ليضمن لنفسه الخلود
وفي تلك الآماد من البلاء يلتفت البارودي التفاته جدية إلى ماضي الشعر العربي فيضعه في الميزان ليختار من أطايبه ما يشاء
وهل كان معاصرو البارودي يعرفون من ماضي الشعر العربي مثل الذي يعرف؟
ثم تسمح الدنيا بأن يلقى البارودي وطنه بعد اليأس من اللقاء، ولكن لا يعيش في رحاب الوطن غير أعوام قصار قضاها وهو أشبه بالمكفوف، ولعله لم يمت إلا حين عرف أن القاهرة لن تكون أمام عينيه إلا سواداً في سواد، وكانت لياليها أشد إشراقاً من الصباح
ولم يتسع الوقت فأرجع إلى الجرائد المصرية في أواخر ديسمبر سنة 1904، لأعرف كيف كانت جنازة البارودي، وأغلب الظن أنها لم تحمل على مِدفع ولم يشترك في توديعها رجال الجيش رعاية لبعض الظروف الثقال، مع أن البارودي كان من نماذج البطولة المصرية في ميادين الحروب
انتهت دنيا البارودي، وانقضى ما كان يعاني من بوائق الغدر والجحود، وبقى للبارودي ما لم يبق لأمثاله من رجال السيف، بقى شعره المسطور على ضمير الزمان، والشاعر الصادق أخلد من الخلود
زكي مبارك(438/11)
التطور البشري
للدكتور جواد علي
ما هي مقاييس التمدن وأين هي مظاهره؟ أهي في حركات الإنسان وطراز ملابسه ومجموعة مظاهره الخارجية، أم هي في أثاث بيته وأشكال سيّاراته ووسائل راحته وعدد خدمه، أم هي في الإنتاجين العقلي والمادي للبشرية؟ يختلف الجواب طبعاً على هذه الأسئلة باختلاف عقلية المرء ودرجة ثقافته. فجواب العلماء يختلف ولا شك عن جواب السواد الأعظم من الدهماء. وجواب الشرقي يختلف كثيراً عن جواب الغربي، وكذلك جواب الفقير عن جواب الغني
أما المقاييس العلمية فتستند طبعاً على أسس فنية منتظمة، وقواعد منطقية محكمة، لا تكتفي بالمظاهر ولا تقتنع بالظواهر، لها أحكام خاصة ونتائج تستند على مقدمات وبراهين. و (وحدة التطور) في حياة البشرية بالنظر للغة العلم هي (الكفاءة) والقابلية وقوة الابتكار؛ وهي وحدة تقاس بها كفاية الأفراد كما تقاس بها كفاية الشعوب والأمم باختلاف الأجيال والعصور. فكلما أعرقت البشرية في المدنية ازدادت قوة ابتكارها وتنوعت اختراعاتها وتشعَّبتْ اكتشافاتها وتعقدت حياتها وزادتْ احتياجاتها عن مستوى حياة الإنسان السابق
ولا تقتصر هذه الكفاية على الكفاية الروحية فقط، بل تشمل الكفاية الجسمية والمادية أيضاً. ومعنى هذه الكفاية هو خلق جيل قوي جميل، مثلاً، ذي أعضاء وعضلات قوية متناسبة لا تدكه الأمراض ولا تؤثر فيه الجراثيم، فهو يستطيع أن يقاوم ويقاوم. يتمرد على الطبيعة كما كانت الطبيعة تتمرد على الإنسان السابق. له أهداف ومثل عليا كلما نال منها نصيباً طمع في أخرى؛ لا تقصر همته كما قصرت همة الشعوب المنقرضة
والتقدم في الناحية الثقافية معناه تقدم الإنسان تقدماً مطرداً في دائرته المثلية مثل مثله العليا وأهدافه الأخلاقية ومطامعه في الحياة وأساليب معيشته واحتياجاته البيتية بحيث تتعقد حياته الروحية وتصعب وتتنوع طرق تفكيره وطراز تعبيره عن أفكاره في القول والكتابة، ويبدع في الإفصاح عن شعوره وما يجيش في نفسه في الموسيقى والشعر والتمثيل والغناء. وكلما تنوعت هذه وتشعبت وتميزت دلت هذه التطورات على تقدم ونمو وسير مع النواميس الطبيعية لهذا الكون. لذلك كانت احتياجات الشعوب المنحطة في هذه الناحية ابتدائية بسيطة(438/12)
بينما هي قد تعقدت وتنوعت في الأمم الأوربية المتقدمة تعقداً مهماً
وتطور البشرية دائماً من بشرية ذات قابلية معينة محدودة، ومن بشرية ذات كفاية مقدرة، إلى بشرية أكثر قابلية وكفاية هي نظرية العلماء الطبيعيين وأصحاب نظرية العالم الإنكليزي داروين والنظرية المعروفة باسم نظرية وهذا التناسق الذي يحدث بمرور الزمن في نظام البشر فيجمع شمل الحياة الإنسانية في محيط معقد معين غير متباين بعد أن كانت الحياة غير متسقة متنافرة، هو التطور المقصود في نظر العالم الإنكليزي هربرت سبنسر وقد صور هذا التطورَ في مدنية الإنسان الفيلسوفُ الألماني هيكل بصورة ملفة من ملفات البردي تنفتح بصورة متوالية كلما انفتح دور في حياة الإنسان المدنية حتى تنتهي بدرجة الكمال أو الإنسانية المطلقة. وقد أطلق على هذا الدور ? وهذا التطور هو من العلامات الفارقة بين الحيوان والإنسان وبين الشعوب المتمدنة وبين الشعوب المتوحشة. ونحن لا نكاد نشعر بظواهر التطور في حياة الأمم الابتدائية والمتوحشة بينما نلمس ذلك بصورة جلية في الأمم المتقدمة التي يظهر فيها التطور كلما تقدمت درجة في المدنية. فوضوح التطور أو غموضه إذاً مقياس يعتبر من أهم المقاييس التي تستعمل لقياس مدنية أمة من الأمم وتقدير منزلتها من بين منازل شعوب الأرض
ولا بد أن يقترن ذلك التطور كما قلنا بالابتكار والإنتاج ويرفع مستوى المعيشة لأفراد الأمة والرفاهية. ولفظه كما يطلق على ذلك الأمريكيون ولذلك يعتبر الرأي العام الإنكليزي نفسه أرقى في المدنية من الفرنسيين لأن الإنكليز أقدر منهم على الابتكار والإنتاج وعلى مجابهة الحوادث، وأكثر منهم قابلية وكفاية بصورة عامة، ودرجة الرفاهية لديهم أعلى من نسبة درجة الرفاهية لدى الفرنسيين
وكلما كان هذا التطور في المجتمع عاماً شاملاً كانت جذور الأمة في المدنية أقوى فيها وأرسخ، وأقدر على مجابهة مشكلات الأمور وحوادث الزمان، وأحكم في السيطرة على أجزاء المملكة وعلى تكوين رأي عام متماسك متقارب فيها لا يندك بسرعة. وهذا هو السر في انهيار بنيان شعوب البلقان مثلاً بسرعة بينما نجد الأمم الجرمانية والإسكانديناوية قوية تقاوم البشر والطبيعة على حد سواء
وهو من العلامات الفارقة بين الحضارات القديمة حتى القرون الوسطى وبعد ذلك، وبين(438/13)
الحضارة الحديثة والتي ستليها. كان التطور في الزمان السابق قد اقتصر على طبقة معينة من الناس وهي الطبقات العليا، أعني رجال القصر وحاشية الحكومة ورجال اللاهوت. أما الطبقات الدنيا فكانت في مستوى فكري روحي منحط. لذلك لم تكن حلقات الأمة محكمة، ولم يكن المستوى العقلي فيها متشابهاً أو واحداً. لذلك كانت خواص الأمة العقلية وخواصها الفسيولوجية منحطة واطئة، لأنها لم تكن متطورة، فلما أخذت الطبقات الدنيا تشارك الطبقات العليل في التعليم وتشاركها في وظائفها العليا وحقوقها المكتسبة أدركت الأمراض التي كانت تحيط بها والأخطار التي كانت تتهددها، فاحترست منها وأخذت تقاومها مقاومة رجل عالم خبير فقوّت عقلها وقوّت جسمها في وقت واحد. ولذلك خفّ ضغط الشعوب المتوحشة على الشعوب المتمدنة، ثم زال عنها بالتدريج. كان أهم مميزات حضارة الإنسان الأول هو ضعف تلك الحضارة من حيث ناحية الدفاع تجاه الأمم المتوحشة إذ كانت القوة للعضلات وكثرة العدد. فلما تطور الإنسان وظهرت حضارة القوة انعكست الآية وأصبحت الشعوب المتوحشة فريسة الأمم المتمدنة القوية، وأصبحت الأمم المتمدنة هي التي تملي إرادتها على الشعوب المتوحشة وتكيفها كيف تشاء؛ لأن القوة لم تعد قوة العضلات ولا قوة الجسارة والطيش، إنما هي قوة التكيف والتطور والابتكار والمهارة. وأصبحت الأمم المتمدنة لا تفلها إلا الأمم المتمدنة. والأمم المتمدنة هي الأمم التي تصمد أكثر من غيرها تجاه مطرقة الأعداء في أية ناحية من نواحي الحياة
حقق التطور البشري كثيراً من أحلام البشرية وفك بعض طلاسم الكون والوجود، ولكن هل يستمر هذا التطور في سيره السريع هذا؟ وهل يأتي يوم تحقق فيه البشرية كل ما كانت تحلم به أو تصبو إليه، فتتكون على الأرض البشريةُ المثلى وينعم الإنسان في هذه الجنة الأرضية بالخلود والنعيم؟ آمن بعض ذوي الخيال الواسع من العلماء بهذه الفكرة الجميلة فحاولوا قديماً وحديثاً استغلال العلم واستعباد العقل للعثور على سر الحياة واكتشاف لغز الموت لمقاومته، واقتنع آخرون بنظرية إطالة عمر الإنسان مدة تزيد على مدة العمر الطبيعي. وأبى آخرون إلا أن يهتدوا إلى سر الكون، وإلا أن يتوصلوا إلى إدراك كنه ما نسميه بالطبيعة، وأن يجدوا لهم سبيلاً إلى الشمس والنجوم أو طرقاً للمحادثة مع سكان الأجرام العلوية على الأقل.(438/14)
ولكن دلت التجارب على أن كل تطور يعقبه تطور من جهة أخرى لا يرغب فيه الإنسان. قضى علماء الطب على معظم الأمراض القديمة، ولكن المعامل الكبرى والمدن الضخمة والسكك الحديدية وضجة الآلات والسرعة الرهيبة، كل هذه جاءت إلى البشرية المتطورة بأمراض لم يكن يعرفها إنسان الماضي، وستجيء بأمراض ولا شك لإنسان المستقبل لم نكن نعرفها نحن جزاء تطوره هذا.
وقد جاءت الاختراعات والثورة المادية بعوائد اجتماعية زلزلت بنيان البيت القديم وقوضت دعائم قدسيَّاته الاجتماعية وقواعده الأخلاقية التي كان يستعز بها. وجاءت بعادات جديدة فرضتها عليه فرضاً، ووسع هذا التطور مجال الحروب فجعلها عالمية وقد كانت موضعية، وجعلها آلية تكلف الإنسان ثمناً باهظاً تبتلع معظم ميزانية الدولة فلا تنتهي الحرب حتى يدخل في حرب أخرى جديدة أعم من تلك وأعظم
لذلك تشاءم بعض الفلاسفة من هذا التطور فأعلنوا ثورتهم على التطور الحديث والمدنية الحديثة فاعتزل الفيلسوف الشهير شيخ المتشائمين المحدثين شوبنهور هذا الكون ومن فيه متمثلاً بآراء فلاسفة الهنود ساخراً من كل شيء إلا من كلبه الأمين الذي أطلق عليه كل العالم ليعبر بذلك عن مقدار استخفافه بهذا العالم
وتبرم فيلسوف آخر هو الفيلسوف المتشائم شبنكلر من الحضارة الحديثة ومن الثقافة المادية التي صبغت كل شيء حتى المثل الأخلاقية بالصبغة المادية، وهدد بناء أوربا بسقوط عاجل مريع في إنجيله الفلسفي الجديد (سقوط الغرب) وقد أبان فيه أن الإنسان قد تطور تطوراً سريعاً جداً
أما من حيث الناحية الروحية فقد سارت البشرية فيها ولا شك بخطوات سريعة أيضاً ولكن إلى الوراء، ونادى الفيلسوف الدانماركي كيركه كارد ? أبناء قومه بعبارة تنم عن نفسية أوربا الحديثة: (هيا إلى الدين)
جواد علي(438/15)
من أدب الغرب
صفات زوجة
للدوق فرنسيسكو دي كفيدو
بقلم الأديب يوسف روشا
هذه رسالة بعث بها (ألدون فرنسيسكو دي كفيدو) في سنة
1633 إلى (ألدونا اينا دي فونسيسكا) وصيفة ملكة أسبانيا،
ضمنها الصفات التي يود أن تكون عليها زوجته، إذا ما قدر
أن تكون له زوجة. والرسالة مكتوبة بأسلوب ممتع، فيها شيء
كثير من الفكاهة، ويغلب عليها تلك الروح الشرقية التي قد
تكون من بقايا ما خلفه العرب في الأندلس من الأخلاق
والعادات، بعد أن دالت دولتهم
كل الذي أنشده في الزوجة - لشرفي وراحة ضميري - أن تكون قد تثقفت في رعاية مولاتي، ونشأت وترعرعت في خدمتها، واعتادت طاعتها لتحظى برضاي. أما إذا رأت مولاتي وأصرت على أني جدير بزوجة أرقى من هذه، فنزولاً على رغبتها وتلبية لطلبها سأحاول في هذه الرسالة تبيان الصفات التي يجب أن تتحلى بها تلك الزوجة التي قد ينعم الله بها عليّ، وذلك بواسطة مولاتي ومولاي الأمير. على أني لا أبغي - علم الله - من وراء ذلك تنوير مولاتي، بل تسليتها.
أما أنا، فعديم الأهمية، لولا مولاي الأمير الذي هذبني وقومني ونشلني من الهوة السحيقة التي ترديت فيها. وإذا كنت أتمتع الآن بشيء من الحظوة وسعة العيش، فذلك لأني عزفت، والحمد لله ولمولاي الأمير، عما كنت عليه سابقاً من الموبقات
لقد كنت شريراً ماكراً، وبالرغم من أني قد تركت تلك الصفات الآن، فإنني لم أصلح كل(438/16)
الصلاح بعد. ذلك لأني لم أهجر شروري وآثامي عن ندم وتوبة، وإنما نبذتها لأني ضقت ذرعاً بها
أنا رجل من أرومة طيبة في بلدي كما تعلم مولاتي. وإن لي داراً في الجبال، وأنا ابن والدين عزيزين أفخر بهما، ولهما عندي أطيب الذكر، على حين أن أعمالي - ولا ريب - تزعجهما وتسبب لهما حزناً عميقاً. . .
يصفني أعدائي بأني أعرج. وكل ما في الأمر أني أبدو كذلك لعدم اهتمامي بنفسي. ولا يستطيع أحد أن يجزم هل أنا أعرَجُ أو أحني ركبتي. ومهما يكن من أمر، فليراهن من يشاء على عرجي
أما سحنتي، فلا أقول إنها ترضي من يراها، ولكنها على كل حال ليست دميمة أو شتيمة إلى درجة تبعث على السخرية أو الاشمئزاز
والآن وقد أتيت على وصف نفسي وكشف النقاب عن وجهي، أنتقل إلى وصف المرأة التي أرتضيها لنفسي إذا ما من الله بها عليَّ. على أني أعترف أنه لولا مشيئة مولاتي ورغبتها الملحة، لكان من الحمق لمن كان مثلي في حقارة الشأن وضعة النفس أن يقبل على أمر كهذا، وليس ثمة امرأة ترضى به بعلاً. . .!
أود قبل كل شيء أن تكون زوجتي كريمة المحتد، عفيفة حصيفة؛ والصفة الأخيرة لازمة، إذ لو كانت غبية لما عرفت كيف تحتفظ أو تستفيد من صفتيها الأخريين. ثم إني أرجو أن تكون دمثة الأخلاق، خفيفة الروح، وأن تكون فضائلها فضائل امرأة متزوجة لا ناسكة متقشفة، لأن الاهتمام بزوجها وبيتها أخلق بها من سماع الوعظ وإقامة الصلاة. أما إذا كانت على شيء من العلم والمعرفة، فأفضل عليها الغبية، لأن العيش مع زوجة جاهلة أفضل وأسلم من العيش مع زوجة مغرورة
وأريدها وسَطا لا بشعة ولا جميلة؛ لأن المرأة الدميمة مصدر خوف وفزع ولا تصلح رفيقة حياة؛ والمرأة الجميلة تزعج أكثر مما تسر. أما إذا لم يكن بد من أن أختار إحداهما، فعليَّ بالجميلة، لأن الهم أهون عليَّ من الخوف، ولأن تكون لي زوجة أحرسها، أحبُّ إلي من أن تكون لي زوجة أفرُّ منها!
ثم إني أريدها ميسورة لا غنية ولا فقيرة، فلا هي تشتريني ولا أنا أشتريها، إذ ليس ثمة(438/17)
فقر ما وجدت العفة والسجاحة. إن المثري الذي يرفض الزواج من امرأة لأنها فقيرة، لهو غني سافل؛ وإن الفقير الذي يخطب امرأة لأنها غنية، لهو فقير حقير
كذلك أريد زوجة بشوشة لا عبوسة، لأن العيش مع هذه شقاء متصل وعذاب مقيم. ثم إني لا أريدها متشائمة تظل قابعة في زاوية من زوايا البيت تنعق كالغراب
ويجب أن تكون حسنة الهندام في غير إسراف، وأن ترتدي ثياباً محتشمة لا تلك التي تخترعها الخليعات من النساء
ويجب ألا تعمل ما يعمله البعض، وإنما تعمل ما يعمله الكل
وأفضّل الزوجة البخيلة على الزوجة المبذرة؛ ذلك أن التبذير شر يجب الابتعاد عنه، على حين أن البخل، وإن كان ذميما، قد ينفع في بعض الأحيان. على أني أعد نفسي سعيداً إذا ظفرت بزوجة سخية
لا يهمني أكانت بشرتها بيضاء أم سمراء، أو كان شعرها أسود أم أشقر، وإنما الذي يهمني هو ألا تجعل شعرها أبيض إذا كان أشقر، لأن ذلك يبعث على الغيرة وقد لا تحمد عقباه. ولا يهمني أيضاً أكانت زوجتي طويلة أم قصيرة، لأن في كعب الحذاء تلافيا لهذا النقص الجسمي؛ والكعب كالموت يسوي بين الناس
أما عن كونها هزيلة أو بدينة، فأقول إنه إذا لم أستطع الحصول على زوجة تكون على الأقل معتدلة الجسم فأنا أفضل الهزيلة. . . أحب أن تكون زوجتي هيكلاً عظمياً لا قطعة من الشحم واللحم
ثم أريدها مكتملة الشباب لا طفلة ولا عجوزاً، فالفرق بينهما كالفرق بين المهد واللحد. ذلك لأني قد نسيت من زمان بعيد أناشيد المهد، وأنا لم أتعلم بعد ترتيل المراثي. حسبي أن تكون امرأة ناضجة، وأن تكون حديثة السن فتلك منة من الله
وأود من صميم قلبي ألا يكون فمها وعيناها ويداها على جمال خارق. ذلك أنها إذا بلغت الكمال في هذه الأعضاء لما احتملها أحد؛ لأنها في هذه الحالة لا تنفك تلعب بيديها لتعرضهما على الناس، ولا تني تدير مقلتيها ليلحظهما الناس، ومما يصعب احتماله أن ترى امرأة دائمة الضحك والتثاؤب لا لشيء سوى أن تريك أسنانها اللؤلؤية. إن القلق يذهب بالجمال، وإن الإهمال يخفي العيوب(438/18)
ولن أتزوج واحدة قد مات عنها أبواها، وذلك لأتخلص من وجوب إحياء ذكرييهما؛ كما أني لا أرغب أن يكون كل أهلها أحياء. ليدخل أبوها وأمها بيتي على الرحب والسعة؛ أما عماتها فإلى جهنم وبئس المصير؛ وسأوصي بقراءة الفاتحة على أرواحهن مرة بعد مرة
وسأحمد الله وأشكره إذا ما منحني زوجة ثقيلة السمع، معقودة اللسان؛ ذلك أن هاتين الحاستين كثيراً ما تضجران الأصحاب وتقطعان الزيارات. كما أن من دواعي سروري واغتباطي أن تكون زوجتي سيئة الطبع؛ لأن المرأة الكيسة لا تنفك تضرب على وتيرة واحدة متمنية أن لو كانت كباقي النساء وإن طبيعتها السجيحة هي المسؤولة عما تلاقي من الغبن
وأختم رسالتي هذه جاداً متوخياً الحقيقة كما بدأتها، ومؤكداً لمولاتي أن الزوجة التي تحقق رغباتي هذه ستحظى عندي بأعظم منزلة. على أني أعرف كيف أصبر على بلائها إن هي قلبت لي ظهر المجن. ذلك أني قد لا أكون موفقاً في زواجي، ولكني لن أكون زوجاً فظاً بحال من الأحوال. أطال الله حياة مولاتي ومولاي الأمير ومتعهما بالصحة والعافية إنه السميع المجيب
(بغداد)
ترجمها عن الإنجليزية
يوسف روشا(438/19)
كلمة صريحة
بين الأدبين المصري والسوري!
(لكاتب لبناني)
أفضى الدكتور طه حسين بك إلى بعض الصحف العربية في سوريا بكلمة يعزو فيها قلّة التفات الأوساط الأدبية في مصر إلى الأدب السوري الحديث - بما فيه اللبناني - إلى عدم القيام (بواجب الدعاوة. . .) لهذا الأدب. ولا حاجة إلى البيان أن الذين ينبغي أن يقوموا بواجب هذه الدعاوة إنما هم أفراد الجالية السورية اللبنانية في مصر الشقيقة
وقد أثارتْ هذه الكلمة بعض الأقلام بالمعارضة وبادّعاء تعذّر القيام بمثل هذه الدعاوة لأسباب لا سبيل الآن إلى ذكرها. وأنا أوثر أن أنقل ميدان هذا الكلام - وما يستتبع - إلى هذه المجلة الغراء لأطلع إخواننا المصريين - في هذه الكلمة القصيرة - على بعض النواحي المؤثرة تأثيراً مباشراً في تكييف الحركة الأدبية في سوريا ولبنان
أم العُذر الذي انتحله الدكتور الفاضل - وهو (واجب الدعاوة. . .) - يبتغي به تبرير موقف الأدب المصري الحديث من أن يقال عنه إنه لا يأبه - أو على الأقل - لا يلتفت الالتفات المطلوب إلى تسجيل ظواهر الحركات الأدبية في بلادنا؛ هذا العذر، لا أظن أن الدكتور نفسه مطمئن إلى صحته، وإنما يكون أغضى - وأحسبه إغضاء متعمداً - عن حقيقة سأسجلها بعد حين على أدبنا - ولو كانت مُرَّةً مؤلمة -
من الوهن في التفكير أن يقال إن (الدعاوة) التي تقوم بها الجالية المصرية في بلادنا - إن كان ثمة جالية مصرية تقوم حقاً بالدعاوة - هي التي أضاءت لنا الأدب المصري الحديث، وعرّفتنا به، وحبّبتنا فيه، فإن الواقع لا يثبت من هذا شيئاً، إذ لم نر رجلاً مصريَّا في بلادنا يطرسُ أية كلمة في نقد كتاب مصري صدر في مصر (والنقد ينتظم حسناته وسيئاته)، ولم نرَ رجلاً مصريَّا يعرض في مكاتبنا كتباً صدرت في بلاده دون أن يطلبها منا طالب؛ اللهم إلا أن يكون مقتنعاً أنها لن ترد، وأنها ستحوز الرضى، وستنفق سوقها، لما لها من أهمية عظمى وحاجة ماسة، وطلب ملحاح في بلادنا السورية اللبنانية، فإذ ذاك يبعث بها فيعرضها، وليس هذا من الدعاوة في شيء، إذ أن هذه المؤلفات لا تفتقر إلى مثل هذه الدعاوة.(438/20)
لهذا كله تصادف المؤلفات المصرية سوقاً رائجة في بلادنا
وأما متعهدو المؤلفات عندنا - أو المؤلفون أنفسهم - فإنهم لا يجدون ميلاً إلى إرسال مؤلفاتهم لعرضها في الأسواق المصرية خاصة، لأنهم مقتنعون أنها لن تحوز الرضى ولن تنفق سوقها، فيكون هذا داعيهم إلى الاجتزاء بعرضها في أسواقنا، وحسبهم ذلك
فالدعاوة التي ينيط الدكتور الفاضل بها رواج المؤلفات، ليس لها من التأثير أي قسط.
فلماذا إذن تصادف المؤلفات المصرية، وبالجملة الأدب المصري جواً موائماً في مصر نفسها قبل سوريا؟ ولماذا لا يصادف الأدب السوري هذا الجو نفسه في سوريا بَلْه مصر؟
أجل! لماذا يأنس قراؤنا - نحن السوريين - صَورْة إلى قراءة المؤلفات المصرية تفوق ميلهم إلى قراءة الكتب السورية حتى إنك لترى الكتب المصرية تحتل المركز الأول في أسواقنا؟
هذه أسئلة تتطلب أجوبتها صراحة وصدقاً لا تجامُل فيهما على جانب، ولا إشادة فيهما ولا إطراء لجانب آخر!
من الحمق ألا يعترف المرء أن من أسباب ذلك أن النتاج المصري أكثر فائدة وأكبر قسطاً في التفكير الحي، وأكثر طلاوة في الأسلوب، وأوفر جمالاً في ابتداع المعاني وخلق الطرائف، وأرهف إحساساً في تصوير العاطفة؛ وبالجملة: أن النتاج المصري أكثر نضوجاً. وهذه الظاهرة لا تخفى على أحد، ولا يحاول أن يبخس من حقها أحد، فمصر زعيمة البلاد العربية غير مُدافَعَة في مضمار النتاج الأدبي بكل ما ينتظم من فروع؛ وإن تكن مصر زعيمة البلاد العربية في الأدب، فليس بضائرها أن تلتفت إلى الحركات الأخرى. بيد أن الذي لا شك فيه أنه السبب الأساسي في رواج الأدب المصري، وفي كساد السوري - إلى حد - هو أن نتاج السوريين ضئيل، لا يقاس بوفرة نتاج المصريين وضخامته وغزارته
وآية ذلك أن أي أديب مصري شهير - في عرف المصريين والسوريين على السواء - لا تقل مؤلفاته عن العشرة. وأكثر هؤلاء الأدباء تربو مؤلفاتهم على ذلك بكثير أو قليل. وإنا إذا قلنا (أديب شهير) فإنما أعني أن مؤلفاته لا تجنح إلى الإسفاف أو الضعف، ولا تميل إلى التعقيد والغموض. وبجملة واحدة أن مؤلفاته معروفة مفيدة قيمة. ومن الطبيعي أن يقوَّم(438/21)
الأديب بعدد كتبه القيمة. . .
ولكننا نرى في أدبنا، أن أي أديب سوري شهير - في عُرف السوريين فحسب (ولم أشفع معهم المصريين لقلة اطلاعهم ونقص معرفتهم في هذا المضمار) - لا تربو مؤلفاته عن الخمسة، وأكثر هؤلاء الأدباء تقل مؤلفاتهم عن ذلك بكثير أو قليل
قد يتجه للقارئ هنا أنه قد يكون عزبَ عن بالي أمرُ المؤثرات في البيئات، وهذا أمر له قيمته وشأنه. ولكنك إذا استقرأت جميع المؤثرات في الأدب، وقارنتها بين الأديبين فإنك تراها تختلف اختلافاً يسيراً ليس من شأنه أن يؤثر هذا التأثير العظيم في النتاج الأدبي لكل من البلدين. فالوسط الذي يعيش فيه كلا الأديبين يكاد يكون واحداً، والمجتمع كذلك باعتبار أنه مجتمع عربيٌ أماله واحدة، وغايته واحدة، يتكلم لغة واحدة، والغالب فيه يدين بدين واحد، وتحكمه حكومة واحدة. . . الخ. وأما البيئة الطبيعية فتختلف كثيراً بين جو مصر الثابت، وبين جو سوريا المتبدل المغيّر بحسب الفصول؛ وأنا أرى أن التبدل الجوي في سوريا هو في صالح فكر أدبائها، لأنه دائماً يتلون بلونه ويتأثر أكبر الأثر به؛ فجو مصر الثابت يورث العقل المصري جواً ثابتاً فلا يتغير التفكير إلا بقدر. وأما جو سوريا المتبدل فيورث العقل جواً متبدلاً يمد هذا التفكير بأسباب الاضطراب الدائم، والحركة المختلفة، فيتمخض عن ألوان من التفكير كثيرة، وضروب من العاطفة وفيرة
والآن أعود - بعد أن كاد القلم يشط - إلى تعليل سبب هذا البون الشاسع في النتاج الأدبي
إن الأدباء المصريين لا يألون جهداً، ولا يدخرون قوة في الكتابة، بل يدأبون على امتصاص مداد القلم، وعلى ترشف ماء معانيه، فيكتبون ويكتبون ولا ينصبون، وينهال عليهم الإطراء والتشجيع فيزدادون. . . أجل إنهم يزدادون. . . وهذه الحركة الدائبة في الكتابة تفسح أمامهم طرقاً واسعة لا حبةٌ في التفكير، وتحسر لأعينهم عن مجال جمة فينظرون ويتأملون، وينهلون كأنهم لا يرتوون.
وهم يحسون - إذا ما اضطرتهم ظروف قاسية إلى الانصراف عن الكتابة - بضيق شديد يبرمهم ويؤلمهم، ويستشعرون حنيناً مشبوباً إلى (العودة إلى الروض. . .)
لهذا كله، أضحى نتاجهم الأدبي ضخماً غزيراً لا ينضب معينه، ولا يجف مداده
وأما الأدباء السوريون واللبنانيون فهم على عكس ذلك، وهذه هي الحقيقة المؤلمة(438/22)
إن حقوق الصراحة لتوجب علينا القول: إن الأديب السوري الذي يقرزم يعتقد أنه أصبح شاعراً أعظم. . . وإن الأديب الذي كتب مقالة نالت بعض الإعجاب يثق بأنه أضحى المفكر الذي لا يجارى، وإن الأديب الذي أصدر قصة أو قصتين يوقن بأنه أمسى القصصي الذي لا يبارى
ولكن من الحق كذلك أن نسجل أن في سوريا ولبنان أدباء وعظماء تجود قرائحهم - إمَّا طابوا نفساً بالكتابة - بدرر بينة وآيات رائعات، ولكنهم - مع الأسف، والأسف الشديد - يجودون بمقال واحد في السنة، ويصدرون كتاباً واحداً في العشر سنين!
إن هذا الانقطاع عن الكتابة من شأنه أن يخمد حيوية الفكر، ويميت قوى التأمل والنظر إلى بعيد، ويقضي على شبوب العاطفة. أنا لا أدعي أن ليس في الأدب السوري شيء قيم، فمعاذ الله أن يكون ذلك؛ بل أقول إن الذي يصدر كتاباً قيما واحداً لا حاجة له بعد الآن إلى إجهاد نفسه وأتعابها. فقد سلس له قياد الفكر السامي. فليخلد إلى الراحة، وليركن إلى برجه العاجي، وليتنسك ما طاب له في منسكه. ألم يطر عليه كافة القراء؟ أو لم تتشوف إليه كافة المجلات. . .
الحق الذي لا مناص من إثباته هو أن الغرور والزهو والتكبر - تتملك كلها - أكثر أدبائنا؛ فينتجون هذا الإنتاج الضئيل. إن كتاباً واحداً تصدرونه - أيها الأدباء قاطبة - لا قيمة له مهما جل فيه من فكر وسما ما يحوي من آراء
ماذا أفدت أيها الأديب (الساخر. .) الذي يدعي أنه يزجي الوقت كله في مطالعة المؤلفات القيمة وهو لم يصدر - مدى حياته الأدبية الطويلة - إلا كتابين أو ثلاثة!!
وأنت ماذا جنيت أيها الشاعر الذي يقول إنه لا يرتاح ثانية من تصفح دواوين كبار الشعراء وهو لم يطلع الناس إلا على مقطوعات صغيرة، هيهات أن تتجمع ديواناً؟!
وأنت أيها القاص الذي لم يصدر إلا كتاباً واحداً لم يحو أكثر من عشر قصص، أكل ما وقع عليه بصرك من صور حية، ومناظر جمة تثير الفكر، وتمده بالحيوية مثبت في كتابك ذاك؟!
وأما أنت أيها الناسك المفكر، فأفق مما أنت فيه، وأطفئ شمعتك الصغيرة التي لا تومض إلا ومضاً، واخرج إلى الحياة، إلى الشمس النيَّرة. . . اخرج إليها بجسمك وعقلك وروحك(438/23)
وقلبك، فإن لك فيها متسعاً!
لقد غزانا المؤلفون المصريون بمؤلفاتهم، وأثبتوها إثباتاً في بلادنا، فتقبلناها شاكرين، وعُجْنا على مطالعتها متهافتين. وذلك لأنها وافرة، لأنها غزيرة، ولأن في هذه الغزارة قيمة عالية.
ولم نستطع غزو مصر - حتى ولا غزو أنفسنا (إذا أردنا المبالغة) - بمؤلفاتنا، ولم يتقبلها المصريون لأنها نادرة، لأنها قليلة جداً، ولأن في هذه القلة قيمة ضئيلة
كلا! ليست (الدعاوة) التي قصرنا فيها هي السبب في قلة التفاتهم إلينا، وليست (الدعاوة) التي أوفوها حقها هي السبب في تهافتنا على أدبهم!
لا يمضى الشهر المصري دون أن نسمع أن كتابين أو ثلاثة قد صدرت، وتمضي السنة السورية واللبنانية - بل السنون - دون أن نسمع أن كتاباً واحداً قد صدر!
إنها كلمة صريحة آمل أن تُثبت فيقرءوها أدباؤنا. . . علَّ الجد يستحثهم، ويحققون ما يدعون بأن نهضة كبرى تترعرع في بلادنا.
(بيروت)
(كاتب لبناني)(438/24)
إلى إمام الأزهر
العقائد الوثنية
في الكتب الأزهرية
للأستاذ محمود أبو ريه
هذه كلمة خاصة نرجو أن تبلغ مسامع الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وأن تصيب مكان العناية منه فينهض بما أوتي من علم واسع وعزم قوي إلى العمل على تخليص العقائد الدينية من نزعات الوثنية، وتحرير العقول من رق التقاليد الخرافية، حتى تصبح هذه العقائد سالمة خالصة، وتنطلق العقول والأفكار إلى العمل على كل ما يعود عليها بالنفع والخير. وإنه إن يفعل ذلك يكون قد أقام الأصل الأول للدين الإسلامي وهو التوحيد الخالص، الذي هو (كمال الإنسان) كما قال أستاذنا الإمام محمد عبده، ووضع أساس الإصلاح في بلادنا إذ لا يقوم أي إصلاح في أي مرفق من مرافق الحياة إلا بعد تطهير العقائد وتحرير العقول. ذلك بأن العقائد الفاسدة كما لا يخفى تأخذ بأيدي معتقديها وأرجلهم، وتغل عقولهم عن التفكير الصحيح، وتصيب عزائمهم بالشلل الاجتماعي، فلا يعملون في الحياة ولا يُعدون لها عدتها. وأنى لهم العمل وقد (رموا الحمول. . .) على ما اتخذوهم أولياء بزعمهم فاستيقنوا أنهم يقضون حاجاتهم ويجيبون دعواتهم
وإن الذي جعل العقائد الوثنية تفشو ولا ريب بين المسلمين هم أكثر شيوخ الأزهر بما يبثونه في فتاواهم وأحاديثهم ودروسهم ومجلاتهم، ولولاهم لما وجدت الوثنية سبيلاً إلى عقائد المسلمين، ذلك بأنك ترى الرجل من دجاجلة الصوفية يدس عقائد الشرك بين من يسميهم مريديه، ويعبث ما شاء له الجهل أن يعبث بعقول هذه الطوائف الساذجة، فإذا التفت إلى الشيخ الأزهري، وهو الذي يرجى منه أن يعمد إلى ما يبنيه هذا الرجل الصوفي فيأتي عليه من القواعد، لتنظر ماذا يصنع إزاء ذلك وجدته يناصر هذا الدجال ويؤيده؛ وقد بلغ من بعضهم أن يمشي في ركابه ويدعو الناس إلى احترامه وإجلاله فيقول: إن العلم علمان: علم الظاهر وهو لنا، وعلم الباطن الذي هو علم الحقيقة وقد فاز به شيوخ الصوفية. وبذلك يصبح ذلك الرجل الجهول قطب وقته وولي عصره(438/25)
ولقد كنت يوماً أناقش أحد شيوخ الأزهر فيما يصنعه هو وأمثاله من العمل على إشاعة العقائد الوثنية بين المسلمين، فكان مما أجاب به: إن هذه الأمور قد درسناها على شيوخنا في الأزهر علماً وأخذناها عنهم عملاً، وهي ثابتة في الكتب الأزهرية. وقد قرر شيخنا الدردير في الخريدة أن من لا شيخ له فشيخه الشيطان. وقال إمامنا البيجوري في حاشيته على الجوهرة: إن الله تعالى يوكل ملكا على قبر الولي يقضي حوائج الناس. فنحن لا نقول إلا عن علم ولا نفتى إلا بدليل. ثم التفت إلى متعجباً وقال: كأنك لم تقرأ ما ينشر كل يوم في المجلات الدينية من الفتاوي الدجوية، وآخرها فتوى فائدة الأربعاء القناوية. أو كأنك لم تطلع على القصيدة الصدفية في الاستغاثة بالحضرة الأحمدية البدوية التي نشرت بمجلة الرسالة الغراء! ألا فادرس العلم الصحيح من مصادره، وارجع إن أردت المزيد إلى ما أثبته الشيخان (الأكبران) الشرقاوي والبيجوري وهما ممن بلغوا درجة الإمامة وتولوا مشيخة الأزهر لترى كيف يكون علم العلماء المحققين. فغادرته ورجعت إلى هذه الكتب التي ذكرها لأرى ما فيها، وما كدت أعبر بعض صفحاتها حتى تلقاني علم زاخر وجدت أن لا قبل لي بملاقاة أمواجه، فقفلت راجعاً وقلت اللهم إن السلام في الساحل
أما الكتاب الأول فهو شرح الخريدة البهية (للقطب الكامل والغوث الواصل أبي البركات سيدي أحمد الدردير)
قال هذا القطب بعد أن ذكر من العقائد ما شاء له علمه: إن على كل مسلم (اتباع شيخ عارف قد سلك طريق أهل الله على يد شيخ كذلك إلى أن ينتهي إلى رسول الله)، ثم قال: (ومن لا شيخ له فشيخه الشيطان. وبعد ذلك أوجب على المسلمين تقليد الأئمة الذين ذكرهم اللقاني في الجوهرة بقوله:
وما لك وسائر الأئمة ... كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم ... كذا حكى القوم بلفظ يفهم
على أن المسلم لا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع في هذا الأمر وهو يجد في كتب العلم مع هذا القول قولا آخر هو:
ألا كل من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجة
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد سليمان أبو بكر خارجة(438/26)
على أنا لا نعرض لذلك حتى لا نتحول عن تيار الحديث
ولما فرغ من وجوب تقليد الأئمة الأربعة قال باتباع أبي القاسم الجنيد ومن تبعهُ، لأن من عداهم (من جميع الفرق على ضلال)، ثم قال إن تمام النعمة في اتباع الأقطاب الربانيين أسياده أحمد الرفاعي وعبد القادر الجيلاني وأحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي وأبو الحسن الشاذلي ومحمد الخلوتي وعبد الله النقشبندي وأتباعهم (فهؤلاء كلهم سادات الأمة المحمدية)
وقد جاء الشيخ (المحشي) وهو (العلامة الكبير والفهامة النحرير سيدي أحمد الصاوي) فترجم لهؤلاء الأقطاب الربانيين وذكر مناقبهم. وقد أورد من مناقب الرفاعي أنه (أراد شراء بستان فأبى صاحبه ألا يبيعه إلا بقصر في الجنة)، فقال له: (قد اشتريت منك بذلك) وكتب له عقداً هذه صورته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما ابتاع إسماعيل من العبد أحمد الرفاعي ضامناً على كرم الله قصراً في الجنة يحف به حدود: الأول لجنة عدن؛ والثاني لجنة المأوى؛ الثالث لجنة الخلد؛ الرابع لجنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه وأشربته وأنهاره وأشجاره عوضاً عن بستانه في الدنيا، والله شاهد على ذلك وكفيل) فلما مات إسماعيل دفن معه العقد فأصبحوا وإذا مكتوب على قبره (قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً)
ونقل من كرامات السيد البدوي أن ابن دقيق العيد اجتمع به فقال له إنك لا تصلي، ما هذا سَنَن الصالحين. فقال له اسكت وإلا طيرت دقيقك، ودفعه فإذا هو بجزيرة متسعة جداً، فضاق ذرعه حتى كاد يهلك، فرآه الخضر فقال له لا بأس عليك، إن مثل البدوي لا يعترض عليه. اذهب إلى هذه القبة وقف ببابها فإنه سيأتيك العصر يصلي بالناس فتعلق بأذياله لعل أن يعفو عنك، ففعل فدفعه فإذا هو ببابه
وساق من كرامات الدسوقي أنه يعرف جميع اللغات حتى لغات الوحش والطير، وأنه صام في المهد، ورأى اللوح المحفوظ وهو ابن سبع سنين، وأنه ينقل اسم مريديه من الشقاوة إلى السعادة. ومن أراد أن يستزيد من معرفة مناقب هؤلاء الأبطال فليرجع إلى هذا الرسالة فإن فيها العجب العجاب
أما الكتاب الثاني فهو حاشية الشيخ الباجوري على شرح ابن قاسم وقد جاء في باب الجنائز ما يلي:
لو شاهدنا الملائكة تغسله (الميت) لم يسقط عنا(438/27)
(ولو غسل الميت نفسه كرامة كفى كما وقع لسيدي أحمد البدوي أمدنا الله من مدده)
والكتاب الثالث هو حاشية الشيخ الشرقاوي على متن التحرير لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وقد قال في باب الجنائز أيضاً: (ولو شاهدنا الملائكة يغسلونه (الميت) لم يسقط عنا الطلب بخلاف ما لو كفنوه) إلى أن قال: ولو غسل الميت نفسه كرامة كما نقل عن سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه، وكذا عن سيدي عبد الله المنوفي المالكي كفى لأنه من جنس المكلفين. وكذا لو غسل ميت ميتاً آخر كرامة)
نكتفي بهذا خشية الإطالة، ونعرضه عرضاً بغير مناقشة ولا بحث يقرأه الناس، ويطلع عليه إمام الأزهر، وهو القيم على علوم الدين في هذه البلاد والمسموعَ الكلمة بين أرجاء العالم الإسلامي، وكل ما نرجوه أن يوجه عنايته الجبارة إلى الإصلاح الصحيح لعلوم الأزهر، وذلك بإصلاح الكتب الدينية التي تدرس فيه، وبخاصة كتب العقائد منها، وأن يقوم العمل على الأخذ بها والدعوة على ما جاء بها، فلا يعبد الطاغوت في هذا البلد من دون الله، ومن لا يدين بها ويؤمن بأصولها يحال بينه وبين التصدي للدعوة إلى الدين، لأن العالم أو الواعظ إذا لم يكن سالم العقيدة خالص التوحيد، فإنه يكون أضر على الأمة من الجاهل
هذا ما نرجوه من شيخنا الأكبر، حتى يكون المسلم مستحقاً لوراثة الأرض بصلاح، فيأخذ أمور الحياة بأسبابها، ويستغلها بتسخير نواميسها، ويتبع سنن من يعاصرنا من الأمم الراقية شبراً بشبر وذراعاً بذراع، ليتبوأ مكانه اللائق به من العزة والسلطان.
نفزع إلى شيخنا الأكبر في ذلك، ونحن نعلم أنه ليس له غيره، فهو المسئول عن حماية العقائد الدينية في هذه البلاد من عبث الجاهلين، وقد تهيأ له من أسباب إنفاذ الإصلاح ما لم يتهيأ لمن سبقه من الأئمة المصلحين، فلا عذر اليوم
(المنصورة)
محمود أبو ريه(438/28)
عَبْرَ كذا. . .
للأستاذ الكبير (ا. ع)
يذكر القارئ أني كنت قد كتبت بحثاً في العدد 424 من (الرسالة) أُخطّئ فيه ما شاع في أقلام الكتاب من استعمالهم (عَبْر) - مصدر عَبَرَه - ظرفا، مسايرين الترجمة الخاطئة للكلمة الإنجليزية
وقد سقت للتوضيح ثلاثة أمثلة مما تستعمله الصحف والمجلات كل يوم. وسأعرض هذه الأمثلة مرة ثانية، وأبسط الموضوع بسطاً، وأضمّنه مقتبسات من كلامي وكلام مُناظري مما يدور عليه البحث بيني وبينه؛ حتى يعيه من القراء من لم يكن تتبعه منذ البداءة - وهذه هي الأمثلة:
1 - ومن زمن قريب ادعت اليابان لنفسها حق مرور قواتها (عَبْرَ) شمال الهند الصينية
2 - وسنواصل كل شهر قذف. . . بالقنابل الشديدة الانفجار، كما فرغت مصانعنا من إخراج طائراتنا الضخمة أو جاءت إلى هنا (عَبْرَ) الأطلنطي
3 - لهذا وصلوا بين باكو وباطوم (عَبْرَ) القوقاز بأنابيب
فردّ عليّ الأستاذ الفاضل محمد محمود رضوان في العدد 432 من (الرسالة) بأن هذه الكلمة قد جاءت في بيت لسواد بن قارب هو:
فشمرت عن ذيلي الإزار وأرقلت ... بيَ الدعاب الوجناء عبْر السباسب
ثم قال: ومن ثم يرى الأستاذ الكبير أن الكلمة صحيحة كما يستعملها الكتاب على عهدنا
وقال: ولو أردنا تخريج الكلمة على وجه صحيح لوجدنا أكثر من وجه، خلافاً لما يقول الأستاذ: (وأقرب هذه الوجوه عندي أن تكون (عبْر) مصدراً مراداً به اسم الفاعل، فتكون حالاً مما قبلها)؛ ويكون التقدير: (مرور قواتها عابرة شمال الهند الخ)، (أو جاءت إلى هنا عابرة الأطلنطي)
فأنت ترى أنه في عبارته هذه قد أعرب في صراحة (عبر) حالاً فعقْبت عليه في العدد 433 بأن المصدر لا يقع حالاً إلا إذا كان نكرة و (عبْر) في الأمثلة التي أتيت به - وفي غيرها مما تلوكه الصحف كل يوم - معرفة بالإضافة، فلا تصلح أن تكون حالاً؛ ثم جئت بعدة أمثلة مما يستشهد به النحويون لضرورة تنكير المصدر إذا وقع حالاً؛ وقلت أيضاً: إن(438/29)
وقوع المصدر المعرف حالاً نادر جداً، ولا يكون إلا في صورتين يمثل لهما بمثالين هما: جاءت الخيل بَدادِ، وأرسلها العِراك
ولكن الأستاذ لم يُرِد أن يعترف بأنه قال ما قال - وهو ما خطّته يمينه صريحاً كما مرّ - فجاء في العدد 435 يقول ما نصه:
وأقول: إن الأستاذ لم يتبين رأيي على وجه الصحيح؛ إذ توهم أني أرى (عبراً) مصدراً أريد به الحال (تأمل)، ولم أقل هذا (تأمل)، وإنما قلت: إنه مصدر وضع موضع اسم الفاعل، فهو عبر بمعنى عابر، كما في قوله تعالى: (إن أصبح ماؤكم غورا)؛ ورجل عدل: أي عادل!
أقول: ما على القارئ إلا أن يرجع إلى عبارته، فهي من الوضوح والسلامة والإيجاز بحيث لا توقع في وهم أو ضلال.
ثم نرى الأستاذ بعد ذلك يعود فيؤكد إنكاره لما قال، ويتسرّب من هذا الإنكار - في شيء من الالتواء - إلى إجازة إعراب (عبر) حالاً؛ إذ هذا المصدر - كما يقول - سيفقد تعريفه بعد التقدير. . . الخ
وإني واضع عبارته كلها أمام القارئ، مراعاة للدقة، وسوقاً للحجاج على وجهه الصحيح، قال:
(فأنت ترى أني لم أنص على أن كلمة (عبر حال) حتى يشترط تنكيرها، وإنما نصصت على أنها مصدر بمعنى فاعل (تأمل). وكونها (حالاً) أمر اقتضاه السياق الكلام في الجمل التي ساقها الأستاذ. وساعد عليه أن المصدر سيفقد تعريفه بعد التقدير. وسيصير المضاف إليه مفعولاً، وذلك في قولك: (عابرة الأطلنطي)؛ فليس ثم ما يمنع من أن يكون المصدر (حالاً) بعد أن فقد تعريفه)
أقول: إن المثال - وموضوع البحث والمناقشة - غير صحيح؛ إذ لا يعرف في العربية مصدر معرف يقع حالاً إلا في صورتين أو صور قليلة شاذة - فلا يمكن أن يتلمس له من (التقدير) ما به يخرج من فساده المتأصل
ألا إن الموضوع من الخطورة بحيث لا ينبغي أن يُرْمى فيه الكلام على عواهنه
بقيت مسألة ليست محل نزاع بيني وبين الأستاذ، وهي ما أشار إليها بقوله: (فقد أصبحت(438/30)
القضية الآن: هل يشترط تنكير المصدر إذا وقع موقع اسم الفاعل، بصرف النظر عن كونه حالاً أو غير حال؟)
وللإجابة عن هذا أقول: يحسن أن يرجع الأستاذ مرة ثانية إلى ما جاء في العدد 433، فقد قلت فيه: (يكفي في الرد على هذا أن أذكر الأستاذ أنه من المقرر أن المصدر قد يقع حالاً (إذا كان نكرة). فالتنكير شرط، نحو. . . الخ)
(فأنت ترى أني قصرت كلامي على (المصدر الواقع حالاً) ولم أتعرض لغيره، فلا محل هنا لهذا الاستفهام
وليس كذلك بيني وبينه خلاف في المصدر قد يقع في موضع اسم الفاعل، ولا في أن اسم الفاعل قد يقع في موضع المصدر
وبعد فقد آن لي أن أختتم هذه الكلمة، بعد أن أفرغت الوسع في المقابلة بين كلام مناظري وكلامي. وإلى القراء أحتكم والله ولي التوفيق
(ا. ع)(438/31)
فضل الصفر على المدنية
للأستاذ قدري حافظ طوقان
قد يعجب القارئ الكريم من هذا العنوان. وقد يتبادر إلى ذهنه أسئلة عديدة؛ ما علاقة الصفر بالمدنية؟ وهل للصفر قيمة ليكون له أثر في تقدم المدنية؟ أليس الصفر صفراً يعني الفراغ والعدم؟ إذن فكيف يوضع هذا العنوان ويصرف له بعض الاهتمام؟
ولكن مهلا. . . لقد فكرنا في هذا الموضوع، ورجعنا إلى الكتب الرياضية وغير الرياضية، فتبين لنا أن للصفر خصائص وأفضالا. وما يكون لنا أن نقتحم هذا الموضوع لولا أن البحث قادنا إلى ذلك. وفي هذا المقال سنحاول تباين الفوائد التي تجنيها المدنية من الصفر، كما سنأتي على التسهيلات التي قدمها للبحوث الرياضية وغير الرياضية، والتي لولاها لما تقدمت العلوم الرياضية تقدمها المشهود، ولما استطاع العلماء أن يتقدموا بالجبر خطوات واسعة، وبالتالي لما استطاعوا أن يتقدموا بالتي تعتمد على الرياضيات في كثير من مباحثها كالفيزياء والفلك والكيمياء.
نبذة تاريخية
وقبل ذكر شيء عن الصفر وخصائصه وفوائده نرى أن نذكر أولاً نبذة عن تاريخ الترقيم واستعمال الصفر. إن النظام الذي نتبعه الآن في الترقيم مبنيّ على أساس القيم الوضعية، وبواسطته يمكن ترقيم جميع الأعداد وإجراء الأعمال الحسابية بسهولة كبيرة. ولقد بقيت الأمم في القرون الخالية كالمصريين والبابليين واليونانيين وغيرهم محرومة من هذا النظام؛ وكانوا يجدون صعوبة في إجراء الأعمال الحسابية، حتى أن عمليتي الضرب والقسمة كانتا تقتضيان جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً. ولو قدّر لأحد علماء اليونان من الرياضيين أن يبعث فقد يعجب من كل شيء، ولكن عجبه يكون على أشده، إذ يرى أن أكثر سكان الأقطار في أوربا وأمريكا يتقنون عمليتي الضرب والقسمة ويجرونها بسرعة ودون عناء.
ولما نهض العرب نهضتهم العجيبة ودوّخوا أكثر أقطار المعمورة، اتصلوا بالهند فاقتبسوا منها الأرقام الهندية وقد قدروا النظام الترقيمي عندهم (عند الهنود) ففضلوه على حساب الجمل الذي كانوا يستعملونه قبلاً. ومن الغريب أن في بلاد الهند أشكالاً متنوعة ومختلفة(438/32)
للأرقام، ولكن العرب بعد أن اطلعوا على أكثر هذه الأشكال كونوا منها سلسلتين عرفت إحداهما باسم (الأرقام الهندية) وعرفت الثانية باسم (الأرقام الغبارية). ففي بغداد والجانب الشرقي من العالم الإسلامي عم استعمال الأولى أي الأرقام الهندية، وهي التي لا تزال شائعة ومستعملة في بلادنا. وشاع استعمال الثانية، أي الأرقام الغبارية في القسم الغربي - في الأندلس وأفريقيا والمغرب الأقصى - وهذه الأرقام هي المستعملة الآن في أوربا والمعروفة باسم الأرقام العربية ولم يتمكن الأوربيون من استعمال هذه الأرقام في الأعمال الحسابية إلا بعد انقضاء قرون عديدة من اطلاعهم عليها، أي أنه لم يعم استعمالها في أوربا والعالم إلا بعد انتهاء القرن السادس عشر للميلاد
ولم يفطن أحد قبل الهنود إلى استعمال (الصفر) في المنازل الخالية من الأرقام؛ وقد أطلقوا عليها لفظة (سونيا) ومعناها (فراغ) واستعملوا النقطة (.) لعلامة الصفر؛ وقد أخذها العرب عنهم واستعملوها في معاملاتهم. ويقال إن الهنود لم يلبثوا أن عدلوا عن استعمال النقطة وأخذوا يكتبون الصفر بصورة دائرة
فوائد الصفر
مما لا جدال فيه أن نظام الترقيم الذي نعرفه والمنتشر بين أكثر أمم الأرض هو من المخترعات الأساسية القيمة ذات الفوائد الجلّى التي توصل إليها العقل البشري، وهذا النظام لم ينحصر - كما لا يخفى - في تسهيل الترقيم وحده، بل تعداه إلى تسهيل جميع أعمال الحساب. ولولاه لما رأينا سهولة في الأعمال الحسابية، ولاحتاج المرء إلى استعمال طرق عويصة وملتوية لإجراء الضرب والقسمة. ومما لا شك فيه أيضاً أنه لولا الصفر واستعماله في الترقيم لما فاقت الأرقام العربية والهندية غيرها من الأرقام، ولما كان لهما أية ميزة، بل لما فضلتهما الأمم المختلفة على الأنظمة الأخرى المستعملة في الترقيم. والنظام المستعمل والشائع الآن يقضي بجعل قيمة الرقم تتغير بتغير منزلته، أي أنهم أوجدوا منازل للأرقام تكسب الرقم الواحد قيماً مختلفة إذا نقل من منزلة إلى أخرى؛ فالرقم الذي على اليمين يدل على الآحاد، والذي يليه على العشرات، والذي يليه على المئات، وهكذا. . . وإذا أردنا أن نكتب العدد (ثلاثة وأربعين) فإننا نضع الثلاثة في المنزلة الأولى، أي منزلة الآحاد والأربعة في المنزلة الثانية، أي منزلة العشرات. وهنا نجد أن الثلاثة(438/33)
دفعت الأربعة إلى المنزلة الثانية إلى اليسار وأعطتها قيمة الأربعين. ولكن إذا أردنا أن نكتب بالرقم العدد (أربعين) فمعنى ذلك أنه علينا أن نجد رقماً يدفع الأربعة إلى المنزلة الثانية إلى اليسار. وبذات الوقت لا يزيد في المجموع شيئاً، ومن هنا استعمل الصفر ووضع علماء الهند علامة لتملأ المرتبة الخالية، فجاءت مكملة لطريقة كتابة الأعداد بالأرقام
وللصفر فوائد أخرى هي من عظم الشأن في مكان عظيم لا يقل خطرها عن التي ألمعنا إليها؛ فلولاها لما استطعنا أن نحل كثيراً من المعادلات الرياضية من مختلف الدرجات بالسهولة التي نحلها بها الآن. ويمكن القول بأن الرسم البياني لم يتقدم خطواته الواسعة إلا باستعمال الصفر. والرسم البياني من أهم البحوث الرياضية، وعليه ترتكز الهندسة التحليلية، وحلول كثير من المعادلات الصعبة، بل هو الركن الأساسي للموضوعات التي تحتاج إلى استعمال علم الإحصاء. وهل تقدمت المثلثات تقدمها المعروف إلا بمعادلاتها؟! وهل يستطيع الرياضي أن يتقدم خطوة في حلها إلا إذا استعمل إشارة (الصفر)؟!
قد يدهش القارئ إذا قلنا إن حساب التمام والتفاضل لا يستغني في بحوثه عن استعمال الصفر، بل إن الصفر عامل مهم جداً في تسهيل حل كثير من مسائله العويصة الصعبة. وعلى كل حال يمكن القول بأن (الصفر) ضروري ولازم في البحوث الرياضية الحديثة والعالية، إذ جعل كثيراً من الأوضاع والمعادلات قابلة للحل غير ملتوية المسالك يمكن الأخذ بها والاستفادة منها، واستعمالها في فروع المعرفة من فلك وطبيعة وكيمياء وهندسة وما يتعلق بهذه من صناعة وفن
علاقة الصفر بالمدنية
ألا تشاركني أيها القارئ في الإعجاب بالأرقام التي نستعملها ويستعملها الأوربيون وبالنظام الذي يستولي عليها؟ أليس عجيباً ومثيراً للدهشة ألا تجد أقل صعوبة في كتابة أي عدد شئت - مهما كان كبيراً - من أرقام لا يتجاوز عددها عدد الأصابع؟ ألا ترى معي أن هذه الأرقام العجيبة قد سهلت الأعمال الحسابية كثيراً؟! ألا تعتقد أنه لولاها لما تقدمت المعاملات التجارية تقدمها الحاضر، ولولاها أيضاً لوجدنا صعوبة كبيرة جداً في إجراء أبسط الأعمال في الضرب والقسمة!!(438/34)
أرجح أن كل هذا معروف لديك وتوافقني عليه، ولكن قد يزيد عجبك إذا علمت أن إشارة (الصفر) هي التي أوجدت أكثر التسهيلات التي تراها في الترقيم، وهي التي أعطت بعض الخصائص الممتازة للأرقام. لقد ظهر لك المقام العالي الذي يشغله (الصفر) في البحوث الرياضية، وأنه عامل مهم في ترقيتها وفي تسهيل الصعب منها، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنه لولا الصفر لما تقدم العلماء تقدمهم الغريب في العلوم الرياضية. وهنا قد يحلو للبعض أن يتساءل ويقول: قد يكون للصفر هذا المقام في الرياضيات، وقد يكون له هذا الأثر الكبير في ارتقائها؛ ولكن ما علاقة ذلك بالمدنية؟ وهل المدنية تقوم على الرياضيات؟!
وجواباً على هذا السؤال، ليسمح لنا القارئ أن نعطي الجواب أولاً فنقول: نعم، إن المدنية في أساسها وجوهرها ترتكز على العلوم الرياضية.
إن كل فرع من فروع المعرفة يتقدم ويتناوله التغيير والتبديل، وكلما اقترب من الأرقام زاد دقة في التعبير ونحا نحو الكمال ونحو الذروة في الحقيقة. قال كانت (يكون العلم دقيقاً إذا استعمل العلوم الرياضية في بحوثه) ولم يستطع العلماء أن يستفيدوا من بحوث الضوء ومن انكسار النور إلا بعد أن أفرغوا قوانين الانكسار في قالب رياضيّ، وبذلك استطاعوا أن يستعينوا بالمعادلات والأرقام في العدسات التي تستعمل لإصلاح عيوب العين
إن علمي الفلك والفيزياء وصلا إلى درجة كبيرة من الدقة والكمال، وما ذلك إلا بفضل الأرقام والمعادلات. جرد هذين العلمين من رياضيتهما بل جرد الكيمياء الحديثة من معادلاتها وقوانينها وحينئذ لا يبقى إلا تعريفات ومبادئ لا يمكنك بحال من الأحوال أن تستفيد منها أو أن تطبقها فيما يعود على البشرية بالنفع والخير. ولن يستطيع العالم مهما كان قوي العقل خصب الفكر أن يقف على أسرار الطبيعة والكون. ولن يستطيع الغوص في بحارهما ليقف على كنوزهما وعجائبهما إلا إذا ألمَّ بالرياضيات وكانت عنده خبرة بها، وأن الكيمياء الحديثة لفي حاجة إلى الرياضيات حاجتها إلى التجربة والاختبار، وناهيك بالكيمياء فهي الأساس الذي شيد عليه صرح الصناعة في هذا القرن وجعلها تزدهر هذا الازدهار العجيب. إن هذا العصر لهو عصر الهندسة وعصر الآلة، وكل هذه في حاجة إلى الرياضيات ولا يمكن الاستفادة منها أو تطبيقها على مقتضيات العمران إلا بذلك. قال البروفسور فوس (إن مدنيتنا التي ترتكز على الاستفادة من الطبيعة والسيطرة على(438/35)
عناصرها مبنية على أسس العلوم الرياضية)، والهندسة وأنواعها والملاحة والصناعة كل هذه تحتاج إلى الرياضيات، ولا يمكنها أن تستغني عنها، بل إن أسس إنشائها تقوم على الأرقام والمعادلات. وما يقال عن هذه يمكن أن يقال عن علوم أخرى إلى حد ما، فإن هذه كلما تقدمت واستطاعت أن تدخل الأرقام في بحوثها اقتربت من الدقة والكمال. فالعلوم على اختلافها إذا اقتربت من الكمال فإنها لا بد محلقة في سماء العلوم الرياضية، وفي جو من الأرقام والمعادلات
ومن هنا تظهر لنا الفوائد التي تجنيها المدنية من العلوم الرياضية وفي استعمالها في العلوم والفنون الأخرى، وقد ظهر أيضاً كيف أن الحضارة الصناعية مبنية على أسس من الأرقام والمعادلات، وقد سبق أن أبَنَّا مكانة الصفر في العلوم الرياضية وفضله في تسهيل المسائل والأعمال، ومن هذه النقطة يتبين للباحث فضل الصفر على المدنية والصناعة
وقبل الختام أود أن أوجه نظر القارئ إلى أني أخشى أن يُساء فهم هذا القول فيظن أن الصفر هو الكل في الكل في العلوم الرياضية وبالتالي في المدنية، ومع استبعادي لذلك أرغب في القول بأن الصفر - ولا شك - عامل مهم في البحوث الرياضية لا يستغني عنه، وهو لازم وضروري لها ولتسهيل المعاملات والأعمال الحسابية، وينتج من ذلك إلى أنه عامل مهم في الصناعة والأعمال الإنشائية التي تحتاج إلى استعمال الأرقام والمعادلات. فاعجب لصفر يشغل هذا المقام السامي وتجني منه الحضارة فوائد هي أعظم جانب من خطر الشأن
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(438/36)
هؤلاء الكتاب
للأستاذ م. دراج
. . . وقلت لنفسي: لقد أصبح الناس يقابلون بالشك والارتياب كتابة الكتاب والمفكرين. فإذا تقصيت السر وجدتهم على حق فيما يشكون؛ فقد باع هؤلاء الكتاب حرية الفكر بعبودية المال، ورضوا وهم طلائع الأمة أن ينقادوا لرجال المال والأعمال؛ وقلما تتفق مصالح الشعب ومصالح أولئك الرجال؛ ولعل هذا هو أكبر ما تعانيه من بلاء، بل لعله السر الوحيد فيما وصل إليه المجتمع من تفكك وانحطاط.
فالتنافس في سبيل القوت قد انقلب إلى تناحر مادي فظيع ليس له حدود، وطريق الاستقلال مفتوح على مصراعيه لكل طارق، وليس للكائنات البشرية قيمة تذكر أمام الغاية الكبرى، وهي جمع المال والإثراء بأي ثمن. فالذي يستطيع أن يلقي بقدر من المال في عمل ما يجد العامل الذي يرضى بالدون من الكفاف؛ ويستطيع أيضاً أن يرغمه على العمل ليل نهار بزيادة بضع قروش أو بضع مليمات! وله الحق في هذا ما دامت قوانين الدولة لا ترسم حدوداً لمثل هذا الاستغلال الفظيع، وما دام الضمير الإنساني لا ينزعج لهذه الحال؛ فكل شيء على ما يرام! أفبعد هذا نلوم الناس على انصرافهم وشكوكهم في إخلاص المفكرين والكتاب؟ أليس الدليل واضح أمامنا في كتابات الصحف اليومية وغير اليومية يعطي أصدق برهان على فساد (التفكير الجماعي) عند هؤلاء الكتاب. إنهم ليفسحون لرجال المال صدور الصحف يكتبون ويعلنون فيها ما شاء لهم الغرض. ثم لا يجدون غضاضة في إعطائهم فرصة للكلام عن بؤس الفلاح وشقاء العامل واضطراب الموظف وحيرة الجماعات، ومتاعب الشعب جملة وتفصيلاً. . . ليستتروا وراء هذه الإعلانات في ثوب الطبيب الذي يتوجع لآلام المريض، وهو يعلم أن بلسمه الشافي بين يديه، ولكنه لا ينزل عن الثمن بأي حال!
هؤلاء الكتاب يسيئون الظن في ذكاء (الغريزة المصرية الواعية) مثلما يسيئون إلى الشعب المصري بقوائم الإحسان التي يعلنون عنها كل يوم في صحفهم. لقد فسدت عندهم مقاييس الإصلاح، فتوهموا أن الكلام قد يغني عن الخبز، وأن الإحسان أجدى وسائل الإصلاح، وأن الدنيا بخير ما داموا هم سعداء! إلا أن الشعب المصري لا يطلب إحساناً ولا بكاء. . .(438/37)
لا، ولا إشفاقاً، وإنما يبني علاجاً حاسماً يقضي على أسباب المرض دفعة واحدة لا تقسيطاً؛ ولن يكون هذا العلاج إلا (جَماعياً) تؤمن به الدولة وتسنه قوانينها، حتى إذا جرى مجرى التنفيذ أفاد كل (خلية) في جسم الأمة، كما تغذي الدماء الأعضاء المشلولة بالحياة
هراء. . . محض هراء. . . كل ما تذيعه الصحف من علاجات أرباب المال، لأنهم لا يريدون إلا تبرعاً، والتبرع قد يفيد شخصاً وقد ينجد أسرة، وقد ينقذ ألفاً من الناس، ولكنه لا ينقذ شعباً بأسره يعدّ الفقراء فيه بسبعة عشر مليوناً إلا بضع عشر ألفاً من الأثرياء.
هؤلاء الكتاب يعرفون - أو لا يعرفون - أن سكرة الموت يعقبها هزة عنيفة هي هزة اليأس أو الرجاء، فماذا تراهم صانعين بأقلامهم المزيفة لو صحّ المريض، وسلمت روحه من الفناء، هل يظنون آنذاك أنها إحدى معجزات الإحسان؟!
أم يشهدون أن القوة الكامنة في قرارة النفس المصرية هي التي مهدت له طريق الحياة؟
أيها الكتاب اطرحوا عنكم ضلال المادة. ثم اكشفوا الغطاء عن موطن الداء. تهيئون لكم وللناس فرصة طيبة للعودة إلى الحق والصراط المستقيم. فالتفكير الفردي لا يجذب الجماعات، لأن الإحساس الجماعي يتطلب (تفكيراً جماعياً)، ونحن في أشد الحاجة إلى هذا اللون من التفكير يسود أذهان الكتاب، ولا شيء سواه يمكن أن يضيء للمجتمع طريقه إلى الخلاص وسط هذا الظلام.
والداء العياء لهذا البلد هو الإعسار الشديد في العيش، والإظلام الشديد في العقول والقلوب، حتى أصبحت البيئة المصرية مزرعة لملايين الأمراض البشرية، والأمية سبة في جبين كل مصري يتبعها انحطاط في الأخلاق والتفكير والأحوال المعاشية بوجه عام
داء مصر الوحيد هو الفقر بعينه بشهادة اللجنة المالية لمجلس الشيوخ، فإذا استطعتم أن تقولوا كلمتكم في هذا المرض العضال وشرحتم أسبابه وفصلتم نتائجه ورسمتم على هذا النهج طريق الخلاص، أمكنكم النهوض بهذه الأمة سريعاً، أما غير ذلك فضرب من المحال، وضجة وتشويش في غير مجال.
م. دراج(438/38)
14 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
الحكومة - تابع الفصل الرابع
يحكم بطريرك الأقباط، وهو الرئيس الأعلى لكنيسته، في القضايا الصغيرة بين المتقاضين من طائفته في العاصمة؛ ويقوم مرءوسوه من القسس مقامه في البلاد الأخرى؛ وقد تستأنف أحكامهم أمام القاضي. وللمسلم الذي يعتدي عليه قبطي أن يرفع أمره إلى البطريرك أو إلى القاضي. أما القبطي الذي يقاضي المسلم فيجب عليه أن يقصد القاضي؛ واليهود كذلك. والفرنجة أو الأوربيون على العموم لا يخضعون إلى غير قناصلهم إلا إذا جنوا على مسلم فيسلمون إلى السلطات التركية التي تستأنف أمامها من ناحية أخرى قضايا الفرنجة الذين يعتدي عليهم أي مسلم
ويخضع سكان الأقاليم لحكم المستخدمين الأتراك والمصريين ويقسم القطر المصري إلى عدة مديريات واسعة يتولى كلا منها عثمانلي. وتقسم هذه المديريات إلى مراكز يديرها موظفون من الوطنيين يلقبون (بالمأمور) و (الناظر). وللقرية كالمدينة شيخ يسمى (شيخ البلد)، ويكون من أهل القرية المسلمين. وكان هؤلاء المستخدمون جميعاً، ما عدا شيخ البلد، أتراكا من قبل. وكان هناك ولاة أتراك آخرون يتولون المراكز، وكان يطلق عليهم اسم (كاشف) و (قائمقام) وقد حدث هذا التغيير قبيل زيارتي الثانية لمصر. ويشكو الفلاحون من أن حالهم أصبحت أسوأ مما كان قبلاً. ولكنهم على العموم يقاسون طغيان الولاة الأتراك أشد مقاساة
ويبين الحادث الآتي حالة الفلاح المصري في بعض الأقاليم بعض البيان
في ليلة ما ذهب حاكم مدينة طنطا وهو تركي سيئ السيرة والسلوك، إلى أهراء الحكومة(438/39)
بالمدينة، فوجد فلاحَين نائمين هناك. فسألهما من يكونان وماذا يفعلان في هذا المكان. فقال أحدهما إنه أحضر من إحدى قرى المركز 130 إردباً من القمح. وقال الآخر إنه أحضر 60 إردباً من أرض تابعة للمدينة. فقال الحاكم لهذا: (أيها اللص! هذا الرجل يورد 130 إردباً من قرية صغيرة، وأنت تورد 60 إردباً من أراضي المدينة؟. فأجاب فلاح طنطا: (هذا الرجل لا يورد القمح إلا مرة واحدة كل أسبوع أما أنا فأورده كل يوم. فأسكته الحاكم وأمر أحد الخدم أن يشنقه على فرع شجرة قريبة. فنفذ الأمر وعاد الحاكم إلى منزله. وفي الصباح التالي عاد ثانياً إلى الأهراء فبصر برجل ينقل غلالاً كثيرة إلى الداخل. فاستفسر عنه وعن المقدار الذي أتى به. فأجابه الخادم الذي شنق الفلاح في الليلة السابقة: (هذا هو الرجل يا سيدي الذي شنقته إطاعة لأوامرك ليلة أمس وقد أحضر 160 إردباً) فصاح الحاكم: (ماذا؟ هل بعث الرجل من قبره؟) فأجابه الخادم: (لا يا سيدي. إنني علقته وقدماه كانتا تلمسان الأرض، ولما انصرفت حللت عقدة الحبل. إنك لم تأمرني بقتله) فدمدم التركي قائلاً: (آها! إن الشنق والقتل شيئان مختلفان. إن اللغة العربية غنية. في المرة القادمة سأقول اقتل. اعتن بأبي داود) وهذه هي كنية الرجل
وأذكر حادثة أخرى تناسب المقام زيادة في بيان طبيعة الحكومة التي تحكم المصريين يومئذ: عُين فلاح ناظراً على المنوفية قبيل قدومي الثاني إلى مصر. وفي أثناء جباية الضرائب طولب فلاح فقير بمبلغ ستين ريالاً؛ والريال تسعون فضة فالمبلغ مائة وخمسة وثلاثون قرشاً فقال الفلاح إنه لا يملك غير بقرة لا تكاد تصلح شأنه وتقيم أوده هو وعائلته. فلم يأمر الناظر بضربه كما هي العادة عندما يمتنع الفلاح عن دفع الضريبة، وإنما بعث بشيخ البلد ليأتي ببقرة الفلاح المسكين، ثم أمر بعض الفلاحين بشرائها. فلم يستطع أحد شراءها لقلة المال. فأرسل الناظر في طلب الجزار وأمره بذبح البقرة وتقطيعها ستين قطعة. وبعد أن دفع إلى الجزار رأس البقرة أجرة له، أحضر ستين فلاحاً معاً وأجبر كلا منهم على شراء قطعة من البقرة بريال. فذهب صاحب البقرة باكياً شاكياً إلى محمد بك الدفتردار رئيس الناظر وقال له: (يا سيدي أنا مظلوم بائس. لم أكن أملك غير بقرة واحدة، بقرة حلوب كان لبنها قوتنا أنا وعائلتي، وكانت تحرث لي الأرض وتدرس الغلال. وكانت معيشتي كلها عليها. وقد أخذها الناظر وذبحها وقطعها ستين قطعة باعها إلى جيراني بستين(438/40)
ريالاً. بينما كانت تساوي مائة وعشرين ريالاً أو أكثر. أنا مظلوم بائس غريب عن هذا المكان لأني من قرية أخرى؛ ولكن الناظر لم يرحمني. وقد أصبحت أنا وعائلتي نسأل قوتنا ولم ندخر شيئاً. رحمتك وعدلك يا سيدي. أتوسل إليك بقداسة حريمك) فأمر الدفتردار بإحضار الناظر وسأله: (أين بقرة هذا الفلاح؟) فقال الناظر: (بعتها). (بكم؟). (بستين ريالاً). (ولماذا ذبحتها وبعتها؟) كان على صاحبها ستون ريالاً ضريبة على الأرض، فأخذت البقرة وبعتها وفاء للمبلغ. (وأين الجزار الذي ذبحها؟). (في منوف)، فأرسل الدفتردار في طلب الجزار، فلما قدم قال له: (لماذا ذبحت بقرة هذا الرجل؟) فأجاب الجزار: (إن الناظر أمرني وما كان لي أن أعصي أمره لئلا يضربني ويخرب بيتي. وقد ذبحتها وأعطاني الرأس أجرة لي)، فقال الدفتردار: (يا رجل هل تعرف من اشترى اللحم؟) فرد الجزار بالإيجاب. فأمر الدفتردار ناموسة بكتابة أسماء الستين رجلاً وإرسالها إلى شيخ بلدتهم لإحضارهم إلى منوف حيث أقيمت الشكوى؛ وسجن الناظر والجزار. وفي اليوم التالي قدم شيخ القرية ومعه الفلاحون الستون. فأخرج السجينان وأوقفا بين يدي الدفتردار فسأل شيخ البلد والفلاحين: (هل كانت بقرة هذا الرجل تساوي ستين ريالاً؟) فأجابوا: (يا سيدي إن قيمتها كانت أكبر) فبعث الدفتردار إلى قاضي منوف وقال له: (يا قاضي، هذا رجل ظلمه هذا الناظر بأخذ بقرته وذبحها وبيع لحمها بستين ريالاً. فما حكمك؟) فأجاب القاضي: (إن من يظلم أحد من الرعية طاغية قاس. ألا تساوي البقرة مائة وعشرين ريالاً فباعها الناظر بستين؟ إنه ظلم صاحبها). فقال الدفتردار لبعض جنده: (اقبضوا على الناظر وجردوه من ملابسه وأوثقوه). ثم قال للجزار: (يا جزار ألا تخشى ربك؟ لقد ذبحت البقرة ظلماً) فأوضح الجزار مرة أخرى أنه إنما اضطر إلى إطاعة أمر الناظر. فقال الدفتردار: (أتنفذ ما آمرك به؟) فأجاب الجزار: (نعم). فقال الدفتردار: (اذبح الناظر). وسرعان ما قبض الجند عليه وألقوه على الأرض ونحره الجزار كما ينحر الحيوان. فقال الدفتردار: (قطعه ستين قطعة). فنفذ الجزار الأمر والحاضرون يتأملون هذا المنظر ولا يجرءون على الكلام. ثم أمر الدفتردار الفلاحين الستين أن يتقدموا واحداً واحداً، وفرض على كل منهم قطعة من لحم الناظر بدفع ريالين. وبهذه الطريقة حصل على مائة وعشرين ريالا. وبعد انصراف الفلاحين سأل الدفتردار القاضي: ماذا يكون جزاء الجزار؟ فأجاب القاضي أن(438/41)
يجازى كما جازاه الناظر. فأمر الدفتردار أن يعطى رأس الناظر. وفرح الجزار بنصيبه الذي لا يساوي شيئاً وهو يحمد الله على أن حظه لم يخنه أكثر من ذلك. وانصرف وهو لا يكاد يصدق أنه نجا بهذه السهولة. أما صاحب البقرة فدفع إليه ثمن لحم الناظر.
ويتعدى أغلب حكام الأقاليم في طغيانهم حدود السلطة التي خولهم الباشا إياها؛ حتى شيخ القرية يسيء استعمال سلطته الشرعية عندما ينفذ أوامر رؤسائه. وليست وظيفة شيخ القرية منصباً يقبض صاحبه مرتبه بلا عمل. ففي وقت جباية الضرائب كثيراً ما ينال شيخ القرية من الضرب أكثر مما ينال مرؤوسيه، إذ أنه عندما لا يورد سكان القرية المبلغ المطلوب يضرب الشيخ لتقصير الفلاحين. وهو لا يدفع دائماً نصيبه حتى يشبع ضرباً. ويفتخر الفلاحون أجمعون بما يتركه الكرباج على أجسادهم من آثار لرفضهم دفع الضرائب. وكثيراً ما يتباهون بعدد الضربات التي نالوها قبل أن يدفعوا نقودهم. ويصف أمينانوس أرسليوش مصر في زمنه بالخلق نفسه
ويبلغ إيراد والي مصر، على ما يقال، ثلاثة ملايين جنيه إسترليني يرد نصفها تقريباً من الضرائب المباشرة على الأطيان ومما يؤخذ من الفلاح ظلماً بطريق غير مباشر. ويرد النصف الباقي على الأخص من الرسوم الجمركية والضرائب على النخيل ومن بيع محصولات الأرض المختلفة التي تكسب الحكومة منها ما يزيد على الخمسين في المائة. وقد نمى الباشا الحالي إيراده إلى هذا القدر باتباعه أشد الوسائل تعسفاً. فقد نزع من الملاك أراضيهم ومنحهم معاشاً بنسبة مساحة الأرض وصفاتها. ولذلك لم يكن للمزارع ما يخلفه لأولاده غير كوخه، وقد يترك لهم بعض الماشية وبعض مدخرات طفيفة
وتقدر ضرائب الأطيان المباشرة حسب مزايا الأرض الطبيعية. ويبلغ متوسطها حوالي ثمانية شلنات للفدان، ولكن الفلاح لا يستطيع أن يحصي ما تطلبه الحكومة منه. فهو يعاني الكثير من الطلبات غير المباشرة (وهي تختلف باختلاف السنين ولكنها تفرض على الفدان) من الزبدة والعسل والشمع والصوف والسلال المصنوعة من السعف، والحبال المفتولة من ألياف النخيل، وغير ذلك من المحاصيل. ويجبر الفلاح أيضاً على دفع أجرة الجمال التي تحمل الغلال إلى شونة الحكومة، وعلى القيام بنفقات عديدة أخرى. وتستولي الحكومة على جزء من محصول الأرض، وقد تستولي على المحصول كله بثمن مناسب(438/42)
معين لا يفي مع ذلك في عدة أقاليم ما تبقى من ديون الفلاحين المصريين. وكثيراً ما يضطر الفلاح للحصول على ضروريات الحياة، أن يسرق محصول أرضه ويحمل ما يستطيع حمله إلى كوخه سراً. ويحضر الفلاح بذور أرضه بنفسه أو يأخذها سلفة من الحكومة، ولكنه في هذه الحالة قلما يتحصل على كمية كافية من التقاوي لأن القائمين بالأمر يسرقون منها مقداراً كبيراً قبل أن يسلموها للفلاح. ولا يتسع هذا الكتاب لذكر ما يعانيه الفلاح المصري من ظلم المأمور والمستخدمين وخياناتهم. ويندر أن يستطيع الفلاح أن ينعم بالحياة مع شدة العذاب، لذلك لا أرى ضرورة للقول بأن الفلاح قلما يثابر على تحمل أعباء الزراعة إلا إذا أجبره على ذلك الحكام
ولم يستول الباشا على الملكية الخاصة فحسب، بل أضاف إلى خزائنه كثيراً من دخل المنشآت الدينية باعتبار أن أموالها المتراكمة تزيد على اللازم. وقد بدأ بفرض ضريبة - حوالي نصف ضريبة الأرض المنتظمة - على الأراضي الموقوفة على المساجد والسبل والمدارس العامة. . . الخ. ثم استولى على هذه الأراضي استيلاء تامَّا ومنح عوضاً عنها بعض رواتب سنوية لترميم المباني ولنفقة الأشخاص التابعين للوقف من نظار وموظفين دينيين وخدم وطلبة وغيرهم من المستحقين. وقد أثار الباشا بهذا مقت رجال العلم والدين الشديد، وعلى الأخص نظار المساجد الذين كانوا يثرون من الأموال الوافرة المودعة تحت رعايتهم وأمانتهم. أما ما وقف على خدمة المساجد والمنشآت العامة (وهي أوقاف مختلفة وقفها كثيرون من طبقات مختلفة) فلم يمسها الباشا حتى الآن.
وقد بلغت ضريبة النخيل حوالي مائة ألف جنيه إسترليني، وهي تقدر حسب أنواع النخيل، وتكون - على العموم - بمقدار قرش ونصف قرش على كل نخلة
وتبلغ ضريبة الدخل المسماة (الفِرْدة) على العموم 121 أو
أكثر من دخل الرجل أو مرتبه السنوي إذا أمكن تحديد ذلك،
إلا أن الحد الأقصى لا يتعدى خمسمائة قرش. وهي تفرض
في المدن الكبيرة على الأفراد وفي القرى على المنازل. وتبلغ
ضريبة الدخل في العاصمة ثمانية آلاف كيس أو حوالي(438/43)
أربعين ألف جنيه إسترليني
ويدفع سكان العاصمة وغيرهم من سكان المدن الكبيرة ضريبة ثقيلة على الحبوب الخ. وضريبة الحبوب ثمانية عشر قرشاً على الأردب من كل نوع، وهذا المقدار يساوي ثمن القمح في مصر وقت المحصول الطيب
(يتبع)
عدلي طاهر نور(438/44)
جواب على تعزية
// لا تقولي (عزّ) صبراً إنني ... أجد الصبر على خطبي محالا
كيف يُرجى من فؤاد حشوه ... لهبٌ أن ينضج الماَء الزلالا
كلفيني وُسع نفسي واعلمي ... أن للأنفس عجزاً واحتمالا
كل حيٍّ، كان ميتاً، صائرٌ ... إذ يحين الحين للموت مآلا
عمرنا للموت شوط وبه ... خطوات الموت سرَّا تتوالى
أنت إذ تصبح حيَّا يبتدي ... عمل الموت نمواً وانحلالا
وإذا ما عمل الموت انتهى ... قلت جاء الموت جهلاً وضلالا
في الحياة اختبأ السر الذي ... فيه صار الموت للحيّ كمالا
حكم بالغة نعرفها ... وبها ننعم في السرّاء بالا
وإذا الضرّاء مسَّتْ وقَتْ ... عادت الحكمة وهماً وخيالا
أثر الحكمة في النفس ولنْ ... تجدَ الحكمةُ في الحسِّ مجالا
من يكن في صدره متَّسَعٌ ... للرزايا، منه حبل العمر طالا
إنما يأكل أيامَ الفتى ... همُّه، فأحذر من الهم اغتيالا
وارتقب في كل يوم عجباً ... فالليالي بالأعاجيب حبالى
الصفا تحويك منه ساعة ... والشقا يطويك أعواماً طوالا
فاغتنم من روْح ساعات الصفا ... ما يعزّيك إذا الصفو استحالا
وادَّخر من صحة تحظى بها ... قوةً تلقى بها الدَّاء العضالا
واتخذْ من صحو أيام الرضا ... ما يقيم العقلَ إن سكرٌ أمالا
هذه أشجاننا يسمعها ... ساهر الليل إذا الهم استطالا
وعليها تهجع العين التي ... ضلَّ عنها طارق الهمّ ومالا
مقلة تذرف دمعاً وفمٌ ... ليس يبدي، خشية الله، مقالا
لا تقولي كيف يبكي رجلٌ ... يملأ الأعين حزماً وجلالا
حكمة الجبار فينا جعلت ... من صروف الدهر ما يبكي الرجالا. . .
(طرابلس - الشام)(438/45)
(ن. ج)(438/46)
نظرة. . .!
// لما نَظَرتِ إلى أمسِ مُلِيحَةً ... بين الجموع بلحظكِ المرتاب
رَفَّتْ على شفتيكِ بسمةَ حائرٍ ... ما بينَ شِبْهِ رضىً وشبه عتاب
فقرأْتُ في عينيكِ عمريَ كله ... وفهمتُ أني قد أَضَعْتُ شبابي
وذهبتُ لا أَلوي على نفسي وبي ... مما تَسَعَّرَ في الجوانح ما بي
ضاقتْ بي الدنيا وكم ضاقت إذا ... ما جدَّ بي وجدي وعَبَّ عُبابي
لَخَّصْتُ عمْرِيَ كلَّه في نظرةٍ ... زادت بِحيْرَتها عَلَيَّ عذابي
واللهِ ما كان ابتعادي عن قِلىً ... أبداً ولا عن هِجْرَةٍ وَغِضَابِ
لكنَّهَا الأقدارُ قد لَعِبَتْ بنا ... وَلِعَابُهَا في العمرِ شَرُّ لِعَابِ
واليومَ أَنْفَقْتُ الشبابَ وكان لي ... كنزاً أبَدِّدُهُ بغير حساب
وغدوتُ إنْ سِرْبُ الملاح مَرَرْنَ بي ... أُغضي بِقَلْبٍ في ضُلُوعي كاب
أصبحتُ أَنْفُرَ من جَمَالِ عابر ... يهتاجُ حُبَّاً كان لي وَنَبَا بي
وَيُعيدُ ذكرى ناظِرَيْكِ وفيهما ... نورٌ خَبَا عني وليس بخابِ
تذكو به نيرانُ وَجدي مثلما ... في القفر يُذْكِي الظِمأَ لَمْعُ سَراب
حسبي عقاباً في الحياة بأنني ... يا هندُ قد صارَ الجمالُ عِقَابي
خليل شيبوب(438/47)
لا تقل. . .!
أيْها الراحلُ عن عيني غدَا ... كيف أحيا نائياً عن ناظريكْ
آهِ لو تعلمُ ما سوفَ أرى ... في ليالي البعدِ ما هُنت عليكْ
كيف أحيا بين همي واشتياقي
أشربُ الآلامَ من كأس الفِراق
وألاقي في التنائي ما ألاقي
من أسى دهرِي إلى يوم التلاقي
لا تَقُلْ منا دناً
يوم النوى
يا هوى نفسي وآمالَ مُنَاها
لا تدعْني والضنى
إن الهوى
شعلة في القلب لا يخبو لَظَاها
أترى أحيا هُنا
نَهْبَ الجوى
تبلغُ الآلام مني منتهاها
فارحمْ القلبَ ولا تقسُ عليه ... ففؤادي ما هَفَا إلا إليكْ
عِشْتَ دنيا النورِ والصفوِ لَديه ... يا تُرى هلْ عاش كالدنيا لديكْ؟
(الإسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن(438/48)
البرَيدُ الأدبيّ
العروبة لغة لا جنس
نشرت (الرسالة) كلمة كريمة لحضرة (الفاتح النور) في التعقيب على البحث الذي أرسلته لمؤتمر الخريجين في السودان، وهو يقول إن من سمع ذلك البحث أو قرأه يعتقد أن العروبة في السودان لغة لا جنس، مع أن السودان أكثر من النصف من العرب العريقين
وأجيب بأن السودان لم يشغلني بالذات وأنا أعد ذلك البحث، وإنما هو بحث عام أردت به رفع الأشواك من طريق العروبة في أقطار اللغة العربية
ومن كلام هذا الأديب فهمت أن سكان السودان نصفهم عرب ونصفهم غير عرب، (من حيث الجنس) وأنا أريد غير ما يريد، أنا أريد أن تكون العروبة صفة أساسية لكل من يتكلم اللغة العربية، ولو كان أجداده من الصين
وأقول مرة ثانية إن اعتزاز العرب بالجنس كان له تأثير سيئ في تاريخ اللغة العربية، فهو الذي أقام في طريقها العقبات بالمشرق والمغرب، وهو الذي أوجب أن يحرص الفردوسي على أن تخلو (الشاهنامة) من جميع الألفاظ العربية، وهو الذي ساق أتاتورك إلى كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية بعد أن كانت تكتب بالحروف العربية في آماد طوال طوال
ويرى هذا الأديب أني لا أستطيع الكتابة عن السودان بصدق إلا بعد أن أزوره وأتحدث مع عربان كردفان، وأقول إن الغاية مختلفة بعض الاختلاف، فأنا لا يهمني أن يثبت أن سكان السودان كلهم أو جُلهم من سلالات عربية، بقدر ما يهمني أن يثبت أن اللغة القومية لجميع أهل السودان هي اللغة العربية
وهنا يتسع المجال لحقيقة قليلة الخطور في البال، وهي أخوال الأشراف المنسوبين إلى الرسول، فقد كان للرسول زوجات من أجناس مختلفات، وكان من الممكن أن يكون للأشراف أخوال من الأقباط واليهود لو بقيت له أعقاب من جميع تلك الزوجات
أتريدون الحق؟
الحق أن العرب يبتعدون من تعاليم زعيمهم الأكبر وهو محمد، وهذا الابتعاد جديد، فمن أسماء المسلمين عيسى وموسى وهارون وإسحاق ويعقوب وإبراهيم، ولي صديق من نصارى العراق سيسمي ابنه محمداً حين يرزقه الله بمولود، ليؤكد القول بأن محمداً زعيم(438/49)
العرب بغض النظر عن اختلاف الدين
إن صدري ليضيق بالخلاف الذي يقع من غير موجب، وأنا أدعو إلى تقديس الفكرة التي تقول بأن (الخال والد) والعرب صاهروا أكثر الشعوب، ونقلوا إلى سلالاتهم كثيراً من الخصائص بفضل التسامح في العصبية الجنسية، فكيف نخرج على تقاليد أولئك الأسلاف، بل كيف نخرج على أدب الرسول؟
العروبة لغة لا جنس
ولي من هذا الرأي هدف لا يخفى على إخواني في جميع البلاد العربية، وسأجاهد في تأييد هذا الرأي بما أملك من الوسائل والأساليب، إلى أن يصبح من البديهيات
ويسرني أن أسجل أني لا أقول وحدي بهذا الرأي، فهو اليوم شريعة أدبية لجميع المتكلمين باللغة العربية على اختلاف الأجناس، وسترون كيف يصبح هذا الرأي من العقائد بعد قليل من الزمان
زكي مبارك
الخباز
من المآخذ التي أخذها الأستاذ عبد السلام هارون على كليلة ودمنة ما جاء في ص115 س13 (رأس الخنازير وسيد الخنازير) قال: (عندي أنها رأس الخبازين وسيد الخبازين) واستدل ببعض النسخ
ولكن محقق الكتاب الفاضل الدكتور عبد الوهاب عزام لم يرتض هذا الرأي فرد عليه في العدد 434 من الرسالة قال: (وأرى أن الخنازير أقرب إلى الصواب، لأن دمنة وصف هذا الرئيس بصفات الخنازير، وليس في وصفه بأنه صاحب المائدة ما يجعله خبازاً الخ.)
قلت: ظاهر عبارة الدكتور الأخيرة (وليس في وصفه الخ.) أن الخباز غير صاحب المائدة، وأن هذا من الأسباب التي يستبعد لها أن يكون المقصود خبازاً
وقد أوقع الدكتور الفاضل في هذا فهمُه (الخباز) بمعنى صانع الخبز، وهو كذلك، ولكن للخباز معنى آخر ورد كثيراً في كتب الجاحظ والمسعودي، ولعله كان على عهد ابن المقفع. وهو استعماله بمعنى (خادم المائدة) أي ما نسميه الآن (السفرجي)، ولعله يقوم(438/50)
أحياناً بصنع بعض الطعام
وقد يبدو هذا الاستعمال غريباً لندرته، ولكنك حين ترجع إلى ما أثبت من النصوص لا تجد ثم مجالاً للريب في صحته
1 - في كتاب البخلاء للجاحظ ص160: (قرَّب خباز أسد بن عبد الله - وهو على خراسان - شواء قد نضجه نضجاً. وكان يعجبه ما رطب من الشواء، فقال لخبازه: أتظن أن صنيعك يخفى علي؟)
2 - وفي البخلاء ص164: (جاء الخبازون فرفعوا الطعام)
3 - وفيه أيضاً: (إذا دعا على مائدته بفضل دجاجة. . . رد الخادم مع الخباز إلى القهرمان حتى يصك له بذلك إلى صاحب المطبخ)
4 - وفي الحيوان للجاحظ ج4 ص26: (إن العرب تقول للرجل الصانع. . . خبازاً إذا كان يطبخ ويعجن)
5 - وفي الحيوان ج5 ص136: (ولذلك صار الخبازون الحذاق قد تركوا الضأن لأن المعز يبقى شحمه ولحمه فيصلح أن يسمن مرات فيكون أصلح لأرباب العرس)
6 - وفي (التاج في أخلاق الملوك) للجاحظ أيضاً ص173: (فلا يوضع عليها إلا الخبز والملح والخل والبقل، فيأخذ منه شيئاً هو ومن معه، ثم يأتيه الخباز بالبزماورد في طبق الخ.)
وعلق على كلمة الخباز فيه محققه العلامة المغفور له أحمد زكي باشا بما ذكرنا من أنه خادم المائدة
7 - ولعل مصدر هذا الاستعمال ما ورد في القاموس والمختار والأساس أن (خبزَ القومَ) معناها (أطعمهم الخبز)
قلت: فالخابز - والخباز مبالغة منه - هو المطعمُ الخبزَ، ثم لعل توسع فيه فأطلق على المطعم أيا كان طعامه وهو خادم المائدة
وبعد. فورود هذا اللفظ في هذا المعنى مما يؤيد الأستاذ هارون بعض التأييد، ويوهي إحدى حجج الدكتور الفاضل
(بني سويف)(438/51)
محمد محمود رضوان
الأسود بن قنان
قرأت كلمة في (الرسالة) تحت هذا العنوان للأستاذ علي الجندي، وأقول: إن مآثر (الأسود) الغر وأياديه البيض حملت بديع الزمان الهمذاني على أن يكتب مقامة باسم (المقامة الأسودية) نسبة إليه، أتى فيها بما يراه القارئ
وبهذه المناسبة أقول: إن الذي أرشدني إلى هذا المصدر هو الأستاذ البحاثة محمد فؤاد عبد الباقي
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
مصر بين القطن والقمح
أذاع العالم الزراعي الكبير الأستاذ حسن الزيني بك حديثاً بالراديو على المزارعين أقنعهم فيه بمنطق الأرقام أن زراعة الحبوب على اختلافها أوفر وأيسر من زراعة القطن. وأهاب بكبار الملاك وبمصلحة الأملاك أن يكونوا قدوة للفلاحين في الإقلال من القطن والإكثار من القمح تأميناً لأقوات الشعب وتخفيفاً عن الفقير في هذه الظروف العصيبة. فإن من أعجب العجب أن تكون مصر في عصورها المختلفة من أوسع أهراء العالم للحبوب ثم لا يجد أبناؤها الرغيف إلا بشق الأنفس. وكان حديث الأستاذ واضحاً كل الوضوح مقنعاً كل الإقناع؛ فعسى أن يكون قد وقع من سامعيه موقع الرضى والاستجابة.
تصويبات:
قرأت مواضع من الجزء الحادي عشر من تفسير القرطبي فوجدت فيها الأغلاط الآتية:
ص3 س22: (مدجح) صوابها: (مدجج). وص 26 س1: (أَتنَتهون) والصواب: (أَتنْتهون). وص 26 س11 (عبّدا) صوابها: (عبْداً). وص 135 س14: (المقرَور) والصواب: (المقرُور). وص 153 س14: (يريدون) وصوابها: (يردون). وص 187(438/52)
س7: (يلومَها) وصوابها: (يلومُها). وص 268 س23: (كثيرة) والصواب: (كثير). وص 320 س14: (وأما ما بوسها) وصوابها: (وأما بوسها). وص 341 س22: (كما اللسان) وصوابها: (كما في اللسان)
أحمد صفوان
النفط
أستاذنا الكبير صاحب الرسالة
ذلك تحقيق لغوي عثرت عليه من مطالعاتي بمجموعتي من (المقتطف) سنة 1928، في الجزء الخامس من المجلد الثاني والسبعين تحت مقال للدكتور أمين المعلوف صاحب المعجم الطريف في (علم الحيوان)
قال الدكتور:
(النِفط والقار والقير والكُفر والقُفر وقفر اليهود والحُمَر والزفت والمومياء والقَطْران مواد هدروكربونية مؤلفة الهدروجين والكربون على نسب مختلفة والعلماء في أيامنا يطلقون القار وهو يطلق عند الرومان على جميع هذه المواد، سواء كانت جامدة كالحُمَر، أو سائلة كالنفط، أو هوائية كالغاز الحقيقي. فالنفط بكسر أوله وإسكان ثانيه وقد يفتح أوله، دُهن معدني أبيض أو أسود ضارب إلى الخضرة سريع الاحتراق يسمى باللاتينية بتروليوم أي دهن الحجر أو زيت الحجر
ولفظة النفط عربية سامية قديمة جداً أخذها اليونان عن العرب وقالوا نفثاً وهي معناها. ومما يدل على أصلها السامي أنها بالسريانية والعبرانية مثل العربية مع اختلاف قليل في اللفظ. ثم إن اليونان كانت أول معرفتهم بالنفط في العراق، وكان من البديهي أن يسموه نفطاً كما سمها العراقيون من سريان ويهود وعرب؛ ولعله سمي بذلك لخروجه من باطن الأرض، كما يتضح من مادة النفط ومشتقاتها في كتب اللغة. كذلك نفه ونبط ونبض ونبث ونبش وأشباهها، فكلها تدل على الخروج أو الدفع ثم تفرع من ذلك معنى الاحتراق. كقولنا تنفط الرجل غيظاً أي احترق. . .)
ثم قال بعد كلام كثير مفيد. . . والنفط كما تقدم لفظة عربية فصحية وهي شائعة عن(438/53)
العراقيين. . .
(المنصورة)
حسين محمود البشبيشي
جماعة تيسير الحج
ترحب بكل مستفهم عن جميع ما يتعلق بحج بيت الله وزيارة رسوله صلى الله عليه وسلم من كل أمر يهم الحاج معرفته من أحكام دينية وحاجات السفر وأجور الانتقال وزيارة الآثار.
والجماعة إذ ترشد لشيء فإنما ترشد عن تجربة وخبرة تامة؛ لأن أعضاءها ممن رزقهم الله حج بيته، وقد سنحت لهم الفرص بتصوير جميع المشاهد الإسلامية التي ينبغي أن تزورها في مكة والمدينة
وإذا شرفت مقر الجماعة أخذت فكرة حقيقية عن الحج قبل سفرك، وشاهدت أكثر من ستين صورة من صور الأماكن المقدسة، وإن شئت الاستفهام بالرسائل فالجماعة على أتم الاستعداد للإجابة.
وللجماعة عدا الإرشاد غرض هام آخر، هو أنها تساعد من يريد الحج على توفير المال اللازم له، كما أنها تمده بجميع ما يحتاج إليه منه وفق قانونها.
وقد خصصت الجماعة لاستقبال الحجاج يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع فيما بين الساعة الرابعة والسادسة مساء بشارع رفعت رقم 27 شبرا مصر
وكيل الجماعة
محمد الشافعي
مدرس بمدرسة شبرا الابتدائية للبنات
جريدة الواجب
نقلت جريدة (الواجب) الأسبوعية التي تصدر من مدينة المنصورة لصاحبها الأستاذ احمد(438/54)
جاد جمعة إلى مدينة القاهرة شارع البراموني رقم 6 تليفون 47738 وستظهر في ثوب جديد قشيب، يشترك في تحريرها نخبة من رجال الأدب والمحامين.(438/55)
العدد 439 - بتاريخ: 01 - 12 - 1941(/)
أمنيتي. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلت في ختام مقالي السابق: (أما أمنيتي التي يسألني الأديب عنها سؤاله الأخير فلعلها لا تشرح في ذيل هذا المقال، وأحرى بها أن تؤجل إلى مقال قريب، لأنني لا أطرق منها جانباً يخصني دون غيري، بل أطرق منها ما يصح أن يمتد إليه كل بحث وينظر فيه كل ناظر. . .)
ولم أقصد بكتابة هذا المقال عن أمنيتي في الحياة إلا ما قصدته بكتابة مقالي السابق عن أدب اليوميات، وهو تسجيل ظاهرة نفسية أستطيع أن أراقبها في نفسي وأن أتخذ من تجربتي لها فائدة أضيفها إلى تجارب غيري. فليس أصدق في دراسة النفسيات من تسجيل تجارب النفوس.
وإذا صدقت تجربتي في هذا الباب فما من أمنية تسيطر على حياة الإنسان إلا ظهرت بذورها الأولى في بواكير صباه، فإنني لم أتمن في حياتي أمنية كبرى بعد الذي تمنيته بين العاشرة والخامسة عشرة، وكل ما أضافته السنون من جديد أنني كنت في الطولة أتمنى على سبيل الرمز والتلميح، وأنني استوضحت أماني بعد ذلك فبرزت لي على ضوء الوصف البين الصريح
بين العاشرة والخامسة عشرة تمنيت على التوالي أن أصبح ولياً من أولياء الله، وقائداً من كبار القادة، وأدبياً من رجال القلم النابهين. فعلمت مع الزمن أن هذه الأماني الثلاث إن هي إلا أمنية واحدة ضلت طريقها حتى اهتدت إليه، وجهلت عنوانها حتى اتسمت به والتزمت مسماه، وأن الولي والقائد إنما هما جانبان منطويان في الجانب الأكبر أو الجانب الوحيد الذي هو جانب الباحث والمفكر والأديب.
شاقني من الولاية وأنا في العاشرة تسخير قوى الطبيعة واستطلاع أسرار الدنيا والآخرة؛ فقرأت مناقب الصالحين وكتب السحر، وأردت أن أمشي على الماء، وأن أطير في الهواء، وأن أتلو القسم على شيء من الأشياء فإذا هو مذعن مطيع، وأن أدعوا الغيب إلي فإذا هو مجيب سميع؛ فصليت عشرات الركعات، وسردت ألوف الأسماء، وأوشكت أن أتمادى في (الدروشة) وأن أزهد في الدنيا وأنقطع للعبادة، وأنتظم بين من يسمونهم أهل الطريق. ثم(439/1)
عصمني حادثان صبيانيان يضحكان، ولكنها بما أعقبا وأفادا بالغان في الجد والتسديد: أحدهما ضياع حذاء بالمسجد الكبير في يوم صلاة جامعة بين أولئك أهل الطريق! فقلت: إن أناساً يسرقون الأحذية في مساجد الله لا يرجى بينهم فلاح. والآخر إمام من أئمة (المندل) كذب على الحاضرين باسمي وأنا أنظر لهم في (الفنجان) لأستطلع الغيب؛ فقلت إن الذي يكذب في الحس المشهود، لن يدلني على الغيب المحجوب. وكان هذا وذاك فراق بيني وبين الولاية والكرامات.
أما قيادة الجيوش فكان لها سبب معقول في تلك الأيام. فقد كانت بلدتي (أسوان) قاعدة من القواعد الكبرى في طريق حملة السودان، وكان فيها مقر الجنود المصريين والسودانيين والإنجليز الذين ينتظرون السفر ذاهبين أو قافلين، وكنا نصبح ونمسي على خوف من الدروايش الذين يذبحون الرجال والنساء ويرفعون الأطفال مطعونين على أسنة الحراب. فكانت لعبتنا في المدرسة تمثيل هذه الجيوش واستعجال النقمة من الأعداء.
ثم لم ألبث أن ظهر لي أن قيادة الجيش ليست هي الأمل المقصود ولا الأمنية الفضلى؛ وأنني كنت من آل عطارد ولم أكن من آل المريخ؛ لأننا كنا ننظم الجيوش على أساليب القصص العنترية والهلالية وما ورد عن سيف بن ذي يزن وأبطال ألف ليلة وليلة: فارس يبرز بين الصفوف ليتحدى خصومه بأبيات من الشعر أو فقرات من الكلام المسجوع، وهذا هو بيت القصيد!
فلما نظمت الشعر عرفت ما أردت، ووصلت إلى ما قصدت، وتركت فتوح القيادة، كما تركت من قبلها كرامات الولاية! وانتهيت بعد طواف قصير في هذا التيه الصغير إلى أمنية الأدب والكتابة، ولكني لا أزال ألمح في باطن هذه الأمنية مسحة من غلبة القيادة، ونفحة من أسرار الولاية، وشوقاً إلى المجهول لم يقف قط عند حد من الحدود؛ ولم يفارقني قط حتى حين أحسبني مستغرقاً في الحس وفي غواياته وملاهيه
هذه عقدة من عقد النفوس التي التبست فيها أول الأمر ثكنة القائد وصومعة العابد وروضة الشاعر. ثم انجلت الرؤية من وراء الغشاوة الظاهرة شيئاً فشيئاً، حتى ظهر أن الثكنة والصومعة والروضة شيء واحد يفترق من بعيد ويتفق من قريب
لكن العجيب غاية العجب هو أن تحل هذه العقدة على البداهة السهلة وعلى أيدي طائفة من(439/2)
التلاميذ لم يفهموا ما صنعوه ولعلهم لا يفهمون بعد ذلك لو سئلوا فيه
وبيان ذلك أننا كنا قبل خمس وعشرين سنة نعمل في التدريس بالمدرسة الإعدادية الثانوية: الأستاذ المازني، والأستاذ الزيات، والأستاذ علي الجندي، وكاتب هذه السطور، وطائفة مختارة من الفضلاء الذين لهم اليوم مكانهم الممتاز في مناحي العلم والعمل بهذه البلاد
فقيل لنا يوماً إن التلاميذ المعاقبين يملأون جدران الحبس بالنوادر والفكاهات عن المدرسين، وذهبنا إلى حجرات الحبس فقرأنا على الجدران أفانين من تلك النوادر والفكاهات: أذكر منها مما كتبوه عن المازني وعني: أن ناظر المدرسة سألني وقد رآني على بابها: أين صاحبك؟ فقلت له: نسيته في الدرج! وأن العقاد دعا المازني إلى وليمة على مائدة فلم يأكل المازني؛ ثم دعا المازني العقاد إلى وليمة على الأرض فلم يأكل العقاد! وكثير من أمثال هذه المساجلات نكتفي بما تقدم منها على سبيل التمثيل لأنه غير المقصود في هذا المقال.
أما المقصود فهو الألقاب التي أطلقها علينا أولئك الخبثاء وكشفوا بها من جوانب الشخصية ودخائل النفس ما يعي به كبار النقاد.
فاختاروا للأستاذ المازني اسم تيمورلنك
وللأستاذ الزيات اسم الشاب الظريف.
وللأستاذ علي الجندي اسم ابن المقنع!
ولكاتب هذه السطور اسم حرحور!
أما الأستاذ المازني فبراعة التسمية في أنه كان يدرس التاريخ وأنه كسميه صغير الجسم مصاباً بإحدى قدميه، وأنه مسيطر على التلاميذ، قلما يحتاج إلى معاقبة أحد منهم لخروجه على نظام الحصة، لأنه كان مهيباً بينهم قديراً على أخذهم بمهابتهم إياه قبل خوفهم من عقابهم؛ فجمعوا كل ذلك في اسم تيمورلنك أحسن جمع مستطاع
وأما الأستاذ الزيات، فدماثته، وظرفه، ولطف حديثه، وأسلوبه الأدبي، وأناقة ملبسه، ترشحه لاسم الشاب الظريف أصدق ترشيح.
وأما الأستاذ الجندي فقد لاحظ الخبثاء في تسميته بابن المقفع أنه نحيل هزيل، وأنه يدرس لهم كليلة ودمنة وقواعد البلاغة، فوفقوا بين ذلك كله أبرع توفيق!(439/3)
وأما كاتب هذه السطور فقد سموه (حرحور) باسم الكاهن الحكيم المصري الذي انتزع الملك على صعيد مصر قبل الميلاد بألف سنة؛ فلم تكفه أسرار الكهانة وحب الحكمة حتى طمح إلى الغلبة والسطوة. ولم يفت الخبثاء في هذه التسمية أن كاتب هذه السطور من أقصى الصعيد حيث قامت دولة حرحور! وهو ما كانوا يذكرونه بينهم كلما أخذتهم بالشدة التي اشتهر بها أهل الصعيد الأقصى
وفي براعة هذه التسميات شاهد على أن بداهة الجماهير لا تهبط بهم دائماً إلى ما دون طبقة الأفراد، بل ربما ارتفعت بهم أحياناً إلى طبقة من الزكانة لا يبلغها الفرد الممتاز في كل حين
فاسم حرحور قد جمع من جديد ما فرقته أيام الصبا الباكر بين طالب الولاية وطالب القيادة وطالب الشعر والثقافة. وقد دل من جديد على أن هذه الصور المختلفات لم تغب في أطواء
العمر كل الغياب؛ فإلى جانب الروضة الأدبية لا يزال للثكنة مكان وللصومعة نصيب.
ويسألني سائل: ولم تمنيت الأدب أو تمنيت المنزلة الأدبية؟ فأقول: إن (التعبير عن النفس) هو مزية الأدب والشعر والكتابة عامة، وهو في الوقت نفسه طريق إثبات النفس الذي يمثل الثكنة نحواً من التمثيل، ويمثل البحث عن الحقائق والأسرار من قريب.
ويلوح لي أن التعبير عن النفس أو (إثبات النفس) عندي شيء لا أنساه حتى حين أكتب عن نبذ الشهوات وعن العبادة وعن الصيام قاصداً أو غير قاصد.
ففي مقالي عن الصيام منذ ست عشرة سنة قلت سائلاً:
(ولكن هل الصوم من دواعي إنكار الذات المتنبهة، أو هو من دواعي إثباتها وتوكيدها؟ وهل هو من أسباب نسيان النفس الشاعرة وسحق كبريائها، أو هو من أسباب تذكرها وتقرير وجودها؟)
ثم قلت مجيباً: (أكاد أقول إن الصوم بجميع درجاته وأنواعه حيلة نفسية خفية لتقرير وجودها وتوكيد عزتها ورفض كل ما يسيء الظن بها في نظر صاحبها. وما أيسر أن نعرف ذلك! حسبنا أن نراقب الحالة التي تناقض الصوم لنهتدي إلى الحقيقة من المقابلة بين النقيضين. فانظر على سبيل المثال إلى أي رجل تعرفه ممن أرخوا العنان لشهواتهم وأجابوا نفوسهم إلى أهوائها واسترسلوا في الغواية بلا رادع ولا مقاومة، فهل ترى هذا(439/4)
الرجل (واجداً) نفسه مكرهاً لها، أو تراه مبتذلاً نفسه فاقداً لها في غمار شهواتها وتيار أهوائها؟ إنك لا ترى رجلاً كهذا إلا قد ارتسمت على وجهه علامة احتقار هي قبل كل شيء موجهة إلى نفسه. . . ولست أعرف معنى للنفس في حالة الاستسلام والاسترسال التي نشاهدها فيمن يلبون حاجات نفوسهم ولا يقفون لها في شهوة من شهواتها؛ فإن حكم هؤلاء في هذه الحالة كحكم الخشبة المنساقة في تيار الماء، أو الريشة المتطايرة في الهواء؛ أي أنه هو حكم الجماد المفقود في تيه النواميس الكونية بلا إدراك ولا شعور ولا إرادة. ولا يزال الإنسان شيئاً لا نفس له ولا استقلال لكيانه حتى يمتنع عن شيء يدفع إليه ويقف في وسط التيار الذي يحيط به. فهناك يجد نفسه بعد إذ فقدها بالمطاوعة ونسيان الذات، ويشعر بمعنى رفيع هو أسمى معاني الحياة لم يسم إليه إلا الإنسان بين سائر الأحياء)
وفحوى هذا جميعه أنني تمنيت الأدب لأنني تمنيت التعبير عن النفس، ولأن التعبير عن النفس يجتمع فيه عندي تحقيق وجودها ومتعتها واستكناه حقيقتها وحقيقة ما حولها، وليس فوق هذا المطلب من مطلب رفيع يتطلع إليه موجود شاعر بوجوده.
عباس محمود العقاد(439/5)
طموح الشباب
لصاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك
مدير دار الكتب المصرية
تفضلت وزارة الشئون الاجتماعية فدعتني لأتحدث إلى الشباب في مطامحه. ولعلها بتلك الدعوة أحسنت الظن برجل طالما اتصل بشبابنا المثقفين، وأنه وإن حالت ظروفه دون وفرة الاتصال بهم، ففيما يحفظونه له من ود كريم، وفيما يحفظه لهم من حب وحنان، ما يسوغ مد الأسباب بينه وبينهم ليفضي إليهم بما يعتقده خيراً وحقاً
فللوزارة إذن شكري الخالص، إذ أتاحت لي فرصة التحدث إلى أبناء العروبة عامة، وإلى أبناء وطني وكلهم أمل باسم مرموق لبلادهم العزيزة، وللشباب أنفسهم صادق دعواتي لعيشة راضية يملأها البشر والتفائل، وتنتشر منها مكارم الأخلاق وصدق العزائم، وتفيض بنعم المعنويات
لقد نشأ الشباب الحاضر في فترة من الزمن تمتد بين حربين عظيمتين، وتصطبغ بشر المنازع للنفوس الأمارة بالسوء، وتتجلى فيها مساوئ الحياة المادية والآلية وتبدو عليها متاعب الأنانية والجشع، وتلوح منها مكاره المخادعة والعناد، وتلتزمها مخازي التحلل من القيود الأدبية، وتظهر فيها مخاطر الانحراف عن المنطق السليم، وتكتنفها مهازل الركون إلى النظم المنهارة البالية، مما انتهى إلى تباين في الحظوظ من مغانم هذه الحياة، وتنافر بين الشعوب والطبقات، وتباغض وتناحر بلا هوادة ولا رحمة. . .
ولو ذهبنا نستعرض ناشئة العالم المتحضر لوجدنا في بعض بلاد الغرب شباباً قد ترعرع في أجواء مسممة من أثر اليتم والأحقاد والغرور، مما كان له خطره الواضح في الانقلابات والثورات والأزمات وحدوث هذه الحرب الدامية
أما في بلاد أخرى كبلادنا العربية التي تأثرت بنتائج الحرب الماضية، فثم تغييرات سياسية، واضطرابات داخلية، وشهوات حزبية، ونزعات نفسية، وانقسامات واختلافات في الآراء، وثم تحرج عند شتى المشكلات العمرانية والثقافية والاقتصادية، مما انتهى بطائفة من شبابنا إلى الحيرة والإشفاق من المستقبل، والتشاؤم، وفتور الخلق والنزوع إلى الوصولية، والاستخفاف بالمألوف. . .(439/6)
ولعل مختلف الظواهر والأحوال الاجتماعية التي اتصلت ببلادنا قد حملت شبابنا قسطاً من الآلام، وآخر من الآثام.
فأما هموم شبابنا وآلامه فلها ارتباط وثيق بما يشعر به من غموض المآل. وأما الأخطاء والآثام فمنشؤها غفلة الشباب حين يغفل عن قيم الحياة الحقة، ليلتفت إلى قيمها الزائفة، وحين يضلله سراب الحياة الخلاب إلى غير ما يشتهي من مائها الزلال، وحين يطمئن عن ضعف في البصيرة إلى سطح الحياة المستقر على بركان ثائر، وحين ينصرف الشباب عن جد الحياة إلى هزلها العاثر، وعبثها الساخر، ويؤوب منها بالقدح الخاسر. وعلى الجملة حين تتبدى الحياة في ثوبها المزخرف، فتستدرج إلى صغائرها الباطلة وشهواتها من لا حصانة لهم من الشباب، وكان لكل ذلك أثره في أمزجة الناشئين وأعصابهم وسلوكهم، فتعدد فيهم المتشائمون، وتكاثر فيهم المستخفون المستهترون، وأصبح بينهم المتمرد الجامح والخائر المهزوم.
على أننا نلتمس المعاذير للشباب على تشاؤمه واستخفافه، وجموحه وخوره، ونغتفر له انحرافه عن الطريق التي يرضاها له النصحاء الخيرون، إذ ترجع التبعة في كل ذلك على ظروف الماضي القريب وملابساته. فإذا كان لأحد أن يتحمل قسطاً من اللوم، فعلى الآباء بعض أثقال هذه الملامة؛ أما شبابنا فحليق بهم أن تنالهم شفقة المشفقين، وحدب العاطفين.
على أنه حري بالنشء الجديد أن يوجهوا جهودهم، ويحولوا طموحهم إلى حياة أسمى من التي يتذوقون مرها، وأن ينشدوا جوً أصلح من ذلك الذي يتنسمون سمومه، فللشباب من مفسوح الحياة ومقتبل العمر ما يوسع له المجال لتحقيق عيش يرضاه لنفسه ولمن يخلفونه؛ وله من نشاطه الحيوي ما قد يسخره في الخروج من الحياة المظلمة إلى حياة نيرة، وما قد يستخدمه لتحويل قطوب دنياه إلى بسمات، وزعازعها إلى نسمات، وأنينها إلى نغمات، فلا يأس مع الشباب، ولا يأس مع الحياة.
ويلوح لي أن أشد الحوافز لنشاط الشباب، وأقوى المثيرات لحيويته، وأمضى الشاحذات لعزيمته حين ينشد حياة أصلح من التي يحياها، إنما يكون في توجه الشباب إلى الأهداف العليا، والمثل السامية، ليسلم نفسه لسلطانها إسلاماً، ويذعن لسيطرتها إذعاناً. وهل من هدف أولى من الخلق الكريم ليكون موضع طموح الشباب؟ وهل من سلاح غير سلاح هذا(439/7)
الخلق يستطيع الشباب أن يحول به مذاق العيش حلواً وعذابه نعيماً؟
إذن فالاعتزاز بالخلق الرفيع هو ما ينبغي أن يكون مثل شبابنا الماثل، ومطلبه الشامل
وإذا كان الخلق الكريم في جملته وتفاصيله هو الهدف الذي ينبغي لشبابنا أن يروضوا أنفسهم عليه، وأن يلقوا بأعمالهم في دوائره وأحضانه؛ فيقيني أن أكبر معين لإصابة هذا المرمى هو التدين الصحيح.
وإني حين أعفي نفسي من الإسهاب في تفاصيل الأخلاق الكريمة، وبسط جزيئاتها الرائعة؛ أقرر بأن التدين الصحيح هو أفضل رائد للوصول إلى الأخلاق الفاضلة الرفيعة؛ ذلك لأن الديانات على اختلافها قد أجمعت على تقديس الأخلاق الأساسية التي كانت أهداف الإنسانية مع تتابع العصور، واختلاف الأجناس والأقاليم
وليست هذه الأخلاق المقررة مجهولة تحتاج إلى التذكير، أو منكرة تحتاج إلى الإبانة والتعريف، أو مستورة خفية تحتاج للكشف والإظهار، إنما كل ما تحتاج إليه أن يستجيب الناس إليها، وأن يأخذوا أنفسهم بالإذعان لدواعيها، وأن يؤمنوا بأن تجارب العصور والأجيال لم تكن عبثاً حين لم تأت بما يضعف من قيمة هذه الأخلاق، أو يشكك في نفعها لدعم سعادة الأفراد وعظمة الأمم. فكل دين يأمر بالمعروف وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ وما ندم قط امرؤ اتخذ من أخلاق دينه هادياً له في معاملاته وسلوكه؛ وما هانت ولا وهنت أمة تمرس أفرادها في آداب الدين، ذلك لأن التدين والدين يحضان على العزة والتضحية والإيثار والعدل والقسط وجد الحياة ومهيئات السلامة والسلام.
ويقيني أن التدين الصحيح إذا استحال في عناصر الدم دماً، وفي عناصر الأعصاب عصباً، وعلى الجملة في عناصر النفس الناطقة روحاً ويقيناً وإيماناً، فإن أفعال الناس جميعها تستقر على الخير، وتدور في دوائر الحق، وتسرح في ميادين الجمال. . .
وحسبنا من التدين أن يذعن المرء لقيود والتزامات ونظم تحت رقابة حاضرة لا تغيب، يقظى لا تغفل، عالمة لا تجهل، تلك رقابة الضمير الطاهر، تلك رقابة الوجدان الساهر، تلك رقابة القوي القاهر، تلك رقابة الله
وكما أن للتدين الصحيح رقابة على النيات الخافية والمعنويات التي تؤثر في صور المعاملات وأشكالها، فإن له أجلى أثر في رياضة الناس على حب النظام. فكل دين يقاضي(439/8)
أتباعه بأنواع من الشعائر في فترات موقوتة، وفي وضعات معينة، وفي حالات خاصة؛ ففي مختلف الصلوات، وفي أنواع الخشوع، وفي أصناف التوجهات، نُظم للجسم والنفس من شأنها أن تؤلف المرء على حب النظام، وما أحوج شبابنا لخلق النظام.
قد يأخذ البعض على الديانات ما فيها من حواجز وحدود تحد مما تبيحه الحريات. على أنهم ينسون أنه لا خير في الحريات
ما لم تقف عند الحواجز والحدود، وإن وراء حدود التدين هاوية فتاكة بالنفوس، وتيهاً مضللا للعقول والأحلام
وإذا أضيف إلى فضائل الدين ما يتعزى به المنكوبون المعتقدون، وما يأمله المستحقون ممن يعتقدون بعدل الله، وينتظرون جزاءه الأوفى، فما أحرى الشباب أن يرعى حرمة الدين، ويتجه إلى هدفه المبارك المأمون
وزيادة على ما أتمناه لشبابنا من هذه المطامح المتقدمة، أرجو أن يجعل من أهدافه المباشرة نزعة الكرامة الأدبية، فعندما يطمح المرء إلى هذه الكرامة، وعندما يشعر بحرارتها المنبعثة من الأعماق تتجلى له قيمته الإنسانية المقدسة من خلال ماضيه وحاضره، وتفكيره وأمله ومسلكه الخلقي، وعندما يستذكر المرء معاني الكرامة، فإنه يحس في طواياه بنوع من عظمة النفس تدنيه إلى كل عمل حميد، وتضعه في كل منزل من المنازل التي تسدى فيها المكارم وتساق فيها المحاسن لخير نفسه، وخير أمته، وخير الناس أجمعين.
فالكرامة إذن هي نزعة نفسية عالية يتحقق بها الخلق الشريف والموقف المنيف لدنيا يريدها المرء مصقولة معقولة كريمة.
بل هي نزعة إلهية تتأثر بها كل قوانا النفسية لتستنهض أكثر الفضائل من شجاعة وصدق، وصراحة وجد، وضبط للنفس، وإيثار ووطنية وما إلى ذلك من الخلال الآدمية التي يأخذ بعضها برقاب بعض لتتحقق مشيئة الله حين أراد أن يكرم بني آدم
وهذه الكرامة التي أدعو شبابنا إليها غنية عن التعريف والوجاهة، غنية عن الأحساب والأنساب، ما دامت تستعين بالإيمان بأن الإنسان الحقيق بإنسانيته، هو من يصدر عنه دائماً الخير وطيب العمل
وإني حين أرسل صوتي إلى شبابنا ليحصر أهدافه في دوائر الأخلاق والتدين والكرامة(439/9)
الإنسانية فإني على يقين من أنه بذلك سيستصلح لنفسه عالماً نيراً مسعداً، فما عالمنا إلا مظاهر نفوسنا وأخلاقنا تتجلى على صفحات هذا الوجود
وإن ما أرجوه لشبابنا الفتيان هو نفس ما أرجوه لفتياننا. على أنهن حقيقيات بأن يتذكرن مملكة البيت، وما تقتضيه من أخلاق وسلوك ونزعات مما ينبغي أن يكون هدفاً للفتاة وحسبي أن أشير إلى أنه من واجب فتياتنا المصريات والعربيات، أن يحذرن ما انزلق إليه الكثيرات من فتيات الغرب وخدعن في قيمته، حين انحرفن عن هدف الحياة العائلية. فإسعاد العائلة في عائلها، وفي حسن تنشئ صغارها، وإمداد وكرها بما يرفع النفوس ويقومها ويقويها، هو أجدى على الأمة من كل ما تقوم به المرأة خارج البيت
وقصارى القول أرجو إلى شبابنا أن يفسحوا في صدورهم، وأن يحفظوا في ألبابهم وتفكيرهم مكاناً للمعنويات، ومجالاً للحياة الروحية، فلا يقصروا همومهم على مطالب الثروة والدأب فيما يشتهون من متع الحياة وشهواتها
وإنهم ليحسنون مهما اختلفت عقائدهم أن يقفوا خاشعين مستبشرين في كل صباح ليرسلوا من قلوبهم وعلى ألسنتهم صلاة عربية مبينة حين يقولون: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين).
منصور فهمي(439/10)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
(أيام) طه حسين
للدكتور زكي مبارك
تنبيه - حيرة وارتباك - المرحلة الثانية - عمائم وطرابيش وبرانيط - أسرار كتاب (الأيام) - أحزان الطفل الضرير - صور وصفية - أما بعد فهذا كتاب
تنبيه
في العالم الماضي تكلمنا عن الجزء الأول من (الأيام)، والمقرر للمسابقة في هذه السنة هو الجزء الثاني، وقد نشرته (مكتبة المعارف) بالقاهرة وثمنه عشرة قروش.
ويهمني قبل الشروع في الكلام عن الجزء الثاني أن أنبه إلى مسألة طال فيها عتب العاتبين في السنة الماضية، فقد عابوا علي أن أقول في صحيفة سيارة: إن الدكتور طه رجل ضرير؛ مع أني قلت بصريح العبارة: إن توضيح الدقائق من كتاب (الأيام) لا يتيسر بغير النص على أن المؤلف يعبر عن أغراض لا تتجسم لغير المكفوفين، والنقد يحتم هذا تحتيماً، ولو سكتنا عن هذه الناحية لضاع الغرض من شرح مواطن القوة والضعف في تلك المذكرات
أنا أريد أعاون طلبة السنة التوجيهية على فهم الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، ولا يتم ذلك بدون إرشادهم إلى طريق الفهم المنشود، ومؤلف (الأيام) ضرير، ومراعاة هذا الجانب من شخصية واجب مفروض، لنعرف كيف واجه دنياه عن طريق السمع واللمس والإحساس
يضاف إلى هذا أن الدكتور طه أكبر من أن يتأذى بالنص على أنه ضرير، فهو يقول ذلك في جميع صفحات (الأيام)، وهو يعرف من أصول النقد الأدبي ما لا يعرف أولئك العاتبون، ويعرف أن الكلام عما في كتابه من محاسن وعيوب لا يتفق مع التغاضي عن تلك الحالة الشخصية، وهي حالة لا تغض من منزلية الأدبية بأي حال.
طه حسين ضرير، كما يقول، وقد سايرنا طفولته في السنة الماضية ونحن ننقد الجزء الأول، فكيف نراه في حداثته ونحن ننقد الجزء الثاني؟(439/11)
حيرة وارتباك
في هذا الجزء بداية تقع في ست صفحات، وهي غاية في الضعف عند من يجهل، وغاية في القوة عند من يسرف، وربما كانت أعظم صفحات الكتاب، برغم ما فيها من غموض والتواء
وترجع عظمة هذه الصفحات إلى أنها تمثل ما يعاني الطفل الضرير من حيرة وارتباك، حين ينتقل من أرض إلى أرض، ومن مكان مألوف إلى مكان مجهول
كان الطفل يعرف داره بالريف، يعرفها بيديه، فلم تف عليه خافية من ملامح النوافذ والأبواب والسطوح، وكان يجد الأنس كل الأنس في حبس تلك الأشياء باهتمام والتفات، وسنرى كيف يفرح حين تسمح الظروف بأن يداعب الصندوق الذي أرسلته أمه إلى القاهرة لينتفع به أخوه، فسيكون ذلك الصندوق مراداً لسياحات كثيرة يتمتع بها الطفل حين يشاء، فيجلس عليه مرة، ويختبر أدراجه بيديه مرات، ولا يفوته في هذا الموقف أن يشير إشارة حزينة إلى أن أمه كانت تضع حُليها في هذا الصندوق يوم كان لها حُلي، فنعرف أن أمه وقع لها ما يقع لأمهاتنا في الريف من بيع (الصيغة) في بعض الظروف، ولأمهاتنا هنالك متاعب تستحق التأريخ
ترك الطفل داره بالريف، وأقبل على داره بالقاهرة، فكيف كان حاله في داره الجديدة؟ كيف؟ كيف؟
أقام أسبوعين وهو شارد اللب حيران: فهو يلمس جدراناً لا يعرف من أحوالها غير أوهام، ويسمع أصواتاً لم يكن له بمثلها عهد. ألم ينزعج للصوت المجهول؟ وأي صوت؟ صوت كريه بغيض لا يصل إلى أذنيه إلا بعد أن يلفح وهج النار وجهه من قرب، فما ذلك الصوت؟ سيعرف أنه قرقرة النرجيلة، فيهدأ ويستريح بعد أن مسه الخوف، وبعد أن طال تفكيره في السؤال ولم يصده غير الاستحياء
ولم يكن ذلك كل ما عاني في هذين الأسبوعين، فقد آذاه ما يحيط بداره الجديدة من روائح قذرة بغيضة لا تخلو من تعقيد. وسنعرف فيما بعد كيف صار يستبشر بهياج تلك الروائح، لأن هياجها أثرٌ من وقدة الشمس، وتلك الوقدة بشير بقودم الصيف، وهو في الصيف يرجع إلى داره بالريف، فيستريح من الأزهر والأزهريين، فقد نص بعبارة صريحة على أن(439/12)
سجنه في قفص الأزهر قد طال، وأنه يرجو الخلاص بالانتساب إلى الجامعة المصرية، عليها أزكى التحيات!
المرحلة الثانية
حين تكلمنا عن الجزء الأول من (أيام) طه حسين في السنة الماضية كنا نجاريه في المرحلة الأولى من حياته، وهي تبدأ باليوم الذي عرف فيه كيف يختزن الذكريات، وتنتهي باليوم الذي تأهب فيه لطلب العلم بالأزهر الشريف
وفي هذه السنة نجاريه في الجزء الثاني وهو المرحلة الثانية، وهي تبدأ باليوم الذي فرح فيه بدخول الأزهر وتنتهي باليوم الذي فرح فيه بالتحرر من الأزهر. وهو مع ذلك سيحدثنا في الجزء الثالث أن صلته بالأزهر بقيت إلى أن تقدم لامتحان (العالمية). وسنعرف أن اللجنة التي أدى أمامها امتحان العالمية قضت في أمره بما لا يحب، لأنها لم تستطع النفاذ إلى مواهبه العقلية، أو لأن الأخبار كانت تواترت بأنه لا يحترم الأزهريين، أو للسبب الذي حدثنا به في سنة 1927، فقد أخبرنا أن يداً أرادت أن يسقط في امتحان (العالمية)، وله على تلك اليد شهود جَبُن منهم من جبن، وشَجع من شجع، والأمانة للتاريخ توجب أن نقول إن الدكتور طه حدثنا أنه حين أراد الطعن في نزاهة لجنة الامتحان لم يجد من يجرؤ على الشهادة بالحق غير رجلين اثنين: سيد المرصفي ومحمد الابياري
وإنما تعجلنا فأشرنا إلى كلام سيكون بداية الجزء الثالث ليعرف القراء كيف يتبرم الدكتور طه بماضي الشيخ طه، وكيف رضي الانتقال من الشرق إلى الغرب بلا توديع ولا تسليم، لينتقم ممن ظلموه، أو ليصير رجلاً من طلائع الجيل الجديد، ومن دعاة المدنية الحديثة، بلا تحفظ ولا احتراس
عمائم وطرابيش وبرانيط
من واجب النقد الأدبي أن يبحث عن الأسرار المطلوبة في ثنايا الحروف، فما تاريخ طه حسين من الوجهة الفكرية والذوقية وهو يواجه دنياه في المرحلة الأولى والثانية؟
في الجزء الأول يرى المجد مصوراً في (العريف) وهو معلم الأطفال، ثم يراه مصوراً في (القاضي الشرعي) صاحب العمامة والجبة والقفطان(439/13)
وفي الجزء الثاني نراه على عهده الأول، نراه يحترم العمائم ثم ننظر في الصفحات الأخيرة فنراه يعلن أنه (ظفر بشيء طالما تمناه، وهو أن يتصل ببيئة الطرابيش)
فما سر هذا الانتقال؟
كان يعرف أن أمور الدولة إلى أصحاب الطرابيش، ولعله سمع أن ناساً اقترحوا على الشيخ محمد عبده أن يلبس الملابس الأفرنجية ليمكن أن يصير من الوزراء، كما صار الشيخ سعد زغلول بعد ذلك من الوزراء
وقد صبر الدكتور طه على عمامته بعد فراق الأزهر بأعوام قصار أو طوال، فأدى امتحان الدكتوراه بالجامعة المصرية في سنة 1914 وهو معمم، وأقلته الباخرة من الاسكندرية إلى مارسيليا وهو معمم، ولكن ركاب تلك الباخرة قد التفتوا مندهشين إلى شيء يقع في البحر وقد ألقاه صاحبه بعنف، فما ذلك الشيء؟ هو عمامة طه حسين!!!
وقد تحدث الدكتور طه مع أحد الصحفيين بأنه لم يندم على شيء كما ندم على رمي عمامته في عرض المحيط؛ ولكن الواقع غير ذلك، الوقع أن الدكتور طه وُلد وعلى رأسه (برنيطة) وقد حدثني مرة أنه يرجح أن أسلافه القدماء كانوا من اليونان، فإن لم يصح ذلك فهو في نزعته اليونانية مَدين لرواية ألفها الشاعر أحمد شوقي واسمها (ورقة الآس) وفيها تمجيد لليونان.
ولهذا وذاك صلة بانتقال الرجل من حال إلى أحوال، فقد انحدر من أسرة أكثرها مشايخ، ولكنه مع ذلك يحيا حياة مدنية منقطعة عن حياة المشايخ تمام الانقطاع. والنص على هذا الانقلاب واجب، لأنه يفسر ما خفي من أسرار الوحي في اتجاهاته الأدبية والاجتماعية
ولكن هذا الشيخ اليوناني بقيت فيه ملامح من ذلك الشيخ الأزهري، فما شاع يوماً أنه يدعوا إلى اللغة العامية، كما يصنع بعض المتظرفين الثقلاء، ولا جاز عنده أن تكون العقيدة الإسلامية مجالاً للتشكيك والإيذاء، وإن وقعت في بعض مؤلفاته عبارات تغاير المألوف من التعابير الدينية.
هذا رجل بعيد الصلة بين حاضره وماضيه، لأنه سريع القفز والوثب، ولأنه على وفاق مع ضميره الفني والأدبي، فهو يسايره إلى حيث يريد. وكل شيء عنده جائز، إلا العدوان على اللغة العربية، أو التحرش بالعقيدة الإسلامية، فهما عنده في مقام القدسية والجلال!(439/14)
وفي كتاب الأيام سطور تفصح عن أسباب القلق في حياة الدكتور طه حسين، فهو يجزع من العزلة ويفزع من الانفراد، لأن الاتصال بالناس هو أداته في الاتصال بالحياة الخارجية، ومن هنا نجده حريصاً أشد الحرص على أن يكون لاتصاله بالناس ضروب من الضجيج والعجيج، لينجو من متاعب العزلة والانفراد، وهذا هو السر في انتقاله من رأي إلى رأي، ومن حزب إلى حزب، ومن ميدان إلى ميدان!
كان مع الدستوريين وهم يقاتلون الوفديين، وكان مع الوفديين وهم يقاتلون الأحزاب أجمعين، فإذا انجلت المعارك السياسية وانقطع إلى الحياة العلمية كان من الواجب أن يخلق أزمة جامعية، فاذا نُقل من الجامعة إلى وزارة المعارف كان من الحتم أن يخلق مشكلة في وزارة المعارف
ومع أن للدكتور طه عذراً في التخلف عن شهود بعض المآتم وحضور بعض الحفلات، فهو يشهد جميع المآتم ويحضر جميع الحفلات، ليطرد عن نفسه عناء العزلة والانفراد
فالذي ينظر إلى الأمور نظرة سطحية يحكم بأن الدكتور طه رجل متغير متحول، أما الذي ينظر نظر المدقق فيرى التغير والتحول من صور الثبات والاستقرار بالنسبة إليه، لأنهما يؤديان وظيفة أساسية في حياته اليومية!
ومن الجائز أن يكون لهذه النزعة دخل في هيامه بالفروض والحدوس وهو يساور الأبحاث الأدبية والتاريخية، فؤلفاته في أغلب أحوالها قليلة التعمق، لأن التعمق يوجب أن يقف عند البحث الواحد عاماً أو عامين، والوقوف يضايقه بعض الشيء، لأنه يصرفه عن التحول والانتقال بين المعاني والآراء!
زار الدكتور طه باريس وأنا هنالك، فلما مضيت للتسليم عليه أدهشني أن أجده في غرفة تطل في غرفة تطل على ميدان (الأوْبِسرفتوار) وهو ميدان صخاب ضجاج؛ فقدرت أنه يريد أن (يسمع) باريس بعد أن فاته أن (يرى) باريس!
ويحدثنا الدكتور طه في (الأيام) أنه كان يأنس أنساً شديداً بمراسلة إخوانه وهو في الريف، وتفسير ذلك سهل، فهو يلقي بالرسائل من يشاء من الإخوان.
ويحدثنا أنه حين رجع إلى بلده بعد قضاء بضعة أشهر في الأزهر أقام معركة حول فكرة التوسل بالأولياء، فما سر ذلك؟ لم يرد في الواقع غير خلق دنيا يراها عقله، وإن لم ترها(439/15)
عيناه!
وقد سجل عتبه على أخيه، الأخ الذي كان يتركه وحده ويمضي للسمر مع الأصحاب والسجراء، ولو أن ذلك الأخ تأمل قليلاً لعرف أن أخاه الضرير الناس إلى الأنس بالأسمار والأحاديث!
وتأليف كتاب (الأيام) هو في ذاته تسلية لهذا المؤلف، فهو يخلق لخاطره أجواء جديدة تحتشد فيها مواكب من الصخب والضجيج، وإلا فكيف اتفق أن لا يفكر في إحياء تلك (الأيام) إلا وهو في المصايف الفرنسية، حيث يشغل عنه أهله بطرائف تلك المصايف، ولا يبقى له إلا اجترار ما اختزن من الذكريات؟
وقد شهد الدكتور طه على نفسه في مواطن كثيرة من كتاب (الأيام) باضطراب العقل؛ وأقول إن هذا الاضطراب هو مصدر قوته الذاتية، لأنه من مظاهر الحيوية، ولأنه الشاهد على أنه من كبار الأحياء
وهل كان من العبث أن تتنقل الطبيعة بين فصول مختلفات أشد الاختلاف منها الصيف والشتاء؟
هذا رجل حي، يعد ويُخلف، كما تعد الطبيعة وتخلف، ويستنيم عند الخوف كما تستنيم الطبيعة عند الخوف، ولا يتنمر إلا عند الاطمئنان إلى الأمان
وسر القوة عند هذا الرجل أنه كما وصفت، فهو من دعاة الثورة إن أتسع المجال للثورة، وهو من دعاة الهدوء يوم يحس بأن المجال لا يسمح بغير الهدوء، ولذلك شواهد يعرفها جميع الناس.
هو طه حسين، ولن يكون غير طه حسين. وكيف يكون رجلا آخر، وهو ليس برجل آخر؟ تلك إذن قضية، ولم تكن له قضية، وكيف تكون له قضية، وهو أعظم من أن تكون له قضية؟!
أسرار كتاب الأيام
نحن مع الدكتور طه في المرحلة الثانية من حياته الشخصية؛
وكلمة (الشخصية) لها مدلول؛ فهو في الجزء الثاني من الأيام لا يزال صبياً وفي أحلام الصبيان؛ والصبي لا يخرج من الحياة الشخصية إلى الحياة الاجتماعية إلا في نطاق(439/16)
محدود
والعجب كل العجب أن يستطيع الرجل الكهل وصف حياته وهو طفل بتلك الدقة العديمة المثال
تكلم طه حسين عن حياته الأولى في الأزهر بعد أن فارقها بنحو أربعين سنة، فكيف اختزن تلك الذكريات في أمد كاد يزيد على أربعة عقود؟
الشيخ طه هو الذي كتب (الأيام) لا الدكتور طه، فهي صور فطرية لأحلام طفل كانت دنياه محصورة بين حي الأزهر وحي الجمالية، ولا يكاد قارئ هذه المذكرات يصدق أن كاتبها تخرج في السوربون وإن كانت السوربون هي السبب في أن يجيد مثل هذا القصص الطريف
جمال هذه المذكرات يرجع في جملته وتفصيله إلى ما انطوت عليه من الصدق. والكاتب يقول إنه ضرير، ولو سكت عن هذه الناحية لأفصحت عنها الشواهد؛ فهو لا يحدد أي مكان إلا بالنص على أنه من عن يمين أو عن شمال؛ وهو يصور المعقولات بصور المحسوسات، لتكون مما يلمس أو يذاق، فهذه ضحكة غليظة، وذاك ابتسام سخيف؛ وهو لا يذكر من عذوبة الشاي إلا أنه كان يوضع فوق ماء له أزيز عند اشتداد الغليان؛ وهو لا يقول إنه كان يتسمع أحاديث الجيران وإنما يقول إنه كان يمد أذنيه مداً ليسمع أو ليلمس تلك الأحاديث؛ وهو لا يقول إن أخاه كان يتركه إلى أن يعود، وإنما يقول إن أخاه كان يلقيه كما يلقي المتاع؛ وهو لا يقول إن الليل يستر الأشياء والأحياء وإنما يقول إن الليل: (يمس بيده المظلمة العريضة هذه الأشياء وهؤلاء الأحياء) ويؤيد هذه اللفتة قوله في وصف بعض الأشخاص:
(كان ضحكه غريباً مضحكاً حقاً، فقد كان يبدأه عالياً ثم يقطعه، ويضحك صامتاً لحظة ثم يستأنفه عالياً، ثم يقطعه، ويمضي فيه صامتاً، ثم يستأنفه، وهكذا)
وهذه صورة لا تتفق من يعتمد على السمع في وصف بعض الأشياء.
وهنالك صورة ثانية تؤيد هذه اللفتة، وهي قوله بأنه (كان يجد للظلمة صوتاً يبلغ أذنيه، صوتاً متصلاً يُشبه طنين البعوض لولا أنه غليظ ممتلئ)، ولهذه اللفتة أمثال وأمثال، كأن يسجل بنفسه أنه كان مفتوناً بعد درجات السلالم، وكأن يقول إنه كان يطرب لأصوات(439/17)
الملاعق وهي تداعب الأكواب، وكأن يقول فيمن يصف امرأة حسناء: إنه كان يفصلها بعينه تفصيلاً، ويحللها في نفسه تحليلاً، ويجردها من ثيابها تجريداً؛ وكأن يقول إن الروائح الكريهة كانت تنعقد فتؤلف من فوق رأسه سحاباً رقيقاً ولكنه متراكم قد غشي بعضه بعضاً وكأن يقول إن مواطئ أقدامه كانت تعتدل حيناً وتعوج مرة أخرى فذلك كله يشهد بأن (اللمس) أداته الأولى في الإحساس
أحزان الطفل الضرير
وفي كتاب الأيام صفحات تقهر عصي الدمع، وهي صفحات بالنسبة لذلك الطفل، فهو يعد على أخيه جميع الهفوات مع الصفح الجميل، وهو يذكر بعد أربعين سنة أنه لم يكن يتناول طعامه بحرية، وأن نصيبه من ماء (الطرشي) لم يكن له وجود، وأن الحديث على مائدة الفول المدمس لم يكن يزيد على كلمة أو كلمتين، مع أن الطفل الضرير يحتاج إلى الكلام أشد الاحتياج، بدليل أنه يحادث نفسه بصوت صخاب حين لا يجد من يحادثه من الرفاق
ولم يقف بلاء ذلك الطفل عند هذا الحد، فقد نص على أن فريقاً من أشياخه بالأزهر كانوا يقولون له حين يوجه إليهم بعض الاعتراض:
(اسكت يا أعمى، اسكت يا أعمى)
وكان يعرف أنه أعمى، مع الأسف الموجع، ومع العجز عن دفع ذلك الإسفاف
واتفق في تلك الأيام أن يتصل ذلك الصبي بشيخ من أصحاب المواهب، وهو الأستاذ سعيد بن علي المرصفي، وهو رجل ما ذكرته إلا رأيت أنه حجة مصر في العبقرية العربية
والدكتور طه يقول إنه كان يفهم دروس الشيخ سيد المرصفي في شرح الكامل للمبرد، وذلك عنده سبب تلك الجاذبية، ولكني أرجح أن السبب يرجع إلى أن الشيخ المرصفي كان ينشد الشعر بأساليب موسيقية تخدر الثعابين، فلم يكن من العجب أن يستريح إلى إنشاده طفل في حال طه حسين، وهو يواجه الوجود بأدوات أهمها السماع
وأقول إن الشيخ المرصفي كان غريباً في الأزهر وكان تلاميذه غرباء، وبهذا أصبح طه حسين من المنبوذين في أنظار (العلماء) وصار من حقهم أن يهينوه ظالمين بالتصريح أو التلميح(439/18)
ثم تمضي الدنيا بالطفل الضرير إلى ما لا يريد، فيشيع بعض حاسديه أن يرى ما لا يرى الأزهريون من كفر (الحجاج) وهو أعظم رجل تولى أمور العراق في نظر (العقل) لا في نظر (التاريخ)
ويهان الطفل الضرير لهذه اللمحة الفكرية، فيمسي وهو زنديق في أنفس الأزهريين، وهم أصحاب الرأي الرسمي في الكفر والإيمان، ثم تكون لذلك عواقب يعاني متاعبها إلى اليوم
صور وصفية
في الجزء الثاني من الأيام ألوان من الصور الوصفية، ولا تظهر قيمة هذا الكتاب إلا لمن يلتفت إلى تلك الألوان
وأجمل صور هذا الكتاب ما جاء في وصف الشيخ سيد المرصفي، وهي صورة جدية فصلت شمائل ذلك الشيخ أجمل تفضيل والحياة الأزهرية بمزاياها ونقائصها نالت حظها من التدوين في الحدود التي تصورها الطفل، وقد عاش في بيئة مولعة بتعقب العيوب، وهو لهذا لم ير من الأزهر ورجاله غير ما يؤذي النفس، ويثير البغض، وما نراه يلتفت إلى محاسن الأزهر إلا في أندر الأحيان
وحياة (الرَّبع) ظفرت بألوان لطاف ظراف هي غرة الكتاب، وربما جاز القول بأنها من أطايب الأدب الحديث
والمجون له في هذا الكتاب مكان، ولكنه مجون ملفوف، إلا حكاية (أبو طرطور) فهي من المجون المكشوف، وهو مكروه على أرجح الأقوال!
وعنى الطفل بوصف أخيه عناية فائقة، فصوره في هزله وجده وغضبه ورضاه، بأسلوب يغلب عليه العتاب
وتحدث الطفل عن أبيه حديث اللوم في حين وحديث الحمد في أحيان. أما حديثه عن أمه فهو من أبرع صور الوفاء. ويظهر أنه لم يحب أحداً بلا قيد ولا شرط كما أحب أمه الغالية، ولم يثق بأحد كما وثق بقلبها الرفيق. ولا تقل إن الذوق هو الذي نهاه عن أن يتحدث عنها كما يتحدث عن أبيه وأخيه، فذلك كاتب وصاف قد يستبيح في الخروج على الذوق ما لا يباح، وإنما الوجه أن الدكتور طه لم ير من أمه غير الشمائل الأصلية في الرفق والعطف والحنان(439/19)
حديث الدكتور طه عن أمه حديث نفيس جداً، وهو يصدر عنه بحرارة وجدانية قليلة الأمثال. ألا ترون كيف صورها بأساليب مختلفات تشهد بأنه كان بها من المفتونين؟
من المفهوم أن الرجل لا يستطيع أن يذكر أمه بغير الجميل، ولكن الدكتور طه يخلق الفرص حلقاً ليتذوق النعيم بتصور ما كانت أمه تذرف من الدموع وهي تعد الزاد الذي يرسل إلى أبنائها الغائبين.
كان الطفل في غرفة مغلقة النوافذ في يوم صائف، فلما خرج تروح النسائم الرطاب، فتذكر ما كانت أمه تطبع على جبينه من القبلات.
والأم التي أنجبت طه حسين خليقة بكل إعزاز وإجلال
أما بعد فهذا كتاب
وأي كتاب؟ هو صفحات مقبوسة من القلب والروح، كتبها أديب مرهف الأعصاب، بعد أن تجنى عليه الوجود بلا رحمة ولا إشفاق
قال أستاذنا السنيور ناللينو، ونحن نذكر عاهة طه حسين:
,
وأقول إني لم أنقد الدكتور طه يوماً وأنا أتصور أنه ضرير، فما قُدَّ قلبي من الصخر حتى أصوب سنان القلم إلى رجل مكفوف، وإنما أنقده وأنا جاهل بحالته الشخصية، كما تعبر الأوراق الرسمية
طه حسين ليس بضرير، وإنما هي دعوى حمله عليها حب التظرف، وسيبقى هذا الرجل شاهداً على أن البصر السليم هو بصر القلوب
زكي مبارك(439/20)
الشيخ عبد الوهاب النجار
جهوده في جمعية الشبان المسلمين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
لما قبض الله إلى جواره الكريم المغفور له المجاهد الشيخ (عبد العزيز شاويش بك) الوكيل الأول لهذه الجمعية، تلفت أعضاؤها يبحثون عمن يملأ مكانه الخالي، فلم يجدوا غير فقيدنا العزيز الذي اجتمعنا اليوم لتأبينه. إذ كان الشيخان - أسبغ الله عليهما فيوض رحمته - نظيرين في الدعوة إلى الله والعلم بأسرار الإسلام والبذل في سبيله والوقوف على أسرار تشريعه ومناهج دعوته، مع اطلاع واسع في مقارنات الأديان، وقدرة على حل كثير من العقد الاجتماعية التي تشغل بال الشباب في ظروف الانتقال الخطير التي يجتازها الشرق الإسلامي
وإذا كان الأستاذ (شاويش) لم يمد الله في أجله طويلاً في خدمة هذه الجمعية، بعد أن اشترك بجاهه وخبرته في دور تأسيسها، وتمهيد العقبات الأولى أمامها، فقد مد الله وبارك في خدمة الأستاذ (النجار) لهذه المؤسسة حتى نمت واتسعت جهودها الدينية والاجتماعية
فمنذ ثلاث عشر سنة والفقيد دائب على القيام بواجباته فيها، يأنس به الشبان ويستفتونه في قضايا الإسلام والشبهات التي تترامى على عقولهم في فترة الانتقال واحتكاك العقل الشرقي بالعقل الغربي، وهو يفتيهم ويدحض ما يحوك في صدورهم من الشبهات، ويدخل على قلوبهم الطمأنينة ويرد اليقين وقوة العقيدة
وقد ساعده على الاقتراب من قلوبهم والدخول إلى عقولهم اتصاله بنصيب وافر من العلوم العصرية التي كان يعلم منها ما جعله ابن زمانه وربيب عصره لا رجلاً متخلفاً عن ملاحقة سير الحياة بالأحياء وسرعة نمو هذه المدنية العجيبة التي تتفتح فيها أسرار الطبيعة للعقول تفتحاً متلاحقاً يحير الألباب ويثير الدهشة، ويكشف عن كلمات الله التي ليس لها نهاية ولا نفاد!
فكان عليه رحمة الله يعلم من مباحث علوم الطبيعة والكيمياء والكهرباء وفنون الصناعات والآليات ما كان يثير إعجاب من يسمعونه وهو شيخ معمم تقدمت به السن، وتوجه فكره من قديم إلى الأدبيات وعلوم اللغة والشريعة والجدليات وما إليها من الميراث الشرقي(439/21)
النظري
ولا عجب أن يكون فقيدنا كذلك؛ فقد كان يحمل بين جنبيه قلب شاب ويحمل في رأسه عقل حكيم. وشباب القلب وحب الحكمة نعمتان جزيلتان تجعلان صاحبهما متفتح الفكر متجدد العزم متلفت الذهن نحو ما تلده الليالي من أعاجيب الحياة، بريئاً من الاشتغال بالأضغان الغليظة والسخافات التافهة التي تشغل بال الجهال وتصرفهم عن ملء قلوبهم وأوعيتهم بأسرار الوجود
وإلى هذه الصفات في الفقيد كان يرجع أنس الشباب به وحبهم إياه وحبه إياهم وفهمه عقليتهم ومنازع نفوسهم في زمانهم يضاف إلى تلك الصفات أنه كان مؤرخاً واعياً وقصاصاً مملوء الحافظة بحوادث التاريخ ونوادر الرجال، فكانت مجالسة عامرة بأعذب القصص وأطرف الحكايات وتلك ميزة محببة إلى نفوس الناس جميعاً وخصوصاً الشبان الناشئين الذين يسرهم كثيراً أن يستمعوا لأحاديث الغابرين وصور الماضي تلقيها وتعرضها عليهم شيخوخة جليلة يتكلم الزمان على لسانها ويتحدث من خلال بيانها
وقد نفع الله شباب هذه الجمعية بالفقيد كمؤرخ إسلامي أجل نفع، إذا كان لما يسرده من تاريخ الإسلام ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم وأبطاله ومغازيه وذكرياته وفتوح سيوفه وأقلامه، أثر بالغ خالد في توجيه نفوسهم إلى إحياء تلك الذكريات الغاليات والأمجاد الخالدات
وقد سمعت من السيد رشيد رضا رحمه الله قوله: إن العقيدة الإسلامية لايريبها ويثبتها في القلوب إلا قراءة التاريخ الإسلامي؛ وإن أثر قراءة هذا التاريخ في تكوينها أعظم بكثير من قراءة كتب العقائد والجدليات
وهذا قول صادق تزيده الأيام تأييداً. فكلما زاد اطلاع المسلمين على تاريخهم ونشطت المطبعة في إخراج دفائنه ازدادت عقيدتهم رسوخاً وإيمانهم بأنفسهم وثوقاً
وقد جمع الفقيد إلى صفات المؤرخ الإسلامي ضلاعته في الاطلاع على الأديان الأخرى، وحفظه كثيراً من نصوص التوراة بالعربية والعبرية التي كان يحذقها، والأناجيل وإلمامه بأقوال شراحها، واستخلاصه من كل أولئك ما يؤيد رسالة الإسلام ويجلو أوصاف رسوله كما وردت في تلك الكتب، مما ملأ أيدي الوعاظ والدعاة الإسلاميين بالحجج المدافعة عن(439/22)
دينهم في مجال الجدل الديني، ومما جعل الشبان في عصمة من أضاليل الإرساليات الدينية الأجنبية التي همها تشكيك المسلمين في رسالتهم الخالدة
وحين رأت هذه الجمعية أنه لا يتم صلاح الأمة إلا بصلاح نصفها الذي طال إهماله - أعني نساءها - لأنهن الأساس في بنائها والمتصرفات في قلوب نشئها، وعزمت أن تنشئ لهن دروساً دينية عهدت إلى الفقيد بإلقائها وتنظيمها بالاشتراك مع المغفور له شيخ العروبة أحمد زكي باشا. فنهضا بذلك نهضة كان لها أثرها. إذ حملت كثيراً من فضليات السيدات الآنسات المسلمات على تأسيس جمعيات نسوية للدعوة الدينية بين النساء وتوجبهن إلى فهم أسرار دينهن، مما يبشر بتحقيق الآمال في حركة الإصلاح
لم يكن نشاط الراحل الكريم قاصرا على خدمة أغراض هذه الجمعية في داخل حدود مصر، بل تعداها إلى البلاد العربية والإسلامية الشقيقة، فقام إليها بسفارات عدة وأسفار بعيدة؛ إذ اشترك في أول مؤتمر إسلامي عام حين عقد بالقدس خاصاً بقضية فلسطين 1931، وتزعم الرحلة التي قام بها جوالة الشبان المسلمين في صيف السنة ذاتها إلى فلسطين وسوريا ولبنان. وكان وجوده على رأسها من اعظم أسباب الترحيب بها والالتفات إليها من السلطات والأندية الدينية والاجتماعية التي كان له فيها ذكر مرفوع. ثم قام برحلة مع جوالة الشبان المسلمين كذلك إلى تركيا في صيف 1934
ولكن أعظم رحلة قام بها في خدمة أهداف الجمعية هي رحلته إلى الهند سنة 1936 في البعثة الأزهرية التي بعثها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي لدراسة شئون طائفة المنبوذين في الهند تمهيداً لدعوتهم إلى الإسلام ولدراسة شئون إخواننا المسلمين هناك عن قرب، وإنشاء روابط تعارف بين رجالنا ورجالهم
هذه الرحلة الشاقة التي ركب الفقيد فيها البر والبحر والجو، وتنقل فيها ببلاد الهند الواسعة يخطب ويكتب ويتحدث، وهو الشيخ المعمر الذي يحتاج إلى الراحة السكون. . . هي أعظم شهادة له تدخله في عداد المجاهدين الصادقين والعلماء العاملين الذين وهبوا الله جهودهم وأعمالهم بعدما وهبوه ألسنتهم وأقلامهم إلى آخر رمق من حياتهم. والذين يعلمون أن العمل للإسلام في هذا العصر لا يكون بتحصيل العلوم وتأليف الكتب وحدها بل لابد معه من النزول إلى ميدان الجهاد العملي والاشتراك في المعترك الأبدي بين الخير والشر(439/23)
والإصلاح والإفساد. . .
وإن أدراك الحق ورسمه على الصحف أمر سهل جداً على النفوس، ولكن العمل على تحقيقه وتجسيمه بين الناس متمثلاً في أشخاص وأعمال مهمة شاقة، لا يحتملها إلا أُلو العزم من محبي الإصلاح
هناك جانب خفي للفقيد في مؤازرة هذه الجمعية شاء هو أن يخفيه عمداً، هو جانب بذله المال حسب طاقته في بعض حاجات هذه الجمعية وحاجات غيرها من وجوه البر. فقد كان لا يبخل بمال، ولا يحسب حساب ذريته الخاصة في سبيل تحقيق مصلحة عامة؛ وقد طال عمره وهو كبير الراتب، ولكنه لم يتهالك على جمع شيء من الحطام الفاني، ولم يخرج من الدنيا إلا عن ميراث الحكماء والأصفياء. . .
إذا ورث الجهال أبنائهم غنى ... ومالاً فما أشقى بني الحكماء!
ألا سلامٌ على تلك الشيخوخة الجليلة السمحة المتفائلة التي كانت تضحي بما يصحب تقدم السن من الترفع والاعتزال، وتمتزج بروح الشباب لتعطيهم خبرتها وتجاربها. . .
وسلامٌ على تلك الروح الرحبة اللطيفة الوديعة التي كانت كأنها لا تعرف الغضب والمساءات. . . وعلى ذلك القلب البرئ كقلوب الأطفال الأبرار، وعلى تلك الأسارير المنبسطة التي يترقرق فيها الطهر وخلوص الطوية، وعلى ذلك المنطق العفيف عن الادعاء والغيبة وتجريح الناس ومقابلة السوء بالسوء. . .
وسلام على تلك الجبهة العالية التي كرمت صفحتها عن سمات الذلة والخضوع لغير الحق. . . وعلى تلك الذاكرة الواعية التي ما كان يفر منها رقم أو مسألة من مسائل العلم والدين التي اطلعت عليها، وما كان أكثرها!
ألا إن فقيدنا لم يكن شخصاً، وإنما كان حديقة مزهرة مثمرة بأطايب المعاني العالية، ورقائق الصفات الكريمة، ووثائق الأخبار والأسمار والمعلومات. . .
فرحمة الله له، والخلود لذكراه، والصبر الجميل لذويه وتلاميذه ومحبيه
عبد المنعم خلاف(439/24)
حول مسرحيات محمود تيمور
من اتجاهات علم النفس
في المسرحية
للأستاذ زكي طليمات
مفتش شئون التمثيل بالمعارف
(أصدر الأستاذ الكبير محمود بك تيمور مؤلفاً يتضمن ثلاث
مسرحيات جديدة فيها الكثير من طرافة التحليل النفسي، فآثرت
أن أقدم لنقدي إياها بهذا البحث الذي يكاد يكون قائماً بذاته
ولذاته)
كثيراً ما يقع للقارئ المنقب في أروع القصص والمسرحيات الغربية، مترجمة كانت أو بلغتها الأصلية، - وقليلاً ما يقع له ذلك في مطالعة آثار أدباء الطليعة في مصر خاصة وفي الأقطار العربي عامة - أن يلاحظ شيئاً يستوقفه برهة ينسرح خياله فيها، ويأخذ ذهنه بأسباب التأمل والمراجعة، ذلك أنه يرى شخصية من شخصيات هذه المسرحية أو القصة يستوي فجأة على حالة تنبو عن التقويم النفسي العام الذي أجراه عليها المؤلف منذ بدء الرواية، فإذا بهذه الشخصية تغمض وتبهم، وإذا بها تصبح نهبة لتعقيد نفسي غريب، فتبدر منها بادرات تتناقض مع المعقول صدوره منها قولاً أو فعلاً، وتتراءى هذه الشخصية في النهاية وكأنما تلبسها ذاتان مختلفتان!! وهي مع كل هذا تبدو إنسانية أصيلة تحس بصدق خلجاتها، ونلمح في وجهها أشباهاً فيمن نعرف من الناس أو فيمن يصل إلينا خبرهم بطريق السماع المقطوع بصحته.
إن الفكرة الشائعة على أن النفس الواحدة قد تبدو أحياناً في تصرفاتها وكأنما تلبسها شخصيتان متناقضتان، تجد أعراقاً لها ممتدة بعيدة إلى صميم الأدب الاتباعي، ثم تلوح بادية الأشاجع في الأدب الرومانسي، هذا على الرغم من أن القاعدة الأساسية في علم(439/25)
النفس لدى الاتباعيين - والرومانسيون تبع لهم في هذا - هو أن كل ما يخطر بالنفس ويجري فيها واضح أمره لها، لأنها تحسه وتدري بمسراه فيها، فهي تتحكم فيه إذا شاءت بطريق الإرادة، وهي تنظمه بمعاونة المنطق، وتكون النتيجة الحتمية لهذه القاعدة: أنه بما أن النفس في هذا الصدد لا يخفى عليها شيء مما يختلج فيها، إذن فكل ما يجري فيها واضح المعالم والحدود تفصح عنه الأقوال والأفعال وتفسره.
على هذه السنة، سنة الوضوح والإيضاح، يقوم التحليل النفسي لدى الاتباعيين والرومانسيين ومن ينحو نحوهم في كتابة القصص والمسرحية التي هي معارض لنماذج بشرية تتنفس وتتحرك وتعمل فيها.
بيد أن المؤلفين الاتباعيين والرومانسيين، على أخذهم بقاعدة الوضوح هذه في علم النفس، لم يكونوا بمنجاة من التعثر ببعض تلك الحالات النفسية المعقدة التي تبدو النفس خلالها، وكأنها عالم يشوبه الغموض وتتجاوب أصداؤه بالمتناقضات والفوضى
فماذا كان موقف هؤلاء المؤلفين من هذه الحالات؟ كانوا يحاولون التفسير جهدهم ليستخرجوا من الإبهام وضوحاً ومن الاضطراب نظاماً، متجشمين في سبيل ذلك بياناً خطابياً حاذقاً ولهجة منطقية حارة يجرونها على ألسنة شخصيات رواياتهم ابتغاء الإفصاح، ولييسروا على القارئ أمر الانتقال من النتائج إلى الأسباب وبالعكس من غير ما يضطرب المنطق اضطرابة عنيفة، وليقيموا صلة ما بين ما هو معقول ومألوف صدوره عن هذه الشخصيات، وبين ما هو غير معقول وناب من بادرات طارئة وصور ذهنية معقدة في تواردها
وهذه الحالات النفسية المعقدة لدى الرومانسيين، تمتاز عن مثيلاتها لدى الاتباعيين بأنها تكون عادة مبطنة بفورات نفسية طارئة. ومرجع هذا كما هو معلوم، أن الأدب الرومانسي أساسه القلب، فهو يترك الحبل على الغارب للتيارات العاطفية دون أن يمد بينها وبين اعقل الراجح شكيمة ولجاماً، وهذا بخلاف ما هو الأدب الاتباعي
لدى الواقعيين والطبعيين
وفي أواخر القرن الثامن عشر، نزل بهذه القاعدة في علم النفس الكثير من الهزال والتعقيد، فأخذت تتحور على أساس نزعة فكرية جديدة، سداها ولحمتها أن الكائن الإنساني ليس فقط(439/26)
ما يريد أن يكونه، أو ما تقضي إرادته أن يستقيم عليه، لأن العناصر المادية تجري تأثيرها على جسده بلا انقطاع. فهذا الكائن الإنساني خاضع لمؤثرات المناخ والبيئة لا بجسمه فحسب، بل وبروحه أيضاً، وما يتأثر به الجسد تتأثر به النفس. وما دام الأمر كذلك - في زعمهم - فواجب أن ننظر إلى النفس وخلجاتها من وجهة نظر علمية خالصة، وذلك بأن تخضع خلجات النفس وبادراتها ولمعاتها إلى التعليل العلمي الصرف
هذه النزعة لم تكن غير صدى لسيطرة النزعة العلمية والتحليلية في القرن التاسع عشر في فرنسا وإنجلترا، فوجدت نظريات الوراثة والبيئة مجالاتها الواسعة فيما تخرجه أقلام الكتاب القصاصين والمسرحيين، وهكذا تمت غلبة المحسوس على غير المحسوس في كل شيء، وأصبح علم النفس خاضعاً لآلية (المعمل) يحلل ويجزئ، وما يحلل ويجزئ غير مظاهر المادة. وسيطرت الواقعية على ألوان الأدب والفنون، وتبعتها فيها (الطبعية) وهي لون متطرف من الواقعية
ماذا كان يعمد إليه الكتاب والواقعيون والطبعيون وهم يعالجون في رواياتهم تحليل شخصيات ملقحة بالغموض تنتابها تعقيدات نفسية؟
وقد يحسب القارئ أن هذه الحالات النفسية المعقدة قد انتهى زمانها بعد أن أخذ العلم يحلل كل شيء ويعلل. لا شيء من هذا لم يحدث، لأن هذه الحالات عريقة في النفس البشرية التي لم تتغير ولن تتغير، وما كانت هذه النزعة العلمية التحليلية لتحجز الكتاب عن تقديم هذه المخلوقات المعقدة التي تبدو كأنها ظاهرات عجيبة، نظراً إلى أنها تعيش بيننا ويُحس بها، ولأن القصة والمسرحية من مجالات تسجيل النفس على اختلاف ضروبها وتعقد حالاتها. للمناخ والبيئة تأثير لا ينكر أحياناً على بعث كوامن النفس واصطخابها، فهما عاملان يساعدان أحياناً على إحياء التناقض في الطبع الإنساني الواحد، ويمهدان لتشقيقه وفتح فجوات في كيانه. ولا شك في أن المؤثرات التي تنزل بالجسم وتنال منه، من شأنها أن تشق للنفس مسارب تنقلت منها في وثبات لا يمكن للمنطق الخالص أن يعللها ويفسرها.
نعيد سؤالنا فنقول: ماذا كان يعمل هؤلاء الكتاب، كتاب الواقعية (والمعمل) إذا عرضت لهم تلك التعقيدات النفسية؟
لم يكن يعمدون إلى الصمت ولا شك. لقد كان أسلافهم الاتباعيون والرومانسيون - وهم(439/27)
أقل ادعاء للعلم منهم، ولم يبلغ العلم في زمنهم ما بلغه في الواقعية - يعللون هذه الظاهرات العجيبة تعليلاً منطقياً ويفسرونها تفسيراً عقلياً متواضعاً، فكيف يلزم الصمت الكتاب الواقعيون والطبيعيون، ربائب العلم والنظريات المادية، وقد تطاول العلم في زمنهم على كل شيء يحاول تعليله وتفسيره!! كان الواقعيون يتحدثون كثيراً ويفسرون طويلاً، لا على أساس المنطق والعقل، ولكن على أساس النظريات العلمية، يتعلقون بأذيال العلم ويحملونه ما لا يقدر عليه، ليقرروا بعد ذلك - وهم يلهثون - أن هذه التعقيدات والظاهرات الإنسانية العجيبة، إنما هي حركات انعكاسية للنفس نجمت عن تغيرات واضطرابات عضوية في الجسم خاضعة لقوانين المادة.
أفلاس المعمل
ولم يمض زمن طويل حتى خففت المادية من غلوائها بعد أن عجزت النظريات العلمية عن تفسير كل شيء، وأفلس (المعمل) بعد أن أنهكه تحليل المركبات، وصارت تلك التفسيرات التي يصدرها الكتاب الواقعيون والطبيعيون لا يؤبه لها، بل غدت عقيمة عقم العقل نفسه في النفاذ إلى جوهر الأشياء واستبطان حقائقها. فاشرأبت النفوس إلى مطالعة وسائل جديدة غير الوسائل السالفة تقدم إليها ما ينقع غلتها في استطلاع المجهول الغامض في حناياها
الرمزية
وكانت يقظة للنزعة الرمزية من جديد، ولكن على غير غرار الرمزية الدينية (الصوفية) فقامت لها حركة بدأت في شمال أوربا وانحدرت إلى الجنوب، وهذه الحركة في صميمها ليست إلا مظهراً من مظاهر المزاج الأدبي العام للتحرر من (واقعية) الأدب، ووثبة من وثبات الذهن إلى ارتياد آفاق جديدة للكشف عن الغامض في النفس وحل أحاجي تلك التعقيدات النفسية التي سبق أن تحدثنا عنها.
شوبنهور وهارتمان
وجاءت تعاليم الفيلسوفيين شوبنهور وهارتمان من ألمانيا فأضافت جديداً على هذه الحركة التحريرية، فقد حاول هذان الفيلسوفان أن يقررا أن العالم لا يسيره الذكاء، بل هو خاضع في سيره إلى نوع من الإرادة تعمل وتعمل من غير أن تفسر عملها ومن غير أن تأبه(439/28)
لقواعد العقل والمنطق. وهذه فكرة من فلسفة ما وراء ولا شك. ولكنها تحمل في طياتها عناصر جديدة شام فيها الأطباء وعلماء النفس آفاقاً جديدة فعقدوا عليها فصولاً وبحوثاً أسفرت عن جديد يصح أن يتخذ مفتاحاً للمغلق الغامض في النفس
خطوات جديدة
العالم تسيره قوة من غير أن تفسر عملها ومن غير أن تعبأ بقيود العقل والممنطق، والنفس جزء من هذا العالم. . .!!
من هنا يبدأ الخيط الذي رسم الاتجاه الجديد لعلم النفس
فمن اكتشافات العلامة الفرنسي (شاركو) بين 1870 و1890 في التنويم المغنطيسي وإثباته أن في الاستطاعة أن يسكب المنوم في نفس الوسيط آراء وواردات لم يكن لها أصل في ذهنه الواعي ويوجهه توجيهات لم يكن له قبل بها من قبل. . .
إلى ما كتبه العلامة (ريبو) عن أمراض الذاكرة، وذلك في ما بين 1882 و1885 وتدليله على أنه تسكننا حافظات لا نحسها - إذ ليس لنا بها علم من قبل - ولكنها تعيش فينا متحوية منطوية على نفسها، وسرعان ما تنسرح وتنشر مطاويها فينا على أثر مرض طارئ؛ وكيف أن كائناً إنسانياً عادياً متماسكاً ليس في مظهره شذود ما قد ينقلب فجأة شخصاً آخر، شخصاً عادياً بدوره، ولكنه لا يذكر شيئاً عن الشخص الأول؛ وكيف أن هذا الكائن الإنساني قد يجد من جديد شخصه الأول الذي كان يعيش ولا شك في زاوية من عقله اللاواعي أو الباطن، وذلك بمجرد اختفاء الشخص الثاني. . .
إلى ما انتهى إليه (بيير جانيه) في دراسته للإيهام وللاضطرابات العصبية وأمراضها، من أن هناك ما يحمل على الاعتقاد بأنه يمكن أن تعيش في نفس كائن إنساني واحد شخصيات عديدة وتيارات متباينة قد تتدخل في بعضها أحياناً وتختلط مدومة مدوية!
العقل الظاهر والعقل الباطن
وقام العلامة (سيجموند فرويد) (1856 - 1939) النمساوي وأنشأ فصولاً جديدة في التحليل النفسي تعرف باسم أرجع فيها كل خليقة من الخلائق، وكل عارضة من عوارض النفس إلى الغريزة الجنسية، وقرر أنه يسكن النفس البشرية ذاتان، الأولى طبعية بدائية(439/29)
عارية من صقل جبلت وفاقاً للطبع المركب فينا، والأخرى مختلفة اختلافاً بفعل التثقيف والتهذيب، ومنسقة تنسيقاً صناعياً بيد الاجتماع والمتواضع عليه. ثم استطرد البحث ليقول إن عقلنا - وهو واعيتنا الظاهرة - لا يجيب غير ما يصدر من الذات الأخرى التي هي من صنع التثقيف والتهذيب، ولكن قد يقع كثيراً أن تتغلب الذات البدائية العارية من كل صقل وتنسيق فتجمح النفس وتبدو منها بادرات طارئة ي القول أو الفعل تبدو غريبة معقدة، وتلمع في النفس لوامع خاطفة لا تعلل ولا تفصل!
برجسون (1859 - 1940)
وانبرى الفيلسوف الفرنسي برجسون يشن حرباً شعواء على النزعة الآلية والمادية وليدة العلم و (المعمل)، ويخطئ من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية، وهاجم الذكاء والمنطق لينادي بوجود عنصر جديد في النفس أسماه ' به أكثر مما نعيش بذكائنا ومنطقنا، أي بالعقل. ثم حدد العقل الظاهر أو الواعي بما مفاده أن هذا العقل الظاهر ليس إلا جزءاً من كياننا النفسي العام، ودوره عملي خالص لا يتجاوز إلقاء ضوء مزدوج على أطراف الأشياء والتي يجب أن نعملها، وعلى نواحي الفكر التي تتولاها، وأنه ليس لهذا العقل الظاهر أن يفسر الأشياء وأن يفصح عنها. ثم قرر برجسون بعد ذلك: أننا نتجاوز أحياناً في أعمالنا الحدود والمعالم التي يقيمها العقل الباطن الظاهر، وأننا خاضعون في تصرفاتنا إلى العقل الباطن، باعتبار أنه النبع الخفي البعيد الغور المترامي الأطراف الذي ينساب منه في خيط دقيق ماء رقراق، هو عقلنا الظاهر!
كل هذا مع ما جاء على غراره جعل الحياة الباطنة تتغلب على الحياة الظاهرة؛ فأخذ علم النفس يتجه اتجاهاً جديداً، يتخلص في أن العقل الواعي إنما هو شيء ظاهر سطحي لشيء باطن عميق قابع في أغوار النفس؛ وأنه إذا أردنا أن نبحث عن تفسيرات تلك التعقيدات النفسية من بادرات طارئة وواردات غربية فلنطرق باب العقل الباطن حيث لا سلطان للعقل والذكاء، ولا صوت للمنطق والإرادة، وحيث الغرائز تتشابك وتفور
زكي طليمات(439/30)
على هامش بحوث المجلس الأعلى
رسالة التعليم الالزامي
للأستاذ محمد كامل حته
لعل من أهم عوامل التعثر والاضطراب في التعليم الإلزامي
ما يكتنف فكرته وأهدافه من البلبلة والغموض. ونحن نتقدم
بهذه الكلمة في بيان رسالة هذا التعليم إلى المجلس الأعلى
بمناسبة تناوله إياه بالبحث في اجتماع اليوم
لم يكن عبثاً - وقد خرجت الأمة المصرية في أعقاب الحركة الوطنية ظافرة بالحرية والدستور - أن ينص هذا الدستور على أن يكون التعليم الأولي إلزامياً بالمجان لجميع الناشئة من بنات وبنين؛ لأن هذا النص على إلزامية التعليم، وعلى نشره بين جميع طبقات الشعب بالمجان، هو أول اعتراف بحق هذا الشعب في أن يحيا حياة جديدة فيها ما يبثه التعلم في النفوس من معاني الحرية والكرامة والرقي، وفيها الضمان الوحيد على أهلية هذا الشعب لما أحرزه من النتائج الوطنية، وتثبيت دعائم النهضة القومية، ومواصلة الجهود لتحقيق كل أسباب العزة وشوارد الآمال. . .
لهذا كان مشروع التعليم الإلزامي في مصر أهم مشروع تمخضت عنه النهضة الوطنية الحديثة، لأنه مشروع تتصل أسبابه بجميع أفراد الشعب، ولأنه الدعامة الأولى لكل إصلاح ينتقل بالأمة من حياة الجهل والخمول إلى حياة مستنيرة عاملة، تستقيم بها الأوضاع الاجتماعية وتتعاون فيها الجهود على النهوض بجميع مرافق الإصلاح.
لقد أطبقت ظلمات القرون ومظالم الأحداث على آفاق البلاد حقباً متطاولة، فإذا هذا الوطن الذي أنبت أول حضارة على ظهر الأرض، والذي كان قبلة العالم في علومه وفنونه وآدابه، والذي يفيض نيله عسجداً مذاباً، وتخرج تربته من كل الثمرات، والذي تخلق طبيعته الساحرة بطولة الأجسام والعزائم والعقول - إذا بهذا الوطن الذي توفرت فيه كل أسباب العظمة والخلود، تتدهور الغالبية العظمى من أهله في مهاوي الجهل والفقر(439/31)
والمرض والانحلال، تدهوراً يبعث على الحسرة البالغة والأسف العميق!
وليس من شك في أن العامل الأول الذي أدى إلى هذه النتائج المؤلمة، والذي ترتبت عليه العوامل الهدامة الأخرى، إنما هو الجهل الذي مني به السواد الأعظم من الشعب، فعرضه لغيره من الآفات الاجتماعية التي تنخر في كيانه وتحول بينه وبين كل تطور محمود
فالتعليم الإلزامي - إذاً - هو العلاج الحاسم الذي يجتث هذه الآفات من أصولها، ويمد جسم الأمة بالقوة التي تقاوم بها آثار هذه الآفات، والمناعة التي تقيها شرور العدوى والانتكاس
بل هو الشعاع الأول المنبثق من فجر النهضة إلى أعماق الريف السحيق، يخترق في سبيله الظلمات الداجية والضباب المركوم، حتى يصل إلى تلك المجاهل النائية، فتتفتح له الأجفان المطبقة، وتستجيب له القلوب الصماء، وما يزال هذا الشعاع يقوى وينتشر وما تزال العيون تتفتح والقلوب تستجيب، حتى تتبدد تلك الظلمات وتستبين القافلة معالم الطريق. . .
ومن هنا نستطيع أن نفهم رسالة التعليم الإلزامي في مصر، على صورتها الصحيحة ومعناها البعيد. فليست هذه الرسالة قاصرة على محو الأمية فحسب - كما يريد البعض أن تكون - لأن مكافحة الأمية ميدان محدود بالنسبة إلى الميادين الرئيسية الأخرى، ولأن قصر هذه الرسالة على هذا الميدان عمل آلي تافه الأثر ضعيف النتائج، لا يبث في نفوس الناشئة فكرة سامية، ولا يمدها بتوجيه سديد
بل إن في هذا الحد من رسالة التعليم الإلزامي على هذا الوجه أضراراً عقلية واجتماعية هي شر من الأمية والجهل؛ لأنك إذا وضعت في يد الناشئ مفتاح القراءة والكتابة، ولم تصب في عقله المقاييس الصحيحة للحياة، ولم تملأ أحاسيسه بالعواطف اللازمة لسعادة المجتمع - كان هذا المفتاح الذي في يده يدور بوحي عقله القاصر المضطرب، وإلهام غرائزه المستعرة العارمة، فلا يفتح على نفسه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه إلا أبواب الشرور. . .
وإنما تمتد رسالة التعليم الإلزامي إلى آفاق أبعد من ذلك غاية وأسمى غرضاً، فهي ترمي إلى تكوين الجيل على أساس قوي من الوطنية المستنيرة، والإدراك لحقائق المجتمع، والحرص على حقوقه الاجتماعية، والنهوض بأعبائه الثقال في مكافحة ما يندس في كيانه(439/32)
من الآفات، ومسايرة القافلة الإنسانية في تنقلها السريع.
وإلا فما قيمة تلك النتائج التي أحرزها الشعب في جهاده الطويل، إذا لم يكن هذا الشعب قد تهيأ للانتفاع بها على الصورة التي تبدو فيها آثار التطور واضحة ملموسة؟
وما قيمة تلك المبادئ التي كفل بها الدستور الحقوق والحريات، إذا كان الشعب عاجزاً عن تمثل هذه المبادئ وتطبيقها في حياته الفردية والاجتماعية؟
إننا بهذا الاتجاه السديد في فهم رسالة التعليم الإلزامي، نستطيع أن نتبين السر فيما نشكوه من العيوب في نواحي السياسة العامة. ونستطيع أن نعلل الفشل الذي يلازم أكثر مشروعات الإصلاح في هذه البلاد، لأن هذه المشروعات لم يسبقها إعداد التربة الصالحة لنموها وازدهارها، وإيجاد الأيدي الشعبية القوية التي تقوم على تحقيق هذه المشروعات تلك هي رسالة التعليم الإلزامي في مصر، مستمدة من روح الدستور الذي وضع للمواطن المصري أرقى مبادئ السياسة والتشريع، ومستلهمة من حاضر هذا الوطن المفتقر إلى كل إصلاح، المشرئب إلى مستقبل وثيق الصلة بماضيه المجيد
(القاهرة)
محمد كامل حته(439/33)
15 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي أدورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
الفصل الخامس
الحياة المنزلية
الآن - وحسبنا ما نظرنا في حالة مسلمي مصر الأخلاقية والاجتماعية - نستطيع أن نلقي نظرة على حياتهم المنزلية وعاداتهم المألوفة. ولنبدأ بالطبقتين العليا والوسطى
يطلق على رب العائلة أو من يبلغ سن الرجولة إذا لم يكن خادماً أو خاملاً لقب (شيخ) احتراماً وتشريفاً. والمعنى اللغوي لكلمة شيخ هو عجوز؛ ولكن كثيراً ما تستعمل مرادفة لفظة (سيد)، وإن أطلقت بصفة أخص على رجال الدين وأولياء الله. ويقال للشريف (من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم) (السيد) أياً كان منصبه. وكثير من الأشراف يشتغلون خدماً وزبالين وسائلين ومع ذلك يلقبون بالسيد، ويميزون بالعمامة الخضراء؛ إلا أن غالبهم، يفضلون على هذه الامتيازات لقب الشيخ والعمامة البيضاء. ويسمى من قام بفريضة الحج (الحاج). على أن هناك جملة حجاج، مثل الأشراف، يفضلون لقب الشيخ. ويطلق على العقائل بوجه عام لقب (الست)
وقبل أن أصف عادات رب العائلة يجب أن أشير إلى الطبقات المختلفة التي تتكون منها العائلة: (الحريم)، أي نساء المنزل، ولهم غرف خاصة بهن يطلق عليها، كما يطلق على النساء، الحريم ولا يسمح للرجال بدخولها ما عدا رب العائلة وبعض الأقارب الأدنين والأطفال. ويتألف الحريم من زوجة أو أكثر، ثم من الجواري. والبيض من الجواري والحبشيات أو نساء الجلا يقتنين على العموم للتسرى، وأما السود منهن فيتخذن للخدمة، وأخيراً الخادمات الحرائر. أما التابعون الذكور فهم عبيد سود أو بيض، ثم خدم أحرار وهم(439/34)
الأكثرية. وقلما يبيح المصريون لأنفسهم ما أباح الدين من تعدد الزوجات. ولا يزال عدد من يعاشر أكثر من امرأة بالزواج أو التسري قليلاً حتى أن أغلب الذين يكتفون بزوجة واحدة لا يتسرون ليتمتعوا بالهدوء المنزلي، إذا لم يكن لسبب آخر. ولكن بعضهم يفضل اقتناء جارية حبشية للتسري على القيام بالنفقات الزوجية المرهقة، ويجعل لخدمتها جارية سوداء أو خادمة مصرية.
ويندر أن يحتفظ الرجل بزوجتين أو أكثر في المنزل نفسه، وإلا خصص لكل منهن غرفة متميزة. ويقوم على خدمة رب الدار وضيوفه خادم أو أكثر، ومنهم خادم يسمى (سقا)، ولكنه على الأخص يقوم على خدمة السيدات وهن خارج المنزل فقط، ثم البواب وهو يجلس دائماً على باب المنزل، والسائس للاعتناء بالاصطبل. وقلما يمتلك المصريون مماليك إذ أن أغلبهم في حوزة أغنياء الترك. ويندر أيضاً أن يكون لأحد غير عظماء الأتراك أغاوات. ويفتخر أغنياء التجار المصريين عندما يسير في ركابهم، أو يحمل شبكهم، عبد أسود.
يبكر المصري في نومه وفي استيقاظه، وهو ينهض للصلاة قبل الفجر، وبينما يقوم بفروض الوضوء والصلاة تجهز له امرأته أو جاريته القهوة، وتحشو له شبكه تبغاً وتقدمهما له حين ينتهي من فروضه الدينية
وكثير من المصريين لا يتناولون شيئاً قبل الظهر غير القهوة وتدخين الشبك؛ وبعضهم يتناول أكلة خفيفة في ساعة مبكرة. ويتكون الفطور من الخبز والبيض والزبد والجبن والقشدة أو لبن الزبادي. . . الخ أو فطيرة تؤكل وحدها أو بالعسل يصب فوقها أو بالسكر. ومن الألوان المألوفة في الفطور الفول المدمس، وهو يدمس بإنضاجه على مهل ليلة بطولها في إناء من الفخار يدفن إلى رقبته في نار الفرن أو الحمام بعد أن تسد فوهته سداً محكماً. ويؤكل الفول بزيت بذر الكتان أو بالزبد، وقد يعصر عليه قليل من الليمون. ويباع هذا الفول في أسواق القاهرة وغيرها من المدن. ويتكون طعام الفقراء من الخبز (والدقة) وهي خليط من الملح والفلفل مع الزعتر أو النعناع أو الكمون وأحد المواد الآتية أو أكثرها أو جميعها: وهي الكزبرة والدارصيني والسمسم والحمص. ويصنع الخبز مستديراً مسطحاً، بطول الشبر تقريباً وفي عرض الأصبع أو أقل(439/35)
ويتمتع بالتدخين والقهوة كل من يستطيع لنفسه هذا الترف، في الصباح المبكر وأحياناً أثناء النهار. وهناك كثيرون يندر أبداً أن تراهم بدون شبك، إما بين أيديهم وإما مع الخادم. ويجعل المدخن، لاستعماله اليومي، دخانه في كيس من الصوف أو الحرير أو المخمل، يضعه في عب قفطانه، وكثيراً ما يكون معه كيس آخر به الزناد والصوفان.
ويبلغ طول قصبة التدخين (وأسماؤها عديدة منها الشبك والعود الخ) أربعة أقدام أو خمسة، أقصر من ذلك والبعض الآخر أطول بكثير. وما يستعمل عادة في مصر يصنع من خشب (الجرمَشق) وأكثر طول القصبة، من الفم إلى ثلاثة أرباعها، يغطى بالحرير الذي تحد طرفيه سلوك ذهبية محبوكة بالحرير الملون أو تحدهما ماسورتان من الفضة المذهبة؛ ويتدلى من الغطاء الحريري في الحد اسفل شرابة حريرية، وكان هذا الغطاء مخصصاً بادئ الأمر ليبلل بالماء فيبرد بالتبخر الشبك وبالتالي الدخان. ولكن الشبك لا يغطى إلا إذا كان عتيقاً أو قبيح الشكل. وكثيراً ما يستعمل أيضاً الشبك المصنوع من خشب الكرز خصوصاً في الشتاء وهو لا يغطى أبداً. ولا يبرد الدخان في شبك الكرز صيفاً مثل ما يبرد في الشبك السابق ذكره. أما (الحجر) فهو من الآجر؛ وأما الفم أو (التركيبة) فيتكون من قطعتين أو أكثر من الكهرمان الفاتح اللون، يصل ما بينهما زخارف من الذهب المرصع بالمينا والحجر اليمان واليشب والعقيق أو غير ذلك من الأحجار الكريمة أو المعادن النفسية. والفم أثمن ما في الشبك، وقد يرصع بالماس. ويبلغ ثمن الشبك الأكثر شيوعاً بين الطبقة الوسطى من جنيه إلى ثلاثة جنيهات إسترليني. ويوضع فوق الشبك أنبوبة من الخشب كثيراً ما تغير كلما تلوثت بزيت الدخان. والشبك ذاته يتطلب النظافة كثيراً، وينظف بألياف الكتان مشدودة في سلك طويل. ويعيش كثير من فقراء القاهرة على تنظيف الشبك
ويدخن أفراد الطبقة الراقية في مصر تبغاً له عطر لطيف لذيذ، يجلب أكثره من جوار اللاذقية في سوريا. وأحسن الأصناف (الدخان الجبلي) يزرع على تلال هذه المدينة. وهناك صنف قوي ينسب إلى مدينة صور، وهو الدخان الصوري، يخلط أحياناً بالصنف السابق ويستعمله أفراد الطبقة الوسطى. وعندما يدخن المصريون أو الشرقيون يسحبون نفساً طويلاً، فيصل كثير من الدخان إلى الرئة، ويعبرون عن التدخين عادة بشرب الدخان(439/36)
أو شرب التبغ. والقليل يبصق عندما يدخن. ولم أر أحداً فعل ذلك إلا نادراً جداً.
ويستعمل بعض المصريين الشبك الفارسي الذي يمر فيه الدخان خلال الماء، وهذا النوع يستعمله عادة أفراد الطبقة الراقية ويسمى (نارجيك) لأن الوعاء الذي يحوي الماء جوزة هندية (واسمها بالعربية نارجيلة) وهناك نوع آخر ذو وعاء زجاجي يسمى (شيشة) وكلا النوعين له أنبوبة طويلة لينة. انظر (شكل 33) وهناك نوع خاص من التبغ الفارسي يسمى (تنباك) يستعمل في شبك الماء. وهو يغسل أولاً عدة مرات ويجعل بعد ذلك حجر الشبك وهو رطب، ثم يوضع عليه جمرتان أو ثلاث من الفحم. وللتنباك عطر لطيف مقبول. ولكن شدة استنشاق الدخان في هذا النوع من التدخين يضر الرئة الضعيفة. ومدخن الشبك الفارسي يشد الدخان إلى رئتيه مثل ما يستنشق الهواء الخالص. وترجع كثرة أمراض الكبد في بلاد العرب إلى استعمال النرجيلة، كما أنه في مصر يتألم الكثيرون جد الألم بسبب هذا. وهناك نوع يسمى (جوزة) يشبه النرجيلة إلا أن أنبوبته عصا قصيرة بدلاً من أنبوبة النرجيلة القابلة للانثناء، ويستعمله رجال الطبقة السفلى لتدخين التنباك والحشيش.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(439/37)
ليالي النيل
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
يا ليالي النيلِ في ظلِّ الأماني الزُّهْرِ عودي
وأَعيدي الصفوَ والأنسَ لعينيَّ أعيدي
أنا ما زلتُ على عهدي فهلْ صُنتِ عُهودي
حيث غنتنا الضفافُ الحالماتُ ... أغنياتٍ ردَّد القلبُ صداها
شاعتْ الفرحةُ فيها والحياةُ ... وانتهى البشرُ إلينا وتناهَى
والهوى يَعمرُ رُوحيْنا بهاءَ وضِياءَ
والسنا يغمرُ قلبينا فُتوناً وصفاء
والمنى تملأُ دنيانا أماناً ورجاء
ذاك عهدٌ صنته بين ضلوعي ... أتُرى تذكر عهدي؟ أتُراها
أم تناستْ سحر أيامِ الربيع ... ناديات لألأ الكون نَدَها
وضفافُ النيلِ في ظلِّ الأماني البيضِ سكرى
حوّم الطيرُ حوالَيها وفاض الكون بشرا
ولنا الموج تغنى وبنا الزورقُ أسرى
نحو نورِ الخلدِ ترعاه المنى ... لحظات أنا والعمرُ فداها
ليت يا زورق لم ترجع بنا ... قِبْلةَ الشطآن يوما فنراها
ونذيرُ البين يسعى بين آمالي وبيني
وافترقنا للقاء ورجاء وتمنى
وأتى قلبيَ يسعى للتلاقي بيد أنّي
لم أجد في الشط ما يشفي غليلي ... أين أفراحي وكأسي وطِلاها
وليالي النيل في ظلٍ ظليلِ ... ليتها عادت لنحيا في سناها
طال شوقي وحنيني وهوى نفسي فعودي
وأعيدي الصفو والأنسَ لعينيَّ أعيدي
أنا ما زلت على عهدي فهل صنت عهودي؟(439/38)
(الإسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن(439/39)
فوزية
(هي فتاة وافاها القدر المحتوم يوم نجاحها في الامتحان)
للأستاذ محمد برهام
عَدَت المنون على الشباب الباكر ... فمحت بشاشات النجاح الباهر
نبني أمانينا العراض على غد ... وغد على راجيه أشأم طائر
ظهرت نتيجة الامتحان وأنت في ال ... نزع الأخير، ورهن موت قاهر
فوقفت أرقب والصحيفة في يدي ... فتك المنية بالملاك الطاهر
الرقم يوحي لي التسبم للمنى ... والداء يوحي لي بدمع زاخر
تلميذتي ما كنت غير غمامة ... برقت، وإلا لمحة في الخاطر
الحفلة الكبرى التي سنقيمها ... لنجاحك اندثرت كأمس الدابر
لبس الممات إليك ثوب مهنئ ... ودهاك ضنّاً بابتهاج الظافر
هلا تمهل بعد فوزك مدة ... وأتاك من بعد انفضاض السامر
كم حذروك إذا خرجت كأنما ... ضمنوا النجاة بقولهم لك حاذري
يا زهرة ما كاد ينشر طيبها ... حتى حرمنا من شذاها العاطر
نامي استريحي قد تعبت فلم يعد ... أحد يقول لك اسهري أو ذاكري
محمد برهام(439/40)
البريد الأدبي
هنأ وهناء
استقريت ما كتب في (الرسالة) في تحقيق هذه الكلمة فرأيت الأستاذ الجليل وحيد يعزو كلمة (هناء) بالمد إلى الصحاح للجوهري، وقد رجعت إلى نسخة مخطوطة من الصحاح عند صديقنا الأستاذ أحمد عبيد (صاحب المكتبة العربية في دمشق) لا نظير لها فيما أعلم، وهي مكتوبة سنة 850هـ كتبها محمد ابن يوسف الصلتي ومضبوطة بالشكل الكامل، ومنقولة من
نسخة بخط ياقوت الموصلي (أنظر ابن خلكان ومقدمة الهوريني للصحاح) وفي آخرها ما نصه (بلغ العرض بنسخة نقلت من نسخة علي بن عبد الرحيم بن الحسن لسلمي الرقي المعروف بابن العصاد (أنظر ترجمته في بغية الوعاة) وذكر أنه عارض بها عدة نسخ منقولة من خط أبي سهل الهروي النحوي (أنظر البغية) الذي نقله من خط المصنف وذكر أن عليها ما هذه صورته: عارضت هذا الجزء والذي قبله من كتاب الصحاح بالأصل المنقول عنه الذي بخط أبي سهل الهروي الذي نقله من خط المصنف واجتهدت في تصحيحه واستدركت ما وقع فيه من السهو والتحريف عما عليه أكثر أهل اللغة. وكتب يحي بن علي الخطيب التبريزي (قال ياقوت) وهذه النسخة المعارض بها هذه النسخة فيها أيضاً شكوك كثيرة وكلام كأنه غير عن باقي النسخ وقد ذكرت أكثر ذلك في حواشي هذه النسخة الخ. . .
والذي وجدته في هذه النسخة (هَنْأ وهِنْأ) بالفتح والكسر في غير مد، ومن ذلك يظهر أن الذي في النسخة المطبوعة تطبيع فليصحح.
علي الطنطاوي
غبر لا عبر
تتبعت ما كتبه الأستاذ الكبير (أ. ع) من أبحاث لغوية قيمة حول كلمات شائعات على أقلام كتاب هذا العصر ومنهن كلمة (عَبر)، وتتبعت كذلك احتجاج الأستاذ رضوان لهذه الكلمة واستشهاده ببيت سواد بن قارب.(439/41)
فشمرتُ عن ذيلي الإزار وأرقلت ... بي الدعلب الوجناء (عَبْر) السباسب
ثم ما نشأ أخيراً من محاجات حول إعرابها، ولا يسع المتتبع لهذا لبحث إلا أن ينكر هذه الصناعة النحوية التي تأباها طبيعة هذه الكلمة؛ وإلا أن يبحث عن رواية أخرى تساوق ذوق اللغة العربية. وأقول إني عثرتُ على هذه الرواية في بعض المراجع؛ ففي تفسير ابن كثير في الجزء السابع ص486 رُوي هذا البيت لسواد بن قارب في قصيدة جاءت نهاية لقصة تتعلق بإسلامه، ونحن لا يعنينا صحة هذه القصة وإنما تعنينا صحة هذا اللفظ الذي ورد في البيت هكذا:
فشمَّرتُ عن ساقي الإزار، ووسَّطتْ ... بي الدّعلبُ الوجناءُ (غُبْر) السباسب
ولا أستبعدُ أن تكون رواية (عَبْر) مُصحفة عن هذه الرواية (غبر) وقد قال صاحب لسان العرب في مادة (غبَر) بعد كلام كثير في تأويل حديث أبي هريرة (بيننا رجل في مفازة غَبراء) إن الغبراء هنا هي الأرض التي لا يهتدي للخروج منها؛ ولا شك أن (غُبر) جمع غبراء
وإذا كانت القصة التي وردت فيها القصيدة قد وضعت سواد ابن قارب هذا في الهند وكلفته أن يُسرع إلى مكة، أدركنا أي سباسب غبرٍ أوجبت عليه اجتيازها
وبعد فأرجو أن تكون هذه الرواية قد حلت ما بين الأستاذين من ألغاز النحو وأحاجيه
(دار العلوم)
محي الدين صابر محمدين
التشريع المحكم والدستور الخالد
كنت كلما طالعتنا الرسالة الزهراء بشمائل وعادات المصريين المحدثين (في النصف الأول من القرن التاسع عشر) أميل روحاً وحساً ومعنى لأعرف من عادات قومي ما أرخه مستشرق أجنبي ونقله إلى أصحابه أستاذ مصري. . .
ولكني عندما ما أدركت الفصل الرابع - في الحكومة - وقرأت طرفاً منه شعرت أني انتقلت من واد غير ذي زرع إلى رياض ذوات أفنان متمشياً مع المؤلف (أو المترجم) بقلب صادق وحس مرهف كأن فيه ضالة منشودة. حتى إذا ما فرغت سرحت بأماني(439/42)
وآمالي. . .
إنه قرن مضى. . . كان فيه مجلس العلماء يثير الرهبة والاحترام في نفوس الحكام الترك والمماليك ويحد من طغيانهم ثم فقدت - الآن - هذه الهيئة نفوذها على الحكام إلا قليلاً
هذا - وايم الله يا أقطاب الأزهر المعمور - كلام المستشرق (أدوارد وليم لين) وليس كلامي ولا كلام أي مصري واسألوا في ذلك الأستاذ عدلي طاهر نور. . .
وايم الحق إنه ليقطع أنياط القلوب أن نفرح بمادة الدستور التي تنص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ثم نغضي عن تنفيذ شرائعه وأحكامه حتى فقدت هيئتنا العلمية كلمتها المستمدة من نور الله ووحي الرسول (ص) إلا ما تقوم به من وعظ
إن مدنيتنا ليست في غير الرجوع إلى الوراء. فهل آن لنا أن نستبدل الوضعية بالسماوية، والغرض الأسفل بالطموح الأعلى، وعرض الدنيا بباقي الآخرة حتى تكون لنا سابق رهبتنا
على أني لا ألبث أن أرى سحابة منقشعة أمام شمس الأمل الضاحية حين أذكر أن في بلدنا مصلحين ومجاهدين يتكلمون ويعملون بقلوب مؤمنة وصدور تشع منها أقباس قدسية تبشر بمستقبل سعيد.
هذا هو الأستاذ الجليل الزيات يسلط - حتى على مجلته - إشعاعه الروحي الكريم، فيفرد منها عدداً للهجرة، ثم يقول قالته الكريمة: (ذلك محمد يا زعماء اليوم وهؤلاء أنتم، فهل تحسون بينكم وبينه صلة، أو تجدون بين سياستكم وسياسته مشابهة؟)
وهذا هو الإيمان يتفجر من قلب كبير، فينطلق فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر - وهو علم الدين المرفوع في أيامنا هذى - ويقرر أمام مولانا الملك المفدى ووزرائه أن القرآن تشريع محكم ودستور خالد، وأنه لا سعادة بدونه غير ما له من مأثور القول وسديد الجهاد، كلأه الله بالنصر القريب!
وهذه هي (الرسالة) الزهراء تقول بلسان أحد كتابها الأفاضل: (فلنتبع المنهج الذي ألف به الإسلام بين المسلمين، ولنطبق سياسته الحكيمة الرشيدة من جديد، فسترون المعجزة تتجدد، والرجاء يتحقق، والحياة تبسم لنا، والمجد يصافحنا، بعد عبوسها وجفائه)
وهذه هي (رابطة الإصلاح الاجتماعي) برياسة الدكتور هيكل باشا تقر في أول قراراتها أن (القرآن) تشريع سعد العالمين. . . الخ، ثم تطالب بالعمل به.(439/43)
وفي إمامنا الأكبر والمعبرين عن شعورنا باكورة جهاد يتوالى بعدها الثمر داني القطوف، فنسعد حكومة وشعباً. . .
ولي إلى هذا الموضوع عودة، إن تفضلت (الرسالة) الغراء فسمحت. . . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(المحلة الكبرى)
حلمي إبراهيم النبوي
في ميزان الشعر
يقول الدكتور إبراهيم ناجي في قصيدته (بين الشاعر والريح) في عدد مضى من الرسالة:
هي في الغيب لقلبي خُلقتْ ... أشرقت من قبل أن تشرق شمسي
فعلى تَذكارها أطبقتُ عيني ... وعلى موعدها وَّسدت رأسي
وفي البيت الثاني خطأ عروضي خشيت أن يكرره الشاعر في قصائد أخر، فيكدر ذلك من صفاء شعره. إذ البيت من بحر (الرمل) وعروض هذا البحر لا تكون إلا:
1 - محذوفة وأضربها ثلاثة: محذوف، صحيح، مقصور.
2 - مجزوءة صحيحة وأضربها ثلاثة أيضاً: مجزوء، صحيح، مجزوء مسبغ، مجزوء محذوف. فهذه أوزان ستة للرمل. . . وظاهر أن البيت من الوزن الثاني - محذوف العروض صحيح الضرب - ولكن الشاعر صح العروض هنا (. . بقتُ عيني: فاعلاتن) لأن الواجب أن يحذفها فتكون (فاعلاً أو فاعلنْ) لأن تصحيح العروض لا يجوز في هذا البحر إلا يقع (التصريع)؛ وذلك إنما يكون في أول القصيدة.
أرجو أن تتفضلو بالإشارة إلى هذا، ولكم مني جزيل الشكر.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
إلى الأستاذ علي عبد الله
إني معجب بكل ما كتبته حول مشكلة التعليم الإلزامي، وبدفاعك عنه دفاع الجندي في(439/44)
ساحة القتال.
أستاذي. أعرض عليك رأياً في التعليم الإلزامي خامرني من مدة طويلة راجياً تمحيصه على صفحات مجلة الرسالة الغراء أجمعت وزارة المعارف على أن نظام نصف اليوم من أسباب فشل التعليم الإلزامي وتبعها في ذلك كثير من الكتاب. وعندي اقتراح يكفل تحويل جميع المدارس إلى نظام اليوم الكامل بدون زيادة في الميزانية:
أولاً - يكون التعليم إلزامياً للبنين والبنات في جميع مدارس المحافظات وعواصم المديريات وبنادر المراكز.
ثانياً - يكون التعليم إلزامياً للبنين فقط في جميع مدارس القرى والفصول والمدرسون الموجودون في كل مدرسة كافون لتعليم البنين يوماً كاملاً.
ثالثاً - تقوم مجالس المديريات بترتيب القرى الواقعة في اختصاصها ترتيباً تنازلياً على حسب أهمية كل قرية من حيث عدد سكانها وقابلية أهلها في التعليم. وكلما وجد المال اللازم يبدأ بتنفيذ الإلزام على البنات وفق الترتيب المتقدم.
ومني لأستاذي كل تحية واحترام.
سليم الحجيري
مدرس إلزامي
تصويب
جاء في مقالي (عدد 438 من الرسالة) ما يأتي:
في ص 1432: والصواب:
وفيها: كما فرغت مصانعنا، والصواب: كلما فرغت مصانعنا وفي ص 1433 (في الهامش): من المصادر المعروفة، والصواب: من المصادر المعرفة.
وفيها: في المصدر قد يقع في موضع اسم الفاعل، والصواب: في أن المصدر. . . الخ
(أ. ع)(439/45)
القصصُ
الصاحب والآلهة
لتشارلس جارفس
بقلم الأديب كمال رستم
وقف جاك كارلتون في ناحية من (الهملايا) يرقب رجاله وهم يقومون بتغطية السفح بالأكواخ الخشبية، فما عتم أن أحس بشعور الرضى تزخر به نفسه.
نزح جاك إلى تلك الأصقاع وفي رأسه مشروع كبير هو قطع الأدواح الباسقة القائمة في تلك الأجمة المترامية الأطراف وسط تلال الهملايا، وتصدير الآلاف منها إلى الخط الحديدي الممتد على ثلاثة الآف قدم من السهول الجنوبية.
وعلى مسافة قصيرة أسفل التل وقف رئيس عماله (رينجت سينج) وعيناه أبداً شاخصتان إلى سيده، وذراعه دوماً على أهبة الاستعداد لأن ترفع في أي وقت إشارة لآلاف الرجل الذين لا تكاد عيونهم تقع على شيء غيره، وكان لهذا الرجل تأثير غريب على أهل هذه البقعة بلا أستثناء!
وهو وإن بدت عليه آثار السن العالية كان رائيه يستملي فيه وداعة الطفل، ويستجلي منه قوة خارقة للمألوف؛ فيه شجاعة مدمرة لا تعرف الونى أو الفتور، ثم هو بعد أملس البشرة عدا شارب أبيض يحكي الجليد. وكان وقتذاك يرتدي ثياباً وطنية من صوف الماعز، وينتعل خفين من الشعر. ورنجت سينج هذا تجري في عروقه قطرات من الدم الملكي، فهو سليل جنس (الراجا) العريق في القدم الذي ينحدر رأساً من سلالات آلهة عاشوا على مدى الأجيال وسط صقيع (جانجوتريا) أرومة (الجانجوتريين) العظام، وكان طبعه وجملة مشاعره، تغلب عليها الروح الأوربية، وإن كان من العسير إن لم يكن من المستحيل على الفهم قبول ذلك. أما روحه فكانت تفيض بشاعرية مرهفة، وأما قانونه فكان الانتقام، وهو متأثر في كل من طبعه وقانونه بهؤلاء الرجال الذين نصبوا أنفسهم لنشر عقائد (البوذية) و (الشاستية)! أما في روحه فقد كان يجنح إلى الذين وجدوا في طفولة العالم
وإن قلبه لينبض بحب اثنين في هذا العالم المملول: حفيده الطفل (سيكوندار)، وسيده(439/46)
(الصاحب) كارلتون.
ولعل الجو في السهول السفلي لم يكن نقياً، حتى لقد غدا الغلام سقيما مدنفاً، فأذن كارلتون لجده أن يصعد به إلى التلال. . .
وكان (سيكوندار) جميلاً فاتن الجمال، ذا عينين نجلاوين تحكيان عيني غزال؛ وهو وإن فاض عليه الجمال الهندي الآسر فقد التمع في عينيه كذلك بريق الحدة التي لا تقف بصاحبها الهندي عند حد. . . وتعلق الطفل بكارلتون، فغدا لا يفارقه أينما ذهب. وكان جاك قد أعطاه دواء أفاده فائدة ملموحة، فعاده جماله العازب ومرحه الذي زايله حيناً. . . وكان كارلتون يجلس إليه ويصغي إلى أحلامه وأوهامه وأقاصيصه عن مواطينه القدماء وخرافاته عن الأحراج والأدغال. . . هذا وكارلتون لا يفتأ يفكر في فتاته (إيثيل). . . ولم يجحد رانجت الجميل الذي أسداه إليه (الصاحب) فأحبه وقدره. . .
وفي هذه اللحظة التي بدا فيها حظ كارلتون معلقاً في كف القدر، كانت عينا سيكوندار اللامعتان مثبتتين في كارلتون. . .
وقد التمع فيهما بريق القلق. . . هذا وكارلتون منتصب القامة، مستيقظ الحواس. . .!
وأخيراً، أصدر أمره، فهوت دوحة وانحدرت إلى أسفل المنحدر. . . ومن ثم إلى البحيرة على مسافة ثلاثة آلاف قدم. . .
وتبعتها ثانية ثم ثالثة. . . وأخذت الأمور تجري مجرى حسناً، فلمع بريق الرضا في عينيه، ولكن لفظ (الرضى) لا يؤدي مفهوم السعادة. . . كان (جاك) قد تأله في قلبه حب (إيثيل رين) وهي ابنة (ماجور) قتل في غارة من تلك الغارات التي يشنها رجال العصابات من حين لآخر. . . وكانت (إيثيل) في زيارة بعض أقربائها حين رآها (جاك) لأول مرة، فاستشعر في قلبه حباً لها. . . ولكن، من هو؟. . . ضابط غابة لا أكثر ولا أقل!. . . وإن حبه الصادق ليتخطى تلك الاعتبارات. . . ما لم تكن إجازته قد ألغيت فجأة، واضطر إلى الرحيل قبل أن يكشف لفتاته عن ذات قلبه. . .
وبعد شهر من رحيله تواترت الأخبار تحمل إليه نبأ زواج فتاته من (هيرسن) مقاول أعمال الخطوط الحديدية الشهير، وهو عصامي جمع من عمله ثروة طائلة، فأصبح بعد قادراً على أن يفرض حبه وقتما وحيثما شاء.(439/47)
ولم تكن (إيثيل) على علاقة طيبة بذويها، ولعلهم أرغموها على قبول هذه الزيجة. . .
عاد (جاك) إلى كوخه وخلع ثيابه، ثم أشعل غليونه وراح يفكر في فتاته. . . وهو وإن كان قد أقسم ألا يفكر فيها، فقد تداعت أفكاره بالرغم عنه، وتراءت له (إيثيل) في تلك الآونة في جمالها الآسر، وشعرها الأسود، وأهدابها الوُطف، وشفتيها الصارختين. . . تراءت له كما رآها آخر مرة حين قال لها: (إلى اللقاء). وأفاق من تأملاته على صوت (سيكوندار) يقول: ضيوف يا (صاحب)!. . .
فنهض من فراشه واتجه إلى باب الخيمة، فأبصر جماعة صغيرة تتخذ طريقها إلى التل، واستطاع أن يتبين من بين أفرادها رجلاً وامرأة من البيض
- أعد الشاي يا سيكوندار. . . قال ذلك وأسرع للقائها فقابلها عند منعطف الممر، فما عتم أن أخذ وأسقط في يده!
لم تكن المرأة غير (إيثيل رين)، كل، بل (إيثيل هيرسن) لأن هذا الرجل القصير البدين ذا العينين العكرتين والشفتين الغليظتين لابد أن يكون زوجها. . . وامتقع وجه (إيثيل) وتقلصت شفتاها، وأخذ كل منهما يحدق في وج صاحبه إلى أن بددت (إيثيل) ذلك الصمت هوم على المكان بقولها:
- أهذا السيد (كارلتون). إذن فأنت ضابط الغابة هنا؟
فأجابها بهدوء:
- نعم. . .
قالت:
- هذا زوجي ألح عليه المرض وأضناه، جاء إلى هنا يلتمس الشفاء بين التلال. . .
قال (هيرسن):
- لا أظن أن الجو هنا أشد برودة من جو الوادي. أيبعد معسكرك كثيراً من هنا؟ فأجابه جاك محاولاً أن يظهر سروره لرؤيته:
- كلا. لا يبعد كثيراً، ويعد من تحصيل الحاصل أن أذكر لكما أني مضيفكما على الرحب والسعة، وأننا لن نذخر وسعاً لأن نجعل زورتكما لطيفة بهيجة. والجو هنا صحو عليل آمل أن يفيد السيد، وكذا آمل أن يفيد السيدة، وأضاف الجملة الأخيرة إذ استملى من بشرتها(439/48)
لمحة عابرة فإذا بها قد زايلتها حمرتها واستولت عليها بدلاً منها صفرة واهنة. وتبدت له جميلة يروعها الحزن فتفتن
أضافهما جاك في خيمته وقدم لشاي لإيثيل. أما هيرسن فقد تجرع سائلاً من زجاجة كانت معه. وقام جاك بدور المضيف على أحسن وجه، ووقف بنفسه على حقيقة مرض السيد هيرسن، فهو وإن لم يكن قد رأى الرجل قبل الآن فقد تواترت إليه الروايات الكثيرة عنه. وجاك خبير بقراءة الوجوه ودلالاتها؛ فالخطوط السود التي يقتم بها ما حول المآقي، والصوت الأجش الجاف، والنظرات المتكسرة الحزينة، إذا لم يكن كل أولئك من صنع الخمر، فقد يكون مظهر السيد هيرسون قد غبنه غبناً صارخاً
وفي اليوم التالي أمر جاك بإعداد (خيمة) ليقيم فيها ضيفاه وخدمهما؛ ولكن هيرسن طلب أن تضرب الخيمة في وسط أجمة كان في نهايتها معبد، فهي بذلك في نظر الأهلين أجمة مقدسة. فاضطر جاك أن يرفض الطلب، وعرض عليه أن يضرب خيمته في مكان آخر؛ ولكن هيرسن أصر على مكان يقع مباشرة تحت الأدواح الظليلة حتى يتفيأ ظلالها. وبذلك يكون قد شاء أحد مكانين. يقع أحدهما في خياله، ويقع الثاني في الأجمة المقدسة. وأخيراً رأى جاك فضاً للنزاع أن تضرب الخيمة بجانب لفيف من الأشجار
وغفا جاك في هذه الليلة إغفاءة بسيطة كالليلة السابقة وعمل بحق على مقاومة حبه القديم لعقيلة هيرسن، حتى خيل إليه أنه نجح في ذلك وقابلها وحدها في الصباح، وسألها عن هيرسن فأخبرته بأنه مريض، وعزت مرضه إلى وعثاء السفر، ولكن جاك لم يكن في حاجة إلى معرفة مرض زوجها بعد إذ رأى بعيني رأسه بالأمس صناديق (الويسكي) يحملها العبيد إلى خيمة هيرسن.
لم يدخر جاك وسعاً في إسعاد ضيفيه، فكان يصحبهما إلى النزهات الجميلة. على أن هيرسن لم يكن يجد لذة في مثل هذه الجولات، وكانت زجاجة الويسكي هي الشيء الوحيد الذي يبعث الضوء إلى عينيه الذابلتين، أما إيثيل فإنها لم تمل مطلقاً مشاهدة انحدار التل السريع إلى البحيرة الراقدة عند قدميه، ولم تضجر.
من محادثة الرجال، وسماع صوت الأشجار تهوى من شاهق، وأصوات العبيد تسري من فوق يرجع الفضاء دويها، ثم تأخذ في الضعف رويداً رويداً حتى تصلها رفيقة خافتة.(439/49)
وأخذت الطبيعة تحسر لها في كل يوم عن أسرار جديدة في الآجام وفوق التلال، وفي البحيرة السريعة الجريان. وكان جاك يصحبها في أكثر هذه النزهات، ويسير معها جنباً إلى جنب، إلا أن أحدهما لم يكن يذكر الماضي بكلمة واحدة. فكان جاك يحدثها عن مشاهداته في الهملايا، وكانت هي بدورها ترثي لحال زوجها وتأوى عليه. ولقد اعتاد أن يجلسا على أحد التلال الرئيسية تجري من تحتها الأنهار الجليدية على ارتفاع خمسة وعشرين ألف قدم. وكانت قمة التل شديدة البرودة، بينما كان النهر الذي يجري في أسفل حاراً شديد الحرارة! على أن الحرارة في وسط المنحدر كانت معتدلة! وكانت سهول الهند وكل مدنيات أوربا تبعد عن هنا كثيراً، فأقرب محطة إلى هذا المكان تقع على بعد مائتين وخمسين ميلاً، منها مائة ميل في مسالك جبلية وعرة، تكاد لا تسمح لحيوان أن يسير على طول حافة هاوية. . . وكان كارلتون الحاكم المطلق على هذه الغابات جمعاء. وكان عمله ينحصر في قطع أشجار (الدردار) ولم يكن يعكر عليه صفو حياته إلا صورة إيثيل تتراءى له بين الفينة والفينة؛ ولكن هاهي ذي إيثيل إلى جانبه، وهما ينصتان معاً إلى طائر (الكورلا) الأخضر يرجع تلك الكلمة الحبيبة: (أحبك) وهي الكلمة التي لم يفه بها لفتاته، والتي لا يستطيع الآن أن يفوه بها!
وكان سكوندار الطفل يصحبهما دائماً في نزهاتهما، وقد أحب إيثيل حباً جماً هي أيضاً، فكانت تسمح له بأن يجلس عند قدميها عندما تكون راقدة في فراشها، وتنصت إلى أقاصيصه التي لا تكاد تنتهي عن شجاعة الصاحب كارلتون!. . .
أما هيرسون فكان يبغض الطفل بغضاً شديداً
وفي ذات يوم صحب جاك إيثيل وزوجها ليريهما قرية مهجورة حلت عليها لعنة الآلهة، لأن رئيس قبيلتها جرؤ على قطع شجرة من أشجار الدردار المقدسة. . . وكان الموت عقاب هذه الجريمة؛ فمات رئيس القرية وفر الأهلون تاركين وراءهم القرية قاعاً صفصفاً!. . . وما إن سمع هيرسن هذا القول حتى أغرب في الضحك ثم قال:
- حقاً إن هؤلاء العبيد لتملأ الخرافات رؤوسهم، وإني لأريد أن أنزع عنهم بعضها. . . وكان ثملاً يلمع في عينيه الذابلتين بريق الدهاء والمكر.
ومرت الأيام في أمن وسلام، حتى كان ذلك اليوم المشؤوم الذي مر فيه جاك هو ورنجت(439/50)
بخيمة هيرسن، فإذا بصيحة يتمثل فيها الرعب والضراعة تطرق آذانهما. وما لبث بعدها أن اندفع سيكوندار من الخيمة يتبعه هيرسن ثائراً صاخباً ممسكاً بهرواته. وكاد الطفل يفر من الرجل الثمل لولا أن اشتبكت سترته بصندوق فارغ من الويسكي، فلحق به هيرسن وضربه ضربة قوية جرى بعدها الطفل وهو يتلوى من الألم
فصاح جاك غاضباً: ما هذه القسوة يا هيرسن؟
وخرجت إيثيل في هذه الآونة واجفة القلب واكفة الدمع، وقادت هيرسن إلى داخل الكوخ في صمت وسكون
هذا، ورينجت سينج ساكن هادئ لا تنفرج شفتاه على كلمة، وإنما تآلفت قسماته على الإفصاح عما استسر في نفسه، وكاد الغضب يتطاير من عينيه ناراً. . . واعتذر جاك عن هيرسن، ولكن رنجت سينج ظل على صمته، ومضى تاركاً سيكوندار لجاك. . .
وفي الأصيل قابل جاك إيثيل وسارا معاً في الأجمة المؤدية إلى معبد الدردار في ذلك المكان المقدس. فقالت له بصوت هدجه الألم:
- لقد كنا عبئاً ثقيلاً عليك إلى وقت طويل يا جاك. . . إنما يجب ألا نقضي ليلة واحدة بعد هذه. . . نعم يجب أن نرحل ولكن جاك رجاها أن تمكث أسبوعاً، فقبلت بعد إلحاح. . . وما لبث أن أقبل هيرسن عليها وقد عاد إليه شعوره وقال:
- آسف، فقد كنت فاقداً لصوابي يا كارلتون. . .
وحانت منه التفاتة إلى الأجمة فقال:
- إني لتعتلج في نفسي رغبة ملحة في أن أقطع بعض هذه الأشجار!
قال جاك:
- إقطع ما شئت من شجيرات التل، ولكن لا تمس أشجار هذه الأجمة بسوء.
فتساءل هيرسن بحزن:
- ولم لا تكون واحدة من هذه؟
فأجابه جاك قائلاً:
- لأن أشجار هذه الأجمة مقدسة يا هيرسن. أنسيت سريعاً قصة القرية المهجورة؟. . .
فأغرب هيرسن في الضحك وقال:(439/51)
- إنك خيالي يا كارلتون كهؤلاء العبيد. فما الذي يحدث لو أنني قطعت إحدى هذه الأشجار المقدسة؟
فأجابه جاك:
- يحدث أولاً أن يغادرني كل رجل في هذا المكان. . .
قال هيرسن هازئاً:
- وثانياً؟. . .
أجابه جاك بهدوء:
- وثانياً هم يعتقدون أن الرجل الذي يجرؤ على مس إحدى هذه الأشجار المقدسة تحل لعنة الآلهة وتنقضي حياته بانقضاء حياة الشجرة.
فجرت على شفتيه بسمة ماكرة ثم قال:
- الحق أني أبغض أجمتكم العابسة هذه، وتركهما ومضى
كان جاك يتناول عشاءه حين طرق سمعه أصوات لا يمكن أن يخطئ في معرفتها. . . أصوات صاخبة ثائرة تنذر بشر مستطير آتية من الغابة. فنهض جاك واقفاً وأسرع إلى الخارج؛ فما عتم أن رأى الشعب الهائج الثائر في طريقه إلى الأجمة فتبعه، فإذا الأجمة وقد زخرت بالجموع الحاشدة التي راحت تتفرق جماعات هنا وهناك. وفي إحدى هذه الجماعات أخذ القوم يضربون على صدورهم، ويذرون الرمل فوق رؤوسهم بينما تعالت أصواتهم إلى عنان السماء مهددة منذرة.
شق جاك طريقه وسط هذا الجمع الحاشد الذي أخذ يحدق في شيء مسجى على الأرض، وما لبث أن انجلى الموقف بوضوح! هناك على الأرض كانت ترقد شجرة من أشجار الدردار المقدسة هوت بها يد ملعونة، وإلى جانبها جلس رينجت سينج يكاد يتميز من الغضب. وللمرة الأولى لم يحي (رينجت سينج) الصاحب. فربت جاك على كتفه قائلاً: مر هؤلاء الرجال أن يعودوا من حيث أتوا يا رينجت سينج. فنهض الرجل واقفاً، وحيا كارلتون ثم رفع عقيرته آمراً القوم أن ينصرفوا. . . وغادر الرجال الأجمة ورؤوسهم مطرقة إلى الأرض، وأيديهم لا تفتأ تضرب صدورهم! حتى غابت أصواتهم في الفضاء
عاد جاك إلى خيمته، وأخذ يقلب الأمر على جميع وجوهه. وأخيراً اقتنع بوجوب رحيل(439/52)
هيرسن في الحال، لأن كل ساعة يمكثها يعرض نفسه فيها لخطر ماحق. . . وتهالك على فراشه، ولكن الكرى نفر عنه فظل أرقاً مسهداً، وإنه لكذلك إذا بصوت من الخارج يقول: يا صاحب! يا صاحب!
فنهض من فراشه، ورأى أمامه إيثيل وسيكوندار
- أتريدني؟ قالت إيثيل ذلك، وقد امتنع وجهها وتقلصت شفتاها، والتمع في عينيها بريق مزيج من الحزن والرعب
- كلا. . . ولكن سيكوندار أشار إليه محذراً فاستدرك قائلاً:
- كلا لم أبعث في طلبك. قال سيكوندار:
- لقد غدا الصاحب مجنوناً، وأمسك بفأس يهدد بها من يقف في طريقه. قال جاك:
- أدخلا وسأذهب بنفسي لأراه
فتعلقت إيثيل بذراعه قائلة:
- كن حذراً يا جاك، فإنه كما وصف الطفل. فقال:
- خلي عنك مخاوفك
ومضى في طريقه صوب خيمة هيرسن، وما كاد يقترب منها حتى طرق سمعه صوت رهيب، كما لو كان ثقل هائل قد هوى من شاهق، وما نشب أن رأى مجموعة الأدواح التي كانت تظلل الخيمة تهوى بأجمعها عليها فتدركها دكاً. وصاح جاك مستنجداً، فخف إليه جمع حاشد يتقدمه رينجت سينج وقد جرت على شفتيه بسمة الفوز والغلب. فصاح فيهم جاك:
- أسرعوا، وانظروا ما إذا كان الرجل هناك. وقد كان هناك، ولكنه لم يعد له ثمة مظهر من مظاهر الناس فقد سحقته مجموعة الأشجار سحقاً ورفع ريجنت سينج يديه إلى السماء وقال:
- الصاحب والآلهة! وأسرع جاك إلى مجموعة الأشجار ولكنه لم يجد أملاً في إنقاذ الرجل. أما كيف وقع هذا الحادث، فهذا ما ظل جاك يتساءل عنه إلى أن كل لسانه السؤال، فلم يكن ثمة إلا جواب واحد. . . (الصاحب والآلهة!)
(المنصورة)
كمال رستم(439/53)
العدد 440 - بتاريخ: 08 - 12 - 1941(/)
بعض الكلام في (مي)
بمناسبة الأربعين
وُلدت (ميّ) ثم ماتت كما يولد النهر من قَطْر السماء، فتربيه الطبيعة الهادئة الفسيحة، ثم تبعثه برسالة الحياة إلى حوضه، فيشق بالجهد والصبر طريقة الموحش في صخور الجبل وقفار الأرض وأصول الغاب؛ ثم يُلقي على شاطئ الوادي ما حمل من فضل الله، فيحيا المَوات، وتتجمع الخيرات، وتنشأ الحضارات، وتتألف الملاحم، ويتكلم التاريخ؛ ثم يأخذ النهر مجراه بين
الحقول الناضرة والمدن العامرة شادياً بالمال والجمال والحب حتى يذهب في عباب البحر كما تذهب الروح الطيبة في قضاء اللانهاية!
لن تجد (لميّ) في حياتها وموتها أقرب من هذا التشبيه. فقد كانت من خلال ما غشى الشرق
من الهمود والظلام قبساً من الحياة من يمسَسْه وهيجه وساء انتعش ما همد منه، واستنار ما أظلم فيه
كانت (ميّ) في حياة القاهرة ظاهرة من الظواهر العجيبة! والعجب فيها أنها كانت كممدوح المتنبي واحدةً من ناس دنياها وليست منهم: كانت جنساً من الخلق الجميل تميز بخصائص الجنسين، فكان فيه أفضل ما في الرجل وخير ما في المرأة. فمن كان يسمعها خطيبة في محفل، أو يشهدها محدثة في منزل، كان يحسبها - وقد استدارت على رأسها الأنيق هالة من السحر والفتنة - (قليوبَ) إحدى بنات (جوبير) التسع، وإلهات الفنون التسعة، قد سرقت من أخواتها أسرار فنونهن ثم هبطت من فوق (البرناض) إلى ضفاف النيل تجدد في الناس آي المسيح تميت القنوط وتحي الأمل
ومن يستطيع أن يحسب (ميّ) غير هذا وهي فتاة قد نشأت في عهد كانت المرأة فيه شيئاً من المتاع، ترى ولا تعلم، وتسمع ولا تفهم؛ ثم تحذق هي الكتابة والشعر والفلسفة والتصوير والموسيقى، وتتقن العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية، وهي لم تولد في قصر، ولم تتخرج في جامعة؟!
أبصرتْ (ماري زيادة) الدنيا أول مرة في (الناصرة) بلد المسيح، ومن هنا استوحى أبواها(440/1)
اسمها الأول على ما أظن؛ ثم أرسلت إلى منبت أسرتها في قضاء كسروان بلبنان، فثقفت طفولتها قليلاً في (عين طورة)؛ ثم هاجرة إلى مصر مع والديها، فتفتح صباها الغض على ماء النيل، وتفتق ذهنها الصافي على نسيم الوادي. وكان والداها إلياس يحترف الصحافة ويصدر (المحروسة)؛ فكان لها من عمل أبيها، ومن أصالة الملكة فيها، حافز سديد
التوجيه إلى الأدب. ولكن أدبها على الرغم من نشوئه وبلوغه ونبوغه في القاهرة لم يتأثر
بأدب مصر، وإنما تأثر في شكله وموضوعه بأدب لبنان. ذلك لأن الأدب اللبناني كان وحده في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر مظهر الحياة والجدَّة والتنوع في الأدب العربي الحديث. فبينما كان الأدب المصري يصدر عن الأزهر، والأدب العراقي يصدر عن النجف، والأدب السوري يجري على أسلوب هذين الأدبين، كان الأدب اللبناني يصدر عن
مدارس تتسم بسمة الدين، ولكنها تعترف بوجود الدنيا؛ فهي تعلم العلوم الحديثة، وتلقن اللغات الحية، وتعتمد في أدب القلب على الإنجيل، وفي أدب اللسان على القرآن؛ فبيضت الكتب الصفراء، ورتبت المعاجم المشوشة، ونشرت الكتب المقهورة، ولقحت الآداب الأوربية، وكان من أثر هذا اللقاح النقد والترجمة والصحافة والتمثيل والقصص؛ وكان من ثمر هذا اللقاح طلائع هذه النهضة من آل اليازجي والبستاني والشرتوني وزيدان وصروف وشميل والريحاني وجبران ومطران؛ وكان لابد لمارى العربية أن تجنى ثمر الثقافة مما غرس الفرنسيسكان والأمريكان والمارون، وأن تقبس نور العروبة من الضياء والهلال والمقطف، وأن تناجى عنادلنا الغَرِدة في رياض مصر وخمائل لبنان ومنارة الدنيا الجديدة، وأن يحملها الاعتداد بجنسها ولغتها على أن نقتصر من أسمها الأعجمي على طرفيه ليكون منها اسمها العربي (مي). وعلى هذا النهج بلغت مي غايتها من الأدب والعلم والفن، فاستفاض ذكرها على الألسنة، وعظمت مكانتها في الأفئدة؛ ووصلت بينها وبين كثير من أولى الفكر والجاه أسباب من الروح، فكان صالونها في أيام الثلاثاوات كصالون الولادة بنت المستكفي منتجع الصفوة من أقطاب السياسة وأعيان الأدب، يعكفون على أصدق مثال للأناقة واللباقة والذوق في فتاة بارعة الظرف، تشارك في كل علم، وتفيض في كل حديث، وتختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة!(440/2)
لقد كان لي ولصالون مي في أدب العصر آثار وسمات: ألهمت صبري، وأوهمت الرافعي، وألهبت جبران؛ ثم أخرجت من سواد المداد صوراً مختلفة الألوان متنوعة الأفنان أضافت إلى ذخائر الفكر الإنساني ثروة.
ثم تقدم العصر وطوت (مي) أكثر مراحل الشباب، فتنكر الدهر وتغير الناس؛ وورد أبواها متعاقبين حياض المنون فاستكانت للحزن، وأخلدت إلى الوحدة، فانفض السامر الأنيس، وانطفأ السراج اللامع، وانحدرت (مي) في طريق الوحشة والمرض والنسيان إلى نهايتها الأليمة!
أما بعد فقد قال بشار لبعض جلسائه ذات يوم: ما سمعت شعر امرأة قط إلا أحسست فيه الضعف! فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ فقال في لهجة الفطِن المحترس: تلك فوق الرجال!
ونحن نقول في مي مقال بشار في الخنساء، ونزيد عليه أن مي هي الأدبية الكاملة في تاريخ الأدب العربي كله! أما إجمال هذا التفصيل فله مناسبة أخرى.
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(440/3)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
معرض الآراء الحديثة
للدكتور زكي مبارك
كلمة المترجم - كيف يقرأ الطالب هذا الكتاب - تنبؤات سياسية - غاية وطنية - ما هذا الكلام؟ - وما هاذ أيضاً؟ - التماسك في الأخلاق البريطانية - الغيرة على الريف - فكرة فلسفية - وثبة جديدة موضوعات الدرس - اختبار جديد.
(معرض الآراء الحديثة) كتاب ألفه لويس دكنسن، وترجمة محمد رفعت. ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهو يقع في 115 صفحة بالقطع المتوسط، وثمنه ستة قروش.
كلمة المترجم
لم يبذل المترجم جهداً في التعريف بالكتاب، ولعله أساء إلى المؤلف بالكلمة التي نص فيها على أن في الكتاب بعض المغالطات وبعض الخطأ في الآراء، فأنا أرجح أن المؤلف قصد تلك المغالطات وتلك الأخطاء، ليبين ما قد يقع في المجتمعات السياسية والأدبية من الانحراف، أو ليتخذ منها وسيلة للنقاش والجدال.
فعلى الطلبة أن يراعوا هذه الناحية وهم يدرسون الكتاب
وحدثنا المترجم أنه حذف عبارات لا يستسيغها الذوق العربي وليته لم يفعل؛ فإن الغرض من نقل المؤلفات الأوربية إلى اللغة العربية يشمل التعريف بما بيننا وبين الأوربيين من اختلاف الأذواق.
وأراح المترجم نفسه من ترجمة العبارات التي وُشِّيت بالتشبيهات والإشارة إلى الأساطير اليونانية في خطبة (فيفيان) لأنه (وجد أن كل عبارة من عبارته تستلزم شرحاً وتعليقاً طويلاً) وبهذا الكسل أضاع فرصة من فرص الترجمة، وهي إعطاء القارئ العربي فكرة عن اتصال التعابير الإنجليزية بالأخيلة اليونانية في بعض الشؤون
فأرجو أن يلتفت المترجم إلى هذه الملاحظات في الطبعة الثانية.
كيف يقرأ الطلبة هذا الكتاب
أراد المؤلف أن يصور الاتجاهات السياسية والاجتماعية والأدبية في بلاد الإنجليز،(440/4)
بأسلوب يشبه بعض الشبه أسلوب أفلاطون؛ فأنطق ثلاثة عشر خطيباً بأقوال تلخص ما كان يعتلج في ضمير المجتمع البريطاني عند تأليف الكتاب، وبهذا صح له أن يسميه (معرض الآراء الحديثة) وهي آراء جماعة بعضهم من المحافظين، وبعضهم من الأحرار، وبعضهم من الاشتراكيين، وبعضهم من الفوضويين وفيهم الأستاذ والصحفي والشاعر والأديب ورجل الأعمال
والمؤلف يصور هذه الجماعة وقد اجتمعت في داره بالريف في ليلة من ليالي يونيه، وقد حملها القيظ على أن تسمر فوق السطح كما يصنع الناس في بغداد، وفي تلك السهرة تحدثت الجماعة بلا تحفظ ولا احتراس، فقال كل خطيب ما قال وهو في أمان، بدون أن يخطر في البال أن كلامه سيدون في كتاب خاص
ويمعن المؤلف في توكيد هذا الخيال الطريف؛ فيشرح كيف كانت الأحوال النفسية لأولئك الخطباء، وكيف كانوا يتبرمون بالجدل من حين إلى حين، كأن يقول على لسان أحد المجادلين: (لقد خلت الحلبة واختفت المقاعد الصامتة في جوف الليل وبدت في ضوء القمر الضعيف أشباح روحانية ترفرف على مشاهد خلافاتنا العارضة، وهذه الأشباح هي التي تقف من خلفنا وتسدد الضربات التي يلوح أنها تصدر عنا، فإذا ما انقضت آجالنا استنفرت هذه الأشباح خلقاً غيرنا للقتال والنزاع، وإذا سحب النسيان ذيله على أسمائنا أحيطت أسماء غيرها بهالات من المجد الفاني. فعلام إذن نقضي الليل كله حتى مطلع الفجر في كدح وضجيج؟ إن سماء واحدة تضلنا، ونجوماً بعينيها تطلع وتغرب علينا، وليست آراء رمنهام إلا زبداً يذهب جفاء، وإن التيار ليجرف الجميع على سواء نحو القدر المحتوم، فلنتقابل ولو فترة قصيرة أمام قوته الصامتة الجارفة، ولنمد أيدينا لنتصافح في هذه اللحظة من وراء المنضدة).
فهذه لفتة أديب متوجع من إيغال أهل الفكر والرأي في الخصومة والعِداء، ولهذه اللفتة نظائر لا تخفى على القارئّ وهي تشهد بروحانية هذا الأديب
وأرجع فأقول إنه يجب على الطالب أن يذكر أن المؤلف يجسم بعض الآراء عامداً متعمداً، ليصح له أن يناقشها بعد ذلك بقوة أو بضعف، ليصور اتجاه الآراء في بلاده أو ليصور اتجاهه الخاص، وإن كان السياق يشهد بأنه نزه نفسه عن التحيز لهذا الرأي أو ذاك.(440/5)
تنبؤات سياسية
لم يحدثنا المترجم في مقدمته الوجيزة عن التاريخ الذي ظهر فيه كتاب (معرض الآراء الحديثة) ولم أجد من الوقت ما يسمح بتحقيق ذلك التاريخ، فقد كانت النية أن أقرأ الكتاب في القطار وأن أكتب مقالي عنه بالليل، حين أصل إلى أحد البلاد، ولكن رفيقي في السفر وهو الأستاذ محمد خلف الله شغلني عنه بحواره الطريف، فلم يبق إلا أن أقرأ الكتاب وأدّون ملاحظاتي عليه في وقت لا يتسع لما ضاق عنه وقت المترجم المفضال! وهل يطالب المسافر بما لا يطالب به المقيم؟
في الكتاب عبارة تدل على أنه أُلف قبل الحرب الماضية، لأن المؤلف يشير في بعض عباراته إلى (عاهل ألمانيا) وهو بالتأكيد رجلٌ غير هتلر، فهو غليوم الثاني.
وهنا يظهر ما في الكتاب من تنبؤات تصورها العبارة الآتية: (إني أرى المستقبل ينذر بالحروب وإشاعات الحروب ويُخيل إلىّ أن هذه الأمة بنوع خاص قد أصبحت هدفاً لحسد شعوب أوربا وشرهها وكرامتها وأطماعها، وما ذلك إلا بسبب ثرائها وقوتها ونجاحها المنقطع المثيل. أرى هذه الشعوب تتطلع إلى الخارج تبحث عن منافذ لسكانها المتزايدين، ولكنها تجد أن الجنس البريطاني قد سبقها إلى احتلال كل ركن من أركان المعمورة، وأن الراية البريطانية تخفق على جميع جهات الأرض، ولكن أملنا الأكبر في المستقبل ينبعث من هذا الخطر الرئيسي، لأن بلاد الإنجليز لم تعد مقصورة على إنجلترا نفسها، بل إنها قد بذرت في كل قارة من قارات العالم بذوراً حية قوية ترجو أن تتعهدها بالعناية لكي تدب فيها الحياة، فيصبح كل منها عضواً نافعاً قائماً بواجبه في جسم هذه الإمبراطورية، بل إنني لأرى الروح قد أخذت تسري في هذه الأعضاء، وأعتقد أن المستعمرات البريطانية لن ينفرط عقدها فتسّاقط عنا تساقط الفاكهة الناضجة عن الشجرة، ولن تكون ممتلكاتنا غنيمة لغيرنا. وسوف تستيقظ الأمة عاجلاً أو آجلاً لتؤدي رسالتها الإمبراطورية وسوف تخفق معنا إخواننا الإنجليز من وراء البحار، ويكون الاتحاد الذي أتنبأ به هو اتحاد الشعوب البريطانية في جميع أنحاء العالم، اتحاد الإنسانية كلها).
فإن كان هذا الكلام قبل الحرب الماضية فهو عجب، وإن كان قبل الحرب الحاضرة فهو أعجب، وهو نفسه الكلام الذي يهتف به الإنجليز في هذه الأيام، والذي يستنفرون به(440/6)
أنصارهم في الشرق والغرب صباح مساء.
غاية وطنية
وهذه العبارة تدلنا على أن للمؤلف (غاية وطنية)، فهو يريد تنبيه قومه إلى ما يحيط بهم من أخطار بسبب تحاسد الشعوب الأوربية، ويحاول أن يخلق لبلاده عصبية في الأقطار التي تخفق فوقها الراية البريطانية.
ومع أن المؤلف لا يجهل أن أصطرع الآراء المتنافرة قد يعرض بلاده لأخطر المصاعب، مع هذا لا يفوته أن يعرض تلك الآراء بترفق وتلطف، وكأن لسان حاله أو مقاله يشهد بأن تلك الآراء ليست إلا نباتات بريطانية جديرة بالعناية والاهتمام، وإن لم يخل بعضها من شذوذ.
ما هذا الكلام؟
المؤلف حريص على ضرب الآراء بعضها ببعض، ولكنه يتسامح مع الخطيب الذي شرح مزايا الأمة الأمريكية، فما هذا الكلام؟ ولأي غرض قريب أو بعيد استباح المؤلف أن يثني على الأمة الأمريكية بلا اقتصاد ولا اعتدال؟
لذلك أغراض:
الغرض الأول هو التعريف بحقيقة الأمة الأمريكية في مذاهبها المعاشية، وهنا يهتم المؤلف بتقرير ما عليه الأمريكان من احترام الواقع الملموس، وكأنه يدعو قومه إلى فهم هذا الجانب من الذهنية الأمريكية.
يقول الأمريكان: (دعونا نأكل ونشرب) يقولون ذلك وهم مؤمنون إيماناً قوياً صحيحاً، ولا يزيدون عليه ذلك القول المتبط السقيم (فإننا سنموت غداً).
ومع أن المؤلف ساق هذا الكلام مساق السخرية من الأمريكان فأنا أرجح أن له غاية في عرضه على مواطنيه، عساهم ينتبهون إلى تفاهة الاهتمام بالنظريات. الغرض الثاني هو الغض من قيمة المناقشات الدينية، وهي المناقشات التي بددت قوى الشعوب الأوربية في أجيال طوال
من رأي المؤلف أن الدين في أمريكا نبات طفيلي بلا جذور وان انتسابهم إلى المسيحية(440/7)
ليس إلا وهماً من الأوهام، برغم ما تشهد الظواهر من تعلقهم بالدين.
الغرض الثالث هو حرب البلادة الممثلة في اجترار الماضي، فهو ينبه قومه إلى أن حرمان الأمريكان من الماضي الجميل في الآداب والفنون لم يحل بينهم وبين الظفر بالمكان الأول بين أقوياء الشعوب.
الغرض الرابع هو الحط من قدر الثرثرة الاجتماعية، فالأمريكان لا يفكرون في غير الابتكار والاختراع، ليكونوا أقدر الناس على غزو الأسواق بالمنتجات التي تسير التمدن الحديث. وهو اتجاه ظاهر النفع بلا جدال.
وما هذا أيضاً؟
أعطى المؤلف الكلمة لرجل أيرلندي فوضوي ليقول على لسانه وهو يعرض أحد الأناشيد: (هو أقوى تحدّ وجّه إلى إنجلترا بلادكم، البليدة الطبع، العقيمة الخيال، الضعيفة التصور)
ومع هذا لم يفته أن ينطق ذلك الخطيب بأنه لا يقصد إنجلترا بالذات، وإنما يقصد أوربا وأمريكا والعالم كله، فما معنى ذلك؟
معناه أن للمؤلف غاية نبيلة، هي إيقاظ العبقرية الإنسانية، وهي لا توقظ بغير العنف، ثم يقرر بلسان ذلك الخطيب (أن ما قام بالسيف لا يُمحى بغير السيف، وما أسس على العنف لا يقضى عليه بغير العنف) وينطلق فيقرر مرة ثانية بلسان ذلك الخطيب أن في العالم فوضويين لم يُلقوا خطاباً ولم يحملوا سلاحاً، وهم المحاربون بقوة الروح.
(إن في العالم أشياء بلغت من الشر مبلغاً لا تصلح معه إلا للاحراق، وإن فيه عقبات قد وصلت إلى درجة من الهول والضخامة لا يغني معها إلا النسف بالديناميت، وإن الهدم مقدمة ضرورية للخلق والبناء).
كذلك يقول المؤلف بلسان ذلك الفوضوي الأيرلندي، فهل نراه يتربص بالأمة الإنجليزية، هل نراه يدعو إلى العنف والعسف؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما هو رجل يصور اشتجار الآراء في عصره بنزاهة وإخلاص.
ولكن ما غرض المؤلف من شتم إنجلترا بلسان أحد الأيرلنديين؟
له من ذلك غاية وطنية، هي وصف إنجلترا بسعة الصدر، وسماحة القلب، وإلا فكيف استباح أحد أبناءها أن يُنطق رجلاً ايرلندياً بأن النظام البرلماني في إنجلترا واهي الأساس؟(440/8)
(ما أتعس حظ عضو البرلمان حين يضطر لإعطاء صوته في مسائل لا حصر لها، ولا يدري منها أولياتها، ولكنه يفعل ما يفعل إطاعة لأوامر رؤساء الأحزاب الذين تسيطر عليهم آلة حزبهم العمياء البلهاء! إن ذلك النظام يجعل من الشعب عبيداً مسخرين للنواب، ويجعل النواب مسخرين لرؤسائهم، والرؤساء مسخرين لآلة عمياء مجردة من الضمير. . .)
والمؤلف لا يثور على النظام البرلماني في كل وقت، وإنما يمنح فرصة الثورة على ذلك النظام لرجل أيرلندي، وهو يرجو أن يكسب بذلك عطف الأيرلنديين على الإنجليز، بأسلوب طريف، هو (تصعيد) ثورتهم المكبوتة على الأمة الإنجليزية.
التماسك في الأخلاق البريطانية
أشرت من قبل إلى أن هذا الكتاب يصور اشتجار الآراء بين جماعة من البريطان، وأذكر الآن أن ما فيه من صيال ونضال يصور حيوية التماسك في الأخلاق البريطانية، وللإنجليز (في بلادهم) أخلاق صحاح، وكلمة (في بلادهم) مستعارة من حافظ باشا عفيفي، والنص عليها واجب، لأن الإنجليز في نمير بلادهم معرضون للخطأ والانحراف، ويرجع ذلك إلى أن الإنجليزي بطئ الذهن وإن كان قوى الخلق، وهو لذلك. ينتظر إلى أن توجد الحجج التي يحكم بها لك أو عليك، وبهذا تضيع عليه فرص قد تعود وقد لا تعود.
وأقول إن (معرض الآراء الحديثة) ألفه إنجليزي مطمئن فهو يحاور ويجادل تحت ظلال الأشجار في الصيف أو بجانب الموقد في الشتاء.
أرجع إلى الصفحات التي تصور ما عانى المؤلف وهو يضرب الآراء بعضها ببعض في تشريح مذاهب الأحرار والمحافظين
أرجع إليه وهو يكاد يهتف بأن الكفر من الشرائع، وهو موقفٌ وصفه المترجم بأنه ينافي الذوق العربي، ولو أنصف لقال إنه ينافي الذوق الإسلامي، فما كانت العبارات التي حذفها المترجم إلا فناً من الكفر الملفوف، وهي مع ذلك ليست إلا تصويراً لما يساور قلوب المؤمنين في بعض الأحايين.
الإنجليزي يكفُر حين يشاء، ولكنه يكفُر كفُر الرجال لا كفر الأطفال؛ فهو يشرّح ما يجول بصدره من حقائق وأباطيل، ليعرف المصادر التي توحي إليه بالشك أو اليقين.(440/9)
والذي يقرأ كتاب (معرض الآراء الحديثة) بدون إدراك هذا المعنى لن يكون له من فهمه غير أشباح وأطياف!
الريف، الريف
في الكتاب كلامٌ كثير عن الريف وسادة الريف، ومن ذلك الكلام ندرك أن الأمة الإنجليزية ترى الريف ملجأها الأمين، وقد تراه الأصل في مجدها الأثيل. وشعور الإنجليز بأهمية الريف يُخلق في كتّابهم ومصلحيهم فكرة العناية الموصولة بتجميل الريف والتألم لما يقع فيه من فقر أو عناء!؟
وهنا يلتفت المؤلف إلى سوء العاقبة، عاقبة الإسراف في تجسيم شقاء الريف بلسان أحد الخطباء:
(لقد كنت أقرأ في أحد الأيام مقالاً من تلك المقالات المروّعة عن حال الزراع، ثم ذهبت بعد ذلك راكباً إلى الريف فتبين لي أنه لم يبلغ من السوء الحد الذي وصفه به الكاتب، ولا أعني بذلك أن حال الريف كلها كانت مما يسرّ له الإنسان، ولكنه رغم هذا كان مدهشاً حقاً؛ فقد رأيت خيلاً ضخمة يتدلى من جباهها شعرٌ أشعث، ترعى في المروج الخضراء، ورأيت ماشية تخوض في الماء الضحل، وجداول تحف بشطانها أشجار الصفصاف، وعصافير تزقزق، وقنابر وطيوراً أخرى مغرّدة. ورأيت بساتين الفاكهة ترتدي حلة من الزهر الأبيض النضر، وحدائق صغيرة اهتز ورقها وربا في ضوء الشمس الساطع وظلال السحب المارة فوق السهول، ورأيت الزارع الذي أفاضوا في وصف حاله وسط هذا كله، فلم أره بمظهر البؤس المجّسم كما يقولون، بل رأيته يفكر رأيته يفكر في خيله أو في عيشه وجبنه، أو في أطفاله يَحْبُون في الطريق، أو في خنازيره وديكته ودجاجه. ولست أظن بالطبع أنه يدرك ما في هذه الأشياء كلها من جمال، ولكنني واثق من أنه كان يشعر شعوراً مريحاً بأنه جزء من هذا كله، وأن حاله طيبة، ولم يكن قلقاً من حاله كما تقلقون من حاله. ولست أعني من هذا أن لا حق لكم في القلق، ولكني أعتقد من واجبكم أن لا تظنوا العالم كله شراً لا يطاق لمجرد أنكم تستطعيون أن تصوروا عالماً خيراً منه).
غاية فلسفية(440/10)
ونظرة المؤلف في هذا الموضوع نظرة إصلاحية، وهي تشهد بأن الإنجليز يعانون بعض ما نعاني من كثرة الكلام عن متاعب أهل الريف، وهو كلام يضّر أكثر مما يفيد، لأنه يزعزع طمأنينة الريفين، ويحرمهم الاستمتاع بما في الحياة الريفية من خيرات وثمرات.
ولكن للمؤلف من وراء هذا الكلام غاية فلسفية تمثلها دعوته الصريحة إلى الترحيب بالوجود في جميع مناحيه، ومن رأيه أن (الحياة نفسها هي المتعة، وهذه المتعة دائمة في جميع العصور ولجميع الطبقات). ثم يندفع فيقرر أن (المثُل العليا لا وجود لها في الحقيقة) وهو بهذا يريد أن الحرمان من النعيم الموجود لا يعوَّض بالنعيم المنشود؛ ثم يقفز إلى أعلى أبراج الفلسفة الشعرية فيهتف (إني حين أغادر اجتماعاً أو أفرغ من قراءة مقال مروّع عن الإصلاح الاجتماعي أشعر كأن من واجبي أن أعانق كل شيء وكل شخص أقابله لمجرد أنه أحسن إلى العالم بوجوده فيه، أرى كأن من واجبي أن أعانق سائقي السيارات العامة والمركبات وأصحاب الحوانيت والأكواخ القذرة ومن فيها من الضحايا واللصوص. إن هؤلاء جميعاً في الوسط الذي يعيشون فيه يطفون فوق نهر الحياة العظيم الذي كان وجوده في الماضي والحاضر - وسيكون وجوده في المستقبل - مبرراً كافياً لوجوده مهما كان البلد الذي يجري فيه).
وهذه لفتة شعرية على جانب من الصحة والقوة، فإن التشكي الكثير من نظام الوجود ليس من علائم العافية، إلا حين يراد به خلق نظام جديد ميسور، لا تخيُّل نظام لا وجود له إلا في أذهان المتكلفين.
وثبة جديدة
ولكن المؤلف يثب بعد ذلك وثبة جديدة بلسان خطيب آخر فيقرر أن الإنسان في طور التكوين، وأن واجبه منذ هذه اللحظة أن يكوّن نفسه بنفسه، فقد سارت به الطبيعة إلى الحد الذي وصلت به إليه، فوهبته أعضاء جسمه وعقله ومبادئ روحه، وأصبح في استطاعته أن يكمل هذا الهيكل البديع أو يفسده إذا شاء.
فماذا يريد المؤلف أن يقول؟
يريد أن يجعل عبء الكمال فوق كاهل الإنسان لا كاهل الطبيعة (لآن الطبيعة لا تريد أن(440/11)
توجد إنساناً لا يستطيع أن يوجد نفسه، فإذا عجز هو عجزت هي أيضاً، ورجع المعدن إلى بودقته، وبدأت العملية من جديد، أما إذا نجح فنجاحه عائد عليه وحده، فمصيره إذن في يده هو لا في يد غيره) وهذه لفتة أخلاقية ساقها المؤلف على لسان أحد الشعراء، وتظهر قيمة هذه اللفتة لمن يتذكر الفروق بين الإنسان القديم والإنسان الجديد، فقد استطاعت الإنسانية بتطورها المستمر أن تصل إلى آفاق كان يعجز عن تصورها الخيال.
موضوعات للدرس
يظهر أن المقال لن يتسع للإلمام بما في الكتاب من العناصر الأساسية، فعلى الطلبة أن يراجعوا المسائل الآتية، ليواجهوا اللجنة الامتحان وهم على بينة من أكثر ما في الكتاب من أغراض:
1 - الفرق بين النظرة العلمية والنظرة الدينية: (راجع ص 52)
2 - هل تتدخل الدولة لتنظيم الزواج؟ (ص 53 و54)
3 - هل يستطيع الشعب أن يحكم نفسه؟ (ص 55 و56)
4 - تحرر الجيل الجديد من أوهام الجيل القديم (ص 57)
5 - بين العقائد والعواطف والعقول (ص 46 و47)
6 - نظرية المساواة دُرست في مكانين، فلأي غرض نوقشت هذه النظرية؟
7 - أنظر نقض فكرة الحرية في (ص 17)
8 - هل تستطيع الاشتراكية أو الفوضوية أن تغير الحقائق الأساسية؟ (ص 73 و74)
9 - هل تعيش الحكومات لأنها سرقت حقوق الناس؟ (ص 31 و23)
10 - الهجوم على التعليم الابتدائي والثانوي والعالي (54)
11 - وضع المترجم تذييلاً تحدث فيه عن بعض الآراء وبعض الأعلام، فانظر في ذلك التذييل، فقد يوجَّه إليك سؤال متصل بما فيه من المعلومات الفكرية أو التاريخية
12 - إن غام أمامك جوّ هذا الكتاب، فاقض ساعة أو ساعتين في درس كتاب (الإنجليز في بلادهم) لتعرف المشكلات التي تعرّض لها (دكنسن) بالنقد والتشريح، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، كما قال القدماء
اختبار جديد(440/12)
من المحتمل أكون عضواً في اللجنة التي تحكم في مسابقة الأدب العربي، فما السؤال الذي أوجهه إلى المتسابقين عند اختبارهم في هذا الكتاب؟ سأسألهم عن الفروق بن اتجاهات الخطباء من طريق العبارة والأسلوب
وأدلكم على الجواب فأقول:
عبارة (كنتلوب) تختلف عن عبارة (فيفيان) أشد الاختلاف، ولكن كيف؟ إليكم يوجه السؤال!
وعبارة (إلس) تغلب فيها المعلومات على الدراسات، فما سبب ذلك؟ فكروا قليلاً تجدوا الجواب! وبين أشخاص الكتاب خطيب دخل في شعاب غير شعاب مهنته الرسمية، فمن ذلك الخطيب؟
المفهوم أن هذا الكتاب يصور أصطراع الآراء في عهد المؤلف، فهل ترون أن إنجلترا كانت فيها مشكلات لم يتعرض لها المؤلف؟
أدلكم على الجواب فأقول: كنا ننتظر خطيباً يتحدث عن متاعب إنجلترا في المستعمرات، وخطيباً يتكلم عن أزماتها الروحية، وخطيباً يشرح خصائص الفرنسيين والألمان، على نحو ما صنع الخطيب الذي شرح خصائص الأمريكان
وقد مرّ المؤلف مرور الطيف على المعضلات التعليمية، فما سبب ذلك؟
اقرءوا حياة المؤلف، كما لخصها المترجم! تجدوا الجواب!
أما بعد، فهل ترون أنى دللتكم على أسرار هذا الكتاب؟
لم يبقى إلا أن تطلبوا أن أؤدي امتحان المسابقة بالنيابة عنكم، يا أشقياء!
وأنا والله حاضر، إن سمح وزير المعارف!
زكي مبارك(440/13)
كيف يكتب التاريخ؟
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
- 7 -
نقد الأصول
تحري نصوص الأصول وتحديد العلاقة بينها
نبحث الآن ناحية أخرى في نقد الأصول التاريخية. فلا بد المؤرخ قبل استخدام المعلومات التي ترد في تلك الأصول أن يتحرى نصوصها، وأن يتثبت من حرفيه ألفاظها وعباراتها سواء المخطوط أو المطبوع. وعلى المؤرخ أن يبحث هل كتبت هذه الأصول بخط المؤلف، أم أنها نقلت عن نسخه المؤلف الأصلية؛ وإذا كانت قد طبعت فهل طابقت مخطوطة المؤلف الأصلية؟ وألم يدخل عليها بعض التحريف اللفظي أو النقصان أو الزيادة الطفيفة سواء عن قصد أو غير قصد؟ وأنه ليتضح لنا أهمية تحري نصوص الأصول التاريخية وألفاظها عندما نجد أن مؤلف اليوم بالرغم من إمكانه مراجعة تجارب المطبعة بنفسه، فإنه قد تفوته بعض الأخطاء القليلة. وعمال المطبعة كثيراً ما يجعلون المؤلف يقول كلاماً لم يقصده بالمرة؛ وإن تغيير حرف بسيط في كلمه قد يغير المعنى رأساً على عقب.
ولقد ضاع الكثير من الأصول التاريخية ولم يبق إلا نسخ أو صور منقولة عنها. فهل هذه النسخ قد نقلت عن الأصول الأولى، أم نقلت عن صور لها؟ فينبغي أن يتأكد الباحث من أن النص الموجود أمامه يطابق الأصل الأول الذي وضعه المؤلف. وإذا وجدت أخطاء في النسخة - وهو الغالب - لا بد من محاولة تصحيحها بالرجوع إلى الأصل الأول، إن كان من المستطاع ذلك. وإذا ما اعتمد الباحث على نص منقول عن أصل أول، ويحتوي على أخطاء في النقل، فإنه يحمِّل المؤلف أموراً غير مسؤول عنها، وإنما المسؤول عنها الناقل. ومشاهير المؤرخين لا يتحرون دائماً صحة نصوص الأصول التي يعتمدون عليها. وحتى وقت قريب كانت تطبع الأصول التاريخية بدون مراعاة طرق النشر العلمي، سواء لتجنب المجهود أو للعجلة. إلا أنه قد حدث تقدم كبير في هذا الميدان المهم في الوقت الحاضر(440/14)
والأصول التاريخية المخطوطة يمكن لأن نقسم من ناحية تحري النص وتحقيق اللفظ إلى ثلاث حالات. فالحالة الأولى هي أن يكون أمام الباحث الباحث الأصل الأول بخط المؤلف نفسه. ويمكن التأكد من ذلك بملاحظة نوع الورق والحبر وبدراسة خط المؤلف ولغته ومعلوماته من كتاباته الأخرى، إن وجدت. وبتطبيق ذلك على الأصل الموجود يستطيع الباحث أن يستفيد وهو مطمئن من هذه الناحية، من المعلومات التي يوردها هذا الأصل الأول، كما يمكنه أن ينشر هذا الأصل التاريخي لفائدة العلم. إنما ينبغي أن يراعي عند النشر في كل الحالات، إبقاء الأصل الأول كما هو بحروفه وألفاظه وأجروميته وأخطائه الخاصة به، بدون تصحيح أو تعديل في النص نفسه. لأن أي تغيير قد يغير المعنى. وبقاء النص الأول كما هو يساعد الباحث على فهم تاريخ ذلك العصر المعين كما كان فعلاً؛ فيدرك الباحث عقليه رجال العصر وأساليبهم في التعبير، ويلم بتطور اللغة والاصطلاحات التي سادت في زمن مضى
ومن الأمثلة على ذلك ما أورده أحمد الخالدي الصفدي في كتابه عن تاريخ الأمير فخر الدين المعنى من ألفاظ وأساليب عاميه لبنانية محلية مختلطة بالتراكيب العربية، (سبق أهله وجاء حتى يعلم الأمير. . . فوصل بحال الليل إلى باب القلعة ودق الباب على البواب حتى يروح يعلم الأمير. . .). ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما ورد في الفرمانات السلطانية العثمانية من التعبيرات الخاصة مثل (قدوة الأمراء الكرام، عمدة الكبراء الفخام، المختص بمزيد عنايت الملك العلام. . .). أو الوثائق المحفوظة في دور الأرشيف الأوربية والتي تحتوي على معلومات مدونة بلغة وأجرومية خاصة بالعصر الذي دونت فيه، مثل , في الوثائق الإيطالية؛ ومثل ألفاظ وو الواردة في الوثائق الفرنسية؛ ومما يخالف ذلك ألفاظ وأساليب ومصطلحات هذه اللغات في الوقت الحاضر. فإذا ما نشرت مثل هذه الأصول التاريخية ينبغي أن تبقى كما هي بغير تعديل.
والحالة الثانية في هذه الناحية من نقد الأصول، هي التي تضيع فيها نسخة المؤلف الأولى، ولا يبقى أمام الباحث إلا نسخة واحدة منقولة عنها. فدراسة هذه النسخة المنقولة الوحيدة للتثبت من صحة ألفاظها ونصوصها تستلزم الدقة والحذر. ومهما كانت دقة الناسخ وأمانته فإنه قد يتعرض للخطأ في النقل. وتوجد أسباب وأنواع للاختلافات التي يمكن أن تلاحظ(440/15)
بين الأصل الأول وبين المنقول عنه. فقد تسقط ألفاظ أو جمل عند النقل من باب النسيان أو السهو، أو لعدم وضوح المعنى، أو للخطأ في قراءة بعض الألفاظ أثناء النقل، أو للخطأ في السمع إذا ما أملى على الناسخ ما يكتب. وبعض النساخ يغيرون ويعدلون الألفاظ التي ظنوا أنها وردت خطأ في الأصل الأولى، واعتقدوا أن من واجبهم تصحيحها.
والتغيرات الناتجة عن عمد أو عن خطأ في فهم النصوص من الصعب تحقيقها فضلاً عن كشفها. وبعض الفقرات التي تسقط قد لا يمكن التعويض عنها. ولكن من المستطاع معرفة الأخطاء التي تحدث عفواً أو سهواً، بملاحظة الارتباك في المعنى أو الخلط في بعض الحروف والكلمات، ووضع أحرف أو كلمات مكان أخرى، أو تكرار بعض المقاطع أو تكرار بعض المقاطع أو كتابة مقاطع بعض الكلمات مرة واحدة بدلاً من مرتين، أو الخطأ في تقسيم بعض الكلمات أو بعض الجمل. وكل هذه الأنواع من الأخطاء والتغييرات في النصوص الأولى والتي تحدث سواء عفواً أو عن قصد، قد قام بها الناسخون في كل اللغات وفي جميع الأقطار وفي كل عصور التاريخ.
وعلى الباحث في حالة ضياع نسخة المؤلف الأولى مع بقاء نسخة واحدة منقولة عنها، أن يدرس هذه النسخة ويعرف كل خصائصها من ناحية الشكل واللفظ والمصطلحات والمعلومات التاريخية؛ ثم يدرس حياة المؤلف ومؤلفاته الأخرى إن وجدت ويلم بأشهر الكتاب المعاصرين الذين تناولوا نفس الموضوع الذي كتب عنه. وتطبيق هذه المعلومات على النسخة الوحيدة المنقولة يساعد في أحوال كثيرة على تحري نصها وعلى التثبيت من صحة ألفاظها. ولقد حقق الدكتور أسد رستم مثالاً يوضح هذه الحالة. فهو قد وجد أن عدداً كبيراً من الأصول الأولى لمناشير إبراهيم باشا في سوريا قد فقد، وإنه لم يبق منها إلا نسخة واحدة منقولة ومطبوعة؛ مثل المنشور الذي أصدره إلى متسلم دمشق في صفر 1248هـ عن بعض حوادث اصطدامه بالعثمانيين والذي ورد في كتاب (مذكرات تاريخية بقلم أحد كتاب الحكومة الدمشقيين) ونشره الأب قسطنطين الباشا. ولاحظ الدكتور رستم أن بعض ألفاظه غير واضحة. فبحث طويلاً حتى وصل إلى سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس، وعثر على منشور أصدره إبراهيم باشا إلى متسلم طرابلس ويحتوي على نفس المعلومات التاريخية؛ وأمكنه أن يستنتج أن ناسخ منشور إبراهيم باشا إلى متسلم دمشق قد(440/16)
أخطأ في فهم بعض الألفاظ فقرأ استغاثوا (استفاقوا) وحيث أن (حنان) وأغثناهم (غنامهم) وهكذا.
وعلى كل حال فإن النسخة المنقولة عن أصل أول مجهول قد تقاوم كل جهود النقد لمحاولة الوصول إلى ذلك الأصل الأول وصحيح أن النقد كثيراً ما يمكنه أن يحدد التغييرات والأخطاء في النص الوحيد المنقول، ولكنه كثيراً ما يقف عند ذلك دون أن يتخطاه إلى معرفة الأصل الأول. والباحث في التاريخ قد يبالغ في الشك في بعض النصوص التي تتغير لم تتغير على الإطلاق، ويناقش النصوص أكثر مما ينبغي، ويضع افتراضات مبالغ فيها. ويعتبر عمل الباحث في هذه الناحية نوعاً من الاجتهاد قد يصل إلى حد المغامرة.
والحالة الثالثة هي التي يضيع فيها الأصل الأول، وتبقى عدة نسخ تتشابه وتختلف فيما بينها، ولا تعرف الصلة بينها، ولا الصلة بينها وبين ذلك الأصل الأول. والباحثون السابقون كان عليهم أن يكافحوا للوصول إلى استخدام أول نسخة تقع في أيديهم، ومهما كان نوعها ومهما كانت صلتها بالأصل الأول ثم أخذ الباحثون يتجهون إلى استخدام أقدم نسخة موجودة، ولكن قِدَم تدوين نسخة ما لا يعني دائماً أنها أصح النسخ المنقولة عن الأصل الأول المجهول. فمثلاً مخطوط من القرن السادس عشر والذي ينقل عن أصل قديم ضائع من القرن الحادي عشر، قد يكون أكثر قيمة من نسخة أخرى نقلت عن ذلك الأصل الضائع في القرن الثالث عشر، وتحتوي على تغييرات وأخطاء في النص الأصلي. ولا شك في أن الباحثين المحدثين يمتازون عن سابقيهم في هذه الناحية؛ فهم يستطيعون أن يقارنوا بين النسخ المتعددة المنقولة عن الأصل الأول، فضلاً عن إمكان حصولهم على معلومات أفضل وأدق عن تلك النسخ وعن العصر الذي وجدت فيه، بقصد الوصول إلى النص الأول الصحيح بقدر الإمكان.
وفي هذه الحالة يعمد الباحث إلى تحديد النص الأول، أو أقرب ما يمكن إليه بالدراسة المقارنة، وعلى أساس التشابه والاختلاف بين النسخ المختلفة، وعلى أساس فهم لغة المؤلف وروحه والإلمام بعصره، كما سبق الإشارة إلى ذلك. ولنفرض بأنه لدى الباحث عشرون نسخة لمخطوط واحد، وأصلها الأول مفقود؛ وأن ثماني عشرة نسخة منها تتشابه نصوصها، ولنسمها مجموعة (ا) وأن نسختين منها تتشابهان ولنسميها (ب) فالأغلبية(440/17)
العددية هنا لا قيمة لها، ولا تدل على أن نصوصها هي الصحيحة. فمن الجائز أن سبع عشرة نسخة من مجموعة (ا) قد نقلت عن النسخة الثامنة عشرة. ففي هذه الحالة تكون مجموعة (ا) عبارة عن نسخة واحدة تكررت في النسخ التي نقلت عنها. فيكون البحث موجهاً إذاً إلى تحديد أي النصين أقرب إلى الأصل الأول الضائع، هل هو النص (ا)، أم النص (ب)؟
ويلاحظ الباحث عند تحديد العلاقة بين النسخ المتعددة لمخطوط واحد، قاعدة شبه عامة، وهي أن النسخ المتشابهة التي تحتوي على نفس المعلومات واردة بنفس اللغة وبنفس الأخطاء، أما أن تكون قد نقلت عن بعضها البعض، أو أنها قد نقلت جميعاً عن أصل أقدم منها، أخذ عن الأصل الأول الضائع، ويحتوي على نفس المعلومات ونفس الأخطاء. ولا يعقل من الناحية السيكولوجية أن عدداً من الناسخين ينقلون مستقلين أصلاً تاريخياً معيناً ويوردون نفس المعلومات بنفس اللغة وبنفس الأخطاء؛ بل لابد من وجود فوارق مختلفة بينهم.
فعلى الباحث إذاً أن ينبذ جانباً النسخ المنقولة عن أصل واحد محفوظ، وأن يستبقي فقط وبقدر المستطاع النسخ الرئيسية المستقلة التي نقلت عن الأصل الأول مباشرة، أو التي نقلت عن أصل ثانوي معين منسوخ مباشرة عن ذلك الأصل الأول المجهول. وتقسم النسخ إلى جماعات وفصائل على أساس التقارب والاختلاف، والقرب والبعد عن الأصل الأول، إذا ما ثبت ذلك وأنه لأفضل دائماً أن يكون لدى الباحث عدة نسخ أخذت مستقلة عن الأصل الأول الضائع. ونلاحظ أن كثرة النسخ تتعب الباحث أحياناً بدلاً من مساعدته في العمل. وعند طبع الأصلي التاريخي، في هذه الحالة، ينبغي أن ترفق به في الهامش الاختلافات التي توجد النسخ الرئيسية الأخرى.
(يتلى)
حسن عثمان(440/18)
آمال. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
أخذت جماعة كبار العلماء تهتم بآمال الأمة المعقودة عليها، وتفكر في أن لها رسالة، وتنظر في الوسائل التي تؤدى بها هذه الرسالة.
أخذت الجماعة تفكر في هذا كله، وتهتم بهذا كله، فتؤلف له اللجان، وتضع له الخطط، وذلك على أثر الاقتراح الذي رفعه إليها حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت بعد انضمامه أليها.
وكان من آثار ذلك أن الأمة أخذت تلتفت إلى هذه الجماعة وتنظر أليها بعين الرضا بعد أن كانت تنظر أليها شزراً، أخذت تدرك فائدتها وتستبشر خيراً بنهضتها المباركة، ورجا الناس أن يغفر التاريخ لها ما ضيعت من عمر طويل يربى على الثلاثين عاماً، وهي تغط في نوم عميق هادئ متصل، لا تكدر صفوه الأكدار، ولا تقطع اتصاله واطراده حوادث الليالي والأيام!
من الظواهر التي تدل على التفات الأمة لهذه الجماعة، ورضاها عن هذه النهضة، تلك الرسائل التي جعلت تتري على رياسة الجماعة، وأعضاء الجماعة: فهذه رسالة تحمل معاني الغبطة والسرور، وتتحمس في التأييد والتشجيع؛ وهذه رسالة تحث على تعجيل البر بهذه الأمة في دينها وفقهها، وعقائدها وعباداتها، ونظمها ومعاملاتها؛ وهذه رسالة تشفق على هذه الأغراض النبيلة من اللجان، وما ألف الناس من تواكلها وتناقلها، وموت المشروعات النافعة على أيديها؛ وهذه رسالة تتقدم باقتراحات تراها جديرة بالنظر والتنفيذ، أو بالشكوى من عيوب مختلفة تريد لها الإصلاح والتقويم. . . إلى غير ذلك
لقد لمست الأمة إذن في هذه الجماعة معنى جديداً، وأحست روحاً سرى في أعضائها فسرت به (الآمال)، وتجاوبت له أصداء النفوس بالمطالب والرغبات، وأصبح الناس يتطلعون إلى هذه الجماعة لتنقذهم مما هم فيه، ويرقبون على يديها إصلاح كثير من شئونها في دينها ونظمها وثقافتها، فإذا كنا نهنئ الجماعة الموقرة بهذه الثقة العظيمة من الأمة، فإننا نحمد الله قبل كل شيء على هذه الظواهر الكريمة التي تدل على حسن اتجاه الأمة إلى هذا الدين، وتلمسها الأسباب للعودة إلى أحضانه، والعمل بمبادئه، والاهتداء(440/19)
بهديه.
إننا نحمد الله على ذلك، ونستبشر به خيراً، لأنه يدل على تأصل الروح الإسلامية في المسلمين، وعلى أن الأحداث لم تعبث بهذه الروح ولم تفسدها، وعلى أن الأمة لا تنتظر إلا القادة المصلحين، لتسير وراءهم غير مترددة ولا وانية، تحت راية القرآن الكريم!
من ظن أن رسالة جماعة كبار العلماء رسالة سهلة يسيرة، يكفي أن تتنبه لها، وتأخذ في أسباب أدائها، وتجمع لها لجنة أو لجنتين، وتعقد لها جلسة أو جلستين، فقد ظن عجزاً
ذلك بأنها رسالة يجب أن تتضافر عليها الجهود لأعوام وأعوام، وأن تحشد لها القوى المختلفة، كما تجند الأمم قواها للحروب!
وهي رسالة تحتاج مع القوة إلى الشجاعة في مواجهة الحقائق، والجراءة على الباطل الذي مد رواقه، وضرب بجرانه
وهي رسالة تحتاج مع القوة والشجاعة إلى الصبر والمثابرة والإخلاص للعلم والعمل والإنتاج.
ستنظر الجماعة في البدع التي شاعت وذاعت، وتغلغلت في أوساط العامة والخاصة حتى عد الناس كثيراً منها من الدين، وأصبح عزيزاً عليهم يدفعون عنه، ويغارون عليه.
ستنظر الجماعة فيما لنا من عادات تتحكم فينا وتفرض علينا سلطانها الجبار، وإرادتها القاهرة فنحافظ عليها ولا نتسامح فيها، وربما عددناها من شعائرنا وحسبناها من تقاليد ديننا، وزحمنا بها أنفسنا وأموالنا وحكمناها في مصائرنا.
ستنظر الجماعة في هذا وأمثاله لتقرر ما هو بدعة وما ليس بدعة، وتضع لذلك الأصول، وتضرب فيه للناس الأمثال، لعلهم يجتمعون على الحق، ولا يهيمون في أودية الباطل.
وهنا ينبغ أن تتجلى شجاعة العلماء، فما كان من خير أقروه، وما كان من شر أنكروه؛ أما الخوف من العامة ومجاملتهم أو ممالأتهم على العقائد التي يعتقدونها، أو العادات التي يألفونها، وتأويل ذلك لهم على وجه له ظاهر من الصحة والقبول، فهذا هو الخطر الأكبر، ولو فعلته جماعة كبار العلماء لكان حكم التاريخ عليها قاسياً لأن التاريخ سيقول إن جماعة كبار العلماء قد سكتت عن رسالتها ثلاثين حولاً، فلما استيقظت لها جعلت تجاري أهواء الناس ورغبات الطوائف، ولم تجرؤ على هدم الباطل، فالتمست له المعاذير، وأفتت فيه(440/20)
بالتأويل والتخريج! ستنظر جماعة كبار العلماء فيما جد من نظم الأمة في معاملاتها وقضائها واقتصادها، وسترقب الأمة آراءها وبحوثها في ذلك كله بقلوب واجفة لتعلم بأي روح سيمضي كبار العلماء في حل مشاكلها وإصلاح نظمها، أبالروح التي تدرك حاجات الناس، وظروف الزمان، وسماحة الشريعة، وابتناها على المصالح وعدم الحرج؟ أم بالروح الجامدة المقلدة التي تتقيد برأي فلان وفلان، وقواعد فلان وفلان، مما اصطلح عليه المصطلحون في زمان غير هذا الزمان، وفي كتاب الله وسنة رسوله منأى عنه، ومخلص منه، وتيسير عظيم؟
ستنظر جماعة كبار العلماء في تفسير القرآن، وما أدخلته الروايات المدسوسة عليه من إسرائيليات شوهت جمال القرآن وشغلت قارئه والمتدبر فيه عن العظة والاعتبار، لتنبه على ذلك كله، وترشد الناس إلى الصواب فيه، وربما وضعت تفسيراً وسطاً للناس تنفي عنه الدخيل والضعيف والمكذوب.
وهنا ينبغي أن ننبه إلى شيء آخر لا يقل خطراً عن هذه الإسرائيليات في الإساءة إلى تفسير القرآن: ذلك كثرة الروايات المأثورة في المعنى الواحد، أو في أسباب النزول.
إنك لتقرأ الآية من كتاب الله فتراها واضحة لا غموض فيها، حتى إذا أردت أن تستظهر على معناها الذي فهمت منها بكتاب من كتب التفسير وقعت في بحر لجي لا ساحل له، ورأيت روايات مختلفة متعارضة وغير متعارضة، فلا تدري بأيها تأخذ، ولا بأيها تترك، فتعود من حيث أتيت آسفاً على ما أثارته في نفسك هذه التفاسير من شكوك.
وهذا معنى يشكو منه الناس مر شكوى، وخصوصاً ضيوفنا من البلاد الإسلامية، وفي بقائه صد عن القرآن الكريم وحجب عن نوره وهدايته.
وقل مثل هذا في (أسباب النزول) فليس من شك أن هذه الأسباب تفيد فائدة ما تجلية المعنى والإرشاد إليه، ولكن الروايات فيها قد تعددت في الموضع الواحد، وتضاربت، وربما أخرجت الآية أو الآيات إلى معنى سقيم يشهد الذوق السليم أنه لا يتفق وبلاغة القرآن وما له من عموم في الهداية والتشريع ولو شئنا لضربنا لذلك الأمثال ولكنه بحث مستقل نرجو أن نعالجه بعد حين.
فمن الخير إذن أن ينشر بين الناس تفسير تعتمده الجماعة يكون مع تنبيهه إلى(440/21)
الإسرائيليات خالصاً من هذه الروايات المتضاربة التي لا يعرف لها سند صحيح، ولا يقرها ذوق سليم وستنظر الجماعة في واجب الدفاع عن الدين، ورد المطاعن التي توجب إليه، والشبه التي تثار حول عقائده أو قواعده
وأول واجب في ذلك هو تبسيط العقائد، وتنقية علم الكلام ولو إلى حد ما من الفلسفة التي طغت عليه وعقدته وجعلته فوق مستوى العامة وكثير من الخاصة. ثم الرجوع إلى طريقة السلف الصالح في الإيمان بالغيب وما أستأثر الله بعلمه دون تدخل فيه أو تهجم عليه، فليس يضير المسلم ما دام مؤمناً بأصل الحساب والسؤال أن يلقي الله من غير أن يعلم بالتحديد: هل سترتفع الأرض بنصف الميت الأعلى ليجلس للسؤال أو ستنخفض بنصفه الأسفل. وليس يضيره أن يلقى الله جاهلاً بلغة الملائكة السائلين أهي السريانية أم غيرها، ولا بالموازين التي توزن بها أعمال الناس يوم القيامة: أمن حديد هي أم من نحاس؟ وهل لها كفتان تسع كلتاهما السماوات والأرض لو وضعت فيها أو هي على شكل آخر ما دام أصل الإيمان بالوزن والموازين كما ذكرها الله في القرآن موجوداً والاعتقاد به حاصلاً.
وستصدم الجماعة حين تقوم بواجبها في الدفاع عن الدين بفكرة التبشير، وستسلم - حين تدرسها عن كثب - بخطرها الشديد على ناشئة هذا الجيل والأجيال المقبلة، هذا الخطر الذي يسري في خبث وخفاء، كما تسري الصلال في رمال الصحراء، أو كما تسري الأمراض الخبيثة في الأجسام، هذا الخطر الذي يعتمد على الزمن، وعلى أخلاقنا الكريمة المتسامحة، وعلى تهاوننا في مدافعته، وعلى ثقتنا بمناعة هذا الدين وحصانته
سيلمسون بأنفسهم هذا الخطر، وسيقفن أمامه وجهاً لوجه، وسيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون، فإذا سوّغوا لأنفسهم أن يهادنوه أو يسكتوا عنه، أو يغمضوا عيناً على قذاه، مجاملة لهذا الرئيس أو مراعاة لهذا الحاكم، أو احتفاظاً بصداقة هذا الوزير، أو تسامحاً حين يكون التسامح تفريطاً لا يغتفر، فقد أضافوا إلي الخطر خطراً أشد، وقد أعانوا عدوهم على أنفسهم، ومكنوه من دينهم وعقائدهم، وبالله نستعيذ!
إن الإسلام دين حصين وإن له مناعة وقوة يستمدها من مبادئه الموافقة للعقول السليمة، والطبائع المستقيمة: ذلك حق لا مريه فيه، ولكننا إذا اغتررنا به، واستنمنا إليه لعبت بنا فنون الدعاوى وأثرت في شبابنا أفاعيلها الخلابة، وغررت بنا وسائلها الخادعة الفاتنة،(440/22)
ويومئذ نرى السيل جارفاً، فلا نستطيع أن نقف في طريقه ونرى هذا المستصغر من الشرر وقد اندلع نيراناً حامية، تلتهم كل شيء وتأني على كل شيء!
ستنظر الجماعة في هذا كله، وستصدم بهذا كله، فإن صبرت عليه، واحتالت له، وفرت له الجهود والقوى، ومسّكت فيه بأهداب الشجاعة، واستعانت على تذليل عقابه بالإخلاص والتضحية، كتب الله لها النجاح، وحقق الله بها الآمال.
وإن كانت الأخرى. . . لا! لا أقولها ولا أفرضها، فإني أرتاع من هولها وأشفق منها، وأسأل الله السلامة من شرها!
أما بعد: فهل آن أوان النهوض والتقدم، أو تلك آمال وأحلام يتعلل بها الراغبون في الإصلاح، وتتراءى لهم في عالم الخيال؟ وهل أحيلت هذه الرغبات والمقترحات إلى لجنة من الجماعة لتلبث قيد البحث والنظر أعواماً بعد أعوام حتى تصاب بالموت أو الهزال كما ألف الناس فيما يحول إلى اللجان؟
لا. لا، ومعاذ الله أن يكون ذلك هو الغرض، فإن على رأس الجماعة الموقرة رجل الإسلام المصلح الغيور على مبادئه الدين والخلق: الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، فلولاه ما نظرت الجماعة في مثل هذه المقترحات، ولولاه ما دارت في نفس مقترحيها، ولولاه لتشكك فيها المتشككون، وشغب عليها أهل الفتنة، وابتلعتها لجج الجامدين!
وإن على رأس اللجنة التي تنظرها لرجلاً من رجال الأمة، يعرف فيه الناس العلم وصفاء العقيدة ورجاحة العقل والميل إلى مبادئ الإصلاح: ذلك هو المفتي الأكبر الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم.
فإلى هذين الرجلين العظيمين، وإلى أعضاء الجماعة الموقرة عامة تتوجه الآمال: آمال الأمة، وآمال الدين، وآمال الأزهر.
حقق الله الآمال.
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(440/23)
ظاهرات نفسية
في مسرحيات محمود تيمور
للأستاذ زكي طليمات
مفتش شئون التمثيل بالمعارف
- 1 -
أصدر الأستاذ الكبير محمود تيمور مؤلفاً يتضمن ثلاث مسرحيات صغيرة هي: (الصعلوك) و (أبو شوشه) و (الموكب) مكتوبة باللهجة العامية، تناولتها الأقلام بما هي جديرة به من الاهتمام؛ لأن لتيمور بك اسماً نابهاً متفرداً بطرائقه في عالم القصص المصري، نُقل بعضه بأقلام كتاب غربيين إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وأثيرت حوله بحوث من جانب بعض المستشرقين المعنيين بالأدب العربي المستحدث. وفوق ذلك فإن تيموراً سليل بيت عريق في خدمة الأدب العربي والتبريز في مجلاته المختلفة.
بيد أن ما دبجته أقلام النقاد عن هذه المسرحيات الثلاث لم يتجاوز تسجيل مفاتنها الظاهرة، وذلك من حيث رشاقة الأسلوب، ورونق السياقة، وحبكة الوضع، ومن حيث الأغراض الاجتماعية التي تهدف إليها
والأسلوب وما يتبعه، والأغراض الاجتماعية وما يتعلق بها لا تعنيني بقليل أو كثير، لأنها ليست حقائق خالدة؛ بل هي أشياء تغير لبوسها من عصر إلى عصر، وأوضاع تتحور وتتبدل، تتغير النظرة إليها بتغير المزاج الاجتماعي، وبتبدل الذوق البياني في التركيب الإنشائي وفي السياقة وبتحور الصيغ الفنية الخاصة بكتابة المسرحية؛ والإنسان في هذا - كما يثبت الاستقراء في التاريخ - يحرق اليوم ما كان يعبده بالأمس، ثم يعود فيعبد ما حرق!
فإذا صح لي أن أعني بمسرحيات تيمور - وهي طريقة جديرة بالعناية - فإن موضع اهتمامي سيكون مقصوراً على ما بتلك المسرحات من حقائق ثابتة لا تتغير. والثابت الخالد من الحقائق في العمل الأدبي أو الفني إنما هو ما يتصل بالنفس البشرية وما تمتد أعراقه في تربة الإنسانية. وذلك لأن النفس خالدة، والإنسانية وحدة قائمة متماسكة في كل زمان(440/24)
ومكان لا تتجزأ ولا تتقسم، والنفس والإنسانية في المسرحية يتمثلان في أبطالها وشخوصها من ناحية تقويمهم في أصدق تكوين نفسي لكل منهم
إن المتمعن قراءة هذه المسرحيات المستبطن دخائلها يطالعه شيء لابد أن يستوقفه برهة يخلد أثناءها إلى التأمل والمراجعة، ذلك أن أبطال هذه المسرحيات لا يجرون في الكشف عما في نفوسهم على سنة الوضوح التام والمنطق المنظم، وهو المألوف المتعارف عليه في الأدب الاتباعي والرومانسي والواقعي، وهو المتداول أيضاً في نتاج أدبنا العربي المستحدث ما عدا القليل النادر
أجل، إن أبطال تيمور في مسرحياتها الثلاثة يغمضون أو يلغزون أحياناً وقد يغلقون الإغلاق كله، وهم يعطون قولاً ما يعارضونه فعلاً، وهم يثبون وثبات نفسية لا تستقيم مع المنطق الظاهر المألوف، فيتراءون وكأن كل واحد منهم قد ركب فيه شخصان أو أكثر!!
هل لي أن أجشم القارئ مشقة استذكار هذه المسرحيات؟
لا، بل حسبي أن أستأذنه متفضلاً أمر التلويح له ببعض الشيء منها، مما لا غنى عنه حتى يستقيم هذا البحث.
لماذا مزق (دردير أفندي) - وذلك في مسرحية (الصعلوك) - رزمة الألف جنيه وهي كل سلاحه الذي ينيله ما يريده من (وحيده هانم) القينه الفاتنة؟
وهل يعقل أن صعلوكاً يعيش بين الخصاصة والكسب الطارئ يتلف ألف جنيه من غير ما سبب قاهر؟
ولما أحجم (مؤنس بك) وذلك في مسرحية (أبو شوشة) عن معاودة اتصاله بحسنية هانم معشوقته السابقة - وقد سنحت له الفرصة التي أخطأته فيما مضى، وقد وجد كل منهما في قلبه الميل نحو صاحبه؛ ما الذي يحجزها عن إحياء الماضي الجميل؟
وكيف تأتي أن فضل الله باشا - وذلك في مسرحية الموكب - يقول بشيء ثم يفعل غيره، وينهي عن أمر ويأتي مثله؟
ما حقيقة هذا المقنع الذي يخفى مسراه في نفوس هؤلاء الثلاثة ويظهر أثره سافراً في فعالهم؟ وهل حق أن الإنسان قد يبدو أحياناً وكأنما تسكن نفسه شخصيتان متناقضتان؟!
عن هذا الشيء أنشأتُ فصلاً طويلاً في العدد الماضي من هذه المجلة، أبنت فيه كيف أن(440/25)
علم النفس في اتجاهه الأخير أصبح يأخذ بما قرره العلماء والفلاسفة من أن كياننا النفسي الكامل يتألف من العقل الظاهر (الوعي)، ومن العقل الباطن (اللاوعي)، وأننا في تصرفاتنا خاضعون إلى التيارات الخفية التي تنطلق في واعيتنا الباطنة، وأن عقلنا الظاهر لا يستطيع أن يفسر اللوامع الخاطفة التي تبدر من هذه الواعية الباطنة، فتسلمنا إلى التناقض وإلى التعقيد، حتى نبدو وكأنما تعيش فينا شخصيتنا تتناقضان أحياناً.
على هدى هذا الاتجاه الأخير الذي يساير العلم في تقدمه، سنأخذ في نقدنا هذه المسرحيات من الناحية النفسية. وأغلب الظن أننا سنجد تفسيراً كافياً لتلك التعقيدات النفسية التي تتمثل واضحة ملموسة في شخصيات: (الصعلوك)، (مؤنس بك)، (فضل الله باشا)، إذا حاولنا أن نرد كل تعقيد نفسي فيها إلى حقيقته اللانهائية التي تتجاوز مناطق الذكاء وحدود البيئة والوراثة، ولم نعبأ بأعراض العقل الظاهر أكثر من أن نتخذه دلالة ظاهرة لأشياء مضمرة، وتغلغلنا منحدرين إلى أعماق النفس ومتاهاتها، حيث تتحوى الغرائز وتنطوي على نفسها مكبوتة مغلولة، وحيث تصطخب تيارات خفية لا تتراءى على سطح الروح الذي قد يعدم هدوءاً ظاهراً.
لنبدأ بمسرحية الصعلوك
الصعلوك في مسرحية تيمور هو (دردير أفندي) وحكايته تبدأ بمجرد ما يقدمه المؤلف إلينا؛ فنراه يقتحم خدر الفاتنة (وحيدة هانم) وهي واحدة من بنات التفريط وأشباه الحرائر. يقتحمه بسلاحه المألوف وهو تصعير الخد والملق والاسترضاء بالدعابة وإثارة الفضول. وإذ يلمح الرضاء في عيني الفاتنة الحُوَّل ويستوثق من غبطة مزاجها يصارحها بأنه يحمل في جيبه أوراق نقد مالي قيمتها ألف جنيه ربحها بطريق اليانصيب، وأنه معتزم أن يهبها لمن ترضى أن تقضي معه ليلة حمراء تمنحه فيها أفاويق اللذة الحسية. إنه يخرج أوراق النقد من جيبه وبعدها فلا تلبث (وحيدة) أن تهب مدومة شباكها فوق رأسه في تلميح لا يخفى عليه، ويحس بأنه نائل منها ما عز عليه مناله من قبل. هاهي خمر (الشمبانيا) تطري حنجرة سيد الساعة، وهاهي (وحيدة) ذات الحول والطول بأناقتها وجاذبيتها قد تهيأت لتقدم له ما يبتغيه. الفرصة سانحة، والليل يستر العاشق ويبعث رواقد الأحلام، ولكن. . .(440/26)
ولكن بدلاً من أن نرى (دردير أفندي) يهوى بذراعيه يعتق المعوقة المستسلمة ويروي ظمأه حسه منها، إذ به يأخذ بأطراف حديث لا علاقة له بجوهر الموضوع القائم بينهما:
حديث خيالي عن الجمال وقداسته؛ والحرير الأبيض - شبيه خدها الناعم - ولطيف ملمسه، وكيف تنتهك حرمة نصاعته إذا تأتي أن يدب عليه ذكر خنفس أسود مهما كان يحمل هذا الخنفس على ظهره من كريم الجوهر الغالي؛ ثم لا نلبث أن نرى (دردير أفندي) يحطم الكأس التي في يده ويخرج الأوراق المالية من جيبه، وينهال عليها دعكا وتمزيقاً في ثورة صاخبة، يشتبك فيها الضحك بالبكاء؛ فلا تلبث وحيدة أن تنهال عليه بالشتائم والضرب وتطرده شر طردة لتستلقي بعد ذلك على وجهها وتشتهي بالبكاء في غيظ ثائر!
الآن نتساءل كيف بدرت هذه البادرة الغريبة من الرجل وليس فيما سبق منه ما يمهد لها أو يبعثها؟ كيف استقيظت هذه الخالجة الطارئة لتبدو في نطحة نفسية عجيبة؟
قد يقول قائل إنها الخمر التي أفقدته رأسه وأسلمته إلى هذا الهذيان؛ ولكننا نقول - دفعاً لهذا التعليل - إن الرجل متمرس بالخمر يصمد لحمياها كما تشير إلى ذلك حياته السابقة. وفوق هذا فإنه لم يحتس من أخف أنواعها - وهي الشمبانيا - غير أربع كاسات!!
(قد يقول قائل - والقائل بهذا أحذق من الأول -: إن الرجل لابد أن يكون عنيناً هامد الحس فافتعل هذه الفعلة يفتدي بها فضيحة، وفي دفع هذا التعليل نقول إن المؤلف لم يشر إشارة صريحة أو غير صريحة إلى هذا الأمر.
إذن ماذا!
فلنحاول أن نرد دردير أفندي هذا إلى حقيقته
(دردير أفندي) هو - كما رسمه المؤلف - واحد من ذلك الصنف الإنساني الذي أعرفه باسم المفلس الطروب. هو الرجل فقير بجيبه غني بنفسه، حبته الطبيعة القلب الكبير والحس المرهف، ولكنها لم تحبه الحظ المادي الذي يجعل حياته تستقيم على ما تقتضيه كرامة حسه وقلبه. هو جواب ذليل لآفاق الترف والنعيم لا يأخذ منها غير ما يؤذن بأخذه لكلب مدلل أو قط مرموق. بل هو أدنى مرتبة من ذلك. إنه مسخ يتفكه بنفسه كما يتفكه به الناس من أهل اليسار وفي مقدمتهم معشوقته (وحيدة). وأعجب من هذا أنه يحس بكل شيء فيه، فهو الضحكة الذي يعي موضع الفكاهة والسخرية فيه، وهو الصعلوك المؤمن(440/27)
بصعلكته. مثل هذا الشخص يحب العالم ويمقته في آن واحد. يحبه بعقله الظاهر، فتراه متهالكاً على ملاذه بقدر ما لديه من وسائل محدودة. وهو يكرهه بدافع شيء آت من وراء الوعي. لأن هذا العالم قد أذله وحرمه ما تتوق نفسه إلى اجتنائه دائماً، فتراه يسخر؛ وإذا هبط عليه شيء من المال بطريق الكسب الطارئ - سباق، ميسر، يا نصيب - لم يتوان عن القضاء عليه بالإنفاق السريع المتلف، وكأنه بدافع لا شعوري يثأر لنفسه من المال الذي يطول دائماً ارتقابه إلى مجيئه، وكأنه أيضاً، وبنفس الدافع اللاشعوري يلتمس التمتع بمظاهر الفخفخة والعظمة المادية التي حرمها بمجرد أن تصل إلى يديه وسائلها، وهي المال. فهو يلقي به إلى البوار من أجل متعة عابرة بها، هو يفعل كل هذا لأن عقله الباطن متشوف تشوفاً مكبوتاً إلى هذه المظاهر. ولعل هذه الظاهرة النفسية العجيبة تفسر لنا بعض ما نلحظه كثيراً في سلوك معوزين وفقراء يحبوهم الحظ السعد في لحظة بمال غير قليل فنراهم يتلفونه إسرافاً وتبذيراً بدلاً من أن يقيموا عليه ويتدربوا في صرفه. هذه هي حقيقة (دردير أفندي) بكامل كيانه النفسي، أي بعقله الظاهر وبعقله الباطن. . .
بعد هذا، ألا يرى القارئ معي أن هذه البادرة الغريبة من جانب (دردير أفندي) في إتلافه المال الذي يملكه وهو واقف أمام معشوقته إنما ترجع إلى أمرين مأتاهما العقل الباطن: الأول يقظة الثأر من الحرمان الذي يكابده في المال وما يجره من أسباب المتعة، وهي يقظة جامحة تستنفد كل مدد في العناصر التي تتاح لها حتى تقضي على نفسها وعليها. فالمتعة لا تستقيم في نظره إلا إذا استنفدت كل معينه من الوسائل المادية، فيكون قد جرى، فيما أتاه، على مألوفة في مواقف سابقة تحدث عنها في الرواية وكلها تشهد بأنه قد ألف القضاء على كسب طارئ من غير مبرر معقول!!!
والأمر الآخر انتفاض خالجه هامدة ارتفعت فجأة من أعماق الغرائز، وقد تهيأت لها الظروف، فأراد أن يثأر لنفسه من الذل الذي فرضته عليه هذه الغانية (وحيدة)، هي ودنيا الغني اللتان دأبتا على أن تتخذا منه ضحكة وبهلولاً!!
وقد يتساءل القارئ كيف ثأر (دردير أفندي) لنفسه من (وحيدة)؟ والجواب واضح لا يحتاج إلى تبين لأنه واضح في سياق المسرحية.
ونعود فنقول: أتى هذا الرجل كل هذا، وخرج على العقل والمنطق وهو لا يشعر، لأنه إنما(440/28)
كان مسيراً بعقله الباطن الذي تكمن فيه الغرائز مكبوتة بفعل المختلق من الأوضاع الاجتماعية أو بضغط الظروف القاهرة. وما حديثه عن الجمال والحرير والخنفس إلا صدى ما ركبه عقله الظاهر، وهو عقل لا يملك إلا التكييف السطحي لتصرفاتنا وانتحال الأسباب وفاقاً للمنطق. كما أن الحديث نفسه هو وسيلة المؤلف للتعبير والتعليل وأداته للإيضاح، وهو يحاول متعثراً أن تنشئ علاقة بين هذه البادرة الباطنية الغامضة، وبين الواضح والمعقول في أقوال وأفعال (دردير أفندي)
ولابد من الإشارة إلى أن المؤلف أطال في تعليل وتفسير هذه البادرة أو هذه العقدة النفسية، لأنه نحا في هذا نحو الكتاب الرومانسيين كما يتضح ذلك في بحثنا السابق عن اتجاهات علم النفس في مراحل المسرحية.
نعم إن تيمور صاغ مسرحيته على أساس الرومانسية، فلم يكن له بد من أن يجري على شرعتها في تفسير العقدة النفسية، وهو في هذا قد أحسن التمهيد لهذه العقدة، وذلك الانطلاق الغريزي في ناحية من نواحي النفس بأن جعل (دردير أفندي) يحتسي خمراً، والخمر تساعد على إيقاظ هوامد النفس وانطلاق الرابض المكبوت في أعماقها، وتعمل على إسقاط القناع الذي تخفى النفس وجهها الأصيل وراءه.
وليس في جرى (تيمور) على سنة الرومانسيين في إنشاء مسرحيته هذه ما يسلب شخصية الصعلوك طرافتها من الناحية النفسية، إذ أن شخصية (دردير أفتدي) عريقة في إنسانيتها تحيا بيننا ونحس بها، هي أنموذج بشري طريف سجل سماته قلم تيمور في عالم المسرحية المصرية.
(للحديث بقية)
زكي طليمات(440/29)
الحرب والطبيعة البشرية
للأستاذ محمد أديب العامري
لا يظهر للقارئ من الكلمة التي أرسلها الدكتور محمد حسني ولاية أن نزعتان جنسيتان، مع أن ذلك هو خاصتهما كنزعتين؛ وإنما يظهر له أن هاتين النزعتين صفتان في البشر عامتان فقط، وأنهما تكتمان آناً وتبدوان آناً آخر على صورة مصطنعة وفجائية.
وربما كان الدكتور ولاية يحب أن يورد النزعتين مردودتين إلى أصلهما البيولوجي، ولذلك كان ما يمكن أن يفهم قارئوه من السادية أنها نزعة تعني (أن يهدم الإنسان سواه ليخلو له الجو ويستأثر بالحياة. . . أما الماسوشية، فتعني أن يهدم الإنسان نفسه).
(ويؤدي العرف في أوقات السلم) في نظر الدكتور أيضاً (إلى أن يكبت الرجل شطراً من ساديته لينسجم مع المرأة والبيئة، أما في زمن الحرب فتتحكم السادية في العقل الواعي، وحينئذ يتحكم الحيوان الرابض في الأعماق. . . وحين تسير الجيوش لملاقاة العدو يتناسى كل جندي شخصيته، ويعود إلى ماضيه الفطري، ويعمل كما كان يعمل آباؤه الأولون، وهو في هذه الحالة وهذه الإرادة البشرية الأزلية. . .)
وهذه التعاريف والاستنباطات القطعية التي تحمل طابع العلم الذي يؤمن به الناس اليوم ويخضعون له كانت تكون يسيرة الخطر لو أنها - على ضعف مبرراتها - لا تنتهي إلى تثبيت فكرة الويل والدمار والهلاك الرانية على قلب العالم؛ فلا يمكن أن يفهم قراء الدكتور ولاية إلا أن الحرب على شكلها الحاضر متصلة بنزعات عميقة، وإلا أن المحارب يشتق نفسيته من هذه النزعات المتأصلة؛ ومن هنا بطبيعة الحال ستسمر الحرب هكذا، بل وتشتد جيلاً بعد جيل إلى ما شاء الله!
والذي أرى هو غير هذا في المقدمات وفي النتائج
فالسادية والماسوشية - كما يرى كرافت إبنج وفرويد وغيرهما - إنما هما نزعتان متصلتان بالجنس مباشرة كما سبق أن أشرنا، وإنهما في حالة بروزهما تعتبران انحرافاً جنسياً - أي نوعاً من أنواع الضعف التناسلي - ويعتبر لخت أن عدم وقوعه على إشارات سادية وماسوشية في المصادر الأدبية اليونانية يدل على أن حياة اليونانيين كانت حياة صحية (يقصد الحياة التناسلية)(440/30)
أما تصوير هاتين النزعتين كأنهما دافعان أساسيان للحرب والقتل الدائر اليوم أو مثله، فليس له مبرر؛ ولكن الذي له مبرر فيما يظهر هو أن الأصول البيولوجية لهاتين النزعتين ترجع إلى (الحاجة إلى التغلب على أية مقاومة يبديها الهدف الجنسي، ولا تجدي معها حركات المداعبة). وهو تعليل بسيط قريب الصلة بالمظاهرة التي نحن بصدد الكلام عنها.
اجل، ترتد النزعتان في نظر بعض العلماء - وهذا إذا تعمدنا تعمقاً أشد - إلى شهوة أكل الإنسان اللحوم البشرية (أي خدمة غريزة حب السيطرة)، ولكن هذا مشكوك فيه كثيراً كما سيتضح الآن
ومهما يكن من أمر فالمرد الأساسي للسادية والماسوشية غير مؤكد الآن، ولذلك يرى (فرويد) أن التفاسير الموضوعة لأصول هاتين النزعتين غير كافية، وانه من الممكن أن تكون هنالك دوافع نفسية عديدة ومتحدة لتكون هاتين النزعتين
وليس صحيحاً أن يقف الناس عندما انتهى إليه فرويد أو غيره من الثقاة؛ ولكن الدكتور ولاية يقول بأن (كل إنسان - رجلاً كان أو امرأة - يحمل نزعة السادية متوازنة مع نزعة الماسوشية). وهذه بالطبع حالة الإنسان العادي. ويقول هفلوك إليس أيضاً إن (جميع حالات السادية والماسوشية تبدي آثاراً من النزعتين في الفرد الواحد نفسه).
وواضح من اجتماع النزعتين دائماً في فرد واحد أن وجودهما معاً لا يمكن أن يعزي إلى شهوة العدوان، ومن ثم غريزة حب السيطرة (دع عنك القتل الإجماعي - الحرب) لأن هذا التأويل إن وضح للسادية فلن يوضح الماسوشية، إلا إذا قلنا إن الإنسان يشتهي أن يقتل نفسه، وهذا يغاير ما تنزع إليه غريزة البقاء، التي لا يرتاب في أصالتها وسيطرتها وشمولها
وإذا كانت الحرب تطوراً للسادية فماذا ترى يكون تأويل دخول المرأة في معترك الحروب اليوم؟ وإذا استمرت الحرب أزمنة طويلة قبل أن يكتشف الناس غباوتهم فيها - فلا ريب أن المرأة ستسير جنباً إلى جنب في الحرب مع الرجل. فهل تصلح الماسوشية، وهي النزعة المتغلبة في المرأة، تأويلاً لمظهر هذه الحرب أيضاً؟
وخلاصة ما أريد أن أقول هو أن هاتين النزعتين كما نعرف هما اليوم جنسيتان، وأن أصولهما غير مؤكدة. على أنه مهما تكن هذه الأصول فمن المؤكد أنها أصول لا تمت إلى(440/31)
الحرب الإجماعية بسبب
وإذا كان العدوان أصل السادية فإن ذلك لا يعني أن تتطور هذه النزعة في اتجاه العدوان متضخمة. إذا تضخمت السادية كانت انحرافاً جنسياً. ذلك نعلمه بالتأكيد. وهفلوك إليس، وهو ممن أكبر ثقاة المسألة الجنسية، يرى أن (القتل الإجماعي بالحرب ليس طريقه اجتماعية غير ملائمة لدور الحضارة الحالية فحسب، بل إنه على اٌلإطلاق لا أساس له في العالم).
وارجح الرأي أن الدكتور ولاية يفرض أولاً أن الحرب شيء أزلي أو يتفق مع الطبيعة البشرية ثم يمضي ليجد الأسباب العلمية لهذا الغرض. ولما لم تكن الحرب في شكلها الحاضر شيئاً يتفق مع الطبيعة البشرية، ولا مع درجة الحضارة الراهنة للبشر، على أقل تقدير، فإن أية محاولة لإقامة هذه الظاهرة - الحرب - على أساس علمية تكون اصطناعية
إن من السهل أن نلاحظ أن الجندي لا يذهب إلى ساحة الحرب راضياً، وإنما يدفع إليها دفعاً. فإذا ضحى فيها لم يكن عدوانه إلا مظهراً من دفاعه عن نفسه. إنه إن لم يقتل من يواجهه فهو مقتول لا محالة. فقتل غيره هو أضمن السبل لخلاص نفسه. وواضح أيضاً أن الجندي يحب في كل وقت من أوقات الحرب أن يُسرّح ليعود إلى أمنه وطمأنينته، سواء أكان الجيش الذي يحارب فيه مغلوباً أو منتصراً.
إن الحرب الإجماعية على شكلها الحاضر لا تتصل بالنوازع البشرية أو بالغرائز، وإنما تقوم لمصلحة أناس محدودين ضاق نظرهم وتكمن الخوف من نفوسهم. وتشمل هذه المصلحة الدوافع النفسية الملتوية والدوافع المادية على السواء. إن سواد الجنود يحارب لغير دافع من نفسه، فالقتل للقتل صفة غير معروفة. والدكتور ولاية يرى هذا فيقول إن الجندي عندما ينعم النظر في (وعي ذاته ويشعر بأنه شخصية قائمة بذاتها لا تستطيع روحه الاندماج مع الروح التي تقود زملاءه الجنود إلى التلاحم). وهذا القول يقرر أن الوعي البشري مخالف لروح الحرب التي يظن القارئ لمقال الدكتور أنها أزلية فتستمر ابد الدهر مستمدة نفعها من أعماق الطبيعة البشرية.
(السلط)
محمد أديب العامري(440/32)
قيمة الحرية
للصحافي العالمي ويكهام استيد
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
(من الممكن عندي صياغة جميع المسائل المتعلقة (بقيمة الحرية) في أسئلة ثلاثة:
1 - هل الشخصية الحرة كعنصر من عناصر الحياة البشرية أنبه شأنا وأعز جانباً وأنفس قيمة من تلك الشخصية التي تنطبع وتتشكل وفقاً لمشيئة قائد أعلى حاكم بأمره في مصادر
وموارد الدولة الاستبدادية المطلقة؟
2 - هل يتوقع لإرادة الفرد الحرة أن تخطو بمصالح البشر إلى الأمام أكثر مما يتوقع لإرادته التي تدرج من المهد إلى اللحد على منهج موضوع يصيرها خاضعة لكلمة القيادة العليا خضوعاً غبيا ومطيعة لها طاعة عمياء؟
3 - أليس هنالك من ضرر يتهدد الجنس البشري، ومن خطر على تقدم المعارف وانتشار الثقافة، ومن خوف على كل شيء نفهمه عن طريق (المدنية) بنشوء هذه الجماعات الفقيرة التي تسير في مناهجها على نمط واحد، وتجري في تفكيرها على أسلوب واحد، وتنطلق خائفة مذعورة كقطيع من الغنم أمام راعيها؟)
ويكهام استيد
من القضايا التي يزعمون أنها من بداءة الرأي قولهم:
(لكل بلاد ما تستحقه من صحافة)، وإذ نفرض صحة هذه القضية م غير أن نسلم بحجتها يسعنا أن نتساءل: (وأية صحافة نستحقها نحن؟)
والجواب على ذلك ليس بالأمر الهين؛ فقد جاء في مقال لكاتب إيطالي - أغفل اسمه - نشر في كتاب سنوي فاشي عن الصحافة الإيطالية قوله: (إذا كانت بريطانيا العظمى لا تزال تملك صحفاً تشغل مكانتها بين خيار صحف العالم، فإنها ما برحت تملك صحفاً أخرى هي بلا شك أسوأ الصحف في العالم، أو على أي حال في أوربا). وإني لا أجد بصدد هذا النظر سوى أسباب ضعيفة أخالفه الرأي فيها. اللهم إن صحافتنا حتى أسوأها شأناً ما زالت إلى الآن لا تخضع لأي رقابة رسمية، أو تستعبد لأية قيادة حكومية؛ إذ لا يسعنا أن تجمع(440/34)
بين النقيضين: حرية الصحافة وقيود الرقابة.
والحرية التي سمحت لجريدة إقليمية كبرى (كالمنشستر جارديان) بأن تنادي غير هيابة بالحقائق اللازمة لسلامة الكيان السياسي بأجمعه؛ والحرية التي أباحت لصحيفة التيمس عام 1852 أن تلقى على رجال السياسة درساً قيماً عن وظيفة الصحافة الحرة في المجتمع الرشيد، لا يسعنا أن نقيدها جملة رجاء أن نتخلص من الخبيث الضار ونحن نعني بتنشئة الطيب النافع.
ولكن هل الحرية شيء محبوب لذاته عظيم في نفسه، حتى أنه يصبح لزاماً علينا أن نتحمل من أجلها ما هو أقل صلاحية وجودة من شؤوننا؟
إننا عندما ننعم النظر فيما للصحافة البريطانية اليوم من شأن وفيما قد يتهيأ لها من مستقبل تصادفنا تلك القضية القديمة وأعني بها ما لحرية من مكانة وقيمة، فإذا هي منها بمنزلة الأساس من البناء والأصل من الكائنات.
ولقد صار واجباً على جيل أن يحل مشكلات هذه القضية لنفسه. أو ليس يتفق مع طبيعة الحياة الإنسانية اتفاقاً كبيراً ما صاغه جوت صياغة ماهرة في عبارته الخالدة إذ قال: (إذا شئت أن تحتفظ بما ورثه لك آباؤك، فعليك أن تهيئ نفسك لأن تكون قادراً على استرداده والظفر به).
وعندي أن الحرية لا ترتبط ارتباطاً كلياً أو جوهريا بالحالات المادية أو بطرق الإنتاج الصناعي على الرغم مما يذهب إليه كارل ماركس في مذهبه.
وقد توجد علاقة دقيقة بين حق الفرد في أن يظفر بنصيب من الملكيات الخاصة وحقه في التمتع بحريته الإيجابية، إذ القضاء على جميع الملكيات الخاصة من شأنه كما يتوقع له وينتظر من مصيره أن يعتمد الأفراد اعتماداً تاماً على الدولة ينتهي بأولى الأمر فيها إلى حال لا يحتملون معها الأفعال أو الآراء التي لا يرحبون بها، ولا يسمحون للناس معها أن يتبرموا بها أو يلوموهم عليها. اللهم إلا معارضة سالبة صامتة تتردد في صدور البرمين بالأوامر العالية، وإن كانت الحرية المنشودة لجميع المقاصد الحيوية والأغراض العملية هي حرية الكائنات البشرية في أن تعبر عن وجودها وتفصح عن غايتها بالكلام أو الكتابة أو العمل في حدود القوانين التي هي نتاج التشريع الحر والقبول الطليق فإن الصمت(440/35)
الإجباري وكم الأفواه لا يختلف كثيراً عن إلقاء العقول في غياهب السجون.
والصحافة، وحق الرأي العام في الإفصاح والتعبير وعقد الاجتماعات والنظم النيابية. وسائر المميزات الأخرى للنظام الديمقراطي كل أولئك يحمل معنى الحرية لأنه سبيل المجتمع إلى التعبير الحر والرأي الطليق، وهيهات أن يتهيأ للشعب أن يظفر بحريته بمعناها السياسي ما لم يكن له الحق في النقد والمعارضة. ويندر أن تطمئن عقول الرجال لأسس الحياة وتقبلها قبولاً حسناً ما لم تمتحن هذه الأسس بأذى يهددها أو قوى تنكرها أو تتجاهلها. ولعله بسبب ما يتهدد الحريات الأساسية الآن من عبث العابثين واضطهاد المضطهدين، أو من إنكارهم عليها في مثل هذه المساحات المترامية الأطراف من أوربا والعالم، أن يكون لها قيمة وشأن، أن انصرفت الرغبة أخيراً للتفكير في تلك الأسس. ولتقصي مصادر تلك المذاهب التي بلغت من نفوس أجدادنا ما تبلغه العقيدة الصادقة والإيمان المتين، ولمعرفة ما إذا كان يجب أن تصبح تلك العقائد محلاً للجدل أو هدفاً للانقلاب الاجتماعي وهي العقائد التي قاسى الناس الأهوال في سبيلها ولم تستقر في نفوسهم إلا بعد كفاح أجيال متعاقبة، سأذكر هنا النتائج التي انتهى تفكيري إليها بعد إعمال الفكر في هذه المسائل وفي الكثير من نظائرها وتقصي ما لها من شأن وقيمة، وسوف يتضح من أمرها أنها تمت بصلة وثيقة لمستقبل الصحافة.
إنه لم يكن بالأمر العارض في إيطاليا وألمانيا - وفيهما اختفت الحرية وباتت الصحافة مجرد آلة للدعاية القومية أو الدعاية الخارجية، أن ينادي بالحكومة التي تخدمها تلك الصحافة (كحكومة استبدادية) وأي بحث قائم على التفكير السليم فيما للحرية من قيمة يحملنا فوراً على أن نمحص الحوار القائم بين (السلطان المطلق) و (السلطان النسبي) وينتهي بنا عاجلاً أو آجلاً لأن نقرر أن قوام الحرية العالية هو الإنكار الدائم للسلطان المطلق سواء أكان عقلياً أو روحياً أو سياسياً، وأنها نتاج التجارب المستمرة التي تتهيأ لعقولنا ومشاعرنا، وأنها ثمرة الاتجاه المتواصل لعلاقاتنا وقيودنا الاجتماعية نحو المثل العليا.
والقيود التي تحد من حريتنا في التصرف الآن ترجع إلى القوانين أو الالتزامات التعاقدية، أو إلى عادات المجتمع الذي نرتبط به. والحرية التي ننعم بها الآن هي (شرطية) كما(440/36)
يعبرون عنها في الاصطلاح السياسي، بمعنى أنه يجب ألا تتعارض مع سلامة المجموع الذي تملك تغيير زمام هذه الحرية وتنعم بجناها. وهذه الحرية لا تمت بصلة إلى الحرية الصورية التي صورها (روبنسن كروزو) على رفعة جزيرته. تلك الجزيرة التي لم يسكنها إنسان قبل أن يبعث فيها إنسانه (فرايداى) إذ بوصول هذا الرجل إليها بدأت تدب فيها عناصر البيئة التعاونية وأسس الهيئة الاجتماعية. وعلى ضوء هذه الاعتبارات جميعاً غدت حريتنا الاجتماعية أو السياسية وهي ليست بالحرية المطلقة. وكلما قدر للمجتمع أن يتجاوز حالته البدائية تجاوزاً نسبياً تلك الحالة التي قد ينعم فيها كل رجل بحرية واسعة المدى يستمد معها قانونه من مشيئته كلما صارت حرية أفراده وهي أكثر اتصالاً وأشد تقيداً بحرية الآخرين. وهي أيضاً أقل إطلاقاً وأكثر خضوعاً للأوضاع والقيود الاجتماعية. ويسعنا أن ندعو هذه الحرية المقيدة (بالحرية الواقعية) ما خضعت لتلك القيود الأجنبية لتلك القيود الأجنبية عنا، والمستقلة عما لأشخاصنا من رغبة أو كراهية؛ كما تتقيد حريتنا بقيود أخرى يسعنا أن نسميها (بالقيود المعنوية) ومثل هذه القيود إذ نألفها ونهيئ أنفسنا لأن نسكن إليها، يخف حملها ولا يشق علينا أمرها. فلا نشعر معها بشيء يقيد حريتنا. لأننا في الواقع لا نتأذى مما يقيد حريتنا من الناحيتين الاجتماعية والمادية لمجرد أنه تقيد لحريتنا فحسب، بل نتأذى به إذا ما أحسسنا بثقله وضقنا به ذرعاً، فنحن بعبارة أخرى نتأثر بقيود حريتنا (المعنوية) أكثر مما نتأثر بضوابط (حريتنا الواقعية) التي لا يشق علينا شيء من أمرها حتى أحسسنا أنه ما من شيء يدعونا للثورة على القوانين أو للتمرد على العادات والنظم؛ وشأننا في ذلك كشأننا مع قوانين الجاذبية من ناموس الطبيعة التي إذا ألفناها لا نجد من سبب للثورة عليها.
ولكننا مع ذلك بحاجة لأن نكون على حذر من أمرنا قبل أن نقبل أسس الحرية التي نساق لها أو تساق إلينا، ولا سيما إذا كانت تلك الأسس من ذوات الطابع (المعنوي) وإلا انتهت قيود حريتنا بأن تستبد بنا استبداداً واسع المدى بالغ الأثر. فننتهي معها إلى أن نصبح عاجزين عن الاحتفاظ بحريتنا في التفكير أو القول أو العمل. وآنئذ نفتقد عقائدنا وبالتالي إرادتنا في مقاومة التدخل في شئون حريتنا الواقعية. ويكون من أمرنا أن نتساهل فيما لا يجمل التساهل فيه، وأن نستبيح في حق أنفسنا أن تخوف بالاستبداد المنظم الذي يشق(440/37)
علينا أمره ويصعب علينا احتماله. وعلى ضوء هذه الاعتبارات جميعاً كانت أولى النتائج التي انتهيت إليها من دراسة قيمة الحرية. إن من صواب الرأي أن نعلم أن الاستبداد بالرأي هو الشيء الوحيد الذي يلزمنا ألا نتسامح فيه إذا أردنا أن نظل أحراراً. لذلك كان لزاماً علينا مثلاً أن نتسامح في أمر الصحف الرديئة لنظل أحراراً في أن نحتفظ بصحافة طيبة، وهذه النتيجة تعود بي إلى قضية النسبية. فالأصل في التسامح أن يثير الموازنة بين الحرية المطلقة والحرية المقيدة، وهذه الموازنة تنتهي بنا لأن ندرك أن جميع الحقائق نسبية، وأنه لا توجد حقيقة واحدة مطلقة سياسية كانت أو اجتماعية. وأن ندرك أيضاً أن الأمر لا يقتصر هنا على وجوب التسامح في الآراء والعقائد، بل يتجاوزهما إلى التسليم بالحق في النقد والاعتراف بحرية النقد، تلك الحرية التي أصبحت الآن عماد حرية الفرد ومصدر ما يصيبه من نجاح في الثقافة أو العمل، إذ تحمل في ثناياها المميزات الأساسية للجماعة الحرة، تلك المميزات التي يفصح عنها ما ينطبع في الشعب من سجية التسامح في الآراء التي قد لا يسلم بصحتها الكثير من أفراده، ولا تروق في أعين غالبيتهم. وإذا ما تسامح الناس في تقبل الآراء في الوقت الذي لا ينعقد لهم إجماع على صحتها، وإذا ما تأبوا على أنفسهم أن يبطشوا بها أو يضيقوا بها ذرعاً، وإذا ما حرصوا أن يكون سبيلهم في مناهضتها عن طريق المحاجة والإقناع، فإنهم على هذا النهج القديم يعترفون بحقيقة ما بين العقول البشرية من خلاف نزيه في النظر والتقدير. وأنه لأشد رعاية لحرمة الرأي البشري أن تمتحن المذاهب المختلفة عن طريق مقارنة الحجة بالحجة، ومقارعة الرأي بالرأي لا أن يفرض على الناس واحد من هذه الآراء أو تلك تحت سلطان القوة التهديد. والحرية السياسية لا تتفق مع تلك الحال التي يفرض فيها على الأمة رأي واحد، ويكون لزاماً عليها أن تتشابه فيها العقليات ويوحد النظر. بل هي على النقيض من ذلك تنهض على ما يجب أن ينعقد إجماع الشعب عليه من إباحة الاختلاف في الرأي، كما تنهض على أن يعترف الجميع اعترافاً إيجابياً عملياً بأن اختلاف الآراء في الهيئة الاجتماعية يجعل حياتها أخصب تربة وأكثر إنتاجاً مما يتيسر لها لو سارت على نهج واحد مناطراد المذهب ووحدة النظر. والجماعة إنما ينعم بحريتها على وجهها الصحيح متى كانت عادتها وقوانينها في الوضع الذي يفسح المجال لرأي الفرد ويهيئ الميدان لتصرفاته الشخصية، فلا تضيق الخناق على(440/38)
حريته في الرأي والتصرف إلا إذا أجراهما على نهج غبي لو ترك وشأنه فيه لحال بين الآخرين وتمتعهم بحريتهم
والفرد لا ينعم في الجماعة الحرة بما يظفر به من الحرية لمجرد أن قوانينها وعاداتها هي القوانين والعادات التي قد يفضلها على ما عداها، بل لأنه يحظى بنصيب كبير من توجيه شؤونها العامة والاجتماعية أن كان لكل مواطن حقه في أن يدلي برأيه في شؤون الدولة ويكون له أثره الفعال في توجيه سياستها وإن كان من واجبه إلى ذلك أن يخضع لحكم الأغلبية وأن يقاسم بني وطنه الحياة والعمل.
(يتبع)
زين العابدين جمعة(440/39)
16 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الخامس - الحياة المنزلية
أما القهوة فهي تصنع قوية لا تحلى بالسكر ولا تحفف باللبن. وفنجان القهوة صغير لا يسع الكثير منها. وهو من الخزف ولا أذن له. فيوضع في ظرف من الفضة أو النحاس تبعاً لحالة الشراب. وهو يشبه تقريباً في شكله وحجمه ظرف البيض عندنا ولتحضير القهوة يغلي الماء أولاً، ثم يضاف إليه البن بعد أن يحمص ويطحن حديثاً، ويقلب، ثم يعاد وعاؤه على النار مرات حتى تنضج القهوة رويداً رويداً، ثم تصب في الفناجين قبل أن يزول ما تكوّن على سطحها من القشدة ويحب المصريون القهوة الخالصة حباً شديداً، وقلما يضيفون أليها السكر؛ وبعضهم يحليها عندما يشعر بتعب. ولا يضيفون اللبن أو القشدة أبداً ولكن كثيراً ما يضعون فيها الحبهان. وتبخير الفناجين بالمصطكا شائعة. وقد يعطر الأغنياء القهوة بعطر العنبر اللذيذ. والطريقة الشائعة أن يوضع حوالي قيراط من العنبر في وعاء القهوة ويذاب على النار ثم تنضج القهوة في وعاء آخر بالطريقة السابق ذكرها، وبعد قليل تصب في الوعاء الأول (شكل 34) ومن الناس من يستعمل العنبر للسبب نفسه بطريقة مختلفة. فهم يأخذون قيراطين من العنبر بعود صغير يضعونهما في قاع الفنجان ويصبون القهوة بعد ذلك. ومثل هذه الكمية تكفي أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. وهذه الطريقة كثيراً ما يتخذها م يحب لنفسه شرب القهوة معطرة بالعنبر دون ضيوفه. وقد يقدم (بكرج) القهوة موضوعاً على جمر في وعاء من الفضة أو النحاس يسمى (عازقي) شكل 35 ويعلق هذه الوعاء في ثلاث سلاسل. ويقدم الخادم القهوة ممسكاً أسفل الظرف بين الإبهام والسبابة، وعندما يتناول الفنجان والظرف يستعمل كلتا يديه واضعاً شماله تحت يمينه.(440/40)
وتستعمل مجمرة تسمى (منقلاً) ويسميها العامة (منقداً) من النحاس المبيض بالقصدير ويحرق فيه البخور أحياناً. ويتلذذ المصريون بالعطور تلذذاً عظيما. وكثيراً ما يبخرون غرفهم، وأكثر المواد استعمالاً لهذا الغرض بخور من نوع رديء يسمى (بخور البز) ويستعمل كذلك الجاوي والعود.
وقلما يرى المصري ماشياً أبعد من عتبة داره إذا استطاع أن يقتني ركوبه أو يستأجر حماراً. ولكن القليل من أهل القاهرة والمدن الأخرى من يخاطر باقتناء جياد، معرضاً نفسه إلى الاشتباه في أنه يمتلك أموالاً زائدة تفرض عليها ضرائب ورسوم أشد مما كان سيتحملها بوجه آخر. وتحشى عدة الجواد الحديثة بالقطن وتغطي بالجوخ أو المخمل وتطرز أو تزخرف؛ ويزين اللجام عند الرأس والصدر بشراريب حريرية وقطع نقدية وغيرها من الزخارف الفضية. والعادة أن يركب البغال أغنياء التجار وكبار العلماء، وعدة البغال كعدة الحمير تقريباً وعندما يكون الراكب عالماً تغطي العدة بسجادة، وكذلك قد تكون العدة التي يستعملها النساء بالرغم من شدة الاختلاف بينهما. وتستعمل الحمير في شوارع القاهرة الضيقة المزدحمة. وهناك عدد كبير للكراء. واشتهرت القاهرة من زمن بجودة حميرها، فهي أكبر من حمير بلادنا وأفضل منها في كل ناحية. ويقدر ثمن الحمار الأصيل المدرب بحوالي ثلاثة جنيهات أو أربعة، وقد يزيد بعض الحمير على ثمن الجواد العادي. ويجهز الحمار بعدة محشوة يغطي مقدمها بالجلد الأحمر، ومقعدها بشرائط صوفية ناعمة، ويكون الركاب عالياً دائماً. ويتقدم الراكب خادم أو خادمان ليفسحا الطريق، ويحمل كل منهما (نبوتاً) قابضاً عليه من أسفل رافعاً إياه إلى أعلى. وقد يرافق الراكب للغاية نفسها خادم يجري بجانب الحمار أو أمامه صائحاً في المارة ليخلو الطريق يميناً أو شمالاً. ومع ذلك يجب أن يكون الراكب حذراً فلا يعتمد على خادمه كل الاعتماد لئلا تصرعه أحمال الجمل الكبيرة. وهذه الحوادث قد لا يكون مفر منها في شوارع القاهرة الأكثر ضيقاً والأشد ازدحاماً، وعندما ينزل السيد إلى منزل ما أو دكان ما يملأ الخادم له الشبك ويشعله ويقضي المصري أغلب وقته، إذا لم يكن له عمل منتظم يشغله في الركوب والزيارة، أو شراء حوائجه، أو في التدخين أو شرب القهوة كثيراً وعلى مهل، أو في التحدث مع الأصدقاء في المنزل، أو التنعم بترف الحمام ساعة أو أكثر صباحاً. وفي الظهر عليه أن يؤدي الصلاة(440/41)
إذا كان يقوم بفروضه الدينية، إلا أنني لاحظت أن القليل من المصريين نسبياً قد لا يهمل هذه الفروض، وأن هناك كثيرين يندر أن يقيموا الصلاة أبداً. وبعد الظهر مباشرة (إذا لم يكن فطوره متأخراً) يتناول غداء خفيفاً ثم يأخذ الشبك والقهوة. وعندما تشتد حرارة الجو لا يمنع نفسه من القيلولة. وكثيراً ما ينسحب ليستريح في الحريم حيث تراعي زوجته أو جاريته راحته أو تدلك له قدميه؛ وحينئذ، أو عندما يرغب في الخلوة يقول الخادم للزائرين إن السيد في الحريم، فلا يستدعيه أحد إلا إذا كان لعمل ضروري. وهو يتمتع مرة أخرى بين صلاة العصر إلى الغروب بالتدخين والقهوة بمصاحبة أصدقائه في المنزل أو في الخارج. وبعيد غروب الشمس يتناول عشاءه.
ويجب على الآن أن أصف وجبتي (الغدا) و (العشا) وكيفية تناولهما ونظامهما. ولم ألاحظ فرقاً بينهماً، غير أن وجبة العشاء هي الأهم. والعادة أن يجهز الطعام في العصر، وما يفضل بعد وجبة العشاء يقدم أثناء وجبة الغداء في اليوم التالي إذا لم يكن بالمنزل ضيوف. وعلى العموم يتناول رب الدار طعامه مع زوجته أو زوجاته وأطفاله. إلا أن كثيراً من الرجال وعلى الأخص رجال الطبقة العليا، يمنعهم كبرياؤهم أو يشغلهم ارتباطهم بمجتمعاتهم عن تناول الطعام مع العائلة، إلا في بعض المناسبات القليلة، وحتى بعض رجال الطبقة السفلي يندر أن يأكلوا مع زوجاتهم وأولادهم. ويجب على رب الدار عندما يكون في منزله صديق له أن يأمر بإحضار الطعام في وقته وهذا لابد منه إذا كان الضيف أجنبياً.
ويغسل كل شخص يديه، وفمه أحياناً، بالصابون والماء قبل أن يتناول الطعام، أو على الأقل يصب على يده اليمنى بعض الماء (أنظر شكل 36) وبحضور الخادم لذلك طستاً وإبريقاً من النحاس الأبيض أو النحاس الأصفر. وللطست غطاء به عدة ثقوب، وفي وسطه نتوء لوضع الصابون، فيمر الماء عند الغسيل خلال هذه الثقوب إلى داخل الطست بحيث إذا قدم هذا إلى شخص آخر لا يرى الماء القذر، ويعطي لكل فوطة.
والمائدة صينية مستديرة من النحاس المبيض، أو من النحاس الأصفر أحياناً، قطرها بين قدمين أو ثلاث أقدام. وتوضع على كرسي ارتفاعه حوالي خمس عشرة بوصة. ويصنع الكرسي من الخشب وقد طعم بالصدف أو الباغة أو العظم الخ.(440/42)
فالصينية والكرسي يكونان السفرة (أنظر شكل 37) وتوضع على الصينية أرغفة الخبز المستديرة التي سبق وصفها، كاملة أو مقطعة أنصافاً. ويصف معها حول الصينية أنصاف من الليمون لتعصر على المأكولات التي قد تحتاج إلى الحامض، وملعقة من خشب البقس أو الأبنوس أو الباغة لكل آكل. وكثيراً ما يستعمل الخبز بدل الصحون. وبعد ذلك توضع أطباق اللحوم والخضر على اختلاف أنواعها، جميعها مرة واحدة مرة واحدة تبعاً للعادة المصرية أو طبقاً طبقاً حسب الطريقة التركية. وهذه الأطباق تكون من النحاس المبيض أو الخزف.
ويجلس الآكلون على الأرض حول الصينية وعلى ركبتي كل منهم فوطته. أما إذا وضعت الصينية بجانب ديوان منخفض فيجلس البعض على الديوان والآخرون على الأرض. ولكن عندما يكثر العدد توضع الصينية في وسط الغرفة ويجلس الجميع حولها واضعين إحدى ركبتيهم على الأرض والأخرى (اليمنى) قائمة. وهذا هو الوضع المستحسن أثناء تناول الطعام (أنظر شكل 38) وبهذه الطريقة يستطيع اثنا عشر شخصاً أن يجلسوا حول صينية سعتها ثلاث أقدام. ويشمر كل شخص عن ذراعه اليمنى حتى الكوع أو ما تدلى من كمه. وقبل أن يشرع أحد في الأكل يسمى باسم الله بصوت منخفض ظاهر ويبدأ رب الدار بالبسملة. ويعتبر هذا ملاطفة منه ودعوة إلى المدعوين لتناول الطعام. وعلى من يقال له بسم الله أو تفضل أن يقول إذا رفض الدعوة (هنيئاً) أو ما شابه ذلك. وقد يكون ذلك أيضاً خشية شر العين إذا وقعت على الأكل. ويقولون في هذا: (لا بركة في الطعام إذا اشتهى). إلا أن الإلحاح الذي يدعو به المصرّي الأجنبيّ إلى مشاركته الطعام يبين أن الذوق السليم وواجب الضيافة يحتمان عليه قول البسملة. ويبدأ بالأكل رب الدار ثم يتلوه الضيوف مباشرة.
والمصريون لا يستعلمون السكين ولا الشوكة، وإنما يستعملون بدلاً منهما الإبهام وإصبعين من اليمنى. وتستعمل الملاعق لتناول الحساء أو الأرز أو غيرهما من الأصناف التي لا يسهل تناولها بدونها. وقد تستخدم اليدان معاً في أحوال سأذكرها الآن. وفي حالة ما توضع الأطباق جميعها مرة واحدة يغترف كل واحد من أي صنف يشتهيه أو من جميع الأصناف على التعاقب. وعندما يقدم الطعام طبقاً طبقاً يتناول الواحد من الطبق بعضه ثم سرعان ما(440/43)
يرفع ليقدم غيره. ومن الأدب أن تناول صديقك قطعة مختارة. وأرى أن طريقة تناول المصريين والشرقيين طعامهم بالأصابع أرق مما يتصور الأوربيون الذين لم يشاهدوهم أو لم يسمعوا الوصف على حقيقته. فالواحد منهم يأخذ من الخبز قطعة يغمسها في الطبق ثم يرفعها إلى فمه مصحوبة بقطعة صغيرة من اللحم أو غير ذلك من محتويات الطبق، وتكون قطعة الخبز مزدوجة بحيث تحيط بقطعة اللحم الخ ولا يستخدم عادة غير الإبهام والإصبعين الأولين. وإذا تناول شخص قطعة لحم على اللقمة وضعها عادة على رغيفه.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(440/44)
إلى (مي). . .
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
طرحتِ الحياةَ وعبَء الحياةِ ... يا سميرةً من كِبار السِّيَرْ
نعاكِ النعيُّ إلى الخافقينِ ... فعلّمني كيف يهوى القمر
مضيتِ كأن لم تكوني ضياءً ... ينيرُ القلوب ويجلو الفِكر
لعمركِ، لو قام قبل النشور ... رفاتٌ تلاشي وعظم نخِر
لقامت سكينة في إثر عمر ... ة تستقبلانك دون الحفر
نهار الثلاثاء يا (مي) حالَ ... محيّاه فهو شَجٍ مكفهر
لأقسم بعدك ما أن يرقُّ ... نسيمُ أصائله والبكر
تفقد مجلسَك المستطابَ ... وحلو الحديث وأنسَ السمر
وفكراً يُفيض على السامرينَ ... جمالَ خيالاته والصور
وإذ يَتْنَثّرُ طَلُّ الحديثِ ... على المنصتين نِثَارَ الزهَر
فتعبق حولك دنيا القلوبِ ... ودنيا العقولِ بنشْر عطِر
وتهفو النفوسُ، ويعنوا لسحرِ ... بيانك كلُّ بيانٍ سحر
مآثركِ الغرُّ تنبئُ كيفَ ... يُخَلّدُ كلُّ عظيم الأثر
كأني بها قَبَسَتْ من طهو ... ر سيناَء يا (ميُّ) تلك الغرر
اهذي (صحائفك) المشرقاتُ ... أم الذهن ضاَء خلالَ السُّطُر
وهاتيك أَهْيَ (سوانحُ) أم ثا ... قبُ الفكر جَلَّى طباعَ البشر
خَبَرْتِ الحياة وحالاتِها ... وأفعمتِ منها بحلوٍ ومُر
وكنتِ بِشرْعتها تعلمينَ ... فبينّتِ أحكامَها والعبر
تغلغل روحُك في سرها ... وكشَّف كُنهه ما استتر
وإذا جُزْتِ يا (ميّ) أسفارها ... وما هي إلا سبيلٌ وَعُر
إلى عالمٍ دقَّ تفسيره ... وليس لواردِه من صَدَر
فكيف وجدت لديه المُقامَ ... وكيف يُصرَّف فيه العمر؟
بربكِ هل تستريحُ إليه ال ... قلوبُ وتنعمُ بالمستقر(440/45)
بنفسي نُزُوعٌ إلى خُبْرِهِ ... فهاتي حديثكِ وأروى الخبر
هنالك أودعتُ نفساً صَفَتْ ... إذا نَغِلَتْ أنفسٌ من كدر
أخٌ إن عثرتُ أقال عثارى ... وكان ملاذيَ والمدَّخر
أحنُّ وأذكرُ آلاَءه ... فيصدعُ قلبي عذابُ الذكَر
وأنضرُ في إِثره العابرينَ ... فأشتاقُ لو كنتُ فيمن عَبَر
هنا ضقتِ بالعيش ذرعا فقَرِّى ... هنالك عيناً بطيب المقر
تُظلُّكِ من سدرة المنتهى ... غصون دنا ظلُّها وانتشر
فلا النفس تَوْهن من شِقْوةٍ ... ولا الروحُ يا مي تشكو الضجر
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(440/46)
البريد الأدبي
يوم (مي)
في يوم الخميس الماضي حفلت دار الاتحاد النسائي بصفوة من رجال الفضل والعلم أجابوا دعوة السيدة هدى هانم شعراوي لتأبين المغفور لها الآنسة (ميّ) وكان الكلام لنخبة من أمراء البيان جلوا مآثر الفقيدة في نواحي الثقافة والصحافة والسياسة والإصلاح، فتكلمت رئيسة الاتحاد عن (فقيدة العروبة النابغة)، وتكلم معالي الدكتور هيكل باشا عن (مي والسياسة)، وتحدثمعالي الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا عن (ذكريات مي)، والآنسة ابنة الشاطئ عن (مي الإنسانة)، والدكتور منصور فهمي بك عن (مي والعروبة والأمومة)، وألقى الأستاذان عباس محمود العقاد وخليل مطران بك قصيدتين من عيون الشعر. ثم تحدث الدكتور طه حسين بك عن (مي والأدب العربي)، والأستاذة عزيزة عصفور عن (رسالة مي)، والدكتورة نعيمة الأيوبي عن (مي والأبوة). ثم نهض الأستاذ أنطون الجميِّل بك فوجه الشكر عن أسرة الفقيدة إلى كل من شارك في هذا العرس الحزين بقلبه أو لسانه. ثم ارفض الحفل وفي قلب كل من شهده حسرة لاذعة على أفول هذا النجم الذي لمع في سماء الأدب حيناً ثم خبا والشرق أحوج ما يكون إلى وحيه وهديه. وفي العدد القادم سننشر جملة من مختار ما قيل. رحم الله الفقيدة الكريمة، وعوض الأدب من فقدها خير العوض.
هناء
أُعاود بعدما قال الأستاذ المكرّم علي الطنطاوي، فأقول: إني سئلت عن (الهناء) فأجبت بأنه مذكور في (تاج اللغة وصحاح العربية)، ولكن لا أدري الآن الحكم الصحيح، لأنه يجوز أن يكون في النسخة (المخطوطة) التي اطلع عليها الأستاذ سهوٌ، والعلم لله).
(وحيد)
تيسير الكتابة العربية
تجتمع في الأيام القريبة المقبلة لجنة الأصول بالمجمع اللغوي لإقرار مشروع (تيسير الكتابة العربية) في صورته الأخيرة بعد أن فرغت اللجنة التي كانت مؤلفة من بحثه ودراسته وإدخال التعديلات عليه. وأساس هذا المشروع اقتراح الأستاذ علي الجارم بك،(440/47)
ومبادئه الأساسية هي:
أولاً: يبقى للقرآن الكريم رسمه المأثور.
ثانياً: تبقى صور الحروف العربية كما هي:
ثالثاً: توضع علامات للحركات والسكون والتنوين، على أن تكون هذه العلامات داخلة في بنية الكلمات، لا هي فوقها ولا تحتها كما هو الآن، حتى لا يخطئ اللسان في بناء كلمة إعرابها.
رابعاً: الحرف المفتوح لا توضع له علامة اختصاراً، فترك العلامة دليل الفتحة، وقد اختيرت الفتحة لكثرة دورانها في الحروف، فترك علامتها اختصار كثير.
خامساً: لكل من الكسرة والضمة والسكون والتنوين علامة خاصة أشبه ما تكون بحرف جديد يتصل بالحرف الأصلي مباشرة.
وقد احتوى المشروع إلى جانب ذلك على قواعد تسهيل كتابة الهمزة والألف المتطرفة، وكذلك وضعت قواعد للتقليل من العلامات، وقواعد أخرى لمراعاة النطق في الكتابة.
ومما لاحظته اللجنة في دراستها للمشروع ما تقتضيه الناحيتان الخطية والطباعية، فروعي ذلك مراعاة عملية، توصلاً إلى إمكان تنفيذ المشروع في المطابع وفي الكتابة العامة.
والمنتظر أن تفرغ لجنة الأصول من إقرار هذه القواعد والعلامات، لتعرض على مجلس المجمع في جلساته الأولى المقبلة، حتى يعرض المشروع بعد ذلك بحذافيره على جمهور المشتغلين بالعلم والأدب والفن في مصر والبلاد العربية.
المؤتمر التعليمي العربي والأبحاث التمهيدية للدعوة إليه
اجتمعت في الأسبوع الماضي برياسة وزير المعارف اللجنة التي وكل إليها وضع منهاج لمؤتمر التعليمي الذي ستدعو إليه مصر الأقطار العربية، والذي تأمل وزارة المعارف أن تجعل منه فرصة مناسبة لتقريب الفكر العربي من المركز الثقافي في القاهرة، وأن نسعى به إلى تحقيق أمل قديم في جعل شباب الأقطار العربية يتلقون ثقافة متقاربة موحدة بقدر الإمكان.
وقد علمنا من بعض أعضاء هذه اللجنة أن أهم أعمال المؤتمر ستدور حول غرضين رئيسيين أولهما (الثقافة العامة) وثانيهما (المناهج المدرية). أما الغرض الأول فيقصد به(440/48)
ربط الشعوب العربية بلون ثقافي متجانس يستمد طابعه من المقومات المشتركة بين هذه الشعوب. وأما الغرض الآخر فمن السهل تحقيقه؛ وعند ذلك يمكن للطالب في أي قطر عربي أن يستكمل مراحل دراسته الثانوية أو العالية في أي قطر آخر - وخصوصاً الآن في مصر - من غير أن يواجه بسياسة تعليمية مضادة لما نشأ عليه.
وسيعني المؤتمر في الموضوعات التي سيتعرض لها بالمشاكل التعليمية التي تشغل البال اليوم في جميع البلاد العربية ومنها مصر وأهمها طرق التدريس، وفي هذا الشأن قد تنتفع الأقطار العربية من خبرة المصريين بطرق التدريس الحديثة؛ ولكن من المشكوك فيه الآن أن نحصل على اتفاق في توحيد المناهج في الوقت الذي راجت فيه عندنا فكرة التعليم الإقليمي أي وضع مناهج خاصة لكل إقليم على حدة بحسب ظروفه وحاجاته.
أسرة الشعر بكلية الآداب
حددت أسرة الشعر بكلية الآداب برنامجها هذا العام فيما يلي
1 - ترحب الأسرة بكل دراسة تحليلية للشعر في مختلف أوضاعه وللشعراء في شتى نزعاتهم ويتناشد الأدباء والشعراء في مصر والأقطار الشقيقة لهذه الغاية.
2 - ستقوم الأسرة بتنظيم حفلات نصف شهرية في أحد مدرجات الكلية لإلقاء هذه الدراسات وعرض الأشعار المنتجة وسماع الموسيقى والأغاني وستعطي للمستمعين فرصة للنقد والتعليق.
3 - ستصدر الأسرة مجلة (الشعراء) شهرية مؤقتاً تضم البحوث الفنية في الشعر وروائع الشعر الحديث والقديم.
4 - ستقيم الأسرة في نهاية العام (ليلة للشعر).
5 - المكاتبات تكون باسم حضرة سكرتير أسرة الشعر بكلية الآداب.
تحقيق تاريخي
قال الأستاذ أحمد أمين بك في مقال نشرته مجلة (الثقافة) بعددها 130: أن الشيخ يوسف الشربيني مؤلف كتاب: (هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف) من أعيان القرن الحادي عشر الهجري، وقد تعرض لكتابة (هز القحوف) بالتحليل في هذا المقال، ولا(440/49)
يعنيني الرد عليه في صورته التحليلية وإنما الذي يعنيني أن أذكر أن (الشربيني) من أعيان القرن الثاني عشر، لا من أعيان القرن الحادي عشر، وأنه كان من العلماء الأعلام، فلقد وقفت بخزانة كتب مولانا العلامة المؤرخ الشيخ محمد محمد حامد المراغي الجرجاوي على ما كتبه بخطه على نسخة (هز القحوف).
في الفهرست لدار الكتب الأميرية ص 213 ج 6 ما لفظه (هز القحوف) بشرح قصيدة أبي شادوف، تأليف العلامة الشيخ يوسف بن محمد بن عبد الجواد بن خضر الشربيني من علماء آخر القرن الحادي عشر كان موجوداً سنة 1109
وقد علق على هذا العلامة المؤرخ المراغي الجرجاوي بقوله: رأيت مؤلفاً اسمه (السيف الصقيل، في عنقي من يرد المطلقة الثلاث من غير تحليل) صرح فيه بالرد على هذا الضال، وأنه شرع في تأليفه يوم الثلاثاء سابع عشر المحرم من شهور سنة 1109 هـ ولفظه:
وبعد، فيقول العبد الفقير إلى الله تعالى يوسف بن محمد بن عبد الجواد بن خضر الشربيني، كان الله له ورحم أباه وسلفه، لما كان يوم الثلاثاء المبارك سابع عشر المحرم من شهور سنة 1109 هـ، وأنا قاطن بثغر دمياط ومحل الخير والرباط. . . الخ
ففي أوائل القرن الثاني عشر كان المؤلف على قيد الحياة، فهو من علماء القرن الثاني عشر، وهو من العلماء الأعلام، لا كما يقول الأستاذ أحمد أمين بك أنه كان من المهرجين.
هذه إلمامة موجزة أزجيتها لخدمة التاريخ، والله ولي التوفيق.
(جرجا)
محمود عساف أبو الشباب
رسالة المعلم الإلزامي وكيف ينبغي أن تكون
في العد السابق من (الرسالة) الزاهرة أبان صديقي الأستاذ (محمد كامل حته) ماهية رسالة التعليم الإلزامي من حيث هو (مادة) وأجلى للقائمين بالأمر من أن التعليم الإلزامي أسمى مما يظنه البعض نحو قصوره على محو الأمية فحسب.
وإتماماً للفائدة رأيت بهذه المناسبة أن أتكلم عن رسالة الذي عهد إليه عملية هذا البناء(440/50)
والذي وكل إليه مستقبل هذه الأمة وعن الأمانة التي وضعت في عنقه فحملها عن طيب خاطر ألا وهو - المعلم الإلزامي -
المعلم الإلزامي له رسالة داخل المدرسة حيث الطفل لا يزال كالعجينة، فهو الذي يصهرها ويصيغها كيفما شاء. وله رسالة خارجها: حيث الشعب وسواد في القرية والمدينة
ومن هنا يجدر بنا أن تؤمن بأن المعلم الإلزامي له شأن آخر يختلف عن زميله الجامعي أو العالي من حيث الأهمية والخطر. . . فهو رسول الأمة في تعليم أبنائها داخل المدرسة وخارجها
ولذا يجب أن تكون حياته ملأى بالمثل الصالحة الجديرة بإنهاض الأمة وتثقيف عقول أبنائها وتقويم أخلاقهم.
وأن يكون هدفه المباشر مصلحة الطفل في المدرسة وخارجها، وأن ينظر في أمر إصلاح القرية من نواحيها المختلفة؛ فهناك فساد النفوس وإعراضها عن الحق، وعلل الأجسام والأمراض الفاشية، وسوء الحالة المادية وفساد النظام الصحي.
وإن من أهم ما يثير حيويته حين ينشد الحياة الصالحة أن يكون عارفاً لنفسه حقها وأن يكون رجلاً أبياً عيوفاً ذا إرادة حديدية لا تغلب، وعزيمة جبارة لا تقهر، وأن يؤمن بشرف رسالته فيكون خير مثال يحتذي به في القول والعمل جاعلاً نصب عينيه التفاني في الواجب وإنكار الذات.
ولكن هل المعلم الإلزامي يعرف رسالته؟ وهل هو جدير بها؟ وهل يؤديها على الوجه الأكمل؟ وإذا لم يكن فلماذا؟ وهل وجد اتحاد التعليم الإلزامي لتحقيق هذه الرسالة؟ أم أن جهوده قاصرة على تحسين حال المعلم المادية فقط؟
هذه أسئلة تدور على ألسنة كثير من الناس، وهي جديرة بالرد عليها - وموعدنا العدد القادم إن شاء الله
محمود محمد عيد
وكيل نقابة القاهرة للتعليم الإلزامي(440/51)
العدد 441 - بتاريخ: 15 - 12 - 1941(/)
وأمنيتي. . .!
للأستاذ عباس محمود العقاد
(. . . فهمنا من مقالكم (أمنيتي) ما هي العلاقة بين الفروسية وقرض الشعر، أو بين أن تتمنى قيادة الجيوش وأن تتمنى النبوغ في الأدب. ولكن تسمحون لي أن أقول إن العلاقة بين التدين والأدب لا تزال غير جلية، فهل تتفضلون بتوضيحها. . .
(. . . ولا أدري هل تمنيتم الأدب ولم تتمنوا شيئاً آخر من الدنيا؟ ألم تتمنوا السعادة مثلاً؟ ألم تتمنوا لذة من لذات الحياة؟ أليس الحب أمنية للشاعر وإخوانه من رجال الفنون الجميلة؟ فما قولكم في هذا؟ هل يغني الأدب وحده عن كل هذه الأماني!. . .)
محمود حسين
هذه نبذة من خطاب مطول في التعقيب على مقالنا السابق عن أمنيتي في الحياة، نعود بها أو تعود بنا إلى هذا الموضوع الذي لا يزال أبداً في حاجة إلى تكملة كاحتياج المرء إلى التمني
واستكناه ما يتمناه وإطالة القول في هذا وذاك.
ويلوح لي أن الأديب المستفهم يبحث عن علاقة بي الأدب والتدين كالعلاقة بين الأدب ونظم الشعر في ميدان القتال والتهويل على الأنداد.
فالشعر قريب من الفروسية لأن الفرسان كانوا ينظمون الشعر بين الصفوف، فهم فرسان وشعراء؛ والقرابة بين الطائفتين واضحة على هذا المنوال.
ولكن ما هي العلاقة بين الإيمان الديني والنزعة الأدبية؟ هنا يقول الأديب المستفهم إن العلاقة يحيط بها شيء من الغموض
والواقع أن العلاقة هنا أوضح وأقرب إذا بحثنا عن المناسبات السطحية التي من قبيل نظم الشعر بين صفوف القتال للتحدي والتهويل؛ فإن كثيراً من الشعراء ينظمون في الأغراض الدينية وفي الغزل الإلهي وفي شطحات الصوفية وأهل الطريق.
فإن كان هذا هو المقصد من العلاقة بين الإيمان الديني والنزعة الأدبية فما أوضح الموضوع وما أبعده من الغموض!. . .
إن الشعراء الصوفيين لا يقلون عن الشعراء الحماسيين، وقصائدهم رائحة بين الناس(441/1)
كرواج قصائد الفرسان، لأن حلقات الأذكار وما يشبهها أشيع في الأندية والمجالس التي تنشد فيها سير الأبطال بلغة الفصحاء أو بلغة العوام.
ومن ذكرياتي في هذا الصدد أنني نظمت الشعر في الأغراض الدينية كما نظمته في المناجزة والدعوة إلى القتال.
فقد أسلفت بمقالي السابق أنني أوشكت أن أسلك طريق (الدروشة) وأنقطع عن الدنيا ومساعيها. وكنت خلال ذلك أسمع الأذان من مؤذن المسجد المقارب لبيتنا وهو منشد مشهور بجمال صوته وحسن إلقائه، فكان شجوني أن أسمع مقدمات الأذان قبل صلاة الجمعة وهي الأناشيد الثلاث التي كانوا يسمونها حسب ترتيبها بالأولى والثانية والثالثة، وكلها من الشعر المنظوم في التصوف أو مدح النبي عليه السلام.
وكان مسموحاً للناشئين أن ينشدوا هذه القصائد مع المؤذن أو على انفراد، بل كان إنشاد الناشئين مفضلاً مستحباً لأنهم أقرب إلى صفاء النفس وطهارة العبادة.
فاستأذنت في إلقاء إحدى هذه القصائد مرات، واخترت في بداية الأمر شعراً من دواوين البرعي وأمثاله. ثم تجرأت على نظم قصيدة طويلة أحكي بها شعر المديح النبوي، وأنشدتها دون أن أخبر أحداً بأنني ناظمها، وخفت أن يسكثروها عليَّ بعد ظهور الحقيقة فختمها ببيت لا أذكر منه إلا الشطرة الأخيرة وهي: (عباس من هو بالأشعار مدرار)
وإنما أذكرها لأنها هي الشطرة الوحيدة التي انتقدها أبي رحمه الله حين أطلعته على الحقيقة. فتبينت الفرح في أسارير وجهه والتشجيع في صريح كلامه، ولكنه قال لي برفق: ما ينبغي أن تثني على نفسك هذا الثناء وأنت ترى كيف يختم الأئمة المادحون قصائدهم بالتذليل والتوسل وتصغير ما قالوه وأسلفوه من الصلوات والعبادات.
فهذه علاقة بين التدين ونظم الشعر كالعلاقة بين نظم الشعر والحماسة العسكرية، ولكنها كما قدمت علاقة سطحية توجد بين الأدب وبين كل موضوع ينظم فيه الشعراء. ففي وسعك على هذا القياس أن تقول مثلاً إن الهندسة (الميكانيكية) قريبة من الشعر لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الطيارة، وأن تقول كذلك إن علم الحيوان قريب من الشعر لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الخيل أو وصف العصافير.
إلا أنها علاقة سطحية لا يرجع إليها في استكناه أسرار الشخصية الإنسانية وروابط(441/2)
الملكات والطبائع الخفية، وغير هذه العلاقة أردنا حين قلنا: (إن التعبير عن النفس يجتمع فيه عندي تحقيق وجودها ومتعها واستكناه حقيقتها وحقيقة ما حولها).
فالتعبير عن النفس هو الأدب في لبابه
وما هو التعبير الذي عنيناه؟
التعبير الذي عنيناه هو كشف المكنون وتوضيح الأسرار وتمثيل في صورة تخرجها ن عالم الخفاء إلى عالم النور.
وهنا العلاقة الوثيقة بين أعمق أعماق الدين وأعمق أعماق الأدب: هنا العلاقة بين استطلاع أسرار الوجود وبين معرفة النفس ومعرف الإفصاح عن معانيها والإبانة عن أشواقها بلسان الأدب أو بلسان الفن على التعميم.
فكل تعبير ينطوي على سر موضح مكشوف
وأي سر أعمق من سر الوجود وأحوج منه إلى التعبير والتقريب والإلحاح بعد الإلحاح في الاستكناه والاستطلاع
ذلك ما أردناه حين قلنا إن الصومعة قريبة من الروضة الأدبية، وذلك هو التغيير عن النفس بمعنى إثبات حقيقتها وإثبات العلاقة بينها وبين الحقائق الكبرى.
ولكل نفس تعبيرها على حسب ما تحسه وتتوق إليه، فليس من الضروري أن ينتهي التعبير بكل إنسان إلى التعمق في أسرار الدين، ولكنه إذا انتهى ببعض الناس إلى التعمق في تلك الأسرار فليس ذلك بغريب
أما أنني تمنت الأدب ولم أتمن السعادة فسبب ذلك بسيط لا نطيل الإفاضة فيه.
سببه أن السعادة أمنية عامة وليست بالأمنية المحدودة أو الأمنية الخاصة.
فمن قال إنه يتمنى السعادة فكأنما قال إنه يتمنى ما يتمناه كل إنسان، وكأنه بذلك لم يقل شيئاً يستحق السؤال.
كلنا يتمنى السعادة، ولكن سعادة هذا غير سعادة ذاك
سعادة هذا في المعرفة، وسعادة ذاك في جمع المال، وسعادة غيرهما في السطوة والاستعلاء، وسعادة آخرين في الراحة والقناعة، وكلهم يتمنون السعادة على نحو من الأنحاء(441/3)
فإذا سألني ماذا تتمنى فهو لا ينتظر مني أن أحيله إلى السعادة مجملة غير مفصلة، بل هو ينتظر مني أن أبين له الأمنية التي تسعدني أن ظفرت بها، أو التي أعتقد أن طريقها هو طريق السعادة وإن لم أصل إليها
وكذلك لذة الحياة أو لذات الحياة. فهي مسألة وظيفة من وظائف البيئة الحية لا تحتاج إلى سؤال، وما من حي إلا وهو يشتهي أن يشعر باللذة وأن يجتنب الألم.
وغاية ما بين الأحياء من فروق في هذا الباب أن يختلفوا في أسباب اللذة ودرجاتها على نحو قريب من اختلافهم في أسباب السعادة ودرجاتها
هي وظيفة وليست أمنية.
ومن قال إنني أطلب اللذة فكأنما قال إن لي معدة ولي عينين ويدين وقدمين، وذلك غني عن المقال.
أما الحب وأنه أمنية للشاعر وإخوانه من رجال الفنون فذلك صحيح.
ولكن من قال إن (التعبير عن النفس) لا يشمل الحب في بعض نواحيه؟
ومن قال الاشتياق إلى الحب والاشتياق إلى التعبير عن النفس شيئان مختلفان؟
إن الإنسان لا يجد في شئ كما يجدها في الحب، وإنه لا يعرف ما فيها من قوة وضعف، ومن عطف وجمود، ومن رحمة وقسوة، ومن خفايا وظواهر، ومن فجيعة وضحك، ومن حكمة وحماقة، وممن إنسانية وحيوانية كما يعرف ذلك جميعه في الحب
فالحب ومعرفة النفس صنوان.
ومعرفة النفس منتهية لا محالة إلى العبير عنها، ولم يكن هذا التعبير بالمنظوم والمنثور
ونحن حين قلنا إن (التعبير عن النفس) يجمع ما تفرق بين الثكنة والصومعة والروضة الأدبية قد قصدنا أن تحيا النفس أولاً وأن تشعر بالحياة شعورها الخاص بها أن يتاح لها تمثيل ذلك في صورة من صور التعبير.
ولم نص الحب وحده بين دوافع الشرور؟
لم لا نذكر المجد أو البر أو الجهاد الإنساني أو الوطنية أو غير ذلك من معارض الشعور ومعارض الشوق إلى التعبير؟
فالتعبير عن النفس عندنا كلمة مقابلة للشعور بالنفس. ومتى شعرت النفس بحقيقتها(441/4)
فالعواطف الكبرى جميعاً حاضرة بغير استثناء، مذكورة بغير تسمية، معممة بغير تخصيص.
عباس محمود العقاد(441/5)
الحياة صادقة!
(إلى ضحية الحرمان والأحزان النابغة (مي)!)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
هذه الشعلة التي تسكن جسم الحي، تتطلب إحساساً كاملاً بها وذوقاً مستوعباً لها يتملاها ملياً، وينهل من حرارتها عباً ورياً. . .
هذه الشعلة تنادي الجسد أن يحيا ليحيا بها، ويُمدها بوقود ليستدفئ ويستضيء. . .
إنها كمعنى النار: حرارة في جسم حار. . . عرض على جوهر لا انفكاك بينهما، ولا استقلال لوجود أحدهما عن الآخر. . .
إنها لا تغتفر لمن يحاول كبتها وإخمادها، وإنما تختفي فيه فتُصليه وترديه. . .
شعلة الحياة هي أكبر هبات واهب الحياة؛ لأنها نفحة من وجوده الخالد! فكيف يأبى العود الأخضر أن يدب فيه النماء، ويتسرب فيه الماء، وتنبثق منه البراعم ذات الأفراخ الزغب، والأوراق الخضر، والزهرات النضر، والثمرات الصحاح المملوءة بأسرار الحياة؟!
لا جرم أن يصير هذا العود المتأبي على عوامل الحياة والنماء حطباً يحترق بعوامله الذاتية ويموت في موضع الحياة، حتى تأتي يد الحطاب فتأخذه لنقذفه في النار، وتنفي منه صفحة الحقل الخصيب. . .
إن الحياة صادقة، وذوو الفلسفات الذين ينادون بالحرمان من ينابيعها كاذبون!
إنها لا تحابي أطفالها الذين يأبون رضاع أفاويقها، ولا تمكث بجوارهم لتعللهم طويلاً إلا ريثما يدركون وجهاتها ويصيرون صالحين لحمل شعلتها ذات الأمانات والأسرار ثم تجازيهم على العقوق والمخالفات. . .
فلتحذر القلوب الشابة الشاعرة التي قد يخدعها ما في الفن من تزاويق وضباب ملون، أن تستلم لخطفات الشعراء المتشائمين، وأخذات الرهبان المتسامين، وشطحات المتصوفة المنقطعين. . . أولئك الذين يسيرون أحراراً من قيود الأرض لا يعيشون في عش. . . وإذا عاش الإنسان في عش خضع لقوانين الأرض، وارتبط بها كارتباط الحيوان والنبات بحبل الذرية. . . فلم يفكر في الشرود.
وأني له الشرود ودواعي الأرضية تناديه في قلبه بالعواطف الأبوية والزوجية، وفي جسمه(441/6)
بالمحافظة لمقاومة عوامل هدم العش، وفي فكرة بالتدبير للاقتناء والتوريث. . .!
أما إذا ظل متفرداً حتى جاء أوان الإدراك الكلي، وحان بلوغ الأشد، فسيموت في نفسه الخوف من الحياة والحب لها، وحب الارتباط بالواقع. . . وسيكفى التدبير والعمل للاقتناء والتوريث، وسيستمر حتى يخلص فكراً طليقاً بعيداً عن قيود الأجسام وضرورات الأرض، ويكون قلبه وكراً لساكنات غريبات من الأفكار والأوهام، كما يكون الركن الحرب مسكناً لطيور وحشرات لا تحبها الحياة، ولا تحب هي نور الحياة. . .!
لن يجدي الإنسان شيئاً أنه يقف على ملء يديه بالأضواء والرياح والمياه، وما لا قبض عليه ولا محصول يدوم منه إلا صوراً بيانية في ورقات جافة. . .
إن الحياة هي كلمة الله النافذة إلى القلوب، لا يحسها إلا من يحملها بأعبائها، ثم يحاول أن يسلمها لغيره. . . وقد أودعها الله قلب آدم، (فجعلها كلمة باقية في عقبة إلى يوم يرجعون. . .)
إنها كلمة السر! من لا يعرفها لا يستطيع أن يسير في المسالك والدروب التي طرقتها أرجل القافلة منذ فجر الحياة إلى يوم الناس هذا. . .
كثير من المتطلعن المتوسمين لما يولد في الكون من عجائب يحبون أن يروا مخدوعاً شاذاً يأتي إليهم بطبائع غريبة وألوان مستحدثة من الحياة والتفكير. ومن هنا كان إعجابهم بأمثال (أبي العلاء) و (نيتشه) و (شوبنهاور) وغيرهم من المتشائمين المتشككين الذين أبوا أن يمدوا أيديهم إلا الحنظل والأشواك ويتركوا ما في الحياة من تفاح وأزهار. ومنشأ إعجابهم بأمثال هؤلاء أنهم يحبون أن يروا الشذوذ ليدركوا منه القاعدة العامة التي تنتظر حياتهم.
إنهم يحبون أن يروا الضحايا المصلوبين ليتخذوا منهم مادة لأقوالهم وخيالهم وتأملاتهم.
وكثيراً ما يخدع الشباب المفتون بهذه الحياة الشاعرة الحادة المتشائمة المنطلقة من قيود الأرض التي لفتت النقاد والمتكلمين ودعتهم إلى التحليل وإضفاء النعوت والألقاب وضفر أكاليل الغار ونثر الأزهار. فيحب أولئك الشبان الشعراء أن يحوزا مثل تلك الشهرة ولو أصابتهم أوجاع المصلوبين والمحرومين. . .
ولكن ما جدوى الشهرة وأكاليل النار على من أقفر قلبه من بشاشات الحياة؟ وعلى من رأى الحياة عبئاً ثقيلاً يود الفرار منه ولو إلى جهنم؟(441/7)
إن السعادة لن يكون منشؤها غير الفيض الذاتي من القلب الذي يتصل بأعماق الحياة ذات المسرات الأصلية. ولن تأتي بها شهرة أو مال أو ألقاب يخلعها عشاق الأعاجيب.
فليحذر الشباب أن يصدقوهم ويكذبوا الحياة. . .
كلا. لم نخرج إلى الوجود لنفهم أنفسنا عن أطايبه إلا ما يه تأثيم ومساس بحقوق الجماعة التي تنمو بينها عوامل الحياة
فلنأخذ طوعاً من الوجود كل طيب مريء كما نحمل كرهاً على تناول الخبيث الوبئ من آلامها. . . وليس من العدالة أن نقبل الألم ونأبى السلامة، إلا إذا أردنا أن تكون حياتنا سلسلة من النقمة والسخط والوجيعة واجتراز الأحزان ورؤية الحياة من وجهها المظلم وحده. . .
ولندفع أنفسنا إلى غايات الكبرى في شئ من الخديعة والتلبيس كما ندفع الأطفال إلى غايات مستقبلهم. . .
وإن الاعتراف بازدواج المساءات والمسرات في الطبيعة هو أول أسس النجاح واجتياز محنة الاختبار في هذه الدار. ونكون سعداء حينما تخرج من هذه الحياة متوازنة فينا نواحي الآلام والمسرات. ونكون أسعد حينما متفائلين طيبة نفوسنا راضين عن الحياة وواهب الحياة. . .
وإن الأقدار ترمينا بيد السوء لتمسح عنا بيد النعمى. فإذا وقعت علينا إحدى اليدين فمن الفطنة ألا ننسى أن الأخرى وراءها. فواجب أن نفر من الحزن ولا نحسبه ضربة لازب، وألا يطيش بنا الفرح فحسبه ضربة لازب. . .
عينان لعينين، وشفتان لشفتين، ويدان ليدين: تريان وتذوقان وتذودان!
تلك شركة إنسانية أرادها الله وطبع عليها الحياة. فمن رأى بعينيه وحده لا يرى نفسه. . . ومن ذاق وحده قتل حسَّه. . . ومن زاد وحده لم يحمِ جنسه. . .
شركة أرادها الله ليخرج من بينها أيدياً وشفاهاً وعيوناً تنظر وتذوق وتعطي شعلة الحياة حطباً، ونواميسها عملاً، وطواحينها طِحناً. . .
هذا الجنس الطيني لن يكون ملكياً خالصاً وهو في الأرض والمطلوب منه ألا ينسلخ ويتجرد من قوانين التراب. ومن قوانين التراب المزاوجة والتجمع والمؤلفة بين(441/8)
المتشابهات. فبدوات الآمال المحررة، وأحلام الانطلاق الكلي لم تخلق لهذا العالم الأرضي، وإنما هي نماذج مما سيكون هناك. . . تراها أرواحنا لتتعلق بها وتعمل على بلوغها بعد الرحلة. . .
والناس يحيون هنا بالجسد أكثر مما يحيون بالروح. فهم إن عجبوا من المتحررين من الأجسام فما ذاك لأنهم يريدون اقتفاء آثارهم، وإنما يقفون أمامهم لحظة أو لحظات ثم ينفلتون إلى غمرات الحياة ذات السحر والسلطان الآسر القاهر!
فلا تأخذنكم خواطف العزلة يا شباب الشعراء ولا تتخطفكم الأشباح والأوهام من رحاب الجماعة وأحضان الطبيعة ذات المنطق العملي؛ فإن لذلك عقاباً صارماً وثمناً غالياً يدفع من الأعصاب والدماء وقوى الجسد والروح. ولا مقابل لذلك إلا قبض على ريح، ومضغ لماء، واغتراف من سراب!
ما نحن المتكلمين تجاه وجه الحياة الواضح المعروف إلا نكرات مبهمة لا يعرفها أحد. أما هي فوجهها معروف السمات صادق القسمات. فإذا طالعنا الناس بوجوه مخالفة لها كذبونا وصدقوها. . .
وما منطقنا تجاه منطق الأبد العميق الذي يجر الأحياء إليه بقيود وحبال من سحره الخفي، إلا منطق تافه ذو صوت خافت تذهب به ضجة الحياة ذات المراكب الثقيلة والمواكب المتلاطمة. . .
فليكن وجه أدبنا صورة من وجه الحياة الصادق. . . وليكن منطقنا منتزعاً من منطقها الصارم. . . ليكونا أدباً ومنطقاً يخدمان أهداف الحياة ويخففان أعبائها. . .
وليكن عرضنا للآلام والأحزان عرض المذكر بدولتها على النفوس حتى لا تطيش بها الأفراح والمباهج، لا عرض الذي جعلها محور فنه. وليكن أدب الحرمان بمقدار الحرمان الذي في الحياة، لا يزيد عليه ولا يجترُّه. . .
والحياة وَهُوبٌ معطاءٌ أكثر مما هي بخيلة ضنينة. فليكن تصويرنا لها بالفن كما هي، بل إن استطعنا أن نزيد بالفن ألوان مسراتها وأنواع عطاياها فلنفعل. . .
إن الحياة هبة عظمى ثمينة من واهبها! فلنعرف لها مقدارها. . .
ولنهتز مع أعوادها الخضر للرياح والنسمات والأنداء والأضواء اهتزاز النماء والإنتاج(441/9)
والإثمار وإعطاء الأسرار للأبناء بعد أخذها من الآباء. . .
ماض (مَيّاً) لو عاشت (أنثى) للبيت والأمومة والفن المخفف بدل تلك الرهبانية التي اختطفها من رحاب الحياة وانتهت إلى اختطافها من صومعة الفن كذلك؛ فحرمت العروبة وحرمت الأدب من أعذب صوت نسوي يشدو ببيان عربي؟
إن الفن تفر إليه النفس لتخفيف أعباء الوقع؛ فينبغي ألا يتخذ غذاء دائماً للنفس وإلا فقد سحره وأورث النفس سآمة لا دواء منها. ومن أين الدواء وقد صار (أفضل ما في النفس يغتالها). وصارت الغصة مما كان يزيل الغصة؟!
وما كان ضرها لو مرت بموت أبويها كما يمر سائر الناس بموت الآباء والأمهات: بكاء على الفراق حتى نتعود الفراق، فيندمل الجرح وننسى إلا في ساعات الذكرى التي لابد فيها من استحضار صور الأحباب والأعزاء الذاهبين، فتدمع عيوننا دمعاً لذيذاً رقيقاً يغسل غشاوات القلب بما غير حميم لذاع. . .
إن احتجاز الأحزان الثقيلة واجترارها أعظم ما يبتلى به القبل به الأعصاب ويمحو بشاشات الأيام ويحبس النفس في جدرانها تحت ظلل من الخواطر القاتمة. . .
مسكينة (مي)! استغنت عن صداقتها ومجالس أسمارها وأحاديثها في أشد أوقات حاجتها إلى السلوى بها!
لقد نجاها الموت من عذاب مثلث الأوجاع: التفرد، والشكل، والمرض. . . وما كان لأنثى أن تحمل مثل ما حملت وتنهض به. . .
عبد المنعم خلاف(441/10)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
نداء المجهول
للدكتور زكي مبارك
التعاون بين الأدباء العرب - شخصية محمود تيمور - درس
الطبقات الفقيرة هو أسهل الجوانب في الدراسات النفسية -
فتنة المستشرقين - الولد سر أبيه - وهو أيضاً سر أخيه -
صدق محمود تيمور يتمثل في (نداء المجهول).
الأدباء العرب
حديث اليوم عن (نداء المجهول) للأستاذ محمود بك تيمور، وتطلب الطبعة الثانية من مكتبة المعارف بالقاهرة، وثمنها عشرة قروش.
ورعاية للوفاء نذكر أن هذا الكتاب طبع أول مرة في بيروت بعناية (دار المكشوف)، وقيل في المقدمة إن نشره هنالك (برهان جديد على السعي الجدي في سبيل التعاون بين الأدباء العرب) - وهذا حق - فإخواننا في فلسطين وسورية ولبنان والعراق ينتهزون جميع الفرص لتوكيد صلات الإخاء بينهم وبين زملائهم في الديار المصرية، وتلك عاطفة بذكرها المصريون بالحمد والثناء، ولا يعلم إلا الله مقدار الاستيحاش الذي عانيناه يوم قضت الحوادث منذ أشهر بانقطاع البريد بيننا وبين تلك البلاد.
شخصية محمود تيمور
كنت أشرت وأنا أتحدث عن الأستاذ إبراهيم المازني إلى أني سأضع الأستاذ محمود تيمور فوق المشرحة - وكذلك صنعتُ - فكتبت عنه مقالاً يؤذيه بعض الإيذاء، ثم مزقت ذلك المقال حين تذكرت أن محمود تيمور لم يشترك قبل اليوم في المعارك الأدبية، ولم يتعود دفع النضال بالنضال، وما يجوز ذوقاً أن نهجم على رجل لا يفكر في الدفاع.
ولكني مع هذا مسئول أمام قرائي، ومن الواجب أن أحدثهم عن رأي في أدب محمود تيمور(441/11)
بلا مواربة ولا رياغ، وهل من الحتم أن نعلن الحقيقة بعنف، ونحن تملك إعلانها برفق؟ سأقول كل شئ في محمود تيمور بدون أن أعرضه للضجر والامتعاض، إلا أن يغضب من الحق، كما يقع لبعض الناس فمن محمود تيمور؟
هو شخصية ساهية لا ينم مظهرها على شئ، إلا بعد التأمل والتدقيق، كأن يذكر المتوسم أنه كاتب معروف، ولابد أن تنطق معارف وجهه بأشياء، وفي الناس من لا ينطق إلا إن أنطقناه بالعنف أو باللين.
وعند التفرس في وجه محمود تيمور نرى أنه (وَلدٌ واعي) كما تقول العبارة البلدية، وهو في الواقع غاية في الوعي. وسحنته الساهية تؤيد المثل الذي يقول (تحت السواهي دواهي)، وهذا أجمل ثناء يقدم إلى هذا الرجل الحصيف.
والدليل على أن محمود تيمور داهية هو إقباله على فنه الأدبي بطريقة جدية من حي لا يشعر أحد بأنه من أصحاب الأهداف، فمنذ أكثر من عشرين سنة وهو يفكر ويكتب بنظام لا يعرف الملال، وقد يتفق له في أحيان كثيرة أن يهيم في شوارع القاهرة بلا غرض ظاهر، فهل يصنع هذا الصنع إلا ليستوحي القاهرة ويتعرف إلى شمائل الناس في الغدو والرواح؟ الرأي عندي أن ذلك هو حاله في جميع ما عرف من البلاد، فأقاصيصه تشهد بأنه ينقل عن عيان لا عن سماع.
ويحدثك ناس أنهم زاروا محمود تيمور وسامروه، وأنهم سألوه عن كيت فأجابهم بذيت، وتنظر فتجد بعض أولئك من ذوي الغفلة العقلية، فما غاية هذا الرجل من الترحيب بأمثال أولئك الناس؟ ما غاينه وأكثرهم يتوهمون أنه تلميذهم المطيع، وأنه سيمنحهم نعمة الخلود في ظلال العقل، لا في حظائر الخبال؟
محمود تيمور له غاية من صحبة من لا يمتون إليه بصلة نفسية أو ذوقية، وغايته هي درس الغرائز والأحاسيس فيمن يلقي من الناس، ولو كانوا من الأوشاب.
ألم أقل لكم إن تشريح أجسام الضفادع لا يقل قيمة في نظر العلم عن تشريح أجساد الأسود؟
ولكن هذا الدهاء لم يمض بلا جزاء، فاهتمام تيمور بدرس النفوس الصغيرة حرمه نعمة التحليق في الجِواء السامية، فمن النادر أن نراه يلتفت إلى المخاطر التي تصاول كبار النفوس.(441/12)
وأندر من ذلك أن نراه يهتم بتصوير الأزمات التي تصارع كبار العقول. وهل تخطر هذه الأشياء على بال وهو لا يتمرس بالجانب الوعر من صخرة الوجود!
محمود تيمور يهتم بدرس الطبقات الفقيرة، مع أنه (ابن ذوات) فما سبب ذلك؟
أكاد أجزم بأنه يختار الجانب الأسهل من الدراسات النفسية؛ فالفقير ينفض همومه بين يديك حين تحادثه لحظة زمان، أما الغني فيطوي همومه عن جميع الخلائق، وقد يلهو ويلعب وبين ضلوعه نيران تأكل الجبال.
الغني يعرف عن الفقير كل شئ، لأنه يراه في كل وقت ممثلاً في الخادم أو السائق أو الصانع أو الفلاح، ومن إلى هؤلاء من تقوم على كواهلهم قواعد المجتمع، وهم لسذاجتهم ينطقون بما يشتجر في صدورهم من آلام وآمال. ولو شئت لقلت إن الفقير يتحدث عن كل شئ، حتى الدسائس التي يحوكها عقله الضيق، والحيل التي يصوغها ذهنه الكليل.
فهل تحتاج متاعب هؤلاء إلى كاتب فنان؟
تمد يديك لمعاونة امرأة فقيرة على ركوب الترام فتهتف:
(الله لا يغلّب لك ولية)
وهي كلمة لا يهتف بمثلها الغني ولو أنقذته من أنياب القضاء في تهمة تبديد
محمود تيمور رجل هادئ أو كسلان، وإلا فكيف جاز أن يقضي عشرين سنة في صحبة القلم بدون أعداء؟ وكيف يعادي رجل لم يستطع قهر الجمهور على درس إحدى المعضلات؟!
هو طبيب في يده مشرط، ولكن مشرط (هذا) الطبيب صورة ثانية من المرسوم فوق صفحة من كتاب!
وذلك مصير كل كاتب يهتم بإرضاء الجهلاء المتعالين، وهم دعاة الموت، أو هم الأموات وإن تردوا بأردية الأحياء
فمتى ننقل تيمور إلى صفوف المكافحين لنضع في دمه شيئاً من الحديد؟
فتنة المستشرقين
محمود تيمور من أكابر العقلاء، ولكنه مهدد بأحد الأخطار المواحق ومن البر بصديقك أن تبذل في نصحه ما تملك، وهذا الرجل من أعز أصدقائي، فأنا ماض في نصحه بلا تحفظ(441/13)
ولا احتراس.
صديقنا (تيمور) مفتون بالمستشرقين، وما أريد بهم الجماعة التي تعني بدرس حياة العرب قبل الإسلام، أو الجماعة التي تدرس حياة العرب في عصر النبوة، أو الجماعة التي تدرس حياة المدنية الإسلامية في عهود العباسيين والأمويين، أو الجماعة التي تدرس ما صار إليه أدب العرب بعد سقوط بغداد، أو الجماعة التي تدرس العقلية العربية فيما سيطرت عليه من الممالك الأوربية. ما أريد هذه الجماعات العلمية، فمحمود تيمور لا يلتفت إلى هؤلاء العلماء، وإنما يلتفت إلى المستشرقين المشغولين بدرس الأدب العربي الحديث، وهم شبان على جانب ضئيل من التحصيل ولا يهمهم غير البريق
وأنا أعرف هؤلاء الشبان، وأعرف غرضهم القريب والبعيد. همُّ هؤلاء الشبان أن يوحوا إلى أبناء العرب أن مصير اللغة العربية مصير اللغة اللاتينية سواءً بسواء، وقد تفرعت اللاتينية إلى لهجات، فما الذي يمنع من أن تتفرع العربية إلى لهجات؟ وهل يكون ما بين مصر والشام والعراق من وشائج أقوى مما كان بين الفرنسيس والطليان والأسبان؟
يجب أن تحرص كل أمة من الشرق العربي على وجودها الذاتي بحيث يصيح لكل أمة لسان، وإلا فهي أمم متأخرة لا تنصاع لقانون التطور، وهو قانون!!!
وهؤلاء من المستشرقين يسرهم أن يسجلوا أن أول من كتب العامية بحروفها النطقية هو فلان، والأستاذ محمود بك تيمور يسره أن يكون ذلك الفلان.
ألم تقرءوا المسرحيات التي نشرتها مجلة (الحوادث) منذ أسابيع، مع تقديم لطيف يشير بجعل العامية لغة الأدب المسرحي في هذه البلاد؟
هذا الصنف من أهل (الاستشراق) له تأثير سيئ في حياتنا الأدبية، وهو يظلل الجمهور أشنع تضليل. ألا ترونه يقدم ويؤخر في أقدار الأدباء، مع أن نقاد الأدب في بلاد العرب هم أصحاب الحق الأول في تقويم الآثار العربية؟
منذ أعوام نشرت جريدة (باري سوار) مقالات دمية عن (ليالي القاهرة)؛ ورأت الحكومة المصرية أن تمنع تداول تلك الجريدة في مصر بسبب تلك المقالات، فما قصة الكاتب الذي قال في (ليالي القاهرة) ما قال؟
هو أديب فرنسي قدم القاهرة ولم يزر غير الحانات، فكان نصيبه نصيب المستشرق الذي(441/14)
زار مصر ولم ير غير الأدباء المفتونون باللغة العامية، وهم بشهادة أنفسهم من المتخلفين عن رعيل أهل الفكر والبيان.
والخطر الخوف من مذهب محمود تيمور يرجع إلى أنه رجل محترم، فهو من أدبائنا الكبار بلا جدال، وإقباله على التعبير بالعامية ستكون له عواقب سود، لطف الله به وهداه!
في مَدَى أربعة عشر عاماً لم يجرؤ واحد من الأثمة على كتابة العامية العربية بالحروف النطقية، كما صنع محمود تيمور في المجموعة التي نشرتها مجلة (الحوادث)، وهي مجموعة تشهد بأنه انقاد لفتن المستشرقين أبشع انقياد، وسيهوى بها في قاع جهنم ألف خريف.
الولد سر أبيه
أترك هذا الجانب الشائك، وأنتقل إلى شرح مسألة طال حولها الخلاف، وهي البعد بين تيمور الأب وتيمور الإبن، فجمهور أهل النقد يرى أن محمود تيمور يسير في طريق ينكره أحمد باشا تيمور، وكان هذا الباشا من أكابر أهل البحث والتحقيق
وأسارع فأقرر أن (محمود) سر أبيه في اللغة وفي القَصص، ولكن كيف؟
ألف تيمور باشا رسالة في اللغة العامية، ولهذا المنحى من التأليف مدلول، فهو يشهد بأن ذلك الباحث العظيم كان يرى أن اللغة العامية خليقة بـ (ردِّ الاعتبار)، فهي لغة فصيحة لا ينقصها غير الإعراب، وليس الإعراب شرطاً في البيان إلا عند خوف اللبس والغموض.
وقد ورث محمودٌ عن أبيه هذه النزعة مع شيء من الانحراف أغراه به صنائع المستشرقين.
ومحمود سر أبيه في القصص، ولتوضيح هذه النقطة الدقيقة أقول:
مؤلفات تيمور باشا تغلب عليها النزعة القصصية، وإن كانت في الأغلب من فنون البحث القائم على الأسانيد.
هل قرأتم كتاب تيمور باشا عن (أعيان القرن الثالث عشر)؟
قد تقولون: إن الأخبار الواردة في هذا الكتاب منقولة عن الواقع لا عن خيال؛ وأقول: إن تلك الأخبار الواقعية فيها نزعة خيالية، وهل كانت القصة الجميلة غير حكاية صحيحة؟
تيمور باشا لم يخترع ما في كتابه من حوادث، ولكن أسلوبه في تخير الحوادث يشهد بأنه(441/15)
مبدع أقاصيص
وما الغرض من القصص؟
للقصص غرض واحد: هو إنطاق الحوادث بما كان يجب أن تقوله لو نطقت، وهذا درس أقدمه لبعض الخلائق بالمجان
ولتيمور باشا كتاب عن أبي العلاء، فإن قرأتم ذلك الكتاب، فستعرفون أن المؤلف يرى الناحية القصصية أساس التأليف.
والولد سر أخيه
لمحمود تيمور أستاذ هو أخوه محمد تيمور، وكان هذا الأخ مفتوناً بدرس الملامح البلدية، وكتاب (ما تراه العيون) يؤيد هذا الفتون.
كان محمد تيمور فتى تذوق أفاويق الحياة في باريس. ويقول من رأوه إنه كان من نوادر أهل الجمال، وشاءت لوذعيته أن يشترك في بناء المسرح المصري بالتأليف والنقد والتمثيل. ولا أزال أذكر كيف كنت أتعجب من مثل قوله على صفحات جريدة (المنبر) وهو يبدي إعجابه بأحد الممثلين: له ثنائي وقبلاتي! ولو رجعنا إلى مقالاته في النقد المسرحي لوجدنا الإعجاب لم يكن له صورة في قلمه غير العناق!
فماذا ورث محمود عن محمد تيمور؟
ورث عنه النظرة إلى الحياة الشعبية، ولم يرث عنه النظرة إلى السريرة الأريستوقراطية، ولو عاش محمد تيمور لصار من أكابر الشعراء في حدود تفتن أهل هذا الجيل
ولكن محمود تيمور له موهبة لم يظفر بمثلها أخوه، وهي الصدق في الوصف، الصدق الصادق الأمين، فما قرأت شيئاً لمحمود تيمور إلا أدركت أنه يختزن ما يشاهد من الأحلام والأوهام ليزود به قلمه الوصاف.
نداء المجهول
ويتجلى فن محمود تيمور في قصة اليوم، وهي: (نداء المجهول) وأي قصة؟
قرأتها في جلسة واحدة، مع أنها تقع في أكثر من مائة وستين صفحة؛ ثم تلفت إليها في اليوم التالي فاشتهيت قراءتها من جديد.(441/16)
لم أقيد على المؤلف غير غلطتين اثنتين: الأولى تنويهه بأن الفندق الذي نزل لم يكن يمانع في أن يجلس الزائرون على المائدة بالملابس البلدية، وكان هذا غلطاً لأن حوادث القصة تقع في سنة 1908 وفي قرية من قرى لبنان ليس فيها غير ثلاثة بيوت، وليس من المعقول أن يكون لمثل تلك القرية في ذلك الوقت تقاليد إفرنجية.
أما الغلطة الثانية فهي أفظع، ولكن كيف؟
هام بطل الرواية بفتاة إنجليزية، فأنست به واطمأنت إليه، وقالت لنكن صديقين، ثم شاء لها الدلال أن تقول: إنها امرأة بلا قلب.
وهنا يذكر بطل الرواية أنه شعر بالخيبة والإخفاق
ولو تأمل هذا (البطل) لعرف أن ذلك إغراء
وكيف يعرف وهو محمود في سنة 1908؟ وهل كان في ذلك الوقت غير طفل لا يعرف طبائع النساء؟
نقد رفيق
قد أتعصب لمصر إن جبل لبنان لم يظفر بوصاف في قوة محمود تيمور، ولكن أخانا تيمور أخلف الظن في فهم لبنان بعض الإخلاف، وهل تكون الأخلاق اللبنانية في مثل ذلك الاتساق الرتيب؟
(الشيخ عاد) نبيل الأخلاق من أول يوم إلى آخر يوم و (الدليل مجاعص) سخيف من أول يوم إلى آخر يوم.
و (حبيب) خادم الفندق أبله في جميع الأوقات
و (السائح المصري) لم يقدر على استغواء (سائحة إنجليزية) شرح الله ولا شرعك، يا تيمور!
أما كان في مقدورك أن تلون الحيوية في أخلاق أولئك الأبطال؟
أما بعد فهذه (رواية) لم يكتب مثلها كاتب في الموضوع الذي صيغت فيه، وقد اشتهيت أن تكون هذه الرواية من وحي قلمي على شرط التحرر من أخطاء كاتبها المفضال!
وهل تعاب الرواية من أجل غلطة أو غلطات؟
ألا يكفي أن المؤلف استطاع أن يقنعنا أنه البطل بحق وصدق؟(441/17)
زار كثير من المصريين لبنان، وفيهم أدباء فضلاء، فهل كان فيهم من استمع لـ (نداء المجهول) على نحو ما استمع هذا الفنان؟
ثم أما بعد فلطلبة السنة التوجيهية أن يعرفوا أن رواية اليوم رواية وصفية من جميع الجوانب، فهل يعرفون أين يقم ضرام التشبيب في تلك الصفحات؟
ما المرض الذي كان يساور (مس إيفانس)؟
وما السبب في تخاذل (الأستاذ كنعان)؟ وما وجه السخرية من نزعته العلمية؟
وكيف سخر المؤلف من بعض الأوضاع والتقاليد؟
لم أقل شيئاً، مع أني قلت كل شئ، ولكن كيف كان ذلك؟
أجيبوا أيها الفتيان النجباء
زكي مبارك(441/18)
أول مقالة نشرتها وأول درس ألقيته
للأستاذ علي الطنطاوي
إني لأحظ عنوان هذا الفصل وأنا أسخر من نفسي، إذ أحدث الناس حديث مقالاتي، والناس في شغل عني وعن مقالاتي بهذا الهول الهائل، والبلاء النازل، والغلاء الشامل، وبالله العوذ مما هو أشد وأعظم.
ولعمر القراء ما أكثر الحديث عن نفسي لا لزهو ولا لكبر ولا غرور؛ ولكنها صناعة الأدب يسوغ معها ما لا يسوغ مع غيرها. وإني (إذا أردت الجد) لمن أشد الأدباء زهادة في الأدب، وأخال أن الناس في أدبي لأزهد، ولولا كليمات أسمعهن أحياناً فيهن تعليق على ما أكتب أو ثناء عليه، أو رسائل في مثل ذلك قد يأتيني، أو فقرات قد أقرأها في صحيفة فيها تنويه بي، لولا ذلك (وما ذلك؟!) ما ظننت أن أحداً يقرأ مقالاتي!
وما قصدت هذا الموضوع قصداً، ولكني نبشت أوراقي أفتش عن ورقة أريدها، فخرج في يدي (عدد) من المقتبس قديم، تاريخه سنة أربع وعشرين وتسعمائة وألف، ففتحته أنظر فيه، ففتحت لي دنيا من الذكريات اللذة، وقرأته فقرأت فيه تاريخ نفسي: رأيتني في الصفوف الأوائل من الثانوية، وحولي رفقة ما رأيت بعدهم مثلهم في إقبالهم على الدرس وجلدهم عليه، وفي رسوخ ملكاتهم الأدبية، وقوة طبعهم في الأدب وسليقتهم في اللغة، وتسابقهم إلى مطالعة نفائس المصنفات، ومعرفة المصادر والأمهات، ولم يكونوا كشباب اليوم الذين يحاولون الكتابة قبل القراءة، ويغتربون بالنشر فيحسبون أنهم أنداد وأقران لكل من يكتب في الصحيفة التي تنشر لهم، ويعلن أحدهم عن كتابه الذي سيصدره قبل أن يكتب منه عشر صفحات، وينتقد الكاتب الكبير وهو لا يحسن أن يقيم لسانه في قراءة مقالة من مقالاته، ويخدع المجلة عن أدبه فتظنه شيئاً فتخدع به القراء، وما لم أذكر من صفاتهم آلم وأنكى. . .
وكنت قد قرأت طائفة من الكتب أذكر أن منها (حياة الحيوان للدميري) وهو أول ما طالعت من الكتب، وهو دائرة معارف (كما يسمونها اليوم) أو هو معلم جامع فيه فقه ولغة وأدب وقصص وتاريخ وخرافات وعلم وحقائق أفدت منه كثيراً، (والصباحي لأحمد بن فارس) وقد ألقى في نفسي إجلال العربية والإيمان بسعتها وجلالها، وحبب إلى جزالة الأسلوب(441/19)
وفحولة اللفظ، ولا أزال إلى اليوم أعجب برسالة ابن فارس هذا إلى من أنكر فضل الجديد لأنه جديد، ومال إلى تقديس كل قديم لأنه قديم، وأعدها من نفائس الآثار، وهي في مقدمة الكتاب، و (بلوغ الأدب للألوسي) وقد أورثتني التعصب للعرب والمبالغة في ذلك، ثم علمت أن قد كان فيه زيف كثير كما كان فيه صحاح كثير، وما زلت أحفظ جملة صالحة من أخباره صحيحها وباطلها؛ و (الأغاني) قرأته كله، أعني أخباره وقصصه دون ما فيه من أسانيد وأصوات وأشعار وأصوات وأشعار وأنساب، وهو رأس مالي في الأدب؛ وقرأت (الكشكول) و (المحلاة) و (مراقي الفلاح) في الفقه الحنفي ألزمني والدي قراءته، أسبغ الله عليه رحمته، (وشرح رسالة ابن زيدون) المطبوع على هامش (الغيث المنسجم) وكانت طريقتي في المطالعة أني إذا فرغت من دروس المدرسة دخلت مكتبتنا فتخيرت كتاباً فأخذته فنظرت فيه، فإن أعجبني مضيت فيه لا أدعه حتى أتمه وإلا أخذت غيره، لا أستعين على ذلك بمرشد، ولا أستهدي بهاد، إلا ما كان شيخنا لأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك يسمعه لنا من الكتب ويرشدنا إليه. وكنا نأخذ الأدب عن الأديب الضليع المتفنن الأستاذ سليم الجندي، وكان يحذرنا (جزاء الله عنا خيراً) أن نقرأ الجرائد والمجلات وكتابات أهل العصر، على اعترافه أن فيهم من أطفأت شمسه بدور البلغاء من الأوائل، خشية أن نسيء الاختيار فتصيبنا عدوى الركاكة وهي شر من عدوى الكوليرا والجذام. فدخلت الجامعة وأنا لا أعرف من العصريين إلا المنفلوطي رحمة الله، وكنت أظنه أبلغ كتاب العصر، ولا أعدل بأسلوب (نظراته) شيئاً حتى وقع في يدي (رفائيل) للزيات، فوجدته كنزاً من أغلى كنوز النثر، وصغرت معه (عبرات) المنفولوطي حتى صارت كلا شيء. ثم عرفت الرافعي وقد أصدر كتابه (تحت راية القرآن) رفع الله به درجاته في الجنة، فعلمت أن الله قد خلق من هو أبلغ من المنفلوطي، إي والله ومن عبد الحميد وابن المقنع وابن العميد، ومن كنا نراهم يومئذ أئمة البلاغة والَّلسن. على أني لم أنس المنفلوطي وترجمت عن شكري له ولأستاذي الجندي والمبارك بإهداء الثلاثة كتابي (الهيثميات) وهو أول كتاب ألفته (1930)
أقول إني أحسست بعد قراءة ما ذكرت من الكتب بشيء تجيش به نفسي، فنفست عنها بمحاولة الكتابة فاستوى لي مقال، نسيت اليوم موضوعه، قرأته على رفيقي أنور العطار(441/20)
وكان يومئذ يجرب قول الشعر، فأشار على أن أنشره فاستكبرت ذلك، فما فتئ يزينه لي حتى لنت له. وغدوت علة (إدارة) المقتبس وكانت في شارع السنجقدار العظيم الذي صار خرائب وأطلالاً. فسلمت على أبي بسام الأستاذ أحمد كرد علي رحمه الله ورحم جريدته. . . ودفعت إليه المقال، ولم يكن من إخواننا من يعرف طريق صحيفة أو يجرؤ على النشر فيها. وكنا يومئذ متلبسين بجريمة الحياء التي أقلع عنها شباب اليوم والحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. فنظر في المقال فرأى كلاماً مكتهلاً ناضجاً، ونظر في وجهي فرأى فتى فطيراً، فعجب أن يكون ذاك من هذا، وكأنه لم يصدقه فاحتال علي حتى امتحنني بشيء أكتبه له زعم أن المطبعة تحتاج إليه فليس يصح تأخيره، فأنشأته له من يسابق قلمه فكره، فازداد عجبه مني ووعدني بنشر المقال غداة الغد، فخرجت من حضرته وأنا أتلمس جانبي أنظر هل نبتت لي أجنحة أطير بها لفرط ما أستخفي السرور. ولو أني بويعت بإمارة المؤمنين ما فرحت أكثر من فرحي بهذا الوعد. وسرت بين الناس وكأني أمشي فوق رؤوسهم تعالياً وزهوراً. وما احسبني نمت تلك الليلة ساعة، بل لبثت أنقلب على الفراش أتصور أي جنة من جنات عدن سوف أدخل في غداة الغد. . . أي كنز سأجد. وجعلت أترقب الصباح ولا ترقب عاشق متيم ينتظر وصلاً بعد طول الهجران، حتى إذا أنبثق الصبح وأضحى النهار، أخذت الجريدة، فإذا فيها المقال وبين يديه كلمة ثناء لو قيلت كلمة ثناء لو قلت للجاحظ لرآها كبيرة عليه. . .
وعدت أنظر إلى الجريدة القديمة الصفراء وهي مائلة بين أوراقي، وأفكر في هذا الأدب ماذا جنى علي وماذا جنيت منه. لقد سرت بعد تلك المقالة أعدو في طريق النشر. فكتبت في جرائد الشام ووفدت على خالي الأستاذ محب الدين الخطيب في مصر، فأخذ بيدي وسدد خطواتي، وكان لي أفضل مرشد ومعين، وأفدت من خلقه ومن علمه ومن ماله، ثم عدت إلى دمشق، ثم اتصلت بالرسالة صديقة روحي وسميرة وحدتي، وكانت لي خير مدرسة، فيها الأستاذ الزيات خير مدرس. وكنت إذا نظرت في كتاب، أو أصغيت إلى حديث، أو ضمني مجلس، أو شملتني عزلة، أو اضطجعت لأنام، أو نهضت من منام، أو ذكرت ماضياً، أو فكرت في آت، أو أغمضت عيني متأملاً، أو فتحتهما على مشهد من مشاهد السماء والأرض، أجد في كل ذلك موضوعاً لمقالة أكتبها أو فصل أنشئه، وأجد(441/21)
الهمة حاضرة والذهن نشيطاً. ثم كرت أيام، وغبر دهر، وأصبحت لا أستطيع أن أخطر سطراً على قرطاس، وإذا كتبت لم أدر كيف أكتب، ولا لماذا. وأبعث بالذي أكتبه إلى (الرسالة) مضطرب الأعصاب مزلزلها، فإن أخرته غضبت، وإن ألفيت به تطبيعاً وخطئات لم يتنبه لها المصحح تألمت وإن وجدته نسب إليَّ ما لم أقل، ويجعل في المقالة أخطاء تدل على جهل الكاتب وما هي مني ولا أنا صاحبها، عزمت على ترك الكتابة بالمرة وكبر على الأمر، ثم إن جاءت المقالة منشورة قرأتها مرة لأطمئن عليها ومرة لأنقذها مجرداً من نفسي ناقداً لها، ثم أرميها فلا أطيق النظر فيها، ولا أجد من يحدثني عنها كأني أكتب لصخور الجبل لا لبنى آدم. . .
فماذا أفدت من الأدب؟ أما إني لم أجد الأدب إلا عبثاً، ولم أجد إلا مجانين، يسمى الناس وراء المال ويسعون وراء سراب خادع يسمونه (المجد الأدبي). كلما أقبلوا عليه نأي عنهم فما هم ببالغيه حتى يموتوا. وما ينفع ميتاً ذكر في الناس، ولا يغني عنه مجد، ما ينفعه إلا ما قدم من عمل صالح - ولقد كان رفيقي سعيد الأفغاني أعقل إذ كان يمد شفته ساخراً كلما حدثته عن آمالي في الحياة ورغبتي في أن أكون كاتباً يشار إليه بالأصابع؛ وكنا يومئذ في المدرسة الثانوية نتسابق إلى مطالعة الكتب ونتبارى في تلخيصها والملاحظة عليها. فما صنع الزمان بآمالي؟ لقد أراني أني كنت أسعى أطلب السراب، فلا أصل إلى شئ، وما ثمة شئ حتى أبلغه. . .
هذه هي قصة ابتلائي بهذا الأدب الذي أنا تاركه اليوم، أو ظان أني تاركه، ومقبل على الفقه أجدد العهد بما قرأت من كتبه، وواهب له قوتي ووقتي، فليهنأ الذين يجدون فيَّ سداً في وجوههم أن يبلغوا من الأدب ما يريدون، والذين يرون أني مزاحمهم على هذا المورد الآسن.
ولقد كنت أهزل يوم كتبت أفضل الأدب على العلم، وأين من أين؟ وهل تستوي الحقائق والأوهام؟ وهل من علم يوازي على الفقه ويضارعه شرفا، وبه يعرف الحلال من الحرام، وبه تضمن الحقوق، ويدرأ الخصام ويعم السلام. . .؟ ولئن فزع الشباب من زي أهل الفقه، وخافوا أن يوصموا بالجمود والرجعية، فما، يفزع ذلك من سمي بالشيخ وارتضاه له اسماً، ولا تثقل عليه عمامته إن كورها، ولا لحيته إن أطلقها. . . وللثياب، لا جرم، عمل(441/22)
في تكوين طبائع المرء وتوجيه سيرته، فأنت حين تتخفف من الثياب، أو تتخذ ثياب أهل الرياضة (السبور)، فتلبس السراويلات المناكير القصار أو التبان، تشعر بالخفة وتميل إلى القفز والتوثب، وتكره القرار على الأرض؛ فإن أطلت لبسه، أوشك أن يكون ذلك لك عادة، وإن لبست الجبة ولبثت على هامتك العمامة، ملت إلى التوقر والرزانة، ولم تستطع أن تأتي ما هو مناف لها، وتنزهت حتى عن قعود في قهوة، أو ولوج سينمة، أو إسراع في مشية في طريق أو مزحة نابية، أو قهقهة مقرقعة في مجلس. . .
وتتطبع على ذلك حتى يعود لك طبعاً. وإن اتخذت (البرنيطة) جنحت بالضرورة إلى مصاحبة أهلها ومجالستهم، وملت عن المساجد ومجالس العبادة، ولو كنت مصلياً متعبداً، ومن هنا جاء النهي عن التشبه بغير المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة. . .
على أني إن تركت الأدب فما أنا بتارك الكتابة، وإن من الكتابة لعلماً، وإن منها لإصلاحاً، وإن منها لما ينفع الناس ويدلهم على طرق الخير. . . كما أن من الكتابة ما هو ثرثرة جميلة، وتسلية سخية، ولغو من القول يذهب جفاء. . . فلينظر ذوو الأقلام ما يأخذون منها وما يدعون، ولينظر القراء ما يقرؤون منها وما يهملون. . .!
أعتذر إلى القراء مرة ثانية من الحديث عن نفسي، فإنه أثقل الأحاديث على أذن السامع، ولكنها صناعة الأدب، قاتلها الله. . .
ولقد أردت حين شرعت في هذه المقالة أن أقول أشياء كثيرة زورتها في نفسي وأعددتها، فلما بلغت الكلام عن أول درس ألقيته، وذكرت هذه المرحلة من حياتي التي قضيتها معلماً، وتنقلت فيها في الآفاق، ورأيت فيها من المتع والآلام، ومن بيض الليالي وسود الأيام، ما لا يعلم حقيقته إلا الله. . . وما لم أصف في مقالاتي في (الرسالة) إلا الأقل الأقل منه. . .
لما بلغن ذلك اعتلج في نفسي من العواطف، وثار فيها من الذكر، ما عقل قلمي وحبسه عن المسير. وكيف أجمع في مقالة واحدة ما تفرق من قلبي في جنات دمشق، وقد علمت في كل مدرسة فيها، وفي (الحرش) الفتان من بيروت حيث (الكلية الشرعية) وعلى الشاطئ الوادع من دجلة حيث (الثانوية المركزية)، وفي طريق الأبلة إحدى متنزهات الدنيا الأربعة حيث (الثانوية البصرية)، وعلى سيف الفضاء الأرحب من (كركوك) بلد الذهب الأسود الذي يشتعل أبداً، وعلى ضفة الفرات الجميل في دير الزور، البلد الكريم أهله، وحيث أذكر(441/23)
ولا أذكر.
إنها لتطر على قلبي الساعة آلاف من الصور التي مرت من قبل على عيني؛ بل إني لأبصر الآن الآلاف من وجوه زملائي في التعليم وتلاميذي الذين أحببتهم، تنبعث من ظلام الذكريات؛ ثم تطيف بي محيية باسمة تتلو على قصة نفسي، وتعيد إلى ما مضى من عمري؛ فكيف إلى الاجتماع بهؤلاء الأصدقاء لأودعهم قبل أن يتجدد الفراق، ولا حدث بهم عهداً، كيف وقد تفرقوا تحت كل نجم! كيف وقد علا منهم من علا وهبط من هبط، وشغلهم شواغل الحياة فلم يعودوا يذكرون معلماً ولو لم ينسهم ذلك المعلم! كيف ومنهم الوفي ومنهم الجاحد والناس معادن. . .
يا رحمة الله للمعلمين، لمن كان منهم قلب، وسلام على أيامي التي صرمتها معلماً. . . وعلى كل من يقرأ هذا الفصل من زملائي وتلاميذي، ولهم مني أوفى حبي، وتحيات قلبي!
(النبك - سورية)
علي الطنطاوي
القاضي الشرعي(441/24)
العقدة النفسية
في طريق التكون وفي طريق الزوال
للأستاذ حسين الظريف المحامي
يراد بالعقدة كل مرض يصيب الحياة العقلية. وتفصيل ذلك أن الطفل يولد وعقله الواعي ستارة بيضاء، حتى إذا اتصل بوالدته وذويه وبالوسط الذي هو فيه، بدأ عقله الشاعر يتكون ويتطور، ودنوت على تلك الستار معاني ما يأخذه عما حوله.
ويمكن إجمال أدوار الطفولة في أن الطفل يشعر بادئ ذي بدء بأنه جزء من أمه، حتى إذا بلغ الثلاث من العمر، أخذ يشعر باستقلال نفسه، وذكت فيه عاطفة فرض ما يريد على الغير ولفت نظرهم إليه.
ويلي هذا الدور، دور السؤال عما حوله كمن يريد أن يحلل ويعلل، ولا يندر أن يسأل الطفل عن نفسه: كيف وجد؟ ومن أين أتى؛ وهو في كل أدواره هذه يعمل على تكوين وتنمية عله الواعي، مفزعاً إياه في الوضع الذي تهيئه له معاني وسطه المحدود.
فحياة عقلنا الظاهر يبدأ تاريخها منذ الولادة، غير أن هذه الحياة قد تكون سلسلة متعاقبة الحلقات، وقد تقوم بين هذه الحلقات بعض الحواجز فتفقد السلسلة صفة التسلسل، وما هذه الحواجز إلا العقد التي تعتور العقل الشاعر في طور نموه، فتقف حائلاً دونه، وترغمه على تبديل اتجاهه الطبيعي بآخر معوج يدركه فيه بعض الشلل.
قد تكون هذه (العقد) في صورة إدراك حقيقية مغلوطة تفقد جزءاً من العقل بعض ارتباطه، وقد تكون منبعثة عن سوء تربية الطفل وعما وراء هذا من مختلف العوامل، فينشأ الوليد شاذاً غير سويّ
إن الدافع الجنسي في الطفل تكون بعد الولادة بقليل، ومن مظاهره مص الأصابع، والرغبة في القبض على الثدي بالشفاه، حتى في غير أوقات الرضاع. هذا ما يقوله الدكتور فرويد ويضيف إليه أن الطفل يوزع حبه على أفراد عائلته، غير أنه يهب أكثره لأمه لشدة اتصاله بها، فإذا ألهاها عنه الزوج نشأ عنده الكره لأمه والغيرة من أبيه، ويزداد هذا الانفعال رسوخاً بتكرر الوقائع، حتى يصبح فيه الطفل واقعاً بين عامل الحب لأحد أبويه، وعامل البغض والغيرة، فإذا بلغ الحلم وجه حبه إلى من يختار من الجنس الآخر، وبذلك يجد(441/25)
الحب له منقذاً طبيعياً يفنى فيه. أما إذا لم يوجه التوجيه الصحيح لجهل الأبوين أو لشذوذ في الطفل، فقد يبقى الفتى محباً لأمه، أو لمن يماثلها من الفتيات، وتبقى الفتاة محبة لأبيها، أو لمن يماثله من الفتيان؛ وهذا مظهر من مظاهر الشذوذ الجنسي، وهو ما يراد من العقدة. ذلك لأن سلسلة الفكر عن الحب وموطن وضعه فيه لم يجر على ما هو بصورة طبيعية، وإنما انحرف عما خلق له، لعامل في نفس الطفل، أو لشذوذ في تربيته، وسلك طريقاً آخر غير سوى، قد يكون مصدر كثير من آلامه طول حياته.
كذلك يمر بالطفل دور يحب فيه معرفة ما يحيط بموضوع الولادة، فيبدأ بالسؤال عنه فتسكته أمه بما يشعر بقبح الموضوع، فيلتهب فيه حب الاستطلاع بطريقة غير حميدة، ويجد في الموضوع لذة على الرغم من إفهامه أنه قبيح، وتكون النتيجة اعتقاد الطفل بأن الشيء اللذيذ هو الشيء القبيح. وهنا تنشأ العقدة. ويترتب على ذلك أحد أمرين، فإما أن يكره الطفل أن تقترب منه أمه، أو تتولد فيه الرغبة في المخالطة المادية، فيتبع إحدى الطريقتين، إما الخجل أو اللذة الجسدية؛ فإذا أنكفئ الطفل على ملذاته ورأى منه والده ما يريب وانتهره ولجأ معه إلى الشدة، انقلب خوف الولد من أبيه إلى الكره له، والاعتقاد بأنه لو لم يكن أقوى منه لما خذله، وتكون العقدة في نفس هذا الطفل، هي شعوره بالضعف. ولما كان الصغير لا يجد أمامه مجالاً للإفصاح عما وقع له فهو يحاول إخفاءه عن الجميع، ويوجد في محاولته هذه الصفات المضادة للصفات التي يحاول إخفاءها، كطرق دفاعية نفسية ضدها يشعر ما يشعر به من ضعف يوشك أن يظهر للناس.
قال فرويد: إن للعقل الباطن طريقتين متناقضتين للتعبير عما فيه؛ فقد يكون رجلاً فاضلاًُ شريفاً ذلك الذي يطيل الحديث عن الشرف والفضيلة، وقد يكون سافل النفس دنيئاً فأرد أن يخفي بهذا الحديث ما يعرفه في نفسه مخافة أن يعرفه الناس. وعلة هذا أن العقل الباطن يجب أن يعبر عن النشاط الكامن فيه فإذا كان أحد الطريقين مقفلاً اختار الطريق المقابل
إن الطفل يحمل كثيراً من الغرائز التي يجب أن تعبر عن ذاتيتها وحيويتها في أعماله؛ فإذا نحن منعناه عن الإفصاح عن إحدى غرائزه، اختار للتعبير عنها طريقاً آخر شاذاً، تنشأ فيه العقدة في نفسه، وقد يضغط على رغبة التعبير عن إحدى الغرائز فتتسرب تلك الرغبة إلى(441/26)
قاع النفس وهي ممنوعة عن الظهور، إلا أنها لا تسكن في موطنها الجديد، وإنما تبقى فاعلة متفاعلة في حدود العقل الباطن، حتى إذا سنحت فرصة الظهور خرجت من العقل الباطن إلى العقل الواعي ونفست عن نفسها في هذا الخروج.
لنفرض أن طفلاً مدللاً أرسله أبواه إلى المدرسة فلم يجد فيها ما ألفه في بيته من الحنان، فمثل هذا الطفل إما أن يغير سلوكه الذي اعتاده قبل دخوله المدرسة، أو يبقى مستمراً عليه، فإذ هو لم يختر ما وقع له وظل يريد من الحياة أن تكون مثلما رآه في بيته، مملوءة بالحنو والرقة، ففي هذه البداية ينتهي الوليد إلى اعتبار كل زميل له في الدراسة فظاً غليظ القلب فينفر من الاقتراب منه، ويشعر بالبغض له، ومن ثم يحدث له نفور من كل غريب حتى تعذبه كل تعارف جديد. ود تغيب هذه الرغبة الشاذة في طيات عقله الباطن، ويزيدها تطاول العهد إمعاناً في التواري، إلا أنها تبقى حية عاملة وهي تكون جزءاً من عقل العليل. فالرغبة التي تربط الموضوع في هذا المثال، هي العقدة
إن أكثر من نعرف يحمل في طيات نفسه من العقد النفسية ما يخرج حياة عقله عن السواء ويميل بها إلى جانب من الشذوذ يكتنف شعور صاحبه وإدراكه ويملي إرادته على ما يأتيه من قول وعمل. وقد ثبت في دائرة العلوم النفسية أن أخطر سنوات الطفولة ما يقع بين الثالثة والثامنة من العمر، ففي غضون هذه السنوات يقع أكثر ما يدعي بمشاكل الطفولة.
على أن العقدة في ذاتها لا تعد خطراً على صاحبها إلا إذا كانت متوارية عنه، وهي تعمل من وراء حجاب من الزمن. فإذا حلت العقدة زال ما بصاحبها من مرض يصيب العقل في الصميم
غير أن تحليل العقدة إلى العنصر الذي نشأت عنه، وبعبارة أخرى أن تذكر الحادثة الخاصة التي تنطوي عليها العقيدة ليس مما لا يشق على من يعانيه؛ ذلك لأنه إذا فعل وجد نفسه أمام مانع عنيد هو الزمن، فالعقدة لا تكتفي بالاختفاء وراء ثوبها المستعار وإنما تتوارى فيما وراء وقائع الزمن. وفي أحضان هذا الواقع تقع الصعوبة في تحليل العقدة. ولكن مهما يكن الأمر صعباً فأن طريق الخلوص إليه واضح لمن يريد
لنطلق العنان لما لنا من خواطر وأفكار ومنازع يعج بها العقل الباطن حتى نخرج بها إلى الذاكرة، ومن ثم إلى عقلنا الواعي فنحللها فيه ونرجعها إلى مصادرها الحقيقية، فإننا إن(441/27)
فعلنا ذلك استطعنا حل كافة العقد النفسية، وممن ثم يسهل علينا التحرر منها بالإرادة
وطول الممارسة
تلك هي طريقة التحليل النفسي، بها نخرج بالعقدة إلى العقل الواعي ونربطها بالحادثة التي نشأت عنها فيظهر لنا بطلانها، وبالتالي نتحرر منها وتصبح وكأن لم تكن بالأمس شيئاً.
(بغداد)
حسين الظريفي
المحامي(441/28)
2 - قيمة الحرية
للصحافي العالمي ويكهام استير
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
لقد زعموا أحياناً أن الجماعات التي يتولى أمرها سلطان يملي إرادته على الجميع هي أقوى من الجماعات التي يمنعها اختلاف الرأي فيها عن الاتحاد في العمل. وأصحاب هذه الدعوى يزعمون أيضاً أن التسامح آية الضعف، وأن التعصب سجية من سجايا القوة، وأغلب ظني أنها دعوى خاطئة، فلقد يكون لمثل هذه الدعوى ما يبررها لو أنه كان من الممكن أن تظفر بحقيقة سياسية واحدة لا تقبل النقاش أو بمبدأ قاطع بات لا يحتمل الجدل، ولكن ما دام واقع الأمر على النقيض من ذلك إذ يعتذر اقتراض شئ من عصمة الرأي البشري، فإن محاولة القضاء على وجهات النظر المختلفة وتتويج رأي غير معصوم من الزلل بحيث لا يرتفع إليه النقد ولا يسمو إليه الجدل هو في الواقع من دون الرأي القائل بأنه ما دامت جميع الحقائق السياسية حقائق نسبية فمن صالح الجماعة أن تختار لنفسها من هذه الحقائق ما يصادف من ذوي العقول الحرة القبول العام باعتباره أسلم القواعد التي يجب أن تتحكم في المصالح البشرية.
والضعفاء من الناس هم أولئك الذين يستبيحون في حق أنفسهم أن يقضي على رأي الفرد فلا يسمع له صوت ولا يقام له وزن، أو أولئك الذين يتلمسون الفرار من مضلات المعترك الإنساني بأن يعتصموا ببعض النظريات أو المذاهب الاستبدادية المطلقة التي يجدون في قبولها نجاة لهم مما يضطلع بها المواطنون الأحرار من معاناة نقد الآراء وتقصي أوجه النظر ومن التردد بين الآراء وما يلازمه من قسوة الشك وألم الحيرة، ومقياس النظم السياسية مائل فيما يخلفه على المواطن الحر من طابع. ذلك المواطن الذي هو غرس يدها ونتاج تعاليمها، والنظم التي تحرم تنوع الآراء وتعدد المذاهب وتخنق حرية النقد تنتهي بأن تسير أبناء البلاد على نمط واحد مطرد، فتقضي بذلك على مرونة العقول البشرية وتنزل بها إلى الحضيض من ركود الحياة وجمود العقل، وتقف حجر عثرة في سبيل تقدم الخلق الإنساني. فقضية النقد إذن هي قضية خطيرة الشأن عظيمة الأثر بحيث لا يتسنى للمدنية أن تصادف نجاحاً بدونها؛ ولذلك كان حتماً على الجماعة إذا ما تأبت عار الخضوع(441/29)
ووصمة الجمود أن تبيح النقد إباحة لا يعطلها عقاب ولا يتهددها ضرر.
ومع ذلك يوجد هنا فارق هام بين حرية النقد وحرية النهج، إذ - كما لاحظ مستر (برناد شو) في إحدى مقدمات كتبه - لا يسمح له أن يغير سلوكه الاجتماعي ما لم ينجح نده في أن يغر القانون إذ استطرد قائلاً: (وإننا لعلى جهل خطير بأصول مدنيتنا حتى أن غالبيتنا لتحسب أن لها حقاً في أن تغير منهجها فور الوقت الذي تغير فيه آراءها).
ومن أعقد المسائل التي تواجهنا في حياتنا الاجتماعية والتي قد يتيسر التغلب عليها وحل معضلاتها في المجتمعات الحرة بطريق الثقافة وحده أن نميز بين النقد النزيه مجرد الثورة على الأوضاع الاجتماعية، وأن نفرق بين حرية الرأي المبدأ وبين رخص النهج الاجتماعي.
وإذا قدر أن يكون فعالاً منتجاً لا مجرد هدام للنظم والعادات التي تمت في ظروف غير تلك الظروف التي تغشى الناس في وقت معين أصبح لزاماً أن تتوفر للشعب حرية البحث وحرية المعرفة وحرية الكلام وحرية الكتابة، وصار واجباً أن تناقش الآراء وتمحص الأصول التي أسست عليها تلك الآراء، وهذا أمر لا يتسنى وجوده، كما اعترف بذلك الكتاب النازيون ما لم يقم على دعامة من حرية الصحافة التي تنطوي فيها حرية المعارف علمية كانت أو أدبية. ولقد سجل هتلر نفسه هذه النظرية في كتابه (كفاحي) فقال: (يجب أن يكون هدف الحكومة أن تنشئ (هيئة اجتماعية من الكائنات الحية يتشابه أفرادها مادياً وعقلياً). وزعم الدكتور (ديتريش) وهو الموظف الحكومي المتولي الإشراف على الصحافة النازية أن (رأي المجموع) لا رأي الفرد هو ما يجب أن يكون مصدر الثقافات جميعاً بما يتبعها من الدراسات العلمية. كما سودت الدكتور (أوتوكيلويتر) وهو أستاذ نازي جامعي (فكرة الجماعة) على فكرة الفرد.
ومهما ظهر للشعوب التي تربت في كتف الحرية من تعصب هذه الدعاوي، فهي من وجهة النظر الاستبدادية إصلاح منطقي سديد؛ إذ في البلاد التي ضيقوا الخناق على الحرية فيها لا يمكن احتمال الفكرة الفلسفية العميقة أو التحليل التاريخي الدقيق ما لم تنهر تلك الآراء التي فرضتها الحكومة المطلقة ونادى بها قائدها. فروسيا الشيوعية لا تقبل البحث الحرفي في مسائل كالتي تتعلق بملكية الأشياء؛ وألمانيا النازية لا تسمح للعقائد الخاصة بالدم(441/30)
والجنس أن تكون موضع بحث أو نقاش؛ وإيطاليا الفاشية لا تطبق النظر الحرفي في طبيعة الحكومة ووظائفها، أو في مكانة الأفراد بالنسبة للحكومة. وحسبها من شر أن أسكتت مثل هذا الفيلسوف العظيم (بنيد توكروس). ولشد ما تثيرني آراؤه عن الحكومة والحياة السياسية. ففي كتيبه (أورنيناتتي) قال: (إن حبنا للدولة هو أن نعمل مع الدولة، وأن تخص الدولة ونغمر حياتها السياسية بكامل ما يتوفر لنا من أسمى معانينا وأنبل مشاعر وأصدق ما يجرى في معتقداتنا من الحقائق، أي تلك الحقائق التي تصدر عن ولاء مكين وإيمان متين، وعما يتهيأ لنا أن نأمله من مثلنا العليا. واشتراكنا مع الدولة على ضوء هذه الاعتبارات هو ما نسميه بالحرية بتعبير آخر. وهذه الحرية ليست بمقاومة الدولة أو بالإساءة إلى هيبتها وعظمتها، ولكنها هي حياة الدولة بذاتها وإلا وسعنا أن نزعم أن الدم الذي يجري مجدداً نفسه بدورة مستعمرة في أوردتنا هي حركة متمردة على ما لنا من سلطان في ضبط حركة الوظائف العضوية من أجسامنا، لهذا لا تكون الحرية ملحوظة في الدولة ما لم تكن حرية سياسية مطبوعة على العمل مع مقتضيات حياة الدولة
والحق أن هذا الفيلسوف الإيطالي قد أثم في حق الثقافة الفاشية إذ أهمل النظر للدولة - كدولة مطلقة - ثم أسرف في الإساءة إلى النظام الفاشي، فلم يشأ أن يعتبر الدولة إلا عنصراً تنفيذياً للهيئة الاجتماعية وإلا مجموعاً كلياً للوظائف العامة التي تفوضها الأمة للهيئة التنفيذية لحماية الصالح العام وتدعيمه.
ولا يبعد هذا المذهب عما ذهب إليه (جون استيوارت مل) وقتما وفق لأن يلمس بعض الظواهر الإيجابية لحرية الأمة في رسالته الشهيرة عن الحرية فلقد أشار (مل) إلى أنه إذا عمل أي إنسان عملاً من شأنه أن يضر الآخرين كان من مقتضى العدالة أن يستوفي العقوبة التي فرضها القانون، أو أن يلقي جزاءه من الاستنكار والتحقير العام إذا كان ما فعله لا يقع تحت طائلة نصوص القانون، ثم استطرد قائلاً:
وقد تقضي العدالة إلى ذلك بإجباره على القيام بأعمال إيجابية كثيرة شرعت لصالح الآخرين، مثلما يلقي على عاتقه من عبء إثبات ما يدعيه في ساحة القضاء، أو ما يتحمله من نصيبه العادل في الدفاع العام أو ما يضطلع به من الأعمال الاشتراكية الأخرى اللازمة لصالح الجماعة التي ينعم بحمايتها. ومثلما يفرض عليه من أعمال خاصة شرعت لصالح(441/31)
الفرد كأن يتقدم لإنقاذ حياة إنسان أو يتدخل بين الضعيف الذي لا سند له والقوي الذي لا حجة معه لينتصف للمظلوم من الظالم. وهي أمور إذا ما اتضح أن من واجب الرجل أن يؤديها كان من مقتضى العدالة أن تناقشه الهيئة لاجتماعية الحساب عن عدم وفائه بها. فالإنسان قد يلحق الضرر بغيره بسبب ما يقدم عليه من عمل، أو نتيجة لامتناعه عما يجب عليه من عمل وفي كلا النهجين يجب حقاً وعدلاً أن يكون ملزماً بتعويض الضرر.
وهذا النظر الصائب أنسب لحرية الصحافة وأشد انطباقاً عليها من غيرها. وكم تخفق الصحافة في تأدية رسالتها للأمم الحرة، وفي القيام بواجبها على وجهه الصحيح، إذا هي مرت بالطغيان والظلم مرور الكرام، أو ذلت واستكانت فأغمضت عينيها عما يواجهها من سوء استعمال الحق ومن المتصرفات الضارة بالصالح العام. إذ واجب الصحافة أن تترصد الأخبار لتذيعها على الناس، وأن تتعقب الخفاء حتى يبرح، والخبئ حتى يظهر، وأن تواجه الشبه حتى تنجلي، وأن تفصح عن ذلك كله في عبارة حاسمة صريحة، فإذا بالصبح وقد تبين لدى عينين، وإذا هي لا تدين بولاء ولا تنفيذ بواجب إلا للشعب وللشعب وحده لا لأية سلطة تتولى الحكم في البلاد؛ وإذ الطريق الوحيد لكبح جماح الهيئة الحاكمة والحيلولة بينها وسوء استعمال الحق هو أن تذيع على الشعب كيف يتصرف رجال الحكومة بسلطانهم!
ووقتما أصر (مل) ذلك الفيلسوف الحر، على أن يسأل الرجال، وكذلكم الصحافة من باب أولى، لا عما يجترمونه من جرم فحسب، بل عما يترتب على امتناعهم عما يجب عليهم عمله، لم يكن نظره هذا ببعيد عن تلك العبارة الذائعة الواردة في تعاليم الكنسية الإنجليزية، وهي: (لقد عملنا ما كان يجب علينا ألا نعلمه، وأغفلنا عمل ما كامن يجب علينا أن نعمله، وافتقدنا رجاحة العقل وسداد الرأي)؛ وبعبارة أرى قد تكون جرائم الترك هوان للحرية كجرائم العمد
وإذا كان الانتفاع بالحرية والدفاع عنها بحاجة حقاً إلى مجتمع متمدن نشط يصدر في أفعاله عن إرادة حرة وعزيمة صادقة، فليس بأقل من ذلك وزناً ما نحن بحاجة إليه من إعادة النظر في آرائنا وتنقيح مناهجنا فيما ينظم حريتنا على ضوء ما نتبينه من مجريات الأمور وما ينتهي إلينا أو ننتهي إليه من تطور الأحوال وتغير الظروف. ومنذ قرن مضى كانوا يعتبرون ضريبة الدخل التي تستنفذ اليوم على ربع إيراد المواطن الحر، وتلك الواجبات(441/32)
والالتزامات المتوالية أو المتواترة التي قد يكون من شأنها أن تستأثر الدولة بنصف ما يفيده المواطن من ثروته. نقول إلى قرن مضى كانوا يعتبرون تلك الضرائب والقيود المالية غارة شعواء غير مشروعة على حق الملكية الخاصة وعلى الحرية الشخصية. أما اليوم فقد صارت هذه الضرائب أمراً مقبولاً أو نهجاً مقرراً لا يشق على الناس أمره ولا يتأذون به. ولأقل من عصر مضى تكلموا كثيراً عن حق المنتجين في ابتياع (جني الجهود الطليقة) في (سوق حرة) وكان أغلب ظن أولئك العمال الذين وسعهم أن يفيدوا أجوراً طيبة من بيع جهودهم أنهم قد أمسوا وهم ينعمون بكامل حريتهم؛ وتاريخ حركة الاتحاد العمالي التجاري في هذه البلاد (إنجلترا) هو تاريخ الجهود التي بذلت لتحقيق (هذه الحرية) وإصلاح شأنها عن طريق عقد الصفقات الاشتراكية الرابحة على الرغم من أن حقيقة نظام هذا الاتحاد التجاري ما كانت لتسمح للأفراد بأن يستقلوا عنها ببيع جهودهم مهما كان الثمن الذي يتهيأ لهم الحصول عليه
وما شرع للمصانع من قوانين كان له بلا ريب أثره في التدخل في حرية المنتجين وانتقاصها أصبح اليوم وهو يرى كأمر ضروري لحماية عمال من أي استغلال غير عادي يكون عليهم غرمه وللمنتجين غنمه. ولا زال لدينا من الأسباب ما يحملنا على الظن بأنه سوف يواجهنا يوم يحتاج الأمر فيه إلى إصلاح يعطل حرية المالك في التصرف في ملكه إذا لم يكب للإصلاح النجاح في القضاء على تلك الظاهرة المائلة في إحلال الماكينات محل العمال والقضاء على تلك الأيدي المبسوطة للعمل بان تساق إلى نوع آخر من الرق الاقتصادي وتنتهي بها حاجتها إلى العمل لأن تكابد شقوة البطالة الإجبارية.
للكلام صلة
زين العابدين جمعة(441/33)
بعد منتصف الليل
للأستاذ م. دراج
الدقائق تمر بطيئة، وصبري يوشك أن ينفد، وكلما تطلعت إلى النافذة توهمت أننا أشرفنا على الصباح. . . وتعددت مني اللفتات حتى عز الأمل في انبلاجه أو كاد، فازداد قلقي، واشتد تبرمي بالفراش فنحيت عني الغطاء بعيداً، وفي حركة عصيبة انتصبت واقفاً، وقد صممت على أن أتنفس هواء الفضاء! فما عدت أتحمل قبلاتها الجائعة تنقض عليَّ في غير رحمة؛ لا، ولا موسيقاها الخبيثة تجفل مها الحواس كل غدو ورواح. وخير لي أن يجف دمي من البرد في الطرقات، ولا تمتصه هذه الحشرة الجائعة. ومن يدري؟ ربما قضت على أن ألازم (الملاريا) وأصادقها ولو لمدة أيام!
كنت لا أحمل ساعة، وأنا كذلك دائماً، وكان مبلغ تشاؤمي لا يتعدى أن الوقت حول الخامسة صباحاً. قلت لنفس هذا الوقت المبكر أصلح جويسري عن الإنسان همومه ومتاعبه، فيه تحتفل الطبيعة بالتقاء الليل والنهار فتلبس أبهى حللها، وتغني طيروها أعذب الألحان. وما ضرني لو شاركت الطبيعة أعظم أفراحها وشهدت كيف تمثل قصتها الخالدة عل مسرح الحياة! لا شئ. أجل، لا شئ.
وأسرعت فارتديت ملابسي وهممت بالانطلاق، ولكني غريب عن المدينة، وفي منزل ليس لي فيه كل الحرية، وليس من اللياقة أن أحرج مضيفي، فأجرح عزة نفسه، ولكن ماذا أصنع وهذه حالي، أنام. . .؟ لا أنام! أبقى. . .؟ لا أبقى، هذا مستحيل! إذن لا مفر من الخروج، وإذا كنت غريباً عن المدينة فأنا ضيفها فأنا في الوقت نفسه، وللضيف حقوق ولو حامت حوله الشبهات. . .! بهذا التفسير غير المقنع أقنعت نفسي، وأخذت أدلف من طريق إلى طريق، وأنعطف مع الشارع إلى الميدان متمهلاً في مشيتي لعلي ألمح تباشر الصباح؛ ولكن الطريق خالية، والناس نيام، والسكون يشمل الفضاء، حتى الطير قد أخلد إلى أوكاره، وأسلم نفسه للكرى، والحراس هنا وهنالك في شبه غفوة يحتاجون إلى من يحرس أسلحتهم من أيدي اللصوص الجبناء. . .! والساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل.
ماذا تراني أصنع. . .؟ إني لا أعرف أين يقع الفندق إن كان ثمة فندق يقبلني في هذا القوت، ولا أعرف أيضاً كيف الطريق إلى (استراحة الحكومة) فأنا مشرد من أجل العمل(441/34)
في خدمة الدولة، والدولة لا يعنيها من أمري شئ. إنها لتكافئني بالحسرة والخسران على ما أبذل من جهد ونصيب، هي ترهقني ليستريح غيري من أرباب الحسب والنسب وذوي الألقاب والأرقام الضخمة وما أشبه هؤلاء في
مراكزهم بأصحاب (العزب والوسايا) أو هم تماماً كالمهرجات في الهند، كلما تضخمت ثرواتهم، هوت على العب نوازل الفقر والخراب، والشعب هنا أمثالي من الموظفين الصغار، (فالقانون المالي) لا يطارد إلا أمثالي بالحرمان من كل شئ، حتى حق الاطمئنان إلى بقائي لأقوم بواجبي في هدوء وانتظام. . .!
لم أوافق على العودة ثانية من حيث فررت، وإن خفت أن يصيبني سوء من طول الوقت واشتداد البرد في الهزيع الأخير من الليل، وأنا رجل يؤثر البرد في جسمه وأعصابي معاً. . .
الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل، وعليّ أن أظل هكذا أربع ساعات طوال!!
وقبل أن أفكر في حل لسؤالي، لاح لي شبح في الظلام، يمش مشية الحذر ثم يمض مندفعاً إلى الأمام، ثم يتوقف وكأنه جندي يستكشف مواقع الأعداء، وهكذا بدا لي أمره غريباً فحاولت أن استكشف سره.
يا الله! إنها إنسانة تحمل وليداً وقد احتضنته إلى صدرها وألقت وشاحها الممزق على الخرق المهلهلة المحيطة بجسمه. سألتها عن حالها فتوقفت ولم تحر جواباً. . . ثيابها الريفية الممزقة، وروحها الحائرة، وعقدة لسانها الظاهرة وصمتها البليغ وأخيراً ربيع حياتها. . .! كل هذا كشف عن حقيقة حالها، هي تبيع نفسها من أجل المال، المال الذي تشتري به الخبز، هل أعطيها شيئاً مما وهبني الله؟ وهل يحل هذا الشيء مشكلتها؟ لا. . . لن أعطيها شيئاً. . .! ولم أشفق على حالها فأتركها فريسة لمجتمع مملوء بالذئاب الجائعة فقد تتعود الاستجداء في مقابل ما. . .! وليس الناس ملائكة. . .
هذه الإنسانة لها على الدولة حقوق أهونها أن تكسوها وتطعمها، وإلا فكيف يمكن أن تعيش عيشة شريفة في مجتمع يقتتل فيه الناس من أجل المليم؟ وإذا كان الحكام دائماً من الأغنياء الذين لا يتصورن كيف تجوع المعد الآدمية، فلترسل لهم هذه الإنسانة عبرة الحق لعلهم يهتدون. . . وفجأة ظهر الشرطي بعد نومة طويلة بمظهر اليقظ اللبيب فأمسكت أنفاسي(441/35)
وظهر على شئ من الاضطراب. حاول أن ينال مني بالغمز واللمز، فنهرته بشدة وأنا أعلم أنه سيركب رأسه.
وهناك حيث (ينام) رجال الشرطة على مصالح الناس انتظرت الضابط طويلاً أين هو؟ أين هو؟ لا أدري، ولكني ألمح منطقته تتدلى من المشجب، وسترته تضيء بأزرارها اللامعة فوق كرسي مكتبه. وهو غائب على ثلاث ساعات طوال؛ وتبينت أخيراً أنها زوجة مات عنها زوجها لثلاثة شهور خلت، ولا تدري كيف تقطع الشقة بين الحياة والممات فهامت على وجهها بعد أن أرخى الليل سدوله، تفتش عن رغيف، ولو كسبته عن طريق غير شريف، نتركها بين محاضر التحري تنتظر مستقبلها المجهول.
وعدت إلى الشارع فوجدت الصبح قد غمر المدينة والناس يستقبلون الحياة في معترك لجب ليس فيه حدود، فإذا تساءلت لماذا؟ أجابوك: إنها الحرية التي تقدسها الدولة.
م. دراج
-(441/36)
17 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعادتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تباع الفصل الخامس: الحياة المنزلية
يجهز الطعام بحيث يسهل تناوله بالطريقة السابق وصفها، وهو يتكون في مجموعة من (اليخني): وهو لحم مسلوق وبصل مقطع، أو قليل من البامية أو غيرها من الخضر، و (القاوُرمة): وهو لحم كثير التوابل مع البصل؛ و (ورق محشي): وهو ورق العنب أو الكرنب أو الخس: يحشى بالأرز واللحم المفروم بعد أن يبتلا بالملح والفلفل والبصل وغالباً بالثوم والبقدونس، ويسلق، ومحشي الخيار أو الباذنجان أو القرع الكوسة، و (الكباب): وهو قطع صغيرة من لحم الضأن تشوى على السفود، وبعض الألوان تتألف جميعها أو أغلبها من الخضر مثل: الكرنب والرجلة والإسباناخ والبامية والفول والترمس والحمص والقرع المقسم إلى قطع صغيرة والقلقاس والعدس الخ. ويعد السمك المطبوخ بالزيت كذلك طبقاً مألوفاً، وتطهى أغلب الأطعمة بالسمن لعدم وجود الدهن، وتوضع فيها التوابل بكثرة، ويذوب السمن في الصيف تماماً، ولابد من استعمال اليدين معاً ما يقدم من الطيور. وقد يقوم بهذه العملية حصان معاً كل بيده اليمنى فقط؛ ولكن بعضهم يقوم بذلك وحده بدون مساعدة وبيد واحدة، ولا يقبل بعض العرب لمس الطعام - على أي حال - بيسراهم إلا إذا كانت يمناهم مبتورة. وليس من غير المعتاد أن تقدم الطيور المنزوع عظامها المحشوة بالزيت والفستق والخبز المفتت والبقدونس، أو حمل بأكمله محشواً بالفستق الخ؛ وهنا يسهل نزع اللحم بيد واحدة. وكثيراً ما تخلط الحلوى باللحم مثل: العناب والخوخ والمشمش الخ والسكر مع اليخني؛ وكثيراً ما تقدم مختلف أصناف الحلوى دون مراعاة نظام خاص بالنسبة للأصناف الأخرى. ومن أصناف الحلوى المحبوبة الكنافة: وتصنع من دقيق القمح(441/37)
- وهي أدق من الشعرية - وتقلى بالسمن وتحلى بالسكر أو العسل. ولا تخلو المائدة من البطيخ في موسمه: وهو يقطع قبل الأكل وبترك في الهواء ليبرد بالتبخر، ولكن يجب ملاحظته حتى لا ينفث الثعبان سمه فيه، لأن الثعبان - على حد قولهم - يحب البطيخ حباً شديداً، ويشم رائحته على مسافة بعيدة. والبطيخ كثير في مصر كثرة زائدة، وهو غالباً لذيذ الطعم. وآخر طبق يقدم الأرز المفلفل (بيلاف الأتراك) ويوضع عليه الزبد ويبتل بالملح والفلفل، إلا أن كثيراً ما يتبعه - على موائد الأثرياء - (خشاف): يتكون عادة من الماء والزبيب المسلوق فيه ويحلى بالسكر ثم يضاف إليه عند ما يبرد من ماء الورد. وكثيراً ما يحل البطيخ محله.
ويأكل المصريون باعتدال ولكن بسرعة، وحالما ينتهي أحدهم يحمد الله ويقوم دون أن ينتظر الآخرين، فيقدم له الخادم الطست والإبريق ليتسل يديه وفمه بالصابون والماء كما سبق
ولا يشرب المصريون على الأكل غير الماء. وقد يقدم على مائدة الأغنياء (الشربات) التي سأصفها الآن. ولا يشرب العرب على الأكل إلا قليلاً من الماء، أو لا يشربون مطلقاً، وهم على العموم يتناولون جرعة كبيرة بعد الأكل مباشرة. ويمتاز ماء النيل بحلاوة؛ ولكن ماء الآبار، في القاهرة وغيرها، يميل إلى الملوحة. ويشرب الماء إما في أوعية من الفخار أو طاسات من النحاس وأوعية الفخار نوعان: (الدوق) (شكل 39) و (القلة) (شكل40) والأول ذو حلق ضيق، والثانية حلقها واسع. وهما م صلصال ذي مسام يبرد الماء برودة لذيذة بالتبخر. وهما يوضعان لذلك في تيار الهواء. وكثيراً ما يسود داخل الوعاء بدخان الأخشاب الصمغية، ثم يعطر بدخان خشب (القَفَل) والمصطكا. ويستعمل لهذا الغرض وعاء صغير من الفخار يسمى مبخرة (شكل 41) يوضع فيه الفحم اللازم لحرق الخشب والمصطكا، ثم تعلق القلة أو الدورق مقلوباً فوقه. ويشد حول رقبة الدورق خرقة على بعد بوصة من الخلق لمنع السناج أن ينتشر بعيداً على خارج الوعاء. وكثيراً ما يوضع أيضاً قليل من ماء زهر البرتقال فيكسب الماء طعماً لطيفاً. وللأوعية سدادات من الفضة أو النحاس أو القصدير أو الخشب أو أغطية من السعف المجدول. وهي توضع في صينية يسقط فيها الماء الراشح. وكثيراً ما تستعمل الأوعية الصينية (شكل 42) في الشتاء عوضاً(441/38)
عن الفخار حتى لا يبرد الماء برودة شديدة ويبين (الشكل رقم 42) كاستي الشرب الأكثر شيوعاً. وبعض الكاسات ينقش في داخلها آيات قرآنية، ولم أر ذلك كثيراً. ويبسمل الشارب قبل الشرب ويحمد الله بعده، فيقول له من الأصدقاء الحاضرين: هنيئاً، فيرد عليه: هناك الله.
وبالرغم من إشارة قصص ألف ليلة وليلة إلى مائدة المدام فإن المصريون المسلمين في هذا العصر لا يقدمون النبيذ في المجتمعات العامة في أي وقت من الأوقات على العموم. إلا أن الكثيرين لا يمتنعون عادة عن شرب النبيذ مع الأصدقاء المقربين. وحينئذ لا يدخل الخادم غير الندامى أما غيرهم فيقول لهم: إن السيد ليس بالدار أو أنه في الحريم. وهؤلاء يحتسون النبيذ أثناء العشاء وقبله وبعده ويستحق قبل العشاء لأنه على حد قولهم يثير الشهية وقد أخبرني صديق مسلم تاب عن الخمر بعد إدمان (ولا يمكنني أن أتحدث في هذا الموضوع عن تجربة لأنني لم أشرب النبيذ أبداً فلم يدعني مسلم قط إلى ندوة شراب) أن مائدة المدام تتألف من صينية مستديرة أو طبق زجاجي توضع على الكرسي ويصف عليها إبريقان للنبيذ والعنبر أو أكر من إبريق معاً أحياناً وعدة أكواب صغيرة وصحن صغير فيه فاكهة يابسة وطازجة أو مخللات أحياناً، وأخبراً شمعتان وغالباً ياقة زهر تثبت في شمعدان أو توضع على الصينية.
ويصنع المصريون عدة أصناف من (الشربات) وأكثرها شيوعاً الماء المحلى بالسكر فقط ويكون زائد الحلاوة (والليموناتة) أو شراب الليمون نوع آخر، وهناك صنف ثالث أحب إلى النفس وهو شراب البنفسج ويكون بسحق زهر البنفسج ووضعه مع السكر في الماء وتركه على النار حتى يغلي، وهذا الشراب أخضر اللون، وشراب التوت والحميض والزبيب الذي يباع في الشوارع، والعرق سوس والخروب، ويقدم الشراب في أكواب مغطاة تسمى الواحدة على العموم (قلة) (شكل 43) وبعض المألوف من هذه الأكواب يزين بزخارف مذهبة من الزهور وغيرها وهي توضع على صينية مستديرة مغطاة بقطعة من الحرير المطرز أو الجوخ المرصع بالذهب، ويعلق على ذراع الخادم فوطة مستطيلة الشكل عريضة الحاشية المرصعة بالذهب والمطرزة بالحرير الملون، ومن الجلي أنها تقدم لمسح الفم بعد الشراب، ولكنها في الواقع تتخذ للمباهاة أكثر منها للاستعمال(441/39)
يمض المصريون ما بين وجبة المساء وصلاة العشاء في التدخين وشرب القهوة، ويستأذنون لذة التدخين بعد فراغهم من الصلاة. وقد يلعبون الضامة أو الشطرنج أو غير ذلك، أو على الأقل يتسامرون فينقضي الوقت دون أن يشعروا بأدنى ضيق. ويقضي أفراد العائلة المصرية وقتهم عندما تسمح الظروف في حبور وبهجة ولكن في هدوء. وكثيراً ما قوم الرجال بزيارة أصدقائهم ليلاً وقت العشاء أو بعد ذلك، ويستضئيون أثناء خروجهم بمصباح مستدير مموج الجوانب يسمى فانوس، ويصنع من النسيج المشمع المشدود إلى حلقات من السلك بينما أعلاه وأسفله يصنعان من النحاس المبيض. وترى هذا النوع في الشكل رقم 44، وبجانبه النوع الشائع وهو القنديل بغطائه الخشبي العادي الذي يقيه شبه الهواء. وهذا القنديل وعاء زجاجي صغير ذو أنبوبة في قاعة، يدخل فيها ذبالة من القطن تلف على عود من القش. ويصب فيه الماء ثم الزيت وكثيراً ما يعلق القنديل على مدخل المنازل. ويخيم على داخل البيوت أثناء الليل جو قاتم ثقيل. ويكفي لإنارة الأبهاء الواسعة العالية ضوء شمعة أو شمعتين على الأرض أو على كرسي؛ وقد تحاطان بوقاد زجاجي كبير، أو توضحان في مصباح من الزجاج لأن النوافذ من الخشب المشبك. والقليل من المصريين من يسهر أكثر من ثلاث ساعات أو أربع صيفاً بعد غروب الشمس (إذا أن الوقت يحسب عندهم من الغروب) وكثيراً ما يسهرون خمس ساعات أو ستا في الشتاء.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(441/40)
رسالة الشعر
قصيدة العقاد في (مي)
أين في المحفل (مَيٌّ) يا صِحاب ... عودتنا هاهنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب ... مستجيب حين يُدْعى مستجاب
أين في المحفل (مي) يا صحاب؟
سائلوا النخبة من رهط الندىْ ... أين مي؟ هل علمتم أين مي؟
الحديث الحلو واللحن الشجيْ ... والجبين الحر والوجه السنىْ
أين ولى كوكباه؟ أين غاب؟
أسف الفن على تلك الفنون ... حصدتها، وهي خضراء، السنون
كل ما ضمته منهن المنون ... غصص ما هان منها لا يهون
وجراحات، ويأس، وعذاب
شيم غرٌّ رضيات عِذاب ... وحِجى ينفذ بالرأي الصواب
وذكاء ألمعي كالشهاب ... وجمال قُدُسي لا يعاب
كل هذا في التراب! آه من هذا التراب!
كل هذا خالد في صفحات ... عطرات في رباها مثمرات
إن ذوت في الروض أوراق النبات ... رفرفت أوراقها مزدهرات
وقطفنا من جناها المستطاب
من جناها كل حسن نشتهيه ... متعة الألباب والأرواح فيه
سائغ مِيز من كل شبيه ... لم يزل يحسبه من يجتنيه
مفرد المنبت معزول السحاب
الأقاليم التي تنميه شتى ... كل نبت يانع ينجب نبتا
من لغات طوقت في الأرض حتى ... لم تدع في الشرق أو في الغرب سَمتا
وحواها كلها اللب العُجاب
يا لذاك اللب من ثروة خصب ... نير يقبس من حس وقلب
بين مرعى من ذوي اللباب رحب ... وغني فيه وجودٍ مستحب(441/41)
كلما جاد ازدهى حسنا وطاب
طلعه الناضد من شعر ونثر ... كرحيق النحل في مطلع فجر
قابل النور على شاطئ نهر ... فله في العين سحر أي سحر
وصدى في كل نفس وجواب
حي (ميا) إن من شيع ميا ... منصفاً حياً اللسان العربيا
وجزى حواء حقاً سرمديا ... وجزي ميا جزاء أريحيا
للذي أسدت إلى أم الكتاب
للذي أسدت إلى الفصحى احتسابا ... والذي صاغته طبعاً واكتسابا
والذي خالته في الدنيا سرابا ... والذي لاقت مصابا فمصابا
من خطوب قاسيات وصعاب
أتراها بعد فقد الأبوينِ ... سلمت في الدهر من شجو وبين
وأسى يظلمها ظلم الحسين ... ينطوي في الصمت عن سمع وعين
ويذيب القلب كالشمع المذاب
أتراها بعد صمت وإباء ... سلمت من حسد أو من غباء
ووداد كل ما فيه رياء ... وعداء كل ما فيه افتراء
وسكون كل ما فيه اضطراب
رحمة الله على (مي) خصالا ... رحمة الله على (مي) فعالا
رحمة الله على (مي) جمالا ... رحمة الله على (مي) سجالا
كلما سُجل في الطرس كتاب
تلكم الطلعة ما زلت أراها ... غضة تنشر ألوان حلاها
بين آراء أضاءت في سناها ... وفروع تنهادى في دجاها
ثم شاب الفرع والأصل، وغاب
غاب والزهرة تؤتي الثمرات ... ثمرات من تجاريب الحياة
خير ما يؤتي حصاد السنوات ... بعثرتهن الرياح العاصفات
ورمتهن تراباً في خراب(441/42)
ردَّ ما عندك يا هذا التراب ... كل لب عبقري أو شباب
في طواياك اغتصاب وانتهاب ... خلقاً للشمس أو شم القباب
خلقا لا لانزواء واحتجاب
ويك! ما أنت برادٍّ ما لديك ... أضيع الآمال ما ضاع عليك
مجد (مي) غير موكول إليك ... مجد (مي) خالص من قبضتيك
ولها من فضلها ألف ثواب
عباس محمود العقاد(441/43)
قصيدة مطران في (مي)
قد تولى رفاقُنا وبِقينا ... يعلم الله بعدهم ما لِقينا
هل من الصاب في كؤوسك سُؤرٌ ... قد سقينا يا دهر حتى روِينا
أوداع يتلو وداعاً وتأبين ... على الإِثر معقبٌ تأبينا
أيها الشاعر الذي كان حيناً ... يتغنى وكان ينحَب حينا
حطِّم العود، إن كر الليالي ... لم يغادر في العود إلا الأنينا
أن يُلمَّ الردى بَميّ وأن يط ... فئَ مصباحها أليس غبينا؟
طالع السعد كيف بدل نَوْءا ... يبعث الريح والسحاب الهتونا
فإذا ما أقرَّ أمسِ عيونا ... قَرَّح اليومَ بالدموع عيوناً
نعمة ما سخا بها الدهر حتى ... آب كالعهد سالباً وضنينا
أبهذا الثرى ظفرت بحسن ... كان بالطهر والعفاف مصونا
لهف نفسي على حِجيً عبقري ... كان ذخراً فصار كنزاً دفينا
إيه يا مي أسرف اليتم تبري ... حاً بروح كان الوفيَّ الحنونا
فقدك الوالدين حالا فحالا ... جعل البيض من لياليك جُونا
ورمى أصغريك رامي الكبير م ... ن فذاقا المنون المنونا
أقفر البيتُ، أين ناديك يام ... ي إليه الوفود يختلفونا
صفوة المشرقين نبلا وفضلا ... في ذراك الرحيب يعتمرونا
فتساق البحوث فيه ضروباً ... ويدار الحديث فيه شجونا
وتصيب القلوب وهي غِرَاثٌ ... من ثمار العقول ما يشتهينا
في مجال الأقلام آل إليك أجلس ... بق في المنشئات والمنشئينا
في لغات شتى وفي لغة الضا ... د تجيدين صوغ ما تكتبينا
أدب قد جمعت فيه علوما ... يخطئ الظن عَدها وفنونا
وتصرفت فيه نظما ونثرا ... باقتدار تَصرَّفَ الملهمينا
تبتغين الصلاح من كل وجه ... وتعانين شقوة المصلحينا
وحي قلب يفيض بالحب للخير ... ويهدي إليه من يهتدونا
ويود الحياة عزا وجهدا ... لا يود الحياة خسفا ولينا(441/44)
فهو آنا يبث بثاً رفيقاً ... يملأ النفس رحمة وحنينا
وهو آنا يثور ثورة حر ... عاصفاً عصفة تدك الحصونا
ينصر العقل، يكشف الجهل، يوحي ال ... عدل، يرعى الضعيف والمسكينا
أين ذاك الصوت الي يملك الأس ... ماع في كل موقف تقفينا
فُجِع الشرقُ في خطيبته الفص ... حى وما كان خطبها ليهونا
أبلغ الناطقات بالضاد عَيَّت ... بعد أن أدت البلاغ المبينا
أطربته وهذبته وحثت ... هـ على الصالحات دنيا ودنيا
بكلام مفصل زانت الحك ... مة فيه البيان والتبيينا
قدرته لفظاً ولحظاً وإيما ... ء بما ودت المنى أن يكونا
ذاك في العيش ما شغلت به وال ... غيد تلهو وأنت لا تلهينا
لم ترومي إلا الجليل وجانب ... ت الأباطيل واتقيت الفتونا
وجعلت التحصيل دأباً وآتي ... ت جناه فطاب للمجتنينا
فعليك السلام ذكراك تحيا ... وبرغم البعاد لا تبعدينا
خليل مطران
-(441/45)
البريد الأدبي
المجمع اللغوي والإنتاج الأدبي
طلب مجمع فؤاد الأول للغة العربية إدراج ثمانمائة جنيه في ميزانية السنة المقبلة لتشجيع الإنتاج الأدبي. وسيخصص نصف هذا المبلغ للممتازين في الآثار الأدبية التي يقرر المجمع أنها تستحق الجوائز، ويخصص النصف الآخر لجائزتين يمنحهما الأول والثاني في فرع من الفروع التي يطلب إلى الأدباء المسابقة فيها.
وعلى اللجنة المؤلفة لهذا الغرض أن تحدد كل عام في شهر فبراير النوع الأدبي للمسابقة وشروطها. فأما الآثار التي تجاز أو ينوه بها، فهي التي يتحقق فيها أن يكون الأثر مظهراً للإنتاج المستقل، وأن يأتي في بفائدة محققة، وألا يكون قد سبق نشره قبل السنة التي تتناولها التقارير. وستضع هذه التقارير فرعية من اللجان العامة، واحدة للشعر، وثانية للقصة والرواية، وثالثة، للمقالات والبحوث الأدبية من نقد وتاريخ ونحو ذلك.
وعلى كل لجنة فرعية أن تنتهي الإنتاج الأدبي في الفرع الذي أسند إليها، وأن تقدم تقريرها في شهر ديسمبر من كل سنة بملاحظاتها العامة على سير الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي في هذا الفرع، وعلى ما يمكن أن يكون ممتازاً من الإنتاج امتيازاً يقتضي تشجيع صاحبه معنوياً أو مادياً. ثم تدرس اللجنة العامة هذه التقارير في شهري ديسمبر ويناير، وتعرض تقريرها على مجلس المجمع في شهر فبراير، ثم يعقد المجمع جلسة علنية في شهر مارس تعلن فيها القرارات وأسبابها، وينوه فيها بما استحق التنويه من الآثار الأدبية.
هذا وقد نص على أنه لا يجوز لأعضاء المجمع أن يشتركوا في المسابقات أو ينوه بآثارهم. وسيمضي المجمع في تحقيق هذا المشروع بعد الموافقة على إدراج المبلغ المذكور في الميزانية.
المؤتمر العربي للتعليم
تضمن تقرير اللجنة الفرعية لمؤتمر التعليم في البلاد العربي، الكلام عن أغراض هذا المؤتمر وبرامجه ولجانه.
فقيل عن المقصود به إنه أول حلقة من سلسلة المؤتمرات لبحث الأسس التي تقوم عليها(441/46)
أنظمة التعليم والمشكلات المشتركة بين البلاد العربية والسياسية العامة التي يجب وضعها للسير بمقتضاها، وأن من أغراضه وضع الأسس التي يقوم عليها التعليم نفسه، وكذلك الوسائل العلمية التي تحقق الغايات السالفة بين مختلف البلاد العربية.
أما برنامجه فيخلص في القيام بالبحوث التالية:
- واجب الدولة بالنسبة إلى التعلم الأولى والعام.
- أغراض التعليم الثانوي ووسائل تحقيقها.
- مدى تأثر التعليم بالروح العربية.
- تعليم اللغات الأجنبية.
- مدى المركزية في التعلم.
- كذلك يشمل البرنامج الكلام عن البعثات وتبادل الطلاب والأساتذة وعن المؤسسات الثقافية، والزيارات العلمية والرياضة، وتوحيد المصطلحات المدرسية، وبحث المعادلة بين الشهادات.
وقد تقرر أن يدعي إلى هذا المؤتمر كل من: العراق وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن والحجاز واليمن والسودان
وتقرر أن يفتح باب الاشتراك للهيئات والأفراد من مختلف البلاد، سواء أكانت هيئات لها صبغات رسمية أم غير رسمية
واقترح تأليف إحداهما لوضع الترتيبات الخاصة بهذا المؤتمر، والأخرى لتحضير أعماله الفنية
كذلك اقترح أن يطرح على هيئة المؤتمر تأليف لجنة دائمة للعمل على تحقيق أغراضه طبقاً لما يستقر عليه رأي المؤتمرين.
في المجمع العلمي العربي بدمشق
(أ) كنا ذكرنا منذ شهور أن الأساتيذ أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق قد انتحبوا جميعاً الأستاذ العلامة محمد كرد علي رئيساً للمجمع المذكور. وقد عادوا فانتخبوا منذ أمد قصير الشيخ عبد القادر المغربي نائباً للرئيس، والأستاذ خليل بم أميناً للسر)
والأستاذ المغربي أشهر من أن ينوه بلغوياته وآرائه وهو من أعضاء المجمع اللغوي في(441/47)
مصر. الأستاذ مردم بك فقد جمع إلى أدب الدرس ورقة الشاعرية النبل وأدب النفس، وهو أرفع من شغل هذا المنصب في المجمع العلمي.
(ب) كانت المحاضرة الثانية من محاضرات المجمع للأستاذ الشيخ نائب الرئيس عنوانها بـ (غريب اللغة في البرشان)، وقدم لها بكلام طويل على ضرورة التسامح في قبول الكلمات الأجنبيات التي لا ينبو عنها السمع أو يأباها الذوق. . . وهو أخذاً بذلك جعل البرشان في عنوان محاضرته. ثم فسر معنى هذه الكلمة، وقرأ ما أرسله إليه أحد أصدقائه من أخبار أهل الكتاب في القدس عنها، ويبين أنه يريد أن يجعل غريب اللغة في أسلوب يسهل على السامع أو القارئ هضمه وقبوله، كما يجعل الدواء المر ضمن (برشانة) ليسهل ابتلاعه. وقد عمد الأستاذ إلى الكلمات الغربية فنسج حولها أقاصيص صغيرة تفهم بها وتحفظ. وقد (برشن) الأستاذ عدداً من غرائب الكلمات سرت الحاضرين وأضحكتهم. وهاكم أنموذجاً منها قال الأستاذ:
(كل خبر من أخبار العرب أو لفظ من ألفاظهم له علاقة بالبحر أو بالملاحة يكون في الغالب مرورياً أو محكياً عن قبائل عرب عُمان، الساكنين على شاطئ البحر والحاذقين بصناعة البحر. غير أنهم لبعدهم عن بلاد مضر، كان لهم لهجة خاصة بهم، ويستعملون ألفاظاً من العربية لا يعرفها الحجازيون. فترى علماء اللغة إذا نقلوا كلمة من لهجتهم عبروا عنها بقولهم: إنها كلمة عمانية أو لغة عمانية. ففي المخصص (ج 9، ص 146):
(القذف غرف الماء وصبُّه بلغة عمان). وقذاف بوزن غراب معناه الغرفة الواحدة من الماء. . .
ومن ملوك عُمان (الجَلَنْدي)، قال إنه هو الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً كما جاء في التنزيل، وقد كان ظالماً حتى ضرب بظلمه المثل قال الشاعر:
كان الجلندي ظالماً ... وأنت منه أظلم
وكان للجلندي هذا بنتُ أميرة في نسبها وأصلها، غير أنها بلهاء في تصرفها وعقلها. وكان يحمقونها، وقد اشتهرت على ألسنة اللغويين باسم (العُمانية بنت الجلندي)
ذكروا في حماقتها أنه كان لها غيلمة أي سلحفاة بحرية، أرادت يوماً أن تلهو بها فألبستها حُلي زينتها، وسرحتها تمرح في حدائق قصرها، وغفلت عنها، فهرولت الغيلمة إلى البحر(441/48)
وقَمست فيه أي غاصت (والقَمس الغوص ومنه القاموس الذي معناه البحر!) وبعد هينهة تفقدت الأميرة سلحفاتها فلم تجدها وتيقنت أنها قمست في البحر. فنادت جواريها ليساعدنها في نزف ماء البحر واسترداد الغيلمة الآبقة، فجعلت وجعلن يغترفن ماء البحر بأكفهن ويصيبنه على رمل الساحل. وكانت الأميرة كلما آنست من جواريها فتوراً وضجراً حمستهن قائلة (نزافِ نزافِ، لم يبق غير قُذافِ) ونزاف اسم فعل أمر بمعنى أنزف، والنزف أن تنزح ماء البئر أو الحوض كله. أما معنى قداف فالغرفة الواحدة توهمن أنهن قاربن الانتهاء.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
تحرز مفسر عن التكفير في رأي خطير:
يجازف كثير من الناس في هذه الأيام بتفكير أصحاب الآراء الجديدة في الدين، ولا يكتفون بتخطئتها، وترك عقيدة أصحابها لمن هو أدرى بها منهم، ونحن نسوق لهم هذا المثل من تفسير غرائب القرآن لنظام الدين النيسابوري، ليعرفوا كيف كان سلفنا الصالح يقابل الآراء الجديدة بالهدوء اللائق بكرامة العلم، ويحاول ردها في لين ورفق، فلا يقم في ذلك مناحة باسم الدين، ولا يجازف بالتكفير والتضليل كما نجازف اليوم. وقد جاء هذا الرأي الخطير في تفسير الآيات الواردة في قصة داود وسليمان من سورة سبأ، وفيها ذكر تسخير الجبال وتسبيخها مع داود، وتسخير الرياح والشياطين لابنه سليمان، وكذلك إلانة الحديد وإسالة القطر، فقال النيسابوري: زعم بعض المتحذلقين أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شئ بحمده، وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح، والمراد من تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح، والمراد من إلانة الحديد وإسالة القطر أنهم استخرجوا الحديد والنحاس بالنار واستعمال آلاتها، والمراد بالشياطين ناس أقوياء ولا يخفي ضعف هذه التأويلات، فإن قدرة الله في باب خوارق العادات أكبر وأكمل من أن تحتاج إلى هذه التكلفات.
فالجمهور يرى هذه الأشياء أنها كانت معجزات لداود وسليمان عليهما السلام، ويفهمها على(441/49)
ظاهرها من الدخول في باب خوارق العادات، فلما ساق النيسابوري ذلك الرأي الذي يخرجها من هذا الباب، لم يفعل إلا أن جعله حذلقة لا داعي إليها، لأن قدرة الله أكمل م تحتاج إلى مثلها، والحذلقة يا معشر الناس شئ غير التكفير والتضليل، وإنما يقال - حذْلق - إذا أظهر الحذق أو ادعى أكثر مما عنده كما فعل هذا المتحذلق.
ولو أن مثل ذلك الرأي ظهر في عصرنا لقامت له الدنيا وقعدت، وامتلأت صفحات الجرائد والمجلات بألفاظ الكفر والضلال والإلحاد والزندقة، وما إلى هذا من الألفاظ المؤذية، وشر الإيذاء ما يتعلق بالعقيدة.
فهل لكم يا معشر المجازفين بتكفير الناس أن تنتفعوا بسوق هذا المثل، وان تقتدوا بما فيه من الظرف واللباقة في الرد، فقد سئم العقلاء جدلكم النابي في الدين، لأنه يضر ولا نفع، ويبغض في الدين أكثر مما يحجب، ولهذا أمرنا أن نجادل بالتي هي أحسن.
عبد المتعال الصعيدي
1 - نص خطير
أكثر المفسرين على أن الآية الكريمة (وقرن في بيوتكن) خاصة بنساء النبي صلى اللهّ عليه وسلم. ولكن الإمام القرطبي يقول في تفسيره الجامع: (معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت وإن كان الخطاب لنساء النبي (ص) فقد دخل غيرهم بالمعنى - هذا لو لم يرد دليل في جميع النساء - فكيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة). انتهى
2 - جاء في كتاب أحكام القرآن للإمام أبي بكر بن العربي
في سورة التوبة: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره
حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)
نفى الله عنهم العقل لنفي فائدته من الاعتبار والاستبصار، وقد
ينتفي الشيء بانتفاء فائدته، إذ الشيء إنما يراد لمقصوده، فإذا(441/50)
عدم المقصود فكأنه لم يوجد. . . الخ
والصواب: (لا يعلمون) بدل (لا يعقلون). فالتفسير غلط في غير موضعه
أحمد صفوان(441/51)
العدد 442 - بتاريخ: 22 - 12 - 1941(/)
على ذكرى (عيد الميلاد)
بعد ثلاثة أيام تتجدد ذكرى (مولد المسيح) فيقف أبناء (قابيل) آلة الحرب؛ ثم يخرون جاثين لله في الثكنات والمطارات والبوارج والخنادق والمخابئ والكنائس يرتلون حاسرين نشيد السلام المأثور:
(المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام!)
فإذا أصبحوا انقلبوا سراعاً إلى آلات الفناء فأرسلوا منها الصواعق على إخوانهم الذين هتفوا معهم بالمجد لله في السماء، وبالدوام للسلام على الأرض! فسحقوهم أو أحرقوهم على رمال لوبيا، وفوق ثلوج روسيا، وبين أطباق الهواء، وتحت أعماق الماء؛ كأنما اختلت الدنيا، واختبلت الناس، وانقلبت المعاني، فصار الدين معناه الكفر، والسلام معناه الخصام، والمفاوضة معناها الختل، والمعاهدة معناها الغدر، والأخوة معناها العداوة؛ وأصبح هذا الكوكب بقاراته ومحيطاته وسكانه كرة من النار تتقاذفها الأرجل الحديدية بين فريق هتلر وموسولينى والميكادو، وفريق تشرشل وروزفلت وستالين. ولا يدري إلا الله من سيقذفها في (الجول)؛ وما الجول هنا إلا عبودية الأبد أو حرية الأبد!
كان العالم المسيحي في مختلف أقطاره يجدد بعيد الميلاد ما أنطمس في نفسه من معاني المودة والرحمة والأسرة والطفولة، فيصل بالتزاور ما انقطع من أسباب القرابة، ويؤكد بالتهادي ما وهي من عرى الصداقة؛ وكان الميكادو على وثنيته يقوم بدور الشيخ الطيب (نوبل)، فيحمل اللعب من اليابان بأبخس الأثمان إلى كل بيت فيه طفل؛ فلما صُلِبت المسيحية في أوربا على صليب النازية المعقوف، انتكست الطباع وانعكست الأوضاع، وانكفأ بعض الشعوب إلى البربرية الأولى، يغالبون بعصبية الجنس، ويسودون ببأس الحديد. وجامل الميكادو في الشر كما جامل في الخير، فترك دور الشيخ (نوبل) وقام بدَور الأب (فويتار)، فاستبدل بلعَب الأطفال من صور الدبابات والطائرات والسابحات، قطعاً كالجبال من الحديد والبارود تدك مدائن البر، وتبتلع جزائر البحر، وتشعل النار فيما بقى من أطراف الأرض، حتى أوشك أن يجاوز الصواب قول الفلكيين إنها كوكب مظلم!
بعد ثلاثة أيام تعاود الناس ذكرى ليلة الميلاد وهم من تفاعل المذاهب والقرون في رجفة من الصراع الماحق توشك أن تقيم عليهم القيامة. وسيذكر الشباب المجندون لمجالدة الحق أو مجاهدة الباطل أنهم كانوا في مثل هذه الليلة أمام المواقد أو حول الموائد قرة عيون(442/1)
وزينة بيوت، وأنهم في هذا اليوم يستقبلون عيد الحياة وهم مشردون في مجاهل الأرض ومساقط الموت لا يعرفون متى يصرعون ولا أين يقبرون. ثم يقول هذا الشباب الريَّق الريان لنفسه: أبعد الترتيب والتهذيب والعيش الناعم والأمل الباسم والغد المرجو نصير طحيناً لهذه الرحا الهائلة من غير سبب موجب إلا نزوة من نزوات الطيش، في رأس رجل من طلاب العيش؟!
أما الستة الذين يحاولون أن يقرروا مصير العالم على مشيئة الله أو على هوى الشيطان، فسيذكرون بمولد المسيح أشياء أُخَر: سيذكر هتلر بيلاطس وديقليانوس، والدتشي يهوذا ونيرون. وسيذكر رزفلت بولس، وتشرشل قسطنطين؛ أما استالين إن ذكر فسيذكر لوثر؛ وأما الميكادو فلا يذكره العيد معنى من حياة المسيح، ولا مغزى من تاريخ المسيحية؛ إنما يذكره تلك اللعب التي كان يقدمها إلى لهو الأطفال ليربح من ورائها القروش، فأصبح اليوم يقدمها إلى قتل الرجال ليربح من ورائها الممالك!
سبحانك ربَّ السموات والأرض! ما كان لنفس مؤمنة أن تحسبك تركت أمر هذا العالم لهؤلاء الحمقى من خَلقك.
لا جرم أن لك من هذه القارعة الصغرى حكمة تدق على بصيرة ابن آدم
إن مع القيامة نشوراً أكمل وحياة أفضل. كل نظام سنه ابن العاصي سيتغير، وكل قانون نزغ فيه الشيطان سيلغى. لن يبقى يا مولاي غير شرعك، ولن يدوم غير دينك
وكَلْت ابن آدم إلى نفسه فجرب قواه كلها في تدبير أمره وتسخير غيره، فما أنتج غير الاضطراب والخراب والفوضى.
تبجح بعلمه وتشريعه وفلسفته؛ وزعم أنه هيمن على الغريزة بقوة الخلق، وسيطر على الطبيعة بسلطان العلم، وتوهم أنه يستطيع بما كشف من الأسرار وذلل من القوى أن يصنع مفاتيح الغيب ويقتحم أبواب القدر؛ فلما ابتليته بتحقيق زعمه وتطبيق فهمه، تحرك في طبعه الطين الراسب، وتيقظ في نفسه الحيوان الراقد، وتألبت الأهواء على رأيه فاضطرب وتفرق، وتغلبت المطامع على جمعه فتنازع وتمزق!.
رباه إنا مؤمنون، وإنا مطمئنون! فأدام علينا نعمة الهداية، واكفنا شرّ هذه الغواية، واجعلنا الإدلاء على طريقك، والأمناء على حقك، حتى تنجلي هذه الغمة عن الدنيا، فيرجع إليك(442/2)
النوى، ويخضع لك القوى، ويلوذ بك الضعيف!
احمد حسن الزيات(442/3)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
ديوان حافظ إبراهيم
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - اهتمام العرابي باشا بنشر آثار الأدب الحديث - شرح ديوان حافظ والنص على (محاسن) الشارحين - درس الديوان - توجيهات أدبية - المحدث حافظ إبراهيم - ما هو السر في انتصار شوقي على حافظ؟ وما قيمة حافظ على وجه التحديد؟
تمهيد:
لما شعر (شوقي) رحمه اللهّ بأن الشيخوخة بدأت تراوحه وتغاديه أقبل بجدّ على طبع (الشوقيات) ليأمن الخوف على شعره من الضياع قبل أن يموت.
واتفق بعد ظهور الجزء الأول والثاني من (الشوقيات) أن قضيت ساعة مع (حافظ) في منزل السيد حسن القاياتي فاقترحت عليه أن يجمع أشعاره على نحو ما صنع شوقي، فأجاب بعبارة تنذر بالتسويف، ويرجع ذلك إلى أن (حافظ) لم يكن يملك من الصبر على المراجعة بعض ما كان يملك (شوقي)، فقد كانت حياته اليومية مهدًّدة بالقلق، وكان لا يجد الأنس، في غير الانتقال من مكان إلى مكان، ليخرج من عزلته البيتية بمحادثة من يصادف من الرجال.
وبعد أن انتقل حافظ إلى جوار الله في صيف سنة 1932 قام جماعة من أصدقاءه وقرروا الاحتفال بذاكره، وكانت لهم يومئذ مشروعات عظيمة، منها تأليف كتاب في إظهار عبقريته يشترك فيه فحول الباحثين؛ ومنها طبع ديوانه، وإقامة قبره على قواعد عالية تذكّر الناس بمنزلته السامية؛ ومنها دعوة الأدباء في سائر الأقطار العربية للاشتراك في حفلة التأبين، إلى آخر ما يجود به الخيال في مثل تلك الحال.
وفي ذلك العهد كتبت كلمة (البلاغ) قلت فيها أن تلك القرارات لن ينفذّ منها شيء، ورجوت أصدقاء (حافظ) أن يقفوا وفاءهم على عمل واحد وهو طبع الديوان، فقد كنت أعرف أن أدبائنا في اغلب أحوالهم رجال أقوال، لا أعمال وهل صنعوا شيئاً في إنقاذ ما ترك (زكي باشا) من الآثار الأدبية، وفيها نفائس قد لا يجود بمثلها الزمان؟ وهل تضنهم يلتفتون إلى(442/4)
جمع ما تبددْ من آثار (محمد مسعود)؟.
لم يصنع أصدقاء حافظ شيئاً يؤكد الوفاء لذلك الروح الوهاج ولكن الله لم يشأ أن يضيع حافظ في هذه البلاد، فكانت تلك الالتفاتة الكريمة من وزير المعارف الأسبق، (علي زكي العرابي باشا)، الألتفاتة التي قضت بأن يُطبع ديوان حافظ على نفقة وزارة المعارف، وأن يكون ظهوره بداية لطائفة من المطبوعات تُحي ما يُخاف عليه من آثار الشعر الحديث، فقد كان من العجب أن تكون مصادر الأدب في القرن الثاني أقرب إلى الأيدي من مصادر القرن الرابع عشر، وتلك ظاهرة لا نسكت عنها إلا كارهين.
وفي هذا المعنى كتبت في جريدة المصري مقالاً جاء فيه:
(أن العرابي باشا أخذ جزاءه الأوفى يوم ظهر ديوان حافظ، فقد استطاع أن يؤدي إلى اللغة العربية خدمة جليلة بأحياء شاعر كان في عصره ملء المسامع والأفواه والقلوب. . .
وما الذي يمنع أن يتفضل فيشير بطبع مجموعات وافية مما نظم الشعراء وكتب الكاتبون منذ فجر النهضة الحديثة إلى اليوم؟! أنه خليق بأن يجعل ديوان حافظ فاتحة لعهد جديد من المطبوعات العلمية والأدبية التي تشهد بما صنعت مصر في العهد الحديث وهو أن حقق هذه الرغبة فسيمكنّ الأدباء في مصر وفي سائر الأقطار العربية من الوقوف على طلائع النهضة الأدبية، وهي نهضة نرجو أن تقوى وتستفحل لتُشعر الأبناء والأحفاد بأن لهم لغة قوية تطاول اللغات الحية وتسابقها في ميادين العلوم والأدب والفنون. فأن قال الوزير إن أمثال هذه الأعمال مما يقوم به الأفراد لا الحكومات فإنا نجيب بأن الحال في مصر تختلف عما عداها بعض الاختلاف؛ لا يزالون يودون أن ترفع عنهم حكومتهم كثيراً من التكاليف ومن شواهد ذلك مطبوعات الجامعة المصرية ومطبوعات دار الكتب المصرية؛ فهذه المطبوعات يعجز عنها الأفراد، ولا تستطيع المكاتب أن تنهض بها إلا بجهد عنيف. وما بالنا نلح على الوزير في تحقيق هذا الغرض؟ أنه يعرف أن دراسة الأدب الحديث مقررة في المدارس الثانوية والمعاهد العالية، ودراسة هذا الأدب ستضل ضعيفة ما دامت المصادر بعيدة عن أيدي الأساتذة والطلاب؛ فهو حين يحقق هذا الغرض يؤدي خدمة أساسية لا كمالية، ويجعل أبناءه في المدارس الثانوية والعالية قادرين على التمكن من ناصية الأدب الحديث، وهو كذلك سيسن شريعة جديدة لأمثاله من وزراء المعارف في مختلف الأقطار(442/5)
العربية؛ فقد نسمع بعد قليل أن وزراء المعارف في الشام والعراق والمغرب والحجاز قرروا نشر ما اندثر عندهم من معالم الأدب الحديث، وعندئذ تقترب هذه الشعوب بعضها من بعض، وتضيع مآرب الباغين العادين من خصوم لغة القرآن)
وإنما أعدت هذه الفقرة من مقال نشرته قبل سنين لأني أجد فيها دعوة يجب أن تجدد في كل يوم، فما تزال الحكومات العربية قليلة الالتفات إلى أهمية الأدب الحديث، وما يزال في الدنيا أقوام يرون الأدب الجديد أقل قيمة من الأدب القديم، مع أن أدبنا في أكثر نواحيه أعظم حيوية من أدب القدماء، وهو يصور ما نحن عليه من قوة وضعف، وإيمان وارتياب
شرح ديوان حافظ
شرح هذا الديوان ثلاثة من أهل الأدب، هم الأساتذة: أحمد أمين، وأحمد الزين، وإبراهيم الإبياري. وقد نص الأستاذ أحمد أمين في المقدمة على أن هذا الشرح أُريد به ثابتة الأدب وناشئة الشعر، ولم يُرَد به الخاصة والمنتهون
ومعنى هذا الكلام أنهم قد يوضحون ما لا يحتاج إلى توضيح رعاية لإفهام المبتدئين
وكان الأمر كما قالوا في المواطن التي تسعفهم فيها المعجمات، كأن يقولوا إن السدة هي الباب، والشجون هي الأشواق
أما إذا احتاج للشرح إلى بحث فالمبتدئون في حكم المنتهين، ولا موجب للعناء!
ومن أمثلة ذلك:
1 - وردت في شعر حافظ كلمة (آذار) فقال الشارحون: (شهر من شهور السنة المسيحية معروف)
فهل في الحق أن المبتدئين من شبان مصر يعرفون آذار؟ كان الواجب أن ينص على أن (آذار) هو شهر (مارس)
والقول بأن آذار من شهور السنة المسيحية خطأ في التاريخ؛ والصواب أن يقال من شهور السنة الشمسية، فقد عرف التقويم الشمسي قبل المسيح بأزمان طوال
ونحن اليوم نقول سنة قمرية وسنة شمسية أما أسلافنا من العرب فكانوا يقولون: سنة هلالية وسنة خراجية
2 - ورد في شعر حافظ اسم (مائي) فقال الشارحون: (هو صاحب مذهب المانوية(442/6)
المشهور)
فهل يمكن القول بأن مذهب المانوية مما يعرف المبتدئون؟ ثم أراد الشارحون أن يعينوا الوقت الذي ظهر فيه (ماني) فقالوا إنه ظهر في أيام سابور بن أردشير
وأقول إن هذا الكلام كان ينفع من يعيشون قبل ألف سنة، يوم كان العرب على بينة من تواريخ الاكاسرة، أما اليوم فهو كلام غامض المدلو.
3 - ورد اسم (روسو) في شعر حافظ فقال الشارحون:
(روسو كاتب فرنسي معروف، وهو صاحب كتاب الاتفاق الجمهوري)
وما أعرف شيئاً عن كتاب (الاتفاق الجمهوري) ولعلهم يريدون كتاب (العقد الاجتماعي) إلا أن يكونوا أبصر مني بالأدب الفرنسي، وذلك جائز!
4 - وكلمة (معروف) كثيرة الدوران على ألسنة الشارحين: فأبو تمام شاعر عباسي معروف، والبحتري شاعر عباسي معروف، وجمال الدين الأفغاني فيلسوف معروف، ومحمد باشا سعيد هو الوزير المعروف، إلى آخر ما نثروا في الشرح من هذا اللفظ المعروف!
5 - والترقيم خطأ في بعض الأحيان، فقد جاء في المقدمة أن حاجة الشاعر إلى الخيال الخصب أقوى من حاجة الناثر، والعبارة صحيحة، ولكنها ختمتّ بعلامة التعجب، ولا موجب لذلك.
6 - وأشير في المقدمة إلى (حادثة المؤيد) بلا نص على مكانها من صفحات الديوان، فهل أهملت لأنها من الحوادث المعروفة؟
7 - وكذلك أشيرَ إلى (وداع اللورد كرومن)، والصواب (لورد كروم)، لأن (كروم) في هذه العبارة لا يقع موقع عطف البيان، وإنما يقع موقع المضاف إليه من المضاف، وهذا أمر قد يخفى على المبتدئين، كما خفي على الأستاذ أحمد أمين.
8 - وفي المقدمة: (لئن نقص حظ حافظ في الخيال فقد غطى عيبه شيوع الجمال في سائر نواحيه)؛ والصواب (لقد) وحافظ نفسه يقول:
لئن هَدَوْكم لقد كانت أوائلكم ... تهدي أوائلهم أزمان أزمان
وقد عثرت على شواهد وقعت فيها الفاء في مكان اللام في مثل هذا التعبير، وإذن تقبل تلك(442/7)
العبارة بقول مرجوح، وإنما أدافع عن هذا الخطأ لأنه وقع في بعض أشعاري!!
9 - وفي ص 151 ج1 قال حافظ في محمد المويلحي:
فإذا نثرت على الصحيفة خِلتها ... غرساً ألحّ عليه صوب قطار
وجاء في الشرح أن القطار جمع قطر بفتح فسكون وهو المطر، ثم قال الشارحون: إن الديوان المطبوع فيه (نثار) مكان (قطار)
وأقول: إن الصواب إثبات (نثار) وتصحيح كلمة (غرساً)، فيكون للبيت:
فإذا نثرت على الصحيفة خلتها ... عرساً ألحَّ عليه صوب نثار
والنثار هو المعروف في مصر بالنقوط في يوم العرس، وذلك هو المراد.
10 - وفي ص 66 ج1 قال حافظ في تحية واصف غالي:
مازلت تُلقي على أسماعهم حججاً ... في كل ناد وتأتيهم بسلطان
حتى انثنيت وما للعُرب بحتريٌ ... على البناء ولا زار على الباني
والصواب وضع كلمة (الغَرب) مكان (العُربْ)
11 - وفي الصفحة عينها أن رينان هو الفيلسوف الفرنسي المعروف الذي رد عليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما رمى به الإسلام والمسلمين من تهم، وما نعرف أن الشيخ محمد عبده كانت له مواقف مع رينان، وإنما كانت له مواقف مع هانوتو، أما الذي ردّ هجوم رينان على المدنية الإسلامية فهو جمال الدين الأفغاني
12 - وفي ص60 ج1 قال حافظ:
فانبرت ظبية الشام وقالت ... بعض هذا فقد رفعت الشآما
وجاء في الشرح: أي قولي بعض هذا، إذ لا نستحق كله.
والصواب أن يقال في الشرح: أطوي بعض هذا، فما نستحق كل هذا الثناء
13 - والاضطراب في رسم الأعلام الأعجمية يقع أحياناً في هذا الشرح، فهو جُو الشاعر الفرنسي نراه مرة هيجو ومرة هوغر ومرة هوجو؛ وهنا نذكر أن الأعلام الأوربية نُشرتْ جميعاً بحروف عربية، وكان يجب أن ترسم أيضاً بالحروف اللاتينية ليُعرف نطقها بالضبط، فإن تعذر هذا على الأستاذين أحمد الزين وإبراهيم الإيباري، فقد كان يسيراً على الأستاذ أحمد أمين.(442/8)
14 - والأخبار الأدبية المتصلة بقصائد حافظ لم تأخذ حقها من البيان، وستصير هذه الأخبار من المنسيات بعد حين، فكان من الواجب أن تسجل قبل أن تضيع، فإن لها أهمية في توضيح مرامي ذلك الشاعر العرَّيض.
15 - وسكت الشارحون عمن سيفهم إلى شرح (القصيدة العمرية)، وقد شُرحتْ مرتين: شرحها المرحوم محمد بك الخضري، وشرحها المرحوم مصطفى بك الدمياطي، والنص على مثل هذا واجب في الطبعات العلمية. وكان يجب أيضاً أن يُنص على تأثير هذه القصيدة في الشعر الحديث، فعلى غرارها صاغ الشيخ محمد عبد المطلب (القصيدة العلوية)، وصاغ الشاعر عبد الحليم المصري قصيدته في الجد الأكبر للملك فؤاد، وكان لتلك القصائد رنين في المحافل الأدبية، وقد تكون مصدر الوحي للشاعر أحمد محرم في (الإلياذة الإسلامية).
درس الديوان
المقرر للمسابقة هو الجزء الأول، ولكن النظر في الجزء الثاني ينفع، لأنه يكمل صورة حافظ الشعرية
وفي الجزء الأول مقدمة كتبها الأستاذ أحمد بك أمين، وهي مقدمة وافية، ومراجعتها بعناية تعين الطلبة على اجتياز الامتحان
ونقدم التوجيهات الآتية:
أولاً - جاء في الجزء الأول أشعار تصور أشجان حافظ حين كان في السودان، فيجب الرجوع إلى ما يتصل بهذه الناحية في الجزء الثاني
ومع هذا لا يستطيع الطلبة تصور محنة حافظ بأيامه في السودان، إلا إن نظروا في كتاب (ليالي سطيح)؛ والرجوع إلى هذا الكتاب مفيد جداً؛ ففيه صفحات هي أقوى وأجمل من كل ما هتف به حافظ في دنياه؛ وقد تكون أعظم ما أُِثر من الثورة على الاستبداد
وكان حافظ يحفظ (ليالي سطيح) عن ظهر قلب، كما يحفظ قصائد الجياد، ومن لم ير حافظ في (ليالي سطيح) فهو عن أدبه من الغافلين
ثانياً - حافظ كثير الكلام عما عرف من الرجال، فديوانه ليس إلا صوراً جميلة أو دميمة لخلائق من أتصل بهم من قرب أو من بُعد، ولهذا تقل في شعره التأملات النفسية، لأنه(442/9)
دائماً موصول بالمجتمع
ثالثاً - حافظ كثير التعريض في مدائحه وأهاجيه، وهو تعريض لم يظفر بما يستحق من الشرح، فإن استطاع الطلبة أن يواجهوا لجنة الامتحان بأشياء سكت عنها الشارحون فقد يظفرون بطيف من الثناء!
رابعاً - قد أرخت أكثر قصائد حافظ، وبقي فريق منها بدون تأريخ، فعلى الطلبة أن يبحثوا عن المناسبات، وإليهم هذا الشاهد:
في ص 201 ج1 قال حافظ أبياتاً في توديع شوقي يوم سافر إلى مؤتمر المستشرقين، وننظر في الشرح فنجد إحالة على الحاشية رقم 5 ص50. فإذا رجعنا إلى تلك الحاشية لم نجد كلاماً عن المؤتمر ولا عن مكانه في التاريخ، فماذا نصنع؟
نرجع إلى الجزء الأول من الشوقيات، وهو أيضاً مقرر لمسابقة الأدب العربي، فنجد أن ذلك المؤتمر عُقِد في جنيف (سبتمبر سنة 1894)
خامساً - وقد يظن أن الشارحين دونوا جميع قصائد حافظ، وليس الأمر كذلك، فلحافظ قصائد لم تضف إلى هذا الديوان وسندل الشارحين على تلك القصائد عند الطبعة الثانية
سادساً - قال الأستاذ أحمد أمين إن الحزن الذي غلب على طبيعة حافظ هو الذي قضى بأن تكون أكثر قصائده في المراثي.
ونقول إن الرثاء كان يفرض على حافظ في كثير من الأحايين، ومن هنا تقل اللوعة في أكثر مراثيه، فيستر الموقف باجترار حوادث التاريخ
سابعاً - قيل وقيل إن حافظ لم يكن من أهل الصدق في الغزَل والتشبيب، فما سبب ذلك؟
يرجع السبب إلى أن ضجيج المجتمع شغل حافظ عن سحر الجمال، وقد يرجع إلى ضعف في حاسته الذوقية من هذه الناحية، فالإحساس بالجمال يتفاوت عند الشعراء، كما تتفاوت الحواس عند سائر الناس
وربما جاز القول بأن حافظ كان في سريرة نفسه من عبيد المجتمع، فهو يغني على ليلى المجتمع قبل أن يغني على ليلاه، والمجتمع كان ينتظر منه البكاء على المصائب اليومية، قبل أن ينتظر منه التغريد فوق أفنان الجمال
ثامناً - تشهد أشعار حافظ بأنه كان ابن زمانه وابن وطنه، فلم تكن له نزعة فلسفية ولا(442/10)
وثبة إنسانية إلا في أندر الأحيان، وأشعاره في مآسي بعض الأمم الشرقية أو الغربية لم تكن إلا صدى للعواطف المصرية في ذلك الحين، وهي في الأغلب عواطف تخلقها الجرائد والمجلات
المحدث حافظ إبراهيم
نقول في شعر حافظ وفي نثره ما نشاء، ونتجنى عليه كما نريد؛ أما حافظ المحدث فهو أديب لم تر مثله أندية الأدب منذ أجيال طوال
وما ظنكم برجل كان الزعيم سعد زغلول يتشهى حديثه كما يتشهى عودة الشباب؟
لا أذكر أني رأيت رجلاً في مثل ظرف حافظ، ولا أكاد أصدق أن الدنيا ستسمح بأن يكون له ضريب أو مثيل
سألت أستاذي الشيخ (رنيه دوميك) عن أهم خصائص أناطول فرانس فأجاب:
,
ولو أن شاعرنا حافظ كان يكتب كما كان يتكلم لكان سحره في اللغة العربية شبيهاً بسحر أناطول فرانس في اللغة الفرنسية
وبراعة حافظ في الحديث هي التي قضت بأن ينتصر عليه غريمه شوقي. . . كان حافظ يتحدث ويتحدث إلى أن تنفد قواه فلا تبقى له قدرة على الغناء؛ وكان شوقي يصمت ويصمت ليستجم فتبقى له القدرة على السجع والهُتاف. والقوى الإنسانية لها حدود، وإلا فكيف جاز أن يكون المدرسون أعجز الناس عن الشعر والخطابة والتأليف؟
ألا يرجع ذلك إلى أنهم يضيعون نشاطهم في الدرس، فلا تبقى لهم عافية يساورون بها تلك المواهب الأدبية؟
أراد حافظ أن يمتع أهل زمانه فأضاعوه. كان زينة الأندية والمحافل، وكان حديثه أشهى من وعد الحبيب بعد طول الجفاء، وأطيب من اندحار الرقيب، وأشهى إلى النفس من الانتصار على السفهاء، إن كان الانتصار على السفهاء من الممكنات!
عليك - يا حافظ - تحية الشعر والنثر والحديث
وإلى روحك في عالم الخلود، نقدم آيات الثناء، يا حجتنا الباقية على أن مصر مهد الروح المتوهج والقلب الخفاق(442/11)
زكي مبارك(442/12)
بحث مقارن
الوضع الاجتماعي للمرأة في الإسلام
للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر
مقدمة
لم يتسع نطاق الحديث عن المرأة في عصر من العصور بقدر أتساعه في العصر الحاضر الذي يمكن أن يسمى بحق (عصر المرأة). ففي كل زاوية من زوايا المعمورة نشمُّ رائحة المرأة: شخصاً، أو موضوعاً، أو عاطفة، أو هدفاً. وبالجملة هي تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الرجال وضمير المجتمع. وإذا كان كل شيء في ذاته قابلاً للمدح والذم فأن المرأة قد تفردت بالحصول على نهايتهما!
ولا عجب أن تحتل المرأة هذه المكانة العريضة، فإنها لم تعد محلاً لقضاء شهوة، أو سلعة تباع وتشتري، أو خادمة ذليلة، أو مواطناً لا حقوق له، أو حتى تمثالاً جميلاً يركع الرجل تحت قدميه؛ وإنما أصبحت الممثل اللاعب في حياة الرجل من وراء ستار، و (القالب) الفذ العميق الذي تتشكل فيه شخصية المجتمع، ويحمل أفراده ملامحه، وينطبع فيهم كل ما به من خير أو شر. ثم هي قبل كل شيء ما زالت - كما كانت منذ فجر البشرية - حجر الزاوية في الأسرة الإنسانية
ومن البدهي أن يعنى المفكر العصري بالكلام عن المرأة بعد إذ ظفرت بحقوق كثيرة، ووثبت هذه الوثبة الاجتماعية الكبيرة، وليبحث فيما إذا كانت قد جاوزت بذلك حدود طبيعتها، واعتدت على حقوق الرجل، وجنت في النهاية على نفسها وعلى غيرها أم لا؟ وأي الشرائع أهدى لها وأكثر اعتناء بها؟
ثم هل الشريعة الإسلامية قد حررتها وأعزتها وصانتها أم قضت بعبوديتها وأذلتها وابتذلتها!
المرأة في غير الشريعة الإسلامية
يروي لنا علماء الاجتماع أن الرجل، عند بدء الخليقة، كان يعيش عيشة الحيوان، يطوف في الأرض، ولا يعرف الأسرة بالمعنى الذي نفهمه. ويعتقدون أنه لم تكن له يومئذ أوضاع(442/13)
مرعية في اتصاله بالمرأة، وكان كل احتفاله بها منصباً على أن يقضي شهوته البهيمية منها ثم ينصرف عنها لا يلوى على شيء، وتظل هي وحدها حتى تضع حملها، وتسعى لتقوت بنيها الذين لا يعرفون لهم أباً، ولا يستشعرون الأبوة، ولكنهم ينسبون إليها، ومن ثم كانت - المرأة - تبني الأسرة بمفردها. ولم تكن لها في تلك المرحلة قِبلَ الرجل أو القبيل الذي تنتمي إليه أي نوع من أنواع الحقوق، بل كانت حياتها كلها واجبات!
وبعد ذلك استقر الرجل بعض الاستقرار، وبدأت (زعامة الأب بعد (زعامة الأم وفي هذا الدور احتكر الرجل المرأة التي جعلها من عبيده وسراريه
وإذا كانت المرأة آنئذ قد تخففت من بعض العبء الذي كان ملقى على كاهلها إلا أنها لم تكن أكثر من ظل للرجل.
فهؤلاء هم الأثينيون - أكثر الأمم القديمة حضارة - عاملوا المرأة معاملة سقط المتاع، تباع وتشترى في الأسواق، بل سموها رجساً من عمل الشيطان، وحرّموا عليها كل شيء سوى تدبير البيت وتربية الأطفال، وأباحوا للرجل التزوج بأي عدد من النساء. أما في إسبرطة، مع أن الرجل كان ممنوعاً من أن يتزوج بأكثر من واحدة إلا في أحوال قاهرة، فقد أبيح للمرأة أن تتزوج بأي عدد تشاء من الرجال!
وكانت المرأة عند اليهود تكره على الزواج والبغاء، وتورث ولا ترث، وكان محجوراً عليها التصرف في مالها الخاص.
وكانت بعض الشرائع تبيح للأب بيع ابنته، ولم تكن المرأة في القانون الروماني شيئاً يذكر، فهي قبل زواجها تحت سلطة أبيها، فإذا تزوجت دخلت في سلطة زوجها.
وكان العرب في الجاهلية يئدون بناتهم، وكان فيهم من يرى أنه لا قصاص ولا دية في قتل المرأة!
وقد قرر أحد المجاميع العلمية (كذا!) في روما أن المرأة حيوان نجس لا روح له ولا خلود، ولكن يجب عليها العبادة والخدمة، وأن يكمم فمها كالكلب المسعور لمنعها من الضحك والكلام!!
وفي سنة 586 ميلادية عقدت بعض الولايات الفرنسية اجتماعاً عاماً، شهده الآلاف من الرجال الذين ظلوا ساعات طوالاً يبحثون فيما إذا كانت المرأة إنساناً أو غير إنسان؟! وبعد(442/14)
مناقشات جدية عنيفة أصدر المجتمعون بأغلبية الأصوات قراراً يمنح المرأة درجة (الإنسانية)، ولكنه يقضي فيما عدا هذا بأنها (لم تخلق إلا لخدمة الرجل)!!
ويذكر التاريخ أن أهم إنصاف نالته المرأة قبل ظهور الإسلام بنحو ربع قرن ما منحه إياها القانون الروماني، فإن هذا القانون قد ترك للعذراء والأرملة كل حريتهما ما دامتا بالغتين سن الرشد. أما المتزوجة فقد وضعها تحت سلطة زوجها المطلقة؛ فهي، بحسب هذا القانون أشبه ما تكون بالمحجور عليه أو القاصر من الناحية القانونية، ولزوجها السلطة الواسعة في مراقبة شئونها الشخصية، وهو حر التصرف في ملكها ومالها من دونها، وله أن يمنعها من الاجتماع بأي شخص لا يريد اجتماعها به، وأن يفض رسائلها الصادرة منها أو الواردة إليها!
(وكما أنه من جهة أخرى كانت الكنيسة في القرون الوسطى تعلم الأولاد أن الوحشية صفة التنين، وأن المكر صفة الأفعى، وأن المرأة قد جمعت بين الرذيلتين، وكان رينان الفيلسوف الفرنسي العظيم (1833 - 1892) يلاحظ أن الكنيسة رفعت المرأة إلى درجة جلب الخطيئة! ونرى مارتن لوثير المصلح الديني الألماني الكبير، ومؤسس المذهب البروتستنتي في النصرانية (1483 - 1546) قد كان نصيراً لمذهب القائلين بحرمان المرأة من الثقافة. ونرى أيضاً الملك هنري الثامن يصدر أمراً بتحريم مطالعة الكتاب المقدس على النساء وآخرين من طبقة منحطة! وقد كان النساء طبقاً للقانون الإنجليزي العام (حوالي سنة 1850) غير معدودات من (المواطنين)؛ وكان لذلك مباحاً لبعولهن أن يضربوهن بعصا لا يزيد حجمها على رأس الإبهام. كذلك لم يكن لهن حقوق شخصية، ولا حق ملكية في ملابسهن ولا في الأموال التي يكسبنها بعرق الجبين)!
وقد حدث، في عهد قريب، أن باع رجل إنجليزي زوجته لشخص كان يغازلها بخمسمائة جنيه بسبب فقره وعدم توافق طباعهما. ولما قدم الزوج المحاكمة قال محاميه للقاضي أن لا وجه لإقامة الدعوى لأن القانون الإنجليزي كان يبيح بيع الزوجات، بل لقد بلغ (سعر) الزوجة في سنة 1801 ستة بنسات (أي نحو 24 مليماً)!! ولكن القاضي لم يأخذ بدفاع المحامي اللبق، وقضى بالحكم على الزوج بخمس سنوات، ذاكراً في أسباب حكمه أن القانون الذي يشير إليه المحامي ويستند عليه قد ألغى في عام 1805 (أي بعد نزول(442/15)
القرآن، وإعلان حرية المرأة المسلمة بنحو أثنى عشر قرناً!!)
واليهود هم أول أمة سمحت أن يكون الزواج مبنياً على مجرد الاختيار الشخصي، وتقدمت عندهم حقوق المرأة بخطى كبيرة. وقد جاءت المسيحية من بعدهم فضاعفت هذه الحقوق، وحرمت تطليق المرأة إطلاقاً، ثم إباحته بشروط مخالفة بذلك شرعتها، بعد أن تبين لها أنه ضروري للرجل والمرأة معاً، وأعلنت استقلال المرأة بملكيتها كالإسلام! أما تعدد الزوجات فلم تسمح به
والشائع في أوربا اليوم هو الزواج المدني، والتحرر السريع من القيود الدينية المسيحية فيما يختص بالمرأة وعلاقتها بالرجل. فالطلاق مباح، والزواج العرفي معترف به وبآثاره وبما يترتب على عشرة السوء! وبالجملة قد تخلصت المرأة مما تقيدها به ديانتها، وساعدها الرجل على ذلك، وحصلت على حرية واسعة بلغت حد الإباحة، وعلى احترام كبير وصل إلى درجة التقديس، لا لأنها مخلوق ضعيف يستحق الرعاية والتنعم والصيانة، بل لأنها مخلوق لطيف، مؤنس، رشيق، يفوح منه عبير العطور، وينشر في مجالسه السحر المذاب الحلو، وأشياء أخرى تدل عليها الآثام العميقة التي كانت تسبح فيها أوربا قبل هذه الحرب، والفضائح التي كانت تزكم الأنوف!
المرأة في الشريعة الإسلامية
ظل الناس في بداوة الجاهلية الأولى ضاربين، وفي غمرة الشهوات الهمجية غارقين، وظلت المرأة تعاني مرارة الذل وقسوة الحيف والاستعباد حتى جاء (منقذ المرأة ومحررها)، محمد النبي العربي بكتاب سماوي يقول: (ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة)؛ فكانت هذه الآية الكريمة الوثيقة القانونية الأولى التي تعترف بإنسانية المرأة، وحريتها، وحقها في الحياة، ومساواتها للرجل مساواة نبيلة أبية لا فضل فيها لمخلوق. ولقد فصل الإسلام حقوق المرأة تفصيلاً دقيقاً بديعاً، وتغلغل في صميم حياتها حتى أنه عالج أصغر هواجسها، وأتفه شؤونها، وتناول أدق وأحرج أسرارها. فهو قد شمل حقوق المرأة بوصفها بنتاً وزوجاً وأماً وأختاً، وكذلك يوصفها عضواً في المجتمع الإنساني؛ وفيما يلي موجز ذلك:
2 - أوجب الإسلام للبنت النفقة شرعاً في حياة أبيها حتى تتزوج، وليس له أن يلزمها(442/16)
طلب الرزق كالابن. وإذا ما تزوجت ثم طلقت فعادت إلى بيت أبيها عادت نفقتها عليه بعد انتهاء مدة نفقتها الزوجية. وقد قررت الشريعة ذلك حماية للبنت من السقوط في حمأة الرذيلة إذا أمسك عنها أبوها أو ألزمها طلب الرزق
3 - جعل الإسلام رضا البنت عند بلوغها سن الرشد شرطاً لصحة العقد عليها. وليس لمخلوق كائن من كان يكرهها على الزواج بمن لا تريد. ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ فقد كان إذا أراد أن يزوج امرأة يأتيها من وراء حجاب فيقول لها: (يا بنيَّة، إن فلاناً خطبك فإن كرهته فقولي (لا) فإنه لا يستحي أحد أن يقول (لا)، وإن أحببت فإن سكوتك إقرار). وهذا الحق الطبيعي الرائع الذي منحته المرأة المسلمة في القرن السابع للميلاد حُرمته المرأة الأوربية حتى القرن السادس عشر!
4 - وقد أراد الرسول (ص) أن يدفع الناس إلى الاعتناء ببناتهم بعد أن حرم الله وأدهن، وأعطاهن حق الحياة المقرر للرجل فقال: من كانت له بنت جعلها الله له ستراً من النار، ومن كانت عنده ابنتان ادخله الله الجنة بهما.
5 - وكان بعض الرجال يسيئون معاملة زوجاتهم، ويمتنع الزوج الكاره زوجته عن تطليقها حتى تفتدي نفسها بمهرها، فنزلت الآية الكريمة (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)؛ وقوله: (هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن)؛ وقوله: (هو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)؛ وجاء في أخبار الرسول أنه قال (ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حق. أما حقكم على نسائكم فأن لا يوطئن فراشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ولا يأتين بفاحشة، فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع)؛ وقال: (حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت)؛ وقال: (عليكم باللطف والرفق بنسائكم: لا تظلموهن، ولا تضيقوا عليهن، فأن الله تعالى يغضب للمرأة إذا ظلمت كما يغضب لليتيم). وفي ذلك كله تبين روح الآداب الزوجية التي يبثها الإسلام في تعاليمه، وينزلها الله تعالى على لسان نبيه الكريم، وفي تصرفاته، وقدوته لعشيرته، وبني قومه الذين حكموا الدنيا ودوخوا العالمين عندما كان الرجال يتقون الله في نسائهم، وكانت الأسرة الإسلامية منبع سرور وشهامة(442/17)
وإن من آداب الإسلام العائلية لما يذهب إلى أبعد من هذه الحدود، فقد روى أنه جاءت إلى عمر بن الخطاب امرأة قالت: إن زوجي يقوم الليل ويصوم النهار. فقال لها عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك! فقال كعب بن سوار الجالس بجواره: بل لقد شكته! تزعم أن ليس لها من وقت زوجها نصيب. قال عمر: فإذا قد فهمت ذلك فاقض بينهما - فقضى. ولو تدبرنا هذه الفئة الإسلامية العابرة لوجدناها ترمز إلى إشكال عريق في حياة المرأة ومصدر سوء تفاهم مزمن في حياة كثير من الأسر!
وإذا كان المصلحون الاجتماعيون في أوربا وأمريكا لم يهتدوا إلى الطريق الأمثل لفض المنازعات الزوجية إلا في القرن الحالي، فقد أشار الإسلام إلى ذلك في القرن السابع. فقد قال سيدنا عمر بن الخطاب مخاطباً الأزواج: (إذا لم يفد المرأة الوعظ والهجر والضرب (ولن يضرب خياركم - وفي هذا المعنى الحضر لشيء أباحه الله لضرورة قاسية بشروط حتى لا يساء استعماله) عمد الرجل إلى التحكيم، وهو أن يؤلف (مجلساً) من أهله وأهلها فيعرض كل من الزوجين ما يشكوه من الآخر، فإن تمرد المحكوم عليه منهما فرقوا بينهما بالطلاق وهو آخر أنواع من التأديب)
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد الرحيم عنبر(442/18)
بين موسَّيه وخالد الكاتب
للأستاذ صلاح الدين المنجد
أذكر أني قرأت منذ شهور بعاد مقالاً ذكر فيه صاحبه أن الشاعر الفرنسي (موسّيه) كان يُشابه خالداً الكاتب في بكائه وألمه وهواه، وأن من الحق أن يسّمى خالد (موسّية الشرق)!
وقول كهذا القول يطوي في ثناياه من التسرَّع في الحكم والجهل في المقايسة النصيب الكبير؛ فليس من الصحيح إقامة الموازنات بصلة هزيلة أو نسبة ضعيفة، وليس من العلم إطلاق الألقاب بدون حذر أو أناة
لقد أحبَّ (موسَّيه) وأحبَّ (خالد) وبكى موسًّيه وبكى خالد؛ فكانا في الحب مختلفْين وفي البكاء متباينيْن. أما الأول فقد بكى وتألم حتى سمى الشاعر الألم. وكان الدافعَ إلى ذلك حبَّ مفجع وقلب محطم وكان شاباً ناعماً يفوق لداته بالرشاقة والأناقة والنبوغ. فلما أحب (جورج صاند) غرَّد بحبها في أشعاره وملأ به أناشيده وأغانيه. ثم حملها إلى إيطاليا بلد الجمال والفن ليقضيا حياة حلوة كالعسل، رفافة كالنعيم، ويتمتعا بالجمال البارع والحب الوليد على أنها تركته بعد قليل وتبعت (باجيلو) الطبيب الإيطالي. وكأنها كانت كالفراشة النشوى يروقها رشف الرحيق من كل زهرة! فثار موسَّيه لما رأى إعراضها وهم أن يقتل الحبيبة والطبيب معاً، ولكنه فضل البكاء على الجريمة، ورحل عن (فينسيا) باليأس والخيبة؛ فهام في رباع أوربة ثم عاد إلى فرانسة وأخرج للناس آيات رائعات، غنى فيها بأشعار رقاق من السهل الممتنع، آلامه المبرحات وحبه الجريح، ويأسه الداجي، وإخفاقه المر. والحق أن موسَّيه كان بارعاً في تصوير ذلك، لأنه كان صادقاً، والصدق يؤثر في القلب الشاعر ويطربه؛ ولأنه آلامه ويأسه وإخفاقه عواطف، تجدها قد لامست كل قلب وأقرحت كل كبد، ولذلك يشعر المرء أن في أشعار موسَّيه ترجماناً مما يعتلج في حنايا ضلوعه. ولقد كان شاعرنا إذا وصف ألمه وذكر المرابع التي رآها والأحوال التي صادفها واليأس الذي لقيه برع وأجاد. ولقد سما في وصفه لحبيبته (في ليلة تشرين) ففي هذه القصيدة تجد صورة أخاذة للحبيبة الشهوانة ذات العينين السوداوين. العطشى للحب، الظمأى للقبل، التي لا تفي لحبيب، ولا تقنع بحبيب. ولعل هذا آت عن فرة حسها وفرط شاعريتها وسعيها وراء لذتها التي خلفت لها وأغوت الناس بها(442/19)
على أن موسَّيه قد أتخذ من بكائه وألمه وسيلة للتعليم كما أرى، فجاء طرف من شعره تعليمياً أبان فيه عن ضرورة الألم وأثره في النفس، ومحاسنه التي لا تنفد ومزاياه التي تهذب الروح وترهف الحس. يقول: (أن الرجل صانع والألم معلمه. والمرء لا يعرف نفسه إلا إذا تألم؛ ولا شيء كالألم يجعلنا عظماء ذوي شأن). ثم يدعو إلى الألم ويبرع في الدعاوة له وتزينه للناس. ويقولون إن أهل عصره كانوا يسيغون أشباه هذه الأقوال، ويعجبون بمن يذرف الدمع ويصعد الحسرات، وينظرون إلى الذين يقاسون آلام الحب وأسقام القلب نظرة إعجاب؛ بل كانوا يشتهون ذلك. فمن عانى التهيام والتحنان والسهر؛ والبكاء وما يدعو إليه الهوى فقد امتاز عن غيره بكثير
ولقد كان فلاسفة اليونان الأقدمين ينصحون للفتى إذا سألهم النصح (أن اعرف نفسك بنفسك) وكانوا يحسبون إن السعادة الكبرى في هذه الحروف الثلاثة. ثم تساءلوا: كيف يعرف المرء نفسه؟ فركب كلٌ مركباً؛ أما موسّيه فقال (ينبغي لك أن تتألم كي تدرك ما تريد، لأن المرء يعرف نفسه إذا تألم) وهو في كلامه هذا ينطق عن تجربة، ويعتقد أنه عرف نفسه وعبقريتها، لما أدمى الحب قلبه فتألم. وعندئذ علا صوت قلبه الشجي. وصوت القلب كما يقول يصل وحده إلى القلب، فهو يود أن يدع قلبه يتكلم دائماً في كل حال. لأن على الشاعر أن يصغي إلى قلبه ويدع عقله، وأن يبتغي رضا القلب قبل مرضات الناس، والحب إذا فجر الألم من القلب جعله غلاباً للمصاعب، عزاماً في المصائب، لأن الألم رمز القوة وهو سبيل الخلود. والخير الفرد الذي بقى لنا في الدنيا هو تذرافنا الدمع في بعض الأحايين
أفيكون حال خالد كحال موسَّيه؟
لا جرم أن ما نعلمه من حياة موسَّيه أوفر مما نعلمه عن حياة خالد. لا شك أن كلا أحب وكلا بكى، ولكن شتان ما بين البكاءين. ولقد ذكروا أن خالداً كان كاتباً في الجيش، وأنه كان يهوى جارية لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها، وأن محمد بن عبد الملك ولاه الإعطاء في الثغور، فخرج إليها، فسمع في طريقه منشداً ينشد ومغنية تغني:
من كان ذا شجن بالشأم يطلبه ... ففي سوى الشأم أمسى الأهل والشجن
فبكى حتى سقط على وجهه مغشياً عليه؛ ثم أفاق مختلطاً واتصل ووسوس. أفيكون سبب(442/20)
بكائه ونحيبه هواه لهذه الجارية أم هناك سبب آخر؟ يقول صاحب الأغاني إن خالداً كان مغرماً بالمرد ينفق عليهم كل ما يفيد، وأنه هوى غلاماً يقال له عبد الله كان أبو تمام يهواه، فتهاجيا بسببه وأنه وسوس على أثر ذلك
وهنا نتساءل: (هل اتخذ خالد من بكائه وألمه ما اتخذه موسَّيه؟!)
لا جرم أن خالداً لم يذهب مذهب موسيه في بكائه وألمه، ولم يفطن للألم وأثره في النفس، ولم يبرع في تصوير الألم براعة موسَّيه، ولم تكن في شعره تلك الصفة الإنسانية التي تجدها عند موسيه. فقد تجد بعض التكلف في العواطف والغلو في المعاني لديه؛ على أنه تفنن في وصف الدمع، وشعره فيه يعذب ويرق. ولا شك أنه الشاعر الفرد الذي بلغ في وصف الدمع ما لم يبلغه أحد من شعرائنا، وهذا ما يمتاز به من موسيه
ويحدثنا خالد في ديوانه أنه أصبح دنفاً هائماً بمن صارمه واحتجب عنه، فبكى؛ وجعل الدمع مداداً يكتب به على خده ما في فؤاده!
ثم طلب من الحبيب أن يفهم معاني دمعه. فلما أعرض عنه هواه وفقد الراحة، لج في تذراف الدمع حتى تقرحت عيناه وطلبتا العذر منه، فلم يعذرهما لأن قلبه لا يعذره ولا يشفق عليه
ولقد كان إذا مرض فله عائدوه، ونأى عنه طبيبه، دعا الدموع فهي مطيعة له، تسرع إليه وتجيبه. وهو ينصح لمن كان هذا شأنه أن يفعل ما فعله، وإذا أنكر الحبيب حبه ودنفه فهو يتخذ الدمع شفيعاً شهيداً. وما زال يبكي حتى كاد يعشب خده:
ولو أن خداً كان من فيض عبرة ... يُرى معشباً لا خضر خديًّ فأعشها
كأن الربيع الزهر بين مدامعي ... بما اخضل فيه من ضني وتصيبا
على أنني لم أبك إلا مودعاً ... بقية نفس ودعتني لتذهبا
وما زال هكذا حتى تخاصمت عينه وقلبه:
القلبُ يحسد عيني لذة النظر ... والعينُ تحسد قلبي لذة الفكر
يقول قلبي لعيني كلما نظرتْ: ... كم تنظرين؟ رماك الله بالسهر
العين تورثه هماً فتشَغلُه ... والقلب بالدمع ينهاها عن النظر
هذان خصمان لا أرضى بحكمهما ... فاحكم فديتك بين العين والبصر(442/21)
فإذا نفد دمعه نادى:
نفدتْ عبرتي فهل ... عبرةٌ أستعيرها؟
فأنت ترى من هذه اللمحة الموجزة أن الشاعرين مختلفان في حبهما وألمهما وبكائهما، وأن لكل مزايا. ولعلي أعود إلى خالد فأوسع الكلام عنه
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(442/22)
التفسير الكيميائي
لأعمال العقل والحياة
للأستاذ حسين الظريفي
إن الحقائق العلمية التي أسفرت عنها بحوث الكيمياء الحيوية قد دلت على ارتباط مظاهر العقل والحياة بما يحمله الدم من مواد
قال أحد علماء علم الأحياء: (كنت أرتاب قبلاً في أن البحوث الكيميائية الحيوية والكيميائية النفسية تستطيع أن تسفر عن رأي من الآراء في ظاهرة ليست من ظاهرات الطبيعة والكيمياء، إلا أنني الآن أرى غير ذلك. ولأضرب على ذلك مثلاً غريباً بما قد يستطيعه بعض العلماء في المستقبل من القطع بأن نقصاً في إحدى مركبات الفسفور، وزيادة في فعل التأكسد في ناحية معينة من قشرة الدماغ، يصحبان دائماً العبقرية في الشعر
ولندلل على حقيقة عنوان المقال ببعض آثار ما تفعله الغدد الصماء؛ فقد ظهر أن هرمون البرولاكتين، وهو مما تصنعه وتدفعه الغدة النخامية في فصها الأمامي، ذو أثر خاص عند الإناث يدل على أن حب الأمومة قائم على أصل غزيولوجي ممثل بشكل مادة كيميائية قد تكون مؤلفة من جزيئات زلالية كبيرة
وعندما يبلغ أحدنا دور المراهقة تبدأ الغدد التناسلية بإفراز هرموناتها الخاصة، تلك التي تبدو على أثرها أعراض الصفات الجنسية الثانوية، مثل ظهور الشعر في الوجه وتضخم الصوت عند الذكور، ونمو الحوض والصدر وترسب الشحم تحت الجلد عند الإناث. فإذا كان في الغرائز الجنسية ما يبعثها على التهيج والغليان، فإن الطبيعة تسلك في تهدئة هذه الغرائز طريقاً كيميائياً يحدثه لها هرمون البرولاكتين. فقد ظهر أن من مزاياه عرقلة مغالبة الغدد التناسلية عندما تكون بها حاجة إلى التهدئة
على أن هذه الكتلة النسيجية الحمراء المستكنة في منخفض عند قاعدة الجمجمة التي لا يزيد وزنها عن نصف غرام ولا يربو حجمها على حجم حمصه كبيرة - وأعني بها الغدة النخامية - تعتبر الغدة الحاكمة في الجسم وإليها مرد الفضل في أعمال النمو البيولوجية
كذلك ظهر أن هرمون الثيروكسين وهو مما تفرزه الغدة الدرقية يقوم بأعمال الهدم والبناء في جسم الإنسان، وإذا قل مقداره عن حده المعتدل تعرض الإنسان للبله وقصر القامة؛ وأن(442/23)
بتأثير هرمون هذه الغدة يتميز الأذكياء عن الأغبياء والأقوياء عن الضعفاء بالرغم من أن ما يوجد منه في الجسم مقدار يسير
أما هرمون الأدرنالين وهو مما يفرزه الكظران، فذو علاقة كبيرة بالتعبير عن الانفعالات القوية، ذلك أنه يؤثر في الشجاع فيقدم وفي الجبان فيحجم، ولهذا يزداد إفراز هذه المادة إذا تعرض الإنسان إلى خطر، وبمقدار هذه الزيادة تزداد قوته العادية فيندفع إلى القتال والاستبسال أو إلى التعلق بأذيال الفرار
وقد جاء الأطباء أن مركز الانفعال كائن في جزء من مؤخرة الدماغ، وأن بينه وبين الكظرين صلة وثيقة، فإذا وقف الإنسان في موقف أغضبه أو أخافه فأن مركز انفعاله في الدماغ يرسل في الجهاز العصبي سلسلة من الرسائل إلى الكظرين فتحملهما على إفراز هرمون الأدرنالين لإيصاله عن طريق الدم إلى الكبد، حتى إذا وصله حمله على إطلاق بعض السكر المخزون فيه لإيجاد طاقة جديدة، يدفع بها المرء عنه الخطر بالمقاتلة أو الهزيمة
إن هذه الحقائق العلمية تذكرني بما كتبه أحد الأساتذة في موضوع الرقة في النفس والذهاب إلى أنها من مظاهر القوة دون أن يقوم هذا التقرير على غير مجرد التفكير والإدلاء بالأدلة البيانية والواقع أن رقة النفس ككل ظاهرة أخرى إنما تقوم على أصول فزيولوجية تبعثها بعض المواد الكيميائية وليست هي وليدة ضعف أو قوة، وقد نجد قوي النفس أو الجسم قاسياً أو رقيقاً
إن جريمة القتل وهي أفضع ما يجره الإنسان على غيره، قد تصدر عن رجل لم تعهد فيه القسوة أو الغلظة، ذلك لأن الجاني لا يقوم بالجريمة مندفعاً بعامل من دماغه وإنما هي شيء يقع مما وراء الدماغ حيث يقوم الخلل في توازن ما تفرزه الغدد الصماء حتى لقد قال أحد العلماء:
إن غدد القاتل هي التي تسحب المسدس وتسدده نحو القتيل وتطلق عليه النار فترديه، وأن غدد السارق هي التي تنقل قدميه إلى مكان الجريمة، وهي التي ترفع يديه لأخذ مال الغير، وهي التي تدفع به إلى التواري والهرب.
فالإنسان من حيث تركيبه الكيميائي يقوم بالإجرام كما يقوم بغيره ومظهر الرقة ولطف(442/24)
المزاج قد يكون في الجاني وقد يكون في غيره، بالنظر إلى قيام أو عدم قيام المواد الكيميائية التي ينبعث عنها ذلك المظهر.
وما تقدم في صدر هذا المقال عن قرض الشعر لا يخرج عن حدود الواقع، وقد ضربت لقريحة الشاعر مثلاً بالبطرية الكهربائية، فتأليف القصيدة يستهلك من قوي القريحة ما تحتاج فيه إلى أمد تستطيع به إعادة خزن ما فقد، شأنها في ذلك شأن البطرية الكهربائية فإنها تحتاج إلى الشحن المستديم بقدر ما تطلق من كهرباء.
هذا قانون طبيعي يجري حكمه على قريحة الشاعر كما تنفذ كلمته على البطرية الكهربائية سواء بسواء والنتيجة الحتمية لهذه الخاصة الآلية، هي أن الشاعر إذا أجهد ذهنه في قرض الشعر غير مبال بالاستهلاك دون التعويض، انحدر شعره إلى هوة الضعف في معانيه ومبانيه، كشأن كل مصباح يوصل بتيار بطرية لا يأتيها المدد بعد أن تنفذ.
إن عمل الفنان ورجل الصناعة وجناية الجاني، كل أولئك آثار ما تنفعل به مجاميع المواد الكيميائية، ولكن مجال هذه المواد لم يزل البحث فيه عند بداية طريق طويلة، ومتى يصل البحث فيه إلى الذروة يظهر كل شيء عند هذه المواد.
(بغداد)
حسين الظريفي المحامي(442/25)
مدرسة. . .
للأستاذ أحمد الطاهر
سجا الليل وغشى المدينة ظلام دامس، وكنت قد اخترت لليلتي كتباً أخلو إليها كما يختار الأصدقاء، قليلة العدد كثيرة الوفاء ولكنني برمت بها وبمجلسي، فطويت أجنحتها وعمدت إلى المصباح فأغمضت عينيه، واندفعت إلى شرفة بمنزلي ففتحت بابها وخلوت إلى السماء؛ فإذا القمر يطل منها على الأرض، ويسكب عليها فيضاً سخياً من ضوئه الوهاج. ولا يستطيع أولو الأمر في الحرب أن يرقوا إليه فيسدلوا عليه حجاباً أو ينذروه عقاباً وقلت في نفسي ما يقوله الناس في هذه الأيام: وا حسرتاه! كنا نجد في ضوء القمر لذة ومتاعاً حين كان السلم يبسط رواقه على العالمين، واليوم نوجس منه خيفة وارتياعاً، حين اتخذت الطائرات ضوءه سلماً تهبط به على الآمنين. وما كادت الحرب تخطر ببالي حتى دفعتها عنها دفعاً. وأرسلت البصر إلى السماء، فرأيت سحابة باسطة الذراعين تجرر أذيالها تسعى إلى القمر في تؤده ووناء؛ ثم تبسط يدها على وجهه فيخبو ضوءه قليلاً؛ ثم تنداح فتحجب أكثر هذا الضوء؛ ثم تنحاب عنه فإذا هو خارج من غمرته منبسط الأسارير كما عهدته وإذا السحابة تخلفه وراءها وتمضى وهو باسم بسمة الحليم حين يمتحن في حلمه وهي مطمئنة اطمئنان القوى حين يفوز بخصمه
سبحانك اللهم! وغفرانك! حسبنا أنا حرمنا نعمة الضياء بهذه الحرب فبسطت لنا في سمائك كتاباً فيه سطور من نور. وحسبنا أننا قطعنا الأسباب على كل مبعث للضياء بما أسدلنا من سجف وأستار وإذا ضياء سمائك لا يحجبه حاجب ولا يمنعه ستار!
ترى هل أستطيع أن أقرأ في هذا الكتاب المبسوط في السماء؟ هل من سبيل إلى فهم بيان السماء؟ هل أفوز من القمر والحساب والسماء والنجوم بحديث اطلع به على الناس مغتبطاً كما يزهو الصحفي حين يفوز بحديث زعيم أو عظيم مع ما بين الحديثين من تفاوت؟
ودار بخاطري أننا أنشأنا مدارس لتعليم اللغات الحية وعكفنا على دراستها حتى قتلناها وأنشأنا معاهد لتعليم اللغات الميتة، وعكفنا على ذكرها حتى أحييناه واحتدم بيننا الجدل فيما نفعل حتى اختلط الشك باليقين، وانتصر قوم لزكي مبارك وتشيع قوم لأحمد أمين، وما في ثبت تلك المدارس والمعاهد مدرسة لتعليم لغة الطبيعة ولا (حصة) لدراسة لسان لا سماء(442/26)
والأرض الذي تنطق به كل المخلوقات ولا يفهمه إلا الأقلون؟!
وقدرت أن من الخير لنا أن نهيب بالشعراء والأدباء ليدلوا الناس على هذه المدرسة ويبسطوا لهم نظامها ونهج الدراسة فيها ليقبلوا على دراسة لغة الطبيعة وتخصص أسرارها بالبحث، وقدرت أن الإقبال على هذه المدرسة رهن بما يثار حولها من دعاوة وإعلان. ولما لا نحيط الفكرة بالدعاوى والإعلان ليقبل الناس عليها ونحن في هذا الزمان نحيض الباطل بالدعاوى والإعلان حتى نحسبه حقاً، ونبهرج الكذب والمين حتى يبدو لنا صدقاً واستوت لي في هذا التفكير صورة (إعلان) عن هذه المدرسة فإذا هي كما ترى:
مدرسة تعليم اللغة الطبيعية
المدرسة مؤسسة منذ أن خلق الله الكون وجعلها تذكرة وعبرة لأولى الألباب. مواد الدراسة فيها لا يحصيها حصر ولا يحيط بها بيان، ويأخذ منها الطلاب ما تسع جهودهم وتحمل إفهامهم: منها السماء ونجومها، والسحب وأمطارها ورعودها وبروقها، والشمس والقمر، واليابس والماء، والجبل والسهل، والشجر والثمر، والرياح والعواصف، والرمل والحصى، وكل ما تفزع إليه الأبصار البصيرة حين تضيق بها سبل الحياة فتلتمس في جمالها النجاة، وحين تحتبس النفس في ظلمة المادة فتلتمس الفرج في نور الطبيعة. ويدرس بالمدرسة الإنسان وطبائعه والحيوان وخصائصه كما تدرس العلل والأمراض في مدارس الطب وصحة الأبدان والدراسة في هذه المدرسة ليلية حتى دراسة الشمس! وقد اختير الليل لأن سواده ينم عن أدق أسرار الطبيعة كما ينم سواد العيون عن أسرار القلوب. والطبيعة خفِرَة رقيقة يؤذيها الأضواء الوهاجة وتؤلمها الأصوات الصاخبة، فلا تبدو في أنصع أثوابها إلا في سواد الليل، ولا يشرق وجهها إلا بعد غروب الشمس، ولا تستيقظ إلا حين ينام الناس، ولا تنطق إلا حين يصمت كل لسان. ويشترط للانتظام بهذه المدرسة أن يقدم الطالب شهادة بأنه قد مارس الجمال والحب والفن فلم يفرق بين ثلاثتها، وذاق لذاتها وآلامها وحلاوتها ومرارتها. ولا تقوم وثيق الزواج مقام هذه الشهادة. وأن يقدم شهادة موقعاً عليها من أثنين من كبار علماء الأرض يعترف فيها معهما بأن مبلغ علمه وعلمهما أن الثلاثة لا يعلمون شيئاً. والمدرسة تعد الطالب للعلم بلغة طبيعية، وعليه بعد هذا أن يناجيها بلسانها فيفهم أسرارها ويستودع أسراره ويقدس جمالها ويحدث عن جلالها. وأنه لموفق سعيد إن استطاع(442/27)
أن يمضي معها في سبيل.)
وبعد فالشاعر أو الناثر الذي يفهم لغة الطبيعة ويتمرس بها لن يكون أدبه غثاً ولا تافهاً، ولن يجد فيما يخرج للناس أو لنفسه من شعر أو نثر عناء ولا عنتاً إلا بمقدار ما يختار من الألفاظ جزلها وما يسبغ على أسلوبه من طلاوة. ذلك بأنه في إبراز المعاني والأخيلة والتشبيهات لا يمنح من بئر عميق، ولا يرحل إلى مكان سحيق إنما يتناول ذلك كله مما أنطبع في نفسه، وأوحى به حسه، وانبجس من وجدانه، يجربه في قصبة يراعه فإذا هو شعر أو نثر يتسلسل تسلسل ماء النهر
هذا هو الأدب الذي توحي به الطبيعة أن صادفت نفساً صفية وإحساسا دقيقاً ووجداناً سامياً وخاطراً سريعاً. تجده أدباً حياً ناطقاً يصدر طواعية لإحساس موجود وشعور قائم بالنفس؛ ولا مراء في أن انطباع الصور في نفس الأديب شاعراً كان أم ناثراً هو الوسيلة التي تطوع له جيد الشعر أو النثر وذلك هو ما يعبرون عنه بهضم المعاني، يقصدون بالتعبير أن يكون المعنى قد أستقر في (بطن الشاعر) وجرى منه مجرى الدم وسرى فيه سريان الروح فلا يصدر إلا عما انطوى عليه إحساسه وقام بنفسه. وأنه ليجري مجرى هذا القول ما نراه من تأثر شاعر أو ناثر بشعر شاعر قبله أو ناثر تقدمه، أن كان المتأخر قد بذل جهداً في دراسة أدب المتقدم، وتقفي أثره وترسم خطاه. هنا لا نلبث أن نرى في شعر المتأخر وأدبه روح المتقدم ونفسه. وهنا يخطئ كثير من الناس فيحكمون على المتأخر بالسرقة؛ وإنه لتجن لا مسوغ له، وتعسف ليس له ما يجيزه. خذ مثلاً شعراء الأندلس في القرن الرابع الهجري، ترى أنهم أعجبوا بطريقة المتنبي ومذهبه وحاولوا السير على نهجه الذي ابتدع ولم يكن ذلك بدعاً فأن أهل المغرب إذ ذاك قد أغرموا بالتشبه بفحول الشعراء والأدباء من أهل المشرق؛ وأنك لواجد روح المتنبي ظاهرة بارزة في قول أبن هانئ الأندلسي:
فجزعتُ حتى ليس بي جزع ... وحذرتُ حتى ليس بي حذر
ومن ذا الذي لا يلمس المتنبي في قول أبن زيدون:
سر أن في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
وهاك ابن زيدون هذا يقول في رسالته الهزلية: وغناك مسألة، ودينك وعلمك محزقة. ألا(442/28)
يذكرنا هذا بما قاله المتنبي في ابن كيغلغ في ميمته التي أولها: لهوى النفوس سريرة لا تعلم؟ ولندع المتنبي فقد تقفي آثاره كل من جاء بعده فتأثر به بعضهم وسطاً عليه البعض؛ ولننظر إلى البحتري يصف بركة المتوكل:
إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولاً حواشيها
ولنضع إلى جوار هذا البيت بيتاً لأبن حمديس يصف بركة المنصور:
وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعاً فقدر سردها تقديراً
أنا لنجد الجوهر في البيتين واحداً، ولا يقبل بأي حال أن يحمل هذا محمل السرقة، وإنما هو تفاعل نشأ من امتزاج شعر الشاعر المتقدم بنفس الشاعر المتأخر
على هذا النحو من التفاعل يكون أثر الطبيعة في شعر الشاعر أو نثر الكاتب الذي يفهم لغة الطبيعة ويتأثر بصورها ويؤخذ بمظاهرها، ويفتن بجمالها ويؤمن بجلالها: تفيض عليه غيثاً دافقاً، وتوحي إليه وحياً صادقاً
وكذلك يكون الشعراء والأدباء
(الإسكندرية)
الصاغ أحمد الطاهر(442/29)
3 - قيمة الحرية
للصحافي العالمي ويكهام أستيد
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
(تابع)
تصبح مدارك الحرية اقتصادية كانت أو سياسية، وهي آراء نسبية أي خاضعة لمقتضيات الظروف. والعلاقة الصحيحة القائمة بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية في وقت معين وفي ظروف خاصة هي عندي موضوع يجب أن يعرض في حينه للبحث الحر والدراسة الصحيحة والاستقراء السليم، وليست بتلك المذاهب السياسية أو الاقتصادية الموضوعة. فأصحاب المبدأ الذي نادى بحرية التجارة ورفع القيود الجمركية من ناحية، وأتباع العقيدة المرقصية من ناحية أخرى، مسئولون مباشرة أو من طريق غير مباشر عما أصاب لفلسفة الحرة من كسوف تلك الفلسفة التي كانت دعامة النظر الحر في القرن التاسع عشر. ولو قدر لدعاة الاشتراكية أن يقفوا اليوم وقد تملكهم العجب وحاروا من أثر ما يرونه من مقاومة الحكومات الاستبدادية لإقحام العقيدة المرقصية في روسيا وإكراه الناس على اعتناقها، فإنهم يحسنون صنعاً لو أنعموا في الأمر النظر ليعرفوا إلى أي حد قد يتكشف تحقير المرقصية والاشتراكية لمبادئ الحرية السياسية عن دواعي الشرور التي ألموا لها وبكوا عليها. إن ديكتاتورية الطبقات الدنيا ومذهب صراع الطبقات ليتناقضان مع النظر الفلسفي الصائب مثلما تتناقض معه عقائد الفاشية والنازية؛ إذ لا يتهيأ للناس مع الحكومات الاستبدادية التي تتولى السلطان باسم الطبقات الدنيا أو الطبقات المجردة من الملكية من كفالة العيش والاطمئنان للحياة أكثر مما يتهيأ لهم مع الحكومات الاستبدادية التي تنهض بالحكم على حساب جماعات الشعب الأخرى التي قد يكون لديها من حطام الدنيا ما يفرض عليها أن تفقده ويعز عليها أن تتخلى عنه أو تفقده. ولقد كان هتلر في عبارات قليلة من كتابه (كفاحي) أكثر فطنة وأبعد نظراً منه في تلك العبارات التي عبر بها عن مخاوف الطبقة المتوسطة الضعيفة من أن ترجع القهقرى فيلقى بها في غمار الطبقة الدنيا من الأجراء البائسين التي عملت على الإفلات من التردي في غمرتها. وما أصابه هتلر من(442/30)
النظر الألمعي الذي هداه إلى أن يجعل حركة (الاشتراكية الوطنية) في وضع يتفق إلى حد ما مع رغبات الطبقة المتوسطة الرقيقة الحال الضعيفة الشأن في ألمانيا، لم يكن في واقع الأمر بأقل مما أصابه مرقص والمرقصيون الاشتراكيون الذين أسسوا ما رسموه من خطة للانقلاب الثوري الناجح على عقيدة قوامها أنه إذا تهيأ للطبقات الدنيا في جميع أنحاء العالم أن تتحد وتظفر من وحدتها بقوة لا تقف أمامها قوة، وبسلطان لا يقهره سلطان، وسعها أن تحطم أغلالها وتحقق آمالها. والفاشية والنازية قد طبعتا الظلم بطابع رسمي وهما تحسبان أنهما تذودان عن الملكية وتسهران على حمايتها. ولقد أعرب (دون سالفادور دي مدارياجا) عن حقيقة الأمر في أوجز عبارة ممكنة وبما مرن عليه من قوة البيان ودقة الأسلوب بقوله: (ليست الفاشية سوى صورة للشيوعية تراها العين على صفحة ماء يضطرب من الخوف).
وهنا وكما قصدت أن أبينه تتكشف الحقيقة عن أنه لم يكن بدعاً أن ينتظم هذه السلطات الاستبدادية المطلقة معنى واحد، هو أنها لا تحتمل للصحافة حرية، بل لا بد لها، أن تقضي عليها؛ وأولئك الرجال الذين لا يتأصل معنى الحرية في أنفسهم نتيجة لشعور سليم وإيمان متين غالب أمرهم أن يضيقوا بحرية الصحافة ذرعاً. إلا أننا من جهة أخرى نجد مجرد التشدق بالفضائل الديمقراطية والتمدح بالانضواء تحت لوائها، وهو لا ينهض بديلاً عن الإيمان بالحرية إيماناً صادقاً رشيداً. والحق أن فقر الفكرة السياسية وعقمها في الجماعة والأحزاب القديمة العهد، وفي الأمم التي ما زالت تنعم بحريتها هو من أعظم الشواهد العقلية على ما تكابده من خمول الشأن في زماننا هذا.
ومادام الناس قد كتب عليهم أن تستأثر المادة برغباتهم وتملك عليهم عقولهم ومشاعرهم فلا يعملون إلا لها، ولا يهتفون إلا بها، ويتأصل في معتقداتهم أنهم يعيشون للخبز وللخبز وحده، ومادام أغلب ظنهم أن بيد الاقتصاد السياسي مفاتيح الغيب التي تنفتح معها جميع الأبواب لتنفذ منها الحكمة الاقتصادية، فسوف لا تصبح لغة الحرية يوماً ما وهي لغتهم الشعبية. وسوف لا يتحدثون بها بذلك الأسلوب القوي السليم الذي يجري على لسان عظماء القادة ممن يقدرون قيمة الحرية حق قدرها، وإذ يعرفون لها فضلها يؤثرونها لذاتها. ومع ذلك قد تتكشف لهم الحقيقة عن أولئك القوم من رعاع الناس المحتقرين، ومن أعداء البشر من الممولين النهمين، ومن العمال المستضعفين ما برحوا وهم ينعمون بنصيب كاف من(442/31)
الفطنة والرشد يدركون معه أن اختيار النظم الحرة للهيئات الاجتماعية اختياراً موفقاً صائباً لا يستقر في الأفكار والعقائد التي تنادي بها جماعة الشيوعية الاستبدادية من ناحية اليسار، والمذاهب والآراء التي تفرضها الهيئات الفاشية والنازية من ناحية اليمين، بل يجب أن ينهض على المبادئ الحرة المنظمة التي ظلت أعظم ما يصبو إليه النظر، وتنصب عليه التجارب في بريطانيا رجاء النهوض بمدينة الجنس البشري
إننا بحاجة لأن نمعن في تقصي هذا الموضوع والاستزادة من استقرائه ودراسته ما دمنا نترقب ما قد ينتهي إليه من التحكم في حرية الصحافة. وهنا نجد لزاماً علينا أن نتساءل لمَ بلغ تهديدهم للحرية هذا المبلغ الخطير، ولماذا انتهى إلى هذه الحال المروعة؟ ولماذا ضيع أمثال هؤلاء الناس العظام من الطليان والألمان حريتهم واستكانوا للذلة وخضعوا للطغيان؟ ولم يدلنا ظاهر أمرهم على أنهم يفخرون بتلك النظم التي تقضي على كرامة الإنسان وتضيق الخناق على الحرية؟ ولم نرى في بريطانيا هؤلاء القوم من عظماء الرجال العموميين وأصحاب الصحف الخطيرة الشأن الواسعة السلطان يطأطئون رؤوسهم ويطمئنون من نخوتهم أمام دعاة تلك النظم الاستبدادية وقادتها؟ ولم يتعامون عن تلك الجرائم النكراء التي تنادي بمسئولية قادة تلك النظم وهم إلى ذلك يعيرونهم آذاناً واعية ويمجدون أعمالهم؟
والجواب على ذلك هو أنه وقتما ينهض في الشعب نظام استبدادي كالشيوعية الروسية ويطبع نفسه بطابع من القوة الغاشمة والعنف المروع ثم يتأنى له بعون من رجال الشرطة الجبابرة القساة المنبثين في كل مكان أن يسحق الحربتين السياسية والشخصية ويحرم على الناس الملكيات الخاصة، تقف منه النظم الأخرى التي تزعم لنفسها حماية الملكيات الخاصة موقف المعارضة والمناضلة، ثم لا يكون منها هي الأخرى إلا أن تتخذ من سلاح القوة والعنف ومن رجال البوليس السري عوناً لها، لا للقضاء على أولئك الرجال وتلك الأحزاب من شيعة الشيوعية فحسب، بل ولتحطيم سند الحرية وحماتها وممثلي الديمقراطية أيضاً.
زين العابدين جمعة(442/32)
18 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - الحياة المنزلية
جرت العادة أن ينصرف التاجر بعد تناول الفطور مباشرة إلى حانوته أو مخزنه ولا يعود إلى المنزل قبل الأصيل. ولديه هناك الفراغ الكافي للتدخين متى شاء، وكثيراً ما يدخن حرفاؤه معه، فيقدم إلى بعضهم شبكه الخاص، والقهوة يستحضرها من أقرب مقهى. وقد يمضي أغلب يومه في التكلم مع الحرفاء أو مع جيرانه من التجار. والتاجر يقيم صلاته على العموم في دكانه، ويتناول بعد صلاة الظهر طعاماً خفيفاً مثل طبق من كباب ورغيف من الخبز يحضرهما إليه خادم صغير من المنزل أو من السوق يومياً، أو بعض الخبز مع الجبن أو المخللات، أو غير ذلك مما يشتريه من الباعة المتجولين. ويدعو التاجر دائم الحريف إلى مشاركته الطعام، وقد يلح في الدعوة. ويحتفظ في دكانه بقلة كبيرة يملأها عند اللزوم سقاء متجول، ويعود التاجر إلى منزله مساء للعشاء، وسرعان ما ينام. . .
والعادة أن ينام الرجل هو وزوجه في سرير واحد، إلا أن أفراد الطبقة الموسرة يتخذون غالباً سرراً منفصلة. ويتكون السرير عند متوسطي الحال مما يأتي: حشية طوله حوالي ست أقدام، وعرضها ثلاث أقدام أو أربع، توضع على سرير منخفض من جريد النخيل، ومخدة ليستريح عليها الرأس، وملاءة تفرش فوق الحشية والمخدة. وغطاء الصيف خفيف، ويسمى (حراما)، أما غطاء الشتاء فغليظ محشو بالقطن ويسمى (لحافا). وقد توضع الحشية على الأرض إذا لم يوجد سرير، أو توضع اثنتان معاً واحدة فوق الأخرى، وكثيراً ما يكتنفها مسندان من مساند الديوان؛ والكلة تعلق فوق السرير بأربعة خيوط تشد إلى مسامير تدق في الحائط. ويندر أن يغير المصري ملابسه عند النوم. وفي الشتاء ينام بملابسه(442/33)
العادية جميعها إلا الجبة والملابس الجوخية. أما في الصيف فينامون عراة أو شبه عراة. وينصب السرير شتاء في غرفة صغيرة تسمى (خزنة) وصيفاً في غرفة واسعة. ويطوي فرش السرير نهاراً ويوضع على جانب، أو في الخزنة السابق ذكرها. وعند اشتداد الحر ينام أغلب الناس على أسطح المنازل أو في (الفسحة): وهي غرفة لا سقف لها؛ ولكن تعرضهم للهواء الطلق أثناء الليل يسبب لهم الرمد وأمراضاً أخرى. وأكثر أنواع الأسرة شيوعاً ما يصنع من جريد النخل، وهو يجلب البق الذي يكثر كثرة فاحشة في مصر أثناء الصيف مثل كثرة البراغيث في الشتاء، وقد سبق ذكر هذه الحشرات والبلايا الأخرى التي يتعرض لها المصريون ليلاً ونهاراً. والقمل أكثر هذه الحشرات إثارة للاشمئزاز؛ ولكن الذي يغير ملابسه الداخلية كل يومين أو ثلاثة أيام قلما تضايقه هذه الحشرة، وأن لم يكن تجنبها سهلاً دائماً حتى مع النظافة التامة. وإذا كان القمل يضايق فأن من السهل الخلاص منه، لأنه لا يلصق بالجلد وإنما يوجد على العموم في الثياب. ومن الممكن أن ينظف المنزل من البراغيث بكثرة الغسل والكنس، وأن يمنع الذباب من الدخول بوضع الشباك على الأبواب والنوافذ، وإن كانت حلقاتها واسعة، ولكن من المستحيل أن يطهر المنزل المصري من البق إذا كان أثاثه من الخشب كما هو الحال غالباً.
وحياة الخدم الذكور كلها دعة وراحة ما خلا السائس الذي يجب عليه أن يرافق سيده وقت الركوب فيجري أمامه أو بجانبه وقد يقوم بعمله هذا في أشد الأوقات حراً ولمدة ساعات طويلة دون أن يبدو عليه التعب. ولكل ثري من أثرياء القاهرة تقريباً بواب يلازم باب المنزل، وعدة خدم ذكور آخرين. وأغلب هؤلاء مصريون. ويستخدم أيضاً النوبيون في القاهرة وفي غيرها من مدن مصر. وكثيراً ما يقوم النوبيون بحراسة الأبواب؛ وهم على العموم أكثر أمانة من الخدم المصريين. وأجرة الخادم تافهة لا تتعدى ريالاً أو ريالين في الشهر، إلا أنه يتناول منحاً كثيرة فيعطي السيد كل خادم في عيد الفطر بعض الملابس الجديدة أو خلعة كاملة من عرى وطربوش وعمامة. وعلى الخادم أن يدبر لنفسه ملابسه السنوية الأخرى ما عدا الحذاء أحياناً. وقد يتناول، علاوة على ما يعطيه السيد، بعض النقود من الضيوف أو من التجار الذين يعاملهم السيد وعلى الأخص عندما يشتري صفقة كبيرة. وينام الخدم بملابس النهار على الحصر، ويغطون أنفسهم شتاء بدثار أو حرام.(442/34)
وكثيراً ما يرفع الخادم الكلفة مع سيده فيضحك ويمزح معه. وفي بعض الأحوال الأخرى يخضع كل الخضوع ويظهر له كل الاحترام، ويتقبل كل ما يوقعه عليه من العقوبة البدنية بهدوء الأطفال.
ويراعي السيد الخادم العبد أكثر من الخادم الحر؛ ويحيا العبد حياة توافق طبيعته الكسولة. ويمكنه إذا كان غير راض عن عمله أن يجبر سيده على بيعه. وأغلب عبيد مصر يلبسون الملابس العسكرية التركية. وهم على العموم أشد الناس تعصباً في مصر وأكثر تعوداً على إهانة المسيحيين وكل من كان على غير دينهم الذي اعتنقوه دون أن يعرفوا من مبادئه أكثر مما يعرف أطفال العرب الذين لم يمض عليهم في المدارس أكثر من أسبوع. وسأذكر بعض أخبار الجواري في الفصل القادم.
ومعرفة أحوال المصريين المحدثين كثيراً ما تجرنا إلى مقارنة عاداتهم المنزلية بعادات الأوربيين في القرون الوسطى؛ وما في هذه المقارنة من مشابهات، تعتبر اكثر تأثيراً مما فيها من مباينات، هذا بالنسبة للرجال؛ أما بالنسبة للنساء فالآمر على العكس
الآن وقد أطلت الحديث عن الرجال يجب أن أنتقل إلى الكلام عن الحريم. ولكن يجب أولاً أن أذكر بعض الشيء عن الزواج وحفلاته.
يعتبر المصريون امتناع الرجل عن الزواج بلا مبرر عند بلوغ السن الملائمة مخالفاً للآداب ومسيئاً للسمعة. وقد لقيت أنا نفسي لارتكابي هذه الخطيئة (أقول ذلك حتى لا أذكر ما هو أشد قسوة)، مضايقات ومكاره كثيرة، واحتملت عتاباً شديداً أثناء زيارتي الأوليين لمصر. فقد بدا لي في المرة الأولى أن أنتقل من المنزل الذي سكنته بعض شهور في شارع كبير من شوارع القاهرة إلى منزل آخر في حي مجاور، وكتبت عقد الإيجار ودفعت العربون، ولكن جاءني وكيل المالك بعد يومين يخبرني أن سكان الحي وأكثرهم أشراف يعترضون على سكني بينهم لأنني أعزب؛ ولكنهم يقبلونني بكل سرور إذا اقتنيت على الأقل جارية تنفي عني عار العزوبة. فأجبته إنني لا أنوي الإقامة بمصر فلا أحب أن أتخذ لي زوجة أو جارية قد يضطرني الرحيل إلى تركها. فأعاد إلي العربون. وساعدني الحظ في حي آخر فلم يعترض على عزوبتي أحد، وإنما طلب مني الوعد بعدم السماح لأي شخص يلبس القبعة أن يزورني في الحي. ولكن بعد أن أستقر بي المقام أخذ شيخ الحي(442/35)
يحاول إقناعي بوجوب الزواج. ولم يقم وزناً لكل ما أبديته من الحجج التي تمنعني عن الزواج وقال: (تذكر لي أنك تريد ترك مصر بعد سنة أو سنتين. وأن هنا أرملة شابة جميلة تسكن على مقربة منك، ويسرها أن تصبح زوجتك مع رضاها بأن تطلقها حينما تترك البلد. وفي وسعك طبعاً أن تفعل ذلك إذا لم تعجبك.) وقد استطاعت هذه الشابة مراراً أن تجعلني أبصر وجهها الجميل أثناء مروري بالمنزل الذي تسكنه مع أهلها. فقلت لصاحبي إنني رأيت وجهها بطريق الصدفة، وإنها آخر امرأة أرغب في الزواج منها في مثل هذه الظروف لتأكدي من أنني لا أستطيع طلاقها أو فراقها إذا عشت معها. وقد شق عليّ أن أسكت صديقي الخدوم. لقد ذكرت في المقدمة أن الأعزب أو من لا يقتني جارية يضطر إلى السكنى في الوكالة إلا إذا كان يعيش مع أهله، ولكن الإفرنج الآن يّعفون من هذا القيد.
وتبلغ المصريات في سن مبكرة قبل نساء البلدان الباردة. وكثيراً ما يتزوجن في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. وقد ينضجن قبل السن بشكل يستحق الاعتبار ويتزوجن في العاشرة. إلا أن هذا الزواج المبكر غير شائع. وقلما تبقين بدون زواج بعد السادسة عشرة. وقد تصبح الفتاة المصرية أماً في الثالثة عشرة أو قبل ذلك. ونساء مصر على العموم ولودات، ولكن الأجنبيات اللاتي توطن مصر عقيمات غالباً. ويندر أن يعيش من يولد في مصر من أولاد الأجانب إلى سن الكهولة ولو كانت الأم مصرية. ولهذا يرجع السبب في تبني المماليك المعتقين غيرهم من المماليك.
ومن الشائع بين العرب في مصر وغيرها أن يتزوج الرجل من ابنة العم أو الخال. ويستمرون بعد الزواج على التنادي بألقاب القرابة. لأن رابطة الدم لا تفصم، ولكن صلة الزوجية عرضة لزوال. ومثل هذا الزواج يدوم على العموم بسبب رابطة القرابة، وقد تربطهما وحدة البيئة في طفولتهما، ولكن قلما يسمح للفتى أن يرى وجه قريبته في الطبقتين العليا والوسطى، أو يقابلها أو يحادثها حين تقرب من سن البلوغ إلى أن تصبح زوجته.
ويتم زواج العذراء بالطريقة الآتية، إلا إذا كانت أرملة أو مطلقة فيكون الحفل صغيراً. تبدأ أم الراغب في الزواج أو إحدى قريباته بوصف الفتاة التي تكون عرفتها وذكر أحوالها، وترشده في اختياره. وقد يستخدم خاطبة وهي امرأة عملها أن تساعد الرجال في الزواج.(442/36)
وقد يستخدم أكثر من خاطبة. وتقدم الخاطبة بيانها عن الفتيات مساره، فتصف الواحدة أنها كالغزال جمالاً ورشاقة صغيرة السن، والأخرى أنها ليست جميلة ولكنها غنية، وهكذا. والعادة أن تذهب أم الخاطب وبعض قريباته مع خاطبة لزيارة عدة بيوت. وللخاطبة حق الدخول لاحترافها سمسرة الزواج، إذا أن النساء كالرجال يستخدمنها أيضاً، وقد تقوم الخاطبة بمهنة (الدلالة) أيضاً تبيع الحلي والملابس الخ، فيسهل عليها دخول البيوت تقريباً، وتقدم النساء اللاتي يرافقن الخاطبة، للبحث عن زوجة لقريبهن، باعتبارهن زائرات فقط، وقد لا يلبثن طويلاً إذا لم يصادفن مرادهن، ويفهم الطرف الآخر طبعاً القصد من الزيارة ولكن إذا وجدن بين نساء المنزل (ولا بد من رؤيتهن جميع من يصلحن للزواج) فتاة أو امرأة شابة تتحلى بالصفات اللازمة يكشفن عن قصدهن ويستفهمن، إذا لم يكن طلب الزواج وقتئذ مستقبحاً، عما تملك الفتاة من أملاك وحلي الخ. وقد تملك الفتات إذا توفى أبوها منزلاً أو اكثر وحوانيت كثيرة الخ. وتملك كل بنت على وشك الزواج، في الطبقتين العليا والوسطى، مجموعة من الحلي الذهبية والجواهر في جميع الأحوال تقريباً. وبعد أن يستعلم الزائرات عن هذا وغيره يقدمن تقريرهن إلى الراغب في الزواج، فإذا رضى بذلك البيان يقدم إلى الخاطبة هدية ويرسلها ثانية إلى عائلة الفتاة لتعرفهن رغباته، وتبالغ الخاطبة على العموم في حديثها عن صفات الرجل الجذابة وثروته الخ، فتتحدث مثلاً عن شاب خامل تعلم هي أنه لا يكاد يملك شيئاً ولا يمتاز بشيء بقولها: (يا ابنتي، إن الشاب الذي يرغب في الزواج منك صغير السن لطيف العشرة أنيق أمرد ثرى جميل الملبس مغرم باللطائف؛ إلا أنه لا يستطيع أن يتمتع بهذا الترف وحده فهو يريد أن تكوني شريكته. وسيعطيك كل ما يشتري بالمال؛ وهو لا يخرج كثيراً؛ وسيمضي وقته كله إلى جانبك يلاطفك ويدللك).
عدلي طاهر نور(442/37)
اللحن الجديد
(للشاعر المجهول)
بَعَد السنينَ الطوالْ ... ورغَمَ كيدِ الأعاِدي
قد جازَ فيكَ المُحَالْ ... ونِلتُ منك مرادي
الليلُ غَفْوَانَ يدري ... ما كان بيني وبَيْنَكْ
وكنت في الليل بَدري ... وكان نورُك حُسْنكَ
في لحظةٍ صار عيشي ... يَفوقُ عُمرَ الوجودْ
فليحرسُ الحبُ طيشي ... في قطف تلك الورود
تهْ بعد هذا وسافِرْ ... إلى أقاصِي نَوَاكْ
لم يَبْقَ لي ما أحاذرْ ... من شقوتي في هواك
لِمَنْ صفاؤك بَعدِي ... كدَّرتُ بألفَتْكِ وِرْدَكْ
أعيش أن رُمتُ وحدي ... فِعش إن استطعتَ وحدك
أنت الأسيرُ الرهينْ ... لصَبْوَتي وخَبَالي
فأحذَرْ حِذارَ الطعين ... من سطوتي وصِيالي
أأنت تُخِلف وعدكْ ... وكنتَ رمز الوفاء؟
أأنت تُنكر عهدكَ ... يا جذوةً من صفاء؟
لِمن تكون؟ أجِبِني ... فأنت فوقَ الظنونْ
بمن أهيم؟ أعِذني ... قد طاب فيك الفُتُون
لو شئتُ، لا شِئتُ، طارت ... غوايتي عن حِماك
ولو أردتُ لجالتْ ... مآثمي في رُبَاك
يا مِحنتي في المساء ... وِفتنتي في النهارْ
قد طال فيك العناء ... فأين مِنْك الفرارْ؟
ماذا يريدُ غِضَا بُكْ ... ماذا يروم جَفَاكْ
إلى الفؤاد إيابُكْ ... إذا أردتُ لَقِاك
ارجعْ إلي تَجِدني ... كما عهدتَ وأسمحْ(442/38)
أو فانْتَظِرْ بَعدُ مني ... فَتى يسًّمى ويذبح
ظبي يروح ويَغْدُو ... في شائكات السُّهوب
ويأمنُ الليثُ يَعدو ... أأنت ذاك اللعوب؟
سأستبيحُ احْتِبَالكْ ... إن ثارَ شوقي إليك
سأستجيزُ اغتيالك ... إن طال خوفي عليك
بيني وبين اقتناصِكْ ... صُبَابةُ من حَيَاءْ
فاسلُكْ سبيل خلاصِكْ ... إن اشتهيتَ البقاء
إن كنتَ تنُكِرُ جهلاً ... فَتْكَ القلوب الجوارحْ
فسوف أسقيك سَجْلاً ... يُدمى عيونَ النوائح
لا، لن تكونَ لغَيِرِي ... والله، لا، لن تكونْ
وكيف يا وَحْيَ شِعري ... أهابُ فيك المَنُون
أضلُّ حُّبك قلبي ... والحبُ كالنُّور يهدي
أكان عندكَ ذنبي ... أني وفيتُ بعهدي؟
لولا التقَى لجعلتُكْ ... تسبيحهً في الصلاة
ألا تراني أصرتُكْ ... تغريدةً في الحياةْ
أدوسُ جَمْرَ الجحيمْ ... عند ارتياد جمالكْ
فأين روضُ النعيمْ ... عند استياف وصالك
لَحنُ كلحِن الرحيقْ ... في الكأس، ذاك بغامك
فهل تراني أفِيقْ ... ومن شرابي كلامُكْ؟
خدًّاكَ خَّداكَ، آهاً ... من الجمال الفصيحْ!
عيناكَ عيناكَ، واهاً ... من الفُتُون الجريح!
لم يُؤذني بُخْلُ لفظِكْ ... في جَهْرِه واُلْخُفوتْ
عرفتُ من وْحي لحِظكْ ... أن الهوَى لا يموتْ
لو قيلَ يومَ احتضاري ... هذا شقيقُ الفؤادْ
لأشرقتْ بك داري ... وكان يوم المَعاد(442/39)
مَن أنتَ؟ ضلَّ العَذُولْ ... في غابة الافتضاحْ؟
مَن أنتَ؟ لا، لن أقولْ ... سِر الهوَى لا يُباح؟
(الشاعر المجهول)(442/40)
الزنبق
للأستاذ خليل مردم بك
حَيًّتْكَ باسمةً ثغورُ الزنبق ... مفترةً عن طيَّبٍ متألقَِّ
ضَمًّتْ براعُمها شِفاهَ مقبًّل ... وحنتْ عليكَ حنو صبٍ شَيَّقِِ
وكأنها في الماء خود شًّمرَتْ ... عن ساقها عند الورود لتستقي
وكأنها استحيتْ فغضًّت طرفهَا ... وتطأمنتْ خفراً برأس مطرق
نهلتْ أفاويقَ الندى زهراتهُا ... فتفتحتْ كالشارب المتمطق
لم تقوَ صُغراها على برد الندى ... أفما تراها ذاتَ ثغر أزرق
وترى عناقيد البراعم تنضوي ... متلازماتٍ في عناقٍ ضًّيق
من طيًّبِ الأنفاس والأردان ذي ... جفنٍ على حلم التعانق مطبق
عذراءُ تستهوي العيونَ بطلعةٍ ... وضًّاءة بيضاء كالعرض النقي
تختال من زهو الصبى في ميعةٍ ... ومن الشباب وحسنه في ريًّق
فكأنها ببياضها وسنائها ... برزتْ إليك من الضحى في رونق
وتسربلتْ بغلالٍة وبريطةٍ ... من سندسٍ خُضْرٍ ومن إستبرق
خفًاقة الأقراطِ زهراء الحلي ... معقودة الإكليل فوق المفرق
ما أقبلتْ إلا بثغرٍ باسمِ ... وبمقلٍة نشوى ووجهٍ مُشرق
وكأنها سكرى تمايل عنقُها ... ورنتْ بجفنٍ النعاس مرنًّق
مر النسيم على الندى بجفونها ... فترجرجت قطراته كالزئبق
أني ليشجيني الندى متعلقاً ... بجفونها كالمدمع المترقرق
تُغني بريًّاها وطيب شميمها ... عن بابليٍْ في الدنان معًّتق
أنفاسُها تحي النفوسُ وريحها ... روحُ تشيع بسائف متنشق
هيفاء إن رفًّتْ أعاليها بدتْ ... في الحوض شروي راية في زورق
ما شئت في زهراتها من كوكبٍ ... متألقٍ بشعاعه متمنطق
كم زهرةٍ رفًّتْ فخلتُ فراشةً ... بيضاء رفًّ جناحُها بترفق
أطباقها مثلُ الأنامل شُبًّكَتْ ... في كل كمٍ تلتقي في مأزق(442/41)
أو كالجفون طويلة أهدابُها ... من ناعسٍ ومغمًّض ومحدًّق
أو لؤلؤ رطب تشظى حوله ... صدف أناف على بياض المهرق
إن الذي خلق الأزاهر خصًّها ... بقضيبها وبتاجها والبيرق
الحوُرُ في جنات عدنٍ تُجتلي ... والِبيضُ منها في خمائل (جِلًّقٍ)
(دمشق)
خليل مردم بك(442/42)
البريد الأدبي
غُبْر وعَبْر
لخص الأستاذ الكبير ا. ع في كلمته المنشورة بالعدد 438 من الرسالة
القضية التي بيننا حول كلمة (عبر) واحتجاجي لها واحتجاجه عليها.
وكنت قد أزمعت أن أفصل بالشواهد رأي. حتى نشرت الرسالة بالعدد 439 كلمة للأديب محي الدين صابر بدار العلوم يدلنا على رواية أخرى لهذه الكلمة في بيت سوار بن قارب وجدها في تفسير ابن كثير وهي:
فشمرت عن ساقي الإزار ووسَّطَتْ ... بي الدعلب الوجناء غبر السباسب
ثم قال إنه لا يستبعد أن تكون رواية عبر مصحفة عن غبر، ثم نقل عن اللسان أن الغبراء هي الأرض التي لا يهتدي إلى الخروج منها.
وأقول: إنها رواية سديدة جيدة، ويؤيدها كثرة ورود هذه المادة (اغبر - غبراء. . .) في وصف السفر وقطع السباسب والفلوات، ومن ذلك قول ذي الرمة:
وغبراء يقتات الأحاديث ركبها ... وتشفى ذوات الضغن من طائف الجهل
وقول القُلاخ:
وبلدٍ أغبر مخشيَّ العطب ... يضحي به موج السراب يضطرب
وقول ذي الرمة أيضاً:
وغبراء يحمي دونها ما وراءها ... ولا يختطيها الدهر إلا المخاطر
ومع هذا أقول: إن لهذه الرواية وجهاً من الضعف لا يخفي على اللبيب. . .
ذلك أن العامل في كلمة غُبر في رواية ابن كثير هو الفعل (وسطت). . . والكلام بهما مستقيم لا غبار عليه. ولكننا نعلم أن الرواية في بعض المصادر (أرقلت) وهذه لا تتفق مع كلمة غبر جمع غبراء ولا يستقيم الكلام بهما لأن الأرقال هو الإسراع وفعله لازم. فما معنى (وأسرعت بنا الناقة غبر السباسب)؟
زد على ذلك أن الروايات مختلفة في هذه الكلمة فهي (عبر) في جمهرة شعر العرب ص 26، وهي (بين) في سفينة الراغب ص 638، والسيرة الحلبية ج1 ص 267، وشرح لامية العجم للصفدي ج1 ص 18، وهي غبر في ابن كثير.(442/43)
واختلاف الروايات على هذا النمط - مضافاً إليه وجه الضعف الذي ذكرت يعوز رواية ابن كثير إلى مرجح. فلسنا نستطيع إذن أن نقطع بها إلا بهذا المرجح المنشور
وبعد. . . فقد رجا الأديب محي الدين أن تكون هذه الرواية قد حلت ما بيننا من ألغاز النحو وأحاجيه، وأقول أن القضية قد خرجت من كلمة (عبر) صحيحة كانت أو فاسدة، إلى قضية نحوية أخرى جديرة بالبحث والتمحيص، قلت وقال فيها الأستاذ أ. ع وليس من مصلحة اللغة أن يبتر الكلام فيها. . . هي قضية المصدر الذي يقع حالاً. وإن لي في هذا الموضوع بحثاً للاجتهاد فيه نصيب كبير أرجو أن أوفق إلى عرضه إن اتسع صدر الرسالة لمثل هذه البحوث وإنه لكذلك إن شاء الله
محمد محمود رضوان
رسالة المعلم الإلزامي وكيف ينبغي أن تكون
أبنا في كلمتنا السابقة عما يجب أن يكون عليه المعلم الإلزامي ووعدنا القارئ الكريم أن نجيب على تلك الأسئلة التي طالما جهر بها المشفقون على الأمة عن رسالة المعلم الإلزامي وهل يقدرها المعلم؟ وهل أداها على الوجه المرضي؟ وإذا لم يكن فلماذا.
إما أن المعلم يعرف رسالته فهذا ما لا سبيل إلى جحوده، وإما أنه أداها على الوجه الأكمل فهذه مسألة فيها نظر. . .
قام المعلم بعمله على قدر ما وسعه جهده، ولكنه ارتطم بعوامل قوية حدت من عمله، وأضعفت من معنويته، وكان من أهم تلك العوامل.
1 - أن وضع نظام (التعليم الإلزامي) لم يكن الوضع الطبيعي لمسايرة حاجة المجتمع فلم يحدد له هدف، ولم يرسم له خطة فنظام (نصف اليوم) وتخبط الوزارة في خطط الدراسة والمقررات وعدم الاستعانة بعنصر المعلم الإلزامي فيما يعتروها من مشاكل جعلته يمش حبواً.
2 - عدم تقدير المعلم، لا من الحكومة ولا من الشعب، والحكومة وضعت العراقيل في طريقه ولم توفر له وسائل العمل، والشعب نفسه لم يتهيأ لأن يهضم هذا النوع من التعليم، ونظر إليه نظرة المتشكك الوجل - وكان الناس في هذا فريقين: فريق الأغنياء، وقد خشوا(442/44)
على أنفسهم أن يتعلم الشعب، في هذا انهيار لهم كما كانوا يظنون. . . وفريق العامة، وقد كانوا نحو التعليم كالطبيب المداوي مع مريضه الجاهل.
3 - مرتب المعلم: حددت له الدولة راتباً ضئيلاً لا يكفيه القوت الضروري، فجعلته يئن تحت عبء الحاجة
4 - أرهق بالعمل إلى درجة الإعياء، وضنت عليه الدولة بما يفتقر إليه من كتب ومراجع وأدوات
ولكن المعلم بقي وحده يصارع تلك العوامل بقوى نفسية عجيبة كان من أثرها قيام (اتحاد التعليم الإلزامي)، فساعد المعلم على إزالة تلك الأشواك من طريقه، وأمكنه أن يسمع صوت المعلم لمن بيدهم الأمر، وهاهو ذا قد نجح بعض الشيء، وكان من أثر ذلك أن تهيأت الأسباب لقبول دعوته، وأرهفت الآذان وتفتحت لسماع حجته، فتحركت الوزارة أخيراً فنشطت للعمل، وهاهو المجلس الأعلى ينظر ويبحث.
ولو أن الدولة كرست جهودها لتحقيق مطالب التعليم الإلزامي ويسرت للمعلم أسباب العمل - كفاها مؤونة تلك الجهود التي تذهب سدى من تلك الجمعيات - ولقام هو بأفضل مما تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية
والأمل كبير في الله وبفضل الاتحاد والاعتصام بالعروة الوثقى، ومن كان لهم الفضل في الأخذ بيد المعلم وعلى رأسهم أستاذناً الكبير الزيات أن تثمر رسالة المعلم وينجح التعليم، وأن تنهض البلاد، وفقنا الله إلى ما فيه الخير
محمود محمد عبد
وكيل نقابة القاهرة للتعليم الإلزامي
خطأ في كتاب المفصل
في كتاب (المفصل في تاريخ الأدب العربي) - تأليف بعض رجال المعارف - الأبيات التالية منسوبة إلى ابن رشيق القيرواني:
ولما بدا لي أنها لا تحبني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي
تمنيت أن تهوى سواي لعلها ... تذوق صبابات الهوى فترق لي(442/45)
فما كان إلا عن قليل وأشغفت ... بحب غزال أدعج الطرف أكحل
وعذبها حتى أذاب فؤادها ... وذوقها طعم الهوى والتذلل
فقلت لها، هذا بهذا، فأطرقت ... حياء وقالت: كل عائب ابتلى
وهذه الأبيات نسبها أبن رشيق في عمدته إلى علي بن الله من سلالة جعفر بن أبي طالب حيث قال: (ومثل هذه الحكاية ما قاله بعض الكتاب، وقد دخل على علي بن عبد الله بن جعفر ابن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو محبوس، أين هذا الجعفري الذي يتديث في شعره؟ قال علي: فعلمت أنه يريدني لقولي: ولما بدا لي الأبيات فقلت أنا هو جعلت فداك)
(العراق - حلة)
جواد كاظم
بين صبري وابن دريد
وقع نظري على أبيات في الغزل لإسماعيل صبري وردت في ديوانه. . . بعثت في نفسي دهشة عجيبة لا لروعتها وفتنتها، بل لأنها خلقت مشكلة عجيبة، فما هي هذه المشكلة؟
المشكلة أن هذه الأبيات بقليل من التحريف اللفظي وجدتها منسوبة (لأبي بكر بن دريد) في مقال للشاعر الكبير محرم بالعدد الثاني من المجلد الثالث لمجلة أبولو (أكتوبر سنة 1932)
أما البيتان الواردان في ديوان صبري فهما:
إن الذي أبقيت في مهجتي ... يا متلفَ الصبِ ولم يشُعِر
حُشاشة لو أنها قطرةُ ... تجول في عينيكَ لم تُنْظَرِ
وأما بيتان (أبي بكر بن دريد) الواردان في مقال الشاعر محرم فهما:
إن الذي أبقيت (من جسمه) ... يا متلفَ الصَّبِ ولم يشعر
(صُبابةُ) لو أنها قطرةُ ... تجول في جفنيكَ (لم تقطر)
فليس من شك في أن صبري قد سرق البيتين وليس له غير تغير لم يوفق فيه. وليس من شك أيضاً في غفلة المحققين لديوان صبري عن هذه السرقة العجيبة.
حسين محمود البشبيشي(442/46)
أيهما أصلح لتعليم الأطفال المعلم أم المعلمة؟
كنت أعتقد بعد أن كتب الأستاذ الزيات كلمته عن المعلمين وبعد أن قدم الأستاذ مصطفى شكري بك تقريره عن التعليم الأولي، أن وجه الحق في هذا الموضوع قد أصبح واضحاً، وأن مجال القول لم يعد في حاجة إلى إعادة، وباب الكلام لا يتسع لزيادة!
ولكني قرأت في جريدة (المصري) رأياً لوكيل وزارة المعارف المساعد الأستاذ شفيق غربال بك استحسن فيه إحلال المعلمات محل المعلمين، وتمنى لو استطاعت الوزارة أن تعمم هذا في جميع المدارس. وقال: (إن إحلال المعلمات محل المعلمين في المدارس الأولية والإلزامية للبنات مشروع عظيم؛ لأن المعلمة كالأم، والأم أولى بحضانة الطفل، ولو استطعنا أن نعمم ذلك في المدارس الأولية والإلزامية، لكان هذا أوفق وأحسن)
قرأت هذا وفهمت منه أن الأستاذ الوكيل يرى أن المعلمة أوفق وأحسن من المعلم حتى في تعليم البنين، لأنها كالأم والأم أولى بحضانة الطفل!!
ولا شك أن هذا الكلام يقال في مقام العواطف لا في مقام التربية والتعليم، وإن حرمان الطفل من عناية المعلم أبلغ في الضرر من حرمانه من رعاية المعلمة! وحاجته إلى أبيه، لا تقل عن حاجته إلى أمه، وإذا قلنا إن المعلمة ستبعث في نفسه الحنان والعطف والرقة والشعور بالجمال، فأنه سيبقى مع ذلك في حاجة إلى من يعلمه الرجولة والشجاعة والحزم والتضحية والبطولة والاعتداد بالنفس
ومن الذي يستطيع هذا غير المعلم؟
أما الحضانة فليست للأم إلا قبل سن التعليم. فإذا بلغ الطفل السابعة كان لأبيه بنص الشريعة؛ لأنه أدرى بتربيته، وأبصر بمصلحته.
وإذاً يكون الاستدلال بحق الأم في الحضانة غير مستقيم مع قواعد المنطق، ولا مع وقائع الحال والناس يرون الرجل الذي تنفرد المرأة بتربيته ناقص الرجولة ويقولون عنه (إنه ابن امرأة!!)
ولم تأخذ البلاد الأوربية إلى الآن بنظرية انفراد المعلمة بتربية الطفل مع أن المرأة عندهم سبقت المرأة عندنا بأجيال! كما أن ثقافة المعلم عندنا أرقى من ثقافة المعلمة، لأن منهاج(442/47)
مدارس المعلمين أوسع من منهاج مدارس المعلمات؛ والمعلم يزيد في ثقافته بالدرس والمطالعة، بينما المعلمة لا تفكر في شيء من هذا بعد خروجها من المدرسة. والوزارة نفسها جعلت مناهج البنين غير مناهج البنات في المدارس الإلزامية! وفي كل هذا ما لا يستقيم مع رأي سعادة الوكيل!
على أن الوزارة قد حاولت تجربة هذه الطريقة منذ خمس سنوات، فأشركت المعلمات مع المعلمين في مدارس البنين. وترتب على هذا أن ساءت الحالة العلمية وأختل النظام؛ لأن المعلمة كانت تقف في وسط التلاميذ حائرة. فإذا ثاروا وعجزت عن إسكاتهم جلست تبكي مغلوبة على أمرها، حتى يأتي أحد المعلمين فيسكت التلاميذ عند رؤيته ويلزم كل وأحد منهم عمله!
وأذكر أن معلمة ذهبت تشكو لرئيس المدرسة تلميذاً، لأنه كان كلما ضربته بالمسطرة على يده يضحك ويسألها المزيد!
واضطرت الوزارة أخر الأمر وبعد أن ضج المفتشون من الفوضى. إلى تخصيص المعلمات بالتعليم في مدارس البنات! وإذن يكون القول بإحلال المعلمات محل المعلمين في المدارس الإلزامية مجازفة غير مؤمنة العاقبة، وفكرة أثبتت التجارب السابقة فشلها!
وأكبر ظني أن مثل هذه الآراء المرتجلة، هي التي أضاعت التعليم الإلزامي، وأفسدت طرائقه، وغيرت حقائقه، وحالت بينه وبين الإنتاج المنشود. ولو أنصف القائمون بأمره لردوا الأشياء إلى أصولها، والأصول إلى قواعدها، ولرجعوا إلى المعلم يسألونه رأيه فيما هم فيه مختلفون، ويستخبرونه عما لا يعلمون.
(المنصورة)
علي عبد الله(442/48)
القصص
الميتة. . .
لجي دي موباسان
بقلم الأديب كمال رستم
أحببتها حباً عنيفاً! لم يحب الإنسان؟ أليس عجيباً ألا ترى في العالم إلا إنساناً! ألا تقوم في النفس إلا فكرة! ولا في القلب إلا رغبة! ولا في الفم إلا اسم! أسم يرقى دواماً!. . . يرقى كماء نبع ثجاج من أعماق نفس ولهى! يرقى إلى الشفاه! نذكره! ونذكره! نتمتم به دائماً، وفي كل مكان كأنه صلاة!
سوف لا أقص قصتنا؛ فليس للحب إلا قصة واحدة! قابلتها وأحببتها! هذا كل ما في الأمر! وعشت عاماً تغمرني برقتها، وتحتويني بين ذراعيها، وتخصني بظرفها وترعاني بلحظها؛ وتلفعني بأدثرتها، وتهمس إلي بكلماتها!. . محاطاً مطوقاً، حبيساً في كل ما يصدر عنها بهذه الطريقة الفاضلة التي لم أحاول أبداً أن أعرف غيرها، ليلاً كان أو نهاراً، حياً كنت أو ميتاً، على هذه الأرض العجوز أو في مكان آخر!
ماتت زوجتي إذن! كيف؟. . . لا أدري!
عادت ذات مساء مطير، يبلل المطر ثيابها، وفي اليوم التالي حملت، واستمرت تشغل حوالي أسبوع لزمت بعده سريرها!
كيف حدث ذلك؟. . . لا أدري!
عادها أطباء. . . وصفوا الدواء. . . ومضوا!. . .
واستحضرت أدوية. . . وامرأة تجرعها إياها!. . .
كانت يداها دافئتين وجبهتها متقدة منداة، ولحظها وامضاً حزيناً. حدثتها وأجابتني! ما الذي قلناه؟ لا أدري!
نسيت كل ما قيل! كله. . . كله!. . . ماتت إذن! وإني لأذكر جيداً آهتها الخافتة. آهتها الأخيرة!. . . وتأوهت الممرضة قائلة: (آه)! فأدركت. . . أدركت!. . .
لا شيء عرفت أكثر من ذلك أبصرت قساً انفرجت شفتاه عن كلمة (خليلتك)! خيل ألي أنه(442/49)
سبها فليس لنا الحق منذ ماتت أن ندعوها كذلك، ولذلك طردته!
وحضر آخر وكان طبيب القلب للغاية، لطيفاً للغاية حق لقد استعبرت عندما حدثني عنها! ولقد أخذ برأي في ألف شيء بخصوص الجنازة، لا أذكر الآن منها شيئاً مطلقاً وإن كنت أذكر جيداً صورة ناووسها؛ وصوت المطرقة حينما أغلقوه عليها!. . . أواه يا إلهي!. . . وووريت. . .! ووريت! هي! في هذه الحفرة! وحضر بعض الناس! بعض الأصدقاء! فررت منهم همت على وجهي طويلاً في الطرقات! ثم عدت أدراجي إلى منزلي؛ وفي اليوم التالي قمت بسفرة طويلة!. . .
رجعت أمس إلى باريس!. . .
وعندما رأيت ثانية غرفة نومي؛ غرفة نومنا! مهادنا أثاثنا، كل ما في هذا المنزل. . . كل ما بقى من حياة شخص بعد موته. . . أصبت برجعة حزن محض! فقمت إلى النافذة وأطلت منها على الطريق!. . .
ولما لم أستطع أن أصبر على الإقامة بين هذه الأشياء، بين هذه الجدران، تناولت قبعتي وخرجت أبغي فكاكا! وفي طريقي إلى الباب مررت بمرآة البهو الكبيرة التي وضعتها هناك، لترى فيها نفس من رأسها إلى أخمص قدميها كل يوم عند خروجها لتتأكد من زينتها كاملة، وأنها تبدو جميلة آسرة من حذائها إلى قبعتها!. . .
وقفت أحدق في هذه المرآة التي طالما عكست صورتها طالما! طالما!. حتى خيل إلى أنها تتراءى فيها!. . .
كنت ثم واقفاً، مرتجفاً، وعيناي مثبتتان على زجاج المرآة، على الزجاج المسطح! الضيق! الرحيب!. . . الزجاج الذي يحتويها بأكملها؛ يتمتع بمشاهدتها أكثر مني؛ أكثر من نظرتي الولهة!. . . خيل إلي أني أحببت هذه المرآة! لمستها؛ ألقيتها باردة أواه! يا لها من ذكرى يا لها من ذكرى!
مرآة مؤلمة! مرآة متقدة مرآة حية! مرآة مروعة!. . . سعداء هؤلاء الذين يحكى قلبهم مرآة؛ يدعون صور المرئيات تنزلق عليها، ويزيلونها متى شاءوا، فينسى كل قلب ما احتواه؟. . . كل ما سر أمامه! كل ما شاهده! كل ما سدد إلي عواطفه!. إلى حبه. . . كم أتألم!. .(442/50)
وخرجت، وعلى غير وعي! على غير إدراك؛ دلفت إلى المقابر. وثم رأيت رمسها بسيطاً جداً. . . رأيت صليباً من الرخام نقشت عليه هذه الكلمات؟. . .
(أحبتني وأحببتها ثم ماتت)!
كانت هناك! في أسفل! عظاماً نخرة! يا للهول!
لبثت هناك طويلاً، طويلاً. . . ولما أقبل الليل قامت في نفسي رغبة غريبة، رغبة مجنونة، رغبة نفس قانطة! تشوقت إلى قضاء الليلة قريباً منها. . . ليلة أخيرة أذرف دمعي على قبرها!
ولكنهم سيبصرون بي وسيطردونني؛ فما العمل؟. . . نهضت، وأخذت أضرب في مدينة الموتى هذه. . . مضيت! مضيت! كم هي صغيرة هذه المدينة إلى جانب أختها؛ تلك التي نراها، ومع ذلك فالأموات أكثر عدداً من الأحياء.
وأنه لمن المفارقات حقاً أن تكون كل هذه الدور الفخيمة، والميادين الفسيحة؛ كل هذه المساحة الشاسعة للأحياء القليلين، يرقبون النهار ليتنفس، ويكرعون ماء الينابيع وسلاف الكروم، وينعمون بخيرات السهول، بينما لا يكون لكل أجيال الموتى شيء. . . حقل. . . تقريباً لا شيء. تستردهم الأرض. تجعلهم نسياً منسياً. . . تبتلعهم. . . ثم الوداع!. . .
وفي نهاية القبور المأهولة، أبصرت فجأة القبور المهجورة، حيث بليت جسوم الموتى على طول الزمن وتم اختلاطها بالثرى! حيث الصلبان نفسها قد تداعت. . . وحيث يرقد في الغد هؤلاء الذين قدر لهم أن يفنوا. . . مكان مليء بالورود المبعثرة، وأشجار السرو السوداء السامقات. . . حديقة حزينة شاسعة تعيش على جثث البشر. . .
وكنت هناك وحدي فتسلقت شجرة خضراء وتواريت بين أفنانها الغليظة الظليلة كغريق يتشبث بما يصادفه. . .
ولما إحلولك الليل. . . غادرت مكمني ومشيت في خطوات وئيدة في خطوات مخنوقة على هذه الأرض المفعمة بالموتى. . . وأخذت أجول طويلاً طويلاً دون أن أقف لقبرها على أثرها. . . الذراعان ممدودتان. . . العينان مفتوحتان. . .
متلمساً القبور بيدي، بقدمي، بساقي، بصدري، برأسي نفسه. . .؟
مضيت كضرير يتلمس طريقه. . . لمست الأحجار، والصلبان، والنوافذ الحديدية،(442/51)
والتيجان الزجاجية، والأكاليل الزهرية الجافة. . .
ورحت أقرأ الأسماء بأصابعي أمر بها على الحروف. . . يا لها ليلة، يا لها ليلة؟ لم أجد قبرها. . .
وكان القمر غائباً فاستولى علي الخوف، وخوف مروع في هذا المكان الموحش. . . بين صفين من القبور. . .؟
القبور! القبور! القبور. . .!
قبور. . . إلى اليمين وإلى اليسار. . . إلى الأمام وإلى الخلف. . . في كل صوب قبور. . .!
تهالكتُ على واحد منها، لأني لم أستطع أن أتابع السير أكثر من ذلك. . . لأن ساقي كانتا تلتويان. . . أصخت بأذني أصغى لو جيب قلبي. . . أصغي أيضاً لشيء آخر. . . ماذا. . .؟ نبأة مبهمة لا أسم لها. . . أكان ذلك في رأسي المجنونة. . . أكان ذلك في غبش الليل الضارب سجوفه وإسداله أم تحت الأرض الخفية. . . تحت الأرض المزروعة بجثث البشر؟!
كم من الوقت مكثت هناك؟ لا أدري. . . غدوت قعيداً من الخوف. . . أصبحت ثملاً من الرعب. . . على أهبة الصياح. . . على أهبة الموت. . . وفجأة، خيل إلي أن لوح الرخام الذي كنت جاثماً فوقه قد تحرك. . . حقاً، تحرك كما لو كان قد رفع. . . وبفطرة واحدة ألقيت بنفسي على الجدث المجاور. . . وشهدت. . . نعم، شهدت الحجر الذي غادرته قد انتصب واقفاً وظهر الميت. . . هيكل عظمي ليس غير. . .! وإن كان الليل وقتذاك قد نشز على الكون ذوائبه. . . فقد رأيت. . . رأيت جيداً على الصليب هذه الكلمات: (هنا يرقد (جاك أوليفان) المتوفى في الواحدة والخمسين من سني حياته، كان محباً لذويه، شريفاً، طيب القلب. . . وتوفي إلى رحمة الله. . .!)
ولما قرأ الميت هذه الكلمات المنقوشة على قبره، انحنى إلى الأرض، والتقط قطعة من الصخر. . . قطعة صغيرة مدببة. . . واخذ يزيل هذه الكلمات بعناية ودقة. . . أزالها عن آخرها ببطيء وهدوء، محدقاً بعينيه الواسعتين في المكان الذي كان منذ برهة متوارياً فيه. . . وبطرف العظمة التي كانت يوماً ما سبابته. . . كتب بحروف براقة لامعة:(442/52)
(هنا يرقد (جاك أوليفان) المتوفى في الواحدة والخمسين من سني حياته، تعجل بقسوة قلبه موت أبيه ليرثه، عذب زوجه، أشقى أولاده، خدع جيرانه، سرق كل ما استطاع سرقته، ومات شقياً. . .!)
. . . ولما انتهى الميت من كتابته أخذ يشهد نتيجة عمله. . . ولاحظت في عودتي أن كل القبور قد فتحت، وأن كل الهياكل العظمية خرجت منها، وان الجميع مسحوا تلك الأكاذيب التي خطها ذووهم على قبورهم ليوهموا على الناس؛ ورأيت أنهم كانوا جميعاً قساة القلوب، حقودين، مرائين، كذابين، خبثاء، مفترين، حساداً. . . رأيت أنهم سرقوا وخدعوا وارتكبوا كل الأفعال المخجلة، ووصموا بكل خلق دنيء. . . وهؤلاء الآباء الطيبون. . . هؤلاء الزوجات الوفيات. . . هؤلاء الأبناء المخلصون. . . هؤلاء الحفيدات العفيفات. . . هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء. . . لا لوم عليهم جميعاً، لأنهم لا يستطيعون أن يقرروا الحقيقة المؤلمة. . .!
وراحوا جميعاً يخطون في وقت واحد على عتبة مسكنهم الأبدي الحقيقة القاسية، الحقيقة المروعة، الحقيقة المقدسة، التي يجهلها الجميع أو يتجاهلونها وهم على قيد الحياة. . .!
وأيقنت أنها لا بد قد قامت تكتب على جدثها، وبدون أدنى خوف الآن. . . فركضت وسط التوابيت نصف المفتوحة، وسط الجثث، وسط الهياكل العظمية. . . مضت إليها واثقاً أني سأجدها في الحال. . . ورأيتها من بعد. . . من غير أن أستجلي وجهها، لأنها كانت قد غطته بالكفن. . . وعلى الصليب الرخامي الذي قرأت عليه منذ برهة:
(أحبتني وأحببتها ثم ماتت!)
لمحتها تكتب: (خرجت يوماً لتخون زوجها، فأصابها برد تحت شؤبوب منهمر وماتت!)
ورأيتني أهوى إلى الأرض مغشياً عليّ. وفي اليوم التالي وجدوني مسجى إلى جانب مقبرة. . .!
(المنصورة)
كمال أحمد رستم(442/53)
العدد 443 - بتاريخ: 29 - 12 - 1941(/)
العامية والفقر
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاء في خطاب مطول من الأديب (عبد القادر العشماوي) يروى فيه مناقشة أدارتها جماعة (الرابطة المصرية ضد التدخين) وقالت فيها الأستاذة الفاضلة نعيمة الأيوبي - على رواية الأديب - (لنكن عاديين في أحاديثنا لنقدر أن نعبر عن شعورنا وأفكارنا ونتفاهم في أغراضنا وشؤون إصلاحنا، لا سيما مع الطبقات الفقيرة. ولنخلع عنا ذلك الرداء المزيف الصناعي الذي نلبسه كلما قابلنا عظيماً أو وقفنا في حفل للخطابة؛ فلا ندري أأخطأنا في التركيبات النحوية أم في التعبير عن أفكارنا. ولنتكلم الآن باللغة التي نستعملها في كل مناقشاتنا حتى في مرافعاتنا أمام القضاء، ألا وهي العامية).
قال الأديب عبد القادر العشماوى: (ثم نهض الأستاذ كامل الكيلاني عقب الدكتورة نعيمة الأيوبي وقال ما فحواه: (إنه لا يسمح بأية حال من الأحوال بالموافقة على نصرة العامية على اللغة العربية الفصحى. ومن لم يستطع التعبير بالعربية الفصحى فما هو بمستطيع أن يعبر عنها بالعامية. . .)
وهكذا إلى آخر ما ورد في خطاب الأديب. ثم قال سائلاً: (ما رأيكم في هذا الخلاف؟ وهل يمكن نصرة اللغة الفصحى في بلد سواده الأعظم من الأميين؟ وإذا خاطبت إنساناً فقيراً باللغة الفصحى لتسدي إليه النصح والإصلاح هل يفهمك أو يظن انك تسخر به فيحز ذلك في نفسه وينصرف عنك متألماً؟ وأرجو أستاذي إذا تفضل بالجواب أن يكون رده على صفحات مجلة (الرسالة) الزاهرة المحبة إلى نفوسنا، واليكم عظيم الاحترام. . . الخ)
تلك رواية الأديب، وهي لا تستلزم في الجواب عليها أن أتعرض لتفصيلات رأيين لم أقف منهما على غير هذه الإشارات التي لا تشمل كل ما يقوله صاحب الرأي في شرحه والدفاع عنه.
فحسبنا أن نحصر الكلام هنا في العلاقة بين الفقر والعامية، وهل من دواعي العطف على الفقير أو من دواعي النظر في مشكلة الفقر أن ننصر العامية على الفصحى، وأن نعبر عن آرائنا باللغة التي يتكلمها الفقراء؟
فالعامية قبل كل شئ هي لغة الجهل وليست بلغت الفاقة أو بلغة اليسار(443/1)
وبين الأغنياء كثيرون لا يحسنون الكلام بغير العامية التي لا جمال لها ولا طلاوة على عباراتها
وبين الفقراء من يحسنون التعبير بالفصحى، أو يعبرون بالعامية تعبيراً يزينه جمالها وتبدو عليه طلاوتها
فإذا عطفنا على العامية فإنما نعطف على الجهل ونستبقيه ونستزيده، ولا نخفف وطأة الفقر ذرةً واحدة بتغليب عبارات الجهالة على العبارات التي تصاغ بها آراء المتعلمين والمهذبين
إن علاج مشكلة الفقراء هي أن ترفع طبقهم معيشة وتفكيراً وحديثاً ومنزلة من التعليم والتهذيب، وليس علاج تلك المشكلة أن نسجل عليها حالة من العجز والجهالة هي التي يشكون منها ويسألون المعونة على علاجها
وماذا يفيد الفقراء أن يسكن الأغنياء الأكواخ؟
وماذا يفيد الفقراء أن يتكلم المتعلمون لغة الجهلاء؟
وماذا يفيد الفقراء أن تساويهم في الحرمان من المال والعلم ومن الفصاحة وقدرة التعبير؟
إنما يفيد الفقراء أن تصبح أكواخهم قصوراً أو كالقصور في الإراحة وتصحيح الأبدان
وإنما يفيدهم أن يكون نصيبهم من اللغة كأحسن نصيب يتعلمه المتعلمون. فان لم يبلغوا هذا المبلغ فالفائدة ألا يكون نصيبهم منها أحقر نصيب، وألا نسجل عليهم هذه الحالة المزرية كأنهم لا يصلحون لغيرها ولا يطمحون إلى ما فوقها.
وإنما يفيد الفقراء أن يساووا أحسن الناس لا أن يصبح أحسن الناس مثلهم في المعيشة والعمل والعلم والكلام
ولم يقل أحد أننا حين نبني القناطر والجسور والمستشفيات لعلاج داء الفقر ينبغي أن ننسى الهندسة لأن الفقراء لا يعرفونها
ولم يقل أحد أننا حين ندبر الطعام للمعوزين ينبغي أن نبطل أطايب الطعام لأن المعوزين لا يملكون أثمانها
فلماذا يقول قائل إن إهمال اللغة الفصحى واجب عند البحث في مشكلة الفقر والجهل لأن الفقراء والجهلاء لا يحسنون اللغة الفصحى، وأن المناقشة في تلك المشكلة ينبغي أن تدور بالعامية لأنها هي اللهجة التي يتكلمها الفقراء والجهلاء؟(443/2)
يقول الأديب صاحب الخطاب (إذا خاطبت إنساناً فقيراً باللغة الفصحى لتسدي إليه النصح والإصلاح هل يفهمك أو يظن أنك تسخر به، فيحز ذلك في نفسه وينصرف عنك متألماً؟)
فمن اللازم أولاً أن نفرق بين اللغة الفصحى واللغة الصعبة التي لا يفهمها إلا الأقلون؛ إذ ليس كل فصيح صعباً ولا كل عامي ركيك سهلاً على سامعيه
ومتى فرقنا بين الفصاحة والسهولة أدركنا أن السهولة تتوافر للكلام الفصيح وتنفذ إلى أسماع الجهلاء غير حائل بينها وبين النفاذ إلى تلك الأسماع حركة الأعراب ولا صحة التركيب
هذا أولاً
أما (ثانياً) فمن اللازم أن نذكر أن العظات إنما تتلقى بالخشوع والتوقير كلما اقترنت في ذهن السامع بملابسات الخشوع والتوقير
والعظات التي تقترن في ذهن السامع بالمسجد وحلقات العلم أحرى أن تقترن بالنفوس الخاشعة والأسماع المصغية من عظات تحمل طابع السوق ومجالس اللهو والمزاح. وهذه المقارنة النفسية أشبه بمقارنة الهيبة التي تسري إلى قلوب السامعين وهم يصغون إلى الواعظ في المسوح ولا تسري إليهم وهم يصغون إليه في مباذل البيت وملابس السهرة وكسوة (الردنجوت)
أما شعور الجاهل الفقير وأنت تخاطبه بالفصحى فقد تختلف فيه الأقوال حسب اختلاف الأحوال، ولكنه لو أنصف لأمتعض ممن لا يخاطبه إلا وهو متنزل إلى لغة أوضع الطبقات، كأنه يترفع عن مخاطبته باللغة التي يخاطب بها أقرانه وزملاءه. وما أظن الجاهل الفقير يجب أن يترفع الأغنياء عن لقائه في حجرة الاستقبال التي يلقون فيها أقرانهم وزملائهم ليخرجوا له إلى المراء حيث يجلس بغير مقعد وبغير مهاد. . . فلماذا يحب الجاهل الفقير أن يتنزل مخاطبه من أسلوبه وأسلوب أقرانه وزملائه ليخاطبه بما هو دون ذلك الأسلوب؟
إننا لم نسمع أن أحداً تواضع حباً للفقير فخلع حذائه ليمشي حافياً أو يلبس النعال؛ فما بال أناس يتواضعون فيخلعون لغة المعرفة والثقافة لأنها كما يزعمون لغة لا يفهمها الفقراء؟
ما خلت الدنيا قط ولن تخلو من التعلم والتعليم، وإن اليوم الذي ننبذ فيه كل ما نتعلمه(443/3)
ونتعب في تعلمه لهو اليوم الذي ينحدر فيه الإنسان إلى الجهل الذي هو أشيع شئ بين الناس وأغناه عن معلمين ومتعلمين وعن جهد في التعليم والتحصيل
وإذا كنا نحتج لبقاء اللغة العامية بأنها اللغة التي يعرفها الجاهل بغير تعلم فلماذا لا نحتج لكل جهل بمثل هذا الاحتجاج؟ وأي شئ أحق من العقل الإنساني ومن النفس الإنسانية بأن نفهمها على الوجه الأمثل حين نفهم اللغة الصالحة لإبداع أشرف المعاني وأرفع الصور الذهنية وأحقها بالبقاء والتخليد
واللغة العامية بطبيعتها لغة وقت محدود وجهة محدودة، فهي لا تصلح لبقاء أثر من الآثار التي تستحق البقاء. ولن نكسب شيئاً ولا الفقراء يكسبون بصيانة حديث العامة وإهمال الحديث الذي يخلد المتنبي والمعرى وابن الرومي وشكسبير وهوميروس وسوفكليس وفرجيل
وما ارتقى العامة قط لأنهم فهموا نظام الصحة وقواعد الحكم وهم جهلاء أميون، ولكنهم يرتقون حين يتعلمون ويقتدرون على فهم الكلام في لغة المعرفة والإرشاد. أما وهم أميون جهلاء فلن يفهموا ما يقال، ولو قيل لهم بلغة الجهال
وأنها لبدعة عجيبة تلك التي سرت في الزمن الأخير وتعلق بها أناس منا مخلصين وأناس منا مخدوعين وأناس منا يسيئون النية وهم على علم بالغرض مما يدعون إليه
فالدعوة إلى تغليب العامية إنما تنبع في مصدرها الأول من جانبين متناقضين وإن اتفقا في غرض واحد
فجانب الشيوعيين المنكرين للعقائد والأديان يحقدون على اللغة الفصحى كحقدهم على كل امتياز وارتفاع، وغرامهم بكل ما يهبط إلى مرتبة الصعاليك؛ ثم هم لا ينسون أن القضاء على العربية الفصحى فيه قضاء على دين المسلمين الذي يحاربونه كما يحاربون كل دين
وجانب المبشرين لا يعنيهم من الأمر إلا أن يحاربوا الدين بين الأمم العربية، فلا يعنيهم في بلادهم أن يغلبوا الكلام المسف المبتذل على الكلام المهذب الفصيح.
ومما يكشف عن سوء نية هؤلاء وهؤلاء انهم يفضلون الكتب التي تؤلف بكلام العامة فيما يختارونه للترجمة إلى اللغات الأوربية؛ مع أن الترجمة لا تظهر فرقاً بين أسلوب العوام وأسلوب الخواص، ولا يدري من يقرأها وهو لا يعرف الأصل أهي من الكلام الدارج(443/4)
منقولة أم هي منقولة من كلام تلتزم فيه الفصاحة وحركات الأعراب.
فهو إذن تشجيع للعامية في وطنها وليس بتشجيع للعامية في اللغات الأخرى، ومن هنا ينكشف سوء النية الذي أومأنا إليه.
فرأي فيما سأل عنه الأديب أن تغليب لغة الجهل كارثة على الأمة العربية وعلى العقل الإنساني لا تقل عن كارثة الفقر وسوء العيش، وإن علاج مسألة الفقر لن يتوقف في وجه من وجوهه على ترك الكلام الفصيح وتقديم الجهالة الكلامية، ولن يختلف الأمر هنا بين طب الأمراض البدنية وطب الأمراض الاجتماعية. فلا الطبيب مضطر إلى إهمال لغة الطب وهو يعالج مريضه، ولا المصلح الاجتماعي مضطر إلى إهمال لغة المعرفة وهو يعالج الفقر أو الجهالة، وليس ما يفهمه الفقير الجاهل من عبارات العامة بأكثر مما يفهمه من لغة الخاصة إذا كانت الصعوبة في الإدراك أو كانت الصعوبة في الموضوع. فلو نقلت أر سطو إلى أوضع اللهجات لما سهلت فهمه إلى أقل تسهيل، بل لملك تزيد الصعوبة بإقحام المعاني الرفيعة في لغة لم تتهيأ لتمثيلها منذ زمن بعيد.
ولنرحم الفقير الجاهل برفعه إلى طبقة اليسار والمعرفة، والتسوية بينه وبين من يفصحون ويفقهون
أما رحمته بإبقائه حيث هو في عمله وكلامه ومداركه فتلك هي القسوة التي لا يشيعها الرحماء.
عباس محمود العقاد(443/5)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
(الشوقيات)
للدكتور زكي مبارك
أين مقدمة هيكل باشا؟ - رأى الدكتور طه حسين في شاعرية
(شوقي) - أخلاق شاعر الأخلاق - دسائس صحفية! - كيف
يدرس المتسابقون شعر (شوقي)؟ - نهج البردة - الأندلس
الجديدة - انتحار الطلبة - التغني بالآثار المصرية - الحرب
العثمانية اليونانية - تكليل أنقرة - انتصار الأتراك في الحرب
والسياسة - رحالة الشرق
أين مقدمة هيكل باشا؟
المقرر للمسابقة هو الجزء الأول من (الشوقيات)، وبه مقدمة بقلم معالي الدكتور هيكل باشا، وكان في النية أن أنظر في تلك المقدمة نظرة نقدية، على نحو ما صنعت بالمقدمة صدر بها ديوان البارودي، ولكني لم أجد المقدمة المنشودة في النسخة التي بين يدي، فأين ذهبت؟ وكيف رضيت أن تظل نسختي عاطلة من تلك المقدمة العصماء؟
لذلك تاريخ يجب تسجيله قبل أن يضيع، فقد تأتي أيام يجهل فيها ما مر بالشوقيات من ظروف، وللتاريخ الأدبي علينا من حقوق، فما ذلك التاريخ؟
النسخة التي بيدي ناقصة، ولكنها نفيسة جداً، لأنها على نقصها مصححة بقلم (شوقي) في مواضع كثيرة، وليس ذلك بالمغنم القليل
وأواجه ذلك التاريخ فأقول:
كانت الصلة قوية بيني وبين (شوقي) في سنة 1925، وكان شرع في طبع (الشوقيات)، فشاء لطفه وكرمه أن يدعوني لكتابة المقدمة بعبارة لا أزال أذكر نصها بالحرف:
(سيكتب الدكتور هيكل مقدمة تاريخية، وستكتب أنت مقدمة أدبية)(443/6)
وبعد أيام تلطف فأهدى إليّ ما طبع من الجزء الأول مصححاً بخطه الجميل، لأكتب في تقديمه ما أريد
ورجعت إلى نفسي فتذكرت إن المقدمات يلتزم فيها الترفق، وذلك ما يجمل بكاتب مشغول بالنقد الأدبي مع شاعر لا يزال في الميدان، وأسرعت فكتبت إليه خطاباً قلت فيه: أني لا أستطيع كتابة المقدمة التي ينتظرها أمير الشعراء، لأني أخشى أن أقول فيها كلاماً يصدني عن نقده إن رأيت في أشعاره المقبلة ما يوجب الانتقاد، وهو - بارك الله في عمره - لا يكف عن مساورة الشعر والخيال صباح أو مساء
وفي عصرية اليوم الذي كتبت فيه ذلك الخطاب قابلت الدكتور طه حسين وأخبرته بما وقع، فغضب أشد الغضب وقال: (ليتك استشرتني قبل أن تصنع ما صنعت! ألا تعرف انك أضعت على نفسك فرصة من فرص التشريف؟ لو طلب (شوقي) مني ما طلب منك - وأنا خصمه - لأستجيب بلا تردد، فشوقي في رأيي هو أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبي)
وبعد شهور طوال ظهر الجزء الأول من (الشوقيات)، وبه مقدمة الدكتور هيكل، ونادى المنادي بوجوب الاحتفال بتكريم أمير الشعراء احتفالاً يشترك فيه من يستطيع من أدباء الأمم العربية، وبرعاية الزعيم سعد زغلول
ثم يقام الحفل الحافل بدار الأوبرا الملكية في التاسع والعشرين من نيسان سنة 1927، ويقول الشعراء والخطباء في (شوقي) ما يقولون في إطناب وإسهاب
ويلتفت الدكتور هيكل كاتب مقدمة (الشوقيات) فيرى من الواجب إصدار عدد خاص من (السياسة الأسبوعية) لتكريم (شوقي)، ويدعى للاشتراك في تحرير ذلك العدد الخاص رجال كان فيهم كاتب هذا الحديث. ويرى (شوقي) من حقه أن ينظر قي محتويات ذلك العدد فيشير بحذف مقالات كان منها مقال. . . ألم أستكبر عليه فارفض كتابة مقدمة (للشوقيات)؟!
كانت (للسياسة الأسبوعية) في تلك الأيام توجه التيار الأدبي في مصر وفي سائر البلاد العربية، وكان إصدار عدد خاص عن شاعر من مثل تلك المجلة يعد تزكية أدبية تفوق الوصف؛ ولكن (شوقي) لم يرتح كل الارتياح إلى ذلك العدد الخاص، فقد ظهرت فيه(443/7)
عبارات تغض كثيراً أو قليلاً من مقام أمير الشعراء
أخلاق شاعر الأخلاق
غضب (شوقي) على ذلك العدد من (السياسة الأسبوعية) وكان (شوقي) إذا غضب غضب معه ألف مرتزق من أدعياء الأدب، فمضى أولئك المرتزقة يقولون في الدكتور هيكل ما تسمح بنشره الوريقات المتسمة زوراً بوسم الجرائد والمجلات، فكتب الدكتور هيكل في (السياسة الأسبوعية) مقاله المأثور: (أخلاق شاعر الأخلاق)، وهو مقال فصل فيه ما كان بينه وبين (شوقي) وتوعده توعداً أليماً، فقد نص على أن (شوقي) لن يظفر منه مرة ثانية بمثل ذلك الاحتفال!!!
ورأيت أن ارجع إلى الدكتور طه استفتيه، فابتسم وقال:
كان مصيرك سيكون أفضع من مصير هيكل لو كتبت مقدمة (الشوقيات)!!!
ثم ماذا؟ ثم ذهب (شوقي) الحقود، (شوقي) الذي قطع ما بينه وبين كرام الرجال لأسباب لا تستحق أن ينصب لها ميزان، وبقى (شوقي) الشاعر، (شوقي) الذي رثاه (المازني) يوم مات، بعد أن قال فيه ما قال!
دسائس صحفية
فسد ما بيني وما بين شوقي بعد اعتذاري عن كتابة مقدمة الشوقيات، فانقطعت عن لقائه بمكتبه في شارع جلال، وأنقطع هو أيضاً فلم يعد يسأل عني. وجاء ظاغور أمير شعراء الهند فأقام له حفلة في داره دعا إليها أساتذة الجامعة المصرية، ولكنه تجاهل أسمي فلم يدعني إلى استقبال ذلك الشاعر الصناج.
وسمع بذلك الحادث جماعة من الصحفيين فحرضوني على إيذاء شوقي بمقال أو مقالين، وزعموا أن مال شوقي لا ينال بغير الهجاء!
وما أنا ومال شوقي أو غير شوقي؟
هل منحنا الله نعمة القلم الصوال، لنبتز الأموال؟
إن شوقي الحقود حرمني فرصة التمتع بصوت طاغور، وما صوت طاغور بالقياس إلى الموسيقية الشوقية؟(443/8)
شوقي شاعر مصر، وهو على جحوده أستاذ الأساتذة في ميدان القصيد، فمن الواجب أن أحفظ عهده إلى أن يموت، وقد مات قبل أن يسمع كلمة نابية من قلمي أو لساني.
فعليك يا شاعرنا العظيم ألف تحية وألف سلام! وحفظ الله عهدك بين أقطاب الأدب الرفيع!
كيف يدرس المتسابقون شعر شوقي
الغرض من هذه الدراسات هو توجيه من سيتبارون في مسابقة الأدب العربي، فماذا نقول في توجيه أولئك الشبان؟
أهم قصيدة في الجزء الأول من الشوقيات هي قصيدة (نهج البردة). ولهذه القصيدة تاريخ يجدونه في الطبعة الثانية من كتاب (الموازنة بين الشعراء)، وما أريد أن أغتنم الفرصة فأعلن عن كتابي في مجلة الرسالة بالمجان، وإنما هي فرصة للطلبة الأعزاء، فأن درسوا ما كتبت عن تلك القصيدة في ذلك الكتاب فسيشغلون لجنة الامتحان بأبحاث تجوز بهم السراط في أمان.
وهنالك مرجع ينفعهم في هذا الموضوع الدقيق، وهو كتاب (المدائح النبوية في الأدب العربي) وفي ذلك الكتاب تفصيل واف لتطور المدائح النبوية من عهد حسان إلى عهد شوقي، فقد بدأ هذا الفن مدحاً خالصاً، ثم تحول إلى نزعة من (التشيع) ثم صارفنا بلاغياً يسجل فنون (علم البديع) ثم عاد مدحاً صرفاً على لسان شوقي والبارودي والحملاوي، مع تفاوت في أسلوب الأداء.
أما القصيدة الثانية فهي (الأندلس الجديدة) ويجب حفظها عن ظهر قلب، لأنها من محفوظات لجنة الامتحان، ولأنها فيما نعتقد أعظم شعر جاد بها الشعر الحديث في تصوير التعاطف بين الأمم الإسلامية:
مقدونيا - والمسلمون عشيرةٌ - ... كيف الخؤولة فيكِ والأعمامُ
أتَرَيْنهم هانوا، وكان بعزهم ... وعُلوُّهم يتخايلُ الإسلام
إذ أنتِ ناب الليثِ، كل كتيبة ... طلعتْ عليك فريستةٌ وطعامُ
وقد سما شوقي بهذه القصيدة سمواً لا يدرك مداه غير من يعرف أسرار الشعر وسرائر القلوب.
ولهذه القصيدة أهمية في شاعرية شوقي، فقد كادت آراء النقاد تجمع على إن عبقرية شوقي(443/9)
لم تتفتح ألا بعد نفيه في أيام الماضية، وهو قد نظم هذه القصيدة في سنة 1912 قبل النفي بأعوام.
ثم تجئ قصيدة (انتحار الطلبة) وهي قصيدة طوِّقت بها وزارة المعارف بأطواق من حديد، فالطالب المنتحر:
ناشئٌ في الورد من أيامهِ ... حَسْبُهُ الله أبالورد عَثرْ؟
سدد السهم إلى صدر الصبا ... ورماه في حواشيه الغُرَر
بيدٍ لا تعرف الشر ولا ... خُلِقتْ آلا لتلهو بالأُكر
ولكن كيف صنع الطالب بنفسه ذلك الصنع المقوت؟
قال ناسٌ: صرعةٌ من قَدَر ... وقديماً ظلمَ الناسُ القَدَرْ
ويقول الطبُّ: بل من جِنَّةٍ ... ورأيت العقل في الناس نَدَر
ويقولون: جفاءٌ راعَهُ ... من أبٍ أغلظَ قلباً من حجر
وامتحانٌ صَّبتْه وطأةٌ ... شَّدها في العلم أستاذ نَكر
لا أرى ألا نظاماً فاسداً ... فكك العلم وأودَى بالأُمر
من ضحاياهُ - وما أكثرها! - ... ذلك الكاره في غض العُمُر
وتلك قصيدة نادرة، فليتفهمها الطلبة وليحفظوها عن ظهر قلب، فموضوعها يكاد يتجدد في كل يوم، وهي تنهي عن آفة من آفات الضعف في هذا الجهل.
التغني بالآثار المصرية:
فاتحة الشوقيات هي قصيدة شوقي عن (كبار الحوادث في وادي النيل) وهذه القصيدة تصحح غلطة وقع فيها صاحب (الموازنة بين الشعراء) فقد نص على أن إسماعيل صبري هو أول شاعر من مذاهب القول في وصف آثار الفراعين، بعد أن ثار الجدال بينه وبين خليل مطران في سنة 1904، ثم تشاء المقادير أن يعرف ذلك المؤلف أن شوقي سبق صبري في التغني بتلك الآثار الخوالد في القصيد الذي ألقاه في مؤتمر المستشرقين سنة 1894
فما ذلك القصيد؟ هو قصيد طويل سجل به الشاعر ما كان لمصر من تحليق وإسفاف في أعوام تزيد على خمسة آلاف.(443/10)
وهنا يظهر أعجب العجائب، فقد كان شوقي ناشئاً يوم نظم ذلك التاريخ ولكنه مع ذلك عرف كيف يهتف:
قل لبانِ بني فشادَ فغالى ... لم يجز مصرَ في الزمان بناءُ
ليس في الممكنات أن تُنقل الأج ... بال شماً وأن تنال السماء
أجفل الجنُّ من عزائم فرعوْ ... نَ ودانت لبأسها الآناء
شاد ما لم يشد زمان ولا أنش ... أعصرٌ ولا بَنَى بنَّاء
هيكلٌ تُنثر الدِّياناتُ فيه ... فهي والناسُ والقرونُ هباءُ
قبورٌ تحط فيها الليالي ... ويواري الإصباحُ والإمساَء
وهذه الباكورة كانت البشير بأن ستكون لشوقي مكانه في وصف آثار الفراعين
لقد طوفت بأقطار كثيرة من الشرق والغرب، فما رأت عيني مثل ما تركت الفراعين بوادي النيل، وسيجتمع المؤتمر الطبي العربي بعد أيام بمدينة أسوان، وسيعرف رجاله صدق هذا المقال بعد أن يزوروا آثار الأقصر، عليها أزكى التحيات!
الحرب العثمانية اليونانية
هي حربٌ وقعت في عهد السلطان عبد الحميد، ولم يذكر الديوان تاريخها بالضبط، ولا أتسع وقتي لتحقيق ذلك التاريخ، وأين من يصدق أني أكتب هذه الصفحات وأنل في (قطار الصعيد)؟
هي إحدى قصيدتين أعترف فيها حافظ بشاعرية شوقي، ولم يكن حافظ يعترف لشوقي بشيء، ولا كان شوقي يعترف لحافظ بشيء، وآه ثم آه من تحاسد النظراء!
أعترف حافظ بقيمة البائية:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب ... وينصرُ دين الله أيان تضرب
أعترف حافظ بقيمة هذه البائية في كتاب (ليالي سطيح) ولا أعرف الآن موقع هذا الاعتراف من ذلك الكتاب، فعهدي بقراءته يرجع إلى زمن بعيد
أما القصيدة الثانية فهي بائية شوقي في (توت عنخ آمون) وكان حافظ يحفظ هذه البائية وقد أنشد فيها مرات، وكان له في إنشادها ترجيع لطيف
كانت البائية الأولى فتنة العصر الذي ظهرت فيه، وكان جمهور الأدباء يحفظها عن ظهر(443/11)
قلب، وراويها في هذا اليوم هو الأستاذ محمد سعيد لطفي بك، وله بها هيام وغرام، فهو ينشدها كما لاحت فرصة للحديث عن شوقي
اقرءوا هذه البائية، يا شباب اليوم، لتعرفوا كيف نستهين بما ينظم الأطفال من الشعر في هذه السنين العجاف!
اقرءوا هذه البائية احفظوها، فهي من آيات الشعر الحديث
وما السيف آلا آية الملك في الورى ... ولا الأمرُ إلا للذي يَتغلبُ
فأدِّب به القوم الطغاة فأنه ... لنعم المربى للطغاة المؤدب
تنام خطوبُ الملك إن بات ساهراً ... وإن هو نام استيقظت تتألب
تكليل أنقرة وعزل الآستانة
تلك قصيدة كافية تسجل انحسار الخلافة عن استنبول، بعد حوادث تشيب ناصية التاريخ، وتصور عزة الترك بأنقرة في عهدهم الجديد
وفي هذه القصيدة توجع شوقي لعزل استنبول، وأعتذر عن أبنائها الاماجد فما نقلوا مركز الملك إلى أنقرة ألا رعاية لخطة من خطط الدفاع عن البلاد
لو أن سلطان الجمال مخلّد ... لمليحةٍ لعذلتُ من عزلوك
خلعوك من سلطانهم فسليهمُ ... أمِن القلوب وملكها خلعوك
لا يحزُنك من حُماتك خطة ... كانت هي المُثلى وأن ساءوك
أيقال فتيان الحمى بك قصروا ... أم ضيعوا الحُرمات أم خانوك؟
وهم الخفاف إليك كالأنصار إذ ... قلّ للنصير وعزَّ من يفديك
والمشتروك بمالهم ودمائهم ... حين الشيوخ بجبة باعوك
هدروا دماء الذائدين عن الحمى ... بلسان مفتي النار لا مُفتيك
شربوا على سر العدو وغردوا ... كالبوم خلف جدارك المدكوك
لو كنت مكة عندهم لرأيتهم ... كمحمد ورفيقه هجروك
وهو يشير في هذه الأبيات إلى ما وقع من رجال الدين في استامبول، فقد أفتوا بوجوب مقاتلة الكماليين بوجوب طاعة الخلفاء، وكانوا احتلوا استامبول، ولم يجلوا عنها بعد ذلك ظائمين، وإنما أكرهتهم السيوف الكمالية على الجلاء(443/12)
والشاعر يجعل انتقال أتاتورك ورفاقه من استامبول إلى أنقرة شبيهاً بانتقال الرسول ورفيقه من مكة إلى المدينة، وهو تشبيه على جانب من الجمال
انتصار الأتراك في الحرب والسياسة
ثم يلتفت القارئ مرة ثانية فيرى شوقي يرجع إلى تمجيد أتاتورك من جديد، بقصيدة بائية على غرار بائية أبى تمام في فتح عمورية، وقد تلاعب فيها بالمعاني وجال في فنون القول كل مجال
كان عصمت باشا مندوب الأتراك في مؤتمر لوزان، وكان رجلاً ضعيف السمع لا يصل إليه الصوت إلا بالصياح، فجعله شوقي:
أصمٌ يسمع سر الكائدين له ... ولا يضيق بجهر المحنق الصخب
والذي يقرأ أخبار الحرب في هذه الأيام يرى الانسحاب يوصف بالجمال، وقد سبق شوقي لغة هذه الأيام فقال في انسحاب اليونان:
جدِّ الفرارُ فألقى كل معتقل ... قناته وتخلّى كلُّ محتقب
يا حُسْنَ ما انسحبوا في منطقٍ عَجَب ... تُدعى الهزيمةُ فيه حُسْنَ مُنسحَب
وكان ساسة اليونان منوا شعبهم بمملكة جديدة في بلاد الترك، فقال شوقي:
هم حسِّنوا للسواد البُله مملكةً ... من لِبدة الليث أو من غِيلة الأشِبِ
وأنشئوا نزهةً للجيش قاتلةً ... ومن تنزه في الآجام لم يؤب
وكان الدكتور طه حسين كتب مقالاً في جريدة الاتحاد أراد به التهوين من شأن هذه البائية، فهل ينظر فيها من جديد ليعرف أنه كان من المخطئين؟
رحالة الشرق
وهذه قصيدة عينية قالها شوقي في تكريم الرحالة محمد حسنين باشا، وكان استكشف واحتين في الصحراء الروبية
ويضيق المقام عن شرح ما في هذه القصيدة من أغراض، ومع هذا لا يفوتني أن أدل للطلبة على سجية شوقي في الجنوح إلى التأمل العميق من حين إلى حين. وهل وازن أحد بين الصحراء والحياة على نحو ما وازن بينهما شوقي إذ يقول:(443/13)
كم في الحياة من الصحراء من شَبَهٍ ... كلتاهما في مفاجأة الفتى شَرَعُ
وراَء كل سبيل فيهما قَدَرٌ ... لا تعلم النفس ما يأتي وما يدع
ولست تأمن عند الصحو فاجئةً ... من العواصف فيها الخوف والهلع
ولست تدري وأن قدرت مجتهداً ... متى تحط رحالاً أو متى تضع
ولست تملك من أمر الدليل سوى ... أن الدليل وأن أرداك متَبع
والبيت الأخير من وثبات الخيال
أما بعد فهذه كلمات سريعة بددت بها ساعات من الطريق بين القاهرة و (المنية) ولم أنظر فيها بعد ذلك، فليتلقها القارئ على هواه، بالحمد أو بالملام، وهل يكلف الله نفساً فوق ما تستطيع؟
أثنيت على شوقي مرات وأنا أراجع الشوقيات؛ ثم لمته مرة أو مرتين!
لقد أشرف بنفسه على طبع الجزء الأول والثاني، فما كان ضره ولو أرخ جميع القصائد، ونص على جميع المناسبات ليتمثل القارئ صور البواعث الروحية أو السياسية؟
قصائد شوقي تمثل معضلات عصره أصدق تمثيل، ولكن القراء لن يروها خليقة بهذا الوصف إلا إذا شرحت مناسبتها بإسهاب، فأين من ينهض بهذا الواجب قبل أن تنسى تلك المناسبات؟
ثم أقول أن الشوقيات زادت أيماني بمجد بلادي، فقد امتطيت القطار وأنا متخوف من ضجر الطريق وما هي ألا لحظة حتى كانت الشوقيات وحياً يهتف بأن كل بقعة من أرض مصر معهد مجد أو محراب فتون
ليت شعري والدهر حرب بنيه ... وأياديه عندهم أفياءُ
ما الذي داخلَ الليلي منا ... في صبانا ولليلي دهاءُ
في هذه اللحظة أشعر بالندم على آني ركبت القطار السريع، ولم أركب القطار (القشَّاش) وهو القطار الذي يقف على جميع المحطات، ويباع فيه القصب والبرتقال بسخاء؟!
وما أسعد من يمر بالقطار على جميع المحطات المصرية، وقد بلغ عددها (532)
يمر القطار السريع على قرى الصعيد مرور الطيف، فلا يكاد المسافر يتذكر أن كل قرية من تلك القرى فيها أرواح وقلوب، ولأهليها تاريخ أو تواريخ(443/14)
هذه منارة تدل على مسجد، فأين من يذكر أن مساجد الصعيد كانت لها أياد في حفظ العلوم الإسلامية؟
وذلك فلاح يناجي الأرض مناجاة الحبيب للحبيب، فأين من يذكر أن الفلاح المصري قد يكون أخوف الناس من الله، ثم لا تمنعه تقواه من انتهاب شبر أو فتر من أرض الجيران؟
وهل يستطيع أحد أن يقنع الفلاح المصري بأن الجنة أجمل من أرضه الغالية؟
ذنبك مغفور - أيها الفلاح - فأعص الله كيف شئت في انتهاب أرض جيرانك، فذلك شاهد بأنك تقدر نعمة الله على أهل هذه البلاد!
ثم ماذا؟ ثم اذكر أن هذا الكلام يخرج عن موضوع هذا المقال، وأني سأصل إلى (المنية) بعد لحظات، وأن التمادي في الثرثرة أمر غير مقبول!
وما ذنبي إذا فتنتني بلادي؟
أمِن الإثم هُتافي بالجمال ... في بلادٍ كلُّ ما فيها جميلْ
لو بعيني نظر اللاحي وجال ... لرأى الفتنة في كل سبيل
حار الناس في تعليل التفاوت بين شوقي وحافظ، لعرفانهم بأن حافظ كان أذكى من شوقي بمراحل طوال، فهل آن لهم آن لهم أن يعرفوا أن شوقي تقدم لأنه كان من أكابر المُلاّك في هذه البلاد، وأن حافظ تخلف لأنه بشهادة نفسه لم يملك من أرض مصر نصف فدان؟
ما أنا وهذا الكلام؟ هذه ثرثرة لا تليق برجل منَّ الله عليه بركوب قطار الصعيد، وهو قطار يساير نهراً بين جبلين، وتلك حال توحى بإعزاز السرعة والقسوة واللين، ومن هذه العناصر الثلاثة يتكون جسر الخلاص؟
أحبك - يا وطني - أحبك أحبك بأعظم مما أحبك مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول
أحبك - يا وطني - وأستعذب عذابي فيك، لأنك في عيني وقلبي غاية في روعة الجمال
لم يعان أحدُ من الظلم في وطنه مثل ما عانيت، فما زادني ذلك الظلم الأثيم إلا عرفاناً بجمال وطني. وهل رأيتم جميلاً غير ظلام؟؟
(قطار الصعيد في 171241)
زكي مبارك(443/15)
مظاهر النظام التجاري النازي
للأستاذ فؤاد محمد شبل
أن دراسة طرائق ألمانية التجارية أمر من الأهمية بمكان، إذ يقودنا إلى تفهم أسلوبها في السيطرة الاقتصادية على وسط أوربا والبلقان التي تبعها النفوذ السياسي. كما تعتبر هذه الأساليب أهم جانب يشرح لنا النظام الجديد في أهم صوره العملية، ويظهر للعالم ما ينتظره من وراءه وما يتوقعه من تطبيقه من إلغاء حرية التعامل وتقييد التبادل تقييداً غير محدود المدى، وتدخل الدولة في كل ما جل ودق من شؤون الفرد. وسيظهر لنا تحليل السياسة التجارية التي أتبعت في فترة تولي النازي أزمة حكم ألمانيا أن هذا النظام معناه تسخير الشعوب لمد ألمانيا بما يعوز صناعاتها من المواد الخام، فضلاً عن إلغاء جميع الأوضاع النقدية المقررة التي ألفها العالم واطمأن إليها، كما يبين لنا شرح هذا النظام مدى مسئوليته عن الحرب الحاضرة.
1 - تقييد حرية نقل الأموال
يعتبر عام 1931 السنة التي ولد فيها نظام التحكم في التجارة الخارجية التي كانت الغاية المرجوة منه الحيلولة دون سحب القروض الأجنبية من ألمانيا التي كانت دعامة ترتكز عليها قيمة المارك في الخارج. ولما تولى النازي أزمة الحكم في ألمانيا، هرعت رؤوس الأموال الأجنبية فيها إلى الخروج منها حتى بلغت قيمة ما سحب منها 4. 5 مليار ريشمارك في المدة 1932 - 1934. هنا صدر مرسوم يقيد نقل الأموال التي يحصل عليها الأجانب من استثماراتهم داخل ألمانيا، وخول للمدينين الألمان التخلص من التزاماتهم تجاه الخارج بإبداع قيمتها ماركات في حساب خاص في برلين. على أنه أستمر تحويل الفوائد والأقساط المستحقة لغرض (داوز) والفوائد المستحقة لغرض (يونج). أما أقساط الاستهلاك للقروض الأخرى، فقد أوقف صرفها، ودفعت نصف الفوائد المستحقة لها، فحسب بالعملة الأجنبية إلى نهاية سنة 1933. أما الفوائد غير المحولة، فأن الدائنين الأجانب منحوا سندات في مكنهم بيعها لبنك خصم الذهب ليحصلوا مقابلها على العملة الأجنبية. بيد أن هذا البنك لم يكن ليقبل شراء هذه السندات إلا بنصف قيمتها الاسمية؛ أما النصف الأخر فكان يستخدمه البنك المذكور لإعانة الصادرات التي يأمل الحصول - عن(443/17)
طريقها - على النصف الذي يحول. فكان الدائن الأجنبي يخسر من هذه العملية ربع الفوائد المستحقة له. ولقد جلبت ألمانيا في هذا الحين على نفسها السخط من جراء تنظيمها التحكمى للنقد الأجنبي، وسماحها بوجود عدد من فئات الماركات تعمل في درجات مختلفة من الخصم، إلا إنها كانت تبرر هذه الإجراءات بأن الدول الدائنة ترفض أن تقبل ديونها بضائع
وفي صيف عام 1934 أصبح التبادل الألماني الخارجي في أسوأ الحالات، فعلى حين كانت الواردات الألمانية في ازدياد، كانت الصادرات في هبوط. فقاد هذا بالطبع إلى تواصل الضغط على الذهب وعلى العملة الأجنبية التي بها تدفع ألمانيا ديونها للخارج، فأصبح من المتعذر عليها الاستمرار في عمليات التحويل وفقاً للأساس السابق مما دعاها في يونية 934 إلى إيقاف صرف الفوائد المستحقة عليها بالعملة الأجنبية وعرضت على الدائنين الأجانب سندات أجلها عشر سنوات بفائدة 3 %. فأسرعت البلاد الدائنة إلى المفاوضة مع ألمانيا للحصول على شروط أسخى؛ وكثير منها قبل عقد اتفاقات مقاصة لتسوية ديونه، وهذه الاتفاقات كان أثرها مزدوجاً فزادت صادرات ألمانيا إلى البلاد التي قبلتها وزادت صادراتها هي إلى ألمانيا
ولقد كان النظام المتبع في الاستيراد منح المستوردين الألمان حصة من العملة الأجنبية بقيمة ما أستورده في عامة 1931. إلا إن هذه الحصة هبطت في فبراير 1934 إلى 50 % منها؛ وفي مايو من نفس السنة أصبحت 5 % وأخيراً غدت تقدر يوماً بيوم طبقاً لنظرة بنك الريخ وخطته إزاء العملة الأجنبية
2 - نظام المقاصة الفردية
في سبتمبر 1934 أعلن الدكتور شاخت وزير الاقتصاد منهاجاً جديداً للتجارة الخارجية، فألغى نظام الحصص السابق واستعيض عنه بنظام يقوم على الحصول على شهادة قبل إجراء كل عملية تتعلق بالتبادل الخارجي. وتنفيذاً لهذه الفكرة أنشأت سبع وعشرون إدارة تمثل سبعاً وعشرين صناعة أو مادة أولية؛ وهذه الإدارات أصبحت المسئولة عن إعطاء تصاريح الاستيراد وعلى تقرير لأي البلاد أو لأي السلع تستخدم هذه التصاريح. ولهذه الإدارات إشراف على الصادرات كذلك(443/18)
ولقد أظهر التطبيق العملي للسياسة الجديدة مدى قيامها على المتاجرة الثنائية ومبادلة السلعة بالسلعة. كما أنشأت نظاماً متشابك الناجي لاتفاقات المقاصة الفردية التي تمثلت في طرائق ثلاث نشرحها على الوجه التالي:
مدار الطريقة الأولى أن المستورد الألماني الراغب في شراء سلع من الولايات المتحدة مثلاً يسعى للعثور على مصدر ألماني يريد بيع سلع للولايات المتحدة، ولكنه لا يستطيع الحصول على ثمن ما باعه الذي يبلغ بسعر الصرف س % (مثلاً) أكثر من السعر العالمي. فعلى المستورد الألماني أن يدفع ال س % هذه وبذلك يكن المصدر من تقبل السعر العالمي لسلعته. وفي مقابل الحصول على هذه ال س % يقبل المصدر الألماني التنازل عن حقوقه في النقد الأجنبي الذي يحصل عليه من بيع بضاعته إلى الولايات المتحدة. ولما كان قد دفع علاوة س % للمصدر فإنه يتقاضاها برفع سعر السلعة داخل ألمانيا. ومن الواضح إن مقدار الإضافة سالفة الذكر (س % فرضاً) تتغير بتغير العلاقة بين مستوى الأثمان في الداخل والخارج كما يتعلق بطبيعة السلعة المستوردة ومدى الطلب عليها
والشكل الثاني الذي اتخذه نظام المقاصة يجري على النسق التالي: مستورد ألماني (1) يرغب الحصول على سلعة من مصدر إنجليزي (ب). فإنه يعرض عليه إضافة في السعر الذي يشتري به زيادة عن السعر العالمي للسلعة المشتراة. والمصدر الإنجليزي بدوره - لضمان حصوله على ثمن سلعته - يبحث عن مستورد إنجليزي (ج) على استعداد أو يمكن ترغيبه (بإعطائه جانباً من الإضافة المذكورة آنفاً) لشراء السلعة التي يصدرها مصدر ألماني آخر (د). وتتم العملية كلها بحدوث المقاصة بين (ج) و (ب) بالإسترليني وبين (ا) و (د) باليشمارك!
الشكل الثالث للمقاصة هو نظام ماركات الأسكي، ومضمونه أن المصدر الأجنبي الذي يبيع سلعته لألمانيا يتقاضى نضيرها اعتماداً بماركات الأسكي. وهذا النوع من الماركات يمكنه بيعها - بخصم كبير - لمستورد السلع الألمانية. وبهذا يستطيع أداء ما اشتراه من ألمانيا بهذه الماركات. ولما كانت ماركات الأسكي هذه لا يتأنى بيعها إلا بعد دفع جانب منها. فكان المصدر الأجنبي يدخل في حسبانه هذا الأمر فيزيد ثمن سلعته بما يحقق له الحصول على(443/19)
الثمن الأساسي. هذا وقد خصص لكل قطر نوع خاص من ماركات الأسكي
3 - مساوئ نظام المقاصة
العيب البارز في سياسة المقاصة كما ظهر تطبيقاً في ألمانيا هو تعقد أوجهها وتشابك مناحيها وعظم تكاليفها، عوامل كان لها أثر بالغ في الحد من تقدم تجارة ألمانيا الخارجية. يضاف إلى ذلك أن تقييد الواردات مع زيادة الطلب على المواد الخام قد حتم تقييد توزيع هذه المواد داخل ألمانيا، وتطبيق اتفاقات المبادلة والمقاصة في تجارة ألمانيا الخارجية معناه تقليل نصيبها من القطن الأمريكي والصوف الأسترالي وغير ذلك من حاصلات البلاد التي تعتنق مبدأ حرية التبادل. وفي كثير من الحالات كان التباين كبيراً بين المواد الأولية موضوع المقاصة والمواد التي تتطلبها حاجات للصناعة. وهذا ما ظهر أثره واضحاً على صناعة المنسوجات الألمانية بسب احتياجها إلى المواد الخام واختلاف نوع المواد المستوردة عن المطلوبة من الجهة الأخرى.
وأخيراً فإن تقرير سياسة القيمة الاسمية للمارك في الخارج جعل أسعار الجملة الألمانية أعلى من مثيلاتها في الخارج فأصبح من الضروري إعانة حركة الصادرات بشتى الوسائل. وهذا ما تحقق بقرض ضريبة على الصناعة بلغت في عام 1935 حوالي الألف مليون مارك أي من ربع إلى خمس القيمة الاسمية للصادرات الألمانية في هذه السنة. وقد حول الاقتصاديون الألمان تبرير هذا الأجراء بقولهم إنه تدبير اتخذ لمجابهة هبوط العملات الخارجية ولا يقصد به إغراء الأسواق الأجنبية بالبضائع الألمانية.
وإزاء هذه العيوب الخطيرة عمدت الحكومة الألمانية إلى تثبيت مستوى الأسعار في داخل ألمانيا، ومنع تصدير رؤوس الأموال منها على نطاق واسع، وذلك بأن لا تستورد إلا ما تستطيع دفعه مما تحصل عليه من صادراتها، وأن توجه صادراتها إلى تلك الأقطار التي تتقبل بضائعها، والتي ألمانيا في حاجة إلى منتجاتها. وتنفيذاً لهذه السياسة أنشأت شبكة من الإدارات لا تشرف على الواردات فحسب، ولكن على تنظيم حركة المواد الأولية داخل ألمانيا أيضاً.
4 - الميزان التجاري(443/20)
حققت سياسة توجيه السياسة والأشراف عليها الغاية المرجوة منها من توازن ميزان ألمانيا التجاري، فبينما نتج عن عام 1934 عجز في ميزان ألمانيا التجاري قدره 284 مليون ريشمارك أسفر عام 1935 عن موافقة الميزان التجاري لها بنحو 111 مليون ريشمارك، وصعد هذا الرقم إلى 550 مليون ريشمارك في عام 1936، وتعزى هذه النتيجة أساساً إلى تقييد الواردات التي هبطت في عام 1936 عن مثيلتها في عام 1934 بنحو 233 مليون ريشمارك. ويلاحظ تغير في نوع السلع المستوردة عام 1936 عن تلك في عام 1934، فقد زاد المستورد من المواد الغذائية قليلاً فشغلت 36. 6 % من مجموع الواردات في عام 1936 مقابل 34. 6 % في عام 1934. أما المواد الأولية ونصف المصنوعة فقد شغلت 55 % في عام 1936 مقابل 52. 4 % في عام 1934 في حين هبطت نسبة الوارد من البضائع التامة الصنع من 12 % من مجموع واردات 1934 إلى 9. 4 % من واردات 1936 كما كان هناك تغير ملحوظ في واردات ألمانيا. فقد زادت وارداتها من البلاد المجاورة لها وخاصة أوربا الجنوبية الشرقية وأمريكا الجنوبية بينما هبطت وارداتها كثيراً من الولايات المتحدة واستراليا وفرنسا وهولندا وروسيا
أما الصادرات فقد زادت في عام 1936 عن مثيلتها في عام 1934 بنحو 600 مليون ريشمارك، وتعزى هذه الزيادة إلى حد كبير إلى انتعاش أحوال التجارة العالمية كما يرد جانب منها إلى إعانة التصدير التي أشرنا إليها، وإذا ما علمنا أن ثمن واردات ألمانيا قد ارتفع بين عامي 1935 و1936 بمقدار 3. 8 % بينما هبط ثمن صادراتها في نفس المدة بمقدار 2. 8 % فأدركنا إن التبادل التجاري بمعناه الصحيح لم يكن موافقاً لها، مما جعل مركزها التجاري يزداد صعوبة، ولم يتح الفائض في الميزان التجاري في عامي 1936 و1937 لألمانيا إلا حظاً ضئيلاً إذ كان عليها إن تدفع فوائد ديونها الخارجية التي ارتفعي في عام 1935 إلى 550 مليون ريشمارك بسب بعض اتفاقات المقاصة مع فرنسا ويوجوسلافيا بصفة خاصة
ولقد زادت واردات ألمانيا من 4. 2 مليار ريشمارك في عام 1936 إلى 5. 5 مليار ريشمارك في عام 1937 وصادراتها من 4. 8 مليار إلى 5. 9 مليار. وبلغت زيادة صادراتها عن وارداتها 443 مليون ريشمارك في عام 1937 مقابل 550 مليون(443/21)
ريشمارك. وبهذه الزيادة في الصادر والوارد استطاعت ألمانيا أن تساهم في حركة الإنعاش العامة للتجارة الدولية في عام 1937. بيد أن التبادل التجاري ظل في غير مصلحتها بالنظر لزيادة أثمان وارداتها بمقدار 10. 2 % في حين زادت أثمان صادراتها بنحو 3. 6 % فحسب وكان الميزان التجاري غير موافق لألمانيا عام 1938 نظراً لهبوط معدل صادراتها من جهة وزيادة وارداتها من المواد الخام التي عملت على تخزينها استعداداً للحرب. ومن الأحرى بالذكر أن صادرات ألمانيا تتكون غالباً من المواد التامة الصنع التي تكون السلع الإنتاجية فيها نسبة كبيرة جداً وبالتالي فهي أكثر تأثراً بالأزمات الاقتصادية من الصادرات البريطانية مثلاً الأكثر تغيراً وشمولاً
وفي مقال تال سنشرح اتجاهات التجارة الألمانية قبل الحرب وطرائق التوسع التجاري الألماني.
فؤاد محمد شبل
مفتش تموين الإسكندرية(443/22)
علماؤنا يعودون إلى المجتمع
لأزهري الكبير
. . . وأخيراً حققت الآمال العظيمة التي طمح إليها دعاة الإصلاح في مصر والشرق الإسلامي، وتوِّج هذا الجهاد الحافل بالفوز والتوفيق، فأنصت الأزهر لهذه الدعوة الصارخة، وآمن بها، وأخذ يضيف إلى تاريخه التليد صفحات طريفة مجيدة. فمنذ أسابيع قرأنا إن عضواً بارزاً من جماعة كبار العلماء قدم إلى الجماعة اقتراحاً جديداً تشيع فيه الرغبة الصادقة في توجيه الثقافة في هذه الجامعة العظيمة وجهة جديدة صالحة تجمع بين أمرين عظيمين:
الأول: بعث روح الإنتاج العلمي، والاضطلاع بأعبائه في شتى فروع الثقافة الدينية.
الثاني: العناية بشؤون المجتمع؛ وبحث مشكلاته الخلقية والاجتماعية والاقتصادية وبيان موقف الدين الإسلامي حيالها.
ثم علمنا أن هذا الاقتراح يشق طريقه نحو التنفيذ، فأيقنا أن الأزهر مصمم على السير إلى أبعد غايات الإصلاح، مؤمن بتوفيق الله ورعايته.
ولا يخالجنا شك في إن الجماعة - وقد ضمت عناصر جديدة ممتازة - ستظفر بتحقيق هذه الآمال، وستكتب في تاريخ الأزهر الحديث أروع الصفحات. وليس هذا على الجماعة بكثير فقد عنى بها الأستاذ المراغي عناية كريمة فآثر بعضويتها أولى الكفايات من العلماء الحريصين على مسايرة الحياة إلى أسمى غاياتها، وتوجيه الحياة الاجتماعية بنور الدين وهدايته.
إن المجتمع في حاجة إلى الأزهر، والأزهر في حاجة إلى المجتمع، ولا ريب في أن اتجاه علمائنا نحو المجتمع وبحث شئونه ومشاكله ستجعل الناس على بينة من دينهم، وتهديهم إلى سبل الخير والفضيلة والرشاد.
لقد مضى زمن الجدل في العقائد، والبحث النظري في القشور دون اللباب، وسئمنا الكلام في المياه التي يجوز بها التطهير والتي لا يجوز، وفي إثبات كرامة الأولياء ونفيها، وفي طبقات السماء أمن فضة هي أم من ذهب، إلى غير ذلك؛ وهانحن أولاء نشاهد إشراق عهد جديد يشارك فيه علماؤنا الناس، وينزلون من عزلتهم التقليدية إلى حيث يسير الناس(443/23)
وتتحرك الحياة، ويضمنون شؤون المجتمع ومشاكله نصب أعينهم، ويقفون منه موقف الناصح الأمين.
ولعمري لقد ملئ الإيمان قلوب الناس، بل وعقولهم يوم كان الدين روحاً وعقيدة وخلقاً وعملاً. ولم يمتحن المسلمون بأعظم من الجدل في العقيدة والخلاف في الدين، حتى انحل ما كان معقوداً من ألفتهم، وخمد ما كان متأججاً من روحهم. ولقد ظهر الغزالي في عصر مفعم بالفتن والاضطرابات والجدل والخلاف، فدعا الناس إلى دين الله بلغة العاطفة والقلب حين رأى الدعوة إليه عن طريق الخصومة والجدل داعية فتنة وثائرة ضلال؛ ولكن الغزالي يأس من المجتمع لأنه كان يود أن يراه مجتمع ملائكة أبرار لا مجتمع شياطين أشرار، فزهد في الحياة، وعزف عن المجتمع، واعتزل الناس، إيثاراً لسلامة الدين والنفس وبعداً عن شرور المجتمع وسيئاته؛ وقلده في مذهبه الاجتماعي أصحابه ومريدوه، فظلت تلك الروح نزعة لعلمائنا حتى العصر الحديث.
ولقد كانت أسمى غاية للأستاذ الإمام محمد عبدة من إصلاح الأزهر أن يحمله على الاندماج في المجتمع، والتغلغل في أعماقه، والسمو به - عن طريق الإرشاد والتهذيب الديني الصحيح - إلى أبعد ما يستطاع من غايات؛ وكان يريد من وراء ذلك أن يذكى في الأمة الإسلامية روح القوة والفضيلة، وأن يدفع بها إلى الحياة الكريمة العزيزة، لتستطيع أن تذود عن حريتها، وتحافظ على تراثها المسلوب، وحتى يتسنى لها - إذا تابعت السير في هذا المضمار - أن تستعيد ما كان لها من مجد باذخ وجلال قديم، فتسير في قافلة الحياة البشرية داعية خير وهدى وسلام. ولقد أبى الأزهر حينئذ أن يستجيب لدعوة الأستاذ الإمام، وآثر أن يعيش في ظلام الجمود والحيرة عزوفاً من جديد الذي كان يؤمن بأنه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. . .
وبعد ربع قرن من وفاة الأستاذ الإمام تكشف غيوم الحيرة، وخضدت شوكة الجمود وحماته، وألقيت مقادة الأزهر في يد تلميذ من تلامذة الإمام، فأخذت دعوته طريقها إلى قلوب الأزهريين وعقولهم، وسرت في الأزهر روح جديدة، وأيقن رجالاته بضرورة الإصلاح، وإن اتجهوا في ذلك وجهات مختلفة متباينة. . .
فليعد علمائنا إلى المجتمع حاملين في ظلمات الحياة الاجتماعية نور الدين وهدايته، ناشرين(443/24)
في ضلال الحياة الإنسانية دعوة الله ورسالته، هادين الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم. . .
(باحث)(443/25)
بحث مقارن
الوضع الاجتماعي للمرأة في الإسلام
للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
(6) الدين الإسلامي قد قرر استقلالا المرأة بمالها وبحريتها في حدود معقولة لا حرج فيها ولا تضييق. فالمرأة المسلمة تعتبر من الناحية القانونية الشرعية حرة فيما تملك من مال وعقار، لا يمنعها مانع من التصرف بأي نوع من أنواع التصرفات، ويجري عليها في ذاك ما يجري على الرجل سواء بسواء، وهما أمام القانون سواسية كأسنان المشط مهما كانت درجة قرابتها به، وانتسابها إليه، كما أنه ليس لزوجها أن يطلع على أسرارها إلا إذا حدث منها ما يوقعه في الشبهة، ولا يسافر بها إذا شرط لها أن لا يخرجها من بلدها.
(7) وقد ترفق الدين الإسلامي بالمرأة مما يتناسب وكرامتها وعفتها، وظروفها الاجتماعية، ولها فيه أحكام خاصة بها من طهارة، وصلاة، وصيام، وحج، وزواج، وطلاق، وجهاد، وشهادة وحداد، وكل ما يتصل بشؤونها.
(8) والمرأة في الإسلام غير مكلفة بتعلم ما لا حاجة لها به في دينها وبيتها الذي ألقيت إليها مهمة إدارته وتدبير شؤونه على أحسن وجه. وليس لولى أمرها أن يلزمها طلب القوت، وإذا كانت لا عائل لها فلا يمنعها من أن تتعلم ما تريد لا لتنافس الرجال ولكن لتعيش. وتحبيها لها في وظيفتها التي هيئتها الطبيعة لها قال رسول الله (ص) مخاطباً النساء جميعاً:
(مهنة إحداكن في بيتها تدرك جهاد المجاهدين إن شاء الله). ولعلي لا أجاوز الصواب إذا قلت إن تعليم المرأة علوم الرجال يفسد أنوثتها فساداً لا يمكن إصلاحه، ولا حتى تخفيف آثاره. وإذا كانت حياتنا الاجتماعية المضطربة قد سمحت لنفر من الكتاب المنافقين أن يضللوا المرأة، ويخدعوها، ويحرضوها على الالتواء عن وظيفتها الطبيعية وعلى أن تلج أبواب الجامعة والمدارس العالية حباً في العلم ذاته فأنهم بذلك يقولون بألسنتهم ما لا يؤمنون به في قلوبهم. فهم أنفسهم الذين عادو، بعد إذ لبت المرأة دعوتهم بعد تأثير إغرائهم،(443/26)
يصرخون مما ترتب على تلك الحال من مآس موجعة، وظلال كبير، وينذرون المجتمع بالويل والثبور! وبجوار هؤلاء الداعين الزاعقين فريق أخر يتظاهر بالرصانة ولكنه لا يقل عنه خطراً إذ يهدئ الروع كذباً، ويطمئن النفوس عن غش وملق، ولو كشف عن نية هذا الفريق الأخير لوجدت ما يقصده هو إن الذي يفزع منه الناس اليوم سيصير في اعتقاد الجيل القادم شيئاً عادياً، لاشيء فيه، وهو تطور حقيقي في نفسية الشعوب! وليس أدل على صواب العقيدة الإسلامية وبعد نظر الإسلام من أقوال بعض أساطير أوربا ودهاقينها في كل العصور. فقديماً قال نابليون العاهل الفرنسي العظيم (إن التعليم العام لا يتفق وطبيعة المرأة لأنها لم تخلق لتعيش بين الجماهير؛ فأن الزواج وتدبير شؤون البيت هما أجمل ما تحلم به كل امرأة غير شاذة). وقال حكيم أوربي (إن أماً صالحة لخير من مائة معلم) وقال فيلسوف فرنسي (آني لا أعترض على زوجة جاري إذا رأيتها تحرق رأسها وتمزق أصابعها في الكتابة والتأليف، ولكنى لا أريد من زوجتي ألا تعرف سوى حياكة الملابس وإتقان طهي الطعام). وما أبلغ قول من قال منهم إن المرأة التي تقلد الرجال ترتكب خطأين في وقت واحد؛ فهي تزيد عدد الرجال الآثمين، وتنقص عدد النساء الصالحات!)
ومن الغريب إن وزارة المعارف تتجاهل فيما تتجاهل هذه الحقيقة؛ فهي لا تهتم بتهيئة الفتاة للقيام بوظيفتها الطبيعية اهتمامها بحشو رأسها الصغير بعلوم لا حاجة لها بها، وتجعلها مغرورة بنفسها، غير ملمة بمهمتها الأصلية وهي (البيت) أولاً وآخراً. فالفتاة التي تقتصر على التعليم الابتدائي أو الأولى لا تدري قليلاً أو كثيراً عن ذلك البيت الذي ينتظرها، والزوج الذي يحلم بها. وتشاركها في ذلك أختها التي تلج أبواب الجامعة. آما المدارس التي تلقن الفتيات التدبير المنزلي، أو الثقافة النسوية فهي قليلة، ولا توجد إلا في مدن تعد على أصابع اليد. ووزارة المعارف ترتكب بذلك، ولا شك، في حق أمهات المستقبل خطأ لا يغتفر!
9 - ولما كان الله قد اختار لكل دين خلقاً فقد جعل خلق الإسلام الحياء. والله سبحانه وتعالى لم يفعل ذلك عبثاً، فعصمة المرأة في حيائها، وخروجها عن ذلك الحياء يكلفها الكثير من التضحيات المرة التي لا قبل لها بها. فالمرأة التي تبدو في الطريق شبه عارية، وتخالط الرجال في المجتمعات الصاخبة مخالفة للحياء وموقظة للفتنة النائمة. ومحط(443/27)
أنظارهم، وهدف اهتمامهم مهما تنكرت، وهي مزهوة بذلك مهما أنكرت! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عدوا بين أنفاس الرجال والنساء فأنه إذا كانت المعاينة واللقاء كان الداء الذي ليس له دواء) وقال: (والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان بينهما). وسأل يوماً إحدى بناته: (أي شئ خير للمرأة؟) فقلت: (ألا ترى رجلاً، وألا يراها رجل) فضمها النبي إلى صدره وقال: (ذرية بعضها من بعض). والدين الإسلامي يتشدد في المباعدة بين النساء وغير محارمهن من الرجال لا يريد بذلك إن يحجر على حريتها، ولا أن يحرم عليها التمتع بمباهج الحياة جميعاً، وإنما يبغي صونها من كل سوء لأن سمعتها تتأثر من كل شئ. والذين يخدعونها عن هذه الحقيقة لا يرحمونها إذا علق بها أقل شك، أو لحقت بها أدنى ريبة! وليس المخلوق أرحم أو أعلم بالمرأة من خالقها الذي صنعها. والدليل على ذلك كثرة حوادث الطلاق بين الطبقات أو الأسر التي لا تبالي بتقاليد دينها، وتركت الأمر فوضى بين أفرادها. وإلا فليذكر لنا أولئك السادة أي شئ أفادته المرأة المسلمة من تمزيق نقاب الحياء، وهجرها لبيتها، واختلاطها بالرجال؟ وليقارنوا مقارنة بسيطة بين مركزها الاجتماعي على هذه الحال، ومركزها الاجتماعي الذي حدده لها الدين!
وعليه فليس في التزام المرأة المسلمة لبيتها، وعدم اختلاطها بالرجال الأجانب عنها خمول ولا ذله ولا حرمان من مباهج الحياة وإنما فيه انصراف إلى واجبها، ومحافظة على سمعتها، وتعفف عما يؤذي كرامتها ومستقبلها. وفي حدود حريتها المعقولة تستطيع إن ترقى، وتتذوق متع الحياة، وتتعلم، وتأخذ بأساليب المدنية الحديثة الرفيعة.
10 - وبأخذ بعض الناس على الإسلام تقريره حق الطلاق أو الخلع أو تعدد الزوجات. وهم لو علموا حكمتها وقيودها لأدركوا أي ضمان وضعه الإسلام بذلك لتقوية أركان الأسرة، ولسلامة بنيان المجتمع.
قال الله تعالى: (الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وقال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن). وقد ورد في القرآن الكريم آيات أخرى تدل كلها على مشروعيته. أما عن السنة فقد روى أن النبي طلق إحدى زوجاته ثم راجعها. وقد طلق فريق كبير من الصحابة نسائهم، منهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وقد شرع الطلاق للتخلص من رابطة الزوجية عند تباين الأخلاق، وعروض البغضاء(443/28)
الموجبة عدم إقامة حدود الله بحيث يفوت الغرض المقصود من الزواج وينقلب مضره. فالناس مفطورون على التمايز والاختلاف في وجوه الرأي، ومجهولون على الحب والبغض. والزواج قبل كل شئ هو اندماج رجل وامرأة اندماجاً كلياً بقصد التعاون على الحياة. ولما كان من المستحيل أن يندمج كل رجل مع كل امرأة، كما أنه ليس من الميسور أن يتعرف كل رجل على المرأة التي تناسبه، فقد جعل الطلاق والخلع فرصة لكل زوجين إن ينفصلا عندما يكون الانفصال أمراً لازماً حتى لا يتحرجا في الوقوع من المحظور، فضلاً عما تجلبه العشرة الإجبارية من شقاء وعذاب لا حد لهما. والزواج عقد يجب أن تصان به حرية المتعاقدين الكاملة في الإنشاء والإلغاء مع تقييدها بما لا يخرج عن دائرة المنفعة. فإلزام زوجين متباغضين استحكمت بينهما حلقات النفور الموجع قد يكون، من الوجهة الاجتماعية والإنسانية والخلقية، نكبة أكبر من نكبة السماح لهما بالفراق.
ولكن لما كان الطلاق في حد ذاته مع فائدته ومشروعيته آثار عنيفة، فقد رتبت الشريعة الإسلامية ما يخفف من حدة هذا الضرر فضلاً عن تزهيدها الناس في استعمال هذا الحق، حتى لا يساء استغلاله وتفوت حكمته. فقد شرط لإباحة الطلاق قيام الحكمة التي دعت إلى تشريعه، فإذا لم تقم كان إيقاع الطلاق محرماً شرعاً. قال الله سبحانه وتعالى: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا): أي فلا تطلبوا الفراق؛ وقال الرسول: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)؛ وقال: (لعن الله كل ذوَّاق مِطلاق). ويقاس على الطلاق الخلع الذي أبيح للزوجة بمقتضاه أن تفتدي بنفسها عندما لا تجد في الزواج ما كانت تنشده، فتشعر بالحرج في البقاء مع زوجها، ويستخلص بعض الفقهاء من ذلك كله أن الأصل في الطلاق الحظر والإباحة، استثناء زيادةً في تقييده وتضييق حدوده.
وليس أصدق شاهد على ضرورة الترخيص للزوجين بالطلاق أو فصم عري الزوجية عند اللزوم من مخلفة غير المسلمين لشرائعهم، وتحايلهم على نصوصها فيما يختص بتحريم الطلاق!
ثم أن الشريعة الإسلامية قد جعلت الطلاق آخر حل ينتهي إليه الزوجان، فقد أشار الله تعالى بالتحكيم بين الزوجين فيما يقع بينهما من الشقاق، حتى إذا لم يفد ذلك، كان الطلاق على يد جماعة من أهله وجماعة من أهلها؛ وفي ذلك نزلت الآية الكريمة: (وإن خفتم شقاق(443/29)
بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، إن الله كان عليماً خبيرا)؛ وقد أسلفنا قول عمر بن الخطاب عن (مجلس التحكيم)
أما مسألة تعدد الزوجات، فان أساس تشريعها قوله تعالى في سورة النساء: (وإن خِفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فأنكِحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورُباع، فإن خِفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا)؛ وقد فسر الفقهاء هذه الآية التشريعية تفسيرات شتى متباينة، ولكنها تجتمع كلها عند نقطتين بارزتين مهمتين هما:
الأولى: إن التزوج بأكثر من واحدة إلى أربع مباح ابتداءً
الثانية: إذا خاف الرجل الجور وعدم العدل بين نسائه إذا تعددن، يحرم عليه التزوج بأكثر من واحدة
وعلى ذلك يكون الأصل الثاني قيداً للأصل الأول، وهذا القيد مقصود به منع اضرر الذي ينشأ عن استعمال حق التزوج بأكثر من واحدة. ويتبين ذلك من قوله تعالى: (ذلك أدنى ألا تعولوا): أي أقرب من عدم الجور والظلم؛ وهذا يطابق ما تتقيد به كافة الحقوق في الشريعة الإسلامية
وبالرغم من أنه قيل: إن الحرمة الناتجة عن خوف الجور بين النساء إذا تعددن لا يترتب عليها بطلان عقد الزواج شرعاً، فإن لولى الأمر ديانة أن يراقب استعمال هذا الحق، ويحول دون استغلاله في عكس ما قصد منه، لأن الله يزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن، فقد نتج في استعماله مفاسد جمة. وقد وضعت وزارة العدل سنة 1928 مشروعاً لتعديل بعض أحكام الأحوال الشخصية، اشتمل على تقييد استعمال حق التزوج بأكثر من واحدة بما يتفق وحكمة الشرع وروح نصوصه؛ وقد تضمنت ذلك المواد الثلاث الأولى من المشروع، ونصها:
المادة الأولى - لا يجوز لمتزوج أن يعقد زواجه بأخرى، ولا لأحد أن يتولى عقد هذا الزواج أو يسجله ألا بإذن من القاضي الشرعي الذي في دائرة اختصاصه مكان الزوج
المادة الثانية - لا يأذن القاضي بزواج متزوج إلا بعد التحري وظهور القدرة على القيام بحسن المعاشرة والأنفاق على اكثر ممن في عصمته ومن تجب نفقتهم عليه من أصوله وفروعه(443/30)
المادة الثالثة - لا تسمع عند الإنكار أمام القضاء دعوة زوجية حدثت بعد العمل بهذا القانون إلا إذا كانت ثابتة بورقة رسمية
وكان المشروع يتضمن مادة أخرى في هذا الباب حذفت منه أخيراً؛ وكان نصها: (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر، أو بغرامة لا تزيد على عشرة آلاف قرش، أو بهما معاً المتزوج الذي يخالف المادة الأولى، وكذلك من يتولى عقد هذا الزواج أو يسجله)
ويبدو من نصوص هذا المشروع بقانون أن المشرع قد أصاب الهدف الاجتماعي والإنساني العائلي الذي يرمي إليه الدين الإسلامي؛ فلم يقصد منع استعمال حق وإنما يقصد تنظيمه بما يتفق والحكمة التي دعت إليه. وقد أشارت الوزارة إلى ذلك في مذكرتها الإيضاحية. وقد قال الله سبحانه وتعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). وقديماً قال الفقهاء: (إن الزواج عند العجز عن النفقة محرم). ولكن المشروع السالف الذكر لم يصدر بسبب مهاجمة بعض العلماء له، وعند تهيؤ ذهن الرأي العام الإسلامي لمثل هذا التنظيم الاجتماعي العصري في المسائل الدينية وهو ما يسمى (السياسة الشرعية). وإذا علمنا إن مهاجمتهم للمشروع لم تنصب على ضرورة التقييد حق التعدد وإنما على عدم جواز وضع هذا التقييد بيد الحاكم أو القاضي، بحجة أنه أمر شخصي اعتباري من المتعذر تحديده بواسطة الغير. والرأي الأصح الذي يميل إليه جمهرة العلماء المصريين هو أن التعدد ليس حقاً مطلقاً، وإنما هو حق معلق على قيام سبب يدعو إليه، وأن الرجل إذا أساء استعمال حق له فإن لولي الأمر أن يحول بينه وبين ذلك بما له من ولاية سد الذرائع اتقاء للضرر قبل وقوعه. وعلى هذا الأساس شرع الحجر على السفيه المبذر. ومن هذا كله يتبين مدى سماحة الشريعة الإسلامية، والضلال الذي يسير عليه بعض المسلمين والتي هي منه براء
وحق التعدد في حد ذاته إذا ما استكمل الشروط اللازمة لاستعماله في الحدود السالف ذكرها، ليس فيه من الضرر الذي يصوره أعداء الدين الإسلامي، فقد تدعو إليه ضرورة ماسة، ويرتفع به حرج يقع على الزوجة إذا طلقت بسبب المرض أو العقم أو غير ذلك من الأسباب التي تجر إلى المحظور
النتيجة:
يلخص مما قدمنا إن الدين الإسلامي وضع المرأة من الناحتين الشخصية والاجتماعية في(443/31)
أحسن وضع وأرحمه وأعدله وأيسره.
ولا مشاحة في أن بين المسلمين من أساءوا إلى دينهم بفساد تطبيقهم لنصوصه، وجمود تفسيرهم لروحه، وإن المرأة المسلمة لو أتبعت أحكام دينها، وأنصفها الرجل الأنصاف الذي تمليه تلك الأحكام لما أصابها حيف، ولما عاقها ذلك مطلقاً عن رقي صحيح رفيع. فدينها فضلاً عن تقريره لحقوق لا تنالها أخت لها من أي دين وملة جعلها جوهرة بالغ في صيانتها من كل عبث واستغلال. وإذا كانت المرأة الأوربية قد نالت نصيباً كبيراً من الاحترام بفضل تعليمها فإنها لا تتمتع في شرعيتها، ولا في قوانين بلادها بمثل الحقوق الرائعة التي قررها الإسلام. وقد اضطرت إزاء ذلك إن تعوض ما فاتها من حقوق بالحرية الواسعة النطاق التي حصلت عليها، والتي لا ضابط لها م مما أدى إلى حرج مركزها الشخصي، وفقدانها ما هو أعز من هذا القدر الزائد من الحرية، ومما نتج عنه من تفكك عري الأسرة الأوربية، وانهيار المجتمع الغربي تفككاً وانهياراً كانا الشرارة التي أشعلت لهيب الحرب المدمرة الحاضرة. وأظنني لست بحاجة إلى تذكير حضرات القراء بقول بيتان رئيس الدولة الفرنسية، بعد سقوط فرنسا الأخير، ولا بما فعله بعض ساسة أوربا وزعمائها من رد المرأة إلى بيتها لتقوم بمهمتها الأصلية، وتضيق حريتها تضيقاً تمليه مصلحتها الخاصة، ومصلحة المجتمع عامة إنقاذاً للأسرة والأمة معا.
محمد عبد الرحيم عنبر
مفتش بوزارة الشئون الاجتماعية(443/32)
قيمة الحرية
للصحافي العالي ويكهام استير
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
(تتمة)
إذا ما غلب علي ظن الهيئات العادية من أولئك القوم الذين ينعمون بما لهم من رصيد في صناديق التوفير أو ممن يحيون حياة طيبة في أكواخهم أو ممن يهنأهم ما جمعوا أو جمع لهم من ظارف أو تليد، إن ما بيدهم على وشك أن يزول عنهم، ثم تركت لهم الحيرة بين نظامين أحدهما يضيع على الناس أموالهم وحريتهم، والأخر يميل إلى الاستبداد بهم والتضييق على حريتهم، لانصرفت رغبتهم إلى ثاني المصيرين، وفضلوا أن يضحوا بحريتهم في سبيل الاحتفاظ بأموالهم. وعندي إن هذه الرغبة هي من منبع الضلالة وعماد ما يتهدد الحرية عموماً وحرية الصحافة ضمناً من إرهاب أو طغيان هو أكثر أساليب الاستبداد تضليلاً للعقول البشرية، إذ لو ترك لأمثال هؤلاء الناس أن يدركوا ما سيسوقهم إليه خيارهم من مصير لعرفوا انهم سوف يندمون على ما صنعوا ولات ساعة مندم. وسوف تتكشف لهم الحقيقة عن أن خسارتهم في حرية التملك لم تكن بأقل من خسارتهم في حرية التفكير وحرية التصرف وحرية القول ونقائص ذلك النظام الذي يخلعون عليه اسماً غامضاً فيدعونه (بالنظام الرأسمالي) قد ترجح أولاً ترجح على فضائله. إلا أنه في الأمم التي احتفظت بنظامها النيابي الديمقراطي وبالتالي بحرة صحافتها ما زال (للرأسمالية) فضلها في ترك نقادها أحراراً في نقدها إياها، وبعون من النقد العام يتهيأ للإصلاح أن يقلم أظفار (الرأسمالية) ويخفف من غلوائها في استعمال حقوقها استعمالاً مضراً بالآخرين أن لم يسعه أن يضع الأمور في وضعها العادل. فإباحة النقد كما سبق لي بيانه هي سند الحرية في الجماعات التمدنية أو هي كما عبر عنها أحد خدام بريطانيا الممتازين: (ما لنا من حق في أن نقول لأية حكومة كائنة ما كانت لقد ضقنا بك ذرعاً فإلى صقر) فلا ضمان لحرية شخصية، ولا أمل في تحقيق نجاح، ولا عاصم من طغيان، ولا أثر فعل للآراء الخاصة، ما لم تتوفر لنقد حرمته وحريته.(443/33)
والهيئات الاجتماعية الحرة الني ظفرت من حريتها بقسط كبير تنادي به صحافتها، ويجري على ألسنة جماهيرها في الطرق العامة، ويفصح عنه من يمثلها من نوابها تحت قبة دار النيابة بوسعها وقتما يكون الصالح العام بحاجة إلى تعديل الأساليب أو تغيير النظم أن تتخلص من حكامها وتغير قوانينها من غير أن تحدث حدثاً خطيراً أو توقدها ثورة شعواء. بينما نرى الأمر في الأمم الاستبدادية وهو يجري على غير هذا الوجه إذ لا يتيسر لها تغيير النظم وإصلاح المناهج إلا إذا تمرد الشعب على حكامه، فاشتعلت فيها نيران الثورة. ووثبت القوة الناقمة لمناهضة القوة الغاشمة.
وقد يتهيأ للنظم الاستبدادية في وقت ما وفي ظروف استثنائية خاصة تمليها الضرورة القاهرة أن تكون أكثر نفوذاً وأوفر كفاية من النظم الديمقراطية. إلا إن مثل هذا الفضل الموقوت لا يقتضي حتماً إن الديمقراطيات التي تضطلع شعوبها بشئونها العامة، وتوجهها صحافة يقضه جريئة سوف تضل دائماً وهي أقل كفاية واستبداداً من النظم الاستبدادية
ولا زال الحق الذي لا مريه فيه شاهد عدل على إن ما يتقيد به السلطان في الأمم الديمقراطية من قيود، وما يستنفذه من وقت بين الاعتراف بما يجب أن يكون والقيام به فعلاً عندما تنادي المصلحة العامة بوجوب التعديل أو التبديل هو من قبيل التعمق في التقوى والتحرز من أهوال الطفرة ونكبات الانقلاب
وما زال قيد النظر ومحك التجارب حتى في المسائل المتعلقة بالحياة أو الموت، كالحروب مثلاً ما إذا كانت الديمقراطيات الحرة كنظم سياسة أقل شأناً من تلك الجماعات التي تتنزل عليها الأوامر من عروش قادتها. ومع ذلك ما كانت الديمقراطيات هي الخاسرة في الحرب العظمى الماضية، ولو أن حاجتها الخطيرة إلى انسجام الرأي ووحدة القيادة في تلك الأوقات العصيبة كان من شأنها أن تنتهي بها إلى مصير موجع فاجع يفقدها أمنها وسلامها ويوردها موارد الهلاك
وعندي انهم من ممكن صياغة جميع المسائل المتعلقة بقيمة الحرية في أسئلة ثلاثة:
هل الشخصية الحرة كعنصر من عناصر الحياة البشرية أنبه شأناً وأنفس قيمة من تلك الشخصية التي تنطبع وتتشكل وفقاً لمشيئة القائد الأعلى الحاكم بأمره في مصادر وموارد الدولة الاستبدادية المطلقة؟ وهل يتوقع لإرادة الفرد الحرة أن تخطو بمصالح البشر إلى(443/34)
الأمام أكثر مما يتوقع لأرادته التي تشب عليها من المهد إلى اللحد على نهج موضوع يصيرها خاضعة لكلمة القيادة العليا خضوعاً غبياً، ومطيعة لأوامر الزعامة طاعة عمياء؟
أو ليس هنالك من ضرر يتهدد الجنس البشري ومن خطر على تقدم المعارف أو انتشار الثقافة ومن خوف على كل شئ نفهمه عن طريق (المدنية) بنشوء هذه الجماعات الغفيرة التي تسير في مناهجها على نمط واحد وتجري في تفكيرها على أسلوب واحد وتنطلق خائفة مذعورة كقطيع من الغنم أمام راعيها؟
وما زال رهن الدراسة وقيد البحث منذ زمن بعيد ما إذا كان عقل الفرد كعنصر من عناصر كيان الحياة البشرية وتوفير الحرية له في التفكير والاستنتاج وتكوين الرأي أغلى قيمة وأكثر نفعاً من عقل هذا الخليط من الكائنات البشرية أو ما يسميه هتلر (بوحدة القطيع)، وعنده أن اتحاد الشعوب البريطانية في الحرب العظمى الماضية كان نتيجة طبيعة لما امتازت به من (وحدة عقلية)، وإن ما صادفته ألمانيا من الفشل في تلك الحرب كان جزاء وفاقاً لشتات الآراء وتقلب الأهواء في الشعوب الألمانية. وغالب أمره أنه لم يفهم إن ما نعمنا به آنئذ من انسجام العقلية كان جني تعاون أعضاء الجماعات الحرة تعاوناً صادقاً للذود عن حياضهم ولإنقاذ حريتهم وقتما ادلهمت الحروب ودق ناقوس الخطر؛ أو أنه لم يدرك أن هؤلاء المواطنين الأحرار قد تخلو عند الشدائد وبمحض أرادتهم عن حقوق كانت صعبة المنال غالية الثمن فكانت أثيرة عندهم عزيزة عليهم، وصدروا في ذهابهم عنها أو ذهابها عنهم عن وجدان سليم وشعور طليق من تكريس حياتهم للصالح العام، وهو شعور كريم لا يتغلغل إلا في نفوس أفراد مارسوا مسائل الحرية مراساً حكيماً وطالت خبرتهم بها فألفوا الاضطلاع بمسؤولياتها. ولقد كان من نتيجة هذا الفهم الخاطئ أن شرع هتلر شريعته عن وحدة عقلية العشائر الألمانية على نهج من الطغيان والاستبداد؛ إذ فرضها على الجماعات جبراً وحملهم عليها بالدعاية تارة وبمجرد الإرهاب تارة أخرى، ظناً منه أن مثل هذا النهج قد ينهض بديلاً عن الانسجام الحر والتعاون الطليق في الشعوب الحرة
وشريعة هتلر هذه لم تكن في مناحيها الحربية والسياسية بأجنبية عن جبلة الشعب الألماني، فهي على استعداد لأن تخضع لسلطان النظام وتتحرك في كتل بشرية مرسومة. وليس في(443/35)
هذه الشريعة من جديد بالإضافة لتك الفطرة الألمانية. إلا إنها قد قضت على حية الرأي وحرية المعرفة وحرية الاستقراء وحرية النقد، تلك الحريات التي اشتهرت بها الفلسفة والعلوم الألمانية وشيدت على أساسها في الأزمان الخالية
إن تقدم المجتمع الإنساني كما أفهمه لم يكن نتاج نظر (الكتل البشرية) أو جنى العمل على توحيد (عقلية الشعوب). وتلك الخطوات التي خطاها الإنسان من بربريته الأولى إلى ما ينعم الآن من مدينته بل وحتى ما تهيأ له من أصغر نصيب منها كانت ثمرة تفكير أفراد عظماء نادوا بها ومهدوا السبيل إليها
وقوام الأمر من قيمة الحرية أن تهيأ لعقول الأفراد الفرصة في مناهضة الرذيلة والجهل، وإن تتقصى مظان الحق. فإذا ما صادفت منها ضالتها أشاعتها في الناس وقائع صادقة وشهدت بصحتها حقائق مقررة من غير تردد أو وجل. وأن تفسح الميدان أمام الفرد للجهاد والإنتاج. وأن تكون من الناحيتين السياسية والاجتماعية الطريق الموصل إلى الخدمة العامة
أو لا يخلص لنا أذن إنها والنظم الاستبدادية منهجان متناقضان ونقيضان لا يجتمعان، وأنها لا بقاء لها مع إرهاب الحاكم بأمره وطغيان المستبد برأيه.
وليت شعري اليوم ما هو نصيب أولئك الرجال الذين بيدهم مقود الصحافة البريطانية من أدراك قيمة الحرية؟؟ وما هو حظ قرائهم من فهم ما انطوت عليه (حرية الصحافة) من مبنى ومعنى؟؟ وحتى ما سيظل جهلهم بهذه الأمور وتهاونهم فيها عاملاً على الحط من قدر الصحافة حتى يتهيأ للشعب أن يظفر من صحافته بحاجته وغنيته؟
قد يصبح الجواب الشافي على هذه الأسئلة والعلاج الناجح لتلك الأدواء أيسر مطلباً وأقرب منالاً لو أنه تحقق لدينا أن غالبية الصحف البريطانية أو حتى أقليتها النابهة قد تولى أمرها وقام بتحريرها رجال ممن قدروا قيمة الحرية قدرها فعرفوا إنها أسمى ما يمتلكه البشر من متاع الحياة.
لقد حان لوقت لأن نرفع ذلك الغشاء البراق الخادع الذي يغشى ثوب مدينتنا (الديمقراطية) ونعمل على أن تظهر حقيقة ما انطوى عليه من لحمة نسجه. وآن الأوان ولا سيما للصحافة البريطانية وللرجال الذين يتولون أمرها لاختبار خيوط هذا الثوب ليعرفوا ما إذا(443/36)
كان قد نسج نسجاً متيناً أميناً في تلك الأيام الخالية أو أنه في وضعه الحاضر وفي حياكته تعوزه متانة الغزل، ويعيبه أنه صنع من خيوط ثياب قديمة عفا رسمها، وافتقدت قوتها.
وقد يقتضي بقاء المؤسسات الحرة والأوضاع السياسية لحرية الفرد إن تعجل بتجربتها وبحثها، وهي كما سماها (إيرل بالفور) (شريان الحياة) الهيئات السياسية بأجمعها. وليس بينها من شئ له من قوة الدلالة على ما اشتملت عليه من معانيها ومبانيها أكثر مما للصحافة الحرة منها، الصحافة التي تحرر من قوامة القيود التجارية أو الصناعية أو المالية مثلما تحرر من الخضوع لأية سلطة سياسية كانت ما كانت. ولعله ما زال هنالك متسع من الوقت أمام صحافتنا وملاكها لأن يتدبروا أمرهم، ويذكروا المواثيق التي تربطهم بالحرية وتربط الحرية بهم فيدللوا عن طريق رعاية هذه المواثيق والإخلاص لها أنهم قد ظفروا بالحل الصحيح لتلك المسألة التي تعتبر بحق (حجر الزاوية من المدينة الحديثة)
(المنصورة)
زين العابدين جمعة(443/37)
19 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
قد يزوج أهل الفتاة فتاتهم لمن يشاءون دون موافقتها إذا كانت قاصرة. ويمكنها إن تختار زوجها إذا كانت بالغة، وتعين من ينوب عنها في ترتيب الزواج وعقد العقد. والعادة أن تجتهد الخاطبة وقريبات القاصرة في الحصول على موافقتها. وكثيراً ما يعارض الأب في تزويج ابنته بمن ليس مثله من المهنة أو التجارة، أو في تزويج الصغرى قبل الكبرى. ويندر أن يستطيع العريس اختلاس نظرة من عروسه قبل أن تصبح في حوزته إلا إذا كانت من الطبقة السفلي فيسهل عليه أن يراها
وعندما تشرع المرأة في الزواج تعين وكيلاً ينوب عنها في عقد العقد. وهذا التوكيل واجب إذا كانت الفتاة قاصرة ويكون أبوها حينئذ وكيلها وفي حالة وفاته يكون أدنى الأقارب الذكور أو الوصي المختار أو المعين. أما إذا كانت بالغة فتعين هي وكيلها، أو تعقد الزواج بنفسها وذلك نادر
وبعد أن يختار الرجل عروسه طبقاً لبيان قريباته أو الخاطبة، ويعد المعدات الأولى السابق ذكرنها يقابل مع بعض أصدقائه وكيل العروس ويحصل منه على الموافقة، ثم يسأله عن مقدار المهر إذا كانت العروس قاصرة
ولابد من دفع المهر كما ذكرت في فصل سابق. ويقدر المهر على العموم بالريال باعتبار كل تسعين فضة. والريال نقد اسمي لا وجود له. ويبلغ المهر عادة إذا كان دخل العروسين متوسطاً ألف ريال، وقد لا يزيد على نصف هذا المبلغ. ويقدر الأغنياء المهر بالكيس وهو خمسمائة قرش، ويحددون المبلغ إلى عشرة أكياس أو أكثر. هذا في حالة العذراء؛ أما مهر الثيب فأقل بكثير. وكثيراً ما يحدث بعض المساومة في تحديد المهر كأي عملية مالية أخرى. فإذا طلب الوكيل ألف ريال يحتمل أن يعرض الطرف الأخر ستمائة ثم ينتهي(443/38)
الأمر بعد الزيادة والنقصان إلى ثمانمائة ريال. ويشترط دفع ثلثي المهر حالاً قبل العقد، ويدفع الثلث الأخير إلى الزوجة عند الطلاق بغير أرادتها أو وفاة الزوج
ويتم الاتفاق على هذا الأمر بقراءة الحاضرين الفاتحة. ثم يحدد يوم قريب، قد يكون بعد اليوم التالي، لدفع مقدم المهر والاحتفال بعقد الزواج الذي يسمى عقد النكاح. ويسمى إنجاز العقد كتب الكتاب، ولكن قلما توجد وثيقة مكتوبة تثبت الزواج إلا إذا كان العريس بسبب انتقاله إلى مكان آخر يخشى أن يضطر إلى إثبات الزواج حيث لا يتيسر له إحضار شاهدي العقد. وقد يتم عقد الزواج حالما ينتهي الطرفان من الأنفاق على المهر، ولكن كثيراً ما يعقد بعد يوم أو يومين من ذلك الوقت. ويذهب العريس في اليوم المحدد مع صديقين أو ثلاثة إلى منزل العروس قرب الظهر عادةً فيستقبلهم وكيل العروس وبعض أصدقائه. ويجب عقد الزواج بشهادة شاهدين مسلمين ألا إذا استحال ذلك. ويقرأ جميع الحاضرين الفاتحة، ثم يدفع العريس مقدم المهر ويعقد بعد ذلك العقد بكل بساطة. فيجلس العريس على الأرض أمام وكيل العروس وكلاهما واضع إحدى ركبتيه على الأرض، ثم يمسك كل منهما يمنى الأخر ويرفع إبهامه ويضغط به على إبهام الثاني. ويتولى تلقين الوكيلين صيغة العقد بعض الفقهاء. فيضع على اليدين المتماسكتين منديلاً، ثم يستهل العقد عادةً بخطبة لا تخرج عن بعض الإرشادات والصلوات وبعض الآيات والأحاديث التي تشير إلى فضل الزواج ومزاياه. ثم يطلب من الوكيل أن يقول: (أخطب لك (أو أزوجك) ابنتي (أو موكلتي) فلانة (ويسمي العروس) العذراء (أو العذراء البالغة) بمهر قدره كذا)، وقد لا يذكر المهر. ثم يطلب من العريس أن يقول: (أقبل خطبتها (أو زواجها) وآخذها تحت رعايتي وأتكفل بحمايتها، واشهدوا على ذلك أيها الحاضرون). ويردد الوكيل قوله هذا على العريس مرة ثانية وثالثة فيجيبه الأخير في كل مرة بما سبق. وحينئذ يقول كلاهما (والسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين آمين)؛ ويعيد الحاضرون قراءة الفاتحة. وليس للخطبة التي تتلى في هذه المناسبة كلام موضوع أو نظام معين وقد تحذف إطلاقاً. وقد يقبل العريس (ويندر ذلك إلا إذا كان من الطبقة السفلى) بعد انتهاء العقد أيدي أصدقائه وغيرهم من الحاضرين؛ ثم يقدم الشربات إليهم ويمكثون حتى تناول الغذاء. ويهدي إلى كل منهم منديل مطرز تقدمه عائلة العروس بينما يتناول الفقيه منديلاً متشابهاً تصر فيه قطع صغيرة(443/39)
من النقود الذهبية يقدمه له العريس. وتحدد ليلة الدخلة قبل انصراف الحاضرين. وتلك هي الليلة التي تنتقل فيها العروس إلى منزل العريس حيث يراها لأول مرة
ويمهل العريس عروسه حوالي ثمانية أيام أو عشرة بعد عقد الزواج على العموم، ويرسل إليها في أثناء ذلك من حين لآخر بعض الفاكهة والحلوى الخ، أو يهدي إليها شالاً أو بعض الأشياء الثمينة. وتشتغل عائلة العروس في الوقت نفسه بإعداد الجهاز. ويصرف مقدم المهر في شراء الجهاز الذي يصبح ملكا للعروس، فإذا طلقت يعاد إليها. وتدفع عائلة العروس مبلغاً أكبر قد يزيد على المهر نفسه في أعداد الجهاز، ولذلك لا يمكن القول بحق أن الزوجة تشترى؛ ويرسل الجهاز عادة إلى منزل العريس على ظهور الجمال. وكثيراً ما يشمل الجهاز كرسي العمامة الذي سبقت الإشارة إليه، وكرسي العمامة كبير الحجم بسيط الصنعة، إذ يصنع أسفله وظهره من الغاب، وهو لا يستعمل للجلوس أبداً، وقد تكون له مظلة. وتوضع العمامة عليه، وتغطى بقطعة من الحرير السميك ترصع عادة بسلوك ذهبية. وقد يحتوي الجهاز على كرسيين: أحدهما لعمامة الزوج، والآخر لعمامة الزوجة.
ويستقبل العريس عروسه في مساء الجمعة أو الأثنين، ويعتبر يوم الجمعة أسعد الأوقات. فلنقرر إذاً أن العروس تنتقل إلى عريسها مساء الجمعة، ويومئذ تضاء الشوارع أو الحي الذي يسكنه العريس أثناء الليلتين السابقتين أو قبل ذلك بالشمعدانات والفوانيس، أو الفوانيس والقناديل الصغيرة، يعلق بعضها في حبال تمتد من منزل العريس وعدة منازل أخرى إلى المنازل المقابلة على جانبي الشارع، وتعلق أيضاً مع القناديل، أو منفصلة، رايات حريرية ذات لونين: أحمر وأخضر. ويقام في منزل العريس أثناء هذه الليالي - وعلى الأخص الليلة الأخيرة التي تسبق عقد الزواج - عدة حفلات. ومن المعتاد في هذه المناسبات أن يرسل المدعوون والأصدقاء الخلص الهدايا إلى منزل العريس قبل الدعوة بيوم أو يومين: فيرسلون سكراً وبناً وأرزاً وشمعاً أو حملاً. . . وتوضع الهدايا السابقة على صينية نحاسية أو خشبية، وتغطى بنسيج مطرز أو من الحرير. وتستخدم لتسلية المدعوين فرق موسيقية ومغنيات مغنون وراقصات، أو تقام (ختمة) أو (ذكر). وتقدم العائلات الموسرة إلى الخاطبة أو إلى (داية) العائلة وإلى (البلانة) وظهر العروس - بعد إتمام العقد بيم أو يومين - قطعة من النسيج الذهبي، وشالاً كشميرياً، أو قطعة حريرية(443/40)
مصنوعة من نسيج اليلك والشنتيان؛ فتضع هؤلاء النسوة هذه الملابس على الكتف اليسرى، ويربطن أطرافها معاً على الجانب الأيمن، ويركبن الحمير وأمامهن طبالان أو أكثر، ويمررن على صديقات العروس ليدعوهن إلى مرافقتها إلى الحمام ذهاباً وإياباً، والى حضور الحفلات التي تقام بتلك المناسبة. وكلما يمررن على منزل تؤدب لهن مأدبة، إذ أنهن يعلن عن زيارتهن في يوم سابق، وتسمى أولئك: (مودنات) أو على الأصح (موذنات)، وينطقها العامة (مُدْنات)؛ وقد رأيتهن أحياناً يسرن راجلات، ولا يتقدمهن الطبالون، ولكنهن كن يزغردن بدل دق الطبول. . .
(يتبع)
عدلي طاهر نور(443/41)
الأرض. . .
للأستاذ محمد محمد توفيق
(أنطق صديقي الدكتور حسن عثمان البحر بمناجاته الرائعة
على صفحات الرسالة الغراء، وأبى أن يعود بشاعره إلى
الأرض، مؤثراُ عليها عرائس البحر وعجائبه. فنطقت الأرض
أم الكائنات بهذه الأبيات لعل الشاعر أن يعود إلى أحضان
أمه. . .)
أنا الأرضُ فوقي كلُّ حَيٍ وميِّتِ ... وما البحر إلا ملتقى عبراتي
أنا الأرض مهد الكائنات ولحدها ... فهل غفل الإنسان عن حسناتي؟
وعيتُ نداء الله في كل خلقِهِ ... وما طاف بي مسٌّ من الشُّبُهاتِ
ومن قبل خلق الكائنات عبدتُهُ ... مع الشمس والأفلاكِ منطلقات
أدورُ كما دارت وأسعى كما سعت ... مُؤَجَّجَةَ النيران، محترقات
تُطَهِّرُناَ النارُ الإلِهَّيةُ اللَّظى ... وَتَصْهَرُناَ للخير والبركات
أنا الأرض كما حَجَّتْ وفودٌ وأَعْصُرٌ ... إليَّ وكم بدَّلتُ ثوْبَ حياتي!
وكم طيِّباتٍ فوق سطحي مُشاعةٍ ... وكم من كنوزٍ فيَّ مُختَزَناَتِ
وكم من حياةٍ تملأ الروحُ كأسَها ... وتسكبها في أعظمٍ نَخِرَاتِ
وهذى العظامُ الناخراتُ أُحيلُها ... تراباً عليه تغتذي ثمراتي
أنا الأرضُ لا حيٌّ عليَّ مُخَلَّدٌ ... ولا ميِّتٌ يبقى بغير حياةِ
وما فتئَ الناموسُ عندي كتابُهُ ... فهلا وعيتم حكمتي وعِظاتي
فيا بحرُ. . . ماذا أنت يا بحرُ قائلٌ ... وما صوتك المخنوق بالعبرات؟
وما هتفاتٌ رجَّع الصخرُ شجوها ... وما قَطَراتٌ ذُبنَ في قَطَرات
وما صرخاتٌ للأواذيِّ صُعَّدٌ ... تُرَدِّدُها القيعان في الدركات
لقد هاجني يا بحرُ أنّك شاعرٌ ... وأنّك فَذُّ الشعرِ والسَّبَحاتفأنطقتُ أطوادي وأجريت(443/42)
أنْهُري=وأوحيتُ نجواها إلى هضباتي
وأسكرتُها بالراحِ من كأسِ كرمةٍ ... شهدتُ بها مَسّاً من السَّكَرَات
فيا بحرُ. . . قل يا بحرُ ما أنت قائلٌ ... فقد فاض بي بحرٌ من الكلمات
وقد طال إغفالي جمالي وزينتي ... وقد طالَ بي صمتي وطال سُبَاتي
أنا الأرض للإنسانِ أُرْسِلْتُ جَنَّةً ... عليَّ سلامُ اللهِ طولَ حياتي
وكنتُ لخلقِ الله مرعى ومسرحاً ... وما ضِقتُ بالأنعام والحشرات
فلا نملةُ تشقى إذا طاب سعيها ... ولا طائرٌ إلا يُصِيبُ فَتاتي
ولا دودةٌ مكنونةٌ وسط صخرةٍ ... ولا هائمٌ في البيد والفَلَوات
لكلٍّ نصيبٌ منْ ترابي وأنْعُمي ... وكلٌّ له حظٌّ من النَّسمات
وكلٌّ يناديني بيا أمَّ إن شكا ... فأغمره بالحبِّ والدَّعَوَات
وأشرحُ صدري للذي ضاق صدره ... وأعتنق المكدودَ بالقُبُلات
وأسكُبُ دمعي أن أبى المُزُنْ أدْمُعاً ... وأُرْسِلُ في لحن الصَّبا زفراتي
فَهُنَّ وَدِيعاتٌ عليَّ عزيزةٌ ... وَصَوْنُ وديعاتِ الإله صلاتي
فإن غربت شمسُ الحياةِ فإنني ... أشَيِّعُ أبنائي إلى الظُّلُمات
وأنشُرُ من فوقِ التّرابِ عليهمُ ... رداءً من الأعشابِ والزَّهَرات
ترابي ومائي فيهما كلُّ زينتي ... وكلُّ أفانيني وكلُّ هِبَاتي
وإنك تُلْقي جوهر الترب وِاحداً ... ويونع بالأثمار مُختلفات
فآلافُ آلافٍ من الزهر والغضا ... وآلافُ آلافٍ من الثمرات
تفيض بها أرحامُ تربٍ رحيمةٌ ... ويُرضِعها التَّهْتَانُ بالقطرات
ولي ريشةٌ في فنَّها عبقرَّيةٌ ... تُكَوِّنُ أزهاري بماء حياتي
وما طَرَّبي نبتٌ ولا هاجَ يابِسٌ ... ولا جَفَّ قِطْمِيرٌ بِشِقِّ نواةِ
ولا حملت حُبْلَى ولا خفَّ حملها ... ولا دَبَّ مسجونٌ من اليَرَقات
ولا سَقْسَق العصفورُ والطلُّ بارقٌ ... ولا هاجرت طيرٌ إلى القَمَرَات
ولا حَلق النَّسْر الكُميْتُ مُصَفِّراً ... ولا أنقض مسعُوراً على الوُكُنات
ولا أطبقَتْ أنيابُ لَيْثٍ غَضَنْفَرٍ ... على رَشَأٍ من ساكني الأَجَماتِ(443/43)
ولا إنبَجَسَ الماءُ الزلالُ من الصَّفا ... ولا فاض يَنْبُوعٌ من الرَّبَوَات
ولا طلعت أكمامُ وردٍ وسَوْسَنٍ ... ولا أخضَرَّ رَيَّانٌ من الورقات
ولا عتَّقَتْ كرْمٌ دِنانً من الطّلي ... ولا نفخ النَّيْرُوزُ في القَصَبَات
ولا هامَ نحلٌ بالأزاهيِرِ شادِياً ... يُقَبِّلُ مَعْسُولاً من الوَجَنات
ولا عصفَت ريح الخريف بشاحبٍ ... من الورقِ الوسنانِ في الشجرات
ولا سَنْبَلَتْ حبَّاتُ قَمحٍ مُبَارَكٍ ... ولا أبْلَحَتْ عيدانَةٌ بفلاة
ولا أرْطَبَتْ إلا بميقاتِ خالقٍ ... يفيض على الأكوانِ بالرَّحِمات!
أنا الأرض أطياف الرَّبابِ مظَلّتي ... نهاراً وأسرابُ الغمام سُقاتي
وَرَيدَانَتي شعري وقيثارتي الصَّبا ... وتغريد أطيار الرّبا نغماتي
وأخطرُ في الأزهارِ وظَّاحةَ السَّنا ... وأعقد إكليلا من الخرزات
وأبْسَمُ عن لمحٍ من البرق خُلَبٍ ... وأعبَسُ بالإعصار والهبَوات
وأصرخ حتى يفزَعَ الرعدُ في السما ... وتنخلعَ الأنكالُ مرتعدات
وأغضبُ حتى يُنكِر الكونُ غضبتي ... وأبْسُطُ في صفحي يَدَ الحسنات
أنا الأمل الشَّعاعُ في كلِّ غايةٍ ... أنا الجوهرُ المكنون في الجمرات
أنا الذهبُ اللَّمَّاعُ في الترب والصَّفا ... تذيبونه بالنار والحسَرَات
تذيبونه من فرط ما تعبُدونه ... وما فيه من سحر سوى اللَّمعات
وتُسْقَونَهُ كالمُهْلِ يشوي بطونكم ... فما ذَوبُهُ إلا حميمُ طغاة
حميمٌ لمن لا يعرف الله قلبُهُ ... ويسبح في بحر من الْحُرُمات
فيا عابدي هذا الفِلِزَّ وما شَرَى ... وما ابتاعَ من جور ومن سطَوات
ويا صائغيه شهوةً في قلوبكم ... وزينة شيطانٍ وتاجَ عُتَاةِ
ويا مُرْسِليهِ في الأساريرِ صُفْرَةً ... وشُحًّا وكِبْراً جامد النظرات
وَتَبْلاً وأطماعاً وحرباً أثيمةً ... تُبيد وتُفني كلّ ذاتِ حياة
أيا عابدي هذا الفِلِزَّ وما شَرَى ... وما ابتاع من زهو ومن شهوات
رُوَيدَكُمُ هلاّ أذَبتُمْ قُلوبَكم ... وقد جَمُدَتْ كالمرو في الصَخَّرات
ويا ليت شعري كم نِداءٍ أتاكم ... وأنتم من الآثام في غَفلات!(443/44)
نداءٍ لوَ أنَّ الراسيات وَعَيْنَهُ ... لأَطْبَقْنَ من أهواله صَعِقَات
وكم من نبِيٍّ كلم الله جائياً ... وأطلق طوفاناً من العبَرات
فهلاّ خشيتم نِقمتي بعد نِعمَتي ... أُسَلِّطُهَا سيلاً من اللَّعنات
وأطلق صوتي قاصفاً الرعد داوياً ... وأنفُخُ في بوق الرّدَى صَرَخاتي
وأُرسلُ زلزالاً عليكم وَعَيْلَماً ... فَتُطبقُ أطوادي على رَبَواتي
وتندلعُ النيرانُ من كلِّ ثغرةٍ ... وتندلقُ الأهوالُ من فَجَواتي
براكين من أفواهها تقذف الرَّدى ... مُسَعَّرَةَ الأحجار، مُحْتَدِمات
تسيلُ على القيعان ناراً وحُرْقَةً ... تَصَعَّدُ منها أفجعُ الزَّفرات
وفي مثل لمح البرقِ ينهارُ عالمٌ ... من الكفر والآثامِ والشهواتِ!
أيا ساكني بيتي ذَرُونى أكُنْ لكم ... كما كنتُ أُماًّ جَمَّةَ الرّحَماتِ
ولا تفجعوني في سنين مريرةٍ ... تَدِبُّ بها الساعاتُ مُكْتَهَلاتِ
فإِني أخالُ العمرَ قد طالَ وانقضى ... وأحسبُ إن الحشر في لحظاتِ!(443/45)
البريد الأدبي
مجلس التعليم الأعلى
عقد مجلس التعليم الأعلى اجتماعه الأول للدورة الحالية في الأسبوع الماضي برئاسة معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف فأفتتح معاليه الاجتماع بخطبة ضافية من جوامع الكلام عرض فيها مشكلات التعليم المختلفة وما يراه من أوجه علاجها.
وبدأ معاليه الحديث معرباً عن سروره بتحقيق المشروعات التي أقرها المجلس في دورته الماضية وأقرها البرلمان لنظم الامتحان والقوانين المتصلة بها، ورجا أن تنتهي الوزارة والبرلمان من إقرار قانون التعليم الإلزامي ونظام المجان قريباً.
ثم تكلم عن التعليم الأولي وتعدد ألوانه بين نظام اليوم الكامل، ونظام نصف اليوم، ورياض الأطفال، وما تجره هذه الألوان من تشكيل مختلف لعقلية التلاميذ؛ وانتقل إلى الكلام عن غرض هذا التعليم وهل هو محو الأمية أو تزويد عامة الشعب بقسط من الثقافة.
وبعد ما عرض لتاريخ التعليم الأولي في مصر قال أن وزارة المعارف في عهده حاولت الاستفادة من التعليم الإلزامي واتخاذه أساساً للحياة العملية فلن توفق في بعض التجارب وكان نجاحها محدوداً في بعضها الآخر.
وعالج أسباب هذه الحالة وهل هي في التعليم الإلزامي نفسه مع ما أسداه من خدمات للبلاد في استنارة الشعب، وتنزيه عامته عن كثير من العادات السيئة، أو مرجعه إلى عوامل أخرى.
وقال بعد ذلك: أن الوزارة بحثت أوجه النقص فرأت أن تتوحد السلطة التي تشرف على التعليم الإلزامي، وإن يستبدل بنظام نصف اليوم نظام اليوم الكامل، وأن تكون مدة التعليم الأولى ست سنوات تبدأ من سن السادسة، وأن توحد خطة الدراسة، فيما خلا اللغة الأجنبية، بين التعليم الأولي والتعليم الابتدائي، فإن تعذر توحيدها فالتقرب جهد المستطاع
وانتقل معاليه إلى الحديث عن مشكلة التغذية والحالة الصحية لتلاميذ الإلزامي وأوجه علاجها وما يقام في طريقها من عقبات مالية، وترك إبداء الرأي لحضراتهم في هذه المسألة
وأستطرد إلى موضوع تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الابتدائية، وسأل: هل نأخذ برأي القائلين بعدم تعليم الطفل لغة أجنبية قبل الحادية عشرة من سنه؟ أم أن أحوال مصر(443/46)
الخاصة تقتضي التجاوز عنه والأخذ بما يخالفه؟
وبعد هذا تحدث عن معهد التربية الابتدائي وما تراه الوزارة من ضرورة أعادته؛ ثم قال: وموضوع هذا المعهد من المسائل المعروضة على حضراتكم في هذه الدورة؛ وأكبر رجائنا أن تتعجلوا درسها والبت فيها، حتى إذا أقررتموها دخلت في ميزانية الوزارة للعام المقبل.
ثم عرض للمسألة الأخيرة التي سيعرض بحثها في هذه الدورة وهي مسألة التعليم الثانوي والغرض منه ومدى نجاحه في الإعداد للجامعة وللتعليم العالي الفني وغيره
وختم معالي الوزير خطبته بقوله: إذا بحثنا هذه المسائل نكون قد حددنا أغراضنا من التعليم في حياة مصر الحاضرة، ووضعنا الأساس السليم لسياستنا التعليمية، وأعددنا أمتنا لمستقبل نرجوه كلنا زاهراً مجيداً
كيف تفسر معجزات داود وسليمان عليهما السلام
ذكر الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في العدد (442) من مجلة الرسالة الغراء، أن بعض المفسرين ذهب إلى أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء بحمده، وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح، وأن المراد من تسخير الريح لسليمان أنه راض الخيل وهي كالريح، وأن المراد من إلانة الحديد وإسالة القطر استخراجهما بالنا واستعمال الآلات، وأن المراد من الشيطان التي سخرت له ناس أقوياء. ثم ذكر أن نظام الدين النيسابوري جعل ذلك حذلقة لا داعي إليها، لأن قدرة الله في باب خوارق العادات أكبر من أن تحتاج إلى هذه التكلفات
وفي رأي أن هذه التأويلات حذلقة حقاً، ولكن النيسابوري لم يوافق في الرد عليها. فأما أنها حذلقة فلأن صاحبها لم يحمله عليها إلا إرادة حملها على غير بابها من خوارق العادات، فجرى في التفسير وراء ميله وهواه، وللتفسير أصول متبعة، وقواعد مرسومة وشأنه في ذلك كشأن كل العلوم، فليس هوى النفس من سبيل العلم، ولو اتخذناه أصلاً في ذلك لأدى بنا إلى إنكار المعجزات كلها، كما فعل بعض الناس قديماً وحديثاً. ومن المقرر أنه لا يصح تأويل النقل ألا عندما يعرضه العقل، فحينئذ يجب التوفيق بينهما بالتأويل، لأن دلالة النقل ظنية، ودلالة العقل قطعية، والواجب حمل الظن على القطع، ولا يصح العكس
وأما أن النيسايورى لم يوفق في الرد على هذه الحذلقة، فلأن معجزات الأنبياء لا يكفي في(443/47)
إثباتها الاعتماد على إمكانها وقدرة الله عليها، ذلك لأن الله تعالى يقدر على ما لا وجود له، فقدرته على معجزة من المعجزات لا يكفي في إثبات وجودها
وفي رأي أنه يجب الرجوع في معجزات داود وسليمان عليهما السلام إلى تاريخهما الصحيح، لا ألا ما أحاط بتاريخهما من خرافات التاريخ، فإذا ثبت من تاريخهما الصحيح أنهما عورضا في الدعوة إلى الأيمان، وطلب منهما هذه المعجزات دلالة على نبوتهما، كانت هذه الآيات من باب المعجزات، لأنها استوفت أركان المعجزة من خرق العادات، والاقتران بالتحدي مع عدم المعارضة. وإذا لم يثبت من تاريخهما الصحيح شئ من ذلك، كان لنا تأويل هذه الآيات بمثل ما أولت به أو غيره، ولم يكن ذلك في شئ من الحذلقة
ولكن أنى لنا هذا في عصر طغى فيه الجمود، وأسكت فيه الجامدون صوت الإصلاح، كفانا الله شرهم، وهداهم إلى ما فيه مصلحتنا ومصلحتهم، إنه الهادي إلى سواء السبيل
(عالم)
أخطاء في كتاب المنتخب
وقع نظري في (المنتخب من أدب العرب الجزء الثاني - تأليف بعض رجال المعارف -) على أخطاء في النحو والفهم في قصيدة ابن الرومي التي مطلعها:
يا أخي أينَ عَهدُ ذاك الإخاءِ ... أين ما كان بيننا من صفاءِ
1 - فأما الخطأ الأول فهو:
وأرى أن رُقعةَ الأدمِ الأحمر (م) ... (أرضاً) علّلتها بدماءِ!
فكلمة (أرضاً) خطأ واضح - والصواب (أرضٌ)
2 - أما الخطأ الثاني فهو:
تقتل الشاة حيث شئت من الرقعة (م) ... (طِباً) بالقِتْلةِ النَّكراءِ
هكذا بكسر الطاء ثم قالوا في الحاشية: طِبا علماً. . .
والأصوب بل الألين بمقام المدح، والأنسب للفن الشعري أن تكون (طَباً) بفتح الطاء أي عالماً خبيراً. وقد وجدت في (شرح ديباجة القاموس) الطبُّ بالفتح الماهر الحازق بعمله.
وجاء في (أساس البلاغة) أنا طبّ بهذا الأمر عالم به.(443/48)
كما ورد في المصباح؛ ويقال للعالم بالشيء طَبّ
وعلى هذا يكون المعنى: إنك لتقتل الشاة خبيراً عليماً بالقتلة النكراء حيث ما شئت من رقعة الشطرنج
3 - وأما الخطأ الثالث فهو:
راحةِ النفس والصيانةِ والعفةِ ... والأمنِ في حياءٍ (رُوَاء)
هكذا بضم الراء. . . وجاء بالحاشية (حياء رُواء أي جميل) والصواب: حياءِ رَوَاء. . . بفتح الراء أي حياء جم كثير
فقد سُمع حياء جم. . . ولمُ يسمع حياء جميل
حسين محمود البشيشبي
(حاشية): ورد في كلمتنا (صبري وابن دريد)
خطأ مطبعي هو: (وأما بيتان أبي بكر ابن دريد)
والصواب: (وأما بيتا أبي بكر وابن دريد. . .)
المباراة الاجتماعية لرابطة الشباب المصري
تبرع حضرة صاحب السعادة صالح عنان باشا رئيس رابطة الشباب بثلاثين جنيهاً مصرياً - كعادته في كل عام - لتوزع على حضرات الكتاب المشتغلين بالمسائل الاجتماعية. وقد رأت الرابطة أن يكون موضوع مباراة هذا العام عن (تأثير المرأة في توجيه الشعب) وقد حددت الرابطة يوم 31 يناير سنة 1942 آخر موعد لقبول إجابات هذه المسابقة، واشترطت إن تكتب على وجه واحد من الورق وألا تزيد على عشرين صفحة من حجم الفولسكاب، وأن يكتب اسم المتسابق وعنوانه على ورقة مستقلة، وترسل باسم الأستاذ أحمد إبراهيم خطاب سكرتير رابطة الشباب (بوسنة القلعة بمصر). أما جوائز هذه المباراة فسيمنح الفائز الأول خمسة عشرة جنيهاً مصرياً، والثاني عشرة جنيهات، والثالث خمسة جنيهات، أما لجنة التحكم في هذه المباراة فمكونة من الأساتذة: خليل ثابت بك رئيس تحرير المقطم وعضو مجلس الشيوخ، والدكتور أمير بقطر عميد قسم المعلمين بالجامعة الأمريكية، والأستاذ محمد مظهر سعيد المفتش بوزارة المعارف(443/49)
وستعلن نتيجة هذه المباراة في شهر فبراير المقبل عند انعقاد مؤتمر الشباب الاجتماعي بقاعة بورت التذكارية.(443/50)
العدد 444 - بتاريخ: 05 - 01 - 1942(/)
الرسالة في عامها العاشر
باسم الله تخطو الرسالة إلى عامها العاشر؛ وبغير أسم الله نورِ السموات والأرض لا يهتدي في هذا الظلام الحالك سارِ ولا سائر. والظلام في هذا الكوكب طبيعة أصيلة؛ فأناره الله بالشمس والقمر والدين؛ وأنرناه نحن بالزيت والكهرباء والعلم، حتى أوشك أن ينجاب الحلَك الغاشي عن آفاقه وأخلاقه؛ ولكن سلائل الطين لا تستضيء بصائرهم وسرائرهم بغير الدين؛ فإذا أطفئوه في قلوبهم تنفسوا الظلام فإذا الدنيا ضلال وجهل!. وإذا العالم دمار وهُلْك! وتلك هي الحال التي يكابدها الناس اليوم: ظلام في بلاد الأرض، وظلام في نفوس الناس، وظلام في وجوه المستقبل! فمن يخرج يده لا يكدْ يراها، ومن يتعلق بسبب من أمله انقطع به! ومن ينظر في صفحة الغد عمِّيت عليه! ومن لم يجعل الله له نوراً فما من نور!
الظلام! الظلام! الظلام! ذلك هتاف الأمان ودعاء السلامة في كل أمة من أمم الشرق والغرب اليوم! فليت شعري هل تأله الشر وتحكم الشيطان وصدقت المانوية؟
غشينا ظلام الغرب ولفَّنا ليلة الألْيل؛ فكأنما انطفأت في مشرقنا عين الشمس! وما كان المغرب منذ دحا الله الأرض إلا مبعث ظلمة؛ وما كان المشرق منذ أوقد الله الشمس إلا مطلع نور. فإذا دجت الآفاق واستسرت المعالم كان معنى ذلك أن الشرق قد انكفأ فلم يرسل شمسه ولم يبلغ رسالته!
والحق أن منازل الوحي من الطور والجليل وحِراء قد أصبحت ترسل أمواج النور الإلهية لغير قابل. كان لها من نفوس الأنبياء أجهزة من صنع الله تقبلها وتنشرها وتهدي بها وتدعو إليها؛ فلما خُتمت النبوة وانقطع الوحي ورث الخلفاء والعلماء رسالة الله فكانوا كورّاث الملك أو المال، منهم القاعد المضِيع، ومنهم المجاهد الكاسب. ولو شاء ربك أن يدرك النصرَ أولياؤه، ويطبِّق الأرض دينُه، لجعل الناس أمة واحدة؛ ولكن لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم!
لا تزال منازل الوحي ترسل الأمواج السماوية بالهدى ودين الحق؛ ولكن الله الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء حرم الناس نعمة القبول فاستأسدت فيهم الغرائز، وأسرفت عليهم المطامع، وتفرقت بهم المذاهب، وذاقوا من فساد النظام وطغيان الحكام ما لم يذقه الحيوان الأدنى من القتل والجوع والجور والبؤس والفوضى.
وكان الظن بالأزهر الذي قام للدين، وعاش بالدين، أن يكون لأمواج الوحي الخالد محطة(444/1)
استقبال وإذاعة؛ ولكنه انقطع عن ركب الحياة فخضع لعوادي الدهر القاهر، خضوع القلعة المحصورة للمغير القادر!
على أن هذه الحرب العالمية هي كما قلنا القيامة الصغرى؛ ومن الحتم أن سيكون بعد القيامة الخَلق الجديد والحياة الفضلى. والواقع في الظن أن الأزهر يمهد لهذا الانبعاث، ويهيئ لهذه الحياة. وما هذه الروح التي دبت في (جماعة كبار العلماء) آخر العام المنصرم إلا نفحاتُ الربيع الأولى يرسلها الفيروز لتُجري الماء في الأعواد، وتوقظ الحياة في البراعم.
لعلك تقول لنفسك: ما بال الرسالة لا تنفك تذكر الأزهر في معرض الإصلاح والنهضة، وما الأزهر في رأي أكثر الناس إلا متحف آثار ومقبرة أفكار وطلل مذاهب؟
وقولي فيما تقول أن الشرق لا ينهض إلا بالدين، وأن الدين لا ينهض إلا بالأزهر. ولست أقصد بالدين هذا الدينَ الذي يعتقده المسلم المعاصر، ولا بالأزهر هذا الأزهر الذي تراه في نظامه الحاضر؛ إنما الدين الذي أعنيه هو دين القرن الأول، والأزهر الذي ابغيه هو أزهر القرن الرابع عشر. أريد الدين النقي القوي الذي فتح الممالك، ومدن الأمم، وكرّم الإنسان، واحترم العقل، وفرض المعرفة؛ أما هذا الدين الذي يقول بعبادة الأولياء، وتمجيد القبور، وتقديس القديم، وإيثار التواكل، ومخادعة الله بالحيل، ومهاواة القادة بالنفاق، فليس دين الله؛ إنما هو دين هؤلاء الأوزاع الأتباع الذين ضلّوا وذلّوا فمزقتهم الأحداث، وأكلتهم المطامع، وأصبحوا نهباً تتقاتل عليه الدول ويعتدل بتقسيمه التوازن.
وأريد الأزهر الجديد الذي يضع لثقافة الشعب أساساً من الدين، يقوي بقوة الله، ويثبت بثبوت الحق، ويدوم بدوام الدنيا؛ ثم يقيم عليه من القواعد والنظم والأوضاع ما يقره العقل ويؤيده العلم، وتقبله العصر، وتقتضيه الحاجة؛ أما هذا الأزهر الذي يَعْلك الكلام، ويجترّ الماضي، ويقتات الفُتات، ويبطل الاجتهاد، ويعطل العقل، فهو مسجد من المساجد الأثرية لا أقل ولا أكثر.
أما بعدن فقد عوّدتك يا قارئي العزيز أن أتحدث إليك في مطلع كل عام عن بلاء الرسالة في الجهاد وعملها في المستقبل؛ وإنك لتعلم أن هذا الظلام الشامل الكثيف الذي ضرب على أبواب الغد حجباً فوق حجب، يجعل مثل هذا الحديث أقرب إلى لغو الكلام وعبث الأماني.(444/2)
فاسأل الله أن يتولانا في هذه الزلزلة العامة برحمته وفضله!
أحمد حسن الزيات(444/3)
أحلام العام الجديد
للدكتور زكي مبارك
التفت أخونا الأستاذ الزيات فرأى العام الجديد لا يخيفه إلا من ناحية (استحكام أزمة الورق ومواد الطباعة وارتفاع أثمانها إلى عشرة أضعاف)، فتوكل على الله وقرر أن (الرسالة ستستمر على نظام العام السابق من التخفيض والتقسيط والإهداء مع المشتركين القدماء؛ أما المشتركين الجُدد فيردون الاشتراك كاملاً، مقسّطاً أو غير مقسّط). وبهذا ظهر (امتياز) الصديق القديم على الصديق الجديد!
والتفتّ فرأيت العام الجديد يخيفني من ناحية غير تلك الناحية، فأنا لا أشكو غلاء الورق ولا ارتفاع مواد الطباعة، بعد أن أرجأت النظر في طبع مؤلفاتي الجديدة إلى أن تنتهي الحرب؛ وإنما أشكو غلاء العواطف وارتفاع أثمان الصدق إلى ألف ضعف لا عشرة أضعاف.
وما ظنّكم بزمان لا يبرع شعراؤه في غير الحديث عن (الرغيف)، كالذي ترون من يوم إلى يوم في بعض الجرائد والمجلات؟
ما ظنُّكم بزمان يعدّ فيه الحديث عن أحلام القلوب ضرباً من الفُضول؟
إن هذه المحنة العاتية هي الفرصة لاختبار ما عند أدبائنا من عناصر الثروة المعنوية، فيها نعرف ما عندهم من أرزاق الروح والذوق والوجدان.
أيكون الكلام عن (الرغيف) تودداً إلى أهل البطون، وهم ألوف أو ملايين؟
إن كان ذلك فأين الأريستوقراطية الأدبية وهي تسمو على الحاجيات اليومية؟
أيكون الكلام عن الرغيف فرصة من فرص القول يهتبلها من لا يصل إلى بعض الجرائد والمجلات إلا بعناء؟
إن كان ذلك فأين تصوّن الأديب عن الكلام المبذول؟
سمعت - بل علمت - أن مدرساً في (قنا) أرسل إلى جلالة الملك برقية يشكو فيها انعدام الرغيف، فماذا وقع من الخطر حتى يجوز مثل هذا الصراخ؟ وماذا نصنع لو أصبحت بلادنا وهي ميدان حرب، وقد تصير كذلك إذا طال استمراء المتحاربين لما اندفعوا إليه من استطابة الجنون؟(444/4)
وإذا استجاز (المدرس) أن ينظم القصائد الطوال في الشوق إلى الرغيف وهو مدرس يقتات بالعواطف والأحاسيس، فماذا يصنع (الفلاح) أو (الصانع) وهما شخصيتان تعتمدان في القوت على الرغيف؟
لعل الأيام أرادت أن تعلمني ما كنت أجهل، فقد طال مني التجني على الصوفية (وكانوا يدعون إلى التحرر من ربقة الرغيف) فهل كان للرغيف مثل هذه الآفة في العصور الخوالي؟
ولعل الأيام أرادت أن تقنعني بأني صرت من الحكماء من حيث لا أعرف، فقد هجرت الخبز منذ أعوام طوال، واكتفيت بما تيسر من الخضروات، بغض النظر عن اللحم الذي نأكله باسم النقد الأدبي، وهو لحم غاب أسمه عن (دولة الحاكم العسكري) فلم يفرض على من ينتاشه أي عقاب!!!
ما تهمني أزمة الرغيف، وإنما تهمني أزمة القلب
ولو كان في وزراء مصر لهذا العهد من عانى أزمات القلوب لعرف كيف يحارب أزمة الرغيف، لأن القلب هو الأساس في فهم أخطار الوجود.
الظبية تجترئ بالعشب فتستغني عن الماء، ومن أجل هذا سُمَّيتْ جازية، و (جازية) اسم من أسماء الملاح في هذه البلاد وإن لم يعرف الجمهور ما فيه من معنىً ملفوف
فإذا فقدت الظبية العشب، فكيف تعيش وبه غنيتْ عن الماء؟
لن أنسى أبداً سخرية (فاجيه) من (أفلاطون)، وفاجيه كان أكبر من اهتممت بآثاره الأدبية والفلسفية من بين أقطاب الأدب الفرنسي، وعن سيرته تعلمت أشياء هي الهادي والدليل في حياتي الأدبية، فأنا أسجل كل ما يعتلج في صدري قبل أن يضيع، ثم أقدمه للجرائد والمجلات حين أشاء، بلا تقيد بالمكان والزمان!
وفي هذه المرة أكون أعظم من أستاذي فاجيه، فقد سخر من تسامى الفلاسفة إلى ولاية الحكم وهو ينقد أفلاطون. أما أنا فأرى أن الفلاسفة هم أقدر الناس على إقامة لموازين بالقسطاس.
نحن، رجال القلم، أعرف خلق الله بما يشتجر في الصدور من الآم وآمال
كانت الحكومة إلى رجال يعيشون في حصون تقفل أبوابها بالنهار وبالليل: فلا يعرفون ما(444/5)
يعاني الشعب من ظلمات الحوادث والخطوب. . .
ولم نكن كأولئك، فنحن قوم نعيش للشعب وفي صحبة الشعب، ولنا فيه أعمام وأخوال، ولن نتجنى عليه بأي حال
ونحن مع هذا معرّضون لدسائس سود، ومن الواجب أن نبدّد تلك الدسائس، بلا تسويف، تمهيداً للوزارة التي سنؤلفها في العام الجديد.
قيل إن الزيات متأنق في الأسلوب، فهو يزاوج بين لفظ ولفظ بغير عناء؛ وأقول إن هذه النزعة تنفع في المزاوجة بين الطبقات والأحزاب، حين يمس الزيات وهو رئيس الوزراء.
وقيل إن العقاد مولع بوصل ما بين الشرق والغرب في الآفاق الفكرية، وأقول إنه أصلح الأدباء لتولي وزارة الخارجية.
وقيل إن أحمد أمين لا يجيد الكلام في غير البحث المطروق، وأقول إنه أصلح الناس لوزارة المواصلات، فلن نجدد فيها إلا بعد انتهاء الحرب.
وقيل إن المازني أول أديب حجّ بيت الله في غير موسم الحج، فهو إذن أصلح الأدباء لأن يكون سفير مصر في الحجاز، وإن قال في صلاة (زكي باشا) ما قال.
وقيل إن توفيق الحكيم يقدس (السيدة زينب) فهو إذن وزير الأوقاف.
وقيل أن طه حسين لم يُجد في (هامش السيرة) غير الحديث عن (الراهب) فهو إذن وزيرنا في بلد النجاشي.
وقيل إن محمود تيمور لا يحسن القول إلا في وصف الطبقات الشعبية، فهو إذن وزير الشؤون الاجتماعية.
ولا موجب للحديث عن الأدباء الغَدَرَة من أمثال: عبد القوي أحمد ومحمد هيكل ومصطفى عبد الرزاق؛ فقد تولوا الوزارة قبل أن يستأذنوا إخوانهم من رجال القلم البليغ!
بقي مكاني في الوزارة المنشودة، فما عسى أن يكون؟
هل أختار وزارة المعارف؟
وكيف وهي وزارة متعبة، وما تولاها رجل إلا عرف خطر المشي على الشوك؟
صار من تقاليد وزارة المعارف أن يهدم الخَلَف ما بني السلف، وأنا أكره التقلبات الكثيرة،(444/6)
وأبغض الضجيج المفتعَل، والصياح المصنوع.
يضاف إلى ذلك أني نشرت مقالات تفوق العدّ والإحصاء في شؤون التربية والتعليم، ومن الجائز أن يطالبني الجمهور بتحقيق ما اقترحت في تلك المقالات، وهنالك الخطر كل الخطر، إلا أن أروض نفسي منذ اليوم على التنصل من تلك المقترحات!
هل أختار وزارة الداخلية؟
هذا هو المركز اللائق برجل يغضب للشعب، ويثور على الاحتكار والمحتكرين.
إن توليت وزارة الداخلية - وهذا أمرٌ قريب - فسأفرض على رجال الحكومة في مختلف الأقاليم أن يعرفوا جميع البيوت وجميع الناس، ليدلوا الدولة على المستور من الثروات والنيات، وسأجعل من سلطة الشرطة جيشاً يمزق الشراذم الباغية على الأمن والنظام، وهل يهدّد الأمن والنظام بمثل الإصرار البغيض على احتكار الأقوات؟
لن انتظر حتى ينتفع الناس بوعظ الواعظين، وإرشاد المرشدين، فقد ظهر أن في الدنيا قلوباً لا يقومّها وعظٌ ولا إرشاد. لن أنتظر غير حكم العدل، والعدل يوجب أن يعرف وزير الداخلية حقيقة الثروة المدفونة في زوايا البيوت، بيوت الأغنياء والفقراء، فأنا أخشى أن تكون هذه الأيام قضت بأن يكون في الفقر تزوير وافتعال (ولم يكن المصريون كذلك في الأيام الخالية، فقد كانوا يسترون الفقر عن الأقربين قبل الأبعدين)
إن توليت وزارة الداخلية - ويجب أن أتولاها - فسأحرم العمد نعمة الثرثرة فوق المصاطب، وسأحولهم إلى جنود نافعين، فأولئك أقوام يعلمون من أمور بلادهم كل شيء، ولكنهم يكتمون ما يعلمون، فإن طووا عني ما يجب أن أعرف فسأقضي فيهم بالعدل، وهم يفهمون جيداً خطر العدل.
أليس من العار أن يصبح التموين مشكلة من المشكلات في مثل هذه البلاد؟
وكيف تكون الحال لو شاءت المقادير أن نطالب بتموين مئات الألوف من الجنود يوم يدعو الداعي إلى الجهاد؟
اللعب في أمثال هذه الأيام لا يليق، ومن اللعب القبيح أن يكنز ناس ما يملكون من أصول الأقوات لينتفعوا بالربح الحرام على حساب الشعب المهدد بالجوع.
وأنا مع هذا أعرف ما تصير إليه سمعتي يوم أتولى وزارة الداخلية، فسيقول السفهاء من(444/7)
الناس إني خليفة الحجاج، وسيتخذون من شراستي دليلاً على أن المواهب الأدبية تنطوي على جحيم من الطغيان المكبوت.
وما خوفي من القال والقيل وأنا في غنىً عن رضا الناس، ولن أتقدم يوماً لخوض معركة انتخابية؟
إن رجال الأقلام هم أصلح الرجال لسياسة الدولة في السنين العِجاف. وهل يشقي أحدٌ في سبيل الأمة كما نشقي؟ وهل يعرف أحدُ من متاعب الأمة بعض ما نعرف؟
الوزراء في الأمم الدستورية لا يقدرون على الحزم إلا في أندر الأحيان، لأنهم مقيدون بعواطف الناخبين، وفي الناخبين خلائق لا تعطى أصواتها إلا لغاية مطوية، هي السكوت عن آثامها الثقال.
ولن أكون وزيراً برلمانيّاً يحسب لعواطف الناخبين ألف حساب قبل أن يُقدم على إعزاز شريعة العدل
سأكون بإذن الله وزياً يختار لغرض واضح صريح: هو القضاء على البغي والفساد، وزجر من يحرمون الشعب من الأقوات.
وقد فكرت في مصير البرلمان الحاضر، وهو برلمان طال حوله الخلاف، ثم صح الرأي على السكوت عن هذه المعضلة الدستورية إلى حين، فما يتسع وقتي للنظر في شئون تضر أكثر مما تنفع. وهل تحتاج الأمة إلى برلمان إلا حين يعوزها الحاكم الرشيد؟ - (إنما أُسأل أمام ضميري لا أمام البرلمان)
سأفاضل بين الأحزاب على أساس غير الأساس المعروف، فلن تكون هناك أغلبية وأقلية، وإنما يكون التفاضل بقدرة هذا الحزب أو ذاك على توفير أسباب الرخاء.
لن يقول النحاس باشا: (أنا أول من أنذر بأزمة التموين) فسأسوقه سوقاً إلى الطواف بالبلاد لدعوة أنصاره إلى الإفراج عن القوت المحبوس
ولن يقول الدكتور ماهر باشا: (أنا أول من تأهب للحرب)؛ فسأجره جراً إلى ميدان جديد هو حرب الغلاء!
سأغيّر من أخلاق الناس، إن دُعيت إلى ولاية الحكم في هذه الأيام، وليس ذلك بالأمر البعيد، فقد جُرّبتْ جميع القُوى السياسية، ولم يبق إلا تجربة القوة الأدبية، وهي أقوى من(444/8)
الزمان.
أما بعد فهذا حُلمٌ من أحلام العام الجديد، ولكل عام أحلام
هو لفتة روحية ستؤتي ثمارها بعد حين، فمن الشر الموبق أن يحال بين رجال القلم وما يشتهون من إقرار العدل، وما كانوا في الحاضر والماضي إلا موازين.
دعوْناكم ألف مرة إلى الاعتراف بالسلطة الأدبية فلم تسمعوا؛ ونهينا كم ألف مرة عن تناسي السلطة الأدبية فلم تنتهوا. فهل جازينا كم صداً بصد، وإغضاءً بإغضاء؟
لا، والله، وإنما مضينا على السجية الكريمة، فأوقدنا في صدر الأمة جذوة الشوق إلى التماسك والتساند والتآخي، فما كان في الأمة من خير فهو من صُنع أقلامنا، وما كان في الأمة من شر فهو من جناية الراغبين في السيطرة والاستعلاء.
لن تصلحُ الأمور إلا يوم تصبح المقاليد بأيدي رجال القلم البليغ ومن قال بغير ذلك فهو بقية من بقايا الطغيان البغيض
أتريدون الدليل؟
نحن نبخل بالحكم لقطعة شعرية أو نثرية حين نراها بعيدة عن الجيد المستطاب، مع أن الحكم لقطعة شعرية أو نثرية لا يقدم ولا يؤخر في سياسة البلاد.
وأنتم تُضفون الألقاب السنية على من تحبون بغير حساب، وقد تُسندون بعض المناصب إلى من لا يُزكّيه غير رضاكم عن أسلوبه في حفلات الاستقبال.
الأدباء هم أقدر الرجال في مصر على عصيان الأهواء
ألا ترون كيف نحارب منافعنا في سبيل النزاهة الأدبية؟
نحن نصاول الأحزاب والهيئات في كل يوم لنرفع قدر الفكر والرأي، ونرحب بجميع المتاعب في سبيل تلك الغاية العالية، فأين من يصنع بعض الذي نصنع؟ وأين الذي يعاني في سبيل المبادئ السامية بعض ما نعاني؟
لو سخرنا أقلامنا في سبيل الغايات الوقتية لسددنا الطريق في وجوه الكثير من طلاب النفع الموقوت، وهم أعمدة المجتمع فيما يتوهمون.
إلى أقلامنا يرجع الرأي في سياسة هذه البلاد، وإن بُعدنا صورياً عن المناصب الوزارية والبرلمانية. . . لكل وطن روح، وروح هذا الوطن هو رسالة القلم البليغ.(444/9)
زكي مبارك(444/10)
ظاهرات نفسية
2 - في مسرحيات محمود تيمور
للأستاذ زكي طليمات
مفتش شئون التمثيل
سبق أن قررت في مقالي السابق عن مسرحيات تيمور أن القيمة الأدبية الحقة للعمل الأدبي، مسرحية كان أو قصة، رهينة بما يسجله من الحقائق الإنسانية الخالدة التي تسمو على مشكلات الاجتماع، ومسائل الإصلاح الموقوت، وأزياء الأساليب البيانية، وتتجاوزها إلى ما هو أعرق في الأصالة وأجدر بالمعالجة، إلا وهو النفس البشرية بكامل كيانها، فيكون همُّ الكاتب قبل كل شيء، تسجيل سماتها والكشف عن مظاهرها ومضمراتها. ومن أجل هذا جعلت نقدي للمسرحية الأولى من مسرحيات تيمور، ألا وهي (الصعلوك)، معنى بهذه الناحية وتجاوزت قصداً عما سواها؛ وسيكون هذا دأبي في نقد المسرحيتين الأخريين، وهما (أبو شوشة) و (الموكب) وعلى أساس أن كياننا النفسي الكامل يتألف من العقل الظاهر (الوعي) ومن العقل الباطن (اللاوعي)، وإننا في تصرفاتنا خاضعون إلى التيارات الخفية التي تنطلق من معقل الوعي الباطن فتدفعنا إلى إتيان بادرات، لا يستطيع عقلنا الظاهر تفسيرها.
النقد تنبيه وتبيين وتسجيل
إن مهمة الناقد وقد أخذ بما أسلفناه شاقة عسيرة، ولكنها مجدية للقارئ قبل كل شيء، إذ أنها تقدم له بيان واضح وسرد مستفيض غير مقيد بأوضاع وقيم فنية مرسومة، تقدم إليه سمات هذه الشخصيات التي نلخصها في تعقيدها النفسي مضطربة مقنعة، بعد أن يكون الناقد قد استخرجها من بين السطور، وقيد أوابدها، وتصيد شواردها، وحلل نزعاتها، وأسقط أقنعتها.
ورب معترض يقول: وما هذا اللون من الأدب أو المسرحية الذي يحتاج إلى تفسير وتعليق وتذييل يجلو الغموض ويبدد الأبهام؟ ولم كل هذا التعليق من جانب الناقد!؟
وجوابنا: أن لا غموض ولا إبهام تلحظه العين في عمل أدبي حق، لو أن كل قارئ كان(444/11)
سامياً في ثقافته إلى المستوى الذهني الذي أصدر عنه الكاتب أو الشاعر عمله الأدبي الرفيع، وصدق القائل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
وإن النقد كما أنه تنبيه منزه عن السقوط إلى ما يتضمنه العمل الأدبي من مفاتن ومقابح، فهو تفسير وإيضاح لما يسجله المؤلف مجملاً أو مركزاً، وقد تقيد بقيود الوضع الشكلي الذي تفرضه صياغة القصيد أو القصة أو المسرحية، وأخذ بأسباب شرائط فنية قد توجب الإغراب قصداً، وقد تحتم التلويح بدلاً من التصريح في مواقف، والعكس بالعكس في مواقف أخرى، وقد تقضي بالإيجاز الذي يضني القارئ في ناحية، لتنهكه مرة أخرى في تنقل وثبي جريء، تدفعه من فكرة إلى فكرة، ومن خيال إلى خيال، من غير تمهيد يستطيع كل قارئ معه أن يجد الرابطة بين كل هذا.
وهناك شيء آخر جدير بالاعتبار يتصل بالمؤلف نفسه مباشرة، وذلك أن النقد إذا صح أنه إيضاح وتبيين فوق تبين، ييسر لكل قارئ استبطان دخائل العمل الأدبي الذي يقرؤه، ويبصره بمواطن الفتنة والسمو والقبح والإسفاف فيه، فهو أيضاً تسجيل وتحليل لطرائق المؤلف واتجاهاته في الأسلوب والصياغة والفكر؛ وهو أيضاً تقدير لمبلغ توفيقه في كل هذا، لأن المؤلف الموهوب قد يصدر كثيراً فيما يكتب عن وحي الساعة وقد لبسته حال من اللاوعي، فهو لا يخضع كل سانحاته وطوارقه الذهنية إلى مقاييس الفن ومعايير البيان. إنه يرتجل أحياناً وهو يدري ولا يدري بعد أن تهيأت نفسه للخلق والإبداع، وفي تسجيل هذا من جانب الناقد تبصير جديد للقارئ وإقرار صحيح لمنازل الكتاب من حيث القيم الأدبية الفنية.
وفيما نحن بصدده في مسرحيات تيمور - وقد نحا في التأليف والتحليل النفسي نحواً يقضي بتسجيل النتائج والأعمال التي يأتيها أبطال مسرحياته من غير أن يعني بتبيين البواعث والدوافع، وذلك باعتبار أنها أعمال تبدو من العقل الباطن ولا يستطيع العقل الظاهر تعليلها وتفسيرها - لا مناص من أن تكون مهمتنا الأولى إيضاح هذه البواعث التي أدت إلى النتائج، ولا يخفى أن أعمال الناس تفسر بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات.(444/12)
والآن فلتقدم إلى مسرحية (أبى شوشة)
أبو شوشة
اسم لعجل مدلل، يرعاه (مؤنس بك) في ضيعته (كفر البلابل)، ومن العجيب أن يكون عنواناً لمسرحية أسم عجل يخور ولا يند لسانه بحوار في المسرحية ولا ترى له وجهاً على المسرح، ولن من يدقق قراءة هذه المسرحية لا يلبث أن يصل إلى ما توخاه المؤلف من هذا العنوان، بعد أن يتضح له أن (ابا شوشة) ليس إلا رمزاً للحاضر الجاثم بكيانه القادر بظروفه وشواغله. (والحاضر) في هذه المسرحية عنصر هام وخطير.
وترك مؤنس بك ماضيه في القاهرة منذ ست سنوات وهاجر إلى الريف وتزوج من حرائر أعيانه. له من زوجته رفيق مؤنس، وله توفره على الزراعة ومنتجاتها شغل وعزاء. تراه أول ما تراه في المسرحية، محنقاً مكروباً، لأن العجل (أبا شوشه) متوعك المزاج يعاف أكل العليق وعينه محمرة دامعة!! القصر الريفي في حيرة واضطراب، الخدم يرقبون شفاء للعجل العزيز السيد خادماً يسهر على راحته.
فجاءة يهبط القصر نفر من الزوار من أعيان الريف، بينهم حسنية هانم وزوجها (ظاظا بك) - وهما من سكان القاهرة - جاءا الضيعة لزيارتها بعد أن ذاع صيت نظامها ووفرة غلتها في دوائر القاهرة. فنرى مؤنس بك يضطرب ويرتبك لمرأى (حسنية) وكأنه فوجئ بمجيئها، ولكنه يتغلب على ارتباكه ويرحب بالزائرين.
وإذ يخلو لمؤنس وحسنية المكان بعد تمهيد دق المؤلف في إتيان مواقفه من غير تكلف، نراهما منجذبين الواحد نحو الآخر، متقابلين فماً لفم، وسرعان ما ينجلي للقارئ أسباب ارتباك مؤنس واضطرابه. . . لقد كان مؤنس وحسنية متحابين، متعاقدين على الزواج قبل أن يهجر مؤنس القاهرة ويقيم بيته وأعماله في الريف. ولكن حدث إذ ذاك أن توفي والده وطالعته تركة موروثة مرهقة بالدين تتدحرج نحو الإفلاس والبوار؛ فأسقط في يده، وخابت أمانيه في الزواج، لأن كبرياءه حجزته عن أن يتزوج من حسنية الناعمة المثرية. فترك القاهرة بغتة واستقر في الريف يرمم المنهار من تركته بعد أن قطع كل رباط يربطه بالقاهرة وساكنيها. وكان أن تزوجت حسنية من ظاظا بك.
هذا المشهد هو دعامة المسرحية وبيت القصيد فيها. . .(444/13)
هما هما الاثنان يبعثان الماضي وذكرياته، وها هو مؤنس يشد على يد حسنية في اتقاد، مهيباً بها أن تنسى الحاضر وأن ترجع بعين الخيال إلى مراتع حبهما، فتزداد التصاقاً به، وتدني فمها من فمه، مغمغمة أسمه المحبوب، القبلة تكاد تتم فصولاً، الحب الهامد يتسرح من جديد و. . . .
ولكن يحدث في هذه اللحظة أن يرتفع خوار العجل أبى شوشة؛ فإذا بمؤنس يجمد في مكانه، وإذا بالقبلة لا تتم، وإذا به يترك حسنية واجمة متعجبة، ويطل من النافذة منادياً متسائلاً عن صحة العجل العزيز الغالي!!
بادرة عجيبة ولا شك من جانب مؤنس تناقض الواقع الذي كان يعيش فيه منذ لحظة بيان لسانه وكمال وعيه!
ويستدرك مؤنس ما أتاه من غير وعي بهذه البادرة النابية فيعاود الحديث عن الماضي ويستعين عليه في هذه المرة بمطالعة بعض صور فتوغرافية قديمة تمثله مع حسنية في مواقف عديدة. ويبدو للقارئ أن مؤنس يحاول لاهثاً أن يستمد من هذه الصور إنقاذاً لمخيلته ويقظة لحسه. وتقع يد حسنية بين هذه الصور على رسم للعجل أبى شوشة فتتبرم؛ ثم لا تلبث أن تزداد عجباً على عجب، إذ ترى مؤنس يأخذ بأسباب سرد مشرق عن ولادة العجل وحياته الأولى.
وهكذا يبدو مؤنس متطوحاً بين (الماضي) الذي يشده بعيني حسنية، وبين (الحاضر) الذي يجتذبه بجوار أبى شوشة.
ولا تجد حسنية موضوعاً للحديث غير الكلام عن الطقس. ويفطن مؤنس إلى ذلك فيعتصر حسه من جديد ويأخذ في إطراء مفاتن حسنية، فينشط حس المرأة أمام هذا الإطراء فلا تتوانى عن أن تعرض عليه أن يحضر الحفلة التي ستقيمها في القاهرة بمناسبة عيد ميلادها، ولا تتحرج عن أن تناشده معاودة حياته الأولى في ظل حبها.
مؤنس ينقاد إلى حديثها في شبه حلم لذيذ وقد غمره الماضي، فلا نلبث أن نسمعه متبرماً بحاضره. وها هو أخيراً يقرر في نبر صوتي متقد أنه سيعود إلى القاهرة، وأنه سيحضر حفلة عيد ميلادها. . . وأن الإنسان في وصفه أن يحقق ما يريد إذا صح عزمه على ذلك.
وإذ هما يحتضنان، يرن صوت الخادم وقد أقبل نحوهما. . . الخادم يدخل فرحاً معلناً أن(444/14)
(أبا شوشه) أكل عليقه، وأن الصحة عاودته. . .
يا لسخرية الحاضر من الماضي!!
نرى مؤنس ينتفض فجأة وكأنه، خرج من حلم بعيد وينطلق نحو الباب والفرحة ترقص أمامه، ويدعو حسنية إلى أن ترافقه إلى مذود العجل؛ ولكنها ترفض فيتركها وقد نسى القاهرة وحفلة العيد!!
هذا المشهد هو الرواية كلها، وقد وفق تيمور في التمهيد لانطلاق الإيحاءات الباطنة التي كانت تطرق مؤنس وتجعله وهو لا يدري ينقض ما يبرمه وهو يدري. وفق تيمور في هذا بطريق إيرادها جسات نفسية خاطفة كانت تلوَّح للأمر المزمع، والغاية المقصودة.
وتجري بعد هذا المشهد الحافل مشاهد إضافية، نرى (حسنية) في أحدها تعلن لمن جاءوا الضيعة معها أن (مؤنس) سيحضر حفلة عيد ميلادها بالقاهرة؛ ولكن سرعان ما يحضر مؤنس وقد امتلأت نفسه نشاطاً وفاضت غبطة ليعلن الحضور بدوره أنه سيشترك في المعرض الإقليمي بمنتجاته الزراعية، وكان قبل ذلك متردداً في هذا الاشتراك. تمتعض (حسنية) وتقطع الحديث وهي تقترح العودة إلى القاهرة، لأن لديها ما يشغلها لإعداد حفلة عيد ميلادها. وإذ ذاك يتذكر (مؤنس) أمر هذه الحفلة، ويبدي حيرته كيف يوفق بين الاشتراك في المعرض وحضور حفلة القاهرة. . . ولكن (حسنية) تتدخل في الأمر تدخلاً عابراً من باب جبر الخاطر - وأغلب الظن أنها بدورها أحست فتوراً من الرجوع إلى شيء مضى وفات - ويعتذر مؤنس عن حضوره الحفلة وكأنه أنقذ من ورطة قادمة!
وتنتهي المسرحية بأن ترحل (حسنية) إلى القاهرة لتعيش هناك في (حاضرها)، ويبقى (مؤنس) في قصره الريفي ليعيش بدوره في (حاضره).
كل هذا يجري ولم نر المؤلف يجعل بطلي المسرحية (مؤنس وحسنية) يحاولان تعليل تلك الإيحاءات الباطنة وتفسيرها بطريق المنطق، بل جعلها تعرض نفسها خطفاً، وبهذا خالف النهج الذي نهجه في مسرحيته الأولى (الصعلوك) وحسناً فعل.
والآن نتساءل ما الذي يلبس هذا الرجل (مؤنس بك) الفينة بعد الفينة، والموقف واحد لم يتبدل زمانه ومكانه، فنراه يتخبط وينقض فعلاً ما أبرمه كلاماً ويتأرجح بين قوتين عنيفتين تشهد كل منهما من ذراع لتجتذبه أحدهما في النهاية؟؟(444/15)
إلا يرى القارئ معي أن هذا الرجل يحاول عبثاً إرجاع الماضي وبعثه بمذكيات الذكرى وبحطام نفسه ويشخص المرأة التي كانت له شريكة فيه؟؟ وأن الحاضر يأبى عليه ذلك ويسير على شرعته الأزلية من أن ما فات مات، وأن لا رجعة لما أغرقه الزمن في لجته؟؟
نعم هو هذا. وأن الذي كان يلبس الرجل ويدفعه بقوة خفية إلى التناقض إنما هو سيطرة الحاضر الذي أقام لنفسه في الواعية الباطنة سلطاناً يدفع به وثبة الماضي إذا قدر له أن يستفيق من همدته وتهيأ للانسراح بعد انكماشه، والماضي بدوره له في الواعية الباطنة منازل ينطوي فيها على نفسه ولكنه يقنع من السلطان بأن يكون معين الصراع بين المادة والحافظة، وأن يكون الشرفة التي نطل منها على المستقبل.
لا سبيل إلى إحياء الماضي، تلك هي المسألة التي أثارها تيمور في مسرحيته - الماضي لا يعود - ومرد هذا أن النظرة إلى الأشياء تتغير بتغير الميول، والميول تبدل أثوابها بمرور الزمن، الزمن الذي يبلى كل شيء ويسير دائماً إلى الأمام دون أن ينظر إلى الوراء، الزمن الذي يستبد فينا بحاضره، ويدفعنا بشواغله والتزاماته إلى أن نحيا فيه. فكان النظرة إلى الأشياء مقضي عليها بالتغير، ومتى تغيرت النظرة تغيرت معها معالم الدنيا من إنسان وجماد.
لقد نال الزمن من (مؤنس) وهو لا يدري، كما نال من نفس (حسنية) وهي لا تشعر، ولم يكن حظها في هذا أرفق من حظ مؤنس، وآية ذلك أنها حينما أجابت نداء (الماضي) عن لقائها حبيب القلب الغابر وانساقت مع دفعاته الفاترة المتقطعة، لم تستطع أن تدفع سلطان (الحاضر) بل كانت في محاولتها إحياء الماضي، كما كان (مؤنس)، متعثرة على الرغم منها.
ولو أن تيمور أجرى موضوعه على الرجل دون المرأة لأوقع بالمسرحية ثلمة تنفذ إليها منه بالمؤاخذة، ولكنه فطن إلى ما لا يفطن إليه عادة غير المرتاض بصياغة القصة المتمرس بعرض موضوعه عرضاً صادقاً كاملاً.
ورب معترض يقول: إن الدافع الحقيقي الذي حجز (مؤنس) عن معاودة حياته العاطفية مع (حسنية) هي أعماله بالريف وشواغله الملحة فيه. وهذا حق من ناحية أن هذه الأعمال وتلك المشاغل إنما هي من عناصر (الحاضر)، والحاضر، كما قررنا، يفرض سلطانه(444/16)
علينا، بيد أن هذا ليس كل شيء، لأن الظروف المحيطة بمؤنس وحسنية - ما رسمها المؤلف - كانت ظروفاً مواتية تسمح لهما باستئناف علاقتهما دون أن يخل ذلك بشواغلهما، ولكن بشرط. . . وهذا الشرط أن يكون لأعج العاطفة المتأجج في قلبيهما متقداً قوياً كما هو المشاهد المألوف لدى الأكثرين، لأن الإنسان يحيا بغرائزه وعواطفه أكثر مما يحيا بعقله ومنطقه، وفي تلك الفترات التي يكون فيها الإنسان لحياة العاطفة لا يبالي بأي قيد من القيود. ولكن العاطفة القوية أو الحب المتقد لم يكن يعمر قلبيَّ مؤنس وحسنية عند لقائهما الأخير. لقد كان الأمر غير ذلك فيما مضى، ولكن الزمن أطفأ اللاعج المتقد وأوهن القوى النابض، ولم يبق في قلب كل منهما من ذلك الغرام غير هيكل من عظام نخرة ترتدي مسوح (فينوس) تكفي أن تهزها اليد لتنهار.
زكي طليمات(444/17)
التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم
للأستاذ رفعة الحنبلي
ساد المجتمع، خلال العصور القديمة، نوع من النظم الاجتماعية، وضرب من المبادئ الفطرية، أخذ بها طوال المدة التي جنح فيها إلى التفكير الهزيل، والمعرفة الضئيلة، والعلم القليل مما كان له أثر فيه. فاتسم بطابع خاص يتميز به عن بقية المجتمعات الإنسانية الأخرى، ولم يقتصر على الثقافة فحسب بل تناول التقاليد والعادات أيضاً.
وفي الواقع أنه إذا تقصى المرء أحوال المجتمع البشري القديم في الأزمنة الغابرة، ودرس نظمه الاجتماعية، وتفهم نفسية أفراده وأخلاقهم، والتمس ميولهم ورغائبهم، وتبين عاداتهم وتقاليدهم، واتصل بهذه النظم على ضوء الدرس المنظم وعن طريق التتبع والاستقراء، تكشفت له عن حياة اجتماعية متأخرة، وبيئة ضيقة، وعقلية محدودة وتفكير سقيم تتباين مع الحياة الاجتماعية الأخرى في المجتمعات الثانية وبيئتها وتفكيرها وعقليتها، هذه الحياة الاجتماعية توقفنا على درجة من درجات رقي المجتمع وحضارته وتكشف لنا عن سمة من سمات الطبع والنفس، ومظهر من مظاهر الروابط الاجتماعية والقيم الخلقية.
على أن هذه الحياة لا يزال يشوبها كثير من اللبس والغموض، ولا تزال تكتنفها ظلمة كثيفة في كثير من أفيائها وإن أخذ بعض علماء الاجتماع - يدفعهم في ذلك حب البحث والاستقراء والحاجة الملحة إلى المعرفة - يبددون ما أحاط بها من ظلمة، وما اكتنفها من شوائب.
ومن النواحي التي درسها علماء الاجتماع ناحية جليلة خطيرة لها أثرها المباشر في الحياة الاجتماعية وفي مقومات المجتمع البشري أيضاً: هذه الناحية تعرف بالتبعة والتي عرفها المجتمع في الوقت الذي عرف الإنسان فيه العمل الاجتماعي واضطلع به، إذ ذهب هؤلاء العلماء إلى أن التبعة كانت معروفة عند أكثر الأمم والشعوب القديمة. وقد استمدت بعض المجتمعات الحديثة نتفاً من قوانينها ونظمها فدمجتها فيما ابتكرته من نظم وقوانين حملت الإنسان تبعة ما يقوم به من عمل اجتماعي أو أدبي أو غيره. والواقع أن المجتمعات البشرية تختلف باختلاف درجتها في سلم الحياة والارتقاء. فعلى قدر ما يكون المجتمع البشري من الرقي والحضارة يحتاج إلى نظم جديدة تتلاءم مع الحضارة والرقي اللذين أخذ(444/18)
بهما؛ فالمجتمعات والحالة هذه لا تتمشى على نظم واحدة، ولا تتقيد بقوانين واحدة، بل لابد لها من نظم مختلفة وقوانين متباينة تميز المجتمع الواحد عن الآخر وتصور نفسية أفراده وبيئتهم ودرجة رقيهم وحضارتهم.
بقيت مبادئ التبعة التي أخذ بها المجتمع البشري القديم، ردحاً من الزمن - قل أو كثر - خافية على كثير ممن يعالجون البحوث الاجتماعية حتى كشف عنها بعض كبار الباحثين ممن درسوا المجتمع القديم دراسة مكنتهم من إدراكها إدراكاً قد يكون تاماً أو لا يكون، بعد أن وقفوا على خصائص الحياة الاجتماعية التي سادت ذلك المجتمع، وبعد أن تفهموا المقومات الاجتماعية العديدة. وما زال الباحثون الاجتماعيون من ذوي الاختصاص يسيرون غور هذه الحياة وهذه المقومات الاجتماعية بعدما درست آثارها، وعفت رسومها أو كادت، فراضوا صعابها وجلوا شكوكها إلى أن وقفوا على عناصرها وعواملها، وكشفوا عن أسرارها وخبيآتها؛ وهم إلى ذلك - أي الباحثون - يؤمنون بأن القدامى من أفراد المجتمع كانت لهم من الآراء الفطيرة، والتفكير الفقير، والتقدير الهزيل، ما حملهم على إلقاء التبعة لا على عاتق كل فرد من أفراد المجتمع فحسب، بل على كل الكائنات الحية من حيوان وجماد أيضاً.
بدأ علماء الأجتماع، في العصر الحاضر، يدرسون المبادئ التي من شأنها أن تجدد كل عمل يقوم به الفرد في مجتمعه وما يتبعه من عقوبة وقصاص على ضوء علم النفس الحديث، وعلم الأمراض النفسية بعد أن كان المجتمع القديم يقيم حدها على كل فرد من أفراده، دون أن ينظر إلى نفسية هذا الفرد وإلى الأمراض المتصلة بها التي تتعاوره إبان حياته، بل كان مآل نظم المجتمع القديم فرض العقوبة على أي امرئ ارتكب جرماً أو اقترف إثماً.
والتبعة ليست، في الواقع، إلا نتيجة لعمل اجتماعي، شرعياً كان أو غير شرعي، يخالف ما تعارف عليه المجتمع وما ألفه الناس، أو بعبارة أخرى نتيجة أعمال وأفعال اجتماعية يقوم بها أفراد المجتمع تتعارض مع القوانين أو النظم الموضوعة التي تستوجب التبعة، فإذا ما خرق امرؤ حرمة الآداب والأخلاق، أو نكث عهداً من العهود الاجتماعية، أو اتهم برقة في دينه أو وطنيته، أو احتفظ بعلاقة غير شرعية مع فتاة، كان ذلك كافياً، في نظر المجتمع،(444/19)
لأن يحمل تبعة عمله وأن يعدَّ مسؤولاً.
ولابد للمرء أن يتساءل عن الأعمال التي قد ترضى الجماعات الإنسانية أو تفضيها إذا ما قام بها، ولابد له من أن يتفهم التقاليد والعادات التي تدنيه من المجتمع أو تبعده عنه، كي يستبين طريقه على ضوئها، ويتمشى حسب نظم المجتمع لئلا يقحم نفسه في مآخذ عنيفة ومزالق خطرة تستوجب التبعة والعقوبة.
وماذا يعني بالتبعة؟. . . هي قيام امرئ بعمل ما، في مجتمعه أو في مجتمع آخر، في حالتي النفع والضرر. فالمرء الذي يقدم على أعمال من شأنها تحدي النظم القائمة وخرقها والتي قد يتضرر منها المجتمع الإنساني يكون مسئولاً عن أعماله هذه، كما أن المرء الذي ينشط إلى المحافظة على الآداب والأخلاق، والذي يلذ له خدمة الأمة والإخلاص لها والتفاني فيها يكون مسئولاً عن هذا العمل أيضاً. فالتبعة إذا تقع على عاتق المرء في الحالين المتقدمين وإن اتجه كل منهما اتجاهاً يختلف والآخر جد الاختلاف من حيث الوسيلة والغاية؛ وإذا ما أبدلنا العقوبة بالمكافأة واللوم بالثناء، فمن هو الذي يستحق العقوبة واللوم، ومن هو الجدير بالمكافأة والثناء؟. . . مما لا مشاحنة فيه إن الإنسان يكافأ على عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. . .
ألا ترى أن الأب يكافئ ابنه الأديب الوديع ويعاقب الطائش الشرير؟. . . وكذلك المربي؛ إلا تراه يثني الثناء العاطر على الطالب الخلوق الطيع، وينحي باللائمة على النفور المتمرد؟! والحكومة، ألا تشعر أنها تكافئ رجالها المخلصين والعاملين بالأوسمة والرتب، وتعاقب المجرمين والخائنين بالسجن والإبعاد والقتل أحياناً؟. . . ألا ترى أن الجماعة البشرية قد أعدت جوائز قيمة، أدبية ومادية، للأفراد الذين يحملهم الإخلاص ويدفعهم الوفاء على التفكير بترقية المجتمع وتخفيف الآلام عن الإنسان، ورفع مستوى الحياة الاجتماعية؟ أليس كل ذلك يدخل في حدود التبعة الاجتماعية على اختلاف شكوكها وتباين غاياتها؟! على أن العلماء لم يقصدوا بالتبعة إلى المعنى الذي ذهبنا إليه، ولم يتجهوا الاتجاه الذي أخذنا به، ولكن هي الحقيقة وهو الواقع! ولمَ لا يكون المرء مسؤولاً عما قام به من صالح الأعمال كما يكون مسؤولاً عما جنته يداه من إثم أو جريمة؟! وما التبعة في الواقع إلا(444/20)
صدى تلك الحياة الاجتماعية التي ارتضاها الإنسان لنفسه، وتلك البيئات التي تكتنفها التقاليد والعادات. . .
ومن هو المسئول - في الدرجة الأولى - في نظر المجتمع لقد أعطت الجماعات الإنسانية أجوبة تختلف باختلاف حياتها الاجتماعية وبيئتها وثقافتها، وتتباين بتباين أخلاقها وتقاليدها وعاداتها. على أنها حُملت الإنسان - منذ الأزمنة القديمة - التبعة، باعتبار أرقى المخلوقات الحية وأشرفها وأذكاها، وأقربها من المدينة والحضارة، حيث يقوم بدوره الرئيسي في المجتمع، إذ أنه ينعم بعقلية نيرة تدفعه إلى استخدام الحيوان لشؤونه اليومية والمعاشية والاستفادة من النبات والجماد لمنافعه الشخصية والبيتية التي تتطلبها حياته الاجتماعية. وهو - فوق ذلك - يملك من الأهلية والاستعداد ما يجعله يحمل تبعة ما يقوم به من عمل. لذا نجد الإنسان شاعراً بالتبعة ورازحاً تحت ثقلها منذ اليوم الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل
ولا يمكن الأخذ بالتبعة أو الإقرار بها إلا في حالة خاصة، بمعنى أن الإنسان إن لم يتمتع بعقل سليم وتفكير صحيح فلا جناح عليه بما يأتيه من عمل شائن أو فعل قبيح؛ لأن سلامة العقل وصحة التفكير شرط أساسي - في بعض المجتمعات - لإلقاء التبعة وتحمل العقوبة، وإن أقرَّ البعض هذه التبعة على من لم تتوفر فيه هذه السلامة والصحة، حتى أن بعضهم ذهب إلى إلقاء التبعة على الطفل والمجنون والأبله والمعتوه أيضاً. . . وتغالت المجتمعات القديمة، والحديثة المتأخرة، فذهبت إلى أبعد من هذا الحد، إذ ألقت التبعة على الحيوان والجماد!!
وقد تتعدى هذه التبعة من شخص إلى آخر وإن لم يجمعها نسب أو قرابة، وتتجاوز الفرد إلى الجماعة، وإن لم تكن بينهما صلة أو علاقة، وتعرف حينئذ بتبعة الجماعة، لكنها تبقى - في غالب الأوقات - تبعة غير محدودة بيد أن الجماعة التي تتحمل التبعة تكون ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة - ولو إلى حد ما - بصاحب الجريمة أو الإثم، باعتبار أن أفرداها وحدة لا تتجزأ، وباعتبار أن المتهم فرد منها، فالجريمة التي يؤخذ بها هذا المتهم تؤخذ بها الجماعة، والتبعة التي يتحملها تشاركه الجماعة فيها، والعقوبة التي تفرض عليه تنالها أيضاً على حد سواء؛ وتبعة الجماعة إنما تكون في الجماعات التي تعيش قبائل(444/21)
منفصلة الواحدة عن الأخرى، وفي المجتمع القديم الذي يتبع نظام التوعية والجماعت التي يرأسها شيخ هو أكبر أفرادها سناً ومن هذه الجماعات ظهرت أول مبادئ تبعة الجماعة التي تتعدى أقرب الناس إلى أبعدهم عن المتهم.
وهنالك أيضاً بعض الجماعات ممن يقرون مبدأ التبعة الفردية في جرائم خاصة، ومبدأ تبعة الجماعة في جرائم أخرى؛ ففي حالة الجرائم الصغرى كالسرقة أو القتل، إنما تكون التبعة فردية، وتكون جماعة في حالة الجرائم الكبرى كالخيانة الوطنية وخرق حرمة الدين، والثورة على الحكومة وقتل الملك وغيرها. . . ففي هذه الحالة تسود التبعة جميع أفراد عائلة المتهم دون النظر إلى تفاوت درجة القرابة والأعمار بينهم؛ فالجد والأب والأعمام والأولاد والحفدة يساقون إلى منصة الإعدام كالمجرم على حد سواء؛ أما أقرباؤه الأدنون، فيعاملون معاملة العبيد ويصبحون أرقاء، توزعهم الحكومة على قادة الجند بمثابة رهائن، ينقطعون للعمل، ويحبسون على الخدمة، وتصادر أملاكهم، وتحجز أموالهم، كما صودرت وحجزت أملاك أولئك من قبل.
كذلك كان عدم الوفاء لصاحب الجلالة، أو عصيان أوامره المقدسة، يسبب للفرد عقوبة تذهب بحياته، وتودي بأسرته إلى العذاب البئيس، وتهوى بهم إلى أدنى درجات الاسترقاق والعبودية؛ أما هو، فيعدم ويحرق، وأما زوجه وأولاده، فيصبحون أرقاء؛ أما أبواه وجداه واخوته وأولاد أخيه، فينفون من الأرض إلى أمد بعيد.
وهكذا نجد أن هذه العقوبة العنيفة التي تعرَّض صاحبها وأسرته ومن يلوذ به إلى الموت، والتي تجعل من ذوي قرابته عبيداً أرقاء، لم تستأثر بها أمة دون أخرى، بل اشتركت أكثر الأمم فيها مع اختلاف العقوبة من حيث العنف والقسوة باختلاف شرائعها وقوانينها. ففي فرنسا مثلاُ - أيام قيام الملكية في ربوعها - كانت عقوبة النبيل والشريف الذي يرتكب أية هفوة في حق الملك أو الإمبراطور، هي تجريده من رتبة العسكرية، وإنزال درجته النبيلة، وإبعاده مع أسرته خارج المملكة، أو الإمبراطورية، مع حرمانه هو وأسرته من العودة ثانية إلى بلاده ووطنه حرماناً قد يكون أبدياً؛ وإن قدر له أن يعود دون عفو خاص من صاحب الجلالة، فإنه يعدم حالاً دون أية محاكمة أو أي تحقيق؛ أما إذا لم يكن نبيلاً، وكان ينتسب إلى عامة الشعب، فعقوبته كما يقول الأستاذ تماثل عقوبة الشريف فضلاً عن هدم منزله(444/22)
وإعفاء أثره. وإذا تعمق الباحث في درس هذه التبعة، ردَّ دواعيها ومسبباتها إلى ذلك الاعتقاد السائد - قديماً وحديثاً - أن صاحب الجلالة هو خليفة الله في أرضه، لذلك كان لهذا الاعتقاد من الأثر القوي في نفسية الشعوب والأمم ما جعلها تشرع هذه العقوبة العنيفة لحفظ خليفة الله من الاغتيال وحرصاً على شخصيته المقدسة.
والأمة العربية لم تعرف في سالف عهدها التبعة الفردية بل كانت آخذة تبعة الجماعة باعتبار أنها ترى نفسها قائمة على التكتل وعلى المبادئ القبلية وإفناء الفرد إفناء كلياً في المجموع. وكم من حرب ظل ضرمها يحتدم بين قبيلة وقبيلة لجريمة ارتكبها أحد أفراد هاتين القبيلتين!. . . وكم من تضحية فرضت على فرد لم يقترف إثماً. . .! أو على أفراد قبيلة لم يجنوا جريرة أو ذنباً!. لقد كان رأس القبيلة هو المسئول الأول والمباشر عن عمل كل فرد من أفراد جماعته، كما أن القبيلة بأجمعها مسئولة عن هذا العمل أيضاً. . . وجاء الإسلام بالشريعة السماوية السمحة، فمحا تبعة الجماعة وأقر تبعة الفرد ورسم حدودها وأمسى الفرد مسئولاً عن عمله دون غيره مهما ترادفت آثامه وتعددت جرائمه، ولا تزروا وازرة وزر أخرى. . .
إلا أن العرب عرفوا، قبل الإسلام، نوعاً من التبعة الفردية، في حدود ضيقة محدودة، كانت قائمة ما قام (نظام الخليع) على معنى أن القبيلة كانت تكره في بعض الأحايين على مجازاة أحد أفرادها لخصال وخلال لا تقره عليها أو تتنافى مع بيئتها وأخلاقها - فتخلعه من ذمتها وتبعده عنها وتقطع صلته بها؛ فالمرء الذي تلفظه القبيلة يتحمل هو وحده تبعة عمله وليس لقبيلته أن تتحمل شيئاً من هذه التبعة كما أنها لا تطالب بدمه إذا أهدر.
إن هذه الظواهر الاجتماعية، في صدد تبعة الجماعة ليست في الواقع، إلا صدى تلك الحياة الاجتماعية الضيقة وصدى ذلك النظام الاجتماعي الضعيف. وكثيراً ما كانت هذه التبعة جد عنيفة وقاسية ينوء الفرد بحملها ويرزح تحت تقلها.
لقد تقلص ظل هذه التبعة عن الإنسان في مجتمعنا الحاضر وعفت رسومها وأمحى أثرها إلا عند الجماعات المتخلفة عن المدنية والحضارة واتجه إلى التبعية الفردية إذا أصبح الإنسان مسئولاً عما يرتكبه من آثام وجرائم، ولا شأن لأسرته وذوي قرابته فيما يرتكبه من إثم وجريمة، وإن كان بعض الأمم التي بلغت أقصى درجات المدنية والحضارة، وأسمى(444/23)
مراتب الرقي والتمدن، تأخذ بها أحياناً في حالات خاصة إبان الحروب والثورات.
(البقية في العدد القادم) - بيروت
رفعة الحنبلي(444/24)
من الأدب الروسي
أنطون تشيكوف
الكاتب الروسي العالمي
(من كتاب (رجال القصة الروسية الحديثة) لسيرج برسي)
للأستاذ خليل هنداوي
من عادة الناس القول: (بأن الإنسان لا يحتاج إلا إلى مترين من الأرض، لكن هذه الحاجة هي حاجة الجثة الهامدة، لا حاجة الإنسان الحي الذي لا يكفيه إلا هذا الفضاء. لا يطلب الإنسان من الأرض قيد أقدام، ولا يطلب مسكناً، وإنما يطلب الأرض بأسرها، والطبيعة بسعتها، لكي تتفتح على آفاقها كل خصائصه ومزاياه بحريته؟)
هذا ما قاله - تشيكوف - عن أبحاثه ورسالته حين دخل الحياة الأدبية. ولد سنة 1860، وبعد أن أنجز دراسته في جامعة بلده أتم دراسة الطب في موسكو حتى غدا طبيباً مشهوراً، لكنه أخذ يسأم هذه الحياة العملية، ويستهويه عامل الأدب. فنشر عدة أقاصيص في بعض الصحف، وكان يؤجر عليها، لأن موارده في العيش كانت ضئيلة. وقد جمعت قصصه الأولى ولم تكن مما تبعث على الرضا، لأنها قصص كتبت لاجتذاب القراء وتسليتهم في أوقات فراغهم، دون أن تنطوي على فلسفة معينة، أو غاية معلومة. لكن الكاتب سرعان ما تبلورت نفسه، واتسعت آفاق عقله، فترك ذلك الجو الصبياني، ودخل في جو ملؤه دراسة الإنسانية، وهذه الدراسة طوقت روحه بالحزن والكآبة. أضف إلى ذلك أن بلده كان يكابد عناء الحروب في الحرب الروسية التركية، هذه الحرب التي كان ثمنها تحرير بلغاريا مذ أوحت إلى الروس أنفسهم بإدراك حريتهم وأثارت في الشباب العزم للعمل على الوصل إلى هذه الحرية مهما بلغ الثمن وأرهقت المقادير. لكن هذا الأمل تحطم، وهذه الجهود ذهبت عبثاً، لأن الرجعية قد ظفرت، وبظفرها طارت الأحلام، فعرا النفوس شيء من الذهول أو التحذير، ومن كان في قمة العزيمة والأمل جاء انتكاسه عظيماً، ووشكان ما دب في هذه القلوب النشيطة دبيب اليأس والعجز، فمن القلوب من لاذ بالعزلة لوحده كأنه لا يريد أن يبدي جراحه، ومنها من اعتصم بالعمل ليذهل، ومنها من ظل يرسل الأنين تلو(444/25)
الأنين لعلة يشفى. وهكذا يقال إن ضباباً رمادياً أحاط بحياة القوم، حاملاً معه الكآبة. هذه هي المشاهد التي وقف عليها - تشيكوف - براعته، ولم تنتج روسيا مثله كاتباً استطاع أن يصور لنا اضطرابات هذه الفئة من الناس التي كانت تمشي خابطة على وجهها بدون فجر ولا رجاء.
يقول أحد أبطاله مفسراً الأزمة الخلقية: (ليس لي من العمر إلا ست وعشرون، ولكن أراني لا أجهل أن الوجود يمشي بلا غاية، خالياً من أي غرض، وكل شيء فيه باطل زائل. تتشابه فيه حياة ساكن جزيرة (سخالين) مع حياة ساكن (بنس)؛ والفرق بين دماغ (كانت) ودماغ ذبابة ما لبيس له قيمة حقيقية، وأن لا شخص في هذا الكون على ضلال ولا على صواب)
وفكرة - العدمية - بكل ظواهرها المروعة تنعكس كثيراً ما في آثار تشيكوف، وأقصوصة (القبلة) ليست إلا وجهاً من هذه الظواهر. فالعريف (ريابوفيت) بتأثير قبلة غير مقصودة لبث بحلم بالحب طوال صيف؛ فهو ينتظر متألماً ساعة العودة ليرى جميلته المجهولة، لكن حلمه لم يكن إلا وهماً، إذ لم يكن هنالك أحد ينتظره. وبينما كان في أصيل يوم يسرح على ضفة جدول استسلم لتأملات تتفجر من قلبه: (الماء يفر إلى حيث لا يعلم أحد، ولا لماذا. إنه يفر على الحالة التي مرّ بها في أيار الغابر. إنه عبر من الجدول إلى النهر الكبير، ومن النهر الكبير إلى البحر، ثم إنه تبخّر واستطار، ثم استحال مطراً. فهل أرى ذات الماء يركض جديداً على مرأى من عيني؟! ما غاية ذلك ولماذا؟! وهكذا أصبحت الحياة عند هذا العريف لغزاً معمي لا يدركه العقل، تمشي على غير غاية، هائمة بدون قرار.
وقد أعطانا تشيكوف نماذج عدة لأفراد انتقاهم من بيئات مختلفة؛ فكأنما يأخذ القارئ بيده، يقوده إلى أي مكان يستطيع أن يعرض عليه فيه صوراً من المجتمع الروسي الحديث: في الحقل أو المصنع أو الطريق. وهو بعد ذلك لا يستقر في موقف، ومهما كانت المواطن التي يرتادها القارئ وراء آثاره لا يخرج منها إلا مشبعاً بهذه العزلة الروسية المؤلمة.
يقدم لنا تشيكوف مثلاً للحبة الضالة فتى كثير الأحلام، يضع رأسه حيث تطلع عليه منه أية فكرة جديدة. قد بحث عبثاً طوال حياته عن شكل عملي يلائم مثله الأعلى الذي يراه، والآن تركه القدر أباً أو ترك له ابنة تكرهه على كسب قوتها وقوته، هو يحب ابنته، ولا يفتأ(444/26)
يردد اللوم لها على كثير من العيوب في حياتها القلقة. في أمسية ساهرة، وجدت امرأة أيم - هذه الفتاة العابسة الشاردة، فأخذت تعزيها بكلمات لطيفة، وفي هذه الساعة تحدث الأيمان وشكا كلاهما للأخر ما عنده، وأذاع الرجل عليها قصة حياته كلها، وما ساقه إليه القدر، فاهتمت بحديثه اهتماماً شديداً وأقبل بقلبه وعاطفته. حتى ليظن الناظر أن القدر لم يجمع بينهما باطلاً، وإنما لأمر يريده في الجمع بينهما، وفي الغد ركبت المرأة العجلة، وكان يساعدها على الركوب، وإن الآذان لتنتظر منهما الكلمة التي يجب أن تجمع ما بينهما، ولكن لم يقل واحد هذه الكلمة. انطلقت العجلة ولبث الرجل جامداً كالتمثال. ينظر بعاطفة فيها فرح وألم إلى الطريق البعيدة التي توارت عليها السعادة التي فرت من بين يديه منذ قليل.
وقصة (الغارة) تقدم لنا مثلاُ لعاطفة الخوف الحادة التي تغزو فجأة نفس فتى متكبر اصطدم ببعض الحقائق. فالطالب (فاسيليف) وهو ذو طبيعة حادة دخل للمرة الأولى بيت الهوى ولكنه لم يستطع أن يتحمل التأثيرات المرهقة التي كان يكابدها؛ وغزت رأسه أفكار مظلمة أحاطت به من كل مكان. فكان يصيح آخذاً برأسه: (أحياء. . . أحياء. . . لو حطمت هذا المصباح لوجدتم أن في هذا شراً، ولكن - هنالك - ليست المصابيح هي التي تحطم، ولكن حيوات الخلائق البشرية. . . أحياء) ثم أخذ يفكر في وسائل استنفاذ هؤلاء المنكوبات، ويبدو له أن يجلس على قارعة الطريق مخاطباً كل عابر: (إلى أين تمضي؟ ولماذا؟ إخش الله؟) لكن هذه الفكرة سرعان ما غلب عليها الألم والريبة من نفسه، وزاد عليه الألم حتى سحق قلبه، ولكن فتيان مجتمعه لم يتألموا من أجله، وإنما كانوا يعربون غير ملتفتين إليه. فأحس الطالب أن عقله يفلت منه. فقيدوه حتى إذا ما شفى مما هو فيه ذكر عواطفه الأولى، وخجل منها، وهكذا حطم مذهبه، وخفق حلمه.
في الأوساط الاجتماعية، ومرابع العمال يكاد الإنسان يبدو أكثر ابتعاداً عن الأثواب السطحية والمظاهر الكاذبة. فإن المكافحة المتواصلة ضد الفقر لم تترك فرصة لغيرها. الحياة قاسية تحطم بلا رأفة أحلام السعادة، ولا ندع للإنسان - على الأغلب - رفيقاً يقاسمه أثقال الهموم والرزايا حتى الصغيرة منها. وقصة السائق تعطينا مثلاً لهذه العزلة، هذا السائق المعدم فقد ولده فلم يأنس في نفسه القدرة على احتمال هذه المصيبة. ووجد فيها ما(444/27)
يدفعه إلى أن يحدث الناس بها. ولكنه كان يبحث عبثاً عمن يستمع إليه. وفي يوم من أيام عمله ألقى نفسه وحيداً مع فرسه فناجاها: (نعم يا فرسي الصغيرة! إنه مات ولدي الحبيب، وتوارى سريعاً من دون علة. لنفرض أن لك مهراً، وهذا المهر مات على حين غرة، ألا يؤلمك فقده؟) أما الفرس فقد رنت إليه بعينين هادئتين لامعتين، ونفخت من أنفاسها بين يدي صاحبها الذي أنجز قصة موت ولده.
ولتشيكوف قصص رائعة وقفها على وصف الحياة للقروية التي تشبه من وجوه عدة حياتنا القروية. ومن ذلك (القرويون)، فنيقولا خادم في أحد فنادق (موسكو) ساوره داء عياء ووجد نفسه مضطراً إلى مغادرة عمله. وكان كل ما يقتصده يذهب إلى أيدي الأطباء والصيادلة. وعندما يئس من شفائه قرر أن يعود إلى قريته حيث أهله وأخوته، لأنه يؤثر إذا فاتته الحياة أن يموت على مرأى من أهله. لقد تر القرية حين كان فتى ثم لم تقع عليها أنظاره بعد ذلك. عاد هو وزوجه وابنته، فوجد أباه وأمه وأخوين له مع أزواجهما وأولادهما في هوان وفاته، وألقى أن الأسرة كلها تأوي إلى زريبة مظلمة قذرة يرن في أجوائها الذباب؛ فأدرك أن بقاءه في موسكو كان الأجدر به، ولكن هذا أمل خادع لأنه لا يملك أجر العودة. إذن يجب البقاء في هذا اللحد الذي أختاره. وهكذا استقبلتهما هو وزوجه حياة كلها تعب ونكد وشقاء ليس فيها إلا النزاع والصفع والهوان بدون نهاية. إنه يريد أن يعود، لأنه مل هذا الوجود؛ ولكن أني له المال؟ فزادت صحته سوءاً على سوء؛ فوعده صاحب قديم بشفائه، فقام بجملة تجاريب كانت القاضية عليه. وقضت زوجه من بعده شتاءها في القرية مع ابنتها. فأسرع دبيب الهم بخطوط الكهولة إلى وجهها الذي كان يحار فيه ماء الشباب، ومالت قامتها، وتبدلت حالتها. ومن ذا الذي يبقي على الهم؟ أقبل الربيع والأم وابنتها تدخلان الكنيسة ثم تزوان ضريح فقيدهما، ثم تطوفان سائلتين في الطرق! وتشيكوف نفسه يقول: (إن حياة عمالنا هي سوداء تمشي في طريق الفسق، أما حياة الشعب: عماله وفلاحيه، فما هي إلا ليل مدلهم ملؤه الجهل والفقر والألم)
إن تشيكوف ببراعته الفائقة، ونظراته الشخصية، يصف الحياة الإيجابية والسلبية؛ وهو ليس بذي طبيعة هجائية، لأن كتابته يغمرها العطف العميق. وهو لا يسخر من أبطاله، وإنما يشفق عليهم. عبقريته هادئة، مفكرة، عميقة، ولكن يخيل أحياناً أن هذا الهدوء ليس(444/28)
إلا قناعاً. وقد قال ناقد فيه: (إنه قلم ذو حنان) وهو في قصصه ينبوع فياض، لا ينفذ له موضوع، ولا يغتر له تحليل برغم بساطته. وهو لا يُعنى بالإسهاب الكثير، والاستطراد البعيد، لأنه يكفيه أن يطرق الجانب الحي من الموضوع.
جرب تشيكوف الكتابة المسرحية، وله منها القوى المتين، ومن ذلك مسرحية (الأخوات الثلاثة). هؤلاء كن يقضين حياتهم في بلدة حقيرة تبعث على السأم، خالية من الرجال اللامعين، وليس فيها إلا من تشابهت وجوههم، وتشاكلت نفوسهم، كأنهم نسخة واحدة تكررت نسخاً. وكان حل هؤلاء السفر إلى موسكو، لكن بلادتهن قضت عليهن بالبقاء، فليتهن يتناقشن ويتجادلن متفلسفات في مواضيعهن. وقد اتفق أن نزل المدينة ثلة من الجند، فماجت فيهن الحياة، وكان لهن حوادث حب مع العرفاء دامت حتى يوم الرحيل.
قالت الكبرى: إنهم رحلوا. . . سنبقى وحدنا! والحياة الساكنة ستبدأ.
فقالت الثانية: إنما يجب العمل، لا شيء يعوزنا إلا العمل!
وقالت الثالثة معانقة أختيها في حين راحت الموسيقى العسكرية تعزف لحن الرحيل: يا أُختيَّ! إن حياتنا لم تنته بعدُ إننا سنحيا.
هذه الموسيقى تصدح طربة. . . رويداً رويداً! إنني أُحس به. . . سنعلم غداً لماذا نحيا ولماذا نتألم!
هذه ناحية قوية من نواحي فلسفة تشيكوف البسيطة، وهي بمجموعها تنم عن (عجز عن الحياة مشوب بأمل مبهم. . .)
إن تشيكوف في الحقيقة منحة الأدب الروسي، وغرسة لم تتعهدها إلا تربة عرقه. ففي نزوعه إلى الحرية ترن ألحان تولستوي؛ وفي ميله إلى شراء الماضي بالألم يلوح وجه (دوستوفسكي) كأنما آثار كبار الروس تتبين خلال سطوره.
وقد يشبه تشيكوف من نواح عدة (موباسان) و (إيبسن) لكنه لا غموض ولا إبهام فيه، لأن الغموض النرويجي لا يلائم روح الأدب الروسي الذي ينزع إلى مجابهة المسائل الملعونة في الحياة مجابهة صريحة عنيدة. ولقد حار في تحديد قيمته النقاد فمنهم من وصفه بأنه كاتب (خلى) لأن كتابته لا تدعو إلى الثورة التي برزت في بعض آثار غيره، ومنهم من وجد فيه متشائماً لا يتفاءل في شيء من الحياة الروسية، لأنه ملتفت إلى وصف الآلام أو(444/29)
الجهود النازعة إلى طلب حياة تكون أحسن أثاثاً ورئياً.
ولعل في الرجوع إلى بعض سطور له ما يفيدنا في توضيح صفات هذه الشخصية الفذة، ومما يقوله: (إنني أخاف أولئك الذين يفتشون عن ميول ورغبات خفية بين السطور، وأولئك الذين يريدون أن يجدوا فيَّ محرراً أو محافظاً. . . إنني لست من ذلك في شيء. . . لست بالمحرر ولا بالمحافظ، ولا بالراهب ولا بالخلي، وإنما أنا رجل أمقت الكذب والصولة في أي مكان وتحت أي مظهر. . . لا أريد أن أكون إلا فناناً. . . وهذا كل شيء) ولكن هذا الفنان الحر الذي أبغض الكذب والصولة في المعنى الذي تفهمهما لم يستطع أن يكون إلا محرراً للإنسان بأوسع معنى للتحرير، ولم يكن بذلك المتشائم الذي تمثلوه، لكنه كان كاتباً يتألم لمثله الأعلى، ويوقظ بكتاباته الأمل في الخروج من غسق الحياة التي وصفها. وقد تبدي في بعض مراحله أنه مؤمن بمستقبل الإنسان والإنسانية، فيقول في محاورة له لبستانه: (أتعلم بعد جيلين أو ثلاثة أن الأرض ستصبح بستاناً زاهراً وإذ ذاك كم تغدو الحياة جميلة؟) وهو الذي يقول بأن الإنسان قوة الأرض المركزية (وينبغي للإنسان أن يعلم أنه أسمى من كل ما في الطبيعة. . . . إننا أكوان سامية عظيمة؛ وحين يتسنى لنا أن نعرف كل قوى العبقرية البشرية تغدو قرناء للآلهة)
لكن هذه الآمال الكبرى لم تحل بينه وبين وصف عجز الإنسان في كل زمان ومكان، فهل تأتي ذلك منه بطريق المناقصة؟ نقول: لا، لأن تشيكوف إذا لم يشك لحظة في تقدم الإنسانية فإنه ليتألم، ويبعثه على الألم تشاؤمه الأسمى للنزاع إلى السمو؛ وهذا التشاؤم الإنساني تجاه ما يخور العقل أمامه عجزاً، وهذه العاطفة تتألم وتيأس إزاء خبط الحياة وعصف الموت.
يقول أحد أبطاله: (إني إذا ما خشيت الحياة ولم أفهمها، فعندما أرقد على بساط من الأعشاب. وأتأمل طويلاً في حشرة ولدت في مطلع الليل، لأتفهم شيئاً من وجودها. يخيل إلى أن حياتها ليست إلا مرحلة من الرعب والذعر، فيها أرى نفسي، وأتمثل خاطراتي. . . كل شيء يروعني لأني لا أفهم العقل ولا نهاية الأشياء. لا أفهم شيئاً، ولا أدرك أحداً. . . أما أنت فإذا كنت تفهم فأحر بي أن أهنئك. . .) و (حين ينظر الإنسان طويلاً في السماء الزرقاء المترامية، فالأفكار المنبعثة والنفس تتحد اتحاداً خفياً في عاطفة عزلة عميقة،(444/30)
وخلال لحظة واحدة يشعر الفكر بوحدة الموت ولغز الحياة اليائسة المروعة)
إن هذا اليأس الشامل، وهذا الشقاء الذي تحدث عنه تشيكوف يتمثلان في آثار كل الشعراء والفنانين الروس البارزين. ومن منهم لم يرسم الحياة بهذه الخطوط المجعدة، ولم يجعل فؤادها مغموراً بهذا اليأس!
على أن تشيكوف - بما أوتي - رأى وأدرك وجهي الحياة: وجه تقدمها التاريخي والاجتماعي، ووجهها الآخر الذي يحيط بها من كل ناحية: هذا الوجه المظلم المجهول الغائم تحت أنفاس الموت الباردة.
(حلب)
خليل هنداوي(444/31)
في المخبأ. . .
للأستاذ محمد محمود دوارة
عشنا لنرى ما لم يخطر لنا على بال. واضطرتنا حوادث الأيام إلى أن نأتي أعمالاً لو أنا أتيناها قبل اليوم لنسب إلينا الجنون المطبق!. . .
انقلبت جميع الأوضاع رأساً على عقب.
كان الظلام مبعث الرهبة والخوف، فأمسى هو الملجأ منهما كان المنزل هو المكان الذي يتوفر فيه أمن المرء وطمأنينته فأصبح الهلاك كل الهلاك في البقاء بالمنزل.
كانت الشجاعة في الثبات أمام الأخطار والكاره ومجابهتها وجهاً لوجه فإذا هي في الفرار والهرب.
كان النهار معاشاً والليل لباساً فإذا النهار غير معاش والليل هلاك.
كان القمر فتنة الكون في لياليه الباهرة، وكان نجوى الشاعر والعاشق والفنان، فإذا هو علامة من علامات الشر، ونذيرٌ من نذر الدمار والخراب.
فسبحان الذي يغير ولا يتغيّر. . .
بعد منتصف الليل والكون غارق في بحار الكرى تدوي في الفضاء فجأة أصوات منكرة متقطعة متكررة لا عهد لنا بها من قبل، فكأنه قد نفخ في الصور، وجاء البعث والنشور.
يثب المستدفئ من فراشه الوثير وكان لو خيَّر بين تركه أو خسارة نصف ماله لضحّى بالمال غير متردد في الاختيار.
وتمتلئ الشوارع في تلك الساعة التي اعتادت فيها الفراغ إلا من متسكع لا مأوى له، أو حارس تعلم بالتجربة كيف ينام وهو واقف، أو معربد جعل من ليله نهاراً.
رجال ونساء وصبية وأطفال كلهم مفزع مضطرب. كلهم صامت كأن لم يخلق له لسان ولا شفتان، وكلهم سريع الخطى لا فرق بين هرم وشاب، ولا بين عجوز وفتاة في عنفوان الصبا والشباب.
قف في تلك الساعة وتأمل معي الناس. . .
هذه جارتي الحسناء التي اعتادت أن تقف أمام المرآة نصف النهار لتخرج إلى الناس فتنة وسحراً لا يقاومان، هاهي قد خرجت تهرول بوجهها الذي خلقه الله. لم تمكنها المفاجأة ولم(444/32)
يمكنها الخوف من الكذب على عباد الله.
وهذا جاري الذي لم أكن أراه ولم يكن يراه الناس إلا منتفخ الأوداج مصعر الخد متبختراً يمشي الهوينى كأنه الهودج أو الديك الرومي، هاهو الآخر يهرول في مشيته ضارباً بأصول العظمة والكبر ومشية الحاكم عرض الحائط.
وهذا الرجل الذي قطع حبل السكون بضراعته إلى الله تعالى وبدعوة رسله وأنبيائه وأوليائه، هل رأيته في الصباح وسمعته وهو يسب الأديان جميعاً لسبب من أتفه الأسباب؟
ما أروع الفرق بين الليل والنهار في هذه الأيام!
وما أقرب المسافة بين إيمان الإنسان وكفره، وبين أمنه وخوفه وبين هداه وضلاله!
وفي المخبأ في كل ليلة من ليالي الغارات تستطيع أن تشهد وأن تسمع ما لا عين شهدت، ولا أذن سمعت، قبل هذه الليالي السوداء!
دخل المخبأ متأخراً عن رواده بقليل رجل يحمل في إحدى يديه مصباحاً كهربائياً (بطارية) يستعين به بين الفينة والفينة على تعرف طريقه، فما كاد يطأ بقدميه بابه حتى ضغط زر المصباح ليرى ما أمامه، ولكنه سرعان ما ارتد إلى الوراء مفرغاً مضطرباً إذ تعالت صيحات الاحتجاج والتوبيخ الموجهة إليه من كل جانب.
- من هذا الحمار الذي يريد ضياعنا في شربة ماء؟!
- من هذا المجرم الذي يريد قتلنا؟!
- اطفئ النور أيها المغفل
- الله، الله. . . أتريد قتلنا بمصباحك كما قتل مصباح آخر قوماً آخرين بالإسماعيلية؟
ووسط ذلك السكون الرهيب والظلام الدامس انبعث صوت متحدث رزين تدل نبراته على فرط الرسوخ في العلم.
قال زاده الله علماً ومعرفة:
- الصمت مطلوب في هذه اللحظة يا إخوان، لأن طيارات الأعداء بها أجهزة خاصة لالتقاط أصوات المتكلمين وهي من الدقة بحيث لا يخفي عليها حتى همسات الهامسين. . . ضعوا ألسنتكم في أفواهكم، وإن استطعتم فاكتموا أنفاسكم على قدر الاستطاعة! بهذا حكم الله وبه قضى، ولا راد لقضائه سوى رحمته. واعلموا أن كل من يجازف بالحديث أثناء(444/33)
تحليق الطائرات في الجو كأنه يريد أن يدل الأعداء على مكاننا، أو بمعنى آخر كأنه يريد القضاء على نفسه وعلينا جميعاً.
ولست أدري هل صدَّق الناس قول ذلك الخبير العجيب أم لم يصدقوه، فان واحداً منهم لم يعترض على ما قال ولم يحاول مناقشته، ولكني لا أشك لحظة في أن جارتي العجوز قد آمنت بكل كلمة من كلماته، وإلا فما بالها تكتم أنفاسها ذلك الكتم الشديد الذي جعلها في آخر الأمر تعلن إفلاسها في تلك المحاولة العسيرة قائلة: يفعل الله ما يشاء. . . إنني أكاد أموت اختناقاً.
ثم جازفت وعادت سيرتها الأولى في استنشاق الهواء ونفثه بالكيفية المعتادة
وعند مدخل المخبأ مع بعض اللاجئين فراراً من الجو الخانق في داخله كان بيننا جندي من أهالي الصعيد يظهر من لهجته الجافة أنه لم يتلق أي نصيب من التعليم أو التهذيب.
ومما يدل على حاجته الشديدة إلى دروس في الذوق أنه اختار هذه المناسبة ليحدثنا عن جماعة لجئوا إلى مخبأ في بلد من البلاد المنكوبة بالغارات فأصيب ذلك المخبأ وهم فيه بقنبلة مباشرة نسفته نسفاً وجعلت من فيه أشلاء لا يعرف فيها القدم من العنق ولا المعصم من العامود الفقري!
وفي أثناء حديثه ظهرت أنوار المصابيح الكاشفة منعكسة على السحاب فأراد أحدنا أن ينتهز فرصة ظهورها ليحول التفاتنا إلى غير ذلك الحديث المقلق للراحة حديث الجندي اللبق! فقال وهو يشير بسبابته إلى حيث تلك الأنوار:
- انظروا! هاهي الأنوار الكاشفة قد بدأت عملها
ولكنه ما كاد يفعل حتى انقض الجندي على ذراعه الممدودة في الفضاء وإذا به يجذبها في شدة وعنف قائلاً في غضب ليس بعده غضب:
- أأنت مجنون يا هذا؟ أتريد أن ترى الطيارات ذراعك الممدود وسبابتك الموجهة إليها فتعرف مكاننا ولا تتركنا إلا أشلاء لا يعرف فيها القدم من العنق ولا المعصم من العامود الفقري كما حدث في. . .
واستأنف حديثه كما بدأه. . .
وردد الفضاء صوت انفجار أول قنبلة مضادة للطائرات، ثم تلاه أصوات متلاحقة لقنابل(444/34)
أخرى تتفاوت في الشدة والقوة فسرت في المخبأ دمدمة رهيبة تلاها ضمت كصمت القبور لم يقطعه إلا صوت امرأة تخاطب زوجها قائلة:
- هذا صوت قنابل الطيارات. إنهم يضربون البلد! لابد من الهجرة غداً
فأجابها في صوت ضعيف مستكين:
- ليست هذه قنابل الطيارات
- ماذا تكون إذن؟ لابد من الهجرة غداً. . . غداً من الفجر بإذن الله. هل جننت حتى أعيش في هذا الجحيم؟
- لست هذه قنابل الطيارات. قلت لك إنها المدافع المضادة لها
- بل هي قنابل الطيارات
- ليست هي قنابل الطيارات
- بل هي قنابل الطيارات
- ليست. . .
وشفع كلامه في هذه المرة بحركة صاحت على أثرها المرأة صياحاً منكراً، وإذا بها معكرة زوجية من الصنف الحاد.
وطغا صوت المرأة على صوت أضخم المدافع وأقواها صوتاً
وكان الأستاذ كامل قد احتسى كأساً أو كأسين غير حاسب للغارات حساباً؛ فلما فاجأته غارة الليلة وهو في نشوته اللذيذة هبط إلى المخبأ وهو يلعن الحرب ومن كان السبب في شبوبها.
وهناك انتبذ ركناً قصياً واستسلم للتفكير
ولكنه لم يهنأ بجلسته طويلاً، إذ صاح صبي من الصبية كان يجلس إلى جواره قائلاً:
- هنا رجل سكران يا ماما. . . في المخبأ سكران طينة. . إنني أشم رائحة الخمر. وأيدته امرأة عجوز قائلة:
- إن رائحته كبرميل من الخمر القذرة
وإذا بدردبيس أخرى تقول:
- إن وجوده بالخندق نجاسة!(444/35)
فلم يسمع كامل أفندي إلا أن ينفلت من مكانه في سكون تاركاُ القوم قبل أن يكشفوا أمره. . . ومن يدري ماذا يفعلون به حينئذ؟!
وأقسم من تلك الليلة إلا يذوقها إلا نهاراً. . .
في المخبأ عجائب لا تجتمع في مكان آخر، وفيه مفارقات لا تخطر على بال
هاهنا رجل جبان رعديد ينتفض من الفزع، بينما أخذت طفلة في الخامسة تشجعه وتهون الأمر عليه.
وهتاك فتاة عابثة تضحك من كل شيء ومن لا شيء
في المخبأ لمحات من الفكاهة الصافية الحلوة وصور عابسة من الأسى المرير. وإذا كنت لم تر السعادة مرتسمة على وجه من الوجوه فتعال إلى المخبأ وانظر إلى وجوه الخارجين منه بعد انتهاء الغارة وكأنهم يبعثون!
أما إذا أردت أن ترى الهم في أقتم صوره فانظر إلى ذلك الوالد وهو يجلس إلى جوار زوجته المريضة وقد حمل على يديه ولداً من أولادها بينما حملت هي آخر، بينما جلس بينهما ثلاثة أو أربعة آخرون.
(السويس)
محمد محمود دواره(444/36)
20 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - عاداتهم
من العادات التي تراعيها طبقات الشعب أن تذهب العروس ظهر الأربعاء الأول أو بعيد الظهر، أو يوم السبت إذا كان الزواج يتم مساء الاثنين، إلى الحمام في أبهة واحتفال. ويسمى هذا زفة الحمام. فيتقدم الزفة فرقة تتكون من مزمار أو مزمارين وطبول مختلفة الأنواع. وكثيراً ما تنتهز الفرصة للاحتفال بختان الولد؛ فيسير هذا وحاشيته خلف الموسيقيين بالطريقة السابق ذكرها. وقد يتقدم حاشية العروس رجلان يحملان الأواني والملابس التي تستعمل في الحمام على صينيتين مستديرتين تغطيان بنسيج من الحرير المطرز أو الساذج. ويوجد أيضاً سقاء يروى ظمأ السائرين، ورجلان آخران يحمل أحدهما قمقماً من الساذجة أو المذهبة، أو من الصيني مملوءاً بماء الورد أو زهر البرتقال يرش منه على السائرين من وقت لآخر. ويحمل الآخر مبخرة من الفضة يحرق فيها العود وغيره من المواد العطرية، ولكن يندر أن تسير الزفة بهذه الطريقة. وتكون حاشية العروس من صديقاتها وقريباتها المتزوجات، يتقد من اثنتين اثنتين، وتتلوهن الفتيات العذارى. ويلبس المتزوجات الملابس العادية ويتدثرن بالحبرة الحريرية السوداء؛ أما الأخريات فيلبسن الحبرة الحريرية البيضاء أو الشال. ثم تتبعهن العروس تحت مظلة حريرية ذات ألوان زاهية قرنفلية أو وردية، أو صفراء، أو ذات لونين معاً على هيئة خطوط عريضة غالباً ما تكون وردية وصفراء. ويحمل المظلة من قوائمها الأربعة المعلق على كل منها منديل مطرز. أربعة رجال. ويفتح صدر هذه المظلة. وتختفي العروس تحت ملابسها فتتدثر من قمة الرأس إلى أخمص القدمين بشال كشمير أحمر، أو نادراً بشال أبيض أو(444/37)
أصفر، ويتوج رأسها بغطاء من الورق المقوى يوضع عليه الشال فيحجب عن الأنظار وجهها وملابسها الثمينة وحليها خلا قُصة أو قُصتين. وحلي أخرى أحياناً من الماس والزمرد تعلق على هذا الموضع من الشال الذي يغطى الجبهة. ويرافق العروس تحت المظلة اثنتان أو ثلاث من قريباتها، وامرأة أخرى تروح عليها عندما تشتد الحرارة بمروحة كبيرة من ريش النعام الأسود يزين أسفلها مرآة صغيرة. وقد تقام زفة واحدة لعروسين معاً تحت مظلة واحدة. وتسير الزفة ببطء شديد وتتبع طريقاً ملتوياً ليطول العرض. وتتوجه إلى اليمين عند البدء في السير؛ ويأتي في ذيل الزفة فرقة موسيقية أخرى مثل الأولى أو فرقة من طبالين اثنين أو ثلاثة. ويلاحظ أن السائرات في زفة العروس من الطبقة السفلى يزغردن كثيراً. ويزغرد كذلك نساء الطبقة الفقيرة كلما شاهدن زفة. (شكل 46) زفة عرس (قسم أول)
وقد يستأجر الحمام كله للعروس وحاشيتها فيمضين ساعات أو ساعتين على الأقل في الاستحمام واللعب وتناول الطعام. وكثيراً ما تستأجر العوالم (القيِان) لتسليتهن في الحمام. ثم تعود الزفة بالنظام نفسه. ويتحمل أهل العروس نفقات الزفة، إلا أن العريس يقيم المأدبة التي تعقب ذلك.
وتعود العروس من الحمام إلى منزل أهلها فتتناول مع رفيقاتها العشاء. وتصحبهن القيان لاستئناف اللهو. وتدور أغانيهن على الحب والزواج. وبعد ذلك تعجن بعض الحناء وتضع العروس قطعة من العجين في يدها، ثم تتناول (النقوط) من ضيفاتها، فتلصق كل منهن قطعة من النقود الذهبية عادة في تلك العجينة حتى لا يبقى موضعاً فيها، فتقشطها العروس حينئذ بعيداً عن يدها على حافة وعاء مملوء ماء، ثم تضيف بعض الحناء إلى يديها وقدميها وتربطان بالكتان حتى الصباح، فتصبح بلون أحمر برتقالي قان. وتستعمل المدعوات ما تبقى من الحناء لصبغ أيديهن. وتسمى هذه الليلة (ليلة الحنا) (شكل 47) زفة عرس (قسم ثان)
ويقيم العريس الحفلة الكبرى في هذه الليلة، وأحياناً في اليوم السابق. فيعرض (المحبزون) ألعابهم أمام المنزل أو داخل الفناء إذا كان المنزل واسعاً. وقد وصفت الألعاب الشائعة الأخرى التي تعرض على المدعوين لتسليتهم.(444/38)
وتزف العروس إلى منزل عريسها في اليوم التالي. وتسمى هذه الزفة لأهميتها (زفة العروسة). أما الزفة السابق وصفها فتسمى (زفة الحمام) لتمييزها عن الأخيرة. وقد تسير العروس إلى الحمام بغير أبهة أحياناً تقليلاً لمصاريف الاحتفال وتكون الزفة إلى منزل العريس فقط. وزفة العروس كالزفة السابقة تماماً. وتتناول العروس الفطور مع حاشيتها ثم تبدأ الزفة بعد الظهر، فتسير ببطء وانتظام كزفة الحمام سيراً طويلاً خلال الشوارع الرئيسية لأجل العرض ولو كان منزل العريس قريباً. وقد تدوم الزفة ثلاث ساعات أو أكثر عادة. وقد يتظاهر أمام الزفة مبارزان لا يلبسان غير السراويل، أو يتضارب فلاحان بالنبوت أو بغيره. وترحب العائلات الموسرة بمن يجيد تسلية المتفرجين بحليهم وألعابهم العجيبة أثناء زفة العروس، وتقدم إليهم هدايا جميلة. وحينما زوج السيد عمر نقيب الأشراف الذي كان الوسيلة الكبرى لبلوغ محمد علي ولاية مصر، بنته منذ حوالي خمس وأربعين سنة سار أمام الزفة شاب قد شق بطنه وأخرج أمعاءه على صينية من الفضة، ثم أعادها إلى موضعها بعد الزفة ولزم السرير عدة أيام قبل أن يشفى من آثار هذا الجنون الكريه. وضرب آخر ذراعه بسيفه أمام المتفرجين ثم شد جرحه قبل أن يخرج السلاح ببضعة مناديل تشربت بالدم. وقد وصف لي هذه الألعاب شاهد عيان. وهناك مشهد أكثر غرابة واشد إثارة للاشمئزاز لا يقل شيوعاً في هذه المناسبات عادة إلا أنه يندر أن يشاهد الآن. وقد يعرض الحواة أيضاً حيلاً مختلفة إلا أن أكثر الألعاب تكون تقليداً للمعارك. وقد تعرض مثل هذه الألعاب في الاحتفال بختان، وقد تسير في الزفة العظيمة عدة عربات يركبها صناع وتجار من مختلف الفنون والحرف الممارسة في العاصمة يمثلون أعمالهم العادية. ويوجد في إحدى العربات بعض الرجال يصنعون القهوة ويقدمونها إلى المتفرجين أحياناً، وفي عربة أخرى يجلس بعض الموسيقين، وفي عربة ثالثة بعض العوالم. وتركب العروس في مثل هذه الزفة عربة أوربية مقفلة، ولكن كثيراً ما تركب العروس وقريباتها وصديقاها الحمير فوق البراذع المرتفعة، ويتقدمهن الموسيقيون والمغنيات ويتلوهن فرق أخرى في نهاية الزفة.
وتؤدب للعروس ورفيقاتها مأدبة عند بلوغهم منزل العريس، وسرعان ما تنصرف الصديقات وتبقى أم العروس وأختها وحدهما معها أو إحدى قريباتها الأخريات وامرأة(444/39)
أخرى تكون (البلانة) عادة، وتسمى الليلة التالية (ليلة الدخلة)
ويبقى العريس في الدور الأسفل، ويذهب قبل الغروب إلى الحمام فيتغير ملابسه وقد يغيرها في المنزل؛ وبعد أن يتناول وجبة العشاء مع بعض أصدقاءه ينتظر قليلاً إلى قبيل الصلاة أو إلى هزيع من الليل، ثم يذهب حينئذ - حسب العادة الشائعة - إلى أحد المساجد المشهورة مثل مسجد الحسين لإقامة الصلاة؛ وتقام له بهذه المناسبة زفة إذا كان شاباً، فيتوجه إلى المسجد مسبوقاً بفرقة من طبالين وزمار أو زمارين، وبصحبته بعض أصدقائه وحاملي المشاعل: والمشعل عبارة عن عصا طويلة ينتهي طرفها الأعلى بإطار أسطواني من الحديد يوضع فيه خشب مشتعل؛ وقد يكون لها اكثر من وعاء واحد للنار (أنظر شكل 48)، (شكل 48) مشاعل وتسير الجماعة إلى المسجد عادة بخطى سريعة ونظام قليل، وتختم الزفة فرقة موسيقية كالأولى أو فرقة طبالين. ويلبس العريس عادة قفطاناً ذا خطوط حمراء وجبة حمراء ويعتم بشال من الكشمير باللون نفسه، ويمشي بين صديقين في مثل ثيابه. وتقام الصلاة للاحتفال فقط، وفي أكثر الأحيان لا يصلي العريس مطلقاً، أو يصلي من غير وضوء مثل المماليك الذين يقيمون صلاتهم خوفاً من سادتهم فقط. وتعود الزفة من المسجد في نظام أتم وأبهة أعظم وبطء شديد. وربما كان سبب ذلك أنه لا يليق بالعريس أن يسرع إلى المنزل ليحظى بعروسه. ويتقدم الزفة
- كما سبق - موسيقيون وحاملوا مشاعل، يتبعهم رجلان يحملان على كتفيهما إطار معلقاً في مذراةٍ يتدلى منه ستون فانوساً صغيرة أو أكثر مقسمة إلى أربع دوائر تعلو إحداها الأخرى، ولا تثبت الدائرة العليا بحيث يستطيع أحد حاملي الإطار أن يدرها من حين لأخر. وينير لآلاء هذا الفوانيس والمشاعل الكثيرة الشوارع التي تمر فيها الزفة، فتحدث تأثيراً جميلاً يستحق الاعتبار , يتقدم العريس وأصحابه وغيرهم في شكل حلقة مستطيلة متقابلين وفي يد كل منهم شمعة أو أكثر، وأحياناً يحملون أغصاناً من شجر الحناء أو بعض الزهور عدا العريس وصديقيه على كل جانب، وهم يمشون في مؤخرة الحلقة التي تشمل عشرين شخصاً أو أكثر. وكثيراً ما يقف الموكب برهة يغني أثناءها أحد رجال الحلقة أو صبيانها أنشودة العرس، ويقف أثناء ذلك دق الطبول ونغمات المزمار الحادة التي تبلغ مسامع العروس قبل وصول الزفة إلى المنزل بنصف ساعة أو أكثر. وينتهي الموكب كما(444/40)
سبق بفرقة موسيقية ثانية.
هذه هي الطريقة الشائعة في زفة العريس. وهناك طريقة أخرى أكثر اعتباراً تسمى (زفة ساداتي) يسير العريس فيها بين أصدقائه كالطريقة السابقة وبين حاملي المشاعل دون الموسيقيين، ويستخدم مكان هؤلاء رجال يسمون لاحترافهم الغناء في مثل هذه الأوقات (ولاد ليالي) ويتوجه العريس بين هذه الحاشية إلى المسجد. ثم يعود الموكب على مهل ويشرع المغنون في الغناء أو إنشاد الموشحات في مدح الرسول (صلعم) ويرتلون متعاقبين ما تيسر من القرآن بعد الوصول إلى المنزل، ثم يقرءون جميعاً الفاتحة، وينشد أحدهم بعد ذلك قصيدة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وأخيراً ينشد الجميع مرة أخرى الموشحات ويتناولون النقوط من العريس وأصدقائه.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(444/41)
برقة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
ما بَرْقة تلك التي خَلقَتْ لنا ... شغلاً وشغلاً للهواجس في غد
تلك التي حمل ابن أوس هما ... في بارع بادي الجمال مخلد
(أصَبا الأصائل إن برقة مَنشد ... تشكو اختلافك بالهموم العوَّد)
أم برقة أخرى وكم من برقة ... أخفى تألقها اتساع الفدفد
قد كدت أنساها لطول تذكري ... فضللت حتى كدت أَلاَّ أهتدي
(يا جارة الوادي) ولست بجارة ... إن لم تردي عنه كيد المعتدي
ثأرُ السنوسيين لما ينسه ... أهل العروبة واللسان والأمجد
جبّتْ عروبتنا عهوداً قبلها ... ومضت حفائظنا وراء المسجد
مضت الألوف من السنين بما حوت ... مما حمدناه وما لم نحمد
والآن يقرئ بالسلام يمينَهم ... ويسارًهم أبناء دين محمد
ولقد شهدت وأدمعي منهلة ... أسراكمو، يا ليتني لم أشهد!
أتحالفون لغزو مصر عدوكم ... وعدوَّها وعدو أهل السؤدد
يا جارتا إن كنت غير مطيقة ... إدراك ثأرك فاغضبي وتمردي
أما لا ألوم على المساوئ أهلها ... إن كنت لما تدركي فتجلدي
إني لأذكرها فأذكر شاعراً ... (ظن الظنون فبات غير موسد)
ماذا شهدت؟ شهدت أسمج مشهد ... فتيان رومةَ في القميص الأسود
وأظنهم لا ينزعون سوادهم ... لا بل يحك عليهمو بالمبرد
صدأ العقول كسا الجسوم بلونه ... فمشوا عراة مشية المتبلد
فرحوا بأسرهمو فدان ألوفهم ... في موكب الأسرى لفرد أوحد
لا بل همو اعتادوا المذلة قبلها ... فبلادهم تعنو لرأي مفرد
متبجح جعل الصياح أداته ... فسما على أكتاف شعب مُجْهد
لا تطلبوا من خاضع حرية ... (صعب على الإنسان ما لم يعتد)
أمر الجنود بغزو صر فأذعنوا ... وأتوا إلى مصر بغير تردد(444/42)
لا فاتحين ولا غزاة وإنما ... أُمروا فكانوا طوع أمر السيد
ووراءهم (عَرَبٌ) فوا أسفالهم ... لِمَ يتبعون جيوش طاغ معتد؟
وإذا أردت عن الحروب نبوة ... فانظر إلى الجندي ماذا يرتدي
الفاتحون، ثيابُهم ولحاهمو ... شهدت لهم بعقاب يوم مُرْصّد
شِعر أُغصُّ به فذلكموا أخي ... ولو أنه في نهجه لم يرشد
لو كنت من أبناء برقة ما خطت ... رجلي إلى مصر وسيفي في يدي
هيا أدخلوها راكعين وسجداً ... أنتم بمصرٍ عند أقدس معبد
لو يشهد (المختار) أسرى برقة ... لرثى لشعب في الهوان مبدد
سد يا حليف فكل فرد سيد ... لكن شعبك ما له من سيد
لا ندعى لك عصمة في موقف ... لا بل نقول لصاحب لا تبعد
طال الخلاف وما تزال بقية ... منه ولكنا كرام المحتد
خلق الوثائقَ والكتابةَ قومُنا ... حرصاً على عهد لهم أو موعد
سادوا، وما سادوا بغير جدارة ... ما ساد إلا كل سامي المقصد
عبد اللطيف النشار(444/43)
(الرسالة)
في عيدها العاشر
(مهداة إلى (الرسالة) الحبيبة وإلى أقطابها الثلاثة: الزيات
والعقاد وزكي مبارك. . .)
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
حيَّ (الرِّساَلةَ) وَاقْبِسْ مِنْ مُحَيَّاهَا ... مَا شِئتَ مِنْ حُسْنِهاَ أو مِنْ حُمَيّاهَا!!
رّفَّتْ عَلَى الشْرْقِ أَنْدَى مِنْ أَزَاهِرِهِ ... كأَنَّ مِنْ نَفَحَاتِ الخُلْدِ رَيّاهَا
وَأَشْرقَتْ بشُعَاعِ الْفِكْرِ نَاضِرَةً ... تَسْبِي الْقُلُوبَ وَتجري في حَناياهَا
حَسْنَاءُ أَوْفَتْ عَلَى عَشْرٍ وَمِنْ عَجَبٍ ... سِرُّ البريّة لا يَعْدُو ثَنَايَاهَا
ترجو العيونُ إذا أَبْصَرْنَ نَضْرَتَهَا ... لَوْ أَنَّهُنَّ شِفَاهٌ قّبَّلَتْ فَاهَا
مَضَى الزَّمانُ عَليْهَا وَهْيَ أُغْنِيَةٌ ... فَمُ الخلودِ ارْتَوَى مَنْهَا وَغَنّاهَا
تختالُ بالفَنِّ والآداب مُتْرَعَةً ... كالنَّهر يضحكُ أَعْشاباً وأمواهَا
الفكرُ أدبها، والعقلُ هَذَّبها ... وَالطبعُ حبَّبها، والحُسْنُ جَلاَّهَا
والشرقُ مَن وَرْدَها ريَّانُ مُقتبسٌ ... مِن نورها مُستمدٌ مِن سجاياهَا
تغدو عليه كأنفاسِ الربيع لها ... في كل قلبٍ معانيها ونجواهَا
وللحياةِ مجالٍ في صحائفها ... كالنفس تزخرُ بالدنيا طواياهَا
لم يبق للكون سرٌّ بعد ما بعثتْ ... شُعاعَها في الدُّنى يجلو خفاياهَا
رسالةُ النيل لا يبْغي بها بدَلاً ... وَهْيَ (الرسالة) و (الزياتُ) أدّاهَا
سَمَتْ إلى المجد وَالْعَلْيَا وصاحِبُها ... أوفى عَلَى الغاية القُصْوى ووفاَّهَا
في كلِّ لفظٍ من (الزياتِ) أغنيةٌ ... السّمْعُ يعشقها والفكرُ يهواهَا
والفنُّ في أدب (الزياتِ) مَوْهبةٌ ... الْحُسْنُ باكَرَها والسحرُ غاداهَا
ما زال يهتف بالفصحى ويكلؤُها ... حتى غدا وهوَ حاميها وموْلاهَا
أما (زكيٌّ) فلا والله ما خَلَقَتْ ... لَهُ الطبيعةُ أنداداً وأشباهَا!
أهفو إليه كأنّ النفسَ غارقةٌ ... في حُبِّهِ! وكأنّ الحبَّ سَلْواهَا(444/44)
حديثهُ ذو شجونٍ سحرُها عجبٌ ... ما رادَها شاعرٌ إلا تمنَّاهَا
معنىَ جميلٌ وأُسلوبٌ له صِلةٌ ... بالموْج في البحر: هَدَّاراً وتيَّاهَا
لو أنّ بالخمر معنىً من سلامتهِ ... لباعتِ الناسُ بالأقداح دُنياهَا!
وسائِلوني عن (العقادِ) إنَّ لهُ ... نَفْساً تفيضُ المعاني من زَواياها
أَضْفَي منَ الكَوْنِ تَخْتَالُ الحياةُ بها ... بالشِّعْرِ والحُبِّ والدُّنْيا ومغزاها
لهُ عَلَىَّ أيادٍ لَيْسَ يَعْرِفُها! ... ولَسْتُ أَجهْلهُا بل لَسْتُ أنْسَاها
ديوانهُ قبْلتِي أَلقَي الحياةَ بها ... حَسْنَاء بالحُبِّ تَلْقَانِي وألْقَاها
مِرْآةُ نَفْسٍ جَمالُ الكُوْنِ رَقْرَقَها ... وَسِرُّ رُوحٍ لِسَانُ الدَّهْرِ نَاجَاها
أقسمتُ أنكَ يا عقادُ مُعْجِزَةٌ ... هَيهاتَ يدري ضميرُ الكَوْنِ مَعْناهما
آمنتُ بالشِّعر يا عقادُ في بَلَدٍ ... غَلَّ الْعَمَى مُقلتَيْهَا ثمَّ غَشّاها
للِجَهل فيها دواوين وأروقةٌ ... تدعى المدارس حيَّ الله مبناها!
آمنتُ بالشِّعر والدنيا تضيق به ... وطالما أضحك الدُّنيا وأبكاهَا
أنا - ويا ويح من تجني عليه أنا - ... كزهرة الجبل العالي وريْاها!
يضوع منها الشذى لكن يضيع سدى ... مع الرياح وما تدري ببلواها
حسبي من الدهر أن أحيا بعاطفة ... مماتها في سبيل الشعر محياها!
(كوم النور)
أحمد أحمد العجمي(444/45)
القصص
ليلة عيد الميلاد
للكاتب الإنجليزي (نيودورجو)
بقلم الأستاذ كامل يوسف
- 1 -
طلب الناس هدنة من أحزانهم ليلة 25 ديسمبر سنة 1917 وراحوا يحيون ذكرى ميلاد (السيد المسيح)، فأنيرت الثريات الملونة، وأوقدت شموع الميلاد في كل دار، وتدفق الشراب في أجواف الناس، حتى أصبحوا لا يشعرون إن كانوا يحملون فوق أكتافهم رؤوساً أم أثقالاً. وامتلأت البطون بألذ وأفخر المآكل، حتى خيل إليهم إنها تكاد تنفجر من فرط ما استقر فيها، وتلمس كلٍ المتع فمن مخاصر إلى مراقص إلى مناج إلى مختلس للقبلات. كان الناس على هذه الحالة من المرح والسرور، وهم يقولون في أنفسهم: (غداً سيكون الطوفان) فستحمل إليهم الأنباء ويلات الحرب التي نزلت بذويهم وفلذات أكبادهم، وربما حملت إليهم هذه الأنباء، وأشفق ذوو الأمر من تبليغها حرمة لهذا العيد المقدس.
في هذه الليلة تنبه شيطان من شياطين العالم الآخر على حركة مرح غير عادية في الكوكب الأرضي، واستغرب صدور ذلك من سكان الأرض وقال في نفسه: (لعلهم لا يشعرون بما يجري من ويلات!) ولم يدر سبب ذلك فلجأ إلى زميل من زملائه يعبر له عن عجزه عن إدراك السبب، وكان بجوارهما مفستو فليس كبير الأبالسة ينصت إليهما فقال لهما في ابتسامة ساخرة: ألا تعلمون سر هذا المرح؟ اليوم ذكرى ميلاد رب السلام، فما أغبى الإنسان! إنه ينسى مصائب الأجيال والأزمان ممثلة في الحرب الأوربية الآن ويهلل فرحاً بهذا العيد!
فلما سمع الشطيان ذلك قال أحدهما للآخر: ما دام الأمر كذلك فدعنا نمزح ونضحك من الناس قليلاً هذه الليلة.
فأجابه الآخر: وأين نضحك وهنا مجال عملنا في الضحك والاستهزاء، وأشار بيده إلى جهنم. فقال الأول: حقاً إنه لمجال مُله مسل، وإنه لا يسرني شيء أكثر من ذلك الرجل(444/46)
الذي يقال له فيدياس فقد قيل عنه إنه أخرج أحسن دمية عرفها التاريخ، ومن ذلك الرجل الذي يقال له فيدياس فقد قيل عنه إنه أخرج أحسن دمية عرفها التاريخ، ومن ذلك الرجل الذي يقال له (دافتشي)، ومن ذلك الرجل العابس الذي كان يكره أمه كرهاً عميقاً وانفصل عنها ثم جمعتها المصادفة في موطننا العزيز أعني به (شوبنهور). ليس يضحكني أكثر من هذه الشخصيات الغربية التي تبددت في شخص امرأة جميلة، رآها فيدياس فقال إنها أجمل مما صاغته يده؛ ورآها دافتشي فاعترف بحقارة فنه تجاهها؛ ورآها الرجل العابس شوبنهور فأقر بخطأ رأيه في المرأة وعادت العلاقات بسببها مع أمه، تلك المرأة المتحذلقة، ورآها لويس الرابع عشر فأمر مدام ببادور أن تكون خادمتها، واستحت كيلوبطرة أن تظهر أمامها لئلا تفقد شهرتها التاريخية.
وكان هذا الشيطان مع حداثة عهده قديراً مبدعاً في مخاطراته، وساخراً بارعاً في أفعاله؛ وكان زميله ينصت إليه بشوق ولذة، فقال له وهو معجب: هيه يا بعلزبول! فاستمر الأول يقول: تصور هذا الجمع من المجانين تظهر في وسطهم حورية! لقد كنت أتودد إلى كل واحد منهم على حدة حتى أدعه يثق بأنها أصبحت أسيرة هواه، فإذا استقر هذا الرأي في ذهنه تحولت عنه إلى آخر، ومثلت هذا الدور نفسه مع كل واحد، وبذلك استفززت غيرتهم جميعاً فنشب بينهم الخصام. وسمعت شوبنهور يقول بعد ما قاسى الخيبة: (محال أن أنزل عن رأي الذي ذكرته في المرأة. إنها الخادعة الماكرة) وسمعته ينادي نيتشه: تعال يا بني وهات معك سوطك لكي أتفاهم مع هذه المرأة المغرية) فقد ضحكت كثيراً من حركات هذا الفيلسوف العصبية. وددت لو صورت نفسي على مثال كلبه لكي أمزح معه، ولكني أشفقت على أعصابه. لقد كان يوماً جميلاً حقاً ظللت فيه أبحث عنك لكي تشهد هذا الفصل المضحك فلم أجدك، فأين كنت؟
- كنت مشغولاً بدعاية من نوع دعايتك. فقد هيأت لنيرون أن يشمل النار في جهنم ليزيد في لذته، فإذا استعد لذلك ظهرتُ كالمارد فاستخزى وسكن جنونه. ولكني في الحق سئمت هذا المزاج وتاقت نفسي إلى شيء جديد.
فقال الشيطان الأول: وأنا كذلك أريد تجديداً.
ثم قال فرِحاً كمن طرأ عليه خاطر جميل: دعنا نمزج ونسخر مع من في الأرض الليلة؟(444/47)
- وهو كذلك. إنها لفكرة حسنة. دعنا نضحك من سخفهم هذه الليلة.
- 2 -
في مساء تلك الليلة اجتمعت الجموع في كنيسة القديس بولس. وكانت الجموع خاشعة، وقد اكتظت الكنيسة بالمصلين، كل قد جاء يدعو الله أن يحفظ أهله من شرور هذه الحرب الطاحنة؛ وكانت صلاة القداس يعلوها وقار وجلال لم يشهد من قبل، وكانت قلوب المصلين تتجه إلى الذات العلية مخلصة صادقة في دعواتها وصلواتها؛ وظل هذا الجلال والصمت لا يقطعهما غير صوت الكاهن وأغاني الشمامسة ونغمات الأرغن حتى أتى دور الدعوات، فأخذ الكاهن يتضرع إلى المولى عز وجل أن يزيل الكروب، وكان يجد من مساعدة الشعب له ما يجعلهم يرددون بصوت يرن صداه في قبة الكنيسة ومن أعماق القلوب (آمين يا رب. آمين يا رب) واستمر الكاهن في توسله يقول: (وامنع الحروب والغلاء والفناء وسيف الأعداء)، وقد توجهت القلوب بجملتها إلى الذات الإلهية بإخلاص أن يكشف عن الإنسان ذلك الكابوس الثقيل الذي لم يقاس أفظع منه. ومن منهم لا يتوجه بإخلاص إلى الله بهذه الضراعة وكلهم منكوب إما في نسله أو في ذوي قرباه؟ لذلك كانت (آمين يا رب) تخرج من القلوب بحرارة صاعدة إلى عرش الملكوت في ذلة الضعيف يطلب صنيعاً من سيده.
في هذه اللحظة الرهيبة كان المستر باترمان يردد هذه الدعوات وهو يقول في دخيلة نفسه: (يا رب لا تسمح بإجابة هذه الضراعة لأن فيها خرابي بل خراب أمتنا العزيزة)، وكان الشيطان الكبير يرافق زميله الصغير في هذه الحفلة المقدسة. فلما سمعا المستر باترمان اقتربا منه وسمعها أمنيته فضحكا من هذه المهزلة الإنسانية الكبيرة وأرادا أن يعبثا بالمستر باترمان فرغب الشيطان الكبير أن يهوي الرجل على الأرض، وكان عجوزاً في السادسة والستين من عمره لا يقوى على الوقوف طويلاً أثناء القداس؛ لذلك كان يستند على عصاه الأبنوسية، وفي فترات السكون الشامل بين الضراعة والأخرى، جاء الشيطان الكبير فزحزح العصا. فسقطت من يد الشيخ العجوز وأحدثت ضجة كبرى لفتت أنظار المصلين، وانكفأ الشيخ على وجهه وكاد يسقط لولا أن تمالك نفسه، ولما كان لا يقدر على الوقوف بدون العصا، انحنى ليأتي بها، ولكنه ما كاد يقبض عليها حتى خطر للشيطان الصغير أن يبعث به أيضاً فجذب العصا منه ثم تركها تهوي على الأرض فأحدثت مثل الضجة الأولى(444/48)
في فترة السكون، ولكن المستر باترمان أحكم في المرة الثانية القبض عليها ووقف مستنداً إليها وهو يشعر بشيء من وخز الضمير علله بأنه نتيجة أمنياته التي تخالف أمنيات المصلين.
والمستر باترمان من أغنياء الإنجليز وصاحب مصانع الذخيرة والأطعمة المحفوظة، وهو مع ذلك من أقطاب السياسة وله نفوذ كبير في إدارة دفنها. لذلك لا تستغرب منه هذه الأمنيات السيئة، إذ في إبطال الحرب ضياع ثروته التي جعلها في مواد سيكون مصيرها البوار. وهو ككل رجال السياسة يعيدون عن توخي الصالح العام، يوقعون الأمم في شباك الحروب للغنم الذي يعود عليهم أو لخطر وهمي في أذهانهم، ويدفعون بملايين من أرواح البشر في سبيل هذه الغايات المجرمة. وكان من سوء حظ البشرية أن نعتقد في رجالها القداسة، وكان المستر باترمان ككل سياسي يبرر موقفه المخزي بشتى العلل والنيات. لذلك كان يجيب على هذه الضراعات التي كانت تخرج من قلوب المصلين ومن صميم الإنسانية جمعاء، بالتوسل للذات الإلهية إلا يجبها لماذا؟ لأن في إجابتها وانتقاء الحروب ضياعاً لثروة أمة ممثلة في ثروته تصبح بعدها في ذل الإفلاس والانحطاط المالي.
انتهت الصلاة وخرج باترمان وهو ما زال يشعر بوخز ضميره، وقصد النادي وخرج وراءه الشيطانان، وقال أكبرهما: لنتبعه حيثما يذهب، ولنجعل منه متعة لأنفسنا الليلة. (فما كاد يدخل ردهة النادي حتى سمع أصواتاً عالية كان أصحابها في مناقشة حادة؛ فلما دخل القاعة وجد أعضاء النادي في صخب وجدل فسأل صديقه المستر كونراد عن سر هذا الجدل، فعلم منه أنهم يجادلون في محاصرة بلاد العدو. وهل هذا العمل يكلف الحلفاء والإنجليز خاصة أكثر مما يربحون، ولكن باترمان لم يكن صافي الذهن خلي البال حتى يدلي برأيه، غير أنه سأل صديقه:
- وهل من جديد في الجو السياسي؟
فأجابه: لا شيء غير ما نقلته إلينا التلغرافات الآن من أن البابا يناشد الدول المتحاربة وخاصة الحلفاء أن يكفوا عن القتال
وقد وجد باترمان مجالاً يخرج فيه عن صمته الذي لزمه منذ كان في الكنيسة فانفجر صائحاً:(444/49)
- لقد ضايقنا هذا البابا بأمنياته، فماذا يهمه من الحرب؟ نحن الذين ضحينا بأبنائنا وأموالنا لنا الخيار في الكف عن الحرب أو الاستمرار فيها؛ أما هو فماذا يهمه من الخسائر؟ لقد انزوى هو ورجاله في معقل الفاتيكان ثم يريد أن يملي إرادته علينا. إن خير جواب على هذا النداء أن تقابله بما قوبلت به نداءاته الأخرى بالإعراض والإغفال.
فرد عليه صديقه المستر كونراد:
- أنت محق يا عزيزي باترمان. إن البابا لم تحترق يده في النار ليعرف ما هي النار. لذلك لا يمكنه أن يحكم على نزاعاتنا؛ وهو لم يغامر في هذا المديان؛ وهو وجنوده يسمنون من أكل أجود اللحوم وشرب أفخر الأنبذة. دع غواصة ألمانية تصيب أربعة منهم وهو يتنزهون في قارب - أقول أربعة فقط لا ملايين كما فجعنا نحن - وعندئذ يحق لنا الأخذ برأيه ونقول إنه جرب الأسى والحزن مثلنا، وعندئذ لا يتمالك أن يصب غضبه وغضب الإله الذي ينوب عنه على هؤلاء السفلة الألمان.
وكانت هذه الإجابة قد أرضت سياسينا فكسرت من حدة غضبه، واطمأنت ثائرة نفسه فقال - هو كذلك -: أوعز إلى الصحف المحافظة أن تستخف بنداء البابا، ولندع الصحف الكنائسية تنادي بهذا الحلم الخيالي الذي يبدو جميلاً لأربابها أعني به الصلح والسلام.
- وهو كذلك
وأنصرف باترمان وخرج من النادي بعد أن وقف على تطورات الحالة السياسية وقصد فندق سيسل، وكان الفندق غاصاً بالناس تلك الليلة يحيون فيه عيد الميلاد، ودخل المستر باترمان الفندق وخطا في ردهته الطويلة فلقت نظره في نهايتها ما حرك اهتمامه، فدرج نحو هذا الشيء وهو يقول في نفسه: (هل بعثت؟ محال أن يكون ذلك، فلسنا في عصر المعجزات، إذن لابد أن تكون قريبتها)، وكلما اقترب ازداد يقيناً، لأن ما يراه أمام ناظريه الآن ينبئ عن صلة القربى. فأمامه سيدتان كبراهما ذات جمال رائع وقامة كغصن البان، وعيون هي موارد السحر، وشعر هو الذهب الوهاج، وسنٌّ في حدود الثلاثين؛ والأخرى لا تقل عنها حسناً، ولكنها أقصر قامة وأقل فتنة. وقد اقترب منهما باترمان وهو واثق من هذه القربى، وشغل باله بها فلم يع شيئاً غيرها. ولما وقع نظره عليها شعر بتجاوب العاطفة في نفس تلك السيدة؛ فقد بدا على ثغرها ابتسامة جميلة فهم منها الشيخ معنى الرضا. ولما(444/50)
اقترب منهما رفع قبعته وانحنى وحياهما: (مساء الخير يا سيداتي! عيد ميلاد سعيد)
فأحنت الكبيرة رأسها قليلاً بكبرياء، وأجابت هي وشقيقتها الصغيرة: (مساء الخير يا سيدي، عيد ميلاد سعيد). ولم تكن المستر باترمان يعرفهما من قبل، ولكن دفعه إلى هذه التحية وجه الشبه الذي رآه والذي أراد تحقيقه. لذلك لم يلبث أن فاجأهما بهذا السؤال: (أليس سيدتاي من أسرة سوانسون) فأجابت الكبرى في رفق وعلى ثغرها ابتسامة مغرية: (كلا يا سيدي، بل نحن من أسرة كلارك). وكان ثغر الصغيرة يفتر عن ابتسامة خفيفة، ولكن الشيخ لم يقنعه هذا الرد. وذهب إلى أنه لابد أن يكون هناك صلة قديمة بين أسرة سوانسون وكلارك، ولكنه لا يمكنه تحقيق ذلك وهو في طريق كل إنسان يدخل أو يخرج من الفندق. لذلك دعاهما للجلوس معه فلم يرفضا، كانتا فرحتين طروبتين، وقصدا مكاناً قصياً بعيداً عن ضوضاء الأحاديث وصخب الراقصين، ودعاهما إلى الشراب فلم يرفضا، وكانت علامات السرور بادية على محياهما، كما كان الشيخ مسروراً لهذه العلاقة التي ذكرته بالماضي. . . وكانوا كلما شربوا كثر ضحكهم وعلا صوتهم، وكان الرائي يشاهد خصلتين من الشعر على فوديهما كأنهما قرنان، ولم يفطن لذلك الشيخ الذي أعماه السرور، وقد حق للشيخ أن يسر، فقد وجد شبهاً قوياً بين السيدة الكبرى وبين زوجته، كان قد احب في شبابه فتاة من طبقة النبلاء كانت آية الجمال في عصرها، ثم تزوجها بعد جهد جهيد ولم تعش معه إلا عاماً ونصف عام ثم ماتت على أثر ولادتها الأولى. فقطع على نفسه عهداً منذ ذلك الحين أن يحفظ لها المودة ما دام حياً، وقد بر بوعده، وصرف عنايته إلى ابنه (جيمس) وغمره بحبه، وجعل منه الذكرى الوحيدة لتلك الحبيبة الراحلة. . . لذلك كان قرة عينه وحبة قلبه، لا يألو جهداً في العناية بأمره - ولو كلفه ذلك كل ثروته - إخلاصاً لتلك الفتاة التي فتح لها قلبه لأول مرة. . . وكان لجيمس تلك الطلعة السمحة التي كانت لوالدته، وتلك النوتة التي كانت في متوسط ذقنها، فهو صورة منها. . . كان الشيخ المهدم يرى فيها مطلع السحر. . . فلما وقع نظره في تلك الليلة على هاتين السيدتين، انتعشت روحه، لأن حبيبته تعود للحياة ثانية. . . ولشد ما جذبته تلك الطلعة نحوها لتصور الماضي البعيد المملوء بالأحلام السعيدة. . . ذكر كيف ظفر بحبيبته وتذوق السعادة لأول مرة في حياته! ولكن الشقاء كان يسخر من هذه السعادة فلم يلبث أن انتزعها منه. . . هذا(444/51)
الماضي البعيد يعود الآن، وهو الذي جعله ينسى الحالة السياسية وما فيها من تطورات ومفاجآت. . . كانت تشغل باله على الدوام، وخاصة تلك الليلة. لقد اعتقد تلك الليلة بالبعث، وكان يقول في نفسه: لعلها تجهل في حاضرها شخصيتها السابقة. . . وقد كذب هذا الوهم ما رآه من ميلها من أول نظرة إليه. . . فهي هي إذن، وسذاجتها في حديثها هي سذاجة حبيبته التي ورثها عنها ابنه (جيمس) معبوده الثاني بعد أمه، وكان يود تلك اللحظة لو يحضر جيمس ليشاهد طلعة أمه - أو على الأقل - ليشاهد طلعة نسخة منها، ولكن (جيمس) في ميادين الحرب، قد تملكه النزعة الإمبراطورية فأبى أن يخلد إلى السكينة في الوقت الذي تصوب سهام العدو إلى هدم إمبراطورية أجداده، فتطوع في الحرب برغم كل العراقيل التي وضعها والده في سبيله. . . ولكم كان يسر الشيخ إذا علم أن الفرقة التي ينتسب إليها ابنه قد حازت انتصاراً على العدو، وكان يعتقد ان الظفر قد تم بفضل حذق ابنه، وكان يكثر من ترديد ظفر الفرقة التي يحارب فيها ابنه أمام أصدقائه، وكان يقول لهم: وإلى حذق ابني يرجع الفضل. . . وكان عند التحاق ابنه بالجيش يخشى عليه عادية الردى، ولكن بعد أن تدبر تاريخ حياته وما فيه من نكبات وفواجع، استكثر على المقادير أن تختمها بفقده، وأصبح يميل إلى اعتقاد أن المقادير رحيمة، تكفر عما أصابته بهذه الحسنة، وقد أغراه بهذا الوهم ما كان يصله من حين وآخر من سلامة ابنه من كل الأخطار. . .!
في هذه اللحظة القدسية التي وجد فيها الشيخ نفسه بجوار حبيبته نسى العالم وما فيه من شرور، وشعر بسمو روجه وبلذة قدسية، كلها قد هبطت عليه من السماء. . . وكان يزيد هذا الشعور الروحي في داخله كلما فتح عينه فرأى صورة زوجته وحبيبته، أو هي بذاتها. . . ولم يكن هذا الشعور من فعل الخمر، فإنه لم يكرع غير ثلاثة أكواب من الويسكي لم تحدث له أي جموح في الخيال، بل هي على العكس قد زادت في انتباهه وذهبت بالغضب الذي كابده طول هذا اليوم.
وكان حديث الشيخ عادياً، أو قل كان مقطوعاُ، وهل في مثل هذه اللحظة يجري الحديث؟. . . وكان معظم ما قام به لا يخرج عن تعبيره عن غبطته وسروره وسعادته بتلك اللقيا، وكانت الفتاتان لا تكلفان أنفسهما أكثر من الابتسامة رداً على تمنياته. وقد أحدث سروره(444/52)
نوعاً من الذهول جعله في عزلة عما يحيط به؛ حتى إنه لم يشعر بوجود خادم الفندق بجواره يقدم إليه شيئاً في صحن، حتى نبهته كبرى الفتاتين، فالتفت إلى الوراء فوجد الخادم، فقدم إليه برقية وقرأ على الغلاف: في خدمة صاحب الجلالة الملك. . . ففهم أنها برقية حكومية، وما كاد يفض الغلاف ويقرأ البرقية حتى أفاق من نشوته، وأظلمت الدنيا في وجهه، وأغمى عليه. . . فتناولت الفتاة الكبرى البرقية وقرأنها؛ فإذا فيها:
(الملازم الأول (جيمس باترمان) أصابته رصاصة قضت عليه. . .!)
(القيادة العامة)
وبعد أن عاد إلى حسه سمع صوتاً يردد: (يا رب، لا تسمح بإجابة هذه الضراعة، لأن فيها خرابي، بل خراب أمتنا العزيزة!) وتلا ذلك ضحكات ملئها السخرية والتهكم. . . ففتح عينه، فلم يجد مصدر هذا الصوت، ولم يجد جليستيه. . . ولكنه شعر بحفيف أشبه بحفيف الأجنحة أحدث تياراً شعر به!
كامل يوسف(444/53)
العدد 445 - بتاريخ: 12 - 01 - 1942(/)
الطموح والتمني
للأستاذ عباس محمود العقاد
(. . . ولست أدري لماذا تصرون على أن تكون هناك علاقة بين الأدب وقيادة الجيوش، أو بينه وبين انجذاب أهل الطريق. ففي رأيي أن لا علاقة هناك إلا علاقة الطموح والرغبة في نعم الشهرة المنعقدة فوق جبين الكثيرين. . . فطموحكم من مطالع صباكم هو الذي حبب إليكم أن تكونوا شيخاً يحيط بكم ما كان يحيط بمشايخ حيكم من احترام وتبجيل في بيئة كالتي نشأتم بها، والتي يبدو لي أنها كانت شديدة التقوى كثيرة الاحتفاء بالدين ورجاله، ثم تحولت الأنظار إلى الجيش المصري والإنجليزي الهابطين من السودان وكثر الحديث عنهما وعن قوادهما في بلدكم، فتحولت (بوصلة) الطموح عندكم إلى هذا القطب الجديد. هذا رأيي الذي أظنه الصواب، وقد جريت مثل ذلك بنفسي، وتمنيت وأنا في المدرسة الابتدائية أن أكون لاعب كرة يحيط بي من تصفيق الطلبة وإعجابهم ما يحيط بمشاهير اللاعبين. ثم تمنيت من أول دراستي الثانوية أن أكون محامياً وأنتم تعلمون شدة اهتمام الجمهور بقضايا عهد صدقي باشا السياسية.
(وفي انتظار تكرمكم بإبداء وجهة نظركم في رأيي هذا إما بكتاب خاص أو بمقال في الرسالة، أكرر تهنئتي وأقدم لكم الشكر والتقدير. . .)
ادورد حنا سعد
إيرادات بلدية الإسكندرية
ورأيي أن الطموح تفسير وليس بتفسير.
فالناس يشتهرون بألوف الأشياء ويظهرون بين أقوامهم بكثير من المزايا التي تكفل لاصطحابها الوجاهة وارتفاع الصوت والصيت: بالمال والمنصب والهيبة الدينية، أو الدنيوية، وبالعلم على اختلاف أبوابه وتعدد مناحيه، وبالنبوغ في الألعاب والفنون التي يدركها الجمهور بداهة أو يدركها محاكاة لمن هم أرفع منه في المنزلة والمعرفة، وكلهم طامح وكلهم محقق لما تمناه من الطموح
فليس بتفسير أن يقال إن هذا الشاعر العظيم بلغ مكانه من الشهرة الشعرية لأنه طامح، وأن هذا المهندس العظيم بلغ مكانة من الشهرة العلمية لأنه طامح، وأن هذا الغني العظيم بلغ(445/1)
مكانه من الثراء واليسار لأنه طامح، وأن كل عظيم طمح فاشتهر لأنه تعلق بالطموح
كلا. ليس هذا بتفسير فيما أرى
وليس هذا بالحقيقة فيما أعلم من شأن نفسي، وفيما أعلم من شأن البواعث التي حفزتني إلى معالجة (الدروشة) والكرامات الدينية، وحفزتني إلى قيادة الجيوش والغلبة في القتال، وحفزتني حيث استقر بي المطاف إلى المضي في طريق الأدب والكتابة دون كل طريق
فلو كانت المسألة طموحاً وتطلعاً إلى الحفاوة لكان الأولى بي أن أطمح إلى جمع المال والتوسع في التجارة لأنها قبلة الأنظار في بلد له في التجارة تاريخ عريق حتى قيل إن اسم الإقليم مستمد من اسم السوق
بل لو كانت المسألة طموحاً إلى الحفاوة التي يلقاها رجال الدين لكان الأولى بي أن أطمح إلى مكانة القضاة الذين يخرجون بين الحراس والحجاب ويتقدمون على رجال الحكم ورجال الجيش حينما اجتمعوا معاً في مكان حافل أو مأدبة حكومية، أو لكان الأولى بي أن أطمح إلى منزلة كمنزلة أستاذنا الفقيه الأديب الأستاذ أحمد الجداوي - رحمه الله - وكانت له حلقة دينية أدبية يتردد عليها أعاظم القوم ويجلسون بين يديه جلسة الخشوع والتوقير، وكانت له إلى جانب ذلك مساجلات أدبية يحج إليها المعلمون والمتعلمون، ويتندر بفكاهاتها وطرائفها من يدرسون ومن لا يدرسون
أما حياة (الأسرار) الدينية فلم تكن محل ظهور ولا وجاهة بين الناس، ولم يكن أحد ممن يقتدي بهم في هذا المجال على مظهر يشوق الطفل الناشئ أن يحكيه أو يعيش على غراره: مظهر مسكنة وحرمان وشظف وانقطاع
وأدل من هذا على خطأ التفسير بالطموح في هذا الصدد أن الظهور وطلب الكرامات والأسرار نقيضان كما تنبئنا أول صفحة من أول كتاب في مناقب الصالحين
فمن طلب الظهور فلا سبيل له إلى كرامة ولا نفاذ له إلى سر مكنون من أسرار القداسة والولاية
إنما تناول الكرامات والأسرار بالإعراض عن المظاهر والزهد في الحفاوة، وأن ننذر نفوسنا للفاقة والشظف والحرمان، ونجنبها غواية الزهو والترف والإعلان، وهذه هي الأمنية التي تمنيتها لأنني تمنيت البحث عن الحقيقة والهيمنة من طريق معرفة الحقائق(445/2)
على ما حولي من قوانين الكون وعناصر الطبيعة
فالطموح كما قدمنا ليس بتفسير لطلب العظمة كائناً ما كان مجالها والغرض منها. فبعد الطموح يبقى لنا سؤال آخر عن علة طلب العظمة من هذا الطريق وعن التوفيق بين نوع العظمة المطلوبة ونوع المزاج النفسي الذي يطلبها ويؤثرها على غيرها
والطموح بعد ذلك ليس بالتفسير الصحيح في الحالة الخاصة التي ذكرتها عن أمنيتي؛ لأنني لم أطلب الظهور بل ضحيت به في سبيل الحقيقة التي أصل منها إلى هيمنة لا ظهور فيها؛ ولا يزال الظهور الشائع مفسدة لها وداعية إلى حبوطها
وما لنا ولهذا والأديب صاحب الخطاب يذكر حالة تنفي تعليل كل شيء بالطموح فيما ذهبنا إليه؟
قال في خطابه: (تمنيت وأنا في المدرسة الابتدائية أن أكون لاعب كرة يحيط بي من تصفيق الطلبة وإعجابهم ما يحيط بمشاهير اللاعبين. . .)
فليعلم الأديب صاحب الخطاب أن التصفيق لم يحط بلاعب كرة كما كان يحيط بلاعبيها الأسوانيين في ذلك الحين. فقد كانت العناية بالرياضة البدنية يومئذ في أبانها، وكان للجيش الإنجليزي بأسوان فرق مدربة تسترعي أنظار المدنية بأسرها ويتمنى كل طالب أن تتغلب فرقته المدرسية عليها، وكانت فرقة أسوان تسافر إلى إدفو وقنا وسوهاج وأسيوط لتلاعب هناك فرقة بعد فرقة وتعود من تلك البلاد غالبة أو مغلوبة يتطلع الزملاء إلى أخبارها كما يتطلع قراء الصحف إلى أنباء المعارك الحاسمة، ومع هذا كله فشلت مساعي المدرسين في إغرائي بالانتظام في فرقة الكرة أو الفرق الرياضية على اختلافها لنفوري منها، وظللت أتجنبها وأفضل الحبس على حضور حصة الرياضة البدنية في أوقاتها المفروضة علينا، ولم يستهوني الطموح ولا الشهرة ولا التصفيق إلى هذا الجانب المغري لكل طالب، ولم أكن أفهم دهشة زملائي لرفضي دخول الفرقة وهم يتحرقون شوقاً إلى دخولها ويتمنون لو وهبوا تلك الصفات الجسدية التي جعلت المدرسين حريصين على ترشيحي لفرقة الكرة وكل فرقة رياضية
فليست المسألة يا صاحبي مسألة طموح وظهور، ولكنها مسألة شوق باطني وجد مصرفه في هذه الناحية أو تلك حتى استقر من الناحية الأدبية إلى قرار(445/3)
ومن الواجب أن نربط بين النزعة الدينية والقيادة العسكرية والملكة الأدبية إذا أردنا أن ننفذ إلى خاصة من خواص النفس البشرية التي تؤلف بين النقائض حتى تنتظم في نسق واحد، وهي كما تبدو على وجه الأمور غير قابلة للتناسق والائتلاف
وربط هذه الشعب المتفرقات واجب هاهنا لأن العلاقة بينها صحيحة متغلغلة ملموسة؛ فلابد من سبب اتصال بينها، ولابد من النفاذ إليه، وليس النفاذ إليه بعسير
فالنزعة الدينية - نزعة الأسرار والهيمنة على العناصر الطبيعية - تلاقي البحث الأدبي من طرفين: أحدهما الاستطلاع والاستكناه وهو أصيل في طلب الأسرار الدينية وأصيل في طلب الأسرار الفكرية على الإجمال
أما الطرف الآخر فهو طرف لإثبات النفس، وهو في جانب التدين سيطرة على أسرار الكون، وفي جانب الأدب تعبير عن النفس وتوجيه للأفكار وامتلاك لناصية الحقائق، وكلا الطرفين قريب من قريب
ولا صعوبة في التوفيق بين التدين والقيادة العسكرية، وإن ظهر لأول وهلة كالنقيضين المتدابرين
إن النضال لعميق في روح الدين لم تخل منه الأديان الأولى ولا أديان الكتب المنزلة التي يدين بها معظم الأمم اليوم
فإله الخير وإله الشر، أو إله النور وإله الظلمة، ما برحا متصارعين عند الجاهليين من أقدمين ومحدثين
وكل دين من أديان الكتب المنزلة يؤمن بالصراع بين الملائكة والشياطين، وبالحرب الدائمة بين جنود الله وجنود إبليس
وكل ساعة من ساعات الضمير فهي مصارعة ومغالبة قلما تنتهي بالنصر الحاسم لجانب من الجانبين. وما هي حياة الضمائر إن لم تكن حياة العراك والمقاومة والانتصار؟ وما هب أسرار الكون إن لم تكن أسرار التجاذب والتدافع بين دواعيه ونواهيه؟
فالنضال أصيل في روح الدين
والتقاء التدين وطلب الغلبة وطلب التعبير فترة واحدة أو فترات متعددات في النفس (المتطورة) ليس بالأمر الغريب ولا باللغز العسير التعليل(445/4)
وكم أديب مناضل وجندي يحمل السلاح وهو غير مطبوع على النضال!
وقد تركت أمل القيادة العسكرية منذ الصبا الباكر ولكني لم أتركه إلا في الظاهر الذي لا يتعدى الملابس والأزياء
فما هو إلا أن أسلمتني المناوشات الصبيانية إلى نظم الشعر للتحدي والمناجرة حتى انتقلت إلى عالم التعبير والكتابة وانتقلت إلى هذا العالم الأدبي لأناضل وأقضي العمر كله في نضال باطن بيني وبين نفسي ونضال ظاهر بيني وبين الآخرين
فما الغرابة في التوفيق بين هذه الأماني؟ وما الصعوبة في هذا التوفيق؟ وأيهما أسهل وأدني إلى القبول: تعليل كل أمنية بالطموح وليس هو بالتعليل الشافي ولا بالتعليل الصحيح، أو النظر إلى ما وراء الطموح من بواعث متقاربات تتلاقى عندها الظواهر المتباعدات؟
الراحة الكبرى تنال على جسر من التعب كما قال أبو تمام، والسهولة الكبرى في تعليل الحقائق تنال بعد خطوات من السهولة العارضة على وجه الأمور، ولكنها بعد اجتياز هذه الخطوات أسهل من كل سهل قريب، لأن هذا السهل القريب لا يؤدي إلى شيء ولا يستريح الواقف لديه
عباس محمود العقاد(445/5)
الصوم عن القاهرة في يوم العيد
(رسالة مهداة إلى الأستاذ الزيات، وإلى من تعنيهم مكانة القلم
البليغ)
للدكتور زكي مبارك
كان من السنن الجميلة أن أقضي يوم العيد بين أهلي في الريف وكان للعيد في حياتي تأثير جميل؛ فقد كنت أسمع من أمي وخالاتي وعماتي دعوات أكاد أشهد صعودها إلى السماء
وما أذكر أني قضيت العيد بعيداً عن أهلي إلا في الأعوام التي قضيتها بين الاعتقال والاغتراب، ولله حكمة عالية في ابتلاء القلوب بألوان من الضجر والضيق تؤهلها لإدراك بعض المجاهيل من بيداء الوجود
وفي صيحة أحد الأعياد مضيت إلى (سنتريس) وأنا خالي الذهن من المفاجئات، فراعني أن أرى أبي يجذب يدي فيقبلها بحرارة وشوق، وكنت أنا الذي يقبل يمناه في جميع فرص اللقاء ولو أتيحت في اليوم الواحد عشرات المرات، فماذا فهمت من ذلك العطف الجديد؟
قدرت أن أبي سيموت، وأنه لم يقبل يدي إلا إيذاناً بالوداع، وأنني لن أره في مثل ذلك اليوم من السنة التالية، وأن الدنيا لن تسمح بأن أرى العيد في صحبة صديق كان غايةً في صباحة الوجه، وحصافة العقل، وطهارة الوجدان. وهل رأت عيناي رجلاً أفضل من أبي؟
وصفه المسيو دي كومنين لأحد محدثيه بهذا الوصف الطريف:
'
يرحمك الله، يا لأبي! ويرحم أيامي في رعاية قلبك الرفيق!
كان أبي يحبني إلى حد الإسراف، وكنت خليقاً بذلك الحب، فما بات من أجلي ليلة واحدة وهو مخزن ومكروب. وهل جشمت أبي ما لا يطيق، أو فرضت عليه أن يحسب لمتاعبي أي حساب. مع أنه لم يمت إلا بعد أن تمرس كاهلي بحمل الألوف من المصاعب الثقال؟
ثقل على قضاء العيد في الريف بعد موت أبي، فكيف كان العوض من ذلك الحرمان؟
أشار أخ كريم بأن أزور قصر جلالة الملك يوم العيد لأقيد اسمي في دفتر التشريفات، فماذا غنمت من تحقيق ذلك الاقتراح الجميل؟(445/6)
كنت أبكر قليلاً، لأسير في شوارع القاهرة لحظات قبل أن أصل إلى قصر جلالة الملك، فعرفت من جمال القاهرة ما لم أكن أعرف. وما ظنكم بمدينة لا يستطيع العيد أن يزيدها جمالاً إلى جمال؟
كان يروعني أن أرى القاهرة لا تتأثر بالعيد، وكيف وجميع أيامها أعياد؟
وهل يمكن أن تمر بأحد شوارع القاهرة في أي وقت، ثم تعود وأنت في أمان من الفتون؟
إني أحسد من يرى القاهرة لأول مرة، أحسده وأحقد عليه. فالبرغم مني أن يكون لي في هواها شريك، ولو كان من أكابر أهل الوفاء
وأقول (أول مرة) لأني أخشى أن يكون طول الإلف قلل من طرافتها في عيني، وإلا فكيف جاز أن يكون طوافي بشوارعها مقصوراً على أوقات الأعمال؟ ألا تمر أسابيع في أيام الإجازات بدون أن أستصبح بنورها الوهاج؟
وأرجع فأدون أني كنت أصل إلى قصر جلالة الملك بعد أن أطوف بشوارع القاهرة لحظات، فأرى القصر يموج بالمهنئين من الوزراء والقضاة والمحامين والنواب والشيوخ والأعيان، وألتفت فأراني أستقبل كل قادم، وأودع كل ذاهب، كأنني في داري، وأنتهب الفرصة فأدير المناقشات الأدبية والاجتماعية مع من أصادف هنالك من رجال القلوب والعقول، ولا أنصرف إلا بعد أن أطمئن إلى أني عيدت على أكثر من أجب أن أراهم في يوم العيد
وكان جلالة الملك رأى أن يخفف على شعبه الأمين تكاليف التشريفات، فكان الوافدون على القصر للتهنئة لا يشعرون بالفروق الموروثة بين الطبقات، وكان حظ أي زائر مماثلاً تمام المماثلة لحظ رئيس الوزراء
ثم ماذا؟ ثم جاء هذا العيد بجديد لم ألتفت إليه من قبل
نظرت في منهاج التشريفات فهالني أن لم أجد فيه مكاناً لرجال القلم البليغ، مع أن لرجال القلم نصيراً في قصر جلالة الملك، هو الرجل أحمد محمد حسنين، وكان من لطائفه أن يراعى هذا الشأن الدقيق
مليكنا العظيم الشاب يسره أن يشهد جميع ما في وطنه من القوى الحيوية، وأعظم القوى في مصر هي قوة القلم البليغ، فكيف يصعب علينا أن نصافح جلالة الملك في يوم العيد،(445/7)
ونحن رسل الثقافة المصرية في الشرق؟
إن أقلامنا هي زينة الوطن في أعوام النعماء، وسناده في أيام البأساء، فكيف يحال بيننا وبين مصافحة رمز الوطن في يوم العيد؟
رجال الدين لهم في التشريفات الملكية مكان، وللوزراء والسفراء مكان، ولكبار رجال الأعمال مكان، فأين المكان المحفوظ لأقطاب القلم البليغ؟
أعيذ القارئ أن يتوهم أني أطالب بمغانم رسمية، تغض من سمو المنزلة الأدبية، فما نحن طلاب ظواهر، وإنما نحن طلاب معاني، والقصر هو الرمز المعنوي لروحانية هذه البلاد، ونريد بصراحة أن يكون لنا في ظلاله مكان، باسم الفكر والبيان.
الأدب للأدب. . .
ولهذا المعنى نطالب بأن يكون له في التشريفات الملكية مكان
قد يقال إن حملة الأقلام في مصر يعدون بالعشرات أو بالمئات، ومن الصعب أن يوضع لهم نظام في التشريفات.
وأجيب بأن من السهل أن يكتفي بالطبقة الأولى، وأفرادها لا يحتاجون إلى تعريف، ثم تكون هذه الطبقة رمزاً للقوة الأدبية في التشريفات، ليعرف رجال القلم أن حظهم غير ضائع في هذه البلاد
كان متوسط ما يصدر عن المؤلفين المصريين اثنا عشر مجلداً في كل يوم، قبل أن ترتفع أثمان الورق، فهل أقيم لجهودنا ميزان في وزارة المعارف أو رياسة مجلس الوزراء؟
واسم مصر يرتفع من يوم إلى يوم في أقطار اللغة العربية بفضل القلم البليغ، فهل جوزي حملة الأقلام على ذلك الجهاد؟
نحن أغنياء بأقلامنا وأرواحنا عن ثناء الأمة المصرية، ولكننا نشتهي أن تكون أمتنا غاية في الوفاء، وهو أشرف الخصال، فهل تسمع أمتنا هذا الصوت؟
شاءت المقادير أن تكون لمصر الزعامة الأدبية في الأقطار العربية والإسلامية، أفلا يكون من العيب أن يحفظ قدر القلم المصري في جميع الديار، إلا الديار المصرية؟
بأعصابنا ودمائنا غنمنا المعركة الأدبية، بعد نضال حشدت فيه قوى كريمة تتمتع بالهواء الذي تنسمه ملك بني أمية، وملك بني العباس.(445/8)
ولن تنزع الراية الأدبية من أيدينا، ولو عاد عهد الخلفاء في قرطبة ودمشق وبغداد، فإن شاء بنو الأعمام والأخوال أن يناضلوا من جديد فنحن على استعداد للنضال
وهل يحتاج بنو الأعمام والأخوال إلى مثل هذا الوعيد؟
إن عطفهم مبذول بغير حساب، ونحن لا نشكو غير تجني الحكومة المصرية، فهي لا تعترف للقلم بحق إلا إن كان صاحبه من السياسيين، وسنؤلب جميع أدباء اللغة العربية على الحكومة المصرية، فلتعرف هذه الحكومة أن صبرنا لن يطول على تجنيها الجميل!
أما بعد فقد عز على أن يحظى ناس بمقابلة جلالة الملك، ثم لا يكون نصيبي غير كتابة اسمي في دفتر التشريفات، وأنا من فئة قليلة تحمل المصابيح لإنارة القلوب والعقول، ولها فضل معروف أو مجهول في بناء هذا الجيل
وكذلك قررت الصوم عن القاهرة في هذا اليوم، والصيام في العيد حرام لا حلال، فهل يغفر الله هذا الذنب الدميم؟
أين أنا من القاهرة؟ وأين القاهرة مني؟
لقد سكنت الدنيا من حولي، ولم يبق غير الأصوات الصواخب في أعماق الوجدان
أهو يوم أضعته؟ لا، والله، بل هو عمر ضاع، فليس من رؤية القاهرة عوض، ولو انتفعت بالاعتكاف لتسجيل أعظم حديث يجود به القلب الخفاق
وهل استوفيت حظي من الحياة حتى أسأل عن نصيبي من القاهرة في مثل هذا اليوم؟
صمت عن القاهرة في يوم يحرم فيه الصيام، فما جزائي؟
الجزاء هو الحرمان من رؤية وجهها الأصبح في يوم عيد، وقد تجمعت الخلائق لشهود معترك الحسن والوجد في ساحتها الفيحاء. . .
للقاهرة في كل يوم مذاق، فكيف أصوم عنها في يوم العيد، وهي فيه ألوان من الأذواق؟ أمن أجل الغضب لقوم لا يغضبون لأنفسهم أصوم عن القاهرة في يوم عيد، وهو فيها صنوف، من الحسن الموصوف؟
لقد ضحيت ما ضحيت لأغنم الثواب في التنويه بجمال بلادي، فما ثوابي عند القاهرة، وقد جعلت الصيام عنها في العيد من المحرمات؟ الجواب عند روحها اللطيف.
زكي مبارك(445/9)
المدينة الفاضلة
للدكتور جواد علي
والمدينة الفاضلة هي أصغر مجموعة بشرية كاملة تصورها الفيلسوف الفارابي فيلسوف المسلمين في كتابه: (آراء أهل المدينة الفاضلة) وقد نعت مدينته هذه بهذا الاسم ليميزها بذلك عن المدينة الجاهلية والمدينة الفاسقة والمدينة المتبدلة والمدينة الضالة وغيرها من المدن التي ابتكرها عقل الفارابي، وقد سجل أسماءها وخواصها في كتابه حيث ذكر خواص كل مدينة من هذه المدن وعلاماتها الفارقة وميولها من خير أو شر
وكتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) في ذاته نوع من أنواع الإيتوبيا (طوبي) أراد فيه مؤلفه الفيلسوف المعلم الثاني معالجة قضية من أشكل القضايا البشرية التي جابهها المسلمون ألا وهي قضية شكل الحكومة المثلية والنموذج الأعلى لنظام الحكم في هذا العالم كما فعل قبله الفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون في جمهوريته أو كما فعل المعلم الأول الفيلسوف أرسطو في سياسته وكما فعل فيلسوف المسيحية الأول القديس أوغسطين في كتابه مملكة الإله أو وكما عالج نفس هذه المشكلة فلاسفة آخرون من القدماء والمحدثين ممن كانوا قبل عصر الفارابي أو ممن جاءوا من بعده بقليل أو كثير
وآراء الفارابي في هذه المدينة تكاد تنطبق على عالم أهل السماء أكثر من انطباقها على عالم أهل الأرض. هو فيلسوف ينظر إلى الحقائق بنظرات مجردة تختلف كثيراً عن وجهة نظر السياسي المحترف أو الإداري العملي إلى الأمور. هو مفكر له مثله العليا ويريد تطبيق مثله هذه على جميع شؤون الحياة. وقد أصاب الهدف في جهات ولم يصبه في جهات أخرى. ولقد كان شأنه في مدينته هذه كشأن توماس الأكويني في شرحه لكتاب السياسة لأرسطو أو دانته الشاعر الإيطالي الفيلسوف في كتابه (المملكة) حاول أن يوفق بين آراء أفلاطون وأرسطو، وبين كتاب الجمهورية وبين كتاب السياسة، وبين الحاكم والمحكوم. فكان يرى الفارابي في الخير الخير العام وفي السعادة السعادة العامة للحكام والأتباع معاً
ويريد أن يوفق بين هذه الآراء وبين آرائه الشخصية، وبين مقتضيات الزمن. ومقتضيات زمانه السياسية من اصعب الأشياء إذ عليه أن يرضى حماته أصحاب الحل والعقد وإلا(445/11)
جلب على نفسه السخط والنقمة وعليه أن يرضي ضميره وضميره ضمير فيلسوف عالم لا يؤمن إلا بالعلم ولا يثق إلا بالعقل، وهذا ما لا يرضي معظم الناس طبعاً
وقد اتبع الفارابي في معالجة ضروريات مدينته والدوافع الطبيعية التي تدفع الإنسان إلى الاجتماع طريقة الفلاسفة الطبيعيين مبتعداً في كثير من الأحايين، وعلى الأخص في القسم الأخير من كتابه على طريقة الفلاسفة المنطقيين. تراه يشبه المدينة بجسم حي ثم يأخذ في شرح أهمية كل عضو من أعضاء هذه المدينة، يفعل ذلك على نحو ما يفعل علماء الاجتماع في هذا اليوم، ويتوصل من ذلك إلى نظرية يضعها هي نظرية التفاوت بين قابليات الأفراد وبين قابليات العناصر البشرية وبين قابليات الحكام والأتباع. وهي نظرية عامة يطبقها حتى على المعايير الأخلاقية والقواعد الأدبية والاجتماعية
يترأس مدينة الفارابي رئيس لا يرؤسه إنسان آخر أصلاً هو الإمام، وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة، وهو رئيس المعمورة من الأرض كلها، ولا يمكن أن تصير هذه الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر ذلك الرئيس عليها. واجتماع هذه الخصال كلها في إنسان واحد عسر، لذلك لا يوجد من حظي بهذه الفطرة إلا الواحد بعد الواحد والأقل من الناس. فإذا اجتمعت الحكمة في شخص والصفات الأخرى في شخص كانا هما رأسين في هذه المدينة، فإذا تفرقت الخصال في جماعة وكانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل
وللحكمة في هذه المملكة حظ عظيم كما هي في مملكة أفلاطون؛ ولكن حكيم أفلاطون حكيم زمني لا يأتيه الوحي ولا يعتمد على إلهام من السماء؛ أما حكيم الفارابي فهو حكيم مسلم بكل معنى الكلمة يمثل زمان الفارابي خير تمثيل، يأتيه الوحي ويتنزل عليه الإلهام؛ وله سلطان واسع في الحكم لا حد له هو أفلاطون في ثوب رسول كريم. وفي هذه النقطة من البحث تجتمع العقلية الشرقية بالعقلية الغربية، تجتمع وجهة نظر أفلاطون بالنسبة للفيلسوف الحكيم الحاكم بوجهة نظر الشرقيين، وهي السيادة المطلقة التي هي من ضروريات الحكم لدى الشرقي، وهنا تلتقي الفلسفة اليونانية بالفلسفة الإسلامية، فيتكون من امتزاج الفكرين صورة جميلة على أحسن ما يكون
يظهر التأثير الإسبارطي واضحاً في جمهورية أفلاطون، وفي (السياسة) لأرسطو، وتظهر(445/12)
الروح الفردية بصورة جلية على الأخص في مملكة أفلاطون؛ وفي آراء كل من الفيلسوفين انعكاس تام لآراء اليونانيين الخاصة بالنسبة لسياسة المدن حيث كانت حكومة المدن هي النموذج الأعلى لنظام الحكم لدى اليونانيين القدماء. أما في مملكة الفارابي فالمثل الروماني بالنسبة لطريقة الحكم هو المثل الأعلى إذ يسيطر الرئيس الذي افترضه الفارابي على المعمورة الفاضلة كلها، وفي حالة تعذر وجوده يقوم رئيسان أو ثلاثة أو أربعة أو غير ذلك من توفرت فيهم شروط الرآسة الفطرية والقابليات الطبيعة بنظام الحكم على طريقة تشبه طريقة حكم المسلمين في أوائل عهدهم وإلا هلكت المملكة أو المدينة وتاهت البشرية. وإن تعذر وجود الرؤساء قام وكلاء عن الرؤساء بالأمر يدبرون شؤون الناس ويقومون بتنفيذ الأحكام والعدل بين الناس وتكون لهم سلطة عليا لا حد لها تستند على حق طبيعي شرعي افترضه العقل على الإنسان فرضاً
وعلى الرئيس الحاكم أن يسعى في جلب السعادة لأتباعه المرؤوسين؛ ومتى حصل ذلك، وكانت الخصال التي رآها الفارابي قد توفرت فيه كان ذلك الرئيس هو الرئيس الفاضل، وكانت المدينة هي المدينة الفاضلة ولا يهم الفارابي بعد ذلك شكل الحكم إذ هو فيلسوف يفني في السعادة ويرى الخير كل الخير فيها على نحو ما يذهب إليه المتصوفة وما ذهب إليه الفيلسوف أرسطو
والرؤساء هم الذين يعينون شكل المدن ويهدون الناس إلى الصراط المستقيم. فإذا كان رؤساء المدينة أو الرئيس الأول من طبقة الحكماء الذين دأبهم الخير للمجتمع كانت المدينة فاضلة، وإذا كان دأب الرؤساء أو الرئيس الأول استغلال أهل المدينة والتحكم في الناس كانت المدينة مدينة جاهلية أو ضالة أو متبدلة حسب المعاملة الغالبة التي تكون بين رؤساء هذه المدينة أو أبنائها. ويحاول الفارابي أن يضع العلامات الفارقة التي تبين شكل المدينة ولكنه لا يحاول أن يعين نوع الحكم ولا طريقة الحكم كما فعل القديس أوغسطين أو توماس الأكويني أو توماس مور أو سنت سيمون أو غيرهم من الأيتوبيين
لم يعتقد الفارابي بنظرية المساواة الاجتماعية ولم يتصور في مدينته الفاضلة أية صورة للمساواة الاشتراكية التامة أو الناقصة سواء أكان ذلك بين أهل المدينة بصورة عامة أو بين طبقة معينة كما تصور ذلك أفلاطون. والفارابي فيلسوف عملي من هذه الناحية يرى(445/13)
التفاوت حتى في درجات الفضيلة ينظر من جهة أخرى إلى ما يحتم عليه الوضع السياسي وآداب مجتمع ذلك العصر.
جواد علي(445/14)
ثقافة فلكية
عمر أمنا الأرض
للأستاذ خليل السالم
يجد الباحث البصير أن تاريخ أي علم من العلوم مملوء باللمعات الفنية والخطرات الثاقبة والإشراقات الذهنية والفكر الدقيقة التي تشبه الوحي ينزل من الملأ الأعلى على العالم أو المخترع أو المكتشف. وإن الباحث ليقف إزاء لحظات التجلي التي تمر بالعالم وقفة كلها دهشة وروعة وإعجاب ندر أن تتسنى له وهو يتفرس في محاسن التمثال الخالد، أو يستشف مواطن الإبداع في القصيدة الرائعة، أو يغيب وعيه في الاستماع إلى قطعة موسيقية ساحرة
أنا لا أقول هذا اعتباطاً؛ وإنما أقوله عن اعتقاد جازم مكنه في نفسي شعور من يوثق بأقوالهم وشعوري أنا الداخلي الصادق. تأخذ الاكتشافات العلمية بعضها برقاب بعض؛ فاكتشاف حقيقة بعينها يقود بقليل من التدبر والوعي إلى اكتشاف أو وضوح حقيقة أخرى لا تمت إلى الأولى بصلة سوى أن اكتشاف الأولى سبب في اكتشاف الثانية. فالروعة إذا كامنة في نقطة الاتصال أو في الطريقة التي تم بها اكتشاف تلك النقطة. وليسمح لي القارئ أن أدرس معه في هذا الفصل القصير مشكلة عمر الأرض. فلا شك أنه رأى - أو سيرى - الأرقام الكبيرة التي يزعم العلماء أنها عمر هذه الحسناء التي تنعم كل عام بالربيع الطلق والحيوية النابضة مختلف أعضائها، والتي لا تبدي من شيبها دليلاً على صدق أقوال العلماء. ولعل حيرة القارئ تزول بعض الشيء إذا عرف الطرق العبقرية التي تم بها انتزاع هذا العمر الطويل من فم الحسناء نفسها، ولعله يفهم أيضاً معنى تلك الإشراقات الذهنية التي أشرت إليها أولاً
سأل الناس منذ القدم عن عمر الإنسان على الأرض أو عمر الأرض في الكون، فلم يجدوا جواباً شافياً. واحتال العلماء على الأرض لعلها تعترف بعمرها، ولكنها - كالعادة في بنات جنسها - أبت إلا كتماناً وإصراراً على الكتمان حتى قيض الله لهالي (عالم فلكي إنجليزي) في لحظة من لحظات الإلهام أن يستنطق المحيطات فتجيبه عن عمر الأرض. من كان يظن - قبل أن يقول هالي - أن ملوحة ماء البحر تكشف سر الأرض؟ وهل يرى القارئ(445/15)
بسهولة العلاقة بين عمر الأرض وملوحة المحيط؟. . . إليك ذلك:
يتبخر الماء من المحيط دائماً، ثم يعود إلى المحيط مع الأنهار الجارية. فبقليل من التساهل نستطيع أن نفرض أن مقدار الماء في المحيط ثابت ما دامت العودة إلى المحيط تتم بنفس السرعة التي يتبخر بها الماء؛ لا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا أن نعلم أن ملوحة المحيط تزيد زيادة مطردة أثناء هذه العملية المستمرة. فالماء الذي يتبخر كما لا يخفي مقطر خال من الأملاح. أما الماء الذي تحمله الأنهار، فيعود وقد ذاب فيه قدر ضئيل من الأملاح. فإذا عرفنا معدل الزيادة السنوية لملوحة ماء المحيط، استطعنا أن نعين بكثير من الدقة عدد السنين التي انقضت على استمرار هذه الظاهرة الطبيعية؛ وهكذا كان، فإن الإحصاءات والدراسات الحديثة لمعدل الزيادة السنوية لملوحة ماء المحيط، استطعنا أن نعين بكثير من الدقة عدد السنين التي انقضت على استمرار هذه الظاهرة الطبيعية؛ وهكذا كان، فإن الإحصاءات والدراسات الحديثة لمعدل الزيادة ومقدار الملوحة الحالية تبين لنا كما يقول جينز المحيطات تعود في عمرها إلى مئات من ملايين السنين
لم يرق للعلماء هذا الاعتراف ولن يخفف من غلواء جدلهم، فقد تكون الأرض قد كذبت عليهم وغررت بهم، وكان أن اتسعت شقة الخلاف بين البيولوجيين والجيولوجيين من جهة، وعلماء الطبيعة من جهة أخرى: أولئك يؤيدون وهؤلاء يكذبون. وحجة أولئك أن تلك المخلوقات التي تعني بها الأرض وترعاها لا تبلغ هذا الكمال في نشوئها إلا في غضون أجل طويل سحيق في القدم. وحجة الآخرين أن الأرض لم تهرم بعد، وهي تبرد من نفسها وفي كل عام تفقد من حرارتها وتخسر من نشاطها وحيويتها؛ وإذا كان ما يقوله خصومهم صحيحاً فيجب أن تكون الأرض الآن جثة هامدة باردة الأطراف لا يعيش عليها حيوان ولا ينبت نبات. واحتدم الجدل واشتد النقاش، والأرض صامتة لا تعي، لاهية عما يبحثون، نشيطة في رياضتها وطفرها حول أمها الرءوم (الشمس) ولكن جفرز (عالم إنجليزي) رفع عينيه نحو السماء لعل عندها بعض الخبر، ولحسن حظه وقوة عبقريته ونفاذ فكرته وجد عند شقيق الأرض - عطارد - نبأ مهماً. ماذا لاحظ؟ لاحظ أن مدار عطارد يكاد يقرب من الدائرة، وانتقاله من الشكل الإهليلجي إلى ما يقرب من الشكل الدائري تم بفعل المواد المنتشرة في الفضاء التي تناثرت عقيب انفصال السيارات عن السديم الشمسي، فقد(445/16)
كان عطارد لقربه من الشمس يصطدم بتلك المواد. فالمدة التي انقضت حتى بلغت المدة (0. 2) هي عين المدة التي انقضت حتى فنت تلك المواد. فلو بقيت لتمت الاستدارة، ولو فنت قبل أن تصل المدة مقدارها الحالي لما وصلته حتماً. وبموجب الحساب الدينامي وجد جفرز أن عمر الأرض أو عمر النظام الشمسي على الإطلاق ينحصر بين (1000 - 10000) مليون من السنين
لم يتأكد العلماء أيضاً من شهادة عطارد، فعادوا ثانية إلى الأرض يقرءون في وجهها أخاديد الكبر ويجسون نبضها ويفحصون قلبها الكبير، وكان أن قضى الله أمراً كان مفعولاً على يد العالم الطلعة رسل (عالم فلكي أميركي) فقد وجد هذا عمر الأرض مسطوراً في مناجم الراديوم وغيره من العناصر المشعة. وفعل الإشعاع هذا حجة دامغة ضد الذين قالوا بفتوة الأرض. فالأرض لا تبرد من نفسها كما كان يظن. ليس هذا فحسب، وإنما هي تسخن بفعل هذا الإشعاع. فصار علماء الطبيعة مستعدين أن يقدروا للأرض عمراً لم يفرضه خصومهم من قبل
ما هي نقطة الاتصال بين إشعاع الراديوم وعمر الأرض؟ يعلم كل مثقف أن عناصر الراديوم والنوريوم المشعة تتحول من عناصر ثقيلة إلى أخرى تكون أعدادها الذرية أقل من أعداد الأولى. ويجيء الرصاص مسكا لختام هذه السلسلة
ولحسن الحظ وجد أن الرصاص المتكون بفعل الإشعاع يختلف عن الرصاص العادي في أن وزن الأول الذري (206) بينما الوزن الذري للثاني (207. 18)، ومن هنا سهل التفريق بين النوعين. وفي مناجم الراديوم لا تجد اليورانيوم دون أن تجد معه الرصاص الذي تكون من إشعاع اليوزانيوم. ولما كان معدل التحول من اليورانيوم إلى الرصاص وهو (1 %) كل (66) مليوناً من السنين معروفاً أصبح من السهل جداً أن نعرف عمر الأرض بمعرفة النسبة بين الرصاص واليورانيوم في منجم واحد. وقد قدر عمر النظام الشمسي بما لا يقل عن (1300) مليون من السنين. وهو كما يلاحظ القارئ يتفق تمام الاتفاق مع ما قدره جفرز من قبل
وجاءت من السماء رسائل تؤيد هذا التاريخ حملتها الشهب والنيازك التي عجز الهواء المحيط بالكرة الأرضية أن يحرقها تماماً فسقطت جلاميد كبيرة على الأرض وأحدثا أغواراً(445/17)
عميقة كحفرة أرزونا مثلاً، وفي كثير من هذه الجلاميد يلتقي عنصر الراديوم ونفايته وقد وجد أنه ليس بين الحجارة التي امتحنت ما زاد عمره على (2900) مليون من السنين وما قل عن السن التي شهدت بها الصخور الأرضية
وكما أن لكل بداية نهاية فلا بد للأرض أن تهرم وتموت، متى؟ هذا بيد الله، فربما لا يزيد هذا الزمن الذي يحير عقولنا ويشعرنا بعظمة الكون عن أن يكون لحظة قصيرة عابرة في مخيلة المهندس الأكبر وربما يكون المستقبل أرحب وأوسع بكثير من الماضي
وفي نفس الوقت الذي يكون القارئ لنفسه رأياً في هذه الأرقام الضخمة، أرى أن أذكره بتلك اللمعات الفنية والإشراقات الذهنية التي تمر بذهن العالم، وأن أشير عليه أيضاً بالتزود ما استطاع من الثقافة العملية. ففي الأخيرة لذة وطرافة وقصص رائع لا تقل عما يلقى في غير العلم من ميادين الثقافة الواسعة
(تجهيز السلط)
خليل السالم
(ب. ع.) من الدرجة الأولى في الرياضيات(445/18)
مدينة طرابلس الغرب
للأديب مصطفى بعيو الطرابلسي
من بين المدن العديدة التي يتردد ذكرها في هذه الأيام على صفحات الجرائد (مدينة طرابلس الغرب) عاصمة الإقليم المعروف باسمها ومقر حكومة لبيا الإيطالية، وهي مدينة إغريقية في اسمها ومعناه المدن الثلاث، وهي (سبراتا وكان البربر يسمونها (زواغة) قبل أن يلقبها العرب (بصبرة)، وهي اليوم تدعى (زوارة)؛ ثم (أوا التي هي أويات في نظر البربر قبل أن يحرفها الرومان إلى اللفظ السابق عند استيلائهم على تلك البلاد، وأخيراً (ليبدس التي لم يبق منها إلا آثار متهدمة تشهد على عظمتها في سابق عهدها، وقد حلت محلها اليوم مدينة (الخمس) العامرة، وأصبح أهالي البلاد يطلقون اسم (لبدة) على تلك الأطلال الخربة
وجدير بالملاحظة أن كلمة (طرابلس) لم تكن معروفة حتى القرن الرابع (ق. م) عندما أطلقها الكتاب الرومانيون على تلك المدن الثلاث السابقة الذكر، ولكن هذه الكلمة تغير مدلولها في العصر البيزنطي، وأصبحت تطلق على (أوا) فقط دون غيرها ولما جاء العرب استعملوها على هذا النحو، إلا أنهم أضافوا إليها كلمة (الغرب) تمييزاً لهذه المدينة عن مدينة (طرابلس الشام)، وكانوا يسمونها أحياناً (أطرابلس) بزيادة الهمزة في أولها، على أن صاحب القاموس قد ضبط اسمها بفتح الطاء وضم الباء واللام وجعل الهمزة من مميزات الشامية، ولكن البكري والتيجاني وغيرهما يرون إلحاق الهمزة بمدينة (طرابلس الغرب)، وهذا ما أرجحه لأن الأهالي إلى وقتنا هذا ما زالوا ينطقونها أحياناً بهذا الشكل
ويرجع تاريخ إنشاء مدينة (أوا) إلى أوائل القرن الخامس ق. م ونظراً لحسن موقعها وصلاحية مرساها للسفن بسط الفينيقيون سيادتهم عليها حتى تتم لهم السيطرة على البحر الأبيض المتوسط؛ ثم ورثهم في هذه السيطرة خلفائهم القرطاجنيون الذين أسلموها بدورهم إلى الرومان على أثر هزيمة قرطاجنة في الحروب البونية خلال القرن الثاني ق. م. ويذكر لنا بروكويبس أحد مؤرخي الرومان أن الوندال عندما استولوا على مدينة أوا (طرابلس الحالية) هدموا أسوارها، ولكن ليس هناك شك في أن البيزنطيين قد أعادوا بناءها عند استرجاعهم لها في عصر الإمبراطور جستنيان بدليل ما نراه من أثر التجديد(445/19)
البيزنطي في بقايا الأسوار التي ما زالت إلى اليوم. ولكن هذه الأسوار لم تكن تامة الإحاطة بالمدينة من جهة البحر مما سهل على العرب فتحها على أيدي جنود عمرو بن العاص؛ ولهم في ذلك قصة ترويها كتب التاريخ تتلخص في أن عمرو بن العاص قد ضرب حصاراً على المدينة من جهة البر وأقام يتحين الفرص للاستيلاء عليها حتى وافاه ذلك عندما خرجت جماعة من جنوده للصيد، فلما شعرت بوطأة الحر توجهت إلى البحر لتخفيف ما تشعر به، وكانت المدينة تشرف على البحر مباشرة لا يفصلها عنه أي حاجز؛ فوجد الجنود طريقاً إلى المدينة على أثر جزر البحر فتسللوا إلى داخلها. وكم كانت دهشة الرومان عظيمة عندما سمعوا تهليل هؤلاء الجنود وتكبيرهم مما دفعهم إلى الاحتماء بسفنهم. وأبصر عمرو أصحابه في جوف المدينة فأقبل بجيشه واستولى عليها بعد أن سهل عليه أصحابه تلك المهمة. وقد فطن العرب إلى هذا النقص في تحصين المدينة فيما بعد مما دعا هرثمة بن أعين - وإلى المدينة من قبل الخلافة العباسية أن يعمل على إتمام هذه الأسوار من جهة البحر. وبدخول العرب لمدينة طرابلس دخلها الإسلام وانتشرت فيها اللغة العربية ولا تزال لغتها ولا يزال الإسلام دينها على رغم بعض المحاولات الفاشلة
ومما تجب ملاحظته هنا أن المؤرخين قد اختلفوا في تحديد زمن تبعية هذه المدينة للعرب؛ فبعضهم يقول إن ذلك تم في سنة 22هـ والبعض الآخر يقول إن ذلك كان في سنة 23هـ ويمكنا التوفيق بين الطرفين مع عدم أهمية هذا الخلاف لبساطة الفارق الزمني إذا اعتبرنا جزءاً من الحملة العربية على مصر قد توغل غرباً بعد فتح مصر حتى وصل مدينة طرابلس ثم تبعته بقية الحملة في سنة 23هـ. والحقيقة التي لا مراء فيها أن مدينة طرابلس نفسها لم تخضع للعرب خضوعاً تاماً حتى سنة 26هـ عندما حاول عقبة بن نافع التوغل في أفريقية وفتحها، فاتخذ منها قاعدة حربية لأعماله الجديدة وبقيت بها حامية عربية. وكان والي مصر هو في نفس الوقت حاكماً لمدينة طرابلس، ولكنها سرعان ما انفصلت عن مصر عندما عين عمرو بن العاص والي مصر ابن خالته عقبة ابن نافع بن عبد القيس الفهري والياً عليها من قبله، فكان بذلك أول ولاتها الذين لم تصلنا أسماؤهم بعد
وكانت مدينة طرابلس خلال القرن الثاني والثالث الهجريين ميداناً للقلاقل والفتن الدينية نتيجة لأعمال فرقة الأباضية إحدى فرق الخوارج التي وجدت لها أتباعاً بين قبائل البربر(445/20)
من هوارة وزناتة؛ فأقلقوا بذلك بال الخلافة العباسية بهجومهم المتوالي على المدينة ومحاصرتهم لها. وكذلك كانت حالة طرابلس أثناء حكم بني الأغلب مما سهل على العباس بن أحمد بن طولون والي مصر أن يغزو تلك المدينة بعد أن استولى على إقليم برقة واستطاع أن يتغلب على حاكمها محمد بن قرهب عند لبدة سنة 255هـ وحصره في مدينة طرابلس ثلاثة وأربعين يوماً تمكن من بعدها أن يفك الحصار عن نفسه
وتبعاً لقيام الخلافة الفاطمية في المغرب خضعت طرابلس لسلطانها، وتولى حكمها أفراد من بني خزرون الذين أسلموها إلى بني حفص أصحاب اليد الطولى في رخائها وتعميرها كما يحدثنا بذلك التيجاني في رحلته عندما زار المدينة سنة 1308م فيخبرنا بإقامة الحاكم في قصر بديع ربما كان القصر الحالي قد بنى على أنقاضه. ويحدثنا عن طريقة حكم المدينة بواسطة مساعدة مجلس من شيوخ المدينة يتكون من عشرة أعضاء. ولا يخفى التيجاني إعجابه بحمامات المدينة ونظافتها وشوارعها الواسعة المنسقة التي يتلاقى معظمها بزوايا منظمة، كما أعجبته آثارها ومسجده الملقب بالجامع الأعظم، ومدرستها المسماة بالمستنصرية، وأسوارها المحصنة بالأبراج والخنادق. والخلاصة أن الحياة كانت فيها كما وصفها لنا ناعمة مزدهرة. ولكن تنازع أفراد بني حفص على الحكم وانشغالهم عن الإصلاحات الضرورية جعل المدينة تأخذ في التدهور والضعف مما عرضها لهجمات أهل جنوا، إذ كان كثير من تجارها يترددون عليها، فعرفوا نقط الضعف فيها، ولم ينقذها من أيديهم إلا تلك الفدية التي قدمها لهم أبو العباس أحمد بن مكي صاحب قابس وقدرها خمسون ألف مثقال من الذهب الخالص
وما كادت المدينة تسترجع أنفاسها بعد هذا الغزو الأجنبي حتى وقعت مرة أخرى في قبضة الإسبانيين سنة 1510م الذين مكثوا فيها عشرين عاماً عاثوا فيها فساداً ولكنهم مع ذلك جددوا قصر حاكمها الذي ما زال محتفظاً ببعض شكله حتى يومنا هذا كما أصلحوا ما تهدم من أسوارها وبنوا الرصيف المعروف باسمهم في ميناء المدينة لرسو سفنهم واتخذوا منها قاعدة بحرية لمعاكسة أعمال العثمانيين في البحر الأبيض المتوسط في ذلك الوقت. ثم انتقلت بعد ذلك إلى أيدي فرسان القديس يوحنا في جزيرة مالطة الذين بقوا فيها حتى سنة 1551م بمساعدة شارل الخامس إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة رغم ما عانوه من(445/21)
هجمات ثوار العرب بمساعدة سكان البلاد الداخلية. وتروى لنا كتب التاريخ قصة طريفة عن مقدمات احتلال الأسبان لمدينة طرابلس، وهي ولاشك أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة وتتلخص في أن الأسطول الإسباني التجاري قدم إلى الميناء فأتى أحد أهالي المدينة واشترى جميع سلع المراكب ودفع لأصحابها الثمن فوراً، ثم استضافهم رجل آخر في بيته بعد أن جهز لهم طعاماً فاخراً، ولما أخرجه لهم أخذ ياقوتة ثمينة وسحقها ورشها على طعامهم فبهتوا لذلك الأمر، ولما انتهوا من الطعام قدم لهم بطيخاً فطلبوا سكيناً لقطعها فلم توجد في داره تلك الآلة البسيطة الضرورية ولا عند جاره إلى أن خرجوا إلى السوق وأتوا بسكين. فلما رجع هؤلاء التجار إلى بلدهم سألهم ملكهم عن حال البلد التي قدموا منها، فقالوا: ما رأينا بلداً أكثر منها مالاً وأقل سلاحاً وأعجز أهلاً عن مدافعة عدو. وحكوا له الحاكيتين فتشجع بذلك وتأهب للاستيلاء عليها
على أن تفاقم استبداد الإسبانيين بأهالي مدينة طرابلس أجبرهم على الهجرة منها والالتجاء إلى مدينة (تاجوراء)؛ ثم انتخبوا وفداً للذهاب إلى دار الخلافة العثمانية طالبين تخليصهم من أيدي الإسبانيين فأجاب السلطان سليم الأول طلبهم وأرسل معهم مراد بك أغا أحد أغوات الحرم الذي تمكن من تخليصها من أيدي الإسبانيين في 13 أغسطس سنة 1551م بعد أن فر حاكمها إلى جزيرة مالطة. وبذلك أصبح مراد أغا حاكماً للمدينة وما زال مسجده الذي بناه في سنة 1554م في تاجوراء يحمل ذكراه إلى يومنا هذا. وعبثاً حاول الأسبان وشركاؤهم فرسان مالطة استرجاع المدينة. ولم تبق لهم طريقة ينتقمون بها من العثمانيين سوى انسلال مراكبهم إلى داخل الميناء ليلاً وإحراق السفن العثمانية
هكذا أصبحت طرابلس تحت الحكم العثماني يتولى شأنها ولاة يعينهم السلطان، ولكن نظراً لبعد المدينة عن الحكومة المركزية في الأستانة وضعف خلفاء بني عثمان بمرور الزمن عمل الولاة على الانفصال عن الحكومة المركزية خصوصاً بعد أن اختلطوا بأهل البلاد. فنرى أحمد باشا القره مانلي يعلن استقلاله في سنة 1711م مؤسساً أسرة القره مانلية التي حكمت حتى سنة 1835م. وقد خلفت لنا هذه الأسرة الكريمة عدة آثار قيمة تشهد بعظم شأنها وحكمها ولاسيما أحمد باشا القره مانلي الذي حكم حوالي أربعة وثلاثين عاماً كانت بمثابة العصر الذهبي لتاريخ هذه المدينة، إذ استطاعت بسط نفوذها على داخل البلاد حتى(445/22)
فزان وحدود برقة شرقاً، وعمل على حفر قنوات لجلب المياه العذبة للمدينة من العيون القريبة، فضلاً عن حفره عيناً على الساحل لتزويد البحارة بالمياه العذبة، وهذا لا يعد شيئاً بجانب مسجده الذي شيده في سنة 1738م، ومدرسته التي ما زالت عامرة بالطلبة حتى يومنا هذا تستمد نشاطها من الأوقاف المخصصة لها. وكان قصره ندوة لقناصل الدول لكسب صداقته. خصوصاً وأنه أتبع سياسة التسامح نحو المسيحيين فكثر عددهم في المدينة فضلاً عن أنه أحسن معاملة بعثات الفرنسسكان. هذا قليل من كثير يشهد بحسن أعمال مؤسس هذا البيت، ولولا ضيق المقام لأتيت على باقي أعمال أفراد هذه الأسرة التي رفعت من شأن طرابلس وجعلت دول أوربا تخطب ودها نظراً لما كان لأسطولها من سطوة في مياه البحر الأبيض المتوسط
ولولا ذلك الوباء الذي اكتسح المدينة على أثر مجاعة حلت بها سنة 1784 - 1785م والذي قضي على أربعة عشر ألف نسمة من سكانها البالغين مائتي ألف؛ ولولا تلك المنازعات العائلية من أجل تولي الحكم والتي أفسحت المجال للتدخل الأجنبي؛ ولولا دسائس قنصل فرنسا وإنجلترا لافتراس البلاد لبقيت طرابلس محتفظة باستقلالها وكيانها مدة أطول من تلك الفترة التي تمتعت بها ولكن كل هذه العوامل عجلت تداعي الكره مانلي ما ساعد تركيا على استعادة البلاد مرة ثانية يوم 28 مايو سنة 1835م. وبابتداء ذلك التاريخ تبدأ صفحة جديدة في تاريخ مدينة طرابلس الغرب حاول الأتراك خلالها إصلاح الحال ولكن الأجل لم يساعدها على تحقيق ذلك إذ سرعان ما احتلت الجيوش الإيطالية تلك المدينة في عصر يوم 5 أكتوبر سنة 1911م على أثر إعلانها الحرب على تركيا
وبابتداء هذا التاريخ أيضاً تدخل مدينة طرابلس الغرب في حياة جديدة أرجو التحدث عنها في مقال آخر مع ذكر أهم آثارها ووصف موجز لبعض إحيائها وعادات أهلها وأشهر علمائها ورجالها
مصطفى بعبو الطرابلسي
كلية الآداب - القاهرة(445/23)
الصحيفة المثالية
لرجل الصحافة (ويكهام استيد)
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
حاولت فيما عرضته أن أوحي إلى القارئ بما يجب أن تتوفر الصحافة على خدمته من مثل أعلى، وأن أدله على ضوئه إلى ما كان من تقصير الصحافة البريطانية في أمره ونيتها في نهجه وقصورها عنه، وبوسعي أن أتخيل صحفياً أثقله عمل لم يؤده إلى بجهد جاهد ودرى بما يرسف فيه من أغلال وما نصب له من أشراك دراية جامعة وهو يحاورني عن علم وخبرة قائلاً: (عافنا من عسير أرمك يا أخي وترسل فيما يجتال بخاطرك من نسج النظر ووهم الخيال!) فأي نوع من الصحافة يسعك أن تبدعه إذا هيئوا لك الفرصة، وأطلقوا في الأمر يدك؟
هبك كنت (توماسن) بصحيفته (التربين)، أو (الفردهارموث) بصحيفته الناضجة (الديلي ميل) أو (ليفي لوسن) بصحيفته (الديلي تلغراف)، وقل لي لعمرك ماذا عساك صانعه - وأنت مقيد بقيود الصحافة الحاضرة - لتظفر بالحرية وطيب الحياة لصحافة أمست وهي تخضع خضوعاً كبيراً للاعتبارات التجارية؟؟
أغلب ظني أنه حوار حكيم وسؤال عادل، وقد يتأتى لي أن أجيبه إجابة نظرية عما سأل بقدر ما يشق على أن أقارعه الحجة بالحجة من الوجهة العملية الناجحة وأضعها نصب عينيه حقيقة واقعة؛ فهذا شأن آخر له قدره وأثره، وليس يتوفر لجميع الصحفيين من البراعة وبسطة الكف ما يسعهم معه إنشاء صحيفة؛ فقد كان (و. ت استيد) مثلاً صحفياً عبقرياً ورئيس تحرير نابغاً وهو إلى عبقريته ونبوغه قد أخفق إخفاقاً محزناً في إخراج صحيفة يومية، وإني على العموم لست قانعاً بأني أملك لنفسي من الكفاية والأداة ما يسعني معه أن أطالع الناس بصحيفة يكتب لها النجاح من الوجهة التجارية؛ كما وسع (جون) و (ولتر الثاني) صاحب (التيمس)، وليفي لوشن صاحب (التلغراف)، ويوسف بوليترز صاحب (النيويورك ويرلد)، وأدولف أخ صاحب (النيويورك تيمس)، والفرد هارمسورث صاحب (الديلي ميل)؛ في مذاهبهم الخاصة وطرقهم المختلفة، أو كما وسع (لورد بيفربروك) صاحب (الديلي اكسبرس)، ولورد كامروز صاحب (الديلي تلغراف)، (السندي(445/24)
تيمس) من أصحاب الصحف الحاضرة. فجميع هؤلاء الرجال قد حققوا آمالهم وطفروا من (الصحافة) بمأربهم باعتبارها من المؤسسات الاستغلالية؛ ولقد كان فريق منهم - وما زال بعضهم - من الصحفيين الأفذاذ
إلا أنه سواء لدى أكانت الصحافة استغلالاً خصيباً أم كانت مستراداً جديباً ما دمت لا أومن إيماناً تاماً بأن ما يرجى للصحف من نجاح تجاري هو أفضل مقياس للصحافة الممتازة الطيبة. فصحيفة (ألوست مانشستر جازت) مثلاً ما تهيأ لها قط أن تعيش من غير أن تقترض، ومع ذلك فأي صحافي يسعه أن يقول إنها لم تكن صحيفة فذة جديرة بالإعجاب. وما كانت صحيفة (ألمانشستر جازت) لتصبح يوماً ما في ذاتها وبذاتها معقد رجاء أصحابها في أن تغدو منجماً ذهبياً وتثميراً رابحاً ولكني إلى ذلك لا أرى لها من تفوقها الممتاز نظيراً في أي قطر كان
إن ما أنشده من مثل أعلى للصحافة لينطوي في تقصي واستيعاب نوع الصحيفة التي سيكون بوسعها أن توفق بين رسالتها المعنوية وما تترقبه من ثروة مادية من غير أن تضحي في هذا النهج الدقيق بشيء من النزاهة الصحفية والخلق القويم
وما إن يحفل خاطري بالآمال الحسان شأن غالبية الصحفيين حتى يتملكني العجب أحياناً، وأسائل نفسي: أي نوع من الصحافة يجمل بي أن أخرجه للناس إذا ما اجتمع لي من الجنيهات مثلاً مليون أو يزيد، وأطلق لي التصرف فيه. فكان بوسعي إما أن أبدعها صحيفة جديدة لنفسي، أو تطلق يدي في صحيفة من الصحف الحاضرة لأغير أسلوبها وأقوم نهجها وأجعل طابعها وفق ما أريد؟؟ وهل يتيسر لصحيفة تثقلها تلك القيود التي يخضع لها الآن: (الإنتاج الصحفي) أن تحرر من أغلالها وترتفع فوق مستوى ما يقيدها أو ترجعه إلى الوضع الذي يسعها معه أن تسترد حرية الصحافة وتصونها؟
الجواب عندي أن هذا الوضع هو ما يجب أن يكون، ولو أني لا أنكر أن الرجل الذي يتهيأ له أن ينهض بهذا العمل قد يكون بحاجة إلى كفاية أسمى شأناً ومقدرة أبعد أفقاً مما يسعني أن أظفر به أو أطمع فيه، وقد تعمل ضرورة الساعة على بعث هذا الرجل وقد لا تعمل. ففي الحرب العظمى كانت هنالك حاجة ملحة للبحث بين جيوش الحلفاء عن قائد حربي ذي رأي عبقري وكفاية فذة ليتولى أمر القيادة العامة، وهبهم لم يعثروا بهذا الرجل أفكان ذلك(445/25)
أو لم يكن لأن الحالة آنئذ بلغت من التعقيد والإعجاز مبلغاً لا يسمح بالسيادة لأي رجل كان؟؟
لقد أتيح لي في أوائل عام 1921 وقبل الذكرى المئوية لوفاة نابليون بأسابيع قليلة أن أسأل المارشال (فوش) (الذي عرف عن نابليون أكثر مما عرفه أي قائد آخر من قادة الحلفاء) عما إذا كان قد همس بضميره يوماً ما وهو القائد العام لقوات الحلفاء والجيوش المتحدة في أواخر الحرب العظمى الماضية أنه كان بوسع نابليون لو حل محله أن يكون أوفر منه كفاية وأحكم قيادة وأكثر توفيقاً أم كانت طبيعة الظروف الحديثة من شأنها أن تجعل من نابليون رجلاً أدنى قدراً وأقل شأناً. وقد أجابني (فوش) أنه كثيراً ما وجه لنفسه هذا السؤال بعينه إبان الحرب العظمى الماضية ووقتما كان يمر بقبر نابليون في (الأنفاليد). وأن رأيه قد استقر آنئذ على ما امتاز به نابليون من البطولة الفذة والقلب الصارم في كفاحه ومن الكفاية الممتازة والبأس الصادق في الاضطلاع بالصعاب ومجالدة الأعداء كان من شأنه أن يمكنه من التسلط على الحرب الحديثة في قرابة الستة أسابيع. قائلاً: (وآنئذ كان يسع نابليون أن يضع لجيوشه خططا وأساليب جديدة ويبدع للحرب فنوناً لا عهد لها بها من قبل ثم يعمل ما توفر له من عبقرية ودهاء في أن يضرب أعداءه وقد هالهم الفزع الضربة القاضية.
وأغلب ظني أنه على هذا النهج بعينه يسع منشئ الصحيفة النابغ أن يسيطر على ما يصادفه عقبات جسام في طريق إنشاء الصحف الحديثة سيطرة تامة تنعكس معها آية تلك العقبات فإذا هي فرص مواتية وصفقات رابحة. وإذا هو يحدق بأعدائه المناهضين لمشاريعه فيهزمهم هزيمة نكراء قبل أن يتنبهوا إليه من حيث لا يعلمون. وغالب الأمر من نجاحه أنه رهن كفايته في قراءة ما يجول برءوس أبناء الأجيال الناشئة والإفصاح لهم عما تحفل به رءوسهم من أفكارهم وتوجيههم إلى ما تطمح أنفسهم له وتنصرف أمانيهم إليه لو أنهم اهتدوا إلى سبيله.
ولعهد غير بعيد بعث كاتب برسالة لصحيفة (ألمانشستر جارديان) رثى فيها لحال أبناء هذا العصر لما يستبد بهم من شعور بحاجتهم إلى مثل أعلى يعيشون له أو يموتون في سبيله إذا دعتهم الحاجة إلى ذلك. وكان جماع رأيه أن حياتهم بحاجة إلى نصيب من الصفات(445/26)
الروحية والمقدمات المعنوية. ويغلب على ظني أن ما شكاه من أمرهم قد بنى على أساس صحيح. فالناس قد اختلط عليهم الأمر وفترت عزائمهم وضلوا السبيل، وهم - ولا سيما شبابهم - يزجون بأنفسهم في ميادين الخطر ومسارح اللهو حيثما يكون أعظمهم مخاطرة أفضلهم شأناً. وكثير منهم عاملون على الاحتفاظ (بكفايتهم) لركوب هذه الأخطار. ولو أن قليلاً منهم يسعهم أن يجيبوا هذا الناشئ الموفور القوة على ما يسألهم عنه وقد تملكه العجب من احتفاظ الرياضي بكفايته من غير مران يعتصم به قائلاً: (لقد أنفقت جميع أوقاتي في الاحتفاظ بكفايتي. ولكن علام احتفظ بهذه الكفاية؟؟)
لقد أصبح الكثير وهم من (هواة الطيران) الذين لا يتهيبون أن تمزق أوصالهم وتتحطم رؤوسهم. أو ممن يتولون قيادة (سيارات السباق) ليندفعوا بها في سرعة طياشة قاتلة. كما أصبح المتقدمون في السن منهم وهم يرقصون تلك الرقصة الشاقة المضنية المسماة برقصة (الجاز) أو يلتمسون الرياضة العقلية في (حل الألغاز). أما شأنهم في الميادين الاجتماعية ونصيبهم منها فيا لهما من شأن موجع ونصيب منقوص. فهم بالإضافة إلى الشئون العامة ليس لهم من عقيدة تصدر عن تفكير رشيد. وهم لا يؤانسون في التعلق (بالوطنية) بدورها ما يشبع جل رغباتهم وإن كانت (الشيوعية) بالقياس إلى غيرها قد أمست وهي تجذب إليها قليلاً منهم. على حين أفل نجم داعي (الاشتراكية) - وهي صورة مخففة وطابع معتدل من الشيوعية - ففقد بريقه وضيع الافتنان به. وما برحت النازية أو الفاشية وهي أقل شأناً من أن تلفت أنظارهم إليها كعلاج ناجع لجميع الأدواء الاجتماعية. وهم إلى ذلك كله لم يظفروا من الإلمام بالمبادئ الحرة إلا بنصيب هو من قلة المحصول وضآلة الشأن بحيث لا يصلح لأن يكون وحياً للخاطر أو مصدر للإلهام. ولو أن غالبهم يميل إلى المبادئ الحرة ميلاً تقليدياً لا يصدر عن خبرة صحيحة أو إدراك سليم. وهم وقد صارت تلك المبادئ التي ينادى دعاتها بوجوب صيانة السلام العالمي ويزعمون أن القضاء على الحرب أمر محبوب ميسور وهي أجنبية عن فطرتهم، نجدهم ينفرون من الحرب ويشق عليهم أمرها. وهم يبحثون عن أشياء أجل من حياتهم شأناً وأعظم من أنفسهم قدراً يقفون عليها حياتهم وأنفسهم ولكنهم لا يملكون لها طولاً ولا يستطيعون إليها سبيلاً. وهم لم يظفروا من نتاج الأدب وخطب المنابر ومن سياسة الساسة وتشريع البرلمان ومن فلسفة الفلاسفة وعلم(445/27)
العلماء إلا بما هو كالسراب من الماء أو الحصباء التي لا تنفع أقواماً يفتقرون حقيقة إلى الخبز.
يضاف إلى ذلك كله أن انطباع الحياة بذلك الطابع الآلي المطرد الأسلوب من شأنه أن يفوت عليهم الفرصة في الانتفاع بجهودهم وتجديد نشاطهم.
(البقية في العدد القادم)
زين العابدين جمعة(445/28)
التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم
للأستاذ رفعة الحنبلي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
تبعة الطفل
إن أكثر الشرائع الأوربية الحديثة لا تحمل الطفل تبعة ما، لكن بعضها لا يبرئه منها، وقد تختلف باختلاف رقي المجتمع ورفعة البيئة وتتباين بتباين التقاليد والعادات. ففي إنجلترا وروسيا مثلاً لا يؤخذ الطفل بالتبعة إن أقدم على جريمة ما حتى العام السابع من عمره، والسنة الرابعة عشرة في مقاطعتي (فو السويسرية وفالوا الفرنسية، والسادسة عشرة في بلجيكا. أما في فرنسا عام 1810 فقد حددت التبعة حتى السادسة عشرة، وأدخل عليها بعد ذلك تعديل آخر إلى أن تدنت إلى السابعة أو الثامنة ثم عدلها مجلس الأمة الفرنسي إلى العام الثالث عشر
والشرائع الإنكليزية الحديثة لها نصيبها في إقرار هذه التبعة على الطفل، وإن قبلت الحكومة - تحت تأثير الرأي العام وبعض أصحاب الضمائر الحية من القضاة - مبدأ إعفائه منها إعفاء جزئياً أو كلياً أو تعديلها تعديلاً يتلاءم مع الحياة الاجتماعية الإنكليزية، إلا أنها أبقتها كمبدأ قد يعمل به من حين آخر. ففي عام 1457 أخذ وليد له من العمر أربع سنوات بجريمة قتل، وحكم على مراهق لم يتجاوز الاثنتي عشرة سنة بجريمة أيضاً، وفتاة لم تشرف على ربيعها الثامن أخذت بالتبعة لإشعالها النار في مسكن
على أن بعض الشرائع تحتم على الولد نفسه، دون غيره، أن يتحمل تبعة عمله، والبعض الآخر تحمله وتحمل أسرته معاً؛ وفي كلتا الحالتين لا ينجو الولد منها وإن كانت التبعة في الثانية أخف وطأة عليه من الأولى
أما في العهد القديم فالقانون الصيني لم يخل من تشريع غريب في صدد هذه التبعة يتنافى مع التبعات الأخرى في المجتمعات الثانية؛ فالولد الذي يرتكب إثماً أو جرماً ولم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره - مثله مثل رجل جاوز السبعين من سنيه، أو شيخ فقد عيناً واحدة أو ذراعاً واحدة - يتمكن أن يستبدل المال بالإعدام إذا كانت الجناية ليست بذات(445/29)
أهمية - أي لا تستوجب الإعدام - ويكون المال حينئذ كفارة عن ذلك الإثم أو الجريمة؛ أما الولد الذي يؤخذ بجريمة تستوجب الموت ولم يتجاوز العشر سنوات من عمره - فمثله كمثل رجل أربى على الثمانين، أو شيخ فقد عينه أو ذراعيه - يسمح له أن يطلب عفواً خاصاً من جلال الإمبراطور. والوليد لذي لم يتجاوز الربيع السابع من سنيه - مثله كمثل صاحب التسعين - لا يتحمل أية تبعة ما وبالتالي لا يحكم بأية عقوبة إلا في حالتي الخيانة والتمرد. فالولد في هذه الحالة يؤخذ بالتبعة هو وأسرته ويتحملان العقوبة بمعنى أن كل أفراد أسرته الذين لم يتجاوزوا الخامسة عشرة من سنيهم، من كلا الجنسين، يخضعون لعبودية ثقيلة قد تكون وبالاً عليهم في المستقبل، فالذكور منهم يرسلون إلى مستشفيات خاصة حيث يعقمون بينما الإناث يقضين بقية حياتهن في خدمة المجتمع!
أما تبعة الوليد عند اليونانيين القدماء فيختلف باختلاف الحكومات القائمة في ذلك العهد؛ فحكومة أثينا، تمشيا على شريعة أرسطو، طرحت جانباً تبعة الوليد واستنكرت معاقبته في حال قيامه بإثم عرضي غير مقصود به أي ضرر، ولكنها تأخذه بجرمه إذا ما ارتكب جريمة قتل الإنسان ولا تقر شريعة أفلاطون التبعة على الوليد الآثم، وهو في أدوار الجنون والمرض والطفولة حتى في حالة الخيانة والكفر والزندقة، ولكن أفلاطون استثنى حالة واحدة هي جريمة قتل الإنسان؛ أما إذا قدر للولد أن يجرح مواطن له، فإبعاد عام واحد عن البلاد، وإن سولت له نفسه العودة قبل إتمام هذه المدة، فسجن عامين كاملين؛ أما حكومة إسبارطة فيبعد الوليد إلى خارج بلاده وإلى أمد بعيد أن أرتكب جريمة قتل دون قصد منه. وهذا الإبعاد هو بمثابة انتقام خاص لعائلة القتيل وإرخاء رمزي لها؛ وفي حالتي الخيانة والصبأ، فالعقوبة تتناوله فوراً دون النظر إلى عمره، وقد تتناول أسرته أيضاً.
ولا تقر الشرائع الجرمانية القديمة التبعة على وليد أخذ بسرقة ولكنها تأخذه بجريمة قتل وتحده، وربما رأفت به وخففت العقوبة عنه؛ وتحاكى هذه العقوبة الأحكام المقررة على الراشد الذي يقترف القتل عفواً.
يتبين مما تقدم أن التبعة تلازم الولد - منذ اقدم الأزمنة حتى الآن - ملازمة لا ينجو منها، وإن فكرت بعض الأمم في تحقيقها، لكن البعض الأخر أخذ في بداءة هذا القرن يجتهد في إلغائها عن ولد لا يفقه معناها، ولا يفهم النظم الاجتماعية لأن تجريمه هو بمثابة ظلم لا(445/30)
مسوغ له.
تبعة المجنون:
اختلف المتشرعون الحديثون في أهمية الدور الذي يقوم به المجنون في المجتمع الإنساني وما يتركه من أثر قوي أو ضعيف فيه، ولكنهم أقروا - وإن اختلفوا في الاجتهاد - مبدأ واحداً هو أن لا تبعة على المجنون وأنه معفى من العقوبة.
وماذا يراد بالجنون؟ لقد عرفه الأستاذ (مرسيه بأنه (اختلال في أي عنصر من عناصر القوى العقلية؛ وقد يكون هذا الاختلال تشويهاً أو توقفاً في النمو أو انحلالاً والتواء في عنصر من تلك العناصر) مما يجعل (الفرد غريباً عن الوسط الذي يعيش فيه، وقد يصطدم اصطداماً يضر به وبالمجموع معاً دون أن يدرك عاقبة عمله). ويقول الأستاذ (مرسيه) أيضاً: (إن أكثر حالات الجنون سببها تسمم بطيء يؤدي إلى انحلال العرى بين المراكز العليا والمراكز السفلى، ثم يؤدي إلى انحلال العناصر التي تكون ذلك المركز) وقد عرفت الشريعة المجنون (بالغرد الذي خرج عن قواه العقلية فلا يصحو إلا في فترات نادرة أو لا يصحوا أبداً). وإذا كانت هذه وضيعة المجنون المحزنة وعقليته القاصرة، فكيف أجاز المجتمع البشري لنفسه أخذه بالتبعة والحكم عليه بالعقوبة؟!. . .
كان كثير من المجتمعات القديمة والحديثة، تأخذ المجنون بالتبعة والعقوبة. ففي القرن الثامن عشر أصدر بعض قضاة فرنسا أحكاماً مختلفة على بعض المجانين، فأثارت هذه الأحكام حفيظة نواب مجلس الأمة، واحتفظ هذا المجلس، بما له من سلطة تشريعية، بتخفيف هذه العقوبة أو إلغائها، ولكنهم أقروا مبدأ التبعة والعقوبة في حالة جريمة يرتكبها المجنون تتناول صاحب الجلالة أو أمراء الأسرة المالكة أو الرئيس الأول أو غيرهم من الزعماء كبار القادة.
والشريعة الصينية تميل بعض الميل إلى تخفيف التبعة عن المجنون وتعديل عقابه. فالجريمة التي تستوجب الإعدام يستعاض عنها بالسجن والتصفيد بالحديد عند عفو أهل القتيل عنه، وإذا قدر للمجنون أن يجرح أباه، فعلى هذا أن يبعث برسالة خاصة إلى صاحب الجلالة يتوسل فيها أن يعطف على ولده، ويعفو عن خطيئته ويغفر له ذلته؛ أما إذا قتل أباه فيؤخذ بالعقوبة وبأشد ما تكون قسوة وعنفاً حيث تقطع أوصاله وتحرق حتى ولو(445/31)
قضي نحبه قبل تنفيذ الحكم فيه.
وكان الرومانيون يعاملون المجنون معاملة القاصر - وهي تشبه إلى حد ما معاملة اليونانيين - ألا إنه قد يدفع في بعض الأوقات مبلغاً من ماله أو قسماً من أملاكه يتناسب مع أهمية الجريمة التي ارتكبها. وفي نهاية القرن الثاني أصدر الإمبراطور (مارك أوريل) وابنه الإمبراطور (كومود) قانوناً يبرئ فيه المجنون من التبعة ويرفع عنه التهمة، وينقذه من العقوبة، وساندهما في ذلك كبار المتشرعين آنئذ، وحجتهما أن الجنون بعينه هو عقوبة في حد ذاتها؛ أفلا يكفي المجنون عقوبة أن تكون الطبيعة قد حرمته من نعمة العقل، ولذة الفكر، وسعادة الحياة، حتى يزيده المجتمع شقاء بتجريمه وعقابه!!. . . إن هذا لكثير على امرئ بائس مسكين. . .
وهكذا زي المجتمع البشري يعاقب المجنون ويحمله التبعة ليس لأنه يتجاهل حالته العقلية والنفسية، ويتعامى عن وضيعته الشاذة المضطربة بل تمشياً لما جاء في الشرائع من أن المجنون يؤخذ بالتبعة والعقوبة.
تبعة الأموات
لقد عرف المجتمع القديم هذه التبعة كما عرف غيرها من التبعات الأخرى التي تتناول الحيوان والبحار والنبات. وكان الاعتقاد السائد، في ذلك الزمن، أن التبعة تتناول الميت نفسه باعتبار أن جثة المجرم عليها أن تتحمل العقوبة، وعلى هذا الاعتبار أقروا مبدأ التنفيذ
ويذكر التاريخ لنا حوادث عديدة من هذا النوع الطريف؛ ففي الهند يقطع رأس المجرم الميت ويحمل على الحراب ويسلخ جلده؛ وفي اليونان تقطع أوصاله وتحرق؛ وقد يحتفظ بجمة من شعره كذكرى لهذه العقوبة
ولا يؤخذ بهذه العقوبة إلا في حالتين اثنتين: أولاهما في حالة الانتحار؛ وثانيتهما في حالة ارتكاب جريمة تتناول الأمة والوطن. فالمنتحر يحكم وتنفذ العقوبة في جثته، فيسام إلى الجلاد حيث يصلب ويمثل به أشنع تمثيل، ولا يحتفل بدفنه احتفالاً دينياً، ويحرم من الرقود في باطن الأرض بسلام
وعرفت الأمة المصرية هذا النوع من العقوبة أيضاً، فكان المجرم - وهو الجثة الهامدة -(445/32)
يمثل أمام محكمة كهنوتية فإذا أخذته بجرمه حكمت عليه حكماً يحاكي في أصوله وفروعه الأحكام اليونانية؛ وكذا الحال في الأمة الفارسية فقد قطع الملك الفارسي رأس أخيه - وكان يناصبه العداء ويوثب الأمة عليه - ومثل فيه تمثيلاً فظيعاً بعد ن سقط في إحدى المعارك قتيلاً
وعرف المجتمع اليوناني أيضاً أنواعاً كثيرة من هذه العقوبات فمنها ما ينتهي بالتمثيل بجثة المجرم وحرقها، وما ينتهي بسحقها تحت الرحى وذرها في البحر، وما ينتهي بالحرم الديني ورمي الجثة خارج البلاد وغيرها
والواقع أن مثل هذه العقوبات تدلنا دلالة واضحة على عقلية المتسرعين الضيقة الذين لم يدركوا كل الإدراك ما في هذه العقوبات من إسفاف وسخف وتفكير عقيم
تبعة الحيوان
وكما أن التبعة والعقوبة كانتا تلازمان الإنسان في المجتمعات القديمة فهما تلازمان الحيوان أيضاً. فمن تقاليد قبيلة أن تأخذ بثأر أحد أفرادها إذا ما قتله نمر أو فهد وذلك بقتل الحيوان المفترس أو قتل آخر من فصيلته؛ ومن تقاليد القبائل الساكنة في جزيرة مدغشقر الاقتصاص والانتقام من التماسيح؛ فأفراد قبيلة التي تربطهم بالتماسيح رابطة الأخوة والصداقة - وهي التي وعدت وأقسمت، حسب اعتقادهم، ألا تأكل إخوانها من بني الإنسان - لا تتوانى عن معاقبة أحدها إذا حنث بيمينه أو رجع عن وعده
ينفر رئيس القبيلة أفراده، ويوثب جماعته لأخذ الثأر من هذا الأخ الحيوان الذي لم يرع حرمة الأخوة والصداقة، ويوحي هذا الثأر في نفوسهم حب الانتقام منه، ويشتد إضغانهم عليه، فينهضون حالاً إلى ذلك النهر وعلى وجوههم إمارات الجرأة وعلامات البأس، حتى إذا ما اقتربوا من ساحله المرمل، ونزلوا بقبالة مسايله وخلجاته، يتقدم رئيسهم بالشكوى المريرة إلى إخوانه التماسيح - تمشياً على الشريعة المقدسة - ويتبسط في سرد الجريمة على مسمع منها، ويتلوم القائل على فعلته هذه ويتوعده - وهو الذي أقسم وعاهد ألا يفتك القائل بأخيه الإنسان - طالباً منها أن تسلم القائل صباح الغد للاقتصاص منه، ملقياً في النهر شصاً كبيراً تتدلى منه قطعة كبيرة من اللحم حجمها قرابة من ربع بقرة؛ ومن ينكفئ كل منهم إلى مسكنه، وينصرف إلى نفسه يتوفر على الاستعداد للانتقام صباح الغد؛ فالنساء(445/33)
يأخذن في جدل الشرائط الحريرية، والفتيات في غزل خيوط القنب، والرجال والأيفاع في شحذ الأسنة والحراب والرماح
فما يكون الغد حتى يتوافد زمر الرجال والنساء، وجموع الفتيان والفتيات إلى مضرب الزعيم يتشاورون معه في كيفية المحاكمة، وتساورونه في طرق الانتقام، حتى إذا جمعوا جموعهم واكتمل عددهم، أخذوا سمتهم إلى ذلك النهر الهادر بأمواجه، مكان الجريمة وموضع الاستغفار والتوبة
يتقدم الزعيم فيغمز الشص متربصاً بغريمه مواتاة الفرصة، وقد لا يطول ثواؤه حتى يظفر به ويهب بجماعته أن يساعدوه ويعاونوه، وما أن يظهر التمساح على سطح الماء حتى يأخذوه بالعنف والقسر ويبادرونه بالأهازيج والأغنيات رمز الظفر والغلبة، ويتسابقون في إحكام أربطة القنب والحبال على جميع أطرافه إحكاماً قوياً لا يستطيع معه حراكا. وبعد أن يتحلق القوم حوله يعمد رئيس القبيلة إلى التبسط في الجريمة وإلقاء التبعة على هذا التمساح، معتذراً إلى رجال القبيلة بمحاكمته والحكم عليه بالموت - باعتباره أخاً لهم - وما أن يحكم عليه حتى يندرئ القوم بغرز الأسنة والرماح في بطنه إلى أن تقر حركته وتهدأ ثورته وتخمد أنفاسه، حينئذ تتقدم النساء بنزع الأربطة واستبدالها بأربطة حريرية ثم يزمله الرجال بالأكفان الناعمة بين عويل أولئك وبكاء هؤلاء حتى يواري في رمسه، وهو رمس لو تعلم جميل، أعد له ولأمثاله منذ أمد بعيد، وذلك باحتفال ديني مهيب. . .
وهكذا نرى أن هذا الحيوان السائم الذي لا يعرف ما ينفعه وما يضره يعاقب عقاب من يرتكب إثماً من بني الإنسان، ويحتفل به احتفالاً قد يقل نظيره لأبن آدم. . .
والمزدكيون التابعون لمذهب زرادشت يأخذون الحيوان بالتبعة والعقوبة فالكلب المسعور يعاقب بصلم أذنه اليمنى إذا افترس حملاً أو جرح رجلاً، وتصلم أذنه اليسرى في حالة الإعادة، وإذا تعددت آثامه وشروره ففرضة في رجله اليمنى واليسرى ثم يبتر ذنبه؛ وبما أن مبادئ المزدكيين لا تسمح بتقطيع أوصال المجرم - إنساناً كان أو حيواناً - فالعقوبة لا تتعدى حدود ما ذكرنا
وقد تشمل التبعة والعقوبة صاحب الحيوان أيضاً، وهذا ما تأخذ به المجتمعات القديمة والحديثة، فالشرائع القديمة كانت تحمل صاحب الحيوان ما يسببه هذا من ضرر وأذى،(445/34)
وتحمله على أداء تعويض مالي أو ترغمه على إعطاء عقار أو متاع يوازي قيمة الأضرار التي صدرت عنه، والمجتمع العربي القديم كان يعرف هذه التبعة ويأخذ صاحب العجماء بها على اعتبار أنه هو وحده مسئول عن الإهمال أو بالأحرى عن الضرر الذي تأتى عن الحيوان، فلو أن صاحب العجماء عقل الحيوان عقلاً تاماً ورعاه رعاية فيها كثير من الحذر واليقظة لما سبب إضراراً لهذا وأنزل خسائر بذاك، بل ذهبت الأمة العربية في الزمن الغابر إلى أبعد من هذا الحد، فأخرت مبدأ شهادة الحيوان أمام القضاء، فقد أورد مؤلف الأغاني قصة الشاعر (الحزين الديلي) الذي كثيراً ما كان ينصرف بمفرده إلى تعاطي الأشربة المحرمة في ظاهر مكة ولا صديق يؤاكله ويشاربه إلا حماره الذي يحمله ما يحتاج إليه من آكال لذيذة وأشربة خمرية معتقة
أحب جماعة من أهله وأصحابه أخذه بهذا الإثم وإقامة الحد الشرعي عليه وكانوا يؤبون في كل مرة بفشل مرير، ولم يكن لهم من طريقة أخرى إلا أخذ الحمار كقرينة على ارتكابه الإثم، ولما مثل الشاعر أمام القاضي وسئل عن التهمة أنكرها، فأراد القاضي أن يأخذ الحمار كقرينة على ارتكابه الإثم، وأحب أن يحده الحد الشرعي، وما أن سمع الشاعر قولته حتى بادر القاضي بقوله: إني أقبل هذا الحد - وإن لم يكن شرعياً - لكن أخوف ما أخافه أن يضحك منا أهل العراق ويتقولوا أن أهل مكة يأخذون بشهادة الحمير
والواقع أن الأخذ بمثل هذه القرينة هي بمثابة نوع من أنواع التبعة التي كانت تلازم الحيوان فيما مضى، وهي أيضاً بمثابة رجوع العربي إلى المنطق القبلي الذي كان يأخذ الحيوان بالتبعة
أما في العصر الحاضر فإن العرب لا يأخذون بهذه النظرية خلاف الأمم الأوربية التي تأخذ بها لاسيما في الأجرام الجزائية. ففي الثورة الفلسطينية عام 1936 - 1939 عمل الإنجليز بشهادة كلاب الأثر وفرضوا العقوبات الصارمة وطبقوا قانون الطوارئ الذي يقضي بالإعدام على كل من حمل سلاحاً، إلا أن قضاة العرب لم يوافقوا على ذلك إذا عرضت عليهم قضايا من هذا النوع كما جرى مع أحد القضاة الذي رفض الأخذ بشهادة الكلاب كما ورد في سياق حكمه
وجاءت الشريعة الإسلامية فهدمت ما أخذ به الجاهليون من هذه النظم، وأقرت مبدأ التبعة(445/35)
على صاحب الحيوان فحسب، وكذا الحال في المجتمعات المتمدينة الحديثة التي تكون قد اتصلت بالحضارة الإسلامية وتفهمت شرائعها ونظمها فأقرت ما أقرت وهدمت ما هدمته
ويخبرنا أرسطو بأنه شاهد بنفسه، في أثينا، محاكمة الحيوان المجرم في محاكم خاصة، وكثيراً ما كانت العقوبة تتناول قتل الحيوان وطرحه خارج حدود المدينة؛ ويقول أفلاطون أن حيوان النقل يؤخذ بالتبعة والعقوبة إذا أودى بحياة فرد خلال حالات خاصة كالاحتفالات الدينية والأعياد الوطنية؛ وعقوبته إما القتل أو الإحراق
وهناك نوع من العقوبات الدينية، مصدرها الكنيسة الكاثوليكية، تختلف عن بقية العقوبات اختلافاً كلياً تتناول الحيوان الوحشي دون الأليف باللعنة الدائمة والجرم الأبدي
تبعة النبات والجماد
وكما تقع العقوبة على الحيوان تقع أيضاً على النبات والجماد على حد سواء، فقبائل تقتص من الشجرة إذا أودت بحياة أفرادها وقت وقوعها والاقتصاص منها إنما يكون بتقطيعها إرباً إرباً وسحقها سحقاً ناعماً وذرها في الهواء؛ وعند سكان استراليا يحرق سلاح القاتل
ويروي التاريخ أن أحد ملوك فارس جلد البحر عقب معركة بحرية هزم فيها، وأن إمبراطور بدد ماء نهر لأنه حال دون انتصاره على أخيه
وأخبرنا ديموستين الخطيب اليوناني الكبير أنه شاهد بنفسه محاكم خاصة صلاحيتها محاكمة الجماد دون غيره، وحدث أن عائلة يونانية تسكن جزيرة رفعت الدعوى على تمثال بطل عظيم من أبطال اليونانيين لحادثة وقعت على أحد أفرادها من قطعة صغيرة منه، إلى أن فازت بالحكم على التمثال وألقت به في البحر
تلك هي التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم التي أظهرت لنا حياة اجتماعية متأخرة، وبيئة حقيرة، وحضارة فقيرة وواضحت نظماً وقوانين قد لا يأخذ ببعضها أو بأجمعها المجتمع الحاضر وعادات وتقاليد قد لا يقرها أيضاً، وإنما عالجنا هذا البحث لكي توقف القارئ العربي على درجة من درجات تفكير المجتمع القديم ومظهر من مظاهر الروابط الاجتماعية فيه
رفعة الحنبلي(445/36)
21 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
(في النصف الأول من القرن التاسع عشر)
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - عاداتهم
سرعان ما يترك العريس - بعد عودته من المسجد - أصدقاءه في الدور الأسفل ينعمون بتدخين الشبك واحتساء القهوة والأشربة. وتظل أم العروس وأختها أو غيرهما من قريباتها في الدور الأعلى بينما تكون هي والبلانة في غرفة منفصلة. وينبغي أن يبدي العريس الشاب بعض الحياء مثل العروس؛ فيحمله لذلك أحد أصدقائه في بعض الطريق المؤدي إلى الحريم. وقد تجلى العروس إذا كانت من الطبقات الموسرة أمام العريس في ملابس مختلفة تصل إلى سبعة. وعلى العموم يرى العريس عروسه مع البلانة وحدها، فيمنحها عند دخوله الغرفة منحة فتنسحب في الحال. وتغطى العروس رأسها بشال لا يرفعه العريس قبل أن يهبها هبة مالية تسمى (كشف الوش) بينما تظهر العروس في سبيل رفع الغطاء نفوراً وممانعة شديدة لتعبر عن خفرها البتولي. ويبسمل العريس عند كشف النقاب ثم يحي العروس قائلاً: (ليلة مباركة!) فتجيبه إن لم يرتج عليها من الخجل: (بارك الله فيك). وقد يرى العريس حينئذ لأول مرة وجه عروسه. ويجد العريس على العموم أن العروس كما وصفت له تقريباً. وكثيراً ما تنجز حينئذ طقوس عجيبة، فيرفع العريس ملابس العروس جميعها ما عدا القميص، ويجلسها على حشية سرير يتجه نحو مكة كما يولي ظهر العروس هذه الجهة، ثم يجذب حجر قميصها إلى الأمام ويبسطه على الحشية ويقف أمامها على بعد ثلاث أقدام تقريباً ويصلي ركعتين واضعاً رأسه ويديه عند السجود على هذا الجزء من القميص. ولا يبقى العريس مع عروسه أكثر من بضع دقائق بعد أن يكون قد أشبع فضوله بمشاهدة جاذبيتها، ويطلب من النساء - اللاتي يتجمعن عند الباب(445/38)
وهن قلقات - أن يزغردن. وتصل الصيحات الحادة إلى مسامع الرجال في الدور الأسفل وإلى الجيران وتتجاوب النساء بالزغاريد مخبرات أن العريس رضي بعروسه. ثم يهبط العريس إلى أصدقائه ويبقى معهم ساعة أو أكثر قبل أن يعود إلى زوجته، ويندر جداً أن يطلق الزوج زوجه إذا خاب فيها رجاؤه وإنما يستبقيها أسبوعاً أو أكثر
الآن وقد وصفت طريقة الاحتفال بزواج العذراء في القاهرة أضيف بعض كلمات عن بعض حفلات شاهدتها في أحوال أخرى خاصة بالعذراى والثيبات سواء
يندر أن يذهب بنات العظماء إلى الحمام العمومي قبل الزواج لوجود الحمام في المنزل. وعندما تخلو منازل العائلات الموسرة أو المتحضرة من حمام، تذهب العروس مع قريباتها وصديقاتها إلى حمام عمومي يستأجر لهن خاصة. ويفضل الكثيرات الذهاب إلى الحمام وإلى منزل العريس دون زفة راكبات الحمير فوق البراذع المرتفعة. وتتدثر العروس بشال كشميري على طريقة الحبرة. وقد ترافق حاشية العروس فرقة عوالم يركبن الحمير أيضاً ويغنين طول الطريق
وقد يكون لعائلة العروس أو العريس أغاوات فيتقدمون العروس راكبين. وقد يجري على رأس الزفة رجل يصيح: (صلوا على النبي) وينثر هذا الرجل عند باب المنزل بعض أوراق السلق ليسير عليها السيدات اتقاء لأحداث الدهر. ثم يصيح الرجل نفسه قائلاً: (نصر من الله وفتح قريب)
وقد يتم عقد الزواج عند المصريين من غير أبهة ولا احتفال حتى في حالة زواج العذراء، برضا عائلتي العروسين المتبادل، أو بموافقة العروس نفسها. أما الثيب فلا تزف أبداً عند الزواج. ويكفي أن تقول المرأة لمن يتقدم لزواجها: (وهبت لك نفسي) فتصبح امرأته شرعاً متى كانت بالغة من دون شهادة إذا استحال الحصول عليها. وقد يعقد المسلمون في مصر وغيرها من البلاد العربية الزواج بالثيب بهذه الطريقة البسيطة. ويبلغ مهر الثيب على العموم ربع مهر العذراء أو ثلثه أو نصفه
وتتم حفلات الزواج في القاهرة عند الطبقات التي تعلو الطبقات السلفى وإن حقرت معيشتها بنفس طريقة الطبقة الوسطى. إلا أنهم يراعون البساطة عندما يستحيل تحمل نفقات مثل هذه الزفة السابق وصفها، فتسير العروس متدثرة بشال أحمر ويحيط بها فريق(445/39)
من قريباتها وصديقاتها في أحسن حللهن أو فيما يستعرن من الملابس. ولا يبهج الموكب من صيحات الفرح غير الزغاريد التي يرددنها من وقت لآخر
وتختلف الزفة في القرى عن الزفة السابقة. فالعادة أن تركب العروس جملاً وهي متدثرة بشال حتى تبلغ منزل العريس. وقد يجلس معها على الجمل بعض النساء والبنات، اثنتان على جانبها واثنتان أو ثلاث وراءها. ويكون الهودج كبيراً ويغطى بالبسط وغيرها. ويتبع العروس جماعة من النساء يغنين. وكثيراً ما يتقابل أصدقاء الطرفين وصديقاتهما في منزل العريس مساء يوم الاحتفال والأيام السابقة ويلهون في الهواء الطلق طويلاً بالأغاني والرقص الذي ينقصه المهارة على ألحان الدف والطبل. ويغني الجميع رجالاً ونساء ويرقص النساء فقط. وقد اختصرت الكلام في وصف الحفلات الريفية لتجنب ترديد الوصف في موضوعات متشابهة. ولنرجع إلى عادات أهل القاهرة.
في الصباح التالي للزفاف يعرض (الخولات) والغوازي (رجالاً ونساء) ألعابهم أمام منزل العريس أو في الفناء. وفي الصباح عينه إذا كان العريس شاباً يدعوه الشخص الذي سبق أن حمله إلى الحريم إلى قضاء اليوم في الريف مع الأصدقاء. ويسمى هذا (الهروبة). وقد ينظم ذلك العريس نفسه ويشترك في النفقات إذا زادت على ما يقدمه أصدقاؤه من النقوط في هذه المناسبة. ويستأجر الموسيقيون والراقصات لتسليتهم. ويسير العريس من الطبقة السلفى في مؤخرة الموكب مسبوقاً ببعض الطبالين والزمارين. ويحمل كل من أصدقائه وغيرهم باقة من الزهر كما يفعلون عادة في زفة الليلة السابقة. ويرافق الحاشية حاملو المشاعل والمصابيح عند عودتها بعد الغروب بينما يحمل الأصدقاء علاوة على الباقات شمعاً. وهناك حفلات لاحقة تقام بمناسبة الزواج أيضاً ستوصف في فصل لاحق
ويفضل العريس على العموم إذا وفق إلى ذلك أن تعيش أمه في منزله حتى يتسنى لها أن تحمل شرف زوجته وبالتالي شرفه أيضاً. ويقال إن الحماة تسمى كذلك لهذا السبب ويقال إن المصريات يملن إلى الدسائس، وأخشى ألا يكون هذا الحكم ظلما. وقد يسكن الزوج زوجه في بيت أمها ويتولى الإنفاق عليهما. وهذا يوجب على الأم أن تهتم بالنفقات جد الاهتمام وأن تدقق في ملاحظة ابنتها خوفاً من أن تطلق. ولكن يقال إن الأم في هذه الحالة تعمل وسيطة لابنتها، فتعلمها الحيل والمكايد التي تتسلط بها على زوجها وتبذر نقوده.(445/40)
ويندر أن يقل الخوف من تأثير أم الزوجة عليها ولو كانت لا تنعم برؤية ابنتها إلا في مناسبات عرضية. ولذلك يرى الرجال أنه من الحكمة أن يتزوجوا بنتاً لا أم لها ولا قريبات، حتى أن بعضهم يحرم على زوجته أن تستقبل امرأة غير قريباته؛ ولكن قلما يفرض هذا التقييد الشديد.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(445/41)
الصحراء الغربية
للأستاذ عبد اللطيف النشار
صحراَء مصرَ سلمتِ يا صحراء ... فلحكمة لم يجر فيك الماء
تحمى الكنانة من أذى أعدائها ... وهي الخصيبة، تربة جرداء
يا نيل، صحراواك جدبُهما غِنىً ... يا كنزُ، بابُك صخرة صماء
إن الطبيعة لا مردَّ لحكمها ... الفقر سور خلفه النعماء
أحنى القلوبِ جسومها مَوْضونة ... والناعمات قلوبهن هواء
ووداعة الدمث الرقيق وأمها ... أَلاَّ تفارق ربَّها الخيلاء
يا هِّيناً سلس المقادة لِّيناً ... هل في ثيابك حية رقطاء
أعداءُ مصرٍ جاوروا صحراءها ... أتُقِلُّ جمعهمو لنا الصحراء؟
جسرٌ إلينا أنت أم جسر إلى ... قاع الجحيم وللطغاة جزاء
باء الحليف بنصرة مرجوَّة ... وتسابقت في عونه حلفاء
لكن نصر الله في بحر بلا ... ماء وأرض ما بها أرجاء
ومَضَلة أفواهها مغفورة ... أبد الزمان وما لها أحشاء
درداء تلتهم الخميس بأسره ... وتطير في لهواتها الأحياء
ظمأٌ وجوع أنشآها نشأة ... لا البحر يشبهها ولا الغبراء
تُخفِي معالمَ جُرْمها فيظنها ... قديسة أعداؤها الجهلاء
خوّارة موّارة لا أرضها ... أرض ولا أجواؤها أجواء
نادوا يجبكم في مجاهلها الصدى ... وتبينوا إن الجواب نداء
ردٌ ولا رد ويُوهِمُ آلهُا ... أن الذي يروي النواظرَ ماء
هيا إلى إعصارها وسمومها ... فالغول جاع وجاعت العنقاء
وجسومكم وحديدكم ونحاسكم ... خُبْزٌ لدائمة الطوى وشِواء
عُبَّادَ هتلرَ أقبلوا أو أدبروا ... حُمَّ القضاء ولن يُرَد قضاء
كثر الطغاة وكاثروا عداد الحصى ... ومضى الجميع فكلهم أسماء
أو غير من خَلَقَ الصحارى خالق ... الخياليات وهُنَّ بَعْدُ مِلاء(445/42)
فليعرف الصحراء في أبنائها ... من لا تبين لعينه الأشجاء
أممٌ وأديانٌ وفن ناصع ... بعثت بها في العالم الصحراء
وطوت نظائرها وتطوى هتلرا ... والآخر الجعجاع حين تشاء
آثار روما من محاجرها التي ... تبقى وروما ساحة بلقاء
عبد اللطيف النشار(445/43)
الحكمة الحائرة
للأديب عبد الرحمن الخميسي
(إِذَا لَمْ يُعَكِّرْ صَفَاَء السِّماء ... نِثَارٌ مِنَ السُّحُبِ الْعَابِرَةْ
فَلَيْسَتْ تَبِينُ تَهَاوِيلُهَا ... وَلاَ صَفْوُ قُبَّتِهَا السَّاحِرَةْ
وَإِنْ لَمْ يَثُرْ في حَوَاشِي الْحُقولِ ... شِتَاءٌ، هَوَاطِلُهُ غَامِرَةْ
فَمَا تَتَرَعْرَعُ أَغْرَاسُهَا ... وَمَا تُورِقُ الْخُضْرَةُ الزَّاهِرَةْ
وَلَوْلا شُبُوبُ الْحَرِيقِ لَمَا ... فَزِعْنَا إلى الْغُدُرِ الْهادِرَة
وَهذَا الصَّبَاحُ يُطِلُّ خِلاَلَ ... نَوَافِدَ حَالِكَةٍ بَاسِرَةْ
وُيولَدُ في رَاحَتَيْ ظُلْمَةٍ ... لِيَنْفُثَ أَنْوَارَهُ الْبَاهِرَةْ
فَلاَ بُدَّ لِلشَّرَّ من أن يَعِيشَ ... وَتَحْرُسَهُ الأَنْفُسُ الْخَاسِرَةْ
لِتَبْزُغَ في عُمْرِهِ هَالَةٌ ... مِنَ الْخَيْرِ صَادِقَةً طَاهِرَةْ
وَتِلْكَ نَوَامِيسُ هذَا الْوَجُودِ ... وَتِلْكَ هِيَ الْحَكْمَةُ الْحَائرَةْ)
كَذَلِكَ قَالَتْ لِنَفْسِي الْحَيَاةُ ... وَأَوْحَتْ مَعَالِمُها السَّاخِرَةْ
وَقَالَ لِيَ الصَّقْرُ في عِزَّةٍ: ... أُحَلِّقُ فَوْقَ الذُّرَى النَّافِرَةْ
وَأَنْقَضُّ في اللَّيْلِ فَوْقَ الْوُكُورِ ... وَأَنْهشُ أََطْيَارَهَا السَّادِرَةْ
وَأَتْرُكُهَا لِلدُّجَىَ وَالسُّكُونِ ... هَوَاتِفَ بِالْفَجْعَةِ الْغَادِرَةْ
وَيُسْفِرُ في الرَّوْضِ وَجْهُ الصَّبَاحِ ... فَتُعْوِزُهُ الْجَوْقَةُ الطَّائرَة
وَيَسْأَلُ مُسْتَنْجِداً بِالْغُصُونِ ... عَنِ الطَّيْرِ وَالغُنْوَةِ الْبَاكِرَةْ؟
فتَهْتَزُّ هَامَاتُهَا حَسْرَةً ... وَتَدْمَعُ أَزْهَارُهَا الْعَاطِرهَ
لأِنَّ الْعَصَافِيرَ مَا اسْتَيْقَظَتْ ... وَمَا هَلَّلَتْ بِالشَّذَى سَاكِرَة
وَمَا اسْتَقْبَلَتْ بِالْغِنَاءِ السَّنَى ... وَمَا حَوَّمَتْ في الْفَضَا ذَاكِرَة
وَيَنْسَابُ بَيْنَ الْعَشَاشِ الضِّيَاءُ ... لِيُوقِظَ أَطْيَارَهَا الشَّاعِرَة
وَيَرْتدُّ مُنْذَعِراً بَاهِتاً ... وَتَفْتُرُ لمْعَتُهُ الْوَاهِرة
إِذَا مَا جَرَى فَوْقَ أَعْشَابِها ... عَلَى جُثَثٍ مَيْتَةٍ ضَامِرَة
وَيَعْلَقُ بِالنَّسَماتِ النَّدَى ... دُمُوعاً مُبَلْوَرَة ثَائرَة(445/44)
كأَنَّ السَّمواتِ تَبْكِي الُّطُيورَ ... وَتَبْكِي أَهَازيجهَا الْغَابِرَة
وَتَجثَمَ فَوْقَ الرُّبَى وَحْشَةٌ ... وَتمْتَدُّ في الأَيْكَةِ النَّاضِرَة
وَمِنْ ثَمَّ يُعْرَفُ قَدْرُ النَّشِيد ... وَقَدْرُ بَلاَبِلِهِ الآسرَة
وَلَولاَ افْتِرَاسِيَ أَسْرَابَها ... لمَا افْتَقَدتهْا الرُّبَى الزَّاهِرَة
وَإِنْ لَمْ يُعَكِّرْ صَفَاَء السَّمَاءِ ... نِثَارٌ مِنَ السُّحُبِ الْعَابِرَة
فَلَيْسَتْ تَبِينُ تَهَاوِيلُها ... وَلاَ صَفْوُ قُبَّتِهَا السَّاحِرَة
وَتِلَكَ نَوَامِيسُ هذَا الوجُودِ ... وَتَلْكَ هِيَ الْحَكْمَةُ الْحَائِرَة!
عبد الرحمن الخميسي(445/45)
البريد الأدبي
وضع نشيد للسلام الملكي
انتهت لجنة (وضع النشيد للسلام الملكي) إلى دعوة الشعراء والأدباء لنظم نشيد يجري في توقيعه مع موسيقى السلام الملكي جرياناً دقيقاً؛ ويشترط في هذا النشيد أن يكون مؤلفاُ من ثمانية أبيات، ولا يزيد على اثني عشر، وأن يدور معناه حول العرش رمزاً لمصر الخالدة، وحول الملك رمزاً لآمال الجيل. وينبغي أن يكون هذا النشيد (مشرق اللفظ، محكم النظم، رائع المعنى، منشطاً للهمم)
وقررت اللجنة أن تمنح الفائز في هذه المسابقة مائة جنيه، وجعلت آخر موعد لتقديم الطلبات منتصف الشهر القادم
روح الإسلام
تحدث صاحب السمو الملكي الأمير فيصل نائب جلالة الملك عبد العزيز آل سعود إلى بعض الصحفيين المصريين قال: (إن الإسلام خير دين تعالى به الله عما يحاول أن يلصقه به المؤتفكون، فليس في الإسلام - كما يزعم هؤلاء - خمول ولا تواكل ولا استذلال ولا خضوع، وإنما هو دين الجد والكد والتوثب والنهوض. ولو أن المسلمين اعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله، واستمسكوا بالعروة الوثقى، وتآزروا وتعاونوا على البر والتقوى، لكانت لهم قوة مرهوبة تبعث الرجفة في القلوب
(لقد جمع كتاب الله وسنة رسوله من الأحكام ما ينير للناس طريق الدين والدنيا معاً، فما بال بعض المسلمين يتنكبون هذا الطريق السوي المستقيم؟
(ولو أننا ألقينا نظرة على الدول الغربية، لرأينا أن الآخذة منها بما يقرب من أحكام ديننا في المعاملات والحقوق والشرائع والحرية والديمقراطية، هي أكثرها نجاحاً وأعظمها تقدماً وفوزاً)
واستطرد الأمير فقال: إن بعض الناس يدعى أن ضعف شوكة المسلمين يرجع إلى التدخل الأجنبي فيما بينهم؛ وأنا أقول: إن التبعة كلها واقعة على المسلمين أنفسهم الذين يوسعون شقة الخلاف فيما بينهم، والذين تفرقوا شيعاً وطرائق فرقت الشمل وأوهنت من قوة الإسلام وأضعفت شوكته(445/46)
ومن واجب المسلمين الصادقي الإيمان أن يقضوا على هذا الحال، وأن يعودوا جميعاً إلى جبهة واحدة، لا موئل لها ولا قبلة سوى الكتاب والسنة، وأن يعملوا متكاتفين متساندين، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى (غن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ويوم يتم ذلك للمسلمين، لن نتوانى نحن (آل السعود) وأبناء نجد والجزيرة عن تبوئ مكاننا من هذا الموكب الجليل بين الصفوف
مؤتمر التعليم للأقطار العربية
تبحث اللجنة المؤلفة في وزارة المعارف للتمهيد لعقد المؤتمر العربي على ضوء الحاجة إلى إصلاح النظم الحالية وتعديل السياسة المتبعة في كثير من المسائل التعليمية في مصر وجاراتها
وفي انتظار موافقة مجلس الوزراء على عقد هذا المؤتمر تعمل هذه اللجنة على أن تنتهي من عملها على الوجه الأكمل حتى يمكن الاتصال بالأقطار العربية بعد موافقة المجلس مباشرة
ونستطيع أن نذكر أن الموضوعات الرئيسية التي يفكر كبار رجال التعليم في مصر في طرحها على بساط البحث في هذا المؤتمر تشمل المسائل الآتية:
1 - واجب الدولة نحو التعليم العام والتعليم الأولي
2 - وسائل تدريس اللغة العربية
3 - تبادل الزيارات العلمية بين طلاب الأقطار العربية والمدرسين بها
4 - تنظيم الانتفاع بالكتب التي تطبع حديثاً في هذه الأقطار في مختلف العلوم والفنون والآداب
5 - مواصلة السير على ندب مدرسين من قطر إلى آخر حسب ما تقتضيه روح التعاون الثقافي
ومما لا ريب فيه أن عقد هذا المؤتمر سيكون نواة لتعاون واسع النطاق بين البلاد العربية التي باعدت بينها ظروف خاصة، وأن الانتفاع به على الوجه الصحيح سيعزز مكانة مصر في الشرق. وقد يلاحظ أن حرص العراق يماثل حرص مصر على عقد هذا المؤتمر الأول من نوعه في العصر الأخير، وذلك يدل على تجاوب الآمال بين البلدين في إقامة الوحدة(445/47)
العربية الفكرية على أسس متينة بحيث يتاح لجميع البلاد التي تنطق لغة واحدة وتتأثر بشعور واحد أن تواجه مستقبلها بقلب مطمئن واتحاد وثيق
مكافحة الأمية بين الفلاحين والعمال
فكر لفيف من طلبة جامعة فؤاد الأول في أن يشغلوا أوقات فراغهم في عطلة الصيف بالعمل لمحو الأمية ورفع مستوى التفكير للفلاح والعامل. وقد وضعوا لذلك مشروعاً هو قيد البحث الآن مع كبار رجال التربية والتعليم والإصلاح الاجتماعي وهم يواصلون جهودهم في ذلك السبيل المشكور في كل فرصة تتاح لهم. وقد انتخبوا من بينهم وفداً لمقابلة صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة بك وزير الشؤون الاجتماعية لعرض هذا المشروع عليه ورجاء معاليه تعضيد الوزارة له.
المرحوم (معاوية محمد نور)
رزئ القطر الشقيق - السودان - بفقد المرحوم معاوية محمد نور من أدباء الشباب المستنيرين الذين قامت بفضل جهودهم الموفقة دعائم النهضة الفكرية الحديثة في مصر الجنوبية
وقد تلاقيت مع المرحوم معاوية لأول مرة على صفحات جريدة السياسة الغراء حوالي عام 1929؛ ثم توثقت بيننا عرى الألفة والزمالة حين أسسنا جماعة الأدب القومي التي كان يرأسها معالي الدكتور هيكل باشا، فجمعية العشرين التي أسسها الأستاذ محمود تيمور بك. وكان الأستاذ معاوية قد تخرج حديثاً في كلية غردون بالخرطوم وأراد إتمام تعليمه في كلية الآداب؛ غير أنه صادف عقبات منعته من الالتحاق بالجامعة؛ واتصل النبأ بسمو الأمير العالم عمر طوسون فرأى أن يرسله في بعثة خاصة على نفقة سموه إلى الجامعة الأمريكية ببيروت. وبعد أن نال إجازتها في الآداب عاد إلى القاهرة واتصل بالأوساط الأدبية وزاول مهنة الصحافة في صحف شتى كالأهرام والهلال والإجبشيان ميل، وكتب على صفحات الرسالة، وساهم بقلمه وفكره في كافة الحركات الأدبية التي اضطلع الشباب بأعبائها. وفي غضون تلك الفترة وقع الاختيار عليه ليكون سكرتيراً لغرفة التجارية بالخرطوم، غير أن فاجعة أليمة وقعت له وانتهت باختلال قواه العقلية(445/48)
وكان المرحوم معاوية في كافة مراحل جهاده الأدبي يتوق جهده إلى توثيق عرى الصداقة بين القطرين الشقيقين، ويقصر جهده على خدمة أمته عن طريق إذاعة أدبها القومي فكتب بعض أقاصيص سودانية لها صبغة محلية، وصور طبيعة بلاده في صور سحرية أخاذة يساعده على ذلك ثقافة العربية والسكسونية
وأطلعني قبل موته على تجارب كتاب كان ينشر فصولاً منه على صفحات الإجبشيان ميل بعنوان (الأدب المصري وتاريخه) تناول فيه بالدراسة والبحث مدارس التفكير في الأدب المصري وقادته، ثم أدب المقالة والنقد الأدبي فخصائص الأدب القومي والشعر والقصة والمسرح وأثر الجيل في كل حقل من حقوله، وكان غرضه من ذلك أن يقف الرأي العام الإنجليزي على تطور الأدب العربي عامة والمصري خاصة
وكان إيمانه بالأستاذ العقاد يفوق حد الوصف فكتب بعض فصول حلل فيها أدبه وارتباطه بشخصيته، وحلل شعره وأثره في البيئة المصرية. أما أخلاقه فكانت على جانب من السمو. وقد عرف البؤس والفاقة في بعض أويقات حياته غير أنه لم يقاسهما مطلقاً، بل كان يعمل وكان سعيداً أن يرى الناس تفهمه وتقدر جهوده
محمد أمين حسونة
أهلاً وسهلاً بك
من الصواب المخطأ قولهم: (أهلاً بك) فقد قام في زماننا من ينكر هذا القول ويخطئه على صفحات جريدة كبرى
ودخل أستاذ على تلاميذه حاملاً معاجم اللغة مدعياً أن العرب لا تقول: (أهلاً بك) وإنما تقول: (أهلاً وسهلاً) أي حللت أهلاً ونزلت مكاناً سهلاً ومنه: (مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، ومستناخاً سهلاً)
قال قائل منهم: وما رأي أستاذي في قول حافظ:
(أهلاً بنابتة) البلاد ومرحباً ... جددتم العهد الذي قد اخلقا
فقال: كلام المتأخرين لا يحتج به
ثم دارت الأيام دورتها وإذا بهذا الأستاذ نفسه يملي على تلاميذه أنفسهم قصيدة النابغة في(445/49)
وصف المتجردة ومنها:
لا مرحباً بغد ولا (أهلاً به) ... إن كان تفريق الأحبة في غد
فأعجب للنابغة كيف حكم بين اللغويين العصريين ميتاً كما كان يحكم بين الشعراء الجاهلين حياً
وطالما جرى هذا التعبير على ألسنة الفحول من المتقدمين أمثال ابن دريد في مقصورته والجاحظ في بيانه وتبيينه وأبي الفرج في أغانيه
وفي الصناعتين لأبن المعتز:
أهلاً وسهلاً بالناي والعود ... وكأس ساق كالغصن مقدود
قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشر سقم الهلال بالعيد
ولما دخل الرسول على المتوكل برأس اسحق بن إسماعيل قام علي بن الجهم يخطر بين يدي المتوكل ويقول:
أهلاً وسهلاً بك من رسول ... جئت بما يشفي من الغليل
برأس اسحق بن إسماعيل
فقال المتوكل قوموا التقطوا هذا الجوهر لا يضيع.
محمد فتح الباب
برقة وأبو عبادة
طلع علينا الأستاذ النشار - بعد صمت طال حنيننا إليه فيه - بقصيدته الرائعة (برقة)؛ فحمدنا له هذا العود الحميد، على أننا نستميحه المعذرة في ذكر نقطتين من قصيدته عن لنا بسط الرأي فيهما:
1 - ضبط الاسم في مطلع قصيدته (برقة) بفتح الباء. والذي أعرفه أن اسم هذا الإقليم (برقة) بالضم - وفي معاجم اللغة أن البرقة (بزنة غرفة): أرض غليظة فيها حجارة ورمل وطين، وجمعها برق. . . أما البرقة - بالفتح - فهي الدهشة والخوف، ولم ينظر في تسمية الإقليم إلى هذا المعنى
2 - يقول الأستاذ في قصيدته مشيراً إلى. . . برقة:(445/50)
تلك التي حمل ابن أوس همها ... في بارع بادي الجمال مخلد
(أصبا الأصائل إن برقة منشد ... تشكو اختلافك بالهموم العود)
ونفهم من هذا أنه ينسب البيت إلى (ابن أوس)، أي إلى حبيب ابن أوس الطائي، وهو المعروف بأبي تمام؛ مع أن المعروف أن البيت هو مطلع قصيدة لأبي عبادة البحتري يمدح بها يوسف ابن محمد. . . والأستاذ النشار لم يخطئ في نسبة البيت إلى قائله فحسب، بل نقله على تحريف، إذ صحته كما جاء في ديوان البحتري
أصبا الأصائل إن برقة منشد ... تشكو اختلافك بالهبوب السرمد
هذا ما عن لي التعليق به، وعلى الأستاذ منى أزكى السلام
(جرجا)
محمود عزت عرفة
مهرجان أدبي لعيد ميلاد حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك
في كل يوم تتوالى مبرات المليك على شعبه، وتتجلى إمارات عطفه على رعيته، ولأياديه يد بيضاء في كل عمل خيري، وتجابر من صنع يده يتوج به كل مشروع نافع
وللشعب - بحمد الله - قلوب تفيض بإجلاله وتبجيله، وتخفق بحبه والتعلق به، وتنبض على حركاته، لحراسة ذاته وكلاءة الله له؛ ووراء هذه القلوب ألسنة يرطبها ترديد محاسنه، وذكر مفاخره، والدعاء له بطول العمر وفسحة الأجل
ولمناسبة عيد ميلاد جلالته السعيد في 11 من فبراير سنة 1942 تعقد لجنة المهرجان الملكي الأبدية بمشيئة الله مباراة عكاظية، يلتقي فيها الكتاب والأدباء والشعراء والزجالون بخطبهم وقصائدهم وأزجالهم وأناشيدهم كل بما تجود به يراعته وما تفيض به نفسه من إخلاص للمليك المفدى، وولاء وحب لصاحب العرش المكين
وإن ميدان البيان البليغ لمتسع: شباب رائع فتي، وعقل ألمعي، وقلب تقي، وخلق عظيم، ودين مكين؛ قد ضرب أروع الأمثال في رعاية الفقير والترفيه عنه واحتضانه والأخذ بيده
لنا من سيرته الحميدة ومآثره المشهورة نبراساً يضيء الطريق في ميدان الخطابة والإنشاد، وخير حافز على تسجيل نفثات اليراع في كتاب يرفع إلى مقام المليك وينشر على الملأ بعد(445/51)
أن يذاع منه بحفلة دار الأوبرا الملكية ما هو جدير بالتفضيل
وستضع اللجنة جوائز مختلفة لمن يجوز قصب السبق في المباراة. والمرجو ممن يتقدم لهذه الحلبة أن يبعث بما تجود به قريحته إلى حضرة الأستاذ محمد عبد الجواد المدرس بمعهد التربية للمعلمات بالزمالك في ميعاد لا يتجاوز آخر يناير الجاري
السكرتير
أمين حمدي فرج(445/52)
الكتب
نظرات في كتاب:
أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث
للأستاذ حسن حبشي
(ترى ما نصيب المكتبة العربية من التآليف والتراجم عن بلادنا؟ وما نصيب المترجم في بلاد الضاد؟. . .) سؤالان تبادرا إلى خاطري حين أنهيت مطالعة هذا السفر القيم الذي تناول فيه مؤلفه الغربي (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) والذي أبت همة مترجمة الأستاذ جعفر الخياط إلا أن ينفح به المتكلمين بالعربية، والمهتمين بدراسة التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشرق الحديث عامة، والعراق خاصة
قد يكون من اليسير على المؤرخ تدوين الأحداث السياسية في العراق الحديث لكثرة ما يقع تحت يده من المصادر والوثائق الموجودة في دور وزارات الخارجية، وإلى ما قد يحصل عليه من الأخبار الواردة بالرواية، لكن كلما رجعنا بالزمن القهقرى ألفينا قلة المصادر، حتى ليجد الباحث نفسه يضرب في مجاهل مظلمة، فالروايات معدومة، والمراجع نادرة. . . فإذا عرفنا هذا أدركنا أهمية هذا الكتاب الذي ألم فيه مؤلفه (مستر ستفين هملي لونكريك) بتاريخ العراق في حقبة كان القطر الشقيق خلالها نهبة أطماع الدول الأجنبية
تناول المؤلف في هذا الكتاب الظروف التي مرت على العراق منذ مطلع القرن السادس عشر، ودرس الصراع العنيف بين الأتراك والإيرانيين، هذا الصراع الذي يسميه (بالجوع)، حتى إذا طلع القرن السابع عشر ظهر اتحاد قبلي مؤلف من بني مالك، والأجود، وبني سعيد، وتلا ذلك هجرات قبلية بشرية بقصد الاستقرار
ويشير المؤلف إلى تدهور موقف البرتغاليين؛ والواقع أنهم كانوا من أشد المستعمرين تطلعاُ لامتلاك لعراق وفارس، ولا سيما بعد أن عقدوا معاهدة مع الشاه إسماعيل 1515م، مما أدى ببريطانيا إلى التطلع هي الأخرى شطر هذه الجهات لتحد من مطالع البرتغاليين، حتى استطاعت بعد قرن من الزمان أعني عام 1622م أن تقضي بمساعدة الفرس على نفوذهم، لكن وجد الإنجليز أنهم قد أخرجوا البرتغاليين من الميدان ليحل محلهم الهولنديون، مما هو(445/53)
معروف للملمين بتطورات الشرق الأدنى السياسية في العصر الحديث
وأن الكاتب ليلتفت لدراسة الحركة الوهابية، ذلك الانفجار الديني الذي ولد في واحات نجد وكان ما كان له من الأثر الفعال البارز في تاريخ الشرق الإسلامي في ذلك الحين، والذي كان شوكة في جانب الدولة العثمانية، ويظهر أن المؤلف ممن يعتنقون الفكرة القائلة بأن نشأة هذه الجماعة ترجع إلى عدائها للأتراك، فيقول ص 277: (إن أخشن رعاياهم أو أوحشهم من القبائل والمقاتلين كانت لا تعرف من القرآن والسنة إلا النزر اليسير. . . وكانوا يضمرون للخليفة ولكل شيء تركي استهانة لا تحتمل، وهذه التفاته جديدة في تفسير دواعي نشأة المذهب الوهابي يمكن أن تضاف إلى الأسباب المعروفة في تكوينه.
ويتناول الكتاب بعد ذلك تطور العراق حتى يصل إلى نهاية القرن التاسع عشر في شيء من التفصيل، وحكومة مدحت باشا. ومن الفصول الجديرة بالمطالعة الدقيقة بحثه عن الخطة الجديدة في إسكان القبائل، والتي تتضمن بيع أراض من أراضي الحكومة بأقساط قليلة سهلة. وتتبين روح المؤلف العلمية في هذا الفصل الذي خصصه لدراسة المصادر التي اعتمد عليها في تأليفه، وهي تربى على مائة وعشرين مرجعاً ما بين تركية وفارسية وعربية وأخرى باللغات الأوربية، وكتب السياحات، وكذلك سجلات شركة الهند الشرقية الإنجليزية. وخلاصة القول أن مراجعة ثبت المصادر أبرز دليل على ما تكبده المؤلف من عناء البحث والتدقيق ومقارنة المصادر بعضها ببعض حتى أخرج كتابه هذا
أما الترجمة العربية فقد وفق الأستاذ خياط كل التوفيق فيها، لما اجتمع له من تمكن في الإنجليزية وهو خريج كاليفورنيا، وحسن تبصر في العربية، وسلامة الأسلوب، ودقة الاختيار للألفاظ. وليس هذا الكتاب بأول كتاب يخرجه المترجم الفاضل بل لقد سبق له أن نقل إلى العربية كثيراً من المؤلفات العلمية، مما يشهد له بطول الباع والمران. وعجيب أن يجد من وقته - وهو المشرف على التعليم الثانوي في العراق - فراغاً يستغله في هذه الترجمة العربية الرائعة. وإن المقدمة التي مهد بها الأستاذ جعفر الخياط بين يدي كتابه هذا لنفحة شعرية، تحس فيها بالحسرة التي تغمره وتغمر كل عربي حر حين يذكر مجد الإسلام في هذه البلاد وما ألم به من محن دامية، قضت على مدنيته الزاهرة، وهي توشك اليوم أن تعود سيرتها الأولى(445/54)
وكم كنا نود أن الأستاذ جعفر أبقى أسماء المراجع الغربية كما هي ولم يترجمها وهي ما زالت بعد في لغاتها الأولى وعلى كل ففضل المترجم غير منكور.
(بغداد)
حسن حبشي(445/55)
العدد 446 - بتاريخ: 19 - 01 - 1942(/)
مشكلة الرغيف. . .
وكيف لا يكون للرغيف مشكلة، والمشكلات منذ هبط الإنسان الأرض إنما تتناسل من أب واحد هو الرغيف، ومن أم واحدة هي المرأة؟
سمِّ الرغيف وسيلة حفظ الحياة، وسم المرأة وسيلة حفظ النوع؛ ثم حاول أن تنسب بشيء من التحليل الدقيق جميع ما سجل التاريخ من خصومات ومشكلات وأزمات وثورات إلى هاتين الوسيلتين، أو هاتين الغريزتين، فلن تجد في نسبة البنات إلى أبويهن غموضاً ولا مشقة.
كانت المرأة في بدء الخليقة هي حواء، وكان الرغيف في حياة الجنة هو الشجرة، وكانت الأثرة والطمع والحسد هي إبليس، وكانت الضحية لهؤلاء جميعاً هي سعادة آدم!
ثم مضى الرغيف والمرأة وإبليس يعملون في دنيا الأرض ما يشاء القدر: يصلحون هذا ويفسدون ذاك، ويعمرون هنا ويخربون هناك، ويخلقون التنافس لتنشط عناصر الحياة، ويوجدون الخلاف لتتفق عوامل الموت، وينزعون الملك من يد إلى يد، وينقلون الحكم من دولة إلى دولة، حتى قال ابن أبي الحديد بحق: (لم تسل السيوف إلا لوجه أصبح من وجه، ولقمة أسوغ من لقمة)
ولو كان الملائكة يأكلون الرغيف ويخالطون المرأة لكانوا أناساً كالناس، ولكان الملكوت الأعلى كالملكوت الأدنى، ولكن الله لم يشأ أن يجعل النور كالظلام، ولا أن تكون السماء كالأرض!
على أن الرغيف لاكتنان سر الحياة فيه كان أشد الثلاثة إيقاداً للخصومة!
كان مالك بن أنس يذكر عثمان وعلياً وطلحة والزبير فيقول: (والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر)
وأنت إذا ذكرت في تاريخنا العدنانية والقحطانية، والقيسية واليمانية، والمهاجرين والأنصار، والهاشمية والأموية، والعباسية والعلوية، والعروبة والشعوبية، والتركية والفارسية، والهلالية والصليبية، والإسلامية والقبطية، والسعدية والعدلية، والفُلانية والعِلاَّنية، لما قلت إلا ما قال أنس بن مالك.
كذلك إذا ذكرت في تاريخ الناس الشرقية والغربية، والديمقراطية والدكتاتورية، والرأسمالية والشيوعية، لما وجدت لهذه الأسماء معنى ولا مغزى إلا ما قاله كثير بن شهاب لغلامه وقد(446/1)
طلب منه الطعام يوماً فقال ما عندي إلا خبز وبقل: (ويحك! وهل اقتتلت فارس والروم إلا على الخبز والبقل؟)
لذلك كله عالج الدين مشكلة الرغيف بتنظيم المعاملات، وفرض الصدقات، وكفكفة النفوس الشرهة بالقناعة والعفة والحدود؛ واتقت الدول جرائر الرغيف بالعلم والنظام والإصلاح والاستعمار؛ فإذا غلب الكفر أو طغت الأثرة؛ شبت الثورة أو نشبت الحرب. ذلك أن الفرد أو الشعب يصاب في حريته فيصبر، ويؤذي في كرامته فيستكين، ويفتن عن عقيدته فيرضى؛ ولكنه إذا حرم الرغيف انقلب ضارياً كالوحش، أو جازفاً كالبركان، لا يذر من شيء أتى عليه إلا جعله كالرميم.
هذه مصر هبة النيل وجنة الشرق وملتقى البحرين والبرين طالما عركتها الخطوب فاستكانت للقدر، واستعانت بالصبر، ومضت على حسن ظنها بالله تتربص الدوائر بالمغير، وترجو الغوائل للظالم، حتى إذا أخذت هذه الحرب الأكول تنازعها الرغيف، أصبحت كلها لساناً واحداً يتضاغى مخافة انقطاعه، فلا تجد في الأمة ولا في الحكومة إلا سائلاً عنه، أو شاكياً منه، أو باحثاً فيه، أو ساعياً له؛ وكأنما اختُزلت لغات الناس فأصبحت لا تعدو ألفاظ التخزين والتموين، والإحصاء والاستيلاء، والاستيراد والاستكثار، والمطاحن والمخابز، وما يدخل في هالة الرغيف النورية من مادة وأدب! فليت شعري إلام تأول الحال إذا تأزم الأمر، وضاقت موارد الرزق، فلا أرض تغل ما يكفي، ولا بحر يسد ما ينقص؟! تمثيل الحال في الخيال مرعب، فما بالك بتقرير الحس وتصوير الواقع؟
الأمر جد لا مساغ للبعث فيه، والخطر بادٍ فلا مناص من الاعتراف به، والتقصير ثابت فلا سبيل إلى التنصل منه. وإذا فاتنا الاستبصار للمستقبل، فلن يفوتنا الاعتبار بالحاضر. وإذا عجزت السياسة أن تحل مشكلة الرغيف فلا أزعم أن يحلها الأدب. وكل ما يستطيع الأديب أن يقوله للسياسي أن مشكلة التموين لا يحلها أن يكون لها وزارة، ولا أن تُقصر على أمورها السياسة والإدارة؛ إنما يحلها أداء الحاكم للواجب، وقضاء المحكوم للحق. وأقسم بالله جَهْدَ القَسم لو أن القائمين على شؤون الناس بسطوا لها الأيدي النظيفة، وتحروا فيها الأوجه الصالحة؛ ثم ساووا بين العامة والخاصة في القسمة، وعدلوا بين الأقوياء والضعفاء في التكليف، وأيقظوا العيون لخفايا الحيل، وأنضجوا الآراء لمشتبهات الأمور؛(446/2)
ثم عاونهم الشعب بفضائله، فلا يطمع المنتج، ولا يدخر المستهلك، ولا يحتكر التاجر، ولا يشح الغني، ولا يجوع الفقير، لما كان للرغيف في مصر مشكلة، ولا كان للتموين في الحكومة وزارة. ولكن مشكلة المشكلات هي أن مكارم الأخلاق لا تُباع ولا تُعار ولا تكسب في الزمن القليل، إنما هي تهذيب الدين الصحيح وصقال الدهر الطويل.
احمد حسن الزيات(446/3)
بين الورق والدوح
(رسالة مهداة إلى المسيو (دي كومنين))
للدكتور زكي مبارك
حدثت قرائي غير مرة أن ذاكرتي فيها انحراف غريب: فهي ضعيفة كل الضعف فيما يتصل بالأرقام والأعلام، وقوية كل القوة فيما يتصل بالحوادث والمعاني، ولها قدرة عجيبة على تمثل الملامح والأصوات والألوان، فمن السهل أن أصف حادثاً رأيته قبل عشرين سنة، مع الإحاطة بما لابسه من دقائق التفاصيل، ولكن من الصعب أن أتذكر رقماً سمعته قبل يومين، إلا أن يتصل بأمر تلتفت إليه الذاكرة بعض الالتفات، ولأجل هذا أقيد ما يهمني من الأرقام في دفتر خاص.
وفي هذه اللحظة أتذكر جيداً كيف شهدت عدوان الخريف على آثار الربيع، ولم أكن شهدت ذلك العدوان قبل أول أيلول قضيته في باريس، وأتذكر أيضاً كيف كانت قدماي تخبّان في أوراق الأشجار وأنا أخترق حديقة (لكسمبور)، وأكاد أتمثل كيف انتشيت حين رأيت ذلك المنظر الجميل، وما هو في الظاهر بجميل، ولكنه أعانني على فهم جوانب من حيوية الأدب الفرنسي، ففيه ألوف من صور العدوان البغيض، عدوان الخريف على آثار الربيع، بلا تهيب ولا استحياء.
وفي يومٍ عاصف جلست تحت (الدوح) وهو ينظر بحزن إلى تساقط (الورق)، فوعيت من حواره أحاديث لن أنساها ما حييت. وكيف أنساها وقد زلزلت قلبي، وأطلعتني على بعض ما كنت أجهل من سرائر (الأدواح) و (الأوراق)؟
سمعت (الدوح) يقول في صراخ مبحوح:
(إلى أين يمضي هذا الورق الساقط؟ وكيف جحد جميلي عليه؟ حملته وهو ضعيف لا يقدر على التماسك، وأمكنته من شرب الندى وارتشاف أكواب الضياء، وحرمت نفسي عذوبة التمتع بصحوة الشمس في الربيع، ونشوة القيظ في الصيف، ليجد الفرصة لتذوق النعيم، فهل حفظ هذا الصنيع؟
(لقد أبحته أن يمتص دمي كيف شاء، ليواجه نور الوجود بحرية الطفل الغافل عن جهاد أبيه، ولكل أب جهاد يجهله الأبناء ولو كانوا من الملهَمين، فهل عرف الورق الساقط أنني(446/4)
حرمت نفسي نعيم الندى والضياء ليتخايل ويستطيل؟)
وسكت (الدوح) لحظات، ثم صرخ من جديد:
(والآن يعرف الورق أن الشتاء قادم، أنني سأحتاج إليه لدفع عوادي البرد والجليد، فهو ينخلع عني، ليتركني بلا غطاء، في قر الشتاء!)
ويسمع الورق أنين الدوح فيهتف:
- ما عتبك عليّ أيها الدوح؟ ما عتبك عليّ وقد بذلت في البر بك غاية ما أملك؟ ألا تذكر أني صبرت على مصاحبتك في السيطرة والاستعلاء شهوراً من الزمان؟ ألا تعرف أني عققت من أجلك أمنا الأرض؟ فما ذنبي إذا اشتهيت العودة إلى الأم الرءوم، وهي أيضاً تحتاج إلى من يدفع عنها البرد والجليد؟
وسمع الدوح هتاف الورق فأجاب:
- الأرض أمي وأمك، ولكني فهمت عنها ما لم تفهم، فقد حدثتني ألف مرة أنها لا تريد أن يرجع إليها غير الأموات من أبنائها الأعزاء، فإن كنت مت أيها الورق فارجع إلى أمك الأرض!
فزمجر الورق:
- أنا مت؟ أنا؟ وهل يموت من يرجع إلى حجر أمه الغالية؟
فيقول الدوح:
- نعم، ثم نعم، يموت من يرضي بأن تدوسه الأقدام، ولن يكون لك نصيب غير الدوس، يا جهول!
وهنا قال الورق للدوح:
- هل تنسى أني أدفأتك في الصيف؟
فقال الدوح للورق:
- لم أكن أحتاج إلى دفء في أشهر الصيف؛ وإنما أحتاج إلى الدفء في أشهر الشتاء
فقال الورق للدوح:
- لا أستطيع سماع صوتك وأنت مجلل بالسواد
فقال الدوح للورق:(446/5)
- إنما تجللت بالسواد حداداً عليك. ألا تذكر أنني كنت أحبك حباً هو الغاية في الكرم، لأنه حب القوي للضعيف؟ ألا تذكر أني كنت أقاوم العواصف والزوابع لأقي خدودك ذلة الالتصاق بالأرض؟ ألا تعرف أنني أعني لفراقك كروباً لا تطاق؟
قال الورق:
(أتحبني إلى هذا الحد، أيها الدوح؟)
فتأوه الدوح ثم أجاب:
(لا أحبك لأنك ورق، فأنت تعرف أني صبرت على تقلب الأوراق أربعين عاماً أو تزيد، ولن أموت يوم أموت بسبب تقلب الأوراق - وإنما أحبك لأنني أنشأتك كما يحب الله هذا الوجود، فأنت بعض ما صنع دمي أيها الورق، ولن تعيش بعد فراقي إلا بفضل ما سكبت في عروقك من الدم النفيس، وقد حل عليك غضبي، فلا بقاء لك بعد اليوم. . . وهل تستطيع أن تطبّ لما صنعت بنفسك أيها الورق الساقط؟ لقد دعوتك إلى الترفق بمصيرك فلم تسمع، ومن أجل غفلتك لبست عليك ثوب الحداد، ولم استغرب من فرحك بمصافحة الأرض، فأنم أعرف أنه لا يرحب بالاستعلاء غير الأقوياء، كما أعرف أن الأم لا ترحم من أبنائها غير الضعفاء)
قال الورق:
(وبأي حق تستطيل علي، أيها الدوح، وأنت أسود مظلم، لا ترَجى لك صحوة ولا معاد؟)
قال الدوح:
(ذلك سواد الشباب، يا أحمق، وليس سواد الحداد، ولن تقيم الحياة لدلالك أي ميزان، وهل تطول حياتك حتى ترى ازدهائي بالورق الجديد في الهوى الجديد؟ إن الدم الذي سوّاك، سيسوي ورقاً سواك، وسأعبث هذا العبث بالأوراق إلى أن أبلغ الثمانين أو التسعين!)
قال الورق:
(خذني إليك، أيها الدوح، فقد اشتقت إلى ساعدك القويّ المتين)
فأجاب الدوح:
(تعال إلي، إن استطعت، أيها الورق الساقط، فأنا لا أملك البعث كما أملك الإنشاء، وهل أملك مساماة صاحب العزة والجبروت؟)(446/6)
وتكلف الورق ما لا يطيق ليرجع إلى الدوح من جديد، ولكنه عجز عن تحقيق ما يريد، وتلك نهاية من يجهل السر في تمتعه بشرف الوجود، والشرف معناه الارتفاع، وقد انحط الورق بسقوطه على الأرض، فأمسى وهو ضعيف مَهين.
ثم قال الدوح:
- لن نلتقي بعد اليوم، أيها الورق الساقط، وكيف نلتقي وأنا أجد عناءً في التعرف إلى هويتك؟ وهل أراك إلا وهماً يصوره الرفات المسحوق، مع قرب العهد بالفراق؟
فأجاب الورق:
- ستجدني في الربيع المقبل
قال الدوح:
- سأجد في الربيع المقبل ورقاً غيرك
قال الورق:
- كنت أنتظر أن يكون في سخطك عليّ ما يزهدك في جميع الأوراق
فصاح الدوح:
- كان ذلك لو أني أردت الانتفاع بالتجارب، والانتفاع بالتجارب يدل على العقل، ولكنه يشهد بضعف الحيوية، والخير أن نواجه الحياة في كل يوم بأحلام الناشئين، لا بعقول الكهول، لتبدو لنا الحياة بكراً في كل لحظة، كما تبدو الغابة المؤذنة بالوحشة والأنس في كل حين. ولو أني اكتفيت بما جربت من أخلاق الورق لكان من المستحيل أن أراك، بعد أن عرفت ما عرفت من شمائل سواك.
قال الورق:
- وأستطيع أنا أيضاً أن أغفل الانتفاع بالتجارب وأرجع إليك في الربيع المقبل
فضحك الدوح وقال:
- وهل كانت لك معي تجارب أيها الورق؟ هل رأيت مني ما يعاب حتى تزعم أنك فارقتني عن عتاب يمحوه التفضل بالإعتاب؟ أنا الذي أنشأك، وأنا الذي رباك، وأنا الذي أوحي إليك معاني الشوق إلى الندى والضياء. . . أنت لم تفارقني لأني جفوتك أو أسأت إليك، وإنما فارقتني لأنك ضعفت عن صحبتي، كما يضعف السحاب عن مصاحبة الجبال.(446/7)
قال الورق:
- خذني إليك، أيها الدوح، لأذوق من دمك ما كنت أذوق
فأجاب الدوح:
- عيب الأقوياء أنهم لا يصفحون عن المذنب ولو عفّر جبينه بالتراب، وأنت أيها الورق الساقط جحدت جميلي، فلن أراك بعد اليوم ولو استشفعت بأزهار الربيع
قال الورق:
- وهل يكون الورق الجديد أجمل مني أو أصدق مني؟
فأجاب الدوح:
- لن يكون أجمل منك ولا أصدق منك، فتجارب أربعين سنة دلتني على أنكم جميعاً من وحلٍ واحد، ولكن الورق الجديد سيلقاني وهو على جانب من الغفلة والجهل، والغفلة والجهل يزيدان في قيمة الجمال، فإذا تعاقل وتعالم، كما تعاقلت أنت وتعالمت، فسيكون مصيره إلى أمه الأرض، وأستريح منه قبل أن يستريح مني
قال الورق:
- أيكون معنى هذا الكلام أن لك سياسة مرسومة في امتهان الأوراق؟
فأجاب الدوح:
- معنى هذا الكلام أني أحقد حقداً أبدياً على من يجحدون المعروف. لقد قضيت أربعين سنة أو تزيد في تعهد الأوراق بالرفق والعطف، فما حفظت ورقةٌ عهدي، ولا اعترفت بجميلي. . . ويعزيني أن الله ينتقم لي فما انخلعت عني إلا كتب الله عليها الذبول والفناء
قال الورق:
ومع هذا فأنت لفراقي حزين، باعترافك في بداية هذا الحوار، وهذا الحزن هو انتقامي من غطرستك وكبريائك، وأنا أتوعدك بقول أحد الشعراء:
سأنساك فانظر كيف تحيا إذا انقضى ... نصيبك من روحي وحظك من قلبي
ونظر الدوح فلم ير الورق، فأين ذهب؟ أين؟ أين؟
لقد عصفت الريح فأطارت ما كان في (لكسمبور) من أوراق، وباد ما تعاقر الحديقة من (خشخشة) كانت أروع ما سُمع من الغناء في باريس(446/8)
قال الراوي:
وكنت فتي مصرياً لم يسمع مثل هذا الحوار بين الورق والدوح، فمصر الوفية لا تشهد انحلال الورق عن الدوح في خريف أو شتاء بغض النظر عن الأشجار المجلوبة من بلاد لا تعرف خلائق وادي النيل.
قال الفتى المصري:
وتسمعت ما يقول الدوح بعد ذهاب الورق فوعيت هذه الكلمات:
- إلى أين ذهبت أيها الورق، وكنت الشاهد على أن الضعف من عناصر الجمال؟ إلى أين ذهبت وكان عطفي عليك دليلاً على أني من الأقوياء؟ إلى أين ذهبت وبفضلك سمت تغريد الحمائم والبلابل والعنادل. ولم أر بعد ذهابك غير وقر الجليد في (أعوام) الشتاء، وكل يوم في الشتاء بعام أو عامين لمن يعيش بلا أليف؟
ثم سمعت الدوح يقول:
- لو كنت أملك من أمري ما يريد الهوى لخلعت العذار في البحث عن الورق الذاهب، ولكن الطبيعة التي أمدتني بالقوة قيدتني بالوقار؛ فأنا جاثم في مكاني، وإن كان هواي في بلدٍ بعيد بعيد، وآه ثم آه من المراعاة لما يوجب التغافل عن الهوى المشبوب!
وسمعته يقول:
- سقط عني الورق، لأنه ضعف عن مصاحبتي في أيام الشدائد؛ وهل يطالَب الضعيف بما لا يطيق؟ فما عتبي عليه وهو أضعف من أن يقاسمني المصاعب في أيام الشتاء؟ وهل يتوهج الجمال إلا في أوقات اللين والصفاء؟
ثم سمعت الدوح يقول:
(ألا يمكن اتهامي بإرغام الورق على أن يصير إلى ما صار إليه؟ كان في مقدوري أن أضاعف له الكمية المبذولة من دمي، ولكنني جهلت الواجب فارتضيت أن يعيش في الخريف بمثل ما كان يعيش في الربيع. ولو أني ضاعفت له الدفء لكان من الممكن أن فكر في حفظ الجميل، والدنيا أخذ وعطاء، ولو كره الأوفياء)
قال الفتى المصري وهو يحاور قلبه بعد سماع ذلك الاعتراف:
لقد نطق الدوح بالقول الفصل، وأجاب عن هذا السؤال: (ما الذي يمنع من أن نعيش كما(446/9)
تعيش بعض الأشجار التي تخلع أوراقها في الخريف لتكتسي بأوراق جديدة في الربيع؟) وما وجهت إلى نفسي هذا السؤال إلا بعد أن عانيت ألوف المكاره من الوقوف عند حالٍ واحد في الحب والبغض، والاقتراب والابتعاد. والأوراق هي العواطف فما بالنا نحرص حرص الأشحاء على استبقاء تلك الأوراق، وفيها ما يصل إلى الذبول والجفاف، ومن الخير أن نخلعه بلا رحمة ولا إشفاق؟ ما بالنا نحرض عليها حين تتصل بأحباب يصعب عليهم أن يقاسمونا شتاء الزمان؟
إن الله لا يضن على الشجر بالورق الجديد عند قدوم الربيع، فهل يضن علينا بالهوى الجديد عند استهلال الرخاء، وقد عرفنا من كرم الله ما لا تعرف الأدواح والأوراق؟ وهل يملك الدوح من الحيوية عند سقوط الورق مثل الذي نملك من الروحانية عند خمود الوجد؟ أكاد أجزم بأن الماء المكنون في الشجرة العارية من الورق لا يقاس إلى الجمر المكنون في القلب الخالي من الحب، فنحن والشجر إلى ربيع قريب، وإن استطال الشتاء.
وبعد لحظات عاد الفتى المصري إلى محاورة القلب
- الدوح مجلل بالسواد، والسواد شارة الحزن، فما بال الدوح يحزن وهو غاية في القوة؟
- الحزن من علائم القوة، وليس من علائم الضعف، فهو دليل على شعورنا بقيمة ما نفقد، ولا يقع ذلك إلا ونحن أقوياء، والجهلة هم الذين لا يفرقون بين الحزن والذهول
- وكيف؟
- أنسيت ما قرأناه لأناطول فرانس من أن الموت نتيجة لضعف الـ
- أذكر ذلك، ولكني أخشى أن يكون الحزن هو أيضاً نتيجة لضعف الحيوية
- أنت مخطئ في هذا التأويل، فالحزن هو صوت الشهوة إلى النعيم المفقود، والشهوة لا تصدر عن النفس إلا في حالة الفتوة والأريحية والطغيان
- وإذن فما بال جماعات من خلق الله تندد بالمحزونين؟
- كما تندد جماعات من خلق الله بالفرحين!
- ماذا تريد أن تقول؟
- أريد أن أقول إن الحسد هو الذي يحمل بعض الناس على التنديد بأهل الأحزان والأفراح، وما قام في الدنيا أدب ولا مجد ولا سلطان إلا بفضل ما في عاطفة الحزن أو(446/10)
الفرح من ثورة واشتعال
- أتريد أن أحزن، يا قلبي؟
- أريد أن تفرح بالحزن الصادق، فقد كان شعار الأنبياء؛ أما الحزن الكاذب فهو شعار المتصنعين. إن للحزن آداباً يجهلها أكثر الناس، ومن آداب الحزن أن يصدر عن عاطفة لا عن تصنع، وأن يأخذ وقوده من الإحساس لا من الخيال، وأن يردنا إلى الصدق فيما نكتب وفيما نقول، وأن يزيد في احترامنا لأهل الأفراح؛ فهم إخوان أعزاء، ولو نقلهم الفرح إلى آفاق الجنون. أنظر إلى هذا التمثال وذلك التمثال!
قال الفتى المصري:
ونظرت فرأيت تمثالين: أحدهما لعامل مكدود، وثانيهما لفتى تحتضنه فتاة بأسلوب يمنع من وصفه أدب أهل الشرق، فقد ضمته إليها كما يضم الحبيب المحبوب، وما أحب أن أزيد، وهل أستطيع القول بأن ذلك التمثال أفصح عن أشياء ينكرها الحياء؟ من بلايا الزمن أن الكاتب لا يملك من الحرية ما يملك المثّال!
كان هذان المنظران المتباينان يمثلان السلامة الوجودية أصدق تمثيل، فالعامل المكدود هو مثال الحزن الشريف، واحتضان الفتاة للفتى هو مثال الفرح النبيل، وليس من العيب أن نفرج أو نحزن بإفراط وإسراف ما دمنا صادقين. وهل تهجم الفتاة على الفتى إلا طاعةً لغريزة كريمة هي سر البقاء؟ وهل تجعد وجه العامل المكدود إلا في سبيل السعادة لأطفال يتمنى أبوهم أن يجهلوا معنى الفقر في أيام الشتاء: شتاء الزمان؟
ثم عاد الحوار بعد لحيظات:
- حدثتك عما قرأنا لأناطول فرانس، فهل تذكر ما سمعنا لعهد الطفولة في سنتريس؟
- لا أذكر من سنتريس غير أطياف بددتها أحلام باريس، فماذا تريد؟
- كان أهل سنتريس يقولون: (لما يخضرّ التوت، البرد يموت)
- وما معنى ذلك؟
- معناه أن الأوراق هي الوقاية من البرد!
- وإذن!
- وإذن تكون العواطف هي الوقاية من شتاء الزمان(446/11)
- وما حال الشجرة التي لا ينخلع عنها الورق في أي وقت؟
- هي شجرة سعيدة أعاذها القدر من اختبار الأحباب، ومزية هذه الشجرة أنها تتذوق ما في الأرض والهواء من حيوية عارمة لا تلتفت إلى تغير الفصول إلا في أندر الأحايين!
- وهل في مقدورنا أن نكون مثل تلك الشجرة؟
- إذا تخلقنا بأخلاقها
- وكيف؟
- في الأسبوع الرابع من آذار تظهر تباشير الورق الجديد فوق غصون الأشجار التي عانت آلام العري في الشتاء، وننظر فنرى الأشجار الصغيرة أورقت قبل الأشجار الكبيرة، فنفهم أن للشباب يداً في سرعة الإيراق؛ وقياساً على ذلك يكون الشباب الدائم هو الذي يحمي بعض الأشجار من سقوط الورق في الشتاء
- أيكون لهذا الملحظ دخل في تقديس شجرة (الجميز) عند قدماء المصريين؟
- ليس هذا التخريج بغريب، وقد يضاف إليه أن لشجرة الجميز ميلاً إلى البر بالجبران؛ فهي تمد فروعها لتمتعهم بالثمار والظلال بلا انتظار للجزاء!
- أراك تهرب من الجواب!
- وأراك لا تفهم المعاريض!
- أنا أحب أن أعرف كيف أحتفظ بالشباب
- إذا احتفظت بالعواطف
- وكيف أحتفظ بالعواطف؟
- إذا احتفظت بالشباب!
- وكيف أحتفظ بثروة من أعدائها الليل والنهار؟
- أنت أقوى من الليل والنهار، إذا أردت؟
- وكيف؟
- اجعل الليل والنهار من خدامك
- كيف؟ كيف؟
- لا تضيع لحظة واحدة بلا عملٍ نافع، فالعمل الموصول فن من السيطرة على شباب(446/12)
الزمان؛ ألم تسمع بأخبار نوح؟
- وما أخبار نوح؟
- عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً
- وهل يعيش الإنسان ألف سنة إلا خمسين عاماً؟
- بقليل من الفهم تدرك أن عمر نوح لا يرجع إلى الكمية الصورية، وإنما يرجع إلى الكمية المعنوية؛ وقد استطاع نوح باختراع (السفينة) أن ينقذ الإنسانية من (طوفان) الفناء؛ فالعشرات من أعوامه تعد بالمئات. فاصنع صنع نوح، لتعيش عمر نوح!
قال الراوي:
ثم رأيتني أهتف بقول أحد الهائمين:
ولو أن عمري عمر نوح وبعته ... بساعة وصل منك قلت كفاني
فالله وحده هو الذي يعلم قصة الورق والدوح. وهو الذي يعلم ما أعاني من البلبلة بين القاهرة وباريس وبغداد. وهو الذي يعلم كيف أفر من التصريح إلى التلميح، لينجو (الورق) من الافتضاح.
إن عاد الربيع، إن عاد، فسوف نعقد (معاهدة ودية) لا يقضها خريف ولا شتاء
وشبابي، شباب الجسد والروح يحدثني بأن الربيع إلى معاد ويلطف الله بمن يقول:
لنجواك أستبقي شبابي فعاطني ... كؤوس الهوى قبل ابيضاض المفرقِ
زكي مبارك(446/13)
الإنسان الكامل
للدكتور جواد علي
عرّف المتصوفة الإنسان الكامل بقولهم: هو الإنسان الجامع لجميع العوالم الإلهية والكونية الكلية والجزئية، وهو كتاب جامع للكتب الإلهية والكونية؛ فمن حيث روحه كتاب عقلي مسمى بأم الكتاب، ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ، ومن حيث نفسه كتاب المحو والإثبات؛ فهو الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها إلا المطهرون من الحجب الظلمانية. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه. وإن النفس الكلية قلب العالم الكبير، كما أن النفس الناطقة قلب الإنسان؛ ولذلك يسمى العالم بالإنسان الكبير.
ويكاد يكون الإنسان الكامل نفس (الإنسان الأول) لدى أرسطو، أو (الحكيم) لدى أفلاطون، أو (الإنسان الفاضل) لدى الفارابي، أو (الإنسان المطلق) لدى جماعة إخوان الصفاء في البصرة؛ وتكاد الفكرة تكون نفس الفكرة (الإنسان الذي لا إنسان فوقه) ? لدى هارينريش مولر من رجال أواخر القرن السابع عشر مبتدع هذه اللفظة لأول مرة والشاعر الشهير جوته، والفيلسوف نيتشه أو فكرة السوبرمان في اللغة الإنكليزية مع اختلاف بسيط سببه وجهة النظر والتفكير.
وفكرة الإنسان الكامل من الأفكار التي ترد على لسان المتصوفة كثيراً. وقد استعملها المتصوف الشهير محيي الدين بن العربي المتوفى سنة (638هـ - 1240م) وعلى الأخص في كتبه ومؤلفاته. وتكاد الفكرة تكون محور تعاليمه والنقطة التي تدور حولها أبحاثه التصوفية. وابن العربي هذا من الشخصيات الإسلامية العظيمة التي تنتمي إلى أرومة عربية عريقة في القدم. شخصية أثرت في الحياة الروحية الإسلامية تأثيراً عظيماً ولا سيما في الحياة العقلية للأتراك والفرس. وتتصل آراء هذا الصوفي بعضها ببعض بصورة متسقة منتظمة اتصال الحلقة أو السلسلة على غموض بعض أفكاره وعويص معانيه، وذلك أمر يقتضيه التصوف ذاته والموضوع الذي يدور حول البحث. والظاهر أنه استمد آراءه في الإنسان الكامل كما استمد ذلك سائر المتصوفة من الصورة التي رسمها مثاليو المسلمين للنبي الكريم، إذ نرى الصورة التي تصورها المتصوفة للإنسان الكامل(446/14)
تسير جنباً لجنب مع الصورة التي يذكرها أصحاب السير للرسول نبينا العظيم.
استعمل محي الدين بن العربي هذا الاصطلاح كاستعمال أرسطو لكلمة (الإنسان الأول) أو استعمال فلاسفة اليونان لكلمة أو العقل، أو كلمة تقريباً؛ استعمل هذا الاصطلاح ليدل على نسبة العقل الأول إلى العالم الكبير أو النفس الجزئية بالنسبة إلى النفس الكلية ليدل على فكرة طالما أفنى المتصوفة أنفسهم شوقاً إليها إلا وهي فكرة المعرفة والتجلي عن طريقي الوجد والفناء حتى يصل الإنسان في النهاية إلى (الشجرة) وهي درجة الإنسانية الكاملة التي لا إنسانية فوقها أبداً. ونظراً لمكانة هذه الفكرة وما يحيط بها من إبهام وغموض، تصورها المسلمون لذلك بصور شتى وأشكال لا حد لها خرجت في كثير من الأحايين من عالم الفلسفة الإسلامية إلى عالم آخر أبعد من عالم الإسلام والتصوف بدرجات.
وقد ظن المستشرق ماكس هورتن أن ذلك العالم هو العالم البراهمي وهو عالم غني بهذه الأفكار مملوء بهذه الآراء، وظن المستشرق شيدر - وهو مستشرق يرجع أصل كل شيء في الحضارة الإسلامية إلى مصدر إيراني قديم - أن مصدر هذه الفكرة الآراء المانوية الإيرانية القديمة. يرى أن هذه الآراء أثرت في التصوف كما أثرت في فلسفة أبي بكر الرازي وإخوان الصفاء وناصر خسرو وغيرهم، وذل لوجود تشابه رآه هذا المستشرق بين فكرة الإنسان الكامل وبين المعتقدات المانوية القديمة.
وترد نفس هذه الفكرة في فلسفة فيلون وفي الفلسفة البوذية حيث يكون بوذا أكمل مخلوقات الله، فيه اجتمعت المتناقضات، وفيه تم كل شيء، فهو الإنسان الكامل وهو رمز وحدة الوجود، فيه اجتمعت الروح بالمادة بصورة لا نتصورها إلا في الله، لذلك هو المثل الأعلى للبشرية، وهو الإنسان الكامل؛ وعلى كل إنسان يريد أن يصل إلى مرتبة البشرية الكاملة أن يسعى سعياً روحياً للوصول إلى هذه الدرجة التي لا تتم إلا على يد قطب أو وسيط، وهذا القطب أو الوسيط هو نفس الوسيط الذي استعمله الصوفية والإسماعيلية والشيع الإسلامية السرية للوصول إلى واجب الوجود.
وقد مزج المغيرة وهو أحد الذين اتهموا في دينهم (احرق عام 737م) بين فكرة (الإنسان المطلق) وبين نظرية العدد والبروج التي ترد في مذهب الفيثاغورسيين والمنجمين فقال(446/15)
بأن الإنسان أكمل المخلوقات طراً، لأن له أثني عشر عضواً يقابل كل عضو من هذه الأعضاء برجاً من البروج؛ لذلك فالعالم الأكبر اجتمع هنا في العالم الأصغر، فهو هو هو، والعالم الأصغر هو نفس العالم الأكبر. وحيث أن آدم هو أبو البشر فهو يمثل الصلة بين العالم الأكبر وبين العالم الأصغر فهو إذا اكمل البشر وهو الإنسان الأول أو الإنسان الكامل على الإطلاق.
وتقارب هذه النظرية، على ما يقوله ماكس هورتن، نظرية (الحروفية) وهم الذين يمثلون فلسفة العدد في الإسلام، والذين ينتهون بحكم هذه التعاليم إلى الحلولية على نحو ما ينتهي إليه أمثال هؤلاء في الشرق والغرب، مثل ما انتهى إليه نيقولا كوزانوس الذي كان يقول بأن الواحد مرآة صافية للكل، وأن العالم الأصغر هو هو العالم الأكبر، فيه حل الواحد وفي كل شيء حل الله، على نظرية ما في الجبة إلا الله. وهو في تعاليمه يشابه الفيلسوف العربي الكندي ويكاد يكون أحد تلاميذه أو أتباعه. ومثل الفيلسوف لايبنتز في نظريته عن الذرات الروحية أو طلاجينلا الإيطالي المشهور والشاعر الشهير جوته في مذهب الحلول.
وهذا الإنسان الكامل الذي أبدع في وصفه المتوفة، هو إنسان خيالي روحاني ليس له مثيل بين سكان الأرض، يجمع بين العالمين العالم الروحاني والعالم المادي، لا يعبأ بهذا الكون ولا يقيم له وزناً، وهو على طرفي نقيض مع (الإنسان الأعلى)، أو السوبرمان الذي ابتدعه فلاسفة أوربا المحدثون، ويعنون بذلك الإنسان الذي يحبذ هذا الكون ويقدسه، يريد السيطرة ويحترم مبدأ القوة، لتناقض موجود في الأساس بين الفكرتين الشرقية الخيالية والغربية العملية الاكتشافية.
وقد جمع عبد الكريم الجيلي المتوفى عام 1410م تقريباً آراء فلاسفة الإسلام في الإنسان الكامل، في كتاب سماه: (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل) استفاد منه المستشرق الإنكليزي نيكلسون كثيراً إذ ذكر وجهات نظر المسلمين في هذا الإنسان أثناء بحثه عن التصوف الإسلامي فليرجع إليه.
جواد علي
مطالعاتي حول المدفأة(446/16)
المدينة الضائعة
للأستاذ صلاح الدين المنجد
تهت الليلة في مخارم الجبال مع (جوكليه) سعياً وراء المدينة الضائعة. إن هذا الكاتب ليهزني؛ فهو وصاف للعادات مرة، قصاص مغالٍ أخرى، متفلسف هزاء على نحو فولتير تارة، مؤرخ يمزج التاريخ بالأدب أحياناً. . . وهاأنذا أغامر معه الليلة في روايته الأخيرة؛ فأرشف العذوبة، وأهيم مع الخيال، وأسمع نداء الحكمة والحياة.
لا بأس على القراء أن يتيهوا معي، فالرواية طريفة والقصاص بارع. هاهو ذا (جوكليه) في جزيرة (لوسون) من الفيليبين يلتقي بفتى يتدفق حماسة وقوة، يريد أن يفتش عن كنز عظيم تركه ملاح صيني كبير، في مدينة ضاعت بين الجبال، في شرق الجزيرة منذ أربعة قرون. وكان نداء المجهول، وحلاوة المغامرة، يدفعان الفتى إلى البحث عن الكنز، فأثر في رفيقه القصاص وساقه معه.
وكان يصحبهما رفيق ثالث شاذ الطبائع، غامض العواطف، أسمه (دون انطونيو) عرفوه في الفندق. وكان هذا يود الهرب من المدينة الزائفة لأسباب غامضات.
وهام الثلاثة في طريقهم، وقد صحبوا دليلين قويين، وبضعة بغال. . . ثم تغلغلوا في قلب غابات المتوحشين. وكان يصادفهم أخطار ترعب، ومصاعب لا تحد: لذع من الشمس، وخبل من الهواء، وغرق في الماء، ونهس من الذباب، وتيهان في المستنقعات؛ فضلاً عن شهق الجبال وعمق الأودية، واشتباك الغابات، ووفرة الشباك المنصوبة على حفافي الطرقات.
وفاجأتهم قبائل النكريتو بسهامها في إحدى الغابات، ففروا بعد جهد وعذاب. ومضت القافلة الصغيرة تماشي الهضاب، وتصعد في الجبال، وتفتش عن (لمدينة الضائعة) في كل مكان. فاستيقظوا ذات يوم، بعد أن قذفهم واد عظيم، وإذا بهم يرون من شواهق الذرى، في حضن جبل، على حافة بحيرة راكدة: مزارع أرز واسعة، وآثار بناء شامخ، تقوم عند أقدامه مساكن صينية حقيرة. فخفوا نحوها، فاستقبلوهم بصمت وحذر وجفاء، وأدخلوهم باباً في ذلك البناء. . . فعلموا أنهم أضحوا سجناء في مدينة واسعة، قامت في قلب الجبل، لا يدركون من أمرها شيئاً. . .(446/18)
وساقوهم إلى شيخ صيني نبيل، فأعلمهم بعد جهد، أنهم في المدينة التي شادها (ليموجونك) الملاح الصيني العظيم.
(لقد قضى الوقت الطويل في البحث عن أعوانه. كان يرد أعواناً لا تبش وجوههم لبريق المال الذي يحيط بهم، ومكاناً لا تصل إليه الأقدام، فاختار هذا الجبل مقاماً له عندما يقفل من قرصنته في البحار. وعاش مع أصحابه حياة هادئة غامضة لا يستطيع مؤرخ أن يكتب شيئاً عنها؛ ثم أخضع القبائل التي كانت تعيش في الغابات المجاورة والجبال، وجعلهم عبيداً له طول الحياة. . .!
(ولم يفكر قط واحد منهم، لا واحد منا، أن يعود إلى البلاد المتمدنة التي يضطرب فيها كل شيء. . . فإذا ومضت هذه الفكرة في رأس أحدنا علمنا أنه مريض. . .
(ولقد وضعنا في طريق ذل العالم المتمدن عقبات كثارا لتعجز كل قوة أنسية عن اجتيازها. . . نعم، أيها السادة، تلك قصة الملاح العظيم، وإني لآسف أن أراكم بيننا، وإن سعادة هذا الشعب الهادئ الذي يعيش هنا توجب على سجنكم عندي لئلا تغروهم بالعودة إلى دنيا المصائب والبلايا. . .!)
وسجن الأصحاب الثلاثة، ولكنهم تحسسوا الأخبار، وعلموا أن ذلك الملاح الشقي، أودع كنوزه إحدى جزر المحيط قبل أن يموت. . . ففروا من سجنهم بعد أن رأوا الموت مرات، وفقدوا أحد الأدلاء. على أن الفتى (ميجيل) ما كان في هذه المرة يبتغي نوال المال، فلقد أراد أن يسعى وراء حياة هادئة، ليس فيها شيء من (الوكر) ولا (السيست) وغيرها. . .
هاهم أولاء يتيهون في البحار، ينتقلون من جزيرة إلى جزيرة دون أن يعثروا على التي سمعوا وصفها، فقرروا أن يعودوا من حيت أتوا. . . ولكن عاصفة مجنونة حملتهم على جزيرة بعيدة: كلها أعشاب خضر، وبرارٍ محروثات. . . وإذا هم بين أناس من الصين علموا أنهم أحفاد الملاح الكبير. . . وأدركوا أن تلك الأراضي كنوز الملاح. . . فعاشوا بسذاجة وانطلاق. . .
وخطر على بال القصاص أن يعود مع الفتى، فعادا. . . أما (دون أنطونيو)، فقد آثر البقاء هناك، وقال:
(لن أستطيع العيش في المدن. إن فيها جدرانا كثيرة تخنق المرء. . . كل يوم فيها اصطدام(446/19)
واضطراب وظلم. . . إن فيها قيوداً كثيرة. إنها سجون مظلمة. . . وسيبحث عني أولئك الذين عرفتهم فلا يجدوني، وسيحسبون أني مجرم آوتني السجون. . . ليقولوا ما شاءوا. . . فأنا أعيش مع المتوحشين، ولكني حر طليق. . . لا يقيدني قيد، ولا يخيفني مخلوق. . . نعم، وسيعلمون بعد حين أن عدد الهاربين من المدن ومن المدينة ومن الترف إلى الطبيعة سيزداد وينمو. . .!)
وعاد الصديقان وحدهما، وقد علما أنه لابد لهما من العودة يوماً ليستجيبا لنداء المجهول، وليعيشا في الأرض التي لا تعرف الشقاء، أرض الأعشاب والمرجان. . .) أ. هـ
أين أنت أيتها الأرض البعيدة التي ستضمينني؟
أيها المجهول الذي يناديني، ادفعني إلى تلك الأرض الهادئة لأستريح من لؤم الإنسان. . .!
ادفعني. . . لأحيا. . .!
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
في الفلسفة الإسلامية(446/20)
إخوان الصفاء
للأستاذ عمر الدسوقي
مقدمة
في أواسط القرن الرابع الهجري ذهبت سطوة الخلافة العباسية واستبد بالخلفاء مواليهم من فرس وديلم وترك، وساموهم الخسف وسوء العذاب، فاستقل كثير من الأمراء عن بني العباس وأسسوا دويلات صغيرة: كآل بويه، وأل حمدان، والساسانيين وغيرهم، ولم يبق للخليفة من مظاهر القوة شيء.
بيد أن هذا الانحطاط السياسي في الدولة لم يمنع الحياة العقلية من الازدهار لتنافس الأمراء في تقوية دويلاتهم علمياً وأدبياً؛ فنما الشعر ونضج التفكير، واشتدت حركة النقل والبحث في العلوم الفلسفية على اختلاف شعبها ثم هضمها وصبغها بالصبغة الإسلامية.
وكان من عواقب الانحطاط السياسي للدولة العباسية تكوين كثير من الجماعات السرية وغير السرية التي تحاول القضاء المبرم على العباسيين حتى تضع غيرهم مكانهم، أو توجد لنفسها كياناً مستقلاً. ومن هذه الجمعيات التي ظهرت في منتصف القرن الرابع الهجري (جماعة إخوان الصفاء) وهم من الشيعة الباطنية الذين لم يرضوا عن الخليفة العباسي كما لم يرضوا عن الخلافة الفاطمية في مصر. وحاولوا قلب النظام السياسي بقلب التفكير العقلي وإيجاد ثقافة جديدة يعتنقها شباب عصرهم مقتفين في ذلك أثر الفيتاغوريين وأفلاطون. ومن المعلوم أن الفيتاغوريين كانوا جماعة سرية إصلاحية حانقة على نظام الحكم اليوناني وأنهم حاولوا تغييره بخلق مذهب جديد ونظريات حديثة عن العالم ونشأته داعين إلى الزهد والتقوى. ومن المعلوم كذلك أن أفلاطون كان ساخطاً على حكومة أثينا. فلا الأرستقراطيون أرضوه لما يرتكبونه من ظلم وجور، ولا الديموقراطيون حققوا آماله للفوضى التي ضربت خيامها في أثينا؛ وذلك حد في وضع منهج جديد للحكومة في كتابه الجمهورية وإن كان قد فشل حينما حاول تطبيقه عملياً.
أما إخوان الصفاء فقد نالوا شيئاً من النجاح لأنهم من الإسماعيلية الباطنية. وهؤلاء قد استطاعوا أن يوجدوا لأنفسهم كياناً سياسياً مكن لهم في بعض الأرض ونشر الرعب في العالم الإسلامي. وسنرى فيما بعد أدلتنا على أنهم من الإسماعيلية بل إن رسائلهم هي(446/21)
دستور هذه الطائفة.
من هم إخوان الصفاء
لقد أحاطت هذه الجماعة السرية نفسها بسياج متين من الكتمان ويقولون في ذلك: (إننا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفاً من سطوة الملوك ذوي السلطة، ولا حذراً من شغب الجمهور من العوام ولكن صيانة لمواهب الله عز وجل لنا. لذلك حار الناس قديماً وحديثاً في معرفة أسمائهم، ولولا ما نقله القفطي عن أبي حيان التوحيدي في هذا الصدد وتعداده لبعض الأسماء المشهورة بينهم لعمى علينا الأمر فقد ذكر في أثناء حديثه عن زيد بن رفاعة (أنه أقام بالبصرة طويلاً وصادق بها جماعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان محمد بن معشر البستي (ويعرف بالمقدسي) وأبو الحسن علي بن هاورون الزنجاني وأبو أحمد المهرجاني وأبو الحسن العوفي وزيد بن رفاعة)
مكانهم وزمانهم:
كانت البصرة مركزهم الرئيسي وإن لم يذكر الإخوان شيئاً من ذلك في رسائلهم بيد أن القفطي قال: (وقد أقام زيد بن رفاعة بالبصرة زماناً طويلاً وصادق بها جماعة لأصناف العلم. . . الخ)، وهناك ما يؤيد رأي القفطي وهو أن البصرة كانت منذ أسست عاصمة العلوم الإسلامية ومحط كثير من رجال الفقه، فيها نشأ الحسن البصري ورؤساء المعتزلة، وفيها قام عبد الله بن ميمون بفتنة القرامطة أصل مذهب الإسماعيلية في أواخر القرن الثالث الهجري، وفيها قام أبو الحسن الأشعري يتنصل من الاعتزال، وكانت فيها حلقات العلم من كل فن وفي مربدها ينشد الشعراء قصائدهم؛ فلا عجب إذا أن كانت البصرة مأوى إخوان الصفاء.
هذا وقد كان للجماعة أنصار في مختلف البلدان ولهم دعاة يبشرون بمذهبهم بطرق منظمة؛ وفي هذا يقولون: (إن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد). ويظهر أنه كان في بغداد جماعة أخرى على اتصال وثيق بإخوان الصفا وعنها يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه المقابسات: (من أعضائها أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني، وأبو زكريا العميري، والعروضي أبو محمد المقدسي، ويحيى بن عدي، وأبو إسحاق(446/22)
الصابي، وماني المجوسي)، ويظهر أن أبا سليمان المنطقي السجستاني كان رئيس هذه الجماعة فكثيراً ما يقول أبو حيان (دارت في مجلس أبي سليمان. . . مناظرات)، ويقول: (أملى علينا أبو سليمان). ويظهر أيضاً أن أمر هذه الجماعة الفلسفية كان على شاكلة أختها في البصرة سرياً؛ فقد ثبت أن أبا العلاء المعري كان يختلف إلى هذه الجماعة بدار عبد السلام البصري أيام الجمع حينما قدم بغداد وهم الذين سماهم إخوان الصفاء حين يقول:
كم بلدة فارقتها ومعاشر ... يذرون من أسف على دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى ... لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خالت توديع الأصدقاء للنوى ... فمتى أودع خلي التوديعا
وقد كان لاحتكاك أبي العلاء مع تلك الجماعة وتعرفه على مختلف النظريات الفلسفية والدينية والصوفية الأثر الأكبر في اتجاه أفكاره وفلسفته، فيقول الأستاذ ماكدونالد (يظهر أن أبا العلاء اتصل بفئة مثل إخوان الصفاء إن لم يكونوا هم أنفسهم)
ومما تقدم نرى أن إخوان الصفاء كان مركزهم الرئيسي بالبصرة وكان لهم فرع قوي ببغداد، وأنصار ودعاة في مختلف البلدان والأمصار.
أما الزمن الذي وجد فيه الأخوان فهو أواسط القرن الرابع الهجري: ومن العسير تحديد السنة، بيد أن هناك ما يرجح أن الرسائل ألفت فيما بين سنتي 334هـ و 373هـ؛ لأن بدء ظهورهم كان على أثر سيطرة آل يويه على بغداد سنة 334هـ، ولم نسمع بهم قبل هذا التاريخ، ومن الجائز أن تكون جماعتهم قد تأسست قبل ذلك وبقيت في طي الكتمان، ولم تتجرأ على إظهار الرسائل إلا بعد هذا التاريخ.
نظام جماعتهم
كانت جماعة إخوان الصفاء تتكون من أربع طبقات: الأولى شبان يتراوح عمرهم بين خمس عشرة وثلاثين سنة، وهم الذين يسمونهم في رسائلهم بالإخوان الأبرار الرحماء. ويظهر أن الرسائل قد ألفت لهذه الطبقة لأن الخطاب فيها موجه دائماً إلى الأخ البار الرحيم. أما الطبقة الثانية فرجال الثلاثين والأربعين يتلقون الحكمة الدنيوية، ويظهر أنه كان يعهد إليهم مراعاة الإخوان ومساعدتهم والتحقق عليهم، وهم الذين يسمون في الرسائل بالإخوان الأخيار الفضلاء. والطبقة الثالثة رجال بين الأربعين والخمسين من العمر وهم(446/23)
يعرفون الناموس الإلهي، كما أنهم أصحاب الأمر والنهي والسلطة بين الإخوان، وإليهم يعهد بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق والمداراة في إصلاحه)، وهم الذين يسمون بالإخوان الفضلاء الكرام. والطبقة الرابعة وهي مرتبة من يزيد على الستين سنة وهي أعلى المراتب في نظامهم ومن يصل إليها يكون فوق الطبيعة والشريعة والناموس، ويكون ذا كشف يستطيع به أن يشاهد (أحوال القيامة من البعث والنشر والحساب والميزان)
والآن! كيف يقبل المرشح لعضوية هذه الجماعة؟ تجيبنا الرسائل: (أنه ينبغي لإخواننا أيدهم الله حيث كانوا في البلاد إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقاً مجدداً أو أخاً مستأنقاً أن يعتبر أحواله ويتعرف أخباره ويجرب أخلاقه ويسأله عن مذهبه واعتقاده ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أو لا يصلح. لأن في الناس أقواماً طبائعهم متغايرة خارجة عن الاعتدال، وعاداتهم رديئة مفسدة ومذاهبهم مختلفة حائرة)
وكانوا يتحرون عن الشخص الذي يريد الانضمام إليهم كل التحري، ويحذرون إخوانهم من الاغترار بالظواهر: (واعلم بأن من الناس من يتشكل بشكل الصديق، ويدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره. فانظر من تصحب وتعاشر ولا تغتر بظاهر الأمور من غير معرفة بواطنها. . . بل ينبغي أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس وكما ينتقد أبناء الدنيا أمر التزويج وشراء المماليك والأمتعة). . . (لأن إخوان الصدق هم الأعوان على أمور الدنيا والدين جميعاً وهم أعز من الكبريت الأحمر، وإذا وجدت منهم واحداً فتمسك به فإنه قرة العين ونعيم الدنيا وسعادة الآخرة وابذل له نفسك ومالك وافرش له جناحك وأودعه سرك وشاوره في أمرك وإن هفا هفوة فاغفر له)
وكانوا يحثون الإخوان على أن يعاون الغني منهم الفقير والمتعلم الجاهل ويؤثرون أصدقاءهم على أنفسهم وأولادهم وأزواجهم، لأن محبة هؤلاء لمصلحة دنيوية، أما الإخوان الذين انضموا إليهم، فيحبونهم لله.
فإذا ما قبل العضو قرءوا عليه خطبة فيها دعوتهم وغايتهم: (وينبغي لإخواننا إذا حضروا المجلس ومعهم أخ مستجيب يستحب أن يقرءوا عليه هذه الخطبة: اعلموا - أيها الإخوان(446/24)
- أيدكم الله وإيانا بروح منه، وهداكم للحق، وجعلكم من أتباعه، وسهل لكم سبيل الخير، وأرشدكم إلى معرفة أهله، وعصمكم من الشر، وجنبكم صحبة أهله، وحرسكم من المزور الشيطان، ووقاكم جور السلطان ونكبات الزمان ونوائب الحدثان، ووفقكم لقبول نصيحة الإخوان، إنه ودود منان - اعلموا أن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، ولها غاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي؛ وإذا بلغت أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها، أخذت في الانحطاط والنقصان، وبدأ في أهلها الخذلان، واستأنف في الأخرى القوة والنشاط والانبساط والظهور، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحل الأول المتقدم، ويتمكن الحادث المتأخر. . . وقد ترون - أيها الإخوان - أنه قد تناهت قوة أهل الشر وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط. واعلموا أن الملك والدولة ينتقلان في كل دهر وزمان من أمة إلى أمة، ومن أهل بيت إلى أهل بيت، ومن أهل بلد إلى أهل بلد. . . واعلموا أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد، ويتفقون على رأي واحد، ودين واحد، ومذهب واحد، ويعقدون بينهم عهداً وميثاقاً بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون، ويتعاونون ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضاً، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفس واحدة في جميع تدابيرهم.
وقد كان للجماعة دعاة ومبشرون يجتهدون في اختيار أعضاء جدد يضمونهم إلى صفوف الإخوان، وقد كانوا يدربون تدريباً خاصاً على الدعاية: (واعلم أيها الأخ أيدك الله وإيانا بروح منه أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد، فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والكتاب والعمال، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتجار والتناء، ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس. وقد ندبنا لكل طائفة منهم أخاً من إخواننا ممن ارتضينا في بصيرته ومعارفه ينوب عنا في خدمتهم بإلقاء نصيحة إليهم بالرفق والرحمة. وقد اخترناك أيها الأخ البار الرحيم لمعاونتهم فامض على بركة الله وحسن توفيقه إلى أخ من إخواننا، وتوصل إليه بالرفق على خلوة وفراغ من مجلسه وطيبة من نفسه فاقرأ عليه منا التحية والسلام، وبشره بما يسره من نصيحة الإخوان، وعرفه شدة(446/25)
شوقنا إلى إخائه ومودته وولايته، ثم اقرأ عليه هذه الخطبة (المتقدمة الذكر) وعرفه معانيها وفهمه مغزاها ومقصدها. . . (فإن وقعت هذه التذكرة منه مكانها من القبول وسمت نفسه إلى ما أشرنا إليه فذلك هو الذي تريده، وإن توقف وقال ما علامة ما تقولون، وما تصديق ما تزعمون من الرأي والحديث؟ فتقول عندنا دلائل واضحة، فإن أراد أخونا الفاضل الكريم فليبعث إلينا ثقة من ثقاته وأميناً من أمنائه، ومن يشاكلنا في العلوم والمعارف ليتضح له حقيقة ما قلنا.
ويظهر أن هؤلاء الذين يوجه إليهم الأخ البار الرحيم والمنتشرين في أنحاء الأرض كانت ميولهم وأغراضهم السياسية تشبه ميول إخوان الصفاء وأغراضهم، ولم يكونوا قد انضموا إليهم بعد، أو لم يعلموا بوجودهم. . . (واعلم أن من إخواننا وأهل شيعتنا طائفة أخرى بوجودنا شاكون، وفي بقائنا متحيرون فيما يعتقدون من موالاتنا، وطائفة أخرى ببقائنا موقنون، لكنهم غافلون عن أمرنا غير عارفين بأسرارنا، وكلهم منتظرون لظهور أمرنا، مستعجلون لمجيء أيامنا، مشتهون نصرة حزبنا)
(بيروت - يتبع)
عمر الدسوقي
مدير كلية المقاصد الإسلامية(446/26)
الصحيفة المثالية
لرجل الصحافة (ويكهام استيد)
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
واجب الصحافة الرشيدة أن تستوعب أمر هذه الحال المفككة الأوصال وتنعم النظر في سبب تلك الأدواء الاجتماعية وعلة هذا الضلال، ثم تتنزل على ضحاياه لتأخذ بيدهم وتأسوا جراحهم وتنهض بهم من غير أن تبتعد عنهم، أو ترتفع في شرعتها عن مستواهم. وهنا تتهيأ الفرصة للصحفي الذي تأصل في نفسه مثل أعلى وتولى زمامه قصد نبيل أن ينشئ للناس صحيفة رشيدة. وقد أخفى مثله ونبالة قصده في نفسه واختزنها لغرضه حتى لا يسخر منه الحمقى ويضعوا من كفايته قبل أن يتمكن من تحقيق لبانته.
أما عن أمر صحيفتي المثالية التي أحلم بها وأصبو إليها فسوف تطالع الناس وهي تستوعب مصادر الأدواء الاجتماعية ومواردها وتتقصى أسباب الضلال والحيرة الماثلين في الحياة الحاضرة، وهي وإن تصدر في ذلك عن إيمان مكين لا يقل شأنه على أية حال عن إيمان الصحف الحاضرة بواجبها في تقصي تلك العلل؛ إلا أنها ستضع للحق أعلاماً لا شبهة فيها فتعالج تلك الأدواء باعتبارها ضلالاً وحيرة لا أشياء أخرى تعدد حقيقتها وتتجاوز قدرها.
وسوف تتلمس الحقيقة الماثلة وراء الظواهر، وتنتهي إليها، وتظفر بها ثم تذيعها على الناس في جرأة وأمانة فلا تبقي من أمرها على شيء كاذب، ولا تصانع الشعب فيما انعقد إجماعه عليه فتحترم ما جرى عليه العرف فيه لمجرد أنه قد صار للناس عرفاً. وهي إذ تقر لذي الفضل بفضله، وتقدر للمحسن إحسانه، وتوجه التكريم إلى الوجهة التي يجب أن يتجه إليها، ولا تقر له شرعة غير شرعة الحق والعدل، ستدعو التصنع تصنعاً وتسمى الخداع خداعاً بكامل ما انطوى عليه اسمهما من لفظ ومعنى.
وسوف لا تتهيب شيئاً كائناً ما كان أو تخشى في الحق لومة لائم. وإذا هي (لا تتحرج) في معالجتها للموضوعات المؤلمة أو المزعجة، وإذا هي تسجل على نفسها خطأها إذا قدر لها(446/27)
أن تخطيء، والزلل لا عاصم منه فالعصمة لله وحده. وإذا هي لا تقبل من ضروب الإعلان إلا ما يتحقق لها صدق عبارته ومادته وأمانة ذويه. وعندئذ يصبح قبولها للإعلان ضماناً أدبياً يصون مصالح القراء ويكفل حقوق الناشرين على السواء. وإذا هي تتأبى أن تنشر للتجار الشهادات المتعلقة بصافي مبيعاتهم وتحتقر الطواف (بعينات) البضائع لتبيعها لحساب عملائها؛ وإذا هي تتأبى على هؤلاء العملاء وقد غمرها شعور فياض بالكرامة والعزة أن تهبهم شيئاً من الامتيازات المجانية أو أية رخص أخرى؛ وإذا هي تذيع على الناس في قوائم سوداء أسماء الناشرين وشركات الإعلانات ثم تثيرها عليهم حرباً جبارة لا هوادة فيها ولا رحمة تذيع على الناس ما ينتهي إليها من خبئ أمرهم ومستور حيلهم إذا ما حاولوا في نهجها العادل وقصدها الشريف أن يعملوا ما وسعهم من جاه وثروة للقضاء عليها.
وسوف تنفق شطراً كبيراً من رأسمالها في كسب ثقة العقول الشابثة الطامحة الذين سيتعلمون عاجلاً كيف يثقون برأيها ويقنعون بقضائها ويقدرون نصحها؛ وسوف تكون صحيفة مجاهدة يلمس الناس جهادها وضاحاً من أول عمود من أعمدة (أقلام تحريرها) إلى آخر عمود فيها. وسوف لا ترتبط بأية مصالح مهما كان شأنها ما لم تتفق ومثلها الأعلى. ولا تعبأ بعداء أو خصومة مهما كان مصدرها، بل تكون إلى ذلك كله مؤمنة كل الإيمان بما انتهت إليه من منزلة لا يسع كائناً ما كان أن يتجاهلها.
وسوف يكون من ديدن صحيفتي أن تفرغ وسعها في الحصول على الأخبار، وتعني بإذاعتها مبوبة منظمة، فتضع أهم الأخبار في صفحتها الأمامية كما يجب أن تكون، وسوف لا تتحرج أن تطبع عدة أعمدة متوالية (لقصة) واحدة مسلسلة، فهي ستنظر دائماً باحتقار لتلك الحيل المضيعة للوقت من التنقل بالقراء من صفحة لأخرى عن طريق وضع بداءات (القصص) المختلف على القمة من كل عمود.
وسوف لا تخدع قراءها بإقحام عنوان لا تعدو الحاجة إليه، أو ابتكار لا غنية فيه؛ واستعمال حروف الطبع المختلفة النوع والحجم استعمالاً طيباً دقيقاً من شأنه أن يهيئ للقراء الإلمام بما سطر في الصحيفة من غير أن يضيع عليهم شيئاً من الموضوع.
وسوف تتقدم صحيفتي (بالأخبار) الصالحة للنشر في وضوح تام وصراحة مطلقة، سواء(446/28)
أنفقت هذه الأخبار مع (سياستها) أو لم تتفق، فستكون سياستها بحيث لا تعنى إلا بالحقائق وحدها فلا تخفف من أمر الأخبار أو تبالغ فيها، ولا تعلق عليها أو تؤولها لتتفق مع (سياستها)
وسوف تفسر الشك لصالح النشر في الحالات التي يتردد الصحفي فيها، فيرى أنه قد كون من صواب الرأي أن يمسك عن النشر.
وسوف لا تؤيد أية حكومة بالغة من السلطان والسطوة ما بلغت، أو تزكي أي سياسي كائناً من كان إلا لما تقتنع بصدقه من الأسباب العامة التي لا تخفيها عن الجماهير.
وسوف تكون خادمة وحده، ولصالح الشعب فقط، سوف تعترف بواجب الرعية نحو الحكومة، وتقر ولاء الشعب لأولياء أموره؛ وسوف لا تقود الشعب قيادة عمياء من طريق الزلفى إليه، فإذا هي تعامل جمهوراً وهمياً زاعمة أن القراء لا قبل لهم باحتمال القول الصريح والحقائق المرة؛ إذ من واجب الخادم الأمين أن يقول الحق لسيده.
وسوف تكون صحيفتي صحيفة قومية، لا صحيفة تعني بالروابط الجنسية والفوارق العنصرية؛ وسوف تطبع بطابع عام من سياسة الرجال الأحرار لا بطابع خاص بحزب الأحرار.
وسوف تجاهد في سبيل السلام الحقيقي من غير أن تنشده على ضوء النظريات السلمية التي تتجاوز طبائع الناس وطبيعة الحياة. فتكتشف الستار عن الأمور الجوهرية وتفصح عن المسائل التي تقتضيها ضرورة الحياة، تلك المسائل التي يكون من حق الأمم والرجال أن يحاربوا من أجلها حرباً لها ما يبررها ويزكيها، أو يموتوا في سبيلها موتاً شريفاً نبيلاً إن ضاقت بهم السبل، ولم يتيسر لهم طريق آخر يدعمون به حجتهم من الاحتفاظ بمقومات حياتهم؛ وسوف لا تقع صحيفتي أبداً في ذلك الخطأ الفاجع فيخيل لها أن اجتناب الاصطدام بين الأمم، وأن التوفيق بين المذاهب المتعارضة للشعوب المختلفة أمر ميسور، وهو خطأ اقترفوه عندما حسبوا أن اجتناب الحرب أمر ممكن ومرغوب فيه لذاته.
وسوف تكافح صحيفتي بكل ما وسعها من قوة ذلك النهج العدائي الخرق الماثل فيما يثور بين الأمم من جدل. ولكنها إلى ذلك ستذكر دائماً أن قلوب الرجال سوف لا تنصرف عن الحرب وما تنطوي عليه من روح الإقدام والمخاطرة انصرافاً أبدياً، ما لم يقدر للسلام أن(446/29)
يطبع ما يكرسون له أنفسهم ويضحون في سبيله بأرواحهم بطابع يوجههم إلى أشياء أجل من الحرب شأناً وأنبل منها غاية.
وسوف تعمل صحيفتي على أن تثبت قواعد المودة بين الأمم، وتدأب على توثيق العلائق بين الشعوب، لا لبغية اجتناب الحرب فحسب، بل لتستعين بذلك في الدفاع عن الحرية الشخصية والحقوق الإنسانية، ولتشق طريقها إلى إنشاء التعاون الدولي. وسوف لا يقل نصيبها في ذلك عن تصيبها فيما ستضطلع به من تجنيد جميع طبقات الشعب فيما يتصل بالشئون القومية والاجتماعية، بغية النهوض بما يتطلبه صرح الجماعة من إنشاء وتجديد.
فهل يتاح لصحيفة كهذه، احكم صنعها من الناحية الفنية، وظفرت بما طمعت فيه من الثقة والتقدير، وسارعت بإذاعة الأخبار بما طمعت فيه من الثقة والتقدير، وسارعت بإذاعة الأخبار في إبانة وصدق، ووجهت ضرباتها القوية بحكمة وحزم غير أبهة بسلطان أو حافلة بمال، ثم تهيأ لها حظ موفور من القوة والنشاط ومجالدة الأعداء، أقول: هل يتيسر لصحيفة كهذه أن تطمع في انتشار واسع يجعلها تتحكم - ولا أقول تلتمس - في دخل كاف من أجور الإعلانان يهيئ لها موازنة ميزانيتها؟!
أغلب ظني أنه سوف يتاح لها ذلك كله متى ما توفر لها من الثروة في أوائل نشأتها (ما يثبت أقدامها) في ميدان الاختبار، إلى أن يتهيأ لها أن تكسب ثقة شعبها.
وقد تتهيأ الفرصة يوماً لرجل عبقري توفرت فيه مؤهلاته وكفايته ان يخرج للناس صحيفة من هذا القبيل. وآنئذ سوف نرى من نغمرهم الآن بمجاملاتنا من أصحاب الإعلان ومن المساهمين في الصحيفة الذين لا يأبهون إلا لما يخلص إلى جيوبهم من ربح ومن يتحرون بالتداول الصحفي، ولو كان تداولاً زائفاً مصطنعاً.
وقد سقط في أيديهم وتملكهم العجب مما تهيأ للصحفي المثالي من نجاح عظيم، وإلى أن يتاح لي تحقيق هذه الآمال المنشودة ستظل صحيفتي المثالية وهي في مملكة المثل الأعلى من عالم الخيال. وستظل الصحافة البريطانية - إذا قدر لها حقاً ألا تستعبد للحكام المستبدين - وهي تسير متثاقلة على نفسها في طريقها الذي تسلطه راحلة حيث لا تنفك بعيدة عن قمة لمجد الصحفي التي تتوق لها نفسي ويخفق بحبها قلب كل صحفي أصيل.
(المنصورة)(446/30)
زين العابدين جمعة(446/31)
مع الشمس الغاربة
للأستاذ م. دراج
واعجباً لهذا الفكر المضطرب! كلما تهيأت لأواجه موضوعاً خذلني وارتد القلم يترنح من عنف الصدمة، تاركاً وراءه خطوطاً مائلة منكسرة متعرجة - كتلك التي تجرها يد طفل عابث - هي كل ما أغنمه من أسلاب الفكر المهزوم!. . . حاولت ذلك مرة في الإسكندرية، وأخرى في دمياط، وثالثة في المحلة الكبرى، ومرة أخيرة هنا في القاهرة، ومع ذلك فشلت، وكان فشلي محزناً يدعو إلى الإشفاق. لم أدر لذلك سبباً، فأنا حين أكتب لا أحتاج إلى جو خاص، وليس ثمة ضجيج يمنعني عن الكتابة أو سكون يعينني عليها. ذلك لأني لا أغتصب الفكر شيئاً إلا إذا أحسست رغبة قوية عميقة حارة تدفعني إلى الإذعان له.
وهاأنذا أعود مرة أخرى إلى الإسكندرية لأحاول من جديد إخضاع الفكرة العصية المتمردة لعلها تلين وترضي. . . فهل من سبب لهذه الظاهرة؛ أجيبوا يا أصحاب الخبرة والتجارب؟
كنت أفكر في هذه المرحلة التاريخية التي كان من حظي أن أعيش فيها لأشاهد أعظم انفجار عالمي يوشك أن يزلزل رسوم الحياة، بما فيها من نظم وأخلاق، وعادات وأفكار، تتصل كلها لصميم الحضارة - حضارة القرن العشرين - تلك التي كلما فشلت في رسالتها، قذفت بالبشرية في جحيم باسم الحرية، ذلك الوهم المنحوس.
وكان هذا التفكير يجلو لعينيَّ غامضة، تسطع فجأة، ويتألق نورها، فأرى على وميضه بلاداً غنية التربة، تنتج من الغلال والحبوب فوق حاجتها فلا ترى مانعاً من أن تلقي بالفائض في البحر، كلما وجدت في هذا العمل الشائن ما يحفظ للسلعة سعرها العالمي المناسب. . . فهذه كميات عظيمة من الأذرة تروح (علفاً) للخيل، وتلك مقادير هائلة من ثمار (الموز) تبتلعها الأمواج، وأخرى من البن تلقى بين النيران المتأججة. ثم أشاهد أناساً يسكنون الأصقاع الشمالية ينتفضون من الجوع والبرد، يتضورون بين الدغال طلباً للخبز أو الدفء فلا يكادون يبلغونه إلا على سنان المخاطر. . . ثم أجدني قد انتقلت إلى سوق أخرى تزدحم فيها المصانع، وتتكدس الآلات والمنتجات، ويكثر التعطل والجوع والحرمان!! وتمر الأقطار أمام عيني مراً سريعاً، وكأني أشاهدها على الشاشة البيضاء.(446/32)
فهذه رقاع من الأرض ضيقة الشقة قليلة الموارد صخرية التربة يتمتع أهلوها بأطايب الحضارة وملذاتها؛ وأخرى بلاد غنية تدر الذهب، وتخصب الشهد، ومع ذلك فهي فقيرة يعيش أهلوها جياعاً حفاة شبه عراة!! وثمة شعوب تابعة ومتبوعة. صور عجيبة متناقضة تنتظم سلك الحضارة، ومع ذلك يأسفون لوقوع الحرب! ويندبون حظ الحضارة الآفلة!!. . .
هذه هي الحياة كما رأيتها على وميض الفكر الواعي: خداع وطمع، وسيادة واستعباد، ترف وحرمان، ضحكات ودموع؛ وحشية عارية تستتر وراء الفكرة الخبيثة التي يسمونها بالحرية! فأنتفع من هذا كله بشيء واحد، برعت المدينة في إبداعه من حيث أخفقت في كل شيء. ذلك هو المظهر الخلاب على الجوهر الرخيص المبتذل. وكأن اللذين فتنتهم هذه المدينة نسوا أن الظاهر تعيش حيناً ثم يعروها التلف والفناء، أما الجوهر فيبقى دائماً كما هو. . .
كانت الشمس تحتضر عند حافة الأفق البعيد، لما أشرقت أفكاري بهذه الصورة الغاربة. وكنت قد أسلمت نفسي لصديقي أتبع خطواته كطفل وديع مطيع، لا أعترض ولا أستفسر عن شيء، حتى أستقر بنا المطاف على متكأ عند شاطئ البحر نشاهد هذا الصراع العنيف بين عناصر الطبيعة، وتتابع تطوراته باهتمام بالغ. فرأينا الشمس الغاربة مكفهرة الوجه، تسيل منها العبرات شعاعاً مخنوقاً يتساقط على مياه البحر، فيصبغها بلونه الأرجواني الحزين. وهناك في الجانب الآخر من الأفق، كانت طلائع الليل الزاحف تتواثب هنا وهناك ملقية ظلالها الكئيبة على الأحياء، والبحر واجم يتلقى أنفاس الشمس اللاهثة بحنان وصمت غريبين. أما الطيور فكانت جازعة، كأم روعها الخطر على وليدها، فهي تروح وتغدو مولولة صارخة تستنجد ولا مغيث! حتى إذا هجم الليل هجومه الأخير، ارتعش النور، واضطربت الشمس، ثم أسلمت نفسها للمغيب. . .
سقطت الشمس الغاربة في هوة المغيب، فأحسس برجة عنيفة تسلبني اليقظة، وتتركني إنساناً بلا وعي. كنت - في الحقيقة - جسماً ملقى على الجدار الصخري القائم عند التقاء اليابسة بالبحر، لا يحس ولا يتأثر بما حوله، فإن بدت منه التفاته إلى هنا أو هناك، فهي بلا شك نظرات لا معنى لها، كتلك التي تصدر عادة من ذوي الأفكار الشاردة. آه، لقد(446/33)
عرفت الآن أن هذه الرجة التي أصابتني، لم تكن إلا وثبة من أفكاري لحقت بالشمس الغاربة في دنيا المغيب.
أين يذهب هذا النور؟ ولاذا تبدو عليه دلائل الإعياء كلما غرب أو أشرق؟ هذا كانت توسوس نفسي! فتبعث آخر شعاع ينفلت من يد الظلام، وانسللت وراءه أتجسس في دنيا المغيب عن أسرار هذا الكون العجيب. سمعت همساً يدور حول جريحة تنزف الدماء منها بغزارة، وليس في وسع أحد أن ينقذها من الخطر.
هم يقولون: إنها ظالمة لنفسها، وليس ثم من يستطيع علاجها إذا كانت أظافرها هي سبب بلائها! وفجأة، رأيت لهيباً يندلع في الجو، وسحباً داكنة تنعقد في سمائه، ومياهاً باردة ترتطم بوجهي، فأصحو من غشيتي لأسمع زئير البحر الهائج، وقد تدافعت أمواجه وتلاطمت، وقذفت وجهي برشاشها المتطاير. ثم أسمع دوياً هائلاً يهز الأرض هزاً عنيفاً يعقبه طلقات سريعة متتابعة تندفع إلى السماء مزمجرة صاخبة، فأطلع بوجهي إلى حيث استقرت في كبد الظلمة فأرى خطوطاً من النور تمتد وتتطاول، ثم تتحرك في سرعة خاطفة، والأشباح تهوم في الفضاء، والريح البادرة تعصف بشدة، فأدرك في الحال من تكون تلك الجريحة التي كانوا يتهامسون عنها في دنيا المغيب! وأعلم أنها (الإنسانية) التي طعنت نفسها بسلاح الطمع وأضرمت في جسمها نار الحرب!
أما النور الذي يبدو عليه الإعياء كلما غرب أو أشرق! فهو الحرية التي يتعلل بها المجرمون في دنيا الوحشية والطغيان!
وهنا هتف صديقي قائلاً: لقد غربت الشمس، وأسدل الليل ستاره الأخير! فزدت، وانقضت الحرب بصواعقها، وما تدري متى ترفع نقمتها عن العالمين.
م. دراج(446/34)
22 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - عادتهم
لا يصعب على من اختلط بمجتمع الرجال المسلمين في القاهرة - كما قد يتصور الأجنبي - أن ينال من غير زواج أدق المعلومات الكثيرة عن شئون النساء وعاداتهن؛ فأغلب رجال الطبقة الوسطى المتزوجين والقليل من الطبقة العليا يتحدثون طوعاً عن مسائل الحريم إلى من يصرح لهم باستحسانه آراءهم في الأخلاق.
ولا تعتبر الزوجة - على العموم - معتقلة في الحريم، لأنها تكاد تكون مطلقة الإرادة في الخروج، وزيارة الصديقات، واستقبال الضيفات؛ ولا جرم أنه ليس للجواري هذا الاختيار، إذ هن سواء خضعن للزوجة كما يخضعن للسيد، أو للسيد فقط، تحت سلطة لا حد لها تقريباً. ومن أهم ما يرمى إليه رب الدار بتخصيص حريم منفصل أن يتلاقى رؤية الخدم وغيرهم من الرجال لنسائه دون نقاب كما ينص الدين. وتبين الآية التالية أنه يجب على المسلمة أن تخفى عن الرجال، خلا بعض الأقارب وغيرهم، ما يلفتهم إلى شخصها أو زينتها: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. . .)؛ ويشير النص الأخير إلى عادة رن (الخلخال) الذي يستعمله نساء العرب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يزال المصريات يتحلين به.
ويجب عليَّ أن أذكر هنا تعليقين فاضلين مدرجين في ترجمة سيل للقرآن توضيحاً للآية السابقة، حتى لا تؤديا إلى فهم العادات المتأخرة الخاصة بدخول الحريم أو عدمه فهما خطأ.(446/35)
والتعليق الأول خاص بكلمة (أو نسائهن) وقد شرحت كما يلي: (أي المسلمات، ويرى البعض أن سفور المؤمنة أمام الكافرة مخالف للشرع أو للحشمة على الأقل، إذ لن تعف الكافرة عن وصفها للرجال. ويفترض الآخرون أن هذا الاستثناء يشمل النساء جميعهن على العموم، وتختلف آراء العلماء في هذا الموضوع). ولا يعتبر الآن - في مصر وفي كل بلد إسلامي آخر على ما أعتقد - دخول امرأة من أي طبقة أو من أي دين حريم المسلم أمراً مخالفاً.
ويتعلق الشرح الآخر بجملة (ما ملكت أيمانهن): (يشمل هذا الاستثناء جميع الأرقاء من الجنسين، وكما يرى البعض الخدم غير الأرقاء مثل هؤلاء المنتمين إلى شعب آخر. ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أهدى مرة إلى ابنته فاطمة عبداً، وعندما أحضره أمامها لم تكن متدثرة بثوب ضاف، فكان لابد أن تترك رأسها أو قدمها مكشوفاً؛ فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم حينما لحظ ارتباكها: أن لا تهتم، لأنها ليست في حضرة أحد غير أبيها وعبدها). وقد يكون الحال كذلك اليوم عند عرب الصحراء، ولكن لم يبلغني قط أنه يسمح للعبد البالغ في مصر أن يرى حريم رجل فاضل سواء كان العبد في خدمة الحريم أو لا. وقد أكد لي أنه لا يسمح بذلك أبداً. وقد يكون سبب منح القرآن عبد المرأة هذا الامتياز استحالة الزواج به ما دام عبداً لها؛ ولكن ليس هذا موجباً لمنحه حق الدخول إلى الحريم في مثل هذا المتجمع. ومما يستحق الاعتبار أن الآية السابقة لم تمنح الأعمام حق رؤية بنات الأخ أو الأخت مكشوفات الوجه. ويرى البعض أنهم ليسوا أهلاً لذلك خشية أن يصفوهن إلى أبنائهم، ولا يليق بالرجل أن يصف سحنة امرأة أو شخصها، (كأن يقول أن لها عينين نجلاوين وأنفاً مستقيماً وفماً صغيراً الخ) إلى من تحرم عليه رؤيتها. ولا عيب في وصف المرأة وصفاً عاماً مثل قولك: (إنها فتاة لطيفة مكحلة بالكحل ومخضبة بالحناء)
ولا يسمح للرجل عامة أن يرى غير زوجاته وجواريه ومن حرمن عليه لقرابة أو رضاعة بدون نقاب. وقد أشرت في الفصل الأول إلى قدم عهد النقاب، كما ذكرنا أيضاً أن المصريات يعتبرن تغطية أعلى الرأس ومؤخره ألزم من تغطية الوجه، وحجب الوجه أهم من حجب أغلب أجزاء الجسم الأخرى. فالمرأة التي لا يمكن حملها على كشف وجهها أمام(446/36)
رجل قد لا تخجل من الكشف عن صدرها أو ساقها. وهناك حقيقة كثيرات من الطبقة السفلى يظهرن دائماً سافرات أمام العامة، ولكنهن مدفوعات إلى ذلك لفقرهن ولصعوبة إحكام الطرحة - التي يندر أن تتجرد منها امرأة - فوق الرأس لتحل محل البرقع؛ وخاصة إذا شغلت كلتا اليدين في تثبيت ما يحملن من الأثقال. وتسرع المرأة الجليلة عندما يصادفها رجل
- مكشوفة الوجه أو الرأس - بلبس الطرحة أو أحكام وضعها؛ وكثيراً ما تصيح: (يا دهوتي! أو يا ندامتي!). ولكن كثيراً ما يدفع الدلال المرأة المصرية إلى كشف وجهها أمام الرجل متظاهرة أنها فعلت ذلك عفواً أو ظنت أنها لا تراه. وقد ينعم الرجل أيضاً برؤية وجه سيدة مصرية أحياناً - بينما هي تعتقد حقاً أنها بعيدة عن الأنظار - من شباك مفتوح أو فوق سطح. ويوجد في القاهرة منازل صغيرة ليس لها غرف سفلى لاستقبال الضيوف من الرجال فيصعد هؤلاء إلى الدور الأعلى صائحين مراراً: (دستور! يا ساتر!)، أو ما شابه ذلك لينبهوا من يصادفون من النساء في الطريق لينسحبن أو يحتجبن، فتسحب المرأة فضلة من طرحتها أمام وجهها إلا عيناً واحدة. ويصل شعور المسلمين بحرمة النساء إلى درجة غريبة، حتى أنه يحرم على الرجال دخول قبور بعض النساء؛ فلا يسمح مثلاً لغير النساء بزيارة زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهن من أسرته في مدافن المدينة. ولا يدفن الرجل والمرأة في قبر واحد أبداً إلا إذا فصل بين الجثتين حائط. ويوجد مع ذلك من لا يهتم كثيراً بهذا الأمر وإن قل عددهم. ولي صديق مسلم من هؤلاء يسمح لي على العموم أن أرى أمه عندما أذهب لزيارته. وأمه أرملة في الخمسين من عمرها تقريباً، ولكن ضخامة بدنها ودلالة سيماها على عدم الكبر يجعلانها في سن الأربعين. وتقبل عادة إلى باب غرفة الحريم حيث أُستقبل لخلو المنزل من غرف سفلى للاستقبال، وتجلس هناك على الأرض، ولكنها لا تدخل الغرفة أبداً. وقد تكشف أحياناً وجهها تماماً كما لو كان الأمر عرضياً، فتبدو عيناها وقد أحاط بها الكحل الكثير، كما أنها لا تحاول أن تخفي حليها الماسية والزمردية وغيرها، بل على العكس من ذلك تحاول إبرازها. ولم يسمح لي صديقي برؤية زوجته أبداً مع أنه أذن لي بمحادثتها مرة في حضوره خلف زاوية في ممر أعلى السلم.(446/37)
وأعتقد أن نساء مصر لا يضيق عليهن بالشدة المشاهدة في البلاد الأخرى الخاضعة للباب العالي؛ ولذلك ليس من غير المعتاد أن ترى نساء الأوشاب يتدللن ويمزحن مع الرجال علناً، والرجال يضعون أيديهم عليهن دون حرج. وقد يُظَن أن نساء الطبقتين العليا والوسطى يشعرن بالجور والتعاسة في عزلتهن، ولكن ليس هذا هو الحال عادة، بل على العكس نلاحظ أن الزوجة المصرية التي تتعلق بزوجها قد تظن، إذا أطلق لها زوجها الحرية أنه يهملها ولا يحبها كثيراً، وتحسد أولئك اللاتي يخضعن للرقابة الدقيقة.
وليس من المألوف أن يتزوج المصري بأكثر من امرأة، أو يتسرى بأكثر من جارية، مع أن الشرع يبيح له أربع زوجات كما أشرت قبلاً؛ والتسري، طبقاً للرأي الغالب، حسب رغبته. إلا أن الرجل وإن اقتصر على زوجة واحدة يمكنه أن يبدل كيفما شاء. ويقيناً ليس هناك كثيرون في القاهرة لم يطلقوا امرأة إذا طال أمد الزواج. ويستطيع الزوج أن يطلق زوجه وقتما يريد بقوله: (أنت طالقة). فإذا استقرت إرادته على ذلك عن صواب أو عن غير صواب، وجب على المرأة أن تعود إلى أهلها أو صديقاتها. وتعرض المرأة لطلاق لا تستحقه مصدر لأحزان وقلق اشد مما تتعرض له من أي اضطراب آخر. وقد تصبح لذلك في حالة عوز شديد. وهذا التعرض يبدو طبعاً على العكس تماماً لأولئك اللاتي يأملن تحسين حالتهن. ويستطيع الرجل أن يطلق زوجه مرة أو مرتين ويردها إليه في كل مرة من غير حفل. ولكنه لا يستطيع أن يردها شرعاً في المرة الثالثة قبل أن تتزوج رجلاً آخر وتطلق منه، وهذا بعينه نتيجة الطلاق ثلاثاُ المعبر عنه في جملة واحدة: (أنت طالقة بالثلاثة). ولكن قد يتفق الرجل والمرأة على مخالفة الشرع، أو ينكر الرجل أنه أوقع يمين الطلاق. وتجد المرأة في الحالة الأخيرة صعوبة كبيرة في تنفيذ الطلاق قانوناً إذا أرادت ذلك.
وأذكر لتوضيح هذا الموضوع قضية أدخل فيها أحد معارفي شاهداً على يمين الطلاق. فقد كان جالساً في مقهى مع رجلين آخرين كان أحدهما قد غضب على امرأته لشي قالته أو فعلته. وأرسل هذا بعد حديث قصير في هذا الأمر يدعو زوجه التي أوقع عليها يمين الطلاق ثلاثاً وأشهد زميليه على ذلك. ولكنه سرعان ما ندم على فعله وأراد أن يعيد مطلقته، فرفضت العودة إليه ولجأت إلى (شرع الله) فقدمت القضية إلى المحكمة وقررت(446/38)
المدعية أن المدعي عليه أوقع الطلاق ثلاثاً ويريد الآن ردها إليه لتعيش معه كزوجة على خلاف الشرع. وأنكر المدعي عليه الطلاق؛ فسأل القاضي المدعية: (هل لديك شهود) فأجابته (عندي شاهدان)، وكانا هما الرجلين اللذين شاهدا الحادث في المقهى. فقررا أن المدعي عليه طلق امرأته ثلاثاً في حضرتهما. فأكد المدعي عليه أن التي طلقها في المقهى كانت امرأة أخرى، ولكن المدعية نفت وجود زوجة أخرى. فلفت القاضي نظرها إلى استحالة معرفتها ذلك، وسأل الشاهدين عن اسم المرأة التي طلقها الرجل أثناء وجودهما، فأجابا أنهما يجهلان اسمها. فطلب منهما أن يقسما إذا استطاعا أن المدعية هي المرأة المطلقة أمامهما. فأجابا أنهما لا يستطيعان ذلك لأنهما لم يريا المرأة سافرة أبداً. فرأى القاضي إزاء ذلك أن يرفض الدعوى. وأجبرت المرأة على العودة إلى منزل زوجها. كانت تستطيع أن تطلب حضور المرأة التي اعترف الرجل بتطليقها في المقهى، ولكن كان من السهل أن يحضر امرأة تقوم بالدور المطلوب ما دام لا يطلب منها وثيقة الزواج. وفي مصر يعقد الزواج دائماً من غير كتابة، ومن غير شهادة أحياناً.
عدلي طاهر نور(446/39)
بنى وطني. . .
لشاعر العراق الأستاذ معروف الرصافي
بنى وطني ماذا أُؤمِّل بعد ما ... تفشَّت سعاياتٌ لكم بالتجسسِ
أقول لن قد لامني في تَشدُّدي ... على كل تدليسٍ أتى من مدلِّس
لو أسودَّ وجه المرء من قبح فِعله ... لما كنت تلقى عندنا غير مُدفِس
ولو نال بالإخلاص مثرٍ تراءهُ ... لما كنت تلقي بيننا غير مفلس
نحاول عزَّا بابتذال نفوسنا ... فنشري خسيساً بالثمين المقدس
ومن جهلنا استكراهُنا في معاشنا ... شقاءً نزيهاً للنعيم المدنَّس
سأرحل عنكم للذي قد أقامني ... على موحشٍ من أمركم غير مؤنس
أبَيْتُ لنفسي أن تحلَّ مكانةً ... من العيش إلا فوق عز مؤسس
ولو أنَّ هذا الصبح كان انبلاجُهُ ... بغير شروق الشمس لم يتنفَّس
فلا أبتغي بالذل عيشاُ مرفَّها ... ولو عشت في العُزَّى بقولٍ مُدمَّس
وما أنا كابن العبد إذ عانق الردى ... لِجَدْوَى أَبَتْهَا رغبة المتلمِّس
إذا ابتسمت لي عفتي ونزاهتي ... فلست أبالي بالزمان المعبّس
أقابل أخلاق الرجال بمثلها ... وأعرف منهم وجهها بالتفرس
فأعنو لمن يعنو وأقسو لمن قسا ... واظهر كالغطريس للمتغطرس
ولست أُجازِي المعتدي باعتدائه ... ولكن بصفح القادر المتحمس
وما أنا من أهل الدعارة والخنا ... ولا من أولى حمل السلاح المسدّس
ولكنَّ لي فيكم يراعاً إذا شدا ... أتاكم بكافٍ من عُلاه ومُخرِس
وما خالق الأكوان إلا مهندس ... وإن جل عن تعريفه بالمهندس
تجلّى على أكوانه بصفاته ... وأغلس فيهم كُنهُهُ كل مُغلَس
وأقبسهم نوراً شديداً جلاؤه ... فساروا به كالعُمى في كل حِندس
وألبسهم حمر الغرائز فاغتنوا ... بحمرتها عن كل ثوب مورَّس
وما مُقبِس عند النهي غير قابس ... ولا لابس عند النهي غير مُلبس
فأيَّان جال الطرف لم ير غيره ... إذا كان في ألحاظه غير مُبلِس(446/40)
حقيقة مخلوقاته لم تكن سوى ... حقيقة دع عنك حدس المحدّس
ألا إنني للكائنات موحّد ... ولو أرغمت كل المذاهب معطسى
معروف الرصافي(446/41)
الأسطول البريطاني
للأستاذ عبد اللطيف النشار
تَخَيَلها ولم يرها جرير ... وزان خياله لفظٌ نضيد
فقال كأنه يصف الجواري ... ونبصرهن نحن فما نزيد
(وسُخِّرت الجبالُ وكنَّ خُرساً ... يُقطَّعُ من مناكبها الحديد)
ترى أي السفائن كان يعني ... ألم يطلع على الدنيا جديد؟
وهل شهد القدامى ما شهدنا ... وشق بحارَهم جبل صلود
تمنى شاعر ضخَم الأماني ... فحققت الذرارى ما يريد
وما كنا لنشهد ما نراه ... إذا حُرمت من الشعر الجدود
حياة الحالمين بلا قيود ... فمن أحلامهم كان الجديد
وهل يعني الطوائرَ أم سواها ... جريرٌ والقصيد هو القصيد
يقول وقوله أبداً غريب: ... أما حَدَّث منازعه الحدود؟
(تصَّيدن القلوب بنبل جن ... ونرمي بعضهن فما نصيد)
هل امتدت نُبوءته إلينا ... لعمري إنه نظرٌ بعيد
فقال وليل مصر كما نراه ... وقد شملت إضاءتها القيود
(نظرنا نار جعدةَ هل نراها ... أبُعدٌ غال ضوءك أم همود)
أطلتُ أطلتُ لا أعني جريراً ... وضلَّل منْطقي فكرٌ شرود
أرى الأسطول أم أهرام مصر ... ولكن أم (خفرعه) ولود
أرى الأهرامَ فوق الماء تجري ... لماذا ذلك العدد العديد
وعند ذويه لو شاءوا مزيد ... لعمري إنه شعب سعيد
أرى الأسطول عند جدار داري ... ألا شعرٌ لديَّ؟ ألا نشيد
وأبغضُ ما تكون الحرب عندي ... ولكن كيف عن وطني أذود
أُحب سكينة الراضي بحال ... فهل ترضى عن الراضي الحُقْود
فأفٍ للسكينة حيث كانت ... هي الذلُّ المهين، هي الجمود
على الكأس السلام فقد تولت ... محبتها وقد صدق الوعيد(446/42)
وأنظر لا أرى إلا سفيناً ... وإلا البحر تحميه الأسود
ضراغم من أراهم أم جنود ... وطارفهم أجل أم التليد
وما الماضي بمنسيٍّ ولكن ... مضى الماضي وليس له معيد
ونحن ونبتنا البردي ادري ... بما تعنى المواثق والعهود
سبقنا بالكتابة كل شعب ... ولسنا عن مواثقنا نحيد
وتعجبني الروائع إذ أراها ... وصاحبها هو الخصم اللدود
بلادي ما أعزك يا بلادي ... أمالك عن مسالمة محيد
أمالك مثل ما لهمو سفين ... ولا في الجو أجنحة ترود
أرى الذهب الحبيب إلى أناس ... بغيضاً والحبيبُ هو الحديد
فليت جدودنا كانوا قيوناً ... فيحمي مُلكَنا ركن شديد
فَرِحتُ بقصة وببيت شعر ... ويحميني المحالف والعقيد
وعندي ما أقول وعند غيري ... ولكني سكتُّ فما أزيد
عبد اللطيف النشار(446/43)
البريد الأدبي
قرار لجنة كبار العلماء وبرنامج الإصلاح
يعرف القراء أن جماعة كبار العلماء قد قررت في جلستها الأخيرة تأليف لجنة برياسة حضرة صاحب الفضيلة المفتى الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم لبحث المقترحات الهامة التي رفعت إليها من بعض حضرات أعضائها.
وقد عقدت اللجنة عدة جلسات لهذا الغرض، وتلقت في إحدى هذه الجلسات كتاباً مرسلاً إلى فضيلة الأستاذ الأكبر من الأستاذ الشيخ حسن البنا يقترح أن تقوم جماعة كبار العلماء بإنشاء معجم جامع للحديث يضم شتات كل الأحاديث المحتج بها الخ.
وبعد بحث هذه المقترحات بما فيها هذا المقترح الأخير رأت اللجنة أن تقوم جماعة كبار العلماء بما يأتي:
أولاً:
(أ) إيضاح ما قد يخفى من أصول الدين
(ب) بيان ما هو بدعة وما ليس بدعة
(ج) بيان أحكام الشريعة في المعاملات التي جدت وتجد.
(د) الإفتاء فيما يرى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أخذ رأي جماعة كبار العلماء فيه.
ثانياً:
(أ) وضع مؤلفين يجمع أحدهما تفسير القرآن تفسيراً سهل التناول يوافق أصول الدين وقواعد اللغة العربية، مع التنبيه على ما في كتب التفسير المتداولة من الإسرائيليات والآراء التي لا تتفق وأصول الدين العامة وقواعد اللغة؛ ويجمع الآخر الأحاديث التي تصلح للاحتجاج والتي لا تصلح مع بيان درجاتها المختلفة.
(ب) التنقيب عن الكتب الإسلامية التي يعظم نفعها في مختلف العلوم، والعمل على إخراجها اخرجاً صحيحاً متقناً
ثالثاً: إنشاء مكتب علمي يعهد إليه بتنفيذ هذه المقترحات، ويكون من اختصاصه بحث ما يقدم إليه من المؤلفات التي يقوم بها علماء الأزهر وغيرهم في العلوم الدينية والعربية(446/44)
وسائر العلوم التي تدرس في الأزهر وكلياته، وتقدير قيم هذه المؤلفات والعمل على نشر النافع منها ومكافأة أصحابها، ليكون ذلك مدعاة إلى تنشيط الإنتاج العلمي.
وتقترح اللجنة أن يكون هذا المكتب برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وعضوية عشرة من أعضاء الجماعة - ذكرتهم اللجنة في تقريرها - على أن يستعين المكتب بمن يختار من علماء الأزهر وغيرهم.
وقد اقترحت اللجنة على فضيلة الأستاذ الأكبر إلى جانب ذلك:
أولاً: أن تشرف جماعة كبار العلماء بواسطة لجنة منها على مجلة الأزهر، ليكون ذلك وسيلة ناجحة إلى تنفيذ معظم هذه المقترحات، وليكون ما ينشر في المجلة التي يصدرها الأزهر متفقاً وما يبتغي العالم الإسلامي لهذه المجلة من علو المكانة ورفعة الشأن.
ثانياً: أن يعمل فضيلة الأستاذ الأكبر على تأليف لجنة يمثل فيها الأزهر، ووزارة الأوقاف، ووزارة الشئون الاجتماعية، ومشيخة الطرق الصوفية، تكون مهمتها وضع الخطط النافعة في الوعظ والإرشاد واتخاذ ما يلزم لتعميم النفع به من إلقاء خطب أو إذاعات أو طبع رسائل توزع بالمجان على الناس، وغير ذلك مما تراه نافعاً في تقويم الخلق وإصلاح المجتمع.
هذا هو ما رأته اللجنة في شأن المقترحات وطرق تنفيذها، وقد رفعت تقريرها بذلك - قبيل عيد الأضحى - إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، ليتخذ ما يرى في سبيل عرضه على الجماعة تمهيداً لإقراره وتنفيذه.
وبهذا أصبح برنامج الإصلاح في كفالة الأستاذ الأكبر المراغي رجل الإصلاح.
إلى الأستاذ محمود عزت عرفة
عفا الله عني نضو نُعمي وأبؤس ... تمتع حيناً ثم أضناه ما يضني
لحنتُ وأنحلتُ امرأً غير شعره ... وحرَّفت ما أروى فويليَ من سني
وما كنت شيئاً من أولئك أتقي ... ولا خلت أن الشيب من صفة الجن
ويأبى وفائي أن أغالط محسناً ... أأُهدّى إلى وجه الصواب ولا أثنى
فقل للوليد البحتري وصنوه ... حبيب بن أوس ما جنيت ولا أجني
هما الخمر والماء الطهور وأنملي ... معودة مزج السلافة في الدن(446/45)
لك الحمد يا محمود من ذي مروءة ... يرى الشكر فرضاً والجحود من الجبن
عبد اللطيف النشار
بين صبري وابن دريد
شهد الأديب الفاضل حسين محمود البشبيشي على الشاعر إسماعيل صبري باشا بسرقة بيتيْ شعر وردا في ديوانه، إذ رآهما في مقال للشاعر محرم منسوبين إلى صاحب المقصورة الدريدية
والبيتان اللذان في الديوان هما:
إن الذي أبقيتَ في مهجتي ... يا متلف الصب ولم يشعرِ
حشاشة لو أنها قطرة ... تجول في عينيك لم تُنظرِ
وفي مقال الشاعر محرم وردا بتحريف بسيط فكانا هكذا:
إن الذي أبقيت في (جسمه) ... يا متلف الصب ولم يشعر
(صُبابة) لو أنها قطرة ... تجول جفنيك لم (تقطر)
قلت: إنها شهادة لعمر الحق جائرة. فما كان لشاعر كإسماعيل صبري سما في شاعريته البارعة إلى أعلى مراتب الشعر الغنائي أن يسف هذا الإسفاف الفاضح المعيب، فيعزو إلى نفسه قول غيره. ونحن إذا علمنا كيف جمعت مقطوعات الديوان من هنا وهناك بعد وفاة الشاعر بأعوام طويلة. ظهرت لنا براءته مما وصم به. ففي كلمة الأستاذ أحمد الزين في الديوان نرى أن صهر الشاعر صاحب العزة حسن رفعت بك قد حمل على عاتقه عبء جمع الديوان وهو عبء يجهد لقلة ما كان الشاعر يعني بجمع شعره وترتيبه. يقول الأستاذ أحمد الزين إن صهر الشاعر جمع مقطوعات الديوان من بطون الصحف التي بعد بها العهد ومن أفواه الرواة المعاصرين له والمتصلين به فكان لا يسمع بإنسان جالس إسماعيل صبري إلا زاره وكتب عنه ما يحفظه من شعره - أنظر الديوان صفحة 41 - ومن المرجح عندي فيما يختص بهذين البيتين أن يكون هناك مَن ضمه مجلس بإسماعيل صبري وسمعه ينشدهما فظنهما له ورواهما لصهر الشاعر على حسب هذا الظن. وهب أن البيتين وجدا مكتوبين بخط الشاعر فليس بعجيب أن يكتب الإنسان في أوراقه شعراً(446/46)
أعجبه، ولكنه سهو تقع تبعته على الذين أشرفوا على جمع الديوان. وقل مثل ذلك في الأبيات التي وردت في وصف النيل على أنها لإسماعيل صبري وهي لابن الخروف أبى الحسن الأشبيلي من شعراء القرن السادس. ومما يجعلني أقطع في براءة إسماعيل صبري هو أن هاتين المقطوعتين وردتا في الديوان دون أن تشتملا على شهادة بنسبتهما إلى الشاعر كما نرى في بقية أشعار الديوان.
بقيت هنالك مسألة التحريف اللفظي، ولعل الأديب الفاضل يراها مما يقوى زعمه، إذ يعد هذا التحريف تغييراً من إسماعيل صبري لكي يموه على الناس، ولكنه تغيير لم يوفق فيه، على رأى الأديب. والذي أراه أن هذا التغيير الذي لم يمس جوهر ذيتك البيتين الرائعين ما هو إلا تحريف لفظي كثيراً ما يقع في الشعر القديم. فبينما أنت تقرأ في كتاب الأغاني مثلاً تراه بعينه في كتاب آخر، ولكنه محرف بعض الألفاظ، ومثل هذا كثير. فلعل الكتاب الذي وعى منه إسماعيل صبري هذين البيتين هو غير الكتاب الذي أخذهما منه الشاعر محرم منسوبين إلى أبي بكر ابن دريد، ومن هنا حصل هذا التغيير الذي جعل الأديب حسين محمود البشبيشي يشهد هذه الشهادة الجائرة على الشاعر رحمه الله.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(446/47)
القصص
بدلة الأسير
للأستاذ نجيب محفوظ
كان (جحشة) بائع السجائر أول السابقين إلى محطة الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار وكان يعد المحطة بحق سوقه النافقة، فيمضى على الإقريز في نشاط منقطع النظير يتصيد الزبائن بعينيه الصغيرتين الخبيرتين. ولعل (جحشة) لو سئل عن مهنته للعنها شر لعنة. لأنه كغالبية الناس برم بحياته، ساخط على حظه. ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأعيان، فيرتدي لباس الأفندية، ويأكل من طعام ألبك، ويرافقه إلى الأماكن المختارة في الصيف والشتاء، مؤثراً من أعمال الكفاح في سبيل القوت ما هو أدنى إلى التسلية والملهاة. على أنه كانت له أسبابه الخاصة ودواعيه الخفية لإيثار هذا العمل وتمنيه من يوم أن رأى الغر - سائق أحد الأعيان - يتعرض للفتاة نبوية خادم المأمور في الطريق ويغازلها بجسارة وثقة، بل سمعه مرة يقول لها وهو يفرك يديه حبوراً: (سآتي قريباً ومعي الخاتم) ورأى الفتاة تبتسم في دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها، والحقيقة أنها أرادت أن تبدي عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت. . . رأى ذلك فالتهب قلبه وأحس الغيرة تنهشه نهشاً موجعاً. وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض. وكان يتبعها عن كثب ويقطع عليها السبيل في الذهاب والإياب، حتى إذا حلا بها في عطفة أعاد على أذنيها ما قاله لها الغر: (سآتي قريباً ومعي الخاتم)، ولكنها لوت عنه رأسها وقطبت جبينها وقالت له باحتقار: (هات لك قبقاب أحسن). فنظر إلى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفي جمل، وجلبابه القدر، وطاقيته المعفرة وقال: (هذا سبب شقائي وأفول نجمي). ونفس على (الغر) عمله وتمناه. . . على أن آماله لم تقطعه عن مهنته، فثابر على كده قانعاُ من آماله بالأحلام. وقصد في ذلك الأصيل إلى محطة الزقازيق يحمل صندوقه وينتظر القطار القادم.
ونظر إلى الأفق فرأى القطار قادماً من بعد كأنه سحابة دخان، وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزاءه ويتصاعد ضجيجه حتى وقف على أفريز المحطة. . . وهرع (جحشة) إلى العربات المتراصة، فرأى - لدهشته - على الأبواب حراساً مسلحين، ووجوهاً غريبة تطل(446/48)
من النوافذ بأعين ذاهلة منكسرة. وتساءل الخلق: فقيل لهم بأن هؤلاء أسرى الإيطاليين الذين تساقطوا بين أيدي عدوهم بغير حساب. وإنهم يساقون الآن إلى المعتقلات.
فوقف (جحشة) متحيراً يقلب عينيه في الوجوه المغبرة؛ ثم أدركته الكآبة لأنه أيقن أن تلك الوجوه المغبرة؛ ثم أدركته الكآبة لأنه أيقن أن تلك الوجوه الشاحبة الغارقة في البؤس والفقر لن يكون في وسعها إشباع نهمها من سجائره. . . ووجدهم يلتهمون صندوقه بشراهة وجوع فألقى عليهم نظرة سخط واحتقار وهمّ أن يوليهم ظهره ويعود من حيث أتى. ولكنه سمع صوتاً يصيح به العربية بلهجة إفرنجية قائلاً (سجائر) فحدجه بنظرة دهشة وريبة ثم فرك سبابته بإبهامه: أي تقود. ففهم الجندي وأومأ له برأسه فاقترب محاذراً ووقف على بعد لا تبلغه يد الجندي. فخلع الجندي جاكتته بهدوء وقال له وهو يلوح بها: (هذه نقودي) فتعجب جحشة وتفرس في الجاكتة الرمادية ذات الأزرار الصفراء بين الدهشة والطمع. ووجب قلبه، ولكنه لم يكن ساذجاً أو مغفلاً، فأخفى ما قام بنفسه أن يقع فريسة جشع الإيطالي، وأبرز في هدوء ظاهري علبة سجائر، ومد يده ليأخذ الجاكتة. فقطب الجندي جبينه وصاح به (علبة واحدة بجاكتة؟. . . هات عشرا) فذعر جحشة وتراجع إلى الوراء، وقد غاض طعمه، وأوشك أن يأخذ في غير السبيل. فصاح به الجندي (أعطني عدداً مناسباً. . . تسعاُ. . . أو ثمانيا) فهز الشاب رأسه بعناد. فقال الجندي: (إذاً سبعا. . .) ولكنه هز رأسه كما فعل في الأولى، وتظاهر بأنه يعتزم المسير فقنع الجندي بست ثم هبط إلى خمس. فلوح جحشة بيده متظاهراُ باليأس، وتراجع إلى المقعد وجلس، فصاح به الجند المجنون: (تعال. . . رضيت بأربع. . .) فلم يلق إليه بالاً؛ وليدله على عدم اكتراثه أشعل سيجارة ومضى يدخن في تلذذ وهدوء. فثارت ثائرة الجندي وأهاجه الغضب، وبدا وكان ليس له غاية في الوجود سوى الاستيلاء على سجائر، فهبط بطلبه إلى ثلاث ثم إلى اثنتين. ولبث جحشة جالساً يغالب اضطرام عواطفه وأوجاع طعمه ولما نزل الجندي إلى اثنتين أبدى حركة بغير حركة إرادة رآها الجندي. فقال له وهو يمد بالجاكتة: (هات) فلم ير بداً من النهوض ودنا من القطار حتى أخذ الجاكتة، وأعطى الجندي العلبتين. وتفرس الجاكتة بعين جذلة راضية، وقد لاحت على شفتيه ابتسامة ظفر. ووضع الصندوق على المقعد وارتدى الجاكتة، وزرها. فبدت فضفاضة ولكنه لم يعن بذلك وتاه عجباً وسروراً واسترد(446/49)
صندوقه. وأخذ يقطع الإفريز فخوراً طروباً. وارتسمت لعينيه صورة نبوية في ملاءتها اللف فقال متمتماً: لو تراني الآن! نعم لن تتجافاني بعد اليوم ولن تلوي وجهها عن احتقاراً. ولن بجد الغر ما يفخر به علي. ولكنه ذكر أن الغر يرتدي بذلة كاملة لا جاكتة مفردة فكيف السبيل إلى البنطلون. وفكر ملياً. وألقى على رؤوس الأسرى المطلة من نوافذ القطار نظرة ذات معنى. ولعب الطمع بقلبه من جديد فاضطربت نفسه بعد أن أوشكت أن تستقر. ودلف إلي القطار ونادى بجرأة: (سجائر. سجائر. العلبة بمنطلون لمن ليس معه نقود. العلبة بمنطلون) وأعاد نداءه مثنى وثلاثاً، وخشي أن يغيب عن الإفهام مقصده فمضى يومئ إلى الجاكتة التي يرتديها ويلوح بعلبة سجائر. ولكنه إيمائه الأثر المرجو فلم يتردد جندي أن يهم بخلع جاكتته ولكنه سارع نحوه وأومأ إليه أن يتمهل، ثم أشار إلى بنطلونه يعني أن ذلك بغيته؛ وهز الجندي منكبيه باستهانة وخلع البنطلون وتم التبادل. وقبضت يد جحشة على البنطلون بقوة يكاد أن يطير من الفرح، وتقهقهر إلى مكانه الأول وأخذ يرتدي البنطلون وانتهى في اقل من دقيقة فصار جندياً إيطالياً كاملاً. . . ترى هل ينقصه شيء؟. . . المؤسف حقاً أن هؤلاء الأسرى لا يغطون رؤوسهم بالطرابيش. . . ولكنهم يضعون أقدامهم في أحذية. . . ولا غنى عن حذاء ليتساوى بالغر الذي يكرب حياته. وحمل صندوقه وهرع إلى القطار وهو يصرخ (سجائر. . . العلبة بحذاء. . . العلبة بحذاء). واستعان على التفاهم بالإشارة كما فعل في المرة الأولى. ولكنه قبل أن يظفر بزبون جديد آذنت صفارة القطار بالمسير. فتمخضت عن موجة نشاط شملت الحراس جميعاً. وكانت سحائب الظلام تغشى جوانب المحطة، وطائر الليل يحلق في الفضاء، فتوقف جحشة وفي نفسه لوعة، وفي عينيه نظرة الليل يحلق في الفضاء، فتوقف حجشة وفي نفسه لوعة، وفي عينيه نظرة حسرة وغيط. ولما أخذ القطار يتحرك لمحه حارس في عربة أمامية فبدا على وجهه الغضب وصاح به الإنجليزية ثم بالإيطالية (اصعد بسرعة. اصعد أيها الأسير) فلم يفهم جحشة ما يقول وأراد أن ينفس عن صدره فجعل يقلده في حركاته مستهزئاً به مطمئناً إلى بعهد عن متناول يده. فصاح به الحارس مرة أخرى والقطار يبتعد رويداً رويداً (إصعد، إني أحذرك، اصعد) فزمّ جحشة شفتيه احتقاراً وولاه ظهره وهم بالمسير؛ فكور الحارس قبضة يسره مهدداً وصوب بندقيته نحو الشاب الغافل. . . وأطلق النار. ودوي(446/50)
عزيف الرصاصة يصم الآذان وأعقبها صرخة ألم وفزع. وتصلب جسم جحشة في مكانه فسقط الصندوق من يده، وتناثرت علب السجائر والكبريت. ثم انقلب على وجهه جثة هامدة.
نجيب محفوظ(446/51)
الكتب
نظرة جديدة
في (أرواح شاردة)
بمناسبة طبعته الثانية
للأديب حسين محمود البشبيشي
ما ظنك بالروح الشاعر إذا تفتَّح ليستوعب أسرار الوجود، وتغلغل يتأمل ألوان الجمال؟ وما ظنك بالفكر القادر إذا عقد النية على كشف منبهم الأمور، والبحث وراء بوارق المعرفة والنور؟ وما ظنك بالفن الساحر إذا تشوّف إلى الشوارد الفنية الباسمة، وتتطلع إلى مباهج الحياة الفاتنة.
. . . ذلك فيض من (أرواح شاردة)!!
وقع الكتاب في يدي صدفة، فتناولته بلهفة. . . لست أدري أكان مصدرها تجاوب الروح بيني وبين أرواحه الشاردة، أم الرغبة في الإطلاع على لون من الأدب جديد الطابع فريد المنزع.
لست أدري كل هذا؛ ولكن الذي أعلمه هو أني حسن الظن - عن حق - بصاحبه الشاعر، قوي الإيمان بروحه الساحر وشفافية وجدانه، وتألق لفظه، وعذوبة جرسه التي يخيل إلى المرء أنه ينسجها من قلبه نسجاً، أو يسكبها من روحه سكباً
. . . وقرأت الكتاب فوجدتُ روح الفنان غالبةً على روح الشاعر، وروح الشاعر طاغية على روح الكاتب. فهو في كثير من الأحايين يعرض لدراسة شاعرٍ في استقراء الكاتب المحقق؛ ثم هو بعد ذلك يحاول أن يدفع عن الشعراء كل تهمة جائرة مجرّداً لذلك قلمه ساكباً فيه عصارة قلبه. . . ونظرة واحدة إلى دفاعه عن شارل بودلير تريك صدق ما أقول فقد جاء في مقام تعليل انغماسه في الشهوة العارمة، وتلويثه للجمال الأرضي (لقد كان بودلير فناناً صادقاً طموحاً محباً للجمال وعلى العكس مما يرى الكثيرون فإنه باندفاعه المحزن في تلويث الجمال الأرضي، وردّه كل أنثى امرأة عاهرة، قد أفشى عاطفته المكرسة لعبادة الجمال المطلق). . . وهذا كلام بعثه قلبٌ شاعر يدفع عن قلبٍ شاعر!(446/52)
ووجدت روحَ المؤلف حائرة بين مباهج الشعر، ومفاتن النثر، ولكن ميله الشعري جعله يعرض لدراسة الشعراء أكثر من دراسة الكتاب.
أفلم يعرض لنا بول فيرلين ويسايره أصدق مسايرة، ويتابعه متابعة الشاعر يقدر عظمة الشاعر؟
أو لم يقدم لنا بودلير في فتنة شعره، ويقظة وجدانه، وتوهج شهواته؟ ثم أكثر من ذلك إن روح الشعر في نفس صاحبنا غلبت عليه فجعلته يترجم قبره شلي، وعودة الملاح لجون ما سفيلد، وأغنية القطيع، وبيت الراعي، ثم يشرق علينا بنفحة شعرية هي قصيدته في باريس.
لو أستطيع أن أقول إنه حتى فيما كتب عن ذكرياته في آخر الكتاب كان شاعراً في كثير من الأحايين.
وليس بغريب أن يختار هؤلاء الشعراء موضوعاً لبحثه، فبين نظرتهم الفنية النفسية إلى الحياة بين نظرة صلات ووشائج يدركها الناقد الفطن!
ولا يسعنا إلا أن نقول إنه في اختياره لقصائد القبرة وعودة الملاح، وبيت الراعي، كان منسجماً مع اتجاهات نفسه وأحاسيسه، ولكني أعتقد أن شعوره نحو هذه القصائد يختلف قوة وضعفاً؛ وتبعاً لذلك تتفاوت القصائد.
ولا يسعني إلا أن أرفع القبرة إلى مستوى قدرة شاعرنا نفسه التي لمسناها حية متألقة بسامة في (الجندول)، وفي قصيدته الخالدة (موت شاعر)، ولعل هذه القصيدة الأخيرة كانت أول عهدي بالملاح التائه، ثم قصيدته في ميلاد الشاعر التي نشرتها مجلة أبولو عقب وفاة شوقي.
ونعود فنذكر رنة مطلعها، وحسن اختيار بحرها، وعذوبة قافيتها وشاعرنا يجيد الاستهلال. أنظر إلى روعة المطلع:
يا أيها الروح يهفو حوله الفرح ... تحية أيُّهذا الصادح المرحُ!
عن أمة الطير هذا اللحن ما سمعتْ ... بمثله الأرض، لا روض ولا صّدّحُ
أنت الذي من سماء الروح منهُله ... خمرٌ إلهية لم تحوها قدحُ
يفيض قلبك ألحاناً يسلسلها ... فن طليق من الوجدان منسرح(446/53)
ولكن أطربني، وهاج خواطري، وحلق بي في جو من الخيال الباسم الوضيء قدرته على صوغ هذه المعاني السامية إذ يقول:
إنا نفكر في ماضٍ بلا أثرٍ ... ومُقبلٍ من حياة كلها غيب!
ومستحيل نُرّجي برقً ديمته ... وكل ما نرتجيه نه مختلب
وكم لنا ضحكاتُ غير صادقة ... ما لم يشب صفوها التبريح والوصب
وإن أشهى الأغاني في مسامعنا ... ما سال وهو حزين اللحن مكتئب!
وهنا وقفة يجب أن يقفها الثائرون على النغم الحزين في أغانينا؛ فهذا شلي الشاعر العالمي ينطق بلسان الفلسفة التي لا وطن لها. إن الحن الحزين هو أشهى ما تسع الإنسانية الحساسة الشفافة التي ترقب الزهر الوليد بنفس العين التي تودع الزهر الذابل أما قصيدة عودة الملاح فلعله ترجمها بدافع تجانس الميول، وتقارب الأحاسيس؛ فقد كان شاعرنا ملاحاً تائهاً! فهو كما يظهر يحب البحر، أو في طبيعته الزخارة بالوجدانات شيء من طبيعة البحر؛ وإلا فلم ترجم عودة الملاح؟ الجواب ينطق به مطلعها:
يا فرحتي للبحر أرجعُ ثانياً ... متفرِّداً بعبائه وسمائه
أقصى منايَ سفينة ممشوقة ... وبزوغ نجم أهتدي بضيائه
بعد أن بينت الدوافع إلى ترجمته لهؤلاء الشعراء ولتك القصائد أدع الكاتب نفسه يعبر عن سبب ترجمته لقصيدة (بيت الراعي) فيقول: (لأنها ذات موضوع طريف حافل، يتكلم فيه الشاعر بدقة ورقة وصراحة وعظمة عن القلب والروح والجسد وشقاء النفس الشاعرة بهذا العالم الجارح ومدنيته الجافية القاسية)
وهذا يصدق قولي في أن الشاعر اختار ما جانس أحاسيسه ولابس وجدانه.
ونتكلم عن ذكريات مرت بقلبه، وعطرت بأريجها ألفاف روحه، وتغلغلت في أحاسيسه، فخَّلدها. . .!
وإنك لتلمح في ليلته الأولى وحشة الغريب ولهفة المشتاق؛ وترى في ميدان إسدرا سحر الألحان وروح الفنان، وتحس في يوم فرساي نشوة الطرب وروعة الجمال، وتنسم من فتاة برن عبير الروح وعبق القلب. . . ثم ترى في قصيدة باريس دمعة الفنان وثورة الوجدان!
تلك هي ذكريات صاحب الجندول التي خضع فيها - كما سأبين - الروح الشاعرية،(446/54)
والنزعة الشرقية، والثقافة الأوربية، ثم في كثير من الأحايين لطريقة أستاذنا الزيات فكيف كان ذلك؟!
أما خضوعه للشاعرية فأمر محتوم، وما كان له أن يتخلص من قيودها الحبيبة الباسمة، بل أنها لتظهر في كثير من اللفتات الرائعة في ألفاف ذكرياته. فهو مقيد بروح الشعر وخاصة عند الحديث عن الجمال والفن بل وكل ما يتصل بالجمال والفن؛ فإن خياله ليصف الحسناء فيقول في معنى شعري ساحر: كأنها طفلة إلهية هبطت لأول مرة عالم الأرض؛ ويطيب لروحه الشاعر أن يتبعها بسجع حلو رقيق فاتن. . . ولعل شاعرنا قد تأثر قليلاً بطريقة أستاذنا الزيات في الصناعة القوية العذبة.
وهو شاعر تنساب حياته انسياب خاطرة الدافق، وتجري جريان خياله المتألق في سهولة ووضاءة وسلام، ولكن الأقدار تأبى (إلا أن تضع في طريقه حادثاً غريباً وشاغلاً عجيباً)، وفي حديثه عن فتيات باريس (وفي عيونهن من أسرار الليل الذاهب ألق، وفي شعورهن من خمر المساء الغابر عبق)، وهو يحلو له أن يعبر عن حيرة وجدانه بسجعة رنانة تحمل من الشاعرية روح الحيوية، وتحمل من الفن حلاوة الجرس، فيخيل له أنه مطارد (يلاحقه خوف أو يتأثره حتف)
وحين يقول: (وبدأت إنشادها بصوت يتماوج مرحاً، ويتفجر شباباً، ويترسل صفاء وعذوبة وسحراً، وانفعلت هي بغنائها، فاستحالت طيفاً راقصاً نابضاً باهتزازات هذه الأنعام المنطلقة في سكون الليل تودع السلام والحب والرحمة في قلب العالم!)
تلك هي ناحية الشاعرية في نثر الكاتب جلّينا عنها في إيجاز؛ أما ناحية تأثره بالأدب الغربي فظاهرة في كثير من اللفتات، فهو يجمل للضوء أنابيب زئبقية! وللأضواء العاكسة دهاليز من أشعة الشمس تمرق من خلال الغمام الأبيض، بل أنه ليغرق في الروح الغربية، حين يجعل الهواء يرفع معطف فتاته الحريري الأبيض الهفاف إلى ما فوق ذراعيها، فكأنها ملك السحاب يضرب بجناحيه الناصعين في الزرقة الصافية متقدماً رعيلاً من الغمام الأبيض!
بقيت ناحية حبه للشرق والوطن، فهو يهتاج عندما يرى جثة الرسول مرقص فيقف خطيباً في صحبه ويقول: (هذا الرسول الذي ضن البنادقة على مصر بجثته) ثم هو لا يسأم من(446/55)
ذكر مصر ولو عارض فتاة القلب وقطع عليها حديثها عندما قالت: وهناك بلاد غير بعيدة عن روما وأثينا. . . وعنها أخذ العالم أرفع الفنون. . . فيهتف: بل لا يزال يأخذ عنها!
وكم هزني منه هذه اللفتة الحية النابضة بالوطنية عندما قرن الصحراء والبحيرات الأفريقية والنيل المقدس ببحيرات سويسرا وإيطاليا ومساقط الماء في جبال إنسبرول. . .
ثم هو يهتاج لرؤيته الشباب الأوربي يتألق قوة وهو يسعى للقتال، وقد وقفت الفتيات ينثرن الابتسامات على جباه الشباب البسل. فيتمنى لو يقدر الله له أن يرى مثل هذا المنظر في مصر وطنه الحبيب.
ولعل أطرف ما قابلني من غيرته الوطنية دفاعه العجيب الفلسفي عن الفن المصري وخلوه من الفن العاري!! فيقول معللاً ذلك بأن الحياة في مصر سهلة، والسماء صافية، وكل شيء يفصح في غير إبهام. . . وأن هذا الصفاء والإفصاح بعثت في النفس الرغبة في التستر. . . وهكذا يخلق شاعرنا من موضع النقص في فننا موضعاً للتأمل الفلسفي. . . فتأمل!
أما قصيدة باريس الراقصة المعاني الرنانة الجرس. فحسب مطلعها روعة
سألوني عن بياني وقصيدي ... أسفا باريس قد مات نشيدي!
ولكن كيف يموت النشيد الذي يقول:
صرع النور به وانحسرت ... جبهة الشمس عن النور الشهيد
بل كيف يموت النشيد الذي يقول:
وابعثيها ثورة أخرى فما ... يعرف الأحرار معنى للجمود
وبعد هذا هو الروح الشاعر والفكر القادر والفن الباهر ففيض من أرواح شاردة.
حسين محمود البشبيشي(446/56)
العدد 447 - بتاريخ: 26 - 01 - 1942(/)
دعاء الكروان
للأستاذ عباس محمود العقاد
طائر الليل. طائر العزلة. طائر الصحراء. طائر الصيحة التي فيها من البشرى وفيها من التبريح وفيها من التسبيح.
تعني (الكروان)؟
نعم، إياه أعني، وهو صامت الآن!
صامت منذ أشهر لا تسمع له من وراء الأفق تلك الصيحة التي كأنها نصل من اللحن يشق ستراً من السكون، أو كأنها عقيقة من البرق تنفتح في سدفة من الظلام، أو كأنها نفثة من الجوي تندفع في هدأة من الصبر الطويل.
وكأنما سكون ليل الشتاء في هذه الآونة الموحشة إصغاءٌ مرهف وحنين مكتوم إلى ذلك الصوت المغيّب الذي سيطول غيابه. . . وسيعود!
سيعود، وسيدير لنا الربيع قالبه المحفوظ من الصرخات والألحان، وسنسمعها ولا نمل سماعها ما كتب لنا أن نسمعها. فهي محفوظات يضن بها الربيع ألا تتكرر، ونضن بها نحن ألا نتذكر، ونضن بها نحن - إن تذكرناها - ألا نعيش معها كما عشنا من قبل سنين وسنين، كل صيحة منوط بها نبأ قديم: نبأ قُل إنه عذب رحيم، وقل إنه موجع أليم. فما بين الرحمة والأم من حدود في هذه المحفوظات، وما لهذه الحدود إن طالت من مساك.
سنوات، يا لها من سنوات!
قل عشر، وقل إن شئت عشرين!. . . بل زدها إن شئت قليلاً، فما هي بأقل من بضع وعشرين
عمرُ أكبر (كروان) فانٍ
ولكنها أصغر من لمحة في عمر (الكروان) الخالد: الكروان الذي سمعه (آدم) أول الدنيا، والكروان الذي سيسمعه أبناء (آدم) آخر الزمان، والكروان الذي سمعته أنا والشعر أسود كجنح الليل الذي يصدح فيه، وسمعته والشعر يشتعل، وسأسمعه وكل مشتعل في هذه البنية رماد.
سمعته ولبيت كل دعوة من دعواته، وخرجت له في الليالي السود. . . لا بل في الليالي(447/1)
البيض، إلى الصحراء. . . لا بل إلى الجنة، إلى الصباح. . . لا بل إلى الأبد الذي ليس له حدود.
وتبعته إلى أطراف الرمال، وهذا البيت الذي أسكنه وقد تغير خمسة من ملاكه وأنا الساكن الطارئ عليه لا أتغير - لم تكن من ورائه يوم سكنته غير مملكة واحدة هي مملكة (الكروان)، ولم يكن سامر يستمع فيه إلى غير صوت واحد هو صوت (الكروان).
نعم، هو صوت (الكروان). . .
وصوت (الكروان) هو جملة واحدة تنطوي في نغماتها كل كلمة من معناها، وما معناها؟ معنى الحياة. معنى الربيع. معنى الحياة والربيع ممزوجين بمثل ما امتزجا به في نفسي من طلاقة إن بلغت مبلغها فحركة الهواء عندها ركود، ومن وحشة إن بلغت مبلغها فظلمة الجحيم عندها ضياء.
وكم دعانا ذلك الصوت؟ وكم يدعونا في أوانه؟
وكم لبيناه؟ وكم نلبيه؟
وكم رصدت لنا الأفعى في طريقه؟ وكم ترصد لنا في تلك الطريق؟
وكم قتلتنا وكم قتلناها؟
وهو مع ذلك دعاء
وهو مع ذلك ملبَّي كأحسن ما يلبي الدعاء
لك الله يا صديقي طه من ملهم فيما اخترت لكتابك الشائق من اسم (الدعاء)
فما يسمع (الكروان) حق سماعه من لم يستمع إليه كأنه (دعاء) يتابع مطلوبه ويتعقبه ويفتش عنه ويأخذه آخر الأمر أخذه الهارب الذي يريد أن يهرب، ولا يريد
يريد أن يهرب في جنح الظلام حتى إذا انكشف مكانه وقف لا يريم ولا يريد شيئاً. . أو كأنه يريد الاستسلام ويأبى الهرب أشد الإباء.
وهكذا كانت فتاة روايتك الساحرة. هكذا كانت تهرب ولا تهرب، ويعود إليها الكروان وكأنها هي التي تعود إليه.
وإنها لتنسى، وإنها لتلهو، وإنها لتعرض عما كان وتقبل على ما هي فيه، وإنها لفي شأن جديد غير شأنها الأول البغيض، وإذا بالطالب الصياح مقبلاً إليها من بعيد: مقبلاً في عبث(447/2)
ومثابرة وإلحاح، مقبلاً في دلال كأنه الشماتة، وفي شماتة كأنها الدلال، مقبلاً مقبلاً حتى ليقف على رأسها بل في أعماق رأسها، وحتى لتجمد له في مكانها كأنها الصم الذي لا حياة به، وفيها مع ذلك كل ما مضى لها من حياة.
إلى أين يا مسكينة؟
أنا (دعاء الكروان)!
نعم، ولا فرار من هذا (الدعاء)، لأن الذي يفر منه ينقلب إليه.
تقول رواية صديقنا طه في بعض صفحاتها: (. . . وهانحن أولاء ننزل مضطربات ونسعى متعثرات، وهذه أمنا تريد أن تسأل فيم إناخة الجملين، وفيم النزول في غير منزل، وهأنذا هذه أريد أن أقول شيئاً ولكني لا أكاد أدير لساني في فمي، ولا أكاد أستوعب ما كانت أمنا تقول. إنما هي صيحة منكرة مروعة تنبعث في الجو، وجسم ثقيل متهالك يسقط على الأرض، وإذا أختي قد صرعت، وإذا خالنا هو الذي صرعها لأنه أغمد خنجره في صدرها. ونحن عاكفتان على هذا الجسم الصريع يضطرب ويتخبط ويتفجر منه الدم في قوة كما يتفجر الماء من الينبوع. نحن عاكفتان في ذهول وغفلة وبله، لم نفهم شيئاً ولم نقدر شيئاً ولم ننتظر شيئاً، وإنما أخذنا على غرة أخذاً، واختطفت هنادي من بيننا اختطافاً. وجسمها يضطرب ويتخبط، ودمها يتفجر، ولسانها يضطرب ببعض الحديث في فمها ثم يهدأ الجسم المضطرب ويسكن اللسان المتحرك ويخفف تفجر الدم، ويمتلئ الجو حولنا بهذا السكون الأليم سكون الموت، ونحن فيما نحن فيه من ذهول وبله وخالنا قائم أمامنا كالشيطان إلا أنه قد أخذه الذهول كما أخذنا.
(وهذا نداؤك أيها الطائر العزيز يبلغني من بعيد، وهذا صوتك يدنو إلي قليلاً قليلاً، وهذا غناؤك ينتشر في الجو كأنه النور المشرق قد أظهر لنا ما كان يغمرنا من الهول دون أن نراه، وهاأنت ذا تبعث صيحاتك يتلو بعضها بعضاً كأنما هي سهام من نور قد تلاحقت مسرعة في هذه الظلمة فطردت من نفسي ذهولها وجلت عنها غفلتها وأيقظتها من هذا البله، وجلت لنا الجريمة منكرة بشعة، والمجرم آثماً بغيضاً، والضحية صريعة مضرجة بالدماء. . . إن صوتك لينبعث في الفضاء مستغيثاً وليس من يغيث، وإن صوتي لينبعث في الفضاء داعياً وليس من يجيب. . .)(447/3)
وتجري الرواية في مجراها بين جوانح نفس واحدة هي أزحم بالأشباح والأصداء من كل فضاء: نفس الفتاة آمنة أخت الصريعة هنادي، وهي كلما أوغلت في باطنها حتى انقطع ما بينها وبين هذا الفضاء المحيط بنا لحق بها الدعاء وجذبها إلى حيث تستمع النداء. فتغرق آخر الأمر في صمت سعيد كما كانت تغرق في الصمت الشقي حيناً بعد حين: (ولكن صوتك أيها الطائر العزيز يبلغني فيتنزعني انتزاعاً من هذا الصمت العميق، فأثب وجلة مذعورة ويثب هو وجلاً مذعوراً، ثم لا نلبث أن يثوب إلينا الهدوء. فأما أنا فتنحدر على خدي دمعتان حارتان، وأما هو فيقول وقد اعتمد بيديه على المائدة: دعاء لكروان! أترينه كان يرجع صوته هذا الترجيع حين صرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض)
وهكذا يستمع إليَّ الكروان من تعود أن يستمع إليه؛ سابح على حومة الليل يمد عرقي الظلام من صوته السريع بحبل خاطف يجذبهم إلى الفضاء، كلما انقطعوا عن الفضاء.
يجذبهم من عالم الذكرى إلى عالم الشهادة، ويجذبهم من عالم الخوف إلى عالم الطمأنينة، ويجذبهم من عالم الوحشة إلى عالم الإيناس، ثم يبدو له أن يجذبهم من الإيناس إلى الوحشة ومن الطمأنينة إلى الخوف ومن الشهادة إلى الذكرى، وينجذبون.
تسمعه السنةّ ومعك سامع، وسمعته السنة الدابرة وحدك، وقد تسمعه من قابلٍ وليست معك تانك الأذنان الأوليان، بل معك غيرهما أذنان أخريان! وربما سمعه معك من بينهم وبين السمع حجاب، وربما سمعه معك من أغفلوك وأغفلوه. ويأتي الدعاء فيدعونا ولعلنا نحن الذين دعونه، ولكنه يأتي متوقعاً وغير متوقع، ومحبوباً وغير محبوب، وقائماً على موعده كأنه مرتبط بنظام من أفلاك الليل الذي يحبه ويأوي إليه، ويتعلم على يدي أنواره وظلماته، ويعلِّم من يتعلمون.
يا (دعاء الكروان)!
موعدنا معك الفضاء الرحيب كلما أوغلت بنا الذكرى في أغوار ينقطع ما بينها وبين الفضاء الرحيب.
ومن دعائك أنك جذبتنا خمساً وعشرين سنة أو جذبت إلينا تلك السنين الخمس والعشرين، وإنك أوحيت إلى طه ما يوحي، فإذا به يفتح لنا فضاء الليل وما فيه من أصداء وأشباح، ويفتح لنا فضاء النفس الإنسانية وما فيها من أصداء وأشباح، وإذا به يلقي إلينا بعاصم في(447/4)
الفضاءين من ذلك الحبل السريع الخاطف ففيه لياذ بالنجاة.
قال صديقنا الدكتور طه حسين وهو يهدي إلينا (دعاء الكروان): (أنت أقمت (للكروان) ديواناً فخماً في الشعر العربي الحديث، فهل تأذن في أن أتخذ له عشاً متواضعاً في النثر العربي الحديث، وأن أهدي إليك هذه القصة تحية خالصة من صديق مخلص).
وإني لأحسب وأنا أتقبل الهدية شاكراً أن (الكروان) سيأوي إلى العش الذي سماه صديقنا متواضعاً لأنه يرتضي العش وإن أغريناه بالدواوين. وحسبنا منه أنه يدعونا وندعوه، وأننا وإياه نلبي الدعاء.
عباس محمود العقاد
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية(447/5)
الأجنحة المتكسرة
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - النفسية السورية - أحزان سريانية - مهاجرون بلا أنصار - الجميل الغادر - الأمل الضائع - أسلوب جبران - مسألة فيها نظر - الثورة على رجال الدين - جريمة جبران - صدق جبران - الإهداء -
تمهيد
كنت أعفيت نفسي من إتمام هذه الدراسات النقدية بسبب ما توجب من الإرهاق، فليس من السهل أن يقرأ المرء كتاباً في كل أسبوع ثم يكتب عنه بحثاُ يرتضيه جمهور القراء، ولكن جماعة من طلبة السنة التوجيهية كتبوا يسألون عن المغازي المطلوبة في كتاب (الأجنحة المتكسرة) للمرحوم جبران خليل جبران، كما سأل فريق عن (وحي الأربعين) للأستاذ عباس العقاد، و (فيض الخاطر) للأستاذ أحمد أمين، فرأيت أن أغتنم ما بقي من الوقت الذي يسبق الامتحان الشفوي لأتتم هذه السلسلة من الدراسات، مع الاعتراف بأنها ليست إلا توجيهات سريعة يراد بها إرشاد القراء إلى طريق الاستقصاء.
وطلبة السنة التوجيهية يذكرون أن الامتحان التحريري سيُعقد في التاسع والعشرين من هذا الشهر، فليُقبلوا عليه بلا تهيب، وليكتبوا بحرية مصحوبة بالرزانة والعقل، وليطمئنوا إلى أن المصححين، قد يرضون منهم بالقليل إن رأوا فيه بوارق تشهد بأنهم على شيء من الفهم العلمي والذوق الأدبي، كتب الله لهم التوفيق!
النفسية السورية
حديث اليوم عن (الأجنحة المتكسرة) لجبران، وقد ضاق الوقت عن مراجعة ما كُتِب عن الأدب الحديث في الديار السورية واللبنانية، وكان من السهل أن أنتفع بكتاب الأستاذ ميخائيل نعيمة عن جبران، ولكني لم أجده في مكاتب القاهرة، ولا وجدت من الفراغ ما يسمح باستعارته من أحد الزملاء، فلم يبق إلا أن أقول في جبران وكتابه كلمةً وجيزة تقرّب مراميه إلى القراء بعض التقريب.
فما تلك الأجنحة المتكسرة؟(447/6)
كان الرأي عندي أن المؤلف يرمز إلى الأجنحة الفلسطينية والسورية واللبنانية، فجبران في صفحات هذا الكتاب يعبر عن الأشجان الموروثة في تلك البلاد، ثم وجدت في كتابه فقرةً تشهد بذلك، فعرفت أن حكمي على اتجاهاته النفسية لم يكن ضرباً من التخمين.
أحزان سريانية
لكل أدب من الآداب القديمة خصائص، وخصيصة الأدب السرياني هي الإسراف في البكاء، فجبران الحزين هو البقية من روح السُّريان القدماء.
وعلة الحزن السرياني أو السوري لا تحتاج إلى توضيح، فأولئك أقوام كان تاريخهم كله عراكاً في عراك، ولم تكن بلادهم إلا محترّباً يتصاول فيه الفقر والغنى، والعبودية والحرية، والخوف والأمان، بغض النظر عن احتراب العواطف والشجون
وبكاء تلك البلاد لا يمثل العجز، وإنما يمثل العتب على القضاء وقد يرتاض على الصبر الجميل في بعض الأحيان.
ومن أشهر الأغاني السورية هذا الصوت:
ماشي الحالْ، وماشي الحالْ
وما في حالْ، وماشي الحالْ
خلّيها لله، يدبِّرْها الله
وهذه الأغنية هي الصرخة الباقية من بكاء السريان، وهو بكاء ممزوج بالصفح عن كيد الزمان، أو الرجاء في عدل القضاء.
مهاجرون بلا أنصار
والتاريخ يشهد أن الهجرة كانت من المذاهب السورية في كثير من العهود، وهو مع ذلك يشهد ان السوريين كانوا في الأغلب مهاجرين بلا أنصار، فقد بنى أجدادهم الفينيقيون مدينة (مرسيليا) قبل أكثر من خمسة وعشرين قرناً، ولم تحفظ لهم مرسيليا هذا الصنيع، فأحفاد أولئك البناءين لا يعيشون اليوم في مرسيليا إلا تراجمة أو حمّالين.
ثم هاجرَ السوريون المحدَثون إلى أمريكا، ولم يتركوا قالة من قالات الخير إلا أضافوها إلى الأمريكان، فهل تأمْركوا ونسوا وطن الآباء والأجداد؟(447/7)
إن نُواحهم الموصول يشهد بأنهم في أمريكا غرباء!
فمن أراد أن يعرف سرّ الحزن في الأدب السرياني القديم، ومصدر اللوعة في الأدب السوري الحديث. فليذكر أن الاغتراب والاضطهاد هما الأصل في ذلك البكاء.
ومن أجل هذا كان السوريون أحرص الناس على تأييد فكرة العروبة لأنهم يرجون أن تكون وطناً فسيح الأرجاء يغنيهم عن الاتجاه إلى الغرب؛ ومن الغرب جاء الاغتراب!
ومن أجل هذا أيضاً كان السوري ينقل وطنه إلى كل أرض ليذكره في كل وقت، عساه يرجع إليه ولو بعد حين.
ومن أجل هذا وذاك كان السوري في أغلب أحواله من رجال الأعمال، ليرحم نفسه من اجترار الأشجان. والغنى في الغربة وطن، كما قال أسلافنا الحكماء.
الجميل الغادر
هو جبل لبنان، الجبل الذي يدعو أبناءه في كل لحظة إلى امتطاء غارب المحيط ليجدوا المجد أو القوت فيما وراء البحار. وكذلك يرحل اللبناني عن الجبل والدمع في عينيه ليواجه العالم بنفس منطوية على الإباء المكبوت أو الهوى الدفين
ولو جمع ما قال المهاجرون اللبنانيون في الشوق إلى ذلك الغادر الجميل لكان تحفة رائعة من صور الوجد والحنين
السوريون المغتربون لا ينسون وطنهم أبداً. وكيف ينسونه وهم مهاجرون بلا أنصار، ولا عزاء لهم غير تمثل ما في بلادهم من أزهار ورياحين؟
الأمل الضائع
كان السوريون واللبنانيون قد رفعوا علم العروبة في الأقطار الأمريكية فأتاحوا لنا القول بأنهم بعثوا (الأندلس) من جديد، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد أنجبوا أدباء من أمثال نعيمة وجبران؟
ولكن الطبيعة تريد غير ما نريد
الطبيعة قضت بأن يكون لبني العمومة في الأمريكتين زوجات أمريكيات وأبناء مخضرمون يعجزون عن فهم لغة الآباء الأصلاء.(447/8)
وهنا يظهر (عيب) اللغة العربية، فهي ليست لغة تفاهم بسيط ينتفع به الناس في أمور المعاش، وإنما هي لغة أدب وذوق، ولغات الآداب والأذواق لا تعيش بين الأبناء الدخلاء، وذلك هو السر في انحسار اللغة العربية عن بعض الأقطار الإسلامية، وهو أيضاً السر في أن اللغة التي يتكلمها أكثر من مائة مليون لا تنجب في كل عصر أكثر من مائة أديب.
كيف يعود الأدب العربي إلى الأمريكتين من جديد؟
أعتقد أننا خذلنا أولئك الإخوان، فلم نعاونهم على إعزاز العصبية العربية في البلاد الأمريكية ولم نقدم إليهم من المساعدات المالية مثل الذي نقدم إلى بعض الجمعيات العلمية في الممالك الأوربية.
هل سمعتم أن دار الكتب المصرية أو مكتبة الأزهر أو مكتبة الجامعة المصرية أو مكتبة الإسكندرية أو مكتبة وزارة المعارف قد اشتركت في المجلات التي تصدر باللغة العربية في المهاجر السورية كما تشترك في المؤلفات التي ينشرها المستشرقون؟
إلى أهل الغيرة على اللغة العربية نوجه هذا السؤال
أسلوب جبران
عرفنا السر في أحزن جبران، ولم يبق إلا أن ننظر في كتابه الحزين، فماذا نقول؟
نكتب أولاً كلمة عن أسلوب هذا الكاتب؛ ثم نمضي في عرض ما في كتابه من دقائق الأغراض
جبران أراد أن يكون أسلوبه زهرة لا شجرة، فأساء إلى نفسه من حيث لا يريد، وهل كان يتوهم أن النقد الأدبي سيعرف مقاتله بعد حين أو أحايين؟
أغلب الظن أن جبران كان يحب أن يعرف إخوانه في الشرق أن الحياة في أمريكا لم تنسه خصائص البلاغة العربية، وهي بلاغة ظلمها بعض أهليها فتوهموها فنوناً من الزخرف والبريق، وكذلك شاء جبران أن يكون في كل سطر من كتاباته تشبيهٌ طريف، أو لمحة فلسفية، أو رمز إلى غرض ملفوف يحار في تأويله القراء.
ولكن ما قصة الزهرة والشجرة؟
الزهرة غاية في أناقة التلوين، ولكل ورقة من أوراق الزهرة رونق أخاذ، مع أن أوراقها قد تعد بالعشرات؛ فهي سِحرٌ في سحر وفتونٌ في فتون.(447/9)
ولا كذلك الشجرة، فهي أفنان مختلفات، وفيها ما يروق وما لا يروق، هي شجرة يعتدل فيها غصن وتعوجّ غصون، وتكون عشاً للبلبل كما تكون وكراً للثعبان.
الزهرة أجمل من الشجرة، ولكن الشجرة أقوى من الزهرة وأقدر على مقاومة العواصف والأعاصير، وكذلك يكون الفرق بين الأسلوب العارم والأسلوب الرقيق، كما يكون الفرق بين الطائر الجارح والطائر الغرِّيد.
ولو كان جبران حيّاً لأسمعته ما لا يحب، ولكنه اليوم في ضيافة التاريخ والتطاول عليه لا يليق.
والمهم هو تنبيه شبان اليوم إلى أن أسلوب جبران ليس أفضل الأساليب؛ فهو زهرة لا شجرة، ونحن نريد أن يكون الأسلوب من صور العنف والطغيان.
مسألة فيها نظر
جبران من أدباء العرب، ونقاد العرب قد فضحوا عمر بن أبي ربيعة حين رأوه يصور معشوقاته بصور المتهالكات على شبابه الجميل.
لا عيب في أن يقول الرجل إنه من هوى الملاح، ولكن ما لا يعاب قد يكون في بعض أحواله مما ينافي الذوق، فكيف استجاز جبران أن يجعل حبيبته صاحبة الخطوة الجريئة في التصريح بالحب، وصاحبة الفضل الأول في الإقدام على (التضحية) يوم اجتمعا لآخر مرة في المعبد الذي جمع بين صورة المسيح وصورة عشتروث؟
قد يجيب بأن جان جاك روسو قد استجاز مثل هذا الصنع ولكن غاب عنه أن روسو لم يقترف ذلك (التصريح) إلا وهو في عقل الأطفال.
جبران قال ما قال وهو في أمريكا (وأنا أزر الشرق) كما قال (ميسّيه) وهو يسخر من (هوجو) وقد يباح في تلك البلاد ما لا يباح!
الحق أن جبران أساء إلى الذوق العربي، وجنى على نفسه وعلى محبوبته جناية سيدخل بها الجحيم، ولن ألقاه هناك!
الثورة على رجال الدين
وغرة كتاب (الأجنحة المتكسرة) هي الصفحات الخاصة بالثورة على رجال الدين، وهي(447/10)
ثورة يحسها المسيحيون لا المسلمون؛ ذلك بأن الإسلام لا يعترف بالكهنوت ولا يقيم له أي ميزان، فالصلاة على الميت تصح من أي مخلوق متسم بالإسلام، وعقد الزواج ويُكتفي فيه بالإيجاب والقبول، والمسلم الصادق هو الذي يتقدم إلى ربه بلا وسيط.
ولا كذلك المسيحية: فهي تعطى رجال الدين طوائف كثيرة من الحقوق، وتمنحهم حرية التصرف في مصاير (المؤمنين) وكان ذلك لأن المسيحية تفترض أن الراعي في جميع أحواله غاية في الرفق والحنان.
والظاهر أن جبران قد اكتوت يداه بنيران رجال الدين، فهو يرجع إلى تجريحهم من صفحة إلى صفحة بلا رحمة ولا إشفاق.
وقد بلغ غاية الشوط فصرح بأن من حق المرأة أن تهجر بيت الزوج لتلقي حبيبها حين تشاء، بدون معاناة لوخز الضمير، وحجته أن (العَقد) الذي يمضيه (الحب) أصدق من العقد الذي يمضيه (المطران)
فكيف وصل الكاتب إلى هذا الحكم الفظيع؟
إن الإسلام لا يعترف لرجال الدين بأي خصوصية دينية، ولا يبيحهم التحكم في مصاير المؤمنين، ومع هذا يخشى المسلم أن تنتاشه ألسنة رجال الدين، لأن صوتهم هو المسموع في تقرير الشك واليقين، فكيف يكون إخواننا المسيحيون؟
الجواب عند جبران، وهو قد صرح بأن رجال الدين لا يخضعون لغير الأهواء، وإن كان من الحق أن نقرر أن هذا التعميم لا يخلو من الإسراف، فعند المسيحية رجال لا يجوز عليهم حكم جبران. وهل يصدُق الكاتب الثائر في كل ما يقول؟
ومع هذا فقد صدق هذا الكاتب بعض الصدق، لأن رجل الدين في المسيحية يدخل جميع البيوت بدون استئذان - ولاسيما في الشرق - وله يد في تعريف بعض العائلات إلى بعض؛ وقد يكون صلة الوصل في التمهيد للزواج، فما حالُ الفتاة التي لا تطيع هواه في التزوج من فلان أو فلان إذا كان من أصحاب الأغراض؟!
كان جبران يقنعني بأنه يحارب شخصية حقيقية للمطران (بولس غالب)؛ فاتصلت بالأستاذ أنطوان الجميّل تليفونيّاً لأسأله عن تلك الشخصية فأجاب بأنها شخصية خيالية، وأقول بأنها شخصية حقيقية، وسنعرف أخبارها بعد حين، وإن سترتها المعاريض)(447/11)
والمهم! هو أن يسجل النقد الأدبي أن كتاب (الأجنحة المتكسرة) ليس إلا ثورة على رجال الدين في لبنان، بغض النظر عما في تلك الثورة من صحة أو بطلان.
النقد الأدبي مؤرخ، وهو يسجل أعمال الناس، ومن الظلم أن يُسأل عن تلك الأعمال.
جريمة جبران
هي تأثره المكشوف بالأدب الأوربي في القرن التاسع عشر، وهو أدب جميل - ولكنه عليل - لأنه يجعل الحزن غاية الوجود.
ولكن الأدب الوجداني في القرن التاسع عشر غاية في الجمال لأنه غاية في الصدق، وهل ينسى الضمير الأدبي مآسي ميسّيه ولامرتين؟!
صدق جبران
ومع هذا فجبران صادق في بعض مناحيه الوجدانية، وهل يستطيع فتىً أن يبلغ العشرين في لبنان بلا آلام ولا آمال؟
وكيف يكون ذلك الفتى إذا طوّحت به المقادير إلى بلدٍ بعيد بعيد وهو موصول العهد بحبيب لا يرحمه التراب؟
الإهداء
أهدى جبران كتاب الأجنحة المتكسرة إلى: وقد سمت أنها إنسانة أمريكية كانت تنفق عليه لوجه الأدب الرفيع
فما السر في عطف تلك المرأة على جبران؟!
إن هذا الكاتب مغريً بوصف ما بين الإنسان والطبيعة من الصلات، وتلك حال لا يلتفت إليها الأدب الأمريكي كل الالتفات؛ فمن السهل أن نعلل إقبال تلك المرأة على جبران بأنها رأته (إنساناَ من الشرق) وكانت تعيش في بلاد تشغلها (السرعة) عن تعقب خطرات القلوب!
هو فتىً ضاقت عنه بلاده، مع أنها اتسعت لألوف الواغلين!
هو روح شرّده الشرق ليدرك سرائر الألم والحنين
هو فتىً يتحدث عن سلمى وليلى في بلاد لا تعرف غير مرجريت وسوزان(447/12)
هو فتىً بأن المعبد الوثني صار كنيسة ثم تحوّل إلى مسجد، ومعنى ذلك أنه يرحب بانتقال الروح من حال إلى أحوال
أما بعد فهل قلت شيئاً عن جبران؟
الشواغل لا تسمح بأن أقول أكثر مما قلت، وجهد المقلّ غير قليل!
زكي مبارك(447/13)
أوغسطين - الغزالي
أبو العلاء - دانته
للدكتور جواد علي
بالرغم من اختلاف عصري كل من المفكرين الكبيرين (أوريليوس أوغسطين) قديس المسيحية، و (الغزالي) حجة الإسلام وزين لدين؛ فإن بين الرجلين تشابهاً يكاد يكون عجيباً. تشابهاً في الحياة الخاصة، وتشابهاً في الحياة العامة وفي التفكير والإبداع، حتى في الشخصية تكاد تلامس روحاً واحدة في جسمين مختلفين. عاش أحدهما وهو القديس (أوغسطين) في شمالي أفريقية بين سنة 354 وسنة 430 الميلاديتين. وعاش الثاني في بلاد الشرق الأدنى بين سنة 1058 وسنة 1111 الميلاديتين أيضاً وبين الرجلين كما ترى عدة مئات من السنين.
انتقل (أوغسطين) من حياة الشك إلى حياة اليقين، وانتقل حجة الإسلام (الغوالي) من عالم الشك إلى عالم اليقين كذلك، وكان القديس (أوغسطين) في آخر حياته صوفياً ناسكاً، وكان (الغزالي) في رأس قائمة متصوفي المسلمين. وقد درس (أوغسطين) الفلسفة والمنطق وعلوم اليونان ومعارف عصره؛ ولكنه لم يجد في كل هذه الأمور لذة ولا سعادة، بل وجد لذته في القناعة والزهد والدين الحق، ووجد (الغزالي) نفس ذلك أيضاً.
لم ينحصر وجه التشابه في طراز معيشة كل من الرجلين العظيمين ولا في أسلوب الدراسة واختيار الدروس فقط، بل ظهر ذلك حتى في طريقة إبراز المعلومات من عالم الفكر إلى عالم الوجود. ألّف (أوغسطين) كتاباً مهماً سمَّاه (مملكة الله) ذاع خبره في جميع العالم المسيحي، وألفّ كتباً آخر سمّاه (العقائد) وألّف (الغزالي) عدة كتب في مواضيع تكاد تكون نفس المواضيع التي عالجها القديس (أوغسطين)، ومن جملة كتبه كتاب (المنقذ من الضلال)؛ وبكاد يكون هذا الكتاب نفس كتاب (العقائد) لأوغسطين في مضمونه واصطلاحاته وأغراضه التي من أجلها وضع هذا الكتاب.
وقد انتبه إلى هذا التشابه المستشرق فريك الذي قارن بين الكتابين وإذا بينهما تشابه عظيم في الترتيب والأسلوب والفصول والأدلة، بل حتى في بعض العبارات يكاد يكون عجيباً. وقد بحث هذا المستشرق عن نقاط الاختلاف الكائنة بين الكتابين أيضاً واحداً اتفقا في كل(447/14)
شيء عدا الزمن والديانة. وقد دل المستشرق بصورة خاصة على ناحية التصوف والزهد في حياة كل من الرجلين، وهي الناحية الحساسة التي أثرت على مزاج كل منهما، ومزاج كل من أوغسطين والغزالي واحد.
وهذا التشابه غريب في بابه حقاً إذ لم يكن الغزالي يعرف اللاتينية حتى نقول إنه اطلع على مؤلفات أوغسطين، ولم يرد في الرواية أيضاً أن أحداً من علماء المسلمين أو المترجمين كان قد ترجم كتاباً من كتب هذا القديس إلى العربية حتى نقول إن الغزالي اطلع على كتب القديس واقتبس منها. لم يقل بذلك أحد حتى المستشرقون إلى هذا اليوم.
يحدثنا البيهقي في كتابه تاريخ حكماء الإسلام أن الغزالي كان كثيراً ما يورد كلام العالم الإسكندري الشهير يحيى النحوي
لاسيما في كتابه تهافت الفلاسفة حيث يقول البيهقي: (وأكثر ما أورده الإمام حجة الإسلام رحمه الله في تهافت الفلاسفة تقرير كلام يحيى النحوي) ويذكر الشهير زوري في كتابه (نزهة الأرواح) أن الغزالي أخذ اأورده في التهافت من كتب يحيى النحوي وقد اشتهر يحيى النحوي هذا بردّه على الفيلسوف برقلس (410 - 485م) رئيس المدرسة الأفلاطونية الحديثة في أثينا وصاحب كتاب (مبادئ تعاليم اللاهوت)، وكتاب شرح محاورات أفلاطون في إبطال نظرية قدم العالم.
وهل يستطيع القارئ استنتاج شيء عن هذه الرواية؟ والظاهر منها أن الغزالي كان قد اطلع على كتب الفيلسوف يحيى النحوي وكتب هذا الأفلاطوني المتفلسف كما يقول ابن القفطي كثيرة.
تعالج مواضيع فلسفية متنوعة وتعالج مواضيع تخص الكنيسة والعقيدة وهو أحد رجالها فهل توصل الغزالي إلى آراء أوغسطين عرضاً بواسطة كتب يحيى النحوي؟ ولكن هل كانت آراء يحيى أو يوحنا النحوي هذا مستمدة من منبع آخر هو أوغسطين بالنقل دراية أو رواية أو بتشابه الفكرة وتوافق العقيدة فانتقلت هذه عرضاً أو دارية إلى الإمام الغزالي بالنقل أو بطريقة الاطلاع؟ لا أدري. وعلى كل فهنالك مشاكل علمية كثيرة لا يمكن للمؤرخ أن يجيب عنها أجوبة قاطعة أبداً.
وخلاصة ما يمكن قوله هو أن الحجتين تشابهاً عظيماً جداً يكاد يكون محيراً؛ وأن هذا(447/15)
التشابه هو الذي جعل لكتب الغزالي رواجاً عظيماً بين فلاسفة أوربا المدرسيين المسيحيين وشهرة كبيرة أثرت على آراء بعض علماء اللاتين مثل توماس الأكويني وباسكال بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حتى يمكن أن نقول إنه كان حجة لدى المسيحيين كما كان حجة لدى المسلمين.
أدرك علماء من المسلمين هذا التشابه بين آراء الغزالي وبين آراء يحيى النحوي فقالوا بأن الغزالي كان يقرر ما كان يحيى قد سبقه به. وأدرك بعض المستشرقين ما بين كتاب (المنقذ من الضلال) وما بين كتاب أوغسطين (العقائد) من الاتصال فقالوا قولاً ل يجزموا أنفسهم بما قالوه جزماً. وأدرك المستشرقون أيضاً ما بين (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانته الشهير (1266 - 1321م) وما بين بعض القصص الإسلامية من الاتصال مثل قصة الإسراء. وقالوا إن دخول هذه العناصر إلى الكوميديا الدينية كان إما عن طريق مباشر وإنا عن طريق الأساطير الأوربية التي سبق عهدها عهد الكوميديا الإلهية. وتظهر هذه الروح الإسلامية في كثير من مواضع الكوميديا. وقد أيد بحث بعض المستشرقين أمثال سنوك هور كرونيه وإيتالو بيتزي هذا الرأي. وقد كتب العالم الشهير عن هذا الموضوع كتاباً خاصاً حلل فيه الكوميدية تحليلاً دقيقاً مظهراً أثر القصة العربية فيه.
وقال آخرون إن هذا التشابه أمر واقعي؛ ولكنه لا يعود إلى مصدر عربي أصلاً بل يعود سببه إلى التقارب الكائن فيما بين العقليتين الرومانية والعربية. بينما يرى إسن أن لرسالة الغفران للشاعر المتشائم أبي العلاء المعري، وهو شاعر فيلسوف يوافق تفكيره التفكير الغربي أثر لا ينكر على كوميدية دانته هذه. وهذا رأي ذهب إله مستشرقون آخرون وقد تعودنا سماعه، ولكنه يحتاج إلى بحث علمي دقيق لنرى وجه التشابه، وسبب هذا التقارب في الأفكار.
وعلى كل فهنا مثالان نسوقهما للقارئ من أمثلة كثيرة، ليرى إلى أي مدى يصل التشابه الفكري بين الناس أحياناً وهو موضوع مهم أكثر ما يسقط فيه المستشرقون. يحتاج إلى درس عميق ومقارنة بين العقليات البشرية، وخصوصاً فيما يطلق عليه (الأفكار البشرية العامة) وهي الأفكار التي تخطر على بال كل أحد وتمر على فكر كل إنسان.
جواد علي(447/16)
الأحلام
للعالم النفساني سيجموند فرويد
ملخص محاضرة ألقاها قيبل وفاته
للدكتور محمد حسني ولاية
ينقسم الحلم إلى شقين: الحلم الظاهر والحلم الكامن. ويحتوي الأول على نسيج الحلم نفسه، ويتضمن الثاني ما يختفي وراء الحلم الظاهر من الأفكار والصور المستقرة في العقل الباطن (اللاوعي). وللاهتداء إلى الشطر الكامن علنا أن نطلب إلى الحالم استبعاد انتباهه من الحلم الظاهر والاهتمام بعناصره كل على حدة والإدلاء بالحوادث التي عرضت له في اليوم السابق للحلم والتي تمت إلى هذه العناصر بصلة. وعلى هذا الأساس تسهل معرفة الأفكار المرتبطة بحوادث الحلم لما تنطوي عليه من ذكريات من اليوم السابق للحلم علاوة على ذكريات مستمدة من الماضي البعيد والقريب.
يبذل الحلم مقاومة تتفاوت قوتها لإخفاء بعض نواحي الحلم ويتمخض هذا عن اضطراب الحلم وفقده بعض همزات الوصل. وليس الحلم الظاهر أو بعبارة أخرى الحلم المحسوس إلا وليد طاقة فكرية ترمي إلى التعبير عن نفسها، ولكنها اصطدمت بمقاومة؛ وهذا يؤدي إلى أن هذه الطاقة قد تعبر عن مضمونها، ولكن قد تقوى المقاومة على منع هذا التعبير أو أن تستبدل اتجاه الطاقة باتجاه آخر لا يدل على كنهها، وفي أكثر الأحيان ينتج من الصراع بين هاتين القوتين (الطاقة والمقاومة) مظهر منسجم بحيث تستطيع القوى الدفينة أن تقول كل ما تريد أن تقوله، ولكن ليس على المنوال الذي تتوخاه ويتمخض هذا عن تشويه تعبيرها بحيث يصبح غير مفهوم. وتسمى القوة المقاومة (الرقيب الحلمي) وما هي إلا القوة الكابتة المستقرة بين الوعي واللاوعي.
إن المنبه غير الواعي هو خالق الحلم الحقيقي لأنه مصدر الطاقة العقلية اللازمة لتكوين الحلم، وهو كأي منبه غريزي يسعى إلى الوسيلة التي تشبع نهمه وتظهر قوته. والواقع أن كل حلم يعبر عن إشباع رغبة غريزية على نمط هلوسي وهمي، لأن التفريج عن نفسه عن طريق الحركة غير ممكن بسبب النوم وعليه أن يرجع القهقرى ليتدفق في مجرى آخر(447/18)
هو مجرى الإدراك الحاسي ويعبر عن نفسه بطريقة هلوسية. وعلى هذا تتحول أفكار الحلم الكامنة إلي صور حاسية ومناظر مرئية، وتتزيا الأفكار والصور بزي يبدو لنا جديداً عجيباً. ولما كان الجهاز اللفظي عاجزاً عن العمل في حالة النوم فهو لا يستطيع التعبير عن الارتباطات الفكرية الدقيقة ويتخلف عن هذا مواد فكرية خامة لا تماسك بين بعض أجزائها والبعض الآخر فهي تشبه تعبير الشخصي البدائي. وقصارى القول أن هذا المنبه الفكري المكبوت يتراجع إلى طرق قديمة في الجهاز العقلي بتأثير الرقيب االحلمي، ويعبر عن نفسه على نمط الإنسان الفطري بالرموز التي أصبحت غريبة على الوعي ولكنها كامنة في العقل الباطن. على أن التغييرات التي تطرأ على العناصر التي تحتوي عليها الأفكار الحلمية على جانب عظيم من الأهمية فإن هذه الأفكار تتكثف بحيث تتكون منها وحدات جديدة كما سنرى فيما يلي.
عندما تترجم الأفكار إلى صور تعبر هذه الصور عن أفكار كثفت واعتصرت وقد يمثل بسبب هذا التكثيف عنصر واحد في الحلم المحسوس عدة عناصر من الأفكار الحلمية، ولكن على النقيض من هذا قد يمثل عنصر واحد من الأفكار الحلمية عدة صور مرئية في الحلم.
وهناك ظاهرة هامة أخرى، هي ظاهرة الإزاحة أو النقل وتنطوي على نقل أهمية فكرة إلى أخرى، وتعد هذه الإزاحة في الوعي كخطأ في التفكير، أو كوسيلة للمزاح. إن الأفكار الفردية التي تكون عناصر الأفكار الحلمية ليست كلها ذات أهمية متساوية، لأن كلا منها مزود بطاقة عاطفية أو انفعالية تتفاوت في قوتها. وتنفصل في الحلم هذه الطاقات العاطفية عن الأفكار، وحينئذ تتحول إلى طريق آخر أو تعدل أو تختفي من الحلم كلية أو تبقى كما هي. وقد تعود الأفكار التي سبق أن حرمت من طاقتها الانفعالية إلى حلم في شكل صور حلمية حساسة، وبذلك تتعلق الأهمية بعناصر لم تكن ذات أهمية، وعلى هذا نرى أن الصور المرئية البارزة في الحلم التي تعتبر أهم عناصره، ليست في حقيقة الأمر أهم عناصر الأفكار الحليمة، كما أن العناصر التي تبدو قليلة الأهمية في الحلم قد تكون في الواقع أهم عناصره، ولكن قلت أهميتها في الحلم بسبب حرمانها من الطاقة الانفعالية أو العاطفية. وهذا هو السبب في أن الحلم يبدو غريباً غير مفهوم. من هذا يتضح أن الإزاحة(447/19)
تؤدي إلى تشويه الحلم تحت تأثير الرقيب الحلمي.
بعد هذه العمليات تصبح الأفكار الحلمية جاهزة، ولكنها قد تتأثر بعملية أخرى غير ملموسة الأثر في كل الأحلام وتسمى عملية الإعداد الثانوي التي تؤثر على الحلم عندما يصل إلى الوعي الذي يحاول أن يوجد همزات الوصل، ويملأ الفراغ بين بعض عناصر الحلم والبعض الآخر، فيبدو الحلم متماسكاً مصقولاً.
وحين ينعدم الإعداد الثانوي تبدو الأحلام على فطرتها لا تماسك بين بعض أجزائها والبعض الآخر. وقد يعمل الوعي على إعداد شطر من الحلم ويترك الشطر الآخر دون صقل ولا تهذيب.
يحتوي الحلم على رموز قد يصعب تفسيرها، وتستعصي معرفة مصدرها.
يرمز المعطف عندما تحلم به امرأة إلى الرجل، ويرجع منشأ هذا الرمز إلى طقوس البدو أثناء الاحتفال بالزواج في العهد القديم فقد كان يلبس البدوي عروسه عباءة وهو يقول (لا تدعي رجلاً آخر يسترك سواي)
وقد ذكر إبراهام أن العنكبوت يرمز إلى الأم القُبُلية لأنها تنهي طفلها عن العبث بقبلة فهو يخشاها ويمثل الخوف من العنكبوت الخوف من حب المحارم وكذا الخوف من رؤية أعضاء الأنوثة.
وقد فسر فرنزي رمز الجسر بكونه يمثل في الأصل عضو الذكورة الذي يصل الوالدين أحدهما بالآخر أثناء العملية الجنسية. على أنه يمثل أيضاً معاني أخرى ناشئة من عضو الذكورة نفسه لأنه المسئول عما يحدث بعد من ولادة الطفل بعد أن يتدفق السائل القرني، ومن هذا يتضح أن الجسر قد يمثل عملية الولادة في حد ذاتها.
(للبحث صلة)
دكتور محمد حسني ولاية
طبيب بصحة بلدية الإسكندرية(447/20)
نساؤنا في الحج
للسيدة وداد سكاكيني
هنالك على السفوح المقدسة من عرفات ومنى، حيث يتناوح الأخشبان بهامتيهما العاريتين وفي عدوة المسعى بين الصفا والمروة تتهادى نساء في الحجيج، متلفعات بالأبرار البيض، مؤتزرات بأنقى الجلابيب، يبتهلن إلى الله بوجوه مشرقةٍ بالرضا، وقلوب فياضة باليقين، جياشة بالحنين، إلى بيته الحرام؛ وكما يزم الرجل رحاله، ويلملم أحماله، ويطوي البيد أو يمخر البحار، ليصل إلى ديار بني هاشم وعبد شمس، بإيمان لا يزعزعه زمان، وآمال ترثها الأجيال من الأجيال؛ هكذا تسارع نساؤنا في مواكب الرجال، إلى دارة الوحي وكعبة الدين، لا يصدهن عن الحج حرب ولا بعد، ولا يعوقهن غد غامض مجهول، أو ولد حبيب، فإذا بلغن مكة المكرمة، وباشرن فريضة الحج، بدأن من الشعائر بالإحرام، فلبسن كالرجال إزاراً ورداء جديدين ناصعين بالبياض، ثم والْينَ التلبية، رافعات بها الأكف، مبدئات ومعيدات: الله أكبر، الله أكبر! لبيك اللهم لبيك. . . فيتردد هذا الهتاف، ويضيع في زمام الحجيج كلما علون شرفاُ ونجادا، أو هبطن سفحاً ووهادا، فمن حول البيت العتيق كم طوفت مسلمات مستلمات الحجر الأسود، ميامنات فيه أشواطاً سبعة مباركة! ولكم ثمة وفين بالنذور، وتشبثن بالأستار الشريفة، داعيات إلى الله بالرحمة والغفران، وسلامة الإياب إلى الأوطان. . .
كانت زبيدة بنت المنصور زوج الخليفة العباسي هرون الرشيد تتوق للحج كلما حج الرشيد الذي كان من دأبه أن يغزو عاماً ويحج عاماً، فلما قتل ابنها الأمين، واستولى المأمون على الخلافة، جاءت زبيدة الثكلى حاجة محتسبة عند بيت الله مصابها في ابنها، فأكبت على المبرات، وأجرت عيناً حتى اليوم باسمها، يجد عندها الحجيج سكناً للهاثهم، وريّاً لظمائهم. . . ومن يدري، فلعل السيدة زبيدة - يرحمها الله - كانت إذا وقفت عند أستار الكعبة تمزج الرحمات بالدمعات، وتنشد قول الحسن بن هانئ في ابنها الأمين:
طوى الموت ما بيني وبين محمد ... وليس لما تطوى النية ناشر
لئن عمرت دور بمن لا أحبه ... فقد عمرت فيمن أحب المقابر
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذر(447/21)
ثم تنثني إلى الصدقات، فتأمر بإمداد المعوزين والمساكين: فتكسوا العريان، وتطعم الجائع، وتعطى الفقير. . . ومن الغريب ألا يسلم عصر من عصور الأدب نم مزاحمة الشعراء للنساء، ولو كن في مناسك الحج ومحاريب العبادة والزهادة: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟). . . هكذا كانوا يرتقبون أسباب الدعاب، ويتلمسون مراتع الفتون، فيجيبون داعي القلب، كما يجيبون داعي الرب. على أن أشهر وأكثر من تصدي للنساء بالغزل والثناء هو عمر بن أبى ربيعة، فقد اتخذ من أيام الحج موسماً للهوة ومجانته، وكثيراً ما وقف عند الحطيم هائم النفس يترقب وينشد:
أيها الرائح المجد ابتكارا ... قد قضى من تهامة الأوطارا
من يكن قلبه صحيحاً سليماً ... ففؤادي بالخيف أمسى معارا
ليت ذا الدهر كان حتما علينا ... كل يومين حجة واعتمارا
وقد بلغ من عبثه وغزله أن نفرت كل حصان رزان من الحج، وأبى أحرار الرجال على نسائهم تأدية هذه الفريضة كلما جاء هذا الشاعر المخزومي إلى تلك المناسك المباركة.
كان عمر يقتحم العقبات ولا يحجم عن تعقب الحسان وتتبع الغواني في مغاني الطائف أو بين مسارب العقيق وواديه البهيج مهما لقي من تهديد الخفاء والمتزمتين ومن وعيد أصحاب الغيرة على الحرمات، ولكم هجر مكة أناس فراراً من هذا الشاعر الغزل، وخشية تشبيبه بكرائمهم وتنويهه بأسمائهن وكشفه عن معالم الجمال فيهن. أما موكب النبيلات من شريفات الحجاز أو العراق والشام في مواسم الحج فكانت حافلة بالهوادج والرواحل مثقلة بالمتاع والزينة.
روي أن عائشة بنت طلحة ذات مرة ومعها ستون بغلاً عليها الرحائل والقباب فعرض لها عروة بن الزبير قائلاً:
عائش يا ذات البغال الستين ... أكل عام هكذا تحجين
فأرسلت إليه: نعم يا عُرَيَّة! فتقدم إن شئت. فكف عنها وندم على فضوله
ولم تكن كل النساء في عصر عمر سواء في التنكر للشعراء والتحرج من غزلهم ولهوهم، فالجميلة منهن كانت تتمنى أن يسير في ذكرها الشعر، ولاسيما في شعر عمر بما يزيدها تيهاً بحسنها ويغرى بها الخطاب. وكان الشاعر العرجي يتصدى في موسم الحج لمن(447/22)
عناهن بقوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
ولكثير عزة وجيل بثينة والأحوص أشعار في بعض الحاجات المترفات ممن رضين بالأماديح وعدن تياهات بلقيا الشعراء مباهيات بغزلهم ونسيبهم، حتى أن النواسي على مجونه لحق بجنان جارية الثقفي إلى طريق الحج فقال:
حججت وقلت قد حجت جنان ... فيجمعني وإياها المسير
وفي الواقع أن نساءنا في الحج كن في القديم يؤدين هذه الفريضة بشوق وحماسة ودافع ديني صميم؛ وهنالك كن يشهدن في ذك الموسم العظيم مباهج الإسلام وعزة الدين وفضل المساواة وكانت الحاجة تعود إلى بلادها سعيدة جد سعيدة، مزهوة بما نالت من شرف الخطوة بالأرض المطهرة التي فيها أول بين وضع للناس والتي ضمت قبر الرسول عليه السلام وصحبه الأكرمين وأطلعت آفاقها المنورة كواكب رجال تسلموا مفاتح الدنيا وملكوت زمامها.
أما نساء اليوم من أنداد مترفات الأس وفضلياتهن فقلما يدور الحج في خواطرهن وهن مستطيعات إليه سبيلاً، إذ أن تيار الحضارة قد جرفهن بريحه العاتية نحو الغرب فسجن في بلاده، وزرن عواصمه الكبرى للمعرفة والسلوى وكان إليها حجهن المبرور.
فيا مهبط الوحي ويا موطن النبوة والهجرة، إليك تهفو روحي هفهافة كالأجنحة، خالصة صافية كماء النبع، متوجهة للذي فطر السموات متوسلة إليه أن أراني يوماً طوافة في البيت الحرام حوامة على ذلك الصعيد الطهور الذي درجت في حماه خديجة الكبرى وفاطمة الزهراء وعائشة أم المؤمنين وأسماء بنت أبي بكر وسكينة بيت الحسين وغيرهن من القانتات الطاهرات.
ويا حجيج هذا العام من مترامي بقاع الإسلام، يا من طويتم المراحل في غمرة هذه الحرب الضروس إلى بيت الله ومثوى الرسول سلوا ربكم أن يرفع غضبه عن بني الإنسان ويحقن الدماء التي يسفكها الجبابرة والطغاة ليقيموا على جماجم الأبرياء مجداً لجشعهم صبيغاً بالنجيع.
(دمشق)(447/23)
وداد سكاكيني(447/24)
رأي في تنقيح الأحاديث
للأستاذ محمود أبو رية
استبشرنا خيراً حينما أهاب بالعلماء الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت ليدعوهم إلى العناية بكتابهم فيعملوا على تخليص تفسيره مما شابه من الإسرائيليات التي شوهت جماله وأذهبت نوره، وقلنا لعل هذا العمل الطيب يكون مقدمة لأن يجعل شيوخ الأزهر هذا الكتاب الكريم إمامهم في أخذ العقائد والعبادات والأحكام منه ويسيروا بنوره في هذه الحياة حتى يكونوا هداة بحق، ومن ثم يتبين لأهل الأرض جميعاً أن هذا الدين خير الأديان وأنه صالح لكل زمان ومكان. ومنذ أيام كنت أتحدث مع الأستاذ الكبير صاحب الرسالة في هذا الأمر الذي دعا إليه الأستاذ شلتوت وكان مما قلته له، أن تخليص تفسير القرآن من الإسرائيليات يجب أن يسبقه أو يكون معه تطهير الأحاديث التي هي (السنن القولية) مما أنبث فيها من الموضوعات، إذ ما أصيب الإسلام بشيء أشد وأنكى مما أصيب به في ناحية هذه الأحاديث الموضوعة. وما كانت الإسرائيليات التي تدسست إلى التفسير إلا جزءا منها؛ ذلك بأن أعداء الإسلام وأصحاب الأهواء لما رأوا أنه لا يمكنهم أن يضربوا المسلمين من قبل كتابهم لأنه جاءهم من طريق التواتر، ونسخة منتشرة بين أرجاء الأرض، وكثير من المسلمين يحفظونه عن ظهور قلوبهم فلا يستطيعون بذلك أن يزيدوا فيه حرفاً أو يبدلوا منه كلمة، عمدوا إلى الحدث عن الرسول صلوات الله عليه فلعبت فيه أيديهم ونالوا به مآربهم، وغر المسلمين الأولين أن أولئك الذين يبطنون الكفر والحقد يرتدون لباس الإسلام ويعملون بأحكامه، فقبلوا منهم ما روَوا وصدقوهم فيما حدثوا. وناهيك بما فعل كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما. ولقد كان للمسلمين مما وضعه أولئك الأعداء في الأحاديث مشكلات كثيرة في الدين والحس والعلم لم نخلص منها حتى اليوم. فإذا أردنا الإصلاح حقاً كان علينا أن نبدأ بالحديث فننخل كتبه ولا نُبِقي فيها غير الصحيح مما يخالف متواتر النقل وصريح العقل وما أثبته العلم وما شهد به الحسن؛ وإننا إن نفعل ذلك لا نكون قد خرجنا عن قواعد رجال الحديث أنفسهم فقد قالوا: إن من جملة دلائل الوضع أن يكون مخالفاً للعقل بحيث لا يقبل التأويل، ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة أو يكون منافياً لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواثرة أو الإجماع القطعي.(447/25)
وقالوا: ليس كل ما صح سنده يكون متنه صحيحاً، ولا كل ما لم يصح سنده يكون متنه غير صحيح.
وكذلك قالوا: (ولا يلزم في إجماع الأمة على العمل بما فيهما (البخاري ومسلم) إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم)؛ ومتى تم لنا ذلك واستقام كان تخليص التفسير في الإسرائيليات وغيرها سهلاً يسيراً؛ أما إذا وقف بنا الأمر عند تفسير كتاب الله تعالى، وتركنا كتب السنة تحمل ما تحمل، فإن عملنا يكون ناقصاً، ويظل المسلمون على ما هم فيه من الاختلاف بين الفرق والتعصب بين المذاهب، ذلك بأن الأحاديث - كما لا يخفي - هي مرجع كل الطوائف ومأخذ كل المذاهب.
هذا ما حدثت به الأستاذ الزيات، فكان من جوابه أن جماعة كبار العلماء قد تداركت هذا الأمر، وإنك ستجد ما قرروه في العدد القادم من (الرسالة). ولما طلع علينا هذا العدد 446 وقرأت فيه قرار الجماعة، عجبت من أنهم لم يلتفتوا إلى أمر السنة إلا لرغبة أتتهم من غيرهم، كان هذا الأمر العظيم ليس له خطر عندهم. على أني رأيت أن أعلق بكلمة صغيرة على قرار الجماعة في أمر السنة ووضع كتاب فيها، وأرجو أن تنال هذه الكلمة منهم الرضا والقبول.
تقول الجماعة: إنها ستضع مؤلفاً يجمع الأحاديث التي (تصلح للاحتجاج والتي لا تصلح من بيان درجاتها)، وكلمة (تصلح للاحتجاج) مطلقة المعنى، فكما تصلح الحجة القوية للاحتجاج، فإن الحجة الضعيفة تصلح كذلك!
فإذا أخذنا بهذه لقاعدة، ظل باب الضعيف مفتوحاً للاحتجاج به، ورجعنا إلى قول بعض الأئمة، في أن الضعيف يقوي بتعدد طرقه، وكأننا لم نضع شيئاً. ونحن بما نرجو في تنخل السنة، إنما نريد إخراج كل ضعيف مهما تعددت طرقه، لأن الضعيف ضعيف ولو تعددت أسانيده، وإذا كانوا قد قالوا في الصحيح: إنه يعطى الظن فتُرى ماذا يعطى الضعيف؟!
على أن هذا الإطلاق يجعل المسلم في حيرة من أمره، إذ لا يعرف ما هي الأحاديث التي يحتج بها في أصول الدين، ولا ما هي التي يحتج بها في فروعه. فالواجب أن يكون وضع كتاب السنة على غير هذه الطريقة. وإني أعرف هنا طريقة في تنقيح كتب الأحاديث، وهي لإمام السنة في هذا العصر المرحوم السيد محمد رشيد رضا، وقد كان هو يريد أن(447/26)
يعمل بها، ولكن المنيَّة حالت بينه وبين ما كان يريد.
ذك أني كنت حدثته قبل موته بنحو عامين في أن يخدم السنة بتنقيح كتبها؛ فكان جوابه لي رحمه الله أنه لم يأسف على شيء فاته في الحياة أسفه لعدم قيامه بهذا الواجب، وتمنى لو أطال الله عمره لينهض به. وبعد شهور كتبت إليه أذكره بهذا العمل وأسأله عن الطريقة التي تنفع في هذا التنقيح إذا تهيأت أسبابه. فكتب إليّ رضي الله عنه جواباً كأنه كان يخاطب به كل من يريد أن يعالج هذا العمل، وإننا ننقلها إليهم ونرجو أن ينتفعوا بها في عملهم، قال:
(. . . إن على المسلين أن ينقحوا كتب السنة ويبينوا للناس صفوة السنة التي بين بها الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وأمر أصحابه بتبليغها للناس، ففعل خلفاؤه وسائر علمائهم ذلك وقاموا به خير قيام على حين لم يكن معهم كتاب مخطوط غير كتاب الله، ويبينوا لهم ما هو قطعي الدلالة والرواية لا عذر لأحد في جهله ولا في تركه، وما هو موكول إلى اجتهاد الأفراد، وما هو خاص باجتهاد الأئمة (الخلفاء والأمراء والقضاة). الخ)
هذه هي الطريقة الحكيمة التي أرشد إليها هذا الإمام الكبير وهي جديرة بأن تنال مكاناً محترماً بين جماعة كبار العلماء، فإن لم يأخذوا بها فلا أقل من أن يسترشدوا بما جاء فيها.
هذا ما رأينا أن نعلق به على قرار جماعة كبار العلماء، ونرجو لكي يخرج هذا العمل الجليل كاملاً أن تولاه أخصّاء من كبار المحدثين الفقهاء، أمثال المحدث الفقيه الشيخ أحمد شاكر.
وإن أمل المسلمين جميعاً لكبير في أن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر سيمد جماعة كبار العلماء بروح منه حتى تنهض بقوة لأداء ما قررته من تفسير كتاب الله تفسيراً صحيحاً وتنقيح سنة الرسول صلوات الله عليه؛ لأن هذا العمل ولا ريب هو أجل عمل تقوم به هذه الجماعة في هذا العصر لتنفع المسلمين بين مشارق الأرض ومغاربها في دينهم ودنياهم.
(المنصورة)
محمود أبو ريه(447/27)
الصليب
للشاعر لامرتين
بقلم الأستاذ محمد أنور ولاية
(ماتت ألفير في 18 ديسمبر 1817 وهي جوليا في قصته رفائيل بعد أن عانت آلاماً مبرحة وقد حمل أحد أصدقاء لامرتين إليه من التي كان يحبها الصليب الذي كانت ممسكة به ساعة النزع. فنظم هذه الأبيات بعد مضي عام. ولكنها لم تنشر إلا في عام 1823 في مؤلفه (التأملات الثانية)، وربما أدخل عليها المشاعر في تلك المدة بعض التعديل كعادته)
أنتَ الذي التقطتك من فوق فمها وهي تكابد غصص الموت، في ساعة الوداع وهي تلفظ النفس الأخير
إنك رمز قدسي لصورة الإله، ومنحة من يدها وهي نفارق الحياة
كم دمعة ذرفتُها تحت قدميك اللتين أعبدهما،
ومنذ الساعة المقدسة قد تسلمتك يداي المرتعشتان
وأنت ما تزال دافئاً من نفسها الأخير، المنبعث من أحشاء هذه الشهيدة.
كانت المشاعل المقدسة ترسل شعلة أخيرة،
وكان القس يتمتم بأغاني الموت العذبة، الشبيهة بتلك الأغاني ذوات الأنين المؤثر التي ترددها المرأة للطفل المسترسل في النوم.
لقد انطبع على جبينها أثر ذلك الأمل، المنطوي على الورع والتقوى.
وعلى أسايرها التي بدت في جمال رائع،
طبع الألم الهارب بهاءه والموت جلاله.
وهذه الريح التي كانت تداعب جدائل شعرها،
كانت تكشف لي عن محياها آناً وتحجبه آناً،
كما تموج ظلال شجر السرو السوداء على قبر ناصع البياض.
كانت إحدى ذراعيها متدلية من فراش الموت،
والأخرى منثنية على قلبها بتراخ كأنها ما زالت تبحث عن صورة المنقذ لتضمها إلى فمها.
فتحت فاها لتعانقه ثانية،(447/28)
ولكن روحها ولت الأدبار وهي تطبع عليه هذه القبلة الإلهية كالعطر الرقيق المنبعث من البخور الذي تلتهمه النيران قبل أن يتأجج.
والآن هدأ كل شيء على فمها.
وأخلد النفَس إلى السكون في أحشائها الهامدة.
وعلى عينها اللتين خبا بريقهما أسبلت جفنيها حتى أضحتا مغمضتين نصف إغماض.
تملكني فزع لا أعرف كنهه حين كنت ماثلاً أمامها،
وكنت لا أجسر على الاقتراب من هذا التراث المعبود
كنت لا أجسر. . .! ولكن أنصت الكاهن إلى سكوني وأمسك بيديه المثلجتين الصليب وصاح بي:
(هو ذا التذكار. هو ذا الرجاء. خذه يا بني. . .!)
نعم ستبقى لي أيها الإرث المحزن.
منذ ذلك اليوم بدّلَت الشجرة التي زرعتُها على قبرك وريقاتها سبع مرات ولكنك لم تهجرني.
كنت قائماً إلى جانب هذا القلب وا أسفاه حيث كل شيء سائر إلى الزوال.
فحنيتها من النسيان على مر الزمن.
وطبعت عيناي وهما تذرفان القطرة تلو القطرة أثرهما على العاج الذي لان.
يا من باحت إليه الروح المدبرة بسرها الأخير
تعال. وتربع على قلبي وتكلم أيضاً وبثني حديثها لك عندما أصبح صوتها الضعيف لا يصل إلا إلى مسامعك.
وفي هذه الساعة المريبة حيث النفس خاشعة، وهي تتوارى تحت النقاب الذي يبدو كثيفاً لأعيننا، خارج نطاق حواسنا المثلجة، تنكمش رويداً رويداً غير منصتة إلى الوداع الخير.
وبينما هي على نهاية الحياة في انتظار الموت كالثمرة التي تنفصل من الفرع لثقلها
ترتعش روحنا المعلقة عند كل زفرة على ظلام القبر
وحين تكف أغاني وتنهدات النشيد المضطرب عن إيقاظ عقلنا النائم
إذ بك ملتصق على الشفاه في ساعة النزع كآخر صديق(447/29)
إنك تعرفين كيف تموتين، وأن دموعك الإلهية التي ذرفتها في تلك الليلة المخيفة، حيث كنت تصلين عبثاً، قد روت شجرة الزيتون المقدسة من المساء إلى الفجر.
وعندما ألقت عيناك نظرة على الصليب لتسبر غور هذا سر العظيم
رأيت أمك تجهش بالبكاء والطبيعة تلبس الحداد
لقد فارقتِ أصدقاءك على الأرض كما هجرت جسدك في القبر
سأبحث عن الموضع الذي زفر عليه فمها منك وداعها الأخير وهي تسلم الروح
لعل نفسها تُقبل لهداية نفسي الهائمة في حب إله واحد
ألا من حبيب يلبس الحداد يلتقط الإرث المقدس من فوق فمي وأنا على فراش الموت وقد اعتراني الاكتئاب والهدوء معاً كملاك مولّه الفؤاد.
فيسدد خطواته ويأتنس به في ساعته الأخيرة
فتنتقل تلك الوديعة المقدسة المنطوية على الحب والأمل من المرتحل إلى المقيم؛
وهكذا دواليك
إلى أن يأتي يوم تخترق فيه الأموات القبة المظلمة
يناديك صوت من السماء سبع مرات
فيوقظ هؤلاء الذين ينامون في ظل الصليب الأبدي
(الإسكندرية)
محمد أنور ولاية(447/30)
23 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - عاداتهم
كثيراً ما يحدث أن يرد الرجل امرأته بعد طلاق ثالث (بشرط أن ترضى هي نفسها باستئناف المعاشرة وألا يوجد شهود بوقوع الطلاق) دون أن يخضع للقانون الثقيل السابق ذكره. وجرت العادة أيضاً أن يستخدم الرجل في مثل هذه الظروف آخرَ يتزوج المطلقة بشرط أن يطلقها في اليوم التالي لزواجهما فيعقد عليها الزوج الأول من جديد وإن خالف ذلك روح الشريعة مخالفة صريحة. ولكن قد تمسك الزوجة عن القبول، إلا إذا كانت قاصرة فيزوجها أبوها أو الوصي عليها من يشاء. ويُختار عادة للقيام بهذا العمل رجل فقير قبيح الشكل أعمى غالباً، يطلق عليه لقب (مستحل) - بكسر الحاء أو فتحها - أو (مُحلِل). وكثيراً ما يعجب المستحل بجمال المرأة التي يتزوجها بالشروط السابقة، أو بثروتها فيرفض أن يتركها، ولا يستطيع القانون أن يجبره على تطليقها إلا إذا ظلم. وطبيعي أنه يحرص على عدم الجور في معاملتها، ولكن الرجل يستطيع أن يستخدم (المستحل) دون تعرض لهذا الخطر. فقد جرت العادة أن يستخدم أثرياء الترك وبعض المصريين عبداً أسود من عبيدهم ليقوم بهذا العمل. وقد يُشتري العبد أحياناً لهذا الغرض، أو يطلب من النخاس أن يقدم العبد على سبيل العارية. وأحسن العبيد أقبحهم شكلاً، ويختار الترك على العموم عبداً غير بالغ، إذ يسمح لهم مذهبهم بذلك. وعندما تستكمل المرأة عدتها يقدم لها مطلقها العبد، بعد أن يحصل على رضاها بذلك من قبل، ويسألها الموافقة على الزواج به، فتوافق أمام لشاهدين، ويقدم لها المهر لتكمل شرعية الزواج، وبذلك يصبح العبد زوجها الشرعي. وبعد العقد فوراً، أو في الصباح التالي يقدم الزوج الأول إلى مطلقته هذا العبد ملكاً لها، فتنحل عقدة الزواج بقبولها إياه، إذ أن الشرع لا يبيح للمرأة أن تتزوج من عبدها إلا إذا أعتقته. وتستطيع الزوجة عندما يفسخ زواجها بقبولها العبد أن ترده إلى زوجها(447/31)
ثانية، ولكن يندر أن يسمح للمستحل بالقباء في المنزل. وبعد ذلك تستطيع الزوجة - عندما تنتهي عدتها - إن تعود إلى زوجها بعد أن فارقته مدة العدتين وذلك ما يقرب من نصف سن أو يزيد.
ومن الميسور أن نتصور ما تنتجه سهولة الطلاق من ضرر ينال الجنسين معاً. وفي مصر رجال يتزوجون في عشر سنين عشرين امرأة أو ثلاثين أو أكثر من ذلك. وفيها كذلك نساء لم تتقدم بهن السن يتزوجن عشرة رجال أو اكثر على التوالي. وقد أُخبرت أن هناك رجالاً تعودوا الزواج كل شهر تقريباً بامرأة جديدة. ولا يصعب ذلك على الرجل ولو لم يملك إلا القليل، إذ يستطيع أن يختار من بين نساء الطبقات السفلى أرملة شابة أو مطلقة ترضى أن تصبح زوجة له بمهر يقرب من عشرة شلنات، ولا يلتزم عندما يطلقها بأكثر من ضعف هذا المبلغ أثناء عدتها. ولكن يجب القول بأن المصريين على العموم يعتبرون مثل هذه التصرفات فاضحة، وقلما توافق عائلات الطبقات العليا والوسطى أن يزوجن بناتهن من رجل مزواج.
ويقل تعدد الزوجات في الطبقات العليا والوسطى عنه في الطبقات السفلى. وتعدد الزوجات مفسد لأخلاق الزوج وزوجاته، ولا يبرره غير تقليله ارتكاب الفاحشة، ويستطيع الفقير أن ينعم بزوجين أو أكثر، وتستطيع كل منهن أن تقوم بضروريات معيشتها تقريباً بأي صنعة أو عمل. إلا أن أغلب رجال الطبقات العليا والوسطى منصرفون عن ذلك لما يحدثه تعدد الزوجات من نفقات وتعب. وقد يضطر الرجل الذي يحب زوجته العقيم إلى الزواج بأخرى أحياناً لتكون له ذرية، وقد يتزوج بثالثة أو رابعة للسبب نفسه. بيْد أن السبب البيّن والمألوف لتعدد الزوجات هو عدم استقرار الشهوة؛ ولكن قلّ من يرضي هواه بالأسلوب السالف. وأعتقد أن ليس هناك أكثر من رجل واحد بين كل عشرين رجلاُ ينعم بزوجتين.
وتتمتع زوجة الرجل الأولى بالمكان الأول بين زوجاته الأخريات وتسمى (الست الكبيرة). ومن هنا كان كثيراً ما يحدث عندما يرغب الرجل في الزواج أن يشترط أهل الفتاة المخطوبة أو الفتاة نفسها أن يطلق الزوجة الأولى أولاً. وطبيعي أن المرأة لا تستحسن زواج الرجل بأكثر من واحدة. ويُعد الرجل الثري أو المتوسط الحال حتى الفقير لكل من زوجاته مسكناً منفصلاً. وتستطيع الزوجة أن تجبر زوجها على أن يخصص لها (مسكناً(447/32)
شرعياً) منفصلاً أو شقة (بها غرفة واحدة للنوم وللجلوس ومطبخ ودورة مياه) منفصلة عن غرف المنزل الأخرى. وتسمى كل من الزوجتين أو الزوجات (ضُرَّة) وكثيراً ما يتحدث الناس عن مشاجرات الضرائر. ويستنتج طبعاً أن الصداقة لا تحصل دائماً بين امرأتين يقتسمان حب رجل واحد وحدبه. وكذلك الحال على العموم بين الزوجة والسرّية اللتين تعيشان في منزل واحد وفي أحوال متشابهة. ويحدث أحياناً إذا عقمت السيدة وحملت من دونها، زوجة كانت أو سرية، أن تصبح الأخيرة مفضلة لدى الرجل، (وتصغر في عينها) سيدة المنزل كما صغرت امرأة إبراهيم في عيني هاجر للسبب نفسه ولذلك كان كثيراً ما تفقد الزوجة الأولى مكانتها وامتيازاتها. وتصبح الأخرى سيدة المنزل يعاملها منافساتها والحريم جميعه والزائرات، لخطوتها عند الزوج، بنفس الاحترام الظاهر الذي كانت تتمتع به الزوجة الأولى. ولكن قد تستعمل الكأس المسمومة أحياناً للتخلص منها. وكثيراً ما يكون تفضيل الزوجة الثانية سبباً في تقييد الزوجة الأولى في المحكمة (ناشرة) بناء على طلب الزوج أو طلب الزوجة الأولى نفسها. ومع ذلك كان كثيراً ما يرى زوجات يخضعن إلى أزواجهن الخضوع المثالي الصادق في مثل هذه الأحوال، ويعاملن الزوجة المفضلة بود وطيبة. لبعض الزوجات جوار يشترين خاصة أو تقدم لهن قبل الزواج. وأولئك الجواري لا يصبحن سريات للزوج إلا بإذن تسمح به السيدة أحياناً (كما كان حال هاجر جارية سارة) ولكن ذلك نادر جداً. وكثيراً لا تسمح أيضاً الزوجة لجارتها أن تسفر في حضرة زوجها. وقد يتسرى الزوج بالجارية دون إذن سيدتها؛ وقد تحمل منه فيصبح الطفل عبداً إلا إذا بيعت الأم أو أهديت إلى الأب قبل ولادة الطفل.
والجواري البيض غالباً في حوزة الأتراك الأثرياء، أما سراري المصريين في الطبقتين العليا والوسطى فهن من الحبشيات. ويبدو أولئك الحبشيات من سيماهن ولون وجههن من جنس وسط بين الزنوج والبيض وإن كان الفرق بينهن وبين الجنسين كبيراً. ولكن الحبشيات يعتقدن أن ما بينهن وبين الجنس الأبيض من تفاوت قليل فلا يمكن حملهن على القيام بخدمة زوجات سادتهن مع الخضوع الواجب. وتشعر الجارية السوداء نحو الحبشية الشعور نفسه، ولكنها تخدم البيض بكل ارتياح. وأذكر هنا أن الجواري اللاتي يسمين حبشيات لسن، ما عدا القليل منهن، من بلاد الحبشة، ولكنهن من أقاليم الجلا المجاورة.(447/33)
وأغلب الحبشيات جميلات. وتقدر الحبشية المتوسطة الجمال من عشرة جنيهات إسترليني إلى خمسة عشر، ولكن هذا نصف ما كان يدفع عادة ثمناً للواحدة من سنوات قليلة خلت. ويقدر أصحاب الشهوة في مصر الحبشيات كثيراً. ولكنهن رقيقات التكوين فيغني أغلبهن رويداً في هذا البلد. ويقدر ثمن الجارية البيضاء عادة من ثلاثة أضعاف إلى عشرة أضعاف الحبشية، وثمن السوداء حوالي النصف أو الثلثين أو ما يزيد بكثير إذا كانت تجيد الطهي. وتقوم الجواري السود بالخدمة.
ويدخل جميع الجواري تقريباً في دين الإسلام. ولكنهن على العموم لا يعرفن من دينهن الجديد إلا قليلاً. وأغلب الجواري البيض اللائى كن بمصر أثناء زيارتي الأولى يونانيات. وقد أسرت الجيوش التركية المصرية تحت قيادة إبراهيم باشا كثيرين من أبناء هذا الشعب البائس، وأرسل كثيرون منهم ذكوراً وإناثاً وأطفالاً ليباعوا في مصر. وقد قل طلب الجواري البيض فيما بعد لشيوع الفقر بالطبقات العليا في مصر. ويجلب من الجركس والكرج عدد قليل قد تلقى بعضهن نوعاً من الثقافة الأولية إذ يتعلمن الموسيقى وبعض الفنون الأخرى. وقد شغلت الجواري البيض مكانة أعلى من مكانة الحرائر في مصر عند الرأي العام. فكثيرات منهن كن رفيقات لعظماء الأتراك أو زوجاتهم. وكان الأتراك يفضلوهن على الأخريات. ويلبس أولئك الجواري أفخر الملابس، ويتقلدن الحلي النفيسة، وينعمن تقريباً بكل مستطاع، ويعتبرن في بعض الأحوال إذا لم يستعملن للخدمة سعيدات. وقد أثبت ذلك أخيراً - منذ انتهاء الحرب في اليونان - أن جواري كثيرات بقين أسيرات في الحريم، ولم يرغبن في الحرية. ولا يمكن افتراض عملهن نتيجة جهل بحالة أسرهن وأقاربهن، أو خوف التعرض للفقر. وإن كان يحتمل وإن كان يحتمل أن بعضهن حمل على البقاء تحت تأثير الظروف الدينية والأخلاقية التي أخضعن إليها قسراً، ولأنهن دخلن في سلطان سادتهن أطفالاً. ولكن إذا كان بعضهن سعيدات وقتاً ما على الأقل فهن قليلات نسبياً. وقد قدَّر لأغلبهن أن يخدمن زميلاتهن الحظيات أو السيدات التركيات، أو أن يتقبلن كرهاً ملاطفات عجوز غني، أو رجل أنهك الإفراط جسده وعقله، ثم يُعرضن للبيع إذا لم يكن لهن أطفال عندما يسأمهن سادتهن أو سيداتهن، أو عندما يموتون، أو يحررون ويزوجن من بعض الوضعاء الذين لا يستطيعون أن يمنحوهن إلا القليل مما تعودنه من(447/34)
الرفاهية. وتعتبر جواري الطبقات الوسطى أحسن حالاً من جواري الأغنياء؛ فلا يعكر صفوهن في أغلب الأحوال منافسة عندما يستخدمن للتسري، ولا يتعبن أو يشتد عليهن عندما يخضعن للخدمة. وكثيراً ما تكون حالة السرية أسعد من حالة الزوجة إذا دامت المحبة المتبادلة بينها وبين سيدها. إذ أن الزوجة قد تطرد في وقت غضب الزوج، فيوقع عليها طلاقاً لا رجعة فيه فتمسي في حالة فقر. بينما يندر أن يطرد رجل جاريته دون أن يدبر لها الأمر. فإن لم تكن تعودت الترف لا تتألم كثيراً أو إطلاقاً من هذا التبدل. فيعتقها السيد ويمنحها مهراً ويزوجها رجلاً طيب السمعة أو يقدمها إلى صديق.
وسبق أن ذكرت أن السيد لا يمكنه التصرف في جارية حملت منه وأعترف بولدها. وكثيراً ما يحدث أن تعتق هذه الجارية بعد الحمل فوراً وتصبح زوجة. فلا تستطيع الجارية عندما تعتق أن تقوم طويلاً مقام الزوجة شرعاً إلا إذا تزوج بها السيد. ويرى بعض الناس أن من العار بيع الجارية التي بقيت طويلاً في خدمتهم. ويفسد (الجلاّب) أو تاجر الرقيق - في الصعيد والنوبة - الجواري الحبشيات والسود أقبح فساد. ويندر أن ينجو من في سن الثامنة أو التاسعة من شدة عنف النخاسين. وكثيراً ما يلقى هؤلاء الأطفال والأحباش منهم خاصة، أنفسهم في النيل أثناء السفر، هرباً من قسوة (الجلاب). وتعتبر الجواري من أي طبقة أغلى ثمناً من الذكور في السن نفسه. ويعطى المشتري ثلاثة أيام تظل الجارية أثناءها في حريمه أو في حريم صديق له ليقدم النساء له تقريراً عنها. ومن أسباب إعادة الجارية إلى التاجر أن تغط في نومها أو تصر بأسنانها أو تتكلم أثناء النوم. وتشبه ملابس الجواري ملابس المصريات.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(447/35)
إلى تاج (الفاروق)
(تحية لذكرى مهرجان الشرق في يوم الزفاف الملكي السعيد)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
لَمْ تَكُنْ نَارُكَ بَرْداً أو سَلاَمَا ... فَعَلاَمَ الشَّدْوُ يَا طَيْرُ عَلاَمَا؟!
بَيْنَ جَنْبَيْكَ حَنِينٌ أَوشَكَتْ ... رِيحُهُ الْهَوْجَاءُ تَذْرُوكَ حُطَاما
وَعَلَى عُشِّكَ لَيْلٌ جَاثِمٌ ... كُلَّمَا رَاوَدَهُ الْفَجْرُ تَعَامَى!
سَكْتَةُ الدَّوْحِ، وَآهَاتُ الرُّبَى ... لَمْ تَفِضْ كَالأْمْسِ عِطْراً أو بُغَامَا
وَالْهَوَى لَمْ تَغْدُ في مِحْرَابِهِ ... صَلوَاتُ الشَّوْقِ يَسْحَرْنَ الظَّلاما
كُلُّ شَيْءِ هَاجَ حَتَّى حَرَّمَتْ ... ضَجَّةُ الدُّنْيَا عَلَى الصَّمْتِ المَنَاما
كَيْفَ وَادِيكَ وَهَل طْاَفَتْ بِهِ ... نَشْوَةُ الْوَحْيِ فَأَرْعَشْتَ الْغَرَاما
وَتَنَقَّلْتَ بِعِيدَانِ الضُّحى ... عَازفاً يَسْتَنْطقُ النُّورَ كَلاَما!
وَنَسَخْتَ الظِّلَّ لْحَناً وَالثّرَى ... أُذُناً، وَالنَّبْعَ قَلْباً مُسْتَهَامَا!
كَيْفَ وَادِيكَ وَهَلْ حَالُ الْهَوَى ... مِثْلَمَا كَانَ بِهَ عُرْساً مَقَاما؟
وَنَدَامَاكَ وَقَلْبِي بَيْنَهُمْ ... رَقَّ حَتَّى لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَدَامَى!
جَدْوَلٌ غَافٍ، وَصُبْحٌ ثَمِلٌ ... وَنَسيِمٌ مَرَّ مِسْكِيناً مُضَاما
وَصَدَى صَنْجٍ بِكَفَّيْكَ لَهُ ... في فِجَاجِ الرُّوحِ وَجْدٌ يترَامَى
وَشُعَاعٌ، وَنَدىً خُيِّلْتُهُ ... مِنْ بَقَايَا حَانَةِ الْفَجْرِ مُدَاما
كُلُّ هذَا كَانَ حُلْماً هَارِباً ... لَيْتَهُ طَنَّبَ في قَلبِي الْخِيَاما!
فَأَعِدْهُ مَعْبَداً مُصْطَخِباً ... وَتَرَنَّمْ وَامْلأَِ الدُّنْيَا ابْتِسَاما
وَاسْكُبِ الأَنْغَامَ لاَ تَنْشُدْ لهَا ... أَيْنمَا تَهْزِجْ عَلَى الأَرْضِ مُقَاما
وَتَأَلَّقْ بِأغَانِيكَ عَلى ... زَمَنٍ عَجَّ لَهِيباً وَقَتَاما
أخضر الشَّطَّيْنِ نَادَاكَ فَطِرْ ... في رَوَابِيِه غِنَاءً أو حَماما
مَنْ يَكُنْ لِلْحَرْبِ غَنَّي هَوْلَها ... قُمْ فَرَتِّلْ في مَغَانِيِه السَّلاَما
وَأشْدُ لِلتَّاجِ الّذِي في ظِلِّهِ ... تَخْشَعُ الأْفْلاَكُ قُدْساً وَاحْتِشاما
صَرَعَ الدَّهْرَ صَبِيّاً، وَتتسَآى ... دَارَةَ الشَّمْسِ وَلَمْ يَعْدُ الْفِطَاما(447/36)
أَعْجَزَتْ مِصْرُ بهِ سِحْرَ النُّهَى ... يَوْمَ كانَ النَّاسُ في الأَرْض سَواما
لَمْ يزل في النيل من آياته ... هزجٌ أشجْىَ بهِ الْمَوْجُ الغَماما
رُدَّ يا (فَاروقُ) مِنْ أمْجَاِده ... قَبساً يُوقِظُ في الشَّط النَياما.
وَأعِدهُ للْبَرَايا كَوْكباً ... طَار لِلنَّجْم ليَاذاً وَاعْتِصَاما
وَانْشُر الحبّ على أَقْوامهِ ... مَنْ سِوَى نُورِك يَحَتْاجُ الخْصاما؟
كَمْ على طَفْيِكَ أغْفَى جَاِئعٌ ... كان لَوْلاَك سَيَقْتاتُ الرَّغاما
كُلَّ يَوْم لكَ نُعْمَي أهْلَكَتْ ... آهَة الشَّاكي وَتَنْهيد الْيَتَامَى
أقْبَلتْ تَنْسَخُ أْرَهَام النَّدىَ ... كُلَّ صُبْحٍ لْلمُقلينَ طَعاما
سَابَقَتْ نُوركَ في رَأْدِ الضُّحَى ... وَمَشتْ زَاداً إليْهم وَسلامَا. . .
كَبر الشَّرْقَ! فَقَالوا: مَنْ بدَا؟ ... قُلْتُ مَنْ غَنىَّ بهِ الشَّرقُ هُيَاما
مَنْ رَعَى الإسلامَ حَتَّى خِلْتُهُ ... (عُمَرِي) الدين رَأْياً وَحُساما
في سبِيلِ اللهِ رَكْبُ سَائرٌ ... لبُيُوتِ اللهِ. . . كَمْ رَاعَ الأنَاما!
كَمْ جَثت للهِ منهُ هَالةٌ ... في سنَاها يُطْرقُ الدَّهْرُ احْتِرما!
يا مُقِيلَ الدين مِنْ عَثْرتهِ ... أنْتَ أعْلَيْتَ لِرُكْنَيْه الدعاما
وَتَهادَيْتَ فسَارتْ أُمَمٌ ... جَعلَتْ مِنْ نُوركَ الضَّافي إِماما
كلَّ يومٍ لكَ عِيدُ مُشْرِقٌ ... يتَراَءى في فم الوادِي ابتساما
طارَ تَغْريِدي على آفَاقِهِ ... نَعْمَةً لِلْعَرْش عَزَّتْ أنْ تُسَامَى
سُقْتُها مَشْبُوبةً مِنْ كَبدٍ ... أوشَكتْ تَسْكُبُ نَجْواهَا ضِراما
لَمْ يَزَلْ مِنْها (بِعَبْديِنَ) صَدى ... ظَلَّ في أَسْوَارِها يُشْجِى الَحْماما
محمود حسن إسماعيل(447/37)
أمنية. . .
للأستاذ عبد اللطيف النشار
يُنَبتُ قطناً زارعو مصر كلهم ... بِهِمْ ما بِهِمْ، هلاَّ وكَرْماً وتفاحا؟
يقول أناس أدركوا ما عنيته ... لك الويل ماذا تبتغي؟ قلت أرواحا
ووالله لولا زهره ورحيقه ... لما غرَّد الغِريد يوماً ولا ناحا
أتلك حياة نصفها بتَّ نائماً ... ونصفاً تُرَى فيه على الرزق كدَّحا
ألا ليتني إلاَّ أكن ذا إمارة ... يُطاع على عِلاته كنت فلاحا
أغذى بأشجاري أنابيب معلمي ... وأسقي مواشيِّ السلافة وارحا
كأن بياض القطن أرؤس نسوة ... عجائز يملأن المحافل أتراحا
إذا لم يكن إلا مسرَّة ساعة ... يجدد فيها صاحب الهم أفراحا
فلا أخصبت أرض تضن بنصفها ... على حانة نشْوَى ولا رحبت ساحا
عبد الطيف النشار(447/38)
البريد الأدبي
الأزهر والمراجع الأجنبية
يدرس الطلاب في كلية أصول الدين طائفة من العلوم التي يحتاج الطالب فيها إلى مراجع أجنبية، ومنها علوم التاريخ والأخلاق والفلسفة وعلم النفس وتاريخ التوحيد. ولما كانت معرفة هؤلاء الطلاب للغات الأجنبية محدودة فقد رؤى أن تترجم لهم بعض المراجع الشهيرة في هذه العلوم. وعهدت مشيخة الأزهر اختيار هذه المراجع وترجمتها إلى لجنة من أساتذة الكلية مؤلفة من بعض العلماء الأزهريين الذين تخرجوا في الجامعات الأوربية وبعض الأساتذة الذين يدرسون هذه المواد.
وقد عقدت هذه اللجنة اجتماعها الأول بعد مقابلة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي حيث استمع أعضاؤها إلى إرشاداته وتوجيهاته.
والمعروف أن هذه اللجنة ستنتهي من مهمتها التي وكلت إليها في يوم قريب.
في ديوان البحتري
البحتري شاعر مغبون لم يحظ شعره بما يستأهله من عناية، ولم يطبع ديوانه - على ما يبدو - أكثر من مرتين؛ إحداهما بمصر والأخرى ببيروت. والثانية أدق من الأولى ضبطاً وتمتاز عليها بالشكل الكامل، وبتعليقات وحواش قصيرة تفيد المبتدئين.
على أن هذه الطبعة لم تخل من أغلاط بينة أساء الشارح فيها التقدير. وأغلبها يرجع إلى آفة (التصحيف) التي جنتْ على الكثير من مخطوطاتنا القيمة وكنوزنا الأدبية النفيسة.
على أن الشارح نفسه قد توهم - في أكثر من موضع - أخطاء وادعى تصحيحها، وتصحيفات تكلف ردها إلى أصولها! فجاء الديوان مليئاً بعشرات الأغلاط الفاضحة الواضحة. وأنا مثبتٌ هنا منها خمساً - على سبيل التمثيل لا التعديد - لأنبه القارئ إلى وجوب التحرز في قراءة هذا الديوان، وعدم الاعتماد على شكله أو شرحه اعتماداً قد يجر إلى الغفلة ويشغل عن تعريف الصواب:
1 - في قصيدة (قالت الشيبُ بدا قلت أجلْ). قال البحتري:
أصِلُ النزْر إلى النزر وقد ... يبلغ الحبلُ إذا الحبل وُصِلْ
من لَفَا هذا إلى محسوس ذا ... ومن الذوْد إلى الذود إِبل(447/39)
وقد ضبط الشارح اللفظ الأخير هكذا (أَبِلّ) ثم قال: أبل: أذهب في الأرض. وهذا وهم، إذ الشطر كله مقتبس من المثل العربي القديم: (الذود إلى الذود إِبل) وهو يضرب في الشيء القليل يجتمع إلى مثله فيصير كثيراً.
2 - جاء في قصيدة: (حلفتُ لها بالله يوم التفرقِ) قوله:
أُعِينَ بنو العباس منه بصارم ... جُرازٍ وعزمٍ كالشهاب المحرِّقِ
وقد صُفحت كلمة (جراز) في الأصل إلى (جران) فنقلها الشارح بوضعها ثم قال: الجران (كذا في الأصل) لعله يريد به الليّن من جرن الدرع لانَ. والوهم في النقل وفي الشرح ظاهر؛ إذ الكلمة: (جراز) بمعنى السيف القاطع.
3 - يقول البحتري من قصيدته (يا يوم عرّجْ بل وراءَك يا غدْ):
أشكو إليك أناملاً ما تنطوي ... يبساً وأخلاقاً تقصّفها اليدُ
قال في الشرح: أخلاقاً محرفة عن (أخلافا) جمع خلف، أي ضرع. . . أما (أخلاق) بالقاف فلا معنى لها هنا
قلت: الصواب (أخلاقاً) كما جاء في الأصل؛ والمعنى أن أخلاق الناس أصبحت من الجفاء والغلطة واليبوسة بحيث تتقصف في اليد تقصف العود الجاف، وفي البيت استعارة تبعية (في الفعل)
4 - جاء في قصيدة (رغم الغرابُ منِّيئ الأنباء):
ما للجزيرة والشام تبدّلا ... بعد ابن يوسف طلمةً بضياء؟
أوردها الشارح (بيضاء) - مؤنث أبيض - ثم قال معلقاً: كان القياس أن يقول (بيضاءَ) بالنصب على أنها نعت لظلمة ولكنه جرها إتباعاً لحركة القافية أو لسبب آخر لم أعلمه (كذا!)
قلت: وجه الكلام أن (بضياء) جار ومجرور متعلقان بالفعل (تبدلا) في الشطر الأول
5 - يقول البحتري في مطلع إحدى قصائده:
هوْيناكَ من لومٍ على حبِّ تكْتُما ... وقصركَ نستخبر ربوعاً وأرسما
وقد أعمل الشارح ذهنه في البيت، ثم انتهى إلى قلبه بهذا الوضع (هويناك من لوم بحبِّ تكَتّما) وقال في هامشه: كان أصل الشطر الأول: هويناك من لوم على حب تكتما، وهو(447/40)
غير مستقيم الوزن كما ترى! وكذلك أبدلنا من (على) (باء) فقلنا (بحب) وكثيراً ما وقع لنا مثل هذا الخلل في هذا الديوان وهو خطأ طبعي (!!!)
قلت: الصواب أن (تكتم) - على وزن الفعل - علم على امرأة، وقد ذكره البحتري في شعره أكثر من مرة كقوله من قصيدة أخرى:
لعمري لقد تامتْ فؤادّك تكتُم ... وردّت لك العرفانَ وهو توُّهم
فالبيت في وضعه الأول صحيح وزناً ومعنى، وما التصحيف إلا ما جناه الشارح على البيت وهو يدعى تصحيحه من خطأ موهوم.
. . . هدانا الله جميعاً إلى الصواب؛ وعصمنا من الخطأ وسوء الغفلة بمنّه
(جرجا)
محمود عزت عرفة
بين صبري وابن دريد أيضاً
تفضلت الشاعرة الفاضلة فدوى بنظرة ناقدة بصيرة على كلمتنا (بين صبري وابن دريد)، وقالت: إن الحكم بالسرقة على صبري شهادة جائرة. ولقد بدهنا لأول نظرة في الديوان ما رأته الناقدة الفاضلة، ولكنا رمينا إلى هدف مقصود، هو بيان غفلة محققي الديوان عن أمر البيتين سواء أكان فيهما سرقة أم لم يكن. ولقد نصصنا على تلك الغفلة في أية صورة كانت في كلمتنا السابقة؛ ولا علينا إذا حكمنا بالسرقة على صبري، وأمامنا ديوانه ينطق بها في مواضع كثيرة يحضرني منها:
(فالماءُ في مُقلٍ والنار في مهجٍ) ... قد حار بينهما أمر المحبينا
مأخوذ من قول الشريف الرضي:
(الماء في ناظري والنار في كبدي) =إن شئت فاغترفي أو شئت فاقتبسي
وقوله:
وتزيدُ في فمها اللآلئ قيمةً ... حتى يسودَ كبيرهنَّ الأصغرُ
وليد قول الشاعر:
وما كنت أدري قبل لؤلؤ ثغرها ... بأن نفيسات اللآلئ صغارها(447/41)
وقوله:
(قد صغت التبر له شركاً) ... وقضيت الليل أُنضِّدُهُ
ينظر إلى قول الشاعر:
إن رمت صيدي في الهوى ... (فانصب شراكاً من ذهب)
أما شاعرية صبري وشخصيته فلنا رأي فيها قد نعود إليه.
حسين محمود البشبيشي
مجلة الأنصار
استقبلت زميلتنا (الأنصار) عامها الهجري الثاني في غرة محرم سنة 1361، وقد صدر العدد الأول من هذه السنة الجديدة في حجم أكبر، ومادة أوفر، وأبحاث جديدة، وموضوعات شيقة. وقد نهجت الزميلة بهذا العدد نهجها المحمود في التطور، وعبرت عن اتجاهها الصادق في خدمة الفكرة العربية، ونشر الثقافة الإسلامية. فنرجو لها بهذه المناسبة السارة دوام التوفيق.
هذا وقد أعلنت (الأنصار) أن اشتراكها السنوي في عامها الجديد هو 20 قرشاً في مصر والسودان والأقطار العربية و15 قرشاً للمعلم الإلزامي والطالب. والمكاتبات بعنوان: الأنصار شارع البستان رقم 24 القاهرة(447/42)
الكتب
المؤلفات العربية القديمة
وما نشر منها في سنة 1940
للأستاذ كوركيس عواد
خطر لي قبل عامين، أن أجمع في (مقالات سنوية)، أسماء ما يتاح لي الوقوف عليه من مؤلفات العرب الأقدمين، وذلك مما تنشره المطابع في بحر سنة كاملة، وأن أواصل هذا العمل، سنة بعد أخرى ليتكوّن من مجموع تلك المقالات كشفٌ واسع يفيد مُحِبي الكتب ومُرّاجعيها، ويِقفُهم على ما يُنشرُ منها بين الحين والحين.
وكان بدءُ العمل في السنة الماضية، فنشرت في هذه المجلة فصلاً جمعت ما تيسر لي الوقوف عليه حينذاك من مطبوعات سنة 1939. وهأنذا أورد في المقال الحالي ما أمكنني الإطلاع عليه من المصنفات القديمة التي شاءت يد الدهر أن تبقي عليها وتصونها من الضياع!
وقد أَبنتُ في مقال العام الماضي صعوبة الوقوف على كل ما ينشر من تراث الأقدمين وحصره حصراً تاماً! فبعض المطابع في إيران والهند والمغرب وأغلب الأقطار الأوربية لا يمكن الاتصال بها إلا بمشقة وجهد كبيرين. ولقد ازداد الأمر وعورة عن قبل بما ولدته هذه الحرب الجائحة من مشاكل ومعضلات، أدت فيما أدت إلى ركود في حركة النشر، وفتور في سير المواصلات. ومن ثمَّة كان استقصاء جميع ما تنشره المطابع من هذه الكتب أمراً صعباً إن لم نقل متعذراً في بعض الأحوال!
ومع ذلك كله، فقد وقفت على جملة حسنة من تلك المؤلفات ناهزت الأربعين أذكرها فيما يلي بحسب تسلسل عنواناتها، مع الإشارة إلى سنيّ وفيات مؤلفيها، ومحل طبعها، وعدد صحائفها ما أمكن. وأحياناً أُضيف إلى ذلك إشاراتٍ وتوضيحات قد أراها ضرورية في مثل ذلك المقام.
يلاحظ القارئ أنني ذكرت بين هذه المطبوعات ما هو بالحقيقة لمؤلفين معاصرين، وإنما آثرت ذلك، لأن هذه المصنفات طبعت بعد وفيات أصحابها، فاعتبرتها مؤلفات قديمة.(447/43)
وقد يلاحظ أيضاً، أن بعض ما نُسب من المطبوعات إلى سنة 1940، يُرَى على غلافه أنه طبع سنة 1939، في حين أن طبعه لم يتم، في الواقع، إلا في سنة 1940.
ولي أن أشير في هذا الصدد إلى أن جانباً من هذه الكتب ما يكون نشره قد جرى وفقاً للأساليب العلمية الحديثة، وذلك من وجهة التحقيق والشرح والفهرسة إلى غير ذلك، وبعضها ما كان يُرمى من نشره إلى غرض تجاري صرف يؤذي الكتاب والقارئ معاً إيذاء شديداً، ويفيد التاجر الذي يقوم بطبعه. واختار البعض الآخر طريقاً وسطاً بين هذا وذاك.
على أنه لم يكن من شأني في هذا الموقف التعرض لقيمة الكتاب الحقيقية، أو لنوع الجهد والعناية المبذولين في سبيل إخراجه؛ فللقراء أن يحكموا على كل ذلك حين وقوفهم على الكتب ذاتها. وإنني لو فعلت ذلك - وهذا أمرٌ من الصعوبة بمكان - لضاق بي المجال ولخرجتُ على ما اختططتُهُ لنفسي في هذا الكشف.
إن بعض التصانيف المذكورة أدناه، ما هو مطبوعٌ الآن للمرة الأولى؛ وبعضه ما كان قد طُبع سابقاً مرةً أو غير مرةٍ؛ وإنما أُعيد نشرهُ لأسباب، منها أن تكون نسخ تلك الطبعة قد ندرت أو نفذت، ومنها أن تكون تلك الطبعة قليلة الحظ من العناية والضبط والتحقيق، وقد يكون لذلك أسباب ومآرب أخرى يدركها أرباب النشر!
ومن الخير لي أن أُصرح، بأنني لم أُوَفَّق للإطلاع على كل هذه الكتب اطلاعاً مباشراً، بل إن قسماً منها لم أقف عليه مع الأسف! وإنما استقيتُ المعلومات المدونة عنه من هنا وهناك.
وفي آخر هذا الكشف تكملةٌ، يجد القارئ فيها ما فاتني ذكرهُ من مطبوعات سنة 1939، وقد ذكرتها هُهنا لتكون تتمة أو مستدركاً على المقال المنشور في العام الفائت.
1 - أبو العلاء المعري: نسبه وأخباره، شعره، معتقده
للمغفور له أحمد باشا تيمور (1348هـ). نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر. (القاهرة، د + 160 صفحة)
2 - الاستيعاب في أسماء الأصحاب
لابن عبد البرّ النمري القرطبي (463هـ). طبع مع كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة) الآتي ذكره.(447/44)
3 - الإصابة في تمييز الصحابة
لابن حجر العسقلاني (852هـ). نشرته مطبعة مصطفى محمد، القاهرة (4 مجلدات، صحائفها 571، 536، 644، 483). في أعلى الصفحات طُبع كتاب الإصابة هذا، وفي أسفلها كتاب (الاستيعاب) المذكور في الرقم 2 من هذا الكشف.
4 - أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام
تأليف الأستاذ عمر رضا كحاله. هذا الكتاب وإن كان مؤلفه من المحدثين، فإن مادته قد جمعت من مؤلفات الأقدمين (ما بين مخطوطة ومطبوعة) التي يشير إليها المؤلف في آخر كل ترجمة من التراجم التي رتبها على الطريقة الهجائية (المطبعة الهاشمية دمشق 3 مجلدات، مجموع صحائفها 1668)
5 - إغاثة الأمة بكشف الغمة
لتقيِّ الدين المقريزي (845هـ). نشره الدكتور محمد مصطفى زيادة والأستاذ جمال الدين محمد الشيال بتعليقات وفهارس (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة. ك + 92ص). الكتاب في تاريخ مصر الاقتصادي الاجتماعي في العصور الوسطى حتى سنة 808هـ. وهي السنة التي ألِّف فيها. عالج المقريزي فيه حوادث المجاعات والطواعين بمصر وتقصى أسبابها.
6 - أنساب الأشراف
للبلاذري (279هـ). القسم الثاني من المجلد الرابع، يحوي فهرس أعلام الرجال والمواقع والأمم وضعها المستشرق شلوسنكر (مطبعة الجامعة العبرية، القدس، 36ص). المجلد الخامس ومتن النصف الثاني من المجلد الرابع، صدرا سنة 1936 - 1938، والعمل في إصدار سائر أقسام الكتاب لا يزال جارياً.
(يتبع)
كوركيس عواد(447/45)
القصص
العقاقير المخدرة
عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
نهضت (رودا فارمنجتون) عن المعقد الذي كانت جالسة عليه بقرب النافذة وأطلت فرأت العربة المقبلة هي عربة أبيها الدكتور فارمنجتون فتنهدت وقالت: إن مجيئه يمنع الشك وإن المعرفة بأمر مهما يكن نوعه أفضل من فترة الشك. وقد كانت منذ الظهيرة جالسة هذه الجلسة تترقب عودته لتتعرف الخبر، وهي بين حين وحين تطل من النافذة؛ وهاهي الساعة الآن قد تجاوزت الرابعة وسئمت الفتاة الانتظار. وفتحت الباب ودخل الدكتور فقالت بلهجة فيها رنة العتاب: (ماذا!)
وإنما كان عتابها لأن أباها أمرها بالبقاء هنا. وقد كانت واجبات الصداقة تقضي عليها بأن تذهب إلى المريضة (جيسي شاننج)
وفرك الطبيب كفيه الباردتين وقاد ابنته إلى الغرفة وهو يقول: (تعالي يا رودا فإن الجو بارد في هذه الردهة). فتبعته وهي تقول: (هل حالة المريضة أسوأ)
قال الطبيب: (نعم أسوأ جداً)
فقالت: (هل تعني أنها. . .)
قال الطبيب مقاطعاً: (إن جيسي قد ماتت)
ثم نزع الطبيب معطفه بصورة إليه وعلقه على المشجب واتجه إلى الموقد فأدفأ كفيه. وكان الطبيب قليل الكلام وظن أن حديثه مع ابنته قد انتهى بسؤالها وجوابه. ولكن الفتاة ظلت واقفة واجمة كأنها تنتظر المزيد. وبينما هي كذلك إذ دخلت نانسي خادمة المنزل وهي امرأة في منتصف العمر، وأوقدت المصباح ونظرت إلى الدكتور ثم إلى ابنته وقالت: (أرجو أن تكون صحة جيسي ساننج قد تحسنت)
فقال الطبيب: (كلا ولكنها ماتت)
وجمت الخادمة أيضاً وكأنها لم تصدق أذنيها ثم أشارت بيديها إشارة تدل على اليأس(447/46)
وقالت: (مسكين جوردون. . . إن هذا الخبر سيقتله لأنه لا يستطيع أن يعيش بدونها.
فبدت على وجه رودا ابتسامة هزيلة عند خروج الخادمة من الغرفة، ثم ارتمت على المعقد الذي كانت جالسة عليه قرب النافذة وأسندت رأسها إلى ذراعها وقالت بصوت خافت ولهجة بطيئة: (وددت لو أنني كنت مثل نانسي فأستطيع أن أصيح مظهرة العطف نحو جوردون. . . كم كان بودي أن أثير ضجة لأظهر أحزاني).
فقلب الدكتور قطعة من الورق كانت أمامه على المنضدة وقال: (ولماذا تودين ذلك؟).
فقال: (لأنني مثلك لا أستطيع أن أظهر عواطفي)
بدت الرقة على عيني الدكتور، وإن كان صوته لا يزال دالاً على الخشونة، وقال بلهجة حاسمة: (يجب ألا يكون تأثرك كثيراً بسبب موت جيسي، وإنني لهذا السبب منعتك عن الذهاب إليها، وإنني أعرف مبلغ إعزازك إياها كصديقة ولكنك لم تفهميها فإن هناك أشياء لا يفهمها كل إنسان.
فقالت: (إن جوردون يفهمها)
فقال الدكتور: (نعم إن جوردون يفهم، ولكنني أكرر أن موت جيسي يجب ألا يؤثر في حياتك).
فقالت رودا: (إنك تستطيع أن تدرك يا أبي أن هذا القول لا يؤدي إلى نتجية، فإنني في الواقع لا أحزن على الميتة فقد استراحت، بل على الحي، فتصور مقدار انزعاجه).
قال الدكتور بلهجة استغراب: (نعم إن انزعاجه شديد بلا شك ولكن. . .). ثم اشتغل بتقليب الأوراق التي على المنضدة كأنه بذلك يريد الانتهاء من هذا الموضوع.
وبعد فترة قليلة عادت رودا إلى الكلام بلهجة عتاب فقالت: في بعض الأحيان يا أبي أتصور أنك قاس. ولعل ذلك لأنك رأيت كثيراً من مظاهر البؤس حتى ألفتها.
فتهجم وجه الأب أمام هذا الاتهام وقال: أنت مخطئة يا رودا فإن رؤية البؤس لا تجعل القلب قاسياً ولكنها لا تزيد من حزنه، قالت رودا: إذن فلا بد أن تكون حزيناً على جوردون فتصور كيف كان حبهما. لقد كان كاملاً فوق مجال النقد. إنه لم يتركها ولم يكن أحد أوفى لزوجته منه.
فقال الدكتور: نعم لقد كان معها دائماً، ولكن عهد تمريضه لها قد انتهى بعد استمرار سبعة(447/47)
أعوام.
قال رودا: عهد تمريضه! إنها في الواقع لم تكن مريضة لولا النوبات الخفيفة التي جعلته بساطتُها يمرضها بنفسه بدل أن يستحضر لها ممرضة
وقد كانت رودا تقول ذلك وهي تتذكر أن جيسي كانت تتغدى معها منذ يومين فقط. وكانت صحتها إذ ذاك أحسن من صحة رودا نفسها، وكان لون خديها وردياً، وكانت تضحك وتمزج كأحسن ما يكون والإنسان في حالة الطرب. والآن وقد ماتت جيسي فإن رودا تعود بالذكرى إلى يوم منذ سبعة أعوام كانت فيه هي واسطة التعارف بين جيسي وبين جوردون في نفسي هذا المنزل.
بعد أن تخرجت جيسي من المدرسة جاءت لتزور صديقتها رودا. وكانت رودا هي أجمل الفتاتين ولكنها غير متعلمة على النقيض من جيسي، وذلك استولت الأخيرة على قلب جوردون الذي كان إلى هذا العهد من المعجبين بها والذي يمتاز عن سائر هؤلاء المعجبين بأنه يجمع بين الذكاء وبين المهارة والجمال والغنى.
وقد نزلت رودا عن حبيبها إلى صديقتها وكانت سخية في ذلك، ولكنها لم تخل من الألم ولم تستطع كف الدموع ولم تستطع منع الغيرة. وهي مع ذلك ظلت تكتم الأمر عن الجميع فلم يفطن إلى حقيقته أحد حتى ولا جيسي ولا جوردون.
وفي الآونة الحاضرة استعادت رودا في ذاكرتها كل حوادث الأعوام السبعة الماضية حتى التافه منها. وكان أخص هذه الذكريات وأهمها ذكرى مرض جيسي ذلك المرض الذي أظهر تفاني جوردون في حبها إلى الحد الذي صار فيه كل الزوجات في المدينة يعيرن أزواجهن لأنهم لا يحتذون هذا المثل العالي من الإخلاص.
ومضت سبعة أعوام وماتت جيسي وانتهى كل شيء، وبعد العشاء لبست رودا ثيابها ومشت وهي ترتعش في برد الليل إلى بيت شاننج، وكان الليل مظلماً فرأت في الطريق شبحاً وعرفته ولكنه لم يعرفها فنادته: جوردون إلى أين تذهب؟ فمد يده إليها وارتعش جسمها عندما لمست يده فصافحها مصافحة ود، وأخذت تبحث في ذهنها عن كلمة تعزيه بها فلم يسعفها الخاطر وأخيراً قالت: إلى أين تذهب يا جوردون؟
وقد أربكها أنه لا يسير في اتجاه المنزل وأنه يمشي بخطى سريعة إلى النهر وقد بدت على(447/48)
وجهه علائم عزم خطير، وقال: إلى أين أذهب؟ بالطبع يا رودا إلى. . . ثم تابع السير ولكن إلى المنزل.
وبعد جنازة جيسي سافر جوردون ولكن إلى الخارج، وظل متنقلاً من بلد إلى بلد، ولكنه في أشهر الصيف يعود إلى المدينة التي دفنت فيها زوجته.
وكان يرجع (عليَّ غير انتظار من رودا لذلك الرجوع) لأنها كانت تعد دخوله إليَّ منزل زوجته بعد دفنها يشابه شق القبر على ميت، وذلك لما ينطوي عليه المنزل من الذكريات.
وكانت رودا تقدر تمام التقدير حالة جوردون وأنه لم ينس قط زوجته ولم يرد أن ينساها، وإنما هو يعالج نفسه كي يستطع الحياة بالسفر ليرى مناظر جديدة ووجوهاً جديدة، ولما تقابل معها لأول مرة بعد عودته قال: لقد بدت عليك علائم الكبرياء يا رودا ولكنك لم تزيدي إلا جمالاً وقد كنت ولا تزالين أجمل من رأيت.
وقد أدهشت رودا هذه الصراحة في مخاطبتها فترجعت كما يتراجع من ينتظر أن تصيبه صفعة، ونقصت منزلة جوردون عندها في هذه الليلة لأول مرة منذ عرفته. وفي تلك الليلة طلب إليها جوردون في وسط جمع من الأصدقاء أن تتزوج منه وقال: لقد كنت علي الدوام أحبك وحدك وإن لم أتبين ذلك في بعض العهود، وكان طبيعياً أن يكون حبنا كذلك. وكان هذا الاعتراف مخجلاً في نظر رودا فتلقته في ألم صامت ولم تجد من الألفاظ ما يعبر عن شعورها، وكان خجلها لأنها هي نفسها كانت تريد الزواج منه، وأدركت أنها غير وفية لصديقتها وأن جوردون غير وفي لزوجته وأن المسكينة الجديرة منها بالوفاء هي المضطجعة في القبر والمنسية من الجميع.
ولما فرغ جوردون من تصريحه قامت رودا على الفور ودخلت مكتب أبيها ولكنها لم تجده فيه. وكان أبوها يحب جوردون يحترمه. وكانت رودا تعتقد أن حبه واحترامه لجوردون سيزولان إذا أخبرته بما سمعته منه في هذه الليلة من الإنكار لحبه السالف لزوجته.
وترددت رودا في كيفية رفضها لما طلبه جوردون. فهل تخبره بأنها ترفض لمجرد كونها لا تحبه؟ إنها إن فعلت ذلك فلا تكون إلا كاذبة، فإنها كانت لا تقف في حبها إياه عند حد.
ورأت رودا أنها إن تغلبت على الجانب النبيل من عواطفها جانب الوفاء، فإن معيشتها مع جوردون ستكون منغصة بسبب غيرتها من زوجته الأولى، لأنه لن يستطيع أن يواجه إليها(447/49)
من العطف ما كان يوجهه إلى جيسي. وانقضت تلك الليلة ولم تخبر رودا أباها بشيء. وفي اليوم التالي أجابت جورودون على طلبه بقولها: (. . . ولكن لم يمض على موت جيسي عام واحد، ولها السبب كان من المستحيل أن أتزوج منك)؛ وكانت هذه أول مرة سمع فيها جوردون اسم زوجته المتوفاة؛ واستمرت رودا تقول: (إن ذكراها ستقف على الدوام حائلاً بيني وبينك؛ وإني لأعجب منك كيف نسيتها بهذه السرعة، حتى تريد الآن إحلال أخرى محلها؟ وهمَّ جوردون بأن يتكلم، ولكنها أشارت إليه بالصمت وهي تقول: كلا لن أتزوج منك. فإن هذا مزعج جداً. لقد كنت أحبك إلى حد العبادة يا جوردون، وإنما كان سبب هذا الحب شدة إخلاصك لجيسي؛ ولكنك لم تدم على الوفاء، فأثبت لي أن حبك لم يكن مثلاُ عالياً. قال جوردون: ولكن هل من الممكن يا رودا؟ إن المثل الأعلى في الحب وهم لا يصدقه إلا المجانين والأطفال. إنني آسف لعدم قبولك الزواج مني، وقد كنت أحسب التفاهم بيننا أحسن مما أراه؛ ولقد كنت مخطئاً، وسأعود في الصباح ولن أراك. . . وداعاً!. . . وذهب جوردون وظلت رودا في مكانها تبكي.
ولما رفعت يديها عن عينيها وجدت أباها جالساً بجانبها في حديقة منزل جوردون. ومن الغريب أن الدكتور الذي امتنع خمساً وعشرين سنة عن الزواج حزناً على زوجته، لا يريد أن يفهم رأي ابنته في الزواج. ويقف في صف جوردون ضدها وسألها: لماذا رفضته؟ فدهشت رودا من سؤاله إياها هذا السؤال الذي يدل على علمه بما كتمته عنه فقال: لقد سمعته وهو يطلب يدك. لم تشأ رودا أن تطيل مناقشته فقالت: هل نسيت جيسي يا أبي؟
فضرب الطبيب الأرض بقدمه وقال: يكفي أن يعيش الإنسان في الجحيم سبعة أعوام. ولك أن تنتظري بقية العام إن كنت تريدين المحافظة على مدة الحداد. فقالت رودا: يظهر أن لديك سراً تكتمه عني، فماذا تعنيه بقولك إنه عاش في الجحيم سبعة أعوام؟ إنك تعلم أن الحب كان متبادلاً بينهما. قال الدكتور: إنني أعلم ذلك جيداً ولكن الذي سأخبرك به سيزعجك فاستعدي له. إن جيسي كانت تكتم سرها كل الكتمان، وكذلك كان يفعل جوردون. وقد كان جوردون يظن أنك تعرفين السر مني. ولكني لم أخبرك به. فقالت رودا وقد نفد صبرها: ولكن ما هو هذا السر؟ قال: (إن سر حب جوردون لزوجته ذلك الحب الذي يصلح أن يكون مثلاُ أعلى كما تقولين، إنه في الواقع لم يكن حباً، ولكنه شفقة مع الكراهية.(447/50)
وقد بقي الأمر مكتوماً طول السنوات السبع، وكان يكتم سرها عن الناس بملازمته إياها)
- أي سر هذا؟
- إنها كانت معتادة تعاطي العقاقير المخدرة ولا تستطيع تركها فسكتت رودا وكانت لحظة شديدة شعرت فيها بالذل لضلالها عن حقيقة هذه الظروف طوال السنوات السبع الماضية. . . وعاد الدكتور إلى الكلام فقال: وإن وفاء جوردون
- وأنت تتهمينه بعدم الوفاء - هو الذي جعله يكتم هذا السر حتى في اللحظة التي لو أفشاه فيها لنال سعادته التي يرجوها.
وعاد الصمت مرة أخرى. وكان القمح يسبح في سماء صافية الأديم وجو من الأجواء التي تستثير صبوة العشاق. فقالت رودا بعد قليل لأبيها: (يا أبي اذهب واطلب إلى جوردون أن يعود)
عبد اللطيف النشار(447/51)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(447/52)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(447/53)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(447/54)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(447/55)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(447/56)
العدد 448 - بتاريخ: 02 - 02 - 1942(/)
صحة الفقير وثروة الغني
في هذه الأيام العِجاف يكثر الكلام في الغنى والفقر. والكلام في الغنى والفقر وما يتصل بهما يوشك أن يكون الوظيفة الطبيعية للسان الإنسان؛ ففي الرخاء يكون تعبيراً عن سخط مكظوم، وفي الشدة يكون تبريراً لسخط منفجر. فإذا وجدت في الفقراء من لا يسخط على الأغنياء فثق أنه من أتباع الفلسفة التي تؤمن بمبدأ التعويض في قانون الطبيعة وتقول: (إذا لم يكن للفقراء الأرض فلهم السماء، وإذا لم يُرزقوا المال فقد رُزقوا الصحة؛ والآخرة خير وأبقى من الدنيا، والعافية أعلى وأغلى من الثروة)
من هؤلاء الذين جعلوا القناعة فلسفة رجل من القُرَّاء المنكَري الصوت لا يملك في أكثر أوقاته غير قوت يومه، ولكنه مع ذلك موفور الحظ من السلامة؛ لا يتسخط ولايتبرم، ولا يجد في جسمه ما يشكوه، ولا في نفسه ما يرجوه، ولا في غده ما يخافه. رآني بالأمس جالساً في مكان ضاحٍ من القهوة أنقع في أشعة الشمس الفاترة جسديّ المقرور وعليَّ من ثياب الشتاء لفائف فوق لفائف، فأقبل إليَّ يطفر طفور الظبي بين المناضد المصفوفة وليس على جسمه غير غلالة بيضاء من التيل، وعباءة سوداء من الصوف قد رفع ذيلها إلى عاتقه؛ ثم جلس متهلل الوجه متماسك البدن مكتنز اللحم رفاف البشرة يكاد إهابه من فرط الرِّي وسورة المرح ينشق. فلما تكلم وجدته على ما عهدته من فراغ البال وسلامة الصدر وقلة المبالاة فلم أتمالك أن بدهته بهذا السؤال: أفِي هذه السن وفي هذه الأيام لا أرى للخبز المخلوط أثراً على وجهك، ولا أسمع للمجاعة المتوقعة ذكراً على لسانك؟
قال الشيخ منصور بلهجة الخِليِّ وضحكته: والله يا سيدي ما أكلت الخبز نقياً من قبل حتى أشكو خلطه اليوم. ومن تعود أن يأكل الخبز مخلوطاً بالحصى والتراب، لا يصعب عليه أن يأكله مخلوطاً بالذرة والرز. أما المجاعة التي يتوقعها الناس فلا تختلف عما أنا فيه. وإذا جاز لي أن أشكو، شكوت إلى الله طغيان الصحة؛ فإن للصحة الطاغية تكاليف أقلها النهَم والقَرَم وتحلب الريق وسُعار الجوف وسرعة الهضم. وتحقيق الشبع الدائم للشهوة الدائمة لا يمكن إلا بخزائن عاشور ومخازن عمرو. إني أسأم الصحة كما يسأم غيري المرض. وفي ساعة من ساعات الشرَه يقوم في نفسي أن الله قد منح الفقراء الصحة ليزيد ألمهم من الحرمان؛ ولكنني حين أُسكن أطيط أمعائي بفطيرة من الذرة وطبق من المش ورأس من البصل وحزمة من السريس، ينمحي ما صوره الخيال في ذهني من أطيب(448/1)
الآكال وأعذب الأشربة؛ ثم تنتشر على بدني حرارة العافية فأرى الجمال في كل منظر، والنعيم في كل شيء، واللذة في كل عمل؛ وأُدرك بمشاعري السليمة القوية ما انبثَّ في عالم الحس من كل متاع؛ ويخيل إليَّ من فرط الشعور وفيض السرور أن الهواء الذي أنشقه هو مددٌ من الروح الخالق يبعث في جسمي النشاط وفي نفسي الغبطة.
أؤكد لك يا سيدي أن الغنيّ يجوع مثل جوعي، ولكنه لا يسبع مثل شبعي. أنا إن أصبت شِبْع بطني بأي لون من ألوان الطعام بدا عليَّ من دلائل الراحة والسعادة ما وصفته لك. أما الغني فإنه إذا جرؤ على معدته المترفة بالشبع قضى وقت هضمه العِسر الطويل وهو فاقد الشعور بالدنيا لشدة ما يلقي من حزَّة الحموضة وثقل الطعام وضيق النفس وضربات القلب. وهو في الكثير الغالب ممعود أو مفؤود أو مكبود أو ممروْر أو مصاب بالملح أو بالسكر، فلا بد له من الجرعات المختلفة التي تنيم الألم أو تكافح الداء أو تؤخر الخطر. وقد ينتهي به الأمر في الزمن القريب أو البعيد إلى الإمساك عن الطعام إلا ما يمسك الرمق.
كان لي عند الباشا ثمن أربعين مقطفاً ضفرتها لدائرته، فلما جئته اقتضيه الثمن أكبره وأنكره وتهدم عليَّ بالكلام العنيف وقال محتجاً لسبابه واغتصابه: (إن ضفر الخوص عمل العاجز، وإن رجلاً في مثل صحتك وقوتك لا يجدر بيديه غير الفأس والكُريك) فقلت له في مثل هذا الهدوء الذي أحدثك به: (يا باشا إن نصيحتك إياي على نفاستها وقداستها لا تبرر أكلك لحقي. ومن اليسير عليَّ أن أنزل لك عن هذه القروش ثم لا أنقص شيئاً؛ ولكنك قد تزيد شيئاً؛ وكلما زاد مالك ساء حالك. إنك قد بلغت أرذل الغنى، ثم انحدرت إلى أسفل الفقر؛ فأنا وأنت يا باشا سواء: أنا فقير لأني مصابٌ في جيبي، وأنت فقير لأنك مصاب في معدتك؛ فأنا أشتهي ولا أجد، وأنت تجد ولا تشتهي؛ ولكن حرماني مؤقت وحرمانك مؤبد، ونقصي يسده الرضا ونقصك يزيده السخط، وجيبي المفتوق يرتقه الرَّفاء بقرش، ومعدتك البالية لا يجددها الطبيب بمليون)
وكنت لا أزال أرسل الكلام على هِينَة وحذر مخافة أن ينفجر في وجهي على عادته مع الناس؛ ولكن المعجزة التي ظهرت على يده أو على يدي - لا أدري - هي أن الرجل استرخى وتليَّن وبدا على وجهه الأبكم سمات التفكير لأول مرة. ثم قال في لهجة لا تزال(448/2)
فيها بقية حائلة من الشموخ: (ليتك تدلني على ما فتل عضلك وشد عصبك ودفق فيك هذا الدم الفوار الحار النقي، فليس ذلك من عمل طاهٍ ولا طبيب). فقلت له في شيء من الشماتة: ذلك يا باشا تعويض الفقر من الغني، وهو صنع الله ولا حيلة في صنعه. أما الطاهي فهو الذي يقدم للغني خيوط الكفن وهو ينسجه بأضراسه؛ وأما الطبيب فلا يعرفه من لا يشبع. ولقد قال أبو جعفر المنصور لأعرابي: (أما عندكم في البادية طبيب؟) فقال (يا أمير المؤمنين، حًمُر الوحش لا تحتاج إلى بيطار). والشبه بين حالنا وحال البدو في الخضوع لقانون الطبيعة واضح. . .
قطعت الحديث على الشيخ منصور بهذا السؤال: أتكره أن تكون في مكانه وهو في مكانك؟ فأجاب الخبيث: لا أقبل ثروة قارون إذا لم أحتفظ بمعدة منصور، ولا أرفض وزارة المالية إذا أسندوا إليّ معها وزارة الصحة!
أحمد حسن الزيات
في بناء الجيل الجديد(448/3)
أعدى الأعداء!
للدكتور زكي مبارك
الخطر الذي يهدد البيت من جهل الزوجات وتخلف الأبناء - ما الموجب لتشجع الحركة النسوية؟ - لن يذوق الرجل طعم السعادة أو الشرف إلا إن كان السيد الأول والأخير في البيت - السر في تمرد بعض الزوجات على بعض الأزواج - أبناء اليوم بعد بنات اليوم - هل سمعتم أن الأسد يتعطر ويزدان؟
جاء في كلام منسوب إلى الرسول هذه الحكمة السامية:
(أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)
ولهذه الحكمة كثيرٌ من المرامي، وسنرجع إلى شرحها بعد حين.
والمهم في هذا الحديث هو التنبيه إلى خطر يهدد قوانا المعنوية، وهو الخطر الذي يصل إلينا من الزوجات ومن الأبناء، ولا سلامة من هذا الخطر ولا نجاة إلا أن قاومنا بعزائم لا تعرف التخاذل ولا النكوص.
والرجل الحق في نظري هو الرجل القادر على البطش بحقوق البيت، ولا أريد الحقوق المشروعة التي يوجبها العُرف والدين، وإنما أريد الحقوق المفتعلة التي تخلفها الزوجات الجاهلات، أو الأبناء المتخلفون.
والرجل لا يسمح لزوجته بافتعال الحقوق إلا عند الشعور بضعف الحيوية، فهو يرائيها لتكف عنه شرها المخبول. ولعل لهذا المعنى دخلاً في تهالك بعض الناس على تأييد الحركة النسوية، فما يسيغ ذهني أن يدعو الرجل إلى المساواة بين النساء والرجال، ولا يجوز عندي أن تصدر هذه الدعوة عن صدرٍ بريء من الأغراض.
وأقول بصراحة إني لم أجد شخصاً يساعد على طغيان الحركة النسوية إلا افترضته أحد رجلين: رجل ضعيف يستر ضعفه بالتظرف، أو رجل ماجن يرى هذه الدعوة من أنجح الأحابيل.
وإذا جاز للرجل أن يساير الباطل في المجتمع فلا يجوز له أن يساير الباطل في البيت، وإذا يجب وجوباً جازماً أن تذكر الزوجة في كل لحظة أن مصيرها إلى الهاوية، إن فكرت في الانتفاع بما أباحت المدنية الرخوة من تطاول النساء إلى منازل الرجال.(448/4)
المرأة لن تكون إلا مرأة ولو طُوِّقت بالجوزاء، وعقل المرأة لن يكتمل ولو ثُقِّف بجميع ما عرفت الإنسانية من علوم وفنون، فما بال فريق من المخلوقات يبدئ ويعيد في الكلام عن حقوق النساء؟
لقد خُرِّبتْ أكثر البيوت في الغرب بفضل التلطف مع المرأة، فماذا تريدون بأنفسكم يا أبناء الشرق؟
إن الخراب ينتظر البيوت التي يسيطر عليها الجنس (اللطيف)، ونعوذ بالله من شر هذا الجنس، فهو في كل مكان وفي كل زمان مصدر البلاء.
وخلاصة القول أن الرجل لن يذوق طعم السعادة أو الشرف إلا إن كان السيد الأول والأخير في البيت. وهل سمّيت المرأة (سيدة) إلا في عصور الانحطاط؟
كان الزمام في أيديكم، فكيف أضعتموه؟
وكانت المرأة في مكانها وعند حدودها، فكيف استطالت، وما كانت إلا مخلوقاً أمض أسلحته البكاء؟
جفّ الدمع في عيون النساء، بعد أن خمد العزم في صدور الرجال، ولن يكون لبنات حواء غير التعاسة بعد لياذهنّ الأثيم إلى الغطرسة والكبرياء، ولن يون لبني آدم غير الذل بعد رضاهم الممقوت عن تطاول ربات الحجال!
أتريدون أن تعرفوا السر في تمرد بعض الزوجات على بعض الأزواج؟
يرجع السر إلى أن طبيعة المرأة كلبية، فهي لا تعيش بغير سيد يُخضِعها لهواه في جميع الشؤون، فإن شاء الزوج أن يجعلها سيدة ليصير من أبناء العصر الحديث فلن يقع الغُرم إلا عليه، ولعله يبحث فيعرف أن المرأة لا تتمرد على زوجها إلا بعد أن تصير أمة لرجلٍ سواه، ولو في حضانة الخيال؟
ومن أعجب العجب أن تكون هذه الحقيقة البديهية في احتياج إلى شرح، ولكن ما نصنع ونحن نعيش في زمنٍ قضتْ غباوتَه بتوضيح الواضحات؟
لقد بغتْ المرأة ثم بغت، واستطالت ثم استطالت، حتى صار من حقها أن تشترك في مباريات الجمال، ومع هذا لم يسمع أحدٌ أن مباراةً أُقيمت بين النساء في ميدان العقل.
وفي مصر مجلات تعرض وجوهاً نسائية من وقت إلى وقت لتحدثنا بالرمز والإيماء عن(448/5)
تفوق الملاحة والصباحة في هذه البلاد.
وأقول إن المرأة لا تسمح بنشر صورتها إلا وهي منخوبة العقل والوجدان!
كان من العسير على الفتى أن يتمثل صورة فتاةٍ عارية قبل أن تظهر بعض الأفلام وقبل أن تظهر بعض المجلات، وكان من الصعب أن تهتدي المرأة إلى بيت أحد الأقارب بدون دليل. . . واليوم يجوز ما يكن يجوز فنسمع أن المراقص تدار في بيوت بعض الأعيان ثم تُنشر صورها في صحائف يقرأها الجاهل قبل الحليم، ونسمع أن حفلة أُقيمت لغرض لا نسميه، وفيها تراقصَ أُناس لا تجع بينهم لغة ولا جنس ولا دين.
ليكن ذلك، فنحن في (القرن) العشرين
ولكن البيت، البيت، البيت؟؟؟
احذروا ثم احذروا من أن ترقص المرأة في البيت!
واحذروا ثم احذروا من أن يكون للمرأة في البيت أي سلطان!
يرحمك الله، يا أبي، فقد كنت لا تدفع ثمن النعل إلا بعد أن تجربه على رؤوس زوجاتك، وكانت أحبهن إليك أصبرهن على أذاك.
اليوم يجوز ما لم يكن يجوز
اليوم تعارض المرأة زوجها في توافه الشؤون، وتنتصب أمامه كالحية النضناض، لتسأله كيف تأخر عن موعد الحضور دقيقة أو دقيقتين!
ثم ماذا؟
أترك الحديث عن سخافة المرأة وأنتقل إلى حماقة الأبناء فأقول: هل تعلمون أن من شباب اليوم من يظلَّ عالةً على أبيه إلى سن الثلاثين!
ولكن كيف؟
بحجة أنه لا يزال طالباً في أحد المعاهد العالية!
أسقط الله سقوف تلك المعاهد على رؤوسكم، يا جهلاء!
بأي حق يجوز أن يبلغ الفتى سن العشرين قبل أن يصلح للاضطلاع بأعباء المعاش؟
الجواب حاضر: لأنه يستبيح المشي في الشوارع وكأنه غادة بلا نقاب، ولأنه يعتمد على أمه في استغفال أبيه، فيصل إلى الثلاثين قبل أن يصلح لشيء من صالح الأعمال.(448/6)
أحب أن أعرف كيف يجوز للفتى أن يتعطر ويزدان بإفراط وإسراف؟
أيفعل ذلك ليختلب لُبَّ امرأة؟
إن كان هذا ما يريد فقد أخطأ الصواب، لأن المرأة تشمَ الفتى الفحل، فتنجذب إليه ولو كان عاطلاً من الحُسن والرُّواء وبهذه المناسبة أقول:
هل فكرت الدولة في إحصاء ما ينفقه الفتيات والفتيان في التزين والتجمل؟
أكاد أجزم بأن (العِطر) في مصر هو سبب أزْمة (الفُول)!!!
وما هذه البدعة التي توجب أن يسير الشبان في الشوارع ورءوسهم عارية، برغم قسوة البرد في الشتاء؟
ألم أقل لكم إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يغطي رأسه من بين سائر الحيوان؟ فما زُهدُكم في تلك المزية الإنسانية؟
ولو كان ذلك التبرج لا يقع إلا من الشبان الوارثين لخفَّ الخطبُ وهان، ولكنه مع الأسف الموجع يقع من شبان يجهلون ما يعاني آباؤهم في تزويدهم بالقوت، فمن أين يجتلب أولئك الشبان نفقات الطلاء؟!
قد يقال إن تأنق الشبان صار بدعة عالمية.
وأقول إن ما يجوز في الغرب قد لا يجوز في الشرق، لأن الشرق في مطلع نهضة جديدة، وهي توجب أن يتخلق أبناؤه بأخلاق الأسود، وما سمعت ولا سمعتم أن الأسد يتعطر ويزدان.
أيها الناس
اسمعوا، وعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا
لا تسمحوا للمرأة بأن تتحكم في البيت، فما كان تحكُّمها إلا تحكم الضعفاء، وهو أشنع ضروب الاستبداد
ولا تسمحوا لأحد أبنائكم أن يستظل بظلكم بعد العشرين ولو كانت مواهبه تبشر بأن سيكون من أعلام الزمان
أما بعد فهذه كلمة عنيفة، ولكنها حجرٌ متين في بناء الجيل الجديد.
زكي مبارك(448/7)
أبو سليمان المنطقي
للدكتور جواد علي
أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني المنطقي شخصية من الشخصيات القوية الفذّة التي ظهرت في عالم بغداد في القرن الرابع للهجرة، فأثرت في مجتمعات عاصمة العباسيين العلمية وأنديتها الأدبية تأثيراً يشابه تأثير زميله في المهنة الأديب الفرنسي الفيلسوف (فولتير) في باريس عاصمة الفرنسيين. كان إذا تكلم أقنع، وإذا فاه أسمع، وإذا نطق أسكت، وإذا بحث في موضوع من الموضوعات حلله تحليلاً علمياً منطقياً، فلا يترك لأحد في الموضوع شبهة أو شكاً. وكيف لا يكون كذلك وسلاحه المنطق وهو سلاح اعتبر في عهد العباسيين من أمضى الأسلحة وأقساها، وهو رئيس مناطقة بغداد أيضاً، وزعيم كبير من زعمائهم لا ينازعه في ذلك منازع.
كان للمناطقة في بغداد في القرن الرابع للهجرة دولة ومقام. كانوا لسن الأندية وخطباء المجالس، وكانوا فقهاء القوم وأطباء المجتمع. كانوا كل شيء وبحثوا في كل شيء، ولذلك ميزهم الجمهور عن جماعة الفلاسفة الذين كانوا أكثر اتزاناً في باب العلم وأكثر من المناطقة في الكلام تحفظاً. وقد أطلق على كل واحد منهم لقب (المنطقي) ليميزّوهم بذلك عن الفلاسفة والمتكلمين. وكان عماد أسلحتهم المنطق: منطق اليونان، منطق أرسطو، وفورفوريوس صاحب كتاب (الأيساغوجي) الشهير.
وكان من زعماء الجماعة في القرن الرابع للهجرة صاحبنا (أبو سليمان السجستاني) الذي اشتهر بنبوغه في المنطق، على الأخص حتى عرف به، وحتى لقّب (بأبي سليمان المنطقي). وكان له منتدى يرتاده كثير من طلاب العلم وروّاد المجالس الأدبية من مختلف أنحاء الدنيا. قصده محمد بن عبدون الجبلي من الأندلس، وهو أحد الذين ابتلاهم الله بحب الفلسفة والمنطق ولاقي في سبيل غرامه العلمي ألواناً من القسوة والعذاب. وقصده كثير من أبناء سجستان وتركستان وبلاد الشرق حتى كان منزله مثابةً لأهل العلوم القديمة. وله أخبار وحكايات وأسئلة وأجوبة في هذا الشأن على الرغم من عور كان به، ووضح كان يمنعه من ارتياد منازل الوزراء وكبار رجال الدولة حتى قال في ذلك الشاعر البديهي الأبيات الشهيرة التالية:(448/9)
أبو سليمان عالم فطن ... ما هو في علمه بمنتقص
لكن تطيرتُ عند رؤيته ... من عَورٍ موحش ومن بَرَص
ويأتيه مثل ما بوالده ... وهذه قصة من القصص
انقطع أبو سليمان عن زيارة بيوتات الوزراء ودور أكابر بغداد على الرغم من ميل طبيعي كان فيه يدفعه دوماً إلى تتبع أخبار الدولة والحوادث العامة وسياسة ذلك الوقت، وما كانت تدبره الأحزاب من مؤامرات وفتن إلى غير ذلك من أمور كان كلفاً بها مشتاقاً إلى معرفتها حتى اتخذ له عيوناً وأرصاداً من تلاميذه وأصدقائه ومحبيه يأتونه بالأخبار أمثال أبى حيان التوحيدي صاحب (الإمتاع والمؤانسة)؛ وكان يغشى مجالس الرؤساء ويطلع على الأخبار، ومهما علمه من ذلك نقله إليه وحاضره به. ولأجله صنف كتاب الإمتاع والمؤانسة، نقل له فيه ما كان يدور في مجلس أبي الفضل ابن العارض الشيرازي عندما تولى وزارة صمصام الدولة بن عضد الدولة من أخبار. ولكنه لم ينقطع عن زيارة بعض بيوتات العلم والأدب أو الأنس والطرب، ولم يأنف أن يزور مثلاً رسل سجستان في أيام الجمعة وكان فيهم ابن جبلة الكاتب، وابن برمويه، وأبن الناظر أبو منصور وأخوه، وأبو سليمان وبندار المغنى، وغزال الراقص، وعلم وراء الستارة (جارية) وغيرهم من أمثال هذه الطبقة.
ولأبى سليمان نفس تمثل نفسية الموسوعيين (الأنسكلوبيديين) بكل معنى الكلمة؛ تراه يتحدث عن نظرية العلم والمعرفة فيقول: إن العلم صورة المعلوم في نفس العالم؛ وانفس العلماء عالمة بالفعل، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة. والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل؛ والتعلم هو بروز ما هو بالقوة. إلى الفعل. والنفس الفلكية عالمة؛ بالقوة. وكل نفس جزئية تكون أكثر معلوماً وأحكم مصنوعاً فهي أقرب إلى النفس الفلكية تشبهاً بها ونصيراً لها. وتراه يتكلم عن القرآن والحديث والأحكام بكل إمعان وإتقان وسعة إطلاع حتى كأنك أمام أحد المفسرين أو الفقهاء أو المحدثين. وقد أكسبته هذه الإحاطة العامة شهرة جعلت البعض يكتبون إليه يسألونه وهم في أقاصي البلاد. كتب إليه أبو جعفر ملك سجستان يسأله عن القرآن والعربية والشعر والأحكام.
وتراه يتحدث عن السياسة وصفات الملوك وأنظمة المملكة، فيجيد في الموضوع كل الإجادة ويأتي بنظريات تكاد تكون من أحدث النظريات. فيصل علم ذلك إلى الوزير أبى العارض(448/10)
فيسأل تلميذه التوحيدي وهو من أعلم الناس بأحوال أبى سليمان هذا السؤال: كيف كان كلام أبى سليمان فينا؟ وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا، فقد بلغنا أنك جاره ومعاشره ولصيقه الخ؟ ولا يستغرب صدور مثل هذا السؤال من وزير، فلأبي سليمان مجلس له شأن، ولأبي سليمان دائرة ذات مكانة في البلد ومنزلة.
كانت حلقة أهل المنطق في بغداد حلقة كبيرة ضمنت نخبة كانت لهم ثقافية ممتزجة عالية، لم تكن عربية بحتة ولم تكن يونانية أو فارسية أو سريانية خالصة. كانت تجيد مختلف اللغات، وتحمل مختلف الثقافات. ولقد فضل أهل النظر صاحبنا السجستاني على كثير من زعماء هذه الدائرة ممن كانوا يشتغلون بنفس الموضوع الذي اشتغل فيه السجستاني أمثال ابن زرعة أبي علي عينسي ابن اسحق (ولد سنة 371 وتوفي سنة 448هـ)، وهو أحد المتقدمين في علم المنطق وعلوم الفلسفة والنقلة المجودين، نقل من السريانية بعض كتب أرسطوطاليس، وكانت له عناية خاصة على ما يظهر بكتب هذا الفيلسوف ومنطقه دون فلاسفة اليونان الآخرين. وكذلك أبو الخير الحسن بن سوار بن بابا بن بهرام المعروف بابن الخمّار، وابن السمح، والقومسي، ومسكويه، ونظيف ويحيى بن عديّ وعيسى بن علي. وكل هؤلاء من مشاهير بغداد في ذلك العهد ومن أدبائها الممتازين. فلا عجب بعد ذلك ولا غرابة أن رأينا أن عضد الدولة مثلاً كان يكرمه ويفخِّمه وينزله منزلة خاصة من بين الأدباء المنطقيين.
انتقلت شهرة السجستاني في المنطق من بغداد إلى الأندلس كما انتقلت فلسفة الفارابي والفلسفة الطبيعية أيضاً وكان الذي نقل هذه الشهرة وهذا المنطق محمد بن عبدون الجبلي من أهالي الأندلس، نقلها إلى الأندلس عام 360 الهجرية (971م) أي في السنة التي عاد فيها ثانية إلى وطنه الأصلي من العراق، وللسجستاني كلمات حكيمة تدل على أنه لم يكن يقنع بالحواس الخمس ولا بالتجارب وحدها وإنما كان يرى في العقل وحده القول الفصل شأن الفلاسفة العقليين الذين يرون في الحجج العقلية الدليل الأولى أمثال بار منيدس الفيلسوف العقلي الشهير وفلاسفة مدرسة الأليئاثن وفلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد، وعلى الأخص أمثال دبكارت وشبينوتزا ولايبنتز وولف وأولئك الذين أطلق عليهم الفيلسوف وند اسم المنطقيين المتطرفين وهؤلاء هم عكس الفلاسفة التجريبيين(448/11)
الذين يعتقدون بصحة المعرفة إلا إذا جاءت عن طريق التجربة والمشاهدة والحواس أمثال: لوك وفرنسيس بيكن وجون ستيوارت ميل وغيرهم.
جواد علي
2 - مطالعاتي حول المدفأة(448/12)
حكومة الحدائق
للأستاذ صلاح الدين المنجد
ما عليّ وقد تهت بين الجبال في البحث عن المدينة الضائعة، ملبياً نداء المجهول، مبتعداً عن ثقل الحضارة؛ أن أنتقل مع (دوهامل) بين الأزاهير؛ فأستنشق العطر، وأرشف الحكمة، وأنعم بهدوء البال.
الحق أن ثقل المدنية يدفع إلى الهرب منها؛ وهذا ما فعله (دوهامل) حين فر إلى حدائق (فالموندوا) في (إيل دوفرانس) فتمتع بالزهر، وسكر بالأرَج، وحلم بحكومة الحدائق. . . فخط رسومها، وبين خططها. . .
هاهي ذي الطبيعة البكر، لم تلمسها يد ولم تطأها قدم تنمو على غير نسق، ودون نظام. فإذا امتدت إليها يد الإنسان ورعتها بالتهذيب، وجملتها بالترتيب، حَلَتْ ونَمتْ. وهاهي ذي الخُضارات والنباتات تربو بفن البستاني، وتزهر بالعناية والحرث والسقيا، ففنٌّه إذن يفيد. إنه حياة ثمرتها الإبداع والجمال. . . أفلا نستطيع أن نجني من ذلك عبرة تتبعها في حكومة الناس. . .!
هذا ما يبدأ به دوهامل كتابه. . . على أنه يصف بستانه الذي حكم بحكومته أنه ليس بالكبير ليقصر الإنسان عن العناية به، وليس بالصغير ليوجب إهماله، وليس بالخيالي كبستان الأب موريه، ولا بالبارع كبستان (بلوميه) الذي ابتدعه هوجو في البؤساء. لا. . . ولكنه وسط بين أولئك. ومهما يكن من أمر، فإن هذا البستان يوجب العناية ويدفع إلى العمل: إنه يتطلب جناناً بارعاً، وعملاً متواصلاً، ونظاماً سائداً؛ وعندئذ يطيب الغرس، ويتألق الزهر، ويحلو الثمر، ويربو القطف.
لا جرم أن النظام سر الإبداع وسر الجمال، وهو الذي يحيي النفوس ويرهف الأذواق، ويخلق النبلاء. ولابد لكل مخلوق منه، حتى النباتات؛ فينبغي أن تخضع لقانون تتبعه، وتسلك نهجاً تسير فيه. لكن ما الذي يكون إذا أُهمل البستان، فنسيه الفكرُ الذي ينظِّمه، وجَفتْه الأيدي التي تعتني به. . .؟
لاشك أن ذلك البستان يميد من الفرح في أيامه الأُول؛ فتسكره الحرية، وينطلق من النظام الذي كان يراه قيوداً فيعيش على هواه: نوم دائم، واستقرار طويل، وخمول لازب؛ وفجاءة(448/13)
تعتلّ النباتات الضعاف لسعة حريتها، فتعبّ الماء الكثير. . . وتبلى. ثم تغرق الأزاهير الصحاح في الماء فتندى، ثم تروى، ثم يداخل سوقها الوهن، فتصبح كما أصبحت من قبل أخواتها؛ وتفسد الثمار التي تركت على أشجارها فلم تقطفها يد الجنّان، وينثر الهواء البذور في الأرض فتضيع، وتستولي الأعشاب الوحشية على الممرات، وتزاحم النباتات الطائشات الأزاهير الصغار. وعندئذ تسود الفوضى، ويحكم البستان ثلاثة أصناف من الأعاشيب، يرجع إليها الأمر، وتكون الحكم والخصم. ثم يتقاسمن البستان، وتنشأ حولهن أزاهير بورجوازية تكون من الأعوان والأنصار. ثم تغتنم هذه الأزاهير فرصة الفوضى فتنتشر هنا وهناك. فإذا مضى الشتاء وأقبل الربيع، وجاء في موكبه النور والجمال. . . لم تجد في البستان الحياة والرونق، ولا الجمال وبراعة النسق، ولا الحرية المهذبة والنظام. . . بل تجد الاضطراب والفوضى والظلام، وترى بضعة أعشاب أنانية، شرسة، تحكم بعنف، ولا تتراجع أمام شيء، لتشبع نهمها، وتغذي نفسها بالبطش والشر والانتقام.
على أن سلطة رعاع العشب لا تدوم. فهناك، على حفافي البستان تقوم برابرة الأشجار. . . في الغابة. وفيها تجثم قوة مخيفة لا تعرف ولا توصف. لقد كان فن البساتني يوقفها، لأن النظام الذي نراه رَّفافاً في جنبات الحديقة كان يخيفها، وكان يدفعها إلى احترام من يتبعون النظام. أما الآن. . . فلا شيء يمنعها عن التقدم.
ورويداً رويداً تتقدّم الغابة فتستعبد البستان بقوة لا تغالب، وجبروت لا يٌقهر؛ فتقضى على الثائرين الصغار، وتبطش بالفاسدين الكبار؛ ثم تنمو وتترعرع حتى يأتي يوم يمّحى فيه البستان ويغيب في ظلال الشجرات العتاق. . . ويعود عالمنا كما بدأ مضطرباً مظلماً موحشاً. فالنظام لا جرم سيد الكون، وإن فن الحكومة - حكومة الحدائق - يدل على أنه لابد من خضوع الطبيعة لسلطةٍ ما تقودها نحو النظام، لأن الطبيعة هي حياة أصناف وحشية عندها، وموت أصناف أخر، واستخدام أصناف ثالثة. أما فنّ الجنّان فهو الذي يقاوم قوى الطبيعة الجبارة. فيحمي الأزاهير الجميلة لأنها أرق النباتات، ويضع كلاً في موضعه، ويحدد ذلك الموضع والمكان؛ ويساعد الضعيفة منها؛ ويخفف من غلواء ذوات الطيش والإقدام، ويضع مجموعة من القواعد ملؤها الحكمة والانسجام تكون قابلة للتطبيق والاتباع.
ولابد من وقفة صغيرة. إن السلطة ضرورية، ولكن ينبغي التفريق بينها وبين العنف، وإلا(448/14)
ما استطاع أحد قيادة الناس، لأن القوة الوحشية التي تسود بالحديد والجرانيت والرخام لا قيمة لها أمام الحياة. . . لأنها ستغلب يوماً. فالبستاني البارع يمارس سلطته باحترام أزاهيره ونباتاته والرفق بها، ويبدّل قواعده التي تستند إلى القوة بالإقناع، لأن الإقناع أشد تأثيراً في النفوس من الحديد. إنه يدفع إلى الهاوية، وإنه يحيى ويميت. فإذا كان ذلك أصبح البستان رقعة من رقاع الفردوس، ورفرف حوله العدل والانسجام والسلام.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(448/15)
الأحلام
للعالم النفساني (يونج)
للدكتور محمد حسني ولاية
يقسم يونج العقل الباطن (اللاوعي) إلى قسمين:
1 - اللاوعي الشخصي الذي يحتوي على كل ما هو منسي أو مكبوت مما اكتسب بواسطة الإنسان.
2 - اللاوعي الشامل الذي يشمل محتويات غريبة عن الفرد وليس لها طابع شخصي، ويمكن استكشاف هذه المحتويات في هواجس الجنون وبدوات الأحلام التي تنتمي إلى العقل البدائي، فهي لم تكتسب ذاتياً ولكنها موروثة من الإنسان الفطري ومتماثلة على وجه العموم في كل الكائنات البشرية.
وقد قص يونج الحلم الذي سأذكره فيما يلي ليبين الفارق بين الأحلام الذاتية العابرة والأحلام الناشئة من اللاوعي الشامل، وهو يرى أن هذا الحلم قد طفا من مستوى أعمق بكثير من مستوى الأحلام العابرة:
(حلم طالب ديني أنه يصلي أمام شخص جميل أطلق عليه الساحر الأبيض وكان مرتدياً معطفاً أسود. ثم أقبل شبح آخر سماه الساحر الأسود مرتدياً جلباباً أبيض.
رغب الساحر الأسود في التحدث إلى سيده الساحر الأبيض، ولكنه تردد في الإدلاء بحديثه وهو في معية تلميذه (الطالب). وحينئذ قال الساحر الأبيض: (تكلم. إنه طاهر). فقص الساحر الأسود قصة عثوره على مفاتيح الجنة الضائعة ولم يتيسر له معرفة استعمالها. فجاء إلى الساحر الأبيض مستفسراً ثم قال: إن ملكه يبحث عن مقبرة ليوسد فيها حين يحين حينه، ولكن بينما كان أحد رعاياه يحفر الأرض عثر على مقبرة كبيرة تحتوي على بقايا عظام عذراء، ففتح الملك هذه المقبرة وألقى هذه العظام خارجها وأقفلها.
فما إن تعرضت العظام لنور النهار حتى دبت فيها الحياة، وأخذت شكل حصان أسود جرى إلى الصحراء.
فتبع الساحر الأسود هذا الحصان، وبعد صعوبات جمة وجد مفاتيح الجنة الضائعة)
ويرى يونج أنه لا يمكن تفسير هذا الحلم بالطريقة المختزلة لأن قيمته الحقيقية تكمن في(448/16)
ذاته لأنه عبارة عن تجارب روحانية تتحدى أية محاولة لتبريرها.
وقد انتقد يونج نظرية فرويد الأحلام والعقل الباطن لأنها لا تعترف بوجود اللاوعي الشامل. ثم قال: إن الوارثة فقط تستطيع أن تفسر التماثل العجيب بين الأقاصيص الدينية الأزلية من ناحية، وبين الأحلام والهواجس من ناحية أخرى. وإن اللاوعي الشامل لا يظهر أثره إلا عند حدوث ظروف غير عادية تطلق سراح نشاطه المستقل.
أختم المقال بحلم شاب في العشرين من العمر مشفوعاً بتعليق يونج عليه:
(رأيتني في كاتدرائية (لورد) وقد شملها جو قاتم غامض ونور خاب وتوسطتها بئر عميقة كان مفروضاً على أن أتوجه إليها)
ثم عقب الحالم على هذا بقوله: (إن لورد هذه بئر للاستشفاء، وقد رأيتها في الحلم بمناسبة تفكيري في السعي إلى العلاج)
(إن كلمة كاتدرائية تعيد إلى ذاكرتي كاتدرائية كولونيا التي أغرمت بها في صباي، وكثيراً ما كانت أمي تستصحبني إليها وتحدثني عنها)
هنا يصف المريض اختبارات مهمة في صباه تعرب بنوع خاص عن صلته الوثيقة بالأم. وهذه الصلة تنطوي على علاقة سرية غير واعية، وقد عبر عن هذه العلاقة تعبيراً قد يعتبر واعياً في شكل إبطاء في نمو أخلاقه وبقاء مظاهر من الطفولة فيه. وقد برزت فيه بعض خصائص الأنوثة كما يبدو من طريقة تعبيره، وكانت علته التي التمس الشفاء منها حبه الذكور حباً جنسياً
تكافح الشخصية في تطورها لكي تنفصل عن العلاقة الطفلية غير الواعية بالوالدين، ولا شيء يعوق النمو الأخلاقي أكثر من بقاء نفسية طفلية غير واعية.
وتأتي أول فرصة لانفصال عن الأم عن طريق إرضاء الغريزة باستبدال الأم بموضوع آخر يماثل الأم
وإنا نرى في حالة هذا الشاب أن بدواته الطفلية متعلقة برمز الكاتدرائية بسبب حاجته القوية غير الواعية إلى بديل عن الأم، وتمثل الكنيسة هنا بدلاً روحانياً عن الصلة الطبعية بالوالدين.
كان القدماء يحتفلون بسن البلوغ ففيهم الشاب أسرار قبيلته الدينية، وكان الاحتفال مصحوباً(448/17)
بكثير من الطقوس الدينية والعادات الفطرية ولا ريب في أن هذه تركت أثراً في عقلنا الباطن بل إنها أصبحت تقريباً عمليات غريزية منحوتة في اللاوعي كنماذج قديمة هذا وإن حب الجنس المماثل يرجع إلى وقائع تاريخية عند الإغريق وبعض الفصائل الفطرية، وكانت الرغبة فيه تعد نضوجاً ورجولة. فإذا رجعنا إلى خطة الحلم أمكننا أن نفهم أنها ترمي إلى رغبة المريض في العلاج وإلى إثبات معنى حب الجنس المماثل أو بعبارة أخرى الدخول إلى دنيا البالغين.
(للبحث صلة)
محمد حسني ولاية(448/18)
الأزهر في عامه الجديد
بين الذكرى والأمل
للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي
فوق ما للأستاذ (الزيات) بين رجال الفكر والقلم من مكانة مرموقة؛ فإن له نزعة دينية تتمثل فيما يكتبه من حين إلى حين عن الثقافة الإسلامية وحاجة الناس إليها، وعن الأزهر وما يتصل بالأزهر من هذه الناحية. وبلاغة الزيات وروحه تقتضيان أن يقرأ له الناس إذا كتب، ويصغوا إليه إذا قال.
وقد تحدث الأستاذ في افتتاحية (الرسالة) لعامها العاشر عما يغشى الناس في هذه الآونة من ظلام: ظلام المطامع والشهوات، أو ظلام القسوة والطغيان؛ حتى عُمِّيت على الناس وجوه الرأي، وأغلقت دونهم أبواب الحيلة، واكفهرت أمامهم بوادر المستقبل.
وتعليل ذلك كله عند الأستاذ الزيات ظلمة السرائر من نور الهداية، وإقفار البصائر من روح الدين، حتى تكاثفت هذه الظلمات الباطنة؛ فكانت في الظاهر كذلك حلكاً غاشياً، وظلماً فاشياً؛ ثم كان ضجر الناس بالحياة، وسخطهم في هذا الوجود. ذلك معنى حديثه، وهو حديث حق لا ريب فيه (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً)
ولكن متى يستبين للناس وجه الرشاد من الغي فيرجوا إلى الدين فيما يتصل بهم أو يصل بينهم من أسباب، لتنجاب عن بصائرهم هذه الغشاوات، وتنكشف لأبصارهم مسالك الحياة؟! علم ذلك عند الله. . .
ولكن الأستاذ الزيات يتجه إزاء هذا السؤال نحو الأزهر، وهو يرى الأزهر في وضعه الصحيح كمحطة استقبال وإذاعة: يتلقى تعاليم الوحي من كتاب الله وسنة رسوله، ويذيع في الناس الحكمة الصادقة، والموعظة الحسنة، والقدرة الصالحة، ويمثل في سيرة أهله ما كان ماثلاً في سيرة السلف وأعمالهم للدنيا وللدين.
والنظر إلى الأزهر بعين كهذه ليس فيه إسراف ولا شطط، فقد قام الأزهر كما يقول الأستاذ - للدين وعاش بالدين - وليس يليق به أن يكون لغير هذا وإن تطاولت عليه السنون؛ ولا يليق به أن ينحدر من عليائه إلى الوضع الأدنى الذي خرطه في عداد المدارس، أو كاد.(448/19)
ونحن إذ ننظر إلى الأزهر بهذه العين نقف به مع الأستاذ الزيات بين الذكرى والأمل، لترجع بنا الذكرى إلى أزهر القرن الرابع عشر، يوم كان حقاً يعيش للدين وبالدين، ولا تلويه الأحداث، ولا تستهويه المطامع فكان لقوله صولة، ولرأيه شأن وحساب.
وإذ تحولت نظم الحياة الاجتماعية، واقتضى الزمن نشاطاً في السير، ومتابعة للنهوض، فما كان ينبغي للأزهر أن يقنع بالعزلة ويتنحى عن مكان القيادة، ويقعد عن اجتذاب الجماهير إلى حوزة الدين، واشتمالهم بتعاليمه الفضفاضة.
وإن تكن هذه سيئة الزمن الماضي، فماذا صنع أزهر اليوم ليدرك الناس ما فاتهم، ويصل ما انقطع بينه وبينهم، ولا يترك الخرق يتسع، والشر يتفاقم؟
نعم بدأ يخطو الأزهر في عهده الحاضر خطوات لا بأس بها، ولكنها خطوات هينة إذا قيست بالأمانة العظمى التي يتحملها عن الأنبياء. والأمر يقتضي نشاطاً فوق هذا النشاط، ولا يتسع لتريث فوق الذي كان، وهنا مثار الأمل في الأزهر، فإلى من يتجه ذلك الأمل المنشود؟
يتجه إلى صاحب المقام الأعلى، إلى معقد الرجاء، إلى جلالة الملك فاروق، فجلالته حَريٌّ بين الملوك أن يحمل راية القرآن خفاقة على ربوع الإسلام، وأن يجعل القرآن - بتشجيعه وعطفه - منهلاً عذباً في وادي النيل، يصدر عنه الناس وإليه يردون، وهذا ما كشف اللثام عنه بين يدي جلالته شيخ الأزهر في مستهل العام الهجري، فأبان فضيلته عن أمل المسلمين في الأزهر وعن رجاء الأزهر والمسلمين في جلالة الفاروق.
ويتجه الأمل ثانياً إلى فضيلة الشيخ الأكبر وإلى من يؤازره من كبار العلماء، وما يريد المسلمون منهم إلا ما تحدث عنه الأستاذ الزيات: (أن يضعوا لثقافة الشعب أساساً من الدين، يقوى بقوة الله، ويثبت بثبوت الحق، ويدوم بدوام الدنيا، ثم يقيموا عليه من القواعد والأوضاع ما يقره العقل، ويؤيده العلم، ويتقبله العصر، وتقتضيه الحاجة)
ففي هذه الكلمات تتلخص حاجة الناس إلى الدين وتنحصر مهمة علماء الدين.
وقد نشط إلى الجهر بذلك منذ أيام شيخ متوثب، انتظم إلى جماعة كبار العلماء، فكان إحساسه يقظاً، وصوته ندياً. وإذا تجاوبت هذه الدعوى، ودخلت إلى مكتب الشيخ، وترامت إلى المسامع العلية، فبعيد أن تفتر هذه الحمية، وبعيد أن يركن الأزهر إلى تلك السياسة(448/20)
الشكلية التي تؤخر أكثر مما تقدم.
أقول - السياسة الشكلية - وأنا في هذا التعبير من غيرة وخشية: غيرة على عهد المراغي أن يعلق به شيء مما لا نحب، وخشية من لائمة من لا يرضيهم ذلك التعبير.
ولكنه مقام تعوزنا فيه الصراحة أكثر من المجاملة، ويقتضينا الإنصاف ألا نشوب الإخلاص بالمداهنة، وإلا نطوي صفحة الولاء على غش ودخالة.
هي مشكلة إلى حد ما، ونحن نريدها عملية محصنة: عملية في التوجيه العلمي، وتزكير الروح الأدبي والكرامة في نفوس الناشئة. نريدها عملية في الموازنة بين المتصلين بالعمل: إداريّاً كان أو عملياً. وليس بعزيز على الشيخ الأكبر أن يتحسس هذا، ويوازن ويرجح، ويحْدِث ويجدد، بل ذلك فيما نعلم من الخطوات الأولى في إقامة الإصلاح.
فلينظر مولانا الشيخ الأكبر في الأدوات التي يؤدي بها الأزهر رسالته: قولاً كانت أو كتابة. ولينظر فيمن يساهمون في الإدارة؛ فليس يكفي أن يكون الرأس وحده سليماً حتى تسلم بقية الأعصاب والعضلات!
وأكبر الظن أن ينقضي العام الجديد على خير ما بدأنا من آمال، وما رجوناه من أعمال.
عبد الللطيف محمد السبكي
المدرس في كلية الشريعة(448/21)
أدب الطف
عامل من عوامل نمو الشعر في العراق
للأستاذ عبد الكريم الدجيلي
كتب الدكتور زكي مبارك في أعداد سالفة من (الرسالة) عن (الأدب العربي الحديث في العراق)، ولا أريد بكلمتي هذه أن أناقشه فيما كتب، إذ أن وقت المناقشة قد بَعُد وتقادم، على أني معجب شديد الإعجاب ببعض ما كتب.
وقد كنت معتقداً بأنه سيكتب عن الشعر الذي رُثى به الحسين بن علي بن أبي طالب، فيكشف لقراء (الرسالة) صفحة مندثرة من الأدب العربي، ومنجماً مليئاً بغرر الشعر وأطايبه، فيُسجل له فضل الأسبقية في هذا الموضوع بعد أن زودته وزارة المعارف العراقية بأغلب الدواوين المطبوعة لشعراء العراق، وأغلبها ملآن بما رُثِيَ به الحسين، فعبدت له الوزارة بعض الطريق. على أن الرجل قد أشار إلى هذا الموضوع من طرف بعيد قد يخفى على كثير من القراء - وعلى الأخص أدباء الأمة المصرية - إذ أن سمعهم لم يطرقه هذا اللون من الأدب العربي إلا النادر منهم.
وكان الأجدر بالدكتور أن يقف عند هذا الموضوع ولو قليلاً، أو يَعِد القراء بالرجوع إليه، لأن رثاء الحسين، أو (أدب الطف) يعد (عاملاً من عوامل نمو الشعر في العراق). ولعل كلمتي هذه تحفز الدكتور إلى الكتابة في (أدب الطف)، والمراجع لديه كثيرة، والوقت يناسب الكتابة في هذا الموضوع، قبل أن ينقضي شهر محرم الحرام الذي قُتِل فيه الحسين بن علي بن أبي طالب. فالمناسبة إذن تشجع الكاتب على كشف هذا المنهل العذب الصافي من الأدب العربي لكل من تعنيه الدراسات الأدبية والاتجاهات الفكرية. على أن السبب الأول لكتابة هذا المقال، هو نفس السبب الذي دعاني أن أدعو الدكتور أن يكتب فيه.
ذكر الدكتور في المقال الذي كتبه عن (الأدب العربي الحديث في العراق) أن الخصومات الدينية، والخلافات المذهبية بين الشيعة والسنة، قد عادت بالنفع والخير على الأدب والبيان في العراق. وهذا حق لا جدال فيه، فقد يكون بعض الخلاف خيراً وبركة من جهة، ونقمة وبلاء من جهة أخرى. ولو تصفحنا أدوار الأدب العربي من فجرها إلى يومنا هذا، لرأينا أجود ما فيه كان السبب في وجوده الخلاف: فقصيدة عمروا بن كلثوم، والاعتذار الذي(448/22)
صاغه الذبياني في قصيدته الخالدة، وكثير من شعر حسان، وخطب علي ومعاوية، والمراسلات التي كانت من جراء هذا الخلاف، وشعر جرير والفرزدق والأخطل ومن شايعهم، وخطب عيسى بن علي والسفاح والمنصور؛ ثم الغالب من شعر المتنبي الذي يبرق فيه ويرعد، والرسالتان الجدية والهزلية لابن زيدون، والقصيدة السينية - ما على ظني يأس - كل هذا الإنتاج العقلي وألوف من أمثاله كان السبب المباشر في وجوده هو الخلاف (السعيد) - على حد تعبير الدكتور. وأنا وإن كنت لا أحب أن أذكر، حتى اسم الخلاف الذي يقع بين المسلمين ما دام المنهل واحداً - خصوصاً في بلد كالعراق لا يستغني فيه أحد الفريقين عن الآخر، فإني سأطرقه من ناحيته الأدبية لا غير.
تقام الاحتفالات التأبينية في العراق - وعلى الأخص في نواحيه الجنوبية - وتعقد النوادي فيه تأبيناً للحسين بن علي بن أبي طالب في كل أيام السنة، أما إذا هلَّ شهر المحرم، فإن الأشغال تكاد تعطل، والحوانيت تكاد تقفل طيلة شهري محرم وصفر، فتعقد مئات النوادي لذكرى قتيل الطف.
فإذ كان الأدب العربي يفخر بسوق عكاظ لأنها كانت السبب في رفع مستواه، وكانت السبب في احترامه وتعاليه؛ فإن الأدب العربي مدين كل الدين لهذه النوادي التأبينية، إذ أنها خير مدرسة وخير عامل لنمو الشعر في العراق. فالشاعر الذي تنشد قصيدته على رؤوس الأشهاد وتستحسن يستمر بحكم الضرورة على قرض الشعر حتى يستمر هذا الإعجاب والتقدير.
ثم هناك حافز آخر لخلق الشاعر في هذه الناحية ألا وهو الحافز الديني، فقد وردت أحاديث كثيرة، وأخبار مستفيضة تهب الثواب والجزاء لمن قال الشعر في آل محمد ولو بيتاً واحداً. ومهما كان نصيب هذه الأحاديث والروايات من الصحة فإنها كانت سبباً قوياً وباعثاً لخلق ألوف من الشعراء لا أظن أدبياً أو متأدباً ينضج ويكتمل ما لم يطلع على هذه الناحية من الشعر.
ومن الغريب أن أدباء الأمة العربية لم يعرفوا عن هذا المنجم الأدبي الضخم ولم يسبروا فيه من غور وعمق. ولو أنهم فعلوا ذلك لظهر لهم من شعر الطف ما يغذي العاطفة ويربي الذوق، ولأضيفت إلى الأدب العربي صفحة مليئة بنفائس الشعر الجيد الممتاز، ولفتحت(448/23)
أمام حملة الأقلام والقوامين على سير الأدب العربي أبواب فيها من الشعر ما هو قمين بكل تقدير.
وإذا كانت الخصومات الدينية، والخلافات المذهبية في العراق هي السبب في حفظ كيان الأدب والبيان ولولاها لذهبت به تلك الأعاصير الهوج التي مرت عليه طيلة سنين عدة. فإن نفس تلك الخصومات كانت السبب الوحيد في انزواء هذه التحف الفنية والنوادر الأدبية.
ولعلي أوافي قراء الرسالة متى سنحت الفرصة عن بعض هؤلاء الشعراء الذين وقفوا أكثر حياتهم الأدبية على هذه الناحية من الشعر فأكون قد قمت بواجب الأدب والتأريخ معاً.
وإليك أبياتاً مقتطفة من قصيدة طويلة للسيد حيدر الحلي يرثى بها الحسين:
أيها الراغب في تغليسة ... بأمون قط لم تشك الكلالا
أقتعدها وأقم من صدرها ... حيث وفدُ البيت يلقون الرحالا
واحتقبها عن لساني نفثة ... ضَرماً حوَّله الغيظ مقالا
فإذا أنديةُ الحيِّ بَدَتْ ... تشعر الهيبة حشداً واحتفالا
قف على البطحاء واهتف ببني ... شيبة الحمد وقل قوموا عجالا
كم رضاع الضيم! لا شب لكم ... ناشئ أو تجعلوا الموت فصالا
كم وقوف الخيل لا كم نسيت ... علكها اللجم ومجراها رعالا
كم قرار البيض في الغمد أما ... آن أن تهتز للضرب انسلالا
قوّموها أسلا خطية ... كقدود الغيد ليناً واعتدالا
وللحاج هاشم الكعبي من قصيدة مطولة في هذا الموضوع:
فوارس اتخذوا سمر القنا سَمَرا ... فكلما سجعت ورق الغنا طربوا
يستعذبون الردى شوقاً لغايته ... كأنما الضرب في أفواههم ضَرَب
حتى إذا سئموا دار البلى وبدت ... لهم عياناً هناك الخرّد العرُب
فغودروا في العرا صرعى تلفهم ... مطارف من أنابيب القنا قشب
وأفلتت زمر الأعداء ترفل والأح ... قاد تسعر والأحشاء تضطرب
جلا لها ابن جلا عضب الشبا ذكرا ... لا يعرف الصفح إذ يسنله الغضب(448/24)
تأتي على الحَلَق الماذيِّ ضربته ... ولا يقيم عليها البَيض واليلب
وللحاج كاظم الأزري مرثية من غرر الشعر تقتطف منها ما يلي
وضربة تتجلى من صوارمه ... كالشمس طالعة من جانبي نهر
كأن كل دلاص منهم بَرَد ... يرمى بجمر من الهندي مستعر
إذا انتضى بردة التشكيل تحسبه ... لاهوت قدس تردى هيكل البشر
صالوا وصلتَ ولكن أين منك همو ... النقش في الرمل غير النقش في الحجر
ما أنصفتك الضيا يا شمس دارتها ... إذ قابلتك بوجه غير مستتر
ولا رعتك القنا يا ليث غابتها ... إن لم تذب لحياء منك أو حذر
قد كنت في مشرق الدنيا ومغربها ... كالحمد لم تغن عنها سائر السور
أترى أن مثل هذا الشعر المتسامي في سبله ومتانته وجودة تراكيبه لا يعرف عنه أدباء الأمة العربية وبخاصة أدباء وادي النيل الذين منحهم الله الإحساس الأدبي والشعور الفني لمثل هذه القطع الأدبية والأساليب العربية التي تتجلى بهذا الشعر! وإذا كان هناك لوم يوجه إلى زمرة من الأدباء لأنهم أهملوا هذه الناحية الأدبية من الشعر.
فإلى أدباء العراق وحملة الأقلام فيه إذ أن الواجب الأدبي يحتم عليهم أن يعنوا بنشر أمثال هذا الشعر.
ولقد أذكر أنني قرأت كثيراً من هذا الشعر على نخبة من أدباء الأمة المصرية مثل الأستاذ هاشم عطية والأستاذ السباعي بيومي. ومما أذكره أن الأستاذ هاشم عطية قال لي بعد الانتهاء من قراءتي لهذا الشعر: إن هذا الشعر خلاصة تفكير أمة كاملة لا تفكير فرد. وإن مثل هذا الشاعر - ويعني السيد حيدر - لا يوجد في الأمة العربية مثله في كل وقت وحين؛ وإنما يجيء على رأس قرن أو قرنين. فالواجب عليك وعلى أدباء العراق الاتجاه نحو هذا المنجم الأدبي لتخرجوا منه لنا كتباً تكون خير متعة أدبية ولذة فنية.
ومن هنا عنيت بهذا الشعر ولعلي أخرج كتاباً فيه.
عبد الكريم الدجيل
المدرس بالثانوية العسكرية(448/25)
الفرق السياسية في الإسلام
للدكتور رينولد نيكلسون
بقلم الأستاذ حسن حبشي
كانت مناهضة الأحزاب السياسية والفرق الدينية للبيت الأمويّ اللغمَ الذي أخذ يقوّض دعائمه شيئاً فشيئاً، حتى أنهار ولم تقم له قائمة بعد ذلك. وسنسوق بعض التفاصيل عن الأفكار التي أدّت إلى تطاحن هذه الطوائف، وعن العوامل التي دعتها إلى السخط على النظام القائم، ثم نُثّني ببضع كلمات قلائل عن الفرق الدينية وعقائدها كالمعتزلة والمرجئة والصوفية، ثم التكلم عن أدبهم الذائع الذي كان جُلُّه شعراً، وعن حملة لوائه البارزين.
كانت وجهة معارضي الأمويين سياسيةً بادئ ذي بدء، إذ كان معنى تولي معاوية الحكم انتصار الشام على العراق، ومن ثم أصبحت دمشق عاصمة الدولة، وحلت محل الكوفة، وقد لاحظ (فلهوزن): (أن أشد الصيحات خطراً على بني أمية كانت منبعثة من العراق، فلم تكن صيحة حزب خاص بذاته، ولكنها صدى صوت جميع العرب المقيمين هناك، والذين اتفقوا جميعاً على استنكار ضياع استقلالهم وعلى كراهية أولئك الذين آل إليهم الأمر). وفي هذا الوقت نفسه اصطبغت هذه المشاعر بروح دينية، واتخذت من الدين عوناً لها، وسقط النظام الجديد مذموماً موسوماً بسمة الشرك، وبناءً على مبلغ تقدير المسلمين لمعنى الواجب، كان لزاماً على كل رجل حرّ عاقل أن يعمل على إزالة أسباب ذلك المنكر، ومن بين الأحزاب العديدة التي نهضت بأعباء هذا الأمر، يمكننا أن نتبين أربع جماعات وحّد بينها غرض مشترك، وتعاونت في سبيل تنفيذ فكرتها، تلك هي:
(ا) المسلمون عامة المتمسكون بالدين، الذي كان يتألف منهم أهل السنة.
(ب) الخوارج ويمكن تسميتهم (بالمتطهرين) وهم شديدو التطرف في نزعتهم الدينية.
(ج) الشيعة أو أنصار عليّ وآل بيته.
(د) الموالي: وهم المسلمون من غير العرب.
ومن الجليّ الواضح أن الفريق الأول (الذي كان دعاته وأنصاره الفقهاء وحفظة القرآن وصحابة الرسول وتابعيهم)، كان هذا الفريق كارهاً للحكومة التي أرغم على طاعتها والخضوع لسلطانها. أما الاعتقاد بأن القوة التي كان يمثلها الطغاة ومؤيدهم قد وطأت الحق(448/27)
كما جاء به القرآن والسنة، فقد جعل الكثيرين يقحمون أنفسهم في غمار ثورة هائلة؛ ويقال: إن خمسة آلاف قد لقوا مصرعهم في حادثة تخريب المدينة، كما عزف آخرون عن الدنيا أمثال الحسن البصري، وسلكوا سبيل الزهد بعد أن يئسوا من الإصلاح، وقد كان لهذا الاتجاه عواقب خطيرة الشأن كما سنرى.
لما رضي عليّ بعد (صِفّين) بالتحكيم فيما شجر بينه وبين معاوية من خلاف حول مشكلة الخلافة لأمه الكثيرون من جنده ورموه بخيانة العهد، إذ كان - كما يعدّونه - الخليفة المنتخب عن جدارة واستحقاق، فكان لزاماً عليه أن يستمسك بمنصبه السامي ويضحي من أجله بكل ثمين، وفي طريق العودة إلى أمصارهم أنسلخ الساخطون ويقدّر عددهم باثني عشر ألف رجل، وعسكروا في بلدة تدعى (حردراء) على مقربة من الكوفة وصاحوا جميعاً: (لا حكم إلا الله)، وبذلك أظهروا اعتراضهم على التحكيم بتلك العبارة ولم يجيزوه. وحاول عليّ - دون جدوى - أن يستميلهم إلى جانبه، فأبوا عليه ذلك، وانتخبوا خليفة من بينهم، واجتمع في (النهروان) أربعة آلاف من صناديدهم المغاوير ثائرين عليه، فلما أشرف عليهم على وسط جموع جيشه اللجب تفرّق أكثرهم خوف لقائه. أما الباقون، فقد ثبتوا في أماكنهم، وآثروا الموت في سبيل الذّب عن إيمانهم ومعتقداتهم، وأصبحت مكانة (النهروان) عند الخوارج بمنزلة (كربلاء) عند الشيعة الذين اعتبروهم منذ ذلك اليوم أعداءً لهم. وقد ظلت ثورات الخوارج قائمة طوال صدر دولة بني أمية، إلا أن الحركة بلغت أقصى شدّتها وعنفها في سنوات الاضطراب التي حدثت عقب موت يزيد، فانتشر (الأزارقة) في العراق وفي جنوبي فارس، على حين استطاعت شعبة أخرى - وهي النجدية - التسلط على جزء كبير من بلاد العرب وإخضاعها لنفوذها. ولقد ظلّ العُصاة زمناً طويلاً مقيمين على مناهضتهم ومقاومتهم لعبد الملك، ولم يقلعوا على التمرد، حتى قام الحجاج سنة سبع وتسعين وستمائة، فأخمد ثورتهم التي كانت تحت رئاسة زعيمهم شبيب.
ويقال إن كلمة (خارجي) ترجع إلى آية في القرآن جاء فيها (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسَعَةً، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقعَ أجرُهُ على الله وكان الله غفوراً رحيماً) وعلى ذلك فالمقصود من كلمة (خارجي) ذلك الذي يهجر مُقامه بين الكفار ابتغاء مرضاة الله، وكذلك تتصل بلفظ (مهاجر)(448/28)
الذي أطلق على المؤمنين من أهل مكة الذين صحبوا الرسول في هجرته إلى المدينة.
وهناك لقب آخر يُكْنَوْن به، وهو مُستمد من القرآن في أصله إلا وهو (الشراة) أي الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لقاء الجنة كما جاء في قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقْتُلون ويُقْتَلون وعْداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوْفى بِعَهده من الله فاستبشروا بِبَيْعِكُم به الذي بايَعْتمُ وذلك هو الفوز العظيم)، وأغلب الخوارج من الجند البدو الذين استقروا في الكوفة والبصرة عقب الحروب الفارسية. ولم تستطع الحياة المدنية أن تغّير كثيراً من طبعهم الشموس وخًلقهم الجاف، فلم يروا في قريش من الفضائل ما يجعلها تذهب بالأمانة وحدها، بل أرادوا اختيار رئيس من بين ظهرانيهم تجري في عروقه الدماء التي تجري في عروقهم ويطيعونه - كما جرى سنّة البدو - ما دام قائماً خير قيام بأعباء ما عهد إليه به. ومع ذلك فقد كان الدافع الرئيسي للحركة دافعاً دينياً، ويمكن ردّه - كما أشار فلهوزن إلى القراء الذين ذهبوا إلى تهويل شأن المسألة الخاصة بإلزام علي بالتفكير عن خطيئته الكبرى التي دفعه إلى إتيانها موقفهم المحزن الذي وقفوه حينذاك. وإنهم ليناهضون علياً لنفس السبب الذي دعاهم للوقوف ضد عثمان، ففي كلا الموقفين كانوا يتعلَّلون بالرجوع إلى أمر اله للقيام في وجه الخليفة الجائر. وإنه لمن المهم عند التعرض لذكر مبادئ الخوارج الرئيسية عدم إغفال هذين الرأيين التاليين وهما
ا - جواز الخلافة لكل عربيّ حر
ب - عزل كل خليفة لا يحسن القيام بأعباء سلطته أو قتله إذا حتمت الضرورة ذلك
وقد كتب المستورد بن علّيفة الخارجي قائد المؤمنين إلى سمّاك بن عُبَيْد وكان في المدينة العتيقة رسالة جاء فيها: (أما بعد فقد نقمنا على قومنا الجور في الأحكام وتعطيل الحدود والاستئثار بالقيء، وإنا ندعوك إلى كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وولاية أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما والبراءة من عثمان وعلي لإحداثهما في الدين وتركهما حكم الكتاب) ومن هذا يتضح لنا أن دعوة الخوارج كانت تتلخص في التمسك بما نادى به الإسلام من المساواة والإخاء الذي لم يعد يُعمل به بل تلاشى تماماً. أما من الناحية النظرية فنرى أن جميع المسلمين المتمسكين بدينهم قد اتفقت رغبتهم على إعادته إلى(448/29)
نصابه، وعلى إدانة الحكومة القائمة، ولم يكونوا دون الخوارج في هذه الناحية وفي مَقْتِ تلك الدولة مقتاً شديداً تأصّل في حنايا النفوس؛ أما الفارق الذي كان يميِّز أفراد الحزب الأخير عن سواهم فهو صرامتهم الشديدة ودقتهم في تنفيذ مبادئهم ونشرها. وكان من آرائهم الجوهرية أنه يجب على الإمام أو زعيم المجتمع أن يحكم باسم الله وبمقتضى كتابه، وأنّ من سار على غير هذا الدرب فقد باع نصيبه في الحياة الأخرى، وأن النجاة الأبدية وقف على اختيار خليفة النبيّ. وكانوا يعدُّون المسلمين الذين يأبون سبّ عليّ وعثمان كفاراً مارقين، كما كانوا يرون من الضروري على كل مؤمن صادق الإيمان أن يساهم في (الجهاد المقدس) ضد هؤلاء وأمثالهم، وأن يقتلهم ويقتل زوجاتهم وأطفالهم أنّى ثقفتهم.
ولقد ارتدت هذه المبادئ الفظة على العصاة الذين سرعان ما وجدوا أنفسهم مهدّدين بخطر الانقراض، ومن ثم أخذت الآراء المعتدلة تنتشر بينهم فأحلَّ الأباضيون (أتباع عبد الله بن أباض) عيشهم بين المسلمين والاختلاط بهم في حدود التساهل المشترك بين الطرفين، ولم يكن التساهل في الواقع مناقضاً لما يريده الخوارج من إقامة مملكة الله على الأرض، ولكن حطّم منطقهم العنيد، كل دستور يوضع؛ فهم يقولون - كما لاحظ عليّ - (لا إمارة ولكن لابد من إمارة برة أو فاجرة) ومع ذلك فقد كانوا يحاربون بإيمان ثابت وعقيدة خالصة في سبيل مرميً شريف، ولم تكن لهم غاية دنيوية يسعون من اجلها على نقيض الأحزاب السياسية الأخرى.
تكلم الشهرستاني عن الإثني عشر ألفاً الأوائل الذين ثاروا ضد عليّ فوصفهم بقوله (إنهم أهل صيام وصلاة). وكان القرآن حكَمَهم في حياتهم والمهيمن على خواطرهم، حتى أن تاريخ اعتقادهم الأول، وتاريخ المضطهدين والشهداء والمؤمنين. . . كل ذلك غدا مأساة حقيقية واقعة كانوا هم أنفسهم أبطالها الذين قاموا بتمثيلها، كما أن خوفهم من الجحيم أثار فيهم حماسة صادقة وغيرة على إحقاق العدل، كما امتحنوا اعتقادهم الشخصي في دقة وخبروا إيمان جيرانهم. وويل للذين كانوا يجدونه ضعيف الإيمان، فهناك خطوة واحدة تقرب المخطئ من الإسلام، وعلى الرغم من أنه يمكن التجاوز عن الزلة وغفرانها بالتوبة الصادقة إلا أنهم كانوا يُسلكون أيّ مسلم ارتكب إحدى الكبائر ولو مرة واحدة في زمرة الكفّار المخلدين في النار، أو كان ذلك على الأقل في نظر الخوارج المؤمنين.(448/30)
حسن حبشي
ظاهرات نفسية(448/31)
في مسرحيات محمود تيمور
للأستاذ زكي طليمات
(تتمة)
نقدنا اليوم خاص بمسرحية (الموكب)، وهي المسرحية الثالثة التي كتبها تيمور باللهجة العامية وأصدرها في مؤلف واحد
وتنفرد هذه المسرحية عن المسرحيتين الأخريين بأنها شاهدت أنوار المسرح وطلعت على الجمهور في المكان اللائق بها. كان ذلك منذ سنتين وتسعة شهور، أيام المواكب والأعياد التي جرت في القاهرة احتفالاً بالمصاهرة السعيدة بين البيت الملكي في وادي النيل والبيت الإمبراطوري في إيران؛ وهو عهد اتجه فيه النشاط الاجتماعي - وذلك في بعض البيئات المصرية - وجهة خاصة لم تدم طويلاً. والأدب من الاجتماع، فكان أن كتب تيمور هذه المسرحية بإيذان تلك الساعات المشرقة، كتبها ليقدمها المسرح المسرحي لوزارة المعارف على مسرح الأوبرا الملكية في الحفلة التي أقامتها الوزارة احتفاء بهذه المناسبة السعيدة.
هي مسرحية سعيدة ولاشك، لأنها كتبت لمناسبة سعيدة، وقام بتأديتها نخبة من الفرق التمثيلية بالمدارس الثانوية، هم طلاب علم وثقافة لا يرون من الحياة إلا جانبها المشرق السعيد؛ فلا غرو أن جاءت مملحة بالمزاح المرح، فياضة بالفكاهة العذبة، تتوالى مشاهدها في إيقاع خفيف جذل.
وهي مسرحية (مناسبة) من حيث الباعث على كتابتها وإخراجها، وروايات المناسبات - كما يدل الاستقراء في تاريخ أدب المسرحية - لا يكون حظها كبيراً من القيمة الفنية ما عدا القليل، ومن هذا القليل هذه المسرحية؛ فقد استطاع كاتبها أن يسمو بها على أدب المناسبات، بأن جعل (المناسبة) شيئاً ثانوياً لا يستأثر بجوهرها، ولا يطغى على الناحية الإنسانية فيها، بل إن (المناسبة) في هذه المسرحية لا تتجاوز أن يكون مطية أحسن المؤلف اتخاذها لإبراز عرض إنساني تضطرب فيها شخصيات عريقة في إنسانيتها، هي تضطرب وتستقر، وتصطفق وتستكين، كاشفة عما بنفسها من ظاهر ومضمر.
الموكب؟(448/32)
والموكب في هذه المسرحية حقيقة ومجاز. حقيقة باعتباره أنه كائن عادي يُسْمَعُ وَيُرَى جانب منه، يعج عجيجه وتصدح موسيقاه، وترتفع هتافاته فتسري الهزة في شخوص المسرحية، وينطلقون يتحركون ويعملون، كل منهم في الدائرة التي رسمها له المؤلف. والموكب مجاز باعتبار أنه دلالة معنوية على شيء في النفس، في نفوس أشخاص المسرحية. هو لون من ألوان الرغبة التي هي لدى بعض الأشخاص في المسرحية مكبوتة مقيدة، لا هي تهدأ وتستكين، ولا هي تنطلق من إسارها إلا بعد لأي ومداورة ومراوغة، ثم هي لدى البعض الآخر رغبة إيجابية في فورتها تعمل مباشرة للانطلاق ولتحقيق غايتها.
أسرة في بهو بيت من بيوتات القاهرة اجتمعت حول المذياع تنصت الفنية بعد الفنية إلى ما يقوله المذيع عن أوصاف الموكب الذي ينتظم في محطة العاصمة ليسير بالأمير إلى ساحات القاهرة وطرقاتها. اصطفاق الجماعات وهي تعبر بهذا البيت في طريقها إلى المحطة، ترتفع إلى آذان المجتمعين حول المذياع من وقت لآخر فتشيع الهزة فيهم. والمجتمعون هم (فضل الله باشا) رب الأسرة، والد شيخ مصاب بعصبة أمراض إلا المرض الذي يضعف الشهية ويلجم النهم، وزوجة له دونه سناً وفوقه نشاطاً وعافية، وابن وابنة لهما، في أول سني الشباب يلبسان أحدث الأزياء، ثم ابنة للوالد من سرير تقوض منذ زمن طويل، فهي في منحدر العمر، وزوج لها يكبرها بأعوام، الاثنان يتفقان في الحياء الذي لا سبب له، وفي نزعتهما التحشمية المتحفظة البادية على لباسهما. نماذج بشرية من أجيال مختلفة، وأمزجة مختلفة، إلا أنها تتفق في ناحية واحدة، وهي الرغبة التي تساورهم جميعاً لمشاهدة الموكب!!
الجميع يرغبون في الخروج ولكن. . .
ولكن الباشا (فضل الله) يكره الخروج لأنه يمقت الزحام كما أنه متعب من أوجاع داء المفاصل، وابنته الكبرى وزوجها (زهرية وبديع) يودان الخروج ولكنهما يكبتان الرغبة احتراماً للباشا. هذا في حين أن زوجة الباشا (نظيره) وولديها (بشاير وصفر) يتوقون جميعاً إلى الخروج ويجاهرون بهذا ويعملون على تحقيقه. . . مجتمع طريف ولاشك من حيث تباين النزعات، ومن حيث موقف النفوس أمامها.
الباشا لن يستطيع مشاهدة الموكب لأنه لا يريد أن يبرح مكانه باسم المرض، إذن فلا(448/33)
خروج لواحد من أفراد الأسرة، ولا متعة إلا ما يستطيع أن يستمع بها هو قبل كل إنسان. الباشا قانع ومسرور بمشاهدة الموكب بعين الخيال الذي يبعثه صوت المذيع من الراديو، فواجب أن يقنع الجميع قناعته، وأن يسروا سروره. الباشا، بعبارة أخرى، أَثِرٌ بحب نفسه، الباشا تصرعه الأنانية. . .
بيد أن هذه الأنانية أو الأثرّةَ لدى الباشا غير ملحوظة بحقيقتها من وعيه الظاهر، لأنها من إيحاء المضمر الكامن في وعيه الباطن، والمرء قلما يشعر لأول وهلة بحالة نقص نفسي فيه. ولذلك نرى الباشا يلبس هذه النقيصة وهو لا يشعر حلة غير حقيقتها ويفسرها تفسيراً خاطئاً، وأداته في ذلك المنطق الكليل القاصر عن النفاذ إلى جوهر الأشياء، فنراه في حديثه يزجي حشداً من الأسباب لتبرير البقاء في البيت والاكتفاء بسماع الراديو، ويورد مبررات منطقية لها ظل من الحقيقة النسبية التي يريد فرضها على أفراد أسرته، وهو يأتي كل هذا بعقله الظاهر ليستر شيئاً مضمراً في ثنايا عقله الباطن، وليقيم صلة منطقية بين العقلين.
وأعجب من هذا أن الباشا، وهو أثر يحب نفسه، يفزع من سماع هذه الصفة ملتصقة به فنراه يصارحه بها ابنه (صفر) يتبرم ويتعثر ويأبى إلا أن يفسر هذه الصفة بأنها نزعة غضب أو استبداد!
ونعود إلى موضوع القصة. قلت إن (صفر وبشاير) ووالدتهما يتنزون شوقاً إلى مشاهدة الموكب وأنهم يجاهدون من أجل ذلك، فلا نلبث أن نرى صفر، وكأن وحياً هبط عليه فجأة، يصارح شقيقته وأمه بأنه وجد السبيل إلى الخروج من البيت، ثم ينحني عليهما ويأخذون بأسباب همس حار.
ويعترض سياق الهمس من جانب والحديث من جانب الباشا وابنته الكبرى وزوجها مشهد أورده، على ما أعتقد، ابتغاء تنشيط الحركة المسرحية التي أخذت تركد بعض الشيء، لا يخرج القارئ منه بشيء جديد أكثر من مطالعة شخصية جديدة هي (الشيخ كروان) وهو أفاق مشعوذ ممن يخلطون الجد بالهزل، ويمزجون العته بالذكاء، توسلاً إلى التقاط المال اليسير الذي يعيشون عليه. وقد يضيف هذا المشهد لوناً ثانوياً على شخصية الباشا فتنكشف لنا ناحية من نفسيته، وهي ناحية تلحظ عند كثيرين من البشوات السذج الذين ما برحوا يرون في التمرغ (بتراب الميري) ولو بطريق اقتعاد مقاعد البرلمان، أمنية محببة مرموقة.(448/34)
وأغلب الظن أن المؤلف قصد بإيراد هذا المشهد أن يمهد للانقلاب النفسي الذي سيجريه على نفسية الباشا في نهاية المسرحية، وذلك بطريق إظهار الباشا ممن يهتمون بالمظاهر الرسمية وممن لا يتركون فرصة تسنح دون أن يذكروا الدولة ورجالاتها بشخصهم الكريم.
ويستأذن (صفر) في الخروج بعد أن أضمر أمراً مع شقيقته ووالدته فيسمح له. وبعد برهة قصيرة يبدو فيها الباشا أكثر اهتماماً يتسمع أقوال المذيع عن وصف الموكب، وكأنما قد بعثت في نفسه أقوال (الشيخ كروان) عما تتداوله الألسن عن قرب تعين الباشا عضواً بمجلس الشيوخ، يدق جرس التليفون. . .
صوت ناعم يتكلم ويرجو حرم الباشا أن تسارع بالمجيء من أجل مسألة هامة، والباشا يعارض؛ ولكن البيت الذي ستذهب إليه حرمه مجاور لبيته، والداعية صديقة حميمة لها، وزوجها (عبد الغفور بك) جار عزيز لدى الباشا، والمسألة خاصة بوضع تعجل أوانه، فلا يجد الباشا بداً من النزول على إرادة الداعية وإجابة التماس زوجته، فتخرج (نظيرة هانم) وابنتها (بشاير)، ويبقى الباشا ومعه ابنته الكبرى وزوجها.
وسرعان ما يقتحم بهو البيت حيث يتربع الباشا وفد يهتفون باسمه الكريم. الوفد هم أعضاء (جمعية الفتيان المصلحين) التي يتقلد رئاستها الفخرية الباشا ولا فخر.
ما أحذق تيمور في إيراد المتناقضات الخلقية في الشخصية الواحدة، تلك المتناقضات التي تثير الضحك في غير افتعال، وتبعث معين الرحمة في القلوب فتمتد أطرافها إلى تفاهات الإنسانية وضعفها العريق!
اغتنم الوفد فرصة مروره أمام دار الباشا فصعدوا ليذكروه بأن دار الجمعية ترحب بتشريفه لمشاهدة الموكب عن كثب ومن غير عناء. ثم يأخذ زعيم الوفد في الإشادة ببهجة الموكب وبجلال الموكب. فنرى الباشا يعتذر عن إجابة دعوة الوفد. ولا يعتذر، وإذا به نهبة لتيارات جديدة. . . وينصرف أعضاء الوفد هاتفين بحياة الباشا.
وتبدر بعد ذاك بادرة تنم على أن الباشا بدأت تعتلج نفسه بأشياء لم يكن يحسها من قبل. هاهو يطلب إلى ابنته الكبرى أن تفتح شباك الشرفة على مصراعيه، والشرفة تطل مباشرة على الشارع حيث تمر الوفود لتنتظم في سلك الموكب، هو يطلب هذا بدعوى أن الهواء محتبس في البهو.(448/35)
وإذ ينتهي المذيع من قوله في وصف روعة الموكب وقد انتظمت صفوفه في الميادين، نسمع الباشا يصارح ابنته في قوته. وها هو يقوم ويطل من الشرفة فيرى جماعة من الشيوخ والنواب في ملابسهم الرسمية، وهم يطوون الطريق في سياراتهم. . . إنه ينادي الخادم، ولكن الخدم تركوا البيت لمشاهدة الموكب. . . إنه يطلب إلى ابنته أن تأتيه بالسترة الرسمية الخاصة بالتشريفة!. ولماذا. . .؟ إنه يخاف أن تكون العلة قد تطاولت عليها! بادرات ظاهرة تنم عن لمعات نفسية باطنة يأتيها الباشا وهو لا يحس بدوافعها الحقيقة!
المذيع يلهب الفينة بعد الفينة النزعة الجديدة التي أخذت تلبس الباشا وقد أخذ يرتدي سترته الرسمية بعد جهد وجهاد. هو يتمنطق سيفه ويتخطر أمام المرآة. إنه يتعجل ابنته أن تعيد تثبيت الأزرار التي انفرط عقدها، ثم. . .
ثم هاهو (عبد الغفور بك) جاره العزيز يقتحم البهو ويسأل الباشا أن يعيره ما يشد به (بنطلونه)!
وكيف تأتي أن يترك (عبد الغفور) زوجته وهي على أهبة الوضع؟
وإذ ذاك يسقط القناع عما دبره (صفر)، لقد تكلم باسم زوجة (عبد الغفور بك) واختلق مسالة الوضع اختلاقاً لييسر خروج والدته وشقيقته. . .
الباشا يتوعد ابنه، ولكن سرعان ما ينسى أمام صوت المذيع الذي يعلن وصول القطار للأمير إلى المحطة.
الباشا يدور على نفسه مصلحة هندامه، متعثراً بأثاث البهو، ثم ينطلق خارجاً ووراءه صديقه (عبد الغفور بك).
يبقي بديع وزوجته ابنة الباشا الكبرى. . .
وهنا يقول المؤلف (يراقب بديع الباشا في ذهول وهو يهرش رأسه، يبادل زوجته النظرات، ويقفز جارياً نحو الباب وهو يصيح: الله!! إشمعنا احنا؟ حصليني أوامك. . . بس اوعي تنسى البرقع)
وهكذا يبارح (فضل الله باشا) داره لمشاهدة الموكب بعد أن كان عاقداً العزم على البقاء فيه، وبعد أن حاول جهده احتجاز أفراد أسرته معه.
والآن نسأل هل كلن الباشا صادقاً في عزمه على البقاء في المنزل؟؟ ولئن كان كذلك فلماذا(448/36)
بارح المنزل، وأين ذهبت آراؤه ومأثورات أقواله في الاكتفاء بسماع ما يذيعه المذياع عن أوصاف الموكب؟؟
نعم كان الباشا صادقاً في عزمته، وكان قانعاً بالبقاء أمام المذياع مؤثراً الراحة في جلبابه وعباءته على التعب في سترته المشدودة لأن نفسه كانت لا تختلج بلاعج يثير كامناً فيها يلوح له بأطراف أمان يصبو دائماً إلى تحقيقها. وكان كذلك مخلصاً في دعوة أفراد أسرته إلى البقاء في المنزل بل واحتجازهم حوله، لا خوفاً عليهم من أخطار الطريق المزدحم، وتطاول النظرات العابثة كما كان يجري لسانه بذلك، ولكن إجابة لداعي أنانية لابسته إذ ذاك، مردها - كما أسلفنا البيان - إلى ألا تكون متعة من جانب أفراد أسرته لا يريد، أو هو لا يقدر على أن يستمع بها أولاً!
ومرض الباشا؟. . . نعم إن الباشا مريض، ولكنه مرض لا يحجزه عن الخروج إذا أراد. أما إذا لم يرد فالمرض يقفز إلى الصف الأول من الأسباب التي يصح أن يعتذر بها عن الخروج. وقد كان الأمر كذلك في أول الرواية، ثم كان عكس ذلك في نهايتها!!
رأينا الباشا يصمد لإغراء أقوال المذيع عن بهجة الموكب وطرافته، ويتمسك برأيه في البقاء بالمنزل ويسفه كل رأي عداه. ولكن حدث أن هاج (الشيخ كروان) في نفسه أمنية اقتعاد مقعد في مجلس الشيوخ فلمعت نفسه بشيء خاطف ألهاه بعض الشيء عما كان موطناً النفس عليه، وأخذ أفراد أسرته يتركونه الواحد بعد الآخر بحجج لم يستطع دفعها، وجاءت هتافات جمعية الشبان ودعوتهم إياه إلى مشاهدة الموكب من مكان لائق مأمون فاتجهت أنانيته السابقة الذكر والتعليل ناحية أخرى هي التفرد بمشاهدة الموكب من مكان قد لا يوفق إليه غيره ممن خلفوه بالمنزل وخرجوا، فكان يشرف مباشرة على مسير الموكب.
اصطلحت كل هذه الواردات والتأثرات على الباشا العنيد فجعلته يلين وجعلت لأقوال المذيع منفذاً إلى مكانة الرغبة في نفسه فسعرتها فإذا هو يندفع خارجاً وفي لباس نالت منه الأيام فجعلته غير صالح للظهور به في حفل كبير!
حقاً إن الإنسان لكائن متغير كصفحة الماء لا يقيم على حال، وله في كل حال أراء ومنطق ومذاهب بفعل المؤثرات التي تطلق من أعماق النفس تيارات تسيطر عليه وتوجهه كما يريد.(448/37)
وحقاً إن شخصية (فضل الله باشا) هذه تقدم لنا صورة من التقلقل والضعف اللذين لقحت بهما إنسانيتنا، واللذين يبدوان حتى في أتفه الأمور.
وهناك ظاهرات نفسية صادقة وطريفة تتصيدها العين الفاحصة في بعض شخصيات المسرحية. ولعل أعجبها ما يبدر من شخصية (بديع بك) صهر الباشا. هذا المتزمت المقنع يقع في تناقض عجيب حينما تندفع رغبته المكبوتة في مشاهدة الموكب وذلك بمجرد أن يرى والد زوجته يبارح البيت فلا يبالي أن يترك بدوره المنزل مخلفاً وراءه زوجته على أن تلحق به منفردة وبغير دليل وحارس لتخوض أمواجاً بشرية من الرجال المتدافعين بالمناكب!
هذه كلمتي الأخيرة عن كتاب (ثلاث مسرحيات في فصل واحد) لمحمود تيمور قصرتها على معالجة الناحية النفسية والإنسانية في أبطال هذه المسرحيات، وذلك باعتبار أنها الناحية الثابتة التي لا تتغير من الحقائق التي ضمنتها هذه المسرحيات، وأنها أجدر هذه الحقائق بالشرح والتبصرة، وأولاها باهتمام الناقد وبحكمه عليها من ناحية صدقها ومن ناحية مبلغ توفيق المؤلف في معالجتها. وقد أجريت قلمي في هذا بغير قليل من الإسهاب إرادة البيان والتبيين.
ولاشك في أن (تيمور) توخى فيما توخاه من كتابة مسرحياته هذه، أن يقربنا بعض الشيء مما تنغلق عليه نفوسنا تارة وتنفتح عنه أخرى، وهذا من صميم الأدب والفن، لأن الأدب الحق هو ما قرب الإنسان إلى معرفة نفسه.
زكي طليمات
هواجس مريض(448/38)
على وشك الرحيل
للأستاذ علي عبد العظيم
حياة كالمنيَّةِ سوف تذوي ... فتسلمني المنونُ إلى المنون
وما أخشى الردى لولا عيونٌ ... سأتركها مقرَّحة الجفون
ووالهةٌ تذوب أسىً وهمّاً ... ستهتك حرمة الخدر المصون
تكاد تضم من هلع ضريحي ... وتسأله الحنو على الدفين
وتسكب فوقه أفلاذ قلب ... مسلسلة مع الدمع الهتون
أحس بثكلها في جوف رمسى ... فيوشك أن يُجّنَّ لها جنوني
وأسمع في الظلام لها أنينا ... يردده على بعد أنيني
فيا أماه حان ارتحالي ... إلى وادي الظلام فودعيني
خذيني نحو صدرك واهتفي لي ... بلحن المهد في رفق ولين
وهاتي من حديثك وابسمي لي ... وضميني إليك وقبليني
فَرُبَّتَ بسمة من فيك رفت ... على قلبي رفيف الياسمين
سأقطف من جناها العذب زادي ... وأرشف من مناهلها مَعِيني
وأجعلها إلى الأخرى دليلاً ... يقود إلى مرافئها سفيني
غداة غد تخب بيَ المنايا ... فتقذف بي إلى واد شَطون
تقنع بالظلام وحجَّبته ... عن الدنيا مغاليقُ القرون
فلا شمسٌ ترف على دجاه ... ولا أخلاف غادية هَتون
ظلام تعثر الألباب فيه ... وتفزع منه طارقة الظنون
سميري فيه حصباء ومروٌ ... ومهدي فيه من ماء وطين
ولكني ستؤنسني - إذا ما ... دلفت إليه - أخلاقي وديني
(الإسكندرية)
علي عبد العظيم(448/39)
أشعار صينية
كتاب الشعر من القرن 13 - القرن 8. ق. م
(إلى السيدة (ل))
للأستاذ م. وهبة
- 1 -
حبيبتي
عند باب المدينة الغربي، تقف فتيات صغيرات يتضاحكن، متمايلات خفيفات كسحاب الربيع. . . ولكني لا أبالي سحرهن، فحبيبتي في ردائها الأبيض وتحت نقابها الشفاف أكثر سحراً منهن.
عند باب المدينة الشرقي، تنام فتيات صغيرات يحلمن، جميلات ناضرات كزهور الربيع. . . ولكني لا أبالي عطرهن، فحبيبتي في ردائها الأبيض وتحت نقابها الشفاف أزكي عطراً منهن.
- 2 -
رسالة
حبيبي! لا تأت إليّ لتسأل عني، أضرع إليك. أنت ستكسر أشجار الصفصاف التي غرستها أمام غرفتي. أنا لا أستطيع أن أحبك أكثر مما أحببتك. يجب أن أذعن لوالديّ. قلت لهما: (كم أحبك وكم أنت كل شيء لدي، فأسمعاني كلاماً جارحاً
حبيبي! لا تتسلق حائطنا. أضرع إليك. أنت ستكسر أغصان الشجيرة الصغيرة التي أسقيها كل صباح. أنا لا أستطيع أن أعطيك قلبي؛ فإرادة أخي الأكبر صارمة، وهو لا يرديني أن أحبك.
حبيبي! لا تحطم الحاجز الذي اتكأنا عليه سويّاً مساء رحيلك؛ أضرع إليك. أنت ستنزع شجرة الورد التي أشم عبيرها عند الشفق.
- 3 -(448/40)
وحدي
إنه الأقوى. إنه الأشجع. إنه الأجمل بين جميع المتحاربين: ذلكم من أحبه، ولكنه الآن في جيشه يسير نحو الشرق
هأنذا أرسل شعري للريح الآتية من الشرق، تداعبه! أنا أخشى الشمس والقمر والنجوم، ولا احب سوى مطر الشقاء المنهمر. فقطراته أطلبها لتطفئ ناري، ولكنها لا تستطيع.
أنا أعرف من أين أجمع الزهر الذي يلهمني النسيان. فمنزلنا الصغير يملأه عبيره؛ ولكنني قد أغلقته، لأني أريد أن أتألم
فإذا لم أتألم كما أتألم الآن، فسأكون أكثر بعداً عن حبيبي.
(م. وهبة)(448/41)
وليم بليك
يمتاز شعر وليم بليك بطابع الطفولة التي غني بها في كثير من قصائده مثل: أغنية المربية، وأغاني المهد، والطفل الساهد، ويسمو أيضاً شعره في الخيال كما في قصيدة (النمر) لذلك أعتقد أنه جدير بأن يسمى (شاعر الطفولة والخيال)
دنيا الأحلام
اصح، اصح، يا ولدي الفريد!
كنتَ فرح أمك الوحيد
لماذا تبكي في النوم الجميل؟
اصح! والدك يرعاك يا طفلي
آه، ما دنيا الأحلام، ما دنياها؟
ما جبالها، وما أنهارها؟
رأيت أمي هنالك، يا أبتاه!
بين زهور الزنبق وأعذب المياه
بين الحملان، في ملابس بيضاء
ومشت مع ابنها ثومس في هناء
فبكيت من الفرح، ونُحت كالحمام الساجع
آه! متى أرجع ثانية، متى أنا راجع؟
طفلي العزيز، كنت مثلك بين المياه العذبة في هيام
إلى انتهاء الليل في دنيا الأحلام
ولكن، والنهر هادئ والماء دافئ فاتر
لم أستطع عبورها للجانب الآخر
أبتاه، يا أبتاه! ما نفعل ههنا
في دنيا الإلحاد والخوف هنا؟
إن دنيا الأحلام أجمل مسكناً(448/42)
فوق نور الصبح، فوق نجومنا(448/43)
الزهرة العليلة
أيتها الزهرة، أنت عليلة!
الحشرة في ثوب الخفاء،
التي تطير في جنح الظلام،
وفي الزوبعة الهوجاء،
وجدت فراشك
المملوء فرحاً قرمزياً كالدماء؛
وحباً مختفياً في حجاب الليل؛
فقست على حياتك بالغناء
(الخرطوم بحري السودان)
محمود محمد حسن(448/44)
البريد الأدبي
إبراهيم حلمي العمر
لا يمرّ أسبوع بدون نعيم يزفّه إلى روحي بريد العراق، فإخواني في
بلاد الرافدّيْن لا ينسونني، ولا يفوتهم أن يطلعوني على ما يجدّ هنالك
من ثمار الآداب والفنون.
وكان المألوف أن أجد ما يسرني فيما يصل من الجرائد والمجلات، فماذا وقع اليوم؟
جاءت حزمة من أعداد (الأخبار والأحوال والزمان والشهاب) وعلى صدورها جميعاً صورة واحدة لأديبٍ من أصدقائي فعرفت أنه مات. وهل تهتم الجرائد في يوم واحد بنشر صورة لأديب إلا حين يموت؟!
لم يبق شكٌ في أن الأستاذ إبراهيم حلمي العُمَر قد مات، ولن أراه إن قُدِّرت لي زيارة قريبة أو بعيدة لأصدقائي في بغداد، فهو أنسٌ ذهب ولن يعود، وإني لذهابه لحزين، أحسن الله فيك عزائي، يا إبراهيم!
ذلك كاتبٌ مغامر، رضي عنه قومٌ وغضبتْ عليه أقوام، فكان ملكاً عند أولئك وشيطاناً عند هؤلاء، ولكنه في حدود ما عرفتُه كان أدبياً حلو التعبير، بارع الأسلوب، مع أريحية عربية قليلة الأمثال. وما أذكر أبداً أني رأيت منه غير الجميل
كان إبراهيم حلمي العُمَر من أوائل الأدباء الذين نهضوا بالصحافة العراقية كما قالت الجرائد التي لم تر مانعاً من إنصافه بعد الموت، وهل ينتفع الميت بالإنصاف؟!
وإبراهيم هو الذي أنشأ جريدة (لسان العرب) في دمشق منذ أعوام طوال. وقد يكون أول عراقي خلق لوطته صداقات في الديار المصرية قبل أن يصل تعارفُ العرب إلى ما وصل إليه اليوم. ألم يقل من رثوه إنه كان من مراسلي (المؤيد) و (اللواء)؟
سألت عن إبراهيم حين انقطع سؤاله عني فعرفت أنه مريض فغالبتُ وهج القيظ ومضيتُ لعيادته بعد الدرس الأخير في أحد أيام حزيران سنة 1938، فماذا رأيت في داره يومذاك؟
رأيت طفلاً وطفلة يتفاهمان بالتناغي قبل موعد التفاهم بالكلام، كما تتفاهم الحمائم الموصلية، وهما يتصاخبان ويتباغمان بصورة تشهد بأنهما يجهلان أن أباهما مريض(448/45)
ومن المؤكد أن هذين الطفلين وصلا إلى التفاهم بالنطق، وأدركا معنى الحياة والموت، فأين من يواسي هذين الطفلين العزيزّيْن بعد انحسار ظل أبيهما الرفيق؟
الله عز شأنه هو المسئول عن الطب لجراح القلوب
زكي مبارك
1 - من غلط لغوي كبير
في كتاب (نشوء اللغة العربية للأستاذ أنستاس الكرملي) في الصفحة 35: قال ابن فارس في كتابه الصاحبي ما هذا نصه بحروفه (زعم أهل العربية أن القرآن ليس فيه من كلام العرب شيء، وأنه كله عربي، يتأولون قوله جل ثناؤه: إنا جعلناه قرآناً مبيناً)
وفي جريدة الخطأ والصواب في آخر الكتاب نبه على أن (العرب) صوابها (العجم) ولكنه لم يصحح الآية القرآنية، وصوابها (إنا جعلناه قرآناً عربياً)
2 - بَرقة
نشر الأستاذ النشار قصيدته (برقة) وضبطها بفتح الباء. وثم جاء الأديب محمود عزة عرفة فخطأ هذا القيد وقال إن الصواب (بُرقة) بالضم. فرجعت إلى القاموس المحيط فرأيته قال، والبَرقة الدهشة وبلدة بقم وبلدة تجاه واسط القصب وقلعة حصينة بنواحي دوان وإقليم أو ناحية بين الإسكندرية وأفريقية. وفي اللباب في الأنساب لأبن الأثير: البرقي بفتح الباء المنقوطة بواحدة وسكون الراء. هذه النسبة إلى برقة وهي بلدة بالمغرب خرج منها جماعة كثيرة من العلماء في كل فن. . . الخ. وفي معجم البلدان لياقوت: برقة بفتح أوله والقاف أسم صقع كبير يشتمل على مدن وقرى بين الإسكندرية وأفريقية. وفي (المبهج لابن جني) بسط القول في الأعلام المرتجلة والمنقولة
محمد أبو البهاء
كيف تنفح الأحاديث
طالعت ما كتبه الأستاذ محمود أبو رية تحت عنوان (رأي في تنقيح الأحاديث)؛ وإني أشكر للأستاذ الفاضل اهتمامه بهذا الموضوع الخطير، وأرى ما يراه من وجوب تنقيح ما تركه(448/46)
لنا السلف من تلك الأحاديث، وتمييز الصحيح منها على أساس قوة السند وصحة المتن، ولكني أخالفه أن يكون ذلك بتغيير كتب الحديث القديمة، إذ يرى أن نبدأ بالحديث فننخل كتبه، ولا تبقى فيها غير الصحيح مما يخالف متواتر النقل، وصريح العقل، وما أثبته العلم، وشهد به الحس.
فهذه الكتب أصبحت أمانة تاريخية بأيدينا، فيجب أن نبقيها على حالها، لتشهد بحال رجال الحديث في تلك العصور، وتبين مقدار اجتهادهم في تمييز ما صح من الأحاديث، وقد جرت الأمم على صيانة تاريخها من التغيير والتبديل، وعملت على حفظ نواحيه كلها حتى ما يرجع منها إلى الأساطير، وهذا إلى أن عملنا سيقوم على أساس الاجتهاد، وهو يتغير بحسب المجتهدين، ويختلف باختلاف العصور والأحوال.
فيجب أن نبقي كتب الحديث على حالها، وأن نؤلف كتباً جديدة تنصرف فيها نشاء باجتهادنان، ونثبت فيها ما نرى إثباته من الأحاديث، ونحذف منها ما نرى حذفه، وقد يأتي من بعدنا فيعمل في كتبنا ما عملناه في كتب من سبقنا، فباب الاجتهاد مفتوح إلى ما شاء الله، والكمال لله تعالى وحده.
عبد المتعال الصعيدي
فتوى في المذاهب الصوفية
هناك ناحية أخرى من نواحي الإصلاح إلى الآن لم يتعرض لها أحد، وهي لا تقل لخطرها عن إصلاح الأزهر، تلك هي (الطرق الصوفية)
الطرق الصوفية مبثوثة في القرى والدساكر، وهي تلقن العوام وأشباه المتعلمين البدع والضلالات، ولو كنتم ممن يسكنون القرى أو لو كنتم ممن يتصلون برجال الطرق الصوفية عن كثب لجعلتم المجهود الذي توجهونه للأزهر وحده مناصفة بينهما.
وقد اطلعت على الفتوى المرسلة مع هذا في كتاب (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) ج11 صفحة 237، 238 عند تفسير قوله تعالى: (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) فعسى أن تنشروها بمجلة الرسالة الغراء ليطلع عليها الملأ رجاء أن يكون في نشرها ما ينفع(448/47)
سئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله:
ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وأعلم حرس الله مدته أنه اجتمع جماعة من رجال فيكثرون من ذكر الله تعالى وذكر محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم. ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه. ويحضرون شيئاً يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين
الجواب
(يرحمك الله. مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلال وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله. وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون. فهو دين الكفار وعباد العجل.
وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى. وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأن على رؤوسهم الطير من الوقار.
فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها. ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعنيهم على باطلهم. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي واحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين. وبالله التوفيق)
(كفر المندرة)
أحمد أحمد القصير
النابغة الذبياني في كتاب المنتخب
تركت الخدمة وشغلت نفسي بالزراعة، بعد أن أجهدتها في مراحل التدريس كلها خمساً وثلاثين سنة. ثم أراد الله أن ذهبت يوماً إلى العاصمة، واتفق أن جلست على مكتب لأحد الأصدقاء، فحنّت نفسي إلى ما ألِفَته قديماً، فمددت يدي إلى (المنتخب) الذي ينسب إلى ستة من فحول وزارة المعارف.
فكان من حظي أن وقع نظري على عشرين بيتاً (للنابغة) من عينيته المشهورة التي اشتهرت بشواههدها النحوية والبيانية، حتى تولى شرحها شراح الشواهد كالبغدادي والسيوطي. قرأتها فهالني ما عنَّ لي فيها من مآخذ في الشرح والشكل والإعراب، حتى(448/48)
خيل إلى أن المؤلفات المدرسية التي توجت بأسماء هؤلاء الفحول ليس لهم فيها إلا الأسماء والأرباح، وإلا فكيف أوفق بين علمهم الغزير وخطئهم الكثير! وإليك البيان:
عفا ذو حسا من فرتني فالفوارع. ضبطوا الحاء بالفتح، والمعاجم والسروح تنص على ضمنها.
أتاني - أيبت اللعن - أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع
قالوا: تستك أي تضيق، والمعنى أتتني عنك ملامة يضيق عنها السمع ويأباها. أهـ
وليت شعري أسمع النعمان أم سمع النابغة؟ وأقول: إنما أراد النابغة تستك منها مسامعي فزعاً من هول وعيدك ولومك؛ وإذا كان الضيق من معاني الاستكاك فمن معانيه أياً الضم والانسداد، وهذا هو الذي يناسب مقام الفرع الأكبر الذي حل بالنابغة، فجعله يمعن في الاعتذار والاستعطاف.
مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع
ضموا تاء، قلت: والصواب فتحها. وقالوا: سوف أناله بهجاء أو بأذى، فجعلوا هذا وعيداً من النابغة، لأن التهديد بالهجاء إنما يكون من الشعراء لا من الملوك. وقالوا: تلقاء بمعنى لقاء، أي وذلك مفزع لي عن لقاء مثلك، وفاتهم أولاً أن قوله: أناله معناه أدركه على حد قوله تعالى: (وهموا بما لم ينالوا). وثانياً أن تلقاء هنا معناه جهة أو حذاء على حد قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين) وعلى هذا فالمعنى: أتاني وعيدك بأن سوف تدركني أينما اختفيت، وهذا الوعيد منك ومن مثلك من أهل القدرة والسلطان الواسع مخيف مزعج، لا تطمئن معه نفس بعدت عنك أم قربت منك كما قال: ولا قرار على زأر من الأسد.
أتاك بقول هلهل النسيج كاذب ... ولم يأت بالحق الذي هو ناصع
جروا لفظ كاذب، وجعلوه صفة للقول مجازاً عقلياً إذ يقال: كذب الرجل، ولا أعرف كذب القول إلا على حد (عيشة راضية). والأقدمون ينصبونه حالاً من فاعل أتاك، وألمح في النصب إشعاراً بتعمد الكذب، وشاية وإيقاعاً بالنابغة، هذا أبلغ في المعنى.
بمصطبحات من لصاف وثبرة ... يزرن ألالا سيرهن التدافع
كسروا لام لصاف، والصواب فتحها، فقد قالوا لصاف كحذام مكسورة غير منونة، أو كسحاب منونة معربة.(448/49)
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأي عنك واسع
قتل النحاة والبيانيون هذا البيت شرحاً وتحليلاً، وجعلوه من عيون التشبيهات الرائعة، شبه النابغة النعمان بالليل في أن كلاً منهما مع ما فيه من شديد الرهبة والوحشة يغشى مطلوبة بسرعة لا تدع له منحى مهما ظن الفرار ممكناً. أما شراح المنتخب فكل ما قالوه في شرح البيت:
فإن عقابك ومؤاخذتك كالليل؛ أي لا أنجو من عقابك مهما اتسعت أمامي مذاهب البعد عنك والهرب منك. وبهذا أذهبوا روعة التشبيه، إن لم نقل جانبوا غرض الشاعر.
خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع
قالوا: خطاطيف خبر لمبدأ محذوف، أي لك خطاطيف!؟ وأنا أناشدهم الله أفيهم من يقبل من تلاميذ الابتدائي أن يقدروا المبتدأ جاراً ومجروراً!
أتوعد عبداً لم يخنك أمانة ... ويترك عبد ظالم وهو ضالع
رفعوا يترك بعد الواو، والمدارس تعلم الطلبة أن الواو التي يليها المضارع للمعية إذا سبقها نفي أو طلب. ولست أجهل أن الرفع جائز، ولكن المعنى على الرفع غير المعنى على النصب، ولست أشك في أن المعية مقصودة هنا.
وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنية قاطع
أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
وتستقى إذا ما شئت غير مصرد ... بزوراء في حاناتها المسك كانع
يصف النابغة النعمان بالسخاء والشجاعة، وأن الله فطره على العدل والوفاء، لا يعرف المنكر، ولا ينسى الجميل، قد تهيأت له أسباب الرفاهية، يشرب ما شاء من أطيب الشراب في كأس من الفضة، كأنها لطيب ما فيها قد لصق المسك بحافاتها، وكل هذا خبر لا دعاء فيه ولا إنشاء؛ ولكن انظر كيف حار المؤلفون الستة في ضميري أبى الله إلا عدله ووفاءه، أهما لله جل شأنه أم للنعمان؟ فقالوا في الشرح: (أي أن الله عادل ليس المنكر مقبولاً عنده، ولا المعروف ضائعاً لديه، وهو جاعل النعمان بإرادته عادلاً، وإن قلنا إن الضمير يعود على النعمان كان المعنى ظاهراً. أهـ). ثم أنظر في البيت الأخير كيف حرفوا كلمة حافات فجعلوها حانات، وكيف غرهم بعض الكتب فاتبعوه؛ وقالوا في الشرح: زوراء دار كانت(448/50)
بالحيرة للمناذرة. وكنع: تراكم ولزق، والبيت دعاء للنعمان!
وليت شعري كم حانة كانت بتلك الدار؟! وما الغرض من تراكم المسك في تلك الحانات؟ ولم جعلوا هذا دعاء للنعمان؟ ولو كان دعاء لفصله عما قبله لاختلافهما خبراً وإنشاء، والدعاء طلب غير الحاصل ليحصل. فهل كان عسيراً على النعمان أن يشرب أي مقدار شاء من الخمر في دار تراكم المسك في حاناتها حتى يتقرب إليه النعمان بالتضرع إلى الله أن يمن عليه بذلك. إن الأقدمين فسروا الزوراء بكأس مستطيلة من الفضة، وأرى أن البيت:
وتسقى إذا ما شئت غير مصرر ... بزوراء في حافاتها المسك كانع
ويروى: في أكنافها المسك كارع
هذه مآخذي على المؤلفين في عشرين بيتاً لو كانت في المنتخب كله لعُدت كثيرة؛ فرجائي من صاحب المعالي وزير المعارف أن يضع حداً لفوضى تأليف الكتب المدرسية؛ فلا تقرر الوزارة كتاباً مهما علا شأن مؤلفه إلا بعد أن يعرض على لجنة من أساتذة دار العلوم الذين امتازوا بالتوسع في علوم اللغة العربية، ولا تقرره الوزارة إلا لمدة سنة على الأكثر.
عثمان أبو النصر
أستاذ بكلية دار العلوم سابقاً(448/51)
الكتب
2 - المؤلفات العربية القديمة
وما نشر منها في سنة 1940
للأستاذ كوركيس عواد
7 - البخلاء
للجاحظ (255هـ)، الجزء الثاني. نشرته وزارة المعارف المصرية (طبعة مدرسية) بتحقيق الأستاذين أحمد العوامري بك وعلي الجارم بك. (مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 260ص) الجزء الأول صدر قبل هذا.
8 - البداية والنهاية في التاريخ
لأبن كثير الدمشقي (774هـ) المجلد الرابع عشر (مطبعة السعادة، القاهرة 332ص) فيه حوادث السنين 698 - 767هـ، وبه ينتهي الكتاب. المجلدات 1 - 13 صدرت سابقاً
9 - البديع في وصف الربيع
لأبي الوليد إسماعيل بن عامر الحميري الأشبيلي (المتوفى حوالي 440) علّق عليه ووضع له فهارس للرجال والأماكن والقوافي، المستشرق هنري بيريس المدرس بجامعة الجزائر. (المطبعة الرباطية - الجزائر)
10 - تاريخ الشيخ عيسى حمادة المتوالي
للأب أغوسطين زنده الحلبي (كان حياً سنة 1777م). وهو قطعة من كتاب كبير في تاريخ لبنان في المائة الثامنة عشرة للميلاد. نشرها الأب بولس مسعد الحلبي اللبناني. في مجلة المشرق ببيروت (38 (1940) ص32 - 40)
11 - التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق
الهالكين
لأبي المظفر الإسفراييني (471هـ) نشره الأستاذ عزت العطار الحسيني، بتعليقات(448/52)
للأستاذ محمد زاهد بن الحسن الكوثري وكتب الدكتور محمود محمد الخضيري كلمة عن الصلة بين عِلم الفِرقَ وغيره من العلوم. (مطبعة الأنوار، القاهرة 135ص2، فيها الفهارس)
12 - تحفة الأحباب في ماهية النبات والأعشاب
لمؤلف مجهول - من جنوب مراكش - ألَفه عند مختتم القرون الوسطى. طبعه وحل مشكلاته ونقله إلى الفرنسية: (هـ. ب. ج. رينو) و (جورج س. كولان)؛ لم أقف على خبره في غير ما أخبره به الدكتور بشر فارس في مجلة الثقافة (العدد 113ص282 - 284)
13 - تخمبس همزية البوصبري في سيرة الرسول
للشيخ محمد الغلامي الموصلي (1186هـ). نشره الأستاذ محمد رؤوف الغلامي. (مطبعة محفوظ، الموصل، 120ص). البوصيري صاحب القصيدة الهمزية، توفي سنة 696هـ.
14 - تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر
لأحمد باشا تيمور (أنظر الرقم 1 من هذا الكشف). نشر هذا الكتاب سنة 1934 لأول مرة، متتابعاً في اثنى عشر عدداً من مجلة الرسالة (أنظر الرسالة في أعداها 47 - 58، ثم طبع سنة 1940 (القاهرة 164ص)
15 - ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام
للشيخ عز الدين بن عبد السلام السلمي الملقب بسلطان العلماء (660هـ). نشره الأستاذ أحمد سامح الخالدي (الديري)، (المطبعة التجارية، القدس 16ص)
16 - تفضيل الأتراك على سائر الأجناد
للوزير أبى العلاء ابن حسول (450هـ) وهي رسالة ضمنها الرد على كتاب (التاجي)، لأبى إسحق الصابىء (384هـ) كما تكلم فيها على السلاجقة والديلم والجيل. النص العربي، نشره الأستاذ عباس العزاوي المحامي البغدادي، وكتب له مقدمة توسع فيها بترجمة المؤلف المقدمة (ص1 - 24) والمتن (ص25 - 51) طبعا بالزنكغراف، وقد(448/53)
نقلهما إلى اللغة التركية محمد شرف الدين بك الأستاذ في كلية الآداب باستانبول ونشر للكل في مجموعة (تاريخ قورومي) التي تصدرها الحكومة التركية في استانبول , 14 - 15 , 235 - 266) وقد طبع من الترجمة مع الأصل نسخ قلائل على حدة.
17 - التفهيم لأوائل صناعة التنجيم
لأبى الريحان البيروني (440هـ). ألفه سنة 421هـ، لأبي الحسن علي بن أبي الفضل الخاصي. وهو في الفلك والرياضيات. طبع بمقدمة وتعليقات (طهران 677ص)
18 - جماع العلم
لإمام المذهب محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) حققه الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر (مكتبة القاهرة 150ص)
19 - الجمان المنضد في مدح الوزير أحمد
لمحمد الغلامي الموصلي نشره السيد محمود فوزي الغلامي، بشرح وتعليق الأستاذ محمد رؤوف الغلامي (مطبعة محفوظ - الموصل - ص344). الكتاب في مدح الوزير أحمد باشا ابن سليمان باشا الجليلي، الذي حكم الموصل تسع سنوات، وتوفي سنة 1239هـ.
20 - الحدائق
لعبد الله بن محمد السيد البطليوسي (521هـ)، نشره المستشرق الأسباني آسين بلاسيوس مع ترجمة أسبانية بعنوان:
' -
في مجلة (الأندلس) الأسبانية في مدريد:
1 , 45 - 154. , -
النص العربي مطبوع بحروف مغربية، وهو مع الترجمة وقعا من المجلة المذكورة في 110 صحائف.
الكتاب في الحكمة والتصوف.
21 - حديث الحكمة(448/54)
لأبي الفرج المعروف بابن العبري (685هـ) نشره وصحح نقله لأول مرة البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم (مطبعة السلامة، حمص، ص66)، الأصل وضعه ابن العبري باللغة الإرمية، والترجمة المنشورة هذه قد تكون لأحد كتبه المائة الرابعة عشرة للميلاد. في هذا الكتاب لخص ابن العبري بعض مؤلفاته في المنطق والطبيعيات والإلهيات.
22 - الحيوان
للجاحظ (255هـ) المجلد الرابع، نشره الأستاذ عبد السلام محمد هارون بعد أن بذل في تحقيقه وضبطه وشرحه ما لا مزيد عليه (مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، ص536) المجلدات 1 - 3 صدرت خلال 1938 - 1939 بمثل العناية التي لقيها هذا المجلد. الكتاب سيتم في سبعة مجلدات، هذا المجلد تناول الكلام على: النمل والقرد والخنزير والحيات والظليم وغير ذلك.
23 - ديوان البارودي
لمحمود سامي باشا البارودي (1322هـ). المقدمة لمعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا، والشرح للأستاذين علي الجارم بك ومحمد شفيق معروف، نشرته وزارة المعارف المصرية في مطبعة دار الكتب بالقاهرة.
24 - رحلة الوزير في افتكاك الأسير
لمحمد بن عبد الوهاب الغساني وزير مولاي إسماعيل وسفيره إلى ملك أسبانية نشره الأستاذ الفريد البستاني (طبع في طنجة).
25 - الرسالة
للأمام الشافعي (204هـ) نشرها الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر بعد أن حققها على الأصول المخطوطة والمطبوعة، وأقدمها نسخة بخط الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي وراوي كتبه.
26 - رسالة في صنعة القواد(448/55)
للجاحظ (255هـ) نشرها الأستاذ عبد الرزّاق الحصّان، في (الملحق) الثاني من كتابه (نظرة عابرة في شمالي العراق). (مطبعة التفيّض الأهلية، بغداد، ص72 - 81)
27 - رسالة في نصيحة ولي عهد مروان بن محمد، وفي
صفة تعبية الحروب، والحذر من العدو والمكيدة له وانتقاء
القواد، والاستعداد بالآلات والأموال
لعبد الحميد الكاتب (132هـ) نشرها الأستاذ عبد الرزّاق الحصان في (الملحق) الخامس من كتابه المذكور في الرقم 26 (ص104 - 134)
28 - طبقات ابن سعد
لأبن سعد (230هـ)، القسم الثالث من المجلد التاسع، فيه فهرست أسماء الأشخاص الذين ذكرهم ابن سعد في متن كتاب الطبقات الكبير. رتَّبها المستشرق الألماني إدوار وحالت وفاته دون نشرها (مطبعة بريل في ليدن 258ص). جميع أقسام الكتاب ظهرت خلال السنوات 1917 - 1928، وقد استتمّ الآن.
29 - لعقد الفريد
لأبن عبد ربه الأندلسي (328هـ) الجزء الأول. نشره الأساتذة أحمد أمين، وأحمد الزين، وإبراهيم الأبياري، بعد شرحه وضبطه وتصحيحه وعنونة موضوعاته، وترتيب فهارسه الوافية (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، س + 477ص). هذا المجلد يشتمل على ثلاثة أقسام بحسب تقسيم المؤلف لكتابه، وهي: كتاب اللؤلؤة في السلطان، كتاب الفريدة في الحروب، كتاب الزبرجدة في الأجواد والأصفاد. بقية مجلدات الكتاب تصدر بالتتابع، ولعَّله يتم في نحو ثمانية أو عشرة مجلدات.
30 - العقد الفريد
لابن عبد ربّه الأندلسي (328هـ). حقه الأستاذ محمد سعيد العريان، ونشرته المكتبة التجارية الكبرى (مطبعة الاستقامة، القاهرة). صدر من هذه الطبعة ستة مجلدات، صحائفها(448/56)
بالتوالي: 346، 367، 374، 343، 415، 350. وسيصدر الجزء السابع وبعده الثامن، وبهما يتم الكتاب.
31 - غرائب الأثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر
لياسين أفندي ابن خير الله الخطيب العمري الموصلي (المولود سنة 1157هـ). عُني بنشره الدكتور صدّيق الجليلي (مطبعة أم الربيعين، الموصل، 128ص). في هذا التاريخ حوادث السنين 1200 - 1225هـ.
32 - مسند عمر بن الخطاب
لأبى يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت البغدادي 262هـ. الجزء العاشر، عثر على مخطوطته الفريدة الدكتور سامي حدّاد (أستاذ الجراحة في جامعة بيروت الأمريكية)؛ فعني بدرسه ونشره المطبعة الأمريكية ببيروت، 238ص. فيها المقدمات والتعليقات والفهارس و4 لوحات مطبوعة على الفتوغراف تمثل بعض صحائف المخطوط. سائر أجزاء الكتاب لا تزال - على ما يظهر - في عداد الضائعات.
(له بقية)
كوركيس عواد(448/57)
العدد 449 - بتاريخ: 09 - 02 - 1942(/)
كيف عالج الإسلام الفقر
ألق عن عينيك هذا المنظار السحري الذي صنعه الأدب والفن؛ ثم أنظر إلى الحياة في شتى مظاهرها تجدها معركة هائلة على القوت لا تنقطع ولا تفتُر. وهذه المعركة التي لا ندرك لها طولاً في الدهر، ولا عرضاً في الكون، لا تنفك رحاها تلفظ على جنباتها قتلى وجرحى؛ وأولئك هم الذين خذلهم الضعف فماتوا شهداء، أو عاشوا فقراء. أما الموت فلا حيلة لأحد فيه؛ وأما الفقر فهو الداء العياء الذي خامر الإنسانية منذ طبعها الله على القدرة والعجز، وبرأها على الكمال والنقص. وهذا الداء كان وما زال موضوع الطب الاجتماعي يخفف بُرَحاءه بالمُرقد، ويكفكف غلواءه بالتمائم؛ ولكن دواءه الناجع ظل من وراء إمكانه حتى وصفه الله في دينه، وطبقه في شرعه، فانحسمت العدوى وانكشفت البلوى وبرئت العلة. فإذا رأيت في وطن الإسلام طرائد للفقر وفرائس للجوع فصدِّق الله وكذِّب نفسك. إن ما ترى لم يعد ذلك الوطن الذي أشرق بنور الله وتعطر بريح الجنة، إنما هو طلل ترَّحل عنه أهله، ومريض فرط فيه أساته، ومسلمون انطمست فيهم معاني القرآن فتعبدوا بألفاظه، وحاكمون أعضلت بهم أصول الحكم فاكتفوا بصوره. فلو كان للإسلام رأي في الحكومة وسلطان على الأمة لكان الوطن كله أسرة، والناس جميعهم إخوة، تجد فيهم الفقير ولا تجد المحروم، وترى بينهم الضعيف ولا ترى المظلوم؛ لأن شريعة الله جعلت بين الغني والفقير سبباً هو البر، وأنشأت بين القوي والضعيف نسباً هو الرحمة!
عالج الإسلام الفقر علاج من يعلم أنه أصل كل داء ومصدر كل شر. وقد أوشك هذا العلاج أن يكون بعد توحيد الله أرفع أركان الإسلام شأناً، وأكثر أوامره ذكراً، وأوفر مقاصده عناية. ولو رحت تستقصي ما نزل من الآيات وورد من الأحاديث في الصدقات والبر، لحسبت أن رسالة الإسلام لم يبعث بها الله محمداً آخر الدهر إلا لتنقذ الإنسانية من غوائل الفقر وجرائر الجوع. وحسبك أن تعلم أن آي الصيام في الكتاب أربع، وآي الحج بضع عشرة، وآي الصلاة لا تبلغ الثلاثين؛ أما آي الزكاة والصدقات فإنها تُربى على الخمسين.
كأنما أختار الله لكفاح الفقر أشح البلاد طبيعة وأشد الأمم فقراً ليصرعه في أمنع حصونه وأوسع ميادينه! فإن الفقر إذا أنهزم في قفار الحجاز كانت هزيمته في ريف مصر وسواد العراق أسرع وأسهل. ثم أختار الله رسوله فقيراً ليكون أظهر لقوته، كما أختاره أمِّياً ليكون أبلغ لحجته.(449/1)
كانت جزيرة العرب إبَّان الدعوة العظمى مثلاً محزناً لما يجنيه الفقر على بني الإنسان من تَضْرية الغرائز، وتمزيق العلائق، ومعاناة الغزو، ومكابدة الحرمان، وقتل الأولاد، وفحش الربا، وأكل السُّحت، وتطفيف الكيل، وعنت الكبراء، وإثراء الأغنياء، وفقد الأمن، وانحطاط المرء إلى الدرك الأسفل من حياة البهيم. فلما أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق كان معجزته الكبرى هذا الكتاب المحكم الذي جعل هذه الأشلاء الدامية جسماً شديد الأسْر عارم القوة، ونسخ هذه النظم الفاسدة بدستور متين القواعد خالد الحكمة؛ ثم كانت بوادر الإصلاح الإلهي أن قلَّم أظفار الفقر، وأَسا كلوم الفقراء، وقطع جرائر البؤس، فألف بين القلوب، وآخى بين الناس، وساوى بين الأجناس، وعصم النفوس من القتل الحرام، وطهر الأموال من الربا الفاحش؛ ثم عالج الداء الأزلي نفسه بما لو أخذ به المصلحون لوقاهم شرور هذه الحرب التي أمضَّت حياة الناس، وكفاهم أخطاء هذه المذاهب التي قوضت بناء المجتمع: عالجه بالسفارة بين الغني والفقير على أساس الاعتراف بحق التملك، والاحتفاظ بحرية التصرف، فلا يدفعُ مالك عن ملكه، ولا يعارَض حر في إرادته، إنما جعل للفقير في مال الغني حقاً معلوماً لا يكمل دينه إلا بأدائه، ذلك الحق هو الركن الثالث من الأركان الخمسة التي بُني عليها الإسلام، فلا هو فرع ولا ناقلة ولا فضلة. وليست الزكاة بالقدر الذي يخفي أثره في حياة الفقير، فهي ربع العشر في المال، وما يُقَدر بنحو ذلك في غيره. فإذا جُبيت الزكاة بالأمانة على حسابها المقدَّر، ووُزعت بالعدالة على نظامها المفروض، شفت النفوس من الحقد، وأنقذت المجتمع من البؤس، فلا تجد سائلاً في شارع، ولا جائعاً في بيت، ولا جاهلاً في عمل.
ولم يقف الإسلام في علاج الفقر عند فرض الزكاة، وإنما شرع للبر في العبادات والمعاملات موارد لا يأسن لها مَعين ولا ينقطع عنها رافد:
يحنث الرجل في يمينه فيكفر بإطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.
ويقسم ألا يفعل شيئاً، ثم يرى أن فعله خير من تركه فيكفر بإطعام المساكين ثم يفعله.
ويظاهِر من زوجه ثم يبدو له أن يعود، فيطعم ستين مسكيناً أو يحرر رقبة.
ويرمي فيقتل نفساً من غير عمد، فيطعم أو يعتق فضلاً عن أداء الدية.(449/2)
ويعجز عن صوم رمضان، لسَقَم أو هَرم، فيفطِر ويطعم كل يوم مسكيناً.
ويفطِر عامداً في رمضان من غير علة، فيطعم ستين فقيراً أو يفك رقبة.
ويخل الحاج بشرط من شروط الحج فيكفر عنه بِذَبحٍ يقدمه للمساكين.
ويتجرد عن المخيط فإذا لبس شيئاً منه لزمته الفدية.
ويُرزق الرجل غلاماً فيعُّق عنه بذبيحة يطعمها الفقراء يوم أسبوعه.
ويقبل عيد الصوم أو عيد الحج فيجب على الأغنياء أن يرفهوا عن الفقراء بزكاة الفطر أو بلحوم الأضاحي.
وينذر المسلم لله نذراً فيوجب الدين عليه أن يفي به براً بالفقراء وعوناً للمساكين.
ويعجز الرجل عن تكاليف العيش فيوجب الدين على من يرثه بعد موته أن ينفق عليه! فينفق الابن على الأب، والأب على الأبن، والأخ على الأخ، والزوج على الزوج، عملاً بالقاعدة الإسلامية الحكيمة: (الغُرم بالغُنم). ولقد رأى الفاروق عمر بن الخطاب يهودياً لا يقدر على شيء، فوقف به ثم قال له: ما أنصفناك أيها الذمي! أخذنا منك الجزية في قوتّك، فيجب أن لا نضيعك في ضعفك. ثم أجرى عليه من بيت المال ما يمسك نفسه.
وجاءت الشريعة بالوصية لمن حضره الموت: يوصى بثلث ماله لوجوه البر فضلاً عن الوصية للوالدين والأقربين.
ونوهت السُّنة بالصدقة الجارية، فكان بركة من بركات الرسول الكريم على المرضى والزَّمْنَي وذوي الخصاصة وأبناء السبيل وطلاب العلم وحجاج البيت، بما يوقف عليهم أولو الفضل والسعة من المستشفيات والملاجئ والخانات والزوايا والأربطة والمدارس والمساجد والمكاتب. وكفى شهيداً على أثر (الصدقة الجارية) في علاج الفقر وإشاعة البر، أن تحصى الأوقاف في الأقطار الإسلامية؛ ثم ننظر فيما حبست عليه من وسائل الإصلاح ووجوه الخير؛ ثم نحكم على ما قدمت لذوي الحاجات والعاهات من إحسان لا يغبُّ وإسعاف لا يغيب.
كل أولئك إلى ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله من الحث على الإنفاق في سبيل الله، والترغيب فيما عند الله من حسن المثوبة، بفنون من القول الرائع والتشبيه المحكم.
كذلك عالج الإسلام الفقر من طريق آخر غير طريق الزكاة والصدقات والكفارة: عالجه من(449/3)
طريق الكسر من حِدة الشهوة، والكف من سَورة الطموح، والغضّ من إشراف الطمع؛ فرغَّب الغنى في الزهد، وأمر الواجد بالقناعة، ومدح الفقير بالتعفف.
ذلك ما عالج به الإسلام داء الفقر الذي أعيا الإنسانية منذ الدهر الأول. وهو على إحاطته وبساطته ونجوعه ينهض وحده دليلاً على أفَن الذين يقولون إن دستور القرآن لا يأتلف مع المدنية، وشريعة نابليون أصلح للناس من شريعة الله، ونظام مَرْكس أجدى على العالم من نظام محمد.
فلو أن كل مسلم أدى حق الله في ماله، ثم استفاد لأريحية طبعه وكرم نفسه، فأعطى من فضل، وواسى من كفاف، وآثر من قلة؛ ثم قيض الله لهذا كله من ولاة الأمر من يجمعه على أكمل حال، ويدبره على أفضل وجه، ويوزعه على أعدل قسمة، لكان ذلك عَسِيَّاً أن يُقر السلام في الأرض، ويُشيع الوئام في الناس، فتهدأ ضلوع الحاقد، وترقأ دموع البائس، ويسكن جوف الفقير، ويذهب خوف الغني، ويتذوق الناس في ظلال الرخاء، سعادة الأرض ونعيم السماء.
أحمد حسن الزيات(449/4)
لا بد من دين الله لدنيا الناس
لإمام المسلمين الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي
عودة يوم الهجرة للنفوس المؤمنة، كعودة الربيع للجسوم الحية. فالربيع ينشر في الكون الحياة والجمال، فيتجدد البالي، وينتعش الذاوي، ويبتهج الكئيب؛ ويوم الهجرة ينشر في القلوب النور والجلال، فيقوى الخائر، ويهتدي الحائر، ويتذكر الغُفلان. وإذا كانت الحواس لا تنتفع بالربيع إذا لم تكن شاعرة، فإن النفوس كذلك لا تنتفع بمعنى الهجرة إذا لم تكن ذاكرة. والذكرى تنفع المؤمنين إذا اقتبسوا منها الهداية والتمسوا فيها العظة؛ أما إذا كان قصارى أمرنا في الاحتفال بحوادثنا الكبرى، وشخصياتنا العظمى، أن نكتب ونخطب فما أصبنا الغرض.
إن ذكرى الهجرة هي ذكرى وضع الأساس لهذا البناء الإسلامي الشامخ الذي أنبسط ظله على أكثر الأرض، وانتشر نوره في ظلام الوجود، وأوت الإنسانية منه إلى ركن شديد بالعلم، أمين بالعدل، منيف بالحضارة؛ فالمسلمون أحرياء أن يجعلوا احتفالهم بهذه الذكرى العظيمة تقديساً للدين الذي كانت في سبيله، وتمجيداً للمبدأ الذي قامت عليه، وتأييداً للشرع الذي تكشفت عنه. وتقديس الدين هو الانقياد له، وتمجيد المبدأ هو الإخلاص فيه، وتأييد الشرع هو العمل به. وما كان الناس في عهودهم الخالية بأحوج إلى هدى الله منهم في هذا العهد؛ فقد طغت فيه المادية على الشعوب حتى تعادت، وأفرطت القوة على الدول حتى تفانت، وغررت المذاهب الإلحادية بالإفهام السقيمة فلبّسوا على الناس الحق، وشبهوا على القادة الطريق، حتى زلزلت الأرض بمن عليها، وخشينا على صرح المدنية والفضيلة أن يَنقضْ.
ذلك إيذان من الله للناس بأنهم فسقوا عن أمره فجافتهم رحمته، وحادوا عن سبيله فحق عليهم عذابه. (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
لا يكشف عنا ما غشينا من هذه الغمة العميمة إلا العمل بشريعة الإسلام والاحتفاظ بتقاليد الشرق الصالحة. والرجوع إلى شرع الله في أمور الدنيا من بدائه العقل وموجبات الفطرة؛ لأن الله جلت قدرته هو الذي خلق الناس ودحا الأرض، فهو أعلم بغرائز خلقه وأسرار كونه؛ وهو أعلم بما سينشأ عن تصادم الغرائز من نزاع، وما سيشتد على خيرات الأرض(449/5)
من تنافس؛ وهو أعلم بما سينتجه تفاوت الناس في القدرة والحيلة من بغي الأقوياء على الضعفاء، وجور الأغنياء على الفقراء؛ فشرعه وهو الخبير البصير حقيق أن يكون حلاً حاسماً لمشكلات الحياة، وعلاجاً شافياً لأدواء المجتمع، ودستوراً جامعاً تنتظم عليه شؤون الأفراد وأحوال الأمم في كل أرض وفي كل عصر وفي كل جنس. أما تشريع الناس للناس فهو عرضة للنقص أو للخطأ من جهة الجهل أو من جهة الهوى أو من جهة التطبيق؛ وهو إن صلح لعصر لا يصلح لغيره، وإن أفاد في أمة لا يفيد في أخرى. فما بالنا ندَع حكم الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم نحكّم في أنفسنا وأموالنا وأحوالنا شرائع قد لا تتفق مع عقائدنا، ولا تأتلف مع عوائدنا، ولا تستطيع أن تحيط بما أحاط به الله من خفايا الصدور ومفاجآت الغيب؟!
لا يزكو بأهل القبلة أن يولوا وجوههم شطر المغرب يأخذون عنه من المذاهب والنظم والتقاليد ما أضَّل به أهله. إنما النور في الشرق مطلع الأديان، والهدى في شريعة الله مُنزل القرآن، والدليل في سنة الرسول صاحب الهجرة، والسبيل ما سلكه السلف الصالح فأوفى بهم على الغاية.
والرجاء في مولانا الفاروق أعز الله ملكه أن يبني إصلاح الأمة على قواعد الدين، وأن يُجري قضاء الحكومة على شريعة الله، فهو بما آتاه الله من العلم والحكمة والسلطان أحق بأن يبدأ للأمة الإسلامية هذا التاريخ الجديد.
أسأل الله ولي المؤمنين وأحكم الحاكمين أن يسدّد خطانا في الطريق المستقيم، وأن يكشف عنا وعن الناس هذا الكرب العظيم.
محمد مصطفى المراغي(449/6)
الأوامر المختومة في المأثورات النبوية
للأستاذ محمود عباس العقاد
يكثر في الحروب الحديثة ذكر الأوامر المختومة التي تصدر إلى قوّاد السرايا والسفن ليفتحوها عند مدينة معلومة أو بعد مسيرة ساعات أو ف يعرض البحر على درجة معينة من درجات الطول والعرض، إلى أمثال ذلك من العلامات التي تعين بها الجهات.
ويتفق في أمثال هذه البعوث أن يكون القائد وحده مطلعاً على سر البعث أو موصياً به ورجاله جميعاً يجهلونه ولا يعرفون أهم خارجون في غزوة أو في استطلاع أو في مناورة إلى ما قبل الحركة المقصودة بساعات محدودات، وهنالك تصدر الأوامر التي لا بد من صدورها للتهيؤ والتنفيذ، ولا خوف من كشفها في تلك الساعة لصعوبة الاستعداد الذي يقابلها به العدو إذا انكشفت له قبل تنفيذها بفترة وجيزة، ولا سيما إذا كانت الحركة من حركات البحار.
هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة.
وقد عرفت في المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تلاحظ في أمثالها، ومن ذلك أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ومعه كتاب أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، وفحواه أن (سر حتى تأتي بطن نخلة على أسم الله وبركاته، ولا تكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك، وامض لأمر فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عبر قريش وتعلم لنا من أخبارهم).
وهذا نموذج من الأوامر المختومة جامع لكل ما يلاحظ فيها حديثاً وقديماً عند بداية الدعوات على التخصيص.
فأولها كتمان الخبر عمن يحيطون بالنبي عليه السلام؛ فلا يبعد أن يكون منهم من هو مدخول النية عينا عليه وعلى أصحابه من قبل قريش، ولا يبعد أن يكون منهم من يبوح بالخبر ولا يريد به السوء أو يدرك ما في البوح به من الخطر المحظور، ولا يبعد أن يكون منهم الضعفاء والمخالفون، والاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان سنة حكيمة من سنن النبي عليه السلام، وهي في حروب الدعوات على التخصيص أقمن بالاتباع.
ومما لوحظ في كتاب النبي لعبد الله بن جحش كتمان الخبر عن أصحابه ووصاته ألا يكره(449/7)
أحداً منهم على السير معه بعد معرفته بوجهته. وهذا هو أهم الملاحظات في هذا المقام.
فقد يحارب الرجل وهو مكره مهدد بالموت الذي يتقيه إذ يفر من القتال، ولكنه لا يستطلع وهو مكره ثم يفيد استطلاعه من أرسلوه، بل لعله ينقلب إلى النقيض فيحرف الأخبار عمداً، أو يتلقاها على غير أكتراث، أو يطلع الأعداء على أسرار أصحابه وهم غافلون منه.
ولهذا تعاني الدول أكبر العناء في مراقبة الجواسيس بالجواسيس، وفي امتحان كل خبر بالمراجعة بعد المراجعة والمناقضة بعد المناقضة حتى تطمئن إلى صحته قبل الاعتماد عليه.
وفي الحرب الحاضرة تجربة جديدة لهذا النوع من المستطلعين أو الرواد المتقدمين.
فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبطون من الطيارات وراء الصفوف فيتسللون إلى مراكز المواصلات ويعيشون بين القرى المعزولة فيشيعون فيها الرعب والحيرة ويوهمون من يراهم أن الجيش المغير كله على مقربة منهم في جدوى لهم من الاستغاثة أو المقاومة، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم من بعيد.
قيل في الإعجاب بهذه الخطة الهتلرية كثير، وقيل في انتقادها والتنبيه إلى خطرها كثير.
فمن دواعي الإعجاب بها أنها أفادت في قطع المواصلات وإشاعة الذعر وتضليل المدافعين، وإنها شيء جديد في شكله وإن لم يكن جديداً في غايته ومرماه.
ومن أسباب انتقادها أن كل فائدة فيها تتوقف على العقيدة وحسن النية، فهي تستلزم أن يكون الرائد غيوراً على عمله متحمساً لإنجازه رقيباً على نفسه وهو بمعزل عن رقبائه، فليس أيسر له إذا هو أنفرد وأعوزته الرغبة في إنجاز عمله من أن يستأسر في أول مكان يصل إليه من بلاد الأعداء طلباً للسلامة ولا عقاب عليه ولا هو يتقي العقاب إلى نهاية القتال. ثم يتعلل بما شاء من المعاذير إن وجد بعد ذلك من يحاسبه ويعاقبه، وهيهات أن تستجمع الأدلة عليه في أمثال هذه الفوضى.
فالخطة الهتلرية فاشلة لا محالة إن لم ينفذها مريدون متعصبون غير مكرهين ولا متشككين فيما هو موكول إليهم، وهي لهذا أحرى أن تحسب من وحي الطريق وإلهام العقائد لا من(449/8)
النظام الذي يدرب عليه كل جيش ويصلح لجميع الجنود. فلولا أن النازيين قضوا قبل الحرب الحاضرة زهاء عشر سنوات ينفخون في نفوس الناشئة جذوة البغضاء ويلهبونهم بحماسة العقيدة ويخلقون فيهم اللدد الذي يغني عن الرقابة ساعة التنفيذ لحبطت الخطة كل الحبوط وانقلبت على النازيين شر انقلاب.
وهاهنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في اشتراط الرغبة والطواعية واجتناب القسر والإكراه.
فهذه (أولاً) بعثة منفردة لا سبيل إلى الإكراه الفعال بين رجالها إذا أريد.
وهي (ثانية) بعثة استطلاع لا يغني فيها عمل الكاره المقسور، وألزم ما يلزم العامل فيها إيمانه وصدق نيته وحسن مودته لمن أرسلوه. فإن أعوزته هذه الصفة فقد أعوزه كل شيء.
أما غرض البعثة كلها وهو الاستطلاع فقد كان النبي عليه السلام عليماً بمزاياه معنياً به غاية العناية يحسب العدو المجهول كالعدو المستتر بأسوار الحصون في حمى من الجهل به قد يحول دون الاستعداد له بالعدة الضرورية ويحول من ثم دون الانتصار عليه.
وكان عليه السلام مثلاً بين قواد الجيوش الذين جعلوا عدة الاستطلاع مقدمة على عدة التعبئة، ومن هؤلاء نابليون الكبير.
قلنا في مقال كتبناه بالرسالة لمثل هذه المناسبة منذ سنتين: (لم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعني بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون، وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر لأنهما يذكران قريشاً ولا يذكران أبا سفيان علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء، وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجزور التي ينحرونها كل يوم فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه أنه يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجة ودوربة، ويعقد ما يسمى اليوم مجلس الحرب قبل أن يبدأ القتال، فيسمح من كل فيما هو خبير به، ولا يأنف من الأخذ بنصيحة صغير أو كبير).
ونحن نكتب هذا المقال والحرب الروسية تذكرنا كيف أصيب نابليون في هذا الميدان حين أصيب في وسائل الاستطلاع، ثم تذكرنا كيف تكررت هذه الغلطة بعينها على نوع من(449/9)
المشابهة بين غزوة نابليون روسيا أمس وغزوة هتلر لتلك البلاد اليوم
فمن أسباب هزيمة نابليون إهماله النصائح التي سمعها في مجلس الحرب من بعض الثقات قبل التوغل في الأرض الروسية.
ومن أسباب تلك الهزيمة أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جنح الظلام ويخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيها دياراً يسأله عن مكان الجيش المتراجع أو يلتقط من خلال أجوبته ما يعينه في الاستطلاع الذي كان كما أسلفنا شديد التعويل
أما هتلر فقد أتى من قبل هذين النقصين كما أتى من قبله من هو أعظم منه وأولى بالتحرز والأناة.
فقد أشتهر الآن أنه كان في مجلس الحرب على خلاف مع قواده الثقات الذين علموا من شأن الروس ما ليس له به علم
واشتهر الآن أنه أخطأ في استطلاعه أخبار القوم إذ خيل إليه أن الشعب الروسي يتحفز للثورة ويترقب الإغارة عليه لنصرة المغير كائناً من كان، ولو جاءت الغارة من عنصر معادٍ للعنصر السلافي وهو عنصر الجرمان.
ومحمد عليه السلام لم يتعلم ما تعلمه هتلر ونابليون، ولكنه لم يخطئ قط مثل هذا الخطأ في جميع غزواته وكشوفه. ولعلنا نفهم كلما درسنا زمانه الحافل بالعبر والأمثلة الباقية أن دراسته ضرب من دراسة العصر الحديث والقادة المحدثين.
عباس محمود العقاد(449/10)
مع المفتي الأكبر
فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، علم من أعلام الفقه الإسلامي في مصر والشرق، يمتاز بعلم واسع، ونظر صائب، وفكر ثاقب، وقد رأى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر أن ينتفع التعليم العالي بمواهبه، فأسند إليه منصب (المراقب العام) على الكليات الأزهرية الثلاث، فأصبح له بهذا المنصب، وبشخصيته العلمية الجليلة، مشاركة في الإشراف العلمي على شئون التعليم، يرجى أن تحقق آمال الأستاذ الأكبر في الإصلاح.
وفضيلته - إلى جانب ذلك - عضو بارز من أعضاء (جماعة كبار العلماء) له فيها نشاط محمود، ورأي مشهود، ومقام كريم.
زرته في داره الحديثة الطراز التي بناها في ضاحية (كوبري القبة) فجاءت مثلاً رائعاً لعظمة البناء، وجمال التنسيق، ودليلاً حاضراً على ما يستطيعه (العالم الديني) من جمع بين تقوى الله، وأبهة الحياة.
تلقاني فضيلته مرحباً، وكنت منه على موعد، فلما أستقر بي المقام ذكرت له أن (الرسالة) تعتزم أن تصدر عددها الهجري الممتاز، ويسرها أن تسفر بينه وبين القراء الكرام في جميع أنحاء الشرق العربي بحديث يتصل بعمله في الإفتاء، والرقابة العامة، وجماعة كبار العلماء.
فأبدى استعداداً كريماً لإجابة هذه الرغبة، وأثنى على (الرسالة) ثناءً جميلاً، ذاكراً عنايتها الفائقة بشئون العلم والدين، ودعوتها القوية للثقافة الإسلامية، وقال: إنه يعلق على ذلك آمالاً عظيمة، فإن للرسالة في نفوس المسلمين وأهل العروبة جميعاً مقاماً عظيماً ومنزلة سامية.
فأجزلت لفضيلته الشكر على استعداده وحسن ثنائه، ثم دار الحديث بيني وبينه على هذا النحو:
1 - في الإفتاء
قلت لفضيلته: إن منصب الإفتاء منصب جليل له بالفقه الإسلامي صلة عملية وثيقة، وقد رسم الفقهاء المتأخرون للمفتي رسوماً لا يجيزون له أن يتعداها، وألزموه أن يفتي بآراء(449/11)
عينوها له، وكثيراً ما يذكرون الحكم ويتبعونه بقولهم: (وبه يفتى)، أو (وعليه العمل) ونحو ذلك؛ فهل تلتزمون فضيلتكم هذه الرسوم فيما تصدرون من فتوى، ولا تخرجون عن هذه الأقوال؟
فأجاب قائلاً: إن الفتاوى التي أصدرها على نوعين: نوع يتصل بالقضاء الشرعي والجهات الرسمية، وهذا أفتي فيه بما هو الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة، لأن المستفتي يطلب ذلك في استفتائه، ولأن هذا هو المذهب الرسمي في مصر، ولو لم أتبع هذه الطريقة لاصطدم القضاء بالفتوى.
أما النوع الثاني فهو الفتاوى التي أصدرها في استفتاءات غير رسمية أو واردة من البلاد الأخرى، وأنا في هذه الفتاوى لا أتقيد برسم يرسم، ولا بقول من الأقوال في مذهب الحنفية، وإنما أختار القول الذي أرى دليله راجحاً وأبين سبب رجحانه عندي، وقد أذكر إلى جانبه الأقوال الأخرى إذا طلب المستفتي ذلك أو كان الأمر يستدعي ذكرها.
قلت له: أتلتزمون في ترجيحكم دائرة المذاهب الأربعة المعروفة؟
فقال: أنا لا أتقيد بالمذاهب الأربعة، ولكني لا أخرج فيما أفتي به عن مذاهب العلماء من السلف والخلف. والسبب في ذلك أن الفقه الإسلامي غني جداً بأقوال العلماء وآرائهم فلا تكاد تجد مسألة من المسائل إلا وقد تعددت آراء الفقهاء فيها بحيث لا تستطيع أن تجزم بأن رأياً تراه لم يقل به أحد العلماء من قبل، فليس على الناظر في هذه الثروة الطائلة إلا أن يختار أرجحها مصلحة، وأقواها دليلاً، وأشبهها بروح الشريعة، وهذا هو الذي أسير عليه.
سألت فضيلته: أكان من المفتين الذين سبقوا فضيلتكم في دار الإفتاء المصرية من جرى على هذه الطريقة التي تسيرون عليها؟
فقال: إن الفتاوى التي تحتفظ بها سجلات دار الإفتاء لا تدل على ذلك، وإن كانت تدل في كثير من الأحيان على فقه جيد، ونظر سليم.
قلت له: وفتاوى الأستاذ الإمام محمد عبده؟
فقال: إن الناحية التي تجلت فيها مواهب الأستاذ الإمام الشيخ (محمد عبده) كانت هي إدراكه الصحيح لمعاني القرآن الكريم، وفهمه الدقيق لأغراضه، وتذوقه لأسلوبه ومعجز بيانه، مع بصر عظيم بأحوال الناس، وعبر التاريخ، وأسرار تقدم الأمم والشعوب، وسنة(449/12)
الله في جميع الكائنات؛ يؤازر ذلك قلب جريء، وجنان ثابت، وعقل متصرف. وكان - رضي الله عنه - يعتمد في فتاواه على إدراك روح الشريعة، وتبين أغراضها العامة، لا على مناقشة المذاهب، وترجيح أقوال الفقهاء؛ ولذلك تأتي فتاواه غالباً مختصرة، وقد تثير خلافاً بين أهل العلم. ومن أمثلة ذلك أنه أفتى فتواه المشهورة بجواز لبس (البرنيطة)، فقامت من أجلها ضجة هائلة بين العلماء وأهل الأزهر يومئذ، فلما أردت أن أفتي في هذا الموضوع انتفعت بموضع العبرة فيه، فأخرجت فتواي التي تجيز لبس (البرنيطة) إخراجاً فقهياً مؤيداً بأقوال العلماء، جارياً على طريقتهم في الاستدلال والترجيح، وبذلك لم يستطع أحد أن يشغب على هذه الفتوى أو يثير في شأنها جدالاً.
2 - في الرقابة العامة
شكرت فضيلة المفتي الأكبر على هذه المعلومات القيمة، ثم توجهت إلى فضيلة المراقب العام أسأله عن آماله فيما يتصل بالتعليم الأزهري العالي، وعن أسلوبه في العمل على تحقيق هذه الآمال فأجاب قائلاً:
- إنني أرجو أن تخرج لنا الكليات الأزهرية في نواحيها المختلفة علماء يمتازون بميزتين:
إحداهما: القدرة على فهم مسائل العلوم فهماً صحيحاً واضحاً لا على استظهارها فحسب؛ وإن لدينا من آثار الأولين لثروة عظمى في سائر العلوم الدينية والعربية والكونية: في اللغة والنحو والصرف وعلوم التاريخ والمنطق والفلسفة وأصول الدين والأخلاق وغيرها. لدبنا كنوز مليئة بالخيرات تحتاج إلى من يفتح مغاليقها ويستفيد منها؛ والأزهري هو الذي يستطيع أن يفتح هذه المغاليق، ويثير دفائنها، وهو المطالب بأن يأخذها من مصادرها، ويستخرجها من منابتها في صبر ومثابرة وحسن إدراك.
والوسيلة إلى ذلك هي غرس المحبة للعلم في نفوس الطلاب والأساتذة فإن الذي يذوق لذة العلم لا يعدل بها لذة أخرى، ولا تصرفه عنها صعوبة من الصعاب، والشعور بلذة البحث أول إمارات النجاح.
الميزة الثانية التي يجب أن يمتاز بها العالم هي القدرة على التصرف فيما يعلم، لإفادة الناس به، وتطبيقه عملياً في جميع شئون الحياة.
والوسيلة إلى ذلك فيما أرى هي تشجيع الكفايات العلمية الممتازة، وبث روح العمل(449/13)
والإنتاج في محيط أهل العلم.
فإذا أخرجت الكليات هذا العالم الذي يمتاز بهاتين الميزتين أمكننا أن نرى رجالاً يدرسون قواعد البلاغة ومسائل الأدب ويكونون بلغاء وكتاباً وأدباء، وأن نرى رجالاً يدرسون أصول الفقه ويكونون فقهاء ومرجحين. وأن نرى علماء يستطيعون أن يدافعوا عن الإسلام، ويردوا هجمات أعدائه بأسلوب العصر وهكذا. . .
3 - في جماعة كبار العلماء
قلت لفضيلته: لقد أطلع قراء الرسالة على تقرير اللجنة التي ألفتها جماعة كبار العلماء برياسة فضيلتكم للنظر في المقترحات التي رفعها إليها بعض أعضائها. فما الذي ترونه شخصياً في المقترحات، ومتى يتم إعداد الوسائل للأخذ في تنفيذها؟
فأجاب فضيلته:
لقد سررت بهذه المقترحات العظيمة منذ أول لحظة، وأعلنت رأيي هذا في جلسة الجماعة الموقرة التي عرضت فيها هذه المقترحات وقلت: إن جماعة كبار العلماء منذ تكوينها مطالبة بهذه الأعمال كلها، فإذا كانت قد تأخرت في الماضي عن القيام بهذا الواجب فلا ينبغي لها أن تتأخر بعد الآن، ولا سيما في عصر حضرة صاحب الجلالة الملك الصالح الغيور على دينه: فاروق الأول أعزه الله، وبأشراف الرجل العالم المصلح المؤمن بفكرته: فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي.
وهذه المقترحات لا يتردد أحد في إدراك ما لها من فائدة جزيلة، ولا في وجوبها على جماعة كبار العلماء، فتلك طوائف الأمة تتشاجر وتتشاحن باسم الدين في كثير من الأشياء: أسنة هي أم بدعة؟ أمن الدين أم ليست من الدين؟ وهذه كتب التفسير والحديث ينظر فيها من يستطيع تمييز الغث والسمين ومن لا يستطيع، وهذه شئون المعاملات التي جدت وتجد للناس، وهم محتاجون إلى معرفة حكم الشريعة فيها بطريقة تقضي على النزاع، وتقطع أسباب الجدل والخصومة، وقد اتجهت أفكار المفكرين وآراء المصلحين إلى هذه الشريعة يلتمسون أن تكون نظام حياتهم، وأساس مدنيتهم، فلا بد لنا إذن من العمل، ولا بد لنا من تلبية نداء الأمة، وإعداد أنفسنا لهذه المهمة السامية.
أنا لا أزعم هذا العمل هين أو يسير، بل أعتقد أننا سنحمل منه عبئاً ثقيلاً، ونضطلع بمهمة(449/14)
شاقة، ولكنني مع ذلك أعتقد أن تضافر القوى، وتعاون الجهود، والإخلاص لله، وابتغاء وجهه الكريم، كل ذلك كفيل بتسهيل الصعاب. لذلك كله أيدت اللجنة هذه المقترحات، وأشارت بإنشاء مكتب علمي للجماعة تمهيداً للأخذ بتنفيذها، ورفعت رأيها في ذلك إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر رئيس الجماعة، وإني ألمس من فضيلته عناية واهتماماً بهذه المقترحات، وأعتقد أنها أصابت هدفه الاسمي في الإصلاح الديني والاجتماعي الذي يبتغيه جاهداً للأمة الإسلامية الكريمة، وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه خير الدين والوطن.
وهنا انتهى حديث فضيلة المفتي الأكبر، واستأذنته في نشره فأذن، ثم انصرفت شاكراً.
م. . .(449/15)
الهجرة وشخصيات الرسول
للأستاذ محمود شلتوت
كان للوحي قبل الهجرة اتجاه، وكان له بعد الهجرة اتجاه آخر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يساير الوحي في هذين الاتجاهين، ويحتفظ بما يؤدي إلى الغاية منهما.
كان الوحي يدور أولاً حول تحديد الدعوة، وبيان الغرض منها، ولفت الأنظار إلى أدلتها، وذكر ما ينفع فيها من قصص الأولين وعبر الماضين، وتسلية الرسول وغرس عوامل القوة الروحية في نفسه، وتعويده عدم الاكتراث بما يجابه به من الإيذاء والتكذيب والاضطهاد. وقد أتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية في تفكيره وأعماله وأقواله وسائر تصرفاته، يبلغ الدعوة، ويعالج الصبر على الإيذاء في سبيلها، ويحاول جمع القلوب حولها، ويرسم للناس دائرتها، ويركز أصولها في النفوس، ويعمل على إيجاد بيئة إسلامية صالحة لما يرد عليها فيما بعد من مبادئ التشريع.
فلما تمت الهجرة دخلت الدعوة في عهد جديد تكونت به للمسلمين وحدة اقتضت معاملات ونظماً اجتماعية تمتاز بها عن سائر الجماعات.
ومنذ ذلك الحين أتجه الوحي إلى جهة أخرى تسير مع مقتضيات الحالة الجديدة وتلبي مطالب هذه الأمة الناشئة، واتجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاتجاه نفسه فأضيف بذلك إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى، فكان إماماً للمسلمين يسوسهم ويرعى دولتهم وينظم شئونهم؛ وكان مفتياً يجيبهم عما يسألون، ويعلمهم ما يجهلون؛ وكان قاضياً يفصل في خصوماتهم، ويقضي بينهم، معتمداً على ما يظهر به الحق من البينات والأدلة.
وقد صدرت عنه صلى الله عليه وسلم في جو هذه الحياة الجديدة أقوال وأفعال وتصرفات مختلفة عني بها المسلمون عناية فائقة هي مضرب الأمثال في عناية الأمم بتاريخ عظمائها وتتبع آثارهم، دونوها وشرحوها وضبطوا ألفاظها وألفوا المعاجم في شرح غريبها، واهتموا بتفهم أسرارها، وتبين أغراضها حتى كان من آثار ذلك أن نشأت علوم خاصة تعرف (بعلوم السنة) من رواية ودراية وتجريح وتعديل وناسخ ومنسوخ وغير ذلك.
يهم الناظر في التشريع الإسلامي أن يعرف: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يروى عنه من هذه الأقوال وتلك الأفعال والتصرفات مُصدراً عن الوحي، ناطقاً بلسانه، أو(449/16)
كان له إلى جانب الوحي فيها تفكير ونظر واجتهاد؟ ذلك ما نريد معالجته في هذا البحث.
يرى بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله فقط. تنحصر مهمته في تبليغ الوحي وما يتصل به من بيان على الوجه الذي ضمنه الله بقوله (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه).
ويرون أن صفة الرسالة فيه غلبت على صفة البشرية، وأنه عليه الصلاة والسلام تمحض في استعداده لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة، معتمدين في ذلك على ما فهموا من قوله تعالى: (إن هو إلا وحي يوحى) بعد قوله: (وما ينطق عن الهوى).
رأوا هذا ورتبوا عليه أن كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم شريعة من الله رب العالمين، لها صفة الدوام والبقاء إلى يوم الدين، والناس مخاطبون بها في كل زمان ومكان، لا يجوز لهم أن يحيدوا عنها قيد شعرة، ومن حاد عنها أو سوغ لنفسه أن يتصرف فيها، فذلك خارج على شريعة الله، مخالف عن أمر الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين.
يقولون ذلك ويتشددون فيه، ولا يفرقون بين أقواله وأفعاله وأحكامه وأقضيته وسائر تصرفاته في العبادات والمدنيات والجنائيات والطب والسياسة والحروب والعادات والزي واللباس وآداب الطعام والشراب والجلوس والسير في الطريق وما يكون من الأحوال الشخصية والمسائل الجنسية وغير ذلك، فكل هذا وحي من الله، بعضه ظاهر وببعضه باطن، وكله شرع محكم، ودين متبع لا يجوز الخروج عليه، ولا التصرف فيه.
وقد تجد قوماً منهم يستثنون من ذلك بعض الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية كرأيه صلى الله عليه وسلم في تأبير النحل، أو في اختيار مكان ينزلون فيه للحرب أو نحو ذلك، ولكنهم حين يتحدثون عن هذا الاستثناء يحتاطون في الأمر تمام الاحتياط، فيضيقون دائرته ولا يتوسعون فيه.
لقد جاءت الشريعة الإسلامية (بالاجتهاد)، وأمر الله عباده أولي الأبصار بأن يعتبروا، وينظروا، ويتدبروا كتابه الكريم، وقد كان الاجتهاد سنة الأنبياء والمرسلين من قبل، والقرآن يحدثنا بذلك عنهم كما في شأن يحيى إذ أتاه الله الحكم صبياً، وكما في قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم. وقد ذكر الله جملة من أنبيائه ورسله، وأثبت لهم جميعاً هذا المعنى بقوله: (أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)؛(449/17)
ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الآيات نفسها: (أولئك الذين الله فبهداهم أقتده).
فالنبي إذن مأمور بالسير على سنة الأنبياء والمرسلين من قبله، مأمور بأن يقتدي بهديهم، وهذا أمر تقضي به طبيعة الأشياء، لأنه لا يعقل أن يرسل الله رسولاً في وقت نبغت فيه الإنسانية، واشتد ساعد الفكر البشري، ثم يحرمه النظر والتفكير الذي أباحه لإخوانه الأنبياء في طفولة الدهر وشباب الزمان، وأباحه أيضاً لمتبعيه الذين يدعوهم إلى دينه ويأمرهم بالعمل بشريعته.
كيف يسوغ لأحد أن يقول بحرمان النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، وهو مرتبة علمية من أسمى مراتب الفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية؟ أيمنحها الله لذوي العقول وأرباب البصائر ثم يحرمها على الإنسان الكامل؟
كأني بهؤلاء يرون رسالة الرسول أمراً يتعارض مع بشريته. ولقد كان صلى الله عليه وسلم مع رسالته وقبل رسالته بشراً اكتملت فيه جميع معاني البشرية الفاضل. ولم يشأ الله أن يرسله حتى بلغ أربعين عاماً لتنضج بشريته وتكمل رجولته، فلا تطغى عليها الرسالة ولا تسلبها خصائصها. وقد عنى القرآن الكريم بأن يؤكد هذا المعنى في كثير من آياته: (سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً). (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ألي). ومن زعم أن رسالة النبي قد غلبت على بشريته وقضت على لوازمها السامية فقد تلاقي في رأيه من قريب أو من بعيد بالذين يقولون (أبعث الله بشراً رسولاً)
إن النبي صلى الله عليه وسلم بشر وفي أسمى مراتب البشرية، وقد اكتسب في ذلك شخصية الفقيه المجتهد كما منح شخصية الرسول المبلغ عن الله. وهو (أول الفقهاء) كما أنه (خاتم الأنبياء). فلننظر إذن فيما ورد عنه صلى الله عليه وسلم على هذا الأساس الذي يجمع بين الرسول والفقيه
اقتضت حكمة الله أن يسوس عباده، ويحقق مصالحهم بنوعين من التشريع: نوع يتولاه بنفسه وينص فيه على ما يريد ويرسل به الوحي إلى نبيه. ونوع آخر (يسكت عنه) فلا ينص عليه غير نسيان ولا إهمال، ولكنه (رحمة بعباده) يكله إلى أصحاب الرأي والنظر لاختلاف المصلحة فيه باختلاف الظروف والأحوال. وقد قام (محمد النبي) بحق رسالته فبلغ النوع الأول كما أمره بتبليغه. وقام (محمد الفقيه الأول) بحق بشريته: رسم طريق(449/18)
الاجتهاد، وعنى بالتطبيق العملي عليها، وبأن يعبدها لمن يجيء بعده من الخلفاء والقضاة والأئمة: اجتهد وقاس وحكم، وأفتى بالحاجة وتقدير المصلحة، وساس الأمة بما أراده الله كما هو الشأن في المجتهدين والحكام
1 - اجتهد في الحروب وفي الأمور الدنيوية
2 - واجتهد في الأحكام الشرعية، فأفتى المرأة التي سألته عن حجها لأبيها بقوله: (أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يقبل منك)؟ وأفتى السائل عن قبلة الصائم بقوله: (أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك)؟ وأفتى السائل عمن لامس امرأته أيكتب له أجر وهو يقضي شهوته؟ فقال له: (أرأيت لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟)
3 - ونزل على اجتهاد غيره فاستثنى (الأذخر) في تحريم شجر مكة حين استثناه العباس. ودعا للمقصرين كما دعا للمحلقين، وأذن في غسل القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر الأهلية بعد أن أمر بكسرها، ونزل المنزل الذي أشار عليه أصحابه بأن ينزل فيه
4 - وكان يجتهد ثم ينزل الوحي باجتهاده، وقد يسكت عنه فلا يعرض له بتصويب ولا تخطئة: عاتبه الله على الإذن للمنافقين، وعلى أخذ الفداء من أسرى بدر، وعلى إعراضه عن الأعمى، فكان ذلك إيذاناً من الله في اجتهاده، ورجع هو عن اجتهاده باجتهاد بمجرد النظر والتجربة فقال (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئاً وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى)
5 - وكان يحكم في الحوادث الجزئية التي ترفع إليه، ويعتمد في حكمه على البيانات وحجج الخصوم ويقول: (لعل أحدكم ألحن بحجته فإنما أنا بشر)
6 - وكان يكل الجهاد إلى أمرائه وقضاته دون أن يقيدهم بالرجوع إليه
7 - وكان يسارع أحياناً إلى الجواب عما يسأل عنه من غير أن يتربص لوحي، وأحياناً ينتظر أمر الله ويقول لم ينزل علي فيه شيء كما في حادثة المرأة التي جادلته في زوجها، وكما في حادثة الرجل الذي قذف زوجته، فقد نزل القرآن بتشريع كفارة الظهار وشهادات اللعان(449/19)
ولعل الأمر فيما ينزل فيه الوحي وفيما لا ينزل، وفيما يجتهد فيه الرسول وفيما لا يجتهد راجع إلى الفصل بين الشئون التي تتعلق بأساس الدعوة، أو بالجانب الخلقي، أو بالعبادة، وبين ما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأزمنة، والأشخاص، وقد حدد الفقهاء المجتهدون بذلك مواضع الاجتهاد ومواضع النص
نستطيع بعد هذا أن نستخلص للنبي صلى الله عليه وسلم شخصيات متعددة: شخصية الرسول، وشخصية الإمام العام، وشخصية المفتي، وشخصية القاضي
فهو بشخصية الرسول مبلغ عن الله لا يخرج فيما أوحى إليه عن حدود ما أمر به أو نهى عنه، والمسلمون مكلفون به كما تلقوه عنه في عمومه أو في خصوصه، وفي دوامه أو توقيته؛ وهذا يغلب فيما هو من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، ولا يعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقيهاً، وإنما هو أعلى شأناً وأجل مكانة من الفقيه
وهو بشخصية الإمام الأعظم رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم يعمل على تركيز أمته، وطبعها بطابع تتميز به عن سائر الأمم، ويلحق بذلك كل ما ورد عنه مما يتعلق باللباس والأزياء والتشبه بقوم ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وما إلى ذلك مما لا يمس ناحية العقيدة، ولا يعقل فيه معنى التعبد؛ وإنما هو في الشئون الاجتماعية البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال، وينزع إليها الزعماء والقادة في القديم والحديث، والأمر فيها راجع إلى ما تراه الأمم، وتقدر فيه قوميتها ومصلحتها وسيادتها
وهو بشخصية المفتي إما مجيب بلسان الوحي فليس له اجتهاد في ذلك إلا في تطبيق النص على جزئيات الحوادث، وإما فقيه يجتهد ويقدر ويلاحظ أحوال السائلين فيجيبهم بما يراه كما يفعل سائر المجتهدين وبالطرق التي يألفها الناس في استنباط المجهولات، وقد علم له من هذا النوع كثير
وهو بشخصية القاضي حكم بين المتخاصمين يسمع دعاواهم، ويتعرف الحق بما يسمع من شهادة الشهود وما يرى من وجوه التثبت، ويقدر ظروف القضية وأحوال المتقاضين كما يفعل سائر القضاة، وأحكامه في هذه الدائرة لا عموم لها في الأشخاص ولا في الأحوال كما يقول علماء الأصول، فليس لها صفة التشريع العام
هذه شخصيات أربع صارت إليه صلى الله عليه وسلم أثراً من آثار تلك الهجرة الميمونة.(449/20)
وإننا لنلمح هذه الشخصيات في جميع ما اثر عنه ودون في الكتب، ومنه ما تظهر الشخصية التي صدر عنها دون أن يخالف فيه أحد، ومنه ما تخفي شخصيته خفاء تتفاوت الأنظار فيه، وتختلف الآراء في تقديره
ولو أننا تتبعنا المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيناه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات ولم نخلط بعضها ببعض، ورتبنا على كل منها آثاره، وأعطيناه حقه، لسهل على المسلمين أن يتفاهموا فيما شجر بينهم من خلاف، ولتصافح المتخالفون، ولما رمي أحد سواه بالكفر أو الزندقة، ولعلم الجميع ما هو شرع دائم لا سبيل لمخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريع خاص، أو مؤقت لهم أن يتصرفوا فيه بما تقضي به المصلحة، وبما توحي فيه الظروف والأحوال
لو فعلنا ذلك لما أبقينا على أسباب هذا الخلاف والتناكر بين أفراد الأمة وطوائفها، ولرجعنا إلى كلمة سواء في العبادات والمعاملات والآداب والنظم الاجتماعية وسائر شئون الحياة، ولانتفع الناس بشرع الله ودينه. ولكنا كما يريدنا الله (خير أمة أخرجت للناس). وفقنا الله جميعاً إلى الرشاد وبصرنا بالحق والصواب
محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
وعضو هيئة كبار العلماء(449/21)
ساعة في ظلال الجنة
للأستاذ عبد الله عفيفي بك
الطريق من جدة إلى مكة غاص مزدحم، يتدفق بالركب العظيم والركب أروع ركب وأحفله، وأشده إثارة للقلب والعاطفة والخاطر والخيال. فيه الركبان من كل لون، وفيه المشاة من كل قبيل.
وفيه العابدون السائحون الذين صدروا عن أهلهم وأوطانهم منذ بضع سنين مشاة يستبقون إلى الله في بيته الكريم. وفي هؤلاء من ساروا يحملون أثقالهم وأحمالهم والشيوخ المستضعفين الذين لا يطيقون المشي من الرجال والنساء، وفيهم الوالدات يحملن أطفالهن وراء ظهورهن ويرفعن فوق رءوسهن أزواد الركب الكبير. وقد انتشر هذا الخلق الحاشد على الوادي الممدود بين الجبال المتناوحة في قوة وعزيمة وفي صمت وجلال. بينما الشمس تؤذن بالثواء، والليل من ورائها ينشر رواقه على الصحراء الإلهية الآخذة بمجامع القلوب
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، أن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هذا هو النشيد السماوي الذي كان ينبعث من أعماق القلوب فتخشع له السموات والأرض والجبال، وتتحطم في جنباته كل نفس عاتية وكل قلب حديد
وسارت السيارة بي وبرفاقي متئدة متمهلة في جلال هذا الحشد العالمي الذي تغيب في جلجلته ضجة الجيش القاهر، وتخفت لعظمته قعقعة السلاح العتيد
جاوزنا الركب العظيم وأنا في غاشية وجدانية ملكت علي الطريق. أبعد ساعة أو بعض ساعة أكون في البيت الحرام، وحول الكعبة التي تشخص إليها وجوه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأقف بين مقام إبراهيم وحجر إسماعيل؟
وأخيراً انتهى الوادي، وانفرجت الجبال، وتراءت لنا عن بعد أنوار مكة
الله أكبر! لبيك اللهم لبيك! سبحانك يا من سبحت له السموات والأرض وما فيهن! تعاليت يا رب الأرباب! أهذه النسمات كان يشمها رسول الله. وهذه الأرض كانت تطؤها قدماه!
وسارت السيارة في أحياء مكة حتى انتهت إلى ما بين عتيقين في أقصى الطريق فوقفت، وقال السائق هذا هو البيت الحرام! نزلت وأنا ثابت، لا أستطيع الحركة، وأبصرت فإذا(449/22)
الكعبة تلوح عن بعد، والمؤمنون يطوفون من حولها، فأحسست بأن هذا المشهد من مشاهد السماء. . .!
دخلت البيت وكأنني روح من الأرواح تجرد عن هذه الدنيا وألقى وراء ظهره أحمالها وآمالها وآلامها وصار لا يشعر إلا أنه في ظلال الجنة
أنا الآن ذاهل اللب، مخطوف القلب، منهل العينين، أهتف بالتلبية، وأنشج بالبكاء وعلى الكعبة جلال من جلال الله، وجمال من جمال الفردوس، وروح من أرواح العرش، لا يراه الراءون إلا خفوا هياماً به، وحنيناً إليه. وأقسم لقد طفت في الكعبة طواف القدوم وقبلت الحجر الأسود، ووردت ماء زمزم، وشربت منها عللاً بعد نهل، وأنا لا أدري إلا أنني في جلوة سماوية، أو حلم بديع.
خرجت وقد تعلق قلبي بالكعبة، فلا أطيق الصبر عنها، وعدت إليها في السحر، وسمعت أذان الفجر، وأقيمت الصلاة.
فوقف الناس صفوفاً حول الكعبة، واستمعوا القرآن الكريم من إمام عذب الصوت، جميل الترتيل؛ وما أسماه موقفاً، وما أطيبها متعة، وما أخلدها لحظات!
وابتسم النهار ونحن جلوس بجانب المقام، وللكعبة بهاء أكثر إشراقاً من بهاء النهار.
هي قوة روحية من قوى الله، تلك التي يفيضها رب البيت على الوافدين إلى البيت.
آمنت بأن هذا البناء المشرف العظيم هو الذي بث روح الإيمان ونور اليقين في نفوس المؤمنين، حتى شقوا الطريق بهذا الدين إلى أرجاء العالمين.
وتمثلت في هذا الموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريق هجرته إلى المدينة، وقد وقف على ظهر ناقته واستشرف لعله يرى معالم مكة، ثم ناجاها بقوله الكريم: (إني لأعلم أنك أحب البلاد إلي، وأنك أحب أرض الله إلى الله، ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت).
هكذا أقمت في مكة وفي منى وعرفات والمشعر الحرام ثمانية أيام، وعدت إلى الكعبة وأنا أشم منها روح الجنة، وأرى فيها بهاء السماء.
اللهم أعدني إلى مكة، فإني أجد الشوق شديداً، وما زال العهد غير بعيد
عبد الله عفيفي(449/23)
رسول الله في عرفات
للدكتور عبد الوهاب عزام
أما اليوم فتاسع ذي الحجة، وأما السنة فالعاشرة من الهجرة، والحجيج يسيرون من منى إلى عرفات، فما بال الناس لا يسيرون على السنن المألوف، ولا يفعلون ما كانوا يفعلون؟ ما بالهم لا تفرقهم العصبيات، ينحازون إلى الرايات؟ ما بال القبائل لا تلبي لآلهتها ولا تهيب بأصنامها؟ عجباً، لا تذكر الآلهة حتى اللات والعزى ومناة، ولا تسمى الأوثان حتى ود وهبل؟
كلا، كلا، قد تتابع القوم في سمت وخشوع، فأين الجلبة والضوضاء، والتفاخر بالآباء؟ وإن قريشاً تتجاوز المزدلفة مع الناس إلى عرفات؛ فكيف سوت نفسها بالقبائل، ورضيت أن تسير إلى هذا المنازل؟ لست أرى ما غير قريشاً من غيرهم، ولا الحمس ممن عداهم، وأين النسأة من كنانة؟ لا ترى لهم شارة ولا موكباً ولا تبصر منهم أحداً. ماذا دها العرب فغير سننهم؟ بل من ذا الذي جاءهم فجمع شملهم ووحد كلمتهم وأخلص لله دعوتهم؟ إن هذا لشيء عجاب. كنا قبل سنتين نسمع الضجيج والضوضاء، والتصدية والمكاء، ونرى كل قبيلة تنحاز إلى علمها وتنادي ربها، فمن مشيد بالأوثان، ومن مناد: لبيك رب همدان؟ فاستمع اليوم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك!
قد تغيرت الدعوة واختلف الشعار، وتبدلت السيما والسيرة، ما عهدنا هذا من قبل!
والشيطان ذليل حسير قد أوى إلى صخرة على جنب الطريق يرقب الوفود المتآخية بل الأخوة المجتمعة، يرمي الجموع بعينه خزيان، ويعض بنانه حيران، يقول: (ويلي من محمد! لقد أخرب بيوتي من هذه الأوثان، ومحا البغضاء والشنآن. لقد ذهب النزاع والخصام، وأفلت من يدي الزمام. ويلي من محمد! ألم يكن بالأمس يغشى هذه المجامع وحيداً، ويرتد عنها مخذولاً؟ ألم يكن يعرض نفسه على القبائل لتجيره فيلفي الغلظة والجفاء، والهزء والسخرية؟ ويلي من محمد! لست آسى على الحجاز وحده ولا على جزيرة العرب فحسب، إني لأوجس خيفة أن يجاوز هذا التوحيد الجامع، وهذه الأخوة الموحدة، حدود الجزيرة، فتدمر منازلي من معابد الوثنية، وقصور الجبارين، وتمتد إلى كل بقعة تزلزلها الفرقة، ويسيطر عليها الظلم، ويشيع فيها الفساد، وتتغلغل فيها الفواحش ما(449/25)
ظهر منها وما بطن، ويرفع فيها لواء الباطل فوق كل لواء. ويلي! لقد جاهدت محمداً في داري ثلاثاً وعشرين سنة واستنصرت شياطين الإنس والجن، وحشدت جنود الباطل وخيل إلي مراراً أني أشرفت على الظفر في هذه الجموع التي تسير وراء محمد وتدعو بدعوة محمد ومن أنه يوم له ما بعده)
يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من الحجاج إلى عرفة وهذه قبة ضربت له في نمرة فينزل بها
زالت الشمس فأمر رسول الله بناقته القصواء فرحلت فركب حتى أتى بطن الوادي وادي عرنة فوقف واجتمع الناس وأصاخوا للخطبة التي لم يخطب الرسول مثلها في مثل هذا الجمع الحاشد، والوصية العظمى التي يوصي بها الرسول أمته في حجة الوداع، والبلاغ الأكبر يوم الحج الأكبر يؤذن للناس بكمال الدين وتمام النعمة، وتمكن الإسلام ووقف ربيعة بن أمية ابن خلف على مقربة من الرسول يبلغ الحجيج بصوته الجهير مقال رسول الله
ألهم الرسول أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأن الدين قد كمل ونعمة الله قد تمت، فقال: (أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الوقف أبداً.)
وعلم رسول الله أن التوحيد الذي جاء به الإسلام كفيل بتوحيد الله على مر الدهور، وأن الكتاب الذي بلغه ضمين ألا تعبد الأوثان من بعد، وأن العقول التي حررها تستنكف أن ترتكس في أباطيل الجاهلية. فليس يخشى على أمته الشرك ولكن يخشى أن يستجيبوا للشيطان فيما عدا التوحيد في أمور يحسبونها هينة وعظيمة الأثر في نظام الجماعة وأخلاقها، حرية أن توهي القوة، وتفرق الكلمة، وتعطل العقيدة الصالحة. وذلكم كل كلمة تؤدي إلى فرقة، وكل فعلة من الظلم والعدوان أو الرذيلة والمنكر. عرف هذا خاتم النبيين فقال: (إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم).
ثم وكد الرسول ما بلغه وعلمه ثلاثاً وعشرين سنة من حرمة الدماء والأموال والأعراض. وكد ما أبطل به الحروب المتمادية، والغزوات المستمرة، والتارات المستعرة، وما هدم به جاهلية العرب هدماً، وردها شرعاً من السلام والوئام، وسلطان القانون العام، فقال: (أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم(449/26)
هذا. . . وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب؛ فهو أول من أبدأ به من دماء الجاهلية.
ثم عمد الرسول الذي علم البر بالفقير وجعل له حقاً في مال الغني، وعطف القلوب بعضها على بعض وأشعرها البر والمواساة، وعمد إلى هذا الإثم الآثم، والجرم المنكر، الذي تتبرأ منه الأخلاق والمروءة، هذه الشرعة الدنيئة التي تحكم الغني في رقبة الفقير بدراهم معدودات، وتتغلغل في الأخلاق والأموال تغلغل السوس، فأعاد ما وكده الكتاب والسنة من إبطال الربا، وأعلن أنه سواء منه ما تقدم وما تأخر قد محقه الله ومحق أثاره فقال: (وإن كل ربا موضوع، ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا؛ وأن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله)
ولم ينس النساء وقد أنقذهن من الوأد وأشركهن في الإرث وجعل (لهن مثل الذي عليهن بالمعروف)
وشرع لهن الشريعة الكافلة سعادتهن وسعادة الأمة. لم ينس النساء في هذا الموقف العظيم الذي يوصي فيه بأصول شريعته قال: أما بعد أيها الناس فإن لكم على نسائكم حقاً ولهن عليكم حقاً. . . واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله. . . فاعقلوا
أيها الناس: (ليت النساء أخذن الحقوق وأدين الواجبات. ليت ثم ليت)
ثم وكد نبي التوحيد والأخوة ما بني عليه شرعه من التراحم والتآخي والمساواة والمواساة، وأن الناس سواسية كأسنان المشط سواء فيهم الأسود والأبيض، كلهم لآدم وكلهم عباد الله وكلهم اخوة في الله. قال الرسول الأكرم: (اعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي فإني قد بلغت وتركت ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنة نبيه. . . أيها الناس: اسمعوا قولي فإني قد بلغت، واعقلوا تعلمُنّ أن كل مسلم أخو المسلم، وأن المسلمين إخوة؛ فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه من طيب نفس، فلا تظلموا أنفسكم. اللهم هل بلغت؟)
قال الحاضرون: نعم. قال الرسول اللهم اشهد.
ذلكم ما أوصى به الرسول يوم الحج الأكبر في حجة وداعه، وتلكم حقوق الإنسان دوت بها أرجاء العالم قبل ألف وثلاثمائة وخمسين سنة. . . تلكم وصايا الرسول لأمته تدوي بها(449/27)
الأجيال، وتسمعها الآذان، فأين منها الأعمال (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين)
عبد الوهاب عزام(449/28)
شروط الاجتهاد في الفقه الإسلامي
للأستاذ محمد محمد المدني
كان الفقهاء الأولون من المسلمين مثلاً عليا في النشاط العلمي، والتفكير العقلي، والجرأة على الدراسة والشجاعة في مواجهة الحقائق. درسوا كتاب الله وسنة رسوله، وفهموا مقاصد الشريعة، وأدركوا أسرارها، وعرفوا أحوال عصرهم، وعادات قومهم، واجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، ولم يقصروا في ناحية من نواحي النظر، حتى ملئوا طباق الأرض علماً، ووسعوا دائرة الفقه، وجعلوا من مباحثه صوراً تمثل حياة الناس في عصورهم تمام التمثيل، ونشروا علمه الخفاق على دور الحكم والولاية والقضاء، ومراكز الإدارة والسياسة ودوائر الأموال والأعمال!
ثم دار الزمان دورته، وجاءت من بعد ذلك عهود ركدت فيها ريح الفقه، وغلقت أبواب الاجتهاد، وأصبح الفقهاء رواة لمن كانوا قبلهم يرددون أقوالهم، ويشرحون عباراتهم، ويدرسون ألفاظهم، ويتعصبون لمذاهبهم، وابتعدوا بالفقه عن الحياة الواقعية، واحتفظوا منه بصور أثرية تتحدث عن عصور منقرضة وتصف أحوالاً مندثرة؛ وكان من آثار ذلك نفور أهل الحكم والسلطان منه لشعورهم بأنه على صورته التي صار إليها لا يلبي حاجات الأمم، ولا يصلح عيوبها، ولا يحل مشاكلها. وكان من آثار ذلك أيضاً أن انقطعت الصلة بين أهله وبين المجتمع، إذ أصبحوا غرباء عنه، يعيشون في واد غير واديه، ويدرسون أحوالاً غير أحواله. ثم كان من آثار ذلك أن دخلت التشريعات الأجنبية على بلاد المسلمين؛ فأصبحت دستور الحكم، وأساس الإدارة، وقانون القضاء، وعماد النظام في كل ناحية من نواحي الأعمال!
هكذا كان الفقه وهكذا صار!
كثيراً ما أسأل نفسي: هل كان الفقهاء الأولون طرازاً غير طراز سائر الناس؟ هل منحهم الله ما لم يمنحه أحداً من بعدهم، فآتاهم من العقل ما لم يؤت العقلاء، رزقهم من صحة الفهم وقوة الإدراك ما لا ينبغي لأحد بعدهم من ذوي الفهم والإدراك؟ هل فتحت كنوز العلم والمعرفة والنظر عنصراً من الزمان ثم غلقت أبوابها وأحكم رتاجها فلن تفتح بعد ذلك لأحد من العالمين؟(449/29)
إني أحب هؤلاء الفقهاء وأجلهم ولكنني مع ذلك لا أستطيع أن أجيب عن هذه الأسئلة (بنعم) لأن فضل الله أوسع من أن يقصر على زمان دون زمان، أو يختص بقوم دون آخرين
لا أستطيع أن أجيب (بنعم) لأن كتاب الله خالد، والخطاب به عام لجميع الناس سواء منهم المتقدمون والمتأخرون: كلهم مطالبون بأن يتدبروه ويعقلوا هدايته، ويدركوا أسراره، ويلقنوا منه حجة الله على عباده، وينتفعوا به في دينهم ودنياهم. ولو جاز أن تقف العقول البشرية عن متابعة هداية الله، وعن تدبر كلمات الله، لما قامت حجة الله على المتأخرين من الناس كما قامت على المتقدمين منهم، ولما كان هنالك فائدة علمية في أن يضمن الله الحفظ والخلود لكتابه الكريم!
إذن فما بالنا قد حرمنا أنفسنا هذا المتاع العقلي، وهذه اللذة الفكرية فلم ننظر نظروا، ولم نجتهد كما اجتهدوا؟ بل لماذا رضينا أن نكون صدى لهم في كل شيء حتى لنستشيرهم ولا نستشير عقولنا في أحوال شهدناها وغابوا عنها، ورأيناها رأى العين وتوهموها؟!
(شروط الاجتهاد) هي التي قضت علينا بذلك! نعم شروط الاجتهاد التي تصورها أهل العلم من المتأخرين شيئاً هائلاً رهيباً، وأسرفوا في تقييد أنفسهم وتقييد الناس بها، وأقاموا منها حجاباً بين العقول وما أوسع الله لها من مدى في التأمل والتفكير!
أبى المتأخرون إلا أن يجعلوا للاجتهاد شروطاً، ثم زعموا للناس أن هذه الشروط صعبة لا يستطيعها أحد، كثيرة متشعبة لا تكاد تجتمع لأحد، فأغلقوا باب الاجتهاد، وأوجبوا على الناس أن يقلدوا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى أوجبوا عليهم تقليد فقهاء معينين، يتعصبون لهم، ويزعمون أنهم أولى بالاتباع من غيرهم، ولكن أقوالهم اضطربت في ذلك اضطراباً يثير الظنون، ويغري بالتهم: فقالت طائفة منهم: لا يجوز لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر. وقالت طائفة أخرى: لا اختيار بعد الأوزاعي وسفيان. وقال قوم: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي. وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة. ولما اشتهرت المذاهب الأربعة المعروفة وكان لها أتباع ومتعصبون يخشى بعضهم كيد بعض، اصطلحوا فيما بينهم على أنه لا يجوز تقليد أحد سوى هؤلاء الأئمة، فجعلوا لحكمهم أثراً رجعياً ينسحب على جميع الفقهاء الذين اجتهدوا، فلم يعد لأحد أن يأخذ بقول الليث أو(449/30)
سفيان أو غيرهما من أصحاب المذاهب التي لم ترزق من الجد وحسن الطالع ما رزقته هذه المذاهب المعروفة، فانقرضت ولم يبق لها أنصار يدافعون عنها، ويدعون إليها
فعلوا ذلك كله، وألقوه في روع العامة كأنه عقيدة من العقائد، وشغبوا به على أصحاب العقول الراجحة، والأفكار الحرة، وأعلنوا عليهم حرباً طاحنة، جيوشها العامة والدهماء، وأسلحتها التفكير والرمي بالزندقة والخروج على إجماع الأمة، والطعن في الأئمة الذين ارتضاهم المسلمون. . . الخ، ثم عكفوا على كتب بخصوصها لا يعرفون غيرها، ولا يعتمدون على سواها، ولا يتلقون شريعة إلا منها، ذلك بأنها ألفت على هذه الشريطة في عصور التأخر الفقهي، وزعموا أن الدنيا خلت ممن يستطيع أن يخرج على هذه الكتب، أو يتكلم في العلم دون أن يعتمد عليها، بل حرموا على الناس أن ينظروا في كتاب الله أو في سنة رسوله نظر العلماء المستنبطين، وأوجبوا على العالم ألا يقضي ولا يفتي بشيء منهما حتى يعرضه على ما تنقله هذه الكتب من أقوال مذاهبهم، فإن وافقها جاز الحكم به، وإلا وجب رده وعدم قبوله!
تلك آثار بعيدة المدى، لا يزال الفقه الإسلامي يعانيها ويحمل أصرها وأغلالها، ويتعثر في أشواكها وعقابها، وهو الفقه الذي ورثناه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه من بعده، وعن الأئمة المهتدين، قوياً لا يعرف الضعف، ناشطاً لا يعرف الجمود، واسعاً لا يضيق صدراً بالنوازل والأحداث!
شروط؟ ومتى كان للاجتهاد شروط؟ هل ذكرت في كتاب الله أو في سنة رسوله؟ هل كان الصحابة الذين اجتهدوا واختلفوا وتعددت آراؤهم يعرفونها؟ وهل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهاهم عن الاجتهاد أو يشترط له شروطاً خاصة؟
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم مع تفاوتهم علماً وفهماً وإدراكاً لأسرار التشريع يجتهدون ويختلفون فيما بينهم؛ وربما انفرد الواحد منهم بالرأي لا يراه غيره، ولقد وجد من بعدهم عشرات بل مئات من المجتهدين، وكانت لهم حرية فكرية واسعة المدى، فأين في هذا كله خبر تلك الشروط وأين حسها؟ وهل زعم أحد أنهم أعدوا أنفسهم أولاً لنيل شروط معينة، وأشهدوا الناس على أنهم حصلوها ثم أخذوا بعد ذلك ينظرون؟ كلا فليس الاجتهاد منصباً تمنحه الأمة وتمنعه، إنما هو مرتبة علمية يشعر بها العالم من نفسه، وليس كل أحد يدعي(449/31)
ذلك ولم نسمع أن أحداً من أهل العلم قد التمسه أو أقدم عليه دون أن تكون له أداته الطبيعية؛ وليس الناس ملزمين برأي من الآراء كأنه فريضة محكمة، وإنما هو العلم أساسه الحجة والبرهان. ولو اتفق الناس على أن رجلاً منهم صار من أهل الاجتهاد لما أعفاه ذلك من تمحيص العقول لآرائه، والتثبت من حجته. ولو أنكر الناس على رجل منهم هذه المنزلة لما أعفاهم ذلك من الخضوع لرأيه حين تكون الحجة إلى جانبه
فليس الأمر إذن أمر شروط تشترط، وإنما هو العلم يجب أن تسمع كلمته من أي فم كان، وأن تفهم وتقبل إذا كانت حقاً، وأن ترفض وترد إذا كانت باطلاً، والحق أحق أنت يتبع!
ولكن، لندع هذا كله جانباً، ولننظر في نفس الشروط كما يصورها الذين خوفوا الناس بها، وحجروا على العقول من أجلها!
تصفح ما شئت من كتب الأصول التي وضعها المتأخرون، واقرأ ما شئت من هذه الشروط، تجده يبدو لك أول الأمر عسيراً لا يستطاع تحقيقه؛ فإذا راجعت فيه الشروح والحواشي والتقريرات، وجدت الأمر على خلاف ما بدا لك، ووجدته شرطاً هيناً سهل الحصول
قالوا: أول شروط الاجتهاد أن يكون المرء عالماً بكتاب الله وسنة رسوله؛ ثم جعلوا يضخمون هذا الشرط، فحكوا لنا خلاف العلماء فينا يجب علمه من السنة؛ فقالوا: ألفان، وقالوا: عشرة آلاف؛ حتى زعم بعضهم أنه سأل أحمد ابن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟ قال: لا؛ قال: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا؛ قال: أربعمائة ألف؟ قال: لا؛ قال: أيكفيه خمسمائة ألف؟ قال: أرجو!
لا تخف - أيها القارئ - ولا تستصعب الأمر، فأن شارح التحرير يقول: (أن ذلك محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا)؛ وإن الغزالي يقول: (لا يشترط معرفة جميع ما في الكتاب، بل ما تتعلق به الأحكام. . . ولا يشترط حفظها عن ظهر قلبه، بل يكون عالماً بمواضعها بحيث يطلب منها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة، ولا يلزم حفظ السنة عن ظهر قلبه، بل يكون عنده اصل محقق لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام. ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة).
فانظر كيف بدأ هذا الشرط عسيراً هائلاً، ثم عاد خفيفاً هيناً!(449/32)
وقالوا: لا بد أن يكون قادراً على التمييز بين الصحاح والحسان والضعاف من الأحاديث، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد هذه الأوصاف؛
والشوكاني يعلق على هذا الشرط فيقول: (وليس من شرط ذلك أن يكون حافظاً لحال الرجل عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال)؛ وكذلك يقول صاحب مسلم الثبوت: (مع العلم بحال الرواة، ولو بالنقل عن أئمة الشأن).
وقالوا لابد أن يكون عالماً بمسائل الإجماع، وبالناسخ والمنسوخ. ويقيد الشوكاني هذا الشرط بقوله: (إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي)
ويقول الغزالي (وليس معنى ذلك أنه يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف بل في كل مسألة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفاً للإجماع. إما بأن يعلم أنه موافق مذهباً من مذاهب العلماء أيهم كان، أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض)
أما الناسخ والمنسوخ فهذه كتب التفسير والحديث تعد بالمئات وقد تكفلت بيان مواضع النسخ بياناً شافياً. على أن جهابذة العلماء لا يرون القول بنسخ شيء من الكتاب الكريم
شرطوا بعد ذلك أن يكون المرء عالماً بلسان العرب وعلم أصول الفقه، ثم قالوا إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته وخاصة ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه الخ
الأمر في ذلك يسير وإن بدا متعسراً. فعندنا من العلماء من يعرف لسان العرب كما يعرفه العرب أنفسهم، زمن فاق الأولين بصراً بعلم أصول الفقه وقدرة على التصرف فيه، وبين أيدينا جميع مؤلفات العلماء في ذلك وفي قدرتنا أن نستخرج منها ما نريد، وقد قربوها كما يقول الشوكاني أحسن تقريب!
هذه هي شروط الاجتهاد كما يراها المتأخرون، وهي شروط في المجتهد المطلق الذي ينظر ويستدل ويسستنبط في جميع أبواب الفقه، فأما الذي ينظر في باب دون باب، أو في مسألة دون مسألة، فالأمر فيه أيسر، وقد أجازوا له ذلك دون أن يشترطوا فيه إلا (أن يكون على(449/33)
بصيرة فيما يفتي)
فأي شيء في هذه الشروط يصعب تحقيقه؟ وكيف يقال ذلك في عصر العلم والمراجع والمكتبات والفهارس والمذياع وجمعيات؛ المراسلات والمؤتمرات العلمية والصحف والمجلات والدراسات المنظمة، وهو لم يقل في عصور كانت العلوم فيها ناشئة، وكان العلماء فيها يرحلون للحديث الواحد من بلاد إلى بلاد!
أما بعد فقد أتى على الناس حين من الدهر كان التدين فيه هو طابع الحياة، وكانت مظاهر الورع والتقوى والصلاح تستطيع أن تغطي القصور والضعف وقلة الإنتاج
أما اليوم فإننا في زمان هجمت علينا فيه الثقافات من كل جانب، وأصبح الناس بحاجة إلى التوسع في العلوم، وتلبية مطالب الحياة؛ وأصبح النضج الفكري عنوان التقدم ووسيلة الاحترام
فإذا التمس العلماء أن يعيشوا في العصر الحديث بما كانوا يعيشون به في العصر الحديث بما كانوا يعيشون به في العصر القديم فقد التمسوا المحال
(القاهرة)
محمد محمد المدني
المدرس في كلية الشريعة(449/34)
حلم ليلة الهجرة
للأستاذ علي محمود طه
يا شرقُ، مِلءُ خاطرِي سحرٌ وملءُ ناظري
أوَحْيُ ليلكَ القديمِ أم رُؤَى الزواهر؟
يا شرقُ، أيُّ ليلةٍ رائعةِ الدياجر
نجومها خلفَ الغمامِ أعينُ المقادر
ترنو على جوانبِ السماءِ للمهاجر
تَمُدُّ من شعاعها مِثْلَ جَناح طائر
رُعْيا المحبِّ للحبيب حُفَّ بالمخاطر
تقول ههنا السُّرَى ومن هنا فحاذر
يا شرقُ، أيُّ ليلةٍ بَعَثْتَها من غابر
حقيقة تلوح لي أم ذاك حُلُم شاعرِ؟
أرى على صحيفةِ الزمان حدَّ باتر
تكمنُ في فِرِنْدِةِ جريمةٌ لغادر
ومن بريقهِ تُطلُّ أَلْفُ عينِ فاجر
مُلَقىً وراء صخرةٍ كانت ملاذَ عابر
أوَى إليها مُفْرداً غير أخٍ مناصر
والبادياتُ حوله رَوْعٌ وهمسُ حائر
كأنما أنسامهنَّ تمتماتُ ساحر
هو انتقالةُ الحياة، وثبةُ الأداهر
شدا الرعاةُ باسمه في الأعصرِ الغوابر
وأودعوه فَرْحَة جوانَح السرائر
وأبدعَتْهُ نَغَماً صوادحُ المزاهر
زفَّوا به إلى الحياة أجمل البشائر
لحنٌ وفيه قسوةُ العواصفِ الثوائر(449/35)
وفيه ثورةٌ عَلى العقائد الدوائر
يقتحمُ الذُّرَى المنيعة اقتحامَ ساخر
يهزأُ بالجيوش في ألوية القياصر
يهدمُ كل فاسدٍ، يهزمُ كل جائر
ومن عجيبِ أمره يبني بناءَ قادر!
يا شرقُ، سحرُك القديمُ مالِكٌ مشاعري
هذي الطوالعُ الحسانُ في الحُلَي النواضر
المطلقاتُ بالنشيد أرخمَ الحناجر
كأَنهنَّ جَوْقَةُ الهواتفِ الطوائر
حيَّين مَوْلِدَ الربيع والسَّنَى المباكر
عرائسُ الخيالِ، هُنَّ، أو بناتُ خاطري
ينترن من أكفهنَّ أجمل الأزاهر
على طريقِ مُلْهَمٍ مُخَلَّدِ المآثر
يا شرقُ، أيُّ روعةٍ جَلَوْتَها لناظري
حقيقةٌ تلوحُ لي أم ذاك حُلْمُ شاعر
علي محمود طه(449/36)
عدو إبليس
للأستاذ توفيق الحكيم
(عزرائيل ينصرف عن دار النبي بعد وفاته فيرى إبليس مقبلاً
فرحاً مبتهجاً. . .)
إبليس - هل قبضت روحه؟
عزرائيل - وما شأنك وهذا، أخزاك الله؟
إبليس - نعم، نعم، لقد مات. أليس هذا صوت ابنته فاطمة تبكي وتصيح: (أبتاه، أبتاه. أجاب رباً دعاه! جنة الفردوس مأواه! يا أبتاه إلى جبريل ننعاه!)
عزرائيل - وما يعنيك من هذا الأمر؟
إبليس - أو ليس هذا أيضاً صوت عائشة في بكاء وشهيق:
(واحر قلباه! وا مصيبتاه! الآن قد انقطع عنا خبر الزمان!)
عزرائيل - أغرب عن هذا المكان!
إبليس - ثم هاهو ذا صوت نسائه كلهن يبكين:
(واثكلاه! واثكلاه!)
عزرائيل - أغرب عن هذا المكان!
إبليس - ما أجمل هذا النهار. . . إن نفسي لتكاد تنفجر شعراً وغناء. إصغ إلى هذه الأغنية:
ذهب عدوي إلى الفناء
اليوم عيدي فإلى الغناء
عزرائيل - صه! قبحك الله وقبح صوتك!
إبليس - صوتي منذ اليوم يستطيع أن ينطلق حراً في أرجاء الأرض. صوتي منذ الآن يستطيع أن ينفذ إلى تلك القلوب التي كانت تميل عني لتلقى خبر السماء. لقد عاد إلي ملك الأرض من جديد. . . وا فرحتاه! وا فرحتاه!
عزرائيل - خسأت! أن نور السماء قد نفذ إلى قلوب الناس فهيهات بعد اليوم أن يصغوا(449/37)
إلى صوتك!
إبليس - إنك لا تعرف الناس مثلما أعرفهم. إني أعرف كيف أمر بأناملي مراً رقيقاً على أوتار قلوبهم، فيذهلون، وأغني بصوتي هذا غناء شجياً فيطربون. . . إنك لا تعرف ما هي الأغاني التي أغنيها لهم. أني أغنيهم أغاني الأرض لا أغاني السماء! إن السماء تنير قلوبهم حقيقة. . . ولكن لأجل قريب. لا تنس أنهم خلقوا من طين الأرض. لاشيء يهز كيانهم غير أغاني الأرض!
عزرائيل - إنهم من الأرض ولكن أعينهم تتطلع إلى السماء
إبليس - نعم، عندما يشير لهم إليها النبي بإصبعه، فإذا ولى. . . عادت رؤوسهم تنخفض نحو الأرض. إنهم كالسنبلة التي لا يرفعها غير الإصبع، فإذا تركت سقطت
عزرائيل (كالمخاطب لنفسه) - عجباً! ولماذا إذن رضي الله أن يقبض نبيه؟! إن لله حكمة، أجل، أجل. أنسيت أيها الخاسر أن النبي إنما يأتي للتبليغ ويمضي. إنه جاء بالدين. إنه يذهب ولكن الدين باق. الدين هو الإصبع الدائمة التي لا تنفك تقيم المعوج. لا تفرح إذن كثيراً بموت النبي. ما مات غير الجسد الزائل. أما المبادئ والتعاليم فهي قائمة في وجه ريحك العاتية دائماً. . . أما الرسول في الحقيقة غير الرسالة. . . والرسالة لا تموت
إبليس - نعم، نعم.
عزرائيل - ما بالك وجمت! إن على وجهك الآن لغبرة تزيده قبحاً على قبحه. . .
إبليس - الرسالة والدين والتعاليم. . . هذا صحيح. . . ولكن. . . تلك الأشياء لم تخفني قط. . . فقد استطعت فيما مضى أن أنزع عنها بعض قوتها. . . إن المسيح قد بشر بالمثل الأعلى وفتح قلوب الناس لنور السماء. وذهب وقد ترك في الأرض قديسين وخلفاء ساروا على سنته في نبذ متع الأرض والانقطاع مترهبين في الصوامع والبيع والصحاري ورؤوس الجبال يتأملون وجه الله وحده، ناسين أو متناسين هذه الأرض التي من عناصرها صنعت أجسامهم. . . هنا تراءيت لهم ولمن تبعهم في صور مختلفة تذكرهم بما نسوه وتناسوه، وخاطبت أجسامهم بالمنطق الذي تفهمه، وحدثت عناصر تركيبهم باللغة التي تعرفها. . . فإذا أكثر الناس يصغون ألي في أمور حياتهم ومعاشهم ولا يذكرون التعاليم والمبادئ السماوية إلا يوم يجدون في أوقاتهم فراغاً للتفكير في السماء. إني ذكي. إني لم(449/38)
أرد قط في حربي ضد المسيح أن اقتلع المسيحية من النفوس، ولكني أظهرت في لباقة ما فيها من علو شاهق لا يستطيع المخلوقون من تراب وطين أن يبلغوه ما داموا آدميين. . . فليصغوا إذن إلى أغاني الجسد وأناشيد التراب والطين. . . وليطلب العلو من كان عنده فضل من فراغ ينفقه بعيداً عن الأرض والحياة. . . وبهذا أصبحت المسيحية الحق اليوم ترفاً روحياً لا يقتنيه غير خاصة الخاصة، أولئك الذين لك أستطع أن أخاطب فيهم منطق الأجساد والعناصر. . .
عزرائيل - لقد أدرك الله غرضك الأثيم فأرسل محمداً بدين لا ينكر منطق الأجساد والعناصر. . . دين لا يعرف الرهبنة ولا إنكار قوانين الأرض. . . دين لا يكره أن يصغي أتباعه إلى أغاني السماء والأرض معاً. . . وأن يفكروا في الآخرة والدنيا معاً. . . ما وسائل حربك ضد محمد والإسلام؟
إبليس - حقاً. . . تلك هي المشكلة! لهذا كان النبي ألد عدواً لي!
عزرائيل - إنه خاتم الأنبياء لأنه ضيق عليك الخناق، وسد كل ثغرة يمكن أن تنفذ منها سمومك. . . فماذا أنت صانع؟. . .
إبليس - دعني أفكر. . .
عزرائيل - فكر طول الأبد. . . فلن تظفر. . .
إبليس - بل لقد فكرت وظفرت. . . الأمر بسيط: يجب علي أن اطمس خصائص هذا الدين. . . إني خبرت الناس لطول لصوقي بهم وعشرتي لهم. . . أن الناس يميلون دائماً إلى التشبه والتشبيه. . . هذه القرود الناطقة. . . يصعب عليها التمييز والتفريق والنظر في فلسفة الأشياء. . . غداً عندما يوارى محمد في التراب. . . ويصبح ذكراً وطيفاً كموسى والمسيح، بل ربما قبل أن يواروه في الحفرة. . . أنظر. . . أليس هذا عمر بن الخطاب أحد خلفائه؟ أصغ إليه. . .
عزرائيل - إياك أن توسوس له بشيء.
إبليس - أصغ إليه. . .
(عمر بن الخطاب يقوم في الناس صائحاً)
عمر - لا أسمعن أحداً يقول: إن محمداً قد مات؛ ولكنه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى،(449/39)
فلبث عن قومه أربعين ليلة. والله إني لأرجو أن تقطع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات!
عزرائيل - عجباً! ما هذا الذي يقول؟!
إبليس - أرأيت؟ قد شبهوه بموسى ولما يهيلوا عليه التراب!
عزرائيل - كذبت! إنما هي وسوسة منك!
إبليس - صه! انظر! هذا أيضاً رجل من بين الناس يريد أن يقول شيئاً. . .
(ينهض أحد الناس صائحاً)
أحد الناس - أن رسول الله قد رفع كما رفع عيسى، وليرجعن!
عزرائيل - رباه ماذا أسمع!
إبليس - أرأيت؟ إنهم قد شبهوه كذلك بعيسى ولما يدرجوه في الأثواب!
عزرائيل - لست أصدق ما أرى وما أسمع
إبليس - لقد قلت لك إني أعرف منك بالبشر
عزرائيل - اللهم نورك! كيف خفي على هؤلاء أن دينهم لم يكن تكريراً لما سبقه من أديان!. . . اللهم إنك منزه عن اللغو والتكرار!
إبليس - ما أبهج هذا النهار؟ ألا تطربك أغنيتي:
ذهب عدوي إلى الفناء
اليوم عيدي فإلى الغناء
عزرائيل - آه، لو استطعت أن أبطش بك. . .
إبليس - اقبض روحي إن قدرت. . .
عزرائيل - ليس لك روح يقبض
إبليس - بل لي روح لا تستطيع قبضه يداك الصغيرتان!
عزرائيل - يداي حقاً لا تستطيعان؛ ولكن يد رضيع تستطيع. . . إن روحك ليزهق في اليوم ألوف المرات. . . إن روحك لينطفئ في قلب كل مؤمن ومؤمنة ومحسن ومحسنة وخيّر وخيّرة. . . إن روحك مارد من دخان يستطيع طفل بكلمة طيبة أن يحبسه في قمقم من نحاس!(449/40)
إبليس - ولكني لا أموت ولا أذهب إلى الفناء. . . لأني سلطان الأرض وروح الأرض. . . ولن أترك الأرض ما بقيت دودة تسعى في الأرض!
عزرائيل - ابق ما شئت في الأرض، ولكنك لن تقوى على دحر أعدائك. . .
إبليس - عجباً لك! أو لم تر كيف أني في لحظة استطعت أن أغير معنى الدين الذي قضى محمد حياته كلها في تجليته وإظهاره وتوضيحه. . .؟ ألم يذكر محمد قومه في كل وقت أنه بشر يوحى إليه. . . وأنه يحيا ويموت كبقية الناس. . . وأن دينه هو دين الحياة. . . الذي يحل للناس كل وسائل العيش الصالح على هذه الأرض. . . وما دام دينه دين الحياة والفطرة والمنطق البشري. . . فلا ينبغي أن يؤلهه الناس كما ألهو المسيح، ولا أن ينكروا إمكان موته كما فعلوا مع المسيح. . . أليس هذا معنى دينه؟
فكيف إذن بدل الناس الآن المعنى وانقلبوا يسيرون نحو فكرة التأليه؟. . .
عزرائيل - إنهم لن يغيروا شيئاً. . . ولئن وقع في نفسك شيء من كلام عمر بن الخطاب، فهو لا ريب قد قال خوفاً من الردة!
إبليس - ولماذا يخشى ارتداد الناس عن الدين بموت محمد. . . إنهم إذن كانوا يعبدون محمداً!
عزرائيل - اللهم ألقي نورك في صدور الناس!
إبليس - هيهات! إن ما تسميه (وسوستي) قد استقر الساعة في صدور الناس. . .
عزرائيل - خسأت أيها الخاسر. . . أنظر. . . أنظر. . .
إبليس - ماذا؟ من هذا؟
عزرائيل - هذا أبو بكر يقوم في الناس. . . أصغ إليه. . .
(أبو بكر ينهض في الناس صائحاً)
أبو بكر - أيها الناس. . . أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. . . ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت!
عزرائيل - وا فرحتاه. . . أسمعت؟
إبليس -؟؟؟
عزرائيل - أنظر أيضاً. . . أنظر. . . هذا العباس يريد أن يقول شيئاً. . .(449/41)
(العباس يقوم في الناس صائحاً)
العباس - أيها الناس. . . والله الذي لا إله إلا هو، لقد ذاق رسول الله الموت، وإنه ليأسن كما يأسن البشر. . . فادفنوا صاحبكم. . . إنه ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً. . . أحل الحلال وحرم الحرام. . . ونكح وطلق وحارب وسالم. . . وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال بأنصب ولا أدأب من رسول الله فيكم. . .!
(عزرائيل يلتفت إلى إبليس صائحاً صيحة الانتصار)
عزرائيل - ماذا تقول الآن في هذا؟ أغرب الآن عن هذا المكان. . . لقد طهر معنى الإسلام، وتألق روح هذا الدين. . .!
توفيق الحكيم(449/42)
موقف العلم من الأديان اليوم وحماية المسلمين من
ضلالات المادية
للأستاذ محمد فريد وجدي
لقي رجال العلم الكوني من رجال الأديان - منذ ألفي سنة إلى القرن السابع عشر - ما يلقاه الخصوم من الخصوم، وبدل أن تتلطف حدة هذه الخصومة من ناحية المتغلبين - وهم حفظة الأديان - استحالت إلى وحشية جامحة؛ فكانوا إذا آنسوا من رجل نظراً فيما يتعلق بالوجود وقواه العاملة فيه - أو فيما يتعلق بعلل الظواهر الطبيعية - ألقوه حياً في النار، أو رموا به من حالق إلى مكان سحيق
فلما دالت للعلم الدولة بعد أدوار شتى من التطورات العقلية والاجتماعية في القرن السابع عشر، جعل حماته أكبر من همهم ليس الانتقام من رجال الدين فحسب، ولكن من الدين نفسه أيضاً، حتى لا تبق له دعوة في الأرض ينخدع بها بعض السذج فيجد بعض ذوي المطامع من يستغلونهم لسد نهمهم من المال والسلطان
اشتد العلم في إسقاط الدين، فوضع كثير من رجاله مؤلفات للتعديل على سذاجة عقائده الأساسية، وبينوا للناس أصولها من أوهام الجماعات الأولية وتداعي مبانيه حيال اليقينيات العلمية.
وأكثروا من الحط من كرامة الدين في كل فرصة سنحت لهم حتى لا تكاد تقرأ كتاباً علمياً لا تصادف فيه شيئاً من هذا التصدي. فأفضت هذه الحال إلى نفور مستعصٍ من الأديان في نفوس الطبقات التي تتلقى نصيباً من الثقافة المدرسية
ولكن لما كان من أخص صفات العلم التطور فقد اقتضت به الحوادث منذ تسعين سنة إلى البحث الجدي في عالم ما فوق الطبيعة، ولكن لا كما يفعله الفلاسفة باستخدام قوى العقل في التحسس منه، ولكن على أسلوب العلم نفسه من المشاهدة والتجربة
عقدة النزاع الأساسية بين الدين والعلم
هذه العقدة بين الدين والعلم أن الأول يقول بوجود عالم فوق الطبيعة يتنزل من جميع ما في الكون من كائنات مادية، وقوى عالمية، وهو الأصل الأصيل في وجود وقيام العالم(449/43)
المحسوس، ويبتني على هذا الأصل القول بوجود الخالق المدبر، والروح الإنسانية، والإلهامات الحيوانية، والإبداعات التكوينية، والوحي وخلود الإنسان في عالم الأرواح لمجردة، الخ الخ. والعلم ينكر كل ذلك، وبعده من الخيالات التصورية، ويقرر أن المادة قديمة، وإن كل ما صدر في عالمها حتي القوى العقلية، والروح الإنسانية، إنما صدر بواسطة النواميس الطبيعية، الملازمة للذرة المادية على سبيل التدريج والتطورات المتعاقبة
تورط العلم أخيراً في بحثه الجديد عن عالم ما فوق الطبيعة على أسلوبه المعروف من التجربة والتمحيص وبدا لألوف مؤلفة من رجاله بصيص من نوره فأثبتوا نتائج تجاربهم وحداناً وجماعات في مؤلفات ومحاضر، قال عنها فيلسوف أمريكا الكبير (وليم جيمس) أستاذ جامعة (هارفارد) بالولايات المتحدة في كتابه (إرادة بصفحة 313 من ترجمته الفرنسية
(إذا صدقنا الجرائد وأوهام الصالونات خيل لنا أن الضعف العقلي وسرعة التصديق هما الرباط المعنوي الجامع بين أعضاء هذه الجمعية (يريد جمعية المباحث النفسية الإنجليزية)، وأن حب العجائب هو العامل المحرك لها، ومع هذا فيكفي أن تلقي نظرة واحدة على أعضائها لدحض هذه التهمة؛ فإن رئيس هذه الجمعية هو الأستاذ (سدجوك) المعروف بأنه أشد الناس شكيمة في النقد، وأعصاهم قياداً في الشك في جميع البلاد الإنجليزية، ووكيلاها المستر أرثر بلفور (أحد رؤساء الوزارات الإنجليزية وعالم مشهور)، والأستاذ ج ب لنجلي. ويمكن التنويه من أعضائها العاملين بالأستاذ ريشية الفيزيولوجي المشهور، وتشمل قائمة أعضائها رجالاً كثيرين آخرين كفاءتهم العلمية أشهر من أن تذكر. فإذا طلب إلى أن أعين جريدة علمية تكون مصادر أغلاطها ممحصة بأدق الأساليب، فإني أنوه بمحاضر جمعية المباحث النفسية، فإن الفصول الفيزيولوجية التي تنشرها الجرائد الخاصة بهذا العلم، لا تبلغ في دقة النقد هذه المحاضر المذكورة) اهـ
لما حدث هذا التطور العلمي الخطير، مال رجال من كبار العلماء إلى النظر في النتائج التي تؤيد الدين منها، وما زالت عقدة النزاع بين العلم والدين هي وجود أو عدم وجود العالم الروحاني، فإن هذه العقدة تحل إذا ثبت صحة وجود هذا العالم بدليل محسوس. قال العلامة (هـ. و. بيرس) المدرس بجامعة كمبردج في كتابه (الشخصية الإنسانية) في(449/44)
صفحة 11 منه من ترجمته الفرنسية:
(حوالي سنة 1873 حيث كان المذهب المادي بالغاً أوج سطوته على العقول، اجتمع ثلة من الأصحاب في كمبردج وأجمعوا على أن هذه المسألة المتنازع فيها (يريد مسألة عالم ما فوق الطبيعة) تستحق التفاتاً وجهداً جدياً أكثر مما عولجت بهما إلى ذلك الحين. . . وكنت مقتنعاً بأنه لو أمكنت معرفة شيء من ذلك العالم على أسلوب يمكن أن يقبله العلم ويحفظه، فلا يكون ذلك بالتنقيب في الأساطير القديمة، ولا بوسيلة التأمل فيما فوق الطبيعة، ولكن بواسطة التجربة والمشاهدة، وبتطبيقنا على الظواهر التي تحدث بيننا وحولنا أساليب المباحث المضبوطة المنزهة عن الأغراض، التي نحن مدينون لها بمعارفنا عن العالم المرئي المحسوس. ومباحثنا في هذا السبيل يجب أن تكون مؤسسة على هذه القضية وهي: (إذا كان يوجد عالم روحاني، وكان قابلاً لأن يدل على وجوده في أي معهد كان، فيجب أن يكون كذلك في أيامنا هذه)
(فمن هذه الناحية، وبالأحرى على هذه الاعتبارات واجهت الجمعية التي أنا عضو منها هذه المسألة) اهـ
وقد مضت بعد هذا القول عشرات السنين وحدثت فيها بحوث عملية دونت في مئات من الكتب والرسائل، تبين منها أن العلم حيال حقيقة ثابتة مؤيدة بالدليل المحسوس الذي لا يمكن التماري فيه حتى قال العلامة الفلكي الكبير (كاميل فلاريون) في كتابه القوي (الطبيعة المجهولة).
(إني كلما أفكر في هذا الأمر أدهش من أن دهماء الناس لا يزالون يجهلون هذه المسائل كل الجهل، على حين أنه قد عرفها ودرسها وقدرها حق تقديرها وسجلها منذ سنين، جميع الذين تتبعوا حركتها بكل نزاهة في مدى هذا العهد الأخير
وقال: (إن المشاهدات الحسية تثبت وجود عالم روحاني محقق كتحقق العالم المادي المدرك بحواسنا الخمس)
نقول وقد قررت جامعات أمريكية دراسة هذا البحث، وجعلت له أخيراً جامعتا كمبردج وأكسفورد مقعدين رسميين له
كيف تحمي المسلمين من ضلالات المذهب المادي؟(449/45)
اتصل المسلمون بالعالم العلمي منذ أكثر من قرن، وظل رجال الدين وطلابه في عزلة عنه فلم يصبهم من ظلمات النظريات المادية شيء، ولكن حركة التطور العامة دفعت بهم إلى الاتصال به من سائر طبقات الشعب، تقريباً للثقافات الدينية من الثقافات العامة تفادياً من حدوث تناف بينهما، فتصبح الأمة فريقين متنافرين
والإسلام متين يقوم وجوده وتقوم دعوته على العلم: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟)
وقد صافى الإسلام من وجوده العلم، وسمح لأهله أن يندفعوا في تياره، وأن يستفيدوا منه ويشيدوا مجتمعهم عليه، فكان أنبل مجتمع ظهر على سطح الأرض، وكانت له دولة لا تغرب عن أقطارها الشمس، فأقال عثرات الإنسانية، وداوى كلومها، وكشف ظلماتها؛ ولم تعرف في تاريخ الإنسانية أمة قامت بالدين معتمدة على العلم غير الأمة الإسلامية
ولكن العلم الذي كان يدرس في مدارس المسلمين اليوم، قائم على الأصول المادية البحتة للقرن التاسع عشر، ولممثليها من أهل القرن العشرين؛ فتجد كتبها التي بين يدي الطلبة لا تزال تردد لهم النظريات الرثة العتيقة التي تخيلها ديموكريت اليوناني منذ أكثر من ألفين وثلاثمائة سنة وهي: (أن المادة لا تفنى ولا تتجدد)، على حين أن علم القرن العشرين قد توصل إلى إفناء المادة وإحالتها إلى قوة، بذلك المادة لم تكن ثم كانت
هذه المعرفة لها قيمة عظيمة في الدراسات الدينية، لأن القول بعدم تجدد المادة وفنائها يؤدي إلى القول بقدم العالم المادي، وهو أساس المذهب المادي وحصنه الحصين
وفي هذه المدارس الدينية تدرس الفلسفة ويقرر للطلاب فيها أن الرأي المادي هو الذي ساد جميع الآراء، وأن السلطان انتهى إليه، وهو آخر طور من أطوار التفكير البشري، وما هو في الواقع إلا مرمى المادية قبل التطور العلمي الأخير
وتدرس البسيكولوجيا (علم النفس)، وكتبها المدرسية موضوعة على أسلوب الفلسفة المادية، فيضطر طلبة الذين أن يقرءوا فيها: أن ليس للإنسان روح مستقلة عن الجسمان، وليس له ضمير فطري يرجع إلى عالم علوي، وأن كل ما فيه من شعور بالحسن والقبح، وبالفضيلة والرذيلة، وبالخير والشر، أمور اعتبارية لا أصل لها في وجود أرفع من هذا الوجود؛ وأن الغرائز الأدبية ليست متنزلة من روح علوية، ولكنها عادات أوجدتها مصلحة(449/46)
الاجتماع، فرسخت في الشخصية الإنسانية واعتبرت من الخصائص الروحية، وليست من الروح المزعومة في شيء
ويدرس لهم تاريخ الأديان ولحمته وسداه: أن الدين على ما هو عليه في هذه العصور المتأخرة التهذب، صادر من الدين الأولي الساذج الذي تخيله أهل القرون الأولى، وليس هو بوحي، لأن الوحي لا وجود له
ثم يقرءون فيها: أن الباعث الصحيح عليه أهواء النفوس، وجهالتها بالعلل الطبيعية، وهلعها من الجوانح الكونية، فتألبت كل هذه العوامل على إحلال الدين في سويداوات القلوب بواسطة الوراثات الطويلة المدى، حتى أصبح هو والحياة عند الفرد والجماعة في مستوى واحد
فما ترجى أن تكون هذه المجموعة من الدروس، غير دعايات للإلحاد في حرم الدين، لم يظفر بمثلها المذهب المادي في أية بيئة من بيئات العالم، وفي العهد الذي أثبت فيه العلم، جرياً على أسلوبه كما قدمنا، وجود العالم الروحاني وقام فيه أقطابه بنقد كل ما أورده المذهب المادي من الشبهات عليه، سعياً منهم لتوحيد غاية الدين المطلق وغاية العلم على حال من الوفاق كانت أمنية دعاة المدنية الفاضلة
الوسيلة المثلى لدرء هذا الخطر أن تخضع هذه الدروس في المدارس الإسلامية الدينية لمراقبة دقيقة، وأن تلقي مواردها متبوعة بالنقد الذي وجه ضدها من علماء القرن العشرين، والتعديل الذي أدخل عليها بواسطتهم؛ مع مراعاة أن يكون النقد ماحقاً لشبهاتها بأدلة ساطعة لا بكلمات جوفاء تزيدها تسلطاً على العقول
هذا خير ما أهديه لقراء (الرسالة) في مفتتح السنة الجديدة، ولهم مني معها أطيب تحية.
محمد فريد وجدي(449/47)
تأملات
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ضلت الإنسانية عن ربها وعبدت المال والقوة، ودانت لهما بالطلب والحرص والإكبار؛ وفي سبيل المال والقوة نُسى كل شيء: من دين أو فضيلة أو مبدأ، وفعل كل شيء من:
ظلم وقطيعة وكث. يخدع كلُّ كلا في السلم كما يتخادع أهل الحرب، كأن أيام الناس في هذه المدينة حرب كلها ولكن بسلاح مختلف. فلحرب السلم سلاحها وفنونها وخططها، كما لحرب الدبابة والغواصة والطيارة. ففي السلم يتحارب الناس وتتحارب الأمم بالتجارة وحواجزها الجمركية، وبالصناعة وموادها الخام، ثم بالدعاية والسياسة؛ وفي سبيل ذلك يسخر الأدب بفنونه والعلم بفروعه، تتنافس في ذلك الأمم، وتتنافس في ذلك الطوائف والأفراد داخل كل أمة؛ حتى الفضائل جعلت سلاحاً وسبيلاً إلى الغلب. فالتاجر إن صدق لا لأن الكذب يزري، أو لأنه منهي عنه في الدين، ولكن لأن الصدق يجزئ ويربح، ولو وجد في الكذب ربحاً لكذب. والأمم تتعاهد، فإن وجدت في الوفاء ربحاً وفت، وإن وجدت الربح في النكث نكث. فالمال هو البغية، والقوة هي الغاية، والشهوة هي السائق، والهوى هو الغالب، كأن قد غلب على هذه المدينة في معاملاتها روح الإحراج وقانون الأدغال؛ وما يقول (دروين) إنه كان غالباً على أنواع الحيوان في أحقاب النشوء
ويل للإنسان من نفسه ومن أخيه الإنسان حين يضل كلُّ عن ربه. فلو لم يكن للدين ضرورة، لجعله حال الناس اليوم ضرورة؛ ولو لم يقم على وجوب التدين برهان، لكان ما آل إليه أمر الناس بعد ترك التدين هو البرهان. إلا أن الإنسان يذكر وينسى، ويؤمن ويكفر، ويطبع ويعصي، حسب الظروف في الشدة يلجأ إلى الله، وفي البلاء يكثر من الدعاء، ويستغفر ربه وينيب: يفعل ذلك الأفراد، ويفعل ذلك الأمم، حتى إذا استجاب الله وفرج الكرب وكشف البلاء، نسى الإنسان ونسيت الأمم ما كانوا يدعون الله من أجله، وجعلوا الله أنداداً، وانقلبوا له أضداداً، وعادوا إلى آلهتهم من الشهوة والقوة والمال، كأن لم يكن بلاء وكربة، كأن لم يكن دعاء وتوبة؛ وجعلوا يضحكون من خوفهم الذي كان، وجزموا بأن أسبابه لن تعود!
لقد كانت الحرب الماضية، وجاءت الناس بكرب لم يروا مثله من قبل، فجأر الناس إلى الله(449/48)
وجأرت الأمم، وجعلت تنذر النذر، وتبذر الوعود والعهود، وتقيم الصلوات العامة، تأمر بها الحكومات، ويركع فيها الحكام والملوك. ثم جاء النصر وجاء السلم، فذهبت النذور هباء، ولم تلق الوعد ولا العهود وفاء؛ وكل ما كان هنالك أن جيء بأسماء جديدة أطلقت على مسميات قديمة، فذهب الاستعمار وجاء الانتداب، وذهبت المحالفات وجاءت عصبة الأمم، وعاد الناس وعادت الأمم تبتغي الكسب وتبتغي المال والقوة، حتى كان من الأمم المنتجة من كانت تحرق ما زاد من غلات أرضها لتبيع الباقي من الأمم الأخرى بثمن أعلى، وانحدر المال إلى خزائن بعض الأمم، كما ينحدر الماء إلى مهابطه من الأرض، فجفت بقاع منه وغرقت بقاع، وجاعت أمم وتخمت أمم، وانقلبت الأوضاع واشتد النزاع، وخسرت الإنسانية السلم، فخسرت بذلك الحرب قبله، إذ قامت هذه الحرب
قامت هذه الحرب ماذا كان؟ كان الذي يعرف كل إنسان أنه كان في الحرب الماضية: فالنذور تنذر، والوعود تبذر والصلوات العامة تقام؛ وأصبحت الأمم المتمدينة لا ترى أهنأ من الأمن، واعتزمت في مستقبلها أن تتناصف في قسمة المواد الخام لتعيش إلى الأبد في سلام!
إنها مدينة مجنونة هذه التي تنسى الله وتعصاه في الرخاء بعد أن كشف عنها البلاء، حتى إذا أخذها بنكثها وإثمها جأرت إليه تسأله النجاة ولم يكن لديها ما تتعهد به للناس أو تنذره لله إلا أن تتعايش في سلام، وتتناصف في المواد الخام.
لقد أفلست المدينة الغربية وحق عليها ما حق على المدنيات الخاطبة قبلها. وهاهي تنتسف بقوتها الكامنة التي من الله بها عليها فلم تطعه فيها. هاهي حين فسقت عن أمر الله تنفجر بما اختزنت من علم ومال حولتهما فيما حولت قنابل وطرابيد تلقي من الجو وتنشر في البر والبحر على المحارب وغير المحارب على السواء (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد) إنها مدينة كتلك القرية ضربها الله مثلاً في القرآن: (كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها لباس الجوع والخوف)
إنها مدينة مسيحية اسما لكنها لم تقم قواعدها على نصرانية ولا إسلام. فنصرانية عيسى صلوات الله عليه ليس فيها حرب ولا سلاح ولا استعمار. والحرب في الإسلام لا تكون في(449/49)
سبيل الفرد ولا في سبيل الأمة ولا في سبيل الجنس، ولكن في سبيل الله ليكون الحكم في الأرض لله.
إن الاستعمار الذي ابتدعته مدينة الغرب ليس من الإسلام في شيء، ولا من حكم الله في شيء. فاستغلال القوي الضعيف فرداً كان أو أمة ينكره الإسلام كل الإنكار. وتحكم أمة في أمة بالهوى لا يعرفه الإسلام ولم يشرعه الله. وعلو أمة على أمة وشعب على شعب أو جنس على جنس حرمه اله الذي سوى بين الناس وساوى بين الأجناس ولم يجعل على أحد فضلاً إلا بالتقوى: تقوى الله الذي خلق الأحمر والأصفر والأبيض والأسود. ففيم استعلاء فريق على فريق؟ وفيم تحكم لون في لون أو شعب في شعوب؟ (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير).
لقد عرف الله الإنسانية أيما إعزاز حين جعلها خاضعة له وحده سبحانه في الحكم، ليس لأحد سبيل إلا بحق الله طبْق دين الله الذي بينه الناس واضح المعالم ظاهر الحدود في كتابه الكريم الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً في حياته الكريمة التي مثلت حياة الأمم وحياة الأفراد كيف ينبغي أن تكون.
لقد علم الله سبحانه أن هذه المدينة المعقدة ستكون، وأن الإنسانية ستقلب في أطوارها التي تقلبت فيها، وأنها ستفتح لها أبواب العلم، وأن هذا العلم سيَفتح لها فنوناً من القوة، وأن هذه القوة ستسلمها إلى صفوف من المشكلات لا تحل حلا حلاً مرضياً موفقاً إلا طبق ما سن الله للفطرة من سنن، وللنفس البشرية من قوانين، عرفت الإنسانية بعضها، وجهلت منها أكثر مما عرفت. فلو أن الإنسانية وكلت إلى نفسها وعلمها وجهدها وحدة ما خرجت، وما أمكنها أن تخرج من ورطاتها التي هي لا بد واقعة فيها بتعمقها في العلم الطبيعي الذي يفتح لها كنوز الأرض من غير أن يريها طريق العدل في استعمالها. فأراد الله سبحانه أن يتم نعمته على الإنسان بأن يجمع له بين القوة وبين الهدى في استعمال القوة، فآتاه العلم، وقبل أن يؤتيه العلم أنزل عليه الكتاب والحكمة ليريه كيف يتقي شر العلم ونتقي خبره بالوقوف في استعماله عند الحدود التي حدها الله فاطر الإنسان وفاطر القوى التي سخرها بالعلم للإنسان.(449/50)
فإذا كان من عجيب صنع الله للإنسان أن وهبه العقل الذي استفتح به كنوز العلم، فإن أعجب منذ لك أن تفضل سبحانه فأنزل له الدين ليقيه مالا يمكن العقل ولا العلم أن يكفوه إياه من الشرور والأخطار
أقسم أن نعمة الله على الناس في الدين أعجب وأكبر من نعمته عليهم بالشمس أو بالقمر أو بما خلق في الأرض من كائنات ينعم بها الإنسان أو لا ينعم، شكوراً أو غير شكور. إن هذه الكائنات خلق من خلق الله، والإنسان واحد منها يقوي أمام بعض ويضعف إزاء بعض، ينتفع بها أحياناً ويتضرر بها أحياناً، لكن الدين خير كله ونفع كله وسعادة صرفة لمن يتقبله مؤمناً، ويعمل به مسلماً. وأقسم لو سخرت العلوم هذه الكائنات كلها للإنسان وكان الإنسان بتسخيرها يتمتع في هذه الحياة المتعة كلها من غير تعب ولا ملل ولا هَمٍ ولا حزن ولا ضعف ولا مرض حتى إذا مات كان الحساب وكان العقاب إذن لكانت نعمة الله على الإنسان بالدين الذي يقيه عذاب الآخرة ويؤتيه نعيمها أكبر من نعمته عليه بالعلم بقدر ما بين الآخرة وبين الدنيا من فرق وفضل في المدة وطولها، أي بقدر ما بين الباقي وبين الفاني أو بين غير المتناهي والمتناهي من فرق وفضل. فكيف وهذه العلوم لا تسخر للإنسان إلا جزءاً مما حوله، وقد يشقى بما يسخر له منها وقد يسعد؛ وهو في أحزانه وهمومه، ومحاربه ومكارهه، وأمراضه ومصائبه، لا يجد سلوى ولا مخرجاً ولا عزاء إلا بالدين، وبطاعة الله في الدين. وكيف وهو لن يلقي النعيم الصرف الذي لا يخالطه عذاب، والسعادة المحضة التي لا يشوبها شقاء، إلا بعد هذه الحياة في حياة أخرى لانهاية لها ولا أجل إذا كان قد أطاع الله وعمل في دنياه بالدين
على أن هناك معنى في الدين الإسلامي أكرم الله به للإنسان كرامة لا يقوم بها شكر ولا ينقضي منه عجب المتفكر، ألا وهو تفضل الله جل جلاله بمخاطبة الإنسان من كتاب من عنده سبحانه على لسان رسول من البشر تقوم الأدلة القاطعة على صدقه. إن مجرد مخاطبة الخالق كرامة دونها كل كرامة يكبرها ويجلها الإنسان في الدنيا، فكيف والخطاب في كتاب عظيم كريم مبين. الحق سبحانه هو المتكلم فيه، فليس لبشر فيه جملة أو كلمة أو حرف! كتاب من عند فاطر وصفه فيه جل وعلا بصفة الفطرة بقوله: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(449/51)
أليس من أكبر الكرامة أن يذكر الله الإنسان ولا ينساه، وأنه يوجه ليه الخطاب في كتاب يهديه به سبحانه سبل السلام وسبل الهدى والنور؟ أليس من أكبر النعمة حين علم الخالق سبحانه ضعف الإنسان وجهلاه وما يتهدده من جرائمها من أخطار أن ينزل عليه نظاماً لحياته هو وفق الفطرة التي لم يكن الإنسان ليحيط بها ولا بسنن الله فيها؟
إن العلم شيء وتطبيقه من غير خطأ أو خلل شيء آخر. فلو أن الإنسان أحاط بالقوة علمه لما استطاع أن يطبقها على حياته محكماً لا خلل ولا عوج فيه. بل أن صعوبة التطبيق وإصابة الحكمة فيه لتزداد بازدياد ما يراد تطبيقه وتفرعه. فالإنسانية بقواها العقلية المحدودة أعجز من أن تحيط بالفطرة علماً، ولو علمت لكانت أعجز من أن تطبق علم الفطرة وتنتزع منه نظاماً عملياً لحياة الإنسان في عصر واحد بله جميع العصور
فإن الخالق البارئ الحكيم قد جمع للإنسانية بين علم الفطرة وبين إحكام تطبيقه على الحياة حين أكرمها بالإسلام دين الإنسانية الكامل الشامل الذي أنزله على محمد نبي الهجرة صلوات الله عليه. فاعجب إذن للإنسانية كيف تتخبط وبين يديها الهدى، وكي تشقى وفي متناولها السعادة، وكيف تموت وعلى مقربة منها الحياة؟!
ثم اعجب عجباً بعد عجب من قوم يزعمون من بين الإنسانية أنهم مسلمون إلى الله مؤمنون بالكتاب الذي أنزل والرسول الذي أرسل، ثم هم يعطلونه ولا يقيمونه، ويضعونه ولا يحفظونه، بل هم يلتمسون الهدى في غيره، ويتطلبون الحياة ممن ضل عن روحه ونوره، يولون قلوبهم ووجوههم لا شطر المدينة الإسلامية التي أقامها الرسول بتطبيق كتاب الله فكانت مثلاً عملياً أعلى للإنسانية كلها، ولكن شطر المدين الغربية التي ضلت عن ربها وعبدت المال والقوة والجاه فأداها ذلك إلى التهلكة التي ترى والتي تحاول التخلص منها فلا تستطيع
فريق من الإنسانية بيدهم النور فلا يستنيرون به! وفريق في الظلمات يظنون أنفسهم في نور! أيهما يا ترى أظلم؟ ولأيهما يا ترى تكون النجاة؟
محمد أحمد الغمراوي(449/52)
الشجاعة وأثرها في الإسلام
للأستاذ محمد عرفه
لو قيل لي أي الأخلاق الفاضلة كان له الفضل في ظهور الإسلام وانتشاره لما ترددت في أن أقول الشجاعة. فالشجاعة الأدبية والشجاعة الجسدية هما الدعامتان اللتان قام عليها الإسلام، وبفصلهما انبثق نوره في سائر الأرجاء؛ أو قل إن الشجاعة الأدبية والشجاعة الجسدية نوع واحد مرجعه إلى جرأة القلب، والاعتماد على النفس، وعدم الخوف من أحد؛ فإذا وجد صاحبها حقاً مهيضاً نصره، وإذا وجد باطلاً عرماً خذله بحد اللسان أو بشبا السنان
ولقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أشجع الناس في قول الحق والجهر بما يعتقد، وبحسبك أن قومه كانوا يقدسون الأصنام ويرونها الحق الذي لا ريب فيه، والصدق الذي لا تحوم حوله شبهة؛ وكان يعلم أنهم يتعرضون لشبا السيوف وملاقاة الحتوف محاماة عن أصنامهم وذباً عنهم، فلم يمنعه ذلك من أن يجهر بالحق ويعيب آلهتهم، ويسفه أحلامهم، ويصبح في وجوههم: (إن الذين تدعون من دون اله لن يختلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب).
(ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها؟). رباه الله على الشجاعة الأدبية والجهر بما يعتقد فقال له: (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر). وقال: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين أنا كفيناك المستهزئين). وقال: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). وأبان له أن كتمان الحق موجب للعنة الله والناس (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)؛ فعلم أن في العالم حقاً وباطلاً وخيراً وشراً، وأنه يجب على الأنبياء والمصلحين أن يكونوا نصراء الحق والخير وأعداء الباطل والشر، وأن عليه أن يزكى هذه العداوة ويؤجج نارها حتى يديل الله الحق والخير من الباطل والشر. وكما كان صاحب الدعوة صلوات الله عليه المثل الأعلى في الشجاعة الأدبية، فقد كان كذلك في شجاعته الحربية أعظم مثل وأروعه، يدل على ذلك قول علي: (إنا كنا إذا حمى البأس وأحمرت(449/53)
الحق أتقينا برسول الله (ص) فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً)؛ ووقفته الخالدة يوم أحد ويوم حنين فر الشجاع وارتعد الصنديد أكبر مثل وأعظم برهان
ولقد ربي الإسلام المسلمين على الشجاعة وحبها إليهم وزينها في قلوبهم (أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص) حتى جعل الجنة تحت ظلال السيوف، وما زال يربيهم على الشجاعة والقوة والمنعة إلى أن صاروا فيها مُثلاً عُلْيا وأمثالاً مرددة؛ ففرض الله عليهم أن يثبت الواحد لعشرة ولا يفر منهم، ثم خفف عنهم وأوجب أن يثبت الواحد لاثنين ولا يفر الجيش من ضعفه (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلوا ألفين بإذن الله)
وكان من أثر الشجاعة في النبي وأصحابه أن عز الإسلام والمسلمون وصاروا أمنع من عقاب الجو وجبهة الأسد، لا تلين قنانهم ولا يسلمون لمن أرادهم، فلم يضعفهم قلتهم وكثرة أعدائهم وكان للإسلام العزة وللمسلمين التمكين في الأرض.
وكان أولوا الأمر من المسلمين الأولين يحافظون على قوة نفوس المسلمين كمنبع لعز الدولة الإسلامية، ويعلمون أنهم إذا عاملوا الرعية بالقهر ذلوا لهم لغيرهم ولم يكن فيهم غناء، فبالغوا في المحافظة على روح المسلم أن تذل وكرامته أن تمتهن، بل جاوز ذلك غير المسلمين ممن تظلهم الدولة الإسلامية برعايتها. ضرب ولد لعمرو بن العاص قبطياً فبلغ ذلك الخليفة عمر بن الخطاب فأرسل إلى عمرو وابنه وقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ لا. بل لقد كانوا يفرحون إذا وجدوا في الأمة ما ينبئ عن قوة نفس وشجاعة قلب وجرأة على قول الحق. خطب عمر بن الخطاب في خلافته فقال: (أيها المسلمون إذا وجدتهم فيَّ اعوجاجاً فقوموني. فقام رجل من المسلمين وقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد الله الذي جعل في هذه الأمة من إذا وجد فيَّ اعوجاجاً قومني بسيفه. وذلكم مدى عناية الإسلام بالشجاعة ومدى ما كان لها من اثر في ظهوره وانتشاره(449/54)
بل أن الحضارة لم تتقدم وإن المدينة لم تنهض وإن العلوم والمعارف لم تعلُ إلا بفضل الشجاعة
يرى المصلح نظاماً فاسداً في المجتمع أو رأياً في السياسة فيشن عليه حرباً شعواء، يظهر عيوبه ومساوئه غير مبال بسخط الساخطين وغضب الناقمين، ويستمر في حربه وجهاده حتى تصبح آماله في الإصلاح حقائق واقعة، فينقذ الأمة من شر وبيل. ويرى العالم جهلاً قد جعل علماً وعلماً قد جعل جهلاً فيجهر بما يعتقد. يحارب الجهل ويشايع العلم، فإن لم يكتب له الظفر في حياته كان لفكرته النصر في مستقبل الأجيال.
وبهذا تقدمت العلوم، ونهضت الأم، وارتقت البشرية، وذهبت أوضاع اجتماعية كانت داء وبيلاً، وحل محلها نظم هي خير وأبقى
فإذا رأيتم أمماً ترزح تحت أنظمة فاسدة وعادات بالية فاعلموا أنها لم تعط الشجاعة الأدبية لنقد الفاسد من أنظمتها والباطل من تقاليدها فتختلف حين جد الراكب وسارت القافلة.
على أن قوة نفوس الشعب وغلبه الشجاعة على أبناء الأمة أمر لا يأتي عفواً، إنما هو نتيجة علم وافر وسياسة عادلة ونظام دقيق وإصلاح عام يتمشى في جميع مرافقها؛ وأول شيء في سبيل ذلك أن يعلم أن النفس الإنسانية إذا استبدلها وأسيء الاحتكام فيها ذلت وضعفت وذهبت منها معاني الرجولة من النشاط والقوة والحزم والعزم والاستقلال الذاتي؛ وإذا رفق بها وعوملت باللين وأحسنت رعايتها عزت وعظمت وكان لها من القوة والعزة والشمم القدر الذي تصلح به وتقدر على إصلاح من معها؛ فإذا علمت الأمة ذلك وراعته وكانت سياستها في الحكم والاجتماع والتربية سياسة رفق ولين في غير ضعف ولا خور اطرد تقدمها ورقيها.
أيها المسلمون:
إذا رأيتم أنفسكم متخلفين عن ركب المدينة فاعلموا أن ذلك منكم وما كان يقدر أن يفعل ذلك بكم أحد سواكم. ملك بعضكم بعضاً ملكة قهر وغلب، واستبد بعضكم ببعض فأفسدتم نفوسكم وجردتموها من معاني العزة والقوة مقومات الحياة الذاتية المثابرة، فضعفت الشجاعة فيكم وضاعت من بين جوانحكم، وإذا فقدت الشجاعة فقد فُقد كل شيء؛ ولو كشف لكم عن حقائق الأمور لرأيتم كل واحد منكم قد أخذ معوله بيده وأخذ يهدم جاهداً في نفوس الآخرين،(449/55)
فالأب يقتل نفوس أبنائه، والزوج نفس زوجه، والمعلم نفوس المتعلمين، والرئيس نفوس المرؤوسين، وهكذا اصبح كل من له رعاية يستبد فيها بالآخرين ويسيء حكمهم ويقتل فيهم روح القوة والرجولة
أيها المسلمون:
إذا أردتم أن تساهموا في بناء المدينة الحاضرة فإني أوصيكم بواحدة: أن تبقوا على رجولتكم وشجاعتكم وذلك بأن تعدلوا في سياستكم وتحسنوا في رعايتكم، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع على أولاده، والرئيس راع على مرءوسيه، والحاكم على محكوميه، والمعلم على تلامذته. عليكم بالرفق في معاملتكم، والإحسان في سياسة من تلون أمورهم، والمحافظة على كرامتهم كما تحافظون على كرامة أنفسكم. ولتكن آثر الحكومات لديكم أرفقها بكم، وآثر الرؤساء عندكم أعدلهم فيكم، وأحبَّ الناس إليكم من يحافظ على كرامتكم ومن يعمل على أن تكون نفوسكم قوية وأخلاقكم فتية. وليكن أبغض الناس لديكم من يعمل على أن تكون نفوسكم مهينة وأخلاقهم خائرة ضعيفة، واجعلوا صديقكم من الكتاب من ينصحكم ويسمو بكم إلى آفاق الفضيلة والكمال، واجعلوا عدوكم منهم من يغشكم ويستغل غرائزكم الحيوانية، ومن يقول لكم ويقول ثم لا تأخذون مما يقول روحاً سامية، ولا تستفيدون منه سمواً خلقياً
ويومئذ تجرءون على كلمة الحق فتنقدون الأنظمة الفاسدة، والتقاليد البالية والأوضاع الضارة. ويومئذ تنتقلون من فساد إلى صلاح، ومن ضعف إلى قوة، في جميع شؤونكم وفي جميع مرافق الحياة فيكم
ويومئذ تيسرون مع ركب الإنسانية للعمل لخير الإنسانية، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله
محمد عرفه
عضو جماعة كبار العلماء(449/56)
متى النور يا ظلمات
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
أطبق الظلام على جميع آفاق الأرض. . . واختفى النور الصناعي الذي كانت الإنسانية تتسلق عليه إلى سُبُحات الجمال الموقوت والفن الفاني والطمأنينة الكاذبة. . . وارتدت الأحلام السعيدة إلى واقع الشجن والألم والانتكاس، فعانقت أشباح الكهوف والمغارات. . . وصارت قلوب بني آدم أوكاراً لمخلوقات شنيعة شوهاء هن بنات الظلام والغدر والخيانة والجريمة والخديعة. . .
ولم يَعُدْ للإنسانية غير ينابيع نور الطبيعة تستصبح به. . . لم يَعدْ لعيونها غير الشمس والقمر والنجوم. . . ولم يعد لقلوبها غير نور قبل الأزمنة والدهور. . . ولم يعد لأفكارها غير مبادئ الحق الواقع في الطبيعة.
أما الفلسفات والآراء والنظريات البراقة التي رددتها منابر المعاهد والمجامع ومجالس الترف العقلي، فقد اختفت مع اختفاء الأنوار الصناعية التي أوقدتها الأيدي المظلمة النجسة التي لم تتطهر بنور الله، وقد طارت بكتبها وسجلاتها قذائف الحديد والنار. . .
ترى: هل تكون أمواج هذا الظلام طوفاناً يغسل الأرض من ذلك النور الصناعي المدبس المدخول الذي لم يجر من منابع الحب ويد الله، وإنما من يد الشيطان الذي طمس وجه الحياة وجعلها في نظر الأحياء ليست أكثر من اقتناء الفحم الأسود و (الفحم الأبيض) والذهب الأصفر و (الذهب الأسود)؛ ثم أغراهم بذلك وجعلهم وراءه يتراكضون تراكض الذئاب بالأظفار والأنياب في عصر العجز والقصور، وبالفياصل والمناصل في بدء عصر التغلب والقدرة، ثم بالطائرات والغائصات والبارجات والجرارات في عصر بلوغ الأشد واكتمال السلطان!؟
أم أن القلب البشري لا يزال ولن يزال يعبد الظلام ويفئ إليه ويأنس بسكانه، ويرى في عالمه عبقريات يجب الرجوع إليها على فترات من الزمان؟ ولن تزال وثنيات وثنيات الجنس وخيلاء القومية وعبادة البطش وشهوات الاقتناء عقائد مقدسة يُفَلْسَفُ لها وتصطنع في حبها ترانيم وأناشيد وتقدم لمذابحها قرابين من اللحوم البشرية، ولمجامرها بخور وعطور من الأموال والمقتنيات حتى يرث الله الأرض وما عليها؟(449/57)
أما أنا فقلبي تغمره موجة من التفاؤل الأكيد حول مستقبل سعيد قريب للإنسان، وظني أن هذه الظلمات تتمخض عن فجر أبلج وضاح يغمر آفاق الأرض غمراً طويلاً كما غمرتها هذه الظلمات طويلاً. . . لأن قواد المعسكرين الهائلين المتحاربين لا ينفكون يرددون على أسماع الأمم التي في أيديهم أزمتها ومقاليدها؛ أنهم يحاربون في سبيل خلق عالم إنساني عادل سعيد هانئ بعد الحرب؛ فإذا حدثت القواد نفوسهم أن يخيسوا بعهودهم وينقضوها، فإن المجهودين المنهوكين من جنود الحرب وعمالها ومنكوبيها سوف ينكلون تنكيلاً، سواء أكانوا منصورين أم مخذولين، لأن الجرائم التي ارتكبت في هذه الحرب لا تغتفرها الشعوب إلا إذا رأيت أنها أسلمت الناس إلى عالم أسعد وأكمل من العالم الحالي، ولأن الحياة الاجتماعية لا تحتمل حرباً كهذه الحرب التي تدمر الإنسان مع أقامه من المدن والأعمال ومخلفات التاريخ ومقدسات العقائد والوصايا الخلقية بالأطفال والعجزة والشيوخ والنساء. . . ولأن حرباً بعد هذه الحرب لا بد أن تكون أدهى منها وأمر، بحيث تسحق براعم الحياة المدنية وأصولها لا يبقى ولا يذر، بما وصل إليه هذا الإنسان العجيب وما سيصل إليه في فترة السلم التي تعقب هذه الحرب. . .
ويخطئ من يظن هذه الحرب صورة من ذلك العراك التقليدي بين بني البشر، وأنها ثورة غرائز وحب غلبة بين مجموعة ومجموعة من أمم تحب الحرب للحرب، وتمجدها لا لشيء إلا اندفاعاً وراء تلك الغرائز والحركات التاريخية الموروثة. . . إن من يظن ذلك ذو نظرة متخلفة، لا تزال تعيش في حدود النظرات الأولى للإنسان. . .
إن هذه الملحمة الكبرى تحول عميق أصيل عظيم في توجيه الحياة. . . الخاصة للأمة الواحدة، والحياة العامة للأمم جميعاً. . . فلنتيقظ لهذا، ولنؤمن به، ولنعمل له. . .
وإن القدر يؤذن بميلاد حياة جديدة، وابتداء دورة زمنية بعقل الإنسان وقلبه وجسمه بعد هذه الحرب الحُطَمة الضَّروس التي تهدم مثل العالم القديم الضيقة بمثلها وأفكارها الحرة، كما تهدم مبانيه ومخالفاته بالديناميت. . .
وهاهي ذي مواكبها ومراكبها وجراراتها العنيفة وزواحفها وطائراتها القاذفة والمنقضة والمترنحة والشراعية والهابطة، وصواريخها وأبواقها وأنفاسها في الأثير، وعيونها الكشافة، وحشود جيوشها الآخذة من شمال الأرض وجنوبها وشرقها وغربها في قاراتها(449/58)
الخمس وبحارها السبعة ومن وراء كل أولئك عقول جبابرتها وأساطين علمائها، ومعاملها الساهرة ومناجمها الحافرة، ومحادثاتها السرية والجهرية ومؤامراتها والدماء والأرواح المبذولة فيها من الجيوش البيضاء والسوداء والصفراء والحمراء، والعروش المقوضة والصوالج والمقاليد المحطمة، والحديث عنها بكل لسان وبين كل قبيل من المتحضرين والهمج. . .
ألا إن الحياة تنقل أقدامها بهذه الحرب إلى المجاهل حينما رأت أن كثيراً من بينها لم ينهضوا بعد من مراقدهم في الكهوف والغابات لمشاهد مواكبها الحديثة التي دقت نواقيسها في الآفاق ولم يشتركوا في حمل قوائم عروشها العظيم الذي من لم يره ويدرك أسراره لا يمكن أن يقال عنه إنه ابن زمانه وإنه حقق الغاية المنشودة من إخراجه للحياة في زمن بعينه. . .
ولما رأت أن نورها في دور السلام والاستقرار استأثر به جماعة من الأوصياء الأنانيين، وتركوا غيرهم من القاصرين يخوضون في الظلام والجهل، حولت ذلك النور إلى شعل ذات لهب وحريق يأكل هذه الصدور الأثرة الأنانية التي ما عرفت قصد الحياة من وضع مصابيح النور في أيديها وخانت أمانات الاستخلاف
فمن الذي لا يستيقظ وينبه بد كل هذه الضجة النكراء ويسرع إلى موكب الحياة العظيم بالجسم الخفيف القوي الصحيح والفكر اللطيف اللماح العام، والقلب المؤمن العارف الحامل لأمانات الحياة؟!
وإذا أعرضت الإنسانية ونسيت آلامها الحاضرة وبؤسها وشقاءها بهذه الحرب وتركت الأنظمة الجائرة الغاشمة تتحكم فيها فويل لها ثم ويل لها! وويل للذين يقودونها! وتعساً للمكتوين بنار الحرب من العمال والصناع والجنود إن لم يقفوا في وجه اللاعبين بالشعوب!
ما اجمل إخاء العالم الإنساني! وما أقربه في القلوب البريئة أكثر الناس! لولا الذين يؤرثون في صدورهم نار الحرب والحقد ببعض الأناشيد وإثارة الذكريات الجاهلية والخيلاء العسكرية والألوان الدموية المهيجة!
إن الثيران تظل هادئة مستأنسة حتى يثيرها مثير باللون الأحمر فيحولها إلى وحوش فاتكة. . .(449/59)
وكذلك قطعان ابن آدم تريد الهدوء والاستئناس حتى يثيرها مثير بالكلمات الحمراء والحماس الكاذب وحب الشهرة عن طريق الحرب والتخريب حين لا يوجد مجال لبعض الرجال للشهرة عن طريق السلم والعمران وإضافة شيء إلى بناء الحياة
وما أعظم خسارة الإنسانية في أنباء السلم الذين ذهبوا في ضحايا هذه الحرب؟
إنهم إنسانية عالمة عاملة مدربة ماهرة قد نجت من عوامل الموت والجهل والجفوة في تربيتها ثقافات السلام التي استحدثت بعد الحرب العظمى الماضية
إنهم ثمار كبيرة في جمال وصحة ولكنهم الآن يموتون في جفاف الصحاري وزمهرير الثلوج، وعلى أذرع الموج الفاغر والهواء المخلل وتحت أثقال الحديد وبين صعق القذائف! وهكذا يذهبون طعمة لوحوش الفلوات وأسماك البحار وتتساقط أعضاؤهم بين ركام الثلوج كأنهم عصف مأكول أو هباء منثور
فما أعظم خسارة السلم فيهم بعد انتهاء الحرب حين تفتقد العناصر العالمة العاملة الفتية فلا يوجد إلا بعد حين!
ولكنهم قربان لا بد من تقديمه في سبيل مطلب عظيم!
وقد مات الميت فليحي الحي!
وما أعظم ما تحتمل أعصاب البشر! إنهم برهنوا على أن أرواحهم أقوى من الفولاذ والديناميت؛ إذ رضوا أن يغدوا ويروحوا على مواقع هذا الموت الفظيع والعذاب الوجيع، وهم مع ذلك يطيعون وينشدون. . . وإذا رضوا أن تهدم ديارهم وأموالهم وتنسف أطفالهم وحبيباتهم. . .
ذلك تحرر وانطلاق في سبيل العزة وصيانة العقائد
أين صور الأهوال ووقعها في القديم؟ من كان يضن أن يعيش فترة ينتظر فيها نزول الصواعق والنواسف كل لحظة من السماء وهو مع ذلك يأكل ويباعل ويرقص ويغني ويقتني الأموال وينشد الرفاء والأطفال؟
من كان يظن أن يفعل الناس هذا وهم في ساحات هذه القيامة؟! ما أوثق ما ربط الله الإنسان بالأرض!
هذه النفس البشرية أقوى وأبقى من هذه الأهوال لأنها هي التي صنعتها ولذلك لا تخشاها.(449/60)
ألا يجوز أن يكون هذا الاحتمال الصابر الذي بدا من النفوس البشرية تحت آلام النار والحديد تدريباً لها من الأقدار العليا وإعداداً لمستقبل مجهول ستحتمل فيه آلام اختراق الحجب الكثيفة التي تحول بينها وبين علم الكثير من غيب السموات والأرض؟!
ألا يجوز أن يكون هذا التسابق العنيف بين الدول المتحاربة في اختزال البعاد والمسافات واقتحام العقبات إنما هو حَبْوٌ على عتبات باب من الانطلاق والتحرير؟
ألا إنها الطبيعة الجامدة الميتة تلبس هذه الأجساد الحية الثائرة المترعة بالحياة المتجددة، الآخذة من موارد علم الله وقوته وقدرته!
ألا إنها القوى التي طال سجنها وكمونها في صدر الأرض، وجدت سبيلها إلى الانطلاق والظهور على يد الابن البكر للأرضّ
ألا إنها جنٌّ خفية تركب مراكبها وتتدافع منطلقة من سجونها في التراب. . .
أطلقها يد الإنسان الذي لا يزال ذاهلاً عما يصنع ذهول النحل عما تمزج، أو دودة القز عما تنسج!
هذه الحرب عملية هدم ما على الأرض وما في نفس الإنسان ليحدث الله بعد ذلك أموراً. . . ولن تنتهي إلا بعد أن تشمل موجتها كل البقاع. . . استيقظ على قوارعها سكان خط الاستواء في مجاهل القارة السوداء، وسكان الأراضي البيضاء وما بينها وسكان الجزر النائية المنثورة في المحيطات وامتزجت منهم جميعاً جيوش في جميع البقاع تقتل في سبيل غاية واحدة. . .
وأن الأقدار تحررهم من التاريخ السيئ و (تصفي) ميراث الشراهة والحقد
فهذه آثار لندن العزيزة على أهلها تهدم. . . هدمها الإنجليز لا الألمان! لأنهم لم يسلموها لهم كما سلم الفرنسيون باريس. . . بل تحرروا من حبها وقدموها دون حرية نفوسهم وعقائدهم في الحياة. . . ولا بد أنهم قد علموا بعد أن خوت مدينتهم على عروشها أن النفس هي الباقية أو هي الجديرة بحرص المرء على بقائها سالمة كريمة وما عداها ففداء لها. وتلك حقيقة من حقائق الإيمان كان الإنجليز قد فقدوها حينما تدفقت عليهم سيول الأموال من بقاع الإمبراطورية قروناً طويلة(449/61)
ولا بد أنهم تذكروا كذلك أن حرية كل شعب محكوم لهم يجب أن تكون أعز عليه من كل شيء، بعد أن هددت حريتهم من عدو غاشم جبار فعرفوا ذلك وكانوا قد نسوه أيضاً في تلك الفترة الطويلة التي حكموا أمماً ولم تحكمهم أمة. . . وبالطبع سيكون لعلمهم وتذكرهم هاتين الحقيقتين من حقائق الإيمان أكبر الأثر في عملهم على إقامة عالم سعيد على أنقاض القديم. وإذا نسى الإنجليز أو تناسوا تلك الحقائق بعد هذه الحرب فسوف لا ينسى الأمريكان الذين كانوا بنجوة من الحروب الحديثة وويلاتها بعد أن تحرروا من وثنيات الأجناس والدماء المختلفة ونعرات القوميات المفرقة وُعَار الاحتكار والاستعمار. . .
أجل إن الأقدار ذات الحفاوة بالإنسان ما كانت لتترك هذه المجموعة الكبرى من الأمم التي تتكلم الإنجليزية ومن يرتبط بها في أكثر بقاع العالم دون أن توحدهم وحدة تامة بأية وسيلة لتتخذ منهم خميرة لوحدة أو شبه وحدة بين بني البشر. وقد خابت مساعي توحيدهم عن طريق السلم، إذ عز على الإنجليز المحافظين أن ينزلوا عن كثير من تقاليد إمبراطوريتهم العظيمة، وعن حقوق الغلبة والفتح فيها، وكانوا أولي الناس باتباع ذلك بعد أن خرجوا من الحرب الماضية منصورين. وإذ عز كذلك على الأمريكان الأحرار أن يسيروا مع الإنجليز في نظرياتهم المحافظة فيرتدوا عن مبادئ عالمهم الجديد وثوراتهم العظيمة التي قضوا بها على خمائر الأحقاد ومواريث التاريخ السيئ في القارات القديمة، فعاشوا حياة جديدة في أرض جديدة. . .
فكانت هذه الحروب الحالية رداً سريعاً من الأقدار وعقاباً للأمم الناطقة بالإنجليزية لأنها أهملت وتوانت في السعي المشترك المسلح لإقامة عالم أسعد وأعدل، وكانت وحدها - ولا تزال - هي التي تستطيع أن تنهض بأعباء ذلك العالم المنشود
ولم أكد أفرغ من كتابه هذا المعنى حتى ساقت لي الأقدار
دليلاً يؤيده من أقوال أحد أساطين الأمريكيين وهو المستر
(وندل ويلكي) منافس (روزفلت) في الانتخابات السابقة. . .
قال كما ورد في (أهرام) 1411942: (إننا جميعاً نلوم هتلر
وحده، بيد أن هذه الفكرة السطحية ليست صحيحة. فاللوم لا(449/62)
يقع على هتلر وحده بل ينصب علينا إلى حد ما. فلقد سمحنا
في الماضي لإنتاجنا الصناعي العظيم أن يتحكم فينا وأن
يتغلب على مثلنا العليا. . .)
أجل، هذا هو موضع الداء، وضع (ويلكي) إصبعه عليه. . فإن أمريكا كان يجب أن يكون موقفها بعد الحرب الماضية موقف (بوليس) العالم بعد أن كان انضمامها للحلفاء في تلك الحرب أعظم مرجع لكفتهم، وبعد أن تلقى المعسكران المتحاربان مبادئ الرئيس (ويلسن) الأربعة عشر باللهفة والقبول والاستبشار. وكان فيها المثل الأعلى المنشود، وكان شرف أمريكا يقضي عليها أن تقوم على تنفيذ تلك المبادئ التي قدمها رئيسها باسمها، وأن تعلن حرباً على من يخالفها حتى يفئ إلى أمرها
ولكن ما شغل به العالم بعد الحرب من التهافت على المتاع المادي للتعويض عما أصابه من آلامها، وما رأته أمريكا من عودة ذوي النزعات المحافظة إلى أساليبهم القديمة في مزالة السياسة الدولية، وما قضت به مساعي الرأسماليين والاستعمار الأنانيين من بقاء العالم في أدوائه القديمة. . كل هذا ثبط من عزيمة أمريكا وجعلها تترك العالم القديم في شقائه وتقنع هي بعزلتها السعيدة
ولكن هاهي ذي يد الأقدار تمتد لتنتزعها من هناء عزلتها وتحشرها مع بني عمومتها وتدفعها في معهم في هذه الحرب الزبون برجالها وأموالها وقضها وقضيضها. . . وما أظنها ستنسى واجبها مرة ثانية حين يعود السلام. ومن هنا ينبعث نور الأمل، لأن أمريكا عمل عظيم في طريق أمل أعظم!
وبعد، فإن ذكرى هجرة الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تبعث في قلوب المسلمين روح الاستعداد لانتقال عظيم يجب أن يقدموا عليه بعد هذه الحرب للوقوف في صفوفهم الأمم التي ستشترك في إقامة الحياة العادلة السعيدة التي تخدم أهداف الإنسانية جميعاً. وإنهم لجديرون أن يقدموا للعالم أعظم المبادئ التي تقوم عليها السلامة الاجتماعية والمساواة الفردية والدولية التي تنشدها الأمم وتنادي في كفاحها
فليهاجروا إلى حياة الحق والعدالة التي في دينهم بأرواحهم وأفكارهم حتى يكونوا نماذج(449/63)
مجسمة لما سيقدمونه العالم بعد الحرب من مبادئ وحلول للعقد والمشكلات
وليعلموا أن هذا هو أوان التبشير والدعوة إلى مبادئ دينهم العالمي الذي قام على أصول أديان الحق التي ارتضتها البشرية في المشرق والمغرب. . .
(ولقد كَتبنا في الزَّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون)
عبد المنعم محمد خلاف(449/64)
من وحي النبي
معجزة العنكبوت
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(مشهد غنائي تنبع موسيقاه من الغار الذي أوى إليه النبي
العربي الخالد مع صفيه (الصديق) في جبل (ثور) خوفاً من
أذى المشركين الذين اقتفوا أثر (المصطفى) في طريقه إلى
المدينة يوم الهجرة).
(أبطال المشهد: العنكبوت، الحمامتان، الثعبان)
العنكبوت يغني (وهو ينسج خيوطه بعد أن دخل النبي وصديقه الغار):
في سَبِيل اللهِ دَورِي ... يَا خُيُوطِي فيِ الأَثِيرِ
أَناَ نَسَّاجُ الُحْصُونِ الشُّ ... مَّ مِنْ أَوْهَى السُتُورِ
وَقَفَ الدَّهْرُ عَلَى باَ ... بِيَ مَذْعُورَ الضَّمِيرِ
وَحِجَابُ الشَّمسِ لاَ قاَ ... نِي بِأَجْفاَنِ الضَّريرِ
وَالضَّحى حَرَّ كَلَيْلٍ ... فَوْقَ أَعْتَابِي أَسِيرِ
أَناَ شَكٌّ جَاَء يَحْميِ ... كُلَّ إيمَانِ الدُّهُورِ
أرْسَلَتْنِي قُدْرَةُ الل ... هِ أَمَانَ الْمُستْجَيِرِ!
قَدْ وَهَي بَيْتِي. . . وَلكِنْ ... صَارَ مِحْرَابَ الْعُصُورِ
بِالّذِي أَخْفَي مِن الأَنْ ... وَارَ في وَجْهِ الْبَشِيِر. . .
فَرْفَعِي ياَ حِكْمَتِي سَدَّاً ... عَلَي بَطْشِ الْمِغيرِ
وَتَغَنَّىْ ياَ خُيُوطِي ... ثُمَّ دُوريِ! تُمَّ دُورِى!
الحمامة لأختها (وقد وجدنا نفسها فجأة على باب الغار يقفان يفقسان ويسمعان نشيد العنكبوت):
أَخْتَاهُ! مَاذَا دَهَاناَ ... فَلَمْ نَعُدْ فِي حِملاَناَ؟!(449/65)
مَاذَا؟! رِمَالٌ، وَنُورٌ ... وَعَنْكبَوُتٌ شَجَاعاَ. . .
وَالْبِيدُ قَلْبٌ تَرَامَي ... عَلَي الثّرَى حَيْرَاناَ
وَسَامِعٌ، وَمُنَادٍ ... وَأَعْيُنٌ لاَ تَرَاناَ
وَضَجَّةٌ فِي الْفَيَاَفِي ... حَسِبْتُهاَ بُرْكاَناَ
لَعَلَّ رِيحاً عَتِياَّ ... عَلَى الَّخُورِ رَمَاناَ
فَضَلَّلَتَنْناَ خُطاناَ ... وَأَوْحَشَتْنا رُباَناَ
أُخْتَاهُ! مَاذَا؟. . .
الحمامة الثانية:
. . . . . . رُوَيداً ... فَقَدْ ضلَلْتِ الْبَياناَ
فَمَا تَرَكْناَ رُباَناَ ... لَكِنْ هَجَرْناَ الزَّمَاناَ
لِذلِكَ الْغَارِ جِئْناَ ... نُلْقِي عَلَيْهِ الأَمَاناَ
فَفِيهِ هَاَلةُ نُورٍ ... تُفجَّرُ اْلإيَماناَ
طاَفَتْ بِمَكَّةَ حِيناً ... فّدَكَّتِ الطُّغْياناَ
وَلاَحَ مِنْهاَ شُعَاعٌ ... يُكَبْكِبُ الأّوْثاناَ
فَالْمشرِكُونَ لَدَيْهاَ ... مُسَهُمونَ حَزَانَى
خَرُّوا سُجُوداً، وَأَرْخَوْا ... لِصَفْحَتَيْهاَ الْعِنَاناَ!
إلاّ بَقاَياَ ضَلاَلِ ... تُسَاوِرُ الْعُمْياناَ
سَاقَتْ إلى النُّورِ جَيْشاً ... مُفَزَّعاً، غَضْبِاناَ
فهَاَجَرَ النُّورُ حَتَّى ... أَلْقَى الْعَصَا فِي حِمَاناَ
ضَيْفٌ! وَكُلُّ الْبَرَاياَ ... فِي حُبَّهِ تَتَفاَنى. . .
فالْعَنْكَبُوتُ يُغَنَّي ... وَيَنْسِجُ النَّسْيَاناَ
وَنَحنُ نُلْقِي نَشِيداً ... نُشْجِي بِهِ الأَكْوَاناَ
وَنَسْحَرُ الَجْيشَ حَتَّى ... يَفِررَّ حِينَ يَرَاناَ
هَيَّا نُغَنَّي. . .
الحمامة الأولى:(449/66)
وَهَيَّا ... نُرَقَّصُ الْعيِدَاناَ. . .
تغنيان معاً:
نَحْنُ بأرْضِ الْعَرَبِ ... حَارِسَتَانِ لِلنَّبيِ
مِنْ وَحْيِهِ، وَطُهْرِهِ ... وَنُورِهِ الْمُحَجَّبِ
نُذيِعُ لِلدُّنْياَ صَدىً ... بِمِثْلِهِ لَمْ تَطْرَبِ. . .
نَحْنُ لِمَبْعُوثِ السَّماَ ... أَقْدَسُ طَيْرٍ رَنَّمَا
غَريِبَتَانِ حَلَّتَا ... أَطْهَرَ وَادٍ فِي الْحِمى
فَغَنَّتَا لِدِيِنهِ ... لحْنَاً يُذِيبُ الصَّنَماَ. . .
الثعبان: (خاشعاً مطرقاً بين يدي المصطفى بعد أن لدغ الصديق):
نبِيَّ اللهِ. . . ياَ هَادِي ... وَياَ تَرْنِيمَةَ الَحْادِي
وَياَ تَسْبِيحَهَ الْكُثْبا ... نِ، وَالرُّكْبَانِ فِي الْوادِي
وَياَ تَوْبَةَ آثَامِ اللَّ ... يَاليِ. . . تاَبِ إِنْشَادِي
وَجِئْتُكَ خَاشِعاً. . . مَاتَتْ ... نَوَافِثُ سُمَّىَ الْعادِي
وَصَاحَ بِقَلْبِيَ الْغُفْرَا ... ن صَيْحَةَ مُغْرَقٍ صَادِ
أَغِثْ لَهَفِي! وَطَهَّرْ ناَ ... رَ تَسْبِيحِي وَأَوْرَادِي
لَدَغْتُ صَفِيَّكَ (الصَّدَّ ... يقَ) حِينْ هَفاَ لإبعاَدِي
وَخِفْتُ أَذُوق حِرْمَانَ السَّ ... ناَ مِنْ طَيْفِكَ الَهادِي
((سراقة) يمر على الغار ممتطياً جواده متقصياً أثر النبي. . . فضلله بيت العنكبوت وطمأنينة الحمام. . . فأعرض عن باب الغار وعاد خائباً. . .!)
(لها بقية)
محمود حسن إسماعيل(449/67)
العام الهجري
عبرة العبر
للأستاذ عبد العزيز البشري
هذه الشمس تطالع العالَم بجفنيها من جانب الأفق. وما تلبث أن تتسلَل منه رويداً رويداً، حتى يَستوي لإطارُها على متنه. وما تزال في خلال ذلك تضاعف ما ترسل على وجه الأرض من خيوطها العسجدية. وكذلك ما تزال تمطُلِ فيها وتبسُطها من الشرق إلى الغرب. وهكذا تظَلَّ تحبو في مَدرَجها إلى قبةَ الفَلَك. وكلما خطت بالزمن خطوة، رأيتها وتترعرع، ويسطع ضوؤها، ويحمَي وهجها إلى أن تبلغ الندوة، وتستوي على أعلى الأَوج.
وأنت خبيرُ بأنه ليس بعدَ الصعود إلاّ الهبوط، فهذه سنة الله تعالى في كونه؛ وكذلك تجري سنَتُه على هذا الكائن العظيم؛ فليس بعجيب أن يَدعو الفلكيون هذه اللحظة، أعنى لحظة استواء الشمس في أعلى الأوج بالزوال، إذ كان بدء الزوال، هو غاية الكمال!
وهذه الشمس تمشي إلى الغروب في منحدرها كذلك رويداً رويداً، كما تتداخلها الشيخوخة فالهرم رويداً رويداً؛ حتى إذا أصفر لونها، وبردت السنُّ من جرمها، جعلت تَتدلى في قبرها من مغرب الأفق مستمهلةً مستأنية؛ وهكذا تغيب في أحدها، غير تاركة من التَّراثِ إلاّ صُبابةً من الذهب المذاب، سرعان ما تتبخّر في حلك الظلام. وقد تترك تراثها الفضيّ على صفحة القمر، يرفد العالمَ به بعض ليالي الشهر.
تلك سيرة الشمس كلَّ يوم: ميلادٌ فترعرع ففتوّة، فشبابٌ وفراهة وقوة، وكهولة فشيخوخة فهرم، فتدسٍ في النهاية تحت الرجَمَ. وسبحان الحيّ الذي لا يموت!
على أنها في جميع مراحل حياتها عاملةٌ جادة جاهدة، لا تني عن السعي لحظة واحدة. فها هي ذهِ تَستنبت الأرض، وتزُكي الزرع، وتبسَّق الشجر، وتنضج الثمر، وتفتَّح من أكمامه الزهر. ثم هاهي تي، في عنفوانها، ما تفتأ تجتذب البخار، عذباً سائغاً من أجاج البحار؛ حتى إذا انعقد سحاياً، سَحّ فأخَضل قفراً وأعشب يباباً. وهذه الأنهار الجارية سمُوتُها في أقطار الأرض، تبعث أسباب لكل متهيئ للحياة. وكذلك لا ننس أنها تبرح تعمل عاَّمة النهار، في تطهير الأرض مماَ يَعلق بجسدها من الأخباث والأوضار.
فأي عنصر، لعمري، من حياة هذا العالم يمكن أن يغني عن الشمس؟ ألا أنها لمصدر الحياة(449/68)
جميعاً؛ فحق للعالم أن يقول: إنما الحياة الشمس، وإنما الشمسُ الحياة!
أيتها الشمس! ما أحسنك وأجملك، وما أطيبك وأكرمك!
تعملين لأول الدهر إلى غاية الدهر، في غير ونيً ولا سأم، ولا ضجر ولا بَرَمَ، ولا صلف ولا استعلاء، ولا زهو ولا كبرياء. . ولو شاء الله لأهلك بحرك بعض الأقوام، ولو قد شاء لأهلك بطول حجبك جميع الأنام!
وبعد، فما أخلق الذين يمسهم حظ من المجد في هذه الدنيا، والذين يمسون صدراً من السلطان فيها أن يبتغوا لسيرهم من سيرة هذه الشمس أعلى المثل. فيعلموا كل في محيطه للنفع العام في جد وداب، مؤمنين كل الإيمان أن الموهبة والسلطان إنما ينبغي أن يكونا ملكاً خالصاً للمجموع لا لأحد من الناس ولا لشيء من الأشياء.
على أن مما يفجع حقاً أن كثرة من هؤلاء الذين ينالون مجداً ويولون سلطاناً سواء أكان أقام من ثم لهم هذا في جماعة أم في شعب أم في شعوب - سرعان ما ينسون كل شيء لأن الأثر قد ملكت من نفوسهم كل شيء. فنفوسهم هي المبدأ، ونفوسهم هي الغاية. حتى إذا أجالوا الفكر في منافع الجماعات، فلا لأنهم يؤثرون لهذه الجماعات نفعاً أو يبتغون لها خيراً، بل لأنهم إنما يطلبون من هذا السعي مراماً لأنفسهم لا لشيء آخر، قد يكون هذا المرام، في أعف الصور هو إحراز المجد. أما ما يقع من خير المجموع، أو ما يحتمل أن يقع، فليس أكثر من طريق! وكيفما كان الأمر، فإنه ما يكاد أحد هؤلاء يحس مجده ويستشعر سلطانه، حتى يَوْرم أنفه، ويتداخله من الصلف والمخيلة ما يملوه اعتقاداً بأن الرأي في الأمر ليس إلا ما يرى هو، وأن ما سواه لا صلاح له ولا خير فيه، بل لقد يكون كله شراً وفساداً.
ولقد يشتدّ طغيان هذه الَخلَّة على المرء، فيرى أن الناس لا ينبغي أن ينظروا إلا بعينه، ولا يسمعوا إلا بأذنه، بل إنه ليرى أن من العبث الضار أن يجري فكرهم بغير ما يجري به فكره، وأن تنتهي آراؤهم على غير ما ينتهي إليه رأيه. فإذا خالفه امرؤ إلى غير هذا، كان بين اثنين: إما ملتاث ممخرق، وإما معاند مكابر يجب أن يعجل له سوء العذاب!
وفي الحق أن اكثر من يغمرهم هذا الطغيان، إنما يرون ما يرون ويفعلون ما يفعلون، عن ثبات إيمان ورسوخ اعتقاد!(449/69)
وما ظنك بمن تطبعهم شدة الأثرة على الإيمان بأنهم مبعثون من لدن رب السموات لإصلاح ما فسد في رقعه من الأرض أو في رقاع الأرض جميعاً؟ فإليهم وحدهم عهد الله بالاضطلاع بهذا المهم. وعليهم وحدهم تقع تبعة التقصير في علاجه، والراضي في إمضائه وإكماله!
وهؤلاء لا يطلبون الأعوان والأنصار ليعاونوهم بصادق الرأي وصالح المشورة؛ ولكن ليعاونوهم بقوة المظهر وإمضاء ما قضي به الوحي الذي لا يخطئ أبداً!
فإذا تعاطفت ما يختلف على هذه الأرض من عصور العتوّ والطغيان: تخرب العامر، وتدمّر القائم، وتُقفر الآهل، وتراق فيها الدماء بغير حساب، وتزهق النفوس لغير سبب من الأسباب: إذا تعاظمك هذا في عصور الدهر المتتابعة، فاعلم أن علته تلك الخلَّة الفاجرة في الإنسان!
وأمس، لقد أتمتْ دورةُ الشمس حولاً سلكته في عقد التاريخ أيضاً، وآذنت العالم بفجر حولٍ جديد
وإن ذاك العام المدبر، وهذا العام المقبل، لهما - كما تعلم - من أعوام الهجرة، هجرة محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه من مكة إلى المدينة، وقد ساد بها الإسلام، فسعد بسلطانه الأنام
وبعد، فلست بحاجة إلى أن أحدثك عما كان قد غشى الأرض جميعاً من ظلم وفساد، وتصدع في النفوس وتضعضع في الأخلاق، حتى كاد يُقضي على الأمم بعدم الصلاحية للبقاء. إلى أن بُعث محمد من عند الله حقاً، فبلّغ رسالته إلى الناس، كما أوحى إليه بها ربه حقاً، فكان ما شهد التاريخُ من ذلك الفتح والإصلاح والإسعاد
ولا أحب أن أُطيل في وصف ذلك الإصلاح والإسعاد، فبحسبهما أن تنزَّل بآياتهما وحيٌ كريم، من عند الله العليّ العظيم
وإنما أقف وقفةً قصيرةً عند سيرة من خلفوا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولم يؤيد أحدٌ منهم بوحي سماوي، ولا حبي بالعصمة التي حُبي بها الأنبياء، إنما هم أناِس مثل سائر الناس.
وإذا كان خلفاء الرسول قد ارتفعوا على سائر الناس، فبأنهم إنما ساروا سيرة هذه الشمس التي تطالعهم كلَّ صباح وتغرب عنهم كلُّ مساء. على أنها هي إنما تعمل لعالم الأجساد(449/70)
والأجرام، أما هم فيعملون لعالم النفوس والأرواح.
يعملون جادّين جاهدين، لا يبتغون من سعيهم نفعاً، ولا يُريغون من ورائه فخراً ولا ذكراً، لأنهم أشد أمانة من أن يقتطعوا لأنفسهم أو لذويهم شيئاً مما ينبغي أن يجرد كله للنفع العام.
يعملون لا مستبديّن بالرأي ولا مستأثرين؛ بل مشاورين مصغين مسرعين، حتى إذا اتسق لهم الرأي الذي يرون فيه منفعة المجموع، أسرعوا إلى إمضائه ولو جاء من أصغر الجميع.
أما رأى الجماعة، فشرعٌ عندهم مشروع، وقضاءُ مبرمٌ محتوم.
يعملون صادقين مخلصين لله وللنفع العام. لا كبر ولا مخيلة ولا استئثار بمنفعة من المنصب والجاه، بل ليس عندهم إلا الإيثار والتواضع، والرقة للضعفاء. وهيهات أن يؤثروا أحداً على أحد إلا بطاعة الله وما قدم من الخير للمجموع. ولعمري، لتلك أعلى صور الديمقراطية التي يحلم بها أجلّ الفلاسفة من قديم الزمان
وإذا كان هؤلاء الخلفاء قد انعقد لهم أعظم المجد، المجد الخالد على الدهر، فلأنهم لم يريغوه ولم يسعوا له، ولم يشغل هو جزءاً من نفوسهم جليلاً ولا دقيقاً
وبعد، فلا شك أن مما أصفاهم لطلب النفع العام، وتجافى بهم عن الاستئثار حتى بالنفع الخاص، هو طول الذكر للموت. وكيف لهم بنسيانه، وهذه الشمس العظيمة، باعثة الحياة والحركة في العالم تموت كل يوم، بمرأى منهم، بعد أقوى الحياة، ولكل شيء نهاية، ولكل سائلةٍ قرار!
وإذا كانت الشمس تعود كل يوم فتُوالى سعيها في النفع والتجديد والإحياء، فإن زعيماً لن يعود بعد موته، ولو لإصلاح ما عسى أن يكون قد أفسد وتعمير ما عسى أن يكون قد خرّب. فما له، بعد الموت بالأمر يدان!
هذا بعض ما يلهمه حديث الهجرة، وإن فيه لعبرة.
عبد العزيز البشري(449/71)
بطولة محمد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لا أعرف - ولا أحسب أن غيري يعرف ما يشبه - أو يقارب - بطولة محمد صلى الله عليه وسلم. ولست أنسى أني مسلم ولكني مسلم بالعقل قبل أن أكون مسلماً بالوراثة والنشأة. ولست أخشى أن أتهم بالتعصب لصاحب هذا الدين. على أني لا أعني بالبطولة الشجاعة في الحرب، والجرأة في الكر والفر، والإقدام على مقارعة أحلاس القتال ومنازلة الأعداء في حومات الوغى، فما كان صلى الله عليه وسلم يعني بالاشتراك في القتال بسيف أو رمح؛ وكان يشهد المعارك ويصحب رجاله ولكنه لا ينزل إلى الحومة بنفسه ولا يخوض المعمعة مع أنصاره وإن كان يوجههم. وما كانت مزيته أنه أطعن الناس برمح، أو أسدهم ساعداً، وإنما كان نبياً وصاحب دعوة، ورسولاً بدين، ومعلماً ومرشداً وهادياً، وحسب من شاء أن يقدر بطولة محمد أن يتأمل حياته وسيرته لا في مكة وحدها بل بعد الهجرة منها إلى المدينة أيضاً وإلى آخر حياته، فقد جاء بدين ينقض كل ما قامت عليه حياة العرب في زمانه من عقائد وتقاليد وعادات وآراء؛ ولا يرضى حتى أهله، لأنه يحرمهم مزاياهم وما كانوا ينعمون به من عزة في الجاهلية؛ ولم يجد من يؤمن به وبرسالته إلا قلة لا غناء لها، ولقي من الضيم والعذاب والأذى والمطاردة والاضطهاد، ما لم نعهد في البشر إطاقته والصبر عليه؛ وحوصر في الشعب ثلاث سنين بلا أمل أو نصير؛ وقاسي من المحن أقسى ما يخطر على البال؛ ومع ذلك لم يلن ولم يضعف، ولم يكد يخرج من هذا الشَّعب حتى مضى وحده وبمفرده إلى الطائف يدعو إلى ترك الأوثان وإلى عبادة الواحد الأحد، فلم يقابل بغير الإهانة والزراية من الكبراء، والرمي بالحجارة من الصبية والجهال، حتى سال منه الدم فعاد إلى مكة لا يأساً بل مواصلاً بث دعوته وتبليغ رسالته، وظل صابراً مواظباً محتملاً ما يلقي في سبيل الله من الأذى البليغ والعنت الشديد ثلاثة عشر عاماً من يوم تلقي الوحي. ولما اعتزم الهجرة بعد أن مهد لها لم يخرج إلا بعد أن رحل عن مكة معظم أنصاره وأمن واطمأن عليهم، ووثق بنجاتهم وسلامتهم، وهذا ثبات كان خليقاً وحده أن يقنع الذين كتبوا عنه من الأجانب بأنه لا يمكن ولا يعقل أن يكون من (دجال) كما وصفه بعضهم(449/72)
وقد كتب (واشنطون إيرفنج) عن بواعث محمد يقول:
(أكانت الثروة؟ لقد أفاد زواجه من خديجة الغنى، فظل سنوات قبل الوحي لا يبدي رغبة في زيادة ثروته. أم كان يطلب المنازل الملحوظة؟ لقد كانت منزلته عالية في قومه، وكان معروفاً بينهم بالفضل والأمانة، وكان من قريش ومن أكرم فرع فيها، وكانت سدانة الكعبة وما تفيده من العز والسلطان في أسرته منذ أجيال، وكان من حقه أن يتطلع إليها، فلما قام يحاول أن يهدم الدين الذي نشأ عليه قومه اقتلع جذور هذه المزايا جميعاً، فقد كانت ثروة أهله ومنزلتهم قائمتين على هذا الدين فهاجمه وجر على نفسه عداوة أهله وغضب مواطنيه وسخطهم جميعاً
ويمضي إيرفنج في تقصيه فيسأل: هل كان هناك في بداية سيرته النبوية ما يبعث الأمل أو يعوض هذه التضحيات؟ ويرد على ذلك فيقول: إن الأمر كان على النقيض، فقد بدأ محاذراً متوخياً الكتمان وظل سنوات غير موفق؛ وعلى قدر توسعه في بث دعوته، وإذاعة رسالته، كان يشتد ويعظم ما يلقي من العنت والسخرية والأذى والاضطهاد، واضطر بعض أهله وأنصاره أن يفروا إلى بلاد أخرى، واحتاج هو نفسه آخر الأمر أن يهاجر إلى بلد غير مكة، فلماذا كان يصر كل هذه السنوات الطويلات على (دجْل) يسلبه كل متاع الدنيا في سن لا تسمح بأن يبدأ المرء حياته مرة أخرى؟ فما قام بالدعوة إلا بعد الأربعين وقضى في مكة ثلاثة عشر عاماً، وكان تاجراً حسن الحال فهاجر منها فقيراً معدماً، لا يعرف ما كتب الله له في غيبه من النصر، ولا يبغي أكثر من أن يبني مسجداً يعبد فيه ربه، ولا يرجو إلا أن يعبد الله في سلام. ولما جاءه النصر لم يتكبر، ولم يتجبر، ولم يغتر، كما يفعل الذين ينشدون المآرب الشخصية والغايات الخاصة، فحافظ، وهو يف أوج قوته، على بساطته أيام ضعفه
وقد جاءه نصر الله بعد الهجرة، ولكن الأيام لم تجر كلها بالسعود في المدينة؛ وإذا كان قد انتصر كثيراً فقد انهزم أحياناً، فلا النصر أبطره، ولا الهزيمة أضعفت روحه أو فتت في عضده. ولعل القدرة على احتمال النصر أدل على العظمة من القدرة على احتمال الخيبة؛ ولكنه لم يكن من الهين على من احتمل مثله ثلاثة عشر عاماً من المتاعب أن يصبر على هزيمة جديدة. . . وكان عليه أن يضع للجماعة الإسلامية في المدينة النواميس والنظم في(449/73)
السلم والحرب. وهو فيما أعلم الوحيد الذي بلّغَ الرسالة كلها، وأتم عمله أجمعه في حياته، فأكمل الدين، وأسس الدولة، ووضع القواعد كلها، ووجه الأمة الجديدة الوجهة التي فيها الخير والصلاح والعز. وليس لهذا مثيل في التاريخ - قديمة وحديثه -. وهنا ينبغي أن نذكر أن مسافة الزمن التي تم فيها كل هذا كانت قصيرة جداً، وأن دينه كان جديداً، يخالف كل ما وجد عليه العرب. وفي هذه المدة الوجيزة لم يغير للعرب عباداتهم وحدها، بل غير نفوسهم أيضاً. ولاشك أن صرف امرئ عن عبادة حجر أو نحوه أهون جداً من صب النفس في قالب جديد. وقد خلق من هؤلاء العرب المتنافرين المتعادين المتهالكين رجالاً يعدون في طليعة أبطال العالم. وماذا كان هؤلاء جميعاً خليقين أن يكونوا لولا محمد؟ ونعني بهم أبطال التاريخ الإسلامي من مثل الخلفاء والولاة والقواد والفقهاء. . . أكان أحد يمكن أن يسمع بهم؟؟ لا أظن! ولا شك أنهم كانوا خلقاء أن يكونوا شيئاً مذكوراً بين قومهم، ولكن قومهم أجمعين لم يكونوا شيئاً. وما قيمة قوم انقسموا قبائل متعادية لا أثر لها في الحياة، ولا يعبأ بها حتى من يجاورها من الأمم؟ ومن هذه العناصر خلق محمد أمة عظيمة فتحت الدنيا، ونشرت الدين، وأهدت إلى العالم حضارة كبيرة غيرت مجرى التاريخ الإنساني كله
ولا يتسع المقام للإفاضة في هذه المعاني، ومن أجل هذا أكتفي بأن أقول إن محمداً أعظم عظيم خلقه الله. وأزبد على هذا أني كنت في صدر حياتي أستهين قول من يقول إن العرب خير الأمم وأفضلها، وأرى ذلك من الغرور، ولكني الآن صرت أعذر من يقول هذا. ولست مغري بالمفاضلة بين الأمم ولا أنا أرى داعياً لهذا، فإن كل أمة تؤدي في الحياة رسالتها على قدر طاقتها ولكن أمة تنجب محمداً، هل يلام من يقول إنها أعظم الأمم؟
إبراهيم عبد القادر المازني(449/74)
في الطريق إلى قرطبة
للأستاذ محمود تيمور
(عندما استتب الأمر لأبي العباس السفاح أول الخلفاء
العباسيين هرب الأمير عبد الرحمن الأموي من العراق
ووجهته الأندلس ليتسم عرش الأمارة فيها بمعاونة أنصاره
الأمويين. فبينما كان في شمال أفريقيا وقعت له هذه الحادثة
التي نرويها)
كان القمر ينشر نوره الفضي على قرية (مغيلة) في مراكش، فتبدو الدور على ضوئه الهادئ كأنها تتمطى مبتسمة رافعة هاماتها إلى السماء تنفض عنها فتور النوم. في تلك الساعة التي بدأت فيها القرية تتنفس كان يسير في طريق من طرقاتها المهجورة رجل طويل القامة نحيف الجسم ملتف بعباءة دكناء ووجهه ملثم. كان يسير سيراً حثيثاً في مشيه حذرة، متجنباً الأماكن التي انجلت عنها غبشة الليل، تدل مظاهره التي يجتهد في إخفائها على الأمارة والجاه. ولما دنا من دار (وانسوس) رئيس أقوى قبائل البربر في تلك الجهة توقف عن المسير والتفت حوله ثم دفع الباب في سكون ودخل، ثم أحكم إغلاقه خلفه، وما إن خطا بضع خطوات، حتى تقدم إليه (وانسوس) في خضوع وقال في صوت خافت:
- مولاي الأمير
- كدت أضل الطريق
وبدأ الزائر يرفع لثامه ويحل عباءته، فظهر عارضاه الخفيفان وبانت ضفيرتاه على ظهره، وسار بخطوات رزينة وخلفه (وانسوس)؛ وقال:
- هل أحضر (بدر) الجواهر؟
- أحضرها يا مولاي وهي وديعة عندي لا تستطيع أن تمتد إليها يد إنسان
- وماذا قال لك؟
- إن أختك (أم الإصبع) تقرئك السلام وتقول لك إنها سترسل لك غيرها(449/75)
- بورك فيها. . . وماذا بعد ذلك يا (وانسوس)؟
- وإن وهب بن الأصفر وشاكرين أبي الأسمط يستحثانك على السفر، إن المراكب معد وهم في انتظارك
وكانا قد تلغا بهواً تتوسطه نافورة وقد نثرت بجوار حيطانه وسائد عريضة؛ فوقف الأمير أمام النافورة يتأمل المياه ويداه مثنيتان على صدره وقال:
- وأهل الأندلس؟
- يرحبون بمقدمك لتنقذهم من أميرها يوسف بن عبد الرحمن الفهري. هناك أبناء عمومتك يا مولاي ومعهم أنصارهم الأقوياء ثم لا تنس القبائل اليمنية
- هذه حطمتها قوات الفهري
- بل ما زالت محتفظة برجالها الأقوياء
- إن الحروب الأهلية يا (وانسوس) قد نهكت الأندلس، وعمها القحط وجلا كثير من أهلها عنها، فإذا أردنا أن نستعجل النصر فلنعتمد على الذهب نكسب به الأنصار
ودخلتْ في تلك اللحظة (تكفات) زوجة (وانسوس) وكانت امرأة بدينة تلبس إزاراً واسعاً، دخلت في عجلة واضطراب وهي مكفهرة الوجه وقالت:
- بينما كنت على السطح في مكاني المخصص للمراقبة أبصرت رهطاً من الرجال مقبلين في سرعة وتلصص نحو الدار، فما شككت أنهم من رجال ابن حبيب
فتغضن وجه الأمير وقال بصوت أجش:
- لقد وشي بي الواشون
وهرع وانسوس إلى البرج ليستعلم الخبر ثم عاد مضطرباً وهو يقول:
- عجل يا مولاي بالهرب
وجرى الاثنان نحو البرج، ولكن ما كادا يطلان منه حتى عادا أدراجهما والأمير يتمم:
- لقد أحاطوا بالدار
وسمعت في هذه اللحظة جلبه عالية في الخارج فيها وعيد وتهديد وطرح الأمير عبد الرحمن عباءته واستل سيفه ووقف وقفة الجبار ناظراً إلى باب البهو وقد انطبع على محياه المهيب عزم رهيب وقال:(449/76)
- إني لأشعر بأرواح بني أمية كلها قد تقمصت جسدي فيأت ابن حبيب وجيشه يجرب حظه معي
واشتدت الجلبة وسمع قرع قوي على الباب وأصوات تقول:
- افتحوا. . .
وقال الأمير لوانسوس:
- اذهب وافتح الباب
ووقف وانسوس متردداً
وتكرر القرع بحماس شديد. وسمع الباب يهتز ويتفلق والأصوات تتعالى في سخط مرددة:
افتحوا. افتحوا. . .
فقال الأمير وهو ينظر إلى وانسوس نظراً حاداً:
- لقد أمرتك أن تفتح الباب
فقال وانسوس في ذلة ويأس:
- الأمر لك يا مولاي
وذهب قاصداً الباب. وما كاد يخرج حتى أشرق وجه تكفات بغتة ولمعت عيناها. وتقدمت في جرأة غريبة نحو الأمير وقالت:
- إنها لحظة من لحظات الدهر الخالدة. فإما إلى العرش وإما إلى القبر. . . تعال
وفتح وانسوس الباب فتدفق الرجال في صحن الدار وضجتهم تسبقهم، ووقف زعيمهم مكشراً أمام وانسوس وقال:
اقبضوا على هذا الخائن. . .
وفي لحظة كان وانسوس مقيداً وملقى بجوار الحائط؛ وأتم الزعيم أمره قائلاً:
- دونكم الدار فلا تتركوا مخبأ إلا دخلتموه، أو ركناً إلا فتشتموه، وإياكم ألا تعثروا عليه
فانتشر الرجال في الدار يفتشون، وسار الزعيم في رهط من أنصاره قاصداً إلى بهو النافورة واختفى الجميع فيه
ومضى الوقت ووانسوس ملقي بجوار الحائط يصغي بأذن مرهفة إلى ضجيج الرجال في داخل داره وعيناه الحائرتان لا تفارقان باب البهو(449/77)
وأخيراً فتح الباب وخرج منه الزعيم وخلفه رجاله. ولما دنا من وانسوس ألقى عليه نظرة احتقار ثم التفت إلى جماعة بالقرب منه وقال:
- حلوا وثاق هذا الرجل
ثم سار في عجلة نحو الباب وهو يدمدم بكلمات غير مفهومة وخرج والجميع في أثره. وقام وانسوس وهو يفرك عينيه دهشا، وبعد أن أحكم قفل الباب سار مهرولاً إلى بهو النافورة فوجد زوجته (تكفات) جالسة على إحدى الوسائد متكئة بظهرها على الحائط؛ فما شك وانسوس أن قواها خارت من الخوف. فأقبل عليها وسألها قائلاً:
- أين الأمير؟
وفي لحظة كشفت إزارها الواسع فخرج من بينه الأمير وما إن توسط البهو حتى قال:
- تالله إن عرش الأندلس لمدين (لتكفات) بهذه الحيلة لن أنسى لك هذا الجميل يا (تكفات)
فانحنت المرأة أمامه في خضوع
ووقف الأمير عبد الرحمن أمام النافورة ويداه مثنيتان إلى صدره، وقال وقد سطع على وجهه العزم واليقين في صوت ممتلئ قوي:
لقد بت أعتقد أن العناية تساعدني. فهناك على شاطئ الفرات حيث كانت فرسان أبي العباس تلاحقني أنا وأخي نجوت بأعجوبة لم أكن أحلم بها في حين أن أخي قد عاكسه القدر فقبض عليه وقتل على مرأى مني. وهنا تمر بي رجال أبي حبيب وأنا على بعد خطوات منهم فلا يخامرهم شك في أني غير موجود
وأرسلت عيناه وميضاً عجيباً، والتفت حوله وهو رافع الرأس كأسد منتصر على فريسته وقال:
- إيه أيها القدر! تعصمني والعباسيون يتهالكون على الفتك بي، يطاردوني في كل شبر من الأرض. . . إني لأرى الأندلس تدنو مني كما يدنو مقبض هذا السيف من يميني
محمود تيمور(449/78)
الإسلام دين لا دولة
للدكتور زكي مبارك
أعترف بأني مقبل على متاعب في تحرير هذا البحث، لأني أكره أن يكون ضرباً من الحديث المعاد، وما تريد (الرسالة) في مثل هذا العدد أن تعيد كلاماً فرغ منه الناس منذ أجيال
وأعترف أيضاً بأني لا أجهل الفرق بين حياة الباحثين لهذا العهد وحياة من سبقهم في سالف العهود، فالمسلمون فيما سلف كانوا يقسمون الجمهور إلى قسمين: قسم العوام وقسم الخواص؛ ولم يكن العاميّ هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، كما نقول اليوم، وإنما كان العاميّ هو الذي لا يترك من مرامي القرآن والحديث ما يستطيع به تعقب أقوال الباحثين بالتعديل والتجريح، ولهذا كان يتفق أن يسير في العصر الواحد آراء تختلف وتقتتل بدون أن يشعر أصحابها بأنهم مهدّدون بسوء القالة بين الناس، إلا أن يكون في آرائهم ما يؤدي الخلفاء أو الملوك أو الوزراء، وهؤلاء أيضاً كان لجبروتهم حدود، لأنهم كانوا في الأغلب من أكابر الرجال، وعلى علم بالزائف والصحيح من الآراء.
أما اليوم، فمن حق من يقرأ ويكتب أن يعد نفسه من الخواص، وأن يتعقب الباحثين في الشئون الدينية كيف شاء، ولو لم يتفق له الاطلاع على كتابٍ واحد من كتب الفقه والحديث
وأقول بعد هذا التمهيد: إني سأفترض قلمي باحثاً يقف من الإسلام موقف الحياد؛ فقد مضى الزمن الذي كان يقال فيه: (اللهم إيماناً كإيمان العجائز)؛ فذلك الإيمان لا ينفع في هذا الجيل ولم يبق له مكان. وأنا أعتقد أن الرجل الذي يكفر بعد اجتهاد الأقوياء، أقرب إلى الله من الرجل الذي يؤمن بعد استسلام الضعفاء. وهل تهون العقول على واهب العقول؟
وإنما يقف قلمي من الإسلام موقف الحياد، لأني أريد أن يقوم هذا البحث على قواعد علمية لا خطابية، فهو موجه إلى قراء اللغة العربية، وفيهم ألوف من غير المسلمين، ومراعاتهم واجبٌ مفروض، ومن الحتم أن يخاطبوا بالعقل قبل الوجدان.
يضاف إلى هذا أن الإسلام كان في جميع أطواره ثورة عقلية، فمن أراد من أبنائه أن يجرده من تلك المزية، فهو عدوٌ يلبس ثوب الصديق.
ثم أوجه الموضوع فأقول:(449/79)
لكل دين من الأديان خصوصيات وعموميات: فالخصوصيات هي اللطائف التي يتعارف عليها أبناء الدين الواحد بعضهم مع بعض، ولا يرضيهم أن تداع لضعفها عن مقاومة النقد العنيف؛ أما العموميات، فهي الأصول التي يجوز نشرها بين جميع الناس، لقدرتها على مواجهة التحامل بشجاعة وكبرياء.
والظاهر أن (الخصوصيات) هي الطور الأول من أطوار التدين، فقد كان التدين في نشأته لوناً من الانحسار عن المجتمع، وهو يوجب الانفراد والانزواء، ومن هنا كانت كلمة (الدين) مرادفة لكلمة (السرّ) عند الأقدمين. ومن هنا أيضاً كانت (العزلة) من ضروب التعبد، لأنها من فنون الاستخفاء. . . ألم تسمعوا أن الصوم عن الكلام كان من العبادات في كثيرٍ من الديانات، مع أن الكلام هو أساس التفاهم بين المتعاملين من الأحياء؟
والنفرة من الزواج عند قدماء المتدينين لها صلة وثيقة بهذا الغرض، وقد أصابت الفطرة الشعبية فيلا مصر حين سمت الزواج (دخول الدنيا)، وإنما كان ذلك لأن الزواج في العرف القديم لم يكن يأتلف مع التأهب للفناء في الدين
ومن هذه النقطة يتشعب حديث اليوم
فالنبي محمد قد اقترن بتسع نساء، قيلت في تعليل هذه الظاهرة أقوال، وأصح تلك الأقوال أنه أراد توكيد الصلات بينه وبين بعض القبائل والشعوب
ولكن يظهر أن من الممكن أن نلتمس تعليلاً غير ذلك التعليل، كأن نفترض أنه أراد أن يقضي قضاء مبرماً على الوهم الذي يقول بأن التدين لا يأتلف مع الزواج، وما كان ذلك (وهماً) من الأوهام، وإنما كان (حقيقةً) من الحقائق في صدور الأحبار والرهبان، وإليهم كان الأمر في مصاير الناس من جهة الدين والأخلاق
ولكن محمداً كان يؤمن بأن من واجبه أن ينقل المفهومية الدينية مع وضع إلى وضع، ولا يتم ذلك بغير ثورة على الترهب، ثورة ماحقة ساحقة تضيف الرهبان إلى طوائف الخصيان، وتصدهم عن الاستهزاء بالمؤمنين المتزوجين، فكان له ما أراد
ومحمد بشهادة خصومه كان من نماذج الفتوة العربية، والفتى العربي يرى الرجال قوامين على النساء، وإذاً، يجب أن يتصل بالدنيا اتصال معاش، ليكون رب البيت بحق وصدق، ولتخضع له نساؤه خضوع العبد الطائع للسيد المطاع، والرزق يذلّ أعناق الرجال، فكيف(449/80)
بقلوب النساء؟!
وماذا كانت صناعة محمد قبل أن يكون نبياً؟
كان تاجراً، والتجارة هي المختبرَ الصادق لأخلاق الرجال، وقد جاز الاختبار بنجاحٍ مرموق.
وماذا كانت صناعة محمد بعد أن صار نبياً؟
أظنه قال: (جُعِل رزقي تحت ظل رمحي)
ومعنى هذا أنه صار فارساً يعيش مما تغلّ الرماح والسيوف، وذلك أكرم أنواع العيش، وما يليق بنبي أن يكون عالة على الأتباع، ولو كانوا من شرفاء الأغنياء.
وإقبال محمد على الزواج صار نبياً مدنياً، وصار مسئولاً عن الاتصال بالمجتمع صلة معاشية، بعد أن اتصل به صلة روحية. ومن المؤكد أن صنيعه هذا قوبل في عصره باندهاش، واستغراب، لأنه كان (بدعة) في عوف رجال الدين، ولأنه كان اعترافاً صريحاً بان (الدنيا) مطلبٌ لا يعيب من يتجه إليه من الأنبياء
والذي يراجع الأصول الأولى من الدين الإسلامي - وهي الأصول التي سبقت التفريع والتشقيق - يروعه أن يرى الإسلام يقتصد في شرح معاملة الإنسان مع الله، ويهوله أن يراه بطنب في شرح المعاملات مع الناس.
فما معنى ذلك؟
معناه أن الإسلام يمزج بين هذين المطلبين، ومعناه أن حسن المعاملة مع الناس هو المظهر الصادق للخوف من الآثام والشبهات، وبدون الصدق في هذه المعاملة لا ينتفع المؤمن بصلاة ولا صيام، والله يتسامح في حقوقه ولكنه لا يتسامح في حقوق الناس.
ومن أعجب العجب أن نرى القرآن ينطق السابقين من الأنبياء بأقوال ينكرها بعض أتباع الأنبياء.
فما تأويل هذا المنطق؟
التأويل سهل، فالقرآن ينزه جميع الأنبياء عن أوهام الأتباع والأشياع، وما تحدث القرآن عن نبيّ إلا عرفنا أن الدعوات الصوادق لا تسلم من التصحيف والتحريف.
وبقليل من التأمل ندرك أن ذلك ليس من الغرائب، فوضوح النصوص الدولية لهذا العهد(449/81)
في المخابرات والمعاهدات لا يمنع من أن تصير من الألغاز عند اشتجار الأغراض، فما ظنكم بنصوص دينية جرت في الأصل مجرى التلميح تجنباً للعدوان والاضطهاد؟
والمقام لا يتسع لغير فرضين اثنين: فرض يجيزه الجدل وهو الظن أن القرآن وحيٌ من عند الله، وفرض يجيزه الجدل وهو الضن بأن القرآن من صنع محمد، وللفرض الثاني فرعٌ سنشير إليه بعد لمحات.
فعلى الفرض الأول يكون القرآن هو الفَيْصَل في تقرير مذاهب الأنبياء، وعلى الفرض الثاني يكون محمدٌ أخضع الأنبياء في أقوالهم وأفعالهم لمذاهبه الذاتية في الوصل بين الدين والمدنية.
وأنا في حيرة بين هذين الفرضين، ولو كنت من خصوم الإسلام لاخترت الفرض الأول واسترحت، فليس من الكثير أن يضاف محمد إلى الأنبياء، ولكن الكثير حقاً أن يصل رجلٌ غير ملهَم إلى الوصل بين العلم والمدنية، وهون غرض كان يجب أن يتنبه إليه كبار الأنبياء. و (البلية) كل البلية أن الناس عجزوا عن تخيل نظام يكون أفضل من نظام الإسلام، وهو النظام الذي يوجب أن يوزع المرء قواه بين ثمرات الأرض وأنوار السماء.
الإنسانية أجمع تحتقر الرجل المنزوي في الكهوف، والإنسانية أجمع تبغض الرجل الذي لا يعرف غير اقتناص الأموال، والإنسانية أجمع قد اتفقت على أن الإنسانية الكامل هو الرجل الذي يأخذ نصيبه من الدنيا مع الاحتفاظ بنصيب في الدين
ومحمد هو صاحب هذا الرأي، وبه (أدعّى) على زعم أصحاب هذا الفرض أنه خاتم الأنبياء. ومن هذا الملحَظ ندرك كيف صار خاتم الأنبياء، فمن العسير أن نتصور نظاماً أفضل من النظام الذي شرعه محمد عن طريق الوحي أو طريق الاجتهاد.
هنالك فرضُ ثالث، وهو أن تكون الضمائر الإنسانية تجمّعت وابتدعت هذه الشخصية المحمدية، لتكوين الرمز الذي يصور مثلها الأعلى في الوجود.
ويمنع من هذا الفرض مانعان حصينان، أحدهما تاريخيّ وثانيهما فلسفيّ.
فمحمد حديث العهد في التواريخ النبوية، ولم يمض من الزمن ما يسمح بجعله شخصية معنوية، كالذي قيل في بعض الأنبياء، أو بعض الحكماء. ألم يشُك قوم في وجود المسيح وسقراط؟(449/82)
أما الجانب الفلسفي فهو يضايق خصوم الإسلام، لأنه يجعله سريرة وجودية، وعندئذ يكون من الحتم أن يكون أعظم دين عرفه الوجود.
للباحث المنصف أن يدير هذا البحث كيف يشاء، فلن ينتهي إلا إلى ما انتهينا إليه، وهو القول بأن شريعة محمد خير شريعة عرفها المجتمع الإنساني، فهي إذا منحة ربانية تستوجب الحمد والثناء. وهل يصدر مثل هذا الفيض إلا عن صاحب العزة والجبروت، وهو الذي منح (إنسان العين) على صغره قوة تخترق أجواز السماء، بغض النظر عن فضله العظيم في إضاءة العقول والقلوب؟
ثم ماذا؟
نترك إلى الباحثين المنصفين درس هذه المعضلة بنور المنطق والعقل والعدل، وننتقل إلى شرح الاصطلاح المعروف بالتطبيق، فكيف كان الإسلام بعد موت الرسول؟
شرَّق الإسلام وغرَّب، وجرتْ بين أهله أحداثٌ وخطوب، حتى جاز القول بأن فريقاً من المسلمين أخطئوا فهم الغرض من الدين الحنيف
وفي حومة ذلك الخطأ نشهد ظاهرتين بارزتين بعنف وطغيان:
الظاهرة الأولى هي الاهتمام باللغة العربية اهتماماً يتمثل في المؤلفات التي تُعدّ بالألوف، ويتمثل في قول بعض الفقهاء بأن الصلاة بغير اللغة العربية عملٌ مردود
أما الظاهرة الثانية فهي الإقبال المنقطع النظير على درس الجوانب المدنية من التشريع الإسلامي، ويمكن بسهولة أن نقول إن (القانون المدني) لم يشهد في جميع أدوار التاريخ شرّاحاً أعمق من الشراح المسلمين، جزاهم الله خير الجزاء، فهم الحجة الباقية على أصالة العبقرية المدنية في الأمم الإسلامية
وارجع إلى الظاهرة الأولى بشيء من التوضيح فأقول:
كان المسلمون يرون أن لا سلامة للعالم إلا بوجود (لغة دولية) يتفاهم بها أهل المشرق وأهل المغرب، وهل قام في الدنيا نزاع إلا بسبب انعدام التفاهم بين الناس؟
ومازال المسلمون يساومون هذا الغرض حتى تحول إلى عقيدة دينية، فصح عندهم أن (اللغة العربية أحسن اللغات)، وأن الصلاة بغيرها لا تجوز، وأنها ستكون لغة أهل الفردوس. والمسلمون يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن رحمة الله مقصورة عليهم، وأن طمع(449/83)
سواهم في الجنة لا يزيد عن طمع إبليس، وتلك غاية الغايات في الإيمان بأن (الدين عند الله الإسلام)
ذلك التصور اليوم قد يعدّ من ضروب الخيال، ولكنه كان حقيقة عند المسلمين الأولين، وبفضل تلك الحقيقة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من التفوق الملحوظ على أكثر الممالك والشعوب.
والغريب في هذه القضية أن المسلمين الذين آثروا لغتهم بذلك التقديس قد تحرروا في فهم أغراضها تحريراً لا يعرفه أبناء اليوم، فقد كانوا يستبيحون إنشاد أشعار المجون في المساجد وفي أعقاب الصلوات، وكانوا يرون خصومهم في هذه الحرية الأدبية قد (تنسكوا تنسكاً أعجمياً)، ولذلك شواهد يضيق عنها هذا المجال
قد تقول: وما الموجب لهذا التناقض الغريب؟
وأجيب بأنهم أرادوا أن يجعلوا اللغة العربية لغة مدنية لا لغة دينية، واللغات المدنية تتحدث عن جميع الشؤون، ولا تسكت عن شرح العواطف والأحاسيس والأوهام والأضاليل. ألم تروا كيف اتسعت مساجد المسلمين لشرح أشعار النصاري واليهود والصابئين؟
ويتفرع عن هذا ما جاء في التواريخ الإسلامية من أعمال الرجال، فالإسلام كُتلةٌ واحدة، فكما تقول في جِد عمر بن الخطاب: حدثنا فلان عن فلان، تقول في هزل عمر بن أبي ربيعة: حدثنا فلان عن فلان. وهل ثبت في أي ملة أن رجال الدين تحرروا من تقاليد فقالوا في الجمال الذي يطوف بالأماكن المقدسة معشار ما قال الشريف الرضي في قصائده الحجازيات، وكان أمير الحج بتفويض من خليفة المسلمين؟
يجب الاعتراف بأن الإسلام أعطى أبناءه حريات لم تعرفها سائر الديانات، لأنه لم يكن ديناً فحسب، وإنما كان ديناً ومدنية
ويجب الاعتراف بأن التطاول على هذا الدين لا يقع إلا من الأوشاب والمأجورين، فما كان إلا نعمة نورانية جاد بها الله على هذا الوجود
وماذا أقول في شرح الظاهرة الثانية، وهي الاهتمام بما في التشريع الإسلامي من الجوانب المدنية؟
تنقسم كتب الفقه إلى قسمين: قسم العبادات وقسم المعاملات ويلاحظ من يقرأ كتب الفقه أن(449/84)
المؤلفين يترفقون في شرح القسم الأول، ثم ينطلقون كالسهام عند شرح القسم الثاني، وتظهر براعتهم في تشريح دقائق المعاملات
وهنا نكتة تستحق التسجيل. فرجل الدين في الفرنسية يوصف بأنه ومعنى هذا الوصف أنه لا يصلح لفهم أمور المعاش انقطاعه عن صحبة الناس
فكيف أمكن لرجال الدين من المسلمين أن يكونوا أئمة في شرح القوانين المدنية؟
يرجع ذلك إلى روح الدين الإسلامي، وهو دين يدعو جميع أبنائه إلى الاندماج في المجتمع، ويقهرهم قهراً على الأخذ من منافع الدنيا بنصيب، ليعرفوا الدقائق من شؤون الناس وهم قضاة الناس. وهل يصلح القاضي للفصل في نزاع لا يحس له شبيهاً في حياته المعاشية؟
كان يقال إن أحق الناس بالإمامة في الصلاة وفي القضاء هو المتزوج، ويرجح زوج المرأة الجميلة، لأنه أقرب إلى التعفف، بفضل ما يملك من الجمال الحلال
وأقول إنما قدَّم زوج المرأة الجميلة لأنه يعاني من المتاعب أضعاف ما يعاني سواه. فهو أعرف بشؤون المجتمع، وأقدر على فهم شؤون المعاش
وأقول أيضاً إن تنقل الفقيه منم أرض إلى أرض كان يزيد في قيمة التشريعية. فالشافعي له مذهب جديد ومذهب قديم بسبب تنقله بين مصر والعراق.
وأقول كذلك إن الرحلة كانت شرطاً في التفوق العلمي عند الأسلاف لفضلها الظاهر في الاطلاع على دقائق العادات والتقاليد
والقول الفصل أن رجل الدين عند المسلمين لم يكن من رجال القوانين المدنية إلا لأنه كان يساير المجتمع ويراوحه ويغاديه بلا انحسار ولا انقباض
وهل أستطيع القول بأن في الدين الإسلامي أقطاباً كانوا من كبار الأغنياء، ومن المتصرفين في المتجرات والمزروعات؟
إن الصوفية أنفسهم وهم الغاية في الزهد لم يملكوا الفرار من المجتمع؛ فقد كانوا مسئولين أدبياً عن تدبير المعاش للمريدين أليس من العجب أن نقرر أن أصدق ما كتب في آداب التجارة والزراعة والصناعة هو ما صدر عن أقلام الصوفية؟
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟(449/85)
ثم أمضي إلى آخر الشوط فأقول:
أحب المسلمون دنياهم فأقبلوا عليها بنهم وشراهة، فماذا جنوا من ذلك الحب؟
كان امتحاناً قاسياً عنيفاً إلى أبعد حدود القسوة والعنف. فقد عرفوا به أن لا بقاء للحياة بدون أخلاق، فكيف كان نصيبهم من شرح دقائق الأخلاق.
لا أزعم أني قرأت جميع ما كتب عن الأخلاق في جميع الديانات، وإنما أقرر أني اطلعت على مجلدات كثيرة في الأخلاق المنسوبة إلى رجال الدين من غير المسلمين، فما وجدت لها حرارة تشبه النار الموقدة في الكتب الإسلامية، فما سبب ذلك؟
المصلح المسلم تكتوي يده بنار المجتمع في كل يوم، فهو يسكب دم قلبه على القرطاس، وهو يتحدث عن واقع لا عن خيال، فهو يقول رأيت وغيره يقول سمعت، أما أبعد الفرق بين الرؤية والسماع!
الأخلاق في الكتب الإسلامية منقولة عن تجارب شخصية لا روايات خيالية، وما خط مسلم حرفاً في الأخلاق إلا وهو يتمثل مشاهد حية من بغي الناس بعضهم على بعض بلا رحمة ولا إشفاق
معاملة المسلم مع الله تنحصر في هذه الكلمة الوجيزة
(أّعبدِ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
أما معاملة المسلم مع الناس فلها ألوف وألوف من الدقائق والتفاصيل.
فهل كان ذلك إلا لأن الإسلام أول دين عُنِيَ عنايةً صريحة بالشؤون المدنية؟
قد يقال: وكيف جاز أن يسف المسلمون بعد التحليق؟
وأجيب بأن المسلمين لم يسفّوا إلا بعد أن فُتنوا وزُلزلوا وتوهموا أن المدينة ليست من شؤون الدين
أليس مما يعيب الرجل المسلم في هذا العصر أن تكون له مطامح سياسية واقتصادية؟
اخلعوا النير عن أعناقكم يا مسلمي هذا الزمان، ويا عرب الزمان؟
لقد فَضَحنا (أشراف) مصر حين طالبوا بحقهم في التحرير من الجندية
وفَضَحنا (عربان) مصر حين طالبوا بامتيازهم في التخلص من الجندية
فماذا يريد أولئك وهؤلاء؟(449/86)
محمد هو أول نبي وآخر نبي حمل السيف
ومحمد هو أول نبي وآخر نبي عرف قيمة الإرادة الذاتية فقضي بأن واجب المرء أن يخاطب ربه بلا وسيط
ومحمد أول نبي وآخر نبي كَرِه لأتباعه القرار والاطمئنان (البحر وراءكم، والعدو أمامكم) فأيان تذهبون؟
غيّروا ما بأنفسكم، يا مسلمي هذا الجيل، ويا عرب هذا الجيل
واحترسوا ثم احترسوا من أن يكون لمخلوق فوقكم سلطان
أنت الأعلون، وإن كنتم مضطهدين، ولن تمر أعوام قبل أن تأخذوا مكانكم فوق هامة الوجود الصحيح
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
زكي مبارك(449/87)
حاجة المدنية إلى دين
للدكتور محمد البهي
للجماعة الإنسانية مهمة، ولها هدف أخير: مهمتها تنظيم رغبات الأفراد، والعمل على تطبيق دائرة التصادم - إن لم يكن منعه - بين هذه الرغبات، بعضها ضد بعض؛ وغايتها من وراء ذلك حياة الوئام والوفاق، أو حياة (السلام) أو سيادة (الخير) على نوازع الشر
هذا هو الشأن في كل جماعة إنسانية، حتى في الفطرية منها. فزعيم الجماعة البُدائية يدعي - حتى في اللحظة التي تغالب أنانيته على تصرفاته - أنه يعمل للخير والسلام، وأنه يسعى للتوفيق بين أفراد رعيته في رغباتهم ومآربهم
وقانون الجماعة المهذبة يضع - ما أمكن - نصب عينيه (صالح) الجماعة أو (العدالة) أو (المساواة)، ويحاول أن يبرز هذا الهدف في كل ناحية من نواحيه محافظة على السلام وحباً في خير الجماعة
ولا تتميز الجماعة الفطرية عن الجماعة المهذبة إلا بأن البواعث (الشخصية) أو الأنانية هي التي تتحكم غالباً في تحديد الخير والسلام، وفي توجيه الأفراد نحو الخير والسلام؛ بينما يحتكم قانون الجماعة المهذبة إلى عوامل مجردة - بقدر الإمكان - عن المعاني الشخصية في نظرته إلى (الصالح العام) أو (المساواة) وهذا بعينه هو الفرق بين الطفل والرشيد في الإنسان
وخير الجماعة الإنسانية في الواقع هو في الحيولة دون قيام النزاع والخصومة بين أفرادها بسبب اختلافهم رغباتهم. إذ من شأن اختلاف الرغبات حدوث التصادم بينها عند محاولة تلبيتها
وهذه الحيلولة تتم سواء أكانت بالدعوة إلى كبت الرغبات، وإلى الإقناع بالتنازل عنها أو عن كثير منها بدعوى أن ليست لها قيمة ذاتية كما تصوره لنا دعوة (الزهد) في متع هذه الحياة، أم كانت بتوزيع نفس هذه المتع - بناء عن اعتبارها وتقديرها - بين أفراد الجماعة لكل منها نصيب حسب كفايته التي تختلف حسب اختلاف مقاييسها عند الجماعات المتعددة، كما تنصح بذلك (النظرات) الجديدة في الحياة
والوسيلة الأولى وهي دعوة الزهد، أو دعوة القصد في متع هذه الحياة كانت طريق العقائد(449/88)
الأولى الشرقية، والمدارس الفلسفية القديمة، وطريق الديانات السماوية كذلك. فكلها وضع (الخير) غاية للفرد وللجماعة، وكلها تقريباً نصح ونادى بالزهد كعامل رئيس من عوامل الوصول إلى هذه الغاية. والفرق بينها أن العقائد الأولى كعقائد قدماء المصريين والهنود والفرس تنسج (الخير) كغاية للإنسان في قصة شعرية أو في حكاية فرضية
وهي بينها تختلف في مقدار هذا الفرض وقيمته، وفي ذلك العنصر الشعري ومقداره - بينما الفلسفات القديمة أو الديانات السماوية، وأن سلكت طريق الإقناع تميل إلى تحكم المنطق والالتجاء إلى العقل في الدعوة إلى (الخير) والتقرب من مثاله، أو التقرب من الله الذي هو عنوان الخير المطلق. والفرق بينهما كذلك في قيمة النظر إلى الزهد كوسيلة إلى تلك الغاية، فبعض العقائد الشعبية الأولى كبعض المدارس الفلسفية القديمة وبعض الديانات السماوية يبالغ في تقدير الزهد وفي صلته بسيادة الخير في الجماعة؛ ولذا يتشدد في طلبه من الفرد ويوصي به إلى درجة (الحرمان) أو (الإفناء). والبعض الآخر من هذه الاتجاهات الثلاثة يعترف بالزهد كوسيلة للوصول إلى الخير - يقره كذلك - ولكنه لا يطلب أن يكون موقف الإنسان من هذه الحياة سلبياً فقط، بل بجانب نصيحته له (بالقصد) في متعها بوجه نشاطه وحيويته إلى عمل إيجابي للغاية نفسها، وهي غاية الخير
أما الوسيلة الثانية وهي محاولة تنظيم متع هذه الحياة بين أفراد الجماعة الإنسانية تجنباً للتصادم بين رغبات الأفراد المختلفة فهي طريق الأخلاق كعلم استقل عن التأثر بالميتافيزيقيا وطريق القانون. وبعبارة أخرى هي طريق الإنسان الحديث الذي رغب في الاستقلال بنفسه عن الدين وعن الفلسفة الأولى عند تحديده للحياة وتحديد مهمته فيها
فالبحث في تحديد (السعادة) أو (الواجب) مهمة علم الأخلاق؛ واعتبار (سعادة) الجماعة أو اعتبار عمل (الواجب لذات الواجب) هو هدف التشريع الحديث والقانون الوضعي، وهو كذلك أيضاً أساسهما. فالقانون في مواده المختلفة المتعلقة بنواحي الحياة للفرد والجماعة يحاول أن يشعر الفرد ويفهمه أيضاً أنه إذا لم تقتضي له رغبة بأن هذه الرغبة لم تضع عليه في الواقع، إذ (سعادة) الجماعة أو (الواجب)، أو ما صاغه القانون ذاته من (الصالح العام) طلب إحلال أمر آخر محل هذه الرغبة الفردية الخاصة إلى حين؛ وذلك نظير تمتعه - أي الفرد - بالصالح العالم في فرص أخرى وهي كثيرة(449/89)
فالقانون إذا لا يرغَّب عن هذه الحياة، ولا يقلَّل من قيمتها، وقلما يعترف بنهايتها أو بتحولها إلى حياة أخرى ثانية. ولهذا رأي مهمته في تنظيم رغبات الأفراد، وفي التسوية في تلبيتها لهم بقدر ما يمكن، دون أن يراها مثلاً في إقناعهم بالعدول عنها إلى متع أخرى ألذ وأشهى وأدوم كذلك في حياة أخرى
والقانون والأخلاق كعلم من أخص مظاهر المدنية الحديثة. وهذا معناه أن المدنية الحديثة تتميز بالميل إلى الاستقلال وبمحاولة هذا الاستقلال، أيضاً، عن الدين وعن العقيدة وعن الفلسفة الميتافيزيقية في فهم (غاية) الإنسان وفي تعيين الطريق لتحقيق هذه الغاية
وكما كان عنوان الدين، أو من لوازم الدين والعقيدة، الدعوة إلى (الخير)، وكما كان من وسائله إلى تحقيق ذلك النصح بالزهد في هذه الحياة، كان عنوان المدينة الحديثة تحديد (الصالح العام) وتقريره ثم محاولة تحقيقه بتنظيم انتفاع الأفراد بهذه الحياة
نظرتان مختلفتان في الحياة، وتوجيهان للإنسان فيها مختلفان كذلك
وربما يبدو أن تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بين أفراد الجماعة الإنسانية، وهو محاولة القانون، ليس أشق على طبيعة الإنسان كطلب الزهد منها الذي هو نصيحة الدين؛ والعلاقة الصحيحة بين تنظيم الانتفاع وبين الزهد ليست اليسر من جهة ولا العُسر من جهة ثانية، بل هي تحكم إرادة الإنسان في طرف وإغفالها في طرف آخر. إذ طلب الزهد معناه اعتبار إرادة الإنسان وتحكيمها، بينما تنظم الانتفاع معناه الركون إلى سلطان القانون وتحكمه وحده. فالزهد وإن بدا أنه مظهر سلبي هو عمل إيجابي إذ هو مظهر الإدارة للفرد
وحقاً إذا كانت غاية القانون أو غاية المدينة هي غاية الدين والعقيدة، لأن مآل رعاية الصالح العام، أو رعاية سعادة المجموع، أو تقرير عمل الواجب لذات الواجب هو مآل عمل الخير؛ وحقاً إذا كان في محاولة تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بين أفراد الجماعة تحقيق لنتائج الزهد، إذ أن في الرغبة عن متع الحياة أو عن كثير منها تضييق لدائرة النزاع بين الأفراد وهو غاية التنظيم، إلا أن في الدين والعقيدة معنى آخر ليس في القانون وليس في علم الأخلاق، هذا المعنى الآخر هو أن موحي الدين له نهاية الحكمة وكمال المعرفة في نفس الإنسان المتدين أو المعتقد طبقاً لمبدأ التأليه؛ وهذه صفة للمعبود تدع في نفس الإنسان المتدين عدم المناقشة فيما أوحى به الدين كما تدع فيها أيضاً الرضا بما جاء به الدين.(449/90)
فطاعته للدين إذا طاعة نفسية، ومحاولة الشذوذ عن أوامر ونواهيه أمر غير قريب إلى نفسه. ولكن واضع القانون، في نظر الخاضع له، إنسان غير معصوم، وبالأخص غير منزه عن التأثر بالعوامل الشخصية في تقنية لأنه من نوعه الإنساني وليس من جنس آخر أسمي منه. فالقانون له احترام من نفس الفرد الخاضع له وما دام لم يتعارض مع رغباته الخاصة. فإذا تعارض قل الأكثرات به في نفسه لأن الانحراف - هكذا ينظر الفرد - عن الصواب قد يكون في القانون نفسه دون أن يكون في رغبات الفرد. فموقف الفرد إذا من القانون موقف الناقد؛ وأساس النقد عنده رغباته الخاصة في الأغلب؛ وطاعته للقانون في كثير من الأحايين ليست لذات القانون بل للخشية من منفذه والقائم بأمره. وإذا قل عنصر الرضا النفسي في الطاعة كانت محاولة المخالفة للقانون موجودة في النفس وقوعها مرهون فحسب بضعف الرقابة أو بزوالها
فمحاولة المدينة بقانونها وبأخلاقها الاستغناء عن الدين وعن العقيدة محاولة قاصرة، نجاحها لا يتعدى نطاقاً ضيقاً وهو نطاق الخاصة، وهي في حاجة في الواقع إلى الدين وإلى أن يسود المتدين جماعتها. ومهما استعانت بالعلم الذي هو مظهر آخر من مظاهرها، فليس في العالم وحده ما تحتاجه من العون؛ إذ الإنسان كما هو مودع في فطرته الميل إلى العلم وإلى الكشف، مودع في فطرته كذلك الاطمئنان والركون إلى (السر الخفي)، وتأليهه أو تعظيمه للغير ظاهرة من ظواهر هذا الاطمئنان والركون. والله في نظر الإنسان رمز كل سر وكل خفاء، فلا يدرك كنهه ولا يوقف على حقيقته. ولهذا كان له أرفع درجة من تعظيمه واحترامه. وما ينسب إليه عظيم ومحترم كذلك؛ فقوله قل أن يخالف، ووصيته ندر ألا تنفذ، لأن المخالفة وعدم التنفيذ معناه الشك في هذا التعظيم الذي صار الآن أمراً مقرراً
وإذا كنا ندعو المدينة بوجه عام إلى دين وإلى تدين فلسنا متحيزين إذا دعونا إلى الإسلام بوجه خاص؛ لأن الإسلام في تقرير الزهد كوسيلة للوصول إلى الخير لم يبالغ في طلبه ولم يعتمد عليه وحده، بل جعل بجانبه تنظيم الانتفاع بهذه الحياة - بعد أن أباح التمتع بها - وعمل على تنظيم علائق الأفراد في دائرة هذا التمتع
وليس القانون، وليس علم الأخلاق؛ وبعبارة أخرى ليست المدينة هي التي كشفت عن (رعاية الصالح العام)، بل من قبلُ وضعها الإسلام في تنظيمه (للمعاملات)(449/91)
ففي الغاية جمع الإسلام كدين وكتشريع بين (الخير) وبين (رعاية الصالح العام)، وفي الوسائل نصح بالزهد إلى حد ما وعمل على تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بعد أن أجاز الانتفاع بها وهو بهذا يعتبر إرادة الإنسان كما لا يهمل رقابة القانون
محمد البهي(449/92)
على ذكرى الهجرة
القوة والدين
للأستاذ راشد رستم
إن الهجرة التي قام بها نبي الإسلام محمد بن عبد الله عليه السلام - حادث تاريخي، ليس له من صبغة الدين إلا أنه من أيام رسول الله.
غير أن أثرها في الإسلام عظيم
لما أراد المسلمون الأولون أن يؤرخوا لدينهم لم يجعلوا ذلك يوم ولادة الرسول، ولا يوم نبوته - بل يوم هجرته
وقد كان هذا هو رأي رجل الإسلام القوي عمر بن الخطاب - تذكرة للمسلمين بالاضطهاد الذي لاقاه رسولهم - وتنبيهاً إلى الثبات على المبدأ، وتنبيهاً لضرورة الجهاد في سبيل الدعوات
ذلك هو فضل يوم الهجرة: فضل تاريخي، فضل اجتماعي فضل للحياة الآملة المجاهدة. هذه الحياة التي لا تقيم للحق وزناً إلا بالجهاد في سبيله، والتي لا تعرف للحق وجوداً إلا إذا قام له صاحب
وصاحب حق الإسلام هو عظيم المجاهدين له عليه السلام، إذ لم يظهر حقه وقد كان خافياً إلا بعد أن جاهد له، وقد اعترف به الزمان وظل به معترفاً
ولكن كان إذا ونِي أنصار الحق عنه قليلاً وني الزمان عنه قبلهم، وإن شدُّوا له وتجمعوا عاد الزمان فأقامه لهم على هام الدول والأيام واضحاً ثابتاً
ذلك منطق الزمان. هو لا يعرف غير الغالب، والغالب أن يكون الغالبُ صاحبَ حق
ولكن الغالب كذلك ألا يكون الحق غالباً إلا بالقوة، فإن كانت غلبة الحق لا شك فيها، فإنه وهو غالب يكون كذلك هو القوي. . .
وقد يكون الباطل غالباً. ولكنه هو غالب، يكون كذلك هو القوي.
غير أن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة
لذل لما كان كفار العرب، وهم مع باطلهم أظهر على الرسول وهو مع حقه، كانوا كذلك لأن القوة كانت لا تزال معهم؛ حتى إذا ثبت محمد بحقه في الميدان واستمر مجاهداً فاز(449/93)
بالقوة يدعهم بها حقه ويديمه
ومن مزايا الحق أن الاعتقاد بيقينه يجعل من الضعف قوة، كما يزيد القوة قوى
ومن ذلك كان نصر الحق بالثبات عليه والجهاد له
ورسول الإسلام لم يكن ينقصه الحق ولا مزاياه؛ وإنما هي القوة. . . لذلك كان يعمل لها بعد أن تأكد من يقين حقه، وكذلك كان من معه
وهكذا كان ثبات النبي مضرباً للأمثال
فكمُ هدد، وأوذي، ورغَّب؛ فلم يجبن ولم يرجع عن جهاده. بل كان يثور للحق ويثير في نفوس أنصاره الروح النقية القوية، والعقيدة الصحيحة بأن القوة أولى بها أن تكون للحق، وأن الحق لا بد له من القوة ما دام الباطل يستعين بها فلما فاز الرسول بالقوة، ظهر على أعدائه حقه
وهكذا كان حال السابقين من أهل الدعوات، فما تمكن دين المسيح عليه السلام إلا بعد أن دان له الإمبراطور قسطنطين العظيم، فدعمته قوة السلطان
وما كان زاهيا زاهراً دين موسى عليه السلام إلا لما كان السلطان لبني إسرائيل؛ فلما شالت نعامتهم ذهبت ريحهم
على أننا لا نقصد بالقول أن نحط نمن قيمة الحق، وأن نرفع من القوة، ولكننا نقرر مركز كل منهما من الآخر، ذلك المركز الذي توجبه جِبِلَّة البشر وطبيعة الإنسان، تلك الطبيعة التي فطر عليها من أن يَملَّ المعنويات ويعظمَ المحسوس
إن هذه الجبلة الآدمية هي التي تدفع بالحق يسعى وراء استخلاص القوة لنفسه، وإنه لعمل محمود
ليس في السعي وراء القوة عيب، إذ القوة أظهر مظاهر المحسوس، وهي لسان الإنسان الفصيح وبيانه المفهوم، وهي الواسطة القوية لنشر الفضيلة المطوية، كما أنها ترفع الباطل إن ظفر بها مختلساً
وسلامٌ على الحق إذا لم تؤيده القوة
وسلاٌم على القوة إذا لم تؤيد الحق
ليس في استعانة الق بالقوة تقليل من قوته أو حط من قدره. فالقوة وسيلة الطبيعة للبقاء،(449/94)
والإنسان حيوان قبل أن يكون عقلاً. .
لذلك يسبق في عمله إدراك القوة قبل أن يدرك ما هو حق وما هو باطل
فإذا هو أدرك لأحدهما معناه، عمل لبقاء ما اختار منهما لنفسه والبقاء في هذه الحياة هو للأقوى
فيا أيها الصالحون، اعملوا على أن تكونوا الأقوياء. . .
وانظروا في ذلك وأنتم في مرحلة لكم جديدة. . .
راشد رستم(449/95)
من مذكرات عمر بن أبي ربيعه
أيام حزينة
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر بن أبي ربيعة. . .):
وجاء ابن أبي عَتيقٍ (هو عبد الله ابن محمد أبي عتيق ابن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق)، فوالله لأن كنتُ بين ضِرْسين من الجبل يدوران عليَّ دَوَرانَ الرَّحَى، أهونُ عليَّ من أن أكون لقيتُ هذا الرجلَ الحبيبَ!
كانَ رجُلاً ضربْاً خفيفَ اللَّحم أحمر طِاهِرَ الدَّم كأنّ إهابه شُعْلةً تشبُّ وتتلهَّب، أفرعَ فينَانَ الشَّعر، مخروطَ الوجه، أزهر مُشرقاً كأنّ بين عينيه نجماً يتألق، يُقْبل عليك حُرُّ وجْهه بعينين نَجْلاوين قد ظَمِئ جفْناهما حتى رقَّا، يرسلُ إليك طرَفةُ فترى الضحك في عينيه خِلقَةً لا تكلّفاً. ما احسبني رأيته مضرةَّ إلا خلْتُه دعابةً قال لها الله: كوني! فكانتهُ. وكأني به قد دَخل على أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق وهي تَكيِد بنفسها - في مرضها الذي ماتت فيه - يقول: كيف أصبحت يا أمّاهُ؟ جعلني الله فِداكَ! فتقول عائشة: أجَدُني ذاهبةً يا بُني! فيقول: فلا إذنْ يا أم المؤمنين!! فتتبسم عائشة وتقول: حتى على الموت يا ابن أبي عتيق!! فيقول: أرضاكِ الله يا أماَّه! لو جَاءني الموتُ كأكرهِ ما يأتي على حيِ، ما تركتُ له دعابتي حتى يستضحك، فيرحل بي عن الدُّنيا بوجهْ غير الذي جاء به!
فلو أنّ أمراً من عرضْ الناس لا أعرفه، جاءني فزعم أن نجماً في السماء بكى، وأن القَمرَ مدّ إليه مثلَ اليَد فكفكف من عَبَراته، لكان أقرب إلي منْ يأتي آت يقول هذا ابنُ عتيق في الناس بعينين ضارعتين خاشعتين ذاهلتين يعرفُ فيهما البُكاء!
رجل صالح تقي خفيف الروح نشوان القلب، قد انحدر من جده (عبد الرحمن بن أبي بكر الشاعر)، حنين الشاعر حين يرى الدنيا كالغانية المنعّمة تتصبيّ له وتتقتَّل، فيحن إليها بصبَوات الشباب المتوهج. . . وآب إليه من جده (أبي بكر الصديق) حنان التقي وهو يرى الدنيا كالناشئة الغريرة لا تزال تنشُدُ تحت جناحه دِفء الأبوّةِ فتأوي إليه وتتضوّرُ، فهو يخفض لها من رحمة الوالد المتحنن. . . فابن أبي عتيق من هذين الأبوين كالربيع: جمال وشباب، ورقة وحنان، وفرح لا ينتهي(449/96)
وكنتُ أجدهُ فيما يتوقَّدُ علىَّ من الكُربِ كالغمامة الغادية: ظِلٌّ ورِيٌّ، ثم لا يزال بي حتى أَنام إلى دعَابته، فإذا آلاميٍ تطوف بي من بعيدٍ كأنها أَحلام، بعد أن كانت في دمي جمرة تتلذّع. ولقد أكون مما أستعصي عليه بأحزاني، فأريدُ أذهب عنه نافراً أبتغي أن أعكُفَ على آلامي كما يعكُفُ العابد على بُدّه، فما هو إلا أن يأخذَ ينشد:
مَتى ترَعْينيْ مالكٍ وجِرَانه ... وجنبَيْه، تعْلَم أنه غيرُ ثائِر
حِضَجْرٌ، كأمَّ التَّوْأمَينِ توكَلتْ ... على مَرْفقَيْها مسْتهِلَّةَ عاِشر
فينشد أغرب إنشادٍ وأعجبه، ولا يزال يجرك ويشير ويمثَّل، فوالله ما من ساعة أنشدنيها هذين البيتين، وأقبل عليَّ يريني ما يأتي به، إلا نبع الضحك من قبلي دفعة حتى ما أتماسك معه
فكيف به اليوم وقد سكن كأنه دمعة خافتة تئنُّ تحت الزفراتِ، يمشي إلى كأن أيامه تطوفُ به ثاكلاتٍ نائحات، يغض طرفه كأنما يمسك عبرة همَّتْ من هاربة من الأسر، يطأطأ هامته كأنما يقول للزمن: تخطَّ، فلم يبق بيني وبينك عَملٌ أيها الجبَّار، يستكين حتى لأخاله يجمعُ أطراف نفسه لا يزاحمُ أفراح الناس بما يريد أن يتنفَّسَ من أحزانِه
لك الله يا ابن أبي عتيق! لقد كانتْ لك كالجدول النَّامي
النمير: هو سرٌّ الأرض، وسرُّ العود، وسرُّ الزُّهر، وسرُّ العطر؛ فلما جَفَتْ عنك همدت أرضك، وظمئ عودك، وصوَّحَ زَهرك، وتهارب عطرُك. . . زوجةٌ كانت تستودع روحك مع كل شارق، ما تتملَّى به أفراحِك ولهوك ودُعابتك، فتخرج إلى أحبابك لتحمل عنهم همومهم فتغرقها في ذلك البحر الخِضَمَّ من الفرح والابتسام والرضى!
ودخل ابن أبي عتيق فسلَّم سلام الذاهل المتوَله، ثم جلس كأنما هو يلقي عبئاً ثقيلاً كان يمشي به، ثم نَظر في عينيَّ بعينين ندَّيتين ترى في غورْهما ذلك التنُّور المتضرمَّ يتقاذف شُعَلَه في ثنايا النفس وفي مسارب العاطفة. وأدام النَّظر لا يرفعه عني كأنما يقول: انظرْ واعرفْ ولكن لا تتكلَّم! فأشهد أني افتقدتُ ما أقول أعزَّيه به أو أرفه عنه، بل كأنما أفرغ بعينيه في عينيَّ من أحزانه، حتى أراني أجد مسَّ النار في صدري وهي تستعر ولكني خفتُ على صاحبي ورفيقي إن أنا سكتُّ له، أن أكون قد خلَّيت بينه وبين همه، وإن أحدنا لو قَعَد يمارسُ أحزانه يوماً بعد يوم لصرعتْه. أجل وإن الحزن ليهجُم على النفس كالَسُبع(449/97)