة متوهجة، وكل قلب خافق، وكل حياة نامية
الربيع في كل مكان
الربيع في مكانه وفي غير مكانه، ويا رب ربيع في غير مكانه يلقاك بمعنيين لا بمعنى واحد، كما يروعك الحسن غير منتظر، أشد من روعته إياك وأنت في انتظاره، وعلى عهدك باختباره
في مكانه بين الضفاف والأشجار
وفي غير مكانه أين؟ أين نلقاه في أوانه، بعيداً من مكانه؟
سلني وسل من واعدوه مثلي قي مختلف المواعد، فيا طول ما رأيته حيث لا يراه الناس! ويا طول ما ذكرته حيث لا يذكره الناس! ويا طول ما حييته حيث لا يحييه أحد، ولا يأنس إليه
في المقبرة، في السجن، في الصحراء، في وحشة النفوس التي تستعير الموت من المقبرة والضيق من السجن والظمأ من الصحراء
هنالك الربيع في خير أوانه؛ وهنالك الربيع في غير مكانه؛ وهنالك الربيع الذي لا أحب أن أنساه حين يذكر الناس كل ربيع!
كانت الشجرة باسقة ناضرة، وكانت العصافير تملأها قبل مطلع الشمس وبعد مغيبها، ثم لا تزال تغبها طوال النهار شادية صافرة، لاهية سادرة، متلاقية زوجين زوجين أو متعاشرة، ظاهرة بالفرار أو متظاهرة، ثم متلاقية في الصبيحة الباكرة، متلاقية في قيلولة الهاجرة، متلاقية في الظلمة الساترة(455/1)
وكانت الشجرة على قبر فتاة
وكان القبر بين مئات القبور
وكنت أراها من حجرة قريبة إلى القبور في كل شيء: في الجيرة، وفي المرض الذي أقعدني فيها، وفي الوحشة التي لا يشع خلالها رجاء
وكنا في صحراء الإمام
انظر إلى عصافيرها. عصافير المقبرة على رفات الحسناء
انظر إليها لا ترى فرقاً بينها وبين عصافير روضة على ضفاف نهر في يوم عيد
أتلومها أتحمدها؟
نعم، لك أن تلومها كما قلت يومئذ ألومها:
مغرّدةَ الطير بين الحفَر ... سواء لديك جميع الشجر
أفوق القبور غناء الغرا ... م، وطيب المقام وصفو السمر؟
دعيها لناعبة في الدجى ... وناعقِِ سوءٍ رهيب الخبر
ولوذي بأيْكٍ يفيء الهوى ... إلى ظله ويميل النظر
فذاك بصفوك أولى مقا ... مٍ، وأولى بهذا المقام العبر
ولك أن تحمدها كما قلت يومئذ أحمدها:
مغردةَ الطير أنت الأسدُّ ... وأنت الأجدُّ، وأنت الأبر
عرفت الحياة فحييتها ... بحيث نما غصنها وازدهر
ولم تعرفي الموت بين القبو ... ر، وماذا من الموت تحت الحجر؟
ولا موت حيث يضوع الشذى ... ويسري الندى، وتعيش الذكر
فغنِّي فما الأرض إلا حيا ... ة تمر وأخرى تلي في الأثر
وكنت أقولها يومئذ ولا أزال أقولها الآن وأنا أعجب لنا حين ننعى على الموت قسوته، وننسى أن الحياة تواجهه بأقسى من تلك القسوة، حيثما ظفرت ببقاياه
متى حفلت الحياة بالقبور؟
متى هزئ الموت بالأحياء بعض ما تهزأ بالموت زهرة ضاحكة تنمو من جوف قبر، وعصفورة عاشقة على مدفن حسناء، وتغريدة تسمعها من الروضة في يوم مهرجان كما(455/2)
تسمعها من صحراء الإمام في جنازة عزيز؟
تلك قسوة الحياة. وأقسى ما فيها أنها بحق، وأنها لا تخجل ولا تداري ولا تخال في الأمر موضعاً لخجل أو مداراة.
وفي السجن!
والربيع في السجن يعرف أوانه ولا يعرف مكانه
يعرف أوانه فلا يخطئه في ورقة على فرع شجرة، ولا ينساه في قشاشة منسية على الأرض يلمحها عصفور عابر فيهبط إليها، ليتخذ منها أثاثاً لمهاد غرامه، في موسم الغرام
أهذا أوان الربيع؟
نعم هذا أوانه، وهذه أنباؤه، وهذه سيماؤه!!!
أو هذا مكان الربيع؟
لقد كان ذلك بين الأسوار وراء القضبان، وكل مكان فهو منزل للربيع الطلق غير هذا المكان، في حراسة سجان!
ولكننا تلقيناه فيه، وابتسمنا له، وعرفناه غير متنكر ولا متغير، ومقتحماً علينا المكان أحب اقتحام.
ثم في الصحراء
والصحراء والسجن نقيضان، ولكنهما في غرابة الربيع يلتقيان.
زهرة يفرقها من الزهرة التي بعدها مائة ميل، وكأنها من الأنس بنضرتها في جمهرة من الرياض والآجام. لا تلتفت إلى وحدتها لأنها في حجر أمها وبعين أبيها، وهل لها من أم غير الحياة ومن أب غير الربيع؟
ولكننا نحن الذين نراها بأعيننا فنخلق لها الوحشة من نفوسنا، ونفرق بين مكانها وأوانها، ولا ضير عليها ولا عليهما من افتراق
يذكرنا ربيع المقبرة وربيع السجن وربيع الصحراء أن ربيع العام كله في غير مكانه وإن جاء في أبانه
ربيع يقال له موسم الحياة والرجاء وأنباء الموت فيه أشيع الأنباء!
ربيع يتلاقى فيه محبان هنا ومحبان هناك، ثم يتلاقى فيه مائة ألف من الأعداء ومائة ألف(455/3)
من الأعداء، يتقاذفون الموت في البر والبحر والفضاء!
ربيع يترقبه طلاب الموت، ويفزع منه طلاب البقاء!
ربيع أقرب منه إلى مكانه كل ربيع في مقبرة، وكل ربيع في سجن، وكل ربيع في صحراء
هذا ربيع العام!
السلامة كل ما يسأل منه، وقد كان بعض سؤله النعمة والغرام
وكنت أسمعها تغرد، وأراها تطفر، وأرثي لها وهي في قفصها، وأحبها وهي لا تباليه، كأنها نقلت الحرية من فضاء الله إلى صدرها الصغير بين أفراخها الصغار
تلك عصفورة الكنار عند صديق من محبي الطير في الأقفاص، وإن كنت لا أحبها في غير فضاء الله
بل رأيتها تولد، ورأيتها تزقو، ورأيتها تترقى يوماً بعد يوم من الزقاء في طلب الحب، إلى التغريد في طلب الحب، إلى التغريد في الغبطة بالبنين
ثم نعاها إلى الصديق ذات صباح، فكان لنعيها تعقيب طال بيننا كما يطول التعقيب في هذه الأيام على أنباء الغزوات
فليعجب من هذا من يستبعد الفارق بين النبأين، كما يستبعد الفارق بين عصفورة واحدة ومائة ألف إنسان
إن كان هذا هو المياس فالفارق جد بعيد، بل هو فارق لا يجوز القياس فيه
لكن المقياس غير هذا وأصدق وأكرم من هذا
المقياس بين موت فيه معناه، وموت أخر فيه معناه؛ وقد يتقابل المعنيان في كفتي ميزان، إذا تجاوزت من مات وما مات وانتهيت إلى ما في الموت من سر واعتبار
في مستهل الربيع ماتت عصفورة الكنار التي نقلت إلينا قبساً من الربيع في زمهرير الشتاء
ماتت وهي في أول أمومة لها تستقبل ربيعها الثاني بخمسة من الأفراخ الضعاف
وماتت شهيدة هؤلاء الضعاف الظالمين، لأنها جاعت لتطعمهم والحب عندها كثير، ونسيت أن تأكل لنفسها لتذكر تلك الأفواه المفتوحة كأنها فتحت لتأكل كل شيء. . . وماتت لأنها تعطي الحياة ولا تأخذ منها بعض ما تعطيه(455/4)
ماتت شهيدة الفداء، وماتت وورائها تدبير حكيم أحكمته العناية في مئات الألوف من السنين
وعندما تموت عصفورة فيترجم لنا موتها ذلك التدبير، ويقد لنا ذلك التقدير، لا عجب أن يقترن موتها بموت الجحافل وأنباء المحافل، وهو في قوانين الوجود كفاء ذلك القانون
لا عجب أن نحسب على ربيع العام هذه الشهيدة وأولئك الشهداء، فكلهم في سر الخليقة سواء
عباس محمود العقاد(455/5)
صلوات فكر
في محاريب الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(كتب كثير من هذه الخواطر في (الرستمية) بالعراق العزيز،
فهي مهداة إليه)
وما رأيت أرضاً يعنف فيها الشعور بالحياة كالعراق!
فهناك طلاسم مخبوءة في التراب والأعشاب للسحر وتفتح القلب للحياة والحب. . .
وهناك تاريخ البشرية الأولى يحرك في نفس الحي الحس بالزمان. . .
وهناك سحر هاروت وماروت لا يزال يجدد شباب قلب القارة العجوز: آسيا. . .
حيث يفيض الماء دم الحياة غزيراً مدراراً. . .
وحيث يفور النفط نهر اللهب غزيراً مدراراً. . .
فينبت من بينهما إنسان ذو جذوة بيضاء وأخرى حمراء! في جماجم عاتية عمرت الحياة بالنسك والفتك في حياة الهوى وحياة الضلال. . .
وهناك ملتقى الكيد وحرب الأجناس والأجيال في تلك الأرض السوادء، على هامش الصحراء الصفراء، وبين هضبة إيران وجبال كردستان تلتقي الأنواع من إنسانها وحيوانها وحشراتها. . . ففيها من كل جنس شاخص أو طلل. . . هبت على قلبي فيها ريح الشمال من صحارى القرغيز وسهوب سيبريا، وريح الجنوب، من خضم تحمل مواعينه الطيوب والأفاويه، والسحر الأسود من القارة السوداء وجزر الهند؛ وريح النار من أرض الفرس؛ وريح الموت من الهند أرض الاستغراق وفناء الأجساد وجنون الأرواح بالأسرار، وانسلاخ القوى وتجسيم الخيال!
إنها طلعة جبارة من طلعات الطبيعة تطلق أشباحاً ترقص في الأوهام والظنون. . .
فلا عجب إذا وعيت بعد هذا كله من أسرار الحياة ما جعل فكري دائم الصلاة!
11 - أبجد
أبداً أكرر دروس الطفولة فأتهجى أسماء الأشياء حتى لا أنسى. . .(455/6)
أبداً أحترم الطبيعة البدائية كما يحترم الأطفال كبار القوم. . .
أبداً أسير إلى الأمام وعيني إلى الوراء، حتى لا أضيع طريق العودة إلى أحضان أمي. . .
لي ذهن سحري يزوي لي الأيام الماضية ويحضرها لأعيش فيها فترات ثم يردها إلى مكانها من التاريخ. . .
أسير وفي يدي مهدي الذي ولدت فيه، حتى أصل إلى اللحد الموعود لأراهما معاً يتقابلان. . .
أحتفظ دائماً بوجهي أمي وأبي حين رأيتهما لأول مرة بين الشباب والكهولة من عمرهما. . . ولن أنسى هاتين الصورتين حتى أرى وجه الموت. . . فأقابل بين الثلاثة؟
ولدت في غيبوبة. . . فهل أموت في غيبوبة؟
12 - حماية الطفولة
الطفولة هي موضع عناية الله. . . ألا ترونه يضم كل جنين أو صغير ناشئ بحنان ويشق له بيده طريق الحياة!
فمواضع يده اليقظة الرفيقة هي البراعم المتفتحة والمناطق النامية تلففها بأقمطة وأربطة، وترصد حولها حراساً من الأشواك والمرارة والمواد قاتلة المكروبات والحشرات
إنها تستكثر من البويضات وجراثيم الحياة وتخرجه بالملايين التي تعجز قوى الإفناء عن إتلافها جميعاً لتسلم الحياة وتدوم الأنواع.
إنها تحب ذلك العالم الجميل البريء الذي لم يقبح ولم يتدنس ولم تحتله بعد قوى الشر.
إنهم يدخلون باسمين للنور والطعام واللعب يسألون عن كل شيء
الشمس لهم المرعى والليل، ولهم السعي والعمل والحب في منطقة الخديعة من قلوب الأمهات والأباء
حملان وجراء وأشبال وأفراخ وبراعم وأطفال. أولئك هم الأصدقاء السائرون معاً في وكبةٍ من مواكب الحياة. . .
13 - الدوام
هل رأيت الدنيا تخلو يوماً من أشيائها؟(455/7)
أبداً ترى عصافير متحدة في الشكل والصوت تطفر على الأشجار والأعالي. . .
وأبداً وترى هذه الدار مأهولة بالشمس والقمر والنجوم. . . نجوم السماء ونجوم الأرض. . .
الأرض دائماً تقرع بالأقدام، والصبح دائماً معه صوت الطير. . .
أبداً فيك يا دنيا شباب متوجون بالطرة السوداء والغرة المشرقة، والشفاه الباسمة. . .
أبداً يلعب الأطفال في أمكنة اللعب ويتصايحون عرابيد مهاراً في الملاعب. . .
أزور دائماً أمكنة طفولتي فأجدها عامرة بالأطفال الذين احتلوا مكاني أنا ورفاق صباي. . .
أتراني أرى دوام هذا الكون العظيم. . . هذا الضياء الغامر الفياض، هذا الليل الرائع الجبار. . . هذه الرياح العاتية الجارفة الزخارة. . . هذا العباب الهدار الرجاف الرجراج. . . هذه الصحراء الطامسة الفاغرة. . . هذه الجبال الراسية الشامخة. . . هذه السماء الرحبة البعيدة المدى. . . ثم أرى ذاتي إزاء هذه العوالم ضئيلاً ضعيفاً فانياً ثم لا أصرخ في وجهها صرخة تدوي بها هبوات الرياح، وتتلقفها الجبال، وتذهب أصداؤها في الأعماق والأغوار. . . صرخة تتمثل فيها كل معاني إحساسي بفنائي وضعفي وضياعي بينها من غير سند ولا عاصم أعتز به وأطول وأصول؟!
لماذا تبقين وأنا أذهب؟ وتتجددين وأنا أبلى؟ وتبصرين هذا الجمال الدائم وأنا أعمى وأطمس؟ وتسمعين أصوات هذه الحياة العجيبة وضجتها وأنا أصم؟
لماذا تتوجين دائماً بلآلئ الصباح وذهب الضحى ورصائع النجوم، وتتجملين بأصباغ فاتنة من وهج الظهيرة وطفل الأصيل وشفق المساء، وتتعطرين بأنفاس الأزهار. . . وأنا أجرد من حلي وغرتي وطرتي، وتنصل أصباغي، وتتفكك أعضائي، وتحبس روحي عن هذا الوجود. . . حتى أنتهي إلى أن أنظر الكون من محجري جمجمة يسكنها الفراغ والظلام، وتسكن هي في أعماق حفرة ضيقة تضحك لظلامها بفكين مجرودين مقبوحين حتى تمسها يد البلى فتتركها رفاتاً سحيقاً بعد أن تمل الظلام ويملها؟!
لماذا تمنحين ما أحرم وأنت عديمة القلوب والعيون، وأنا ذو القلب الراقص دائماً على خفق الأدواح وصفق الرياح، الجائع دائماً إلى الأحاسيس والمعاني المعلنة والباطنة، وذو العين الرائدة الباحثة عن الحركات والألوان وسمات الوجوه وأشكال الأجسام!(455/8)
لماذا يا عدالة السماوات والأرض؟ أفي الحق ذلك؟
كلا! فليست العدالة هي التي قسمت هذا وقالت به. . . وإنما هي العقول السطحية اليائسة القاصرة قالت به. . .
ولكن عدالة الأكوان ومنطق القلوب - أوعية الحياة - هما يقولان ببقاء هذه النفس لهذا الكون ونقلها إلى جمال أكمل وأسمى وأدوم، وعالم من القدرة والتسلط أكثر هولاً وفناً وأعظم، وعالم من الانطلاق والتحرر أرحب وأنعم!
والموت الموعد!
14 - تهافت الغايات إلا غاية واحدة
وإني لأهتف حين تهب على قلبي نسمات خفية تثير فيه حساسيته بالدوام والخلود واللانهائية. . . ثم أرى أمامي كل غايات الحياة الأرضية متهافتةً أمام العقل لا تقنع عشاق الخلود والآملين فيه:
هل لي يا سيد الوجود شيء في ملكوتك الجميل الخالد يبقى وأحوزه لنفسي بعد فنائي ورحيلي من هنا؟
أم أنا ذاهب من كل هذا الجمال ومعاني الآمال كتبنةٍ ذهبت مع الريح، أو ورقة أحرقت في موقد، أو حشرة عمياء صغيرة سحقت تحت قدم. . .؟
وهل يكون نصيبي من ملكوتك هذا الرحب الواسع الغني بمعاني الحياة مكاناً مبهماً في جوف الظلمات وأطواء العدم وسكون الجمود، حيث لا إحساس بهذه الحياة ولا بما وراءها. . . وحيث لا أمكنة لأشياء إذ لا أشياء إلا تلك الصورة المطموسة التي ينقلها الخيال الإنساني من عالمها هنا إلى هناك، حين عجز أن يتخيل الفراغ والعماء؟!
إنني يا سيدي لا أصدق، لأن ضميري قطعة من ضمير الوجود كله. . .!
وكيف أصدق أن ما في عيني من الصور، وما في سمعي من النغم، وما في قلبي من أحاسيس، وما في فكري من قضايا الكون والفساد وأحلام الكمال، تذهب هكذا كأن لم تكن!
إنهم أطفال أولئك الذي يقصر خيالهم عن إدراك المدى الحيوي الباقي للإنسان وراء هذه الحياة الدنيا، كما يقصر خيال الطفولة عن إدراك عالم الرجولة وبلوغ الأشد في دنيا الأجسام. . .(455/9)
فكل غايات الحياة الأرضية متهافتة فانية أمام العقل، لا عمر لها إلا خطفات زمنية، ولا وزن لها تجاه الأبد الكبير. . . والهادفون إليها فانون، إلا إذا دارت حول غاية واحدة: هي الله والبقاء معه. . .
عبد المنعم خلاف(455/10)
ين أدم وحواء
شروق العقل
للدكتور زكي مبارك
أفاق أدم من غفوته عند قدوم حواء، وكان المنتظر أن يتلقاها بالضم والتقبيل، ولكنها عاجلته بضربة قاصمة هي تذكيره بشجرة التين، فغام قلبه بعد صفاء، وعاد فانطوى على نفسه كما يصنع الأرقم في ليالي الشتاء.
- آدم، مالي أراك شارد اللب؟
- من الفرح بقدومك بعد طول الغياب!
- أنظر، أنظر، ألا ترى أني صرت أنضر من أزهار التفاح؟
- وأحلي من أثمار التفاح!
- إذا ما هذا الخمود الذي يغالب قواك؟
- ما أنا بغافل عن واجب الترحيب بهذا الجسم الفينان، الجسم البديع الذي أضلني وهداني، ولكني تذكرت (صلاة الشكر) وهي صلاة لا تتم بلا اعتكاف، فإن رأيت أن تتركيني وحدي لحظة أو لحظتين. . .
- انتهاب الجمال هو في ذاته شكران لواهب الجمال
- أبغض ما تكون المرأة حين تتفلسف، فاتركيني لصلاتي، وإلا مزجت الكوثر بدمك النجيع. انصرفي ولا ترجعي إلا إن سمعت ندائي
(وخافت حواء عواقب هذه الغضبة فولت هاربة لا تلوى على شيء وتركت آدم للصلاة، وهي ترجو أن تكون صلاته أقصر من الأمل في سيادة العدل)
فماذا وقع بعد انصراف حواء؟
هل صلى آدم؟ وكيف تصح له صلاة وقبله يفور، وعقله يثور؟
أخذ آدم يفكر فيما انتهى إليه أمره وأمر حواء، فقد كانا غايةً في الطاعة والخضوع، فما الذي جد حتى أصبحنا غايةً في التمرد والعصيان؟
أيرجع السبب إلى وسوسة إبليس؟
ولكن إبليس كان يوسوس منذ أزمان ولم يصل إلى شيء، فكيف وصل بعد اليأس؟(455/11)
هنا أدرك آدم أن السر يرجع إلى النمو الملحوظ في جسده وجسد حواء، وأيقن أن اضطرام الأجسام يصنع ما تعجز عنه ألوف الأباليس. . . وهل تنجح الغزوات الخارجية إن لم تصادف قبولاً من الأهواء الداخلية؟
وزاد في اقتناع آدم بهذه النظرية ما كان يلاحظ على فصائل الطير والحيوان؛ فقد كان يشاهد أنها لينة رفيقة في أول عهدها بالوجود، ثم تغلب عليها القسوة والشراسة حين تصير إلى النضج والاستحصاد!
وإذن؟ وإذن يكون تطور الفاعلية الجسدية مصدر التطور في الفاعلية العقلية!
ثم؟
ثم يكون في كل تطور جديد إبليس جديد
وعلى هذا يكون لحواء في طغيانها عذر مقبول
وما ذنب حواء؟ ما ذنبها وقد استحالت إلى دوافع ونوازع وأهواء؟
نظرت مرة إلى نهر الكوثر في لحظة سكون فرأت خيال وجهها الجميل وقد استدار في هالة من السحر والفتون، فقدرت أن سيكون لها تاريخ، وعجبت من أن يتعامى آدم عن حسنها الفتان، كأنها تجهل أن آدم صار ألعوبة في زمامها المخبول
وخلاصة ما قرأت في كتاب شيت أن آدم لا يقيم وزناً لنزعات إبليس، وإنما يرى أن الجسد هو الأصل، وأن ألفافه مكونة من أباليس، وأن ثمر الشجرة المحرمة قد يزيده فورةً إلى فورة، وجموحاً إلى جموح
وهل غاب عن آدم أن ثمرات التين سريعة العطب والفساد؟
لقد تأملها مرة ومرتين ومرات، فعرف أنها معرضة لأخطر الجراثيم، وأدرك أن سمها قد يؤرت ما في الأجسام من السم المكنون فتستشري وتهتاج
وإذا كان آدم عجز عن رياضة حواء وهي صحيحة، فكيف يروضها وهي مريضة؟
خطرت لآدم هذه الخواطر وهو يبحث عن السر في تمرد حواء. . . لقد كانت طفلةً وديعة، فكيف صارت امرأةً خبيثة؟ تطور الجسد صنع بها ما صنع، فأمست وهي أخطر من الحية النضناض، ولن يكون إبليس بأمكر من حواء، بعد أن تبلغ مبلغ النساء
وكان آدم يعرف أنه يحمل الجانب الأخطر من المسئولية؛ فهو السبب الأصيل في تمرد(455/12)
حواء، وبفضل شبابه وصياله ذاقت أفاويق الضلال
والذي ينتظر أن تهدأ المرأة وأمام عينيها رجل، شبيه بالذي ينتظر أن تهدأ النار وقد ألقمت أكداس الحلفاء. . . لقد كان آدم يطرد حواء ثم تعود إليه لتأنس بضربه الوجيع، كما ترجع الفراشة إلى أقباس اللهيب
المرأة تدرك ما في الرجل من المعاني، ولو كان من الخاملين، فكيف تصد عنه وهو من الأنبياء؟
كانت حواء سمعت أن الله لم يخلق آدم إلا بعد أن دار بينه وبين الملائكة حوار طريف، فكيف يفوتها أن تنتفع بشهرته، وهي تعرف أن الهرة مغنم عظيم، وإن اعتمدت على أضاليل وأباطيل؟
وهل تقوم الشهرة بلا أصل؟
إن آدم رجل، والرجولة من أعظم الأرزاق، فما زهدها فيه وهو من أمثلة العزة والجبروت؟ وهل تنسى أنه صرعها فوق شط الكوثر ألوف المرات؟
القوة هي سحر آدم، والضعف هو سر حواء، والوجود يقوم على أسس كثيرة ولكنها ترجع إلى أساسين هما القوة والضعف؛ والعشق العارم لا يقع إلا بين عاشقين مختلفين في العرض والطول، والدمامة والجمال، والقسوة واللين
ومع هذا كان آدم هو البادئ بإعلان شوقه إلى حواء، وكانت حواء تنكر شوقها إليه. وتفسير ذلك سهل: فأسرع الناس إلى الاعتراف بالحق هم الأقوياء
ويزعم شيت بن عربانوس أن آدم قال وهو يحاور تلك اللعوب:
أما والله لو تجدين وجدي ... لطِرت إليَّ خالعة العذار
وقد فات آدم ان حواء ضعيفة، والضعف يتسلح بالرياء
والقول الفصل أن آدم قد انتهى إلى حقيقة لا تحتاج إلى برهان، وهي صدور الأهواء عن الأجساد قبل صدورها عن الأرواح، لأن الجسد أداة الروح، ولأنه يحفظ قواها كما تحفظ الكأس سر الرحيق
ثم ماذا؟ ثم التفت آدم إلى وحي النبوة فقال:
(لم أكن أدرك تكاليف النبوة حين أراد الله أن أكون من الأنبياء، فقد فهمت أول الأمر أن(455/13)
النبوة لا تصح إلا لمن يقف موقف الراعي من الرعية، وليس في الجنة جنود وأتباع يحتاجون إلى من ينظر في شؤونهم بعين المدبر الحصيف. . . ثم عرفت أن الله جعلني نبياً لحكمة سامية: فحواء شخص فرد، ولكنها مؤلفة من شخوص يعدون بالألوف، بفضل ما يصطرع في جسدها وروحها، وقلبها وعقلها، من أشتات النوازع والأحاسيس. . . هي شخص فرد، ولكن أوقاتي تضيق عن الطب لأهواء ذلك الشخص الفرد، فكيف أصنع لو أضيف إليها أفراد يحملون ما تحمل من أوقار النزق والطيش والجموح؟ إنها تتعبني في الحوار، وأكاد أوقن بأن كل كلمة من كلماتها ترمز إلى شيء، فهذه الكلمة عتاب، وتلك الكلمة اتهام، وهذا اللفظ وعد، وذاك اللفظ إغراء، وذلك اللفظ تجريح. . . ومن عجيب الأمر في سياسة هذه الشقية أن خطبها لا يهون إلا حين تنطق، مع أن المفهوم أن نطقها في أغلب أحواله وعيد مخيف. . . أخطر ما تكون حواء حين تصمت، فعند ذلك أدرك أنها تضمر أشياء، وأنا أخاف أشد الخوف من النذير الصموت. . . لو أن الله جعلني نبياً في أمة كثيرة العدد لخف الخطب وهان، فقد كنت أستطيع الاعتذار بالعجز عن رعاية الألوف من الرجال والنساء، ولكن الله جعلني نبياً على مخلوق تحار في رياضته العقول. . . من أي طريق أصل إلى اكتناه قلب حواء؟ وكيف أؤدي الواجب في تهذيب تلك الشقية؟ وهل نجحت في التخلق بأخلاق النبوة وأنا أروض تلك الفرس الشموس؟ الله يعلم أني لم أقصر ولم أفرط، ولكن ما هذا البلاء الذي أعانيه؟ واجب النبي أن يهدي الجميع في حدود ما يطيق؛ وقد يتلطف الله به حين يعجز عن هداية من يحب، لأنه يعلم أن الأحباب هم في الحقيقة أعداء؛ وهل يعرف مقاتل المحب غير الحبيب؟ كان يكفي أن أعجز عن هداية حواء فأسلمها إلى الشياطين، ولكن البلاء كل البلاء أن هذه المرأة لا تكتفي بنجاتها من يدي، وإنما تريد أن تضلني فآكل معها الثمر الممنوع، وبهذا يصبح الهادي وهو من الضالين! إن نجحت حواء في اختتالي واختلابي فسأكون عبرة لمن يأتي بعدي من الأنبياء. . . وهل أضمن حفظ مكانتي في التاريخ؟ إن تطاول الزمان فسيقول قوم إن آدم شخصية خرافية أريد بها تصوير انهزام الرجال أمام النساء. وهل يؤذيني أن يقال ذلك؟ أنا أول ضحية بشرية إن هزمتني حواء، ومن حق من يجيئون بعدي أن يرتابوا في حقيقتي التاريخية. فالرجل الذي يعجز عن كبح المرأة لا يستحق شرف الوجود. . . وأنا أعيذ من(455/14)
تصل إليهم هذه الأخبار أن يسيئوا الظن بجدهم المظلوم، فليس عندي أوامر صريحة أتولى بها زجر حواء، ولست أعرف المصير إن عاقبتها بالقتل، فما لي صديق غير هذا المخلوق، والصديق الواحد جدير بالاستبقاء وإن تردى بالعيوب. من أخصب تخير، وأنا في الصداقة مجدب لا مخصب. فهل ألام إذا استجزت المعصية طاعةً لمحبوب لا أجد غيره حين يضيع؟ سأقرب الشجرة رعاية لحواء، وليصنع الله بنا ما يشاء. . . وماذا يريد الله! أيريد أن نشاركه في السمو المطلق؟ أيريد أن نتنزه كما تنزه عن جميع الشبهات؟ أين نحن من الله وهو قوة أزلية لا يعتريها نقص ولا خمود؟ بأمر الله سأعصي الله فأقرب الشجرة مع حواء. سأعصيه بأمره وإن كان نهاني، فهو يعلم أن المخلوق المؤلف من أحلام وأهواء لا يعظم عليه العصيان)
وانخرط آدم في البكاء، فلم يوقظه غير حواء
- آدم، آدم، ماذا بك؟
- حواء؟
- نعم، حواء، هل فرغت من صلاتك؟
- أي صلاة؟
- صلاة الشكر، ألم تحدثني أنك من أجلها أردت الاعتكاف
- لقد صليت صلاة لا تخطر لك في بال
- هل صليت كما تصلي الملائكة؟
- أعظم مما يصلون
- وكيف؟
- ناقشت الله!
- من ناقش الله هلك
- قولي هذا لنفسك، يا حواء!
- أحب أن أعرف كيف تكون المجادلات من ضروب الصلوات؟
- حين تكون شاهداً على شروق العقل
- لا أفهم ما تريد أن تقول(455/15)
- أريد أن أقول: إن الله يكره لعباده أن يلوذوا بالصمت والجمود
- ومعنى هذا أنه يجب أن نتكلم ونتحرك في كل وقت؟
- إذا أشار العقل
- وما العقل؟
- أن تسكتي إلى الأبد الأبيد!
- أتريد أن تتمتع بنعمة الكلام وحدك؟
- لأنني أشقى بنعمة العقل وحدي، ولأن الله لن يسأل غير (آدم) عن نزق (حواء)
- وما رأيك في شجرة التين؟
- المرأة حين تولع بشيء لا تنفك تدور حوله ولو نهاها عنه الأنبياء
- وأنت نبي يا (آدم)؟ لم يبق إلا هذا الزعم الطريف!
- إن صوت الله قرع أذنيك ولم تنتهي، فهل تسمعين صوت النبي المسكين؟!
- ومتى نهاني الله عن الشجرة؟
- كيف نسيت يا حواء أننا سمعنا ألف مرة هاتفاً يصيح: (لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)
- هو نداء موجه إليك
- إلي وحدي؟ وكيف؟
- لأنك رجل!
- وإذن يكون من حقي أن أقرب الشجرة وحدي
- لن تذوق ثمرها إلا من يدي
- وهل أذوق من يديك غير العلقم والصاب؟
- اسمع يا آدم، اسمع: ينظر أنك أغلف القلب، وأنك في احتياج إلى من يزيل الغشاوة عن عينيك. ما هذا التمرد على الله؟ وما هذا العصيان؟ مزيتك أنك رجل، ورجلة آدم رهينة بشهادة حواء، ولن أعترف لك بشيء إلا إن عصيت وغويت
- ويقول الله: وعصي آدم ربه فغوى؟
- ومن أنت حتى تصل إلى أن ينالك الله بالغمز والتجريح؟(455/16)
- اسكتي، يا حواء!
- لن أسكت قبل أن أزلزل قلبك جزاءً بما احتكرت من دعوى الفضيلة والشرف والنبل؛ كأن سلوكي معك رذيلةٌ وضعةٌ وإسفاف. أنت تصور نفسك دائماً بصورة المظلوم وتنسى أنك في أغلب أحوالك من الظالمين
- ومتى ظلمتك، يا حواء؟
- حين تناسيت فضلي عليك، فأنا أضرم أهواءك لتشعر بعنفوان الرجولة الحق، وستموت حسياً ومعنوياً يوم أعجز عن إغوائك. فيوم ذاك تعرف يا جاهل أن طيش حواء ليس بالمغنم القليل
- كفى. كفى!
- لا، لا، لن أتركك أو تعترف بفضلي عليك
- أمن الفضل أن تزيني المعصية؟
- ما زينت لك شيئاً غير جميل
- وشجرة التين؟
- ما تهمني شجرة التين بالذات فسأحاول هدايتك إن امتنعت عن شجرة الجميز، لأملك نقل قلبك من مكان إلى مكان، ولأطمئن إلى أنك بعافية تجعلك في طليعة الفحول، فما ينجو من كيد المرأة إلا العنين أو المجبوب
- أنت يا حواء شقية!
- وأنت يا آدم جهول!
ومرت لحظات صمت فيها آدم صمت الأموات، ثم ثاب إلى صحوه فأيقن أن نجاته من كيد حواء أمل عزيز المنال. . . ولكنه جمع قواه ليصدها عن الغواية بأسلوب لم يفكر فيه من قبل. فهل يصل إلى ما يريد؟
(للحديث شجون)
زكي مبارك(455/17)
حاجتنا إلى معهد أثنولوجي
بجامعة فؤاد الأول
للأستاذ محمد جلال عبد الحميد
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
2 - كيف نبتدئ في تكوين المعهد الأثنولوجي؟
قد يبدو غريباً أن نطالب الحكومة بإنشاء مؤسسة علمية جديدة بجامعة فؤاد الأول في هذا الوقت وخصوصاً وقد أصبح من المتعذر استدعاء العلماء الأخصائيين من أوربا وغيرها، وأنه أصبح من الصعب أيضاً توفير المال اللازم لتنفيذ مثل هذا المشروع، ولكنا إذا توسعنا في التفكير والبحث عن أقرب الطرق وأسهلها مع توخينا البساطة في التنفيذ ظهر لنا الأمر على عكس ما كنا نتوهم
من حيث هيئة التدريس وتكوين أعضائها فإن من السهل انتداب بعض الأساتذة من كليات جامعة فؤاد الأول وغيرها من المؤسسات العلمية بمصر. ففي كلية العلوم مثلاً يمكن استدعاء أستاذي البيولوجيا والفزيولوجيا لمعالجة هاتين المادتين بالمعهد؛ وكذلك يمكن انتداب أستاذ علم التشريح من كلية الطب لمعالجة مسائل الجنس البشري. ومن السهل أيضاً أن يقوم أساتذة علم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا واللغات لمعالجة المسائل الاجتماعية وأثر البيئة الجغرافية في تحديد النشاط المادي والروحي للجماعات البشرية المحدودة المدنية؛ ثم البحث عن معالم مدنياتها وآثار ما قبل التاريخ في الجهات التي تسكنها
فكما نشاهد فيما بعد أن المواد الرئيسية التي يتكون منها علم الأثنولوجيا هي ضمن اختصاص جماعة من العلماء لهم معاملهم وتجاربهم وأوضاع بحوثهم المستقلة. ولما كان الغرض الأول من معالجة تلك المواد بمعهد الأثنولوجيا هو رسم صورة عامة للتكوين الاجتماعي والأسس الدينية والأوضاع الاقتصادية، وتحديد المميزات الرئيسية للأجناس البشرية المحدودة المدنية؛ فليس من الصعب أن نبدأ من الآن فنعمل على إنشاء معهد للبحوث الأثنولوجية وأن تكون هيئة التدريس فيه من الأساتذة المصريين والأجانب الموجودين بمصر الآن(455/18)
وأما مشكلة التجارب الأثنولوجية وكيفية تهيئة المعامل اللازمة لها، فليس فيها تعقيد أو صعوبة لا يمكن تخطيها، لأنه من السهل استدعاء بعض الأطفال والأولاد من المدارس الإلزامية والابتدائية، وأما الرجال والنساء، فيؤتى بهم من بعض وحدات الجيش والمستشفيات والسجون لوصف وأخذ أقيسة مختلفة لأعضائهم وتحليل الدم عندهم لتحديد مجموعاته المختلفة. ويمكن أيضاً إجراء مثل هذه التجارب على الهياكل البشرية التي يمكن الحصول عليها من كلية الطب
ومن ضمن التجارب الأثنولوجية أيضاً القيام ببعض زيارات لمتحف الأثنولوجيا والمتاحف الأخرى الموجودة بمصر للوقوف على كيفية ترتيب المعروضات فيها، ثم القيام بوصف وتحليل بعض هذه المعروضات لمعرفة طريقة تكوينها واستخلاص الأسس الفنية والغاية التي أنشئت من أجلها
3 - منهج الدراسة
أولا - الدراسة النظرية
تتناول هذه الدراسة نشأة الإنسان ومميزاته الرئيسية والمؤثرات الخارجية المحيطة به واتصال ذلك بنظام تطوره العام، وأبواب هذه الدراسة هي:
(ا) نشأة الإنسان ومميزاته
1 - باليونتولوجيا
نستعين بهذه الدراسة في معرفة آثار الحياة في المخلوقات البسيطة التركيب وغيرها والتي وجدت في عصور جيولوجية قديمة سبقت عهد ظهور الإنسان مع العمل على تحديد المناطق الطبيعية لتلك الحيوانات وتعيين اتجاه هجرتها في تلك العصور، ثم تعيين المناطق الأولى التي ظهر فيها الإنسان
2 -
وعند الإلمام ببعض مبادئ علم الحياة نستطيع أن نعرف التطورات والتغيرات التي تنشأ داخل جسم الإنسان وتعتريه في حياته، ثم العمل على تحديد العوامل الوراثية وأثرها في(455/19)
انتقال المميزات الرئيسية للجنس البشري
3 - فزيولوجيا
ونقصد من هذه الدراسة الوقوف على كيفية ومدى تأثير البيئة الجغرافية وطرق التغذية ووسائل العمل في اختلاف الأجناس البشرية.
4 - أنتروبولوجيا
يتناول هذا العلم دراسة الصفات الرئيسية لجسم الإنسان وتحديد المميزات المختلفة للأجناس البشرية كلها مع الإلمام التام بتاريخ نشأة كل منها.
(ب) مؤثرات خارجية
1 - البيئة الجغرافية والبشرية:
بعد معرفة العناصر المختلفة للبيئة الجغرافية من حيث الطقس ودرجة خصوبة الأرض والتغيرات المناخية يمكن تحديد تأثير تلك العوامل الطبيعية في التكوين الاجتماعي والنشاط المادي والروحي للأمم المختلفة.
2 - اتصال الأجناس والمدنيات:
إذا تغلبت أمة على أمة أو طغت مدنية على مدنية أخرى فقد يؤثر ذلك في حجم الأمة المغلوبة إما بزيادة عدد أفرادها أو بنقص هذا العدد. وللمدنية الغابة الحق والقدرة على توجيه رأي الجماعة والتعبير عن شعورها وتحديد طرق معيشتها. وعلى هذا فمن الضروري أن نهتم كثيراً بدراسة تأثير المدنيات بعضها في بعض، ومعرفة النتائج المادية والمعنوية للاستعمار البشري والاتصال المدني. ويكمل هذه الدراسة بحوث يقصد منها تحديد مناطق المدنيات وعصورها واتجاهاتها ومميزاتها الرئيسية.
(ج) النشاط الإنساني
1 - علم النفس
يقصد من هذه الدراسة الإلمام بمعرفة الظواهر الأولى لنشأة الحياة الفكرية والإحساس(455/20)
والشعور وطرق التعبير عنهما لدى الإنسان ومقارنة تلك الظواهر بما تشابهها لدى الحيوانات الراقية
2 - علم اللغة
ونستعين بهذه الدراسة في معرفة القوانين العامة لاختلاف اللغات واللهجات والإلمام بالطرق العلمية لجمع عناصرها ومعالمها بين الجماعات المختلفة
3 - علم الاجتماع
يقصد من هذه الدراسة معرفة الأسس والتعاريف العامة للظواهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية
4 - أتنوجرافية
وغاية علم الإتنوجرافيا دراسة الطرق المختلفة التي يجب اتباعها في جمع معالم ولم شتات المدنيات لدى الأمم المحدودة المدنية
5 - علم آثار ما قبل التاريخ
نبغي من وراء هذه الدراسة معرفة المميزات الأساسية للإنسان الأول ومعرفة آثاره المادية والروحية والعمل على جمعها وترتيبها حسب مواطنها وعصورها المختلفة
ثانيا - الدراسة العملية
1 - تجارب أنتروبولوجية
يقوم الطلبة بإجراء تجارب مختلفة، كوصف جسم الإنسان وأخذ أقيسة لأعضائه، وأن تجرى هذه التجارب على الرجال والنساء والأولاد والأطفال؛ وذلك في بيئات وطبقات اجتماعية مختلفة. هذا وأن تجرى نفس التجارب على الهياكل البشرية والحيوانية
2 - تجارب بسيكولوجية
يتمرن الطلبة على استعمال الآلات الحديثة الخاصة بقياس قوة النظر وسرعة الإحساس، مع الإلمام بمعرفة الطرق العلمية المستعملة في قياس قوة الذاكرة(455/21)
3 - تجارب انتوجرافية
يقوم الطلبة بعدة زيارات لمتحف الأتنولوجيا والمتاحف الأخرى بالقاهرة وغيرها للوقوف على كيفية ترتيب وضع المعروضات فيها ووسائل حفظها والعناية بها. وأن يتدرب الطلبة أيضاً على وصف هذه الأشياء ومقارنتها بنظائرها
4 - رحلات
يقوم الطلبة برحلات وزيارات لكثير من القرى المصرية والسودانية لدراسة نظام تكوين القرية ووصف الحياة فيها ويقوم الطلبة أيضاً بزيارة المناطق التي اكتشف فيها آثار ما قبل التاريخ
وقبل أن أنتهي من الحديث عن منهج الدراسة بمعهد البحوث الأتنولوجية أريد أن ألفت النظر إلى أنه يشترط في طالب الالتحاق به أن يكون من خريجي كليات الآداب والحقوق والتجارة والطب وأن تكون مدة الدراسة فيه سنتين
هذا وإننا نرى أن متحف الأتنولوجيا يكون جزءاً متمماً للمعهد فيجب أن يبدأ في تكوينه مع المعهد
يظهر لنا مما تقدم أن بوادي النيل كثيراً من الجماعات البشرية تختلف عن بعضها من حيث جنسها ونوع تكوينها الاجتماعي ودرجة مدنياتها، وأن البحث عن معالم تلك المدنيات لم يتسع ميدانه ولم تتنوع أبوابه بعد، فيجب أن نشرع في إنشاء معهد ومتحف الأتنولوجيا لنتابع بذلك تقدماً مطرداً في نهضتنا العلمية الحديثة والتي تبغي لها انسجاماً في جميع نواحيها. وإذا نظرنا إلى ماضي نهضتنا على الأخص هذه وجدنا أن في عنقنا ديناً نحو العلم الذي أصبح اليوم يزهق من زفرات أوربا المحرقة والتي شردت العلماء في فيافي الأرض بعد أن تفككت أواصر مجتمعاتهم وانقلبت أوضاع معاملهم، وأن شعورنا بهذا الواجب يحتم علينا أن ننهض ونضحي ونهيئ للعلم وطناً كما فعل السابقون من أبناء هذا الوادي
محمد جلال عبد الحميد(455/22)
2 - ابن خرداذبه
للأستاذ كوركيس عواد
يؤخذ مما ورد في بعض المراجع - أن ابن خرداذبه هذا - كان وزيراً، فقد ذكر البشاري المقدسي في عرض كلامه على (سد ذي القرنين) ما هذا نصه:
(قرأت في كتاب ابن خرداذبه وغيره في قصة هذا السد على نسق واحد، والفظ والإسناد لابن خرداذبه، لأنه كان وزير الخليفة، وأقدر على ودائع علوم خزانة أمير المؤمنين. . .)
ويؤسفنا أنه لم يشر إلى اسم ذلك الخليفة الذي وزر له، والمرجح عندنا أنه كان (المعتمد)
وقد بحثنا فيما بين أيدينا من تواريخ الدولة العباسية، والمصنفات الباحثة في أخبار الوزراء خاصة؛ فلم نجد بين هاتيك المدونات من ذكر أن ابن خرداذبه كان وزيراً لخليفة من الخلفاء. والذي نذهب إليه أنه كان وزيراً بالاسم فقط، وهذا أمر معروف عند متتبعي أحوال الإدارة في تلك الأزمنة التي كثرت فيها الوظائف، واصطنعت فيها الألقاب!
ومهما يكن من أمر، ففي العبارة التي نقلناها عن البشاري، خير دليل على عظم منزلة ابن خرداذبه عند الخليفة، وعلى اعتماد ذاك الخليفة عليه في أمور خزانته الحافلة
وقد ذكر ابن خرداذبه نفسه بنفسه، في أوائل كتابه (المسالك والممالك)، ولمح إلي مكانه من الخليفة بقوله:
(هذا كتاب فيه صفة الأرض، وبنية الخلق عليها، وقبلة أهل كل بلد والممالك والمسالك إلى نواحي الأرض، تأليف أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه، مولي أمير المؤمنين)
والظاهر أن (أمير المؤمنين) هذا، قد كان المعتمد أيضاً، على ما عرف من صلة وثيقة بينه وبين هذا الخليفة
ولعبيد الله ابن خرداذبه أخبار تفرقت في شعر بعض معاصريه فيها ما يسير إلى أصله (الفارسي)، وما يشيد بذكر عائلته العريقة في المجد، وما يدل على سمو منزلته في الدولة
روى أبو بكر الصولي في كلامه على الشاعر أبي الطيب محمد ابن عبد الله بن أحمد بن يوسف أنه قال: (وكتبت إلى ابن خرداذبه، وقد دام المطر (بسر من رأى) وتأخرت عنه:
لعمري لئن سرّ الحيا في مواطن ... لقد ساَءني أن عاقني عن لقائكا
وقد كنتُ مشغوفاً بذاك أريده ... فحالَ قضاءُ الله من دون ذلكا(455/23)
فَصِفْ لي فَدَتْك النفس أمراً يسرني ... وأحمد فيه الله من حسن حالكا
وحال أَحينا أَحَسنَ الله صنعه ... وحال فَتاك منعماً في كتابكا
فهذا الشاعر، على ما يبدو من الأبيات المتقدمة، قد كان صديقاً حميما لابن خرداذبه. ونظيره في هذه الصداقة كان البحتري الشاعر المشهور المتوفى سنة 284 هـ؛ فقد وقفنا في ديوان شعره على قطع له فيه. من ذلك ما قاله في عبدون بن مخلد وقد كتب بها إلى ابن خرداذبه:
أبلغْ لديكُ عبيد الله مألكة ... وما بدَارِ عُبيْدِ الله من بُعدِ
أضحتْ بقطر بّل والدَّيْرُ حَلَّتُه ... ومَا يُجَاوِرُ بيتَ النارِ ذا العُمُدِ
لم تدر ما بي وما قد كان بَعدَك من ... نفاستي لك في عبدون أو حسدي
أغَرُّ، أَحسَبُ نُعْمَاهُ الجليلةَ من ... ذخائري لِصرُوفِ الدهرِ أو عُدَدِي
إذا مضى اليوم لا نلقاه فيه مضى ... سرورنا وترَّقبنا مجىء غدِ
إن فات في السبت أن نزدار سيدنا ... فلا تَفُتْنا لشيءٍ زَوْرَةَ الأحد
وفي القطعة التالية، يوجه البحتري الكلام إلى ابن خرداذبه بعد أن خلع عليهما عبدون بن مخلد. وفي هذه إشارة صريحة إلى ما كان من صلة بين عبدون وابن خرداذبه. قال البحتري:
يا أبا القاسم استَجَدَّ لنا عبدو ... نُ حالاً تمامُها في ضمانِهْ
جمعتنا مَوَدَّة واجتمعنا ... بعدُ في برّه وفي إحسانهْ
قد لبسْنَا ثيابَهُ وتَسايَرْ ... نا بتقريظه على حُمْلانه
وأجزل فائدة من ذلك، ما قاله البحتري في مدح عبيد الله ابن خرداذبه، وذكر صداقته، وتهنئته بخروجه من علة كان فيها ودونك ذلك:
إن ترْجُ طوْلَ عبيْدِ الله لا تخبِ ... أو ترْم في غرضٍ من سيبه تُصب
لم تلقَ مثلَ مَساعيه التي اتصلتْ ... وما تقيَّلَ منها عن أَبٍ فأًبِ
رأْيٌ صليبٌ على الأيَّام يُتْبعُهُ ... ظرفٌ متى يَعترض في عيشِنا يطِب
ذاكَ أَخٌ أَفتديهِ إنْ يُحِسَّ أَذىً ... بالنفسِ مما توقَّاهُ وبالنَّشبِ
(إذ كان من فارسٍ في بيت سؤددها ... وكنت من طيئٍ في البيت والحسب(455/24)
فَلم يَضِرْنا تَنائي المنصبين وقد ... رُحنا نسِيبَيْن في خلُقٍ وفي أًدًبِ
إذا تشاكلتِ الأخلاقُ واقتربتْ ... دنتْ مسافةُ بين العُجم والعربِ)
اسلم ولا زلتَ في سترٍ من النُّوَبِ ... وعِشْ حميداً على الأيام والحُقُبِ
ولْيهْنِكَ البُرْءُ مما كنتَ تَألمُهُ ... والأجرُ في عقْبِ ذاك الشكوِ والوَصبِ
أَوْحشتَ، مذْ غبتَ قوماً كنتَ أُنسَهمُ ... إذا شَهِدْتهمُ فاشهَدْ ولا تغِبِ
إلاّ تكنْ مَلِكاً تُثْنَى تحيَّتهُ ... فإنَّك ابنُ مُلوكٍ سادةٍ نُجُبِ
وإن قصدْتَ ابتغاَء البُرْءِ من سَقمٍ ... فقد أَرقتَ دَماً يَشْفي من الكلَبِ
وغني عن القول أن ابن خرداذبه، وهو الفارسي الأصل، كان يعرف اللغة الفارسية، ولا ندري ما إذا كانت له كتابات أو تآليف بهذه اللغة. وإنما وجدناه في كتابه المسالك والممالك يستشهد في موطنين بشعر فارسي
أما سنة وفاته، فلسنا على ثابت منها. وقد وجدنا الحاج خليفة يقول إن ابن خرداذبة توفى في حدود سنة 300 للهجرة، ولعل هذا صحيح، غير أننا لم نقف في كتاب قديم على ما يدعم هذا القول
وقد قلنا إن ابن خرداذبة نادم المعتمد وخُصَّ به. ومعروف أن المعتمد ولد سنة 229، وبويع له بالخلافة سنة 256، وتوفي سنة 279هـ، فيكون ابن خرداذبة قد بلغ أوج عزه خلال هذه الفترة المنحصرة بين 256و279 للهجرة.
وذكرنا ما كان من صداقة بينه وبين البحتري المتوفى سنة 284هـ. إلا أن المراجع التي بأيدينا لا تعيننا على معرفة ما إذا كان ابن خرداذبة قد توفي قبل البحتري أو بعده.
وما قلناه في عبيد الله، نقوله في سائر بني خرداذبة، فإننا نجهل سني وفياتهم، فضلاً عن أن علمنا بسائر أخبارهم وشؤونهم ما زال مقتضباً يسيراً. وحسبك أن تعلم أن الترجمة الوحيدة لعبيد الله ابن خرداذبة، هي التي كتبها ابن النديم في فهرسته، وهي أقل من خمسة أسطر!
5 - مؤلفات ابن خرداذبة
سبقت الإشارة إلى بعض تصانيف ابن خرداذبة، التي خلدت اسمه على كر العصور. وهذه المؤلفات قد تزيد على العشرة، ذكر ابن النديم ثمانية منها، ضاع أغلبها فيما ضاع من(455/25)
تراث الأقدمين. وإليك الآن أسماءها وما نعلمه من أمرها:
1 - كتاب أدب السماع.
2 - كتاب جمهرة أنساب الفرس والنوافل.
3 - كتاب المسالك والممالك: ضمنه إحصاء جباية المملكة العباسية في أواسط المائة الثالثة للهجرة. وهو من خيرة المراجع القديمة في معرفة الطرق والمسالك، وتعيين المسافة بالفراسخ أو بالأميال بين مكان ومكان، على ما كان معروفاً عند القوم في ذلك الزمان. ولا مراء، إن ابن خرداذبة كان الرجل الثقة في مثل هذه البيانات، لأنه تولى أعمال البريد. ومن المعلوم أنه (لا غنىً بصاحب هذا الديوان أن يكون معه منه ما لا يحتاج في الرجوع فيه إلى غيره، وما إن سأله عنه الخليفة وقت الحاجة إلى شخوصه وإنفاذ جيش يهمه أمره، وغير ذلك مما تدعو الضرورة إلى علم الطرق بسببه، وجد عتيداً عنده ومضبوطاً قبله، ولم يحتج إلى تكلف عمله والمسألة عنه)
ويبدو لنا واضحاً أن ابن خرداذبة لم يؤلف هذا الكتاب إلا بطلب من شخص كبير لم يصرح باسمه ولعله أحد الأمراء. قال في أول كتابه، وفيه ما يوضح غرضه من هذا السفر ما إليك نصه بالحرف الواحد:
(أطال الله تعالى بقاءك يا ابن السادة الأخيار والأئمة الأبرار منار الدين وخيرة الله من الخلق أجمعين، وأدام الله لك السعادة، وكثر لك الزيادة من جميع الخيرات، ووفقك لسبيل الصالحات، وجعلك ممن ارتضى أفعاله وزين أحواله. فهمت الذي سألت، أفهمك الله جميع الخيرات وأسعدك إلى الممات، وأفلح في الدارين سهمك، ووفر فيهما قسمك، من رسم إيضاح مسالك الأرض وممالكها، وصفتها وبعدها وقربها وعامرها وغامرها، والمسير بين ذلك منها من مفاوزها وأقاصيها ورسوم طرقها وطقوسها على ما رسمه المتقدمون منها. فوجدت (بطليموس) قد أبان الحدود وأوضح الحجة في صفتها بلغة أعجمية، فنقلها عن لغته باللغة الصحيحة لتقف عليها، وقد رسمت، رسم لك فوز الحق في جميع مأمولك ومطالبك، ما رجوت أن يكون محيطاً بمطلوبك وآتياً على إرادتك كالمشاهد لما نأى والخبر بما قرب، وصنعته كتاباً افتتحته بالحمد لله ذي العزة المنيعة والنعمة السابغة، الذي أنشأ الخلق على ما أراد، وبين سبيل الحق للعباد، لم تشركه في خلقه الآراء المتوهمة ولا ظنون الرؤيات،(455/26)
تعالى الله عما يشركون، وصلى الله على محمد نبيه، وعلى الأخيار من عترته وسلم كثيراً) أهـ
والمعروف في وقتنا أن لهذا الكتاب ثلاث نسخ خطية، اثنين منهما في خزانة أكسفرد وفيهما خروم
وكان المستشرق باربيه دي مينار أول من نشر هذا الكتاب ونقله إلى الفرنسية (المجلة الآسيوية الفرنسية، السلسلة 6، المجلد 5، سنة 1865، ص 227 وما بعدها ثم عني بتجديد طبعه العلامة دي غويه فنشره مترجماً إلى الفرنسية أيضاً (الخزانة الجغرافية العربية، ج 6، ليدن 1889 في 183 صفحة للمتن، و144 للترجمة. ويليه في المجلد نفسه نبذ من (كتاب الخراج وصنعة الكتابة) لقدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، المتوفي سنة 310 أو 320هـ، صفحة 184 - 266) وجديرة بالعناية تلك التحقيقات الثمينة والتعليقات الدقيقة والفهارس المتقنة التي تحلى بها هذا الكتاب. وقد اشتملت المقدمة التي كتبها الناشر دي غويه بالفرنسية على فوائد جزيلة، جاءت في 23 صفحة. وصفوة القول أن هذه الطبعة نفيسة، فيها ما يحمل القارئ على الاطمئنان إلى سلامتها من الشوائب
وقد نشر دي غويه أيضاً، قطعة من هذا الكتاب في مجموع بلداني له، كما نشر بلاشر قطعاً أخرى منه في مجموع بلداني له
ومن الدراسات الثمينة التي حظي بها هذا السفر، ما كتبه الرحالة المستشرق موزيل في كتابه (الفرات الأوسط) فقد عمد إلى المسافات والأبعاد التي ذكرها ابن خرداذبه في الطريق من بغداد إلى الرقة، وانتقد ما اعتورها من أوهام. وجدير بمن يطالع المسالك والممالك أن رجع إلى ما كتبه موزيل في هذا الشأن لتتم به الفائدة.
(يتبع - بغداد)
كوركيس عواد(455/27)
أستراليا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
بيت القصيد، وميدان القتال الجديد، وما نخال إلا أنها كانت السبب الأول والعامل المهم في دخول اليابان الحرب الحاضرة ضد بريطانيا العظمى - بعد أن حرم على أبنائها سكنى استراليا -
والآن وبعد أن أجهزت اليابان في مدى شهرين أو ثلاثة على الجزائر التي تربط هذه القارة بآسيا، فأنها لا شك متقدمة إليها زاحفة عليها: ولسنا ندري ماذا ستكون نتيجة الصراع القادم بين الأستراليين واليابانيين؛ فالأستراليون محاربون بواسل كان لهم القدح المعلى والنصيب الأوفر في كسب بريطانيا للحرب الماضية، وفي رد العدوان الإيطالي في الحرب الحالية عن مصر؛ وسوف يكون نضالهم عنيفاً من غير شك، فإنهم لن يسلموا بلادهم دون الاستشهاد في سبيلها، وهم يدركون الآن أن الساعة التي تفرض عليهم المقاومة الباسلة آتية لا ريب فيها. وقد جاء من سيدني بتاريخ 9 فبراير سنة 1942 أن الجنرال جوردن بنيت ألقى خطبة في حفلة أقيمت لاستقباله قال فيها: (عندما نقابل اليابانيين في استراليا - وأنا واثق من أننا سنقابلهم - فإني موقن بأن روح القتال في الشعب الأسترالي ستسود الموقف وتقودنا إلى النصر. فيجب علينا أن نقذف بهم في البحر في كل مكان يحاولون فيه تثبيت أقدامهم. إن محاولة غزو بلادنا تعد مغامرة تكتنفها الأخطار، ولكننا لم نعد نقلل من قوة العدو كما أننا لن نقلل من قوتنا وقوة حلفاءنا)
وسنحاول في هذا المقال وصف المناطق الشمالية من استراليا التي ستكون أول ميدان للقتال، ووصف استراليا وصفاً إجمالياً ومقدار ثروتها الزراعية والمعدنية وقدرتها على الإنتاج الصناعي
هذه القارة
أصغر القارات جميعاً وأكبر جزائر العالم. تبلغ مساحتها 54
مساحة أوربا و 51 مساحة أفريقيا و 61 مساحة آسيا، ويتكون
شمالها من سهول شاطئيه منخفضة لا يزيد ارتفاعها على(455/28)
600 قدم. وتتدرج في الارتفاع نحو الداخل. ويمتاز هذا
الإقليم بشدة حرارته وغزارة أمطاره في فص الصيف الجنوبي
(يناير)، وبجفافه وقلة حرارته نسبياً في فصل الشتاء الجنوبي
(يونيه). وفي اعتقادنا أن ذلك من حسن حظ الأستراليين، لأن
القتال سيدور في جو ملائم نوعاً لهم بعد أن ولى فصل
الصيف الشديد الحرارة وأقبل الخريف. أما شرق هذه القارة
فتوجد به المرتفعات الشرقية، وهي تتكون من مرتفعات
كوينزلند، وجبال نيوانجلند، والجبال الزرقاء، وجبال الألب
الأسترالية؛ تلي هذه المرتفعات السهول الوسطى، وتتكون من
إقليم الآبار الارتوازية العظيم وتبلغ مساحته نصف مليون ميل
مربع تقريباً، وهو أكبر إقليم من نوعه في العالم، ومن حوض
المري ودارلنج. وتنصرف مياه شمال هذا الإقليم في خليج
كاربنتاريا. أما في الوسط فتنصرف في بحيرات داخلية أهمها
بحيرة أير. وتمتاز أمطار هذا القسم بقلتها وعدم ضمانها؛ ولذا
يطلق عليه (قلب استراليا الميت) أما الجنوب فيجري به
نهر المري ودارلنج ويطلق عليه (قلب استراليا الحي)
ويلي السهول الوسطى الهضبة وأعظم جهاتها ارتفاعاً أجزاؤها(455/29)
الغربية والشرقية
ثروتها المعدنية والزراعية
هذه القارة من أغنى القارات بمواردها الزراعية، فهي تزرع مساحات واسعة من القمح، وتنتج منه مقادير كبيرة تفيض عن حاجتها وتصدرها إلى الخارج. والدقيق الأسترالي مشهور معروف. وفي جنوبها تزرع أشجار الفاكهة من: أعناب وبرتقال وليمون وتفاح ويصنع بها النبيذ. أما شمالها، فتزرع به مساحات كبيرة من قصب السكر وتزرع كوينزلاند وحدها ما يزيد على 150000 فدان، وتصدر الزائد عن حاجتها من السكر إلى بريطانيا العظمى
والمراعي باستراليا عظيمة القيمة، فباستراليا يربى ما يزيد عن المائة مليون رأس من الضأن. وقيمة الصادر من الصوف وحده تزيد على قيمة ما يصدر من محصولاتها جميعاً. وتمتاز كوينزلاند ونيوسوث ويلز بتصدير اللحوم المجففة ومستخرجات الألبان، حيث تربى بهما الماشية. أما الثروة المعدنية، فاستراليا غنية بها، وقد لعب الذهب دوراً هاماً في تاريخها، فقد كانت قبل اكتشافها منفى للمجرمين، ولكن بعد كشفه هرعت ألوف من المهاجرين إلى استراليا واستقرت بها، ونشأت عدة مدن بالقرب من مناجمه مثل بلارات وبندنجو وكلجوري وكلجاردي. ومن أهم المعادن التي تستخرج: الفحم والفضة والرصاص والزنك والقصدير؛ وتعادل قيمة المستخرج من الفحم قيمة المستخرج من باقي المعادن، وهي تصدر الفحم الزائد عن حاجتها
ونظراً لتوافر المعادن والمواد الأولية قامت عدة صناعات أهمها دبغ الجلود وصناعة الآلات من الحديد والصلب والمنسوجات الصوفية وصناعة الأثاث والصابون. والأستراليون يعتمدون على مصنوعات بلادهم ويشجعونها ويؤثرونها على المصنوعات المستوردة وإن غلا ثمنها
السكان
هذه القارة رغم ثرائها قليلة السكان، فإن عددهم لا يزيد على ستة ملايين وثمانمائة ألف. ولعل السبب في ذلك تلك السياسة التي جرت عليها حكومتها من تحريم سكناها على(455/30)
العناصر الملونة وقصرها على العناصر البريطانية فمنعت الصينيين من دخولها وعملت على حفظها ميراثاً لأبناء العناصر البيض وأحفادهم.
وقد أقلق بال الأستراليين استيلاء اليابانيين عقب الحرب الماضية على جزائر مارشال وكارولين، إذ اقترب اليابانيون من استراليا ألفي ميل. وزاد في قلقهم أن جهات استراليا الشمالية قليلة السكان لعدم ملاءمة مناخها لسكني الأوربيين. ودرءاً لهذا الخطر اتفقت الحكومة البريطانية مع حكومة استراليا على تشجيع الهجرة البريطانية إليها عام 1925، وقد خصصت الحكومة البريطانية لهذا المشروع 000ر83ر70 جنيهاً
أما أكثر جهات استراليا ازدحاماً بالسكان، فهي السواحل الشرقية والجنوبية، حيث يسكنها ما يزيد على 80 % من السكان ولكنهم من أنشط العناصر وأبسها
والآن اقتربت الساعة ودنا الخطر الياباني من استراليا، وسيتوقف الفوز في المعركة القادمة على عاملين مهمين: أولهما المساعدات التي يقدمها الحلفاء ولا سيما الولايات المتحدة؛ والثاني عزيمة الأستراليين أنفسهم ومقدرتهم على كيل الضربات إلى اليابانيين بصورة أقسى وأشد من الضربات التي يكيلها لهم اليابانيون. وهذه هي الروح التي يجب أن يعتصم بها الاستراليون في هذا الصراع وإنا لشمس الغد لمنتظرون.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس العلوم الاجتماعية
بمدرسة الزقازيق(455/31)
28 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل التاسع - اللغة والأدب والعلوم
يلحق بالأزهر في ركنه الشرقي (زاوية العميان) يعيش فيها الآن حوالي ثلاثمائة ضرير فقير، وأغلبهم من الطلبة، على الأوقاف المحبوسة عليهم. وقد عرف هؤلاء بسلوكهم طريق التمرد والعنف والتعصب. وقد حدث منذ زمن غير بعيد أن دخل سائح أوربي الأزهر وشاع أمر حضوره، فأخذ العميان يبحثون عنه صائحين: أين الكافر؟ سوف نقتله! وجعلوا يتحسسون طريقهم إليه للقبض عليه. بينما لم يظهر غيرهم رغبة ما في مهاجمة الدخيل. وكثيراً ما كانوا ينتهجون، قبل تولي محمد علي الحكم، مسلك الطيش والضجيج كلما حسبوا أنفسهم مظلومين، أو كلما أنقص راتبهم في الطعام، فكانوا يخرجون إلى الشوارع مصطحبين بعض الإدلاء مسلحين بالعصى، يخطفون عمائم العابرين، وينهبون محتويات المتاجر. ولم يكد يعين الشيخ القويسني، أشهر علماء الأزهر الحاليين، شيخاً لزاوية العميان منذ بضع سنين، وكان كفيفاً، حتى أوجب جلد كل ضرير هناك، إلا أن العميان ثاروا عليه وقيدوه ثم جلدوه جلداً أشد بكثير مما قاسوه، وأكرهوه أخيراً على ترك منصبه
وكان التعليم مزدهراً ازدهاراً عظيماً في القاهرة قبل دخول الجيش الفرنسي أكثر منه في السنين الأخيرة. وقد عانى التعليم كثيراً مما أحدثه هذا الغزو من الرعب والهرج. وكان يكفي قبل ذلك العصر أن يقوم الشيخ المتخرج من الأزهر بالتدريس لولدين من أولاد الفلاحين المتوسطي الثروة ليعيش في بحبوحة. إذ أن تلميذيه كانا يقومان على خدمته ونظافة منزله وتجهيز غذائه. فكانا وإن شاركاه الطعام يعتبر أن خادمين له في كل آن. فيتبعانه أينما ذهب، ويحملان نعليه (وكثيراً ما كانا يقبلان حذائه بعد خلعه) عند دخوله(455/32)
المسجد، ويعاملانه في كل حين معاملة الأمراء. وكان الشيخ حينئذ يلبس الملابس الفضفاضة والمقلة العظيمة. وكثيراً ما كان المارة يسرعون إليه عندما يمر بالطريق راجلاً أو راكباً طالبين منه الدعاء لهم؛ ويعتقد من تحقق رجاؤه أن البركة حلت به. وإذا مر الشيخ بإفرنجي راكب وجب على الإفرنجي أن يترجل. وإذا ذهب إلى الجزار لشراء اللحم (إذ يرى أن الذهاب بنفسه خير من إرسال غيره) رفض هذا أن يتناول الثمن وقبل يده معتبراً طلب الشيخ شرفاً وبركة. أما الآن فقد انحط شأن هؤلاء الشيوخ حتى يصعب عليهم الحصول على معاشهم إن لم تكن مواهبهم منقطعة النظير
ولا جرم أن علماء المسلمين يعوقهم الدين عن السير في بعض سبل العلم. وقد تفصل الخرافة في أمور اختلف فيها الناس أجيالاً طويلة. وهناك وسيلة غريبة لحسم النزاع في أي موضوع ديني أو علمي أو في أي حادث، أضرب لها مثلاً. فقد قص على إمام الشيخ المهدي المفتى السابق الحكاية التالية: كان الشيخ محمد البهائي، وهو رجل مثقف يعتبره العامة ولياً من أولياء الله، يستمع إلى درس الشيخ الأمير الكبير شيخ المالكية عندما قرأ هذا حديثاً للرسول من الجامع الصغير للسيوطي وهو (إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة في الجنة) وأخذ يشرح الحديث بعد أن لخص تاريخ الحسن والحسين ملاحظاً أن لا أساس للرأي القائل بوجود رأس الحسين في مسجده بالقاهرة. وهنا قال محمد البهائي: فتملكني غم شديد لهذه الملاحظة لمخالفتها ما أعتقد وما زلت أعتقد، بوجود الرأس الشريف في هذا المشهد. ولكني ما كنت لأعارض الشيخ لشهرته وسعة علمه.
وانتهى الدرس وخرجت أبكي. فلما جن الليل قمت أدعو الله وأبتهل إليه ولجأت إلى رسوله الكريم (ص) متوسلاً أن أراه في المنام ليخبرني بحقيقة الأمر. فرأيتني أسير إلى المشهد الحسيني. فلما دنوت من القبة أبصرت بها نوراً ساطعاً فدخلت فوجدت أحد الأشراف واقفاً بالباب. فحييته فرد التحية وقال: (سلم علي رسول الله). فأرسلت النظر نحو القبلة فرأيت الرسول (ص) جالساً على عرش وعلى جانبيه وقف رجلان. فرفعت صوتي قائلاً: (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) عدة مرات وأنا أبكي. فسمعته (ص) يقول لي: (أدن يا بني، يا محمد) فأخذ الرجل الأول بيدي وقدمني إلى الرسول (ص). فحييته فرد التحية وقال: (جزاك الله خيراً على زيارة رأس الحسين يا بني). فقلت: (يا رسول الله هل رأس(455/33)
الحسين هنا؟) فأجاب: (نعم. إنه هنا) ففارقني الحزن وفرحت وثبت جناني وقلت حينئذ: (يا رسول الله سأقص عليك ما أكده شيخي وأستاذي الأمير في درسه). وأعدت عليه قول الشيخ. فأطرق (ص) ثم رفع رأسه وقال: (إن النقلة معذورون). واستيقظت فرحاً سعيداً ولما ينقض الليل بعد. فعيل صبري بطوله وجعلت أترقب طلوع النهار لأذهب إلى الشيخ فأقص عليه الرؤيا. فلما طلع الفجر أقمت صلاتي وخرجت إلى منزل الشيخ وأخذت أطرق الباب بشدة. فأسرع البواب فزعاً يسأل من الطارق؛ فلما عرفني فتح الباب، ولو كنت غيري لضربني. ودخلت الفناء وأخذت أصيح: (سيدي! يا سيدي!) فاستيقظ الشيخ صائحاً: (من هذا)؟ فأجبته: (أنا تلميذك محمد البهائي) فتعجب الشيخ لحضوري في هذا الوقت وقال: (يا الله! ما هذا؟ ما الخبر)؟ فقد ظن أن حادثاً عظيماً نزل بالناس. ثم قال: (انتظر حتى أقيم الصلاة). فظللت واقفاً حتى نزل الشيخ إلى الغرفة السفلي ودعاني إلى الصعود. فصعدت دون أن أحييه أو أقبل يده تحت تأثير الرؤيا، وإنما قلت: (إن رأس الحسين في مشهده بمصر، لا شك في ذلك). قال الشيخ: (وما دليلك على ذلك؟ وإذا كان مستندك صحيحاً فأرنيه). فلقت: (ليس هذا في كتاب). فقال الشيخ: (هل رأيت رؤيا)؟ فرويت له الرؤيا وعرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرني أن الواقف بالباب هو علي بن أبي طالب، والواقف على يمين العرش أبو بكر وعلى يساره عمر بن الخطاب؛ وأنهم حضروا لزيارة رأس الإمام الحسين). فوقف الشيخ وأخذ بيدي وقال: (هيا بنا نزور المشهد الحسيني). فلما دخل القبة قال: (السلام عليك يا أبن بنت رسول الله. آمنت أن رأسك الشريف هنا بعد الرؤيا التي رآها هذا الرجل، لأن رؤية الرسول في المنام حقيقية؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي). وحينئذ قال الشيخ: (لقد آمنت أنت وآمنت أنا ولا يمكن أن تكون هذه الأنوار خادعة)
وقد أثار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم السابق مناقشات أخرى بت فيها بالطريقة نفسها، أي بالرؤيا. ولا يجرؤ أحد على مجادلة صاحب الرؤيا إذا كان ذائع الصيت في العلم والورع
يفيد ما أشرت إليه في بدء هذا الفصل أن بالقاهرة عدة علماء في وقتنا الحاضر، وأن بغيرها من المدن المصرية بعض العلماء الآخرين. ويعتبر الشيخ حسن العطار وهو شيخ(455/34)
الأزهر الآن أحد مشاهير العلماء المعاصرين. وهو وإن يبلغ في التوحيد والفقه مبلغ بعض معاصريه كالشيخ القويسني خاصة، ضليع في الأدب. وهو مؤلف كتاب (الإنشاء) الذي يعتبر مجموعه فائقة من الرسائل العربية في مختلف الموضوعات، وضعها نموذجاً للأسلوب الإنشائي. وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة بولاق. وقد ذكرت أسم هذا المؤلف تنفيذاً لوعد قطعته على نفسي، إذ طلب أن أنوه بمعرفتي له وأن أبين رأيي في علمه ظنا أنني سأنشر في بلدي أحاديث عن أهل القاهرة
وقد أشتهر بحق الشيخ محمد شهاب بجودة أدبه ورقة شعره. وكان أنسه وذكاؤه يجذبان الأصدقاء إلى منزله كل مساء، وكنت أحياناً أشترك في مسراتهم. فكان الشيخ يستقبلنا في غرفة صغيرة مريحة، فيدخن كل منا شبكه، وتقدم إلينا القهوة. وكان حديث الشيخ أعذب ما يقدم لنا. وفي القاهرة أيضاً علماء يتمتعون بشهرة عظيمة في اللغة والشعر. ويستحق الشيخ عبد الرحمن الجبرتي - وهو من مؤلفي القاهرة المتأخرين - أن يشار إليه بصفة خاصة، إذ أنه وضع تاريخاً جليلاً لحوادث مصر منذ القرن الثاني عشر لهجرة. وقد توفي عام 1825 أو 1826 عقب قدومي القاهرة لأول مرة. وتنتمي أسرة الشيخ الجبرتي إلى الجبرت في جنوب شرق الحبشة على شاطئ المحيط، ويدين أهل جبرت بالإسلام، ولهم رواق في الأزهر، ومثل ذلك في مكة المكرمة، وفي المدينة.
لم يعد الشعر الجاهلي يفهم على حقيقته في القرنين أو الثلاثة الأولى للهجرة لغرابة ألفاظه، فمن باب أولى لا نجد الآن من يستطيع شرح هذه النصوص القديمة. غير أن هناك في مصر من تضلع من علوم الصرف والنحو والبلاغة والأدب بالرغم من سيادة التوحيد والفقه في هذا البلد. وقلما عرف علماء مصر تاريخ بلدهم معرفة جيدة، وأقل من ذلك معرفتهم بتاريخ الأمم الأخرى. أما الذين لا يحترفون الأدب من سواد الشعب فمحصولهم الأدبي منحط النوع. ويجيد الكثير من التجار الأغنياء فن القراءة والكتابة، ولكن قل من يخصص أكثر وقته لدراسة الأدب. ويعتبر من حفظ القرآن جميعه أو أكثره، واستطاع أن يتلو قصيدتين أو ثلاثاً، أو يضمن الحديث بعض الأمثال، رجلاً كامل الثقافة. وهناك تجار في القاهرة أميون فيلجئون إلى أصدقائهم ليكتبوا لهم حساباتهم ورسائلهم. إلا أن هؤلاء التجار لا يهتمون بذلك على العموم، فيقومون بعمليات حسابية ذهنية معقدة بسرعة فائقة(455/35)
ودقة مدهشة.
ويخطئ المسيحيون في أوربا في اعتقادهم أن المسلمين أعداء العلم على اختلاف أنواعه تقريباً. والحقيقة أن العلم في الوقت الحاضر تحده حدود ضيقة، فقل من يدرس الطب والكيمياء والرياضيات وعلم الفلك. وتجد أغلب الأطباء والجراحين المصريين حلاقين يجهلون العلم الذي يباشرونه جهلاً مضراً وتنقصهم المهارة فيما يمارسونه.
ويرجع بعض ذلك إلى تحريم الدين تشريح الجسد. إلا أن بعض المصريين الشبان يتلقون الآن دراسة أوربية في الطب والتشريح والجراحة وعلوم أخرى لخدمة الحكومة. وكثيراً ما يرفض المرضى من المصريين كل مساعدة طبية متوكلين على العناية الإلهية أو معتمدين على السحر. ويدرس في هذا البلد علم تحويل المعادن أكثر من دراسة علم الكيمياء الصرف، وعلم التنجيم أكثر من علم الفلك. ولا يستعمل في مصر من آلات الفلك غير الإسطرلاب والربع المقنطر تقريباً ويندر أن نشاهد مرصد (تلسكوب) هنا. وقلما تستعمل الإبرة المغناطيسية (البوصلة) إلا لمعرفة القبلة. ويصنع لهذا الغرض في دمياط بوصلة صغيرة ملائمة (تسمى قبلية) تبين اتجاه القبلة في المدن الكبيرة للبلاد المختلفة. وأغلب المدن بها مزاول تبين الوقت ظهراً وعصراً في أماكن متعددة وفصول مختلفة. ويجهل هؤلاء الذين يدعون علم الفلك الأصول العلمية الصحيحة ويعتبرون القول بدوران الأرض حول الشمس إلحاداً مطلقاً؛ ويستخدمون علم النجوم في حساب التقويم السنوي
(يتبع)
عدلي طاهر نور(455/36)
حيلة جديدة
هَلْ دَرَى عَاشِقُوكِ أَني تَجَنيْ ... تُ عَليْكِ الذّنوبَ بَعَدَ الذّنوبِ؟
هلْ دَروْا أنني افتريتُ الأكاذي ... بَ وأمعنتُ في اختلاق العيوب
// ليثُوروا على هواكِ ويُمسوا ... في رُيوبٍ موصلةٍ بريوب
وتعُودي لِمُنْيَتِي وَلقلْبي ... أنا وحدي لا لِلْمُنَى والقلوب
كُنْتِ نجوايَ وابتِسامَ حياتي ... في حياةٍ مليئةٍ بالخُطوبِ
تتمنى عرائسُ الشعر لو كُ ... ن لِحَاظاً في طَرْفِكِ المَرْهُوب
وعلى راحتيْكِ رقرقتُ أشوا ... قي صلاةً لحسنِكِ المحبوب
أتحدَّى بشائرَ الكوْنِ والآ ... مالَ طُرّاً بوجْهِكِ المَوْهوب!
حِينَ كنتِ الحياةَ تملأُ عيْني ... ثمَّ كنتِ الحياةَ تملأُ كوبي
ثمَّ كنتِ الْحياةَ في غَوْرِ إِحْسَا ... سي ونفسي وقلبِيَ المَشْبُوب
كَمْ تَمَنَّيْتُ أن أنالَ نصيبي ... وَبِحَسْبِي أن كُنتِ أنتِ نصيبي
كان لي في هواكِ ماضٍ طويلٌ ... وأغانٍ رقراقةُ التَّشبيبِ
أتغني بسحرِ عينْيكِ ظمآ ... نَ إلى ثغرك الرقيق الشنيب
فخلقْتُ العشاقَ بالشِّعر والْح ... بِّ وبالدَّمع والضنى والشّحوب
فترامَوْا على هَوَاكِ ظماءً ... كترامي الفَراشِ حول اللهيب
وأحبوكِ أنتِ أنتِ وذاقوا ... حُرَقَ الْحُبِّ حُلوةَ التعذيب
وغدوتِ الحبيب في كلِّ قلبٍ ... وَسَلاَ العاشقونَ كُلَّ حبيب
فَأَصَرَّتْ صبابتي أن تكوني ... لِيَ وَحْدي في فرحتي ونحيبي
وبرغمي أرجفتُ فيكِ فقالوا ... أَنْتِ كالشَّمْسُ آذَنَتْ بغروب
هل درى عاشِقوكِ أني تجنيْ ... تُ عليكِ الذنوب بعد الذنوب
هل دروْا أنني افتريتُ الأكاذي ... ب وأمعنتُ في اختلاق العيوب
لتعودي لمنيَتي ولقلبي ... أنا وحدي لا للمنى والقلوبِ
(كوم النور)
أحمد أحمد العجمي(455/37)
على عودي الحزين
ليتنا. . .
لَيْتَنَا نَحْيَا سَعِيدَيْنِ هُنَا!
فِي ظِلاَلِ الدوْحِ نَشْدُو لَحْنَنَا!
وَإِذَا مَا هَتَفَ الْمَوْتُ بِنَا!
نَطْرَحُ الزهْرَ عَلَيْنَا كَفَنَا!
صَبَوَاتِي أَنْتَ فِي الدُنْيَا وَأَحْلاَمِي وَفَني
وَسَعَادَاتِي وَصَفْوِي وَتَسَابِيحِي وَلَحْنِي
أَنْتَ فِي قَلْبِيَ يَنْبُوعٌ مِنَ الْخُلْدِ يُغَني
فَجَّرَ اللهُ عَلَى وَجْهِكَ مَا يَمْسَحُ حُزْنِي
فَتَغَنَّيْتُ مَعَ الأَطْياَرِ مَا يُسْعِدُ كَوْنِي
لَيْتَنَا نَحْيَا سَعِيدَيْنِ تُغَنِّي. . . وَأُغَنِّي
أَنْتَ يَا رُوحِي نِدَاءٌ في فَمِي!
وَشُعَاعٌ ضَاحِكٌ في حُلُمِي!
أَنْتَ صَفْوٌ يَتَهَادَى في دَمِي!
كُلَّمَا ضَجَّ بِقَلْبِي أَلَمِي!
هَاتِ مِنْ سِحْرِكَ هَاتِ وَاسْقِني كَأْسَ حَيَاتي
أَنْتَ نَبْعِي وَظِلاَلِي وَدُعَائِي وَصَلاَتي
نَسَجَ الْوَهْمَ عَلَى أُفْقِي طُيُوفَ الظُّلُمَاتِ!
وَبِكَفَّيْكَ إذا شِئْتَ صَفَائِي وَنَجَاتي
أَنَا في الدُّنْيَا غَرِيبٌ تَائِهٌ في رَحَبَاتي
فَاسْكُبِ الأَفْرَاحَ في قَلْبِي وَأَسْكِرْ نَغَمَاتي
عبد العليم عيسى(455/39)
البريد الأدبي
في الأدب التركي
من أنباء اسطنبول أن الدكتور (طازر) سكرتير حزب الشعب اقترح تأليف هيئة تحكيم تختار من الكتاب والأساتذة الأتراك برياسة السيد خالد ضياء أو شكيلجيل لاختيار أحسن رواية تركية نشرت خلال العشرين سنة الماضية، فوقع اختيارهم على رواية (سنيكلي البقال) للسيدة خالدة أديب، وفازت بالجائزة الثانية رواية (يابان) للكاتب (كياسمانجلو) وفازت بالجائزة الثالثة رواية (فهيم بك) للكاتب السيد حيدر.
وتعد السيدة خالدة أديب من أنبغ من جمعوا الثقافتين السكسونية والتركية، وقد ولدت في اسطنبول من أسرة تركية عريقة في النسب، وقضت طفولتها في الأناضول، ثم تلقت دراستها في الكلية الأمريكية للبنات المقامة على ضفاف البسفور
وقامت بعد ذلك بدور هام في الحرب الوطنية التي حدثت في 1918 - 1922 وعملت في الجيش برتبة نفر في فرقة النساء المتطوعات، وقد رقاها الغازي أتاتورك نفسه إلى رتبة جاويش في ميدان القتال لما أبدته من ضروب الشجاعة وإقدام.
وفي سنة 1930 رحلت إلى أمريكا حيث ترجمت عدداً من كتبها ورواياتها إلى الإنكليزية، فصادفت رواجاً واستحساناً عظيمين. ثم ألقت سلسلة محاضرات في جامعة كولومبيا بنيويورك عن (الآراء الحديثة السائدة في الشرق الأدنى).
ورجعت إلى تركيا، ثم عينت قبل أربع سنوات أستاذة للأدب الإنكليزي في جامعة اسطنبول، ولا تزال تقوم بالتدريس في الجامعة. وهي تعد من أشهر وأحب النساء في تركيا، وهي خير مثل لمزج الثقافتين السكسونية والتركية. فهي جريئة لا تتردد في قبول التبعات وتحملها مهما بلغت. فإذا رأيتها رأيت سيدة وقورة هادئة غير هيابة. وهي خير مثال للأم الحنون وربة الدار الكاملة؛ ولم يمنعها ذلك كله من أن تحمل السلاح وتخوض المعارك حينما أهاب بها الداعي إلى الدفاع عن بلادها، والنضال عن حريتها واستقلالها. وهي وإن كانت كاملة الأنوثة والرقة لم يمنعها ذلك كله من أن تكون مقدامة لا تهاب، وفيها ما فيها من سحر الشرقيات وجاذبيتهن
إلى الدكتور زكي مبارك(455/40)
قرأت مقالتك الحافلة (تحت السدرة)، وأهنئك بتصوير أحاديث الضمير، هذا التصوير الرائع الطريف؛ ولكني أستميحك في أن أقول لك: لقد ظلمت في هذا التصوير أبانا (آدم)، فصورته خاضعاً مستكيناً لعبقرية الجمال
وأنا أزعم بأن ما حدث من (آدم) من التعرض لمكاره الأكل من (الشجرة)، لم يكن الموحي به جسد (حواء) وحده؛ ولكنني أتهم معه ما ركب في رجولة (آدم) من حب المخاطرة والاستطلاع، والتلذذ باقتحام المكاره والمصاعب!
ولا أكاد أسيغ أن (آدم) قد تلقى أمر الله باجتناب (الشجرة) فلم تحدثه نفسه، ولم يتحدث هو إلى نفسه في هذا الأمر، حتى أتت (حواء) فطوته بدلالها وفتنة جمالها دفعة واحدة، وذهبت به إلى حيث أرادت. وأعتقد أنه لو رزقها الله الصبر ولم تتحدث إلى (آدم) لتحدث هو إليها، ولفعل ما كانت تريد. وليس معنى هذا أن أعفي الأثر الذي أحدثته (حواء)، ولكنني لا أنسب لجمالها كل شيء!
صحيح أن الناحية الأدبية تفقد كثيراً من حرارتها على هذا الوضع، ولكن هذا خير لنا من أن نعطي (حواء) الجديدة الفاتنة مادة جديدة تتطاول بها على (آدم) الحديث
فما رأيك يا دكتور في أن نلقي على كاهل كل منهما تبعته في الخروج من الجنة لتصطرع الأهواء على هذه الأرض ولتحقق الله حكمة تحار في فهمها العقول والأفهام؟
أحمد رضوان حامد
آثار من أولية الشعر
للباحث العالم الأستاذ عبد المتعال الصعيدي آراء في الأدب سديدة، ونظرات في النقد والتحليل عميقة، وقد كتب في عدد (الرسالة) رقم 454 مقالاً بالعنوان الذي يظل كلمتي هذه رأي فيه أن قصيدة عبيد بن الأبرص التي مطلعها:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقُطَّبيَّات فالذنوب
تمثل أقدمية الشعر خير تمثيل؛ إذ لا يستقيم لها وزن، ولا تضمها قافية، ومع تقديري لآراء الأستاذ أخالفه في ذلك الحكم لما يأتي:
1 - عاصر عبيد امرأ القيس المعقود له لواء زعامة الشعر، فاضطراب قصيدة شاعر في(455/41)
عصر بلغ الشعر فيه آية الجودة لا يتخذ دليلاً على سنة التطور والارتقاء، وإلا لصح لنا أن نتخذ من محاولات المبتدئين في عصرنا هذا دليلاً كذلك على كيفية نشأة الشعر الأولى، وأحسب الأستاذ يرفضه رفضاً جازماً
2 - سبق عبيدا شعراء كثر خلا شعرهم من ك اضطراب في الوزن والقافية من أمثال دويد بن زيد القضاعي والأفوه الأودي من أصحاب المقطعات، والمهلهل بن ربيعة والحرث بن عباد من أصحاب المطولات
3 - لم يكن عبيد شاعر الطبيعة، فشارحو المعلقات يروون عنه (أن أحد بني ثعلبة هجاه مقذعاً فابتهل عبيد إلى الله بقوله: (اللهم إن كان هذا ظلمني ورماني بالبهتان فأدلني منه)، ثم نام ولم يكن قبل ذلك يقول شعراً فأتاه آت في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه فقام ترتجف هاجيا بني ثعلبة) الشك في القصة لا يرقى إلى أنه لم يكن شاعراً سليقياً، وهذا الجاحظ يستضئل آثاره فيقول: (إن عبيدا وطرفة دون ما قال عنهما إن كان شعرهما ما في يد الناس فقط)
4 - اتخاذ عبيد وعلقمة دليلاً على تطور الشعر يقرب نشأة الشعر عند العرب ويظهرهم أمة جامدة العواطف متحجرة المشاعر آماداً طويلة وهو ما لم يزعمه غير العربي، فضلاً عن العربي المنافح عنها
5 - لأن نتخذ عدم قيام دليل أدبي لتطور الشعر حجة على أقدميته وبعد نشأته أشرف للغة العربية وديوانها من تلمس أدلة لا تقوم على دعائم قويمة؛ لأنه ليس هناك من يشك في أن الشعر ككل أثر أدبي أو علمي مرت عليه أحقاب وآماد حبا فيها وخطا ينهض حيناً ويكبوا حيناً حتى نما واستحصد وصار فناً له قواعد وقوانين، وابن خذام الذي ورد في قول امريء القيس:
عوجاً على الطلل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام
شخصية مجهولة للقدامى لإيغالها في البعد
6 - لا يغض من قيمة الأدب الجاهلي أنه لم يقيد؛ لأن الأمة كانت تحيا حياة فطرية فهي تعتمد في أدبها على حوافظها وصدورها لا على كتبها ومدوناتها، والشاكون في الشعر الجاهلي لا يشكون فيه جملة وإنما يساورهم الشك في بعضه، ولعل قصيدة عبيد هذه من(455/42)
دعائم شكهم؛ لأنهم يرون ما فيها من اختلال واختلاط عبثاً من الرواة، وسخرية بالقدامى
تلك نظرة عابرة أرجو أن يعيرها الأستاذ لفتةً فاحصة؛ ليتبين ما فيها من سداد أرجوه. وله من الأدب وأبنائه التقدير والإكبار
عبد العظيم علي قناوي
ما قول الأستاذ لطفي جمعة؟
قرأت في جريدة (منبر الشرق) الزهراء في عدد 6 مارس عام 1942 مقالة بعنوان: (علي العزبي يمر بمواكب الحياة) للأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي فوجدتها مأخوذة بالنص في كثير من مواضعها من كتاب (معالم تاريخ العصور الوسطى) المقرر على السنة الثانية الثانوية هذا العام لمؤلفيه محمد رفعت بك والأستاذ محمد أحمد حسونة، فقول الأستاذ لطفي مثلاً:
(فكانت روما عاصمة الإمبراطورية ترسل إلى كل جهة من يغرس فيها حضارتها بمجرد استعداد البلاد المفتوحة لقبولها، فمتى ثم فتح إقليم بدأ صبغه بالصبغة الرومانية، وإذا أخلد أهله للسكينة منحوا حقوقاً مدنية تشابه حقوق أهل روما أنفسهم، حتى أنه على الرغم من الفروق التي كانت تفصل كل ولاية عن الأخرى شاعت بين الجميع مبادئ التهذيب الروماني الخ) مأخوذ بالنص من الفصل الأول صفحة (1) من هذا الكتاب، وقوله أيضاً:
(وكان أبناء الأشراف ينضمون من سن السابعة إلى فارس مشهور ينشئون معه ويقومون بخدمته ويتعلمون منه ضروب القتال وآداب المائدة والحديث والاستقبال ويصحبونه في الصيد والحرب وكان السواد الأعظم من القائمين بفلح الأرض وغيره من الأعمال من طبقة الأقنان أو رقيق الأرض وكانوا مرتبطين بالأرض ملزمين بالعمل في أرض السيد الخاصة نحو نصف الأسبوع الخ) مأخوذ بالنص من الفصل الرابع صفحة (128) من نفس الكتاب، كما أن قوله أيضاً:
(وكان العرب يعتمدون على الخيل في حربهم فلما قابلهم شارل مارتل في موقعة (تور) عام 722 أعجب بما للخيل من الصفات الحربية فكون فرقاً من الفرسان على النسق العربي ومن ثم انتشر النظام في أوربا كلها الخ) مأخوذ بالنص أيضاً من الفصل الرابع صفحة(455/43)
(127) من نفس الكتاب. فإذا كان مراد الأستاذ الاستشهاد بما نقله من الكتاب فلماذا جاء به في سياق كلامه دون أن يضعه بين قوسين علامة التضمين؟ ولماذا لم يذكر المصدر؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ما دخل المرحوم علي العربي شاعر دمياط في تاريخ العصور الوسطى وأحوالها الاجتماعية وهو رجل عاش ومات في القرن العشرين؟ وما دخل عهد الإقطاع وأحواله في (دراسة تحليلية) الشاعر؟ وما فائدة إقحام العصور الذهبية للأمم في مجال ذكرى أديب
كمال الدين نشأت(455/44)
القصص
النغم الضائع!
بقلم
(قصة من أدب الحياة الواقعي، طغت فيها التقاليد على قلب
فنان عبقري)
للأديب حسين محمود البشبيشي
في يوم من أيام عام 1717م أضاءته شمس الجنوب اللامعة الباسمة، ترنحت عربة رثة متربة خلال مدخل كابيونيا أحد مداخل نابلي، وقد جلس في داخلها غلام في عامه الثامن، تحمل الرحلة المرهقة القاسية وحيداً من قرية جيزي إلى نابلي. وما كان معه من سند غير بعض كتب التوصية لنفر من البيوتات النابولية الرفيعة.
كان هذا الغلام هو (جيامباتيسنا بورجوليزي)
ولما نزل من العربة تعباً غريباً تائهاً في حياة العاصمة الدوارة الصاخبة، وضعه جنود الحراسة في عربة عامة، وأرسلوا به إلى أحد العناوين التي على كتبه.
تصور طفلاً صغيراً ضعيفاً كصاحبنا خرج لأول مرة من مجتمعه الصغير الحقير في قرية جيزي بالقرب من أنكونا حيث توافقت الأزقة المهجورة وملالة الوجود، وتمازجت حقارة الفكرة وشفافية الحياة، إلى نابلي هذه المدينة الرحبة الصاخبة الماجنة العابثة الغارقة في النور وشهوته، الضاربة في كل فن وكل غريب. . .
تصوره وقد تعلق الأطفال حول العربة كل يريد الركوب، والحوانيت تبين وتغيب، والمطاعم تقدم صحاف المكرونة المعهودة ليلاً ونهاراً في ضجة ومرح، وهناءة وفرح، والجمهور التائه كسرب من الحمام، الصاخب كقطيع من الأغنام، يزيد في صخبه، ويمعن في دورانه، والأسواق متنوعة: أسواق للسمك وأسواق للفاكهة وأسواق للخضر تموج في ضجتها وشدتها، وتضطرب في تقلبها وحركتها، كل ذلك بين أصوات الباعة ترتفع جشاء جوفاء لا انسجام فيها ولا اتزان. . .
مسكين (جيامباتيسنا)! هل كان في حيرته يدور في خلده، إذ ذاك، أن عبقريته ستتوجه يوماً(455/45)
ما في هذه المدينة الدوارة المضطربة بوسائل الفرح، المتقلبة في مظاهر الانطلاق الروحي والحسي!!
لقد ولد في أسرة هي أغنى في عقليتها وتعليمها منها في ماليتها وتقاليدها، وأعظم في ميولها وأحاسيسها منها في أصلها وأعراقها.
ورأت فيه عائلته عن حق ميلاً إلى النبوغ الموسيقي، يتألق أنغاماً روحية تشعها روحه الباسمة وحركاته الراتبة ولفتاته الأنيقة. فأرسلته إلى (نابلي) ليأخذ هناك من نبعها الدافق، ويتعيش فيها بعد منها. ودخل بالتوصية والالتفات والرعاية (المعهد الموسيقي العظيم) حيث تعلم العزف على القيثارة تحت إرشاد الفنان القديم (ديماتيس)، فكان له من طبعه الفني القادر، وروح أستاذه الساحر، أكبر باعث ألهب فيه حيوية الفن واقتباسه. فصقل روحه بكل جديد من الصور، وخلع على قلبه كل فاتن من الأحاسيس، وإن ما كان يتوقعه هذا الفنان (ديماتيس) لتلميذه المتألق المتوثب من مجدٍ دفعه إلى أن أثر على الشاعر العظيم (جريكو) الذي أهتم بهذه العبقرية المتألقة المتطلقة التي لم تزل بعد في أكمامها.
ووجد (برجوليزي) ككل فنان حديث يشعر في قرارة نفسه بحيوية تريد أن تفيض، وأقباس تتطلع للظهور، وألوان تتواثب لتتنسم الحياة؛ وجد فناننا (برجوليزي) من القيود الموسيقية الرثة أغلالاً تجعل أجنحة فنه تحلق في سماء محدودة وأجواء مقيدة، وآفاق لا تشبع الرغبة الجامحة والنزعة الطافرة. وضاق صبره بتلك القيود ولكنه أكره نفسه عليها! حتى غادر مع أستاذه المعهد العظيم في عام 1726 ليجني حراً طليقاً ما يريده من أزاهير، فتفتحت أمامه مبكرة، وتحققت أمانيه؛ فلحن على حداثته قطعاً من الأوبرا ونشيداً رائعاً فاتناً ساحراً هو (سان جيجليلمو) مما كان له مكانه سامية وشهرة عظيمة حتى في هذا الوسط الفني
ورحبت به العائلات الرفيعة التي كان عطفها ورعايتها قبلة فناني القرن الثامن عشر
ولا عجب أن رحبت به والتفتت إليه، وهامت بألحانه الساحرة، وما تريد سوى أن يلتف حولها الفنانون. أما هو فقد جملت أثوابه الجديدة الأنيقة من ملامحه الدقيقة الوسيمة، وقد عكس وجهه المضيء الغني وروحه الشاعرة الفتية العامرة بالحساسية!
ووجد ثمرة الإلهام أمامه ناضجة
فقد كان ملك نابلي المتحمس لتشجيع فناني عصره ملاذاً للعلماء والمهندسين والرسامين(455/46)
والموسيقيين، وأصبحت نابلي إذ ذاك ف أوج مجدها الفني، إذ كانت مركزاً منفرداً للمدنية، انبثق منها إلهام حي سام متألق لجامياتيسنا
لقد كانت الدينة الغنية بفنانيها حقاً. لقد انطفأت شعلة حياة (كوريللي) و (وللي) ولكن الجمرة التي تركاها تأججت من جديد عندما نفخ فيها سحر (سكارلاتي) ولما قضى هذا الفنان أيضاً لم يكن إلا لفنان قادر سامي العبقرية، متوقد الروح، بعيد مدى الآمال، أن حفظ عظمتها وينهض بها
فكان برجوليزي فتاناً ولم يزل بعد في العشرين وارثاً ملهماً فذاً لهذا الإرث السامي من الفن العظيم. ما أسعده وما أتم نعمة الفن عليه! لقد بلغ المجد الذي تطلع إليه. لقد سطع عليه القبس الروحي الذي طالما عناه. لقد أصبح الفنان القادر الساحر
ثم خفق فؤاده يوماً ما شديداً عنيفاً عند ما دعي إلى بيت (سبينللي) النبيل الكبير
ثم خفق فؤاده مرة أخرى، ولكنه كان في هذه المرة أشد خفقاناً، حينما انتهت مراسيم التقديم، ووجد نفسه منحنياً أمام غيداء فاتنة. لقد تنازلت ابنة أكبر البيوتات النابولية أرستقراطية عن كبرياء عائلتها، رائعة دقيقة ساحرة، تلك هي ماريا سبينللي التي نظرت إلى الشاب الفنان بورجليزي، وألهبت شرارة حبها نار الوجد في حناياه!. . . وسواء أكان ذاك لفتنة فيه أم لسحر في موسيقاه فقد باحت بسر الجوى أعين لطاف فجاوبتها عيون! وصفق قلب فأسرع إليه قلب. . . وهكذا فاض روح الحب من النفس الجميلة والنفس الفنانة
ولكن وا أسفاه! لم يكن للقصيدة الأبدية من تمام. لقد كانا في ميعة الشباب وفتنته، يتدفق فيهما الشعور روح الجمال، وتفيض أعينهما إحساساً به، كما كان هناك على آخر ما يصل إليه البصر من نافذة القصر حيث يتصاعد عبير البرتقال قبور، ترفع نصبها في جنون تحت شمس الظهر المرهقة الحارة. أجل لقد كانا في ميعة الشباب، ولكن كان هنالك قبور بالقرب من عش غرامهما!
فلا عجب أن دار قدرهما قوياً قاهراً فعصف بهما عصفاً
تناثرت هنا وهناك الأحاديث! وعرى أرستقراطيو القوم وجوم ودهش. يا عجبا! ابن الشعب ذلك الحقير، يتطلع إلى أن يختلط دمه الأحمر الشديد الحمرة بدم أسرة سبينللي(455/47)
الأزرق الشديد الزرقة! لتكن عبقريته ما هي، ليكن قدره ما يكون، ليكن مستقبله ما سيكون، ليكن كل شيء
لقد كانوا حمقى! وما كانوا غير ذاك. فإن من اتحاد الأحمر والأزرق يتكون ذلك اللون البنفسجي الرائع الذي يعلوهما!
تلك هي السماء
ولقد كانت الفكرة، بل التفكير فيها أمراً حراماً. . . ابن الشعب يتطلع إلى بنت البيوتات الرفيعة!
ثار أهلها كل الثورة، وحقدوا على الفنان كل الحقد، وبرموا به كل التبرم. وأما أشياعهم من ذوي التقاليد والأشراف ولهم فتيات قد يتطلع إلى إحداهن يوماً ما فنان من أبناء الشعب فقد شاركوهم الأمر، وتنكروا لفناننا برجوليزي
وهكذا تعبث الشهوات الزائلة بجلال الفن، وتعبث الأغراض الدنيئة بجلال الحب، وتفسد التقاليد العتيقة انسجام روحين؛ فما أحقر الإنسان إذا انطلقت فيه نوازع النفس الترابية وغطت على بصره، فظن أن الحياة مظاهر وتقاليد؛ وما كانت لتكون كذلك والزهر يعانقه الشوك ويقاسمه أغصان دوحته! أوصدت الأبواب المسرحية، وحبست الوجوه الباسمة، وولت الأقدام المقبلة، وأغلقت. . . وأغلقت تلك الخميلة التي طالما عزف فيها لماريا، وألهمته فيها ماريا
وحجبت عن نظراته الوالهة ابنة أسرة سبينللي
ولم يك يصل إليها إلا على جناحي أنشودة خالدة، وفي ثنايا نسمة عابرة، وبين ألفاف أمنية مستعرة. وثقلت به الحياة وثقل بها فانغمس في ألحانه الباكية، وترانيمه الحزينة، عساها أن تكون له عن دنياه سلوى، كما هي عن جواه
وتدفقت أمامه الشهرة الفارغة الجوفاء. وسجدت نابولي لعبقريته حين قدم لها في عام 1730 قطعته الخالدة بعد نجاتها بأعجوبة من زلزال مروع. ولقد كانت قطعته هذه فريدة حقاً في نغماتها، وحيدة حقاً في ألحانها، فذة حقاً في معانيها، منقطعة حقاً في روعتها. ولقد أدرت عليه كل ما ابتغاه في فجر أيامه، وتمناه في متنفس عمره. أدرت عليه كل شيء ليضعه تحت قدمي ماريا، ماريا الفاتنة، ماريا ملهمته الفن الساحر القادر. ولكنما قدماها(455/48)
كانتا مغلولتين بغل من حديد التقاليد
لقد كان محرماً عليها هناك في سجنها الذهبي حتى النطق باسم برجوليزي. فماتت بسمتها المرحة على شفتيها، وانطفأت شعلة في عينيها كانت متألقة باسمة. وجاءها أخوتها الثلاثة يوماً، وقد أخذ الغضب منهم كل مأخذ، وتطاير شرر التقاليد من أعينهم، وأجهر بوق الأرستقراطية أصواتهم، فتدافعوا إلى خدرها، وهددوها وسيوفهم مشروعة بأنها إن لم تتخذ لها بعلاً كفئا لها استقر السيف في قلب هذا الموسيقي الحقير! فدافعتهم بدورها ولوحت لهم بالقانون منتقماً لحبيبها. فضحكوا؛ فهم حماة الشرف السبينللي؛ ولم تك ليد أن تمتد إليهم إذ ذاك لا أن تمسهم. لقد كان لهم أن يضحكوا؛ فلم يك قولهم إلا حقاً، فما نابلي إذ ذاك إلا مدينة الأشراف؛ ولقد كانوا هم سادة الأشراف!!
ومرت أيام ومضت ليال وجاء أخوتها برجل من أسرة كرافا أثقلته حليه، وجللته عظمته، فأخفت رأسه الفارغ، وكست روحه العارية
لقد كان غنياً أرستقراطياً لا شبهة في ذلك، جاء به أخوتها لترضى به زوجاً؛ ولكن لم تكن ماريا لتفتنها الثروة أو تأخذها الأبهة، وما كانت لتريد رجلاً أياً كان. . . لقد كانت تريد شيئاً غير هذا! شيئاً أجمل من هذا. فخرج الكرافي بوجهه المصقول، وجواهره اللامعة، وتقاليده الرائعة، وانحنى له أخوتها مودعين وقد وضع يده في جيبه بتحسس خاتمه الذي لم يقدر له بعد أن يوضع في مكانه
وأمضت ماريا برفضها الكرافي أمراً القضاء على برجوليزي. ولم تك هناك إلا طريقة واحدة لنقضه. لم يك هناك إلا أن تهب نفسها لله!
فوافق أخوتها. ولأمر ما قرروا أن يرأس برجوليزي العازفين في حفل ترهيها! يا عجباً! برجوليزي يقدم قلبه لله!
وفي الحادي عشر من مارس عام 1734 في كنيسة سانتاشيرا رأس برجوليزي العازفين وبدأ الحفل فلوح بعصاه يفتتح قبر قلبه فكان لنقراته على حامل الموسيقى صدى، كأنما هو يؤذن برفع الستار عن إحدى المآسي
ورفع الستار عن مأساة مروعة: عذراء تترهب مقدمة شبابها، جمالها، حياتها، قلبها، إلى نسيج حسن لا يرققه ولا يلطفه إلا الإيمان بالله(455/49)
مأساة أعمق من أن تصل إليها الألفاظ والجمل. لقد كان الرهبان يصيحون: (مرحباً بعروس البيعة)، ورنت أصواتهم في كل أذن سمعتهم. أما أذن العروس، وأما أذن رئيس العازفين فقد سمعتا مأربا كل نغمة تصيح: وداعاً. وداعاً رمى بها الأفق، وداعاً ابتهل بها الرهبان. وداعاً نطق بها دخان البخور وقد صعد يتلوى في زرقته إلى الله. إنه لم يترنم في صعوده برسالة حبيب إلى السماء، بل لقد كان يصيح وداعاً ويتلوى لرسالته من الألم! وتخافتت الأصوات، وسكنت الأقدام ووقف برجوليز وحيداً مرفوع الرأس مديراً بعصاه أنغام العازفين وحركاتهم
لقد كان جديراً حقاً ذلك الحفل بأن يضع على رأسه أكاليل الغار، ولكنه كان مأخوذاً مرعوباً لم يدر شيئاً، ووقف يحترق في لهبه، لقد كان فريسة لأساه، هشيما لنار جواه. وبكاها برجوليزي إلى العالم ولم تزل حية، لم يبك (الأخت فكتوريا) كما نادوها في الدير، بل بكى الحبيبة ماريا. لقد بكاها وهي في كهفها الضيق ولا من يسمع أناتها. إنك لتقرأ مأساتها كما قرأها من قبلك، وكما سيطالعها إلى الأبد الكثيرون في دمعته المحرقة في دمعته الصارخة ولا عجب أن كانت معجزة فلم يك أبداً فؤاد إنسان ذاك الذي لحنها، ولكنه فؤاد من ذهب روحي خالص نقي صهرته الآلام الملتهبة
لم يتمكن الزمن أن يحدث معجزة النسيان، ولكن لم يك غير الموت شافياً (لماريا). فلم تمض سنة حتى تركت الأخت (فكتوريا) وراءها على الأرض صدفة مرمرية ورسالة إلى من وهبته قلبها. وحمل الرسالة أخوتها إلى (برجوليزي) في روما؛ فقد رحل من قبل عن (نابلي) مثوى أحلامه. أما الرسالة فكانت: (دعوا برجوليزي يدير المحفل الأخير لروحي حتى يتاح لها أن تصعد إلى عالم الخلد على أجنحة المجد)
فترك برجوليزي ما لم يتم من تأليفه؛ وقد كاد أن يتم أوبراه الخالدة (الأوليمبياد) ورحل سريعاً إلى (نابلي) ليجد هناك طعنة جديدة تنتظره؛ فقد كانت القطعة التي سيدير عزفها ليست له ولكنها من تلحين (ليد) الموسيقي القديم. ويحهم! ويحهم! لم يريدوا حتى أن يكون له شرف تأليف لحن جنازتها. لم يريدوا إلا حرمانه حتى ذلك التأسي الفاني، ولكنه فنان عاشق، ولكنه محب واله، ولكنه. . . لحن في سرعة جنونية يائسة قطعة كل نغم فيها فلذة من حنايا قلبه المضني، من ثنايا أساه البليغ(455/50)
لم ير شيئاً سوى وجوهٍ كالحة ساخرة مجرمة. وتخافتت الأصداء، وسكنت الأقدام، ولكن أقدام ماريا لم تخفق معها هذه المرة، ولم تندمج في الصف الذي اندمجت فيه من قبل في حفل ترهبها. وهاهي ذي فوق أكتاف الراهبات يحملن منها صدفتها المرمرية الهشة. وهاهي ذي وخزات الآس الدامية ينقلها (برجوليزي) إلى لغة اللحن في أنات طويلة علوية
ولما أوصد الباب للمرة الأخيرة، وانتهت المراسيم الحزينة، تقدم برجوليزي وهبط عن منصته ثم جمع أوراقه التي سطر فيها أساه واحدة فواحدة، وعدها ببطء ودقة. ولما تأكد من أنه لم يترك منها شيئاً. تقدم إلى المذبح. ويحه ماذا يريد؟ وعلى أحد الشموع الكبيرة التي قدمت حياتها قرباناً لتضيء ساحة بيت الله، ألهبت ناراً في عصارة قلبه، في هديته الأخيرة لماريا ملهمته، ولما اسودت الأوراق، وتلوت ثم ترامت في ألم على الأرض، صاح في أسى وحرقة:
لقد لحنتها لماريا! لماريا وحدها. إنها لحني الأخير لموكبها. إنها سلامي الأخير لها، ووداعي الأخير لروحها. ولن تكون إلا لها. دائماً أبداً لن تكون
ولم يعلم أحد هل كانت هذه البقايا المحترقة هي معجزة برجوليزي التي جمعها الراعي في الصباح
لم يعلم أحد هل كانت هذه البغايا المرتعشة في مهب الريح هي (النغم الضائع) أو الوتر المنزوع من قيثارة (جيامباتسنا)
ولم تنتظر ماريا طويلاً. فلم تمض سنة حتى كان جيامباتسنا برجوليزي في قرية بوزيولي، قريباً من نابلي، وقد امتنع عن العزف، وامتنع عن الشكوى والنواح
وارتفع إلى السماء ليعزف لها هناك على قيثارة الروح الأناشيد التي وضعها لها على الأرض
حسين محمود البشبيشي(455/51)
العدد 456 - بتاريخ: 30 - 03 - 1942(/)
من خواطر الحرب
لابد للإسلام من مؤتمر
جلست ذات أمسية إلى المذياع أتنقل فيه بسمعي المرهف بين برلين وباري ولندن وموسكو وطوكيو وباريس وأنقرة، وكلها تذيع باللغة العربية، وتوجه الكلام إلى الأمة العربية. فقلت في نفسي: سبحان الله! ما هذه العناية اليقظة بنا، والاهتمام البالغ بلغتنا وأدبنا، كأننا لا نزال نملك زمام الدنيا ونصرف عنان القدر! ثم أعلن المذيعون أنباء الحرب في ميادينها المختلفة، فإذا هم يذكرون: أفريقية الشمالية، ومصر، وفلسطين، وسورية، والعراق، وإيران، والهند، والصين، والملايو، وسنغافورة، وجزر الهند الشرقية؛ وكلها مواطن الأمم الإسلامية، ومسارح الثقافة العربية؛ وليس من أهلها المغير ولا المدافع؛ وإنما هم كثروة الأرض وعروض التجارة خسارة للمغلوب وربح للغالب. فعدت أقول لنفسي: ما أشبهَ تلك الإذاعات اللينة العطوف بالرُّقَى الساحرة، يسلطها المفترس على أعصاب الفريسة لِتخدَر وتنام، فلا تنشب في حلقه ولا تضطرب في جوفه! وما أعجب ألا تشب الحرب الاستعمارية، وتتصارع الدول القوية، إلا حيث يملك العرب ويعيش المسلمون، كأنما أصبحوا سلباً لكل غازٍ ونهباً لكل غاصب!
ألم يكن هؤلاء الناس أعقاب أولئك الفاتحين الذين نزل على حكمهم الدهر ودخل في ملكهم العالم بضعة قرون؟
أليس هذا الإسلام الذين يؤمنون به اليوم هو إسلام ذلك الخليفة العباسي الذي نظر ذات يوم إلى السحائب الجُون تزجيها الرياح الرُّعن إلى أقاصي الأرض، فقال في لهجة تنم على العزة والجلالة والشكر: (أمطري يا سحائب حيث شئت فإن خراجك لي)!
بلى، هؤلاء أعقاب أولئك، ولكن الدين الذي يعتقدونه لم يعد دين ذلك الخليفة؛ إنما هو بقية من الإسلام الأول حالت ثم آلت إلى صوفية بلهاء لا يفيق الممسوسُ بها من الغفلة، ولا ينشط من الخمود، ولا يبالي أن يبلغ ساحل الحياة مركوباً على ظهره أو مسحوباً على وجهه! والدين والعلم مآلهما في النفوس الضعيفة والعقول الخفيفة إلى الترهات والأباطيل: فأيلولة الكيمياء إلى البحث عن حجر الفلاسفة، وعلم الفلك إلى التنجيم والسحر، كأيلولة الإسلام إلى هذه العقيدة الملفقة التي زيف فيها الإيمان بالقدر حتى أهمل الناس التوقي(456/1)
استسلاماً للقضاء، وتركوا السعي اعتماداً على (القسمة). و (إن الله لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يغّيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال)
ولئن سألتني بعد ذلك: هل بلَّغ العلماء رسالة الله لأقولن لك: (لا) مغلَّظة مكبرة مكررة! وأكبر الظن أنهم لا يؤمنون بأن لهم رسالة وأن عليهم تبعة
رجال السياسة يعملون بحق أو بباطل، ورجال الحكم يتصرفون بعدل أو بظلم؛ أما رجال الدين في ممالك الوطن الإسلامي كله فقد قنعوا باللقب والزي، واكتفوا بالشبع والري، ورضوا أن يكونوا متوناً لذوي الطمع، وحواشي لأولى النعمة، وهوامش على صفحة الحياة!
على أن سلطان الدين أكمل وأشمل من سلطان السياسة وسلطان الحكم؛ فإن هذين لا يتجاوزان بقعة من الأرض ولا أمة من الناس؛ ولكن ذاك ينبسط على كل مكان فيه لله ذِكر، ويهيمن على كل إنسان له في الإسلام فِكر. وعلماءُ الدين هم الطوائف التي نفرت من كل فرقة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم؛ فإذا تفقهوا ولم ينذروا، أنكروا ما خُلقوا له، وعصوا ما أُمروا به. وليس الإنذار أن يلهجوا بذكر الحساب والعذاب، وإنما الإنذار أن ينبهوا المخطئ، ويوجهوا الحائر، ويرشدوا الغوي، وينصبوا في مجاهل الأرض أعلام الطريق
لو كان علماء الإسلام يعملون لكان لهم مثل ما للمبشرين والمستعمرين والمستشرقين من المؤتمرات التي تعقد العام بعد العام، في الدولة بعد الدولة. والله قد فرض على المسلمين أمثال هذه المؤتمرات العامة بالحج. وإذا كان وفود العلماء من الأقطار المختلفة إلى إحدى المدن تعوّقه الأهواء والظنون، فإن وفودهم إلى مكة لا يعوّقه غير الشيطان، ورجال الدين والحمد لله في عصمة منه
لا بد للإسلام من مؤتمر يجمع زعماء الرأي في أهله ليجددوا ما دَرس منه، ويوضحوا ما التبس فيه، وينفوا عنه ما غشيه من أساطير القرون وأضاليل النّحل، ويجلوه للناس كما كان صالحاً للحياة، كافلاً للفوز، ضامناً للسعادة
لا نطمع أن يجتمع هذا المؤتمر اليوم، فإن الزلزلة التي لا تنفك آخذة بأقطار الأرض وأفكار الناس تجعل العقاب والسدود من دونه، ولكنا نطمع أن يفكر أولو الأمر فيه ويهيئوا(456/2)
الأسباب له؛ حتى إذا عادت السّلم وتحلق زعماء الأمم حول الموائد الخضر لإقرار السلام الدائم واختيار النظام الملائم، اجتمع كذلك علماء الإسلام ليعرضوا على العقول الحائرة والأجسام الخائرة نظام الله خالصاً كما أوحاه، صافياً كما أنزله. نعم لا بد للإسلام من مؤتمر يقيم بين الَبهرج والصحيح حداً من نور الحق يجتمع عليه القطيع الشارد، ويهتدي إليه الركب المضلّل. ولكن ليت شعري من الذي يفكر في هذا المؤتمر ويعمل له ويدعو إليه؟
لقد عقدنا الآمال بالأزهر في كل ذلك، فهل عقدناها بلُعاب الشمس؟
كانت (جماعة كبار العلماء) معقد الرجاء ومناط الثقة؛ وكانت هذه الجماعة في نظامها الجديد عسِيَّة أن تدعو إلى هذا المؤتمر بعد الحرب في العيد الألفي للقاهرة؛ وكان الظن ببرنامج الإصلاح الذي اقترحه شبابها المصلحون، وأقره أقطابها المخلصون، أن يكون نواة الإصلاح ونقطة التحول؛ ولكن جنديّاً باسلاً من جنود الإصلاح الديني كتب إلينا يقول: إن برنامج الإصلاح أدركته أزمة رجعية توشك أن تخنقه في درج المشيخة. فإن عضواً من الجماعة يوجس منه شراً، فهو ينسج حوله الشكوك ويؤلب عليه القُوى، وقد نجح في ذلك!
فهل يجوز في ظن امرئ أن يكون في كبار العلماء من يشتبه عليه الحق والباطل والخير والشر والصلاح والفساد؟ ذلك ما لا نصدقه، ولا نود أن تجري الأمور بما يحققه
(المنصورة)
احمد حسن الزيات(456/3)
بين آدم وحواء
قبل أن تثور القواصف
فوق أثباج الكوثر
للدكتور زكي مبارك
ارتاح آدم إلى كيد حواء بعض الارتياح، وأدرك أن الرجل لا يعيبه أن يُفتن بالمرأة من حين إلى حين، على شرط أن يظل في الحدود التي لا تجرح كرامة الرجال
وفطِن إبليس، لعنه الله، إلى أن آدم أخذ يؤوّل كيد المرأة ويقسمه إلى أقسام فيها المكروه والمباح. . . فطن إبليس إلى هذه الثغرة فجدّد من نشاطه واستأنف الوسواس فهتف: (هل أدلكما على شجرة الخُلد؟. . . هل أدلكما على شجرة الخُلد؟. . . ألا تسمعان؟)
قالت حواء: سمعنا وسنطيع. وقال آدم: سمعنا ولن نطيع
فغضبت حواء من جواب آدم واتهمته بالزهد في الخلود، وهو زهدٌ دميم، فما يليق بالرجل أن يضيع فرصة تنجيه من الفناء، ولو ارتكب في سبيلها ما لا يليق
وغضب آدم من سفاهة حواء فقال: من أين عرف إبليس أن شجرة الخلد هي شجرة التين؟ وعلى فرض أن كلامه صدق في صدق، فكيف يجوز أن نعصي الله لنظفر بالخلود؟
اعلمي، يا حواء، أن الرزق والجاه قسمان: حرام وحلال، وأنا لا أقبل أن نُرزَق الخلد عن طريق الحرام. . . إن اللقمة المسروقة تقف في الحلق لحظة، ثم تُزدرَد برفق أو بعنف. ومع هذا تبقي لها عقابيل تحزّ في القلب إلى آماد طوال، فكيف نستجيز الظفر بنعمة الخلود عن طريق العصيان؟ وكيف نرضى أن نعيش أبد الآبدين في أسر الحرام الممقوت؟
- آدم، أنت أحمق!
- لأني أزهد في الخلد المكسوب بالعصيان؟
- لا، بل لأنك تجهل أن الخُلد أنفس وأثمن وأعز من أن تُتَقي في سبيله الشُّبُهات
- النص صريح في تحريم هذه الشجرة يا حواء
- التأويل يلحق جميع النصوص
- إذا وُجدت الغاية التي تبيح الممنوع من التأويل!(456/4)
- وأيُّ غاية أشرف من الخُلود؟
- اسمعي، يا حواء، إن الخُلد غاية شريفة - كما تقولين - ولكني أبغضه أشنع البغض، لأنه يوجب أن أعيش في صحبة عقلك الأجوف إلى ما لا نهاية له من الآباد. . . إني ضَجِرت، ضجرت، مع أن صحبتنا في الجنة قريبة العهد، فكيف أصنع إذا كتب الله عليَّ أن أكون من الخالدين في جوارك يا حواء؟
- تغضب مني يا آدم وأنا أدعوك إلى الخُلد؟
- هو خُلدٌ حرام لا حلال. . . وما يليق بنا أن نعامل الله في كرمه بغير الامتثال
- أَتصِفُ الله بالكرم وهو يبخل علينا بشجرة لا يساوي حطبها درهمين؟
- ألم أقل: إن الله يختبر قُوانا النفسية بتحريم تلك الشجرة؟ وإذا عجزنا عن كبح النفس في البعد عن شجرة لا يساوي حطبها درهمين، فكيف يكون المصير لو نُهينا عن شجرة مصوغة من عيون العذارى وخدود الملاح؟ المعصية بغيضة يا حواء، لأنها تضيفنا إلى أهل الكفران، وما يجوز لمن يعيش في مثل هذا النعيم أن يفكر لحظة واحدة في عصيان المنعم الوهاب
- الله منعمٌ وهاب، وهو يبخل بشجرة لا يساوي حطبها درهمين؟
- الآن عرفتُ أنك امرأةٌ سليمة الأعصاب والحواسّ إلى أبعد الحدود
- وكيف؟
- لأنك تنكرين الجميل، والمرأة لا تنكر الجميل إلا حين تكون في عنفوان الصحة والعافية
- وإذن؟
- وإذن أعصى الله من أجلك يا حواء!
- فتأكل من شجرة التين؟
- وأترك طبعات على هذه الخدود المقبوسة من جمر الوجود
- تحبني، يا آدم؟
- أحب المرأة الحلوة الجميلة التي زلزلتْ فؤادي. أحب المرأة التي نقلت قلبي من مكان إلى مكان. أحب الغادة اللعوب بالعقل والروح. أحبك يا حواء حباً أمتنَ من الصدق وأروح من اليقين. أحبك يا حواء حبًّا سيُفسِدُ ما بيني وبين ربي، إلا أن تشاء إرادته السامية أن(456/5)
أتقرب إليه بعبادة الجمال. . . ولعله يشاء!
- وإذا لم يشأ، فماذا تصنع؟
- آكل من شجرة الخلد، لأحمي هذا الجبين من الأفول
- بالعصيان؟
- هنا المشكلة يا حواء، فما يُسيغ ذهني أن ينهانا الله عن رعاية الجمال
- أراك اهتديت!
- وأراني ضللت!
- أفِقْ، يا نَشْوان
- إن جاز للموقوذ بسكْر الجمال أن يُفيق!
- تحبني يا آدم؟ تحبني؟
- أحب النار التي صهرت روحي، ولن أطمئن إلا يوم أنهشك يا حواء لتعودي نقطة من دمي
- ما هذه الوحشية؟
- أيّ وحشية؟ ألم تؤخَذي من ضلعي؟
- أنا من ضلعك أُخذتُ يا كذّاب؟
- اسألي الملائكة، فعندهم الخبر اليقين
- ولهذا جئت جميلة؟
- وأجمل من الأفعى الملتوية على الشجرة الزهراء!
- أراك تبغضني يا آدم!
- هو ذلك: فأنا أبغض العيون الجوارح، وأبغض الجبين الوضاح، وأمقت القد الرشيق، وأستعيذ بالله من السحر المتموج فوق الثنايا البيض
- ثم ماذا؟
- ثم أكره الصوت الذي يُشبه وسواس الحُلِيّ فوق النحور، والذي يفوق غمغمة الكأس عند فورة الرحيق
- ثم؟(456/6)
- ثم أثور على التفاتة الجيد عند العتاب
- ثم؟
- ثم أبغض حواء لأنها حواء!
وبعد الأنس بقُبلتين محرقتين مضى آدم لشهود حفلة الطيران، وهي حفلة موسمية كانت تقيمها الحمائم والبلابل والعنادل في (غابة الصنوبر) لتروض أفراخها على النهوض والتحليق. ويحدثنا شيث أن حفلات الطيران هذه كانت تجتذب جميع سكان الجنة بلا استثناء. وقد نص على أن السباع كانت تراهاً عجباً من العجب، لأنها تشهد بتنوع المواهب، وإلا فكيف جاز أن يقدر الطائر الضعيف على ما يعجز عنه الأسد الصوّال؟
مضى آدم وحده لشهود حفلة الطيران، وهو مبتسم جذلان، فقد أعفى نفسه من الحيرة في قرب شجرة التين، وأسلم مصيره إلى خالق الأنوار والظلمات، فللأقدار أن تصنع به ما تشاء
أما حواء فشعرت بحزن وانقباض حين رأت آدم لا يمانع في قرب الشجرة المحرّمة، ولهذا قّلت بشاشتها لشهود حفلة الطيران، وكذلك آثرت الاعتكاف لتنظر فيما هي مقبلةٌ عليه. . . فما الذي تأذّت به حواء وقد بلغت من ختل آدم فوق ما كانت تريد؟
نظرت حواء فرأت أن الشقاق حول الشجرة المحرمة كان فرصة لشغل آدم بزوجته شغلاً غير مقطوع، والمرأة يرضيها ويسرها ويشوقها أن يعيش الزوج وهو بها مشغول، فكيف تكون الحال بعد أكل الثمرة الممنوعة حين يصبح جميع ما في الجنة حلالاً في حلال؟
ونظرت فرأت أن الجدال حول الشجرة المحرمة ألانَ لسان آدم وعلَّمه الحوار بأساليب لا تخلو من البراعة والظرف، وقد تصل إلى السحر في بعض الأحيان، فكيف المصير إذا تساوت قِيمُ الأشياء واستغنى آدم عن الجدال؟
سيكون الصمت من نصيب آدم حين تنعدم أسباب الخلاف، فكيف تعيش حواء مع رجلٍ صَمُوت؟ وهل قلّ صمت آدم برغم ذلك الخلاف؟ لقد كانت له تأملات طويلة ينسى بها ما حواليه حتى لتحسب زوجته أنه لا يشعر بأن لها من الوجود أي نصيب، فأي بلاء ينتظر حواء يوم تنقطع موجبات اللجاجة مع فارسها الجميل؟
في تلك الحومة كادت حواء تنتقل من المعصية إلى الكفران، والعياذ بالله، فقد جاز لها أن(456/7)
تعترض على نظام الجنة، وأن ترى أنه لا يخلو من اختلال. والثورة النفسية تحيل النعيم إلى جحيم، وذلك ما وقعت فيه حواء
نظرت فرأت أن الجنة قليلة المحرمات، فهي قليلة الطيبات، وهل يستطيب الناس غير الممنوعات؟
نظرتْ في هذا المعنى ملياً ثم صرختْ:
أرى طِيبَ الحلال عليّ خُبثاً ... وطِيبَ العيش في خُبث الحرامِ
وهمّت باقتلاع شجرة التين لتحوّل الجنة إلى خراب يباب، فما كانت الجنة في نظرها غير تلك الشجرة الممنوعة، وإذا اقتلعت تلك الشجرة فسوف يرى الله أن عنايته بخلق الجنة ذهبت أدراج الرياح!
ولكن شجرة التين التي لا يساوي حطبها درهمين أعجزت حواء فلم تستطع اقتلاعها برغم ما بذلت من الجهد (المحمود) فنكصت على عقبيها وقد نال منها الإعياء ما نال
وكان المفهوم أن تخجل من الهزيمة أمام شجرة التين، وأن يزيد حقدها على الله، ولكنها فرحت حين عرفت بالتجربة أن (شجرة الشرّ) قوية الجذور، وأن الأمل في اقتلاعها ضعيف، وتمنّت أن تصبح الجنة وفيها لهذه الشجرة أمثال وأمثال
ذلك ما كان من أمر حواء، فما أمرُ آدم وقد ذهب وحده لشهود حفلة الطيران؟
رأى جميع المتفرجين يتحدث بعضهم مع بعض، وهاله أن يرى الثعلب يناجي أنثاه بجذل وانشراح، كأنه يدرك الدقائق من طيران أفراخ العندليب، ورأى الأفعى تخاطب الأفعوان بعبارات فَهِم منها أن حفر الجُحر في أصل الشجرة لا يقل خطراً عن بناء العش في أعالي الأغصان
أراد آدم أن يتكلم، ولكن مع مَن؟
لو كانت حواء حاضرة لحدثها عن ذكائه في استكشاف ما بين الخشب والماء، فقد اهتدى إلى أن من يمتطي الخشبة لا تهوله أمواج الكوثر في كثير ولا قليل، وهل يكون امتطاء الهواء أوثق من امتطاء الماء؟
لو كانت حواء حاضرة لقال لها وقال، ولكن أين حواء؟
هنا أدرك آدم أن الحياة بلا رفيق لفظٌ بلا مدلول(456/8)
ألم يكن يجرّد من نفسه شخصاً يحاوره حين يعتكف؟
ألم تكن أشعاره تبدأ بعبارة (يا خليليّ) أو (يا صاحبيَّ) كأنه يرى بضوء البصيرة أنه يحتاج إلى عدد من الأصحاب والخلان؟
ألم يلاحظ أن الله حين اختصه بالنطق قد أوحى إليه أن حياته لن تكون بلا رفيق أو رفاق؟!
أين حواء ليبادلها الأحاديث؟ وأين ماضيه في الطيران بأجواء الحقائق والأباطيل؟
إلى حواء، إلى حواء، إلى حواء!!
فماذا يرى آدم، وماذا يسمع؟
يرى فتاةً خامدة بجوار شجرة التين، ويسمع أنيناً يذيب لفائف القلوب
- حواء!
-. . .
- حواء!
-. . .
- حواء!
- آدم؟
- نعم، آدم، ماذا بك يا حواء؟
- لا شيء، ولكن أين كنت؟
- كنت أشهد حفلة الطيران
- ورأيت عدل الله؟
- فيماذا؟
- في تزويد الطير بنعمة لن نظفر بها أبداً، فهو يطير عن هذه الجنة حين يشاء!
- وهل مللت الثواء بالجنة يا حواء؟
- أي جنة تريد؟ أتريد هذا العيش الرتيب، العيش الذي لا يحرَّم فيه غير طعامٍ واحد؟ العيش المملول، العيش الذي يقدَّم فيه التفاح بلا حساب؟
- وما عيب هذا العيش يا حواء؟(456/9)
- عيبه أنه حلال في حلال
- وماذا تريدين؟
- أريد أن يكون لي جموح يُغضب الله
- وماذا تستفيدين من غضب الله؟
- أريد أن أشغله بنفسي
- لك الويل، يا شقية!
- لك أنت الويل، يا بليد!
- حواء، أنت حمقاء!
- الأحمق هو الذي يشهد حفلة الطيران ولا يستفيد
- وماذا يستفيد المرء من شهود حفلة الطيران؟
- ألم تر مئات الأفراخ من الحمائم والبلابل والعنادل والصقور والعقبان وهي مجرَّحة بسبب العنف في التمرين على الطيران
- نعم، رأيت، ثم رأيت!
- تقول إنك رأيت، فهل فهمت أن تلك الجراح هي سرّ القدرة على التحليق؟
- وإذن؟
- وإذن نجرَّح مرة أو مرتين أو مرات. . .
- لماذا؟
- لنطير في أجواء الرشد والغيّ والهدى والضلال
- إن كنت تريدين شجرة التين فلن أقرب شجرة التين
- حدثني أحد الملائكة. . .
- وتحدثك الملائكة يا حواء؟
- وتحدثك أيضاً ولكنك لا تسمع!
- وماذا قالت الملائكة؟
- قالت إن الله أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة، وأنهم كرهوا أن يجعل في الأرض من يُفسد فيها ويسفك الدماء(456/10)
- وبماذا أجاب الله؟
- قال: إني أعلم ما لا تعلمون
- ومعنى ذلك؟
- معناه أننا سنصير إلى الأرض
- بعد هذا النعيم؟
- وهل نحن في نعيم؟
- اتقي الله يا حواء
- اتق الله أنت
- الأرض، الأرض، الأرض!!!
- الأرض، الأرض، الأرض!!!
كذلك دار ذهن آدم وحواء بهذه الكلمات، واشتهى آدم واشتهت حواء رؤية ذلك العالم المجهول
- إلى شجرة التين، يا آدم
- إلى شجرة التين، يا حواء
- ولكن أحذر من أن تقول إني أغريتك!
- لم يغرني غير العينين النجلاوين، والخدين الأسيلين، والثغر المعطَّر بأنفاس الرحيق
- اعترف صراحة بأني ما أغويتك ولا أضللتك ولا زينت لك العصيان
- أعترف بأن حواء لا تُسأل عما يجني قدها الرشيق
- ولا خصرها الأهيف؟
- ولا جيدها الأغيد!
- ولا ثغرها الرَّشوف؟
- ولا طرفها الكحيل!
- ولا تثنيها وهي تتخطر فوق شط الكوثر؟
- ولا سحر اللون الذي يتموج بساقَيْها حين نتمدد فوق الأعشاب!
- ولا بلؤمها حين تثور؟(456/11)
- ولا بكرمها حين تطيع!
- آدم، آدم، أنت مخلوقٌ نبيل
- معاذ الله أن أكون كذلك، فما يوصف الرجل بالنبل إلا حين يملك ما يأتي وما يَدَع. وقد قلّت حيلتي في رياضتك يا حواء، فأنا بفضل هواك من الهالكين
- لن تهلك وأنا معك
- ولن أهلك إلا لأنك معي، فالرفيق الفاسد يجرّ صاحبه إلى الهلاك
- اللهُ قدَّر أن يكون مصيرنا إلى الأرض، فما خوفُك وتلك إرادته السامية؟
- للجنة أسوار وحدود، وأنا أخشى أن تكون الأرض بلا أسوار ولا حدود
- عند ذلك تستطيع أن تفر مني حين تشاء
- أنا في الجنة مقهور على صحبتك بفضل الأسوار، وسأكون في الأرض مقهوراً على صحبتك بفضل الأهواء، والفرق بين الحالتين بعيد
- لك أن تتحرر من هواي
- لو أصبحتِ تراباً يا شقية لكان من واجبي أن أستاف ذلك التراب
- تحبني يا آدم؟
- أحب اللسان الذي يتلجلج بفم الحية النضناض
- أنت وقح!
- الوقاحة لن تكون إلا من نصيب الجمال النشوان!
- النشوة العارمة لم تعرف إهاباً غير إهابك
- ولهذا أخضع للشهوة وأطيع
- إذن تأكل من شجرة التين
- وأستبيح المعصية في سبيل الجمال
- خذ هذه التينة يا آدم
- ابدئي بنفسك
- هذه واحدة وثانية وثالثة ورابعة وخامسة، فهل وقع شيء؟
- لم يقع شيء!(456/12)
- وإذن يكون التين من الثمر المباح
عند ذلك مدّ آدم يده فالتهم ثمرة التين وهو يرجو أن يكون مصيره مصير حواء، ولكن الجنة زُلزلت من جميع الجوانب فأدرك أن الله لا يقيم وزناً لغير هفوات الرجال.
(للحديث شجون وشجون)
زكي مبارك(456/13)
الأدب والعلم
للأستاذ محمد محمد المدني
كتب إليّ صديق من زملائي على عهد الدراسة كتاباً يقول فيه: -
(إني مواظب على قراءة الرسالة بشغف واهتمام، ولست تكتب على صفحاتها مقالاً إلا قرأته لك، وتنسمت فيه روحك، وثارت به في نفسي ذكريات محببة عن أيامنا الجميلة التي كنا نختلف فيها إلى دروس الأدب والبلاغة يلقيها المرصفيُّ وعيَّارة والبطراوي والإسكندري وغيرهم، ونتجاذب فيها أطراف المحاورة، وأهداب المذاكرة، ونتساقى كئوس الشعر والنثر كأنها رحيق مختوم. وقد أذكر زميلنا الذي كان مولعاً - في كتاباته الإنشائية - برواية أشعار المتنسكين والمتزهدين، وأننا كنا نغرب في الضحك إذا سمعنا أستاذ الإنشاءَ يقرأ طرفاً مما كتب، ويحاسبه على أفكاره العتيقة. وما لهذا كتبت إليك، ولكني أريد أن أتحدث إليك في أمر كثيراً ما هممت بأن أحدثك فيه:
أنت تعرف رأيي في أسلوبك الكتابي وبحوثك العلمية، وتعرف حبي لك وشديد غيرتي عليك، فهل لي أن أسألك: لماذا تنحو في اختيار موضوعاتك هذه النواحي الأزهرية فتتحدث عن الفقه وأصول التشريع ودراسات الأزهر وأسلوبه في التفكير وما ينبغي له من علو ورفعة شأن، ولا نراك تتحدث عن الأدب والشعر وهما في هذا العصر أنشودة الشُّداة، وأغرودة الحداة، وثقافة المثقفين؟ لو كنت أعلم أنك تخرجت في علوم الشريعة لقلت: رجل مشغوف بما درس، معنيٌ بإشباع نهمه العلمي منه، ولكنك تخرجت في دراستك تخرج الأديب، ونلت شهادة التخصص في علوم البلاغة والأدب، فكيف تجحد حقهما عليك وتنسى فضلهما في تهذيبك وتثقيفك؟ وهل تتحبب إلى الأدب طالباً، وتتنكر له أستاذاً، فتقطع به صلتك، وتزوي عنه وجهك وتنصرف إلى غيره مما ليس منه ولا يمتُّ إليه؟
ما هذا الذي أُغرمت به، وملك عليك نفسك، واستبد بقلمك؟ وأيُّ فرق بينك وبين الزميل المتنسك الذي ألحدْتُ إليه صدر هذا الكتاب؟ ولم إذن كنت تسخر منه، وتُغرب في الضحك عليه؟
لا يا صديقي، ما لهذا يريدك أصدقاؤك، وما لهذا أردت نفسك، وما لهذا أعدتك (شعبة البلاغة والأدب) في تخصص الأزهر. لا تكفر بالأدب ولا تنأ بجانبك عنه، واستغفر لذنبك(456/14)
ودع الفقه والجدال فيه، ودع الأزهر والحديث عنه، والتحرق له والبكاء عليه، فما ذلك بمغن عنك فتيلاً. وسوف يبقى الفقه كما هو، وسوف يبقى الأزهر كما هو، وسوف تضيع صيحاتك وصيحات غيرك في شأنهما هباء كما ضاعت من قبلُ صيحات وصيحات! عد إلى أحضان الأدب يا صديقي وأسمعنا شدوك عند رياضه وغياضه، وطر إلى آفاقه، وحلّق بخيالك في سمائه، فربما غنيت على قيثارته ألحاناً يرويها عنك الزمان. . .)
هذا كتاب صديقي إليّ، أثبته كما هو لأنه وإن كان كتاباً خاصاً يتحدث عن شأن له ناحية من العموم، ويمثل رأياً ينزع إليه جمهرة من شباب المتأدبين في هذا العصر فهم به مولعون
ولست أرى أني أغاضب الأدب وأجافيه - كما يتصور هذا الصديق - حين أكتب في موضوعات علمية، أو حين أعالج مشكلة من المشكلات الخاصة أو العامة، فإن الأدب ليس محصوراً في دائرة العاطفة والخيال وما يتصل بهما، ولكنه أوسع من ذلك دائرة وأبعد أثراً. وقد أتي على الناس حين من الدهر وهم يظنون الأدب حلية تراد للزينة وتستكمل بها مظاهر الترف، فكانت قصور الملوك والأمراء وذوي اليسار كما تضم الندمان والسقاة والجواري والغلمان، تضم الشعراء والكتاب والقصاص والرواة، قصاراهم أن يكونوا أداة لهو وتسلية تَشرح بهم الصدور وتُنسى الهموم. فلما ترفع الأدباء والشعراء عن تلك المنزلة قصدوا إلى الأدب والشعر بالتكريم فصانوهما عن التبذل في خدمة الأمراء والثراة إلا قليلاً، فأصبح الشاعر يقول ليرضي ذوقه الأدبي، وأصبح الكاتب يكتب ليصف شعوره هو قبل أن يصف شعور الآخرين؛ وبذلك استقل الأدب، ونال الأدباء والشعراء حريتهم، وانطقوا يهيمون في جوهم الصافي، وينعمون بأحلامهم اللذيذة؛ لا يحبون أن يكدرها عليهم مكدر، ولا أن يفسدها عليهم مفسد؛ ولكنهم كانوا من ذلك في شبه غيبوبة عن الحياة العملية المثمرة، لا ينفذون إلى صميمها، ولا يُعنَوْن إلا بحواشيها وأطرافها، ورضوا بالفقر حليفاً، وبالبؤس صاحباً؛ وخيلوا للناس أن الأدب والفقر صنوان، ورضيعا لبان! وأن الأدباء والشعراء هم وراث (أبي الشمقمق) في كل زمان!
أما في هذا العصر، فقد تغيرت المثُل، واستبدل الأدباء بنهجهم في الحياة نهجاً سواه: أصبح الأديب هو الذي ينفذ بقلمه وذوقه إلى دقائق العلوم، ومعضلات الفِكَر والآراء. هو الذي(456/15)
يجلو الغوامض، ويفتح المغاليق، وييسر المعاسير. ذلك اليومَ هو صميم الأدب، وقصارى الأديب، وذلك هو الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة بين الأدب والعلم!
من ظن أن الأدب في هذا الزمان إنما هو أنشودة تنشد، أو أغرودة تغرد، أو خيال يسبح في جوه الهائمون، أو وصف لزهرة مشرقة، أو طائر صداح، أو عاشق ولهان، أو قلب خفاق، أو عين باكية، أو ثغر بسام، أو جمال فتان، أو قد ممشوق، فقد ظن عجزاً!
إن ذلك من الأدب حقاً، ولا يستطيع أن ينكر ذلك منكر، ولكنه اليوم ليس المثل الأعلى للأدباء، وإنما هو لون من ألوان غذائهم الروحي يتشَهَّوْنه الفينةَ بعد الفينة، وهو بعد ذلك أقرب ثمرات الأدب إلى يد الأديب وأيسرها منالاً. أما العلوم والمعارف؛ أما مشكلات الحياة وقضايا العقول؛ أما سهر الليالي ومجافاة الجنوب للمضاجع في سبيل التحصيل والتزود من زاد البصائر، فتلك هي الحَلْبة لمن أراد السباق!!
أعيذك بالله - يا صديقي - أن تستخف بأمر الفقه والأصول وأسرار التشريع، أو يثقل عليك القول في إصلاح الأزهر وتقويم ميله، أو يداخلك اليأس حين ترى الداء مستشرياً والطبيب حائراً
إن الشرق الإسلامي قد استفاق من سباته العميق، وإنه يريد أن ينهض وأن يستعيد مجده السالف يوم كان مصدر النور والمعرفة، بل يوم كان مصدر الهداية ومنبت الخير، ولو تأملنا بوادر هذه النهضة وتأملنا إلى جوانبها بوادر الانهيار، بل عوامل الدمار التي تعمل عملها السريع في إهلاك أعداء الشرق وخصوم الإسلام لكان لنا أن نؤمل دورة الفلك، وأن نأخذ في تكميل أنفسنا، وتصحيح أخطائنا، والرجوع إلى قوميتنا استعداداً لما ينتظرنا. وهذه الشريعة الإسلامية هي الشريعة التي نلنا بفضلها أسباب السماء في الماضي، ولم يجد أعداؤنا منفذاً إلينا ونحن متمسكون بها؛ وفقه هذه الشريعة هو فقه الحياة والعمل، هو فقه العدل والرحمة، هو فقه الحضارة والمدنية في أبهى صور الحضارة والمدنية؛ فإذا تكلم في شأنه المتكلمون، ودعا له الكتاب، وعرض الأدباء العاملون بعض صوره على الناس، وخلصوه مما أضيف إليه واختلط به، كل بمقدار ما يستطيع، فإنهم لا يقومون في ذلك بواجب ديني فحسب، وإنما يقومون مع ذلك بواجب قومي وطني لا مناص لأهل العلم والأدب جميعاً من التعاون على حمل أعبائه. ومثل ذلك يقال عن الأزهر: ينبغي أن يلتفت(456/16)
إليه أدباؤنا، وأن يكتب في شأنه كتابنا، لأنه (جامعة الشرق)، ووارث ثقافته، وعنوان مجده، ومعقد آماله!
إنك - يا صديقي - تقول لي في كتابك: (سوف تضيع صيحاتك وصيحات غيرك في شأنهما هباءً كما ضاعت من قبل صيحات وصيحات). وأحب أن أقول لك إنه لم يضع شيء أبداً، وإن الذين صاحوا من قبل قد أثروا بصيحاتهم آثاراً بعيدة المدى في العلم والتفكير والإصلاح. ويمكنك أن ترجع إلى عهد الأستاذ الإمام محمد عبده، لتوازن بين عقلية الأزهر الماضية وعقليته الحاضرة في العقائد والفقه وأحكام المعاملات والأحوال الشخصية، فتلمس الفرق بينهما، وتدرك أن صيحات هذا المصلح الديني لم تذهب هباء
ولقد كان الأستاذ الإمام محمد عبده أديباً رائع البيان، وكان له ذوق ممتاز في فهم الشعر والنثر ظهر أثره في تفسيره لما فسر من القرآن، فهل منعه ذلك أن يؤلف في علم الكلام، وأن يفتي في الفقه، وأن يشرع شَبَاة قلمه لتأييد دعوته الإصلاحية الكبرى؟
بل لقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه أديباً عاش في البادية ونزل في هذيل، يقيم معها ما أقامت، ويرحل معها إذا رحلت، ويتعلم كلامها، ويحذق لغتها، ويروي أشعارها، حتى بلغ من ذلك شأواً بعيداً، ولكنه لم يجعل هذا غرضاً، وإنما اتخذه وسيلة إلى علم أكبر، وفضل أظهر، ووقرت في نفسه كلمة الزبيدي الذي لقيه في طريقه، فتحدث إليه فوجده فصيح اللسان، عبقري الذكاء، فقال له: أيها الفتى! يعز عليّ ألا يكون مع هذه الفصاحة وهذا الذكاء فقه تسود به أهل زمانك! وقد أراد الله ذلك، فإذا الشافعي رجل من الرجال العالميين، وإذا اسمه مسجل في سجل الخالدين!
أما بعد، فيا صديقي العزيز: لا تَلْحَني ولكن أَعِنيَّ
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(456/17)
خواطر وصور
تثيرها مرحلة من الطريق بين القاهرة وبغداد
(إلى الأستاذ المازني نسوق السؤال)
للأستاذ فخري شهاب السعيدي
كانت مفازة رهيبة!
ولم يكن فيها من آثار الإنسان غير اثنين: هذه الأسلاك النحاسيّة المعلّقة في الهواء على ركائز من الحديد الصابر المتين: تبيّن ما طُوِى من الشّقة، وما ظل ينتظر الطيّ؛ وهذا الطريق الأسود الطويل. . . الذي لا تكاد تدرك العين والسيارة آخر ما يمس الأفق من تعاريجه ومرتفعاته، حتى تتكشّف أمام العين مناظر منه أخرى، وحتى تتبدى للسيارة منه تعاريج وأطوال. . .
وكانت السيارة صابرة على هذا الأسود الممتدّ أمامها، الهازئ بها، الذي يمتحن صبرها بأعاجيب من عنده: فتارة يلتوي لها، وأُخرى ينحدر؛ وطوراً ينحني أمامها، وحيناً يستدير. . . وهي لا تعبأ بهذا الهازئ الممتحن، بل تمضي قُدُماً، وصوت شهيقها وزفيرها، وقلبها الخافق، ودمائها الغالية ملء أسماع الركب الذين أسلموها القياد في صبر واضطرار! وكانت السآمة قد تَغشّتهم جميعاً مما يتدفق أمام عيونهم من مناظر الصحراء، وما كانت هذه لتعدو الرمال والجلاميد، والهضاب العالية والوديان الخالية، وكل ما يمثل الموت والسكون والجمود من آثار الطبيعة. وما أشد صدوف الناس عما يذكرهم بمثل ذلك من آثار!
. . . كان بعضهم يزجي فراغه بالحديث يرفعه عالياً ليغالب زئير السيارة الذي ملأ الفضاء والأسماع، ثم لا يلبث - هذا البعض - أن تتعبه المغالبة فيستنجد بالسكوت. وكان بعضهم يأكل! نعم كان يقتل السآمة بالأكل. وبعضهم كان يقرأ. وكنت أنا من بينهم وحدي الذي طاب له أن يقصر عمله على اثنين: مطالعة هذه الصفحة الصحراوية، الجميل خطّها، المذهب متنها بفعل الرمال، والمفضّضةِ حواشيها بإطار الأفق الجميل؛ والتحدث إلى نفسي والأخذ منها والرد عليها فيما كان يحضرني من أفكار. . . وبين هذين العملين، أو هذين الشاغلين - بكلمة أخرى - كان الوقت يمضي مسرعاً، والسيارة تنهب من الأرض كيلو(456/18)
متراتها نهباً؛ وكنت وجدت في ذلك لي متعة كان يحظرها عليّ المجتمع لو أنني أضعت هذا الوقت فيه!
وعندي أن الأخذ من النفس والرد عليها، ومحاورتها بألوان الأفكار، ومناقشتها في ضروب من الآراء، مما يرتاح الإنسان إليه - أو أنا على الأقل، فما أدري ما حال الناس غيري - ولقد تمّر عليّ في حال معينة وظرف بعينه لحظات أود لو أني استطعت أن أكون من هذا المجتمع في نجوة لألقي تلك الصديقة المحببة. . . التي هي نفسي، فأجلس إليها وأداعبها وأعابثها وأحاورها، وأسمعها وتسمعني في صنوف شتى من أبواب الجد الهازل أو الهزل الجاد!
أما الصحراء هذه الصحيفة التي تنبسط أمامي جديدة من سفر الوجود، فما كان أجملها، وما كان أروع الجلال الذي كان يشع منها على النفس فيصغر من شأنها، ويقلل من تيهها، ويذلل من كبريائها، ويصهر جوهرها صهراً يصفيه ويطهر الأعراق
كم من البشر - قبلنا - مروا بك أيتها الصحراء؟ وكم ركباً قبل هذا اقتحم مفاوزك هذه، ثقةً منه بنفسه، واعتماداً منه على قدرته، واتكالاً على ما أوتي من علم؟ وكم منهم نجا، وكم كان في الهالكين؟ لم أنجيت من أسرك فريقاً؟ ولِمَ اقتنصت فريقاً، فأطبقت عليهم في غير شفقة ولا رحمة، ولا ذكر لذويهم الذين استودعوك قلوبهم وائتمنوك عليها ثقة منهم بعدلك فإذا أنت تضيعين الثقة وتخلفين الرجاء؟!
كم - أيتها الصحراء - فيك من قوافل تسمع ولا تجيب، وتحتمل وطأنا إياها ولا تئن؟ لم لا تطلقين هؤلاء من أغلالهم، وترديهم إلى أهلهم فتكسبي حبهم وشكرهم وثقتهم، وتعودون - أنت وهم - بعض لبعض أحباباً؟! ألا تعجبك أيتها الصحراء صداقة الإنسان؟!
يا الله!
مالها لا تحير جواباً! لعلها كانت تنطق فلا أسمع وترفع بالإجابة صوتها فتتلقاه أذني دوياً لا تستطيع آدميتي فهمه واستجلاء معانيه!
وعدت أنظر إلى هذه التلال ثانية فإذا هي قد نّمتْ وكبرت وتضَخَّمت حجارتها واشتدتْ صلابةً وأيْداً؛ وقد علمت - حين سألتُ عن السر - أننا شارفنا أرض فلسطين!! فالقيعة إذا تلبس لباس وقارها وحشمتها لتدخل الأرض المقدسة أرض المعاد! فما بالنا نحن - البشر(456/19)
- لا نلبس لهذه الأرض المقدسة لباسها كما تفعل الأرض ذاتها، ولا نحييها باطراح شرورنا ونبذ ما ران على قلوبنا، كما تصنع هذه الجلاميد؟ ولقد هممت أن أقوم احتراماً، بل لقد قمت فعلاً، فما راعني إلا أن أجلستني السيارة المنطلقة في عنف، طالبة أن أكف عن الاسترسال في هذا الخيال وأنصرف معها إلى ما هي فيه من جد وكد عنيف!
ولم نلبث بين هذه الجلاميد إلا ساعة أو نحوها حتى تبدت الأرض في حلة من وشى جديد، تختلط فيه خضرة العشب الغض بسواد الصخور الصم، فكأن الطبيعة قد أرادت بهذا الجمع بين النقيضين أن تجيء بالبرهان القاطع على أنها لا تعرف هذا الذي تواضع الناس عليه من فصل بين شتى مظاهرها في هذا الكون الذي هو معرض الاتساق!
وكان جميلاً أن يُرى ما كان يحسبه الإنسان من هذه الصخور الجرد مثالاً للقسوة وتمثالاً للجمود ينشئ الحياة الغضة إنشاءً ويخرجها أعشاباً طرية من بين الفرجات الصغيرة التي فيه، ويجمع لها في هذه الشقوق الماء الذي تحتاج إليه لترتاح له وتأنس بالمقام عنده وتطمئن - في ضمان حياتها - إليه.
وكانت الجبال على أتم صلة ببعضها، فلا يفصل بينها شيء إلا صبغته بصباغها الأحْوى، وعلمته كيف ينساق لمشيئتها في غير تردد ولا بطء: فالجداول الصغيرة، والوديان الفسيحة، وهذا القليل من رحاب الأرض المنبسطة، ومخارم الجبال ذاتها أيضاً، كل أولئك كان طائعاً لتلك الجبال يصل ما بينها ليظهرها أمام العين بمظهر واحد ينم على الألفة المتينة والوداد الجميل.
وكانت هذه المشاهد التي تطغي على القلب والعقل، فتملأ ذاك غبطة وتزيد هذا إيماناً بالعجز أو سدوراً في الضلال، جديدة أمام عيني؛ وكان كل واحد منها جديراً بأن أطيل النظر فيه لنتعارف، ولكن السيارة كانت تأبى، وحسبتْ أن ذلك قد يطول منا فنعتاقها عما هي وراءه من تقريب الشقة أمام هذا الركب الضجر الملول. وجدة المشاهد أمام العين تذكّر بعهد الطفولة حين يخرج الواحد منا من ظلماته الأزلية إلى هذا النور الدنيوي - أو الذي نسميه نوراً وما ندري من أمره حقيقة ولا ندرك كنهاً - فكل ما تقع العين عليه جديد لذيذ، يبعث الفضول ويرهف الحس ويصب على الفكر وابلاً من الأسئلة الخالدة التي تطوف في فكر كل ذي فكر؛ ثم لا يلبث المرء أن تعييه الإجابة فينزل عند حكم المشيئة التي أرادت(456/20)
له مثل هذه الحواس المحدود إدراكها، ومثل هذه القوة العاقلة التي يسرع التعب إليها قبل بدئها في البحث عما هي وراءه من استكشاف المجاهيل!
ونبّهتني هذه الخواطر إلى ما للجهل من فائدة وفضل على الناس، واذكرني هذا بالنظرية التي تقول: إن كل شيءٍ خيّر في الطبيعة إذا وُضِع في موضعه وأُحِلّ في المكان المناسب له. فالجهل مثلاً - وهو موضوعنا - يثير فضول القوى العاقلة لدى الناس، ويعقّد أمامهم مشاكل عويصة يعالجون حلها، فكثيراً ما يضلون وقليلاً ما يهتدون. ولكنهم - وعلى أية حالة كانوا - تفيض السعادة والراحة على قلوبهم حين القصور، وحين البلوغ على حد سواء!!
وأذكر أني كنت ذات مرة في زيارة لخرائب بابل، وكنت وقتئذاك صبياً يحسب العلم وقفاً على المسّنين. فسألت أحد الأدلاء - وكان شيخاً - وكان جاهلاً أميّاً - عما صيّر هؤلاء الآدميين الذين كانوا مثلنا من لحم ودم - حجارة! فأجاب أو أجابت بديهته - فما كان عنده عقل يجيب -: غضب الله! وقد ضللت أعتقد بصحة هذه الجملة التي انطلق بها لسان دليلي العامي حتى دخلت المدرسة فعُلَمْت غير هذا، ووعيت في حافظتي كلاماً غير كلام الدليل، علمياً منطقياً، تقوم على تأييده والبرهنة على صحته حجج قواطع. فاستسخفت ذلك الساذج، واستسخفتْ نفس ذلك الطفل الذي لم يحاكم القول الذي سمع؛ ولكني أشهد الله (تعالى)، على أن نفسي اليوم لا تستطيب معنى أحلى، ولا جملة أبلغ، ولا فلسفة أعلى مما انطلقت به بديهية الرجل الجهول!! هل ترى العالم المنقّبَ الفاضل حين يدخل خرائب البابليين يَعْمُرُ صدره بالإيمان، وترتفع روحه إلى أجواء من السعادة العلوية، وتتملكه الروعة والجلال كهذا الدليل الجاهل الأمي
الجواب عندي (لا)!!
لأني من المؤمنين بأن للجهل نفعاً، وأن شأنه في هذا شأن كل ما أبدعته الكف الصَّناعُ الخالقة الجليلة في هذا الكون الجميل. . . وهنا بانت لنا عن بعد دائرة جوازات السفر على الحدود الفلسطينية فأبدلتنا بأفكارنا غيرها، وتبددت هذه الأخيلة وكان ما كان. . .
فإلى الأستاذ المازني الجليل نسوق سؤالاً عن نفع الجهل؛ فقد كان حدثنا بحديث من ذلك قبل سنين. فإن رأى - أطال الله بقاءَه، وجعلنا من كل سوءٍ فداءَه - ألاّ يبخل بهذه الآراء(456/21)
على قراء (الرسالة) فعل وله منا ومنهم ألف شكر!
فخري شهاب السعيدي(456/22)
من أدب القرن التاسع
كتاب (سحر العيون)
للأستاذ أحمد يوسف نجاتي
كنت منذ حين قرأت حديثاً للأستاذ أحمد بك أمين يعرض فيه (كتاب سحر العيون) عرضاً شائقاً - والكتاب مطبوع قديماً بدون أن يذكر في أوله اسم مؤلفه - ورأيت الأستاذ يقول في هذا المقال القيّم: من الأسف أني لم أعثر على اسم مؤلفه. ولكنه في ثنايا الكتاب يقول: (أنشدني صاحبنا الشيخ شمس الدين محمد ابن أبي بكر القادري المولود سنة 824. فمؤلف الكتاب إذاً - من أدباء القرن التاسع الهجري - والظاهر أنه مصري لأنه يروى لنا في ثنايا الكتاب أحداثاً مصرية وأمثال عامية مصرية)
فأسفت لأسف الأستاذ، وأردت أن أكتب ترجمة طويلة لهذا المؤلف تكشف الحجاب عنه، وأن أعرض ما أعرفه من مصنفاته عرضاً دقيقاً وأحلله تحليلاً أدبياً مسهباً. ولكن عدت دون ذلك عوادٍ صارفة لا قبل لي بها، وحالت دونه عوائق شاغلة لم يكن أمر نفسي معها بيدي. وطال الأمد على ذلك حتى أنسيت ما كنت قد عزمت عليه؛ وشغلتني أعمالي الكثيرة بغيره، إلى أن سألني اليوم أحد الطلبة الأدباء عن مؤلف هذا الكتاب؛ فذكرني بما كنت قد نسيته؛ ورأيت أن أنتهز هذه الفرصة السانحة فأسعف طلبته بهذه الكلمة الموجزة التي أحررها على عجل. وفي العزم إن شاء الله أن أَبسط القول في ترجمة هذا الأديب وترجمة شيوخه وأصحابه ومعاصريه الذين تربطهم به صلة وثيقة كان لها أثر بين في أدبه؛ وأن أطيل الكلام في الأدب المصري والشامي في عصر المماليك عامة وفي القرن التاسع خاصة. وأرجو أن تفسح لي مجلة (الرسالة) الغراء صدرها فعهدي بها مجلة الأدب الرفيع وحلبة ميدانه الذي تجول فيه أقلام فرسانه من الكرام الكاتبين
1 - لقد دل مؤلف (سحر العيون) على نفسه في نحو عشرين صفحة من كتابه، ونادى باسمه (البدري) فيه كثيراً حتى بحّ صوته. وكأني به في ص 188 قال: (من عرفني فقد اكتفى، ومن لم يعرفني فأنا جامعه البدري عفي عنه، مولده في عشية الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول من شهور سنة سبع وأربعين وثمانمائة) وسنعرض بعد لسائر الصفحات التي صرح فيها باسمه، ونتناول شعره فيها وفي غيرها بالنقد والتحليل(456/23)
2 - للبدري مؤلف (سحر العيون) كتاب آخر اسمه: (نزهة الأنام في محاسن الشام) طبع بمصر بالمطبعة السلفية سنة 1341هـ صدر عنوانه في أول صفحة منه بما يأتي:
(نزهة الأنام في محاسن الشام، تأليف أبي البقاء عبد الله ابن محمد البدري المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع (ولد سنة 847) صاحب الديوان المشهور، وتاريخ (تبصرة أولى الأبصار) و (سحر العيون) اهـ. وقد دل المؤلف أيضاً على نفسه في هذا الكتاب في كثير من صفحاته، وموعدنا بالكلام في هذا الكتاب وسواه قريب إن شاء الله
3 - وفي فهرس الكتب العربية لدار الكتب الملكية بالجزء الخامس المشتمل على فهرس التاريخ في ص 387 ما نصه:
(نزهة الأنام في محاسن الشام، تأليف أبي البقاء عبد الله ابن محمد البدري المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع، ولد سنة 847 (وكتب سنة747 غلطاً)، وهو صاحب الديوان المشهور والتاريخ المسمى: (تبصرة أولى الأبصار في انقراض العمر بين الليل والنهار)، (سحر العيون). الخ
وإني أنصح لمن يعنى بالأدب وتاريخه أن يطلع على فهارس دار الكتب، فإنه يعثر فيها على فوائد جمة ويهتدي إلى مراجع قيمة في اللغة العربية وآدابها وتاريخها. وفي كشف الظنون (نزهة الأنام في فضائل محاسن الشام) لأبي البقاء عبد الله ابن محمد البدري المصري الدمشقي الشافعي
4 - وأبين مما تقدم ترجمة علم الدين السخاوي في كتابه (الضوء اللامع) لمؤلف (سحر العيون). ونحن ننقل هذه الترجمة بنصها، ونشفعها بشرحها ونقدها. قال: (أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الله تقي الدين بن الجمال الدمشقي القاهري الشاعر الوفائي، ويعرف بابن البدري، ويكنى أيضاً أبا البقاء، ولد في شهر ربيع الأول سنة 847 بدمشق ونشأ بها، وتكرر قدومه مع أبيه للقاهرة ثم قطنها مدة، واشتغل بالبلدين قليلاً. وكتب عن خلق من الشيوخ فمن فوقهم. وتعانى الشعر ومدح وهجا وطارح. وتردد إليَّ فأخذ عني ومدحني فيما كتبته في موضع آخر، وفيه:
جد لي سريعاً بالحديث إجازة ... يا كاملاً دُم وافر الإعطاء
وانتمى لبني الشحنة وتكسب بالشهادة وبالنسخ. فلما ولى الأمشاطي عمل فيه أبياتاً فلم يقابله(456/24)
عليها، إلى أن تعرض لعبد الرزاق الملقب عجين أمه نزيل القاضي في البرقوقية ونسبه لأمر فظيع الله أعلم بصحته، فبادر لتطلبه فلم يقدر عليه، فصرح بمنعه من تحمل الشهادة فلم يلبث إلا يسيراً. وماتت له زوجة فورث منها قدراً طائلاً بعد فقره فلم أطرافه وسافر لمكة فجاور ثم قطن الشام، ثم جاور بالمدينة سنة 892 وكتب فيهما من تصانيف الشريف السمهودي وغيره، ثم جاور التي تليها سنة 892 بمكة؛ وكان يجتمع عليّ بها، وكتب من تصانيفي مجموعاً، ولازمني في التحمّل رواية ودراية. وأوقفني على مجموع سماه (غرر الصباح في وصف الوجوه الصباح) وقرظه له الشعراء فأبلغوا، وكان من أعيانهم البرهان الباعوني وأخواه، والشهاب الحجازي، والمنصوري، والقادري، وابن قرقماس. وقال إنه ألفه بدمشق سنة 865، والتمس مني تقريظه فأجبته وكتبت له إجازة حسنة، وامتدح قضاة مكة وغيرهم، وليس نظمه بالطائل، ولا فهمه بالكامل. وكتبت عنه من نظمه:
إذا ما كان مجموعي لديكم ... من الدنيا بهذا قد قنعت
وما قصدي سوى هذا وحسبي ... بأني في يديك وما جمعت
وكان يتكسب بالتجارة، وربما جلس بحانوت بمكة في الموسم. تعلل بمكة مدة وسافر منها وهو كذلك في أوائل المحرم سنة 894 في البحر فوصل إلى الطور ثم غزة فأدركه أجله هناك في جمادي منها. وبلغنا ذلك في شوال - عفا الله عنه - وترك ولدين أو أكثر وتركة، وأظن والده في الأحياء. عفا الله عنه وإيانا) اهـ
انتهت ترجمة السخاوي. وهو معروف بأنه قد يتحامل علي بعض معاصريه، ويقذفهم بعبارات تهكم لاذعة وقوارص من الكلم تنطوي على سخرية مريرة، بداعي المنافسة والمعاصرة والازدحام على منهل عذب واحد. وقد قال فيه معاصره (ابن إياس) في كتابه (بدائع الزهور): (إنه ألف تاريخاً فيه كثير من المساوئ في حق الناس). وأنشأ معاصره (جلال الدين السيوطي) مقامة من ضمن مقاماته سماها (الكاوي في رد تاريخ السخاوي) شنع عليه فيها. . . يقول فيها: (ما ترون في رجل ألف تاريخاً جمع فيه أكابر وأعياناً، ونسب لأكل لحومهم خواناً، ملأه بذكر المساوئ وثلب الأعراض، وفوَّق فيه سهاما على قدر أغراضه والأعراض هي الأغراض. وجعل لحم المسلمين جملة طعامه وإدامه، واستغرق في أكلها أوقات فطره وصيامه. . .) والمقامة مخطوطة محفوظة بدار الكتب(456/25)
الملكية تحت رقم 1510. فينبغي للمنصف أن يقف أمام بعض تراجم السخاوي موقفاً محايداً مروياً
ونحن بعد هذا نشرح ما يحتاج إلى الشرح والتبيان من ترجمة علم الدين السخاوي لأبي بكر البدري، ونشفع ذلك بنقده ونصل القول إلى ما وعدنا به من ترجمة حياة هذا الأديب ترجمة ضافية وترجمة أدباء عصره وأقرانه وشيوخه وأصحابه، ونكشف النقاب عن الأدب المصري في القرن التاسع بل في عصر المماليك عامة بإذن الله
1 - أما بنو الشحنة الذين انتمى إليهم البدري فهم من أسرة شامية من مدينة حلب كريمة الأصل والحسب، عريقة في العلم والأدب. وقد تقلدوا كثيراً من الوظائف العلمية والدينية بالشام ومصر من قضاء وإفتاء وخطابة وتدريب. وكان لبعضهم أثر في الحركات السياسية في ذلك العصر؛ وجدهم الأعلى (محمود) من أصل تركي وهو الملقب بالشحنة لأنه كان شحنة مدينة حلب (وشحنة البلد من فيه الكفاية لضبطها من جهة السلطان)، فهي وظيفة كأنها وظيفة (الحكمدار) الآن.
ومن أقدم من عرفت من بني الشحنة:
1 - كمال الدين محمد بن محمد بن محمود (الشحنة) بن غازي ابن أيوب، كان من فضلاء زمانه متقناً لعلوم الدين واللسان، واشتغل بالتدريس والقضاء ونشر العلم وإفادته. وتوفى بمدينة حلب في شهر ربيع الأول سنة 776.
2 - وابنه أبو الوليد محب الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمود ولد سنة 749 بحلب ونشأ بها في كنف أبيه وارتحل إلى دمشق والقاهرة للأخذ عن علمائها. وارتحل مرة أخرى إلى مصر سنة 777 بعد وفاة والده فظهرت بها فضائله فولاه سلطانها قضاء بلده حلب سنة 778 فلبث بها حيناً يتقلب بين الولاية والعزل حتى فصله السلطان برقوق سنة 793 فعاد إلى القاهرة وأقام بها نحو ثلاث سنين، ثم توجه إلى بلده وشغل نفسه بالتأليف وإفادة العلم، ثم ولى قضاءها سنة 809، وبعد حوادث عاد إلى القاهرة معزولاً عن عمله فولى بها عدة وظائف في التدريس، ثم عاد إلى وطنه حلب فتوفى بها في شهر ربيع الآخر سنة 815 وكان نابغة في علوم اللغة والدين والأدب والتاريخ، وله مؤلفات مفيدة ذكر منها في كشف الظنون كتاب (أوضح الدلائل والأبحاث فيما تحل به المطلقة بالثلاث) و (روض المناظر(456/26)
في علم الأوائل والأواخر) انتهى فيه إلى سنة 806؛ وبدار الكتب المصرية نسخة منه مخطوطة في مجلد فرغ كاتبها منها آخر شوال سنة 1297هـ نقلها عن النسخة الخطية بخط أبى الحسن علي بن حسن بن علي ابن احمد السروي الأزهري، انتهى من كتابتها في شهر شعبان سنة 873 وهي منقولة عن نسخة بخط القاضي محب الدين أبي الفضل محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن الشحنة ولد المؤلف، أتمها كتابة في شهر رمضان من سنة 825
وكان عاقلاً ذكياً دمث الأخلاق، حلو النادرة، لطيف المحاضرة، قوى البديهة. قال المقريزي: ولقد قام مقاماً عجز أقرانه عنه، وتعجب أهل زمانه منه، وذلك أن الطاغية تيمورلنك لما استولى على مدينة حلب 803 وتسلم قلعتها بالأمان بعد أن استحرَّ القتل والأسر في أهليها، صعد إليها وجلس في إيوانها وطلب القضاة والعلماء لملاقاته فامتثلوا أمره. وكان من عادته أنه إذا فتح مدينة يعقد مجلساً لمناظرة علمائه وإعناتهم، وكأنه يريد أن يريهم أنه على حق في عمله، ويصبغ فظائعه المروعة صبغة شرعية. واتفق هؤلاء العلماء فيما بينهم أن يتولى القاضي ابن الشحنة الإجابة عن الأسئلة التي يوجهها تيمور إليهم ثقة بحذقه وحسن تصرفه. وكان للطاغية إمام من جلَّة المعتزلة هو القاضي عبد الجبار بن عبد الله الخوارزمي الحنفي ولد سنة 770 وتوفي سنة 805 وكان عالماً قديراً بارعاً متقناً لعلوم الدين واللغة والأدب، يجيد اللغات العربية والفارسية والتركية، وكان ذا ثروة طائلة وجاه عظيم ومنزلة رفيعة لدى تيمورلنك حتى انتهت إليه الرياسة في أصحابه. وكان يصحبه معه في غزواته لمناقشة العلماء ومناظرتهم وليكون حلقة اتصال بالترجمة بينه وبينهم. وقد كان القاضي عبد الجبار رحمة للمسلمين، طالما أنقذهم من غضب الطاغية وسخطه، وأطفأ عنهم نار ثورته وحدته. وكان ربما تبرم من صحبة تيمورلنك في نفسه ولكن لا يسعه مخالفته مع ما يرجو في ذلك من ثواب نفعه للناس لدى هذا الطاغية وكف شره عنهم.
عقد تيمور المجلس وأخذ يوجه إلى العلماء الأسئلة بوساطة إمامه، وابن الشحنة يجيب عنها بلباقة، فكان من ضمن هذه الأسئلة أن قال لهم: أي الطائفتين من القتلى هو الشهيد، أمن قتل منكم أم من قتل منا؟ وقد كان هذا السؤال محرجاً لولا مهارة القاضي ابن الشحنة؛ فقد(456/27)
أجاب قائلاً: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك فأجاب: فإنه وفد إليه أعرابي وسأله: يا رسول الله، إن الرجل ليقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، فأينا في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد في سبيل الله. . . فراق تيمورلنك هذا الجواب وأحسن إلى ابن الشحنة، وأعجب بدهائه وحسن تخلصه ولطف احتياله وسرعة بديهته، وجعل يؤانس العلماء ويلاطفهم، ووعدهم العفو عنهم حتى أفرخ روعهم؛ وأقبلوا يجيبون على أسئلة تيمور بما عندهم، وكان آخر ما سألهم عنه أن قال: ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد؟ وما الحكم في قتال علي ومعاوية؟ وهل يجوز لعن معاوية وابنه؟ فأجاب القاضي علم الدين القفصي: محمد بن ناصر الدين محمد بن محمد الدمشقي قائلاً: إن علياًّ اجتهد وأصاب فله أجران، ومعاوية اجتهد وأخطأ فله أجر واحد. فغاظ ذلك الجواب تيمورلنك وأهان العلماء وسبَّ أهل حلب، ورماهم بأنهم يزيدّيون يبغضون أهل البيت وشيعتهم، فتدارك ابن الشحنة الأمر بلطفه وقال: إن القاضي علم الدين أجاب بما وجده في كتاب لم يمعن في معناه والغرض منه. فأعجب ذلك الطاغية، وسكت عنه الغضب. وأجاب القاضي شرف الدين موسى ابن محمد بن محمد قاضي حلب المتوفى سنة 803 بأن معاوية لا يجوز لعنه لأنه صحابي؛ فثار الطاغية وسب العلماء، ولولا أن القاضي شفع ذلك بقوله: إنه رأى حاشية على بعض الكتب بأنه يجوز لعن يزيد، ولولا أن الطاغية كان قد وعد بالعفو، ولولا حسن وساطة القاضي ابن الشحنة، للاقى العلماء يومئذ من تيمور شراً مستطيراً
هذا، ولابن الشحنة نثر ونظم ليس عالي الطبقة، بل هو كشعر الكثير من أبناء عصره
ومن ذلك قوله:
كنت بخفض العيش في رفعة ... معتدل القامة ظلي ظليل
فاحدودب الظهر وها أضلعي ... تعدّ والأعين مني تسيل
ومنه:
ساقي المدام دع المدام فكل ما ... في الكأس من وصف المدامة فيكا
فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيك ووجنتيك وفيكا
ومنه:(456/28)
أَسير بالجرعا أسيراً ومِن ... هَمّىَ لا أعرف كيف الطريق
في منحنى الأضلع وادي الغضا ... وفوق سفح الخد وادي العقيق
هذا وقد كان أبو الوليد بن الشحنة ممدَّحا. وممن مدحه الجمال عبد الله بن محمد بن زريق المعري ثم الحلبي. ولد سنة 775 بالمعرة ونشأ بها ثم قدم مدينة حلب فاشتغل بها وتوفى سنة 827 وكان فاضلاً أديباً ناظماً ناثراً محسناً. . . قال فيه قصيدة مطلعها:
لم أدر أن ظُبَى الألحاظ والهدب ... أمضى من الهندوانيات والقضب
3 - وأبو الوليد هذا كان يكنى بابن له اسمه الوليد كان آية في الذكاء أديباً ناظماً ناثراً. توفى شاباً في حياة أبيه حوالي سنة 804هـ
4 - وأخوه فتح الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمود ولد سنة 753 بحلب ونشأ بها. وأخذ عن أبيه أخيه وغيرهما. وقدم القاهرة غير مرة. وناب عن أخيه في قضاء الحنفية بحلب وكان ذا حشمة ومروءة وعناية بالأدب. وله نظم قليل منه:
يا سادتي رقّوا لرقّة نازح ... لفظته أيدي البعد عن أوطانه
والله ما جلتم بخاطر عبدكم ... إلا وفاض الدمع من أجفانه
(يتبع)
أحمد يوسف نجاتي
الأستاذ بكلية اللغة العربية(456/29)
3 - ابن خُرداذَبهَ
للأستاذ كوركيس عواد
لقد تطرق غير واحد من الكتبة والمؤلفين الأقدمين إلى ذكر هذا الكتاب، والكشف عن محاسنه ومساوئه. من ذلك ما حكاه المسعودي بشأنه، نورده هنا استتماماً للموضوع، وإظهاراً لرأي مؤرخ وبلدانيّ جليل، ارتآه في كتاب ثمين تتداوله الأيدي في يومنا. قال المسعودي:
(وقد ذكر عُبيْد الله بن خرداذبه، في كتابه المترجم بالمسالك والممالك، أن الطريق من موضع كذا إلى كذا مقدار كذا من المسافة، ولم يخبر من الملوك والممالك، ولا فائدة في معرفة المسافات والطريق، إذ كان ذلك من عمل الفتوح وحمال الخرائط والكتب. وذكر أيضاً أن خراج طساسيج العراق كذا وكذا من المال، وهذا ما ينخفض ويرتفع ويقل ويكثر على حسب الأحوال وتصرف الأزمان، وإن جبل العَرْج الذي بين مكة والمدينة متصل ببلاد الشام، إلا أن وصله بالجبل الأقرع من بلاد إنطاكية وإن ذلك متصل بجبل الآكام هذا عجيب من قوله، أما تراه علّم أنّ أجزاء الأرض مماسة بعضها لبعض، متصلة غير منفصلة ولا متباينة مما بين بعضها ببعض إلا أن الأرض ذات وهاد وأنجاد وحدب. على أنه أحسن كتاب في هذا المعنى) أهـ. أو قوله الآخر في هذا الكتاب:
(ومن كتبه النفيسة، كتابه في المسالك والممالك، وغير ذلك مما إذا طلبته وجدته، وإن تفقدته حمدته)
أو قوله الثالث في هذا السفر عينه:
(. . . وقد صنف أحمد بن الطيب السرخسي، صاحب يعقوب بن إسحاق الكندي، كتاباً حسناً في المسالك والممالك والبحار والأنهار وأخبار البلدان وغيرها؛ وكذلك أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني، وزير نصر بن أحمد بن إسماعيل بن احمد ابن أسد صاحب خراسان، ألَّف كتاباً في صفة العالم وأخباره، وما فيه من العجائب والمدن والأمصار والبحار والأنهار والأمم ومساكنهم، وغير ذلك من الأخبار العجيبة والقصص الظريفة؛ وأبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه في كتابه المعروف بالمسالك والممالك، وهو أعم هذه الكتب شهرة في خواص الناس وعوامهم في وقتنا هذا)(456/30)
وقد أشار ابن حوقل إلى هذا الكتاب إشارة خفيفة بقوله:
(ولا يقارب هذا التأليف عنده (عند قارئ الكتاب أو الناظر فيه. والكلام هنا على كتاب صورة الأرض) كتاب الجيهاني ولا يوافق رسم ابن خرَّاداذَبه. . .)
ولابن حوقل كلمة ثانية بشأن هذا الكتاب، إلى القارئ نصها: (وكان لا يفارقني كتاب ابن خرداذبة وكان الجيهاني وتذكرة أبي الفرج قدامة بن جعفر. وإذا الكتابان الأولان قد لزمني أن أستغفر الله من حملهما واشتغالي بهما عن ما يلزمني من توخي العلوم النافعة والسنن الواجبة. . .)!
ومن الآراء الطريفة التي وقفنا عليها بصدد هذا الكتاب، ما حكاه البشاري المقدسي بقوله، وهو رأي تفرد به: (ومن مفاخر كتابنا (يعني كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) الإعراض عما ذكره غيرنا، وأوحش شيء في كتبهم ضد ما ذكرنا. ألا ترى أنك إذا نظرت في كتاب الجيهاني وجدته قد احتوى على جميع أصل ابن خرداذبة وبناه عليه، وإذا نظرت في كتاب ابن الفقيه، فكأنما أنت ناظر في كتاب الجاحظ والزيج الأعظم، وإذا نظرت في كتابنا وجدته نسيج وحده يتيماً في نظمه)
وكذلك ما ندد به البشاري المقدسي، حين قال:
(. . . وأما الجاحظ وابن خرداذبة، فإن كتابيهما (في المسالك والممالك) مختصران جداً لا يحصل منهما كثير فائدة. . .)
ومع ذلك، وجدنا المقدسي، ينقل غير مرة من كتاب ابن خرداذبة.
ولم يكن المقدسي الوحيد بين الكتبة الأقدمين الذين عرفوا كتاب المسالك والممالك ونقلوا عنه نقولاً مختلفة، بل هناك جماعة فعلوا فعله، نذكر منهم: ابن رسته، وابن الفقيه المهذاني، والمسعودي، وأبا الريحان البيروني، وياقوتاً الحموي، والشريف الإدريسي، والمقريزي، والقلقشندي.
أما ابن خرداذبة نفسه، فقد وجدناه ينقل أحاديث عن بعض معاصريه من ذلك قوله (المسالك والممالك ص 48)؛ وخبرني الفضل ابن مروان، والفضل هذا رجل من أهل البردان بالعراق استكتبه المعتصم وبلغ مقاماً رفيعاً في الدولة، ثم تقلبت به الأحوال بين صعود وهبوط، فذكر الطبري أن المعتصم غضب عليه سنة 220 وحبسه، ثم ذكر أن المتوكل(456/31)
عزله سنة 234 عن ديوان الخراج، وحكى في مكان آخر أن المستعين عزله سنة 249هـ عن ديوان الخراج
ومما أشار إليه ابن خرداذبة في نقوله هذه العبارة ص 106: فحدثني محمد بن موسى، وعبارته ص 114، وحدثني أبو بكر بن عمر القرشي وعبد الله بن أبي طالب القرشي من كورة تونس بالمغرب قالا. وقوله ص 162 - 170 فحدثني سلام الترجمان، وقوله ص 180 - 181 وحدث أبو الفضل رائض بن الحارث بن أسد، وقد ذكر الطبري أباه الحارث بن أسد في غير موضع من تاريخه وقد يعمد ابن خرداذبة أحياناً إلى إغفال من ينقل عنهم والاكتفاء بالقول ص 178: وحدثني بعض من أثق به، أو ص 181 وحدثني محدث أنه. . .
والآن بعد أن أطلنا الكلام على كتاب المسالك والممالك، نعود إلى بقية مؤلفات ابن خرداذبة
4 - كتاب الطبيخ
5 - كتاب اللهو والملاهي في خزانة الأستاذ حبيب زيات مخطوط عنوانه (مختار من كتاب اللهو والملاهي لابن خرداذبة) ولا ندري ما إذا كان هذا (المختار) للمؤلف نفسه، أم أنه لشخص آخر. وليت صاحب المخطوط، وهو الباحث الكبير المعروف بسعة اطلاعه وبُعد تحقيقه، يعني بنشره، فيضيف بذلك مأثرة جديدة إلى مآثره العلمية الجمة
6 - كتاب الشراب
7 - كتاب الأنواء
8 - كتاب الندماء والجلساء
والغريب أنّ هذه المصنّفات الثمانية باستثناء المسالك والممالك لم نقف البتة على ذكر لها، في ما سوى الفهرست لابن النديم. وهذا كشف الظنون للحاج خليفة، وهو من أوسع المراجع التي تَقِفُنَا على الكتب، لم يتطرق إلى تسمية شيء منها، اللهم إلا المسالك والممالك، وما قاله فيه لا يتعدى كونه رأياً منقولاً عمن سبقه، كما أسلفنا القول في ذلك في موطن آخر من بحثنا
هذا ونحن على يقين من أن لابن خرداذبة تصانيف أخرى، الثمانية المشار إليها أعلاه. فقد أورد المسعودي مقالة ابن خرداذبة في (الموسيقى)، وهي التي قالها بحضرة الخليفة المعتمد(456/32)
فهل تكون هذه (المقالة الموسيقية) فصلاً أو قطعة من أحد الكتب التي ألمعنا إليها، أم أنها شيءٌ قائم بذاته فات ابن النديم ذكره، فكان نصيبه الخلود على يدي المسعودي؟؟
وقد أثنى المسعودي ثناءً عاطراً على (تاريخ) ابن خرداذبة الذي لا ذِكْرَ له بين الكتب والمنوّه بها آنفاً. وهذا قوله بالحرف الواحد:
(. . . وعبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه؛ فإنه كان إماماً في التأليف، متبرّعاً في ملاحة التصنيف، اتّبعه من هذه طريقته وأخذ منه ووطئ على عقبه وقفي أثره. وإذا أردت أن تعلم صحة ذلك فانظر إلى كتابه الكبير في التاريخ؛ فإنه أجمع هذه الكتب جداً، وأبرعها نظماً، وأكثرها علماً، وأحوى لأخبار الأمم وملوكها وسيرها من الأعاجم وغيرها. . .)
وهي لنعم الشهادة يُصدرها مؤرخ جليل ثَبْت كالمسعودي!
وفي مكان آخر لمّح المسعودي إلى (تاريخ ابن خرداذبه). فقال بعد كلام نقلناه في مطاوي بحثنا ما هذا نصه:
(على أنه - أي كتاب المسالك والممالك - أحسن كتاب في هذا المعنى. وكذلك كتابه في التاريخ وما كان من ذكر الأمم الماضية قبل مجيء الإسلام. . .)
(البقية في العدد القادم)
كوركيس عواد(456/33)
29 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل التاسع - اللغة والأدب والعلوم
تتألف السنة الهجرية من أثني عشر شهرا قمريا، ويتأخر التقويم القمري عن التقويم الشمسي سنة في كل ثلاث وثلاثين سنة ونصف تقريباً، ولذلك لا يستعمل هذا التقويم إلا في تحديد الأعياد الدينية والمواسم السنوية؛ فلا يستعمل في حساب الفلك ولا في تحديد الفصول. وإنما يستخدم فيها التقويم القبطي.
وقد ذكرت فيما يلي الشهور القبطية بأسمائها الحديثة مع ما يقابلها من التقويم الميلادي
توت ويبدأ في العاشر أو الحادي عشر من سبتمبر
بابة ويبدأ في العاشر أو الحادي عشر من أكتوبر
هاتور ويبدأ في التاسع أو العاشر من نوفمبر
كيهك ويبدأ في التاسع أو العاشر من ديسمبر
طوبة ويبدأ في الثامن أو التاسع من يناير
أمشير ويبدأ في السابع أو الثامن من فبراير
برمهات ويبدأ في التاسع من مارس
برمودة ويبدأ في الثامن من إبريل
بشنس ويبدأ في الثامن من مايو
بؤونة ويبدأ في السابع من يونيو
أبيب ويبدأ في السابع من يوليو
مسري ويبدأ في السابع من أغسطس(456/34)
ويلحق بالسنة القبطية خمسة أيام أو ستة تسمى أيام النسيء
والشهر القبطي ثلاثون يوماً، ويضاف إلى كل سنة من السنوات الثلاث المتعالية خمسة أيام، وإلى السنة الرابعة ستة أيام. والسنة القبطية الكبيسة تليها مباشرة سنة ميلادية كبيسة. فالسنة القبطية تبدأ في الحادي عشر من سبتمبر فقط عندما يسبق هذا الشهر سنة قبطية كبيسة أو تلحقه سنة ميلادية كبيسة. ولذلك تتشابه الأيام المتقابلة في التقويمين القبطي والميلادي بعد شهر فبراير التالي. ويبدأ القبط تأريخهم من عصر دقلديانوس سنة 284م
ويقسم المصريون المحدثون السنة إلى ثلاثة فصول كما كان يقسمها أسلافهم وهي: الشتاء والصيف والنيل. ويستعمل الفلكيون تقويم الأبراج القمرية التي اعتاد أهل الجزيرة العربية تنظيم شؤونهم المتعلقة بالفصول عليها
ويبدأ الوقت المدني في مصر وغيرها من البلدان الإسلامية من غروب الشمس إلى الغروب التالي، فيحسب الليل السابق مع النهار التالي، وتسمى الليلة السابقة ليوم الجمعة مثلاً ليلة الجمعة ويوافق غروب الشمس الساعة الثانية عشرة، فتكون الساعة واحدة بعد غروب الشمس بساعة، والساعة الثانية بعده بساعتين، وعلى هذا المنوال يحسب الوقت حتى الثانية عشرة. وبعد الثانية عشرة صباحاً تبدأ الساعة واحدة مرة أخرى، ثم الساعة الثانية وهكذا. ويملأ المصريون ساعاتهم ويضبطونها عند الغروب عندما يسمعون آذان المغرب على العموم، وتضطرهم طريقة حسابهم الو من الغروب، إلى ضبط ساعاتهم كل مساء، إذ أن الأيام تختلف طولاً وقصراً
ويبين الجدول الآتي أوقات الصلاة عند المسلمين مع ما يقابلها من الوقت الأوربي الظاهر عند الغروب على خط عرض القاهرة في بدء كل منطقة من مناطق البروج
غروب
عشاء
فجر
ظهر
عصر
إسلامي(456/35)
س ق
أوربي
سق
إسلامي
س ق
إسلامي
س ق
إسلامي
س ق
إسلامي
س ق
يونيو 21
1200
74
134
8 6
456
831
يوليو 22 مايو 21
1200
6 53
130
830
57
843(456/36)
أغسطس 23 إبريل20
1200
6 31
122
924
529
9 4
سبتمبر 23 مارس 20
1200
6 4
118
10 24
556
924
أكتوبر23 فبراير 18
1200
537
118
11 18
623
935
نوفمبر22 يناير20
1200
515
122(456/37)
11 59
645
941
ديسمبر21
1200
5 4
124
12 15
656
943
يطبع في مطبعة الحكومة ببولاق تقويم صغير سنوي، ويشمل هذا التقويم السنة الشمسية منذ بدأ الاعتدال الربيعي إلى نهايته، وأيام الأسبوع والشهور الإسلامية والقبطية والسريانية والإفرنجية مع الإشارة إلى حركات الشمس في منطقة البروج وأوقات الشروق والظهر والعصر. ويصَّدر التقويم بنبذة في أهم المواسم والأعياد الإسلامية والقبطية وغيرهما وبعض الملاحظات والإرشادات المتعلقة بالفصول. ويلحق بالتقويم نتيجة طبية وزراعية لكل يوم من أيام السنة. ويشير التقويم إلى الخسوف والكسوف كما يشمل أموراً كثيرة تلائم خرافات الشعب وتتضمن آثاراً من التقويم المصري القديم. ويقوم بعمل هذا التقويم قسيس سوري مسيحي أعتنق الإسلام يسمى يحيى أفندي
وليس للمصريين معرفة بالجغرافيا إلا فئة قليلة أكثر ثقافة. ويكاد المصريون يجهلون موقع أكثر البلدان الأوربية الكبيرة جهلاً تاماً لعدم وجود الخرائط الجيدة. وقلما يجرؤ بعض المتعلمين منهم على إعلان كروية الأرض؛ إذ أن أكثر علمائهم على عكس هذا الرأي. والرأي السائد بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم أن الأرض مهاد يحيط به المحيط الذي يحده جبال (قاف) كما يزعمون. ويعتقد هؤلاء أن هذه الجبال هي ذروة الأرض السابعة، كما يعتقدون أن السموات سبع طبقات تعلو إحداها الأخرى
فإذا كان هذا هو حال العلم عند المصريين المحدثين، فلا يعجب القارئ إذا وجد بعد هذا(456/38)
الفصل فصلاً ضافياً يصف خرافاتهم. والإلمام بهذه الخرافات لازم ليتبين القارئ أخطاءها وليستطيع أن يفهم طباع المصريين. وإنا لنتوقع لهذا الشعب تقدماً عظيماً من الناحية الفكرية والأخلاقية باقتباس العلوم الأوربية في عهد محمد علي، ذلك الاقتباس الذي قوّم إلى حد ما سلطته الجائرة، ولكن ليس من المحتمل أن يتحقق هذا الرجاء قريباً على مدى واسع
عدلي طاهر نور(456/39)
هي والربيع. . .
العطر الأسير
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
يَا رَبِيعَ الْكَوْنِ مَا ذَنْبِي إذا قَلْبِي جَفَاكا؟
الْهَوَى لَمْ يَسْقِنِي إِلا خَرِيفاً مِنْ رُبَاكا
فَأَنَا أَوْرَاقُ دَوْحٍ ذَابِلاَتٌ في ثَرَاكا
وَأَنَا آهَاتُ طَيْرٍ مُسْتَضَامٍ في ذُرَاكا
وَأَنَا عِطرٌ أَسِيرٌ يَسْأَلُ اللهَ الْفَكَاكا
أَطْلقِينِي أَنْتِ. . . إِني كِدْتُ أَسْتَافُ الْهَلاَكا!
أَطْلِقِينِي وَاسْبَحِي مَا شِئْتِ فِي الدُنْيَا بِفُلْكِي
لاَ تَخَافِي الْغَيْبَ، إِن الْغَيْبَ سِرٌّ شَعَّ مِنْكِ
فَإِذَا جَاءَتْكِ أيَّامِيَ هَوْجَاءَ التَّشَكيِّ
أَحْرِقِي فِي لَهَبِ النَّشْوَةِ إِيمَانِي وَشَكيِّ
وَانْسَخِينِي قُبْلَةً تَبْحَثُ فِي جَنْبَيْكِ عَنْكِ
جَذْوَةٌ أَنْتِ وَقَلْبِي حَطَبٌ لِلنَّارِ يَبْكِي. . .
مَا لِعَيْنَيْكِ وَضَوْءِ الْفَجْرِ نَاحا في خَيَالي!
أَأَنَا بَحْرٌ مِنَ اْلأَحْزَانِ نَشْوَانُ الضَّلالِ
كُلُّ مَنْ شَارَفَ مَوْجِي ذَابَ كالْوَهْمِ حِيَالي!
أَمْ أَنَا كالْحَبَب الْمَشْدُوهِ في كَأْسِ اللَّيَالي
زَالَ كَوْنِي وَتَلاَشَى كُلُّ شَيْءٍ في ظِلاَلي
غَيْرَ طَيْفٍ مِنْكِ مَحْزُونِ الْهَوَى بَاكِي الْجَماَلِ!!
محمود حسن إسماعيل(456/40)
وجوه طريفة
للأستاذ سيد قطب
طالعيني في كل يوم بوجه ... فلديك الوجوهُ شتى طريفهْ
وَافْجَئِينِي لديكِ باخطر المحبو ... بِ يُجَدِّدْ حياتَنا المألوفه
بِتُّ أشتاقُهُ وأرقُبُ ماذا ... يحملُ اليومُ من أمانٍ مَخُوفه!
كلُّ سَمْتٍ أراكِ فيهِ جميلٌ ... كلُّ ظلٍّ أراكِ فيه شَفيفَه
أنتِ ما أنتِ؟ عالَمٌ مُترامٍ ... أَبْدَعَ الفنُّ والمنَى تأليفه
أنت كُثْرٌ فَفِيكِ تَحْيَا طُيُوفٌ ... كل طيفٍ له رُؤَاهُ المُطِيفَه
تارةً أنتِ حَرَّةُ أَصْطَلِيهاَ ... وإذا أنتِ كالرِّياضِ الوريفه
وَتَلُوحِينَ قطعةً من حَنانٍ ... وَتَلُوحِينَ بعد حِينٍ مُخِيفه!
وأرى فيكِ طفلةً لم تبارحْ ... ملعبَ الطفلة اللَّعوبِ الخفيفه
وإذا أنتِ قَهْرَمَانَةُ دَهْرٍ ... مُوغلٍ في المَسَارِبِ الملفوفه
وإذا ما انطويتِ أمسيتِ سِرًّا ... صَانَهُ الدهرُ مُحْكِماً تَغْليفَه
وإذا ما انطلقت مثلَ شُعَاعٍ ... كنتِ رَقْرَاقَةً وكنتِ لطيفه
لكِ طعمٌ أذوقُهُ بل طُعُومٌ ... كُلُهاَ نَاضِجٌ هَوِيتُ قُطُوفَهْ
هُوَ طَعْمُ الحياةِ في فورةِ النُضْجِ ... شَهِيُّ الْجَنَي خبرتُ صُنُوفهْ
(حلوان)
سيد قطب(456/41)
البريد الأدبي
التشريع الإسلامي الدائم والمؤقت
كتب صديقي الأستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت مقالاً في عدد الرسالة الممتاز تحت هذا العنوان (الهجرة وشخصيات الرسول) وليس المهم في هذا المقال تقسيم شخصيات الرسول، فذلك أمر يعرفه كل العلماء، وإنما المهم والجديد في هذا المقال ما جاء فيه من توزيع أحكام الشريعة الإسلامية على تلك الشخصيات، ومن جعل التشريع الدائم والمؤقت تابعاً لهذه الاعتبارات، وهذا أمر جديد لم يظهر إلا في عصرنا. وإذا أمكن الاتفاق عليه بيننا أمكن حل مشاكلنا التشريعية، وزالت أكبر عقبة في سبيل وضع تشريع إسلامي يفي بحاجات المسلمين في هذا العصر، ولا يمكن أحداً أن يوجه إليه أي طعن.
وخلاصة ما يرمي إليه هذا المقال أن الذي يعد شرعاً دائماً هو ما يرجع إلى شخصية الرسول من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، وما عدا ذلك مما يرجع إلى شخصية الإمام أو المفتي أو القاضي فليس بشرع دائم، وإنما هو شرع مؤقت يمكن أن يتأثر بالاجتهاد، وأن يترك العمل به لسبب من الأسباب. على أن لي فيه رأياً آخر لا أبديه الآن، لأنا نريد الإصلاح من أي سبيل ينتهي بنا إليه، ويحقق رغبتنا في رفع شأن هذه الشريعة الغراء.
(عالم)
أين علقمة وعبيد بين شعراء الجاهليين
أراد الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في مقال له عن الشعر الجاهلي (بالعدد 454 من الرسالة)، أن يدحض آراء بعض أدبائنا المعاصرين ممن يشكُّون في نسبة هذا الشعر إلى أصحابه؛ ويزعمون أن بلوغه هذا الحد من الكمال والإتقان مما يخالف سنّة النشوء والارتقاء
وقد رأى - في صدد ذلك - أن يثبت وجود نوع من الشعر السقيم المختل الأوزان، يعتدُّه الخطوة أو الخطوات الأولى التي مهدت السبيل إلى ظهور هذا الشعر القوي الناضج الذي انتهى إلينا من أدب الجاهليين. ووقع اختياره على عبيد بن الأبرص كنموذج للشعراء المتخلفين، أو أصحاب الفطر السقيمة ممن سبقوا بوجودهم أرباب الشعر الرصين، وضرب(456/42)
المثل في ذلك ببائيته المشهورة - أقفر من أهله ملْحوبُ - فأورد عدةً من أبياتها ثم قال: (والحق عندي أن هذه القصيدة تمثل أولية الشعر العربي خير تمثيل. . . وأن عبيداً في هذا يمثل بين شعراء عصره حال الشاعر المتخلف، لأنه لم يتهيأ له من أسباب النهوض ما تهيأ لهم. . .)
وعجيبٌ حقاً أن نهبط بابن الأبرص إلى هذا الدرك الأسفل من منازل الشعراء، وهو أحد العشرة الذين وقع الإجماع قديماً على تفضيلهم؛ ولا تعد بائيته هذه عاشرة القصائد المأثورة فحسب؛ بل يضعها بعض النقاَّد بين السبعة الأولى منها، وهي المعروفة بالمعلقات. ومن هؤلاء ابن قتيبة صاحب كتاب (الشعر والشعراء)
وينفي تهمة التخلف عن عبيد أن جميع شعره - عدا هذه القصيدة - يجري على الأوزان المعروفة في قوة وجزالة تنهضان به إلى مصافّ كبار الشعراء من معاصريه؛ فهو القائل في الافتخار بمكارم خلُقه:
لعمُرك ما يخشى الجليس تفحَّشي ... عليه ولا أنأى على المتودِّد
ولا أبتغي ودَّ امرئ قل خيرهُ ... ولا أنا عن وصْلِ الصديق بأحْيَد
وقد سجل له صاحب (البيان والتبيين) قصيدة كريمة اللفظ والمعنى يقول في مطلعها:
تلك عِرسي غضبي تريد زِيالي ... ألبَيْنٍ تريد أم لدلال؟
إن يكن طبّك الفراق فلا أح ... فِل أن تعطفي صدور الجِمال
ومما أورده له صاحب الأمالي قوله من قصيدة:
يا من لبرقٍ أبيتُ الليلَ أرقبه ... في عارضٍ كمضيء الصبح لمّاح
دان مسفٍّ فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
وأورد الخطيب التبريزي في كتابه (شرح القصائد العشرة) - عند تعرضه لذكر عبيد - أن سعيد بن العاص سأل الحطيئة: من أشعر الناس؟ قال الذي يقول:
أَفلِحْ بما شئتَ فقد يُبلَغ بالضعفِ وقد يخدع الأريب!
. . . فشاعر هذا شأنه، وتلك منزلته عند النقاد والشعراء، لا ينبغي أن يوصف بالتخلف، أو ينسب إلى الجهل بإقامة الأوزان على نهجها الصحيح. وإنما الأقرب إلى الصواب - وذلك رأي خاص نتقدم به - أن تكون هذه البائية إنما جاءت على وزن أو أوزان هجرتها(456/43)
العرب في أواخر جاهليتها. والأوزان كانت - وما تزال - في تطور مستمر؛ ونحن لا نستسيغ منها إلا ما ألفناه وأكثر الشعراء من القول فيه. وإلا فمن منا يستسيغ هذا الوزن مثلاً، وهي لابن تقي من وشاحي الأندلس:
يا ويح صبٍّ إلى البرقِ له نظرُ ... وفي البكاء مع الورْق له وظرُ
أو من منا يستسيغ قول (المهر بن الفرس) وهو من شعراء الموشحات في غرناطة:
لله ما كان من يوم بهيجٍ ... بنهر حْمص على تلك المروج
ثم انعطفنا على فم الخليج ... نفض مسك الختام. . .
ونعود فنقول: إنه لو كانت بائية عبيد نموذجاً للاختلال كما وصفت، لكان للقدماء عن اختيارها مندوحة. وفي أشعار عبيد مما استقام وصحت طريقته ما يغنى عنها ويجزيء، وجميع شعره من هذا النوع كما ذكرنا. والبيت الوحيد الذي أورده الأستاذ - من غير القصيدة البائية - وجعله دليلاً جديداً على قصور الشاعر، هو بيت صحيح الوزن كما سجلته كتب الأدب. وإنما أخل الأستاذ بوزنه حين حذف (التفعيلية) الأولى منه: (وقالوا) - ولعل ذلك سهو منه غير مقصود. وصحة البيت نقلاً عن حياة الحيوان للدميري (باب الذئب):
(وقالوا) هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعدة
هذا عن عبيد. . . أما علقمة الفحل فلا يقل عن صاحبه شأناً؛ وما احتججنا به للأول نحتج به للثاني، ثم نزيد عليه أن قصة تلقيب علقمة بالفحل - وهي مشهورة متداولة في كتب الأدب - تعدُّ الدليل الأقوى على تبريزه في الشعر؛ حيث يشيرون فيها إلى أنه احتكم مع امرئ القيس إلى امرأته (أم جندب) وأنشدها كل منهما لنفسه شعراً، فحكمت لعلقمة على زوجها. حتى قال امرؤ القيس: ما علقمة بأشعر مني ولكنك له وامق. ثم طلقها فخلفه عليها علقمة؛ وسمي بذلك (الفحل)
إلى هنا أقف الحديث. . . ولعل الأستاذ الفاضل يهتدي إلى (الحلقة المفقودة) من الشعر الجاهلي، في أقوال شعراء آخرين غير عبيد وعلقمة؛ والله أسأل أن يوفقنا وإياه
(جرجا)
محمود عزت عرفه(456/44)
اقتراح
أرى من واجبي الآن - وقد فرغتم من نشر اللائحة القيمة التي أعدها الأديب (كوركيس عواد) وضمنها ما استطاع الوصول إليه من المؤلفات العربية التي نشرت سنة 1940، البالغ عددها 39 كتابا ً - أن أشكر للأديب الفاضل هذه العناية الفائقة، ولمجلتكم الغراء نهجها القويم وحرصها على التراث العربي المجيد
إني أرى أن النهضة الثقافية الأدبية، القائمة في هذا الوطن العربي تستند إلى عوامل منها بعث هذا التراث، واقتباس الملائم النافع من أدب الغرب وثقافته، ثم توليد شيء جديد. ولكن ما هدف هذا البعث وما فائدته، إذا لم تصل الكتب إلى أيدي القارئين؟ وأنى لها أن تصل وهم يجهلون أنها أصبحت ميسورة؟ أما الكتب المدرسية والمترجمة من قصص وغيره، فينتشر خبرها حالما تطبع وأحياناً قبل ذلك، وخاصة إذا تولت طبعها دار للنشر تتبع أساليب الإعلان الحديثة، أو كان مؤلفوها من مهرة التجار
ولذلك كان لا بد أن تتولى إحدى المؤسسات الثقافية في العالم العربي إعداد ثبت سنوي بكافة ما تخرجه المطبعة العربية في سائر الأقطار. ومما يسهل هذه المهمة أن كل من ينشر كتاباً في أي قطر مكلف بتقديم نسخة واحدة منه أو أكثر إلى المرجع الرسمي المختص بذلك. وأظن أن دار الكتب المصرية هي هذا المرجع في القطر المصري، وأعرف أن دائرة المعارف تمارس هذا الحق في فلسطين
ولما كانت مصر تنتج من الكتب أكثر من غيرها بكثير، فإن دار الكتب المصرية، تسدي إلى نهضتنا المباركة جميلاً تحمد عليه، إذا هي اتصلت بالمؤسسات التي تمارس هذا الحق في سائر الأقطار العربية وغيرها (فيما يتصل بالمطبوعات العربية)، فحصلت على لوائح الكتب التي تصلها، ثم جمعتها وصنفتها ونشرتها وسدت هذه الثلمة في الأساس، وأنارت السبيل للقارئين.
(القدس)
عصام الشريف
نظرة في ديوان الشبيبي(456/45)
وقع في كلمتي عن ديوان الشبيبي أغلاط مطبعية أرجو أن يكون كثير من القراء قد أدركوا صوابها. وهي:
1 - ولكن كان كل بيت تقع العين عليه يذكر بأن بيت الشبيبي. والصواب: يذكر بأنه. . . الخ
2 - ببغداد أشتاق العراق وهأنا=إلى الكرخ من بغداد جم التشوق
والصواب: أشتاق الشام
3 - وطموحاً إلى ما يبقى له من العزة والسؤدد.
والصواب: ما ينبغي له
4 - ثم الأبيات الثلاثة:
نظرت بني الدنيا فأصررت أنها ... على الشر لا تنفك تجري النحائت. الخ
هذه الأبيات قد وضعت في غير موضعها. وضعت في الكلام على حب الشاعر العراق، وموضعها في الكلام على نظرات الشبيبي في الحياة
عبد الوهاب عزام
وفاة فيكتور مرجريت
توفي الكاتب الروائي الفرنسي المعروف فيكتور مارجريت في بلدة مونيستييه قرب فيشي وهو في الخامسة والسبعين من عمره. وقد ولد في الجزائر سنة 1866. وانتخب في سنة 1906 رئيسا لجماعة رجال القلم وعين في سنة 1914 رئيسا لجمعية فيكتور هوجو، وكان في أثناء الحرب العظمى ضابطا في هيئة أركان الحرب، وأسس جريدة (أنفورماسيون أونيفرسال)
وقد لفتت مؤلفات فيكتور مارجريت عند أول ظهورها نظر البيئات الأدبية الفرنسية لأسلوبها الواقعي الصريح، حتى أنه جرد من وسام (الليجون دونور) عندما نشر كتابه المعروف (لاجرسون) في 1922، ومن مؤلفاته المشهورة: (البغي)، و (فتيات)، و (حدود القلب)، و (الرفيق)، و (جسمك لك)، و (الماشية البشرية)، و (نشيد الراعي)، و (صوت مصر)، وغيرها(456/46)
بين البشر وتيمور
الدكتور بشر فارس كاتب منِّمِق وأديب ضليع، لا تعدم في أسلوبه آبدةً من أوابد اللغة كانت هائمة في المعاجم والأضابير قد أتى بها الدكتور مقيدة مكبلة، فلولا القيد الذي به كُبّلت، والوثائق الذي إليه شُدت، لنفرت شاردة وعادت كما كانت
والمعنى يتناوله الدكتور من جعبته، ثم ينفضه أمامك فجأة فيدهشك تكويره وتحويره وتعجبك طرافته، فهو يتهيأ لعمله الأدبي كما يتهيأ القناصون للخروج للصيد في أحراش أفريقيا، أو طالب الحوت في بحار القطب، فلهم لباسهم الخاص وسلاحهم وعدته وعتادهم، وكلما كانت الرحلة شاقة مضنية كانت الغنائم أعجب وأغرب. وكم في أسلوب الدكتور من طرف هي للقاعدين غرائب!
وهو حين يكتب في الفن ينقاد لملكته بعد أن يكون قد هيأ لها الجو على النمط الذي هفا إليه مزاجه كمن يريد ليلة حمراء فينسرب إلى الغرفة ذات اللون الأحمر والستائر القرمزية والضوء القاني الجريح! وأما حين يكتب في النقد والبحث فهو يحمل تحت إبطه نخبة ما خطه جهابذة الاستشراق (والدكتور بشر سريعهم) وكلما خط سطراً فتح من آثارهم سفراً يستلهم منه نصاً أو يطوف بنص، وقد تخلَّى عن نافذ بصره وصحصحان بصيرته، وألقى على وجهه بردة سوداء كتلك التي يصطنعها المصور حين يتملى آلته من الداخل ليخرج (العفريته) فأمامه (أي المصوِّر) الشيء مقلوباً، وهو يعلم أنه لكذلك ما دام مالكاً لحسه، أما إذا غفا أو سها فالمقلوب هو الأقوم!
ومن هنا جاءت نقدات الدكتور للأستاذ تيمور في مقتطف مارس 1942 وتقويمه لبعض عبارات عامية وردت في قصة المخبأ رقم 13 يقول الدكتور بشر عن قصة تيمور: (ومن الغريب في هذا الصدد أن يقول ماسح أحذية (صوت فأري) ص8 من القصة وأقرب إلى الدارج (صوت فيراني)، هكذا النسبة إلى الفأر عن السوقة). إلى هنا انتهى كلام الدكتور. ولا شك أن الناقد الفاضل كان يستلهم هنا نصاً لمستشرق جهبذ، فلو نظر بعينه هو وهي نفّاذة نقادة لعلم أن تيمور هو الأصدق والأقوم، (ولكن لعن الله بردة المصورِّ)، لأن المعنى هنا منسوب إلى الفقر لا إلى الفأر كما توهم الدكتور، ولم توجد قط السوقة التي تنسب النسبة التي يزعمها الناقد في مثل هذا الموضع، وإن كان وجودها لا يستبعد في مقبل(456/47)
الأزمان!
ويقول الناقد في موضع آخر من المقال نفسه (ولربما أفلتت العامية من أنامله (أي أنامل تيمور) مثلاً (ساعتين وألا أكثر) وهو يريد ساعتين مش زيادة)، والحقيقة أن العامية هنا لم تفلت من أنامل تيمور، والعبارة مستقرة لا تحاول إفلاتاً كما تشهد بذلك العامة ذاتها، ولكن لم يرها الدكتور كذلك، لأنه كما قلنا استطلع بردة المصوِّر ثم سها. وليس معنا ردّنا أن قصة تيمور خالية من الشوائب ولكن الدكتور بشر قد طعن في غير مطعن
(القاهرة)
محمد فهمي(456/48)
القصص
من قصص الرأي
عبادة. . .
للأستاذ محمد عنان
كل شيء كان يتعذب. . . الطيور في ظل الأغصان فاغرة أفواهها تلهث، والبهائم في مرابطها تتألم في استكانة وصمت، والزبد يتناثر من أشداقها في لهثات مطردة متقطعة، وأوراق الأشجار متراخية في ركود وإعياء، والحقل متمدد تحت لهب يوليو العنيف يتلوى ويرسل من جوفه أبخرة حارة تشارك السماء في لعنتها على قطيع القرويين الهزيل الجائع الذي كان يروي هذه الأرض بعصير حياته
كانت أبالسة الجحيم تملأ الحقل، والشمس في كبد السماء تصلي الأرض بكل ما فيها من قوة وما في عناصرها من آلام، والهواء يهب ساخناً كاوياً يشوي الحياة ويخنقها، ويدفع العرق غزيراً على الوجوه القروية الكالحة العابسة، والأبدان الفاترة الضامرة، ويطفئ من جذوة نشاط الحركة التي كانت تنتج ما كلفوا القيام به من عمل. وكانوا يجاهدون ويغالبون في صبر وجلد كحيوانات أضناها الجوع تحبو على بطونها إلى طعام بعيد
تحدثوا حتى فرغ كل ما في جعبتهم من حديث. . . اخترعوا حتى نضب خيالهم الجاف. وارتفعت عقيرة إحدى الفتيات بالغناء. . . ردده البعض وآثر الآخرون الوجوم. واشتد ضغط الحياة فتبدد الصوت. . . وانتشر على البوتقة الرهيبة صمت مروع كان فيه احتكاك العمال بالشجيرات هو الصوت الوحيد لعجلة العمل الغشوم وهي تدور في أبشع صورها وتحول في همجية وقسوة خبزاً جافاً إلى ذهب
واخترق الصمت الحزين صوت رفيع يصيح ولا نبرات له. ماء. . . ماء. . . إن حلقي يلتهب. وجاءت إحدى العاملات بالماء من أقرب المصارف آسنا ساخناً، فتجرعوه في نهم وعادوا يعملون كآلات في جمود ورباطة جأش
السماء والأرض، والهواء والماء، والطبيعة والإنسان، كل هذه الأشياء القوية الكبيرة تتآمر على هذا القطيع الهزيل المريض. إنها البربرية وسط هالة من نور!(456/49)
قالت هذا فتاة في العشرين، لها لون القمح قبيل الحصاد، ورقة زهر القطن في الصباح الباكر، ورشاقة عود الذرة الناضج، وعذوبة ظل التوت في اليوم القائظ. . . ترتدي ملابس الركوب وتمتطي خيرة خيول القرية، وعلى رأسها قبعة واسعة تخفي قليلاً تاجاً ثميناً من الشعر الفاحم. تتأمل في إشفاق زمرة من الشباب والنساء والأطفال ينقون لطع دودة القطن في ركن قريب من أركان الحقل المترامي
كان يبدو عليها أنها ترى الحقل لأول مرة، لأنها ذعرت وهمت أن تناديهم بأن يكفوا عند ما سمعت بكاء خافتاً مجهداً لرضيع بالقرب منها في ظل مظلة من العشب كان في قفص من سعف النخيل مفروش بالقش يحرك يديه وساقيه في عصبية ويبكي.
اندفعت من فوق جوادها في جزع وقفزت في لهفة القناة التي كانت تفصلها عنه تدفعها في ثورة وجموح أسمى عواطف البشر
كان إنساناً ضئيلاً، باهتاً ضامراً، محتقناً في لون الأرض، تفوح من ملابسه الممزقة القذرة رائحة كريهة عفنة، وتغطي الأوساخ وجهه وشعره وأطرافه. وكان يبدو أنه بكى كثيراً حتى أنهكه البكاء
انحنت على الفراش في حنو بالغ كأم وحملته بين ساعديها ونفسها تذوب رفقاً وشفقة
همت بالغريزة أن تعطيه ثديها ولكنها تذكرت فانحنت عليه وقبلته.
ورأتها الأم فأسرعت خوفاً من أن يكون في وجوده ما يؤذي. وحارت الدموع في عينيها وهي تعدو توجساً من وقوع هم جديد. ولكن نظرة الفتاة الوديعة، ونومة الطفل الهادئة بين أحضانها رفعت قليلاً كابوس الشر الجاثم على صدرها
فاقتربت متهملة وقالت وهي تنحني مادة ذراعاً تأخذ بها الطفل والأخرى على ثديها محاولة في جهد أن تبتسم:
- العفو يا سيدتي! لسنا في هذا المقام
وتنبهت الفتاة إلى الأم وما هي عليه من إعياء فقاطعتها وهي تحتضنه وتبعده عكس اتجاهها:
- لا. لا. . . دعيه لي الآن. . . اجلسي. استريحي. لا ترضعيه. اتركيه لي. . . إن لبنك الآن في تسمم(456/50)
فقاطعتها القروية في سذاجة وشفتاها الجافتان تنفرجان عن شبح ابتسامة تائهة:
- إنها طفلة. و. . . صمتت عند ما رأت صورة الهلع التي ارتسمت على وجه الفتاة وهي تعاود بسرعة النظر إلى الوجه الصغير الغارق في الأقذار والدموع
- آه. طفلة!. . . ما أقسى هذا؟ أهكذا تربي الأمهات؟ واستطردت هامسة وهي تمسح على جبين الطفلة بمنديلها الصغير وتزداد بها تعلقاً والتصاقاً:
لماذا أحضرتِها في هذا المكان؟ إنه يقتل فيها الإحساس بالعطف الأموي. إنه يصرع أنوثتها ويحولها إلى خانقة أطفال. ثم رفعت رأسها وسألتها في إشفاق وتأنيب:
- لماذا لم تتركيها في المنزل وتظلي في رعايتها؟
فأجابت القروية المشدوهة:
- كيف! والخبز يا سيدتي؟
- وزوجك؟ أليس لك زوج؟
- ولكن أجره لا يكفينا
فقالت الفتاة في حيرة:
- لكن. . .! يجب أن تفعلي شيئاً. . . أي شيء. . . ليكن مثلاً. . . كم يبلغ إيرادك؟
فخفضت المرأة رأسها في حزن. . . أحست بمزيج عجيب من السرور والألم يضطرب في قلبها القاتم، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها حديثاً يتعلق بحياتها إذا كان لها حياة بالمعنى المفهوم. . . واستيقظت أفكارها الراقدة المظلمة الراسبة في قرارها الحزين. . . وأخذت تصف للفتاة آلامها في نبرة خافتة محرومة من كل صفات الأنوثة والحيوية
أخبرتها أن القرية فئتان: عمال. . . وملاك. وأنها من الفئة الأولى التي تحيا تحت أقدام الأبقار وأطفالها يموتون جوعاً، وأن أجر زوجها يتراوح بين القرشين والثلاثة يومياً، وأنه يعمل ثلثي العام فقط ويقضي الباقي متعطلاً، وأن لها عدا الرضيعة طفلة في الخامسة ذهب الصديد ببصرها، وطفلاً في السابعة مريضاً لا يكف عنه المرض؛ استعرض في عمره الصغير آلام عدة أمراض لا يزال يعاني الآن بعضها؛ ومات لها عدا ذلك ثلاثة أطفال. ولد الأول ميتاً، وقضى الآخران في سن الرضاع. . . وقصت عليها بعض ما تعانيه في سبيل(456/51)
التوفيق بين مطالب هذه الأسرة الكبيرة القابلة للتضخم وبين الأجر الذي تناله مقابل المجهود المزدوج. . . هذا عدا ما يصيبها من ألوان القسوة وضروب المعاملة السيئة من زوجها. إنها تدرك السبب. وتعرف أنه يثأر لشقائه منها. كما تفرج هي عن نفسها أحياناً بالدموع وأخرى بضرب أولادها. إن حياتها سلسلة طويلة ثقيلة شقية متشابهة الحلقات؛ وإن الرضيعة في قفصها المنكود أسعد حالاً منها؛ فأمامها وقت تستطيع أن تموت فيه طفلة. ثم غلبها التأثر فقالت والدموع تنهمر من مآقيها:
- ما أشد قسوة العيش يا سيدتي! على الأقل بالنسبة إلينا نحن الأمهات العاملات
أنصتت الفتاة إليها في ذهول وصمت. وعندما فاضت عينا القروية بالدموع أحست بجرح ساخن عميق يصيب كرامتها كامرأة. . . وكالنائمة. . . - وأوضاع الحياة تتمرغ أمام عينيها - نفحتها في خجل كل ما معها وعادت تسير بجوادها خبباً وكل ما حولها يتقلب ويلف في رأسها ويدور
وروعت القروية. كان مبلغاً جسيماً جداً باعتباره منحة؛ وأخذت تحدق في الفضة التي تغمر قبضتها في بلاهة وشك حتى أنها لم تجب زميلاتها في التو عندما سألنها في فضول وهن يمددن أعناقهم من بين الشجيرات. بل كشفت عن رأسها وصدرها في انفعال وعصبية ورفعت يديها ووجهها إلى السماء، وفي صوت حار متهدج يمتزج بعبارات تنبعث من مكان عميق في قلبها، عبرات لم تسقط من عينيها من قبل، أخذت تدعو للفتاة بطول العمر والستر وبلوغ المآرب وكل ما يملأ قلبها من أماني الخير
وسرى خبر المنحة في أنحاء الحقل سريان روح الربيع في العود الجاف، فأفاق من جموده قليلاً قليلاً، ونهض ينشد الابتسام في هذا النسيم الرقيق المليء بالحنان والعطف، ويصغي في شغف إلى موسيقى الحادث فتطربه، ويلعب كل على هذا الوتر الرقيق الرفيق ما في أمانيه وأحلامه من ألحان قصصية فطرية أضافت إلى الحقيقة سطوراً شعرية فاتنة
وحار سؤال على الأفواه: من تكون هذه المحسنة الصغيرة الجميلة؟
ولم تدم الحيرة طويلاً بفضل (معوّض الجمال)، وكان يتنقل بين الحقل والقرية ينقل محصول القمح إلى الجرن
أخبرهم وهو يتعالى على ظهر ناقته الضامرة أنها ابنة صديق لحامد بك مثري القرية(456/52)
وسيدها الأول. . . كان هذا الصديق في يوم ما مأموراً للمركز، وهو اليوم أحد كبار موظفي الداخلية، وأنها جاءت بناء على إرشاد طبيبها، وستقضي بينهم وقتاً قد يكون طويلاً. . . و. . . والكثير مما أثبتت الأيام أنه كان من نسج خياله، والنتيجة اللازمة لقلة العرض وإلحاح الطلب
ومن هذا اليوم تعودوا أن يروها عند ما يجب أن تظهر الملائكة في أقسى ساعات العمل، وفي حالات المرض والجوع والعرى التي كانت ترزح القرية تحت أعبائها الثقال، وأصبح من المألوف لديهم أن يروها بينهم في القيلولة، عندما يشتد ضغط الحياة وتتخلى عنهم السماء، تلهو معهم بالعمل وتغني وسطهم وهي تضحك، وتنثر بحيويتها الفطرية زهور الربيع على أطلال خريفهم الكئيب الدائم، وتملأ الحياة من حولهم مرحاً وابتساماً
وكثيراً ما كانت تشاهد في أزقة القرية بين الأطفال تداعبهم في لطف، وتمتحن ذكائهم في براعة، وتثير فيهم حب النظافة بالانتقاد الخفيف والمنافسة الهادئة. أو بين القرويات في دورهن تساعدهن في بساطة وألفة على تنظيم أثاثهن عندما كن يقمن بذلك أثناء زيارتها لهن
وقد كانت تجلس وسط رهط منهن تحدثهن حديثاً عادياً شاملاً وأسنانها البيضاء تسطع من بين شفتيها الخلابتين في ابتسامة مشرقة، وهن من حولها يصغين في انتباه والسرور والإعجاب يملأهن
وكان حنوها البالغ على المرضى من الأسباب القوية التي كانت تقضي سريعاً على اليأس والكآبة والمرض حتى أنه عرف عنها أنها لا تزور مريضاً حتى يشفى
ثم هي تغدق عطفها في سخاء وغزارة منزهين عن الغرض، وشعور صادر عن إحساس عميق صادق تدفعه في حرارة رغبة روحية صافية لا تشوبها ذرة مادية. ومع أن قسوة الحياة وجمود البيئة جعلت من هذه المخلوقات التعسة حيوانات ضارية فإن القلب الكبير وجد له صدى مضاعفاً في القلوب المجدبة. . . وقام هذا القطيع الكبير المنهك يستظل بحنانها، ويستمتع إلى جوارها بالنور والدفء، ويستمرئ طعم الحياة الحلو الذي فقد مجرد الإحساس بوجودها. . . وقام كل يبحث بين طيات هذه النفس الواسعة عن معنى الخلجات الغامضة التي كانت تملأ نفسه ولا يستطيع إدراكها أو التعبير عنها. . . هذه الرغبة في(456/53)
عبادة الأكمل التي جعلت من الإنسان حيواناً راقياً. . .
غمرت القرية روح عجيبة غيرت من كل شيء فيها. . . وملأت هذه المخلوقة الصغيرة كل هذا الفراغ المترامي. . . حتى تكونت لهم أخلاق خاصة بها، فخفت الألفاظ البذيئة التي كانوا يتنادرون بها عادة فيما بينهم، وأصبحوا يعدون كل كلمة تفوه بها حجة لا تقبل الجدل وبنداً يضاف إلى بنود دستورهم الأخلاقي الجديد
قالت يوماً لقروية رأت ما عليها طفلها من الإهمال: إن الفقر ليس معناه القذارة، وإن النظافة أقل أسباب الصحة نفقات، وهي من ضروب الاقتصاد التي يجب أن تلازم الفقر. . . فتضاعفت كمية الصابون الواردة إلى القرية بشكل لم يسبق له نظير في تاريخها
وحدث أن هاج ثور من ثيران العمدة وأخذ يغدو ويروح بين الأزقة الضيقة وينطح كل ما يصادفه بقرنيه الشرستين، واتفق وجودها في الشرفة ورأت في جزع حياة المارة المعرضة للخطر. فدفع هذا الجزع قروياً شابا كان مشهوراً بين زملائه بالاستكانة والضعف الجسماني إلى المغامرة بحياته. . . ويقول الذين رأوا الحادث إن الشاب امتلأ فجأة بنور كضوء القمر، والتمعت عيناه كنجمتين وانقض على الثور الهائج معرضاً حياته لموت محقق، وقبض على قرنيه وضغطهما في قوة هائلة جعلت الثور يتراجع ويسقط على قائمتيه؛ ثم ربطه في حبل وقاده إلى مربطه بين الدهشة والضجيج. ومما هو جدير بالذكر أن الفتاة قدمت إليه بهذه المناسبة قطعة فضية ظل يحتفظ بها كوسام برغم الظروف العسيرة التي مرت به
وكان هذا الحادث سبباً في زواجه من فتاة كان يحبها وكانت ترفضه.
وأشد من ذلك غرابة أن قوة الشاب البدنية أخذت من هذا اليوم تزداد، ومظهره أخذ يبدو أكثر نظافة وأناقة. وأنا وإن كنت لا أستطيع تفسير هذه الظاهرة تحليلياً إلا أني لا أشك مطلقاً في أن هذا الحادث كان سبباً لها
تحققت إذن كل خيالات القرية الجائعة في هذا الملاك الشهي واندفعت بكل رغبتها في الخلاص وأملها في التخلص تقيد الشموع وتشعل المباخر في معبد أقامته من الأماني قرباناً للمعبودة السمراء
لقد ارتفعت وارتفعت حتى وصلت إلى مصاف الأنبياء أو فوق مكانة البشر(456/54)
وكان الحقل يظل عابساً أو كالعابس حتى تمر به كنسمة الحياة في وادي الموت فينقلب عبوسه إلى طرب ووجومه إلى ابتسام وخموله إلى جذوة من النشاط والحركة والمرح
وفي صباح خريفي رأوها كالعادة قادمة في الطريق الضيقة الملتوية التي تصل الحقل بالقرية. تسير كالجدول الرقراق بجوادها الأبيض، يتبعها على جواد آخر شاب نظيف ممتلئ يطفح صحة وبشراً
حدثهم بالروح الطيبة التي اعتادوها فاطمأنوا إليه وازداد تعلقهم وتقديرهم واحترامهم لها عند ما ساعدها في أدب جم (وهو لا يقل نظافة عن وكيل النيابة) على الترجل. وقابلوهما والإشراق والابتسام يملأ وجوههم. ووقفوا في خشوع يعبرون بوجوه صامتة تختلج عن مقدار ما يملأ قلوبهم من الإخلاص والحب؛ وظلت هذه الزيارة تملأ كنسيم العصر حديثهم طول اليوم
وفي المساء عند ما لفظ الحقل بقاياهم دفع الإعجاب الشديد قرويا في سن الحلم إلى أن يلقي نظرة على الفتاة من وراء سياج حديقة المنزل وكان في طريقه
ولم يكد يفعل حتى سمر في مكانه واتسعت حدقتاه وشحب، وأخذ يرتعد كالمحموم ويدعو زملاءه في إشارات مجنونة وينصحهم بالصمت والحذر بوضع سبابته الحائرة على فمه المرتعش؛ وكل من كان يأخذ مكاناً إلى جواره كانت تعتريه نفس الحالة. ولم تمض مدة حتى تكونت جمهرة ترتعد وراء السياج
كانت المعبودة السمراء تتمرغ بين ذراعي الشاب الذي رأوه معها في الصباح يغمر وجهها وتغمر وجهه بقبلات حارة فائرة، ويلتصق بها وتزداد به التصاقاً حتى تكاد تفنى فيه، وبقايا الغروب تلقى عليهما لوناً حيوانياً ساخناً يضيء وجه الفتاة الملتهب ووجنتيها المتقدتين، ويشعل الرغبة العنيفة المنبعثة من عينيها الغارقتين في الأحلام، ويسدل ستاراً كثيفاً على الوداعة الملائكية التي اعتادوها
ولما همت تسير مع الشاب متحاملة بكل جسدها على ذراعه عرت القوم جنة وذهبوا إلى القرية عدواً
وانطلق الخيال الخصب من عقاله، وملأت الإشاعات بشكل مضاعف مجالس السمر، على المصاطب، وفي موارد المياه والمخابز. وملأ الحنق والغضب قلوب القرويين(456/55)
وباتت القرية ترعد من الألم وتعصف بها قوة عاتية، غاضبة، حائرة!
وفي الصباح عند ما قدمت عليهم عرتهم رعدة قوية - على رغم أنهم كانوا ينتظرون هذا القدوم بصبر نافد - وتصبب العرق البارد على أجسامهم في غزارة، وتسارعت دقات قلوبهم وهم يخفون رؤوسهم بين الشجيرات ويراقبونها من وراء الأوراق بأنفاس مكتومة ونظرات مرتبكة. وأخذت تنطلق بين الفينة والفينة أصوات كالفحيح بعبارات ساخطة مبهمة في يأس كالبكاء
ولما حيتهم والدهشة تعقد لسانها أجابها البعض بأصوات مختنقة وهم يغالون في الاختفاء، وصمت أكثرهم شجاعة إمعاناً في الازدراء والاحتقار!
وبعد أن توارت وسط هذه العاصفة الصامتة وقف الشاب الذي قهر الثور وهو يكاد يسقط وقد تهدلت تقاطيعه وعادت إليه في الاثنتى عشرة ساعة الماضية هيئته الذليلة وسيماه الممزق، وصاح منهوكا والدموع تملأ عينيه، والعرق يغطي وجهه المغبر. . . إنه خطيبها. . . أقسم أن زينب الخادمة قالت لي ذلك. . . إنه حلال! حلال! وهي ستتزوجه. إنه زوجها. أقسم بالطلاق أنه زوجها!
وعصر قلبه ألم كبير لم يقدر على مقاومته. ولكن ما قاله برغم تناقضه وجد مرتعاً في النفوس الظامئة المصابة؛ فقد تحدث في الوقت المناسب أثناء تعادل القوى النفسية المتدافعة. وكاد القوم يثوبون ويعدون خلفها يعفرون تحت أقدامها بالتراب وجوههم؛ بل فكر البعض في جعل التقبيل قبل الغروب سنة يجب أن تسنها شبيبة القرية، ولكن زميلاً وقف يهدر وانفجر بصوت قوي كله حقد والشر يتطاير من حوله. . . ليكن خطيبها، زوجها. . . أبوها. . . إنها كانت تأكله! إن عينيها حرقتاني وأنا وراء السياج! لقد كانت تخدعنا هذه الـ. . . وهم أن ينعتها بأحط النعوت، ولكن الكلمات ماتت على شفتيه، وعاد إلى عمله وهو يكاد يضرب نفسه!
وعاد الحقل إلى صمته الحزين الأبدي!
(أبو حمص)
محمد عنان(456/56)
العدد 457 - بتاريخ: 06 - 04 - 1942(/)
سؤالان متباعدان
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءني في هذا الأسبوع سؤالان متباعدان من طرفين متقابلين: أحدهما من أديب يسأل عن أبي تمام، والآخر من أديب يسأل عن المدرسة الحديثة في التصوير، أو عن المدرسة التي تزعم أنها تعتمد في تصويرها على الوعي الباطن ولا تعتمد على المشابهات المحسوسة
أما الذي يسأل عن أبي تمام وهو الأديب (السيد حسن قرون التونسي بكلية اللغة العربية) فيسرد أسماء الشعراء الذين كتبت عنهم كتباً أو فصولاً في كتب ثم يقول:
(. . . ولكن شاعراً واحداً لم يفز منك بالإعجاب أو السخط، ولم يظفر منك بتزيين أو تهجين، وهو أبو تمام. ما الذي أبعدك عنه وما الذي أبعده منك؟ أما أنا فأعتقد صادقاً أو كاذباً أن شعرك وشعره ينبعان من منبع واحد. . .)
ثم يقول: (فأبو تمام الذي احدث ضجة في عصره، والذي كتب عنه الآمدي وغيره، والذي كان مثالاً للشعراء يحتذونه ويقلدونه، لا يظفر في العصر الحديث ببحث أو بكتاب أو بطبع ديوانه طبعة أنيقة. ليس هناك شاعر يمثل عصره تمام التمثيل إلا هذا الشاعر. وليس هناك شاعر يعلم البحث والتفكير والتعمق إلا هذا الشاعر؛ ولكنه ينسى ويقدم المجنون ابن الرومي، ويهمل ويذكر رهين المحبسين أبو العلاء، ويكتب عن بشار وأبي نواس ودعبل ولا يكتب عنه!
(أبو تمام حزين ثائر من الأستاذ العقاد لأنه هو الذي إذا تصدى لبحث وفاه حقه، وإذا كتب عن شاعر شرقي أو غربي أعطاك صورة صادقة ناطقة طبق الأصل. . . مهما ظننت بي الظنون فأنا مطالبك بالكتابة عنه، ومهما اعتقدت بي الفضول فأنا مقتنع بفكري راضٍ بنظرتي. . .)
وأنا يعجبني الإعجاب لأنه دليل حسنُ على شعور كريم، ولا يعجبني أن يكون الإعجاب بأحد باباً للجور على آخرين
أما جوابي عن سؤال الأديب: لم لم أكتب عن أبي تمام؟ فابدأه بأن أبا تمام في اعتقادي شاعر في طليعة الصفوة من شعراء العصر العباسي وشعراء العربية عامة، وإنه حقيق بكتاب أو برسالة ضافية كغيره من الشعراء الذين كتبت عنهم أو كتب عنهم النقاد السابقون(457/1)
واللاحقون
ولكنني لم أعرض له لأن الغالب في كتاباتي من هذا القبيل أن ترجع إلى سببين: إنصاف مغبون، أو تجلية ناحية قد نسيها النقاد أو فهموها على وجه آخر
وأبو تمام ليس بالشاعر المغبون ولا بالمجهول القدر في زمانه وبعد زمانه. بل لعله أصاب من الرعاية والاعتراف بالفضل فوق حقه، أو فوق ما أصابه معاصروه على التحقيق
كذلك ليس في أبي تمام ناحية غامضة أو ناحية تتنازعها الأفهام والبدائه الفنية؛ وإن جرى النزاع في معنى من معانيه فهو نزاع لا يتسع حتى يتناول النفس الإنسانية في آفاقها الواسعة، ولا يترتب على البتّ فيه بت في مشكلة عاطفية أو اجتماعية أو عقدة من عقد الحياة
فهو صاحب إجادات وليس بصاحب عالم
يسأل سائل: وما (صاحب عالم) هذه التي تميز بها بعض الشعراء وتجعلها ذريعة إلى الكتابة عن فريق وترك الكتابة عن آخرين؟
فأقول: إن التمثيل هنا لازم لتقريب المقصود بالشاعر الذي (له عالم) والشاعر الذي لا عالم له وإن كانت له إجادات
فالملكة الشاعرية - بل الملكة الفنية عامة - هي أشبه الأشياء بالزجاجة المصورة التي ترسم ما يقابلها فالزجاجة الحساسة الواسعة لا تدع مما يقابلها شيئاً إلا رسمته وجاءت بصورة منه
والملكة الفنية زجاجة مصورة تقابل العالم بأسره، فإن كانت حساسة واسعة جاءتنا بصورة من العالم كله، وأمكننا أن نعرف ما هو العالم كله كما رآه الشاعر في قصيدة
وأن لم تكن كذلك جاءت بقطعة منه، وبلغت ما يتاح لها أن تبلغ في تلك القطعة المحدودة، ولكنك لا تبدل هذه الصورة بالصورة العالية وإن كانت تفوقها في التظليل والتلوين
أن قطعة من مدينة القاهرة حسنة التصوير لتشتري وتقتني ولأمراء، ولكنك إذا أردت صورة المدينة برمتها فهذه الصورة الشاملة أولى بالشراء والاقتناء من كل قطعة محدودة، بالغة ما بلغت من إتقان التظليل والتلوين
وأبو تمام يجيد في هذا المعنى ويجيد في ذلك، ولكنه لا يعرض لك العالم كله في حالة من(457/2)
حالاته ولا يخرج لك نسخة عالمية تقرنها إلى النسخ الأخرى التي تستمدها أمثال: ابن الرومي والمتنبي والمعري في الشعر العربي، وأمثال: شكسبير وجبيتي وليوباردي في الآداب الأوربية
ابن الرومي له عالم كامل من الحياة الفنية، والمتنبي له عالم كامل من الحياة العملية، والمعري له عالم كامل من الحياة الفكرية والروحية
فالعالم بكل صورة فنية فيه ممثل في ابن الرومي، أو في تلك الزجاجة الحساسة الشاملة التي لا تدع شيئاً مما يقابلها إلا وعته على الطريقة الفنية
العالم بكل صورة عملية فيه ممثل في ملكة المتنبي، كما تمثل عالم الفكر والروح جميعاً في ملكة أبي العلاء
حياة كاملة تعرضها من جانبها كل ملكة من هذه الملكات فنقول: إن نسخة من صور العالم قد زادت في مجموعتنا الأدبية.
أما أبو تمام فلا يعطينا نسخة من صور العالم على نحو خاص به أيا كان هذا النحو في قيمته وفي مرماه
عنده صورة حسنة جداً لمسجد السلطان حسن، وصورة حسنة جداً لقنطرة قصر النيل، وصورة حسنة جداً للهرم؛ ولكن مدينة القاهرة كلها ليست هناك، سواء (حسنة جداً) أو حسنة قليلاً، أو غير حسنة على الإطلاق
وهذا الذي بالشاعر الذي له عالم؛ وهذا هو المقياس الإنساني الصحيح للشاعرية الممتازة في بابها؛ لأن الشاعرية ملكة إنسانية قبل كل شيء، وملكة لغوية أو بيانية بعد ذاك
وما قاله الأديب عن ابن الرومي لا يدل على أن كتاباً ضخماً في شرح أدبه كثير عليه؛ بل يدل على انه لا يزال في حاجة إلى كتب ضخمة إلى جانب ذلك الكتاب، للتعريف بقدره، والتنبيه إلى دقائقه، والوصول إلى فهم الأدب والشعر عن طريق فهمه
فابن الرومي في الملكة الشعرية الفنية قمة لا تطاولها القمم، مثل لا تقاربه الأمثال، طراز ليس له في الدنيا نظير
نعم في الدنيا أقول ولا أقول في أدب العرب أو أدب الفرس أو أدب الروم أو أدب أمة واحدة من الأمم(457/3)
في الدنيا كلها لا نعرف نظيراً لابن الرومي فيما رزقه الله من ملكة التصوير الفني ومن القدرة الشعرية على استيعاب كل مرئي رآه وكل محسوس أحسه وكل خالجه جرت بين طواياه
في الدنيا كلها نقول ونحن نعني ونعلم ما نقول. ومن لم يفهم هذا فليجتهد في فهمه، قبل أن يجتهد في رفض رأي ليس عنده من أسباب رفضه مثل ما عندنا من أسباب الذهاب إليه، وأسباب تأييده
بيتان اثنان من شعر ابن الرومي يصلحان لتقريب هذه الحقيقة، لأنهما نظماً بمحض الباعث إلى التصوير الفني، ولم ينظما محاكاة للموضوعات التي يتناقلها الشعراء
وهذان البيتان هما قوله في وصف حقل من الكتان:
وجلس من الكتان أخضر ناعم ... توسنه داني الرباب مطير
إذا اطردت فيه الشمال تتابعت ... ذوائبه حتى يقال غدير
بيتان ليس لهما رنين ولا بهرج ولا بارقة من المحسنات وأفانين الأناقة؛ ولكنهما لا يدعان محسوسة واحدة من محسوسات حقل الكتان إلاْ وعياها وسجلاها والتهماها كما يلتهم الفحم الجائع ما يشتهيه
فالصورة المرئية لها عناصرها التي تتم بها من جميع نواحيها: عنصر المنظر كله، وعنصر اللون، وعنصر اللمس، وعنصر الوقت الذي تراها، وعنصر الموقع الذي تقع فيه من المكان، وعنصر الحركة.
ما من شيء يبقى في الصورة المرئية بعد استيعاب هذا، وما من شيء من هذا لم يستوعبه ذانك البيتان
في كلمة (جلس) تمثيل للمنظر كله. اخترها ولم يختر كلمة حقل أو مزرعة أو ما شابه هذه الكلمات، لأنها تمثل المنظر تمثيلاً لا يتفق لسواها
وأخضر تذكرنا اللون، وناعم تذكرنا اللمس، والتوسّن يذكرنا وقت الوسن وشعور الوسن في وقت واحد، وداني الرباب المطير يمثل لنا حواشي المكان حيث تحيط بذلك الكتان، واطراد الذوائب كاطراد الغدير يمثل لنا الحركة على أحسن تشبيه وأصدق محاكاة.
تمت الصورة على هذا النحو لأن كل حاسة من حواس هذا الشاعر الخالد هي في جوعها(457/4)
إلى محسوساتها كالفم الجائع إلى الطعام الذي تقوم به الحياة
زجاجة حساسة شاملة لا تخطئ شيئاً مما يقابلها، وتصيبه لأنها حية حية بالغة في الحياة، لا لمراعاة النظر ولا لتجويد المحسنات ولا لطرق الأبواب التي تقدم بطرقها الشعراء
إذا قرئ ابن الرومي على هذا النحو عُرف ابن الرومي شاعراً لا نظير له في آداب الدنيا، وإنما الطريق إلى قراءته على هذا النحو أن نحس كما أحس وأن نعلم ما عنده لنبحث عنه ونلتفت إليه ونظفر به حيثما وجدناه
ولمن شاء أن يذكرني ما شاء من أبيات وصفه أبيّن له ما فيها من عناصر الاستيعاب التي لم تتفق لغيره من الشعراء، فإنما وصفه لجلس الكتان نموذج قريب المتناول لسائر الأوصاف
أما الأديب (ح. نظمي) الذي يسألني عن غلاة المحدثين من المصورين فينتظر مني جوابها مسهباً عن مدرستهم ومدارس أمثالهم في سائر الفنون، لأن هذه البدعة قد عمت فنوناً أخرى ولم تنحصر في التصوير
والذي أراه أن الإسهاب هنا فضول لا حاجة إليه، لأن بطلان الأساس الذي قامت عليه هذه المدرسة قد يظهر في بضعة سطور
فالمصورون على مذهب الغلاة المحدثين ينسون قواعد الرسم وينسون ملامح الشبه، وينسون أصول التلوين، ويرسمون الرجل فلا تعرفه بملامحه ولا بظاهر شكله ولا تميز بينه وبين غيره بعلامة تتفق عليها الأنظار، لأنهم يزعمون أنهم يعرضونه لك كما يتمثل في الوعي الباطن أو كما يشعر هو في باطن وعيه، ولا يعرضونه لك كما تراه بالعين
والخطأ هنا أن (الوعي الباطن) لم يخلق ليلغي الوعي الظاهر أو يمنعنا أن نرى الدنيا، ولكنه خلق ليظل وعياً باطناً حيث هو في قرارة الضمير، نستدل عليه بعلاماته التي تتفق عليها الأنظار. وما من أحد يبني بينه أو يطبخ طعامه أو يخيط ملابسه أو يحضر دواءه على ما يتصور هذا وذاك وأولئك في وعيهم الباطن المزعوم. فلماذا يتغير وجه الإنسان لأن له وعياً باطناً أو لأن المصور له وعي باطن، أو ما يزعم من هذا الهراء؟
ومن البديه أن التصوير (فن) له أدواته وتحضيراته وملكاته التي لا تشبه ملكات الفنون الأخرى؛ فما هي الدروس التي يتعلمها المصور ليصبح على هذا المذهب مختصاً في(457/5)
صناعته؟ ما هي تلك الدروس إذا نحن ألغينا الرسم والتلوين والملامح والأشباه؟ أهي دروس التنجيم عن الباطن؟ وكيف الاتفاق عليها ولا يوجد اثنان يتفقان على تسمية صورة من متعلمي ذلك التنجيم؟
الواقع أن (الوعي الباطن) له مكان واحد من شؤون هذه البدعة المرضية، ومكانه هو إظهار العلة المرضية التي تكمن في بواطن المصورين المشغوفين بكل بدعة من هذا القبيل
فما لاشك فيه انهم جميعاً قوم (تفهون) تتخطاهم العيون، فهم بين مشوه أو ضئيل أو مهزوم النفس أو عاجز عن لفت النظر أليه؛ فحيلتهم هي حيلة هذا الضرب من الناس في اتخاذ المشاكسة والتحدي والأغراب وسيلة للتنبيه إليه، وهذه هي الحقيقة الواحدة التي لها شأن (بالوعي الباطن) في مذهب هؤلاء الغلاة؛ فهم مصابون في وعيهم الباطن يترجمونه كارهين، ويعرضون على الناس من ثم أعراض مرض لا معارض فنون.
عباس محمود العقاد(457/6)
صلوات فكر في محاريب الطبيعة
(كتب كثير من هذه الخواطر في الرستمية بالعراق العزيز،
فهي مهداة إليه)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
14 - حقول الشوك
أُنظر بعينيك وحاذر أن تَدمَي من مواقع النظر. . . واجمع أطراف ثيابك لا تعلق بها حُماتُ الشوك فتتمزق. . . وناقِلْ الُخطى في حذر وخشية، حتى لا تقع القدم على هذه الأسِنَّة الُمشْرعَة. . .
لا بلابل هنا ولا فراشات، وإنما نمالٌ تسعى في حذر. . . ولا ورق يرقص مع النسمات، وإنما اهتزازاتُ حِرابٍ تُدمِى جسم النسيم!. . .
ومع ذلك فقد مددت يدي وقطفت عِذْقاً. . . فإذا هندسة بارعة، وإذا القلم الذي نسق الزهرة ونسج حريرها ووشَّى أفْوافَها قد
صنع هنا كذلك عجباً!
يد الخالق تُدبِّب الشوك ولا تَدَمي، وتَمُطُّ فَم الخنزير ولا تتنجس!
15 - جانيات الشوك
جاء الربيع وأخرجت الأرض نباتها من الزهر والثمر والشوك. . . وخرج كل مالك يقطف ويجني مما يملك من الحقول والبساتين
وخرجت جانيات الشوك إلى الأرض البور التي احتكرتها الطبيعة لنفسها لكي تخططها بالرياح وتسقيها بالسَّيْح والَمطر، وتنبت فيها ما تشاء. . .
خرجن يسعين حافيات قد لَفَّفْن سيقانهن بِخِرَقٍ بالية حفظاً للجمال الِّنسْوي من الخدش والتجريح. . . عليهن ثياب ممزقة، وفي أيديهن حبال رثة، يوزعن نظراتهن هنا وهناك على أديم الأرض باحثات عن أخصب البقاع بالشوك وأملئها بالعوْسج، فإذا وجدنه أعملن فيه فئوسهن الصغيرة ثم جمعنه وحزمنه وحملنه على ظهورهن وسرن به كالقنافذ! وطفن به في الأسواق فيشتريه بعض الناس بثمن بخس ليوقدوا به حماماتهم ومطابخهم.(457/7)
ولا يبالين بالأزهار البرية الجميلة التي نبتت بجوار الأشواك، إذ هن مشغولات بجمع ما يجلب ثمن الخبز. . . إن الأزهار لا توقد ناراً فلا وزن لها في أيديهن وأعينهن. . .
هنا أمل وعمل من آمال القلوب وأعمال الأيدي يا أرباب الفكر!
هنا ملمس من ملامس الدنيا يا ذوي العيش الرافه الناعم. يا جامعات الزهور من روضات القصور. صافحن الأيدي الخشنة لأخواتكن جامعات الأشواك بأيديكن الناعمة. . . فتلك أيضاً صدقة!
16 - قذارة عليها طهارة
رأيت قذارة عليها أشعة الشمس! طهارة وصفاء يتنازلان إلى عالم النجاسة والكُدْرَة. . . الطهارة تمد يدها إلى النجاسة لتطهرها وترفعها إليها. . . العالي ينظر إلى السافل نظرة راثية مسعدة منقذة ولا يخشى أن يتلوث ويتسفل.
وهكذا النفوس الشمسية: تضيء للمظلمين، وتطهر المتنجسين وترفع السافلين. . .
17 - كما تنظر الحشرات
وضعت رأسي مرة بين الأعشاب مستلقياً، فغطت الحشائش وجهي، ونظرت السماء من خلالها، فرأيت مقطعاً من مقاطع الدنيا في بعض الأحياء الضئيلة القميئة. . .
نظرت الدنيا نظرة حشرة من تلك الحشرات التي تختبئ في الأعشاب. . .
صار كل شيء عظيماً جداً في عيني، حتى هذه الأوراق الصغيرة صارت في زيغ البصر كالجبال الشاهقة التي تناطح السحاب. . . وخيل إليّ أني في غابة هائلة كثيفة مظلمة. . . ورأيت الفرق الهائل بين الدنيا في نظر إنسان والدنيا في نظر حشرة وكل حي له دنيا رهينة بحواسه وهندسةِ وَضْعِه وقامَتِه.
فلو سجد بعض المتكبرين المتغطرسين برءوسهم إلى حيث يضعون إقدامهم لتغير نظرهم للحياة ولأنفسهم وللناس. . .
18 - مفارقات
سقطت فَرَاشةُ على زهرة؛ وسقط جُعَلُ على بَعْرَة، وسقطت عيناي عليهما!
كان كل منهما في شغل بعالمه عن عالم الآخر، ولكن قلبي كان في شغل شاغل بعالميهما. .(457/8)
لقد رشفت الفراشة رشفة من رحيق الزهرة ثم شالت عنها إلى غيرها، ولكن الخنفساء لم تبرح مكانها، فرزقها كثير. . . إنها حيث تسير تجد العفونات والقذارات فتأكل وتتناسل أما الفراشة فمجهودة كالرغبات الطائرة. . . تسافر كثيراً حتى تظفر بملء أوعيتها. . .
لا شك أن جامع الخير والجمال من الدنيا يَلقُطُه لقطاً من ثنايا الشر والقبح ويتعب في تحصيله تعب هذه الفراشة المجهودة
19 - الوحوش المحبوبة
كانت عناكب كثيرة صغيرة آمنة في بيوتها تنسج الشباك للصيد. . . فانقضت عليها عصفور صغيرة وابتلعتها واحدة فواحدة أمام عيني. . .
والناس يزعمون أن العصافير وديعة ويحبونها، ولكن من يدرس حياتها يعلم أنها شرسةُ مشاغبة مقلقة كثيرة التصايح من أول النهار إلى آخره، ولها وجه حاد الملامح ومنقارٌ جارح وطباع عصبية. وإنما يشفع لها جمال منظرها ورشاقة جسمها وضآلة حجمها. . .
وكم غَرَّ المنظرُ وفجعَ المْخبَر! وكم رحم الناس ضعفاً وهو أقسى على الحياة من الذئب!
20 - غضب الضعفاء
اشتبك عصفوران في عراك، وصارا يتصايحان صياحاً لفتني إليهما، ثم نقر كل منهما الآخر بمنقاره نقرة، ثم افترقا من غير دم
فقلت لقد فضحتما ضعفكما. . . فما كلن ينبغي لكما أن تقدما على غضب، لأنكما لا تمثلان قوته العنيفة
وينبغي للضعيف ألا يغضب، لأن غضبه يزيده ضعفاً بما ينال من نفسه، وما ينال من هزء الناس به. . .
إن الغضب يحتاج إلى قوة يُفجِّر بها الدم!
21 - شباك العنكبوت
لماذا هذا الترقب والانتظار للختل والاغتيال أيتها العناكب؟
لماذا تنسجين شباكك وتطرحينها في طريق الفراشات والنحل التي تحصل غذاءها بجهودها(457/9)
لتقنصيها وتشربي دماءها وأنت في مكانك؟
لماذا تقطعين الطريق على العاملات المجهودات أيتها المقعدة الكسيحة؟
بخيط خفي رقيق تلقينه للريح تستطيعين أن تقتنصي أجنحة رفافة عاملة!
تمتصين دماء الغافلات المخدوعات وترصّعين بحطام جثها وأشلائها بيوتك الواهنة التي لم تقم على أساس. . .
ولكن لا ملام عليك ولا تثريب. . . وإنما على أيْدٍ تملك المكانِسَ التي تستطيع أن تبطشَ بكِ وتدكَّ بيوتك وتخلص الضعفاء من أحابيلك، ثم لا تفعل!
22 - الهلوك
وهذا أيضاً نبات طُفَيْلي كسيح الساق لا يضرب بجذْرٍ في الأرض ليقوم عليه ويستغني به عن الاعتماد على الغير. رأيته يمد حباله وشباكه فيصطاد شجيرات من الورد والخشخاش ويقطع طرق غذائها ويسلبه لنفسها ويخنق أطفالها من الأزهار الجميلة ويلف قوام جسمه المتهالك على سيقانها ليعتمد عليها، ثم يزهر ويضحك وينظر إلينا بوقاحة!
لقد أصاب شجيرات الورد بالشلل فلم تزهر وأزهر هو. . . فلم أر بداً أن افصل بين الأصيل والدخيل الغاصب الوقح بضرة فأس وإعمال يد لأخلص أطفال الورد المختنق الجائع المغيظ
أبداً يرصد عالم الشر قريناً من جنود لكل فرد من عالم الخير يعلن عليه حرباً. . .
فعلى إنسان الخير أن يقف دائماً في مكانه من الصف، وأن يعمل فأسه دائماً في بستان الحياة يستأصل بها جذور الشر ويسحق أزهاره وثماره. وإلا لم يجد لنفسه غذاء ولعينه مسرحاً، ويفسد عليه عالم الشر كلَّ إحساس بجمال الحياة، ويسلبه متاعه بمعشوقاته من بنات الطبيعة الفاتنات
23 - السائرات المطرقات
سائراتٌ مكبوباتُ الوجوه الطويلة، تنظر إلى الأرض دائماً كاسِرَاتِ الجفون
كتل لحمية متجلدة ماتت أعصابها من فرط الضرب والحمل والإرهاق ووراثات الاضطهاد. . .(457/10)
قطع من الصبر والبلادة وموت النفس والهوان والسآمة. . .
عيونها عميقة تنظر بهدوء لما حولها كأنها عيون فلاسفة فرغوا من حل جميع العقد والمشكلات وليس لها دموع تبكي بها وتعلن الشكوى. . .
تريد أن تفرج عن قلوبها فترسل صوتها لترتاح، فتخرج قلوبها مع همومها من حلاقيمها في صوت منكر فيأبى الناس عليها ذلك ويردون أصواتها وهمومها إلى نحورها. . .
اغفروا أيها المالكون للمملوكين إذا تنفسوا
ارحموا الأغبياء المحدودين فإنهم ما خلقوا أنفسهم حتى يعاقبوا أو يعاتبوا. . .
لا البلبل خلق نفسه ولا الغراب يا أولى الألباب!
ترى، متى يشعر الفلاحون والعمال بالرحمة لهذه المخلوقات فيعاملوها معاملة رفقة العمل؟ ولكن الفلاحين والعمال لا يشعر رعاتهم نحوهم برحمة. فهم كذلك لا يشعرون بها لرعاياهم. كْيلاً بكَيْلٍ. . . والموج دائماً ينحدر من الأعلى للأدنى. . .
متى يأتي اليوم الذي ترتاح فيه هذه المخلوقات وتتخذ للزينة والجمال وحدهما وتقتني في حدائق الحيوان كمخلوقات أثرية تدل على عهد باد من عهود شقاء الإنسان وشقوة سكان الأرض معه؟
هو اليوم الذي تقتني فيه كل فلاح وعامل حاجته من مخلوقات الحديد والفولاذ
عبد المنعم محمد خلاف(457/11)
أحزان الأسود وأفراح القرود
يوم فضيحة (آدم) و (حواء)
للدكتور زكي مبارك
سارت الأمور إلى ما شاء القدر أن تسير إليه، وذاق آدم لأول مرة لذعة الندم الأليم، فقد كان يملك زجر حواء عن قرب شجرة التين، لو قدرَّ له أن يتماسك فلم يخضع لسلطان حسنها الوهَّاج. . .
وانزعجت حواء لما أصاب الجنة من زلزال، فعرفت من أخطار الخطيئة ما لم تكن تعرف، وأدركت أن المزاح في تفسير
الحرام والحلال عَبَثُ أطفال
- آدم، لا تبتئس، فقد عجل الله بالعقوبة، ولم يبق إلا أن نأنس بالاطمئنان
- وما هي العقوبة التي عجل بها الله يا حواء؟
- هي ما أصاب الجنة من زلزال، فقد هدأت العواصف والقوا صف، وعاد كل شيء إلى قراره المألوف
- الزلزال الخطر هو البلبلة التي تثور في صدري، وما احسبني سأستريح، وهل أنت مطمئنة يا حواء؟
- لا، وإنما أردت أن أهون عليك وقع ما نحن فيه، فما زال قلبي يرتعد من هول الصدمة، وليتني مت قبل الخطيئة وكنت نسياً منسياً!
- أرأيت يا حواء عواقب الإصاخة لأقوال المفسدين؟
ألم أنهك عن صحبة الحية؟ ألم أخوّفك من الاستماع إلى إبليس؟
- ليتني أطعتك! ليتني أطعتك!
- وهل تنفع شيئاً ليت؟
- في ليت تعزية للخائبين، فلنتعزّ بها إلى حين!
وفي أثناء هذا الحوار كان آدم يلاحظ أن أسراباً من الطير والحيوان تنظر إليه والى حواء باستغراب ثم تنصرف، فما الذي جد عليه وعلى حواء بعد الزلزال حتى يقع ذلك الاستغراب؟(457/12)
وحانت من آدم التفاته فرأى سوءة حواء بادية، واطرق فرأى سوأته قد انكشفت والعياذ بالذوق، وكذلك أدرك أن أسراب الطير والحيوان قد هالها أن يمسي آدم وحواء وهما في حال تسر العدو وتحزن الصديق
كانت الفاجعة أعنف مما يتصور الخيال، فقد فُطر آدم على الحياء، ألم يكن أول مخلوق ستر ذلك الشيء؟ أما الكلام عن حياء حواء، فهو حديثٌ مُعاد، فما استطاع أحد من سكان الفردوس أن يتوهم صورة المنطقة المحرمة من جسمها الجميل
- أتصنع المعصية كل هذا يا آدم؟
- وأشنع من هذا، فقد يعاقب العصاة بالقتل
- الفضيحة ابشع من القتل
- أنا لا أراها كذلك، فالقتل اخطر وأعنف
- الرجل يُقتل بالسيف، والمرأة تقتل بالفضيحة، فأنا وحدي المقتولة بعقوبة اليوم
- وما المخرج يا حواء؟
- نخصف على هاتين السوءتين من ورق الجنة، إلى أن يقضي الله في امرنا بما يشاء
لا موجب للإطالة في تصوير جزع آدم وفزع حواء مما صارا إليه، فالوصف لا يحيط بصورة الحزن الذي يساور النفس النقية حين تسقط أول مرة، فهي تتخيل أن شبح الفضيحة يلاحقها في كل طريق، وأن الموجودات كلها عيون تنظر إليها باحتقار وازدراء، ولا كذلك النفس الخبيثة، فهي لا تتأثر بالفضيحة إلا بمقدار ما يتأثر الصخر الأصم بهبوب الريح
كان آدم على فطرته الأولى يوم اقترف ما اقترف، وكان وحيداً في بلواه، فلم يجد من أصدقاء السوء من يهون عليه مصيبته العصيان
وحواء؟ وحواء؟
كانت زهرة نضيرة لم تسمع بأن في الوجود لوا فح ترزا الأزهار بالذبول
وهل كانت حواء تجدّ وهي تدعو رفيقها إلى قرب الثمر الممنوع؟
إن شيث حدثنا أن تمردها على الأوامر الربانية لم يكن إلا فنًّا من فنون الدلال. ولعل هذا هو السبب في أن الجنة لم تصب بأذى بعد أكلها من شجرة التين، وإنما وقع ما وقع حين(457/13)
هفا آدم، لأنه رزق من العقل ما يكفي للتمييز بين المحرَّم والمباح
وزاد في هم حواء عرفانها بخطورة النزق بعد الذي كان، فصارت تصرخ من وقت إلى وقت صراخاً يصل إلى مسامع سكان الفردوس بأعنف مما يصل صوت المظلوم إلى آذان القضاة العادلين. . . وكذلك لطف الله بحواء، فأمر ورق الجنة أن يكون عندما تريد ليحميها من فضول العيون
لا موجب للإطالة بتلخيص الصفحات التي دوَّنها شيث ابن عربانوس في هذا المقام، فما نطيق ولا يطيق القراء مواجهة ما انطوت عليه من أحزان وكروب، فلننظر كيف تسامع سكان الجنة بفضيحة آدم وحواء في لحظات
في لحظات؟ وكيف؟
كان جمهور أهل الجنة في ذلك الوقت جمهوراً قليل الأهمية من الوجهة العدَدية؛ وللجماهير الصغيرة محاسن وعيوب، فمن السهل أن نكوِّن رأياً عاماً في الجمهور الصغير بخطبة أو خطبتين وأن نروضه على الفضائل المنشودة حين نشاء بأيسر عناء، ولكن من الصعب أن نصدّه تسمّع الأخبار السيئة، فهو يُقبِل عليها بشهية عجيبة، وهو يجد لذة في مضغ أحاديث الإفك والبهتان، وقد يتزّيد فيضيف المآثم إلى الأبرياء، ليظفر بالقوت المحبوب وهو الاغتياب، فما يطيب للرجل الحقير أو الجمهور الصغير غير الخوض في الأحاديث التي تشوه أقدار الأكابر من الرجال!
وعلى هذا وصلت أخبار آدم وحواء - أخبارهما المزعجة - إلى جميع سكان الجنة في لمحات معدودات، وصار الحديث عن مصيرهما الفاجع زاد الألسنة في كل مكان
فكيف تلقى الفردوسيون ذلك النبأ الفظيع؟
انقسموا إلى فريقين: فريق الجازعين وفريق الشامتين
فمن الذي جزِع؟ ومن الذي شَمِت؟
جزع الأسود، وفرح القرود، ولذلك حديث يستحق التسجيل:
لم يكد يتسامع الأسود بفضيحة آدم حتى صاموا عن الطعام حزناً لبلية ذلك المخلوق النبيل؛ ثم اجتمعوا في (غابة العَرِين)
ليسمعوا خطبة كبيرهم غَضَنْفَلُوث، وقد خطبهم فقال:(457/14)
(سُجَرائي وأشبالي
ترامت أليَّ وإليكم أخبار الفضيحة التي رُزئ بها آدم، وقد جزعتُ لها كما جزعتم، برغم اختلاف الجنس؛ فنحن نمشي على أربع وهو يمشي على اثنتين، وقوتنا بالظفر والناب، وقوّته بالقلب واللسان؛ ولكن هنالك آصرة تجمع بيننا وبين ذلك المخلوق، وهي الكرامة الذاتية، فهو يأبى الضيم كما نأباه، وهو يُزهَي ويختال كما نُزهَي ونختال. ولست اعرف قيمة شجرة التين حتى احكم له أو عليه، فنحن لحُّميون لا نباتيون، ومن الصعب أن ندرك ما في التين من دواعي الاشتهاء، وقد حلّ به ما حل، وذاق من علقم الفضيحة ما ذاق، وسيقضي الله في أمره بما يشاء، فهل ترون أن الجرأة على الله أن نعلن الحداد لمصيبة آدم المظلوم؟)
أحد الأسود: أنحزنُ لمصيبة مخلوق عصى الله؟
غَضَنْفَلوث: إذا كان مخلوقاً كريماً، وآدم مخلوقٌ كريم، فهو وحده الذي يستتر حين يلامس أنثاه، وما رايته أبداً في موقف ينافي الأدب والحياء
أسدٌ آخر: وكيف نجيب إذا عدّ الله حزننا لآدم ضرباً من العصيان؟
غَضَنْفَلوث: الله أكبر من أن يستظهر على عباده المذنبين بشماتة حيوان
أسدٌ ثالث: العطف على المذنبين إغراءٌ بالذنوب
غَضَنْفَلوث: هنا دقيقة تخفى عليك، وهي أن العطف على المذنب يجتثّ من صدره بذور العصيان، ويضيفه إلى أهل الطاعة والامتثال
أسد رابع: نحن مع الله في التنكيل بالمجرمين
غَضَنْفَلوث: ومن نحن حتى نشارك الله في الجبروت؟
أسد خامس: نحن أسود
غَضَنْفَلوث: والأسود تحفظ الأدب مع الله فتترك له التفرد بالثواب والعقاب
أسد سادس: لا يجوز العطف على مخلوق خدعته أنثاه
وهنا انبرت لَبَوْلوث زوجة غَضَنْفَلُوث فقالت في زئير يوقظ الأموات:
(لعلكم تريدون التعريض بحواء، فهل تعرفون حواء؟ اسألوني أخبركم: لقد كانت تجيء من لحظة إلى لحظة لتداعب الأشبال بأناملها اللطاف. وكنت اقدر أول الأمر أنها تفعل ذلك(457/15)
بسبب حرمانها من النسل، ثم عرفت أنها مفطورة على الرفق والحنان، وأنها لا تعيش إلا في ظلال الرفق والحنان. . . ويلي عليك يا حواء، فما رأيت ارخم منكِ صوتاً، ولا انضر وجهاً، ولا الطف مِشية! كنت أنظر إلى نهديك الكاعبين فأعجب وأطرب وأُشاق، ما اجمل نهديك يا حواء! وما اشد جزعي حين أتذكر انك لم تُرزَقي طفلاً يباغم حَلمَتْيك في جذل وانشراح! وهل أنسى أن حواء أرشق مخلوقة تمشي على اثنتين؟ لقد كان تثنيها وهي تتخطر فوق شط الكوثر يخلع قلبي)
غَضَنْفَلوث: حواء جميلة إلى هذا الدرجة؟
لبولوث: واجمل من الغزال المكحول بمرود السحر والفتون
- عطف الأنثى على الأنثى معروف!
- وتحامُل الذكر على الأنثى لا يحتاج إلى تعريف. . . ويلي عليك يا حواء! أأنت تُفضَحين بين سكان الفردوس فضيحة جديدة؟
- وهل كانت لحواء فضائح قديمة؟
- من يومها وهي فضيحة الفضائح، فمشيتها فضيحة، ونظرتها فضيحة، ونبرتها فضيحة، ودلالها فضّاح فضّاح فضّاح. ويلي عليك يا حواء، ويلي عليك يا أختي!
- يظهر أنك مفتونة بحواء!
- وكيف لا أُفتَن بأنثى تفردت بالجسم الأملس إلا بعض شعرات. ولو جازت الغيرة على مثلي لأصبحت من الهوالك
ثم تعكّر هذا الحوار الرقيق بأصوات غليظة وصل صداها البغيض إلى ساحة العرين، فما تلك الأصوات؟
تلك أصوات القرود وقد شمتوا بآدم وحواء، فكانوا يثبون إلى الأشجار ثم ينزلون، في انجذاب يشهد بأنهم صاروا من الفرح مجانين، ثم بدأ لهم أن يضعوا أخشاباً في الكوثر ليركبوها، كما كان يصنع آدم وهو يداعب حواء
وسمع الأسد الأكبر بهذا الضجيج فاقبل يعنف شيخ القرود
- ما هذه الضجة، أيها القرد؟
- نحن نحتفل بعدل الله(457/16)
- وما ذلك العدل؟
- هو الحكم على آدم بما هو له أهل
- وما خطر ذلك الحكم الذي استوجب أن تقيموا من اجله هذا الاحتفال؟
- لقد كشفت سوءة آدم، ولله الحمد!
- إن سوءة آدم من أمام، فهو يسترها بلا عناء، وسوءتُك من خلف أيها القرد، وستظل إلى الأبد وأنت مفضوح، لأنك شمتّ بآدم المظلوم
- كيف يكون مظلوماً وقد عصى الله؟
- ذلك شرف لن تناله أبدأً. لأنك ضعيف
- وهل تحتاج المعصية إلى قدرة؟
- نعم، ولأجل هذا سأعصي الله كما عصاه آدم
- فتأكل من شجرة التين؟
- أي تين يا قرد؟ إن لي في العصيان مذهباً لا يخطر للقرود في بال
- وما هو ذلك المذهب؟
- هو أن ابطش بكم جميعاً في لحظة واحدة فأريح الوجود من وجوهكم القباح
- أنت إذن لا تخاف الله؟
- وكيف أخاف من يسمح بأن تكون للقرود دولة؟ أنا كافر بالله، كافر، كافر، إن جاز عنده أن تقوم دولة للقرود أو أشباه القرود؛ ففضوا هذا الاحتفال السخيف، وعودوا إلى حظائركم صاغرين، وإلا نكلت بكم أشنع تنكيل
- وهل صنعنا شيئاً يعاب؟
- إن الشماتة إثمٌ حقير وخسيس، وهي لا تقع إلا من ألا وشاب فانزووا أيها القرود قبل أن يحل عليكم غضبي، فأنتم أحقر من أن تبوءوا بغضب الله، ولعله منحني من الشراسة ما منح لأؤدب ما يجلّ عن تأديبه من القرود والثعالب والذئاب
حين وقع الزلزال في الجنة نظر رضوان فرأى الحية تزحف بسرعة تفوق المألوف من زحفها الممقوت، فأدرك أن عليها جانباً من المسئولية، فمنعها من الخروج إلى أن تنجلي الأمور. ونظر فرأى إبليس يهرول ليقتحم باب النجاة، فرده على عقبيه إلى أن يأذن الله(457/17)
بان يكون من الناجين
ثم سمع هاتف يصيح:
- ماذا تستفيد يا آدم من الاختباء في تلك الألفاف؟
- لأنجو من حسابك يا مولاي
- وكيف تنجو من حسابي، وأنت جان أثيم؟
- لك الأمر من قبل وبعد
- ولهذا أدعوك إلى الوقوف غداً في ساحة العدل، فأحضر من تريد من الشهود، ومن تشاء من المحامين، ليرتفع اللبس في تقدير مالك وما عليك
- أنت الشاهد وأنت الوكيل، فاقض بعدلك ورحمتك ما أنت قاض
- هو ذلك، ولكني أريد أن أقيم بنفسي أول محكمة في الوجود
(للحديث شجون)
زكي مبارك(457/18)
أثر الآداب الأجنبية في الأدب الفرنسي
للأستاذ صلاح الدين المنجد
أن لامتزاج الآداب بعضها ببعض، أثراً بالغاً في ازدهارها ونموها، لما في ذلك من لقاح مثمر وإحياء باهر، ولما تكتسبه من أناقة في العرض، وطرافة في التصوير، وبراعة في الخيال، ورهافة في الذوق
ولعل ازدهار الأدب العربي في العصر العباسي آية على فائدة اللقاح في الأدب وطيب جناه، فقد حليت نغماته، وطرُفت ألوانه، وتدفقت الحياة في صوره وتهاويله، وخرج من الجمود إلى الحركة، ومن القيود إلى الانطلاق
وقد كان الأدب الفرنسي اكثر الآداب تأثراً بالآداب الأجنبية، ولعل اعظم رائعاته كانت من وحي البلدان المجاورة وآدابها. على أن هذا التأثير كان يقتصر على الفكرة، لا على الشكل في اكثر الأحايين
بدأت فرنسا تستمد من آداب الأمم المجاورة مادة لأدبها، منذ أوائل القرن السادس عشر. فقد كان القصاصان (مرغريت دُ فالوا و (برانتوم ينهجان نهج (بوكاتشيو) القصصي الإيطالي: حتى إذا كان النصف الثاني من هذا القرن ازداد هذا التأثير واتسع. فأسست طائفة من الأدباء مجمعاً لبعث الأدب الفرنسي سموه ورأسهم (رونسار) الشاعر، وكانوا معجبين بالشاعر الإيطالي (بترارك فتتبعوا أشعاره بالدراسة والترجمة والنشر، ونهجوا نهجه في نظمه وأفكاره. وفي الحقبة نفسها، أي في النصف الثاني من القرن السادس عشر، قامت في مدينة (ليون) في الجنوب، مدرسة خاصة لتمجيد آراء ذلك الشاعر الإيطالي وتقليد أشعاره
فلما جاء القرن السابع عشر، عكف (موليير) على المسرح الإيطالي يقتبس منه. وهذا الاقتباس واضح في ' وغيرها. وكان يحتفظ في أحايين كثيرة، بالنماذج الإيطالية نفسها
وظل تأثير الأدب الإيطالي في الأدب الفرنسي مستمراً. ففي القرن الثامن عشر، أولع الأدباء الفرنسيون بالآثار الإيطالية المسرحية (كرينار و (لوساج و (ماريفو أما في الشعر، فكان بعض المحدثين آنئذ، يقلدون (تانسيل ويستقون من (لوتاس
على أن القرن السابع عشر قد عرف أدباً آخر، أثَّر في الأدب الفرنسي؛ وكان ينبوعاً(457/19)
ارتشف منه الاتباعيون مادة لروائعهم؛ وهو الأدب الأسباني. فقد عبّ منه كثيرون ومنهم (كورنيل في مأساته (السيد وأعجب الأدباء الفرنسيون (بلوب دُ (آلاركون و (تيرسو دُ مولينا واقتبسوا من آثارهم، ونقلوا إلى الفرنسية بعضها. وقد استمر هذا التأثير حتى القرن الثامن عشر؛ فقد اقتبس (لوساج) من المسرح الأسباني فكرة روايته (الشيطان الأعرج) كما اقتبس (بومارشيه) منه روايته (زواج الفيجارو)
ثم جاء الأدب الإنجليزي يؤثر في الأدب الفرنسي. ولم تؤثر أمة في فرنسا تأثير إنجلترا فيها. فقد كان أثرها ظاهراُ في نواحي شتى: في الأدب، والفلسفة، والسياسة، والأذواق. وكانت ملجأ لكثير من الأدباء الفرنسيين ومنفى. فقد رحل إليها فولتير، ومونتسكيو، وبوفّون، وروسّو، وشاتوبريان، ومدام دُستال وغيرهم؛ فأقاموا فيها وأعجبوا بها. وقد أبان فولتير في (رسائله الإنكليزية عما أحس به في تلك البلاد. وتكلم ما راق له من الكلام، على الدين والفلسفة والأدب والشعر فيها. حتى انه حاول أن يقتبس من شكسبير بعض مشاهد رواياته. ثم نقلت روايات و (سويفت و (دُفوا فلقيت إعجاباُ وأثارت حماسة. ودبت الحياة في الشعر الفرنسي التثقيفي مذ قرأ الناس (تومسون و (جراي وكان شعر (أوسّيان مقدمة للشعر الإبداعي. وأثرت فلسفة (لوك و (هيوم في رجال الموسوعة الفرنسية. واصبح طراز الحكم الإنجليزي مثلاً أعلى عند سياسي فرنسة. فلما شبت الثورة الفرنسية، انقطع هذا الاتصال؛ على أنه عاد اشد قوة، واعظم شأناً بعدها. وانكب الشعراء الإبداعيون آنئذ على روائع (بيرون و (شيلي و (شكسبير يقلدونها مرة ويستوحونها مرات
وما كاد الهم يدرك القرن الثامن عشر حتى سرب الأدب الألماني إلى فرنسة. وكان لنقد (ليسنغ أثر بعيد فيها. ثم جاء (جوته) وننشر (فرتر) فألهبت المشاعر والعواطف؛ وهزت الناس، فانتحر منهم عدد كثير تقليداً لفرتر. ثم اخذ الفرنسيون يقلدون (شيلر وأخذت فلسفة الألمان تحل محل الفلسفات الأخرى. ولعل انطق صورة لهذا التأثير كتاب (مدام دستال) عن (ألمانية ثم عرّج الناس وأخذوا يتتبعون آثار (جوته) و (شيلر) و (هوفمان) و (هنري هاين)
وفي أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، اتجهت فرنسة نحو الآداب(457/20)
الاسكندنافية والروسية، فقد استهوى الفرنسيين نجاح الروايات الروسية، كما جذبتهم الروايات الإنجليزية من قبل، فترجمت روايات (غوغول) و (تورجنيف و (دستويفسكي حتى ألفها وتناقلها، ونحا بعض الأدباء في رواياتهم نحوها
على أن هذا التأثير قد اتسع منذ أوائل هذا القرن العشرين؛ لسرعة المواصلات، وانتشار المجلات، وازدهار المؤلفات. وغزت أسواق فرنسة مؤلفات الأمم كلها. فكيبلنغ ودانونزيو. وسلمى لاجرلوف، وبرناردشو، وأوسكار وايلد، أثروا في الكتاب المعاصرين وإن لم تظهر آثار هذا التقليد واضحة بعد.
وكذلك بدأت مؤلفات الكتاب العرب تظهر بالفرنسية أيضاً. فقد نقلت لها أعظم آثار الأستاذين توفيق الحكيم ومحمود تيمور، وبعض آثار الأستاذ الدكتور طه حسين وبعض مقلات للأستاذ الرافعي
أما في القرون الحالية فقد كان للشرق العربي أثر في بعض مؤلفات شعراء فرنسية وكتابها، كلامارتين، وبارّيس، ولوتي، ورينان، وجيرار دونرفال، وألاخوين تارود، ودورجليس، وغيرهم ممن زاروا بلاد الشام ومصر وتمتعوا بما فيها من روعة وجمال وسحر، فوصفوها وخصوها بالكتب. ولا ننس ما كان لكتاب ألف ليلة وليلة الذي نقل إلى الفرنسية منذ قرون، من أثر وما كان لكتاب السياحات والرحلات والعجائب التي نقلت من قبل وتأثير وإعجاب
وهكذا نجد أن الأدب الفرنسي قد استمد كثيراً من آداب الأمم الأخرى، فكان ذلك من أسباب ازدهاره ونموّه، ورقته وسموّه
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
-(457/21)
من أدب القرن التاسع
كتاب (سحر العيون)
للأستاذ احمد يوسف نجاتي
- 2 -
6 - ومن أولاد أبي الوليد بن الشحنة أوحد الدين عبد اللطيف بن محمد بن محمد بن محمود: ولد سنة 788 وتلقى العلم ببلده وبالقاهرة، ووّلى قضاء مدينة (صفد) مراراً، وناب في القاهرة عن قاضيها وتوفي بها بالطاعون سنة 833 هـ. رحمه الله.
وهؤلاء المتقدمون من بني الشحنة أدركهم الموت قبل مولد البدريّ صاحب (سحر العيون)؛ وأما الذين عاصرهم البدري وانتمى إليهم فمنهم:
7 - محب الدين أبو الفضل بن المحب أبي الوليد المتقدم ابن كمال الدين، فهو محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمود وهو من أشهر بني الشحنة وأسيرهم ذكْراً: ولد بمدينة حلب سنة 804، فهو أسنّ من البدريّ بنحو 43 سنة، وسافر مع والده صبيّاً لم يبلغ عشر سنين إلى مصر، ثم قدم إليها مستقلاً بنفسه بعد ذلك، وتلقى العلم بمدن الشام ومصر، وجد في الطلب، وأخذ عن كثيرين من أجلاء عصره بالقطرين، وكان آية في الذكاء وقوة الحافظة حتى قيل فيه:
سمح الزمان بمثله فاعجب له ... إن الزمان بمثله لشحيح
فالأصل زاكٍ والخلال حميدة ... والذهن صاف واللسان فصيح
وفيه يقول بعض شيوخه:
أقسمت إن جدّ وطال المدى ... أروي الورى من بحره الزاخر
فقل لمن بالسبق قد فضّلوا ... (كم ترك الأول للآخر؟)
ولما كملت أداته، ولى الوظائف الجليلة من قضاء وتدريس ونحوهما فولى القضاء الحنفية بمدينة حلب سنة 836 وعظمت رياسته وظهرت كفايته، وانطلقت الألسنة بذكره، وظل في مدة الظاهر جقمق بين رفعة وخفض وولاية وعزل حتى ولى كتابة السر بالقاهرة سنة 857، ولم يلبث أن صرف عنها وبقي بالقاهرة حيناً من الدهر في عيشة غير راضية، ثم(457/22)
رحل إلى بيت المقدس وأقام بها إلى سنة 862 ثم عاد إلى وطنه حلب. ثم ولى كتابة السر بالقاهرة ثانية سنة 863، فسار فيها سيرة مشكورة واقبل عليه السلطان الأشراف (إينال) إقبالاً عظيماً حتى كان هو المنشئ لعهَده في مرض موته لولده أحمد الملقب (بالمؤيد)، وبقي بعد ذلك بالقاهرة يتقلد وظائف القضاء والتدريس، ولاقي كثيراً من صروف الزمان ومنافسة الأقران حتى توفي بالقاهرة في أوائل سنة 890. فبان من هذا أن الذي أنشأ عهد (اينال) لولده (المؤيد) هو أبو الفضل المحب الأصغر لا أبوه أبو الوليد المحب الأكبر المتقدم والمتوفى سنة 815، ولكن رأيت في فهرس دار الكتب بالجزء الخامس صفحة 273 ما يأتي:
(عهد للسلطان المؤيد أبي الفتح أحمد بن الملك الأشرف (إينال) تأليف العلامة أبي الوليد قاضي القضاة محب الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب الشهير بن الشحنة التركي الحلبي الحنفي المولود سنة 749، والمتوفى بحلب يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الآخر سنة 815هـ أوله: هذا عهد شريف تبسم ثغر ربيعه لما تنسم الخ (نسخة ضمن مجموعة في مجلد مخطوطة بقلم معتاد) 1هـ رقم 59؛ وهذا غير معقول، فإن الملك الأشرف سيف الدين أبا النصر إينال العلائي - وهو الثاني عشر من ملوك الجراكسة - إنما ولي مملكة مصر في شهر ربيع الأول سنة 857: (بعد وفاة أبي الوليد المحب الأكبر والد أبي الفضل المحب بنحو 32 سنة)؛ واستمر الملك الأشرف (إينال) سلطاناً إلى أن خلع نفسه وعقد الولاية لولده الملك المؤيد شهاب الدين أبي الفتح احمد في 14 من جمادي الأولى سنة 865 بعد وفاة أبي الوليد بنصف قرن (فينبغي إصلاح ما في فهرس الدار بنسبة العهد إلى كاتبه، وإنما كان الاشتباه، لان أبني الشحنة هذين الأب وابنه يلقب كلاهما (بالمحب ابن الشحنة)، وإنما يميز بينهما بالكنية؛ فكنية كاتب العهد أبو الفضل توفي سنة 890، وكنية والده أبو الوليد وتوفي سنة 815. هذا، وقد توفي الأشرف (إينال) عقب ذلك بيوم واحد (15 جمادي الأولى سنة 865)، ومكث ولده المؤيد احمد سلطاناً زهاء خمسة أشهر، ثم خلعه أنابكه (مربيه) الملك الظاهر (خشقدم) سيف الدين في شهر رمضان سنة 865 الذي كان سلطاناً بارّاً محبّاً للخير توفي في شهر ربيع الأول سنة 872.(457/23)
ولقد كان المحب بن الشحنة أبو الفصل عالماً جليلاً أديباً فصيحاً بديع النظم والنثر سريعهما حلو الحديث حسن العشرة يميل إلى النكتة اللطيفة والنادرة الظريفة، عذب الروح رقيق الطبع عليَّ الهمة صبوراً على محن الدهر ورزايا الأيام، ذا شغف بجمع الكتب واقتناء النادر منها. وله مصنفات في الفقه والأصول والحديث والتفسير والتاريخ وغيرهما. وله من مطلع قصيدة وهو بالقدس:
قلب المحب بدار البين مشغول ... كما حشاه بنار البعد مشعول
وطرفه الليل ساه ساهر أرق ... ودمعه فوق صحن الخد مسبول
وله مما يقرأ على قافيتين:
قلت له لما وفي موعدي ... وما بقلبي لسواه نفاق
وجاد بالوصل على وجهه ... حبي سما كل حبيب وفاق
وله يطلب الإجازة في سنة 828 من الأستاذ العلامة احمد ابن حجر المشهور المتوفى سنة 852:
وإذ عاقت الأيام عن لثم تربكم ... وظنٌ زماني أن أفوز بطائل
كتبت إليكم مستجيزاً لعلتي ... ابلّ اشتياقي منكم بالرسائل
ومن مؤلفاته التاريخ المسمى (نزهة الناظر في روض المناظر) وهو تاريخ كبير جعله كالشرح لتاريخ أبيه المسمى
(روض المناظر في علم الأوائل والأواخر) السابق. وله - كما في فهرس الدار - كتاب (الدار المنتخب في تاريخ مملكة حلب) ضمنه تاريخ مدينة حلب وآثارها ومعاهدها وجوامعها ومدارسها وغير ذلك مما يتعلق بشؤون مملكة حلب التاريخية والجغرافية، وجعله ذيلاً على (بغية الطلب في تاريخ حلب). تأليف العلامة المؤرخ كمال الدين أبي حفص عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن أبي جرادة العقيلي المعروف بابن العديم الحلبي المولود سنة 586 والمتوفى سنة 660؛ وقد انتهى في تاريخه إلى سنة 650؛ ومنه بدار الكتب 14 جزءاً في متتابعة في ثلاثة مجلدات. وقد رتب المحب بن الشحنة تأريخه على تمهيد وفاتحة وخمسة وعشرين باباً. وقد طبع بمدينة بيروت سنة 1909م، وبدار الكتب الملكية نسخة منه قيمة رقم 2326 تاريخ، وأخرى رقم 2327. هذا وفي كشف الظنون في الكلام(457/24)
على (بغية الطلب في تاريخ حلب) لابن النديم ما يأتي:
والذيل عليه لأبي الحسن علي بن محمد بن سعد الحلبي الجبريني المعروف بابن خطيب الناصرية المتوفى سنة 843، رتب الأعيان على الحروف وسماه (الدر المنتخب). ولما طالعه الحافظ بن حجر حين قدم حلب سنة 836 الحق به أشياء كثيرة ثمينة وأثنى على صاحبه. ثم ذيل عليه موفق الدين أبو ذر أحمد بن إبراهيم بن محمد الحلبي المتوفى سنة 884 وسماه (كنوز الذهب في تاريخ حلب). ولم يذكر في كشف الظنون أن ابن الشحنة ألف تاريخاً لحلب اسمه (الدر المنتخب) فلعله جمع هذه الذيول قبل وفاته سنة 890 وتصرف فيها ونسبها لنفسه - والله أعلم - أو لعله ألف تاريخاً لحلب مستقلاً واستعار اسمه من اسم تاريخ خطيب الناصرية. وقد يرجع هذا بما ذكره صاحب كشف الظنون في موضع آخر قال
(كنوز الذهب في تاريخ حلب) لأبي ذر احمد بن البرهان إبراهيم الحلبي المتوفى سنة 884 ذيل به (الدر المنتخب في تراجم أعيان حلب). وأقول إذا علمت أن محب الدين بن الشحنة كان زوج السيدة خديجة بنت القاضي علاء الدين علي بن محمد بن سعد المتقدم المعروف بابن خطيب الناصرية مؤلف (الدر المنتخب) هان الخطب ووضح المشكل، على أنه يؤخذ من ترجمته الطويلة في الضوء اللامع أنه ألف تاريخين وذكر له عدة مؤلفات في علوم مختلفة.
(يتبع)
أحمد يوسف نجاتي
الأستاذ بكلية اللغة العربية(457/25)
أحلام اليقظة
للدكتور محمد حسني ولاية
قص عليّ صبي في الرابعة عشرة من العمر الحلم الآتي:
(بينما كنت واقفاً في غرفة الدراسة أجيب على سؤال وجهه إليَّ مدرسي، اختفى عن ناظري التلاميذ والمدرس وجميع مل في الغرفة سوى (السبورة)، وانقلبت أرض الغرفة الخشبية إلى أرض صحراوية، ثم ما لبث أن أطل من خلف أعلى (السبورة) رجل ذو منظر مخيف، عريض الوجه، منبعج الأنف، غريب الخلقة، ذو مخالب كمخالب النمر، مرتد ثوباً أخضر وقلنسوة خضراء، ممسك بطفل صغير في الثانية من العمر، وقد ارتدى ثوباً أحمر وقلنسوة حمراء، وكان الطفل كثير الشبه بالرجل، ولكن أنفه لم يكن منبعجاً، ولم تكن له مخالب
(وبعد برهة شطر الرجل الطفل الصغير شطرين بيديه القويتين، فصحتُ من شدة الجزع بأعلى صوتي. . . ثم سمعت مدرسي يقول: (لا تّخف)؛ ثم أفقت ووجدتني واقفاً أمام مدرسي كما كنت، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه. . .)
لاحظت أن الحالم يشبه أمه البلجيكية، وأن أخاه البالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً يشبه أباه المصري، وقد كان الأب شديد القسوة وكثيراً ما كان يضربه ضرباً مبرحاً؛ أما أمه، فكانت لينة القلب
أدى تحليل الحلم إلى استكشاف عقدة في عقل الصبي الباطن، مؤسسة على نزعات ترمي إلى التخلص من أخيه الذي كان مريضاً بالحصبة عندما كان في الثانية من العمر، وكان الحالم حينذاك في الثالثة فألبس المريض رداء أحمر وقلنسوة حمراء؛ وقد ظلت هذه العقدة محتبسة في العقل الباطن منذ إحدى عشر سنة، والسبب في نشوء هذه العقدة هو العناية الفائقة التي وجهها الوالدان إلى الطفل المريض، ومن ثم تشبثت بالحالم غيرة شديدة من أخيه
يمثل الرجل الوحشي أب الحالم ويرمز الطفل الصغير إلى أخيه، وقد شوهت هيئة الأب والأخ في الحلم بفعل الطاقة الكاتبة: (الرقيب الحلمي)؛ وكأن الصبي يقول لأبيه: (مزّق أخي بمالك من البطش والقوة، وخلصني منه، ليخلو لي الجو. . .)(457/26)
قال لي الصبي انه لا يكره أخاه، ولكن نشأت بينهما حزازات، لأن والده يدلل أخاه كثيراً ويغضي عن هفواته، وقد استغل أخوه هذا التحيز من جانب الأب، فلجأ إلى ضربه وسلب الحلوى والنقود منه، فهو في عرفه صورة مصغرة من أبيه
وقد قص عليَّ الصبي حلماً ليلياً يدل على مبلغ استقرار نزعة التخلص من أخيه في سريرته:
(رأى منذ عهد قريب صبيّاً في عمر وهيئة أخيه يقود طائرة، ثم وقفتْ الطائرة في الهواء بجوار نافذة منزله، فاستقلها كراكب فأطلق قائد الطائرة العنان لطائرته، ولكنه بعد مضي زمن قليل أصابته رصاصة لم يعرف مصدرها فصرعته، فما كان من الحالم إلا أن حل محله وقاد الطائرة بنفسه)
يعني هذا الحلم أنه يريد التخلص من أخيه الذي كانت له الكلمة النافذة والسلطة والقيادة في محيط العائلة
ورأى في حلم ليلي آخر أنه يسير في أرض صحراوية انبعثت صخرة من الأرض ومنعته من استئناف المسير؛ وترمز الصخرة هنا إلى أخيه، لأنه واقف له بالمرصاد
محمد حسني ولاية(457/27)
4 - ابن خُرْدَاذبه
للأستاذ كوركيس عواد
(تتمة)
6 - الخصومة بين ابن خرداذبة وأبي الفرج الأصفهاني
(ا) تمهيد
كان الأستاذ كامل كيلاني قد أحسن غاية الإحسان بنشره بحوثاً طلّية في وصف بعض (الخصومات) أو (المناظرات) الأدبية القديمة التي دارت رحاها بين طائفة من أكابر العلماء، وكان لها شأن في توجيه الرأي الأدبي في تلك الأزمنة الغابرة.
وما من شك في أن هاتيك الخصومات تمثل لنا لوناً من ألوان الثقافة، وتكشف عن منحي من مناحي المجتمع، كما أنها توضح لنا بأجلى بيان ما كان يضطرم أحياناً في نفوس بعض الأدباء من حبٍ للتنافس، وميلٍ إلى الظهور والتصدُّر، وانسياقٍ لعوامل الحقد والضغينة؛ وتفصح لنا عما كانت تنطوي عليه أخلاق بعضهم من كبرٍ أو مكابرة، وعنتٍ أو دهاء. . . ومهما يكن من أمر، فإن تلك الخصومات صفحة أدبية رائعة الجمال، إذ شحذ مسطِّروها أذهانهم لإحراز الفوْز، وأفرغوا ما في وسعهم من الأدلة والبينات التي كانت تتجاوب أصداؤها بينهم، وتتدافع تدافع السيل العرم، لتنال مكانها من الظفر!
ولقد وقفنا على شيء يقرب من ذلك، تشب بين اثنين من أشهر الكتبة الأقدمين، وهما ابن خرداذبة وأبو الفرج الأصفهاني.
وإذا تكلمنا على الأول منهما بما مرَّ بك تفصيله، فلنقل كلمةً وجيزة نمهد بها موقفه من الخصومة، فنقول:
(ب) أبو الفرج الأصفهاني
إن شهرة أبي الفرج البعيدة، تغنى عن التعريف به. وكتابه العظيم الموسوم بـ (الأغاني) الذي سلخ في جمعه وتأليفه على ما قال خمسين سنة، لمن أعظم الكنوز الأدبية قيمة، وأحفلها مادة! وكفاه من سمو المنزلة ومزيد الاعتبار أن الصاحب بن عباد - وهو من هو - (كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما(457/28)
وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواء لاستغنائه به عنها!)
وكان الصاحب هذا يقول: (لقد اشتملت خزانتي على مائتين وستة آلاف مجلد، ما منها ما هو سميري غيره (أي غير كتاب الأغاني) ولا راقني منها سواه. . .)
وكان عضد الدولة (لا يفارقه في سفره ولا حضره، ولقد كان جليسه الذي يأنس به، وخدنه الذي يرتاح إليه)
ولأبي الفرج كتب عديدة أخرى ذكرها مترجموه ورواة أخباره. ضاع اغلبها، ففاتنا بضياعها من الخسارة بما لا يمكن التعويض عنه.
ولسنا في مقام التبسط فيذكر ترجمته، فذاك أمر معروف مشهور، وإنما اكتفينا بالتنويه بكتابة الأغاني، لما له من الخطر في الخصومة التي أشرنا إليها. أما من أراد الوقوف على أخبار أبي الفرج، فعليه بها مفصلة في (تصدير) المجلد الأول من الأغاني المطبوع في دار الكتب المصرية. ففيها كل الغناء.
وما لا بد من النص عليه، هو أن أبا الفرج توفي في أواسط المائة الرابعة للهجرة (أي في سنة 356 للهجرة)، وهي المائة التي ازدهر فيها الأدب العربي، واستقام أمره، واتسعت مادته
(ج) الخصومة
والخصومة التي سنذكرها، تختلف عن كثير من الخصومات لأنها جرت بين شخصين باعد بينهما الزمن! فقد ذكرنا من قبل أن ابن خرداذبة نادم المعتمد الخليفة العباسي، وخص به، وكانت وفاة المعتمد في سنة 279 هـ. فيكون ابن خرداذبة من أبناء المائة الثالثة للهجرة، ولعله تعداها فعاش بعض السنين من المائة الرابعة
أما أبو الفرج الأصفهاني، فقد وُلِدَ سنة 284 ومات سنة 356 للهجرة. فهل يكون قد أدرك في أوائل شبابه شيخوخة ابن خرداذبة؟ وهل يكون قد حصل بينه وبينه تنافر وتباغض أدى بابي الفرج إلى أن يقف موقفه المريب إزاء زميله على ما سنوضحه؟
فإذا طالعت كتاب (الأغاني) لأبي الفرج، ألفيته يذكر ابن خرداذبة في مواطن عديدة منه، ويستشهد بأقواله ولكنه لا يذكره إلا ليثلبه، ويحيط من قدره، ويجرده من كل حسنة سواء أكان لذلك كله موجب أم لم يكن! وهو لا يروي قولاً من أقواله إلا ليردّ عليه ويضعّفه(457/29)
ويتعمد تزييفه! فهو على ما يبدو ظاهر التحامل. على أننا لا ندري ما مبلغ الصحة في ما حكاه عن ابن خرداذبة، ولا الدواعي الحقيقية التي حماته على أن يشدّد النكير على صاحبه، لأن مؤلفات ابن خرداذبة التي ندد بها وانتقد أقوالاً منها ضاعت بأجمعها! ولهذا، نُرَ أنا في هذه الخصومة سنصغي - على الرغم منّا - إلى شهادة جانب واحد! وللتاريخ أن يحكم على صحة هذه الشهادة، ولعل الأيام تكشف لنا مصنفات ابن خرداذبة، فنعود نستمع إلى أقوالها، وقد ينجلي الأمر إذ ذاك وتتضح الحقيقة!
واليك أقوال أبي الفرج في خصمه، استخلصناها من أماكن مختلفة من كتاب الأغاني:
قال في (5: 3 من طبعة الساسي، أو 5: 156 من طبعة دار الكتب المصرية) ما هذا بحرفه:
(وذكر ابن خرداذبة، وهو قليل التحصيل لما يقوله ويضمنه كتبه، أن سبب نسبته (أي نسبة إبراهيم الموصلي) إلى الموصل، إذا سكر كثيراً ما يغني على سبيل الوَلَع:
أناجت من طرق مَوْصل ... أحمل قلل خَمْريَا
من شارب الملوك فلا ... بُدَّ مِن سُكْرِيَا
وما سمعت بهذه الحكاية إلا عنه؛ وإنما ذكرتها على غثاثتها لشهرتها عند الناس، وأنها عندهم كالصحيح من الرواية في نسبة إبراهيم إلى الموصل، فذكرته دالاّ على عواره) أهـ.
وقال في (1: 18 س، أو 1: 36 د):
(وذكر ابن خرداذبة أنه (الكلام على مبعد المغنى) غَنَّى في أول دولة بني أمية وأدرك دولة بني العباس وقد أصابه الفالج وارتعش وبطل، فكان إذا غنى يُضحك منه ويُهزأ به. وابن خرداذبة قليل التصحيح لما يرويه ويضمنه كتبه. والصحيح أن معبداً مات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق وهو عنده. وقد قيل: إنه أصابه الفالج قبل موته وارتعش وبطل صوته. فأما إدراكه دولة بني العباس فلم يروه أحد سوى ابن خرداذبة، ولا قاله ولا رواه عن أحد وإنما جاء مجازفة) أهـ.
ونظير ذلك قوله في (6: 15 س، أو 6: 173 د):
(وذكر ابن خرداذبة، أنه (يقصد يحي المكيَّ) مولى خُزاعة. وليس قوله مما يحصل، لأنه(457/30)
لا يعتمد فيه على رواية ولا دراية)! ومثله قوله (13: 154 س):
(ويزعم ابن خرداذبة، أن الصنعة فيه (في بيتين من الشعر أوردهما الأصفهاني) ليزيد وليس كما ذكر، وإنما أراد أن يوالي بين الخلفاء في الصنعة، فذكره على غير تحصيل، والصحيح، أنه لمعبد. . .)
وشبيه به ما رواه في (10: 115 س):
(وذكر ابن خرداذبة، وهو ممن لا يحصل قوله ولا يعتمد عليه، أنه (أي عَلَّوية المغنى) من أهل يثرب، مولى بني أمية)
أو ما قاله في (8: 156 س، أو 9: 276 د):
(وممن دونت صنعته من خلفاء بين العباس، الواثق بالله، ولم نعلمه حُكى ذلك عن أحد منهم قبله، إلا ما قدمناه سوء العهدة فيه عن ابن خرداذبة، فإنه حكى أن للسفاح والمنصور وسائرهم غناء، وأتى فيها بأشياء غثة، لا يحسن لمحصل ذكرها)!
ومما يتصل بها المعنى، ما حكاه أبو الفرح في (8: 144 س أو 9: 250 د):
(قال مؤلف هذا الكتاب: المنسوب إلى الخلفاء من الأغاني والملصق بهم منها، لا أصل لجله ولا حقيقة لأكثره، لاسيما ما حكاه ابن خرداذبة، فإنه بدأ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر أنه في هذا البيت:
كأنَّ راكبها غصنٌ بمَرْوَحَة
ثم والى بين جماعة من الخلفاء واحداً بعد واحد، حتى كأن ذلك عنده ميراث من مواريث الخلافة أو ركن من أركان الإمامة لا بد منه ولا معدلَ عنه، يخبط (يعني ابن خرداذبة) خبطَ العشواء ويجمع جمع حاطب الليل. . .!)
أو ما سطره في (13: 110 س):
(وذكر ابن خرداذبة، أن المهدي اشتراها (اشترى الجارية بصبص) وهو ولي العهد، سراً من أبيه، بسبعة عشر ألف دينار، فولدت منه عُلَيّة بنت المهدي. وذكرغير ابن خرداذبة، أنه غلط في هذا، وإن الذي صح، أن المهدي اشترى بهذه الجملة جارية غيرها وولدت عُلَيَّة. . .)
فهذه، على ما رأيتَ، آراء صريحة، طعن فيها أبو الفرج بصاحبه، وضعَّف مرويّاته.(457/31)
وليس بوسعنا أن نبدي فيها رأيا للسبب الذي قدمناه في محل آخر من هذا المقال. ونضيف الآن إلى ذلك، أن عشرات الكتب في الغناء والمنادمة والشراب وما اتصل بهذه الموضوعات من قريب أو بعيد، مما صنفه اقدم الكتبة كإسحق الموصلي، ويحيى بن أبي منصور الموصلي، وعبد الله بن هارون، ويونس الكاتب، وعمر بن بانة، وحسن ابن موسى النصيبي، وأبي حشيشة الطنبوريَّ، وجحظة، وأبي أيوب المديني، وغيرهم، كل تلك الأسفار قد ضاعت وامحي أثرها، ولم يبق لنا منها سوى أسمائها الجميلة
التي حفظها لنا ابن النديم وغيره في تصانيفهم
هذا، وقد ذكر أبو الفرج زميله في أماكن أخرى من أغانيه، ونقل عنه أخباراً ومرويات لا فائدة من إيرادها هنا.
غير انه في بعض نقوله كان يمر به دون ما تجريح، ذلك إذا راعى جانب الهدوء والاعتدال في القول، وإلا، فلا أَقل من أن يتوج ما ينقله عنه بعبارة (وزعم ابن خرداذبة)، ولا يخفى على اللبيب، ما تنطوي عليه لفظة (زعم)!
فهل كان أبو الفرج في مواقفه النقدية يعتمد الإساءة إلى أقرانه ومعاصريه ممن ألف في موضوع الأغاني وما إليها؟ أم إنه كان على حق فيما فند وزيّف، وقد وقفنا على رأي له في كتاب من هذا القبيل، ننقله إلى القارئ، لما فيه من مغزى أدبي، قال:
(وذكره جحظة (الكلام هنا على أحمد النَّصْبِيّ المغنىّ الطنبوري) في كتاب الطنبوريين، فأتى من ذكره بشيء ليس من جنس أخباره ولا زمانه، وثلبه فيما ذكره، وكان مذهُبهُ - عفا الله عنه - في هذا الكتاب، أن يَثْلِبَ جميع من ذكره من أهل صناعته بأقبح ما قَدَر عليه، وكان يجب عليه ضد هذا، لأن من انتسب إلى صناعة، ثم ذكر متقدمي أهلها، كان الأجمل به أن يذكر محاسن أخبارهم وظريف قصصهم ومليح ما عرفه منهم، لا أن يثلبهم بما لا يعلم وما يعلم. فكان فيما قرأت عليه من هذا الكتاب أخبار احمد النصبي، وبه صدَّر كتابه فقال:
وحسب القارئ أن يسأل لماذا حمل أبو الفرج على جحظة في موقفه من احمد النَّصبي؛ وندد به لأنه ثلب مَن تقدمه، وهو نفسه لم يطبق هذا المبدأ في موقفه من ابن خرداذبة على ما مر بنا(457/32)
7 - ختام البحث
رأى القارئ في تضاعيف هذا المقال أن ابن خرداذبة كان إلى جانب مركزه الاجتماعي مؤلفاً في ميادين الكتابة المختلفة، فقد صنف في التاريخ والبلدان والأنواء والأنساب والموسيقى والمنادمة والشراب وغير ذلك. . . وان الكتبة انقسموا بشأنه فريقين: له وعليه. فأفراد الفريق الأول وعلى رأسهم المسعودي مدحوه، وقرضوا كتبه؛ والفريق الثاني، وعلى رأسهم الأصفهاني حملوا عليه حملة شعواء فأوسعوه نقداً وتجريحاً
ومن العسير علينا أن نبدي رأياً أو نقول قولاً في هذا الموقف الذي ينقض أوله أخره، ونحن في وقت نتلمس فيه تأليف ابن خرداذبة التي دارت عليها رحى الخصومة، فلا نجد منها شيئاً ما، كما أننا لا نجد اغلب الكتب التي تناظرها في البحث لنتحقق صحة ما قيل فيها، وقد يتاح حينذاك الحكم لها أو عليها!
(بغداد)
كوركيس عواد(457/33)
الهند. . .
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
هي الدرة اليتيمة في التاج البريطاني! من أجلها حقدت الدولة على بريطانيا، وبسببها تحملت إنجلترا الكثير من الشدائد ونزلت بساحتها الكوارث. إليها رنت أبصار الفرنسيين، وهفت قلوب الألمان، وداعب طيفها اليابان. وهاهي ذي اليوم تستعد للهجوم، وتتحفز للوثوب على الهند.
لقد داعب نابليون طيف الهند! اشتد العداء بين فرنسا وإنجلترا، ورأى نابليون أن خير طريق لقهر إنجلترا هو غزوها في بلادها (وإرغامها على إملاء شروط الصلح في لندن)!
حينذاك يسجد للعالم أمام نابليون، وتحت أقدام فرنسا والفرنسيين! ولكن دراسة هذا المشروع ردت نابليون إلى صوابه فعلم أن غزو إنجلترا ضرب من الأوهام والأحلام. إذن أين يوجه الطعنة القاتلة إلى بريطانيا؟ هداه تفكيره إلى أن خير طريق للوصول إلى هذه الغاية إنما يكون بالاستيلاء على مستعمراتها وبخاصة الهند، وكيف يكون ذلك؟ إن ذلك يمكن أن يتحقق إذا تمكن من غزو مصر، فمن مصر يمكن السير براً إلى الهند. ألم يفعل ذلك الاسكندر المقدوني أكبر قواد العصور القديمة؟ لم لا يفعل نابليون بونابرت أكبر قواد العصور الحديثة؟ وعبارة نابليون (لضرب إنجلترا يجب أن نكون سادة مصر) مشهورة معروفة، وفي نفس المعنى قال تاليران: (عن طريق مصر نصل إلى الهند). وتنفيذاً لهذه الخطة قدم نابليون بحملته المشهورة إلى مصر في أول يوليو سنة 1798، وبقى بها سنة وبضعة أشهر، ورأى بعيني رأسه آماله تنهار ومشروعه يفشل، وتحت جنح الليل البهيم غادر مصر في 22 أغسطس سنة 1799 وبعد قليل لحق به جيشه؛ وهكذا فشلت الحملة ولم يستطع نابليون الوصول إلى الهند.
ومن اجل الهند وحرصاً عليها خرجت بريطانيا على صداقتها التقليدية للروسيا وناصبتها العداء طوال القرن التاسع عشر لأنها رأت في مطامع روسيا وفي توسعها في آسيا خطراً على الهند، ولكن الخطر الألماني وحد بين صفوف البريطانيين والفرنسيين والروسيين. ومن أجل الهند والمستعمرات البريطانية الأخرى ناصبت ألمانيا إنجلترا العداء. وقد فزعت إنجلترا من تقدم الألمان نحو القوقاز في الصيف الماضي وسارعت إلى احتلال إيران،(457/34)
وكل ذلك لتأمين الهند.
والهند تجذب أنظار العالم اليوم لعاملين:
1 - اقتراب الخطر الياباني منها.
2 - ذهاب السير سترافورد كريبس إليها لحل مشاكلها المتعددة ووضع نظام جديد لحكمها.
مشاكل الهند
ليس هناك دولة في العالم تحاكي الهند من حيث كثرة مشاكلها وتعددها وصعوبة حلها، فهي من ناحية من أغنى بلاد العالم، ومن ناحية أخرى من أكثر جهاته ازدحاماً بالسكان.
ومع هذا فإن حكمها ليس بالأمر اليسير الهين، وذلك لتباين ديانتها واختلاف عناصرها وكثرة لغات أبنائها وكراهية طوائفها بعضها لبعض كراهية شديدة
يبلغ عدد سكان الهند 320 مليون نسمة، ومساحتها مليوناً ونصف المليون ميلاً مربعاً، أو قدر نصف مساحة أوربا. على أن بريطانيا لا تهتم بالهند حباً في حكها، ولكن لأنها سوق عظيمة لمصنوعاتها ومورد للمواد الخام. وقد كانت صادرات بريطانيا إلى الهند في كثير من السنين أعظم من صادراتها إلى دولة أخرى. وقد بدأت الهند تدخل في الدور الصناعي وقد جاء هذا الدور على يد البريطانيين وتحت إشرافهم
ومشكلة الهند أمام إنجلترا تنحصر في أمرين: الإشراف على سكانها البالغ عددهم 320 مليوناً، وترقية التجارة البريطانية مع الاحتفاظ بالسلام. وليس من السهل حكم دولة معقدة كالهند ذلك لان التباين بين سكانها عظيم بدرجة يستحيل معها تحقيق أي وحدة حقيقية بين أجزائها، فلكل إقليم من أقاليمها ولكل دين من أديانها وطائفة من طوائفها أفكارها ومعتقداتها، ويتكلم سكانها 170 لغة، وتنقسم إلى 2400 طائفة. ومن أبنائها 217 مليونا من الهندوكيين و 60 مليوناً من المنبوذين، وهؤلاء هم أحط سكانها، وهم مجرمون من الحقوق المدنية؛ والبراهمة وعددهم 14 مليوناً، والمسلمون وعددهم 66 مليوناً
وبالهند سبعمائة مقاطعة تحقد الواحدة منها على الأخرى وتملك خمس أرضها؛ وعدد سكانها 75 مليوناً، وأكبر مقاطعاتها حيدراباد وسكانها 13. 000. 000 نسمة. وبعض هذه الولايات قديمة التاريخ، وبعضها حديثته
على أن البريطانيين حين قدموا الهند عقدوا معاهدات مع الكثير منها وضمنوا لها استقلالها(457/35)
الذاتي وأقروا حكمها، وقد احترمت هذه المعاهدات حتى الوقت الحاضر، وهؤلاء الحكّام ليسوا مستقلين ولكن يخضعون لجلالة ملك بريطانيا وإمبراطور الهند ولنائبه الحاكم العام
والهند ما تزال أمة زراعية واهم محصولاتها القمح والقطن، وتعتمد الزراعة في كثير من جهاتها على الري ومعظم أمطارها موسمية؛ وهي في البنغال وأسام وبرما فقط تكفي للزراعة. أما في باقي الأجزاء فتختلف الأمطار من عام لعام مما عرض الهند لكثير من المجاعات التي كانت تقضي على الملايين من أبنائها. وقد خفف التقدم الحديث في وسائل النقل من وطأة هذه المجاعات. وتعنى حكومة الهند الآن بمشروعات الري وبواسطتها أن تزرع 20 , 000 , 000 مليون فداناً
وبتزايد عدد سكان الهند عاماً بعد عام (50 مليوناً في السنين الأخيرة) ولكن عدد المهاجرين من أبنائها مازال قليلاً، ولذلك يتعذر على الكثير من أبنائها الحصول على طعامهم، ويضطر الكثيرون منهم إلى الاستدانة على المحصول الجديد قبل نضجه
موقف بريطانيا
ليست مشاكل الهند الاجتماعية والاقتصادية من خلق بريطانيا ومع هذا يلقى الهنود تبعتها دائماً على بريطانيا ويطلبون منها حلها واشتراك أبنائها في حكم بلادهم. وقد منحت بريطانيا الهنود كثيراً من السلطة الإدارية المحلية عقب الحرب الماضية إرضاء لهم، فتركت لثمان من ولاياتها الكبيرة شئونهم الداخلية الخاصة بالتعليم والزراعة والصناعة والصحة والأعمال العامة، وعينت كثيرين من أبنائها حكاماً لولاياتهم، وأشركتهم في المجالس التشريعية، وأنشأت مجلساً للدولة يرأسه الحاكم العام وعدد أعضائه ستون: منهم 16 من الهندوكيين و11 من المسلمين و3 من السيخ و3 من الأوربيين والباقي من موظفي حكومة الهند البريطانيين، وجمعية تشريعية يرأسها كذلك الحاكم العام وعدد أعضائها 140 منهم 100 منتخبين، ولكن حرمت هذه الجمعيات من بعض الحقوق الهامة فلا تسري قراراتها المتعلقة بالدين العام وبقوات الدفاع وبالسياسة الخارجية بدون موافقة الحاكم العام
وقد شعر كثير من الهنود أن الحقوق التي نقلت إليهم قليلة الأهمية وبذلك طلبوا من بريطانيا أن تمنحهم الحكم الذاتي وغلا بعضهم فطلب الاستقلال. على أن أي حل لا يرضي مختلف الطوائف سيكون نصيبه الفشل. ويجب أن تنتبه بريطانيا إلى مطالب(457/36)
المسلمين بصفة خاصة وذلك بالنسبة لعظيم عددهم وشدة تمسكهم بمطالبهم.
وقد طار إلى الهند أخيراً السير (سترافورد كربيس) ليحاول حل القضية الهندية (وان ذهابه إليها دليل على أن حكومة بريطانيا وشعبها يعلمان بأن مطالبة الهند بأن تكون أمة قائمة على حق). ونحن نتمنى له التوفيق في مهمته
أبو الفتوح عطيفة(457/37)
دفين (لا كْرُونيه)
للشاعر الأرلندي تشارلز وولف
بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة
(لاكرونيه ميناء على الساحل الشمالي الغربي من أسبانيا، ودفينها هو السير (جون مور) أحد كبار قواد الإنجليز في حرب شبه الجزيرة. وكان قد التقى بالفرنسيين عند هذا الموقع وهو يحاول الارتداد إلى الساحل يوم 16 يناير 1809م فأنتصر عليهم وأوقف زحفهم. . . ولكنه أصيب بقذيفة من مدفع، ومات متأثراً منها في مساء اليوم نفسه. وقد احتفل الإنجليز بتشييعه - في منتصف الليل - احتفالاً صامتاً مؤثراً، ودفن تحت أسوار مدينة لاكرونيه. . .
أّمّا تشارلز وولف صاحب هذه القصيدة فهو شاعر أرلندي عاش بين عامي 1791 و 1823م. ولم يعثر من شعره إلا على مقطوعات قلية؛ أهمها وأجودها جميعاً هذه القطعة التي كفلت - وحدها - لاسمه الشهرة والخلود)
مضيناً بجثمانه إلى القبر حثيثاً؛ فما دوَّى لطبلِ صوت، ولا ارتفع لترنيمةٍ صدى. . .
وأودعناه مقرَّه الأبدي في سكينة وهدوء لم يعكرهما جنديٌّ بمقذوف تحية، أو طلقة وداع.
كان ذلك والليل مظلم الرقعة حالك الجلباب؛ فما أضاءتْ لنا فيه إلا خيوط من شعاع القمر واهية، وإلا أقباس متضائلة من مصباحنا الخافت. . .
وقد أضجعناه بثوبه العسكري الذي مات فيه، فبدا كجندي يستجمّ بعد طول جهاد؛ ولم نُرِدْ أن نوشح صدره أو نلفَّ جثمانه في هذه الأسمال البالية التي يسمونها الأكفان. . .
كانت صلاتنا عليه قصيرة ومقتضبة، رتَّلناها في تأثر وإيمان؛ أما كلمات الحسرة والألم المألوفة في مثل هذا المقام، فما فُهنا منها بكلمة!!
لقد تعلقت أعيننا في سكون بهذا الوجه الشاحب؛ بينما اتجهت بنا الأفكار إلى الغد المجهول في مرارة وأسى.
كنا نفكر - ونحن نشق له لحده الضيق ونمهد له وساداً من التراب - في العدوِّ الذي سيطأ هذا الرفات الطاهر بقدميه؛ والأجنبي الذي سيمرّ فوقه ثانيَ عِطفِه. . . بعد أن نصبح نحن بمنأى عنه فوق أثباج هذا الخضَم الجائش!(457/38)
سيتحدثون باستخفافٍ عن روحه الكريمة التي صعدت إلى بارئها؛ وفوق رفاقه الهامد سينبزونه بكلمات ملؤها السخرية والإفحاش؛ ولكن عبثاً يحاولون تحريكه أو إقلاق سسباته في هذا المضجع الذي سوّته له أيدينا بعناية ورفق.
فكَّرنا في كل هذا. . . ثم اقبلنا نواصل العمل في مهمتنا الشاقة المؤلمة، حتى دقّ فجأة ناقوس الخطر مؤذناً بالانسحاب؛ وسمعنا دوىً المدفع التي راح العدوّ يصب قذائفها من مدىً شاسع. . . وعلى غير هدى. فأضجعناه في أناةٍ وحَزَن؛ ثم انصرفنا وقد أخلينا منه ساحةَ مجده التي ما زالت بدمه مخضوبة. . .
لم نخُطَّ على قبره حرفاً؛ ولم نُقِم فوقه تذكاراً أو نرفعْ نصباً؛ بل خلفناه في مضجعه فريداً مستوحشاً. . . وهيهات أن ينفرد أو يستوحش من كان له المجد جليساً، والخلود صاحباً وأنيساً!
(جرجا)
محمود عزت عرفة(457/39)
المنصورة. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
بِأَيِّ مُعْجِزَةٍ في اُلْحبِّ نَتَّفِقُ؟ ... ياَ قَلْبُ لاَ يَتَلاَقَى الْفجْرُ وَالْغَسَقُ!
يَا قَلْبُ إِنَّا لَقِينَا الْيَوْمَ جَوْهَرَةً ... تَكَادُ في ظُلُمَاتِ الَّليْلِ تَأْتَلِقُ
ظَلَلْتُ أَسْأََلُ نَفْسِي كَيْفَ تَعْشَقُهَا ... بَقِيَّةٌ مِنْ بَقاَيَا الْعُمْر تَحْتَرُق؟!
وَاَفْيتُهَا وَفُلُولُ النُّورِ دَامِيَةٌ ... تَطْفُو وَتَرْسُبُ أو تَعْلُو فَتَعْتَلِقُ
لمَْ أَدرِ حِينَ تَبَدَّتْ لِي إذا شَفَقِي ... أَبْصَرْتُهُ أم عَلَى الْمَنْصُورَةِ الشَّفَقُ
ياَ مَنْ مَنَحْتِ الأَمَانِي الْبِيضَ مَعْذِرَةً ... إِنِّي بِهذِي اْلأَمَانِي الْبِيضِ أَخْتَنِقُ
أَيْنَ الْهُدُوءُ الْمُرَجَّى في جَوَانِبِهَا؟ ... إِنِّي رَجَعْتُ وَلَيْلِي كُلُّهُ أَرَقُ
أَقْبَلْتُ أَنْشُدُ أَمْناً في هَوَاكِ بِهاَ ... فَلَمْ أَنَلْ وَتَوَلَّى قَلْبِيَ الْفَرَقُ
لاَ باُقُلوبِ وَلاَ اْلأَرْوَاحِ يَا أَمَليِ ... إِنَّا بِشَيْءِ وَرَاَء الرُّوحِ نَعْتَنِقُ
وَيْحي عَلَى كَفِّكِ الْبَيْضَاءِ إذ بُسِطَتْ ... عِنْدَ السَّلامِ وَوَيْحي حِينَ تَنْطَبِقُ
هَلْ يَسْمَعُ النِّيلُ إذ سِرْنَا بِجَاِنِبِهِ ... وَالْمَوْجُ مُجْتِمعٌ فِيهِ ومُفْتَرِقُ
صَوْتاً تَمَاَوَجَ في رُوحِي فَجَاَوَبَهُ ... مِنْ جَانِبِ الْقَلْبِ مَوْجٌ رَاحَ يَصْطَفِقُ
تَضَلُّ تَنْهَبُ أُذنِي مِن أَطَايِبِهِ ... كَأَنَّهَا مِنْ خَفَايَا الْغَيْبِ تَسْتَرِقُ
يَاَ جَنَّةً مِنْ جِنَانِ الله أَعْبُدُهَا ... لَنْ تَبْعُدِي وَلدَيَّ السِّحْرُ وَالْعَبَقُ
ناجي(457/40)
الشعاع الغريب!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
وَمَا أَنَا إِلاْ شُعاٌعٌ غَرِيبٌ ... تَأَلَّقَ بَيْنَ جُفُونِ الضَّبَابْ
لَهُ نَفْثَةٌ مَنْ وَرَاءِ السَّدِيمِ ... تُثيُر عَلَى اْلأَرْضِ حُزْنَ الُّترابْ
لَهُ نَشْوَةٌ في اْلأَسَى وَالْعَذَابِ ... أَمَا أَيُّ خَمرٍ بِهذا الْعَذَابْ!
تَوَهَّجَ حَتَّى بَكَاهُ الرَّمَادُ ... وَأَغْفَى فَجُنَّ عَلَيْهِ السَّحَابْ
يَلُومُونَ فِيهِ اشْتِعَالَ الضِّيَاءِ ... وَهَلْ يَمْلِكُ النَّارَ قَلْبُ الشِّهَابْ
تَطَلَّعَ إِشْرَاقُهُ لِلسَّماَءِ ... فَأَوْشَكَ أَن يَسْتَشِفَّ الْحِجَابْ
وَخَانَتْهُ إِيمَاَءةٌ لِلثَّرَى ... فَلَمْ يَلْقَ إِلاَّ الدُّجى وَاَلْخَرَابْ
فَظلَّ عَلَى نَارِهِ وَالِهاً ... يُدَمْدِمْ كَالْمَوْجِ بَيْنَ الْعُبَابْ
حَزِينٌ وَتَضْحَكُ آهَاتُهُ ... شَقِيٌّ وَيُغْرِيهِ سِحْرُ الشَّبَابْ
يَعِيشُ عَلَى اْلَوَهْمِ في عَالَمٍ ... يُجَسِّدُ لِلطِّينِ وَهْمَ السَّرَابْ!
أَلْيلاي مَاتَ بِقَلْبِي الرَّجَاءُ ... وَأَبْلَتْ حَيَاتي الأَمَاني الكِذَابْ
وَتُهْتُ فَلَمْ أَدْرِ أَنَّى الْتَفَتُّ ... إلَى أَيِّ أُفْقٍ أَسُوقُ الْعِتَابْ!
محمود حسن إسماعيل(457/41)
البريد الأدبي
شعر لولي الدين يكن لم ينشر
تربطني بأسرة فقيد الشعر والأدب ولي الدين يكن أواصر مودة وصداقة أثناء إقامتي الطويلة بحلوان معقل اليكنيين في العهد الغابر، وقد كتبتُ في الرسالة سنة 1938 عن نجله الشاعر المبدع فولاد يكن الذي لاقت أشعاره الفرنسية إعجاب أدباء فرنسا
وقد آلت إلي بعض مخطوطات الفقيد وفيها مقطوعات شعرية لم تنشر بديوانه نظمها وهو يعاني شدة الداء، وكان يشكو من الربو، وهاهي القطع أنشرها خدمة للأدب:
- 1 -
عمرَ الشباب لقد مضيت محبَّبا ... وتركت لي عمراً سواك بغيضاً
أُمحى وتثبتني الشقاوة كارها ... مثل الكتاب يكابد التبييضا
عوُدت أمراضي وطول تألمي ... حتى كأني قد ولدتُ مريضاً
- 2 -
ترى مادا وراءك من عجيب ... إذا فُتٌحتَ يا باب المنون
مظاهرك السكون ولكن ... أما وُلد الحراك من السكون
قد استعصى الرتاج على عقول ... وقد سُدَّ الطريق على عيون
قصارانا الضنون فما أجزنا ... مُذِ الإعصارِ ساحات الظنون
وما في دولة الأرواح روح ... دنت من عرش سلطان اليقين
- 3 -
تحيرتُ - كم أهفو وكم تتجنبٌ ... وكم أرتضى بالصد منها وتغضبُ
وكم أتلهى (الأمانيٌ دونها ... وكم أدّعيها لي هوًى وتكذّب
فهل لي ذنب يصغر العفو عنده ... أما إنه إن لم يكن فسأذنب
علامَ أظل الدهر أحمل هجرها ... تنعّم أيام النوى وأعذبُ
تنام وأبقى ساهراً كل ليلة ... وترتاح من حمل الهموم وأتعب
وتزداد أنساً حين أزداد وحشة ... وتنضر في روض الشباب وأشحب(457/42)
لئن تك آلت أن تديم تجنباً ... فإني سآلُو أن يدوم التجنب
لها الخير ما يجزى بمثل ما ... رأيت ولكن سوء حظي المسبب
- 4 -
(للاتحاديين في إحدى نوبات جنونهم)
إن تندموا ليس يفيد الندم ... قد قضى الأمر وجف القلم
الله خلاًق الورى عادل ... فلا يلومن غيره من ظلم
يا أمة يقتلها جهلها ... جهلك لا يُشبه جهل الأمم
كامل يوسف
سرقة أدبية
نشرت مجلة الثقافة في العدد (170) مقالاً بعنوان (عذاب الكاتب) للأديب محمود محمود. . .، وقد قرأته فوقفت عند كل معنى من معانيه موقف المتشكك المتحير، إذ شعرت تواً بأني قرأت هذا الحوار منسوباً إلى غيره، ثم ما لبثت أن أدركت انه منقول بالنص من مسرحية للكاتب الروسي وقد ترجم ترجمة حرفية مع حذف بعض الجمل التي يقتضيها سياق المسرحية من الترجمة الإنكليزية المنشورة في كتاب طبعة من صفحة 83 إلى 86، وليس للكاتب من المقال إلا بضعة اسطر قدم بها هذا الجزء المسروق وتحوير يسير في الخاتمة يحمل نفس المعنى الأصلي
حسين محمد عبد الخالق
آثار من أولية الشعر
قرأت ما كتبه الأستاذ الفاضل عبد العظيم قناوي في العدد (450) من مجلة (الرسالة) الغراء تعقيباً على مقالي
(أثار من أولية الشعر في الشعر الجاهلي) فوجدته يرى أن اضطراب قصيدة عبيد في عصر بلغ فيه الشعر آية الجودة لا يتخذ دليلاً على سنة النشوء والارتقاء؛ مع أن وجود هذه القصيدة في العصر الجاهلي كوجود الأعضاء الأثرية في الإنسان ألان؛ فإذا كانت هذه(457/43)
الأعضاء تتخذ دليلاً على سنة النشوء والارتقاء في الإنسان مع بلوغه آية الجودة في الخلق، فكيف لا تتخذ هذه القصيدة في الشعر الجاهلي دليلاً على سنة النشوء والارتقاء. ولا يمنع من ذلك بلوغه آية الجودة التي يذكرها الأستاذ، وان كان كثير من الباحثين يرى فيه كثيراً من النقص، ويرى أن تقليد ذلك النقص فيه هو السبب في تأخر الشعر العربي الآن
وقد ذكر الأستاذ أن عبيداً لم يكن شاعراً بسليقته، وان اضطراب شعره يرجع إلى هذه الناحية فيه، وهذا قد أشرت إليه في مقالي حين جعلته من الشعراء المتخلفين في عصرهم، وهم الذين يتشبثون بآثار الماضي، ولا يجارون شعراء الطليعة المجددين ولا يتأثرون بابتكارهم وتجديدهم
أما قياس قصيدة عبيد (أقفر من أهله ملحوب) على محاولات المبتدئين في عصرنا فقياس غير ناهض، لأن قصيدة عبيد معدودة من عيون الشعر العربي، ولم يؤخذ عليها إلا اضطراب الوزن والقافية، ولم يكن إلا بعد أن استقر أمر الوزن في الشعر، وجرى على سنة مطردة لا يشذ أحد عنها. أما في عصر عبيد فلم يؤخذ عليها شيء من ذلك، بل كانت تعد فيه آية من آيات الشعر العربي، وهذا يدل على أن مسألة الوزن لم يكن ينظر إليها في هذا العصر كما نظر إليها بعد، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بقرب عهده من عصر كان الوزن لا يراعى فيه مراعاة دقيقة، وكان الشعر فيه أشبه شيء بما نسميه الآن الشعر المنثور. ولعل الأستاذ قناوي يقتنع بعد هذا برأيي في قصيدة عبيد
وقد ظهر رد آخر على رأيي في قصيدة عبيد للأستاذ الفاضل محمود عزت عرفة في العدد (546) من مجلة الرسالة، وهو ينظر إلى تلك القصيدة نظراً يختلف إلى حد بعيد عن الرد السابق، فيبرئها من كل عيب، ويرفع من شأن عبيد في مغالاة ظاهرة، مع أني لم أطعن في قصيدته إلا من جهة الوزن، وهذا لا يحط قدرها من جهة اللفظ والمعنى، وعيب الوزن فيها معروف لدى جمهور العلماء، ولم يأت الأستاذ عرفة في نقضه بشيء، وقد ذكر أن بيت عبيد المختل الوزن صحته:
وقالوا هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعده
ولكن هذه الرواية غير متفق عليها، ومن الجائر أن تكون محاولة من بعض الرواة(457/44)
لتصحيح وزن البيت، على أن الأستاذ عرفة يكاد يتفق معي في أن قصيدة عبيد يجوز أن تكون على وزن أو أوزان هجرتها العرب في أواخر جاهليتها
ومما ألاحظه على كلا الردين أنهما لم يتعرضا لرأيي في الإقواء ونحوه من عيوب القافية، والأمر عندي لا يقف في هذه الآثار عند الحد الذي ذكرت، بل يتعداه إلى ما حذفه الخليل عند تدوين العروض من الأوزان الشاذة، فلا شك عندي في أن هذه الأوزان كانت تمثل كثيراً من أولية الشعر، وأنها لو وصلت إلينا لعلمنا منها ما له قيمة كبيرة عن حال هذه الأولية المجهولة
عبد المتعال الصعيدي
النهضة الأدبية في السودان
من ابرز الأشياء التي تبدو للناظر في نهضة السودان الحديثة وتتمثل أمام رواده وزواره هو شيوع الروح الأدبي وازدياد النشاط الفكري، ففي كثير من مدنه وعواصمه عدد من الجمعيات الأدبية يعنى عناية خاصة بدراسة الأدب العربي ومسايرة النهضة الفكرية في العالم العربي المتوثب، وتتبع حركته الأدبية، واستعراض الآراء القديمة والحديثة فيها، ثم بحثها واستخلاص نتائجها. لذلك لم يمضي موسم من مواسم الأعياد الدينية إلا وتقام أسواق الأدب في رحاب الأندية التي لم تخل إحداها من جمعية أدبية حتى الأندية الرياضية بجانب كل منها جمعية آداب. وفي (أم درمان) العاصمة الوطنية وكبرى مدن السودان يتجلى النشاط الأدبي في أروع معانيه وأسمى روحه. و (نادي الخريجين) وهو أكبر أنديتها مسرح لملتقى الأقلام ومعرض لدراسات الآداب العربية، وبه يقام المهرجان الأدبي السنوي العام تستعرض فيه صور من الإنتاج الأدبي في خلال العام، ويستخلص منه ما وصلت إليه العقلية السودانية من بحوث. وقد اشترك فيه بعض كبار الأدباء المصريين في دورته الأخيرة منهم من اشترك بنفسه ومنهم من اشترك بقلمه، فادوا بذلك واجب مصر الأدبي نحو السودان، وما ثقافة السودان إلا قبس من الثقافة المصرية، وما أدب السودان إلا صورة من الأدب المصري.
يقتنص نادي الخريجين كل فرصة ليقيم فيها سوقاً أدبية، والأعياد الدينية هي أهم المواسم(457/45)
لديه، ففي عيد الأضحى يجتمع المؤتمر السوداني العام لبحث مختلف الشؤون السودانية؛ وفي مقدمة بحوثه الناحية الأدبية. وفي عيد الهجرة الاجتماع الأكبر لجمع أموال التعليم الأهلي وتوجيهاته، وهو سوق عظيمة للأدب لما يقال فيه من شعر ونثر. وفي عيد الميلاد النبوي يقام مهرجان كبير لهذه المناسبة يتبارى فيها الخطباء والشعراء بما تجود به قرائحهم ويجيش في صدورهم. وفي عيد الفطر يقام المهرجان الأدبي السنوي العام الذي تقدم ذكره وهو أشبه بسوق عكاظ. وقد كان منتظراً أن يحضره الأستاذ الزيات، والدكتور زكي مبارك، والدكتور عبد الوهاب عزام، وفاء لما وعدوا به لجنة المهرجان في دورته الأخيرة، ولكن جدت ظروف خالصة حالت دون حضور هؤلاء الأعلام الذين لهم منزلة عظمى في قلوب الشباب السوداني المثقف، فلعل الفرص تسنح لهم ولغيرهم من الأدباء بحضوره
وتعتبر مجلة (الرسالة) من أكبر المصادر الموجهة للشباب السوداني في الناحية الأدبية، وهي واسعة الانتشار يقتنيها كل مثقف، ولصاحبها مكان رفيع في المجتمع السوداني وهو لا يدرك مقدار ما يحمله له الشباب السوداني من حب وولاء، وما يحفظونه له من إجلال وإكبار، إلا بعد أن يشرف السودان فيرى ويسمع ذلك نفسه
عبد الرحمن الصائم
أذاعوا به
كتب إلى الأديب محيي الدين مسلاتي من حلب ما يلي:
(جلست إلى المذياع استمع حديثكم القيم من محطة القدس وقد استرعى انتباهي من ذلك قولكم: (وبلغتهم دعوة صاحب (الرسالة) - فأذاعوا بها - وتناقلوها بينهم سراعاً. . .)؛ وإن ما أعلمه أن يقال: (أذاعوها) لا (أذاعوا بها)؛ فهل لأستاذي الكريم أن يتفضل فيبين ما يستند إليه في هذه الصيغة)
وجوابي: أنه ليس هنالك فيصل يحتكم إليه الناس فيما استغلق عليهم من أمر هذه اللغة اصدق من كتاب الله تعالى، وفيه يقول:
(وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف (أذاعوا به))(457/46)
(شرق الأردن)
محمد سليم رشدان
1 - تزوج منها خطاً
تكرر في قصة (العقاقير المخدرة): (العدد 447) استعمال (تتزوج منه، والزواج منه، وأتزوج منك) وهو خطأ؛ قال في (المصباح المنير): زوجت فلاناً امرأة - يتعدى بنفسه إلى اثنين - فتزوجها؛ قال الأخفش: ويجوز زيادة الباء فيقال: (زوجته بالمرأة)؛ وقد نقلوا أن أزد شنوءة تعديه بالباء؛ وقول الفقهاء: (زوجته منها لا وجه له)؛ وفي نسخة من التهذيب: (زوجت المرأة الرجل)؛ ولا يقال: (زوجتها منه)
2 - نصب الراية
قال الأستاذ كوركيس عواد في العدد (451): (نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي - نشرته مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن في الهند). والناشر هو المجلس العلمي بدابهيل في الهند، وطبع في القاهرة في 4 مجلدات، وفي صدره مقدمة ضافية للأستاذ الشيخ محمد زاهد الكوثري
محمد أبو البهاء(457/47)
القصص
الحزن
قصة من القصص الشعبي لسكان جزيرة بورنيو
مترجمة عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد الحميد زكي
عندما أراد الروح الأعظم بفضله وكرمه أن يجعل الإنسان على الأرض، ويخلقه على صورته التف حوله الملائكة في غبطة وسرور، وتوسل إليه كل منهم أن يجعل له نصيباً في هذا العمل الجليل. فسر الروح الأعظم لهذا الحب والإخلاص كل السرور وحقق لهم ما يرغبون
ثم حدث ذات يوم أن عم الحبور أرجاء الكون، وتجاوبت أنحاؤه بأصوات الموسيقى؛ وغنت الملائكة أغنيات الفرح وترددت النغمات العذبة في كل مكان: في الأنهار والأشجار والأزهار، وكيف لا يحدث ذلك وقد شاءت إرادة الروح الأعظم في هذا اليوم أن ينفخ نسمة وروح الخلود في قطعة الطين التي اشتركت الملائكة في صنعها على صورته
على أن ملاكاً واحداً - وهو ملاك الحزن - لم يشترك في هذا العمل المجيد ولم يكن له في السرور نصيب. ذلك لأنه قضى أيامه كلها يبكي حسرات على مياه الأمطار التي كانت تتساقط دواماً في البحار. فلما نظر الروح الأعظم إليه وجده غارقاً في دموعه، فأراد أن يخفف عنه فقال له: لا تبك! إن غارقاً في دموعه، فأراد أن يخفف عنه فقال له: لا تبك! إن كنت تود أن يكون لك نصيب فيما خلقت فسأمنحك ذلك. لقد تأخرت قليلاً وهاهو ذا الإنسان قد تم خلقه وتكوينه، ولا يمكن أن نرجع في هذا، ولكن أنظر! إنه ما زال غطاً طرياً؛ فتقدم واجلس إليه، وكن حارساً عليه، وامنع عنه كل ما يشوهه، أو ينقص من كمال صنعه
فابتسم ملاك الحزن لهذا الفضل العظيم، إذ أي فضل أعظم من رعاية هذا الصنع الجميل ووقايته من كل شر وتشويه
وجلس الملاك إلى جانب الطين اللين وقد عرض لأشعة الماتاهارى (عين النهار أي الشمس) ليمتص منها حرارة الحياة ودفئها وأخذ يرقبه في عناية وحذر خشية أن يحدث له(457/48)
ما يؤذيه
ومر الزمن فأحس ملاك الحزن بالوحشة وآلمته الوحدة فراح يحدث نفسه على هذا النمط: لم يعاملني الروح الأعظم على كل حال معاملة عادلة. لماذا لم ينتظر عودتي قبل تكوين الإنسان وخلقه؟ وأي فخر وأي مجد يعود على من الجلوس هنا أرقب شيئاً قد تم صنعه وكمل تكوينه؟ وهل يوازن هذا الاشتراك الفعلي فيه كما اشترك إخواني الملائكة الآخرون؟؟
واختفت حينئذ البسمة التي علت وجهه من قبل، ووضع وجهه بين كفيه، وانهمرت دموعه على خديه، ونسى بذلك ما عهد إليه من حراسة الإنسان، فتساقطت الدموع كالمطر على الجسم الذي كان قد بدأ يجف، وعندئذ علق الغبار بمواقع الدموع، واستقرت بها الحشرات فشوهت بها الصنع الكامل الجميل
وجاء الروح الأعظم بعد ذلك بأيام قلائل تحف به الملائكة من كل جانب ليشهدوا مدى التقدم الذي أصابه الخلق الجديد؛ فلما رأوا ما فعل الحزن به لازموا الصمت، إلا ملكاً واحداً هو ملاك العطف والحنان، فإنه لم يكد يرى الفساد الذي أحدثه إهمال أخيه حتى أجهشه البكاء، وأسرع إلى الجسم يزيل ما علق به من غبار، ويرفع ما استقر به من حشرات
وقضى على ذلك أياماً طوالاً يحدوه الحب وتدفعه الرحمة حتى أتم عمله، واصلح ما أفسده أخوه. فناداه الروح الأعظم وقال: ما ارفع مكانك، وما اجل شانك في الخلق! لن يستطيع إنسان قط أن يقدرك حق قدرك. لتكن مباركاً مني. اذهب لتأدية رسالتك، فأبك مع البائسين، وافرح مع السعداء المغتبطين، ومهد الطريق للمجهدين المتعبين، وخفف العبء عن الذين أثقلت كواهلهم مشقات الحياة. أما أخوك ملاك الحزن فلا مكان له في السماء ولا نفع منه في الأرض. . . انظر! ما شوه عملي العظيم إلا هو.
(الإسكندرية)
إبراهيم عبد الحميد زكي(457/49)
العدد 458 - بتاريخ: 13 - 04 - 1942(/)
على محمود طه
(أرواح وأشباح)
على الضفة الشجراء من مصيف المنصورة عرفت (على طه)، وعلى هذه الضفة الخضراء من مَرْبعها قرأت (أرواح وأشباح). وكان بين اللُّقية الأولى للصديق وبين القراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة
كان حين عرفته في إبَّان شبابه، وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي؛ وابن آدم في هذه السن ربيعٌ من أربِعة الفردوس لا يُدرَك بمحدود الشعور، ولا يوصف بلغة الشعر؛ فهو منظور الِخلقة، مسجور العاطفة، مسحور المخِّيلة، لا يَنشد غير الحب، ولا يبصر غير الجمال، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينُشدها الدهر ويرقص عليها الفلك
وعلى ذلك كنا أيام تعارفنا وتآلفنا: هو على حال عجيب من مَواسِّ الهوى وما لا بسها من ألوان وصور، وأنا على عهد قريب من ترجمة (آلام فرتر) وما سايرها من أحلام وذِكَر!
قال لي صديقي (حسين) ونحن عائدان من نزهتنا اليومية في الشقة الخلوية من شارع البحر:
(مِل بنا إلى قهوة (متيو) أعرفك بشاب من ذوي قرابتي يرضيك خلقه، ويطربك حديثه، وقد يعجبك شعره)
وكان شارع البحر كما هو اليوم متنزه المدينة؛ وكان نصفه الغربي لا يزال يومئذ مخطوطاً بين النيل والحقول، فلا ترى على جانبيه غير مَماصِّ القصب، ومشارب الكازوزة، وعريشة من عرائش الكرم وألفاف الشجر تتفيأها هذه القهوة
دخلنا القهوة فوجدنا في باحتها بعض الإغريق، وعلى إحدى مناضدها المنعزلة فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف، ينظر في سكون ويقرأ في صمت. فلما رآنا هشَّ بقريبه ورفَّ لي، ثم كان التعارف. وطارحناه طرفاً من الحديث؛ ثم طلب إليه صديقي أن ينشدنا بعض شعره، فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفَّسنا من كربه، أو خففنا من عبئه؛ ثم قال في سذاجة الريفي ووداعة الطفل: (نشرت لي جريدة (السفور) هذه القصيدة وقدمتها بهذه الكلمة). ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب وهمَّ بإنشاد القصيدة. وكنت حين ذكر السفور قد(458/1)
أصغيتُ سمعي وجمعتُ بالي، فلم يكد يفرغ من سرد القصة حتى صحت به:
- أأنت صاحب هذه القصيدة؟
- نعم
- وأنا صاحب هذه المقدمة
- عجيب!!
كان ذلك في سنة 1918؛ وكانت جريدة السفور يحررها يومئذ الأعضاء الأصدقاء من لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ وكان النظر فيما يرد على الجريدة من الشعر موكولاً لصديقي الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق، ولي؛ فألقى إلينا البريد فيما ألقى هذه القصيدة غُفلاً من الإمضاء، فقرأناها للاختيار، ثم قرأناها للاختبار، فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغى على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السَّل، وصححنا ما فيها من الخطأ، وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر، ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن، وأخذت عليه أن يُكره قيثاره المرح على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقول شعره
ثم تتبعت بعد ذلك علياً: تعقبت آثاره، وتعرفت أطواره، وتقصيت أشعاره، فإذا الفراشة الهائمة في أرباض المنصورة ورياض النيل، تُصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، و (الأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، و (الأرواح والأشباح) في أطباق اللانهاية! وإذا الناشئ الذي كان يختشب الشعر ويتسَّمح فيه، يغدو الشاعر المحلق بجناح الملك أو بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة بالناس، ويقضي بين حواء وآدم!
(أرواح وأشباح) هي ملحمة الرجل والمرأة، وقصة الفن والوحي، وحوار الجسد والروح، وأنشودة الشباب والحب. سما فيها الأستاذ (علي طه) إلى غاية من الفن قل أن بلغها شاعر
هي حادث جديد في حياة الشعر المصري لا يزكو بالنقد الأدبي أن يهمل الاحتفال بتسجيلها في تاريخ الأدب. وهي قصيدة من النمط العالي لا تحك معدنها في أية حلقة من سلسلتها إلا ثبتت على المحِك؛ فهي في الصياغة مشرقة البيان منتقاة اللفظ، وفي التفكير واضحة المنهج سديدة المنطق، وفي التخيل بعيدة الغاية قريبة المأخذ. وأشهد أنى قليل الاهتزاز(458/2)
لأكثر الشعر وأكثر الغناء؛ ولكن (أرواح وأشباح) هزت نفسي هزاًّ شديداً، فكنت أطيل الوقوف عند كل رباعية، وأُديم النظر في كل بيت، أتذوق جمال صياغته برفق، وأستجلي سر بلاغته في أناة. وإن (الحية الخالدة) و (الفنان الأول) و (حواء) لمن الروائع التي تطول على مقاييس النقد وتدخل في منتخبات الخلود
على أن أسلوب هذه الملحمة ليس بدعاً من أسلوب علي طه؛ فان الصفات الغالبة إلى أسلوبه كله هي الوضوح والأناقة والسهولة والسلامة. ومرجع ذلك فيه إلى ثقافته الرياضية. وليس كالعقل الرياضي شكيمةٌ للخيال الجموح يُسلس بها ويُصحب. وما دام الخيال في قيادة المنطق طار بالفكرة في جِواء مشرقة لا سحاب فيها ولا ضباب، فتتميز الألوان وتتحدد الخطوط وتتبين الصور. أما الخيال الشعري الجامح، فهو كالحب الصوفي الجامح، لا يجد اللفظ الذي يُسفر، ولا العبارة التي تُبين. إنما هي (شطحات) وراء الفكر لم تتضح في الشعور ولم تستقم في الذهن، يحاول الشاعر أن يعبر عنها بالمجازات البعيدة والرموز الخفية، فيغرب ولا يُعرب، ويشير ولا يَدل
إن من عادتي في هذا المكان من (الرسالة) ألا أجامل في سياسة ولا أدب. وربما كان من الخير في هذه المرة أن أدافع الظنون عن هذه العادة بذكر الحكم مؤيداً بأسبابه. وكان ذلك يقتضي تحليل القصيدة إلى عواملها البلاغية، ولكن أن الكتاب في أيدي القراء، والتنبيه على مواضع الجمال فيه اتهام للأدباء!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(458/3)
اجتماع الملائكة في مسجد الفردوس
للتحدث في نكبة آدم الجديد
للدكتور زكي مبارك
سمع الملائكة بما صار إليه أمر آدم، وعرفوا أنه سيقدَّم للمحاكمة بلا تسويف، وترامَى إليهم أنه قد يتخذ منهم شهوداً على براءته من تهمة العصيان. فاجتمعوا بمسجد الفردوس ليتشاوروا فيما يليق بهم أن يصنعوه إن دُعي فريق منهم للشهادة في ساحة العدل. . . فما الذي دار من الأحاديث في ذلك الاجتماع؟
قبل أن ندون هذا المشهد نذكر أن شيث بن عربانوس يدير كلامه على أساس يخالف ما تعارف عليه جمهور المؤرخين، فهو لا يرى أن آدم صاحب حواء كان أول آدم، وإنما سبقته أوادم تعد بالمئات أو بالألوف. وسنرى كيف يحدثنا أن آدم حين هبط الأرض وجد فيها جماجم بشرية تشهد بأن الأرض سُكنَت قبله بأمم لا يعرف أخبارها غير علام الغيوب
وقد هالني هذا الرأي، فمضيت أستفتي المؤلفات الإسلامية لأعرف حظه من الصحة أو البطلان، فماذا وجدت؟
رأيت من يحكم بأن في قول الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) دليلاً على أنهم رأوا قبل ذلك أجناساً آدمية تفسد في الأرض وتسفك الدماء. ورأيت من يجعل (الخليفة) في قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) آدم جديداً يخلف الأوادم القدماء
ومع أن هذه الأقوال لا تستند إلى نصّ قطعيّ الثبوت والدلالة - كما قال أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار، رضي الله عنه وأرضاه - فهي تؤيد مذهب شيث بن عربانوس، أو تجعله مذهباً لا يتأثم الباحث من الاعتماد عليه وهو يقص أخبار آدم الرسول
والحق أن عبارة القرآن وعبارة التوراة صريحتان في أن آدم صاحب حواء هو أبو البشر. وعبارة القرآن أصرح في هذا المعنى، فالمألوف في أسلوب القران أنه ينهى كل نبي عن الوقوع فيما وقع فيه من سبقوه. ولو أن آدم كان سُبق بأمم بائدة لقص الله عليه أخبارها كما صنع مع سائر الأنبياء، فلم يبق إلا أن نعدّ شيث بن عربانوس مسئولاً عن القول بان آدم صاحب حواء ليس أول إنسان شهد هذا الوجود
ويظهر أن كتاب شيث كان معروفاً في بعض البيئات الإسلامية قبل أزمان طوال، فقد رأينا(458/4)
أبا العلاء المعري يقول:
جائزٌ أن يكون آدمُ هذا ... قبلهُ آدمٌ على إثْر آدم
ويقول:
وما آدمٌ في مذهب العقل واحداُ ... ولكنه عند القياس أوادمُ
ويقول في شيء من الُخبث:
قال قومٌ ولا أدينُ بما قا ... لوهُ: إن ابن آدمٍ كابنِ عِرسِ
جَهِلَ الناس من أبوه على الده ... ر ولكنه مسمًّى بحرس
في حديثٍ رواه قومٌ لقومٍ ... رهنَ طِرس مستنسَخ إثر طرس
ولعل (الطرس) الذي عناه أبو العلاء هو كتاب شيث ابن عربانوس واسمه (تاريخ البشرية) وإن لم نجد فيه ذلك الاستهزاء البغيض
وقد أسرف أبو العلاء في الغض من شأن آدم حين يقول:
قالوا وآدمُ مثلُ أوبرَ، وابنُهُ ... كبناته، جَهِلَ امرؤٌ ما أوبرُ
وهو قول لا يعتمد على بينة ولا برهان. وأسخفُ منه زعم فريق من قدماء الهنود بأن آدم كان عبداً من عبيدهم ثم هرب إلى الغرب، ولم يَعد إليهم إلا حين أثقلته تكاليف الأبناء!
وبهذه المناسبة أقول: كان المرحوم مصطفى كمال زعم أن آدم وحواء من أصل تركيّ، وقد أزعجني هذا الزعم الفظيع، فكتبت إليه خطاباً أثبّت فيه أن آدم وحواء من أصلٍ عربيّ، بشهادة الاشتقاق؛ فآدم على وزن أفعل، من الأُدمة وهي السُّمرة المشَبعة بالسواد، وحواء على وزن فعلاء، من الحُوَّة وهي سمرة الشفتين، ثم رّجحت أنهما من أهل نجد، بدليل ما في أشعار آدم من الإقواء. وقد انتظرت أن يجيبني مصطفى كمال - غفر الله له - ولكنه لم يفعل. فسألت بعض الأتراك المقيمين بالقاهرة فأخبروني أن مصطفى كمال لم يكن يقبل الاطلاع على خطاب مكتوب بالحروف العربية بعد أن فرض على قومه أن يكتبوا بالحروف اللاتينية
ما لي ولهذا؟ إنما أريد أن يعرف قرائي أن كتاب شيث يقوم على أساس القول بأن آدم سبقته أوادم، ليعرفوا كيف اشتجر الملائكة وهم ينظرون فيما صار إليه بعد العصيان
في مسجد الفردوس(458/5)
تَنادَى الملائكة للاجتماع في مسجد الفردوس، فحضر فريق وتخلّف فريق، وكانت حجة من تخلفوا أنهم أبدوا رأيهم في آدم قبل أن يُخَلق، فهم لا يحبون التدخل في أمر مخلوق شرس لا يرضيه إلا أن يكون الوجود منادح شقاق ونضال وصيال. وقد خلقه الله برغم رأيهم فيه، فليصنع الله به ما يشاء. فهو المنتقم وهو الغفور!
ورأى الذين حضروا أن يصلّوا قبل الكلام في قضية آدم، لتزداد نفوسهم صفاءً إلى صفاء، فيسلموا من أوضار التطاول والإسراف، فما يجوز أن يجلس أحدٌ مجلس القضاء إلا بعد الصلاة والقُنوت، وبعد التحرر من شوائب الأهواء!
أحد الملائكة - هل ترون أن يكون لهذه الجلسة رئيس؟
ملك آخر - إنما هلك الآدميون بسبب الرؤساء
ملك ثالث - كنت أحب أن تقول بسبب استبداد الرؤساء أو تناحر الرؤساء، فالرياسة مأخوذة من الرأس، وهو في العرف مجتمع العقل، فمن الواجب أن يكون لكل جماعة رئيس!
- ولكن ما حاجتُنا إلى رئيس؟!
- لينظّم الكلام عند اشتجار الجدال
- لا يحتاج المتكلمون إلى رئيس إلا حين تغلب عليهم شهوة الثرثرة. . . إن وجود الرئيس هو في ذاته شهادة بضعف المجتمع الذي يحتاج إليه، ولو أدّى كل مخلوقٍ واجبَه تأديةً صحيحة لتساوتْ أقدار المخلوقين. ولن تنجح أمة إلا حين يصبح كل فرد من أفرادها وهو مرءوسُ لعقله ورئيسٌ على هواه. وقد حمانا الله من الأهواء فلن نحتاج إلى رئيس. وعلى هذا أرجو أن يدور الكلام بلا ترتيب ولا تنسيق، على أسلوب الغابات لا أسلوب البساتين
- ماذا تريد؟
- أريد أن يكون كلامنا طبيعيّاً على نحو ما تكون الغابة، ولا أريد أن يكون منسَّقاً على نحو ما يكون البستان، فالفطرة في الغابات أقوى من الجمال المصنوع في البساتين
ثم دار الحديث على الصورة آلاتية بلا تمييز بين الآراء:
- أرأيتم كيف صحت فِراستُنا في آدم فعصى ربَّه وغوَى؟
- تريد الرجوع إلى التاريخ القديم يوم حاورنا الله في خلق (آدم)؟(458/6)
- هذا ما أريد
- ولكن فاتك أن مضغ حوادث التاريخ عملٌ ضائع، فآدم خُلِق بالفعل، وهو شرٌّ موجود، أو خيرٌ عتيد، والمهم هو أن نحدد موقفنا بالنسبة إليه
- نحن من نور وهو من طين
- ولكنه أحدثَ في الجنة زلزلة لن نستطيع مثلها أبداً، وستجعل له مكانةً في التاريخ
- تحسده على ذلك؟
- ومن أحسد إذا لم أحسد آدم؟ فنحن جميعاً موكلون بعدّ ما له وما عليه، مع أنه خُلِق من طين، فهل تكون للطين فاعلية يخَفى علينا سرها المكنون؟
- إن تحقير الطين بدعةٌ أذاعها إبليس اللعين، ويكفي الطينَ شرفاً أنه أصل آدم
- وآدم مخلوقٌ شريف؟
- بالتأكيد
- وبرغم العصيان؟
- أي عصيان؟
- الأكل من شجرة التين
- إنما أراد الله أن يأكل من الشجرة المحرمة لنجد عملاً، ولو نزَّه الله آدم عن المعاصي لبقينا بلا أعمال. وهل يعيش القضاة والمحامون والشهود إلا بفضل انحراف الناس عن سواء السبيل؟
- إن رأسي يدور من هول ما تقول
- وهل قلت غير الحق؟ إن آدم هو مصدر الفاعلية في جميع أرجاء الوجود، ومن اجل ضلاله وهداه تنصب الموازين
- نحن مقبلون على متاعب جديدة بسبب آدم الجديد
- وهل أنت راض عن الراحة التي عانيناها بعد انقراض آدم القديم؟
- شكراً لك، أيها الرفيق، فقد خطر في بالي مرةً أن الله قد يسرّح جيوش الملائكة بعد انقضاء مهمتهم في مراقبة السلالات الآدمية
- أخطأتَ أخطأت، فما كنا جنود شرطة ولا جنود استطلاعات، وإنما خُلقنا للتسبيح(458/7)
والتقديس
- خلقنا للتسبيح والتقديس؟ يظهر أنك لم تفهم السخرية الملفوفة في قوله تعالى: (إني أعلم مالا تعلمون)
- وكيف سِخر الله مّنا بهذه العبارة؟
- حين عقّب بها على قولنا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك) فهو لا يرى التسبيح ولا تقديس أفضل من الإفساد وسفك الدماء، بدليل أنه سكت عما اتهمنا به الطبيعة البشرية
- تأدبْ أيها الملَك، فأنت في غفلة عما يعنيه صاحب العزة والجبروت، ولو قضيت دهرك في الاستغفار لعجزت عن محو هذا التطاول الممقوت
- أريد أن أعرف كيف لا يكتفي الله بالتسبيح والتقديس؟
- وما حاجة الله إلى التسبيح والتقديس من أقوام لا تعتلج في صدورهم معاني الكفر والإيمان، والشك واليقين؟ إنما يرضى الله عن تسبيح من يهتدي بعد ضلال، ويؤمن بعد كفران
- إن رأسي يدور من هذا التخريج
- سَلِم رأسك إن كان لك رأس، أيها الشرطيُّ الذي يريد الإقامة بمنطقة ليس فيها خلائق
- أنفهم من هذا أن البشر أفضل منا؟
- لك أن تذكر أن الله يعاقبهم بالانقراض، ثم يتلطف فيخلقهم من جديد، لحكمة سامية، وكيف يغيب عنك المعنى الذي استوجب خلق آدم الجديد في الفردوس؟
- كنت أحب أن أعرف هذا السر العجيب
- خلقه الله في الجنة ليأخذ فِكرةً عن النظام والترتيب والعدل، وليكون لهْ مَثلٌ أعلى يدور حوله حين يقيم مملكته الجديدة في الأرض. ولو أن الله أنشأ الأوادم القديمة هذه النشأة لقل بغُي بعضهم على بعض وسلموا من آفة الانقراض
- غضبة الله عليهم، فما كانوا إلا وحوشاً في ثياب ناس!
- هل تذكر بعض أعمالهم القباح؟
- أعمالهم القبيحة تفوق العد والإحصاء، ولكني أرجح أن الله لم يعاقبهم بالهلاك إلا حين(458/8)
عاملوه بما لا يليق
- وكيف؟
- كانوا يضيفون إليه أوامر ونواهي لم ينزل بها وحْي، ولا صَدَرتْ عن شرع، ليسوموا رعاياهم سوء العذاب، باسم الله وهم كاذبون
- كما صنع آدم الجديد؟
- آدم الجديد لم يصل إلى ذلك الدَّرَك، فقد عصى الله عن جهل
- إنما عصاه عن حذلقة
- وما حذلقة آدم الجديد؟
- قال الله: (لا تقربا هذه الشجرة) فترك (هذه الشجرة) بعينها ثم قرب شجرة من ذات الجنس، وهو يتوهم أن في هذه الحذلقة ما ينجيه من العقاب
- إن آدم حيوان لئيم!!
- وبلا عقل، فلو كان يعقل لأدرك أن الله لا تخفى عليه خافية من حِيل الفقهاء، وسنرى كيف يدافع غداً عن إثمه في ساحة العدل
- لا يَبعُد أن يرضى الله عن بلاغته وهو يصوّر الدميم بصورة الجميل
- الجمال في نظر الله هو الحق، وذلَّ من يزعم أنه يستطيع مخادعة الله، هلك آدم القديم بسبب الحذلقة الفقهية، وسيهلك آدم الجديد بسبب الحذلقة الفقهية. وسنقول فيه كلمة الحق والصدق إن دُعينا للشهادة في ساحة العدل
- تذكر أنه صاحب حواء!
- ماذا؟
- آدم الجديد هو صاحب حواء
- لا أفهم ما تريد أن تقول
- أريد أن أقول إن آدم لن يهبط الأرض إلا ومعه حواء
- وتظن أننا نزور الشهادة من أجل حواء؟
- أنا لا أدعو إلى تزوير الشهادة، وإنما أدعو إلى الترفق بمن يملك امرأة جميلة
- بهذا هَلَك بنو آدم الأول، فقد كان فيهم من يحالف أمةً تعدي أمته من أجل وجهٍ جميل،(458/9)
والجمال سهم يصيب صدر الأسد الرابض في حمي العرين
- وما رأيك في المَلك الذي نظّم باقةً من أزهار الفردوس ليتحف بها حواء؟
- كان ذلك بوحي الله
- إنما كان ذلك بوحي الجمال
- هذا تخريج لا أرضاه
- إنما هو حساب يساق إليك
- الآدميون الأغبياء يهيمون بالجمال، فكيف يعاب علينا أن نهيم بالجمال؟
- ومن أجل الجمال عصى آدم ربه طاعة لحواء، أفلا يستحق العطف؟
- سأنظر في هذه القضية
- العجيب أن تُخلَق بلا شهوات ثم تهيم بحواء، فما حال آدم المظلوم في حب حواء وهو مخلوقٌ موقَر بأوزار الشهوات؟
- نهاه الله عن الانخداع لحواء وما نهاني
- كان الظن أن تفهم أن النهي لا يوجه إلا لمن تغيب عنهم دقائق الأدب الرفيع
- أتتهم الملائكة بالغباوة؟
- أتهمك وحدك
- أنا ملكٌ مِثلك
- لن تكون مثلي إلا حين تعترف اعترافاً صريحاً بأن الجمال يزيغ البصائر والعقول
- ولن أعترف إلا إذا سمح جمهور الملائكة بأن أتهم الله بالغَرَض
- ماذا تريد، يا زنديق؟
- أريد القول بأن الله خصّ حواء بأشياء
- لتحلو في عيني آدم، لا في عينيك
- أمركم عَجبٌ من العجب، أنتم تعرفون أن الجمال في ذاته شريعة أذلية، ولا ينظر إليه إلا أصحّاء القلوب، كالشمس لا ينظر إليها إلا أصحاء العيون، ونحن مطالبون بالنظر إلى جميع ما في الوجود، لنزداد يقيناً إلى يقين، فكيف يجب النظر إلى زهرة نضيرة ولا يباح النظر إلى وجه جميل؟(458/10)
- اترك هذه الفلسفة وحدِّد رأيك في آدم
- هو من المذنبين
- لأنه غريمك في حواء؟
- غريمي في حواء؟ كيف؟ وهل جُنِنْتُ حتى أهيم بمخلوقة لا تملك غير عينين نجلاوين، ولا تعتزّ بغير قدها الرشيق وأنا أعرف أنها سرقت سواد عينيها من عيون الظباء، ونهبت مرونة قدها من أعواد ألبان؟ أنا أحب مخلوقةً مقتولة اللحظ، مبحوحة الصوت؟
- هي سبب نكبة آدم فلتهبط معه إلى الأرض
- يهبط وحده، وتبقى حواء، فما عددت عليها ذنباً يستوجب العقاب
- هذا ما أردنا أن نصل إليه، فقد زعم خصومك أنك لم تراع الأمانة في عدّ أعمال حواء
- اسمعوا، أيها الملائكة، اسمعوا، هل تظنون أن الله يحتاج إلى من يعدّ على عباده الذنوب؟ إنه عز شأنه يعلم من سرائر القلوب ما لا نعلم؛ وهو لم يوكِّلنا بعدّ الأعمال إلا ليختبر ما نحن عليه من الأدب والذوق، فهو يبغض أن نكون جواسيس، وهو يرجو أن نتخلق بأخلاقه فنتغاضى عن أشياء
- وهل يتغاضى الله عن أشياء!!
- لو حاسبَ الله مخلوقاته بالعدل الحاسم لأهلك طوائف من الملائكة والناس
- من الملائكة؟
- نعم، من الملائكة، الملائكة الذين يتعقبون رفيقاً من رفاقهم فيأخذون عليه أنه قدَّم باقةً من الزهر إلى حواء!
- لا تنس أنهم الملائكة الذين يرجون أن تتناسى ذنب آدم كما نسيت ذنوب حواء!
وهنا وقف أحد كبار الملائكة وصاح:
(أيها الرفاق المصطفَوْن
لا أحب أن نحترب في شأن آدم أكثر مما احتربنا، فلنا مع أسلاف هذا المخلوق تاريخ، وستكون لنا معه تواريخ، وأنا أدعوكم إلى الرفق به إن دعيتم إلى الشهادة غداً في ساحة العدل، فالصدق في الشهادة يٌطلب في حالة واحدة، وهي الحالة التي يقضي فيها كتمان الشهادة بضياع الحقوق، والترفق بآدم لن ينتصر به باطل، ولن ينهزم به حق، وأنا أخشى(458/11)
أن يغضب الله علينا إن أدينا الشهادة تأديةً حرفية. وهل يحتاج القاضي العالم بالسرائر إلى شهود؟!)
- ونذٌنب بالكتمان؟!
- قد يكون الكتمان في بعض الأحوال أشرف من البلاغ!!!
- أوضِحْ، أوضح
- آدم متهم بالعصيان، ولهذه التهمة إن صَّحتْ عواقبُ سود، فعلينا أن نقف في صفه صادقين أو مرائين
- ماذا يقول الله؟
- سيقول إن سَتْر العيوب فضيلة لا يتحلى بها غير الملائكة والأنبياء!
(للحديث شجون)
زكي مبارك(458/12)
ذكرى ميلاد الرسول
للأستاذ محمد يوسف موسى
كلما خطر بالبال أو جرى على اللسان ذكر مولد محمد صلى الله عليه وسلم تذكرنا الدين الذي جاء به فكان فارقاً بين الحق والباطل، وحدا فاصلاً بين عهود خلت لبستها الإنسانية وأخلقتها بعد أن اجتوتها، وعهد جديد آهل بالعز والكرامة. حقاً لقد كان ميلاد الرسول إيذاناً بانتهاء ما سبقه من أديان كانت مناسبة لمن جاءت إليهم، وباستهلال الإسلام الدين الخالد الصالح للناس جميعاً؛ لا فرق بين بدو وحضر، وسود وبيض، وشرقيين وغربيين، تقدم بهم الزمان أو تأخر
وليس من العجب أن يجيء دين صالح عام بعد دين قاصر خاص، بل كان يكون العجب ألا يكون هذا التدرج الذي عرفه التاريخ. لقد ولدت الجماعة البشرية طفلة، وترقت - شأن كل الكائنات الحية - جيلاً فجيلاً، فمرت من الطفولة للشباب، وانتهت أخيراً لدور الرجولة الرشيدة الكاملة. وكان من حكمة الله اللطيف الخبير أن تتفق الديانات التي تعبّد بها عباده في الأزمان المختلفة، وعقول من أرسلت إليهم ومداركهم وحاجاتهم. لهذا رأينا الرسول يتبع الرسول، والدين يجيء في أثر الدين، وكل له ناسه المحدودين وزمنه الموقوت، حتى بعث المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام يدين الناس جميعاً والإنسانية عامة، فتمت به نعمة الله على عباده وكملت لهم السعادة
ولنعرف قيمة منة الله على العالم بأسره بميلاد محمد وبعثه بتاج الأديان، يجب أن نقلب بعض صفحات التاريخ، ونتذكر قليلاً حالة المسيحية التي كانت لها السيادة قبل الإسلام على جزء كبير من العالم المعروف بالمدنية حين ذاك
لقد ظهرت المسيحية في عصر كان المال هو المعبود من دون الله، وكانت الشهوات حتى الوضيع منها هي التي تأخذ على الناس أمرهم وتوجههم في أعمالهم، طلباً لها وتهافتاً عليها كما يتهافت الفراش على النار. وحسبنا أن نعلم أن مذهب أبيقور، في أوضع ما اتخذ من صور إباحية، كان مذهب الكثرة الغالبة، في بلاد الرومان ميدان نشاط المسيحية بعد مهدها الأول وهو الشام. غلو من اليهود في طلاب المال وجمعه من كل النواحي وبسائر الوسائل، وغلو في الافتتان بالشهوات ومتع الحياة الدنيا. هكذا يمكن تصوير ما كان يسود العالم من(458/13)
نزعات إبان ظهور المسيحية
من أجل ذلك كان طابع المسيحية زهداً شديداً، ولهذا رأينا المسيح عليه السلام معرضاً تمام الإعراض عن الدنيا وحاثا حوارييه وأتباعه على التخلص منها ومن أسرها ومفاتنها، ومؤكد أن ملكوت لن يفتح للأغنياء، وأنه سيكون وقفاً على الفقراء. لكن للنفس شهوات يجب أن ترضى في قصد، لهذا كان من الطبيعي ألا يطيق من جاء لهم هذا الدين وصاياه الشديدة، وما يدعو له من زهد وتقشف وترك تام للدنيا؛ (فهب القائمون عليه أنفسهم لمنافسة الملوك في السلطان، ومزاحمة أهل الترف في جمع الأموال، وانحراف الجمهور الأعظم منهم عن جادته بالتأويل، وأضافوا إليه ما شاء الهوى من الأباطيل).
ولعل من الخير أن نذكر شاهداً ودليلاً على ما نقول من تهالك عامة رؤساء الدين المسيحي أنفسهم على الدنيا. روى ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق في خبر طويل أن سلمان الفارسي - وكان في بدء أمره مجوسياً من أهل أصبهان - صبأ إلى المسيحية، إذ أخذ بقلبه ما سمعه من صلوات وتراتيل دينية، فغافل أباه - وكان دهقان قرية - وفر إلى الشام ليأخذ علماً من علم أهل الإنجيل وليتصل برؤساء هذا الدين. ولما وصل إلى تلك البلاد سأل عن أفضل هذا الدين علماً، فدُلّ على أُسقُفْ الكنيسة، فذهب إليه واستأذنه في خدمته ليتعلم منه ويلتمس من فضله. . . وهنا أترك الحديث لسلمان نفسه يقول: (وكان - يريد الأسقف - رجل سوء؛ يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قِلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع). ولما مات وقفت النصارى على ما كان يفعل، وأريتهم موضع كنزه فاستخرجوه، وحنقوا على الأسقف وقالوا والله لا ندفنه أبداً.
ومما يجب أن يلاحظ - وقد بلغنا هذا الموضع من نبأ سلمان - أن النصارى أقاموا بعد الأسقف الذي ذكرنا خبره آخر لم ير سلمان أفضل منه وأزهد في الدنيا، فأقام معه زماناً، ولما حضره الموت طلب إليه أن يوصي به من يرى فيه الخير مثله فقال له: (أي بني، والله ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه، فقد هلك الناس وبدّلوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان وهو على ما كنت عليه فألحق به). فعل سلمان وحمد لصاحب الموصل - وقد خبره - دينه وأمره، ولما حانت منيته لم ير من يوصي به إليه إلا آخر(458/14)
بنصيبين، وهذا لم يجد من يوصي به إليه حين أشرف على الموت إلا رجلاً بعمُّورية من أرض الروم، لأنه كما يرى صاحب نصيبين آخر من بقى على الدين المسيحي ونهجه الصحيح حين ذاك. ومعنى هذا أن الناس في ذلك الزمن لم يطيقوا الدين المسيحي، فانسلخوا منه شيئاً فشيئاُ لما طال بهم الأمد، وقست قلوبهم فما رعوه حق رعايته
وهنا أنفِّس عن نفسي بالإشارة إلى ظاهرة أحسستها من زمن بعيد وجهدت في أن أجد لها تعليلاً: هي أن الغالب على رجال الأديان عامة - حتى المسلمين - في هذا الزمن حب المال وجمعه والاستكثار منه، وعدم المسارعة إلى أفعال البر التي تقتضي البذل والإنفاق! لماذا! لا أدري، اللهم إلا أن يكون معرفتهم بالدين معرفة دقيقة، والإحاطة بما دونه المتأخرون من الفقهاء في تآليفهم، كل ذلك جعل منهم على حبل الذراع تعلات ليست من الحق في شيء، تجعل من الهين عليهم ما نحسه فيهم من إقبال على الدنيا شديد وتخلف في ميادين البذل والإنفاق!
ومهما يكن فقد كانت المسيحية وما تدعو إليه من غلو في الزهد، وكان أهلها وما فتنوا به من حب المال والشهوات وعروض هذه الحياة، ممهداً طيباً للإسلام الذي جاء والإنسانية قد بلغت رشدها فكان ديناً وسطاً قيماً لا عوج فيه، دين عرف للجسم حقه وللروح حقها، فلم يوجب التقشف ولم يحرم التمتع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ولم يغلق أبواب الجنان دون الأغنياء كما أعلن عيسى عليه السلام، بل إنه رفع الغني الشاكر إلى مرتبة الفقير الصابر وربما فضله عليه، دين نهانا عن الغلو في طلب الآخرة ونسيان الدنيا، وبخاصة وهذه قد تكون من وسائل تلك، قاصاً علينا ما قال قوم هارون له: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) دين لم يقل رسوله كما قال المسيح لواحد من أنصاره (بع مالك واتبعني)، بل قال لسعد بن أبي وقاص وقد استشاره - وهو عليل مدنف وذو مال كثير - فيما يتصدق به: (الثلث والثلث كثير! إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)، وهكذا نجد الإسلام يتناسب وما بلغته الإنسانية من رشد، والدين الذي استحق أن يكون خاتم الأديان بما يؤدي إلى سعادة الناس جميعاً مهما اختلف بهم الزمن
إذا كان هذا شأن العالم والمسيحية بصفة عامة، وهو شأن كان ينادي بضرورة دين جديد(458/15)
فلبى الإسلام النداء، فكيف كان حال العرب وهم مهد الإسلام ومنبِته؟ لا أظن المرء يأتي بجديد إن عرض حالة العرب قبل ميلاد الرسول وبعثه بخير دين، فقد كثر في ذلك الكلام، فْلأقتصر إذن على كلمة قصيرة نتبين منها كيف كان العرب يعكفون على ما كانوا عليه من ضلال في الدين، وضلال في التقاليد، وشدة في الخضوع لما كان عندهم من أوثان وأصنام؛ وهي حالة تستوجب الإنقاذ السريع بدين يرد للإنسان شرفه وكرامته بعد أن ألغى عقله وعبد في موطن البيت الحرام بعض ما كان يصنع بيديه!
والحديث قد طال فلنرجئ تمامه إلى العدد الآتي أن شاء الله
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(458/16)
خُسرو وشيرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
خسرو الثاني، بن هرمزد الرابع، بن خسرو أنو شروان العادل، المعروف عند مؤرخي العرب باسم كسرى برويز، أي كسرى المظفر؛ وهو آخر ملوك الدولة الساسانية الكبار، ملك إيران ثمانياً وثلاثين سنة (590 - 628م)، فكان عهده من أطول العهود، مليء بالحوادث العظيمة، والقصص الممتعة، ذات الأثر البليغ في الأدبيين الإيراني والتركي وفي الفن الإسلامي
تولى خسرو برويز عرش إيران والبلاد في حالة ثورة واضطراب عظيم، فقد كان أبوه هرمزد عسوفاً شديد البطش، وكان من آثار سياسته أن ثار به القائد الشهير بهرام جوبين، الذي هزم الترك سنة 588م وقتل ملكهم ساوه شاه وأسر ابنه بعد أن غنم ما يفوق الوصف، فأوغر بذلك صدر هرمزد بالغيرة منه والحقد عليه. ورأى هرمزد في انهزام بهرم جوبين أمام الروم في موقعة عند اللاذقية سنة 589م، فرصة ليحط مقدار القائد العظيم فأمر بإحضار قميص من الشعر، وسراويل أحمر، ومعجر أصفر، ووعاء فيه قطن، ومغزل إلى غيرهما مما يصلح للنساء، وأمر بعض أصحابه أن يحملها إلى بهرام فأقحمه الثورة. وثار الناس بهرمزد ودخلوا عليه القصر ونكسوه من العرش، وكحلوا عينيه وحبسوه، ثم قتلوه بعد ذلك، وأنهى الخبر بذلك إلى خسرو وبرويز، فطار بجناح الركض، وجاء من أرمينيا حيث كان قد فر إليها لما أوقع بهرام جوبين بينه وبين أبيه، فتغير رأي أبيه عليه وأراد أن يقتله. ولكن خسرو برويز لم يفلح في مصالحة بهرام جوبين، وفر ثانية ولجأ إلى موريس إمبراطور الروم يطلب معونته، فزوَّده بجيش استطلاع به أن يقهر بهرام جوبين ويضطره أن يفر فيلجأ إلى خاقان الترك حيث قتل فيها بعد. وكانت لإمبراطور الروم بنت متحلية بالخلال الحميدة والخصال المرضية تسمى (مريم)، وكانت جميلة كالشمس إذا انكشف عنها السحاب، فرأى أن يزوجها من خسرو ليتم بذلك ربط صلات المودة بين البلدين، وقد تزوج خسرو من (مريم)، فولدت له ابنه (شِيروُيَه)
وبلغ خسرو برويز من سعة السلطان مبلغاً عظيماً، فاستولى على مصر والشام وسائر ما(458/17)
كان يملكه الروم في آسيا الصغرى، حتى عسكرت جنوده على شاطئ البسفور في مقابلة القسطنطينية، ولكن بسطة السلطان هذه انقبضت في آخر أيامه، واستطاع (هرقل) إمبراطور الروم أن يهزم جيوش خسرو بعد حرب طاحنة دامت أعواماً طويلة، فثار الناس به وقبضوا عليه وحبسوه وولوا ابنه (شيرويه) العرش باسم (قباذ الثاني)، فأمر بقتل أبيه (خسرو) وعقد الصلح مع الروم
أما (شيرين)، فقد اختلف الرواة في أصلها، فقال بعضهم - ومنهم الشاعر نظامي - إنها بنت ملك الأرمن، أحبها خسرو حين فَّرمن أبيه هرمزد؛ وقال آخرون أنها إيرانية كانت في خدمة أحد الأشراف، وكان خسرو في صباه يتردد على دار هذا الشريف فأحب شيرين وأعطاها خاتماً، فلما علم رب الدار بهذا الحب، أمر أحد خدامه أن يغرقها، وقد استطاعت شيرين أن تؤثر في هذا الخادم، فألقاها في مكان من نهر الفرات قليل الغور، فنجت من الغرق ولجأت إلى أحد الأديرة. ولما تولى خسرو العرش، سار ذات يوم إلى ناحية هذا الدير، فأرسلت إليه شيرين الخاتم مع أحد عساكره، فذكرها وأخذها إلى قصره في المدائن، فعاشت معه وأخلصت له. وبعد مقتل خسرو رآها ابنه شيرويه، فكانت في نظره ذات وجه كالنهار الشامس، وشعر كالليل الدامس. . . فلما رآها كادت تزهق روحه شغفاً بها. . . فتناولت شيرين السم لتضع حداً لهذا الحب وتبقى على إخلاصها لخسرو
وكان لشيرين عاشق ثالث اسمه (فَرْهاد): كان مثَّالاً إيرانيًّا بارعاً في فنه، اشتهر في عصر خسرو برويز بنحت التماثيل والزخارف. ويقال إنه هو الذي نحت الصور الخالدة لخسرو في (طاق بستان)، وسيأتي ذكر ذلك فيما بعد
وقد نظم الشاعر نظامي الكنجوي قصة (خسرو وشيرين)، وجعلها إحدى منظوماته الخمس، ثم اقتدى به كثير من شعراء الإيرانية والتركية، فنظمها بالإيرانية خسرو الدهلوى، وبالتركية شيخي وعطائي وآهي وغيرهم. ووجد الفنانون في حوادث هذه القصة ومواقفها مادة ليس لها من نهاية يستلهمون منها في رسم صور لا حصر لها، فصوروها في جميع مراحل التصوير الإسلامي وفي مختلف عصوره. وشاء القدر بذلك أن يخلد لأبطال هذه القصة صفحات في كتب التاريخ والأدب والفن
يقول الشاعر نظامي الكنجوي أن خسرو برويز ولد في طالع حسن عند بزوغ فجر أحد(458/18)
الأيام، فكان مولده كشروق الشمس في الأفق من بين الظلمات، تجلب معها النور والخير والبركات والقوة والشباب؛ وإذ مضى عام على ولادة ذلك الطفل وحلت ليلة القدر، قام واقفاً على قدميه، وبدأ لسانه يثرثر بما وعاه من كلمات، فعهد والده بتربيته إلى (بُزُر جُمِيد) الحكيم، وفي رعايته نما ذلك الطفل إلى أن صار شاباً كامل التربية تام التهذيب، وأميراً شجاعاً وبطلاً صنديداً؛ وامتلأ قلب (هرمزد) بالسرور والشكر لله جلت قدرته، الذي وهبه هذا الوريث الشهم السامي الأخلاق، واعتزم أن يحكم المملكة التي سيرثها مثل هذا الابن بعدالة أكثر من ذي قبل، ورسم بعقاب أيما رجل تعدى على أملاك آخر، وقطع أذن وذنب أيما فرس دخل أرضاً مزروعة فأضرّ بها، وصلب من سرق شيئاً
وذات يوم جلس هرمزد في مجلس العدل يحكم بين الناس فدخل إليه بعض القرويين بمظلمة، يشكون من ولده الأمير خسرو أنه حل الليلة الماضية في بيت أحدهم عند مروره بقريتهم أثناء رجوعه من إحدى رحلات الصيد العديدة، التي اعتاد الأمير الشاب أن يقوم بها. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل إن خسرو أمضى ليلته بأكملها في ذلك البيت، ومعه جماعة من أقرانه وأصحابه يتناولون الجام من المدام بعد الجام، وهم يستمعون إلى نغمات مطرب الأمير، وقد اندفع هو في الغناء فاندفعوا هم في الشرب وأكثروا حتى ثملوا. وما كان هذا كل ما اقترفه الأمير من ذنوب، بل إن فرساً من مراكبه الخاصة جفل من مربطه وانطلق يلهو في حقل رجل فقير فداس شيئاً من الزرع وأضر به. ثم إن أحد أصحاب الأمير رأى عناقيد من الحصرم متهدلة من بعض الكروم في حديقة، فأمر غلاماً من عبيد الأمير بأن يقطع منها عدة ويحملها إليه ففعل. فثار الملك من سخطه على سلوك ابنه الأمير وأمر بالفرس فأعطى لصاحب الحقل الفقير؛ وبالغلام فوهب لمالك حديقة الكروم؛ وبأسلحة الأمير وشاراته، فمنحت لسكان البيت حيث قضى ليلته. وكاد الملك أن يخرق ابنه لولا شفاعة بعض أكابر المملكة، فعفا عنه بعد أن اعترف الأمير بسوء فعلته وفي (الشكل 1) نرى الأمير الشاب خسرو برويز وهو راكع أمام والده الملك هرمزد الجالس على العرش يسلمه أسلحته عقاباً له لمخالفته ما رسم به والده، ووقف على الجانبين بعض كبار المملكة يستعطفون الملك هرمزد ليعفو عن ولده خسرو. وسحن الأشخاص هنا اصطلاحية. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي الكنجوي. كتبه درويش عبد الله(458/19)
الأصفهاني في سنة 868 هجرية (1463م). والظاهر من الصور التوضيحية التي به أنه قد اشترك في تصويرها غير واحد من الفنانين. ولهذا المخطوط ميزة كبيرة وهي انسجام الصور مع المتن. وهو الآن محفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن
بعد ذلك بمدة قصيرة رأى خسرو في منامه جدَّه العظيم أنو شروان، وقد وقف أمامه في عظمة وجلال، وأخبره أنه سيكافأ بقبوله جزاء فعلته دون تذمر، ولتخليه عن مطربه وفرسه وغلامه وأسلحته، وأنه سيحصل في نظير ذلك على مطرب بارع في فنه، له صوت عذب حنون، سيكون اسمه (باربُد). وعلى جواد أسرع من فكر الإنسان، سيكون اسمه (شَبْديز). وعلى امرأة لا تضاهي في الحسن والجمال سيكون اسمها (شيرين) وأخيراً على العز والمجد بجلوسه على عرش إيران
وبعد هذه الرؤيا بمدة قصيرة جاء لزيارة خسرو صديقه الحميم (شابور)، وقد كان مصوراً بارعاً، يجيد الرسم والتصوير، ولا يضارعه أحد في هذا الفن، وكان إلى جانب ذلك رحالة بكل قلبه وقالبه، مولعاً بالأسفار، مشغوفاً بالرحلات إلى البلاد البعيدة والغريبة. وفي سياق حديثه مع خسرو، أخبره أنه قدم مرة إلى بلاد جميلة تسمى (أرمينيا) تحكمها ملكة عظيمة اسمها (مهين بانو) مشهورة بين ملوك الدول المسيحية. وأن وريثة هذه الملكة العظيمة هي ابنة أخيها الأميرة (شيرين) وأن هذه الأميرة ذات جمال فريد لا مثيل له، وسحر ملائكي وفتنة تأخذ بمجامع الألباب. وقد اعتادت هذه الفاتنة أن تجوب نواحي المملكة على رأس (قطيع) من ثلاثمائة عذراء، تنافس كل منهن الأخرى في جمال النفس ورشاقة القوام؛ ليس لهن من همّ سوى التفكير في أماكن جديدة بعيدة، يقضين فيها أوقات طويلة في المرح والنزهة والصيد والقنص. وأخبره أيضاً أن الملكة (مهين بانو) تملك فرساً لونه أسود كلون الليل الدامس اسمه (شبديز). وقد عجب خسرو لاتفاق الأسماء فيما رواه له صديقه شابور مع ما حفظه عن جده أنو شروان من أسماء عند ما ظهر له في الحلم، وأخذ يستزيد شابور من أخبار شيرين حتى تأجج قلبه من نيران الهوى، وهام بها هياماً شديداً لمجرد سماع أخبارها؛ وكانت نتيجة ذلك أنه أمر صديقه (شابور) بالسفر في التو واللحظة إلى أرمينيا، وأن يسعى هنالك في ربط الصلة بينه وبين (حبيبته) شيرين
وصل شابور إلى أحد أديرة أرمينيا، حيث علم أن شيرين قادمة بعد قليل مع صويحباتها(458/20)
العذارى، وأنهن سيهبطن للراحة في روضة مجاورة. ووجد شابور في ذلك فرصة مناسبة ليستلفت نظر شيرين إليه، فرسم صورة لخسرو وعلقها على شجرة في مكان ظاهر من تلك الروضة، ثم اختبأ منتظراً ما سوف يحدث. وأقبلت شيرين إلى الروضة ومعها صويحباتها، ورأت الصورة فأعجبت بها، وكأن الشخص الذي تصوره قد أثر في نفسها تأثيراً شديداً فأمسكت بها بين يديها، واسترسلت في البكاء وهي تقبلها. وعند ما تبين صويحباتها شدة انفعالها، عملن على إبعاد الصورة عنها، ومزقنها خفية، , وأفلحن في إقناعها بمغادرة هذه الروضة لأنها مسكونة بالجان، وكانت الصورة سوى عمل من أعمالهم
وفي (الشكل2) جلست الأميرة شيرين في روضة على سجادة تتناول صورة خسرو من إحدى الفتيات، وقد جلس إلى جواريها أربع موسيقيات: الأولى منهن إلى اليمين هي مطربتها الشهيرة (نيكيسا) وفي يدها الجنك، ثم ضاربة للدف، فثالثة تغني وتصفق، ورابعة تعزف على المزمار. وقد وقف حولهما بعض صويحباتها وجواريها وأحد الحراس. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي، مؤرخ سنة 900هـ (1494م) كتب للأمير ميرزا أحمد علي فارسي أحد أمراء السلطان حسين بيقرا، واشترك في تصوير الصور التوضيحية التي به بعض مشاهير المصورين في ذلك العصر. وهذه الصورة من تصوير الفنان (ميرك خراساني)، وهو إلى جانب ذلك خطاط مشهور. ويقال إنه أحد أساتذة المصور الشهير (بهزاد) وهذا المخطوط محفوظ في المتحف البريطاني
غادرت شيرين ومن معها الروضة الأولى ونزلن في روضة ثانية، وكان شابور قد رأى وسمع من مخبأه هناك كل ما حدث وقيل، فسبقهن إلى الروضة الثانية ووضع صورة أخرى في مكان ظاهر منها. وقد حدث هنا ما حدث في الروضة الأولى وغادرتها شيرين وفتياتها إلى ثالثة، حيث كان شابور أيضاً قد سبقهن وعلق صورة ثالثة، وكانت شيرين قد غلبها حب خسرو لمجرد رؤية صورته، كما غلبه حبها لمجرد سماع أخبارها - والحب كما يقولون يعلم الحيلة والدهاء - فاحتفظت بالصورة هذه المرة، وأرسلت صويحباتها يبحثن عن صور أخرى في الرياض المجاورة، وهي في الحقيقة تود أن تخلو إلى نفسها. ورأى شابور أن الفرصة قد حانت، فخرج من مخبأه وتقدم إليها متنكراً في زي راهب، وبعد أن جعلها تأمر بانسحاب أتباعها، أخبرها أنه مصور هذه الصور وأنها تمثل شخص(458/21)
الأمير خسرو برويز، وأن هذا الأمير قد تملك فؤاده حبها، وأرسل معه إليها خاتماً كدليل لمحبته لها. وهنا صارحته شيرين بحبها لخسرو، وتوسلت إليه أن يرشدها إلى الطريق نحو المدائن، عاصمة إيران. وبعد أن وصف لها شابور الطريق، انسحب ورجع من حيث أتى.
وفي (شكل 3) نرى أن الأميرة شيرين قد جلست في روضة على العرش وجلس أمامها شابور وفي يده صورة خسرو، وأمام العرش فسقية بها ماء تسبح فيه أوزة، ووقف خلف (شيرين) بعض العذارى من صويحباتها، وحول شابور نرى الأتباع والخدم، منهم الجالس والواقف، وبعضهم يقوم بواجباته من تقديم الطعام والشراب. ولم ينس المصور أن يرسم صورة البستاني وفي يده جاروف يعمل في الأرض. والرجال يلبسون عمائم تخرج منها عصا كانت الزي المتبع في لباس الرأس في عصر الدولة الصفوية. ونرى أن سحن الأشخاص في هذه الصورة تمتاز بما بها من حياة وظهور التأثيرات المختلفة عليها من اهتمام وتفكير وسرور وحزن إلى غير ذلك مما امتازت به صور هذا العصر. وهذه الصورة من تصوير (ميرزا علي) أحد تلاميذ المصور بهزاد، ومن مشاهير الفنانين في عصر الشاه طهماسب، وقد اعتاد هذا المصور أن يصور رجاله وهم ملتحين. وبالرغم من براعة (ميرزا علي) في تصوير هذه الصورة، فإنه فاته أن يمثل مقابلة شابور لشيرين وهما منفردان كما أراد ذلك الشاعر نظامي. وهذه الصورة في مخطوط لنظامي كتب للشاه طهماسب ومؤرخ سنة 946 - 950 هجرية (1539 - 43م)، واشترك في تصوير الصور التوضيحية التي به خمسة من كبار فناني ذلك العصر. وهو محفوظ في المتحف البريطاني.
بعد انسحاب شابور من الروضة، رجعت شيرين ومن معها إلى القصر، وصعدت في ذات الليلة إلى عمتها مهين بانو، وأخذت تحدثها عن رحلاتها للنزهة والصيد، وفي سياق كلامها أبدت رغبتها في الخروج صباح اليوم التالي في رحلة طويلة للصيد، وهي لذلك ترجو عمتها إعارتها الفرس الأسود شبديز، وقد أجابتها عمتها إلى ذلك. وفي الصباح الباكر تمنطقت شيرين بأسلحتها، وركبت الفرس الأسود، وخرجت مع فتياتها لصيد الغزلان. وكانت هذه فرصة لها كي تعدو بجوادها السريع خلف غزال وتغيب معه عن الأنظار،(458/22)
وعبثاً حاول صويحباتها اللحاق بها أو البحث عنها، فرجعن إلى مهين بانو وأخبرنها بالأمر، فحزنت حزناً شديداً لاختفائها
وبعد أن ركبت شيرين سبعة أيام متوالية، شعرت بالتعب يدب في جسمها، فترجلت ونامت بعد أن استودعت نفسها الله عز وجل ولكنها سرعان ما صحت من نومها على صهيل جوادها، وتبينت أسداً يقترب من ناحيتها، فأخذت سهماً وأطلقته على الأسد فقتلته. ثم تابعت السير حتى وصلت إلى روضة في وسطها بركة جميلة من الماء، فاعتزمت الاستحمام بها لشدة ما نالها من التعب وما كساها من الغبار. وعلى ذلك ربطت شبديز إلى شجرة، وتجردت من ملابسها وأسلحتها وعلقتها إلى جواره، ثم تمنطقت بقماش أزرق حول وسطها ونزلت في الماء تستحم
وإذ هي تستحم قدم شاب إلى هذه الروضة، ورأى شبديز مربوطاً إلى الشجرة، فاقترب منه معجباً به، وعند ذلك رأى الملابس والأسلحة معلقة إلى جواره، وأخيراً رأى شيرين وهي جالسة في بركة الماء تعبث فيه وتداعبه، كأنها حورية جلست لتسحر من يرتاد ذلك المكان، فشخص إليها خسرو - وكان هو ذلك الشاب القادم - وقد ألهاه جمالها الفاتن عن كل ما عداه. وشعرت شيرين بوجود غريب قريباً منها، فالتفتت إلى الخلف. ولما رأت خسرو ارتبكت، فانسحب هو في حياء وانطلاق يعدو بجواده بعيداً عنها، وخرجت هي من الماء وارتدت ملابسها وامتطت شبديز فانطلق بها يسابق البرق. وهكذا التقى الحبيبان لأول مرة دون أن يعرف أحدهما الآخر، ثم افترقا وقلب كل منهما يحدثه أنه رأى حبيبه
وفي (الشكل 4) نرى شيرين وهي جالسة في بركة الماء، وإلى جوارها وقف (شبديز) جوادها الأسود الأصيل، وعلى ظهره غطاء جميل، وهو يصهل كأنه ينبهها لوجود (خسرو) الواقف بجواده على مقربة، وقد وضع سبابته في فمه لشدة ما اعتراه من تأثر عند رؤيته شيرين بجمالها الفاتن، وقد صار وضع السبابة في الفم من التقاليد التي اتبعها الفنانون في تصويرهم خسرو عند رؤيته لشيرين، كما نرى ذلك في صور كثيرة لهما، وهذه الصورة من تصوير (سلطان محمد) أحد مشاهير مصوري عصر الشاه طهماسب، وهي مخطوط نظامي السابق ذكره المكتوب لهذا الشاه
وقد صور المصور (رضا عباسي) في القرن العاشر الهجري صورة شيرين واقفة وهي(458/23)
تخرج من الماء شبه عارية، وهذه الصورة محفوظة في مكتبة الدولة ببرلين
(له بقية)
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية(458/24)
من أدب القرن التاسع
كتاب (سحر العيون)
للأستاذ أحمد يوسف نجاتي
- 3 -
ولقد أنجب المحب بن الشحنة ورزقه الله ذرية مباركة طيبة منهم:
8 - أثير الدين محمد (وهو سبط العلاء بن خطيب الناصرية، أمه السيدة خديجة بنت العلاء) ولد أثير الدين في شهر صفر سنة 824 بحلب ونشأ بها، وأخذ عن أبيه وغيره، وناب عن أبيه في القضاء بمدينة حلب سنة 1839 وناب عن جده لأمه في خطابة الجامع الكبير بها أيضاً، ثم استقل بالقضاء في أوائل سنة 856 وقلَّد كثيراً من الوظائف الدينية والعلمية، وقدم على أبيه القاهرة غير مرة وحج معه، واتصل بعلم الدين السخاويّ، وفيه يقول كان كثير التودد خيراً من أخيه عبد البر، ولكن ذاك أفضل في الجملة مع سكون هذا وتواضعه وأدبه. وتوفي في جمادى الأولى سنة 1898 بمدينة حلب
9 - سرىّ الدين أبو البركات عبد البر الشحنة وهو أنبه أبناء المحب. ولد في أواخر سنة 851 بحلب، وانتقل منها صحبة أبويه إلى القاهرة وتلقى العلم بها عن أبيه وجده وكثير من فضلاء عصره كما سمع ببيت المقدس وغيره، وعرف بالذكاء والفطنة، وقلد كثيراً من وظائف القضاء والإفتاء والخطابة والتدريس بمدارس كثيرة بالقاهرة، وفيه قيل:
دروس عبد البر فاقت على ... أبيه في الحفظ وحسن الجدل
وذاك عند الأب أمر به ... نهاية السّول وأقصى الأمل
وولي قضاء حلب والقاهرة، وارتفعت منزلته حتى كان جليس السلطان الغوري وسميره، ولا غرو فقد كان عالماً أديباً ذا حشمة وفضل وحسن بيان متقناً للعلوم الشرعية والعقلية واللسانية، وقد ترجم له السخاوي ولم يسلم من غمزاته حتى قال فيه: وليس بثقة فيما ينقله ولا بعمدة فيما يقوله، بل هو غاية الجرأة والتقول، ولو تصوَّن وسلك طريق السداد أو تستر أو تأدب مع مشايخ الوقت وفضلائه أو ضبط لسانه عن الوقيعة في الأكابر لكان أخلص له وأقرب إلى محبة الناس فيه. إلى أن قال: وصار أبوه بسببه إلى غاية في(458/25)
الامتهان، وقاسى ألواناً من الذل والهوان؛ ولكن عسى أن يكفر ذلك عنه بعض ما اقترفه، فالولد سر أبيه. . . الخ. أهـ
أقول: يظهر أن عبد البرّ كان عنده شيء من الاعتداد بالنفس والاعتزاز بمكانته وأنه نافس السخاوي مع أنه أكبر منه وأعلم، ولكليهما تآليف في علوم مختلفة. هذا إلى أني لا أنزه ابن الشحنة من بعض ما وصفه به، ولكل جواد كبوة. وكان بمصر في ذلك الحين شاعر هجاء خبيث اللسان جعل لسانه مقراضاً للأعراض اسمه عبيد السلموني؛ فكان من يتقي عرضه من كرام الناس يشتريه منه بالإحسان إليه أو بمداراته، فاتفق أن تعرض للقاضي عبد البر وهجاه بقصيدة في أولها:
فشا الزور في مصر وفي جنباتها ... ولم لا وعد البر قاضي قضاتها
فأدبه السلطان الغوري وعقد له مجلساً بحضرته في مستهل شهر المحرم من سنة 913 وأحضر عبيد السلموني هذا مكبلاً في الحديد، فأنكر أن تكون القصيدة له، فلم ينجه هذا من تعزيره وأليم تأنيبه
وللقاضي عبد البر بن الشحنة مؤلفات كثيرة، منها (شرح منظومة ابن وهبان في فقه أبي حنيفة النعمان) وابن وهبان هو القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن أحمد بن وهبان الدمشقي قاضي مدينة حماة توفي سنة 768، ومنظومته قصيدة رائية من بحر الطويل عدتها 400 بيت، ضمنها غريب المسائل في الفقه سماها: (قيد الشرائد ونظم الفرائد)؛ ثم شرحها في مجلدين وسماه: (عقد القلائد في أصل قيد الشرائد)، ثم شرحها قاضي القضاة عبد البر بن الشحنة شرحاً حسناً قيد فيه ما أهمله الناظم في شرحه وألحق به مسائل أخرى وفروعاً غريبة، وغير ما عسر فهمه من بعض أبياته بأوضح منه، وسمّى شرحه: (تفصيل عقد الفوائد بتكميل قيد الشرائد)؛ وفرغ من تصنيفه في شهر شوال سنة 885، ثم هذبه سنة 895. ومن مصنفاته شرح منظومة جده أبي الوليد المتوفى سنة 815، والتي نظمها في عشرة علوم. ومنها شرح (كنز الحقائق) في فقه الحنفية (ومتن الكنز هو للإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد الحافظ النسفي المتوفى سنة 710) وسمى شرحه (الإشارة والرمز إلى تحقيق الوقاية وفتح الكنز) ومنها (تحصيل الطريق إلى تسهيل الطريق) وهو رسالة أولها: (الحمد لله الذي سهل لمن اختار من عباده طريقاً إلى الجنة)، ذكر فيه أن(458/26)
بعض الناس أحدث في طريق القاهرة وحوادث تضر بعامة المسلمين، فألف هذه الرسالة في دفع مثل ذلك في شهر شعبان سنة 886. ومنها: (زهر الروض في مسألة الحوض) تكلم فيه عن حوض دون ثلاثة أذرع وعن حكم الوضوء فيه. وله (الذخائر الأشرفية في ألغاز الحنفية)، وله شرح (جمع الجوامع) المشهور في أصول الفقه لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771 وغير ذلك
وكان القاضي عبد البر شاعراً أديباً ومن شعره:
أأنصار الشريعة لن تراعوا ... سيفني الله قوماً ملحدينا
ويخزيهم وينصركم عليهم ... (ويشف صدور قوم مؤمنينا)
وله مفتخراً ومعدداً مناقبه (وقد كان غير ذلك أولى به):
أضاروها مناقبيَ الكبار ... وبي والله للدنيا الفخار
بفضل شائع وعلوم شرع ... لها في سائر الدنيا انتشار
ومجد شامخ في بيت علم ... مفاخرهم بها الركبان ساروا
وهمة لوذع شهم تسامي ... وفوق الفرقدين لها قرار
وفكر صائب في كل فن ... إلى تحقيقه أبداً يصار
وكان بمصر في ذلك العصر امرأة جميلة مغنية تسمى خديجة الرحابية ذات براعة في الغناء والإنشاد يتعرض لها شبان عصرها وأهل الخلاعة منهم، وكان ممن تعرض لها أحد المنتسبين للعلم المسمى محمد بن سالم بن خليل بن إبراهيم القاهري الأزبكي ولد سنة 855 وتوفي سنة 900. فقال القاضي عبد البر يعرض به:
إن تمنّعت يا مهاة عن الوص ... ل فإني والله حلو الوصال
لست ندلا ولست فظاً غليظاً ... لا ولا في الوجود شيء مثالي
وكانت وفاة القاضي عبد البر بحلب في شهر شعبان سنة 921 رحمه الله تعالى. ولسرى الدين عبر البر وأخيه أثير الدين أبناء بررة هم أحفاد المحب بن الشحنة؛ ومنهم:
10 - لسان الدين بن أثير الدين أحمد ولد سنة 844 بحلب ونشأ في كنف أبيه وجده، وربي تربية بني الشحنة، وقدم على جده المحب القاهرة، ثم ناب عنه في كتابة السر بها، ثم ولي قضاء الحنفية بمدينة حلب، وحج مع أبيه وجده، ثم فارقهما من عقبة أيلة إلى حلب(458/27)
لمباشرة وظيفته. وكان عالماً عاقلاً عفيفاً كيساً. قال السخاوي: (. . . مع فتور ذهنه، وله نظم وسط فمنه لما فصل جده عن كتابة السر ليحل محله ابن الدِّيري:
كتابة السر قد أضحت مشوهة ... لما قلاها محب الدين قد هانت
وأصبح الناس يدعون المحب لها ... كيما يرق عليها بعد ما بانت
توفي شهيداً بالطاعون سنة 882 رحمه الله
11 - وأخوه جلال الدين محمد ويكنى أبا البقاء مثل كنية البدري صاحب (سحر العيون): نشأ نشأة سلفه وأهله، وتلقى العلم بحلب وبيت القدس والقاهرة، وولى قضاء حلب سنة 862، وقدم القاهرة غير مرة، ثم أدركته منيته بها بعد علِّة طال أمدها في شوال سنة 892 رحمه الله. قال السخاوي: وكان ذا شكالة وهيئة، غير محمود في دينه ولا معاملاته، عفا الله عنه وإيانا
12 - وأخوه عفيف الدين أبو الطيب بن أثير الدين ابن المحب حسين بن محمد ولد سنة 858 وسمع عن جده وغيره، وقدم القاهرة غير مرة، وأخذ عن بعض علمائها، وكان يتردد بينها وبين حلب، وولي قضاء حلب وكتابة السر بها، ولما عاد إلى القاهرة بعد موت أخيه المتقدم سنة 892 في أيام الملك الأشرف أبي النصر فايتباي أمر بنفيه إلى الواحات، فذهب إليها ولبث بها حيناً حتى شفع فيه فعاد، ثم توفي بالقاهرة مطعوناً في شهر شوال سنة 910 رحمه الله؛ قال السخاوي: وكان مع كثرة اشتغاله جامداً وله اعتناء بالخيول. أهـ
13 - عبد الغفور بن عبد البر توفي في طفولته بالطاعون سنة 82
14 - وأخوه قاضي القضاة محب الدين محمد بن سري الدين قاضي القضاة عبد البر. ولد بمدينة القاهرة ونشأ بها، واشتغل بالعلم على أبيه وغيره، وولي نيابة الحكم عنده، ثم نيابة الحكم عنه، ثم قدم مدينة حلب عند انقضاء الدولة الجركسية سنة 922 بعد أن حج وجاور بمكة. وكان لطيفاً أديباً حسن البزة جميل المطارحة لطيف الممازحة مقداماً مهيباً دمث الطباع رقيق الحاشية أديباً شاعراً. وتوفي ببلدة حلب في شهر شعبان سنة 951 رحمه الله، ومن شعره:
يا حبيبي صل مُعَنَّى ... ذاب وجداً وغراما
وارحمن صبَّا كساه ... غزل عينيك سقاما(458/28)
ورماه عن قسّى الح ... اجب اللحظُ سهاما
أنحلته رقة الخصر ... نحولاً حيث هاما
لا يرى إلا خيالا ... إن تقل فيه نظاما
لم يذق من يوم غبتم ... عنه لا أكلاً ولاما
أطلقت عيناه نهراً ... طلقت منه المناما
أوقدت حشو حشاه ... نار خديك ضراما
عجباً للنار فيه ... وبه حزت المقاما
إن بعد الوصل عادت ... بك برداً وسلاماً
(يتبع)
احمد يوسف نجاتي
الأستاذ بكلية اللغة العربية(458/29)
هل فكرنا في المستقبل؟!
للأستاذ عبد السلام المنياوي
يسألني كثير من الناس: لماذا تعيش في عزلة عن دولة الأقلام؟ ولماذا تقنع بالصمت عن رسالة الدعوة؟ ولماذا لا يرتفع صوتك في مجال الإصلاح والتفكير؟
أطيل الوقفة إزاء هذه الأسئلة، ويمتد بي التفكير أمام هذا الغرض، لا بحثاً عن الجواب ولا تلمساً للسبب، ولكن ألمح في سرعة صور هذا المحيط الذي نعيش فيه، وأتمثل في إنصاف نفثات هذه القلوب المؤمنة في سبيل الدين والوطن والحياة العزيزة
أجل أطيل النظر والاستعراض ثم. . . أجيب ولكن إجابة الآسف الملتاع وأخشى أن أقول إجابة اليائس المتشائم، ذلكم لأنني أعتقد أن القلم يجب أن يستريح حيثما يكون تعبه هباء، وأن الدعوة يجب ألا توجه حيثما لا تكون إلا في الهواء، وأن الإصلاح يجب أن ينادي به حيثما يهيأ الجو ويوجد الرجال!
فهل تهيأت القلوب للاستماع؟ وهل آن للضمائر أن تنصت؟ وهل بين المقتنعين من بيده التنفيذ؟ إنا لنلتهب حماسة إلى خير هذا الوطن العزيز، وتنفطر قلوبنا أسى عند ما نذكر هذه المخزيات المصرية، ونرجو في تلهف وطماعية أن تقر عيوننا حيناً من الدهر بما ينال هذا الشعب المجيد، ونهتف من أعماقنا مع أستاذنا المراغي في عقيدة وإيمان: لابد من دين الله لدنيا الناس، كما نضم صوتنا في حرارة وإخلاص إلى الأستاذ الزيات إذ يقول: لابد للإسلام من مؤتمر. . . لسنا صادرين في هذا عن عصبية ولا جمود بل هي عقيدة الفطرة ونطق الواقع وشهادة الأعداء، وإنه ليمتزج بأفكارنا ونفوسنا امتزاجاً أن هذا العالم صائر يوماً لا محالة طوعاً أو كرهاَ أو طبيعة إلى هذا الهدى الإلهي الحكيم. . .
ولكن دين الله ومؤتمر الإسلام لابد أن نمتلئ بهما نحن المسلمين! ولابد أن نجاهد من أجلهما عواطف الزعماء! ولابد أن نمكِّن لهما في قلوب الشباب! نعم لابد أن نمتلئ وأن نجاهد ونمكن حتى نفيض على هذه الدنيا بما في حيازتنا من كنوز طالما أغرونا بأن نستبدلها بزيفهم، ونعيد إليهم باطلهم بعد ما نكون قد محوناه بحقنا الخالد، وندفع بالتي هي أحسن السيئة حتى يدركوا وضع الشرق والغرب ويقروا على رغمهم بزعامة الإسلام والمسلمين(458/30)
ولكن بيننا رِبا وخمر ومقامرة، وفينا تبذل وغرور وبغي، ومنا أناس ينكرون - أو يتجاهلون - هذا الماضي المجيد. فماذا نعمل وبلادنا قد عجت بالمشكلات وشعبنا قد تفشته الأدواء؟ ماذا نعمل وقد استعصت هذه (المشكلات) على الحل، وأعيت هذه (الأدواء) علاج ذوي الغيرة من رجال الفكر والإصلاح؟ اللهم لا استعصاء ولا إعياء ولكن يعوزنا الإيمان ويعوزنا الإقدام ويعوزنا النزول على حكم الله (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)
إن هذا الوقت الذي تمضي فيه (اللجان) إلى العمل، وإن هذا الوقت الذي يكتبون فيه (تقاريرهم) وإن هذا الوقت الذي يجهدون فيه أنفسهم للبحث حرام أن تضيع هذه الأوقات في غير ما ثمرة! وحرام أن تصرف هذه الأموال بلا مقابل! وحرام ألا يجد الناس ما يحميهم من أغوال الفقر وويلات الجهل وخفض المستوى العام بينما لا تبعد عنهم هذه الحماية إلا بمقدار ما يبعد هؤلاء عن معين الإسلام وقانون الإنسانية!!
وإنا لنسمع العالم كله يتحدث عن (نظامه الجديد) ومن خلال هذا الصراع العنيف وفي وسط هذا الدوي الهائل يتردد في الآفاق صدى صوت حبيب منعش هو أنشودة الحرية ورجاء السلام ومنية الاستقرار، فسنة الله أن ينجاب الظلام عن الفجر، وأن يتنفس الصبح بعد إدبار الليل؛ ولابد أن يرتفع المستقبل على أنقاض الحاضر، وقد تواطأت الفِكَر على أن هذا المستقبل مليء بأساليب الهدم حافل بأنواع الإصلاح مشيد من لبنات قوية ليس من ذراتها اطمئنان إلى ترف ولا ركون إلى دعة ولا عزوف عن جد. . . هذا هو الجيل الجديد وهؤلاء هم أبناء العهد الجديد، فعلى أي أساس يكون مستقبل جيلنا المنتظر. وعلى أي الدعائم يرتكز عهدنا المنشود؟؟
لقد قال الأستاذ إدوار مونتيه في إحدى محاضراته: (لا شك أن الإسلام يعد من أكبر وسائل تمدين الناس وترقية أحوالهم الاجتماعية والدينية والخلقية والاقتصادية. الإسلام حضارة قائمة بنفسها رغم ضعف المسلمين في فترة من الزمن، وسينتبهون مرة ثانية فينشرون المدنية والرقي في كل أنحاء العالم) وهذا برناردشو يقول: (إني دائماً أحترم الدين الإسلامي غاية الاحترام، لما فيه من القوة الحيوية، فهو وحده الدين الذي يظهر لي أنه يملك القوة المحركة التي تغير صورة الكون، ذلك لأنه يوافق كل جيل، ويتمشى مع(458/31)
مصلحة البشر في كل زمان. . . لاشك أن العالم يقدر تكهنات رجل مثلي: أنا على يقين أن دين محمد سيكون دين أوربا في غد. . . وقد رأى عظماء المفكرين من أهل النزاهة مثل كاريو وغوتي وجيبون في القرن الـ 19 وجرب تقدير وإجلال دين محمد، وقد أحدث رأيهم شيئاً من التغيير في سلوك الأوربيين مع الإسلام، لكن أوروبا هذا القرن (العشرين) قد تقدمت في ذلك تقدماً بعيد الشأو وقد أخذوا يقعون في الهيام بعقيدة محمد، وفي القرن التالي سيكون أهلّ أوروبا أكثر معرفة بفائدة اعتقاد محمد في حل مشكلاتهم، وبهذا يمكنك أن تفهم ما تكهنت به!)
بعد هذا - ولا أحسب نفسي في حاجة إليه، فربما قد رآه من إليهم أوجه الحديث - أحب أن نصل إلى خطة حاسمة في هذا المعترك، وأن نفكر جادين في مستقبلنا مهما تكن الأوضاع؛ ولنُوَلّ وجهنا إلى غير ما اتجهت القافلة، وما دامت هذه المدنيات تنهار وهذه النظم تعلن عن نفسها بالفشل، فمن الخطأ والحمق أن تنتمي إلى التقليد، ولنستبق الزمن بأخذ أساليب الحكم والتشريع والقضاء على نظام إسلامي، قبل أن نفعل تابعين وليس لنا يد. هذا الإسلام يا قوم، اعرضوه على أنه فكرة من الفكر، وكثيراً ما فشلت برامج وأهملت قوانين لم تتفق وهذا القانون السماوي. جربوه. . . جربوه أيها الناس وإلا فقد دللتم على خبايا النفوس ومكنونات الصدور. . . يجب أن نرى أمامنا الفرد المسلم والأسرة المسلمة والحكومة المسلمة والوطن المسلم، ولنعتز بهذا الشرف الذي وضعنا فيه وخوّلنا إياه أحكم الحاكمين: شرف الوساطة بين السماء والأرض، بين الله والناس. . .!
هذا وإن الغرائز البشرية أو جُلّها البارز قد جعلت من الإنسان الذي يبغي كمال الحياة ويتلمس نور النعيم وينشد ذروة المجد، مجاهداً يصارع نفسه، ويجاهد هواه، وينازع فطرته التي تكونت من الأنانية والتكاثر والهلع والعجلة والجبن واللذة الخ. لا أقول كما قال الشاعر إنها كالطفل، ولكن كما قال النبي إنها أعدى الأعداء، جهادها هو الجهاد الأكبر، والظفر بأسرها هو النصر المؤزر. . .
ألا فانتزعوا أيها الشباب من بين جنوبكم هوى النفس، ومن أذهانكم خمود الفكر، ومن أعماقكم وهن العزيمة، ثم هبوا في إقدام لا يعرف التواني؛ وهنا تسطرون بحق أول من صفحات الجدارة بالحياة!؟(458/32)
عبد السلام المنياوي(458/33)
من غزل الملوك
للأستاذ عبد الله مخلص
كنتُ أعددت بعض فصول من كتاب باسم (العاطفة عند العرب) وبينها فصل عنوانه سلطان الحب وحب السلاطين فرأيت أن أنقل شيئاً منه لقراء الرسالة ترويحاً عن نفوسهم المكروبة في هذه الأيام السود. قال سليمان بن الحكم المرواني الملقب بالمستعين وهو من بني أمية:
عجباً يهاب الليث حدّ سناني ... وأهاب سحر فواتر الأجفان
وأقارع الأهوال لا متهيّباً ... منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى ... زُهر الوجود نواعم الأبدان
ككواكب الظلماء لحن لناظر ... مْن فوق أغصان على كثبان
حكّمت فيهن السلو إلى الصبا ... فقضى بسلطان على سلطاني
فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ... في عز ملكي كالأسير العاني
لا تعذلوا مَلكاً تذلّل للهوى ... ذلّ الهوى عزّ وملك ثاني
ما ضر أني عبدهن صبابة ... وبنو الزمان وهن من عبداني
إن لم أطع فيهن سلطان الهوى ... كلفاً بهنّ فلستُ من مرّان
وقال الخليفة هارون الرشيد العباسي يرثي جاريته هيلانة:
فارقت عيشي حين فارقتها ... فما أبالي كيفما كانا
كانت هي الدنيا فلما ثوت ... في قبرها فارقت دنيانا
قد كثر الناس ولكنّني ... لست أرى بعدك إنسانا
وكان للخليفة المأمون العباسي جارية بارعة الجمال ظريفة حاذقة بالغناء ونظم الشعر تدعى عريب وقد كان اشتراها من أخيه المعتصم بمائة ألف دينار ثم أعتقها، وكان المأمون شديد الكلف عظيم الشغف بها فقال مداعباً لها:
أنا المأمون والملك الهمام ... على أنى بحبّك مستهام
أترضي أن أموت عليك وجداً ... ويبقى الناس ليس لهم إمام
فقالت يا أمير المؤمنين والدك أعشق منك حيث قال:(458/34)
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلاّ أنّ سلطان الهوى ... وبه قوين أعزّ من سلطاني
ويرى القارئ أن الرشيد أغار على أبيات ابن الحكم الأموي
وقال المعز لدين الله الفاطمي:
لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر بالمحاجر
أمضى وأقضي في النفو ... س من الخناجر في الحناجر
ولقد تعبت ببينكم ... تعب المهاجر في الهواجر
وقال أيضا:
أطلع الحسن من جبينك شمساً ... فوق ورد في وجنتيك أطلاَّ
وكأن الجمال خاف على الور ... د جفافاً فمدّ بالشعر ظلاَّ
وقال السلطان سليم - بن السلطان بايزيد العثماني - فاتح مصر:
لولا الإله وحرّ نار جهنمَّ ... لعبدتُه وسجَدتُ بين يديه
وهذه أشعار بعض الأمراءِ والوزراء الذين كانوا ملوكاً بالفعل في إدارة الممالك وعبيداً في دولة الحب
قال الأمير عبد الله بن طاهر بن الحسين من أمراءِ الدولة العباسية:
نحن قوم تليننا الحدق النج ... ل على أننا نلين الحديدا
طوع أيدي الظباء تقتادنا العي ... ن ونقتاد بالطعان الأسودا
نملك الصيد ثم تملكنا البي ... ض المصونات أعيناً وخدودا
تتقي سخطنا الأسود ونخشى ... سخط الخشف حين يبدى الصدودا
فترانا يوم الكريهة أحرا ... را وفي السلم للغواني عبيدا
وقيل إن هذه الأبيات هي لأصرم بن حميد ممدوح أبي تمام
وقال محمد بن عبد الملك الزيات الوزير العباسي:
صغير هواك عذّبني ... فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من قلبي ... هوًى قد كان مشتركاَ(458/35)
وحسن رضاك يقتلني ... وقتلي لا يحلّ لكا
أما ترثي لمكتئبٍ ... إذا ضحك الخِليّ بكا
وقال سيف الدولة علي بن عبد الله حمدان صاحب حلب يصف حجزه إحدى جواريه في قلعةٍ عندما خاف عليها:
راقبتني العيون فيك فأشفق ... ت ولم أََخلُ قطّ من إشفاقِ
ورأيت العدوّ يحسدني في ... ك مجدّاً بأنفس الأعلاقِ
فتمنيتُ أن تكوني بعيداً ... والذي بيننا من الودِّ باقِ
ربّ هجرٍ يكون من خوف هجرٍ ... وفراق يكون خوف فراقِ
وقال طلائع بن رزيك من وزراء الدولة الفاطمية من أبياتٍ:
الناس طوع يدي وأمري نافذ ... فيهم وقلبي الآن طوع يديه
فاعجب السلطانٍ يعمّ بعدله ... ويجور سلطان الغرام عليه
والله لولا اسم الفرار وإنه ... مستقبح لفررتُ منه إليه
عبد الله مخلص(458/36)
30 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل التاسع - اللغة والأدب والعلوم
يعتقد العرب بالخرافات اعتقاداً عظيما. ويعد عرب مصر أكثرهم تعلقاً بهذه الاعتقادات الباطلة. وأكثر هذه الخرافات اعتباراً الاعتقاد بالجن. ويقال أن الجن أصلهم سابق على آدم، وإنهم في خصائصهم العامة طبقة من الكائنات تتوسط بين الملائكة والأنس وتقل عنهما فضلاً. خلقت الجن من نار وتستطيع أن تتشكل بأشكال الأناس والبهائم والوحوش الخيالية وتختفي عن الأنظار كما تريد. والجن يشربون ويأكلون ويتناسلون مثل البشر أو معهم، كما أنهم عرضة للموت وإن كانوا يعيشون أجيالاً عديدة. ويسكن الجن سلسة جبال قاف التي يزعمون أنها تحيط بالأرض جميعها كما ذكر في الفصل السابق. ويعتنق بعض الجن الإسلام، والآخرون كفرة. ويسمى هؤلاء الكفرة أيضاً شياطين ويرأسهم إبليس، إذ أنه تبعاً للرأي السائد، جني مثل غيره من الشياطين لأنه خلق من نار بينما خُلق الملائكة من نور معصومين من الخطأ
ويخشى العرب الجن أخيارهم وأشرارهم كثيراُ. ويحفظون لأخيارهم احتراماً عظيماً. وقد جرت العادة عند هذا الشعب عندما يصب أحدهم ماء أو غيره على الأرض أن يصيح أو يدمدم (دستور) مستأذناً أو مستغفراً الجني الذي قد يوجد هناك. ويظن أن الجن ينتشرون في طبقة الأرض الصلبة مثلما ينتشرون في السماء حيث يقتربون من حدود السماء الأولى فيسترقون السمع عن المستقبل ويستطيعون هكذا أن يساعدوا العرافين والسحرة. ويعتقدون أيضاً أن الجن يسكنون الأنهار والخرائب والآبار والحمامات والأفران والمراحيض. ولذلك عندما يدخل أحد مرحاضاً أو يدلي دلواً في بئر أو يوقد ناراً الخ. . . يقول (دستور) أو(458/37)
(دستور يا مباركين). ويتلو الداخل بيت الراحة هذه العبارة مبتهلاً إلى الله أن يحميه من الأرواح الشريرة. إلا أن البعض لا يذكرون اسم الله باعتبار أنه لا يليق به في مثل هذا المكان فيكتفون بقولهم: (أعوذ بك من الشياطين ذكوراً وإناثاً)، وتفسر هذه العادات إحدى قصص ألف ليلة وليلة التي يحكي فيها أن تاجراً قتل جنياً بنواة تمرة كان يأكلها. ويظهر الجني في القصة نفسها وفي غيرها قادماً في زوبعة من الرمل أو الغبار. والاعتقاد العام عند عرب مصر أن الزوبعة التي تثير الغبار أو الرمال، وتكسح الحقول والصحارى، يسببها تحليق هذه الكائنات ويفوه المصريون عادة عندما تبدو الزوبعة قريبة منهم بتعويذة لإبعادها فيهتف بعضهم: (حديد يا مشئوم) إذ يظنون أن الجن يخافون هذا المعدن كثيراً. ويصيح آخرون: (الله أكبر). ويعتقدون أن الشهب سهم يقذف به الله الشياطين، ويصيح المصريون عندما يرون شهاباً ساقطاً: (سهم الله في عدو الدين) ويسمي العامة الشياطين عفاريت، وقد وردت في القرآن ذلك بهذا النص: (قال عفريت من الجن) وقد ترجم اللفظ: (قال جن هائل)، ويعتقدون أن العفاريت يختلفون عن الجن الآخرين بعظيم قدرتهم ودوام شرهم، ويسمي الشيطان الأقوى ماردا
يرتبط تاريخ الجن بعدة أساطير لم يذكرها القرآن، ولذلك لا يؤمن بها المسلمون العقلاء. ويتفق الجميع على أن الجن خلقوا قبل الإنسان. إلا أن البعض يقولون لطبقة أخرى من الكائنات السابقة على آدم ذات طبيعة مشابهة. ويعتقد العامة أن الأرض كان يسكنها قبل آدم جنس من المخلوقات يختلف عن البشر شكلاً وقوة، وأن أربعين ملكاً من هؤلاء، أو اثنين وسبعين تبعاً لقول آخر، سمى كل منهم سليمان، حكموا هذا الشعب تباعاً. وكان أحد هؤلاء السليمانين يسمى جان بن جان. ويتوهم البعض أن الجن، ويسمون أيضاً جاناً، اشتقوا تسميتهم من اسم هذا الملك. ومن هنا يعتقد البعض أن الجن يشبهون هذا الجنس السابق ولكن البعض يؤكد أن الجن كانوا طبقة من الكائنات مختلفة أخضعها الجنس الآخر.
ويعتقدون أن الجن كثيراً أو دائماً يتشكلون بأشكال القطط والكلاب والحيوانات المفترسة. وقد روى الشيخ خليل المدابغي - وهو من أشهر علماء مصر، وقد ألّف كتباً عديدة في مختلف العلوم وتوفي في سن متقدمة أثناء زيارتي الأولى لمصر - الحكاية التالية: (كان له - كما يقول - قط أسود عزيز ينام عند ذيل كلّته. ففي منتصف إحدى الليالي سمع طرقاً(458/38)
على باب داره؛ فقام القط وفتح مصراع الشباك وهتف: (من؟) فأجابه صوت: (أنا فلان (وذكر اسما غريباً) الجني، افتح الباب). فقال قط الشيخ: (إن المزلاج قرء عليه اسم الله) فقال الآخر: (إذن اقذف لي رغيفين من الخبز) فأجاب القط: (إن سلة الخبز سُمي عليها) فقال الغريب: (حسن. أعطني على الأقل جرعة ماء. ولكنه رد عليه بأن وعاء الماء محفوظ بالطريقة نفسها. فسأل ماذا يستطيع أن يفعل وهو يوشك على أن يموت جوعاً وعطشاُ. فأشار عليه القط أن يذهب إلى باب الدار التالية. وذهب هو بنفسه وفتح الباب ثم لم يلبث أن عاد. وفي الصباح التالي غفل الشيخ عن عادة كان يراعيها دائماً فأعطى القط نصف الفطيرة التي كان يفطر بها بدلاً من قطعة صغيرة اعتاد أن يعطيه إياها. ثم قال له: (يا قطي، أنت تعلم أنني فقير، فجئني إذن ببعض الذهب) فاختفى القط في الحال بعد هذا الكلام ولم يره الشيخ بعد ذلك). والحكايات من هذا النوع تستوجب السخرية، لكن من المستحيل أن نقف على حقيقة عقلية الشعب الذي أحاول وصفه دون أن أسرد حكاية أو أكثر
ويؤكد العامة أن أشرار الجن كثيراً ما يعتلون الأسطح والشبابيك ويقذفون بالقراميد والحجارة في الشوارع والأفنية. وقد أخبرت من أيام قليلة بحادثة من هذا النوع أفزعت سكان أهم شوارع في القاهرة أسبوعاً بأكمله، إذ كانت القراميد تقذف بكثرة من بعض المنازل كل يوم طوال هذه المدة، ولم يصب أحد. وقد ذهبت إلى مكان هذه الدعابة الجنية المزعومة للنظر والاستقصاء ولكن قيل لي عند وصولي إن الرجم انقطع. ولم أجد أحداً أنكر قذف القراميد أو شك في أنه من أعمال الجن. وكانت الملاحظة العامة عند ذكر هذا الموضوع قولهم: (الله يحفظنا من شر أعمالهم)
وقد أخبرني صديق بهذه المناسبة أنه قابل بعض إنجليز لا يعتقدون بوجود الجن. وقد استدل بذلك على أنهم لم يشاهدوا أبداً تمثيلاً عاماً، وإن كان منتشراً في بلدهم التي سمع عنها منذ ذلك الحين باسم (كوميديا) قاصداً بهذه العبارة التمثيل المسرحي؛ ثم قال بعد أن وجه الكلام إلى أحد مواطنيه، ودعاني لأصدق على حديثه: (منذ زمن قصير وصف لي جزائري منظراً من هذا النوع كان قد رآه في لندن)؛ فقاطعه مواطنه سائلاً: (أليست إنجلترا أم لندن مدينة في إنجلترا؟) أجابه صديقي بتحفظ وهو ينظر إلىّ أن لندن عاصمة(458/39)
إنجلترا، ثم أوجز موضوع المسرح فقال: (لا يمكن وصف الدار التي عرض بها التمثيل: كانت الدار مستديرة صفت على أرضيتها مقاعد عديدة وحولها مقصورات كثيرة الواحدة تعلو الأخرى حيث جلس أفراد الطبقات العليا، وكان هناك فرجة مربعة كبيرة أسدل عليها ستار، وعندما غصت الدار بالمتفرجين الذين دفعوا مبالغ كبيرة للدخول أظلم المكان فجأة وكان الوقت ليلاً، وكانت الدار قد أضيئت بعدة مصابيح، إلا أنها أطفئت كلها تقريباً في وقت واحد دون أن يمسها أحد، ثم رفعت الستارة الكبيرة، فسمع المشاهدين هدير الموج وصفير الهواء، ورأوا دون تمييز في الظلام الأمواج ترتفع وتزيد وتضرب الشاطئ، وسمع في الحال صوت رعد مرعب، ثم أضاء البرق للمشاهدين البحر الهائج، وسقط حينئذ سيل من المطر الحقيقي، وبعد ذلك صفا الجو فظهر البحر بوضوح، وشوهدت باخرتان على بعد اقتربتا ثم اشتبكتا في قتال أطلقت فيها نيران المدافع، وعرضت بعد ذلك مجموعة مختلفة من المناظر الفريدة، وأضاف صديقي: (من الواضح الآن أن مثل هذه العجائب لابد أن تكون من أعمال الجن، أو على الأقل عملت بمساعدتهم)؛ وقد شرحت له هذه الظواهر، ولكني لم أستطع إقناعه بخطأه
ويقال إن الجن يسجنون أثناء شهر رمضان. ومن هنا نرى بعض المصريات يرششن في وقفة عيد الفطر ملحاً على أرض الغرف مبسملات لمنع هذه المفزعات من دخول منازلهن. ويجب أن أشير هنا إلى بقية عجيبة من خرافة مصرية قديمة إذ يعتقدون أن لكل حي من أحياء القاهرة حارساً خاصاً من الجن ذا شكل أفعى
ويعتقدون أن القبور المصرية القديمة والهياكل المظلمة تسكنها العفاريت. وقد استحال علي أن اقنع أحد خدمي بدخول الهرم الأكبر معي لرسوخ هذه الفكرة في ذهنه. وينسب الكثير من العرب بناء الأهرام والآثار المصرية المدهشة جميعها إلى جان بن جان وأتباعه الجن. فهم لا يتصورون أن تقيم هذه الآثار يد بشر
وتطلق عبارة عفريت بالحري على الشيطان، إلا أن أرواح الأموات تسمى أيضاً بهذا الاسم. وينسج من هذه حكايات لا يقبلها العقل كما أنها تلقي في النفوس رعباً هائلاً. إلا أن هناك من لا يخشاها إطلاقاً. وكان في خدمتي طاه مضحك يتعاطى الحشيش أحياناً. وقد سمعته ذات ليلة، بعيد دخوله خدمتي، يدمدم ويهتف على السلم كما لو كان دهشاً لحادثة ما.(458/40)
ثم قال بأدب (ولكن لم تجلس في تيار الهواء؟ تفضل بالصعود إلى المطبخ وسلني بحديثك قليلاً). ولما لم يرد على خطابه المؤدب كرره عدة مرات حتى ناديت عليه وسألته إلى من يتحدث. فأجاب: (إنه عفريت جندي تركي صعد من البئر وجلس على السلم يدخن شبكه ويرفض أن يتحرك. تقدم من فضلك وانظر إليه). ولما ذهبت إلى السلم وأخبرته أنني لا أرى شيئاً لاحظ أن سبب ذلك صفاء العقل. وقد قيل له فيما بعد إن المنزل ظل مسكوناً طويلاً؛ وقد قرر أنه لم يُخبر قبلاً بهذا الموضوع المزعوم أن جنديًّا تركياً قتل هناك. وقد صرح لي أنه كثيراً ما يرى العفريت بعد ذلك
ويعتقد المصريون وبعض الشرقيين بوجود الغيلان أيضاً. ويحسبون أن هذه الكائنات طبقة من الشياطين. ويقال إنهم يظهرون في أشكال الحيوانات والوحوش وأنهم يسكنون المقابر وغيرها من الأماكن المنعزلة، وأنهم يأكلون الجثث ويقتلون من يوقعه سوء الحظ في طريقهم ويلتهمونه. ومن هنا تطلق عبارة الغول على آكلي لحوم البشر
(يتبع)
عدلي طاهر نور(458/41)
فرحة الحياة!
للأديب عبد الرحمن الخميسي
أَنا حَيٌّ وَنَعيِمي بالحيَاهْ ... فَرْحَةٌ تَغْمُرُ مِنْ قَلْبِي مَدَاهْ
أَجْتلَيِ فِي مَوْكِبِ الأيام مَا ... يَبْهَرُ النَّفْسَ وَيَخْفَي مُنْتَهَاَه
وَأَرَى تِلْكَ الرُّمُوزَ انْغَلَقَتْ ... في طَوَايَاهَا عَلَى رُوحِ الإله
وَأُغَنِّى مثْلَمَا غَنَّى عَلى ... جَنَّةِ الْوَهْمِ هَزَارٌ لاَ أَرَاه
أَنَا حَيٌّ! يَا نَعيِمي بِالحَيَاهْ!
بَيْنَ جَنْبَيَّ فُؤاَدٌ كُلَّماَ ... نَفَخَ الإحْسَاسُ فِيهِ صَدَحَا
تُرْقِصُ الدُّنْيَا عَلَى أَنْغَامِهِ ... كُلَّ مَا فِيهَا أَسًى أوْ فَرَحَا
وَهْوَ مرْآةٌ صَفَتْ كَمْ تَرْتَمِي ... صُوَرُ الْكَوْنِ عَلَيْهَا مَرَحَا!
يَا أَنَاشِيدِي تَبَارَكْتِ وَيَا ... بُورِكَ الْقَلْبُ إليهِْ قَدْ صَحَا
كُلُّ عِرْقٍ يَتَغَّنى بِاَلْحَياهْ!
إِنَّنِي الشُّعْلَةُ شَبَّتْ نَارُهَا ... وَسَرَتْ أَنْفْاسُهَا بِاللَّهَبَِ
يَا هَنَائِي بِالّذِي يَأْكُلُنِي ... مِنْ لَهِيِبي وَالّذِي يُحْرَقُ بِي
يَا لَهذَا الدِّفْءِ مِنْ سِرٍّ جَرَى ... في كِيَانِي مِنْ وَرَاءِ اُلْحجُبِ
هُوَ لُغْزٌ خَاِلدٌ مُسْتَتِرٌ ... أَزَلِيٌّ قُدُسِيُّ اْلأَرَبِ
أَتَشَهَّاهُ وَأَفْنَي فِي لظَاَهْ
هذِهِ الرُّوحُ التي تَسْكُنُنِي ... قَبَسٌ مِنْ هَالَةٍ تَجْذِبُنِي
وَلَقَدْ دَارَ بِجِسْمِي نُورُهَا ... بَاعِثاً فِيهِ حَيَاةَ الزَّمَنِ
يَا سُرُورِي بِالّذِي أَيْقَظَنِي ... مِنْ سُبَاتِ اْلعَدَمِ الْمُرْتَهَنِ
وَانْتَشَي بِي وَاْنَتَشَي فِيهِ دَمِي ... وَشُعُورِي وَالّذِي أَوْجَدَنِي
أَنَا حَيّ. . . غَنِّ لِي لَحْنَ اْلَحَياهْ!
إِنَّنِي الْبُرْعُمُ قَدْ دَاعَبَنِي ... وَهَجُ الشَّمْسِ وَدَمْعُ السَّحَرِ
فَتَنَّفْسْتُ وَغَشَّتْ وَرَقِي ... نَضْرَةٌ تَسْبِي فُنُونَ النَّظَرِ
يَا شَبَابِي شدَّ مَا أَنْتَ عَلَى ... عُودِيَ اْلأخضَر عَذْبُ الصُّوَرِ(458/42)
إِنَّنِي أَرْنُو إلى اْلأفْقِ وَفِي ... طَلْعَتِي حَمْدٌ شَذِىُّ السُّوَرِ
لِلَّذِي أَوْرَثَنى هذِى الحَياهْ!
عبد الرحمن الخميسي(458/43)
أين السلام؟. . .
للأديب علي جليل الوردي
قالت وقد لاح عليها السَّقامْ: ... الحربُ طالت أين عهدُ السَّلام؟
كنَّا به في عشيةٍ راضيهْ ... نمرح في أُنْسٍ وفي عافيَهْ
الأرضُ من فرحَتِنا زاهيهْ ... والطيرُ من نشوَتِنا شادِيهْ
تشدو أغاريدَ المنى والغرامْ ... قد أخرستْها الحرب أين السلام؟
عهدٌ به طافتْ كؤوسُ الهنا ... ما بين أيدينا، ورفَّ المنى
فعندليبُ السَّعدِ يشدو لَنا ... ونحن نُبدي للدُّجى سرَّنا
فيا له عهداً كنفح الخزامْ ... أودتْ به الحربُ فأين السلام
أين زمانُ الأملِ الباسمِ؟ ... أين خيالُ الشاعر الحالمِ؟
أينَ هدوءُ الطائرِ الناغمِ؟ ... وأين حُلْمُ العاشقِ الهائمِ؟
أوْدَى بها طرًّا لهيبُ الخصامْ ... فأين أين الأمنُ؟ أين السَّلام؟
أينَ ابتساماتُ زهورِ الربيعْ؟ ... وناىُ راعٍ من وراء القطيعْ؟
وطفلةٍ غنَّت بلحْنٍ بديعْ ... أهزاجَها، والقلبُ منها وديع
أخرسَها قَسْراً لهيبُ الخصامْ! ... فأين أين الأمنُ؟ أين السَّلام؟
قلتُ وقلبي بالأسى مُفْعَمُ ... ونارُ حُزنٍ في الحشا تضرِمُ
وعبرةٌ من مقلتي تسجُمُ ... أكتمها عنها فلا تُكْتَمُ!
لا تيأَسي فاليأْسُ موتٌ زؤام ... لابدَّ من يومٍ يعودُ السلامْ
(الكاظمية - بغداد)
على جليل الوردي(458/44)
البَريدُ الأدبيّ
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
صديقي العزيز!
قرأت لك في (الرسالة) منذ أسابيع كلمةً صغيرة تذكُر فيها أن في مصر كاتباً قال في سياق حديثه: إنه صديقك، وأنك تنكر أن يشرّف الناس أنفسهم بالانتساب إليك. . . ولم يخطر في البال أنى مقصودٌ بتلك الغمزة، لأني أعرف أن منزلتي في نفسك لا تبيح لك أن تقع في مثل هذا الخطأ
ولكنّ ناساً حدثوني أنك تريدني بتلك الكلمة الصغيرة، وقد أردت أن أستوثق من نيتك، فجشّمت نفسي مقابلتك لأعرف رأيك قبل أن أردّ عليك، فكان جوابك أن تلك الغمزة موجَّهة إلى (فلان)، وأن أدبك لا يسمح بأن تُعرَّض بكتابٍ له مثل مكانتي في نفسك وفي (الرسالة) الصديق
فهل أجد عندك من الشجاعة ما تَقْوى به على التصريح باسم ذلك (الفلان)؟
لا تَخف، يا صديقي العزيز، فإن (الفلان) الذي حدثتني انك تعنيه، لا يملك غير قلمه، والقلم في هذا الزمان يضر أكثر مما ينفع، وهل آذاني غير قلمي؟
أَوضِحْ، أَوضِح، فإن لم تفعل فسأنوب عنك في الإيضاح صَنَع الزمن ما صنع، واستطال الدهر ما استطال، فمن يعزِّيني وقد استباح بعض الناس أن يكتب كلمةً تُوهم أنه أكبر من أن يكون صديقي؟!
زكي مبارك
إنشاء مكتب للتعاون الثقافي بين مصر والعراق
تنوي وزارة المعارف إنشاء مكتب لتنظيم التعاون الثقافي بين مصر والعراق والإشراف على ما يقتضي هذا التعاون، على أن يضم هذا المكتب أعضاء يمثلون البلدان وتكون له اجتماعات منظمة في القاهرة وبغداد
ويجوز لمن شاء من البلاد العربية أن ينضم إلى هذا المكتب بموافقة الحكومتين المصرية والعراقية(458/45)
إنشاء متحف الحضارة المصرية
كان صاحب الجلالة الملك قد أبدى رغبته السامية في أن ينشأ متحف للحضارة المصرية يضم إليه كل ما يتصل بالعصور المختلفة ابتداء من عصر ما قبل التاريخ إلى العصر الحديث فألفت لجنة من رجال الجمعية الزراعية الملكية ووكلاء بعض الوزارات ومديري المتاحف المصرية المختلفة
وكان أول ما بدأت به اللجنة أعمالها أن طلبت إلى الهيئات المختلفة موافاتها عن طريق الإهداء أو الإعارة بالنماذج التي تمثل العصور المختلفة للحضارة المصرية التي رؤى أن يضمها هذا المتحف، وهي تمثل العصر الحجري القديم والحديث، ومصر القديمة، وحياة المصريين في مختلف الهيئات والحياة الاجتماعية والفنية لمصر القديمة والعصور اليوناني والروماني والقبطي ومصر من الفتح العربي إلى الفتح العثماني والدول الطولونية والفاطمية والأيوبية، والمماليك وعصر الأمراء المماليك من الفتح العثماني إلى الحملة الفرنسية والنهضة المصرية الحديثة من عهد المغفور له محمد علي باشا إلى الآن والسودان المصري
وقد تعددت اجتماعات اللجنة للبحث في مختلف ما يتصل بإنشاء هذا المتحف، وكان ما قررته إقامة نموذج لحوض نهر النيل عن الجزء الذي يتفرع منه الفرعان عن ابتداء الدلتا على أن يكون طوله 14 متراً، لتكوين فكرة عامة عن التكوين الطبيعي لحوض النيل في العصور الجيولوجية ونوع النباتات التي عاشت في مصر في تلك العصور، وإقامة نموذج لإنسان ما قبل التاريخ، والتطورات المختلفة التي حدثت في تركيب جسمه في العصور المتطاولة وتناولت اللجنة بالبحث في اجتماعها طائفة من الشئون المتصلة بكل عصر فرأت أن تؤلف لجانا فرعية تضع كل منها مشروعاً عن كل عصر من العصور المختلفة ابتداء من عصر ما قبل التاريخ إلى العصر الحديث على أن تعرض جميع هذه المشروعات على اللجنة العامة لإقرارها والبدء في تنفيذها
في ديوان ولي الدين يكن
نشر الأستاذ كامل يوسف (بالعدد 457 من الرسالة) أربع مقطوعات شعرية للمرحوم ولي(458/46)
الدين يكن، مهد لها بقوله إنها مخطوطات للفقيد آلت إليه، ولم تنشر في ديوانه. ولكني أنبه هنا إلى أن هذه المقطوعات نُشرت جميعها بديوان ولي الدين الذي أصدرته مطبعة المقتطف عام 924م؛ ولا أعرف للشاعر ديواناً آخر غير هذا
فحَّبذا لو اقتنى الأستاذ نسخة من ديوان الشاعر الكبير الذي تربطه بأسرته (أواصر المودة والصداقة) كما يقول؛ ثم عرض عليها ما لديه من مخطوط؛ حتى تستبين له حقيقة القطع التي لم تنشر فيتفضل بنشرها. وأن كنا نشكَّ في إمكان حصوله على ما يستوجب النشر؛ لأن جامع الديوان هو أخو الشاعر - ولعله شقيقه - الأديب يوسف حمدي يكن. وهو قد استفرغ جهدَه في إثبات كل ما أمكنه العثور عليه من شعر أخيه، بين مخطوط ومطبوع ومحفوظ، كما يشير إلى هذا في مقدمته، التي أعقبها تحليلٌ دقيق وعرض شامل لحياة الشاعر وخصائص شعره بقلم الأستاذ الكبير أنطوان الجمِّيل بك؛ وكان الأخير من أصفياء ولي الدين وصفوة أصدقائه وخُلْصانه.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
حول (ابن الرومي)
سيدي الأستاذ العقاد
قرأت معجباً ما خطه يراعك الكريم عن شعر ابن الرومي، فنال مني الدهشُ لتعصّيك لهذا الشاعر، ولعل هذا راجع إلى أن الأستاذ قد صاحب (ابن الرومي) أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته. لهذا كان طبيعّياً أن يخلع عليه أستاذنا الجليل لقب (شاعر العالم) غير منازع؛ وأن يقول: إن شعره ليس فيه مغمز لغامز، وإن إحساسه مرهفٌ غاية الإحساس، وتصويره آية في الإبداع
فما رأي سيدي الأستاذ في بيتين مشهورين لابن الرومي قالهما في روض سقته السُّحب أو أرضعته فأنبتت ألفي رضيع من بني النضر حيث قال:
سقتْه ثُديّ السُّحْب من مُرْضعاتها ... أفانينَ مما لم تُقَطِّرْهُ مُرْضعُ!
كألْفَيْ رضيعٍ من (بني النَّضْرِ) ضُمِّنُوا ... مَحَاسن هذا الكون، والكونُ أجمعُ. . .(458/47)
فأي تصوير هذا يا أستاذنا العزيز؟ وأي استيعاب فني فيه قد أحس به الشاعر عندما خالجه هذا المعنى؟
إلا ترى معي أن من شعراء العبقرية المخَّلدين في بطون الكتب وسجلّ الأزمان من أسفَّ أحياناً وسجل له تاريخ الأدب ذلك؟. . . هذا ما أردت أن أذكر به الأستاذ واضعاً بين يديه هذين البيتين إجابتاً لرغبته التي رغب فيها إلى القراء أن يذكروه بما شاءوا من شعره ليدلهم على موضع الحسن فيه؛ فرجاوتي أن ينجز الأستاذ ما وعد، وأن يبين لنا موضع التصوير الفني في هذين البيتين، مشكوراً من الشعر والأدب
ابن درويش
اكتشاف مصل لإطالة الحياة ومعالجة الجروح
من أبناء موسكو الأخيرة أن العالم الروسي بوجود مولتز، الذي يقول بأن مدى عمر الإنسان العادي يجب أن يكون 150 سنة، اخترع مصلاً يتصل بنظريته في إطالة الحياة، وهو الآن يستخدم في معالجة الجرحى الذين ينقلون من الميدان الروسي، وقد أسفر استخدامه عن نجاح
والمعروف أن لهذا المصل أثراً في الخلايا الحية وكان قد صنع في الأصل لمعالجة الشيخوخة الباكرة والاضمحلال الذي يعاجل الأجسام البشرية، ولكن ظهر أنه يدمل الجروح ويرأب الكسور في العظام، وهو الآن لا يستخدم إلا في المستشفيات العسكرية حيث ظهر أثره البالغ في معالجة الجروح والكسور التي تحدثها شظايا القنابل والقذائف
الاستخلاص بمعنى الاستخراج
يقول الأستاذ داغر في كتابه (تذكرة الكاتب): يقولون (الكتب التي اعتمد عليها المؤلف في
(استخلاص) تاريخ ذلك العهد) والصوابْ تخليص أو تلخيص
وجاء في (أساس البلاغة) للعلامة الزمخشري: (والزبد خلاص اللبن، أي منه يستخلص بمعنى يستخرج). فهو إذن استعمال صحيح لا غبار عليه
أنتم أعلم بأمر دنياكم
ساق الأستاذ القباني (في العدد 452 من الرسالة) هذا الحديث بصيغة (أنتم أعلم بأمور(458/48)
دنياكم) وعزاه إلى الصحيح مسلم، ولهذا الحديث ثلاث صيغ في صحيح مسلم، ليس منها هذه الصيغة، بل منها صيغة (أنتم أعلم بأمر دنياكم) وهذه الإضافة للعهد، يعني أن هذا الأمر الذي هو تأبل النخل أنتم أعلم به، وليس هناك صيغة تفيد النهي عن التأبير، فلا يخل هذا الخبر بعموم قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمر. . .) والأمر هنا مصدر مضاف يفيد العموم بخلافه في الحديث فإنه بمعنى الشأن، والمراد بالشأن، الشأن المعهود وهو تأبير النخل. وقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، نص على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (البات وحي منزل) على أن الأحاديث التي رواها مسلم تختلف بمن في أسانيدها من الرجال اختلافاً يوجب النظر الدقيق في درجاتها.
محمد أبو البهاء
الطلبة الغرباء في مصر
أيها المصريون!
في مصر - ومصر في إكرام الضيف البلد الكريم - طائفة من طلاب العلم وفدوا من جاوة وسومطرة وجارات لهما إلى كعبة الشرق الأزهر الشريف، فمنعت الحرب في الشرق الأقصى عنهم رفد أهلهم وهم أبناء الأسر الكريمة ولهم بين الطلاب وعند أساتذتهم مقام محمود، فأصبحوا من الفقراء الذين احصروا في سبيل الله، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً
وإنا نهيب بذوي الغير أن يتفضلوا بمنع ذُلِّ السؤال عنهم ويسارعوا إلى خير هؤلاء. وعند الله أجر المحسنين
وقسم الوعظ والإرشاد بالأزهر الشريف - وهو على بينة من ندى أهل وطنه وحميتهم - لا يطيل القول إيماناً منه بدافع الغيرة في نفوس المصريين، وثقة في أن للبر والمعروف بمصر نفوساً تتنافس في الخير فلا يحس النزيل بينهم إلا أنه بين أهله وعشيرته. ولا غرو فالإسلام رحم بين أهله. وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
وإنا لنذكر بوافر الحمد لسعادة صالح عنان باشا همته التي افتتح بها هذا الاكتتاب الخير
ونشكر للمقطم الغراء أن أذاعت دعوته وأيدته وحولت مبلغ تبرعه في هذا السبيل، وقدره(458/49)
عشرة جنيهات إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والدال على الخير كفاعله
فإلى الخير الذي أنتم أهله، ومن أحق الناس به، نوجه إليكم هذا النداء وما تفعلوا من خيرٍ فلن تكفروه.
محمد أحمد العدوي
المفتش العام للوعظ والإرشاد(458/50)
القَصَصُ
النحلة وعروس النيل
قصة من القصص الشعبي لسكان جزيرة (بورنيو)
نقلها عن الإنكليزية
الأستاذ إبراهيم عبد الحميد زكي
أحست مرة نحلة صغيرة جميلة أنها قد جاوزت سن الطفولة وبلغت من القوة حدّاً يسمح لها بالطيران وحدها لتجمع رحيق الأزهار وتصنع منه الشهد. فلما حلقت بالجو حمل إليها الريح أريج زهرة حمراء من عرائس النيل كانت نامية على جوانب الغدير، فاتجهت إليها وكادت تسقط عليها لتمتص ما فيها من حلو الرحيق، ولكن (عروس النيل) أبت عليها ذلك وصاحت بها تقول: (لا! أيتها النحلة، لقد أتيت هنا تريدين أن تشقي لك طريقاً بين أوراقي في عنف وقوة كما هو شأن أبناء جلدتك، وإنك لترغبين أن تمتصي رحيقي بغير مقابل. . . ولكن، لا. . . اعلمي إن كنت لا تعلمين أن عليك قبل ذلك أن تدفعي ثمن ما تطلبين). . . فصعدت النحلة في الهواء قليلاً، وحامت حول الزهرة مرات كثيرة، وعلى أزيز جناحيها علواً كبيراً ثم قالت: وما هذا الذي تطلبين (يا عروس النيل)؟ ألا يكفيك ما أنت فيه من نعيم: فها هو الماء العذب يجري حواليك، وهاهو النسيم العاطر يهب منك واليك. . .؟)؛ فجابت الزهرة: (ما أشد غباءك، وما أضيق ذهنك، أيتها النحلة الحمقاء؟ إن هناك شيئاً ينقصني ولا جدال، فارحلي عني وابحثي عنه، فإذا اهتديت إليه وعثرت عليه، فعودي إليّ. . .)؛ فتملك النحلة الغضب، وعلا أزيز جناحيها مرة أخرى، ثم انصرفت تبحث عما تريد منها (عروس النيل)
وبينما هي تطير حائرة مشغولة الفكر لمحت حشرة واقفة إلى جذع شجرة تقرضه، فأسرعت إليها وقالت لها: (أواه أيتها الحشرة! ألا نبأتني بما تريد مني عروس النيل؟)؛ ولكن الحشرة كانت لاهية في نفسها معنية بأمرها فأجابتها: (اذهبي عني. . . ماذا يعنيني من أمرك وأمر عروس النيل؟ ليس لديَّ من الوقت متسع لكما. . . ابحثي عن غيري!)؛ فصعدت النحلة ثانية إلى الجو، وعلا أزيز جناحيها من جديد، ولكنها رأت عنكبوتاً ينسج(458/51)
خيوط بيته في ركن تضيئه الشمس بنورها الساطع، فوقفت النحلة إلى جانبه وألقت عليه سؤالها؛ فقال لها العنكبوت: (إنها تريد ذبابة)؛ فأدركت النحلة أنه من أولئك القوم الذين يحسبون أمنياتهم صورة من أمنيات الآخرين، فولت وجهها شطر ناحية أخرى، وراحت تبحث عما تريد منها عروس النيل. . .
ورأيت فوقها سحابة فهرعت إليها وصاحت بها: (أتوسل إليك أيتها السحابة أن تخبريني ماذا اقدم لها؟) فأجابت السحابة (قطرات المطر) فسرت النحلة سروراً عظيما وعادت إلى عروس النيل على جناح الريح وقدمت إليها قطرة من الماء تفوق في حسنها حبة اللؤلؤ، ولكن الزهرة تمايلت على غصنها وقالت: (لا، إن الماء عندي كثير وقطرات الندى تساقط عليّ كل صباح) فنشرت النحلة مرة أخرى جناحيها وعادت للبحث والتنقيب. ورأت أشعة الشمس تداعب أوراق العشب فسألتها فقالت: (إنها تريد الدفء) فالتقطت النحلة إحدى الحباحب ثم عادت إلى الزهرة وقدمتها إليها ولكنها أبت أن تأخذها وقالت: (إن لي في ضوء الشمس الدفء كله. عودي ثانية للبحث)
وشاهدت النحلة بومة فسألتها فقالت لها (إنها تريد النوم فاذهبي إليها وروحي لها بجناحيك حتى تنام). ولكن الزهرة قالت: (وماذا أفعل بالنوم. إن النوم يأتيني كل ليلة فلا حاجة لي به منك) عندئذ كاد اليأس يتملك فواد النحلة فصاحت بصوت عال: (ترى ماذا تريد مني هذه الزهرة المتقلبة الأهواء؟)
وشاء القدر أن يسمع هذه النصيحة العالية راهب عجوز يقطن كوخاً في الغاب فنادى النحلة وقال لها: (ما اشد غباءك أيتها النحلة! أتريدين أن تعلمي ماذا تريد منك عروس النيل؟ إنه هذا) ثم طبع على جناحيها قبلة من أعذب القبلات
فاغتبطت النحلة لذلك كل الاغتباط وطارت بأقصها سرعتها نحو الزهرة وقبلتها في خفة ودلال. وعندئذ أحست الزهرة بالسعادة والهناء، وتفتحت أوراقها واستسلمت للنحلة لتمتص منها ما تشاء من الرحيق
هذه هي قصة النحلة وعروس النيل. . . والقبلة
(الإسكندرية)
إبراهيم عبد الحميد زكي(458/52)
العدد 459 - بتاريخ: 20 - 04 - 1942(/)
ومن هو ليوباردي؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
نعم، ومن هو ليوباردي؟
سؤال كنت أنتظره من كثيرين بعد مقالي السابق عن الشعراء الذين (لهم عالم) من الأوربيين والعرب. وقد سألنيه أكثر من واحد وحق لهم أن يسألوا؛ لأن ليوباردي ضعيف الشهرة من البلاد الشرقية ويوشك أن ينساه القراء الأوربيون على ارتفاع شأنه بين النقاد والمعجبين بالأدب الفحل والأساليب الرصينة والنزعات (الإغريقية) الصادقة في غير اصطناع ولا محاكاة
قلت في مقالي السابق: (إن أبا تمام يجيد في هذا المعنى ويجيد في ذاك، ولكنه لا يعرض لك العالم كله في حالة من حالاته، ولا يخرج لك نسخة عالمية تقرنها إلى النسخ الأخرى التي تستمدها من أمثال ابن الرومي والمتنبي والمعري في الشعر العربي، وأمثال شكسبير وجيتي وليوباردي في الآداب الأوربية) فمن هو ليوباردي هذا؟
هو بالإيجاز ثالث الثالوث الأكبر الذي اشتهر بالتشاؤم في أوائل القرن التاسع عشر: وهم بيرون الشاعر الإنجليزي، وشوبنهور الفيلسوف الألماني، وليوباردي الشاعر الفيلسوف الإيطالي الذي كان أصدق الثلاثة تشاؤماً وأحقهم جميعاً بالتشاؤم، والذي شاء القدر - الرحيم - أن يفارق الدنيا كما فارقها زميله بيرون قبل الأربعين، ولم يشأ له أن يعمر فيها كما عمر الفيلسوف الألماني إلى ما بعد الثمانين
ولد في عصر التشاؤم لأنه عصر الانتزاع من الماضي والشك في الحاضر والتهيب من المستقبل، وابتلى بكل سبب من أسباب التشاؤم ينغص لذة العيش ويرنق صفو الحياة، فاجتمعت عليه عراقة النسب مع الفاقة، واصطلحت عليه الأسقام وضآلة البنية، ودقة الحس، وفرط الذكاء، وخيبة الحب في مقتبل الشباب، وسآمة البيئة الريفية التي نشأ بينها واضطر إلى البقاء فيها، وأدركه الموت وهو أصم ونصف أعمى ومريض حرض منذ سنين
ومع هذا أي فحولة في الذهن، وأي مضاء في البديهة، وأي أمانة للأدب، وأي صدق في التعبير؟(459/1)
لكأنما كانت ملكاته الأدبية عوضاً معادلاً لمصائبه الجسدية، وكأنما خلق بنصيب عشرين في الذكاء وفي البلاء على حد سواء
تعلم في صباه ست لغات بغير معلم، وهي الإغريقية والعبرية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والأسبانية، فضلاً عن اللاتينية!
والتهم مأثورات الإغريق واللاتين جميعاً وأشربها إشراباً حتى أصبح وكأنه واحداً من أدباء يونان الأقدمين
ولما ضعف بصره طفق يشكو في رسائله إلى أصدقائه ويقول: لا أقرأ اليوم إلا ست ساعات في النهار!
وفجع المسكين حتى في هذا فنهى عن القراءة وعن الإصغاء!
ووجب عليه أن ينفق أيامه في قرية لا يشغله فيها شاغل غير التفكير الذي يحرق رأسه وجسده ويضنيه ولا يريحه. ثم ذهب إلى روما وهو مطبوع على الجد ومعاشرة العقول الكبيرة فضاق بها ذرعاً واحتواها أشد احتواء، وعاب على أهلها أنهم قوم هازلون لا يقرنهم بأهل قريته الذين يعرفون الجد وإن كانوا جهلاء لا يعرفون
صورته التي صور الدنيا عليها أشبه شيء بالرسم المظلل الذي لا لون فيه غير السواد، ولكنها مع سواد لونها صادقة في كل شيء ما عدا التلوين: صادقة في خطوطها ومسافاتها وأشباهها وكل لمحة من ملامحها، ولا خداع في نقل شيء منها على الإطلاق لتسويغ رأى أو لمجاراة عقيدة. فهي الأمانة التي لا أمانة بعدها في الشعور وفي الأداء، وهي الفحولة التي تعلو به فوق مصائبه وأشجانه وبلاياه، كأنه لا يتشاءم لأنه محروم من رجاء، بل لأنه يرثي للدنيا وما فيها من رجاء
لهذا العقل المتوهج عذره إذ رأى الحياة شراً ورأى أن الموت ختام لمأساة الحياة لا شر فيه. أو كما قال: (إن الموت ليس بشر لأنه ينجو بنا من جميع الشرور. وإذا أخذ من الإنسان شيئاً حسناً فهو كذلك يأخذ منه الرغبة فيه. إنما الشر الأكبر هو الشيخوخة التي تحرمه كل سرور وتبقي له اشتهاء ما حرمته، ووصب الداء العياء؛ ومع هذا يفرق الناس من الموت ويتوقون إلى الشيخوخة!)
ولهذا القلب البائس عذره إذ رأى كل حسن في الدنيا قريناً للموت زميلاً للفناء. وأي شيء(459/2)
أبعد عن هذه المزاملة من (الموضة) أو (الجديلة) التي يلهج بها الحسان وغير الحسان؟ أي شيء فيه من مخالفة الموت ما في دكاكين الزينة التي تتجدد فصلاً بعد فصل وموسماً بعد موسم؟
لكن ليوباردي يعقد المحاورة بين المنية والجديلة فإذا هما شقيقتان وزميلتان. لأن الجديلة كالمنية موكلة بالقضاء على كل موجود وتقبيح كل حسن بعد استحسانه، وتغيير كل عادة ألفتها الأبصار والأسماع، وهي في سلطانها نافذة لا هوادة في أمرها، ولا مناقشة لأحكامها، ولا حيلة معها غير الخضوع والتسليم
تنادي الجديلة أختها: يا منية! يا منية! فلا تلتفت إليها المنية ثم تعيد النداء فتجيبها متبرمة معرضة: إليك عني. إني آتية إليك لا محاولة، ولكن حين لا تريدينني ولا تهتفين باسمي. فتفهمها الجديلة أنها أخت شقيقة وليست (بعميلة) أو داعية أو فريسة
وتتفاهم الأختان بعد حوار كأمتع ما يكون الحوار، ثم تتداعيان إلى السباق وكسب الجائزة في مضمار الهدم والتبديل. فتقول المنية لأختها: ساعديني!
وتقول الجديلة لأختها: لقد ساعدتك حتى الآن أكبر مساعدة في مقدوري، وتركت عادة الموت بغير تبديل، وقد غيرت فيما عداها جميع العادات!
وتشفق الأخت الكبيرة أن يجيء اليوم الذي تبطل فيه هذه العادة كما بطلت عادات
فلا تدعها أختها الصغيرة على إشفاقها وحذرها، بل تجلب الطمأنينة إلى ضلوعها التي لا قلب فيها، وتشرح لها كيف تساعدها في بإرهاق الأبدان وتسميم العقول وتعويد الجوارح ما يضني ويسقم ويسلب الغبطة بالحياة. بل تقول لها إنها جعلت من (الموضة) في العصر الحديث أن يعيش الناس لحاضرهم ولا يحفلوا بعد موتهم بالذكر الحسن والخلود المجيد، وقد كان كلاهما حظاً مسلوباً من المنية وقسما تستبقيه الحياة بعد الفناء. فإذا خسرت الحياة هذا القسم النفيس فذلك كسب عظيم للمنية، وتلك هي الهدية التي تبذلها الأخت الصغيرة البرة للأخت الكبيرة التي لا تحفظ الجميل. وعلى ذلك تتفق الأختان
وللشاعر المتشائم محاورات كثيرة على هذا النحو الطريف، يعجب القارئ للعبقرية التي صبغتها بصبغة الفن الجميل وهي غارقة في الحزن والألم والسآمة، وخلقت منها للعقول متعة باقية وهي تنعى على كل متعة وكل بقاء(459/3)
ولقد كانت قراءة ليوباردي وزميليه في مقدمة القراءات المحبوبة عندي إلى ما قبل الثلاثين. ثم بقيت لها قيمتها الفنية الأدبية وبطل الولع بها والاشتياق إليها. فهي اليوم عندي في مقام التقدير والذكرى، وليست في مقام الاصطفاء والمفاجأة لم هذا؟
لسبب يخيل إلى بعض الناس أنه مناقض للمعقول والمنظور، وهو أن الشباب أميل إلى التشاؤم من الكهولة والشيخوخة، وأقرب إلى الطعن في محاسن الحياة والجهل بتلك المحاسن وهي بين يديه
ولا مناقضة للمعقول في هذا بل المناقض للمعقول أن يكون الأمر على خلاف هذا
فالشاب يخرج من بيته إلى معترك الحياة فيصطدم بالشدائد التي لم يعرفها بين الأب والأم والإخوان والأقربين، ويرى أخلاقاً غير ما عهد وألف وانتظر: يرى أناساً ينزعون ما في يده وقد كان يرى أناساً يعطونه ما في أيديهم، ويعلم أن نجاحه يغيظ قوماً يعاشرهم ويعاشرونه وقد كان يعلم أن نجاحه فرحة القلوب وقرة العيون، ويرجو كثيراً ولا يظفر بغير القليل. والمرء إذا انتظر مائة ووصل إلى عشرين ناقم ساخط متبرم، ولكنه إذا انتظر خمسة ووصل إلى عشرة يشكر ويرضى ويستريح
هذا سبب من أسباب الشكاية والتشاؤم في الشباب يزول أو يضعف كلما تقدمت به السن وجاوز أيام الدلال على الحياة
وسبب آخر أن الشباب يلتهم ما يتناوله فلا يفرق بين الطعام الفاخر والطعام المزهود فيه، كالمعدة القوية التي تستخرج الغذاء من كل الطعام، أو كالمعدة الجائعة يتساوى لديها الخبز القفار والمائدة المنتقاة
فهو يظفر بالمتعة ولا يدرى ما هي المتعة ولا يقيس الفارق بينها وبين غيرها بمقياس صحيح
وهذا سبب من أسباب الشكاية يضاف إلى ما تقدم فيغري بالتشاؤم في أوائل الحياة
وسبب غير هذا وذاك أن طول العشرة داع من دواعي الألفة والمودة وإن تباينت المشارب في أول اتصال. فإذا كانت الحياة قرينة ناشزة والشاب قريناً غضوباً في بداية الزواج فقد تطول العشرة فيقل النشوز ويقل الغضب، ويأخذ كل من الزوجين صاحبه على علاته، ويصل بالإرضاء والإغضاء إلى تسويغ الكريه وقبول المرفوض واستكثار القليل(459/4)
وسبب غير أولئك جميعاً أن تقديرك الشيء وأنت تحس أنك فاقده عما قريب غير تقديرك إياه وهو في قبضة يديك غير مهدد بضياع.
فإذا اجتمعت هذه الأسباب لم يكن عجيباً أن يقل تشاؤم الشيخوخة ويكثر تشاؤم الشباب
ولهذا جنحت إلى ثالوث التشاؤم كله فيما دون الثلاثين، وأحببت ذكراهم الآن كما يحب الإنسان ذكرى شبابه الباكر، وإن يرى بعد غير ما كان يراه
تلك لمحة إلى ليوباردي
بل تلك إشارة إلى صورة العالم الحافل المرسوم بالظلال والظلمات بريشة ذلك العبقري المحروم، الذي لم يحرم الدنيا كما حرمته، متعة لب ونفثة سلوى ورحمة غراء
عباس محمود العقاد(459/5)
الصوفية
للدكتور عبد الوهاب عزام
سألني الأديب إبراهيم العجلان رأي فيما يثور من الجدال حول الصوفية وعن فتوى الطرطوشي التي نشرت في الرسالة وفيها (مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلال، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه السامري كما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حوله ويتواجدون) الخ
وهذا جوابي للسائل الفاضل:
- 1 -
كان في المسلمين منذ شاعت هداية الإسلام عبّاد زهاد لا يتميزون بلباس أو شارة، ولا يفارقون الجماعة في قول أو فعل؛ ثم امتاز منذ أواخر القرن الثاني جماعة من الزهاد باسم الصوفية وحدثت لهم سنن وآداب ميزتهم عن جمهور الأمة، ونشأت بينهم أقوال وأفعال لم تكن معروفة بين المسلمين. ثم نبغ لهم إمام بعد آخر كان لأقوالهم وأفعالهم آثار واضحة في اتجاه الطريقة وحدودها
كان التصوف أول الأمر زهداً، ثم صار معرفة وحباً، ثم صار فناء وخطت سبل لتربية السالكين فصار التصوف طريقة، ونشأت فيه أساليب من النظر واختلط به آراء من الفلسفة فصار له فلسفة أو ما يشبه الفلسفة
وإذا أردت أن تتبع تطور التصوف في تاريخ الرجال فانظر في سير أمثال الحسن البصري وسفيان الثوري ثم أمثال شفيق البخلي وإبراهيم بن أدهم والسري السقطي ومعروف الكرخي، ثم أمثال الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي ثم الحلاج والسهروردي المقتول وابن العربي
وليس التصوف مذهباً واضح الحدود بيّن المعالم يجمع كل من دخل فيه على آراء متفقة، وأعمال متشابهة، بل فيه آراء مختلفة وأقوال متباينة، وسير شتى. فيه تصوف الخاصة والعامة وطريقة المقتصدين والغلاة وأقوال الصالحين والسكارى
- 2 -(459/6)
وقد ظهر في التصوف منذ امتازت معالمه ووضحت رسومه أهل الصحو وأهل السكر؛ الأولون يضبطون أنفسهم ويؤلفون بين أقوالهم وأعمالهم وبين الشريعة، والآخرون يرمون حين يغلبهم الوجد بالكلام المغلق المبهم أو القول لا يوافق الحدود التي حدتها الشريعة للعقائد والأعمال
وأرى أن أوضح مثل لهذين الضربين: الجنيد البغدادي وأبو يزيد البسطامي. كان جنيد وقوراً رزيناً لا يغلبه الوجد على نفسه؛ وأبو يزيد - كالشبلي البغدادي - يرمي بالكلمة بعد الكلمة ينكرها الناس ويضجون منها أو يعجبون لها ويتحيرون، فيجتهد الجنيد في تفسيرها وتأويلها. وفي كتاب اللمع لأبي نصر السراج أمثلة من هذا
وممن التزموا المحجة الواضحة كالجنيد جماعة ألّفوا في التصوف وبينوا حدوده وملاءمته للشرع، مثل أبي القسم القشيري صاحب الرسالة، والسراج صاحب اللمع، وأبي طالب المكي صاحب قوت القلوب، والغزالي
- 3 -
والخلاف بين العلماء أهل الظاهر، والصوفية أهل الباطن، قديم مديد نشأ منذ صار التصوف طريقة واستمر إلى يومنا
وحسبك أن تقرأ ما كتب ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس): (العلماء يرمون الصوفية بالخروج على الدين، والصوفية يرمون العلماء بالوقوف على الصور والأشكال، ويرون أن علمهم لا يغني في سبيل الله فتيلاً). وكم سخر الصوفية من أهل الظاهر ووصفوهم بالغلظة والجفاء والقصور عن إدراك البواطن وتذوق المواجد. وليس يتسع المقام لبيان هذا
وقد وجد العلماء في سير بعض الصوفية ما يقوّي حجتهم ويصدق دعواهم. وقد تسمى باسم الصوفية أفراد وطوائف جعلوا التصوف وسيلة إلى مآربهم وشهواتهم؛ كما قال المعري:
لو كنتم أهل صفو قال ناسبكم ... صفويةٌ فأتى باللفظ ما قلُبا
جند لإبليس في بدليس آونة ... وتارة يحلبون العيش في حلبا
والشكوى من الصوفية قديمة نجدها في الرسالة القشيري المتوفى سنة 465. ويقول في مقدمة الرسالة: (ثم اعلموا حكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق(459/7)
في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
وحصلت الفترة في هذه الطريقة، لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة. مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقلّ الشبان الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء. وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان
ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحدروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجري عليهم أحكامه وهم مُحْو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يؤدونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشِفوا بأسرار الأحدية، واختُطِفوا عنهم بالكليّة، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد غنائهم عنهم بأنوار الصمدية. الخ)
وقد حدثت بعد القشيري أحداث. ونجمت مذاهب ضج الناس منها، وضيع كثير من حقائق الطريقة وحفظت صورها، وخف على العامة وأشباههم أن يراءوا بأقوالهم الغريبة وأفعالهم العجيبة، إذ قصروا عن إدراك الدقائق؛ وعجزوا عن معرفة الحقائق
وفي الصوفية اليوم أهل الورع الصادقون الدائبون في رياضة النفس وتهذيبها وكبحها، وهداية الناس وتهذيبهم في غير عجب ورياء ولا جلبة وضوضاء. ومنهم الجاهلون الذين لا يعرفون من التصوف إلا الأصوات والحركات، والملابس والشارات. ليس لهذا الأمر إلا تحكيم الشرع، والاتفاق على فروضه وسننه وآدابه، وكلهم مسلمون راضون بحكم الشريعة جديرون أن يجتمعوا عليها، ويتآخوا فيها
وسأبين في المقال التالي التصوف الذي يلائم الإسلام والذي ندعو إليه في هذا العصر أن شاء الله
عبد الوهاب عزام(459/8)
قبل اليوم المشهود
للدكتور زكي مبارك
قضى آدم في صحبة حواء ساعات وهو ينتظر اليوم المشهود في ساحة العدل، وهي ساعات كانت أطول من الدهر وأثقل من الجبال
وزاد في كروب تلك الساعات أن آدم لم يكن في حقيقته إلا خلقة فطريةُ يعوزها الصقل والتهذيب، فكان يبدي ويعيد في حكاية شجرة التين، بعبارات محمَّلة بُعنجهية الملامة وقظاظة التريث؛ وكانت حوّاء تصبر على أذاه في حين وتثور في أحايين، وكذلك كانت تلك الساعات أعنف وأفظع من الحساب المرتقَب في ساحة العدل
- آدم، هل وصلت إليك الأنباء الأخيرة؟
- أيّ أنباء؟
- لقد اختصم الأسود والقرود
- ثم؟
- ثم اختصم الملائكة المقرَّبون
- وفيم يختصم أولئك وهؤلاء؟
- في أمرنا بعد العصيان
- وما قيمة ذلك؟
- لقد فهمت مما سمعت أن الرأي العام يعطف على قضيتنا كل العطف
- الرأي العام كله؟ كل سكان الجنة ينظرون إلى قضيتنا برفق؟
- ليسوا جميعاً سواءً، وإنما عطف علينا الأكابر من أولئك السكان
- والأصاغر؟
- هم دائماً أصاغر، ولا قيمة لضجيجهم الصخّاب
- ليس في هذا ما يزيل مخاوفي، يا حواء، فما خشيت يوماً أن يصيبني أذىً من أكابر الخلائق، ولا جاز في وهمي أن تَصدُر كلمة الإفك عن مخلوق جمّله الله بالقوة أو بالعقل، وإنما الخوف كل الخوف من الأصاغر، فهم الذين يذيعون الصحيح والعليل من أخبار السوء، وهم الذين يطمسون محاسن الأكابر بالإفك والإرجاف، ليقال إن الوجود ليس فيه(459/10)
فاضل ومفضول
- لا عليك من هؤلاء، فلن يسمع أحدٌ ما يأفكون. . . وهل ضعُفت العقول حتى تُسيغ أقاويل المرجفين؟
- لو كانت العقول تَنقُد كل ما تسمع، وفي كل وقت، لرجوتُ أن تسقط أراجيف الكاذبين، ولكن العقول لا تَنقُد كل ما تسمع، ولا تنصب ميزاناً لكل ما يقال، وسترين يا حواء أن أصحاب العقول أقلية ضئيلة، وهم مع ذلك لا يشغلون أنفسهم بإنصاف المظلومين، وليس فيهم من يترك أعماله ليرفع الشبهات المفترات من طريق المروَّعين بالبهتان
- ألم تسمع أن الأسود غضبت من تطاول القرود؟
- سمعتّ، ولكني أعتقد أنها غضبة وقتية، فستجد للأسود شواغل تصرفهم عن تأديب أولئك الأنذال
- وقد غضبت البلابل أيضاً
- أعرف ذلك، فقد سمعتها تقول إن آدم هو المخلوق الوحيد الذي يطرب لصوتها الرخيم، وأنه إن خرج من الجنة فلن تهشّ للتغريد. . . ولكن من يضمن أن يدوم هذا العطف؟ نحن شجّعنا البلابل والعنادل على الغناء، وأقمنا لهم دولة، ونبهّنا الخلائق إلى ما يملكون من جواهر السجع والرنين. فهل يذكرون هذا الفضل بعد أن نخرج من الفردوس؟ أنا أخشى أن تصفق لهم الضفادع فيرون النقيق من صور الثناء!
- هل بلغك ما قالت الببغاوات؟
- نعم سمعت أنها قالت (إن مخارج الحروف عند آدم سهلةٌ لينة، وأنها تحاكيه في النطق بلا عناء، فهو بذلك أجمل مخلوق) وأنا من هذا أخاف يا حواء
- وكيف؟
- ستستطيع الببغاوات أن تزعم أنها خلائف
- خلائفُ مَنْ؟
- خلائف الحيوان الناطق
- خلائف آدم؟
- إي، إي، أليست تنطق كما ينطق؟(459/11)
- ولكنها لا تفقه شيئاً مما ننطق؟
- من حق الببغاوات أن تدّعي لأنفسها ما تشاء، حين يغيب أهل العقل والبيان
- ولكن أهل الجنة سيذكرون دائماً أنك وحدك الشاعر والخطيب
- أهل الجنة لن يذكروا شيئاً، وسوف تعلمين
- خبلتني، خبلتني!
- إن كنتِ في حاجة إلى تزيد من الخبال، أيتها المخبولة الحسناء. . . اسمعي
- إنك تُرعبني حين تقول اسمعي
- اسمعي يا حواء، ثم اسمعي، المجد يحتاج إلى حراسة، والأصدقاء يحتاجون إلى حراسة، وقد تكون رعاية الغنم أسهل من رعاية الأصدقاء، ولن يحفظ عهدنَا أحدٌ حين نغيب
- ولا الظبي الذي ربيناه منذ أسابيع؟
- سيجد ذئباً يرعاه، وسيأنس بالأنياب الحِداد، أضعافَ ما أنِس بالأنامل اللطاف
- هي أناملي، لا أنامِلُك
- حتى في أوقات الكرب الماحق لا تنسى المرأة أنها مخلوق لطيف!
- ترتاب في جمالي؟
- أستغفر الله!
- ولا تستغفر الحب؟
- وأستغفر الحب وأتوب إليه!
- صِدق، صِدق؟
- وهل كذبتُ عليك يوماً يا حواء؟
- أنا إذاً جميلة وأنت تحبني؟
- ما أحببُتك يوماً، ولا رأيتك جديرة بالحب، لأن عقلك أصغر من عقلي، والحب تفاهم بين عقلين، قبل أن يكون تلامساً بين جسمين، ولكن صوتاً يزعجني يا حواء
- وما ذلك الصوت المزعج؟
- هو الصوت الذي يصرخ بأن لابد لآدم من حواء
- تقول هذا وأنت الذي يُشغل عني بما في الفردوس من شجر ونبات وطير وحيوان؟(459/12)
- أنا شُغلِتُ عنك بتلك الخلائق؟ هيهات ثم هيهات! كنت أتأمل الأشجار لأعانق الغصن الذي يشبه قدك النشوان، وكنت أداعب الأزهار لأرى فيها شمائل من خدك الوهاج، وكنت ألاعب الأطيار لأسمع سجعاً يذكّر بصوتك المقتول، وكنت أناغي فصائل الحيوان لأعرف أن لك صوراً في عيون الجآذر وأجياد الظباء. حبك يا حواء أذواني وأضناني وأبلاني، وستسمعون من أخباري ما تكرهين
- عَدَتْك العوادي، أيها الفارس الجميل!
- سأصبح فارساً بلا فَرَس
- أنت؟
- نعم، أنا، فقد حدثني أحد الملائكة أن الله لا يقيم وزناً لهفوات النساء، فإن القضاء الذي سيقام في ساحة العدل سيجعلني المدين
- وحدك؟
- وحدي!
- وإذن؟
- وإذن أهبط الأرض وتَبْقَيْنَ في الفردوس
- مع من؟
- مع جميع هذه الخلائق من شجر ونبات وطير وحيوان ومع نهر الكوثر، ومع الملائكة المقرَّبين
- أهذه خلائق؟
- بالتأكيد، وفيها الكفاية لمن يحتاج إلى أنيس
- وأصير كالدَّجاجة الحائرة عند غياب الديك؟
- كيف تحارين وأنت بين المهتدين؟
- هداية حواء في غيبة آدم هي أقبح صورة من صور الضلال
- سيقضي الله في أمرنا بما يشاء
- الله سيقضي بأن تعيش المرأة بلا رجل؟
- سيقضي الله بالعدل، فالرجل أذنب والمرأة لم تذنب، والعقاب لا يحق على غير المذنبين(459/13)
- تخرج من الجنة وأبقى وحدي بحجة أنك المذنب؟
- بالطبع!
- وهذا عدل؟
- هذا هو العدل.
- والله يريد ذلك؟
- يقال!
- آدم، سترى أنني أشجع منك، وأوفى منك!
- من السهل أن تكوني أشجع مني، ولكن من الصعب أن تكوني أوفى مني
- المرأة لا تعتصم بالدلال إلا في أوقات الصفاء، وهي عند الخطر فداء الرجل من جميع الأسواء. ألم تسمع حديث الصائد؟
- وما حديث الصائد؟
- إذا ساور الصائد أسداً ولَبُؤَة، كان عليه أن يقتل اللبؤة قبل أن يقتل الأسد
- ولماذا؟
- لأن الأسد ينسحب بعد إانصراع اللبؤة، أما اللبؤة فتقاتل بعد انصراع الأسد إلى أن تموت
- وأنا سأجادل الله يا آدم
- وتجادلينه يا حواء؟
- أنا أفصح من جميع المحامين، والمرأة تحارب بالدمع حين تعجز عن المحاربة باللسان
- ولكن الله أكبر من أن ينخدع بدمع المرأة ولسانها
- أنا أعرف الله أكثر مما تعرف
- كل شيء جائز إلا أن تصل المرأة إلى معرفة الله على الوجه الحق
- أنت لا تعرف خطر المرأة حين تصرخ وتولول
- أو ينزعج الله عزّ شأنه بالولولة والصراخ؟
- سترى كيف أصنع، سترى، سترى، سأقيم مناحة في ساحة العدل، وسيبكي معي جميع الإناث من الطير والحيوان(459/14)
- والنتيجة؟
- النتيجة معروفة منذ هذا الوقت، فسيصفح الله عنك، ليريح أهل الجنة من الولولة والصراخ
- ويقول التاريخ إن آدم نجا من العقاب لأن امرأته بكت في ساحة العدل؟
- ما قيمة التاريخ، وهو لفظٌ بلا مدلول، ولا يعتزُّ به غير الضعفاء؟
- وتقولين كلما اختصمنا إنك سبب نجاتي!
- هل يؤذيك أن تعترف بفضلي عليك؟
- تمنّين علي قبل أن يقع الفضل المزعوم؟ أنت السبب فيما أعاني من البلاء ومع هذا تطالبين بالثمن لدفع نكبةٍ جناها عقًلك المنخوب!
- أنا أعقل منك!
- لأنك أغريتني بالأكل من شجرة التين؟
- وهل في الجنة شيء اسمه شجرة التين؟
- تكذّبين الواقع الملموس؟
- واقع ملموس؟ ما هذا الكلام الأجوف؟
- شجرة التين، يا حواء، شجرة التين
- قلت لك إن الجنة ليس فيها شيء بهذا الاسم الغريب
- ولم نقع في العصيان؟
- أي عصيان؟
- العصيان الذي أوجب أن نفتضح، يا حواء
- وكيف افتضحنا، يا آدم؟
- بظهور السوءتين
- الطير والحيوان لا تعرف ستر السوأتين، فأرح نفسك من هذا العناء
- أترين أن أواجه الله بهذا القول؟
- واجِه اللهَ بما تشاء، ولا تخف غضبه عليك!
- وكيف؟(459/15)
- لأنه لن يصنع بك اشد مما صنع
- ماذا؟ ماذا؟
- لقد خلق لك ضميراً، ثم خلق لك ضميراً، لتقضي حياتك في عذاب!
- وإذن؟
- وإذن تكفر بالله وتثور عليه
- لأصير. . .
- لتصير حيواناً سعيداً كسائر أصناف الحيوان
- الفضيحة الأبدية، ولا هذا المصير، يا حواء
- ماذا تريد بنفسك يا آدم؟
- أريد أن أكون أول مسئول أمام الله في هذا الوجود
- وما غنيمتُك من هذه المسئولية؟
- هي أن أتشرف بالثواب والعقاب
- الله قد يعاِقب ولا يُثيب
- يهمني أن أَعاقَب ولا يهمني أن أُثاب
- لأنك. . .
- لأني رجل، وسعادةُ الرجولة في احتمال التبعات
- وبهذه العقيدة ستلقَى الله في ساحة العدل؟
- نعم، نعم
- وإذن يكون من حقي أن أقول إني في صحبة رجل هو أشجع الرجال وأشرف الرجال!
(للحديث أفانين)
زكي مبارك(459/16)
برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء
أحلام. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
كنت يوماً من الأيام راضي النفس، ساكن الجأش، هادئ العاطفة؛ ونظرت فإذا بارقة من أمل تبرق في جو الأزهر فينبثق منها نور وهَّاج تضوء به أرجاؤه، وتصفو له سماؤه، ويشرأب إليه الناس بأبصارهم وأعناقهم متطلعين
كتبت يومئذ في (الرسالة) مقالاً: أما موضوعه، فهو موضوع اليوم (برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء)؛ وأما عنوانه الذي أوحت به النفس يومئذ، فقد كان كلمة جميلة خفيفة على الأسماع، أعتقد أنها ترجمة واضحة لما كان يدور بالنفوس المستبشرة قبل أن تكون عنواناً لمقال يتحدث عن أعمال (جماعة كبار العلماء)، تلك الكلمة هي (آمال. . .)
ولكنني أعترف الآن أنني كنت مغالياً ومسرفاً في الخيال إلى حد بعيد حين اخترت هذه الكلمة عنواناً لمقالي، وأنه كان عليَّ يومئذ أن أذكر تاريخ الإصلاح في مصر بوجه عام، وتاريخ الإصلاح في الأزهر بوجه خاص، لأختار كلمة أخرى غير كلمة (الآمال). ولست أدري: أمن تقاليد (الرسالة) أن تسمح أحياناً لكتابها بتصحيح ما سلف من العناوين؟ ولكن أنَّى ذلك وقد سارت بذكرها الركبان، وانقضى عليها أزمان وأزمان؟
عفا الله عما سلف! وليكن حديث اليوم تصحيحاً لحديث ألامس، ولنجعل عليه عنواناً غير ذلك العنوان، هو (أحلام. . .)
كتب الأستاذ الكبير صاحب (الرسالة) مقالاً خطيراً بالعدد (456) عنوانه (لابد للإسلام من مؤتمر)؛ وقد استعرض فيه حالة الشرق والعرب، وذكر تودد الغرب إلى المسلمين في ظروفهم الحاضرة، ثم عرج بالحديث إلى (العلماء) فقال:
(ولئن سألتني بعد ذلك: هل بلَّغ العلماء رسالة الله؟ لأقولن لك (لا) مغلظة مكبرة مكررة! وأكبر الظن أنهم لا يؤمنون بأن لهم رسالة، وأن عليهم تبعة: رجال السياسة يعملون بحق أو بباطل، ورجال الحكم يتصرفون بعدل أو بظلم؛ أما رجال الدين في ممالك الوطن الإسلامي كله، فقد قنعوا باللقب والزي، واكتفوا بالشبع والري، ورضوا أن يكونوا متوناً لذوي الطمع، وحواشي لأولي النعمة، وهوامش على صفحة الحياة!)(459/17)
قال الأستاذ الزيات ذلك. ومضى في مقاله البليغ يؤيده بالحجج، ويضرب له الأمثال، ويهز به النفوس، ويثير به كوامن الشجون؛ ثم قال: (لقد عقدنا الآمال بالأزهر في كل ذلك، فهل عقدناها بلعاب الشمس؟ كانت جماعة كبار العلماء معقد الرجاء ومناط الثقة. . . ولكن برنامج الإصلاح الذي اقترحه شبابها المصلحون، وأقره أقطابها المخلصون، قد أدركته أزمة رجعية توشك أن تخنقه في درج المشيخة؛ فإن عضواً من الجماعة يوجس منه شراً: فهو ينسج حوله الشكوك، ويؤلب عليه القوى وقد نجح في ذلك. فهل يجوز في ظن امرئ أن يكون في كبار العلماء من يشتبه عليه الحق والباطل والخير والشر والصلاح والفساد؟ ذلك ما لا نصدقه، ولا نود أن تجري الأمور بما يحققه)
قرأت هذا المقال مثنى وثلاث ورباع، واشتد عليَّ وقعه، وساءني هذا النبأ الهائل الرهيب الذي تضمنه، وقلت لنفسي: هذا يوم له ما بعده! سوف يتكلم الأزهر، وسوف يدفع العلماء عن أنفسهم، وسوف تتحرك الجماعة الموقرة لتثبت للناس أنها سامعة لكل ما يدور حولها، واعية لكل ما يقال عنها، ولكني تلبثت لذلك أسبوعاً، واستظهرت من بعده بأسبوع آخر فلم أجد أحداً من الأزهريين، رسميين أو غير رسميين، يعرض لذلك بتصحيح أو تكذيب، ولم ألمح في جو الجماعة ما يدل على أنها موشكة أن تجتمع لترى في برنامج الإصلاح رأيها. وقد عنيت في أثناء ذلك أن أستمع إلى أحاديث الناس في الأزهر وغير الأزهر عن هذا الشأن الخطير، فسمعت أحاديث عجباً!
هذه رواية تقول: أن أشخاصاً معينين قد ألفوا التعويق عن الخير، والتخزيل عن الإصلاح، قد وقفوا من هذا البرنامج موقف المحارب في السر والعلن، وجعلوا يصرحون في مجالسهم بان هذه المقترحات لن تتم أبدا، لون تأخذ طريقها إلى التنفيذ!
وهذه رواية أخرى تنقل عن أحد أعضاء الجماعة عبارة يدأب على ترديدها ويرمي بها في وجوه الناس إذا سألوه فيقول: إن هؤلاء الشبان من أعضاء الجماعة يريدون أن يقلبوا الدنيا وأن يغيروا أوضاع العلم في الأزهر. وأن يفسدوا الدين!
وهذه رواية ثالثة تقول: إن مديراً من مديري إدارات الأزهر قد ساءه أن تفكر الجماعة في انتزاع إدارته من يده. فأقسم برأس جدوده من الشراكسة: لن يتم هذا البرنامج ولو كان بينه وبين التمام خطوة واحدة(459/18)
على أن أثراً آخر من آثار التفكير في هذه المقترحات قد حدت فعلاُ، وبرز بروزاً رسمياً. ذلك أن لجنة معروفة في إدارة المعاهد الدينية قد رأى بعض أعضائها في هذه المقترحات مساساً بهم، وتعريضاً بكفايتهم. فاتفقوا على أن يستقيلوا من هذه اللجنة ورفعوا استقالتهم فعلاً إلى فضيلة الأستاذ الأكبر، ولكنه لم يقبلها وأمرهم بالبقاء في أعمالهم!
وتقول جريدة (البلاغ) الغراء في عددها الصادر مساء التاسع من شهر أبريل الحاضر ما نصه:
(قد رددت إشاعات نرجو ألا تكون صحيحة، خلاصتها: أن بعض أعضاء جماعة كبار العلماء مع قبولهم هذا المبدأ وسائر المبادئ التي تحقق الإصلاح وتنظم جهود الجماعة والأزهر والتي انتهت إلى قبولها لجنة بحث المقترحات، لا يرون أن تنفذ تلك الآراء لأن في قبولها وتنفيذها اعترافاً ضمنياً بتقصير الجماعة عن التفكير في ذلك فيما سبق، وهذا موقف لا يرضاه أعضاء الجماعة لأنفسهم)
وهكذا تختلف الروايات تبعاً لتعدد مصادرها. ولكنها كلها تجمع على شيء واحد هو: أن عقبات تقف في طريق هذه المقترحات وتحول بينها وبين النور أن تراه، فهي لذلك حبيسة في (درج المشيخة) وستظل حبيسة في هذا الدرج حتى يأذن الله
يا ويلتا! أيموت هذا المشروع أيضاً كما ماتت من قبله مشروعات؟ وماذا يقول الأزهر بعد ذلك للأمة وقد نادى في أرجائها البشير: أن قد استيقظ العلماء، وهبوا للعمل، وشمروا عن ساعد الجد في خدمة الدين ونصرة الشريعة؟
أهكذا يا مصر تنفرج فيك إلى هذا الحد (مسافة الخلف بين القول والعمل؟). أحين تكون الأعمال فكَراً تجول في النفوس، أو مشروعات تكتب على الأوراق، يسمع الناس لها ضجيجاً عالياً، ودوياً صاخباً، ويرون من حولها هيئات تجمع، وجلسات تعقد، وأقلاماً تكتب، وصحفاً تنشر، وبشارات تتوالى، وبخيل بها على الناس أن الأمر جد، وأن الوعد حق، وأن ساعة التنفيذ آتية لا ريب فيها؛ ثم تمضي الأيام، وتتلاحق الشهور والأعوام وهذه المشروعات ساكنة لا حراك بها، يعلوها غبار، ويرهقها قُتار، وتوحشها ظلمات الإهمال أو النسيان
أجل! أجل! و (أيٌّ هكذا خلقت!)(459/19)
ارجع، أيها القارئ، إلى مجموعات الصحف والمجلات والسجلات الحكومية تر العجب العجاب: برامج للتعليم بعضها في أثر بعض، وبرنامج لإنقاذ الفلاح وتحسين حالة الفلاح، وبرامج للشئون الاجتماعية، يطنطن بها الدعاة، وتمتلئ بها المسامع والأفواه، وبرامج حتى للطرق، وتنظيم المدن، وتخطيط الشوارع تتداولها أوامر الإقرار تارة، والإلغاء تارة، والتعديل تارات؛ وهكذا تفيض مصر بالبرامج إلى البرامج حتى لو عنينا بجمعها وترتيبها والتبويب لها لأخرجنا من ذلك كتاباً ضخماً ذا مجلدات! ولكنها برامج لم توضع لتنفذ وتطبق، ولكن لتكون آية يستدل بها الناس على عبقرية واضعيها، ولتكتب عنها الصحف أياماً أو شهوراً فتفيض في تعديد مزاياها، وتطنب في بيان فوائدها وما يرجى من آثرها. وما بي من حاجة إلى دليل أؤيد به ما أقول، فهذا هو التعليم يتعثر في خطاه، وهذا هو الفلاح ما يزال كما كان يشرب الطين المذاب، ويذوق من فقره ودَيْنه ومرضه ألوان العذاب. وهذه هي برامج مصلحة التنظيم يحسب الناس لكثرة ما اعتورها، وشدة الإبطاء في تنفيذها، قد وضعت لتنفذ وينعم بمزاياها سكان البلاد في القرن الثلاثين، لا في هذا القرن العشرين!
فلماذا لا يكون الأزهر أيضاً كهذه المصالح الحكومية؟ إننا معاشر الأزهريين مصريون، ولا أحسب أن المصرية تتمثل بجميع خصائصها في بيئة من البيئات كما تتمثل في الأزهر، فإذا أراد امرؤ أن يطبق على هذا الخلق الذي سجله أمير الشعراء على مصر حين قال:
(كل شيء فيه ينسى بعد حين)
وجد الأمثال بين يديه حاضرة في الأزهر قبل سواه، فله أن يمثل (بمشروع ترجمة القرآن) لو إن شئت فسمه (مشروع ترجمة تفسير القرآن) وله أن يمثل (بلجان العيد الألفي للأزهر) التي ألفت على الورق، ورصدت في السجلات، ولم تعمل شيئاً، بل لم تجتمع فيما أظن حتى اليوم! وله أن يمثل (بمشروع تنظيم المكتبة الأزهرية العظيمة) الذي اجتلب له خبير فني من المتخصصين في برلين. وله أن يمثل (بمشروع إصلاح مجلة الأزهر) الذي ألفت له لجنة وقد كان الأستاذ الزيات أحد أعضائها، ثم اختنق تقريرها وليداً وما زالت المجلة كما كانت بل أسوأ مما كانت كما يعترف بذلك رجال الأزهر المسئولون. وله أن يمثل (بالبعوث الأزهرية) التي اهتممنا بها مرة في الدهر واحدة ثم لم تعد كأنها بيضة الديك التي(459/20)
يذكرها في بعض شعره بشار!
له أن يمثل بهذا كله مما ذكرنا، وله أن يمثل بغيره مما لم نذكر، فليس الأمر إذن أمر برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء وحده، وإنما هو أمر الأزهر جميعاً. هو أمر برامج كثيرة حاولها الأزهر، وعنى بها فضيلة الأستاذ الأكبر؛ بل إننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن هذه المشروعات جميعها إما بتفكير مباشر من فضيلته، وإما بتفكير يستمد من روحه وإلهامه، ويراد به تحقيق غايته في الإصلاح، وتنفيذ رغباته في النهوض بالأزهر، وإعلاء كلمة الله، وقد حظيت هذه المشروعات كلها بكفالته فاحتضنها وأيدها وأبدى رغبته في تنفيذها، فما هو السر إذن في أن هذه المشروعات النافعة تموت في طفولتها، بل تختنق في مهدها؟ ألا إن السر في ذلك لمعروف: إنه يرجع إلى الذين ألفوا أن يعوقوا الإصلاح، ويشككوا في الخير. يرجع إلى المخزلين المثبطين الذين يغشى النور أبصارهم فلا يحبون أن يروا إلا الظلام، ويدوخ الجو النقي الصافي رءوسهم فلا يحبون أن يعيشوا إلا في الفساد. إنه يرجع، يا سيدي الأستاذ الأكبر، إلى الذين مردوا على النفاق، ورضعوا أفاويقه، وتلونوا في كل عهد بلون، ولبسوا لكل حالة لبوسها؛ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم!
هنا فقط موضع العلة ومكان الداء، وهنا فقط مفصل الدواء، ومقطع العلاج، لمن أراد العلاج!
رباه! ماذا قلت؟ وأي سر كشفت؟ ولكن. . . لا! إن الأمر لم يعد سراً. وهل سرٌّ ما تفيض به المجالس والأندية، وتخوض فيه الصحف والمجلات؟
إنني أتخيل أبناءنا وأحفادنا القادمين وقد أرادوا أن يحصوا لنا أعمالنا ويدركوا مبلغ برنا بوعودنا: أتخيلهم وقد وجدوا في صحفنا، في جرائدنا ومجلاتنا، مشروعات أعمالنا، فجعلوا يتابعون البحث في هذه الصحف عدداً بعد عدد، ومجلداً بعد مجلد، لعلهم يعثرون فيها على خبر التنفيذ كما رأوا أخبار التفكير، لعلهم يرون آثار الأعمال كما رأوا آثار الأقوال، ولكنهم - وا خجلتاه - سيبحثون جاهدين، ثم يوالون البحث صابرين، فلا يجدون لهذه الأعمال أثراً، ولا يحسون منها شيئاً، ولا يسمعون لها ركزاً. فلعل أحدهم يومئذ يضطجع كما يفعل امرؤ أعياه البحث وأضناه التعب ثم يقول:
رحمة الله عليهم أيها الآباء! لقد كنتم تعرفون حقاً كيف تكون الـ (أحلام. . .!)(459/21)
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(459/22)
وهم شائع
موشحة ابن زهر لا موشحة ابن المعتز
للأستاذ طه الراوي
ابن زُهر
آل زهر أسرة إيادّية أندلسّية، برّز كثير من رجالها في العلوم والآداب، وتفرّد منهم جماعة في الطب والفلسفة. وكان إمام جماعتهم وواسطة قلادتهم أبو بكر محمد بن أبي مروان ابن أبي العلاء بن زهر المتوفى سنة 596 هجرية. وقد تميز أبو بكر هذا في علوم كثيرة وآداب وفيرة. وبرع في علم الطب والفلسفة والآداب العربية. وكان حافظاً للقرآن راوياً للحديث، وعانى قرض الشعر، وله موشحات مشهورة يغني بها، وهي من أجود ما قيل في ذلك. قال بعض من ترجموا له: (لم يكن في زمانه أعلم منه بصناعة الطب. وكان معتدل القامة، صحيح البنية، قوي الأعضاء، صار في سن الشيخوخة ونضارة لونه وقوة حركاته لم يتبين فيها تغير. وكان ملازماً للأمور الشرعية، متين الدين، قوي النفس، محباً للخير، مهيباً؛ وله جرأة في الكلام؛ وكان صائب الرأي، حسن المعالجة، جيّد التدبير. وكان كثير الإبداع في الشعر مع سلامة ذوق وسجاحة طبع، وانسجام أسلوب، وجمال ديباجة. فمن ذلك قوله يتشوق إلى ولده:
ولي واحد مثل فرخ القطا ... صغير تخلّف قلبي لديه
نأت عنه داري فيا وحشتا ... لذاك الشخَيص وذاك الوجَيه
تشوقني وتشوّقته ... فيبكي عليّ وأبكي عليه
وقد تعب الشوق ما بيننا ... فمنه إليَّ ومنّي إليه
ومن ذلك قوله:
إني نظرت إلى المرآة إذ جُليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شييخاً لست أعرفه ... وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحّل عن هذا المكان متى
فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت ... قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتي(459/23)
هوّن عليك فهذا لا بقاء له ... أما ترى العشب يفنى بعد ما نبتا
موشحة ابن زهر
قال جماعة ممن ترجموا له: من موشحاته قوله:
أيها الساقي إليك المشتكي ... قد دعوناك وإن لم تسمع
ومن أشهر المؤرخين الذين نسبوا هذا الموشح إلى محمد ابن زهر هو المحقق ياقوت بن عبد الله البغدادي الحموي المتوفى سنة 626 هجرية. قال في ترجمة ابن زهر من كتابه (معجم الأدباء صفحة 216 من الجزء الثامن عشر) ما نصه: (وانفرد ابن زهر بالإجادة في نظم الموشحات التي فاق بها أهل المغرب على أهل المشرق. . . ومن موشحاته قوله:
أيها الشاكي إليك المشتكي. . . الخ
وسرد الموشحة إلى آخرها. ومنهم موفق الدين أبو العباس أحمد ابن القاسم السعدي الخزرجي في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) فقد أثبت له هذه الموشحة في جملة موشحات أخرى عندما ترجم له في الباب الثالث عشر من الجزء الثاني من كتابه المذكور
ولا أدري أي شيطان سول لبعض المتأخرين أن ينسب هذه الموشحة إلى عبد الله بن المعتز فتهافت على هذا الخطأ جماعة من المعاصرين الذين أخرجوا للناس مجاميع أدبية فجزموا بنسبة هذه الموشحة إلى ابن المعتز مع أن ابن المعتز نفسه لا يعرف شيئاً عن الموشحات ولا عهد لأهل زمانه بشيء منها، لأن المعروف بين مؤرخي الآداب العربية أن هذا الضرب من الشعر إنما هو من مبدعات متأخري الأندلسيين وعنهم اقتبسه متأخرو المشارقة. قال العلامة ابن خلدون في مقدمته (أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق منه الغاية استحدث المتأخرون منهم فناً منه سموه بالموشح. . . ينسبون فيها (الموشحات) ويمدحون كما يفعل في القصائد، وتجاروا في ذلك إلى الغاية. . . وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافر الفربري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد. . .) أهـ
ثم ألمع ابن خلدون إلى نبذة من تأريخ الموشحات عند الأندلسيين وأهل المغرب. وذكر أن المشارقة قلّدوهم في ذلك فلم يدركوا لهم شأوا. ومنه يعلم أن هذا الضرب من الصناعة(459/24)
الشعرية من مخترعات المغاربة، وأن المشارقة أخذوه عنهم بالمحاكاة ليس غير
وقد ذكر المقّري في كتابه (نفح الطيب) نحواً مما ذكره العلامة ابن خلدون وعدّ الموشحات من خصائص الأندلسيين ومن مزاياهم التي بذّوا المشارقة
ولا أدري كيف يسوغ لمتأدب أن ينسب إبداع تلك الموشحة إلى ابن المعتز، وابن المعتز نفسه لم يشر ولم يومئ إلى هذا الضرب من ضروب الشعر في كتابه الذي ألّفه في البديع! ولو كان لهذا النوع من أثر في زمانه لفسّح له الصدر من كتابه ولأوسع فيه الشرح والإيضاح والتنويع والتفريع، ولكان من المتعذّر أن يخفى على أساطين المؤرخين من إضراب ابن خلدون والمقّري وغيرهما
ولا أدري كيف التبست هذه الحقيقة على ناشري بعض المجاميع الأدبية من المعاصرين فجزموا بنسبة تلك الموشحة إلى ابن المعتز مع ما اشتهر، بل استفاض من أنها من نظم ابن زهر الأيادي الأندلسي، ومع علمهم بأن الموشحات من مبدعات المتأخرين من الأندلسيين كما رأيت
ولعمري إن ابن زهر الأيادي ليس بخفي الشأن بحيث يسوغ لمتأدب أن يختلس ثمار أفكاره فيلصقها بغيره، كما أن ابن المعتز أشهر وأظهر من أن تخفى بدائع لبّه على ياقوت وابن أبي أصيبعة وابن خلدون والمقري وإضرابهم من محّققي المؤرخين، ولكن ما الحيلة والتحقيق في الناس قليل لأن مركبه صعب، والتساهل كثير لأن مركبه وطئ
وأنا لم أكتب ما كتبت في دفع هذا الوهم إلا لما رأيته فاشياً بين الشداة من المتأدبين الذين يعتمدون على ما تخطه أقلام المعاصرين من غثٍ أو سمين، ولا يكلّفون أنفسهم مؤونة الرجوع إلى الأصول للتثبت من صحة تلك النقول. وهذا داء وبيل تطاير شرره وعم ضرره. وأكبر الظن أن هذا الوهم تسرب إلى المتأخرين من طريق (ديوان ابن المعتز) المطبوع في بيروت المتداول بين الأيدي. ولا جدال في أن الكثيرين من جمعة الدواوين حاطبو ليل، يحشرون شعر هذا في ديوان ذاك، وشعر ذاك في ديوان هذا. والشاهد على ذلك كثيرة مستفيضة، وقد وقفت في هذا الديوان على شعر كثير لا علم لابن المعتز به وإنما هو من نظم من تقدمه أو تأخر عنه
وكان الأقدمون يتلقون نتاج الأفكار وثمار الأقلام من طريق الرواية ويتبارون بتوثيق(459/25)
حلقات الأسانيد وحبك أطرافها بالتحقيق والتروي إلى أن يستوي بيدهم الحق ويستقيم الصدق، فلما ذهب عهد الرواية وأخذ الناس يعتمدون في الجمع على أيديهم دون عقولهم وراح الوراقون يستنّون في ميدان الحشد والتكثير والتحويل والتغيير وضعفاء المتعلمين من ورائهم يلقفون ما يأفكون من غير ما تبصر ولا تدبر - أصبح الحق يتيما والتحقيق غريباً. فعلى من يترفعون عن التقليد الأعمى من أبناء هذا الجيل أن يعتمدوا في تحقيق الحق وتمحيصه على الأصول الأصيلة من دواوين العلم ومجاميع الأدب ولا يصح لهم الاعتماد على غيرها إذا أرادوا أن يكونوا للحق إخواناً ولأهله أعواناً
(بغداد)
طه الراوي(459/26)
31 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل العاشر - (الخرافات)
لا يجوز عقلاً أن تثير هذه الأوهام التي توجد في أذهان شعب جاهل دهشتنا؛ ولكن المصريين لا يظهرون احتراماً خرافياً للكائنات الوهمية فحسب، وإنما يجاوزون ذلك إلى بعض أفراد من البشر مثلهم. وكثيراً ما يكون ذلك التقديس إلى أقل الناس استحقاقاً له. فيعتبرون الأبله أو المجنون مخلوقاً عقله في السماء وجسده يختلط بالبشر. ويعدونه لذلك ولياً. ومهما ارتكب الولي المشهور من الخطايا - وكثير منهم يحالفون الدين - فهي لا تؤثر على قداسته إذا لم تعتبر نتيجة تجرد عقله من الأشياء الدنيوية، فروحه أو قواه العقلية كلها مستغرقة في التقوى؛ ولذلك تُترك شهواته بلا رقيب. ويحبس المجانين الخطرون؛ أما هؤلاء الذين لا خطر منهم فيعتبرون أولياء. وأكثر أولياء مصر المشهورين معتوهين أو بله أو خداعون. ويسير بعضهم عراة تقريباً ويتمتعون باحترام زائد بحيث أن النساء بدلاً من تجنبهم يتكبدن أحياناً الكثير من تصرفاتهم الشاذة في الطريق العام، ولا يشعر العامة بأي عار من هذه الأعمال التي يندر مع ذلك حدوثها. ويُرى آخرون لابسين مرقَّعة مختلفة الألوان تسمى (دلق) وهو مزين بالخراف، ومعممين بعمة بالية وحاملين عصا شبك في أعلاها سبائب نسج مختلفة الألوان، ويأكل بعضهم التبن أو خليطاً من التبن والزجاج المكسر ويلفتون النظر بأعمال غريبة مختلفة.
وكثيراُ ما قابلت أثناء زيارتي الأولى في شوارع القاهرة رجلاً زَري الشكل عاري الجسم تقريباً مضفر الشعر طويله، راكباً حماراً يقوده رجل آخر. فيقف دائماً حماره أمامي مباشرة بحيث يقطع عليّ الطريق ويقرأ الفاتحة، ثم يمد يده للسؤال. وقد حاولت أن أتجنبه في أول(459/27)
مرة؛ إلا أن أحد المارين حذرني ملاحظاً أن الرجل وليّ، وأن عليّ أن أحترمه وأن أمنحه ما يريد حتى لا تصيبني مصيبة. ويتعيش رجال هذه الطبقة على الصدقات التي كثيراً ما يتناولونها دون سؤال. ويسمى القديس المشهور (شيخ) أو (مرابط) أو (ولي)، ويسمى أيضاً على الأصح إذا كان به بله أو جنون أو خَبل (مجذوب) أو (مسلوب). وتطلق عبارة (ولي) بدقة على القديس التقي السامي فقط ومعناها المختار. إلا أنها تطلق عامة على البُله أو المتبالهين، حتى أن بعض الأذكياء جعلوا لفظ الولي معادلاً للفظ (بليد)، ملاحظين أن تينك العبارتين متساويتا المعنى والقيمة العددية للحروف المكونة لكل منها. إذ أن (ولي) مكونة من الواو واللام والياء، وقيمة كل على التوالي 6، 30، 10 أي 46 و (بليد) مكونة من الباء واللام والياء والدال وهي على التوالي 2، 30، 10، 4، وجموعها 46، وكثيراً ما يسمى الغبي ولياً للدعابة.
ويعتقد مسلمو مصر وغيرها من البلدان اعتقادات باطلة عجيبة بالأولياء. وقد حاولت أن أستفهم عن أكثر هذه الاعتقادات غموضاً فكان الرد علي: (إنك تتدخل في أمور (الطريقة)) أي منهج الدراويش الديني. إلا أنني وقفت على كثير من الآراء العامة في هذه الموضوعات. وأظن أن ذلك هو كل ما يطلب تقريره في كتاب مثل هذا. وسأسرد مع ذلك أقوال بعض المتعلمين والدراويش فيما يتعلق ببيان إيمان العامة
وكل من يرتاب في وجود الأولياء يُرمى بالمروق ويتلى للحكم عليه نص القرآن: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ويعتبر هذا النص كافياً للدلالة على أن هناك طبقة من الأفراد متميزة على البشر العاديين. وقد نتساءل من هم هؤلاء الأشخاص أو ما حالهم؟ والرد على ذلك أنهم أشخاص قصروا أنفسهم على عبادة الله واحتفظوا بإيمان صادق، ومن الله عليهم بالقدرة على فعل الكرمات تبعاً لقوة إيمانهم
يسمى أقدس الأولياء (قطباً)، ويحمل هذا اللقب - على رأى بعضهم - رجلان، ويقول البعض الآخر أربعة. وتعني عبارة (قطب) محوراً، ومن ثم أطلقت هذه الكلمة على الولي الذي يثق به الناس ويتبعونه، ويطلق هذا اللفظ للسبب نفسه على الحكام الزمنيين أو السادة الإجلاء. وقد أخبرت أن الرأي القائل بأربعة أقطاب خطأ شائع، أصله توالي ذكر عبارة (الأقطاب الأربعة) التي تشير إلى أشهر مؤسسي الطرق الصوفية الرفاعية والقادرية(459/28)
والأحمدية والإبراهيمية؛ ويُعتقد أن كلاًَّ من هؤلاء كان قطب زمانه؛ وقيل لي أيضاً أن الرأي القائل بقطبين خطأ عام أساسه اسمان: (قطب الحقيقة) و (قطب الغوث)، لا يختص بهما على الأصوب غير شخص واحد فقط. ويطلق الذين يعتقدون بوجود قطب واحد عليه عبارة (القطب المتولي) وهو الحاكم الآن، والذين يعتقدون بوجود قطبين على القطب العامل. ويحكم القطب الذي يراقب الأولياء جميعهم، سواء أكان هناك قطب آخر أم لم يكن لأنه إذا وجد يكون دون الأول، أولياء متفاوتي الرتب يقومون بأعمال مختلفة مثل النقباء والإنجاب والإبدال الخ؛ وهم يعرفون وظائف بعضهم بعضاً، وقد يعرف ذلك الأولياء الآخرون
ويقال أن القطب كثيراً ما يظهر ولكنه لا يعرف. وكذلك أتباعه ذوو السلطة.
ومع أن القطب يختفي دائماً فإن أماكن وجوده معروفة، ولكنه قليلاً ما يظهر فيها. والمعتقد أن القطب يكون فوق الكعبة. وهو يصيح مرتين في جوف الليل قائلا: (يا أرحم الراحمين)، فيردد المؤذنون حينئذ ذلك الدعاء من مآذن الكعبة. وقد سألت حاجاً فاضلاً في هذا الموضوع فأقر لي أنه رأى بعينيه إماماً مرتباً ليصيح هذه الصيحة. ولا يعرف ذلك غير القليل من الحجاج. ويعتقد مع ذلك أن سطح الكعبة مركز القطب الرئيسي. ويفضل هذا المجهول الموقع مركزاً آخر بباب القاهرة المسمى باب زويلة، وهو في الطرف الجنوبي من ذلك القسم الذي يكوّن المدينة القديمة وإن كان في قلب البلد الآن؛ فقد امتدت العاصمة كثيراً نحو الجنوب والغرب. ويسمي العامة باب زويلة (باب المتولي) لاعتقادهم أنه مركز هذا الكائن المجهول. ومن وراء أحد مصراعي الباب العظيم الذي لا يقفل أبدا فضاء صغير يقال إنه مكان القطب. ويقرأ الكثير من المارين الفاتحة، ويتصدق البعض على سائل يجلس هناك، ويعتبره الرعاع أحد خدام القطب. ويدق المصابون مسماراً في الباب لفك السحر، كما أن المصابين بوجع الأسنان يخلعون سناً ويولجونها في أحد شقوق الباب أو يلصقونها به بأي حال آخر حتى يضمنوا عدم إصابتهم بالمرض نفسه. وكثيراً ما يحاول بعض الفضوليين الاختباء وراء الباب آملين عبثاً اختلاس النظر إلى القطب لعله يظهر هناك. وللقطب في مصر مراكز أخرى أقل شهرة. أحدها في قبر السيد أحمد البدوي بطنطا، والآخر في مدينة المحلة وغيرها. ويعتقد أن القطب ينتقل من مكة إلى القاهرة أو(459/29)
من مكان إلى آخر في لحظة. ولا يقتصر القطب على سكنى أماكنه العديدة المفضلة وإنما يتنقل في أنحاء العالم بين جميع البشر من مختلفي الأديان متخذا شكلهم وملبسهم ولغتهم ويوزع عليهم بواسطة أتباعه الأولياء أحكام القدر نعما ونقما. وحينما يموت قطب يتولى غيره مكانه في الحال
ويروي الكثير من المسلمين أن إلياس، ويخلطه العامة بالخضر، كان قطب زمانه، وأنه يوليّ الأقطاب المتعاقبين إذ يقررون أنه لم يمت ويزعمون أنه شرب من عين الحياة. ويبدو أن اعتقادهم في القطب مأخوذ مما قص علينا في التوراة عن إلياس ورفعه إلى السماء، وانطلاقه من مكان إلى لآخر تحمله روح الله، ومنحه أليسع سلطته الخارقة للعادة وتقليده إياه وظائفه، وخضوع الرسل الآخرين له ولوليه المباشر. وينبذ بعض الأولياء لذات الدنيا وصحبة الإنسان ويعكفون على التأمل في السماء وينقطعون للصلاة متوكلين على العناية الإلهية لسد حاجاتهم، إلا أن خلوتهم تعرف فيحضر العرب لهم الطعام يومياً. وهذا يذكرنا مرة أخرى بقصة إلياس إذا وضعنا كما يرى بعض الناقدين، كلمة (عرب) بدلاً من لفظ (غربان) في الآيتين الرابعة والسادسة من الإصحاح السابع عشر من سفر الملوك الثاني: (وقد أمرت (العرب) أن تعولك)، (وكانت (العرب) تأتي إليه بخبز)
ويقال إن القطب يكلف بعض الأولياء القيام ببعض الأعمال الشاقة حسب قول محدثي، ويقال لهؤلاء الأولياء (أصحاب الدرك)، وقد فسرت لي هذه العبارة، ولا أعلم على أي أساس، بمعنى المراقبين. وقد حكى لي الحكاية التالية لبيان وظائف هؤلاء قال: اشتدت رغبة أحد تجار هذه المدينة الأتقياء في أن يصير ولياً، فتوجه إلى آخر ينتمي لهذه الطبقة المقدسة فتوسل إليه أن يساعده على التشرف بمقابلة القطب. وبعد أن احتمل الطالب امتحاناً صارماً لمعرفة بواعثه طلب منه أن يتوضأ مبكراً في الصباح التالي ثم يقصد مسجد المؤيد حيث يوجد بإحدى زواياه باب زويلة أو المتولي السابق ذكره، فيقبض على أول من يراه خارجاً من الباب الكبير لهذا المسجد. وفعل الرجل ما قيل له، وكان أول من خرج رجل شيخ مهيب المنظر ولكنه رث الثياب يلبس زعبوطاً من الصوف أسمر اللون، وقد دل ذلك على أنه القطب. فقبل الطالب يده وتضرع إليه أن يقبله بين أصحاب الدرك. فقبل القطب التماسه بعد تردد طويل ثم قال: (التزم القسم الذي يشمل الدرب الأحمر وما(459/30)
يجاوره). وفي الحال وجد الطالب نفسه ولياً، ولاحظ أنه يعرف أشياء تخفى على البشر العاديين، إذ يقال إن الله يعلم الولي جميع الأسرار اللازم معرفتها. ويقال عادة إن الولي يعلم الغيب ويبدو هذا مناقضاً لما نقرأه في عدة مواضيع من القرآن إنه لا يعلم الغيب غير الله. إلا أن المسلمين وهم قلما يرتبكون في مناقشة ما، يبينون أن عبارات القرآن يقصد بها معرفة الأسرار بمعناها المطلق وأن الله يطلع الأولياء على مثل هذه الأسرار كلما شاء ذلك
استدراك:
وردت المقالة السابقة تابعة للفصل التاسع، والصواب أنها ابتداء الفصل العاشر: (الخرافات)
(يتبع)
عدلي طاهر نور(459/31)
شباب الجيل
للأستاذ حسين الظريفي
إن للموطن من شبانه ... كل ساعٍ رافعٍ من شانه
طائرٍ آناً على طائرٍ ... أصبحت في الجوِّ من عُقبانه
وعلى دبابة آونةً ... يتحدى الموت في ميدانه
ومن المدفع في قبضته ... يُرسل الحاصد من نيرانه
في يديه قوة من قلبه ... جازت الممكن من إمكانه
يتلقى الخطب في صدرٍ له ... عامرٍ بالمحض من إيمانه
لم يبت في قلبه من موضعٍ ... لسوى السعي إلى أوطانه
وهو في شرخ شباب ناضرٍ ... يسحب الأذيال من ريعانه
كتب الله لنا النصرَ به ... وجميل الفضل من إحسانه
(بغداد)
حسين الظريفي(459/32)
الحرب في البحر
للأستاذ عبد الرحمن البناء
رِكبوا الهولَ خيفةً أن يُضاموا ... وَمِن الصعب أن تُضامَ الكرام
أعلنوا الحربَ والمدافعُ ثارت ... بِبَراكِينِهَا وأودى السَّلام
ومشوا تحتَ وابلٍ من حريقٍ ... فوقَ بحرٍ أمواجُهُ ألغام
ثَبتوا كالِجبالِ فوق جِبالٍ ... ماخِراتٍ بهم وُهم أعلام
الأساطيلُ والقنابلُ أفنَتْ ... ما بنَتْهُ السيوفُ والأقلام
إن تَرامَتْ ما بينَها بالمنايا ... ضاقَ ذَرعاً بمن تُصيبُ الْحِمام
أو أرادت إفناء مُلْكٍ عَتِيدٍ ... لم يَحل دون قصدها استحكام
غير أنَ القَضاَء قادَ إليها ... طائراتٍ قضاؤها إبرام
فرَمى مَخْزِنَ العِتادِ شُواظٌ ... من لَهيب فَشَبَّ فيها ضَرام
غَرِقَت ما نجا من الناسِ إلا ... بعض ركاّبها وفي الماءِ عاموا
ومتى تَغْرَقُ النفوسُ ببحرٍ ... من نجِيعٍ ترسو به الأجسام
وَسَفِينٍ تَنُوءُ باُلْجْندِ مَرَّتْ ... وعلى الجندِ هيبةٌ واحترام
كُلُّ فرْدٍ شاكي السلاح قَوِيٍّ ... مِلْءُ فيهِ على العدوِّ انتقام
حَرَسَتْها لدى الوغَى طائِراتٌ ... غير أن الوغى لها أحكام
باغتتها غوَّاصةٌ بشظايا ... لا يفل الحسامَ إلا الحسام
جَنَحَتْ للمغيبِ حيرَى فغابت ... وتدلَّى على الضياء الظلام
نَزَلَتْ كالستائرِ بعد فُصولٍ ... مَثَّلَتْهَا لمن وعي الأيام
خطَرُ الغوَّاصات قد زادَ لَّما ... غَرِقَتْ في دُموعِها الأيتام
كلما أبحرَت وغاصت لفتكٍ ... غاص منها في البحر جيشٌ لُهام
إن للغواصاتِ في البحر حرباً ... وقفَت عند حدِّها الأفهام
غرقٌ عاجلٌ وفتكٌ ذريعٌ ... وصِرَاعٌ دامٍ وَمَوْتٌ زُؤام
هي حوتُ الوغى وفي طرَفيها ... للأساطِيلِ مِعْوَلٌ هدَّام
تلبَسُ الماَء أن رأتْ رَمْيَ رامٍ ... مثلما يلبسُ الدروعَ الهمام(459/33)
سُجِّرَ البَحْرُ فهو ميدانُ حربٍ ... فيه للنارِ والحديدِ ازدحام
ملأتْ جوفَهُ البوارجُ ناراً ... وَشَوَتْ لَحْمَ حُوِتِه الألغام
(الطرابيدُ) حيثُ تُلقى بلاءً ... ما لنفسٍ من البلاءِ اعتصام
وَدَوِيُّ المدمِّرَاتِ كأن ال ... أرضَ مادت وللجبال اصطدام
وأباة تَذبُّ عن شرفِ النف ... سِ وَيحُلو لنفسِها الإقدام
أسكتوا الِمدفعَ الثقيل بحزمٍ ... من حديدٍ وهمْ دَمٌ وعِظام
أينما ولَّوُوا الوجوه رمتْهُم ... قاذفاْتٌ من الجحيم ضِخام
شهدَ الله والتواريخُ أن الحربَ في البحرِ كلُّها إيلام
(بغداد)
عبد الرحمن البناء(459/34)
البَريدُ الأدبيّ
الصفاء بين الأدباء
كنت قد نشرت في (الرسالة) كلمة أقول فيها: (مما يسترعي الالتفات أحياناً تلك اللغة التي يخاطب بها بعض الأدباء زملائهم. فتراهم يقولون: (زميلنا أو صديقنا فلان يطلب إلينا كذا، ونحن نقول له كذا، والأجدر به أن يسألنا كذا) إلى آخر هذا الكبر والتكبر في التعبير)
وظاهر من الروح هذه الكلمة أنى أحض على توثيق صلات المودة الصافية بين الأدباء بدعوتهم إلى نبذ الألفاظ التي قد تحدث في نفوس زملائهم شيئاً من الامتعاض
ولكن الدكتور زكي مبارك فهم الأمر على وجه آخر فإذا هو يتفضل بزيارتي ليسألني: (أحقاً أنا أنكر أن يشرف الناس أنفسهم بالانتساب إليّ؟) يا للعجب! أهكذا يمكن أن تؤول المقاصد أحياناً بضدها؟!. . . ثم سألني أيضاً فيما سألني عن المقصود بهذه الكلمة. فقلت له: ما من أديب واحد قد عنيته بالذات؛ إنما هي كلمة عامة للنفع العام. ولئن كان لابد من مناسبة أوحت بهذه الكلمة فربما كانت مقالة الأستاذ عباس العقاد التي يشكر فيها للدكتور طه حسين إهداءه إليه
(دعاء الكروان). في الحق أنني لم أجد بالمقال الرقة التي كنت أنتظرها، واستأت في نفسي من الأستاذ العقاد بعض الاستياء، وأنا الذي يعتقد دائماً أنه يخفي وراء قناع الكبر والتكبر نفساً طيبة تتفجر إذا اطمأنت بأجمل عاطفة وأنبل إحساس. فالذي يستطيع التأثير في نفوسنا بكتاباته الإنسانية عن الكلب (بيجو) لابد أن يحمل نفساُ خليقة أن تفيض بالمودة نحو إنسان!
تلك هي المناسبة يا دكتور زكي. ولكنك شئت أن تحمل الكلمة على أنها غمزة مني لك. وأنا أبعد الناس عن الغمزات خصوصاً إذا تعلق الأمر بشخصي. . . فأنا لم أنشر قط يوماً كلمة تعمدت بها إيذاء أديب في شعوره. أنا الذي يجرؤ مهاجمة المبادئ والنظم إلى حد التعرض للخطر. . . لا أجد من اللائق بأديب أن يهاجم أديباً ليخدشه في كرامته. . . لأن الأدب قبل كل شيء مودة ورحمة وصفاء. . . على هذا الوجه فهمت دائماً الأدب. فالأدب هو صنع الجمال. وعلى من يصنعون الجمال أن ينطووا على نفوس جميلة. وأنا الذي لا يختلط بالناس والأدباء إلا قليلاً لما في طبيعتي من وحشة وكآبة أشكو منهما، تجدني مع(459/35)
ذلك أحب الأدباء وأقدرهم ولا أقول فيهم قولة سوء. . . ولعلك لم تسمع مني غير ذلك. على أنك أيها الصديق العزيز، وأنت تأخذ كلمتي على أنها موجهة إليك قد ذكرت لي أسباب ظنك، فتحريتها بعد انصرافك، فاتضح لي أنك على حق، وأن الكلمة ينبغي أيضاً أن تنصرف إليك، فقد تستعمل أداة التعظيم في مخاطبة الزملاء من الأدباء. فماذا يضيرك أن أشكو منك ومن كل أديب يسهو عن واجبات التواضع والمودة والمحبة التي تؤلف بين نفوس الأدباء جميعاً وتجعل منهم (دولة متحدة مقرها حديقة الصفاء الغناء)
وبعد فليسمح لي الدكتور زكي أن أوجه إليه كلاماً وجهته إلى الأستاذ أحمد أمين منذ ستة أعوام، فقد تثمر بهمته ما فيه من فكرة خيرة. لقد قلت وقتئذ: (لا شيء في الوجود أقوى من الابتسامة؛ ولكن. . . من ذا الذي أعطى القدرة على الابتسام الصافي الجميل في كل موقف وفي كل حين؟ أهو الجبار وحده؟ ألا ترى معي أن الجبروت إنما هو الصفاء؟
(إذا أردت أن تسلك طريق السلام الدائم، فابسم للقدر إذا بطش بك، ولا تبطش بأحد). . . تلك كلمة لعمر الخيام. أن كنت من رأيي في كل هذا، فإن لي عندك حاجة: أن تنثر معي تلك الابتسامة بين الأدباء، فإن الأدب شيء جميل، هو جنة لا صخب فيها، وهو معبد لا تدخله الأحقاد. إن أعجب ظاهرة في أدبنا أنه لا توجد فيه صداقات عظيمة جديرة أن يتحدث عنها تاريخ الأدب، تلك الصداقات التي نراها في آداب الحضارات الكبرى قد أنتجت من الرسائل والأخبار والآثار ما لا يقوم بمال. ما الذي يعوزنا نحن؟ أهو شيء في الخلق؟ أم هو ضعف في النفس؟ أم هو نقص في الصحافة؟ لست أعلم؛ إنما الذي أعلمه: أن الصداقة الخالصة بين رجال الأدب والفكر، هي أظهر دليل على نضوج هذا الأدب وهذا الفكر
توفيق الحكيم
نقص الصفحات في الجرائد والمجلات
تنفيذاً للأمر العسكري القاضي بنقص الصفحات في الجرائد اليومية إلى أربع، وفي المجلات الأسبوعية إلى أربع وعشرين، تصدر الرسالة ابتداء من هذا العدد على الشكل الذي أوجبه هذا الأمر مراعاة لظروف الحرب وما صارت إليه وسائل النقل وإنا لنرجو(459/36)
كتاب الرسالة أن يقتصروا فيما يبحثون على المهم، وفيما يكتبون على المفيد، حتى تنجلي عن العالم هذه الكروب التي غشيت الناس في كل سبيل من سبل العيش، وفي كل مرفق من مرافق الحياة
من غزل الملوك
طلعت علينا رسالة (أحمد) كعادتها زاخرة بالأبحاث العلمية والطرائف الأدبية، والومضات اللغوية. فكان من بين تلك المباحث مبحث جليل للأستاذ (عبد الله مخلص) جمع فيه نتفاً من سلطان الحب، وحب السلاطين، ترويحاً لنفوس القراء المكدودة في هذه المحن. ونحن مع تقديرنا لهذا اللون من ألوان البحث لا نحب أن يتواضع صاحبه فيلده طفيلياً يعبث به الزمن ولا تستمرئه العقول!
فهات من هذه الناحية بالعجب العجيب. . . فان البحث عنها شاق، والسير فيها مخيف. فهي مبثوثة في بطون الكتب الممزقة الأوصال، مشوهة المراجع، محفوفة الجوانب. . . وليست من أدب المعدة. وإنما هي من أدب الروح.
(السكرية - دار القاياتي)
حسن القاياني
عضو مجلس النواب
لابد للإسلام من مؤتمر
قرأت المقال القيم الذي به افتتحتم العدد رقم (456)، وفيه وصفتم حال المسلمين ودعوتم إلى عقد مؤتمر إسلامي. فقلت: مرحى لهذا الشعور السامي، ومرحباً بهذه الدعوة المباركة!
ولست أكتمكم أن تكراركم القول فيه: أن مسلمي الحاضر هم (أعقاب) مسلمي الماضي، ذكرني أشياء ترددت طويلاً في أمر التحدث بها. لقد ذكرني كيف يحلو للمدخن أن يداعب لفافة التبغ حين تتناولها أنامله أو تطبق عليها شفتاه؛ وكيف يلذ له أن يشاهد عمود الدخان يصّاعد منها رقيقاً أو كثيفاً، قائماً أو لولبياً ويلهو بالنفخ عليه، ليغير وجهته أو يقطع أوصاله أو يشتته كالهباء، وكيف يستسيغ عبوره الفم إلى الحلق أو الخيشوم، ويكاد يتولاه(459/37)
بالمضغ واللوك ليمتع به حاسة الذوق، فوق ما يسدي به إلى حاسة الشم من فضل ومتعة، ثم ذكرني كيف يعامل لفافته، بعد أن يقضي منها وطره، فتجفوها أنامله إذ تدنو نارها ويلين طرفها، وتنفر منها شفتاه إذ تترطب وتصطبغ، ويمجها ذوقه إذ ترشح منها عصارة، ويمقت خيشومه رائحتها القوية النتنة؛ وكيف يقضي عليها بالخنق في إناء أو بالطرح في الطريق، ويحول عنها بصره مشمئزاً، ثم ينساها كأن لم تكن. ذكرت هذا وذاك حين خطرت ببالي (السبارس) أعقاب اللفافات، وما كنت لأورد هذا التشبيه، لولا أنه جاء عفواً وفرض نفسه عليّ؛ وما كنت لأستبيح لنفسي توجيه هذا النقد، لولا أنه يشملني كمسلم
أما فيما يتصل بعقد مؤتمر إسلامي، فأذكر أنه عقد واحد في القدس قبل عشر سنوات اشترك فيه ممثلون للمسلمين في جميع أقطار المعمور؛ وأنه اتخذ مقررات ذات بال، وأنشأ مكتباً دائماً ظل يعمل بضع سنوات، ومن الضرورة القصوى أن تستمر الدعوة إلى مؤتمر إسلامي دوري، يعقد مرة في كل بضع سنوات في إحدى العواصم الإسلامية. ولست أرى الحرب منعاً لذلك، إذ كل ما فيها أنها تقلل عدد الأقطار الممثلة فيه بعض التقليل. ثم هب أنها تجعل الاشتراك فيه مقصوراً على بلدان الشرقيين الأدنى والأوسط - بل هب أنها تضيق الحلقة أكثر من هذا فتحصره في الأقطار العربية - أليس فيما يبقى من خيراته الشيء الكثير؟ هل من المبالغة أن نقول إن الأقطار العربية قلب العالم الإسلامي ونواته؟ وهل من الخطل أن نحسب الجمع بين رجالات الدين والعلم فيها أمراً قريب المنال، وأن نعد اتفاق كلمتهم على الإصلاح خطوة واسعة نحو العمل الموحد المجدي في سائر أنحاء ذلك العلم؟ كلا، بل هو من واقع الأمور
إنه لمن دواعي الأسف الشديد أن ينجح عضو من جماعة كبار العلماء في (نسج الشكوك حول برنامج الإصلاح الذي اقترحه شبابها المصلحون وأقره أقطابها المخلصون!) - على حد قولكم - ولكن ماذا في هذا البرنامج؟ ألا ينطوي على استعراض لمواطن الضعف، ويوصى بطرق معقولة عملية للعلاج؟ ألا يستنير بهدى الدين، ويبصر بعين العلم؟ فإذا كان كذلك، فمن تكون جماعة (كبار العلماء) تلك التي ترضى لبرنامجها ذاك أن يعطله أحد - صغر - الجهلاء؟!
نحن قوم لم نُرض نفوسنا على التعاون، وعملنا المنفرد أدعى إلى الأمل في النجاح من(459/38)
عملنا المشترك. فما لنا لا نعمل أفراداً، ريثما نألف العمل جماعات؟ إن المؤتمر الإسلامي الذي سبق أن أشرت إليه لم تدع إليه جماعة أو هيئة. فلم لا يدعو إلى مؤتمر آخر رجل واحد أيضاً؟ من يكون هذا الرجل، وأنَّى لنا به؟ أين أنت يا ديوجينس وأين مصباحك؟ هاته وتعال نبحث معاً!
(القدس)
عصام الشريف
التميع في خضم الجماهير
إذا كان طريق إصلاح هذا الدين الحنيف أن نأتي على أسسه القومية وأركانه المشيدة، ونترك الرغبة في إرضاء الجماهير تتحكم فيه وتصرفه كيف تشاء وكما تهوى، فلا كان إصلاح
ولخير للإنسانية أن يظل الناجي على الشاطئ يشهد الغرقى تحوم فوق رؤوسهم طيور الموتى، وتمتد إليهم يد الفناء من أن يمد إليهم يده لينقذهم فيجذبوه هم نحو الفناء، ويمضوا به صوب الأعماق
ولخير للأزهريين ولرجال الدين أن يظلوا في جمودهم وخمودهم من أن يتحركوا حركة المذبوح، وينتفضوا انتفاضة اليائس الذي يحطم كل شيء، ولا يبقى على شيء
وإذا كان سبيل الإصلاح أن ندع التيار يجرفنا في منحدره إلى القرار فلن يكون إصلاح، ولن يكون فلاح، وإنما هي الفوضى وخيبة الأمل
كتب أحد العلماء الإجلاء في أوائل إبريل بمجلة أسبوعية يقر الناس على الكذب، ويحبب إليهم اختلاق الأكاذيب، ويرغبهم في افتراء القصص الوقائع بحجة المرح والسرور، ومن أجل التفكه والدعابة. وكان من اثر هذه الدعوة السيئة أن استجابت لها إحدى صحفنا الصباحية فنشرت عن مناظرة تقام ببناء كلية الشريعة؛ يشترك فيها بعض أعلام الفكر الحديث. وما كاد الوقت يحين حتى توافد الناس إلى الكلية من كل صوب لسماع هذه المناظرة. وإذا بالواقع يروعهم، وبالحقيقة تواجههم، وإذا بها (كذبة إبريل)
فليهنأ الشيخ بنجاح دعوته ونفاذ رغبته!(459/39)
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل جاءت ثالثة الأثافي - كما يقولون - إذ نشرت الأهرام تكذيباً للخبر وأردفته بكلمة لأديب أزهري، كان أكثر استجابة لنداء شيخه الوقور وفيه يقول: (وشكراً للأهرام على مداعبتها اللطيفة، وكل (إبريل) والأمة جميعها بخير وسلام)
أيها الذين آمنوا بالله ورسوله الكريم، لن يكون إصلاحاً تميعنا ونسياننا لتعاليم من كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، ولن تكون نهضة فقداننا لمقوماتنا وشخصياتنا، فننسى أنفسنا أمام هذه الفتنة القاسية
رويدكم يا دعاة الإصلاح ما دام مركبه سيحملكم إلى شاطئ غير الذي نروم، وسيجعلكم تنحدرون من القمة إلى الهاوية، بدل أن ترفوا الناس إلى المعتصم.
السيد جمعة
من عثرات الأقلام
1 - جاء في مقال (أثر الآداب الأجنبية) (في العدد 457): وتكلم ما راق له الكلام، والصواب: ما راقه الكلام، على ما في مختار الصحاح والمصباح وغيرهما
2 - في بحث (كتاب سحر العيون) في (العدد 456) نسب (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) في موضعين إلى علم الدين السخاوي، والصواب شمس الدين السخاوي المتوفى سنة 902، وأما علم الدين السخاوي فمقرئ مشهور توفى سنة 643
3 - في مبحث (كتاب سحر العيون) (في العدد 457) ثم قدم إليها مستقلاً. والصواب: ثم قدمها مستقلاً. على ما في الأساس والمصباح المنير وغيرهما
4 - في ترجمة (ابن خرداذبة) (في العدد 457): (بحوثاً طلية) والصواب: بحوثاً لها طلاوة
5 - في مقالة (كتاب سحر العيون) - في العدد 458 - واتصل بعلم الدين السخاوى. الصواب: واتصل بشمس الدين السخاوي، وهو المؤرخ الناقد المشهور مفخرة مصر بل الشرق في القرن التاسع الهجري.
أحمد صفوان
الرسالة الصديق(459/40)
يقول الدكتور زكي مبارك: (. . . وإن أدبك لا يسمح بأن تعرَّض بكتاب له مثل مكانتي في نفسك وفي الرسالة الصديق. . .) فالكاتب قد أخطأ في وصفه (الرسالة) بصفة (الصديق) وأظنه جرى في أسلوبه هذا على قياس (رجل قتيل. وامرأة قتيل) بتذكير فعيل في المثالين. نعم هذا صحيح إذا كان (فعيل بمعنى مفعول) أما إذا كان (فعيل بمعنى فاعل) فيجب إلحاق هاء التأنيث بفعيل في حالة التأنيث. ولفظ (صديق) هنا بمعنى فاعل. إذن كان من الصواب أن يقول: (الرسالة الصديقة) كما نقول: الرسالة العظيمة، والكتابة البديعة، ولا يصح خلاف ذلك. . .
(القاهرة)
حسين الحوفي(459/41)
العدد 460 - بتاريخ: 27 - 04 - 1942(/)
الرجل المنتظَر. . .
بهذه الرجفة العظمى تبدد النظام العالمي كله؛ فكأنما اجتمع اللاعبون بأقدار الأفراد ومصاير الأمم وقالوا لهتلر أجرأ العابثين: (بَوِّظ)!!
وهاهم أولاء يتحكمون في قطع اللعب، فيجمعون ثم يفرقون، ويبددون ثم ينسقون، وكل ما ورث الناس أو كسبوا من أديانْ ودساتير وقوانين وأنظمة وسنن قد أصابه الإلغاء أو التعليق. والواقع أن العالم العربي بأجمعه ليس منه في هذه اللعبة العالمية لاعب؛ إنما هو تلك القطع الجامدة التي تُقسّم وتُقدَّم وتُصك ثم تذهب وتجيء بين اللاعبين دواليك حاملة على وجوهها المُلس قِيَمها الكسبية المختلفة من (الدش) إلى (البيضة). فإذا طلبنا أن يكون لنا في الدَّست حساب وليس فينا حاسب، أو يعود علينا من ورائه اكتساب وليس منا كاسب، كان ذلك من خداع النفس بالمجال وتعليلها بالباطل. والمتوقع الذي لا حيله فيه أن نظل كما نحن لعبة تلعب أو نُهبة تُنهب حتى يبعث الله فينا الرجل الذي ننتظر
ولست اعني بالرجل الذي تنتظره الأمة العربية: (المهديَّ) أو (الإمام) أو (المسيح)، فإن ظهور أولئك أحدِهم أو كلهم شرط من أشراط الساعة؛ فانتظار الناس إياهم كانتظار الطامع الممطول راحة الفوت، أو المريض المشفى سكينة الموت؛ وإنما أعني الرجل الذي ينتظره الناس انتظارهم طلعة الشمس، وتنتظره الأرض انتظارها رجعة الربيع! هو كالشمس لأنه يرسل النور والحرارة؛ وهو كالربيع لأنه يبعث الحياة والنضارة. وظهوره كطلوع الشمس ورجوع الربيع سنة من سنن الله في الكون، يجرى بها حكمه كلما شاء للعقول الحائرة أن تهتدي، وللقلوب الشتيتة أن تتحد، وللنفوس العليلة أن تصح
كان هذا الرجل فيما خلا من الدهر يسمى رسولاً؛ فلما خُتمت الرسالة وانقطع الوحي، كان يظهر فترة بعد فترة في صورة ملك أو فاتح أو حاكم أو عالم مفكر، فيبين ما التبس من معاني الحق، ويجدد ما انطمس من معالم الطريق. وكان نجاحه في أو فشله في التجديد والإصلاح أثراً من آثار قوته أو ضعفه؛ فهو بين أصحاب السلطان يكون أسرع نجاحاً وأوسع إصلاحاً منه بين أصحاب الفكر. وقلَّما يأبه الناس لدعاة التجديد بالكلام ما لم ينتشر صداه في الأرض ويتسع مداه في الزمن: لأن أصحاب الكلام إذا ملكوا الرأي لا يملكون التنفيذ، وإذا استطاعوا التشريح فلا يستطيعون الحكم. وقطرة القلم قد يفطن لها الفؤاد اليقظ، ولكن وخزة السيف يثور بها الجسد الغليظ. وما كانت الوثبات الاجتماعية التي(460/1)
خلقت ناساً غير ناس، وأبدلت نظاماً من نظام، وفصلت تاريخاً من تاريخ، إلا نتيجة لدفع المصلحين المسلطين الذين وضعوا الكتاب في يد والسيف في يد، ثم كتبوا دستور الإصلاح بالمداد والدم
ولهذا الرجل الذي تنتظره الأمة العربية آيات تمهد له وتدل عليه: فمن الآيات المهيأة لظهوره انحلال الأخلاق فلا تتماسك في قول ولا فعل، وتتقاطع القلوب ولا تتواصل في وطن ولا دين، واستئثار النفوس فلا تتعفف في صداقة ولا نسب، وجموح الشهوات فلا تنقدع بلين ولا شدة، واستبهام المذاهب فلا تستبين بنجم ولا شمس، وانقطاع الأمة عن ركب الحياة فلا تتحرك قِبلة ولا دِبْرة
ومن آياته المنبئة بوجوده أن يكون لغيره لا لنفسه، ولأمته قبل أسرته، ولإنسانيته بعد وطنيته. وبهذه الصفة الأخيرة يختلف المصلح القومي عن الرسول. ومصداق تلك الآيات أن تموت (أنا) في لسانه وتحيا في ضميره، ويتحد في ذهنه وجود ذاته بوجود شعبه؛ فهو يحس ألمه لأنه مجتمَع شعوره، ويدرك نقصه لأنه مجتلى عقله، ويملك القيادة لأنه مظهر إرادته. وهو في سمو نفسه ونزاهة هواه قد ارتفع عن أوزار الناس وأقذار الأرض؛ فلا يطمع لأن غرضه أبعد من الدنيا، ولا يحقد لأن همه ارفع من العداوة، ولا يحابي لأن فضله أوسع من العصبية، ولا يقول قولاً أو يعمل عملاً إلا إذا وافق الدين الذي يعتقده، والمبدأ الذي يؤيده، والشعب الذي يقوده
ثم هو في ألمعية ذهبه ورصانة لبه وصلابة عوده وبعد همته يعظم على الأحداث، ويعلو على الحوائل، فلا ينضح رأياً إلا أمضاه، ولا يرمي غرضاً إلا أصابه، ولا يروم أمداً إلا أدركه
هذا الرجل الملهم الموهوب هو الذي ترقب ظهوره كل فرقة، وترصد نجمه كل أمة. ولقد ظهر أمثاله في بعض الأمم وهي على شفا الهاوية فأعادوها إلى الحياة وردوها إلى الجادّة. ولا تزال الأمة العربية تحدق النظر العبران في الأفق الغائم ترجو أن تتشقق الحجب عن نوره. فهل آن يا أرحم الراحمين أوانُ ظهوره؟
أن القطعان المهملة تدخل في عهدة الذئب؛ وإن القوى المتفرقة تُجمع في حساب العدو؛ وإن اللآلئ المبددة إذا لم يضمها سلك لا ينتظم منها عِقد؛ وأن الأمة التي لا تملك يوم الجِد(460/2)
والفخار إلا أن تقول: كنت وكنت، لا يزيد قدرها على قدر الرماد البارد الذي يقول: كنت فيما مضى جمرَةً متقدة!
رباه لقد امتد بنا التيه في مجاهل الأرض إلى قرون، وفسد في نفوسنا الإيمان بالحياة حتى تحول إلى ظنون. فمتى نخرج من التيه يا رباه خروج موسى، ونتبوأ من صدر الحياة العاملة مكان محمد؟ اللهم إنا نسألك الراعي الذي يطرد الذئب، والنظام الذي يجمع الحب، والدليل الذي يحمل المصباح، والقائد الذي يرفع العَلم، والأستاذ الذي يعلمنا أن نصنع الإبرة والمدفع، ونشق المنجم والحقل، ونوفق بين الدين والدنيا، ونوحد بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة. وكل أولئك يا رباه يجمعهم رجل واحد هو أشبه الناس بالمهدي المنتظَر والإمام المرتَقب والمسيح الموعود!
أحمد حسن الزيات(460/3)
في ساحة العدل
للدكتور زكي مبارك
قبل أن امضي في الكلام عما وقع في (ساحة العدل) أذكر أن فرصةً جميلة أتاحت لي مقابلة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ (محمد مصطفى المراغي) فتلطف - حفظه الله - وقدَّم إليَّ ملاحظات سديدة على بعض ما مرّ من الآراء في هذه الأحاديث؛ وكان كلامه ما نصُّه بالحرف:
(أنت متجه إلى إلقاء تبعة المعصية على حواء، وفاتك أن تذكر أن عدم تماسك آدم هو السبب في تمّرُد حواء)
والواقع أنى طفت بهذا المعنى في (حديث السِّدرة). ولكن عبارة الأستاذ الأكبر دقيقة جداّ، وهي من الإيجاز النفيس. ولعل فيها رداً على من غضبوا جاهلين يوم دعوناهم إلى الحزم في معاملة النساء
سريرة آدم
ضاق صدر آدم بما وقع من قرب الشجرة المحرَّمة، وفاض كرُبه حين تذكَّر أن حديث الله مع الملائكة كان مقصوراً عليه فقد قال: (إني جاعلٌ في الأرض خليفة) ولم يذكر حواء، وكذلك سكتت الملائكة عن حواء، فكيف يفوته أن يلتفت إلى هذا التفرد بالتكليف وهو غاية في التشريف؟
ثم تذكَّر أن الله عرَض الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها؛ وتشجَّع آدم فحملها وهو لا يدري أن شجاعته لم تكن إلا ضرباً من الظلم والجهل
لو كان آدم يعلم الغيب لأعلن عجزه عن حمل الأمانة بعد نكوص السماوات والأرض والجبال، ولكن شبابه فَتَنه وأغواه فتوهم أنه يقدر على جميع الأثقال
سيقف آدم في ساحة العدل وهو نادم خَزْيان. . . ألم يضيِّع الثقة بمواهبه السامية؟ ألم ينهزم أمام امرأة أعظم أسلحتها البكاء؟
في ساحة العدل ستحتشد الخلائق من الملائكة والجن والطير والحيوان، وذلك أول معرض يعرفه التاريخ. ولن يكون آدم متفرِّجاً في هذا المعرض؛ ولكنه مع الأسف الموجع سيكون مَسلاة المتفرجين. والويل كل الويل لمن يصبح فُرجةً لأهل(460/4)
الفضول، ولو كانوا من الأشراف، إن جاز لأهل الشرف أن يشهدوا موقفاً يتأذّى به رجلٌ شريف
سيقف آدم متهماً، آدم الذي اصطفاه الله، ولم يسمع فيه أقوال الملائكة المقربين؛ فبأي وجهٍ يقف في قفص الاتهام، وأمام القاضي الذي منَّ عليه بنعمة الوجود؟
جهنم أروح من الوقوف في ساحة العدل بالفردوس
كان آدم يتمثل من لمحة إلى لمحة شماتة الشامتين؛ ثم يخفّ كربه كثيراً أو قليلاً حين يتذكر أن الذين اعترضوا على خلقه هم الملائكة، والشماتة لا تجوز من أصحاب الأرواح النورانية
ولكن الجنة فيها سكان لا يمتّون إلى النور بِعرق، ومن حقهم أن يشمتوا في المخلوق الذي يفوتهم بمراحل ابعد مما بين الأرض والسماء
أتستطيع المعصية وهي حقيرة وخسيسة ودميمة أن تمنح الأنذال فرصة التعالي على الأبطال؟
لو كان آدم يعرف أن المعصية ستجعل من حق الحشرات أن تتسابق في الزحف على البطون لتشهد موقفه في ساحة العدل. . . لو كان آدم يعرف أن إبليس المطرود سيتبجَّح بأنه أغواه بلا عناء. . . لو كان آدم يعرف أن الله يحبه، وأن استهانة المحبوب بأوامر الحبيب من علائم الخذلان. . . لو كان آدم يعرف أن الموت في الطاعة أشرف من الحياة في العصيان. . . لو كان آدم يعرف، لو كان آدم يعرف!!
طافت هذه الخواطر بآدم وهو في الطريق إلى ساحة العدل فكاد يصعق من هول الموقف. وكاد يتمنى لو تحول إلى حيوان أعجم لا يفقه كنه التكاليف. وهل يستطيع مع المعصية أن يقول إنه أشرف من أي حيوان؟
لقد عصى ربَّه فغوى، فما استعلاؤه وقد هوت به المعصية إلى الحضيض؟
المعصية إثمٌ موبق، ولو جازت على الجبل لحوَّلته إلي هباء. عصى آدم ربه فغوى، فليستعد آدم لحمل جريرة العصيان. وكيف يعصى الله من يعرف أنه خالق الأنوار والظلمات؟ كيف يعصى الله من يعرف انه واهب القدرة على العصيان؟ وهل تكون الشهوة الأثيمة أعذب مذاقاً من العلقم الذي يجترعه من يصد نفسه عن الآثام؟ إن حرمان النفس من(460/5)
أهوائها في سبيل الطاعة له طعم شهيٌّ جداً، فكيف غابت هذه الحقيقة عن آدم؟ وكيف رضى أن يضام بسبب هواه في مسايرة حواء؟ لو كان يملك محو هذه الخطيئة بأي ثمن لكانت روحه أول مبذول ولكنه لا يملك محو ما وقع، وسيؤدي ثمناُ أعظم من الروح، هو سمعته بين سكان الفردوس، فسيشهدون جميعاً أنه مَدين، وأن عقله لم يعصمه من الانحراف عن جادّة الرشاد. وسيرى بعينيه وجوهاً لا تعيش إلا من اغتياب الأحرار، وهو الذي قدّم الزاد لتلك الوجوه الشوهاء
جَلجَلتْ هذه المعاني في صدر آدم فجلس يستريح تحت إحدى الشجيرات وهو يتمنى لو ضَّل الطريق إلى ساحة العدل، وخطرت له فكرة الهرب ولكن إلى أين؟ وهل من عدالة الله مهرَب؟
ثم تشجع فجأة لخاطر جميل طاف بنهاه، فما ذلك الخاطر الجميل؟ تذكر آدم أن الله يعاقب مرة واحدة ثم يصفح لأنه عظيم، أما الذين يعاقبون على الهفوة الواحدة مرات كثيرة فهم صغار الخلائق. وما على آدم بأس من عقوبة تمر وتمضي ثم يواجه أعماله من جديد وقد تطهّر بالعقاب
وقاضي اليوم هو الله، والعدل مضمون مضمون، ولا خوف من التزيد والإسراف، فليمض آدم إلى المحكمة وهو ثابت القدم رابط الجأش، فما في كل وقت تكون المحاكم إلى ذلك الجبار الرءوف. . . وفي أثناء الطريق ثارت نفسه فدمدم:
(إن الله لا يحكم على آثم إلا بعد أن يتيح له اللوف من فرص المتاب. فكيف يعاقبني لأول هفوة تبدُر مني؟)
فهتف هتاف: تأدب يا آدم، واذكر نعمة الله عليك، فما عاجَلك بالعقوبة إن كان سيعاقبك إلا ليؤكد كرامتك الذاتية بين الخلائق
- التعجيل بالعقوبة مزية؟
- مزية عظيمة، لو كنت تعرف
- أحب أن أعرف
- العقوبة حكمٌ لك لا عليك
- لم أفهم شيئاً، أيها الهاتف(460/6)
- ستفهم بعد لُحَيْظات، وستندم على أن لم تأكل شجرة التين بفروعها وجذورها
- أرجعُ فآكلها أكلاً لَمَّا؟
- أحترس ثم احترس، فأنت نبيّ، والأنبياء يراعون ظواهر الشرائع قبل أن يراعوا بواطن الحقائق، ترفقاً بمن يغيب عنهم إدراك اللباب من أسرار الوجود
- إذن كان من حقي. . .
- لا حق لك في شيء، فامض خاشعا إلى ساحة العدل
- بدون خوف؟
- بأعنف صورة من صور الخوف، لأن الله يبغض الآمنين أشد البغض
- وكيف؟ كيف أيها الهاتف؟
- لأن الشعور بالأمان بداية الخذلان، والله لا يرضى لك أن تسير إلى الانحلال
سريرة حواء
رأيت حواء بجزع وارتياع أنها لم تُدع لحضور (ساحة العدل) إلا مع الشهود، فما معنى ذلك؟ معناه أنها ترتق إلى منزلة العقاب، ومعناه أن منزلتها في هذه القضية منزلة ثانوية، ومعناه أنها لم تجترح غير الإغواء، وهو ذنبٌ مقسَّم على ثلاثة شخوص: الحية وإبليس وحواء. . . ثم صرختْ:
- أنا الجانية، أنا الجانية، وآدم لم يأكل ثمرة التين إلا من يدي
فهتف هاتف: لن يُنصَب للمرأة ميزان، وهي التي تفرّق بين الابن وأبيه والأخ وأخيه، ولن يغفر الله للمرأة أنها لا تدخل بيتاً إلا شطرتْه إلى شِيَع وأحزاب، وقد كانت وستكون أول مصدر للنزع والشقاق
- لعلك تريد حواء الأولى، أيها الهاتف؟
- حواء الأولى لم تعرف التبرّج
- وأنا متبرّجة. . . أنا؟؟
- نعم فقد شهدُتك تَنْظِمين من حُبوب الِبِسَّلة عِقداً تزيّنين به جيِدك الأغيد، ورأيتك تعصرين الزهر بين كفَّيْك ثم تمسحين بعصيره أجزاء من جسمك البديع لتظهر عليه خطوط وردية أو عسْجَدِية(460/7)
- وما العيبُ في ذلك؟
- العيب انك لا ترضَين بما قسَم الله لك من الحظوظ
- وماذا أعطاني الله؟ ماذا أعطاني؟
- كل امرأة تقول هذا القول، وما رضيت امرأةٌ عن نصيبها أبداً
- وما نصيبي؟ وهل كان لي من النعيم نصيب؟
- لك آدم يا حواء
- آدم الذي يريد أن يتمتع وحده بجريرة العصيان؟
- تريدين أن تقاسميه أعباء هذه الجريرة؟
- هي جريرتي وحدي، وأنا صاحبة الحق الأول في الوقوف جانيةً (بساحة العدل)
- وترين موقف الجناية من مواقف التشريف؟
- هو فرصة لأن يصبح الجاني على ألسنة جميع الخلائق
- إن كان هذا ما تريدين فاطمئني، فلن تقع جريمة في شرق أو غرب إلا قيل (فتّش عن المرأة). ولن يتنسّك عابد، أو يترهب زاهد، إلا طلباً للسلامة من كيد المرأة. ولن تخلو شريعة من التحذير المخيف، التحذير من حبائل النساء. ولن يرتفع مرتفع أو ينخفض منخفض إلا وفي خياله أن امرأةً نصحتْه فارتفع، أو خدعتْه فانخفض. ولن يبرع أديبٌ أو فنّان إلا وهو مَدين لمخلوقة سفيهة أو حليمة من بناتك يا حواء. ولن ينبع كاتب أو شاعر إلا بوحي يُوحي إليه من إنسانة عليلة الطرف أو صحيحة الفؤاد. ولن يخلو كتابٌ من اسم المرأة، ولو كان شريعة تتلقاها الأرض عن السماء
- أَرحْتَني، أرحتني، أيها الهاتف
- إنما نريح مصدر التعب لنستريح!
جلسة علنية
صدر القرار بان يحاكم آدم في جلسة علنية يشهدها جميع سكان الفردوس، فكان على الملائكة أن يهيئوا ساحة العدل تهيئة تسمح بان يشهدها أولئك الخلائق بلا عناء
وكيف تحضُر جميع الخلائق؟
في الطيور طوائف من الحواضن، والطيور الحواضن لا تترك البيض المحضون ولو(460/8)
تعرّضت للموت من الظمأ والجوع، فمن المستحيل أن تترك أعشاشها لتشهد محاكمة آدم صاحب حواء
وفي الأنعام بهائم تأكل الطعام وهي مطعونة بسهم الموت، فلا أمل في أن تتحرك لشهود القضاء في ساحة العدل
وهنالك الحمير، وهي لا تعلن عن سرورها بغير النهيق، فمن الخير إلا تحضر مجلس القضاء وصوتُها أنكر الأصوات.
وفي الوجود خلائق لها أبصار، وليس لها بصائر، فمن الحزم أن تُراح من شهود جلسة لا يستفيد منها غير أرباب القلوب
ثم اتفقت آراء الملائكة على أن المراد بعلنية الجلسة إعطاء الفرصة لمن يستطيع الحضور، وليس المراد أن تحضر الخلائق جمعاء، وهل يتيسر لأسماك الكوثر أن تشهد محاكمة آدم وهي تُعرَّض للموت أن طال ثواؤها بالعَرَاء؟
والحق أن الملائكة لم يشهدوا في ماضيهم القديم اصعب من ذلك الموقف، فقد كان عليهم أن يراعوا في تهيئة ساحة العدل طبائع الطير والحيوان والحشرات، فمن الطير أنواع تستريح إلى الأرض، أمثال الحَجَل والكروان والهداهد والطيور المائية، ومن الطير أنواع لا تستريح بغير الوقوف فوق أعواد، فكيف تُعَدُّ الساحة لأولئك وهؤلاء؟ أن ذلك لا يتم بغير متاعب، والجلسة مستعجلة، ولا يمكن طلب التأجيل
وعرضتْ للملائكة مشكلتان في غاية من الخطورة: المشكلة الأولى مشكلة النزاع الذي ثار بين الأسود والقرود بعد فضيحة آدم وحواء، وهو نزاع قد يثور من جديد أن قضى الله على آدم بما يشرح صدور القرود
أما المشكلة الثانية فهي الخوف على الطيور المغردة من عدوان الطيور الجوارح، فالصقر يشتهي الطير المغرد شهوة عارمة، ويكاد يتوهم أن لحم الطير المغرد أطيب من خدود الملاح، وتلك الطيور لن تسكت عن التغريد، لأنها مفطورة على حب الغناء، ولو في حضور الشواهين، والجمال قد يَجنِي على الجميل
قال أحد الملائكة: ولكن نحن في الجنة ولا خوف من بطش الأقوياء بالضعفاء
فقال له صاحبه وهو يحاوره: كنا في الجنة!(460/9)
- كنا؟
- نعم، كنا، وما فات مات
- أوضِحْ، يا رفيقي، أوضحْ
- كانت الجنة جنة
- فصارت؟
- فصارت كما ترى، ألا تعرف أن آدم عصى ربه فغوى؟
- وما خَطَرُ ذلك؟
- هو خطرٌ فظيع فظيع، وأنا أخشى أن تكون معصيته قدوة سيئة لجميع سكان الفردوس، فسيقول قائلهم: أن ما جاز صدوره عن الكبار يجب صدوره عن الصغار
- وأدم كبير؟
- هو كبير الكُبَراء، وستعرف صدق ما أقول بعد حين
- وإذن تكون معصيته شراًّ مستطيراً، واغلب الظن أن الله سيطرده من الجنة بلا إمهال
- برغم منزلته العالية؟
- خفضته المعصية، فلينزل إلى الحضيض، إلى الأرض التي لا يعرف فيها السعادة غير الديدان، فهي وحدها التي تُرزَق في الأرض بغير حساب
- والنتيجة؟
- والنتيجة أن جلسة اليوم تحتاج إلى حزم، وهي تجربة قاسية، فلنحاول تقسيم الحاضرين إلى طوائف تَفْصِل بينها حواجز، لنأمن الثورة المرتقبة من هياج الغرائز الغافية في
صدور الطير والحيوان. ولهذا اليوم ما بعده يا رفيفي، فان نجحنا في تنظيم هذه الجلسة إلى أن تمر بسلام، فسنكون أهلاً للثقة التي تمنحنا الحق في أن نكون على جميع الخلائق رقباء
اليوم المشهود
كان سكان الجنة تسامعوا بأخبار حواء، ولم يرها منهم إلا الأقُّليون، بسبب احتجازها بين البواسق، وبسبب نفرتها من أهل اللغو والفُضول، وبفضل ما فُطِرت عليه من الدلائل المَدُوف بالكبرياء
والفرصة الوحيدة لأن يروها أجمعون هي حضور محاكمة آدم في ساحة العدل، فمن المؤكد(460/10)
أنها ستحضر لمواساة فارسها الجميل
خفّ سكان الفردوس لمشاهدة حواء، ولم يتخلف إلا من صدَّته الرعاية الواجبة للأفراخ أو الأشبال
من كان يظن أن الأسماك رحَّبت بالموت لتقضي ساعة أو ساعتين في مشاهدة حواء؟
وتقدم غضنفلوث لتمتطي حواء ظهره المنيع، فدخلت الساحة في عزة لا يظفر بمثلها الملوك
فكيف كانت حواء في ذلك اليوم؟
كانت وكانت وكانت:
كان طرفها الكحيل يَعد ويُخلف في اللمحة الواحدة ألوف المرات، وكأنه جذوات تقتتل في هدوء وسكون
وكان أنفها في ملاحته يتموج تموّجاً نورانيًّا في حدود يوحي بها لحنُها الرنان
وكان صوتها - صوت حواء الجميلة - يشهد بأن حناجر البلابل والعنادل أٌودعتْ حَلقها الرخيم
وكان نحرُها - نحر حواء - مرمراً ينطق. وما أخطرَ المرمر الذي ينطق!
وكان لثناياها بريق يفوق بريق الَحَبب عند فورة الرحيق
وكان لذراعيها استدارة فنية تهتف بأن الله يزيد في الخلق ما يشاء
أما جسم حواء في جملته بلا تفصيل، فهو الوجود في جملته بلا تفصيل
كانت ارقّ من الأزهار في آذار وأعذب من الأعناب في آب
كانت أحلى من وسوسة الأماني في الصدر المكروب، وأشهى من جلجلة المعاني في القلب الموهوب
وكان تثنّيها يوهم بأن قوامها أُلَّف من خطرات تفوق العدَّ والإحصاء
في المكان المحدود من جسمها البديع ألوان وألوان، فكأن كل جزء من أجزاء ذلك الجسم قصيدة تحترب فيها القوافي والأوزان، والألفاظ في الشعر الرائع تشبه الأوصال في الجسم الفينان
كانت حواء في ذلك اليوم. . . كانت وكانت وكانت(460/11)
فكيف كانت؟ كيف لا كيف، ألم يكف أنها كانت حواء؟
قال الصقر: لو كانت هذه أنثاي لنذرت الصوم عن لحوم الكنار شكراً لله على هذه المنحة الغالية
وقال الأسد: لو كانت هذه أنثايَ لشكرتُ الله بالصفح عن القرود
وقال البلبل: لو كانت هذه أليفتي لابتدعت لحناً يسكر سكان الفردوس
فهتف هاتف: حواء لآدم، وآدم لحواء، وليس في الإمكان أبدع مما كان. فغضُّوا أبصاركم عن حسنٍ هو عزاء آدم في بلواه، وهو حجته في استباحة العصيان
محكمة، محكمة!!
ونظر آدم فرأى جلال الله يسيطر على الموقف، ورأى أنه سيحاسَبُ أمام جميع الخلائق
- رباه، أجِرنِي!
وكيف أُجيرك وأنت مذنب؟
أحب أن يكون الحساب في جلسة سِرية
- لماذا؟
- لأدافع عن نفسي بحرية، فعندي كلام لا أحب أن يسمعه القرود، ولأني أخاف أن تنصعق حواء من شماتة الشامتين، وهي أرقُّ من الوهم الذي يساور القلب الأوّاب
- لك يا مخلوقي الأثير ما تريد على شرط أن تكتم ما سيدور في الجلسة السرية، فأنا أعلم أنك ستفوه بأقوال تزلزل عزائم الآساد في رعاية الأشبال.
زكي مبارك(460/12)
خسرو وشيرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
- 2 -
استطاع القائد بهرام جوبين أن يوقع بين الملك هرمزد وولده الأمير خسرو برويز ويغّير رأيه عليه، فاستحضر هرمزد صاحب سره وسأله أن يدبر الاحتيال لاغتيال خسرو، فخدعوا بعض خواصه بمال وواضعوه على أن يسقيه سّماً يقتله. ولمَّا علم خسرو بذلك أشار عليه معلمه بزرجميد الحكيم، فركب تحت جناح الليل وخرج من المدائن يسوق طرداً وركضاً في طريق أذربيجان - أو كما يقول الشاعر نظامي الكنجوي - في الطريق إلى أرمينية. وكان أن التقى بحبيبته شيرين وهي تستحم في بركة الماء دون أن يعرف أحدهما الآخر، وافترقا وقلب كل منهما يحدثه أنه رأى حبيبه، فواصل هو طريقه إلى أرمينية ليحظى برؤيتها، وتابعت هي طريقها إلى المدائن لتبحث عنه. . . وكان خسرو - قبل أن يغادر قصره في المدائن حيث كان في انتظار نتيجة مساعي سفيره شابور - قد أخبر رؤساء خدمه وجواريه باحتمال مجيء سيدة جميلة، ذات مقام رفيع، ونزولها ضيفاً عليه، وأمرهم بحسن استقبالها بما يليق بمقامها من الاحترام والإجلال، وشدد عليهم في إجابة جميع رغباتها
وصلت شيرين المدائن، وتوجهت إلى قصر خسرو، كما أوصاها شابور، حيث أظهرت الخاتم الذي أرسله خسرو إليها، فقوبلت بالترحاب، ونزلت هنالك معززة مكرمة مطاعة من الجميع؛ ولكنها لما علمت بغياب خسرو عن القصر، شعرت بالسأم يدب حولها فيه، ورغبت في السكنى بعيداً عنه، فأجيبت إلى هذه الرغبة، وبني لها قصر عظيم بين الهضاب المرتفعة، لعلها تجد فيه من ضروب اللهو والتسلية ما يجلب السرور إلى قلبها، وعرف القصر باسمها، فقيل (قصر شيرين)
وفي (شكل 1) تخطيط لقصر شيرين فيه محاولة لإرجاعه إلى حالته الأصلية نرى فيه ما كان عليه القصر من العظمة واتساع الأرجاء. وتوجد آثار هذا القصر بين الهضاب في(460/13)
إيران على بعد حوالي عشرين ميلاً من الحدود العراقية في الطريق إلى كرمانشاه. ويقول ابن الفقيه إن (السبب في بناء قصر شيرين أن الملك أمر أن يبني له باغ يكون فرسخين في فرسخين وأن يصّير فيه من كل صيد حتى يتناسل، ووكل به ألف رجل، وأجرى على كل رجل منهم خمسة أرغفة ورطلين لحماً ودورق خمر، فأقاموا فيه سبع سنين حتى فرغوا منه. . . وسماه باغ نخجيران أي باغ الصيد) ويروي ابن الفقيه عن قصر شيرين أبياتاً منها:
يا ذا الذي غره الدنيا وبهجتها ... وحسن زهرة أنوار البساتين
والدور تخربها طوراً وتعمرها ... باللبن والجص والآجر والطين
أما رأيت صر وف الدهر ما صنعت ... بالقصر قصر أبَرْويزٍ وشيرين
قد صار قفراً خلاء ما به أحد ... إلا النعام مع الوحشية العين
سبحان من خلق الدنيا ودبرها ... وأنشأ الخلق من ماء ومن طين
وصل خسرو إلى أرمينية ونزل ضيفاً على ملكتها مهين بانو، فأخبرته عن اختفاء ابنة أخيها شيرين، ودَعَتْه لأن يمكث في أرمينيا طول مدة الشتاء، فقبل الدعوة. وجاءه شابور بعد ذلك بأيام قلائل، وأخبره بكل ما فعل. فأبلغ خسرو الملكة بوصوله وبما جاء به من الأخبار عن شيرين، واتفقا أن يرجع إلى المدائن ليعود بها إلى أرمينية. وهكذا أمرت الملكة مهين بانو أن يركب شابور على الفرس (جُلْجون) وهو فرس آخر في حوزتها، كان يضارع الفرس (شَبْديز) في شهرته. ووصل شابور إلى المدائن حيث وجد شيرين قد تركتها إلى قصرها بين الهضاب، فتبعها إلى هناك وأبلغها رغبة عمتها، وأقنعها بالعودة إلى أرمينية حيث ينتظرها خسرو، فركبت شيرين الفرس (جُلْجون) - إذ كانت قد تركت شَبْديز في المدائن - ورحلت إلى أرمينية في صحبة شابور
وفي ذات الوقت جاء رسول من المدائن وأخبر خسرو بثورة القائد بهرام جوبين، وأن الثوار قد قبضوا على أبيه الملك هرمزد وسملوا عينيه أرغموه أن ينزل له عن العرش، بعد أن أعلن بهرام جوبين طاعته لخسرو إذا هو تولى الملك. فأسرع خسرو إلى المدائن، حيث توج ملكاً على إيران. وهناك علم أن شيرين قد رحلت مع شابور إلى أرمينية، وأنها قد تركت له الفرس شبديز هدية منها. ولكن سرعان ما ظهرت نيات القائد بهرام جوبين(460/14)
الحقيقية، وأنه قصد بهذه الثورة أن يغتصب عرش إيران لنفسه. وهكذا اضطر خسرو - وقد تبين قوة خصمه - أن يعمل بنصيحة معلمه بزرمجيد الحكيم، ويغادر البلاد بعض الوقت، إلى أن يبدأ نجمه في الارتفاع، فتحين الفرصة لاسترداد حقوقه.
, أخيراً تقابل الحبيبان، إذ جاء خسرو إلى أرمينية بعد وصول شيرين وشابور بوقت قصير. وصادف مجيئه خروج شيرين وصويحباتها للصيد، فقابلته في الطريق وعرف كل منهما الآخر، وكاد يطير سروراً بهذا اللقاء، وصحبته إلى عمتها مهين بانو، فاستقبلتهما بما جبلت عليه من لطف وطيبة قلب. وانتهزت هذه العمة الطيبة فرصة انفرادها مرة بابنة أخيها شيرين، وتوسلت إليها أن تحتفظ بوقارها في جميع المناسبات، وأن تناضل في سبيل الدفاع عن شرفها، والمحافظة على طهرها وعفتها، فوعدتها شيرين بذلك. فسمحت لها العمة بالخروج مع خسرو في رحلة إلى الريف، حيث قضيا شهراً وهما يستمتعان بالصيد وضروب التسلية الأخرى.
وفي (شكل 2) خسرو وشيرين وهما يدخلان أحد القصور في أرمينية عند رجوعهما من الصيد، وقد وقف في استقبالهما بعض أكابر الدولة من أفراد الحاشية ومعهم الخدم والجواري. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر خسرو الدهلوي، كتبه محمد ابن الأزهر في هرات سنة 890 هجرية (1485م). وكان مؤرخو الفن الإسلامي ينسبون الصور التوضيحية التي في هذا المخطوط للمصور بهزاد، وذلك لما امتازت به من الدقة في رسم المباني والأشخاص. والظاهر أن بهزاد كان له في ذلك الوقت بمدينة هرات تلاميذ صوروا هذه الصور، وأسبغوا عليها الكثير من روح أستاذهم. وهذا المخطوط محفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن
قضى الحبيبان شهراً وهما يتسليان بالصيد ولعب الكرة وغير ذلك من أنواع التسلية، إلى أن دعا خسرو شيرين لمأدبة أقامها لها في مضرب خيامه. وكانت مأدبة فاخرة استمعا فيها إلى لأغاني (باربُد) مطرب خسرو و (نيكيسا) مطربة شيرين، ومن بين شفاه هذين المطربين كان فيض الهوى يتردد، وكانا يتجاوبان بما يكنه قلب كل من العاشقين للآخر
وفي (شكل 3) جلس خسرو على سجادة في منظرة بحديقة غناء، يستمع لموسيقى مطربه باربد الجالس أمامه إلى جوار الفسقية وبين يديه(460/15)
(عود) كبير يحرك أوتاره، بينما جلس بعض أكابر الدولة يستمعون لباربد ويتسامرون وهم يتناولون الطعام والشراب ووقف في خدمتهم الغلمان والسقاة والخدم، وقد ظهر على وجه كل منهم مبلغ اهتمامه بما يعمل. ونلاحظ في هذه الصورة الدقة في تصوير المباني والأشجار والزهور، وفي رسم الحيوانات على الحائط خلف خسرو، وكذا صورة التنينين في أعلى القبة إلى جانبيها. وهذه الصورة من تصوير (ميرزا على). وترى إمضاؤه في اسفل الصورة إلى اليسار. وهي في مخطوط نظامي المؤرخ بين سنتي 946 و 950 هجرية (1539 - 43م) المكتوب للشاه طهماسب
واشتهر بَارُبد بجمال الصوت وحسن التوقيع والمقدرة على وضع القطع الموسيقية وتأليف الألحان، وصارت ألحانه حجة أساتذة الموسيقى، وكان بارعاً في الضرب على العود. ويروي أبو الفرج الأصفهاني أنه (ضرب يوماً بين يدي كسرى فأحسن فحسده رجل من حذّاق أهل صنعته، فترقبه حتى قام لبعض شأنه ثم خالفه إلى عوده فشوّش بعض أوتاره، فرجع وضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح في مجالسها العيدان، فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ، ثم قام على رجله فأخبره الملك بالقصة، فامتحن العود فعرف ما فيه)
وكان بَاربُد محبباً لخسرو برويز ومقرباً إليه، فكان يقصده أصحاب الأمور لعرضها على خسرو إذا خافوا أن يبطش بهم. ويروي ياقوت الحموي انه لنا عرف خسرو برويز بمرض الفرس شَبديز - وكان عزيزاً عليه - قال: (لئن أخبرني أحد بموته لأقتلنه. فلما مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأل عنه فلا يجد بداً من أخباره بموته فيقتله. فجاء إلى البَهلَبَذ مغنيه، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان ولا تأخر أحذق منه بالضرب على العود والغناء. قالوا كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله: فرسه شبديز قد نفق ومات وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبره بموته فاحتل لي حيلة. فلما حضر بين يدي الملك غناه غناء روي فيه القصة إلى أن فطن الملك وقال له: ويحك! مات شبديز. فقال: الملك يقوله. فقال زه! ما أحسن ما تخلّصت وخلصت غيرك!. . .) وقد ذكر هذه القصة خالد الفياض في شعره قاله وهو:
والملك كسرى شهنشاه تقنَّصه ... سهم بريش جناح الموت مقطوب(460/16)
إذ كان لذّته شبديز يركبه ... وغُنج شيرين والديباج والطيب
بالنار آلى يميناً شدَّ ما غلظَتْ ... أن من بدا فنعى الشبديز مصلوب
حتى إذا أصبح الشبديز منجدلاً ... وكان ما مثله في الناس مركوب
ناحت عليه من الأوتار أربعة ... بالفارسية نوحاً فيه تطريب
ورنم البَهلبَذُ الأوتار فالتهبت ... من سحر راحته اليسرى شآيب
فقال مات فقالوا أنت فُهْت به ... فأصبح الحنث عنه وهو مجذوب
لولا البَهلبَذ والأوتار تندبه ... لم يستطع نعي شبديز المرازيب
(له بقية)
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربي(460/17)
مرسلات. . .
(هذا عنوان نرجو أن نكتب تحته في الحين بعد الحين كلمات
موجزة في معان شتى، وإن في الإيجاز لبلاغاً لقوم يعقلون!)
الضمير
سر غريب، وروح عجيب، أودعه الله الإنسان فجعل منه قوة مسيطرة عليه، متصرفة فيه، لا يملك لها دفعاً، ولا يستطيع منها تخلصاً، ولا يجد من دونها موئلاً!
آمنت بك يا رب! خلقت الإنسان ضعيفاً، وركبت فيه نوازع الشر والخير، ثم قلت له بلسان قدرتك: اعمل ما شئت فقد جعلت عليك رقيباً لن تغيب عنه ولن يغيب عنك، وليس إلى مصانعته أو مخادعته من سبيل!
آمنت بك يا رب! هم ينكرون حسابك في الآخرة وأنت تحاسبهم في الدنيا، وهم يتساءلون: كيف يكون لابن آدم معقبات من بين يديه ومن خلفه؟ وأنت جعلت له معقباً في قرارة نفسه
ولكن يا رب سؤال غير معترض عليك، ولا معقبٍ على حكمك: هل جعلت هذا الضمير أداة عذاب، وكتبت به على فريق من الناس أن يظلوا منه في حرب عوان مع هذه الدنيا الملتوية؟ إن الباطل، يا رب، قد استعلى على الحق، وطغى على الخلق؛ وإن الرجل ليصدع بكلمة الصدق فَيُتخذ سِخريا، ويكون أُضحوكة الضاحكين، وأٌ ندورة المتندِّرين، وإن الكاذب الخادع ليلتوي ويتخابث فيشق طريقه بين الناس في أمن وطمأنينة وسلام!
لقد أصبح الباطل معمّاً في الناس مُخوِلا، وأصبح الحق يتيما لطيما! فماذا يفعل امرؤ ذو ضمير يدعوه إلى الإخلاص في عمله والفناء فيه، وهو يرى البيئة الفاسدة عدوّاً له، وحرباً عليه؟ ماذا يفعل إذا استحثه ضميره على السير في طريق الخير قدما وهو يرى القافلة كلها تسير في غير الطريق؟ أيبطل مع المبطلين، ويفسد مع المفسدين؟ وأنَّى له ذلك وهو امرؤ ذو ضمير؟ أم يصادم ويقاوم ويثور ويغضب ويجادل ويناضل؟ وكيف يأمن مع ذلك على نفسه وخلقه؟ ومتى يذوق طعم الراحة؟
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب!)
محمد محمد المدني(460/18)
معارج الأحداث
للأستاذ سعيد الأفغاني
ولست أعني بالأحداث من صغرت أسنانهم فقط، وإنما عنيت مع ذلك، أشباههم: ممن صغرت أقدارهم، وضؤلت معارفهم، ورقث عقولهم، وانحطت هممهم وتخلفت أعمالهم. . . ولو جللهم الله المشيب وعلت رؤوسهم النسائج البيض.
ولعمر الله ما أدري لِمَ يُعْرض الكتاب عن طبقة هي إحدى عوائق النهضة الصحيحة لعصرنا، فلا يصفون منها ما يصف الطبيب من الجراثيم وأعراضها وفتكها، ثم ما يكون من سبل الوقاية، وطرق العلاج. وهي طبقة تراها منبثة في الشوارع والأندية والمجامع والمعاهد والدواوين. . . لم يرزقها الله من المواهب ما تستطيع أن تنفع به، وحز في نفسها شعورها بالضعة وسقوط المنزلة، فاندفعت في صفاقة وقحة تدّعي ما ليس فيها، ثم ترامت في الطعن على الناس ذوي الأقدار ليعتقد لهم الجاهل بذلك فضلاً.
فإن كنت تنسب أمر الأطفال الذين يبغون أن يكونوا زبيباً قبل (التخصرم) إلى غرة الحداثة، فماذا أنت ناسب إلي ما أعرض عليك:
هذا أديب حباه الله كل المواهب اللازمة للأدب، وأخذ نفسه بدرسٍ طويل وصبر أطول حتى أخرج للناس أدباً نافعاً وأصبح مشاراً إليه؛ فيطمح فريق من أحداثنا، هؤلاء إلى مثل مكانته، فلا يكلف الأمر أكثر من محاولته جلب الأنظار إليه بالصراخ والغثاثة والدعوى العريضة، فإذا شكا إليك إعراض الناس، ونبهته إلى ما ينقصه من وسائل ومواهب، وأنه يحسن به أن يأخذ للأمر أهبته، رماك - في غيبتك - بالتثبيط، وحمل عنه هذه الفرية من كنت تظن بعقله البعد عن الانخداع.
وهذا يريد أن يكون كاتباً ولما يُحسنْ سبك جملة صحيحة بعد، ولما يستوعب فهم صفحة يقرؤها فيها صحيحاً، يعرض عليك مقاله فتنصحه بالتعليم، فيزورّ عنك محتجاً بتحقير شهاداته العالية ويطوف إدارات الصحف أو المجلات هو ووسطاؤه، فيروعك أن ترى سخطه منشورا، ويروعك أكثر أن تراه أحياناً قصد من لا تشك في إطلاعه وبصره، فيغشه في فترة سأم وإعياء.
وذاك لم يدّع أدباً ولا كتابة، ولكن حلاله أن ينتسب في الباحثين، فسطا على بحث نشر في(460/20)
بلد بعيد، وفقرات من مواضيع في كتابين قديمين، فقطّع ذلك خمسين قطعة، ثم عاد فوصل بين ما قطّع بجمل من عنده، وقدم فيها وأخر، ثم رقَّم هذه الجمل وجعل لكل رقم حاشية تدل على صفحة مصدره - تشبهاً بما فهم من الأسلوب الحديث - فاستوى له بإذن الله ما سماه بحثاً علمياً، فإذا بك تجد كلاماً لا انسجام بين أجزائه ولا تساوق بين أفكاره يلعن بعضه بعضاً، فإذا قلت له: إنه غير مفهوم، أجابك: هذا هو الأسلوب العلمي
وذلك - عافاك الله - لا أديب ولا كاتب ولا باحث، لكنه لغوي يا سيدي، يعني إنه يسود صفحات بالركاكة والابتذال والمط والتطويل والسخف، حتى إذا واتاك صبرك وانتهيت منها قراءة، وقذفت بالمجلة أرضاً، وأغمضت عينيك تستعيد ما مرّ بك. . . إذا كل ذلك: كلام في أن (وابور الزلط) من عامية مصر، أو أن (الجسر) في عامية الشام هو (الكبري) في عامية مصر
وإن كان محاضراً لبث أسبوعين (يبشر) بمحاضرته ويدعو لها ويلقاك في الطريق، أو حافلة الترام، أو عند الوراق، أو حاملاً حاجة، أو منطلقاً عجلان، أو منقلباً إلى دارك. . . فاستوقفك ساعة وحدثك بمحاضرته وما حوت من نكات، وأكثر عليك من حركاته و (تهريجه)، حتى يقتلك قتلاً، فلا يتركك إلا وقد أخذ عليك عهداً: لتحضرنها أنت واهلك وأصحابك وجميع معارفك، فإذا وفيت بعهدك، فويل لك من نفسك، وويل لأصحابك: لقد شبعتم خجلاً من أنفسكم وتهكماً، وأوسعكم المحاضر الكريم غثاثة وثقلاً
وهذا نمط آخر خير مما تقدم: لا أديب ولا كاتب ولا باحث ولا لغوي ولا محاضر ولا شيء من الأشياء مما يبرر أثره إلى الوجود، ولعله يحسن أن يسلخ أهاجي الأموات يهجو بها الأحياء، ولعله يتمدح إلى الموسيقى باطلاعه على التاريخ، والى الكيميائي بباعة في الدين، والى الرياضي بحذقه النحو، والى التاجر بأنه شاعر. . . تطمح نفسه إلى أن يسند دعاواه بالانتساب إلي أي جماعة ذات شأن - ولو رسمًّيا - في العلم أو الأدب أو الصحافة، فلا ترى الجماعات فيه شيئاً يسيغ أن يسلكه في زمرها، فيشتد على أفرادها بالشتم والهجاء حتى تتحقق رغبته، وما كانت لتتحقق لولا خراب الضمير الأدبي في بعض الأفراد
وآخرون من غير هذه الأنماط: منهم في الشام، ومنهم في العراق، ومنهم في مصر، أهمل(460/21)
الكتابة في شأنهم الأدباء غفلةً أو تهاوناً، على أن أمرهم سيئ العواقب على المستقبل: تراهم مبثوثين في كل طبقة كما انبثت الطفيليات في المواد الحيوية، تبقث هي الجراثيم، وعلى ضحاياها تحمل النتائج:
هنا نادٍ ذو غاية نبيلة يعمل بعيداً عن الدسائس، فيندس فيه من لا يظهرون إلا على خراب غيرهم، فلا يزالون به حتى تسودّ بين الناس صحيفته. وهناك صحيفة كانت راقية أخذت تشجع هذه الطفيليات بدل أن تنصحها أو تبعدها، حتى انحط مستواها وكسدت سوقها بين العارفين
فإن رحت تبحث عن بواعث الداء وجدته في فقدان الكرامة وضعف الضمير المسلكي عند القيمين على بعض دور الصحف والمجلات وأندية العلم، ولو أنهم أقاموا لموازين الحق بعض الاعتبار، لحفظوا أقدارهم من السقوط
أفليس من واجب الأدباء أن نرى مثل هذه الألوان في أدبهم، وأن نجد فيه صفة هذه الطبقة والتحذير منها ومن ضررها على الناشئين وعلى سمعة البلاد الأدبية. ومعالجة هذا الداء واجبة، إذ لا يخلو من مرضاه مصر من الأمصار. فهل لي أن أقرأ في هذه المجلة الكريمة لكتابنا الاجتماعيين كلمات شافيات؟
وبعد، فلست متشائماً، ولا أمنع أن يكون فيمن ينتسبون إلى العلم والأدب أناس علماء حقَّا أدباء حقَّا، لهم كرامة وبهم شجاعة؛ لكنني موقن أنهم مشتتون، جهودهم ضائعة غير متضافرة، مع إيثار منهم للراحة والسلامة، فلهؤلاء أقول:
إنكم حقاً في سبيل صون ميادين العلم والأدب عن الأدعياء الأدنياء ستلقون أذىً كثيراُ ولكن العاقبة لكم، والغثاء أبدا إلى الاضمحلال. وما بلينا به بلي به من كان قبلنا، ولم يخل عصر من مثل هذه الطبقة التي لا تحسن شيئاً وتستطيل على المحسنين، وما جمع الله لذي كرامة: الصدع بالحق، والسلامة من الناس.
(دمشق)
سعيد الأفغاني(460/22)
سيلان
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
سيلان أو سرنديب اسم تردد على شفاه معظم المصريين منذ ستين عاماً. في ذلك الوقت كانت الثورة العربية تجتاز آخر مراحلها، فقد كان زعماؤها يحاكمون وحكم عليهم بالإعدام في 3 ديسمبر سنة 1882 وأبدله الخديوي توفيق في الحال بالنفي المؤبد خارج القطر إلى جزيرة سيلان وصودرت أملاكهم وجردوا من ألقابهم. عرف المصريين إذن جزيرة سيلان؛ ولقد خلد اسم هذه الجزيرة في الأدب بما كتبه فيها محمود سامي البارودي باشا من شعر مؤثر في الحنين إلى الوطن والحزن لفراقه.
قال يصف الرحيل عن أرض الوطن:
محا البين ما أبقت عيون المها مني ... فشبت ولم أقض اللبانة من سني
عناء ويأس واشتاق وغربة ... الأشد ما ألقاه في الدهر من غبن
فإن أك فارقت فلي بها ... فؤاد أضلته عيون المها عني
وقد أسبغ النفي والحرمان عليه شارة التضحية والبطولة فكتب شعراً يفيض عظمة وجلالاً قال من قصيدة في منفاه:
علام يعيش المرء في الدهر خاملاً ... أيفرح في الدنيا بيوم يَعُدُّه
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش ... بها بطلاً يحمي الحقيقة شدُّه
ومن قصيدة أخرى:
لم أقترف زلة تقضي عليَّ بما ... أصبحت فيه فماذا الويل والحرب
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنب أدان به ظلماً وأغترب
فلا يضن بي الحساد مندمة ... فإنني صابر في الله محتسب
أثريت مجداً فلم أعبأ بما سلبت ... أيدي الحوادث مني فهو مكتسب
لا يخفض البؤس نفساً وهي عالية ... ولا يشيد بذكر الخامل النشب
وقد قضى بها سبعة عشر عاماً، ثم عاد إلى مصر في شهر سبتمبر 1900 بعد أن فقد نور عينيه. أما عرابي باشا فقد عاد في أول أكتوبر 1901. وقد مات بهذه الجزيرة من الزعماء السبعة عبد العال باشا حلمي (في 19 مارس 1891) ودفن بكولمبو، ومحمود فهمي باشا(460/23)
في (17 يوليو 1894) ودفن بكندي ويعقوب سامي باشا (أكتوبر 1900) ودفن بكندي أيضاً
هذا ما كان منذ ستين عاماً. أما اليوم فإن العالم يذكر هذه الجزيرة بمناسبة اقتراب الخطر الياباني منها؛ فقد كان من أثار تطور الحرب في الشرق الأقصى أن استهدفت هذه الجزيرة للغزو الياباني. وقد كانت وقعت أول غارة جوية على عاصمتها كولمبو في 5 أبريل سنة 1942، وحاول بعض جنود المظلات اليابانية الهبوط بها مما دعا القائد العام إلى أن ينبه السكان إلى وجوب مقابلة هؤلاء الجنود وإلقاء القبض عليهم أولاً بأول. ومنذ ذلك التاريخ بدأت هذه الجزيرة تحتل مكاناً ممتازاً في أنباء العالم
هذه الجزيرة
تقع في جنوب الهند؛ وليس هناك شك في أنها كانت متصلة بها يوماً ما إذ هي تشبهها من عدة وجوه. وشكلها كالكمثري وهي أصغر قليلاً من أيرلندا ومساحتها 25000 ميل مربع، وطولها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب 270 ميلاً
أما من حيث التضاريس فإن وسط هذه الجزيرة تحتله كتلة جبلية يصل ارتفاعها في بعض الجهات إلى أكثر من 8000 قدم وتحيط بهذه المرتفعات سهول ساحلية واسعة. والسهل الساحلي في الشمال منبسط وتوجد به كثير من أشباه الجزر الرملية، وتبعد شبه جزيرة مانر 22 ميلاً فقط عن أقصى جنوب الهند، وترتبط سيلان بالهند بسلسلة من الشطوط الرملية والصخور تسمى بقنطرة آدم
ونظراً لقرب هذه الجزيرة من خط الاستواء فإنها دائمة الحرارة، ويخفف من حرارتها إحاطة الماء بها. وتسقط بها الأمطار صيفاً على الساحل الغربي نتيجة لهبوب الرياح الموسمية الجنوبية الغربية عليه أما شرقها فتسقط أمطاره شتاء لهبوب الرياح الموسمية الشمالية الشرقية عليه
الغلات والنبات
تغطي سطوح المرتفعات الدنيا غابات كثيفة وقد قطعت وزرع مكانها أشجار المطاط والشاي والكاكاو؛ وفي الوديان يزرع الأرز وأشجار جوز الهند. وتقوم عدة صناعات(460/24)
متصلة بجوز الهند فتجفف حباته وتصدر، وتقوم المصانع بأعداد زيت جوز الهند وتصديره. ومن أهم التوابل التي تصدرها القرفة. وعلى الشواطئ يشتغل الأهالي بصيد السمك
السكان
يسكن هذه الجزيرة أربعة ملايين ونصف مليون من الأنفس، وقد قدموا إليها من الهند في عصور متفاوتة ومعظمهم بوذيون ديناً. وفي كاندي معبد يسمى معبد السنة وهو من اعظم المعابد حرمة وقدسية لدى البوذيين. أما الباقون فيدينون بالهندوكية وقد جاءوا سيلان من الهند قديما كغزات؛ أما اليوم فإنهم يهاجرون إليها كعمال يعملون في مزارع البن والشاي والمطاط. وفي الجهات الجبلية ما تزال بعض القبائل تعيش على الفطرة
وقد كانت هذه الجزيرة تابعة لحكومة الهند، ولكن منذ سنة 1802 فصلت عنها وأصبحت مستعمرة تابعة للتاج البريطاني
كولمبو
عاصمة الجزيرة وتقع على شاطئها الغربي وقد كانت محط أنظار اليابانيين واليها وجهوا أول جهودهم وذلك بالنسبة لما لموقعها من أهمية: فهي محطة للفحم، منها تتزود السفن المحيطية القادمة من أوربا إلى أستراليا والشرق الأقصى، وبها تمر السفن القادمة من شرق الهند إلى غربها تفادياً لمرور من مضيق (بلك) الضحل، فمعنى الاستيلاء عليها تعذر المواصلات بين شرق الهند وغربها وبين بريطانيا وأستراليا، وأضعاف مركز بريطانيا الحربي أضعافاً كبيراً وقد علقت الديلي تلغراف على هجوم اليابانيين على كولمبو وسيلان فأشادت بالنصر العظيم الذي أحرزته القوات البريطانية في دفع العدوان الياباني على الجزيرة ونبهت إلى أهمية موقع الجزيرة قائلة: (ولسنا نرى في جزيرة سيلان حصناً لحراسة الهند ومواصلات الهند مع الشرق الأوسط وأوربا فحسب، ولكننا نرى فيها أيضاً مركزاً قوياً لتركيز الكرات وتوجيهها إلى خطوط الهجوم اليابانية البعيدة الانتشار)
أبو الفتوح عطيفة(460/25)
32 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع للفصل العاشر - (الخرافات)
ولما تولى الولي السابق ذكره أعماله أخذ يتجول في قسمه فرأى بائع فول يبيع لحرفائه كالعادة. فتناول حجراً وكسر بها قدر الفول، فقفز البائع إليه وتناول جريدة بالقرب منه وضرب الولي بها ضرباً مبرحاً. ولم يشك الولي ولم يصرخ وانصرف حين أذن له. وحاول بائع الفول بعد انصراف الرجل أن يلتقط بعض ما تناثر من القدر، وكان قد بقى منها قطعة في مكانها؛ فلما نظر البائع فيها رأى ثعباناً ساماً ميتاً. فصاح مرتاع مما فعل: (لا حول ولا قوة إلا بالله! أستغفر الله العظيم. ماذا فعلت؟ هذا الرجل ولى وقد أتلف الفول الذي كاد يسمم حرفائي). وجعل ينضر إلى كل مار طول هذا اليوم عسى أن يرى مرة أخرى الولي الذي أساء إليه ليستغفره. ولكنه لم يره لأن الولي كان مرضوض الجسم لا يستطيع أن يمشي. وفي اليوم التالي نهض الولي بالرغم من ورم أعضائه وأخذ يعرج خلال قسمه فكسر جرة لبن كبيرة في دكان لا يبعد عن دكان بائع الفول كثيراً، فعامله اللبان معاملة الفوال. وبينما كان يضربه أسرع بعض الناس إليه وأخبروه أن هذا الرجل الذي يضربه ولي ثم سردوا عليه قصة الحية التي كانت في قدر الفول وقالوا اذهب وانظر جرتك فسترى فيها شيئاً ساماً أو نجساً. ونظر الرجل فوجد في بقية الجرة كلباً نافقاً. وفي اليوم الثالث سار الولي في الدرب الأحمر يعرج على عصا متألماً، فرأى خادماً يحمل على رأسه صينية عليها أطباق من اللحم والخضر والفاكهة أعدت لجماعة كانوا ذاهبين إلى النزهة في الريف فوضع الولي عصاه إذ ذاك بين رجلي الخادم فقلبه، وتناثرت محتويات الأطباق في الشارع، فأخذ الخادم يصب على الولي اللعنات ويضربه ضرباً عنيفاً، وتجمع(460/26)
الناس ولاحظ أحدهم كلباً يأكل ثم لم يلبث أن نفق. فسارع إلى منع الخادم من ضرب الرجل وأخبره بالحادث الذي أثبت ولايته. فجعل الخدم يتعذر للولي ويرجوه أن يصفح عنه. غير أن الرجل سئم وضيفته الجديدة فابتهل إلى الله والى القطب أن يعفى منها، وأجيب إلى توسلاته واستردت قدرته الخارقة للعادة. فعاد إلى دكانه وهو أسعد من قبل
هذه القصة يتقبلها القاهريون كأنها حقيقة ومن ثم أدرجتها هنا. لأننا عند الكلام على الخرافات نواجه الآراء أكثر مما نواجه الأفعال. ولست متأكداً أن القصة جميعها كاذبة؛ فقد يكون هذا الولي المزعوم قد أستخدم من يدخل الثعبان أو الكلب في الوعاءين الذين كسرهما. وقد قيل لي أنى أكثر من واحد قد أشتهر بالولاية بمثل هذه الحيل
وفي مصر أولياء كثيرون يتقشفون تقشف النسّاك الهنود. وفي القاهرة الآن وليّ طوق عنقه بالحديد، وشد نفسه إلى أحد جدران غرفته وظل على ذلك ثلاثين عاماً، كما يقال، ويزعم البعض أن هذا الولي كثيراً ما شوهد متدثراُ كالنائم بملاءة، ثم بعد ذلك مباشرة تزاح الملاءة عنه فلا يجدونه تحتها. ويذكر هذه القصص ويؤمن بها قوم يتمتعون بالعقل الرشيد. والضحك من هذه القصص أو عدم تصديقا يثير السخط الشديد. وقد حكى لي أخيراً أن ولياً قطع رأسه لجرم لم يرتكبه، فتكلم بعد فصل رأسه عن جسده، وأن آخر حز عنقه في أحول مشابهة فخط دمه على الأرض إعلان براءته: أنا ولي من أولياء الله وقد مت شهيداً.
وهناك ظاهرة غريبة في خلق المصريين وغيرهم من الشرقيين وهي أن المسلمين والمسيحيين واليهود يتخذون خرافات بعضهم بعضاً بينما يمقتون العقائد الأصلية. وقد يستخدم المسلمون عند المرض قسس النصارى واليهود للدعاء لهم، وكذلك النصارى واليهود يدعون الأولياء المسلمين للغرض نفسه. ومن المألوف أن ترى المسيحيين يترددون على الأولياء فيقبلون أياديهم ويسألونهم الدعاء والنصح. ويجزلون لهم المال والعطايا.
وينسب المسلمون إلى الرسول معجزات كثيرة لا يقرها الإسلام. وهم يقولون أن هناك معجزات كثيرة لا تزال تتم إكراماً للنبي وشاهداً على رعاية الله له. ويروي الحجاج الذين زاروا المدينة أنهم يرون كل ليلة شعاعاً من النور الكامد يشع من قبة القبر النبوي إلى ارتفاع هائل إلا أن الشعاع يختفي عن الناظر عندما يقترب من القبر. وهذه معجزة من أكثر المعجزات اعتباراً ويروون أنها تشاهد للآن. وقد سألت أحد أصدقائي الحصفاء عن(460/27)
صحة هذا الزعم فأيده وجزم أنه كان يرى الشعاع كل ليلة مدة إقامته بالمدينة. وقال: أن ذلك دليل على رضى الله وإكرامه لسيدنا محمد (ص)، ولم أجرؤ أن أستفهم عن حقيقة ما يزعم رؤيته بعينه ولا الإشارة إلى أن أكثر النوار التي تضاء في المسجد كل ليلة قد تحدث ذلك الأثر. غير أنى سألت صديقي أن يصف لي بناء القبر وقبته الخ؛ فأجاب أنه لم يدخل الضريح ولا الكعبة لاضطراب أعصابه نتيجة لإعظامه هذه الأماكن المقدسة وخاصة قبر الرسول الذي يؤثر فيه تأثيراً شديداً؛ ولأنه حنفي المذهب لا يليق به أن يسير فوق هذه الأرض المقدسة ويتعرض كل حين لمكاره المشي حافياً، ومن ثم كان عليه في هذه الحالة أن يلبس خفاً داخل الحذاء الخارجي، وهذا مالا يقدر عليه. ويزعم الحجاج أيضاً انهم يرون دائماً على مسير ثلاثة أيام من المدينة نوراً في اتجاه المدينة المقدسة ويعتقدون أنه ينبعث من قبر الرسول. ويقولون أنهم حيثما يتجهون يشاهدون هذا النور تجاه المدينة. ولهذه الروايات جمال يؤثر في النفوس ويحمل المسلمون، وبخاصة المصريون على اختلاف مذاهبهم، ما خلا الوهابيين، للأولياء المتوفين احتراماً وتقديساً لا سند لهما في القرآن أو الأحاديث، أكثر مما يحملون للأحياء منهم. ويشيدون فوق أغلب قبور الأولياء المشهورين مساجد كبيرة جميلة. وينصبون فوق قبور من هم أقل منهم شهرة بناء صغيراً مربعاً مبيضاً بالكلس ومتوجاً بقبة. ويقام فوق القبر مباشرة نصب مستطيل من الحجر أو القراميد يسمى (تركيبة)، أو من الخشب ويسمى (تابوتاً)، ويغطى النصب عادة بالحرير أو الكتان المطرز ببعض الآيات القرآنية، ويحيط به قضبان أو ستر من الخشب يسمى (مقصورة). وأكثر أضرحة الأولياء في مصر مدافن إلا أن أكثرها يحتوي على آثار قليلة لهم. وبعضها ليست إلا قبوراً فارغة أقيمت تذكاراً للميت. وأكثر هذه المقامات قدسية مقام الحسين إذ يقال أن رأس الحسين الشهيد مدفون به. ومنها أيضاً مسجد السيدة زينب وهو دون الأول قدسية. ومسجد السيدة نفيسة، ومسجد الأمام الشافعي الذي ينتمي إلى مذهبه أكثر القاهريين. وتوجد هذه الأبنية السابقة ما خلى الآخَريْن داخل العاصمة. أما مسجد السيدة نفيسة فهو في إحدى الضواحي الجنوبية، ومسجد الأمام الشافعي في المقبرة الجنوبية الكبيرة
ويزور المصريون هذه الأضرحة وغيرها أحياناً أما إجلالاً للميت أو قياماً بأعمال تستحق الثواب لأجل هؤلاء المكرّمين معتقدين أنهم سينزلون عليهم البركات، وأما بقصد التماس(460/28)
البرء من مرض أو طلب النسل، مقتنعين أن فضائل الميت تكفل قبول دعواتهم قبولاً مرضياً. ويعتبر المسلمون أولياءهم المتوفين شفعاء لهم عند الله ويقدمون لهم النذور. ويحيي الزائر عند وصوله الضريح بالسلام ويسلم عليه أيضاً عند دخوله المدفن. ولكني أعتقد أنه قلما تراعى هذه العادة الأخيرة. ويواجه الزائر رأس الميت، ومن ثم يولي القبة ظهره. ويطوف حول المقصورة من اليسار إلى اليمن ثم يقرأ الفاتحة بصوت لا يسمع أمام باب المقصورة أو أمام جوانبها الأربعة. وقد يتلو بعد ذلك سورة أطول من الفاتحة، كما قد يتلو في هذه الحالة (خاتمة). وتقرأ هذه الأدعية لأجل الولي وان كان يعتقد أيضاً أن الأجر ينعكس على الزائر الذي يتلو الصلاة. ويختم الزائر ذلك عادة بقوله: (أنى وهبت ما قرأت من القرآن الكريم إلى من نذر له هذا المكان) أو (إلى روح هذا المولى). ويبقى ثواب ما قرىء للقارئ وحده إذا لم يبين ما سبق أو لم يقصده. ويبتهل الزائر بعد تلاوة هذا إلى الله لاستدرار النعم فيقول عادة: (اللهم أتوسل إليك بالرسول وبمن وقف له هذا المكان أن تهبني هذه النعمة وتلك الأخرى) أو (حملي على الله وعليك يا من كُرّس لك هذا المكان). ويواجه البعض وهو يفعل ذلك جانباً من جوانب المقصورة. ويقال أن اللائق أن يواجه الإنسان المقصورة والقبلة، ولكني أعتقد أن القاعدة نفسها تراعى في هذه الحالة كما تراعى في السلام؛ وتوضع اليدان أثناء ذلك وضع الابتهال الخاص عقب الصلاة العادية ثم تسحبان بعد ذلك على الوجه. ويقبّل الكثير من الزائرين عتبة باب المقام وجدرانه ونوافذه ومقصورته الخ. . . إلا أن الشديد المحافظة يستقبح هذا لاعتباره تقليداً لعادة مسيحية. ويوزع الأغنياء والميسورون عند زيارتهم قبور الأولياء المال أو الخبز على الفقراء. وكثيراً ما يمنحون السقاءين نقوداً ليفرقوا الماء على الفقير والظمآن إكراماً للولي. وهناك أيام خاصة في الأسبوع لزيارة بعض الأضرحة. فيزور الرجال مسجد الحسين على الأكثر يوم الثلاثاء، والنساء يوم السبت. ويزورون مسجد السيدة زينب يوم الأربعاء، ومسجد الأمام الشافعي يوم الجمعة. والعادة في هذه الحالات أن يحمل الرجال معهم آساً يضعون بعضه على النصب أو فوق الأرضية داخل المقصورة، ويأخذون الباقي ثانية لتوزيعه على الأصدقاء. ويضع الفقير أحياناً خوصاً، كما يفعل أغلب الناس على قبور الأصدقاء والأقارب، وتضع نساء القاهرة بدل الآس والخوص وروداً وزهوراً وياسميناً.(460/29)
(يتبع)
عدلي طاهر نور(460/30)
تحية فلسطين
للأستاذ بشارة الخوري
(ألقاها بالقدس في زيارته الأخيرة)
(فلسطين) لست سوى دمعة ... تهادت على بسم حائرة
تعانقتا فاستحال العناق ... لهيباً على شفة ثائَرة
(فلسطين) يا حُلم الأنبياء ... ويا خمرة الأنفس الشاعرة
حملنا لك المهج الظامئات ... وأصدية القبل الطاهرة
(فلسطين) يا هيكل الذكريات ... على جبهة الأعصر الغابرة
مضمخةً بغبار الحروب ... مخضبةً بالمنى الزاخرة
(فلسطين) يا جمحات الخيال ... مجنحةً بالرؤى الساحرة
هناك على شرفات النجوم ... أرى مكة تلثم الناصرة
ألا قطرةً، عرس قانا الجليل ... ولو بين جدرانك الدائرة
ترد إلى الشعر وحي السماء ... فتلهمه الأنفس الكافرة
بشارة الخوري(460/31)
إلى. . .؟
(للشاعر المجهول)
أبحتُكَ من قلبي نفائسَ عَطْفِهِ ... وحرَّرتُ فيكَ المال من رِبْقَةِ الضَّنِّ
وقلتُ مِثَالٌ من جمالٍ أَصُونُهُ ... فيَسْلَمُ من إفْكِ الزمانِ ويستغني
فلم تَرَ صدري من سهامِكَ في حِمًى ... ولم تَرَ جَيَبْي من نِصاَلِكَ في أَمْنِ
وعِشْتُ يُرينِي اُلْحبُّ أنكَ حَافِظٌ ... عهودي وأن الُخلْدَ بعضُ الذي أَبنِي
فَلمَّا رأيتَ الوجدَ يَغتالُ مُهجتي ... وأيقنتَ أنى من غرامِكَ في سِجْنِ
مَضَيْتَ إلى غيري جهاراً وَخُنْتَنِي ... فمن أي وَحْلٍ صِيغَ طَبْعُكَ خَبِّرنِي
(للشاعر المجهول)(460/32)
إلى روح شقيقي (إبراهيم)
ما كان إلا دنيا محببة!
للآنسة فدوى طوقان
لاَ كَانَ عَامٌ ظَلِلْتَ يَا سَكَنِي ... فيهِ وَراَء الْحيَاةِ وَالزَّمَنِ
مُسْتَوْحِشاً في الضريح مُنْفَرِداً ... مُرْتَهَناً بالتّرابِ والكفنِ
وَا حَرَّ صَدْري عَليكَ وا أسَفي ... أَنْ لَمْ تُمِتْنِي لواعِجُ اْلَحزَنِ
لوَ أنَّني قمتُ بالوفاءِ، أَخِي ... ما ظلَّ روحي يجولُ في بدنِي
أَنَّى تطيبُ الحياةُ بعدَكَ يا ... أَحْسَنَ ما في الحياةِ مِنْ حَسَنِ
قَطَعْتُ عنِّي أَسْبَابَ بَهجتِهَا ... وَصِرْتُ والَّلأعجاتِ في قرَنِ
تَهْجِسُ في خاطري، أَخِي، ذِكَرٌ ... تَظَلُّ مِنهَا الأشجانُ تَطْرُقنُي
كنتَ لعَمَرْي زيناً لمجلِسِنَا ... وفتنةً مِنْ مُحبَّبِ الِفتن
تدفعُ عنَّا الهُمومَ إَنْ نزلَتْ ... بالدّارِ يوماً طوارِقُ المِحَنِ
فكيفَ بالله صرْتَ أكبرهَا ... وكيفَ أَصْبَحْتَ مَصْدَرَ الشَّجَنِ؟
أَوْلَيتَنِي مِنْ لَدُنْكَ عَارِفةً ... آبَتْ بحِفْظِ الجميلِ مِنْ لدُنِي
وَاهاً لها مِنْ يدٍ مُباَرَكةٍ ... فيَّاضةِ البِرِّ ثَرَّةِ المِنَنِ
ما كنْتُ إَّلا مِنْ غَرْسِهَا فَنناً ... لو لم تُحِطْهُ بالْحِفْظِ لم يكُن
قدْ صُنْتَهُ فاسْتَقَامَ من أَوَدِ ... لولاكَ لم يستقمْ ولم يُصَن
واليومَ يُودي لَفْحُ السَّمُوم بِهِ ... بعدَكَ مَنْذَا يَقيِه مِنْ وَهَن
لا خفَّفَ الُله ما أُكابدُهُ ... إِنَّ سُلُوِّى عنهُ مِنَ ألأفَنِ
وإنَّ قَلْباً قدْ كَانَ مَأْمَلَهُ ... غيرُ حقيقٍ بالصَّبر أو قَمِن
أيام عُمْرِي تَجَهَّمَتْ كَمَداً ... وكان فيها بشاشةَ الزَّمَن
واهاً لنفسي مِنْ طولٍ وَحْشَتِهَا ... ما أَنِسَتْ بعدَهُ إلى سَكَن
أَوْدَعْتَ في القبر سيرةً كَرُمَتْ ... يا لِيَ أَمَّنْتُ غيرَ مُؤْتَمَن
أَمَا وَحُبّيهِ مثلَ سِيرَتِهِ ... ما شامَ طرْفي وََلا وَعَتْ أُذُنِي
خُلْقٌ كقطْرِ النَّدى صَفَا وَزَكا ... في السّرِ مُسْتَأْمَنٌ وفي العلَنِ(460/33)
نفسٌ كصافي النَّميرِ مَوْردُهُ ... ليسَ بذي كُدْرَةٍ وََلا أَسَنِ
مَنْذَا لصِدْقِ الوَلاءِ إنْ طُوِيَتْ ... نفسُ وَليٍ يوماً عَلى دَخَنِ
مَنْذَا لِجَزْلِ القَريضِ وَاحَزَنِي ... مَنْذَا لِحُلْوِ الحديثِ والَّلسَنِ
مَنْ للنُّهي إنْ كَبَا الْعَثَارُ بهَا ... والأَمْرُ أَعْيَا عَلَى ذوي الْفِطَنِ
(ما كان إلاَّ دُنْيَا مُحَبَّبَةً) ... خالصةً مِنْ شَوائِبِ الدَرَنِ
أَسْعَى إلى قبرِه يُساَوِرِني ... شَوْقٌ إليه والدَّمْعُ يَسْبِقُنِي
أَحْنُو عليه أبكيهِ مِنْ أَسَفٍ ... أَسْقِي ثَراهُ بأَدْمُعِي الْهُتُنِ
أَمْسِحُ مِنْ لَوْعَتي بتُربَتِهِ ... مَسْحَ أكُفِّ الحجيج بالرُّكْنِ
لولا عظامٌ لنا مُطَهَّرَةٌ ... في التَّرب لم نحترِصْ عَلَى وَطَنِ
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(460/34)
البَريدُ الأدبيّ
الرسالة هي الصديق
كتب الأديب حسين الصوفي كلمة نصّ فيها على أني أخطأت حين قلت (الرسالة الصديق) وساق كلاماً لا ينفع في (فَعيل) بمعنى فاعل و (فعيل) بمعنى مفعول، وسأصحح له هذا الخطأ حين أجد فرصة لا تدعونا فيها (الرسالة) إلى مراعاة الأمر العسكري بتحديد عدد الصفحات!
وأجيب بأن (الرسالة) هي (بُثينة) في قول جميل:
كأن لم نحارب يا بُثيَن لو أنها ... تكشَّف غمَّاها وأنتِ صديقُ
وما وصفتُ (الرسالة) بالصديق إلا وفي خاطري هذا البيت. فهي إلى قلبي حبيب.
زكي مبارك
لمن (رسالة الحج)؟
قبل ثلاثة أعوام قصدت مكة لزيارة قصيرة وكان لابد لي من زيارة الصديق الشيخ عبد الوهاب الدهلوي وكانت في يدي نسخة من رسالة الحج، فسألني الصديق وما تلك بيدك يا حسين؟ قلت هي (رسالة الحج): لدبلوماسي، وإنها لرسالة جميلة في أسلوبها وموضوعها. فقال: الأستاذ الدهلوي: هذه الرسالة لي وضعتها باللغة الأردية وطبعتها في سنة 1352 هـ باسم (أسرار حج) وأهديتها فيمن أهديت إلى أستاذنا الشيخ عبد الله السندي، وأنت تعرف هذا الأستاذ، فله تلامذة نجباء، وقد أعجبته الرسالة فدفعها إلى أحدهم فترجمها إلى الإنكليزية، وبقيت في حوزته. وفي اجتماع ضم الأستاذ عبيد الله والأستاذ حافض عامر قنصل مصر في جدة يومئذ جرى الحديث إلى تلك الرسالة، فأخذ الأستاذ حافظ الترجمة الإنكليزية وعربها وطبعها ووضع عليها أسم (دبلوماسي)
ثم توالت السنون وأطلعتنا الصحف المصرية أخيراً على تقاريظ لطبعة ثانية من رسالة الحج تقول أنها للأستاذ حافظ عامر وفيها ثناء عليه أهمه كلمة لفضيلة الأستاذ المراغي في أحد أعداد الهلال
فرأيت أن أقول كلمة ترد الحق إلى نصابه: أن رسالة الحج ليست من تأليف الأستاذ حافظ(460/35)
عامر ولا من ترجمته. هي من تأليف الأستاذ الشيخ عبد الوهاب الدهلوي بالأردية ولا تزال تطلب منه في مكة. وأما الترجمة فقد قرأنا في كتاب حياة الرافعي للأستاذ العريان ما معناه ونصه: الرافعي وحافظ صديقان بلغ من صداقتها أن الرافعي كان يكتب لحافظ أسلوب المرافعة في الحكم حينما كان الأستاذ حافظ محامياً في طنطا. وقد ظل هذا التعاون الأدبي متصلاً بين الرافعي وحافظ إلى ما قبل موت الرافعي. . . ثم قال: كان ذلك في صيف 1935، وكان الرافعي يقضي أجازته الإسكندرية ليعاون صديقه السياسي حافظ في إنشاء رسالة دينية. فما رأي الأستاذ حافظ عامر؟
(جدة)
حسين محمد نصيف
تذكير
كان الأستاذ عمر الدسوقي قد وعد قراء (الرسالة) الزاهرة في معرض مقال له أنه سيتولى كتابة يحث في الأدب اللبناني الحديث معتمداً على تعرفه بالأدب السوري اللبناني أثناء الحقبة التي سلخها في لبنان
ولقد تنظّرنا أن يفي الأستاذ بما وعد، ولمّا يفعل
والأدب السوري اللبناني مفتقرٌ الآن إلى مثل هذا البحث لاسيما أنه لم يُوفَّ من التقدير حقه؛ فمن الناس من أشاد به وأطراه بالغ الإطراء، سواءً في الصحف أو في الإذاعة، ومنهم من بخسَه حقه وأنتقص من قدره
والى الآن لم يظهر الرجل الذي يتخذ مذهباً وسطاً، فلا يتبنى الأول وهو مبالغٌ فيه، ولا يتبنى الآخر وهو مبالغٌ فيه كذلك.
فلم يبق إلا أن نرجو الأستاذ الدسوقي أن يعتزم الأمر ثانيةً أن كان تقاعَدَه عنه شغل. ويكون هذا الناقد النزيه، وهذا الباحث العادل البعيد عن التعرُّض، وعساه يوافينا عما قريب.
(بيروت)
سهيل إدريس(460/36)
(الرسالة الصديق)
جاء في العدد 459 تحت هذا العنوان تخطئة لوصف (الرسالة) (بالصديق)، وأن الصواب وصفها (بالصديقة)؛ وقد ذكرت معاجم اللغة صحة وصف المؤنث (بالصديق)
فجاء بالقاموس في مادة (صدق): (وكأمير الحبيب للواحد والجمع والمؤنث وهي بهاء أيضاً)؛ وجاء بالمصباح: (وامرأة (صديق) و (صديقة) أيضاً)
وجاء بالمختار: (والرجل (الصديق) والأنثى (صديقة)، وقد قال للجمع والمؤنث (صديق))
إذا، يصح أن نقول: (الرسالة) (الصديق) و (الرسالة) (الصديقة). . . ولعل صحة وصف المؤنث (بصديق) بناء على ورود هذه المادة متعدية، فقد ورد: (صدق فلاناً الحديث والقتال)؛ ومنه المثل: (صدقني سن بكره)؛ فهي حينئذ (فعيل) بمعنى (مفعول)
فعلى هذا يكون ما ذكره الأديب الفاضل من القياس على (الرسالة العظيمة) و (الكاتبة البديعة) بعيداً. إذ الأولى صفة مشبهة: (كشريف) و (ظريف)؛ والثانية وصف لاسم الفاعل الذي على وزن (مُفْعِلْ): (كنذير) و (سميع) وكلا هاتين الصيغتين يذكر مع المذكر ويؤنث مع المؤنث.
كلية اللغة العربية
على محمود الشيخ
إلى الدكتور حسني ولاية
لك يا حضرة الدكتور الفاضل أبحاث قيمة تتحف بها قراء الرسالة بين الفينة والفينة، فضلاً عما تخرجه المطابع لك بين الحين والآخر من ثمرات بعضها مؤلف وبعضها مترجم. . . وكلها تدور حول (علم النفس) وعلاقته بالمجموع العصبي للإنسان، فهل يتكرم سيدي الدكتور بالإجابة عما يلي: وله الشكر أولا وأخراً
1 - ما هو الفرق بين الأمراض النفسية، والأمراض العصيبة، وهل من الضروري أن يكون المريض بأعصابه عليلاً بنفسه؟!
2 - ما هو القلق العصبي، وما علاقته بنفس المريض؟(460/37)
3 - هل نعتبر المجرم مريضاً بأعصابه أم بنفسه. . .
4 - ما تعليل قولهم أن لكل شاعر شيطاناً من الوجهة النفسانية؟
5 - نرى أن بعض مختلي الأعصاب وبعض، المجرمين ينتجون ذرية صالحة جسمانياً وعقلياً والعكس بالعكس. . . فأين قانون الوراثة هنا؟!
وفي انتظار الإجابة أقدم للدكتور العالم جزيل احتراماتي.
(النخيلي)
محمد محمد مالك
إلى الأستاذ العقاد
كثير من الأدباء يتهمون إخوانهم بالأنانية وحب النفس، فأدباء الشيوخ الذين يحتكرون ميدان الأدب لا يبذلون أي جهد في تسديد خطى الشباب الناشئ
ولا أعرف السبب الذي يمنع أديبا مثل الأستاذ العقاد من تأليف كتاب عن الشعراء الناشئين الذين يدل شعرهم على نبوغ وعبقرية ومثلما فعل الشاعر الإنجليزي المعروف (و. ب. يتس) الذي كتب عن (روبرت بودج)، (ولتردى لمار)،
(هيلار بيلوك)، (ليونيل جونسون)، (أرنست دوسون) في مؤلفه (كتاب اكسفورد للشعر الحديث).
فشيوخ الأدب في أوربا لثقتهم بأنفسهم، وحبهم لفنهم، وإخلاصهم له يسددون خطى الأدباء الناشئين، ويشيدون بذكر المواهب منهم. فما رأي الأستاذ العقاد في هذا الموضوع؟ وهل يعمل الأستاذ على إخراج مثل هذا المؤلف؟ أنه أن أخرج هذه الفكرة إلى حيز الوجود فسيكون قد أسدى خدمة جليلة للأدب العربي المستحدث بجانب خدماته العديدة التي سبق أن أسداها إليه
كمال الدين نشأت(460/38)
العدد 461 - بتاريخ: 04 - 05 - 1942(/)
تعليقات وتعقيبات
للأستاذ عباس محمود العقاد
من تعقيبات القراء الأدباء على مقالي في (ابن الرومي) كلمة كتبها الأديب (أبن درويش) في (الرسالة) يقول فيها موجها الخطاب إلى:
(نال مني الدهش لتعصبك لهذا الشاعر، ولعل هذا راجع إلى أن الأستاذ قد صاحب (ابن الرومي) أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته. لهذا كان طبيعياً أن يخلع عليه أستاذنا الجليل لقب (شاعر العالم) غير منازع، أن يقول أن شعره ليس فيه مغمز لغامز، وأن إحساسه مرهف غاية الإرهاف، وتصويره آية في الإبداع. فما رأي سيدي الأستاذ بيتين مشهورين
(لابن الرومي) قالهما في روض سقته السحب أو أرضعته فأنبت ألفي رضيع من بني النضر حيث قال:
سقته ثُدِيُّ السحب من مرضعاتها ... أفانين مما لم تقطره مرضع
كألفي رضيع من بني النضر ضُمنوا ... محاسن هذا الكون، والكون أجمع
فأي تصوير هذا يا أستاذي العزيز؟ وأي استيعاب فني فيه. . . ألخ)
والأسئلة فيما نرى ضربان: سؤال يوجهه صاحبه وقد أجتهد في أن يعرف غرض الكتاب فهما سائران في طريق واحد. وسؤال يوجهه صاحبه وكأنه أجتهد في نقيض ذلك، ونقيض ذلك هو ألا يعرف غرض الكتاب وأن يتخذ له وجهة غير وجهته وطريقاً غير طريقته، فما مفترقان لا يتقاربان.
واحسب أن الأديب الذي وجه إلى ذلك السؤال لم يجتهد في معرفة غرضي بمقدار اجتهاده في الحيدة عنه، فقوّلني ما لم أقل، واعترض بعد ذلك في غير موجب للاعتراض.
فأنا لم أقل أن ابن الرومي شاعر العالم منازعاً أو غير منازع، وإنما قلت أنه شاعر (له عالم)، وفسرت ذلك بأنه قد نظر على طريقته إلى العالم كله فجاءت له في شعره صورة فنية كاملة. وذكرت له نظراء في تصوير العالم على طرق مختلفات كالمتنبي الذي نرى في شعره صورة للعالم من الوجهة العملية، والمعري الذي نرى في شعره صورة للعالم من الوجهة الفكرية، وغيرهما بين شعراء الشرق والغرب كثيرون.
وقد ينفرد ابن الرومي بمزية لم يسبقه فيها سابق من الشعراء الأقدمين والمحدثين فلا يكون(461/1)
معنى ذلك أنه شاعر العالم غير منازع، لان المزية كما يعلم الأديب لا تقتضي الأفضلية، وربما عجز أناس أن يجاروه في مزيته ويسبقوه في مزية أخرى أو جملة مزايا لا تقل في شأنها عما تفرد به وتقدم فيه.
وإذا اعترض معترض على رجحان ابن الرومي في مزية التصوير الفني فسبيله إلى الاعتراض أن يذكر شاعراً آخر له حسنات في هذا الباب أفضل من حسنات ابن الرومي وأدل على الملكة الفنية، وليس سبيله أن يذكر الرديء أو المختلف عليه من كلام ابن الرومي المنسوب إليه.
كذلك لم أقل إن شعر ابن الرومي (ليس فيه مغمز لغامز) لأن العلو في الإجادة لن يمنع الإسفاف في الرداءة، وابن الرومي نفسه يعلم هذا ويعتذر لرديئه بأبياته المشهورة التي يقول فيها:
قولا لمن عاب شعر مادحه ... أما ترى كيف رُكّب الشجر؟
ركب فيه اللحاء والخشب اليا ... بس والشوك دونه الثمر
وكان أولى بان يهذب ما يخ ... لق رب الأرباب لا البشر
وهي الأبيات التي افتتحت بها كلامي عن صناعة ابن الرومي في الكتاب المطول الذي كتبته عنه، لعلمي انه يقول الرديء كما يقول الحسن، وأن المغمز في كلامه لمن شاء غير قليل.
وبعد فمن هو الشاعر الذي يقال فيه أنه شاعر العالم أو أنه الشاعر العالمي إذا كان الإتيان ببيتين من شعر الرديء - على تسليم رداءته - حائلاً بينه وبين التفرد بمزية عالمية؟
من هو الشاعر الذي لا يؤتى له ببيتين بل قصيدتين يمغمزهما الغامز متى شاء؟
فليست الطريقة التي آثرها الأديب (ابن درويش) بطريقة الاعتراض المأثورة فيما أرى، وإنما الطريقة السوية أن نستنفد المحاسن حتى لا نبقي فيها بقية، وأن نقرن بينها وبين محاسن من قبيلها تفوقها وتربى عليها. . . أما ذكر بيتين أو قصيدتين لشاعر من كبار الشعراء فلا يغير الحكم عليه بالغاً ما بلغ الرأي في استهجان البيتين أو القصيدتين.
على أنني لا أذكر أنني قرأت البيتين في ديوان ابن الرومي، ولا أراهما مما يعاب سواء نسبا إليه أو إلى غيره، ولا أعدهما من أبيات الوصف لأنهما أشبه بأبيات التخلص التي(461/2)
يأتي فيها الوصف عرضاً غير مقصود، وإنما عنيت أبيات الوصف فانتظرت (يذكرني من شاء بأبيات وصفه أبين له ما فيها من عناصر الاستيعاب)
ومع هذا اسأل الأديب: لماذا فهم أن إعجابي بابن الرومي راجع إلى أنني صاحبته أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته؟
إن ابن الرومي لم يكن له ديوان مطبوع يوم كانت دواوين المتنبي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس والشريف الرضي وغيرهم مطبوعة متداولة في أيدي القراء!
فإذا سعيت إلى قراءته مخطوطاً فإنما تكون المصاحبة الطويلة نتيجة الإعجاب وليست هي سبب الإعجاب
فلماذا يكون إعجابي به خطأ لا محالة فلا تفسير له إلا طول المصاحبة؟ ولماذا يكون رأي الأديب فيه هو الصواب لا محالة لأنه لم يطل مصاحبته، أو لأنه أطال مصاحبة الآخرين؟
وهل كان يجب أن أقول أن المتنبي أوصف من ابن الرومي لأكون قد صاحبت المتنبي كما ينبغي أن أصاحبه وأصاحب غيره؟
ولم يجوز التعصب على ابن الرومي بغير سند، ولا يجوز التعصب له بسند مفصل أو قابل للتفصيل؟
أن الرجل لكما قلت بين شعراء العالم أجمع، وأن الذي يمكن مزيته لمطالب بحسنات يثبتها لغيره تربى على الحسنات التي ثبتت له في دواوينه، فإن لم يستطع فما هو بغاض من قدره ولو جاء له بعشر قصائد رديئات، لا ببيتين أو عشرة أبيات.
وكتب إلينا الأديب (حسن محمد عبد الله شرارة) من نبت جبيل بلبنان يقول بعد مقدمة نشكره عليها: (. . . إلا ترون أن بين ابن الرومي وأبي نواس صلة من الصلات أو وجه شبه كبير أو قليل؟ فالدقة التي تتراءى في شعر ابن الرمي والشمول الذي يبين في معانيه يهينم على خمريات أبي نواس ويشيع فيها. وكذلك الناحية الوصفية والتصويرية التي امتاز بها ابن الرومي قد امتاز بها أبو نواس على ما بين النفسين من تقارب في هذا القلق والاضطراب والتعقيد. فخذوا أية خمرية من خمريات أبي نواس وغيرها أيضاً ترون ما أنا ذاهب إليه من هذه الدقة والسلاسة والعالمية والشمول ثم الإبداع الشعري العظيم. . .)
ورأيي أن أبا نواس وابن الرومي يتقابلان ولكنهما لا يتماثلان ولا يحسبان من (مدرسة)(461/3)
واحدة إذا قسمنا الشعراء إلى مدارس كما يقسمهم النقاد الغربيون.
فابن الرومي حس متوفز، وأبو نواس لذة حسية. ومن هنا يتلاقيان، ومن هنا كذلك يفترقان
فابن الرومي يطلب اللذة الحسية لأنه يطلب كل ما يشغل الحس؛ فهو وأبو نواس في هذا متلاقيان
ولكن أبا نواس لم يطلب الحس لغير اللذة، ولم يشغل حسه بغير المتعة، فهو وابن الرومي في هذا مفترقان بل جد مفترقين.
ماذا يبقى من أبي نواس بعد المتعة الحسية؟. . . لا شيء! وماذا يبقى بعد المتعة الحسية في ابن الرومي؟ يبقى الحس كله، ويبقى ابن الرومي كله، وتبقى لنا نفس إنسانية تعرف والآلام والمتع، وتعرف المحاسن ولو لم تستخرج منها اللذات الممتعات؟
فلولا اللذات لما بالى أبو نواس بأن يحس الحياة. ولكن ابن الرومي يحس الحياة ولو لم تكن فيها لذات، لأن الإحساس عنده هو الأصل الأصيل، وليس هو الواسطة التي تنتهي إلى غايات.
أين القرابة بين أبي نواس وبين القلوب الإنسانية في عالم الألم؟ أين الدنيا وراء مجلس الأنس والشراب؟ أين الشمس؟ أين السماء؟ أين الربيع في غير معارض المنادمة وما إليها؟
لكنك تلغي مجالس المنادمة كلها ويبقى ابن الرومي في دنياه غير منقوص الأداة
فهو معك حيث تكون النفس الآدمية، وليس أبو نواس معك في غير مكانه الذي يهواه
وإذا تقابلا في الحان يوماً فهي مقابلة طريق لا تطول، ثم يفترقان!
وعندي بعدما تقدم تعليق على كلمة عجيبة سيق إلى كتابتها الأستاذ توفيق الحكيم وهو في قبضة الأديب (الفلاح) الدكتور زكي مبارك. فقال كلاماً لا يحسن السكوت عليه: فماذا قال؟
قال ما معناه أنه (صعب عليه) لأنه لم يجد في شكري للدكتور طه حسين تلك الرقة التي كان ينتظرها.
وما هي تلك الرقة التي كان ينتظرها؟ لا ادري، ولا اعتقد أن الدكتور طه اهتم بان يدري، أو احتاج إلى رقة الأستاذ توفيق الحكيم التي أوشكت أن تُسيل عبراته؛ لمَ، والله لا ادري. . . وقد ادري ويدري القارئ معي بعد قليل!
فعندي قصة صغيرة اهديها إلى الأستاذ توفيق الحكيم لأنه رجل قصاص يجب أن يخاطب(461/4)
بأسلوبه
وهي قصة لا تتجاوز بضعة سطور، ولكنها تفيد
قيل أن الدكتور طه حسين خرج من وظيفته بالجامعة المصرية قبل سنوات؛ وقيل انه أثنى على الأستاذ توفيق الحكيم في بعض ما كتب وهو على جفوة مع رؤساء تلك الأيام؛ وقيل أن الأستاذ توفيق الحكيم أشفق من مغبة تلك الجفوة فكتب يقول إنه لا يريد مدحاً من أحد. وكان رقيقاً جداً فيما قال. . .!
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح
وقيل في قصة أخرى - لان القصة الأولى قد انتهت والحمد لله - أن الأستاذ توفيق الحكيم يسيل رقة حين ينكر أن الدكتور طه حسين رفع من شأنه بما كتب عنه، لأنه أطنب في وصف أديبة وفي وصف أديب، فلم يرفع من شأنهما على ما يزعم، وهما في الحق أرفع شاناً عند أناس كثيرين من صاحبنا الحكيم!
وأدرك شهرزاد الصباح أو المساء على قصة أخر تُمثَّل اليوم مع العقاد لأن خصومته قد تشبه خصومة الدكتور طه حسين قبل سنوات.
فما الرأي في تمثيلية تشتمل على فصول كهذه الفصول؟ أليس في التمثيل هوى لصاحبنا الحكيم؟
قد يدري القارئ الآن ما أدري وما يدريه الدكتور طه وما يدريه العارفون وأوشك أن يدريه غير العارفين. فلا (يصعب عليهم) كما صعب على مولانا الحكيم!
عباس محمود العقاد(461/5)
محاكمة (آدم) و (حواء)
في جلسة سرية
للدكتور زكي مبارك
بين المحسوس والمعقول
سنجد في حديث اليوم أن الله ظهر (لآدم) و (حواء) بصورة حسية، وذلك يخالف العقيدة الإسلامية، فكيف نقبل تلك الصورة مع تنزيه الله عن أن تراه الأبصار؟
الحل سهل: فنحن نلخّص كتاب شيث بن عربانوس، وهو كتاب وُضعتْ أصوله في عهود فِطرية لا تُدرك المعقولات إلا عن طريق المحسوسات فهي لا تتمثل الله إلا بصورة حسية تراها العيون.
وما وقع في كتاب (شيث) وقع مثله في النسخة الموجودة بين أيدي الناس من (التوراة)، فعبارة التوراة صريحة في أن الله ظهر لآدم، وأن آدم وامرأته اختفيا بين أشجار الجنة حياءً من ملاقاة الله وجهاً لوجه بعد العصيان.
وعلى فرض أن التوراة الموجودة بين أيدي الناس هي التوراة الحقيقية وأنها لم تصب بتحريف ولا تبديل، فمن الممكن أن نرجع نصوصها إلى الاستعارة التمثيلية، كما صنع المفسرون حين وجدوا في القرآن ألفاظاً لا تساير الروح الإسلامي إلا بعد التأويل.
والواقع أن الإنسانية في عهودها الفِطرية جسَّمت جميع المعاني، فقد جعلت لله وجها ويدَيْن، وصورته بألوان لا نرضاها اليوم، بعد أن ارتقت العقول فصار من السهل أن تؤمن بأن الله ليس كمثله شيء، وأنه فوق ما تتصور الأوهام والظنون.
وما سُقنا هذا التمهيد لقراء (الرسالة) وهم من الخواص، وإنما أردنا أن نحرر الموقف تحريراً يرفع من طريقنا جميع العقبات لنصل إلى الغرض بسلام وأمان.
الجلسة السرية
أنزعج فريق من الذين حضروا الجلسة حين طلب آدم أن يحاكم في (جلسة سرية)، وأخذ منهم الغيظ كل مأخذ حين أجابه الله إلى ما طلب، فقد كانوا يشتهون أن يشبعوا ما انطوت عليه جوانحهم من شهوات الفُضول، وكانوا يتوقون إلى معرفة ما سيدافع به آدم عن نفسه(461/6)
في ذلك المقام الرهيب، وربما كلن فيهم من تسوقه ثائرة الحقد إلى رغبة التشفي من آدم وهو مأخوذ بجريرة العصيان.
جزع آدم
كان الخوف من شماتة القرود هو الذي حمل آدم على طلب الجلسة السرية، وفاته أن يذكر أن لعلنية الجلسة حكمة عالية، فهي تدعو القاضي إلى التلطف في الاستجواب، ترفقاً بمن يحاسَب أمام جماهير لا تخلو من أعداء وأغبياء، وفاته أيضاً أن يذكر أنه سيقف وحده أمام قاضيه، وللوحدة رهبةٌ تزُيغ البصر وتعقل اللسان.
آدم يقف وحده أمام الله في جلسة سرية؟
وأين المحرّضون على المعصية وهم ثلاثة شُخُوص: إبليس والحية وحواء؟
فإن كان الله يريد إقامة العدل فليطلب حضور المحرضين ليلقوا جزائهم على التحريض
وما كاد هذا الخاطر يطوف بقلب آدم حتى صاح الهاتف:
- آدم لا تجمع بين المعصية والجهل
- أنا من العصاة ولست من الجاهلين
- أن اعتراضك على الله هو الغاية في الجهل
- أنا لا أعترض على الله، ولكني أطلب إقامة العدل
- وما العدل عندك؟
- هو أن يحاسَب المحرضون قبل أن أحاسَب
- ومن هؤلاء المحرضون؟
- الحية وإبليس وحواء. ومهما يكن فلا أقل من أن يحاكم إبليس اللعين
- أترك إبليس في غفوته، يا آدم، ولا توقظ الشر الوسنان
- لابد من محاكمة هذا اللعين على التحريض
- إبليس لعين؟
- بشهادة الله
- وكيف انخدعت بأحابيله وأنت تعرف أن الله شهد بأنه لعين؟
- تلك هفوة أوقعني فيها الجدُّ العاثر(461/7)
- آدم، لا تجمع بين المعصية والجهل
- أراك تكرر هذه العبارة أيها الهاتف، فماذا تريد؟
- أريد القول بأن الله لم يعلن غضبه على إبليس إلا لحكمة سامية
- وما تلك الحكمة؟
- هي أن يرفع الغشاوة عن أصحاب الغرور والغفلة والانخداع
- أوضح، أيها الهاتف
- أن الله سخر إبليس لامتحانك، يا آدم، وشاءت رحمته بك أن يعلن أن إبليس شيطانٌ رجيم، لتنقطع حجتك في الانخداع أو لتأخذ الحيطة لنفسك فتحترس من ذلك الناصح الظنين. . . فإذا استطاع إبليس على سوء سمعته أن يجرّك إلى العصيان، فكيف يكون حالك لو كلف الله بامتحانك أحد الملائكة المقرَّبين؟
- آه، آه، آه، صَعَقْتني أيها الهاتف!
- ما صعقتك، ولكنني نصحتك، فاترك إبليس في غفوته، ولا توقظ الشر الوسنان
- وماذا يقول إبليس لو ألححتُ في محاكمته على تهمة التحريض؟
- سيصمت صمُت الأموات
- لماذا؟
- لأنه على رأس الشُّرطة السَّرية
- هو إذن جاسوس؟
- أن كانت هذه اللفظة تشفي غليلك فإملاء بها مسامع الأرض والسماء!
- أراك تعطف على إبليس مع أنه شاقَّ الله بعناد وكبرياء
- لا يستطيع مخلوق أن يشاق الله، ثم يترك له الله أي فرصة للتمتع بنعمة الوجود
- أيرضى الله عن نزغات إبليس؟
- لو أعلن رضاه لضاعت الفرصة في امتحانك
- أن رأسي يدور من هول هذا المنطق
- كنت أنتظر أن يدور رأسك من هول ما صنعتُ بنفسك
- وما صنعت بنفسي؟(461/8)
- انخدعت بنصيحة مخلوق كتب الله عليه اللعنة إلى يوم الدَّين، فكيف يكون حالك لو خدعك مخلوق غير ملعون؟ أن إبليس فضح نفسه حين قَصَر دعوته على العصيان، وكان في ذلك ما يكفي لرفع الغشاوة عن عينيك
- آه، آه، آه، صعقتني أيها الهاتف!
- وسأصعقك مرة ثالثة فأقول: أنك شهدت على نفسك بالغفلة والحمق حين انخدعت لمخلوق مفضوح، فقد أعلن على رؤوس الأشهاد أنه سيزّين لك ولذريتك وأنه سيغويكم أجمعين، فما دفاعك عن نفسك وقد صلصل الناقوس بأن إبليس غريمك وأنه سيصرعك حين يستطيع؟ ما دفاعك وقد وضعت قدميك فوق أشواك سمعتْ أخبارها أذناك، ورأتها عيناك؟
- وترى أيها الهاتف أن اسكت فلا اطلب محاكمة إبليس على التحريض؟
- ذلك ما أراه، فأنا أخشى أن يظهر لسكان الفردوس أن إبليس أشرف منك
- اشرف مني؟ وكيف؟
- لأنه خادعٌ وأنت مخدوع، فان لم يكن اشر منك فهو أقوى منك، والقوة من علائم التشريف
- وألقي الله وحدي وجهاً لوجه في هذا المقام الرهيب؟
- كما لقيته وحدك وجهاً لوجه حين عصيته
- أكان الله يراني عند العصيان؟
- ألم تكن تعرف انه يراك؟ أن أوزارك بالجهل أوزارٌ ثقال!
- يظهر أنى سأخسر القضية في ساحة العدل
- لا خسران في ساحة العدل، فستفوز بأعظم ربح وهو التأديب
- أترك الحية واترك إبليس، واكتفي بحضور حواء
- لتحاسَب؟
- لتشهد محاسبتي، فقد يرى كرم الله أن يعفيني من الذل فما تكرم امرأة زوجها إلا إذا كان من الأعزّاء، وما أحسب الله يريد أن أهان.
يوم الحساب(461/9)
- من أنت يا هذا؟
- عبدُك آدم
- وما تلك بيمينك؟
- أَمَتُك حواء
- وفيم حضرتما؟
- لنقول: (ربنا ظلمنا أنفسنا، وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين)
- من علمكما هذا الأسلوب من المتاب؟
- هو بعض ما تلقينا من فيض هدايتك الربانية
- وما الذي كان يمنع من إعلان هذا المتاب بحضور سكان الفردوس؟
- منع من ذلك الخوف من رفض هذه التوبة على مرأى ومسمع من القرود
- ولكن القرود خلقٌ من خلق، ومن حقهم أن يشمتوا بالآثمين
- هذه بداية مرعبة، وأنا أدعو الله أن يتفضل بإمهالي يوماً أو يومين لاستعد للدفاع
- أمهلتك أسبوعاً
وخرج آدم من الجلسة السرية وهو موقن بان الأمل في نجاته عزيز المنال!
فما الذي سيقع بعد أسبوع؟ وهل يفلح آدم وهو صاحب حواء؟ نسأل الله الصفح عن آدم، فما عرفناه إلا فتىَ وهّاج الروح والفؤاد.
(للحديث أشجان وشجون)
زكي مبارك(461/10)
خسرو وشيرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
- 3 -
تنقل الحبيبان ومن معهما من أفراد الحاشية والجواري والخدم من مكان إلى آخر، فوق الهضاب المرتفعة وفي السهول وبين المراعي والحقول، وهما في رحلتهما إلى الريف ببلاد أرمينية، يلهوان بالصيد والقنص وأنواع التسلية والملاهي الأخرى، حتى وصلا إلى شاطئ نهر آراس، حيث تنبعث من الأرض رائحة المسك والطيب، ويجلب الهواء معه عطور الورود والرياحين وشذى الزهور والياسمين، فطاب لهما في هذا المكان المقام، وأمراً بضرب الخيام. وهناك أقام خسرو مأدبة ثانية لحبيبته شيرين، استمعا فيها لألحان (باربد) وموسيقى (نيكيسا) وهما يرددان أناشيد الغرام فينطقان بما ينبض به قلب كل من الحبيبين من عواطف ووجد وهيام.
وفي صبيحة اليوم التالي لهذه المأدبة، جلس خسرو إلى جانب شيرين أمام إحدى الخيام، وإذا بأسد جائع ينقضّ عليهما والشرر يتطاير من عينيه، يريد أن ينال من خسرو كأنه يحقد عليه الاستئثار بشيرين الحلوة الجميلة. فقام إليه خسرو وهو اعزل من السلاح، وتهيا ليقابله في معركة حياة أو موت، بينه - وهو ذلك الملك المتوج على شعب إيران العظيم - وبين هذا الأسد الجائع - وهو ملك الوحوش اجمع وسيد الصحارى والبراري - فتلقاه وقد شمَّر عن ذراعيه ليدافع عن حبيبته.
ووهبه الحب قوة على قوته، فامسك الأسد بيده اليسرى من لبدته، ثم هوى على أم رأسه بضربة شديدة من قبضة يده اليمنى كانت هي القاضية عليه. وقد حدث ذلك كله في طرفة عين دون أن يجد الحارس الواقف على مقربة من الخيمة الوقت الكافي ليهجم على الأسد ويشج رأسه بسيفه. وكانت شيرين قد هرعت إلى باب الخيمة ووقفت به، تنظر إلى (المعركة) واجمة خائفة أن يصيب الأسد خسرو بسوء، ولكنها عندما رأته ينتصر عليه، ازداد إعجابها بحبيبها واعتدادها به.(461/11)
وفي (شكل1) نرى خسرو وهو واقف أمام خيمته بجوار مجرى ماء، وقد امسك بيده اليسرى لبدة الأسد، وتهيأ ليقضي عليه بضربة من قبضة يده اليمنى، والى اليمين أسرع حارس لمعاونته، وقد قبض بكلتا يديه على سيف امتشقه ليضرب به الأسد، ووقفت شيرين وعلى رأسها تاج في مدخل الخيمة تعض يدها وهي تنظر في لهفة إلى خسرو، وإلى جوارها ثلاث من صويحباتها يرقبن نتيجة (المعركة) ورجل من أفراد الحاشية تقدم لنجدة خسرو. ونلاحظ النقوش الجميلة الواضحة على قماش الخيمة من فروع نباتية وزهور وصور حيوانات وطيور. وهذه الصورة هي في مخطوط لأشعار إيرانية، كتب سنة 813 هجرية (1410م) للأمير إسكندر سلطان حاكم شيراز، وهذا المخطوط محفوظ في مجموعة جلبنكيان.
هكذا مرت الأيام ومضى الوقت والحبيبان يلهوان بالصيد والقنص، وإقامة الحفلات والمآدب، والاستماع إلى الغناء والموسيقى، ويشعران بالسرور والسعادة في قرب كل منهما للآخر إلى أن كان ذات ليلة وقد عصف الهوى بنفس خسرو واستبدّ به الغرام فلم يستطع كبح جماحه، فقرب منها يريد غوايتها، ولكنها صدته، وهي تذكر ذلك الوعد الذي قطعته على نفسها أمام عمتها (مهين بانو) الطيبة القلب، فاستمدت منه الجرأة لتقسو عليه، وتطلب منه أن يسعى لاسترداد عرش أجداده وأسلافه وينتصر على ذلك المغتصب، وهو ذلك الملك القوي، قبل أن يحاول غواية امرأة ضعيفة مثلها.
وكان لهذه الكلمات أثر شديد في نفس خسرو. ففي صبيحة اليوم التالي رحل قاصداً إلى بلاد الروم، وقلبه مليء بالحسرة المريرة لفراقه من حبيبته الجميلة. وفي الطريق مرّ على دير فيه راهب يتنسك، فقرب خسرو من الدير وقال: (أيها الراهب المتنسك، أني رجل من أهل إيران اقصد حضرة قيصر في رسالة، فأخبرني بما يصير إليه حالي، ويؤول إليه عاقبة أمري. فقال الراهب: أنت كسرى برويز وقد هربت من يد بعض عبيدك، وسيزوجك قيصر بعض بناته؛ ويمدّك برجاله وأمواله فتعود ويهرب عدوّك إلى بلاد بعيدة ثم يقتل بأمرك هناك. فقال: لا كان غير ما ذكرت أيها الراهب، ولكن متى يكون هذا؟ فقال: بعد سنة أخرى، إذا مضت خمسة عشر يوماً من السنة الثانية صرت ملك إيران، وتسنمت التخت ولبست التاج)(461/12)
وكان قد ما تنبأ به هذا الراهب الصالح، وتوجه خسرو إلى الملك موريس إمبراطور الروم، فاستقبله استقبالاً حسناً، ودعاه إلى النزول في (هيروبوليس) فأقام بها. ثم زوجه من أبنته (مريم) وزوده بجيش قوي، تمكن خسرو بواسطته من أن ينتصر على القائد بهرام جوبين، ويلجئه إلى للفرار إلى خاقان الصين، حيث يقتل بأمر خسرو.
وفي (شكل2) نرى الموقعة بين الملك خسرو والقائد بهرام جوبين، وقد جلس خسرو في هودج على فيل كبير، وفي يده قوس يسدد منها سهماً. والى جانبه في وسط الصورة معلمه الوزير بُزرجميد الحكيم، وقد ركب على فرس وفي يده اسطرلاب يحدد به الوقت الملائم لهجوم خسرو على القائد بهرام جوبين ليضربه الضرة القاضية. ونرى المعركة حولهما قائمة على قدم وساق، والمحاربون يحملون الأعلام وهم على ظهور الجياد، يتطاعنون بالحراب والسيوف ويتراشقون بالسهام، وقد سقط البعض منهم صرعى على الأرض، وراحت جيادهم تعدوا هنا وهناك وهي حائرة. ويلاحظ ما هو واضح في هذه الصورة، من الحركة والحياة، وما يبدو على سحن الأشخاص فيها من الاهتمام. وهي تنسب للمصور (سلطان محمد) أحد مشاهير مصوري عصر الشاه طهماسب الأول الصفوي، لما فيها من ميزات أمتاز بها أسلوبه في التصوير وهي محفوظة في المتحف الملكي الاسكتلندي.
وللمرة الثانية توّج خسرو ملكاً على إيران بعد فرار القائد بهرام جوبين إلى خاقان الصين، فأرسل إليه خسرو من اغتاله هناك. ولما استتبت أمور برويز وانتظمت أسباب سلطانه، وأذعنت الملوك طوعاً وكرهاً لأوامره وأحكامه، وأظلت على العالمين سحائب عدله وإحسانه، قسّم الأرض أربعة أقسام، وأرسل إلى كل قسم منها أثنى عشر ألف فارس ممن مارسوا الأمور وكابدوا تصاريف الدهر حتى صاروا أفراد الزمان، وآساد الضرابْ والطعان، وأوصى الكل بالتيقظ والتحفظ وحفظ الممالك، وضبط المسالك. ثم رزق من زوجته مريم بنت موريس إمبراطور الروم أبناً دعاه بين الناس (شِيرويَه). ولما ممضى ثلاث ساعات من الليل على ولادته، حضر المنجمون عند الملك، فسألهم عن طالع المولود، فقالوا: أيها الملك، أن الأرض تمتلئ من هذا المولود شراً، ولا يحمد أحد سيرته، وهو يمرق عن الدين، ويخرج عن طاعة رب العالمين. وكان ما تنبأ به المنجمون، ولزم شيرويه نحس طالعه، حتى أمر بقتل أبيه خسرو، ثم مات هو بالطاعون كما سيأتي ذكر(461/13)
ذلك فيما بعد.
وفي (شكل3) نرى خسرو في يوم تتويجه ملكاً على إيران وقد جلس على عرش في منظرة بحديقة غنية بأشجار السرو والفاكهة والزهور والورود. ويحيط به بعض كبار المملكة وهم يتحدثون ويتناقشون، ويقدم لهم الخدم والسقاة الطعام والشراب، ووقف حولهم رجال الحرس ومعهم أسلحتهم، وغلمان (البازْدارِيّة) وهم يحملون صقور الصيد. ووقف على سطح المنظرة ستة من أفراد الحاشية يتجادلون ويشيرون إلى أسفل، ويبدو كل منهم أنه يود أن يسبق زملاءه في التعرف على كبار الدولة الواقفين حول خسرو. وهذه الصورة عليها إمضاء المصور (آقاميرك)، ولكن بعض مؤرخي الفن الإسلامي، يقولون أنه لا يمكن التثبت بوجه قاطع من صحة هذه الإمضاء، بالرغم مما هو واضح في هذه الصورة من الدقة في رسم الزخارف والزركشة على الملابس وغير ذلك مما أمتاز به أسلوب آقاميرك في التصوير. ونشأ هذا المصور من أسرة كريمة المحتد في أصفهان، تنتسب إلى آل البيت، ثم رحل إلى تبريز حيث تعلم التصوير على المصور (بهزاد) وكان آقاميرك من الأصدقاء المقربين للشاه طهماسب الأول، ويقال أنه ما زال يشتغل بالتصوير في بلاط هذا الشاه حتى سنة 957 هجرية (1550م). ويظهر أن المصور قصد في هذه الصورة أن يبّين ما كان عليه بلاط الشاه طهماسب من الأناقة والبذخ والروعة والجلال، وأنه صوّر الشاه نفسه في شخص خسرو الجالس على العرش، كما يتضح ذلك من سطر الكتابة في أعلى بناء المنظرة. وهذه الكتابة تقرأ (اللهم خلد دولة السلطان الأعظم والخاقان الأعدل الأكرم السلطان ابن السلطان بن السلطان أبو المظفر السلطان شاه طهماسب الحسيني الصفوي بهادرخان خلد الله تعالى ملكه وسلطانه والى (كذا!) يوم الدين). وهذه الصورة في مخطوط نظامي السابق الذكر المكتوب للشاه طهماسب بين سنتي 946 و950 هـ (1539 - 43 م) وهو محفوظ في المتحف البريطاني.
(له بقية)
محمد مصطفى
أمين مساعد في دار الآثار العربية(461/14)
قصة رمزية في فصل واحد
صدى الأجيال
للأستاذ فؤاد البهي السيد
المسرح: خيال الإنسان
الزمن: قبيل النوم في الفترة التي يهوم فيها الإنسان بين اليقظة والحلم
الأشخاص: العقل الواعي. الرقيب. العقل الباطن
النظارة: الإنسان
النفس وعاء ترسب في قاعه مغامرات ونوازع إنسان الغابة الأول، وغياهب المشرئبة إلى الإشباع، وتطفو على سطحه النوازع المهذبة التي تتماشى وروح العصر. وبين العالمين يقوم الرقيب، ليمنع فيض ما رسب في القاع من عناصر العقل الباطن على المنطقة التي خلصت من الشوائب، وسمت صعدا إلى القمة، حيث العقل الواعي. وبين اليقظة والنوم يغفو الرقيب أحياناً فينسل عقل الغابة والفطرة الأولى إلى القمة راقصاً رقصة الدغل، مصوراً أحلام البراري، بينما العقل الواعي يغط في نوم عميق.
صدى الأجيال
الظلام يلف الوجود في شملة كثيفة داكنة، والإنسان قد اغمض عينيه وهجع في فراشه، وصمت في كل شيء من حوله، وسكن الوجود وهدأ.
يقبل النوم عليه خفيفاً لطيفاً كالنسيم، ويتركه ليقظة نائمة، وبين تلك اليقظة وهذا النوم يرتفع حوار العناصر من أعماق النفس.
الرقيب: صه، انك لن تخطو!
العقل الباطن: إنما هي ذكرى الغاب. . . ما أراني أرقص صُعداً نحو القمة، مجتازاً حدودك محطماً أغلالك. إنما أدور حول نفسي. . . تلك سنتي وأنت بها عليم خبير
الرقيب: ما أراك خادعي هذه المرة أيضاً؟
العقل الباطن: وهل تراني خدعتك أبداً؟
الرقيب: لطالما غافلتني وتسللت إلى قمة النفس، وهناك رحت ترعد وتبرق؛ رحت تستعيد(461/16)
لنفسك ذكرى قد اندثرت وماتت: ذكرى الغاب والدَّغل، ذكرى البراري والفطرة
العقل الباطن: أي هراءٍ هذا؟ أتراني أقوى على مغالطتك. . . لقد كنت تغفوا فأنسل صعداً، وتستيقظ فأنسل هابطاً. أتذكر مرة واحدة خطوت فيها أمامك وأنت يقظ متسنماً قمة النفس - إني لأحترمك ولا أقوى على فعل ما تأباه وأنت يقظ
الرقيب: أنت تخشاني وترهبني فقط. ما اغرب منطقك، انك دائماً تغالط!
العقل الواعي: أرى عراكاً وأسمع صخباً. . . لقد أختلط الوجود حيالي، فلا أكاد أميز شيئاً، من يدري؟ لعله حلم بعيد لم يستكمل نموه بعد
الرقيب: (وقد أقترب صوته واستبان) صه!
العقل الباطن:. . . . . . . . . . . .
العقل الواعي: ما ورائك يا رقيب؟
الرقيب: لاشيء. . . لاشيء. . . إنما كنت أشهد عراك العناصر، عراك الأجيال السجينة
العقل الواعي: ما أراني أفهم عنك
الرقيب: (وقد أخذ صوته يخفت ويبعد شيئاً فشيئاً). . . أحقاب وعصور وأجيال سجينة هناك في الأعماق، تجاهد وتكافح لتصخب وتضج على مسح وجودك لكنها لا تفلح في عبور القناة التي بناها الزمن وأقامتها الحضارة، فتعود لترقص وتدور حول ما يصوره لها وهما أنه الحاضر
العقل الواعي: ما أراني أفهم عنك أيضاً، بل ما أراني أكاد أسمعك
الرقيب: أنه عراك. . . سمه كيف شئت. . . سمه يقظة الماضي، أو سمه حلم الزمن، أو سمه. . .
العقل الواعي: (وقد أخذ يغط في نوم تقطعه يقظة يتلوها إغفاء)
ماذا. . عراك. . . ماضي. . . زمن
العقل الباطن: (مخاطباً الرقيب) ترى ماذا بيني وبينك؟
الرقيب: لاشيء
العقل الباطن: ما كنه هذا العداء الذي تضمره لي؟
الرقيب: من قال إني أعاديك، إني أمنعك فقط(461/17)
العقل الباطن: ولماذا تحرمني الحرية. . . لماذا تحرمني النور؟
الرقيب: بل قل لماذا أحرمك الظلام، أتراك تحيا في النور أنت ابن الماضي الذاهب في القدم. . . ابن الظلام. . . ابن الكهف والغار. . . أنت ابن. . .
العقل الباطن: ليكن من أمري ما يكون، فلماذا تقف بيني وبين التصعيد؟
الرقيب: لماذا؟ ما أعجب أمرك! طبيعة الحياة الحاضرة. . . الوجود كله يقف الآن بينك وبين ما تريد. . . لقد تبدل العالم وتغير. لقد دار الفلك دورته، وتغيرت الأرض غير الأرض و. . .
العقل الواعي: فلك. . . أرض. . . ما لك تهذي اليوم هكذا؟
العقل الباطن:. . . . . .
الرقيب: دع الفلك والأرض والهذيان. . . هاأنت أوشكت أن تنام. . .
العقل الواعي: أ. . . نا. . . م. . .
الرقيب (لنفسه): ما أقسى الحراسة وكل ما حولي يغري بالنوم والإغفاء والراحة!
العقل الباطن (مخاطباً الرقيب): لقد نام الطفل
الرقيب: بل قل قد نام الجبار
العقل الباطن: جبار (يقهقه ضاحكاً بخشونة) أنه طفل، إنه صنع يدي هاتين. . . أنا الذي منحته الوجود والحياة. . . في البدء تآلفت ذراته وتجمعت ثم خفت فطفت وكانت قشرة، وتركزت فهبطت فكنت القاع واللب
الرقيب قل، صفا وتنقى فطفا: وحملت الشوائب وحدك فرسبت
العقل الباطن: ليكن من أمر خلقه وخلقي وتكوينه وتكويني ما يكون فهو ما فتئ طفلاً وأنا ما زلت جباراً
الرقيب: إذا فما أغربه طفلاً يهيمن على جبار!
العقل الباطن: (يهبط متكثفاً متركزاً نحو القاع)
الرقيب: يرى أين ذهب الجبار، أعني الطفل الذي تمخض عن الجبار
(يهفو من بعد صوت مضطرب فيه حدة وفيه لين. . . تستبين النغمات وتنسجم فإذا دوى طبل وأنة ناي. . .)(461/18)
(الرقيب لنفسه): لقد راح العقل الباطن يرقص في الأدغال، لعله عاد إلى عالمه وماضيه الذي فيه يحيا ويتنفس. . . بل لعله سئم الحوار ويئس من الإقناع
العقل الباطن: (يدور مبتعداً فإذا النغمات صدى يتردد في جوانب النفس من بعيد، وينأى فإذا نغماته وإذا صداه وهدوء وموات. . . يدور ويقترب فتعلو ألحانه ويصخب ضجيجه)
الرقيب (وقد خدرت هذه الألحان أعصابه): أف! ما أقسى الحراسة، وكل ما حولي يغري بالنوم والإغفاء والراحة
(يهوم نائماً، ثم يستيقظ فزعا، ثم يعود ليهوم ويغفو على ألحان الناي والطبل)
العقل الباطن: (تنسل عناصره في خفة ولين وحذر، تخطو متدثرة مستترة في صبغات وألوان وأشكال وخيالات لتموه على العقل الواعي حتى لا توقظه فيطردها. . . تخطو وتطفو صعداً. . . . . .)
وكانت إغفاءة. . . وكان حلم!؟
فؤاد البهي السيد(461/19)
ذكرى ميلاد الرسول
للأستاذ محمد يوسف موسى
(بقية ما نشر في العدد 458)
يقول ابن إسحاق فيما يرويه ابن هشام في سيرته: أن عبد المطلب جد الرسول قد نذر - فيما يزعمون - لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا مبلغ الرجولة لينحرن أحدهم لله عند الكعبة. فلما توافى بنوه عشرة وصاروا رجالاً، جمعهم وأخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء به، فأطاعوا وقالوا: كيف تصنع؟ فذهب بهم إلى هبل - أعظم أصنامهم وكان مقاماً داخل الكعبة - وأقرع بينهم بالقداح - فخرج القدح على عبد الله أحب بنيه إليه، فأخذ والده إلى إسافٍ ونائلة - وكانا كذلك صنمين - وأخذ الشفرة وهم بذبحه، فقامت إليه قريش وبنوه ومنعوه ما أراد من الأمر الجلل، وانتهى الأمر باستشارة عرافة لعلها تأمر بما يكون فيه من هذه الكارثة مخرج، فأشارت عليهم بأن يقرعوا بين عبد الله وعشر من الإبل - وهي مقدار الدية - فإن خرجت القرعة على الإبل نحروها ونجا عبد الله، وإلا زادوها عشراً ثم عشراً حتى يرضى الله. وأخيراً رجعوا وظلوا بقوامهم يستوحونها وفي كل مرة يخرج القدح على عبد الله، حتى بلغت الإبل مائة، فخرج القدح عليها ثلاث مرات متواليات، فنحروها فداءً عنه، وكان فرح عظيم.
هل نرى سخرية أكبر من هذه؟ كبار العقول والأحلام يحكمون ما صنعوا وأقاموا من أصنام في أنفسهم وبنيهم ودمائهم! (ولقد كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فتخذ وربَّا، وجعل الثلاث الباقيات أثافيّ لقدره، وإذا أرتحل تركه، فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك)
وإذا كان العرب - كغيرهم من الأمم - من الناحية الدينية والناحية الاجتماعية في حاجة إلى دين جديد يخرجهم من الضلال للهدى ومن الظالمات للنور، وينقذهم مما تردوا فيه من جهالة جعلتهم عبيداً لما يصنعون من أصنام وأوثان. هذا الدين الجديد كان الإسلام الذي يتفق والإنسانية التي بلغت النضج الكامل. جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فاضطرب لمولده رجال اليهود والنصرانية، إذ رأوا فيه قضاء على ما كان لهم من حول وسلطان.
هذا الدين كان حرياً بنا أن نعثر به ونهتدي بهديه، وقد رأينا كيف جعل من العرب(461/20)
المتعادين المتقاطعين أمة متماسكة متحدة ملكت في سنوات معدودات بلاد فارس والروم، وكيف قدم للعالم مبادئ وتشريعات فيها الصلاح كل الصلاح والخير كل الخير، وكيف أسس حضارة لا تزال مضرب الأمثال.
نحن - وسائر المسلمين في العالم من أدناه إلى أقصاه - نحتفل كل عام بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم، ويلقي في كل ما نقيم من حفلات ما يأخذ بالأسماع والألباب من النثر والشعر، فنظن أننا بهذا قضينا واجب الذكرى بخاتم النبيين الذي كان بعثه بشير رحمة للعالمين. لا، والله، لن نقضي حق هذه الذكرى المجيدة إلا كنا أهلاً لهذا الدين الذي نشرف بالانتساب إليه، وإلا إذا أخذنا بتشاريعه وآدابه وتقاليده. وإن أمة لا تعمل إلا الكلام تنمقِّه، والمآثر تعدِّدها، والتاريخ ينقِّر عنه في حسرة وألم، لهي أمة مقضي عليها بالانحلال. لقد صرنا في زمن يعتبر فيه طلب التشريع الإسلامي ضرباً من العبث، والمناداة بتقاليد الإسلام عودة للرجعة. وهؤلاء الذين يرموننا بالعبث والرجعية يرون الخير في أن يأخذوا من تقاليد أوربا وحضارة أوربا التي نشاهد مبلغ ما صارت إليه وما فعلت بأصحابها! وهم مع هذا كله يحتفلون بميلاد الرسول وبهجرته وبكل ذكرياته وأيامه المجيدة، ظانين أنهم بما يلقون أو يسمعون من الخطب قد قضوا ما عليهم من واجب!
لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي نتذكر هذه الأيام من كل عام مولده هدْىٌ وسنن في كل نواحي الحياة، وللدين الذي أرسل به تشاريع تناول جميع الشئون، ونجاحنا في هذه الحياة وسعادتنا فيها في الدار الآخرة رهن بإتباع هذا الدين في الجليل من الأمر والحقير، وكرامتنا كأمة لها مقوماتها وخصائصها في أن نلجأ إلى هذا الدين وحده، نأخذ منه ما نحتاج من تشريعات وقوانين وتقاليد هي مجلبة للعز والفخر.
يبدأ الاحتفال وينتهي في القليل من الزمن، ويعود كل المحتفلين إلى داره. فليتذكر كل منا إذن إذا ما خلا بنفسه بعد أن أنفض الحفل: أنه مسلم، وأنه منذ ساعات كان الاحتفال بذكرى ميلاد نبي الإسلام ورسوله، وأن هذا الإسلام - فيما يوصي به - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن كان في ذلك غضب الرؤساء وأولي الأمر، وبالرفق بالفقير وإعطائه حقه وبالإخلاص لله في السر والعلن، وبعدم خشية أحد إلا الله مالك الأمر كله، وبعدم استخذاء الإنسان فلا يذل لغيره من المخلوقين مثله، وبالغضب لله كلما أمتهن شيء(461/21)
من دينه أو ديست شرائعه، وباعتبار الناس جميعاً أخوة لا فرق بين جنس وجنس ما داموا جميعاً تحت راية الإسلام. فإذا تذكر هذا كله، فليسأل نفسه: أين هو من هذا الذي يأمر به الإسلام؟ وهل هو مؤمن حقاً يفهم الدين ويعمل به؟ أم مسلم لأنه ولد في أسرة مسلمة ونشأ في بلد إسلامي؟ بعد هذا إن عرف من نفسه أنه مؤمن حقاً بقلبه وعمله، فليحمد الله وليعلم أنه يحتفل بقلبه وعمله في كل حال بالإسلام ورسوله وبمولد هذا الرسول وبعثته، ما دام يعرف الدين ويعمل به، ويحترم الرسول ويعمل بسنته وهديه. وإن عرف من نفسه غير ما تقدم، فليعلم أنه مراء يظهر الاحتفال يصاحب الإسلام ويمتهن الإسلام ورسوله بالإعراض عما جاء به من هدى وشرائع وسنن وآداب، وليندم وهو في سعة من أمره وليعزم على أن يكون في غده خيراً منه في يومه. هدانا الله سواء السبيل، ووفقنا إلى الصراط المستقيم.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(461/22)
مرسَلات. . .
اختلاف الأزهريين
يختلف الأزهريون في آرائهم كما يختلف سائر الناس. واختلاف الرأي أمر لابد منه في قضايا العلم والبحث ولكن الظاهرة الغريبة التي أصبحت شأنا من شئون الأزهر الخاصة، وعلامة من علاماته المميزة، هي التفاوت البعيد في النظر إلى الأشياء والحكم عليها، مع أن القوم يشربون من معين واحد، ويصدرون عن ثقافة ما ترى في أصولها من تفاوت: يرى الرجل منهم أو من غيرهم رأياً فيعلنه للناس فإذا أهل الأزهر فيه فريقا يختصمون: هذا يرفعه إلى السماء، ويصفه بأنه رأى عظيم يرجى منه الصلاح ويرتقب فيه الخير، وذاك يخفضه إلى الأرض ويراه شراً مستطيراً وفساداً يجب أن يوقي الناس خطره ويجنبوا ما فيه من وبال! ولم يغب عن القراء ما كان من أمر جماعة كبار العلماء في (فتوى الأربعاء) ثم في (برنامج الإصلاح). وقد نشر عالم فاضل في (الرسالة) بحثا جيداً عن (شخصيات الرسول) فوقف الأزهريون منه موقفين متناقضين: قالت طائفة منهم: لم يأت بجديد؛ وقالت طائفة: إنه قال بما لم يقله أحد من قبله! ولو اقتصروا على هذا الخلاف في الشكل لهان الأمر، ولكنهم اختلفوا أيضاً في الموضوع اختلافاً بعيداً، فمنهم من رآه فتحاً في الدين عظيما، ومنهم من رآه شراً مستطيراً، وناراً توشك أن تلتهم الأخضر واليابس!
والأزهريون قوم مؤمنون، والمؤمن سريع الغضب، سريع الر ضا، ولذلك غضبوا على الأستاذ الإمام محمد عبده فرموه بالكفر والإلحاد، ثم رضوا عنه فهو الآن من الأئمة المصلحين. والأستاذ الأكبر المراغي كان خارجاً على الدين وهو رئيس للمحكمة الشرعية العليا، ثم عاد إلى الدين فجأة بعد توليه مشيخة الأزهر! والزيات، وطه حسين، والعقاد، وشلتوت، والزنكلوني، ومبارك، وهيكل، وغيرهم قد ذاقوا من ذلك ما ذاقوا. ولست أدري: أفي الأزهر الآن مشَّرحون لهذا الغضب؟
اللهم حوالينا ولا علينا!
محمد محمد المدني(461/23)
نحو المحور الإسلامي
للأستاذ صالح جودت
وعبقريٍّ مُبْدعٍ فنَّهُ ... من عالَمٍ فوق نُهَى الآخرهْ
ما علّموه الشَّعرَ لكنه ... لأْلأَهُ من روحه الشاعرهْ
حديثُهُ السِّحرُ سوى أنه ... من غير وَحْيِ الْجِنَّة الكافره
من العبير القُدُسِ افْتَنَّهُ ... من رُبَى إلهامه العاطره
قام إلى قومٍ عُفاةٍ نيامْ ... بشِرعة الحق ودين السماحْ
ينشر في الأرض لواَء السلام ... ويمحق الظُّلْم بحق السلاحْ
عقيدةُ الأحرار تمحو الظلام ... وتُرسل الروحَ طليقَ السراح
أَلاَ لوجهِ المجد هذا القيام ... وفي سبيل الله هذا الكفاح؟
في زُمَرٍ مُختلفات القبيلْ ... قلوبها شَتَّى فلا تلتقي
لم يَكُ للمجد إليها سبيلْ ... ينهض في تاريخها الْمُمْلَقِ
طافت بها مُعجزةٌ للرسول ... تعقد تاجَ الأرض لِلْمَشْرق
وتنزع الحقَّ من المستحيل ... بالوحدةِ الزاهرةِ الرونقِ
مَنْ ذلك الأُمِيُّ من (يَعْرُبِ) ... يحلم في الأرض بمجد السماءْ
ويبعث الصيحةَ في (يَثْرِبِ) ... فيحشد الأُمةَ حول اللواء
يا عَجباَ من سِحْر هذا النبي ... العبقريِّ الْفَرْدِ في الأنبياء
كيف مَضَى بالبلد المجدبِ ... لملكوتٍ بين قَرْنيْ زُكاء؟
يا سيرةً من غابر الأَعْصُرِ ... خفَّاقةً خلف حجاب السنينْ
لم تَخْفَ عن كسرَى ولا قيصرِ ... وإن طوتْهَا غَفلةُ الحاضرينْ
عُودي إلى أقوامنا وانظري ... ما تفعل الفُرْقةُ بالهاجرين
لم يبقَ إلا أَمَلٌ ينبري ... ضياؤُه اللماح من (عابدين)
في ناظِرَيْهِ موعدٌ للوفاقْ ... ومن خلال العُرْبِ صدقُ الوعودْ
يُهيب بالشام ويدعو العراقْ ... ويبسط الْكَفيِن لابن السَّعود
سِيرُوا إلى ميعاده يا رفاقْ ... وحققوا وحدتكم في الوجود(461/24)
قد ساد أعداءٌ لنا في الفراق ... وآنَ في وحدتنا أن نسود
لُوذُوا بحبل الله واستعصموا ... بالعُروِة الوُثَقى ولِمُّوا الشتاتْ
وَلْيَنْتَظِمْكُمْ مِحْوَرٌ مُسلمُ ... تسمو أمانيه بأُم اللغاتْ
لا يَثْنِكُمْ يأسٌ فتستسلموا ... له فإِن اليأسَ صِنْوُ الممات
إن لم تَفُزْ بالمجد أيديكُمُو ... فلن تنالوا المجدَ بالمعجزات!
صالح جودت(461/25)
الحرب في البحر
للأستاذ محمود البشبيشي
(لا يمنعني إخفاق هذه القصيدة في مسابقة الشعر العربي من إهدائها إلى جمهرة أهل الأدب، وبخاصة الأستاذان الفاضلان: صاحب (الرسالة) والدكتور زكي مبارك):
يكاد اليم ينتثر انتثاراً ... إذا ما عاصفٌ منها أغارا!
جبالٌ في المحيط تسير هوناً ... وفي الهيجا سهامٌ لا تجارى
وفوق اليم تحسبها قصوراً ... تميس إذا عصوف الريح ثارا
تخب عرائساً، وتخف أُسداً ... وتفتك جِنة وتشب نارا!
تدك مدائناً عزت وطالت ... فتنسفها وتذروها غبارا
إذا انطلقت تدفعت الدواهي ... وإن دارت رأيت الموت دارا
وإن شامت بوارق من عدو ... مضت للهول ترتقب انتصارا
يحوّم فوقها طيرٌ مريد ... عنيد لا يرد ولا يبارى!
إِذا احتدم القتال رأيت جنًّا ... توثب للردى ومضى وطارا!
وفي جوف الخضم لها وليد ... يروع البحر فتكاً واقتدارا
تسرب في المحيط أذى وشراًّ ... وعاث بموجه وبه توارى
مع الحيتان يسبح مطمئناًّ ... ومن فتكاته الكون استجارا
ويرنو للسفين بعين غدر ... خؤون في الخديعة لا يجارى
وإن يرم السفينة خلت طوداً ... ترنّح ثمت انفجر انفجارا
وكم ليل ببحر الروم كادت ... له الأفلاك تنتثر انتثارا
تقاذفت البوارج فيه ناراً ... فريع النجم وانكدر انكدارا
فلو أبصرتها والليل ساج ... لخلت الشهب تنحدر انحدارا
تراها خرداً عقدت عليها ... قباب الماء تنهمر انهمارا
وآونة ترى أتون نار ... تنفجر صاعقاً ورمى دمارا
يجن الموج من فوق إذا ما ... رأى الأطواد قد طوت البحارا
تقحم لا تهاب كأن بحراً ... من الآساد فوق البحر مارا(461/26)
تزاور في العباب تروم فتكاً ... كخيل في الوغى شقت غبارا
فطوراً للردى تمضي يميناً ... وطوراً للردى تمضي يسارا
ترى طوداً يغير على سواه ... تأمل ترى طوداً أغارا؟
على جنباتها أسدٌ كبار ... تصاولَ مثلها أسداً كبارا
تحف بها ولائد ضاريات ... كما هيجت أشبالاً صغارا
قذائف تملأ الأعماق رعباً ... وتنسج من شظاياها ستارا
تكر على العدو مدمرات ... وتبعث من جوانحها الدمارا
تمزق ستر حالكة الدياجي ... وتكسو صفحة الإصباح قارا
فرب قذيفة عصفت بليل ... فهب الليلُ يلتمس الفرارا
وتقرْى اليم أكباداً رطابا ... وتودعه النفائس والنضارا
ربيب العلم ويحك بعض هذا ... طويت شرائع الدنيا احتقارا
ألا نفس ترد الحرب سلماً ... وتجعل ظلمة الدنيا نهارا!
محمود البشبيشي(461/27)
البَريدُ الأدبيّ
من الدكتور عزام
يا أخي صاحب الرسالة
السلام عليكم
كتبت مقالي الأول عن الصوفية آملاً أن أتابع الكتابة في هذا الموضوع الجليل، ثم قضت أمور أستأنف سفري إلى بغداد الذي أزمعته منذ شهرين. فإن انفسح الوقت أرسلت مقالاتي من دار السلام، وإلا فموعدنا العودة القريبة إن شاء الله. وفي مأثور كلام الصوفية: (الصوفي ابن الوقت). وفي هذا يقول جلال الدين:
صوفي ابن الوقت باشد أي رفيق ... نسيت فرد اكفته أزشرط طريق
(يا رفيقي، الصوفي ابن الوقت، ... وليس من شرط الطريق أن تقول غدا)
فنسأل الله أن ييسر لنا الأوقات ويهيئ لنا خيرها والسلام. . .
عبد الوهاب عزام
آفة أدبية فأين أطباؤها؟
أحسن الأستاذ الفاضل طه الراوي في إزالة ذلك الوهم الشائع من نسبة موشَّحة مشهورة إلى ابن المعتز؛ في حين أنها من آثار أحد شعراء الأندلسيين. . . ومثل هذا الوهم كثير الورود في الأدب العربي، ولقد تغاضى عنه الرواة، واستساغه الأدباء على مختلف العصور، حتى اصبح آفة لا مخلص للأدب منها؛ وهي آفة تفرّد بها أدبنا العربي دون آداب الأمم جميعاً؛ ولم تمنعها شهرة بعض شعرائنا وجريان قولهم على الألسنة من أن تحرمهم ثمار بعض هذه الآثار التي كفلت لأسمائهم الخلود.
فهذا أبو تمام يصف الخمر في إحدى مدائحه بقوله:
يخفي الزجاجةَ لونُها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفستْ ... في أوجُه الأرواح بالأنداء
. . . ثم نجد البيتين بنصهما في قصيدة للبحتري؛ فما ندري أنلوم الشاعر على تجرِّيه أم نلوم جامع ديوانه قَّلة تحرِّية. . . والأبيات المشهورة التي أولها:(461/28)
قالوا: هجرتَ الشعر قلت: ضرورة ... باب البواعث والدواعي مغْلقُ
. . . ينسبها أدبائنا الأفاضل جامعو (المنتخب) إلى أبى المظفر محمد بن أحمد الأبيوردي؛ في حين يُوردها البستاني في دائرة معارفه منسوبةً إلى أبى اسحق الغّزي الأشهبي. وقد مات أول الرجلين عام 557هـ والثاني عام 524؛ وكلاهما عاش في خراسان، مما قد يشير إلى مصدر هذا الالتباس في آثارهما.
وأعجب من هذا أن قصيدة واحدة يدعيها أكثر من أربعين شاعراً، وهي النونية التي مطلعها:
صاح في العاشقين يا (لكنانهْ) ... رشأٌ في الجفون منه كنانه
هذه أمثلة لدينا عشرات منها، وقد يتجمع لدى بعض الأدباء منها مئات ومئات؛ أفليس من الواجب تطهير الأدب من كل هذا، حتى تستقيم طرائفه، وتتضح معالمه، وتزول عنه آخر سمة من سمات الفوضى والاضطراب؟
نحن أحوج ما نكون إلى هيئة أدبية تشرف على هذا العمل، لأنه مما لا يجتزأ فيه بجهود الأفراد، أو يكتفي في مثله بإشارات الأدباء وتلميحات المتأدبين.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
في (دعاء الكروان)
رأيت في قصة (دعاء الكروان) للدكتور طه حسين بك غلطة نحوية أحببتُ نشر تصويبها في (الرسالة) وهاهي ذي: في (ص112س17) قال الدكتور طه: ردتْ عليهم آمنة التي رأت الشر بشعاً والإثم (عريان) والجرم منكراً. اهـ والصواب أنه يقول: والإثم (عرياناً)؛ وانه ليخيل إلى أن كلمة (عريان) التبستْ عليه فظنها غير منصرفة؛ والصواب هو أن (عرياناً) منصرفة لأنها صفة على وزن فعلان وتؤنث بالتاء نحو (ندمان) ومؤنثة (ندمانة)؛ و (عريان) ومؤنثة (عريانة). أما الصفات التي على وزن فعلان ومؤنثها على وزن فعلى فهي التي لا تنصرف نحو عطشان ومؤنثة (عطشى). فهل نسى الدكتور بيت الألفية:(461/29)
وزائدا فَعلانَ في وصف سلمْ ... من أن يُرى بتاء تأنيث خُتم؟
(بغداد)
ضياء شيت
تناقض
تحدث الدكتور زكي مبارك عن مجلة (الرسالة) الغراء، فقال فيما قال: (الرسالة الصديق)؛ فخطَّأه بعض الأدباء، فرد هو وغيره بأن معاجم اللغة تصوِّب هذا التعبير؛ وكان الأديب الذي أعترض على الدكتور يستطيع أن يجعل نقده في الصميم؛ فيقول: الدكتور زكي مبارك بتعبيره السابق قد ناقض نفسه إذ يذكر القراء أن الدكتور قام منذ حين بحملة لغوية جال فيها وصال على صفحات هذه المجلة لكي نسير باللغة العربية إلى (التقعيد). . . وكان مما قاله أنه لا يرى معني لاتحاد وصف المذكر والمؤنث بصيغة (فعيل)؛ وذهب إلى أن الواجب أن نفرق بينهما فنقول: خادم وخادمة، وعجوز وعجوزة، وصديق وصديقة، وجريح وجريحة، وقريب وقريبة. . . الخ. مخالفاً في ذلك ما يكاد يكون مجمعاً عليه في هذه المسائل؛ فكيف يأتي اليوم ليحتج بأقوال المعاجم؟ وكيف يناقض اليوم ما قاله بالأمس؟
كلية اللغة العربية
(أ. س)
كتابان جديدان
أصدرت حديثاً مطبعة (فتى العرب) في دمشق كتابين للقصاص البارع الأستاذ معروف الأرناؤط، أولها (طارق ابن زياد)، والثاني (فاطمة البتول)؛ وهما بأسلوبه القصصي الفذ المعروف لدى قرائه، في كتابه (سيد قريش)؛ ولعلي أتحدث إلى القارئ الكريم عن أولهما، أنه يتسع لذلك صدر (الرسالة)، وأغلب ظني أنه سيتسع، فهي مجلة العرب كافة توغل في ديارهم وتحدثه بما يقولون.
(شرق الأردن)(461/30)
محمد سليم رشوان(461/31)
القَصْصُ
الآخر. . .
للكاتب القصصي أرثور شنيتزلر
وحدي!. . . وحدي!. . .
أنا جالس إلى منضدتي، والمصابيح تتقد. . . والباب المؤدي إلى غرفتها مفتوح، ونضري يسبح في ظلام الغرفة. . . الأضواء المشعشعة المنبعثة من الدور المقابلة تنعكس على زجاج نافذتي. . . يا الله!. . . كل شيء قد تبدل، وأي تبدل!. . . كانت تسبل بعناية ستائر مكتبي، وتدني بعضها من بعض لتمنع عن تقاربنا، في غيرة لا توصف ضوضاء الشارع والأنوار المجاورة. . .
الساعات تمر، طفت في غرفتي، ثم طفقت أطوف في غرفتها فتمددت على كرسيها الطويل بدون حراك، وأخذت أصوب نظري إلى النافذة، التي تكشف لي عن عالم أصبح بعدها عديم الأهمية. . . ثم وقفت إلى منضدتها، وتناولت بيدي أقلامها الحبرية والرصاصية التي لما تزل تعبق بأريج أناملها. . . انحنيت بعد ذلك على الموقد المطفأ وشرعت أحرك الأوراق والفحم، فكان كل ذلك، وقد استحال إلى رماد، يصر صريراً محزناً، عندما يلامسه المحرك الغليظ الفظ. . .
أذهب كل صباح إلى المقبرة! الخريف المتأخر تنيره شمس باردة، وقحة. . . لا أكاد أبصر الجدار الأبيض عن بعد، حتى أشعر بحرقة في عيني. . . أطوف بين صفوف الأضرحة أراقب الذين يصلون ويبكون، أصبحت أعرف بعضهم، وما يدهشني هذه الطريقة المتشابهة التي تكاد تكون هي هي عند الجميع وتلك الحركات التي يكررها كل منهم كل مرة بدقة فائقة. . . أصبحت أعرف تلك الغادة التي تتهالك عند أقدام ضريح يعلوه صليب، فتجهش في البكاء، وتذرف ذات الدموع، تضع ذات أزاهير البنفسج على الأرض المبللة، ثم تنهض وقد راق لون محياها بعض الشيء، وتنطلق تعدو، حتى تبتعد عن المقبرة بخطوات سريعة، ثابتة. . . أنها تبكي شاباً قضى في الرابعة والعشرين. . . خطيبها بدون شك. . .(461/32)
ولكن؟. . . كيف تقوى على النهوض؟. . . ومن أي ينبوع تستقي ذلك العزاء الذي يلمع في نظراتها كلما همت بالذهاب؟. . . لشد ما أريد أن أتبعها، وأن أصرخ في وجهها: (لا عزاء أيتها المجنونة البائسة!) ولكن. . . وأنا. . . أنا وقد اعتدت أن أحج كل يوم إلى هنا. . . عم أبحث إذن؟. . .
أولئك النساء ذوات البراقع الحريرية، والقفازات السود، يضايقنني كثيراً. . . لا ريب أني مثلهن، شاحب اللون، منتفخ الأجفان، ولكني وأنا ثمل بشيء سام، منقطع النظير، لا أتحمل هذا التأثر الذي يرتسم على وجود الآخرين، فأنظر بشيء من الحسد إلى كل من تهزه الرعشة التي تهزني. . .
والآن، فإن ثائرتي لتثور لمجرد الافتكار بأن جميع هؤلاء الذين يتيهون بين الأضرحة يفترسهم نفس الألم الذي يفترسني، ذلك الألم الخالد الذي نعجز عن التعبير عنه! أوه! يا للرحمة!. . . جميعهم يتألمون كما أتألم، والأيام تمر، فتجلب أفكاراً جديدة. . . وتبعث آمالاً جديدة. . . وتعيد بصورة أكيدة، ربيعاً ينشر خضرته الصفيقة أمام أبصارنا. . . فيعود الهواء فاتراً، وتعود الأزهار تعطر الجو بأريجها. . . وتعود النساء تبتسم كما كانت تبتسم من قبل. . . فنخدع عن أنفسنا مرة ثانية. . . نخدع عن أنفسنا، وننسى حزننا!!
أقف دائما على بعد بضع خطوات من النجف الذي يواريها. . . عندما يوضع الحجر أستطيع أن أتكئ على درجات الضريح الباردة، وأستطيع أن أنحني على قبرها، وأن أجثو أمامه. . . أما الآن فلا أجرؤ على الاقتراب خشية أن ينهال الحصى على نعشها. . . ورغم ذلك، تنتابني بعض الأحيان رغبة شديدة، لا تقاوم، للارتماء على ذلك النجف، ونبشه بأصابعي. . . إن ألمي لا يعرف الصبر، ولا يجد إلى العزاء سبيلاً. . . إنه ألم وحشي تصطك له أسناني. . . أصبحت أبغض كل شيء. وجميع الناس وعلى الأخص أولئك الذين يتألمون مثلي!!!
هؤلاء الرجال والنساء، والأطفال، الذين أصادفهم كل يوم يثيرون حفيظتي. . . ليتني أستطيع أن اطردهم. . . إن الحزن ليضيّق علي الخناق وبصورة خاصة، عندما يخطر لي أن أحدهم ربما كان قد زار المقبرة للمرة الأخيرة البارحة إذ أحست بسكون ألمه، ولاحظ أنه يخف من يوم لآخر، وهو يعود من مدينة الأموات فعاد منها لا يتألم. . . واستيقظ مع(461/33)
الصباح باسماً!. . . آه!. . .
كم أبغض أولئك الذين يستعيدون ابتسامهم!!!
هل يأتي يوم استعيد فيه أنا أيضاً ابتسامي؟. . . وأنسى؟. . . أن ذكرى شبابي لا تكاد تفارقني: إني لأرى نفسي وقد اجتزت الغابة إلى جانبها. . . كان لابد لي أن أكون سعيداً جداً، وقد كنت بالفعل سعيداً جداً. . . ولكن هنالك لحظات تلتهم في أحشائها كل شيء، تلتهم المستقبل والماضي لأنهما الخلود نفسه!
لم اكن قط من أولئك المتنزهين الهادئين الذين يعبرون الطريق، ويتوغلون في الحقول، ويتمددون بلطف في ظلال الدوح، ليستروحوا النسمات البليلة التي ينعشهم بها صباح منوّر كلا! لم أكن من هؤلاء، وإنما كنت أتسلّق الأشجار، لاستكشف آفاقاً أوسع، وكنت أشاهد الطريق إذ ذلك تتوارى في السهول البعيدة، حيث يحتضر الربيع. . .
في هذه الغرفة، وإزاء هذه النافذة ذاتها، التصقت بي ذات يوم، أخذت تعانقني وتقبلني. . . رعشة باردة هزتني. . . الدقائق، الساعات، الأيام، السنون، كل ذلك طفق يهرب مسرعاً، مسرعاً. . . انتهى عهدنا، دب إلينا الهرم. . . أدركتنا النهاية. . . مثل هذه الأفكار كنت ادنِّس حبنا، باعترافي بقابليته للزوال والفناء، وهكذا كنت ادنِّس ألمي الآن، بتفكيري بأنه قد يأتي يوم استعيد فيه ابتسامي!
ولكن من هو هذا الرجل، ذو الشعور والنظرات الكئيبة؟ ومن يبكي؟. . . انه ليزور كل يوم ضريحاً بجوار ضريح امرأتي. . . وانه ليلفت أنظاري إليه، لأني لم استطع أن أبغضه كالآخرين. . . إنه يأتي كل يوم قبلي، ولا يفارق موقفه حتى بعد ذهابي. . . وقد اكن من الممكن إلا اشعر بوجوده لو لم ألمحه ذات يوم يرمقني بحنان زائد، اربكني وأزعجني. . . فتفرست في وجهه، ولكنه حوله عني شيئاً فشيئاً، ثم راح يبتعد وهو محاذ للجدار. . . من المرجح أنني عرفته قبل اليوم. . . إن وجهه ليس غريباً عني. . .
أين رايته إذن؟. . . في سفر؟. . . في مسرح من المسارح أو شارع من الشوارع؟. . . يخيل إلي انه يشعر بحزني بصورة غريزية. ولعل حزناً كحزني يمضه. . . هذا الافتراض يفسر نظراته التي لا أجد إلى نسيانها من سبيل. . . انه شاب وجميل!
ها قد جلست مرة أخرى إلى منضدتي، أزهار ذابلة تكتنف رسم المرأة التي كانت قرينتي،(461/34)
بل سعادتي، بل دنياي!. . . بدأت افهم الأشياء وأقدرها. . . الأيام التي عشتها أخيراً غشّت على عقلي. . . ولكني انتهيت بأن وجدت نفسي. .
للمرة الأولى منذ شهر، عزمت على أن اشغل نفسي بشيء، أن التمس مكتبتي، أن أنظر في بعض الأوراق، أن أفكر. . . ولكني لم افعل شيئاً من ذلك. . . بل عدت إلى المقبرة. . . كان الليل قد شرع ينشر أجنحة السوء، ولم يكن في المقبرة أحد. . . للمرة الأولى جثوت على ضريحها، وطفقت اقبل الأرض التي حنت عليها فوارتها بين تضاعيفها. . . أخذت أبكي: نعم بكيت لا صوت. . . لا نأمة. . . صمت رهيب. . . هواء ساكن، بارد. . . ثم نهضت التمس الخروج بين صفوف الأضرحة من جهة الكنيسة. . . لا أحد. . . كان القمر يسكب ضوئه على الصلبان والأحجار بصورة لا يمكن أن يفوتني معها وجود شخص ما. . . فلما هممت بالذهاب، صادفت امرأة في نقاب الحزن، وفي يدها منديل. . . إني أعرف النساء. . . كانت الطريق العريضة المؤدية إلى المدينة بيضاء تحت أشعة القمر، وكنت اسمع وقع خطواتي، لم يكن هنالك من يتبعني، وهكذا بلغت منفرداً أطراف المدينة حيث استقبلتني منازل الضواحي، والفنادق، وتردّدت في أذني أصداء الجلبة والضوضاء. . .
أشعر بشيء من التحسن في حالتي. . . الآن وقد عدت، أحس برغبة ملحة ذهبت عن خاطري منذ عهد طويل، أحس برغبة قوية لفتح نافذتي، لأسمع جلبة الشارع، بل لأسمع أصواتاً بشرية، ولكن الليل شاخ وصمت. . . وأناملي تكاد تجمد وأنا أخط هذه السطور. . . والضوء يضطرب رغم سكون الهواء. . .
كنت مستنداً إلى جدار المقبرة وكانت تحجبني عنه صفصافة ضخمة، وقد بكّرت كثيراً لأكون الأول، فأدركت المقبرة وفي غرفة الحضار مصباح. . . توافد بعدي كثيرون، نساء على الأخص. . . وفجأة. . . هو!. . .
اقترب بهدوء من المكان المعتاد، بعينيه الواسعتين، الحزينتين، ثم جثا على قدميه، فبذلت قصارى جهودي لأراه جيداً. . . وإذا به يجثو على ضريح امرأته!!!
انقطعت عن كل حركة. . . وشعرت بأنفاسي تتردد لاهفة، متقطعة!. . . وأحسست بأصابعي تتشنج على أغصان الصفصافة. . . مرت دقائق لم يكن يصلي. . . ولم يكن يبكي. . . وأخيراً نهض وراح يطوف بين الأضرحة بدون وجهة معينة كما كان من عادته(461/35)
أن يفعل. . . فاقتربت من الضريح، ووقفت على مقربة منه مستنداً إلى حاجز حديدي يكتنف ضريحاً آخر، وإذا به يعود من ناحيتي وينظر إليّ بهدوء. . . ثم يستأنف سيره. . . ويمر. . . أردت أن أتقدم منه وان أسأله، ولكني لم افعل بل ظللت أُشيّعه بأنظاري زمناً طويلاً إلى أن اختفي وراء الكنيسة. . .
لا أعرف بماذا كنت اشعر، ولا أعرف بماذا اشعر الآن! ولكن سيأتي يوم، ربما كان غداً أراه فيه، وأستفسره وأعرف كل شيء!
آه يا لها من ليلة! لا أجد إلى الرقاد فيها من سبيل! أن الساعة لما تزل دون الواحدة بعد. . . فلماذا لا أعود إلى المقبرة؟ ولكن ماذا أستطيع أن افعل هناك. . . إلا بضع ساعات صبر! بضع ساعات فقط، وجنوني يعرف له حداً. . . ويتضح كل شيء اجل على ضريح امرأتي! هنالك رايته مرة ثانية!
كنت على خطوات ممدودة منه، فلماذا لم انقضّ عليه؟ ولماذا لم اقطع عليه الطريق عندما شاهدته يبتعد؟
أليس من حقي أن أسأله عن اسمَه؟ وممن أستطيع أن استفهم إذا لم استفهم منه؟
حين حاول تخطي الباب تبعته، ولكن يظهر انه أحس بي اجل لست مخطئاً. لابدّ أن أحسَ بي، إذ حث خطاه مسرعاً، فحثثت خطاي أنا كذلك. ولكني عندما أدركت الباب كان قد غاب عن ناظري، ثم لم ألبث أن أبصرته ثانية يستقل سيارة، حتى إذا صعد إليها انطلقت تعدو به مسرعة. . . ولم تكن هنالك سيارة أخرى، فطاردته راجلاً، ولكنه لم يلبث أن بعد عني كثيراً، فوقفت أشيعه بنظراتي مدة غير قصيرة. كانت الطريق مستقيمة، فما زلت أراقبه عن بعد حتى اختفت السيارة، وتوارت عن الأبصار.
من هذا الرجل الذي يجثو على ضريح امرأتي؟ ومن يكون لها؟ كيف أعرف ذلك؟ وكيف أراه ثانية؟ آه. . . إن ماضيّ بأسره ليتفكك ويتحدد. . . إن ماضيّ بأسره لتعبث به يد المسخ والتشويه!
هل أنا مجنون؟ أم من الممكن أن لا تكون قد أحبتني؟. . . ألم تكن تقف وراء هذا الكرسي؟. . . وتضع شفاهها على جبيني؟ وتلف ذراعيها حول عنقي؟. . . ألم نكن سعيدين معاً؟ ولكن من يكون هذا الشاب الأشقر الجميل، إذن؟. . . ولماذا بدأ لي أن محياه(461/36)
ليس غريباً عني؟. . . أنه ليخيل إلي الآن أني شاهدته مراراً في المسارح والمغاني، جالساً تجاهنا، ونظره عالق بامرأتي لا يكاد يحيد عنها!. . . ألم يكن هو الذي وقف ذات يوم عند مرور سيارتنا، وتبعنا زمناً طويلاً بنظراته؟ من هو إذن؟ من هو؟ من؟ من؟. . . أيكون عاشقاً (أفلاطونياً) لم تعرفه هي؟ ولن تمل إليه قط؟. . . لو كان الأمر كذلك لعرفته أنا أيضاً، إذ كان لابد له أن يبحث عن وسائل يرانا بها في المجتمعات، ويتحدث إلينا. . . ولكن كلا. . . لعّله كان يحذرني. فتعرّف على امرأتي ولم يتعرف على، وتبعها في الشوارع وتجرأ على توقيفها. . . كلا!. . . لو جرى شيء من ذلك لكانت أعلمتني به. . . ولكن هل كانت تعلمني به؟. . . أليس من الممكن أن تكون أحبته؟. ولكنها كانت تحبني!. كانت تحبني؟. من أين لي هذه الثقة؟ إلا إنها كانت تقول لي ذلك؟. جميع النساء يقلن ذلك! والخبيثات يسرفن فيه أكثر من الطاهرات أوه! لابد لي من إيجاده والاستفسار منه. ولكن إذا كانت قد أحبته، فبماذا يجيبني؟ أني أزور ضريحها لأني كنت أحبها، ولكنها لم تعرف ذلك قط! وهل أستطيع أن أضطره إلى الاعتراف بالحقيقة؟ فما العمل إذن؟
وهل أستطيع أن أستأنف الحياة على هذه الصورة؟ لم أشاهده طيلة ثلاثة أيام. كنت أذهب كل يوم ولكنه لم يكن يأتي. . . الحفَّارون يجهلون أسمه، لا يعرفه أحد. . . لعله سافر. ولكنه لابد له أن. . . لابد له أن. . . وإذا كان قد توفي وإذا كان قد توفي؟ لأنه لا يستطيع أن يحيى بدونها! أه. إن هذا الافتراض ليبعث على الضحك، أيكون هنالك رجل أخر لا يستطيع أن يحيا بدونها؟
ليس لي سوى رغبة واحدة، وهي أن أقول له: سيدي المحترم، لا تذهب في تفجعك عليها إلى هذا الحد، إذ من المحقق أنها أحبتني أنا أيضاً!) أريد أن أجعله غيوراً. . .
قذفت برسمها تحت منضدتي. . . هو ذا في وسط الغرفة، على الأرض بين رسائلها المبعثرة، بين تلك الرسائل التي كانت تحفظها في خزائنها وأدراجها. . . فتحتها كلها، ونبشت فيها. . . ماذا وجدت؟. . . رسائل كنت بعثت بها إليها. . . وأزهاراً كنت قدمتها إليها. . . وأشرطة حريرية. . . وتذكارات. . .
لعل بين تلك الأزهار زهرة مقدمة من قبله. . . كيف الوصول إلى معرفة ذلك؟. . . وماذا كنت أبغي العثور عليه؟. . . وهل تحتفظ المرأة بشيء يمكن أن يخونها ذات يوم؟(461/37)
أفرغت جيوبها. . . قلبت أثوابها. . . باحثاً. . . منقباً. . . عن ورقة رقيقة تكون قد نسيتها سهواً. . . ولكنها لم تكن قد نسيت شيئاً!
لم أعد بعد ذلك إلى المقبرة وأصبحت أرتجف لمجرد التفكير بمشاهدة ذلك الضريح مرة أخرى!
أحيا الآن ساعات أخف وطأة من قبل، لأن الأيام الأولى قد عبرت دون أن يصاب عقلي بخلل، فعليّ أن أمتنع بعدم إمكان معرفة الحقيقة أبداً.
كم أحسد الرجال الذين يعرفون أن نساءهم تخونهم، إذ أنهم متأكدون من مصيبتهم على الأقل! وكم أحسد أولئك الذين إذا أمضهم الشك، استطاعوا أن يراقبوا نساءهم، على رجاء أن تخونهن كلمة، أو نظرة، أو حركة، أو إشارة!
أما أنا فقد قضي علي ألا أستطيع شيئاً من ذلك قط، لأن الضريح أبكم لا يبدي ولا يعيد!
ويتفق لي أحياناً أن أهبّ في الليل من نومي، مذعوراً، يرهقني كابوس هائل لعلني دنست ذكرى امرأة طاهرة، وزوج مخلصة! أه!. . لو أستطيع أن أحب ذكرى تلك المرأة التي منحتني ذلك المقدار العظيم من السعادة!
وأه! لو أستطيع أن أبغض ذكرى تلك المرأة التي خانتني، وعبثت بشرفي وكرامتي!
أعدت رسمها إلى منضدتي. رفعته من الأرض ووضعته في مكانه المعتاد. ولكن لماذا لا أستطيع أن أعبدها و. . . أن أجثو أمام رسمها كما أجثو أمام رسم قديسة، وأجهش في البكاء؟
ولماذا لا أستطيع أن أحتقرها؟ وأن أمزّق هذا الرسم؟ وأن أدوسه بنعالي؟
طيلة ليال عديدة لبثت أحدق النظر في هاتين العينين الصامتتين، الباسمتين، المحاطتين بالرموز والألغاز!
ايزاك شموس(461/38)
العدد 462 - بتاريخ: 11 - 05 - 1942(/)
وهذا كتاب. . .
قال لي صديق منذ شهرين: أن العقاد يخرج كتاباً عن محمد. فقلت له: ذلك ما تتمناه الناس وتوقعناه نحن منذ أخذ العقاد يعالج بعض هذا الموضوع في (الرسالة). ولعل هذا الكتاب يكون الأول في بابه؛ لأن العقاد صاحب جد وصراحة؛ فهو لا يتكلف مالا يحسن، ولا يحسن ما لا يعتقد، ولا يعتقد ما لا يسوغ في المنطق. وإذا كان الذين كتبوا عن محمد إنما كتبوا للدين أو للدنيا أو للأدب أو للهوى، فإن العقاد لم يكتب إلا للعقل. وإذا استراب أكثر الناس بأكثر هذه الكتب لأن صاحب الدين موافق وصاحب الدنيا منافق وصاحب الأدب خدَّاع وصاحب الهوى متعصب، فإن القُراء على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم سيُخْلدون بثقتهم إلى العقاد لأنه سيكتب غير ما كتب هؤلاء جميعاً.
ثم قدرت في نفسي النواحي البكر التي سيطرقها العقاد من هذا العالم الأعظم فكأنما قدَّرت عن تلقين الغيب: قدَّرت أنه لن يكتب ترجمة ولا سيرة ولا قصة، لأن الناس في القديم والحديث، وفي الشرق وفي الغرب، لم يكتبوا غير ذلك؛ وذلك الذي كتبوه إنما كان مداره على الوحي والرسالة والمعجزة والدعوة، وإدراك العظمة أو العبقرية في هذه الأمور موقوف على الأيمان بها؛ فلو أن امرأً غير مسلم حاول أن يستشف من خلال ما ينكر من هذه الصور الإسلامية صورة محمد في نفسه، لما وجد فيما بقى على الهامش أو علِق بالإطار ما يقنعه بأن محمداً لو لم يكن أعظم الرسل بدينه، لكان أعظم الأبطال بخلقه.
فصورة محمد في نفسه هي الناحية التي طوّف حولها الرُّوَّاد ولم يدخلوا، وحوَّم فوقها الورَّاد ولم ينزلوا؛ وهي التي قدَّرتها على التخمين في خطة العقاد، ثم قرأتها على اليقين في (عبقرية محمد). وأشهد الله أني لو مضيت على المخيَّل فيما أكتب عن هذا الكتاب لما كذبني الضن، ولا أخطأني الصواب. ذلك لأن العقاد كاتب مؤمن بالعقل والرجولة؛ فإذا درسته أو قرأته على ضوء هذا الأيمان تكتشف لك عن منطق فحل لا يتناقض في الرأي ولا يتعثر في الأداء، ولا يتكثر باللغو، ولا ينزل عن طبقته حتى في المقاصد المبتذلة والمعاني المطروقة. وإيمانه بالعقل والرجولة هو الذي بعثه على أن يكتب كتابين في أدب ابن الرومي وفي سياسة سعد زغلول على كثرة الأدباء والساسة. فإذا كتب عن محمد فإنما يكتب بوحي هذا الإيمان عن عبقريته (بالمقدار الذي يدين به كل إنسان ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبِّت له الحب في قلب كل إنسان وليس في قلب المسلم وكفى)،(462/1)
(وبالقياس الذي يفهمه المعاصرون، ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين) (ليقيم البرهان على أن محمداً عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميدان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية)
والحق الذي لا تجوَّز فيه أن كتاب (عبقرية محمد) هو التفسير الملهَم المحكم لقول الله تعالى لنبيه الكريم: (وأنك لعلى خلق عظيم). ولا يدهشنك أن أقول أن شهادة الله لرسوله بعظمة الخلق ظلت مجهولة الغور والمدى والدلالة في التفسير والتاريخ حتى جاء العقاد فصورها بأبعادها وحدودها وألوانها وسماتها كأنطق ما يكون المثال وأصدق ما تكون الحجة. هل تجد معنى من معاني الأخلاق فني في شرحه وتشريحه من الريق والمداد على طول القرون ما فني في معنى الصَداقة والصديق؟ ومع ذلك تقرأه في فصل (محمد الصديق) من كتاب العقاد فتجده معنى من معاني العظمة لم يتمثل في ذهن كاتب من قبل على هذه الصورة. أقرأ قوله على سبيل المثال: (. . . وهنا أيضاً قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات النادرة. فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار تجمع بين عظمة الحسد وعظمة الثروة وعظمة الرأي وعظمة الهمة؛ وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة - كما اثبت التاريخ من سيرة أبي بكر وعمر وخالد وأسامة وابن العاص والزبير وطلحة وسائر الصحابة الأولين - وربما عظم الرجل في مزية من المزايا فأحاط به الأصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية، كما أحاك الحكماء بسقراط القادة بنابليون بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بالمسيح عليه السلام وكلهم من معدن واحد وبيئة متقاربة. أما عظمة العظمات فهي تلك التي تجلب إليها الأصحاب النابغين من كل معدن ومن كل طراز؛ وهي التي يتقابل في حبها رجال بينهم من التفاوت مثل ما بين أبي بكر وعلي، وبين عمر وعثمان، وبين خالد ومعاذ، وبين أسامة وأبن العاص: كلهم عظيم، وكلهم مع ذلك مخالف في وصف العظمة لسواه.
تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق، وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم، والحيلة(462/2)
والصراحة، والألمعية والاجتهاد، وحنكة السن وحمية الشباب.
تلك هي بلا ريب عظمة العظمات، ومعجزة الأعجاز في باب الصداقات)
ذلك سمو العقاد في المطروق المبتذل، فما ظنك به حين يعالج الأحرار الأبكار من معاني العبقرية المحمدية في السياسة والإدارة والرياسة والبلاغة؟ أما تحليله البراعات الخلقية والنفسية في محمد الزوج والأب والسيد والعابد، ودفعه الشبهات المريضة عن دعوة الرسول وعظمته في تحكيم السيف وتحليل الرق وتعدد الزوجات، فغاية الغايات في دقة الفهم وشدة الحِجاج وقوة الأسلوب. ولولا أن العقاد أدركه نسيان الإنسان فأراد غار ثور وكتب غار حراء، لقلت أن كتابه قبس من الوحي نزل عليه من السماء!
احمد حسن الزيات(462/3)
رفع عيسى. . .
للأستاذ محمود شلتوت
ورد إلى مشيخة الأزهر الجليلة من حضرة عبد الكريم خان بالقيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط سؤال جاء فيه: (هل (عيسى) حي أو ميت في نظر القران الكريم والسنة المطهرة؟ وما حكم المسلم الذي ينكر انه حي؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فرض انه عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟). وقد حول هذا السؤال إلى فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء فكتب ما يأتي:
. . . أما بعد، فان القرآن الكريم قد عرض لعيسى عليه السلام فيما يتصل بنهاية شانه مع قومه في ثلاث سور:
1 - في سورة آل عمران قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنَّا بالله، واشهد بأنّا مسلمون: ربَّنا، آمنَّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين. ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين؛ إذ قال الله: يا عيسى، أنى متوفيك ورافعك إليَّ ومطهّرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليَّ مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون): 52 - 55
2 - وفي سورة النساء فوله تعالى: (وقولهم: إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزاً حكيما): 157 - 158
3 - وفي سورة المائدة قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، أن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك، انك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد): 116 - 117
هذه هي الآيات التي عرض القرآن فيها لنهاية شأن عيسى مع قومه، والآية الأخيرة (آية(462/4)
المائدة) تذكر لنا شأناً أخرويَّاً يتعلق بعبادة قومه له ولأمه في الدنيا وقد سأله الله عنها وهي تقرر على لسان عيسى عليه السلام أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به: (اعبدوا الله ربي وربكم)؛ وإنه كان شهيداً عليهم مدة إقامته بينهم، وإنه لا يعلم ما حدث منهم بعد أن (توفاه الله)! وكلمة (توفي) قد وردت في القرآن كثيراً بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم. إن الذين توافهم الملائكة ظالمي أنفسهم. ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة. توفته رسلنا. ومنكم من يتوفى. حتى يتوفاهن الموت. توفني مسلماً وألحقني بالصالحين)
ومن حق كلمة (توفيتني) في الآية أن تحمل على هذا المعنى المتبادر وهو الإماتة العادية التي يعرفها الناس ويدركها من اللفظ ومن السياق الناطقون بالضاد. وإذن فالآية لو لم يتصل بها غيرها في تقرير نهاية عيسى مع قومه لما كان هناك مبرر للقول بان عيسى حي لم يمت.
ولا سبيل إلى القول بان الوفاة هنا مراد بها وفاة عيسى بعد نزوله من السماء بناء على زعم من يرى انه حي في السماء، وإنه سينزل منها آخر الزمان، لان الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو لا بالقوم الذين يكونون آخر الزمان وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى.
أما آية النساء فإنها تقول (بل رفعه الله إليه) وقد فسرها بعض المفسرين بل جمهورهم بالرفع إلى السماء، ويقولون: إن الله ألقى على غيره شبهه، ورفعه بجسده إلى السماء، فهو حي فيها وسينزل منها آخر الزمان، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب، ويعتمدون في ذلك:
أولا: على روايات تفيد نزول عيسى بعد الدجال، وهي روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافاً لا مجال معه للجمع بينها؛ وقد نص على ذلك علماء الحديث. وهي فوق ذلك من رواية وهي بن منبه وكعب الأحبار وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل.
وثانياً: على حديث مروي عن أبى هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى؛ وإذا صح هذا الحديث فهو حديث آحاد. وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة(462/5)
ولا يصح الاعتماد في شأن المغيبات.
وثالثاً: على ما جاء في حديث المعراج من أن محمداً صلى الله عليه وسلم حينما صعد إلى السماء وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة فتفتح له ويدخل، رأى عيسى عليه السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرره كثير من شراح الحديث في شأن المعراج وفي شأن اجتماع محمد صلى الله عليه وسلم بالأنبياء وأنه كان اجتماعياً روحياً لا جسمانياً (انظر فتح وزاد المعاد وغيرها)
ومن الطريف أنهم يستدلون على أن معنى الرفع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج بينما ترى فريقاً منهم يستدل على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعاً جسدياً بقوله تعالى: (بل رفعه الله إليه) هكذا يتخذون الآية دليلاً على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث، ويتخذون الحديث على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية!
ونحن إذا رجعنا إلى قوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي) في آيات آل عمران مع قوله: (بل رفعه الله إليه) في آيات النساء وجدنا الثانية إخباراً عن تحقيق الوعد الذي تضمنته الأولى، وقد كان هذا الوعد بالتوفية والرفع والتطهير من الذين كفروا، فإذا كانت الآية الثانية قد جاءت خالية من التوفية والتطهير، واقتصرت على ذكر الرفع إلى الله فإنه يجب أن يلاحظ فيها ما ذكر في الأولى جمعاً بين الآيتين.
والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهره من الذين كفروا. وقد فسر الآلوسي قوله تعالى: (إني متوفيك) بوجوه منها وهو أظهرها (إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك؛ وهو كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله أجله وموته حتف أنفه ذلك) وظاهر أن الرفع الذي يكون بعد التوفية هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصاً وقد جاء بجانبه قوله: (ومطهرك من الذي كفروا) مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم. وقد جاء الرفع في القرآن كثيراً بهذا المعنى: (في بيوت أذن الله أن ترفع. نرفع درجات من نشاء. ورفعنا لك ذكرك. ورفعنا مكاناً علياً. يرفع الله الذين آمنوا) الخ. . . وإذن فالتعبير بقوله (ورافعك إلي) وقوله: (بل رفعه الله إليه) كالتعبير في قولهم: (لحق فلان بالرفيق الأعلى) وفي (إن الله(462/6)
معنا) وفي (عند مليك مقتدر) وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس. فمن أين تؤخذ كلمة السماء من كلمة (إليه)؟ اللهم أن هذا لظلم للتعبير القرآني الواضح خضوعاً لقصص وروايات لم يقم على الظن بها فضلاً عن اليقين برهان ولا شبه برهان!
وبعد فما عيسى إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، ناصبه قومه العداء، وظهرت على وجوههم بوادر الشر بالنسبة إليه، فالتجأ إلى الله شان الأنبياء والمرسلين فأنقذه الله بعزته وحكمته وخيب مكر أعدائه. وهذا هو ما تضمنته الآيات (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله) إلى آخرها، بَّين الله فيها دقة مكره بالنسبة إلى مكرهم، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع أمام مكر الله في حفظه وعصمته (إذ قال الله يا عيسى أني متوفيك ورافعك ومطهرك من الذين كفروا) فهو يبشره بإنجائه من مكرهم ورد كيدهم في نحورهم، وأنه سيستوفى أجله حتى يموت حتف أنه من غير قتل ولا صلب، ثم يرفعه الله إليه. وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى مع قومه متى وقف على سنة الله مع أنبيائه حين يتألب عليهم خصومهم، ومتى خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم بالقرآن، ولست أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه من بينهم ورفعه بجسده إلى السماء مكراً؟ وكيف يوصف بأنه خير من مكرهم مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يقاوموه، شيء ليس في قدرة البشر! ألا أنه لا يتحقق مكر في مقابلة مكر إلا إذا كان جارياً على أسلوبه غير خارج عن مقتضى العادة فيه. وقد جاء مثل هذا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم (وأذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلونك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)
والخلاصة من هذا المبحث:
1 - أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حي إلى الآن فيها وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض.
2 - أن كل ما تفيد الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفيه أجله ورافعه إليه وعاصمة من الذين كفروا، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم(462/7)
يصلبوه، ولكن وفاه الله اجله ورفعه إليه.
3 - أن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء وانه فيها حي إلى الآن وانه سينزل منها آخر الزمان فنها لا يكون بذلك منكرا لما ثبت بدليل قطعي فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه، ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة، بل هو مسلم مؤمن، إذا مات فهو من المؤمنين يصلي عليه كما يصلى على المؤمنين ويدفن في مقابر المؤمنين ولا شية في إيمانه عند الله والله بعباده خبير بصير.
أما السؤال الأخير في الاستفتاء وهو (ما حكم من لا يؤمن به إذا فرض انه عاد مرة أخرى إلى الدنيا) فلا محل له بعد الذي قررناه ولا يتجه السؤال عنه والله أعلم.
محمود شلتوت(462/8)
خصومات أدبية!
للأستاذ توفيق الحكيم
من كان يتصور أن دعوتي إلى الصفاء بين الأدباء تثير خصومات أو ذكريات عن خصومات! فلقد كتب الأستاذ (عباس محمود العقاد) في العدد الماضي من (الرسالة) قصة طريفة أهداها إليَّ. هي الآتية:
(قيل أن الدكتور طه حسين خرج من وظيفته بالجامعة المصرية قبل سنوات. وقيل أنه أثنى على الأستاذ توفيق الحكيم في بعض ما كتب وهو على جفوة مع رؤساء تلك الأيام. وقيل أن الأستاذ توفيق أشفق من مغبة تلك الجفوة فكتب يقول أنه لا يريد مدحاً من أحد. . . وأدرك شهرزاد الصباح أو المساء على قصة أخرى تمثل اليوم مع العقاد لأن خصومته قد تشبه خصومة الدكتور طه حسين قبل سنوات. . .)
والتعليق على هذه القصة الطريفة لا يحتاج إلى عناء. لأن الأساس الذي بنيت عليه وهو شبهة الخصومة بيني وبين العقاد قد أنهار في اليوم ذاته الذي ظهر فيه مقاله. فقد طلع لحسن الحظ عدد مجلة الثقافة في مساء ذلك النهار وفيه تحية مني للعقاد وثناء على كتابه (عبقرية محمد) بما هو أهله.
يضاف إلى ما تقدم أن (ما يدريه العارفون وأوشك أن يدريه غير العارفين) هو أن موقفي اليوم يشبه في كثير من الوجوه موقف العقاد. وأن من بين المجلات والصحف والأقلام ما يعلن تجريحي وخصومتي بمختلف الأسباب لعين الأغراض. بقى بعد ذلك عنصر واحد من عناصر القصة سكت طويلاً عن تجليته ظناً مني أنه لن يؤخذ على سبيل الجد. أما وقد أخذه الأستاذ العقاد على أنه حقيقة، فمن الواجب إذا أن أوضح ولو كان في الإيضاح إساءة للدكتور طه. فإن هذا الوقت هو أحب الأوقات عندي لإساءته لا لإرضائه.
أن حقيقة الخصومة بيني وبين طه حسين في تلك الأيام من عام 1934 كانت خصومة أدبية صرف، ولكن الدكتور طه أراد أن يقحم فيها عنصر السياسة ليظهرني في صورة (يهوذا) ويظهر نفسه في صورة (المسيح). فأخترع تلك القصة اختراعاً ولكن الحقيقة ما لبثت أن ظهرت في اليوم التالي واضحة مبينة.
إلى هنا ينتهي التعليق على هذه القصة. ولكن هنالك قصة أخرى للأستاذ العقاد مهداة إليّ(462/9)
أيضاً، وربما احتاجت إلى تعليق طويل لأنها تمس قضية أدبية تحدث في جميع الآداب في كل زمان. تلك هي قضية الناقد والكاتب. فقد ذكر الأستاذ العقاد أني أنكر أن الدكتور طه حسين رفع من شأني بما كتب عني. وأنا حقاً أنكر ذلك كل الإنكار ومن يحرص على كرامة الفن لا يسعه أن يقول غير هذا القول. فما من مخلوق على الأرض يرفع أو يخفض من شأني غير فني ولما ترجم هذا الفن أو بعضه إلى لغات أجنبية وجد من أعلام نقادها من يرفع شانه كما وجد في اللغة العربية طه وأمثاله. فألفن هو الذكي يكرم نفسه أو يمتهنها في كل مكان أو زمان يحل فيهما. حقاً أن طه حسين أستقبل كتاب أهل الكهف استقبالاً رائعاً، لكن لا ينبغي أن ننسى غيره. فبمراجعة تاريخ الحوادث يتضح أن أول من نوه بالكتاب تنويهاً جميلاً كان الشيخ مصطفى عبد الرزاق ثم الأستاذ المازني ثم الأستاذ العقاد على هذا الترتيب. ولعل العقاد قد أشار في نقده إلى انتفاع بعض المؤلفين الأوربيين بجوهر الأسطورة (أهل الكهف) تهمة الاقتباس أو النقل عن الأجانب وأظنه فضلها من حيث طريقة التصرف على ما قرأ في بعض اللغات عن فكرة القصة. فلما أطمئن طه حسين إلى آراء هؤلاء أقبل فصاح صيحته المشهورة كأنها صيحة (يوحنا المعمدان) وهو يبشر بالمسيح. فقد قال بهذا النص: (أما قصة الكهف) فحادث ذو خطر، لا قول في الأدب العصري وحده. بل أقول في الأدب العربي كله. وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط. ولا أقول هذا مغتبطاً به مبتهجاً له. وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول أن فناً جديداً قد نشأ فيه وأضيف إليه. وأن باباً جديداً قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن. نعم هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصراً جديداً. . . ويمكن أن يقال أنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له. ويمكن أن يقال أنها قد رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة. . . بل يمكن أن يقال أن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد أجانب يستطيعون أن يقرءوها أن ترجمت لهم، فسيجدون فيها لذة قوية، ويجدون فيها متاعاً خصباً وسيثنون عليها ثناءً عذباً كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب الأوربيين) وكان لتلك الكلمة أثر قوي ذو دوي لأن طه حسين وضع الأمر كما(462/10)
رأينا في صيغة التقرير بمذهب جديد. كأنه (سانت بوف) يعلن أمر المذهب الرومانتيكي عند ظهور تمثيليات (هوجو)!! ولنسلم بأن طه حسين هو المشيد الأول بشأن أهل الكهف ومؤلفها. فهل هذا حدث جديد في تاريخ الآداب؟ ألم يصح مثل هذه الصيحة (تورجنيف) عندما استقبل أول أعمال (تولستوي) قائلاً (ظهر كاتب روسيا الأعظم!) أو لم يفعل مثل ذلك (ارنولد بنيت) عندما أشاد بقصة (الدس هاكسلي) بقوله: (هذا كاتب يلحق مباشرة بقصاصي روسيا العظام!) أو لم يصنع هذا (أناتول فرانس) بمذكرات ماري باسكرشيف) عندما أعلن أنها أثر خالد للإنسانية! فإذا هذه الأعمال قد ظهرت ومؤلفوها قد برزوا للعالم بين يوم وليلة. هل أستلزم ذلك التحميل بأثقال الديون والتكبيل بحبال الجميل نحو أشخاص النقاد؟ أو أن الأمر لا يعدو في تلك البلاد أن ناقداً أدى واجبه بأمانة وإخلاص، لا نحو شخص من الأشخاص ولكن نحو آداب وطنه وفن بلاده؟ لم نسمع في غير مصر أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض. وأن على المؤلف واجباً مقدساً هو أن يشتري من فوره سبحة كيلا ينسى أن يسبح محمداً الناقد أناء الليل وأطراف النهار. شأنه شأن القاضي الذي يصدر حكماً ينقل أحد المتقاضين من الفقر إلى الغنى. فيظل طول يقول في مجالسه. . . أنا الذي أغنيت فلاناً ونقلته من حال إلى حال وخلقته هذا الخلق الجديد. وينسى أنه كان مظهراً لحق هذا الفلان لا أكثر ولا أقل. اللهم أن في هذا لإهداراً لكرامة العدالة وكرامة الفن!
ولكن من الأنصاف أن أقول: أني لا اشك في أن طه حسين كان يصدر حقاً عن عقيدة الناقد الذي يؤدي واجب النقد والفن وحدهما، فلم يكن قد رآني وما كنت قد رأيته، وما كان تصادم الطباع والخصال قد لعب دوراً في تقدير الأمور، وسواء كان طه مخطئاً أو مصيباً في رأيه الذي أبداه، فهذا ليس من شأني ولا من شأن الأشخاص، إنما هو من شئن النقاد ورجال الجامعة والباحثين من هذا العصر ما بعده ممن يعنون بتمحيص مذهب أستاذ من أساتذة النقد والأدب.
على أني إذا تفرغت للنقد يوماً، فإني أرجو أن أؤدي واجبي بمثل هذه الحرارة والأمانة والقوة نحو آثار طه وغيره من الأدباء؛ وإذا تحقق أملي وأقمت في أوربا بعد الحرب، فسوف يكون من شأني القيام بهذا العمل نحو هذه الآثار في تلك البلاد.(462/11)
إلى هنا ينتهي ما بيني وبين طه حسين، إذا كانت شؤون الآداب والفن هي حقاً ملك البحث والدرس والزمن والوطن لا ملك الأشخاص.
أما مشاعري الخاصة كإنسان نحو الدكتور طه، فليس الظرف اليوم مواتياً للإطناب في وصفها، وسأختار الزمان والمكان الملائمين للإفاضة بها دون أن يحمل فعلي على غير محمله وأخيراً، أوجه خطابي إلى الأستاذ العقاد قائلاً: (أنك للمرة الأولى تخاطبني بهذه اللهجة التي كنت تخاطب بها (الرافعي) رحمه الله!)
أبهذه السرعة تضع الناس في صف أعدائك؟ لعلك لفرط ما قاسيت من شر الناس، ولقلة ما وجدت من خيرهم، أصبحت مثل (هملت): تستل سيفك لتضرب من خلف الأستار دون الوجوه. فطعنت صديقاً وأنت لا يدري.
توفيق الحكيم(462/12)
خسرو وشيرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
- 4 -
لما رحل خسرو إلى بلاد الروم، ليطلب مساعدة الإمبراطور موريس على بهرام جوبين، ضاق في عيني شيرين ريف أرمينية على اتساع أرجائه، وكثرة ملاهيه، وتنوع ضروب التسلية فيه؛ فرجعت إلى عمتها مهين بانو، حزينة على فراق حبيبها، آسفة لقسوتها عليه، فنشطت عمتها في جلب السرور إلى قلبها، والترويح عن نفسها، وإحاطتها بما ينسيها أحزانها.
وكان خسرو قد نجح - بفضل مساعدة إمبراطور الروم - في استرداد عرش أجداده، وتوّج للمرة الثانية ملكا على إيران، وحكم بالعدل بين رعيته، فصار محبباً إليها. ولكنه لم يجد فيها يحيط بجلال الملك من مباهج الحياة، ما يخفف عنه لوعة الحزن والأسى، التي يشعر بها في قرارة نفسه لغياب شيرين.
وماتت مهين بانو، تلك العمة الطيبة القلب، فصارت شيرين ملكة أرمينية، ولكنها لم تستطع نسيان أحزانها، بل زادت كآبة لما علمت بزواج خسرو من مريم. وأرادت أن تجد العزاء والسلوى في الشعور بقرب حبيبها منها، فرحلت من أرمينية إلى (قصر شيرين) بين الهضاب المرتفعة في إيران، ومعها جمع كبير من صويحباتها وأتباعها، كان بينهم شابور الذي بقى في خدمتها بأمر من صديقه خسرو، يرعاها في وفاء وإخلاص. ولما وصلت إلى قصر شيرين أرسلت شابور إلى المدائن، بعد أن أوصته ألا يخبر خسرو عن وجودها في قصرها، مخافة أن تعكر عليه صفو حياته الزوجية. ولكن شابور لم يكترث لتحذيرها، وجاء إلى المدائن حيث وجد خسرو فرحاً مسروراً، لتلقيه أنباء مقتل القائد بهرام جوبين، فأخبره بوجود شيرين على مقربة، وزاده بذلك طرباً وحبوراً، ثم رجع إلى قصر شيرين.
وكان لقصر شيرين - بالرغم من كل ما فيه من الاستعدادات العظيمة ملكة أرمينية - نقيصة واحدة، وهي وجود المراعي والأغنام بعيداً عنه، في ناحية الجبل الأخرى، ولهذا(462/13)
السبب لم يكن في استطاعة شيرين أن تحصل على أي مقدار من اللبن. واشتكت من ذلك يوماً ما أثناء وجود شابور، فأخبرها عن مثّال ماهر، واسع الحيلة، كان زميلاً له في أيام الدراسة، اسمه فرهاد، يظن أن في استطاعته أن يذلل هذه العقبة وأن يعمل شيئاً في سبيل إرضاء رغبتها. وذهب شابور فأحضر فرهاد. وما كاد هذا يقف بين يدي شيرين ويتطلع إليها، حتى غمره حبها وتولاه الذهول، فلم يفقه من كلامها شيئاً، واضطر أصدقاؤه بعد ذلك أن يفسروا له رغبتها، وأخذ فرهاد في تنفيذ ذلك بجد واجتهاد، حتى أمكنه بعد شهر واحد أن ينحت في الصخر قناة تخترق الجبل، وتصل بين القصر من ناحية وبين المراعي من الناحية الأخرى. وأخذ رعاة الأغنام يحلبون اللبن ويسكبونه في القناة فيجري فيها إلى القصر، وبذلك صار في إمكان شيرين أن تحصل في صباح كل يوم على ما تحتاج إليه من اللبن الطازج. وأعجبت بهذا العمل الهائل الذي يفوق مقدرة البشر، فأطنبت في مديح فرهاد، وأرادت أن تكافئه بما يريد من الذهب والأحجار الكريمة، ولكنه أبى أن يأخذ شيئاً، وفر هارباً إلى الصحراء، حيث هام على وجهه كالمجنون.
سمع خسرو بهذا الحب فأرسل من أحضر فرهاد من الصحراء، ولما مثل بين يديه، حاول أن يثنيه عن حبه لشيرين، ولكنه لم يفلح بالوعد ولا بالوعيد أن يزحزحه قيد أنملة بعيداً عن ذلك. وأخيراً عمد خسرو إلى الحيلة، فوعده أن يزوجه شيرين، إذا استطاع أن يشق طريقاً في صخر جبل بيسُتون ظناً منه أن ذلك سيصعب عليه. ولكن فرهاد وافق في الحال، وقبل هذا الشرط، ورحل إلى جبل بيستون، حيث بدأ بنحت لوحة عليها صورة شيرين وخسرو وشبديز، وجعل من صورة شيرين رمزاً لحبيبته، لكي يراها في كل لحظة تطل عليه لترى بنفسها مقدار كده وتعبه وما يبذله من العناء في سبيل الزواج بها، ولكي يلجأ غليها في ساعات فراغه ليبثها غرامه وشقاء قلبه في حبها. وبلغ شيرين ذلك، فجاءت إلى جبل بيسُتون لتسري عن فرهاد، ولكنه عندما فوجئ برؤيتها، كاد أن يفقد صوابه، لفرط ما طغي عليه من سرور، فأشفقت عليه شيرين وأعطته جرعة من شراب، تمكن بها من استعادة صوابه الفاقد، فحدثها عن مبلغ هيامه بها وعن حالته التعيسة.
وفي (شكل1) جاءت شيرين لزيارة فرهاد، وهي راكبة على جواد أصيل، عند ما علمت بما يكنِّه لها من الحب المبرح، ونراه هنا - ومعه أدوات النحت - حيث يعمل في الطريق(462/14)
الذي يشقه بجبل بيسُتون وهو راكع أمامها يرتشف من قَعْب خزفي جرعة من شراب أعطته إياه شيرين لتهدئة ما طغى عليه من الوجدان بتأثير هذه الزيارة المفاجئة. وإلى جوار فرهاد لوحة نحتها في الصخر لتخليد ذكرى فتح هذا الطريق العظيم، وقد نحت في أعلى هذا اللوحة صورة خسرو وهو واقف بين حبيبته شيرين وبين موبذ الموبذان، وفي اسفلها صورته وهو راكب على فرس شبديز. وقد أراد المصور أن يمثل هنا الصورة الشهيرة التي نحتها المثَّال فرهاد في صخور (طَاق بُستان) والتي خلدت لهذا المثال شهرة واسعة.
(أنظر الشكل2 القادم). ونلاحظ في هذه الصورة الغبار الذي يتطاير خلف جواد خسرو على هيئة السحب الصينية (تشي)، وهذا يدل على مقدار ما بلغه تأثير التصوير الصيني في أسلوب مدرسة شيراز التيمورية في إيران. ومن ميزات أسلوب هذه مدرسة ما نراه في هذه الصورة من الحركة والحياة في رسم المنظر في الهواء الطلق، بخلاف ما كان متبعاً في المدارس السابقة لهذه، من رسم المناظر في داخل المباني وما يقتضيه ضيق المكان من الجمود الذي يظهر في رسم الصور. كما أن رسم الأشجار المورقة المحيطة بالمنظر صار منذ هذا العصر من التقاليد المتبعة في تصوير المناظر الخارجية وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي يمكن تأريخه بين سنتي 813 و823 هجرية (1410 - 1420م)، وهو محفوظ في مجموعة كارتيير بباريس.
وفي (شكل2) النقوش الخالدة التي يقال إن المثّال فرهاد نحتها بداخل كهف الملك خسرو برويز في طاق بستان. ويقع طاق بستان في ناحية الشمال الشرقي من كرمانشاه، في سفح جبل بيستون في مكان ملئ بالخضرة الناضرة والمياه الجارية. ويتألف من عدة كهوف أمر بنحتها بعض ملوك الأكاسرة في صخر الجبل. وينسب أكبر هذه الكهوف للملك خسرو برويز، وفي الحائط لهذا الكهف نحت فرهاد هذه النقوش، فنرى في أعلى الصورة خسرو بين شيرين وموبذ الموبذان، أو كما يقول رأى آخر بين الإلهين هرمز وأناهيب هما يبايعانه بالملك. وفي أَسفل الصورة خسرو على جوادهِ شبديز ويذكر أبو عمران الكسروي طاق بستان في الأبيات الآتية
وهم نقروا شبديز في الصخر عبرةً ... وراكبه برويزُ كالبدر طالع(462/15)
عليه بهاءُ الملك والوافدُ عكّفٌ ... يخال به فجر من الأفق ساطع
تلاحظه شيرينُ واللحظ فاتنٌ ... وتعطو بكف حسَّنتها الأشاجع
يدوم على كر الجديدْين شخصه ... ويلقى قويم الجسم واللون ناصع
ويروي ابن الفقيه أن بعض الملوك اجتاز هناك ونزل وشرب؛ وأعجبه الموضع فاستدعى خلوقا وزعفرانا فخلق وجه شبديز وشيرين والملك فقال بعض الشعراء:
كاد شبديز أن يحمحم لما ... خُلّق الوجه منه بالزعفران
وكان الهمام كسرى وشيري ... ن مع الشيخ موبَذ الموبذان
من خَلُوق قد ضمخوهم جميعاً ... أصبحوا في مطارف الأرجوان
(له صلة)
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية(462/16)
في سبيل إصلاح الأزهر
للأستاذ محمد يوسف موسى
ليس كثيراً على (الرسالة) الغراء وصاحبها الجليل أن يُشغلا بالأزهر وإصلاحه، وليس معنى إفراده بالكتابة ولفته لواجبه أن دون الجامعة فهماً لتبعاته وقياماً بها. ولكن معنى هذا أن الأزهر لمصر وللعالم الإسلامي عامة، كالقلب به صلاحه وقوامه، وكالمنارة تهدي الضال وترشد السفْر بما تبعث من ضوء وهدى. انه الذي يقوم على ثقافة ناشئة الإسلام العالية من الصين في الشرق إلى المغرب الأقصى بأفريقية.
لهذا كان حريَّا بنا إتمام النظر والدرس، والتعمق في التفكير والفحص، لهذه الجامعة التي هي رابطة بلاد الإسلام، لعلنا نقف على الداء ونصيب الدواء، فينهض الأزهر بعد أن طال عليه الأمد وهو وسنان، ويمضي لغايته قُدُماً بعد طوال عثار، ويعود كما كان مصدر العلم النافع والعرفان الذي به ملاك الدين والدنيا.
لا ريب في أن الأزهر تخلف عما يراد عنه، يعرف هذا من اتصل به تلميذاً أو مدرساً، ويشكو منه أبناؤنا وبخاصة غير المصريين الذين تركوا بلادهم خماصاً ليعودوا إليها بطاناً مليئين بالعلوم المجدية، فإذا قلوبهم واجفة خشية أن يرجعوا إلى أوطانهم كما جاءوا إلينا أن أضاعوا زهرة العمر! هذا حق، ولكن ما علة هذا وما أسبابه؟ وهل إذا تبيّنا العلة كان من السهل أن نطبَّ لها ونقتلعها من جذورها؟
اعتقد أنه من الجرأة والمجازفة أن يزعم أحد منا أنه وقف على الداء كله، وعرف له العلاج الشامل الكامل. ومع هذا كان من الواجب أن يدلي كل من تهيأت له الأسباب برأيه، على أن يكون لنا من مجموع هذه الآراء ما يعين على تقويم المعوج ويهيئ السبيل للخير المرجى.
1 - أول ما يلفت النظر فيما نحن بصدده أن طائفة منا تعيش في هذه الأيام بعقلية رجال القرون الوسطى. المدرس لا يعنيه إلا أن يفهم الكتاب المقرر وأن يُفهمه لطلابه؛ فان يسر الله والطلاب له هذا، حمد الله ورأى انه قام بواجبه. ليكن هذا الكتاب مليئاً بالمسائل والمشاكل اللفظية، ومحشواً بغير قليل من الأخطاء العلمية، فذلك لا يغير من وضع المسألة لدى الطلاب وعامة المدرسين، ولا يلفتهم إلى محاولة فهم العلم نفسه والوصول إلى الحق،(462/17)
سواء أكان في هذا الكتاب أم في غيره!
2 - ثم لا يكاد الكثير منا يحس أن للأزهر رسالة يجب أن يضطلع بها، ودوراً عليه أن ينهض بأعبائه. ولو أننا نفقه رسالتنا ونؤمن بها لما كان في أمورنا هذا الوهن، وفي سُبلنا هذا العوج، ولكُنا اعرف بالإصلاح وأهدى لسبيله، ولأصبنا من النجاح - على الأقل - ما أصاب رجال الجزويت المنبثين في شرق العالم وغربه.
هؤلاء يفهمون رسالتهم التي وهبوها أموالهم وأنفسهم، وهي غرس الدين المسيحي في قلوب من يلون أمر تربيتهم وتثقيفهم، ونشر هذا الدين في جنبات الأرض جميعاً. لهذا يدرسون دينهم دراسة وافية، كما يدرسون الدين الإسلامي كذلك، لعلهم يجدون فيه ثغرة ينفذون منها للدعاية لدينهم. ومع هذه الدراسات الدينية العالية تراهم يشاركون مشاركة طيبة في العلوم الاجتماعية والعمرانية وفي الفلسفة والآداب، ويتوسلون بهذه العلوم كلها ليصلوا إلى ما جعلوه لأنفسهم غرضاً وغاية. وهم في أمورهم عامة مخلصون متفانون، لا يتهيبون عملاً، ولا ينكصون عن تضحية، يأتمرون ويتباحثون ويكيفون أنفسهم ومناهجهم حسب ما توحي به الأيام والمناسبات.
أما نحن معشر الأزهريين فقد جهلنا العالم فأنكرناه ونكرنا، وتجهمنا للعناصر الأخرى التي تتألف منها الأمة فتجهمت لنا، وصرنا نعيش على هامش الحياة لا نحس بالغير ولا يحس بنا، منا من يفهم الدين على إنه شعائر جافة جدية لا وسائل للفلاح والخير! ومن يحذق قواعد النحو وأصول البلاغة، ثم يعسر عليه أن يقيم لسانه بين الناس بأسلوب فصيح نفاذ للقلوب! ومن يرى الحق فيما قال الغزالي مثلاً وان كان الخطأ فيه بيناً، والإلحاد والكفر فيما ذهب إليه الفلاسفة وإن كان الصواب فيه واضحاً! ومن يعلم الأخلاق ولا يتخلق، والفلسفة ولا يتفلسف، والأصول والفقه ولا يجتهد، وعلم الكلام ولا يستطيع أن يجادل عن الدين خصومه الحاضرين لا من عفت آثارهم الأيام!
وكان من هذا كله، ومن تخلفنا في الطريق، أن تجاهلتنا وزارة المعارف في أمور كان لا يصح فيها التجاهل، وإن أغضينا العين على القذى. اذكر من هذه الأمور ما كان من الوزارة حين الفت لجنة رسمية لتاريخ إعلام الإسلام، في التشريع واللغة والأدب وسائر نواحي النشاط العلمي، فلم يكن فيها أحد من الأزهر! وما يجري هذه الأيام بين سمعنا(462/18)
وبصرنا من السفارات العلمية بين رجال الجامعة والعراق، دون أن نخطر على البال فيستعان بنا في هذا السبيل! وهكذا صرنا كما قال الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأمرون وهم شهود
أو كما قال الآخر:
مُخلَّفون ويقضي الناس أمرهم ... وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا
3 - وثالثة الأثافي توسيد الأمر أحياناً إلى غير أهله، والثقة بمن لا يستحق، ورعاية جانب الطلاب على حساب العلم. وتفصيل هذا في الكلمة التالية أن شاء الله تعالى.
وإني لأرجو مخلصاً غاية الإخلاص لفضيلة الأستاذ الأكبر الأمام المراغي، وموقناً بأنه خير من يفهم الأزهر ورسالته ويقدر على إصلاحه، والسير به حتى يبلغ الهدف المنشود - أن تكون هذه الكلمة فاتحة لأخريات من إخواني الذين يحسون ما أحس من نقص يجب علاجه وتلافيه وتبعات جسام يجب القيام بها. . . والله الهادي إلى الصراط المستقيم.
محمد يوسف موسى
مدرس بكلية أصول الدين(462/19)
المدنية والإنسان
(أن المدينة التي لا تصون نفسها من الدمار، لا يمكن أن
تصون الإنسان)
للأستاذ حسين الظريفي
كثر الكلام عن عناصر المدنية ومظاهرها، وما لها من فعل وانفعال في كل أبناء الحياة، وكان من البداهة أن يزيد تأمل الإنسان فيما دخل عليه في وسائل معاشه وطرق تفكيره، وفيما وراء ذلك من مظاهر النفس والشعور؛ فالمدنية الحديثة لم تدع شيئاً لم تأخذه بنصيب، من بعيد أو من قريب، فلم تقف عند حد الوسط الذي نشأت فيه، وإنما فاضت عنه إلى خارج الحدود، وإلى ما وراء البحار والجبال وكل حاجز أقامته الطبيعة في قرونها الطوال، ولم تتناول مظهراً واحداً من مظاهر الحياة، وإنما جمعت كل هذه المظاهر ووضعتها في موضع المحو والإثبات، فأخرجت للناس مظاهر جديدة عليها طابع من التفكير الحديث وما يلي التفكير من إرادة ومن عمل، ومن نتائج خطيرة تبطل دونها كل محاولة مقابلة.
على أن صراعاً قام ولم يزل قائماً بين ما وصل إليه العلم الحديث من فهم للحقائق وقيام بالعمل، وبين ما يجر هذا العصر وراءه من تراث عقول خلت منذ أن رأت الأرض أول هلال في الأفق. وما زال الصراع قائماً في حرب تستحرّ هنا وتخف هناك، فتتغير الحقائق وتتبلور ثم تنصب في شكل جديد تؤثر على الناس فيما لديهم من وسائل الحياة، وفيما عندهم من أساليب الفكر والبيان.
لقد كانت تبشرنا المدنية الحديثة بإحلال الرخاء في كافة الأرجاء، وكانت أبلغ كلمة تخرج من أفواهها تلك التي تصور الشعوب في وحدة كاملة شاملة غير متنافرة الأجزاء، تفاهمها دائم، وسعيها وراء الصالح العام.
تلك أمنية تملأ خيال كل مفكر، وتسيل على لسان كل ذي بيان؛ إلا أن مدنيتنا الحديثة كانت تحاول إلهامنا اليقين في قرب حلول الساعة التي يكون فيها الناس أمة واحدة، فشحذت العزائم وانطلقت الجوارح تعمل في هذا الحفل، والجميع يأملون ويعملون.
كان في الإمكان أن يتعارف الناس على غير ما تعارفوا عليه طيلة القرون التي خلت.(462/20)
فتخرج الشعوب عما رزحت تحت أعبائه من ضيق في ناحية الحقائق وسعة في ناحية الخيال، وتسخر الطبيعة بما فيها من قوى كامنة وساكنة لانتفاع الناس بها بعد أن كانت مصادر الهيلم في وادي الظنون والأوهام.
غير أن المدنية وقد نفذت من المادة إلى داخل النواة فأخرجتها بمظاهر مختلفة فيها منافع للناس، قد وقفت دون المشاعر فلم تأخذهما إلا بطرف يسير، لا تفتأ فيه أن تنقلب إلى ما كانت عليه متى أثيرت في النفوس تلك الغرائز التي تحيا في قاعها، وتعمل على إحياء السيرة التي كان عليها الإنسان في أول عهده بالحياة، فكانت هناك بقية مما يتصل بالروح بعيدة عما هي لصيقة بالمادة، وفي هذه الشقة يضيع التوازن ويحل الاضطراب.
واليوم، وبعد أن قامت الحرب على قدم وساق ولما تزل قائمة تتردد في أسماعنا أصوات الذين أشعلوها وما زالوا يمدونها بالوقود؛ وهي تحمل نغمات الوعد بإحلال السلام بعد إنهاء الحرب وإحراز النصر؛ ولكن فاتهم أن السلام شيء غير مجرد الكلام وأن نزع السلاح لا يضع خيراً ولا يرفع شراً، وأن أصل الداء فيما نحن عليه من عقائد وأفكار وأخلاق تحدث خروقاً كثيرة في مدنيتنا الحديثة.
لقد أردنا من المدنية أن تقينا شرور الطبيعة وأن نجد على راحتها الشفاء من كل داء، ولكن فاتنا أن المدنية التي لا تقدر على حماية نفسها من الدمار لا يمكن أن تصون غيرها مما يخشى الوقوع فيه. وما دامت المدنية لم تكن في تقوى فيه على رد كل يد، تخرج عليها مما حولها ومما عندها، فإن الإنسان ولا ريب غير بالغ ما يريد الوصول إليه من إملاء الحياة بالحياة وطبع الأيام على حد السلام.
إن للمدنية يداً دخلت المواد كلها، ولكنها صنعت فيما صنعت تلك القلاع الطائرة التي تحمل الموت الزؤام، وتلك البروج المتحركة التي ترمي بشرر كالقصر، ومن وراءها ضروب من الوسائل التي تنشر الموت والخراب، ونحن بعد ذلك أولو مدنية وفي تطور إلى الأمام!
أنا لا أنكر أن للمدنية فضلا سابغاً على بعض المرافق وفي بعض الجهات، ولكنه فضل غير جامع وغير مانع لما يظهر من نقص وافتقار. لقد أعطتنا المدنية الحديثة متعة بما ابتكرته من وسائل الترفيه وفنون المسرات، ولكنها لم تنقص من أطراف ما يدخل الناس من هموم وأحزان، وإنما زادتها أضعافاً مضاعفة، وكانت الحياة سلوة أبنائها، لا يشترون(462/21)
لذائذها إلا بأزهد الأثمان، فعادت وقطوفها مرفوعة وممنوعة إلا أعطى المال غير صاغر وكان من أهل الثراء.
يمكن أن يقال: أن المدنية لم تبلغ بعد شأوها، وإنها ما زالت دون المدى الذي تسعى إليه، ولكنها ولا ريب قد بلغت في مختلف مراحلها حداً لم يعد جديراً بها ألا تحسب لأرواح الملايين من الناس أي حساب، وأن تقيم قوة الحديد والنار في موضع التفاهم وتبادل الآراء، دون أن يمنع التقاتل ما أعدته الطبيعة من حواجز أقامتها بفعل الأجيال، ثم انطلقت قوى الخراب واليباب تفعل فعلها في البر والبحر وعلى متون الهواء، واستحر القتل فاخترقت خطوط الدفاع وتناول الدمار كل مرفق من المرافق. تلك ظاهرة ولا كالظواهر: تبعث في نفسي فكرة الانتقاض على هذه المدنية التي لم تستخدم في شيء بأكثر مما استخدمت في إهلاك النسل والحرث. ولست أشك في أن المدنية الحديثة ذات جروح دامية، وأن داءها في نفسها، وأنها الآن يعز عليها الأساة.
(بغداد)
حسين الظريفي المحامي(462/22)
من مذكرات قاضي شرعي
1 - من التعليم إلى القضاء
للأستاذ على الطنطاوي
يسألني كثير من الإخوان، كيف وجدت القضاء؟ إني وجدت القضاء راحة الجسم وتعب بال، وعلو منزلة وقلة مال، واكتساب علم وازدياد أعداء، وحملاً كبيراً نسأل الله السلامة من سوء عاقبته:
أما أنه (راحة جسم) فذلك أني كنت في التعليم أتكلم ولا أسمع، فصرت الآن اسمع أكثر مما أتكلم. وكنت لا أقدر على السكوت لأني إن سكت تكلم العفاريت (أعني التلاميذ)، حتى أنه ربما أصابني أحياناً أذى في حلقي فجعلني أغص بالماء الزلال، وأشرق بالريق، وأجد للكلمة الواحدة انطق بها مثل حزة السكين ثم لا أستطيع الصمت دقيقة لئلا يفلت من يدي طرف السلكة فينفرط العقد ويبطل النظام. وكنت أدخلْ الصف (الفصل) وأخرج منه خمس مرات أو ستاً في اليوم ولا أقعد على كرسي لئلا يرى الشيطان مني غفلة فيعطس في مناخر التلاميذ فيحدثوا في الفصل حدثاً، وياما أكثر أحداثهم! وأيسرها ضجة كضجة حمام انقطع ماؤه كما يقول الشاميون في أمثالهم العلمية. ثم إذا خرج من الصف لأستريح راحة ما بين الدرسين (الحصتين) لحقني طائفة من الطلاب يسألونني فأقف لهم حتى ينفخ إسرافيل المدرسة في صوره فيحشر الطلاب والمدرسون إلى نار العمل. فأضل آخر النهار بأوله وأنا قائم على أمشاط رجليّ ولساني لا يكف عن الدوران في فمي. . . فغدوت الآن ولا عمل لي إلا القعود على كرسي القضاء أقول الكلمة بعد الكلمة وأسمع سيلاً من الكلام مما له موضع أو ليس له مكان، وإلا كتابة القرارات (أي السجلات في عرف الفقهاء)، وقد كفاني الكتاب (أَحْمَدَ) الله فَعالَه كل ما سوى ذلك من الأعمال، وما ينغص على هذه الراحة إلا خشية ثقل اللسان من كثرة الصمت فلا ينطق بعد كما كان ينطلق، وإن كان ذلك نعمة ترجى، وإن كان لساني هو مصدر أذاي ومن الخير لي أن يثقل أو يكلّ.
أما (تَعب البال) فلأني أحمل على عاتقي حقوق الناس، وأحكم في الأعراض وهي (لعمر أهل المروءة) أثمن من المال وأغلي، فإذا قمت أو قعدت لم أزل مفكراً في هذه القضية وتلك الدعوى، لا لصعوبة فيها أو تعقيد، فطريق القانون واضح لمن كان أكبر همه ظاهر(462/23)
القانون، وكان دينه عبادة حروفه، بل لأنقذ من خلال الفكر إلى مقصد القوانين وهو إقامة العدل. فأنا أفكر لأعرف المحق من الباطل، وأنضو عن المتقاضيين ثياب التصنع والرياء لتبدو حقائقهم عارية، وما ذلك بالأمر اليسير ولا المطلب الهيّن، وإذا كنت قد وصلت مرة بالفراسة في لحظة خاطفة إلى ما لا يوصل إليه بمرافعة شهود فذلك من فضل الله، بيد أنه لا يدوم، ولابد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات الزور، وأن الشهود فساق لا عدالة لهم ولا تقبل من مثلهم شهادة، وكانت القرائن تقطع بكذبها - والقرائن والإمارات من أسباب الحكم - كما بيّن ذلك ابن قيم المدرسة الجوزية في كتابه الجليل أعلام الموقعين، ولكن لا سبيل لنا إلى الأخذ بها إلا أن تنظر وزارة العدل في دمشق في الاقتراح الذي رفعته إليها في هذا الموضوع وتتخذه أساسا لإصلاح شامل يخلص الناس من شهود الزور الذين صارت لهم جماعات ومراتب وأجور مسعّرة ودخل فيهم من يعتقد الناظر إليه أنه من الأولياء، ويجده مباحثه من العلماء، وهذا شر استطار شروره، وعم الأنام خبره، وشملهم ضرره - فكيف يهدأ بال من يغلب على ظنه أو هو يعلم فساد البيّنة ثم يضطر إلى الحكم بها؟
هذا وقد نجاني الله بما ركب في طبعي من الحدة في الخلق والشدة في الحق من منغصات القضاء، من الوساطات والالتماسات والهدايا والرشوات والولائم والدعوات، وسلمني من ذلك كله أني لا أعرف في الحق لطفاً ولا مجاملة ولا خجلاً ولا فرقاً وأرجو دوام ذلك.
أما (علو المنزّلة) فلأن لاسم القاضي دون الحاكم المدني وإن علت رتبته وزادت وظيفته، له في الأسماع رنة إكبار، وفي القلوب صورة إعظام، وله هيبة وله جلال، خلع ذلك المجد عليه أولئك الأبطال نجوم فلك العدل، ودراريه الهاديات، أفذاذ الدهر وأبكار الزمان، الذين يحق لنا أن نفاخر بهم أمم الإنس والجن، وأن نجعل قضاءنا بهم أول ما نعقد عليه الخناصر إذا عددنا المفاخر، وما زال قضاء كل أمة أول مفاخرها، قضاتنا الأولون شريح وإياس وشريك وأبو يوسف والعز بن عبد السلام ومنذر بن سعيد ومن أذكر الآن ومن لا أذكر ممن يقصر عنه العد، ويضيق الحصر.
ولولا أني عامل على تأليف محاضرة وافية بهذا الغرض ولا يجمل بي إذاعتها بالنشر قبل نشرها بالتلاوة لأفضت في هذا الموضوع إفاضة من وجد مجال القول واسعاً، والمقْول(462/24)
جديداً مسعفاً، والسامع مصغياً متشوقاً متلهفاً - لذلك يعظم الناس اسم القاضي، لأنهم يذكرون به هؤلاء وأمثالهم، وعهداً رحم الله ذلك العهد، كان فيه القاضي قاضياً في كل خصومة بشرع الله، حاكماً بما أنزل. لم يكن المسلمون يهجرون فيه جواهرهم ولآلئهم لخزيفات يستجدونها من أيدٍ أشحة بها لأنها لا تملك غيرها، ولا يدعون شرع أحكم الحاكمين لشرع بشر من ماء وطين، وكان من مشاغل علمائهم البحث في الحسن والقبح هل هما شرعيان أو عقليان وكثر في ذلك الكلام، فلما صرنا إلى هذه الأيام ذهب ذلك الخصام وحل مكانه الوئام. واصطلح أهل عصرنا من الناشئة والشبان على أن الحسن ما حسن (أولئك. . .) والقبح ما قبحوه، وارتضينا كلنا هذه النتيجة التي انتهينا إليها، وصممنا الوقوف عليها، وسكن الجدال فلا قيل ولا قال، وكفى الله (المؤمنين) القتال، والحمد لله على (كل) حال.
وأما (قلة المال) فلأن أجر القاضي الشرعي في بلادنا أي مرتبه قليل قليل، وهو أدنى من سائر الحكام المدنيين؛ مع أنه يشترط فيه إجازة (ليسانس) الحقوق، والفوز في الامتحان الملكي، وسبق الاشتغال مدة في المحاماة. . . وهذا حديث له مكان آخر.
وأما (اكتساب العلم) فهو النعمة المفردة بين نقم القضاء المتعددة، اللهم بعد نعمة الثواب إذا كان الله يكتبه لمقصر مثلي لا يستحقه بعمله ولم تصف له نيته ولم يتجرد بعد عن حب الشهرة والجاه، وإن ضِعفت رغبته فيهما وهانا عليه - أن المطالعة هي نعمة هذه المحنة في المهنة، لقد كنت أُطالع دائماً وأنا معلم، بل أني لا أعرف أنه مرّ عليّ يوم واحد منذ عقلت إلى اليوم لم أقرأ فيه شيئاً، غير أني استفدت من القضاء الأنس بكتب الفقه والاستمتاع بها مثل استمتاعي بكتب الأدب أو قريباً منه. وعندي مجموعة منها صالحة إذا أنا استمررت على النظر فيها رجوت أن أكون يوماً من الأيام من أوعية هذا العلم. ذلك لأني أدأب على القراءة ولا يمنعني من السؤال عما لا أعرف حياء ولا كبر؛ ولأن لي بحمد الله ذاكرة لا تمسك النصوص بحروفها ولا الأرقام ولا الأبيات، غير أنها في حفظ المسائل ومواطن وجودها من العجائب. وما أعهد أنى نسيت مسألة قرأتها أو سمعتها، وما أعهد أنى تعرفت بإنسان وحفظت اسمه إلا بعد المخالطة الشديدة الزمن الأطول، ثم إني أنسى اسمه إذا فارقته مع أنى لا أنسى والوجه ولو رأيته مرة واحدة، ولا أعرف تعليل هذا(462/25)
الأمر.
وأما (ازدياد أعداء) القاضي العدل القائم بإحقاق الحق، والموظف النزيه المستقيم، فشيء مشاهد مسلم به لا يحتاج إلى بيان. وإذا كان قد روى عن أبى ذر أنه قال (كلمة الحق ما تركت لي صاحباً) وذلك على عهد الصحابة وفي أفضل القرون، فما بالك بعصرنا؟ وماذا يقول القاضي وما قضية يعرض عليه إلا وفيها اثنان يقضي لأحدهما على الآخر، فمن قضي عليه جعله عدواً له ما عدا النادر الأندر من الناس الذي يرضى بالحق ولو كان على نفسه. وأكبر المصيبة أنه قد يكون المبطل المقضي عليه، أو الشفيع المردودة شفاعته كبيراً في قومه، وجيهاً في بلده، فإذا ألزمته ما يلزمه شرعاً أثار عليك الشعب والحكومة، وافترى عليك الفِرَى، وأساء فيك رأي رؤسائك فآذوك وضروك وأخروا ترفيعك. والمعروف عند أولي الأمر أن الموظف الصالح هو الذي لا يسخط عليه أحداً ولا يثير مشكلة، ولا يكون ذلك لقاض عادل وموظف نزيه، وإنما يكون لمنافق في جيبه ألف وجه في كل وجه مائة لسان، يقابل كلا بالوجه الذي يحبه، ويخاطبه بالسان الذي يرضيه
وخلاصة القول أن القضاء (حمل ثقيل) وهم طويل، ولو أن الله أغناني عنه وكتب لي أن أعيش بقلمي ومؤلفاتي، أو لو أني رزقت مرتبة أهل الورع لما أقدمت عليه ولآثرت التعليم فهو أسلم، ولكني وقعت والله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وإن وسعى وغاية جهدي العزم الصحيح وبالله التوفيق على أن لا أحكم في قضية ما لم أعرف حكم الشرع فيها على مقدار طاقتي فأسير عليه، وأن لا أتعمد الزيغ والظلم تعمداً، ولا أنوي الميل مع أحد الخصمين، وأن لا تأخذني في الحق رغبة صديق ولا رهبة ذي سلطان. أما الخطاء فلا املك دفعه إلا بالانتباه، أما الجهل فلا أقدر معه إلا على التعلم والسؤال.
هذا وقد فسروا حديث القاضي والقاضيين أن القاضيين الذين في النار هما قاض يقضي بالجور وقاض يقضي بالجهل. ونحن نسأل الله لنا ولكل محب بالحق أن يوفقنا إلى أتباع الحق، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويرزقنا العمل بما علمنا ويزيدنا علماً.
(النبك - سوية)
علي الطنطاوي(462/26)
نظام الصداقات في الإسلام
للسيد علي حسين الوردي
إن علم المالية العامة علم حديث، ولم يعر الناس التفاتهم إليه إلا في هذه العصور الأخيرة وذلك بعد أن تطورت الحكومات الحديثة وتشعبت وظائفها وانتشرت في الناس مبادئ الديمقراطية.
لقد كانت الشعوب - فيما مضى - لا يعنون بالمالية الحكومة من حيث وارداتها أو مصروفاتها إذ كانوا يعتبرونها مما يخص الملك ومن يلوذ به من الوزراء والعمال. . . وكانت الحكومات القديمة بدورها لا تهتم إلا بتوفير المال لخزينة الملك مستعملة في ذلك كل ما تستطيع من وسائل مشروعة أو غير مشروعة. فلم يكن - كالحكومات الحديثة - توجه قسطاً كبيراً من عنايتها إلى العدل في فرض الضريبة، وفي توزيع عبئها توزيعاً مناسباً بين طبقات الأمة، وإلى إنفاق الواردات العامة فيما ينفع الناس ويزيد الرفاه في المجتمع.
وقد كان الملك - الذي كانت الحكومة القديمة ممثّلة في شخصه - يتبع في إدارة ماليته العامة النظام الفردي إذ كان يعتبر المال المجموع ملكاً خاصاً له يتصرف به ولذا كان يسعى جهده لجباية أكبر كمية ممكنة من المال، وصرف أقل ما يمكن منها، ثم توفير المقادير المتبقّية استعداداً للطوارئ أو إشباعاً لرغباته الشخصية التي لها إذ ذاك المقام الأكبر في إعداد الميزانية العامة. ولقد كان بعض الملوك يصرفون جزءاً مما يجمعون في الأعمال والمشروعات العامة، ولكنهم ما كانوا يعتبرون ذلك حقاً واجباً عليهم إنما هو فضل على الناس ومنه يتفضلون بها عليهم.
ولم تكن الضرائب المباشرة معروفة حينذاك، فكانت الحكومة تعتمد غالباً على الجزية من القبائل المغلوبة أو على أملاك الدولة ومناجمها أو على ضرائب المكس والغرامات والمصادرة. . .
وقد لجاء الأثينيون والرومان أخيراً إلى الضرائب المباشرة وقت الحرب فقط. وأن عبقرية الرومان الإدارية قد أدت بهم إلى ابتكار نظام بديع في جباية الضرائب، ولكن هذا النظام لم يكن يعني بشيء من التوزيع العادل في فرض الضرائب إنما كان موجهاً نحو الكفاءة في(462/28)
جبايتها فقط.
هذه صورة مختصرة وددنا أن نظهر بها للقارئ حالة الأمم قبيل ظهور الإسلام، من ناحية المالية العامة لكي تتضح له الخطوة الجبارة التي خطتها الدولة الإسلامية في هذا السبيل، ولكي يدرك أيضاً أهمية تلك الخطوة في إرشاد الناس إلى جلالة هذا الموضوع في توجيه العالم نحو هذا الوضع الذي تتمتع بع الأمم الحديثة اليوم في تنظيم ميزانياتها على أساس العدل والمنفعة العامة.
أننا نجد - للمرة الأولى في التاريخ - وذلك على عهد الإسلام تلك العناية الكبرى التي توجه نحو أموال الأمة في جبايتها
وصرفها وفي اعتبارها أنها لا تخص فرداً معيناً، إنما هي أموال الأمة جميعاً ويجب أن تنفق على مصالحها الحيوية بكل دقة.
ولا حاجة بنا أن نذكر هنا ما كان الخلفاء يلزمون أنفسهم به - في العناية بأموال الأمة - من شدة وتقشف. وإن ما يرويه التاريخ عن عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب أو غيرهما لدليل كاف على عظم تلك الخطوة التي خطاها المجتمع على عهد الإسلام في سبيل التمدن الحقيقي.
لسنا نود التوسع في هذه الناحية فهي أوضح من أن تحتاج إلى توسع، ولكننا نريد أن نبحث في ناحية أخرى من هذا الموضوع، وهي ناحية العدل في توزيع عبء الضريبة على الأفراد إذ هي في الحقيقة من أعظم النواحي شأناً في علم المالية العامة.
إن من الهيّن - نسبة - أن تعُد للضرائب إدارة كفؤة تستطيع بها أن تجهز للأمة ما تحتاج إليه من مال في سبيل مصالحها العامة، ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي في فرض الضريبة العادلة التي تنتج خير ما يمكن من الآثار الاجتماعية والاقتصادية. حقاً لقد شغلت هذه النقطة أقلام الباحثين في هذا الزمن أكثر مما شغلتهم أية ناحية أخرى من هذا العلم الواسع.
لقد كان الرأي السائد منذ آدم سميث أن الفرد يجب أن يؤدي إلى الحكومة مبلغاً يتناسب مع جسامة موارده الخاصة.
يظهر أن في هذا الرأي شيئاً من الحق، إذ من العدل أن يساهم الفرد في مالية الدولة(462/29)
بالنسبة إلى أرباحه أو ثروته التي يتمتع بها في ظل تلك الدولة.
ولكن قد يعترضنا في ذلك رأي له وجاهته: فهل يجوز أن يؤخذ من أولى المكاسب الضئيلة عشر ما يكسبون مثلاً، ويؤخذ العشر كذلك من أولئك الأغنياء والموسرين الذين تأتيهم الأموال سيولاً كل حين. . . أفي هذا عدل؟
وهل إن وطأة الضريبة التي يشعر بها أولئك الكاسبون الضعفاء تساوي أو تقارب ذلك الأثر الذي يكاد لا يحس به الأغنياء عند إعطاء عشر ما يحصلون عليه سنوياً من الأموال الطائلة. . .
اختلف الكتاب حول هذه النقطة الحساسة، ولا يزال حتى الآن ناشباً بعض النشوب، بيد أن معظم الكتاب المحدثين قد أجمعوا أخيراً على أن العدل ألا تكون نسبة الضريبة متساوية على جميع الأفراد، وهي ينبغي أن ترتفع شيئاً فشيئاً كلما زادت أرباح الفرد أو ثروته مائة بعد مائة، وهذا هو ما نجده اليوم مطبقاً في أغلب الأمم الراقية. وقد وصلت النسبة في بعض الدول إلى 8 %.
وإذا رجعنا إلى النظام الذي كان متبعاً على عهد الإسلام، نرى أن المشرع الإسلامي قد فطن إلى هذه النقطة، ونجد أن الدولة الإسلامية قد سارت حسب تلك الطريقة:
يحدثنا أبو يوسف عن الزهري عن سالم عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً في الصدقة فقرنه بوصيته ولم يخرجه حتى مات، فعمل به أبو بكر ثم عمر من بعده، فكان فيه: في كل أربعين شاة شاة واحدة حتى تصل إلى مائة وعشرين، فإذا زادت فشاتان عن كل أربعين حتى تصل إلى مائتين، فإذا زادت فثلاث شياة حتى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة. . .)
هذا مثل واحد نورده للقارئ يتضح له فيه أن هذا النوع من الضرائب قد طبَّق في الإسلام قبل ما يناهز الثلاثة عشر قرنا من تطبيقه أخيراً في الأمم الحديثة.
ويجدر بنا انم نذكر أن النسبة المتصاعدة هذه في فرض الضريبة لم تستعمل إلا حديثاً جداً، وذلك تحت ضغط المبادئ الديمقراطية والاشتراكية التي تغلغلت أخيراً في صميم المجتمع.
ولا تعجب - أيها القارئ - إذا علمت أن من كان يقول بها قبل جيل أو جيلين كان يعتبر من الشيوعيين أو الفوضويين وكان يتهم بأشنع التهم وأبشعها(462/30)
أجل، ولا يزال بعض الكتاب المشهورين حتى اليوم يؤمنون بوجوب تشجيع الإنتاج والجهود المربحة حيث ينبغي ألا يصادر قسم كبير من الأرباح بهذا النوع من الضرائب. هذا ولكن الرأي الغالب اليوم والذي يحتمل أن يسود العالم غداً يؤيد تلك الضريبة ذات النسبة المتصاعدة، ويرى من الإنصاف أن تكون الوطأة التي يشعر بها دافعوا الضريبة، متساوية في الثقل لدى الجميع، أغنياء وفقراء، فكلما كان المشرع حريصاً على العدل في توزيع الضريبة، كانت النسبة ذات تصاعد أعظم. ولا يعزب عن البال أن من أهم الضرائب الحديثة هو التقليل من ذلك الفرق الشاسع في توزيع الثروة بين الناس، حيث يموت البعض جوعاً بينما يلعب الآخرون بالمال لعباً.
قد لا نخطئ الحق إذا قلنا إن الشرع الإسلامي كان يرمي إلى نفس الأهداف التي يرمي إليها اليوم المشرعون في هذا الموضوع. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إنه فاقهم في بعض النواحي.
حقاً إن الدولة الإسلامية كانت أول دولة في التاريخ سنت نظاماً في الضرائب ابتغت فيه العدل وتوزيع الثروة العامة على أساس المساواة.
ثم ينبغي إلا ننسى بأن معظم الضرائب كانت - في ذلك العهد - ضرائب مباشرة حيث لا يخفى ما لهذا من الأهمية في تاريخ الضرائب. لقد كانت الضرائب المباشرة لم تفض في الأمم القديمة - كما قلنا آنفاً - إلا نادراً وذلك عند الحرب إذ لم يكن الإدراك السياسي قد وصل إلى تلك الدرجة التي يستسيغون بها فرض الضرائب مباشرة.
والضرائب المباشرة بلا ريب هي المرحة التي توصل إليها المجتمع في تطوره السياسي والاجتماعي
وهناك نواح أخرى في ضرائب الإسلام تتجه في مراميها إلى نفس الهدف الذي ذكرناه آنفاً ألا وهو العدل، وذلك مثل عدم استثناء النبلاء والطبقات الأرستقراطية من الضريبة، وهو ما كان شائعاً في العالم حتى القرون الأخيرة، ومثل التفريق في نسبة الضريبة على إنتاج المكابدة وإنتاج اليسر. . . الخ. وعسانا نستطيع أن نوفي ذلك حقه في فرصة أخرى.
(بيروت - الجامعة الأمريكية)
علي حسين الوردي(462/31)
من غزل الملوك
قصيدة للسلطان سليم فاتح مصر
للأستاذ عبد الله مخلص
وقع في الكلمة التي نشرتموها في (العدد 458) من (الرسالة) بعنوان (من عزل الملوك) بعض أغلاط مطبعية مثل (أن الرشيد أغار على أبيات ابن الحكم الأموي)؛ وصوابها (أن ابن الحكم الأموي أغار على أبيات الرشيد). كما أن عجز البيت الأول من أبيات المعز لدين الله الفاطمي: (تلك المحاجر (بالمحاجر)) صوابه: (تلك المحاجر (بالمعاجر))
ورأيت بهذه المناسبة أن أبعث إليكم بقصيدة السلطان (سليم) التي اقتصرت على ذكر بيت واحد منها في تلك الصفحة، وهو ما كنت أطلعت عليه في المصادر التركية في ترجمة السلطان المشار إليه. أما القصيدة كلها، فقد عثرت عليها في مخطوط اقتنيته أخيراً اسمه (بستان العارفين ونزهة الناظرين) جمع الحاج احمد بن حسن الشامي، ويقول: انه شرع فيه وأتمه في جامع السفاحية بحلب المحمية في سنة 1041هـ:
البدر اشرق بالجمال عليهِ
والسلسبيل يسيل من شفتيه
الغصن نال اللين من عطفيه
قمر يصول ولا وصول إليه ... جرح الفؤاد بصارميْ لحظيْهِ
واحلَّ في وسط الفؤاد مقامهُ
نشق المحبّ من الوشام خزامه
وافى بوصلٍ والجمال أمامه
ما قام معتدلاً يهزّ قوامه ... إلا تهتَّكتِ الستور عليهِ
يمشي بعجبٍ في غلائل سندس
ألوانها كبنفسجٍ في نرجس
كأسى نديمي والمدامة مؤنسي
يا طيب ليلتنا ونحن بمجلس ... نهض الحبيب لنا على قدميهِ
شقَّ القلوب بورده وشقيقهِ(462/33)
ونما على عشاقه بعقيقه
وهما على كأساته برحيقه
يسقي المدامة من سلافة ريقه ... ويخصَّنا بالسحر من عينيهِ
نلنا المسرَّة ساعة بجوارهِ
وقد ارتقينا للهنا في داره
وأعّمنا من خمرة بعقاره
عيناه نرجسنا وآس عذاره ... ريحاننا والورد من خدّيهِ
الخال من مسكٍ يفوح بندّهِ
يسطو عليَّ بجزره وبمدّهِ
سعد السعود وفى إليَّ بسعده
كتب المهيمن في صحيفة خدّهِ ... لاماً وعقرب فوقها صدغيهِ
جن الظلام على الضيا فتبسّمَا
والمسك في زهر الرياض تنسّمَا
نمّ العذار بخدّه فتحكّما
ما الْشَعر نمّ بعارضيه وإنما ... أصداغه جارت على خدّيهِ
لمّا أتى بجحافلٍ من جندهِ
فأردت رشف رحيقه من شهدهِ
دبّ العذار على صحيفة خدّهِ
يا شَعر في بصري ولا في خدّهِ ... إني أغار من النسيم عليهِ
ملك يجور على الملوك بظلمهِ
لم يخشَ من جور الزمان وجرمه
ناديتُ من فرط الهيام وغمّهِ
عجبي لسلطان يعمّ بحكمه ... ويجور سلطان الغرام عليهِ
إني بأوصاف المحبّة عائِدٌ
وبباب من أهواه شخصي لائِذٌ(462/34)
جيش المحبّة في فؤادي واقذٌ
والناس تحت يدي وحكمي نافذٌ ... وأنا وكلّ الناس طوع يديهِ
الطرف منّي في محبّته عَمِي
والدمع يجري في خدودي عندمِ
وعروس مكةَ والحطيم وزمزمِ
لولا الإلهُ وحرّ نار جهنَّمِ ... لعبدته وسجدت بين يديهِ!(462/35)
البَريدُ الأدبيّ
أجوبة عن أسئلة
وجّه إليّ الأديب محمد محمد مالك في العدد 460 من الرسالة أسئلة تتعلق بالأمراض النفسية نجيب عنها فيما يلي:
1 - الأمراض العصبية
أمراض ناتجة عن التهاب أو انحلال الأعصاب أو النخاع الشوكي أو مركز المخ الحركية والإحساسية والحاسة والتوازنية ويتمخض عنها أنواع مختلفة من الشلل أو إحساسات غريبة أو حركات اختلاجية أو اهتزازية أو تشنجات في العضلات أو اضطراب في الحواس أو اختلاف في التحكم في قضاء الحاجة أو فقدان التوازن، أو تشكيلة من بعض هذه الأعراض.
2 - الأمراض النفسية أو
أمراض تتمخض عن أعراض متولدة من عقد دفينة في العقل الباطن. وكثيراً ما يقلد المريض بها أعراض الأمراض العصبية من غير قصد.
واهم الأمراض النفسية القلق العصبي (أو بالأحرى القلق النفساني) والهستريا والوسواس والخور النفساني (النورستانيا)
والهجس بالمرض
3 - الأمراض العقلية
أمراض تتولد من انحلال خلايا القشرة المخية والألياف المرتبطة بها خصوصاً في مناطق المخ الصامتة
وليس من الضروري أن يكون المريض بأعصابه عليل النفسية ولكن قد تنجم من الأمراض العصبية عقد نفسية مثل عقدة الضعة
وهناك أمراض تحدث أعراضاً عصبية وعقلية معاً كالشلل الجنوني العام الناتج من الزهري فقد يصاب المريض به بهواجس العظمة أو سواها مصحوبة أو متبوعة بشلل في عضلات الجسم واهتزازات في الأعضاء واللسان الخ. . .(462/36)
4 - القلق النفساني:
هو الخوف من شيء مجهول للمريض ويعرفه فرويد بكونه خوفاً من خطر غريزي، وقد ينتج مثلاً من وجود عقدة الخصي في العقل الباطن. وهذه العقدة وليدة تهديد الأم لطفلها باستئصال أعضائه الجنسية بسبب عبثه بها.
على أن حادث مخيف يعرض للإنسان قد يتسبب عنه القلق في المستقبل باختفاء ذكرى الحادث في العقل الباطن وبقاء القلق متسلطاً على العقل الواعي. ويعزو المريض قلقه عادة إلى أسباب لا تمت إلى السبب الأصلي بصلة.
5 - الأجرام:
يعتبر المجرم مريض النفس أو مريض العقل. وقد سبق أن أرسلت إلى مجلة الرسالة الغراء بحثاً في هذا الشأن.
6 - شيطان الشاعر:
يرى يونج أن العقل الباطن سجل لاختبارات البشر الأزلية؛ فالسحر والشياطين والجن والأصنام والأديان والآلهة والمرأة والرجل إلى غير ذلك ممثلة جميعها في العقل الباطن فيما يسميه النماذج القديمة وعندما تزود هذه النماذج بطاقات عقلية كبيرة يعبر الشاعر عنها تعبيراً تتفاوت درجة غموضه أو وضوحه حسب قوة الرقيب وحين يتناولها العقل الواعي بالصقل والتهذيب تصبح منسجمة ومنطقية في الظاهر.
وتمثل الرموز التي يلجأ إليها الشعراء للتعبير عن أغراضهم لغة الرجل البدائي الكائن في سريرتنا.
وليس شيطان الشاعر سوى عقله الباطن، أو بالأحرى ما يسميه يونج (اللاوعي الشامل) وتبدو قوة هذا الشيطان الهائلة عندما يستحوذ على عقل الشاعر الواعي شيء من الذهول. وهنا تكون المقطوعات الشعرية الشبيهة بالأحلام.
7 - الوارثة:
يرث الإنسان بعض صفات والديه وأجداده العقلية والجسمانية في شكل ظاهر والبعض الأخر في شكل كامن، وهذا هو السبب في كون بعض مختلي الأعصاب والمجرمين(462/37)
ينجبون ذرية صالحة جسمانياً وعقلياً، ولكن هذه الذرية ورثت اختلال الأعصاب والإجرام في شكل كامن بدليل أن الصفات الكامنة قد تصبح ظاهرة في أبنائهم وأحفادهم.
محمد حسني ولاية
جواب
اشكر للأستاذ (عبد الفتاح إسماعيل - بفرشوط) تحيته وحسن استقباله للمرسلات وأجيبه عما اسأل فأقول:
(أعم الرجال وأخول) يرويان بالبناء للفاعل والمفعول فهو مُعِمَ مخول بالكسر والفتح أي كثير الأعمام أو كريمهم، وقد روى بالكسر قول حسان (قبر ابن مارية المعِم المخول) وروى بالفتح قول امرئ القيس (بجيد معَم في العشيرة مخوَل) وفي بعض ما يروى عن اللغويين هنا اضطراب، والمعتمد ما ذكرنا.
المدني
قد يحتاج المرسل إلى قيد
أرسل الزميل الفاضل الأستاذ الشيخ محمد محمد المدني كلمة عن اختلاف الأزهريين وبواعثه التي ليست للحق والله
- دائماً - وقد كان موفقاً فيما عرض له في إيجاز وتهكم، إلا إنه أستكثر من ضرب المثُل للذين أوذوا بسبب تفرق رأي الأزهر فيهم فجانبه للصواب في بعضها. لقد قال: (والزيات، وطه حسين، والعقاد، وشلتوت، والزنكلوني، ومبارك وهيكل، وغيرهم قد ذاقوا من ذلك ما ذاقوا)
اعتقد أن من هؤلاء السادة - الذين أجلّهم جميعاً - من سمت به عظمته ونبل مقصده وجميل توجيهه، عن أن يكون في أمره خلاف بين الأزهريين أو غيرهم. ومنهم من اجمعوا على جلالة منزلته في العلم والبحث، وعرفان حظه من الإخلاص والعاطفة الدينية. ومنهم أخيرا من قعدت به منزلته المحدودة عن أن يكون موضع حديث الأزهريين عامة، بله اختلافهم. والأمر أوضح من أن يكون في حاجة إلى تمثيل أو تعليل!
محمد يوسف موسى(462/38)
حول العقاد وابن الرومي
تكشّفَ تعقيبُ الأستاذ عباس محمود العقاد على اعتراضي الذي وجهته إلى حضرته على صفحات (الرسالة) الغراء عن ثغرةٍ نفذت منها إلى حاجتي التي قضيتُها بردِّه الكريم عليَّ. . .
أما ما يستأهل التعقيب ويدعو إليه، فهو ما تفتح عنه ردَّه من ظاهرتين خطيرتين: الأولى ما اقتضته الأمانة الأدبية التي في عنقي من أن أصحح نسبة البيتين اللذين قلت عنهما: إنهما لابن الرومي؛ وقال عنهما أدب العقاد: لا أراهما مما يعاب سواء نسبا إليه أو إلى غيره. فأقول: أن هذين البيتين من نظم كاتب هذه السطور، وقد أردت أن اختبر بهما ذكاء العقاد.
والظاهرة الثانية هي ما نضحت عنه معاني هذين البيتين من جنون الفكرة، وطلاء التعبير اللذين عزَب فهمهما على فطنة أديبنا الكبير. فمن هم بنو النضر؟ ومن أولئك الألفان الرضَّع على التحديد؟
(ابن درويش)
(الرسالة):
ذلك عبث كنا نحب للكاتب وهو من رجال التعليم فيما نظن أن يتكرم عنه احتراماً للرجل الذي يكتب إليه، وللقارئ الذي يكتب له، وللمجلة التي يكتب فيها، وللأدب الذي يعلّمه.
كم ذا؟
. . . ضمني وبعض الأصدقاء مجلس، وتناشدنا أطراف الحديث، فجرى على اللسان قول حافظ:
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ... في حب مصر كثيرة العشاق
وهنالك تضاربت الأقوال في (كم ذا)، وهل يجوز ذلك في لغة العربية؟ فقال قوم كما جاز في ما ومن الاستفهاميتين. كأنما يقيسون، وقد قال الآمدي وغيره - من علماء الأصول - أن اللغة لا تثبت بالقياس. . . وقال آخرون: أن ذلك غير معهود في الفصيح الصحيح من(462/39)
كلام العرب. . . وهكذا أخذنا نقيمها إلى جهة، أو نتلمس لها شاهداً، فلم نجد إلا ما قال المتنبي: (وكم ذا بمصر من المضحكات) على أنها في كثير من طبعات ديوانه وماذا. . . وخيراً آثرنا أن نطرح هذه الأشكال - إن صح أن يكون - على قراء (الرسالة) الغراء علّنا نجد عندهم شفاء الغليل.
إبراهيم علي أبو الخشب
جريدة الإصلاح في عامها السادس
دخلت زميلتنا الإصلاح الأسبوعية في عاما السادس مسددة الخطى مؤيدة العزيمة، وستصدر في خلال هذا الشهر بهذه المناسبة عدداً خاصاً محلى بصور أبناء الدقهلية البارزين من الأدباء والشعراء والفنانين لتكون أداة التعريف بينهم. وقد انظم إلى تحرير هذه الجريدة الرشيدة بعض كبار الأدباء ليساعدوها على تأدية رسالتها في الأدب والإصلاح.(462/40)
العدد 463 - بتاريخ: 18 - 05 - 1942(/)
احتكار الأدب
للأستاذ عباس محمود العقاد
نشرت (الرسالة) في عدد مضى كلمة موجهة إليّ نعيد نشرها هنا للتعقيب عليها وهي:
(كثير من الأدباء يتهمون إخوانهم بالأنانية وحب النفس، فأدباء الشيوخ الذين يحتكرون ميدان الأدب لا يبذلون أي جهد في تسديد خطى الشباب الناشئ، ولا أعرف السبب الذي يمنع أديباً مثل الأستاذ العقاد من تأليف كتاب عن الشعراء الناشئين الذين يدل شعرهم على نبوغ وعبقرية مثلما فعل الشاعر الإنجليزي المعروف و. ب يتس الذي كتب عن روبرت بردج، وولتر دي لمار، وهيلار بلوك، وليونيل جونسون، وأرنست دوسون، في مؤلفه كتاب أوكسفورد للشعر الحديث
فشيوخ الأدب في أوربا لثقتهم بأنفسهم وحبهم لفنهم وإخلاصهم له يسددون خطى الأدباء الناشئين ويشيدون بذكر الموهوب منهم. فما رأي الأستاذ العقاد في هذا الموضوع؟. . . الخ الخ)
كمال الدين نشأت
وفي هذه الكلمة الموجزة كثير من الخطأ الذي يشيع بين بعض المتأدبين الناشئين ولا ينفرد به صاحب السؤال وحده، كما لاح لي من بعض الرسائل والأحاديث، أو مما تكتب الصحف في هذا المعنى، وهو خطأ يحتاج إلى تصحيح؛ وتعتقد أن تصحيحه هو أنفع وجوه التسديد التي ينشدها صاحب الخطاب.
فمن الخطأ (أولاً) أن يشايعهم صاحب السؤال على دعواهم أن أدباء الشيوخ يحتكرون ميدان الأدب لأنهم يظهرون من حين إلى حين بمقال في صحيفة أو بكتاب جديد يؤلفونه أو يجمعون فيه ما سبق لهم نشره من المقالات
فلا معابة على الأدباء الشيوخ أن يصنعوا ذلك، بل المعابة ألا يصنعوه وهو واجبهم المفروض عليهم. وقد يعاب عليهم مع ذلك أنهم قليلو الإنتاج بالقياس إلى ما ينبغي لهم أو ينتظر منهم. وإنما يعذرهم أناس لأن جمهور قراء الأدب عندنا لا يقبلون على المؤلفات إقبالاً يملي للكاتب في أسباب المثابرة ومتابعة التأليف، ويلومهم أناس لأنهم يجهلون العقبات التي تحول دون الانقطاع للكتابة الأدبية في بلانا الشرقية.(463/1)
فالمفروض على أدباء الشيوخ خاصة أن يزيدوا إنتاجهم لا أن ينقصوه؛ ولو أريد من الأديب أن يؤلف في سن المرانة والابتداء، ثم ينقطع عن التأليف بعد النضج والاكتمال، لكان هذا بدعة أخرى من بدع انقلاب الأحوال التي حقت على المتخلفين من شعوب الشرق أجمعين.
وإذا كان الغرض هو الكتابة في الصحف دون التأليف والتصنيف فليس بصحيح أن شيوخ الأدب يحتكرون الكتابة الصحفية أدبية كانت أو غير أدبية بأي معنى من معاني الاحتكار. بل ربما اقترنت بكل مقالة يكتبها أديب مشهور خمس مقالات أو ست أو سبع يكتبها أدباء ناشئون أو غير مشهورين، وتكفي مراجعة قليلة للصحافة اليومية والأسبوعية والشهرية لتصحيح الخطأ في هذا الباب.
أما أن أدباء الشيوخ لا يبذلون جهداً في تسديد خطى الكتاب الناشئين فما هو هذا الجهد المطلوب؟ وعلى من التبعة إن صح أنه دون الكفاية؟
أي جهد يسدد الخطى إن لم يسددها التدريس للطلاب أو الكتابة لمن يقرأ ويستفيد؟
أما التسديد بالمحادثة والمناقشة فما هو الجهد الذي يطلب فيه من أدباء الشيوخ؟ ولماذا نعرض هنا على الأديب الشيخ أن يجتهد ليبحث عمن يسدد خطاهم ولا يفرض على الناشئ أن يجتهد ليبحث عمن يسدد خطاه إذا اتسع له الوقت وساعفته شواغل الحياة؟
إن الكتاب الذي أشار إليه صاحب الخطاب لا يصلح للتمثيل به في هذا الصدد من أي ناحية من نواحيه. فهو كتاب يشمل الشعر منذ خمسين سنة ولا ينحصر في شعر هذه الأيام؛ وهو كتاب ندب الشاعر (يتس) لتأليفه ولم يفرغ لتأليفه ولا كان في وسعه أن يفرغ له لو لم يندب لهذه المهمة معفي من تكاليفها ونفقاتها التي يعجز عنها. وهو بعد هذا وذاك كتاب يشتمل على أسماء أناس لا يعدون من الناشئين سواء من ذكرهم صاحب الخطاب أو لم يذكرهم في خطابه. فروبرت بردج مات قبل تأليف الكتاب وعمره ست وثمانون سنة، وروبرت بروك - إن كان هو المقصود دون روبرت بردج - مات في الثامنة والعشرين وليست له في الكتاب غير قطعة واحدة. وولتر دي لمار كان يدلف إلى السبعين عند ظهور الكتاب، وقد بلغها هلير بلوك في ذلك الحين. وليونل جونسون قد توفي قبل ظهور الكتاب بنحو أربعين سنة وهو في الخامسة والثلاثين، وأرنست دوسون توفي في نهاية القرن(463/2)
الماضي وهو في الثالثة والثلاثين
فليس بين هؤلاء شاعر واحد يعد بين الناشئين، ولم يكن يتس مسدداً لخطاهم لأنهم بين صامد على قدميه مستقل عن الأساتذة والمرشدين، ومفارق للحياة في ريعان الفتوة أو بعد مقاربة الشيخوخة
وليست المسألة هنا مسألة ثقة بنفس أو حب لفن كما اعتقد صاحب الخطاب، بل هي مسألة تاريخ محدود قد طلبت ملاحظته في الاختيار، وأعفى يتس فيه من أعباء المجازفة والانتظار
وفيما عدا هذه الحالة لا نذكر حالة أخرى فرغ فيها شاعر أوربي كبير للتأليف في الغرض الذي يقترحه صاحب الخطاب على أدباء الشيوخ المصريين
وللأدباء الشيوخ العذر كل العذر بين المصريين أو بين الأوربيين إذا اختاروا للتأليف أغراضاً غير هذا الغرض الذي تنعكس به أوضاع الأمور. فان الرجل الذي بلغ الخمسين وجاوزها يحق له أن يقصر مطالعته على المفيد المحقق الفائدة ليثابر على واجبه وعلى الانتفاع بمقروءأته. فليس في وسعه أن يقرأ ست ساعات أو سبع ساعات كل يوم
كما كان يفعل في بواكير الشباب. وليس في وسعه إذا اقتصر على ساعتين أو ثلاث أن ينفقها في البحث
عمن يجربون الكتابة أو يشرعون في تجربتها ليقرأ مائة مقال أو مائة كتاب عسى أن يظفر بينها بشيء يستحق التنويه، ويستغني عن التنويه لا محالة إذا كان له من القيمة والجودة ما يكفل له البقاء
إنما يتيسر التشجيع للأديب الشيخ في عمل واحد وهو عمل الصحافة الأدبية حين يتولى الإشراف عليها. فهو يقرأ ما يرد إليه من الشعر والنثر ويعني بتنقيحه وتقديمه ونشره ولفت الأنظار إليه، وهذا ما كنا نصنعه في الصحف التي أشرفنا على أبوابها الأدبية، ولو كلفنا الجهد المجهد في القراءة والتصحيح والتنقيح.
أما الرجل الذي تشغله الحياة بمطالبها ويشغله الأدب بمطالبه بين قراءة وكتابة، فتسديده مقصور على من يتصلون به وعلى ما هو مستطيعه. وليس مما يستطيع أن يترك كتاباً يؤلفه جهبذ من جهابذة الفن والحكمة ويضمن نفعه ومتعته ليقرأ خمسين كتاباً لا يضمن(463/3)
نفعها عسى أن يعثر بينها على شيء مرجو النتيجة بعد تكرار التجربة مرات
هذا ضياع للوقت وضياع للجهد وضياع للأدب، وعبث تستغني عنه الكفاءة المرجوة ولا نفع فيه لمن خلا من الكفاءة، ويمنعه مع هذا كله أنه غير مستطاع
على أن الأمر خطير جد الخطر من إحدى نواحيه التي يدل عليها، وهي ناحية الروح التي ينم عليها شيوع هذه الأماني والتعلات بين طائفة ولو قليلة من الناشئين
فإنها روح تدل على إعفاء النفس من كل واجب، وإلقاء التبعة على كل كاهل، ونسيان كل حق غير حق الأنانية بغير عناء ولا مقابل
يبدأ الناشئ بالكتابة اليوم ويريد أن يشتهر غداً بمقال واحد أو قصيد واحد ولا نقول بكتاب واحد. فإن لم يشتهر فليس اللوم عليه وعلى طمعه فيما لا يكون ولا ينفع الأدب والناس لو كان. . . كلا، بل اللوم على المشهورين الذين كان ينبغي أن يستأصلوا شهرتهم وأن يكفوا عن الكتابة وأن يفرغوا جهودهم وجهود قرائهم لشهرته هو دون غيره من الشيوخ والكهول والناشئين، وإلا كانوا محتكرين للأدب الذي يحق له هو أن يحتكره ولا يحق ذلك لأحد من العالمين!
وهؤلاء الأدباء المشهورين (الشيوخ) ما لزومهم في هذه الدنيا؟ ما لزوم تجاربهم الماضية ودراساتهم الطويلة وجهودهم المضنية وحياتهم التي يعيشون فيها أبداً بين الأذى والإنكار والكنود؟
هل لهم لزوم في نفع أنفسهم ونفع قرائهم ونفع الأدب بالاطلاع على المفيد المضمون؟
كلا. ليس لهذا كله لزوم. . .! وإنما هم لازمون لشيء واحد وهو شهرة من يريد الشهرة العاجلة على شريطة أن يشتهر وحده ولا يشتهر واحد من أنداده في السن والقدرة!!
وهل لهؤلاء الأدباء الشيوخ حق؟ هل لهم فضل يجب الاعتراف به على أحد؟
معاذ الله. . . من أين لإنسان غضب الله عليه فنشأ في الدنيا أديباً شرقياً أن يطمع في حق أو في اعتراف؟
إنما عليه أن يقرأه القارئ الناشئ عشر سنين وعشرين سنة ولا يقول له مرة واحدة أحسنت واستحققت من الكرامة والثناء؛ ولكنه هو عليه أن يقف على باب كل مطبعة ليتلقف منها كل كتاب ألفه كل شاب في العشرين فلا ينام ليلته قبل أن ينفخ كل بوق ليقول(463/4)
ما يحلو للمؤلف من ثناء وتنويه. فان لم يفعل فيا للاحتكار، ويا للأنانية، ويا للغدر والكفران بالحقوق!
تعس الشرق إن كانت هذه روح الجد في شباب يتولى قيادته الفكرية بعد جيل. ومن رحمة الله بالشرق ألا تسري هذه الروح في غير القليل من المتواكلين
وتجربتي أنا في هذا الميدان قد يعرفها المتعقب لتاريخ الكتابة الحديثة بغير بحث طويل
فما لجأت قط إلى أديب مشهور لأتكئ إلى شهرته وأستفيد من ثنائه، وما استبحت قط في كتاب من كتبي التي أطبعها أن أذيع كلمات التقريظ التي يخصني بها الكبراء ومنهم زعيم مصر (سعد زغلول)
هذه تجربتي مع من تقدموني وسبقوني إلى ميدان الكتابة والشهرة. أما الذين لحقوا بي فإذا استثنيت أفراداً جد قليلين من صحبي - وإن شئت فقل تلاميذي - فلا حق لي عندهم ولهم عندي جميع الحقوق.
قرأوني عشر سنين فما نبسوا بكلمة تقدير واحدة، وتعرضوا للكتابة أياماً فاعتقدوا أنني قصرت غاية التقصير لأنني لم أفرغ نهاري وليلي للثناء عليهم والتبشير بدعوتهم، ووجب إذن أن أفعل ما يريدون وإلا. . .
وهنا العثرة كما يقول شكسبير!
وإلا ماذا؟ إنني رجل لو جاءني أحد فقال لي عش ألف سنة سعيداً وإلا. . . لأوشكت أن أجيبه بالرفض بعد هذا الاشتراط قبل إتمامه
فإذا جاءتني شرذمة من خشاش الأرض لا يعرفون لي حقاً ويفرضون عليّ أن أنتحل لهم كل حق مصدوق أو مكذوب وإلا حطموني وهدموني وذروا ترابي في الهواء فماذا ينتظرون مني؟ ولماذا يغضبون إذا تركتهم يهدمونني؟ الأنهم لم يستطيعوا هدمي؟ أكان من الاحتكار أيضاً أنني لم أنهدم كما أرادوا فعرفوا أنهم عاجزون وأنهم هارلون؟
إن حق التشجيع في معاملة الناشئين مقرون بحق الأدب والتوقير في معاملة الشيوخ والكهول
بل حق الأدب والتوقير مقدم بحكم السبق في الزمان، لأن الشيوخ والكهول كتبوا قبل الناشئين، وبحكم الحق لأن الأديب الناشئ يستفيد حين يقرأ سابقيه وليس الأديب الكهل أو(463/5)
الشيخ على ثقة من الفائدة إذا يقرأ للناشئين، وبحكم الاستطاعة لأن القارئ الناشئ قد استطاع أن يقرأ فعلاً ما هو مطالب بتقديره وليس لأحد أن يفرض استطاعة الكهل أو الشيخ أن يقرأ كل ما يكتبه الدارجون في طريق الكتابة
ولكنهم هنا يطلبون التشجيع ويعفون أنفسهم من واجب التوقير. . . ويهددون!
ومن طلب ذلك فما هو بأهل للتشجيع
ومن قبل ذلك فما هو بأهل للتوقير
أما الذين يعرفون الحقوق ثم لا يحتكرونها كلها لأنفسهم فليس عندهم من سبب لاتهام المشهورين أو غير المشهورين بالاحتكار، ولا يلومون أحداً على الاشتهار لأنهم هم يتعجلون الاشتهار
عباس محمود العقاد(463/6)
مرسلات. . .
ليت أشياخي!
ليت أشياخنا بالأزهر شهدوا الحفل العظيم الذي دعا إليه معالي وزير العدل في قاعة الجمعية الجغرافية ليسمعوا - كما سمع الوزراء والمستشارون والقضاة والمحامون وغيرهم - محاضرة الدكتور عبد الرزاق السنهوري بك عن (مشروع تنقيح القانون المدني)
ليتهم شهدوا هذا الحفل ليشهدوا منافع لهم، وليعلموا أن رجلين اثنين أخلصا لعملهما، وأخلص كل منهما لصاحبه، سهرا الليالي واستعذبا العذاب حتى أخرجا هذا المشروع الخطير!
ليتهم سمعوا هذا المحاضر اللبق يقول في عبارات واضحة قوية: (إن الفقه الإسلامي لجدير بأن يكون أهم مصدر من مصادر التشريع الحديث، وإن على أهله لواجباً أن يخلصوه مما علق به من آثار الجمود والركود، وأن يقربوا للناس سبل الانتفاع به. وإن المشروع المقترح بكل ما فيه من مبادئ وأحكام، إما مستمد من هذا الفقه فعلاً، وإما مستمد من غيره، ولكنه لا يتعارض مع روح الشريعة السمحة)
ليت الذين ملئوا الدنيا دعاء ونداء بالتشريع الإسلامي قد سمعوا هذا المحاضر، ثم سمعوا وزير العدل من بعده، وهما يوجهان الدعوة عالية إلى رجال الفقه والقانون لينظروا هذا المشروع، ويدرسوا ما فيه من مبادئ وأحكام قبل أن يعرض على (البرلمان)
ليت الأزهر، ليت كلية الشريعة، ليت (الجماعة)!
ليت. . .! وهل ينفع شيئاً ليت؟
أيها الأشياخ المكرّمون! واحدة من اثنين: إما أن تكونوا دُعيتم فلم تحضروا، وإما أن تكونوا نُسيتم فلم تُذروا! وأيتهما كانت فهل أنتم متداركون ما فات؟ هيهات! هيهات!
محمد محمد المدني(463/7)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
وإن عدتم عدنا - جوائز وزير المعارف - في سبيل الوحدة
العربية - بين القومية والإنسانية
وان عدتم عدنا
لعل القراء لاحظوا أني انصرفت عن مجادلة من يتعرضون لمقالاتي بالنقد والتجريح في بعض الجرائد والمجلات. ولعل فيهم من توهم أني تعبت من النضال فاعتصمت بالصمت البليغ! والواقع أني أسكت طائعاً عن بعض المجادلين، لأني أومن بأن من حقهم أن يثوروا على آراء دفعتهُم إلى مُحرجاتها برفق أو بعنف، وما يجوز لي أن أتعقب ناقداً بما لا يرضيه، مع أن قلمي هو السبب في إثارته إلى الجدال والصيال
ولهذا المعنى سكتُ عن كلمة جارحة نشرتها مجلة الثقافة (عملاً بحرية النشر) كما قالت، وهي كلمة (منسوبة) إلى إحدى أديبات فلسطين، وفيها شفاء لبعض الصدور المراض
ولهذا المعنى أيضاً سكتُ عن كلمة تطاولَ بها أحد محرري (الثقافة) الغراء، لأمنحه فرصة يقول فيها عني ما يريد
ولكن (الثقافة) فيها كاتبٌ اسمه (قاف) وقد أراد هذا الكاتب متفضلاً أن يشغل نفسه بالقصائد التي تنشرها (الرسالة) باسم (الشاعر المجهول). وما يؤذيني أن تُنقَد القصائد التي تنشر في (الرسالة)، لأن مجلة الرسالة لا تنشر من الشعر إلا ما يثير لنفاسته أقلام الناقدين
إن (قاف الثقافة) توهّم أن (الشاعر المجهول) هو (الكاتب المعروف) وساق عبارة دلّ بها قراءه على أنه يَعني الدكتور زكي مبارك
أهلاً وسهلاً!
ولكن هل يعرف (قاف الثقافة) أني سأسوق إليه كلاماً يزلزل (جبل قاف)؟
إن قاف الثقافة بعيد كل البعد عن الذوق الأدبي، وهو لم يتوار في أحد سفوح (قاف) إلا لينجو بنفسه من الرجفات التي تزلزل قمم الجبال
ومن ذلك القاف؟ وما صبرُ مجلة الثقافة عليه وقد زعمت أن عندها علماء من كل صنف؟(463/8)
أيكون آخر ما عندها من الأصناف؟
إن درس اليوم هو الفَيْصل في معضلات النقد الأدبي، وسيعرف به قاف الثقافة ما لم يكن يِعرف، وسيذكرنا بالخير الجزيل إن كان من الصادقين
وإلى قراء الرسالة أحتكم، وفيهم ألوف من رجال الأدب والبيان. . . قال الشاعر المجهول:
أبحتُك من قلبي نفائس عطفه ... وحِّررتُ فيك المال منِ ربقةِ الضَّن
وقلتُ مثالٌ من جمالٍ أصونهُ ... فيسلم من إفك الزمان ويستغني
فلم تر صدري من سهامك في حمى ... ولم تر جيبي من نصالك في أمن
وعشتُ يريني الحبُّ أنك حافظٌ ... عهودي وأن الخُلد بعض الذي أَبني
فلما رأيتَ الوجدَ يغتال مهجتي ... وأيقنتَ أني من غرامك في سجن
مضيتَ إلى غيري جهاراً وخنتني ... فمن أيّ وحلٍ صيغ طبعُك خبّرني
تلك هي القطعة التي اعترض عليها قاف الثقافة، وقد اخترمها اختراماً ليخفي عن قرائه مقام البلاغة في الكلمة التي ثار عليها عقله الحصيف
فما تلك الكلمة؟ هي كلمة (وحل) فقد رآها كلمة قبيحة لا يجوز ورودها في قصيدة من قصائد التشبيب!
وأقول إن كلمة (وحل) هي أبلغ كلمة في هذا المقام، ولا يستطيع (قاف) أن يأتي بكلمة أقوى منها
وكلمة (وحل) وردت في قول مسلم بن الوليد:
مشينا بها مَشيَ المقيَّد في الوحلِ
فعدَّها القدماء أبلغ كلمة في هذا السياق
وقبل ذلك وردت في قول الأعشى
تدِبَّ كمْشي القطاة القطو ... ف في وَحلَ الَّنهى تخشى رقيبا
وأقبح من كلمة (وحل) كلمة (مستنقع) وقد عُدَّت أبلغ كلمة في قول شوقي وهو يذكر ما أنعم به السلطان على الضفادع:
وزاد أن جاد لمستنقَعٍ
وقبل ذلك وردت في قول أبي تمام(463/9)
فأثبت في مستنقَع الموتِ رِجلهُ
فماذا نصنع في تثقيف قاف الثقافة، وهو لا يعرف الأبجدية من البلاغة العربية؟
لو كان هذا القاف يعرف أسرار البلاغة لأدرك أن الكلمات تأخذ قوّتها وبلاغتها من السياق، وأن الكلمة القبيحة قد تصبح وهي نهاية في الجمال إذا أوجبها مقتضَى الحال
ولكن هذا المتأدب حديث العهد بالدراسات الأدبية، فهو محجوب عن سرائر الألفاظ والمعاني
هو رجل رقيق تؤذيه الأخيلة الجافية، لأنه من أبناء القرن العشرين، فإن لم يكن كذلك فهل يستطيع أن يناقش هذه الأحكام القاسية؟
يا قاف (الثقافة) الغراء:
إذا لم تستطيع شيئاً فدَعهُ ... وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ
وإلا فهل تملك من القدرة ما تجاريني به في ميدان النقد الأدبي؟
ارجع إلى كلمتك في مجلة الثقافة ثم اسأل نفسك، فإن فعلت فسترى أنك وقعت في غلطة ذوقية لا يقع فيها إلا من كان في مثل حالك
ولي أن أًُوجه إليك هذا السؤال:
كانت مجلة الثقافة تتقي شرّي فتسكت عما أُصوّب إليها من مؤاخذات فكيف استباحت في الأشهر الأخيرة أن تناوشني أربع مرات بلا موجب يفرضه الحرص على خدمة الأدب أو الحق؟
كانت مجلة الثقافة أعلنت على لسان أحد مراسليها أنني كنت البادئ بالعدوان في جميع الأحيان فما عذرها وقد هاجمتني أربع مرات بعد أن رُفع بيني وبينها غصن الزيتون؟
جوائز وزير المعارف
منذ أيام أقيمت حفلة في مكتب وزير المعارف لتوزيع الجوائز على الفائزين في مسابقة الأدب العربي، وهي جوائز تفضَّل بها معالي الأستاذ نجيب الهلالي بك، أما الجوائز الرسمية، فسيظفر بها أولئك الطلبة بعد الفوز في امتحانات القسم الخاص
والظاهر أن بعض المسؤولين في وزارة المعارف قد نظر فيما سيُلقَي أمام الوزير من خُطب وقصائد، فكانت النتيجة أنْ سلمت الحفلة من جميع العيوب، وأن جاءت شاهداً جديداً(463/10)
على أن الإيجاز من فنون البيان
وقد رأيت أن تكون لي كلمة في تلك الحفلة بعد أن لاحظت أن كبير مفتشي اللغة العربية ومراقب الامتحانات سكتا في خطبتيهما عمن أعان الفائزين إعانة حقيقية حين شرح لهم موضوعات المسابقة في (بعض) المجلات
وعند ذلك قال معالي الهلالي بك: (الحِدِق يفهم)؛ وهي كلمة لم يسمعها جيداً مندوب جريدة (الدستور)، فصاغها من عندياته بأسلوب غير مقبول
والمطالبة بجائزة لمن شرح موضوعات المسابقة الأدبية على صفحات (الرسالة) ليست جديدة، فقد طالبتُ بها الوزير السابق، فوعَد ثم صُرفَ عن الوفاء
أفلا يكون من حق ذلك الباحث أن ينتظر من الوزير الجديد جائزة سنية تشجعه على شرح الموضوعات الآتية لمسابقة العام المقبل؟
لمعالي الوزير أن يختار أحد أمرين: الأمر الأول أن يعدّ معاونة الطلبة على الفوز في المسابقات واجباً على جميع المفتشين؛ والأمر الثاني أن يرى تلك المعاونة تطوعاً يؤديه أهل الحرص الشريف على فوز التلاميذ
وفي كلا الحالين يكون الباحث الذي تفردَّ بشرح موضوعات المسابقة الأدبية في عامين متواليين أََهلاً للتفرد بالثناء
فما رأى معاليه في هذا الكلام؟
ومتى تفكر وزارة المعارف في تقدير أتعاب الباحثين؟
في سبيل الوحدة العربية
كنت أتأهب للرد على كلمة نشرت في إحدى المجلات تعريضاً بالدكتور عبد الوهاب عزام، وكان ألقى خطبة في كلية الآداب دعا فيها إلى الاعتزاز بالقومية العربية. وللدكتور عزام حقوق: لأنه من أفاضل الباحثين المصريين، ولأنه على جانبٍ عظيم من الأمانة والصدق، ولأن اتهامه بالغرض إثمٌ دميم
ثم فوجئت بخبر يشرح الصدر وهو اعتزام (الرسالة) إصدار أعداد خاصة بالأقطار العربية، للتنويه بتلك البلاد، وللتعريف بما عند أهلها من فضائل وآداب
وإذا استطاع أخونا الزيات أن يفي بما وعد، وعلى الوجه الذي يريد، فلن يكون عمله(463/11)
الصالح إلا أداءً لديون طُوَّق بها جيد مصر في مناسبات مختلفات، فقد أشرت في مقالاتي غير مرة إلى الأعداد الخاصة بمصر في مجلات العراق وسورية ولبنان، ودعوتُ إلى أن نجزي أولئك الإخوان وفاءً بوفاء
ولكن هناك صعوبات تعترض هذا المشروع الجليل، وأخطر الصعوبات هو ضعف الإحاطة بخصائص تلك البلاد. ولتوضيح هذا المعنى أقول:
سيبدأ الأستاذ الزيات بإصدار عدد خاص بالعراق، لأنه أقام فيه ثلاث سنين، ولن يجد صعوبة في تمثُّل ما فيه من مواهب ومطامح وآمال، ولأنه سيجد من إخوانه في القاهرة وبغداد من يساعده على إصدار ذلك العدد الخاص
فما الذي سيصنع حين يتأهب لإصدار أعداد خاصة بالأقطار المغربية واليمنية والحجازية والسورية واللبنانية؟
أنا بمشيئة الله حاضر لمساعدته على العدد الخاص بلبنان. فسأزوره في فرصة سعيدة عند اجتماع المؤتمر الطبي العربي في بيروت، فمن أنصار الزيات في غير العراق ولبنان؟
الخطب أسهل مما نتوهم، ولكن. . . ولكن على شرط أن يهاجر الزيات من المنصورة إلى القاهرة ليستوحي من فيها من العارفين بخصائص الحياة الأدبية والاجتماعية في تونس والجزائر ومراكش واليمن والحجاز وسورية وفلسطين
إن استطاعت (الرسالة) أن تصدر عدداً خاصاً بكل قطر من أقطار العروبة فستؤدي للأدب الحديث خدمة معدومة النظير والمثيل
ولكن متى تصدر (الرسالة) عدداً خاصاً بالسودان؟
السودان جزء من مصر، ولكن محاسنه محجوبة عن جماهير المصريين. . . فهل أستطيع أن أقول لأخواني في السودان إن الرسالة ستصدر عدداً خاصاً بالسودان بمناسبة المهرجان الأدبي المقبل؟
بين القومية والإنسانية
وأرجع إلى تفنيد التهمة التي سيقت ظُلماً إلى الدكتور عبد الوهاب عزام فأقول:
إن الذين كَبر عليهم أن ندعو إلى القومية العربية لم يجدوا حجةً تستر غرضهم المعروف غير القول بأن القومية تنافي الإنسانية، لأنهم فيما يزعمون لأنفسهم دعاة التحرر من(463/12)
الرجعية، والرجعيةُ في أنظارهم هي الوقوف عند حدود الوطن واللغة والدين
ونقول إن حجتنا هي الصحيحة، وإن الأساس لكل إصلاح هو أن تبدأ بنفسك، والذي يعجز عن إقامة بيت في القاهرة لا يستطيع إقامة عش في فيافي اليابان
وقد حدثناكم ألف مرة أن لمصر قومية عربية توجب عليها أن تنظر بعين الأخوة إلى من يفهم عنها وتفهم عنه ولو كان مسكنه فوق أسوار الصين
وحدثناكم أيضاً أن مصر لن تصمّ آذانها عمن يدعوها باسم الأخوّة الإسلامية، ولو كان من سكان المريخ
فيا فلانُ الذي قضى رُبع قرن في تنفير مصر من العواطف العربية والإسلامية باسم الغيرة على الإنسانية، يا فلان مكانك مكانك، فلن يَقبل الله لك عملاً، ولن تُحشر في زمرة المهتدين
وعند الله الجزاء لدعاة البر والخير والإصلاح السليم.
زكي مبارك(463/13)
السيلو هو السيرة والسير
للأب أنستاس ماري الكرملي
1 - تصدير
زارني ولدي بالروح كوركيس حنَّا عوّاد في 1531942 وقال
لي: (يا أبتِ بينما أنا أتصفّح المجلد الـ 87 من المقتطف
(ديسنبر 1935) ص 630 وقع نظري على هذه العبارة وهي:
(وقد اصطلح العلماء على تسمية هذه المخازن (مخازن
الطعام) باسم سيلو وأصل هذه الكلمة بحسب أقوال الغربيين،
ويظهر أنها استعملت أولاً في أسبانيا والمغرب الأقصى.
فحبذا لو عُني أحد اللغويين بالبحث عن أصل اشتقاقها. وقد
اصطلح على تسميتها في القطر المصري بالصوامع، لأن
الفلاح اعتاد أن يطلق اسم صومعة على المخزن المبني
بالطين الذي يحفظ فيه غلاله، وكان الكاتب جلال حسين أول
من أطلق عليها هذا الاسم في مقالات له نشرت في المقطم)
انتهى.
ثم زاد ولدي على ما تقدم نقله ما هذا إيراده: (ثم تصفحت ما جاء من أجزاء المقتطف في مجلدته التالية إلى هذا اليوم فلم أجد من تعرض لهذا البحث ولم أوفق في عثوري على معرفة الأصل العربي، فهل لك أن تذكر لنا اللفظة المأخوذة منها الكلمة الغربية؟).
فقلت له: إني قد بحثت عنها في معجمي الكبير (المساعد) ولكن البحث عنها في هذا البحرِ(463/14)
الغِطمّ يحتاج إلى وقتٍ، فمتى ما سنحت لي الفرصة أُحقق الأمنيَّة، وأنقل ما قيدته في دفاتري. واليوم قد ظفرت بهذا الموضوع، فآتي به وأطلع الأدباء عليه بنشره في هذه المجلة.
2 - أقسام مخازن الطعام
تقسم مخازن الطعام إلى قسمين كبيرين: قسم يتخذ فوق الأرض وقسم يتخذ في السراديب أي تحت الأرض وليس للغربيين إلا اسم واحد لهذين القسمين وهو (سيلو أما العرب، فقد سمو باسمين مختلفين هذين المخزنين: فالذي يبنونه أو يتخذونه فوق الأرض يسمونه السيرة أو السير، وهو الذي نقل إلى (سيلو الغربية كما سترى) وقسم تحت الأرض وهو المسمى عندهم مطمورة.
3 - السيرة والسير
قال صاحب كتاب الرزدقة في ص 143 - 13 وما يليه:
اعلم أن (السيرة) بالكسر و (السَيْر) بالفتح، أن يكدّس الطعام أو الميرة أكداساً وصُبَرا، ثم يجمع بينها وتصومع، ثم تَسيّغ فتصمد دفعاً لعادية الأمطار والثلوج عنها وحفظاً لها من كل ضرر، فان وضع هذا الطعام أو هذه الميرة في حفرة فهي المطمورة) انتهى بنصابه
وقد نقَّرنا عن السيرة والسير في كتب متون اللغة، وهي عندنا كثيرة لا يرى أمثالها عند كثيرين من أصحاب خزائن كتب أبناء يعرب ولا في دور أبناء الغرب فلم نظفر بما يفيدنا هذه الفائدة المطلوبة هنا؛ ولكن لها وجه وجيه في اللغة، فقد جاء في كتبنا عن أحد معانيها: السيرة: الميرة. فيكون مجيئها بمعنى مخزن السيرة من باب حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه، ومنه الآية: واسأل القرية. ومعناه: أهل القرية. وفي الحديث: (وإن مجلس بني عوف ينظرون إليه أي أهل المجلس على حذف المضاف. وفي الأساس: رأيتهم مجلساً أي جالسين. وعندنا من الشواهد ما يقع في جزء من أجزاء هذه المجلة لكثرتها وسماعها عن الأئمة الأعلام الإثبات الذين لا يشك في فصاحتهم ولا في بلاغتهم، ولا في عروبتهم المحضة
وأما (السَيْر) بمعنى السيرة والميرة التي وردت في (الزردقة) فلم نجدها في كتاب لغة؛ لكنا(463/15)
وجدنا في اللسان والتاج وغيرهما (المَيْر) بالفتح بهذا المعنى عينه. وقد رأينا أن (السيرة) بمعنى (الميرة) وردت في كلام الأقدمين ودواوين اللغة، فتكون (السَيْر) للمَيْر من هذا القبيل أي لغة فيها. فتكون (السيلو) من (السير) عن طريق اليونانية، فقد حكى اللغوي العظيم بوازاق في معجمه أصول الألفاظ اليونانية، أن الأغارقة يقولون للسيلو (مخزن الطعام في ص 866 من تصنيفه البديع (بكسر السين) قابلها (بفتح السين) بمعناها فلم يبق شك في أنهما مثل (سِيرةِِ) و (سَير) بكسر السين في الأول وبفتحها في الثاني والمعنى واحد، ثم نقلها عنهم أهل الغرب جميعاً فقال اللاتيين ونقلها عنهم باللام والإنكليز والفرنسيون والإسبانيون فقالوا سيلو أي (باللام)
ولماذا جعلوا اللام في مكان الراء فلأحد سببين: إما لمقاربة مخرج الراء من اللام فأبدلوا إحداهما بالأخرى، وإما لأنهم سمعوها من بعض العرب من قديم الزمان باللام. فالذين نطقوا بها منذ القديم بالراء جاوروا عرباً يلفظون راءها على أصلها. والذين نطقوا بها باللام كالفرنسيين والإسبانيين والإنكليز جاوروا عرباً يجعلون الراء لاماً. وهذا ما ورد نظائره في كلام السلف الصالح القديم فقالوا: هدر الحمام هديراً وهدل هديلاً، واعرنكس الشَّعر واعلنكس أي تراكم وكثر أصله. والعرجوم والعلجوم، وأربَّ في المكان إرباباً وألب فيه إلباباً: إذا قام به. والشواهد لا تحصى لكثرتها.
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(463/16)
خسرو وشيرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
- 5 -
ودّعت شيرين فرهاد بعد أن استرد شعوره، وتركته ونزلت بجوادها الجبل قاصدة قصر شيرين، وإذا بالجواد يكبو وتكاد شيرين أن تسقط من فوقه. فأسرع فرهاد إليها، وقد أراد أن يقوم أمامها بعمل من أعمال الرجولة والبطولة، وحملها هي وجوادها على كتفيه، ونزل بها ذلك المنحدر الشاق، فأعجبت شيرين بقوته الهائلة
وفي (شكل 1) تقدم فرهاد لنجدة شيرين، عندما تعثَّر جوادها الأصيل وكادت تزلّ قدمه، فحملها هي وجوادها على كتفيه ونزل بهما ذلك المنحدر الشاق، وقد ظهرت على وجهه دلائل السعادة لهذا العمل الذي جلب إلى قلبه الغبطة والسرور. ونرى خلفه اللوحة التي نحتها لتمثيل خسرو وهو واقف بين شيرين وموبذَ الموبَذان. وهذه الصورة كانت مع عدة صور أخرى ضمن مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي مؤرخ سنة 868 هـ (1463م). ويمكن تأريخ هذه الصور حوالي سنة 854 هـ (1450م). هذه الصورة محفوظة في مجموعة شستر بيتي بلندن
بلغت مسامع خسرو أخبار تطور العلاقات بين شيرين وفرهاد، من عطفها وإشفاقها عليه، إلى إعجابها به، فخاف أن تبلغ هذه العلاقات بينهما مدى أبعد من ذلك. أضف إلى ذلك أنه علم أن فرهاد قد قرب من إتمام مشروعه الهائل، وإنه على وشك والوصول إلى نهاية الطريق الذي يشقه في صخور جبل بيستون. فجمع خسرو وزراءه وسألهم عن حيلة تعفيه من وعده لفرهاد، فأشاروا بما أملته عليهم قلوبهم الجامدة القاسية، التي لا يعرف الحب إليها طريقاً، والتي ماتت فيها العواطف وتحجرت دماء الشباب. إذ أرسل خسرو إلى فرهاد الشاب المفعم بالحماسة للحياة، امرأة عجوزا قد فرغت من تجارب الزمان، أخبرته في رفق قاتل، وتؤدة خانقة، أن شيرين قد اختارها الله تعالى إلى جواره. . . يا لله!. . . ماتت شيرين!. . . فيالها من حياة تعسة يائسة!. . . ولكن. . . لا!. . . فإن قلوب المحبين خالدة(463/17)
لا تموت!. . . وشعر فرهاد كأن روح شيرين ترفرف عليه، وتدعوه ليصعد إلى جوارها، إلى حياة أخرى خالدة هادئة. . . وصعد فرهاد إلى صخرة شاهقة تشرف على ذلك الطريق الذي شقه في سبيل القرب من حبيبته. . . فصار آخر طريق يسلكه ليصل من هذه الدنيا. . . دنيا الخبث والشقاء والبؤس. . . إلى دنيا الصفاء والأحلام والخلود. . . وعلى سطح هذه الصخرة الشاهقة، سجد فرهاد أمام روح شيرين الطاهرة البريئة. . . وقد مثلت أمامه، فرآها بعيني بصيرته، وقبَّل لها الأرض في خشوع وخضوع. . .
ثم قام وقد افترت شفتاه عن ابتسامة الواثق من مآله، ولاحت على وجهه دلائل الغبطة والسعادة، وألقى بذلك الجسد الفاني إلى الطريق، فصعدت روحه الخالدة إلى السماء، وهي تنظر وراءها، إلى تلك الابتسامة الباقية على شفتيه، فترى فيها ما للموت من جمال. . . وكيف لا يكون للموت جمال. . .؟!
وفي (شكل 2) يرقد فرهاد رقدته الأخيرة، بعد أن ألقى بنفسه من أعلى الصخرة، فسقط إلى جوار أدواته التي كان يعمل بها في نحت الطريق بجبل بيسُتون. وإلى اليمين أسرع رجل إليه، وقد عقلت الدهشة لسانه، فوضع يده على فمه. وانطلقت الغزلان والطيور مبتعدة عن مكان هذه المأساة الموحشة، كأنها تفر من هول القضاء المحتوم. وهذه الصورة في مخطوط (2) للمنظومات الخمس للشاعر خسرو الدهلوي، كتب في مرات سنة 890 هجرية (1485م) ومحفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن
أفلحت مكيدة وزراء خسرو، ومات فرهاد وهو يعتقد أن شيرين قد ماتت، فأراد أن يلحق بها. وحزنت شيرين على فرهاد حزناً شديداً، فأمرت ببناء قبة فوق المكان الذي مات فيه، لتكون رمزاً للحب الطاهر البريء، وكعبة يحج إليها كل محب صادق في حبه
لم يكن حزن شيرين لموت فرهاد إلا لإشفاقها عليه وإعجابها به، فقد كان صادقاً في حبه، عفيفاً أبيّ النفس، وفياً كامل الرجولة. وماتت مريم ابنة إمبراطور الروم، وزوجة خسرو وأم ابنه شيرويه. فأرسل خسرو الرسل إلى شيرين يطلب ودّها، ولكنها رفضت أن تقابلهم، وأصمت أذنيها دونهم. وحاول شابور، صديق الطرفين، أن يوفق بينهما، فبذل في هذا السبيل كل ما أوتي من ذكاء وسعة حيلة، ولكنه لم يفلح. فقد كانت شيرين غضبى لزواج خسرو من مريم، ولقسوته الشديدة على فرهاد. وأراد خسرو أن يسري عن نفسه، فاختار لذ(463/18)
لك سيدة جميلة من سيدات البلاط، اسمها (سكر) ولكنه سرعان ما سئم صحبتها
وتاقت نفسه إلى حبيبته شيرين، فرحل إلى الهضاب المرتفعة في طلب الصيد، وضرب خيامه على مقربة من قصر شيرين. وكانت هي - على مر الأيام - قد بدأت تشعر بالأسف، لمعاملتها رسله بهذا الجفاء، فرضيت أن تستقبله في قصرها. وما كادا يتقابلان في أول لقاء بعد هذه الحوادث، حتى ثارت ثائرتها، وأخذت تعنفه لخيانته وقسوته، ثم صرفته من بين يديها، فرجع كسير القلب حزيناً. وعادت شيرين ثانية تشعر بالأسف لجفائها معه، وأرادت أن تصلح ما أفسدت، فتسللت من قصرها، وتوجهت إلى مضرب خيامه في زي أحد غلمان الملك. وهناك قابلها شابور، فتوسلت إليه أن يخبئها في منظرة، ففعل ذلك. وأغري خسرو حتى أدب مأدبة في هذه المنظرة. وكان شابور قد أخبر نيكيسا بوجود شيرين، فغّنتْ أثناء المأدبة بصوت رخيم تحركت له أوتار قلب خسرو، ورد عليها باريد بأغنية أثارت عواطف الجميع، فلم تتمالك شيرين نفسها دون أن تتنهد، وتفصح بذلك عن وجودها. وهنا رفع شابور الستار عن مخبئها، ورآها خسرو أمامه، وهي ترنو إليه، ولسانها حالها يقول
لا رأى السوء من يراك يد الده ... ر وأحيا الإله من حياكا
أي نور لناظريْ إذا ما ... مرّ يوم وناظري لا يراكا
(له بقية)
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية(463/19)
محاكمة قصاص
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
هذا حديث كنت شاهده عرضاً، وكان قد جرى بين صديق لي من القصاصين وبين إحدى الإنجليزيات، لم أشترك فيه إلا بالسمع فقط وإلا بإشارة عارضة أو نظرة تأييد وموافقة عندما كان يفزع إليَّ أحد المتحادثين في غضون الحديث، فكنت اعتصم بالصمت طوال سيره
وقد بدأ هذا الحديث أول ما بدأ تغلب عليه مسحه من التزمت الذي يقتضيه مثل هذا الموقف، ثم أخذ يتحدر شيئاً فشيئاً إلى الكثير من اللجاجة وقليل من قسوة اللفظ كنت أرى أنهما غير مصطفين
وقد سجلت هذا الحديث لأنه يمثل متهماً يدافع عن نفسه في اتهام لا يمكن أن يبرز في غير هذا السياق من الأخذ والرد، ولأنه يمثل مفهوماً للأدب الحديث بين عصرين وحضارتين وجنسين
قالت الجليسة لرفيقي بعد تطور الكلام - وكان في حفلة من الحفلات العامة - الذي بدأ كما يبدأ كل كلام بين غريبين ببعض المجاملات المعروفة:
- علمت أنك تكتب القصص الصغيرة، فهل كان ذلك منك اختياراً، أم أنك كنت تقتفي أثر أحد من الأدباء الذين أعجبت بهم؟
فأجاب صاحبي:
- من المؤكد أنه اختياري الخاص؛ وإن كان قصدك بالاقتفاء (التقليد)، فان القليل عندنا من أدباء العربية من يكتبون القصص الصغيرة والأقل منهم من يجيدها. وإن كان قصدك اقتفاء سير الأدب الغربي، فأنت تعلمين أن مثل هذا لا يمكن أن يسمى اقتفاء أو تقليداً، لأن جميع الأدباء الغربيين تقريباً يكتبون القصص، بل لعلهم لا يكتبون سواها، فلا يمكن أن يكون كل واحد مقلداً لكل واحد
- أنا لا أفرق بين الاقتفاء والتقليد، وإن كنت في الحقيقة لا أرى في التقليد العيب الذي ترونه فيه أنتم معشر الشرقيين، فالحقيقة أن الابتكار نفسه هو تقليد مضاعف
- قد يكون ذلك حقاً، ولكن رغبة الأديب في القالب الذي يفضله لأداء رسالته الأدبية لا(463/20)
يمكن أن يبت فيه غيره هو. ولا أضن أن هناك من الأدباء الناجحين من سار على طريق مفترح. والحال في هذا كالحال في جميع الأشغال والأعمال، فلا يفرض النجاح لعمل ما إذا كان ذلك العمل غير مرغوب فيه، وإذا لم يكن الإلهام من المجهول هو السائق الأول له
- لماذا فرضت أن يكون العمل غير مرغوب فيه تقليداً؟ قد تجيد عملاً ما ولا تدري أنك تجيده حتى يتضح ذلك بمناسبة ما!
- إن ميلي إلى كتابة القصص الصغيرة ليس من هذا النوع، فإني لم أكتشفه في نفسي اكتشافاً، بل رأيتني مدفوعاً إليه
- وكيف كنت تشعر عندما كتبت أول قصة؟
- لا أذكر أول قصة كتبتها، ولكني أذكر أول قصة لي نشرت، وقد كانت سخيفة!
- لم أكن لأستغرب هذا القول منك، ولن أستغربه إذا سمعتك بعد عشر سنوات تقول عن قصتك التي نشرت أمس سخيفة! أن في كتابة القصص لمجالاً كثيراً للسخف، والغريب أن أول من ينبه إليه بعد فوات الوقت هم كتابه!
رأيت صاحبي يتقبل هذا التهجم بصبر وأناة، ويحاول أن يدور بالحديث غير مداره، ولعلها هي الأخرى أدركت أنها كانت قاسية بعض القسوة في قولها ذاك فأردفته قائلة:
- كنت أقصد أن أقول هذا على سبيل المدح لكتاب القصة لا على سبيل القدح فيهم، فالحق أن الاعتراف لا يكون أكثر تجلياً مما هو عليه لدى أرباب القصة
فقال صاحبي:
- لعلك صادقة في قولك هذا إن (دستوفسكي) مثلاً لم يكن يتسنى له أن يبلغ من الفن تلك الذروة التي بلغها لو لم يكن كما وصفت. وكذلك (ل. هـ. لورنس) - من كتابكم - فهو من عباد الواقع ومن أربابه الذين خدموه
فسألته وتقدمت إلى الأمام قليلاً، وكأنها تريد أن تدعوه إلى معركة:
- هل تحب (لورنس)؟
- كثيراً جداً
- وماذا يعجبك في فنه؟
- إذا طرحنا بيانه الرائع وقدرته الفنية على الأداء جانباً، فإني أعجب، بالإضافة إلى ذلك،(463/21)
باتجاهه الأدبي، ولعلي من الزمرة الذينَ يسمونه بالنبوة بين كتاب جيله!
- لعلك مغرق في تحمسك. . . إن (لورنس) أديب ولاشك، ولكنه ليس كما وصفته. إنه أديب منافق! ولكني لا أريد أن أجادلك في موضوع (لورنس) بل أود أن تشرح لي كيف تكتب قصصك
- إن كان قصدك وصف الكتابة ونوع المؤثر الذي يحدو بي إليها، فإني في الحقيقة لا أقدم على كتابة قصة قبل أن ينزع بي نازع إلى الكتابة. ولا أظن أن وضعي في ذلك يختلف كثيراً عن وضع الشاعر عندما تتكون فيه الرغبة إلى نظم القصيد. وفي أكثر الأحيان أراني أكتب قبل أن يتكون في مخيلتي كيان القصة أو عمودها الفقري كما يصطلحون!
فسألته المحدثة بابتسامة غامزة:
- ألا ترى أنك تخلق من أبطال قصصك مخلوقات مبتسرة! أليس هذا الإنشاء اعتباطاً؟
فأجاب صاحبي القصص وكان قد رفع قدح الشاي إلى فمه فأنزله مسرعاً:
- إني لا أعدو في ذلك ما تصنعه الطبيعة في خلق أبنائها! وأضن أن مهمة الفنان في هذه الحياة هي أن ينوب عن الطبيعة الأم فكأن هذا الجواب أرضاها، فقالت وهي تهز رأسها هزة الموافق:
- ذلك صحيح. . . وماذا عن العقدة
- هنا موضع الخلاف كما يقولون، فأنتم في الغرب تقيمون لها الوزن كل الوزن؛ أما نحن هنا فقليلاً ما نعني بها عنايتكم هذه، وأضن أنك تلاحظين أن آداب الأمم الغربية القريبة إلى الشرق أقل نزوعاً إلى (القعدة) في قصصها منها في الأمم الضاربة إلى الغرب. وأقرب مثال إلى ذلك في نظري هو الأدب الروسي الذي نستطيع أن نقول: لا عقدة فيه
- ولكن أدبكم على ما أسمع ليس فيه ذلك العمق الموجود في الأدب الروسي
- ذلك لأن أدبنا لا يزال في طور التكوين
- وقد كان الأدب الروسي كذلك في بداية أمره، ولكنه لم يكن كأدبكم هذا الذي نسمع به ولا نستطيع أن نراه. إن نقدة الأدب عندنا يرون أن أدبكم العربي المعاصر لا يمكن نقله على صورته إلى اللغات الأخرى، وعلى الأخص منه الشعر، وليس كذلك الأدب الروسي أو غيره(463/22)
- قد يكون هناك سبب أساسي وهو أن اللغة العربية عميقة الأداء وأن بعض تعابيرها قد تجمدت كما يقولون، ولكن المهم في نظري هو سير لغتنا بقوة الاستمرار فقط مدة طويلة من الزمن لا بقوة الحياة كما كان ينبغي لها أن تسير، ولذلك فإنها تخلفت عما سواها من اللغات في الأداء، وعليها أن تجتاز كثيراً من العقبات قبل أن تستعيد ماضيها الحافل
وهنا حدثت فترة في الحديث واتصل نظر المتحاورين بما يجري في القاعة من أخذ ورد ثم عطفت المتحدثة مرة أخرى إلى صاحبي وساءلته:
- هل تفضل طريقة غير طرية القصص في الأداء والخلق كأديب، أم أنك قانع بفنك؟
فأجابها صاحبي بعد فترة وجيزة بتؤدة:
- كنت أتمنى أن أكون شاعراً ولكن ذلك ليس بيدي، وأظنني لا أعدو الشاعر في وضعي الآن كقصاص، ولكني كما قلت لك لا أفضل على كتابة القصة شيئاً
- ذلك ما ظننت
وبعد برهة وجيزة أخرى رأيت صاحبي ينحاز إليها سائلاً:
هل لي أن أستوضح السيدة أمراً؟
- نعم
- ماذا تفضلين من أنواع الأدب؟
- القصة
- وهل أنت قصاصة؟
فابتسمت المحدثة ابتسامة رطيبة وأومأت إليه برأسها:
- لا أكذبك يا صديقي! إنني أنا أيضاً قصاصة؟
- ففتحت عيني مستغرباً، وكذلك كان صاحبي، فقد جاء جوابها هذا أغرب ما في الحديث!
عبد الوهاب الأمين
-(463/23)
33 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل العاشر - (الخرافات)
لا تكاد القرية المصرية تخلو من ضريح ولي يزوره الكثيرون ولا سيما النساء في يوم خاص من الأسبوع. ويحمل بعض النساء إلى هنالك خبزاً للعابرين الفقراء وغيرهم. ويضع بعضهم أيضاً قطعاً نقدية صغيرة فوق القبر تقدمه للشيخ أو صدقة لأجله. وقد اعتاد الفلاحون كذلك أن ينذروا لأوليائهم ذبائح. مثال ذلك أن ينذر الرجل للشيخ فلان (المتوفى) ماعزاً أو ضاناً إذا أبل من مرض أو أنجب ولداً أو بلغ مراماً، فيضحي بالذبيحة عند قبر الشيخ إذا قضى حاجته حالته، ويولم بلحم النذر للفقراء. وثواب ذلك يبقى للولي. وكثيراً ما ينذر الجداء الصغيرة لتذبح في المستقبل فيشرم أذنها اليمنى أو يعلمها بعلامة ما. وليس من النادر أن ينذر الفلاح نذراً لا يبتغي منه شيئاً غير البركة. وقد ينذر أحياناً عجلاً يذبحه حين يكبر ويسمن، فيترك العجل طليقاً يرعى برضاء الجيران في كل مكان حتى حقول القمح. ثم يذبح العجل ويؤدب بلحمه مأدبة عامة. وكثيراً ما ذُبحت ثيران كبيرة بهذه الطريقة
يكرم كل ولي مشهور تقريباً بالاحتفال بمولده فيزور الناس قبره في ذلك اليوم تبركاً، ويستأجرون الفقهاء لتلاوة القرآن على روح الولي. ويقوم الدراويش بالذكر. ويعلق من يسكن بجوار الضريح مصابيح أمام أبوابهم، ويقضون نصف ليلهم في التدخين واحتساء القهوة والاستماع إلى رواة القصص في المقاهي أو تلاوة القرآن والأذكار. وأمام بابي الآن عدة مصابيح علقت احتفالاً بمولد شيخ يجاور ضريحه المنزل الذي أسكنه. وكثيراً ما يعلق المسيحيون المصريون كذلك المصابيح في مثل تلك الأحوال. وتستمر هذه الأعياد بضعة(463/24)
أيام غالباً. وأشهر موالد القاهرة بعد المولد النبوي مولدا الحسين والسيدة زينب، وقد وصفتهما في فصل لاحق من الأعياد الدورية العامة في مصر. ولا يواصل أكثر المصريين زيارة قبور الأولياء المشهورين للتبرك فحسب، وإنما يواصلونها خشية نزول المصائب بهم إذا قصروا في ذلك. وهكذا يقاسى الآن أحد معارفي مرضاً يعزوه إلى إهماله حضور مولد السيد احمد البدوي في العامين الأخيرين، وقد جاء أوان الاحتفال بأحد موالده. ويكاد ضريح هذا الولي يجتذب زائرين من العاصمة وأنحاء مصر السفلى أثناء الموالد السنوية الكبيرة بقدر ما تجتذب مكة حجاجاً من أنحاء العالم. ويقام للسيد البدوي ثلاثة موالد سنوية إكراماً له. ويقام أحدها حوالي اليوم العاشر من شهر طوبه (17 أو 18 يناير) والثاني في الاعتدال الربيعي أو نحو ذلك، والثالث وهو المولد الكبير يقام بعد الانقلاب الصيفي بشهر تقريباً (أو حوالي منتصف شهر أبيب) عندما يزيد ارتفاع النيل ولم تقطع السدود بعد. ويستمر كل مولد ثمانية أيام، فيبدأ يوم جمعة وينتهي بعد ظهر الجمعة التالية. وتقام في كل ليلة ألعاب نارية. ويحتفل بمولد السيد إبراهيم الدسوقي بعد كل من الموالد السابقة بأسبوع في دسوق على الضفة الشرقية من فرع النيل الغربي. وكان السيد إبراهيم ولياً ذائع الصيت يلي السيد البدوي في الشهرة.
وتعتبر موالد السيد البدوي والسيد إبراهيم الدسوقي أسواقاً عامة فضلاً عن كونها أعياداً دينية، ويقيم أكثر زائري مولد السيد إبراهيم في مراكبهم. ويعرض بعض دراويش السعدية من أهل رشيد ألعابهم بالثعابين، ويحمل بعض هؤلاء ثعابين شد فمها بحلقة فضية وقاية من لدغها؛ ويأكل آخرون بعض هذه الثعابين حية. ولا يزيد الاحتفال الديني في الموالد جميعاً على إقامة الذكر وتلاوة القرآن. وقد جرت العادة أن يقوم المسلمون - كما كان يفعل اليهود - بتجديد بناء قبور أوليائهم وتبيضها وزخرفتها وتغطية التركيبة أو التابوت أحياناً بغطاء جديد؛ وأكثر هؤلاء يفعلون ذلك رياءً كما كان يفعل اليهود
يكثر الدراويش في مصر كثرة عظيمة، ويحترم المصريون - وخاصة الطبقات السفلى - هؤلاء الذين يعكفون على الرياضة الدينية ويعيشون على الصدقة احتراماً كبيراً؛ ويستخدم بعض الدراويش الحيل المختلفة الاشتهار بقداسة فائقة وقدرة القيام بالكرامات، ويعتبر الكثير منهم أولياء(463/25)
ويحمل من ينحدر مباشرة من ذرية أبى بكر أول الخلفاء لقب (الشيخ البكري)، ويعتبر ممثل ذلك الخليفة، ويسيطر على جميع طوائف الدراويش بمصر؛ ويعتبر (الشيخ البكري) الحالي، وهو أيضاً من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم نقيب الأشراف. ولعمر أيضاً ممثل هو (شيخ العنانية) أو (أولاد عنان)، وهم طائفة من الدراويش سموا هكذا باسم (ابن عنان) أحد شيوخهم المشهورين. وليس لعثمان ممثل، إذا أنه لم يترك خلفاً. ويسمى خليفة على (شيخ السادات)، وهو لقب دون لقب (نقيب الأشراف). ويدعى كل شيخ من هؤلاء الثلاثة (صاحب سجادة) سلفه العظيم. وكذلك (شيخ الطائفة) من طوائف الدراويش يسمى (صاحب سجادة) مؤسس الطائفة. وتعتبر السجادة العرش الروحي. وفي مصر أربع سجاجيد كبيرة وهي لتلك الطوائف الكبيرة التي سأذكرها الآن
أشهر طوائف الدراويش في مصر ما يأتي:
أولاً: طائفة (الرفاعية) أسسها السيد أحمد الرفاعي الكبير. وأعلام الرفاعية وعمائمهم سوداء، وقد تكون العمائم من الصوف الحالك الزرقة أو الموصلي القاتم الخضرة. ويشتهر دراويش الرفاعية بأعمالهم العجيبة. ودعَّي (العلوانية) أو (أولاد علوان) وهم فرقة من الرفاعية أنهم يغرزون المسامير الحديدية في أعينهم وأجسامهم دون أن يقاسوا ألماً. والظاهر أنهم يفعلون ذلك بطريقة تخدع من يصدق مثل هذه الأعمال. وهم يحطمون أيضاً على صدورهم كتلاً من الحجارة ويبتلعون الحجر والزجاج. ويقال إنهم يخترقون أجسامهم بالسيوف وخديهم بالمسلات دون ألم أو جرح. غير أنه قلما تشاهد هذه الألعاب الآن. وكانت العادة كما أُخبرت أن يقوم الدرويش بتجويف قطعة من جذع النخل ويحشوها بخرق غمست في الزيت والقطران ويشعلها. ثم يحمل هذا الجسم الملتهب تحت ذراعه في موكب ديني وليس على جسده غير سروال فينبعث اللهب على صدره وظهره ورأسه ولا يبدي ألماً. و (السعدية) فرقة أخرى من الرفاعية أشهر من الأولى أسسها الشيخ سعد الدين الجباوي، وأعلامها وعمائم أعضائها خضراء وقد تكون العمائم قاتمة. ويوجد في هذه الطائفة دراويش يمسكون الثعابين السامة والعقارب بلا خوف، ويلتهمون بعضها. إلا أنهم ينزعون أنياب الثعابين حتى يأمنوا شرها. ولاشك أنهم يعدمون العقارب سمها أيضاً. ويركب شيخ السعدية في بعض المناسبات كمولد النبي (صلعم) حصاناً ويسير به على(463/26)
أجسام بعض دراويشه وغيرهم وهم راقدون على الأرض. ويقرر جميعهم أن وطء الحصان لم يؤذهم ويسمى هذا الموكب (الدوسة). ويعيش الكثير من دراويش الرفاعية والسعدية على إخراج الثعابين من البيوت. وسأتكلم عن براعة هؤلاء المشعوذين في فصل آخر.
ثانياً: (القادرية) أسسها السيد عبد القادر الجيلاني النبيه الذكر. وبيارق القادرية وعمائمهم بيضاء. وأغلبهم صيادون فيحملون في المواكب الدينية شباكاً مختلفة الألوان يرفعونها على دعائم تمييزاً لطائفتهم.
ثالثاً: (الأحمدية) وهم طائفة السيد أحمد البدوي. وهذه الطائفة كثيرة العدد ومحل الاحترام. وراياتهم وعمائمهم حمراء.
وتعتبر (البيومية) ومؤسسها السيد على البيومي، و (الشعراوية) ومؤسسها الشيخ الشعراوي و (الشناوية) ومؤسسها السيد على الشناوي فرقاً من الأحمدية. ويشترك الشناوية في اليوم الأخير من مولد شفيعهم الكبير السيد احمد البدوي في طنطا بنصيب غريب، إذ يجرون حماراً في ذلك اليوم ويتركونه يدخل المسجد من تلقاء نفسه. فإذا دنا من الضريح حيث يحتشد الجماهير نتف كل من استطاع بعضاً من شعره كتعويذة حتى يصبح جلد الحيوان المسكين عارياً كراحة اليد. وهناك فرقة أحمدية أخرى تسمى (أولاد نوح) كلها شبان يلبسون (طراطير) تعلوها شرابة من قطع الجوخ المختلف الألوان. ويحملون سيوفاً خشبية وسياطاً من الحبال السميكة المجدولة المسماة (فرقلة) ويلبسون عدة عقود من الخرز.
رابعاً: (البراهمة) أو (البرهامية) وهم طائفة السيد إبراهيم الدسوقي الذي سبق الكلام عن مولده. وأعلامهم وعمائمهم خضراء. وهناك فرق أخرى ينتمي بعضها إلى الطوائف السابقة، ومن أشهرها (الحفناوية) و (العفيفية) و (الدمرداشية) و (النقشبندية) و (البكرية) و (الليثية)
والإلمام بكل عقائد الدراويش وقوانينهم وشعائرهم مستحيل؛ إذ أن أكثرها مثل عقائد الماسونية لا تذاع على غير المطلعين على أسرارها. وقد وصف لي درويش أعرفه كيف أخذ (العهد) أي ميثاق التعريف بالسر وهو يكاد يكون واحداً عند الطوائف جميعها. استقبل شيخ الدمرداشية صاحبي هذا فتوضأ وجلس أمامه على الأرض. ثم ضم كل من الشيخ(463/27)
والمريد يده اليمنى إلى يد الآخر بالطريقة السابق وصفها عند عقد الزواج. وبهذه الحالة واليدان مغطاتان بكم الشيخ أخذ المريد العهد مردداً وراء الشيخ هذا الكلام التالي بادئاً بالتوبة: (أستغفر الله العظيم (ثلاث مرات) الذي لا إله إلا هو الحي القيوم. أتوب إليه وأسأل عفوه وغفرانه وإعتاقه من النار) ثم يسأله الشيخ هل يتوب إلى الله؟ فيجيب المريد أنه يتوب إلى الله ويرجع إلى الله. وإنه نادم على ما ارتكب من المعاصي ويقرر أنه لا يعود إلى غيه. ثم يردد بعد الشيخ أنه يستخير الله العظيم والرسول الكريم. وإنه يولي عليه السيد عبد الرحيم الدمرداش الخلوتي الرفاعي النبوي محتذياً مثال شيخه ومرشده إلى الله تبارك اسمه وتعالى. وإنه لا يحيد عن تعاليم الطريقة ولا ينفصل عنها، ويشهد الله على ذلك مقسماً بالله العظيم ثلاث مرات. ثم يقرأ الشيخ ومريده الفاتحة معاً. ويختم المريد الحفل بتقبيل يد الشيخ. وتقوم أعمال الدراويش الدينية على الذكر خاصة، فيصيحون أو ينشدون واقفين في حلقة مستديرة أو مستطيلة أو في صفين متقابلين أو جالسين: (لا إله إلا الله) أو (الله الله الله) أو يرددون أدعية أخرى، ويكررونها حتى تخور قواهم وهم أثناء ذلك يحركون الرأس أو الجسم جميعه أو الذراعين. ويستطيعون لدأبهم على ذلك أن يواصلوا هذه الحركة بلا انقطاع مدة تثير الدهشة. وكثيراً ما يصحبهم من وقت لآخر عازف أو أكثر على (الناي) أو على (الأرغول) وآخرون ينشدون القصائد الدينية. ويستخدم بعض الدراويش أثناء الذكر طبلاً صغيراً يسمى (بازا) أو دفاً. ويقوم البعض الآخر برقص غريب سأصفه مع أشكال مختلفة للذكر في فصول قادمة.
عدلي طاهر نور
-(463/28)
من التاج
(فاُروقُ أْنتَ هُداها كُلَّماَ عَشِيتَْ)
(إلى عزيز مصر (فاروق)، تحية لعيد جلوسه الملكي السعيد)
الأستاذ محمود حسن إسماعيل
نُورٌ مِنَ اللهِ تَرْعَاهُ العِناَياَتُ ... هاَتُوا أََغَانِيَكُمْ فِي حُبَّه هاَتُوا!
وَجَلجِلُوا فيِ فَمِ الدُّنْياَ بِعِزَّتِهِ ... فَنَحْن مِنْ دُونِهاَ فِي الأَْرْضِ أَمْواتُ
وَرَدَّدُوا فيِ ضُحَى الْوادِي بَشَائَرَهُ ... فَماَ لَناَ غَيْرُهاَ لِلمْجَدْ آياَتُ
وَامْشُوا كَماَ خَطَرَتْ مِصْرٌ بِساَحَتِهِ ... نَشْوَى تُرَنَّحُ جَنْبَيْهاَ الصَّباَباَتُ
غَدَا هَواهاَ دَمًا يَجْرِي بِمُهْجَتِهِ ... كَماَ جَرَتْ بِحَياَةِ الْبَحْرِ مَوْجَاتُ
حَناَ عَلَيْهاَ كَماَ تَحنْوُ الظَّلاَلُ عَلَى ... ساَرِي هَجِير لَهُ في الدَّوِّ آهاَتُ
حَناَ عَلَيْها كَمَا يَحْنوُ الشُّعاَعُ عَلَى ... مُحَيَّر الَّليْلِ تُشْقِيِه المَفَازَاتُ
حَناَ عَلَيْهاَ كَماَ تَحْنُو الْمُنَى فَجَأَتْ ... قَلْبًا تُراوِغُ جَنْبَيْهِ الْعُلاَلاتُ
حَناَ عَلَيْهاَ وَسَقَّاهاَ الْعُلا فَمَضَتْ ... وَمَا لَهاَ غَيْرُ مَهْدِ النَّجْمِ غَاياَتُ
مُمَلَّكٌ في شَباَبِ الْعُمْرِ تَحْسَبُهُ ... لِحِكْمَةِ الرَّأْيُ تَحْدُوهُ الْقَدَاساَتُ
أساس مُلْكِ الْوَرَى سَيْفٌ وَصَوْلَجةٌ ... وَمُلْكُهُ الضَّخْمُ تعْلِيهِ اُلْحشَاشَاتُ
أَحَبَّهُ النَّاسُ حَتَّى لَوْ سَجاَ حُلُمٌ ... بِغَيرِ رُؤْياَهُ تُبْلِيهِ النُّفاَثاَتُ
أَحَبَّهُ النِّيلُ. . . سَلْ أَمْوَاجَهُ تَرَهاَ ... وَمِلءُ أَقْدَاحِهاَ مِنْهُ بَشاَشاَتُ
أَحَبَّهُ الطَّيْرُ. . . حَتَّى قَالَ أَعْجَمُهاَ ... مِنْ نَشْوَةٍ بالْهَوى: أَيْنَ الرَّباَباَتُ؟
أَحَبَّهُ الشَّرْقُ. . . حَتَّى صاَرَ قِبْلَتَهُ ... أَنَّى مَشَى خَلْفَهُ تَمْشي السِّياَساَتُ!!
أَحَبَّهُ اللهُ. . . إذ أَوْحَى لِكُلِّ هَوًى ... بُشْرَى هَواهُ فَحَفَّتْهُ الضَّراعَاتُ. . .
كأَنَّماَ حُبُّهُ للِكَوْنِ هاَدِيَةٌ ... مِنَ الشَّرَائعِ ساَقتْهاَ الدِّياَناَتُ
مُتَوَّجٌ فَوْقَ عَرْشٍ مُنْذُ مَا بَزَغَتْ ... شَمْسُ الْوُجُودِ تُحَيِّيهِ الْبَرِيَّاتُ
شَعَّتْ عَلَى مَفْرِقِ التَّارِيخِ صَفْحَتُهُ ... كأَنَّهاَ لِظَلامِ الدَّهْرِ مِشْكاَةُ
مِنْ عَهْدِ فرِْعَوْنَ مَا زَاَلَتْ عَظاَئمُهُ ... تُتْلَى بِهاَ لِبنَي الدُّنْياَ رِوَاياَتُ(463/29)
أَهْرَامُ خُوفُو تَهاَبُ الِجنُّ ساَحَتَهاَ ... كأَنَّماَ هيَ لِلأَقْدَارِ خَيمْاَتُ. . .
مُخَيَمَاَتٌ وَأَسْرارُ السَّماَءِ بِهاَ ... كأَنَّماَ هِيَ لِلأَفْلاَكِ جَارَاتُ. . .
وَخَيْلُ (رَمْسِيسَ). . مَازاَلَتْ سَناَبِكُهاَ ... تُلْقي حَديثَ الْوغَى عَنهْاَ الْفتُوُحَاتُ
وَالَّسيْفُ فيِ يَدِ (إبراهيم) مَا فَتِئَتْ ... لِلنَّصْرِ تُرْعِشُ حَدَّيْهِ اَلْخياَلاَتُ!
وَادٍ أَشَمُّ الْعُلَي مَرَّتْ بِهِ حِقَبٌ ... أيامهُنَّ بِكَفَّ الدَّهرِ رَاياَتُ
ضِفاَفُهُ مَنْزَهُ الدُّنْياَ وَمَعْبَدُهاَ ... وَنِيلُهُ لِعَذَارَى السِّحْرِ مِرْآةُ
وَللطُّيورِ بِهِ شَدْوٌ كأَنَّ عَلَى ... إِيقاَعِهِ مِنْ أَغَانيِ الخُلْدِْ رَنَّاتُ
شِعْرٌ مِنَ النغَمِ الْعاَليِ يُساَجِلُهُ ... مِنْ أَفُرعِ الدَّوْح تَسبيِحٌ وَإِنْصاَتُ. . .
وَللرَّياَحِ أَباَريقٌ مُخَتَّمةٌ ... بِمِثْلِ صَهْباَئِهاَ لَمْ تَسْقِ حَاناَتُ
تَجِري بأَسْرارهاَ لَمْ يَدْرِ شاَربِهُاَ ... أَسْرٌ هُنَالِكَ أم للرُّوحِ إِفْلاَتُ. . .؟!
دُنْياَ مِنَ السِّحْرِ لَمْ تُكْشَفْ سَرَائرُهَا ... لسَاحِرٍ لَمْ تُكاَشِفهُ السَّمواتُ. . .
سَجَتْ رُباَهَا. . . وَقَلْبُ الأَرٍَْضِ مُضْطَرِمٌ ... تُفَزَّعُ الجِنَّ مِنْ شَكْوَاهُ أَناَّتُ
فَارُوقُ. . . أَنْتَ لَها فَجْرٌ عَلَى يَدِهِ ... تَرقَرقَتْ مِنْ ضِياََءِ اللهِ هَالاَتُ
فَارُوقُ. . . أَنْتَ مَلاَذٌ عِنْدَ حَيَرتِهَا ... عَلىَ يَدَيْكَ لَها تُرْجَى المَناَرَاتُ
فَارُوقُ. . . أَنْتَ هُدَاهَا كلمّا عَشِيَتْ ... وَعَصَّبتَهَا عَنِ النُّورِ الضَّلاَلاَتُ. .
فَارُوقُ. . . كَمْ رُحْتَ في الْبَلْوَى تُهَدْهِدُهَا ... وَمَنْ سِوَاكَ إذا تَطْغَى الْبَلِيَّاتُ؟!
كَمْ بَائِسٍ كُنْتَ سُلْوَاناً لِكُرْبِتَهِ ... لَوْلاَكَ مِنْ دَمْعِهِ يَرْوَي وَيَقْتَاتُ
وَكَمْ شَقِيَّ الثَّرَى، عارِي الأَدِيم، مَضَتْ ... رَفرَافَةً مِنْكَ تُحيِيهِ السَّعَادَاتُ!
وَكَمْ خَرِيفٍ عَلىَ الأَكْوَاخِ أَهْلَكَهُ ... نَدَاكَ فَهْوَ رَيَاحِينٌ وَأَيْكاَتُ
في كُلَّ يَوْمٍ شُعاًعٌ آلِقٌ ذَهَبَتْ ... تَطُوفُ مِنْكَ بِهِ للنِّيلِ دَاراَتُ
عَطْفٌ وَبِرٌ وَإحسان وَمرَحْمَةٌ ... يا قَوْمُ مِنْ ههنُاَ تَزكُو الْعِباَدَاتُ
قَالَ المُصَلُّونَ: مَنْ هَذَا فَقُلْتُ لَهُمْ: ... في كُلَّ بَيْت هُدًى مِنهُ عَلاَمَاتُ
هَذَا الّذي يُرْهبُ الأيام صَوْلَجُهُ ... للهِ مِنْ نُسْكِهِ تَمْتَدُّ رَاحَاتُ
يَقْظَانُ للِوحَدْةِ الْكُبْرى لَدىَ وَطَنٍ ... كادَتْ تُمَزَّقُ جَنْبَيْهِ الخِلافَاتُ!!
مَا فَاتَهُ مَثَلٌ أعلى لمِصْرَ، وَلاَ ... لَغْير عِزَّتِهَا مِنْهُ صَبَاباَتُ. . .(463/30)
فَارُوقُ. . قُدْنَا إلى الأَفْلاَكِ وَامْضِ بِناَ ... شَعْبَاً إلى الْمَجْدِ تَحْدُوهُ الْبُطُولاَتُ
وَاسمَعْ نَشِيدَ الحِمَى. . . مَا فيِ مَقَاطِعِهِ ... إِلاَّ قُلُوبٌ إلى (عَبْدِينَ) مُزْجَاةُ
شِعْرٌ ضِيَاؤُكَ يَجْرِي فيِ مَسَابحهِ ... كَمَا جَرَتْ بِضِيَاءِ الطًّورِ (تَوْرَاةُ)
محمود حسن إسماعيل(463/31)
البريد الأدبي
حول ابن الرومي وصداقات الأدباء
كتب (ابن درويش) في العدد السابق من الرسالة كلمة يقول فيها ما معناه أنه كشف ثغرة نفذ منها إلى ذكائي، وأنه نسب إلى ابن الرومي بيتين ليسا له وإنما هما من نظمه وفيهما من جنون الفكرة وطلاء التعبير - كما قال - ما عزب فهمهما على فطنة أديبنا الكبير، فمن هم بنو النضر؟ ومن أولئك الألفان الرضع على التحديد. . .؟
ويتفق هذا في الوقت الذي يسألني فيه بعضهم: لم لا يسدد الأدباء الشيوخ خطى الأدباء الشبان. . . فهل من حاجة إلى هذا السؤال أو جواب عليه وهذا واحد من الناشئين يستهدي الأدباء الشيوخ على هذا المنوال؟
ونعود فنقول إن الثغرة التي كشفها صاحب السؤال إنما دلت على شيء لا يريده هو؛ وذاك أن العقاد رجل تلهمه البصيرة ما يكشف النيات قبل أن يكشفها أصحابها، فعرف أن صاحب السؤال عابث لا يجد في طلب الفهم وقال: (إن الأسئلة ضربان: سؤال يوجهه صاحبه وقد اجتهد في أن يعرف غرض الكاتب فهما سائران في طريق واحد، وسؤال يوجهه صاحبه وكأنه اجتهد في نقيض ذلك. ونقيض ذلك هو ألا يعرف غرض الكاتب وأن يتخذ له وجهه غير وجهته وطريقاً غير طريقه، فهما مفترقان لا يتقاربان. وأحسب أن الأديب الذي وجه إلي ذلك السؤال لم يجتهد في معرفة غرضي بمقدار اجتهاده في الحيدة عنه. . .)، فهل أراد صاحب السؤال هذا أو هو لا يعرف ما يريد؟
أما الواقع فهو أنه لا يعرف ما يريد؛ لأنني على فرض تصديقي نسبة البيتين إلى ابن الرومي لم يكن في ذلك شيء يستحق الدلالة عليه أو يستحق عناء التلفيق. فليس مطلوباً مني أن أذكر كل بيت في ديوان ابن الرومي المخطوط الذي لا تتداوله الأيدي؛ وليس مطلوباً من ابن الرومي أن يعتصم شعره من بيتين بالغين أدنى الحضيض من مراتب الرداءة والغثاثة؛ وليس من البعيد أن يكونا منسوبين إليه في بعض كتب الأدب ولا من المستحيل أن يكون راويهما شريفاً مستحقاً للتصديق
فلو صدقت أنا نسبة البيتين إلى ابن الرومي لما كان في ذلك عجب، إنما العجب أن أجزم بالنفي فأتعدى أمانة العلم إلى شعوذة المجون. . . فكيف وقد ألممت بالحقيقة وقلت إنني لا(463/32)
أذكر أنني قرأت البيتين في الديوان؟
أما كلمة (النضر) التي ظن صاحب السؤال أنها كانت خليقة أن تهديني إلى تأليفه للبيتين فسبب ذلك جهله بمعنى الكلمة لا جهلي أنا بمعناها ومدلولها. وهذان هما البيتان اللتان وردت فيهما الكلمة
سقته ثدي السحب من مرضعاتها ... أفانين مما لم تقطره مرضع
كألفي رضيع من بني النضر ضمنوا ... محاسن هذا الكون، والكون أجمع
فلو كانت كلمة النضر بغير معنى كما توهم صاحب السؤال لجاز أن يعاب معنى البيتين
ولكن (النضر) هو جد بني هاشم، وبنوه هم بنو هاشم من قريش. وعلى هذا يصح أن يكون معنى البيتين أن بستاناً حافلاً بالأزهار التي رضعت ثدي السحب جمع متفرق الجمال كما يجمع بنو هاشم محاسن الكون وهم رضعاء. . . وهذا معنى كما قلت لا يعاب.
نعم هو معنى لا يمكنني أن أعيبه إلا إذا كنت في جهل صاحب السؤال بمعنى كلمة النضر ولست كذلك بحمد الله
وبعد، فإنني أدع لحضرات القراء أن يصفوا هذا السائل بما يستحقه، وأكتفي بأن أستخرج من سؤاله دليلاً آخر لم يرده حين استباح عبثه المعيب. . . ذلك أننا على حق في معاملة أمثاله بما يشكونه وهم عابثون
ولنا عودة إلى صداقات الأدباء، وما كتبه الأستاذ توفيق الحكيم بصددها في مقال تال.
عباس محمود العقاد
مأساة فرنسا للأستاذ الصاوي
الأستاذ أحمد الصاوي كاتب طريف أنيق: ظريف في اختيار موضوعه، وأنيق في ابتكار عرضه. وطرافته في الأداء والوضع، لا يماثلها إلا طرافته في الإخراج والطبع. والصفة الغالبة أو المزية الفارقة فيما ينتجه الأستاذ الصاوي هي الذوق. والذوق ملكة الفنان ومِلاك الفن. وأجمل ما في أسلوبه من صفات البلاغة الإيجاز والحياة والتنوع، وذلك سر ما يشعر به قارئه من الجاذبية واللذة. ولعل صاحب (إبر النحل) قد وصف نفسه أصدق الوصف بهذا العنوان؛ فهو في رياض الأدب والفن تلك النحلة التي لا تنفك طائفة على الزهر، أو(463/33)
عاكفة على الرحيق، تلسع أحياناً وتغسل دائماً؛ وهي في لسعها وعَسلها تدافع عن الخير وتنتج الخير
(مأساة فرنسا) هي كما قال الأستاذ الصاوي وثائق (يمكن مع التسامح أن تعد شبه دائرة معارف شائقة لهذه الحرب، تشمل الحوادث الطريفة والأسرار الخفية التي لا تنشرها الصحف من حربية وسياسية واقتصادية ونفسية - إلى أعمال الجاسوسية والدسائس والمنافع والفتن التي تهدم البلدان من الداخل - معروضة بطريقة نزيهة واقعية. وهي ملخصات كتب شهود عدول من أعظم كتاب العالم)
وذلك هو الوضع الصحيح لموضوع هذا الكتاب؛ أما أسلوبه ومعرضه وشكله فتمثيل وتفصيل لما ذكرناه وأجملناه في صدر هذه الكلمة.
الزيات
بين ديكارت وابن يعيش
نعلم كيف أثبت ديكارت وجود نفسه، فقد قال: أنا أشك فأنا أفكر، فأنا إذن موجود.
وبالأمس كنت أقرأ في شرح ابن يعيش على مفصّل الزمخشري فوقفت فيه على قوله: (. . . ألا ترى أنك إذا قلت: عدمتُني، فمعناه علمتُني غيَر موجود. ومحال أن تعلم شيئاً وأنت غير موجود، لأنك إذا علمت كنت موجوداً، وصحته على الاستعارة) ص88 ج 7 ط المنيرية (ولا طبعة مصرية غيرها فيما أعلم).
فأنت ترى أن ابن يعيش المتوفى سنة 643 هـ سبق ديكارت الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر (1596 - 1650) إلى الشعور بالفكرة التي قام عليها عمود من أعمدة فلسفة أبي الفلسفة الحديثة.
سبق أبنُ يعيش ديكارت إلى الشعور بهذه الفكرة، ولكن ديكارت جاء بعد ذلك فصاغها في منهج فلسفي متين، فكان هذا الفرق بينهما.
أفلا يوحي هذا بالا نتهم الشرق بقصور عقله وألا نغالي في تمجيد عقل الغرب؟
المنهج وحده هو الذي ينقص الشرق.
السيد يعقوب بكر(463/34)
رفع عيسى
قرأت في العدد (462) من مجلة الرسالة الغراء فتوى فضيلة الأستاذ الجليل محمود شلتوت في رفع عيسى عليه السلآم، فوجته يذهب فيها إلى ما رآه بعض المفسرين من أن الرفع كان بعد الوفاة، لقوله تعالى (إني متوفيك ورافعك إلي) وقد رأى فيها أن المراد رفع المكانة لا رفع الجسد، ولو حمله على رفع روحه إلى الملأ الأعلى لكان أولى وأقرب
ولكني أرى مع هذا أنه إذا كان لهذا الرأي ما يرجحه مما جاء في تلك الفتوى، فإن للرأي الآخر المشهور وجوهاً ترجحه أيضاً، لأن الثابت من التاريخ أن أمر عيسى عليه السلام قد انتهى في اليوم الذي وقع فيه الصلب على من شبه به، فإذا كان عيسى عليه السلام قد توفي في ذلك اليوم ولم يرفع جسده إلى السماء، فإن إلقاء شبهه على غيره وصلبه بدله لا يكون مفهوماً من الناحية التاريخية، لأن وفاته تحقق الغاية التي يطلبها خصومه من صلبه، فلا يكون هناك داع إلى ما حصل من ذلك الصلب، بل إن إلقاء الشبه على غيره في هذه الحالة لا يمكن قبوله، لأن موته لا يجعل سبيلاً إلى اشتباه غيره به، وكل هذا على الرأي المشهور ظاهر كل الظهور، وقد أجابوا عن الآية السابقة بأن واو العطف فيها لا تقضي ترتيباً، فمن الجائز أن يكون توفي بعد الرفع، ومن الجائز أن تحمل الوفاة على النوم، كما قال الله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها)
وإني أرى بعد هذا أن الأجدر بنا ترك الاشتغال بمثل هذه المسائل، لأنه لا يضرنا في ديننا أن يكون عيسى قد توفى ولم يرفع جسده، ولا أن يكون جسده قد رفع حياً، فذلك أقرب إلى أن يكون من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، لأنه حصل بدون أن يراه أحد، فكان سراً لا يعلمه إلا الله تعالى ومن وقع له.
عبد المتعال الصعيدي
كم ذا يكابد عاشق
قرأت كلمة الأستاذ المفضال (إبراهيم أبو الخشب) بالرسالة يسأل فيها عن حكم (ذا) في مثل هذا التعبير
وأعتقد أنها زائدة على رأى من يجيز زيادة الأسماء وكما قرر الخضري في حاشيته على(463/35)
ابن عقيل عند الكلام على (ذا) في باب (الموصول) وعليه خُرّج قول الشاعر:
دعي ماذا علمت سأتقيه ... ولكن بالمغيّب خبريني
في أحد قولين
ويجوز أن تكون اسماًَ موصولاً (على رأى الكوفيين فإنهم لا يشترطون في موصوليتها أن يسبقها (ما) أو (من) كما ورد في الخضري والصبان)
وعلى الوجه الثاني تكون (كم) استفهامية مراداً بها التهويل ويكون الكلام على حذف مضاف والتقدير (كم مقدار ما يكابد. . .) أو لا حاجة إلى التقدير فإن الاسم الموصول (ذا) مدلوله متعدد بقرينة المقام
وعليه يُخرّج قول أبي الطيب:
وكم ذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا
ولعل في هذا مقنعاً الأستاذ (أبي الخشب)
(المنصورة)
محمود البشبيشي(463/36)
العدد 464 - بتاريخ: 25 - 05 - 1942(/)
من صور الشريف
لحية بيضاء. . .
ليت شعري ماذا كان يمكن هذا المخلوق أن يكون لو انه تعلم؟ الغالب في الظن انه لو كان تعلم الحقوق لما برع إلا في ابتكار الحيل التي تحمي اللصوص، وتأليف الحجج التي تخدع القضاة، وتدبير الخطط التي تضلل الشرط. ولو كان تعلم الطب لما اشتغل إلا بتركيب السموم، وتزوير الشهادات، وتخدير المدمنين، وإجهاض الحوامل. ولو تعلم الأدب لما نبغ إلا في قصص التجسس والتلصص والائتمار والدعارة. ولو كان تعلم الزراعة لما برز إلا في زراعة التبغ والأفيون والحشيش. ولو كان تعلم الهندسة لما افتن إلا في اختراع المخابئ السرية والمزالق الجهنمية والمفاتيح التي تتحدى كل قفل
ذلك لان كل نزعة للشر أو نزعة للشيطان إنما وجدت أصلها فيه بحكم الطينة ومقتضى الفطرة، فهو قروي أمي فقير وضيع، ولكن غرائزه الشريرة العارمة تندلع من جوانب جسمه كألسنة اللهب أو أرجل الأخطبوط فتجعل له شخصية غريبة فيها لكل ضرر مصدر، ولكل خطر اتجاه!
نشأ بين لِداته من أطفال القرية كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام؛ فكان لا ينفك ضارباً هذا بعصا، أو قاذفاً ذاك بحجر، أو خاطفاً لعبة من بنت، أو سارقاً شياً من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجار والجان، فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم، ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم. وهو في غضون هذا العهد (التحضيري) كان لا يفتأ يمرن ملكاته الإجرامية لحسابه الخاص، فكان يسرق من البيوت الآنية والثياب، ومن الحقول القطن والذرة، حتى صار في حد الرجال، فعد من ذؤبان القرى وغربان الأسواق؛ فكل جريمة له فيها يد، وكل سرقة له منها نصيب!
وكانت مزيته بين اللصوص التجسس والاحتيال والمفاوضة وإخفاء المسروق وتعمية الأثر، لأنه كان ضئيل الحلقة فلا يرهب بمنظره، ضعيف القوة فلا يغني بعضله. ثم تفاقم شره واستطار أداه، فكان لا يقع إلا على منكر، ولا يتقلب إلا في معصية. غير إن إجرامه ظل من النوع الحقير لضعف بنيته وضعة بيته، فلم يستطع أن يكون رئيس منسر يفرض الإتاوة بالسطوة، ويستغل اللصوص بالنفوذ؛ إنما كان أكبر همه أن يسطو في الليل على(464/1)
أرزاق الأرامل، ويتدسس، في النهار إلى أموال العميان، حتى انقضت شبيبته وكهولته على حال متصلة من الإثم لم تسكن جوارحه في خلالها عن الشر إلا وهو مجروح في مستشفى، أو مطروح في سجن. كل ذلك ولم يدخل في ملكه عقار، ولم يجتمع في جيبه نقد، ولم يبت في داره قوت
فلما قيده الكبر وحطمه، وعممه المشيب ولثمه، أصبح بحكم السن عاجزاً عن نقب الجدران وتسلق الدار، فأرسل لحيته شبراً تحت ذقنه، ثم ضخم العمامة، وبيض الجلباب، وأمسك المسبحة، ومشى في الأزقة الوقار والتؤدة، يتمتم بالأدعية، ويجهر بالتحيات، ويواظب على الصلوات، ويجلس على المصاطب يتحسس الأخبار، ويتسقط الأسرار؛ فإذا وقف على خلاف أو خصومة بين والد وولده، أو بين أخ وأخيه، أو بين صديق وصديقه، أو بين زوج وزوجته، اندس إليهما بالإغراء، وسعى بينهما بالنميمة، وحمل هذا على ذاك، حتى تقع الفرقة أو تحل الكارثة. فإذا انتهى الخلاف إلى المحكمة، وسوس للمتخاصمين أو لأحدهما بالحيل التي تطمس الحق أو توسع الخصومة أو تعرقل القضية؛ لأنه يزعم لنفسه العلم بالقانون والمرافعات لطول ما وقف أمام القضاء وعاش بين البوليس. أما إذا خذله الشيطان وتغلب السلام استفز بالسباب حمية بعض الشباب فيضربه، ثم تكون الترضية أو تكون القضية. فإذا تعذر الدس وتحاماه الناس عمد إلى قطعة متروكة مما يملك الغير فاحتلها واستغلها، فتنشب بينه وبين المالك معركة قضائية لا يصبر فيها صاحب الحق على بطء القضاء وتعقد الأجراء وفحش التكاليف، فيطلب مصالحة الغاصب بالنزول له عن بعض من حقه أو جزء من ماله
ذلك عمله بالنهار؛ أما عمله بالليل فصلاة العشاء حاضرة، ثم إحراق الحشيش جماعة، ثم التهجد طويلاً، ثم الهجود قليلاً. فإذا طلع الفجر الكاذب خرج إلى المسجد يهدج تحت الجدران، وعيناه تبصان في حلك الظلام بصيص الحباب؛ فإذا لقي في بعض الطريق حماراً أو عجلاً أو خروفاً أفلت من الحظيرة، امتطاه أو قاده ثم انطلق به حثيثاً في هوادي الليل إلى أقرب (مركز) من مراكز اللصوص فيتركه هناك ليصرفوه ويضيفوه إلى حسابه. ثم يعود إلى القرية وقد هتك الصباح ستر الظلام، فيأوي إلى بيته ندمان على أن فاتته صلاة الفجر مع الأمام!(464/2)
وفي ليلة نادية من ليالي المحاق خرج المتعبد القانت على عادته يريد المسجد. وكان الناس قد فطنوا إلى فقد الصغار من مواشيهم فأغلقوا الزرائب وأحكموا الإغلاق. فلما أرسل عينيه الثاقبتين في الخرائب والأجران فلم تقعا على حيوان مهمل أو متاع متروك، أخذ يهود في مشيه ثم وقف يفكر. وكانت نفسه الغوية قد استهواها الظلام والسكون فعض عليها وعصفت بها المغامرة، فرجع إلى داره وأخذ معولاً وعتلة ثم انحط من بعض السطوح على دار العمدة ثم شرع ينقب الجدار عن عجل السامري
دهم الشيخ في السحر وسيق في الصباح إلى مركز البوليس فحاول أن يدحض التهمة عن نفسه بانخراع متنه وابيضاض شعره وارتعاش يده فلم يوفق
ودخل المجرم السجن أشوق ما يكون إليه، وبدد الحلاق على أرضه الخشنة الغبراء، خصل لحيته الكثيفة البيضاء؛ ثم لبث فيه ما لبث، وخرج للناس يسلط عليهم النمائم، ويزرع بينهم الضغائن، ويدير فيهم المكايد، حتى سولت له نفسه بالأمس أن يخزن قمحه قبل أن تأخذ الحكومة نصيبها المفروض منه، فتجاهل السلطة، وتحدى العمدة، وضرب الحارس. ثم بات هو وأهله في سجن (المركز) ثم قدموا في الصباح جميعاً إلى المحكمة العسكرية!
تلك صورة من صور الريف الكريهة قدمناها مصغرة إلى المشتغلين بعلم النفس الجنائي لعلهم ينتهزون هذه الفرصة قبل أن تفوت، فيدرسون هذا الرجل العجيب قبل أن يموت!
(المنصورة)
احمد حسن الزيات(464/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
ينبوع حلوان، وما أدراك ما ينبوع حلوان؟! - عناد بعض المؤلفين - النواب الجامعيون - مع الدكتور طه حسين - امتحان جديد - يقال ويقال وما أكثر ما يقال؟
ينبوع حلوان
منذ أكثر من عامين فوجئ سكان حلوان بينبوع يتفجر بقوة وعنف، وتسامع بذلك أهل العلم بخصائص الينابيع، فأسرعوا إلى تحليل ماء الينبوع الجديد، ثم عظمت دهشتهم وعظم فرحهم حين وجدوه يغني المصريين عن استيراد المياه المعدنية من الأمطار الأوربية. فأهلا وسهلاً بالنعمة التي يصغر بجانبها صادق الحمد وعاطر الثناء
ولكن هذا الينبوع السعيد هدد بقدومه جماعات المتجرين بالمياه المعدنية، فماذا يصنعون؟ وهل يجوز السكوت عن ثروة تعتز بها مصر على الزمان؟
هداهم الحس التجاري إلى طمر الينبوع قبل أن تلتفت الحكومة المصرية إلى منافعه الحقيقية، فتحرسه من مكايد أهل البغي والعدوان
وكيف يطمر الينبوع؟ وفي أي وقت؟ يطمر بأكياس الأسمنت، وفي غفوة الليل!!
وهنا ترسم صورة قليلة الأمثال، بين صور الخيال
كان الينبوع يغني نشيد الحرية، فقد طال سجنه في غيابات الصخور ألوفاً من السنين. وهل يعلم إلا لله مقدار الآماد التي قضاها ذلك الينبوع وهو سجين؟
لقد تلقته رمال حلوان بترحيب رنان، وكان في أشد الشوق إلى ذلك الترحيب. ألم يكف ما عاناه من الحبس الطويل في ظلمات الصخور الصماء؟
هو يغني، والمال تغني، وما أجمل الغناء حين يلتقي الحبيب والمحبوب!
كان الليل ليل حلوان، وليل حلوان موحش حين يغيب بدر السماء. . وكان الينبوع حديث العهد بالميلاد، ولا علم له بمتاعب الأحياء، فكان يغني ويغني بلا حذر ولا احتراس
وفي حومة تلك الفرحة الشعرية نظر فرأى جماعات لهم وجوه بشرية، ولهم قلوب حجرية، فأنزعج وارتاع
ماذا يريد هؤلاء؟(464/4)
ماذا يريدون؟
كان الينبوع يعرف أنه فكرة نقية طاهرة، وأنه لن يسيل فوق الرمال إلا كما يسيل القلم النبيل فوق الأوراق، فما بلاؤه بهذه الوجوه السود في ليلة سوداء؟
أيكون هؤلاء مصريين؟
أيكونون أجانب؟
وما خوف أولئك وهؤلاء من ينبوع سيمحو عللهم الدفينة بلا تفريق بين هذه الديانة أو تلك، وبلا تميز بين هذا الجنس أو ذاك؟
طب. طب، طب!
ما هذا؟ ما هذا؟
تلك أكياس الأسمنت تلقى بغلظة وبوحشية في ثغر الينبوع لتصده عن الابتسام لجمال الوجود
وينظر الينبوع فيرى الرمال أضعف من أن تحميه، ويرى الأمة في غفلة عن قيمته الذاتية، ويرى الحكومة تنتظر آراء الخبراء، لتقرر حراسته من بغي الأعداء، وذلك لا يتم إلا بعد أسابيع طوال!
فماذا يصنع؟
أيخضع ويستكين إلى أن يظفر بتقرير المصير؟
وكيف وفيه قوة عارمة تذيب الألوف من أكياس الأسمنت؟ الرأي أن يدفع الينبوع تلك الأكياس، وأن يهدد بالغرق من ينزلون لتثبيت تلك الأكياس، فكان الينبوع ما أراد
فإذا سمعتم أن خلائق ماتت بلا علة فاعرفوا أنها تعرضت لطمر ذلك الينبوع النفيس في تلك الليلة الظلماء
وإن سمعتم أن ذلك الينبوع لم ينقطع عن الغناء، فاعلموا أنه موصول الأواصر بوحي السماء
ولكن ما الموجب للحديث عن ينبوع حلوان في هذا الوقت؟
ليتني أعرف!
عناد بعض المؤلفين(464/5)
قرأت كلمة الأستاذ محمود عزت عرفة في التعقيب على الكلمة التي نشرتها (الرسالة) لسعادة الأستاذ طه الراوي، الكلمة التي بين فيها أن موشحة (أيها الساقي) ليست لابن المعتز، وإنما هي لابن زهر أحد شعراء الأندلس
وأقول إن هذه الموشحة لها عندي تاريخ، فقد نسبتها إلى ابن المعتز في الطبعة الأولى من كتاب (مدامع العشاق)، ثم ارتبت بعد ذلك في نسبها فأضفتها في الطبعة الثانية إلى (أحد الشعراء) وقد صح عندي أن نسبها إلى ابن المعتز نسب مدخول
وفي سنة 1927 كتبت عن ناظمها الأصيل كلمة في الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ تحت عنوان (عرفناه! عرفناه!)
وكان الظن أن تستفيد اللجنة التي ألفت كتاب الأدب للسنة التوجيهية من ذلك التحقيق الأدبي، لكنها خشيت أن يقال إنها استفادت من جهود أحد (أصدقائها) في هذه البلاد!
والآن وقد وصل التحقيق من أحد فضلاء العراق لم يبق ما يمنع من تصحيح تلك الغلطة في مطبوعات وزارة المعارف المصرية!
النواب الجامعيون
كثرت الحفلات في هذه الأيام لتكريم الشبان الذين نجحوا في انتخابات مجلس النواب من أبناء الجامعة المصرية، وهم الأساتذة محمد فريد زعلوك وأحمد قاسم جودة وجلال الدين الحمامصي وحسين شعير وعلي كريم ومحمد مصطفى خليفة ومحمد زكي علام.
فما معنى ذلك؟
أيكون معناه أن الفكرة الجامعية ستسيطر على الحياة النيابية؟
أيكون معناه أن التفكير الحر ستكون له أسندة من أولئك الفتيان؟
ليت ثم ليت؟!
أيكون معناه أن الحرية الفكرية ستظفر برعاية جديدة تصد عنها عوادي الجهل؟
ليت ثم ليت!
كنت أنظر إلى ما يصنعه النواب والشيوخ الوفديون في عهد الوزارة الماضية فأعجب وأطرب، فقد كانوا يقهرون تلك الوزارة على السماح بنشر ما يمنعه الرقيب، وكان سبيلهم(464/6)
إلى ذلك أن يثيروا المشكلة في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، فيصبح من حق الجرائد أن تنشر ما تعرض لمنعه الرقيب
فهل ننتظر من النواب الجامعيين مواقف تشبه تلك المواقف في الانتصار لحرية الرأي والفكر والبيان؟
وهل نرجو أن يكون لجهادهم النيابي لون يتسم بالغيرة على الحرية الفكرية؟
كل ما أخشاه أن ينساقوا مع التيارات السياسية لتقام لهم حفلات جديدة باسم الوزراء الجامعيين!
عذركم مقبول، أيها الفتيان، فالأدب الصرف لا يسوق لأصحابه غير المتاعب، ولا يؤهلهم لغير التمرس بمعضلات الوجود
مع الدكتور طه حسين
المعروف أن بيني وبين الدكتور طه (ما صنع الحداد) وإن كنت أجهل المراد من هذه العبارة المصرية، ولكن ما صنع الحداد لا يمنع من لقاء الدكتور طه حسين، لأنه جاري بوزارة المعارف، والجيران يتلاقون كارهين أو طائعين، وفي ذلك التلاقي يجري الحديث حول محصول الحركة الأدبية في هذه الأيام، وهو يقرأ جميع ما تنشر المجلات ليعرف إلى أي مدى ينتهي جموح بعض الكاتبين!
- أنت يا دكتور زكي تتجاهل أن الدنيا في حرب
- وماذا يصنع الكاتب في أيام الحرب، يا سيدي الدكتور؟
- يكتب ثم يطوي ما يكتب إلى أن تجئ أيام السلام
- وإذا نشر ما كتب؟
- يعاقب بالصمت
- ولكن الكتابات الأدبية كالود الصحيح وهو يطلب في جميع الأوقات
- هنالك أوقات تكون منها الصحة ضرباً من الاعتدال، ويكون الفوز لأهل الأمراض
- وهل وصلنا إلى هذه الغاية يا سيدي الدكتور؟
- لم نصل إلى هذه الغاية، ولكني أخشى عواقب هذه الحال
- وما هذه الحال؟(464/7)
- هي ضعف الأعصاب عند جميع الناس، بحيث يجوز الضجر من أجمل الأشياء وأشرف المعاني
- ولكن المفكر مسؤول أمام قرائه في كل وقت، وفيهم من يجهل أن الدنيا في حرب
- من واجب المفكر أن يعلم قراءة ما يجهلون
- وهذا ما أصنع يا سيدي الدكتور
- هل علمتهم أن الدنيا في حرب؟
- قصصت عليهم قصة الطائر الغريب
- وما قصة الطائر الغريب؟
- هو طائر يساير الأنوار المبثوثة فوق الشواطئ
- لأي غرض؟
- ليعرف مسابح الأسماك فيهديها سواء السبيل
- الناس يقولون غير ذلك!
- وماذا يقولون؟
- يقولون: إن الطائر يضع المصابيح ليجتذب الأسماك إليه
- وماذا أصنع إذا كانت الطبيعة ترى النور سر الجاذبية؟
- ومن أجل هذا تطالب بحرية الفكر والرأي؟
- هو ذلك!
- اكتم هذا الحديث يا دكتور زكي، ولا تخبر أحداً بأنك حاورتني في الأنوار والظلمات
- سمعاً وطاعة، يا سيدي الدكتور، فلن أنشر هذا الحديث إلا بعد انتهاء الحرب
امتحان جديد
تقوم الشواهد في كل يوم على أن الحكم للسيف والمدفع، وأن المعاني الروحية في سبيل الزوال، فكيف نلقي القراء في حدود ما عودناهم لعهد السلام؟ وكيف نناضل لحفظ سلطان الرأي في زمن تضعضعت سلطنة الرغيف؟
هل نترك معالجة المشكلات اليومية وننصرف إلى معالجة المشكلات التاريخية؟
هل نتحدث عن جبل واق الواق في أساطير الأولين؟ لا هذا ولا ذاك، فسترون كيف نخرج(464/8)
من امتحان هذا الزمان بأمان
يقال ويقال
يقال: إن المؤلفات الأدبية ظفرت في هذه الأيام برواج لم تعرفه من قبل؛ ويقال: إن السبب في هذا الرواج هو نفرة العقول من سخف الدعايات الأجنبية
ويقال: إن الحرب علمت المصريين أشياء وأشياء، ولكنها غفلت عن تعليمهم معنى التضامن الوطني، فجهلوا التعاون في توفير الأقوات
ويقال: إن وزارة الشؤون الاجتماعية قضت أعواماً في تعريف الصناع والزراع بأنهم تعساء، ولم تعلمهم كيف يدفعون التعاسة بشرف النضال في المطالب الحيوية
ويقال: إن في النية فرض ضريبة على النساء اللائى يتباهين بنشر صورهن في بعض المجلات
ويقال أيضاً: إن أزواجاً سيعاقبون على السماح لزوجاتهم بالاشتراك في (المراقص الخيرية)!!
وسمعت ثم سمعت أن الدولة ستحرم الرّياء الاجتماعي تحريماً قاطعاً، وأنها لن تبيح شرف النيابة عن الأمة لمن يسمح لزوجته بإقامة حفلات الاستقبال
وحدثني من أثق بصدق روايته أن الميسر سيكون من المحرمات، وأن السهر في المنازل سيمنع بعد صلاة العشاء
صلاة العشاء؟. . . صلاة العشاء؟
يظهر أنني انتقلت إلى الحديث عن أهواء التاريخ!
زكي مبارك(464/9)
خسرو وشرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
(تتمة)
بعد أن رفع شابور الستار عن مخبأ شيرين، تقدم خسرو إليها، فحرت أمامه ساجدة تقبل الأرض تحت قدميه، وطفقت تشكو إليه بثها وحزنها، وتذري دمعها، وتمري جفنها، فأحضر خسرو موبذ الموبذان وأمره أن يزوجه شرين ففعل. وشاء أن يعم الفرح والسرور قلوب المقربين إليه، فأمر موبذ الموبذان فزوج مطربه باربد، نيكيسيا، مطربة شيرين، وصديقه شابور، همايون، صديقتها، وأجلس شابور على عرش مملكة أرمينيا مكافأة له على مساعيه التي كللت بهذا النجاح. وبعد أن قضى الزوجان الحبيبان في قصر شيرين وقتاً هنيئاً سعيداً، رجعا إلى المدائن حيث أقاما حفلات الزواج الرسمية وتوجت شيرين إلى جانب خسرو ملكة على عرش إيران.
وفي (شكل1) يجلس خسرو وشيرين في إحدى الليالي على عرش فاخر، بمنظرة جميلة، في وسط حديقة غناء. وأمام العرش شموع موقدة تحيط بفسقية تسبح فيها ثلاث أوزات. وإلى اليمين رجال الحاشية ومعهم الخدم والسقاة يحملون الطعام والشراب؛ والى اليسار يجلس فريق من وصيفات شيرين، وهن يروين القصص لتسلية الزوجين الحبيبين. وإحداهن - وهي الجالسة إلى الخلف بجانب المنظرة - لها سحنة أوربية، ويظهر من ملامحها أنها رومية الأصل. وهذه الصورة من تصوير آقا ميرك أحد مشاهير مصوري عصر الشاه طهماسب الأول الصفوي، وهي في مخطوط نظامي السابق الذكر المكتوب لهذا الشاه.
وفي (شكل2) يجلس خسرو في روضة على سجادة جميلة، وقد وضع سبابة يده اليمني في فمه، وهو يتحدث إلى شاب راكع إلى يمينه، بينما يعتمد بمرفقه الأيسر على ركبة زوجته شيرين مولياً ظهره إليها. وإلى اليمين تجلس نيكيسا مطربة شيرين وهي تعزف على (الرباب). ويظللهم جميعاً فرع من شجرة زاهرة، وقف عليه عصفور رشيق له ذنب(464/10)
طويل، وقد انحنى إلى الأمام كأنه يتأهب لالتقاط قطعة الحلوى التي في يد شيرين. وهذه الصورة مرسومة على (لوحة) من نسج الحرير، كتب عليها من الخلف (عمل أستاْدان خطاي) فظهرت الكتابة مقلوبة في أعلى الصورة إلى اليمين. وهذه الكتابة تدل على أن مصور هذه الصورة فنان من التركستان الصينية، كما يظهر التأثير الصيني بوضوح في طريقة تصوير فرع الشجرة والزهور، وفي رسم العصفور الواقف عليه. ويعتقد الدكتور كينل أنها من تصوير فنان صيني أراد أن يمارس التصوير في إيران فرسم موضوع (خسرو وشيرين)، ويظهر أنه رأى صوراً كثيرة لخسرو وهو يضع سبابته اليمنى في فمه علامة لدهشته إذا فوجئ برؤية شيرين الجميلة، فرسمه هنا أيضاً في هذا الوضع، مع عدم وجود ما يبرر الدهشة، إذ تجلس شيرين إلى جواره، ولا يفاجأ برؤيتها. ويؤرخ الدكتور كينل هذه الصورة من الثلث الأول للقرن التاسع الهجري (15م) - وهو الأرجح - بينما يؤرخها الأستاذ (كوماراسوامي) في القرن العاشر الهجري (16م) وهذه الصورة محفوظة في متحف الفنون الجميلة بمدينة بوسطون.
هكذا مضت الأيام وتوالت السنون وخسرو ينعم بالحياة السعيدة مع زوجته الحبيبة، وقد خلبته الدنيا فاسترسل إليها. إلى أن كان ذات يوم وقد جلس في إيوان المدائن، وحوله الحراس الأشداء الأقوياء، وبين يديه رجال حاشيته وبلاطه، تحيط به من كل ناحية مظاهر القوة والأبهة والجلال، وكانت بيده مرآة صقيلة جميلة، هي تحفة نادرة تليق بمقامه السامي الرفيع، يتطلع فيها إلى وجهه في زهو وخيلاء وغرور. وعلى حين بغتة انتفض هذا الملك الجبار، إذ رأى بين شعور لحيته السوداء المرسلة بعناية فائقة، شعرة بيضاء تتألق بينها، كأنها نجمة بعيدة في ليل دامس الظلام. وبهت خسرو لهذه الظاهرة العجيبة، وأرسل يدعو معلمه بزر حميد الحكيم، ليسأله رأيه في هذا الأمر الغريب. ولما حضر ذلك الرجل الخبير بدواخل الأمور، ابتسم وحاول أن يسري عن الملك، ثم أخذ يشرح له نظام الكون، ومصير الخلق، وأفهمه أن دوام الحال من المحال، وأن مآل كل شئ إلى الزوال
وشب شيرويه بن خسرو من زوجته مريم بنت إمبراطور الروم، وقد تحقق فيه ما تنبأ به المنجمون عند ولادته، ومرق عن الدين، وخرج عن طاعة رب العالمين، فلم يحمد أحد سيرته إذ كان مطبوعاً على الشر والإثم. وصادف أن رأى يوماً زوجة أبيه شيرين، فراقت(464/11)
في عينيه الآثمتين، واشتهاها لنفسه. وهيأت له نفسه الشريرة أن يقتل أباه، فيحصل على العرش، ويستأثر بالملكة الجالسة عليه
وذات ليلة أرسل شيرويه رجلاً من صنائعه، تسلل إلى مخدع الملك، وطعنه طعنة نجلاء أصابته في مقتل، ثم فر هارباً. وصحا خسرو والدماء تنزف من جرحه بغزارة وتبين أنه لا أمل له في النجاة من جرحه القاتل، واشتهى جرعة من الماء يخفف بها آلامه وأوجاعه. ولكنه أبى على نفسه أن يوقظ زوجته الحبيبة شيرين. وبعد أن ملأ من وجه شيرين، أغمض جفنيه، واستسلم للموت، فجاء برداً وسلاماً عليه، وأسلم الروح
وشيئاً فشيئاً صحت شيرين ورأت خسرو يرقد إلى جوارها وقد فارقته الحياة، فبكت وتوجعت، ولكنها تمالكت نفسها، إذ علمت أن أمامها واجباً نحو زوجها الراحل يجب عليها أن تؤديه وقامت إلى جثمانه، فغسلته وضمخته بالعطور والزيوت، وأعدته لموكبه الأخير
وفي (شكل 3) تقف شيرين مع إحدى وصيفاتها، وهي تبكي وتندب زوجها الراقد جثمانه على السرير، وفي صدره جرح غائر تتدفق منه الدماء. وإلى اليمين يفر القاتل هارباً من الباب وفي يده سيف مسلول يقطر منه الدم. ونلاحظ الزخرفة النباتية الجميلة في بلاط أرضية الغرفة، وما يظهر على الحائط من نقوش دقيقة من صور آدمية ورسوم حيوانات وطيور. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر خسرو الدهلوي، كتبه الخطاط سلطان علي في سنة 900 هجرية (1496م) وهو محفوظ في مكتبة الدولة ببرلين
بعد أن هيأت شيرين جثمان خسرو لموكب الجنازة، جاءها رسول من قبل شيرويه، يبلغها هيام سيده بها وتظاهرت شيرين بالقبول، ولبست أبهى ملابسها، وتزينت بأجمل زينة لديها، فابتهج شيرويه وظن أنها رضيت به. ولما وصل الموكب إلى القبر، أدخل النعش إليه، وبقيت شيرين بمفردها في القبر إلى جانب جثمان زوجها تحرسه. ولما أقفل الباب رفعت الغطاء عن صدر خسرو وقبلت مكان الجرح، ووضعت خده واستلت خنجراً أغمدته في قلبها، ثم بقيت تحتضن حبيبها بين ذراعيها
خاتمة
يقول صاحب الشاهنامه: ينبغي لمن يطالع أحوال خسرو برويز ويقرأ أخباره أن ينفض ذيله من الدنيا الغرارة الغدارة، فلا يسترسل إليها، فإن سمها يغلب ترياقها، وآمال بنيها تنتج(464/12)
إخفاقها. وقبيح بالعاقل أن ينوي الإقامة في المراحل، ولو أمكن دفع طارق الحدثان، بالملك والسلطان، والتمكين والإمكان، والأنصار والأعوان، لكان خلقاً بذلك خسرو برويز الذي عم أمره طلاع الأرض، وأطاعته ملوك الشرق والغرب، وكان يحمل إليه خراج الهند والروم والترك والصين؛ وقد جاء خبر موته إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية مع أهل مكة
وفي وفاة خسرو يقول الشاعر:
هي الدنيا تقول بملء فيها: ... حذار حذار من بطشي وفتكي
ولا يغرركم حسن ابتسامي ... فقولي مضحك والفعل مبكي
بكسرى بروز اعتبروا فإني ... أخذت الملك منه بسيف هلك
وكان قد استطال على البرايا ... ونظم جمعهم في سلك ملك
فلو شمس الضحى جاءته يوماً ... لقال لها عتواً: أُف منك
ولو زُهر النجوم بغت رضاه ... تأبَّى أن يقول: رضيت عنك
فأمسى بعد ما ملك البرايا ... أسير الموت في ضيق وضنك!
(تم)
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية(464/13)
في الفلسفة الإسلامية
ابن باجه
للأستاذ عمر الدسوقي
لمحة تاريخية
فتح العرب الأندلس في أواخر القرن الأول الهجري على يد طارق بن زياد وموسى بن نصير، وظلت ولاية تابعة للبيت الأموي في دمشق، ولما سقطت دولة بني أمية وأسس بنو العباس ملكهم في بغداد، وأخذوا يضطهدون الأمويين، فر الأمير عبد الرحمن بن معاوية الملقب بالداخل إلى الأندلس في سنة 133هـ، 750م. وقد أفلح في تجديد ملك بني أمية بالأندلس، ولكنه لم يتسم هو أو خلفه بلقب أمير المؤمنين أو خليفة المسلمين، وإنما كان ذلك في عهد عبد الرحمن الثالث الأموي 300 - 350هـ و912 - 960م، وظلت الخلافة قائمة حتى سنة 403 هـ، 1013م حين غُلب الأمويون على أمرهم وانتشرت الفتن في البلاد، وضرب البريرقرطبة، ومن ثمَّ استقل كثير من الأمراء بمقاطعات صغيرة ودعوا بملوك الطوائف: كبني عباد بإشبيلية، وبني الأفطس ببطليوس، وبني ذى النون بطليطلة، وبني هود بسرقسطة، وبني عامر ببلنسية، ومجاهد العامري بجزر البليار
وفي ذلك الوقت قامت في المغرب ثورة تدعو إلى استقلاله عن الأندلس، وانفرد بالحكم فيه المرابطون. وقد حدث أن دعا ملوك إشبيلية المرابطين لنجدتهم في بعض حروبهم ضد الفرنجة، فأعانوهم ثم تغلبوا على بقية الأندلس وظلوا يحكمونها أكثر من نصف قرن حيث ذهب ملكهم في بلاد المغرب على يد الموحدين الذين ورثوا عنهم الأندلس وحكموها مدة قرن من الزمان 1149م - 1232م، وبعد سقوط هذه الدولة عادت الأندلس إلى التفرقة والانقسام، ثم أخذ ملك حكامها يتقلص تدريجياً إلى أن أجلى العرب عن غرناطة آخر حصونهم سنة 1492 م
أما الحالة الفكرية فكان المغرب في أثناء حكمهم الأمويين يعتمد على المشرق في كل شئ تقريباً من الناحية العلمية، وكان يستعد للنضوج الفكري، وقد اجتهد الأمويون ولاسيما في خلافة الحكم بن عبد الرحمن 350 - 366هـ في جلب كثير من الكتب الثمينة التي ألفت(464/14)