كله هو أطوارها في الجهود بمجرد أن تباشرها، وإحساسها بالتضامن، وهدوءها الحازم في الأوقات الحرجة؛ وبمعنى آخر قواها الأدبية التي تؤيد الحقيقة المطلقة للحكم القائل: (إن الشعب البريطاني ما يزال أثمن حليف في العالم)
مصطفى كامل(425/42)
رسالة الشعر
من جراح الحرب!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(مهداة إلى الذين نضر الله أيامهم بالغنى واليسار، فتركوا أيام الشقاء والبائسين صرعى على أعتابهم بلا رحمة ولا إحسان. . .! وإلى الذين شردتهم ويلات الحرب في كل مكان. .)
عَبِيدَ الْخَزائِنِ. . . طُوفُوا بِهَا ... كما طافَ نَعْشُ الْهُدَى بالصَّنَمْ!
وَأَدُّوا الصَّلاَةَ بِأَعْتَابهاَ ... عَسَاها لَكُمْ كَعْبَةٌ أَوْ حَرَمْ
وَبُثُّوا الْكنُوُزَ حَدِيثَ الْهَوَى ... لَعَلَّ شَذا المَالِ يَرْوِي النَّهَمْ
وَقَفْتُمْ هَوَاكُمْ وَأَحْلاَمَكُمْ ... عَلَى أَخْرَسٍ سَرْمَدِيِّ الْبَكَمْ
لَهُ رَنَّةٌ في حَشاكُمْ لَها ... صَدَى عَازِفٍ عَبْقَرِيِّ الرَّنَمْ
غَزَا رِقُّهُ دَهْرَكُمْ مِثْلَماَ ... غَزَا النُّورَ لَيْلٌ دَجِيُّ الظُلَمْ
عَبَدْتُمْ جَمَاداً عَلَى وَجْهِهِ ... لِجُرْحِ النَّدَى آهَةٌ تَبْتَسِمْ
ظَلَمْتُمْ صِبَاهُ فَشَيَّبْتُمُوُ ... هُ كما شابَ في الدَّهْرِ مَعْنَى الْقِدَمْ
سَجَنْتُمْ خُطاَهُ بأَيَّامِكُمْ ... وَلُذْتُمْ بِهِ في زَوَايَا الْعَدَمْ
إِذَا امْتَدَّ ضَوْءٌ لِمِحْرَابِهِ ... ذَبَحْتُم خُطا الشَّمْسِ فَوْقَ الْقِمَم
وَإِنْ رَفَّ حُلْمٌ عَلَى مَهْدِهِ ... نُسِخْتُمْ فَنَاءً لِهَذَا الحُلُمْ
سَهِرْتُمْ عَلَيْهِ كَأُمِّ الوَحِيدِ ... سَرَى اللَّيْلُ فِيهَا هَوىً يَحْتَدِمْ
قُلُوبٌ سَواهِدُ مِثْلُ الْعُيُونِ ... شَرَايينُهَا سَاهِداتُ الضَّرَمْ
وَقَفْتُمْ بهَا وَقْفَةَ الدَّيْدَبَانِ ... وَطفْتُمْ بهَا طَوْفَةَ الْمُسْتُلِمْ
عَلَى رَصَدٍ كَفَّنَتْ سِرَّهُ ... بَدٌ سِرُّها في الجَمْاَدِ الأصَمّْ
يُسَمُّونَهُ المَالَ وَهْوَ الذَّي ... يُمِيلُ الْحُظوظَ وَيُمْلِي النِّعَمْ!
أَمَا جَاَءكُمْ نَبَأٌ عَنْ أَسَى ... جِراحَاتُ مِصْرِ بِهِ تَضْطَرِمْ؟
بَكَى الثَّغْرُ حَتَّى سَرَى دَمْعُهُ ... مَعَ الرِّيحِ رُؤْيَا لَهِيبٍ وَدَمّْ
يُعَاتِبُكُمْ مَوْجُهُ في الضِّفَافِ ... وَلِلْمَوجِ شِعْرٌ شَجِيُّ النَّغَمْ(425/43)
إِذَا أَذَّنَ الْفَجْرُ في أُفْقِهِ ... يُؤَذِّنُ عِزْرِيلُ فَوْقَ الأَكَمْ
فَتَهْوِي قُصُورٌ لها في السَّماَ ... جَبينٌ عَلَى النَّجْمِ عَالٍ أَشَمّْ
وَتَهْوِي قُبُورٌ عَلَى أَرْضِهَا ... تَكادُ مِنَ الْهَوْلِ تَبْكي الرِّممْ
أَلا مَنْ لِسَارِينُ تَحْتَ الدُّجى ... يُسَقَّوْنَ مِنْ كُلِّ بُؤْسَى وَهَمّْ
تُهَاجِرُ أَيَّامُهُمْ وَالطّوَى ... بأَحْشَائِهَا وَقْدَةٌ مِنْ ضَرَمْ
لَهُمْ سِيرَةٌ رَاحَ يَرْوِي الأسَى ... أَسَاها بِدَمْعٍ كَسَيْبِ الدِّيَمْ
دِيَارُهُمْ أَقْسَمَتْ لاَ تُرَى ... فَبَرَّ الْخَرابُ لها بالْقَسَمْ
فَلمَّا تَهاوَتْ عَلَى أُسِّهَا ... وَدَكْ الثّرَى صَرْحُها المُنْهَدِمْ
مَشَى المَوْتُ أَعْمَى ضَريرَ الْعَصَا ... يُنَقّلُ في كُلِّ عُمْرٍ قَدَمْ
تَنُوحُ بِكَفَّيْهِ زَمَّارَةٌ ... إِذا نَامَ زَمَّارُها لمْ تَنَمْ
نماَ غَبُهَا في خَرابِ الْبِلَى ... وَطَافَ بِهِ الشُّؤْمُ يَسْقيِ الأَجَمْ
سقَا فَرْعَهُ مِنْ صُرُوفِ الزْمانِ ... رَزَاياَ مُشَعْشَعَةً بالنِّقَمْ
بأَدْغَالِهِ لاذَ جِنُّ الْفَلا ... وَبومُ الدُّجى بِذَرَاهُ اعْتَصَمْ
نماَ غابُها. . . لَيْتَهُ ما نماَ ... وَلاَ مِنْ حَشاهُ عَوَى أَيُّ فَمْ
إذا وَلْوَلَتْ في ظَلامِ الضِّفَافِ ... أَصَابَ الْبِلى مِنْ صَداها صَمَمْ
فَلا صَرْخَةُ الطِّفْلِ تَلوِي خُطاهُ ... وَلَوْ ذابَ فِيهَا حَشا كُلِّ أُمّْ!
مُفاجِئَةٌ لا تَعِي مَا الوُعُودُ ... وَلا مَا الْعُهُودُ وَلا مَا الْحُرَمْ؟
إِذا صَفَرَتْ ذَابَ قَلْبُ الضِّيَاءِ ... وَدَسَّ الدُّجى وَجْهَهُ الْمُدْلَهِمْ
تَخَيَّرَتِ اللَّيْلَ مَسْرَى نِدَاها ... كَمَارِدَةٍ تَشْتَكي لِلسُّدُمْ
عُوَاءُ الذِّئَابِ لَدَى نَوْحِهَا ... أَلَذُّ اسْتماعاً وَأَشْجَى نَغَمْ
تُنَادِي فَيَنْشَقُّ جُرْحُ الأَثِيرِ ... عَلَى قَاذِفَاتِ اللَّظَى وَالْحُمَمْ
طَوَائِرُ لمْ يدْرِ سَاقيِ الْحَدِيدِ ... أهَوْلاً سَقَى قَلْبَهَا أَمْ ضَرَمْ؟
وَهَلْ سَاقَها لِلْوَغَى سَائِقٌ ... مِنَ الْجِنِّ أَمْ عَاصِفٌ مِنْ عَدَمْ
يُغِيرُ بها وَالْكَرَى نَائمٌ ... وَلَيْلُ الْحِمى رَاهَبِيُّ الْحُلُمْ
وَلِلنِّيلِ إِغْفَاَءةٌ أَقْبَلَتْ ... عَذارَى الْخَيَالِ بها تَسْتَحِمّْ(425/44)
سَجَا وَاطْمَأَنَّ كَأَنِّي بِهِ ... نَبِيٌّ يُبَارِكُ خَطْوَ النَّسَمْ
وفي وَجْهِهِ قِصَّةٌ لم يَزَلْ ... مَعَ اللهِ قِرْطَاسُهَا وَالقْلَمْ!
أَغَارَتْ عَلَيْهِ رِيَاحُ المَنُونِ ... فَضَجَّ لَها مَوْجُهُ المُرتَطِمْ
وَحَالَتْ مِنَ الرُّوْعِ شُطْآنُهُ ... نِدَاءً يَصِيحُ بِمَوْتَى الْهِمَمْ:
مَشَى نَافِخُ الصُّورِ في أَرْضِكُمْ ... فَكُونُوا الْبَشِيرَ لِبَعْثِ الأُممْ
دَعُوا الهوْلَ يأتِي كما يَشْتَهِي ... فَإِنْا أَلِفْنَاهُ مُنْذُ الْقِدَمْ
يُديِرُ عَلَيْنَا خُطَا السَّافِيَاتِ ... عَلَى جَبَلٍ سَرْمدَِيِّ الشَّمَمْ!
عَلَى خَمْرَةِ الصَّبْرِ مِلْنَا بِهِ ... نَشَاوَى بِسِحْرِ الأسَى وَالأَلمْ
فَمَنْ رَامَ كَيْدَ الْحِمَى وَيْلَهُ ... سَيُشْقِيهِ جَبَّارُهُ المنتَقِمْ!
وَيَسْقِيهِ من سُخْرِيَاتِ الْفَنَاءِ ... عَتِيٌّ عَلَى الدَّهْرِ يُدْعَى الْهَرَمْ
أَبُو الْهَوْلِ فِينَا يَسُوقُ الزَّمانَ ... وَيَرْعَى اللَّيَالِيَ رَعْيَ الْغَنَمْ
فَمَا الْهَوْلُ؟ ما خَطْبُهُ إِنْ دَجَا ... سِوَى هَاجِسٍ بِخُطاَنَا أَلَمّْ
دَعُونَا نُحَيِّ الوَغَى وَاللَّظَى ... وَإِنْ كَرْبُها في ثَرَانَا احْتَدَمْ
فما يَصْرَعُ الْمِحَنَ المُبْكِيَاتِ ... إِلاّ الذي ذاقَها وابتَسَمْ!
دَعُونَا نُحَيِّ لَهِيبَ الْخُطُوبِ ... وَإِنْ جَمْرُها في حَشانَا اضْطَرَمْ
سَئِمْنَا حَيَاةَ الزَّمَانِ المَرِيضِ ... وَعَيْشَ الزَّمَانِ السَّقِيمِ اَلْهرِمْ
دَعُونَا نُقِمْ مَجْدَنَا في النُّجُومِ ... فَمِنْ ضَوْئِها قد نَسَجْنَا الْعَلَمْ
سَتَعْصِفُ أَيَّامُنَا بالوُجودِ ... وَتَهْزَأُ أَروَاحُنَا بالْعَدَمْ
وَنَبْنِي جَدِيداً لِتَارِيخِنا ... كَفَانا فَخَاراً بِسِحْرِ الْكَلِمْ
تَمرَّدَتِ الأرْضُ تبْغِي الوُثوبَ ... فَمَا بَالُنَا بالْكَرَى نَعتَصِمْ
أَلا فَلْنَقُمْ من عَمِيقِ الرُّقادِ ... فلاَ بَعْثَ لِلجِيل إِنْ لمْ نَقُمْ!
محمود حسن إسماعيل(425/45)
العاطفة الحيرى
للأستاذ خليل شيبوب
في الصدر عاطفةٌ ولهى محيرةٌ ... قد طالَ ما أتّقي منها وما أجِدُ
وددتُ لو ظهرتْ حتى يخفَّ بها ... قلبي وحتى يُراحَ الروحُ والجسدُ
كأنها في فؤادي حينما خفيتْ ... أُنشودةٌ لم يُذِعْ ألحانَها أحد
حامت على الوتر المشدودِ صامتة ... فهل إلى نزعها منه تُمَدُّ يد
كأنها النجمُ يسري في الغيوبِ وما ... يَدْرِي إلى أيِّ دنيا نورُه يَفِد
أو خمرةٌ ليس يُدْرَى بَعْدُ شاربُها ... تظلُّ في ختمها تَغلي وتتَّقِد
أو درةٌ أخطأ الغوَّاص موقعها ... تظلُّ في الصدفِ المختوم تنعقد
أو حبةٌ علقت في الأرض ناضجة ... فالأرضُ حُبلى بما فيها وما تلد
يا نزغةً في فؤادي لست أفهمها ... شَرٌّ من الجدِّ لهوٌ قاتلٌ وَدَدُ
أتى الزمانُ الذي ما زلتُ أرقبه ... وفيه كلُّ أمانيِّ الهوى بِدَد
وعُطِّلَتْ بدواتٌ كان يبعثُهَا ... وجهٌ به قسماتُ الحسن تَتَّحِد
ما عاد لي اليومَ من قصدٍ أُحَقِّقُهُ ... وأيُّ قصدٍ أُدَاريهِ وأفتقد
تقطّعَ الوترُ المشدودُ حين خبا ... نجمٌ سرى وأُريقَتْ خمرةٌ تقد
وأطفأ الصدفُ المختومُ دُرَّتَهُ ... وحبَّةُ الأرضِ ماتت وهي ترتفد
قد بان أمسي وما يومي بمعتلق ... به وليس ليومي في الزمانِ غَدُ
طغَتْ هواجسُ في صدري تُغَمْغِمُ لي ... صِلاتِ عُمْريَ تُشقِيه وتضطَهد
كأن تحتي فضاءً لستُ أُبصره ... لكِن أُحِسُّ به يدنو ويبتعد
حسب الشقاءِ بأني قد رضيتُ به ... وأن لي ما وَهَى عزمٌ ولا جلدُ
خليل شيبوب(425/46)
البريد الأدبي
من الأستاذ توحيد السلحدار
صديقي العزيز
شاء فضلك أن تنوّه بي في سياق وصفك الفني لمنتداك تحت الكافورة - التي خلّدت ذكرها بأدبك البارع، وإني متيمن، يا صاحب الرسالة، بحسن ظنك شاعر بأثر حبك وعطفك في رأيك.
وكم بودي لو يساعدني ما تعرف من حالي الصحية على القيام بما دعوتني إليه، ولو يكون لي حظ من الكفاية يسمح بالإقدام في ميدان أتهيب الدخول فيه بعد ثنائك الكريم. على أني قد أخاطر كلما خطر لي موضوع وأسعدتني الصحة.
هذا، ولك مني جزيل الشكر، وصادق الإخاء، وأحسن التحية.
(المنصورة)
محمد توحيد السلحدار
تعقيب لغوي
جاء في (شجون) للعلامة الدكتور زكي مبارك بالعدد 421 من الرسالة ما يأتي:
(أكبر هموم علمائنا اللغويين أن يعترضوا على نيابة حرف عن حرف، وأن يقول قائلهم: إن العرب تعرف كيت ولا تعرف زيت (كذا)، وأن يثوروا على أي تعبير لا يجدون له شواهد في أقوال القدماء. . . الخ)
ولست الآن من محاجّة الدكتور في أفكاره هذه بصدد، وإنما هما ملحوظتان لفظيتان أريد التنبيه عليهما في عباراته:
1 - أن (ذَيْت) بالذال لا بالزاي. وقد انتظرت طويلاً لعل الدكتور يعود فيصححها، فلم يفعل. وقد يكون هذا من سبق القلم، كما قد يكون من زلات المطبعة.
2 - أن (كَيْتَ) و (ذَيْتَ) لابد أن تُكرْرا. تقول: كان الأمر كيت وكيت، أو: كان من الأمر ذيت وذيت. وفي الحديث: (بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت).
فكان واجباً أن يقول الدكتور:. . . إن العرب تعرف كيت وكيت، ولا تعرف ذيت وذيت. .(425/47)
والله الموفق.
(أ. ع)
1 - صحة مَثل
في ثلاث مواطن من باب (البريد الأدبي) في هذه المجلة، (أنظر الرسالة، الأعداد: 417، 419، 420) كلمات ثلاث في المثل القائل: (النحو في الكلام كالملح في الطعام). ذهب كاتب الأولى إلى تضعيف هذا المثل كون وجه الصحة في إيراده: (الهزل في الكلام كالملح في الطعام) استناداً منه إلى ما جاء في كتاب مجالس السلطان الغوري. فجاء الكاتبان الثاني فالثالث يؤيدان صحة المثل بنصه الأول
وهأنذا الآن بين يدي نص صريح وقفتُ عليه، يثبت صحة المثل ويبين مغزى إطلاقه
جاء في القسم الثاني من الجزء الخامس من كتاب (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، المتوفي سنة 597هـ (ص 160 من الطبعة التي ظهرت أخيراً في حيدر آباد):
(حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: دخلتُ على أبي العيناء في آخر عمره، وقد كفّ بصره، فسمع صرير قلمي على الدفتر قال: مَن هذا؟ قلت: عبدك وابن عبدك محمد بن يحيى الصولي! قال: قال بل ولدي وأبن أخي! ما تكتب؟ فقلت: جعلني الله فداءك شيئاً من النحو والتصريف! فقال: النحو في الكلام كالملح في الطعام، فإذا أكثرت منه صارت القدر زعافاً يا بني! إذا أردت أن تكون صدراً في المجالس، فعليك بالفقه ومعاني القرآن. وإذا أردت أن تكون منادماً للخلفاء وذوي المروءة والأباء، فعليك بنُتَف الأشعار ومُلَح الأخبار) أهـ
فأنت راءٍ مما نقلنا أن هذا المثل لا يحتمل تأويلاً ولا يستوجب تبديلاً، بعد أن كفانا أبو العيناء (المتوفى سنة 282هـ) نصب البحث عن موقع استعماله
2 - نظرة في مقال
أُطالع باغتباط ما يكتبه الأستاذ محمد عبد الغني حسن بعنوان (مدن الحضارات في القديم(425/48)
والحديث)، فهو بحث جليل؛ وقد استوقفتني فيه نقاط (العدد 417 من الرسالة) أضنها تحتاج إلى مراجعة، وهي:
1 - قال في الصفحة 844 في كلامه على بغداد: (والبحتري الشاعر الرقيق يصف لنا بركة المتوكل في شعر تصويري جميل. . . ويقول في ذلك:
تنساب فيها الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها)
والذي يُفهم من هذا الكلام ومما يتلوه، أن بركة المتوكل كانت في بغداد، في حين أن من المعروف عرفان اليقين أنها في سامراء. والذي يقرأ سيرة المتوكل يجد أنه قضى أغلب أيام خلافته في سامراء، وبها أقام قصوره التي فاقت سائر قصور الخلفاء، ولا داعي إلى تفصيل ذلك
2 - وورد بعد ذلك بخمسة عشر سطراً قوله: (وكان نهر دجلة في ذلك الحين يكاد يغص بالحرامات الكثيرة والزوارق الجميلة. . الخ). والواضح أنها (. . . . يغص بالَحرَّاقات. . .) وهي ضرب من السفن النهرية، ولعل هذا من أغلاط الطبع
3 - وفي آخر الصفحة نفسها، عَدَّ (جميل نخلة المدور) عراقياً مع أنه لبناني
(بغداد)
كوركيس عواد
الطنطاوي يتحرك. . . فهل يتحركون؟
قضت الظروف القواهر التي حلت بدمشق إلا أن تحطم الأقلام القليلة التي كانت تهتز بين حين وحين لمسح عبرة من مقلة، أو لتأسو جرحاً في قلب، أو لتبعث نشوة في نفس. وأخذت جلَّق تطوي الليالي السود وفي نفوس المثقفين من أبنائنا غصة، وتقضي الأيام العوابس والألم يصهر الغُيُر من شبانها على الأدب الذي أصبح ميتاً فيها خلال هذه الأحداث أو شبه ميت. ولسنا ممن يزعمون أن الأدب في دمشق كان قبل الحرب خيراً منه في خلالها، ولكن العاملين والعاملات كانوا يجدون حين يمتطى القلم أناملهم الخمس اللطاف! ميداناً ينتشرون به ما ينتجون. ولكن هذا الميدان بدأ نطاقه يضيق منذ اتقدت الشرارة الأولى لهذه الحرب الضروس - التي توشك أن تقضي على البشرية إن لم يطفئها(425/49)
عقلاء قوم - ولم يكن هذا الضيق خاصاً بالأدب والأدباء وحدهما، وإنما كان عليهما أشد منه على غيرهما من مرافق الحياة. وما زال الضيق يشتد، والنطاق يتأزم، وحتى أمسينا منذ شهور وليس في الميدان من يخط حرفاً (لرثاء) الأدب بعد أن تلاشى وخمدت أنفاسه
وهكذا حطم الأباء والمتأدبون يراعهم، وحرمنا الأنس بصرير أقلامهم، وظريف أقوالهم. . . حُرمنا ذلك كله لتحل محله الوحشية بدوي القنابل، والذعر من عويل الطائرات ولم يعد ثمة مجال لغذاء العقل، وقوت الفكر، ونشوة الروح وها قد أخذنا نتنفس الصعداء بعد هذه الضُّغطة القاتلة وشرعنا نستعيد شيئا من هدوء النفس، وطمأنينة الفؤاد بعد الانقلاب الأخير. فهل نترك عقولنا إلى الأبد دون غذاء، وأفكارنا دون قوى، وأرواحنا دون خمر؟
تقول العامة إن الحركة بركة! وهذا الأستاذ الطنطاوي يتحرك ويسارع بنشاط إلى قلمه بعد أن سكت فأطال وأطال وهذه الأنباء تترى علينا من كل ناحية وصوب، والشائعات تملأ الجو الأدبي وكلها تبشر بخير كثير ونفع عميم. ولعل أعظم هذه الأنباء شأناً وأدعاها للغبطة والسرور هو نبأ إعادة مجلة المجتمع العلمي في وقت قريب إلى حيز الوجود وتأمين صدورهابأوقاتها المعينة؛ والذين يعرفون مبلغ أهمية هذه المجلة في دنيا الأدب سيغتبطون لهذا النبأ دون ريب. وهناك من يقول بان الدكتور العجلاني يسعى للحصول على ترخيص لإصدار مجلة أدبية راقية، وإن لم يكن قد حصل بالفعل. وهناك طائفة من الشبان العاملين في حقل الأدب تعد العدة لإصدار صحيفة في الموضوع نفسه. ونعتقد أن هذه الصحيفة ستكون أكثر توفيقاً من غيرها لأنها ستقوم على سواعد أناس لا يبغون من وراء عملهم سوى خدمة الأدب والثقافة. وهناك. . . وهناك. . . فهل يتحقق كل هذا فيك يا دمشق؟ وهل تصدق كل هذه الأماني والأحلام العذاب؟ وهل ترى أدبائنا كلهم يتسابقون إلى الميدان بإخلاص وعزم وثبات؟ هل ترى الأدب في دمشق مزدهراً يانعة ثماره؟ وهل ترى شيوخ الأدب وشبانه يعملون معاً متوادين متآلفين، مخلصين متفقين، ليس في الشيوخ واحد يستخف بشاب، ولا بين الشبان متحذلق واحد يشتم الشيوخ ويسكب الثناء على نفسه من وراء حجاب؟ هل ترى كل ذلك. . .؟ هل تراه؟
(دمشق)
عبد الغني العطري(425/50)
الواو التي حيرت النحويين
لابد لهذا الجمود في العلم عندنا من آخر، ولا شئ يقرب نهاية هذا الجمود غير الطعنة الجريئة توجه للمتعارف بين أهله، والمجمع بينهم على صحته، لتثور بذلك ثائرتهم، وتتفتح به أذهانهم المقفلة
وطعنتي اليوم لتلك الواو التي حيرت النحويين في نحو إياك والشر وغيره من صيغ التحذير، فقد حمَّلوها ما لا تحمله من معنى العطف، وتكلفوا في حملها عليه وجوهاً تأباها جزالة اللغة، فقال بعضهم: إن الأصل في ذلك - اتق نفسك أن تدنو من الشرِّ والشرِّ أن يدنو منك - فحذف أن والفعل وجارُّه المقدَّر والجارُّ المتعلِّق به من كل من المعطوف والمعطوف عليه، فصار - اتق نفسك والشر - ثم حذف الفعل والمضاف وأنيب عنه الضمير فانفصل. وهناك تكلفات أخرى في ذلك أسهلها أن الأصل فيه - احذر تلاقي نَفسِكَ والشرِّ - فحذف الفعل ثم المضاف الأول وأنيب عنه الثاني، فصار - نفسكَ والشرَّ - ثم حذف لفظ نفس وأنيب عنه الضمير فانتصب وانفصل وصار - إياك والشرَّ
والحقيقة أن هذه الواو ليست من العطف في شئ، وأن التعليم التلقيني التقليدي هو الذي يجعلنا نصر إلى الآن على أنها للعطف، وأكبر دليل على أنها ليست للعطف أن صيغة التحذير قد تخلو منها فيكون معناها مع خلوها منها كمعناها مع وجودها فيها، كما قال الشاعر:
فإياك إياك المِراَء فإنه ... إلى الشر دعَّاءٌ وللشر جالب
وليس هذا شأن حرف العطف، وإنما هو شأن الحرف الزائد، فهذه الواو عندي زائدة لا عاطفة
ويلي هذا عندي أن تكون أصلية عاطفة لا على معنى التشريك في الحكم، ولكن على معنى من الجارَّة، فيكون معنى - إياك والشر - إياك من الشر، ولا غرابة في أن تأتي الواو العاطفة بمعنى من الجارة، فقد وردت عاطفة بمعنى باء الجر في نحو قولهم - أنت أعلم ومالك - أي بمالك، وهذا هو رأيي في تلك الواو أعرضه على قراء الرسالة الغراء، ليوازنوا بين الرأيين، وكم ترك الأول للآخر.(425/51)
عبد المتعال الصعيدي
النفط
يحتل السائل المستعمل في الاستصباح اليوم مكانة ملحوظة من جميع الشعوب، والقوم في مصر يشكون الآن قلته، ويتنافسون في سبيل الحصول عليه، وذلك لندرته واستنفاد الحرب القائمة لأكثرية الكمية الموجودة منه في العالم. ومن العجيب أن هذا الزيت قد أطلق عليه في مصر العربية جملة أسماء ليس من بينها أسم كانت تستعمله العرب؛ فالحكومة المصرية تسميه في بطاقاتها (الكيروسين) ولا أدري من أين جاءت هذه اللفظة، وكتاب السياسة يسمونه (البترول) ولم أر لها أصلاً في اللغة، والعامة تسميه (الجاز) أو (الغاز) وكل منهما لفظة مجهولة منكورة.
فلماذا لا نسمي هذا السائل باسمه العربي القديم، والذي يطلق عليه اليوم في العراق وفي الهيئات العربية الصميمية، ألا وهو النِّفط؟
جاء في المختار: (والنَّفط والنِّفط دهن، والكسر فيه أفصح)؛ وجاء في القاموس إنه: (ضرب من السرج يستصبح به)؛ وقال المصباح: (والنفاطة أيضاً منبت النفط ومعدنه). فلنقل (النفاطات) بدل (منابع البترول). ويقول بشار بن برد في حبيبته عبدة:
لعبدة دار، ما تكلمنا الدار ... تلوح مغانيها كما لاح أستارُ
أسائل أحجاراً ونؤياً مهدماً ... وكيف يجيب القول نؤي وأحجار؟
وما كلمتني دارها إذ سألتها ... وفي كبدي (كالنفط) شبت له النار!
(البجلات)
أحمد الشرباصي
والد الملوك الأيوبيين أيضاً
أراد الأخ الأستاذ محمد عبد الغني حسن أن يناقش (في العدد 422 من الرسالة) فكرة جديدة بعيدة عما قصدت إليه بردى المنشور في الثقافة عدد 135؛ تلك الفكرة تتلخص - كما فهمت - فيما يلي: هل كان أمراء بني أيوب يلقبون بلفظ الملك أم لا؟ وأنا لا أعارضه في(425/52)
هذا الرأي بل أزيده أن هذا التقليد بدأ في مصر فكان يحمل لقب الملك وزراء بني فاطمة الأقوياء عندما جمعوا السلطان في أيديهم، وساعدهم على ذلك ضعف الخلفاء (وأول من لقب بالملك منهم مضافاً إلى بقية الألقاب رضوان بن ولخشي عندما وزر للحافظ لدين الله. . . سنة ثلاثين وخمسمائة) (المقريزي الخطط، طبعة النيل 2 ص 305). وصار وزراء الفاطميين بعد هذه السنة يحملون ذلك اللقب، ومنهم أسد الدين شيركوه الذي لقبه الخليفة العاضد في خطاب توليته الوزارة بالملك المنصور؛ ومنهم أيضاً صلاح الدين الأيوبي الذي لقبه العاضد كذلك بالملك الناصر، فكان هذا اللقب يمناً عليه، ولزمه حتى وفاته
ولما ملك صلاح الدين وأصبح لآل أيوب الأمر والذكر لقب الكثيرون منهم بألفاظ الملك، وإن لم يحكموا مصر، بل لدي ما يجعلني أستزيد الأستاذ دعاء لي أن يسامحني الله. فقد قال صاحب شفاء القلوب في مناقب بني أيوب حزاب عند ترجمة نجم الدين أيوب: (أيوب بن شادي نجم الدين الملك الأفضل وقيل الأوحد أبو الملوك الأيوبية. . . الخ). فنجم الدين الذي عنيته في مقالي بالثقافة عن تاج الملوك بوري لقب بالملك الأفضل أو الأوحد، والذي حمله هذا اللقب هو الخليفة العاضد أيضاً (راجع المصدر السابق نفس الصفحة) إذ يقول عند كلامه عن لحاق نجم الدين بابنه صلاح الدين وحضوره إلى مصر: (وخرج إلى مصر بجماعته كلهم، ولما قدم خرج العاضد للقائه ولقبه وزينت البلد الخ) ولم أعثر فيما قرأت عن الأيوبيين على مؤرخ واحد لقبه بالملك الصالح إنما الذي تفرد بحمل هذا اللقب هو نجم الدين بن الملك الكامل محمد، لهذا كان لي عذري أن حسبت أن الأسماء تشابهت على الأستاذ عبد الغني، ورأيت أنه لزام على أن أكتب ما كتبت
لم يبق إذن إلا أن الأستاذ يريد أن يضفي - من عنده - هذا اللقب على أبي الملوك الأيوبيين لأنه محباً للصالحين كما يقول أبو المحاسن ج6 ص 67، وهذا فرض بعيد أولاً، ولا يسمح به التاريخ للأستاذ ثانياً، لأن هؤلاء الملوك وأسماؤهم وألقابهم وأعمالهم أصبحت في ذمة التاريخ، ولا يسمح التحقيق العلمي لأحدنا البتة أن يغّير في صغيرة أو كبيرة منها، فهل لا يزال الأستاذ بعد هذا التحقيق مصراً على تلقيب نجم الدين الكبير بالملك الصالح؟ لا - بل أنا أظنه - وقد ثبت لدى أنه يعلم أن الكبير غير الصغير، يوافقني على تلقيب الأول بالملك الأفضل أو الأوحد، ويترك لقب الملك الصالح لمن يتميز به وهو حفيد(425/53)
العادل؛ ولعلي - بهذه الكلمة - أكون قد أرضيت الحق والتاريخ أولاً، والأستاذ عبد الغني حسن ثانياً
جمال الدين الشيال
المهرجان الأدبي الثالث
يحتفل السودانيين كعادتهم في كل عام بالمهرجان الأدبي الذي سيقام هذه السنة بنادي الخريجين بأم درمان في أيام عيد الفطر المبارك حيث يعرض ما تنتجه العقلية السودانية في ميادين الآداب والعلوم والفنون
والسودانيون الذين تربطهم بمصر روابط لا تنفصم عراها، والذين يستمدون ثقافتهم منها، كم يسرهم أن يلبي رجال الفكر وقادة الرأي وحملة الأقلام دعوتهم ليسعدوا برؤية من يستطيع زيارة السودان في ذلك الحين، وليتذوقوا ما تخطه تلك الأقلام القوية في مختلف الأبحاث
وليت أبناء الكنانه عاملون على تحقيق تلك الرغبة التي سيكون لها أثرها الخالد في تدعيم الصلات بين القطرين الشقيقين
الأمين التوم
سكرتير المهرجان(425/54)
العدد 426 - بتاريخ: 01 - 09 - 1941(/)
تحت ظلال الكافورة
من أحاديث القهوة
- 2 -
أصبحنا فإذا النيل الجليل يقبل نفّاحاً بالخير فيّاحاً بالنعيم، تتريّع شطئانه الخضر بالعسجد الذائب، وتتدفق مجاريه الفيح بالكوثر العذب، وتتنفس أمواجه الصهب بالتحيات والبركات على بنيه الخلّص الذين خلقوا من طينه الحر ومائه الطهور، وعاشوا على نائله الجم وخصبه الموفور؛ وكأنما تنفرج كل موجة على سؤال من هذه الأسئلة التي اعتاد أن يلقيها كل عام على أهله:
ماذا صنعتم يا بنيّ بالذهب الذي نثرته على أرضكم في العام الذاهب؟ هل قسمتموه بينكم على شريعة الله، وأنفقتموه فيكم على منفعة الوطن؟ أم هل بقيتم على طباع الوحوش الأوابد، تتفارسون بالغيلة أو بالحيلة حتى لا تدع المخالب والمجاريف، شيئاً للفقير أو الضعيف؟ ألا تزال الأمة مقسومة إلى باشوات و (دلاديل)، والسياسة قائمة على بهلوانات وتماثيل؟
ألا يزال أربعة الأخماس من أبنائي، يعيشون مجهودين على فضلات الخمس من أغنيائي، وخيري الفياض لم يدع في مصر كلباً جوعان ولا ضفدعاً عطشى؟
أي شيء صار مائي السماوي الفرات في دمائكم يا ساكني الوادي؟ أموتاً وقد أحييت الصحاري؟ أم ذلاً وقد أعززت الفراعين؟ أم جهلاً وقد خلقت الحضارة؟ إلى متى يا بني تقابلون برّي بالعقوق ووفائي بالغدر، وتقبلون من أوليائكم أن يدعوا مائي وثرائي يذهبان في عباب البحر كما تذهب النفحة الرخية في ثورة العاصفة وثراي مكروب وشعبي جائع؟
ولكن أسئلته الأبوية السنوية تذهب في الهواء كما يذهب فيضه في البحر، فلا أذن تعي، ولا لسان يجيب!!
أخذنا مجلسنا المعتاد من القهوة، وكان النادون المعتادون قد راعهم ما رأوا من جمال النيل وجلال الفيضان فسكنت ثرثرتهم بعض السكون، واتجهوا بمشاعرهم إلى النيل الطامي يقابلونه بالهشاشة ويبادلونه التحية. وملكتنا نحن أيضاً روعة المنظر، فذهلنا ذهول الشاعر المستغرق؛ وتراءت على مرهفي الحس منا سمات من جلوة الخاطر وطلاقة النفس؛ وكاد(426/1)
الذهول ينقلب نشوة والحديث يتحول شعراً، لولا الذباب الذي يقع في الكأس فيكدر الصفو، أو المتسول الذي يسقط في الحديث فيقطع الأنس! والمتسولون في المنصورة كالذباب في رأس البر، لا يدعون للجالس مشغلة إلا بالاستعاذة والطرد. وكان الذي صرفنا عن المنظر الساحر والحديث العذب نوع من هؤلاء المتسولين طريف: رجل كفيف البصر، وثيق التركيب، مربوع القامة؛ على جسمه جلباب محكم التفصيل، وعلى رأسه عمامة حسنة التكوير، وفي يده هراوة صلبة العود؛ كان يقود نفسه على طوار الشارع وهو يقول بصوت جهير رزين ولهجة متزنة آمرة: (طالب من الله: أفطر، وأشرب القهوة، ونصف ريال، وواحد يلمه لي)!
لم يكد هذا الرجل يبدئ ويعيد، ويذهب ويجيء، حتى نهض إليه الجالسون بالقرش بعد القرش حتى أعلنهم أنه استوفي حقه. ثم أنصرف عنهم إلى غيرهم دون أن يجود عليهم بما تعود المتسولون أن يسرفوا فيه من مبتذل الدعاء والشكر!
قلت لصاحبي وقد بدا عليه ما بدا عليّ من العجب العاجب: هذا المتسول واحد من هؤلاء الأوزاع المتبطلين الذين يلحون على الناس بالضراعة والوضاعة، ويلح الناس عليهم بالنهر والقهر، فما السر الذي حمل القوم على أن يفردوه بهذه المعاملة؟
السر في رأيي هو القوة التي برزت في هيئته ولهجته.
والإنسان منذ كان يعجب بالقوة ويخضع للقوى بدافع من فطرته، لأن القوة دليل الحياة لصحيحة ووسيلة العيش العزيز، وهي معبودة منذ كانت في تهاويل الفلك وأفاعيل الطبيعة وتعاجيب الناس. ولولا سلطانها الفطري على القلوب لما عبد صنم ولا قدّس طاغية
ربما يتفق لك أن تجادل بعض الناس بالحسنى وتحاجّه بالمنطق، فيركب هواه ويصر على غيه؛ فإذ فاجأته بالصيحة الغضبة استكان وسلّم. وإنك لتجد كثيراً من خلق الله يصفقون لهجمات هتلر، ويصفرون لخطب رزفلت! وأولئك هم العامة وأشباههم ممن غلبت على نفوسهم عبودية القوة فآمنوا بالحيوان وكفروا بالإنسان، وانقادوا للعاطفة وغفلوا عن المنفعة!!
الديمقراطية كما تعلم وليدة المدنية العليا. وما كان المدني سليم النفس والفكر والإرادة أن يعود إلى عيش القطيع فيلقي مقادته إلى رجل مثله يجوز عليه ما يجوز على البهيم من(426/2)
غلبة الشهوة وطغيان الأثرة. ولكن النفس البشرية على ما بلغته من المدنية والثقافة لا تزال في سرائرها بقايا من نوازع القوة تفسد بها وتصلح. فهي في السلم الطويلة والرخاء الوارف تنماع فلا يمسكها غير الشدة، وفي لحكم الصارم والسلطان الغشوم تذل فلا يعزها غير الهوادة. لذلك كانت الديمقراطية يا صديقي كاللحم: كلما اعتل الجسم واختل نظامه، كان أول ما يشير به الطبيب على المريض ترك اللحم. كذلك كلما انحل الشعب واسترخت قواه واضطرب أمره، كان أول ما يأمر به الزعيم نسخ الديمقراطية. ذلك ما كان في روسيا وإيطاليا وألمانيا وأسبانيا، ثم كان أخيراً في فرنسا وطن الجمهورية ومعبد الحرية ومعقل الدستور! كأنما خلق الإنسان آكل عشب فاللحم دخيل على طعامه، وكأنما فطر على الجبر والإكراه فالحرية غريبة على نظامه!
وافقني صديقي على جملة الرأي؛ ثم أخذ بطرف من الحديث وجذبه بعنف إلى حالنا التي لا تشبه حالاً من أحوال الأمم! وصديقي حديد اللسان جرئ الرأي فلا أستطيع أن أنقل إليك ما قال في خضوع القطيع لرجل أسمه الباشا، وفناء الجميع في فرد أسمه الزعيم
(المنصورة)
أحمد حسن زيات(426/3)
2 - قصائد الشعراء
في تأبين سعد
للدكتور زكي مبارك
قصيدة العقاد:
لم يرسل العقاد قصيدته على النحو المألوف في قصائد الرثاء، وإنما قسمها إلى موضوعات ليصف أكثر الجوانب من شخصية سعد في الحياة والممات، فرأينا في القصيدة أربعة عشر موضوعاً تصورها العناوين الآتية:
(الأربعون - موقف التشييع - من منبر القبر - سعد والضعفاء - مراحل الخلود - سعد يملي على التاريخ - صورة على صفحة الزمن - يوم النفي - إلى مؤتمر السلام - مواكب العودة - سيشل وجبل طارق - الاعتداء الأثيم - المؤتمر الوطني - وداع)
وبهذا التقسيم استطاع الأستاذ عباس العقاد أن ينوع الصور في قصيدته، وأن يجعلها حافلة بطوائف مؤتلفة من الألوان وتظهر جودة هذه القصيدة لمن ينظر الصورة الأولى، إذ يقول الشاعر في انقضاء أربعين يوماً بعد وفاة سعد:
أمَضتْ بعد الرئيس الأربعون؟ ... عجباً! كيف إذن تمضي السنون؟
فترةُ (التيه) تغشّتْ أمة ... غاب (موساها) على (طور سنين)
كلَّ يوم ينقضي نفقدُه ... وهو ملء الصدر من كل حزين
تكبُر البلوى به حين مضتْ ... والبلايا حينما تمضي تهون
كيف ينسى الناس من لم يَنسهم ... يوم تُنسى النفس والذُّخر الثمين
لم يزالوا كلما قيل لهم ... ذهب الموت به يلتفتون
ينظرون القبر لم يبعد بهم ... عهدُ رب القبر في البيت الأمين
لا ولا طالت على أسماعهم ... هدأةٌ من دعوات الهاتفين
يتدانى طيفُه في سِنة ... يُفجع الحالم فيها كلّ حين
إيهِ يا سعد وما أنت سوى ... بَشر يدركه ريب المنون
جئت للناس بِبشْرى خالق ... فإذا متّ فلمْ لا يُفتَنُون(426/4)
تلبس الخُلد وتنضوه فما ... أجدرَ القومَ بعسف الحائرين
لِمَ يا دنيا - وقد أنشأتِهِ ... بدعة - في خُلده لا تبدعين
عاش ممنوع قرين في العُلا ... ليته في الخُلد ممنوع القرين
ذلك هو الموضوع الأول من موضوعات هذه القصيدة، والقارئ يشهد قوة الفطرة والطبع في مثل هذا البيت:
تكبُر البلوى به حين مضت ... والبلايا حينما تمضي تهون
أما قوله:
أمضت بعد الرئيس الأربعون؟ ... عجباً! كيف إذن تمضي السنون
فهو من القوة بمكان، ومعناه أن الأربعين يوماً طالت حتى عصفت بالصبر الجميل، فكيف إذن تمضي السنون، وهي طوال طوال؟!
أطايب القصيدة
وفي هذه القصيدة كثير من الأطايب، كأن يقول الشاعر في عصامية سعد:
يا كبير النفس في ميعته ... وفتىَّ البأس والعمرُ وهون
وعصامياً بَني الطَّود وكم ... هُدمت أطواد أقوام بُنين
زاهداً في كل فانٍ وله ... طمعٌ في المجد أعيا الطامعين
خلف السؤدد آفاقاً وما ... جاوزِت دنيا ثراه أربعين
قبل ميلادك لم يشرف أب ... من بني الريف ولم تنجب بطون
وفي هذا البيت إشارة صريحة إلى خصيصة من أظهر خصائص سعد، وهي نشأته الريفية. ويريد بها الشاعر أن يجعل سعداً عريقاً في العظمة القومية، وكأنه يعرض بمن كانت لهم أصول مدخولة في هذه البلاد، وبدون هذا الغرض لا يتسق الكلام، فللريف المصري فضل كبير في إنشاء المواهب، وما نشأ عظيم في مصر إلا وهو موصول الأواصر بذلك الريف، وإن كان من الدخلاء
ومن أعجب خصائص الريف أنه ينبوع المواهب، ويفتح أمام الأذهان آفاقاً لا تفتحها المدائن. ومن هنا يصلح أي ناشئ في الريف للنهوض بإعمال لم تؤهله لها ثقافته الشخصية(426/5)
وتفسير ذلك أن الحياة بالريف توجه العقل إلى إدراك المطالب القومية، وتروض الذهن على تعرف المشكلات التي تعترض حياة الأهليين، وهي مشكلات ذات ألوان وأشكال، والتمرس بها يخلق القدرة على الإحاطة بما يثور في الصدور من آلام وآمال. فقول العقاد في سعد:
قبل ميلادك لم يشرف أب ... من بني الريف ولم تنجب بطون
لم يرد به غير تأكيد القول في نباهة سعد، فهو يريد التنويه لا الاستقراء؛ وإلا فالشواهد كثيرة على من نبغوا من أبناء الريف قبل سعد زغلول
ومن أطايب هذه القصيدة قول سعد كما صوره العقاد:
صال بالجيش (كمال) ومضى ... بذوي القمصان يسطو (مُوسلينْ)
وأنا الأمة والجيش معاً ... وأنا السيف جميعاً واليمين
من بيان الصدق جرّدتُ لهم ... عدة تصمى الكماة الفاتحين
أنا مصر وهي في سؤددها ... أنا مصر وهي الأسر سجين
أنا ألقيت على عاتقها ... حملها المطروح بين الآخرين
وهذا البيت جيد جداً، ومعناه أن سعداً راض الأمة على أن تحمل وحدها عبء الكرامة القومية، وهو عبء لا يحمله غير من وصل إلى شرف الفهم لقيمة التكاليف الثقال، ولا تضيع الأمم إلا حين تتوهم أن الحرية مغنم يساق، وليست مطلباً ينال بالدماء، وتشقى في سبيله عزائم الرجال
ومن روائع هذه المرثية قول العقاد في شخصية سعد:
يَعجبُ المرء أشخصٌ واحدٌ ... أنت أم شتَّى شخوص وفئين
ناضر النفس وإن لاحت على ... وجهك السمح سمات وغضون
وغضير القلب لا يألوك في ... صَرعات النزع في نبض رزين
تأخذ اللب برأيٍ ثاقب ... وفكاهاتٍ عِذابٍ وفنون
ضَحِكُ الأطفال في الطيب إلى ... ضحك الأقدار في الجد الرزين
يوم ودعنك ودعت امرأً ... يملأ الدنيا ويَقضِي ويَدين
وأحيّيك لألقاك غداً ... حجراً يعلوه نوّار الغصون(426/6)
وهذا شعر نفيس. . . وقول العقاد إن سعداً كان غضير القلب حتى في ساعات النزع ليس خيال شاعر، وإنما هو حقيقة؛ فقد شهد الأطباء بأن قلب سعد كان ينبض عند النزع بمثل القوة التي كان ينبض بها وهو في أوقات الصحة والعافية، وإلى هذه الظاهرة الغريبة أشار الشاعر محمود عماد إذ يقول:
وأنهدَّ قلبٌ طالما اعتدَّت به ... مصرٌ ليوم كريهةٍ وعُرام
قلبٌ كقلب الكون يلبث نابضاً ... والموت بادٍ في الحشا والهام
ولا يتسع المقام للإفاضة في محاسن قصيدة العقاد، وما أشرنا إليه يبين جوهرها الثمين
قصيدة الجارم بك
لم تلق هذه القصيدة في حفلة التأبين، وإنما نشرها المقطم في اليوم التالي وقال أنها (للأستاذ الشيخ علي الجارم المفتش بوزارة المعارف) وهي تبتدئ بهذه الأبيات الجياد:
لا الدمعُ غاض ولا فؤادك سالي ... دخَل الحِمامُ عرينة الرئبالِ
وأصاب في الميدان فارس أمة ... رفعَ (الكنانة) بعد طول نضال
رشقتْه أحداثُ الخطوب فأقصدتْ ... حربُ الخطوب الدُّهم غير سِجال
للموت أسلحةٌ يطيحَ أمامَها ... حول الجريء وحيلة المحتال
ما كان سعدٌ آية في جِيله ... سعد المخّلد آية الأجيال
تَفنَى أحاديث الرجال ذكره ... سيظل في الدنيا حديث رجال
سارٍ كمصباح السماء يحثه ... كر الضحا وتعاقب الآصال
ومضى الجارم فتحدث عن الأيام التي عانتها مصر قبيل الدعوة إلى الاستقلال: فجعل السيف يلمع فوق كل رأس، وجعل الأرض ترجف والذعر يعصف بالقلوب، وأسرف فجعل الناس جميعاً في أهول من يوم الحساب:
وإذا بصوتٍ هز مصر زئيره ... غضبُ الليوث حمايةٌ الأشبال
صوت كصور الحشر جّمع أمة ... منحلة الأطرف والأوصال
فتطلعت عين وأصغت بعدها ... أذن وهمت ألسنٌ بسؤال
مَن ذلك الشعشاع طال كأنهُ ... صدر القناة وعاملُ العسال
ومَن الذي اخترق الصفوف كأنه ... قدَرُ الإله يسير غير مبال(426/7)
سعدٌ، وحَسبُك من ثلاثة أحرف ... وما في البرية من نُهًى وكمال
ومِن السيوف إرادةٌ مصقولة ... طُبِعتْ ليوم كريهة ونِزال
ومضى يغبّر لا العسير بخاذل ... أملاً ولا نيل السها بمحال
فكأنه سيف المهيمن خالدٌ ... وكأن دعوته أذان بِلال
ما راعه نفيٌ ولا لعبتْ به ... في حُب مصر زعازع الأوجال
كالشعلة الحمراء لو نكَّستها ... لأضفتَ إشعالاً إلى إشعال
والسيل إن أحكمت سد طريقه ... دك الحصون فعدن كالأطلال
ومن أجود هذه القصيدة قول الجارم في صراحة سعد:
خصم شريف نال من خصمائه ... ما نال من إجلال كل موال
عرفوه وضّاح السريرة طاهراً ... شرُّ البلاء خصومةُ الأنذال
إن الشجاعة أن تناضل مُصحراً ... لا أن تدب كفاتك الأصلال
قصيدة مطران
لم تلق في حفلة التأبين، وإنما نشرت في (الأهرام) بعد الحفلة بأيام، وأذكر أني قرأت على الدكتور طه حسين جملة منها في صبيحة اليوم الذي نشرت فيه، وكنا على موعد بداره في مصر الجديدة لنمضي معاً إلى الجامعة المصرية، فاتفق أن رأينا الأستاذ خليل مطران في الطريق، فكان من الطبيعي أن يحدثه الدكتور طه عن قصيدته، فقال الأستاذ مطران ما نصه بالحرف:
(لم أرد أن أقيم ملطمة عامة على سعد، كما صنع جماعة من الشعراء، وإنما أردت أن أحدد مكانه في التاريخ)
وكانت القصيدة كذلك، فقد تحدث مطران عن سعد كما يتحدث المؤرخ، وإن وشى حديثه بزخارف البيان
وقد رجعت إلى مكتبتي أستهديها تلك القصيدة فبخلت، فرجوت الدكتور رشيد كرم أن يتلطف فيحضر نسخة القصيدة من الأستاذ خليل مطران، فأحضرها بعد أيام طوال، ولكن أي قصيدة؟ هي قصيدة سنة 1936 لا قصيدة 1927، وهي القصيدة التي نظمها مطران عند انتقال رفات سعد إلى الضريح.(426/8)
وذكرت الأستاذ مطران بما كنت أرجوه وقد لقيته في حفل خاص مع الدكتور علي باشا إبراهيم؛ فقال الجراح الأكبر: ألست تذكر أنها نشرت في الأهرام؟ قلت: نعم! فقال: أطلبها من أنطون بك الجميل. فقلت: ولكن ذلك يضيع فرصة الحديث عن هذه القصيدة في هذا الوقت، وسأقدم مقالي لمجلة (الرسالة) بعد يومين أثنين
ثم نظرت في القصيدة الثانية فرأيت فيها محاسن جديدة لا أذكر أني ظفرت بمثلها في القصيدة الأولى، فقدّرت أن الشاعر اختارها عن عمد، لتكون صوته المختار في تأبين سعد.
ومطران يقسّم قصائده الطوال إلى موضوعات وتلك عادته منذ زمن بعيد، وقد تحدّث في قصيدته عن الشؤون الآتية:
(مات سعد وروح سعد باقية - مأتم سعد في مصر والشرق - ترجمة سعد - سعد في الصحافة - سعد في المحاماة - سعد في القضاء - سعد وزيراً للمعارف - سعد نائباً عن الأمة في العهدين - صورة سعد - سعد في أحاديثه - سعد الأديب - سعد الخطيب - سعد الزعيم الأكبر ووصف أخلاقه - سعد في وجه أعداء الوطن سعد في صحابته - سعد في منفاه وبعد عودته فائزاً - سعد في رياسته للحكومة الدستورية - بيت الحياة وبيت الخلود - إلى أم المصريين)
وقد أحتفل الشاعر بهذه الموضوعات فتكلم عنها بتفصيل شائق خلاب، كأن يقول في سعد الخطيب
قضى الخطيب الذي كانت فصاحته ... حالاً فحالاً هي الآلاء والنعم
حدِّث عن البلسم الشافي يمرّ به ... على الجراح قد استشرت فتلتئم
حدِّث عن البلبل الغِرِّيد مختلفاً ... بين الأفانين من تطريبه النغم
حدث عن الضيغم الساجي يثور به ... تحرُّشٌ بحمى الأشبال لا القَرَم
حدث عن السيل يجري وهو مصطخبٌ ... حدث عن النار تعلو وهي تحتدم
حدث عن البحر والأرواح عاصفةٌ ... والسحب عازفة والفُلك ترتطم
وكأن يقول في وصف أحاديث سعد:
قضى الذي كان ناديه ومحَضره ... قلادةً لكرام الناس تنتظم(426/9)
إذا تكلم أصغت كل جارحةٍ ... إليه لا الكدَّ يَثنيها ولا السأم
دُرٌّ يُسلسله فيما يفوه به ... فالقلب مبتهجٌ والعقل مغتنم
كأن جلاسه مهما عَلَوْا رتباً ... راجو صلاتٍ عليهم تنثر النعم
ويرى مطران أن شمائل سعد تعجز المؤبنين فيقول:
يا من يؤبن سعداً، مَن تؤبنه ... هو الهدى والندى والبأس والشمم
هيهات توصف بالوصف الخليق بها ... تلك الفضائل والآداب والشيم
ما القول في دوحة فينانة سقطت ... ومن أماليدها الإحسان والكرم
كأنما غيضةٌ مجموعة نشبتْ ... فيها المنايا تُثنِّيها وتخترم
لكنني أستعين الله معتذراً ... عن القصور وبعض العجز لا يصم
ومع هذا الاعتذار الطريف فقد أبدع مطران في رثاء سعد كل الإبداع
أما بعد. فقد رأى القراء أن الشعراء الذي تحدثنا عنهم قد التقوا في كثير من المعاني، وكان من الممكن أن نعقد الموازنات فنعرف كيف سبق هذا أو تخلف ذاك، كأن نشرِّح ما قالوا في وصف خطابة سعد، وكأن ننظر كيف صوروه في المحاماة والقضاء
فمتى نوازن بين هذه القصائد الجياد؟
ومتى نبين المعاني التي أنفرد بها بعض أصحاب هذه القصائد؟
زكي مبارك(426/10)
كيف يكتب التاريخ
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية لآداب
- 3 -
أول مسألة تواجه المبتدئ في دراسة التاريخ هي مسألة اختيار موضوع البحث، والمسألة تختلف بالنسبة للطالب الذي يبدأ دراسته الجامعية عنها بالنسبة للباحث الذي أنهى مرحلة التعليم المدرسي وبدأ يتطلع إلى الدراسة العلمية المنتجة. فالطالب المبتدئ في التعليم الجامعي لا ينتظر منه عادة أن يقوم ببحث أصلي، أو أن يكشف عن مجموعة وثائق لم تكن معروفة من قبل، أو أن يستخلص حقائق تاريخية مجهولة؛ وإنما المطلوب منه أن يتوفر على تحصيل وسائل الإعداد والتدريب الذي يؤهله للعمل العلمي في المستقبل. فالطالب أثناء الدراسة الجامعية يختار - بإرشاد المدرس - بعض الموضوعات المدروسة، لا لكي يبحثها من جديد وإنما للتمرين والتدريب والاقتباس؛ وهو في هذا يشبه دارس الكيمياء أو الطبيعة الذي يقوم بعمل التجارب التي ثبت صحتها نهائياً لكي يتدرب ويعرف ما عمله غيره من قبل. فطالب التاريخ يستطيع أن يختار موضوعات متنوعة في الفروع التي يدرسها. ويمكنه أن يبحث بعض الموضوعات العامة، كأن يختار مثلاً كتابة ملخص عام عن تاريخ نابليون في حيز محدود. ويعتمد على القليل من المراجع الأساسية عن الموضوع التي يأخذها من المدرس أو التي يستخرجها بنفسه من كتب المراجع. فيقتبس ويدون مذكرات من هذه المراجع. وينبغي أن يلاحظ وضع أرقام الصفحات لكي يمكنه الرجوع إلى بعض النقط عند الضرورة؛ ثم يقارن ويمزج بين المعلومات التي جمعها، ثم يعرض بإيجاز نشأة نابليون وتعليمه وشخصيته وتدرجه في المناصب، وحروبه في الشرق وفي أوربا، وحكومته وإدارته، وظروف أوربا في عهده، ووقوف إنجلترا في سبيله، ثم سقوطه وحياته في المنفى. ويعطي الطالب ملخصاً وافياً لكل هذه النواحي. وهو في هذه الحالة سيتجاوز عن الكثير من التفصيلات والحركات المحلية. وسيكتفي بالمسائل المهمة البارزة فقط، سواء أكانت حوادث الحروب أم مشاكل السياسة الداخلية أو الخارجية. وبعد(426/11)
ذلك يختار الطالب جزءاً من الموضوع العام الذي ألم به مثل موضوع حملة نابليون على روسيا في سنة 1812، فيبحث الظروف التي أدت إلى تلك الحملة، ويتبع سيرها والحركات الحربية التي وقعت، ووصول نابليون إلى موسكو، ثم ارتداده وفشله، وما يترتب على ذلك من الآثار في فرنسا وفي أوربا. وهو في هذا سيبحث موضوعاً أكثر تحديداً من الموضوع السابق، وإلمامه بتاريخ نابليون العام سيساعده على فهم الحملة الروسية. ثم يتدرج إلى بحث نقطة تاريخية محددة بالذات مثل معركة واترلو، فيدرس في بعض المراجع العامة الظروف التي أدت إلى هذه المعركة ويوازن بين القوى الحربية لكل من فرنسا وإنجلترا وبروسيا، ثم يدرس خطط المعركة، ويتبع العمليات الحربية، ويوضح كيف هزم نابليون؛ ثم يشرح النتائج التي ترتبت على ذلك. ويمكن للطالب أن يطبق هذه الطريقة في نواح مختلفة من التاريخ. وهذا التدريج نافع جداً لأنه سيجعله يدرك فائدة الإلمام بتاريخ العصر أو الموضوع العام؛ وأثر ذلك واضح في فهم النواحي الخاصة، وفي التغلغل في بحث الموضوعات الجزئية. وسيعلمه هذا التدرج ضرورة الاهتمام بالجزيئات المعينة مع عدم إغفال الروح العام والنظرة العامة عن العصر الذي يبحث فيه. فلا بد من العناية بهاتين الناحيتين معاً على اتساق وتوافق. ثم يدرس الطالب بعض الوثائق الأصلية المطبوعة لبحث موضوع معين؛ كما يدرس بإرشاد الأستاذ طائفة مختارة من الوثائق المخطوطة، ويستخرج منها بعض الحقائق اللازمة لبحث نقطة معينة. وهذا كله كتدريب وإعداد للمستقبل. وما ينطبق على الطالب في الجامعة ينطبق على أي شخص لم تتح له فرصة التعليم الجامعي في بلد كمصر ويشعر في نفسه بالميل إلى دراسة التاريخ وبحثه
وعندما يتم الطالب مرحلة التعليم العالي ويحصل على درجة جامعية، ويرغب في متابعة البحث التاريخي، فإن اختيار موضوع البحث يبدو بشكل مخالف. فهو في هذه الحالة لا يستطيع أن يبحث أي موضوع كان؛ لأن المطلوب أن يقوم ببحث ويكشف عن حقائق تاريخية جديدة؛ فلا يكون البحث بناء على الرغبة فقط، وإنما يكون بناء على ما يجب أن يبحث، أو ما الذي يمكن أن يبحث. والباحث المبتدئ قد يثير اهتمامه أثناء دراسته بعض المسائل في تاريخ اليونان القديم أو في تاريخ العصور الوسطى أو في تاريخ الروسيا مثلاً. فللمضي في بحث إحدى هذه النواحي ينبغي أولاً أن يعرف العلوم المساعدة الرئيسية(426/12)
المرتبطة بالفرع الذي يرغب دراسته. وإذا لم يكن يعرفها فينبغي أن يقرر بصراحة من أول الأمر: هل هو مستعد لأن يتعلمها أم لا؟ هل هو مستعد لأن يتعلم اللغة اليونانية القديمة أو لاتينية العصور الوسطى أو اللغة الروسية مثلاً؟ وهل هو مستعد لأن يتقن ما يتصل بهذه اللغات من العلوم المساعدة الضرورية مثل علم النقوش، وعلم قراءة الخطوط. . . فإذا لم يكن مستعداً لذلك فينبغي عليه أن يعدل عن المضي في بحث إحدى هذه النواحي التي تعوزه فيها الوسائل الضرورية، ويمكنه أن ينتقل إلى مجال بحث آخر يعرف أصوله وقواعده
والمبتدئ في البحث التاريخي طبقاً للطرق العلمية الحديثة، ينبغي أن يراعي بعض الأمور. فيجب أن يختار ناحية أو نقطة محددة لكي يستطيع أن يتفرغ لدراستها وإخراج جديد عنها؛ وتكون هذه النقطة جزءاً من موضوع عام لكي يتسع المجال أمام الباحث لمتابعة دراساته في المستقبل. فمثلاً لا يصح للباحث أن يتخذ تاريخ الدولة الأيوبية بأكمله موضوعاً للبحث، لأنه موضوع طويل. فالأيوبيون قد حكموا مصر من سنة 1169 إلى 1250م. ودراسة هذه الفترة دراسة عميقة مع كشف حقائق عميقة مع كشف حقائق جديدة عنها لا يمكن تحقيقها في سنوات قلائل. وإذا أصر الباحث على القيام بهذه الدراسة، فإنه لن يأتي بأكثر من تلخيص ما هو موجود في المراجع المعروفة أما إذا خصص وقته وجهده في نفس هذه سنوات القلائل لبحث ناحية معينة بالذات، مثل تاريخ صلاح الدين أو تاريخ الملك العادل أو تاريخ التجارة في عهد الدولة الأيوبية، فإنه يستطيع أن يسبر غور الأرض المجهولة ويكشف عن حقائق تاريخية جديدة. وبديهي أن الوقت والجهد اللذين يخصصان لفترة قصيرة يأتيان بنتائج علمية أعمق مما لو خصص لفترة طويلة. ووضع المؤلف علمي دقيق عن عصر الدولة الأيوبية بأكمله لا يمكن أن يتم إلا بعد دراسة جزيئات هذا العصر وبعد كشف كل الحقائق التي يمكن الوصول إليها. وما يقال عن عصر الدولة الأيوبية ينطبق تماماً على أي عصر آخر. وكذلك ينبغي أن يلاحظ الباحث عند التفكير في اختيار موضوع البحث ميله واستعداده، سواء للناحية الحربية أو السياسية أو الاقتصادية أو الدينية أو الفنية. ولا داعي لأن يقسر الباحث نفسه على ولوج ميدان لا يميل إليه؛ وعلى العكس فإن طرق الميدان الذي يميل إليه يجعله أقدر على العمل وأقوى على كشف الحقائق. والمرحلة(426/13)
الأخيرة التي ينبغي أن يمر خلالها الباحث قبل أن يختار نهائياً موضوع البحث من الناحية العلمية تتلخص فيما يلي:
هل الموضوع الذي فكر فيه يحتاج أي أن يبحث؟ ألم يكن قد بحث من قبل مطلقاً؟ أو هل بحث بطريقة غير كافية وهل المادة الأصلية الموجودة عنه لم تدرس ولم تنقد كما ينبغي؟ أو هل قد وجدت أو يمكن أن توجد مادة أصلية جديدة تبرر إعادة بحث الموضوع من جديد؟ فإذا توفرت بعض هذه الشروط فمعنى ذلك أن الموضوع يحتاج إلى الدرس والبحث. ولكن كيف يمكن للباحث أن يثبت توفر بعض هذه الشروط؟ الطريقة العاجلة هي أن يبادر باستشارة أحد الأخصائيين في ميدان البحث التاريخي المعين، سواء في البلد الذي يعيش فيه أو في أي بلد آخر بواسطة المراسلات. وإذا تعذر الوصول إلى ذلك الأخصائي فعلى الباحث أن يجيب على هذه الأسئلة بنفسه. فلكي يعرف الباحث المراجع العامة والخاصة التي ظهرت عن العصر المعين، وهل اعتمدت على كل الأصول المعروفة فإنه يلزمه الاسترشاد بفن الببليوغرافيا. والتأكد من أن الأصول التاريخية الموجودة قد نقدت واستخدمت بطريقة علمية صحيحة يدخل في باب نقد الأصول والمصادر؛ ومسألة وجود مادة أصلية جديدة عن الموضوع تعرف عن طريق البحث والعمل في دور الأرشيف مثلاً. وسوف نعرف أشياء عامة عن هذه النواحي في هذه المقالات. وإذا لم تتوفر بعض هذه الشرط السالفة فلا معنى مطلقاً للاستمرار في البحث بدون جدوى عن ذلك الموضوع. ولابد إذاً من العدول عنه إلى موضوع آخر يمكن الإتيان في بحثه بجديد
وما هي الأعمال العلمية والأبحاث التي ينبغي أن تعمل في مصر؟ نحن فقراء ومتأخرين جداً في ميدان البحث التاريخي بالمعنى العلمي الحديث. والغرب قد سبقن بمراحل هائلة جداً في كل أدواره مثل طبع الفهارس ووضع الببليوغرافيات المتعددة الأنواع، وجمع الأصول، ونشر بعضها في مجموعات ضخمة، ووضع المؤلفات التي لا حصر لها عن مختلف أنواع التاريخ في جميع عصوره عن تاريخ العالم كله، وعن تاريخ كل من الدول والشعوب على حدة، سواء في ذلك المراجع التي تتناول التاريخ العام، أو المراجع التي تبحث عصوراً معينة ونواحي خاصة في تاريخ كل من هذه الدول والشعوب. فأين نحن من كل هذا؟؟ صحيح أن بعض الباحثين من المصريين قد وضعوا أبحاثاً عن بعض مسائل(426/14)
التاريخ المصري وغير المصري نتيجة جهود فردية ولكنها قليلة جداً؛ ونحن عالة على علماء الغرب الذين درسوا نواحي متعددة من التاريخ المصري في عصوره المختلفة. ولكن هذه الدراسات المتعلقة بمصر سواء من جانب المصريين أو الأجانب لا تكفي مطلقاً. وقبل أن نفكر في اختيار موضوعات للبحث في تاريخ مصر ينبغي أن نقوم بأعمال تمهيدية واسعة النطاق وأساسية جداً، لكي يسير العمل سيراً منتظماً وفعالاً. وأول هذه الأعمال التمهيدية القيام بطبع كتالوجات وفهارس لدور الكتب ودور الأرشيف في مصر بالطرق العلمية الحديثة - أي بتبويبها وتقسيمها ووضع الفهارس لها - مما هو غير متوفر تماماً في الموجود منها حالياً، فضلاً عن غير الموجود أصلاً. ثم وضع الفهارس وقوائم للكتب والمخطوطات التي تناولت تاريخ مصر في العصور المختلفة؛ ثم جمع المخطوطات التاريخية ونشر بعضها نشراً علمياً حديثاً. وصحيح أن بعض الأفراد وبعض الهيئات مثل: المطبعة الأميرية، ودار الكتب المصرية، ولجنة التأليف والترجمة والنشر، تقوم بنشر بعض الأصول التاريخية. ولكن لم تنشر أغلبها النشر العلمي الواجب لخلوها من الفهارس مثلاً. ولقد عني المغفور له الملك فؤاد الأول بجمع الكثير من الوثائق المتعلقة بتاريخ مصر في القرن التاسع عشر من محفوظات مصر ومن بعض دور الأرشيف في أوربا وأمريكا، وقد حفظت في أرشيف عابدين؛ كما عنى بنشر بعض مجموعات من هذه الوثائق مثل مجموعة دوان وسامّاركو ومجموعة القرمانات السلطانية وكذلك أشرف جلالته على وضع مؤلفين عن تاريخ مصر العام باللغة الفرنسية، وأشترك في كتابتهما طائفة من العلماء الأجانب؛ ولكن هذا لا يعني أن العمل قد انتهى، فهناك عشرات الألوف من الوثائق لا تزال مجهولة عن نواحي هامة في تاريخ مصر منذ العهد العثماني حتى أوائل عهد محمد علي الكبير في دار المحفوظات المصرية بالقلعة، ويقابلها آلاف الوثائق عن هذا العهد محفوظة في دور الأرشيف الأوربية، وأغلبيتها الساحقة لم تمسها يد إنسان بعد. فلابد من حصر وجمع وتبويب هذه الوثائق في مصر وفي الخارج؛ ولابد من نشر بعض أجزاء منها نشراً علمياً.
وما عمله الغرب بخصوص نشر مجموعات ضخمة من الوثائق التاريخية، وما عمله ذلك الرجل المقيم في ظلال الأرز والجدير بالإعجاب والتقدير، من نشر بعض مجموعات من(426/15)
الوثائق عن تاريخ سوريا كفيل بأن يجعلنا نجدّ ونسعى لنشر وثائقنا وأصولنا التاريخية.
وبعد إتمام بعض هذه الأعمال التمهيدية يمكن أن يتقدم وأن ينشط البحث التاريخي في مصر بدرجة مرضية. والمؤلفات التي تكتب قبل أن تتم بالنسبة إليها هذه المراحل التمهيدية، مع أنها جديرة بالتقدير، لا يمكن أن تعتبر آخر كلمة في الموضوع الذي تتناوله. وأرى أنه ينبغي على الباحثين أن يتبعوا أبحاثهم بنشر المهم من الوثائق التي اعتمدوا عليها في مجلد أو في مجلدات خاصة، لأن هذا العمل لا يقل - إن لم يزد - في قيمته العلمية عن البحث التاريخي نفسه. وبعد ذلك تواجهنا ثغرات هائلة في مراحل التاريخ المصري ينبغي أن تدرس وتبحث على مدى الزمن مثل تاريخ المدن المصرية وتاريخ الأزهر والمساجد، وتاريخ الكنائس والأديرة، وتاريخ التجارة في مصر، وتاريخ مصر المالي والإداري في العهد العثماني، وتاريخ علي بك الكبير، وتاريخ الحركة العرابية. . .
وهذه الأعمال الخطيرة لا يمكن أن تؤديها الجهود الفردية، ولا يمكن أن يقوم بها جيل واحد من الباحثين. وللسير في سبيل تحقيقها بالتدريج من الضروري جداً إنشاء معهد أو جمعية للدراسات التاريخية، كما هو الحال في الغرب، وتزود بالمال اللازم، وتضم شتات المشتغلين بالبحث التاريخي في مصر، وتنضم أعمالهم وتوحد جهودهم للإنتاج العلمي الصحيح. ومن اللازم أيضا أن نبدأ بإصدار مجلة للعلوم التاريخية، فإنه توجد في الغرب مجلات عديدة في التاريخ العام ومجلات خاصة لفروع التاريخ المختلفة. ولابد من جهد متواصل وتضافر وإخلاص في العمل، وبعد عن الزخارف وأبهت المناصب؛ ونحن أشد الحاجة إلى إيجاد بيئة علمية صحيحة تعمل للعلم وحده، وتضع تقاليد وطيدة، وتقوم ببعض الواجب نحو العلم والتاريخ.
(يتلى)
حسن عثمان(426/16)
2 - كليلة ودمنة
نقد وتعليق
للأستاذ عبدا لسلام محمد هارون
7 - 4: 179: (فأسعفني بطِلبتي) بكسر الطاء وهي صحيحة. لكن العرب يختارون في مثل هذا (الطّلِبة) بفتح الطاء وكسر اللام. ومنه حديث نقادة الأسدي: (قلت: يا رسول الله، أطلب إليّ طلبة، فأني أحب أن أطلبكها)
8 - 4: 261: (إن الملوك وغيرهم جدر أن يأتوا الخير إلى أهله). وقد أفسد هذه العبارة أمران: أما الواحد، فأن (جدر) جمع (جِدار) بالكسر، وهو الحائط؛ والصواب: (جدراء)، أو (جديرون)، وهما الجمعان اللذان يجمع عليهما (جدير)؛ وجمع (فعيل) صفة على (فعل) بضمتين نادر سمع منه: نذير ونذر وجديد وجدد (بدالين)، وسديس وسدس
وأما الثاني، فأن (أتى) إذا تعدّى إلى المفعول لا يكون بمعنى الإعطاء، بل يكون بمعاني أخر منها الفعل: أتى الأمر والذنب: فعله؛ ومنها الهدم والقلع، قال الله تعالى: (فأتى الله بُنيانهم من القواعد) ومنها الانتساب، أتى الرجل القوم: أنتسب اليم وليس منهم، فهو أتىُّ
وأما الذي هو بمعنى الإعطاء فهو الفعل (آتى) على زنة أفعل. ومنه قول الله تعالى: (آتنا غداءنا)؛ وقوله: (وآتيناه الحكم صبيّا)؛ ومضارعه (يؤتى) على يفعل.
وفي كتاب الله تعالى: (يُؤتى. يؤتون. يؤتين. يؤتيه. سيؤتينا. يؤتكم. يؤتيهم. تؤتونهن. وتؤتوها. نؤتيه. نؤته. نؤتها. يؤتهم. سنؤتيهم)؛ وإنما سقت هذه الشواهد لأنبه على أن ما ورد في اللسان من قوله: (والإيتاء: الإعطاء. آتى يؤاتى إيتاءً، وآتاه إيتاءً أي أعطاه) وهم أو تصحيف؛ والصواب: آتى يؤتى
فوجه عبارة أبن المقفع إذن: (جدراء أن يؤتوا الخير إلى أهله).
ولعل السر في هذا التحريف أن طائفة من علماء الرسم الأقدمين كانوا يرسمون الهمزة ألفاً في كل حالة، وزعيمهم في ذلك سنة 207 وجمهور علماء الرسم يسمون أولئك (أصحاب التحقيق)، أي تحقيق الهمزة؛ وأما الكتابة الغالبة التي نأخذ نحن بها الآن، فيسمى أصحابها: (أصحاب مذهب التخفيف والتسهيل)، وهم يجرون على لغة أهل الحجاز في تخفيف الهمزة وتسهيلها، ويعبرون عنها بصور تسهيلها: من الألف والواو والياء. فلعل هذه بقية من بقايا(426/17)
رسم التحقيق
2 - في الضبط النحوي
1 - ص14س7: (ولكل علّة مجرى)، صوابه: (مجرى) بالتنوين، وهو تحريف طبع
2 - 11: 18: (فيعلم سرّ نفسه وما يضمر عليه قلبه) بنصب (قلبه) وجعلها مفعولاً ليضمر، وأضمر يضمر بمعنى أخفى يخفي، فما يكون المعنى في أن يخفي قلبه عليه؟ الصواب: (قلبه) بالرفع على الفاعلية؛ لأن القلب هو الذي يضمر الأسرار والنوايا
3 - 14: 41: (وشبّهت الجرذين بالليل والنهار، وقرضهما دأبهما في إنفاد الآجال) يصح أن تقرأ: (وقرضهما دأبهما) باستمرار التشبيه، و (شبّه) من الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين. وفي اللسان: (شبّهه إياه وبه). ومنه قول الشمردل:
يُشَّبهُون مُلوكاً في تجِلَّتهم ... وطول أنْضية الأعناق والأُمم
وقول عبد بني الحسحاس:
فشّبهنني كلباً ولست بفوقه ... ولا دونه إن كان غير قليل
وقد سبق استعمال ابن المقفع لهذه اللغة في 35س4: (وشبهتهما الجُنَّةَ الحريزةّ) وعلى ذلك يسوغ أيضاً أن تضبط كلمة (العسل) في السطر بعدها بالنصب
4 - 68: 14 - 16: (قال دمنة: حدثني الأمين الصادق عندي أن شنزبة خلا برؤوس جندك فقال لهم: قد عجمت الأسد، وبلوت رأيه ومكيدته وقوته، فاستبان لي في كل ذلك ضعف، وإنه - بسكر الهمزة - كائن لي وله شأن. وأنه - بفتح الهمزة - لما بلغني هذا عرفت. . . الخ)، يصح أيضاً: (وأنه كائن) بفتح أن، عطف على فاعل (استبان). ويتعين: (وإنه لما بلغني) بكسر الهمزة، عطف على مقول دمنة، أي وقال دمنة: إنه لما بلغني. . . الخ
5 - 96: 3 (وكذلك الجهال لم يزالوا يستثقلون عقلاءهم واللوماء كرامهم). صوابه: (واللؤماء) بالرفع. وهذا تحريف طبع
128 - : 4 (فأعادت ذلك عليه مراراً - كل ذلك لا يلتفت إلى قولها). ولا وجه للفرع هنا. والوجه (كل ذلك) بالنصب على الظرفية الزمانية. ولا يصح أن تكون: (كل) مبتدأ، وذلك لأن الضمير العائد عليها محذوف تقديره (فيه).(426/18)
والبصريون يمنعون حذف الضمير العائد على لفظ (كل) إذا كان مبتدأ، ولذلك حكموا بشذوذ قراءة أبن عامر في سورة الحديد (وكل وعد الله الحسنى)، وقراءة باقي السبعة: (وكلاً) بالنصب. وأبن عامر قرأ نظير هذه الآية من سورة النساء 95 (وكلاً وعد الله الحسنى) بالنصب كالجماعة
7 - 160: 2 (إلى مكان كذا وكذا). تكرار (كذا) مع العطف أحد استعمالين صحيحين. والوجه الآخر الإفراد، أي (مكان كذا)؛ وبهذا وردت في ص83 من طبعة بولاق
قال أبن هشام في رسالته التي صنفها في معنى هذه الكلمة:
كذا وكذا يكنى بها عن غير العدد. وفيها حينئذ الإفراد والعطف، نحو مررت بمكان كذا، ومررت بمكان كذا وكذا. ويكنى بها عن العدد وليس فيها إلى العطف. . . وقال أبن مالك: سمع فيها العطف وعدمه كالأولى، ولكنه قليل
وفي شرح الأشموني: (تأنى كذا هذه - أعني المركبة - كناية عن غير العدد وهو الحديث مفردة ومعطوفة)
ففهم من هذين النصين أن الإفراد في المكنى بها عن غير العدد مقدم على العطف. ولكن الرضى قدم العطف على الإفراد في الحالين
قال: (وورود كذا كذا مكرراً مع واو نحو كذا وكذا أكثر من إفراده ومن تكرره بلا واو، ويكنى بها عن العدد نحو عندي كذا درهماً، وعن الحديث نحو قال فلان كذا)
وقد التزم أبن المقفع لغة العطف، فقد جاء في 168 س14 (إن اليوم بمكان كذا وكذا) وفي 224 س8: (في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا)، وفي 258 س13 (فقال كذا وكذا)
8 - 179: 2 (ولم أذكر ما ذكرت إلا أكون أعرف منك الكرم والسعة). والوجه: (إلا لكوني أعرف منك) الخ
9 - 199، 3: (لم تدر أيهما تأخذ) برفع (أيهما) والصواب (أيهما) بالنصب، فإنها مفعول مقدم لتأخذ، وليس من باب الاشتغال و (أي) هنا استفهامية، ولذا علقت الفعل القبلي قبلها عن العمل فيها. ولا يجوز أن تكون (أي) هنا موصولة بنيت على الضم، ولو فرضنا أنها موصولة فإنها لا تبنى عليه إلا في حالة واحدة، وهي إذا ما أضيفت وحذف صدر الصلة.
وليس في الكلام صدر صلة محذوف؛ فإنها جملة فعلية(426/19)
قال الرضي: (صلتها أما اسمية أو فعلية. والفعلية لا يحذف منها شيء، فلا تبنى أي معها. والاسمية قد يحذف صدرها). فلا بناء مع الصلة الفعلية
10 - 268، 9: (من غذوة إلى الليل)، وبمنع (غدوة) من الصرف. وهذا ضبط جيد، فإن (غدوة) هنا معرفة من قبيل أعلام الأجناس، بدليل قرنها بالليل وهو معرفة. وغدوة حين تعدها معرفة تمنعها الصرف فتجرها بالفتحة
وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول: آتيك اليوم غدوة وبكرة؟ فهذا دليل على جواز الصرف مع إرادة المعرفة
3 - في تحقيق النص
1 - 26، 10: (مثل الحراث الذي يثير أرضه ويعمرها ابتغاء الزرع لا العشب) فما وجه العمارة في طلب الزرع؟!
الصواب (يغمرها) بالغين المعجمة، أي بالماء
2 - 38، 3 في الحديث عن الجنين: (منوط قمع سرته إلى مريء بأمعائها). وهو كلام متهالك مضطرب. فما العلاقة بين سرة الجنين وأمعاء الأم؟! وإنما الجنين موطنه الرحم، لا يعدوه ولا يتصل بغيره من الأعضاء. والصواب: (منوط بمعنى (من) سرته) كما ورد في نسخة بولاق ص28. والمعي، بالفتح، وكإلى: واحد الأمعاء. والمراد به هنا ما يسمى: (الحبل السري):
أما كلمة (مريء) فعجيبة أيضاً، فإن المريء بفتح الميم وكسر الراء: هو رأس المعدة اللاحق بالحلقوم، وهو مجرى الطعام والشراب إلى المعدة؛ لا يكون إلا ذلك، فكيف يكون المريء بالأمعاء؟! ووجه سائر العبارة عندي: (إلى مراق رحمها). وأصل المراق للبطن، وهي مارق منه ولان
3 - 40: 6: (والرضا مجهوداً مفقوداً) هي (مجهولاً) باللام. جاء في نسخة بولاق: (وكان الرضي أصبح مجهولاً) وفي نسخة شيخو 42: (وأصبح الرضي مفقوداً مجهولاً). وعند أبن الهبارية:
من بعد ما عاد الحجا مجهولاً ... والشر قد سامى السماء طولاً
والحجا بالكسر: العقل والفطنة(426/20)
4 - 44: 7: (كالكحل الذي لا يؤخذ منه إلا مثل الغبار). صوابه: (إلا مثل غبار الميل). وقد جاء في نسخة بولاق ص30 (إلا غبار الميل) وفي نظم أبن الهبارية ص22:
أوشك أن يبقى بغير مال ... فالكحل لا يبقى على الأميال
الأميال: جمع ميل بالكسر
5 - 52: 2 (كالشعلة من النار التي يصونها) وفي التذييل ص290: إنها كذلك في الأصل وفي نسخة شيخو، وأنها في النسخ الأخرى (يضربها) وأن قريباً من هذا في السريانية الحديثة
أضيف إلى هذا التذييل أن في نسخة بولاق ص 34 (يضرمها) بالميم وهذه محرفة بلا ريب فليس المراد تقوية النار وإضرامها وتذكيتها، بل المراد سترها ومحاولة إضعافها
6 - 58: 1 (فأحسن الأسد مسألة شنزبة) المسألة هنا بمعنى السؤال، مصدر ميمي من سأل؛ والكتابة المعروفة (مسألة) برسم الهمزة فوق الألف
7 - 75: 12 (مثل المكاري، كلما ذهب واحد جاء آخر مكانه) هي في الأصل ونسخة شيخو: (مثل البغي كلما ذهب واحداً جاء آخر مكانه). وفي نسخة بولاق: (كمثل البغي كلما فقدت واحداً جاء آخر). وتغيير الأصل هنا لا مبرر له.
والأستاذ الجليل يعرف أنه لا يجوز لناشر كتاب تاريخي عالمي أن يبدل ما يراه غير ملائم لأذواق معاصريه وميولهم، ويعلم أن ذلك قد يعد جوراً على حق مؤلف الكتاب، فإن تسويغ التبديل يسلب الكتاب شخصيته، وربما نكره على مرور الزمان فعاد آخر غير الأول
ولعل ما حذا بالأستاذ على ذلك أن قد وجد أبن الهبارية قد صنع مثله (في ترجمته ص69) إذ يقول:
شبيه خان فاعلمن ومكتبِ ... من فر يوماً عنهما لم يطلب
لا يحقلان أبداً بمن رحل ... لكل من يمضي من الناس بدل
ومهما يكن فإن لفظ (المكاري) قلق ناب في موضعه، لا يتوجه إلى المعنى إلا مع الجهد والعسر، وإن فيما أثبته الأستاذ من التنبيه على ذلك التبديل في التعليقات لما يحمد عليه، وإن كان لا يعد عذراً صالحاً للناشر
ونسأل: ما الحكمة في أن يرفع الأستاذ هذا اللفظ من صلب الكتاب ثم يثبته وينبه عليه في(426/21)
التعليقات؟! وكيف تسخط هذه الكلمة وغفر لنظائر لها وأشباه متفرقات في ثنايا الكتاب؟!
(له بقية)
عبد السلام محمد هارون(426/22)
الفقر مسألة اجتماعية
للأستاذ رمسيس يونان
كتب الأستاذ العقاد في عدد مضى من (الرسالة) فصلاً قيماً في مشكلة الفقر كان من بين ما كتب الكاتبون جديراً بالدرس والتحليل
وبالرغم من دفاع الأستاذ العقاد القديم المتواصل عن العامل العاطفي في حياة الإنسان، فلا شك في أنه من رجال الفكر المفتونين بالمنطق العقلي؛ وهذه ميزة في بيئة تعمه في الخرافات والآراء المنقولة والحكم المسطورة. ولكن للمنطق العقلي حدوداً ونقائص، وأولى هذه النقائص أن عرض المشاكل الاجتماعية كما تعرض القضايا المنطقية كثيراً ما يوهم المفكرين بأن حل المشاكل الاجتماعية رهين بحل قضية اجتماعية؛ وليس هكذا يحل المجتمع مشكلاته، وليس هكذا تتطور وتسير الحياة. ونقيصة ثانية تلازم المعتمدين على المنطق العقلي وحده هو نزوعهم في أغلب الأحيان إلى صياغة آرائهم في قالب الحقائق المجردة الثابتة، وليس هناك حقائق بوجه عام - وحقائق اجتماعية بنوع خاص - مجردة عن ظروف الزمان والمكان. فالمجتمع ظاهرة متطورة، ومع تطوره تتطور حقائقه ومثالياته وأحكامه. . . على أن أهم هذه النقائص هو أن رجال المنطق العقلي كثيراً ما يقعون في شرك خدعة نفسية كبرى، فهم إذ يعرضون آرائهم على أنها أحكام مطلقة أو حقائق لا مراء فيها أو بديهيات أولية، لا ينتبهون إلى أن هذه الآراء هي - عن غير وعي منهم - ليست في صميمها غير انعكاس في أذهانهم لصور مادية يحيطهم بها مجتمع بعينه
وأول ما ألاحظه - تفسيراً لما أقول - أن الاهتمام الحديث المتزايد الذي بدأ من كتابنا بدراسة المشاكل الاجتماعية المتصلة بتوزيع الثروات لم يأت عفواً، ولا من شهوة ذهنية طارئة هبطت على عقولهم من عالم الفكر المجرد. . . وإنما هناك حقائق مادية جديدة قد نشأت في المجتمع المصري هي التي انفعلت في أذهان هؤلاء الكتاب وبعثتهم على التفكير فيها وعرض الآراء والحلول؛ وهذه الحقائق - ككل الحقائق الاجتماعية - في حركة وتطور مستمر، وهي لا تتحرك وتتطور تبعاً لما يرتأى لها المنطقيون، بل يفعل مطالب إنسانية تكشفت وتمت إذ مهدت لتحقيقها وسائل مادية جديدة
وعلى ذلك فأنا أعتقد أن الأسلوب الصحيح الذي يجب أن نسلكه في دراسة مشكلة اجتماعية(426/23)
مثل مسألة الفقر، هو أن نبدأ أولاً ببحث هذه الحقائق المادية الجديدة، وقبل أن نبدي الآراء والحلول المنطقية أو غير المنطقية، يجب علينا أن نتبين جيداً الاتجاه الذي تسير إليه هذه الحقائق، وبهذا فقط يمكن أن يصبح تفكيرنا قوة إيجابية مجددة، بدلاً من أن يكون مجرد انعكاس سلبي، قد يعبر عن (إحدى صور المجتمع)، ولكنه لا يعبر عن (الحركة الاجتماعية) في تطورها الخالق
والعقاد - إذ يعتمد على المنطق العقلي - لم يستطع أن يأتي بحكم واحد لا يقبل الجدل
فالفقر عند العقاد، ولكنا لن نعدم أديباً آخر يقرر أن الفقر عقاب، أو أنه تجربة من رب السماوات
ونفهم من كلام العقاد أنه يريد أن يكون ربح الأفراد مساوياً لما يقدمون للمجتمع من نفع؛ وكلمة (المجتمع) هنا خداعه غامضة المدلول، فأي مجتمع يقصد؟ هل يقصد المجتمع الإنساني شمولاً؟ إذا كان ذلك كذلك فالمجتمع الإنساني كما نرى مقسم إلى مجتمعات كثيرة تتضارب مصالحها إلى حد يصل بها إلى حرب شنيعة كالحرب الحاضرة. وعلى ذلك فالرجل الذي يعد نافعاً أكبر النفع بالنسبة للمجتمع الألماني مثلاً قد يعد مجرماً بالنسبة للمجتمع البريطاني. أما إذا كان العقاد يقصد (بالمجتمع) أمة بعينها، فالأمم كما نرى مقسمة إلى طبقات ذات مصالح متعارضة.
فإذا اكتشف عامل مثلاً وسيلة جديدة يلجأ إليها العمال ليرغموا بها أصحاب المصانع على زيادة أجورهم، عد هذا العامل مفيداً أكبر الفائدة بالنسبة لطبقة العمال، ولكنه لن يعد كذلك في نظر الطبقة التي تملك المصانع
والربح عند العقاد منه الحلال ومنه الحرام؛ وليس لمقاييس الحلال والحرام ثبات؛ فلكل مجتمع مقاييسه التي تنشأ معه لتوافق مصالح الطبقة الحاكمة. فاغتصاب ثروات الآخرين بالقوة مثلاً يعد إجراماً في معظم المجتمعات الحاضرة، ولكنه لا يعد كذلك في كل المجتمعات، ولم يكن يعد كذلك في كل العصور، بل هو ما زال يعد عملاً من أعمال البطولة في ساحات الحروب. . .
ويستنكر العقاد أن (يكون الجزاء الوافي حظ الممثل الذي لا يستحي أن يعرض رجولته للفضوليات من المتفرجات)، وقد يشارك العقاد في هذا الرأي قوم كثيرون، ولكنه من(426/24)
المؤكد أن (الفضوليات من المتفرجات) لا يشاركنه إياه
ومن الحقائق التي لا مراء فيها عند العقاد (أن حياة الإنسان كائناً ما كان انفس من القوت والكساء. . .) فلماذا لا نضيف إلى ذلك أن حياة الإنسان كائناً ما كان هي أنفس أيضاً من سيارة رشيقة، ودار أنيقة، تحيطها حديقة موردة؟. . . فإذا قيل لنا: إن الإنسان يموت إذا حرم القوت والكساء، ولا يموت إذا حرم سيارة أو حديقة، فلنقل: إن الحياة لا تعني عدم الموت فقط، وأن الحياة بغير متعة إيجابية هي والموت سيان
ومن الحقائق أيضاً عند العقاد أن (الأمان كل الأمان خطر على الهمم والأذهان)؛ وهو يريد أن يقول بذلك أنه لو اطمأن كل فرد إلى قوته وكسائه، فقدنا من بني الإنسان العنصر المقتحم المغامر (ومني العالم بخطر من جراء ذلك، هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال، وتوزيع بعض الأرزاق). . .
ولو صدر هذا القول من إسماعيل صدقي مثلاً لعذرناه. . . ولكن الغريب حقاً أن يصدر من العقاد. . .! فكيف يستطيع العقاد الشاعر أن يقول إنه لا تكون مغامرة أو اقتحام إلا حيث يكون طلب الرزق، وإن الإنسان لا يغامر في سبيل غرام، أو في سبيل كشف علمي أو إنتاج فني؟. . . ولماذا لا نقول: إن روح المغامرة إذا تحررت من هموم العيش وأعباء الثروات، فسوف تكتشف لنفسها ميادين وآفاقاً جديدة هي أجدر بعواطف الإنسان؟. . .
ويرى العقاد - كما يرى غيره - أن (العالم مدين للعصاميين)؛ وهذا رأي أقل ما يقال أنه مشكوك فيه. . . فأن عدد الفلاحين الهنود والصينيين يزيد على نصف سكان هذا العالم؛ فهل يمكن أن يقال مثلاً: إن هؤلاء الفلاحين مدينون بشيء للعصاميين؟. . . ولكن لنفرض جدلاً أن هذا الرأي صحيح، فمن الصحيح أيضاً أن نقول: إن الفلسفة والفنون الإغريقية مدينة لنظام الرق. . . وإن الديمقراطية الإنجليزية مدينة للفقر المدقع الذي يعانيه فلاحو الهند. . . فلولا وجود العبيد عند الإغريقلما استطاع (السادة) أن يتفرغوا للتفكير المجرد والبحث عن المثل العليا، ولما ازدهرت عندهمفلسفة أو فنون. . . ولولا الأجور المنحطة التي ينالها فلاحو الهند لما أمكن المستعمر أن يربح هذه الأرباح الطائلة التي بدونها لما يتيسر للحكومة الإنجليزية أن تتقدم لعمالها بمشروعات الإصلاح وبالإعانات والهبات الكثيرة. ولكن لولا هذه الإعانات والهبات لانتظرنا أن تنشط بين العمال الإنجليز الحركة(426/25)
الشيوعية كما نشطت في ألمانيا؛ وفي هذه الحالة، لا يكون غريباً أن الطبقة الحاكمة الإنجليزية كانت تلجئ إلى النظام الدكتاتوري لقمع هذه الحركة
ولكنا إذا قلنا أن الفنون الإغريقية مدينة للعبيد، وأن الديمقراطية الإنجليزية مدينة لفقر الفلاحين الهنود، فليس معنى ذلك أن نظام الرق كان يجب ألا يزول، أو أن فقر الفلاحين الهنود ينبغي أن يستمر. . . وكذلك إذا صح أن العالم مدين للعصاميين، فليس صحيحاً أن العالم سيبقى مديناً لهم أبد الآبدين. فمهما تكن قيمة الدور التاريخي الذي لعبه العصاميون في تطور الاقتصاد العالمي في القرنين الماضيين، فأن كل الحقائق تدل على أن ما يسميه العقاد (البراعة المالية) ليست في الوقت الحاضر كما يقول (لازمة لتأسيس المرافق الاجتماعية والأخلاق القومية وتنظيم العلاقات واستثارة الهمم وتوزيع الأعمال التي لا يستبحر بنيرها عمران. . .) بل إنها على العكس من ذلك تؤدي بالعالم الآن إلى أشنع تمزيق وتخريب وتدمير عرفه الإنسان
فلا وجود للعصاميين بغير تنافس اقتصادي؛ وللتنافس الاقتصادي العالمي هو المسؤول الأول عن الحرب الماضية وعن الحرب الحاضرة. ولسنا ننتظر من مخلوق به مسكة من الشعور الإنساني أن يقول إن هذه الحرب في ذاتها بركة للإنسان. هذا وإن كنا نأمل - بعد أن فشلت الحرب الماضية في تنبيه الشعوب تنبيهاً كافياً إلى عواقب التنافس الاقتصادي - أن تكون نتيجة هذه الحرب الحاضرة هو القضاء فعلاً على النظام الاقتصادي الذي يؤدي التكالب فيه على جمع الثروات إلى الدجل والاحتيال من ناحية، وإلى الشقاء والمرض والحروب الهمجية من ناحية أخرى. . . .
ولا شك أن الفقر - كصفة لاصقة بحياة الأغلبية من الشعب المصري - ظاهرة قديمة ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ. فما الذي جد إذاً على فقراء مصر حتى أصبحت لهم مسألة تشغل بال كثير من الأغنياء، ويهتم لها المفكرون، وتقلق أدباء كانوا يؤثرون الدعة والراحة في مخادع البرج العاجي. .؟
قد يكون صحيحاً أن بعض الأدباء والمفكرين المصريين قد تأثروا بالأدب والتفكير الأوربي الحديث الذي يعالج مشاكل الاقتصاد وتوزيع الثروات، وهي أم المشكلات في الحياة الأوربية المعاصرة، ولكن هذا التأثر كان يبقى شيئاً خاصاً بأفراد، لا قيمة اجتماعية له، ولا(426/26)
يثير اهتمام الرأي العام، لو لم تكن حياتنا الاجتماعية قد تأثرت مادياً بالمدنية الغربية
ولقد اقتبسنا عن الغرب أشياء كثيرة، منها مظاهر سطحية كأساليب الأكل واللباس، ومنها مظاهر أعمق كأساليب التشريع والقضاء والتعليم، ولكن وراء كل هذه المظاهر يكمن تأثر مادي أساسي، هو اقتباسنا لبعض الأساليب الحديثة في إنتاج الثروات، أي لبعض الصناعات الآلية التي نمت في مصر نمواً مطرداً في السنوات الأخيرة
ودخول الصناعة الحديثة في مصر معناه نشوء طبقتين جديدتين: طبقة رجال الأعمال من ناحية، وطبقة العمال من ناحية أخرى. ورجال الأعمال يعيشون في جو مادي، ولهم أساليب في التفكير، ولهم مصالح اقتصادية تختلف عن نظائرها عند أولئك الذين تعتمد ثروتهم على ملكية الأراضي المزروعة. فمن مصلحة رجال الأعمال مثلاً أن ينتشر التعليم، لأن المصانع محتاجة إلى العدد الوفير من العمال الفنيين وإلى العلماء والمهندسين وماسكي الدفاتر. . . وليس لطبقة ملاك الأرض مصلحة ما في أن يستخدم نصيب من الضرائب المفروضة عليها في إنشاء المدارس الفنية. . . فالزراعة في مصر ما زالت تسير على الطرق البدائية التي كانت تسير عليها في عصور الفراعنة. ومادامت الأيدي العاملة في الزراعة رخيصة إلى الحد الذي نراه، فلن يسعى ملاك الأرض إلى استخدام الآلات الزراعية الحديثة الغالية الأثمان، ولن يحتاجوا تبعاً لذلك إلى المتعلمين تعلماً فنياً إلا بقدر ضئيل. وهذا هو السبب الأساسي في نكبة خريجي مدارس الزراعة على قلتهم في بلد تعيش أغلبيته على الإنتاج الزراعي
وهذا في رأينا هو بعض التفسير المادي للمجادلات الصحفية التي كثرت في السنوات الأخيرة عن التعليم في مصر وضرورة توسيعه أو تحديده أو تغيير مناهجه
وقد تنبه رجال الأعمال في مصر من وقت ظهورهم إلى أن العقبة الأولى التي تقف في سبيل توسعهم الصناعي ورواج بضائعهم هي المنافسة الأجنبية. ومن هنا كانت الدعوة إلى الوطنية الاقتصادية التي لعبت دورها أولاً في حركة الاستقلال وإلغاء الامتيازات، ثم استحالت دعوة مستقلة لتشجيع المصنوعات المصرية. . .
أما العقبة الثانية - وقد بدأ التنبه إليها حديثاً - فهي ضعف السوق المحلية. وما دامت الصناعة المصرية لا تطمع في منافسة الصناعة الغربية في الأسواق الأجنبية، فهي(426/27)
مضطرة إلى الاعتماد قبل كل شئ على السوق المحلية. ولكن ما دام هناك أربعة عشر مليوناً من سكان مصر لا يكادون لفقرهم أن يستهلكوا شيئاً من المصنوعات، فلا أمل لأرباب الصناعة المصرية في الإنتاج الضخم الذي يدر الأرباح الطائلة على زملائهم في الغرب.
(البقية في العدد القادم)
رمسيس يونان(426/28)
6 - مدن الحضارات في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
قرطبة:
يحق للحضارة العربية الإسلامية أن تفخر بما كان لها في عدوة الأندلس من تاريخ مجيد، فلقد كانت الحضارة الشرقية الإسلامية في المشرق يقابلها حضارة إسلامية شرقية في المغرب، ولم يظهر في المشرق عالم جليل أو محدث كبير، أو شاعر شهير، أو فيلسوف حكيم، أو وزير له خطر، أو أمير له قدر، إلا ظهر في المغرب من يدانيه علماً أو ينافسه قدراً أو يزاحمه محلاً
فلقد وقعت المفاضلة بين ابن رشد والطوسي، وبين ابن زهر الحكيم وابن سينا، وبين ابن فرناس والفارابي، وبين ابن هانئ الشاعر والمتنبي، وبين ابن زيدون والبحتري، وبين ابن عبدون والأصمعي، وبين ابن مروان البصري والمعري، فقد كان الشبه بين النظيرين في الفن الواحد قريباً، وكان الفرق بين المتماثلين غير بعيد
وكان حظ المدن من تلك المفاضلة ونصيبها من تلك المقابلة حظ الأتاسي من أهل العلم والنظر والجلال والخطر؛ فهذه بغداد في الشرق على نهر دجلة، وتلك قرطبة في الغرب على الشاطئ الغربي من نهر الوادي الكبير
ولقد أتيح لكثير من المؤرخين في العصور التالية لسقوطها أن يزوروا تلك المدينة الضائعة في ذلك الفردوس الإسلامي المفقود. وزارها في العصر الحديث اثنان من أهل النظر والرأي والأدب والعلم. هما الأمير العربي المسلم الغيور شكيب أرسلان والكاتب المصري الرحالة محمد لبيب البتانونب - صاحب الرحلة الحجازية ورحلة الأندلس
ووصف كل من الكاتبين المدنية الإسلامية على حالها اليوم، ثم تطرق بهما الحديث إلى ذكر تاريخها وشئ من أحداثها، وذكر الجامع العظيم فيها
رأى البتانوني قرطبة في العقد الثالث من القرن العشرين الميلادي (سنة 1927) فلاحت أمام عينيه عربية المظهر، شرقية المنظر (وشكل مبانيها يكاد يكون عربياً صرفاً)
ورآها الأمير شكيب بعد ذلك ببضع سنوات، وقد طحنتها رحى الفتنة حين تأليفه كتاب الحلل، وغيرها حلول المصائب والأحداث، واتصلت الشدائد على أهلها فلم يبق منهم بها(426/29)
وقت زيارته لها إلا الخلق اليسير
ولقد لفت حياء نسائها نظر البتانوني فأثنى عليهن ونعتهن بالاحتشام وغض البصر والإطراق إلى الأرض في غير تحديق إلى الرجال. والظاهر عندي أن ذلك الحياء حياء جميل يكاد يكون طبعاً في نساء الأندلس اليوم، فقد رأيت كثيراً من فتيات أسبانيا المتعلمات يفدن إلى جامعة (تور) بفرنسا لتعلم الفرنسية في عطلة الصيف، ورأيت منهن الحياء والعفة والبعد عن التبرج الممقوت الذي كنت أنعيه على نساء فرنسا، ورأيت منهن ما يؤيد قول البتانوني (ومع أن بلادهم حارة جداً لا تكاد ترى صدورهن عارية)
على أن هناك رحالة ثالثاً معاصراً تعرض لذكر الأندلس في كتابه (السفر إلى المؤتمر) وهو المرحوم احمد زكي باشا؛ إلا أن حديثه عن الأندلس جاء في عرض كلامه عن رحلة إلى المؤتمر، ولم يكن حديث الأصالة كما فعل الأمير شكيب والبتانوني
وأغلب المعلومات التاريخية التي أوردها الرحالتان مستقاة من نفح الطيب الذي اختص قرطبة في الجزء الأول بحديث طويل. ويروي المقري صاحب نفح الطيب عن ابن سعيد المغربي أو عن الشريف الإدريسي، أو عن الحضرمي
ومعتمدنا في كتابة هذا الفصل عن قرطبة على كتاب نفح الطيب الذي يعد بحق مرجعاً وافياً لتاريخ الأندلس
ولقد وصف كثير من العلماء (قرطبة) في أزهى عصورها وأجمل أيامها، ويستشهد (المقري) بأقوال هؤلاء العلماء، إلا أنه لا يذكر أسمائهم ولا يدلي بخبر عنهم، فهو يقول مثلاً: قال بعضهم، وقال بعض العلماء. . . وفي الوقت نفسه يذكر أسماء الأعلام منهم، أو الذين وصل إليهم علمهم، واشتهر عنده اسمهم: كالحجازي والحضرمي وابن سعيد والبكري
ولقد ذكر ابن سعيد عمارة قرطبة فقال: إن العمارة اتصلت بها في أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولاً وفرسخين عرضاً، وذلك من الأميال أربعة وعشرون في الطول وستة في العرض، وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين بطول ضفة الوادي الكبير.
وذكر آدم متز المستشرق في كتابه: (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)، نقلاً عن ابن عذاري المراكشي صاحب كتاب البيان المغرب أن عدد الدور التي كانت بها للرعية دون دور الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر دار، وأن(426/30)
مساجدها ثلاثة آلاف: (الجزء الثاني من الحضارة الإسلامية ترجمة محمد عبد الهادي أبو ربدة ص 227).
ولقد بلغ من اتساع قرطبة وامتداد مساحتها واتصال العمران بها أن عدد أرباضها بلغ واحداً وعشرين ربضاً، وفي كل منها من المساجد والأسواق والحمامات ما يقوم بأهله ولا يحتاجون إلى غيره
وفي خارج قرطبة امتدت قرى كثيرة قدرها ابن سعيد بثلاثة آلاف قرية. وهو عدد إذا فرضنا أن المبالغة التاريخية قد ضاعفته، فهو يدل بغير شك على ازدحام القرى حول تلك العاصمة الإسلامية، كما تزدحم القرى الصغيرة والكبيرة حول (لندن) اليوم مثلاً، وتمتد إلى عشرات الأميال. وقد قدر لنا أن نرى هذه القرى اللندنية من أعوام خلت
وكان القرويون من أهل أندلس لا يقطعون ترددهم على قرطبة واختلافهم إليها في كل مناسبة صغرت أم كبرت، وكان أعظم ما يجذبهم إليها شهود يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة والتسليم عليه ومطالعته بأحوال بلدهم
ولقد بلغت المنافسة بينها وبين بغداد حداً عظيماً، حتى لقد أحبها المؤرخون من أهلها، فحابوها بالوصف، كما يقول المرحوم شوقي: (ولكن من أحب الشيء حابى). . .
وحاول كثير من وصافها أن يلحقوها ببغداد في أيام عظمتها، حتى لقد زعم قوم من أهلها أنها كأحد جانبي بغداد، وإن لم تكن كأحد جانبيها فهي قريبة من ذلك
ولم تكن قرطبة خاملة الذكر وضيعة المحل قبل الفتح العربي ولكنها كانت عامرة فزادها الفاتحون من المسلمين عمراناً، وزادوها عظمة بما بنوا في ضواحيها من القصور الكبيرة أشباه المدن الضخمة (راجع تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان جـ 5 ص 90)
ويغلب على الظن أن قرطبة قبل الإسلام كانت مما شيده القرطاجيون، ثم صارت تابعة للرومان سنة 152 ق. م إلى أن دخلها المسلمون، وجعلوها حاضرة الملك ومقر الأمارة، وحاولوا أن يخلعوا عليها من جلال الملك ما يدنيها من عواصم الشرق الكبرى، ولعبت المنافسة في ذلك الدور العظيم
وكان فيها نظام الطبقات البنائي كما حدث في القاهرة وفي بغداد وفي سامراء وفي دمشق وفي غيرها من العواصم. والواقع أن فكرة التقسيم بين الطبقان قديمة منذ الزمان الأول؛(426/31)
فلقد كان في أيام الفراعنة قصور وأحياء للأشراف وأحياء للعامة
وقد عقد المرحوم جورجي زيدان موازنة بسيطة بيم دور الأشراف في روما إبان عمرانها وبين دور الأشراف في قرطبة إبان عمرانها كذلك، وكانت في الأولى ألفين - على ما رواه (جيبون) وفي الثانية أكثر من ستة آلاف - على ما رواه المقري نقلاً عن غيره
وأعجب ما في قرطبة من بدائع الفن وروائع الهندسة العربية آيتان: القصر الكبير والمسجد الجامع. أما القصر الكبير فكان مؤلفاً من 430 داراً كالكامل والمعشوق والمبارك وقصر السرور وغيرها
وكان في هذا القصر من العجائب الكثير سأل عنه ابن بشكوال فقال بعد كلام: (وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثم للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف، ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان منذ فتح الله عليم الأندلس بما فيها في قصرها البدائع الحسان، وأثروا فيه الآثار العجيبة، والرياض الأنيقة، وأجروا فيها المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة، وتمونوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر الكريم وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرصاص، تؤديها منه المصانع صور مختلفة الأشكال من الذهب الأبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه، إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة. . . وفي هذا القصر القباب العالية السمو، المنيفة العلو، التي لم ير الراءون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها).
وقد بناه عبد الرحمن الداخل الأموي بعدما فر من الشرق ووطد لنفسه في الأندلس ملكاً، وزاد الأمراء من بعده عليه كلُّ على حسب طاقته. ومن المؤلم أن تتطاول يد الزمان وتمتد إلى قصور ذلك القصر وتقتلعها من أساسها، وتدكها من قواعدها، ولم يبق منها بعد مثولها للعيان، وكونها في الزمان، نقش ولا أثر، إلا أثراً يذكر وخبراً يسطر، وقصة تروى، وحديثاً لمن ألقى السمع
وقد اصطلحت على محو تلك القصور والدور عوامل من الزمن، ودوافع من الإحن والمحن. أما الزمن فقد تطاول، والبناء لا يبقى على التطاول، ولا يدوم على امتداد. وأما الإحن والمحن فقد اختلفت على قرطبة، وحدثت الثورات، وفتكت يد التخريب، وأصبح(426/32)
أهل قرطبة منذ عهد المرابطين عرضة للحوادث وغرضاً للشغب. وجاء المتعصبون من النصارى فحاولوا أن يزيلوا للإسلام كل أثر، وأن يدكوا للعرب كل قاعدة، وأن يهدموا من الحضارة العربية كل ركن؛ فزال البناء ومات البنَّاء، وبكى حين لا ينفع البكاء. وهل يرد الملك المضيَّع فيض الدموع، أو يعيد المجد المحطم وقد الضلوع؟ ولم يدم ذلك الجلال طويلاً. ففي القرن الخامس الهجري أخذ كل شيء ينذر بسقوط قرطبة. وقبل ذلك بزمن كانت هذه العاصمة الجميلة مسرحاً للفتن، وميداناً للمحن. وصار الخلفاء يولون ويعزلون في أجل قصير وأمد قريب. فتولاها في مدة يسيرة ستة من الأمويين، وثلاثة من بني حمود، مما انتهى إلى التفرقة والانقسام
وكان الأمراء يختلفون ويحتربون وتسيل دماء الناس على أيامهم. وقام العداء بين أمير وأمير، ومدينة ومدينة. ودارت الحرب بين طليطلة وقرطبة وظلت بضعة أعوام تتخللها معارك مضطرمة بين الفريقين، انتهت نهاية مؤلمة ومصيراً محزناً بالنسبة إلى قرطبة وحاكمها ابن جهور. فقد صاحب طليطلة بابن جهور وضرب الحصار على العاصمة القديمة للأندلس، ولم يرفع عنها إلا بعد أن أسيلت الدماء، وانهارت على إثر ذلك دولة بني جهور في قرطبة
ومن هذه الفتن أيضاً ما حدث بعد ذلك بقليل، فقد هاجم أهل طليطلة ومرتزقة قشتالة على غرة، فسقطت في أيديهم بلا مقاومة، ولكن نشبت بين الفريقين في الزهراء - مجمع القصور الملكية - معركة دموية دافع فيها الحرس عن القصور دفاعاً شديداً. وقتل ابن الأمير ابن عباد، ورفع رأسه على رمح وطيف به في شوارع قرطبة
ولم يطل ملك بني عباد، حتى تغلب عليه المرابطون سنة 481 فالموحدون سنة 539؛ وانتقصت أطراف هذا الفردوس الجميل شيئاً فشيئاً
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن(426/33)
3 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
المنازل
وحجرات الطابق الأرضي لها نوافذ صغيرة مركبة من قضبان الخشب المنقور مرتفعة بحيث تسمح للراجل أو للراكب أن ينظر من خلالها. أما الغرف العلوية فنوافذها تبرز بمقدار قدم ونصف قدم أو أكثر؛ وأغلبها مصنوع من الخشب المخروط المشبك؛ وهو لضيق ثقوبه، يمنع كثيراً من النور والشمس، ويحجب سكان المنزل عن الأنظار؛ ولكنه في الوقت نفسه يسمح بدخول الهواء. ومن العادة ألا يصبغ هذا الخشب، ولكن القليل منها يصبغ بعضه بالأحمر والأخضر، وبعضه يصبغ كله. وهذا النوع من النوافذ يسمى روشنا، ولكنه في الاصطلاح الغالب يسمى مشربية؛ والكلمة الأخيرة لها وضع آخر سيذكر بعد
وكثير من النوافذ المختلفة الأنواع مصور في هذا الكتاب؛ وقد أوردت على قياس أوسع رسوماً لأكثر نماذج الشبابيك شيوعاً. انظر شكل (3). وقد يكون للنافذة الموصوفة آنفاً مشربية صغيرة تشبه نوعاً ما روشنا مصغراً، تبرز عند الواجهة أو عند الجانبين. وتوضع فوقها قلل من الفخار ذات مسام لتبريد الماء بتعريضه لتيار الهواء. ومن هنا اشتق أسم (مشربية) ومعناه (مكان الشرب). ويعلو النافذة البارزة مباشرة نافذة أخرى مسطوحة من الخشب المشبك أو من القضبان الخشبية أو من الزجاج الملون. وشباك هذه النافذة العلوية، إذا كان لها شباك، كثيراً ما يكون ذا رسوم قوامها موضوعات تصويرية أكثر من الأنواع الأخرى، فيمثل طستاً فوقه إبريق، أو صورة أسد، أو اسم الله، أو أمثال هذه الجملة: (الله أملي) الخ. وقد تكون النافذة البارزة ملوحة كلها بالخشب، وقليل منها يميل إلى الأمام من أسفل إلى أعلى بزاوية عشرين درجة تقريباً. وتفتح من القمة لدخول النور. وبعض الأشكال الغالبة، وتكون جوانبها ذوات ألواح زجاجية. وفي أجمل المنازل أيضاً تجهز شبابيك النوافذ الآن بألواح زجاجية من الداخل فتقفل كلها في الشتاء لأن البرد القارس(426/34)
يشعر به المصريون عندما تنخفض الحرارة إلى أقل من ستين درجة فاهرنهايت. وأما نوافذ الدور الدنيا فأكثرها من طراز آخر لأنها مستوية مع سطح الحائط الخارجي. وجزؤها الأعلى يكون شباكاً أو قضباناً خشبية، والجزء الأسفل له درف معلقة يقفل بها؛ والكثير منها له مشربية للقلل تبرز عند جزئه الأسفل
وتتألف المنازل، على العموم، من طابقين أو ثلاثة ويتوسط كل دار كبيرة فناء مكشوف غير مبلط يدخل إليه من دهليز ينعطف مرة أو مرتين بقصد منع المارين في الطريق من النظر إلى الداخل. وفي هذه الطرقة من داخل الباب يوجد مقعد حجري طويل يسمى (مصطبة) وهو ملاصق للحائط الخلفي أو الجانبي يجلس عليه البواب والخدم الآخرون. وفي هذا الفناء بئر يتسرب ماؤه المائل للملوحة خلال الأرض من النيل، كما يوجد في جانبه الظليل جرتان يجلب إليهما الماء يومياً من النهر في قرب. وتطل الغرف الرئيسية على الحوش، وتغطى جدرانها الخارجية بالجص وتبيض. وهناك كثير من الأبواب تفتح على الفناء، منها واحد يسمى (باب الحريم) وهو مدخل السلم الذي يؤدي إلى الحجرات المخصصة للنساء ولرب الدار وأولاده
ويوجد غالباً في الطابق الأرضي غرفة تسمى (منضرة) يستقبل فيها الزائرون من الرجال. ولهذه الغرفة نافذة واسعة من القضبان الخشبية، أو نافذتان من هذا النوع تطلان على الحوش، وأرضيتها جزء صغير يمتد من الباب إلى الجهة المقابلة منخفضاً عن بقية الغرفة بأربع أو خمس بوصات تقريباً. ويطلق عليه اسم (درقاعة). وهذه الأخيرة تبلط في المنازل الجميلة برخام أبيض وأسود، وبقطع صغيرة من القراميد الحمر الجميلة في نماذج معقدة أنيقة، ويتوسطها فوارة تسمى (فسقية) يتدفق ماؤها في بركة صغيرة قليلة الغور، مخططة برخام بلون الأرضية المحيطة بها. وتصرف مياه هذا النبع من الحوض بواسطة ماسورة. وأمامك نموذج من أرضية الدر قاعة شكل 6 كما وصفتها آنفاً
ويوجد في نهاية الدرقاعة في مواجهة الباب رف من الرخام أو من الحجر العادي على ارتفاع أربع أقدام تقريباً يطلق عليه اسم (صفة) يستند على عقدين أو أكثر، أو على عقد منفرد؛ ويوضع تحته أوعية للاستعمال العادي مثل أوعية (العطور) والطست والإبريق المستعملين للغسيل قبل الأكل وبعده وللوضوء، كما توضع فوقه أواني المياه وفناجين(426/35)
القهوة وتكسي عقود الصفة في الدور الجميلة بالرخام والقراميد على مثال بركة الفسقية أنظر (رقم 7 ورقم 8) كما يكسى الحائط الذي يعلوها إلى ارتفاع أربع أقدام أو أكثر تقريباً بمواد مماثلة: جزء منها بألواح رخامية كبيرة قائمة، والجزء الآخر بقطع صغيرة على أسلوب الدرقاعة. أما المنصة أو الجزء المرتفع من الأرضية فيسمى (ليوان)
ويجب على كل داخل أن يخلع نعليه في الدرقاعة قبل الصعود إلى الليوان؛ وهذا الليوان يبلط عادة بالحجر العادي، ويفرش بالحصير صيفاً وبالبسط فوق الحصر شتاء، وتوضع فوقه الحشايا والوسائد ملاصقة للجدران، ويسمى حينئذ (ديوان). وتوضع الحشية التي يبلغ عرضها حوالي ثلاث أقدام، وسمكها ثلاث بوصات أو أربعاً، على الأرض عادة. أما الوسائد وطولها بقدر عرض الحشية، وارتفاعها مساو لنصف هذا القياس، فتستند مائلة إلى الحائط. وتحشى الحشايا والوسائد بالقطن وتغطى بالشيت المطبوع أو الجوخ أو بما هو أغلى ثمناً. وأحياناً توضع الحشية على سرير من جريد النخل، وأحياناً أخرى توضع على منصة حجرية تعلو إلى نصف قدم تقريباً وتسمى (سدلة)، وهي كلمة من أصل فارسي تطلق أيضاً على فجوة عرضها مساو لعمقها تقريباً، وبها فرش ووسائد حول جوانبها الثلاثة. ويلاحظ أن بعض الغرف به مكان أو أكثر من هذه الأمكنة الداخلة تستخدم للجلوس شتاء وهي لذلك تبقى بدون نوافذ. أما حوائط الحجرة فتغطى بالجص وتبيض. ويوجد في داخل جدران الغرفة دولابان أو ثلاثة قليلة العمق، بمصاريعها حشوات خشبية دقيقة الصنع، لأن الحرارة ويبوسة الجو يعرضان الخشب للتقلص والالتواء كما لو كان داخل تنور؛ ولهذا السبب تصنع أبواب الغرف أيضاً بالطريقة نفسها. ويلاحظ أن هناك تفنناً عظيماً ومهارة فائقة في مختلف الأساليب المتبعة في صنع تلك الحشوات الصغيرة وتركيبها، وقد نشرت بعض نماذج مختارة منها شكل 9. أما السقف الذي يعلو الليوان، فهو ذو جسور من الخشب المنقور يبعد الواحد منها عن الآخر مسافة قدم؛ ويلون بعضها أو أحياناً بذهب، ولكن هذا الجزء من السقف الذي يعلو الدرقاعة يكون في المنازل الجميلة أفخم نقوشاً وأكثر زخرفة. وبدلاً من العروق الكبيرة تسمر بضعة شرائط خشبية دقيقة في الألواح فتؤلف نماذج غريبة التعقيد، كاملة الانتظام، ذات تأثير زخرفي عظيم.
وقد رسمت جزءاً من السقف على هذا الأسلوب الزخرفي، ولكنه ليس من الطراز الكثير(426/36)
التعقيد (شكل رقم 10). وهذه الشرائط تدهن بالأصفر أو تذهب، وما بينها يلون بالأخضر والأحمر والأزرق. وتكون الألوان في المثل الذي ضربته، كما هو مشار إليها في الرسم بالنسبة نفسها، ولكن على مقياس أكبر. أما المربع الذي يتوسط السقف حيث تكون الشرائط سوداء على أرضية صفراء. وكثيراً ما يتدلى قنديل من وسط هذا المربع. وهناك بضعة نماذج متشابهة، وألوانها - الواحدة بالنسبة للآخر - توضع غالباً بالترتيب نفسه؛ إلا أن هذه السقوف في بعض المنازل لا تلون. أما سقف النافذة البارزة فكثيراً ما يزخرف بالطريقة نفسها كما ترى في الشكل 11. وهكذا يتجلى الذوق السليم بقصر الزخرفة على الأجزاء التي لا تكون دائماً أمام العين، لأن إدمان النظر إلى مثل تلك الخطوط الكثيرة المتقاطعة المتجهة في اتجاهات عديدة مما يؤلم العين
(يتبع)
عدلي طاهر نور(426/37)
إيماءة إلى الله. . .
إلى طيفها الذي لا يفارقني
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
. . . وَأَوْمَأْتُ لِلّه عَلِّي أَرَاهَا!
مَعَ اللَّيْلِ تَسْرِي بِقلبي خُطاها
مَعَ الصَّمْتِ يُشْجِي خَيالي نِداها
مَعَ الزَّهْرِ يَرْوَي دَمِي مِنْ شَذاها
مَعَ الطَّيْرِ تَرْوِي لِرُوحي أَساها
مَعَ النَّفْسِ تَجْرِي هَوَى في هَواها
وَيَجْري بِدَمْعِ اللَّيالي بُكاها. . .
فَقَالَ لِيَ اُلغَيْبُ: ضَلَّتْ سُرَاها!
فَهَامَتْ مَعَ الْمَوْجِ حَتَّى طَوَاها
وَذابَتْ مَعَ الْفَجْرِ حَوْلي رُؤَاها
وَرَفْرَفَ مِنْ حَاجِبَيْهِ سَناهِا
وَأَشْرَقَ مِنْ رَاحَتَيْهِ صِبَاها
وَكانَتْ لَهُ غُنْوَةً في لِقاَها
وكانَتْ لهُ آهَةً في نَواها
وكانَتْ لهُ قِصَّةً ما رَوَاها
لِغَيْرِي، وَغَيْرُ الرُّبَى. قُلْتُ: وَاها!
فياَ لَيْتَهُ نَحوَ قلبي هَداها
وَنَضَّرَ مِنْ صَفْحَتَيْهِ ثَرَاها
فَإِنْ ظَمِئَتْ مِنْ شَبَابي سَقاها
وَإِنْ شقِيَتْ سَاقَ دَهْري فِداها
فمَالي مَدَى العُمْرِ سِحْرٌ سِواها
هَتَفْتُ. . . فَصَدَّتْ نِدائَي سَماها!(426/38)
فَأَوْمَأتُ لِلهِ. . . عَلَّيَ أَرَاها
كَأَنِّي (بسَيْناَءَ) صَوْتٌ تَنَاهَى
إلى شَفَةِ الْغَيْبِ يَدْعُو الإلها. . .
(النخيلة)
محمود حسن إسماعيل(426/39)
من الأدب الفرعوني
نشيد السيفين
من رواية (مصر الخالدة) التي ألفها ويخرجها الأستاذ (فتوح نشاطي). وهي مسرحية فرعونية، تفتتح بها الفرقة القومية موسمها التمثيلي المقبل. . .)
للأديب عبد الرحمن الخميسي
هَيْهَاتَ تُغْفِلُ ذِكْرَناَ الأيَّامُ ... وَلمصْرناَ الْبتَّارُ والبسَّامُ
سَيفانِ تَرجُفُ إِنْ رَأتْ حَدَّيْهما (م) ... الأرَضُونَ وَالْجوْزَاء وَالأيَّامُ
الْهَولُ مِنْ حَوْليْهما عَبْدٌ، فكَمْ ... أَمَرَ فَبَاَدَتْ فيِ الوَغَى أَقْوامُ
وَالْموتُ يَكْمنُ فِيهمَا، فكأَنما ... هُوَ أَنفُسٌ وَهماَ لَهُ أَجْسامُ
سَلْ فِي المَعارِكِ كم أَرَاقَا مِنْ دَمٍ ... قَدْ صَفَّقتْ لَهُما بهِ الأعْلامُ
فَكلاهُما بَطَلٌ يُباركُ بَأْسهُ ... مِنثٌ وَتفْزعُ مِنْ أَذاهُ الهامُ
ثبْتٌ عَلَى الأحْداثِ يَصرعْ بَطْشَها ... فإذَا بها فَوْقَ الرَّغامِ رَغَامُ
قَدْ شرَّدَ الأعْدَاَء فِي البَلوَي كما ... لوْ شُرِّدتْ فِي الْمهْمهِ الأنْعَامُ
أيَّامَ يُوغلُ فِي الدِّماءِ حَديِدهُ ... ظَمْآنَ لا يَرْوِي صَداهُ حِمَامُ
ويُجَدلُ الأحْبَاش وَالْخيتاسَ فِي ... سُوحِ الوَغَى فَتُكبِّر الأهْرَامُ
وَلقَدْ غَزَا البَسَّامُ فينقيا فَمَا ... خَشَعَتْ لِغيْرِ شَباتِهِ الإفْهَامُ
وَمَشَى به رَمْسيسُ يَفْتتحُ الدُّنَى ... مِثْل القَضَاءِ فُتُوحُهُ أحْكامُ
وَالمجْدُ للْبتَّارِ مِنْ سَيْفٍ قَضَى ... ألا يَرَى أرْضَ الْعَدوِّ سَلاَمُ
يَسْتلُّهُ (مِنْتوحُتبْ) مِنْ غِمْدهِ ... فَتَهابُ حَتَّى فَتْكهُ الأصْنامُ
لكنَّهُ والْحرْبُ تَرْعَى بِاسْمهِ ... فِي قَادِشٍ وَجُيوشُهُمْ أغْنَامُ
وَالصَّفُّ بَعْدَ الصَّفِّ مُنْهَارٌ كما ... تَنهَارُ تَحْتَ التَّلْعَةِ الأكوَامُ
خَانَتْهُ مِنْ مِنْتُوحتِبْ يَدُهُ التي ... خَارَتْ فَطَارَتْ إِثْرَهُ الأحْلاَمُ
وَأسْتَأْثَرَ الْخِيتاَسُ بِالسَّيْفِ الذي ... كانتْ تُقَدِّسُ مَجْدهُ الأعْوَامُ
لكِنَّناَ والْحُزْنُ يَفْرِى رُوحَناَ ... مِنْ أَجْلِهِ وَتَهُدُّناَ الآلامُ
مُتَمَرِّدُونَ عَلَى الزّمانِ جَبَابِرٌ ... تَرْتَاعُ مِنْ أَهْوَالِناَ الأيَّامُ(426/40)
(القاهرة)
عبد الرحمن الخميسي(426/41)
البريد الأدبي
كليلة ودمنة
قرأت ما كتبه في الرسالة (العدد 425) الأستاذ عبد السلام محمد هارون فشكرت للكاتب الفاضل حسن رأيه، وجميل ثنائه وأعجبت بتدقيقه وتحقيقه، وتلقيت بالقبول والسرور نقده الذي يبن عن صدق النية، وخلوص القصد في طلب الحق. وكلنا طلاب علم نسأل الله الهداية والتسديد!
وقد أخذ الأستاذ على الكاتب مآخذ وهذا بيان رأيي فيها: قال بعد أن ذكر كثرة التحريف في النسخة المخطوطة، والجهد الذي بذل في تصحيحها:
(ونحن في هذا الصدد نأخذ على الأستاذ أنه لم يتوخ النشر العلمي من إثبات الأصل والتنبيه عليه فقد يكون للقارئ وجه في التصحيح غير الذي ارتضى. . . وكتاب مثل كتابنا لبس من جلال التاريخ ما ليس جدير بما ذكرت من وجوب بيان أصله للرجوع إليه ووجوب مقارنة نسخه بعضها ببعض)
والجواب أن مذهبي في النشر ألا أخالف النسخة التي اتخذتها أصلاً إلى حين أن يتضح غلطها، وإن كان هذا الغلط في مواضع قليلة أثبته في مواضع. أثبته في الحاشية ليعرف القارئ ما وقع في أصل الكتاب؛ ولكن نسخة كليلة ودمنة التي أنشرها مملوءة بأغلاط واضحة كثيرة لا ينال الناشر والقارئ من إثباتها إلا العنت
وأما مقارنة النسخ المختلفة فقد بينت في المقدمة أن النسخ المطبوعة، إلا نسخة شيخو، ملفقة مغيرة تصرف فيها الناشرون كما شاءوا على غير خطة معروفة. ثم بين هذه النسخ كلها بعضها وبعض، وبينها وبين نسختنا ونسخة شيخو، ثم بين هاتين النسختين من الاختلاف ما لا يمكن إثباته في الحواشي بل يختلف السياق أحياناً حتى يحسب القارئ أن أمامه كتباً مختلفة
ثم يرى الأستاذ أن (لفة ابن المقفع في كليلة ودمنة لغة عالية تعلوا على المتأدب والأديب أيضاً فهي محتاجة إلى توضيح وتقليد وبيان. . . الخ)
وليس هذا رأياً في هذه الطبعة التي أريد بها أن تكون في الأغلب هدية للعلماء والأدباء لا أن تكون كتاباً مدرسياً يؤدي به الناشئون. نعم ربما يستعان بهذا الكتاب على درس أساليب(426/42)
ابن المقفع وأساليب النثر في عصره، ولكن هذا بحث آخر لا يتعلق بمقصدنا من نشر الكتاب
ثم أخذ الأستاذ ألفاظاً رأى أنها خالفت الصواب. وقد بينت رأيي فيها على الترتيب الذي ساقه في مقاله:
1 - ص 36 س 6: كالعظم المتعرِّق، والصواب المتعرَّق بفتح الراء كما قال الأستاذ، وهي زلة مطبعية فاقت عناية المصحح واجتهاده
2 - 81: 5 و 6: (ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت، وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة. . . الخ). قال الأستاذ: الوجه يفتدى.
وعلل هذا بقوله: فأهل البيت لا يفعلون الافتداء، وإنما يفعل بهم ذلك غيرهم. . . الخ
ولست أرى هذا الرأي، فأهل البيت يفتدون أنفسهم؛ وفي القرآن الكريم: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به). ومثلها آيات أخرى، فلا وجه للعدول عن المعلوم إلى المجهول. ويؤكد هذا أن اللزوم في افتدى هو الأصل؛ وقد عرضت لها التعدية، ولم ترد في القرآن إلا لازمة. فالعدول إلى البناء للمجهول عدول عن الأصل لغير سبب
3 - 87: 6: يقول دمنة للثور: (إن أنت رأيت الأسد ينتصب مقعياً ويرفع صدره. . . الخ. فاعلم أنع يريد قتلك، فاحذره ولا تغتر إليه). يقول الأستاذ: لا يقال اغتر إليه بل اغترَّ به، ويرى أن الصواب لا تقترب إليه وقد بينت في المقدمة أن كثيراً مما وقع في الكتاب من تحريف سببه تغيير العبارات غير الشائعة إلى العبارات الشائعة. وأرى أن كل فعل يعدّى بإلى إذا أريد الانتهاء إلى ما بعده، أو الركون إليه. فلذلك يقال: استمع إليه، وجلس إليه، وسكن إليه. وفي القرآن: (إلى ربك يومئذ المستقر): فما رأي الأستاذ في أن يقال استقر إليه؟. . . فالتعدية: بالي وعلى نحوهما جائزة إن كان في الفعل ما يدل على الانتهاء أو العلو صراحة أو ضمناً. وإنما الكلام في تعدية الفعل إلى المفعول به، أيتعدى فيها الفعل بنفسه أو بالياء. . . الخ. ومعنى اغتر إليه هنا سكن إليه أو ركن أو نحو ذلك مما يتضمنه معنى الانتهاء أو الركون
4 - 91: 12 (وندفن بقيتها مكاناً حريزاً). قال الأستاذ وهذه عبارة غير صحيحة والصواب في مكان حريز. ونقل عن همع الهوامع وشرح الكافية كلاماً في اسم المكان،(426/43)
وانتهي إلى قوله: (وليس الدفن من الاستقرار في شيء فلا ينصب لفظ المكان على الظرفية المكانية) وهذه الجملة تبطل الاحتجاج الطويل الذي نقل له ما نقل عن كتب النحو. ففي الدفن إقرار واستقرار ولا ريب، وأنا أعرف أن في النسخ الأخرى: (وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة فهو مكان حريز، أو ندفن بقيتها في مكان حريز) ولكني لا أغير نص الكتاب ولو كان غيره أرجح منه حتى يكون غلطاً واضحاً لا شبهة فيه، فكيف وليس فيه غلط ولا شبهة الغلط؟
5 - 95: 13 (وبلاء يضيع عند من لا شكر له) قال الأستاذ وبين اللغويين خلاف في أن يكون البلاء بمعنى الإنعام ونقل في هذا كلاماً عن نهاية أبن الأثير ولسان العرب
وليس لازماً أن يكون البلاء هنا بمعنى الإنعام، بل الأرجح أن يكون بمعنى الاختبار، والبلاء اختبار بالخير والشر. فكل معروف تصطنعه عند إنسان هو بلاء عنده.
6 - 221 - 5 (ولكن إيش الفائدة) قال الأستاذ: (وهذا ضبط عامي والصواب أيش). وقد بينت في المقدمة رأيي في هذا الباب ولغته وقلت: (بل أرى فيه من الركاكة ومقاربة العامية الخ المقدمة ص50) ولم أتبعه إلا اتباعاً لنسخة الأصل واستيفاء للبحث.
وبعد. فالأستاذ مشكور على نقده، ولعل فيما أجبت به ما يزيل شبهته.
عبد الوهاب عزام
في مدن الحضارات
أشكر للأستاذ الفاضل كوركيس عواد العراقي ما أبداه من الغبطة بما أكتب في الرسالة الغراء (عن مدن الحضارات) وأنا سعيد لأنه يتابع ما انشره متابعة الباحث المتمكن، والقارئ المتفطن، ولا عجب إذا لفتته مدينة السلام أو دار السلام بما كتبته عنها فقد عرفت مما ينشره في الرسالة أن بغداد دار إقامته
وللأستاذ الشكر على ما كتبه خاصاً ببركة المتوكل مصححاً به ما توهمت من أنها كانت في بغداد. ولعل الأستاذ وهو جد قريب من سامراء يحدثنا حديث المؤرخ الثبت عن (المختار) و (البديع) أجمل قصورها وعن ساجهما الذي حمل إلى (الجعفري) وعن (المتوكلية) التي بناها قرب سامراء وبنى فيها قصر (اللؤلؤة)(426/44)
أما نسبة (جميل نخلة المدور) إلى العراق فهي شائعة عندنا في مصر ولعلها نسبة جاءت إليه من سبيل كتابته على حاضرة العراق
والحق أنني لم أقرأ ترجمة لهذا الباحث العظيم، وكل ما قرأت له أو عنه كتابه (حضارة الإسلام) وتقريظ كتبه المرحوم الدكتور يعقوب صروف في مقتطف شهر مايو سنة 1888م. المجلد الثاني عشر صفحة 515 وفيه عن جميل نخلة المدور أنه (قد ربي منذ نعومة الأظفار على سلامة الذوق، ورضع آداب العرب والعجم مع اللبن، وأوتي قريحة وقادة لا تخبو نارها بسلامة عبارته، وبصيرة نقادة لا يخفى شرارها بطلاوة نوادره وحسن فكاهته، وجداً يستسهل المتاعب، وثباتاً يغلب المصاعب)
ولا تجد في الطبعات المختلفة التي طبعتها وزارة المعارف المصرية من هذا الكتاب القيم ترجمة مختصرة أو مطولة لكاتبه
ونحن منتظرون تعريفاً بمؤرخ بغداد اللبناني من الباحث العراقي الأستاذ كوركيس عواد وله الفضل والشكر
أما ورود كلمة (الحرامات) في مقالي مكان (الحراقات) فذلك خطأ لم أكن - شهد الله - من جناته، فكيف أصلي بحره؟ والطابعون دائماً يريدون ما لا يريد الكاتبون؛ وكثيراً ما يحرفون الكلم عن مواضعه، وإذا كان صاحب المقال معذوراً في خطأ أقحم عليه فما عذر القارئ اللبيب؟
(المنصورة)
محمد عبد الغني حسن
إلى وزارة المعارف
أعلنت وزارة المعارف عن مسابقة القصة في غضون شهر مايو من هذا العام وحددت يوم 15 أكتوبر آخر موعد لقبول قصص المتبارين - ولعل وزارة المعارف راعت في هذه المواعيد ظروف معلميها وطلبتها دون أن تلتفت إلى عوامل أخرى أكثر أهمية.
ونلاحظ (1) أن المدة كلها واقعة في الصيف، والصيف فصل الركود والراحة والاستجمام، والنشاط فيه محدود، خصوصاً النشاط الذهني، والقصة - بحكم طولها - عمل فني دقيق لا(426/45)
يخلو من مزالق، ووحدة الموضوع والحبكة الفنية عاملان جوهريان في كل قصة. لذلك نرى أن الصيف غير ملائم للإنتاج القصصي
(2) المدة قصيرة جداً لا تكفي لإنتاج عمل فني بارز - وكثير من مشاهير الكتاب العالميين ينتجون قصة كل عامين فكيف تتسع خمسة أو ستة أشهر لكتابة قصة؟!
(3) العالم يعيش الآن على كف عفريت. والظروف التي نعيش في حلقتها تشغل البال وترهق الأعصاب وتستهلك كثيراً من النشاط الذهني؛ فالإنتاج الأدبي يستلزم وقتاً أطول مما كان يستلزمه وقت الدعة والسلام. والذي نعرفه أن هذه العوامل صرفت الكثيرين من الأدباء عن التفكير في مباراة وزارة المعارف. لهذا نعتقد أننا نعبر عن رغبات الكثيرين حين نتقدم إلى معالي هيكل باشا راجين أن نتفضل ويمد أجل المباراة حتى نهاية يناير على الأقل ليتاح للأدباء إنتاج قصص ناضجة تحقق أمل الوزارة.
ق - ع - سوس
إلى الأستاذ محمود الخفيف
حرمت قراءك ومحبي الرسالة من مقالاتك القيمة، وأسلوبك الممتع. فما الذي حجبك عنا؟ أنفدت الشخصيات التي تكتب عنها، أم نسيت منظارك في القاهرة وأخلدت إلى الريف الحبيب إلى نفسك؟
أرجو أن تعود سيرتك الأولى؛ وإني أنتهز هذه الفرصة فأستوضحك عن الشخصيات التي تكتب عنها هل هي موجودة حقاً، أم هي عيوب المجتمع ألبستها هذا اللباس فكانت كما رأينا؟
(أسيوط)
زكي عبد الله
الجواب
أشكر لك يا أخي تحيتك ومودتك. أما جوابي عما جاء في كتابك عن تلك الشخصيات فهو أن عملي فيها هو كعمل القصصي الذي يخلق أشخاص قصته؛ فهي إذاً أشخاص من خلق(426/46)
الخيال؛ وأحسب أن ذلك هو سبب ما قد يكون لها من قيمة. وما كتبت عن شخص بذاته، وإلا لما استطعت أن اكتب على النحو الذي أرى قوامه الابتكار والخيال.
الخفيف
1 - الألقاب لا ترتجل
اطلعت على ما دار بين الأستاذين محمد عبد الغني حسن وجمال الدين الشيال حول تلقيب الأمير نجم الدين بن أيوب - بالملك الصالح - فرأيت أن أنقل كلمة فيمن لقب - بالصالح - من كتاب (نزهة الألباب في الألقاب للحافظ أبن حجر العسقلاني - من مخطوطات دار الكتب المصرية):
الصالح: أول من لقب به من الملوك: طلائع بن رزيك وزير الفاطميين. ثم الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد.
ثم الصالح أيوب بن الكامل بن العادل بن أيوب. ثم لقب به جماعة من الملوك؟
2 - لفتة
جاء في مقال الأستاذ عبد السلام هارون في نقد (كليلة ودمنة) ببيت المنتخل الهزلي هكذا:
ويلمه رجلاً تأتي به غبناً ... إذا تجرد لا خال ولا بخل
والصواب: تأبى به غبناً، على ما في (شرح أدب الكاتب للجواليقي) ص 260 حيث قال في شرح البيت: يقول تأبى به أن تظلم إذا كان معك. . . وسبب غلط الأستاذ هارون هو اعتماده على (الاقتضاب للبطليموسي) و (أدب الكاتب) حيث ورد فيهما البيت كذلك مصحفاً.
3 - العود أحمد
قررت وزارة المعارف في تركيا إعادة طبع (كشف الظنون) عن نسخة المؤلف مع منهوات له لم تكن في الطبعات السابقة، وإكمال خرم كان فيها، والإشارة والتنبيه على أغلاط الطبعة الأوربية، وضم ذيول نادرة إليه للعلماء الآجلة: رئيس الأطباء الشيخ بهجت، والشيخ محمد أسعد صاحب المكتبة العامة المشهورة في الآستانة، والشيخ عارف حكمت شيخ الإسلام صاحب المكتبة العظيمة في المدينة المنورة، وإسماعيل باشا البحاثة(426/47)
المعروف، والعلامة إسماعيل صائب مدير مكتبة بايزيد العامة، رحمهم الله. وقد صدر الجزء الأول منه مطبوعاً بحروف عربية ممتازة في نحو خمسمائة صفحة في كل صفحة عمودان، وأسماء الكتب في أوائل السطور ويحققه جماعة من الاختصاصيين
أحمد صفوان
القاموس السياسي
في الوقت الذي زخرت فيه الصحف بالمباحث السياسية، واتصلت فيه الحوادث اتصالاً سريعاً بما قبلها من نقط التاريخ الفاصلة، ومعاهدات الأمم ومواثيقها، وأسماء الكبار من الساسة، وحركات المذاهب المتوازية والمتعارضة، اصدر باحث مصري مدقق (قاموساً سياسياً) يكون في هذا الظرف، وفي كل الظروف بالطبع، رائد المهتمين بهذه الشؤون والمباحث، ومعيناً لهم على اختصار الوقت، وضبط المعلومات، وإدراك الغاية مما يتلمسون البحث عنه في غيابه المراجع العربية أو في تيه المصادر الأجنبية
فالقاموس السياسي قد أخذ محله كما أراد له الأستاذ أحمد عطية الله في صدر المكتبة العربية، أو في (جيب) صدارها كما يقول أصدقاؤه، وأصبح بداية طيبة في تاريخ هذه المكتبة لنظم الكثير الصالح من أمثال هذا المعجم في كثير من الأغراض والأبواب
ولسنا نغمط الأستاذ عطية الله حقه إذا قلنا إن هذا القاموس الذي أصدره وإن يكن قد صار اليوم مرجعاً سريعاً للباحث أو القارئ، إذا ما اعترض أحدهما شأن من الشؤون العامة، فإن افتقاره إلى زيادة العناية بالشؤون العربية، وإلقاء الضوء على الكثير من تلك الروابط القوية التي تجمعها وتحركها ويجعل من حق الذين قدروا جهده في هذا السبيل أن يلفتوا نظره إلى تلافي هذا النقص عند إعادة الطبع إن شاء الله
ويبدو أن شبهة عدم الانسجام في (الشؤون العربية) في القاموس ظاهرة أيضاً في بعض ما تناوله من المسائل الدولية والأوربية. على انه ليس من شك مطلقاً في أن مثل هذه الشوائب في كتاب يصدر في مثل هذا الظرف، لتغني به المكتبة العربية في مثل هذا الباب - كانت متوقعة لأي كاتب، وذلك لحداثة التأليف في هذا الموضوع وقلة المراجع، وصعوبة الحصول عليها. فهذا العمل الذي قام به الأستاذ عطية الله سيظل مشكوراً على كل حال(426/48)
(أ. ص)(426/49)
القصص
الليلة الثانية بعد الألف
سهرة المليونير
قصة عصرية على طراز ألف ليلة وليلة
للأستاذ محمد علي غريب
فلما كانت الليلة الثانية بعد الألف قالت شهرزاد: سأقص عليك أيها الملك السعيد قصة سهرة المليونير، قال الملك شهريار:
- ومن هو المليونير يا شهرزاد! أهو ملك قبيلة في الجان، أم تاجر لؤلؤ في جزائر واق الواق؟!
وتبسمت شهرزاد فكشفت عن أسنان كأنها الدر المنظوم، ثم قالت: لا هذا ولا ذاك أيها الملك السعيد، فالمليونير هو صاحب مليون من الدنانير فأكثر
- مليون من الدنانير! ما هذه الأحاجي أيتها الجارية! وكم هو عدد المليون؟
- يعني ألف ألف دينار يا مولاي. كل من ملك ألف ألف عد مليونيراً. ولنبدأ القصة من أولها. فقد زعموا أنه كان في مصر شاب أسمه الشاطر (ممدوح) توفى والداه في حادث قطار بخاري و. . .
- قطار بخاري؟ ما هذا الكلام المبهم!
- القطار البخاري يا مولاي مركبات تقودها آلة، وهذه الآلة تتحرك بقوة البخار وتأكل الفحم، ويسمع لها دوي هائل وهي تسير؛ فإذا تعرض لها أحد سحقته سحقاً. وقد وقع لأبوي الشاطر (ممدوح) ذلك فأكلهما القطار البخاري كأنهما قطعتان من الفحم
- وهل القطار البخاري يا شهرزاد منسوب إلى بخارى، وهل تجره خيول أم بغال؟
- كلا يا مولاي إنه منسوب إلى البخار: بخار الماء حين يغلي، ولا تجره خيول ولا بغال، ولكنه يسير على قضيب من حديد. ولنعد إلى الشاطر (ممدوح) فقد أصبح وحيداً في هذه الدنيا حتى عثرت به سائحة أمريكية
- تقولين أمريكية! من أي بلاد هي يا شهرزاد؟(426/50)
- أمريكا يا مولاي بلاد بعيدة يسكنها الكفار، وظلت مجهولة حتى عثر عليها رجل أسمه (خريستوف كولمبس)، وهو كافر أيضاً. وقيل إن العرب كشفوا عنها قبله بدليل وجود مسلمين توطنوا هذه البلاد في جزر (الفلبين)
وقد ربته هذه السائحة أحسن تربية، ثم سافرت فأخذته معها إلى أمريكا، وهناك أيفع واستوى، فلما ماتت الأمريكية أوصت له بجميع أموالها إذا لم يكن لها أهل يرثونها
- وتوفر الشاطر ممدوح على تنمية ثروته، فساهم في صناعة (الأتومبيلات)، وكان هو الذي أعان مخترع (الفتوغراف) على إتمام اختراعه، وأنشأ محطة للراديو و. . .
- حسبك أيتها الجارية! ما هذه الرطانة التي تذهب العقل؟
- الأتومبيل يا مولاي سيارة تجري بقوة النفط المكرر
- وحدها!؟
- وحدها. . . كالقطار البخاري تماماً، ولكنها لا تسير على قضيب من حديد. والفتوغراف صندوق يوضع فيه قرص من الشمع الأسود المنقوش، وهناك إبرة ممغنطة تدور حول القرص فتسمع الصوت الذي سجل، فإما غناء وإما موسيقى وإما حديثاً يروى. والراديو آلة تلتقط الأصوات من مكان بعيد، فلو كان هنا راديو لأمكنك أن تسمع الهمس الذي يدور في القصر المسحور وراء السبعة بحور
- إن كان هذا من صنع الجن فلا غرابة
- كلا يا مولاي! لم تعد للجن هذه القدرة على الخلق والإبداع، وملك الجان نفسه أصبح عاجزاً عن أن يكون شيئاً إلى جانب أي عالم من أولئك العلماء المخترعين
- تقولين علماء؟ أهؤلاء المخترعون رجال فقه ولغة ودين؟
- حاشاك الخطأ يا مولاي. فالعلم في هذا العصر الذي أحدثك عنه لم يعد وقفاً على ذوي اللحى والعمائم، ولكنه أصبح عنواناً على غيرهم. . . حتى أولئك الكفار! ولنعد إلى الشاطر ممدوح فبعد أن أغتنىي وأضحى ذا ثروة طائلة، تذكر وهو في بلاد الغربة أن له أختاً تكفل بها أحد أقاربه ولم يكن يعرف عنها شيئاً؛ فلما طغت عليه موجة الذكريات أنشأ يترنم بهذه الأبيات:
اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا(426/51)
واذكروا صباً إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا
ثم فاضت دموعه حتى أصبحت كالأنهار. . . وأخيراً قرر أن يسافر إلى مصر فأعد عدته وركب الباخرة
قال الملك:
- وما هي الباخرة يا شهرزاد؟ أهي القطار البخاري؟
- قالت شهرزاد:
- أجل يا مولاي. . . قطار بخاري يسير في الماء ويتسع لمئات من الراكبين دون قلوع ولا مجاديف. وقد اختار الشاطر ممدوح جناحاً له في الباخرة على أفخم ما يكون من الروعة والجمال؛ فلما وصل إلى مصر ذهب إلى فندق (الكونتننتال)
- قوليها مرة أخرى! يخيل أنها رطانة يا شهرزاد!
الكونتننتال يا مولاي! اسم خان ولكنه فخم كأنه بيت وزير من الوزراء، وينزل فيه الملوك والأمراء والعظماء، وتملكه شركة من الأجانب يعرفون كيف يستغلون خيرات مصر دون أهلها الفقراء. وقد نزل الشاطر ممدوح في هذا الفندق وتقاطر عليه مندوبو الصحف من كل مكان
قال ملك:
- مندوبو الصحف! وما هي الصحف يا شهرزاد؟؟
قالت شهرزاد:
- هي جرائد يا مولاي تطبع كل يوم حاملة الأنباء والمعلومات والطرائف؛ أما كيف تطبع فقد اخترعوا آلة لطباعة الكلمات
- عجباً يا شهرزاد؟ كأنني أستمع إلى أقصوصة عن الجان!
- حاشاك يا مولاي! فالإنسانية في هذه الأيام التي أحدثك عنها تقدمت، والعقل البشري نضج فأصبح مخترعاً، ولكنه لم ينج من الجمع بين الخير والشر في اختراعه
- وكيف كان ذلك
- لقد اخترعوا كل ما يضمن أسباب الراحة والهناءة للإنسان، ولكنهم اخترعوا كذلك المدمرات والمهلكات. . . فإن قنبلة في حجم الكف قادرة على أن تدمر بناء من عشرين(426/52)
دوراً. وهناك غازات سامة ما يكاد الإنسان يستنشقها حتى يموت، وقذائف من كل صنف تحملها الطائرات في الجو والسابحات في البحر
- وي! كأني أسمع عما يحدث في يوم القيامة. . .
- هذا هو الواقع يا مولاي. فالمدنية التي استحدثها الفرنجة تحمل عناصر هدمها. . . ولنعد إلى الشاطر ممدوح فإنه لم يكد يستقر به المقام حتى بث العيون والأرصاد تفتش له عن أخته التي تركها صغيرة
وبعد أيام عاد إليه عين من عيونه التي أطلقها يقول. . .
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح
فلما كانت الليلة الثالثة بعد الألف قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن عيناً من عيون الشاطر ممدوح عاد إليه يقول: إنه عرف مكان أخته (نفيسة)، ولكنه يعتذر عن التفوه بكلمة مما بلغه عنها
وعندئذ غضب الشاطر ممدوح واشتد غيظه، فأمسك بالجاسوس من رقبته يريد أن يخنقه قائلاً:
- أن لم تقل لي - أيها الكلب - ما هنالك قذفت بك من النافذة. . .!
وخاف الجاسوس على حياته عندما رأى روح الشر في المليونير فوعده بأن يقول. ثم راح يتحدث قائلاً: أنه لم يصر على الصمت إلا رغبة منه في عدم إزعاج الشاطر ممدوح، فإن أخته بعد وفاة والديها، تولى تربيتها أحد أقربائها، وقد ظلت في كفالته خمس سنوات ذاقت فيها الويل والعذاب من زوج قريبها التي كانت تضربها لأتفه الأسباب. . . وأخيراً، هربت من ذلك الجحيم، سارت على وجهها حتى لقيها ذئب بشري. . . فاختطفها وراح يعلمها السرقة، وهي صغيرة لا تكاد تميز. . . ثم كبرت ونضجت أنوثتها. . . فتزوجت أفاقاً راحا معاً يغامران في الحياة ويتظاهران بالوجاهة والأناقة. . .
وبعد أن سمع الشاطر ممدوح هذه المعلومات استغرق في سبات عميق. . . ثم انهمرت دموعه على خديه، وأصبح كالمجنون لا يستقر على حال. وأخيراً فكر في طريقة، فدعا إلى مأدبة ساهرة، وما حل موعدها حتى كانت الموائد قد نسقت، وأقداح الشراب قد اعتدت. . . شراب: الكونياك والويسكي والشمبانيا والبيرة وما هنالك من أصناف. . .(426/53)
قال الملك:
- ما هذه الأسماء يا شهرزاد؟
- أسماء لأشربة يا مولاي اخترعها الفرنجة للخمر وكلها مسكر والعياذ بالله. ثم زين مكان الحفلة بالثريات الكهربائية، والأوراق الملونة، ووقف الخدم في ثيابهم الزاهية. . . وما حان الموعد حتى توافد المدعوون من كل جانب في ثياب السهرة. . .
- وكانت السيدات مزدانات بالحلي، وقد كشفت كل واحدة عن مفاتنها، فبدا جسدها العاري وصدرها المكتنز. . .
- قال الملك:
- أمام الناس!
- أجل يا مولاي أمام الناس، فما من ضير في هذا بعد أن شاع السفور وتواضع الناس على اختلاط الجنسين، وحتى المصريات كن بهذه الأزياء. ثم دار الرقص فتخاصر الجنسان كل رجل مع سيدة يرقصان (الرومبا) و (الفوكس تروت)
قال الملك:
- عجب!. . . وهل يرقص الرجال!
- فأجابت شهرزاد:
- نعم!. . . إنهم يرقصون طوعاً للمدنية الحديثة التي ترى في الرقص نوعاً من أنواع الرياضة
وعندئذ أشار الجاسوس للشاطر ممدوح على سيدة ومعها رجل يرقصان. وقال له:
- هذه أختك. . . والذي معها زوجها وهو أكبر محتال في الوجود
وأقترب ممدوح من أخته، فجأة أطفأت الأنوار، وبعد قليل أضيئت، وتفقد سيدات كثيرات حليهن فلم يجدنها، وكان ممدوح قد رأى أخته وهي تخفي في حقيبة يدها حلياً، فحار في أمره لا بد أن تفتش، ولا بد أن تظهر أنها سارقة، فهل ينقذها. ويعمل على خلاصها لأنها أخته، أم يتركها تفضح دون أن يكشف لها عن حقيقة نفسه!
تنازعته عواطف مختلفة وتآمرت عليه الانفعالات الشديدة هل ينقذها؟ هل يتركها؟ هذان هما السؤالان البارزان في رأسه؟ وأخيراً راح يعمل على تنفيذ أحد الاقتراحين اللذين(426/54)
عرضا في ذهنه
وأدرك شهرزاد الصباح فسكت عن الكلام المباح.
محمد علي غريب(426/55)
العدد 427 - بتاريخ: 08 - 09 - 1941(/)
السيف والكتب
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاء في نبأ برقي من نيويورك أن الجماعة البريطانية المؤلفة للترفيه عن الجنود أعلنت أن ستين ألف كتاب ومجلة تجتاز الآن طريقها إلى الجيش الإمبراطوري في الشرق الأوسط؛ وهي أول ثمرة من ثمرات الدعوة التي بدئت في الولايات المتحدة قبل ذلك بأسبوع واحد لجمع مائتين وخمسين ألفاً من الكتب والمجلات لرجال الجنرال (أوفنلك) بمصر وجاراتها
وهذا في الولايات المتحدة
وهناك جماعات أخرى مبثوثة في أنحاء العالم - وبعضها في القاهرة والإسكندرية - تجمع الكتب بالألوف ومئات الألوف للترفيه عن المقاتلين أو المتحفزين للقتال
وهذه كتب ترسل إلى الجنود بغير ثمن، ولكن الجنود أنفسهم يشترون الكتب والمجلات حيث وجدوها بأثمان مضاعفة تربى على أثمانها المكتوبة عليها، ولا يكتفون بما يصل إليهم من طريق التبرع والمساعدة
ومن راقب المكتبات التي تبيع الكتب الأجنبية في العواصم المصرية عرف أن حركة البيع فيها مقرونة بحركة الجنود في نواحيها، فلا يكثر الجنود في عاصمة إلا كثر فيها بيع الكتب والمطبوعات على اختلاف موضوعاتها
وليست هذه الكتب والمطبوعات جميعها قصصاً أو من قبيل القصص كما يتبادر إلى الخاطر لأول وهلة؛ فإن الموضوعات القصصية تغلب عليها، إلا أنها تقترن بموضوعات شتى لها نصيب من إقبال الجنود غير مبخوس، ومن هذه الموضوعات الرحلات والملاحظات الحربية، والكلام على مستقبل العالم الاجتماعي والسياسي بعد الحرب الحاضرة، ومنها الدراسات الأدبية والفلسفية للقدماء والمحدثين من المؤلفين!
واتفق كثيراً أن المكتبات التي تعرف ما عندي من الكتب التي انقطع ورودها كانت تسألني عما استغني عنه منها، لأنها تطلب من تلك المكتبات ولا تستطيع جلبها من الخارج في أيام معدودات، وكنت أسأل أصحاب المكتبات أحياناً عمن يطلبونها فيدهشني أن أسمع أنهم في بعض الأحايين من طبقة الجنود الصغار وهم مع ذلك حريصون على استطلاع أحوال البلاد وتواريخها، أو أحوال العالم وقضاياه ومشكلاته، كأنهم سيدبرون أمر تلك القضايا(427/1)
والمشكلات، أو سيصنفون فيها الكتب والمقالات. ولاشيء من هذا وذاك يشغلهم في الحقيقة وإنما هو العقل المتفتح لما حوله لا يستطيع أن يحتجب عنه أو يحجبه عن الوصول أليه، ولو كان في ميدان قتال!
نعم ولو كان في ميدان قتال!
وينبغي أن نذكر هذا الاستدراك وأن نعيد ذكره ولا ننساه، فإن الجندي في ميدان القتال إما مشغول بحركة العمل الحربي، أو بحركة الرياضة والمرانة والاستعداد، أو هو إن فرغ من هذه وتلك منصرف إلى اللهو والتزود من متعة الحياة؛ فليس في وقته متسع للقراءة كائناً ما كان موضوعها من السهولة والتشويق، وأحرى ألا يبلغ من اتساع وقته لها أن يحتاج الجيش كله إلى كتب ومجلات تعد بمئات الألوف
ولكن الحاصل هو هذا
الحاصل أن الجنود المقاتلين أو المتأهبين للقتال يقرءون ويدرسون، ويشترون الكتب ولا يقنعون بمئات الألوف التي يتبرع لهم بها المتبرعون
وينبغي أن نعيد هنا توكيد ميدان القتال والقراءة على أهبة من دخول الميدان
فإن طوائف من الشبان المصريين - والشرقيين عامة - كنت إذا لمتهم في الإعراض عن القراءة والمعرفة قالوا لك إن العصر عصر رياضة ولعب وركوب ومسابقات، وليس بعصر قعود ودراسة وقبوع في المكتبات! فهم يعتذرون من خمود الذهن بما ينتحلونه من نشاط الجسد. . . وليس من النشاط أن يصاب الذهن الإنساني بالخمود ولو صحبته ألوف من الأذرع والسيقان لا ينقطع لها حراك
فهذه الطوائف من الشبان خليقة أن تعلم أية رياضة هي رياضة الجندي على أهبة القتال. فهو في رياضة لا انتهاء لها في صباح ولا مساء، بل في رياضة تبلغ من العنف أن تستنفذ جهود الأعضاء والإفهام
ومع هذا هم يطلعون ويستطلعون، وتضفر منهم المطالعة والاستطلاع بحصة من الوقت لا تضفران بعشر معاشرها من أوقات شبابنا في أبان البطالة والسلام
قال لي أديب يحب أن يتحذلق بالغريب من الآراء: أترى أن القراءة شاغل من شواغل الطبيعة؟ أليست هذه الكتب وهذه الأوراق بدعة من بدع الصناعة التي لا أساس لها في(427/2)
تكوين البنية، ولا حرج إذن على الشاب (المطبوع) أن يصدق عنها بفطرته وينصرف إلى ما تصرفه إليه طبيعة التكوين؟
وأديبنا هذا يحسب الكتب أوراقاً وحروفاً من صنع الحداد وابتداع المخترع الحديث؟
ولهذا هي عنده متاع (مصنوع) وليست بالمتاع المطبوع الذي له في البنية أساس كأساس الجوع والضما وسائر الشهوات
أما معاني الكتب وما تبعثه من شعور فلا تدخل له في حساب. ومعاني الكتب مع هذا شيء حيوي عضوي يمتزج بالتكوين الإنساني كما يمتزج به الغذاء واللهو والرياضة، لأنها من وظائف الوعي الذي هو خلاصة الشعور والإدراك. وهل للحياة الإنسانية بغير (الوعي) وجود؟ وهل لوجودها بغيره قيمة؟ وهل تختلف قيمة الإنسان الذي ينحصر وعيه في المطالب الحيوانية من قيمة الحيوان؟
فالقراءة ليست هي الورق المصنوع من الخرق والعيدان، وليست هي الحروف المسبوكة من المعدن، وليست هي المطبعة التي تدار بالبخار والكهرباء، وتدخل من أجل ذلك في عداد البدع والمستحدثات
كلا؛ بل القراءة هي اتساع الواعية بما يضاف إليها من التجارب والأحاسيس والمعارف والمعقولات، وهي امتداد الحياة إلى آفاق لم يكن يبلغها الفرد في عمره القصير، وهي بديل من السياحة، ومن البحث عن المجهول، ومن الإصغاء إلى النوادر والحكايات، ومن تحصيل التجارب التي يتحدث بها المجربون ومن كل تشوف مطبوع في أساس التكوين، لأنه امتداد لحواس النظر والسمع والإدراك على تعدد وسائله وأدواته. وليس يصح قول القائلين إن الكتاب لذة مصنوعة لأنه يطبع بالبخار والكهرباء إلا إذا صح إن يقال أن الرغيف لذة مصنوعة لأن البخار والكهرباء مما يصنع عليه الخبز في العصر الحديث
فالوعي هو الحاسة الكبرى التي تطلب القراءة
والوعي هو الحياة في أصدق معانيها وفي أوسعها وأرفعها على السواء
وهنا مناط الامتياز والتفرقة بين أجناس بني آدم، فأيهم كان أكثر وعياً فهو أكثر استطلاعاً بمختلف الأساليب، والقراءة أعم هذه الأساليب
ويبدو لنا على نحو يشبه اليقين أن الفرق بين الآدميين في مسألة (الوعي) كالفرق بين(427/3)
سلالة وسلالة أو عنصر وعنصر من عناصر الأحياء. ونعني أنه فرق لا يفسره اختلاف البيئة واختلاف التعليم واختلاف المصادفات العارضة، لأنه أعمق من ذلك وأعرق وأشد إيغالاً في الطبائع على مثال لا نراه إلا في اختلاف وظائف الأعضاء
ويجب أن يكون هذا الفرق قد تجمع في أجيال بعد أجيال، وفي موروثات بعد موروثات، حتى أصبح وشيكاً أن يفصل بين الآدمي والآدمي كما ينفصل الحيان المتباينان. ومناط ذلك فيما تعتقد الأعصاب ثم الخلايا التي يتألف منها نسيح الأجسام، لأن الأعصاب والخلايا هي أجزاء الجسم التي تتسع لتخزين الملكات والطبائع في العصور بعد العصور، والسلالات وراء السلالات. فيما أبعد الفارق بين إنسان تملأه المطالب التي تملأ الحيوان الأعجم حتى لا تبقى فيه بقية للمزيد، وبين إنسان يستوعب الأحاسيس والأفكار، ويستكنه المجهولات والأسرار، ولا يزال بعد ذلك كأنه في حاجة إلى أكوان وراء هذا الكون تملأ ما في نفسه من آفاق لا تمتلئ ولا تزال مشرئبة متشوفة إلى المزيد
هنا نفهم معنى الشوق إلى المعرفة ومنه الشوق إلى المطالعة، فإنه على هذا التفسير وظيفة حيوية في أصل البنية وليس بالبدعة الحديثة التي ظهرت بظهور الورق والمداد أو بظهور المطبعة والكهرباء
وهنا نعرف لماذا تضيق حياة الفرد في بعض الأمم حتى يوسعها بالفرجة والاستطلاع والرياضة واستيعاب الأخبار ومشاهدة الآثار والأقطار، ثم يكتفي الفرد في أمم أخرى بما يشغل الحيوان فلا يتعداه باختياره إلى أمد بعيد. وغاية ما نرجوه ألا يكون بين أمم الشرق وأمم الحضارة الحاضرة فارق كالذي نحسبه فيصلاً متغلغلاً في أصول التكوين. فكل ما عدا ذلك فهو قابل للإصلاح والعلاج
إذ الحقيقة أن القراءة لم تزل عندنا سخرة يساق إليها الأكثرون طلباً لوظيفة أو منفعة، ولم تزل عند أمم الحضارة الحاضرة حركة نفسية كحركة العضو الذي لا يطيق الجمود. وربما تغيرت موضوعات الكتب وأثمانها وأساليب تداولها عندهم في الفترة بعد الفترة وفي العهد بعد العهد وفاقاً لتغيير الأحوال. أما أن تنقطع الكتب أو ينقطع الاطلاع فذلك عندهم أقرب شيء إلى المستحيل. ولو شئنا لأحصينا هنا عشرات الموضوعات التي أثارتها الحرب ونشطت لها أقلام الكتاب في زمن يخاله بعضنا صارفاً عن كل كتابة وكل قراءة، ولكننا في(427/4)
غنى بالمشاهدة عن الإحصاء.
عباس محمود العقاد(427/5)
رسالة القلم البليغ
للدكتور زكي مبارك
في ظهر يوم الجمعة الأسبق دعاني أحد الصحفيين تليفونياً إلى الإجابة عن أسئلة متصلة بمهمة الكاتب في المجتمع، وقد أجبت بصراحة لا تحتمل التأويل، ودعوت ذلك الصحفي إلى مراعاة الأمانة فيما ينقل عني، فقد طال بلائي بتحريف آرائي، ثم راعني أن أرى كلماتي مثبتة بدون تغيير ولا تبديل، كأن ذلك الصحفي كان يدوِّن ما يسمع بالحرف. وإنما نصصت على هذه الأمانة في النقل لأحكم على ما نشر باسم الأستاذ عباس العقاد؛ واسم الأستاذ أحمد أمين في هذا الموضوع بالذات، فليس من المعقول أن يحرص ذلك الصحفي على مراعاة الأمانة فيما ينقل عني ثم يمضي فيزيد على هذين الباحثين الكبيرين بلا موجب معقول
وعلى هذا يكون عندنا ثلاثة آراء صريحة في تحديد (مهمة الكاتب في المجتمع)، فما هي تلك الآراء؟
يرى الأستاذ عباس العقاد أنه لا يمكن فصل المهمة الثقافية عن المهمة الاجتماعية، لأن الثقافة تمهد لأن ينظر الناس للحياة نظرة عالية، والنفوس التي تنظر للحياة نظرة عالية هي النفوس التي تستحق الحياة. ويرى أن يكون الأدب للأدب فلا يكتب الكاتب غير ما يوحي به الطبع، وهو يعنى بالحقائق الخالدة. أما المشكلات التي تتعلق بالطبقات المختلفة، فهي مشكلات وقتية يناط تدبيرها بالرجال الإداريين
ويرى زكي مبارك أن للكاتب غاية واحدة هي الصدق، وليست القصة أو المقالة إلا من وسائل التعبير عن ذلك الصدق. ويرى أن الكاتب ليس أجيراً للوطن ولا المجتمع، وهو مطلق الحرية في جميع الشؤون. ويرى أن التعبير عن آلام المجتمع وآماله لا يكون أدباً إلا إذا صدر عن الكاتب، فإن اهتم بالمجتمع طاعةً للمجتمع فليس بكاتب. ويرى أن الصرخة الأدبية لا تكون وحياً إلا إن صدرت عنه بحرارة وإِيمان، فهو يحارب حين يشاء، ويسالم حين يريد، ومن حقه أن يتحدث عن الشعر والحب، لأن ذلك يصور إحساسه بالوجود. . . ويختم زكي مبارك كلامه بأن الأدب أنواع: أدب محلي يصور البيئة، وأدب وقتيٌ يصور العصر، وأدب خالد لجميع الأزمان(427/6)
أما الأستاذ أحمد أمين، فيصرح بأن الرأي الذي يقول بأن يكون الأدب للأدب هو رأيٌ سخيف، وهو لهذا يشغل نفسه بالكلام عن الفقر والمرض والجهل
تلك هي الآراء الثلاثة، كما نقلتها عن أصحابها مجلة العزيمة في العدد 79
فما محصول هذه الآراء؟ وكيف أختلف أو ائتلف هؤلاء الكاتبون؟
يرى الأستاذ عباس العقاد أن يكون الأدب للأدب، ويرى الأستاذ أحمد أمين أن القول بأن يكون الأدب للأدب هو رأي سخيف. (ومن الواضح أن الأستاذ أحمد أمين لا يوجه الكلام إلى الأستاذ عباس العقاد، لأنه أجاب إجابة موضوعية بدون أن يخطر في باله أنه يعارض هذا الكاتب أو ذاك)
ويرى زكي مبارك أن غاية الأدب هي الصدق، ولو سار الكاتب وحده في جانب، وسار المجتمع كله في جانب، فهو يحاسب أمام ضميره لا أمام المجتمع، وهو أعز من أن يكون صدى لأي صوت، لأنه يرى أن صوته هو صوت الوطن، وأن الوطن حين ينطق بصوت غير صوته لا يكون إلا حاكياً لأقوال محرومة من روح اليقين
أما بعد فهذه مشكلة من أصعب المشكلات، وللأستاذ عباس العقاد أن يوضح رأيه كما يشاء، وللأستاذ أحمد أمين أن يصر على قوله كما يريد. أما أنا، فأسارع إلى تحديد غايتي الأدبية بلا تسويف، ليعرف قومٌ كيف أُعادي وأُصادق في الحدود التي ترسمها (رسالة القلم البليغ)
وإِنما يهمني أن أسارع إلى تحديد غايتي الأدبية، لأني أُحب أن يعرف قُرائي وجه الرأي فيما أذهب إليه من الدعوة إلى حرية القلم بلا قيد ولا شرط، إِلا أن يدعو العقل إلى التلطف والترفق فلا نواجه الناس بما لم يألفوه في بعض الميادين العقلية والروحية والذوقية والاجتماعية
وما يجوز لك - أيها الكاتب - أن تجادل قومك إلا حين تؤمن في سريرة نفسك بأنك رجل له وجود خاص، وبأن عندك معاني لا تجدها عند أحد من أهل زمانك، وحينئذ تصارح مواطنيك بما يجيش في صدرك، على أن تكون أنت أنت في كفرك وإيمانك، وضلالك وهداك، فلا تقول ما يحب الناس أن يقال، ولا تكتم ما يكره الناس أن يباح
وأعيذك أن تفهم أني أوصيك باللجاجة والعناد، وإني أدعوك إلى مخالفة قومك في جميع ما يحبون وما يكرهون. . . فما إلى هذا قصدت. ولا يسرني أن تكون أداة انزعاج وانشقاق،(427/7)
وإنما أوصيك بالصدق في جميع الأحوال، فإن اتفق رأيك مع رأي قومك فسر معهم باطمئنان، لأن التوافق الإجماعي له دلالة معنوية لا يستهين بها العقلاء، وهو يزيدك قوة إلى قوة، ويمدك بالعصبية الفكرية، وهي عصبية لا توجد أسبابها إلا في أندر الأحايين، وتلاقي المفكر الصادق مع قومه فرصة من فرص التوفيق. . . وبالله نستعيذ من الخذلان!
وإن رأيت أن الحق في جانبك أنت، وأن قومك مخطئون، فتذكر أنك لهذا المقام خلقت، وأن الجبن هو الآفة التي لا يسلم من شرها غير الموهوبين، وأن الشجاعة هي أعظم مناقب الأحرار من الكتاب
وهنا دقيقة قد تخفى عليك وعلى من قل حظهم من التجارب، وهي الوهم الذي يقول بوجوب النضال في جميع ضروب الخلاف. فاحترس من هذا الوهم كل الاحتراس، واعلم بأنه لا يجوز لك أن تجاهر بمخالفة قومك ألا في الشؤون التي يكون فيها سكوتك إثماً تحاسب عليه أمام الذي جعل سواد المداد أشد إشراقاً من بياض الصباح
إن قومك يختلفون في كل يوم - واختلاف من أظهر خصائص إنسانية - فلا تناضلهم في كل خلاف، وألتزم الحياد في اكثر أوقاتك، إلى أن تحين الفرصة التي توجب الجهر بكلمة الحق، ولو تعرضت لأفظع المكارة والخطوب
واعلم انك ستبتلي بأقوام يرون غير ما تراه في أكثر الشؤون، وقد يدعونك إلى الترحيب بأن تكون أسير زمنك، أجير وطنك، بحيث لا تنطق بغير ما يستسيغ زمانك وبلادك. وهنا يكون الخوف عليك، وقد تهوى إلى أحط تركات الأسلاف، فما ذل شاعر ولا كاتب ولا خطيب إلا بسبب الخضوع لما قد يريد أبناء الوطن وأبناء الزمان، بلا تدبر ولا أدراك. وكيف تطيع أولئك في كل وقت وهم في بعض أحوالهم فقراء من الوجهة العقلية والروحية، ولا يساير هواهم غير الضعفاء؟
وما الغاية من وجودك إذا كنت صورة مكررة من وطنك وزمنك؟
وبأي حق تحمل القلم إذا خضعت لما يملأ عليك العوام وأشباه الخواص؟
وهل قلت الآراء المنخوبة حتى يضاف إليها رأي من صنفها المنخوب؟
وما قيمتك وأنت تغني صوتاً ليس من تأليفك ولا تلحينك؟
وما قوتك وقد صرت حاكياً لأقوال لم تصدر عن وحي ضميرك؟(427/8)
وما انتفاع الأمة بك وأنت صوت يكسبه العهد القديم في أذن العهد الحديث؟
يجب حتما أن تكون لك ذاتية جديدة، ذاتية متفردة يجهلها الزمن الماضي، ويهابها الزمن الحاضر. يجب حتماً أن يستقل وجودك في كل يوم عن حاضرك وماضيك، فتطلع مع الشمس بنور جديد، وتواجه الليل بتأملات لم يشاهد مثلها مع قوم سواك. يجب حتما أن تنظر في آرائك كما تنظر في أثوابك، فالآراء تَبلَى كَما تَبلَى الأثواب؛ والذي يعيش على رأي واحد قد يكون أجهل من الذي يعيش بثوب واحد. فأحذر من العيش وأنت بالي الآراء، كما يحذر من يلقى الناس وهو بالي الثياب
وقد يعيرك الغافلون بالتنقل من رأي إلى رأي، مع أنهم لا يعيرون من يلبس ثوب بعد ثوب، وإنما كان ذلك لأنهم يجهلون أن الآراء من الصور الحيوية، ولأنهم يتوهمون أن الثبات على الرأي الواحد من شواهد اليقين. ولو عقلوا لأدركوا أن العين التي تنظر بأسلوب واحد هي عين بليدة لا تدرك الفروق بين دقائق المرئيات، وكذلك يكون العقل البليد وهو الذي لا يدرك الفروق بين المعنويات والمعقولات، ولها وجوه تعد بالألوف وألوف الألوف
فهل تعقل هذا الكلام، وأنت تحاول الاضطلاع بحمل رسالة القلم البليغ؟
وهنا أيضاً مجال للخوف عليك، فقد يقع في وهمك أن المفكر الحق هو الذي يسرع في التنقل من رأي إلى رأي. هيهات ثم هيهات! فالرجل لا يغير رأيه إلا بقدر ما يتحول الجبل من وضع إلى وضع. وما كان ذلك إلا لأن الأصل في الرأي أن يكون عقيدة فكريه أو روحية، والعقائد لا تغير بالسهولة التي نغير بها الثياب. وإذن يجب أن لا تتحول من رأي إلى رأي إلا وقد تحولت من حياة إلى حياة؛ وهذا قد يقع من لحظة إلى لحظة، وقد لا يقع إلا بعد أعوام طوال وفقاً لاستعدادك في تلقي وحي الوجود
والمهم أن تكون أنت أنت في تحولك وقرارك، فلا تكون أداة للتعبير عن أوهام زمانك وبلادك، ولا تكون ظلاً لعظيم من العظماء، أو حزب من الأحزاب، إلا أن بدا لك أن تصير من طلاب المغانم، وهو مصير لا يعاب، وإن كان يزحزحك عن فردوس البيان، فما قال قوم بأن الأدب للأدب، أو الفن ' ' إلا وهم يرجون أن تكون لنا دولة لا يتطاول إليها أصحاب المناصب والألقاب(427/9)
فمن أنت أيها الكاتب وماذا تريد؟
لن يصح انتسابك إلينا إلا يوم تؤمن بأن للقلم رسالة يطيب في سبيلها الاستشهاد. ونحن قد رحبنا بجميع الآلام في سبيل القلم البليغ. ولو رأيت كيف تقدم تلاميذنا وتخلفنا في الميادين الرسمية لعرفت أننا دفعنا ثمن الاعتزاز بدولة البيان
قد ينوشك أقوام لا يعرفون كيف توحدت توحد الليث؛ وقد يسخر منك أقوام يرون الزهد في التودد إلى المقامات العالية ضرباً من الجمود؛ وقد يوافيك أجلك وليس في جيبك ما يشيعك به أهلك إلى مثواك الأخير، فما رأيك فيمن يدعوك إلى الاعتصام بالوحدانية الأدبية لتلقي الله وأنت رجل لم يعرف الخضوع لصاحب العزة والجبروت إلا تأدباً مع ذاته العالية؟
هل تعرف لأي سبب لا ينبغ من أرباب القلم غير آحاد، ولو كانوا في أمة تبلغ المئات من الملايين؟
إنما كان ذلك لأن رسالة القلم تشبه الأمانة التي تهيبت حملها السماوات والجبال
وهل تعرف لأي سبب فتر شوق المصريين والشرقيين إلى مسايرة الأقلام العربية، على نحو ما كانوا قبل أعوام قصار أو طوال؟
إنما كان ذلك لأن المفكرين صاروا أصحاب منافع ومطامع، فهم يتوددون إلى طبقات المجتمع ليحكموها باسم الغيرة المصطنعة على أمالها الضوائع. ومن هنا قل في هذا العصر من يخاطر بمواجهة تلك الطبقات بالرأي الحق، لأن ذلك يقصيه عما يتسامى إليه من المناصب، ويصوره بصورة من يعادي المجتمع، المجتمع الذي أسرف في تدليله من زينت لهم الدنيا أن يتسلحوا بسلاح الرياء الاجتماعي، وهم قوم لا تصح نسبتهم إلى المصلحين إلا مع التسامح البغيض
أين في زمانك من خاطر بمركزه في المجتمع، كما خاطر قاسم أمين؟
وأين في بلدك من رحب بتهمة الكفر في سبيل الإصلاح الديني، كما خاطر محمد عبده، وعبد العزيز جاويش؟
وأين جهود الكتاب المفكرين في هذا الزمان؟
لقد أصبح من الآفات المألوفة أن يتحكم الجمهور في الكاتب كما يتحكم في المغني. ومن العجب أن يتحرر المغني ولا يتحرر الكاتب. فالمغني يضع أمام جمهوره لوحة كتب عليها(427/10)
(ممنوع طلب الأدوار)؛ أما الكاتب فقد عجز عن القول بأنه صاحب الحق المطلق فيما يعالج من الشؤون
يجب أن يخرج الكاتب الأجير من الميدان، الكاتب الذي يرضى بأن يكون أجير الوطن أو أجير المجتمع؛ فما يكون الرجل كاتباً إلا إذا شعر بأنه مؤيد بقوة روحانية تعصمه من أحلاف الزور والبهتان. وذلك هو الكاتب المنشود؛ الكاتب الذي يرغم الدهر الاعتراف بأنه طاف على أهل زمانه بكاس لم يذوقوها من قبل، ولم يعرفوا في أي كرمة نبغ رحيقها النفيس!!
فمن هؤلاء الذين يحملون الأقلام وليسوا لحملها بأهل، لأنهم عبيد تلاميذهم من القراء، ولأنهم يتوهمون أن القلم وسيلة من الوسائل النفع الرخيص؟ من هؤلاء؟ من هؤلاء؟!
لن تكون كاتباً إلا يوم يستطيع قلمك أن يصنع بقرائك ما يصنع الدواء بالمريض، والدواء قد يزلزل الجسد فيمثل له شبح الموت، ثم تكون العافية، وكذلك يصنع القلم الصادق، فهو يزلزل الفكر والعقل والروح، ثم تكون العافية الفكرية والعقلية والروحية لمن يصلحون البقاء، ولا بقاء لغير من يستمعون صوت الصراحة والصدق والإخلاص
دنيا هذا لا عصر هي التي أضاعت الكاتب الصادق؟!
وقد دار رأسي منذ سنين حين سألت أحد كتاب باريس من الهواة التي تفصل بين كتاب فرنسا المحدثين وكتابها القدماء من الوجهة الروحية فأجاب وهو محزون:
!! ' '
وما أشد جزعي لما صرنا إليه! فالشرف لا يعوزنا، ولكن الشجاعة هي التي تعوزنا فنحن بالفطرة شرفاء، وإنما نحتاج إلى قوة من الحزم والشراسة والإباء. وأقول بصراحة إن الأدب في مصر على شفا الهاوية، لأن الأدباء يستوحون قراءهم، وتلك علامة الغثاثة والهزال، ومثلهم في ذلك مثل الطبيب الذي يستشير المريض في وصف الدواء!!
قد تقبل هذه الحال من الكتاب الذين يشتغلون بتسلية الجماهير ليأخذوا أموالهم كما يأخذها (الحاوي) في ساحات (الموالد). فاعذر الكتاب الذين أعدتهم مواهبهم ليكونوا هداة صادقين؟ (الرأي القائل بأن يكون الأدب للأدب هو رأي سخيف) كذلك قال الأستاذ أحمد أمين، حفظه الله! ومعنى كلامه أن يصبح الأدب في خدمة المجتمع؛ وهو كلام معقول، ولكني كنت(427/11)
أنتظر أن تكون للأدب قوة السيطرة على المجتمع، لا حسن الطاعة في خدمة المجتمع، فالمجتمع مريض ونحن الأطباء، ولو كره الخوارج على سلطان القلم البليغ
يستطيع الأستاذ أحمد أمين أن يستوحي قراءة سبعين سنة أو ثمانين أو تسعين، ثم يلقاني بعد ذلك، إن عشت وعاش، فلن يكون محصوله الفكري والأدبي غير أوشاب جمعها من أوهام القراء
أيكون الأستاذ أحمد أمين فهم أن (الأدب للأدب) معناه أن يكون جهد الأديب مقصوراً على وصف الأزهار والرياحين، والأقمار والشموس؟
إن ذلك ما فهم فأين صرخة العقل المقدود من ضمير الوجود؟
وأين الأقباس الروحية التي نستعين بها على كشف المجاهيل من سرائر القلوب والعقول؟ الكاتب يعنى بجميع الشؤون: فيتحدث عن الغنى والفقر والصحة والمرض والعلم والجهل، على أن يكون أنفعل بهذه المعاني، بحيث تصير من الغايات التي تشغل روحه الموهوب، وبحيث يكون الاهتمام بالمجتمع غرضاً من أغراضه الصحاح
أما القول بأن يكون قلم الكاتب أجيراً للمطالب الوطنية والاجتماعية فهو قول مردود، ونحن أول من يرفع راية العصيان، فلن نخدم الوطن إلا طائعين، ولن نعترف للوطن بأي حق إلا إذا اعترف بأننا أصدق أبنائه الأوفياء
وماذا بقى لمصر الفرعونية والإسلامية بعد المسطور من آثار القلم البليغ؟
وبأي حق صار لمصر سلطان أدبي في الشرق لهذا العهد؟
تلك جهود أقلامنا، أقلام أسلافنا. فمن خضع لصوت الحق واعترف بأن ما بذلناه لخدمة مصر والشرق كان عملاً تنصب له الموازين فهو رجل صادق الإيمان، ومن جهل حقنا فهو صائر لا محالة إلى القرار في هوة العقوق
الأدب للأدب، كما يقول عباس العقاد
والفن للفن، كما قال بعض أقطاب الفرنسيس
والأدب هو الصدق، كما قال الرجل الذي تعرفون
فمتى تعترف الدولة الرسمية بالدولة الأدبية؟
البقاء للحق. البقاء لبياض القرطاس وسواد المداد، ولن يتخلى الله عمن يرى الصدق في(427/12)
الحب والبغض هو الغاية من شرف الوجود.
زكي مبارك(427/13)
ماكس إشترنر
فيلسوف الأنانية
1806 - 1856م
للدكتور جواد علي
ولم لا تكون للأنانية فلسفة وفلاسفة، والأنانية من أهم الغرائز التي لعبت دوراً هاماً في حياة البشرية؟ لعبت دورها في حياة الأفراد كما لعبت دورها في حياة الأمم. وليس بعجيب أن أصبحت (الأنانية) موضوعاً هاماً من موضوعات الفلسفة، وهدفاً أو مثلاً أعلى لبعض المذاهب الفلسفية، بل محور فلسفتها تدور حولها جميع أبحاثها كالذي يلاحظ عند (الأبيقوريين) أو عند كثير من فلاسفة القرن الثامن عشر وبعض فلاسفة الإنكليز أمثال فرنسيس هيتجسون 1694 - 1746)، ويرميا بنتام - 1832)، وجون ستيوارت ميل 1806 - 1873) وغيرهم
غير أن كاسبر شميد، أو ماكس إشترنر كما كان يلقبه إخوانه التلاميذ في المدرسة لعلو جبهته واتساعها، كان قد جاوز حدود هيام هؤلاء بالأنانية وتفانيهم فيها وضرب رقمهم القياسي بأضعاف. أعلن للناس أنه صب بالأنانية مغرم، وأنه جاء إليهم برسالة جديدة وديانة جديدة: هي ديانة الأنانية ومحبة الذات. . . ديانة قويمة فوق كل الديانات. إنها السعادة الأبدية للجماعات والأفراد؛ وإنها مفتاح اللذة؛ وإنها الطريقة المثلى للوصول إلى الكمال الإنساني وما يتمناه كل فرد من هذه الحياة. هي طلسم السعادة والكبريت الأحمر الذي أفنى الحكماء أنفسهم عبثاً للوصول إليه، وكيمياء الحياة
مفتاح هذا العالم في نظرية ماكس إشترنر كلمة (أنا)؛ ولكن كلمة (أنا) هذه لا تدل على معنى مجرد، بل على شخصية معينة؛ بواسطة هذه الشخصية عرف الكون والوجود. كل ما في الكون هو (أنا) وما عداي وهم وخيال. أنا خلقت الأسماء، وأنا خلقت المصطلحات، وأنا الذي وضعت تلك التعابير التي لا وجود لها في الحقيقة. وأنا الذي سجنت نفسي بيدي. خلقت تلك المعايير الأخلاقية والمقاييس الأدبية فقلت: شرف ووطنية وإنسانية وديانة(427/14)
وأخلاق وفضيلة إلى آخر ما هنالك من كلمات جوفاء
قيدت البشرية نفسها منذ خلق العالم بقيود فرضتها عليها جماعة من الأنانيين الأقوياء الذين مثلوا دور (أنا) خير تمثيل. . . استغلوا عقول السذج البلداء، والسواد الأعظم من البلهاء، فحللوا وحرموا ووضعوا القيود الأدبية والحواجز الأخلاقية والاجتماعية. أطاعتها المجتمعات الإنسانية حتى اليوم، وأدخلت نفسها طوعاً واختياراً أو خوفاً ورهبة في عداد العبيد وطبقات الأرقاء. صارت تقاد كما يقاد قطيع الغنم أو البقر إلى المجازر باسم الوطن والشرف والدفاع عن العرض أو العقيدة والمال، إلى غير ذلك من الكلمات التي (فبرقتها) معامل أولئك الأنانيين، وأنتجتها أفواه أولئك الحكام الجبابرة العتاة. وما التاريخ البشري سوى عبودية دائمة من هذا النوع
يقول: لو حللنا الأعمال البشرية بجميع أنواعها وألوانها تحليلاً علمياً لوجدنا (الأنانية) هي الدافع الأول في جميع حركات الإنسان. هي الأول، وهي كل شيء هي الحقيقة الأولى، وهي الحقيقة الأخيرة. هي التي صورت لي العالم بهذه الصورة. وهي التي جعلت الإنسان يبني ويشيد ويشتغل. لو جردنا ما نسميه في قاموسنا (العالم) من أنا، أو الأنانية لما بقي شيء من هذا الذي سميناه عالماً. ولذلك فالحقيقة واحدة وهي حقيقة (أنا). تدرك هذه الحقيقة ما يحيط بها بواسطة منبعين: منبع الإدراك أو التصور ومنبع الإرادة
فما دام الأفراد الأنانيون هم الذين وضعوا تلك القيود في سبيل منافعهم الشخصية ومآربهم الذاتية؛ وما دامت الأنانية هي الغالبة على كل عمل إنساني، فلم يستمر الفرد على تحمل تلك العبودية؟ ولم يذعن لتلك القيود التي قيد بها جبراً؟ ساقت هذه النتيجة المنطقية إشترنر إلى البحث عن الحرية: حرية الأفراد، وما يملكه الفرد، فوضع كتاباً في هذا المعنى سماه (الفرد وما يملك) تهجم فيه تهجماً شديداً على القيود الأخلاقية والاجتماعية والدينية التي تحكمت وظلت تتحكم في عصره، وشن حرباً شعواء مقدسة على المبادئ الدولية وعلى كل شيء عام يطلق عليه وصف بشري، وعلى الحكومات التي انتزعت سلطة الأفراد، وعلى الشيوعية التي ناوأت الملكية الفردية، وهي أقدس حق من حقوق الإنسان. سخر من المجتمع ومن تكاليف المجتمع بعبارات لاذعة لم يعرف مثلها في أي كتاب من كتب العالم
كان الشاعر الأديب الإنكليزي (برنارد مندويل صاحب كتاب (أسطورة النحل)(427/15)
(نشر لأول مرة في عام 1714 م)، قد صرح في كتابه بلا خوف ولا وجل بأن (الأنانية) هي الدافع الوحيد للإنسان على أعماله الروحية والمادية، وأن جميع القيود الأخلاقية أو الإنسانية أو الدينية لا قيمة لها أبداً؛ لأنها من وضع الحكام الذين توخوا تأمين السيادة. غير أن كتاب ماكس إشترنر كان قد جاوز كتاب مندويل الإسكتلندي في التهكم والتهجم على أخلاق المجتمع وجميع الأنظمة البشرية القائمة بأضعاف!
كان كتاب (الفرد وما يملك) عنوان ثورة جديدة أراد أن يؤجج نارها ذلك الفيلسوف: ثورة الفرد على المجتمع، ثورة الفرد على الحكومة. فشارك الديمقراطيين بالفكرة، وكان في طليعة جماعة الاشتراكي اليهودي لاسال؛ إلا أنه اختلف عنهم بالأسلوب. نرى ماكس ديمقراطياً من رأسه إلى أخمص قدميه، ولكنه ديمقراطي فردي يريد أن يشيد بناء ديمقراطياً على أساس السلطة الفردية. يريد أن يرى البشرية مجموعة أفراد، كل فرد من هذه المجموعة يتمتع بحريته ولذاته، هو نهم لا يشارك الآخرين ولا يرضى بأن يشاركه أحد. غايته التمتع بالحياة إلى آخر حد، وأن ينفرد بكل شيء؛ لا يفكر إلا لنفسه، ولا يبالي بما يفعل الآخرون. شعاره لا تهمني إلا نفسي
كل سلطة تتحدى سلطة الفرد يجب أن تقاوم وتهدم. وحيث أن الحكومات تحاول دائما التعدي على حريات الأفراد ومجال عمل الأفراد، فهي سلطات استعبادية ودوائر تفرض الرق على البشرية فرضاً بواسطة صكوك وأوراق تحبرها تطلق عليها الصيغ الشرعية. لذلك تبرم الفيلسوف من الحكومات وعد نفسه من ألد أعدائها، ولكنه كان من ألد أعداء النظام الشيوعي كذلك؛ إذ بينما الشيوعية تحطم ملكية الفرد وتندد بالملكية الخاصة، نرى (إشترنر) يندد بالملكية العامة ويدعو إلى الملكية الخاصة
يرى أنه ما دامت الأنانية هي الصفة الغالبة في الطبيعة، وما دامت حركات الإنسان وسكناته كلها حركات منبعها الأنانية، فمن الحماقة التغاضي عن هذه السنة الطبيعية، والالتجاء إلى الأحلام الذهبية الشعرية؛ وقد دلت الأحوال على أن كل محاولة من هذا النوع كانت فاشلة، وأنها ترتد دائماً إلى الأنانية الفردية.
ثم من ذا الذي يضمن للإنسان عدالة أولئك الذين سيقومون بالأشراف على المجتمع العادل؟ لذا، فأنا وحدي صاحب الحق في الملكية، ولي الحق كل الحق في الامتلاك، وعلي أن(427/16)
أتفاهم مع الآخرين في هذا الحق، فإذا خالفوني على حقي هذا التزمته ودافعت عنه بكل قواي لأجبر الآخرين على الاعتراف بهذا الحق، ولكن الملكية مع ذلك غير مقدسة، إذ لا قدسية في العالم إلا للحق والسيطرة فقط
وبدلاً من هذه الحكومات والتشكيلات الشيوعية، يجب تشكيل جماعات من الأنانيين الأحرار الذين لا يرتبطون فيما بينهم بروابط أو حقوق طبيعية أو روحية كالتي يطلقها عليها اتباع النظريات الأخرى. يكون الأفراد جماعة لا تحاول امتلاك الأفراد، بل يحاول الأفراد امتلاك الجماعة، والرابطة الوحيدة التي تربط الفرد بهذه الجماعة هي رابطة (المنفعة)، وعلى كل فرد أن يبذل كل ما في وسعه لاستغلال الجماعة إلى آخر ما يمكن. فإن حاولت الجماعة استغلال الفرد ثار عليها. وهذا في زعمه هو الفرق بين العبودية والحرية. ففي المجتمعات الديمقراطية أو الشيوعية تحاول الجماعة السيطرة على الفرد، ولكنها في مجتمع ماكس إشترنر يسيطر الفرد في زعمه على الجماعة
لا قيود في هذا المجتمع ولا فروض. لكل شخص عقيدته وديانته، لا تهمه إلا نفسه، ولا يشتغل إلا لنفسه فقط. فإذا تحققت هذه الأمنية على زعم فيلسوفنا تحققت الحرية وتحققت معها السعادة البشرية وتحقق كل شيء. أما الفكرة العالمية أو البشرية أو الدولية فيسائل الفيلسوف نفسه عنها: ما الذي أربحه من الاعتقاد بهذه الآراء؟ وما الذي أستفيده منها؟ ثم يجيب: لا بأس من أن أساير الناس وأن أوافقهم موافقة رجل حذر، ولكن موافقة رجل حكيم أعد لكل شيء عدته، يحاول جهد الإمكان الانتفاع من هؤلاء السذج. فإن انعكست الآية نفر من تلك الجماعة ونبذ ذلك المجتمع الفاسد. والحرية هي تجريد النفس من كل القيود والحدود التي تعوق إرادة الفرد وتحاول منعه من استغلال أنانيته ولو أنها كلمة جوفاء في حد ذاتها. وبعملنا هذا نكون قد أدركنا حقيقة الحرية. والجندي الشجاع مثلاً هو الذي يستطيع أن ينجو بنفسه من الحرب؛ فلا يضحي بنفسه في سبيل أطماع نفر من جزاري البشرية إن ربحوا تقلدوا الأوسمة ودخلوا القصور الفخمة، وإن خسروا انسحبوا إلى مملكة أخرى أو إلى القصور الهادئة وعاشوا عيشة السادة المترفين. في حين أن الجندي المسكين بطل المعركة إن مات مات فقيراً تاركا وراءه عائلة تبكي، وإن عاش عاش فقيراً كذلك لا يهتم بشجاعته أحد(427/17)
سخرت الأوساط الأدبية من آراء ماكس إشترنر ومن كتابه (الفرد وما يملك) وعلى الأخص الشيوعية منها، فنشرت جريدة الراين (دانيشة تزايتنك) جريدة كارل ماركس نبي الشيوعية مقالات تهكمت فيها من نظرية إشترنر؛ وانبرى أمثال كارل كرين وموذس هيس ونفر آخر من محرري الجريدة فنشروا رسالة بعنوان (آخر الفلاسفة) سخروا فيها من الفيلسوف ومن آرائه
لم يفهم ألمان ذلك الزمن معنى لهذه (الأنانية) العلمية الجديدة، ولم يدافع أحد من فلاسفة العصر عن آراء فيلسوف (الأنانية)، ولم يتمكن محب الدنيا من استغلال الدنيا. لم تقبل الدنيا عليه رغم إقباله عليها. ظلت مدبرة عنه وهو مقبل عليها. توفيت زوجته الأولى (بنت الشارع) في السنة الأولى من زواجه، وطلقته زوجته الثانية (الحرة البوهيمية) لأنه حاول أن يتزوج مالها مكتفياً به عنها. ولم تنفعه شيئاً (جمعية أحرار الروح) التي ألفها مع بعض زملائه البوهيميين المفاليس في حانة (هبل) إحدى حانات برلين. لأن الحياة البوهيمية تحتاج إلى مال، وهذا ما لا قبل للفيلسوف به. ولم ينجح صاحبنا في بيع (الحليب) وتوزيعه عندما اضطرته الدنيا إلى العمل. فقد انهال عليه الحليب وقل الزبائن، وذهب آخر فلس لديه. ولم تنجح آخر نظرية من نظرياته الفلسفية، عندما دخل طوعاً واختياراً في عالم الديون والقروض، ثم في عالم النشل والإجرام حيث قالت الحكومة: عدوته رقم واحد، كلمتها وأدخل السجن. وبذلك أثبتت عملياً أن فيلسوفنا لم يكن على حق فيما قال
لم ينعم (صاحب الجلالة) كما كان يلقب نفسه حتى بقليل من الاهتمام. نعم عده الفوضويون الأجانب نبيا من أنبيائهم المرسلين، وحسبوا كتابه معجزة من معجزات الدماغ البشري؛ فكتبت فئة منهم عن نبيهم، كما فعل الاسكتلندي جون هنري مكي صاحب كتاب (سيرة ماكس إشترنر) وكتاب (الفوضويون). وكذلك الأمريكي توكر صاحب جريدة الحرية الأمريكية، والفرنسي فيكتور بشي في جامعات فرنسا
لم تنصف الدنيا فيلسوفنا الفقير، ولم ينصف أهل الأرض ذلك الفيلسوف المتعجرف الذي كان يكتب الحرف الأول من كلمة (أنا) دائماً بالحرف الكبير، دلالة على العجرفة والعظمة؛ فعسى أن يكون نصيبه من الآخرة خيراً من نصيبه في الدنيا.(427/18)
(بغداد)
جواد علي(427/19)
طاغور الخالد
للأستاذ فخري شهاب
(ولد بندرانات طاغور سنة 1860 بكلكتا من أسرة عريقة في المجد بنغالية. وفي هذه المدينة نشأ وفي جامعتها تخرج، ثم ذهب إلى إنكلترا وانتسب إلى جامعة اكسفورد وعكف على دراسة اللاتينية فيها، غير أنه لم يلبث أن مل تلك الحياة وعاد إلى موطنه، سويداء الشرق. وفي عام 1913 منحه المجمع العلمي في (استوكهولم) جائزة نوبل عن ديوان شعره الفلسفي (جيتانجالي). وقد بدأ طاغور حياته الفنية في الربيع الثامن عشر من عمره وبزغ نجمه في سماء الأدب بمسرحيته التي أخرجها يومذاك (جيترا). وفي هذه الفترة كان تأثره بالكاتب البنغالي (شندراشتركي) عظيما، وعكف من بعد ذلك على دراسة الفلسفة الهندية ونقل بعض روائعها إلى الإنكليزية بنفسه. ثم أسس جامعة (سانتينكتان) بمدينة بلبور بجوار كلكتا. وقد قام طاغور برحلات لممالك مختلفة واجتمع بأكابر المفكرين المعاصرين ومشاهير القادة الوطنيين من انشتاين إلى فيصل الأول ملك العراق الذي دعاه لزيارة بلاد الرافدين فلبى النداء قبل نحو عشر سنين. وقد كان طاغور يغمر كل مجتمع يحل به بفيض من علمه وحكمته وسحره وفكاهته وحسن محاضرته التي تستلب الألباب على ما يقول سامعوه. وقبل أن يشهد طاغور انتصار مبدأ السلام الذي خصص له أدبه وافاه الأجل المحتوم فاستشهد في ميدان الدفاع هذا العام. وإذا فقدت الدنيا جسمه ففكره الجبار لن يغيب عن رعاية الناس)
وأخيرا آن لهذا المطاف الطويل أن ينتهي إلى نهايته ويشرف على غايته. لقد مات طاغور وبموته استطاع أن يصل إلى الخلود الذي أشتاقه ومنى به نفسه، وردد ذكره في شعره ونثره؛ والذي من أجله أحب هذه الحياة التي كانت الطريق إليه فسايرها مسايرة المحبة والصفاء، لأنه عالم أن سير الركب به كان حثيثا وأنه عما قريب واصل منزل الأبدية الخالد وإن تطل في هذه الدنيا الطريق أو تعترضه فيها الصعاب
لقد مات طاغور، وليس بدعاً أن يموت طاغور؛ ذلك لأنه كان من أبناء الكون الأحياء، وسنة الكون أن يتدرج أبناؤه نحو الكمال، طوعاً كان ذلك أو كرهاً؛ فهو مكتوب عليهم وهم لابد سائرون إليه(427/20)
أصبح طاغور اليوم اسماً مخلداً في تاريخ الفكر البشري يعرفه الناس - معرفتهم لسقراط وسبينوزا وبرجسون - من مؤلفاته التي تربو على الثلاثين مجلداً وقفها بأجمعها لنصرة الراية التي انضوى تحتها: راية المحبة والسلام في الأرض
ولو أن طاغور لم يقدر له أن يسبق عصره الذي جاء فيه بمئات السنين - إن لم نقل بألوفها - لرأى ساعة استشهد في ذلك الميدان علائم الظفر وبشائر الفوز ورجحان الكفة التي وقف نفسه للكفاح من أجلها كفاح يقين وإخلاص وثبات؛ ولكن سبقه عصره بهذا الأمد الطويل الذي تحتاجه البشرية للتخفيف من غلوئها في محبة القوة والدعوة للهدم أشقى طاغور كثيراً وآلم نفسه وأرمضها، ولكنه عجز عن أن يزعزع يقينها الثابت بالنصر آخر الأمر. وإن ما نرى من استبشاره وحبه للحياة، وتغنيه بما فيها من جمال وسحر، ودعوته إلى عبادة ذلك الجمال وقوله: (أفسحوا لي مجال العيش في نور الشمس في هذه الروضة الزاهرة بين القلوب النابضة)، إنما كان مصدره ذلك اليقين وحده
ولو أن طاغور كتب له أن يعيش في المجتمع المثالي الذي كان يريد بناء مجتمعنا وإصلاحه على نحوه، ولم يقاس في ذلك ألم خيبة الدعوة المبكرة لما اضطر إلى خطاب دعاة الحرب بقوله: (إن صح أن تكون الحقيقة الثابتة الأزلية الكبرى هي شهوة التدمير والتخريب فقد كان لزاماً على هذه الحقيقة أن تعصف بذاتها فتميد بها وتحطمها شر تحطيم) وقوله أيضاً: (إنما تفضح قوة السلاح ضعف الإنسان) وإنما الذي أنطقه بهذا، وشبهه كثير، ما رأى من بعد الحقيقة المادية عن المثالية التي حاول توجيه البشرية إليها قبل أوان ذلك بعصور وعصور
عرف الناس طاغور لشيء واحد لم يعرف فيلسوف قبله لمثله: عرفه الناس لأنه شرقي هندي حاز جائزة نوبل وبذَّ مفكري الدنيا بأسرها في مضمار الدعوة للسلام، وقد قرظه مجمع (ستوكهولم) الذي منحه تلك الجائزة بقوله: (إن شعره مثابة النفوس يشمل جميع خلجاتها ويعرب عن جميع مطامحها). ولقد كان طاغور أغنى الناس عن إشادة (استوكهولم) بفضله والتنويه به؛ ذلك لأن حكمته السامية التي لخصت حكمة الشرق العريق وأجملتها، ما كانت لتحتاج إلى مثل هذه المظاهر والأحكام لتبدوا آثار صحتها. وإذا كان لذلك المجمع من فضل، فليس له على طاغور من ذلك شيء، وإنما يده التي أسداها كانت(427/21)
للدنيا التي عرفها بفلسفة طاغور وأدبه الرفيع الممتاز، فأقبلت عليه إقبالًا قوياً أحيا أملها بالفوز بالإخلاد إلى السلام ذات يوم، وجدد قواها، واستأنفت كبار العقول من أجل ذلك كفاحها، لا يعوقها عنه بعد الغاية ولا طول الطريق
عرف الناس طاغور لهذا، ولو عرفوه لغير هذا لكان أدل على الحجا وأدنى إلى الحق والصواب؛ وبسبب هذه المعرفة التي قدمتها (ستوكهولم) لهم، جاء عرفانهم لفضل هذا الفيلسوف الجليل قاصراً ناقصاً؛ فقد عرف أكثر الناس طاغور مفكراً وأدبياً، وجهلوه مربياً، ومصوراً، وموسيقياً، وصاحب فكاهة حلوة، ونادرة مستطرفة؛ أو بكلمة أخرى جهلوه فيلسوفاً اتخذ مختلف تعابير الفنون الجميلة وسائل لهديه الناس والسعي وراء إصلاحهم
وأن الإحاطة بهذه النواحي من طاغور، هي الإحاطة بفلسفته المثالية التي حاول رفع التفكير البشري إلى مستواها، فحسبها البشر أغراباً في الخيال يخالف حقيقة حياتهم المادية التي يحيون والتي انغمسوا فيها واندفعوا في تيارها مقهورين فيما يظنون وإنهم لمختارون. ولو شاء طاغور أن يكون مثل (نتشه) لكان، ولداهن الواقع، ونزل إلى سوية الناس وتطرف في الدعوة إلى القوة؛ ولكنه جاء إلى الدنيا برسالة تقول بالتطرف في الدعوة إلى الحق، فمن أجل هذا قام بينه وبين أهل عصره الخلاف، فلم يفز في أبان حياته بطائل مما رجا للناس من خير وسلام
ذلك من حيث كون طاغور مناراً في طريق البشرية نحو الكمال. أما هو في نفسه، فعلى العكس مما أخرجته قصور أسرته البرهمية العريقة في أرستقراطيتها: صوفي عظيم، يألف التأمل وينعم به، ولكن تأمله هذا لم يمنعه من الاندماج في الناس لأنه إنما كان يتأمل في خيرهم وصلاحهم، ولأن سعيه إنما كان في توحيدهم برغم إجماعهم على التنابذ والتخالف؛ وقد كانت نظرته إليهم نظرة متأثرة بفلسفة (الحلول) التي اشتهرت بها الهند، فجمعتهم روح الإله الأكبر، وظهرت أمامهم في مظاهر الكون الفسيح كافة لتستهويهم وتأسرهم بجمالها، ولتكون فتنة عقولهم التي تأسرها لذة التأمل العميق
على أن هذه الفلسفة لم تقف مانعاً في طريق طاغور، ليتأمل تلك القدرة المبدعة الجبارة التي زانت الكون وغمرته بفيض من جمالها الذي يثمل النفس، بل كانت الفلسفة (الحلولية) - على العكس من ذلك - طريقته التي استطاع أن يتلمس بها آثار تلك القوة القادرة(427/22)
المهيمنة الحكيمة التي أبدعت كل شيء صنعا.
وإذا تأمل القارئ هذه القصيدة التي نسوقها إليه الآن، رأى مصداق هذا الكلام، قال طاغور:
(كلا، ليس لك أن تفتق البراعم في شكل الأزاهير
(هز البرعم ما شئت، أو أضربه، فلن تقدر على جعله زهرة، لأن ذلك فوق ما تستطيع
(إنك لتلوثه إذ تلمسه، وإنك لتقطع وريقاته إرباً إرباً ثم تلقيها في التراب
(غير أنه لا لون يظهر ولا عطر يفوح
(آه. . . ذلك لأنه ليس لك أن تفتق البرعم زهرة
(وإن من في استطاعته تفتيقه، هو الذي أبدع صنعه، فسواه بهذه البساطة واليسر
(إنه ليرمقه بنظرته، فإذا بدم الحياة يتسرب في تضاعيف عروقه، ومن أنفاسه تفتح الزهرة أجنحتها لتخفق في مهب الرياح
(ثم تنتشر فيها الألوان انتشار الأشواق في القلوب. . . ويفوح منها العطر لينم فيها عن سر جميل
(إن من في استطاعته تفتيق البرعم في شكل زهرة هو الذي أبدع فسواه بهذه البساطة واليسر)
وأبدع مما تقدم قوله في مقطوعة رمزية أخرى تظهر ما أحس به طاغور العظيم من بون شاسع يفصل دنيا الناس عن دنيا مثالية، وكأنه بذلك كان يندد بفكرة البشر المادية ويحلق في سماوات تصوفه وتأملاته العالية وذلك حيث يقول مخاطباً حبيبه:
(حينما اعتزمت على تصويرك نصباً اقتطعته من حياتي لأقدمه إلى الرجال ليعبدوه، جمعت - لذلك - ترابي ورغباتي وجميع أوهامي التي زانتها التهاويل، وما عندي من أحلام)
(وعندما سألتك أن تقيمي لحياتي نصباً تقدينه من قلبك جمعت نيرانك وقوتك إلى الحقيقة، وضممت إلى ذلك كله المحبة والسلام)
فانظر كيف رمز إلى المثل الأعلى في المقطع الأخير ووشحه بغيره مما في النفس الآدمية من دعوة للقوة والنار(427/23)
لا نأمل في هذه العجالة أن نحيط بأفاق طاغور الفلسفية المترامية أطرافها، بل من ذا الذي منى نفسه بأن ينال من طاغور هذا المنال؟ ولكنما نريد أن نلم به اليوم إلمامه الطارق العجلان ريثما تتيسر زيارته الزيارة الطويلة، زيارة المحب ليقضي شوقه من زيارة الحبيب، وإذا لم يكن المجال يتسع لنا بأكثر من هذا، فلنعطف النظر إلى ناحية أخرى عظيمة من نواحي طاغور العظيم
كان طاغور إلى ما نعم به من سمو تفكيره جنديا من جنود الوطنية الهندية على نحو مبتكر جديد لم يكن قد سمعه من قبله الناس. كان طاغور يعشق الحرية عشقاً ظهرت آثاره في مؤلفاته كلها، والحر ليس يرضيه أن يقيم فرد من البشر في قيد الإسار فضلاً عن رضائه على رؤية الملايين من أولئك البشر أسرى خاضعين، ولهذا التنافر بين طبيعته الحرة وما أصيبت به الهند من عوادي الاستعمار برز طاغور في ميدان الوطنية وبذ فيه غيره من المكافحين
كان طاغور يتعشق الحرية ويتعشق السلام في آن واحد. والناس اليوم لا يستطيعون أن يسموا إلى الجمع بين هذين المبدأين، ذلك لأن قلب الإنسان - وإن شئت فذهنه - لم يصل من الكبر والعظمة إلى الحد الذي يتسع فيه لهذين المبدأين في الوقت ذاته. وإذا ما رأينا من إنكارهم لوطنية طاغور التي خفيت عليهم فإنما مرجع ذلك هذا الاختلاف في التفكير والاختلاف في محبة المثل العليا والتأليف بينها. فقدر طاغور على ما لم يقدروا، وجمع أكثر مما جمعوا، وسما عليهم وبمعجزة أخرى هي سلامة المثل العليا وعدم تنافرها في نفسه بل كانت جميعاً عنده تسير في وفاق والتئام
دعا طاغور إلى الحرية، ودعا إلى تحرير البشر من إسار أقويائهم، ولكنها كانت دعوة موجهة إلى جهة الإيجاب البانية لا إلى جهة السلب المدمرة، وهو في هذا يختلف عن زعماء الوطنية الآخرين الداعين بتطرف إلى الجانب المضاد لضفة طاغور السهلة الجميلة. وليس بدعاً أن يدعو هذا المفكر الجبار لهذه الدعوة، إذ بها وحدها كان يضمن التوفيق بين عقيدتيه اللتين تنافرتا من اجتماعيهما عند غيره من الناس، عقيدة الحرية والوطنية وعقيدة تسوية السلام والمحبة بين الناس
إذا شئت أمثلة من وطنية طاغور فاسترجع في ذهنك الضجة التي أحدثها منذ أمد قريب(427/24)
جداً إحدى النائبات الإنكليزيات إذ اتهمته - خلافاً لعقائده - بالدعوة السلبية التي لم تؤثر عنه منذ خلق حتى انتقل إلى عالم الخلود. وإذا شئت مثلاً آخر فاذكر أيضاً خطابه الذي وجهه إلى إخوانه الهنود المقيمين في اليابان إذ أرسلوا يسألونه أن يؤيد اليابان بكلمة من عنده في حرب استيلائها على الصين الحرة لكي يكفكف من عدوان اليابانيين على النزلاء الهنود فكان جوابه متضمناً هذا المعنى: (لخير لي أن أرى الهنود من أبناء جلدتي يروحون ضحية للجهاد من أن أنتصر باسم الهند للجور والطغيان)
وإليك مثلاً آخر من وطنيته حين نبذ أوسمة الشرف وألقابه التي قدمتها إليه الحكومة البريطانية وذلك حين أستشعر منها الإجحاف والظلم في معاملة الهنود، وأبى أن يحمل من بعد ذلك اليوم لقب (سير) ولم يجدد وضعه على طبعات مؤلفاته الجديدة ونفر منه نفرة كانت تغضبه وتؤلمه إذا دعي بها
عالج طاغور فيما عالج من مشكلات الهند مشكلتين عظيمتين: أولاهما مشكلة (المنبوذين) التي أقدم على علاجها علاجاً عملياً غير مكتف بما كتب عنها، وكسر جميع أغلال أسرته البرهمية العريقة، وذلك لأنه كان في أعماله أشبه بالمفكر الخالد الحكيم سقراط ينحو نحو تطبيق الفضيلة على نفسه بعد معرفتها ثم يدعو الناس بعد تلك المعرفة وذلك التطبيق إلى أخذ أنفسهم بها والعمل بمقتضاها. وقد أقام طاغور للمنبوذين من ماله الخاص المدارس وأنشأ لهم منشآت الثقافة التي كان أعظمها وأجلها أثراً مدرسته النموذجية التي مر ذكرها آنفاً والتي أصبحت جامعة مثالية يأمها أساتذة الجامعات ليتخرجوا فيها على طاغور تلاميذ مشربين بروح محبته للخير والسلام. وإنه ليروي أنه أنفق الجائزة المالية التي قدمها له مجمع (استكهلم) سنة 1913 في سبيل هؤلاء المنبوذين بعد أن أنفق في ذلك كل ما آل إليه من ثروة موروثة ومال مكتسب
أما الناحية الأخرى التي عالجها من مشكلات الهند فكانت مشكلة المرأة الهندية التي كانت عندما فتح طاغور عينيه للدنيا ليراها في مستوى المنبوذين هؤلاء أو أرفع قليلاً. ومن أجل تلك المخلوقة المهيض جناحها التي ظلمها تعسف الرجل مئات السنين في الهند وقف قسطاً من جهاده، وأكرمها في شخص زوجته وأبنته، وجعلها ملاكاً كريماً يرفرف بجناحيه على البيت ليكون فيه ظل المحبة الشاملة والسلام الذي ينتظم البيوت.(427/25)
وما من مسرحية له أو قصة أو أقصوصة أو رواية أو شعر إلا كانت المرأة فيه العنصر السامي الذي يخفف الحدة، ويلطف الشدة، ويمزج بالشر الذي يندس بين الناس ليفنيهم إكسيرا مضاداً له يكافحه ويقف آثار فعله لتنحصر في زاوية ضيقة بدل أن يمتد ويفور
المرأة في نظر طاغور مخلوق جعل لتزين الحياة، يخفف آلامها، ويكثر من مسراتها، ويطبعها بطابع البهجة الذي يحلو للرجل النظر إليه؛ ذلك ما دامت امرأة، فأما اعتلت أريكة الأمومة فهنالك الكمال في السمو إلى حقيقة الحقائق حقيقة المحبة التي يفيض بها قلبها أو فكرها على الناس أجمعين
ولا يستغرب القارئ هذا القول لأن دعمه بالبرهان سهل، فالرجوع إلى كتابه الذي أتممنا نقله إلى العربية ونشرناه كاملاً في أجزاء مجلة وزارة المعارف العراقية (المعلم الجديد)، ذلك الكتاب الذي أسماه الهلال يؤيد هذه الدعوة ويصور الأم للقارئ بشراً سوياً لا تبلغ المحبة في قلب في الكون مبلغها عند أحد سواه
أما بعد، فهذه كلمة موجزة عن طاغور نرجو أن تعقبها لنا عنه دراسات مستفيضة تعرفه إلى الشباب، لأن طاغور من الشخصيات الفذة التي يتعب المؤرخ الاهتداء إلى أمثالها في الدنيا. وتفكير طاغور العميق الهادئ، وتصوفه الروحي البعيد عن المظاهر، ونظرات تأمله التي شملت كل ما في الكون من أسرار وجمال جعلت منه دائرة معارف شرقية حديثة، ولكنها تمت إلى القديم بأوثق الأسباب. وهل كان لعمري ثمة شيء لا يحسنه طاغور؟ ومن أجل هذه السعة في المعرفة يوصي الذين شغفوا بطاغور حباً بدرسه دراسة تأمل وإنعام نظر وفهم دقيق، لأن في دائرة المعارف الشرقية هذه غذاء روحياً لذيذاً، ولكنه دسم لا يفهمه كل إنسان
إن طاغور لم يمت، لأن حكمته الرفيعة وفلسفته وتصوفه وأدبه الذي يحيط من وراء ذلك كله خالد تخجل يد الفناء أن تمتد إليه بعبث أو تخريب. ولن تعرف الإنسانية قدر طاغور اليوم، وإنما ستعرفه الإنسانية بعد مئات طويلة من السنين حين تخرج من سن الطيش إلى طور العقل والحصافة والتفكير الهادئ العميق.
فخري شهاب(427/26)
الفقر مسألة اجتماعية
للأستاذ رمسيس يونان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وهذا مثل ثان من تناقض المصالح بين الطبقة الغنية المعتمدة على الزراعة، والطبقة الغنية المتصلة بالصناعة. فطبقة ملاك الأرض تزداد ثروتها كلما رخصت الأيدي العاملة في الزراعة، وهم الأغلبية الساحقة من الشعب المصري؛ أما رجال الصناعة فإن دخلهم يزداد كلما زادت قدرة هذه الأغلبية على الاستهلاك، أي كلما ارتفع مستوى معيشتها
وعلى ذلك ليس عجيباً أن نرى أن معظم السياسيين المصريين الداعين إلى الإصلاح الاجتماعي؛ أمثال: حافظ عفيفي، علي الشمسي، وهيب دوس، هم ممن اتصلت حياتهم عن قرب أو عن بعد بالصناعة، أو ممن تأثروا تأثراً كبيراً بالحياة الاجتماعية في الغرب التي هي نتيجة وسط صناعي. وليس عجيبا أيضاً أن نرى رجلاً مثل إسماعيل صدقي ينادي بمكافحة الفقر ورفع مستوى حياة الفلاح. . .
وهناك عوامل ثانوية أخرى تدفع الممولين إلى التفكير في الإصلاح: منها أن الأبحاث الطبية تثبت إثباتاً قاطعاً أن الأمراض تنهك العامل والفلاح وتضعف قدرتهما على الإنتاج إلى حد مخيف. وعلى ذلك فبين الممولين من يرى أن مكافحة هذه الأمراض قد يؤدي إلى زيادة في الربح تعادل على الأقل ما يحتاجون إلى بذله في سبيل هذه المكافحة. . .
ومن هذه العوامل أيضاً الرغبة النامية في إنشاء جيش قوى سليم يشعر أرباب الثروة المصرية بضرورته للاحتفاظ باستقلال سياسي يضمن لهم استقلالهم الاقتصادي
على أن رجال الصناعة في مصر والمتكلمين باسمهم لا يدعون إلى الإصلاح الاجتماعي إلا في حدود ضيقة. . . ذلك لأن الدعوة إلى تحسين حال الفلاح تؤدي حتماً إلى تحميس الحركة العمالية المطالبة برفع الأجور. وليس هذا مما يرتاح إليه الممولون وأرباب الأعمال. . .
ومع أن معظم العمال المصريين قد جاءوا من الريف، وبرغم من حداثة عهدهم بالوسط الصناعي، فلا شك في أنهم قد اكتسبوا أساليب في التفكير المعاشي تختلف عن أساليب إخوانهم الفلاحين. ولسنا الآن بصدد بحث العوامل المادية التي سببت هذا لاختلاف، وإنما(427/27)
يهمنا بعض ظواهره الواضحة
وأوضح هذه الظواهر أن العمال قد تجمعوا في نقابات يسعون عن طريقها إلى تحسين أحوالهم، وتشغيل العاطلين منهم، وتنظيم الإضرابات والمظاهرات وإصدار الاحتجاجات عندما يزداد ضغط أرباب الأعمال عليهم. ولم نسمع بعد - بالرغم من مجهودات بعض الأفراد طيبي القلوب - عن هيئة من الفلاحين تسعى إلى شيء من هذا
ولاشك أن هذه النقابات قد أفادت العمال في كثير من الظروف، وزادت بينهم ما يسمى (الوعي الطبقي) وإذا كان هذا الوعي الطبقي لم يصل بهم بعد إلى درجة النجاح في تكوين حزب عمال مستقل، فقد كان كافياً على الأقل إلى أن يقنع بعض الأحزاب السياسية الموجودة أن من مصلحتها التقرب بين العمال ورعاية نقاباتهم والتودد إليهم بالوعود. . .
ومع ذلك فما زالت الحركة النقابية في مصر ضعيفة، وذلك لسببين:
السبب الأول يتصل بالحركة العمالية ذاتها التي لم تنجح بعد في تحقيق (التضامن الطبقي) الكامل بين العمال، كما لم تنجح بعد في أثارت حركة مشابه بين الفلاحين، لاشك أنها إذا قامت واتحدت مع الحركة العمالية، أصبح لمجموع الأيدي العاملة في مصر قدرة رائعة على الكفاح الاقتصادي الناجح. . .
أما السبب الثاني لضعف الحركة النقابية فيرجع إلى المقاومة الجبارة المنظمة التي تواجهها بها الطبقة التي تخاف على مصالحها من نمو هذه الحركة، والتي منها من لا يتحرج أحياناً عن اللجوء إلى أحط الوسائل لإفساد أخلاق بعض زعماء العمال، وتأليب بعضهم على بعض. ولهذا الطبقة سلطان مادي يضمن لها نفوذاً كافياً على التشريع والصحافة. وليس أدل على هذا النفوذ من أن مشروع قانون النقابات ما زال من السنوات يتأرجح بين قاعتي مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وما زال يؤجل الدورة بعد الدورة. . . هذا بالرغم من أن هذا القانون يكاد يحرم على العمال كل وسيلة من وسائل الكفاح الجدي
ولسنا نستطيع الحديث عن مسألة الفقر في مصر بغير أن نذكر مشكلة المتعلمين العاطلين. وقد يبدوا عجيباً أن تظهر مثل هذه المشكلة في بلد لا تزيد فيه نسبة المتعلمين على 10 ? بينما لم تظهر هذه المشكلة في معظم الأمم الغربية إلا بعد أن عم فيها التعليم. ولكن تعليل ذلك غير عسير؛ فإن انتشار التعليم في الغرب - كما هو الحال في مصر - كان ملازماً(427/28)
للنهضة الصناعية، وقد وجدت الصناعة الغربية أسواقاً ضخمة بين الشعوب الآسيوية والأفريقية فنشطت واتسعت واستطاعت أن تستوعب القدر الأكبر من خريجي المدارس؛ بينما جاءت الصناعة إلى مصر بعد أن اكتظت الأسواق الخارجية بالمصنوعات الغربية، فلم يبق أمامها غير السوق المحلية، وهي سوق في غاية الضعف كما قلنا بالنسبة للفقر الشنيع الذي تعيش فيه أغلبية الشعب، ونتيجة هذا أن الصناعة (وما يتبع الصناعة من أعمال تجارية ومرافق عمرانية) لا تنمو في مصر ألا في بطئ هو أشد من البطيء الذي ينتشر معه التعليم
وعلى ذلك فنحن نرى أن السبب العميق لظاهرة المتعلمين العاطلين بالنسبة لمصر هو هذا الفقر الساحق الذي تعيش فيه غالبية الشعب
ولسنا من المدافعين عن مناهج التعليم في مصر؛ ولكنا لا نرى في عيوب هذا التعليم السبب الأساسي في عدم اشتغال الشبان المتعلمين بالأعمال الحرة. فالواقع المشاهد أن هؤلاء الشبان لا يترددون عن الاشتغال بأي عمل منتج؛ وقد رأينا من حملة الشهادات من يبيع أوراق النصيب في الشوارع، ولكن الأعمال الحرة في مصر - بحالتها الاقتصادية الراهنة - مكتظة بالمشتغلين بها، وشوارع المدن الآن ليس فيها مكان لحانوت جديد، ولن يتسع المجال أمام الأعمال الحرة إلا إذا اتسعت الحركة العمرانية، أي إلا إذا نفذت وسائل الحياة الحديثة إلى الريف ونشأت فيه مدن جديدة، وهذا كله موكول بالتقدم الصناعي وارتفاع مستوى المعيشة بين الفلاحين والعمال
ويهمنا الآن أن ننبه إلى الصلات الاقتصادية التي تربط مشاكل الفلاحين، ومشاكل العمال، ومشاكل العاطلين من عمال ومتعلمين. فمن فائدة العمال أن ترتفع أجور الفلاحين حتى تروج تجارة المصنوعات وتزداد حاجة أصحاب المصانع إلى العمال فترتفع أجورهم. ومما يودي العمال المنشغلين أن يوجد إلى جانبهم عمال متعطلون؛ لأن الخوف من البطالة يضطر العمال إلى القبول ما يعرضه أصحاب المصانع من أجور مهما انحطت. وما يقال عن العمال يقال عن المتعلمين العاطلين وعن صغار الموظفين؛ فالمصانع تحتاج إلى خريجي المدارس كما تحتاج إلى عمال؛ والتقدم في الإنتاج الصناعي يفتح الأبواب للكثير من الأعمال الحرة أمام المتعلمين، ووجود عدد كبير من المتعلمين العاطلين يخيف(427/29)
المستخدمين في المصارف والمتاجر وغيرهم ويضطرهم إلى الإذعان لاستبداد الرؤساء وإلى القناعة بالدون من المرتبات
وإذا كانت مصالح الفلاحين والعمال وصغار المستخدمين والعاطلين من متعلمين وعمال مترابطة كما نرى من هذا التحليل، فمما يؤسف له أنه لم يظهر حتى الآن اتجاه نحو توحيد الصفوف بين هذه الطبقات. فما زال العمال بعيدين عن التفكير في حال الفلاحين؛ وما زال صغار المستخدمين بعيدين عن الاهتمام بالحركة العمالية، بل ما زال المتعلمون العاطلون أفراداً منعزلين لا تربطهم هيئة منظمة، وما زال طلبة المدارس الموشكون على التخرج منصرفين عن دراسة المشاكل الاقتصادية التي تهدد مستقبلهم
ونحن نعلم أن قلوب المتعلمين والعمال العاطلين طافحة بالسخط والحقد، وأن بين العمال نفوساً متوثبة تطلب الجهاد، وأن بين شباب الجامعة عدداً كبيراً من الثائرين الناقمين على الأوضاع الحاضرة؛ ولكن هذا السخط والحقد والتوثب، وهذه الثورة والنقمة لن تنجح في مكافحة الفقر والتعطل إلا إذا انتظمت في جهاد يقوم على خطط مدبرة محكمة
ونحن نعلم أن هناك عقبات كثيرة تقوم دون ظهور حركة منظمة بين الفلاحين؛ ولكن ظهور هذه الحركة (وقد ظهر مثلها بين فلاحي الهند) غير مستحيل إذا تضافرت جهود الشباب المتعلم والعمال مع الفلاحين في هذا الكفاح.
والطبقات التي تؤذيها الأوضاع الاقتصادية الحاضرة تكون الأغلبية الساحقة من الشعب المصري؛ وما دمنا نعيش في نظام ديمقراطي، فإن من الممكن لهذه الأغلبية - إذا وحدت صفوفها - أن يصبح لها يوماً حزب سياسي مستقل قوي يعمل على تحقيق مصالحها
فمسألة الفقر في مصر لن تحل بجهود منعزلة يقوم بها أفراد لا يفكرون إلا داخل حدود حياتهم الضيقة؛ فقد ينجح فلاح صغير - لظروف شاذة - في أن يصبح مالكا صغيراً، وقد ينجح عامل في أن يستولي على مصنع حقير، وقد ينجح بعض المتعلمين العاطلين في الحصول على عمل مكان آخرين مطرودين. . . ولكن هذا كله لن يغير شيئاً في حال ستة ملايين فلاح ومليوني عامل وعشرات الآلاف من المتعلمين العاطلين. . . ولن ينجح أفراد في تغيير أوضاع اقتصادية تقوم على حمايتها سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية منظمة.
ولا تحل مشكلة الفقر بسياسة الإحسان؛ فلن تنجح هذه السياسة - إذا نجحت - إلا في(427/30)
تحويل الشعب المصري إلى أمة من الشحاذين المستكينين الصاغرين. . . يقبلون أيدي الأغنياء ويدعون بطول العمر للمستفيدين الرابحين من بقاء الأوضاع الاقتصادية الحاضرة. . .
ولا تحل مشكلة الفقر بالبحث عما يسميه الأستاذ العقاد (حقائق جامحة) و (حقائق كابحة)؛ فأغلب الظن أن هذه الحقائق عند العقاد ليست إلا انعكاساً من موقف التردد عند الطبقة البورجوازية المصرية، التي ترى ضرورة الإصلاح، ولكنها تخاف في نفس الوقت من كل دعوة إلى إصلاح عميق. . . وهو موقف تشترك فيه البورجوازية المصرية مع البورجوازية الغربية، ونرى صداه في تفكير الكثيرين من الكتاب الغربيين المعاصرين الذين يقرأ لهم العقاد
وإنما تحل مشكلة الفقر بجهاد مشترك منظم يساير نهضة البلاد ويتمشى مع قوانينها وتقاليدها. والله الهادي إلى أقوم طريق.
رمسيس يونان(427/31)
7 - مدن الحضارات
في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أما الآية الكبرى الباقية في قرطبة شاهداً على ما كان للعرب فيها من عمارة وهندسة فهي الجامع الكبير أو المسجد الجامع الذي بناه عبد الرحمن الداخل في موضع كنيسة للنصارى عوضهم عنها أرضاً واسعة ومالاً كثيراً. وطراز هذا المسجد على غرار المسجد النبوي الذي بناه الوليد بن عبد الملك بالمدينة المنورة.
وقد وصفه (لابورد) في كتابه (صفة أسبانيا) وذكر أن طوله 620 قدماً وعرضه 440 قدماً. ونقل دوزي عن لابورد هذا الوصف. أما المستشرق بروفنسال صاحب كتاب (إسبانيا الإسلامية في القرن العاشر) فقد ذكر أن طوله 180 متراً وعرضه 130 متراً
وفي كتاب الحلل السندسية للأمير شكيب وصف مفصل لهذا المسجد، كما افاض الوصف فيه البتانوني صاحب رحلة الأندلس
وتمتاز كتابات الأمير الجليل بالتحقيق والتدقيق والشرح التفصيل والتعليق على كل مشهد والتحليل لكل حادثة؛ فهو لا يكتفي بأبعاد المسجد التي ذكرها دوزي ولابورد والبارون شاك ولكنه يسأل دليله في قرطبة المهندس هرناندز وأحد الموكلين بالجامع والقيام عليه، فذكر له أن طول المسجد 175 متراً وعرضه 125 متراً وذلك قريب مما ذكره بروفنسال
وعلى كل حال لا تخلو الروايات التاريخية المختلفة من اختلاف بينها على سعة هذا المسجد وأبوابه ومحاريبه وسواريه وثرياته ونقوشه ورقومه وصناعات قبلته وفرجة محرابه وقسيه وعمده
وينقل صاحب نفح الطيب عن الإدريسي كلاماً في وصف هذا المسجد، إلا أن النسختين الباريسية والاكسفوردية من كتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) للإدريسي جاء فيهما ما يخالف ما رواه صاحب نفح الطيب. ولعل ذلك من أخطاء النسخ وعدم تحري الدقة في النقل، وخاصة فيما يتعلق بذكر الأرقام والإحصاء، وهذا مشاد كثيراً لمن يكثر المطالعة في كتب الأدب والتاريخ
وأعجب ما في هذا المسجد مئذنته، وقالوا لم يكن في مآذن المسلمين ما تعدلها، فبلغ طولها(427/32)
إلى مكان وقوف المؤذن 54 ذراعاً، والى أعلى الرمانة الأخيرة 73 ذراعاً، وعرضها في كل تربيع 18 ذرعاً
وقد حول نصارى أسبانيا هذا المسجد إلى كنيسة بعد أن دخلت الأندلس في حوزة الفرنجة. وما تزال النقوش العربية العجيبة الشبيهة بالمخرم (الدنتلا) تزين وجهته وعلى الباب الكبير المصفح بالنحاس رسم القوم صلباناً بعد أن تم التحويل إلى كنيسة. وبقية المئذنة على حالها؛ إلا أن النواقيس أصبحت ترم فيها بعد الأذان والتكبير، وما تزال الآيات القرآنية الكريمة مكتوبة في دار القبلة والمحراب بالخط الكوفي. أما القبة الضخمة التي كانت قائمة فوق المسجد على 365 عموداً من المرمر، فقد أزيلت وأزيل معها 163 عموداً كما أزيل بعض سقف المسجد المحلاة بالأطلية الجميلة والليقة الذهبية؛ ونهب الفرنسيون في غارة نابليون الأول على إسبانيا أربعمائة مصباح من الفضة الخالصة. ولا تنس أن جميع خشب هذا المسجد من عيدان شجر الصنوبر الطرطوشي الذي تضرب به الأمثال في الصلابة والثبات
ويذكر الإدريسي أن بمسجد قرطبة مصحفاً يقال أنه عثماني. ويروي صاحب نفح الطيب الخبر عن الإدريسي، ثم يرويه في العصر الحديث الأمير شكيب صاحب الحلل السندسية، ويذكر أنه المصحف الذي خطه بيمينه عثمان بن عفان رضي الله عنه وفيه نقط من دمه، ولكن البتانوني يناقش هذه الرواية في تحقيق علمي، وينفي عقلاً أن ينتقل مصحف عثمان الأصلي من المدينة إلى الأندلس
وإذا ذكرت قرطبة، ذكرت بجانبها (الزهراء) التي بناها أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر، ولم يكتمل بناؤها ألا في عهد ابنه الحكم؛ وقد شرع الناصر في بنائها على بعد أربع أميال من قرطبة مرضاة لمحظية له كان اسمها زهراء
ويروي المقري عن ابن الفرضي انه كمل للناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة التي أجراها وجرى فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة في المناهر المهندسة، وعلى الحنايا المعقودة يجري ماؤها بتدبير عجيب وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة عليها أسد عظيم الصورة، بديع الصنعة، شديد الروعة، لم يشاهد أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر، يدخل الماء إلى جوف الأسد ويخرج من عجزه إلى تلك(427/33)
البركة في منظر يعجب الناظر ويبهره. . . فتسقى من هذا الماء الممجوج رياض القص وجنائنه على رحبها، ويجوز الفضل من ذلك الماء إلى النهر
ويبدع الواصف لهذا القصر - سواء كان المقري أو أبن الفرضي - في وصفه سطحه الممرد المشرف على الروضة ووصف مرمره المسنون، وذهبه المصون، وعمده ونقوشه وبركة وحياضه وتماثيله. وكان يخصص لبحيرة الزهراء كل يوم أحمال وأوزان من اللحم والخبز المصنوع من الحمص الأسود غذاء لحيتانها وأسماكها. . .
وهنا تعمد الرواية التاريخية إلى الإغراق في المبالغة والمغالاة في الإحصاء والأرقام مما لا حاجة بي إلى ذكره في هذا المقام. وهي مبالغة تدل على شيء كثير من الحق، وتصور لنا هذه القصور والدور في صورة نستطيع أن نتخيلها لا بحقائقها ولكن بما أضفي عليها من تهويل وإغراق
وكان الرخام يجلب إلى الزهراء من قرطاجنة وأفريقية وتونس، واشترك في وضع الرخام ولصقه علي بن جعفر الإسكندراني. ولعله اجتلب من الإسكندرية خاصة لذلك
وازدهرت (الزهراء) في عصر الناصر ازدهاراً كاد يضيع من مكان قرطبة ومحلها. وشغل الناصر نفسه بالبناء والعمارة وإتقان القصور، وزخرفة المصانع في الزهراء حتى عطل شهود الجمعة ثلاث جمع متواليات، مما جعل القاضي العادل والواعظ الناصح منذر بن سعيد يعرب بأمير المؤمنين مبتدءاً الخطبة بقوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم مخلدون) ومذكراً فيها بالدنيا الزائلة والحياة الفانية، والدار الباقية والموت المفاجئ، والقدر المواتي، مما أبكى الناصر وأحنقه على منذر لشدة وعظه وغلظة تقريعه
وكان منذر بن سعيد هذا يكثر تعنيف الخليفة الناصر على اهتمامه بالبناء إلى حد كاد ينسيه أمور دينه، وشؤون آخرته. ويروي المقري عن الحجازي في كتاب (المسهب في أخبار المغرب) أن منذراً هذا دخل على الناصر يوماً وهو مكب على الاشتغال بالبنيان فوعظه، فرد عليه الناصر قائلاً:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان(427/34)
إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان
ولا يدري الراوي إن كان هذا الشعر الناصر أم مما تمثل به في هذا المقام
لقد شهدت قرطبة منذ الفتح العربي إلى أيام المنصور بن أبي عامر في أواخر القرن الرابع الهجري كثيراً من نواحي الجلال التاريخي، فبقيت زهاء ثلاثة قرون تتمتع بحكم مستقر، وملك وطيد وعمارة وبناء، ويسر ورخاء؛ إلى أن نكبت في النصف الأول من القرن الخامس الهجري الحوادث الجسام وخاصةً في زمن المستعين بالله سليمان وفي دولتيه اللتين مكثتا ست سنين وعشرة أشهر، وهي تلك المدة التي يصفها أبن بسام صاحب كتاب الذخيرة ناقلاً عن أبن حيان قوله، وكانت كلها شداداً نكدات، صعاباً مشئومات، كريهات المبدأ والفاتحة قبيحات المنتهى والخاتمة، لم يعدم فيها حيف ولا فورق فيها خوف، ولا تم سرور، ولا فقد محذور، مع تغير السيرة، وخرق الهيبة، واشتعال الفتنة، واعتلاء المعصية، وظعن الأمن، وحلول المخافة
وشهدت قرطبة أيضاً الفتنة في زمان المستظهر، وحبسته الشنيعة في أتون الحمام حين قام الدائرة في وجهه وزرقوه وهم يسبونه، فارتد على عقبه وترجل عن فرسه وتجرد من ثيابه حتى بقي في قميصه واستخفى في أتون الحمام ففقد شخصه، ثم أخرج في قميص مسود بحال قبيحة حيث قتل أمام أبن عمه المستكفي. . .
وشهدت قرطبة في سنة 414 هـ ثورة لتعويل أهلها على رد الأمر لبني أمية الذين اغتصب سلطانهم بنو حمود، وبايعوا المستظهر الأموي الذي قتله حفيد الناصر وجلس على العرش باسم المستكفي بالله - وهو والد ولاّدة الشاعرة الأندلسية المشهورة - ثم قتل المستكفي وجاء بعده - بعد فتن وحوادث - المعتمد بالله آخر ملوك بني أمية بالأندلس
ظلت قرطبة منذ الفتح العربي مقصد أهل العلم وطلاب الأدب، يفدون إليها انتجاعاً للعلم أو طلباً للحكمة كما كانت بغداد والقاهرة في المشرق. ويذكر القاضي صاعد الأندلسي أن أبن البغونش الطبيب الحكيم الأندلسي رحل من طليطلة إلى قرطبة لطلب العلم بها
ولم لا تكون قرطبة مقصد العلماء والشداة من أهل الحكمة والمعرفة والنظر والفلسفة، وقد كان من أهلها الطبيب الفلكي الفيلسوف يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة، والرياضي الحكيم أبو القاسم مسلمه المعروف بالمرحيطي. وكان من تلاميذه أبن السمح وأبن الصفار(427/35)
والزهراوي والكرماني وأبن خلدون (غير المؤرخ صاحب المقدمة). وكان أبن السمح السالف الذكر من أهل غرناطة، ثم وفد على المرحيطي في قرطبة لأخذ الرياضة والحكمة عنه
كما كان من أهلها الكرماني أحد الراسخين في علم العدد والهندسة، والذي قال عنه تلميذه أبن حيي المهندس الفلكي (أنه ما لقي أحداً يجاري في علم الهندسة ولا يشق غباره في فك غامضها وتبين مشكلها واستيفاء أجزائها)
ومنهم الفيلسوف أبن رشد أبو الوليد الذي اشتغل بالرياضة والفلسفة والطب والتشريح وقام: (من اشتغل بعلم التشريح ازداد بالله إيماناً)، وترك من الكتب القيمة عدة صالحة تجد ذكرها في ترجمته في طبقات الأطباء لأبن أبي أصيبعة
كما وفد على قرطبة من أهل المشرق أحمد بن يونس الحراني وأخوه عمر وغيرهما
وكان ضياع قرطبة - فيما ضاع من الفردوس الإسلامي - سبباً في إثارة شاعرية كثير من شعراء المراثي للممالك والدول كابن الأبار القضاعي صاحب كتاب التكملة الذي قتل قمصا بالرماح سنة 658 هـ وأحرقت أشلاؤه والذي يقول في رثائه لمدينة بلنسية:
يا للجزيرة أضحى أهلها جَزراً ... للحادثات وأمست جدها تعسا
في كل شارقة ألمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكلِّ غاربة احجافُ نائبة ... تثني الأمان جذاراً والسرور أسى
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... ألا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها (وقرطبة) ... ما يذهب النفس أو ما ينزف النّفَسا
وفي قرطبة يقول صالح بن شريف الرندي المعروف بأبي البقاء وهو خاتمة شعراء الأندلس وأدبائها:
وأين (قرطبة) دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شأن؟
والحق أنه يسأل حيث لا جواب ولا كلام؛ ولله سبحانه البقاء والدوام.
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن(427/36)
4 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
وفي بعض المنازل توجد حجرة أخرى تسمى (مقعد) - كما مر بك في شكل 4 - ترتفع عن الطابق الأرضي نحو ثماني أقدام أو عشر وتستعمل كالمنضرة، وهي ذات واجهة مكشوفة لها عقدان أو أكثر ودرابزون منخفض. كذلك يوجد في الطابق الأرضي مكان مربع يسمى (تختبوش) له واجهة مكشوفة يتوسطها عامود يحمل الجدران العليا، وأرضية هي ليوان مبلط عليه مقاعد خشبية طويلة يسمى الواحد منها (دكة) تصف على جانب واحد أو على جانبين أو على الجوانب الثلاثة. وكثيراً ما يرش الحوش أثناء الصيف بالماء حتى تصبح الغرف المحيطة به (أو على الأقل غرف الطابق الأرضي) لطيفة الحرارة. أما تأثيث الغرف فعلى الطريقة السابق وصفها وبين الغرف العلوية الخاصة بالحريم يوجد غالباً غرفة تسمى (قاعة)، كما ترى أمامك في (شكل 12)، وهي عالية بصفة خاصة، ولها ليوانان، واحد على كل جانب، أحدهما أكبر من الأخر. وفي سطح هذه القاعة قسم يعلو الدرقاعة مرتفعاً عن بقية السقف على شكل قبة، يتدلى في وسطه مصباح صغير يسمى (ممراق) ذو جوانب من خشب المشربية
والدرقاعة هنا كثيراً ما تكون من غير فسقية؛ وغالباً تبلط على مثال المنضرة (المنضرة)، وعلى مثالها أيضاً يوجد في القاعة صفة جميلة ودواليب ذوات حشوات دقيقة الصنع، فضلاً عما في هذه الغرفة وفي غيرها من رفوف خشبية ضيقة تمتد على طول حائطين، أو على طول الحوائط الثلاثة التي تحد الليوان مرتفعة حوالي سبع أقدام أو أكثر عن الأرض فوق الدواليب تماماً. ويوضع فوق هذه الرفوف أوان خزفية هي للزخرفة أكثر منها للاستعمال العام. وكل الغرف تعلو إلى أربع عشرة قدماً أو اكثر، ولكن القاعة أكبرها وأعلاها، وهي تعد في المنازل العظيمة غرفة استقبال جليلة(427/38)
وفي كثير من الغرف العلوية في بيوت الأغنياء يوجد فضلاً عن الشبابيك نوافذ أخرى من الزجاج الملون بمثل باقات من الزهر وطواويس ورسوما أخرى ذات زخرفة مرحة فاخرة، أو نماذج خيالية ذات أثر في النفس لطيف. وتلك النوافذ الملونة الزجاج يطلق عليها لفظ (قمرية)، ارتفاعها يتراوح بين قدم ونصف وبين قدمين ونصف، وعرضها من قدم إلى قدمين؛ وهي تصف بطول القسم الأعلى من مشربية النوافذ البارزة، أو يعلو بعضها هذه المشربيات بحيث تكون مربعاً كبيراً، أو توضع في أي مكان في أعلى الجدران منفردة أو مزدوجة كل زوج بجانب الأخر. وهذه النوافذ الزجاجية تتكون من قطع صغيرة من الزجاج المختلف الألوان، المثبتة بالجص في إطار من الخشب. وكثيراً ما تزين حيطان بعض الغرف بصور غليظة للمسجد الحرام، أو قبر الرسول (صلعم)، أو لبعض الزهور، أو لموضوعات أخرى يصورها صناع الوطنيين المسلمين الذين يجهلون القواعد الأولى للرسم النظري، فيشوهون هكذا ما يحاولون أن يزينوه. وفي أغلب الأحوال تعمل هذه الرسوم الملطخة إرضاء لذوق الأتراك الرديء. وقلما يوجد نظيرها فيما بني على الطراز العربي الجميل، وأحياناً تزين الحوائط بعبارات عربية من حكم وغيرها تكتب على ورق بخط جميل، ثم توضع في أطر مجهزة بألواح زجاجية. وليست هناك غرفة خاصة تؤثث للنوم: فالسرير يطوى أثناء النهار ويوضع على جانب، أو في غرفة ملحقة تسمى (خزنة) تعد للنوم في الشتاء. وفي الصيف ينام الكثيرون في أعلى المنازل. ويغطى الجزء المرتفع من الأرضية المبلطة بالحجر بحصير أو بساط ويوضع فوقها ديوان، وهذا هو الأثاث الكامل للغرفة.
وعند تناول الطعام يؤتى بصينية مستديرة توضع فوق كرسي منخفض، ويجلس الآكلون حولها على الأرض. وليس هناك موقد؛ وإنما تدفأ الغرفة بفحم الحطب الذي يحرق في مجامر. ولكثير من المنازل عند القمة مسقط منحدر يسمى (ملقف) ويكون غالباً من ألواح خشبية أو من خشب وقصب، ويغطى في الحالة الأخيرة بالجص ويبيض من الداخل والخارج، وفتحته تتجه نحو الشمال أو نحو الجنوب ليدخل النسيم البارد الذي يهب من هاتين الجهتين إلى (فسحة) - غرفة مفتوحة - سفلى، وهناك عادة فسحة قبل مدخل كل غرفة أو أكثر من الغرف الرئيسية، فيها يجلس أفراد العائلة أو ينامون صيفا. . .(427/39)
ويجهز كل باب بقفل خشبي يسمى (ضبة) كما ترى في (شكل 13)؛ ورقم 1 من هذا الشكل هو منظر أمامي للضبة والمزلاج مسحوب للوراء. أما الأرقام 2، 3، 4 فهي مناظر خلفية لأجزاء القفل كل على حدته وللمفتاح. وفي رأس الضبة مسامير صغيرة (أربعة أو خمسة أو أكثر) تسقط في ثقوب مقابلة لها في المزلاج المتحرك كلما دفع إلى المهج. وفي المفتاح أيضاً مسامير مطابقة لتلك الثقوب تدخل فيها فترفع المسامير الأولى وحينئذ يمكن سحب المزلاج للوراء فيفتح القفل. ويبلغ طول قفل باب الشارع أربع عشرة بوصة تقريباً. وأبواب الغرف والدواليب الخ. من سبع إلى تسع بوصات تقريباً. أما أبواب الحارات والمباني العامة فأقفالها من النوع نفسه، ولكن طولها غالباً قدمان أو أكثر. وليس من الصعب فتح هذا القفل
ويلاحظ أن رسم أكثر المنازل يعوزه النظام. فالغرف مختلفة الارتفاع بحيث يجب على الإنسان أن يخطو عدة درجات عندما ينتقل من غرفة لأخرى ملحقة بها. وغاية المعماري الأولى هي جعل المنزل خاصاً بقدر الإمكان، وخصوصاً قسم الحريم؛ فيشيد المنزل بحيث لا تطل النوافذ على غرف منازل أخرى. ويراعي المعماري غرضاً آخر في بناء منازل الموسرين والعظماء وهو أن يجعل للمنزل باب سر يستطيع الساكن أن يهرب منه في حالة الخطر، أو يمكن العاشقين المرور منه. ومن الشائع أيضاً بناء مكان لإخفاء الكنوز يسمى (مخبأ) يكون في جانب من المنزل. وفي حريم المنازل الكبيرة حمام يسخن على طريقة الحمامات العمومية
وقد أشرت إلى طراز معماري آخر على الطريقة التركية جرى عليه الأغنياء أخيراً في بناء منازلهم وتلك المنازل لا تختلف كثيراً عن تلك التي سبق وصفها ما عدا النوافذ. فهي في الغالب يوضع بعضها بجانب بعض تقريباً. وعندما تشغل الحوانيت الجزء الأسفل من البناء في شارع ما (كما هو الحال في شوارع العاصمة الكبيرة، وفي بعض الشوارع الصغيرة) يقسم البناء العلوي عادة إلى مساكن منفصلة يطلق عليها اسم (ربع) وتلك المساكن ينفصل بعضها عن بعض، وكذلك عن الدكاكين تحتها، تؤجر للعائلات التي لا تقوى على دفع إيجار منزل بأكمله. وكل مسكن في الربع يحتوي على غرفة أو غرفتين للجلوس والنوم، وعلى مطبخ ودورة مياه. ويندر أن يكون للمسكن مدخل من الشارع على(427/40)
حدته، فليس هناك إلا مدخل واحد وسلم واحد لعدة مساكن. والغرف في الربع تشبه غرف الدور الخاصة السابق وصفها. وهي لا تؤجر أبداً بفرشها. ومن النادر أن يسمح للأعزب أو الجارية بالسكن في تلك الربوع أو في أي مسكن خاص. ومثل هذا الشخص، ما لم يكن يعيش مع أبويه أو مع أقاربه المقربين، يضطر إلى السكن في وكالة (خان)؛ وهي بناء مخصص لاستقبال التجار وإيداع بضائعهم
وفيما عدا العاصمة وبعض المدن الأخرى، قلما توجد منازل كبيرة أو جميلة. أما مساكن الطبقات السفلى وخصوصاً طبقات الفلاحين فيبدوا عليها الفقر المدقع. فأكثرها مبني باللبن والطين وبعضها ليست إلا أكواخاً عادية. ومع ذلك فأغلبها يحوي غرفتين أو أكثر بالرغم من أن القليل منها يتألف من طابقين. ويوجد في مساكن فلاحي الوجه البحري، في غرفة ما، (فرن) في الطرف الأقصى من المدخل شاغلاً عرض الغرفة كلها، وهو عبارة عن دكة من الطوب والطين لا يزيد ارتفاعها على صدر الإنسان، سقفها مقوس في الداخل ومسطح عند القمة. ويندر أن يمتلك الفلاحون لحافاً يلتحفون به في ليالي الشتاء، فينامون كلهم على سطح الفرن بعد أن يوقدوا فيه ناراً، أو يتمتع بهذا الترف الزوج وزوجته، بينما يفترش الأطفال الأرض. وفي الغرف فتحات صغيرة مرتفعة يدخل منها النور والهواء وتشبك أحياناً بقضبان خشبية. وتكون السقوف من جذوع النخل وتغطى بالجريد والسعف وسيقان الذرة، وتكسى بطبقة من الطين والتبن. ولا يتعدى أثاث المنزل حصيرة أو حصيرتين للنوم، وبعض أوعية من الفخار، ورحاً لطحن الحبوب. ويلاحظ أن في كثير من القرى أبراجاً للحمام كبيرة مربعة الشكل مع ميل خفيف في جدرانها نحو الداخل (مثل كثير من مباني قدماء المصريين)، أو على شكل قالب سكر، تبنى على أسطح الأكواخ باللبن والفواخير والطين. وأكثر قرى مصر يقع على أطلال مرتفعة بحيث لا تصل إليها مياه الفيضان. وتحيط بها أو تجاورها أشجار النخل. وهذه المرتفعات تتكون عادة من بقايا أكواخ سابقة أو مدينة قديمة، ويبدو أنها تزيد بقدر ما يزيد مستوى الوادي من الرواسب وبقدر ما يزيد مجرى النهر
(يتبع)
عدلي طاهر نوري(427/41)
ليالي قاهرة
خائن!. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
اللَّيَاليِ! ياَ ماَ أَمَرَّ اللَّيَاليِ! ... غَيَبَتْ وَجْهَكَ الْجَمِيلَ الْحَبِيباَ
أَنْتَ قَاسٍ مُعَذِّبٌ لَيْتَ أَنِّي ... أَسْتَطِيعُ الْهَجْرانَ وَالتعْذِيِباَ
إِنَّ حُبِّي إِلَيْكَ بالصَّفْحِ سَبَّا ... قٌ وَقَلْبِي إِلَيْكَ مَهْماَ أُصِيباَ
ياَ حَبيِبي كاَنَ اللقَّاَء غَرِيباً ... وَافْتَرَقْنَا قَباَتَ كُلٌ غَرِبياَ
غَيْرَ أَنِّي أَسْتنَجْدُ الدَّمْعَ لاَ أَلْ ... قَي مَكانَ الُّدمُوِع إِلاَّ لَهِيباَ
آهِ لَوْ تَرْجِعُ الدُّمُوعُ لِعَينِي ... جَفَّ دَمْعي فَلَسْتُ أَبْكي حَبيباَ
أَنْتَ مَن بَدَّلَ الوُجُودَ لِعَينِي ... أَنتَ صَيَّرتَهُ جَمَالاً وَطِيباَ
أَنتَ مَنْ بَدَّلَ السَّماََء لعَينِي ... أَنتَ صَيَّرتَهاَ ابتِسَاماً رَحِيباَ
أَنتَ ياَ رِقَّةً تُذِيبُ الْقُلُوباَ ... وَتُذيبُ الصَّخْرَ الأصَمَّ المذُيباَ
غَيْرَ أَنِّي إِليْكَ جِئْتُ مِنَ اللَّيْ ... لِ وَقَدْ حَانَ للِدُّجى أَن أَؤُوبَا
إبراهيم ناجي(427/43)
كنت أهواك
للأديب محمد قطب
كنت أهواكِ خاطراً في شعوري ... وخيالاً يجول في تفكيري
كنت أهواك (فكرةً) ذات حسن ... ورواء، رفاَّفةً في ضميري
كنت أهواك لا كحب الأناسيِّ ... فما كنتِ غير روح طهور
كنتِ روحاً مرفرفاً في خيالي ... بجناحين من نقاء ونور
كنتِ معنىً مِنِّي أراك بروحي ... في ثنايا عواطفي وشعوري
كنتُ ألقاك حين أسمو بنفسي ... عن دُنَى الناس لُطَّخت بالشرور
ولقد طالما هبطتُ إلى الأر ... ض فأعليتنيِ لوادي النور
حيث نرتاده خِفافاً من القي ... د وتنساب كانطلاق الطيور
حيث ننسى ضآلة الأرض إذ تج ... معنا وحدةُ الوجود الكبير
ونحس الحياة خلداً جميلاً ... رائق الصفو كالسنى، كالعبير
كان هذا متاع قلبي وفكري ... كان فيه سعادتي وسروري
لقد كنتِ أنت معنى من السحر ... طليقاً في عالمي المسحور
كنت سراً أرتاده في ضميري ... وضمير الحياة خلف الستور
فإذا ما لقيته طرت نشوا ... ن بهذا اللقاء جد فخور!
إنما اليوم أنت عقل وجسم ... رابض جاثم بغير طفور
أنت في الأرض تثقلين انطلاقي ... وتَمُدِّينَنيِ كقيد الأسير
وتريدين لي حياة ظلام ... في نظام محدد مكرور
ما حياة الأجسام؟ ما (واقع) ال ... عقل؟ سوى عالم من الديجور
كنت أهواك حين كنتِ خيالاً ... وانطلاقاً في عالم مذخور
كنت أهواك هل ترى كان هذا ... ماضياً؟ يا لشقوتي وكفوري!
كيف أحيا وأنت لست بدينا ... ي تضيئينها بنور غزِير؟
وتبثين في فنوني حياة ... وتمدينها بخصب وفير؟
سوف أهواك فكرة ذات حسن ... ورواء، رفافة في ضميري(427/44)
سوف تبقين في فؤاديَ ذكرى ... لهوى مشرق وعهد نفير
محمد قطب(427/45)
ثورة!. . .
للأديب عبد الرحمن الخميسي
مَاذا تُرِيدُ الزَّعْزَعُ النَّكْبَاء ... مِنْ رَاسِخٍ أَكتَافُهُ شَمَّاءُ؟
تَتَكَسَّرُ الأحْدَاثُ تَحْتَ يِميِنِهِ ... وَتَمِيدُ مِنْ صَرخَاتهِ الغَبْرَاءُ
وَيُمَزِّقُ الظُّلمَاتِ عَنْ فَجْرٍ لَهُ ... فِيهِ حَيَاةٌ عَذْبَةٌ وَرَجَاءُ
وَيُدَكُّ بِالإيماَنِ كلَّ كَرِيهَةٍ ... وٍتَمَلُّ مِنْ أَوْصَاِلهِ الأدْوَاءُ
وَيُشاَرِفُ النَّجْمَ الرَّفيعَ جَبيِنُهُ ... وَتَبُثُّهُ إِلهامَهَا الَجوْزَاءُ
وَيَبيتُ يَنْفُثُ قَلْبَهُ في شَدْوِه ... فِلَذاً تَهِيمُ بِصَوْغِهَا الشعَرَاءُ
في كَفَّهِ قَدَرٌ كَنيِنٌ تَرْتمي ... مِنْ حَوْله الأَهْوَالُ وَالأرْزَاءُ
وَعَلَى يَدَيْهِ مِنَ الصِّرَاعِ دِمَاء ... وَبِناَظَرِيهِ تَمَرُّدٌ وَإِبَاء
وَبِأَصْغَرَيْهِ ثَوْرَةٌ هَوْجَاءُ ... تَنْهَارُ فيِ تَيارِهَا البُرَحَاء
الشَّوْكُ يا كمَْ دَاسَهُ مُسْتَهْزِئاً ... وَمَشَى تُزَمْجرُ فَوْقَهُ الأنْوَاء
وَالنَّارُ يَعْبُرُهَا فَتَسْكُنُ رُوحَهُ ... لَكِنَّهَا فيِ رُوِحِه أَنْدَاء
وَالصَّعْبُ تمْحَقُهُ خُطاَهُ وَلاَ تَني ... تَجْتَازُهُ مَاَ مَسَّهَا الإعْيَاء
مَاذا تُرِيدُ الزَعْزَعُ النَّكْبَاء ... مِنْ رَاسخٍ أَكتَافُهُ شَمَّاءُ
سَأَرُدُّهَا مَدْحُورَةً مَجْنُونَةً ... تَعْوِي فَتُعْوِلُ حَوْلَها الأَجْوَاء
وَأَعِيشُ كالْبُركانِ أقْذِفُ مِنْ فَميِ ... حُمَماً تَمُوتُ بِنَارِهَا الأعْدَاء
وَأُحِبُّ نَفسِي وَحْدَهَا فَهْيَ التي ... لِلْحُبِّ فيها حُرْمَةٌ وَفَضَاء
وَأَضُمُّ هَذَا الكَوْنَ لي وَحْدِي ففي ... ذَاتيِ لهُ تَسْبِيحَةٌ وَغِنَاء
هَذِي الْحَياةُ جَمِيَلةٌ بِشُرُورِهَا ... وَنَقَائَهَا مَعْشُوقَةٌ حَسْنَاء
وَلقَدْ خُلِقْتُ لِكيْ أَعِيشَ وَيَنحَني ... مِنْ حَوْلَي الإصْبَاحُ وَالإِمْسَاء
أَسْتقْبِلُ الفَجْرَ الوَدِيعَ مُغَرِّداً ... وَتَلفِني مِنْ آيِهِ الأضْوَاء
وَأوَدِّعُ اللَّيْلَ البَهيمَ تَضِيء ليِ ... مِنْ حُجْزَتَيْهِ شعْلَةٌ حَمْرَاء
وَأَكُونُ كالإعْصَارِ أَعْصِفُ بالّذِي ... يَعْتَاقُنيِ وَتَهَابُنيِ الأعْبَاء
في قَبْضَتِي قَبَسُ يُنيُر مَسَالِكي ... نَحْوَ الرَّعَانِ وَغَايَتِي الْعَلْياَء(427/46)
تَتَجَدَّدُ الرَّغَبَاتُ في نَفْسِي كما ... تَتَجَدَّدُ الأَكْوَانُ وَالأَحْيَاء
أَنَا ذَلِكَ الْجَّبارُ لا تَعْنوُ لَهُ ... إِلا المَصَائِبُ وَالْمُنَى الْقَعْسَاء
الْبَابُ تَقْرَعُهُ رِيَاحُ مُلِمَّةٍ! ... مَاذَا تُريدُ الزَّعْزَعُ النَّكْباَء
(القاهرة)
عبد الرحمن الخميسي(427/47)
البريد الأدبي
من جديد
يقول الأستاذ الجليل (ا. ع) إن قول بعضهم: (من جديد) إنما هو تركيب غير عربي (مما جناه جهلة المترجمين، وأن كتابنا وبلغاءنا قبلوه من غير تفكير ولا بحث فوشج بلغتنا)
ثم هو يدعم حجته برد هذا التعبير إلى اللفظة الإنجليزية:
ولكني وجدت الحسن بن رشيق القيرواني (390 - 463هـ) قد أورد هذا التعبير في شعره، إذ أثبت المترجم له في مقدمة كتابه - العمدة - قوله في إحدى قصائده:
قد أحكمتْ مني التجار ... بُ كل شيء غير جودي
أبداً أقول: لئن كسب ... تُ لأقبضنَّ يديْ شديد
حتى إذا أثريت عُد ... تُ إلى السماحة من جديد
فيتضح من ذلك أن التعبير قديم الاستعمال، أو هو - على الأقل - لا ينتمي إلى التعبير الإنجليزي الحديث في شيء نعم أن ابن رشيق ممن لا يحتج بكلامه، ولكن ورود هذا التركيب في شعره مما ينفي عنه تهمة (الترجمة الخاطئة) ويميل بنا إلى الجزم بانتمائه إلى العربية الصحيحة، فما رأي أستاذنا الجليل (ا. ع) في ذلك؟
(جرجا)
محمود عزت عرفة
1 - فرية قتل الإمام الشافعي
نشر بعضهم كلمات في (جريدة الأهرام) يؤيدون فيها خبر أن الإمام الشافعي مات مقتولاً، ورد بعضهم ذلك، وإني مثبت هنا ما يستبين منه كذب هذا الخبر. قيل أن أشهب المالكي ضرب الشافعي فشجه فمرض حتى مات. وقيل إن الذي ضربه هو فتيان المالكي: أما نسبة ذلك إلى أشهب ففرية صريحة، وإن ذكرها الشمس البرماوي من غير سند، بل هذا لا يصدر من عالم قطعاً، على ما حققه العلامة ابن حجر العسقلاني في (توالي التأسيس). وأن نسبتها إلى فتيان فإنك أيضاً. قال الحافظ بن حجر في كتابه المذكور: (لم أره من وجه يعتمد)، وقال العلامة أبو عبد الله الراعي في كتابه (انتصار السالك) (لم يصح ولم يرد من(427/48)
وجه يعتمد عليه)
وفي الخبر نفسه ما ينقض عزو ذلك إليه، لأنه عاش سنة كاملة بعد وفاة الشافعي، ومات حتف أنفه سنة 205، فلو كان قتله بمفتاح حديد - كما قيل - لما وني الوالي (وهو السري ابن الحكم) عن الاقتصاص منه، لأنه كان قد عزره تعزيراً شديداً لما بلغه أنه سب الأمام الشافعي في مناظرة بينهما، فكيف لو قتله؟!
وإنما هي أفائك مكشوفة من دعاة الفتنة، يعكرون بها صفو الإخاء بين المذاهب. ولم يقع من صميم رجال المذاهب ما يشين ناصع أعمالهم في دور من أدوار التاريخ مطلقاً؛ وإنما ذلك من المتطفلين البعيدين عن الفقه وأهله. ومرض الشافعي بالباسور الشديد متواتر الخبر بأسانيده في (توالي التأسيس) وغيره.
2 - جميل نخلة المدور
قال الأستاذ محمد عبد الغني حسن (في العدد 426): أما نسبة جميل نخلة المدور إلى العراق فهي شائعة عندنا في مصر. والحق أني لم أقرأ ترجمة لهذا الباحث العظيم
وفي (الأعلام للأستاذ الزركلي) ترجمة موجزة له نتعلل بها إلى أن يسمح الأستاذ البحاث كوركيس عواد بترجمة مبسوطة: جميل بن نخلة المدور (1279 - 1325 للهجرة): متأدب، من أهل بيروت، وسكن مصر فتوفى فيها، اشتهر بكتابيه (حضارة الإسلام في دار السلام) و (تاريخ بابل وأشور)، وكان الشيخ إبراهيم اليازجي يصحح له ما يكتبه. وفي أصحابهما من يرى أن (حضارة الإسلام) لليازجي، وأنه نحله جميلاً في أيام ادقاع الأول وإثراء الثاني.
أحمد صفوان
(تصويب): وقع في كلمتي في العدد (426) غلطتان
مطبعيتان، صوابهما: (الهذلي) و (البطليوسي)
تصويبات سريعة
عرض الأستاذ وجدي في الجزء السابع من مجلة الأزهر لبعض كتب النبي صلى الله عيه(427/49)
وسلم والردود عليها واستهل مقاله بأنها كانت في السنة السادسة من النبوة، ثم شك في ردود ثلاثة مستدرجاً في شكه حتى أنكرها وسماها مفتريات ساذجة. وإحقاقاً للحق وإنصافاً للسيرة والتاريخ - نشير في هذه العجالة إلى الصواب؛ ونهيب بالأستاذ وهو رجل مسئول أن يعطي السيرة بعض عنايته واهتمامه حتى لا يورط القارئ في مهاوي الشكوك بعد:
1 - الصواب أن إرسال الكتب كان في السنة السادسة من الهجرة والتاسعة عشر من النبوة
2 - وأن هرقل والمقوقس كانا يعلمان من الكتب القديمة أن نبياً سيظهر. وموضوع التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم معروف مستفيض جاء به القرآن الكريم وغيره مما لا يدع مجالاً لشك الأستاذ ولا استبعاده. وإنما لم يذعنا له خوفاً على الملك والسلطان، ولا عبرة بتصديق لا إذعان معه ولا إسلام
3 - ثم حسبك دليلاً على إسلام النجاشي أصحمة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعاه، وصلى عليه صلاة الغائب، وأنه أكرم المهاجرين إليه في الهجرتين إكراماً، وأنه زوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان وأصدقها عنه أربعمائة دينار، فكيف تنكر بعد هذا إسلامه وتستبعد رده بشبهة ظهور الصنعة فيه؟ ولئن سلمنا هذه الصنعة إن الرد مترجم قطعاً. وللمترجم أن يتصرف في الألفاظ ما شاء ما دام أميناً على المعنى حفيظاً عليه
هذه تصويبات خاطفة ومن ابتغى المزيد فليرجع إلى السيرة الحلبية، والى كتاب الجنائز في البخاري، والى شرح المواهب اللدنية ص346 ج3. وكفى بهن دليلاً
طه محمد الساكت
المدرس بمعهد القاهرة
إلى الدكتور زكي مبارك
الحسن والفضل منفوسان على أصحابهما. لهذا ما تراني في هذه الكلمة متصدياً للرأي الطريف الذي ارتأيت في أحد (شجون الأحاديث) التي تحدث قراءك كل أسبوع في الرسالة الغراء. إن للأفكار الحسان عشاقاً يحومون حولها كما يحوم حول الحسان من بنات حواء كل عاشق ولهان. فاسمح لي إذاً أن أحوم قليلاً حول ما ارتأيت من رأي في حديث (ما(427/50)
علمتني الأيام).
ارتأيت ألا يبدي أحداً رأياً في مسائل الأخلاق والدين والاجتماع إلا مكتوباً، فيأمن مغبة التزيد الشنيع الذي يتزيد بعض خساس الناس على الأحاديث ترسل إرسالاً في المجالس والنوادي والمجتمعات. وذلك أن الكلمة المكتوبة، خلافاً للكلمة الملفوظة، لا تقبل التزيد ولا التحريف المقصود، أو غير المقصود، وإن ركب أحد المعاندين المكابرين رأسه وحاول أن يزيد أو ينقص أو يحرف فيما كتبت ونشرت، فأنت بما تملك من سلاح المنطق والرجوع إلى الحقائق والاحتكام إلى الرأي العام خليق أن ترده إلى محجة الصواب أو تلقمه حجراً إن كان لا يسد فاه إلا حجر. ولا أنكر أن للرأي قوته وإغراءه وللنصيحة ما تستأهله من إصغاء تام، لا سيما وهذه الأيام هي الأيام التي تروج فيها سوق الرواة المتزيدين المحرفين المشنعين. ولكن، ولا بد من لكن هنا، هل ينجو صيارفة الفكر وصاغة الكلام من مساوئ التشنيع والتزيد والتحريف لو اعتصموا بالصمت ولاذوا بالسكوت كما تنصح لهم أن يفعلوا يا دكتور؟! أما أنت فقد أجبت جواب الموقن أنه ما على المرء لينجو من مساوئ التزيد والتحريف إلا أن يطبق شفتيه ويطلق قلمه ينقل إلى القارئين آراءه وأفكاره فلا تعبث بها الأهواء الخبيثة والذواكر العابثة. أما أنا، وأني على أشد اليقين مما أقول، فلا أرى الاعتصام بالسكوت في النوادي والمجالس الخاصة أو العامة منجياً من أذى التزيد والتشنيع لسبب واحد بسيط يكاد لبساطته وشيوعه لا يخفى على أحد: فقد تنجح في أن تروض نفسك على ألا تبدي رأياً في شؤون السياسة والدين والاجتماع إلا مكتوباً، ولكن ما حيلتك في هذا النفر الذين لا يعنيهم أن يسمعوا رأيك خارجاً من شفتيك أو مدوناً في صحيفة أو كتاب فيمضون يشيعون أنك قلت كيت وكيت وارتأيت زيت وزيت؟
هذا شيء، والشيء الآخر وجوب الكلام أننا قد نفيد في عرض أفكارنا على غيرنا قبل إثباتها على الورق فائدة التمحيص لهذه الأفكار وإزالة الفضول، فنعدل عن الفكرة الجائرة، وتعدل الفكرة الحائرة ونثبت على الفكرة الصائبة
وشيء ثالث أن كثيراً من المفكرين لا يجدون الوسيلة إلى التدوين، أما لأنهم خطباء مرتجلون أو لأنهم لا يجدون الصحيفة تنشر لهم ما يرتأون، فهل يصمت هؤلاء أو يتكلمون؟!(427/51)
بناءً على هذه وبناءً على أن الله خلق الحنجرة والشفتين واللسان قبل أن يخلق الورق والمداد والأقلام وحتى لا تصبح المجالس والنوادي ميادين تتبارى فيها فنون الملق والتدجيل والرياء أرى أن يتكلم كل ما أطاق لسانه وحنجرته الكلام، ولكن في حدود اللياقة والمنطق والاحتشام
هذا ولما كان الحديث ذا شجون فقد استرعى انتباهي من شجون حديثك ما ارتأيت من أن الكفايات يجني بعضها على بعض، وهي قولة حق يحس صدقها كل من عانى التعبير عن هواجس النفس وخوافي الحس بطريق غير الطريق الذي اعتاده؛ ولكن هذا لا يعني أن نخضع للأمر الواقع ونترك هذه الكفايات يبتلع بعضها بعضاً حتى لا تبقى إلا الكفاية الواحدة تستبد بصاحبها أبلغ الاستبداد، ولا تدع له أن يقول قولاً أو يبدي رأياً أو يدون هاجسة من هواجسه إلا عن طريقها وبأسلوبها، وقد يكون بين الكفايات المكبوتة ما هو أولى بالبروز وأخلق بالرعاية وأحق بالترويض من الكفاية التي زاحمت ما عداها من الكفايات فزحمتها وردتها ذليلة مقهورة. ثم يجب ألا يفوتنا أن الممارسة والمران كفيلان بأن يزيلا عن الكفاية المكبوتة ما قد بحسه صاحبها من العسر عند أول ما يحاول استغلالها. فالكفاية العالية المهملة كالجواد الكريم طال ارتباطه وحرم أن يسعى أو يجول في طريق أو ميدان، فيجد راكبه صعوبة في تصريفه أول الأمر، ولكنه لا يلبث طويلاً حتى يعود إلى ما هو خليق بالعتق والأصل الكريم من التبريز في غير عسر ولا عناء.
أديب عباس(427/52)
العدد 428 - بتاريخ: 15 - 09 - 1941(/)
أحاديث التلاميذ المصريين
يوم العودة إلى المدارس
(لكاتب كبير)
في أكثر البلاد الأوربية والأمريكية يكون (يوم العودة إلى المدارس) يوماً خفيف الظل، لطيف الروح، وهو عند تلاميذ تلك البلاد أجمل أيام العام الدراسي الجديد، ولكن ما سر الجمال في ذلك اليوم؟ أيكون في تنسم أرواح المدرسة من جديد، ولها في قلوب أكثر التلاميذ مكان؟ أيكون في تسلم الكتب الجديدة، ولها جاذبية يتشوق إليها عقلاء التلاميذ؟
لا هذا ولا ذاك، فهنالك عذوبة تفوق هذين المعنيين الكريمين، وهي عذوبة الأحاديث التي يتجاذبها التلاميذ، وهم يقصون أخبار الصيف وما وقع لهم فيه من نوادر وطرائف، وما شاهدوا فيه من غرائب وأعاجيب. . . إي ولله، فهنالك لذة طبيعية، هي لذة الحديث عما رأينا وسمعنا في أيام الراحة من متاعب الدروس، وهي لذة لم نذقها ولم يذقها أبناؤنا ولا تلاميذنا، ولن يلتفت إليها المربون المصريون إلا يوم يؤمنون بأنها تصنع في خلق الحيوية الذوقية والروحية ما تعجز عنه المدارس والمعاهد والكليات.
فماذا يقول التلاميذ المصريون بعضهم لبعض يوم يلتقون في مطلع العام الراسي الجديد؟ وما هي موضوعات الأحاديث التي يتجاذبونها في ذلك اليوم؟
الواقع يشهد بأننا لم نبذل جهداً قوياً أو ضعيفاً في تلوين البلاد المصرية؛ فلم ننشئ فيها غابات، ولم نلتفت إلى ما بها من بحيرات، ولم نحاول تشويق أبناءنا وتلاميذنا إلى درس ما فيها من نبات وحيوان، ولا فكر جماعة منا في إعداد المناهج لأيام الصيف، وهي في مصر أطيب الأيام، وإن تعرضت لوهج القيظ من حين إلى حين
الحق أننا لا نفكر في حقوق الأبناء والتلاميذ. . . وهل نفكر في أنفسنا حتى نفكر فيهم؟ إن عيشنا رتيب رتيب، وأكثرنا يقضي أيام الإجازة على النحو الذي يقضي به أوقات الفراغ في موسم الأعمال، فلا ينتقل من بلد إلى بلد، ولا يتيح لعينيه فرصة التطلع إلى منظر جديد، وكذلك نحبس أبناءنا في بيوتنا أيام الصيف. إلا أن نتلطف فنسمح لهم بالتجول في رحاب تلك البيوت، ثم تكون النتيجة أن يلقوا رفاقهم يوم افتتاح العام الدراسي وليس عندهم ما يتحدثون به غير المغامرات الصبيانية، وهي لا تخرج عن التغزل المزيف أو الصحيح(428/1)
بخادمات الجيران!
أنا أريد أن يلقى التلميذ رفاقه في مطلع الخريف وعنده أشياء يحدث بها أولئك الرفاق؛ كأن يقول إنه قضي أياما أو أسابيع في رحلات طريفة تعرف بها إلى بعض خصائص هذه البلاد، وكأن يقول إن (بحيرة قارون) لها تاريخ لم تظفر بمثله (بحيرة التمساح)، وكأن يقول إنه عجب من الأقدار التي فكرت منذ الأزل في تهيئة الوسائل لإقامة خزائن أسوان، وكأن يقول إنه عرف بالضبط مواطن اللولبيين، وكان لهم تاريخ في مناوشة قدماء المصريين، وكأن يقول إنه عرف المسجد الثاني، وهو المسجد الذي بني بعد المسجد الجامع بمدينة الفسطاط، وكأن يقول إنه عرف الموجب الذي قضى بأن تكون هناك منافسات ظاهرة أو خفية بين أهل الشمال وأهل الجنوب
أريد وأريد، ولكن المدرسين والآباء يصدونني عما أريد
فإن اعتذر الآباء بشواغلهم اليومية، فما أعذار المدرسين ولهم مواسم يرون بها مع تلاميذهم ما يشاءون، ولو كانت لهم عيون؟!
وهل لحاضرات المدرسين عيون وأكثرهم يقضي الإجازات في رحاب القهوات؟
وما قيمة المدرس الذي لا يجد ما يحدث به تلاميذه عن مشاهداته في أيام الصيف؟ ما قيمة العيون البليدة التي لا تتطلع إلى الجديد من مشاهد الوجود؟
ولكن ما الوجوب لإيذاء المدرسين بهذا الهجوم العنيف وهو عضو في الأسرة المصرية، وهي أسرة لا تفكر في إعداد ميزانية لأيام الإجازات؟
أيام العمل مرجعها إلى البيت، وأيام الراحة مرجعها إلى البيت، وأيام المرض مرجعها إلى البيت، ولو أبيح لهؤلاء أن يقبروا في بيوتهم لعدوا ذلك من دلائل التوفيق؟
فيا بني آدم، من أهل هذه البلاد، تذكروا إن المثل المصري يقول: (الحركة بركة) وتذكروا أن لأبنائكم منافع من التعرف إلى أقاليم النيل السعيد، إن كانت لكم غاية في تثقيف أولئك الأبناء؟
ماذا يقول المدرس لتلاميذه يوم العودة المدرسية،
وماذا يقول التلاميذ بعضهم لبعض في ذلك اليوم؟
ضرب حجاب الغفلة على أولئك وهؤلاء، فلن يجدوا غير الحديث عن صفارات الإنذار(428/2)
وأسعار القطن وغلاء الأقوات وهو حديث معاد لا تنشرح لسرده القلوب
لأولئك وهؤلاء أن يعتذروا بعجزهم المادي عن مشاهدة بعض الأقطار الشرقية أو الغربية، فما عذرهم في العجز عن مشاهدة الأقاليم المصرية؟
أيريدون أن تقوم وزارة المعارف بتكاليف تلك الرحلات؟
كنت أرجو أن يكون في أنفس المدرسين والتلاميذ ما يوجب جوب الأقاليم المصرية مشياً على الأقدام ليعرفوا كيف يكون (طولها شهرا وعرضها عشر)، كما قال عمرو بن العاص، ولكن. . . ولكن أبناء هذه البلاد مصريون لا أعراب!
تحركوا قليلاً، يا أبناء مصر، فالحركة في أسوأ أحوالها أفضل من السكون، لأن الحركة حياة والسكون موت، أعانني الله وإياكم على التخلق بأخلاق الأحياء
كاتب(428/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
(الإسلام الصحيح - القدوة الصالحة أنفع من البرهان - مناجاة
روحية - عجز المدنية الأوربية عن إقراء السلام لا يجب أن
بصرفكم عن فهم روحها الأصيل. . .)
الإسلام الصحيح
رجاني الأستاذ أحمد كامل مدرس علم النبات في مدرسة مشتهر الزراعية أن أجيب عن أسئلة وجهها إلي حضرة الأديب تادرس مسيحية وكيل بريد أخطاب، والأسئلة تدور حول التعريف بالإسلام الصحيح
ويظهر إن هذه الأسئلة وجهت من قبل إلى حضرة الباحث المفكر الأستاذ فريد وجدي، كما وجهت إلى بعض الوعاظ، وإلى أحد الأساتذة بكلية أصول الدين
ويظهر أيضاً إن صاحب الأسئلة رجل قد أطلع على كثير من المباحث الإسلامية، فخطابه يشهد بأنه قرأ بعض التفاسير، ونظر في بعض المذاهب، وكون لنفسه فكرة واضحة وغامضة عن العقيدة الإسلامية، بحيث يستطيع المجادلة في كثير من المسائل التي يدور حولها الخلاف بين المسيحيين والمسلمين
ويظهر كذلك إنه يتوهم إن الإجابة عن أسئلته ضرب من المستحيل، وإلا فكيف جاز له أن يتحداني فيقول: هذا موطن الشجاعة إن كنت من الشجعان؟!!
وأجيب بأن هذه الأسئلة ترجع إلى غرضٍ من أثنين:
الأول هو الرغبة في درس بعض المشكلات الدينية، والثاني هو الشوق إلى فهم أسرار العقيدة الإسلامية. فإن كان الحافز هو الغرض الأول، فأنا غير مستعد للمشاركة في هذا الجدال، فقد علمتني التجارب إن المجادلة التي تقع بين رجلين من دينين مختلفين، تنتهي غالباً إلى تعميق هوة الخلاف، ولا تجني منها غير ثمرة الفرقة والشقاق، إلا أن نكون وصلنا إلى أشرف الغايات في التفاهم العلمي، وذلك غير مضمون، ما دام الجدل قد انتقل إلى الجرائد والمجلات، فقد ينقلب الجدل إلى لجاجة من حيث لا نريد(428/4)
وإن كان الحافز هو الشوق إلى فهم أسرار العقيدة الإسلامية فأنا أرجو حضرة السائل أن يراعي المسائل الآتية حين ينظر في الكتب التي تشرح أصول الدين الإسلامي:
أولاً: لا يجوز القول بأن الإسلام مسؤول عن جميع ما سطر باسمه عن حسن نية من أقوال بعض الوعاظ والفقهاء، حتى يجوز اتهامه بقبول الأباطيل والأضاليل، كالذي يقع في كلام أهل الغفلة عن روح الإسلام، وهو من أوهامهم براء
ثانياً: لا يجوز الاعتماد على ما قاله بعض أئمة المسلمين في ساعة غضب، كالذي نقله الأديب تادرس مسيحية عن الشيخ محمد عبدة إذ يقول: (لو أخذنا مسلما من شاطئ الأطلنطي، وآخر من تحت جدار الصين، لوجدنا كلمة واحدة تخرج من أفواهها وهي: إنا وجدنا آبائنا. . .)
فتلك كلمة قالها الشيخ محمد عبدة في ساعة من ساعات غضبه على من كان يناوئه من رجال الدين بلا فهم ولا إدراك، وإلا فهي كلمة مفترا على المسلمين، وفيهم ألوف الألوف من أهل البصيرة واليقين.
ثالثاً: يجب أن يكون مفهوماً أن تقاليد الإسلام تعرضت لما تعرضت له تقاليد سائر الديانات من التشويه والتحريف، فمن الظلم أن يؤخذ الإسلام بعبارات دونت في عصور الظلمات، ولو نسبت إلى بعض الأكابر من العلماء.
رابعاً - مرت أوقات على الباحثين من المسلمين وهم لا يفطنون إلى اخطر التساهل في سرد الظنون والفروض، ولو عقلوا لأدركوا أن التساهل ستكون له عواقب سود، كأن يصبح حجة ينتفع بها خصوم الشريعة الإسلامية، وهم قد انتفعوا بما في بعض التفاسير من أباطيل.
خامساً - يجب أن نفهم أن الإسلام قد سيطر على كثير من أمم المشرق والمغرب، وهذه السيطرة نفعته من جانب وأضرته من جانب: نفعته لأنها كانت شاهدا على قوته الذاتية، وأضرته لأنها كانت السبب في مزج روحه الأصيل بأوشاب الآراء الموروثة عن تلك الشعوب؛ فمن العدل والإنصاف أن ننزه الإسلام عما أضيف إليه بسبب الغفلة أو بقصد التضليل
سادساً - قد اختلف المسلمون أنفسهم لأسباب عنصرية أو سياسية؛ وكان من نتائج هذا(428/5)
الاختلاف أن يتأثر المؤلفون بالنزعات العنصرية والسياسية وهي نزعات توجب على الباحث أن يحترس ويحتاط، حتى لا يحمل الإسلام ما لا يطيق، ولو كان من غير المسلمين، لأن نزاهة الحكم واجبة على الجميع
سابعاً - لم يغفل أكابر المسلمين عما أضيف إلى الإسلام من الأباطيل، فكل اعتراض له دفع، وكل شبهة لها تفنيد، فإن رأيت ما يسوءك من كلام بعض الوعاظ أو بعض الفقهاء فارجع إلى ما دحض به على ألسنة الموهوبين من أهل الإسلام الصحيح، وذلك في مقدورك إن أردت الاهتداء
ثامناً - بيننا وبين ظهور الإسلام نحو أربعة عشر قرناً، فحدثني أيها المنصف، حدثني كيف تمر هذه القرون بدون أن تجنى على ذلك الدين بالتحريف والتزييف؟ وهل سمعت برأي عاش أربعة عشر عالما بدون أن يتعرض للمسخ والتشويه؟ فكيف يعيش دين أربعة عشر قرناً وهو في أمان من أهل التزيد والافتراء، وله ملايين من الخصوم والأعداء، فضلاً عما له من الأصدقاء الجهلاء؟!
إذا صح هذا - وهو صحيح صحيح - فكيف يؤخذ الإسلام بآراء مدخولة أملاها الحقد الأسود، أو صاغها التودد إلى بعض الوثنيات البوائد في الممالك الآسيوية والأفريقية والأوربية في عصور غاب عنها الناقد الرشيد؟!
تاسعاً - المصدر الأصيل للعقيدة الإسلامية هو القرآن، فماذا في القرآن من اللبس والغموض؟ وماذا فيه مما يوجب الشك والارتياب؟
في القرآن كلمات تحتاج إلى تأويل، لبعد العهد بيننا وبين ظهور القرآن، وأنا حاضر لتأويل تلك الكلمات، على شرط أن يكون مناظري طلاب فهم وحق، لا عشاق لجاجة وعناد
عاشراً - عاش الإسلام نحو أربعة عشر قرناً برغم القوا صف والعواصف والأعاصير؛ وأنشئت في دحضه وتزيفه ألوف الألوف من الخطب والرسائل والقصائد والمؤلفات، فهل يتصور عاقل أن الباطل تكون له مثل هذه القوة العاتية؟
إن كان للباطل مثل هذه الصلاحية للبقاء فسأغير رأيي، وسأقول إن الثبات على الخطوب من صور الحق الغلاب، ولو قيل في معنى الثبات ما قيل (بغض النظر عن عقيدتي الصوفية في الأنس بجميع صور الوجود)(428/6)
والإسلام باقي، ولم يبيد أبداً، لأن روحه مقبوسة من جمر الخلود
القدوة الصالحة أنفع من البرهان
ويرجوا الأديب تادرس مسيحية أن أقنعه بمزايا الإسلام ليسلم. وأقول: إن الكمية لا تهمني ولو كان الأمر بيدي لشذبت الإسلام من بعض الغصون الطفيلية، فما انتصر الإسلام بالأرقام وإنما انتصر بالمعاني، وهذا الأديب قد وعد بمتابعة ما أكتب في هذا الموضوع الدقيق، فليتدبر هذا القول:
لا ينتقل الرجل من دين إلى دين بفضل الحجج والبراهين إلا في حالة التجرد من مستور النوازع والأهواء، ولو كان الناس يصغون في كل وقت إلى صوت العقل لأراحوا كواهلهم من ألوف المتاعب والصعاب
فلم يبق إلا باب واحد من أبواب الهداية، وهو القدوة الصالحة، القدوة التي تخلق الجاذبية الروحية فتنقل القلب من مكان إلى مكان بلا دعوة ولا نداء
وهذه القدوة هي التي استطاعت في الأزمان الماضية أن تحول جماهير الأقباط إلى الإسلام عن رغبة صحيحة وقلب سليم
وكان للأقباط الذين أسلموا فضل كبير في إذكاء الروح الإسلامي بالديار المصرية. فكان منهم نوابغ في الفقه والتوحيد، استطاع جماعة منهم أن يصلوا إلى أعظم المناصب الإسلامية بجدارة واستحقاق، وليس أمام الإخلاص مستحيل
وما أحب أن أكتم رغبتي الشديدة في وحدة الأمة المصرية من الوجهة الدينية لتنعدم أسباب الشقاق الذي يثور من وقت إلى وقت، ولنقضي على الفتنة التي تهددنا من حين إلى حين باسم الأكثرية والأقلية، وهي فتنة لا ينتفع بها غير الأعداء.
ولكن هذا الغرض لن يتحقق في عام أو عامين، فماذا نصنع إلى أن تريد المقادير أن يتحقق؟
نعتصم بالأخوة الوطنية فلا يبغي بعضنا على بعض، ولا يأثم فريق في حق فريق بسبب اختلاف الدين
والأخوة الوطنية تحتاج إلى حراسة قوية، وهي لا تقوم إلا على قواعد من الأخلاق الصحاح. والخلق الصحيح يوجب أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك. ويوم نتحلى بهذا الخلق(428/7)
تنعدم الفوارق أو تكاد بين المختلفين في الدين، ويشعر المسيحي في مصر بجاذبية نحو الإسلام، وهي الحجر الأول في بناء الإخاء
وهنا شبهة يجب عرضها بلا مواربة لنعرف كيف نهدمها من الأساس، وهي الشبهة التي تصيح وتصرخ في كل يوم بأن اختلاف له دخل في المشكلات المعاشية المتصلة بالوظائف الرسمية
وأساس الشبهة أن المتعلمين من الأقباط كانوا قبل عشرين سنة يجدون الوظائف بلا صعوبة، وهم اليوم لا يجدون وظائف إلا بمشقة وعناء
هذا حق، ولكن تعليله سهل، فالمتعلمون قبل عشرين سنة من المسلمين والأقباط كان عددهم أقل من عدد الوظائف، فكان الشاب المتعلم يجد وظيفة تريحه من هموم البطالة، ولو كان من حملة الشهادة الابتدائية
أما اليوم فعدد الوظائف أقل من عدد المتعلمين، وهي أزمة تواجه المسلمين بأكثر مما تواجه الأقباط؛ بسبب النسبة العددية؛ والشبان الأقباط يعرفون هذا الأزمة بلا جدال، والشكوى لا تصدر عنهم، وإنما تصدر عن آبائهم الذين نشأوا في عهود الرخاء، فهم يظنون أن التعصب الديني هو الذي ضيق ميدان الوظائف، ولا يدرون أن قانون العرض والطلب هو الذي خلق ذلك الضيق
وإنما نصت على هذه الشبهة لأنها موجودة بالفعل، ولأن أذاها يواجهنا في كل يوم، ولأن التحرر منها يبدد غيوماً تعكر سماء هذه البلاد، بدون أن يكون للمسلمين يد في حوك ظلالها السود
الشاب القبطي قد يتجاهل الواقع فيعلل نفسه بأنه مضطهد لقبطتيه، فكيف أعلل الظلم الذي أعانيه منذ أعوام طوال واسمي محمد ورئيسي اسمه محمد؟
وأنا بعد هذا أرجو أن يفتح الله علينا جميعاً فلا نعاني أزمات هذا الزمان، ولا يفسد ما بيننا بسبب المعاش، وهو غاية ثانوية في حيوات أصحاب المبادئ والآراء
أتراني أجبتك بصراحة وصدق، يا وكيل البريد في أخطاب؟
مناجاة روحية
كدت أعرف بعض الخصائص التي يمتز به فلبي وروحي لطول ما أجهدت نفسي في(428/8)
التعرف إلى ما ينطوي عليه القلب والروح من أسرار وغرائب وأعاجيب، وقد كنت أخشى أن ينقضي العمر قبل الظفر بذلك المطلب المنشود
وأظهر ما عرفت به تلك الخصائص هو الشوق إلى إدراك سرائر الوجود، بما فيه من النقائض لمن يجهل ما أقيم عليه من الأساس، كأن يجتمع فيه البغض والحب والدمامة والجمال
وأعجب العجب أن يصح عندي أن ليس في الدنيا شر بالمعنى المعروف لهذا اللفظ، فما مرت بي أزمة إلا أحمدت عواقبها، وعددتها من فضل المنعم الوهاب، ولا تنكر صاحب أو صديق إلا كان ذلك التنكر فرصة لدرس أهواء النفوس والقلوب
وأعجب من هذا أن تكون الوشايات والنمائم والأراجيف مصدر قوة واستعلاء، فما أذكر أبداً أني تهيبت أقوال الناس، أو نصبت لأوهامهم أي ميزان، إلا أن يلتفت ذهني إلى الاستفادة من ذلك في أبواب التعليم والتثقيف
وأنا أبتسم كلما ناسا يتوهمون أن في مقدورهم أن يأمروني فأطيع، كأنهم يجهلون أني أؤرق جفونهم عامداً متعمداً ليعرفوا كيف الاستصباح بظلام الليل، وليهتدوا إلى السر المكنون في سواد المداد
والحق كل الحق أني رجل طيب القلب، وتلك الطيبة هي سر شقائي بالناس، فأنا أريد أن أرفع الغشاوة عن قلوب أهل الجمود، ولن ترفع تلك الغشاوة بغير مشرط يؤلم ويوجع، وإن كان لا يريد غير النفع الصحيح
ولو كانت غايتي من حمل راية القلم هي الانتفاع المادي لسلكت سبيلاً غير هذا السبيل، فللأقلام ميادين تصل بأصحابها إلى الثراء العريض، ولكن أين هذا مما أريد؟ وما قيمة الدنيا وأمعائي لا تتسع لغير وجبة واحدة في كل يوم، وما أراد الله أن أعرف مهني الظمأ والجوع في غير المعنويات؟
غايتي الأصيلة هي رفع الغشاوة عن قلوب الجامدين من أبناء هذا الجيل. والجهاد في طب القلوب قد يفضل الجهاد في طب العيون
فما ذلك الصراخ الذي ينبعث من بعض الجرائد والمجلات؟
وما بال قوم يشهدون على أنفسهم بالضجر من كلمة الحق، وكان الظن أن يكونوا رسل(428/9)
هداية وتوفيق؟
وما بال فلان يحشد جيشاً من الثرثارين لإيذائي، ولي عليه فضل سيذكره صاغراً أمام العزة والجبروت، إن كان لمثله يوم البعث مكان؟
أما بعد، فما أردت بهذه الكلمات غير المناجاة الروحية، وأناجي روحي فأقول:
من أي جوهر صاغك الله، أيها الروح، وقد بقيت سليما على رغم ما اعترض طريقك من ألوف الصعاب والعراقيل؟
واجهت بلادك وزمانك بكل ما تريد بلا تهيب ولا إشفاق، وبغي عليك الأصدقاء قبل الأعداء، ثم بقيت رحيما بالعدو، وبرّاً بالصديق، كأنك لم تدرك ما بيت أولئك وهؤلاء
من أي جوهر صاغك الله، أيها الروح، وقد غلبت من من غلبت وقهرت من قهرت، مع الترفق الشديد بصرعاك؟
يمر بك المناضلون مرور الطيف العابر فلا يبقون غير لحظات ثم يختفون، وإن كان مرورهم أعنف من الكابوس الثقيل؛ ثم تبقى أنت في سنة 1941 كما كنت في سنة 1919 ولا يكون لمناضليك غير الازدهاء بأنهم ساجلوك ساعةً من زمان، وذلك حظهم في هذه الدنيا من أصول التشاريف
أيها الروح، صاغك الله كما أراد، فله الحمد وعليه الثناء
أسرار المدينة الأوربية
لم تمر على أوربا أزمة أقسى وأعنف من الأزمة التي عانتها في العامين الأخيرين، فقد اندحرت ممالك كنا نرى اندحارها من المستحيلات، واستطالت شعوب لم نكن ننتظر أن تستطيل وصح عند الأكثرين أن المدينة الأوربية أفلست كل الإفلاس، بعد خيبتها في إقرار قواعد العدل والسلام
وأقول إنه يجب أن ندرس أوربا من جديد، وأن نستعد لدفع شرها كل الاستعداد، فمن الظاهر أن طمع طغاتها لن تكون له حدود، وأن عللونا بمعسول الأماني والمواعيد
وآفتنا منذ أزمان هي الغفلة عن مرامي المدينة الأوربية، وفهم ما تقوم عليه من قواعد وأصول، وقد نعرف ثم نكتم ليصح وفاؤنا للشرق، كأن من الحرام أن ندل قومنا على مصادر الحيوية في أقطار الغرب!! وهناك آفة أفظع وهي غفلة بعض من عاشوا في أوربا(428/10)
عن التعرف إلى مواهبها العلمية والروحية والاقتصادية والحربية، فأنا أعرف شخصاً عاش في تلك البلاد سبعاً وعشرين سنة ثم عاد وهو لم يتغير ولم يتبدل، ولم يعرف من خريطة البلد الذي عاش فيه غير خطوط معدومة المدلول، ثم انسجم حين عاد مع بيئته القديمة بلا تحفظ ولا احتراس، وكان الظن أن يغيرها من حال إلى حال، ولكنه عاش في أوربا معصوب العينين فلم يعرف ما فيها من أسرار ليمد قومه حين يعود بزاد جديد
ولهذا الشخص أمثال وأمثال، وجهلهم أو رياؤهم هو السبب في صد مصر عن فهم الاتجاهات السياسية والاقتصادية في البلاد الأوربية
اعرفوا أوربا. اعرفوها. اعرفوها. لتتقوا شرها عن بصيرة وإدراك، واحترسوا ممن يوهمكم أن أوربا ذهبت ولن تعود
أوربا المبلبلة باقية إلى أزمان وأزمان، فادرسوها بعناية لتعرفوا مسالكها الظاهرة والخفية، ولتقفوا على غرضها المستور من التودد إلى أقطار الشرق، فالجسم المزخرف الأملس هو أظهر شمائل الحية الرقطاء، وما قال أحد إنه رأى أنياب الحية إلا بعد التزود من سمها الزعاف. . . والله الحفيظ، وبه نستعيذ
زكي مبارك(428/11)
كيف يكتب التاريخ
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
- 4 -
جمع المراجع والأصول التاريخية
الخطوة التالية بعد اختيار موضوع البحث التاريخي هي عملية جمع المادة التاريخية عن ذلك الموضوع سواء من المراجع العامة والخاصة أو من المصادر والأصول المطبوعة والمخطوطة، مع جمع ودراسة الآثار والمخلفات التي تتعلق بذلك الموضوع. والمراجع العامة والخاصة تفيد في إعطاء فكرة عامة عن العصر الذي يكون موضوع البحث جزءاً منه. وعدم الاستفادة بما كتبه السابقون يعتبر مضيعة للوقت وإخلالاً بشروط البحث العلمي؛ فينبغي على كل جيل من المؤرخين أن يعرف ما كتبه السابقون، وأن يبدأ حيث انتهوا، وأن يعمل مؤرخ اليوم لكي يمهد لمؤرخ الغد. والمراجع العامة والخاصة تساعد أيضاً في كشف بعض الأصول التاريخية المجهولة وتفتح آفاقاً جديدة للبحث. والباحث الذي يكتب في ناحية من تاريخ مصر في القرن الثامن عشر مثلاً ينبغي أن يدرس بعض المراجع التي تناولت تاريخ مصر منذ أقدم العصور، كما يدرس بعناية المراجع التي تبحث في تاريخها أثناء القرن الثامن عشر، ويطالع ما كتبه الرحالون الذين زاروا مصر من الشرق ومن الغرب، ويدرس ما دونوه من المعلومات والمشاهدات، وذلك لكي يفهم تاريخ العهد المعين الذي يرغب في الكتابة عنه
وكيف يمكن للباحث أن يعرف كل المراجع العامة والخاصة والأصول المطبوعة عن الناحية التي يرغب في دراستها؟ الإحاطة بذلك ليست أمرا سهلاً. ويمكن الباحث في أول الأمر أن يستعين بالاطلاع على بعض المقالات في دوائر المعارف فيعرف بعض المراجع والأصول التي تهمه. ثم يرجع إلى كتب الببليوغرافيات (المراجع) التي تتناول موضوع دراسته. ولقد أصدر الغربيون أنواعاً مختلفة من الببليوغرافيات، فمنها الببليوغرافيات العامة ومنها الخاص بقطر أو بعصر أو بشخصية معينة؛ وبعضها يكتفي بذكر المراجع(428/12)
والمصادر وأماكن وسني طبعها وعدد صفحاتها؛ بينما البعض الآخر يعطي مذكرات وصفية موجزة عن تلك المراجع والأصول المطبوعة. إنما هذا لا يكفي، لأن كتب المراجع لا تكون وافية في كل الأحوال، وهي في الغالب لا تذكر شيئاً عن المقالات التي تنشر في المجلات التاريخية وهي كثيرة ومتنوعة؛ فمن الضروري إذاً مراجعة فهارس هذه المجلات للإلمام بما كتب فيها عن الموضوع المعين. وكذلك يلزم الباحث أن يراجع فهارس دور الكتب المطبوعة غير المطبوعة. ويجمع الباحث من كل هذه النواحي أسماء المراجع والأصول التي تعنيه؛ ويحسن أن يستعين بعمل فهرس أبجدي على جذاذات من الكرتون ويضع عليها ملاحظاته، وإذا اقتضى الأمر أن يكتب ملاحظات مطولة فليدونها على أوراق خاصة. ثم يبدأ في قراءة الكتب التي يصل إليها ويأخذ منها مذكرات باللغة الأصلية في المواضع الهامة على الأقل، مع وضع أرقام الصفحات؛ ويرجى قراءة الباقي لحين الوصول إليه بتصويره بالفوتوستات أو بالسفر إلى مكان وجوده
ثم تأتي الأصول التاريخية التي لا توجد في أغلب الأحوال كتب ببليوغرافية تدل عليها. ومن هذا النوع نجد الوثائق والرسوم والصور ومخلفات الإنسان. . . والوثائق عبارة عن القوانين والأوامر والمنح والأحكام والفتاوى والعقود والمراسلات والمعاهدات والمذكرات والتقارير. وهي تحفظ في الأصل عند الملوك والأمراء وفي المحاكم والأديرة أو عند الأشخاص العاديين. وليس من الضروري وجود وثائق وافية عن كل حوادث التاريخ؛ فالكثير منها تنطمس آثاره وتزول دلالاته لأنها تتعرض في ظروف مختلفة للتلف والضياع مثل ظروف الثورات أو الحرائق أو الرغبة في التخلص منها وإتلافها عمداً عندما تكون في حوزة من لا يفهم قيمتها التاريخية، أو من يهمه منع تداول معلوماتها بين الناس. وبذلك يضيع الكثير منها بالنسبة للتاريخ؛ وكأن الأفكار والحوادث التي كانت تحملها في طياتها وثناياها لم تكن في الوجود. وعلى ذلك فإن المؤرخ كثيراً ما يجد فجوات في التاريخ لا يستطيع أن يملأها. وستبقى حلقات كثيرة من التاريخ مجهولة إلى الأبد؛ وليس هناك ما يمكن أن يعوض عن ضياع هذه الوثائق؛ وحيث لا توجد وثائق لا يوجد تاريخ. وينطبق ذلك على كل آثار الإنسان
وعملية البحث والكشف عن الوثائق هي أهم عملية أساسية لكتابة التاريخ. وكشف كمية(428/13)
من الوثائق الهامة عن الموضوع المعين هو الذي يحدد إمكان الاستمرار في بحثه أو العدول عنه إلى غيره. والباحث الذي يكتب التاريخ وقد فاته الوصول إلى مجموعة من الوثائق الأساسية لا يكون لبحثه قيمة علمية مهما كانت كفاءته وقدرته على العمل. والباحثون الأولون في التاريخ قد لاقوا صعوبات جمة في سبيل الوصول إلى الوثائق التاريخية؛ وإذا كانت الحوادث التي قصدوا أن يكتبوا عنها قريبة العهد من العصر الذي عاشوا فيه، فإنهم كانوا يرجعون إلى أقوال بعض الأشخاص الذين شهدوا الحوادث ويوازنون بينها ويستخلصون منها ما يمكن الوصول إليه من الحقائق التاريخية. على أن هذه الطريقة لا تكون سليمة دائما نظرا لتعرض الروايات الشفوية للتغيير والتعديل، والأفكار والآراء والأقوال الشفوية إذا ما دونت أصبحت مسجلة ووقف تغييرها إلى الحد الذي وصلت إليه. فالوثائق ضرورية جداً للعهد القريب من المؤرخ فضلاً عن العهد البعيد عن الزمن الذي عاش فيه. والوثائق في أغلب الأحيان تنتقل بالتدريج من حوزة الأشخاص إلى الأماكن العامة وتحفظ في دور الأرشيف ودور الكتب وفي المتاحف والكنائس
والكثير من الوثائق المحفوظة في الأماكن العامة قد وضع عنها كاتالوجات وفهارس مختلفة؛ إلا إنها في أحوال كثيرة أيضاً لا تزال غي وافية، وأغلبها يكتفي بوضع أرقام مجلدات الوثائق مع بيان الشهور والسنوات التي تتناولها، بدون أن تصف محتوياتها، وهي بين قديم وحديث ومخطوط ومطبوع. كما أنه توجد وثائق في مصر وفي الخارج لم تنظم ولم توضع عنها الفهارس الأولية بعد، وهذه بالنسبة للباحثين تعتبر في حكم المجهولة، ولا يمكن الاستفادة منها قبل تقسيمها وترتيبها ترتيباً أولياً على الأقل، وهذا كله يبين صعوبة البحث عن الوثائق. إلا أن التقدم مستمر في هذا الباب. ولقد وضعت كتالوجات وصفية لبعض نواح من الوثائق في دور الأرشيف بالغرب؛ واهتمت الحكومات الغربية بإرسال بعثات خاصة إلى الخارج لكي تبحث في دور الأرشيف الأجنبية عن الوثائق التي تهم تاريخ بلادها وعندما فتح أرشيف الفاتيكان للباحثين أنشأت كثير من الدول معاهد خاصة في روما لكي يشتغل أعضاؤها بجمع ونسخ ووضع فهارس عن الوثائق التي تهمها في الفاتيكان، فهكذا فعلت إنجلترا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا وبلجيكا والدانمرك. . .
وكيف يمكن للباحث المبتدئ أن يشق طريقه في هذا البحر العجاج؟ لا ريب في أن طريق(428/14)
البحث وعر شاق؛ ولا بد من الصبر والجلد، ويستطيع الباحث أن يتصفح فهارس وكاتلوجات الوثائق التي يظن أنها تحوي شيئاً يعنيه، وبعض هذه الفهارس مطبوع وأغلبها مخطوط. ومن حسن حظ الباحث أن تكون بعض الوثائق اللازمة له قد حصرت ونظمت ووضعت عنها الفهارس. ولكن ستبقى أمامه دائما مناطق مجهولة لا بد من الإقدام على كشفها بنفسه. والباحث عن الوثائق يشبه المنقب عن الآثار الذي يظل سنوات عديدة يبحث في مناطق مختلفة حتى يعثر في النهاية على ما يرضيه ويرضي العالم. ولنأخذ بعض الأمثلة العملية عن جمع الوثائق والأصول التاريخية.
فالباحث في دار المحفوظات المصرية بالقلعة عن تاريخ محمد علي قائد الجند الألباني، بعد رحيل رجال الحملة الفرنسية عن مصر قبيل ولايته حكم مصر، سيجد مادة قد وضعت عنها السجلات الأولية فيستعين بها في فحص بعض دفاتر مرتبات العساكر الألبانيين ابتداء من 1217هـ، وسيجدها مكتوبة بخط القيرمة؛ فلابد من الاستعانة على قراءتها بمن يعرف ذلك الخط، حتى يتعلم البحث قراءته بنفسه. وسيعثر الباحث في هذه الدفاتر على أسم (محمد علي أغاسر جشمهء عساكر أرنؤود) وسيعلم بعض أشياء عن مرتباته وعن تكاليف عساكره. ثم يفحص أيضاً دفاتر (كشيدهء ديوان مصر)؛ ويجد أنها تحتوي على صور فرمانات سلطانية وأوامر باشوية بعضها يخص محمد علي أغا. ثم يبحث بعض الأوراق التركية التي لم يتم وضع سجلات لها، وهي عبارة عن بعض أوامر باشوية أو تذاكر ديوانية خاصة بمرتبات جند محمد علي
وقد يسافر الباحث في ناحية من تاريخ الشام إلى سوريا لمقابلة بعض العارفين بتاريخ البلاد وبدور الكتب بها كالدكتور أسعد رستم فيجده قد أنتقل إلى المصيف، فيتبعه إلى ظهور الشوير ويتحدث إليه طويلاً ويأخذ منه ما يريد. وقد يحاول الاتصال بالأستاذ إسكندر المعلوف فينتقل إليه في زحلة ويستفيد بخبرته ومعلوماته. ثم يقصد دمشق فيجد الأستاذ كرد علي قد غادرها إلى شمال سوريا، وفي انتظاره يجتمع بالأستاذ عبد القادر المغربي وبالأستاذ حسني الكسم فيتحدث إليهما وتنفتح أمامه سبل لم يكن يعرفها من قبل، وبذلك يمكنه الوصول إلى مجموعة من المخطوطات الأساسية التي لم تدرس من قبل
والبحث في أرشيف الحكومة التاريخي في فلورنسا عن تاريخ المصادمات البحرية بين(428/15)
الأسطول العثمانية وبين السفن التسكانية في القرن السابع عشر مثلاً، يجد في الفهارس والكاتالوجات المطبوعة والمخطوطة بدار الأرشيف بعض ما يفيد في فحص مجلدات خاصة؛ ولكن هذا لا يكفي، بل عليه أن يدرس عشرات من المجلدات في سنوات معينة وفي نواح مختلفة؛ فيفحص مثلاً المجلدات التي تحوي مراسلات ممثلي فلورنسا في الدولة العثمانية، ومذكرات التجار الفلورنسيين، وتقارير رجال سان ستيفانو الواردة إلى حكومة فلورنسا، والتي تحوي أخباراً عن حوادث ذلك الاصطدام. وكذلك يفحص المجلدات التي تضم صور المراسلات الصادرة من حكومة فلورنسا إلى ممثليها في الشرق الأدنى، وإلى التجار الفلورنسيين، وإلى رؤساء وقواد نظام سان ستيفانو. وللغرض نفسه ينبغي أن يفحص أيضاً عشرات من المجلدات عن المراسلات الواردة من صقلية والبندقية وجنوا مثلاً إلى حكومة فلورنسا، والتي تتضمن أخباراً عن هذه المصادمات؛ ثم المجلدات التي تحوي صور المراسلات الصادرة من فلورنسا إلى كل تلك الجهات؛ وينتج عن ذلك المجهود جمع مادة أصلية مهمة لم تكن معروفة من قبل عن موضوع البحث
ولا ينبغي على الباحث أن يقتصر في جمع الوثائق البحث الذي يدرسه على أرشيف واحد فقط؛ فمن الضروري البحث عن وثائق أخرى - إن وجدت - في أمكنة متعددة، ونتناول نفس الموضوع، فيتجه الباحث إلى أرشيف الحكومة التاريخي في فيينا لأنه يرى أن علاقات السلم والحرب كانت قوية دائماً بين الدولة العثمانية وإمبراطورية النمسا، وأنه لا بد من أن أخبار الاصطدام البحري بين السفن العثمانية والسفن التسكانية قد وصلت إلى ممثلي النمسا في القسطنطينية، وانهم قد أرسلوها بدورهم إلى حكومة فيينا. ويكتب الباحث إلى مدير أرشيف فيينا فيرسل إليه المعلومات التي يعرفها؛ وملخصها إن المادة الموجودة عن ذلك الموضوع قليلة جدا وعديمة الأهمية. إنما ذلك لا يعني أن هذه المعلومات صحيحة، ولا يقتنع الباحث برد مدير الأرشيف. ويسافر بنفسه إلى فيينا، ويجد إن الكتالوجات الموجودة لا تفيد شيئاً؛ ولكن ذلك لا يمنعه من البحث؛ يعمل بعض الزمن وينتهي به الأمر إلى كشف طائفة ممتعة من الوثائق الألمانية والإيطالية عن الموضوع الذي يدرسه، فيحملها إلى مدير الأرشيف ويرجوه أن يدرجها في كاتالوجاته. ونلاحظ إن الباحث ينسخ بنفسه جزءاً من الوثائق التي يعثر عليها ويمكنه اختصاراً للوقت أن يشرك(428/16)
معه بعض الأخصائيين في نسخ جزء من الوثائق، كما يمكنه أن يصور بالفوتوستات جزءاً آخر على حساب الحالة. ولا يكتفي الباحث بكل ذلك، بل يمضي بالبحث والكشف عن الوثائق في أماكن أخرى مثل باريس ومدريد ولندن. . . ويدرس الباحث المادة التي جمعها ويقارن بين مجموعات الوثائق التي كشفها ويوازن بين معلوماتها وبين ما وصل إليه من المراجع والأصول المطبوعة، ويستخلص الحقائق التاريخية التي يمكنها الوصول إليها، كما سنرى ذلك في المقالات التالية. وهذه كلها أمثلة عملية تعطى فكرة عامة عن كيفية البحث عن الوثائق والأصول التي تظل مجهولة للعلم حتى يكشف عنها. وإلى آخر لحظة يظل الباحث يتوقع كشف أصول جديدة توضح أو تغير ما وصل إليه من الحقائق مما قد يضطره إلى تعديل معلوماته إذا لم يكن قد طبع بحثه بعد، أو إلى تغييره إذا ما أعاد طبعه
ويتصل بالوثائق الرسوم والصور وهي مهمة من ناحية تاريخية. والأثر الذي يحدثه الشكل يسجله الفنان على الورق أو على المرمر، والصف الكتابي مفيد في بيان عادات وخلق نابليون مثلاً؛ لكن رسم الفنان إياه أو صنع تمثال له يعطينا فكرة مجسمة تضاف إلى ما نعرفه من أوصافه بطريق الكتابة. والرسوم والصور وثائق مهمة لأنها تحفظ لنا أبداً آثارا وأشكالا ومناظر وأزياء مختلفة قد تغيرت معالمها أو زالت من الوجود، ولا تستطيع أن تعبر عنها بوضوح الكتابة الوصفية. ونزداد أهمية التصوير بعد تقدم استعمال الفوتوغرافيا في الوقت الحاضر، فهي تسجل مشاهد عديدة للإنسان ولآثار الحضارة والعمران
ومن الأصول المهمة أيضاً نجد آثار الإنسان ومخلفاته وتقاليده، كما عرفنا ذلك في مقال سابق. وأعمال الحفر والتنقيب تكشف عن مخلفات العصور القديمة؛ والبحث في بعض الأماكن يؤدي إلى العثور على آثار الإنسان في العصور الحديثة. ويجب على الباحث أن يشاهد ويدرس بنفسه آثار العصر الذي يكتب عنه. وينبغي أن يزور المباني القائمة التي كان رجال العصر يعيشون فيها، والحدائق التي كانوا يروحون عن خواطرهم في أرجاءها، وأن يتعرف طرق المعيشة والأزياء وأدوات الحرب وآلات الموسيقى. . . وفي الغالب تحول المباني إلى متاحف وتجمع فيها بعض آثار الإنسان. ولا ريب فإنه من الضروري للمؤرخ أن يعيش فترة خلال هذه الذكريات التي أدت من الماضي إلى الحاضر، وأن تشيع في نفسه هذه الرؤى وتلك الخلجات التي أحاطت برجال العصر الذي يدرسه(428/17)
(يتلى)
حسن عثمان(428/18)
كليلية ودمنة
نقد وتعليق
للأستاذ عبد السلام محمد هارو
8 - 80: 1 - 5 (فلبث الذئب وابن آوى والغراب أياماً لا يصبن شيئاً مما كن يعشن به من فضول الأسد، وأصابهم جوع وهزال شديد. فيعرف الأسد ذلك منهم فقال: جهدتن واحتجتن إلى ما تأكلن. فقلن ليس همنا أنفسنا ونحن نرى بالملك ما نرى، ولسنا نجد للملك بعض ما يصلحه. قال الأسد: ما أشك في مودتكم وصحبتكم)
وهذه صورة عجيبة من التعبير لم أدر لها سراً، وكان أولى بابن المقفع أن يجعل الضمائر العائدة إلى هذه الجماعة من الحيوان على طراز واحد، كما هو الأصل في إرجاع الضمائر. أما أن يجعلها للمؤنثات ثم لجماعة العاقلين ثم للمؤنثات أخرى ثم لجماعة العاقلين رابعة، فهذا عجب لم نره لكاتب غيره
وقد ينزل العرب غير العاقل منزلة العاقل، وابن المقفع جعل هذه الجماعة مرتين من غير العاقلين ومرتين من العاقلين فأسرف فيما أجازه القوم إسرافاً
وألفيته يعاود هذا المذهب ويراجعه. ففي 86 س 7 (فلنأت سائر الطير فلنذكر ذلك لهم. فأجابوه إلى ذلك وأعلمهن ما أصابه وحل به) الضميران في (لهم) و (أعلمهن) عائدان إلى سائر الطير. وفي 91 س 4 (ودنا منهن ليبصرن، فتناوله بعضهم وضرب به الأرض) الضمائر راجعة إلى: (جماعة من القردة) في الصفحة السابقة. وفي 152 - 153 (فبينما هم في ذلك إذ وقع لهم غراب فقال بعضهم: انتظرن حتى يأتينا هذا الغراب) الضمائر مرجعها (جماعة من الطير). وغير ذلك كثير
9 - 74: 5 (فلما فرغ دمنة من تضريب الأسد على الثور)
التضريب هنا: التحريض، وفي اللسان: (والتضريب تحريض للشجاع في الحرب. يقال ضربه وحرضه) والتضريب أيضاً: الإغراء، وفي اللسان: (والتضريب بين القوم: الإغراء) وفي نسخة بولاق ص 43 (من تحميل الأسد على الثور) وهي الرواية الجيدة؛ لأنها لغة ابن المقفع، ولازمة من لوازمه الكتابية. فقد جاء في ص 1. 1 س 7 (ولكن قتل لتحميل الأشرار) وفي س 11 من الصفحة عينها (من تحميله إياك عليه وفي ص 249 س(428/19)
8: (تحميل الملك علي) وفي س 14 من الصفحة نفسها (ليحملوا عليه الأسد) فهذا هذا
وقد أراد ابن المقفع بكلمة (التحميل) الإغراء). ومن اللفظ العجب أن ابن منظور وصاحب القاموس لم يذكرا هذا اللفظ في مادته، بل ذكرا في هذا المعنى (حمله على الأمر يحمله حملاً فلنحمل: أغراه به) ثم انفرد ابن منظور بقوله (وحملت على بني فلان إذا أرشت بينهم) والتأريش: التحريش والإغراء
10 - 86: 4 (فأعينوني وظافروني) وبدلهما في نسخة بولاق ص 48: (فأعنني)، و (ظافره) بمعنى أعانه وظاهره لم يذكرها صاحبا اللسان والقاموس، وقاربهما ابن منظور بقوله (وتضافر القوم عليه وتظاهروا بمعنى واحد) فنستطيع أن نزيد في معجمنا المنتظر هذه الكلمة، وابن المقفع ثقة يحتج بقوله: وهو دليل أن المعاجم المتداولة لم تستوف ولم تستوعب كل أصول اللغة وفروعها إلا ما نبهت على عدم وروده. فذا مرجعه إلى استيثاق الرواة الأولين واستقصائهم
11 - 95: 7 (ليس بمستكبر لها أن تختطف بزاتها الفيلة) ابن المقفع - فيما أشعر - لا يقول هذه الكلمة بل يقول (بمستنكر)
ومما يجدر ذكره أن استكبر الشيء بمعنى رآه كبيراً وعظم عنده، قول منسوب إلى الإمام ابن جني، ولم يقله عامة اللغويين. واتفقوا أن استكبر بمعنى تكبر؛ وفي كتاب الله: (إنه لا يحب المستكبرين)، (يصدون وهم مستكبرون)
وقد رجعت إلى نسخة شيخو (ص 99) فوجدت: (ما أرضا (كذا) يأكل جرذها مائة منٍ من حديد بمستنكر لبزتها أن تختطف غلاماً)
12 - 107: 6: (إذا جئنني بالليل من غير نداء ولا رمى ولا شيء يرتاب به). فما ذلك الرمي؟!
الصواب: (ولا رمز) - أي إشارة وعلامة؛ وقد جاء بدلها في نسخة بولاق (53): (ولا إيماء)، وهو والرمز والإشارة بمعنى
13 - 115: 13، 16 وص 116: 1 وص 117: 1، 16 وص 118: 2، 6: (رأس الخنازير) و (سيد الخنازير). عندي أنها: (رأس الخبازين) و (سيد الخبازين)
يؤيد ذلك ما جاء بدلها في نسخة شيخو السريانية: (فتكلم صاحب المائدة)، وما هو عند ابن(428/20)
الهبارية (115):
فأخذ الخباز كف دمنه وقال: لله العظيم المّنه وكذلك ص 118:
فأطرق الخباز لما سمعا ... ذلك من مقاله وخضعا
وكما يفهم من قول ابن المقفع عنه 117: 12: (ثم أنت تجترئ أن تقوم بين يدي الملك وتلي طعامه)
14 - 116: 11: (ولا مسيء وإن أذنبه بضائره ذنبه) تطبيع، صوابه: (وإن أذنب)
15 - 120: 9: (فأقر بذنبك وبؤ بإساءتك): باء بإثمه فهو يبوء بوءا: إذا أقر به؛ وفي الكتاب: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك)؛ وفي الحديث: (أبوء بنعمتك على وأبوء بذنبي) - أي أقر؛ وقال لبيد:
أنكرت باطلها وبؤت بحقها ... عندي ولم تفخر عليَّ كرامُها
وأصل البوء الرجوع، فمن باء فكأنه رجع إلى الإقرار بعد الإنكار والسكوت
وبهذا أيضاً يفسر قول ابن المقفع في س 15: (وأن أبوء بما لم أجن)
16 - 121: 11، 12 (فحفظ الفرخان ذلك بلسان البلخية)
البلخية: أهل بلخ، بفتح الباء: مدينة مشهورة بخراسان والتاء فيه دلالة على الجمع. وهي عند التحقيق علامة للتأنيث بتقدير الجماعة أو الطائفة كأنك تقول: الجماعة البلخية، فلما حذفت الموصوف وأقمت صفته ألحقت بها تاء التأنيث المنبهة على الجمع أيضاً. ومثلها في ذلك: الإباضية، والإسماعيلية، والأشعرية، والباطنية، والجبائية. ونحو ذلك كثير من الأسماء للفرق الدينية والسياسية
17 - 127: 14 (وأخفت على الشبكة حتى لججت فيها وصويحباتي). لج فلان في الأمر تمادى عليه وأبى أن ينصرف. فهو فعل اختياري لا دخل للقسر فيه. والمعنى لا يتجه بهذا. وإنما هو (لحجت) بالحاء المكسورة المهملة بعدها جيم. لحج السيف وغيره بالكسر يلحج لحجاً: أي نشب في الغمد فلم يخرج. وفي حديث على يوم بدر (فوقع سيفه فلحج) أي نشب فيه. ويقال لحج في الأمر يلحج إذا دخل فيه ونشب. ومن البين أن المراد نشوب الطير في الشبكة، مما أعماهن القدر وأعشى أبصارهن
18 - 128: 1 (ويستنزل الطير من الهواء، إذا قضى ذلك عليهم) أجرى (الطير) مجرى(428/21)
العاقل فجعل لها ضميره. وهو معروف عند العرب. وفي كتاب الله: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) وفيه: (إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)، (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحكمنكم سليمان وجنوده)، وقال عبدة بن الطبيب:
إذ أشرف الديك يدعو بعض أسرته ... إلى الصياح وهم قوم معازيل
جعل للديك أسرة وسماهم قوماً
19 - 130: 1 (منها عداوة من يجتزيان على ذلك كعداوة الأسد والفيل). وفي نسخة بولاق 62 (منعا ما هو متكافئ كعداوة الفيل والأسد) وعند ابن الهبارية 129:
(وهو التجازي لا سواء إنما)
الاجتزاء: طلب الجزاء، قال:
يجزون بالقرض إذا ما يجتزى
وفي ذلك معنى التكافؤ. والتجازي - كما ترجمه ابن الهبارية أصل معناه التقاضي، والمراد به المقاصة، فهو كذلك في معنى التكافؤ
2 - 133: 15 (وكان الضيف رجلاً قد جال الآفاق ورأى الأعاجيب)، والفعل (جال) لا يتعدى بنفسه. والوجه (جال) في (الآفاق). وسمع جول الأرض: جال فيها، وجول في البلاد أي طوف. فهذا المضعف ورد بالوجهين. وفي القاموس أن جال الشيء: اختاره. وهذا معنى لا يراد هنا
21 - 139: 8 (وانقلبت ظهر البطن، وانجررت حتى دخلت حجري) فماذا جره حتى انجر؟! إنما هي (وانحدرت) أي نزلت في سرعة إلى الجحر
22 - 150: 7 (إن كان بعيداً لم يأمن من معاودته، وإن كان متكشفاً لم يأمن استطراده، وإن كان قريباً لم يأمن مواثبته). متكشفاً أي بادياً ظاهراً، وهي لا تساير الكلام. والصواب (مكثباً) أي دانياً. أكثبك الصيد والرمي وأكثب لك: دنا منك. وعلى هذا الوجه الذي أثبت وردت الكلمة في نسخة بولاق 69. ويؤيد هذا التصحيح ترجمة ابن الهبارية 148:
لأنه إن كان منه نازحا ... أعاد مثل فعله مشايحا
أو كان منه دانياً أو حاضرا ... واثبه مبادراً مساورا(428/22)
فكلمة (دانيا) في النظم تقابل كلمة (مكثبا) التي ذكرت
23 - 165: 16 (فإن الغراب ذو أدب ومكر ومكيدة). لا وجه لورود كلمة (أدب) بالدال في هذا المعرض. والصواب (أرب) بالراء؛ ليصح اقترانها بأختيها: المكر والمكيدة. والمقام مقام ذم وتهجين. والإرب بالكسر، أو بالتحريك: الدهاء والخبث والنكر. وفي نسخة شيخو 158 (فإن الغراب ذا أرب ومكائد)
24 - 166: 15 (فإن الشر يدور حيثما دارت). هي (حيثما درت)
25 - 171: 4 (فابتليت ببلاء حرمت عليَّ الضفادع) والجملة بهذا الوضع مبتورة ناقصة. وتمامها (حرمت عليَّ الضفادع) من أجله (أي من أجل البلاء. وذلك كما في ص 77 من طبعة بولاق
26 - 173: 1 (بل برأيك وعقلك كان هذا؛ فإن الرجل الواحد أبلغ في إهلاك العدد من كثير العدد ممن ذوي البأس). وفي هذه العبارة نقص كسابقتها: وتمامها كما في نسخة بولاق 78: (؛ فإن الرجل الواحد) العاقل الحازم (). . . الخ. وعند ابن الهبارية ص 174:
فالرجل اللبيب في الأعداء ... أبلغ من ألف ذوي فَتَاء
و (اللبيب) هو العاقل ذو اللب
27 - 190: 12 قول البرهميين للملك حين سألهم تعبير الرؤيا: (فلعلنا - إن استطعنا - أن ندفع ما نتخوف منه). الوجه (تتخوف) بالخطاب؛ قد ليس من شأنه أن يحكموا في تعمير الرؤيا بهذا الحكم قبل أن يجتمعوا للتشاور والتآمر. وهم قد استمهلوا الملك (ستة أيام) ليتمكنوا من ذلك. والملك هو الذي كان متخوفاً، لأنه (رأى ثمانية أحلام يستيقظ عند كل منها)
28 - 191: 6 (لنجعل دماءهم في أبزنٍ ثمم نقعدك فيه). كلمة (الأبزن) معربة عن الفارسية، بفتح الهمزة بعدها باء موحدة ساكنة ثم زاي مفتوحة. وهو الحوض من نحاس يستنقع فيه الرجل؛ ويعرف في ألفاظنا الدخيلة باسم (البانيو) وبالفرنسية: وبالإنجليزية - و (أبزن) أصله في الفارسية: (آبزَن) بمد الهمزة؛ وتكتب أحيانا (آب ز ن)؛ فسرت في معجم استينجاس بأنها حوض للاستحمام من نحاس أو حديد بطول جسم الإنسان يملأ بماء طبي يجلس فيه المريض أو يتمدد(428/23)
وقد أهمل هذا اللفظ كثير من اللغويين، منهم الليث، والجواليقي، وابن دريد، والزمخشري، مع أنه مستعمل قديماً وجاء في شعر أبي دُوَاد الإيادي، يصف فرساً وصفه بانتفاخ جنبيه:
أجوف الجوف فهو منه هواء ... مثلُ ما جافَ أبزَناً نجَّار
وأبو دواد جاهلي. ويفهم من هذا الشعر أنه يصنع أحياناً من الخشب، لِمَا جعل صانعه النجار. وكأن بعض العرب كانوا يجتزون بالخشب عن النحاس، قال ابن بري: (الأبزن شيء يعمله النجار مثل التابوت)، وأنشد بيت أبي دواد. وروى البخاري أن أنس ابن مالك قال: (إن لي أبزناً أتقحَّم فيه وأنا صائم)
وقد فسر (الأبزن) في هذا الحديث بأنه الحوض الصغير، أو حجر منقور كالحوض، أو شيء يتبرد فيه وهو صائم يستعين بذلك على صومه من الحر والعطش.
(له بقية)
(عبد السلام محمد هارون)(428/24)
معركة الأطلنطي
للأديب محمد شاهين الجوهري
(لا تكاد خطبة من خطب تشرشل تخلو من ذكر (معركة الأطلنطي)، على صفحات هذا المحيط تقوم معركة من أشد المعارك وأعنفها، فهي المعركة التي ستكتب السطر الأخير من سطور الحرب. وفي هذه المعركة يتعاون السلاح الجوي الألماني مع سلاح الغواصات، فتضرب الطائرات الألمانية الموانئ والمدن الإنجليزية لتنهك قوى بريطانيا في الداخل، وتفتك الغواصات بالقوافل التجارية في عرض المحيط. وإذا كان يجري في هذا المحيط شريان الإمبراطورية البريطانية الحيوي، فلا عجب إذا رأينا ألمانيا تبذل قصارى جهدها لتقطع هذا الشريان لتمنع عن بريطانيا ما يأتيها من معونة ومدد، بينما تعمل بريطانيا على أن تبقى على هذا الشريان إذ في بقائه بقاؤها)
المصانع الأمريكية تعمل فتنتج المؤن والعتاد الحربي؛ واتفاقية الإعارة والتأجير تبيح إصدار هذه المؤن وهذا العتاد إلى بريطانيا. وفي الجزر البريطانية يرابط المدافعون عن الديمقراطية، ويفصل المحيط الأطلنطي بين هذا المدد الأمريكي وبين المدافعين عن هذه الجزر. وفي هذا المحيط ترتع الغواصات الألمانية متعاونة مع الطائرات في معركة لا تعرف هوادة ولا رحمة ضد السفن الإنجليزية. ويرمي هتلر من وراء هذه إلى غرضين:
أولهما إضعاف إنجلترا بتدمير موارد ثروتها الداخلية وأحواض سفنها وموانيها، وشل حركة إنتاج السفن والذخائر الحربية.
وثانيهما منع المدد الذي يصل إلى بريطانيا من الخارج بإغراق سفنها في المحيط، وعزلها عن أمريكا. وعندئذ يسهل عليه مهاجمة بريطانيا
تبلغ هذه المعركة شدتها في فصل الربيع. ففي هذا الفصل تتقشع السحب التي كانت تخيم على آفاق المحيط فتجعل عمل الغواصات والطائرات عسيراً، وتبدأ الغواصات الألمانية تجوب المحيط باحثة عن السفن البريطانية، وتنطلق الطائرات الألمانية في الجو لتساعد الغواصات في المهمة الملقاة على عاتقها. وقد كان المتحمسون للطيران في ألمانيا يعقدون آمالاً كباراً على السلاح الجوي ضد الملاحة البريطانية، فكانوا يعتقدون أن قاذفة القنابل قادرة على أن ترسل أية سفينة حربية إلى أعماق المحيط، ولكن التجارب برهنت على أن(428/25)
هذا السلاح لم يحقق ما بنى عليه من آمال، ولذا أصبح عمل الطائرات الألمانية الرئيسي هو القيام بمهمة استكشاف مواقع السفن واتجاهاتها وإبلاغ ذلك باللاسلكي إلى الغواصات لتهاجم هذه السفن
وعدد السفن الذي يصل إلى بريطانيا سالماً هو الذي يقرر إن كان في مقدورها أن تحافظ على سلامة هذا الخط الحيوي بينها وبين أمريكا، وأن تضمن دوام وصول الإمدادات إليها. ويقول المستر نوكس: (إن هتلر يعمل على ألا تصل المؤن والذخائر إلى بريطانيا، لأن في وصولهما هزيمته. إننا لا نرضى لمنتجاتنا أن تغرق في الأطلنطي، وستلحقنا الهزيمة إذا رضينا بذلك. يجب علينا أن نفي بوعدنا ونساعد بريطانيا لأنها عانت كثيراً في الحرب الكبرى الماضية لما كان قد لحق أسطولها من الوهن من جراء نشاط العدو. ففي أبريل من سنة 1917، أغرقت الغواصات الألمانية من السفن البريطانية ما حمولته مليون طن تقريباً. وكان الألمان يتوقعون انهزام بريطانيا في ذلك العام، ولكن تطبيق نظام القوافل البحرية ووصول المدمرات الأمريكية، وسفن الحراسة، واختراع الأجهزة المخبرة عن الغواصات، قد أضعف كثيراً من خطر الغواصات).
ويحاول هتلر الآن جهد طاقته كسر شوكة بريطانيا البحرية ويبذل في ذلك أعنف الجهود. فإن دخول إيطاليا الحرب، وما يحرض به اليابان من قيامها بمناورات دبلوماسية وعسكرية، إنما هي خطة يرمي من ورائها إلى إرغام إنجلترا على استخدام أسطولها في ميادين بحرية متعددة لتتوزع قواه، وتقل مقدرته، ويصبح من السهل على هتلر أن يضربه الضربة القاضية. وأن مجرد وجود الأسطول الإيطالي في البحر المتوسط قد أضطر بريطانيا إلى الاحتفاظ بوحدات عديدة من أسطولها في هذا البحر في وقت تحتاج فيه إلى هذه الوحدات في الأطلنطي لتعمل ضد الغواصات، وفي حراسة القوافل. وقد فطنت بريطانيا إلى ذلك وعملت من جانبها على إحباط السياسة الألمانية فأجرت بعض القواعد البحرية للولايات المتحدة، أو بمعنى آخر ألقت مهمة الدفاع عن هذه القواعد على عاتق الأسطول الأمريكي، وذلك لتقلل من الأعباء الملقاة على عاتق الأسطول البريطاني وتوجه قواه لمناهضة العدو وتأمين طرق قوافلها التجارية وضمان وصول الإمدادات إليها
عندما بدأت الحرب كانت بريطانيا تملك من السفن ما حمولته(428/26)
18. 5 مليون طن، أضيفت إليها حمولة قدرها 8. 5 من
الأطنان حصلت عليها إنجلترا من الدانمرك وبلجيكا وفرنسا
وألمانيا وإيطاليا والنرويج وهولندا، ومن هذا المجموع الذي
يبلغ 27 مليوناً من الأطنان أغرق الألمان ما حمولته خمسة
ملايين طن أي ما يعادل 51 ما تملكه بريطانيا تقريباً
من أين لبريطانيا أن تحصل على ما يسد هذا النقص؟
تنتج بريطانيا من السفن سنويا ما حمولته 1. 500000 طن. ولكي تسهل المهمة الملقاة على عاتقها أدخلت بعض تعديلات على بناء السفن، وذلك بالتخلي عن كل ما ليس له مهمة رئيسية في السفينة. وقد صار يبنى الآن نوع من السفن يكبر حجم السفن العادية مرتين ونصفاً، ويمكن بناء أجزاء هذه السفن في مصانع في داخلية البلاد بعيدة عن غارات الطائرات الألمانية على أحواض السفن. ويبلغ حمولة ما أمدت به الولايات المتحدة بريطانيا في عام (1941) 1000000 طن. كما تقرر أن تمدها أمريكا بما مقداره 2000000 طن في عام (1942)، وسيبلغ هذا المدد خمسة ملايين طن في عام (1943) وبلغت حمولة ما وصل بريطانيا فعلاً 1. 500000 طن يضاف إليها خمسون قطعة أعطيت لبريطانيا بموجب قانون الإعارة والتأجير. وسيرسل إليها 150 قطعة تبلغ حمولتها 1. 500000 طن. وهناك مورد آخر لبريطانيا وهو السفن المحجوزة في موانئ الولايات المتحدة، ويبلغ عددها 58 قطعة حمولتها 589000 طن
تلك هي الموارد التي تجد فيها بريطانيا عوضاً عن بعض ما تفقده. هذا ويبذل العمال جهوداً جبارة لبناء أكبر عدد من السفن، كما يضرب السلاح الجوي موانئ الغزو الألمانية ملحقاً ما استطاع من الخسارة بهذه الموانئ وأحواض السفن. ولا يألو رجال البحرية جهداً في مكافحة الغواصات والقضاء عليها؛ وبذا تعمل بريطانيا على زيادة الإنتاج وتقليل الخسارة مما يساعد كثيراً على سد هذا النقص
وغنى عن البيان أن لسيطرة النازي على البلاد الساحلية في أوربا أثرها العظيم في سير(428/27)
معركة الأطلنطي، فإن الغواصات الألمانية تتخذ من موانئ النرويج شمالاً إلى موانئ فرنسا جنوباً قواعد تكمن فيها. وهذا قد أعطى ألمانيا ميزتين هامتين:
أولاهما إن ألمانيا باستيلائها على هذه القواعد أمكنها أن تستخدم غواصات صغيرة الحجم تسع من خمسة رجال إلى عشرة، بدلاً من الغواصات الكبيرة التي تسع من ثلاثين رجلاً إلى أربعين، وبذلك قلت الخسارة التي كان يتحملها الألمان من إغراق غواصاتهم كما زاد عدد الغواصات لتي تعمل في المحيط. والميزة الثانية إنه باستيلاء ألمانيا على النرويج وفرنسا مكن الغواصات الألمانية من أن تتفادى الخطر الذي كانت تلاقيه في الحرب الماضية حين كان من المحتوم عليها أن تمر بحقول الألغام التي كان ينشرها الإنجليز في مضيق دوفر وبحر الشمال كلما أرادت الوصول إلى قواعدها على الساحل الألماني. فللإنجليز الآن إذا ما حاولوا تضييق الخناق على الغواصات الألمانية يجب عليهم أن يبذروا حقول الألغام على طول الساحل الأوربي، وهذا يعد من أصعب الأمور وأشقها على الأسطول البريطاني نظراً لوقوع هذه السواحل تحت رحمة القواعد الجوية الألمانية. كذلك فقدت بريطانيا ميزة كانت لها في الحرب الماضية وهي عدم استخدام الموانئ الأيرلندية الغربية كقواعد للسفن مما يضطر الدوريات البحرية أن تقطع للقيام بدورياتها رحلات أشق كثيراً مما كانت في الحرب 1914
وإذ كان في استيلاء ألمانيا على هذه السواحل كسب لها
وخسران لبريطانيا، فبريطانيا قد سعت من جانبها لإيجاد
وسائل تفسد على الألمان ما اكتسبوه من ميزات فزودت سفنها
بأجهزة ترشد إلى مكان الغواصات، وقذائف الأعماق التي
تتفجر تحت سطح الماء وهي تعتبر من أفتك الأسلحة
بالغواصات. وكذلك وفق الإنجليز إلى نوع جديد من السفن
يعرف باسم (الكورتيث) وهو عبارة عن مدمرة صغيرة تجمع(428/28)
إلى بساطة تركيبها سرعتها وسهولة إدارتها وتبلغ تكاليف هذه
المدمرة الصغيرة 108 تكاليف بناء المدمرة العادية؛ فلا يزيد
ثمنها على نصف مليون من الجنيهات، وتحتاج إلى عدد قليل
من البحارة لا يزيد عن الأربعين، ويبلغ طولها نصف طول
المدمرة؛ وحمولتها أربعمائة طن وسرعتها 25 عقدة بحرية
في الساعة. ويمكن بناء عشر مدمرات من هذا النوع بدلاً من
مدمرة واحدة كبيرة. وتحمل هذه المدمرة مدفعين من عيار 4
بوصات وقذيفتين للأعماق. ولما ثبت نجاح هذا النوع من
السفن في محاربة الغواصات قامت كندا ببناء 80 قطعة.
وتبني إنجلترا الآن 300 قطعة من هذا النوع. هذا وقد زودت
كل سفينة تجارية بمدفع ضد الطائرات والغواصات لتكون
أقدر على حماية نفسها.
وهكذا تبذل الدولتان قصارى جهودهما وتقذفان بثمرات إنتاجهما في هذا المحيط حيث تدور المعارك الكبرى
محمد شاهين الجوهري
معهد الصحافة العالي بالجامعة الأمريكية(428/29)
5 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
السكان
من المستحيل تقريباً في بلد لا يقيد فيه مواليد ولا أموات أن يعين عدد السكان بدقة. وقبل تأليف هذا الكتاب ببضع سنوات عمل إحصاء على أساس عدد البيوت في مصر وافتراض ثمانية أشخاص لكل بيت في العاصمة، وأربعة أشخاص لكل بيت في الريف وهذا الإحصاء - على ما أعتقد - يقرب جداً من الحقيقة. ولكن الملاحظة الشخصية والبحث يجعلانني أميل إلى الاعتقاد بان مدناً كالإسكندرية وبولاق ومصر العتيقة تحوي كل منها خمسة أشخاص على الأقل لكل منزل. أما رشيد فنصفها آهل ونصفها الآخر قفر، ودمياط المزدحمة بالسكان يجب أن نحسب ستة أشخاص لكل منزل فيها وإلا نقص تقديرنا كثيراً عما يظن أنه عدد سكانها. فإذا أضيف شخص أو شخصان إلى كل منزل في المدن المذكورة، فلا يحدث مع ذلك إلا فرق ضئيل في إحصاء سكان مصر ومجموعهم طبقاً لتلك الطريقة الحسابية يبلغ أكثر من مليونين ونصف المليون من الأنفس؛ ولكن هذا العدد قل فيما بعد. وكان من المحتمل أن يكون من هذا العدد قرابة مليون ومائتي نفس من الذكور ثلثهم (400000) يصلحون للخدمة العسكرية
وقد جند محمد علي من هذا العدد الأخير مائتي ألف رجل على الأقل لجيوشه النظامية وللخدمة البحرية. وأقصى خسارة نتجت من إبعاد هؤلاء الرجال عن زوجاتهم، أو منعهم من الزواج عشر سنين، لا بد أن تزيد على ثلاثمائة ألف؛ ولذلك جعلت مجموع السكان أقل من مليونين. أما عدد أفراد الطبقات المهمة فقد كان كما يلي على وجه التقريب:
مصريون (فلاحون وحضريون) 1. 750. 000
مصريون مسيحيون (أقباط) 150. 000
عثمانيون أو أتراك 10. 000(428/30)
سوريون 5. 000
يونانيون 5. 000
أرمن 2. 000
يهود 5. 000
أما بقية السكان من البدو والنوبيين والعبيد والمماليك والفرنج، فمن المحتمل أن يبلغ عددهم نحو سبعين ألفاً. أما عدد كل طائفة على حدة فلا يمكن معرفته على وجه اليقين. وقد كان عرب الصحراء بين الغربية والشرقية لا يعدون في سكان مصر.
قلت: إن القاهرة يبلغ عدد سكانها مائتين وأربعين ألف نفس تقريباً عندما وضع هذا الكتاب. ولو كنا قد بنينا حكمنا على أهل هذه المدينة من ازدحام شوارعها المهمة وأسواقها لخدعنا كثيراً. ففي كثير من القارات والأزقة لا يرى إلا القليل من المارين. كذلك لا يمكننا الحكم من سعة المدينة وضواحيها، فإن داخل الجدران كثيراً من الأمكنة الخالية، بعضها يتحول إلى بحيرات أثناء الفيضان. ثم إن الحدائق والمقابر الكثيرة وأحواش المنازل والجوامع تشغل مساحة واسعة. وقد عددت بين سكان القاهرة نحو مائة وتسعين ألفاً من المصريين المسلمين، وحوالي عشرة آلاف من الأقباط وثلاثة آلاف أو أربعة آلاف من اليهود، والبقية أجانب من بلدان مختلفة
ويرجع أن سكان مصر في عصور الفراعنة كان عددهم ستة ملايين أو سبعة. ولو أن شيئاً من محصول الأرض في العصر الحاضر لم يصدِّر، لعال هذا المحصول أربعة ملايين نفس. وإذا كانت الأرض الصالحة للزراعة تزرع، لكفى المحصول ثمانية مليون، وغاية ما يمكن أن تصل إليه مصر في أغزر السنين فيضاناً. ولذلك فإني أعتقد أن المصريين القدماء في الوقت الذي كانت فيه الزراعة في حالة ازدهار كان عددهم كما قررت سابقاً. كما انه من المفروض إن عددهم لم يكن يزيد على نصفهم إلا بقليل في عصر البطالسة والعصور التالية، عندما كانت تصدر كميات كبيرة من الحبوب سنوياً. وهذا الإحصاء يتفق مع ما قاله ديودور الصقلي من أن مصر بلغ عدد سكانها في أيام الملوك الأقدمين سبعة ملايين، بينما في عصره لم يقلوا عن ثلاثة ملايين
ومن تأمل في سياسة محمد علي لا يسعه إلا أن يأسف للفرق بين حالة مصر تحت حكمه(428/31)
وبين ما كان يجب أن تكون، إذ لم يزد عدد سكانها بكثير عن ربع العدد الذي كان في إمكانها إعالته.
ولقد كان في استطاعة العاهل العظيم أن ينفع شعبه أجزل النفع لو أنه بدلا من إفقار الفلاحين بنزع الأراضي الزراعية واحتكار المحصولات القيمة، واستخدام كفاءة السكان في إرضاء طموحه وتحقيق فتوحه، أو في منافسته الصناعة الأوربية على غير طائل
كان قد وجه عنايته إلى مساعدة الطبيعة في أن يجعل مصر بلداً زراعياً على الأخص، فقد كان يكفي محصول قطنها وحده، بل ويفيض، للحصول على كل منتجات المصانع الأجنبية وكل المحصولات الطبيعية التي تتطلبها حاجة السكان من البلاد الأجنبية
الفصل الأول
ميزات المصريين المسلمين وملابسهم
يؤلف المسلمون العربيو الأصل غالبية سكان مصر منذ قرون. وقد أحدث ذلك انقلابا في اللغة والقوانين والشمائل العامة، وأصبحت العاصمة المصرية أعظم قاعدة للمعارف والفنون العربية. وسيخصص لوصف هذا الشعب - على الأخص الطبقتان الوسطى والعليا في القاهرة - أكبر جزء من هذا الكتاب
ويلاحظ أن شمائل المصريين وعاداتهم تثير الاهتمام بنوع خاص، لأنها مزيج من تلك الشمائل والعادات التي تسود الجزيرة العربية وسورية وشمال أفريقيا كله وتركية إلى حد بعيد. وليس في العالم بلد كمصر يمكننا أن نحصل فيه على معرفة تامة بأكثر طبقات العرب تمدناً
ويظهر من الإحصائيات الواردة في مقدمة هذا الكتاب أن المصريين المسلمين - أو المصريين العرب - يؤلفون تقريباً أربعة أخماس سكان العاصمة، وسبعة أثمان سكان مصر كلها
والمصريون المسلمون من جنس خليط انحدر إلى حد كبير من عدة قبائل وعشائر عربية وفدت إلى مصر في عصور مختلفة، بعيد الفتح. وهؤلاء العرب المهاجرون كانوا أولا قبائل تجوب الصحراء، ولكنهم تركوا حياة البداوة وتحضروا، ثم اصهروا إلى الأقباط(428/32)
الذين أصبحوا بالإسلام آمنين، فأدى اختلاطهم هذا إلى تكوين شعب كثير الشبه بقدماء المصريين الذين ينتمون إلى الجنس (القوقازي) مع قرابتهم إلى الجنس الأسود على درجات مختلفة، وهذا الشبه يبدو تاماً في عدة أفراد منهم على الجملة، وعلى الأخص في القبط والنوبيين، وهو في مسلمي مصر الوسطى والعليا أكثر شيوعاً ووضوحاً، ولكنهم مع ذلك ليسوا أقل عروبة من أهل الحضر في الجزيرة ذاتها، إذ فشت فيهم منذ القدم عادة اقتناء الجواري من قبائل الجلا والأحباش، إما للزواج وإما للتسري. ولذلك كان عرب المدن الآن يشبهون الجلا والأحباش بقدر ما يشبهون البدو. وهذا - على الأقل - هو الحال في مدن الإقليم الجنوبي الغربي من بلاد العرب؛ أما الجهات الجنوبية، فالحضريون فيها أكثر اختلاطا بالهنود وأجناس الملايا وبالأفريقيين كذلك. فالمصريون عامة والعرب كذلك - ولو على درجة أقل - ينزعون بعرق إلى أهل أفريقيا الأصليين. ويلاحظ أن لفظ (العرب) يطلقه سكان البلاد العربية الآن على البدو في مجموعهم، ويطلقون كلمة (العربان) على أهل القبيلة أو على القليل منهم، أما الفرد فيسمى (بدويا). وقد زال التمييز بين القبائل تقريباً في العاصمة وفي غيرها من المدن المصرية؛ ولكنه لا يزال باقياً بين الفلاحين الذين حافظوا على عادات بدوية كثيرة سأتكلم عنها فيما بعد. وفي بقاع مختلفة من مصر عشائر تنحدر من العرب الأولين الذين يترفعون عن التزوج ممن هن أقل منهم جنساً. وهؤلاء يصعب بل يستحيل تمييزهم من قبائل صحراء الجزيرة العربية. ومسلمو القاهرة الوطنيين يسمون أنفسهم عادة: (المصريين) و (أولاد مصر) أو (أهل مصر) و (أولاد البلد)؛ وآخر تلك العبارات الثلاث أكثرها شيوعاً في المدينة نفسها. أما أهل الريف، فيسمون بالفلاحين (أو المزارعين)؛ وكثيراً ما يطلق الأتراك على المصريين لفظ الفلاحين، ويقصدون به معنى الغلظة والجفاء، أو ينبذونهم بأهل فرعون إهانة لهم، فيرد عليهم المصريون كلما اجترءوا على ذلك بتسميتهم أهل نمرود
ويتراوح طول المصريين بين خمسة أقدام وثماني بوصات، وخمس أقدام وتسع بوصات، وأغلب الأطفال تحت سن التاسعة أو العاشرة دقاق الأطراف ضخام البطون، ولكن. . . سرعان ما تتحسن إشكالهم كلما تدرجوا في النمو، فلا يبلغون أشدهم حتى تتناسب أعضاؤهم بشكل ظاهر. فالرجال أقوياء مفتولو العضلات، والنساء جميلات التكوين بدينات(428/33)
من غير إفراط. ولم أرى في المصريين بدانة إلا في الذين أخلدوا إلى حياة البطالة في العاصمة وفي غيرها من المدن
(يتبع)
عدلي طاهر نور(428/34)
ليالي القاهرة
وقفة على دار
للدكتور إبراهيم ناجي
قِفْ يا فُؤَادُ عَلَى الْمَنَازِلِ سَاعَا ... فَهُنَا الشَّبَابُ عَلَى الأَحِبَّةَ ضَاعا
وَهُناَ أَذَلَّ إِبَاَءهُ مُتَكَبرٌ ... أَمَرَتْ عيُوُنٌ قَلبَهُ فَأَطَاعا
أحْسَسْتُ بُالدَّاء القدِيم وَعَادَنِي ... جُرْحٌ أَبَيْتُ لِعَهْدِهِ إِرْجَاعا
وَمَشَىَ مَع الأَلَمِ الذُّهُولُ كأَنَّمَا ... طَارَتْ بِلُبِّي الحَادِثَاتُ شعَاعا
كَثُرَتْ عَلَيَّ مَتَاعِبي فَمَحَوْنِني ... ومَحَوْنَ حَتَّى السُّقْمَ والأَوْجَاعا
يا مَنْ هَجرْتَ لقَدْ هجْرتَ إلى مَدىً ... فإِلى الِّلقاَءِ! ولَنْ أَقُولَ ودَاعَا(428/35)
غيمه
للأديب عبد الرحمن الخميسي
تَخِفُّ إلى صَدْرِ السَّمَاءِ تَمِيِمَةً ... رَمادِيَّةَ الأَصْبَاغِ مِنْ كفِّ رَاهِبِ
تَشُقُّ عُبَابَ الجَوِّ حَيْرَى كأَنها ... سَفِيَنةُ وَهْمٍ فِي خَوَاطِرِ كاتِبِ
يُنَادِمُهَا فَجرٌ نَدِىٌ مُنَوِّرٌ ... وَيُطْلِقُها فِي أُرْجُوَانِ المَوَاكِبِ
وَتُرضِعُها مَسْفوُحَها الشَّمسُ وَقتما ... تُرِيقُ دِماهَا فَوْقَ هَامِ المغَارِبِ
وَترْقُبُ دَمْعَ البَدْرِ فِي كلِّ ليلَةٍ ... لِتَسْبحَ في غَمْرٍ مِنَ النُّورِ ذَائِبِ(428/36)
من لواعج الذكرى
للأستاذ محمد كامل حته
أبى! كيفَ ماتَتْ مَعَاِني الرثاءْ ... عَلَى شَفتيَّ وَغُصَّ القلمْ!
وكيفَ احتواِني ذهولُ الفناءْ ... عَشَيَّةَ غُيِّبْتَ بَينَ الرِّممْ. . .
وأينَ الدموعُ، وأينَ البكاءْ ... يموجُ على شاطِئَيِه الألََمْ!
وأينَ الرثاءُ يَهُزُّ السماءْ ... وَيُدْمِى الجفونَ وُيذكِى الضَّرَمْ
تَأَبَّتْ عَلَيَّ فنونُ العزاءْ ... وَجَارَتْ عَلَيَّ همومُ العدمْ
فأَعْوَزَني يومَ مِتَّ الوَفاءْ ... وما أنا في الناسِ بالمنَّهَمْ
كأني وقد حُمَّ فيكَ القضاءْ ... ذبيحٌ تَحَشْرَجَ فيهِ النغمْ!
تُرَى كيفَ مَرَّتْ عليَّ الشهورْ ... وكيف انقضَى العامُ والآخَرْ
وكيف احتوانِيَ صَمْتُ القبورْ ... وأخرسني وَحْيُهَا الساخرُ!
وبي لوعةٌ من عذابِ السعيرْ ... تَلَظَّى بها القلبُ والخاطرُ
وما في بَيَاني وَنًي أو قُصُورْ ... ولي منْطقِي المسعفُ الهادرُ
لقد خدَعَتْني المنَى وهي زُورْ ... وغَرَّرَ بي الأملُ الغادرُ
فأقسمتُ: ساقي الردَى لن يدورْ ... على مهجتي كأسُهُ الدائرُ
فدارَتْ بيَ الكأس ظَمأَى تفورْ ... وَغُولُ الردَى مُطْبِقُ كاشِرُ!
هُوَ الموتُ قدْ رَوَّعَتْنِي رُؤاهْ ... فذابَ جَنَانِيَ في قَبْضَتِهْ
وَأَعْوَلَ فِي دُنْيَيَاتِي صَدَاهْ ... وَغَامَتْ حَيَاتي على صَفْحَتِهْ
فلمَّا تَقَشَعَ عَنِّي دُجَاهْ ... تَلَفَّتُّ، وَالقلبُ في غَشْيَتِهْ
فأَلَفيتُنِي فِي خِضَمِّ الحيَاهْ ... مَهِيضَ الشراعِ على لُجَّتِهْ
وَحِيدًا تُرَوِّعُهُ فِي سُرَاهْ ... هُمومٌ تَفَزَّعُ مِنْ وَحْشَتِهْ!
وَأَيْنَ العزاءُ، وكيف النجاةْ؟ ... سؤالٌ يُدَمْدِمُ في وَحْدَتِهْ
وأين أَبي؟ في جِوَارِ الإلهْ ... يُلقَّى الكرامة في جَنَّتِهْ!
إلى البدر. . .
للأديب محمد عبد السلام كفافي(428/37)
سميرك يا بدر الدجى كاد يغربُ ... ويحجبه من عالم الموت غيهبُ
أرانا تشابهنا فأنك في الدجى ... منار وإني في دجى اليأس كوكب
ونحن بنو أم كلانا سليلها ... ولكنَّنا فيها نُوَارى ونُحجب
فويلك إن أَلْقت عليك بظلها ... وويلي إذا ما في ثراها أُغَب
ولكن تخالفنا فأنت تعود من ... غروب ولن آتي إذا حان مغرب
وأنت صليب القلب لكنني فتى ... فؤادي بألوان الهموم معذّب
فكم بات قبلي سامرون مدى الدجى ... طوتهم من الماضي سنون وأحقب
تناجيك أشعار لهم وأهازيجٌ ... ويشجيك نايٌ خالد اللحن مطرب
وولوا ولم تحزن عليهم بدمعة ... ولكن على أجداثهم بت تلعب
حكيت فتاتي في الملاحة والسنى ... وتحكيك منها قسوة وتجنب
كأنك منها وهي منك تحدرت ... فليست إلى الأرضين تُنمى وتنسب
أراها على أفق الجمال تربّعت ... يداعبني منها شعاع محبّب
فيوهن بأسى حبُّها ويهدّ من ... قوى عزمتي والحب أقوى وأغلب
فويليَ يا بدران - إن مت - منكما ... فلا هي تبكيني ولا أنت تندب(428/38)
البريد الأدبي
1 - ما رأيكم في هذا الجواب؟
لأستاذنا الكبير (ا. ع) فضل في أقوال الكتاب والشعراء من التعابير
الدخيلة في اللغة الغربية. وهو يخصني بالعناية فيتناول كلامي بالنقد
من حين إلى حين، وإن كان في يأس من إصغائي إليه في كل وقت،
لأني أرى من حق الكاتب أو الشاعر أن يدير التعبير كيف يشاء، وفقاً
للصورة التي تتمثل في ذهنه وهو يساور بعض المعاني ولأغراض
ومن أغلاطي عند عبارة (من جديد) وهي كثيرة الدوران في كلامي، ويرى أستاذنا (ا. ع) أنها (من التعبيرات التي تسربت حديثاً إلى لغتنا، فتداولها الكتاب من غير تمحيص، ولا وزن لصحتها اللغوية، ولا لصلاحيتها لأن تندمج في الأساليب الفصيحة وتغدو جزءاً منها) ثم قال: (وما كنت أتوهم قط أنها تصل يوماً إلى أقلام البلغاء) وبعد أن رجح أنها (من التراكيب الإفرنجية الكثيرة التي شوهتها الترجمة السقيمة) تلطف فقال: (أفلا يرى معي حضرة الدكتور أنه يجدر بنا أن نحارب هذه الطفيليات في لغتنا، وأن نقضي عليها قبل أن يستشري فيها شرها؟)
واتفق أن صرفتني الشواغل عن الجواب فكتب الأستاذ بعد ذلك بأسابيع كلمة يقرر فيها أن عبارة (من جديد) لن تقتلع من اللغة إلا بعناء، وفوض أمره وأمر اللغة إلى الله!
فما رأي أستاذنا (ا. ع) فيمن يخبره أن اللغة العربية عرفت هذا التعبير قبل أكثر من تسعة قرون؟ ما رأيه في قول ابن رشيق وهو من أقطاب الأدب العربي:
قد أحكمتْ من التجا ... ربُ كل شيء غير جودي
أبداً أقول لئن كسب ... تُ لأقبضنّ يَدَيْ شديد
حتى إذا أثريتُ عُدْ ... تُ إلى السماحة من جديد
أيراني أجبتُ؟ إن لم يقتنع فسأرجع إلى مصاولته من جديد وإن اقتنع فأنا أنتظر منه جائزة سنية على هذا الجواب، والسلام
2 - مشكلة جديدة(428/39)
قبل ظهور العدد الماضي بثلاثة أيام قدمت الكلمة السابقة لمطبعة الرسالة، وراعني أن أجد أحد الأدباء سبقني بكلمة عن أبيات ابن رشيق، ولم تكن تلك الأبيات بعيدة مني، فهي من شواهد كتاب (الموازنة بين الشعراء) ولكن الحظ قضى بأن تكون (الجائزة السنية) من حق ذلك الأديب وقد وصلت كلمته قبل كلمتي
وهنا تظهر مشكلة جديدة تصورها الأسئلة آلاتية
1 - حكم الأستاذ الكبير (ا. ع) بأن عبارة (من جديد) لم تكن شائعة بيننا قبل نحو عشر سنين، فهل يؤمن بقيمة الاستقراء الفردي في اللغات؟
2 - وحكم بأنه ما كان يتوهم قط أن تصل هذه العبارة يوماً إلى أقلام البلغاء، فهل يتفضل فيشرح الأسباب التي تمنع وقوع هذه العبارة في كلام بليغ، ولو صح القول بأنها منقولة عن اللغات الأجنبية؟
3 - ورجح القول بأنها مترجمة عن الإنجليزية، وأقول إن لها نظيراً في الفرنسية، فهل يجب أن ننفي من لغتنا كل عبارة لها نظائر في لغات الأجانب؟
4 - قال أستاذنا (ا. ع) إنه جهد في أن يخرج هذا التركيب في مختلف أوضاعه تخريجاً سائغاً فلم يوفق، ثم قال: (قد يكون التقدير في عبارة الدكتور (من وقت جديد) أو (من شيء جديد) أو (من أمر جديد) مثلاً، ولكن كيفما قدرنا هذا الموصوف ألفينا الكلام غثاً لا معنى له)
ومن حقي أن أسأل أستاذنا عن الموجب لهذا التقدير وهو من صور التكلف والافتعال؟ يضاف إلى ذلك أن البحث عن أصول التعابير يضيع الغرض الأصيل وهو الإيجاز ويفقد التعابير حظها من الذاتية البيانية.
إن أجاب سعادة الأستاذ عن هذه الأسئلة بما يقنع فله عندي جائزة سنية، على شرط أن يخص السؤال الثاني بالعناية والاحتفال.
زكي مبارك
من جديد
اطلعت في العدد (427) من (الرسالة) على كلمة للأستاذ الفاضل محمود عزت عرفة،(428/40)
يعقب بها على ما كتبته في تخطئة قول بعضهم: (من جديد)؛ ويستشهد لعربية هذا التعبير بما رواه لابن رشيق في إحدى قصائده.
ولقد طربت - علم الله - لهذا التصويب، وإن كان لا ينزلنا منزلة اليقين؛ - كما قال الأستاذ - يميل بنا إلى الجزم بانتهاء هذا التعبير إلى العربية الصحيحة، ويبعد بنا عن فكرة أنه مترجم عن الإنجليزية لقدم عهده.
وإني أشكر للأستاذ إفادتي وخدمته للغة بكشفه هذا.
هدانا الله إلى السداد، وألهمنا الصواب فيما نقول ونعمل.
(ا. ع)
الذي حرك العالم!
تساءل الأديب الفاضل أحمد الشرباصي في العدد الخامس والعشرين بعد الأربعمائة من (رسالتنا الغراء) عن السبب في تسمية (الجاز) المستعمل في المنازل بأسماء مختلفة، فقال: إن الحكومة تكتبه في البطاقات التي تعطى شهرياً للجمهور باسم (الكيروسين)، وكتاب السياسة يسمونه (البترول)، والعامة تسميه (الجاز)؛ ويقترح الأديب أن يطلق عليه (النفط)، كما كان يسميه العرب وتسمى منابعه (النفاطات).
والواقع أن (الجاز) أحد مشتقات عديدة تستخرج من زيت معدني هو البترول، أي أن كلمة (الجاز) لا ترادف كلمة (البترول)، والعلاقة بينهما هي علاقة الفرع بالأصل. وأما كلمة (الكيروسين)، فهي ترجمة إفرنجية علمية صحيحة للجاز، وموضوع (البترول) موضوع كيميائي متشعب. والمكتبة الإفرنجية غنية بالمصنفات العديدة عنه نظراً لأهميته الحيوية لجميع الأمم، سواء المتحاربة أم المسالمة، فما من مصنع يشتغل، أو سيارة تتحرك، أو طائرة تحلق، أو قطار يسير، أو بيت يعمر بأهله، إلا كان للبترول ومشتقاته فضل كبير في ذلك: فمنه يستخرج بنزين السيارات والطائرات، ومنه تستوقد النيران في المنازل بالجاز، ومنه زيوت التشحيم بأنواعها المختلفة، ومنه زيوت الديزل والمازوت للوقود، ومنه الشمع، ومنه الإسفلت. وأما كلمة (الجاز) التي شاعت على لسان الجمهور فأغلب الظن أنها مأخوذة من أحد زيوت البترول المسمى جاز أويل وهو نوع خفيف من زيت الديزل ويستضاء(428/41)
به أيضاً.
وإذا كان قد جاء في المختار والقاموس والمصباح أن النفط ضرب من السرج يستصبح به، وأن النفاطة منبت النفط ومنبعه، فأظن أنه بعد التقدم العلمي في دراسة البترول وتقسيم مشتقاته لا يكفي. فعلى علماء المجمع اللغوي أن يحددوا اللفظ المقابل لكل من المواد السالفة الذكر، بعد أن اتضح أن الجاز شئ والبترول شئ آخر.
أحمد علي الشحات
كيميائي
استيضاح
في العدد (425) كتب الأستاذ الكبير (أ. ع) تعقيباً لغوياً على الدكتور زكي مبارك جاء في هامشه ما نصه: (ويكنى عن الأمر بكذا؛ إلا أن (كذا) تفرد إن لم يتعدد الفعل. قال في (المصباح): ويكون كناية عن الأشياء، يقال فعلت كذا، وقلت كذا؛ فإن قلت: فعلت كذا وكذا فلتعدد الفعل آه).
وفي هذا القول نظر، كما يقول الأسلاف إذ جاء في مختار الصحاح ما نصه: (تقول فعل كذا وكذا) و (تقول عندي كذا وكذا درهماً) وهذا يفيد جواز تكرار (كذا).
وقول المصباح: (فإن قلت: فعلت كذا وكذا فلتعدد الفعل) مبهم محتاج إلى توضيح، إذ لا نفهم معنى تعدد الفعل هنا؛ أيقصد تعدد الفعل من الفاعل، أم بقصد تعدد الفعل في الجملة وتقديره مضمراً يفسره المذكور، أم ماذا؟ مع ملاحظة أن المصباح نفسه قد أورد قبل ذلك في المادة نفسها هذه الجملة: (يقال اشترى الأمير كذا وكذا عبداً).
فهل يتفضل الأستاذ الكبير (أ. ع) بتوضيح ذلك وتبسيطه لعامة القراء؟
(البجلات)
أحمد الشرباصي
في اللغة
طالعت بجريدة الأهرام صباح الأحد كلمة (هناء) في مقال بإمضاء (مصري) وتحت عنوان(428/42)
(يا أولياء الأمور) وقد سبق أن أنكر الباحثون وجود تلك الكلمة في اللغة وقالوا إن الصحيح (هناءة) لا (هناء) فهل يتفضل العلامة وحيد بك بما يؤكد الخطأ أو الصواب. ولحضرته الشكر.
(ع. ع)(428/43)
القصص
ذَهَبْ آلْ هُوهِنِزْلَرِنْ
تأليف الكاتب الإنكليزي س. فورستر
للأديب سيد إبراهيم البكار
عندما كان ابن عمي بريان طالباً بالطب، كان كثيراً ما يختلف إلى منزلي، وخاصة عندما يكون في حاجة شديدة إلى النقود. أما الآن وقد أصبح طبياً ناجحاً فلم أعد أراه أو أسمع صوته. لذلك كانت دهشتي شديدة، عندما دق جرس التليفون في أحد الأيام وكان المتكلم بريان. وسألني عما إذا كان في استطاعتي أن أستغني عن جزء من وقتي ليواضعني الرأي في أمر هام. وقد انتهى حديثي معه بأن دعوته إلى العشاء.
ومع أنني كنت مشغولاً إذ ذاك بعرض إحدى رواياتي على مسارح لندن، ومنهمكاً في درس تفاصيل اتفاق مع إحدى الشركات السينمائية على شراء رواية أخرى، فإني كنت مشتاقاً إلى رؤية بريان، وقضاء بعض الوقت معه. فقد كان شاباً ظريفاً، يتفجر حيوية ونشاطاً.
وكان لبريان مقدرة عظيمة على ضبط نفسه، فلم يكلمني في ذلك الأمر الهام حتى فرغنا من تناول العشاء وشرب القهوة. وفي أثناء ذلك أخذ يسألني بكل أدب عن الرواية والفلم، وعن مدى نجاح مسرحيتي الجديدة. ولم يكن عجيباً أن يلقبني بريان بالعم فقد درج على ذلك منذ صغره، ولم أكن من ناحيتي أرى غضاضة في ذلك، بل كنت أعتبر هذا شعوراً طيباً منه نحوي. ولما فرغ بريان من إشعال سيجارته سألته عن ذلك الأمر الهام الذي كلمني عنه في التليفون.
قال بريان: حسن يا عمي، كل ما أريده منك أن تصحبني في رحلة على ظهر الدوليسينيا. والدوليسينيا هو الاسم الذي أطلقه على يختي الخاص.
قلت: يا طفلي العزيز، لقد كنت تتكلم الآن عن الرواية والفلم. وأنت تعرف أني أريد أن أنتهي منهما. وعلى ذلك لن يكون في استطاعتي أن أستغني عن دقيقة واحدة في ستة الأسابيع القادمة.(428/44)
قال بريان: حسن، هذا ما كنت أخشاه، فبعد ستة أسابيع يكون الوقت قد مضى، وأنت تعرف أن الملاحة في الدانوب تتعطل في أثناء الشتاء.
- الدانوب؟ وأين تريد أن تذهب؟ ولماذا؟
- أنت ترى، ولكن يحسن بي أن أتكلم من البداية.
- إن هذا يكون أكثر إيضاحاً.
- لقد بدأت هذه القصة منذ أسبوعين مع أحد مرضاي وهو بحار ألماني ظريف يدعى (باير). وكانوا قد حملوه إلى المستشفى من الميناء، إذ أصابته إحدى الرافعات إصابة خطرة. وقد بلغت ما في وسعي لإنقاذه فنلت بذلك ثقته، وقد ساعدني على ذلك معرفتي باللغة الألمانية. وقبل وفاته بقليل أرسل إحدى الممرضات لاستدعائي - ولحسن الحظ كنت موجوداً حينئذ في المستشفى - وأخبرني عن الكنز.
- الكنز؟
- نعم، الكنز. إنها تبدو لك رواية خيالية. وقد فكرت فيك وهو يقص عليّ تلك القصة العجيبة. ألا ترى معي أنها كذلك؟ البحار الذي يحتضر يقص على الدكتور الطبيب في المستشفى قصة الكنز المخبوء، إنما كان ينبغي أن تكون مع البحار خريطة يبين عليها مكان الكنز.
- وهل كان معه؟
- كلا ولكن ما قاله يكفي. لقد قال إنه كان جندياً في الحرب العظمى، ولم يشتغل بالملاحة إلا أخيراً. وقد كان أحد الحراس الثلاثة الذين أرسلته الحكومة الألمانية لحراسة مقدار من المال أرسلته إلى بلغاريا أثناء الحرب. وقد عهد إلى أحد الضباط حراسة العربة المملوءة بالمال. ولما كانت أرض بلغاريا أرض صخرية وعرة، فقد وصلوا إلى هناك متأخرين. وأنت تعرف أن بلغاريا كانت أسبق الدول التي بادرت في التسليم.
- نعم. هنا صحيح. ولا زلت أعجب كيف أن الشبان الذين لم يكونوا إلا صبية صغار في سنة 1918 يعرفون عن معركة هاستنج أكثر مما يعرفه آباؤهم وأعمامهم الذين خاضوا غمارها وذاقوا ويلاتها.
وعاد بريان يقول: لقد كانوا قريبين من الحدود عندما سلمت بلغاريا. ولما سمع الضابط أن(428/45)
جيشاً إنجليزياً كان في طريقه إلى صوفيا أمر بتحويل عربة الكنز إلى خط آخر، ووصلها بالقطار الذاهب إلى ألمانيا. ولم يكن سيرهم سريعاً، لأن خطوط السكك الحديدية كانت غير منتظمة. وكانوا لا يزالون في هنغاريا عندما سلمت النمسا أيضاً.
قلت: هذا معقول جداً. فالنمسا كانت ثانية الدول التي سلمت
واستطرد بريان يقول: وهكذا كانوا هناك مع عربة من عربات السكك الحديدية ملأى بالذهب. ولم يكونوا قادرين على التقدم ولا على الرجوع. وكان عليهم أن يعملوا عملاً حازماً سريعاً. ومما حملهم على ذلك أيضاً أن التشيك والرومانيين كانوا يسيرون في اتجاههم. وكان الإيطاليون يتقدمون نحو فينا. وبالطبع لم يكن الضابط يريد أن يستولي الخلفاء على ذلك الكنز ولذلك دفنوه.
قلت: وهل أخبرك أين دفنوه؟
- بالطبع. فقد وقف قطارهم عند تل عال يقع بالقرب من قرية تسمى (ديللنجن) على نهر الدانوب. وعلى قمة هذا التل صليب تذكاري. وقد تعاون الضابط وباير والرجل الثالث على إخراج الذهب من العربة، وحملوه ليلاً إلى أعلى التل، ودفنوه هناك على عشر خطوات من الصليب المذكور.
وقد قال لي باير إن المال كله كان في صناديق حديدية، من بينها اثنان لم يستطيعوا حملهما إلا بصعوبة.
- وهل تظن أنه كان يقول الحقيقة؟
- نعم. . إني متأكد من ذلك تأكدي من جلوسي هنا معك.
- ولكن هذا لا يعني أن الكنز لا يزال هناك.
- صبراً. فسأخبرك عن كل شئ في وقته، فبعد أن دفنوا الكنز رحل الثلاثة: باير، والضابط، والرجل الثالث، قاصدين بلادهم. وقد كان رجوعهم شاقاً، فقد كانت هناك ثورات في كل مكان؛ وكانت آثار التخريب والدمار بادية في كل قرية.
- نعم هذا صحيح، فقد شاهدت بعيني ما حدث في دول أوربا الوسطى بعد الهدنة بقليل.
- وعلاوة على ذلك لم يكن مع أحدهم الغذاء الكافي. وكانت العدوى الأنفلونزا منتشرة في ذلك الوقت، وقد أصيب بها الرجل الثالث فمات في فينا. وبقى باير والضابط. ولما وصلا(428/46)
أخيراً إلى ألمانيا كانت الحرب هناك قد انتهت أيضاً؛ ولكن كانت هناك فتن وقلاقل داخلية. وبينما كانا خارجين من محطة السكك الحديدية في درسدن قذف شخص مجهول قنبلة أصابت من الضابط مقتلاً. وأصيب باير بجروح لم تكن خطرة على كل حال، فقضى هناك بعض الوقت حتى التأمت جروحه، ولما ثابت إليه صحته صمم على أن يحتفظ بسر الكنز لنفسه وألا يخبر به أحداً ما داموا لم يسألوه عنه. فقد نسى الجميع كل شئ عن هذا الكنز وسط القلق والاضطراب والثورات القائمة.
- ليس هذا بعجيب.
- حسن. منذ ذلك الوقت وباير يبحث عن طريقة يحصل بها على هذا المال؛ ولكن لم يكن ذلك بالشيء اليسير، إذ يجب عليه أن يجتاز بعض الحدود، ويتعرض للشبهات والظنون. وفضلاً عن ذلك فإن هذه الرحلة الطويلة الشاقة تتطلب كثيراً من النقود ولم تكن النقود متوفرة لديه. وكان يخاف أن يطلب معونة أحد حتى لا يطلعه على سره. لذلك أخذ يتنقل من عمل إلى آخر، منتظراً حدوث معجزة تدنيه من غرضه. ولكن لم يتحقق حلمه، فقد كان آخر عمل له أنه كان بحاراً على ظهر السفينة الألمانية، ولم يعش طويلاً؛ فقد مات بعد أن قص على هذه القصة.
- وهل سمعه أحد وهو يخبرك بهذه القصة؟
- كلا. إن هذا مستحيل. ومع ذلك فقد كان يكلمني باللغة الألمانية.
- حسن، كل شئ يكاد يبدو حقيقياً، ولكن ما هي خطتك؟
- أريد أن نركب الدوليسينيا إلى هناك، ويمكننا أن نبحر إلى أعالي نهر الرين، ونعبر القناة الواصلة بين الرين والدانوب.
- يا إلهي! لقد نسيت كل شئ عن هذه القناة.
- ومن ثم ننزل إلى الدانوب، من فينا، وبعد ذلك ترسى عند ديللجمة، ثم نحمل الكنز ليلاً إلى اليخت. وأنت تعرف أن اليخت أكثر صلاحية لتخبئة الكنز من السيارة. ولن يرتاب فينا إنسان أو يشك في الأمر أحد.
- هه!
- ستأتي معنا. أليس كذلك؟ سنكون أنا ودوروثي مسرورين بمجيئك.(428/47)
- دوروثي؟ يا للشيطان! وما الذي أدخل دوروثي في الأمر؟ ودوروثي هي خطيبة بريان.
- نحن على وشك الزواج، وستكون هذه الرحلة بمثابة شهر العسل لنا.
- فليبارك الله نفسي. هل تظنني أصحبكما وأتطفل على زوجين في شهر العسل؟
- لكننا لا نبالي بذلك.
- ربما لا تبالون أنتم بالأمر؛ ولكني أنا أبالي. إني أفضل أن يختل عقلي - كما أتوقع لنفسي - بهذه التجارب وهذا الفلم. أما أنت فخذ اليخت، ولكن لا تسألني أن أصحبكما.
- أشكرك يا عمي. ستأخذ نصف الكنز. هل تقبل؟ إننا سنستخدم يختك كما تعلم.
ردني ما قاله إلى عالم الحقيقة مرة ثانية. لقد رن كل شئ في أذني معقولاً إلى الآن. ولكن عندما أخذت أنظر في الأمر عن كثب بدا لي كل شئ أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة الواقعة. فاكتشاف الكنز المخبوء لا يكون إلا في القصص والروايات.
وقطع على بريان سلسلة تأملاتي بقوله:
- كم تظن من المال هناك؟
قلت: أنا لا أعتقد أن دولة كبيرة كألمانيا ترسل إلى بلغاريا في أثناء الحرب أقل من مليون جنيه. أليس كذلك؟
وتناولت ورقة وقلماً وأخذت أحسب.
- كل شئ حسن. لقد حسبناها أنا ودوروثي. نحن نستطيع أن نحمل مليون جنيه على ظهر الدوليسينيا بكل سهولة.
وأخيراً اتفقنا على كل شئ. سأضع يختي تحت تصرف بريان؛ وعندما يأتي بالمليون سيعطيني عشر هذا المليون. وأنا أعتقد أن مائة ألف جنيه تكفي عجوزاً مثلي لكي يقضي بقية حياته في هدوء واطمئنان. ويستطيع بريان أن يأخذ باقي المليون، وإذا لم يستطع إنفاق كل هذا المال فعليه أن يعيد بناء مستشفى لندن. وكنت أعرف أن بلاد الدانوب مليئة بالفتن والقلاقل، وأنهم سيتعرضون لكثير من المخاطر. فلما أبديت مخاوفي إلى بريان ابتسم وقال:
- إن دوروثي تحب المغامرات، وهي تخوض المخاطر بشجاعة منقطعة النظير. وعلى كل حال نحن نعرف كيف نحتفظ برؤوسنا سليمة، فلا تخف.(428/48)
وأخذنا نتناقش في بعض التفصيلات الخاصة بالرحلة، وإعداد العدة لها، ولم يبرح بريان منزلي إلا بعد الساعة الرابعة صباحاً.
وأخيراً أتى اليوم السعيد، يوم زواج بريان ودوروثي. ولم أستطع التخلص من مشاغلي إلا بصعوبة. وما صدقت أني أصبحت حراً طليقاً، من أوامر الأستديو، وقيود التجارب في يوم بأكمله، حتى قصدت الكنيسة حيث أقيمت مراسيم الزواج، ووقعت باسمي شاهداً في السجل الخاص بالزواج، ثم قدت العروسين السعيدين إلى مرسى الدوليسينا. كان أمامي ستة أسابيع قبل أن أراهما ثانية. ولا أقول إن هذه الستة أسابيع مرت ببطء، أو إني قضيتها على أحر من الجمر، فقد كانت مشاغلي كثيرة. كان أمامي الرواية المسرحية، ومضايقات التجارب التي لا تنتهي؛ ثم هناك أيضاً الفلم، ولا تستطيع من يشتغل بإخراج فلم أن يجد من وقته لحظة واحدة يقضيها في هدوء وسلام. وعندما انتهى الفلم وأصبح صالحاً للعرض، كان لا يزال على أن أنتهي من هذه الرواية بسرعة، وقد انتهيت منها في الوقت الذي تعهدت بتقديمها فيه إلى الناشر. وعندما انتهيت من هذا كله أحسست كأن عبئاً ثقيلاً أزيح عن عاتقي. ومن ثم أخذت أفكر طويلاً في الدوليسينا، وكنت أتخيلها وهي تأخذ طريقها عبر القناة بين مرتفعات بافاريا، ثم أتخيلها وهي تندفع مع التيار في نهر الدانوب؛ ثم أتخيلها وهي تثير شكوك البوليس في سبع دول مختلفة.
وكنت أواظب في أثناء ذلك على قراءة الجرائد الأجنبية. ولكني لم أعثر فيها على أي نبأ بالقبض على زوجين إنجليزيين بتهمة التجسس أو سرقة كنز. ولكنني مع ذلك أخذت أتضايق، وأوشك صبري أن ينفذ عندما سمعت جرس التليفون يدق فجأة، وكان الترنك يناديني من سوثهامبتن.
- هالو! عمي! لقد رجعنا ثانية. وكان الصوت صوت بريان.
قلت: وهل أنتما بخير؟
قال: نعم وقد وجدنا الكنز.
وصحت فجأة: وجدتما ماذا؟
- وجدنا الكنز كله سليماً. ألم أقل لك إني سأجده؟ سأخبرك بكل شئ في هذا المساء. نحن الآن في المحطة على وشك ركوب القطار إلى المدينة.(428/49)
وربما كان أول ما خالج نفسي من مشاعر هو الاطمئنان لعودتهم سالمين، ولكن مع هذا طغى على فضول هائل لمعرفة كل شئ عن الكنز. وقد كنت ما أزال في ريب من أن هذه المغامرة قد انتهت بهذه السهولة. وعهدي بالمغامرات أنها لا تتحقق إلا في الروايات الخيالية التي كنت أؤلف منها العدد الكبير. كنت في الحقيقة بين الشك واليقين، وكنت في اضطراب ذهني، وقلق فكري، عندما أتى بريان ودوروثي لينقذاني مما أعاني.
قلت عند رؤيتهم: حسن؟
قال بريان: نحن مسروران لرؤية عمي المؤلف العظيم.
وقالت دوروثي: لقد رأينا ونحن في التاكسي جموع الجماهير المحتشدة وهي تتزاحم على شراء التذاكر لرؤية مسرحيتك الخالدة!
قلت: لعنة الله على المسرحية، لنتكلم عن الكنز أولاً.
قال بريان: حسن، ولكن أسمح لي أولاً بشيء من الشراب يا عمي.
وأحضرت إليه ما طلبه، ثم أخبرت الخادم أن الدكتور والمسز سومرست سيبقيان للعشاء. ثم استدرت نحوهما وقلت: حسن.
وابتدأ بريان يقول: لم تكن رحلة رديئة بالنظر إلى الدين كانوا يرافقونني.
ورمته دوروثي بمخدة صغيرة.
قلت وقد شعرت بالغضب لتدخلها: لا تكوني طفلة حديثة الزواج هكذا! اتركي هذا الطفل الأحمق يقص قصته بطريقته الخاصة.
وعاد بريان يقول: لم تكن الرحلة تستحق الذكر. إلا أن النهر كان مليئاً بالقوارب الكبيرة والجرارات الضخمة التي كانت تحدث صوتاً عالياً، حتى أنك لا تستطيع أن تسمع كلامك نفسه؛ وقضينا يومين على هذا الحال. أما اليخت فيجب عليك يا عمي أن تضع فيه ماكينة فاخرة بعد ذلك. لقد كنت أقول دائماً إنك ستستعمل اليخت عاجلاً أو آجلاً.
قلت بضيق: سأفعل ذلك في المرة القادمة.
- هذا عن نهر الرين. أما الملاحة في الدانوب فقد كانت حسنة. إنه نهر واسع جميل، وكانت الرياح تساعدنا، وكانت الأمواج هادئة، وبعبارة أصح كانت الرحلة موفقة. آه، لقد نسيت أن أخبرك عن العبور من هولندا إلى ألمانيا. كان علينا أن ندفع. . .(428/50)
قلت وقد نفذ صبري: أنا لا أهتم بما تدفعه. استمر في قصتك.
- حسن، لقد عبرنا تشيكوسلوفاكيا والنمسا والمجر، وكان كل من يرى الراية الزرقاء ترفرف على اليخت لا يفهم السبب الذي حدا بيخت إنجليزي خاص إلى المجيء إلى أواسط أوربا، ولكنهم اعتادوا رؤيتنا فلم يسببوا لنا متاعب عند رجوعنا أخيراً بالذهب؛ وكان كل مكتب جمارك يدعونا ليلقي علينا بعض الأسئلة عن المكان الذي أتينا منه، وعما نفعله، وإلى أين نحن ذاهبان، وكان أكثرهم يتظاهر بأنه لا يعرف الألمانية.
قلت وقد عيل صبري: لعنة الله على الألمانية! ألم تذهب أخيراً إلى ديللنجن؟
- نعم في آخر الأمر، وكان أول شئ بدا لنا من ديللنجن هو الصليب التذكاري على المرتفعات القريبة من الماء. وكان هناك خط حديدي بجوار التل كما قال باير تماماً؛ وكان علينا أن نذهب إلى الشاطئ ونعبر شريط القطار، ثم نصعد إلى قمة الجبل، ولما وصلنا إلى ذلك الصليب التذكاري خطوت عشر ياردات إلى الشمال منه، وكان كل شئ حسناً.
- ماذا تعني بقولك حسن؟
- لقد قال باير الصدق، فقد كان هناك كثيب صغير من الرمال وحشيش نام لا يلاحظه إلا من يعرف مكانه بالضبط.
وعلى ذلك فقد رجعنا إلى اليخت، وانتظرنا إلى أن أتى الليل، وكان الانتظار طويلاً ومملاً، إذ كان يلوح لنا أن الوقت لا يتقدم. ولما خيم الظلام على الكون، ذهبنا إلى الشاطئ ثانية. . . وكنت قد اشتريت مجرافاً أثناء مروري بمدينة فينا، فأخذناه معنا واجتزنا شريط القطار، وكان قطار الشرق السريع الآتي من استامبول يمر في ذلك الوقت. . . فانتظرنا حتى مر، ثم ارتقينا التل في الظلام. ولم يكن من السهل العثور على ذلك الصليب التذكاري في هذا الظلام الشامل. . . ولكن كان من حسن حظنا أننا قد أتينا إلى هذا المكان في النهار. . . فجلست القرفصاء، وأخذت أتحسس الأرض لكي أعثر على كثيب الرمل. . . ولما وجدته بدأت أحفر في ذلك المكان. . . ولم أحفر كثيراً، فبعد أن حفرت ثلاث بوصات بدأ المجراف يحدث صوتاً مسموعاً نجم عن اصطدامه بشيء معدني، وكان ذلك الشيء صندوقاً حديدياً كبيراً. . . وبذلنا أنا ودوروثي مجهوداً كبيراً حتى أخرجناه من الحفرة. . .!(428/51)
وكان هناك صناديق أخرى في تلك الحفرة. وكنت أعرف أننا إذا أخرجناها كلها من الحفرة فلن نجد الوقت الكافي لكي نحملها إلى اليخت قبل طلوع النهار. وهذا يعني أن بعضها سيبقى على التل إلى النهار، وسيظهر الناس على حقيقة الأمر كله. لذلك آثرنا أن نحمل هذا الصندوق أولاً، ثم نحمل بقية الصناديق في الليالي التالية. وعلى ذلك، فقد ردمنا الحفرة بمهارة ورجعنا إلى اليخت بالصندوق الأول، وكان ثقيلاً. وقد حدث أن وقع على قدمي، وكشط الجلد كله، وكانت دوروثي هي السبب في ذلك. . .
وصاحت دوروثي معارضة: كلا، لست أنا. . .
وصحت غاضباً: كوني هادئة، أيتها الطفلة. . .
وعاد بريان يقول: حسن، بعد ما اجتزنا شريط القطار أوصلنا الصندوق إلى اليخت بواسطة قارب، ثم وضعناه أخيراً في الكابينة، وكان أمامنا وقت كاف لكي نحضر صندوقاً آخر، ولكننا آثرنا أن نفتح ذلك الصندوق أولاً لنرى ما بداخله.
وكأنما تعمد بريان مضايقتي، لأنه اختار هذه اللحظة بالذات لكي يشعل سيجارته، ولكنني امتنعت عن أي معارضة وانتظرت بفارغ الصبر حتى انتهي من هذه العملية وعاد يقول:
- ولم يكن فتح الصندوق بالشيء الصعب، فقد كان القفل قديماً قد أتلفه الصدأ، فلم نجد صعوبة في كسره، وكان. . .
فقاطعته وأنا أقول بلهفة: وماذا وجدتم في الداخل؟
- وجدنا المال الذي قال عنه (باير)؛ ولكنه كان أوراقاً مالية، وبالطبع كانت هذه الأوراق من الطبعة التي أصدرتها ألمانيا أثناء الحرب. وكان في الصندوق نصف مليون فرنك إن لم يكن أكثر؛ وأظنك اشتريت لي أوراقاً من هذا النوع بعد الحرب مباشرة لكي ألعب بها، وفي الوقت الذي خرجت فيه هذه الأوراق من دائرة التعامل، كان المائة ألف منها تساوي بنساً واحداً على ما أظن!
سيد إبراهيم البكار(428/52)
العدد 429 - بتاريخ: 22 - 09 - 1941(/)
الأدب والإصلاح
للأستاذ عباس محمود العقاد
أشار الدكتور زكي مبارك إلى حديث لي لخصته صحيفة العزيمة الأسبوعية بقلم مراسل من مراسليها ولخصه الدكتور في قوله إن الأدب ينبغي (أن يكون للأدب، فلا يكتب الكاتب غير ما يوحي به الطبع، وهو يعني بالحقائق الخالدة؛ أما المشكلات التي تتعلق بالطبقات المختلفة فهي مشكلات وقتية يناط تدبيرها بالرجال الإداريين)
ثم قال الدكتور: (أما بعد فهذه، مشكلة من أصعب المشكلات، وللأستاذ عباس العقاد أن يوضح رأيه كما يشاء)
ورأيي في هذا الموضوع الذي يستحق التوضيح إن الأديب لا يغض من أدبه أن يكتب في مسائل الاجتماع والإصلاح الموقوت، ولكن الكتابة في هذه المسائل ليست شرطا من شروط الأدب وليست حتما لزاماً على كل أديب
لان الأدب التعبير، والتعبير غاية مقصودة، وغاية كافية، وغاية لا يعيبها أن تنفصل عن سائر الغايات
ولا فرق بين الأديب المعبر بنظمه ونثره وبين الموسيقي المعبر بألحانه ونغماته. فكلاهما يصف النفس الإنسانية في حالة من حالاتها، وكلاهما مستقل بوحيه لا يشترط فيه أن يتعرض لعمل المصلح الاجتماعي أو الباحث الأخلاقي أو الناظر في مشكلات الثروة وشؤون المعيشة
وإنما جاء اشتراط البحث الاجتماعي أو الاقتصادي على الأدباء وأصحاب الفنون بدعة من بدع المذهب الاشتراكي في العصر الحديث، وهو مع هذا نقيض الدعوة الاشتراكية في الأساس والصميم
لان الدعوة الاشتراكية تستكثر على الفقراء أن يستغرقوا حياتهم في طلب القوت والاشتغال بأعباء المعيشة، وترى أن الحياة الصالحة هي الحياة التي يقل فيها جهد العمل، وتكثر فيها فرص المتعة بالنعيم
فإذا كان هذا هو رجاءها الأعلى وغايتها القصوى، فمن اعجب العجب أن تجعل الخبز وضرورات المعيشة شاغلا لكل عامل وقائل، ومحوراً للأحلام والآمال، وفريضة لا يعفى(429/1)
منها أحد من الناس حتى الذين وكلتهم المجتمعات الإنسانية منذ كانت إلى التجميل والتزيين وتذكير أبناء آدم بأنهم نفوس وألباب لها مطالب في بعض ساعاتها غير مطالب المعدات والجلود! وأكبر من مطالب السوائم والحشرات
ماذا نقول! أنقول السوائم والحشرات؟ كلا معاذ الله أن نتهم السوائم والحشرات بالاستغراق في المطاعم والمعدات، فإنها تعلمنا ما يجهله غلاة الاشتراكيين، ويريدون منا أن نغفل عنه ونتعلم نقيضه: تعلمنا أن الجمال، وأن الطعام ضرورة مفروضة وليس بالحياة كلها ولا بالشاغل الذي يستوعب كل حي في كل ساعة في كل عمل وكل مسعاة: تعلمنا إنها تغني وتمرح وتلعب وتحير الشمس والقمر، وتلوذ بالأعشاب والأزهار، ولا تدين نفسها بدين الخبز والمعدة إلا ريثما تفرغ من هذه السخرة والمفروضة عليها أو هذا العبء الذي يثقلها ويعطلها عن سرورها ونشوتها
ونحن إذ نقول هذا لا نجهل ما يقوله الاشتراكيون إذ يستخفون بالفنون والآداب التي تناط بالجمال الخالد ولا تناط بالمنافع الموقوتة. فإنهم يزعمون أن الجوع أولى بالتفكير والتعبير من هذه المطالب التي يسمونها بالكماليات وهي هي كما أسلفنا طلبة الحياة وطلبة جميع الأحياء
وحسن ما يقولون أو فليكن حسناً كما يشاءون، ولكن الأمة التي لا تستطيع أن تفرغ من حياة جميع أبنائها بعض ساعات لبعض هؤلاء الأبناء يشبعون فيها مطالب الجمال، هي أمة لا تستحق الطعام ولا تستحق الوجود. فبحسب الفرد عشر ساعات من الأربع والعشرين للكد والكدح وطلب المعاش؛ وبحسب الأمة تسعة ملايين وتسعمائة وتسعة وتسعون ألفاً من عشرة ملايين بين أفرادها يكدون ويكدحون لمعاشها. وغير كثير بعد ذلك ألف أو اقل من ألف يذكرونها الجمال ويعبرون لها عن أحلام الحياة التي يعطيها الطير والحشرة وتعطيها الضارية والبهيمة كل ما استخلصته من براثن الضرورات
لا بل نزيد على ذلك أن الألف الذين يذكرونها الجمال ويعبرون لها عن أحلام الحياة لا يخلون من فائدة في باب الخبز والطعام إذا نظرنا إلى النتائج والحقائق ولم نقصر النظر على البوادر والعناوين
فالشاعر الذي يفتن المرء بجمال الزهرة، يرفعه من معيشة الذل والشظف، ويجعل قناعته(429/2)
بالدون والسفساف ضرباً من المستحيل. وفكتور هوجو لم يكن من أصحاب البرامج الاجتماعية، ولكنه وصف البؤس والظلم فأغنى عن البائسين والمظلومين ما لم يغنه الدعاة المنقطعون لما يسمونه: مشاكل المجتمع وبرامج الإصلاح. وكل نغمة موسيقية تعبر عن شوق إنساني هي خبز لا يحسن بالإنسان أن يحتمل جوعه ويصبر على فقده، لان عدم الخبز الذي تطلبه المعدات فقر وعوز. أما عدم الخبز الذي تطلبه الأرواح، فهو مسخ وحرمان من الأذواق والأخلاق
ويكثر الاشتراكيون من ذكر الاقتصاد، ويحسبون الدنيا بحذافيرها اقتصادا في اقتصاد، وهم يخالفون قواعد (القصد الطبيعي) فيما يشيرون به على نوابغ الأدب والفنون، لأنهم يطلبون من العبقريين الموهوبين عملا يقوم به من ليست لهم عبقرية فنية ولا ملكة أدبية، إنما يغنى فيه من درسوه وحذقوه وتفرغوا لإحصاءاته وقواعده ومقابلاته ومقارناته، ونريد به بحث المسائل الاجتماعية، ومسائل الفقر والغنى، وتوزيع الثروة ونظام الطبقات. فهذه موضوعات لا حاجة بها إلى عبقريات هوميروس وابن الرومي والمتنبي وشكسبير وبيرون؛ ولا تخسر شيئا إذا أقبل عليها من خلقوا لها وانقطعوا للإحاطة بمعارفها وأصولها، ولكن العالم الإنساني يخسر أولئك العبقريين إذا وقفوا ملكاتهم على مسائل يوم أو مسائل امة، لن تصبح بعد يوم آخر ولا بين أمة أخرى. . . في حين إن الذي كتبوه لا يزال شاغل بني الإنسان في جميع الأيام وبين جميع الأقوام
فليس من القصد الذي يترنم به الاشتراكيون أن تصرف عبقرية من عمل تحسنه، وتحيلها إلى عمل يتولاه غير العبقريين وغير الموهوبين، وإنما هو خلط في التوزيع يعاب لما فيه من سوء الوضع فوق ما يعاب لفشله وقلة جدواه
ويستطرد بي هذا المقال في (الرسالة) للأستاذ رمسيس يونان، ينحلني فيه كلاماً لم أقله ولم أقل ما يؤديه؛ بل قلت ما هو نقيضه على وجه صريح لا محل فيه لتأويل
فالأستاذ رمسيس يونان يروي الحقائق عند العقاد ومنها (أن الأمان كل الأمان، خطر على الهمم والأذهان، وانه لو اطمأن كل فرد إلى قوته وكسائه، فقدنا من بني الإنسان العنصر المقتحم المغامر)
ثم يقول: (ولو صدر هذا القول من إسماعيل صدقي مثلا لعذرناه، ولكن الغريب حق أن(429/3)
يصدر من العقاد. فكيف يستطيع العقاد الشاعر أن يقول انه لا تكون مغامرة أو اقتحام إلا حيث يكون طلب الرزق، وإن الإنسان لا يغامر في سبيل غرام أو في سبيل كشف علمي أو إنتاج فني؟! ولماذا لا نقول إن روح المغامرة إذا تحررت من هموم العيش وأعباء الثروات، فسوف تكتشف لنفسها ميادين وآفاقاً جديدة هي اجدر بعواطف الإنسان؟!)
والعجيب كما أسلفت أنني صرحت بنقيض هذا الكلام في مقالي عن المال الذي يناقشه الأستاذ رمسيس يونان. فقلت: (إن طلب المال كطلب العلم فطرة لا تتوقف على التوريث ولا على ما يعقبه الأباء للأبناء؛ وقد يهمل الإنسان رزقه ورزق أبنائه ليتابع الدرس ويتقصى مسألة من مسائل العلم والمعرفة. . . وإنما تفسر أعمال الإنسان بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات. وإذا قيل لنا أن فلانا يجمع المال لأنه يخاف عاقبة الفقر، قلنا: ولماذا يخاف هذه العاقبة التي لا يخافها غيره! إنه لا يخالف غيره إلا لاختلاف البواعث النفسية دون الاختلاف في الغايات. . .)
هذا كلامي فكيف فهمه كاتب المقال عن الفقر ومسألته الاجتماعية؟!
فهمه على أسلوب الاشتراكيين في فهم كل شيء؛ وأسلوبهم انهم يفهمون ما يروقهم، وأن الذي يروقهم هو المناوأة والإنكار، وعلى هذه السنة ينكرون العصامية كما ينكرون الغنى، ويسمون الفقر مسألة اجتماعية ليريحوا أنفسهم من العطف على الضعفاء، فلا هم يطيقون الممتازين بالفضل أو الثروة، ولاهم يشعرون بالعطف الصحيح على المحرومين من النبوغ والمال. وماذا يفيد العطف كما يقولون؟ أليست هي مسألة اجتماعية لا دخل فيها للشعور والرحمة؟!
وكأننا إذا قلنا أن الفقر داء اجتماعي يعالج كما تعالج الأدواء الاجتماعية خرجنا به من طريق العلاج. . . وكأنهم إذا قالوا إنه مسألة وليس بداء فرجوا أزمة الفقر أو اقتربوا بها من التفريج على أن الحقيقة إن الدنيا لن يزال فيها الفقراء والأغنياء، ولن يزال فيها الأذكياء والأغبياء، ولن يزال فيها الأخيار والأشرار، ولن يزال فيها السمان والعجاف والطوال والقصار والأقوياء والضعفاء. وآفة الاشتراكيين انهم لا يعيشون ويتعرضون مع هذا لعلاج مسألة العيش. . . فحياة كارل ماركس الشخصية تكتب في صفحتين، وكذلك حياة لينين وستالين وإخوانهم اجمعين. ولو عاشوا لفهموا العيش غير هذا الفهم وعالجوه(429/4)
غير هذا العلاج
فقوانين الحياة سابقة لقوانين الأجتماع. وقوانين الحياة هي التي أوجبت بين الناس هذا التفاوت في الأرزاق كما أوجبته بين الحيوان والنبات. وعبث أن نعلق الرجاء بالمستحيل، فلا انتهاء للتفاوت في مطبوع ولا في مكسوب. وغاية ما نستطيع أن نمنع الفقر الذي يشقى به من لا يستحقه، وان نرفع طبقة الفقراء بالقياس إلى الأغنياء، وأن نجعل للأمم نصيباً من ثروة الأفراد
أما محو التفاوت في الكسب فلا سبيل إليه، وليست كلمة (مسألة) بالتي تخلق سبله لو كان إليه سبيل.
عباس محمود العقاد(429/5)
خلاصة من كتاب:
الحروب الحاسمة في التاريخ
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
(من (أحاديث القهوة) حديث دار بيننا عن هزيمة ألمانيا المنكسرة في الحرب الماضية وأسبابها الظاهرة والباطنة؛ فقال الأستاذ السلحدار - ومن عادته أن يجعل لكل حديث نتيجة - إنه قرأ في هذا الموضوع كتاباً له قيمة وفيه ثقة؛ ثم لخص لنا رأي المؤلف فكان فصل الخطاب ومقطع الحكم. فرغبت إليه أن يكتب هذا التلخيص لقراء الرسالة فكتبه الأستاذ لتوه من غير تنقيح ولا مراجعة)
في سنة 1933 نشر بايو كتاباً اسمه (الحروب الحاسمة في التاريخ) ? والكبتين ب. هـ. لدل هرت الكاتب العسكري للانسيكلوبيدية البريطانية وترجمته الفرنسية هي لكل من ميرا والكلونيل فنلونج قال المؤلف: إن موضوع الكتاب والغرض من وضعه وقيمته هي أمور لم تتعين في ذهنه تعيناً دقيقاً إلا شيئاً فشيئاً، وعلى ترتيب وسياق هما دون المعتاد في إعداد كتاب. ذلك بأن فكرته الأصلية إنما كانت أن يستخلص الجوهر من مطالعات واصلها عدة سنين، ومن خواطر ألهمته إياها هذه المطالعات. ولذا جاء كتابه خلاصة مكثفة من ملاحظاته التي دونها في أثناء دراسته لكل من تلك الحروب الحاسمة.
وقال إنه أول من وضع لكتابه من غير أن يدخل فيه نظرة في عوامل الحرب الكبيرة الماضية وفيما بين هذه العوامل من علاقات ونسب؛ وقد علل ذلك بأن الاعتماد على أسانيد وافرة أخذاً عن وثائق المحفوظات وعن الشهادات الشخصية كان يومئذ أمراً ممكناً، لكنه اعتقد أن الجو كان لم يزل مشحوناً بكهرباء المجادلات العلنية بسبب ما تدور عليه من المصالح الخاصة؛ وتلك حال يصعب فيها التجرد من الشهوات لقبول حكم في الموضوع. وكان هو شديد الرغبة في آلا يضعف مثل هذا الجو ما أعتبره درساً صادقاً حيوي الأهمية استنبطه من الماضي لينفع في المستقبل، إذ كان غرضه من التأليف هو في الواقع تنشيط بحوث تجري بروح علمي لا إذكاء نار الجدل. كان يريد بما استنبطه من خبرة العالم القديم والعالم الحديث أن يمكن القارئ من الاهتداء إلى الدروس التي أتت بها حرب سنة 1914 إلى سنة 1918. غير أن أصدقاء ونقادا بصراء عرض عليهم أول وضع للكاتب حثوه(429/6)
على أن يدخل فيه بعض نظرات في تلك الحرب تصل بين خبرة الماضي وخبرة العصر على النظام الذي تقتضيه طبيعة ملاحظات المؤلف، محتجبين لنصيحتهم بأن الطلبة قد أتيح لقليلين منهم الفرصة والوقت للتعمق في أكداس المواد التاريخية
فالكتاب أبحاث استراتيجية في الحروب الحاسمة، مهد لها مؤلفه بفصل في التاريخ من حيث هو خبرة عملية؛ ثم بحث في حروب اليونان (إيبا مينونداس وفيليب والأسكندر فحروب رومة (هنيبال وسبيون وقيصر فحروب القرون الوسطى، فحروب القرن السابع عشر (جستاف أدلف - وكروميل وترين فحروب القرن الثامن عشر (مرلبورو وفريدريك الثاني فحروب الثورة الفرنسية (نابليون)، فحرب القرم وحرب سنة 1914 يريدون بكلمة استراتيجي في اللغة الفرنسية باباً من الفن العسكري يتعلق بخطط قيادة الجيوش إلى حيث تلاقي جيوش العدو. ويعنون بكلمة تكتيك فن ترتيب الجنود واستعمالها في القتال.
وقد ذهب المؤلف إلى إن هذين التعريفين ضيقا النطاق، وإن التكتيك والإستراتيجي متداخلان. وإن هناك الإستراتيجي العادية والإستراتيجي الكبرى وهي تشمل السياسة العامة للحرب سواء أدارت في ميدان أم في ميادين، وأن هذه السياسة يضعها ويديرها الحكام المدنيون؛ أما القواد العسكريون - خصوصا في البلاد الديموقراطية - فعليهم حسن استعمال وسائل القتال لتحقيق أغراض السياسة. وفيما يلي خلاصات من بعض فصول الكتاب. قال صاحبه:
1 - رجال العسكرية في العالم يعترفون جميعاً بصدق قول نابليون في الحرب: (إن نسبة الحال النفسية إلى الحال المادية كنسبة ثلاثة إلى واحد) في الحرب
وقد لا يكون لهذه النسبة أية أهمية في الحقيقة إذا اجتزئ بالنظر إلى قيمتها الحسابية، لان المستوى النفسي يميل إلى الهبوط عند عدم كفاية السلاح، وأي نفع يكون لأشد الإرادات ثباتاً في جسم هامد؟
لكن لذة الحكمة قيمتها على الدوام، وإن كان العامل النفسي والعامل المادي متلازمين، وكان كل منهما لا ينقسم، لأنها عبارة عن أن العوامل النفسية هي المرجحة في جميع الأعمال العسكرية الحاسمة؛ فإنها عليها وحدها تتوقف باطراد نتيجة المعركة ونتيجة الحرب؛ وفي(429/7)
التاريخ العسكري هي وحدها العوامل التي توجد على قليل من الاختلاف في جميع مسائل الحرب، في حين أن العوامل المادية تختلف في كل موقف تقريباً وفي أثناء كل حرب. ويمكن أن يصاغ معنى تلك الحكمة في أسلوب أقرب إلى التعبير العلمي فيقال: إن قوة بلاد العدو تشبه أن تكون قائمة على عدد العسكر وعلى المصادر المادية على حين أن العساكر والمصادر متوقفة توقفاً جوهرياً على اعتدال القيادة وعل حال الجيش النفسية وعلى المؤن.
2 - الاقتراب المباشر هو قيادة الجيش إلى ملاقاة الجيش المعادي الأساسي رأساً والهجوم على قلبه طلبا لنتيجة حاسمة، ولم ينتج هذه النتيجة إلا في النادر عند التفاوت العظيم بين الجيشين. إما الاقتراب غير المباشر فهو الاقتراب بحركات الالتفاف عن بعد والهجوم على جوانب الجناحين، أو في الميدان البعيد عن الجيش الأساسي عند تعدد الميادين، وهو الذي جاء بالنتيجة الحاسمة في كل حرب تقريباً.
3 - والحصر، بحرياً كان أو برياً، يمكن عده من أعمال الاقتراب غير المباشر والإستراتيجي الكبرى؛ وقد كانت الدول الوسطى في آخر سنة 1917 تعاني شدته القاسية. وهذا الضغط الاقتصادي هو الذي خدع الألمان وحملهم في سنة 1918 على هجومهم العسكري في الميدان الغربي (اقتراب مباشر بالنسبة إلى سائر الميادين)
إن فرنسا في سنة 1914 حاربت بخطة حربية اشتهرت باسم الخطة رقم 17 تم وضعها بعد تعيين جوفر رئيساً لهيئة أركان الحرب العامة سنة 1912، وهي الهجوم السريع المفاجئ على قلب الجيش الألماني رأساً بالاقتراب المباشر. ومن الغريب أن هذه الخطة كانت مستلهمة من آراء للقائد الألماني فون كلوزويتز في حين أن الخطة الألمانية التي وضعها الكونت شيلفن سنة 1905 كانت قريبة إلى آراء نابليون. فكانت الخطة الفرنسية خير ما ساعد فون شيلفن على تحويل الخطة الألمانية الأصيلة إلى طريقة الاقتراب غير المباشر من غرب بلجيكا. ومحل المهارة الحقيقة الدقيقة التي جعلت هذه الخطة اقتراباً مباشراً هي الفكرة المتبعة فيها في توزيع القوات على أقسام الجيش: 53 فرقة للمفاجأة الأولى والصدمة من بلجيكا، وعشر فرق لتكون محوراً أمام فردان تدور عليه تلك الكتلة، وتسع فرق فقط للجناح الأيسر من الجبهة الألمانية على طول الحدود الفرنسية فيما يلي(429/8)
فردان من الشرق إلى الجنوب. غير إن مولتك عدل في تلك الخطة من سنة 1905 إلى سنة 1914 إذ قوى الجناح الأيسر تقوية لم تحفظ النسبة بينه وبين الجناح الأيمن الذي كان معداً للتقدم من بلجيكا، وأبعد الطريق المختار لهذا الجناح عن البحر؛ ثم لم يزل يقوض بتعديلاته أسس الخطة في الميدان حتى انهارت وعدل عنها آخر الأمر في 4 سبتمبر سنة 1914 (معركة المارن الأولى 5 - 9 سبتمبر سنة 1914). ومن تعديلاته أنه أجاب على تحدي الفرنسيين عند قيامهم بالهجوم المباشر في أغسطس سنة 1914، وحاول إحداث معركة حاسمة في اللورين فجنح بذلك إلى الاقتراب المباشر.
ولو أن ألمانيا - بعد معارك المارن في سنة 1914 وحتى بأخرة عنها - اتبعت سياسة حرب دفاعية في الغرب هجومية في الشرق (اقتراب غير مباشر) لجاز أن تختلف النتيجة: إذ ليس يوجد غير أسباب واهية كانت تحمل على الظن بان جهود الحلفاء - في هذه الحالة - كانت تصل إلى أكثر من حمل ألمانيا على النزول عن بلجيكا وشمال فرنسا مقابل احتفاظها، غير مدافعة، بغنائمها في الشرق. أما في سنة 1918 فإن الفرصة كانت قد فاتتها وكان جلدها الاقتصادي قد تأثر تأثراً خطراً. ذلك هو الموقف الذي كانت فيه ألمانيا سنة 1918 حين بدأت هجومها الأخير في الميدان الغربي
نظر المؤلف في معارك الميدان الغربي إلى إبريل سنة 1918 ثم قال:
أصبحت فكرة فوش الموجهة لقيادته أن يحتفظ بالقدرة على ابتداء الأعمال الحربية غير مسوق في المحاربة بعمل العدو ? وألا يدع له سبيلا إلى الراحة في ذلك الوقت الذي فيه كانت القوات الاحتياطية تتجمع لديه هو. وكان أول عمل قام به هو تخليص السكك الحديدية على جوانب جيشه وذلك بسلسلة من الهجمات المحلية
فقام هيج بالهجمة المحلية الأولى في 8 إبريل سنة 1918 تجاه أميان وقد ضاعف لذلك جيش رولنسن باحتياطات وحيل ماهرة من حيث لم يشعر الألمان. ولعل هذه الهجمة - التي قادها450 دبابة - كانت أتم مفاجأة وقعت في هذه الحرب، وقد كفت لإفساد الاعتدال النفسي في القيادة الألمانية، وأشعرت لوندورف بهزيمة جنوده المعنوية حتى حملته على التصريح بأن الصلح لن يمكن الوصول إليه إلا بالمفاوضة. وقال: إنه ريثما يتيسر ذلك يجب أن يكون هدف ألمانيا الإستراتيجي شل إرادة العدو الحربية شيئاً فشيئاً بدفاع(429/9)
إستراتيجي!!
تلاحقت الهجمات حتى عرقلت خطة لودندورف، إذ لم يبق في وسعه أن ينقل جنوده الاحتياطية بسرعة تمكنه من سبق ضربات الحلفاء ومنعها، واستمر النقصان في هذه الجنود بنسبة كانت في مصلحة الحلفاء؛ وقد سمحت هذه الخطة للحلفاء مدة - على الأقل - بأن يستمروا في التقدم وأن يضعفوا المقاومة الألمانية بالتدريج على نسبة النقصان العددي والخور النفسي في القوات الألمانية. ونظراً إلى هذا الانحطاط، وإلى تأكيد هيج أنه يستطيع اختراق خط هندنبرج قرر فوش أن يقوم بهجوم عام في آخر سبتمبر. وكان من نتائج هذا الهجوم أن جلا الألمان عن الأراضي التي احتلوها بهجومهم سنة 1918، وان ارتدت جبهتهم الغربية كلها، وأتيح لهم تقصيرها وتعديلها بتضحية ساقة الجيش في تقهقره.
في 11نوفمبر سنة 1918 - وهو يوم الهدنة - كانت القوات الألمانية التي دفعها الهجوم العام آمنة في جبهتها المعدلة، وكان الحلفاء الزاحفون في وقفة لم تكن يومئذ بسبب مقاومة العدو بقدر ما كانت لصعوبة تموين الجيوش منطقة أمحلتا الحرب وخربتها.
لم يكن للهجوم العسكري في طوره الأخير إلا أهمية ثانوية؛ لكن الصدمة المعنوية التي أصابت القيادة الألمانية بفعل المفاجأة الأولى التي قام بها هيج بدباباته يوم 8 إبريل سنة 1918 في بدء الهجوم، تلك الصدمة قد أكملتها الحرب في ميدان بعيد وقعت فيه حركة اقتراب غير مباشر، جعلت الصدمة قاتلة: ذلك أن هجوم الحلفاء من (سلانيك) هو الذي أدى إلى هذه النتيجة، فإن العدو لم يستطع أن يمنع تقدم الحلفاء على جناح، إذ لم يتمكن من جلب جنوده الاحتياطية بسرعة كافية بسبب بطأ حركاته في تلك الجبال. وقد طلب البلغار الهدنة إذ انقطع جيشهم قطعتين وهم متعبون من الحرب. وهذا الفوز الذي أحرزه الحلفاء أخرج من ميدان البلقان البعيد أهم نصير فيه للدول الوسطى، وفتح الطريق لتفجر الجنود المتحالفة على النمسا من خلف. ولقد تعين هذا الخطر المهدد عند نجاح هجمة إيطالية على الجبهة النمسوية المنهوكة القوى النفسية والمادية، لان تسليم النمسا في الحال أمر جعل للحلفاء إمكان التصرف في أرضها وسككها الحديدية، واتخاذ قواعد فيها للأعمال حربية ضد ألمانيا من بابها الخلفي. وكان الجنرال جلوز قد صرح للمستشار الألماني - منذ سبتمبر - بأن ما كان من ذلك محتملا وقوعه يومئذ يكون حاسماً إذا هو وقع فعلا. فهذا(429/10)
الخطر المهدد وهو الدخول من الباب الخلفي، والتأثر النفسي المتفاقم من وقع الحصر - الذي هو اقتراب غير مباشر في الإستراتيجي الكبرى - حصر شعب جائع ضائع الأمل، هما أمران كانا مهمازين دافعين للحكومة الألمانية انتهيا بها إلى التسليم.
ففي الطور الأخير من هجوم الحلفاء العام، قام هيج في 29سبتمبر بهجمة على خط هندنبيرج كانت أخبارها الأولى مقلقة للألمان. ويومئذ قررت قيادتهم العليا فجأة أن تطلب الهدنة زاعمة أن انهيار بلغاريا قلب كل ترتيباتها: إذ كانت قد اضطرت إلى أن ترسل إليها جنوداً أعدت أولا للميدان الغربي، وهذا تصرف كان قد غير الموقف تغييراً أساسياً بسبب الهجمات التي وقعت في الوقت نفسه على الجبهة الغربية؛ وهي هجمات وإن أمكن صدها إلى ذلك الحين، يجب أن يتوقع الألمان استمرارها، تلك هي الحال التي فيها دعي البرنس ماكس إلى تولي وظيفة مستشار الإمبراطورية ليبدأ المفاوضة في الصلح، وسبب اختياره لذلك هو شهرته بالاعتدال والأمانة.
وقد طلب البرنس إمهاله عشرة أيام أو ثمانية أو حتى أربعة ليساوم مساومة مفيدة من غير اعتراف بالهزيمة قبل أن يفاتح العدو رأساً. لكن هندنبرج كرر بصراحة قوله (إن خطورة الموقف العسكري ليس يمكن معها أي تأجيل) وشدد في (أن يعرض الصلح على الأعداء في الحال) فأرسل طلب (الهدنة في الحال) إلى الرئيس ولسن يوم3 أكتوبر.
وقد تضمن طلب (الهدنة في الحال) اعترافاً واضحاً بالهزيمة. وكانت القيادة العليا قد اجتمعت برؤساء جميع الأحزاب السياسية في أول أكتوبر وأعدتهم من شعورها هذا فقوضت بذلك دعائم جبهتها الداخلية الخاصة قبل إرسال طلب الهدنة إلى الحلفاء بيومين: لان هذا النور الفجائي أعمى رجالا طال إبقاؤهم عمداً على جهل الأمور وحرك دعاة السلام وكامن قوى الخلاف جميعها. وقد قامت الثورة في ألمانيا يوم 4 أكتوبر، أي بعد إرسال الطلب بيوم، وانتشرت في أنحاء البلاد، فاستقال البرنس ماكس في 9 نوفمبر وسلم مقاليد الحكم إلى إبرت الاشتراكي.
حقا إن لودنددرف هدأت نفسه بعد 29 سبتمبر بمدة، حين اطلع على تقارير تخبره أن الحلفاء خففوا هجماتهم. ولم يرجع عن طلب الهدنة ولكنه كان يريدها لإراحة الجنود، بل شعر في 17 أكتوبر أن هذه الإراحة قد يمكن الاستغناء عنها وذهب إلى تصوره للموقف(429/11)
في 29سبتمبر كان أسوأ من الحقيقة الواقعة.
لكن شعوره الأول كان قد ذاع أمره في الدوائر السياسية والجمهور الألماني، وكانت الأمة قد تحطم قوة إرادتها وفقدت الثقة بالقيادة العامة. وفي 23 أكتوبر أجاب الدكتور ولسن على المذكرة الألمانية إجابة كانت في حكم طلب التسليم بلا قيد ولا شرط، فاضطر لودندرف إلى الاستقالة في 26 أكتوبر.
والنظر في تاريخ مائة اليوم الأخيرة من تلك الحرب يبين صحة الدرس القديم قدم العالم: ذلك أن الغرض الحقيقي في كل حرب هو إصابة عقلية رؤساء العدو لا أجسام عساكره؛ ويبن أن صدمة المفاجأة والشعور بالعجز عن درء الأعمال الإستراتيجية المحتملة هما اللذان أوهيا قوى لودندرف المعنوية أكثر مما أوهاها فقده الجنود والمدافع والأراضي.
محمد توحيد السلحدار(429/12)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الترقية إلى المدارس الثانوية - إلى وزير المعارف - ردوا
هؤلاء المدرسين إلى المدارس الأولية! - أربعة قرون من
تاريخ العراق - افتحوا الشبابيك وانظروا الليل، لتشغلوا عما
في قلوبكم من أسباب المعاطف والحتوف
الترقية إلى المدارس الثانوية
كانت وزارة المعارف تراعي (الأقدمية) في ترقية المدرسين من الابتدائي إلى الثانوي، مع ملاحظة تقارير المفتشين ومع النظر في درجات (الدبلوم) وذلك نظام غير مقبول، وإن كان يعتمد على قواعد لها صلات (ظاهرة) بفكرة العدل.
والحق أن نظرية (الأقدمية) لها دخل في تعويق المواهب، لأنها تصل بأهل البلادة والخمود إلى ما يريدون على مر الزمان، وتصد الموهوبين عن الوصول إلى مطامحهم العالية فتردهم أشباحاً تنتظر مرور الأيام لتصل إلى الهدف المنشود بلا تعب ولا عناء.
والحق أيضاً أن درجات الدبلوم ليست وثيقة أبدية لكفاية المدرس، فقد يخمد نشاطه بعد ذلك، وقد يبذه من سبقهم في الترتيب.
وإذن فلا بد من مقياس جديد، وهو مقياس (المسابقة) لاختيار المدرسين للمدارس الثانوية، وذلك نظام لا يثور عليه غير الزاهدين في الدرس والتحصيل، أو الخائفين من الخيبة والإخفاق
وقد أجريت المسابقة بين المدرسين في الأعوام الأخيرة فكانت فرصة لمراجعة نحوية وصرفية وبلاغية وأدبية غفل عنها أكثر مدرسي اللغة العربية، وكذلك يقال في سائر المواد، فتلك المسابقة هي في الواقع فتح جديد، وإن قيل فيها ما قيل.
فإن لم يكن بد من النص على بعض المؤاخذات فأنا أقول إن الترفق بالمتسابقين ظاهر ظهوراً جلياً، وكنت أحب أن يكون ذلك الاختبار أقوى مما رأيناه، ليكون شهادة بالقدرة على(429/13)
التعمق والاستقصاء، ولتكون له جميع خصائص ال بحيث يمكن للسابقين أن يصبحوا ولهم منازل أدبية وعلمية تستوجب الالتفات.
والخطأ يرجع إلى الأساس الذي يبنى عليه تكوين اللجان، فتلك اللجان تختار في الأغلب من رجال مشغولين، وهم الرجال الذين تختارهم وزارة المعارف لجميع اللجان، كأنهم من (أهل الخطوة) وكأنهم يقدرون على كل شيء، فهم أعضاء في كل لجنة، وهم شهود في كل اجتماع، وهم زينة جميع الحفلات!!!
واختيار اللجان على هذا الأساس يضيع المقصود من المسابقة بعض التضييع، فالأصل أن يكون عند الممتحن من الوقت ما يسمح بأن يراجع مواد الامتحان بعناية وتدقيق، ليدرك الفروق الخفية بين مواهب الممتحنين، وليشعر المتسابقين بقيمة التعمق والاستقصاء، وذلك لا يتيسر لرجل مشغول، وأعضاء اللجان عندنا رجال مشاغل بحرفة الاشتراك في اللجان، وهي حرفة لم نجد لها أثراً فيما قرأنا من كتب التاريخ! جعل الله كلامي خفيفاً على جميع أعضاء اللجان!
أما بعد، فقد ثار على هذا النظام (ستة نفر) من المدرسين بالمدارس الابتدائية؛ وهم الأساتذة: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعبد السلام محمد هارون، وعلي محمد البجاوي، وإبراهيم الأبياري، ومحمد سعيد العريان، وعبد الحفيظ شلبي. وهم يرجعون أن يرقوا إلى المدارس الثانوية بدون امتحان
ولكن كيف وهو نظام لا يثور عليه رجل حصيف؟؟
هم يجيبون بان لهم جهوداً في (التأليف والتحقيق الأدبي) وتلك الجهود لا تقل قيمة عن الجهود التي تبذل في الاستعداد لذلك الامتحان!
وأقول إن هذا حق، فلهؤلاء المدرسين جهود محمودة في التأليف والتحقيق، وفيهم من وصل إلى الابتكار في بعض الفنون.
ولكن وزارة المعارف لا يعجزها أن تجيب، فهي تقول إن هذا الباب إن فتح فسيتيح فرصاً كثيرة لأدعياء التأليف والتحقيق. وهي تقول أيضاً إن المؤلف أو المحقق لا يجوز له النكول عن مثل ذلك الامتحان.
وأنا أرى ما ترى وزار المعارف في هذا الموضوع؛ ولكن الحجة التي ساقها هؤلاء (النفر)(429/14)
- وهو التعبير الذي اختاروه في المذكرة التي قدموها إلى وزير المعارف - الحجة التي ساقوها تبعث على التفكير في حظهم من الأنصاف
يقول هؤلاء: (أن مدرسي اللغة العربية الذين يبلغون 1200 ليس فيهم إلا ستة نفر استعلنوا بجهودهم بين هذا الجمع الجامع) إلى آخر الاحتجاج
في مصر 1200 مدرس لم يلتفت منهم إلى التأليف والتحقيق غير هؤلاء؟؟
أهذا حق؟ أم هو وهم اعتصم به أولئك المدرسون؟
إن كان حقاً فيجب أن يرقوا في الحال، وإن كان باطلا فيجب أن يحالوا إلى (مجلس تأديب)، لا نهم أهانوا طائفة المدرسين!
وعلى فرض إنهم لم يقولوا غير الحق فلن تعجز وزارة المعارف من الجواب؛ فستقول - وقد قالت - إن المسابقة يراد بها اختيار المدرسين الأكفاء لا المؤلفين الأكفاء، وهنالك فروق بين التدريس والتأليف
وهذا أيضاً حق، ولكن هؤلاء المدرسون رضا عنهم المفتشون في أمد يزيد على عشر سنين؛ فماذا تريد الوزارة اكثر من ذلك لتطمئن إلى صلاحياتهم للتدريس؟
إلى وزير المعارف
وزيرنا اليوم هو معالي الدكتور محمد حسين باشا، وهو رجل منوع المواهب، ولكن التاريخ لن يحفظ له غير موهبة واحدة هي موهبة التأليف والتحقيق، لأنها اظهر مواهبه العقلية، فما الذي يمنع من أن يتلطف فينظر إلى هؤلاء المدرسين بعين العطف وقد شاطروه اقتداء العيون تحت أضواء المصابيح؟
إن لم ينصفهم الوزير المؤلف فمن ينصفهم؟
وإن كان في ريب من قدرتهم على إجادة التأليف فليراجع مؤلفاتهم (في أوقات فراغه) ليحكم لهم أو عليهم بما يشاء!
ردوا هؤلاء إلى المدارس الأولية
ومن هؤلاء؟ هم جماعة من المدرسين في المدارس الابتدائية لا يحسنون كتابة مذكرة إلى وزير المعارف وإن كان فيهم أفراد من أهل التأليف والتحقيق(429/15)
وأعيذ القارئ أن يفهم إني أغض من أقدار معلمي المدارس الأولية؛ فأنا أشير دائماً أن يكون (كبار الأساتذة أوصياء على صغار التلاميذ) فالطفل يحتاج إلى مدرس عنيد، أما التلميذ أو الطالب فحاجته قليلة إلى المدرس الممتاز، لأنه يطلع بنفسه على دقائق العلوم والفنون
فمن هؤلاء الذين أشير يرجعهم إلى المدارس الأولية عقابا لهم على التقصير في الإنشاء؟
هم (النفر) الذين يرجون أن يرقوا إلى المدارس الثانوية بدون امتحان، بفضل ما قدموا في خدمة التأليف والتحقيق؟
وسأهجم على هؤلاء النفر، مع الرجاء أن يراعي وزير المعارف إن هذا الهجوم لا يراد به الغض من منازلهم الأدبية، فهم حقاً وصدقاً من أفاضل المدرسين وإنما جاءت العلة من اشتراك جماعة في كتابة مذكرة معدودة الأسطر والكلمات ولو أنشأها كاتب واحد لجاءت غاية في الوضوح والجلاء
وإليهم أسوق المؤاخذات الآتية
أولا - قال إن ماضيهم في التدريس والتأليف قضى بأن (لا تتهيأ لهم العوامل النفسية التي تسمح بأن يقبلوا على امتحان الترقية)
ومعنى ذلك إنهم صاروا في أنفسهم أعظم من لجان الامتحان مع إن الأخبار ترد من وقت إلى وقت بأن في أوربا وأمريكا من يتقدمون إلى المسابقات بعد الخمسين، ولهم في ميدان المجد الأدبي والعلمي مكان
ثانيا - قالوا (إن المعلم بعد أن ينضج وتكتمل شخصيته العلمية لا يتأتى له أن يعود تلميذاً يستوعب ويفرغ ما يستوعبه)
وأقول إن التلميذ الحق هو المدرس الحق، والاستكبار على التلمذة ضرب من الجهل
ثالثا - قالوا (إن الذي يحسن أن يقول لا يستحسن كما يقال)
وأجيب بأن امتحان الترقية يطالبهم بالنقد لا بالاستحسان
رابعا - قالوا (إن الذي له عقل الناقد غير الذي له عقل السامع)
وأقول إن السمع نوع من النقد، لو كانوا يعقلون!
خامساً - قالوا: (كلما أرتفع الإنسان منزلة في الرأي نزل مرتبة في الاستعداد للتعلم من(429/16)
غيره)
وأجيب بأن هذا هو زهو بغيض، ولو أنصفوا لحكموا بأن الارتفاع في الرأي يزيد في الاستعداد للفهم والاستيعاب
أما بعد فمذكرة هؤلاء النفر لن تنفعهم بشيء لأنها أقيمت على حجج ظاهرة البطلان
ولكن هذه المذكرة لا تصور أقدار هؤلاء المدرسين، وأنا أنتظر أن يتلطف وزير المعارف فينظر إليهم بعين العدل والأنصاف وهو أقدر الرجال على وزن أهل التأليف والتحقيق
إن غلطة واحدة يكشفها باحث في كتاب قديم أو حديث تستوجب الالتفات، فما سكوتنا عمن جماعة كشفوا العشرات أو المئات من الغلطات؟
يضاف إلى ذلك أن الاهتمام بالتأليف والتحقيق يشهد لاصحابه بالقيمة الأخلاقية، فأولئك المؤلفون والمحققون أنفقوا أوقات فراغهم فيما ينفع ويفيد، ولم ينفقوها في (لعب الأوراق) كما يصنع الفارغون من أكثر الموظفين!
أنصف هؤلاء، يا معالي الوزير، ليعرف جمهور المدرسين أن الدرس والبحث والتنقيب من الأعمال التي لا تضيع
هؤلاء جنود العلم والأدب، يا معالي الوزير وهم صوت مصر الصداح، وإليهم وإلى أمثالهم يرجع الفضل في رفع صوت مصر بأقطار الشرق
وما عسى أن تكون مصر في العهد الحديث لو حرمت أصوات الشعراء والكتاب والمؤلفين؟
أولئك هم المضحون بأنفسهم في سبيل المجد المصري، فمن الواجب أن نعفيهم من حضور الامتحان، أمام فلان وفلان، وأنت تعرف ما أريد!؟
أربعة قرون من تاريخ العراق
كتاب ظهر بالإنجليزية سنة 1925 وهو من تأليف المستر لونكريك المفتش الإداري بالحكومة العراقية سابقاً، ونقله إلى العربية الأستاذ جعفر خياط مدير التعليم الثانوي بوزارة المعارف العراقية
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى انه تحدث عن عصور لم يتحدث عنها أحد بالتفصيل، فقد بحث عن تاريخ العراق ف العصور المظلمة من بداية القرن السادس عشر إلى نهاية القرن(429/17)
التاسع عشر
وكانت النية أن أنظر فيه نظرة عابرة لأكتب عنه كلمة تقوم مقام التحية لصديق كريم من أعز أصدقائي في العراق، وهو الأستاذ جعفر خياط وليس من الإسراف أن تذكر صديقاً بالخير لأنه ترجم كتاباً بلغ أربعمائة صفحة بالقطع المتوسط، وإن لم نطل النظر في ذلك الكتاب
وبدأت بقراءة الفصل الأخير لأهميته عندي، وهو الفصل الذي يسجل أعمال مدحت باشا في العراق، فقد كنت سمعت أنه أعظم حاكم عرفته تلك البلاد بعد الحجاج، ثم استهواني أسلوب المؤلف في التاريخ فمضيت صعداً إلى أن وصلت إلى المقدمة، وكان آخر ما قرأت كلمة المترجم، وتم ذلك كله في يومين اثنين، بفضل مهارة المؤلف في إحياء معالم التاريخ
دلني هذا الكتاب على الكثير من الحقائق، ومنه عرفت كيف كانت دول أوربا تغازل العراق في القرن التاسع عشر، وكيف كانت التجارة وسيلة لإيقاع بلاد الرافدين في الإشراك
والمؤلف لم يرد بكتابه غير هداية قومه إلى خصائص الحياة العراقية، وهو قد صرح بأنه يتحدث (عن تاريخ بلاد يتعلق ماضيها الأخير بحياة الألوف من أبناء بلاده ومصايرهم) ولم يفته أن ينص على أن تلك المصاير تثير الجدل بين مواطنيه وهم ينظرون إلى المستقبل بعناية والتفات
وكذلك يرى علماء الإنجليز أن التاريخ أداة من أدوات النفع، وهل يدرس التاريخ لغرض أنفع من هذا الغرض؟
إن الهدف الأول لهذا المؤلف هو إرشاد قومه إلى خفايا العصور التي كونت العراق الحديث، وقد وصل إلى ما أراد، وإن كان اهتمامه بتسجيل ما صنع أسلافه لم يخل من تحيز مستور أو مكشوف، والنزاهة المثالية لا تتاح لجميع الناس
ولا بد من النص على أن هذا الكتاب من نماذج البراعة في سرد حوادث التاريخ، وهو يربط العراق بالأمم التي تأثر بها من قرب أو من بعد في مدى أربعة قرون، حتى لنكاد نشهد سيال المنافع بين تركيا وإيران، ول شئت لقلت إنه يشير من طرف خفي إلى تأثير مصر في بعض وقائع التاريخ، وتلك نقطة لم يلتفت إليها مؤرخو مصر في العصر الحديث(429/18)
وإذا كان المؤلف قد أراد هداية قومه إلى خصائص الحياة العراقية، فقد أراد المترجم أن يدل قومه على تلك الخصائص بنقل هذا الكتاب إلى العربية، وهم قوم شغلتهم متاعب الكفاح من تأريخ العراق في عصور الظلمات
وفي مقدمة المترجم إشارة إلى جهود الدكتور مصطفى جواد في المراجعة وبعض التعليقات، وهي إشارة ذكرتنا بأديب فاضل قضى وقتاً في طلب العلم بالجامعة المصرية، وترك في أنفس عارفيه صورة محفوفة بالود والإعجاب.
افتحوا الشبابيك وانظروا الليل
الشبابيك جمع شباك، وهي كلمة فصيحة تؤدي معنى لا تؤديه كلمة النوافذ؛ كما تؤدي كلمة الدكاكين معنى لا تؤديه كلمة الحوانيت
والليل صديقي في هذا العهد، ولا أقضيه في غير داري، لان صدري ينقبض من السهر في القاهرة منذ عرفت المصابيح الزرق؛ وكانت لياليها أشد إشراقاً من الصباح
وفي هذه الليالي البيض أو السود، عرفت قيمة الخلوة إلى قلبي؛ كما عرفت قيمة الليل، وكما عرفت أن القلم هو الصديق الباقي على الزمان
إذا عوت صفارة الإنذار كان من واجبك أن تطفئ النور وتفتح الشبابيك؛ كما توصي (وزارة الوقاية المدنية)، وقد اكتفت بذلك فلم تأمرك بالنظر إلى الليل، ولعلها تخاف عليك ففي صدورنا بقية من الخوف الموروث عن أسلافنا القدماء، يوم كانوا يعيشون في الغابات والأدغال، وحين كان الليل مسرح المهالك والحتوف
ولكن، هل تعرف لم أوصيك بنظر الليل حين تطفئ المصباح؟
أوصيك بنظر الليل لتشغل به عن النظر في قلبك، إن كان لك قلب!
وهل في الوجود معاطب أخطر وأعنف من المعاطب المبثوثة في ثنيات القلوب؟
الوقوع في مهاوي سقر أهون عليّ من الوقوع في مهاوي قلبي، ففيه مخاوف ومهالك لا أستطيع اجتيازها بأمان، ولو زودتني المقادير بما زودت به أهل الغفلة والجمود، وما أسعد الغافلين والجامدين من أبناء هذا الزمان!
احترس من قلبك كل الاحتراس، وتغافل في كل وقت عن مطامحه العاتية، فهو لا يقنع بالقليل، ولا يرضيه إلا أن تسيطر على جميع من في الوجود، وأين أنت مما يريد؟(429/19)
احترس من قلبك، إلا أن تعرف كيف تسايره في أودية الأماني والآمال، وشعاب الشعر والخيال
احترس من قلبك، كما أحترس من قلبي، فما سايرته إلا في ميدانين اثنين: ميدان الحب وميدان المجد، ثم كان نصيبي أن أقضي حياتي في عناء وشقاء
القلب، وما أدراك ما القلب؟ هو جارحة روحانية تدرك بها ما لا تدرك بالجوارح الطبيعية، وهو سبب ضلالك وسر هداك، فنزهه من النظر إليه في كل وقت، لينتفع بغفلتك عنه فينبغي ويستطيل، كما يصنع السفهاء عند غفلة الرقيب!
لا بد لك من قلب فتاك صوال، ليكون من حظك أن تشهد قيام الموازين، فقد سمعت أن الخلائق لن تبعث جميعا، وإنما يبعث من لهم تاريخ في إزاغة البصائر أو هداية القلوب. . .
زكي مبارك(429/20)
كليلة ودمنة
نقد وتعليق
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
(تتمة)
29 - 15: 195 (أرادوا إدخال النقص عليك في ملكك)
كلمة (النقص) ركيكة في هذا المعرض لا يقولها مثل ابن المقفع. وإنما هي (النقض) بالضاد المعجمة. والنقض الإفساد وحل العقد. وهي سائرة في لغة الجاحظ وأضرابه من أمراء البيان العربي
30 - 5: 199 (وكانت شارته إليها أن غمزها بعينه).
الشارة: الحسن والهيئة واللباس. وليست مرادة. بل هي (إشارته). وقبل هذا (وأشار عليها بأخذها فأخذتها)
31 - 15: 199 (فأضاء كل ما حولها فاشتاف إليها، وقال لإيراخت) فاعل (أضاء) هو (كل). وأما فاعل (اشتاف) فهو الملك، فالجملتان محتاجتان إلى فاصل بينهما، واشتاف بالفاء، إذا تطاول ونظر. واشتاف البرق أي شامه. ومنه قول العجاج:
(واشتافَ من نحو سهيل بَرْقا)
32 - 200: 9 (فأنها امرأة عاقلة لبيبة، حريصة على الخير، سعيدة من الملكات، ليس لها في النساء عديل) وكيف تكون (سعيدة) مع أن الملك أمر بقتلها وأوشك أن ينفذ أمره؟ ثم هو في معرض التنويه بخصالها. وليست السعادة خصلة أو خلقاً من الأخلاق. والوجه (سديدة (الرأي) من الملكات (التي) ليس لها في النساء عديل)
33 - 11: 208، 12 (الذي يصنع الطعام وينظفه لسيده ثم يقدمه إليه في إبانه) ليست كذلك، وإنما هي (وينضجه لسيده) تصحفت على الناسخ فشوهها بما رأيت
34 - 5: 210 (والجرئ الجاهل المقدم على ما ليس له وإن أتلف نفسه ونفس غيره في طلب حاجته وشحه) صوابه (ونجحه) والنجح بالضم النجاح وإدراك البغية
35 - 13: 223 (إن أنا وأخذته) هي لغة في (آخذته) بالهمز. قال صاحب القاموس(429/21)
(وآخذه بذنبه مؤاخذة. ولا تقل وأخذه). وفي اللسان (والعامة تقول وأخذه) والحق أن الكلمة عربية، وأنها لغة لبعض العرب. وفي المصباح: وتبدل واواً في لغة اليمن فيقال وأخذه مواخدة. وقرأ بعض السبعة (لا يواخذكم الله) بالواو، على هذه اللغة. والأمر منه واخِذْ)
وقال العرب في مثل ذلك (واخيته) لغة في (آخيته) و (واسيته مواساة) لغة في (آسيته مؤاساة)، و (واكلته) لغة في (آكلته)، (وامرته) لغة في (آمرته)
والهمز في كل ذلك أكثر وأجود
36 - 15: 224 (الحيوانات) جمع حيوان. زعم بعضهم أن العرب لم تنطق بها. ومجيئها هنا شاهد على صحتها وعلى استعمالها. وقد استعملها (الجاحظ) في كتاب الحيون (س 1 265: 3) قال: (والنسيم الذي يحيي جميع الحيوانات) وكذا الثعالبي في فقه اللغة ص24 طبع الحلبي، قال (فصل في طبقات الناس وذكر سائر الحيوانات). وكذا البغدادي في طبقات (الفرق بين الفرق) المتوفى 429 قال في ص118: (وأصناف الحيوانات) وقال في الصفحة، نفسها (ولا نوعاً من الحيوان) فأجاز بذلك الاستعمالين. واستعمله أصحاب (رسائل إخوان الصفاء) في الجزء الثاني من طبعة التجارية، استعمالاً كثيراً، يدل على ذيع هذه الكلمة وإقرار العلماء لها
37 - 234: 9: (وقع موقع من يركب ناب الفيل المغتلم ثم يغلبه النعاس). كثر ما ورد اسم (الفيل) في هذا الكتاب وذاك راجع بالطبع إلى الجو الهندي الذي يشيع فيه. وتجده أيضاً مقروناً بكلمة (المغتلم)، كما ورد في 47 س11، 71 س13، 79 س1، 255 س5، فهو مضرب المثل عندهم بالقوة وشدة اليأس. قال الجاحظ في ذلك:
(وإذا اغتلم الفيل قتل الفيلة والفيالين، وكل من لقيه من سائر الناس ولم يقم له شيء، حتى لا يكون لسواه هم إلا الهرب وإلا الاحتيال لأنفسهم). ثم ذكر قصة كان يتداولها الفرس عن مصارعة كسرى لفيل مغتلم تمكن من ضربه والفتك به.
38 - 3: 250: (فلما رأوا الأسد قد احتشد في طلب اللحم وغضب): أرى أنها (احتد) والحدة تقارن الغضب
39 - 4: 247: (فما الذي يشبه كفك عن الدماء وتركك اللحم)؛ وكلمة (يشبه) مقحمة، لعلها زيادة من المملي للناسخ حين تردده في الكلمة بعدها؛ وصواب العبارة: (فما الذي كَّفك(429/22)
عن الدماء وأكلِكَ اللحم)
490 - 4: 256: (واللهج بالزنا): لا تجوز كتابتها بالألف إلا لمن نظر إلى أنها مقصورة من الممدودة (الزناء) وهي لغة بني تميم، ولغة أهل الحجاز القصر؛ ومن ذهب إلى قصرها لم يكتبها إلا بالياء، لأنها يائية الأصل.
41 - 11: 271: (وعلمنا أنك كنت لما ساق الله إليك من ذلك أهلاً، بفضل قسمه لك، وتابع نعمه عليك). فعلى أي فعل عطف الفعل (وتابع)؟!
إن عطف على (قسمه) استرك المعنى وعاد الضمير في (نعمه) إلى (فضل) أي نعم الفضل، وليس ذلك شيئاً؛ والوجه: (بفضل (ما) (قسمه). . . الخ. أو (بفضل قسمه لك، ونعمة تابع عليك) - أي تابعها - أو (بفضل قسمه لك، وسابغ نعمه عليك)
42 - 2: 52: (كالشعلة من النار التي يصونها صاحبها وتأبى إلا ضياء وارتفاعاً). سبق الحديث عن هذه الفقرة في رقم (5)، وكنت على شك من صحة كلمة (يصونها)، إلى أن ظهر لي وجهها فيما قرأت من عيون الأخبار: (ذو الهمة إن حط، فنفسه تأبى إلا علواً، كالشعلة من النار (يصوبها) صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً)؛ والتصويب: الخفض والتنكيس؛ وفي التهذيب: (صوبت الإناء ورأس الخشبة تصويباً إذا خفضته). فصاحب النار يخفض رأس الخشبة المشتعلة، فلا يمنع ذلك النار أن ترتفع وتأخذ طريقها في العلو
43 - 13: 276 (ولم تجدي من الأسف والحزن على شبليك شيئاً إلا وقد كان من كنت تفعلين بأحبابه ما تفعلين يجد مثله أو أفضل منه). وليس يقال حزن فلان حزناً أفضل من حزن فلان، أو أسف أسفاً أفضل من أسفه، والوجه (أمثل) كما ورد في أصل النسخة. و (أمثل) هنا تفضيل من مثل بالرجل يمثل مَثْلا ومُثْلة: نكل به. فالمعنى أشد تنكيلاً منه
44 - 279: 4 (ويبقى حيران متلدداً). وفي نسخة بولاق 1. 1 (متردداً) وعند ابن الهبارية 267:
عاد إلى طِلاب ما قد تركا ... فضلَّ عنه وبقى مرتبكا
والمتلدد والمتردد بمعنى، وهو من أسرار العربية: أن يختلف اللفظان في حرفين متقاربي المخرج فإذا المعنى واحد أو كالواحد. وفي اللسان (تلدد: تلتفت يميناً وشمالاً وتحير متبلداً). وجاءت هذه الكلمة بالراء في 280: 12 (فبقى حيران متردداً)(429/23)
4 - في التعليقات
1 - أورد الأستاذ في شواهده على أثر الأسلوب الفارسي في هذه النسخة ما جاء في صفحة270 (فسأله رجل فقال) وقال في المقدمة 26 (تشبه هذه الجملة التعبير الفارسي): (برسيده كفت) وفي التعليقات 300 (هذه الجملة تذكر بالتعبير الفارسي (برسيده كفت)
وليس للأسلوب الفارسي أي أثر في هذه العبارة، بل هي عربية خالصة جرى عليها العرب في الغابر، واستفاضت في كلامهم
وبين يدي أحد الصحاح الستة، وهو صحيح أبي عبد الله البخارى. ففي 2: 1س6 (أن الحارث بن هشام رضى الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي). وفي 162: 1س3 (أن زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت) وفي161: 2س3 (سألت أنس بن مالك رضى الله عنه قلت أخبرني بشيء عقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم) وفي 41: 3س (عن عمران بن حصين رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله - أو سأل رجلاً، وعمران يسمع - فقال: يا أبا فلان). وغير ذلك كثير.
2 - 287 تعليقا على ما ورد في الأصل ص16 (آدرهرير) قال الأستاذ: (نظنها محرفة عن آزر هربد، أي سادن النار)، ولست أدري: لم عدل عن لفظ (آدر) بالدال إلى (آذر) بالذال المعجمة مع انهما بالفارسية في معنى واحد، وهو النار؟!
3 - وفي الصفحة نفسها تعليقاً على ما ورد في ص21 س4 (ما أتذمم منك) أن (ذلك) وضع موضع الضمير والمعنى ما أتذمم له. قال الأستاذ (وضع الإشارة موضع الضمير هنا يشبه التعبير الفارسي) وقال نحو هذا القول في تعليقه في المقدمة ص26 على قول ابن المقفع (تجرى أمورهم فنونا يغلب على أكثر ذلك الخطأ) حين استشهد على أثر اللغة الفارسية في ترجمة ابن المقفع
والحق أن هذا أثر من آثار اللغة العربية لا الفارسية؛ فإن العرب يضعون الإشارة موضع الضمير في كثير من عباراتهم. ويطرد ذلك في ربط الجمل الخبرية، والأصل في ذلك الضمير. وفي الكتاب (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار) أي هم. وفيه (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) أي كله(429/24)
4 - 288 تعليقا على ما ورد في الأصل ص30 (أكن كالمصدق المخدوع الذي زعموا أن جماعة من اللصوص) أن كلمة الذي هنا تشبه أن تكون ترجمة الكلمة الفارسية (كِهْ) وهي تكون بمعنى الذي، وتأتي للتعليل والتفريع. أي أن ابن المقفع ترجم كلمة (كه) بكلمة (الذي) مع أنها هنا للتعليل والتفريع، أي بمعنى (فقدته) فلا تحتاج إلى ضمير عائد، على حين أن كلمة (الذي) في استعمالها العربي تحتاج إلى عائد
وهذه شبهة طيبة، واستنتاج حسن. ولكن الضمير العائد إلى الموصول يحذف كثيراً. وجاء حذف العائد حين يتصل بحرف الجر في قول الله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده) أي به. وفي قوله (فاصدع بما تؤمر) في أحد وجهي تخريجه وقول حاتم الطائي:
ومِنْ حسدٍ يجورُ عليّ قومي ... وأيُّ الدهر ذو لم يحسدوني
أي فيه، وذو موصول عند طيء. وقال الجاحظ (فالحمد لله الذي كان هذا مقدار عقولهم) أي كان هذا منه. فهذا الحذف في كلامهم جائز وإن كان قليلاً جداً. وهو أولى في التخريج مما ذهب إليه الأستاذ من تأثير اللغة الفارسية. وابن المقفع أيقظ من أن يؤثر في بيانه العربي هجنة فارسية، أو يلتاث في ترجمته هذه اللوثة
5 - 295 تعليقاً على ما ورد في 174 من قوله (وأكيس الأقوام من لم يكن يلتمس الأمر بالقتال ما وجد إلى غير القتال سبيلاً): (هممنا أن نحذف (يكن) من هذه الجملة ثم رأينا أنها تشبه أن تكون من أثر الترجمة الفارسية؛ فإن استعمال الفعل يكون، مألوف في مثل هذا التركيب بالفارسية)
هذا نص ما ورد في التعليق. والحق أن التعبير عربي خالص، ولم تشبه شائبة فارسية ولم تقربه، وأن (يكن) هنا قد جردت من معنى المضى، وألزمت معنى الثبوت واتصال الزمان من غير انقطاع. وفي كتاب الله من غير ذلك كثير. (وكان الله شاكراً عليما)، (وكان الله سميعاً عليما)، (فإن الله كان عفواً قديرا)، (وكان الله غفوراً رحيما)، (وكان الله عزيزاً حكيما) ومنه قول المتلمس:
وكنا إذا الجبار صَعَّرَّ خده ... أقمنا له من صعْره فتقوّما
وقول الفرزدق:
وكنا إذا القيسى نبّ عَقودُه ... ضرمناه فوق الأنثيين على الكردِ(429/25)
وقول قيس بن الحظيم:
وكنت امرأ لا أسمع الدهر سُبَّةً ... أسبُّ بها إلا كشفت غطاءها
فليس في الكلام هجنة فارسية كما رأيت
هذه نظرات في بعض مواضع من هذا الكتاب الجليل. ولم أشأ أن أطنب في سرد محاسن النشر وجودة العرض؛ فذلك أمر يبادر الناظر في هذه النسخة ويبدهه في أول ما ينظر
وليس يفوتني في هذه الفرصة أن أكرر تهنئتي للأستاذ الكبير (عبد الوهاب عزام) بهذا العمل العظيم الخالد على الزمان، وأن أزجي مثلها إلى الأخ المحترم (الأستاذ شفيق متري) صاحب مطبعة المعارف، بما أنفق من جهد ومال، في الاحتفال الناجح بمرور خمسين عاما على جهاد مثمر، بدأه والده وسهر هو على إتمامه وعايته.
عبد السلام محمد هارون(429/26)
المجرم رجل مريض
للأستاذ حسين الظريفي
كان سيزار لمبروزو أول من تناول المجرم بالبحث العلمي وطلع على العالم بنتائج طريفة كان أخطر ما فيها إثبات العلائم الدالة على الأجرام. وقد لبثت نظريته في المجرم والجريمة ردحاً من الزمن وهي ذات سيادة تكاد تكون كاملة في عالم الجنائيات. إلا أنها أخذت بعد حين بكثير من النقد والتجريح، ثم توسع فيها الناقدون وأضافوا إلى أصلها كثيراً من الحواشي التي لم يقل بها صاحب النظرية، حتى يكاد يعد لمبروزو خارجا على ما ينسب إليه، أو أنه ليس من المدرسة المعروفة باسمه
وفي الواقع ان لمبروزو لم يصب كبد الحقيقة، إلا أنه لم يزغ عنها تمام الزيوغ؛ فالنظرية ليست كلها على خطأ أنها ليست كلها على صواب؛ وأحسن ما يمكن أن يقال فيها إنها صورت نصف الحقيقة، ولم يعن جمهور العلماء بنقضها ودحضها إلا لأنها ظهرت في غير ظرفها الملائم وقبل الزمن المهيأ لأخذها بالقبول
وتتضح خطوط هذا التحليل في تفصيل النظرية الحديثة على بواعث الأجرام، تلك النظرية التي تنطوي على بعث الجريمة من وراء الخلل في الغدد الصماء
وهذه الغدد غير منقاة، وهي تلتقي عصارتها في الدم مباشرة من دون وسيط فتنتقل على متنه إلى كافة أجهزة الجسم وتفعل فيه الأفاعيل من هدم وبناء وتنويم وأيقاظ على رغم مقاديرها الضئيلة، وهي في مجموعها تؤلف وحدة حيوية مترابطة الأجزاء تفعل وتتفاعل بمقدار وعلى نمط خاص
وكان من العلماء الذين وقفوا سنوات طويلة من حياتهم على البحث في الغدد الصماء (الدكتور رالف رينولدز) بسان فرنسيسكو وزميله الدكتور (ستانلي) طبيب سجن كانتين. وقد قام هذان الدكتوران بكثير من العمليات لإزالة اضطرابات الغدد وتنظيم سيرها في السجناء من الجناة فكان ما قاما به عظيم الأثر في تحسين أحوالهم الطبيعية والعقلية؛ وتغيرت طباعهم وأخلاقهم وحتى إشكالهم الظاهرة. وقد وجد الدكتور (رالف) أثناء اختباراته المتواصلة أن نسبة مئوية كبيرة من أبناء السجون مصابة بحالة غير عادية في الغدد الصماء، وشاهد أن من يرتكبون جناية القتل وما يماثلها من الجروح يكونون مصابين(429/27)
باضطرابات في الغدد الدرقية الموجودة في أصل العنق، وأن المزورين والمحتالين والسراق يختلفون من غيرهم بغددهم النخامية، وأن من ينغمسون في الجرائم الشهوانية والنقائص الجنسية، وإذا كانت هيئة أعضائهم في الذكورة والأنوثة شبيهة بسواها فلأن منبع الاختلاف مستقر في الداخل.
على أن الغدد المضطربة يكثر أن تترك آثار اضطراباتها ظاهرة في أجزاء البدن الظاهر، تلكم الآثار التي أوحت إلى لمبروزو نظريته فأصاب وأخطأ في آن واحد.
والذي يظهر من هذه الكشوف العلمية أن الجريمة ظاهرة مادية لعلة فسيولوجية تقوم في جانحة المجرم، أو أنها ليست إلا مظهراً لزيادة أو نقص تلك العصارات الذرية التي تفرزها الغدد الصماء في الدم، فتختلق في الإنسان ما تشاء من عواطف وشذوذ.
وبالقياس إلى هذه النظرية يصبح العقاب غير مجد في معالجة الأجرام وفيه جناية اجتماعية على الجاني. والطريق الوحيدة لإزالة الجريمة هي معالجة ما يعانيه الجناة من الاضطرابات في غددهم الصماء.
قد يقال: إن من الجناة من لا يعود إلى ما جنى إذا نزل به العقاب، وإن منهم من يقلع عن ارتكاب الجرائم متى تقدمت به السن. وعندي أن الرد على هذا النقد منطو في أن من الجناة من يندفع إلى الجريمة بقوة ظرفه الخاص؛ فمثل هذا الجاني لا يمكن أن يعد في عداد أولئك الذين تتحرك في نفوسهم عوامل الأجرام من وراء الخلل في الغدد الصماء. كذلك يمكن أن يقال: أن الغدد قد تعود إلى التوازن بعد الإفراط في الإفراز متى ضمرت ببلوغ الشيخوخة.
ونحن وإن كنا نرى استحالة تطبيق هذه النظرية في أكثر البلاد وتعسر تطبيقها في البلدان الأخرى، فإن البحث العلمي يجب ألا ينقطع بقيام التعذر والاستحالة في التطبيق، وأنه لا مناص من اعتباره باعثا عليه.
على أن من الجرائم ما قد يكون منبعثاً عن سوء التربية في دور الطفولة. فقد ثبت في دائرة العلوم النفسية والتربوية أن لسنوات الطفولة من التأثير الخطير في نفس وأخلاق الطفل ما يبقى رازحاً تحت أعبائه طول حياته.
وليس عجيباً أن نحلل بعض مظاهر الأجرام، فنجدها عائدة إلى ما كان من سوء التربية في(429/28)
مراحل الطفولة، فإن الوليد لا بد أن يأخذ عن وسطه المحدود كثيراً مما ندعوه بالعقد النفسية، تلك التي تتسرب إلى سريرة الطفل كأمراض داخلية تظهر عادة في أخلاقه وأعماله وفي طريقة تفكيره، وقد تندفع به إلى نوع خاص من الأجرام، وذلك أن سلسلة التفكير تصطدم بالعقد النفسية فيقف دون نموه الطبيعي ويضطر إلى اتخاذ طريق آخر معوج في النمو يوحي به ما ترسب في قاع النفس من عهد الطفولة. فالعقدة ليست إلا الشرك الذي تقع فيه حياتنا العقلية، وقد توحي بارتكاب الجريمة، وأي من وراء قناع من العقل الباطني تتوارى فيه الأبصار.
إن هذه العقد النفسية مهما كانت راسية في قرارة النفس، ولا تكاد تظهر إلا في ثوب مستعار تخفى فيه حقيقتها عن الأنظار فإن في الإمكان أن تصل إليها يد البحث العلمي بطريقة التحليل النفسي، حيث يهتدي بهذا الطريقة إلى العقد النفسية التي اعترضت حياتنا العقلية، وعاقتها عن السير في طريق تكاملها الطبيعي؛ ثم أخذت تظهر من حين لآخر في ضروب أخلاقنا وأفكارنا وأعمالنا، وكانت مصدر شذوذ في كثير من أولئك. وقد ظهر لدى البحث العلمي أن المرض يزول بالوقوف على العقدة التي فرضته وبهذه الطريقة يمكن إرجاع المصابين في حياتهم العقلية إلى حالتهم الطبيعية بعد أن تكون قد انحلت العقدة، وقضى على أصل المرض.
وظاهر مما سبق أن الجريمة قد تكون منبعثة عن تلك الرسائل الكهربائية التي تطلقها الغدد الصماء على متون الدماء فتتصل عن طريقها إلى أجهزة البدن كافة. وقد تكون وليدة العقد النفسية التي تصيب الحياة العقلية؛ وتورث من الأمراض ما قد تظهر آثارها في صورة ارتكاب بعض الجرائم.
فالمجرم لم يعد بعد كما كان من قبل مثال الرجولة والبطولة، والسجن لا يقوم على الرجال، وإنما يقوم على أشباه الرجال ممن أصيبوا في غددهم أو في نفوسهم، وكانوا أجدر بالمعالجة الطبية أو النفسية من الزج بهم في أعماق السجون
(بغداد)
حسين الظريفي المحامي(429/29)
شخصيات تاريخية:
ثيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
كانت بلاد اليونان في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد، محاطة بدول فتية ناهضة كدولة الفرس في الشرق التي قضت على الإمبراطوريات الكبرى القديمة في مصر وكلدونيا وسوريا وليديا، وكدولة القرطاجنيين التي نهضت في شمال أفريقيا، وأخذت تبسط سلطانها على البلاد المجاورة لها في الجزء الغربي من البحر الأبيض المتوسط، وكدولة روما الناشئة التي ثارت في وجه الأثرسكيين، وأخذت تكون لنفسها سلطاناً واسعاً في شبه جزيرة إيطاليا. وقد اتفق الفرس والقرطاجنيون، واتفق القرطاجنيون والأثرسكيون، على وضع حد لاستعمار اليونان بعد هذه الحركة التي كان من نتائجها انتشارهم في معظم أجزاء البحر الأبيض المتوسط.
لذلك كان لا بد من أن ترتطم قوة الفرس بقوة اليونان في الشرق، وقوة القرطاجنيين والأثرسكيين مع اليونان في الغرب. وقد أراد الفرس الانتشار غرباً، فوجدوا أمامهم اليونان ستتبين في غرب آسيا الصغرى، فأخضعوهم لسلطانهم، ولكن هؤلاء اليونان ثاروا على أسيادهم الفرس، وطلبوا المعونة والمساعدة من إخوانهم يونان القارة الأوربية، فلم يلب نداءهم إلا دولتان هما: أثينا وإرسيزى اللتان وجهتا حملة لتخليص إخوانهم من نير الفرس. من اجل هذا حقد الفرس على هاتين الدولتين، وصمموا على معاقبتهما والانتقام منهما؛ فكانت ثورة اليونان في غرب آسيا الصغرى بدء عهد نزاع خطير، يعرف باسم الحروب الميدية بين قوتين لا يستهان بهما وهما: قوة الفرس وقوة اليونان.
وقد استمر النزاع مدة طويلة بين هاتين القوتين. ونحن لا يعنينا اليوم من هذا النزاع إلا تلك الحروب التي نشبت في أول القرن الخامس قبل الميلاد، ولا يهمنا منها إلا تلك الشخصية العظيمة، شخصية (ثيموستوكل) التي لعبت دوراً مهماً جداً في ترجيح كفة اليونان على كفة الفرس.(429/31)
ولكي نتمثل أهمية الدور الذي لعبه ثيموستوكل، يجب أن نعلم أن اليونان لم يكونوا متفقين فيما بينهم وبين أنفسهم على الخطة التي يجب عليهم أن يتبعوها. كانوا فريقين: فريقاً منهم مع الفرس يساعدهم ويشد أزرهم، وفريقاً آخر في صف الوطن يعمل للدفاع عنه وللتمكين من استقلاله، وهم بعد ذلك لم يكونوا دولة متحدة قوية تقف صفاً واحداً أمام دولة الفرس، بل كانوا دولاً صغيرة تتنافس فيما بينها وتحقد كل منها على الأخرى، ثم إلى جانب هذا وذاك كانت كل دولة على صغرها منقسمة على نفسها في الداخل وتتنازعها الأهواء والأحزاب، فكان النزاع قوياً جداً بين الأرستقراطيين والديموقراطيين في أثينا وشديداً جداً بين الملكيين والأينور الخمسة في إسبرطة؛ وكذلك كانت الحال في أرجوس وكورنث وتساليا وغيرها، فجاء ثيموستوكل واستطاع أن يوحد بين هذه الأشتات المتناقضة وكون منها جبهة قوية وقفت أمام الفرس وصدتهم عن أرض اليونان، بل وأحرزت عليهم انتصاراً عظيماً هو انتصار موقعة (سلامين). فالشخص الذي يستطيع أن يجعل بلاده تحرز هذا النصر الحاسم وهي على هذا النحو من الانقسام والفرقة لا شك يعد من أكبر الشخصيات في التاريخ.
وقعت الحرب الميدية الأولى في عام 490 ق. م ووجه الفرس حملتهم الأولى ضد أثينا وبلاد اليونان في هذه السنة، فتصدت لهم القوة الأثينية وعلى رأسها مليتاد يساعده بعض القواد مثل طالليماكوس وتيموستوكل وأرستيد، وتمكنت هذه القوة من صدهم وإلحاق الهزيمة بهم في موقعة ماراتون الكبرى، فارتد أسطول الفرس بعد ذلك عائدا إلى بلاده. انتصرت أثينا في هذا الدور الأول وكانت الشخصية الغالبة هي شخصية مليتاد؛ أما تيموستوكل فلم يكن له شأن كبير حينئذ، إنما كان يقوم بدور ثانوي في هذه المعركة، إذ وضع هو وأرستيد على رأس الوسط في الجيش، أما كبار القواد مثل مليتاد فقد وضعوا على رأس الجناحين لأن خطة الجيش اليوناني كانت ترمي إلى القيام بحركة تطويق لحصر جيش الأعداء.
هزم الفرس في هذه الموقعة؛ ولكن (دارا) ملكهم لم يكن بالشخص الذي يرضى عن الهزيمة، وإنما أخذ يعد العدة للانتقام، ثم مات دون أن يحقق هذا الغرض، وخلفه ابنه أجررنسيس تاركاً لهذا الابن عبئاً ثقيلاً ومهمة خطيرة، ولم يصب أجررنسيس هذا من(429/32)
النجاح ما أصاب أبوه من قبل، ولم ينجح في النيل من اليونان والانتقام منهم بالرغم مما عرف عه من مضاء العزيمة وقوة الإرادة وحدة الذكاء ونشاط الشباب. هزم كما هزم أبوه من قبل، وأنتصر عليه اليونان لأنهم أوتوا من الحظ السعيد ما أوجد لهم شخصية عبقرية هي شخصية تيموستوكل التي عرفت كيف تتبصر للأمر، وتضع الخطط الحربية الماهرة استعداداً لهذا العراك العنيف. وكانت هذه الهزيمة سبباً لازدراء اليونان به، واحتقارهم له؛ فتحدث عنه (أشيل) في تراجيديته الرائعة (الفرس) وصوره كما صوره غير من كبار كتاب اليونانيين في صورة بشعة: صوره كأنه رجل مجنون أصيب في عقله. أراد أن يتسامى إلى صف الآلهة فاعتقد نفسه منهم، فتكبر وطغى، فحقدت عليه وتربصت به، وجعلته يضل السبيل، ويرتكب من المآثم والغلطات ما كان من الأسباب التي أدت إلى هزيمته
وكان الحزب المسيطر على شؤون الحكم في أثينا في ذلك الوقت هو الحزب الديمقراطي، وهو الحزب الذي استطاع أن يقودها إلى النصر. وكان على رأس هذا الحزب زعيمه تيموستوكل الذي إليه يرجع الفضل الأكبر في إحراز النصر في موقعة (سلامين)، لذلك كان هذا النصر من الأسباب التي قوت من شأن الديمقراطية الأثينية وجعلتها ترتكز على أساس متين حتى بلغت أوجها في عهد بركليس
لم يكن تيموستوكل من الأشراف ولا من الأرستقراط، بل ولم
يكن من الطبقات الوسطى، وكانت العادة في القديم إلا يولى
الشخص مهام دولة إلا إذا كان من أبناء البيوتات الكبيرة.
لذلك كان من أعجب الأمور أن يستطيع شخص كتيموستوكل
أن يصل إلى أعلى المناصب في الدولة وهو فرد من أفراد
الشعب، فلم يتعود الناس من قبل أن يتزعم الحزب الديمقراطي
شخص من أبناء الشعب، وإنما كانت العادة أن يتزعمه أفراد(429/33)
من الأرستقراط الذين كانوا يميلون إلى الشعب ويودون
إنصافه ورفع الظلم عن كاهله؛ بل كان تيموستوكل أكثر من
هذا، كان من أصل اجنبي، ونحن نعرف إن الشعوب القديمة
كانت تنظر نظرة خاصة إلى الأجانب لاعتبارات أساسها
الدين، كما وضح ذلك خير توضيح المؤرخ الفرنسي الشهير
(فيستل دي كولا في كتابه عن (المدينة القديمة لذلك كانوا
في مركز الخاص من الوجهة القانونية، فلم يكن يسمح لهم
بالتدخل في شؤون البلاد الداخلية إلا إذا اكتسبوا حقوق المدينة
وهي ما نعرفها اليوم (حقوق التجنس بالجنسية الأهلية). كان
أبو تيموستوكل من هذا النوع: كان أجنبياً ولكنه أكتسب صفة
المواطن بما خوله له دستور كليستين من حقوق، وكانت أمه
أجنبية أيضاً، ولكنه تمكن، بالرغم من ذلك، من أن يعتلي أكبر
المناصب في الدولة، وهو صغير السن، كمنصب الأركون في
عام 493492 ق. م. وسنه لا تزيد على ثلاثين عاماً ومنصب
الاستراتيج في عام 490489 وقد بلغ من العمر ثلاثة وثلاثين
عاماً، لأنه أوتي من المواهب والصفات ما جعله يصل إلى
الحكم في سهولة ويسر؛ إذ كان ذكياً إلى أقصى درجة من(429/34)
درجات الذكاء، وكان سريع الحكم في ثقة واطمئنان، وكان
خطيباً بارعاً ذاق اللسان فصيحاً، وكانت موهبته من هذه
الناحية موهبة طبيعية لم تأت عن طريق الدراسة ولا عن
التجربة، إنما أتاه الله حظاً عظيماً من الفصاحة والبلاغة جعله
يسيطر على مواطنيه، فيملك عليهم مشاعرهم ويوجههم أنى
شاء، فأسلسوا له القياد، وجعلوه يتربع على مكان الزعامة
فيهم. وقد تمكن من هذه الزعامة وأستأثر بها، حتى أنقذ بلاده
من خطر داهم كاد يقضي عليهم، فأحرز لها نصراً حاسماً
نقلها من دولة صغرى إلى دولة كبرى لها إمبراطورية
ضخمة، وتتحكم في موارد البلاد المجاورة وتشرف على جزء
كبير من شرق البحر الأبيض المتوسط. فتكبر وتغطرس،
وطغى وتجبر؛ ولكنه كان رجلا لا كالرجال، وعبقرياً لا
كالعبقريين. تضطرنا عبقريته إلى التغاضي عن كثير من
عيوبه، لان هذه العبقرية من النوع الذي يجعلنا ننحني أمامه
إجلالاً واحتراماً. وهو كغيره من الشخصيات العظيمة التي
أحدثت انقلاباً هائلا في تاريخ بلادهم مثار نزاع بين كثير من
المؤرخين ولا سيما القدماء منهم مثل أبي التاريخ هيرودوت،(429/35)
والمؤرخ الأول توسيديد: قسا الأول عليه قسوة شديدة، فأصدر
عليه حكما في شيء كثير من البعد عن جادة الحق، أما الثاني
فكان أقرب إلى الاعتدال: وقف إلى صفه ودافع عنه دون
تحفظ ولا احتياط
نظر تيموستوكل إلى بلاده فوجدها عبارة عن شبه جزيرة
تحيط بها المياه من جميع الجهات إلا جهة واحدة، ووجد
الخطر عليها عظيم إذا ما أتى العدو إليها يغزوها عن طريق
البحر فينزل إلى البر - كما فعل الفرس - قوات هائلة، لا
يستطيع الأثينيون لها رداً ولا صداً، إلا إذا كانت لديهم قوات
بحرية تستطيع أن تنازلهم فتبعدهم عن أرض الوطن، فأخذ
يعلن بين الأثينيين أن مستقبل أثينا على البحار. وقد خالف
الكثيرون في ذلك؛ ولكن التجارب والحوادث التي وقعت فيما
بعد أيدت رأيه وصدقت نظريته. رأى كثير من أبناء جلدته أن
موقعة ماراتون هي آخر المواقع بين الفرس واليونان، وأنهم
ما داموا قد انتصروا فيها، وما دام العدو قد ابتعد عن بلادهم
فلن يعود إليهم أبداً. لذلك وثقوا واطمأنوا؛ أما هو فكان يرى
غير هذا الرأي، كان يرى أن ماراتون ما هي إلا خطوة من(429/36)
خطوات النزاع بين الفريقين، وأن الفرس لا شك راجعون من
جديد للانتقام لأنفسهم من الهزيمة الساحقة التي لحقتهم من
قبل، وذلك لوقوفه على بعض أخلاقهم ولمعرفته ببعض
عاداتهم. من أجل هذا رأى أن يمكن لأثينا على البحر بأن
يؤسس لها أسطولا بحرياً ضخماً يجعل لها السيادة البحرية من
دون منازع. ورأى أيضاً أن يعمل على تحويل الشعب الأثيني
من شعب حربي بري، إلى شعب حربي بحري، من شعب
مشاة وفرسان، إلى شعب ملاحين وبحارة، ولكن هذا وحده لا
يكفي، فلابد إلى جانب هذا من اختيار المواني المنيعة التي
تصلح لإرساء الأسطول، والمواقع الطبيعية التي إن حصنت
صلحت مراكز مهمة للدفاع عن البلاد. فعدل عن ميناء فالير
المكشوف لتعرضه للرياح والأعاصير، ولعدم صلاحيته من
الناحية الطبيعية، إلى ميناء بيريه وحوله خلجان طبيعية منيعة
كخليج (نريا) وخليج (موينخيا)؛ وهذه الخلجان تصلح هي
الأخرى لان تكون مواني جيدة. فأخذ يحصن هذا الميناء
الجديد، وساعده على القيام بهذه الأعمال أعمال التحصين -
أن كان يتولى مركزاً من مراكز القيادة - وهو مركز(429/37)
الأستراتيج في عام 490489
ذاعت آراء (تيموستوكل) وانتشرت بين الاثينيين، فانضم إليه كثير منهم يؤيدونه ويساعدونه على تكوين هذا الأسطول البحري الضخم الذي يحلم بتأسيسه، بعد أن سمعوا ما سمعوا عن استعداد الفرس العظيم، وقرب قيامهم بالهجوم على وطنهم، وبعد أن رأوا من هذا النزاع الذي يهدد بلادهم بالخطر بين أثينا وأرجينا، وفي هذا النزاع لم تستطع أثينا إحراز النصر آلا بعد صعوبة كبيرة، بعد أن أعارتها كورنت عشرين سفينة من أسطولها، فأثر الخطر الفارسي والخطر الأرجيني عليهم. وقد زاد عدد المؤيدين لنظرية (ثيموستوكل) زيادة هائلة بعد ما وجد الأثينيون أن وطنهم أصبح في حاجة شديدة إلى المواد الغذائية التي قلت بنسبة عظيمة بعد أقفال الأسواق الاقتصادية في الخارج في البلاد المعادية لبلادهم، كبلاد البيوسيين والشاليين، أو في بلاد خضعت للفرس مثل بلاد شبه جزيرة اكليسيديك والبحر الأسود ومصر. فلم يكن بعد ذلك أمام أثينا أسواق اقتصادية واحدة تستطيع أن تتمون منها وهي سوق الغرب في صقلية وبلاد اليونان الكبرى؛ وأثينا لا تستطيع أن تستورد من هذه البلاد القمح والمواد الغذائية الأخرى إلا إذا كان لديها أسطول عظيم يحمل لها ما هي في حاجة إليه
ثم إن تيموستوكل أثر على مواطنيه بحجة أخيرة وهي من أقوى الحجج تأثيرا على ذهنية الشعب - إن صح إن للشعب ذهنية - فبين لهم إن الأسطول المزمع إنشاؤه سيكون مورداً لإعالة فقراء الأمة من الذين لا يجدون عملا ما، وهم أصحاب الطبقة الرابعة من الشعب المسماة طبقة (التيت فمن هذه الطبقة سيجند الملاحون والبحارة الذين من دونهم لا يستطيع الأسطول أن يقوم بمهمته على الوجه الأكمل
أقنعت أغلبية الشعب بهذه الحجج المختلفة؛ ولكنهم تساءلوا: من أين لنا بالمال الذي يساعدنا في بناء هذا الأسطول، ونحن نعرف أن الأسطول يحتاج إلى مال كثير؟ لم يقفوا كثيرا عند هذا السؤال، إذ ساعدهم الحظ في ذلك الوقت فوجدوا المال اللازم، وجدوه في مناجم (لوريون) بالعثور في عام 483 - 482 على عرق ثالث من عروق الفضة قائم بين طبقتين من الطبقات الأرضية، كطبقة (الشيست) وطبقة (الككلير)، وكان هذا مصدر ثروة(429/38)
كبيرة، وعلى الأخص بعد أن نضب معين العرقين السابقين. وهنا اختلفت آراء الشعب بصدد هذا المصدر الجديد من مصادر الثروة، فانقسمت الأمة قسمين قسم على رأسه أرشيد الزعيم المعروف يريد توزيع هذا الإيراد - وهو إيراد منتظم - بين المواطنين جميعا (ويتراوح هذا الإيراد بين 50، 100تالانت) فإذا وزع على هذا النحو نال كل فرد ما يقرب من 20 دراخمة (والتالانت فيها 6000 دراخمة). وقسم آخر على رأسه ثيموستوكل يرى أن تعير الدولة لكل مائة من كبار الأغنياء (تالانت واحدة) على أن تكلف كل وحدة من هذه الوحدات المئوية ببناء سفينة، حتى إذا اجتمعت هذه السفن بعد بنائها كانت نواة طيبة للأسطول الأثيني. طالت المناقشات بين الفريقين وزاد النزاع حدة بينهما، ولكن تيموستوكل وأنصاره تغلبوا في آخر الأمر، ونفى الشعب الزعيم المعارض أرشيد، وظفر ثيموستوكل وأتباعه بما أرادوه لوطنهم من هذا الأسطول الذي كان السبب الأكبر في إحراز النصر في أكبر معركة بحرية في القرن الخامس على الإطلاق وهي معركة (سلامين). وعلى هذا النحو حدث هذا الانقلاب الهائل الذي حول أثينا من دولة برية إلى دولة بحرية لها أسطول قوي ضخم كان هو السبب الرئيسي في بناء مجدها وعظمتها في القرن الخامس قبل الميلاد، فأصبحت أثينا بذلك دولة بحرية قادرة على الدفاع عن أرضها وعن أرض اليونان جميعاً ضد قوات كبيرة تفوقها في العدد والعدة وهي قوات الفرس. وقد كان ثيموستوكل في هذا رجلا عظيماً، إذ استطاع أن يحدث هذا الانقلاب وأن يكون هذا الأسطول الذي جمع ما يقرب من مائتي سفينة والذي كان العامل الأساسي في بناء الإمبراطورية الأثينية البحرية
أخذت أثينا بعد ذلك تستعد للمعركة القادمة وهي واثقة ومطمئنة إلى أسطولها القوي، ولكنها تشعر تمام الشعور إنها لا تستطيع وحدها مناهضة الفرس، بل كانت على يقين من ضرورة الحصول على تأييد إسبرطة والدول اليونانية الأخرى. وكانت إسبرطة أنانية، بلغت أنانيتها حداً عظيماً جداً عرف في التاريخ القديم، فهي لا تهتم إلا بشؤونها وبشؤون جزيرة البيلويونيز الخاصة لسلطانها المتمكنة لأمرها، ولكنها فهمت أخيراً أن من مصلحتها الاتفاق مع أثينا والمدن اليونانية الأخرى التي تريد الدفاع عن اليونان لوضع خطة دفاعية مشتركة، لأنها أحست أن في انتصار الفرس ترجيحاً لكفة أعدائها كدولة أرجوس التي(429/39)
تناوئها العداء في شبه جزيرة البيلوبونيز، وإضعافاً لسلطانها ونفوذها هي؛ لذلك دعت إلى عقد مؤتمر يوناني عام، هو مؤتمر الجامعة اليونانية الأول، اشترك فيه عدد من اليونان، وامتنع عن الاشتراك فيه عدد آخر كان يؤيد الفرس، ولزم عدد ثالث جانب الحياد وفي هذا المؤتمر العام الذي عقد بجوار مدينة كورنث نرى ثيموستوكل يلعب دوراً بارزاً مهماً هو دور الصلح والتوفيق بين اليونان، وتحقيق الوحدة بينهم جميعاً ضد العدو المشترك، فسعى سعياً حقيقياً للقضاء على أسباب الخلاف بينهم، وعلى الأخص بين أثينا وأرجينا؛ ثم إنه أظهر في هذا المؤتمر أيضاً بعداً في النظر وترفعاً عن المطامع الشخصية، فقبل أن يكون قواد الأسطول والجيش من رجال إسبرطة، وأن يمثل هو في الأسطول مكاناً ثانوياً مع إن المنطق كان يقضي بأن تكون قيادة الأسطول لأثينا، لأنها أصبحت أقوى الدول اليونانية في البحر، ولكنه تغاضى عن ذلك ورضى أن يعمل تحت إمرة أمير البحر الإسبرطي (إيربياد) بل وأيده كل التأييد، مع أن (ايربياد) هذا كان دونه في شؤون البحر، ثم بذل له من النصح والإرشاد في موقعة سلامين الكبرى ما يحملنا على أن نقارن بين موقفه هذا وبين موقف سيف الإسلام خالد بن الوليد الذي رضى أن يجاهد في سبيل الإسلام تحت قيادة أبي عبيده بن الجراح مع أنه يفوقه في الفنون الحربية، ومع أنه كان يتولى شؤون القيادة قبله على نفس الجيش الذي كان يحارب في صفوفه. وقد رضى كل من ماند وثيموستوكل بهذا الأنهما لا ينظران إلى مصالحهما الشخصية بل ينظران نظرة كلها جلال وجمال. هي النظرة إلى المصلحة العامة ووضعها في المكان الأول من اهتمامهم ورعايتهم. ثيموستوكل من الرجال الذين يفضلون وطنهم على أشخاصهم ويتعالون بمطامع بلادهم على مطامعهم الشخصية، لذلك كانوا أبطالا حقاً. من أجل هذا السبب استطاعوا وأن يكونوا عند حسن ظن مواطنيهم بهم، فكونوا لا نفسهم مجداً لا زال باقياً على الحياة، واسماً لا يزال صداه يرن في آذاننا حتى اليوم
هذا في الخارج؛ أما في الداخل فقد رضى أن يستدعى منافسه ومعارضه أرشيد من المنفى، بل وأن يشركه معه في الحكم، فاتفق الاثنان معاً في ذلك الوقت العصيب الذي تعرضت فيه بلادهم لخطر الغزو الأمين. فبرهن ثيموستوكل بذلك أيضاً على أنه قادر على دفن الأحقاد الشخصية في سبيل رفع كلمة الوطن(429/40)
وعلى هذا النحو استطاع ثيموستوكل أن يحقق الوحدة داخل وطنه بالاتفاق مع خصومه ومعارضيه، وأن يحقق الوحدة في الخارج بالاتفاق بين بلاده والبلاد المنافسة لها وعلى رأسها إسبرطة، وأن يعد العدة للنزاع المقبل ببناء أسطول قوي لا يستطيع اليونان إحراز النصر بدونه، فكان أن أعد البلاد على خير وجه لاستقبال قوى الفرس. واليونان مطمئنون إلى عدالة قضيتهم وواثقون إلى قوادهم وزعمائهم، وهم يعملون آخر الأمر ويحاربون متحدين متراصين كالبنيان يشد بعضه بعضاً في سبيل الدفاع عن الوطن المقدس
كان هذا هو الدور الإعدادي الذي أظهر فيه ثيموستوكل مواهب العبقرية في الزعامة والتنظيم والإدارة. أما عن دور التنفيذ وهو الدور الحاسم الذي أحرز فيه اليونان جميعاً النصر المبين فله مجال آخر سنحدثك عنه في العدد القادم إن شاء الله
محمد الشحات أيوب(429/41)
6 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
(تابع الفصل الأول)
يلاحظ أن أهل القاهرة وسكان الأقاليم الشمالية حيث يكثر المهاجرون لاعتدال الجو: هؤلاء لقلة تعرضهم للشمس يمتازون بوجوههم الشديدة الصفرة وببشرتهم الناعمة الملمس، بينما الآخرون يزداد لونهم ظلمة وبشرتهم غلظة. أما في مصر الوسطى وفي الصعيد الأعلى فيشتد وهج الشمس وتزيد سمرة الوجه كلما صعد الأنسام نحو النوبة حيث يكون الجو أشد حرارة، وحيث يحل النوبيومن محل المصريين تدريجياً. وسحنة المصريين المسلمين بيضية الشكل جميلة الهيئة. فالجبهة معتدلة الحجم نادرة الارتفاع شديدة التقوس، والعينان بعيدتا الغور، أو تبدوان كذلك نتيجة لخفض الحاجب من بهر الشمس، سوداوان لامعتان، تشبهان بعض الشبه أعين الأجناس الحبشية، والأنف مستقيم غليظ بعض الشيء، والفم جميل التكوين، والشفتان اقرب إلى الغلظ، والأسنان جميلة الشكل تشبه إذا نظرنا إلى الموميات أسنان المصريين القدماء واللحية سوداء خفيفة جعداء. وقلما ترى عيون رمادية، إلا في ذرية الأجانب من أوربيين وغيرهم أو في سلالتهم. وقد أعتاد الفلاحون لدوام تعرضهم للشمس كسر جفونهم؛ وهذه من ميزات البدو. وأكثر المصريين مصابون بالعور أو بالعمى. وهم لا يحلقون اللحية كلها وإنما يحلقون ما فوق الفك الأسفل وما تحته وكذلك ما تحت الشفة السفلى ما عدا العنفقة على مثال الرسول (صلعم). وقد ينتفون تلك المواضع. والقليل منهم يحلق اللحية كلها ما عدا الشاربين فلا يحلقهما أحد، وهم يطلقون لحاهم بمقدار قبضة اليد تقريباً
وهذا هو المتبع عادة. وتلك كانت عهدة الرسول صلى الله عليه وسلم، هم لمحافظتهم على(429/42)
السنة لا يطيلون الشاربين ولا يمدونهما على الأقل فوق الشفة العليا حتى لا يضايقانهم عند الأكل أو الشرب. وعادة الخضاب ليست شائعة في مصر ولأنهم يحترمون الشيب. ويحلق المصريون شعر الرأس كله، أو يتركون خصلة صغيرة فوق الناصية تسمى (شوشة). ويقال إن هذه العادة الأخيرة - التي تكاد تكون عامة بينهم - منشأها خوف المسلمين عند وقوعهم في أسر الكفار أن يعمد هؤلاء - عند ذبحهم - إلى وضع أيديهم النجسة في الفن ليحملوا الرأس منه إذا لم يجدوا شعراً. وقد تكون اللحية قصيرة أيضاً، ولكن الراجح أن تلك العادة أخذت عن الأتراك، لأنها لا تشاهد عامة عند البدو، ولأن عادة حلق الرأس ظهرت بين العرب منذ عهد قريب، ثم إنها للنظافة. ويتبع المصريون عادات أخرى لنظافتهم لا محل لذكرها هنا. ويلاحظ أن كثيراً ما يشم رجال الطبقة السفلي وغيرهم أذرعهم وأحياناً أيديهم وصدورهم كما يفعل النساء، (وسنصف هذه العادة عند الكلام عن النساء)
وتتألف ملابس رجال الطبقتين العليا والوسطى من الأجزاء الآتية: أولاً، سروال فضفاض من الكتان أو القطن يشد حول الوسط بشريط طرفاه مطرزان بالحرير الملون وإن كانا تحت الملابس الخارجية. ويصل السروال إلى ما تحت الركبتين بقليل أو ينزل حتى الكعبين. إلا أن الكثير من العرب لا يلبسون السراويل الطوال لأن النبي (ص) حرمها عليهم. بعد ذلك قميص أكمامه واسعة جداً تصل حتى المعصم، يصنع من نسيج الكتان الأبيض الرخص أو من نسيج القطن أو الحرير الموصلي أو الحرير المخلوط بالقطن، وكلها مفوفة بيضاء. ويرتدي أغلب الناس فوق هذا، عندما يبرد الطقس (صديرياً) قصيراً من الجوخ أو من الحرير الملون المفوف أو من القطن، ولا أكمام له. يضاف إلى هذا رداء طويل من الحرير المفوف أو القطن يسمى (قفطان) أو على حسب التعبير الغالب (قُفطان)) ينزل حتى الكعبين وأردانه الطويلة تمتد إلى ما بعد أطراف الأصابع ببضع بوصات وتشق من فوق الرسغ بقليل، أو من وسط الذراع بحيث تكشف اليد؛ إلا انه يمكن سترها بالكم عند الضرورة، لأن من العادة أن تغطى اليدان في حضرة شخص عظيم. ثم يلف حول هذا الثوب شال ملون أو قطعة طويلة من الحرير الموصلي الأبيض المنقوش. وأخيراً، الحلة الخارجية العادية وهي عبارة عن كساء طويل من الجوخ، من أي لون كان، يسميه الأتراك(429/43)
(جبة) ويسميه المصريين (جبة) ولا تتعدى أكمامه المعصم تماماً وبعض الأشخاص يلبسون (البنش) - وهو قباء من الجوخ - أكمامه كإكمام القفطان طولا ولكنه أوسع منها ويرتدونه - على الأخص - في الحفلات فوق الجبة، ولكن الكثير منهم يستبدلونه بها؛
وهناك رداء آخر يسمى (فرجية) يشبه البنش تقريباً وأكمامه طويلة غير مشقوقة، ويلبسها غالباً رجال العلم. ويتوشح شقاءً بنوع من المآزر الصوفية السوداء يسمى (عباية)، وقد تشتد فوق الرأس، وفي الشتاء أيضاً يتدثر كثير من الناس بشال من الحرير الموصلي، أو غيره (مثل الذي يستعملونه للعمامة) يلف حول الرأس والكتفين.
أما غطاء الرأس، فيتكون من قلنسوة قطنية صغيرة مطابقة للرأس تماماً وتغير كثيراً. ثم يوضع (الطربوش) - وهو غطاء من الجوخ الأحمر - محكم على الرأس أيضاً، يتدلى من قمته شرابة من الحرير الأزرق القاتم، وأخيراً يلف على الطربوش قطعة طويلة من الحرير الموصلي الأبيض المصور، أو شال كشميري وهذه هي العمامة. وقلما يستعمل الشال الكشميري إلا عندما يبرد الجو. وقد يلبس البعض طربوشين أو ثلاثة، الواحد فوق الآخر. أما عمامة الشريف وهو الموصول نسبة بنسب الرسول فخضراء، وله وحده هذا الامتياز؛ كما أنه ليس من المعتاد أن يلبس أحد غير الأشراف ثياباً خضراء ناضرة
أما الجوارب فلا يستعملها إلا بعض الناس شتاء، ويتخذونها من الصوف أو القطن. وأما الحذاء فهو من الجلد المراكشي الأحمر السميك وطرفه الأمامي مدبب معقوف إلى أعلى. وينتعل البعض حذاء داخلياً من الجلد المراكشي الأصفر الناعم ذا نعل من الجلد نفسه، فيخلع الحذاء الخارجي وحده عند الدوس على البسط ولهذا السبب يلبس الحذاء الخارجي مكعوباً
ويحمل المصريون في خنصر اليد اليمنى خاتماً من العقيق أو غيره ينقش عليه اسم حامله ويصاغ عادة من الفضة. ويرفق الاسم غالبا بعبارة خادمه (أي خادم الله أو عبده) أو بعبارات أخرى تعبر عن إيمان الشخص بالله الخ. وكان الرسول (ص) يستقبح استعمال الذهب، ولذلك قلما يلبس المسلمون خواتم من ذهب. ولكن النساء يتحلين بمختلف الحلي (من خواتم وأساور الخ) من هذا المعدن الثمين
ويستعمل الخاتم لختم الرسائل وغيرها من المكاتبات! ويعتبر الخاتم أصدق من إمضاء اليد،(429/44)
وطريقة ذلك أن يلطخ الخاتم بقليل من الحبر بإصبع من الأصابع، ثم يضغط على الورقة بعد أن يأخذ الشخص من ريقه بإصبع آخر ويبلل المكان المراد ختمه. وكل فرد تقريباً يحمل خاتماً متى كان يستطيع ذلك ولو كان خادماً. ويضع محترفو الكتابة والعلماء وغيرهم في منطقتهم دواة (دواية) من الفضة أو النحاس الأصفر أو النحاس الأحمر، وهي عبارة عن محبرة أو صندوق به أوعية للحبر والأقلام. ويحمل البعض بدلا منها أو علاوة عليها مطواة أو خنجر، وتلك عادة قديمة. أنظر حزقيال، الإصحاح التاسع الآية الثانية
ويحمل المصريون شبكهم معهم أينما حلوا (إلا في المساجد) أو يحملها لهم خدمهم؛ وأن كانت العادة لم تجر بالتدخين في الشوارع. وهم يضعون كيس التبغ في صدر القفطان الذي يتهدل فوق الحزام، كما يضعون فيه أيضاً مناديلهم المطرزة بالحرير والمرصعة بالذهب، بعد أن تطوى باعتناء
وقد يرغب الكثير من أفراد الطبقة الوسطى أن ينفوا عنهم فكرة الإثراء فيرتدوا فوق ملابسهم مئزراً قطنياً أسود اللون لا تميزه عن مآزر العامة ميزة
عدلي طاهر نور(429/45)
في الليل!
للأديب عبد الرحمن الخميسي
(في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي. . . طلبته فما
وجدته)
(التوراة)
أسدَلَ الليْلُ ياَ حَبيبي سُتورَهْ ... ومَشَى في جَوَانِبِ المعَمُورَهْ
كاهِناً تْخفُقُ الشُّموُعُ عَلَى كَفَ ... يهِ حَيَرَي كَأَنَهَا مَذْعُورَهْ
حَالِماً يَعْقِدُ الضَّباَبُ حَوالي ... هِ أكاِليلَ في الدُّجى مَنْثُورَهْ
شَاعِراً يَنْقُلُ النَّسِيمُ أَغَانِي ... هِ وَتَنْدى جِوَاوِهُ الْمَسحُورَهْ
سَاحِراً يَبْهَرُ النُّفُوسَ وَيُلقِى ... بِعَصاهُ عَلى الرِّيَاضِ الشَّجِيِرَهْ
شَادِياً يُنْصِتُ الوُجُودُ لِمُوسِي ... قاهُ حَتى كَأِنَّها مَنْظُورَهْ
عَابِدَاً تَظْمَأُ الصَّلاةُ إِليهِ ... وَمَحَارِيبه السَّمَاءُ الكَبِيِرَهْ
ذَاهِلاً أَغْرَقَ الدُّنَى فيْ ذُهُولٍ ... مُسْتَحَبٍ إلى القُلُوب الكَسِيرهْ
صَامِتاً تَضْجَرُ المُرُوجُ بِنَجْوَا ... هُ وَلَكِنَّهُ وَسِيعُ السَّرِيرَهْ
سَاهِماً يَرْقُصُ الخَيَالُ حَوَالي ... هِ وَيُجْرِي الرَّبِيعُ فِيهِ عَبِيرَهْ
رَاحِماً يَلجَأُ الحَزِيِنُ إِليهِ ... بِشِكاَياتِهِ الدَّوَامِي المَرِيرَهْ
شَاعَ فيْ جَوِّهِ السُّكُونُ وَمَدَّتْ ... فِيهِ أَنْفاسَها النُّجُومُ المُنيرَهْ
وَجَرَتْ خَلفهُ الظُّنُونُ وَحَاطَتْهُ ... طُيُوفٌ مُجَنَحاتٌ سَحِيرَهْ
فَهوَ لِلْبَائِسِ الطَّرِيدِ عَذَابٌ ... يَمسَحُ الفَجرُ فيْ الفَضَاءِ سُطُورَهْ
وَهَوَ لِلعَاشِقِ الوَفيِّ سَمِيعٌ ... يَتَلَقَّى عَنْ حُبِّهِ أُسطُورَهْ
وَهوَ لِلشَّاعِرِ الكَئِيبِ مَلاذٌ ... يْنفُضُ الدَّمْعَ فيْ صُواهُ الضَّرِيرهْ
أَقْبَلَ اللَّيْلُ! آهٍ يَا وَيْلتاَ مِنْ ... مَقْدَمِ اللَّيْلِ لِلنُّفُوسِ الْكَسِيرهْ
أَقْبَلَ اللَّيْلُ! فاَسْتَيَدَّتْ بِقَلْبي ... حَسَراتٌ عَلَى عُهُودِي الَخْضِيرَهْ
وَسَرَى فيْ دَمِي حَنِينٌ وَشَوقٌ ... مُبْهَمٌ. . . آهٍ مَا أَشَدَّ سَعِيرهْ(429/46)
وَصَحَتْ حَوْليَ الهُمُومُ وَنَاشَتْ ... ذَاتَ نَفسِي كَأَنْها مَسْعُورَهْ
أَقبَلَ الِليْلُ فَاَرتَطَمَتُ كَأنِّي ... مَوجَةٌ فَوقَ شَطِّهِ المَحْبُوبِ
قَذَفَتْ بِيَّ إلَيهِ أَشْوَاقُ رُوحِي ... وَشُجُوني وَحَسرَتي وَلَهِيِبي
وَارِتِيَاحِي إلى الظّلامِ وَيَأَسِي ... وَحَنِيني إلى السُّكونِ الرَّحيِبِ
وَاغتِرَابي عَن الأَنامِ كأَني ... زَهْرَةٌ بَيْنَ جَلمَدٍ وَجِدِيبِ
وَهُرُوبي مِنْ الْحَقِيقَةِ يَا لَيْ ... لُ فَأَتْرِعْ بِخَمْرِةِ الوَهْمِ كوبي!
آهٍ! إِني أُرِيْدُ أَنسَى غَرَامِي ... وَجِرَاحِي وَذِكْرَيَاتِ حَبِيِبي
أَبْعِدُوا الصُّوْرَةَ الجَمِيلةَ عَني ... أَبْعِدُوها لِتُخْمِدُوا تَعْذِيِبي!
أَبْعِدُوا الصُّورَةَ الجَمِيلةَ عَني! ... أَبْعِدُوها فَإنّها لحَبيِبي!
فَهي في مَسبَحِ الهَواءِ تَهَادَتْ ... رِقَّةً تَبْعَثُ اشْتِيَاقَ القُلُوبِ
وَهْيَ في جَبْهَةِ السَّمَاءِ هِلاَلٌ ... يَتَغَنَّى بِنُورِهِ تَشْبِيِبي
وَهيَ في الظُّلْمَةِ المَدِيدَةِ نُسْكٌ ... شَاعَ في رَحْبِها النَّدِىِّ الرِطِيِبِ
وَهيَ في البَحْرِ! وَالسَّماءِ! وَفي النُّو ... رِ! وفي سُحمةِ الظّلامِ الرهِيبِ!
وَهيَ في الأَرْضِ كلِّها. . حَيَواتٌ ... وَمِثالٌ لكلِّ حُسنٍ نَشيبِ
صَاغَهَا اللهُ مِنْ مَفَاتِنِ هَذا ال ... كَوْنِ فنّاً لِكلِّ فَنٍ ذَهِيبِ
أَبْعِدُوا الصُّورَةَ الَجمِيلةَ عَني ... أَبعِدُوهَا لِتُخْمِدُوا تَعذِيبي!
كيْفَ أَنِّي أُرِيدُ أَنْسَى غَرَامِي ... وَجِرَاحِي وَذِكْرَيَاتِ حَبِيبي؟
وَلقَدْ أُطْبِقَتْ جُفُوني وَلكِنْ ... قَدْ تَرَاءتْ رُسُومُهُ في جُنُوبي
أَيها الليْلُ قَدْ فَزِعتُ إلى عَط ... فِكَ مِنْ ظُلمِ حُرْقَتي وَكُروبي
أَنَا أَهْوَاكَ يَا ظلاَمُ فَأَطفئِ ... لي دَرَارِيكَ وَاستَمِعْ لِنَحيِبي!
وَلتَكُنْ فِي النَّسيِمِ مِنكَ شَكاتي ... ارْوِهَا لِلسَّمَاءِ عَنْ مَكْرُوبِ!
أَيُّهَا الليلُ لَيتَني كنتُ نَجماً ... عَائماً في مِيَاهِكَ الزرْقاءِ
أَقطَعُ الظُّلمَةَ الأتِيَّةَ لهَفَا ... نَ إلى مَخْدَعِ الْحَبيبِ النَّائي
ثمَّ أُضْفِي عَلَيهِ مِني خُيُوطاً ... تَحْتَويهِ في ضَمِّةٍ رَعناءِ
لأُرَوِّي بِقُبلَةٍ مِنهُ نَفْسي ... تُطلِقُ الرُّوحَ من أسًى وَعَنَاءِ(429/47)
وَأُحَلِّي بِسِحرِ عَينَيْهِ ذاتي ... ثَّم أزْهى عَلَى نُجُوم السَّمَاءِ
غَيْرَ أَني يَا حَسْرَتا آدَمِيٌّ! ... قَيَّدتِني أَرْضِيَّتِي في بِنائِي!
أَيها الليلُ لَيْتَني كنتُ عصفو ... راً طَلِيقاً مَعَ السَّنَي وَالهَوَاءِ
كنْتُ نَقَّرتُ فَوقَ نَافِذَةِ الَمحْ ... بُوبِ أدْعُوهُ لاسْتماعِ غِنائِي
ليُغنِّي مَعِي وَيُحْكِمَ قَيدِي ... بَيْنَ كفّيْهِ رَاضِياً بِشَقَائِي
غَيْرَ أَني يَا حَسْرَتاَ آدَميٌّ! ... قَيَّدَتْني أَرْضِيَّتِي في بِناَئي
أيها الليلُ ليْتَ أَنِّي هَوَاءٌ ... سَابحٌ في حدِيقَةٍ زَهْرَاءِ
أجْمعُ العِطْرَ مِنْ ثُغُورِ الأَقَاحي ... وَالرَّياحينِ في مَدَى أَحْناَئي
ثمَّ أَمْضِي إلى حَبِيبي عَلِيلاً ... أَسْكَرَ البَدْرُ عُنْصُري بالضَّياَءِ
أَحمِلُ الطِّيبَ في فُؤَادِي إِليهِ ... وَأُفرِّي حِيَالَهُ أحْشاَئي
لأكُونَ الأَنفاَسَ في رِئَتَيهِ ... وَلأحْظَى في صَدرِهِ بفَناَئِي
غَيرَ أنِّي ياَ حَسرَتا آدَمِيٌّ! ... قيَّدَتني أَرْضِيَّتي في بِنائي
أيُّها اللَّيْلُ! ليتَني كنتُ روضاً ... مُورِقَ الزَّهْرِ، وارِفَ الأفياءِ
نمَّقَتْ صَفْحَتي أَنَامِلُ حَسنَا ... ءُ رَبيِعيَّةُ النّدَى والرُّواءِ
كنْتُ نَسَّقْتُ مِنْ وُرُودي تاَجاً ... لِحَبيبي كالهالةِ البَيْضَاءِ
غَيْرَ أَنِّي ياَ حَسْرَتَا آدَمِيٌّ! ... قيَّدَتني أَرْضيَّتي في بِنائي!
أَيُّهاَ اللَّيْلُ ياَ مُقِيلَ الْحَيَارَى ... والْمَسَاكِينِ في البَلاَءِ الشديدِ
في دَمي ثَوْرةٌُيَبُثُّ لَظاَهَا ... هَاجِسٌ أَلهَبَتْهُ ناَرُ الصُّدودِ
وَعَلَى مُهْجَتِي يَؤُزُّ الْتِيَاعٌ ... جَائِعٌ لِلوَقودِ بَعْدَ الوَقُودِ
وَأَناَ بَيْنَ ما أُعَاني لَهِيفٌ ... أَتهاَوّى في قلِبَي المَهْدُودِ
نهْزَةٌ لِلشُّجُونِ لَكِنَّ رُوحي ... تَتَخَطَّى إليْكَ كلَّ السُّدُودِ
خُذْ بِنفْسي إلى السَّلاَمِ وَهَدِّى ... سَوْرَةَ الوَجْدِ في فُؤَادِي العَمِيد
وأمْسَح السُّهْدَ عَنْ عُيُوني وصُغْ مِنْ ... زَفَرَاتي النّشِيدَ تِلوَ النّشِيِدِ
فَارْتِقابُ الوِصَالِ أمرٌ بَعيدٌ ... خِلتُهُ لَيْسَ كالسُّهَا بِالْبِعَيِد
وَحَرَامٌ عَلَى الغَرامِ ضَيَاعِي! ... وَحلاَلٌ فِي ظِلِّهِ تَغْرِيِدي!(429/48)
وَحرامٌ عَلَى العَذَابِ اجْتِياحي ... وَأَنا مَا بَلَغتُ عُمرَ الوُرُودِ
وحرامٌ عَلَى العُيُونِ اللوَاتِي ... حيَّرَتْني، فِي بُعْدِها تَشْريدِي
وحرامٌ عَلَى الهَوَى يَا حبيبي ... أنْ يُحيلَ السَّعيدَ غَيرَ سَعيِد! ِ
وحرامٌ عَلَى الليَالِي طَوَافِي ... حوْلَ أَهْوَالها الغِضَابِ السُّودِ
وأَناَ ما خُلِقْتُ إِلا لأشّدُو ... في رِكابٍ مِنَ الجمَالِ فَرِيدِ
أيُّهَا الليلُ في فُؤَادِيَ لَيلٌ ... زَاخِرُ الَموْجِ لَيْسَ بالْمَحْدُودِ
وَسَيَهْتَزُّ في ضُلوعكَ فَجرٌ ... يُوقِظٌ الطَّيرَ لِلنهارِ الجَديدِ
وَأَناَ مُظْلِمُ الْجَوانِحِ ظَمْآ ... نُ إلى فَجْرِى الْمُنيرِ الْفَقِيدِ
لِي رَجَاءٌ في رَحْمَةِ اللهِ لَمَّا ... وَسِعَتْ في الوُجُودِ كُلَّ الوُجُودِ
أَنْ يُنِيرَ الْحَيَاةَ في قَلبِيَ الدَّا ... جي وَيُقْصِى عَنِّى هَزِيمَ الرُّعُودِ
فأَناَ زَوْرَقٌ يُضَلِّلُهُ الإِعْ ... صَارُ عَنْ شَطِّهِ الأمِينِ الوَحِيدِ
حَجَبُوهَا! وَمَنْ سَيُطْلِقُ أَسْرَا ... بَ الأمَاني إلى وُكورِ حَيَاتي؟
حَجَبُوهَا! وَمَنْ يُنَضِّرُ أَغْرَا ... مِي وَيَجْنِي مَع الصِّبَا ثَمَرَاتي؟
حَجَبُوهَا! وَمَنْ يُجَمِّلُ عَيْشِي ... وَيُغَذِّى بِحُسْنِه صَبَوَاتي؟
وَلِمَنْ جِئْتَ ياَ غَرَامِي إلى الدُّنْ ... ياَ؟ وَمَنْ ذَاتُهُ تُكمِّلُ ذاتي؟
حَجَبُوهَا! فَمَنْ يُهدْهِدُ أَشْوَا ... قِي إلَيهاَ وَلْهَفَتِي وَشَكائي؟
أَيُّهَذَا القَضَاءُ لا كنْتَ ياَ غَا ... دِرُ! فَرَّقْتَ في اللَّهِيبِ شَتاتي
وَشَرِبْتَ الدِّمَاَء مِنْ غَوْرِ قلبِي ... وَاخْتَطَفْتَ الضِّيَاَء مِنْ بَسَمَاتي
وَغَرَسْتَ الْهُمُوم في ذاتِ نَفْسِي ... كَحِرابٍ تُدَكُ في جَنَباَتي
وَزَرَعْتُ الأشْوَاكَ في طُرُقاتي ... وَأَرَقتَ الذُّهولَ في نَظَرَاتي!
فعَبَرْتُ السِّنِيَن كالطْائرِ المح ... مُومِ أقتاَتُ من رِمالِ الْفَلاةِ
أيْنَ عُشِّي وَأيْكَتِي وَغَدِيري ... وَرَحيقِي وَزَهْرَتي وَلِدَاتي؟
وَلِمِاذَا أَبْعَدْتَني ياَ زَماني ... عَنْ حِمَاها! فأَظْلمَتْ طُرُقاتي؟
أناَ أهْوَاكِ يَا شَقيقَةَ رُوحي! ... أناَ أهْواكِ يَا حَيَاةَ حَياتي!
فَنِيَتُ نَفْسي في هَواكِ كما لوْ ... فَنِيَ النَّهْرُ في الْخِضَمِّ الْعَاتي(429/49)
وتَلاشَيْتُ في غَرَامكِ، وَاهْتَا ... جَتْ من الشَّوقِ والْجَوى حُرُقاتي
أَنتِ شِطْري وكَيْفَ يَبْعُدُ شِطْري ... ثمَّ تَخْبُو إذا نَأَى حَسَرَاتي؟
أنتِ إِشْرَاقَةٌ مِنَ اللهِ تَنْسَا ... بُ وَتَمْحُو بِنُورِها ظلمُاَتي
أَنتِ مَعْنىً فَوقَ الَجماَل رَفِيعٌ ... أَتَسَامَى إليه في صَلَوَاتي
قَرِّبينيِ مِنَ الإِلهِ وَهَاتى ... مَا تَشَائِينَ مِنْ كُئُوسِكِ هَاتى
وَخُذيني إليكِ في كُلِّ مَعْنىً ... منْ مَعَانِيكِ يا حَيَاةَ حَيَاتي!
(القاهرة)
عبد الرحمن الخميسي(429/50)
البريد الأدبي
جواب
أجيب عن سؤال الأستاذ الفاضل (ح. ج) بأن (الهناء) لفظ عربي صحيح، والله يحفظه
وحيد
البيئة ونزع العمائم
ذكر الأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك تحت موضوع البيئة في عدد 418 من الرسالة المحبوبة أن اللذين زاروا الأندلس من أهل المشرق كان فيهم من دهش حين رأى بض القضاة يجلسون للحكم بين الناس ورءوسهم عارية، ولم يفهم أن هذا من تأثير البيئة، فأهل أوربا ينزعون أغطية الرءوس في المواقف الجدية وبهم تأثر العرب في الأندلس. . . الخ
بهذا التأثير الغربي حكم الدكتور كما قد مر بك، وبه قطع، وبه استشهد، وبه يريد أن يقوّم ما أعوج من بعض أبناء زمانه ساعده الله عليهم. . . فإن صح هذا الحكم على أن أهل الأندلس تأثروا بالبيئة الأندلسية فبمن تأثر أهل المشرق وعمن أخذوا نزع العمائم في بعض المواقف وبيئتهم تختلف اختلافاً كبيراً عن بيئة الأندلس؟ ومن أخبار تلك المواقف الجدية المشرقية البغدادية الرواية الآتية: قال صاحب الأغاني في (ح9 ص97): قال الراوي حدثنا محمد بن عباد المهلبي قال: لما مات أبو عيسى بن الرشيد دخلت إلى المأمون وعمامتي علي فخلعت عمامتي ونبذتها وراء ظهري والخلفاء لا تعزى في العمائم. . . الخ
فعلى هذا أرجو من الدكتور المبارك أن يدلي برأيه في هذه الرواية ولحضرته من أبناء الشرق وتأريخه الحديث كل التحيات (بغداد)
عبد المجيد الساكني
النفط
جاء في مقال الأديب الأخ أحمد الشرباصي أن كلمة نفط عربية الأصل، ولكن يا سيدي الأديب جاء في كتاب منشة طبري أن النفط هو سائل أفضل من زيت الزيتون للمعابد وخصوصاً في ليلة السبت. وهذا الكتاب مطبوع في بغداد من قبل 1700 سنة فهو دليل(429/51)
على أن الاسم عبراني لا عربي. والرجاء من علمائنا اللغويين وهم الأفاضل الأيوبي بك والعوامري بك والنشاشيبي بك أن يفيدونا هل نفط عربية أو يوجد لها اسم آخر بلغة العرب؟ ولهم الشكر من قراء الرسالة
(القدس الشريف)
داو ود أحمد العاروري
لحبيب أم لابن عبد ربه؟
في (يتيمة الدهر) للثعالبي ج1ص400 الأبيات الآتية منسوبة إلى حبيب بن أحمد الأندلسي وهي:
ودعتني بزفرة واعتناق ... ثم نادت متى يكون التلاق
وتصدت فأشرق الصبح عنها ... بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني مت قبل يوم الفراق
وقوله:
هيج البين دواعي سقمي ... وكسا جسمي ثوب الألم
أيها البين أقلني مرة ... فإذا عدت فقد حَلَّ دمي
يا خليَّ الروع نم في غبطة ... إن من غارقته لم ينم
ولقد هاج لقلبي سقما ... حب من لو شاء داوي سقمي
وفي (العقد) لابن عبد ربه - المجلد الرابع ص41 - عندما تكلم في التوديع ينسب هذه الأبيات إلى نفسه. فهل أخطأ الثعالبي في التحرير، أم كذب ابن عبد ربه وادعى لنفسه ما لم يقل؟ نريد من الأستاذ إسعاف النشاشيبي أن يسعفنا بالقول الفصل وله منا الشكر ومن الله حسن الجزاء
أحمد حسن علي شعيب
كتاب (محمد فريد) لعبد الرحمن الرافعي بك(429/52)
لم يكتب إلى اليوم تاريخ مصر الحديثة كاملاً، وإلا فأين صفحات فلان وفلان من أبطال جهادها والذائدة عن حقوقها؟ وإذا كان تاريخ (محمد فريد) - وهو من زعمائها الآحاد - كادت تغمره الحوادث في لجة النسيان حتى نشأ الناشئ وهو لا يدري عنه إلا ما لا غناء فيه فكيف بمن هم دون فريد أثراً؟ لقد عنى بعضهم داخل الجامعة وخارجها بالكثير من الموضوعات التاريخية، فقرأنا لهم المباحث الطيبة قي شتى فترات التاريخ، ولكنا لم نجد بين إنتاجهم التاريخي شيئاً عن مصر الحديثة المجاهدة
ولقد قيل كثيراً: إنه يصعب كتابة تاريخ الأيام القريبة لاعتبار سياسي؛ وهو قول ينبغي الأخذ به، فالمؤرخ الحق لا يعرف شيئاً يمكن أن يجور به في عمله عن قصد السبيل؛ والإنسانية استطاعت الآن إلى حد كبير أن تحمي العلم الخالص من كل تحكم ظالم؛ وإن أناساً هنا وهناك نشروا مذكراتهم، أو تأليفهم التاريخية، وفيها مساس كبير بالمعاصرين، فخرج عملهم على حظ عظيم من الإحسان والدقة. . . هذا، ووثائق التاريخ المصري الحديث لما تندثر، وفرصة تمحيص رواياته أكثر اليوم مواتا للباحثين؛ ونشر صفحاته ستفيد منه الأمة وناشئتها بصفة خاصة خيراً كثيراً؛ وإذن فليس يجمل إهمال هذه الاعتبارات جميعاً تلقاء الخوف من اعتبار واحد فيه ضعفه.
لا غرو بعد هذا إن نحن قابلنا كتاب (محمد فريد) للرافعي بك، وهو إحدى حلقات سلسلته الذهبية في تاريخ مصر القومي بالكثير من الغبطة والتقدير. . . فهو تاريخ كامل للفترة الواقعة بين سنتي 1908 و 1919، تلك الفترة التي لا نغالي إذا قررنا أن شبيبتنا التي لم تدركها تجهلها، أو - على أحسن الفروض - تجهل الكثير من أحداثها
ولقد جمع الرافعي في كتابه ما يكاد يطلع القارئ على كل ما كان في هذه الحقبة الهامة في تاريخ النهضة المصرية، وكأن القارئ الشاب عاشها فعلا، ولكن لا كفرد عادي يعرف شيئاً وتغيب عنه أشياء، بل كفرد وثيق الصلة بالحركات المختلفة للنهضة، مطلع على دقائقها
ولن يجد الشباب في كتاب الرافعي كتاباً تاريخياً دقيقاً فحسب، ولكنهم سيجدون فيه أيضاً سيرة مثالية توجه نزعاتهم الطامحة
سيرون الجهاد والمثابرة في أسمى صورهما، وسيرون كيف يكون الزهد في المنصب والجاه، وكيف يكون التفاني في المثل العليا بأوفى معانيه. وسيرون السعي السلمي المنظم(429/53)
لإيقاظ الشعور الوطني، وترقية الأفكار العامة، وإحراز الدستور. وسيرون مولد الكثير من المشروعات الإنسانية في نواحي الاقتصاد والاجتماع والتعليم، وسيرون في جنباته صوراً كثيرة لأدب تلك الفترة، وسيجدون أمامهم من الوقائع والروايات ما يستشفون منه الموضوعات الاجتماعية والسياسية وقتئذ
وسيرون - وما أنفع وما أروع! - سيرون العنت الهائل يلحق بأسلافهم المجاهدين فيزيدهم إيماناً! سيرون كيف كانت المطالبة بالحقوق جريمة يحاكم فاعلوها بالحبس مع الشغل.
وسيرون الأخلاق الواهية، وكيف ينبعث من بني الوطن من يكيدون للوطن وخدام الوطن. ثم سيرون في تاريخ الوطنية أحداثاً لم يعاهدوها إلا في تاريخ الأديان: سيرون الهجرة والفتن والردة! وسيرون بعد حامل الرسالة لا يهن ولا يهون
ليقرأ الشباب هذا الكتاب ليروا فريداً المجاهد تعذبه الغربة، وتؤوده العلة، ويود لو انتقل إلى مكان في نفس أوربا أرحم بمرضه فلا يستطيع لضيق ذات يده! ثم ليروه وهو المصاب بأدواء الكبد والاستسقاء، والذي يغادر مشفى ليدخل آخر، وينتهي من عملية القيلة المائية ليعاني (بزل) الماء الراشح في تجويف بطنه. . . تارة بالتسعة لترات، وتارة بالسبعة عشر لترا. . . ليروا هذا المريض المجهود يدع البلد الذي آنس فيه بعض الشفاء وينفر إلى المؤتمر الدولي الاشتراكي في (لوسرن) ليرفع فيه صوت مصر!
وسيتابع الشباب في الكتاب حياة (فريد) حتى تأفل، وسيسمعون قوله والمنية ترنق عليه: (لست أخاف الموت، لأنه حق، ولكن كل ما كنت أتمناه أن أرى مصر متمتعة بتمام استقلالها!)
وسيسمعون إلى وصيته الدافقة وطنية وأسى وشعراً؛ (فإذا مت فضعوني في صندوق، واحفظوني في مكان أمين، حتى تتاح الفرصة لنقل جثتي إلى وطني العزيز الذي أفارقه وكنت أود أن أراه!)
أما بعد، فقد ترك لنا الأستاذ الرافعي سبيلا ننقد منه كتابه القيم، فهو يتعقب عامداً زعيماً بعينه يبحث له عن زلات، ويفسر الكثير من تصرفاته بما يسيء إلى سيرته؛ والرافعي قد يكون رجلاً حزبياً سياسياً يتلمس الأسباب لرفع مذهب على مذهب، وينظر إلى عمل خصمه السياسي نظرة تبدي المساوئ؛ فهو لذلك قد يكون معذوراً فيما صنع، ولكننا كنا(429/54)
نؤثر أن يغلب الطابع العلمي التاريخي المحض على كتابه العظيم
وفي الكتاب أخطاء مطبعية يضيق المقام عن سردها، ونرجو أن يبرأ منها في طبعاته التالية إن شاء الله
وللأستاذ المؤلف شكر الوطن القادر صنيعه ووفاءه
(المنصورة)
لبيب السعيد(429/55)
العدد 430 - بتاريخ: 29 - 09 - 1941(/)
عبرة من (نظام أوربا الجديد)
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
(نظام أوربا الجديد) عنوان إن هو إلا زواق خادع، خلعته الدعاية النازية على سياسات شيطانية تؤسسها القوة الألمانية في أوربا، لتستغل بها الشعوب المغلوبة وتستفحل، فتمد رواق سيادتها حيث توجد مطامعها من العالم القديم إلى الجديد، إن هي خرجت ظافرة من هذه الحرب الضروس.
وقد استعار إينتسج ذلك العنوان لكتابٍ فند به (ما تدعيه النازية من أن الدول الأوربية التي تخضع لسلطان ألمانيا ستتمتع برخاء منقطع النظير في تاريخ البشرية) في ظل هذا النظام، وكشف (عن الخطط المحتملة التي تدل التجارب على أن النازيين سوف يتبعونها في المستقبل). فلله دره!
دعاية تحارب دعاية! لكن (إينتسج) جاء بحقائق وعبر يجب أن يتأملها الناس، عسى أن تستنير بها بصائر، وترتفع أوهام، ويتبين مآل كل حال. وحسب الشرقيين موعظة قوله: (الشرط السياسي الأساسي لقيام نظام أوربا الجديد هو وجود جيش ألماني. . . بحال تمكنه من غزو البلاد التي يريد غزوها من غير أن يلقى مقاومة تستحق الذكر، يكفي لقيام الأحوال السياسية التي يحتاجها إنشاء النظام الجديد).
ولذلك فإننا غير واثقين من أن البلاد التي يشملها هذا النظام ستحتلها قوى ألمانيا العسكرية بصفة دائمة. . . وأكبر ظننا أن بعض أجزاء من البلاد المفتوحة ستضم بالفعل إلى الدولة الألمانية. . . لكن ألمانيا قد تجد من الملائم لها مع ذلك أن تقيم عدداً من الدول الخاضعة لسلطانها مستقلة بالاسم عنها، ولكنها خاضعة لها خضوعاً تاماً. . .
ولن ينقضي أجل الاحتلال الألماني للبلاد المفتوحة حتى يقاوم فيها نظام للحكم موال لألمانيا. ولربما اتخذوا من وعدهم بجلاء الجيوش الألمانية وسيلة يحصلون بها على تأييدهم في إنشاء نظم للحكم صورية تكون ألعوبة في أيديهم. أما الأمم التي تظهر عدم رغبتها في قبول (حقائق الموقف)، فستنذر بالضم إلى الدولة الألمانية. . .
إن قيام هذه الحكومات المحلية بالأعمال الإدارية العادية يوفر على برلين عناء كبيراً، ويمكنها من أن تتفرغ لوضع قواعد سياستها العامة. يضاف إلى هذا أن جزءاً من العداء(430/1)
الذي يوجه إلى ألمانيا إن أدارت هي شؤون البلاد، سيتحول تياره نحو هؤلاء الحكام، فإذا لم يطق الناس حكمهم لشدة كرههم إياه، استبدلت بهم طائفة أخرى من الخونة الذين لا يستنكفون أن يخدموا المصالح الألمانية. . .
وليس من المحتم أن يكون الذين يقبلون الاشتراك في هذا العمل الإداري خونة، فقد يشعرون بأنهم يخدمون أمتهم إذا قاموا بالعمل العادي الضروري لحياة المجتمع الحديث.
ولكن الذي نرجحه أن تقوم سياسة ألمانيا في البلاد التي تحت سلطانها على إيجاد طوائف من الخونة مختلفين، نازيين أو غير نازيين يعارض بعضهم بعضاً. وقد تكون الأحزاب النازية المحلية المتنافسة أصلح الطوائف لهذا الغرض، فإذا لم تكن كذلك فإن ألمانيا لن تتردد في أن تقدم معونتها لأي نظام يخضع لمشيئتها وإن لم يكن قائماً على المبادئ النازية. . .)
تلك إذن هي السياسة النازية العاملة في البلاد الأوربية، وهي من ظواهر المنطق الألماني الذي يوهم صاحبه أنها سياسة يعمل بها حتى غير الألمان، فيقول استي مثلاً في كلام على التوسع الإمبراطوري البريطاني في مصر: (وجد لسوء الحظ في مصر، كما وجد في الهند، خونة للوطن ظنوا أنهم بعون الإنجليز يستطيعون الاستيلاء على الحكم، وبهذا نجحت في البقاء بمصر سلطة أجنبية ما كانت أبداً لتستطيع التسلط على بلد متحد حول الفكرة القومية).
لو وقع ذلك في مصر لكانت حالها حينئذ عين الحال التي يضربها الألمان من الآن على أمم أوربا المغلوبة وهي ليست بأقل منهم إنسانية، وإن أنكرت ذلك النازية المتغطرسة حتى على الآريين من غير الجرمان.
وإذا كان شأن الألمان مع الأوربيين أنفسهم هو ما علمت فما الظن بما يستحلون في استعباد الشرق واستغلاله واستيعاب ثروته، إن قدر لهم النصر في النهاية؟
حقاً إن في بيان إينتسج لعبرة يجب أن يعتبرها كل مخدوع أو مخادع وهو غافل عن الحقائق.
محمد توحيد السلحدار(430/2)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الدراسة الجامعية كما يفهمها الأستاذ أحمد أمين - كيف
تغترب ومعك قلمك؟ - الشكوى إلى ضريح الإمام الشافعي
تصور يأس الناس من العدل في الأرض، فهم يلتمسونه في
السماء - إلى وزير الأوقاف - مسابقة الأدب العربي لطلبة
السنة التوجيهية. . .
الدراسة الجامعية
للأستاذ أحمد أمين آراء تظهر من وقت إلى وقت، فتدل على مبلغ فهمه للحياة الأدبية والاجتماعية، وهي آراء لا تحتمل النقض، لأنها في الأغلب واهية البنيان، والمعول لا ينقض إلا على البناء المتين.
وآخر ما صدر من تلك الآراء، هو حكمه على الدراسة الجامعية، فهو يرى أنها (تجعل من الحبة قبة، ومن الهزل جداً، وإن شاءت فمن الجد هزلاً)؛ ثم يقرر بعبارة صريحة أن الدراسة الجامعية: (تميت الحي وتحي الميت، فهي تحيي اللاتينية واليونانية والحبشية والأكادية وقد ماتت، وهي تميت الحي، فتدرس اللغات الحية دراسة تميتها وتفقدها روحها، وتبعد عن تذوقها، ولذلك قل أن تخرج الجامعة أديباً شاعراً أو كاتباً، وإنما تخرج أديباً ناقداً أو أديباً عالماً؛ ومن كان أديباً من رجال الجامعة فمن طبعه ونفسه، لا من الدراسات الجامعية، وإن شئت فقل إنه أديب برغم الدراسات الجامعية، لا بفضل الدراسات الجامعية)
ذلك ما قاله الأستاذ أحمد أمين في العدد 142 من مجلة الثقافة الغراء، وهو اعجب ما صدر عن هذا الرجل المفضال.
وقبل أن أنقض رأيه في الدراسة الجامعية أقرر أن كلية الآداب لا تطوق بهذا الرأي، ولن يكون حجة على أساتذتها وطلابها وخريجيها، فيشمت فيهم الدرعميون والكلغريون.
فكلية الآداب هي صوت مصر الأدبي في الشرق، ولن يضيرها أن يخطئ أحد المنتسبين(430/3)
إليها بكلمة يكتبها في وقت لم يكن يصلح فيه لجد ولا لعب، كما صرح بذلك في تلك الكلمة الواهية ثم أواجه الموضوع فأقول:
أتكون مهمة الدراسة الجامعية أن تجعل من الحبة قبة؟ أم تكون مهمتها أن تمنع الحبة من أن تصير قبة، وأن تحمى القبة من أن تصير حبة؟
المنطق يوجب أن تكون مهمة الدراسة الجامعية هي إقرار الحقائق في نصابها الصحيح، بلا تزيد ولا تحيف، وإلا كانت دراسة بهلوانية!
ثم أقول: كيف يكون واجب الدراسة الجامعية أن تجعل من الهزل جداً، ومن الجد هزلاً؟
يصح أن يقال إن الدراسة الجامعية ترى كل شيء صالحاً للدرس ولو كان من الهزل، لأن العلم جده جد وهزله جد، ولكن كيف يصير الجد هزلاً بفضل الدراسة الجامعية؟
ثم يحكم بأن الدراسة الجامعية (تدرس اللغات الحية دراسة تميتها، وتفقدها روحها، وتُبعد عن تذوقها)
فمن أين أخذ هذا الرأي؟ وعمن سمع هذا القول؟
أتكون الحالة كذلك في كلية الآداب لهذا العهد؟
ثم يرى الأستاذ أحمد أمين أنه يقل أن تخرج الجامعة أديباً، شاعراً أو كاتباً، وإنما تخرج أديباً ناقداً أو عالماً. فهل يستطيع أن يدلنا كيف تستطيع الجامعة أن نخرج الأديب الناقد أو العالم وهي تدرس اللغة دراسة تميتها وتفقدها حيويتها وتبعد عن ذوقها؟
إن الأصل للمتفق عليه أن النقد هو إدراك الصلات الوثيقة بين الألفاظ والمعاني والأغراض، فإذا صح أن الدراسات الجامعية تنحرف بالأستاذ والطالب عن ذلك الأصل فكيف تخرج الجامعة أديباً ناقداً وقد تعلّم على أساس منخوب؟
والأصل في العلم أن يصل بصاحبه إلى فهم الحقائق على ما هي عليه، فكيف تخرج الجامعة أديباً عالماً وقد أُبعد عمداً عن تذوق الجمال الأدبي؟
كيف تغترب ومعك قلمك
قرأت خطابك يا صديقي، وعزّ عليّ أن يقع في حياتك ما يزعجك، ولو شئت لنصصت على اسمك وبلدك لتكون المواساة جهيرة الصوت، لا يصدها تهيب، ولا يسترها حجاب، ولكن حرصي على استقلالك يمنع من هذه المواساة الجهرية، فما أحب لأرباب الأقلام أن(430/4)
يحتاجوا إلى أسندة من العطف والإشفاق على صفحات الجرائد والمجلات، وإن كان ذلك من الأساليب المألوفة في العصر الحديث.
إن الذي يعوزك هو الثقة بنفسك، لتأنس بقلمك، فلا تشعر بضجر الاغتراب في بلدك وبين قومك، فقد كتب الله الغربة على أهل الفكر والعقل، ولو عاشوا في رحاب عشيرتهم الأقربين. . . ألا تذكر قول أبي تمام في اغتراب أحد الفضلاء: غربته العُلا على كثرة الأهل فأمسى في الأقربين جنيبا فليطل عمرهُ فلو مات في (مَرْوَ) مقيماً بها لمات غريباً.
فما رأيت أصدق من هذين البيتين في وصف ابتلاء أهل الفضل بالغربة والتوحد، وإن كانوا محفوفين بالمئات من الأصحاب والسجراء، ولا نظرت في هذين البيتين إلا حمدت الأقدار التي قضت بأن يكون في ماضينا الأدبي معانِ كهذه المعاني. . . طيب الله ثراك يا حبيب!
على أنه لابد من لومك على ما استجزت من إعلان التبرم بالناس، ففي رسائلك إلى ما يشهد بأنك على جانب من الغفلة، فقد كنت تتوهم أن الناس سيقيمون لك التماثيل في حياتك، لأنك واجهتهم بالطرائف الروحية والذوقية، وفاتك أن تذكر أن (كل ذي نعمة محسود) وأن الفضل قد يعد من أكبر الذنوب، لأنه يمنح أصحابه سلطاناً لا يزول، ولأنه الآية الباقية على الزمان، الآية التي تشهد بأن لله حكمة في إعزاز أرباب المواهب، ولو كانوا فقراء الجيوب، والفقر فقر القلب لا فقر الجيب. . .
يجب أن تعرف أن الذين يحاربونك لأنك جهرت بهذا الرأي أو ذاك، لا يحاربونك مجاهدين، وإنما يحاربونك مغتاظين، فهم حطب جهنم، ولو غطوا أقوالهم بألف رداء من أردية الرياء هل تفهم قول أبي فراس؟
ومن شرفي أن لا يزال يعيبني ... حسود على الأمر الذي هو عائب
افهم هذا البيت، فما وجدت من يفهمه على الوجه الصحيح معنى هذا البيت أن الشاعر يؤخذ بأقوال وأعمال يتمنى عائبوه أن تكون من زادهم المكسوب، وكذلك يتمنى خصومنا أن تخلع عيوبنا عليهم، لأنهم يعرفون أنها عيوب رجال، وعيوب الرجل هي العسف والسيطرة والاقتحام في ميادين لا يطيقها غير الفحول.
فإن صدقت فراستي فيك فستكون لك أنصبة ضخام مما يجيده صاغة الزور والبهتان،(430/5)
وسيكون حاضرك وماضيك هدفاً لكل أفاك أثيم، إلا أن ترى الأقدار أنك جدير بالرحمة من حمل الأمانة الفكرية والعقلية، فتردك شبحاً لا يثور عليه حاقد ولا حاسد ولا جهول.
أسمع، يا صديقي!
في كل ميدان تقوم جماعة من أهل الشجاعة والاستبسال، فهذه جماعة تقاتل في ميدان الوطنية، وتلك جماعة تخاطر في ميدان الاقتصاد، إلى آخر ما أعرف وتعرف من أنواع الجماعات، فكيف يخلو ميدان (الفكر الحُر) من جماعة تصاول في سبيل حمايته من طغيان أهل الغفلة والجمود؟
وكيف يخلو زماننا من رجال يضحون بمنافعهم في سبيل الحرية الفكرية؟
وبأي وجه نلقى الله إذا تراجعنا وبأيدينا أسياف الحق وهي أقلامنا؟
الجبن جائز على أي مخلوق، إلا أن يكون من حملة القلم أو السيف، فإن كنت منا فأقدم غير هياب، وإلا ففي ميدان السلام الرخيص متسع للجبناء.
أخوف ما يخافه المفكرون من أبناء هذا العصر هو أن تصبح أعراضهم مضغة في أفواه الغافلين والجاهلين، وما خطر ذلك وهو هباء في هباء؟
إن لحومنا لحوم الأسود، ولا تدخل مضغة منها جوف رجل إلا مزقته أفظع تمزيق، وسوف يعلم المرجفون نبأ هذا النذير بعد حين.
ثم اسمع، يا صديقي
هل تعرف الأثر الذي يقول (من مات غريباً مات شهيداً)؟ كان المفهوم أن المراد هو الغربة الجسمية، كأن يموت الرجل في بلد غير بلده، فكيف يصير من يموت وهو في غربة روحية أو عقلية؟
عند الله ندخر الجزاء على هذا الاغتراب، وكيف يغترب من يأنس الله ويكاد يراه في كل وقت وفي كل مكان؟
إليك أوجه أشواقي، أيها المحبوب، وذلك هو اسمك عند الصوفية. إليك أوجه أشواقي، فلولا الإيمان بسمو حكمتك في خلق الوجود على هذا الأسلوب لكانت الإقامة في بعض نواحيه جحيماً لا يطاق.
وأنا مع ذلك عاتب، فما الذي يمنع من أن ترفع الحجاب لأعرف بعض ما أجهل من أسرار(430/6)
هذا الوجود.
لقد هديتني فعرفت أن لك حكمة في خلق (الكوبرا) وهي أشرس الحيات، لأن سمها ينفع في دفع أشرس الأمراض وهو السرطان.
فمتى تهديني لأعرف حكمتك في خلق الدساسين والنمامين والمفسدين والمرجفين من صاغة الزور والبهتان؟
أيكونون من (الكوبرا) الآدمية؟!
العدل بين الأرض والسماء
كتب أحد الوعاظ كلمة في إحدى المجلات رداً على ما قلت في الوعاظ وقد أراد ذلك الواعظ أن يذكرني بأهمية الوعظ فذكر أشياء يجب أن ينزه عنها الجمهور المصري، ومن تلك الأشياء تقديم العرائض إلى ضريح الإمام الشافعي، لينصف المظلومين من الظالمين.
وكلام هذا الواعظ حديث معاد، فقد قيل هذا الكلام قبل مئات السنين، وهو لا يدل على فكر ولا عبقرية، لأن أصغر متعلم يدرك أن الأمر بيد الله وحده، وأن الشافعي لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً أو نفعاً، فجهاد الوعاظ في مثل هذا الشأن التافه جهاد في غير ميدان. ولكن هذه العرائض لها مغزى فلسفي لا يفطن إليه ذلك الواعظ اللبيب، وذلك المغزى هو اليأس من العدل بين أبناء الأرض، والشعور بأن العدل لا يصدر إلا عن السماء.
ومن هم المحتكمون إلى الإمام الشافعي؟
هم جماعات من العوام عجزوا عن تقديم غرمائهم إلى ساحات القضاء، لأنهم لم يجدوا الرسوم، أو لأنهم لم يجدوا الشهود، أو لأن حقوقهم على غرمائهم بلغت من الخفاء مبلغاً لا يفصل فيه غير السماء، لأن قضاة الأرض لا يحكمون إلا بعد ظهور الأدلة والبراهين، وهي لا تظهر في جميع الأحيان.
هل سمعتم أن وزارة العدل كلفت أحد رجالها درس تلك الشكايات؟
كل ما يقع هو اهتمام الشيخ القائم على الضريح بتمزيق تلك العرائض حتى لا يجدها الشاكون في أماكنها عند رجوعهم إلى الضريح، وبذلك يفهمون إن الإمام الشافعي أخذها بيديه الكريمتين ليدرسها بعناية، وليصدر حكمه الصارم على الظالمين.
وإنما يفعل ذلك شيخ الضريح ليضمن عودة أولئك العوام بالنذور والهبات، فهل أدبته وزارة(430/7)
الأوقاف ليكف عن عمله (المقبول)؟
وكيف نعيب على العوام أن يستعينوا بالإمام الشافعي، وجمهور المتعلمين في مصر يؤمن بأن لا تقديم ولا تأخير بغير الوساطات والشفاعات؟
التفتوا مرة واحدة إلى هذه المعاني، يا جماعة الوعاظ، ولا تكتفوا بإعادة الدروس التي تلقيتموها عن أشياخكم، وهي دروس لم تصل بهم ولن تصل بكم إلى يقين.
إلى وزير الأوقاف
وزير الأوقاف لهذا العهد هو أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية من قبل، والتفاتاته الذهنية تجعل الفرصة مواتية لدرس هذا الموضوع الدقيق.
وأنا أقترح أن يؤلف لجنة لدرس الشكايات التي توجه إلى المزارات المصرية لنعرف فهم الشعب لقدسية العدل، ولنعرف أسباب يأسه من إنصاف القضاء.
فإن أجاب - وسيجيب - فقد نظفر بفكرة فلسفية تؤكد القول بأن لا جديد تحت الشمس، وأن الذين يقدمون شكاياتهم إلى المزارات الإسلامية كان لهم أجداد يقدمون شكاياتهم إلى المزارات الوثنية، والمعنى واحد عند أولئك وهؤلاء، ومرجعه الأول هو اليأس من عدل الأرض، والشواهد تنطق بأن لهذا المعنى وشائج في الحياة المصرية.
يجب أن تصادق سكرتير الوزير لتصل إلى الوزير.
ويجب أن تصافي سكرتير الوكيل لتصل إلى الوكيل.
فما ذنب العوام في أن يتوهموا أن الحضرة السماوية لها سكرتارية أرضية، وهم يشهدون تأثير الشفاعات والوساطات في جميع الشؤون؟
ما ذنبهم وهم بفطرتهم من أهل القياس؟
وهل يفهم هذا الكلام بعض من يتصدرون لهداية هذا الجيل؟
افتحوا عيونكم وقلوبكم وعقولكم، يا قادة الرأي في هذه البلاد، فإن لم تفعلوا فسيكون للقلم معكم تاريخ.
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
كتب إلينا جماعة من الناجحين في امتحان الثقافة العامة يرجون أن تلتفت مجلة الرسالة إلى(430/8)
تشريح الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، على نحو ما صنعت في السنة الماضية. وأجيب بأن شواغل هذه الأيام لن تصرفنا عن ذلك الواجب، وسنشرع في تأديته بعد أسبوع أو أسبوعين، بحيث يستطيع طلبة السنة التوجيهية أن يدركوا أسرار تلك المؤلفات قبل الامتحان.
وأنا أعيد الرجاء الذي وجهته إلى أصدقاء الرسالة في السنة الماضية، وهو التفضل بمشاركتي في أداء هذا الواجب، رعايةً لحقوق أولئك الأبناء.
أما الذين فازوا في مسابقة العام الماضي فلهم منا أطيب التهاني، ثم أصدق الرجاء في أن يظلوا أمناء للحياة الأدبية، ولو اتجهوا إلى العلوم والرياضيات. والله عز شأنه ولى التوفيق.
زكي مبارك(430/9)
من أخلاقنا:
حق الضيافة
للأستاذ علي الطنطاوي
قد أكون على موعد يفوتني بفواته خير عظيم، ولا يبقى بيني وبينه إلا مقدار ما ألبس ثيابي وأمشي إليه، فيجيئني ضيف لا حاجة له عندي، ولا خير له في زيارتي، ولا يبتغي مني إلا أن يدفع الملل عن نفسه بالبقاء ساعتين أو ثلاثاً عندي، فيسقط في يدي، وأحار في أمري: إن استقبلته ضيعت موعدي، وإن رددته أضعت (حق الضيافة) وتعرضت لسوء الأحدوثة؛ ثم أختار أهون الشرين: فأرحب به وأدعوه، وآمل أن أفهمه حقيقة حالي وأعجل له بالقهوة فينصرف. . . وأجلس بين يديه متململاً متضايقاً، وأتلطف في إفهامه والاعتذار إليه، فلا يحفل بي ولا بموعدي، ولا ينظر إلا إلى نفسه ورغبته في قطع الوقت بهذه الزيارة، فيقعد آمناً مطمئناً، يحدثني حديث السياسة، ويسألني عن الروس واليابان، والصين وتركستان، ويعرض عليّ رأيه في الأنظمة التي ستعم العالم بعد الحرب. . . ويفيض ويسهب، وأنا أتقلب على النار، ويبقى على ذلك حتى لا يبقى لي منفعة من الذهاب، ولا يمكن تدارك ما فات، فينصرف ليتحدث عني بأني لقيته بجفاء وخشونة، وكلمته باقتضاب وإيجاز، ولم أوفه (حقوق الضيافة)!
وقد أكون مستغرقاً في مطالعة، أو منصرفاً إلى كتابة قد جمعت لها ذهني. . . فيجيئني ضيف، فأنزل إليه لأسمع منه لغو الحديث، فيفترق ما أجتمع من ذهني، وتفسد على مطالعتي، وإن أنا بعثت من يقول له: (ليس هنا) أكون قد كذبت، وإذا اعتذرت إليه بمطالعتي أو كتابتي أكون قد قصرت في (حقوق الضيافة)!
وقد يأتي الضيف ومعه ولده، فيعبث بالكراسي والمناضد ويكسر الكأس، وربما أمره أبوه بأن يتسلى باللعب مع أولاد الدار، فينطلق كالجن. . . فيفسد كل ما يمر عليه ويزعج الأهل ويأتي كل كريهة، فإذا زجرته أو كففته أو أفهمت أباه أنه ليس من الذوق ولا من التهذيب أن يحمل أبنه - أعني عفريته - إلى بيوت الناس، أكون قد فرطت في (حقوق الضيافة)!
وإن كانت وليمة أو عقد ودعوت عشرين رجلاً، جاءوك ومعهم عشرون ولداً، فتنقلب الدار إلى مدرسة أو إلى مارستان ويتحول المضيف إلى معلم أو قاضي أولاد، وقديماً قال المثل(430/10)
العامي: (قاضي الأولاد شنق نفسه). . . فإذا وقفت على الباب خادماً يمنع دخول الأولاد، غضب الآباء المدعوون، وانصرفوا ساخطين على هذا الذي لا يعرف (حقوق الضيافة)!
وقد يكون لك عدو تعرض لك بأنواع الأذى، وأراك فنون العدوان. . . ثم نشأت له حاجة عندك، فزارك في دارك، وأبى أن يشرب قهوتك حتى تقضى حاجته، وربما كانت حاجته أن تنجح أبنه في الامتحان. . . فإذا قضيتها خنت أمانتك وعاد إلى مضارتك. . . وإن أبيت عليه وأعرضت عنه، وأفهمته أن الامتحان أمانة، وأن ابنه ضعيف كسلان لا يجوز نجاحه، كنت الملوم المعاتب، لأنك لم تحفل (بحقوق الضيافة)!
والضيف يزورك حينما يحلو له لا حين يحلو لك، ويبقى ما طاب له البقاء عندك، ولا شأن له بفراغك ولا بشغلك، ولا بضيق وقتك ولا بتعب أهلك، ففي الغداة تجوز الزيارة، وفي الضحى وعند الزوال ساعة الغداء، وفي الظل وقت الراحة، وفي الأصيل وفي الليل. وقد يصل الزائر هذه الأوقات كلها بعضها ببعض، فيشرفك بزيارته من الصباح ويلبث (يؤنسك) إلى وقت النوم، وقت منامه هو لا منامك أنت، وربما زارك أقرباؤك، أو أقرباء أقربائك بنسائهم ورجالهم وأطفالهم؛ وأقاموا عندك (صلة للرحم) أياماً وليالي، ونغصوا عليك عيشك، وافسدوا نظام دارك، وأنت مضطر إلى السكوت لا تستطيع أن تقول شيئاً يمس (حق الضيافة). وربما زارك الزائرون في محل عملك، فشغلوك عنه وأكسبوك غضب رؤسائك، وسخط زملائك.
ولقد كان الكرم والشجاعة عماد الأخلاق عند العرب وشعارها وجماع أمرها، لمكان البداوة من حياتهم، فقد كانوا يعيشون في قفار قاحلة وقرى كالقفار، لا فندق فيها ولا مطعم ولا خان، وما للنازح فيها عن داره إلا أن ينزل ضيفاً على كريم يؤويه ويقريه، ولم يكن في بلادهم شرطة ولا نيابة ولا سجن فلم يكن للرجل إلا سيفه يعتصم به، فتعودوا الشجاعة والكرم حتى صار ذلك طبعاً لهم وخلقاً، وبالغوا فيهما وجانبوا القصد، فبلغوا التبذير وقاربوا التهور، وكان عذرهم في ذلك أن الرجل منهم يطعِم حتى يطعَم، ويقري الطارق الغريب كي يقرى هو طارقاً غريباً، وأستمر ذلك إلى الإسلام، بل لقد بولغ فيه بعده حتى أتى القوم بهذه العجائب التي نقرأ أخبارها في الكتب. وانتهى ذلك إلينا فنشأنا على تقديس (حق الضيافة) وتقديمه على سائر الحقوق، ورفعه مكاناً عالياً لا يناله النقد ولا التقويم، واتهام من(430/11)
يقول فيه مثل مقالتي باللؤم والبخل. لذلك أقدمت عليها متردداً يدفعني إليها أننا في مطلع حياة جديدة يجب في مثلها تمحيص الأخلاق والعادات وتقويمها والإبقاء على النافع منها وطرح مالا فائدة منه بعد ما تغير الزمان، ولا يكون ذلك إلا بالخروج من ربقة التقليد الذي لا يفيد، ومنه تقليد أجدادنا الأولين في هذا الكرم القبيح الذي ذمه الله وسماه تبذيراً، وجعل أهله إخوان الشياطين، والقصد في الأمر والتوسط فيه، ووضع الأمور في مطارحها ولو أن حاسباً مستقرياً نظر فيما ينفق عندنا في كل سنة على الولائم والأعراس والمآتم من الأموال لهاله الحساب، ولرأى أن هذه الأموال التي تنفق فيما لا طائل تحته، ولا موجب له إلا التقليد الضار، يمكن أن ينشأ بها من المدارس والمصانع ما يرفع أمتنا درجات في سلم الارتقاء في آن قريب، فضلاً عما يكون فيه من راحة البال، واضطراد الأعمال، ودفع المكاره التي ذكرت أمثلة عليها في مطلع هذه المقالة.
وإذا كانت الحاجة هي التي علمت أجدادنا هذا الكرم، فأي حاجة تدفعنا إلى الاستمرار عليه؟ وما هو الضرر الذي ينال الضيف إن قلت له: أنا الآن مشغول فزرني إن شئت في وقت آخر؟ ولم تخاف من ذلك وهو من آداب ديننا، وقد كان من خلائقنا قبل أن يتخلق به الإفرنج؟ وماذا يضر الأهل والأقربين أن يهنئوا بالمولود فلا يشربوا (الكراوية)، وأن يحضروا (العرس) فلا يأكلوا الرز واللحم والبقلاوة، وما هم في صحراء كصحراء العرب يحتاج فيها إلى القرى، ولا هم جياع قد حضروا للطعام، وليس المقصد إلا الاجتماع وقد حصل؟ لقد خبرني صديق صادق مطلع أن نفقات عشر ولائم فقط من أوسط ما يكون في الأعراس أو المآتم تكفي لفتح مدرسة ابتدائية تتسع لمائتي تلميذ، فما قولك بنفقات الولائم كلها وسكاكر الأعياد وهدايا الولادة والعرس؟
أنا لا أرتقب من الأمة أن تقرأ هذه المقالة وتنام ليلتها فتصبح وقد نبذت هذه العادات وحددت آداب الزيارة، وتنكبت سبيل التبذير، فإن هذا مالا يكون، وإنما أرتقب أن أجد من القراء من وهبه الله الجرأة في الحق، والرغبة في الإصلاح فيسن للناس سنة (قي هذا الباب) حسنة يكون أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، كما صنع في دمشق شيخها الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله، وعادات الإفرنج في الزيارات والولائم أصلح في الجملة مما نحن عليه اليوم، وتقديرهم للوقت أشد، وهذا كله من آداب الإسلام، والسلف كلهم كانوا(430/12)
على مثله، فلنقتبسه عن الإفرنج إذا كنا لا نتبع فيه سلفنا الصالح، ولنجعل للزيارة آداباً وأوقاتاً، ولنعلم أن (حق الضيافة) لا يقدم على حق المواعيد، ولا حق العمل، ولا حق الأهل؛ وأن رد الضيف أهون من احتمال الأذى، وإخلاف الوعد، وترك العلم، وإضاعة الأشغال ولنجعل إمامنا قول الله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ولله بما تعملون عليم). صدق الله العظيم
علي الطنطاوي(430/13)
نشيد الانتقام
شاعر الجرمان الأعظم
لأستاذ جليل
ألا إن قصيداً عبقرياً يصوغه (أبو محرز خلف) راوية العرب ومبدع تلك الطائفة من عبقرياتهم، ويختاره (أبو تمام حبيب ابن أوس الطائي) أكبر شعراء العرب ومختار تلك الدواوين للفائقات من أشعارهم، ويطلع عليه (ولفغنغ غوث) أعظم شعراء الجرمان ومفكريهم فيروقه ويطربه بل يبهره فينظمه، وإنما يعرف العبقري - لحقيق جد حقيق بالرواية في (الرسالة) كتاب العرب، وديوان العلم والأدب. فخذوا هذا النشيد، وخذوا هذي السطور في ابن غوث.
وقد نقلت شرح لهذه القصيدة في ديوان الحماسة وأضفت إليه ما لم يفسره التبريزي وأبو العلاء، وما رأيت فائدة في إيراده راجعاً في ذلك إلى هذه الكتب: المصباح، الإفصاح، الصحاح التاج، اللسان، المخصص، النهاية، الفائق، الأساس، تهذيب الألفاظ، كامل المبرد، بلوغ الأرب، مجمع الأمثال، كتاب سيبويه، شرح المفصل، شرح الكافية، مبهج ابن جني، خزانة الحموي، شرح المتنبي للعكبري، شرح شواهد سيبويه، شرح المقصورة الدريدية.
والمأمول أن تكافأ (الرسالة) بما تصنع فيكلف الأساتذة الكرام في كل إقليم عربي الطلاب في أعلى صف ابتدائي وفي الصفوف الثانوية، وفي الصفوف في الكليات - استظهار (نشيد الانتقام). وإنه لمن الكفر في دين الأدب ألا يحفظ شعراً عربياً أدهش شاعر الدنيا - جميع أدباء العرب.
نشيد الانتقام
قال ثابت بن جابر:
(إن بالشَّعب الذي دون سَلعٍ=لقتيلاً، دُمه ما يُطلُّ)
(الطل) مطل الدم والدية وأبطالهما. دمه لا يذهب هدراً قلت: (الشعب) الطريق في الجبل، والجمع الشعاب
(خلْف العبءَ عليّ وولّى=أنا بالعبء له مُستِقل)(430/14)
(العبء) الثقل، والمراد به ههنا طلب دمه. قلت: أقل الشيء واستقله: رفعه وحمله. ومن المجاز هو لا يستقل بهذا الأمر: لا يطيقه.
(ووراء الثأر مني ابن أخت=مَصِعٌ، عقدته ما تحل)
(المصع) الشديد المقاتلة، الثابت ههنا.
قلت: يقال: إنه لمصع بالسيف. والمماصعة المجالدة بالسيوف، والمجالدة: المضاربة.
(مُطرقٌ يرشح سَمَّا كما أط_رق أفعى يَنفثُ السمِ صل)
قلت: أطرق: أرخى عينيه ينظر إلى الأرض، ورجل مطرق: كثير السكوت. وفي حديث أم سلمة: نهش الرقشاء المطرق. (الصل) الحية الدقيقة الصفراء. يشبه الرجل بالصل إذا كان داهية، قال النابغة:
ماذا رزئنا به من حية ذكر ... نضناضة بالرزايا، صل أصلال
(خبرٌ ما نابنا مُصْمَئِلُّ=جلّ حتى دق فيه الأجلُّ)
(مصمئل): شديد
(بْزنى الدهر - وكان غشوما -=بأبيْ، جارُه ما يُذَلْ)
(بأبي) الباء للتأكيد زائدة، ويجوز أن يكون عذى (بزني) بالباء لما كان معناه فجعني، فيكون من باب ما عدى بالمعنى دون اللفظ.
قلت: بزه غلبه وغصبه، وبز الشيء: انتزعه، وأصل البزة (أي اللباس) من بززت الرجل أبزه إذا سلبته، فسمى اللباس بما يؤول إليه من السلب. . .!
(شامس في القُرِّ حتى إذا ما=ذكت الشعرى فبردٌ وظل)
أي هو كريم، وشامس أي ذو شمس، يعني أن من لجأ إليه في الفر وجده كالشمس التي تدفئ المقرور، ومن لجأ إليه في القيظ وجد لديه برداً وظلاً.
قلت: الشعري: كوكب نير، طلوعه في شدة الحر (ذكت) اشتد حرها ومراده طلوعها. وذكت الشمس ذكاء، ومنه قيل لها ذكاء والصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها، واشتقاق ذكاء من ذكو النار وهو تلهبها.
(يابسُ الجنبين من غير بؤس=وندى الكفين، شهم مدل)
يريد أنه يؤثر بالزاد غيره على نفسه، ومن عادتهم التمدح بالهزال. (الشهم) الذكي الحديد(430/15)
(المدل) هو الواثق بنفسه وآلاته قلت: (البؤس): الشدة والفقر (الشهم) الذكي الفؤاد والشهم السيد النافذ النجد.
معنى (يابس الجنبين من غير بؤس) - كما أراه - أنه يتفحل ويخشوشن - غير مفتقر - كلفاً بالرجولية والفحولة ومقتا للتخنث والتأنث والتترف. وهل يفسد المرء بل الأمة كلها جمعاء إلا الترف، إلا فرط التنعم والدعة. وأقوال ابن خلدون وغيره في هذا المعنى مشهورة.
كتب عمر (رضى الله عنه) إلى أهل حمص لا تنبطوا في المدائن، ولا تعلموا أبكار أولادكم كتاب النصارى، وتمعززوا، وكونوا عرباً خشنا.
(لا تنبطوا. . .) أي لا تتشبهوا بالأنباط في سكنى المدائن والنزول بالأرياف، أو في اتخاذ العقار واعتقاد المزارع، وكونوا مستعدين للغزو، مستوفزين للجهاد (الأبكار) الأحداث (تمعززوا) من المعز وهو الشدة والصلابة. وقد نهى (رضى الله عنه) عما نها عنه لأن القوم وقتئذ بعوث لإبلاغ الرسالة، فاليوم في حمص وغداً في الصين أو الأندلس.
أين عمر، أين أبو حفص عمر، أين تلميذ محمد؟!!
(ظاعنٌ بالحزم حتى إذا ما=حل حل الحزم حيث يحل)
(غيث مْزنٍ غامرٌ حيث يُجدي=وإذا يسطو فليث أبَلْ)
(الإبل) المصمم الماضي على وجهه لا يبالي ما لقي.
(مسِبلٌ في الحي أحوى، رفلُّ=وإذا يغزو فسِمعٌ أزلٌّ)
(مسبل) من أسبال الإزار والبرد لأنهم يصفون ذا النعمة بذلك، وإنما يحمدون ذلك في حال الدعة والأمن، فأما في الشدائد وعند الحرب فإنهم يمدحون الرجل بالتشمير. (الرفل) الطويل الذيل. (أحوى) الذي به حوة، وهي سواد في الشفتين محمود، أو مسبل شعراً أحوى أي أسود لأنهم كانوا يوفرون لممهم، ويصفون الشاب بحسن اللمة. (أزل) الزلل خفة العجز، وذلك خلقته
قلت: السمع سبع مركب لأنه ولد الذئب من الضبع، وفي المثل: (أسمع من سمع) ويقال أيضاً: (أسمع من السمع الأزل) -: (أي الخفيف الوركين، قليل لحم العجز والفخذين) لأن هذه الصفة لازمة له كما يقال للضبع العرجاء. قال:(430/16)
تراه حديد الطرف أبلج واضحاً ... أغر طويل الباع، أسمع من سمع
وليس في الحيوان شيء عَدْوه كعدو السمع لأنه أسرع من الطير، يقال: وثبات السمع تزيد على عشرين أو ثلاثين ذراعاً. .
(وله طعمان أرْىٌ وَسرْىٌ=وكلا الطعمين قد ذاق كل)
(الأرى) يراد به العسل، وإن كان في الأصل عمل النحل
قلت: (الشرى): الحنظل، وفي المقصورة الدريدية:
ليَ التواء إن معادي التوى ... ولي استواء إن مولى استوى
طعميَ شرى للعدو تارة ... والراح والأرى لمن ودي ابتغى
(يركب الهولَ وحيدا ولا يص_حبُه إلا اليماني الأفل)
قلت: سيف أفل: ذو فلول، وفلوله كسور في حده. وسيف أفل: ذم لما به من الخلل الظاهر، ومدح لما ضرب به كثيراً. سأل عروة بن الزبير عبد الملك أن يرد عليه سيف أخيه عبد الله، فأخرجه في سيوف منتضاة، فأخذه عروة من بينها، فقال له عبد الملك: بم عرفته؟
فقال: بما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
(وفُنُوٍ هجّروا ثم أسْروا=ليلهم حتى إذا إنجاب حلّوا)
(فتو) جمع فتى (هجروا) ساروا في الهاجرة. يريد أنهم وصلوا السير بالسرى
(كلُ ماض قد تردى بماض=كسنى البرق إذا ما يسل)
ارتدى بسيفه، وتردى، واعتطف به، ويسمى السيف الرداء والعطاف
قلت: (السنى): الضوء. كل رجل ماض قد تردى بسيف ماض. (الماضي) الجسور المقدم، والماضي الأسد لجرأته والسيف لنفاذه في الضريبة. مضى السيف مضاء قطع
(فأّدركنا الثأرَ منهم ولما=ينج ملْحيّين إلا الأقل)
قلت: (ملحيين) من الحيين، حذف النون لسكونها وسكون اللام من الحيين كما قالوا في بلعنبر وبلحارث - يريدون بني العنبر وبني الحارث - ونحو من هذا قول قطري:
غداة طفت عَلْماءِ بكرُ بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
أراد على الماء، ولا يقولون مثل هذا في بني النجار؛ لأنهم لو قالوا: بنجار لحذفوا النون،(430/17)
وقد أعلموا اللام بالإدغام، فكان ذلك إجحافاً بالحرفين.
ومن طريف ما وجدته في باب الاختصار أو الاختزال. . . في الألفاظ ما ورد في حديث ابن مسعود (رضى الله عنه): أن امرأة ابن مسعود سألته أن يكسوها، فقال: إني أخشى أن تدعي جلباب الله الذي جلببك به!
قالت: وما هو؟
قال: بيتك
قالت: أجنك من أصحاب محمد تقول هذا. .!!
أجنك أصله من أجل أنك أو لأجل أنك
(فاحتسوا أنفاسَ نوم فلما=هوّموا رعتَهمُ فاشمعلّوا)
(اشمعلوا) جدوا في المضي، رجل مشمعل أي جاد خفيف
قلت: حسا المرقة واحتساها وتحساها. (النفس) الجرعة. ومن المجاز احتسوا أنفاس النوم، (هوموا) إذا كان النوم قليلاً فهو التهويم. وفي حديث رقيقة: بينما أنا نائمة أو مهومة: التهويم أول النوم وهو دون النوم الشديد:
(فأن قلت هذيل شباه=لبما كان هذيلاً يفل)
(الشباة) حد الشيء، إن كانت هذيل تمكنت منه فكسرت حده فهو بما كان يؤثر من قبل في هذيل
قلت: في قصيدة أعشى بأهله التي يرثي بها المنتشر:
إمّا يصبك عدو في مُباوأة ... يوماً فقد كنت تستعلي وتنتصر
إما سلكت سبيلاً كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر
في مباوأة: يقول في وتر
(وبما أبركها في مُناخ=جَعْجَع ينقَب فيه الأظل)
(الجعجع) مناخ سوء، وهو الأرض الغليظة (الأظل) باطن الخف (ينقب) يحفى. والمراد فيما كان ينال منهم ويحملهم على المراكب الصعبة.
قلت: (المناخ) أصله الموضع الذي تناخ فيه الإبل. وأناخها: أبركها فبركت. واستناخت بركت، ومن المجاز: هذا مناخ سوء: للمكان غير المرضي.(430/18)
(وبما صّبحها في ذَراها=منه بعد القتل ذهب وشلّ)
قلت: (ذراها) مأواها، مكانها. الذرى كل ما استترت به، يقال: أنا في ظل فلان وفي ذراه، أي في كنفه. (الشل): الطرد، ومر فلان يشلهم بالسيف أي يكسؤهم - يتبعهم ويطردهم -
صِلَيت مني هذيل بخِرق ... لا يملّ الشر حتى يملوا
قلت: الخرق: السخي الكريم الجواد يتخرق في السخاء ويتسع فيه. والكريم الجواد شجاع، والشجاعة أخت الكرم، والخرق: الفتى الكريم الخليقة
(ينهل الصعدة حتى إذا ما=ما نهلت كان لها منه عل)
(الصعدة): القناة تنبت مستوية، وجمعها صعدات - بفتح العين - لأنها أسم، ثم قيل في المرأة المستوية القامة والأتان الطويلة. . صعدة، وهي وصف لهما، ويجمع حينئذ على صعدات - بسكون العين - لكونها صفة.
قلت: النهل: الشرب الأول وقد نهل وأنهلته أنا، والعل والعلل: الشربة الثانية؛ وقيل الشرب بعد الشرب تباعاً، ومن المستعار عله ضرباً أي تابع عليه الضرب.
(حلت الخمر وكانت حراماً=وبلأي ما ألّمت تحل)
(ما ألمت) يجوز أن تكون (ما) صلة، ويجوز أن تكون مع الفعل بعده في تقدير المصدرية. (بلأي) ببطء. ألمت حلالاً أو إلمامها حلالاً (الإلمام) الزيارة الخفيفة، وتوسع فيه فأجرى مجرى حصلت عندي.
قلت: في حديث أم أيمن (رضى الله عنها) فبلأي ما استغفر لهم، أي بعد جهد ومشقة وإبطاء. ويقولون: لأياً عرفت. وبعد لأي فعلت. قال زهير:
فلأياً بلأي ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله
نصبه على المصدر موضع الحال، والتقدير حملنا وليدنا مبطئين ملتئين. (المحبوك) الشديد الخلق (الظماء) القليلة اللحم، وهو المحمود منها، وأصل الظمأ العطش.
قالوا: إن من عادتهم تحريم الخمر على أنفسهم حتى يدركوا ثأرهم، قال امرؤ القيس:
حلت لي الخمر وكنت امرأ ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
يقول هذا حين قتل أبوه ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به، فلما أدرك ثأره حلت له.(430/19)
أشرب: سكنت الباء ضرورة، ومن يرد هذا ينشد: فاليوم أسقى أو فاليوم فاشرب (الواغل) الداخل على الشرب ولم يدع.
فاسقنيها يا سوادَ بنَ عمرو ... إن جسمي بعد خالي لخل (الخل) المهزول. (سواد) رخمه عن
سوادة، ولك أن ترويه: يا سواد بن عمرو
قلت: في (يا زيد بن عمرو، ويا هند ابنة فاطمة) يجوز في زيد وهند وجهان: الضم على الأصل والفتح للاتباع، وحق الصفة أن تتبع الموصوف، وههنا قد تبع الموصوف الصفة، والفتح يختار ولا يجب، وقد ذهب بعضهم إلى وجوبه
هذا البيت يذكرنا ببيتين في (الجناس المعنوي) لأبي بكر ابن عبدون، فقد قال وقد اصطبح بخمرة ترك بعضها إلى الليل فصار خلاً:
ألا في سبيل اللهو كأس مدامة ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت
حكت بنت بسطام بن قيس صبيحة ... وأمست كجسم الشنفري بعد ثابت
بنت بسطام بن قيس كان اسمها (الصهباء) والشنفري قال: (اسقنيها. . . البيت) والخل هو الرقيق المهزول فظهر من كناية اللفظ الظاهر جناسان مضمران في صهباء وصهباء، وخل وخل، وهما في صدر البيت وعجزه. والجناس المعنوي المضمر هو أن يضمر الناظم ركني التجنيس، ويأتي في الظاهر بما يرادف المضمر للدلالة عليه، فإن تعذر المرادف أتى بلفظ فيه كناية لطيفة تدل على المضمر بالمعنى كقول أبى بكر السابق، وهو أحسن ما سمع من هذا النوع
أنا ممن يقول: عوذ بالله من هذا (البديع) وأهله، وما سطرت ما سطرت إلا إكراماً لتأبط شراً وابن أخته الشنفري وخلف الفرغاني وغوث الجرماني.
(تضحك الضبع لقتلى هذيل=وترى الذئب لها يستهل)
استعار الضحك للضبع، والاستهلال للذئب، وأصل التهلل والاستهلال في الفرح والصياح.
(وعتاق الطير تغدو بطانا=تتخطاهم فما تستقل)
يروي: تهفو بطانا وهفت بمعنى تطير، يقال: هفت الصوفة في الهواء: إذا ارتفعت. بمعنى يعتاق الطير أكلة اللحمان وعافية الجيف.
قلت: العتيق: الخيار من كل شيء: النمر والماد والبازي، وعتاق الطير الجوارح منها،(430/20)
والجوارح من الطير والسباع ذوات الصيد لأنها كواسب أنفسها من قولك: جرح واجترح الواحدة جارحة. (بطاناً) ممتلئة البطون. (تتخطاهم) تخطو عليهم وتخطى الناس واختطاهم، ركبهم وجاوزهم. (تستقل) استقل الطائر في طيرانه: نهض للطيران وارتفع في الهواء، واستقلت الشمس في الهواء: ارتفعت وتعالت.
تم القصيد العبقري، وكمل شرحه الذي رجعت فيه إلى ما سميت في المقدمة، وسأنشر الكلمة الموجزة في ناظمه باللسان الجرماني في الجزء المقبل إن شاء الله تعالى.
(* * *)(430/21)
ناحية من طاغور
يجب أن نفهمها نحن. . .
للأستاذ حسين مروة
لم ترتعش روحي ارتعاشة الجزع في تلك اللحظة وحدها: لحظة أذاع الأثير نبأ وفاة طاغور، بل قد سرت فيها الرعشة كموجة الكهرباء منذ استطار في العالم أن طاغور يعاني آلام المرض الخطير، إذ اختلج في إحساسي - حينذاك - أن هذه الإنسانية الكاملة التي تجتمع كلها في شخص هذا العظيم، قد أشرفت على ساعة الانتقال من دنيانا هذه إلى دنياها الجميلة في ملكوت الله، حيث تبلغ روح طاغور قمة الفرح الأسمى التي نشدتها بالحب الإلهي، وبالتأمل في جمال الأكوان التي (تحلها) روح الله.
قد اختلج في إحساسي - حينذاك - أن إنسانيتنا المسكينة تكاد تلتهمها لجة اليأس بانقطاع هذا الخيط الجميل من النور الأمل الذي يمتد إليها من صوت طاغور.
قد اختلج في إحساسي - حينذاك - أن أرضنا المعذبة تكاد تفقد فضلة إيمانها بالعدل والحق والخير، بانطفاء هذا القبس الوهاج من إيمان طاغور.
قد اختلج في إحساسي، كذلك أن ناس هذا الجيل تكاد تسكت في جوانب ضمائرهم أصداء هذه الأنشودة الرخيمة التي يترعها قلب طاغور رحمة ودعوة صالحة للسلام، فلا تتجاوب في ضمائرهم - من بعد - إلا أصداء أنشودة واحدة تتعالى في جوانب هذه الأرض من كل صوب، يوقعها قلب ماردٍ جبار يحدو بالإنسانية إلى هاوية الخراب والدمار: تلك أنشودة الحرب التي تجلجل اليوم في الضمائر أكثر مما تجلجل في الآذان.
ويا سرعان ما صدق القدر كل هذا الذي اختلج في إحساسي منذ تأذن الأثير باشتداد وطأة المرض على جسم طاغور، ويا سرعان ما أزفت لحظة القدر، فإذا هذا الإنسان العظيم يصعد إلى القمة العليا لينعم بحبه في كنف الحبيب الأعلى، تاركاً هذه البشرية تزحف في السفح الرهيب بين الآثام والأرجاس كما تزحف الحشرات الدنيا في الأقذار والأنجاس.
وبعد: لقد مات طاغور، فمن هو طاغور؟
أهو شاعر؟ أجل: ولكن شاعر يتغنى بأشواق الروح ليطهر أشواق الجسد، ويعلن نداء الخير ليسكت صرخة الشر، ويشهد بجمال الموت ليسمو بجبال الحياة، ويهدهد أحلام القلب(430/22)
ليزين جلال العقل، ويعقد أفراح الأمل ليهدم أبراج اليأس.
أهو فيلسوف؟ نعم: ولكن فيلسوف يتسامى إلى ما وراء الطبيعة لا لكي يهجر بيت الطبيعة، بل لكي يستجلي أسرارها على هدى من الإشراق الإلهي، ويستخرج كنوزها بعونٍ من القدرة العليا المبدعة، ويستكشف فضائلها وخيراتها على ضوء من صفاء الروح، وسمو النفس، وبساطة الفطرة، ووضوح العقيدة، وحرارة الإيمان، وهذه هي خلاصة فلسفة الشرق القديم مجلوة بروح جديدة، هي روح طاغور الصافية، الطليقة، السمحة.
أهو صوفي؟ أجل: هو كذلك، ولكن أية صوفية هذه التي يلبس (جبتها) طاغور؟
هي لون جديد في دنيا التصوف، لون محبب للنفس ومحبب للعقل معاً، لأنها صوفية جميلة أنيقة مترفة، لا تتقشف ولا تتزهد ولا تتزمت، وهي - حين تسمو بروح طاغور عن دنيا البشر لتفنيها في ذات الله فناء مطلقاً - لا تذهلها نشوة الفناء عن آلام بني الإنسان وشقاء أبناء التراب، وإنما هي تستمد من حبها الإلهي السامي، ومن نشوتها الروحية العليا - فيضاً من الحب للإنسانية جمعاء، بل هي كلما أمعنت في الاقتراب من الحبيب الأعلى أمعنت في الاقتراب من الإنسانية: تتلمس آلامها، وتتحسس أحزانها، وتتأثر مواطن شقائها، ذلك لكي تقيم الدليل، بأسلوب من إلهام الروح، على أن رابطة الحب السامي بين الله والإنسانية هي أسمى روابط الحب، وهي أهدى طرق النجاة من هذه الآلام والأحزان وهذه الضروب المختلفة من الشقاء التي يعانيها الإنسان على هذه الأرض، ولكي ترى هذه الصوفية العذبة على وضح الإدراك الصحيح - يجب أن تقف بفكرك لحظة عند هذه الأغنية من أغاني (البستاني) التي يستهلها طاغور بنداء يهتف به أن: (قد آذنت شمسك بالمغيب واشتعل رأسك شيباً، فحسبك غناء وإنشاداً، بل آن لك أن تصغي وتصيخ إلى داعي (الغد) فتقول: لبيك)
فبماذا يجيب طاغور هذا النداء؟:
(. . . من للقلوب وعواطفها، وللعيون وأسرارها إذا أنا تبوأت من ساحل الحياة صخرة صماء ولبثت شاخصاً إلى أكمة الموت وما وراءها)
أتراه الآن صوفياً كهؤلاء الصوفية المتزمتين الغارقين في لذاذة الفناء بالله حتى لا يحسون الحياة ولا تحسهم الحياة؟(430/23)
لا: بل إنك لتراه إنساناً طفحت نفسه بالحياة حتى تملاها إحساساً، وتملكته رسالتها إيماناً وعشقاً، واتحد فيها حبه الإلهي وحبه الإنساني معاً، وما الحياة - في فلسفة طاغور - إلا مجلي من مجالي الروح الإلهية العليا، ومن هنا كان طاغور (الصوفي) منسجماً مع طاغور (القصصي) أو (الروائي) إذ تراه في قصصه ورواياته يتناول صغائر حياة الناس ودقائقها يحللها ويجلوها صوراً إنسانية قوية الحركة والحيوية، تثير في النفس ألواناً من العواطف والاحساسات النبيلة. ومن هنا أيضاً كان طاغور (الصوفي) منسجماً مع طاغور (الشاعر) ذلك الانسجام نفسه، فتصوف الرجل لا يعني - في الواقع - إلا الحب بأرحب معانيه: الحب المنبثق من نفس رحبة تحب الله لكونه هو الله، وتحب الإنسان لكونه إنساناً؛ وإنك إذا رأيت إنساناً يدعي الإغراق في حب الذات الكلية العظمى، ثم ينأى عن أخيه الإنسان ويضن عليه بحبه؛ فقل: إن هذا لا يعرف الله حقاً، ولا يحبه حقاً، وإنما هو يحب نفسه ليس غير: يشفق عليها من العذاب الخالد، أو يرجو لها النعيم الخالد.
ومن هذا كله ترى طاغور الشاعر، والفيلسوف، والصوفي، والقصصي - يأتلف وينسجم مع طاغور (المصور) و (الموسيقي) أجل وأتقن ما يكون الائتلاف والانسجام، ذلك لان شاعريته الرحبة، وفلسفته المشرقة، وصوفيته السمحة، وفنه القصصي الحي - ليست هي كلها سوى مظهر من مظاهر رسالته الروحية التي شاء الله أن يلقيها إلى إنسان تتسع نفسه للتعبير عنها بكل ضربٍ من ضروب التعبير الجميل.
أما طاغور (الإنساني) فهو هو نفسه ذلك الإنسان المتعدد الجوانب، المتنوع (الشخصيات)، وليست إنسانيته (شخصية) مستقلة مندمجة في (شخصياته) تلك، لأن الروح الإنساني الشامل هو مركز قوة لكل ناحية من نواحيه، بل تكاد تنحصر عظمة هاتيك النواحي بما تمدها به هذه الإنسانية الكبيرة من معاني السمو، والسباحة، والصفاء، والشمول؛ وبكلمة واحدة: إن جوانب طاغور المتعددة، وإن مواهبه المتنوعة لتجتمع كلها في هذه (الإنسانية) الرحبة فتؤلف منها شخصية واحدة تشبه الكل البسيط الذي لا يتجزأ ولا يقبل التحليل والتفكيك.
بقيت ناحية واحدة غفلت ذكرها فيما سبق عمداً لأنها هي الناحية التي أقصد إليها في عنوان هذا المقال، ولذلك أردت أن أتحدث عنها منفردة لكي أبلغ القصد الذي ارمي إليه،(430/24)
وإن كانت هذه الناحية ليست إلا وجهاً من وجوه الصفة الإنسانية الغالبة على روح طاغور، وأعني بهذه الناحية وطنية الرجل، أو مفهوم الوطنية في تفكيره، وفي اتجاهه الروحي، وهنا أحب أن أعترف للقارئ الكريم بأنني - حين أقدمت على التعبير عما أحسست من جزع لفقد هذا الإنسان العظيم - لم أطمح لدراسته دراسة (تستوعب نواحي عظمته جميعاً، وهي لأبعد من أن تنال بهذه الكلمات الطائرة، ولكنني أردت أن أستعين بهذا القدر الضئيل الذي أملك من الطاقة الروحية والذهنية على الوفاء بواجب ذي وجهين: وجه يتعلق بهذا العظيم الذي بلغ نشوته الكبرى بلقاء الروح الكلي الأعظم، ووجه يتعلق بهذا الوطن العربي الذي يتقاضانا استخلاص العبرة، واستخراج ناحية الانتفاع العملي من سيرة هذا العظيم، وإذا كانت نواحي طاغور كلها موضع الانتفاع لكل وطن، وكل قوم، وكل فرد - فإن ناحيته الوطنية أشد لصوقاً بما نحن فيه اليوم من أحوال وظروف، لأننا اليوم أحوج ما نكون إلى تفهم معنى الوطنية على ضوء جلي من تفكير وإلهام هذا الإنسان الملهم، فلقد كادت تنقلب عندنا مقاييس الوطنية انقلاباً غريباً، حتى كادت تكون الوطنية التي نفهمها هذه الأيام لا تعني سوى ارتقاب واغتنام أقصر الفرص لكسب الرزق أو الشهوة أو الحكم، سواء أكان في ذلك خير الوطن أم جلب الضر إليه، وسواء أكان في ذلك تخفيف الشقاء عن أهليه أم إنزال الشقاء عليهم أضعافاً مضاعفة.
إن طاغور (الإنساني) الذي يشمل الإنسانية جمعاء بحبه وحنوه وصفاء قلبه، هو نفسه طاغور (الوطني) الذي أفاض على الهند من هذا الحب والحنو والصفاء ما عرفه الهنود أنفسهم وقدروه قدره، وقابلوه بفيض مثله من الحب والإكبار والإيمان، وهل هذا غريب؟
كلا: ليس شيء أقرب للاتساق مع الطبيعة والمنطق من أن يكون طاغور الإنساني وطنياً صادقاً، عميق الإخلاص، يؤثر مواطنيه بقسط كبير مما وهب قلبه الكبير من الحب الدافق والحنان الشامل، ولكن ما هو مفهوم هذه الوطنية التي تتسق ذلك الاتساق مع نزعة إنسانية تتخطى الحدود والمعالم، وتتخطى العرف والتقاليد والأوضاع؟!
نترك الحديث عن وطنية طاغور وعن حدود هذه الوطنية في ذهنه - إلى سيرته العملية أولاً، ثم إلى آثاره الأدبية ثانياً أما سيرته العملية فتتجلى فيها وطنيته من نواح عدة: فلقد عنى طاغور برفع مستوى شعبه العقلي والروحي والاجتماعي عناية تظهر آثارها العظيمة(430/25)
فيما أسس من مدارس لتطبيق تعاليمه الفكرية والروحية والاجتماعية: تعاليمه التي يؤمن بها إيماناً منقطع النظير، وتتملكه رسالتها النبيلة تملكاً يشبه من وجوه كثيرة حالات القديسين، تلك التعاليم التي كانت في عقيدته خير وسيلة لإنقاذ الشعب الهندي من صغاره وعبوديته، ومن شقائه وبلائه، ومن ضعته وانحطاطه، ولعل أروع ظاهرة في سيرته العملية هذه، هي محاولته التخفيف من حدة التقاليد البرهمية التي كانت توسع شقة الفوارق والحواجز بين طبقات الشعب وطوائفه، وأنبل مظاهر هذه المحاولة تأسيس طاغور مدرسة عالية لطائفة المنبوذين ليثقفهم تثقيفاً عقلياً وروحياً يغرس في نفوسهم الاعتزاز بكرامتهم الإنسانية، ويشعرهم بأقدارهم في الوجود، ولقد أفاد طاغور من هذه المحاولة أن بث في روحية هؤلاء المنبوذين الخامدة لهباً من روحه كاد يقربهم منزلة من الطبقات الأخرى المترفعة عنهم، وفي هذه المحاولة - كما ترى - مظهر رائع للوطنية الحق، بمقدار ما فيها من نزعته الإنسانية النبيلة، وفي سيرته العملية مظهر آخر للوطنية يتجلى في دعوته إلى إخماد لهب الأحقاد بين المسلمين والهندوس، وإطفاء ثائرة البغضاء بين جميع الطوائف التي تؤلف شعوب الهند، ولقد كانت له في هذا السبيل صيحات كريمة نافعة.
فها أنت ترى أن الوطنية في عرف طاغور ليست عملاً سلبياً مبنياً على الصراخ والتهويش والادعاء الفارغ والتشدق بالألفاظ الفخمة المجنحة، بل هي عمل إيجابي صامت يبني وينشئ ويتناول بالبناء والإنشاء عقل الأمة وروحها قبل كل شيء، لأن الأمة في رأيه ليست أمة حقاً إذا لم تكن ذات عقل ناضج وروح سام، وذات وحدة عقلية وروحية شاملة، على أن تكون في وحدتها العقلية والروحية مجتمعة على الإيمان بمثلها العليا، إيماناً يلهب وجدانها بنزعة التأمل في جمال هذه المثل الكريمة، وبنزعة التقديس لمظاهر الألوهة في هذا الكون العظيم.
هذه أروع مجالي الوطنية في سيرة طاغور العملية، وهي في ذاتها أمثلة عالية للاعتبار والاحتذاء، وهي كذلك حدود واضحة لمعنى الوطنية الصحيح. أما ما تحدثنا به آثار هذا الرجل الأدبية عن مفهوم الوطنية في ذهنه، فحسبك أن تقف من ذلك على بعض رواياته التي يدير فيها الحوار على ألسنة أشخاصها مشبعاً بالآراء والأفكار السامية حول موضوع الوطنية وحدودها، ولعل في روايته (البيت والعالم) أعظم آرائه وأفكاره في هذا الباب، فلقد(430/26)
دارت هذه الرواية كلها حول هذه النقطة، وهي حدود معنى الوطنية كما تستقر في ذهني شخصين يختلفان كل الاختلاف بالاتجاه الفكري وبالمزايا النفسية وبالنزعات الخلقية أما أحدهما (سانديب)، فهو زعيم وطني يثير حماسة الجماهير ببلاغة منطقه وبقوة إيحائه النفسي، وبهذا الأسلوب نفسه، يلهب حقد الشعب على الأجانب، ويدفعه إلى مقاطعة بضائعهم، ويغريه بإيذاء المواطنين المتخلفين عن تنفيذ تعاليمه بكل وسيلة من وسائل الإيذاء، بل يغريه في سبيل ذلك باستباحة كل جريمة وبارتكاب كل منكر؛ وأما ثانيهما (نيكهل)، فهو من راجات الهند، مثقف ثقافة عالية، ومهذب تهذيباً نفسياً سامياً عجيباً، وبسمو تهذيبه هذا استطاع أن يطهر نفسه من الأحقاد والأضغان، وأن يحملها على الهدوء والصفاء والتسامح في وجه الأزمات والرجات النفسية، وفي وجه الأشخاص الذين يحدثون هذه الأزمات والرجات في مجرى حياته، وجاهد في أن يطهر نفسه أيضاً من نوازع الأنانية العمياء التي تضحي بهناء الآخرين وشخصياتهم في سبيل هناء وشخصية صاحبها، ثم يصوره لنا طاغور رجلاً قوي السلطان على نفسه إلى غاية استطاع عندها أن يكون إنساناً سامياً حقاً، ثم يصوره رجلاً وطنياً يحب هناء شعبه ورخاءه وصون كرامته، ولكنه لا يتبجح بوطنيته هذه، بل يعمل لها بهدوء وصمت: ينشئ المعامل لتشغيل العمال وتوفير الحاجات الصناعية الوطنية، ويقتني لبيته الأثاث الوطني ويتغذى الأغذية الوطنية، ويستعمل أدوات الزينة الوطنية، ولكنه - مع كل ذلك - لا يحاول إيذاء الأجنبي بإخراج بضائعه من مقاطعته، أو إحراقها كما يفعل (سانديب)، ولا يحاول أن يقهر أحداً من مواطنيه على استعمال بضاعة معينة، لكي لا يكون في ذلك حرج أو ضرر عليه، وهو - من أجل هذا - يقف من حركة (سانديب) موقف التحفظ والحذر، وقد يحاول أن يجادل (سانديب) في أساليب حركته العنيفة، مصطنعاً في جداله الهدوء والمنطق الرزين، مبتعداً في هذا الجدال أيضاً عن التأثر بالعصبية لرأيه رغم إيمانه به كل الإيمان. أما (سانديب)، فيصوره طاغور على النقيض من صورة (نيكهل) هذه، إذ يرينا نفسه تصطخب بدوافع ونوازع هائلة مخيفة، ويرينا شخصيته لا تعتمد في تزعم الحركة الوطنية إلا على بلاغة المنطق وقوة الاستهواء، بل لقد صوره طاغور رجلاً خداعاً ماكراً يستبيح لنفسه السرقة باسم الوطنية، ولا يجد حرجاً في إغراء زوجة (نيكهل) بالتمرد على حياتها الزوجية(430/27)
الوادعة المطمئنة، المغمورة بسعادة الحب الجميل، مستغلاً نزعتها الخيالية ليستفيد من أموالها، يروي بها شهوات نفسه المتعطشة للزعامة لذاتها كغاية لا وسيلة، وهكذا يستمر طاغور متتبعاً خطوات (سانديب) في حركته الطاغية العنيفة حتى يستحل في سبيلها خداع زوجة (نيكهل)، وهدم هناءتها الزوجية، وهدم أحلامها العظيمة التي بناها هو لها في خيالها الملتهب، وحتى ينهي حياة هذه الأسرة الطيبة بفاجعة مروعة على حساب وطنيته المموهة.
بهذا التصوير البارع يحدد لنا طاغور حقيقة الوطنية كما يرتضيها هو، وكما يؤمن بها كوسيلة للعمل المنتج في سبيل الأوطان، ولعل هذا العرض يبقى ناقصاً إذا لم نشفعه ببضعة آراء وأفكار خطيرة أدارها على لسان (نيكهل) الذي يبدو لنا أنه هو الشخص المختار في هذه الرواية لتمثيل آراء طاغور نفسه في الوطنية، وأنا أعرض هذه الآراء والأفكار لا لأجل إيضاح معنى الوطنية عند طاغور وحسب، بل لأجل أن تكون أمثالاً عليا نؤمن نحن بها، ونحفر لها مستقراً أميناً في قرارات وعينا، لعلها تكون عوناً لنا في هذه الظروف والأحوال التي تحيط بنا اليوم:
قال (نيكهل) بعد أن أخرج المربية الأجنبية من قصره بتأثير ضغط الحركة الوطنية التي يقودها (سانديب)، وقد شيعها بنفسه في عربته فانتقدته الصحافة الوطنية المتطرفة لأجل ذلك مر الانتقاد: (إنني أخدم بلادي ولكني لا أعبدها، فإني أعبد الحق وهو أعظم من بلادي، أما من يعبد بلاده كما يعبد الله فهو يسئ إليها ويتوهم أنه من المحسنين).
وكان نيكهل يجادل سانديب في بعض آرائه الوطنية فقال له: (. . . أما حقيقة رأيي - الكلام لنيكهل - فهي أن الذي لا يستطيع أن يتحمس لبلاده كما هي حقيقة، والذي لا يستطيع أن يحب إنساناً لمجرد كونه إنساناً، والذي يريد تأليه وطنه بالهتاف والهياج - فهو يحب الهياج أكثر مما يحب وطنه).
وحين شاع أن خزينة المهراجا قد سرقت جاء إلى (نيكهل) أستاذه الحكيم، وفيما هذا يتحدث عن (سانديب) وأتباعه قال هذه الكلمة العظيمة يعني بها رجال الحركة المتطرفين: (لقد وضعوا الوطن حيث طردوا الضمير)
وقال (نيكهل) وهو في نقاش مع (سانديب):
(إني أقول لك الحقيقة (يا سانديب): إنك تجرح عواطفي حين تدعو الظلم واجباً، وتطلق(430/28)
على البغي اسم الخيال الأدبي، فليس العقل هو الذي يمنعني عن السرقة بل الذي يمنعني عنها عاطفة تدعوني إلى احترام نفسي)
اكتفى بهذا القدر لأن الإطالة قد بلغت حداً لم أكن أقصد إليه. أما بعد: فيا أيها الإنسان العظيم الناعم الآن بفرحة الحب الأسمى، لقد بلغت رسالتك الجميلة، وأسكرت الدنيا بترانيمك المترعة رحمة ومحبة، ودعوة للسلام والألفة، فمن حقك أن تهنأ الآن بلقاء حبيبك الأعظم، ومن حقك على الدنيا هذه أن تذكر فضلك، وأن تهتدي بهدى روحك العظيم يوم تصحو من هذا الجنون المطبق، وهي لابد أن تصحو يوماً.
(بغداد)
حسين مروة(430/29)
أدباء ومدرسون!. . .
(حديث ذو شجون إلى وزارة المعارف وإلى الدكتور زكي
مبارك. . .)
للأستاذ محمد سعيد العريان
تلطف الدكتور زكي مبارك فتناول في حديث الأسبوع الماضي موضوع (الترقية إلى المدارس الثانوية)؛ وهو موضوع من حق صديقنا الدكتور زكي مبارك أن يتحدث عنه، لأنه بسبيل من عمله الرسمي في وزارة المعارف، وعمله الأدبي في مجلة (الرسالة)؛ فليس من حق أحد أن يدهش للأسلوب الذي تناول به موضوعه، أو الطريق الذي سلكه لإبداء الرأي فيه؛ وإنه لمن الغبن أن يكون الدكتور زكي مبارك ملوماً على ما في حديثه ذاك من التناقض وفساد الحكم؛ إذ كان يملي عليه الرأي حين يحكم شخصيتان لا تجتمعان على فكرة واحدة: شخصية زكي مبارك المفتش بوزارة المعارف، وشخصية زكي مبارك المؤلف المحقق الأديب؛ ومن أين لهاتين الشخصيتين أن تجتمعا على رأي وبينهما ما بينهما من الفوارق العقلية، ولكل منهما مقياسه في موازين الأشياء. . .!
والموضوع الذي تناوله الدكتور زكي مبارك حقيق بالبحث والدراسة، لأنه موضوع عام يتصل من قريب بشأن من أخص شؤوننا الأدبية، إذ كان المعلم هو فكرة الشعب، وأماني الغد، ومستقبل الثقافة، ولكن هذا الموضوع على عمومه يتصل بجانب من حياتي الخاصة يحرجني أن أتخذه موضوعاً للحديث، ولعل كثيراً من الذين يقرءون لي في الرسالة منذ سنين، لم يدر في خلد أحد منهم أن يسأل عن عملي الذي أتكسب منه ووظيفتي الرسمية التي أعيش بها قبل أن يعرف بي الدكتور زكي مبارك. .
ومعذرة إلى طائفة من القراء، فإن الرأي العام في مصر وفي الشرق ما زال يقيس منازل الرجال على قدر منازلهم في مناسب الحكومة أو منازلهم في دولة المال!
على أنه لا مندوحة لي اليوم عن الحديث في موضوع كنت أتنكبه فراراً من التهمة، ولست أطمع بعد في كلمة عطف أو أخشى كلمة ملام، فإني لقوي بنفسي عن استجداء العطف أو خوف الملام، ومن وجد في نفسه الطاقة فليس له عذر من التقصير؛ وليغضب من يغضب(430/30)
لنفسه أو للحق، فليس بي إلى أحد حاجة، وليس لي في سبيل الحق أن أخاف سطوة إنسان!
وأبدأ حديثي لأصحح للدكتور زكي مبارك قوله: (الترقية إلى المدارس الثانوية) فإن كلمة (الترقية) هنا لا تؤدي معناها اللغوي كما يفهمه أهل التحقيق، وليس في نقل معلم من المدرسة الابتدائية إلى المدرسة الثانوية أي معنى من معاني (الترقية) وليس ثمة فرق بين معلم هنا ومعلم هناك، لا في الدرجة العلمية، ولا في العمل، ولا في المال، ولكن الفرق كل الفرق في التلميذ وفي المكان. . .
هذا حق يعرفه زكي مبارك (المفتش بوزارة المعارف)، كما يعرفه وزير المعارف نفسه، وكما يعرفه المعلمون جميعاً في المدرستين الابتدائية والثانوية؛ ولكن لماذا، لماذا - والأمر كذلك - تصر وزارة المعارف على تسمية هذه النقلة (ترقية)؟ ولماذا يشكو طوائف من المعلمين فيطلبون حقهم في هذه (الترقية)؟
جواب ذلك: أن هذه (النقلة) هي مظهر من مظاهر (الثقة العلمية) بالمعلم المنقول، وهي (اعتراف رسمي) بأن لهذا المعلم أهمية لتعليم طائفة من التلاميذ أنضج عقلاً من إخوانهم في المدرسة الابتدائية؛ وهذه (الثقة العلمية) وهذا (الاعتراف الرسمي) هما كل جزاء المدرس المنقول، وهما حسبه وكفايته؛ وأهل العلم دائماً هم أقنع الناس بالقليل!
. . . وقد سنت وزارة المعارف سنة منذ عامين: أن تسبق بين المعلمين في امتحان سنوي عام، لتمنح أسبقهم ثقتها العلمية واعترافها الرسمي.
لقد كثر ما تحدث المربون عن عيوب الامتحان، واختلال ميزانه، وجنايته على شخصية التلميذ. . . أفلم تجد الوزارة - بعد تجارب السنين - وسيلة لاختيار كفاية المعلم غير الامتحان وقد قالت ما قالت فيه وسمعت ما قيل؟
أليس لدى وزارة (المعارف) من وسائل (المعرفة) في ذلك غير امتحان (المعلمين)؟ بلى! هكذا قالت وزارة المعارف منذ سنتين وما تزال تقول: الامتحان!
الامتحان؟ بالله كيف صارت عيوبه حسنات، واختلال ميزانه دقة، وجنايته على (شخصية التلميذ) سبيلاً إلى تحديد (شخصية المعلم)؟
ولكن لا علينا من ذاك؛ فليس يعنينا ما تكون وسيلة وزارة المعارف إلى اختيار معلميها، ولو كانت المباراة بين المعلمين في حمل الأثقال. . .!(430/31)
ولكن، لأي شيء سنت الوزارة سنة الامتحان؟
الوزارة تقول أنها تقصد من ذلك إلى استثارة القوى والكشف عن (الكفايات المغمورة)؛ هذا كلامها؛ فما بالها تصر على امتحان ذوي القوى العاملة و (الكفايات المشهورة) إذا لم يكن القصد من الامتحان إلا الكشف أو الاستكشاف؟ ما قيمة المصباح تشعله في النهار والشمس طالعة؟ وما عمل المظلة ترفعها على رأسك في الظلام ولا مطر ولا غمام؟ وماذا يقول المعلم يوم الامتحان إذا كانت مؤلفاته وأعماله الأدبية هي موضوع الامتحان؟
هنا مشكلة أدبية عامة، هي مشكلة (النفر الستة) الذين قصر عليهم الدكتور زكي مبارك حديثه في العدد الماضي.
ليت شعري ما شأنك وشأنهم يا صديقي؟ إنك لتعرف هؤلاء النفر الستة معرفة الرأي والنظر، وتعرف كم أبلوا في جهادهم للعلم منذ سنين؛ وأراك لم تنكر أقدارهم العلمية والفنية على طول ما تعتبت عليهم وتجنيت.
هؤلاء النفر الستة يا صديقي - وأنا منهم - لم يرجوا وزارة المعارف أن ترقيهم إلى المدارس الثانوية كما ظننت، فإنهم أصدق نظراً من أن تخدعهم الفروق الصغيرة بين الأسماء فتحملهم على الرجاء والاستجداء. . .
بلى، نحن لم نطلب هذه (الترقية)، ولم نسع لها، ولا نعرف لها طعماً مما يمر في الأفواه ويحلو؛ وإن لنا من الإيمان بأنفسنا ومن الإيمان بمعنى الأدب ما يرتفع بنا عن ذلك المستوى، ولكنا كتبنا لننبه وزارة المعارف إلى معنى أدبي كان ينبغي ألا تغفل عنه أو يغفل عنه القائمون بشؤونها؛ - كتبنا لننبهها إلى أنها بما أكثرت من الحديث والنشر عن امتحان المسابقة، ونتائج المسابقة، قد ألقت في وهم الناس أن معلم المدرسة الابتدائية ليس له من العلم مثل حظ المعلم في المدرسة الثانوية، وليس له تحصيله وكفايته. . . . . .
هذا المعنى يا صديق يسوءني ويسوءك، ولكنه يسئ إلى وزارة المعارف أكثر مما يسوءني ويسوءك حين يعرف الناس أن بين المعلمين في المدارس الابتدائية طائفة من أهل التأليف والتحقيق يدوي صوتهم في آذان الشرق العربي ويملأ حديثهم نوادي الأدب هنا وهناك ولا تكاد تحس بهم وزارة المعارف. .!
أي تهمة يا صديقي تنال وزارة المعارف في سمعتها، وماذا يقول الناس عن كفايتها وحسن(430/32)
تقديرها للآثار العلمية، وهي تجهل أقدار العاملين من معلميها وما أنتجوا من بحوث وما استحدثوا من فنون؟
. . . هذا المعنى يا صديقي هو الذي رفعنا من أجله الصوت إلى وزارة المعارف - ووزيرها من أهل التأليف والتحقيق - نطلب إليها أن ترد إلينا الاعتبار العلمي، فتعترف بنا أدباء ومؤلفين ومحققين.
ولكنك تقول يا صديقي: (إن هذا الباب إن فُتح فسيتيح فرصاً كثيرة لأدعياء التأليف والتحقيق. . .)
وأعيذك يا صاحبي أن تكون قصدت إلى المعنى الذي تشير إليه عبارتك؛ فأي عمل لوزارة المعارف إن كانت لا تدرك الفرق بين المدعي والأصيل من أهل التأليف والتحقيق؟
ويذكرني قولك هذا يا صديقي كلمة قالها لي الدكتور فلان منذ بضعة أشهر، قال: (لو كنت موظفاً في مصلحة التنظيم لوجدت من وزيرها اعترافاً بمجهودك الأدبي أكثر مما أنت واجد اليوم في وزارة المعارف. . .!)
على أن للمسألة يا صديقي وجهاً أخطر من ذلك وأبعد أثراً في أدب الجيل؛ فإن إنكار الفضل على (ستة نفر) استعلنوا بجهودهم بين ألف ومائتي معلم في المدارس الابتدائية، جدير بان يفقد هؤلاء (النفر الستة) حلاوة الإيمان بمعنى الأدب، ويردهم آلات لا يعملون إلا (الواجب)، الواجب الذي يؤجرون عليه بالطعام والشراب واللباس وزخرف الحياة، وأعوذ بالله من سوء الخاتمة!
ومالي أبعد في الظن وأقدر وأتوقع وأترك الواقع الملموس؟ ألست تعرف كما اعرف يا صديقي مَن الذي (يؤلف) أكثر الكتب المدرسية في وزارة المعارف ومن الذي (يشرفها) باسمه الكريم؟. . . أحسبك لا تطالبني بالتصريح بأكثر من ذلك، لأنك لا تحاول أنت أن تنكره ولا أحاول أنا أن أخفيه. . . . . .
وتسألني: ما لهذا وللمشكلة التي نعالجها اليوم وتلك قضية من قضايا الأخلاق وهذه مشكلة من مشاكل الأدب؟
وأقول: إنه ما دام الاعتبار الأول عند وزارة المعارف في الحكم على الآثار الأدبية هو (وظيفة المؤلف) فما بد أن يكون هناك تعاون بين ذوي (العلم) وذوي (الجاه) شبيهه(430/33)
بالتعاون بين (رأس المال) و (جهد العامل) في تكوين (شركة) من شركات (الربح والتثمير)!
أتريد أمثلة يا صديقي أم كفاك ما تعرفه وأعرفه مما لا تحاول أنت أن تنكره ولا أحاول أنا أن أخفيه!
ولكني أراك لم تقنع بعد بالعلاقة بين ما ذكرت وبين المشكلة التي نحن بسببها؛ إذن فاعلم يا صديقي أن جرثومة ذلك الداء هي تلك (الأرستقراطية العلمية) التي تأبى أن تعترف بقيمة الإنتاج الأدبي لأحد من (صغار المعلمين) إلا. . . إلا ماذا؟. . . معذرة فقد نسيت!
أتراك يا صديقي قرأت قصة (من أدباء الجيل)؟ نعم، إنني أذكر ذلك، فقد كانت موضوع حديث بيننا يوماً، ولكني أشير عليك أن تعود إليها فتقرأها مرة ثانية، فلعلك واجد فيها متاعاً ولذة يرفهان عنك بعض ما تجد من ثقل هذا الحديث!
وأعود إلى ما كنا فيه، فأسألك يا صديقي: أترى حقاً وصدقاً أنه لا بد من امتحان (المسابقة) للترقي في الوظائف حين تكون كفاية الموظف في حاجة إلى دليل؟. . .
ففي أي مباراة سبقت أنت حتى صرت (مربياً كبيراً) تحكم على أقدار (صغار المعلمين)؟ وفي أي مباراة سبق فلان وفلان ليكونوا أعضاء في لجان الامتحان وحكاماً في مباريات المعلمين؟. . .
وأبادر فأعتذر إليك وإلى فلان وفلان؛ فما أردت أن أغض من أقداركم العلمية، وإنكم لأدباء من أهل التأليف والتحقيق. . .
. . . ولكني رأيتك في بعض ما ساقتك إليه شجون الأحاديث، تنكر قيمة كل المقاييس العلمية إلا مقياس الامتحان، فرأيت أن أعرف أين أنت هناك؟. . .
أهذا ما تسميه الزهو البغيض؟
الهم إني أستغفرك وأستهديك، وأسألك إلا ما جنبتني من الكبرياء، أن تزيدني ثقة بنفسي، ويقيناً بحقي، وإيماناً بعملي!. . .
وإنه لعلى الرغم مني - يا صديقي - ألا تتهيأ لي العوامل النفسية التي تسمح لي أن أقبل على الامتحان، وإن كانوا: (في أوربا وأمريكا يتقدمون إلى المسابقات بعد الخمسين، ولهم في ميدان المجد الأدبي والعلمي مكان). . .(430/34)
تسألني: لماذا؟
وأسألك: لماذا؟
وتعرف وتسكت، وأعرف وأغضي، وتفتر الشفاه عن بسمات حين تتراءى صورة فلان وفلان. . . (وأنت تعرف ما أريد)!
محمد سعيد العريان
المدرس بالمدرسة الابتدائية(430/35)
الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر
للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر
- 2 -
ذكرنا في العدد 418 من هذه المجلة الغراء أن الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر يقتضينا ألا ننظر إلى الفقر كمشكلة قائمة بذاتها؛ لأنه - كما قلنا - نتيجة لمشاكل أخرى كثيرة. وعلى ذلك يجب علينا أن نبين مدى مساهمة تلك المشاكل في خلقه ومضاعفة آثاره المحزنة. وهي كلها مشكلات اجتماعية خطيرة ملحة. واستمرار وجودها واستفحالها يجعلها تتفاعل بعضها مع بعض، وتنتج عصير الشقاء الذي تتجرع كأسه الأغلبية الساحقة من سكان هذه البلاد.
والذين يتحدثون عن (الفقر) وحده مخطئون كل الخطأ، إذ لا يحلمون إلا بإعادة توزيع الأراضي على جميع أفراد الشعب على السواء وملء جيوب الفقراء بالمال. وهو أمر مستحيل وضار من الوجهة الاجتماعية ومناقض للبداهة السليمة والقوانين السماوية كلها ومنافٍ لمنطق الأشياء. فلو تحول الشعب يوماً ما إلى أغنياء بمثل هذه الطريقة لاضطرب المجتمع من جديد بعنف لتعيد الطبيعة توازنها الفطري، وعاد معظم الفقراء إلى ما هو أشد وأنكى من فقرهم الأول. فللطبيعة قوانين خفية تسري من تلقاء نفسها وتحطم كل ما يقف في سبيلها. والفقر ظاهرة طبيعية، ولكنه عندما يتجاوز حده يصبح ظاهرة اقتصادية اجتماعية.
وإذا كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن صلة الحالة الاقتصادية بالفقر، فلنحاول اليوم أن نرسم صورة سريعة للصلة الوثيقة بين مشكلتي الجهل والفقر.
مشكلة الجهل في مصر
كثير من الناس ما زالوا يخلطون بين الجهل والأمية، ولا يفرقون بينهما. فالأمية ضد التعليم بمعناه الضيق. أما الجهل فهو عكس الثقافة التي تستلزمها الحضارة والتربية العامة للشعب. وهي أوسع معنى من التعليم وأشد لزوماً منه. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه كان مثقفاً، نير الفكر، واسع الإدراك، ولهذا تمكن من(430/36)
الاضطلاع برسالته العظيمة. وكم من رأسماليين عالميين وعظماء ومخترعين دوليين معروفين لم ينالوا قسطاً وافراً من التعليم. ويقابل هؤلاء متعلمون، ومنهم من درسوا في الجامعات، تراهم يتكلمون أو تقرأ لهم ما يكتبون فتشعر أن على شخصياتهم الباهتة سمات الجهل المطبق والمنطق السقيم. وعلى هذا يصح أن نقول: وكم في المتعلمين من جهلاء!
وقد كان الغرض من التعليم في الماضي هو تأهيل الشبان للأعمال الحكومية الآلية، ولا شئ غير ذلك، عندما كانت تسيطر على دفة الحكومة والتعليم عقليات إنجليزية ركزت بين أناملها تصريف الأمور، وصار تبعاً لذلك الطلبة نسخاً متشابهة مكررة من أصل واحد! ثم انتهى هذا العهد، وظهرت في الوجود نظريات جديدة تربوية نادت بوجوب الاهتمام بشخصية الفرد، وإنماء ملكات الابتكار المودعة في جهازه البشري الدقيق. وقد تطورت تلك النظريات، وصارت توائم بين حاجات الفرد وحاجات الجماعة التي لا غنى عن المحافظة عليها، ولا مفر من تنسيق نشاط أفرادها مع زيادة نفعها لهم؛ وبذلك صار التعليم تربية وثقافة حرة مرنة لا مجرد تلقين معلومات جافة، وحشو الأدمغة بدراسات ميتة لا غناء فيها ولا طائل تحتها. وصارت التجارب العلمية والعملية الكثيرة التي تطبق اليوم في أوربا وأمريكا توحي دائماً بالبرامج النافعة التي تكون أكثر انطباقاً على حاجات الفرد الغريزية والاجتماعية والمادية. وليس في نيتي أن أعتدي على اختصاص الفنيين وأخوض في شروح وفروق تلك النظريات التربوية الحديثة، فأنا أمر عليها بقدر ما يسمح لي بحث اجتماعي كهذا، وإنما أذكر أن هدف التربية الحديثة هو الإكثار من الكفايات الاجتماعية. وهي - أي الكفايات الاجتماعية - وحدها القادرة على الحياة والكفاح وكسب القوت المحترم الشريف في عصر مضطرب بالشهوات الماحقة والصوالح المتعارضة، والنظريات العلمية المتجددة على الدوام. والتربية الحديثة توحي بالتعليم الذي يناسبها ولا يعطل آثارها. وهي إذا سارت في مجراها العلمي المنتج كانت أقوى درع ضد الفقر، وأيسر السبل إلى الثروة والغنى والمجد.
ومصر لم تعمل بعد بهذه النظريات، وإن كانت قد عرفتها وأرسلت البعثات تلو البعثات لدراستها، ولم تأخذ بنصيبها من رسالة التربية الحديثة وإن كانت تنادي بها وتعطف عليها وتشترك في مؤتمراتها. ويخطئ بل يكذب من يقول غير هذا عن وزارة المعارف. فهي(430/37)
نفسها إلى اليوم حائرة ضالة طريقها مرتبكة لم تعلم بعد رسالتها، ولم تفهم مهمتها على وجه التحديد!! وهو أمر لو كان في بلد آخر غير مصر لكان جريمة لا تغتفر، ولاتهمت وزارة المعارف بإفساد حياة الناس، ولرفعت عليها القضايا من أولياء أمور الطلبة، ولثار عليها الرأي العام. وذلك لأن التعليم في عصرنا هذا فريضة وطنية، والتربية العامة واجب مقدس. ووزارة المعارف هي وحدها الأمينة عليها؛ فإذا هي اضطربت في تأدية رسالتها كان الأمر نكراً، واضطربت معها حياة الناس، وارتبك سير الآلة الاجتماعية. وإذا كنا نعلم أن جهالة فرد قد تطوح بمستقبل أسرة أو عدة أسرات أمكننا أن نتصور مدى الخطورة في جهالة شعب بأسره!!
ولنسرد الآن شيئاً من التفصيل عن هذه الناحية. فقد جاء في الإحصاءات الأخيرة أن نسبة المتعلمين بين الصغار الذين بلغوا سن التعليم هي 12 % ولتبيان ضآلة هذه النسبة نذكر أنها في السويد 98 %، وفي تشيكوسلوفاكيا 60 %، وفي اليونان 31 %، مع أن المعروف عن هذه الدول أنها من الصف الثاني والثالث من حيث التعليم.
أما نسبة الأمية - ولا نقول الجهالة فأمر هذه أفدح وأنكى - فيمن فاتوا سن التعليم من الذكور فهي 79 %. وإن هذه النسبة المخجلة جداً لتصبح أشد هولاً لو أسقطنا من الحساب عاصمتي القطر (القاهرة والإسكندرية) إذ نجدها في أسوان وأسيوط وجرجا 91 %، ثم تتراوح في باقي المديريات بين ذلك وبين 70 %.
فإذا أردنا أن ندلف من التعميم إلى التخصيص وجدنا عار الأمية متفشياً بين أرباب المهن الحرة والفلاحين، مع أن هذه الطبقات في أشد الحاجة إلى التعليم، بل وإلى نوع معين بالذات من التعليم.
ومن الغريب، بل من المضحك المبكي، أن مصر التي تشكو الأمية مر الشكوى بها أزمة بطالة بين المتعلمين. وهما مشكلتان متناقضتان، وقلما تجتمعان في بلد متحضر. وسر هذا التناقض أن المشرفين على التعليم - في الماضي - لم يراعوا حاجة البلاد إلى التعليم، ولم يحسبوا للضرورات الاجتماعية حساباً. ونحن اليوم ندفع ثمن هذه الجريمة الوطنية من كرامتنا وثروتنا القومية، ونعاني تأخراً مخجلاً في حضارتنا العقلية والأدبية والمادية.
ولو أردنا تشخيص مرض الأمية المتفشية في مصر لوجدنا أسبابه كما يأتي مجتمعه وبلا(430/38)
ترتيب:
1 - ضآلة ما ينفق على التعليم بالنسبة لحاجة الشعب إليه،
والرغبة في مسايرة العصر: فميزانية التعليم لا تزيد عن 21
9 % من الميزانية العامة مع أن المستر كلاباريد - الخبير
السويسري الذي استقدمته الحكومة المصرية منذ أكثر من
اثني عشر عاماً - أوصى برفع هذه النسبة إلى 12 % على
الأقل، لأن إنقاذ مشروعات الإصلاح التي تتطلبها البلاد
تتوقف على محو الأمية، ونوع التعليم الذي يعطى لأفراد
الشعب. ولكي ندلل على ضآلة ميزانية وزارة المعارف قد
يكفي أن نضرب الأمثال. فنسبة ميزانية التعليم في النرويج
إلى الميزانية العامة 13. 7 %، وفي الدانمارك 14. 2 %،
وفي هولندا 19. 3 %، وفي سويسرا 30 % مع أن شعوب
هذه البلاد على درجة عالية من حيث التعليم.
2 - سوء توزيع ميزانية التعليم
بدأت الحكومة المصرية بالاهتمام بالتعليم الإلزامي منذ سنة 1917 حين وضع المغفور له عدلي يكن باشا وزير المعارف في ذلك الوقت تقريراً وافياً عن ضرورة التوسع في هذا النوع من التعليم بحيث يكفل تعليم 80 % من الذكور، 50 % من الإناث، وهاهو ذا قد مر ما يقارب من ربع قرن والحالة آخذة في الانحطاط ووزارة المعارف تسأل نفسها كل يوم: ما هي مهمة هذا التعليم، وما هي أهدافه وبرامجه؟ مع أنه في يقيني أن مهمة وزارة المعارف لو اقتصرت على ذلك النوع من التعليم، وقامت بها جاهدة ناجحة لأدت رسالتها(430/39)
الشعبية على أكمل وجه، ولكنها مضطربة موزعة الفكر بين هذا التعليم وغيره من أنواع التعليم الأخرى. وأعتقد - غير مغال - أنها قد فشلت فيها جميعاً! وقد ترتب على ذلك أن صار هذا الجيل إلى فشل خطير. أصبح معه عاجزاً عن الكفاح في الحياة من أجل كسب القوت.
ثم إن وزارة المعارف تضاعفت ذلك الخطأ بإغفالها الحاجات الفردية والاجتماعية في ميداني التعليم والتربية، واهتمامها بالتعليم النظري القليل الثمرة في عصرنا هذا أكثر من اهتمامها بالتعليم المهني الغزير الفائدة. فقد بلغت نسبة إنفاقها على النوعين 4: 1 مع أن العكس هو الأولى والأحجى. نعم إن مصر شعب زراعي ولكن المزارع المصري ما زال يعيش بعقلية آبائه وأجداده حتى أصبح عاجزاً عن متابعة تقلبات الأسواق المحلية والعالمية التي يصّرف فيها محصولاته، فقد سيطرت العقلية الجديدة المثقفة على كل شئ: على الحقل والمصنع والمتجر والسوق. ومصر ككل شعب زراعي لا تستطيع أن تعتمد في معاشها على الزراعة وحدها وخاصة أن في جوف تربتها مواد أولية ثمينة، وجوها مناسب لصناعات عديدة، وبها فعلاً نهضة صناعية متوثبة.
ووزارة المعارف تأبى إلا أن تخطئ في كل شئ. فمصر برغم كونها بلداً ديمقراطياً يعيش على فأس الفلاح وجهد العامل، وبرغم أن الشعب المصري (يتمتع) بنسبة من الأمية لا مثيل لها في العالم، فإن وزارة المعارف لا تبذل من الجهد، ولا من المال على التعليم الأولى والإلزامي الخاص بهاتين الطبقتين قدر ما تبذله منهما على التعليم الخاص بأبناء الطبقات الميسورة والراقية. ومعنى ذلك أن في مصر الديمقراطية تعليماً أرستقراطياً! وهو أمر من الأمور الكثيرة المعكوسة في بلادنا العزيزة!
3 - فساد البرامج التعليمية
من أبسط القوانين البديهية أن الوسائل تخضع للغايات وتخدمها، وليس العكس، لأن الوسائل فانية متغيرة، أما الغايات فمن صفاتها الثبات والدوام. ومن المعروف أن البرامج الدراسية ليست بذاتها غاية مقدسة، وإنما هي وسيلة لغاية اجتماعية وقومية. ولكن مصر جرى فيها العرف على أن تفنى الغايات في الوسائل. وهذه القاعدة مطبقة على التربية والتعليم. فقد ضحيت التربية على مذبح التعليم دون أن يستفيد التعليم من هذه التضحية!(430/40)
فوزارة المعارف لم تستطع إلى الآن أن تكون وزارة تربية، وإنما ظلت وزارة تعليم بمعناه الضيق القديم: أي وزارة تلقين معلومات جافة، ودراسات ميتة لا أثر للتجديد والابتكار فيهما. وبرامجها الدراسية أصدق شاهد على هذا؛ فهي كل يوم في شأن، ولها في نهاية وبداية كل عام دراسي ضحايا يعدون الآن بالآلاف يبتلعهم المجتمع المضطرب القاسي والكفاح الذي لا يرحم. فإذا شبهنا المجتمع بصرح مشيد، أو بناء قائم، كان فيه ألئك الطلبة الفاشلون كأنقاض الهدم! فكل شاب متعلم فاشل هو (شهادة فقر حية) لنفسه ولأسرته. وهو جزء خَرِب في آلة المجتمع. فهل أحست وزارة المعارف بمسئوليتها في هذا الخلل الخطير الكائن بجسم المجتمع؟؟ أم هي مشغولة بكبار موظفيها وترقياتهم وأغراضهم، ذاهلة عن رسالتها، حائرة في تحديد مهمتها!؟
محمد عبد الرحيم عنبر
بوزارة الشؤون الاجتماعية(430/41)
7 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الأول - الملابس
أما ملابس الطبقة السفلى فهي جد بسيطة: يلبسون سروالاً فوقه قميص طويل فضفاض، أو ثوباً أزرق طويل الأكمام من الكتان أو القطن أو من الصوف الأسمر؛ ويسمى الأول (عريا) والآخر (زعبوطاً)، وهو يشق ابتداء من الرقبة إلى الوسط تقريباً. ويتمنطق البعض بمنطقة بيضاء أو حمراء من الصوف؛ والخدم يتحزمون بحزام عريض أحمر اللون من الصوف أو من الجلد وبه عادة كيس لحفظ النقود. وعمامة العامة شال من الصوف أبيض أو أحمر أو أصفر، أو قطعة من غليظ القطن أو الحرير الموصلي تلف حول طربوش تحته لبدة بيضاء أو سمراء. وبعض الفقراء لا يملكون غير اللبدة؛ فلا عمامة ولا سراويل ولا نعل. إنما يرتدون الجلباب الأزرق أو الأسمر أو أسمالاً بالية. وعلى النقيض من ذلك يرتدي الكثيرون صدرياً تحت الجلباب الأزرق؛ ويلبس بعضهم وعلى الأخص خدم العظماء، جلباباً أبيض وصدرياً وقفطاناً وجبة، أو أحدهما ثم (العرى) الأزرق أخيراً. وتشد أكمام (العرى) الواسعة إلى أعلى بحبل يمر حول كل من الكتفين ويشبك خلف الظهر ويعقد. وقد تعود الخدم (والسواسن خاصة) هذه الطريقة، ويستعملون لها حبالاً من الحرير الأحمر أو الأزرق القاتم. ويرتدي الكثير من أفراد الشعب في الشتاء عباءة كالتي وصفناها من قبل، ولكنها أغلظ منها، وبدلاً من اللون الأسود تكون أحياناً ذات خطوط عريضة سمراء وبيضاء أو زرقاء. وهناك نوع آخر من الأكسية كثير الاستعمال يتخذ من الصوف الأسود أو الأزرق القاتم، وهو أوسع من العباءة ويسمى (دفية). أما النعال فهي من الجلد المراكشي الأحمر أو الأصفر أو من جلد الخراف. ونعال السواس تكون من الجلد(430/42)
المراكشي الأحمر القاتم، ولكن أحذية البوابين والسقائين تكون عادة من الجلد الأصفر.
وتمتاز عمامة المسلم باللون عن عمامة القبطي واليهودي وغيرهما من رعايا الباب العالي، فهؤلاء يعتمون بالأسود أو الأزرق أو الرمادي أو الأسمر الخفيف، ويلبسون عامة الثياب القاتمة. ويرجع استخدام الألوان للتمييز بين المذاهب والعشائر والأسر المالكة إلى عهد بعيد. فإن الإمام إبراهيم بن محمد لما قتله الخليفة الأموي مروان اتخذ بنو العباس الثياب السود لباساً لهم حداداً عليه، ومن هنا أصبح سواد اللباس والعمامة الزي المميز للعباسيين وولاتهم. حتى أنهم كانوا إذا غضبوا على عامل حكموا عليه بلبس أبيض. أما اللون الأبيض فقد أختاره مدعي النبوة (المقنع) ليميز حزبه عن العباسيين، كما أختاره فواطم القاهرة لعدائهم لبني العباس. وكان سلطان مصر الملك الأشرف شعبان الذي حكم من سنة 764 إلى 778 هجرية - 1362 إلى 1376 ميلادية أول من أمر بتمييز الأشراف بالعمامة الخضراء. ومن الدراويش الرفاعيين من يلبسون عمامة من الصوف الأسود أو من الموصلي الزيتوني القاتم. أما عمامة الأقباط واليهود وغيرهم. فهي عادة من الموصلي أو الكتان الأسود أو الأزرق. والعمامة الغالبة الآن في مصر لا تختلف أشكالها كثيراً. فعمائم الخدم معقدة ذات تلافيف حلزونية مدرجة، وكذلك عمائم كبار التجار والمتوسطين منهم وغيرهم من سكان العاصمة والمدن الكبيرة، إلا أنها أقل حجماً منها. والعمامة التركية في مصر أكثر أناقة؛ والعمامة السورية تمتاز بسعتها. وكان العلماء ورجال الدين والأدب يلبسون العمامة الواسعة الكبيرة ويسمونها (مُقلة) كما ترى في شكل 16. والعمامة موضع الاحترام والإجلال؛ فلها في منازل الموسرين كرسي توضع عليه ليلاً ولا يستعمل لغير هذا الغرض. وكثيراً ما يعد هذا الكرسي في جهاز العروس؛ كما كان من المعتاد أيضاً أن يكون للمرأة كرسي آخر لغطاء رأسها. وتحضرني حكاية قصها عليّ صديق أسوقها إليك مثالاً لمقدار الاحترام الذي يكنه الشعب للعمامة. فقد رووا أن عالماً سقط من فوق حماره في شارع من شوارع المدينة فتدحرجت مقلته بعيداً عنه. فتجمع المارون وأخذوا يجرون وراء العمامة صائحين: ارفعوا تاج الإسلام! ارفعوا تاج الإسلام! بينما كان العالم المسكين طريح الأرض يناديهم مغتاظاً: (أنهضوا أولاً شيخ الإسلام).
تنتقل الآن إلى وصف هيئة النساء العامة وملامحهن. فالمصريات منذ بلوغهن سن الرابعة(430/43)
عشرة حتى العشرين، هن من حيث الجسم مثال الجمال؛ ومحياهن يسر العين، ويجذب النفس. ولكن سرعان ما يذوى هذا الجمال بعد أن يستحير الشباب ويستكمل الجسم نموه. وطبيعة الجو تؤثر على طبيعة الصدر قبل الأوان، فترتخي هيئته وتستوي أجزاءه؛ بينما يحتفظ الوجه بكل فتنته. وبالرغم من أن تراخي الزمن لا يذهب رواءهن، فإن كثيرات منهن متى بلغن الأربعين يصبحن، ولو كن جميلات في شبابهن، قبيحات الصورة كريهات المنظر. وأنوثة المصريات يبدأ نموها عند التاسعة أو العاشرة تقريباً؛ فتبلغ عنفوانها في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة. ويلاحظ أن سحن النساء كسحن الرجال؛ إلا أن الشمس لاحتجابهن لا تسفعهن، ويمتزن بمحياهن البيضى الجميل، وقد يعرُض في بعضهن. أما العيون فدعجاء، نجلاء، لوزية الشكل، وطفاء الأهداب، تفيض وداعة تملك النفوس، وسحراً يسبي القلوب، ولم أر فيما رأيت عيوناً أجمل من العيون المصرية. ويزيدها جاذبية احتجاب الملامح بالنقاب. وتأثيرها في النفوس يزيده كحل الجفون كما ترى في شكل 17. والكحل سناج اللبان العطري المحروق. ويصنع أيضاً من سناج قشر اللوز. وهذان النوعان مع الاعتقاد بفائدتهما للعين يستعملان للزينة فقط. إلا أن هناك أنواعاً أخرى تستعمل لخواصها الطبية الحقيقية، وأخصها مسحوق الرصاص، المضاف إليه العنزروت وعرق الذهب وسكر النبات ومسحوق الذهب البندقي، وأحياناً مسحوق اللآلئ ويقال إن الأثمد كان يستعمل قبلاً لتكحيل أصول الأهداب. وتكحل العين بمِرْود صغير من الخشب أو العاج أو الفضة، دقيق الطرف كليل الحد، يبلّ أحياناً بماء الورد ثم يغمس في المسحوق ويمرر بين الجفنين. والوعاء الزجاجي الذي يوضع فيه الكحل يسمى (مُكْحَلة) كما ترى في شكل 18.
وعادة التكحل كانت شائعة بين الجنسين في مصر القديمة؛ وهي ظاهرة في نقوش المعبد والمقابر المصرية ورسومها. وكثيراً ما أكتشف في المقابر القديمة مكاحل فيها آثار الكحل ومراودها، (شكل 19).
ولكن طريقة التكحل القديمة تختلف بعض الاختلاف عن الطريقة الحديثة كما ترى في شكل 20. وقد رأيت في ضواحي القاهرة نساء يكحلن أعينهن على الطريقة القديمة، ولم أصادف ذلك إلا مرتين.(430/44)
وهذه الطريقة نفسها كانت شائعة في عقائل الإغريق ونساء اليهود في قديم الزمن. وعين المصرية على الجملة أجمل ما في وجهها. ويلاحظ أن جمال الملامح في المصريات أقل من جمال الهيئة؛ ولكني بصرت بوجوه يميزها نوع من الحسن ينم عن حلاوة العذوبة ويعبر عن فتنة الأنوثة؛ فيأخذ بمجامع القلب إلى حد ينكر الإنسان وقتاً ما أن الله لم يخلق للمصريات مثيلات في أي بلد آخر. والقليل من النساء يسفرن أمام الغريب مدفوعات إلى ذلك بالرغبة في إظهار جمالهن وإن ادعين غير ذلك. ومن ثم لا يستطيع الأجنبي أن يبنى رأياً صحيحاً من هؤلاء النسوة. ولكن مثل هذه العيون لا يمكن أن تخلق إلا في الوجه الحسن ولو كانت تقاطيعه متوسطة الجمال؛ أما الأنف فمستقيم القنا؛ والشفاه أغلظ من شفاه الرجال دون أن تصل إلى غلظة شفاه الزنوج؛ غير أن الفم وغيره من قسمات الوجه تقرب من الجنس الحبشي. وأما الشعر فهو من ذلك الأسود الحالك المصقول الذي يناسب السحن كلها غير السحنة البيضاء، وقد يكون غليظاً بعض الشيء، ذا حلق من دون تجعيد. ويخضب نساء الطبقات الراقية والوسطى والكثير من الفقيرات أيديهن وأقدامهن بأوراق الحناء، فتكتسب أطرافهن لوناً أحمر مشرباً بالصفرة، أو برتقالياً قاتماً. والكثيرات منهن لا يصبغن غير أظافر الأصابع، وبعضهن لا يتعدين عقود الأنامل، والبعض الآخر يرسمن خطأ على وصف العقود التالية؛ وغير ذلك من الأشكال الغريبة الأخرى. إلا أن الطريقة الغالبة هي تخضيب أطراف الأيدي والأرجل حتى المفاصل الأولى، وكذلك راحة الكف وبطن القدم؛ وأحياناً يضاف خط بجانب المفاصل الوسطى وآخر فوق أصابع القدم بقليل، والخضاب يكون بسحق أوراق الحناء وعجنها بالماء، ثم تبسط على راحة الكف وأجزاء اليد الأخرى، ثم تثنى الأصابع وتقبض اليد، وتربط برباط من الكتان ليلة بطولها؛ وكذلك القدم. ولا ينصل الخضاب إلا بعد أيام، فيجدد كل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. وعادة الخضاب ليست قاصرة على مصر، بل تتعداها إلى بلدان الشرق التي يمونها شاطئ النيل بالحناء.
والحناء على الأظافر تكون أكثر لمعاناً وأشد صفاء وأطول بقاء. كما أن تخضيبها أو تخضيب الأصابع يعتبر بحق زينة للنساء، إذ يحسن لون البشرة ويكسبه رقة. بيْد أن بعض النساء يعمدن إلى طرق لا يستسيغها الذوق الأوربي، فيُعقبن الحناء بمعجون من(430/45)
الجير والسناج وزيت بذر الكتان فيتحول لون الحناء الجميل إلى لون اسود أو زيتوني مشرب بالسواد. وكثيراً ما يلاحظ ميل النساء إلى هذه الطريقة فيُريْنَ مخضبات الأظافر أو الأصابع بهذا اللون القاتم، إلا أنهن يتركن العقود الوسطى بحمرة الحناء؛ والكف على النقيض من ذلك يتوسطه خط عريض أسود؛ وبعضهن يتبعن ابسط الطرق فيسودن الأنامل وراحة الكف كلها.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(430/46)
ليالي القاهرة
الدمعة الخرساء!. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
عَرفْتُ الذِي تُخْفِينَ عِرفانَ مُلْهَمِ ... إذا الدّمْعَةُ الْخرْسَاءُ لم تَتَكَلمِ
وَأنْتِ سَمَاءٌ يَعْشَقُ الْمرَْءُ نُورَها ... ويَعشْقُ مَا في أُفقِها مِنْ تَجَهُم
وإنَي إذا عَيناكِ بالدَّمعِ غامَتا ... جدَيرٌ بِأنْ يَمشِي عَلى هُدبِها فَمِي
دَعيني أُحلقْ في سمَائِكِ طائَراً ... وَيَسبحْ خيَالِي في سَناكِ المُعظّم
ألا إنّ ضوَء البدْرِ إحسان مُحسنٍ ... لهُ أيْنمَا يَسرِى تفَضلُ مُنعِم
يطوفُ به في النّاضِر المُتبسّمِ ... وَينشُرهُ في الدّارِسِ المُتهدَّم
ويَا ربُمّا يَغشَى الَخِميلةَ ضَاحِكاً ... فتَحْلمُ في جوٍ مِنَ السّحرِ مُبَهمِ
وَيَنشرُ في الأطْلالِ ظِلاًّ كأنهُ ... خَيالُ الأمَاني في مَحَاجرِ نُوّم
إبراهيم ناجي(430/47)
من غربة الروح
في وادي التيه!. . .
للأديب عبد الرحمن الخميسي
شَرّدتَني بَينَ الْمجَاهلِ أيّا ... مي فَصَاحتْ في وجَهيَ الفَلواتُ:
أيُها التّائهُ المُنقلُ في الرَّمْ ... لِ خُطاهُ ضَاقتْ بِكَ العَثراتُ
قَدْكَ! إنَّ الَمسِيرَ أنْهَكَ أقدَا ... مَكَ وَالأفْقُ غائمٌ وَالسماءُ
وَالأعاصِيرُ نَائِحاتٌ حَوَاليْ ... كَ وبَينَ الْقِفَارِ عاشَ المَمَاتُ
أيْنَما سِرْتَ فاَلخَرابُ مقيمٌ ... أنِقِذيهِ مِنَ الْبِلَى يا حَيَاةُ!
وَخُذيهِ إلى الذي يَبْتنِيهِ ... حَوْلكِ الشّعرُ وَالهَوى وَالغِناَءُ
وَكَأنَّ الرَّيَاحَ تَسْألُنيِ: مَا ... تَرْتَجيهِ لمَ السُّرَى وَالعَناءُ؟
قُلتُ: أهْوَى أسِيرُ إني أرَاها ... هاتِهِ وَاحَةٌ! وَثمَّ ضِيَاءُ!
وَتَغرّبتُ في المَهَامِهِ عَطْشَا ... نَ وَلكنْ عَلىَّ عَزَّ الَماءُ
أحْمِلُ الْفَرحَةَ الكَبِيرَةَ بالآ ... مَالِ هَانَتْ حِيَالَها الأعْبَاءُ
وَأغَنّي عَلَى اَلجدِيبِ كَأنّي ... بُلبُلٌ رَاقَهُ الشّذَى والنّباَتُ
أقُتلُ اُلجوعَ والصّدَى في فُؤَادي ... بالأمَاني. . . وَكلهُنَّ هَبَاءُ
وَبَلْغتُ السّرَابَ لَمْ أَلْقَ شَيْئاً ... أيْنَ مَا كُنْتُ أرْتَجي ياَ سَمَاءُ
ضَاقَ بي اْلكوْنُ كلّهُ ياَ إلهي ... بَعْدَ أُمّي وَقَطّبَتْ لي اَلْحيَاةُ
ياَ عُوَاَء الذّئابِ في الْبَلْقَع الَمْجرُو ... دِ! ياَ مَعْنًى قَدّسَتْهُ الْفَلاةُ!
كُفَّ عَنْ مَسْمَعي فلمْ يَبْقَ غَيْريِ ... وَأنَا مَيّتٌ كما قَدْ مَاتُوا!
عبد الرحمن الخميسي(430/48)
عيناها. . .
للأديب أحمد العجمي
إِنّ في عَيْنَيْكِ مِنْ سِحْرِ الْهَوَى ... فِتَناً تَرْقُصُ في قلبي سُكاَرَى
كُلّماَ أَرْسَلْتِ مِنْهاَ فِتْنَةً ... تَتَهاَدَى أَشْعَلَتْ في الْقَلبِ ناَرَا
وَإذا أَمْعَنْتُ سِرّا فِيهِماَ ... قَتَلَتْنيِ عَيْنُكِ الوَسْنَى جهِاَرَا
أَنتِ ياَ فاتِنَةَ الدُّنيا، وَياَ ... باَبِلَ السّحْرِ وَيا قَيْدَ الأسَارَى
لم تَكُنْ عَيْنُكِ إلاّ قَبَساً ... كابِتسَامِ الفَجْرِ يَفتَرُّ افتِرَرا
وَهِيَ الآن سِهاَمٌ وَظباً ... تَقتُلُ الصّبّ وَتحْيِيهِ مِرَارَا
فاصْنَعِي مَا شِئْتِ ياَ فاتِنَتي ... إنّ في عَيْنَيْكِ ليْلاً وَنَهارَا!
هَدّئيِ رَوْعِي! وَقُولِي لِدَمِي ... وَيْكَ ياَ ظَمْآنُ لاَ تَشْكُ الأوَارَا
هَذِهِ عَيْنيِ! وَذَيّاكَ فَمي ... وَإذا الوَرْدُ رَأى خَدّي تَوارَى
ثمَّ تَشْكُو ظَمَأ الرُّوحِ مَعي ... وَأنَا أسْقِيكَ مِنْ عَيْنِي عُقاَرَا
آهِ لَوْ تَرْجِعُ أيام الْهَوَى ... إذ خَلَعْنَا في لَياَلِيهاَ الْعِذَارَا
وَقَضَيْناَهَا وَلاَ نَدْرِي بِهاَ ... بَيْنَ أحْلاَمٍ كَأنفاَسِ الْعَذَارَى
أحمد أحمد العجمي(430/49)
البريدُ الأدبي
حول التعليم في العراق
ألقى الأستاذ فاضل الجمالي مدير التربية والتعليم في العراق
في مساء الثلاثاء 991941 محاضرة قيمة عن التعليم في
العراق على جمهرة من رجال التربية والتعليم في مصر بنادي
المعلمين.
وقد تحدث الأستاذ عن سياسة العراق التعليمية، وكان من بين المشكلات التي أثارها مشكلة الامتحانات، وذكر أن العراق - علاجاً لهذه المشكلة - تتجه إلى أن تكون المدرسة هي صاحبة الرأي الأول في نجاح الطالب إلى أن يصل إلى الامتحانات العامة وهي التي تعقدها وزارة المعارف، ثم أملَ الأستاذ أن يتعاون رجال التعليم في مصر والعراق في بحث هذه المشكلة.
ومشكلة الامتحانات قديمة في مصر وغيرها، وأذكر أن كثيراً من اللجان عقدت في مصر وطال فيها بحثها. ولا شك أنها اهتدت إلى نتائج، ولكننا لا نرى أثراً لهذه النتائج في مدارسنا؛ فالامتحانات هي هي، مقياسها خاطئ وميزانها معتل.
وقد يكون من وضع الأمور في مواضعها أن نقول إن هذا الرأي الذي تتجه إليه العراق - وهو أن تكون المدرسة هي صاحبة الرأي الأول في نجاح الطالب - هو الرأي الذي رآه من قبل أستاذنا القباني بك وأشار إليه في كثير من بحوثه القيمة في التربية، بل انه وضعه موضع التنفيذ في المدرسة النموذجية الملحقة بمعهد التربية فنجح أي نجاح.
والطريقة المتبعة في هذه المدرسة أن يجتمع المدرسون بعد امتحان الفترة الأخيرة ونصب أعينهم نتائج الفترات الثلاث لكل تلميذ وما حصل عليه في اختبار الذكاء وسن التلميذ، وأخيراً رأى كل مدرس فيه، ومن كل هؤلاء يوضع التلميذ موضعه من النجاح أو البقاء في فرقته أو نصح ولي أمره بتوجيهه إلى الوجهة التي يصلح لها إن لم يكن يرجى منه في وجهته خير، وقد يشرك ولي أمر التلميذ - في بعض أحوال خاصة - في نجاحه أو بقائه.(430/50)
ويظهر انه قد تبين لأولياء الأمور، عند بحث هذه المشكلة في مجلس النواب، وصواب هذا العلاج لمشكلة طال عليها الأمد فعزموا على الأخذ به في بعض الفرق الأولى، ولعلنا نراه قريباً في جميع الفرق وفي جميع مراحل التعليم ناجحاً نجاحه في المدرسة النموذجية.
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
1 - حول كتاب الأستاذ الرافعي عن فريد بك
قرأت في العدد (429) من (الرسالة) كلمة للأديب لبيب السعيد عن هذا الكتاب أختلف فيها مع نفسه ونقض في آخرها ما أثبته في أولها؛ إذ قال عنه: (إن الشباب سيجدون فيه كتاب تاريخياً دقيقاً)، ثم قال بعد ذلك عن المؤلف: (إنه يتعقب زعيماً بعينه فيبحث له عن زلات! ويفسر تصرفاته بما يسئ إلى سيرته). وهذا كلام لا يمكن لقارئ منصف أن يقبله؛ لأن الدقة في التأريخ تتنافى مع البحث عن الزلات وتلمس المساوئ؛ ويلوح لي أنه كتب هذه الكلمة قبل أن يقرأ الكتاب؛ أو هو قرأه ولم ينتبه إلى ما فيه من الحقائق والوثائق! وآية ذلك أنه لم يذكر لنا شيئاً من مواضع الإحسان ولا مثلاً من مآخذ الإساءة. ولو ذكر لنا ولو حادثة واحدة غيرتها حزبية المؤلف عن وضعها الطبيعي وردها هو إلى حقيقتها التاريخية لوجدنا في كلامه ما يستحق النظر.
ولعل هذه هي المرة الأولى التي يُرمى فيها الأستاذ الرافعي بالميل مع الهوى. ولعله كذلك الرجل الوحيد الذي أجمع مخالفوه في الرأي والسياسة على نزاهته وعفته. وقد كان المغفور له (سعد زغلول باشا) يفاخر بمعارضته في مواقفه البرلمانية، ويتخذها مثلاً للمعارضة النزيهة.
ولست أرى بعد هذا من أين جاء لبيب أفندي بما ادعاه على الأستاذ وهو شئ ليس في كتابه ولا في أي كتاب من كتبه.
2 - أدعياء الشعر
تصفحت عدد السياسة الأسبوعية رقم 239 فلفت نظري فيه قصيدة منشورة في صفحة الشعر تحت عنوان (أفي الحق أن أنسى بلادي سلوة؟) وهي قصيدة مشهورة من عيون(430/51)
شعر الأستاذ معروف الرصافي شاعر العراق. وقد نشرت في الصحف والمجلات منذ أكثر من عشرين سنة! وهي مطبوعة في كثير من كتب المحفوظات المدرسية. وهي موجودة أيضاً في ديوان الرصافي ومطلعها:
هو الليل يغري بالأسى فيطول ... ويرخي وما غير الهموم سدول.
أبيت به لا الغاربات طوالع ... علي ولا للطالعات أفولُ.
لفت نظري أن أقرأ هذه القصيدة منشورة في السياسة الأسبوعية في العدد الماضي بإمضاء (صلاح الدين الضيف، من تمى الأمديد). ولم أعجب لجرأة هذا المتشاعر على انتحال شعر غيره لعلمي أن لصوص الشعر والأدب كثيرون ولكن الذي عجبت له، هو غفلة هذا المسكين وحرصه على ألا يضع توقيعه الكريم إلا على قصيدة معروفه لشاعر مشهور!
فإذا كان هذا المتشاعر قد أرضى شهوته بنشر أسمه تحت هذه القصيدة. فماذا يكون حاله حين يعرف الناس أنه رقيع، وليس له من هذه القصيدة غير التوقيع؟.
(المنصورة)
علي عبد الله
على هامش القاموس السياسي - (أفغانستان)
من الكتب القيمة التي ظهرت في هذه الأيام كتاب: (القاموس السياسي)، ولست أنكر ما تحمله الأستاذ أحمد عطية الله في وضع هذا الكتاب من التعب والنصب، وقراء العربية يشكرونه على ما جمعه فيه من المعلومات القيمة المختصرة عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمختلف البلدان المعمورة وإن كنت أعترض في كلمتي هذه على بعض ما كتبه في قاموسه عن بلادي، فذلك ذكراً للحقيقة وخدمة للقراء الكرام
1 - يقول الأستاذ في صفحة 32 من قاموسه (واستولى على العرش أمان الله خان الذي شن غارات ضد إنجلترا، انتهت بعقد صلح في عام 1921)؛ ولقد لفت نظري تسمية حرب استقلال أفغانستان بشن غارات، والله اعلم أنها لم تكن شن غارات، بل حرباً نظامية في ثلاث جبهات وعسى أن يوفقني الله إلى شرح هذا الموضوع في المستقبل
2 - يقول الأستاذ في نفس الصفحة السابقة أيضاً: (وفي عام 1926 لقب نفسه بالملك أمان(430/52)
الله)؛ وأعتقد أن الأستاذ يوافقني على أن هذه الجملة تتعارض مع كتاباته السابقة التي قال فيها: إن أمان الله خان استولى على العرش عام 1919، وإن إنجلترا اعترفت باستقلال أفغانستان عام 1921
فإذا كان أمان الله خان لقب نفسه بالملك عام 1926، فبماذا كان يلقب من عام 1921 إلى ذلك التاريخ؟
إن ما عمله أمان الله خان عام 1926، هو إنشاؤه مجلساً عاماً للأمة برياسته كان يسمى (لوي جركة) جمع فيه أعيان الأمة ونوابها وعلماءها ومفكريها ليستشيرهم ويتباحث معهم في الإصلاحات الداخلية للمملكة
3 - قال الأستاذ في صفحة 33 من كتابه عن العلم الأفغاني إنه أخضر وأحمر وأسود بنقوش في وسطه وليس العلم الأفغاني كما قال الأستاذ، بل هو أسود وأحمر وأخضر. أما النقوش التي في وسطه والتي ذكرها الأستاذ، فهي رسم للجزء الداخلي من الجامع بالمحراب والمنبر
محمد هارون المجدوي
إلى الأستاذ النشاشبي
جاء في مختار الصحاح مادة (سخف)، السخف بوزن القفل رقة العقل وبابه طرب فهو سخيف، وقد استوقفتني عبارته (من باب طرب)، لان الأوزان القياسية التي تأتي من باب فعِل في الصفة المشبهة لم يذكر فيها هذا، ومع أني لا أنكر أن باب الصفة المشبهة كثيراً ما يعتمد على السماع، إذ قد ورد من باب فَعِل أوزان سماعية منها: سعيد وسقيم وأسيف ومريض. . . إلى غير ذلك. فقد حاولت أن اقف على الحقيقة كاملة، فاتجهت إلى معاجم اللغة الكبرى كلسان العرب والقاموس والأساس فلم أجد من نص على أن سخف من باب فعل بل ضبطت في كل المعاجم المذكورة بالضم على أنها من باب فعل
جاء في القاموس: سخف ككرم سخافة فهو سخيف، وجاء في الأساس: وقد سخف الثوب سخافة وهو السخيف النسج والصحاح للجوهري مع انه الأصل لكتاب مختار الصجاج وجدت الكلمة فيه أيضاً مضبوطة بالضمة. قال الصحاح: سخف الجوع رقته وهزاله يقال(430/53)
به سخف من جوع. والسخف بالضم رقة العقل. وقد سخف الرجل بالضم سخافة فهو سخيف. الجزء الثاني مادة سخف
هذا ما قدرت على بحثه ومراجعته وهو وإن كان يخول لي تخطئة المختار إلا أني لا أزال أتوجه إلى الأستاذ النشاشيبي راجياً أن يبين لنا وجه الحق في هذا؛ وإني لفي لهفة وشوق للتزود من معارفه وآفاقه الواسعة التي وعتها مجلة الرسالة الغراء.
وبمناسبة ما جاء في مختار الصحاح، أنقل كلمة للمرحوم الشيخ نصر الهوربني في مقدمته لكتاب الصحاح للجوهري، يقول: (اختصر هذا الكتاب ابن الصائغ الدمشقي والجوابي والرازي).
ومن بينهم المولى محمد المعروف بالقيسي المتوفى سنة 1016 ومختصره أنفع وأفيد من مختار الصحاح. كذا قيل لكنه لم يشهر وإذا كان هذا الكلام صحيحاً فما الذي منع وزارة المعارف عن طبع هذا المختصر؟. . . لعل الأستاذ يذكر لنا شيئاً عنه، ويعرفنا به؛ فلعل الوزارة تسمع صوته فتقوم على طبعه؛ وللأستاذ منا أصدق الشكر والمحبة
(بستان دمياط)
عبد المنعم سليمان مسلم
تعقيب
رأيت الأستاذ (الكاتب الكبير) حفظه الله يقول في مقاله (أحاديث التلاميذ المصريين) الرسالة رقم 428 (. . . إن عيشنا رتيب رتيب) وفي قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم العجيبة (أذنت شمس حياتي بمغيب) يقول الشارحون الفاضلون للبيت:
لا ولا يسئمه ذاك الذي يسئم الأحياء من عيش رتيب (الذي وجدناه في كتب اللغة بهذا المعنى: الراتب لا الرتيب). الجزء الثاني من الديوان طبعة عام 1937
قلت: وكثيراً ما اجتهدت أن أقع على كلمة رتيب فيما أقرأه من الشعر والأدب القديمين ولكني إلى اليوم لم أظفر بذلك.
والذي جعلني أخوض في ميدان التعقيب اللغوي، وهو ميدان وعر المسالك لا أحب لنفسي الخوض فيه، هو اضطراري أحياناً إلى استعمال هذه الكلمة في الشعر فانكب عنها لعدم(430/54)
اطمئناني إليها
فهل للكاتب (المبارك) أن يبين لي رأيه في ذلك أو يظهرني على ورود هذه الكلمة في قول قديم، فيفيدنا من علمه وأدبه، أعز الله قلمه فيما يصول ويجول؟
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
في اللغة
أشكر للأستاذ العلامة الكبير وحيد بك جوابه عن سؤالي الخاص بكلمة (هناء) ومع ثقتي بعلمه وإطلاعه أرجو أن يسمح لي بسؤال أخر في سبيل الخدمة اللغوية العامة:
بحثت أنا وبعض أصدقائي من الأدباء عن (هناء) في لسان العرب وتاج العروس والمحيط للفيروزابادي والأساس للزمخشري.
حتى. . . المصباح المنير ومختار الصحاح، فلم نجد هذه الكلمة
فهل يتفضل السيد العلامة الكبير وحيد بك بأن يرشدنا - أنا والأصدقاء المنضمين إلي في هذا السؤال - إلى المرجع الواردة فيه الكلمة المذكورة؛ والذي نعتقد من تحقيق العلامة الكبير أنه من المراجع الموثوق بها.
(ح. ح)(430/55)
العدد 431 - بتاريخ: 06 - 10 - 1941(/)
السعادة. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
أرسل إلى الأديب عبد القادر محمود الذي عرف نفسه إلي بأنه (أحد الكتاب المحدثين) مقالاً عن السعادة مشفوعاً بخطاب يرجوني فيه (أن أصغي إلى حديثه قليلاً ثم أرد على صفحات الرسالة الغراء بما يروى ظمأه ويرشده إلى الحق إن كان قد حاد عن سبيله).
وخلاصة مقال الأديب أن السعادة وهم ليس له وجود، وأن بعض الأشقياء مطبوعون على الشقاء فهم به سعداء، وأن كل ما يقال عن السعادة إعادة لما قيل.
ويسألني الأديب بعد ذلك ماذا أقول؟
فلا أدري هل سأعيد قديماً بما أنا قائل في هذه الصحيفة، أو أنني مسوّغ هذه الإعادة بتصوير طريف.
ولكني لا أحسب الكاتب مطالباً باختراع الآراء التي لم يسبق إليها، ولا أرى عليه من غضاضة أن يبدي رأياً تقدم أصحاب الآراء بإبداء مثله، وإنما الشرط أن يصدر عن تجربة، وأن يروى عن خيرة، وأن يكون لكلامه لون من نفسه وحسه وتفكيره، ولا عليه بعد ذلك أن يتشابه ما يقول وما كان قد قيل.
والسعادة في رأيي لا استحالة فيها إلا كالاستحالة في كل مطلب من مطالب هذه الدنيا.
فأنت إذا أرت كسوة جميلة في نسجها ولونها وتفصيلها وثمنها ومتانتها وجدتها حيث توجد الكثيرات من أمثالها.
أما إذا أردت كسوة هي المثل الأعلى الذي لا يعلى عليه ولا يجاري في جمال النسج وجمال اللون وجمال التفصيل وسهولة الثمن وطول البقاء فقد أردت المستحيل، لأنك أردت المثل الأعلى الذي ليس له مثيل، وهو بطبيعته فوق ما ينال.
والسعادة إن أردتها سعادة لذات معهودات فأنت واجدها لا محالة في وقت من الأوقات.
أما إن أردتها سعادة العمر أو سعادة في كل شيء لا نظير له ولا انقطاع لها فتلك هي الاستحالة التي تنفرد بها السعادة، ولا فرق بين تعذرها وتعذر كل مطلوب على تلك الشريطة.
فليست السعادة بوهم، وليست الكسوة بوهم، وليست اللقمة السائغة بوهم، ولكن اللقمة(431/1)
السائغة مع رخصها وخجل بعض الناس من المقابلة بينها وبين السعادة تساوى السعادة الكبرى في استحالتها إذا أنت خرجت بها من عالم المعهود وارتفعت بها إلى عالم الأحلام المأمول.
لأن الاستحالة من طبيعة الأحلام، وما من حلم يتحقق إلا بطلت تسميته بالحلم وانتقل إلى المحسوسات والمدركات
فالسعادة طبقات وأصناف.
والصنف الرخيص منها موجود وموفور ومبذول، والطبقة القريبة منها على متناول الباع الطويل والباع القصير
فإذا قيل: إن أصنافاً منها لا تبذل ولا تتوافر، فكذلك الصنف الغالي من كل شيء، حتى العدس والقطن والورق والتفاح.
وإذا قيل: إن الطبقات العالية منها لا تنال أولا تنال في كل حين ولا ينالها كل إنسان، فكذلك كل طبقة رفيعة من كل سلعة وكل ثمرة وكل موجود.
هناك لحظات سعيدة في الحياة. فهناك إذن سعادة لأمراء ولكن ليس في الدنيا أناس سعداء، لأن السعادة الملازمة للإنسان في كل حالة وكل مطلب هي المثل الأعلى، وهى الحلم، وهى الغاية التي لا تدرك، والبغية التي لا تنال.
وما هي السعادة بعد هذا؟
هل هي من عامل السكينة أو من عامل الحركة؟ وهل السعيد من لا يتحرك، أو السعيد من لا يسكن؟
هي هذا وذاك. . .!!
فللسكينة سعادتها وللحركة سعادتها، ولكنهما لا تتشابهان:
سعادة السكينة رضى وارتياح خاليان من الشوق والطموح، وسعادة الحركة تقدم ونجاح خاليان من القناعة والاكتفاء
ومن يبغ هذه لا يبغ تلك، ومن يطلبهما فليطلبهما متفرقين في زمنين مختلفين، لأنهما لا تجتمعان.
وما لنا لا نقول: إن المثل الأدنى في التعاسة نادر كالمثل الأعلى في السعادة. فأشقى(431/2)
الأشقياء وأسعد السعداء في الدنيا اثنان متكافئان متعادلان، ولعلهما لا يوجدان!!
ولو خرج أحد من الرحالين ليجوب أقطار الأرض باحثاً عن أشقى شقي للزمه من الوقت والعناء قريب مما يلزمه في بحثه عن اسعد السعداء!
فلا يقل حانق على السعادة إنها مستحيلة في هذه الدنيا، لأن استحالتها من جنس كل استحالة، ولأن يسرها من جنس كل يسر، ولأن الفرق بين المثل الأعلى والمثل السائر فيها كالفرق بينهما في أكلة أو لبسة أو رشفة أو ما شئت من متع الحياة.
وهي ليست - بعد - شيئاً واحداً كتلك الجوهرة المكنونة التي يحكون عنها في الأساطير ويتخيلونها في كل يد تعثر بها على استواء، لا فارق بين يد العبد ويد السيد، ولا بين يد الجاهل ويد الخبير.
وإنما السعادة سعادات: سعادة هذا شقاوة ذاك، وسعادة إنسان في حين من الأحيان غير سعادته في غير ذلك الحين.
أتسألني عن السعادة المطلقة بالقياس إلى كل إنسان وإلى كل حين؟
تلك ليس لها وجود، وكذلك كل شيء مطلق من القيود والملابسات في عامل القصور والفناء.
ولنعلم أن اختلاف الناس في أمر السعادة إنما هو اختلاف شعور قبل أن يكون اختلافا في الرأي والنظر
فهم يشعرون بالسعادة على اختلاف، وإن فكروا فيها على اتفاق؛ وهم يختلفون في شعورهم بين عمر وبين حالة وحالة كاختلافهم في كل ما يحبون وكل ما يكرهون.
وأرجع إلى نفسي فأراني قد شعرت بالسعادة على وجوه قلما تتماثل في بضع سنوات.
في الشباب كنت أقول لها:
لا تطمعي اليوم مني ... بالسعي خلف خيالك
فقد سألتك حتى ... مللت طول سؤالك
وقد جهلتك لما ... سحرتني بجمالك
فلا تمري ببالي ... ولا أمر ببالك
أشقى الأنام أسير ... معلق بحبالك(431/3)
تلك دالة الشباب يحسب أن السعادة خليقة أن تسعى إليه، وأنه إذا أومأ إليها بيده فلم تبادر إلى لقائه فقد أسرفت عليه في الدلال، واستوجبت منه الإعراض والملال.
وبعد حين كنت أحسب السعادة في النسيان فأقول:
لذة النفس في السلافة والشعر ... وفى الحب والكرى والغناء
خير ما في الحياة يا قلب ما أنسا ... ك ذكر الحياة والأحياء
وتلك هي مرحلة التجربة الأولى في انتظار التجربة الثانية.
فأما التجربة الأولى فهي تجربة الفتور الذي بعقب الإلحاح الباكر:
إلحاح الشباب في الآمال.
وأما التجربة الثانية، فهي التي تعقب ذلك الفتور أو تلك الراحة، من نشاط ووثوب.
وجاءت فترة كنت أحسب السعادة في الخطر:
عش آمن السرب كما تشتهي ... ما نحن ممن يغبط الآمنين
إن حياة الأمن في شرعنا ... مشنوءة مثل حياة السجين
كلاهما يخفره حارس ... مسدد النظرة في كل حين
أيتها الأخطار علمتنا ... بأننا الأحرار لو تعلمين
وهذه هي الفترة التي كنت أرى فيها الراحة حظاً للوضيع والتعب قسمة مفروضة على العظيم.
إن الشقي الذي لا صنو يشبهه ... وللأصاغر أشباه وأمثال
ثم تكاملت عواطف النفس فتاقت إلى نصيبها من المجاوبة الناضجة والمقابلة المستوفاة، وأيقنت أن السعادة مشهود لا يرى بعينين اثنتين بل بأربعة أعين، وعاطفة لا يحسها قلب واحد بل قلبان متفقان، فمن رامها بعينين وقلب فكأنهما يرومها شطراً مسلوخاً من جسم ميت، لأن الأجسام الحية لا تعيش شطرين.
إن السعادة لن ترا ... ها في الحياة بمقلتين
خلقت لأربع أعين ... تخلو بها ولمهجتين
لك مقلتان ومهجة ... أترى السعادة شطرتين؟
والنقيب بالزهاوي رحمه الله وأنا أومن بأن السعادة حقيقة وليست بأكذوبة، فلما قال الأستاذ(431/4)
الزهاوي: لا سرور في الحياة ولا لذة، وإنما اللذة عدم الألم. قلت: هذا كقولنا إن الحياة عدم الموت، والأولى أن تعكس القضية فيقال: إن الموت عدم الحياة قال: ولم تقرن اللذة بالحياة وتجعل لهذه حكم تلك في القياس؟
قلت: إن الحياة قوة إيجابية لا قوة سلبية، وكذلك الشعور بما يوافقها هو قوة إيجابية من نوعها وليس امتناع قوة أو عدمها؟
والآن؟
تسألني ما قولك الآن:
قولي الآن أنني أعرف السعادة من وجهها ومن قفاها، وفي صدقها وفي ريائها؛ ولكنني أقاربها وأنا مشفق من عواقبها، إذا أنا على يقين من كشف الحساب الذي يعقب كل نشوة من نشواتها. وكشف الحساب هذا عملة مسكوكة من المحظورات والمخاوف والشكوك، وهي العملة التي تشتري بها السعادة على اختلاف أصنافها وطبقاتها، فعلى قدر السعادة يكون الثمن، وعلى قدر النشوة يكون الحذر والألم والتنغيص!
ولا أكتفي مع هذا بأن أقول: إن الخوف لازم لأداء ثمن السعادة، بل أزيد عليه أن الخوف لازم لمعرفتها ولو بذلت لك بذل السماح، وإن الخوف حافز إليها يغريك بنشدانها. فمن لم يخف لم يسعد، وليس بالعالم الذي لا خوف فيه حاجة إلى السعادة!
عباس محمود العقاد(431/5)
9 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
استجابة
أعود إلى الكتابة تحت هذا العنوان استجابة لنداء الحياة ونداء النفس؛ فقد نادتني الحياة الإنسانية الراهنة الزاخرة إلى الإيمان به وبمستقبله برغم إثمه وشره في عصره هذا، وحملتني على ذلك بنبوتها ومعجزاتها. والحياة المدنية الحالية نبوة! نبوة شيوعية. . . أخذت جميع أمم الأرض بمعجزاتها وأخضعت أعناقهم بأدواتها المأخوذة من أسرار الطبيعة. فلنعرفها على حقيقتها. ولنعلم أنها باب الملكوت الذي وعدت به رسالات الشرق الأولى التي وجهت الإنسانية.
إنها نبوة الطبيعة وقوانينها، وحقائق الأشياء وبراهينها. . . لا نبوة الإرشاد والتربيب والكلام الذي ألقاه الرجال الآباء في سمع الإنسانية وهي في أدوار تكوين الضمير وتطبيع الأعصاب وتوجيه الأخلاق بالرحمة والإخلاص وسمو النظرة إلى الإنسان في حياته هنا وفي مصيره هناك. . . وهي صفات لا بد منها في المهود والمدارج. . .
فأن أنا لم أستجب لنداء هذا الحياة بالجسم الخفيف السريع، والفكر اللطيف اللماح الحاذق الفطن لأسرارها، الواعي لخطرها وقيمها، العارف باتجاهات قافلتها. . . كنت من المتخلفين البلداء الكافرين بنعمة الله! ولله في هذه الحياة المدنية الحالية نعم جليلة لا يكدرها إلا عنف وحماقة وطيش من بنيها.
وقد نادتني النفس التي حاولت جهدي أن أحفظ لها حدودها وطابع عالمها الخاص وألا أسمح بطغيان الجسد عليها طغيانا يجعلها تذهل عن ذاتها وتخلط بين معدنها الخاص والمعادن الأرضية إلى الإيمان بها كذلك، وحملتني على ذلك بما كشفته لي من آفاقها الخاصة التي لا دخل التعليل البيولوجي والفسيولوجي فيها.
وكنت حريا - وأنا أطلب الحق - أن أستمع للنداءين فأوفق بين نداء النفس ونداء الحياة، وأن أرى ضلال الذين عكفوا على الحياة المادية وحدها أو على النفس وحدها ولم يزاوجوا بينهما.
انتقال أسرار الطبيعة إلى الفكر - خليفة القهار - إدراك المادة ثم النفس ثم الله - لا عمق(431/6)
في العالم المادي - الفكر مجال مؤقت ومجال منتظر - باب مفتوح وباب مغلق - مضى عهد مضغ الكلام - لا سدود أمام الإنسان - الطبيعة هي الحكم فيما يمكن وما يستحيل - تربية تعلم غزو الطبيعة - الطبيعة المطيعة - عصر الإحساس بقدرة الفكر - أسئلة يجب ترديدها دائماً.
ألقت الطبيعة أكثر صورها إلى فكر الإنسان، وانتقل إلى ذهنه جانب كبير من أسرارها وقوانينها، فصار يقلدها ويصنع من مواردها ما يشاء من ألوان التجسيم والتشكيل والتحريك، ويسلط بعضها على بعض، وصار له مقام معلوم ملحوظ بين عوامل التكوين والتخريب فيها. . .
وقد بنى أساس هذا التقليد على قواعدها الكلية، وبقى التنويع والتفريع الذي لا ينتهي في الجزئيات والأشكال.
وقد وصلت يده إلى منابعها ومواردها الأولية: فهو يبحث الآن في الذرّة والكهرب والأثير، لعرف المبادئ الأولى للمادة والقوة والدفعة الأولى التي ابتعثتهما ودفعتهما. . .
فماذا ينتظر الإنسان بعد فراغه من هذا التسلط؟ وما هي النتائج؟ أهي المغالبة والمنافسة والشهوة على الأساليب التقليدية الجاهلية؟ إن هذه نتائج لا تتلاءم مع عالم فكره العالي، ولا يصح أن تكون أهدافاً لهذه الصرامة والجد العظيم الذي تسير به الحياة وقوانينها في خدمته. . . وإن المغالبة والمنافسة والشهوة بأساليبها المعروفة الوضيعة، ينبغي أن تكون غير ذات خطر عنده، بعد أن عرف آفاقاً جديدة لشهوات رفيعة، وهي تحقيق أحلامه في الكشوف العلمية والانطلاق السريع بالطيران والسبح والسبق وإزالة الحواجز والسيطرة على القوى الآلية، وغير ذلك من طلائع مجده وملكوته المرتقب!
إن الله قاهر فوق الطبيعة، وهو يدرب (خليفته) في الأرض على التغلب على العقبات التي تعترض طريق أحلامه الطليقة وأفكاره المحررة من قيود المواد الثقيلة. والله أنشأه في الضرورات والآلام ليفتق هو الحيلة للخلاص منها، ويكمل وسائل السيطرة الذاتية على المادة؛ وإذا اطرد السير على منهاج تاريخه الذي عرفناه، فسوف يتغلب على كل شيء.
إن فكر الإنسان قانون ينمو ويتدرج غير واقف عند حد؛ وقوانين الطبيعة صارمة جامدة متحجرة. ونموه في ذاته يجعل الطبيعة نامية به. ألا ترى ما يستحدثه فيها من المعجبات(431/7)
التي لا تنتهي؟
وأرجو أن يفهم هذا القول فهماً عميقاً، لأننا إذا فهمنا فكر الإنسان على هذا، أدركنا موضعه ورسالته في الوجود، وأحللناه محلاً رفيعاً يدفعه إلى العمل والسير في منهج محدد واضح، وحملنا ذلك على أن نحوطه دائماً بقوانين تحفظه من الارتداد والضلال، ونتدرج به حتى نستوعب كل مباحث المواد والقوى، ونستخرج به أسرارها الكامنة، وننتقل به نقلة تسلمنا إلى الوقوف على عتبات عالم آخر، لعله أن يكون عالم النفس. . .
وإن إدراك النفس لا يتأنى إلا بعد إدراكها ما في الكون المادي؛ وهذا هو سر قلقها ونبشها في الطبيعة وعدم رضاها عن ركن واحد منها؛ وكلما أخذت من الطبيعة سراً، أحست أنها تقترب به إلى إدراك ذاتها الجزئية، لتدرك من وراء ذلك علماً من الروح الأكبر!
أجل. إن إدراك الكون لا بد منه لإدراك النفس، إذ أن الفكر يرى كل عمق في الحياة المادية يصير ضحلاً بعد ترديد النظر عليه واستيعابه بالإدراك. وطبيعي أن تشعر النفس بعد هذا الاستيعاب أنها أوسع وأعمق من الموجودات المادية؛ وأن ترى آفاق الحياة المادية عديدة لا أكثر وليس لها عمق ولا نهائية؛ فهي في موجودات الطبيعة ومستحدثات الإنسان لا تتعدى اختلاف النسب التركيبية بين العناصر التي تزيد قليلاً على التسعين.
وما يخيل إلى البعض من أن هناك أعماقاً وأغواراً لا تنتهي في المادة إنما هو صورة مما يحدث للناظر إلى لوحة فنية بارعة ذات صنعة موحية مثيرة للشعور باللانهائية. حتى إذا ما كشط سطحها قليلاً تذكر أنها ليست أكثر من تمويه وتخييل وبراعة في بسط الأصباغ والأضواء والظلال وقبضها، وتكشّف له السطح الزاخر باللانهائية عن باطن محدود لا يتعدى ألوان الطيف السبعة!
إن الإنسان لم يعد يؤلمه الماء والنار والهواء والتراب ويفرغ عليها أوهام القداسة والهول اللذين كانا لها في ذهنه قديماً، بعد أن حلل عناصرها وركبها وتسلط عليها وسبر أغوارها. ولم تعد النفس العالمة التي تشرف على لجة البحر أو لجة الهواء أو أغوار التراب أو جحمة النار، ترى فيها أكثر من مواد وقوى عمياء محكومة بقوانين أخذتها النفس في حوزتها وجعلتها من مدخرات فكرها، وتستطيع أن تولد بها ناراً وهواء وماء. . .
إني أشعر حينما أقلب بصري في آفاق السماء وآفاق الأرض أن فكري لا يستطيع التعمق(431/8)
فيها إلى ما لا نهاية، بل يقف عند نهايات معينة هي العناصر المحدودة التي تألفت منها مادة السماء والأرض، والنسب الهندسية والحسابية التي قام عليها بناء الأجسام وتشكيلها؛ ثم يبدأ الإحساس بفراغ وعماء لا صور فيه ولا خواطر عنه.
وطبيعي أن نظرة مثل نظرتي هذه لا يكون وراءها إحساس بخشية من الطبيعة ذاتها كما كان الأمر عند سكان الأرض القدماء الجاهليين، لأن حدودها رئيت وأسرارها عرفت وصورها طبعت في النفس، ولكن يكون وراءها إحساس بخشية ورهبة من ذلك الذي خلقها هائلة هكذا وجعلها بهذه النسب الرياضية والهندسية والقوة الدائبة الجبارة. . .
إذاً ما هو المجال الحيوي غير المحدود لهذا الفكر الإنساني الذي يرى عمق الكون المادي ضحلاً بعد ترديد النظر عليه ومعرفة أسرار تركيبه وقوانينه الهندسية والرياضية؟
إنه لا بد عالم لا نهائي لا تدركه الأبصار والمناظير ولا تحلله المخابير، ولا تسبر آفاقه المسابير والمعايير، ولا تدركه علوم الزمان والمكان!
وطبيعي أن هذا المجال الحيوي بهذا الوصف لا يمكن أن يكون للفكر الإنساني قدرة على إدراكه هنا في هذه الدار التي نعيش فيها بالحواس وقيود المواد الثقيلة الكثيفة، والفكر المحدود.
ولهذا يجب أن ينصرف الفكر الإنساني عن محاولة اقتحام هذه السبحات ويتوجه إلى المجال المحدود المؤقت الذي وضعناه فيه لندركه هو أولاً ونفرغ من استيعاب أسراره وظواهره.
وإن من يريد التعمق الآن في إدراك ما وراء الطبيعة ولا يقنع منه باللمحات والخطفات فلن يظفر بمحصول غير الشرود والخيال.
وقد برهن تاريخ الإنسان على ذلك. فالأمم التي لا تزال تطلب في هذا العصر علم اليقين بالنفس والله قبل إدراك قوانين العلم الطبيعي، والتي لا تزال تطلب الله عن طريق الشعر والوجدان وحده كالهندوكيين ولا تطلبه عن طريق البحث في أرضه وهوائه ومائه والتطلع العلمي إلى سمائه، ولا تَقُصُّ آثاره يده في صنع نماذج الطبيعة لتعرف مقدار ما عنده من العلم والإحاطة بالجزئيات والكليات، ولا تلخص أسرار صنعته وتختزلها في قوانين ومعادلات حسابية وجبرية، ولا تحاكي نماذج الطبيعة، إنما هي أمم بدائية ضالة طريق(431/9)
تحقيق الأوطار والأشواق إليه، جل مجده، قليلة العلم بما عنده من أفانين تتجدد ولا تنفد، تعرفه عن طريق العواطف والرموز، لا عن طريق الفكر والوضوح.
إن الإرادة العليا مصرة على إغلاق ما وراء الطبيعة الآن أمام فكر الإنسان، ولعلها تفتحه بعد أن يفرغ من إدراك كل ما في الطبيعة أولاً.
أما الطبيعة ذاتها فقد دل تاريخ العلوم على أن أبوابها تفتح لمن تركوا اتخاذ الكلام غاية وحيدة للحياة، وعكفوا على محاريبها وأطفالها وموجوداتها يقلبون النظر والفكر واليد فيها ثم يتكلمون بعد ذلك. . .
إن الكلام وسيلة لا غاية. هو قوالب لاختزان المعاني التي تنشأ من المزاوجة بين خواطر الفكر وخواص المادة. هو أوعية الحقائق المرفوعة من الأجسام، إلى عالم التعبير والصور والأرقام. فلا يصح أن تمتلئ بتكاذيب الأماني وتخييلات الأحلام، إلا أن تكون تمهيداً من عالم الخيال والمثال لعالم الواقع. وكثيراً ما هدت سوانح الشعر إلى عالم حقائق العلم. . .
فلا يضمن أحد السدود النظرية أمام عمل الإنسان في الطبيعة ما دامت هي تلبيه وتتفتح له وتنتج. ولا يجوز حمله على السكون والركون إلى مواريث الأفكار القديمة التي تجعل الطبيعة أمام الإنسان حرماً مقدساً يجب التهيُّب من الشروع في تغيير شيء فيه أو تنقحيه بالزيادة أو النقصان. . .
فهي وحدها الحكم الذي تُرضى حكومته في العمل فيها أو تركه. . .
فما دامت تفتح له الأبواب وتهتك الأستار فليدخل وليتوغل وهو موقن بأن هذا عمله الذي خلق من أجله. . . وليس إبقاء الطبيعة كما هي بدون تغيير عبادة كما كان الزعم القديم،
ولكن صار تغيير إلى الأصلح هو العبادة. . .
والتربية الناجحة هي التي توحي للنفس ألا تتقهقر وتتضاءل وتنزوي في نفسها أمام قوى الطبيعة، بل تجعل من النفس قوة غازية موجبة غير سالبة، تؤثر في الطبيعة بالتسخير والتحويل والتنقيح. . . والتربية الشرقية على العموم لا تزال تؤول قصور النفس الناشئ عن الجهل والكسل والعجز أمام الطبيعة بتأويلات تحمل فيها الأقدار العليا أكثر مما تحتمل، وتفر من وجه السدود والعوائق تحت تأثير قناعة مصطنعة تحيكها أخيلة طفلية، ولا تأخذ ما في الحياة وإنما يأخذها ما في الحياة.(431/10)
وقد كان الاعتماد على القوى السحرية هو أساس العمل لتحقيق الأماني؛ والآن صار الاعتماد على القوى الآلية في الطبيعة هو أساس ذلك العمل.
لقد قدمت الطبيعة الطاعة أمام فكر الإنسان؛ فهو يأخذ نواصي كثير من قواها بقوانينها هي، وقد عرف الأبواب الخفية التي يتسلل إليها منها فأمعن في غزوها.
وإن أعمال العلماء الطبيعيين قد اكتسبتْ من جبروت الطبيعة شيئاً من الهول والاجتياح والاتساع؛ فمدافع كروب الثقيلة البعيدة المرمى، والقنابل الشديدة الانفجار، والقلاع الطائرة، والمناطيد، والخزانات العظيمة، والمحطات الكبرى لتوليد الكهرباء، والمصانع الواسعة، والإذاعة المبثوثة باللاسلكي وتعبيد الطرق العظيمة كطريق نيويورك - ميامي مثلاً، أو إكسبريس الشرق وغير أولئك. . . كلها أعمال عظيمة تمتاز بطابع الاتساع والهول والجهد الجبار.
ولا يتوهمن متوهم أن هناك عداوة وغيظاً وحرباً ذات حقد بين الإنسان والطبيعة، وإنما للطبيعة صدر رحيب كصدر أم يمرح عليه أطفالها.
نحن بنو الطبيعة ونتاج عواملها وتأثيراتها الظاهرة والخفية، جسمنا منها وعقلنا وتجاربنا، ولكن روحنا من الله بارئها؛ ولذلك كان لنا قدرة عليها وافتنان في تنقيح موجوداتها ومحاكاتها والزيادة عليها. . . فلنبدأ عصر يقظة بالإحساس بحياتنا الممتازة، والإحساس بقدرتنا الفائقة على الأعمال العظيمة. وليكن ديننا هو حيرتنا ودهشتنا: كيف خلقنا؟ وكيف اقتدرنا؟ وكيف نعلم؟ وكيف نعمل؟
إن الراحة الدائمة هي في أن نلقى بأجسامنا على صدر الطبيعة مفكرين فيها باحثين عاملين. . . وبأرواحنا بين يدي ربها متعرفين إليه صابرين على الدهشة والحيرة والإيمان بالغيب حتى يأتينا اليقين في الآفاق وفي الأنفس. ولا بد وراء ذلك من تأويل ويقين!
قد يطير الطير في أجواز الفضاء وهو في ذهول. . . وقد يسبح الحوت في جوف العباب وهو في ذهول. . . وقد تَدْرُجُ الوحش والأنعام والبهائم على أديم الأرض وهي في ذهول. . . ولكن ابن الإنسان ينبغي له أن يتساءل دائماً: كيف أحيا؟! وكيف أفكر؟! وكيف أدرُج؟! وكيف أسبح؟! وكيف أطير؟! ثم كيف أريد وأقتدر؟!
وينبغي له ألا يغفل عن ترديد هذه الأسئلة:(431/11)
ما الذي أخرج الإنسان من ركام المَوَات والجمود ومختلط القوى العمياء التي يزخر بها الكون؟
وما الذي وضع فكر الإنسان واختياره وسط الدورات الجبرية التي تتداول الأرض؟
وما الذي هيأ له مهاده الوثير المريح المستقر وسط النيران والصخور وتدافع القوى العمياء؟
إن رحلة واحدة في جوف الماء الزاخر، أو الهواء الدافع، أو النار الموارة، أو التراب الثقيل الفادح المتراكم. . . كافية أن تشير لنا إلى موضعنا وخصوصياتنا في الكون، وإلى رعاية من أخرجنا وسط هذه الأهوال والقوى العارمة المجنونة في مهاد من رحمته بين عوامل جبروته وسطوته!
عبد المنعم محمد خلاف(431/12)
التصريح بعد التلميح
في توجيه الجيل الجديد
للدكتور زكي مبارك
كنت أُوهم قرائي أن غايتي من المصاولات القلمية هي إيقاظ الحياة الأدبية بعد أن طال عليها الهجود. وذلك غرضٌ نبيل ولكنه أصغر من الغرض الذي أتسامى إليه، وهو نقل المجتمع في أخلاقه وآدابه من حال إلى أحوال.
وقبل المضيّ في شرح الغرض الذي أرمي إليه بهذا المقال أذكر أن المجتمع المصري مجتمع سليم، فقد نهض بأعباء لا ينهض بها من يكون في مثل حاله من التعرض لمكاره التقلبات الدولية.
وخبرتي بطبقات المجتمع في كثير من البلاد الشرقية والغربية دلتني على أن المجتمع المصري مفطور على التماسك، وأقنعتني بأن شبان مصر على جانب من الأخلاق التي تصوغ أكابر الرجال، وإلا فكيف سَلِمتْ مصر من التصدع برغم ما تعاني من حوادث وخطوب؟
هذا حق، وإذن فلا خوف على مصر ما بقيتْ تلك المناعة من الانحلال.
ولكني مع ذلك خائف على مصير بلادي. ففي كل يوم أرى جماعات تغري الشبان بالرجعة إلى العصور السحيقة، عصور الجمود والخمود.
ومن عجيب ما يقع في مصر أن تكون الدعوة إلى الأخلاق مقصورة على أناس لا يعيشون إلا بأسندة من المجتمع، مع أن العقل يوجب أن تصدُر الدعوة الأخلاقية عن رجال أقوى من المجتمع، رجال يقيمون البراهين على أنهم في حيوية ذاتية تعصمهم من المداهنة والرياء، وتضمن لهم النجاة من مزالق التصنع والازدلاف.
الدعوة إلى الأخلاق تصدُر عن الأقوياء لا عن الضعفاء، لأن الأصل في اُخلُق أن يكون قوة روحية وعقلية وذوقية تصل بصاحبها إلى شرف الثقة بالنفس في غير ازدهاء ولا اختيال.
أما صدور تلك الدعوة عن أناس لا يستطيعون مواجهة أمواج الحياة إلا إن أمددناهم بالعون والرعاية فهو عمل لا نرضى عنه إلا إذا نوينا التصدق والافضال.(431/13)
وأقول بصراحة إني لا أستريح إلى من يدعوننا في كل يوم إلى التخلق بأخلاق العصور الذواهب، بعد أن عرفتُ ما عرفت من أخبارها السود، فقد كان الرجل يُسجن وتُستصفَى أمواله بلا تحقيق، لأتفه الشبهات، وكان التاريخ يكُتَب بالأجر فيجوز فيه الكذب والتهويل بلا حساب.
في العصور الماضية وُجِد حكام ولم توجَد شعوب. . . وإني أحب أن يكون فنياً رجل مثل عمر بن الخطاب، ولكني أكره أن نعيش على النظام الذي عاش عليه عصر عمر بن الخطاب. . .
وأنا أرّحب بعودة هرون الرشيد، ولكني أكره أن يعود عصر هرون الرشيد، فما يسمح عقلي بقبول الصورة التي عاش عليها المسلمون في عهد ذلك الخليفة العظيم، وإن لوّن عهدُه بروائع الألوان.
وما رأيكم في الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي وُلد في بلادنا الغالية؟
كان غاية الغايات في إيثار العدل، وأنا أتمنى أن يعود، إن كان للأموات إلى الدنيا مَعاد، ولكني أكره أن يعود عهدُه مرةٌ ثانية، فقد كانت الأمم الإسلامية في تناحُر وشقاق، وكانت الإدارة الحكومية أضعف من أن تجمع الشمل، وترأب الصدع، وترتق الفُتوق، فكانت أيامه قنطرة تحمل أثقال الفِتن من جانب إلى جانب، بلا نِظام ولا وثاق، وهي أيام لها سوابق ولواحق، وبشؤمها المأثور هوت الأمم الإسلامية إلى المهاوي التي سجّلها التاريخ.
وخلاصة القول أن (للسّلف الصالح) لا يتمثل في غير الحكام العادلين، وهم آحاد أو عشرات، أما الشعوب في تلك العهود فلم يكونوا يحتكمون إلى غير السيف، وقد كان وحده الفَيْصل في أكثر ضروب الخلاف.
ماذا أريد أن أقول؟
أريد النص على أن التعلق بأهداب العصور الماضية ضلال في ضلال، وأن الذين يريدون أن يردّونا إليها ليسوا إلا أحياءَ يحملون قلوب الأموات، وإن تردّوا بأردية الصالحين والأتقياء!
لم يكن للشخصية الفردية وجود صحيح في العصور الخوالي، ولا كان أحد يجرؤ على مواجهة الحكام بنقد ما يقع في أعمالهم من جور واعتساف، إلا نوادر من المعارضات قام(431/14)
بها أفراد من الزهاد والصوفية. نوادر فَرِح بها عشاق الصراحة والعدل فسجلوها بطنطنة وتهليل، لأنها كانت في أنظارهم من جملة الغرائب والأعاجيب. . . وهل يُنَصّ على شيء إلا إن كانت فيه غرابة توجب الالتفات؟
وخلاصة القول أني أدعو إلى مدينة العصر الحديث، فهي آخر ما اهتدت إليه العقلية الإنسانية، وإن لم تخلُ من نقائص وعيوب. وسنساير هذه المدينة إلى أن تجئ مدينة أفضل منها وأنفع، على فرض أن العقل الإنساني يرتقي من يوم إلى يوم.
ولعله يكون كذلك بفضل ما يرتطم فيه من مآثم الطغيان الدولي؛ وهو طغيان يخلُق النفرة من البغي والعدوان، ويؤرّث نار الثورة على الظلم والظالمين.
والحق أن عيوب المدينة الحديثة ليست بشيء بجانب مزاياها الأساسية، وإنما يقع الخطأ من الغفلة عما لها من محاسن، والوقوع فيما لها من عيوب. ولو كان لنا جميع فضائل الأقوياء وجميع مساويهم لتبدّل الحال غير الحال وصرنا على جانب من المَنَعة نصاول به من نعاصر من كبار الشعوب، ولكن الخوف يساورنا من ناحية واحدة، هي صعوبة التسلح بالفضائل وسهولة التردي في العيوب.
وهنا نقطة دقيقة لا أحب أن يَغفُل عنها قرائي، فقد يتوهمون أني أنهاهم عن اتباع ما ورثوا من محمود التقاليد، - وهذا وهمٌ فظيع - ففي التقاليد القديمة أشياء وأشياء تستحق الإعجاب. وليس عندي ما يمنع من أن يكون فينا من يساير المحمود من تقاليد القرن الثالث أو الرابع، على شرط أن يحسّ تلك التقاليد إحساساً يمنحها قوة الفاعلية الأخلاقية، أما متابعة السلف بلا وحيٌ ولا إحساس فذلك ضربٌ من الجمود البغيض، لأنه يرّدنا إلى الحيوانات التي تسير في طريقها المرسوم بلا تبّصر ولا إدراك. وبالإشارة يكتفي اللبيب!
لك أن تساير ما تشاء من المبادئ الأخلاقية، ما دمت تؤمن بالمبدأ الذي ارتضيته منهاجاً لحياتك. . . وقد أصل إلى أبعد الحدود فأقول: إنه لا خوف عليك من التخلق بأبغض الأخلاق في نظر المجتمع، على شرط أن تكون اقتنعت في سريرة نفسك بأنك على هدّى وأن معارضيك في ضلال. فالذي نشكوه هو ضعف العزيمة الُخلُقية، كأن نرى جماهير تسير سير القطيع بلا إرادة ولا تمييز، وتلك بداية الخذلان.
يجب حتماً أن تكون لك إرادة صحيحة فيما تنصرف عنه وما تُقبِل عليه. ولا قيمة(431/15)
لطواعيتك لآداب المجتمع إن خَلَتْ تلك الطواعية من النية. . . وهل يثاب من يقرأ القرآن على طريقة الببغاء؟
لقد أنكر قومٌ صحة الصوم بالنسبة إلى من لا ينوي الصيام. فما معنى ذلك؟ معناه أن العمل بلا نية ضياع في ضياع
وأنت قد رأيت ناساً تأدبوا بأفضل ما أُثِر من آداب المجتمع، ثم ظلوا متخلفين. ورأيت ناساً ثاروا على المحمود من تقاليد المجتمع، فما ضرَّهم ذلك ولا فاتهم شيء من الطيبات. فهل تعرف سرّ هذه الظاهرة الحيوية؟
يرجع السرّ إلى أن النية هي الأصل في موجبات الضر والنفع؛ فالذي يساير التقاليد الحميدة خضوعاً للمجتمع بدون أن يكون له في الإيمان بها نصيب يظل طول عمره ضعيف الكفاية الأخلاقية؛ وقد يُنسى فلا يشهد يوم الحساب، لأنه صار أداة آلية، ومن كان كذلك فلا مكان له بين من يستحقون الحمد، ومن يستأهلون الملام. . . والذي يثور على المجتمع وهو مؤمن بأنه على حق - وإن كان في الواقع من المبطلين - هذا الثائر قوي جداً من الوجهة الأخلاقية، وهو أقرب إلى الله ممن يسايرون التقاليد الحميدة وهم غافلون عن مدلولها الصحيح.
وهنالك طبقة منحطة أبشع الانحطاط، وهي الطبقة التي تثور على التقاليد المحمودة بلا نية ولا إرادة ولا عزيمة، وإنما تصنع ما تصنع على سبيل التظرف السخيف، لأنها سمعت أن الثورة على تقاليد المجتمع تعد أصلاً من أصول التمدن الحديث، وهذه الطبقة هي التي تعوَّق الوثبات الإصلاحية، وهي التي تعطي الحجة لأهل البلادة من دعاة الخضوع لقديم التقاليد، بلا تفريق بين الزائف والصحيح.
وهؤلاء المتظرفون السخفاء هم خصومنا الألداء. فإليهم يرجع السبب في نفرة الجمهور من الوثبات الإصلاحية، وإن كان حالهم أقل بشاعة ممن يسايرون القديم على علاته ليسرقوا ثقة المجتمع الغافل عن مسالك أهل الرياء.
والرأي عندي أنه لا قيمة لأي عمل إن لم يَصدُر عن النفس بحرارة وإيمان، وإن كان في ذات نفسه من جلائل الأعمال، لأن القيمة الأخلاقية ترجع في جوهرها إلى النية الصحيحة.(431/16)
فيما نأتي وما ندع، بغض النظر عن الاهتداء إلى طريق الصواب. وقد ينتفع المخطئ أعظم الانتفاع بما يزاول من أخطاء، لأن الله لا يحاسب من يقعون في الخطأ عن جهل، ولأن أعمالهم حين تتسق مع ضمائرهم تصون الشخصية الخُلقية من الانحلال، ولا كذلك من يعملون الصالحات بغير نية أو عقيدة، فأعمالهم لا تقدم ولا تؤخر.
وفي رياضة النفس على التطبع بكرائم الأخلاق أواجه الموضوع بعبارة أوضح وأصرح فأقول:
إن عندنا اليوم جمهورين يقتتلان حول القديم والحديث من التقاليد، ولكنه اقتتال غير منبعث عن عقائد راسخة الجذور في الصدور، ومن أجل هذا ظل عديم الجدوى في إيقاظ الحياة الأدبية والاجتماعية، وقد ينقضي هذا العصر بدون أن نشهد ثورة فكرية تحل عقال الأفئدة والعقول كالثورة التي شهدها من عاصروا محمد عبده وقاسم أمين.
ولكن ما أسباب هذا الجمود الدميم؟
ترجع الأسباب إلى نوع الحياة التي يحياها المفكرون في هذا الجيل. وهم فريقان: فريق يعيش في ظل الوظائف الحكومية، وفريق يعيش في ظل المنافع السياسية.
أما الفريق الأول فأسير للمثل المغربي: (صاحب الوظيف وصيف) وانطباق هذا المثل على الموظفين لا يحتاج إلى بيان.
فالموظف في مصر يهدَّد في رزقه وأرزاق أبنائه حين يتعرض لغضب المجتمع؛ والمجتمع يغضب لأضعف الأسباب؛ وهو يريد أن يكون الموظف أداة حكومية كالأداة التي تسجل حضور الموظفين في الصباح بدون أن تعرف ما تصنع، فإن استباح الموظف لنفسه حرية الفكر والقول فله الويل!. . . أليس في الدنيا أناس يحرَّضون الرؤساء على مرءوسيهم بالخطابات السرية أو بالغمز المرذول في بعض المجلات؟
وعلى هذا يكون الأمل ضعيفاً جداً في انبعاث الحياة الفكرية من بيئات الموظفين، مع أنهم صورة الاستنارة الفكرية في جميع البلاد، بفضل حظوظهم من التثقيف والتهذيب.
وأما الفريق الذي يشتغل بالسياسة من أهل الفكر والعقل فالأمل في ثورته على غفلة المجتمع أضعف من الضَّعف، لأن هذا الفريق يفكر دائماً في المعارك الانتخابية، وهي معارك لا يفوز فيها من يتعرض للقال والقيل، ولو كان من أكابر الحكماء السياسي لا ينجح(431/17)
أبداً إلا إذا راعى أهواء المسُوسين، وفيهم الأحمق والعاقل، والبليد واللبيب، على تفاوت في هذه الصفات لا يسرني أن أقول رأيي فيه بغير التلميح.
وعلى هذا يضعف الأمل في انبعاث الثورة الفكرية من بيئات السياسيين، كما ضَعف الأمل في انبعاث تلك الثورة من بيئات الموظفين.
فإلى أين تسير بلادي الغالية؟ وكيف يجوز أن يمرّ بها زمن طويل أو قصير وهي محجوبة عن أقباس الحرية الفكرية؟
هذا رجل يظاهر التمدن القديم ليقتات من فُتات الرجعيين، وذاك رجل يظاهر التمدن الحديث لينتفع بجاه أدعياء التجديد، وذلك مخلوق يساير أولئك وهؤلاء بلا بصيرة ولا يقين، لأنه في حقيقة أمره حيران، أو لأنه أَلِف السمسرة في ميدان الأخلاق!
الرجعي المؤمن بالرجعية غير موجود، وإنما هو شبَح يتوهم أن له منفعة في مؤازرة الرجعيين المزيفين.
والمجدَّد المؤمن بالتجديد موجود، ولكنه غير مزوَّد بالشجاعة الوافية، بدليل أنه يترك أخاه دَريئةً لسهام السفهاء، فلا يدفع عنه كلمة البهتان، ولا يمدّ إليه يد المواساة حين ينتاشه الأغبياء!
إلى أين تسير بلادي الغالية؟ إلى أين؟ إلى أين؟
لم ينبغ في عصرنا مؤمن في مثل حماسة الغزالي، ولا صوفي في مثل روحانية أبن الفارض، ولا مرتاب في مثل عقل أبى العلاء، ولا فاجر في مثل ظرف أبي نؤَاس. . . فبأي وجه نلقي الله وقد خلا وادينا العزيز من أمثال هذه المعاني؟!
أتقدَّم إلى الله حطبَ جهنم وهم المذبذَبون بين القديم والحديث؟!
وكيف نجيب إذا هتف هاتفٌ يوم القيامة بأن المصريين في بعض عهودهم لم يراعوا حقوق واديهم الجميل؟
قد يقال: إن عندنا رجالاً يثورون على ركود المجتمع من وقت إلى وقت؛ وهذا حق، ولكن ثورتهم في أغلب أحوالها من الحديث المُعاد، فهي في ضعف المبتذلات؛ فالنائب الذي صاح مرة بأن المصريين مختلفون في الأزياء لم يأت بجديد، فقد سمع الناس هذه الصيحة قبل أعوام تُعدَّ بالعشرات. وهذا النائب نفسه لا يستطيع أن ينكر أن اختلاف الأزياء لم(431/18)
يعوّق (السلف الصالح) عن النهوض؛ فما سمعنا أبداً أن الأزياء توحدت في أمة إسلامية في العصور التي يلقبونها بالعصور الذهبية، حتى يصح القول بأن اختلاف الأزياء هو السبب في تخلف الأمة المصرية، والأستاذ الذي أتعب نفسه في الكلام عن انحلال الأغاني الشعبية لم يأت بجديد، فقد قيل هذا الكلام ألوف المرات، ولم يكن توكيده في احتياج إلى صيحة من عميد إحدى الكليات!!
وأرجع فأقول إني أكره أن يعيش الجيل الجديد بلا بصيرة ولا يقين، لأن هذا الضرب من العيش ليس إلا ضرباً من الموت، وإليكم أسوق بعض الشواهد:
كثر القول في الدعوة إلى إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية، وقد شغلت نفسي بهذا الموضوع حيناً من الزمان؛ ثم انصرفت عنه كل الانصراف، حين شعرت بضعف الأساس الذي رجوت أن يقام عليه البناء.
ولتوضيح هذا المعنى أقول: إني رأيت الأزهر بين لا يثقون بمعهدهم إلا ثقة صورية، ولو شئت لصرحت بأنهم يثورون عليه ثورة لا يسترها غير الكبت، بدليل أنهم لا يلتفتون إليه حين يجدون فرصة للتحرر والانطلاق.
كانت مشيخة الأزهر إلى الشيخ سليم البشري، ومع ذلك رّبى جمهور أبنائه مدنية لا دينية. ثم كانت إلى الشيخ أبى الفضل الجيزاوي، ومع ذلك ربى أبنائه تربية مدنية لا دينية. ثم كانت إلى أستاذنا الشيخ الأحمدي الظواهري، وقد ربى أبنائه تربية مدنية. وشيخ الأزهر اليوم هو أستاذنا المراغي؛ وقد ربى أبنائه تربية مدنية، وأبنه مرتضى وكيل محافظة القنال وليس شيخاً لمعهد طنطا أو دسوق؛ فماذا ترون في مغزى هذا الشاهد الطريف؟ ألا يدلكم على أن الأزهريين لا يثقون بمعهدهم إلا ثقة صورية؟
وإن كان الأزهر هو المثل الأعلى في إعداد الشبان للحياة الدينية والدنيوية فكيف يفوت شيوخه الإجلاء أن يصونوا أبناءهم بالالتجاء إلى حصنه الحصين؟
وإن لم يكن صالحاً لتربية هؤلاء الأبناء فكيف يفوت أولئك الآباء أن يصارحوا الأمة برأيهم فيه وهم هداتها إلى الدنيا والدين؟
كان يتفق لبعض كبار العلماء أن يوزعوا أبناءهم بين المعاهد الدينية والمدارس المدنية، كما صنع الشيخ محمد شاكر والشيخ عبد المجيد اللبان؛ ولكن هذه الظاهرة قد انقرضت ولم(431/19)
يبق من الأزهريين من يربي أبناءه تربية دينية وهو يجد الوسيلة إلى تربيتهم على الطريقة المدنية. . . أليس لهذا المسلك من المعاني ما يوجب التفات من يسجلون التطورات الإجماعية؟ أليس هذا بشيراً أو نذيراً بأن الأزهر يريد أن يتحول؟
وما يقال في الأزهريين يقال في كثير من الطبقات: فالمدرسون في جملتهم لا يرضون أن يصير أبناؤهم إلى احتراف التدريس، كأنهم يتوهمون أنه مهنة لا تمنح صاحبها أهلية الغنى والمجد. فكيف يؤدي المدرس واجبه تأدية حسنة وهو ينظر إلى مهنته بعين الاستخفاف؟
والموظفون الذين ينشرون الثقافة الزراعية عن طريق المقالات والمحاضرات لأبنائهم أن يكونوا فلاحين، ومع أن الفلاحة هي أساس الثروة المصرية.
يجب أن تؤمن كل طبقة بأنها شريك أمين في الهيئة الاجتماعية. ويجب أن نحترم جميع أعمالنا احتراماً يصل إلى الحب لنتذوق طعم القيام بالواجب في صدق وإيمان، ولنسترد ما أضعناه من المنافع بسبب الفهم الخاطئ لاختلاف الطبقات، وهو اختلاف لا يتم بدونه وجودٌ صحيح.
أما بعد، فهذا مقال لم أرد به غير وجه الحق. وأنا أدعو جميع الكتّاب إلى الاهتمام بأمثال هذه الشؤون في صراحة لا يصدها تهيب ولا احتراس، وليثقوا بأن الشعب المصري يقبل جميع الآراء ما صدرتْ عن نزاهة وإخلاص.
الشعب المصري لم يخذل داعياً من دعاة الحق، ولم يصمْ أذنيه مرة واحدة عن كلمة الصدق، فقد استجاب لجميع المصلحين، وحفظ لهم منازلهم في التاريخ، فما تهيُّبُ بعض الكتاب من عرض ما يجيش في صدورهم من الآراء الصحاح؟
أقدموا غير هَّيابين. فما فاز غير المزوَّدين بفضيلة الشجاعة ونعمة الإيمان.
زكي مبارك(431/20)
شاعر الجرمان الأعظم
يحيى ولفغنغ غوث
لأستاذ جليل
طالع (يحيى ولفغنغ غوث) ناظم معاني (إن بالشعب. . .) باللسان الجرماني على الدنيا سنة 1749 وغاب سنة 1832
وشعر ونثر - وقد هذب الدهر لغة القوم - فحير وبهر.
وقد روى الراوون محققين وصادقين أنه قَرزمَ وهو ابن ست سنين! (يا يحيى، خذ الكتابَ بقوة، وآتيناه الحكم صبيّا).
وهو ثاني أثنين في الأقاليم الغربية لا ثالث معهما، وان يكون الثالث. . . وإن سبق صاحب (هملت) في القريض بجملة أقواله فقد بذَّ غوثٌ شكسبير بفوست. ليست لشكسبير شبيهة فوست.
وغوث هذا هو ذو المنقبتين أعني العبقريتين: العبقرية الشعرية، والعبقرية العلمية. وهما عبقريتان لا تلتقيان عند إنسان. فأعظمْ بدماغ لف هاتين القوتين، وألّف بين الَّضرتين! أعظم به ثم أعظم!!
ولقد ظاهرت مؤلفات هذا العبقري مقالات الوحديين والنشوئيين وأشياعهم كما ظاهرهم قريضه - أيمّا مظاهرة.
وقال في (التحول) في مباحثه ذات القدر في النبات والحيوان مستقرياً مدققاً، ومفصلاً موضحاً، وهادياً أولى النهى إلى تلك القرابات الواشجات قبل أن يقول ابن لامرك، وقبل أن نسمع ابن دروين. ويدُ هَذين العلّمين العلامتين في تينك المقالتين المشهورتين بما بسطا في شرحهما ذا البسط وبتلك الإحاطة - مذكورة مشكورة لا تكفر. وللسلف الصالح كلمات في هذه المعاني مختصرة متفرقة في المصنفات مبثوثة في المواضع المختلفة، وفي بعضها ما يلاقي تصريح بخنر وهيكل وهكسلي.
وفي (الرسالة) ذات الرقم255 ص848 جملة ابن خلدون المجملة في تدريج التكوين. إنها(431/21)
سنة الله في إنشاء الكائنات (ولن تجد لسنة الله تبديلا)
والأستاذ (أرنست هيكل) يذكر في أكثر كتبه أعظم شعراء الجرمان ومفكريهم - كما يصفه - مفخماً ومتقوياً بأقواله في مقالته (الوَحدية) ومباحثه المحكمة المحققة النشوئية. وقد أورد في كتابه (تأريخ الخلق الطبيعي) في الباب الرابع نصوصاً أو شذرات من مؤلفات (غوث) تعلن سبقه رجال (المذهب) في الاهتداء إلى ما هداه الله إليه.
وكان نابغة الجرمان، سيد الجرمان يجل قائدنا وهادينا (أبا القاسم) إجلالاً كبيراً. ولن تغشّى حسناتٍ لغوث تخاليطُ في (رواية). وقصيدته في يوم النصر، يوم الفصل، يوم (بدر) وشهدائه المؤمنين الخالدين الأبطال - شمس تضيء، شمس مضيئة أو سورة. وإن قوله في (القرآن) لهو القول. إنه يراه قد أعطِى فيه كل مقام حقه، وأخذ كل معنى من مقاصده لفظه كما يراه قوياً (إشْتْتِرْنكْ) عظيماً سامياً متعالياً (إرْهابِنْ) رائعاً مهيباً (فورْشْتْبارْ) قد خرق العادة؛ فلا غرو أن يبلغ أثره في العالم حيث بلغ.
يا كتاب محمد، يا كتاب عظيم الدنيا، يا أعظم كتاب في هذا الكون، يا خالق هذى الأمة، يا باني ذاك المجد، هل يعرفك حق معرفتك إلا العبقريون، إلا الأقطاب الأغواث (الغوثيون)؟!
هل يعرفك الجهلاء الأغبياء البله العمهون؟
هل يعرفك العوام أو أشباه العوام من الأدبيين والمعمعيين؟
هل يعرفك الشعارير أو المتشاعرون والكوتبيون الصغيرون الحقيرون الأّمعون؟
هل يعرفك كل وغد نغل (مزور) مائن من المضللين الوقحين؟
ألا إن القرآن في الكلام مثل محمد في الأنام، فإن وجدت لمحمد خطيراً ألفيت للقرآن نظيراً (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).
وكان الأستاذ الأكبر (أرنست هيكل) يجهر كذلك بتبجيل (أكبر معاني الكون وصفوة النوع الإنساني)، وبتفضيل شرعته
- والإسلام يعلو ولا يُعْلى - على تينك النحلتين. وذكره معظماً في كتابه (أحاجي الكون) أو معضلات الكون - وفي غيره من كتبه - وأظهر في ذلك الكتاب الهادي أثر زيارته(431/22)
مساجد في نفسه حينما جاء الشرق (سنة 1873) مادحاً هدوءاً وخشوعاً وسكينة فيها، وهاجياً ضجيجاً وعجيجاً وشعبذة في معابد أقوام وملة سماهم وسماها، ولا أرى أنا أن أسميهم أو أسميها قي هذا المقام حتى لا يغضب أصحاب لنا وأحباب.
وغوث مطوق بفضل علمه وأدبه أجياد جميع الجرمانيين، ولم يتفلت من قيد إحسانه متفلت منهم. فكل جرماني - كما يقول أحد الجرامنة - إما أن يكون قد درس مؤلفات غوث فاستفاد منها، أو استفاد ممن درس مؤلفات غوث. ففضلُ (ذي المنقبتين) قد عم القوم قاطبة - عموماً.
وإن شئت فقل: إن أمة غوث تتلو صحفه كما يتلو أهل الحنيفية (الكتاب) وكما يقرأ القراءون من اليهود والنصارى التوراة والإنجيل.
وكتبه عند الجرمانيين ثروة كريمة جسيمة، وقد أربت على أكثر من مأتي مؤلف.
وغوث هو شائد الوحدة الجرمانية الحق؛ فلغته وأدبه هما اللذان جمعا كلمة أولئك الأقوام المتفرقة، وألفا بين قلوبهم المتوزعة.
ولو أقامت (سياسة بسمرك) ألف سنة تجد في الضم والتأليف ما ألفت بين قلوبهم، ولكن غوثا ألف بينهم. إن سلطان الأدب والأديب واللغة في الأمم لقوى عظيم.
وصيت هذا العبقري ومكانته في غير أمته من الغربيين مثلهما في أمته. وخلقه العالي وفضائله أعظم من شعره العجيب وعلمه. قال له كبير ذات يوم: يا غوث، لقد أفاد الناس سلوكك، وسيرتك أكثر مما استفادوا من علمك وأدبك. وأدبه وعلمه هما ما علمت.
وإن بلاغة غوث وبراعة شكسبير لتعجزان عن أن تبينا فضائل تلك السيرة مزاياها وعجائبها، فالجأ إلى التوهم واسجن في عالمه.
وقال نابليون بونابرت وهو يومئ بيده إلى القطب الغوث (غيث): هذا رجل!
ولو أنصف هذا الملك لقال: هذا ملك.
إنما غوث ملك: ما هذا بشراً، إنْ هذا إلا مَلكٌ كريم! وإن غوثاً وأمثال غوث من العبقريين العظيميين الكرام الكاتبين الكاملين، لمستغنون جد مستغنين عن شهادات الممجدين وإطراء المطرين من النابوليين وأشباه النابوليين.
إنه الشمس تبدت ضحوة، نورها الباهر خير الشاهدين. . .(431/23)
شخصيات تاريخية
2 - تيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
كان اليونان إذن مهددين في عام480 ق. م إذ علموا أن أجرزسيس سير جيشه الجرار من قلب آسيا الصغرى وأسطوله الضخم محاذياً السواحل الآسيوية والأوربية المحيطة بمضيق الهيلليسبونت لغزو بلاد اليونان، طامعاً في أن يقوم بما لم يستطع أن يقوم به أبوه من قبل وهو الانتقام من أثينا بل وإخضاع بلاد اليونان عامة، فما كان عقله يصدق أن بلاداً صغيرة كبلاد اليونان تجرؤ على أن تقف في وجه أعظم عاهل على وجه البسيطة حينذاك وهي على ما هي عليه من فرقة وانقسام وتباين واختلاف.
وقد اختلف المؤرخون القدماء والمحدثون في تقدير عدد الجيوش الفارسية واليونانية، ولكنهم إن اختلفوا في هذا التقدير نجدهم يجمعون على أن جيش أجرزسيس كان عظيم العدد جداً، وعلى أن جيش اليونان كان دونه بكثير.
جاء الفرس بهذه الجيوش الضخمة ووصلوا إلى شمال بلاد اليونان بعد أن عبروا ما عبروا من بحار، وجابوا ما جابوا من سهول ووديان، وتسلقوا ما تسلقوا من تلال وجبال، وهم واثقون كل الثقة أنهم لا بد غالبون هذا الشعب بل هذه الشعوب الإغريقية المختلفة على أمرها مقامرين على انقسام اليونان وضعف اليونان وفقر اليونان، وقد غاب عنهم أن اليونان كانوا يعرفون بلادهم تمام المعرفة ويثقون بقوادهم الذين سيقودونهم إلى النصر لأنهم يدافعون عن أعز شيء في الحياة وهو الحرية والاستقلال.
وكان تيموستوكل على علم بحركات الفرس كلها. لذلك أعد بلاده خير إعداد، وجهزها بما كانت تحتاج إليه من وسائل الدفاع كبناء الأسوار والجدران، ومن وسائل الهجوم كالسفن التي عمل على بنايتها لتكوين الأسطول مما جعله يصمد أمام الأعداء ولا يتزعزع أمام هذه الغزوة الجريئة.
ويعمل اليونان على توحيد الصفوف والاستعداد لملاقاة الأعداء فيعتدون مؤتمراً هو مؤتمر(431/25)
الجامعة اليونانية الثاني (في أوائل ربيع عام480 ق. م) وفيه يقرون إرسال حملة للدفاع عن وادي ثمبي في الشمال بعد أن وعدهم سكان تلك الجهة ببذل المعونة والمساعدة لهم، وسارت الحملة عن طريق البحر وعلى رأسها قائد أسبرطي يساعده في القيادة آخر أثيني هو صاحبنا تيموستوكل، ووصلت هذه الحملة إلى تلك الجهة ولكنها لم تجد معونة ولا مساعدة فرجعت بخفي حنين.
ويتفق اليونان أيضاً في هذا المؤتمر على تنظيم خطوط دفاعهم فيجعلونها أربعاً. الأول عند وادي ثمبي السابق الذكر، والثاني عند الثرموبيل، والثالث عند وسط اليونان (ببوسبا وأثيكا) والرابع عند برزخ كورنث ويقررون التراجع عن الخط الأول إلى الخط الثاني وعن الخط الثاني إلى الخط الثالث وهكذا حتى الخط الرابع إذا لم يستطيعوا الاحتفاظ بأي خط من هذه الخطوط.
وهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بخط دفاعهم الأول على نحو ما رأينا منذ حين، لذلك نراهم يقررون، عندما علموا بخبر زحف الفرس إلى أواسط بلاد اليونان، والوقوف عند خط الدفاع الثاني أي عند أراض الثرموبيل براً، وعند رأس (الأرثيميزيون) بحراً، والنقطتان تكمل كل منهما الأخرى، ويوجهون نحو الأولى حملة برية بقيادة الملك الإسبرطي الشهير ليونيداس، ونحو الثانية أسطولاً بقيادة رجل إسبرطي هو إيريبياد ويساعده في القيادة تيموستوكل. وقد تلاقى الجيشان جيش الفرس وجيش اليونان عند الثرموبيل، وكان ما كان من أمر هذه الهزيمة الساحقة التي منى بها ليونيداس وأتباعه، حيث أبيد اليونان كلهم عن بكرة أبيهم في هذا المكان الضيق بعد أن أظهروا من الشجاعة ما خلد اسمهم على صفحات التاريخ - أما عند النقطة الثانية فقد التحم الأسطولان، والأسطول اليوناني كامل العدد والعدة، أما الأسطول الفارسي فقد هبت عليه زوبعة قبل معركة (الأرثيميزيون) ودمرت ما يقرب من ثلثه تقريباً، لذلك لقي الأسطول اليوناني نجاحاً بادئ الأمر، ولكنه لم يستطع أن يصمد أمام حركة تطويق قام بها جزء من الأسطول الفارسي نحو الجنوب إذا أراد الالتفاف حول جزيرة أيوبيا ليأخذ الأسطول اليوناني على غرة من الخلف، ولحسن حظ هذا الأسطول نجده يتمكن من الإفلات والنجاة من هذا المأزق الحرج فيرجع عند خط الدفاع الثالث أي عند وسط بلاد اليونان، وقد دهش الفرس عندما رأوا الأسطول اليوناني يتراجع(431/26)
بعد هذا النجاح النسبي الذي ناله، ولكن اليونان فهموا أن هزيمة جيشهم في الثرموبيل قد قضت على خطتهم الدفاعية وجعلتهم يخافون على قواتهم من الفناء، من أجل هذا تراجعوا نحو الجنوب لأن هذه الفرصة الوحيدة لإنقاذ جيشهم وللاحتفاظ به للمستقبل.
من هذا يتبين أنه لم يكن لثيموستوكل موقف ظاهر واضح في هذه المعارك وعلى الأخص في الحملة البرية الأولى عند أرض ثمبي، وفي الحملة البحرية الأولى عند رأس الأرثيميزيون، ولكنه بالرغم من ذلك موقف عظيم الخطر والأهمية، لأنه كان هو الروح الذي ينبعث في الجيش الحمية والحماس، وفي الأسطول الرغبة والإقدام على الهجوم، إذ كان يقف إلى جانب القائد الإسبرطي موقف المرشد الناصح الأمين الذي يجعل مصلحة بلاده فوق أي اعتبار. وكان هذا القائد الإسبرطي يوافق على آرائه بالرغم مما فيها من خطورة وجرأة؛ لأنه كان ينصح دائماً بالهجوم، سائراً على هذا المبدأ الذي أخذ به نابليون من بعده وهو (الهجوم خير وسيلة للدفاع)؛ وكان إلمامه التام بحالة الفرس وبحالة اليونان خير مشجع له للإقدام على الهجوم؛ فهو يعلم أن اليونان أقلية في العدد بالنسبة للفرس - ولكنهم أكثرية في نواح أخرى - إذ كانوا أكثر تجانساً من أعدائهم، (فلم يكن بينهم نفر من الأجانب، على حين أن جيش الفرس يتكون في أغلبيته من أفراد الشعوب العديدة الخاضعة لهم) واكثر اتفاقاً فيما بينهم، فهم يحاربون بطوعهم واختيارهم لأن مثلهم الأعلى هو المحافظة على استقلال بلادهم وإحاطة حريتهم وحرية بيوتهم وعائلاتهم وأراضيهم بسياج من المنعة والقوة. أما الفرس أعداؤهم فإنهم يسيرون بالسياط ويحاربون مجبرين، لا لتحقيق مثل أعلى وإنما تنفيذاً لرغبة عاهل جبار استحوذ الطغيان منه على فؤاده واستولى الكبر على قلبه وعقله حتى شبه نفسه بالآلهة، فساق هذه الجموع الزاخرة سوق الأنعام والماشية. ثم إن اليونان بعد هذا وذاك يفوقون أعداءهم في الأسلحة التي كانوا مجهزين بها وفي القيادة التي كانوا يخضعون لها. وإلى جانب ذلك كله كان تيموستوكل على علم تام بحركات الأعداء، يوقفه عليها هؤلاء الجواسيس ونقلة الأخبار الذين كان يبثهم بين أعدائه مثل هذا الملاح الماهر سكيلياس الذي أتى له بمعلومات عن الأعداء قبل موقعة الأرثيميزيون؛ فأوقفه على ضعف الروح المعنوية فيهم، وعلى انعدام المثل الأعلى بينهم، وعلى عدم الانسجام بين وحداتهم المختلفة، وعلى التنافر بين عساكر الجيش والأسطول(431/27)
الذين هم عناصر جنسية مختلفة، وكذلك على الكوارث التي أصابت الأسطول الفارسي كهذه الزوبعة التي هبت عليه قبل الأرثيميزيون فدمرت أربعمائة سفينة.
ثم يتابع أجرزسيس سيره نحو الجنوب حتى يصل إلى أواسط بلاد اليونان، وهو لا يحجم عن تخريب ما يلاقيه في طريقه من قرى ومدن، ولا يتردد عن انتهاك حرمة المعابد والأراضي المقدسة، ولا يتأخر عن تدمير ما يقابله من محاصيل زراعية أو تماثيل للآلهة، حتى ألقى الذعر في قلوب بعض اليونان، فخضعت له البلاد اليونانية الوسطى والشمالية ماعدا مقاطعة أثيكا. وكان من الأشياء المقررة عند اليونان أن يقف الجيش اليوناني عند الجبال التي تفصل بين مقاطعتي أثيكا وبيوسيا للدفاع عن المقاطعة الأولى، ولكن هذا الجيش تراجع حتى برزخ كورنث ووقف هناك ينتظر ما سيجابهه من حوادث. أما الأسطول فكان هو الآخر مصوباً وجهته نحو الجنوب، وقائده الإسبرطي يريد به التراجع نحو شبه جزيرة البيلوبوينز للدفاع عنها، ونحن لا ننسى أن هذا القائد، وهو إيربياد، اسبرطي يضع مصلحة بلاده فوق كل اعتبار؛ ولكن تيموستوكل يتمكن بعبقريته وبشخصيته القوية من أن يقف في وجه هذا القائد حتى يتغلب عليه ويوجه الأسطول كما يريد هو لا كما يريد هذا القائد فينجح في تلك اللحظة الرهيبة في حمل اليونان على اتخاذ قرار خطير، ذلك هو القرار القاضي بأن يقف الأسطول اليوناني عند جزيرة سلامين، من أجل هذا رأى اليونان أنهم مجبرون بعد هذا القرار الجديد على أن يرسموا خطة جديدة تضمن التعاون بين الجيش والأسطول للدفاع عن بلادهم وصد الغزاة.
زحف أجرزسيس بجيوشه وزحف حتى وصل إلى أبواب أثينا، وكذلك كان الأسطول الفارسي متقدماُ في سيره نحو الجنوب حتى لا يبتعد كثيراً عن الجيش، وخطة الفرس على ما نعلم تقضى بأن يتعاون الأسطول مع الجيش؛ من أجل هذا لم يجد الأثينيون أمامهم - والعدو على أبواب وطنهم - إلا أن يهجروا مدينتهم، فأصدر الشعب الأثيني مجتمعاً في مجلس (الأكليزيا) مرسوماً يأمر بإخلاء المدينة على ألا يبقى بها إلا نفر من الشيوخ للدفاع عنها. أما الفقراء من أفراد الشعب الذين لا يستطيعون أن يتحملوا نفقات الهجرة فقد نص هذا المرسوم بإعطاء كل شخص منهم مبلغاً من المال ليساعده على الرحيل؛ وذهبت أغلبية الأثينيين بأبنائهم ونسائهم إلى جزيرة سلامين حتى يروا ما سيقضى الله من أمر. أما(431/28)
الفرس فقد دخلوا المدينة ووجدوها قد خلت من سكانها إلا هذا النفر الضئيل من الشيوخ. وهذا النفر بالطبع لم يستطع أن يثبت في وجههم فتغلبوا عليهم، وصعدوا إلى قمة الأكروبول وأقاموا هناك حيث توجد معابد الآلهة.
(البقية في العدد القادم)
محمد الشحات أيوب(431/29)
في سبيل العروبة
مصر والعلم العربي
للأستاذ عمر الدسوقي
لا شك أن الحرب التي تدور رحالها اليوم ستتمخض عن انقلابات تاريخية وإقليمية ذات بال. ونحن - وإن لم نخض غمارها - متأثرون بنتائجها؛ وكل أمة تيقظ فيها الشعور القومي ترى لزاماً عليها أن تفكر في مصيرها، وتحدد هدفها؛ حتى تسير قدُماً نحو غايتها حين تضع الحرب أوزارها.
ومصر قد سلكت حتى اليوم مسلكاً رشيداً، وأتبعت سياسة ناضجة حكيمة إزاء هذه المحنة العالية، وكانت وفية صادقة لحليفتها، برة بوعودها، ولكنها لم تستغل هذا الموقف الشريف لخيرها وخير شقيقاتها العربية، التي تنظر إليها بعين ملؤها الرجاء والأمل. وعندي أن القضية العربية هي من أهم المسائل الحيوية التي يجب أن تدرسها مصر دراسة جيدة، وتوجه إليها عنايتها، وتبذل في سبيلها الجهود الصادقة.
أجل! إن مصر تتمتع في العالم العربي بمنزلة رفيعة، فقد حباها الله موقعاً جغرافياً هيأ لها التجارة النامية والثروة الطيبة، وجعلها صلة بين الشرق والغرب، وسخر لها النيل يفيض على واديها بالخصب والنماء، ويغدق عليها النعمة والثراء، فتصورها الناس في كل وادٍ أرض الكنوز المطمورة، والخيرات المتدفقة؛ ثم إنها أكثر البلاد العربية سكاناً وقد سبقت شقيقاتها في حمل مشعل النهضة على يد عاهلها الكبير محمد على باشا وخلفائه، وخطت خطوات واسعة في سلم الحضارة والعلم، فأصبحت ذات سلطان قوي على الرأي العام في البلاد العربية بما تملك من صحافة غنية منظمة، ومجلات أدبية وعلمية تعد الغذاء الروحي لعدد كبير من أبناء العروبة يفتقدونها إذا تأخرت، ويكبون عليها بشغف ونهم إذا أقبلت؛ وبأزهرها العتيد وجامعتها الحديثة؛ وبمطبعتها الخصبة التي ما فتئت تحي القديم وتظهر الجديد من المؤلفات القيمة والكتب الثمينة؛ وبكتابها الذين يزيدون في ثروة التراث العربي، ويتمتعون بشهرة واسعة في كل مكان تسود فيه لغة الضاد لغزارة أفكارهم وجودة أساليبهم، وتنوع كتاباتهم؛ وبالغناء المصري الذي يتردد على كل لسان في ربوع العروبة ويهتز له الشيخ الكبير والحدث الصغير على الرغم مما به من نقص، ولكن حسبهم أنه غناء مصري(431/30)
حتى يفتنهم.
كل هذا جعل من مصر قبلة الأمم العربية، ومثالً تنسج على منواله وتترسم خطاه، وتتنسم أخباره بلهفة وشوق، حتى صار أبناؤها يختلفون فيما بينهم تبعاً لاختلاف الأحزاب المصرية، ويعرفون عن وادي النيل كل صغيرة وكبيرة.
فماذا كان موقف مصر من هذه البلاد التي تحبها حباً صادقاً لم يشتر بالمال ولم يبتذل في سبيله دعاية؟
لقد تقاعست مصر عن القضية العربية في الماضي - وهذه كلمة صريحة يجهر بها مصري مخلص لبلاده - ولم تعمل على جذب هذه القلوب التي تهفو لها حباً وإخلاصاً!
إي وربى! تقاعست مصر حتى كاد يفلت من يدها الزمام، وحتى قام من يناهضها ويعمل على تقويض سلطانها المتمكن في الأفئدة، بالدعاية الباطلة والإفك الصريح، مؤولاً تقاعس مصر بالكبرياء، وإعراضها بالغطرسة، ومصر - يشهد الله - مما يقولون براء.
أجل! لقد شغلت القضية المصرية والكفاح على سبيل الاستقلال كل أفكار وادي النيل، ولكن لم تمنعهم هذه القضية عن الانتصار للحبشة مثلاً بالمال والنفوس والدعاية، مع أن قطراً عربياً آخر كان ينكأ كل يوم بجراحات مثخنة مميتة، ويجاهد جهاد المستبسل المغوار في سبيل حياته، ومصر تنظر وكأن الأمر لا يعينها، حتى قبض الله لها رجلاً لا يوجد في الألوف مثله ذكاء وعبقرية وإقداماً، قدم لهذا القطر العربي المساعدة المالية السخية التي تكفكف دموع اليتامى والأيامى، ودفع بمصر في سبيل العروبة حاملاً بنفسه علم الدفاع، ولكن أبت الأقدار إلا أن تناوئه فانزوى عن الميدان.
كان لعمله هذا أثر محمود عند كل عربي، وأخذت الأعناق تشرئب إلى مصر تنظر ماذا تفعل، ولكن مصر رجعت إلى سابق عهدها من الصمت والتغافل ثم أشعلت نار الحرب وشغل كل امرئ بنفسه، إلى أن أصبحت حليفة مصر - بريطانيا العظمى - مسيطرة على الموقف في الشرق الأدنى، وصرح رئيس وزرائها مستر تشرشل - مثال الصبر والجلد والبطولة في الكفاح - بعطفه على القضية العربية، فهل آن لمصر أن تعطف على القضية العربية وهي أولى الناس بهذا الأمر؟
إن مصر عربية قلباً ودماً ولحمة وسدى! وكل من يقول غير هذا فهو مأفون الرأي. سائلوا(431/31)
التاريخ عمن حفظ اللغة العربية وهي تحتضر في كل مكان إلا مصر! سائلوا التاريخ عن تلك الهجرات المتتابعة من ربوع العروبة إلى مصر منذ الفتح إلى اليوم!
إن بين مصر وبين البلاد العربية وشائج من الدم واللغة والتاريخ والأدب والعاطفة تحتم عليها أن تتبنى القضية العربية.
وهنا أوجه كلمة صريحة إلى جماعة من الكتاب في مصر أخذوا يتجادلون حول القضية العربية والقضية الإسلامية. مصر عربية إسلامية وعروبتها تحتم عليها أن تهتم بالقضية العربية وتتألم لنكبات الأمم العربية، وتفرض عليها الاشتراك في الحلف العربي، وإسلامها من جهة ثانية يتطلب منها أن تنظر بعين العطف إلى القضايا الإسلامية في جميع أنحاء المعمورة، ولا اختلاف بين الجهتين، ولا تناقض بين الميدانين: القضية العربية قومية، والقضية الإسلامية دينية، وفي استطاعة الإنسان العاقل أن يكون وطنياً مخلصاً لوطنه مجاهداً في سبيله، وأن يكون متديناً ورعاً قائماً بواجبات دينيه، دون أن يكون هناك تناقض بين جهتي الإخلاص أو بلبلة في أفكاره.
وهنا أيضاً عتاب أوجه إلى كتاب مصر عامة، وإلى العلامة الدكتور زكي بصفة خاصة بأنهم يستعملون كلمة (شرقي) بدلاً من (عربي)، والبلاد الشرقية الشقيقة بدلاً من البلاد العربية الشقيقة، فكأن الصلة التي تربطهم بأبناء العروبة هي أنهم جميعاً شرقيون فحسب. هذه نقطة دقيقة طالما أثارها محبو مصر في البلاد العربية، وطالما خجلنا منها ونحن بين ظهرانيهم. فهل الدكتور زكي مبارك مستعد منذ الآن أن يستعمل كلمة عربي بدلاً من شرقي وعربية بدلاً من شرقية، فإنه ملوم بخاصة لخبرته بالبلاد العربية وتمتعه فيها بشهرة طيبة.
وهاك عتاباً آخر لا أوجه في هذه المرة إلى الدكتور زكي مبارك، فقد أدى ما عليه وزيادة، ولكن أوجه إلى كتاب مصر وإلى جمهرة القراء بها: يلوموننا في البلاد العربية لعزلتنا الأدبية، واعتزازنا بثقافتنا، وعدم إقبالنا على ما تنتجه المطابع العربية، وينشئه أو ينظمه حملة الأقلام بها. وهذا عتاب لعمر الحق في محله، ولقد كانت خطوة موفقة وسعياً محموداً ما قررته وزارة المعارف المصرية من دراسة الأدب العربي الحديث في الأقطار العربية على بعض الأساتذة، ولا عجب، فالدكتور هيكل باشا جد عليم بشعور أبناء العروبة في هذه الناحية، وهو خبير بما عندهم من أدب رفيع وخيال خصب وإنتاج طيب قلت: إن الدكتور(431/32)
زكي مبارك قد أدى ما عليه في هذا الميدان، إذ كتب عدة مقالات في (الرسالة الغراء) عن الأدب العراقي، تعد مقدمة طيبة لدراسة عميقة مستوفاة. أما الأدب السوري - بما في ذلك السوري واللبناني - فسآخذ على نفسي عهداً بدراسته على صفحات (الرسالة) إن شاء الله حينما أفرغ من هذا النداء الذي يعبر عن عواطف أبناء العرب وشعورهم حيال مصر العزيزة.
(للحديث بقية)
عمر الدسوقي
وكيل كلية المقاصد الإسلامية ببيروت(431/33)
حول المسابقة على الثانوي
للأستاذ سيد قطب
قرأت في عدد الرسالة الأخيرة ما كتبه الدكتور زكي مبارك خاصاً بمذكرة (الستة) المقدمة إلى وزارة المعارف لإعفاء (أشخاصهم) من التقدم إلى امتحان المسابقة. حسبما روى الدكتور والعهدة عليه فيما رواه.
ولا أحب أن أتحدث عن امتياز هؤلاء الستة - في صدد الحديث عن هذه المسابقة - فتلك مسألة تافهة لا يجوز لها أن تتدخل في تقرير مبدأ من المبادئ العامة كمبدأ امتحان النقل إلى المدارس الثانوية.
ولكني أحب أن أتناول تناولاً موضوعياً، فأذكر أنني تقدمت في العام الماضي بمذكرة لحضرات كبار المسؤولين في الوزارة خاصة بموضوع اليوم، لا أرى ضرراً من تلخيصها هنا والزيادة عليها بما جد لي من الرأي حولها، ولا أجد حرجاً في التصريح بأنها لقيت اقتناعاً بالأسس التي تضمنتها.
لم أحاول أن أنكر مبدأ المسابقة في ذاته، فقد يكون أسلم المبادئ لتحقيق العدالة وإبراز المواهب، والحد من المحسوبية والتحرر من ضغط الصلات الشخصية بين الرؤساء والمرءوسين سواء كانت طيبة أم رديئة.
ولكني أنكرت شكل المسابقة وقواعدها الحالية ونتائجها العملية، ووجوه إنكاري لها هي هذه:
أولاً: أن المسابقة تتجه اتجاهاً خاطئاً إلى اختبار محفوظات المدرسين وتحصيلهم العلمي، دون أن تتجه إلى اختبار ثقافاتهم وعقلياتهم ونمو شخصياتهم من جميع نواحيها.
ووجه الخطأ في هذا الاتجاه أنه تثبيت وتوكيد (لعقلية الامتحانات) التي نشكو منها بالقياس إلى التلاميذ، ونعمل على التحرر من قيودها، بانتهاج طرق (المدارس الناهضة) وطرق التربية الحديثة التي اهتدى إليها المربون في القرن الأخير فامتحان المسابقة في شكله الحاضر نكسة للعقلية التعليمية تضمن للعقلية القديمة والاستمرار فترة أخرى أطول مما كان مقدراً لها بعد النهضة الحديثة.
فكان هذا الشر يجد مبرراً لو أن الوزارة قبل وضع المسابقة هذا الوضع قد قامت(431/34)
بإحصائية من تقريرات حضرات المفتشين المختصين عن خمس سنوات أو عشر أو بأية وسيلة أخرى. فتبين لها أن أغلبية المدرسين أو عدد كبير منهم ضعفاء في المادة العلمية وحينئذ تتجه اتجاهاً معقولاً إلى تقوية التحصيل في أوساط المدرسين.
ولكنها لم تقم في هذا الإحصاء، والظواهر جميعها لا تشير إلى ضعف الأساتذة في مادتهم العلمية، وإن كانت هناك في بعض الحالات نواح من الضعف في الثقافة العامة وفي مسايرة المجتمع والعالم في خطواته وفي نمو الشخصيات المطرد في أوساط المدرسين منشأها مراعاة الأقدمية وحدها في النقل إلى المدارس الثانوية، وتسرب المحسوبية إلى المدارس على حساب الكفايات العلمية كذلك!!
ثانياً: أن المسابقة في وضعها الحاضر لا تضمن النمو المطرد في ثقافات الناجحين وشخصياتها، طالما أنها لم تعن بهذه الناحية أية عناية. وليس ما يمنع هؤلاء أن ينسوا هذه المعلومات التي حفظوها بعد نجاحهم ووصولهم إلى ما يبتغون من النقل إلى التعليم الثانوي، كما يصنع التلاميذ الذين نحشو أدمغتهم حشواً بالمعلومات على طريقة المسابقة سواء بسواء!
ولو أن المسابقة وجهت همها إلى اختبار الثقافة والعقلية والتأكد من نمو الشخصية لضمنت استمرار صلاحية المدرسين فالشخصية النامية لا تتغير بل يزيدها الزمن نمواً وثقافة، ولأن حوافزها إلى المعرفة والاطلاع حوافز شخصية قد تذكيها المسابقة ولكنها أصيلة على كل حال.
وأصحاب هذه الشخصية هم الذين تضمن بهم رقى الثقافة ونهوض التعليم في المدارس الثانوية وسواها، ونضمن ألا ينتكسوا بعد اجتيازهم حوافز السباق!
وقد كان يصح للستة الذين روى عنهم الدكتور زكي، أن يستندوا إلى مثل هذا الرأي فيعدوا اشتغالهم بالتأليف والتحقيق العلمي قبل المسابقة دليلاً على أصالة هذه الحوافز في نفوسهم وضمانتها لصلاحيتهم؛ لولا أنهم آثروا أن تستهويهم هالات موهومة حول شخصياتهم الكريمة!
ثالثاً: أن النتائج العملية للمسابقة - على فرض أنها ستؤدي إلى اختيار أصلح العناصر - تؤدي في الوقت ذاته إلى نتيجة سيئة على التعليم الابتدائي الحكومي والتعليمين الابتدائي(431/35)
والثانوي في المدارس الحرة.
وتفصيل ذلك أنها تستنفد بالتدريج كل العناصر الصالحة في المدارس الابتدائية الأميرية والثانوية الحرة - أولئك الذين ينجحون في المسابقة - فتعنيهم الوزارة في مدارسها أو تنقلهم إلى التعليم الثانوي. ولا يبقى بعد هؤلاء إلا العاجزون - فرضاً - عن النجاح؛ فينحط مستوى التعليم الابتدائي عامة ومستوى التعليم في المدارس الحرة التي تنهض بعبء كبير في ميدان التعليم.
هذا كله من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المدرس الذي يشغل وقته بتحصيل ما في هذه الكتب المطولة الكثيرة العدد، لا يستطيع أن ينهض بواجبه في خلال العام المدرسي لتلاميذه وقد يرسب فيعاود الكرة في عام آخر. والتلاميذ هم الذين يؤدون ثمن الاستذكار الدائم لمعلومات متفرقة لا يزيد تحصيلها شيئاً في مقدرة المدرس الثقافية في جميع الأحوال. ولا في مقدرته العلمية في كثير من الأحول.
هذه العيوب الأساسية في نظام المسابقة الحاضر يمكن التفادي منها بأتباع قواعد أخرى:
أولاً: أن تتجه المسابقة إلى اختبار ثقافة المدرس ونموها الدائم واختبار عقليته في الوقت ذاته. وهذا الاتجاه يقتضي أن يكون الأساس الأول للاختبار رسالة علمية أو أدبية في علوم اللغة العربية وآدابها القديمة أو الحديثة، يناقش صاحبها فتبين مقدرته وتقاس ثقافته وعقليته. ولا ضرر - إذا لم يكن بد من قياس التحصيل - أن يتبع نظام (التعيين) الأزهري القديم في بعض المواد لمعرفة المعلم على التحصيل والاطلاع في مختلف المؤلفات.
ثانياً: أن يمنح الناجح في هذه المسابقة درجة علمية تبرز الجهد المبذول فيها تقابلها درجة مادية تحفز الهمة وتقوي العزيمة. ويمكن الاستدلال من رسالته على الناحية التي يبرز فيها فتستغل خير مواهبه في تدريس هذه الناحية ولا سيما في الفرق الثانوية المتقدمة!
ثالثاً: ألا تكون نتيجة النجاح الحتمية هي النقل إلى التعليم الثانوي. وأقول النقل لا كما تسميه وزارة المعارف ترقية، فهذه الترقية لا وجود لها. بل توزع هذه الكفايات بعد منح أصحابها الدرجة العلمية والدرجة المادية على كل فروع التعليم. فتتوازن خطواته وتتعادل دعاماته. وليس التعليم الثانوي بأجدر من التعليم الابتدائي بالعناية والكفايات العلمية.(431/36)
رابعاً: أن تنظم الوزارة في العطلات الصيفية محاضرات عامة للمدرسين، وتجعل لنسبة الحضور فيها وزناً في المسابقة وفي نظرتها لهؤلاء الأساتذة. ونظام المناطق يسهل على الوزارة هذا الأمر ويقسم جماعات المدرسين على المناطق وييسر إلقاء المحاضرات في كل منطقة.
وتلك مادة دائمة للثقافة المتجددة يجب أن ينال المدرسون نصيبهم منها وهم أجدر طوائف الأمة بها. وهي ضمانة أكيدة لاستمرار الثقافة وتجددها.
بقيت مسألتان على هامش ما كتب الدكتور زكي مبارك، أمر بهما كارهاً في هذا المجال أولاهما: تلك الطعنة التي وجهها الستة الكرام - إذا صح ما روى عنهم - إلى ألف ومائتين من الزملاء، اختصوا أنفسهم دونهم بما زعموه من امتياز، ليس هذا مكان مناقشته وامتحانه.
2 - انزلاق الدكتور زكي مبارك - وهو يؤيد المسابقة - إلى غمزات لا تليق، كقوله:
(وقد أجريت المسابقة بين المدرسين في الأعوام الأخيرة، فكانت فرصة لمراجعات نحوية وصرفية وبلاغية وأدبية، (غفل عنها أكثر مدرسي اللغة العربية).
فالواقع - كما قلت - أن هذه المراجعات لا قيمة لها، وأن ما له قيمة لم يغفل عنه أحد، أو على الأقل لم تقم الوزارة بالإحصائية التي تؤيد هذا الزعم، والأساتذة في المدارس لا يجوز التجني عليهم إلا بعد تثبت وتحقيق.
أما غمزاته لأعضاء اللجان، فذلك شأنه الخاص، ولعل نقائص هذه اللجان كلها تنتفي عنها لو أتيح له أن يكون عضواً فيها، وذلك مطلب لا أدري، أقريب هو أم بعيد على الدكتور؟
(حلوان)
سيد قطب(431/37)
من بحوث مؤتمر التعليم
التعليم الأولي والإلزامي
للأستاذ مصطفى شكري بك
المراقب العام للتعليم الأولي
(أستهل الأستاذ مصطفى بك شكري المراقب العام للتعليم الأولي تقريره عن هذا التعليم ببيان مدى اهتمام الدول المختلفة به وما خصته به من اعتمادات كبيرة، وتدرج من ذلك إلى ضرورة العناية به في مصر والعمل على ترقيته).
مراحل التعليم الأولي
أستطرد التقرير فذكر المراحل المختلفة التي مر بها هذا النوع من التعليم في مصر منذ تولت أموره وزارة المعارف وهي ثلاث مراحل: أولها مرحلة الكتاتيب التي انحصرت مهمتها في تحفيظ القرآن وتعليم القراءة والكتابة، ثم المرحلة الثانية التي صدر فيها قانون مجالس المديريات، وأباح لها إنشاء المدارس الأولية؛ وفي نفس هذا العصر قامت الوزارة بإنشاء مدارس المعلمين والمعلمات الأولية.
ثم ذكر المرحلة الثالثة وهي التي بدأت بصدور الدستور عام 1923، وما جاء فيه من أن التعليم الأولي إلزامي ومجاني بالمكاتب العامة، وما تلا ذلك من إنشاء 127 مدرسة أولية سميت (مدارس المشروع)، وكانت مجانية، والدراسة فيها طوال اليوم، وكانت كالمدارس القديمة مع اهتمام يجعلها في أمكنة جديدة، وتأثيثها تأثيثاً حسناً.
وبعد ذلك قامت الوزارة باستعراض جميع النظم التي سبق التفكير فيها لتعميم التعليم الأولي، وعدلت خطتها في تعميم هذا التعليم تعديلاً أساسياً، وقررت مشروع التعليم الإلزامي الحالي على أساس أن نحو خمسة آلاف من المكاتب العامة تكفي لتعليم الأطفال من سن 7 إلى سن 12، باعتبار أن اليوم المدرسي نصف نهار، لتستعمل غرف الدراسة لطائفتين من الأطفال قبل الظهر وبعده، وأن نفقات المعلمين تخفض إلى أدنى حد ممكن، وقد قدرت نفقات هذا المشروع بما لا يتجاوز ثلاثة ملايين من الجنيهات، ووزعت نفقاته على 23 سنة (من سنة 1925 إلى سنة 1948)، على أن تقوم الوزارة كل سنة بإنشاء(431/38)
عدد معين من المكاتب وتحول مدارسها القديمة ومدارس المشروع بالتدريج إلى النظام الجديد (نصف اليوم)، على أن تتحمل الوزارة نفقات إعداد المعلمين ومرتباتهم ومرتبات الخدم وثمن الكتب والأدوات ونفقات التفتيش زيادة على نفقات ما ينشأ من هذه المكاتب في المحافظات. وتتحمل مجالس المديريات نفقات الأماكن وأعدادها، وكذلك الأثاث، وتتولى إدارة هذه المكاتب لجنة فنية تسمى: (لجنة التعليم الإلزامي) مكونة من بعض أعضاء المجالس وبعض موظفين يمثلون الوزارة.
ولما صدر قانون التعليم الأولي لسنة 1933، بدأت الوزارة بتحويل جميع مدارسها (عدا مدارس البنات في المحافظات)، إلى نظام التعليم الإلزامي، وأشارت على مجالس المديريات بأن تنحو هذا النحو في مدارسها. وقد أدى التوسع في التعليم وانتشاره إلى عجز ميزانيات المجالس عن تحمل نصيبها من النفقات، فاضطرت الوزارة إلى أن تتحمل هذه النفقات.
وفي أكتوبر سنة 1934 أنشأت الوزارة في الأقاليم 720 مكتباً عاماً. وقد نص قانون التعليم الأولي بأن تتكفل مجالس المديريات بالتعليم الأولي في المديريات، وتتكفل به وزارة المعارف في المحافظات.
وفي سنة 1935 لاحظت الوزارة أن نظام المكاتب العامة لا يؤهل من يرغبون في التعليم الابتدائي للحاق بمدارسه في سن مبكرة، وأن رياض الأطفال غير كافية لتحقيق هذا الغرض؛ فأعادت إنشاء مدارس اليوم الكامل وجعلت التعليم فيها بالمصروفات، ووضعت لها خطة خاصة تخالف خطة المكاتب العامة وأباحت قبول الأطفال في سن الخامسة.
وقد بدأ تنفيذ القانون المشار إليه في نوفمبر سنة 1936، ثم صدرت لائحة تنفيذية لذلك القانون في نوفمبر سنة 1940.
وهي وإن كانت قد وسعت نطاق إشراف وزارة المعارف على التعليم الأولي بالأقاليم - إلا أنها لا تكفل تنظيم التعليم التنظيم الواجب - ولا تمكن الوزارة من النهوض به إلى المستوى الذي تنشده.
اقتراحات المراقب لإدارة التعليم الأولي والإلزامي
تم ذكر التقرير جملة اقتراحات قدمها الأستاذ المراقب لما يجب أن تكون عليه إدارة التعليم(431/39)
الأولي وهي:
1 - أن تتولى وزارة المعارف دون غيرها أمر الإشراف الفني والصحي والإداري على التعليم الأولي والإلزامي في جميع أنحاء المملكة، وأن يكون الإنفاق عليه من خزانة الدولة وفق الميزانية التي تضعها الوزارة على أن تضم النسبة المخصصة للتعليم الأولي بميزانيات مجالس المديريات إلى خزينة الدولة.
2 - تنظيم المراقبة العامة للتعليم الأولي تنظيماً يتفق مع أهمية هذا النوع من التعليم حتى تتمكن من مواجهة حركة الإصلاح بخطى ثابتة حاسمة.
3 - يلغى النظام الحالي لمديري التعليم ونظام تفتيش المناطق للتعليم الأولي وتستبدل به وظيفة (مدير التعليم الأولي) بكل مديرية ومحافظة على أن تتبع مراقب المنطقة التعليمية. ويشرف هذا الموظف على سير التعليم الأولي والإلزامي وعلى تنفيذ الإلزام وفقاً لحاجة كل مديرية أو محافظة، ويتبع كل مدير تعليم هيئة تفتيش لإرشاد رؤساء ومعلمي المدارس والمكاتب العامة على أن يشجع المبرزون منهم بإفساح مجال الرقى لهم.
4 - تنظيم هيئة التفتيش الصحي على التلاميذ.
5 - إنشاء هيئة إدارية تخصص بكل منطقة لإنجاز الأعمال على وجه السرعة.
ثم أشار التقرير إلى ما يجب أن يكون عليه الغرض من التعليم الإلزامي وهو تثقيف الطفل تثقيفاً عاماً إلى جانب محو الأمية، على ألا يكون التثقيف سطحياً، بل مؤسساً على دعائم ثابتة متينة.
ويرى المرقب أن تبقى سن التلميذ كما هي الآن، أي بين 7 سنوات و12 سنة على أن تكون المكاتب على نظام اليوم الكامل، وأن تكون مدة التعليم 5 سنوات.
نشر التعليم الإلزامي
دنت الإحصاءات على أن نسبة الأطفال المقيدين بالمدارس الأولية والمكاتب العامة تتراوح بين ثلث ونصف الذين في سن الإلزام، وإذا سلمنا جدلاً بإمكان إعداد العدد اللازم من المعلمين والمعلمات لتعميم التعليم فإن تدبير الأماكن الصحية المناسبة وإعداد الأثاث والأدوات للتلاميذ ليس بالأمر الهين كما أن انتزاع هذا العدد من الأطفال من حياتهم اليومية مدعاة لتذمر الأهلين وهم لم يؤمنوا بعد بفوائد التعليم. ويرى التقرير - كأجراء تمهيدي -(431/40)
أن يقتصر التوسع في تعليم الأطفال الذين في سن الإلزام على المدن المتوسطة التي ازدهرت فيها بعض الصناعات. أما فيما يختص بالمحافظات والمدن الكبيرة فإن الحالة تستمر فيها كما هي الآن حيث الإقبال على التعليم فيها مكفول بطبيعة الحال، وأما فيما يختص بالقرى فإن التوسع فيها يكون بالتدريج.
وتقدر مدة تعميم التعليم الإلزامي على هذا الأساس بما لا يقل عن 15 سنة.
مناهج الدراسة
وذكر التقرير جملة مقترحات لإكمال ما في مناهج الدراسة الحالية من نقص وهي تتلخص في جعلها مرنة حتى تناسب البيئة التي بها المدرسة وحذف بعض الموضوعات التي لا تتناسب وإدراك التلاميذ ووجوب الاهتمام بتدريس الأشغال اليدوية والتدبير المنزلي كما يرى تعين بعض مدرسات رياض الأطفال في المدارس الأولية للبنات.
نظام نصف اليوم
وانتقد تقرير نظام نصف اليوم ونادى بضرورة إعادة نظام اليوم الكامل لجملة أسباب: منها أن المقصود من التعليم الأولي هو إعداد الناشئين إعداداً حسناً لا أن يكون تعليمهم سطحياً وإلا كان في ذلك إسراف دون فائدة. ثم أن نظام اليوم الكامل يؤدي إلى مواظبة التلاميذ وخصوصاً في القرى وبذا تقل قيمة ما يتكلفه الواحد منهم في المتوسط.
وزيادة على ذلك فإن المنهج الحالي هو الحد الأدنى لما يجب أن يتلقاه التلميذ، ولا يمكن تلقينه له في أقل من خمس سنوات كاملة، كما أن هذا النظام ييسر أداء كل من التلميذ والمعلم لعمله ويدفع التلميذ إلى الإقبال على المكتب ويحببه فيه. ويرد التقرير على ما يمكن أن يوجه من اعتراض على نظام اليوم الكامل بأنه يباعد بين التلميذ والعمل في الحقل أو المصنع فخلص بأن ذلك وإن كان صحيحاً في القرى الزراعية إلا أنه ليس كذلك في الجهات الصناعية لأن الصغير لا يصلح للأعمال الصناعية في مثل هذه السن المبكرة.
إعداد المدرسين ورفع مستواهم
وختم المراقب تقريره بذكر حالة المدرسين وسوء إعدادهم لوظائفهم وضآلة مرتباتهم التي تتراوح بين ثلاثة وستة جنيهات مما يؤثر في حالتهم المعنوية وإقبالهم على عملهم.(431/41)
واقترح أن يرفع مستوى مدرسي الإلزام وزيادة ثقافتهم العلمية، وذلك أثناء إعدادهم في مدارس المعلمين والمعلمات الأولية، كما يجب الاهتمام برفع مستوى المدرسين الحاليين بإرشادهم، والنهوض بهم علمياً وفنياً واجتماعياً، كما نادى بوجوب تأمين المدرس على حالته ومستقبله، حتى يعلم أن ترقيته لن تكون إلا نتيجة اجتهاد فقط، كما يجب تخفيض عدد الدروس التي يكلف بها كل مدرس، حتى لا تتجاوز 34 درساً، وهي الآن 46 درساً في المتوسط، كما رأى ضرورة مرتباتهم، حتى يليق بعملهم وتوازي ما يبذلونه من مجهود شاق.(431/42)
8 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الأول
هناك عادة أخرى لا تختلف كثيراً عن عادة الخضاب شائعة بين نساء الدهماء في مدن الريف وقراه، وفي العاصمة بدرجة أقل: تلك هي عادة الوشم (الدق)، يكون في الوجه وغيره أو على الأقل أعلى الذقن وظهر اليد اليمنى، واليسرى أحياناً، وعلى الذراع اليمنى أو الذراعين معاً، وفي القدم، ووسط الصدر، والجبهة، وأغلب علامات الذقن والكفين شيوعاً بينها الشكل 22. وطريقة الوشم أن يوخز الجلد بمجموعة من الإبر تكون سبعاً في العادة على الشكل المراد رسمه، ثم يدلك الموضع بمزيج من سناج الخشب أو الزيت ومن لبن امرأة. ثم بعد أسبوع، قبل أن يبرأ الجرح، يوضع عليه معجون من أوراق السلق الطازجة أو البرسيم فيكسبه لوناً أزرق أو مشرباً بالخضرة؛ أو بدلاً من ذلك يدعك مكان الإبر بالنيلج. وتوشم الأعضاء عادة في سن الخامسة أو السادسة وتقوم بعمله نساء النور. ويلاحظ أن أغلب نساء الصعيد الأقصى وهن يمتزن بلونهن القاتم يشمن الشفاه ليكسبن أسنانهن بريقاً. إلا أن ذلك يشرب لونهن القاتم زرقة لا يقبلها الذوق الأوربي.
ومن مميزات المصرية الواجب ذكرها قوامها الممشوق ومشيتها الجميلة. وهذه الصفة تشاهد خصوصاً في الفلاحة. ولا شك أن سبب ذلك ما تحمله على رأسها من جرار الماء وغيرها من الأثقال.
أما ملابس نساء الطبقتين الوسطى والعليا فتمتاز بجمال نسيجها وأناقة زيها (الشكل 23) وقميص المرأة كقميص الرجل فضفاض، ولكنه قصير فلا يكاد يصل إلى الركبتين. وهو أيضاً من النسيج نفسه، أو من الكريب أسود أو غير أسود. أما السراويل، وتسمى (شنتيان)(431/43)
فهي واسعة، وتكون من الحرير أو القطن المفوّف أو المطبوع أو المطرز أو من الأبيض الواحد الشكل. وتشد بتكة حول الوركين تحت القميص أما أطرافها السفلي فتشد إلى أعلى وتربط تحت الركبتين تماماً، إلا أن طولها يهبط بها حتى القدمين وغالباً إلى الأرض. ويلبس فوق القميص والشنتيان سترة طويلة تسمى (يلك) من نسيج الشنتيان، تشبه القفطان، ولكنها أكثر التصاقاً بالجسم والذراعين، وأكمامها أطول. واليلك له أزرار تشده إلى الجسم، من الصدر إلى ما تحت الحزام حتى لا يتهدل، كما هو الحال في القفطان. وهو مشقوق الجانبين من أعلى الورك إلى أسفل، ويشق عادة بحيث يكشف عن نصف الصدر لولا القميص. ولذلك كان الكثير من النساء يرتدين قميصاً واسع الصدر. ولا بد أن يكون اليلك طبقاً لأحسن الأزياء ضافياً حتى الأرض أو يكون له ذيل قصير.
وقد يستبدل به صدرة قصيرة تسمى (عنتري) تصل إلى ما تحت الوسط بقليل وتشبه اليلك المقطوع الأسفل. وبمنطق الوسط بشال مربع أو بمنديل مطرز يطوي منحرفاً ويربط في استرخاء ويتدلى طرفاه خلف الظهر. وقد يطوي طبقاً للزي التركي، مثل حزام الرجال، وإنما يكون أكثر استرخاء. وتوضع فوق اليلك جبة من الجوخ أو المخمل أو الحرير مطرزة بالذهب أو الحرير الملون. وهي تختلف عن جبة الرجال بعدم سعتها، وبالأخص في مقدمتها؛ وتكون بطول اليلك. وكثيراً ما يستعمل بدلها سترة تسمى (سلْطة) من الجوخ أو المخمل مطرزة على غرار الجبة. ويتكون غطاء الرأس من طاقية وطربوش ثم منديل مربع يسمى (فارودية) من الموصلي الموشي أو المطبوع، أو من الكريب، يلف حولهما بقوة ويسمى هذا (رْبطة). وكانت هذه المناديل تستعمل منذ قريب، ولا زالت تستعمل أحياناً لربط عمائم النساء التي تكون مرتفعة مستوية بخلاف عمائم الرجال. وهناك نوع من التيجان يسمى (قرصاً). وبعض الحلي الأخرى توضع على غطاء الرأس. وقد ألحقت بهذا الكتاب فصلاً خاصاً بحلي النساء وصفها وصورها. وهناك أيضاً (الطرحة) وهي قطعة طويلة من الموصلي الأبيض محبوكة الطرفين بالحرير الملون والذهب، أو من الكريب الملون المرصع بأسلاك الذهب وصفائح ذهبية كفلوس السمك (ترتر)، تطرح فوق الرأس وتتدلى على الظهر حتى تكاد تداني الأرض أحياناً.
أما الشعر، فيضفر ضفائر، من إحدى عشرة ضفيرة إلى خمس وعشرين عادة، على أن(431/44)
يكون العدد فردياً؛ ويضاف إلى كل جديلة ثلاثة خيوط من الخيوط، يعلق بها قطع ذهبية صغيرة تسمى:
(صفا) وهي موصوفة في ملحق للكتاب.
ويقص الشعر فوق الجبهة وتتدلى منه على الصدغين خصلتان غزيرتان حلقاً أو جدائل والقليل من سيدات مصر يلبسن الجوارب، غير أن أكثرهن ينتعلن المز (أي الحذاء الداخلي) وهو من الجلد المراكشي الأصفر أو الأحمر المطرز بالذهب أحياناً. وينتعلن بابوجاً من الجلد المراكشي الأصفر، مرتفع الطرف الأمامي مدببة، عندما يمشين على البسط والحصر، أو يستعملن قبقاباً يعلو إلى تسع بوصات ولا يقل عن أربع، ويزين بالصدف أو بالفضة. . . الخ؛ والقباب يستعمله الرجال والنساء في الحمام دائما، ولا يستعمله النساء في المنزل؛ إلا أن بعضهن ينتعلنه حتى لا يسحبن ذيل الثوب على الأرض، وبعضهن يتخذنه ليبدون طويلات. . .
تلك هي ملابس السيدات داخل المنزل؛ أما ثياب الخروج، فتسمى (تزييرة)؛ فالسيدات كلما يخرجن من المنزل يتدثرن
- علاوة على الملابس السابق وصفها - بدثار كبير فضفاض ضاف (يسمى (توب) أو (سبلة)، يكاد عرض كميْه يعادل طوله، ويكون من الحرير الوردي أو البنفسجي؛ ثم يضمن بعد ذلك (البرقع) - أي غطاء الوجه - وهو عبارة عن قطعة طويلة من الموصلي الأبيض تحجب الوجه كله ما عدا العينين، وتسقط حتى القدمين. ويشد البرقع إلى الرأس بشريط ضيق يمر على الجبهة، ويخاط مع طرفي النقاب الأعليين بعصابة تلف حول الرأس، ثم يرتدين (الحبرَة). وحبرة السيدة المتزوجة تتكون من نسجين من الحرير الأسود اللامع، ويوجد في أعلى الحبرة من الداخل - على بعد ست بوصات من طرفها - رباط ضيق من الحرير الأسود يربط حول الرأس. ويبين الشكل رقم 25 طريقة لبسها. إلا أن البعض يقلدن تركيات مصر فيضممن مقدم الحبرة، بحيث تخفى الملابس كلها ما عدا جزءاً من النقاب يعلو اليدين. أما غير المتزوجات فيرتدين حبرة من الحرير الأبيض أو شالاً. وبعض نساء الطبقات الوسطى لا يستطعن اقتناء الحبرة فيلبس عوضاً عنها (إذاراً) - وهو قطعة بيضاء من نسيج القطن على شكل الحبرة ويلبس مثلها. أما الحذاء، فهو (خف) من(431/45)
الجلد الأصفر يدخل في بابوج.
وثياب الخروج متعبة مربكة عند المشي، وهي وأن كانت محتملة لدى سيدات الطبقة الراقية اللائي قلما يشاهدن راجلات، فقد يرتديها غيرهن ممن لا يملكن أجرة الركوب. وإعداد هذه الملابس لإخفاء زينة المرأة وكل ما فيها من جاذبية أو ملاحة لا عيب فيه، إذا أن الثوب ذاته يعوزه الكثير من الأناقة. إلا أن هناك اعتباراً يقتضينا أن نلاحظ عدم ملاءمة هذه الثياب لغرضها الأصلي، وهو أن العيون التي تكاد تكون دائماً جميلة يزيدها جمالاً حجب تقاطيع الوجه التي يندر أن يبلغ جمالها جمال العين؛ ثم إنها تجعل الأجنبي يتصور الوجه الجذاب وجهاً معيباً دميماً لاختفائه وراء القناع. ويرجع استعمال النقاب إلى قديم الزمن، غير أن الظاهر من نقوش الفراعنة ورسومهم أن المصريات في ذلك العهد كن سافرات، ولكنهن في الوقت الحاضر - حتى الخادمات منهن - يتخذن من فضل طرحتهن قناعاً يخفين وراءه الوجه، إلا عيناً واحدة، كلما وجدن في حضرة رجال العائلة التي يخدمنها.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(431/46)
غَاِليَةُ. . . فِي لُبْنَانُ
للأستاذ أنور العطار
أَتَدْرِينَ أَنَّكِ أَحْلاَمِيَهْ ... وأَنكِ أَعذَبُ أَنْغَاِميهْ
وأَنَّ خَيالَكِ في خَاطِرِي ... يَرِفُ كَزَنْبقَةٍ نَادِيهْ
َوأنكِ أشْعَارِيَ الهاجِساتُ ... بنفْسِيَ في العُزْلَةِ الْقَاسِيهْ
ذَكَرْتكِ والقلْبُ نهْبُ الفُتُونِ ... رَهِينُ الرُّوَى الُحلوَةِ الوَافِيهْ
و (لُبناَنُ) يسَبحُ في نَشوةٍ ... مِنَ السحرِ وُالحبَّ وَالْعَافيِهْ
تَوَشحَ بِالْعَبَقِ الُمْسَتطَابِ ... وَغلْغَل في الْبَهجةِ الضَّافِيهْ
وَناَم على شُرُفاتِ الْغَمامِ ... وَطاَفتْ بهِ الخُضرةُ الحَاليهْ
تَناَثُر فَوْقَ الرَّوابي قُرَاهُ ... كَمَا تَتَناثَرُ آمَالِيهْ
عَلَى كلَّ مَائِسَةٍ صَادِحٌ ... وَفي كُلَّ وَارِفةٍ شَادِيهْ
وتَصُغِي الوِهادُ إلى قِصَّةٍ ... منَ اُلحْبَّ تَسْرُها السَّاقيهْ
وقَدْ أنصَتَ الكَوْنُ الإصَدى ... يُرَدَدُ أنشُودَةَ الرَّاعِيهْ
تَطَلَّعُ في زَهْوِها الرَّاسيِاتُ ... حنِيناً إلى عَوْدةِ الثّاغِيَهْ
وَنمَّ على الدَّرْبِ سِحْرُ الغِناءِ ... فأغْفى على النَّغْمةِ الشَّاجِيهْ
وَظلَ المَساءُ يَحُومُ عليهِ ... وَيرعَاهُ بِالمُقْلَةِ الرَّانيِهْ
وَفي خَلْوةِ الوَادِ نَبْعٌ حَبِيبٌ ... يُهدْهدُ أوْجاعَهُ الْبَاكِيهْ
كَمأنَّ على النَّبعِ قيثاَرةً ... تنُوحُ مُلوَّعةً شاكِيهْ
و (بَيرُوتُ) نائمةٌ في السفُوح ... تُتّمُ أحْلامَها الزّاهيِهْ
تَرامَتْ على الْبحْرِ مأخُوذةً ... تُناجِيهِ حَاِنَيةً صَابِيهْ
قَصائِدُ حَافِلةٌ بالطُّيُوبِ ... يَموجُ بِها السّهلُ والرّابيَهْ
تغَنّى اللّياليِ بألَحْانِهَا ... فتَغْرقُ في سَكرةٍ باَقيِهْ
رَأيتُكِ (لُبْنانِي) المُشتْهَى ... وَجَنتّهُ اللّذةَ الشّافِيهْ
وَأبْصْرتْ وَجهَكِ يَطْفوُ عَليْهِ ... وَيَغْمُر أرْجاَءهُ النَّائِيهْ
. . . فَغَابتْ مَسَارِحُهُ الْغَالِياتُ ... وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُكِ ياَ (غَالِيَهْ)(431/47)
(عاريا - لبنان)
أنور العطار(431/48)
أغنية البحيرة
(مهداة إلى ناظم (أغنية الجندول) وملحنها البارع)
للأديب حسن أحمد باكثير
إن رأيتِ الصبح يبدى لكِ سحره ... فاذكريني واذكري يوم البحيرهْ
يوم أقبلتِ وفي يمناكِ زهره ... قد حكت من وجهك الوضاح ثغره
ونسيم الصبحُ يهدى لكِ عطره ... والندى يكسو وجوه الزهر نضره
فعرتني - حينما سلْمتِ - حيره ... أأداري القلب أم أعلن سره؟
وأواري الحب أم أظهر أمره
أنتِ يا من وشحتْ بالزهر عمري ... وأضاءت بشعاع الطهر صدري
اذكريني واذكري يوم البحيرة
لم أعد أذكر إلا أن نظره ... أشعلت في قلبيَ الولهان جمره
وأطارت من حنايا الصدر زفره ... وأسالت من سواد العين عبره
وجَنَت للروح تهياماً وحسره ... يا لَسحر الحب! ما أفتك سحره!
يأسر القلب وما أعذب أسره! ... إن أكن أُنسيت ما أُنسيت ذكره
ليتني - إذ ذُقته - ما ذُقت مُرّه
أنتِ يا من وشحت بالورد عمري ... وأضاءت بشعاع الخلد صدري
اذكريني واذكري يوم البحيرة
واذكري إذ قلتُ: هذا اليوم غُره ... في جبين العمر فانشتفَّ بِشره
وانثري من ثغرك الفتان دُرّه ... وانشري من شعرك الوسنان عِطره
أو دعيني أرتشف من فيك خمره ... أو أقبلْ خدَّك الوردي مَره
فتصاممتِ كما لو كنتِ صخره ... وصرت في وجهكِ الأخاذ حُمره
طرباً أخفقتِ إذا حاولتِ ستره
أنت يا من عطَّرَت بالحب عمري ... وأضاءت بشعاع القلب صدري
اذكريني واذكري يوم البحيرة
واذكري الزورق إذ أوقفتُ سيره ... بعدما اجتاز بنا عرض البحيره(431/49)
فانتَحَيْناَ مجلساً تحت شُجيره ... مجلساً حُفَّ بماء وبخصره
وبأزهارٍ حباها الفجر طهره ... ومروج تلهم الشاعر شعره
فكسرنا عنده بالحب سكره ... لم تدم إلا كما تخطر خطره
آه لو عادت وعادت ألف مره
أنت يا من عطَّرّت بالحب عمري ... وأضاءت بشعاع القلب صدري
اذكريني واذكري يوم البحيرة
حسن احمد باكثير(431/50)
البَريُد الأدبي
جواب
وأجيب عن السؤال الثاني بأن (الهناء) في (تاج اللغة وصحاح العربية) من صحاح اللسان العربيّ، دام الهناء للسائل الفاضل.
وحيد
هما لابن عبد ربه
سأل الأديب أحمد حسن علي شعيب في (العدد 429) عن مقطوعتين من الشعر نسبتا في اليتيمة إلى حبيب بن أحمد الأندلسي وعزاهما ابن عبد ربه إلى نفسه في (العقد). والذي نرجحه أنهما لابن عبد ربه، لأن الفتح بن خاقان ذكرهما مع شعر لا بن عبد ربه في ترجمته من (مطمح الأنفس) ص58، ولأنه عرف عن الثعالبي أنه ينسب شعراً إلى غير قائليه، وقد نبه على ذلك الأستاذ الصاوي في كتابه (المراجع العربية) عند الكلام على (يتيمة الدهر) وأورد أمثلة (ص45 و46) منها نسبته شعراً إلى سيف الدولة. قال ابن رشيق إنه لابن الرومي، وأبياتاً أخرى لسيف الدولة أيضاً.
قال ابن خلكان إنه رآها في ديوان عبد المحسن الصوري. بل إنه - أي الثعالبي - عزا مقطوعة لأبي المطاع الحمداني ذي القرنين، ثم نسبها بعينها إلى ابن طباطبا الرسي المصري، وهي تروى ليزيد بن معاوية وغيره، انظر ص32 المراجع العربية. وإنا لتحقيق الأستاذ النشاشيبى لمرتقبون.
أحمد صفوان
تحقيق في نسبة حديث
جاء في مقال غزوة حنين (العدد 417) من الرسالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخوارج: (أكفارهم أم منافقون)؟ فأجاب: (من الكفر فروا). لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراّ). فكتبت في العدد (422) أستبعد نسبة هذا الكلام إليه، وقطعت بأنه من كلام علي بن أبي طالب.(431/51)
فجاء الكاتب الفاضل صاحب المقال يسأل في العدد (423) عن المصدر الذي نسب هذا القول إلى علي، ويذكر أن مصدره هو: (السيرة الحلبية ج 3 ص140). ويقول في ختام كلمته: (ليس هناك ما يمنع صحة هذه النسبة إلى النبي على سبيل القطع)
فمن الخير أن نبين ما يمنع صحة هذه النسبة:
1 - كانت نشأة الخوارج بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من ربع قرن وعرفوا بهذا الاسم لخروجهم على علي في حرب صفين.
2 - إذا جعلنا صدور هذا الكلام عن النبي من باب الإخبار بالمغيبات اعترضنا أمران: الأول أن الأحاديث المأثورة في هذه الباب تذكر صفات عامة ولا تسمى أشخاصاً ولا فرقاً بأسمائها.
والثاني أن الصحابة الكرام لا علم لهم بالمغيبات، فكيف وقع إليهم اسم (الخوارج) حتى يسألوا عنه. ونحن نعرف أحاديث كثيرة يجعلها المحدثون في باب الكلام على الخوارج، إلا أنها جميعاً ليس فيها هذا الاسم؛ حتى أن ابن عمر وغيره كانوا إذا سئلوا عن الخوارج (بعد سنة 36هـ طبعاً) حدثوا هذه الأحاديث التي فيها صفات قد تنطبق عليهم باجتهاد الراوي. وانظر في ذلك ما جاء في كتب الحديث بدلالة (مفتاح كنوز السنة: الخوارج) في أكثر من عشرين موضعاً.
3 - هذا الكلام المنسوب إلى رسول الله، المنقول من السيرة الحلبية يناقض ما قبله وما بعده فيها من الأحاديث الصحيحة كل المناقضة: فبينا يورد صاحب هذه السيرة (140: 3) أحاديث في كفرهم ووجوب قتالهم نرى هذا الكلام ينفى عنهم الكفر والنفاق صراحة.
4 - لو صح عن النبي شيء فيهم بصراحة، ما وسع علياً أن يقول موصياً فيهم: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من صاحب الحق فأخطأ كمن طلب الباطل فأدركه)، ولو صح ذلك ما جاز لابن عباس أن يقول فيهم لعلي: (والله ما سيماهم بسيما المنافقين وإن بين أعينهم لأثر السجود وهم يتأولون)، وإنما المعقول أن يستشهدا بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ولو صح ذلك أيضاً لما جعلهم المحدثون (البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجدْ) ممن تنطبق عليهم أحاديث المروق اجتهاداً منهم. أما سندي في عزو هذا الكلام إلى صاحبه علي بن أبي طالب فهو العقد الفريد وقد سهوت فذكرت الخوارج في العدد(431/52)
(422) وإنما هو أصحاب الجمل وراى على في الخوارج هو نفسه في أصحاب الجمل على ما ذكرت لك آنفاً في وصيته فيهم. جاء في العقد الفريد: (ج 3 ص105 المطبعة الأزهرية) سنة 1928. سئل علي عن أصحاب الجمل: (أمشركون هم؟) فقال: (من الشرك فروا) قال: (فمنافقون؟) قال: (إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً) قال: (إخواننا بغوا علينا).
ولعل أطرف الأشياء وأعجبها السند الجديد الذي أظفرني به السائل. إن سندي في نفي هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم هو السند نفسه الذي أحتج به في نسبته إليه، وسأنقل الفقرة نفسها مع ما قبلها ليتبين الحق على وجهه. جاء في السيرة الحلبية (ج 3 ص120) ما نصه: (وقد قاتلهم (يعني الخوارج) علي كرم الله وجهه وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الخوارج (أهم كفار) فقال: (من الكفر فروا) فقيل: (أمنافقون؟) فقال: (إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله كثيراً) فقيل: (ما هم؟) فقال: أصابتهم فتنة فعموا وصموا) فلم يجعلهم صلى الله عليه وسلم كفاراً لأنهم تعلقوا بضرب من التأويل.
ألا يرى معي الكاتب الفاضل والقراء الكرام أن (صلى الله عليه وسلم) الواردة بعد (سئل) وبعد يجوز أن تكون (يجعلهم) خطأ من ناسخ أو طابع، وأن الكلام يستقيم بدونها ويتجه إلى الصواب، فيكون من كلام علي ويطابق ما جاء في المصادر الصحيحة كلها. وذلك من أغرب ما يوقع به سهو أو خطأ.
وسيبقى هذا خطأ حتى يثبت بطريق صحيح يشتبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(دمشق)
سعيد الأفغاني
حول نقد كليلة ودمنة
طالعت باهتمام ما كتبه الأستاذ عبد السلام هارون في نقد وتعليق على الطبعة الأخيرة لكتاب (كليلة ودمنة) وقد رأيت أن أعلق على تعليقه الثالث المنشور بعدد (الرسالة) رقم 428 على نقاط ثلاث لم يصحبه التوفيق فيها:
الأولى: (إذا جئتني بالليل من غير نداء ولا رمي، ولا شيء يرتاب به)؛ يتساءل الأستاذ(431/53)
بعدها بقوله: (فما ذلك الرمي؟) ويرجح أنها مصحفة (من الرمز)، والحقيقة أن كلمة (الرمي) صحيحة وملائمة، وليس هناك ما يحمل على العدول عنها، بل يوجد ما يوجب التمسك بها، فالرمي بحجر أو حصاة وسيلة معروفة من وسائل التنبيه عند القدامى والمحدثين وهو أدعى إلى الارتياب، ويفسر له ذلك ما روى في نوادر ابن أبي عتيق: (عبد الله ابن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) قيل: وتعشى عبد الله ليلة ومعه رجل من الأنصار، فوقع حجر الدار، ووقع آخر وثالث؛ فقال للجارية: اخرجي فانظري أذَّنوا المغرب أم لا؟ فخرجت وجاءت بعد ساعة وقالت: أذَّنوا وصلوا؛ فقال الرجل الذي كان عنده: أليس قد صلينا قبل أن تدخل الجارية!؟ قال: بلى، ولكن لو لم أرسلها تسأل عن ذلك لرُجمنا إلى الغداة أفهمت؟ قال: نعم قد فهمت!
وواضح من هذا أن صديقاً للجارية كان يدعوها بالرمي الثانية: (رأس الخنازير) و (سيد الخنازير)، يرجح الأستاذ أنها (رأس الخبّازين)؛ ولا أدري لمن يخبز هذا الخباز ومن الذي سيأكل خبزه من السباع الضاربة!؟ ويؤيد الأستاذ ظنه بأنه قد أشير إليه في بعض النسخ بعبارة (صاحب المائدة)
وهذا دليل لا يقدم ولا يؤخر، فما المانع من أن يكون (رأس الخنازير) هو (صاحب المائدة) في نفس الوقت، وهذا هو الواقع، وهو من دلائل الحبكة القصصية عند المؤلف، حيث جعل الأسد يأمر بعزله عن وظيفة القيام على مائدته بعد ما تحدث (دمنة) عن قذارته ودمامته، ولا أفهم كيف تدل كلمة (صاحب المائدة) على الِخبازة، ومائدة الأسد معروفة ألوانها؟ وقد التفت إلى ذلك الأستاذ المرصفي في طبعته المصورة فقال: (وسيد الخنازير هذا كان خادماً على مائدة الملك، كما يفهم مما بعد. . . الخ).
الثالثة: (وانقلبت ظهراً لبطن، وانجررت حتى دخلت جحري) ويسأل حضرته قائلاً: (فماذا جره حتى انجر؟ إنما هي: وانحدرت) ونحن نسأله على طريقته (ماذا قلبه حتى انقلب؟ وماذا حدره حتى انحدر؟)، فهذا الفعل المطاوع لا غبار عليه البتة، وأمثاله كُثْرٌ في اللغة، وهذا الفعل بالذات تقول عنه المعاجم: وقد جَرّت الإبل تجر جراً إذا رَعَتْ وهي تسير، أو الجرُّ أن تركب الناقة وتتركها ترعى، وقد جرها يجرها (كالانجرار) فيهما، وأنشد ابن الأعرابي:(431/54)
(إني على أَوْنِي وانجراري)
وهذه الأفعال المطاوعة - كانتشر وانكمش وانتقل - مطاوعة لعامل ذاتي لا لعامل خارجي، أي تتجاوب مع عاملٍ طبيعي فيها، فهو قد قلب نفسه فانقلب، وجر نفسه فانجر، وحدر نفسه فانحدر.
هذا ما وجدته حرياً بالتنبيه عليه حتى لا يتهم الأستاذ الفاضل بالتكلف أو التحامل. . . وأُعيذه منهما.
حسين منصور
حول كتاب (محمد فريد) أيضاً
في العدد 429 من الرسالة وفينا هذا الكتاب القيم حقه من التقدير، وأشرنا إلى أن المؤلف الفاضل قد تعقب زعيماً بعينه في مواضع لم يكن التعقب فيها حتماً عليه. وقد أنكر علينا أديب في العدد الماضي هذا القول وطالبنا بالمثال. ونحن نكتفي بأن ندله على الصفحات الآتية من الكتاب وهي صفحات: 188 و 260 و 355 و 356 و 388 و 412، فان فيها مقنعاً لمن يريد أن يقتنع.
لبيب السعيد
محنة التعليم
أخي الأستاذ علي عبد الله
قرأت في العدد 423 كلمتك في محنة التعليم الإلزامي، فلم أعجب للفوضى التي وصفتها فيه، والنظم الجائرة المطبقة عليه؛ ذلك لأن المصيبة عندنا في نظم التعليم وأساليبه ليست بأقل من مصيبتكم فيه إن لم أقل أشدو أفدح. أما العدل فلا عدل، أما التقدير فلا تقدير. ترى المعلم النشيط ذا الوجدان الطاهر يلقى دروسه على طلابه من الصباح إلى المساء، باذلا من الجهد ما يضنى جسمه، مجرباً كل الوسائل الممكنة لإفهام الطلاب تنشئة صالحة قويمة، وترى إلى جانبه المعلم الجاهل يقضي نهاره في راحة ودعة، لأنه فقد الضمير والوجدان. فماذا تجد؟
يحزنني والله أن أخبرك أن الأول مظلوم مهمل مغضوب عليه، وأن الآخر مرضى عنه(431/55)
حائز ثقة رؤسائه، يزيد مرتبه على مرتب ذاك زيادة قد تبلغ الضعف أحياناً. ولملك تستغرب هذا وتود أن تعلم السبب في ذلك:
هناك أسباب كثيرة أجدرها بالذكر أن الأول لا ينافق ولا يمارى، ولا يتملق أولى الأمر، وأن تقدير قيمة المعلم وقيمة عمله متوقف على تقارير المفتشين، ولا أكتمك أن في هؤلاء المفتشين من برع في الرياضيات والطبيعيات براعة فائقة، ولكنه لا يعرف من اللغة العربية إلا مبادئ لا تغنيه. ولو أن وزارة المعارف ولتهم تعليم ما اختصوا به لما عدت سبيل الحق، ولأفاد الناشئون منهم ومن علمهم.
وناحية أخرى، هي أن قيمة المعلم - لدى أولى الأمر - لا بعلمه وفضله، ولكن بما يحمل من شهادات! فكلما كانت شهادته أكثر كان أعلم وأفضل، وهذه طريقة لا نراها عادلة كل العدل - وعلى الأخص في دروس اللغة العربية.
وأنا مشفق بعد هذا - مثلك - من أن أذكر كل ما أعرف، فلا تحزن يا صاحبي، وليكفك أن وجدانك مستريح وان ثوابك غداً عند الله لا في هذه الدنيا.
(دمشق)
ناجي الطنطاوي(431/56)
العدد 432 - بتاريخ: 13 - 10 - 1941(/)
من أحاديث القهوة
- 3 -
حبسني عن ندامى (الكافورة) عوادٍ من الشغل والمرض فلم أعد إلى الأنس بهم إلا بعد حين. وهذا الحين على قصره كان كافياً أن يجعل الحال ويبدل الجو غير الجو
هذه طلائع الخريف الباكر قد هيمنت على الأفق: فالرياح السوافي تنوح على عذبات الشجر الوريق فيرتعد فرقاً من نذير الجفاف والموت، والغنائم الرقاق تتجمع غبراً كخَمل النعام، أو تتفرق بيضاً كمندوف القطن، فيتعاقب من تجمعها وتفرقها الظلام والنور والظل والحرور على صفحة النهر ووجه الأرض
وطلائع الخريف تبكر في الريف فتحدث في نظام الطبيعة قليلاً من الفوضى. ذلك أن الفيضان يشارف غايته المقدورة في أوائل سبتمبر، فيترع النيل كل القنوات، ويغمر أكثر الحقول، ويكون من جراء هذا الري الطافح أن يفتر الحر، ويطرب الهواء، وينقد بخار الماء سحباً في السماء، وأندية على الأرض، فلا تجد أواخر الصيف مناصاً من الرحيل. وفي رحيل الصيف على هذه الحال اضطراب في حياة الناس والزرع. فالقطن يعوقه احتجاب الشمس عن اكتمال النضج فيفسد لوزه، والإنسان يُعجله تغير الجو عن اتخاذ الحيطة فيميل اعتداله.
سكنت الريح بعد هبة حمقاء هصرت غصون الشجر، وكشفت أغطية المناضد، وقلبت وجوه الحُدَّاث والجُلاَّس فقطعوا سلاسل الحديث، واسترجعوا رسل النظر. وكان إخواننا المصطفون قد نابهم من ثورة الريح ما ناب الناس؛ فانزوى كل امرئ عن أخيه وانطوى على نفسه. فلما سكت عن الريح الغضب عادوا يستقبلون أنفاس الموج، ويستروحون أنسام الزروع، ويستمعون إلى الأستاذ نجيب، وكان يتحدث عن مشكلات التموين ومخزيات الإدارة. والأستاذ نجيب مدرس بكلية الآداب، قضى أسابيع من عطلته عند أهله في سمنود. وكان له بجانب ذهنه معدة كمعدة الأحياء لا تفتأ تطلب القوت. والقوت اليوم بفضل الطاغية (هتلر) لم يعد كما كان مبذول المنال يأتيك على اغتماض وأنت وادع؛ إنما أصبح عزيز الدرك لا تناله إلا ببطاقة أو صداقة أو شفاعة. فكان يلقى كتابه من يده، ثم يخرج ومعه بطاقة التوزيع يسأل عن القمح فلا يجاب، ويبحث عن البترول فلا يجد.(432/1)
نظام البطاقات محكم دقيق يضمن لكل بطاقة رصيدها، ولكل مستهلك نصيبه؛ فمن أين جاء الحرمان والخير موجود، وكيف سيطرت الفوضى والنظام قائم؟ كان الأمين الذي جعلته الحكومة على خزائن التموين قد قضى أن يكون مع بطاقة التوزيع تصريح منه لا يظفر به إلا ذو المال أو الجمال أو القربى؛ وصديقنا الأستاذ لم يؤته الحظ شفاعة من هذه الشفاعات المجابة، فبقى من جمهرة الفقراء يحتشدون كل يوم على باب الأمين يسألون فيه غير مجيب، ويسترحمون منه غير راحم. قال الأستاذ وقد نبض من الغيظ نابضه، فارتجفت شفتاه وتهدج صوته:
كان مئات من ذوي الضعف والمسكنة يتركون بيوتهم صفراً من القوت والوقود ويظلون النهار كله على باب هذا (الحاكم) قياماً وقعوداً وبأيديهم القفف والأكياس، وفي جيوبهم البطاقات والنقود، يسألونه التصريح مرة بالدعاء ومرة بالبكاء، فلا يجيبهم غير الجنود بعصيهم الملهبة، وكلماتهم الغليظة؛ حتى إذا أمسى المساء انصرف المجدودون بتصاريحهم إلى تاجر بعينه يكتالون بالسعر المقرر، وانقلب المكدودون بأوعيتهم إلى التاجر نفسه يكتالون بالسعر المكرر. ومن عرق البائسين ودموع اليتامى تنتفخ جيوب وتكتظ كروش؛ وبأمثال هذا الموظف وذلك التاجر تدول دول وتسقط عروش!
قلت: وما يدريك يا نجيب، لعل الحال في بلدك هي الحال في كل بلد! لقد فجر التاجر وهودتهم الطامع، فاحتكروا السلع، واختزنوا الأرزاق، وعموا عن طريق الحق، وصمتوا عن نداء الضمير، ولم تزعْهم خشية الله ولا سطوة الحكومة؛ لأن الله يمهل، ولأن الإنسان يهمل. والقانون من غير تنفيذ ورق مطبوع، والتنفيذ من غير خلق ظلم مسلح.
إن في مخازن الأغنياء ومخابئ التجار من الأقوات ما لو عرض للبيع المشروع لأعاد إلى الناس عيشهم الأول؛ ولكن الفقدان والحرمان سيدومان ما دام للطامع يد وليس له قلب، وللحكومة لسان وليس لها عين.
إن الحكومة قد أيقظت وعيها ورأيها لشؤون الوقاية والتموين؛ وفي سبيلها تستطيع أن تبتكر الأسلوب البارع وتسن النظام المحكم، ولكنها لا تستطيع أن تبعث النور في الحس المظلم، ولا الشعور في الفؤاد المصمت.
هذه إنجلترا تمون الجنود من نهر النيل إلى بحر قزوين، ومن أقصى المحيط الغربي إلى(432/2)
أقصى المحيط الشرقي؛ فهل تجد مع ذلك جندياً في البر أو في البحر أو في الجو يزعم أن نصيبه الموفور من الطعام والشراب والفاكهة والخمر والحلوى والعتاد والسلاح والذخيرة لم يدركه في موعده الموقوت على أكمل نظام وأعدل قسمة؟ وهل كان هذا العمل المعجز ممكناً لو لم يكن بازائه خلق يعين على قضاء الحق، وضمير يحث على أداء الواجب؟
قال الأستاذ علي: وهل عطل الأنظمة، وعوق الإصلاح، وأوهن العلائق، وشتت الوحدة، وأشاع البؤس، غير فساد الأخلاق؟ إن ما أصابنا من نكد العيش وذل النفس وحبوط العمل، نتيجة محتومة لما أصابنا من فحش الجور وقبح الأثرة وسخف الذمة (ولو يؤاخذ الله الناسَ بظلمهم ما تركَ عليها من دابة). فقال الأستاذ توحيد: إن التعبير هنا بالدابة من معجزات البلاغة القرآنية؛ فإن الناس إذا زاغوا عن طريق العدل، وخرجوا على منطق العقل، لا يصدق عليهم غير هذا اللفظ.
وعادت الريح الباردة تهب هبوب الخلق الشموس فقطعت الحديث، وقوضت المجلس، وأنذرت القوم أن يهجروا الكافورة حتى يعود الربيع.
المنصورة في 1891941
أحمد حسن الزيات(432/3)
الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق
للدكتور زكي مبارك
قضى سعادة الدكتور محمد فاضل الجمالي في مصر نحو شهرين كان فيهما موضع الحفاوة والترحيب من أكابر المصريين، فالتفتت الأذهان من جديد إلى وجوب توكيد الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق. ويزيد في أهمية هذا الالتفات وجاهة الغرض الذي حضر لتحقيقه هذا المربي المفضال، فقد جاء يستحث المدرسين المصريين إلى المسارعة بالتوجه لخدمة العلم في المدارس العراقية، وعددهم في هذه المرة كثير جدا بحيث يكفي لتوكيد تلك الصلات إن أدرك جميع هؤلاء المدرسين أنهم سفراء مودة وإخلاص؛ والمأمول إن يدركوا هذا المعنى أتم الإدراك بفضل ما سيلقون في بلاد الرافدين من الإعزاز والتبجيل. أسبغ الله عليهم أثواب العافية، وجعل التوفيق حليفهم في جميع الشؤون!
أما بعد فموضوع هذا المقال مستوحى من زيارة الدكتور الجمالي، وقد كان يجب أن نتحدث عنه في (الرسالة) قبل اليوم، لأنه لم يزر مصر إلا موفداً لمهمة من أشرف المهمات، وكان ذلك يوجب أن نتحدث عن قدومه ولو بعبارة وجيزة في البريد الأدبي، ولكن الدكتور الجمالي نفسه هو سبب ما وقع من السكوت، فقد بدا لي أن أوجه إليه طائفة من الأسئلة المكتوبة ليجيب عنها إجابات مكتوبة طلباً للسلامة من الخطأ والتحريف، ورعاية لمركزه الدقيق، وهو مركز لا يبيح له أن يتحدث عن الصلات بين مصر والعراق بلا تدبر ولا إمعان، فقد رأيته غضب حين قرأ في إحدى الجرائد أنه سئل عن النظام الجديد في بلاده بعد الثورة الكيلانية وأنه أجاب بكيت وكيت، فلما سألته عن سبب غضبه مع أن الجواب المنسوب إليه لا غبار عليه قال: لا يليق بمن يوفد لمهمة علمية أن يتكلم عن شؤون سياسية.
وأريد أن أقول أن الدكتور الجمالي حار في الإجابة عن الأسئلة التي وجهتها إليه، وكانت تلك الحيرة سبباً في أن تتأخر الإجابة أسابيع، فلم يقدمها إلي إلا وهو يتأهب للرحيل.
عواطف نبيلة
وقبل أن أسوق الأسئلة والأجوبة أذكر أن الدكتور الجمالي أقام برهاناً جديداً على أصالة الأريحية العراقية، فكان اهتمامه عند حضوره مقصوراً على زيارة الرجال الذين تشرفوا(432/4)
بخدمة العلم في العراق، فزار الأستاذ محمد عبد العزيز سعيد (أول أستاذ مصري قدم العراق، ونظم دار المعلمين، وكان الدكتور الجمالي من أوائل تلاميذه في سنة 1918) وزار الدكتور السنهوري الذي رفع القواعد من كلية الحقوق العراقية؛ وسأل عن الأستاذ الزيات بلهفة وشوق فعلم أنه بعيد عن القاهرة، وتفضل فزارني في سنتريس ليرى البلد الذي قال فيه الشاعر عبد الرحمن البناء:
لبُعدك كابدتْ بغدادُ حُزناً ... وإن فرحتْ بقربكِ سنتريسُ
ولن أنسى أبداً أن الأسابيع التي قضاها الدكتور الجمالي في مصر كانت من المواسم الروحية، فقد كان يسأل عني في كل يوم، كأنه رب البيت وكأنني الضيف.
أخت بغداد والألقاب
واتصلت أيام الدكتور الجمالي عندنا بفكاهات كثيرة كان يوجهها إلى أقطاب وزارة المعارف من وقت إلى وقت، منها السؤال الذي واجهني به سعادة الأستاذ شفيق بك غربال:
- سمعت أنك لم تصب بأخت بغداد، فهل هذا صحيح؟
- أصبت بالأخت الحقيقية لبغداد، وهي (ليلى المريضة في العراق) وفي هذه الإصابة مناعة من جميع العلل والأدواء.
وفي إحدى سهراتنا أعلن الدكتور الجمالي ثورته على كثرة الألقاب في مصر، فأجبت بأن الحال في مصر غير الحال في العراق، فالظاهر أن الألقاب كانت تشترى بأبخس الأثمان فيظفر بها من لا يستحقون التبجيل، ولهذا ثار عليها العراقيون؛ ولا كذلك الحال في مصر، فالألقاب عندنا لا ينالها من ليس لها بأهل، وإن كان في النحو باب يسمى باب الاستثناء.
وأردت أن أنتقم من الدكتور الجمالي فكنت أخاطبه بعبارة: يا فاضل بك؛ فلم يمض إلا وقت قليل حتى استأنس بلقب البكوية كل الاستئناس، إلى الحد الذي سمح بأن يسأل عن حظي من الألقاب الرسمية بعبارة تفيض بالعطف. وقد تحزن حين أجبته بأن الألقاب لا تمنح للموظفين إلا حين تصل مرتباتهم إلى مبلغ لا أصل إليه إلا بعد أعوام طوال، ثم أردت أن أطمئنه فقلت: ولكن لا موجب للجزع فقد تنفع المؤلفات في الظفر بالألقاب!
ومن المنتظر أن يستوحش فاضل (بك) حين ينزع منه هذا اللقب بعد وصوله إلى بغداد، ودنيا الألقاب إلى زوال!(432/5)
الجواب المحذوف
في الأسئلة التي وجهتها إلى الدكتور الجمالي سؤال يقول: ما هي الشخصيات التي ظفرت بإعجابكم؟ وما الشمائل الأصلية لتلك الشخصيات؟
وأجاب الدكتور الجمالي عن هذا السؤال بصفحة كاملة، ثم عاد فخلط بياضها بسوادها فلم أتبين منها غير أشباح، وإن كان تفضل فأبقى العبارة الخاصة بأحد الرجال. وقد سألته عن السبب في حذف هذا الجواب فاعتذر بأنه قد يعرضه إلى محرجات.
وأجهدت عيني في تعرف تلك الأسماء فلم أهتد إلا إلى سمات خطية عرفت منها أسماء: السنهوري وغربال ومشرفة وجوهر والقباني وفهيم.
وكان قبل ذلك حدثني عن إعجابه بالدكتور سليمان عزمي والأستاذ علي بدوي.
وللدكتور الجمالي الحق كل الحق في أن يسكت عمن عرف في مصر من الرجال، فلكل رجل في مصر خصائص تتعب من يهمه التحدث عنها بإيجاز أو إطناب. وغني مصر بالرجال لا يحتاج إلى بيان، والذي يتصل بمصر وهو في مثل ذكاء الدكتور الجمالي وإخلاصه لا يستطيع النجاة من الفتون بما لرجالها من رجاحة العقل، ونفاذ البصيرة، وقوة اليقين.
أما إعجاب المصريين بالدكتور الجمالي فهو إعجاب صادق، وقد أطلعوه على دقائق النهضة العلمية والأدبية والفنية والاجتماعية. وتفردت أنا بإطلاعه على دقائق الحياة الشعبية، وذلك جانب يراه بعض الناس من المبتذلات وأراه من الطرائف، فما في مصر بقعة إلا وهي مصدر وحي أو مبعث خيال.
زرت مع الدكتور الجمالي أكثر الأحياء الوطنية، الأحياء التي نبت فيها آباؤنا وأجدادنا قبل أن يعرفوا المدينة الغربية، الأحياء التي أوحت ما أوحت من فنون الرأي والعبقرية، زرت معه (حي الخليفة) الذي نشأ فيه مصطفى كامل، وهو حي تغلب عليه البداوة ولكنه مزود بقوة الروح، وفي رحابه نشأ كثير من جنودنا الأبطال.
والأخوة التي بيني وبين الدكتور الجمالي فرضت عليه أن يرى مصر بعيني، مصر التي لم يخلق مثلها في البلاد، مصر التي ولد فيها موسى، ونشأ بها عيسى، وصاهرها محمد، وهم صفوة الأنبياء.(432/6)
لم أر في مصر شيئاً يجب إخفاؤه عن رجل من أرباب القلوب؛ وإذا احتاجت مصر إلى الدفاع عن نفسها، فلن يكون ذلك إلا بفضل جناية الجمال على الجميل.
جمالُكِ فاتنٌ والحسنُ ذنبٌ ... لأهل الحُسنِ في شرع الذئِاب
فما شكواكِ من ظلماَء طالت ... وتلك جنايةُ المجد اللُّباِب
إن استباح السفهاء من أهل البغي أن ينالوا مصر بسوء، فسيكون لهم من وراء البغي ألوان وصنوف من غضب صاحب العزة والجبروت.
مصر التي لم يهتف بمثلها شاعر ولا كاتب ولا خطيب، مصر التي لم يتفتح الزهر في أرض أكرم من أرضها ولا أخصب، مصر التي لم يتخطر على ثرى ثراها أسرابٌ لا ترى مثلها العيون في شرق ولا غرب
مصر الجميلة الغالية ليس فيها ما يعاب، فمن حقي أن أطلع على خفاياها من يشاء، فإن صح أن فيها ما يشوك، فهو سواد الخال في الخد الأسيل
بكاء غريق الألطاف
البكاء محرم على الرجال إلا في مقامين اثنين: مقام الشوق إلى الله، وقام الحزن لفراق الأحباب. وللمقام الثاني صورة لا ينجيني من أطيافها المزعجات إلا تدوينها على القرطاس، فإن الإنشاء كالبكاء يخفف ما تعاني القلوب من لواعج وأحزان. وكيف نعيش لو حرمنا الخلوة إلى القلم من وقت إلى وقت، وقد أقفرت الدنيا من الصديق الذي ننفض بين يديه ما في صدورنا من أشجان وكروب؟
والصورة الآتية من صور البكاء تستحق التسجيل، فهي واضحة الدلالة على أن الأخوة العربية قد انتقلت من حال الشرح والتفسير إلى حال الذوق والإيمان. فما تلك الصورة من البكاء؟
في الأيام الأخيرة لإقامة الدكتور الجمالي بالقاهرة جدت
شواغل منعتني من الأنس بهذا الصديق الغالي، وهي الشواغل
التي تصحب افتتاح العام الدراسي، ومع ذلك عرفت أنه
سيغادر القاهرة في عصر هذا اليوم (11041)(432/7)
وقبل الموعد المحدد لقيام القطار بنحو خمسين دقيقة كنت في الفندق الذي نزل فيه لأصحبه إلى محطة باب الحديد، ولكني لم أجده هناك، ثم حضر بعد لحظات، فكانت تحيته: لطفك يا دكتور! وحدق في وجهي لحظة ثم قال: هل تعرف أني قضيت مساء الأمس وصباح اليوم في البكاء لفراق القاهرة؟ فابتسمت وقلت: الجروح قصاص، فمن واجب القاهرة أن تصنع بك بعض ما صنعت بي بغداد، وأنا بكيت لفراق بغداد حتى رحمني أعدائي، فاشرب قطرة من الكأس الذي شربته حتى الثمالة. واحترس من التزيد على المحبين!
ولم يقع في الوهم إلا أن الدكتور الجمالي يلاطفني بالحديث عن تحزنه لفراق القاهرة، فهو من بلد له تقاليد في مراعاة الآداب الإخوانية، ولكن لم نكد نفارق الفندق في طريقنا إلى المحطة حتى غلب الرجل على وقاره، وأخذت دموعه تبلل خديه على ما يصاب به المتيمون.
ورأيت من الحزم أن أتجاهل ما يعانيه، لئلا يزداد عناء إلى عناء، فأخذت أشاغله بالسؤال عن معالي الدكتور سامي شوكت وسعادة الأستاذ طه الراوي، وانطلقت فسردت له عشرات من الأسماء التي أحبها في أرجاء العراق، ولم أطو عنه إلا أسماء من صادقت من رجال الجيش، فقد خشيت أن أسمع أن فيهم من قتل في الحرب التي دامت ثلاثين يوماً. وكان لي في الجيش العراقي أصدقاء لا يفدون بغير الأرواح، كتب الله لهم العافية من مكاره الصروف في هذه الأيام!
ثم بلغنا محطة باب الحديد وقد جفت دموع الدكتور الجمالي، فرأينا هنالك طوائف من الإخوان ينتظرون باسمين، فسرى عنه بأسرع من لمح البرق، وأخذ يحاور ويناضل بعزيمة لا تعرف البكاء.
وأراد الإخوان أن يصارحوه بحزنهم لفراقه فأشرت إليهم أن يكفوا، فسكتوا وقد فهموا أني أعرف من أمره ما لا يعرفون؛ والمصري أقدر الناس على فهم خطرات القلوب ولمحات العيون.
وكان الدكتور الجمالي مع هذا مهدداً برجعة البكاء، فقد كان يرى ناساً لا ينتظر أن يراهم في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم من أيام رمضان، فكان يقول لمن يراه: غريق ألطافكم! غريق ألطافكم!(432/8)
وتمت الأعجوبة حين رأى أقطاب وزارة المعارف يفدون لتوديعه وهم رجال لا تسمح شواغلهم بأداء هذا الواجب في مثل هذه الأيام المثقلة بالتكاليف.
وقد تأثر الدكتور الجمالي بهذا المنظر فكاد يبكي من جديد، ثم صده حضور صاحب الفخامة نوري باشا السعيد، فقد أخذ يسألني عن صحة ليلى بعبارات لا تخلو من فكاهة ومزاح.
ودوى صفير القطار فتحاجز المودعون، وانخرط الدكتور الجمالي في البكاء، البكاء الذي لا يجيده في مثل هذا الموقف غير كبار الرجال.
وما الذي يمنع الدكتور الجمالي من البكاء لفراق القاهرة، وقد عاش فيها شهرين بعين المحب وقلب الصديق؟
لو كان الدكتور الجمالي من الشعراء ونظم في توديع القاهرة ألف قصيدة لكان تعبيره عن أساه أقل بياناً من تلك الدموع النبيلة وقد جاد بها قلب نبيل.
الثقافة المصرية
حدثني الدكتور الجمالي قال: (شغلت عن مسايرة الثقافة المصرية نحو عشر سنين، بسبب التفاتي إلى الثقافة الإنجليزية، ثم كانت هذه الزيارة فتحاً جديداً، وقد اشتريت من المؤلفات المصرية ما ملأ حقيبتين كبيرتين، فحبي القديم لمصر أضيف إليه حب جديد، كنت أحبها للأخوة العربية، فصرت أحبها الأخوة العلمية، وإعجابي بتقدم مصر العلمي جاوز ما كنت أقدر من الفروض)
ومع أنه زار مصر في أشهر العطلة المدرسية فقد عرف كيف يدرك ما عندنا من مذاهب الحياة التعليمية، بفضل صلاته الوثيقة برجال التعليم، وفضل ما فطر عليه من حب الاستقصاء.
وليس معنى هذا أن مصر وصلت إلى ما لم يصل إليه أحد في العالمين، ولكن معناه أن الرجل شغل بالمحاسن عن العيوب، فلم تقع عيناه في مصر على شيء غير جميل.
وهذه النظرة الودية هي أساس التعارف الصحيح، والداعون إلى الوحدة العربية فاتهم هذا الجانب، وهو الابتداء بخلق صلات روحية وذوقية تصل العربي عن طريق الحب الصفاء.(432/9)
أسئلة وأجوبة
لم يبق إلا أن نذكر بعض ما دونه الدكتور الجمالي بخطه، مكتفين بالأهم، لضيق المجال
س - ما هي الصفات التي يجب أن يتحلى بها المصر حين يخدم العلم بالعراق؟
ج - كل ما نريده للمصري الذي يأتي لخدمة العراق هو أن يشعر بأنه في بلاده وبين أهله وإخوانه، ومتى شعر بأنه يخدم أبناء قومه فلا أشك في أن عمله سيكون مثمراً أطيب الثمر. وإني لأنصح لمن يشتغل بالتعليم في العراق أن يبتعد عن البحث في القضايا السياسية والأمور المذهبية، فما دخلت هذه البحوث في دور العلم إلا أفسدتها.
س - أتراك مطمئناً إلى صحة القول بأن مصر صلة الوصل بين الشرق والغرب؟
ج - إن مصر خير مثال لبلد تمسك بشرقيته ثم غذاها بالنتاج الثقافي الغربي، فمصر عربية في روحها، إسلامية في تقاليدها، وهي مع ذلك تأخذ عن الغرب أساليبه العلمية، وأنظمته الصناعية والزراعية والتجارية، فهي بودقة تصهر ثقافتي الشرق والغرب، ونرجو أن تخرج منهما ثقافة موحدة لمحاسن كلتيهما، وإذ ذاك تصبح مصر ومن ورائها البلاد العربية صلة الوصل بين الشرق والغرب حقاً.
س - ما الذي تحب أن ينقل من شمائل بغداد إلى القاهرة ومن شمائل القاهرة إلى بغداد
ج - احب أن تنقل بعض شمائل القاهرة إلى بغداد، لا سيما ما يتعلق بتنظيم العمران وفتح الشوارع وتشجيرها وإكثار من الميادين والحدائق العامة، ولا أرى مل يمكن نقله من بغداد إلى القاهرة.
س - هل اتسع وقتك للنظر في الفروق بين المناهج المصرية والمناهج العراقية؟
ج - هناك فروق بين مناهج التعليم في مصر والعراق، وهذه الفروق ناتجة من أمرين: الأول أن العراق حديث في نظامه التعليمي، ولم تتولد له مشاكل تاريخية بعد، ففي وسعه أن يطبق أحدث النظريات الفنية التعليمية بدون أن تكون في الطريق عقبات خلفها له الماضي. أما أنظمة التعليم في مصر فلها تاريخ بعيد نسبياً. فلا يمكن الأخذ بما هو صالح من الجديد إلا بالتدريج. والأمر الثاني هو أن العراق قد اعتنق الفكرة العربية منذ تكوينه الجديد بقيادة المغفور له الملك فيصل الأول، فهذه الفكرة متغلغلة في كل برامج التعليم، ولم تصل هذه الفكرة في مصر إلى صميم التعليم بعد كما هو الحال في العراق.(432/10)
س - أنت زرت تركيا وكتبت عن التعليم فيها تقريراً مفصلاً، فهل ترى وقد زرت مصر أننا قريبون أو بعيدون من الأتراك من الوجهة الثقافية؟
ج - لا أستطيع أن أتحدث عن الثقافة التركية اليوم، لأني لم أتتبع التطورات الأخيرة في معارف تركيا منذ وفاة المغفور له أتاتورك. أما الثقافة التركية كما عرفتها في سنة 1937 فكانت تختلف عن الثقافة في مصر اختلافاً أساسياً وهي بعيدة عنها كل البعد. أولاً لأن الأتراك في ثقافتهم قطعوا صلتهم بالماضي ووضعوا لأنفسهم أسساً جديدة واضحة وجهت الثقافة بموجبها، فهم أخذوا كل ما راقهم من المبادئ الغربية وتركوا الثقافة الشرقية وراءهم. وثانياً لأن الانقلاب التركي جاء شاملاً وسريعاً، بينما مصر تسير على الأساليب الديمقراطية التدريجية، فهي تبقى الجيد من القديم وتضيف إليه الحديث، ولذلك أرى أن الشقة الثقافية قد بعدت بين البلاد العربية والبلاد التركية. هذا ما بدا لي سنة 1937 ولا أعرف ما هو الوضع اليوم هناك.
(انتهى ما اخترناه من أجوبة الدكتور الجمالي)
أما بعد فقد فرغت من كتابة هذا المقال في لحظة قدرت فيها أن الدكتور الجمالي لم يصل إلى الحدود المصرية ليجتازها إلى فلسطين، فليكن مقالي هذا تحية ثانية إلى الصديق الذي ودع القاهرة بدموع الوفاء، وليتفضل فيذكر أن القاهرة لا تنسى أحبابها أبداً، ولو بعدت الدار وقدم العهد.
وإذا كان الدكتور الجمالي قد تلطف فدعاني لزيارة بغداد مرة ثالثة فليعرف أني ما فارقت بغداد، ولا غاب عن عيني محيّاها الجميل.
سيَسألُ قومٌ من زكيٌ مباركٌ ... وجسميَ مدفون بصحراء صماء
فإن سألوا عني ففي مصر مرقدي ... وفوق ثرى بغداد تمرح أهوائي
زكي مبارك(432/11)
كيف يكتب التاريخ
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
- 5 -
نقد الأصول
أهمية النقد، التزييف والانتحال واثبات صحة الأصول
قد عرفنا أن التاريخ يدرس بواسطة الأصول كالوثائق وآثار ومخلفات الإنسان من الزمن الماضي. وحوادث التاريخ يمكن أن تعرف عن طريقين: عن طريق مباشر بملاحظة ومشاهدة الحوادث أثناء وقوعها، أو عن طريق غير مباشر بدراسة الآثار المتنوعة التي خلفتها هذه الحوادث. فالمعلومات عن حادث زلزال مثلاً يمكن معرفتها بطريق مباشر من بعض شاهدي العيان، أو بطريق غير مباشر بملاحظة آثار التدمير التي خلفتها الهزة الأرضية، أو بقراء وصف كتابي سجله أحد الناس عنها سواء بطريق المشاهدة أو بطريق الرواية. وهذا ينطبق تماماً على حوادث التاريخ. والحوادث والأوصاف التي يسجلها الرحالة المعاصر مثلاً تمتاز بإعطائها دقائق وتفاصيل، وبتصويرها روح العصر، وذلك ما لا يتاح للكاتب المتأخر. ولكنا نلاحظ أن وجود الكاتب في العصر الذي يسجل حوادثه ليس معناه أنه يمكنه الإحاطة بجميع نواحيه وإجادة الكتابة عنه. وذلك لعدة عوامل، لاحتمال تحيزه للتيارات المتنوعة التي تسيطر على الفكر الإنساني، أو لتأثره في كتابته باتباع المصلحة لوصول إلى أغراض شخصية أو لتجنب الاضطهاد في بعض الأحيان؛ وكذلك لعدم إمكان حصوله على جميع الأصول التاريخية، بالرغم من عيشه في العصر الذي يدرسه، والتي تظل خافية وممنوعة من التداول سنوات عديدة سواء لدوافع سياسية، أو للرغبة في عدم إذاعة الأسرار الخاصة في حياة بعض الناس. فالأفضل دائماً أن يكون المؤرخ بعيداً عن العصر الذي يكتب عنه لكي تظهر الأصول والأسرار والخفايا بعد أن تتبلور حوادث التاريخ خلال الزمن الغابر.
فحوادث التاريخ تعرف بصفة أساسية عن طريق غير مباشر بدراسة آثار الإنسان المختلفة(432/12)
التي تحفظ من الضياع. والمؤرخ في أغلب الأحوال لا يرى الحوادث نفسها، وإنما يرى ويدرس آثارها. فآثار ومخلفات الإنسان المتنوعة هي نقطة البدء، والحقيقة التاريخية هي الهدف الذي يتوخى المؤرخ الوصول إليه. وبين نقطة البدء والهدف يوجد طريق معقد متشابك تعتوره الأخطاء والمصاعب والعقبات العديدة، والتي قد تبعد الباحث عن الهدف وعن الحقيقة التاريخية. والمؤرخ لا يجد غير هذا الطريق للوصول إلى غرضه. ودراسة وتحليل الأصول التاريخية في هذه المرحلة من أهم أدوار طريقة البحث، وهي عبارة عن ميدان نقد الأصول التاريخية.
وكما عرفنا نجد أن آثار الإنسان قد تكون أبنية وتماثيل ومصنوعات مادية ملموسة، أو قد تكون آثاراً كتابية سجلهاالإنسان عن الحوادث. فالنوع الأول أسهل في الدراسة لأنه توجد علاقة واضحة بين الآثار الماثلة أمام المؤرخ، والتي يلمسها بحواسه، وبين أسباب وجودها وارتباط ذلك بحوادث التاريخ. ولكن الكتابات التي يدونها الإنسان عن حوادث تاريخية معينة هي أثر عقلي سيكولوجي وليست الحادث التاريخي في ذاته؛ فهي لا تزيد عن أنها رمز وتعبير عن أثر تلك الحوادث في ذهن الإنسان. فالآثار الكتابية تنحصر قيمتها في أنها عمليات سيكولوجية معقدة وصعبة التفسير، لأن الإنسان نفسه على وجه العموم معقد مركب متضارب وصعب الفهم، فلا ريب في أن تكون حوادثه والتعبير عنها على ذلك الغرار. وللوصول من الأصل التاريخي المكتوب إلى الحوادث ينبغي تعقب سلسلة العوامل التي أدت إلى كتابته؛ فلا بد من أن يحي المؤرخ في خياله سلسلة الحوادث التي قام بها كاتب الأصل التاريخي منذ أن شاهد وجمع معلوماته عن تلك الوقائع المعينة حتى دونها في الأصل المكتوب والماثل أمام المؤرخ، لكي يصل إلى الحوادث الأصلية. ويلاحظ المؤرخ قبل البدء في نقد الأصل التاريخي وخاصة إذا كان مخطوطاً هل هو نفس الحالة التي وجد عليها من قبل؟ ألم يبل ويتآكل وتضيع بعض أجزائه؟ لكي يرممه ويجعله أقوى على البقاء والحفظ.
وتوجد عدة أدوار ومراحل للنقد. فالنقد الخارجي أو الظاهري يتعلق بعدة أمور مثل إثبات صحة الأصل والخطأ والمؤلف؛ والنقد الداخلي أو الباطني ويبحث الحالات العقلية التي مر خلالها كاتب الأصل التاريخي، فيحاول أن يعرف ما الذي قصده الكاتب؟ وهل كان(432/13)
يعتقد في صحة ما سجله؟ وهل توفرت المبررات التي جعلته يعتقد صحة ما كتبه؟. . . وأساس النقد والحذر والشك في معلومات الأصل التاريخي، ثم دراسته وفهمه واستخلاص الحقائق من ثناياه. والناس يتكلمون عن ضرورة النقد ولكن من الناحية النظرية فقط؛ وهم في الغالب لا يميلون إلى تطبيقه عملياً. والإنسان في أحوال كثيرة ينقد الغير ولكن لا يجب أن يذكره الغير إلا بالمديح والثناء! والإنسان في أحوال كثير أيضاً أميل إلى الكسل والإهمال. والإنسان في حياته اليومية قد يكون أميل إلى تصديق ما يصادف هوى في نفسه، وأبعد إلى تكذيب ما يصطدم بعواطفه ورغباته.
والإنسان في حياته اليومية أيضاً لا يستطيع أن يقبل أقوال جميع الناس بنفس الثقة وبنفس التقدير، لأن الناس جميعاً لهم قيم وأغراض وأهواء مختلفة. وأصحاب النفوس الزائفة يكذبون وينافقون ويغررون للوصول إلى الأغراض والمطامع. أو ليس ذلك أدعى إلى الخداع والعبد عن الحقيقة السافرة؟ فإذا كان هذا هو حال فيما يتعلق بالحاضر فما بالنا بحوادث الأمس، والأمس البعيد؟ ولقد استخدم المؤرخون في الزمن الماضي الأصول التاريخية بدون نقد أو حذر فوضعوا تعميمات خاطئة. وإنه لأسهل على الإنسان أن يصدق بغير مناقشة وأن يوافق بدون نقد وأن يجمع الوثائق والأصول التاريخية بغير تقدير أوزن دقيق ولكن لا يستطاع الوصول إلى الحقيقة التاريخية بدون نقد الأصول كل على حدة وبدون الموازنة بينها وتحديد العلاقة بين المعلومات الواردة في كل منها، ويستغرق ذلك زمناً طويلاً ولكن البحث العلمي التاريخي لا يمكن أن يكتب بدون ذلك. وليس هناك ما يضطر الباحث لأن يعمل فوق طاقته، بل عليه أن يقصر عمله على النقطة التاريخية المحددة التي يستطيع أن يأتي في بحثها بعمل أصلي جديد مبتكر بالنسبة للعلم كله. والباحث في التاريخ كالباحث في أي فرع من أنواع المعرفة، إذا عرف بإخلاص قيمة البحث العلمي الصحيح الذي يستوفي شروط الزمان والمكان لن يرضى بغيره بديلاً مهما كانت الظروف.
وأول مرحلة من مراحل نقد الأصول التاريخية هي إثبات صحة أو بطلان تلك الأصول. فإذا كان المصدر أو الأصل كله أو جزء منه مزيفاً أو منتحلاً فإنه لا يمكن الاعتماد عليه. وصحيح أن تزييف الأصول والوثائق اليوم أصعب منه في الزمن الماضي، ولكن دوافع(432/14)
التزييف والدس لا تزال قائمة كالمطامع والأهواء والكسب وحب الشهرة. والانتحال والتزييف يوجدان في كل أنواع الأصول والمصادر. فالآثار المادية تزيف من أجل الكسب في أحوال كثيرة. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث من وجود مجموعة من الأواني والأدوات الفخارية في أورشليم في 1872؛ وقد دل على وجودها سليم العربي الذي كان يعمل في خدمة بعض المنقبين عن الآثار في تلك الأنحاء، واشترى بعضها متحف برلين، ولكن البحث العلمي أثبت أن هذه الآثار مزيفة. وفي الغالب كان سليم العربي نفسه هو صانعها بقصد الكسب. ومن الأمثلة على الكتابات المزيفة مجموعة من الخطابات والتواريخ والأشعار طبعت في إيطاليا بين سنتي 1863 و 1865 على اعتبار أنها قد كتبت عن جزيرة سردينيا في الفترة بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر للميلاد.
ولقد أثار ظهور هذه المجموعة دهشة كبيرة في الأوساط العلمية، لأنه كان مجهولاً وجود حضارة في سردينيا من هذا النوع في ذلك العهد. وبعد نشر هذا الكتاب، وضعت الأصول الخطية في كتبة كالياري في سردينيا، وحدثت مناقشات طويلة عن هذه الآثار، فعرضت الأصول الخطية على أكاديمية العلوم في برلين لدرسها، ففحص بعض العلماء الخطوط التي كتبت بها هذه الأصول، وبحث البعض الآخر اللغة والأدب، كما ناقش آخرون المعلومات التاريخية، ووجدوا أن كل ما جاء بها لا ينطبق ولا يشابه ما عرف عن خطوط وكتابات وأدب وتاريخ سردينيا في تلك القرون، وقرر العلماء أن هذه الآثار الكتابية مزيفة.
ومن هذا النوع أيضاً نجد ملحق مذكرات (بايي) عمدة باريس وأول رئيس للجمعية الوطنية في حوادث الثورة الفرنسية وأسمه: ونشر لأول مرة في (1804) على أنه من وضع أحد أعضاء الجمعية التأسيسية في باريس بدون تحديد الإسم؛ وعندما أعيد طبع مذكرات (بايي) في (1822) اعتبر هذا الملحق من تأليف (بايي) نفسه. إلا أن الدكتور فلنج أستاذ التاريخ الأوربي بجامعة نبراسكا في أمريكا استطاع أن يكشف مع بعض تلاميذه في الجامعة عن حقيقة هذا الملحق؛ ووجدوا بالمقارنة الوافية أن فقراته شديدة القرب في اللغة والأسلوب والمعلومات مما ورد في بعض الجرائد التي كانت تصدر في باريس في (1789)، مع تغيير ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في بعض الأحيان، لكي يتفق ذلك مع مذكرات (بايي) الأصلية. ولو أن جامع هذا الجزء قد أشار إلى المواضع التي استقى منها(432/15)
مادته، لكان ذلك عملاً نافعاً لمن لا يستطيع الوصول إلى إعداد تلك الصحف النادرة. وهذا الجزء يعتبر مثالاً لكيفية الانتحال، وتحذيراً للباحثين بعدم قبول أي مصدر بثقة عمياء.
والملكة (ماري أنطوانيت) من الشخصيات التاريخية التي دست عليها رسائل لم تكتبها، وهذا مما يجعل عمل المؤرخ صعباً. ولقد نشرت مجموعات من رسائلها تحتوي على الصحيح والمزيف منها؛ ولجأ المزيفون إلى الاقتباس من رسائلها الصحيحة وتقاليدها من حيث الخط والأسلوب. ولقد نشرت مجموعة من هذه الرسائل في باريس في (1858)، وتحتوي على رسالة لم تنشر من قبل بتاريخ 20 يونيو 1789، تبين أن ماري أنطوانيت اعتقدت أن أسلم سياسة ينبغي أن يتبعها لويس السادس عشر، هي الانضمام إلى الشعب. فهل هذه الرسالة صحيحة أم مزيفة؟ ولم يمكن العثور على أصلها المخطوط، وهذا مما يجعل البحث صعباً. وبالدراسة المقارنة نجد أن ماري أنطوانيت كانت ميولها ضد الشعب، وهذا يميل بالباحث إلى الشك في صحة هذه الرسالة. إلا أنه من الجائز أن ماري أنطوانيت كان لها هذا الرأي المخالف لما عرف عنها، إنقاذاً للموقف؛ وهكذا لا يصل المؤرخ أحياناً إلى رأي قاطع في صحة بعض الأصول التاريخية.
وأخيراً نعرض لمثال درسه الدكتور أسد رستم. فإنه عندما ثارت مشكلة البراق بين المسلمين واليهود، وقدمت اللجنة الدولية لدرسها، ظهرت وثيقة في مصلحة المسلمين. ولكن اليهود عارضوا في صحة هذه الوثيقة، فعرضت على الدكتور رستم لفحصها من الوجهة الفنية التاريخية، فوجدها أنها عبارة عن رسالة صادرة من محمد شريف باشا حكمدار بر الشام في عهد الحكومة المصرية إلى السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس بتاريخ 24 ربيع أول 1256هـ (27 أيار 1840) يخبره فيها بصدور إرادة شريفة خديوية من محمد على باشا بمنع اليهود من تبليط البراق مع إعطائهم حق الزيارة (على الوجه القديم). وفحص الدكتور رستم هذه الوثيقة بوسائل النقد الظاهري والباطني، فوجد أن الوثيقة مكتوبة على ورق صكوكي قديم تركيبه الكيماوي وأليافه من نوع أوراق الحكومة المصرية في مصر والشام في ذلك العهد؛ والمداد الذي دونت به هو مداد استانبولي. وأثبت التحليل الكيماوي والفحص بالمجهر أنه مزيج من الكاربون التجاري والصمغ والماء؛ وأثبت المجهر أيضاً من أثر القلم على الورق أنها كتبت بقلم قصبي مما كان شائع الاستعمال في ذلك العصر.(432/16)
وكان الخط هو السائد في دواوين مصر والشام. وفاتحة الرسالة: (افتخار الاماجد الكرام ذوي الاحترام. . .) وخاتمتها: (لكي بوصوله تبادروا الإجراء العمل بمقتضاها. . .) تتفق مع أسلوب عهد محمد علي. ثم عدم مراعاة قواعد اللغة العربية ووجود ألفاظ أعجمية الشيء الذي كان منتشراً في مصر والشام في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ثم تذرع الدكتور رستم بأدلة أخرى، فتأكد من محفوظات عابدين أن شريف باشا كان حاكما عاماً على الشام من أوائل 1248هـ إلى أواخر 1256هـ. وعرف من سجلات المحكمة الشرعية بالقدس أن أحمد أغا دزدار كان قائماً بأعمال المتسلمية في القدس في ربيع الأول سنة 1256هـ. وتثبت أيضاً من أن محمد باشا كان يسيطر على جميع حكام مقاطعات الشام ومن بينهم متسلم القدس أحمد أغا دزدار، ومن أنه كان يتلقى الأوامر من محمد علي باشا وإبراهيم باشا لكي يبلغها للجهات المختصة. ووجد الدكتور رستم أيضاً أن محتويات هذه الوثيقة تتفق مع المعلومات المعروفة عن علاقة اليهود بالبراق وموقف المسلمين منهم من ناحية إباحة اليهود زيارته وتساهل حكومة محمد علي الذي جعلهم يتطلعون للحصول على الإذن بتبليط البراق. وانتهى بحث الدكتور أسد رستم بإثبات صحة هذه الوثيقة من الوجهة الفنية التاريخية سواء من ناحية الورق والحبر والقلم وعادات المراسلة واللغة والأسلوب، أو من ناحية شخص المرسل والمرسل إليه، أو من ناحية مطابقة واتفاق معلوماتها مع الظروف التاريخية.
وهذه أمثلة عملية تبين أهمية وطريقة نقد الأصول التاريخية من ناحية إثبات صحتها وأصالتها وخلوها من الدس والتزوير والانتحال؛ وبغير ذلك لا يستطيع المؤرخ أن يعمل لأنه إذا بنى أبحاثه على الأصول المزودة خرج بنتائج بعيدة عن الحقيقة ومخالفة للواقع التاريخي. وسوف نبحث في المقالات التالية نقد الأصول من نواح أخرى
(يتلى)
حسن عثمان(432/17)
الوعاظ والخطباء
للأستاذ علي الطنطاوي
تواردت الخواطر والأقلام (في أجزاء الرسالة الأخيرة) على نقد أساليب الوعاظ في الدعوة إلى الله، فساء بعض الواعظين عندنا، ولو فكروا في مغزاه وما يلزم منه لسرهم، ولعلموا أنه لولا الاعتراف بخطر الوعظ وأهله، ومنزلتهم من الأمة، وعلو قدرتهم عند العامة، ما كتب في (الرسالة) عنهم، ولا استغل الكتاب بنقدهم. ثم إن أولى ما ينبغي أن يتحلى به الواعظ أن يبدأ بنفسه فيعظها، وأن يخلص قوله لله وعمله، وأن يفرغ من شهوات نفسه، فلا تملكه شهوة الشهرة والجاه، ولا شهوة الغنى ولا شهوة النساء، وأن يكون في فعله أوعظ منه في قوله، فلا يأمر الناس بالزهد ثم يخالفهم إلى ما زهدهم فيه فيزاحم المتكالبين عليه، ولا يتظاهر بالدين ابتغاء الدنيا وتوصلاً إليها، فيجمع من حوله العاملين على الكسب الحلال، والجادين في جمع المال من حله، ليأخذ من أموالهم ما يتعالى به عليهم، وليذيق لذائذ العيش من عطاياهم، وليسلبهم فوق ذلك حريتهم وعقولهم وكرامة أنفسهم عليهم، فيصرفهم في مآربه، ويسيرهم حيثما شاء، ويذلهم بين يديه ليستكبر عليهم، ويجعل الدين وسيلة إلى ذلك، فيجعل طاعة نفسه من طاعة الله، بل ربما جعل نصيبها من هذا الشرك أكبر، والعياذ بالله من ذلك. ولقد حدثني من أقطع بصدقه أنه سمع مرة واعظاً من هؤلاء (يقص) على تلاميذه قصة مريد سمع شيخه يقول: يا الله، ثم يمشي (زعم القاص) على وجه الماء الجاري، فسأله أن يتبعه، فقال له الشيخ: قل يا شيخي فلان (يعني الشيخ نفسه) ثم اتبعني فإنك تمشي مثلي. ففعل المريد ذلك، وتابعه أياماً، ثم خطر له (يقول الواعظ) أن يقول: (يا الله)، مكان قوله: (يا شيخي) فقالها فغرق في الماء، ومات. . .
فهل يشك مسلم في هذا الوعظ مخالف للإسلام مباين له؟ وهل يغضب الواعظ العالم الصادق أن ينتقد الواعظ الجاهل المُمَخْرِق الكذاب؟ أو ليس من دأب الواعظ الصادق أن يتقبل النصيحة ويشكر عليها ويعمل بها؟ وأن يتخلص من شرور نفسه قبل أن يتصدر للوعظ والإرشاد، حتى يكون الإسلام هو الذي يتكلم على لسانه، وحتى يتوهم السامعون أن ملكا هو الذي يعظهم، أو جسداً إنسانياً ضم روح ملك من الملائكة قد ارتفع عن شهوات الأرض ليتصل بكمالات السماء، وأنه لا يزهدهم في دنياهم ليحوزها من دونهم؛ فإن أنسوا(432/18)
منه غير ذلك زهدوا فيه هو وفي وعظه. . .
كان في مسجد من مساجد دمشق خطيب جهير الصوت، طلق اللسان، معتزل مستور، يعتقد الناس إخلاصه ودينه وتخطيه أهواء نفسه ماشياً قدماً على صراطه المستقيم، صعد المنبر جمعة من الجمع، فاستهل خطبة بآية من القرآن فيها وعيد للكافرين شديد، ومضى من بعدها يبرق ويرعد، ويسوق الجمل آخذاً
بعضها برقاب بعض، وكلها من مادة (كفر يكفر. . .) حتى إذا ظن أنه أقنع وأشبع، وملأ نفوس السامعين سخطاً وغضباً، عمد إلى التصريح بعد التلويح، فإذا الذي انصبت عليه هذه الحمم، ونالته رجوم الشياطين، (رجل تجرأ على دين الله، فتكلم في الداعين إليه، والداعين عليه، ومن رضى عنهم الله وعقلاء خلقه: خطباء المساجد). فلما قضيت الصلاة استقرى الناس الخبر فإذا هو صاحب جريدة كتب مقالاً معتدلاً في الدعوة إلى إصلاح الخطب المنبرية، فبعث الخطيب بمقالة يرد بها عليه فلم ينشرها وإنما أشار إليها، فكان جزاؤه أن تكون الخطبة كلها في ذمه وتكفيره. فانصرف الناس من يومئذ عما كانوا يعتقون في الخطيب ولم يعد وعظه ذلك المبلغ من نفوسهم، وجعلوا يرون فيه خطيباً له (نفس)، وهيهات بنفع واعظ أو خطيب له (نفس). . .
فتعالوا أنبئوني من الذي جعل المنبر ملكاً لهذا الخطيب، يتصرف فيه تصفه بثوبه ودابته، ويجعله سلماً له إلى شهرته وشهوته، وهذا المنبر إرث رسول الله، والخطيب خليفته في الدعوة إلى دين الله واطراح النفس والهوى؟ ألم يرو الرواة أن علياً أمير المؤمنين رضي الله عنه كان يتبع مشركاً (في معركة) ليقتله، فلما أيس المشرك من الحياة تلفت إلى علي فبصق على وجهه، فكف عنه علي، فقيل له، فقال رضي الله عنه: كنت أنوي قتله لله وحده، فلما بصق عليَ خفت أن يكون قد داخلني غيظ منه، فخشيت أن يكون قتليه انتصاراً لنفسي، فلذلك كففت عنه. أليس في هذا الخبر (وإن لم يأت عن الثقات) عبرة وأسوة للواعظين؟ وكيف أستطيع الاتعاظ بالخطيب الذي جاء في خطبته مرة بحديث موضوع، فلما انتهت الصلاة وتفرق الناس أقبل عليه شاب من المشتغلين بالحديث والمنقطعين إليه فذكره بان ذلك الحديث موضوع لا أصل له، فما كان منه إلا أن رجع من الجمعة المقبلة، فجعل خطبته في هذا الشاب وأصحابه (الوهابيين أعداء الرسول. . .) وأثار عليهم العامة(432/19)
حتى نالهم شر وأذى. فأين مكان الإخلاص من نفس هذا الخطيب؟
إن أول شرط للواعظ أو الخطيب أن يكون مخلصاً في وعظه لله، والشرط الثاني أن يكون عالماً بالعربية، عارفاً بالتفسير والحديث روايته ودرايته، والفقه أصوله وفروعه، وإلا كان وبالاً على الدين وأهله. ولقد أدركت والله من العامة من كان يكور العمامة، ويطيل اللحية، ثم يعقد للتدريس في مسجد دمشق الجامع فيقول ما شاء له الجهل والهوى ويجعله ديناً، والمفتي والقاضي والعلماء يمرون عليه أو يعلمون به فلا يتكرون عليه، ولو اعتدى هذا الرجل على جبة أحدهم لأقام عليه الدنيا. أفكان الدين أهون على أحدهم من جبته؟ وأدركت عامياً آخر ذكيا خدع طائفة من أذكياء البلد وعلمائه فاعتقدوا به، وتأدبوا بين يديه، وأخذوا عنه تفسير الآثار. وأعجب من هذا رجل يدعي النبوة يقيم الآن في غوطة دمشق، وقد آمن به أكثر فلاحي قرية (حرستا). ولقد خبرني من شهد صلاته بأصحابه أنهم يقهقهون ويكركرون كلما جاءت آية نعيم، ويتصايحون مستبشرين ويهنئ بعضهم بعضاً، وأنهم يبكون منتحبين مولولين كلما سمعوا في الصلاة آية عذاب؛ وربما (أخذ بعضهم الحال) فقفز في الصلاة أو صاح أو التبط بالأرض. ولهذا المتنبي أو (المتعهدي) ضريبة دائمة على أصحابه يؤدونها إليه باسم الزكاة فيشتري بها العقارات والحقول. . .
والشرط الثالث حسن الأسلوب في الوعظ، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، وابتغاه طريق اللين واللطف. وللواعظين أسوة في ذلك بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم من سيرته قدوة صالحة، فأين هم عنها؟ وما لأكثر من عرفنا منهم لا يعرفون إلا طريق العنف والقسوة الذي يبعد الناس عن الدين، ويغلظ قلوبهم عليه، وينفرهم منه. فلا يرون في مجالسهم شاباً من تلاميذ المدارس مثلاً إلا جعلوا الموضوع في تفسيق من يحلق لحيته، ومن يتشبه بالنساء، وأمثال ذلك، حتى تأكل هذا الشاب الأنظار، فيغرق في عرقه خجلاً؛ ثم لا يعود إلى المسجد أبداً؛ ولو أنهم حاسنوه وجاملوه لكان من المتقين. حضر درس الشيخ (بدر الدين) رحمه الله تعالى شاب حليق حاسر من شبان (المودة)، وكان الشيخ (على عادته) مطرقاً. فقال له أحد الثقلاء من الحاضرين: (سيدي، ما حكم الشبان الذين يتخنثون ويتشبهون بالنساء ويتزينون بزي الكفار). فأدرك الشيخ بذكائه النادر أن في المجلس غريباً، وفرع رأسه فلمح الشاب، فدعاه فأجلسه بجواره وأكرمه، وقال للسائل مؤنباً(432/20)
بأسلوبه الناعم: (يابا. . . هذا يتبارك به) يعني أن شاباً مثله يطلب العلم ويؤم مجالسه ويستهدي الطريق إلى الله، أهل لأن يتبرك به أمثال ذلك الثقيل الذين (قطعوا الطريق) إلى الله بغلظتهم وغباوة قلوبهم.
والشرط الرابع هو أن يعلم الواعظون أنه ليس في الإسلام طبقة هي أولى بالله من طبقة، وليس بين العبد وربه وسيط، وأن الإسلام ليس فيه (رجال إكليروس)، فإذا علموا ذلك اقتصدوا في تكفير الناس لأتفه الأسباب، وراجعوا الآثار الواردة ليعلموا حقيقة الكفر والإيمان، فلا يرمون بالكفر كل من خالفهم في رأي أو ناقشهم في مسألة قد يكون لها وجوه، ولا يصدرون مثل الكتاب الذي أصدره منذ بضع سنين عالم معروف في دمشق - كان أصدره قبله بأكثر من عشر سنين كتاباً آخر - كفر فيهما كل من يقول بحركة الأرض، وكفر الشيخ محمد عبده والسيد رشيد باشا رضا؛ ورد أشنع الرد على ابن حزم والشيخ محمد بخيت المطيعي، رحم الله الجميع. وأخذ بقوله بعض خطباء المساجد فكفروا على المنابر من يقول إن الأرض دائرة حول الشمس. ولا نسمع أحداً يجعل قيامك للضيف يدخل عليك كالسجود له سواء حكمهما، لأن كلا منهما (على دعواه) من أركان الصلاة استويا في ذلك. ونسى أن القعود أيضاً من أركان الصلاة، أفيحرم قعودك بين يدي صديقك أو أستاذك؟؟
والخطابة يوم الجمعة من أكبر أبواب الوعظ، فإذا صلحت صلح بصلاحها فساد الأمة، وإن فسدت أفسدت. فمتى يتم تنظيم الخطابة، بحيث يختار لها الكفو العالم ويعدل عن طريق الوراثة فيها، فلا تنتقل بعد الخطيب إلى ابنه الصغير الذي لا يدري ما يكون منشؤه ومرباه، ويقام له وكيل رسمي؛ بل يعلن عن الخطابة الحالية، ويجعل بين الطالبين سباق وامتحان، ثم ينتقي أقدرهم عليها وأصلحهم لها. ولو كانت وراثة لورثها أبو بكر ابنه ولدفعها عمر إلى ولده. فمن أين جئتم بهذه القاعدة الواهية؟
فإذا تم الاختيار على ما ترتضي المصلحة الإسلامية، أخذ الخطيب بنوع رقابة أو إشراف يمسكه أن يحيد فيختار من الموضوعات ما يؤذي المسلمين، أو يكون فيه منفعة للخطيب شخصية، ويجعله ينتقي أقرب الموضوعات لأحداث الأسبوع، فيبين فيها حكم الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بشرط أن يقوم بهذه الرقابة العلماء أنفسهم، وألا تمنع إلا ما(432/21)
يخالف الإسلام ومصلحة المسلمين، وألا تمس حرية الخطيب فيما عدا ذلك، وإذا تم الحصول على هذه الثمرات من غير رقابة أصلاً فذلك هو الأولى، وهو ما عليه المسلون من قديم الزمان.
هذا وإن الموضوع خطير، ومجال القول فيه ذو سعة، والواعظون العالمون الصادقون أحق الناس بالكتابة فيه، فإن صاحب الدار أدرى بما فيها، وأحسن شيء يعطى القوس باريها، وإننا نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإخلاص.
علي الطنطاوي(432/22)
شخصيات تاريخية
3 - تيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
(تابع)
تحتم إذن وضع خطة جديدة لمجابهة هذا الموقف الجديد، فمن لليونان بقائد ماهر يستطيع وضع هذه الخطة؟ لم يبحث اليونان كثيراً، إنما نظروا إلى صفوفهم فوجدوه بينهم يحثهم على أن يتراجعوا ويتماسكوا، فلما رأوه وكله ثقة واطمئنان إلى نتيجة النزاع وهي النصر الحاسم سرت الثقة بينهم وتجمدوا في أماكنهم كالثلج الذي وقع على الأرض لا يريد أن يبرحها وقد تركوا أمروهم إليه وأسلسوا له القياد فوضع هذه الخطة التي كانت أساساً لما أحرزه اليونان من نصر عظيم في موقعة سلامين الشهيرة. وأظنك أيها القارئ بعد هذا لم يخف عليك أن هذا القائد صاحب هذه الخطة إنما هو بطلنا تيموستوكل العامل الرئيسي في إحراز النصر والاحتفاظ باستقلال اليونان كاملاً.
اقتضت هذه الخطة أن يهجر الأثينيون مدينتهم إلى جزيرة سلامين القريبة من أرض وطنهم وأن يقف الأسطول اليوناني في المضيق البحري الذي يفصل بين أثينا وسلامين، وهو مكان ضيق جداً، إلى شماله تقع سواحل أثيكا، وإلى جنوبه وغربه تقع سواحل سلامين، وقد اختار تيموستوكل هذا المكان لضيقه لأنه عقد العزم على أن تكون الموقعة الفاصلة في البحر، وشجعه على ذلك هذا النجاح الذي أحرزه في الموقعة البحرية السابقة موقعة الأرتيميزون، وفي هذا المكان الضيق تنعدم الميزات الناشئة عن كثرة العدد وعما يمكن أن يقوم به العدو من حركات التفاف وتطويق بالنسبة لأسطوله الزاخر بالسفن. واختار هذا المكان أيضاً لقربه من جزيرة سلامين وإليها هاجرت الأسر الأثينية، وهي بإقامتها في الجزيرة بالقرب من الأسطول لا شك خير مشجع لكل أثيني بل لكل يوناني على الأستماتة والاستبسال في سبيل الدفاع عن أرض الوطن واستقلال البلاد؛ ونحن نعلم ما كان للأرض عند اليونان من حرمة وقداسة فهي رمز لكيانهم في الحياة وفي الممات.(432/23)
لم ينل تيموستوكل بسهولة هذا القرار القاضي بإلزام الأسطول اليوناني ساحل جزيرة سلامين الشمالي وإنما ناله بعد كبير عناء، لأن اليونان كانوا مترددين جد التردد في التزام هذا المكان. وكان القائد الأعلى وهو إيريبياد متردداً هو الآخر، بلغ تردده حداً عظيماً لأنه كان غير واثق من النصر من ناحية، ولأنه كان يريد التراجع نحو الجنوب للدفاع عن بلاده وهي شبه جزيرة البيلوبونيز من ناحية أخرى. وقد عقد القواد ثلاثة مجالس حربية ظهر فيها هذا التردد بأجلى معانيه، لذلك لم يكن أمام تيموستوكل إلا أن يسلك سيبل التهديد والوعيد، فهدد بترحيل العائلات الأثينية إلى بلدة سيريس في جنوب شبه جزيرة إيطاليا واتخاذها مقاماً للأثينيين جميعاً. وهم بهذه الهجرة يتركون الإسبرطيين وبقية اليونان وحدهم، فلم يستطع القائد الإسبرطي بعد هذا إلا أن يسلم بوجهة نظر تيموستوكل وهو صاغر للنصيحة ومستسلم لهذا الإرشاد، آملاً انتهاز فرصة مقبلة لتنفيذ رأيه القاضي بالتقهقر والتراجع، وهو قد رأى هذه الفرصة قد أقبلت حينما علم بحركات الأعداء وقرب إقدامهم على الهجوم، فعزم على التراجع نحو الجنوب من جديد. وتفسير ذلك أن أجزرسيس عاهل الفرس جمع قواده في فالير واستشارهم فيما يجب أن يتخذوه من أمر لأنفسهم في هذه المعركة، فأشاروا كلهم بضرورة الهجوم ما عدا الملكة أريتميز ملكة الدوريين في جنوب غرب آسيا الصغرى، وحجتهم في ذلك أن المكان ضيق فهم يستطيعون إذن القضاء على أسطول اليونان إذا ما هاجموه هجوماً عنيفاً، وقد غاب عنهم أن المكان ضيق لا يبيح لهم القيام بحركات تطويق أو التفاف أو انقضاض، وإنما يحتم عليهم أن ينبسطوا انبساطاً، وبذلك تنعدم الفائدة عن التجمع والتركيز فيسهل لسفن الإغريق الصغيرة الحجم أن تتسلط على سفنهم الكبيرة فتحاصرها في هذا المكان الضيق وتصليها ناراً حامية.
ولكن من أين لتيموستوكل هذا الهجوم وهو يكاد يكون الفرصة الوحيدة التي تجبر اليونان على التزام أماكنهم وإجبارهم على القتال؟ لم يجد تيموستوكل أمامه إلا المكر والخداع، وذلك بأن يحث الفرس على المضي في حركاتهم الهجومية، بل والإسراع فيها، فأرسل إلى ملكهم رجلاً من أتباعه يثق فيه كل الثقة - هو الخادم سيكينوس - لإبلاغه أن اليونان يحاولون الهرب من المضيق نحو الجنوب، ولإيقافه أيضاً على حالة اليونان وتصويرها(432/24)
على أنها تنم عن انقسام في الرأي وتشعب في المصالح واختلاف في الرغبات؛ فإذا أراد القضاء التام على أسطول اليونان فليس له إلا أن يقوم بهجومه هذا، بل ويسرع فيه؛ وقد اقتنع ملك الفرس بهذا الرأي، ووقع في الفخ وأسرع في الهجوم، فاضطر اليونان إلى أن يلزموا أماكنهم ولا يبرحوها، وبذلك نجح تيموستوكل في حمل اليونان على البقاء في مضيق سلامين والقتال فيه!
ثم التحم أسطول الفرس بأسطول اليونان، وانتصر اليونان انتصاراً عظيماً كان له دوي هائل في البلاد المتحضرة حينذاك، وليس لنا أن نتحدث هنا عن تفاصيل هذه المعركة البحرية الحاسمة التي كان لها شأن في تقرير مصير بلاد اليونان لمدة قرنين على أقل تقدير، وإنما لنا أن نقرر هنا أن الفخر في إحراز هذا النصر الحاسم إنما يرجع أولاً وقبل كل شيء إلى تيموستوكل القائد الأثيني العظيم. من أجل هذا، لا نعجب إذا علمنا أن جائزة عظيمة منحت له لجسارته وشجاعته وحسن توجيهه للمعركة.
وهذه المعركة تعد في نظرنا أهم عمل أتاه تيموستوكل في حياته فهي من المعارك الحاسمة في التاريخ، إذ على إثرها زال الخطر الفارسي عن بلاد اليونان أو كاد؛ وقد كانت هزيمة الفرس شنيعة جداً، وبقدر ما كانت هذه الهزيمة ساحقة، بقدر ما كان نصر اليونان عظيماً وحاسماً. ولقد اضطر أجزرسيس بعد ذلك إلى ترك بلاد اليونان، ورجع إلى بلاده في غير إبطاء ولا تمهل، لأنه كان يخشى عواقب هذه المعركة، ومر بمضيق الهيلليسبونث، وهناك رأى الجسور التي كان قد بناها من قبل قد اقتلعتها الزوابع والأعاصير، والشعوب التي كان قد أخضعها وهو في طريقه إلى أثينا قد قامت بالثورة ضد سلطانه ونفوذه؛ فلم يجد أبداً من أن يترك ببلاد اليونان جزءاً من جيشه للاحتفاظ بسلطان الفرس على هذه البلاد، ولانتهاز فرصة ربما تسنح في المستقبل للتغلب على اليونان.
أما اليونان، فقد انقسموا على أنفسهم بعد زوال الخطر عنهم، فاعتقد الإسبرطيون كما سبق أن اعتقدوا من قبل هم وغيرهم من بقية اليونان بعد موقعة ماراتون، أن معركة سلامين نهائية، لا يجسر الفرس أن يأتوا بعدها إلى بلادهم لغزوها. ورأى الأثينيون غير هذا الرأي، إذ كانوا أكثر من الإسبرطيين حصراً وتبصراً بعواقب الأمور، فاعتقدوا أن الفرس لا شك سيعيدون الكرة من جديد، وقد كانوا على حق في ذلك، لأن الفرس لا زالوا ببلاد(432/25)
اليونان يأتمرون بإمرة قائدهم ماردونيوس الذي قادهم في العام التالي إلى موقعة (بلاثية)، وفيها التحموا بالجيش اليوناني وعلى رأسه الإسبرطي بوزانياس، وكان أن انتصر اليونان من جديد، وكان الانتصار عظيماً أيضاً.
ولقد أسهبنا في الحديث عن مقدمات معركة سلامين لأن النصر فيها راجع إلى تيموستوكل قبل أن يرجع إلى أي شخص آخر، ولم نخض في تفصيلاتها الحربية التي لها مجال آخر غير هذا المجال وكنا مضطرين اضطراراً إلى هذا الإسهاب لأن هذه المعركة من أهم المعارك التي أثرت على عقلية اليونان، ذلك أن اليونان لضعف أمرهم ولصفو شأنهم لم يؤلموا أن يحرزوا هذا النصر الحاسم ضد أكبر دولة قوية في هذا العصر وهي دولة الفرس لذلك كان هذا الانتصار انقلاباً عظيما في بلاد اليونان ووضعها بالنسبة للدول الأخرى، من أجل هذا قويت نشوة الفرح والسرور عندهم وزادت ثقتهم بأنفسهم؛ وكان لهذه المعركة أيضاً دوي عظيم وتأثير كبير على العقلية اليونانية إذ ألهمت أحد كبار الشعراء وهو (إشيل) فجعلته يكتب، وقد كان شاهد عيان للمعركة، وتراجيدية رائعة هي تراجيدية الفرس في أسلوب قوي فتان رفع من شأن اليونان وقوى الثقة بأنفسهم بقدر ما وضع من أمر الفرس وعاهلهم (أجرزسيس) فزادت حماسة اليونان وقوي شعورهم بأنهم أصبحوا دولة جديدة سيكون لها شأن خطير في التاريخ. لذلك كانت هذه المعركة بداية لعصر جديد هو عصر ازدهار الحضارة الإغريقية وفيه وصلت الآداب اليونانية إلى القمة وتطورت العلوم والفنون، بل ونظم الحكم التي حققت ما ترنو إلى تحقيقه الحضارة الأوربية الحديثة من حرية ومساواة، فكانت الديمقراطية الأثينية في عصر بركليس وكانت الآداب اليونانية في عهد إشيل وسوفوكليس.
واعتزت أثينا بعد ذلك بهذا النصر، فاعتبرها اليونان صاحبة الفضل في إبعاد الخطر الفارسي عنهم، فالتفت حولها الدويلات اليونانية الصغيرة وعلى الأخص البحرية منها التي توجد في بحر إيجه وطلبت إليها أن تدافع عنها ضد غزوات الفرس وتهديداتهم، فكانت هذه الحركة بداية لتكوين حلف ديلوس الشهير، وهو أساس الإمبراطورية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلاد.
ونحن لا يهمنا بعد أن بينا فضل تيموستوكل على هذا النحو، أن يحاول هيرودوت أبو(432/26)
التاريخ الغض من شأن تيموستوكل والإقلال من أمره، فكل ما أثاره حوله من ريبة وشكوك لا نثق فيه مطلقاً. وقد عرفت أيها القارئ الكريم من المقالة الأولى أن هيرودوت كان شديد التحامل على بطلنا هذا حتى قسا عليه قسوة شديدة. والغريب أن هيرودوت يتهم تيموستوكل بالخيانة العظمى نحو قومه، ويحاول أن يقنعنا بأنه أرسل إلى ملك الفرس من يخبره بأنه لن يتعقبه هو وأسطوله، بل على العكس من ذلك سيحتفظ بالأسطول اليوناني في جزيرة سلامين، وليس هناك من شك في أن كلام هيرودوت مناقض للواقع. صحيح أن الأسطول لم يتعقب الأسطول الفارسي أثر الموقعة مباشرة. وسبب هذا راجع إلى أن اليونان كانوا في غفوة هي غفوة الانتصار، ذلك أن الانتصار كان عظيماً جداً بحيث أدخل على قلوبهم الفرح والسرور فلم يصدقوا أنفسهم أنهم أحرزوا هذا النصر الحاسم، ولكنهم بعد أن أفاقوا من هذه الغفوة تعقبوا الأسطول الفارسي حتى جزيرة أندروس فوجدوه قد لاذ بالفرار فلم يعد بإمكانهم الالتحام به لإبادته والقضاء عليه؛ ونحن نرد هذا الاتهام أيضاً لأن أعمال تيموستوكل خير شاهد على أنه كان يخدم وطنه بصدق وإخلاص، فقد كان هو الوحيد الذي عمل على أن يلزم الأسطول اليوناني سواحل جزيرة سلامين للدفاع عن الأسر اليونانية المكدسة في هذه الجزيرة وعن أرض الوطن المقدسة، فكيف يجوز لعقولنا إذن أن تصدق، إن كان لها منطق سليم تفكر به أن بطلاً قومياً هذا شأنه في العمل على القضاء على عدوه بكل الطرق والوسائل يخون قضية وطنه وهو لم يدخر في سبيل ذلك وسيلة إلا اتخذها كالمكر والخداع حينما أوقع ملك الفرس في فخه فأوهمه أن اليونان ينقسمون على أنفسهم وعلى وشك الهروب من المكان الضيق الذي كانوا به عند سلامين بعد ما علموا من بدء تحرك الفرس وإقدامهم على الهجوم، مما حفز عاهل الفرس على الإسراع في هجومه، وكان هذا الإسراع من أسباب فشله، ومن العوامل التي ساعدت تيموستوكل واليونان على إحراز هذا النصر الحاسم.
ليس هناك من شك في أن تيموستوكل بطل يوناني عظيم خدم القضية اليونانية بكل صدق وإخلاص؛ وهو وإن كان قد تخلى عن هذه القضية القومية فإن ذلك كان يعد موقعة سلامين وهو لم يلتجئ إلى هذا إلا بعد خطوات، إذ الواقع أن سياسته تطورت جد التطور، فبعد أن كان يأخذ صف اليونان ويدافع عنهم بشدة، نجده يسير رويداً رويداً نحو جانب الفرس حتى(432/27)
يصبح من أتباعهم والخاضعين لهم والقائمين بخدمة سلطانهم ونفوذهم، وأمرْ هذا التطور عجيب له قصة شائقة سنعرضها عليك أيها القارئ الكريم في مقالة مقبلة إن شاء الله.
محمد الشحات أيوب(432/28)
من كتاب (البحث عن المستقبل)
إمبراطورية ابن السعود
للأستاذ روم لاندو
بقلم الأستاذ حسن السلماني
طيف ملك
المفروض أن السفارات الأجنبية والمفوضيات السياسية أنها تنقل البلاد التي تمثلها إلى قلب عاصمة الإنجليز. فمن (بلجريف سكوير) تفوح روائح سيام، ومن (بورتلند بليس) تهب نسائم شيلي. ولكن مما يؤسف له أن أغلب هذه السفارات تستبدل بعادات بلادها عادات الأقطار التي أرسلت إليها، وهذه لعمري نقص كبير في التمثيل. أما في المفوضية العربية بلندن فلا تجد مظاهر الحياة الأوربية متسعاً لها.
لقد تعرفت بالشيخ حافظ وهبة وزير المملكة لعربية السعودية المفوض بأحد المؤتمرات التي عقدت بلندن والتي اشتركنا سوية بها. ومعرفتنا هذه أدت إلى توحيد العلاقات الودية بيننا فزالت الحجب وصرنا صديقين حميمين.
ولم تكن البساطة الظاهرة في مقام الشيخ حافظ ولا النكهة الطيبة في القهوة العربية التي يكثر تقديمها لزائريه مما جعلتني أكثر التردد على المفوضية العربية، وإنما شوقي لزيارة المملكة العربية السعودية هو الذي كان يدعوني إلى ذلك. والحقيقة أن طيف بن السعود ملك البادية المخيم على تلك المفوضية كان يجذبني دائماً إلى قاعة الاستقبال في (إيتون بليس)
وعندما طلبت التأشير على جواز سفري أفهمت أن أمر ذلك بيد جلالة الملك وحده. وليس للوزارة الخارجية أو المفوضيات إلا تقديم طلبات الراغبين بزيارة البلاد له، وهو وحده الذي يجيز لهم الدخول للمملكة، وجلالته يسمح لمن يشاء ويرفض من يشاء. ومن حسن حظي أن الشيخ حافظ وهبة كان على أهبة السفر إلى المملكة العربية السعودية فاغتنمت تلك الفرصة ورجوته أن يقدم طلبي بنفسه لجلالة الملك.
وبعد عشرة أسابيع من مغادرة البلاد الإنجليزية دعيت إلى المفوضية العربية وأخبرت بموافقة سيد الجزيرة العربية على زيارتي لبلاده.(432/29)
وتتجلى الروح العربية بأجلى مظاهرها في المفوضية العربية بالقاهرة. فبناء المفوضية من الطراز القديم، وغرفة السفير بسيطة خالية من الطنافس الأوربية الغالية، والقائم بشؤون المفوضية يرتدي الملابس العربية البدوية؛ وإن نظراته الحادة النافذة إلى أعماق قلوب زائريه وسمرة محياه واسوداد لحيته توحي لزائريه صورة من صور البادية وساكنيها.
ولا يتحدث السفير لزائريه إلا باللغة العربية، لا لأنه يعجز عن التكلم بلغة أخرى، ولكن لأن العرف العربي يحتم عليه ذلك. ويشعر المتحدث إليه لأول وهلة بأن نفسه تتوق لخيل الصحراء، وتصبو لجمال الرمال، وتشتاق لخيام البادية؛ ولولا ما تقتضيه التقاليد لعاف ما يحيط به من أثاث أوربي لا يلتئم وطبعه، ولاستبدل به الفراش العربي الوثير. وعندما قابلته المرة الأولى تردد في التأشير على جوازي، ولم يفعل ذلك إلا بعد أن أبرق إلى مكة طالباً موافقة جلالة الملك. فلما جاءته الموافقة زاد في إكرامي واعتبرني من ضيوف جلالة سيده. وفي زيارتي الأخيرة للمفوضية أقام لي وليمة عربية فاخرة اختتمها بحديثه الشيق عن الدور المهم الذي لعبه لورنس في الحجاز، ولم نفترق إلا ونحن صديقان حميمان.
جدّة
كانت الباخرة التي أقلتنا من السويس إلى جدة باخرة إيطالية صغيرة لم تر منذ أن أنزلت إلى البحر شيئاً من العناية أو الاهتمام. وكأن الخدم الصوماليين اعتادوا الإهمال حتى فيما يرتدون من ملابس بيضاء. وكانت ابتساماتهم الكثيرة وحسن تصرفهم لا تعوض عن رداءة الطعام. ويبدو لي أن الدعاية الإيطالية أغفلت البواخر الصغيرة المخصصة لنق المسافرين من إيطاليا فجدة فالحبشة. ويعزى سبب ذلك، حسبما أعتقد، إلى أن أغلب راكبي تلك البواخر من الإيطاليين أو المصريين أو العرب.
وكان من بين المسافرين القلائل شاب في قبيل العمر عرفت منه أنه ابن لأحد أغنياء المدينة المنورة قادم من اسطنبول حيث كان يدرس الطب بجامعتها. وكان يرتدي هذا الشاب الملابس الإفرنجية ويتكلم اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويكثر من تدوير جرامافونه الصغير. وفي أحد الأيام دعاني إلى سماع جرامافونه في حجرته (قمرته) وما كادت رجلاي تتخطيان عتبة تلك الحجرة حتى شعرت بأن جميع المتناقضات اجتمعت في ذلك الشاب، وأن معالم المدينة الغربية وعالم الطب الحديث لا أثر لهما في تلك الحجرة(432/30)
الصغيرة. فالمقاعد والكراسي، وحتى قاع الحجرة مغطاة بالرزم وبالصناديق وبالعلب، وكأن أحواض الغسيل خصصت لحفظ الموز والبرتقال، والرفوف عملت للطعام ولتعليق اللحم. والويل لمن أراد التنقل في تلك الحجرة الضيقة، فإن قدميه لا بد أن تصطدما بقدر أو بآنية ملقاة على الأرض، أو قد تزلان من أثر قشرة موز أو قطعة من البرتقال أليس هذا من المتناقضات؟ أو ليس بغريب أن تجد شاباً يدرس الطب بجامعة اسطنبول يستطيب طهي الطعام بنفسه وأكله على الطريقة العربية وحده؟
ومن الغريب حقاً أن ذلك الشاب لم يتردد في تقديمه الخمر والسجاير لمعارفه وهو عليم بأن قانون بلاده يحرم ذلك. إن في أفعال هذا الشاب يتجلى كرم المسلمين ممتزجاً بالملاذ التي لا يبيحها الدين الإسلامي. وكنت طوال سفري أسائل نفسي: أكان هذا الشاب مثالاً لشباب بلاده، أم قدر لي أن ألاقي في المملكة الوهابية ما لاقيته في مصر؟
و (جدة) بلد غريب كأنه مجموعة من البيوت الخالية في التناسق قذفها اليم إلى شاطئه المقفر المغطى بالرمال. فمياه البحر أمامها، والتلال الجرداء خلفها، والرمال تغطي الميمنة منها والميسرة. ومما يزيد في غرابة منظرها اختلاف أشكال أبنيتها: فبعضها مرتفع متعدد الطبقات، وبعضها واطئ يقتصر على طابق أو طابقين. وجميع هذه الأبنية مطلية بالجير المطفأ. والمدينة محاطة بسور قديم يضم تلك (الناطحات) البيضاء. أما أزقتها فضيقة، وهذا ما يجعل المنازل تبدو أعلى مما هي عليه من ارتفاع.
وتظهر (جدة) للقادم بأبنيتها الطينية العالية كأنها صورة ممسوخة لمدينة (نيويورك)، لكن ما يكاد يقترب المسافر من الشاطئ، حتى تظهر له الشرفات الخشبية التي يدعوها الناس هناك (بالمشربيات)، ويستطيع تمييز النقوش الجبسية المقتبسة من الفن الفارسي أو الطراز التركي التي تزين أبواب المنازل، والتي لا تعبر عن ذوق أو عن دقة في الصنعة أو مهارة في العمل.
ولا يفصل الصحراء عن المدينة إلا سور قديم كثير الأبواب عديد المسالك. وتحتل الأسواق والمقاهي وميادين بيع الحيوانات محلاً وسطاً بين المنازل. أما المفوضيات الأجنبية، فليست ببعيدة عن الأسواق والمحلات التجارية. ولولا كثرة الذباب وانتشار الغبار وضيق الطرق وقذارتها، لصح أن يقال: إن (جدة) مدينة جميلة. وتبدو المدينة أثناء الليل -(432/31)
وبالأخص في الليالي المقمرة - أكثر روعة وجمالاً مما هي عليه في النهار. وإن المتجول في أزقتها الضيقة، ليحسب نفسه خلال تلك الليالي النيرة في عالم غريب أو في مدينة خالية. . .
الله أكبر. . .
وصلت (جدة) خلال موسم الحج لمكة. وتبعد مكة هذه خمسة وخمسين ميلاً عن جدة مينائها المهم والموضع الذي يضع الحاج ركبه فيه بعد طول السفر، وبعد ما قاسى من صنوف المشاق ما قاسى. وهي المرسى الذي ترسو فيه البواخر المقلة للحجاج من أقصى الأرض ومن أدانيها: من جاوة وسومطرة، من الهند وزنزبار، من السودان ومراكش، من الهند الصينية والصومال.
وقد بلغ عدد الحجاج في ذلك العام نيفاً ومائة ألف ازدحمت بهم الشوارع، واكتظت بهم الأسواق، وضاقت بهم المدينة. وكانوا يمثلون جميع الأجناس البشرية ومختلف ألوان الناس، ففيهم السيدات الجاويات الرشيقات اللاتي يسترن أجسامهن المستدقة بالساري الحريري الجميل، ويتجولن في الشوارع والأسواق جنباً لجنب مع أبناء البادية أصحاب النظرات الشزرة والشعور الكثة المغبرة، والأصوات الخشنة العالية؛ وفيهم الصينيون بعيونهم اللوزية، واليمانيون بجفونهم المثقلة، والنجديون بسيمائهم الناطقة بشدتهم وخشونتهم، والذين سرحوا شعورهم وضمخوها بالطيوب، وكحلوا عيونهم بالكحل، الفاحم، وبينهم من وضع حول عنقه قلادة مرجانية أو عقداً زجاجياً، وبينهم من تدلت من بيد أصابعه مسبحة كهرمانية طويلة، وفيهم من تجلبب بالملابس الكثيفة، ومن ترك جسمه عارياً إلا من قطعة قماش صغيرة تستر ما يجب ستره.
وفي اليوم الذي وصلت فيه (جدة) كان بعض الحجاج في عودته من مكة، وبعضهم يتأهب للسفر لزيارة قبر النبي (ص). ومنذ أن وطئت قدماي أرض الحجاز، أخذت أسائل نفسي عن العوامل التي توحد بين هذه الأقوام المختلفة خلال أيام الحج. ولكنني لم أقض بينهم أيام حتى أدركت أن قدسية البيت بمكة وحرمة القبر بالمدينة أقوى العوامل في التأليف بين قلوب هذا العدد العديد في المسلمين، وفي توجيههم وجهة واحدة على ما هم عليه من تباين في القومية واختلاف في العنصرية. ومع أنهم لا يتخاطبون فيما بينهم بلغة واحدة، ولا(432/32)
يتبعون تقاليد متماثلة، ولا تجمعهم رغبات موحدة، فإن وحدة إيمانهم خلقت بينهم ألفة ومحبة تعجز عن خلقها أي وحدة سياسية أو مبدأ اقتصادي آخر.
وفي جميع زياراتي للحجاز لم أشاهد أو أسمع عن شجار واحد وقع بين أهل تلك البلاد وبين إخوانهم الحجاج، مع أن جل أولئك الناس كانوا من الذين لا يضعون حداً لمشاكلهم ولاختلافاتهم إلا بالسيف والخنجر. ولا يرجع هذا لشدة بأس الحكومة وقوة شكيمتها فحسب، بل إلى تغلغل العقيدة في نفوسهم، واستقرار الإيمان في أعماق قلوبهم.
ولا نعني بهذا أن ليس من خلاف بين الطوائف الإسلامية، ولكن الذي يمضي لزيارة الحجاز أثناء موسم الحج يؤمن معي أن في الدين الإسلامي قوى تؤلف بين معتنقيه أشد وأقوى من تلك التي تفرق بينهم. والذي ينعم النظر ويطيل التأمل في أولئك الحجاج لا بد أن يشعر بأنهم بمجيئهم إلى هذه الأرض المقدسة قد طهرا أنفسهم من أدران النفعية الداعية لكل خلاف والمسببة لكل تفرقة. وكأن القبلة التي يتجهون إليها طهرت نفوسهم وألانت قلوبهم، فصيرتها أكثر تسامحاُ وأقل قساوة مما كانت عليه قبل أن تطأ أقدامهم تربة الحجاز.
ولا أدري، أيحق لنا - نحن أبناء الغرب - أن نستمر في تبجحنا بأن المسيحية تستطيع أن تؤلف بين طوائفنا المتباينة وأقوامنا المتناحرة، فتضع بذلك أسس الإخاء وتشيد أركان المحبة في أوربا المسيحية؟ متى يا ترى نؤمن. وقد كثرت اختلافاتنا فأثرت في نفوسنا الخيلاء والفخار بأن الدين أشد القوى التي تستطيع الوقوف بوجه ما يهدد كياننا الاجتماعي من أخطار؟
يعتقد المسلمون أجمعون أن الحج للبيت أعظم ما يقومون به من عمل في حياتهم. وجلهم يؤمن بأن هذه الفريضة الدينية أكثر أهمية وأوفر أجراً من كل ما يأتيه المسلم من شعائر دينية أو من طقوس مذهبية. فالحج فريضة على كل مسلم ومسلمة، وفيه يمتحن الخالق عباده المؤمنين. ويندر بينهم من لا يعلل نفسه ويمنيها بزيارة الأرض المقدسة، ما دام أول الحج عبادة وآخره عيداً.
والغريب من أمر هؤلاء المسلمين أنهم يتهافتون على الحج على ما فيه من مصاعب ومتاعب وأهوال. وهم شاعرون بأن تلك الجهود والشدائد قد تودي بحياتهم كمال أودت بحياة الألوف من إخوانهم من قبل، فكانت خاتمة حياتهم رقدة هادئة بين طيات التربة(432/33)
المباركة أو بجوار البيت المقدس. ومن حسن حظ المسلمين أنه منذ أن وضع ابن السعود يديه على أرض الحجاز ساد البلاد أمان وعمها رخاء، وأخذ الحجاج يتمتعون باستقرار واطمئنان بعد ما ظلوا سنين طويلة يقاسون، فضلاً عن أهوال السفر ومشاق الطريق، اعتداء البدو من سكان الحجاز ونهبهم لأموالهم وأمتعتهم وطمع الموظفين الحجازيين فيهم.
وما تكاد تطأ قدما الحاج أرض الحجاز ويمتع بصره بمنظر جبالها الجرداء ووديانها القاحلة حتى يشعر بزوال ما كان يقاسيه من عذاب أثناء سفره الشاق. فكأن رؤية شواطئ البلاد المقدسة تذهب التعب عن نفسه، وتزيل المصاعب من سبيله، وتنسيه ما ينتظره من متاعب عند ما يعود إلى وطنه. وكم كان عجبي شديداً عندما شاهدت في صباح يوم وصولي إلى جدة جماعة من الحجاج شاخصين نحو تلك التلال الجرداء التي تخفي وراءها فبلة المسلمين وأمنية كل فرد منهم. وكانت عيونهم تشع بنور الفرح، وأفواههم صامتة حائرة، وقلوبهم خافقة واجفة من وقع ذلك المنظر الذي كان يوحي إليهم السر الإلهي والإيمان الصادق.
والله وحده يعلم ما سيشعرون به عندما يقفون خاشعين نادمين على ما اقترفوا من ذنوب وما آتوه من آثام حيال الكعبة المقدسة بكسوتها الموشاة بالذهب، أو عندما يستلمون بأيديهم المرتعشة الحجر الأسود المبارك، وعندما يضعون شفاههم عليه؛ ذلك الحجر الذي جاء به جبريل من السماء لإبراهيم الخليل، والذي ظل المسلمون يقدسونه طوال القرون الثلاثة عشر الماضية.
إن الأيام التي يقضيها الحاج بمكة والتي لا تزيد على خمسة عشر يوماً تمر كالحلم عليهم، وفي هذه الأيام القلائل ينصرفون إلى عبادة الله متناسين ما في الأرض من متاع زائل، كاظمين ما في قلوبهم من أحقاد، كابتين ما في نفوسهم من شهوات، متغاضين عن جميع الاختلافات العنصرية، والفروق المذهبية، والمطامع الفردية؛ كأنما اجتمعت أرواحهم جميعاً تحت سماء الكعبة التي سطرت على غطائها آيات القرآن وأحاديث الرسول.
وكم من الحجاج يستطيع التعبير عن شعوره أثناء وقفته تلك؟ إن ذلك اليوم هو اليوم الذي تنتصر فيه الروح على الجسد؛ وإن تلك الوقفة في ذلك الحرم المترامي الأطراف لوقفة تقرب المسلم من المسلم، وتجعله يسعر نحو أخيه في الدين بأعظم ما يشعر به نحو ابن(432/34)
أمه.
البصرة - العراق
حسن السلمان(432/35)
9 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي إدورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الأول
وملابس أغلب الموسرات من الطبقة الدنيا تتألف من سروال كشنتيان السيدات الراقيات، إلا أنه من أبيض القطن أو الكتان الواحد الشكل؛ وقميص أزرق ن الكتان أو القطن لا يكون بسعة قميص الرجال، يصل إلى القدمين؛ وبرقع أسود من غليظ الكريب؛ وطرحة زرقاء قاتمة من الموصلي أو الكتان. وبعضهن يلبسن فوق القميص أو بدلاً منه ثوباً من الكتان كثوب السيدات الراقيات (شكل 26)، وبعضهن يلبسن قميصاً قصيراً تحت القميص الطويل ويضفن إليه أحياناً صديرياً أو عنترياً. وتشمر أكمام الثوب فوق الرأس حتى لا تضايق الشخص أو لتحل محل الطرحة. وقد يتدثر بعضهن فوق هذه الثياب بمعطف ذي مربعات شطرنجية يشبه الحبرة ويلبس مثلها أو مثل الطرحة ويتكون من قطعتين من القطن المنسوج أشكالاً مربعة زرقاء وبيضاء، أو خطوطاً متشابكة تصبغ أطرافه بصبغ أحمر. ويسمى (ملاية) (شكل رقم 27). ويزين أعلى البرقع بلآلي زائفة، وقطع صغيرة من النقود الذهبية، وبعض الحلي الذهبية الصغيرة المسماة (برق) وأحياناً بخرزة من المرجان تحتها قطعة من النقود الفضية وبعض النقود الذهبية وغالباً بحبات من النحاس أو الفضة تسمى (عيون) تعلق في الأطراف (شكل رقم 28). وتلف الرأس بمنديل أسود يسمى (عصبة) بحاشية حمراء وصفراء، يطوى منحرفاً ويعقد عقدة واحدة من الخلف (شكل رقم 29). وقد يلبس الطربوش والفاروديه بدلاً من العصبة. وأحس الأحذية التي ينتعلها نساء الرعاع تكون من الجلد الأحمر المراكشي المنثني الطرف ولكن يغلب أن يكون طرفها مستديراً. والبرقع والنعال شائعا الاستعمال في القاهرة والوجه البحري. أما(432/36)
في الصعيد فقلما يستعملان وعند الضرورة يستبدل بالبرقع إسدال الطرحة على الوجه. والملاحظ أن نساء الطبقات السفلى حتى في العاصمة لا يتنقبن. والثياب الشائعة في معظم القطر المصري هي القميص الأزرق أي الثوب، والطرحة. أما في أقاليم الصعيد الأقصى، وعلى الأخص ما فوق مدينة أخميم، فأغلب نسائها يتغطين بقطعة من الصوف الأسمر القاتم تسمى (هلالية) تلف حول الجسم وتضم أطرافها فوق الكتفين (شكل رقم 30) وتستعمل قطعة مثلها كطرحة. وهذا الثوب القاتم اللون بالرغم من جماله يشوه هيئتهم كالوشم الأزرق الذي يرسمنه على شفاههن. والكثير من نساء الطبقة الدنيا يتحلين بحلي زائفة مختلفة من أقراط وعقود وأساور ومن خزام الأنف أحياناً، وبعضها موصوفة ومصورة في ملحق الكتاب.
ويرى المصريات أن واجب تغطية الرأس وما خلفه أولى من تغطية الوجه، وحجب الوجه أولى من حجب أكثر أجزاء الجسم. وكثيراً ما رأيت في هذا البلد نساء لا تكاد تسترهن أسمالهن الحقيرة، وأخريات في زهرة الشباب أو في متوسط العمر لا يحملن على أجسادهن غير خرقة ضيقة تشد حول الوركين.
الفص الثاني
الطفولة وتربية الأطفال
يسترشد المسلمون في تربية أطفالهم والاعتناء بهم بأوامر الرسول (صلعم) وتعاليم الأئمة. ومن أول الواجبات عند ولادة الطفل التأذين في أذنه اليمنى، ولا بد أن يكون المؤذن ذكراً. ويقرأ بعضهم الإقامة، وهي تشبه الآذان تقريباً، في الأذن اليسرى. والغرض من ذلك حفظ الطفل من الجن. وقد يتلى للغرض نفسه عبارة: (باسم الرسول وابن عمه علي)
وكانت استشارة المنجمين قبل تسمية الطفل واتباع ما يختارونه له، عادة شائعة في مصر والبلاد الإسلامية الأخرى. وقلما يتبع أحد الآن تلك العادة القديمة فيختار الأب لابنه اسماً من غير احتفال ولا تكلف؛ أما تسمية البنت فتكون عادة باختيار الأم. وكثيراً ما يسمى الأولاد بأسماء الرسول (صلعم) (محمد، أحمد أو مصطفى) أو أهل البيت (علي، حسن، حسين الخ. . .) أو أصحابه الأفاضل (عمر، عثمان، عمر الخ. . .) أو الرسل والأنبياء(432/37)
مثل: (إبراهيم، اسحق، إسماعيل، يعقوب، موسى، داود، سليمان الخ. . .) أو يسمون عبد الله، عبد الرحمن، عبد القادر وما شابه ذلك. . . أما البنات فكثيراً ما يسمين بأسماء نساء الرسول أو ابنته الحبيبة أو غيرهن من نساء عائلته مثل خديجة، عائشة، أمنه، فاطمة، زينب أو يسمين بأسماء تعني محبوبة، مبروكة، نفيسة الخ. . . أو بأسماء الزهور أو أي معنى لطيف آخر.
ولما كان الاسم لا يتحتم توارثه على العموم، فقد جرت العادة أن يميز الشخص بعلم أو أكثر: إما (كنية) مثل (أبو علي)، (ابن أحمد). . . الخ. أو (لقب) مثل (نور الدين)، (الطويل) الخ. . . أو (اسم) يتعلق بالبلد أو المولد أو الأصل أو المذهب أو التجارة أو الحرفة. . . الخ. مثل: الرشيدي، الصباغ، التاجر. وكثيراً ما يتوارث بعض هذه الأعلام وعلى الأخص الألقاب والنسب فتصبح لقب العائلة.
أما ملابس أطفال الطبقتين الوسطى والعليا فهي كملابس الوالدين، ولكنها قذرة غير مهندمة. ويلبس أطفال الفقراء إما قميصاً وطاقية من القطن أو طربوشاً، وإما أن يتركوا عراة حتى سن السابعة أو ما بعد ذلك. وقد لا يصعب عليهم الحصول على خرقة تستر بعض الجسم كما في أغلب القرى. ويلاحظ أن البنات الصغيرات اللاتي لا يملكن إلا قطعة من رث النسيج لا تكفي الجسم والرأس معاً، يفضلن تغطية الرأس، وأحياناً يدفعن الدلال إلى حجب الوجه بفضلة من النسيج بينما يترك الجسم كله مكشوفاً. أما الراقيات في سن الرابعة أو الخامسة، فيلبسن كأمهاتهن النقاب الأبيض. ويحلق رأس الولد، حينما يبلغ الثانية أو الثالثة أو قبل ذلك، وتترك له خصلة في وسط الرأٍس وأخرى فوق الجبهة. وقلما يحلق رأس البنات. ويحمل الأطفال فوق أكتاف أمهاتهم ومربياتهم على هيئة ركوب الخيل، أما إذا كانت المسافة قريبة فيحملون فوق الورك.
لا تظهر الموسرات في تربية أطفالهن تسامحاً زائداً وشفقة مفرطة، ولكن الفقيرات لا يبذلن نحوهم إلا العناية القليلة بقدر ما تقتضيه الطبيعة من الحاجة الضرورية. وقد جعل الشرع تمام الرضاعة حولين كاملين إلا إذا وافق الزوج على غير ذلك، فيفطم الطفل عادة بعد السنة الأولى أو بعد سنة ونصف سنة. وينشأ الطفل - ذكراً أو أنثى - في الأوساط الموسرة، بين جدران الحريم، أو على الأقل داخل المنزل. ويستمر هكذا - تحت رعاية(432/38)
النساء - حتى يعهد به إلى معلم يعلمه القراءة والكتابة كل يوم. ومن المهم ملاحظة أن ما يتعلمه الطفل في الحريم من واجبات الاحترام المشوبة بالعطف والمحبة نحو الوالدين وكبار السن، يهيئه للاتصال بالعالم الخارجي كما سترى بعد قليل.
وكثيراً ما يصطحب النساء أطفالهن عند الخروج للزيارة أو للتنزه؛ فتحمل كل جارية أو خادمة طفلاً أو تجلسه أمامها على الحمار، إذ جرت العادة أن تركب الخادمات مثل سيداتهن الحمير. وكان النساء إذا ركبن الحمير أدلين كل ساق علىجانب ولكن قلما ينعم الأطفال الأغنياء بهذه التسلية الهينة؛ فقد أثر على صحتهم طول الحجاب وشدة العناية وإفراط التغذية؛ فيصبحون لذلك كثيري التقلب، متكبرين، أنانيين. ويندر كذلك أن يشتد نساء الطبقة الوسطى في تربية أطفالهن. ويتوقف تقدير الزوج لزوجه أو تقدير الناس لها إلى درجة كبيرة على كثرة النسل والعناية بالأطفال؛ لأن الشرقيين رجالاً ونساء، أغنياء وفقراء، يعتبرون العقم لعنة وعاراً. ومن الشائن أن يطلق الرجل امرأته بلا سبب ما دامت قد ولدت له طفلاً وما دام الطفل حياً. فالمرأة الولود تكون موضعاً لحب الزوج واحترام الناس، وبيتها يكون مثابة للسرور والإيناس.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(432/39)
ليالي القاهرة
بين الشاعر والريح
للدكتور إبراهيم ناجي
الشاعر:
لَسْتُ أَنْسَى أبَداً ... سَاعَةً في الْعُمُرِ
تَحْتَ رِيحٍ صفَقَّتْ ... لاِرْتقاَص الْمَطَرِ!!
نَوَّحَتْ لِلذِّكرِ ... وَشَكَتْ لِلْقَمرِ
وَإِذا ما طَرِبَتْ ... عَرْبَدَتْ في الشَّجَرِ
هَاكَ مَا قَدْ صَبَّتِ الري ... حُ بأُذْن الشاعرِ
وهْيَ تُغْرِي القَلْبَ إغْرَا ... َء النَّصِيحِ الفاجرِ
الريح:
أوَ كلُ الُحْب في رَأ ... يكَ غُفْرَانٌ وَصَفْحُ
أيُّهَا الشَّاعرُ تَغْفُو ... تَذْكُرُ الْعَهْدَ وَتَصْحُو
وَإِذا مَا التَامُ جُرْحٌ ... جَدَّ بالتَّذْكاَرِ جُرْحُ
فَتَعَلمْ كيفَ تَنْسَى ... وَتَعلمْ كَيْفَ تَمْحُو
هَاكَ فَانْظُرْ عدَدَ الرَّمْ ... لِ قُلُوباً وَنَساءْ
فَتَخَبَّرْ مَا تَشاءْ ... ذَهَبَ الْعُمْرُ هَباءْ
ضَلَّ في الأَرْضِ الذي يَنْ ... شُدُ أَبْناء السَّمَاءْ
أيُّ رُوحَانيةٍ تُعْ ... صَرُ مِنْ طِينٍ وَمَاءْ
الشاعر:
أيُّها الريحُ أجَلْ لَكنَّمِا ... هيَ حُبي وَتَعِلاْتي وَيَأسي
هِيَ في الْغَيْبِ لقلْبي خُلقَتْ ... أَشْرَقَتْ مِنْ قْبلِ أَنْ تُشْرِقَ شَمسي
فَعَلَى تَذْكاَرِهَا أطْبَقْتُ عُيَنْي ... وَعَلَى مَوْعِدِها وَسَّدْتُ رَأسِي
يَا لَها مِنْ صَيْحَةٍ مَا بَعَثَتْ ... عنْدَهُ غَيْرَ أَلِيمِ الذكرِ(432/40)
أَرِقَتْ في جَنْبهِ فَاسْتَيْقَظَتْ ... كَبَقَايَا خِنْجَرٍ مُنْكَسرِ
لَمَعَ النَّهْرُ وَنَادَاهُ لَهُ ... فَمَشَى مُنْحَدراً لِلنَّهرِ
ناَضِبَ الزَّادِ وَمَا مِنْ سَفَرٍ ... دُونَ زَادٍ غَيْرُ هَذا السَّفرِ
الشاعر:
يَا حَبيبي كلُّ شيْء بقَضَاءْ ... مَا بِأيْديِنَا خُلِقْنَا تُعَسَاءْ
رُبَّما تَجْمَعُنَا أَقْدَارُنَا ... ذاتَ يَوْمٍ بَعْدَ مَاعَزَّ اللقَاءْ
فَإذا أَنْكَرَ خلُّ خِلهُ ... وَتَلاَفَيْنَا لِقَاَء الْغُرَبَاءْ
وَمشَى كلُّ إِلى غَايِتِهِ ... لاَ تَقُلْ شِئْناً وَقُلْ ليَ الَحْظُّ شَاءْ
إبراهيم ناجي(432/41)
صرخة!!
للأديب عبد الرحمن الخميسي
عَلامََ أَضْحَكُ وَالآفاقُ بَاكِيةُ ... وَالشَّمْسُ تَحْجُبُهَا الأنَواءُ وَالظُّلمُ
وَالريحُ قُد دَمْدَمَتْ في السَّهْلِ فَاختَنَقَتْ ... بِهَا الأزَاهِرُ صَرْعَى وَهْيَ تَبْتَسمُ
وَالسَّيلُ يُجَرْفُ مِنْ يَلقَاهُ مُؤتَلقاً ... حَيَّا وَيَتَركُ من أَحْرَى بهِ الْعَدَمُ
وَالنَّارُ تأكلُ ما اخضَرَّتْ مْناَبتهُ ... أمَّا الَهِشيمُ فَتُبْقِى عُمْرَهُ الرمَمُ
عَلامََ أَضْحَكُ يا رَباهُ مِنْ زَمَنِي؟ ... وَشاطئَي فَوْقَهُ الأَهْوَالُ تَرْتَطمُ!
لَكِنهَا ضحْكةُ البُرْكانِ قَاَذفةً ... مِنْ قلبيَ النَّارَ أَذكى أصْلَهَا الأَلمُ
إني أَقُولُ لهذا الدَّهرِ في صَلَفٍ: ... إشْرَبْ دِمائيَ وَاثمَلْ أيُّها النهِيمُ!
وَخُذْ فَهذا فُؤادِي في يَدِيَ قَلقٌ ... واشبعَ فيهاتَ يغشَى مُهْجَتي السأَمُ
هَيهاتَ تَبْلغُ إذلالِي وَتُخضِعُني ... إني عَتِيٌ قَوِيٌ ثَائِرُ بَرِمُ!
وَإنْ تَمزقْ ضُلوعي منكَ صَاِئَبةُ ... فَفي فَمِي مِنْْ جِرَاحي بَسْمَةُ وَدَمُ!
عبد الرحمن الخميسي(432/42)
البريد الأدبي
حول كلمة (هناء)
سبق للأدباء أن قتلوا لفظة (هناء) بحثاً منذ ست سنوات ولا بأس من إيراد طرف من أقوالهم تعميماً للفائدة:
قال الأستاذ أسعد خليل داغر: إن الهناء صحيح، لأنه اسم مصدر من هنأ بتشديد النون كالسلام من سلم والعزاء من عزى والكلام من كلم
وقال الأستاذ يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء: اشتهر في هذه الأيام التي كثر فيها الاجتهاد وشغف الناس بالانتقاد أن الواجب أن يقال هناءة لا هناء، وهذا من قصور الاطلاع. ففي كتاب الهمز لأبى زيد الأنصاري المطبوع ببيروت صفحة 25 ما يفيد صحة ذلك ووروده. وكذلك في كتاب (الفلك المشحون) ليونس المكي المتوفى في القرن الثامن ما يفيد ذلك أيضاً (ص163) ومثل ذلك قول الأديب الكبير ابن نباته:
هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما
وقول إمام العربية محمد بن مالك في حروف الزيادة ذلك البيت المشهور:
هناء وتسليم تلا يوم أنسه ... نهاية مسئول أمام وتسهيل
وهو الذي قال: إني قرأت صحاح الجوهري فلم أستفد منه غير كلمتين
وقال الأستاذ محمد الدسوقي صاحب كتاب (الألفاظ العامي): الهناء والهناءة بمعنى - جاء صحيفة 24 من الجزء الرابع من المخصص: هنأني يهنئني والاسم الهناء.
وقال الأستاذ وحيد بأهرام 561935: إن الهناء لفظ عربي
وكفى ذكر وروده في تاج اللغة وصحاح العربية جاء فيه: هنأ
يهنئني بفتح فسكون، ويهنئوني فتح فسكون هنأ وهناء.
ترى أيكتفي اللغويون والمتأدبون بما تقدم فيدعو كل منهم لأخيه بالهناء، أم سوف يقوم قائم منهم بعد ست سنوات أخر فينكر هذا اللفظ؟
يجمل بالجمع اللغوي أن يهتم بمثل هذا الصواب المخطأ ويذيعه في نشرات على الناس، فمن الخير تصحيح الخطأ، أما تخطئة الصواب، فجريمة لا تغتفر.(432/43)
(القناطرة الخيرية)
محمد فتح الباب
إلى الأستاذ الكبير أ. ع
ذكر الأستاذ الكبير (أ. ع) في العدد 424 من الرسالة أن الكتاب والبلغاء يخطئون في استعمال كلمة (عَبْر) في نحو قول الصحف (ومن زمن قريب ادعت اليابان لنفسها حق مرور قواتها عَبْر شمال الهند الصينية) وقولها: (كلما فرغت مصانعنا من إخراج طائراتنا الضخمة أو جاءت إلى هنا عبر الأطلنطي) وقال إنها ترجمة خاطئة لكلمة إنجليزية ذكرها
وإن الكتاب جعلوها في نسج الكلام ظفراً كما يصنع الإنجليز بكلمتهم فأخرجوها عن معناها ووضعها اللغوي بلا مسوغ مطلقاً.
قلت: قد جاءت هذه الكلمة في شعر إسلامي لسواد بن قارب الكاهن حين وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً
روى صاحب الجمهرة أن سواداً قال لعمر بن الخطاب: إن نجياً من الجن أتاه في ثلاث ليال متتابعة وبشره بظهور نبي يدعو إلى الحق. قال سواد: (فلما أصبحت يا أمير المؤمنين أرسلت لناقة من إبلي وأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وبايعت وأنشأت أقول):
أتاني نجّي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد عهدت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمَّرت عن ذيلي الإزار وأرقلتْ ... بيَ الدعلبُ الوجناء عَبْر السباسب
(مقدمة جمهرة أشعار العرب ص26)
ومن ثم يرى الأستاذ الكبير أن الكلمة صحيحة كما يستعملها الكتاب على عهدنا.
ولو أننا أردنا تخريج الكلمة على وجه صحيح لوجدنا أكر من وجه خلافاً لما يقول الأستاذ، واقرب هذه الوجوه عندي أن تكون عَبْر مصدراً مراداً به اسم الفاعل فتكون حالاً مما قبلها ويكون التقدير (مرور قواتها عابرة شمال الهند الخ) و (أو جاءت إلى هنا عابرة الأطلنطي)
والمصدر يقع في موضع اسم الفاعل كما قال الله عز وجل: (إنْ أصبحَ ماؤكمُ غوراً) أي غائراً، ويقال رجل عدل أي عادل ويوم غمُ أي غامُ، كما يقع اسم الفاعل في موضع(432/44)
المصدر نحو قول الشاعر:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاج قائماً ومقام
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً منِ فيَّ زور كلام
وبعد. فلعلي أتيت الأستاذ الكبير بما يطمئن به قلبه والسلام.
(بني سويف)
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة الابتدائية
حول تقرير مراقب التعليم الأولي
كان تقرير الأستاذ مصطفى شكري بك المنشور بعدد 431 من (الرسالة) بمثابة اعتراف صريح ببراءة المعلم من تبعة إخفاق التعليم الإلزامي، وإلقاء هذه التبعة على كاهل الذين وضعوا أصوله ورسموا فصوله، وأسسوا قواعده، وشرعوا مناهجه! وأهم هذه الحقائق التي وردت في التقرير هي: عدم صلاحية النظام النصف يومي، وعدم كفاية الزمن لدراسة مواد المنهاج، وإرهاق المعلمين بتدريس 48 حصة في الأسبوع، وضآلة المرتبات، وعدم العدالة في الترقيات، وتنازع السلطة بين الوزارة ومجالس المديريات. . .
هذه حقائق لا مراء فيها، ولا يستطيع أحد أن ينكر أثرها في فشل هذا التعليم، كما لا يستطيع أحد أن يحمل المعلم تبعة شيء منها، لأنها ليست من عمله، وقد رفع صوته منادياً بإصلاحها فلم يسمع له أحد قولاً. . .!!
وقد أشار التقرير إلى ضرورة العناية بإعداد المعلم، وعندي أن الوزارة قد أهملت المعلم من ناحيتين:
الأولى عدم استقرار المناهج في مدارس المعلمين، وعدم موافقتها لمقتضى الحال. والثانية إهمال مكتبات المدارس الإلزامية وعدم تزويدها بالكتب النافعة المفيدة التي يمكن للمعلم أن يرجع إليها ويستعين بها على توسيع ثقافته. فليس في مكتبة المدرسة الإلزامية غير مختار الصحاح وتفسير الجلالين!!
أما علوم اللغة والدين والفقه والتاريخ والأدب وغيرها، فليس فيها منها ولا كتاب واحد!(432/45)
على أن هذا لم يمنع الكثير من المعلمين من الاعتماد على أنفسهم في اقتناء الكتب المختارة والمجلات النافعة. فاستطاعوا بفضل ذلك أن يظهروا على غيرهم، وأن يحصلوا على الشهادات العالية من منازلهم.
ومن غريب المفارقات أن الوزارة بينما تبخل على المعلم الإلزامي حتى بالكتاب الذي يستفيد منه، تعطى الكثير من الكتب لمكتبات مدارسها الثانوية والابتدائية، وهي تعلم أن هذه الكتب ستبقى كما هي لا تقلب صفحاتها يد، ولا تنظر إليها عين، وأن شأنها شأن القرط عند مقطوعة الأذنين!
فعسى أن يكون لتقرير الأستاذ المراقب عند الوزارة من الأثر العملي ما يرتجيه المشفقون وما يقدره المخلصون.
(المنصورة)
علي عبد الله
حول نقد كتاب (كليلة ودمنة)
ستصدر ابتداءً من العدد المقبل بقية مقالات الدكتور عبد الوهاب عزام في الرد على نقد الأستاذ عبد السلام هارون في كتاب (كليلة ودمنة)(432/46)
القصص
حوار عند الغروب
للقاص الفرنسي بيير لويس
للأديب عبد الغني العطري
(بيير لويس شخصية أدبية فذة لها مكانتها الرفيعة في عالم الرواية والقصة والفكر. ولو لم يكن لهذا الكاتب سوى روايته الخالدة (آفروديت) التي تجري حوادثها في مدينة الإسكندرية، ولو لم يكن له من أبطاله سوى (كريزيس) صاحبة تمثال (حياة خالدة) لكان ذلك كافيا لجعله في مقدمة زعماء الرواية العبقريين.
وكما برع لويس في الرواية فقد برع في القصة والأقصوصة أيضاً، وله في ذل مجموعة نفيسة سماها قصص مختارة، والقطعة التي نقدمها اليوم لقراء الرسالة الزهراء تحتل المكان الثاني في هذه المجموعة الرائعة. ولعل أقوى ميزات هذه الأقصوصة الحوار الطريف (الساذج) الذي أجراه الكاتب على لسان راعية وراع.
(ع. ع)
أركاس - أيتها الفتاة. . . يا ذات العينين السوداوين
مليتا - لا تمسني!
- لن أمسك. . . سأظل بعيداً عنك - كما ترين - يا أخت آفروديت ويا ذات الشعور الجميلة المعقدة على شكل عناقيد من العنب. هأنذا أقف على جانب الطريق دون أن أستطيع الذهاب، لا إلى الذين ينتظرونني، ولا إلى الذين خلفتهم ورائي
مليتا - أذهب! أذهب! إنك تتكلم عبثاً، وتفوه بما لا طائلة تحته أيها الراعي من غير غنم، ويا جواب الطرق المشبوهة الوعرة إذا كنت لا تستطيع بعد سلوك الطريق العام فاذهب إذن عن طريق الحقول، على ألا تطأ قدماك مرجي المخضوضر. أنت الذي لا أعرفه. . . وإلا ناديت واستغثت
- من عساك تنادين في هذه الوحدة؟
- الآلهة التي تسمعني(432/47)
- إن الآلهة يا فتاتي الصغيرة بعيدة عنك الآن أكثر مما أنا بعيد عنك بكثير ولو كانت على مقربة منك لما منعتني من إبداء إعجابي بجمالك وسحرك، لأنها تفخر بوجهك الصبوح وتزدهي وتعلم أنه تحفتها الرائعة
- صه أيها الراعي صه! إليك عني. لقد حظرت أمي عليَ الإصغاء إلى أقوال الرجال. إني في هذا المكان أرعى نعاجي الكثيرة الصوف وأحافظ عليها إلى أن تتضيف الشمس ثم تأوي إلى مرقدها. يجب عليَ ألا أصغي إلى أصوات الفتيان الذين يمرون بهذا الطريق، مع أنسام المساء والغبار المتطاير
- ولم ذلك؟
- لست أدري السبب، غير أن أمي تعرفه بدلاً مني. . . لم يمض بعد ثلاثة عشر عاماً على ولادتها إياي فوق سريرها المصنوع من ورق الشجر، وسأكون عاقة لها إذا لم أصدع بكل ما تأمرني به
- لم تفهمي يا فتاتي مقصد أمك الرءوم. . . إن أمك طيبة عاقلة، حسناء محترمة. . . لقد حدثتك إذ حدثتك عن البرابرة الذي يجوبون الحقول والأرياف وهم يحملون المجان في يسراهم والسيوف في يمناهم. . . هؤلاء يا فتاتي يستطيعون إيذاءك لأنك ضعيفة وهم أقوياء. . . لقد قتل هؤلاء الأشرار في المدن التي احتلوها خلال الحروب البغيضة كثيراً من العذارى الحسان اللواتي يضاهي جمالهن جمالك. ولئن عثروا بك في طريقهم فلن يشفقوا عليك. . . أما أنا فأي أذى أستطيع إلحاقه بك، ولست أحمل سوى جلد الخروف على كتفيَ، وهذه العصا في يدي. . . انظري إلى ملياً. . . أمخيف أنا إلى هذا الحد؟. . .
- لا أيها الراعي. . . لست مخيفاً. . . إن ألفاظك عذبة ناعمة، لذا يمكنني أن أصغي إليها طويلاً؛ ولكنهم حدثوني فقالوا: إن أعذب الكلام وأحلاه أكثره إمعاناً في الغدر والخداع، وذلك حين يغمغم به شاب في أذني واحدة منا نحن الفتيات. . .
- أأفوز منك بجواب إذا وجهت إليك سؤالاً؟
- أجل. . .
- بم كنت تفكرين تحت الزيتونة السوداء عندما مررت؟
- لا أريد أن أخبرك به. . .(432/48)
- ولكني أعرفه!
- قله لي. . .
- إذا سمحت لي بالدنو منك، وإلا فسألزم جانب الصمت، لا أستطيع أن أقوله إلا همساً. . . في أذنك، لأنه سرك وليس سري. . . أتأذنين لي بالدنو. . . وأن آخذ يدك بين يدي. . .؟
- قل. . . بم كنت أفكر؟
- في نطاق زفافك. . .
- ولكن. . . من أنبأك بهذا؟ أكنتُ أتحدث بصوت مرتفع؟ أأنت إله أيها الراعي فتقرأ من مسافة بعيدة ما يجول في خواطر العذارى؟. . . لا تنظر إلى هكذا. . . لا تحاول أن تقرأ أفكاري في هذه اللحظة. . .!
- كنت تفكرين بنطاق زفافك وبالرجل المجهول الذي سيحل عقدته ببعض من ألفاظه المعسولة العذبة التي تخشينها الآن. . . تُرى، أتخلو هذه أيضاً من الخيانة والغدر؟
- إني لم أستمع إليها بعد. . .
- ولكنك تستمعين إلى كلماتي، وتنظرين إلى عيني. . .!
- لا أريد بعد أن أراهما. . .
- سترينها في الحلم. . .
- أيها الراعي. . .!
- لماذا ترتعشين عندما آخذ يدك في يديّ. . .؟ لماذا تنحنين عندما أضمك إلى صدري. . . ولم يبحث رأسك الكليل عن كتفي. . .؟
- أيها الراعي. . .!
- أكان في الإمكان أن أضمك هكذا بين ذراعي وأنت شبه عارية. . . لو لم أكن زوجاً لك على وجه التقريب؟
- ولكن لا. . . لست زوجاً لي. . . دعني. . . دعني. . . إني خائفة. . . إليك عني فأنا لا أعرفك. دعني، إن يديك تؤذيني. . . دعني. . . فلست أريدك!
- لم تتحدثين إليَ أيتها الطفلة بلسان أمك؟(432/49)
- لا ليست هي التي تتحدث إليك، بل أنا التي أتحدث، إني عاقلة مفكرة. إليك عني أيها الراعي فأنا أخجل أن آتي بمثل ما فعلته (تاييس) أو (فيليرا) أو (كلوي) اللواتي لم ينتظرن يوم زفافهن، بل تعلمن أسرار (آفروديت) وأخذن ينسلن أولادهن في الخفاء!. . . لا. . . لا. . . لن أستسلم! في إمكانك أن تمزق قميصي فلن أستسلم إليك أيها الراعي! سأخنق نفسي بيدي هاتين قبل أن تنال مني مأرباً
- ولِمَ كل ذلك؟ بل ماذا صنعت؟ لقد لمست قميصك ولم أمزقه. . . ولثمت نطاقك دون أن أفك عقدته. ليكن ما تشائين! سأتركك تذهبين حيث أردت. . . هيا اذهبي. . . اذهبي. . . لم لا تذهبين؟
- دعني أبكي
- لعلك تحسبين أن حبي لك قليل ضئيل حتى أسلبك من نفسك ثم أدعك تستسلمين إلى أحزانك؟ أكنت أتحدث إليك هكذا مطولاً لو أني لم أكن راغباً منك بغير ساعة من اللذة البهيمية التي تستطيع أية فتاة راعية أن تمنحني إياها؟ أما أنبأتك عيناي بما أريد؟ ولكنك لا تنظرين إليهما أبداً. . . وإنك تحجبين عينيك، وترسلين عبرتيك
- أجل. . .
- ولكن. . . لو شئت لوددت أن أقضي عند قدميك حياة مفعمة بالحب والهوى، ولغمرتك بألفاظي العذبة الناعمة، ولكنت طوقتك بذراعي هاتين، ووضعت رأسي على نهدك، وفمي على ثغرك، ولكنت أرسلت شعرك الجميل يداعبني برفق وحنان؛ ونحن نتناغى ونتبادل القبل. اصغي إلي قليلاً يا فتاتي! لو شئت لصنعت لك كوخاً من أغصان خضر مزدهرة وأعشاب طرية ملأى بالجنادب المغردة والجعلان الذهبية التي تشبه الجواهر في قيمتها!. . . في ذاك المكان تنفردين بي طوال الليالي على فراش أبيض واحد هو معطفي الممدود، وهناك يخفق قلبانا إلى جانب بعضهما إلى الأبد
- دعني أبكي أيضاً
- بعيداً عني؟
- بين ذراعيك. . . وأمام ناظريك!
- أي حبيبتي. . . إن الظلام أخذ ينتشر، وبدأ الليل يرخي سدوله، وشرع النور يتوارى(432/50)
في السماء كطائر مجنح لقد أصبحت الأرض بادية الظلمة. لم يعد يُرى من بعد سوى مجرى الجدول الفضي الطويل الذي يتلألأ كأنه نهر كبير من النجوم حول حقلنا. . . فيا له من نور عظيم!
- بلى إنه لعظيم. . . والآن هيا، قدني
- تعالي. . . إن الغابة التي سندخل الآن بين غصونها المتمايلة التي ستعانقنا جد عميقة، ولعله يصعب على الآلهة نفسها أن تقطعها في رائعة النهار دون أن تصاب بشيء من الرعشة والخوف. وفي تلك الممرات الضيقة لا ترى آثار حوافر آلهة الغابات المزدوجة متقفية آثار الإلهة الغابات. وكذلك لا ترى بين الأوراق عيون آلهة الغاب الخضر، محدقة بأنظار الرجال الفزعة. ولكننا لن نخشى شيئاً ولن نفرق أبداً ما دمنا نحن الاثنين معاً: (أنت. . . وأنا)
- لا، لن نخاف، إني أبكي بالرغم عني، ولكني أحبك وسأذهب معك. إن في قلبي إلهاً! هيا حدثني. . . حدثني كثيراً. . . إن صوتك لينطوي على إله أيضاً!
- أرسلي شعرك الجميل حول عنقي، ولفي ذراعك حول نطاقي، وضعي وجنتيك على وجنتي. انتبهي واحذري. يوجد هنا حجارة. اخفضي بصرك. . . يوجد هنا جذور. . . الأرض ندية رطبة، والعشب تحت أقدامنا العارية. غير أني أشعر بحرارة نهدك تحت يدي
- لا تبحث عنه، إنه. . . صغير، إنه. . . فتيّ، إنه. . . غير جميل. في الخريف الماضي لم يكن أكبر منه ولا أنضج من يوم ولادتي. وكثيراً ما كان صديقاتي يسخرن مني بسبب ذلك. لقد بدا نموه في الربيع مع براعم الأزهار. لم يعد في طوقي مواصلة المسير
- تعالي. . . إننا نمشي في الظلام. . . في الدجنة، لم أعد أرى وجهك. لم نعد نظهر، لقد لفنا الظلام واحتوانا الليل. تعالي نذهب إلى تلك الدوحة الكبيرة، أمام أشعة القمر. إن ظلها لكبير. . . إنه يمتد إلى حيث نحن. هيا. . . تعالي!. . .
- إنها ضخمة. . . إنها في حجم قصر!
- قصر زفافك الذي يفتح أبوابه لاستقبالنا نحن الاثنين في جوف هذا الليل المقدس
- إني أسمع ضجيجاً. . . إنه حفيف النخيل
- تخيل حفلة الزفاف الصخَّاب(432/51)
- وهذه النجوم؟
- إنها المشاعل
- وهذه الأصوات؟
- إنها الآهة
- أيها الراعي، لقد دخلت هذا المكان وأنا عذراء مثل (أرتميس) التي يسطع علينا نورها من بعد. . . من خلال الأغصان السود، والتي قد تكون مصغية إلى حديثنا الآن. لست أدري أأحسنت في مجيئي معك إلى هذا المكان، أم لم احسن، ولكني كنت أحس أن روحاً بين جنبي تنبعث وأنا معك، روحاً قدسية بعثها صوتك في أعماقي. لقد منحتني السعادة الكاملة إذ منحتني يدك
- أيتها الفتاة. . . يا ذات العينين السوداوين، لم يَسْعَ أبوك ولا أبي إلى لمِّ شملنا وتهيئة هذه السعادة لنا، أمام مذبح مواقدهم وأنا أستبدل ثروتي بثروتك. نحن فقيران فنحن حران إذن. إذا كان أحد قد سعى إلى زواجنا في هذا المساء فارفعي عينيكِ، إنهم الأولمبيون حماة الرعاة
- أي زوجي. . . ما اسمك؟
- أركاس. . . وما اسمك؟
- مليتا.
(دمشق)
عبد الغني العطري(432/52)
العدد 433 - بتاريخ: 20 - 10 - 1941(/)
لو!
للأستاذ عباس محمود العقاد
من فكاهات الصحافة الأمريكية التي اطلعت عليها أخيراً قصة موضوعة على ما يظهر، فحواها أن رجلاً صارماً من المطبوعين على حب الزجر والتنديد لقي في بعض المنازه رجلاً آخر يدخن لفيفة نفيسة، ويبدو عليه الاستمتاع بتدخينها والارتياح إلى تقليبها بين شفتيه؛ فاستباح لنفسه أن يخاطبه، وجرت بينهما المحادثة التالية:
- كم لفيفة من هذا النوع تدخن في كل يوم؟
- نحو عشر
- وكم ثمن الواحدة منها؟
- خمسة قروش على التقريب
- يا للعجب! خمسون قرشاً كل يوم تذهب دخاناً في الهواء. . . فكم سنة مضت عليك وأنت تدخن؟
- ثلاثون سنة!
إن خمسين قرشاً في اليوم تجتمع منها في ثلاثين سنة ثروة عظيمة. . . أليس كذلك؟
- بلى كذلك
- أفلا ترى تلك العمارة الجميلة التي على ركن الطريق؟
- بلى أراها!
- إنك لو لم تدخن قط لتسنى لك أن تملك تلك العمارة! قال واضع الفكاهة: وهنا عاد المسئول سائلاً وانثنى يسأل المندد الزجار:
- هل تدخن؟
فقال الرجل متأففاً مزهواً: كلا! ما دخنت قط ولن أدخن أبداً
فسأله مرة أخرى: وهل تملك أذن تلك العمارة؟
قال: كلا!. . .
قال: ولكنني أنا مالكها. . .!
هذه قصة فيها مجال طويل للتأمل واختلاف النظر بين حظوظ الحياة وضروب المتعة فيها(433/1)
فأي الرجلين على خطأ وأيهما على صواب؟
إن واضع القصة قد سهل لنا أن نعرف خطأ المندد الزجار، لأنه أظهر لنا أن التدخين لم يحل بين الرجل المدخن وبين ملك العمارة التي تساوي تكاليف التدخين في ثلاثين سنة
ولكننا نفرض أن الرجل لم يكن مالكها؛ فهل يكون حتماً لزاماً أنه من المخطئين وأن لائمة المتصلف على صواب؟؟
إذا قيل نعم أنه لمن المخطئين لأنه فقد عمارة كان في وسعه أن يجدها أمامه، فلماذا لا يقال أن العمارة كانت مفقودة في السنين الثلاثين ولم يكن موجوداً في حسه غير لذة التدخين؟؟
نعم إن لذة التدخين لا تجتمع لبنة فوق لبنة، وطبقة فوق طبقة، وجداراً إلى جانب جدار؛ ولكن إلا يوجد الشيء إلا إذا لمسناه لمس الجدران؟ ألا يكون له أثر إلا إذا صدمنا في الطريق كما تصدمنا العمارات؟ ألا يجوز أن لحظات التدخين قد هيأت لصاحبها فرص ارتياح وثمرات حساناً من ثمرات الحياة؟ ألا يجوز أنها أرضته حيث كان وشيكاً أن يغضب؟ وأسلست آراءه حيث كانت وشيكة أن تختلط وتتعقد؟ وشجعته على العمل حيث كان وشيكاً أن يتهاون ويتراجع؟ ألا تحسب هذه اللحظات في ثلاثين سنة لأنها لا تقاس بالمتر ولا ترصد بالأرقام؟؟
تلك لعنة النقود المسكوكة، وذلك مدى تأثيرها في قواعد التفكير وفي أصول النظر إلى الأشياء فالنقود المسكوكة من المخترعات التي علمت الناس نمطاً من الفكر لم يكن مطبوعاً ولم يكن من الضروري أن يفكروا على مثاله وينظروا إلى الأمور بمنظاره لولا اختراع النقود!
وكثير من الأشياء كانت تكون لها في تقويم الناس قيمة كبرى لولا أنهم تعودوا أن يقوموا كل شيء بعدد القطع من الذهب والفضة
بل كثير من الأشياء كانت تبطل قيمته الشائعة وكان يبطل الصراع عليه والتناحر حوله لولا اختراع النقد وشيوع التقويم على حسابه
فقلّ أن يعرف الناس اليوم قيمة لشيء لا يتحول إلى كذا من الدنانير وكذا من الدراهم
ومع هذا كم في الدنيا من قيم غاليات لا تتحول إلى نقد ولا تباع بالنقد، وليس لها في سوق النقد حساب؟(433/2)
إن لذة التدخين محسوسة، فالذي ينكرها يسهل على المدخنين أن يعرفوا خطأه أو يعرفوا الناس بخطئه ولو بعض التعريف
ولكن اللذات لا يحسها المنكرون كثيرات، وهي لو أمكن تحويلها إلى ذهب وفضة لملأت الخزائن وأدارت حركة المصارف سنوات
فواحدة من اثنتين: إما أن تتحول ذهباً وفضة لنصونها عن البخس والنكران، وإما أن تعرف خطأ الحساب الذي يدار على الذهب والفضة في تقويم قيم الحياة. ويومئذ يربح الناس خيراً كثيراً ويستريحون من عناء كثير، لأنهم لا يعرضون عن لذات نفسية أو فكرية كل ذنبها أنها لا توزن بالدرهم والمثقال، ولا يتناحرون على قنية هي في ظاهر الأمر ملك وفي باطنه حرمان واضع القصة أرانا أن المدخن كان هو مالك العمارة، وأن التدخين لم يفوّت عليه ملكها؛ ولكنّ واضع القصة كان يستطيع أن يخطو وراء ذلك خطوة فيقول لنا أن الرجل لم يكن ليملك تلك العمارة لولا تدخينه أو تدخينات زينت له رأياً من الآراء أو صفقة من الصفقات، فكانت العمارة بعض هذه الثمرات
وأقول هذا ولست أدخن الآن، ولا أنا مؤمن بضرورة التدخين لمن يفكرون
بل أقول هذا وكنت أدخن أربعين لفيفة في اليوم زمناً من الأزمان، فلا أذكر أنني أشعلت لفيفة وأنا أكتب لأستعين بها على الكتابة، وربما أطفأتها لأكتب أو اقرأ أو أقلب الرأي في مسألة من المسائل، فليس من تجاربي أن التدخين والتفكير متلازمان، وكل ما أعنيه أن السرور الذي يشعر به المدخن ينبغي أن يحسب وإن لم يتمثل في صورة الحجارة والحجرات، وهكذا ينبغي أن يحسب كل سرور
كذلك لا دخل هنا للأخلاق والموازين الأدبية في صواب التقويم والتقدير؛ فإن صاحب العمارة قد يملكها بمال مكسوب من السحت والربا الفاحش، ثم لا يقدح ذلك في قيمة العمارة عند تقويمها بين البائعين والشراة
والسرور الذي يداخل الحس قد يرجع إلى الحرام المحظور فيدان كما يدان الحرام المحظور، ثم لا ينفي هذا أنه في سرور وليس بغم ولا عذاب
ولهذا يجب أن توضع في الميزان ثلاثون سنة في المتعة التي تذهب دخاناً في الهواء ولا تتحجر لبنات وعمارات في الطرقات. والفارق بين هذه وتلك أن العمارة تنقل من مالك إلى(433/3)
مالك ولا ينقل السرور الذي يستمتع به صاحبه أو يشتري منه بمال.
وهذه تفرقة سارية في عرف السوق؛ ولكنها ليست بسارية في عرف الحياة
فسرور الأب بابنه لا ينقل ولا يباع، ولكنه مع هذا أنفس من نفائس الأموال
وسرور العين بالجمال لا ينقل ولا يباع، ولكنه مع هذا ثروة تفلس الدنيا بفقدانها أيما إفلاس ومقياس النفاسة، صعد الاقتصاديون أو هبطوا، وصاح رجال المال أو سكتوا، هو في نهاية الأمر مقدار ما توحيه من شعور.
فالعمارة لا تساوي حفنة من تراب إذا كانت لا تنتقل من يد إلى يد ولا يصطحب انتقالها بسرور بائع أو سرور شار أو سرور مستأجر
ونفس واحد من لفيفة واحدة أنفس من جميع العمارات التي لا نترجمها شعوراً في حالة البيع أو الشراء أو حالة الاستئجار، أو في حالة النظر إليها إن كان النظر إليها باعث شعور.
أليس الاطمئنان إلى الرزق هو خير ما تقتني من أجله العمارات؟ فالاطمئنان إذن هو ثمن العمارة الصحيح، ولولا أنه شعور مطلوب لما بذلت في أضخم العمارات أرخص الدريهمات. ولكن هب مالك العمارة غير مطمئن إلى رزقه؟ وهبه خائفاً عليها من الحريق أو خائفاً عليها من إفلاس شركات التأمين؟ وهبه كثير الهواجس من جراء ملكها ومنازعات المنازعين فيها، فهي إذن فقر في حسابه وفقر في حساب كل مقتن لها يشعر في اقتنائه إياها بمثل هذا الشعور
نسي الناس هذه الحقيقة وخسروا بنسيانها، لأن العملة سكت عقولهم بطابعها فأصبحت القيمة مرهونة بما يباع بكذا من الدراهم أو كذا من الدنانير، وبطلت القيم النفسية التي هي الأساس وهي المرجع في تقويم متع الحياة
ولو بقيت لنا رغباتنا وآمالنا كما كانت قبل اختراع النقد واختراع المال على الإجمال لتغير وجه التاريخ وتغيرت هموم النفوس وتغيرت أسباب الحروب والخصومات وأسباب النضال على العروض والمدخرات
ولتقريب هذا المعنى تخيل أن العملة وبديلاتها ستبطل بعد أسبوع فماذا يكون؟ إنك لتبصر في هذه الحالة من يعطي بيتاً ليشرب قدحاً من الليمون وليس بنادم ولا معدود من السفهاء(433/4)
أو تخيل أن كل متعة في الحياة أصبحت لا تنال إلا بهذه العملة الشائعة فماذا يكون؟ إنك لتبصر في هذه الحالة من يعطي تراث الأرض لينعم بشعاع من أشعة الشمس والقمر
أو تخيل أن كل نعمة روحية أو فنية قد أستطيع تحويلها بعد اليوم قروشاً وجنيهات فماذا يكون؟ إنك لتبصر في هذه الحالة رجلاً من أصحاب القرائح يشتري دولتين أو ثلاث دول بفكرة خالدة توحي إليه
وسيأتي لا ريب يوم يثوب الناس فيه إلى تفكير طليق من أسر العملة ومن طابع المسكوكات. فيومئذ يعرفون الغنى الصحيح ويرهبون الفقر الصحيح، لأنهم يبذلون الجهد بمقدار حقه فيدخرون كثيراً من ضائع الجهود في غير طائل، ويأخذون حسبما يبذلون، ثم لا يقومون الأشياء بمقدار صلاحها للانتقال من مالك إلى مالك في غير جدوى؟ بل بمقدار صلاحها للبقاء في الخواطر والأرواح وهي شاعرة بما تستبقيه.
عباس محمود العقاد
-(433/5)
10 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
زال عهد الصمت والجمود - رسالة يبعثها سر الإنسان -
ضآلة لا تبعث على الاستكانة - لا تتعجلوا النتائج - موارد
فياضة معطلة تنتظر الصنعة - السيد هو إنسان الصناعة -
بين قيادة البقر وقيادة الفولاذ - مضى زمن التخريف في الله
وبقى التخريف في الإنسان - برزخ على هوة! - سر ظهور
الدين قبل العلم - أسس خفية لحياة الاجتماع - أباطل أصلح
للحياة من الحق؟ - مم تفجر نبع الضمير؟ - حيث الأنس
بالإنسان.
قديماً كان كل شيء في الطبيعة صامتاً جامداً أيام بدء ظهور الإنسان. فلم يكن يتكلم غير هو؛ بل كان هو أيضاً أبكم محبوس اللسان لا يتكلم إلا بمقاطع ساذجة وأصوات وجدانية؛ وكانت وجوه الطبيعة صامتة مبهمة، وأبوابها موصدة. . .
والآن صارت الأشياء متكلمة محدثة طليقة الوجوه مفضوحة الأسرار. أنطقها الإنسان الذي علمه الله البيان فعلمه هو بدوره إياها وجرد منها حناجر تحدثه وتعيد عليه حديثه لتؤنسه في رحلته إلى صوب مجهول. . .!
ولقد زادت عجائب الكون بانضمام العجائب الإنسانية إلى العجائب الإلهية في الطبيعة. وكان كفر الإنسان بالله ناشئاً من ذهوله عن بدائع مصنوعاته تعالى، وكذلك صار الآن كفر الإنسان بنفسه ناشئاً عن ذهوله عن مصنوعاته هو!
ألا إن حمله على الإيمان بنفسه رسالة لا تحتاج إلى رسل يبعثهم سرّ السماء إلى الأرض، وإنما تحتاج إلى رسل يبعثهم سر الإنسان ووحي أعماله في الأرض. . .!
وقد ظل الله ربه يقول له وهو طفل جاهل قاصر عاجز: من هنا الطريق. . . إلى الحياة(433/6)
والملكوت. افعل هذا واترك هذا. كن كذا ولا تكن كذا. . . حتى أدرك جادة الحياة الكبرى وبانت له تباشير المدنية المنشودة التي كان يحلم بها ويطلبها من الرسل كمعجزات. فأسرع إليها وغمرت حواسه دهشتها وأعاجيبها، وألهاه ذلك عن التفكير في نفسه فعاش في ضجة ما يصنع كما تعيش دودة القز في الشرنقة. . .
وقد خلى الله بينه وبين الحياة بعد أن ترك له وصاياه في الصحف الأولى. . .
قد يقول قائل: ماذا يريد ذلك الإنسان المحدود من ضجته في الأرض؟ ضجة حناجره ومصانعه ومدافعه وجراراته ودباباته وطياراته وبوارجه؟ إنه ضئيل، وإن مسرحه ضئيل. فهو شيء صغير على سطح الأرض وهي ذرة سابحة مع ملايين الملايين من النجوم والكواكب. فماذا عساه أن يصنع حتى لو ركب الأرض نفسها وصرفّ مقاليد سيرها كما يصرفّ مقاليد طياراته وجراراته؟ أليس الفناء نهايته ونهاية ما يصنع؟
فأقول لأمثال هذا: رويدكم. . . لا تتعجلوا نتائج حياة الإنسان ولا تشكوا في إنها ستكون عظيمة أعظم مما تتصورون بعد أن رأيتم من فعله ما لو رآه آباؤكم لماتوا عجبا!
إنكم تشكون فيه لأنه لم تثبت لحياته نتائج دائمة، وعندكم أن كل أعماله ملاه وسلويات في شئون خاصة كالشئون الخاصة بأي فصيلة من فصائل الحيوان
كذلك قال الذين لا يعلمون من آبائكم مثل قولكم. إذ لم يروا ميتاً يرجع ومفقوداً يؤوب. . .!
ولكن الأمر في حياة الإنسان وخلوده ليس كما تتوهمون أمراً متعجلاً، وليس ماضي عمره على الأرض طويلاً. إنه ثمرة لا بد من نضجها في زمن معلوم تظهر بعده نتائج خالدة وأسرار مخبوءة لها صلة وثيقة بالكون الطبيعي نفسه وبالروح الأكبر الذي وراء الطبيعة
وسيري الذين يذهبون الآن أنهم بعد الموت في دور انكشاف وظهور، إذ لا يعقل أن يمضي هذا الخالق الصغير إلى الفناء المطلق. . .
ثم أقول: ماذا تريدون أن يفعل إذن؟ أتريدونه ينام حالماً يدخن النارجيلة والحشيشة والأفيون كما يصنع أغلب إنسانية الشرق المضيّعة؟ أم تريدونه يجلس فارغاً ينتظر الموت وينشد الأشعار ولهو الأحاديث؟
إن عليه أن يملأ هذه الأرض بالضجة والقوة التي يستطيع تسخيرها، وأن يسلط قوى نفسه الكامنة على هذه المواد الساكنة ويثيرها أيما ثورة ليدخلها في نطاق الحركة بعد السكون(433/7)
والحياة بعد الركود. . . ولا عليه بعد ذلك أنه ضئيل فوق زورق ضئيل يسبح في عيلم كبير. . .
فلو نظر الإنسان إلى جبروت الطبيعة وهول السماء لاستصغر جهده على الأرض مهما عظم ولم يفعل في حياته إلا ضرورات احتياجاته. وبالطبع هذا يرده ضعيفاً مستضعفاً شقياً فريسة لغيره كما كان؛ ولكنه إذا آمن برحابة نفسه وقوة فكره وقدرته على أن يفعل الأعاجيب، وأنه على ضؤولة جسده يستطيع أن يحرك الجبل وينسفه بتسليط قوة طبيعية أخرى عليه. إذاً كان هذا به أولى وعليه أنفع وأجدى، وكان هذا أشرف له إذ يجعله قوة من القوى العاملة الجبارة في الحياة
إن عليه أن يصنع ويتمتع ويتفرج بما يصنع. . . وربما يكون هناك عالم آخر يتفرج أيضاً بما يصنع الإنسان ويتمتع به كما نتمتع نحن بنتاج النحل ومنافع كل كائن أقل منا في الأرض إدراكاً واحتيالاً. . .
إن الطبيعة تغازل فكره وتثيره للعمل فيها منذ أيامه الأولى، فالطفل يبحث في محيطه ويسلط جميع حواسه على محتوياته فيراه ويلمسه ويذوقه ويتسمعه ويشمه حتى يحيط بخواصه ويثير كوامنه ويطلقها خيراً من تعطيلها وسجنها
وقد وجدنا كل ما في الطبيعة من مواردها الكبرى بسيطاً غير معقد، فياضاً بكميات كبيرة جداً، خاضعاً للتعقيد والتركيب والتأليف والتوزيع والتنويع. . . فدلنا ذلك على أن هذه المواد إنما وضعت هكذا هائلة فياضة انتظاراً لصنعة ستتناولها بها يد صناع
وكلما رأيت غزارة ماء الأمطار - وهو أصل الحياة - وكثرة المقادير التي تصبها الأنهار في البحار فتذهب من غير انتفاع إلا بجزء قليل جداً منها. . . قلت: إن هذه الكميات الهائلة إنما أفيضت لا لإخصاب السهول الحافة بها فقط، والتي تصل إليها مياهها في سهولة ويسر. . . وإنما أفيضت لإخصاب هذه الأراضي البور من الصحاري والسهوب الضمآى العقيم. . .
وكلما رأيت مناجم الأرض تمتلئ بالمعادن والركاز المعطلة وهي ذات النفع العظيم والإمتاع الدائم، قلت: هنا موارد ظلت الطبيعة تحفظها في صدرها حتى أتى يوم بعثها على يد من عرف أسرار الانتفاع بها في زمن نمو علوم الآليات والكهرباء(433/8)
وكلما رأيت أغلب مناطق الأرض لا تزال خالية من السكان أو غير متشبعة بهم. . . قلت: هذه مساكن احتياطية لأقوام آتين ستلجئهم ضرورات الزحام إلى سكناها وتعميرها وتعديل مهودها؟ وأجوائها وإخصاب بقاعها. . .
وكلما رأيت البحار السبعة وما فيها من عوالم وعناصر وموارد للطعام والدفء والصناعة. . . قلت: هذه قدور هائلة يطبخ فيها مستقبل مجهول لهذا المخلوق. . .
فهذه المقادير العظيمة من المياه والمعادن والأراضي والغابات ظلت تفيض فيوضها بالكيل الواسع، وتدور دوراتها وترجع من غير أن ينتفع بها أحد انتفاعاً يبرز غزارتها إلى أن أتى عصر تفتح حاجات الإنسان الصناعية والعمرانية بتفتح أسرار الطبيعة لفكره، فإذا بهذه الموارد التي كان يظن البعض أن فيها إسرافاً وتبذيراً يبدو لعيون العلماء وأرباب الصناعات والأعمال أنها موزونة متكافئة مع نمو حاجات الإنسان واتساع افتنانه. . .
هذه الحياة الصناعية البارعة المعقدة كانت هي أعظم الموحيات الآخذات نفسي إلى الإيمان بالإنسان وإلى الكشف عن قوته الإبتداعية النامية المنمية. وإن بها تفرده وامتيازه بين الكائنات في إحداث الأشياء، وفي تغلبه على غيره من الحيوانات، بل وفي تغلب بعض أقوامه على بعض. وقد نمت قوته الصناعية نمواً عظيماً حتى بدت في هذه القوى الساحقة التي يستخدمها الآن في حربه. . .
ولا شك أن إنسان الصناعة هو سيد الأرض. أما إنسان الزراعة فمهما افتن فيها وهندس واجتهد فإن حياته حياة بدائية، لا تعقد الفكر ولا تترك في الأعصاب أثر القوة والابتداع والسيادة. وقد صارت الزراعة الآن خاضعة إلى حد كبير للصناعة ذات تبعية لها. . .
ولذلك رأينا الأمم الصناعية تسود الأمم الزراعية على رغم القلوب الطيبة والمثل العليا التي تشيع بين الزراعيين في العادة منتقلة إليهم من اعتمادهم بعد بذل جهودهم على منزل الغيث وباعث الخصب. . . ومن طول معاشرتهم للنعاج الوديعة والبقر المطيعة والأنعام التي تعطي ولا تأخذ، وتسام على الخسف ومع ذلك تجتر سعيدة حالمة. . .!
وطبيعي أن يتغلب من يدرب أطفاله على ركوب الحيوانات الحديدية وقيادة الوحوش الفولاذية على من يدرب أطفاله على ركوب الحمير والبغال، وقيادة الأغنام والأبقار. . .
وكل ما يحدثه الإنسان في المواد يدل على اتساع مدى نفسه وامتداد خيالها، وأخذها من(433/9)
محيط واسع عميق، وامتياحها من ينبوع زاخر بالصور والأشكال والأنواع، وقوة تعقيد فكرها وقدرتها على إحداث نسب جديد، بين العناصر والمواد. . . وهذا ما لا وجود له في الزراعة
ولكي تدرك ما أرمي إليه، فكر في الحياة الصناعية من المسمار الصغير إلى المصنع الكبير وما بينهما. . .
يلام الإنسان على غفلته عما صنعه هو بيديه وملأ الدنيا به كما كان يلام في العصور السالفة على غفلته عما صنع الله في الطبيعة
ولقد مضى زمن التخريف والضلال في العقيدة بالله رب الطبيعة، لأن الحياة لا تحتمل الجهل به تعالى إلى الحد السخيف الذي كانت فيه عبادة الأصنام والأشخاص والنجوم وغيرها. ولا تحتمل أن تجرد الطبيعة منه تجريداً كالذي كان من المعطلين منكري القصد والإرادة والعناية فيها. ولفظت العقول الأديان التي تعتمد على غير العقل في إثبات حقيقة الوجود الأولى والحقائق التي تليها؛ وعشق الناس جمال الطبيعة وصدقها، وعرفوا من أسرار الصناعة فيها، فيبقي عليهم لتكمل عقائدهم في الحياة أن يتيقظوا دائماً لمنشئها ومديرها، ويتقربوا إليه بالفكر فيه وتكريم اسمه كما يتقربون على الأقل لأساطين علمائهم الذين عرفوا من علومه جانباً ضئيلاً. . .
ولكن جد تخريف وضلال في العقيدة بالإنسان بسبب فرض لم يثبت في نظرية النشوء والترقي، أطلق حوله كثيراً من الاعتقادات الفاسدة. ومقاومة هذا التخريف الأخير هي أهم رسالات الدين في هذا العصر.
هذا الفرض جعل كثيراً من الناس لا يريدون أن يصدقوا أن بينهم وبين الله صلة محترمة أو عناية. وكأنهم يجفلون من التكريم والإحسان اللذين يقول الدين إن الله يصطنعهما في معاملة الإنسان
وهم يقولون إن حياة الإنسان بالنسبة لله تعالى حياة تافهة ضئيلة، وإن بينهما هوة سحيقة لا عبور لها، وأن الحياة الإنسانية على الأرض لا تقدم ولا تؤخر في سير الناموس الأعظم الذي ينتظم الكون. فسواء على الله وعلى الكون أن يضل الإنسان أو يهتدي، أن يعف وأن يشره. . . فتلك شئون خاصة به خاضعة لاعتبارات مجتمعه، وسوف يفني بأخلاقه وأعماله(433/10)
كما تفنى النمال والنحل، وكل ما لبسته الحياة من غير رُجعى أو مصير أكمل. . .
ولكن الواقع أن ضجة الإنسانية وحدها، وتغير الأرض بها وحدها، وتعقد الدنيا بها وحدها، واطراد نمو الحياة المادية وانكشاف خصائصها بها وحدها، وارتقاب غاية مجهولة منها وحدها. . . هي أمور من الحق بحيث تشغلنا عن سواها وعن شبهات ضآلة الإنسان بالنسبة لله. . . وهي ذاتها البرزخ الذي نعبر عليه تلك الهوة التي بيننا وبين الله!
فعندما ينظر ناظر لظاهر مجموع الناس يخيل إليه أنه لا صلة بين قلوبهم وأفكارهم وبين السماء، وأنهم غير مأبوه لهم من صاحب الوجود. . . وحينئذ تنطلق الاعتقادات الفاسدة والتافهة بالحياة وتنطلق وراءها الغرائز الخطرة، وتوجد (طمأنينة الكفر!) وينظر الإنسان للإنسان على أنه شيء تافه يصح سلبه واستعباده وقتله. . .
ولكن عندما ننظر للحياة الإنسانية من داخل القلب نجد النظر يخلق المنظور خلقاً آخر جليلاً، ويشعر الناظر بأن عين الله راعية وصية على هذا المخلوق. . .
فما أعظم أثر هذا في طمأنينة النفس حتى لو كان هذا باطلاً! إنه يرفع آمال النفس البشرية وأفكارها حتى يجعل منطق الله خالق الطبيعة الهائلة منطقها هي. مع أن الهوة بينها وبين الله سحيقة، إذا استسلم الإنسان للعلم وحده في عبورها لن يتمكن! إذ يجد مكانه في الوجود يكاد يكون لا شيء. . . إذ الأرض ذاتها لا شيء بجوار عظمة الكون، فما بالك بالفرد الضئيل فيها؟ هذا يجعل للنفس ثقة وإحساساً بالعظمة، إذ يجد به الإنسان لنفسه مكاناً ملحوظاً في الوجود حين يجعل علاقته مباشرة بصاحب الوجود. . .
ومن العجائب في ظهور حياة الإنسان وتدرجها، أن حياة التدين فيها سبقت حياة العلوم، فبينت حياة التعزية والثقة على الدين قبل العلم
ولو قد سبق العلم الدين إذاً لكان موقف الإنسان في الحياة موقف ابن الطريق الشريد القادر الفاجر، الذي لم يجد أباً وأماً يأخذ من حنانهما حناناً لنفسه، ويعرف أن قلبيهما منبعان غزيران لصفات الإخلاص والرحمة والحب، بل وجد نفسه مدركاً رشيداً، ذكياً قاسياً، على قارعة الطريق تدافعه زحمته، يعرف جرائم الحياة وجفاءها، وأخلاق الشوارع والأسواق، ولا يعرف روابط الأسرة ومعاملة الأخوة والنبوة ووصايا الأمومة؛ فيكون موقفه فيها موقف قاطع الطريق المسلح بالأدوات والمهارة. . .(433/11)
علام يقوم بناء الحياة الإنسانية؟
حين أستعرض نظام مدينة أو أمة أو إمبراطورية، فأجد ناسها يعيشون في تفاهم وتعاطف ومبادلة منافع، وأجد مرافقها ومبانيها وشوارعها ومصانعها ومعاهدها تقوم في دقة وموازنة وجمال وأمانة كأنها من الطبيعة الموزونة بيد الله. . . أسائل نفسي:
من الذي أقام بناء هذه الحياة الإنسانية في تلك الأمة أو المجموعة على هذه الأوضاع العظيمة؟! ومن الذي سدد جهاد أفرادها جميعاً نحو غايات مشتركة وأهداف موحدة؟
ومن الذي أعطاها تلك الروح الاجتماعية التي تسلك في أعمالها وآمالها مسلك الروح الواحد في الجسم الواحد؟
ومن الذي هذب طباعها ورققها وجملها وصقلها وسار بها شوطاً بعيداً من عيشة الوحشية والتأبد، إلى هذه الإنسية والاجتماع؟
ومن الذي أقام هذه الأسر والعائلات على التراحم وجمع أطفالها ورجالها على الحب؟
إنه لا شك سر النبوات التي نبعت من القلوب الكبيرة التي كانت للإنسانية في مهد نشؤها كالأمومة الرحيمة المضحية المربية المسددة
إن هذا لا شك هو الأساس الأول الذي قامت عليه الحياة الاجتماعية وذهب بناؤها مطرداً في العلو والسموق
فلئن غابت الآن عن الأنظار القصيرة والأفكار المشلولة، فكما تغيب أسس الأبنية العظيمة في باطن الأرض، لا ترى ولا يعرفها إلا الناظرون في الأعماق. . .
ولقد مات الرعيل الأول من الأباء والأمهات، ولكن بقي الأبناء دليلاً متجدداً عليهم. . .
ثم نسأل: أيهما أصلح للحياة؟ أأن يعتقد الإنسان أن الله به حفي، وأن يؤمن بالإنسان فيحتفل لولادته ويقوم لجنازته ويؤثره على نفسه، ويتواضع له ويحترم دمه وعرضه، ويعيش في سجون الأخلاق التي تسمو بالحياة الاجتماعية، وتقلل الخلاف والشقاق وتنمي الحياة، وتحيط الإنسان بجو من سكينة العلم ورقة الفن، وتسخر العلم في خدمته وتخفيف ويلاته، وتضع أمامه أهدافاً مرسومة ومثلاً عليا، وفلسفة يطرد بها الوفاق؛ وبجعل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الرجال الآباء نماذج وقمماً يتطلع إليها. . . أم أن ينظر الإنسان إلى الإنسان كما ينظر للنبات والحيوان. . . فإذا ولد فكجرو الكلاب أو سخل(433/12)
النعاج؛ يسخر ويلعب به، ولا عرض ولا ناموس ولا قيود، وحياته حياة فنّها آلي وعلمها للتدمير والغلبة، ومثلها مكيافلية. . . وإذا مات هلك وقذف به إلى ظلمة الأبد من غير رجعة أو ذكرى أو أمل في مصير أكمل؟!
أما والله لو كان دين الإنسانية هذا خداعاً باطلاً، لكان أعظم أثراً في صلاح الحياة من ضده ولو كان الحق! لأنه قانون الحياة الاجتماعية، فإذا تركه الإنسان كان عليه أن يرتد إلى حياة الغابات. . . وقد أرتد بعضه فعلاً الآن. . . ولكنه سيعود. . .
ولست أدري: ما هو غرام بعض الناس في أن يزعموا أنهم كشفوا تيارات واتجاهات في الحياة تجعل الناس يحطمون الحياة الاجتماعية التي نمت مواريث علومهم وأخلاقهم في أحضانها؟
إن كل ما يضر حياة الجماعة، فهو شر يميت الضمير وينزع منه الإيمان بالخير ويسلم إلى النكسة والارتداد
على أسوأ الافتراضات في تفاهة أصل الإنسان وضآلة مكانه في الوجود، فتفجر نبع الضمير في قلبه وطواعيته تحت تأثيره لا بد أن يكونا بوحي وضغط من عالم أعلى. . .
وهذا الروح اللطيف الذي يوجد في القلب حين الحب، أو حين مبادلة العلم والفكر، أو حين تفتح القلوب بالخير، أو حين النظر للوجود بالعين الصافية الآملة المتفائلة، أو حين استحضار المعاني الكبيرة: كالمروءة والإيثار والتضحية الصامتة، أو حين الإيمان العميق الرحب المشع. . . هذا الروح هو مكان رصد الإنسان والأنس به والأمل فيه
فلنرصده من هناك ليكون المنظر جميلاً أخاذاً، يبعث على التفاؤل والحب والسعي إلى الاكتمال. . . أولى من أن نرصده من مكان آخر يبدو منه مطموس الجمال، مقبوح الخصال، منحط المكانة، باعثاً على التشاؤم والبغض والحقد وسوء المآل!
عبد المنعم محمد خلاف(433/13)
في الطريق إلى الوحدة العربية
للدكتور زكي مبارك
(نص الخطاب الذي أرسله الدكتور زكي مبارك ليلقى في
مؤتمر الخريجين بأم درمان)
أخي الأستاذ رئيس مؤتمر الخريجين
إليك وإلى إخواني عندك أقدم أصدق التحيات، ثم أذكر مع الأسف أن المنهاج الذي رسم لحضوري وحضور الأستاذ (الزيات) لزيارة السودان لم يظفر بالتحقيق، فقد قضى الأستاذ (الزيات) أسابيع بالمنصورة وهو مريض، ثم منّ الله عليه بالعافية بعد فوات الوقت الذي يسمح بتأهبه لحضور مؤتمركم المرموق. أما أنا فقد صدّتني شواغل لو عرفتموها لأكرمتموني بالصفح الجميل. فلم يبق إلا أن أرسل إليكم هذا البحث ليلقيه الأستاذ (محمد حسنين مخلوف) بالنيابة عني، أو يلقيه أديب من الخرطوم أو من أم درمان، وسينشر هذا البحث في (الرسالة) مع أيام المؤتمر، ليكون تحية جهرية تؤيد بها مصر جهادكم النبيل
فماذا أريد أن يذاع باسمي في ناديكم بأم درمان؟
أريد أن أتحدث عن العقبات التي تعترض السائر في الطريق إلى الوحدة العربية بلا مواربة ولا تلميح، لأني أومن بأن عندكم من الفتوّة ما يوجب الخروج على الرموز في مثل هذا الشأن الدقيق، ولأني أفهم جيداً أنكم من طلائع الجيل الجديد، ومن الإساءة إليكم أن يرسل إلى ناديكم كلام ملفوف تعوزه صراحة الصدق وشجاعة الإيمان
ثم أواجه الموضوع فأقول:
كثر التحدث في هذه الأيام وقبل هذه الأيام عن (الوحدة العربية) وذلك يشهد بأنها كادت تصبح من الغايات القومية في الشرق العربي. . . وهل يمكن أن تدور (فكرة) على ألسنة الملايين من العرب، بدون أن يكون لها في قلوب تلك الملايين مكان؟
إن هذه الفكرة لم تدر على الألسنة إلا بعد أن تأصلت في القلوب، فماذا نصنع لوقايتها من العواصف التي تثور من حين إلى حين؟
نترك السياسة جانباً، السياسة الدولية، وننظر إلى هذه الفكرة من الوجهة القومية، فمصايرنا(433/14)
بأيدينا، والله لا يغّير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وإذا سلمت ضمائرنا من الزيغ والانحراف فلن تستطيع أية قوة في الأرض أن تصدنا عما نريد لأنفسنا من السداد والتوفيق
والعقبة الأولى في طريق الوحدة العربية هي عقبة الجنس، فكثير من الناس يتوهمون أن الرجل لا يكون عربياً إلا إذا كان من أصل عربي صميم؛ وهذا خطأ في خطأ وضلال في ضلال، فالعربي الحق هو من انطبع على لغة العرب ولو كانت أصوله من المكسيك، ولا يجوز عندي أن ينتسب إنسان إلى العرب وهو لا يعرف من أسرار لغتهم غير أوهام وظنون، ولو قدم الوثائق التي تثبت أنه من سلالة الرسول
العروبة لغة لا جنس. العروبة لغة لا جنس. العروبة لغة لا جنس
ولو شئت لكررت هذه العبارة ألف مرة، بدون أن أشعر بأنها حديث معاد؛ لأن روحي يحس كل حرف من حروفها إحساساً قوياً، ولو كررتها ألوف المرات
وإذن فمن واجبي أن أثور على من يقسم بلادنا إلى أجناس، وبلادنا هي جميع البلاد التي تتكلم العربية في الأقطار الأفريقية والأسيوية
فجميع أهل مصر والسودان عرب، وسكان أفريقيا الشمالية عرب، والفلسطينيون والسوريون واللبنانيون كلهم عرب، والعراقيون جميعاً عرب، والهنود اللذين يتكلمون لغتنا عرب، وأهل فارس في أصولهم عرب، لأنهم نهضوا بلغتنا المحبوبة في أجيال طوال
والأستاذ سلامة موسى عربي، وإن كان يخاصمني من وقت إلى وقت حول مكانة العرب في التاريخ، بل هو سليم العروبة إلى أبعد الحدود لأنه يتجنى على العرب بلغة العرب، وعروبته أصح عندي من عروبة من صح نسبه إلى يعرب وليس له في خدمة اللغة العربية وجود
العروبة لغة لا جنس، فليفهم هذا دعاة الوحدة العربية، إن كانوا صادقين
وسيأتي يوم ندعو فيه مواطنينا إلى الاندماج في الكتلة العربية، وأريد بهم المستشرقين من أبناء الألمان والروس والفرنسيين والإنجليز والطليان والأسبان، فأولئك إخواننا حقاً وصدقاً، وإليهم يرجع الفضل في تشجيع الدراسات العربية، وإحساسهم بالعروبة أصدق من إحساس العرب اللذين غفلوا عن إدراك ماضي أسلافهم في خدمة الأدب الرفيع(433/15)
العروبة لغة لا جنس، فليتق الله بعض الناس، وليعتبروا بحوادث التاريخ. فماذا دوّن التاريخ؟ دون التاريخ أن (إمبراطورية اللغة العربية) تمزقت بسبب الاعتزاز بالجنس، وهذا الاعتزاز الطائش هو الذي خلق الشعوبية؛ فبسببه أقسم الفردوسي لينظمن الشهنامة بدون أن يحتاج إلى لفظة عربية، وبسببه جلا سلطان اللغة العربية عن بلاد كان لها في دماء أبنائها مكان. وبسبب مقالة حمقاء كتبها كاتب أحمق في فضل العرب على الأتراك أقسم أتاتورك ليهجرن الحروف العربية. وبسبب هذا الاعتزاز الطائش عاشت لغات في المغرب والشام والعراق، لقصد الطائشين من العرب عن القول بأن لغتهم أحسن اللغات، وبأنها ستكون لغة الناس جميعاً في (دار الخلود) كان العرب وحدهم أبناء آدم، وكأن من عداهم وحوش لبسوا أثواب الرجال!!
العروبة لغة لا جنس. وهل كان جان جاك روسو فرنسي الأصل، وبفضل بيانه الساحر نهضت لغة الفرنسيين؟
العروبة لغة لا جنس. وهل كان أحمد شوقي عربي الأصل وهو من طلائع النهضة الشعرية في الأدب العربي الحديث؟
العروبة لغة لا جنس. وهل كان وهيب دوس عربي الأصل وهو أصدق من عرفت في التغني بأشعار العرب من قدماء ومحدثين؟
وهل كان مكرم عبيد عربي الأصل وله خطب طوال تذكر بخطب سحبان؟
ليتّق الله بعض الناس في ميراث العروبة، وليحذروا من أن يخربوا بيوتهم بأيديهم، عن علم لا عن جهل، وزلة العالم أبشع الزّلات
وما الموجب لأن يكون في الدنيا عرب خلص؟
لو اقتصر العرب على التزاوج فيما بينهم لبادوا وانقرضوا، فما انطوت أمة على نفسها إلا استهدفت للفناء
وهل استطاع العرب أن يسيطروا على العالم حيناً من الزمان إلا بسبب التخلص من العنجهية الجنسية؟
إن التحرر من ربقة الجنس هو البند الأول من وصية الزعيم العربي الأول، وهو محمد بن عبد الله الذي مكن العرب من سيطرة عالمية لم تخطر لأسلافهم الأقدمين في بال، وهي(433/16)
سيطرة روحية لن يظفروا بمثلها إلا إن تخلقوا بأخلاق ذلك الزعيم الحصيف
العربي الصحيح النسب إلى يعرب قليل الوجود، وهو حين يوجد لا يكون إلا جسداً هامداً لا نفع فيه ولا غناء، لأن التزاوج بين الأجناس شريعة طبيعية، ولا يخرج على تلك الشريعة إلا من كتب عليهم الأفول
إن نبيكم صاهر أمماً لا تمت إلى العروبة بجنس ولا دين، فهل تتوهمون أنكم أهدى منه إلى سواء السبيل؟
اتقوا الله في أنفسكم وفي ماضيكم، وتمسّكوا بشمائل ذلك الرسول لتفوزوا كما فاز أسلافكم الماجدون، واتقوا حاضركم فتناً لا يتعرض لشرها إلا الجهلاء والأغبياء
العروبة لغة لا جنس، فافهموا هذه الحقيقة يا بني آدم من أهل هذا الجيل
أما العقبة الثانية في طريق الوحدة العربية، فهي عقبة الدين؛ فقد توهم قوم أن العروبة والإسلام شيء واحد، وبذلك كثر ارتيابهم في صحة الأخوة العربية، حين يتصل بها ناس من غير المسلمين.
والحق كل الحق أن العروبة والإسلام شيء واحد، على شرط أن نفهم المراد الصحيح لهذا التعبير المريب
الإسلام هو أصدق أثر صدر عن العرب، ولولا الإسلام لبادت لغة العرب منذ أزمان طوال وإذن، فمن واجب العرب من غير المسلمين أن ينظروا إلى الإسلام بعين الرفق والعطف لأنه صوتهم وصوت آباءهم وأجدادهم فيما غبر من الأجيال، وإن لم تأنس آذانهم بذلك الصوت الجميل بفضل تناحر المذاهب والديانات، وهو تناحر لن يقدر على طمر ذلك الينبوع الفياض ذلك واجب العرب من غير المسلمين، فما واجب العرب من المسلمين؟
واجبهم أن يفهموا أن النصرانية واليهودية ديانتان عربيتان. وهل نكون أعقل وأحكم من النبي محمد وقد نظر إليهما بعين الإعزاز والتبجيل، ولم يحارب غير من شوهوا النصرانية واليهودية بالتزوير والتحريف؟
للإسلام والنصرانية واليهودية مسرح واحد هو بلاد العرب؛ وهذه الديانات هي سلطاننا الأدبي في الشرق والغرب؛ وهي حجتنا يوم تطلب الحجج على تفوق بعض الشعوب على بعض. ولعل هذا هو السبب في أن أكابر المسلمين في العصور الخوالي لم يفّهم أن يدونوا(433/17)
ما في التوراة والإنجيل من حكم وأمثال
إن من المعجزات أن تكون أعظم الديانات المسيطرة على العالم ديانات عربية الأصل، فمن طاب له أن يغمز إحدى هذه الديانات فهو عربي مدخول، لأنه لا يعرف أثرها في التنويه بمجد العرب في العالمين
الرأي عندي أن الروحانية العربية تطورت من حال إلى أحوال فانتقلت من الموسوية إلى العيسوية ثم إلى المحمدية. فهي قد تغيرت في الفروع، مع الاحتفاظ بالأصول. والأصل الأصيل عندنا وعندهم هو التوحيد، والتثليث الذي أنكره القرآن على النصارى لم يكن إلا صورة حرفية من صور الإغراق الذي أولع به بعض أنصار المسيح، وهو إغراق ينكره النصارى المستنيرون في هذا الزمان
إن القرآن يلاطف مخاصميه فيقول: (إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)
وعقيدة التثليث لم توجد بعد عدم، فهي في الأصل عقيدة مصرية، وعلى ذلك تكون جزءاً من ماضينا، ونحن لن نتنكر لأجدادنا أبداً وإن قيل في عقائدهم ما قيل
ثم أثب إلى الغرض الذي أرمي إيه فأقول: إن الإسلام يحكم بالكفر الموبق على من يمس شخصية موسى أو عيسى بسوء؛ فمتى ننتظر أن تكون شخصية محمد شخصية قدسية في البيئات المسيحية والإسرائيلية؟ متى؟ متى؟ ومحمد أوصى أصحابه بأن ينظروا إلى موسى وعيسى بعيون لا ترى غير الجميل
وخلاصة القول أن اختلاف الديانات لن يعوق الأخوة العربية إذا صحت النيات، لأنه اختلاف أراده صاحب العزة والجبروت، وله في إيقاظ الحيوية العربية تاريخ أو تواريخ
قد يصير العرب جميعاً إلى دين واحد بعد جيل أو جيلين أو أجيال، فليكن لهم منذ اليوم أدب واحد هو التآخي الصحيح؛ فمن المؤكد أن المسلمين لن يسمحوا بهدم كنيسة أو كنيس إن تمّ لهم الفوز المطلق، لأن معابد النصارى واليهود عنصر أصيل من عناصر الروحانية العربية، ومن قال بغير ذلك فهو آثم في حق (الوحدة العربية) وهي فكرة دعا إليها نصارى الشام والعراق قبل أن يدعو إليها المسلمون، ولذلك أسباب فصلتها قبل اليوم بإسهاب
قيل ألف مرة: (إن الدين لله والوطن للجميع) ولو تدبرتم لعرفتم أن الدين لنا أيضاً، والله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأعمال، وإنما ينظر إلى القلوب(433/18)
وخلاصة الخلاصة في تحرير هذه القضية أنه يمكن للرجل أن يكون عربي اللسان والذوق والعصبية، ولو كان من أعداء الدين، لأن العروبة لغة وليست بجنس ولا دين، وإن كان من المفهوم أن القرآن هو سفير اللغة العربية إلى مختلف الشعوب. ومن واجب العربي غير المسلم أن يفرح لسيرورة القرآن في المشرقين، لأن سيرورته من أقوى الحجج في نصرة القضية العربية.
والقائلون بأن اللغة العربية لغة المسلمين لا يخدمون الإسلام بهذا القول، وإنما يبعدون عنه أنصاراً أمدته بهم جاذبية اللغة العربية. والشواهد تنطق بأن النصارى من العرب والمستعربين أدوا للإسلام خدمات يعرف أقدارها عقلاء الرجال
في الدنيا معنى يسمى الديبلوماسية السياسية، فلم لا يكون عندنا ديبلوماسية إسلامية كالذي كان عند أسلافنا الأمجاد، يوم كانت عقولهم تدعوهم إلى تألف من يخالفونهم في الدين؟
أما العقبة الثالثة في الطريق إلى الوحدة العربية فهي اجترار حوادث التاريخ، ولتوضيح هذه النقطة أقول:
كان أبناء العرب قد اختلفوا في أشياء مذهبية وسياسية وجنسية، وهو اختلاف مشؤوم عاد عليهم بالوبال، وكانت له عواقب في الأقطار المصرية والمغربية والسورية والعراقية، ونال من قوة العروبة أضعاف ما نالت فوادح الخطوب؛ فمن واجبنا أن نبالغ في تناسي ذلك الاختلاف إلى أن ننساه، فإن لم نستطع فلننظر إليه بعين العقل، ولنفهم أنه اختلاف قضت به ظروف لا يصح أن نحمل جرائرها بحال من الأحوال
كان بين الأقباط والمسلمين في مصر نزاع وقد محته الأخوة الوطنية، فما الموجب لإحياء ذلك النزاع؟ وكان بين السنة والشيعة في العراق شقاق، وقد محته الأخوة القومية، فكيف يستبيح عاقل إحياء ذلك الشقاق؟ وكان في البلاد السورية خلاف أثارته النزعات المذهبية، وقد خمد ذلك الخلاف بفضل الأخوة العربية، فكيف يصح لإخواننا هناك أن يوقظوا ذلك الخلاف؟ وكان في الأقطار المغربية قتال أرّثت ناره العصبيات الجنسية، ثم أخمدته الأخوة الإسلامية، فكيف يجوز بعث أسباب ذلك القتال؟
إن من الجرائم المنكرة أن نرى نعيق المفسدين يتصايح من وقت إلى وقت بدون أن نقضي عليه بحزم الرجال!(433/19)
يجب أن نفهم المفسدين أنهم حبائل الشيطان، وأننا لا نجهل السر في حرصهم على إذاعة ما يدعون من مبادئ وآراء؛ فهم جماعات من العاجزين عن طلب الرزق من وجهه الصحيح، ومن كانوا كذلك فمن واجبهم نحو بطونهم أن يلبسوا ملابس الدعاة إلى الحق، والحق منهم براء!
كل دعوة إلى الفرقة لها سبب تعرفه أمعاء المفسدين، والرجل الصادق في الدين والوطنية لا يرضيه أبداً أن يثور بين قومه خلاف يصل إلى تمزيق الأواصر والصلات
ولن نستطيع رفع القواعد من بناء الوحدة العربية إلا إن ضمنّا السلامة من مكايد اللذين يؤذيهم أن تزول أسباب الخلاف، ومن الخلاف تمتلئ بطونهم الخاوية، قاتلهم الله أنى يؤفكون!
وهنالك عقبة رابعة هي غفلة الصحافة عن رعاية الوحدة العربية، وفي شرح هذه النقطة أضرب بعض الأمثال:
كاتب مصري يقول: إن مصر أفضل الأمم العربية
وكاتب سوري يقول: إن المصريين ليسوا بعرب وإنما هم فراعين
وكاتب عراقي يقول: ليس للعروبة وطن غير العراق
فأمثال هؤلاء الكتّاب يجب صلم آذانهم بدون ترفق، لأنهم دعاة الفرقة والشتات
وأنا أقبل أن يجرح المصري مصر، ولو بسوء نية، ولكني أرفض أن يجرحها أحد إخواني في الشام أو العراق، ولو بحسن نية، وكذلك الحال هنالك، فالسوريون والعراقيون يقول كل منهم في بلده ما يشاء، ولكنه يغضب ويثور حين يغمز بلده في جريدة مصرية، ولو كان الكاتب أصدق أنصار الوحدة العربية
وفي هذا المقام أذكر أني عاديت رجالاً من أهل لبنان لأنهم قالوا في مصر كلاماً لا يقاس إلى بعض ما أقوله فيها من حين إلى حين
وقد أطلعت وأن طالب في السوربون على جريدة لبنانية تشكّك العرب في مركز مصر الأدبي، فحفظت تلك الجريدة، ونقلتها مع أمتعتي من باريس إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى بغداد، وقد مزقت ما مزقت من الجرائد والمجلات لأخفف العبء عن مكتبتي بعض التخفيف، ثم ظلت تلك الجريدة في أمان من التمزيق، لأرد عليها بعنف حين تسمح(433/20)
الظروف
يقع مني هذا الحمق، مع أني أدعي لنفسي حرية العقل، فكيف يكون الحال عند إخواني في سائر الأقطار العربية إذا تعرضت بلادهم لكلمة سوء تصل من خارج الحدود الجغرافية؟
من المؤكد أنني لم أتفرد بهذه النزوة العقلية، فالعراقي يقبل أن تشتم بلاده في جريدة عراقية، ولكنه يرفض أن تغمز في جريدة سورية أو مصرية. واللبناني يجرّح وطنه من وقت إلى وقت، ولكنه يثور على ذلك التجريح إذا صدر عن جريدة مصرية أو فلسطينية أو عراقية
هذه نقطة حساسة جداً فلنرعاها أتم المراعاة في جميع الظروف، ولنفهم أن إخواننا في غير مصر لهم قلوب يؤذيها التحامل ولو بالرمز والإيماء
أما العقبة الخامسة فهي انصراف أبناء العرب بعضهم عن بعض، في الظروف التي توجب التعاضد والتساند والمواساة، ولو بالكلام، وهو لا يكلفنا كثيراً ولا قليلاً من العناء
إن كلمة وجيزة تكتب في جريدة مصرية طّبا لجرح تعانيه إحدى البلاد العربية يقع موقع البلسم الشافي لذلك الجرح، فما بخلنا بمثل تلك الكلمة، وهي أهون ما في الدنيا من تكاليف؟
وقد تلطفت المجلات السورية واللبنانية والعراقية فأخرجت أعداداً خاصة في التنويه بالثقافة المصرية، فماذا صنعت مجلات مصر في رد ذلك الجميل، بل ماذا صنعت هذه المجلات في التنويه بمؤتمر الخريجين في السودان، والسودان أخو مصر الشقيق؟
يجب أن ترفع غشاوة الغفلة عن بعض العيون، ليصح لمصر أن تقول إنها الدعامة الأساسية للوحدة العربية، وهي كذلك لو أرادت، فهل تريد هذه الأخت الظلوم؟
مصر تعمل ولا تتكلم، فهي بالفعل سناد الوحدة العربية، وهي بالفعل حصن العرب الحصين، فكيف تبخل بكلمة تعلن بها أن أرض مصر ملك ورثه العرب عن الفراعين؟
يستطيع أي بلد أن يكفر بالعروبة حين يشاء ألا مصر؛ فما يجوز لها أن تتخلى عن مجد بنته بأيديها في عصور الظلمات، حين كانت العروبة من خيالات الأوهام والظنون بعد سقوط بغداد بأيدي المغول
أما بعد فهذه كلمتي إلى مؤتمر الخريجين في السودان، وهي كلمة تلخص آرائي في العقبات التي تعترض طريق الوحدة العربية، وقد أوردتها صريحة منزهة عن الرمز والتلميح،(433/21)
لأنها ستلقى على فتيان صراح هم شبان السودان، أعزني الله بودهم الوثيق وهل تستطيع هذه الكلمة أن تغفر ذنوبي في التقصير نحو ذلك القطر الشقيق؟
ذلك جهد المقل، وجهد المقل غير قليل، وسأزور ناديكم بعد أسابيع، فما يرضى الله أن أعيش بعيداً عن مصادر الوحي في أعالي النيل
زكي مبارك(433/22)
2 - كليلة ودمنة
للدكتور عبد الوهاب عزام
كتب الأستاذ عبد السلام هارون مقالات أربعا في كتاب (كليلة ودمنة) كما نشرته. وقد عجلت جواب المقالة الأولى في العدد 426 من (الرسالة)، ثم بدا لي أن أنتظر فراغ الأستاذ من بحثه. فلما فرغ شغلتني شواغل عن البدار إلى الإجابة، فأرجو أن يقبل الأستاذ الناقد والقراء عذري في تأخير الإجابة التي انتظروها
وإجمال الكلام في المقالات الثلاث أن كلام الأستاذ فيها ضروب، منها ما هو تفسير لكلمة غامضة، أو توجيه للفظ يبدو في السياق غريباً؛ ومنها ما هو إجازة لوجه آخر غير الوجه الذي جرى عليه الكلام في الكتاب. وهذا الأضرب من التفسير والتوضيح والتجويز يشكر عليها الأستاذ وأوافقه عليها ومنها بحث في أساليب ابن المقفع، وهو موضوع يحتاج إلى مقدمات في كتاب (كليلة ودمنة) لم تستوف كلها، وللأستاذ رأيه فيه واجتهاده
وأما الضرب الذي يقتضي الجواب، فهو ما أخذه الناقد على كلمات أو جمل جاءت في الكتاب وعدها غلطاً، أو ظن غيرها أقرب منها إلى الصواب. وأنا أعرض على القراء آرائي في مآخذ الأستاذ على النسق الذي أجرى عليه الكلام:
8 - 216: 4: (إن الملوك وغيرهم جدر أن يأتوا الخير إلى أهله) أخذ الأستاذ على هذه الجملة أن جدر جمع جدار لا جمع جدير قال: (وجمع فعيل صفة على فعل نادر سمع منه نذير ونذر وجديد وجدد وسديس وسدس
والجواب أنه يجوز أن يكون الكاتب قد أجرى جدير مجرى نذير وغيره، والأولى مع هذا أن يتبع الكثير المعروف فيجمع جدير على جدراء
والمأخذ الثاني في هذه الجملة أن الأستاذ ظن أن يأتوا في الجملة بمعنى يعطون فقال: (الصواب يؤتون من آتى) وليس هذا من الصواب في شيء، والمراد في الجملة إتيان الخير بمعنى فعله ولو غيرت الجملة برأي الأستاذ إلى (يؤتوا الخير إلى أهله)، لكان فيها مأخذان: الأول تعدية آتى بعلى وهي متعدية بنفسها كما في القرآن: وآتوا اليتامى أموالهم - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم - والثاني: أن يعدل بالجملة من أتى الخير بمعنى فعله، وهو استعمال شائع، إلى آتى الخير بمعنى أعطاه وهو استعمال غير معروف في الكلام الفصيح.(433/23)
فعبارة الكتاب صحيحة واضحة لا يكون تغييرها إلا إفساداً لها
الضبط النحوي
عدد الأستاذ تحت هذا العنوان مآخذ
1 - ص 18س11 (فيعلم سر نفسه وما يضمر عليه قلبه): قال وأضمر يضمر بمعنى أخفى يخفى فما يكون المعنى في أن يخفى قلبه عليه؟ الصواب قلبه بالرفع لأن القلب هو الذي يضمر الأسرار والنوايا: (والجواب أن من اليسير أن يضمن الكاتب (يضمر) معنى يطوي أو يطبق أو نحوه. وتحويل قلبه من المفعولية إلى الفاعلية يجعل معنى الجملة (يخفى عليه قلبه) فهل يرى الأستاذ أن هذه العبارة أسد من الأولى؟
2 - 14: 41 (وشبهت الجرذين بالليل والنهار، وقرضهما دأبهما في إنفاد الآجال) قال: يصح أن تقرأ وقرضهما دأبهما باستمرار التشبيه الخ. والجواب أني رجحت الرفع لأن في النصب إخلالاً بنسق الجملة، بتعدية الفعل (شبهت) بالباء في المفعولين الأولين (الجرذين بالليل والنهار) وتعديته بغير حرف في المفعولين الآخرين (وقرضهما دأبهما) فالاستئناف برفع قرضهما أرجح
4: 122 (فأعادت ذلك عليه مراراً كلّ ذلك لا يلتفت إلى قولها) وقال الأستاذ: ولا وجه للرفع هنا؛ والوجه كلّ ذلك على الظرفية الزمانية ولا يصح أن يكون كل مبتدأ. وذلك لأن الضمير العائد عليها محذوف تقديره (فيه)، والبصريون يمنعون حذف الضمير العائد على لفظ كل إذا كان مبتدأ. ولذلك حكموا بشذوذ قراءة ابن عامر (وكلّ وعد الله الحسنى)
وليست الظرفية هنا حتما، بل يجوز أن يكون المعنى: كل ذلك القول لا يلتفت إليه، فالإشارة للقول لا للزمان وقد وضع الكاتب الاسم الظاهر موضع الضمير فقال: (إلى قولها) بدل (إليه) والجملة على الوجهين ليست من الأساليب العربية المختارة
ص 2: 179 (ولم أذكر ما ذكرت ألا أكون أعرف منك الكرم والسعة في الخلق) قال: الوجه إلا لكوني أعرف منك وأقول ليس هذا وجهاً. فإن المعنى: لم أذكر ما ذكرت جهلاً بكرمك. فهو اعتذار عن الكلام السابق الذي يشعر بأن الغيلم يشك في كرم القرد. ويؤيد هذا أن بعد هذه الجملة: (ولكن أحببت أن تزورني في منزلي) وهو استدراك حسن في الجملة التي أثبتناها في الكتاب، وهو إثبات بعد نفي: لم أجهل كرمك ولكني أحببت، ولا يحسن(433/24)
هذا الاستدراك إذا أجرينا الكلام على الوجه الذي رآه الأستاذ فجعلناه: (ولم أذكر ما ذكرت إلا لكوني أعرف منك الكرم ولكن أحببت الخ) والتأمل في سياق الكلام يبين أن لا وجه إلا ما جاء في متن الكتاب
199: 3 (لم تدر أيّهما تأخذ) قال: والصواب أيّهما بالنصب. وصدق، فالنصب أقر وأرجح وإن يكن للرفع وجه فما قصدته
في تحقيق النص
أورد الأستاذ تحت هذا العنوان مآخذ:
ص26 س10: (مثل الحراث الذي يثير الأرض ويعمرها ابتغاء الزرع لا العشب). قال: (فما وجه العمارة في طلب الزرع؟ الصواب يغمرها أي بالماء). وأقول: (إن الزرع ضرب من عمارة الأرض لا ريب). وما أحسب الكاتب إلا حاكي الآية القرآنية: (وأثاروا الأرض وعمروها). ولا يعتبر عن سقي الأرض بغمرها؛ فكلمة يغمرها بعيدة من سياق الكلام هنا
ص38 س3: في الحديث عن الجنين: (منوط قمع سرّته إلى مريء بأمعائها). قال الناقد: وهو كلام متهالك مضطرب؛ فما العلاقة بين سرة الجنين وأمعاء الأم؟ إلى أن قال: (أما كلمة مريء فعجيبة أيضاً). وانتهى إلى أن صواب الجملة: (منوط بمعي من سرته إلى مراقّ رحمها)
إن كان الأستاذ يريد أن يغلط الكاتب الذي كتب باب برزويه فليجادله في التشريح كما يشاء؛ وإن كان يريد أن في الكتاب تحريفاً لم نهتد إلى صوابه فلست أرى رأيه. عبارة الكتاب: (منوط قمع سرّته إلى مريء بأمعائها يمص به من طعامها وشرابها وبذلك يعيش ويحيا) وظاهر أن الكاتب يرى أن الجنين يصل بين سرته وأمعاء أمه مريء أي مجرى للطعام كالمريء الذي بين حلق الإنسان ومعدته؛ وأنه يتغذى من طعامها بهذه الصلة. فالكلام بيّن معرب عن مراد الكاتب صواباً أم خطأ. وفي نسخة شيخو (منوط من سرته إلى سرة أمه وسلك السرة يمص من طعامها وشرابها) وفي نسخة طبارة (منوط بمعي من سرته إلى سرة أمه ومن ذلك المعي يمص ويقتبس الطعام) فالفرق بين نسختنا وهاتين النسختين أن سرة الجنين تفضي بهذا المعي أو المريء إلى سرة الأم أو أمعائها. وعبارة الطعام والشراب تدل على أن الاتصال بواسطة سرة الأم أو بغير واسطتها ينتهي إلى الأمعاء،(433/25)
وهذا الذي تدل عليه عبارة نسختنا. وأما فرض الأستاذ أن أصل العبارة (منوط بمعي من سرته إلى مراق رحمها) فندع الكلام في صحته للأطباء. ومهما يكن رأي الأطباء فيه فلن يجيز الأدباء الأمناء على نشر الكتب أن يحولوا نص الكتاب إلى العبارة التي يقترحها الأستاذ مع بعدها عما في النسخ كلها. ولو أبحت لنفسي التصرف في متن الكتاب لما تركت به عبارة تقبل اعتراض النقاد
614 (وأصبح الرضا مجهوداً مفقوداً) يرى الأستاذ أن كلمة مجهود محرفة عن مجهول ويستشهد النسخ الأخرى، وله الحق؛ فكلمة مجهول أقرب إلى ظن القارئ من كلمة مجهود؛ ولكني لم أستحسن تغيير الكلمة لسببين: الأول أن مجهوداً تفيد معنى في الجملة غير الذي تفيده كلمة مفقوداً، وأن كلمتي مجهول ومفقود تؤولان إلى معنى واحد. والثاني أن الكاتب في هذا الفصل وصف الأمور المعنوية بأوصاف تجعل القارئ لا يستغرب أن يوصف الرضا بأنه مجهود كما قال: وكأن القدر أصبح مستيقظاً والوفاء نائماً، وكأن الكذب أصبح غضاً والصدق قاحلاً، وكأن الحق ولّي عاثراً والإنصاف بائساً الخ
7044 (كالكحل الذي لا يؤخذ منه إلا مثل الغبار) قال صوابه إلا مثل غبار الميل. وأقول لا يكون هذا صواباً لأن الذي يؤخذ من الكحل ليس غباراً ولكنه يشبه الغبار. وإذا قلنا مثل غبار الميل فقد جعلنا ما على الميل غباراً، والغرض أن يشبه بالغبار، ثم جعلنا ما يؤخذ من الكحل مثل غبار الميل وهو غبار الميل نفسه فكلمة مثل لغو. والظاهر أن النسخ الأخرى زادت كلمة الميل توضيحاً للعبارة لأن الكحل يؤخذ من المكحلة بالميل. ونسخة شيخو توافق نسختنا. وفي النسخ الأخرى إلا غبار الميل. فالعبارة (مثل غبار الميل) لا توافق العقل ولا النقل
75، 12 (مثل المكارى كلما ذهب واحد جاء آخر مكانه) قال الأستاذ هي في الأصل ونسخة شيخو ونسخة بولاق: (مثل البغي كلما. . . الخ) ثم أخذ على الناشر تغيير الأصل واشتد في هذه المؤاخذة.
وأنا قد بينت الأصل في التعليق ويكون القارئ على بينة مما فعلت، وأما حكمة التغيير التي سأل عنها الأستاذ فيدركها من تأمل فعرف المشبه في هذه الجملة وتبين أنه لا يليق أن يجمع بين طرفي التشبيه هذين في كتاب كهذا الكتاب ينشر في مثل هذه الأحوال(433/26)
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(433/27)
من أخلاقنا!
للأستاذ علي الطنطاوي
أعرف رجلاً أنعم الله عليه بسعة المال، وفطره على صدق الود وبسط اليد، فأباح إخوانه ماله، يغترفون منه اغترافاً، ويأخذون منه علاَّ ونهلاً، قرضاً حسناً لا يطالبون برده، وهدية لا يسألون المقابلة بمثلها، وهبة لا يرتقب منهم عوض عنها، ولا يسمعون كلمة منّ أو تذكير بها. وفتح لهؤلاء (الإخوان) - وما كان أكثرهم - داره، وأفرد لهم جناحاً فيها لا يدخله أحد من حرمه وأهله، وأقام عليهم خادماً وطاهياً، وانقطع فيه لاستقبالهم قادمين بالبشاشة والترحيب، وإيناسهم مقيمين وخدمتهم، وتوديعهم راجلين مشيعاً إياهم بالكرامة، شاكرهم على (تفضلهم) بالزيارة، سائلهم (التكرم) بالعودة. . .
ولبث هذا الرجل على ذلك حتى أضاع ماله كله، فباع الدار وأثاثها، وغدا فقيراً يحتاج إلى (الورقة السورية)، فلا يجد في كل أولئك (الإخوان) من يدفعها إليه، لا وفاء دين، ولا مقابل هدية، ولا عوضاً من هبة، ولا قرضاً حسناً إلى أيام السعة، اللهم إلا بربا، ولا يرضى المرابون أن يقرضوا مفلساً. . .
ولعلّ الرجل أخطأ حين عمد إلى هذا (الكرم الجاهلي) فأخذ به، وترك التأدب بأدب القرآن الذي يقول: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط، فتقعد ملوماً محسوراً)؛ والذي جعل المبذرين إخوان الشياطين. ولعله لقي جزاءه. . . فما سقطت القصة للحكم عليه، وإنما قصصتها لأنها ذكرتني بطائفة (من أخلاقنا)، هي كالداء في جسم الأمة، لا يجمل بالكتّاب وحملة الأقلام السكوت عنها والرضا بها، وهم أطباؤها وأساتها، وعندهم دواؤها
ذكرتني بما نكاد نراه كل يوم من الحوادث وما يكاد يعرف له كل قارئ شبيهاً ومثيلاً، حين يأتيك الرجل من أصدقائك أو جيرانك متذللاً متواضعاً، مظهراً للتقي والأمانة، يسألك أن تقرضه مالاً قد تكون أنت في حاجة إليه في يومك أو غدك ويذكرك الكرم والثواب؛ وربما استعان عليك بمن لا يرد طلبه عندك فتعطيه ما يريد، تضعه في كفه خالياً به، تستحي أن تشهد عليه شاهداً، أو تأخذ به كتاباً، مع أن الله أمر بكتابة الدين إلى الأجل المسمى أمر ندب واستحباب، لا أمر إيجاب وافتراض، فيأخذه منك ويذهب شاكراً فضلك، مثنياً عليك(433/28)
ثناء يخجلك ويضايقك؛ ثم لا تراه بعد ذلك ولا تبصر له وجهاً فتفتش عنه لتسأله رد المال وقد انقضت مدة الدين، وتجددت حاجتك إليه، فيروغ منك، وينأى عنك. . . فتطرق بابه، فيقال لك هو غائب عن الدار، فتعود إليه في الصباح فيقال هو نائم، فترجع بعد ساعة فيقال خرج. . . فتبتغي إليه الوسائل وتتشفع إليه بالأصدقاء. . . فيلقاك شامخ الأنف مصّعراً خده، يقول: (يا أخي، أزعجتنا بهذا الدين. . . ما هذا الإلحاح الغريب؟ أتخاف أن آكله. . .!) وينتهرك وأنت تداريه. . . ثم إن كان (رجلاً طيباً) دفع إليك الدين، ولكن قرشاً بعد قرش، و (ورقة) بعد (ورقة)، فتريق في استيفاء دينك ماء وجهك، وتنفق فيه الثمين من وقتك، ثم لا تنتفع منه بشيء. وإن لم يكن (صاحب ذمة) أكل الدين كله، وصرخ فيك حيثما لقيك: (مالك عندي شيء. اشتك للمحاكم!)، وهو يعلم أنه لا سند في يدك، ولا بينة لك عليه. . . وهبك أخذت منه كتاباً بدينك، أفتصبر على طول المحاكمة ومتابعتها وتأجيلها وتسويفها، و (رسومها ومصارفها). . . إن ضياع المال أهون من إقامته الدعوى به
ومثل هؤلاء المقترضين (الأفاضل) مستعيرو الكتب، أولئك الذين تركوا في قلبي غصصاً حلفت بعدها بموثقات الأيمان أني لا أعير أحداً كتاباً. ولم أنج مع ذلك منهم، ولم يرد لي إلى الآن كتاب (كشف الظنون) الذي نسيت من استعاره مني منذ إحدى عشرة سنة. . .
ولهؤلاء المستعيرين نوادر شهدت منها العجب، منها أن أستاذاً محترماً في قومه جاءني مرة يلتمس إعارته جزءاً من تفسير الخازن من خزانة كتبي، ليراجع فيه مسألة ويرده إلي عاجلاً، ففعلت؛ وانتظرت أربع. . . أربع سنوات - والله - ثم ذكرته به؛ فغضب وقال: (لإيش العجلة يا أستاذ، لم أراجع المسألة بعد. . .)!
والذي يذكر منهم صاحب الكتاب ويتنازل فيرده إليه، يرده مخلوع الجلد، ممزق الأوصال. وأنكى منه المستعير المحقق المدقق الذي يرمي في الكتاب موطناً يحتاج إلى تعليق، فيكتب التعليقة التي يفتح الله بها عليه على هامش كتابك بالحبر الصيني الذي لا يمحى ولا يكشط، ويذيلها باسمه الكريم!!
وشر من هؤلاء جميعاً الثقيل الذي يتظرف ويتخفف، فيرى أن من الظرف سرقة الكتب، فإذا زارك وتركته في المكتبة وخرجت لتأتيه بالقهوة أو الشاي أخذ كتاباً فدسه تحت إبطه، أو وضعه في جيبه ثم ذهب به وأنت لا تدري. . .(433/29)
وربما كان هذا المدين المماطل، وذلك الذي يأكل الدين وينكره، والذي يستعير الكتاب ويمسكه، ربما كانوا عند العامة من أقطاب الوقت وأولياء الله الكبار؛ ذلك لأن الناس جهلوا حقيقة التقى وبدلوا معناه، فكان التقي في صدر الإسلام هو الذي يتقي المحارم والمظالم ما ظهر منها وما بطن، ولا يدخل جوفه ولا جيبه إلا طيباً حلالاً، ويفر من مواطن الشبهات، ولا يطلب المال إلا لإمساك الرمق ونيل القوام. والعيش عيش القناعة والرضا، ولا يأخذه إلا من حلّه. ولم يكن الرجل ليشهد للرجل بالتقوى إلا إن صحبه في سفره، أو عامله في مال؛ فصار التقي اليوم من يكبّر عمته، ويطيل لحيته، ويوسع كمه، ولا تفارق يده سبحته، ولا يقف لسانه عن ذكر؛ ومن يتوقر ويطيل المكث في المساجد. وهذا كله حسن لا اعتراض عليه، غير أن حسنه ينقلب قبحاً أبشع القبح إذا اتخذه صاحبه أو حبولة يصطاد بها الدنيا، كذلك الذي كان وصياً على أيتام ضعاف لا يملكون حيلة، اغتر أبوهم بلحيته وسبحته فوصى بهم إليه، فجرعهم كؤوس المذلة والجوع، ونشأهم في الأزقة نشأة اللصوص، وأكل أموالهم وهو يقرأ كل يوم بصوته الجميل: (إن اللذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً)، وهو مع ذلك لا ينقطع عن الأذكار وحلقاتها، ويجهر بالبكاء إذا سمع الموعظة. . . وينكر أشد الإنكار على من يهمل السنن فيشرب بشماله أو يحلق لحيته، والناس يتبركون بلثم يده. فكيف السبيل إلى إفهام هؤلاء الناس ما هي حقيقة التقي كيلا يعظموا اللص ويجعلوه ولياً مباركاً، ولا يغتروا بالصلاح المجاني الذي لا يكلف صاحبه مالاً بل يجمع به المال، ويعلموا أن الله الذي وضع في نفوس الشباب شهوة الجسد وضع في نفوس (هؤلاء) المشايخ (لست أعني المشايخ كلهم) شهوة المال، وإنه لا فضل لأحدهما على صاحبه؛ وأن الشيخ التقي هو الذي لا يقيم للمال وزناً، ولا عبرة بغضه البصر عن النساء واتباعه سبيل العفاف؛ وأن الشاب الصالح هو الذي لا تغلبه على نفسه تلك الشهوة ولا عبرة يبذله المال. . .
لقد انحدرت أخلاقنا حتى صار الشاب منا حين يخوض خضم الحياة، ويرى الاختلاف بين ما علموه من الأخلاق في المدرسة، وما تواضع عليه الناس في الحياة، يقف حائراً مدهوشاً لا يدري ما يأخذ وما يدع؛ فلا هو يرتضي لنفسه التفريط في أخلاقه: صدقه وأمانته وعزة نفسه، ولا هو يرتضي الحرمان من المتع واللذائذ والمناصب العالية والمرتبات الكبيرة(433/30)
يناله جزاء تمسكه بما علّموه من الأخلاق. حدثني صديق لي أنه أنتسب في شبابه إلى الشرطة، فجعلوه رئيس مصلحة السير في بلدة من بلاد الشام، وكان ذلك منذ خمس وعشرين سنة أو في من ذلك، وكان مقره في (مخفر) في ظاهر البلد، فمر عليه رتل من السيارات فيه حجاج آيبون، وكان نظام تلك الأيام أن سيارة لا تجتاز على مخفره إلا بوثيقة وإذن، لا أدري ما صفتهما فقد نسيت دقائق حديثه، ولم يكن معهم ذلك (الإذن) فوقفهم ومنعهم من المرور إلا به. (قال) فغاب السائق هنيهة ثم عاد وفي يده صرة وضعها على مكتبي فيها أربعون ريالاً مجيدياً، وقال هؤلاء حجاج آيبون يريدون التعجيل بالوصول. . . وهذه الصرة ثمن (فنجان قهوة) رجاء السماح لهم الخ. . . فلما سمعت ذلك قفّ شعري وصحت به: أتريد أن ترشوني يا كذا وكذا، وأمرت به فوقف، واستلمت الهاتف (التلفون) أهتف بمدير الشرطة أرفع إليه الأمر وأنا أرى أنه سينزل به أشد الجزاء، فإذا به يأمر بإطلاقه، ويأذن للسيارات بأن تسافر على خلاف النظام، وأن يبعث إليه بالمال ليجري التحقيق. (قال صديقي) وذهب المال ولم يعد، وتركت العمل. ولو أني بقيت لطرحت على عاتقي ثقل الأخلاق التي تجعلني غريباً بين زملائي، وتحرمني من الغنى، وتكسبني غضب الرؤساء فلا يصيبني ترفيع، ولا يصل إلى خير. وليست هذه القصة فريدة في بابها، ولا هي نادرة من النوادر، بل هي قصة كل يوم، وهي الداء الذي يزداد ويسيطر والأساة عنه غافلون. وأين أساته وأهل السياسة مشغولون بالقتال على كراسي الحكم، هي الدنيا لهم وهي الأخرى، وأهل الأدب بين نائم يستمتع بشهي الأحلام، ومستيقظ قد ألهاه هواه، فهو يملأ الدنيا بكاء ونحيباً لأن صاحبته أسهرته يعد النجوم ولم تأته. . أو أنها قد وعدته بقبلة ثم وجدت أجمل منه أو أفسق فأعطته إياها. وأهل العلم يعيش أكثرهم على هامش الحياة لا هم له إلا مرتبه يقبضه من (دائرة الأوقاف) في مطلع كل شهر، ثم لا تراه ولا يراه أحد إلى الشهر الذي بعده، أو (حاشية) يقرؤها ويعيدها على من حضر مجلسه، قراءة تبرك لا قراءة تحقيق، فلا يرجع ولا ينتقد ولا يقابل قانوناً على قاعدة فقهية، ولا ينظر في مشكلة من مشاكل العصر ليرى حكمها. ومن اشتغل منهم بالمسائل العامة أخذ نفسه بالاهتمام بأمر لا يقدم في الدين ولا يؤخر، ولا يتوقف عليه إيمان ولا كفر. والشباب الناشئون لجهلهم حقائق الإسلام، وبعد ما بينهم وبين المشايخ، وقصر أيديهم وإفهامهم عن(433/31)
نيل الكتب (ذات الشروح والحواشي) قد زهدوا في كل ما هو شرقي واستهانوا به، وعظموا ما يقابله من كل حماقة دعيت مذهباً اجتماعياً، وكل سفسطة سميت فلسفة، وكل كفر بالدين والعرض دعي أدباً، وأعانهم على ذلك أن أكثر المدرسين من اللذين لم يقدر لهم فهم علوم الإسلام والغوص على كنوز كتبه. ولست أطلق القول وأجنح إلى التعميم، فإن في كل فئة من هؤلاء الطيبين المصلحين، ولكن الكثرة على نحو ما ذكرت. فمن أين يرجى إصلاح أخلاقنا وأوضاعنا؟
ومن أين يرجى لأخلاقنا صلاح، ولم نتفق بعد على (الأخلاق) التي ينبغي أن نتخلق بها، فمنا من يرى المثل الأعلى في أخلاق الجاهلية: كرم إلى حد التبذير، وشجاعة إلى حد التهور، كصاحبنا الذي استهلك بحديثه هذا المقال، وعامة طائفة (الزكرت) في الشام، (وهي أشبه بالفتوة في مصر) وأكثر البدو. ومنا من يميل إلى التخلق بأخلاق أجدادنا في القرن الماضي على ما كانت عليه بلا زيادة عليها أو نقصان منها، ومن يخالفهم مخالفة الضد للضد فيرى أن نقتبس الأخلاق الغربية برمتها. ويتشعب بهؤلاء الرأي فيميل كل إلى الأمة التي تعلم في مدارسها أو رحل إلى أرضها؛ ومن يرى اقتباس الجيد النافع من كل أمة من غير أن يحدد أو يعين. ولا دواء لهذه الفوضى في رأيي، ولا صلاح لأخلاقنا، إلا بالرجوع إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به سيدنا وسيد العالم محمد صلى الله عليه وسلم، لا الإسلام الذي يفهمه الحشويون والمتاجرون بالدين، ولا الذي تفهمه العامة. فإذا فعلنا فثمة كل خير، ولا يكون ذلك إلا إذا شمر العلماء وحققوا المسائل، ودرسوا المشكلات، وألقوا عن المصنفين الأولين رداء التقديس، واستمدوا الأحكام من موردها ثم ترجموا هذه الكتب القديمة إلى لغة العصر، فأين من ينتدب نفسه لذلك؟
علي الطنطاوي(433/32)
الصحافة والدولة
للأستاذ زين العابدين جمعة
المحامي
(هنري وبكهام اسنيد الذي نترجم له هذا الفصل من كتابه
(الصحافة) صحافي ثبت وكاتب علم. درس دراسة واسعة
وخبر الصحافة خبرة طويلة ناجحة؛ إلى أن كان مراسلا
لصحيفة التيمس في برلين وروما وفينا، وأن انتهى إلى رياسة
تحرير هذه الصحيفة. والرجل مفكر عبقري لا يتهيب أن
يرتجل رأيه ويصارح الناس به. وقد تناول الصحافة الحاضرة
في كتابه من مختلف نواحيها؛ وكان من سياق تحقيقه العلمي
والعملي أن أفاض فيما للصحافة من أثر حاسم فيما ينعم به
الناس من حرية القول وحرية الرأي وحرية العمل، وما صار
يتهددها على يد الحكام المستبدين.)
زين العابدين
عقب أن تولى هتلر زمام الحكم في ألمانيا بأشهر قلائل سألني النصح صحافي ألماني فيما يكابده من أمر ضرورة ملحة. ولقد عرفته رجلاً طيب الخلق نقي الصفحة؛ قضى سنين الطوال وهو يخدم إحدى الصحف اليومية الألمانية المهيبة الجانب لما امتازت به من نباهة الشأن واستقلال الرأي. وكان آنئذ قد تلقى بلاغاً ينبئه أن مركزه، وبالتالي أرزاقه، قد صار معلقاً بما يظهره من استعداده لإبرام ذلك الميثاق الذي (ينظمه) في سلك الاشتراكية الوطنية أو جماعة النازي التي لا يرى رأيها ولا يذهب مذهبها(433/33)
لقد شق عليه الأمر ومرت برأسه خواطر متشعبة: أيبرم الميثاق فيضيع على نفسه ما تنعم به من كرامة الذات واستقلال الرأي، أو يأبى عليهم التوقيع فلا يبقي له شيء يعيش عليه إلا ما يعتز به من احترام النفس واحترام النفس وحده. ثم أخذ يسألني عما يجمل به أن يختاره من مصير
والحق أنه لم يشق علي النصح مثلما شق علي من أمره. فهل كان يسعني أن أقول له: (لا توقع، وسأرى أنه ما من ضير يصيبك أو ينتظرك في هذا السبيل؟). نعم لقد كان مثل هذا القول سهلاً ميسوراً؛ ولكن يا لها عندي من شجاعة رخيصة أن أقول لرجل كن مقداماً جريئاً فأحمله على أن يجازف بمقومات حياته وأسباب عيشه من غير أن أهيئ لغيرها السبيل!! والحق أني كابدت من أمر (قضيته الوجدانية) نصيباً لا يقل عما يكابده فيها من نصيب
ولعله كان بسبب ما يعوزني من شجاعة أدبية أن حاولت إعفاء نفسي من نصحه. وبدلاً من أن أتقدم برأي سألت سائلي أن يخبرني عن حقيقة مشاعره، ثم ناقشت معه جميع الفروض والاحتمالات المرتبطة بالقبول أو المترتبة على الرفض. وإذ علمت من أمره أنه قد عقد النية على ألا يبرم الميثاق وأجمع رأيه على أن يحمل لهم حياته في كفه تاركا للمقادير أن تفعل به ما تشاء، فقد رأيت أن ألبس في تفنيد حججه ثوب الدفاع. وعرضت له القضية من ناحية أخرى هي ما يصيب الشعب الألماني من ضرر إذا ما اجتثت من تربة الصحافة الحرة جميع الدوحات المباركة، وحرمت الصحافة الألمانية من رجالها الأمناء النابهين. فاستحال عليهم في المستقبل القريب أو البعيد ترقب النهزة واغتنام الفرصة لمعاودة الجهاد وإصلاح المعوج وتقويم السبيل. والحق أني ما حاولت أن أحمله على العبث بوجداناته إلا لأرفه عن نفسه عبء ما يشق عليها من مسئولية أدبية لما يتهدده وينتظره إذا لم يلب الدعوة ويبرم الميثاق. وكان أكبر همي أن أنقذه من نفسه فلا أدعه في ثورته النبيلة وغضبته العادلة يقرر لنفسه مصيراً عساه يلومها عليه فيما بعد
لقد عقد النية على التضحية بمادته والاحتفاظ بمثله؛ وكانت له الخيرة بين القبول المغني والرفض المفقر. فآثر الرفض على القبول، وتأبى عليهم في عزة وأنفة إبرام العهد، وكان قدراً مقدوراً أن فقد مركزه وضاعت أرزاقه. ومنذ ذلك الحين أخذ يضرب في الأرض(433/34)
هائماً على وجهه لا يلوي على شيء إلا ما عساه أن يظفر منه بمرتزق جديد، فلا يصيب من ملتمسه إلا ما يتبلغ به
ولقد قدر لي لعهد غير بعيد أن أجتمع به ثانية في قطر أجنبي حيث كان يبحث عن مرتزق ثابت وعيش مأمون. ويا له من شأن لا أقضي من نبله العجب أن أراه وما تبدر لي منه بادرة آنس منها انه ارتاب يوماً في عدالة منهجه أو أنه أصبح في شك من صواب رأيه فاتهم نفسه في صدق اختياره
يا لها من أمنية طيبة أن أراه في مستقبل العمر وقد اعتذر له الدهر عن خطيئته ووافاه الزمن بجزائه العادل؟
إن منهج هذا الصحفي الحر ومنهج غيره من الصحفيين الذين لا يقلون عنه تضحية ولا إقداماً لما يجعل سلوك هؤلاء الصحفيين، من غير جماعة النازي، اللذين استكانوا وأبرموا الميثاق على كره منهم ومنهجاً مهيناً قدراً. ألم يصبحوا مجرد أداة لا وزن لها ولا تقدير لمجهوداتها؟ ألم يمسوا مجرد أبواق للدعاية التي هي من صميم كيان الحكومة النازية الاستبدادية؟ ألم يقتصر أمرهم في التحرير على أن يستخدموا ما توفر لهم من كتابة وما تهيأ لهم من مواهب في تنظيم ما يتلقونه من الدكتور (جيبلز) أو (قلم المخابرات السرية) من موضوعات يؤمرون بكتابتها ويجبرون على إذاعتها؟ ألم يهيئوا لهم طابعاً رسمياً من ثياب عسكرية ليكون ذلك شاهداً على استرقاقهم وآية على عبوديتهم؟ أيظل هؤلاء صحفيين بما تحمله كلمة الصحافة من معنى، أم صاروا وقد جمدت قريحتهم وسقم وجدانهم تبعاً مستضعفين وعبدة مستعبدين؟
إن الجواب على ذلك مدرج في مسائل أخرى أبعد مدى وهدياً إذا كانت الصحافة المقيدة المستعبدة تعتبر صحافة أصلاً بما تحمله كلمة الصحافة من معنى، وإذا كانت الأمم الاستبدادية تفسح للصحافيين في ميادينها مكانة كتلك المكانة التي يعرفها الناس لها في الأمم الحرة
إن (الصحافة) الألمانية أداة حكومية خصت بأن تلعب الدور المنوط بها وفقاً للأسلوب النازي وتبعاً لوجهة النظر النازية في طبيعة الأمور، وأولئك الذين يعنون بحرية الصحافة البريطانية كمظهر من مظاهر الحرية السياسية البريطانية على العموم يجب أن يفهموا(433/35)
ماهية هذه الأداة وعلاقتها بالنظام النازي
فلقد عرف الهر (ولهلم والدركرش) وجهة نظر النازي في الصحافة بأسلوب واضح يدعو إلى الإعجاب في مؤلف ألماني عنوانه: (واجب الصحافة السياسي) قائلاً: (إن جماع ما يسعنا أن نفهمه من واجب الصحافة السياسي هو أن نسلم تسليما مطلقاً وأن نعترف اعترافاً قاطعاً لا يحده وصف ولا يقيده شرط بما (للزعامة) من شأن في الدولة وبما هو لزام عليها من تأييد الزعيم في رواج خططه تأييداً طليقاً من أي قيد أو تحفظ. وإن الصحافة بأوسع ما ينطوي عليه عملها السياسي من دلالة، مباحة لأن تكون من الاستسلام والخضوع بحال يتيسر معها أن تتضافر جهود الصحف الألمانية جميعاً على تدعيم أسلوب التجديد الناضج في الحياة السياسية. وبوسع الصحافة الألمانية بما تؤديه أو تخفق في تأديته أن تؤثر تأثيراً فعالاً ذاهباً إلى أبعد مدى في كيان الحكومة الألمانية. وهنا مبعث الاهتمام في إدراك ماهية العمل السياسي للصحف. ولقد كان من بواعث الغبطة وحسن التوفيق أن اختفت اختفاء تاماً من ميدان حياتنا الاجتماعية تلك الأغراض المتشبعة والمقاصد الملتوية والغايات المتنوعة، كما اختفت أيضاً الصحف التي لم يكن يعنيها إلا أن تخدم المقاصد والأغراض الحزبية من غير أن تلقى بالاً لما انطوى عليه العنصر الألماني (من المزايا الجنسية والقيم المعنوية). ولقد أصبحنا الآن ونحن لا نسمح لأية صحيفة أن تجعل لها سياسة خاصة بها، أو أن تدلي من وجهات النظر والآراء ما من شأنه أن يعرقل سبيل القيادة في الدولة. وقديماً تهيأ للنقد ميدان واسع الأرجاء بعيد المدى، وكان بوسع الناقدين أن يجري في خاطرهم أنهم يخدمون المصلحة العامة؛ إلا أن الرقباء الغيورين قد رأوا بثاقب فكرهم في ذلك الزمن بعينه ما يلازم أمثال تلك الآراء من الزيف والخديعة، وما يجب أن ننتهي إليه من إفساد وضلال. لقد أصبحنا اليوم ونحن نفهم فهماً تاماً أن العهد الجديد بحاجة إلى رأس جديد، وأن الحكومة قد وطدت العزم على أن تحتفظ في يدها بقيادة الدولة، وعلى الصحف أن تدرك مقتضيات هذا الشأن فستعمل بكل الوسائل على تأييد خطط الحكومة
ولقد جهر الهر (ولدكرش) أن يؤثر في نفوس مواطنيه وأن يلبس آراءه ثوباً جذاباً فعالاً فاقتبس لها عبارات متنوعة من كلام الزعيم بحروفها، وهي عبارات تلح في أن الثورة لا يسعها أن تنجح ما لم يتهيأ لها أن تطبع بطابعها الشعب بأسره؛ فإن لزاماً على الدولة(433/36)
النازية أن تنشئ نشأً جديداً. وإن رسالة الصحافة هي أن تطبعهم بالطابع الحقيقي) أو بعبارة هتلر: (إن الصحافة هي الوسيلة إلى تهيئة المجموع لأن يربي نفسه وأن يتثقف على ضوء ما يراه ويختطه الزعيم الذي يقود الدولة) ولقد أدلى بهذه الآراء الدكتور (جيبلز) الذي اقتبس عنه الهر (ولدكرش) مؤيداً نظره ومستصوباً رأيه. فصرح بأن ما يسمح به من رخص للكتاب مقيد بذلك الالتزام الماثل في أن تكون وقفاً على خدمة الدولة
والذي يخلص من أمر هذه الحقائق ومن سائر الحقائق الأخرى الملموسة هو أن جماع ما يتصور للصحافة من حرية، بل وما يظن للفرد نفسه من حرية، قد حذف من منحى السياسة الألمانية؛ فلم تعد الصحافة الألمانية قادرة على أن تكون عنصراً من عناصر التعبير عن (الرأي العام)، إذ فرضوا عليها أن تطبع في رءوس الجمهور ما جرى به قضاء زعيم الدولة أن يكون موضع التفكير العام. وكم يحتاج الأمر في بريطانيا - وفي البلاد الأخرى التي لا زالت الصحافة فيها تنعم من حريتها بمثل ما تنعم به في إنجلترا - من جهود عقلية للإحاطة بكامل ما انطوت عليه تلك الثورة من معنى، ولإدراك أن ما للصحافة المستعبدة (المتماثلة في الدرجة والأسلوب) من قوة، لأكثر مثولاً فيما تكف عن قوله أو لا تجترئ على نشره منه فيما يتسنى لها نشره أو يطيب لها إثباته وإبرامه
ولو أن الأمور المؤكدة قد تصبح موضع ريبة ومبعث شك إذا لم تؤيدها الحقائق المماثلة في طبيعة الأشياء أو ينهض الدليل بحجتها، إلا أن ما صادف الحقائق التي لها أثرها في تهيئة عقول الأفراد وتكوين آرائهم من ضياع أو تشويه، قد صيغ بأسلوب ماكر قوي، من شأنه أن يعطل النقد وأن يحول دون نمو الآراء المعارضة
وبهذه الطريقة امتدت عملية (الأسلوب الواحد) الإجبارية - التي خضعت لها الصحف الألمانية منذ عام 1933 - إلى الشعب بأسره، وكان ذلك من طريق تشويه الصحف للحقائق كما كان ذلك من طريق ما طبعته في رؤوس قرائها في أوامر الزعيم ونواهيه
ولقد صار من مقتضيات التعامل مع ألمانيا - كما هو الحال مع الأمم الأخرى المحكومة حكماً استبدادياً - أن أصبح رجال السياسة والصحافة في الأمم الحرة يواجهون في الشؤون الدولية حالة لم يسبق لها مثيل، فقد تغير بين الدول مقياس الصلات السياسية والعقلية، ولم يعد هناك تكافؤ في تبادل الآراء العامة بين الأمم المحكومة حكماً استبداديّاً والأمم التي لا(433/37)
زال الرأي فيها حراً؛ ولم يعد هناك أيضاً من شكوى ترفع أمام قضاء الشعب من نظام حكومته الاستبدادية
والأمر على النقيض من ذلك في الأمم الحرة؛ إذ بوسع صحافة الحكومات الاستبدادية ووكالاتها الأخرى الخاصة بالدعاية والنشر - بل وكثيراً ما وسعها كما أيدتها التجارب - أن تتقدم بشكواها إلى الرأي العام في الأمم الحرة، وأن تكون هذه الشكوى أحياناً ضد نظام ومصالح هذه الأمم الحرة؛ إلا أن هذه المعاملة الكريمة لا يسمع لها صدى في الأمم المحكومة حكماً استبداديّاً، حيث لا تكافؤ في المعاملة ولا تعادل بين ما يعطى وما يؤخذ، ولا ترقب للإقناع والقبول بالدليل القاطع أو البرهان الدافع ما دامت الحكومة وحدها في الأمم الاستبدادية هي صاحبة الكلمة العليا والقضاء المبرم، وما دام الشعب قد قدر له أن يجهل كل شيء من شأنه أن يهيئه لأن يتأبى على الزعيم قبول سياسته - والواقع أن الفاشية في إيطاليا والشيوعية في روسيا السوفياتية، بل وحتى القيصرية في روسيا القيصرية، كل أولئك يعتبر موطناً للحرية إذا ما قورن بالنازية في ألمانيا. فلم تكن الرقابة التي فرضها قيصر الروس على الصحافة، ولم تكن الرقابة التي بسطتها عليها (البيروقراطية) الباطشة القوية، أو الإدارة السرية، لتبلغ من التوفيق والنجاح ما بلغته النازية من إسكات ستة الصحف الكبرى، وهذا النظام الاستبدادي الذي يفرض على الشعب بأسره ما تبدعه الدولة وتصبو إليه من النظر والرأي يعتبر حدثاً جديداً وأمراً ثورياً وطابعاً مشئوماً وقالباً معكوساً في العالم الجديد
(للكلام بقية)
زين العابدين جمعة
المحامي(433/38)
10 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثاني
يلاحظ في مصر أن القليل من المال يكفي لإعالة ذرية كثيرة وأسرة كبيرة. ومهما يكن تدليل الأطفال والولوع بهم عظيما، فهؤلاء يكنون ويظهرون لأبويهم احتراماً عميقاً خليقاً بالمدح. ويعتبر المسلمون العقوق من أعظم الخطايا. وهم يضعونه لجسامته مع الكبائر الست الأخرى، وهي الشرك بالله وقتل النفس وقذف العفيفات بالزنا وأكل أموال اليتامى والربا الفاحش والتخلف عن جهاد العدو. وقلما ترى في مصر أو في العرب من لا يطيع والديه. ويصطبح الطفل، في الطبقات الوسطى والعليا، بتقبيل يد أبيه، ثم يقف أمامه باحترام وخشوع حتى يصدر إليه أمراً أو يسمح له بالانصراف. ولكن العادة جرت أن يقبل الأب ابنه ويلاطفه. ولا يقل احترام الطفل لأمه عنه لأبيه، وكذلك احترام أفراد العائلة الآخرين بمقتضى سنهم وقرابتهم ومركزهم. ومن هنا تنشأ في الطفل السهولة واللباقة في تصرفاته خارج الحريم، كما تنشأ فيه الطاعة والولاء اللذان كثيراً ما يعدان، من غير حق، نتيجة الحكم الاستبدادي في الشرق. ويندر أن يجلس الأبناء أو يأكلوا أو يدخنوا في حضرة الأب إلا إذا سمح لهم بذلك. وكثيراً ما يقومون أيضاً على خدمته وخدمة ضيوفه عند تناول الطعام وفي المناسبات الأخرى. ويظل الأبناء كذلك حتى بعد أن يصبحوا رجالاً. وقد دعيت مرة في شهر رمضان إلى الإفطار على مائدة تاجر مصري أعدّت أمام داره. وكان يدعو كل شخص يمر بالقرب منا، مهما كان فقيراً، إلى مشاركتنا الطعام. ومع ذلك كان يقوم على خدمتنا اثنان من أولاده أكبرهما يبلغ الأربعين. وقد لاحظت أنهما لم يتناولا بالرغم من صيامهما طول اليوم غير جرعة ماء؛ فرجوت الأب أن يسمح لهما بالإفطار(433/39)
معنا، فأجاب رجائي في الحال؛ ولكنهما رفضا. وتتمتع الأم بأكبر قسط من عطف أطفالها ولكنها لا تتمتع مثل الأب بأكبر قسط من الاحترام. وقد رأيت خدماً كثيرين يعطون أمهاتهم ما يدخرون من أجرهم، وقلما كنت أرى من يدخر شيئاً لأبيه
ويلاحظ أن الأطفال المصريين، ما عدا أطفال الأغنياء، يظلون دائماً قذري الشكل ممزقي الثياب، مع أنهم في محل الرغبة وموضع التفكير. وقد يشمئز الأجانب من رؤيتهم، ويسرعون في الحكم على المصريين بأنهم شعب قذر دون أن يبحثوا عن سبب آخر لذلك. ومن الملاحظ أيضاً أن أكثر الأطفال تدليلاً وعناية، أقذرهم جسما وأحقرهم ثيابا. وليس من الغريب أن ترى السيدات الجميلات في شوارع القاهرة متئدات في مشيتهن، معطرات الجو بعطر المسك، مراعيات في زينتهن الكاملة دقة النظافة ومنتهى الرقة، معتنيات بكحل عيونهن، مخضبات الأصابع، بينما يرافقهم طفل قد يكون الوحيد، وهو ملطخ الوجه ملوث الثياب. ومن الأشياء التي أثارت عجبي عند قدومي إلى هذا البلد مناظر من هذا القبيل؛ وقد لفتت نظري لغرابتها وتناقضها، فأخبرت أن الأم الحانية على أطفالها تهمل هندامهم فتتركهم بلا نظافة، وتلبسهم أحقر الملابس عمداً، وعلى الأخص عندما يرافقونها في الخارج خوفاً من شر العين. ويخشى من الحسد بصفة خاصة على الأطفال لأنهم يعتبرون نعمة عظيمة ويشتهيها الجميع. ويرجع للسبب نفسه حجز الأطفال في الحريم طويلاً؛ حتى أن البعض يلبسن الذكور من أطفالهن ملابس الإناث لأن البنت أقل تعرضا للحسد. وأطفال الفقراء ما زالت هيئتهم بعد أكثر إهمالاً. فهم فضلاً عن قلة ملابسهم وحقارتها أو تمام عريهم قذرون إلى أقصى حد. تغشى عيونهم الأدران والذباب دون أن يكترثوا لذلك. ويعتبر المصريون أن غسل العين أو حتى لمسها عندما يسيل منها الصديد الذي يجذب الذباب، مضر بها. ويؤكدون أن فقد البصر قد ينتج من كثرة لمس العين أو غسلها عندما تصاب بهذا السيلان، غافلين عن أن الغسل إنما يلطف الألم
ويختن الولد في سن الخامسة أو السادسة، وأحياناً بعد ذلك وقبل الختان يحتفل القاهريون وغيرهم من الحضريين، إذا توفر لديهم مال، بزف الولد في موكب يمر بالشوارع المجاورة للمنزل. وكثيراً ما يحتفلون بزفة الختان مع زفة عرس في الوقت نفسه تقليلاً من نفقات الاحتفال. وفي الحالة الأخيرة يتقدم الموكب الولد وحاشيته. والمحتفل به يلبس أحياناً عمامة(433/40)
من الكشمير الأحمر، وقد يرتدي لاعتبارات أخرى ثياب أنثى، فيلبس إليلك والسلطة والقرص والصفا وغيرها من حلي النساء، ليجذب العين الحاسدة إليها ويلهيها عن شخصه. وتستعار هذه الملابس عادة من بعض السيدات الموسرات، وتكون من أفخر الملابس وأبهاها كما تكون كافية السعة لتلائم الولد. ويستعار كذلك حصان جميل العدة ليركبه المحتفل به. ويمسك الولد بيده اليمنى منديلاً مطرزاً مطوياً يضعه باستمرار أمام فمه ليحجب بعض وجهه اتقاء شر العين. ويتقدم المحتفل به صبي الحلاق الذي سيقوم بعملية الختان، وثلاثة من الموسيقيين أو أكثر؛ وآلاتهم لا تتعدى المزمار والطبول، كما ترى في (شكل 31). فالشخص الذي يتقدم الموكب هو صبي الحلاق - كما ذكر - ويحمل (الحمل) وهو صندوق خشبي نصف أسطواني ذو قوائم أربع قصيرة، يزين وجهه قطع من المرايا ومن النحاس البارز النقش، ويغطي ظهره بستار. وهذا الحمل وهو شعار الحلاق. ويحمله الخادم بالطريقة المبينة في الرسم ثم يتبعه الزمار والطبالان (وقد يتقدم بعضهم الحمل)، ثم الولد يقود جواده سائس؛ وأخيراً يمشي خلفه الكثير من القريبات والصديقات. وكثيراً ما يحتفل بختان ولدين مما وقد يحملهما حصان واحد. أما موكب العرس الذي كثيراً ما يتضمن موكب ختان كما سبق فسنتكلم عنه في حينه. وسنذكر أيضاً وصفاً لبعض العادات الأخرى المتعلقة بالختان وبالأخص واحدة منها أقل شيوعاً وأكثر وجاهة، في الفصل المتعلق بمختلف الأفراح والأعياد الخاصة
وقلما يبذل الأبوان كثيراً من وقتهما أو انتباههما في تربية الطفل تربية ذهنية، قانعين بتثبيت بعض المبادئ الدينية في ذهنه الصغير، فإذا كانت لديهم المقدرة، يعهدون به للمدرسين. ويلقن الطفل في سن مبكرة بقدر الإمكان الشهادتين وحب الإسلام. وأكثر أطفال الطبقات العليا والوسطى، وبعض أطفال الطبقات الدنيا يتعلمون في الكّتاب القراءة وتلاوة القرآن أو ترتيله؛ ثم يتعلمون بعد ذلك أغلب قواعد الحساب الشائعة
والكتاتيب كثيرة العدد لا في العاصمة فحسب، بل في كل مدينة كبيرة، كما يوجد في كل قرية كبيرة مدرسة واحدة - على الأقل - ويلحق بكل مسجد وسبيل وحوض في العاصمة كتّاب يتعلم فيه الأطفال بأيسر الأجور؛ إذ يتناول (الشيخ) أو (الفقي) كل خميس من أب الطالب نصف قرش أو أي شيء آخر. ويتناول مدرس المدارس الملحقة بالمساجد أو(433/41)
بغيرها من مباني العاصمة العامة سنوياً طربوشاً وقطعة من الموصلي الأبيض للعمامة وقطعة من الكتان وحذاء. كذلك يتناول كل ولد طاقية من الكتان وقطعة من نسيج القطن طولها أربعة أذرع بلدية أو خمسة، وقد يأخذون نصف ثوب من الكتان مقداره 10 أو 12 ذراعاً بلدياً وحذاء، وأحياناً يعطون قرشاً أو نصف قرش؛ وهذه الخلع تؤخذ من أموال موقوفة على المدرسة وتقدم في شهر رمضان. ولا يحضر الأولاد إلا ساعات الدرس ثم ينصرفون إلى منازلهم. ويكتب الدرس عادة على ألواح من الخشب المصبوغ بالأبيض، تمسح بعد كل درس ويكتب عليها الدرس الجديد. وتعّلم الكتابة أيضاً على اللوح نفسه. والعادة أن يجلس المدرس وتلاميذه على الأرض وكل تلميذ بيده لوحه أو نسخة من القرآن، أو جزء من أجزائه الثلاثين، توضع على كرسي من الجريد، ويلقي الأولاد جميعهم درس القراءة أو ينشدونه بصوت واحد عال، هازين رؤوسهم وأجسامهم هزاً لا ينقطع إماماً وخلفاً؛ وكذلك أغلب قراء القرآن يتبعون تلك العادة ظناً أنها تساعد على التذكر، وليتصور القارئ أي ضجة يحدثونها.
وأول ما يتعلم الأولاد حروف الهجاء، الشكل، ثم يتعلمون القيمة العددية لكل حرف من حروف الهجاء. وقد جرت العادة قبل وصول التلميذ إلى تلك المرحلة الثالثة في تعليمه أن يزين المدرس اللوح بالحبر الأسود والأبيض والصبغ الأخضر، ثم يكتب حروف الهجاء بترتيبها العددي ويرسلها إلى والد التلميذ، فيعيدها هذا إليه وعليها قرش أو قرشان. وهكذا يكرر ذلك في مراحل التعليم اللاحقة، وفي كل مرة يكتب الدرس التالي على اللوح. وعندما يحفظ الولد القيمة العددية لحروف الهجاء يتمرن على قراءة الكلمات السهلة، مثل أسماء الرجال، ثم صفات الله التسع والتسعين، وبعد ذلك يحفظ الفاتحة فيكررها حتى يعيها تماماً، ثم يشرح في حفظ السور الأخرى. ويندر أن يتعلم الأولاد الكتابة إلا عندما يخصصون لبعض الوظائف التي تتطلب معرفتها. وفي هذه الحالة يتعلمون الكتابة والحساب كذلك على يد (قباني، وهو الشخص المنوط به وزن البضائع في السوق على القبان. أما الذين يسلكون أنفسهم في النظام الديني أو في أي مهنة علمية فيتبع غالبهم تعليماً منتظماً في الجامع الأزهر
وأغلب معلمي الكتاتيب قليلو العلم والاطلاع. والقليل منهم من تتعدى معرفته القرآن(433/42)
وبعض الأناشيد والأدعية، فيؤجرون لتلاوتها وتلاوة القرآن في المناسبات الخاصة. وقد حدثوني أخيراً عن رجل لا يحسن القراءة والكتابة نجح في شغل وظيفة مدرس؛ فقد كان يحفظ القرآن كله ولذلك سهل عليه الإصغاء إلى الأطفال وهم يسمعون الدرس. أما تعليمهم الكتابة فقد كان يستخدم فيها (العريف) مدعياً ضعف النظر. وبعد شغله هذا المنصب بأيام جاءته امرأة فقيرة ليقرأ لها خطاباً جاءها من ابن لها ذهب للحج. فتظاهر الفقي بالقراءة ولكنه لم يفه بحرف واحد. فاستوجست المرأة من سكوته شراً واستنتجت من هدوئه أخباراً سيئة فقالت له: (هل أصوات؟) فأجابتها (نعم) وسألته: (هل أمزق ثيابي) فأجابها: (نعم). فرجعت المسكينة إلى منزلها وأقامت هي وصاحباتها مناحة ومأتماً. ولم يطل عليها الزمن حتى عاد ولدها، فسألته ماذا يعني بهذا الخطاب الذي يخبرها بموته؟ فلما شرح لها ما في الخطاب ذهبت إلى المدرس وطلبت منه أن يوضح لها لماذا قال لها أن تصوت وتمزق ثيابها ما دام الخطاب يقرر أن ابنها بخير وأنه في طريق العودة؟ فأجابها غير مضطرب: (إن الله عنده علم الغيب. فمن أين لي أن أعرف أن ولدك سيعود سليما؟ وكان خيراً لك أن تظنيه ميتاً حتى لا تنتظري عودته، وقد يخيب انتظارك). فصاح بعض الجالسين مادحاً حكمته: حقا إن (فقينا) الجديد رجل ثاقب البصر حكيم. وهكذا بين عشية وضحاها ارتفعت شهرة الرجل لغلطة غلطها. وبعض الآباء يجعلون لأولادهم شيخاً يعلمهم في المنزل. والعادة أن يعلم الأب ابنه الوضوء والصلاة وغير ذلك من الواجبات الدينية والأخلاقية على قدر إمكانه. وقد أمر الرسول (صلعم) أن يعّود الصلاة من يبلغ السابعة ويضرب من يمتنع منهم عند العاشرة، كما أمر أن ينام الأولاد كل وحده في هذه السن. ومع ذلك يندر أن يقوم المصريون بواجب الصلاة قبل البلوغ.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(433/43)
رسالة الشعر
ليالي القاهرة
من (ن) إلى (هـ)
للدكتور إبراهيم ناجي
طلَبتِ الكِتاَبةَ يَا جَنَّتي ... وَمَاذَا تُرِيِدينَ أنْ أكْتُباَ؟
وَمَا في الجَوَانِح خَافٍ عَلَيكِ ... وَقَلبُكِ يَعلَمُ مَا غُيِّبَا!!
سَأَكتُبُ أنَّكِ أنْتِ الرَّبيعُ ... وَحُسنُكِ أنْضَرُ مَا فِي الرُّبَى
وَأنْتِ الحَيَاةُ وَأنْتِ الجَماَلُ ... وَفَجْرُ الشَّباَبِ وَحُلمُ الصِّباَ
أُنَادِي بِاسْمِكِ عِنْدَ الصَّبَاحِ ... وَأطْوِي عَلَى ذِكرِكِ المَغْرِباَ
إبراهيم ناجي(433/44)
الوردة الذابلة
للأستاذ محمود عماد
قالت وقد ألفتْ على وجهها ... غبرةَ هَمّ لم تكد تنجلي:
إن تذبل الوردة ظلت لها ... بقية من عطرها الأولِ
قلنا وطيّ النفس ما طيّها ... لو شاءت الوردة لم تذبل
لو شاءت الوردة كنا لها ... ندي إذا الأنداءُ لم تنزل
لو شاءت الوردة كنا لها ... شوكاً يقيها عبث الأنمل
لو شاءت الوردة كنا لها ... أرضاً مُوطًأة على جدول
لو شاءت الوردة كنا لها ... شمساً تريقُ الضوَء في معزل
فظلّ للوردة ما أعطيت ... من ناضر الحسن وغالي الحُلِي
لكنها اختارت لها مغرساً ... بمثلها في الورد لم يجمل
حيث الثرى سمّ وحيث الندى ... هَمّ وحيث الضوءُ لم يُرسَل
فكان حقاً أن ترى حسنَها ... يزوي وألا تعجب المجتلي
وإن تعزت ببقايا الشذى ... فهو عزاءُ الكحل للأحول
محمود عماد(433/45)
أحلام الموتى
للأستاذ علي شوقي
مَتى أنا نازلٌ نُزُلَ الرِّجامِ ... ومبِلَغتي الوفاةُ حِمى الحِمامِ
فأغدو ظاعناً من دار هُونٍ ... مُزايَلَها إلى دار السلام
أراني والعَوادي عائداتي ... وواهبتي أضاميمَ السَّقام
كطفلٍ ملّ من ثديٍ سقيم ... فمال عن الرضاع إلى الفطام
وما عَشق الحياَة سوى محبٍ ... قضى منها لُباناتِ الغرام
ومن رضىَ المقام بها فإني ... لأمرٍ ما رغبت عن المُقام
لئن آنستُ تحت الشمس ظلماً ... فمالي لا أفِرُّ إلى الظلام
فيا داراً سأبرحُها، سلامي ... عليك وإن صَغُرتِ عن السلام
ويا أرضاً غداً ستكون قبري ... ألا أعجلْتِني قبل التمام
لعلي إن أمُتْ تبكي عيونٌ ... تُرَوّى من مدامعها عظامي
عيون طالما أمهرت جفني ... عليها وهي تنعم بالمنام
وتذكرني شفاهٌ كنت حيناً ... أدِين لها بمأثور الكلام
وتندبني سُويعاتٌ تقضّت ... خضبت أكفّها بدم المدام
رأيت العيش معنى كل شر ... وهذا الناس معنى للرغام
وما هذي الحياة سوى أمانٍ ... تَدَاولُ بين أحلام الأنام
علي شوقي(433/46)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ أحمد أمين
كنت أشرت فيما سلف من الأحاديث إلى أني سمعت كلاماً منسوباً إلى أحد المفكرين من الأجانب في محاضرة ألقاها الدكتور إبراهيم ناجي، ثم قرأت الكلام نفسه في (الثقافة) بعد يومين بصورة تشهد بأنه من مبتكراتك، وكانت الأمانة العلمية توجب أن تذكر النص الذي نقلت عنه، وفقاً لقواعد (الدراسة الجامعية)
واليوم أذكر أن جريدة (الوفاء) التي تصدر في شرق الأردن نشرت مقالاً عنوانه (عدالة العمل) بتاريخ 19 أغسطس سنة 1941، وفي التاريخ نفسه نشرت مجلة الثقافة التي تصدر في مصر مقالاً عنوانه (العدالة) وذلك توارد غريب!!
وعند الموازنة بين المقالين تبين أن الأصل واحد، فهما منقولان عن كتاب (البشرية الكاملة) للمؤلف الأمريكي فرانك كراين
ولكن بين المقالين فرقاً بسيطاً جداً، فالأستاذ صبحي زيد الكيلاني صاحب جريدة الوفاء نص على أن المقال مترجم عن الإنجليزية بقلم صبحي جلال القطب؛ أما الأستاذ أحمد أمين صاحب مجلة الثقافة فقد نص على أن المقالة من إنشاء أحمد أمين!
فهل لك أن تتفضل فتدلني على وجه (العدالة) في هذه القضية؟ وهل لك أن تذكر أن الدنيا فيها ناس يقرئون وينقدون ما يقرئون؟
يجب أن يفهم حضرة الأستاذ أن (الدراسة الجامعية) لا تمنح أصحابها حتى انتهاب الأفكار والآراء؛ فإن أجاب بأنه (ترجم بتصرف) فأنا أقول بأن النص على الأصل واجب ولو كانت الترجمة بتصرف
وبالنيابة عنه أعتذر لمن شكاه من فضلاء عمان، والصديق ينوب عن الصديق في بعض الأحيان
زكي مبارك
عبر كذا. . .
اطلعت على ما كتبه الأستاذ الفاضل محمد محمود رضوان في العدد 432 من (الرسالة)(433/47)
في نقد ما ذهبت إليه من أن استعمال الكّتاب الآن لكلمة (عبر) - مصدر عبره - ظرفاً غير صحيح فقال الأستاذ: قد جاءت هذه الكلمة في شعر إسلامي لسواد بن قارب الكاهن، حين وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً)
ثم ساق حكاية سواد كما رواها صاحب الجمهرة، وفيها أبيات له، منها:
فشمرتُ عن ذيلي الإزار وأرقلتْ ... بيَ الدعلب الوجناء عَبْر السباسب
وبعد ذلك قال: (ومن ثم يرى الأستاذ الكبير أن الكلمة صحيحة كما يستعملها الكتاب على عهدنا) فكأن الأستاذ ارتضى استعمال (عبر) ظرفاً أخّذا بظاهر عبارة الشاعر التي تنطبق في صورتها على استعمالات الكتّاب لهذا العهد. وكأنه يتوهم أنها منصوبة على الظرفية (بأرقلت)
ولكن الواقع أنها صفة ثالثة للناقة لا غير؛ فإن الشاعر في مقام تعديد محاسن ناقته وما فيها من مزايا يقتدر بها على السرعة في أداء مهمته، فهو يصفها بالفتاء والقوة، وبأنها قادرة على شق السباسب، تمضي بها وتجرؤ عليها
ويؤيدني في أن الوصفية وحدها هي الوجه الواجب أني لم أجد لمعنى الظرفية في (عبر) أثراً فيما قرأت من كتب اللغة وراجعت وبحثت، وإن كانت الكتب التي بين أيدينا لا تحوي كل شيء، بل قد فاتها كثيراً جداً، كما نعترف بذلك جميعاً
ثم ترقى الأستاذ في تفنيد مذهبي في هذا الموضوع فقال:
(ولو أننا أردنا تخريج الكلمة على وجه الصحيح لوجدنا أكثر من وجه، خلافاً لما يقوله الأستاذ. وأقرب هذه الوجوه عندي أن تكون (عبر) مصدراً مراداً به اسم الفاعل، فتكون حالاً مما قبلها، ويكون التقدير: (مرور قواتها عابرة شمال الهند. . . الخ) و (أو جاءت إلى هنا عابرة الأطلنطي).
أقول: يكفي في الرد على هذا أن أذكر الأستاذ أنه من المقرر أن المصدر قد يقع حالاً (إذا كان نكرة). فالتنكير شرط لازم، نحو: (ثم ادعهن يأتينك سعياً) و (ينفقون أموالهم سراً) و (جاء بغتة) و (قتله صبراً) و (حضر سرعة) و (أقبل ركضاً) و (كلمته مشافهة). . . إلى غير ذلك.
وقد رأيت أن (عبر) في الأمثلة الثلاثة التي أتيت بها للتوضيح في مقالي السابق معرفة(433/48)
بالإضافة. وكذا الحال في جميع ما نراه من ذلك كل يوم في الصحف والمجلات؛ لأن استعمالها لا يكون إلا هكذا في أساليبها.
فلا يمكن إذاً أن تعرب (عبر) حالاً. فقد بطل تخريج الأستاذ
أما المصدر المعرف فمجيئه حالاً نادر. والمسموع منه قليل جداً. وهو لا يعدو أن يكون علم جنس، كقولهم: جاءت الخيل بداد، أو معرفاً بال، نحو: أرسلها العراك.
بقى قول الأستاذ: (والمصدر يقع في موضع اسم الفاعل. . . الخ كلمة)، فهذا مما لسنا بسبيله.
(ا. ع)
الأستاذ كرد علي في بيت المقدس
لبى الأستاذ محمد كرد على دعوة الإذاعة الفلسطينية، فتوجه إلى القدس وذهب من توه إلى بيت صديقه أديب العربية الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
وكانت أولى محاضراته: (هل تمدنا) قرر فيها الأستاذ أن الأمم العربية قطعت شوطاً بعيداً في المدنية منذ نصف القرن الماضي، وتمنى لو تلقفنا من الغربيين عاداتهم وتقاليدهم فهي بالجملة خير من عاداتنا وتقاليدنا؛ ولم ينس الأستاذ أن يذكر المرأة الشرقية وخروجها سافرة في العصر الحديث بعد أن كانت مكبلة بسلاسل يسمونها خلاخيل، وأنها نالت قسطها الوافر من المدنية وتشبهت بأختها الغربية بمنافسة الرجل في مختلف ميادين الحياة.
وفي المحاضرة الثانية تكلم الأستاذ في موضوع: (الشاميون والتاريخ) قصر حديثه على سرد أسماء المؤرخين الشاميين ومؤلفاتهم وتاريخ وفاتهم؛ وعلل الأستاذ وفرة المؤرخين في الشام لكونها كانت عاصمة العرب، وفي العاصمة يتمثل ازدهار المدنية أكثر من سائر البلدان
وفي المحاضرة الثالثة حكى عن (طرائف فارس) وخصص كلامه في مخطوط يسمى (طرائف الطرف) فكشف عن قيمته التاريخية ثم ختم كلامه بالقول: إن في إيران مخطوطات عربية قيمة تفوق المخطوطات الموجودة في القاهرة وفي دمشق وذكر أن في مكتبة العلامة الإيراني (نصر الله) خمسين ألف مجلد عربي، ويؤكد الأستاذ أن كثيراً من(433/49)
أغنياء إيران يهمهم أن ألا تخلو مكتباتهم من التآليف العربية فإن ذلك يدل - في عرفهم وتقاليدهم - على السراوة والنبل
وكان موضوع محاضرته الأخيرة: (بقية ما ترك لنا الأجداد) فافتتح كلامه بالأسف الشديد على أن فقدت المكتبة العربية كثيراً من المخطوطات الثمينة ثم قصر كلامه على التحدث عن (أبي حاتم بن حيان البستي) وذكر أنه لا يقل عن ابن ماجة في أهمية أسانيده للحديث، ثم أعلن أسفه بأن أحداً من المترجمين العرب لم يذكره في تآليفه، ولولا ياقوت الحموي لكان نسي كما نسي كثير من العلماء. ثم رجح الأستاذ أن نسبه ينتهي إلى (إياس بن مضر) وقال أن حياة هذا العالم الجليل قد انتهى بأن قتله خليفة المسلمين لتلبسه جريمة الاشتغال بالعلوم الرياضية.
عبد القادر جنيدي
إلى الكتاب
يجدّ الردى فينا ونحن نهازله ... ونغفو ولا تغفو فواقاً نوازله
كنت أتحدث مساء يوم من الأسبوع الماضي عن (معركة الإصلاح الاجتماعي) مفتتحاً العام الدراسي الخامس لمدرسة الخدمة الاجتماعية، فجال بخاطري وأنا أعرض وجوه المعركة أن أتساءل: أين كتابنا في مركز القيادة، وأين هم في صف الجنود، وأين هم في مجال الدعاية والإرشاد؟ وهل وضعوا خطة وبرنامجاً لعلاج مشكلاتنا الاجتماعية الكبرى ثم تهيئوا لخوض غمار المعركة حاملين علم الجهاد، أو أنهم آثروا حياة الدعة وعيشة السكون، والتزموا الحيدة المطلقة تلقاء هذه المعركة التي شنت فيها الآفات الاجتماعية الغارة علينا بغير رفق أو هوادة؟
ثم ألقيت نظرة على ما طوى التاريخ من أحداث اجتماعية غيرت أوضاع الحياة، فبصرت بأقلام الكتاب ولها السبق في ميدان الدعاية إلى المبدأ وبث الفكرة وحفز الهمم ومناصرة التجديد والإصلاح في نضالهما مع قوى الرجعية، وأحسست صولة القلم تسبق صولة السيف، ورأيت مهمة التمهيد لمعركة الإصلاح يضطلع بها نفر من أئمة الكتاب يشقون الطريق للجنود ويرسمون الخطط للقادة، ورأيت صرح الإصلاح وقد استقر على دعائمه(433/50)
الراسخة يحيط به سياج من أقلامهم
ثم شهدت ما حشدته الأمم للإصلاح من قوى فبصرت بقوة الأقلام يصول بها الكاتب القدير في الميدان، ويشق ببريقها الظلام المخيم على العقول والقلوب، ويدفع بها النفوس إلى المثل العليا وهنا ألقيت نظرة على مصر، فإذا بمعركة الإصلاح خامدة، وإذا الروح المعنوية متخاذلة يعوزها القادة والخطة والجنود وقوة الإيمان، مع اتساع الميادين وفداحة الخطوب وعظم المشكلات وقلة الزاد ووعورة الطريق، تكتنفنا عوامل الانحلال التي تقربنا إلى الهوة بخطوات واسعة. وشعرت أننا نسير في الظلام، وقد خبت الأضواء، واختفت مصابيح السماء، فصحت في نفسي والألم يحزها: (أين كتابنا من هذا النضال؟ هل آثروا العزلة في بروجهم العاجية، يشرفون علينا من عل، فيعبسون حيناً ويبتسمون أحياناً، ثم يقهقهون ملء أشداقهم، ثم يخلدون إلى متعتهم من الفن وروعة الخيال، يغذون بها روحهم، ويستوحون منها فيض أقلامهم؟
ألم يقض هؤلاء الكتاب فترة من سني حياتهم الناعمة في قرى الريف، فتثور نفوسهم لمشاهدة الحياة فيها، فيستلوا أقلامهم ليخوضوها معركة حامية في سبيل هؤلاء التعساء اللذين ضن المترفون عليهم بقسط يسير من مقومات الحياة الإنسانية الكريمة؟ ألم يستشعروا ما يحيط بهم من مآسي الحياة المصرية؟ هل فكروا في وجوه الإصلاح ونصيب الكتاب في الدعوة إليه والنضال في سبيله؟ لقد حباهم الله بخيال خصب وروح اجتماعي سام ينم عنهما ما تزخر به مؤلفاتهم وبحوثهم من شذرات وخواطر، فكيف السبيل إلى استغلال هذه المواهب في توجيه قوى الخير لمكافحة عوامل الشر؟
يخيل إلي أن أدباءنا ينعمون بأنانية منقطعة النظير، هيأتهم لأن يعيشوا لأنفسهم، وأن يفكروا حين يفكرون، ويكتبوا حين تتحرك أقلامهم، لمتعة الروح وإرضاء الخيال، دون نظر لما تقتضيهم حقوق الوطن من التزامات تحتم عليهم أن يكونوا في مركز القيادة، وأن يتولوا مهمة الإرشاد
أين إنتاج أدبائنا مما توحي به الحرب، وما يتطلبه تنظيم الحياة الاجتماعية بعد الحرب؟ ألم يروا كيف نهض الكتاب في البلاد الغربية يعالجون المشاكل الاجتماعية التي أوجدتها الحرب، والتي ستتمخض عنها الحرب عندما تخبو نارها، فاستخلصوا العبرة، ووصفوا(433/51)
العلة، ورسموا الطريق للمستقبل؟!
يجب أن يتغير وجه الحياة المصرية في طرائق التفكير وأسس الثقافة ومعايير الإصلاح وروح التشريع، نتيجة لتلك الهزة العنيفة التي توشك أن تتداعى منها جوانب الحضارة القائمة، وأن يكون الكتاب قادة المعركة الإصلاحية التي تطالعنا كتائبها. فمكانهم منها في الطليعة، ولو عرضوا أنفسهم ليكونوا أول ضحاياها.
محمد العشماوي
نائب رئيس رابطة الإصلاح الاجتماعي(433/52)
الكتب
(أرواح شاردة)
تأليف الأستاذ الشاعر علي محمود طه
بقلم الأديب محمد فهمي كمال
هذه (الأرواح الشاردة) في تيه المرح والعذاب والحب، يحتفل بها شاعرنا علي محمود طه في كتابه الجديد احتفال الشاعر الهائم الذي تضطرب حياته في خضم هذا الكون العظيم، حيث تتوارى المعالم وتتلاشى الآفاق وتغيب الشطئان. ولقد وسم نفسه في عالم الأدب بالتيه والشرود، فهو (ملاح تائه) يهيم إثر (أرواح شاردة)، يجد لذته ومتعته في شروده وهيامه، حتى لكأنه أحد أولئك الشعراء البوهيميين الذي كتب عنهم (هنري برجير)، فهو ممن نلتمس عنهم غذاء الروح وري القلب في البيان المصطفق والخيال المنطلق والنغم المتسق!
ومن نعم الأيام أن يصدر هذا الكتاب الجديد في زمن تصطخب فيه الآذان وتضطرب الأذهان بأنباء أفظع مجزرة بشرية تمثلها روح الشر على مسرح الوجود، بل نحن في محنتنا هذه أحوج ما نكون إلى أمثال هذه الكتب المختلفة بالذوق الجميل والفن الرفيع، أكثر من حاجتنا إلى كتب العلم والمعرفة والحكمة والفلسفة التي لو شئنا شيئاً منها لالتمسناه في الكتب التي نقل عنها المؤلف أو تأثر بها، وفي غيرها مما لم ينقل عنه أو يتأثر به، ولكنا نحب هذا المزاح البديع من فن الشاعر الثائر علي محمود طه الذي عشقناه وفتنّا به في قصائده الفرحة وغنائياته المرحة!! فهذا الشارد الحائر بين معالم الجمال ومفاتنه في مصر والبندقية وبرن وروما وفرساي وانسبروك، سعيد بأن يلتقي بجماعة من الشاردين الحائرين أمثال: فيرلين ورامبو وبودلير وشلي ودي فيني وموسيه وجورج سان وشو وويلز، ممن تناولهم بالدراسة، أو عرض لهم ولآثارهم عرضاً سريعاً
فأما بول فيرلين فحديثه ممتع، ألمّ فيه المؤلف بسيرة هذا الشاعر الذي كان أرخم صوت صدح به الشعر الفرنسي في القرن الذي أنجب هيجو ولا مارتين وموسيه وجوتيه وسنت بيف ومالارمي وليكونت دي ليل وأناتول فرانس وغيرهم من الأعلام والعباقرة الأفذاذ(433/53)
ولقد تناول المؤلف في حديثه هذا أصول الفن مطوّقاً بالمصادر التي استمدت منها شاعرية فيرلين ألوانها الباهرة، واستلهمت أنغامها الساحرة؛ ثم تناول شخصية فيراين بالاستقراء والتحليل، هذه الشخصية التي قال أناتول فرانس في صاحبها: (إنه سقراطي بالفطرة أو خير من ذلك، مخلوق خرافي، حيوان غابة، نصفه إنسان، ونصفه حيوان، نصفه وحش ضار، ونصفه إله، هائل كقوة طبيعية غير خاضعة لشريعة ما. . .)
ولقد وفق المؤلف في تفصيل ذلك كله وكان رائعاً ومتواضعاً في ترجمته لقصيدة فيرلين في الخريف، بل إن أمانة النقل تبلغ في هذه الترجمة مبلغاً عظيماً مع الاحتفاظ بالروح الغنائي المرح الذي يفيض به شعر فيرلين
وفي عشرات الكتب والدراسات التي وضعت عن فيرلين تجد المؤلف قد ألم بالكثير من الآراء، وقرّب هذه الشخصية العجيبة إلينا، ولو أضاف إلى ما كتبه رأي (فرنسوا بوشيه) في علاقة فيرلين برامبو لانتهى إلى الحقيقة ولما قال إنها لا تزال موضع تحقيق النقاد والمؤرخين
أما بودلير فقد عرض المؤلف لفنه وللعوامل الموضوعية والذاتية في شاعريته أكثر مما عرض لسيرة حياته، وإن كان لم يهمل ما رآه متصلاً أوثق الاتصال ببحثه القيم النفيس، فقد تناول جانباً من حياة هذا الشاعر يلقي ضوءاً على المؤثرات التي عملت عملها في شذوذه وغرابة طباعه وأطواره وحماسته في عبادة شهواته، وكان حديثه رائعاً عن نشأة بودلير ورحلته إلى جزائر الهند، وعن أوكار الحشيش والأفيون، وهذه الأجساد التي تنضح بشهواتها وتسترق أنفاسها من دخان العطور الشرقية المخدرة؛ كما كان حديثه بليغاً وبديعاً عن هذه الفتاة السوداء التي نصبها بودلير إلهة للجمال بجسدها المعتل السقيم الذي يملأ الكلف أو البقع أديمه وهو يتخلع في ثوب مهلهل خلق. . .
ومن الحق أن نسجل في هذا الفصل للأستاذ المؤلف قوته البيانية وطلاقته الفنية وحرارة تعبيره وإن كنا نأخذ عليه الإيجاز في محاكمة بودلير مع أنه عرض لها أكثر من مرة في فصله هذا مما يدلنا على إلمامه بدقائق هذه المحاكمة وخاصة عندما نوه بزعيم الإبداعيين فيكتور هيجو ودفاعه عن بودلير كفنان، وقد كان على المؤلف أن يشبع الموضوع بتفاصيل هذا الدفاع(433/54)
أما الكلمة التي نقلها المترجم عن الكاتبة (ربيكا) في الأدب الإنجليزي الحديث فهي من أدق وأوفى الدراسات التي كتبتها هذه الأديبة العظيمة فقد اشتغلت بالتأليف الأدبي مدى ثلاثين عاماً، وحسبنا هذا ثقة بآرائها في الأدب المعاصر
وقد وفق علي محمود طه في ترجمة قصيدة شلي ودي فيني وقصائد ماسفليد وسيتول و (فنست ملاي) توفيقاً عظيماً وخاصة في الثلاث قصائد الأخيرة فإنه يبلغ الذروة في الدقة والرقة والقوة أما قصيدته في قبرة شلي فقد جمعت كل ما سكبه قلب الشاعر الإنجليزي العظيم من الحلاوة والحرارة والصفاء وكل ما جادت به شاعرية المترجم من فنون التصوير والغناء وسعة الخيال وحسن الأداء، ولقد قدم المترجم لقصيدتي شلي ودي فيني بكلمتين عن الشاعرين ولم يصنع ذلك في بقية القصائد، ولو كان صنع ذلك لحمدنا له صنعه
وما أحسب أن الملاح التائه قد أهمل عن عمد تعريفنا بملاح غير تائه هو جون ماسفيلد شاعر العرش البريطاني الذي بدأ حياته ملاحاً صغيراً يعمل في البحر وهو في الرابعة عشرة من عمره
أما القسم الأخير من كتاب أرواح شاردة، فأنا شديد الإعجاب به، مفتون بالصور التي رسمها المؤلف لرحلاته في أوربا، مشغوف بالحوار الذي أجراه علي محمود طه على ألسنة الأشخاص اللذين التقى بهم في طريقه؛ فليست هذه المقالات مجرد وصف وتزويق من الخيال، بل هي ضلال وأضواء من الفن والعلم والأدب محتفلة بالرشاقة والعذوبة وخفة الروح، ممثلة لهذه العناصر أبدع تمثيل، كأقدر كتاب الأقصوصة، حتى لتشيع فينا ألواناً من الطرب الروحي ساعة من زمن أو لحظة من وقت كما يشيع إشراق الكأس المترعة طرب الّشرب ومرح الندمان؛ وحبذا لو أتحفنا علي محمود طه بكتاب يفرده لهذه الذكريات مضيفاً إليها ما أظنه لم يجد وقتاً لكتابته أو بالنسبة لحجم كتابه (أرواح شاردة)
أما القصيدة التي ختم بها المؤلف كتابه والتي أنشأها في محنة باريس وطلعت بها (مجلة الرسالة) على العالم العربي، فهي مثال من الحسرة والعبرة التي عرفناها في شعر شوقي في مثل هذه المناسبات!
فليهنأ عالم الأدب بمّلاحنا التائه، وليهنأ هو بأرواحه الشاردة(433/55)
محمد فهمي كمال(433/56)
العدد 434 - بتاريخ: 27 - 10 - 1941(/)
من أحاديث القهوة
- 4 -
كأننا حين كنا نجلس في لَحَق القهوة على شاطئ النهر كنا نشرف على مسرح من مسارح الفكر والشعور لا يقع في صفوه كدر من أوزار الناس، ولا قذر من أوضار المادة. فلما دفعتنا بواكر الخريف إلى داخل القهوة أحسسنا الدنيا بصخبها وشغبها، وجدها ولعبها، وصدقها وكذبها، وفشلها وغلبها؛ واستشعرنا ثقل الحياة وضعة الناس وسخف الرواية الإنسانية تمثل على أسلوب واحد كل يوم في أي مكان من الأرض صغير أو كبير، وبأي عدد من الناس قليل أو كثير.
مسرح الحياة في القهوة ضيق المجال ضئيل العدد قليل الشهود، ولكنه صورة مقاربة لمسرحها في الوجود الأكبر: ثلاث سلاسل من المناضد الرخامية امتدت في ثلاثة أروقة، قد جلس عليها هواة النرد والدومينو والشطرنج والورق: فأما النرد، ومثله الدومينو، فيمثل مذهب الحظ والتهويش في ابتغاء الربح؛ فلاعبه لا ينفك ظياش الحلم، جياش الدم، يصك الخانة بالقشاط، ويربك الخصم بالعياط والزياط. وأما الشطرنج، ومثله الورق، فيمثل مذهب الروية والأناة في محاولة الكسب؛ لذلك ترى لاعبه ساكنا ساكتا كتمثال الحكمة، تحسبه من طول تفكيره لا يعمل. ومكسب العقل أو الشطرنج بطيء ولكنه ثابت، ومكسب الحظ أو النرد سريع ولكنه متقلب.
وعلى حواشي هذه السلاسل جلست جماعات مختلفات في منهج السلوك ودرجة الثقافة؛ فهؤلاء من رجال العمل يُداهي بعضهم بعضاً في مبايعة أو مقاولة، وأولئك من رجال العلم يتنازعون الحجج في مناقلة أو مجادلة.
وفي مماشي القهوة أفراد من صعاليك الخلق يمشون وأبصارهم لا تقع إلا على النعال أو على الأرض: أولئك هم ماسحو الأحذية ولاقطو الأعقاب؛ وهم يمثلون الذين رضوا بالهُون والدون، وجهلوا أن فوق الأرض سماء، وأن مع (البراطيش) طرابيش!
ولو أردنا لوجدنا لكل طبقة من طبقات المجتمع صورة من صُور القهوة نَشَقق عليها الحديث ونعمق فيها البحث، ولكننا نقف اليوم عند صورة هذه العيون المشدودة إلى الأرض، أو المعقودة في النعال، فإنها أولى بالتفكير وأجدر بالرثاء.(434/1)
هذه الصورة تمثل الفلاح ابن الأرض وعبد الأرض؛ قصر نظره على الأرض ليزرع، كما قصرت البهيمة نظرها على الأرض لترعى؛ فلا هو يطمح أن يكون إنساناً يترقى، ولا هي تطمح أن تكون طائراً يرتفع. حتى الصلاة لا يعرف الفلاح منها غير الركوع والسجود؛ أما دخوله فيها بالتكبير، وخروجه منها بالتسليم، فمعنيان ميتان في نفسه، لا يفهم من الأول صلته بالله، ولا من الآخر صلته بالناس. وإذا علمت أن هذا الفلاح في بعض الأمم الدستورية الشرقية هو الكثرة الكاثرة والسواد السائد، علمت كيف يُزوَّر فيها الرأي العام، ويُزَّيف النظام الديمقراطي!
كانت هذه الصورة في تلك الليالي مثاراً للحديث عن الفلاح وما يتحمله من سوء الحالة وقبح الجهالة؛ وكانت القهوة على ما تريد (الوقاية) مغلقة النوافذ مرخاة الستائر لا تملك لضوضائها المكبوتة وأنفاسها المحبوسة متنفَّساً ولا فرجة؛ وكان اصطكاك النرد وارتفاع الأصوات وضجة المذياع قد جعلتنا أشبه باليهود في بُرصة العقود، فلم نكد نسمع الأستاذ عدلي وهو يلقي هذا السؤال على الأستاذ توحيد:
- إذا صح أن الشعور بالنقص مبدأ الكمال، فبماذا نعلل بقاءنا في هذا الدرك الأسفل من الحياة ونحن لا نكاد نسمع في كل مكان ومن كل إنسان غير الشكوى من اختلال النظم واعتلال احكم وانحلال الخلق؟
فقال الأستاذ توحيد: أما إجماع الناس على الشكوى من سوء الحال فما أظن الواقع يؤيده. وإذا كنت تعني إجماع أهل الرأي من رجال الثقافة والصحافة، فإن شكوى هؤلاء لا تدل إلا على آلامهم هم. والقول بأن الأمة متمدنة لأن فيها قوماً يأكلون أكل الذوات، ويلبسون لبس الخواجات؛ وبأنها متعلمة لأن فيها جماعة يحملون شهادات من كل نوع، ودرجات من كل قياس؛ وبأنها طموحة لأن فيها طائفة من مرهفي الحس وعشاق الكمال يطمحون إلى خطير المساعي، ويتشوفون إلى بعيد المطامع؛ ذلك القول لا يسوغه إلا الغرور أو الهزل.
صحيح أننا كنا نقول قبل اليوم: إن المصريين أصل الناس، وإن مصر أم الدنيا؛ فلما رقَّت الأغشية الكثيفة عن العيون، كدنا نبصر موقعنا من البلاد وموضعنا من الأمم، ولكن ذلك لا يعني أننا شعرنا بالنقص، ووقفنا على العلة، وبرمنا بالجمود، ونزعنا إلى التكمل.
أن الفلاحين وهم جمهور الأمة قد مات في نفوسهم - لسبب لا أدريه - ذلك القلق الروحي(434/2)
الذي يتحدى القدر ويخلق الطموح ويحقق التطور. فإذا انبثق في صدورهم ذلك النور الإلهي اهتدوا إلى الطريق الإنساني الذي أظلوه، فلا يحتاجون إلى من يبني لهم المراحيض في البيوت، أو يضع لهم النعال في الأرجل. وليس العلم شرطاً في حُبَّك النظافة وطلبك الحق وإبائك الضيم ورعايتك الصحة، فإن ذلك كله من مقتضيات الفطرة السليمة. والبدوي على عنجهيته وجهله لا يزال المثل المضروب في الاعتداد بالنفس والاحتفاظ بالكرامة. وفي يقيني أن الواجب الأول على رجال الدين وأقطاب الصحافة ورجال الإصلاح أن يقنعوا الفلاح بأنه إنسان. ذلك وحده كفيل أن يعلمه كيف يعيش، وأن يلهمه كيف يرقي!
وهنا قدح الأستاذ توحيد زِناده الفضيَّ النادر، وأشعل سيجاره التُّسكانيَّ الفاخر؛ ولم يكاد يطفئه ويستأنف الكلام حتى أُغلقتْ مفاتيح الأنوار، وأطلقت صفارة الإنذار، فخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، واستولى على الناس شعورٌ من صريح القلق ورياء الصبر فاستحال الإصغاء وانقطع الحديث!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(434/3)
كلمات صريحة:
في التربية والتعليم
للدكتور زكي مبارك
شعار التلميذ - في مدارس البنات - ضرب التلاميذ - الغداء
في المدارس - بين النظار والمدرسين - أخطار تهدد بعض
المدارس الأهلية
شعار التلميذ
كنت اقترحت على حضرة صاحب العزة مراقب النشاط المدرسي أن يشير بأن تكون ملابس التلاميذ جميعاً من قماشٍ واحد، وبهندامٍ واحد، ليسلم أغنياؤهم من آفة الازدهاء، وينجو فقراؤهم من آفة الاتضاع، ولنضمن سلامة أولئك وهؤلاء من عوادي التنافس البغيض.
ثم مضيت فكتبت كلمة وجيزة في جريدة (الأهرام)، أردت بها التمهيد لعرض هذا الموضوع على (مؤتمر التعليم) فكيف استقبله كبار المربين بوزارة المعارف؟
اتفقوا على صواب الفكرة، ولكن معالي الوزير رأى في تنفيذها إرهاقاً للآباء في مثل هذه الظروف، فقد يكون فيهم من يعجز عن إمداد أبنائه بأثواب جديدة في العام الدراسي الجديد.
ولا ريب في أن معالي الوزير لم يرد غير الرفق بالآباء، ولكن ما رأيُ معاليه فيمن يحدثه بأن التلاميذ لن يرفقوا بآبائهم أبداً، ولن يكون فيهم من يفهم أن الناس جميعاً يعانون قسوة الغلاء؟
إن التلميذ طفل، والطفل يعتقد أن أباه على كل شيء قدير، وإذا فرضنا المستحيل وقدّرنا أن الطفل قد يراعي ظروف أبيه، فلا يكلفه ما لا يطيق في هذه الأيام، فمن يضمن سلامة هذا الطفل من الألم المكبوت، وهو يرى من بين التلاميذ من يرجعون إلى المدارس وهم في اختيال بما أعدوا للعودة المدرسية من الزينة والرَّواء؟
ليس في مصر تلميذ واحد يقدر ظروف أبيه، وإن فعل فسيشعر في قرارة نفسه بأن أباه(434/4)
ضعيف الحول، وأن الدنيا بخلت عليه وعلى أبيه بما يبعد عنهما شبهة العوز والاحتياج.
وما وجودُ المصلحين إذا عجزوا عن رأب هذا الصدع بوسيلة لا تكلفهم غير قليل من الالتفات، كأن يرعوا أن التلميذ جندي والملابس واحدة لجميع الجنود؟
قد لا يخر في بال وزير المعارف أن في مصر آباءً يقتلون أنفسهم بالبلاء الذي يسمى (التقسيط)، فأولئك الآباء يزوّدون أبناءهم بما يشتهون عن طريق الدَّين، فيظهرون بمظهر الغني، مع أنهم يستعجلون الفقر بخطوات سراع!
و (شعار التلميذ) وقاية من هذا الداء، فقد يستطيع التلميذ الفقير أن يقضي العام كله بثوب واحد، ما دام يتعهده بالصيانة والتنظيف، ولن يكون في ذلك ما يحرجه أمام رفاقه، لأنه لم يلبس غير الثوب المطلوب.
ومن أعجب العجب أن نفكر في الطب لجميع أمراض المجتمع ثم ننسى الطب للأمراض التي يتعرض لها التلاميذ، وهم بحكم أسنانهم الصغيرة معرَّضون للآفات النفسية، لأنهم يعجزون عن مقاومة آفات النفوس، ولأن رفاقهم لا يعفونهم من الغمز والتلويح، إذا رأوهم في أثواب لا تعفي لابسيها من التعرض للازدراء. . . وكل ثوب لا يكون ابن يومه هو في نظر التلميذ علامة فقر وإملاق. . . وكان الله في عون من له أبناء يتعلمون في المدارس المصرية، ولو كان من الأغنياء!
وهنالك ظاهرة غريبة لا يلتفت إليها أكثر المربين، فالتلميذ الذي يستحي من شكوى حاله إلى أبيه، لا يستحي من الشكوى إلى أمه، وليس بينه وبينها حجاب، والأم امرأة لا مرؤ، وإحساس المرأة بتفاوت الأزياء أحدّ من السيف الصقيل.
فماذا تصنع الأم؟ إن بلّغت الشكوى إلى زوجها كدرته بلا موجب، لأنها تعرف عجزه عن تحقيق ما يريد ابنها (الطفل)، وإن كتمت شكواها وشكواه عاش البيت في جمر لا يطمسه غير رماد لا يحتمل عصف الرياح.
ومن المزعج أن الأغنياء لا يكتفون بإسباغ الأثواب الجميلة على أبنائهم المنعَّمين، وإنما يزوّدونهم بالمال في كل يوم، ليُقبِلوا على (مَقصف المدرسة) إقبال الأفاعي على الأوطاب. وللمنصف أن يتصور كيف يكون حال التلميذ الذي لا يجد في جيبه غير قرشٍ واحد بجانب التلميذ الذي يجد في جيبه عشرات القروش؟(434/5)
ذلك تلميذ يشتري شطيرة مكونة من الخبز والفول بقرش أو نصف قرش، وهذا تلميذ يلم بجميع ما في المقصف من ألوان وأصناف، ثم يشاء له (أدبه) أن يزهد في الماء فلا يشرب غير منقوع المنجة أو الليمون.
وليكن مفهوماً أن طبقات التلاميذ في الحاضر هم طبقات الرجال في الاستقبال، ومعنى هذه اللفتة أن تناحر الطبقات في الغد توضع بذوره في المدرسة، المدرسة التي أقيمت لتشيد صروح الأخلاق!
فما أعجبَ ما نصنع بأبنائنا، وهم في أصل الفطرة أبرياء!
ثم ماذا؟ ثم يشاء الأغنياء - عفا الله عنهم - أن لا يعود أبناؤهم إلى المنازل إلا في سيارات خصوصية!
وهنا أذكر حادثاً رواه أحد المفتشين، قال:
(اتفق مرةً أن يدوم عملي في التفتيش على إحدى المدارس إلى الحصة الأخيرة، فخرجت وقد أعييت، ولم أكد أخرج من باب تلك المدرسة حتى واجه الصغير آذاني من كل صوب، فشعرت بدوار مخيف، وبدا لي لا نجاة من أخطار السيارات التي تنتظر أبناء الأغنياء. ثم جمعت ما تبدد من قواي ونظرت حواليّ فرأيت التلاميذ الفقراء يتسللون إلى الطريق في ذلة وانكسار، كأنهم طرائد لعار ورثوه عن آبائهم المساكين!)
فما الموجب لأن يرجع بعض التلاميذ إلى منازلهم في سيارات خصوصية، وفي طنطة تجّسم ما بين الطبقات من فروق لا يسكت عنها الناس إلا عاجزين؟
ما الواجب لذلك ولأكثر التلاميذ مواصلات أنفعها المشي على الأقدام ليعَّودوا مواجهة الصعاب، إن كان المشي عشرة دقائق من جملة الصعاب؟
إن سعادة سامي بك راغب وكيل وزارة المالية يصل إلى مقرّ عمله عن طريق (المترو) ثم (الترام) وكأنه في مثل حالي! ومنذ يومين صادفت الأستاذ خيري بك مراقب منطقة القاهرة حيران في ميدان باب الحديد، لأنه وجد جميع قطارات (الترام) مشغولة - ومن ذلك فهمت أنه لا يقتني سيارة - وقد اشترك مع بعض زملائه في (تاكسي) ليصل إلى وزارة المعارف في الوقت المحدد. وكبار الموظفين في مصر لا يقتنون سيارات، إلا أن يكونوا من محدثي النعمة ومن هواة الشهرة بالترف والنعيم. . . وهل أنسى أن الأستاذ نجيب بك حتاتة(434/6)
حدثني أنه لم يعرف المستر دنلوب إلا في الترام، وكان المستر دنلوب في الأيام الخوالي طاغية وزارة المعارف؟
وخلاصة القول أن الأغنياء في مصر لا يعرفون ما يجنون على أنفسهم وعلى أمتهم بما يتورطون فيه من إعلان الغني والثراء.
أيكون للغني هذا البريق الذي يزيغ الأبصار والبصائر؟
ألا يرعوي بعض الأغنياء عن إعلان غناهم بتلك الطرق البهلوانية، ليقوا بلادهم شر الفتنة المخوفة من حقد الفقراء على الأغنياء؟
كل شيء جائز، إلا أن تمتد ألسنة هذه النار إلى المدارس، وهي فيما نرجو محاريب لا يتوجه إليها غير من تنزهوا عن التكبر والاستعلاء.
أما بعد فما رأي وزير المعارف؟
ما رأيه في الدعوة إلى أن تكون المدرسة كالمسجد، وفي المسجد حصيرٌ واحد لجميع المصلين، ولو كان فيهم وزراء وأمراء؟
يجب أن يكون (شعار التلميذ) واحداً لجميع التلاميذ، ولو كان فيهم أبناء فلان وفلان، لأنهم جميعاً جنود، والملابس واحدة لجميع الجنود، فإن لم يراع هذا وزير المعارف فسنسجل عليه أنه فرّط قليلاً في حق هذا الجيل.
في مدارس البنات
يظهر أنه لا مُوجب للخوف من التنافس بين تلميذات المدارس فيما يتصل بالأزياء، فالمرايل واحدة للجميع، وهي تستر ما تحتها من الملابس القطنية أو الصوفية أو الحريرية، إن صح أن عند البنات من العقل ما يكفهن عن التطلع إلى ما تحت (المرايل) من أثواب!
ومع ذلك فلا بد من أن تحرص ناظرات المدارس على النظر في هذه الدقائق، لنضمن سلامة التلميذات من التنافس في الأزياء.
والناظرة أمٌّ ثانية، وتعقبها لهذه الشؤون لا يعدْ من الفضول، وستظفر بالثناء من الأغنياء قبل الفقراء.
أما المقصف فحاله في مدارس البنات كحاله في مدارس البنين وهو مصدر شر وبلاء، ومن الواجب أن لا يباع فيه غير الأطعمة الضرورية، بحيث لا تجد التلميذة غير(434/7)
(تصبيرة) تدفع الجوع الذي يطرأ قبل وقت الغذاء، أما تزويد المقصف بكل ما لذّ وطاب فهو فرصة لنمو العادات السخيفة، كالتباهي بالغنى والترف والنعيم. . .
وبدعة صبغ الوجه بالألوان قد وصلت إلى بعض تلميذات اليوم، ولعلها وصلت إلى بعض المعلمات!
فلتنظر في ذلك ناظرات المدارس، فالتلميذات سيكن في المستقبل ربات البيوت، والرياضة على إيثار اللون الطبيعي ستنفعهن كل النفع، فاللون الخمريُّ أجمل الألوان، والإبقاء عليه غاية من الغايات القومية، لأنه من خصائص هذه البلاد، ولأنه الوشيجة التي تقرّب بناتنا من أخواتهن في الحجاز والعراق. وهل استطاع السواد أن يحجب الجمال الفتان عن أخواتهن في السودان!
إن القول بأن (البياض نصف الحُسن) مدسوس على الرسول، وهو فرية أذاعها الوافدون على العرب من الأقطار الرومية، فلندفع عن اللون المصري شر الأصباغ المجلوبة من بلاد لا تعرف من الجمال غير الطلاء.
ضرب التلاميذ
العقوبات البدنية ممنوعة بأمر وزارة المعارف المصرية، وتلك العقوبات موضع خلاف بين رجال التربية والتعليم، وقد أجازها بعض الإنجليز والألمان، بحجة أنها عقوبات طبيعية.
والواقع أن بعض التلاميذ (يستأهلون الضرب) ولكن إقرار هذا المبدأ قد تكون له عواقب سود، كما شهدت الحوادث التي ساقت مجترحيها إلى القضاء.
والواقع أيضاً أن المدرس قد يكون مسئولاً عن شيطنة التلميذ في بعض الأحيان، فهو قد يحاسبه على كل لفتة وكل لفظة بأسلوب يحمله على العناد، وإذا عاند التلميذ أستاذه كان ذلك بداية الاختلال في الصفوف.
التلميذ لا يجهد نفسه وقت الدرس بقدر ما يصنع المدرس، ومعنى ذلك أن الإجهاد قد يعرّض المدرس لسرعة الانفعال، ولا كذلك التلميذ، فهو في راحة نفسية تجيز له أن يضحك من غير موجب، وقد يرسل النكتة لمنظر يراه من المدرس أو من بعض التلاميذ.
وهنا تسنح الفرصة لإبراز قدرة المدرس على ضبط النفس، ولو شئت لقلت إن من واجب المدرس أن يرحب من وقت إلى وقت بشيطنة التلاميذ، لأنها من مظاهر الحيوية، ومن(434/8)
الشواهد على أنهم أصحاء.
وهل تكون المدرسة في كل أوقاتها كدحاً في كدح، ونضالاً في نضال؟
إن العلة الأساسية هي الشعور بأن التلميذ مسئول عن النظر إلى الدنيا بعين المدرس، وهذا شعور خاطئ، فالمدرسون والتلاميذ يمثلون جيلين مختلفين، ولا يتم بينهما التوافق إلا إذا روعي هذا الاختلاف.
وإذا شعر التلميذ بأن أستاذه يتجاوز عن هفواته في بعض الأحايين أضمر له الحب، وانساق إلى الطاعة بأدب وإخلاص.
أكتب هذا وتحت يدي وثائق تشهد بأن ضرب التلاميذ لا يزال مباحاً في بعض المدارس الأولية والابتدائية، أما المدارس الثانوية فتلاميذها يستطيعون الدفاع عن أنفسهم إذا اشتجر القتال!
الضرب ممنوع، ممنوع، ممنوع،
والمدرس الحق هو الذي يشغل تلاميذه عن اللهو بجذبهم إلى موضوع الدرس بحيث تضيق صدورهم من التلميذ الذي لا يراعي أدب الاستماع، ومتى صار التلاميذ من جنود المدرس أصبح من حقه أن يقول إنه من كبار المربين.
الغداء في المدارس
أكثر المدرس الأهلية والأجنبية لا تقدِّم لتلاميذها طعام الغداء، فما سبب ذلك؟
يرجع السبب إلى أن المصروفات المدرسية بدون الغداء تبدو هينة، فإذا أضيف إليها الغداء ظهرت عسيرة الاحتمال.
والمدارس التي لا تغدي تلاميذها تسمح لهم بالخروج ساعتين، ليتغدوا في بيوتهم أو حيث شاءوا. وفي أغلب الأحوال يأخذ التلاميذ من آبائهم ثمن الغداء، ثم يتغدون في المطاعم السوقية، وقد يؤثرون الجوع ليدخروا من تلك القروش ما يعينهم على قضاء بعض السهرات. . . والمهم هو النظر في الساعتين اللتين يقضيهما التلميذ بعيداً من المدرسة وبعيداً من البيت، فماذا ترونه يصنع في هاتين الساعتين؟
هل ترونه يصنع ما كان يصنع أمثاله يوم كانت الدنيا بخير، ويوم كان التلميذ يذهب إلى أقرب مسجد فيصلى الظهر ثم يراجع دروسه بشغف وشوق؟(434/9)
يظهر أن الأمر لم يعد كذلك، ويظهر أن لا مفر من وصف هاتين الساعتين بالمشئومتين، ففيهما يعرف التلميذ أشياء لا تخطر للمدرسة في بال.
وإذن يجب منع التلاميذ من الخروج وقت الظهر، ويجب أن يتغدوا في المدرسة، لا في السوق ولا في البيت، وفي مثل هذه الحال تعدَّ لهم المدرسة غداءً قليل التكاليف، لتبقى السهولة في المصروفات. وأهون طعام تعدُّه المدرسة سيكون أنفع للتلاميذ من طعام السوق، وأصون لهم من الجري في الطرقات.
فإن لم تستطع هذه المدارس أن تغدُّي تلاميذها وأن تصونهم من قضاء ساعتين بلا رقابة مدرسية ولا بيتية، فيجب حتماً أن تسير على النظام الذي اختارته بعض المدارس الأجنبية، وهو قضاء اليوم الدراسي في وقتٍ موصول، بحيث ينتهي في منتصف الساعة الثانية، ثم يخرج التلاميذ إلى بيوتهم ليقضوا بقية النهار تحت رعاية الآباء.
وأرجو أن يسمع بعض خلق الله هذا الكلام، وما أحب أن أزيد.
بين النظار والمدرسين
توجد أزمة مكبوتة بين النظار والمدرسين، ومَرَدُّ هذه الأزمة إلى الوهم الذي يقول بأن الناظر هو صاحب الأمر كله في الدار المدرسية، بحيث لا يتصرف المدرسون أقل تصرُّف إلا بعد الاستئذان.
وهذه الحال تُشعر المدرس بأن الصلة بينه وبين الناظر صلة رسمية لا تعليمية، والفرق بين الصلتين بعيد، فالصلة الرسمية لا تصل بالمدرس إلى حب الدار المدرسية، أما الصلة التعليمية فتصل به إلى الشعور بأنه في داره وبين عشيرته الأقربين.
ويؤلمني أن أصرِّح بأن المدرسين لا يحبون مدارسهم إلا في أندر الأحيان، فما سمعنا أن مدرساً في قنا رفض النقل إلى القاهرة بحجة أنه يشعر بأن بينه وبين مدرسته صلة روحية، وإنما سمعنا أن المدرس يطلب النقل من مدرسة إلى مدرسة لأسباب بعيدة كل البعد عن المعاني التعليمية.
فهل يكون للصلات بين النظار والمدرسين أثرٌ في خلق هذا العقوق؟
أنا أتمنى أن يوجد عندنا المدرس الذي يرى في أحجار مدرسته شمائل قدسية، فلا يرضى بفراقها ولو كانت في الواحات.(434/10)
وأتمنى أن يوجد عندنا الناظر الذي يشعر بالأبوة للتلاميذ والأخوَّة للمدرسين.
بأيديكم أيها النظار والمدرسون أن تخلقوا في الجو المدرسيّ روحانية تعوّض ما يفوتكم من المناصب المحفوفة بالبريق الخلاب، فإن غفلتم عن هذا الجانب فستظلون في الاكتواء بالمهنة التي لا تسعد غير من يُقبل عليها بصدق وإخلاص.
أخطار تهدد المدارس الأهلية
للمدارس الأهلية تاريخ مجيد، فقد عاونت على نشر التعليم، وأمدت الأمة بجمهور كبير من المثقفين.
ولكن هذه المدارس معرَّضة لأخطار قد تأتي على بنيانها من الأساس، لا قدر الله ولا سمح، فلتلك المدارس على الأمة حقوق.
هذه المدارس لا تفكر في استبقاء المدرس، ولو وثقت به إلى أبعد الحدود، فهو عندها ضيف يرحل متى شاءت أو شاء، والرباط بينها وبينه عَقدٌ يُشترى بمليمين وتخط فيه كلمات عديمة المدلول، وإلا فكيف يجوز أن يبقى المدرس بلا علاوة ولا ترقية ولو أفنى شبابه في تلك المدارس؟
هل سمعتم أن مدرسة أهلية أغنت مدرسيها عن التطلع إلى الوظائف الأميرية؟
لبعض تلك المدارس عذر مقبول، كأن تكون قليلة المال، أو مثقلة بالديون، فما عذر المدارس التي أمدت أصحابها بالثراء العريض وجعلتهم من أعيان البلاد؟
ولو كان هذا المسلك ينفع تلك المدارس لقلنا إن لها غاية اقتصادية، ولكن هذا المسلك لا يجلب عليها غير الضر، ولا يسوق إليها غير البوار. وما قيمة مدرسة يشعر تلاميذها بأن أساتذتهم ليسوا إلا معلمين ضاقت عنهم المدارس الأميرية فلم يجدوا سعة في غير المدارس الأهلية؟
لو كان لأصحاب تلك المدارس نصيب من الفهم الصحيح لقواعد الاقتصاد لجعلوا من وسائلهم إلى الثرة أن ينافسوا الحكومة في تزويد مدارسهم بأكابر المدرسين، ويومئذ تشعر الحكومة بأن لها منافسين أقوياء، فيرتفع قدر المدرس، وترتفع أقدار المدارس، ويُنقض الوهم القائل بأن التعليم (مهنة بلا مجد)
وعند الله يحتسب المدرسون جهادهم في خدمة التربية والتعليم فهو عز شأنه لا يضيع أجر(434/11)
المجاهدين الصادقين.
زكي مبارك(434/12)
3 - كليلة ودمنة
للدكتور عبد الوهاب عزام
ص 95 س 7: (إن أرضاً يأكل جرذانها مائة منّ من حديد ليس بمستكبر لها أن تختلف بُزاتها الفيَلة)، قال الناقد الفاضل: (ابن المقفع - فيما أشعر - لا يقول هذه الكلمة، بل يقول بمستنكر). ومما يجدر ذكره أن استكبر الشيء بمعنى رآه كبيراً وعظيم عنده، قولٌ منسوب إلى الإمام ابن جنى ولم يقله عامة اللغويين. . . الخ
أقول: هذا القول جاء من كتب اللغة كثيراً منسوباً إلى ابن جنى وغير منسوب، وهو مقيس مسموع. وأرى أن (أمُستَكبر) أولى بهذا الموضوع من (مستنكر)، لأن الاستنكار أن يعدّ الأمر نُكراً، والاستكبار أن يعدّ كبيراً، ومرجع المعنى في هذه الجملة إلى أنه مستكبر للبزاة أن تختطف الفيلة لا إلى استنكار هذا. ثم استعمل كلمة (لها) دون (عليها) أقرب إلى الاستكبار. فإن جاز أن توضع مستنكر هنا فمستكبر في رأيي اقرب إلى سياق الحديث وأخصّ في المعنى.
ص 107 س 6 (إذا جئتني يا ليل من غير نداء ولا رمى ولا شيء يرتاب به) قال الناقد: فما ذلك الرمي؟ الصواب: (ولا رمز) وأقول إن الرمي هو الصواب لأن الرمز من أغلب معانيه إشارة باليد أو غمز بالعين أو الحاجب. وهذا مما لا يبين بالليل وإنما أراد الكاتب أن ينبذ إليها شيئاً تعرف به حضوره.
ص 115 س 13 وصفحات أخرى (رأس الخنازير وسيّد الخنازير) قال: عندي أنها رأس الخبّازين وسيد الخبّازين. واستدل ببعض النسخ. وأرى أن الخنازير أقرب إلى الصواب لأن دمنة وصف هذا الرئيس بصفات الخنازير. وليس في وصفه بأنه صاحب المائدة ما يجعله خبازاً ثم تسميه رئيس الجماعة سيدهم كما يقال سيِّد الخنازير أقرب من أن يسمى رئيس الصناع سيدهم فيقال سيد الخبازين. وقد بينت اختلاف النسخ في هذه الكلمة في التعليق الحادي عشر من باب الفحص عن أمر دمنة. وعن هذا التعليق أخذ الناقد روايات النسخ التي استدل بها. ومن غريب ما وقع في هذا النقل أني قلت في التعليق (وفي نسخة شيخو والسريانية) أعني النسخة السريانية الحديثة فقال الأستاذ في النقد: (وفي نسخة شيخو السريانية). وليس لشيخو نسخة سريانية.(434/13)
ص 127 س 1: (وأخفت علىّ الشبكة حتى لججت فيها وصويحباتي)؛ قال الناقد: إنما هو لحج - أي نشب - وقوله في هذا سديد جيد، أرجو أن يكون ابن المقفع أراده.
ص 133 س 15: (وكان الضيف رجلاً قد جال الآفاق) قال: والفعل جال لا يتعدّى بنفسه، والوجه جال في الآفاق. أقول: والأمر في هذا هين، فقد قيل جوّل البلاد وجول فيها ولا يبعد أن يعدّى جال بالتضمين أو ضرب من التوسع.
ص 139 س 8: (وانقلبت ظهر البطن وانجررت حتى دخلت جحري). قال: وإنما هي انحدرت - أي نزلت في سرعة إلى الجحر - أقول: كان هذا وجهاً لو كانت الجملة (وانجررت في جحري)، ولكنها: (انجررت حتى دخلت في جحري)، فقد جرّ الجرذ نفسه حتى بلغ الجحر. ولا يلزم أن نتصور الحجر في مكان منخفض، فنضع انحدر مكان اتجرّ
ص 150 س 7 (إن كان (العدو) بعيداً لم يأمن من معاودته إن كان متكشفاً لم يأمن استطراده)
قال: متكشفاً أي بادياً ظاهراً وهي لا تساير الكلام، والصواب مكثباً أي دانياً الخ.
ورأيي أن هذا ليس صواباً. فإن الاستطراد أن ينهزم المقاتل أمام قرنه ليكر عليه فهو ضرب من المكيدة يراد به إبعاد القِرن عن فريقه أو نحو هذا. ومعنى الكلام هنا أن الإنسان ينبغي أن يكون على حذر من عدوه في كل حال ولا ينخدع بالحالات التي يظن فيها العدو بعيداً أو مهزوماً فإن رأى عدوه متكشفاً ظاهراً له غير ممنوع منه أو متظاهراً بالهزيمة فلا يأمنّ أن يكون هذا استطراداً يريد أن يخدعه به ليكر عليه. فإن وضعنا كلمة (مكثياً) أي دانياً موضع (متكشفاً) اختل الكلام اختلالاً وكان معناه إن رأيت العدو قريباً فلا تفتر بقربه فلعله يريد أن يستطرد لك. وهو كلام متهافت، لأن اقتراب العدو ليس من أحوال الخداع التي يفتر بها عدوه، فيقال له: لا تفتر بقربه، فإنه يستطرد لك. ثم حالة القرب مذكورة بعد هذه الجملة: (وإن كان متكشفاً لم يأمن استطراده، وإن كان قريباً لم يأمن مواثيقه)
166: 15 (فإن الشر يدور حيثما دارت). قال: هي حيثما دُرتَ - وليست كذلك فالضمير راجع إلى الطبائع المذكورة في الجملة (أرأيتك لو أحرقناك بالنار كان جوهرك وطباعك تحترق معك؟ فإن الشر يدور حيثما دارت)
171: 4 (فابتليت ببلاء حرمت على الضفادع) قال: والجملة بهذا الوضع مبتورة ناقضة(434/14)
وتمامها (حرمت على الضفادع من أجله) أي من أجل البلاء وذلك كما في صفحة 77 عن طبعة بولاق.
أقول هذا الاعتراض وأشباهه يسيرٌ على من يريد أن يغير أسلوب الكتاب إلى الأسلوب المألوف المعروف كما فعل الكتّاب بنسخ الكتاب الأخرى. ولكني أزعم أن أمامنا نصاً آخر جديراً بالبحث وأن أسلوب ابن المقفع لا يخلو من أثر الفارسية ولعل هذه الجملة من شواهد هذا التأثير فليس في الجملة الفارسية عائد على الموصول أو الموصوف. لهذا أثبتها كما وجدتها غير عادل عنها إلى روايات النسخ الأخرى.
هذا إجمال الجواب عما يحتاج إلى جواب مما جاء في المقال الثالث من مقالات الناقد الفاضل، وموعدنا بالجواب عن المقال الأخير العدد الآتي إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام(434/15)
الفن الجميل
في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
يخطئ من يظن أن دين الله تعالى زهد محض، وتقشف بحث، ورهبانية لا تعنى بزينة الدنيا وزخرفها، وتصوف مظهره لبس المرقعات، فلو صح ذلك لم يكن دين الله عاماً صالحاً لكل الناس، وملائماً لكل زمان ومكان، بل يكون خاصاً بطائفة من البشر، تؤثر التقشف على التنعم، والزهد في زينة الدنيا على التمتع بها. وليس كذلك دين الله تعالى، لأنه دين عام صالح لكل الناس، وملائم لكل زمان ومكان، ولهذا جعل الزهد في الدنيا وزينتها مباحاً لمن يريده، وأحل التمتع بتلك الزينة لمن يريدها، حتى لا يكون فيه حرج على أحد في هذه الحياة، ولا تضيق به طائفة من طوائف البشر، وتسير الحياة في نظامها الصالح بدون إفراط أو تفريط.
وعلى هذا الأساس جاء القرآن الكريم بالفن الجميل من البناء والنحت والتصوير والغناء وغير ذلك، وذكر الله لنا فيه عهد ازدهار تلك الفنون في بعض ما أنزل من الشرائع، وأقام من الملك، وحكى ذلك في أسلوب يفيض مدحاً وإطراء بما ظهر من آثار تلك الفنون في هذه العهود، ويدل على روعة تلك الآثار وجمالها، وأنها كانت أية في الإبداع، ومعجزة من معجزات الفن الجميل، ومفخرة من المفاخر الباقية الذكر.
وقد ازدهر من ذلك في عهد سليمان عليه السلام فنون كثيرة، فبلغت فيه فنون البناء والنحت والتصوير أوج عظمتها، ووصلت إلى أرقى ما وصلت إليه عند الأمم المتحضرة في العصور القديمة، وقد ظهرت آثارها الرائعة فيما بنى سليمان من المساجد والقصور، وفيما شيد من المدن والحصون، وإلى هذا يشير الله تعالى في قوله: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وأسلنا له عين القطر، ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب، وقدور راسبات، اعملوا أل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور). 12، 13 من سورة سبأ.
وكان بيت المقدس أعظم ما تجلت فيه تلك الآثار، وتبارى في زينته أرباب الفنون الجميلة؛(434/16)
وكان داود عليه السلام قد ابتدأ بناء ذلك البيت لعبادة الله تعالى، ثم مات قبل أن يتم بناءه، فلما ملك سليمان عليه السلام من بعده مضى في إتمام ذلك البيت العظيم، وعمل على أن يكون في عصره آية الآيات، ومعجزة فنون البناء والنحت والتصوير؛ فجمع له أرباب تلك الفنون من سائر الجهات، وخص كل طائفة منهم بالعمل الذي تعرفه، وأحضر الرخام والبلور من أماكنهما، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح لتتلاءم مع ذلك البيت الذي يريد تشييده، ويكون واسطة العقد وقلادة الجيد، وقد جعلها أثنى عشر ربضاً، وأنزل في كل ربض سبطاً من أسباط بني إسرائيل، ثم شرع في تشييد ذلك البيت العظيم وأحضر الذهب والفضة والجواهر واليواقيت والدر الصافي والمسك والعنبر والطيب، وأتى من ذلك بشيء كثير لا يحصيه إلا الله تعالى، أتته به أساطيله التي كانت تمخر عباب البحار، وتتنقل فيها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، ثم أحضر المهرة من الصناع وأمرهم أن ينحتوا تلك الأحجار ويجعلوها ألواحاً، وأن يصلحوا الجواهر ويثقبوا اليواقيت واللآلئ، فبنى ذلك البيت بالرخام الأبيض والأخضر والأصفر، وعمده بأساطين البلور الصافي، وسقفه بأنواع الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزح، فلم يكن على وجه الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك البيت، حتى كان يضئ في الظلمة كالقمر ليلة البدر.
وقد زاد في زينة ذلك البيت ما نقش فيه من الصور الجميلة، وما أقيم فيه من التماثيل البديعة، وكان بعضها مصنوعاً من النحاس وبعضها مصنوعاً من الرخام وبعضها مصنوعا من الزجاج، وكان منها ما يمثل صور الملائكة ومنها ما يمثل صور الأنبياء، ومنها ما يمثل صور الصالحين، ومنها ما يمثل صور السباع والطيور وغيرها. وكان من معجزات تلك التماثيل تمثالا أسدين كانا موضوعين تحت كرسي سليمان عليه السلام، وتمثالا نسرين كانا موضوعين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط له الأسدان ذراعيهما، وإذا جلس على كرسيه أظله النسران بأجنحتهما.
وإن ننس لا ننس حديث الصرح الذي شيده سليمان لبلقيس ملكة اليمن، وأشار الله تعالى إلى عجيب شأنه في قوله (قيل لها أدخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان(434/17)
لله رب العالمين) - 44 - من سورة النمل.
فهذا الصرح كان آية من آيات الفن الجميل، وهو يدل أكبر دلالة على عظم ازدهاره في ذلك العهد، وكان سليمان قد شيد ذلك الصرح لبلقيس ليريها عظمة ملكه، ويطلعها على براعة أرباب الفنون في دولته، فأقامه من الزجاج الأبيض كالماء، وأجرى الماء تحته، وألقى فيه السمك والضفادع وغيرهما من دواب البحر، ثم وضع سريره في صدر المجلس وجلس عليه، فلما أقبلت بلقيس قال لها سليمان ادخلي الصرح، فحسبته لجة أي ماء عظيما، وكشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان في صدر المجلس، فقال لها أنه صرح ممرد من قوارير، فحينئذ سترت ساقيها، وعجبت من ذلك غاية العجب، وعلمت أن ملك سليمان من الله تعالى، فأسلمت لله رب العالمين.
وكذلك ورد فن الغناء في القرآن الكريم منسوباً إلى داود عليه السلام، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد) 10 من سورة سبأ، ولهذا يقال - نغمة داود - مثلاً في طيب الصوت، وكان عليه السلام إذا قام في محرابه يقرأ الزبور عكفت عليه الوحش والطير تصغي إليه، ويقال أيضا - مزامير داود - لأنه فيما قيل كان له مزامير يزمر بها إذا قرأ الزبور، فكان إذا اجتمع عليه الإنس والجن والوحش والطير أبكى من حوله. وقال المبرد: (مزامير آل داود كأنها ألحانهم وأغانيهم)، وقال غيره: (إن طيب صوته ونغمة نغمته شبها بالمزامير ولا مزامير ولا معازف هناك)
وكان عثمان بن عفان أول من عنى بتلك الفنون بالإسلام، ولهذا أخذ عليه أعداؤه أنه بدل الإمارة على المسلمين من زي النسك إلى زينة الملك. وقد نقل ذلك أبو نصير العتبى في كتابه (اليميني عن رسالة ألبستي في الترجيح بين الصحابة)، وهذا شيء نراه مفخرة لعثمان رضي الله عنه - وإن رآه أولئك المتنطعون في الدين مذمة له - وقد أخذ عثمان يهتم بتزيين المملكة الإسلامية بعد أن استقر أمرها، وتغلبت على دولتي الفرس والروم؛ فلم يعد من اللائق أن تبقى على مظاهر البداوة، وقد دان له من دان من أهل الحضارة.
وكان مسجد المدينة أول ما عمد إلى تشييده، فهدمه وبناه بالجص والحجارة، وأحضر له مهرة البناءين من المملكة الإسلامية الواسعة. ثم أتى الوليد بن عبد الملك فأرسل إلى عامله(434/18)
على المدينة عمر بن عبد العزيز، فزاد في المسجد شرقاً وغرباً وجنوباً، وبنى له أربع مآذن، وفرش أرضه بالرخام، ووشّى جدرانه بالفسيفساء، وكسا سقفه بالذهب، وجعله أساطينه من المرمر.
فيا رب هذا دينك جميل كل الجمال، وليس فيه شيء من ذلك الحرج الذي أفسد أذواقنا، وأغلظ طباعنا، وعكس موازين الحسن والقبح بيننا، حتى صرنا نرى الحسن قبيحاً، والقبيح حسناً. ولا شك أن الفنون الجميلة هي التي تهذ الوجدان، وترقق العاطفة، فلا يسع أي دين أن ينكر فضلها، أو يغض من شأنها. وقد ذكرنا من أمرها في القرآن ما فيه الكفاية لبيان شأنها فيه.
عبد المتعال الصعيدي(434/19)
اتجاهات الاقتصاد النازي
للأستاذ فؤاد محمد شبل
كلمة عامة
من المبادئ الأساسية للحزب الوطني الاشتراكي أن صالح المجموع يجبَّ صالح الفرد، وهذا يعني خضوع مصالح الأفراد لما تعتبره القوة الحاكمة في الدولة مصلحة للجماعة. ويتخذ القائمون على شئون ألمانيا اليوم هذا المبدأ ستاراً لتدخل الدولة في الشئون الاقتصادية للأفراد تدخلاً غير محدود المدى.
وإنه وإن كان النظام الاقتصادي النازي يتلقى في جوهره مبدأ (إدارة الدولة) إلا أنهم في الواقع قد بسطوا إشراف الدولة والمجالس البلدية على كثير من المشروعات. ومن المفارقات أن رجال النازي رغماً من ذلك ينادون باعتناقهم المبدأ القائل بأن الحياة الاقتصادية يجب أن يكون قوامها الحافز الفردي والمشروع الفردي بمعنى الملكية الفردية لأدوات الإنتاج، وتحمل الفرد لأخطار المشروع، لكنهم يطالبون بخضوع الفرد لإشراف الدولة وتوجيهها. وليس هناك ما يغضب الألمان أكثر من تشبيه نظامهم الاقتصادي بالنظام الاقتصادي السوفييتي، ونراهم يقولون في معرض تفسيره والدفاع عنه أن نظامهم في جوهره لا يعتبر نهجاً اقتصادياً إذ ليس ثمة هيئة مركزية عليا تشرف على تنفيذ النهج، ولا نهج تسعى هذه الهيئة لتحقيقه على نحو المتبع في مشروع الخمس سنوات الذي تتبعه روسيا. فمشروع السنوات الأربع الأولى في ألمانيا كانت الغاية منه القضاء على التعطل والثانية لتحقيق الاستكفاء الاقتصادي للبلاد والاستعداد للحرب.
ويسود الحياة الاقتصادية الألمانية نظام يدعونه نظام الزعامة، مبناه أن يقوم على كل جماعة منتجة (زعيم) تأتمر الجماعة بأمره، وهو مسؤول عن توجيه الإنتاج الخاص للجماعة إلى خير الوجهات التي تتفق والسياسة العليا المرسومة. على أنه قد خفف من قوة ضغط نظام الزعامة هذا في الصناعة، فعدل في السنوات الأخيرة بأن أوجدوا سلطة عليا تستأنف إليها آراء الجماعة عند اختلاف أعضائها وعدم وصولهم إلى قرار حاسم، هذا ويوجد جيش من الموظفين الرسميين مهمته التحقق من نفاذ قوانين الحكومة التي لا عد لها ولا نهاية، ويتجلى هذا التدخل بنوع خاص في كل ما يتعلق بالبيوت التي تعمل في التجارة(434/20)
الخارجية أو التي تطلب تصاريح للحصول على مواد أولية.
وإذا استقرينا النظام الاقتصادي الألماني وجدناه يعوزه كثيراً وجود الارتباط بين أجزائه المختلفة، مما أفضى إلى نشوء كثير من المتاعب، وسبب خسارة في سجايا الفرد وكفايته الطبيعية. وليس أبعد عن الحقيقة من تصور الاقتصاد الألماني يسير ويعمل كالساعة دقة ونظاماً. فهذا النظام صورة براقة خلابة، لكنها زائفة مستعارة. وليس أدل على ذلك من التصريحات الكثيرة التي يذيعها قادة ألمانيا والمتكلمون عن سياستها الاقتصادية من أن هذا التدخل البعيد المدى في الحياة الاقتصادية والتنظيم الدقيق أمر وقتي وغير طبيعي نتيجة للضروريات التي تجتازها ألمانيا ولا يلبث أن يذهب بذهابها.
وإننا في هذا المقال سنجلو بعض الحقائق عن هذا النظام ثم نتبعه ببيان أساليب ألمانيا التجارية التي تعتبر إحدى صور هذا النظام التطبيقية.
1 - هيمنة الدولة على جميع العمليات المالية
تمكن الألمان بفرضهم رقابة قوية فعالة على التبادل الخارجي، أن يجعلوا اقتصادياتهم بمنأى من تأثير التغيرات التي تأخذ مجراها في بقية أنحاء العالم، فإنه وإن كان في قدرة العوامل الخارجية أن تحدث أثرها في حجم تجارة ألمانيا الخارجية، إلا أنها لا تستطيع أن تنشئ تبايناً واسع المدى بين قيمة كل من الواردات والصادرات عموماً؛ ونتيجة لهذا تمتعت ألمانيا منذ عام 1933 إلى عام 1937 ما خلا عام 1934 بميزان تجاري موافق، فاستطاعت تسديد جزء كبير من ديونها للخارج التي ما فتئت تحد من حريتها في علاقاتها التجارية مع البلاد الأخرى. وثمة نتيجة أخرى لتقييد التبادل الخارجي، وهي فصل النظام النقدي الألماني والأسعار الداخلية عن الأسعار المالية التي أصبحت بعيدة عن تأثير الذهب؛ ومما يتصل بتقييد التبادل الخارجي وضع قيود شديدة على خروج الأموال ولا سيما العملات الأجنبية من البلاد.
ولقد أصبح النظام النقدي في داخل ألمانيا قائماً على المبدأ العام الآتي، وهو أن حجم النقود والائتمان الموجود في التداول يجب أن يتمشى مع الزيادة في الإنتاج والمحصول السلع والخدمات، وهذا ما يعبرون عنه بقولهم: وبعبارة أخرى يرمي الأمان إلى أن يكون نشاط الأحوال الاقتصادية مماثلاً في حجم الإنتاج، لا القيمة الناجمة عن ارتفاع السعر.(434/21)
وكما أعار الألمان اهتماماً فائقاً للحقيقة الاقتصادية الآتية: وهي أن المنبع الحقيقي لثروة جماعة ما هو العمل والإنتاج فحسب، واعتبروا النقود شيئاً ثانوياً بالنسبة لهم، وإن لم يغفلوا دورها الهام في تمويل المشروع في جميع أشكاله، كما اعتبروا الإنتاج الصناعي أهم أنواع الإنتاج.
ولقد طبقوا في عملهم سياسة تبدو لأول وهلة أنها سياسة تضخم، وذلك أن بنك الريخ خاصة، والبنوك الأخرى عامة، أنشأت أدوات المبادلة (سواء أكانت نقوداً ورقية أم اعتمادات) قبل عملية إنتاج الثروة، إذ الأصل أن يتبع حجم النقود المتداولة حجم الثروة المنتجة. ولقد أظهرت التجربة أن خلق النقود يحمل معه ارتفاعاً تضخمياً في الأسعار، ما دام أن هناك قدراً كبيراً من مصادر الثروة العاطلة وجزءاً من الطاقة الإنتاجية لا يستغل في الوجوه المنتجة المثلى. ولكي تتفادى أخطار التضخم ورزاياه يجب توفر شرطين: الأول ثبات مستوى الأجور ثباتاً جوهرياً. والثاني ألا يصحب عملية خلق النقود بحال ما تصدير رأس المال على نطاق واسع، وهذا ما سعت ألمانيا إلى تحقيقه عن طريق تدخل الدولة.
ولم تك ألمانيا بإنتاجها هذه السياسة مسيرة بالاعتبارات المؤسسة على الفكرة والتحليل الاقتصادي فحسب، ولكنها اضطرت إلى ذلك تحت ضغط الظروف التي ألفتها محيطة بها في عام 1933، ففي هذا الوقت هبط إنتاج السلع الصناعية إلى مستوى غير عادي، وكانت البلاد تعاني أزمة حادة للعاطلين، بعكس صناعات الاستهلاك التي كانت تسير سيراً حسناً نسبياً، وكانت هذه الحالة تعمل على رفع مستوى الأثمان في داخلية البلاد، ولتفادي هذا رأت الدولة ضرورة ازدهار سلع الإنتاج التي أصابها الكساد أكثر من غيرها، ولا سيما أن نمو الاستهلاك ينتج عنه زيادة في المستورد من المواد الأولية الخام التي لا يمكن تدبير وسائل تمويلها لافتقار البلاد إلى صكوك الدفع الأجنبية التي بها تدفع هذه الواردات. وعلى ذلك حصرت الدولة مجهودها في تنشيط الإنتاج وتدبير العمل للعمال بتشغيلها في الأعمال العامة وعلى الأخص التي تعتبر إنتاجاً رأسمالياً لا استهلاكياً.
وبينما كان الإنعاش يقام مباشرة على اتساع الاستثمار الحكومي الذي أتخذ في مبدأ الأمر شكل أعمال عامة ثم أصبح التسلح بعد ذلك المسحة التي تغلب على الأعمال العامة، كان(434/22)
ثمة أمر من الأهمية بمكان غدا يهيمن على حجم الاستثمار الخاص وطابعه. فقد حل مكان الرغبة في اجتناء الربح هذه الغريزة التي تحفز الفرد على الاستثمار والمخاطرة في نظام اقتصادي حر تنظيم متقن محكم رسم في مبدأ الأمر لغرض الحيلولة دون اكتظاظ صناعات خاصة بالراغبين في الاستثمار ثم انتقل بعد ذلك إلى أن أصبحت الغاية منه توزيع الاستثمار لأغراض الدولة.
ولقد حسد تماماً من وظيفة سعر الفائدة كمقياس لتوزيع الاستثمار بما اتخذته الدولة من تدابير تعمدت فيها إنزال سعر الفائدة إلى مستوى يعتبر واطئاً بالنسبة لما يمكن اجتناؤه من توظيف رأس المال لو كان هذا حراً. وتتجلى هذه النزعة في قانون صدر بمنع توزيع حصص فائدة على الأسهم والسندات تربو على 6 %، وهذا القانون مضافاً إليه السيطرة على الإصدار الجديدة لرؤوس الأموال كان له أبلغ الأثر في تقليل أهمية البورصة كثيراً وإن بقيت لها وظيفتها في التعامل في الأوراق المالية القديمة.
2 - تثبيت الأجور والأسعار
ظل المستوى الأدنى لمعدلات الأجور على حالة لم تتغير منذ عام 1933 رغماً عن زيادة دخول العمال الذين يعملون بالساعة ولا سيما دخول ذوي الأجور الأسبوعية وخاصة الذين يعملون منهم في الإنتاج الصناعي؛ وهذه الزيادة تغزى إلى أسباب منها: زيادة الكفاءة الإنتاجية، قلة لعمال بالنسبة لكثرة الأعمال، ذيوع أسلوب الأجر بالقطعة، العمل الإضافي. . . الخ.
ولقد أخضعت الأسعار لرقابة كانت آخذة في الشدة من حين لآخر حتى توجت بقانون (وقف الأجور) الذي صدر في نوفمبر سنة 1936 والذي وقف حائلاً أمام كل زيادة في الأسعار تحدث دون موافقة مندوب الريخ لمراقبة الأسعار. ومنذ عام 1933 هوت طائفة كبيرة من الأسعار بفعل تدخل الدولة. بيد أنه ظل كثير منها في ارتفاع. ومهما يكن من الأمر فقد كانت النتيجة الخالصة زيادة مقدارها 13 % فحسب في الرقم القياسي العام للأسعار بين 1933 ومارس 1938.
إبعاد الزراعة عن نظام الأتمان المعتاد(434/23)
اعتبرت الزراعة الألمانية كلها وحدة تامة منفصلة عن مناحي الإنتاج الأخرى ونظمت على أنها كذلك، وأصبح الإشراف تاماً على الإنتاج والتوزيع في كل مرحلة من مراحلهما من وقت وجود المحاصيل في يد الفلاح إلى وصولها إلى المستهلك. ويختلف مدى الإشراف على عمليات الزراعة كثيراً؛ ففي حالة الإنتاج يكون الإشراف غير مباشر عادة ويتم من طريق تنظيم الأسعار وإسداء النصائح للمزارعين والدعاية. أما التوزيع فيتم مباشرة غالباً. وليس هناك سعر أعلى أو أدنى يحصل عليه الزارع لقاء محصوله، ولكنه يحصل على سعر تضمنه الحكومة. وفي جميع المراحل التالية حتى وصول المحصول إلى المستهلك، يتخذ ثمن الإنتاج أساساً لتحديد السعر على أن يسمح بتاجر الجملة والتجزئة والصانع الخ بالحصول على ربح عن طريق وضع معدل نسبي لكل.
وفي خلال عامي 1933 و 1934، انتشلت أسعار المنتجات الزراعية من الوهدة التي كانت قد تردت فيها في سني الكساد. ثم ثبتت الأسعار إلى مستوى حقق في حينه عائداً مناسباً؛ بيد أن هذه الأسعار لم تعد تغل ربحا في عامي 1936 و 1937 بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة وأسعار المنتجات الصناعية؛ وكانت الغاية من ذلك التحديد حماية الزارع من تقلبات الأثمان العادية للسوق، وتوفير أسباب الطمأنينة الاقتصادية له حتى يمكنه أن يتوفر على أداء واجبه في إمداد الشعب الألماني بمطالبه الغذائية الأساسية ولا سيما في وقت الحرب.
ولاعتبارات اجتماعية وسياسية وحربية نظر إلى الزارع نظرة خاصة. فعد جديراً بحماية الدولة ومساعدتها واعتبرت الزراعة طريقة للحياة لا وسيلة من وسائل عدة لاكتساب العيش. وأوحي إلى الزرّاع أنهم رمز نقاء العنصر الجرماني وقوته. ولقد توجت هذه الآراء المتطرفة بقانون الوراثة الزراعية الذي عمل على خلق عدد كبير من الملكيات الزراعية من الأب إلى الابن مجردة عن احتمال وقوعها في الرهن والدين في المستقبل.
القضاء على التعطل
أخذ الحزب النازي بعد أن تولى السلطة على نفسه عهداً أن يضمن لكل مواطن ألماني عملاً. ويتفرع عن اعتراف الدولة بحق كل فرد أن يجد عملاً، حق الدولة في إلزام كل فرد(434/24)
بالعمل. وهذا المبدأ غير محدود المدى، إذ قد يعني أن للدولة الحق أن تقرر للفرد نوع العمل ومكانه وساعاته ومقدار الأجر. مهما تنافى هذا مع مصلحته الخاصة ويباين ميوله ورغباته. وقد يكون لهذا الإجراء مبرر في أوقات الحرب، ولكن تطبيق هذا الرأي في أوقات السلم أمر يتعارض مع حرية الفرد بجميع أشكالها، وهو يدل دلالة لا ريب فيها على رغبتها في الحرب واستعدادها لها والتهيؤ لها اقتصادياً على نحو ما يظهر لنا من استعراض تاريخ ألمانيا - الاقتصادي خاصة - منذ عام 1933.
وفي عامي 1933 و 1934 عندما كانت البلاد ترزح تحت عبء مشكلة المتعطلين، أوجدت الحكومة أعمالاً لكثير منهم أعمالاً خلقتها الدولة خلقاً لدرء العطل عن العمال. وكان العمال في هذه الأعمال يعملون عملاً مرهقاً، ولا يتناولون لقائه سوى مصاريف جيبهم وغذاء ومأوى. ولم يكن لهم محيص من القبول إذ لو لم يوجد لهم هذا العمل لكانوا يتناولون الإعانة الضئيلة المخصصة للعاطلين فقط.
وفي خلال السنوات 1935 - 1937 انتهى الأمر إلى هذا النوع من أعمال الترفيه عن العاطلين إذا استوعبت الأعمال الإنتاجية الجديدة كل العمال تقريباً. وإنه وإن كانت معدلات الأجور قد ثبتت بالنسبة لمستوى 1933 - 1934 إلا أنه لم يكن ثمة ما يمنع رب العمل من عدم دفع أجر أعلى لعماله، أو العامل من تغيير عمله إذا أمكنه الحصول على أجر أفضل في مكان آخر. ولقد حرم الإضراب وحتم عرض النزاع بين العمال وأصحاب الأعمال على التحكيم الإجباري؛ كما ألغيت نقابات العمال واستبدل بها جبهة العمل التي كانت عظيمة النشاط في حماية مصالح العمال. وكان ثمة نوع من تمثيل العمال في جميع الصناعات عدى الصغير منها.
بيد أنه كانت ثمة تغييرات عميقة الأثر في علاقة الدولة بالعمال أخذت مكانها ابتداء من صيف 1938، فزيادة توتر الموقف السياسي في أوربا نتيجة لنزاع ألمانية مع تشكوسلوفاكيا حمل الحكومة الألمانية على أن تقرر تحصين جبهة البلاد الغربية بأقصى سرعة ممكنة، ولتسرع في إنجاز برنامج تسلحها على وجه العموم. ولما كانت البلاد قد انتقى منها التعطل تماماً ولم يعد ثمة عمال يزيدون على الحاجة لتشغيلهم في أعمال جديدة فقد صدر مرسوم في 28 يونية سنة 1938 يخول الدولة الحق في دعوة أي مواطن ألماني(434/25)
داخل البلاد، ليعهد إليه القيام بأي عمل تعتبره الدولة ذا أهمية خاصة عاجلة بالنسبة أليها. وفي ظل هذا القانون نزع مئات الألوف من العمال من أعمالهم الأصلية بعد انتهاء حالة هذه الضرورة.
ومهما يكن من الأمر فواضح أن الدولة في ألمانيا تجمع في يديها الآن سلطات لا حد لها على عمالها، وهذه السلطات هي مما لا شك فيه حق من حقوق الدولة، ولكن مما يميز حالة ألمانية أنها استعملت في أوقات السلام منذ تسلم النازي أزمة الحكم، في حين أنها في غيرها من الدول لا يلتجأ إليها إلا في الأوقات الغير العادية. وهنا يتبادر إلى ذهننا السؤال الآتي: هل تبقى هذه السلطات في ألمانيا في المستقبل بعد الحرب، وبذلك يظل العامل الألماني مسلوب الحرية فاقد الإرادة في اختيار نوع ومكان العمل الذي يروقه؟ هذا سؤال نترك الرد عليه لما يأتي به الغد. على أنه يمكننا أن نقرر مستندين في ذلك على آراء الثقاة الذين زاروا ألمانيا قبل الحرب ودرسوا أحوالها، أن الحالة هناك وصلت إلى درجة التشبع فيما يختص بتشكيلات الدولة المالية، وأن إضافة شيء جديد منها إلى الموجد منها فعلاً أمر لن يقابل بالارتياح من لدن الرأي العام الألماني.
5 - تحقيق الاستكفاء الاقتصادي
تحت ألمانية قبل الحرب نحو توفير المواد الغذائية والمواد الأولية في بلادها التي يكون طلبها غير مرن، أو التي تقطع عنها عند نشوب الحرب، أو كوسيلة للضغط الاقتصادي أو السياسي إذا تعرضت البلاد للانهيار. بيد أن ألمانيا لا تصبو إلا إلى تحقيق الاستكفاء الاقتصادي التام الذي ينتج عنه توقف تجارتها الخارجية، فما دامت لا تستورد فهي لا تصدر، إذ أن غاية ألمانيا من التجارة الخارجية زيادة صادراتها لتدفع بأثمانها ما تشتريه من الخارج.
أما فيما يختص بالمواد الأولية، فقد وجهت السياسة الاقتصادية نحو إحداث تغيير أساسي في أسس الصناعة من حيث اعتمادها على المواد الأولية النادرة الوجود في ألمانيا أو التي يلزم استيرادها من الخارج، بأن تستبدل بها مواد أخرى يمكن إنتاجها في ألمانيا بما يكفي حاجات الصناعات أو معظمها، أو مواد يمكن استيرادها من الأقطار المجاورة لألمانيا التي لن تشترك في الحرب طوعاً أو كرهاً. وتحقيقاً لذلك نرى المواد البديلة تأخذ مكان الحديد(434/26)
وغيره من المعادن، والزيادة الكبيرة في إنتاج الألومنيوم والمغنزيوم والحديد الخسيس النوع، وحلول المطاط الصناعي محل المطاط الطبيعي، والاستعاضة بالألياف الصناعية عن القطن والصوف، وابتكار البزين الصناعي. . . الخ.
ولقد عملت هذه الخطة على إضافة أعباء جسيمة جديدة إلى النظام الاقتصادي الألماني؛ فسوق الاستغلال أصبحت مكتظة بالمشاريع المختلفة، فأصبح الاستثمار ينوء بما ألقى على عاتقه من تمويل صناعات الاستكفاء، ولأنه يزيد من الطلب على العمال في وقت أصبحت فيه ألمانيا في عوز تام إليهم، وأصبحت مشكلة توفرهم في البلاد من أخطر المشاكل التي تعتبر عاملاً يحد من نشاط الاقتصاد الألماني. وفضلاً عن ذلك، فإن هذه الصناعات تعتبر عملاً خاسراً من الوجهة التجارية، إذ تتضمن ارتفاع في تكاليف الإنتاج يؤدي إلى خفض مستوى معيشة السكان. بيد أن ألمانيا لم تراع سوى شيء واحد، هو توفير أسس الفوز في حرب قصيرة الأجل يستطيع تحملها الاقتصاد الألماني.
6 - تفريق الصناعة والسكان
يعتقد الاقتصاديون الألمان أن تصميم المدينة الصناعية في الوقت الحاضر وما تحشده جنباتها من عدد عديد من العمال تسكن في حجر ضيقة أمر فظيع لا يمكنهم قبوله. فهم يرغبون أن تقوم سياسة تفريق الصناعة عوضاً عن تركيزها وتجميعها بأن تنشأ مدن صناعية صغيرة موزعة في أنحاء البلاد.
ولقد شرعت ألمانيا منذ تولى النازي أزمة الحكم في تنفيذ فكرتهم وكان الغرض الحربي هو الغاية الأساسية لتفريق البيوت الصناعية. بيد أن تفريق الصناعة أوجد مشاكل عدة لحياة البلاد الاقتصادية خصوصاً للزراعة. ولقد أنشئ في برلين معهد أسموه (مجلس النهج المركزي) على اتصال بجميع الجامعات والسلطات الإقليمية للتشاور في كل المسائل المتعلقة بإنشاء الطرق والمساكن والمصانع والمباني المختلفة على وجه العموم. واختص المجلس المركزي برسم خطوط سياسة البناء والتعمير العامة للدولة بأجمعها. . .
فبينما كان الجزء الأكبر من نشاط بناء المساكن في ألمانيا منذ عام 1933 آخذاً شكل بناء منازل في المدن الكبرى التي كانت في عوز شديد إلى المساكن، كانت هناك حركة بناء مساكن للعائلات الصغيرة في الضواحي والأرياف. ولقد كانت هذه الحركة مظهراً من(434/27)
مظاهر تنفيذ مشروع السنوات الأربع الثانية إذ أنه اتصل بحركة إنشاء المصانع الجديدة الخاصة بتحقيق الاستكفاء الاقتصادي للبلاد.
ولقد وجه إلى حركة إنشاء مسكن العمال ولا سيما التي تقوم على إنشائها المنشئات الصناعية كثير من أوجه النقد، إذ أن هذا من شأنه زيادة اعتماد العامل على مخدومه. والواقع أن خطة الدولة الألمانية تجاه عمالها ذات وجهين، فهي من جهة تجعل من العمال شبه أرقاء لا حول لهم ولا قوة، فترهقهم بالعمل وتحدد لهم أجورهم وساعات العمل ونوعه ومكانه كما تشاء وإذا بها من الجهة الأخرى تعتنق بعض الإصلاحات الاجتماعية التي يقوم بها المجتمع الرأسمالي اليوم.
ومن الخير أن تقرر أن طموح ألمانيا نحو هجرة صناعاتها من المدن الكبيرة ونقل العمال إلى الريف لم يتحقق إلا على نطاق ضيق وإن كان ما زال غرضاً نسعى لتحقيقه.
هذه هي المعالم الأساسية للنظام الاقتصادي النازي؛ وتلك هي الاتجاهات التي يسير فيها، يبدو من تقصيها مدى الفراغ الواسع الذي يفصل بينها وبين النظم الاقتصادية الحرة التي تسير عليها دول كبريطانيا العظمى ومصر وفرنسا والولايات المتحدة. وعلى الذين ينظرون إلى هذا النظام من حيث النتائج التي حققها من انتقاء التعطل من ألمانيا ونشاط جهازها الاقتصادي أن يستعرضوا الظروف التي أحالت بقيامه ثم وجوده، والأسباب التي عملت على وصوله إلى النتائج التي وصل إليها. وفي مكنة الدول الأخرى أن تستفيد من دراسته وأن تأخذ ببعض أساليبه التي حققت فوائد لألمانيا، على أن يلاحظ في تطبيق هذه النواحي أتم الحيطة والحذر، فألمانيا تخالف في روحها ونظمها وتقاليدها الشعوب الحرة الأخرى. فالأخذ بالنظام الاقتصادي الألماني وتطبيقه على علاته كما يبدو لبعض قصار النظر من الناس أمر لن ينتج منه سوى هدم كيان بلادهم وزعزعة نظمها الاقتصادية والاجتماعية وتعريضها للانهيار.
فؤاد محمد شبل
مفتش تموين إسكندرية(434/28)
شخصيات تاريخية
4 - تيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
لعل من الغريب أن نرى الديمقراطية الأثينية لا تفي تيموستوكل حقه من المجد والسلطان بعد انتصاره في معركة سلامين، بل على العكس من ذلك تنكرت له. ونحن لا نستطيع أن نبخسه حقه كما فعلت معه الديمقراطية الأثينية، فشأنها في هذا ربما لا يختلف في قليل ولا كثير عن شأن الديمقراطيات الأخرى في القديم أو الحديث. ويحدثنا هيرودوت أنها ذهبت إلى أبعد من هذا فعملت على أن تتخلص منه، فأرسلته في بعثة إلى إسبرطة ليطلب إليها أن تمد يد المعونة الحربية إلى أثينا في أقرب فرصة ممكنة، ولكنه فشل في هذه البعثة وعاد إلى وطنه فاستقبله مواطنوه استقبالاً فيه شيء كثير من الفتور، وأخذ عليه الأثينيون بوجه خاص كبرياءه وغطرسته، وحان وقت الانتخابات فلم يظهر اسمه من بين المنتخبين ليكونوا الاستراتيج العشرة وهم المشرفون على الحكم في الدولة، وأبعدوه عن الحكم وفضلوا عليه زعيم المحافظين وهو أرشيد. ولعل هناك وجهاً للمقارنة بين هذا الموقف وموقف الديمقراطية الفرنسية غداة انتصارها في الحرب العالمية الكبرى الماضية، إذ تنكرت هي الأخرى لزعيمها وصاحب الفضل في انتصارها وهو كليمنصو فلم تنتخبه رئيساً للجمهورية؛ بل فضلت عليه شخصاً دونه في العبقرية، بل إنه يعد في حكم المتوسطين. وتعليل هذا بسيط: ذلك أن الديمقراطية تخاف على نفسها من هؤلاء الأبطال الذين يحرزون لها هذا النصر ويشيدون لها هذا المجد أن تحدثهم أنفسهم أن يحكموها عن طريق العنف والاستبداد ككل دكتاتور يستبد بالسلطة بعد اشتداد أمره وازدياد أتباعه، أو بعد نصر يصيبه في معركة التحم فيها أو بعد نجاح في بعثة أوفد إليها. ومن الطبيعي أن يكون عدم عرفان الجميل على هذا النحو سبباً من الأسباب التي أدت إلى حفيظة تيموستوكل ضد بني قومه، فكانت هذه الغلطة في نظرنا أولى الخطوات التي أدت إلى تطور ثيموستوكل من جانب اليونان إلى جانب الفرس حتى جعلته يقلع عن خدمتهم إلى(434/29)
خدمة أعدائهم.
وبالرغم من هذا يتجاهل تيموستوكل كل هذا التنكر وينسى نفسه ومطامعه ومصالحه الشخصية فيتفق مع خصمه ومنافسه الزعيم أرسيتد على برنامج للإصلاح القومي الغرض منه بعث أثينا وإعادتها إلى الحياة بعد أن كانت قد أوشكت على الفناء على أثر غزوة أجرزسيس لها، وذلك ببناء ما دمر من بيوتها وإصلاح ما خرب من أراضيها، وكان أساس هذا البرنامج العبارة اليونانية الشهيرة التي مؤداها أن يجعل أثينا تعتمد على ميناء بيريه، وكذلك الأرض تعتمد على البحر.
وهذا البرنامج واسع شاسع لا يمكنه أن يتمه في يوم وليلة؛ لذلك نجده يفضل الأهم على المهم، والضروري على الزائد عن الحاجة، فيشجع على البدء أولاً بإقامة التحصينات اللازمة للدفاع عن الدولة بعد تخريب الفرس لها، أما بناء البيوت وإزالة الخرائب والأنقاض عنها؛ وأما إقامة المعابد الجميلة التي تناسب الآلهة فإنه يعمل على تأخيرها إلى فرصة أخرى مناسبة؛ ثم نراه يحث قومه على الإسراع في بناء هذه التحصينات حتى يتموها في شهر واحد تقريباً، وكانت نتيجة هذا كله أن أصبحت أثينا محاطة بسور متين بلغ طوله 9 كيلومترات.
وأنت لا تستطيع أن تظن أن تنفيذ هذا البرنامج سهل يسير، كلا ثم كلا! ذلك أن أعداء أثينا واقفون لها بالمرصاد، مثل الدول المحيطة بها، كأريجينيا وميجارا وكورنث. وقد فهمت هذه الدول القصد الذي ترمي إليه أثينا، فأخذوا يتربصون لها ويحقدون عليها، وعلى الأخص بعد موقعة سلامين، لأنها كانت تعتبر صاحبة الفضل الأول في إحراز النصر لليونان جميعاً، وقد طلبت هذه الدول إلى إسبرطة التي كانت على رأس الحلف البيلوبونيزي أن تعمل على هدم هذه الأسوار، فهي تخاف من أثينا أن تستطيع وحدها الوقوف على أقدامها فتنجح في الدفاع عن استقلالها ضد كل دولة تحدثها نفسها بغزو أرضيها؛ فإذا تمكنت من الدفاع عن هذا الاستقلال والمحافظة عليه ربما أمكنها أن تلعب دوراً مهما في البيلويونيز وفي غير البيلويونيز. وقد لبت إسبرطة هذا النداء وأرسلت سفراء من لدنها يتكلمون باسمها أمام المجالس الأثينية، ولكن تيموستوكل يفسد عليهم خطتهم بسلوكه مسلك الختل والخداع؛ فهو يحرص قبل كل شيء على أن تقام هذه(434/30)
التحصينات في أقرب وقت مهما كلف ذلك من جهد وعناء، فتمكن من أن يحصل من مجلس (البولي) على قرار بإرساله هو على رأس سفارة إلى إسبرطة لمفاوضة أهل الحل والعقد هناك، وفي الوقت نفسه طلب إلى أعضاء سفارته هذه أن لا يبرحوا أثينا حتى يتم بناء هذه التحصينات؛ ثم ذهب إلى إسبرطة وأخذ يفاوض ويفاوض ويماطل في المفاوضة حتى فطن إلى ذلك أعداؤه وأعداء بلاده، فنبهوا إسبرطة إلى هذا الخداع وطلبوا إليها الإسراع في العمل على تنفيذ رغبتهم حتى لا يفلت الأمر من يدهم ويدها. فترسل إسبرطة سفارة ثانية إلى أثينا ولا تكاد تصل هذه السفارة إلى هذه المدينة حتى تكون الأسوار قد تمت بفضل تفاني جميع المواطنين من شيب وشبان ونساء وأطفال في إتمامها، فاستطاع بعد ذلك أعضاء وفد تيموستوكل مبارحة أثينا والانضمام إليه في إسبرطة، فلما رآهم قد أصبحوا إلى جانبه خلع النقاب وكشر عن الأنياب ورفع الصوت عالياً معلناً لكل من يريد أن يستمع له أن بلاده لا تخضع لوعيد ولا لتهديد، وأنها إذا أرادت أن تأتي أمراً في داخل بلادها فهي وحدها صاحبة الأمر في ذلك، وهي حرة التصرف في شؤونها الداخلية لا تقبل من أية دولة ولا من أية جهة أن تتدخل في أمورها؛ لذلك فإنها ترفض طلب إسبرطة وحلفائها. وما استطاع تيموستوكل إعلان هذا الرأي إلا بعد أن رأى أن وطنه قد استطاع الظفر في الحرب ضد الفرس، بل وأن هذا الظفر يرجع قبل كل شيء إلى جهود بلاده وتضحياتها، فإن كانت الدول اليونانية الأخرى قد ساهمت في إحراز هذا النصر العام فإن هذه المساهمة ضئيلة لا تعد شيئاً مذكوراً إلى جانب ذلك المجهود الجبار الذي بذلته أثينا، فالعدو قد ضرب أراضيها وأنتهك حرمة معابدها وأراضي آلهتها، والأثنيون بعد ذلك شردوا أيما تشريد، وهاجروا من وطنهم إلى بلاد سلامين على نحو ما ذكرنا في المقال السابق، والأرض الأثينية كانت الميدان الذي قاسى الأهوال، وتحمل الكوارث والمصائب. أما البلاد الأخرى في البيلوبونيز فلم تقاس شيئاً من أهوال هذه الحرب. أفهل يحق لها بعد ذلك أن تقسو على أثينا، وأن تطلب إليها أن تكون مجردة من كل وسيلة من وسائل الدفاع، وخاصة وأن تيموستوكل ومعه الأثينيون ما يزالون يعتقدون أن الحرب لم تنتهي وأن الفرس ربما يربحون مرة أخرى لغزو بلادهم؟ كلا! إن ذلك لا يمكن أن يحدث بعد الآن فالدولة الأثينية قد أصبحت رشيدة تستطيع أن تدافع عن مصالحها وحقوقها، بل وأن تذهب(434/31)
إلى أكثر من ذلك فتتسامى عن السياسة الذاتية إلى السياسة العامة، وهي سياسة الدفاع عن جميع بلاد اليونان قاطبة. لم يسع إسبرطة أمام هذا الإصدار إلا أن ترضخ فتركت أثينا وشأنها. وقد لامها حلفاؤها وعابوا عليها هذا المسلك فوصفوه بأنه ينم عن الضعف والتخاذل والإهمال، لأنه من غير شك سيساعد أثينا على المضي في طريقها بعد أن رأت إن أكبر الدول اليونانية لا تستطيع أن تمنعها من تحقيق سياستها، فتشجعت ونهضت بعد هذا البعث الجديد وتمكنت من أن تسير قدماً إلى الأمام لتنفيذ سياستها الإمبريالية وهي سياسة التوسع والفتوح.
نجح إذن تيموستوكل في هذه المهمة، وهي إحاطة أثينا بالأسوار والتحصينات، ولكنه لم يهدأ له بال بعد ذلك إذ رأى أن هذه الأعمال الدفاعية لا تحقق الغرض منها إلا إذا أكملت بأعمال أخرى في ميناء بيريه. فيوجه إلى هذا الميناء كل جهوده لاعتقاده الجازم أن هذه الأعمال كلها مرتبطة ببعضها تمام الارتباط، فلا يصلح عمل منه دون أن يتم العمل الآخر، وهو كثيراً ما نادى - على نحو ما رأينا في ما سبق - أن مستقبل أثينا على البحار، لذلك لم يكن من الغريب أن تكون سياسته كلها موجهة نحو البحر، بل مرتكزة على البحر، فالبحر في نظره عماد كل شيء كما قال في تلك العبارة الشهيرة التي أوردناها منذ حين: (أن الأرض الأثينية تعتمد على البحر والمدينة تعتمد على ميناء بيريه). وتنفيذاً لهذه السياسة يعمل على إحاطة ميناء بيريه هي الأخرى بسور، وقد تم ذلك فبلغ طوله عشرة كيلو مترات بعد أن بناه من الأحجار الضخمة التي استخرجها من المحاجر المجاورة. بل ربط تيموستوكل هذا الميناء الجديد بالميناءين المجاورين وهما (زيا) و (موتخيا) وجعلها كلها ميناء واحدة ومدينة واحدة، وشجع الناس على أن يفدوا إليها من الخارج، أي من البلدان القريبة منها، فأقبلوا زرافات ووحداناً، بعد أن رأوا أنفسهم قد أعفتهم هذه المدينة من الضريبة الثقيلة المسماة وهي التي كانت تفرض على كل أجنبي يريد أن يقيم بها، فكثر سكانها وازدحموا ازدحاماً عظيما حتى أصبحت بعد ذلك أهم ميناء في البحر الأبيض المتوسط، واعتبرت قلب الإمبراطورية الأثينية النابض. ففيها يرسو الأسطول وهو عماد الإمبراطورية الأثينية البحرية، ومنها تصدر الصادرات الأثينية وإليها ترد الواردات من الخارج، كالقمح والخشب والمعادن من البلاد المحيطة بالبحر الأسود أو من آسيا الصغرى(434/32)
ومصر، وكذلك من طريق الغرب من صقلية وبلاد اليونان الكبرى في جنوب شبه جزيرة إيطاليا.
سار الشعب الأثيني وراء تيموستوكل واتبع نصائحه ونفذ إرشاداته وتوجيهاته ولكن إلى حين؛ ثم سحب بعد ذلك ثقته من هذا البطل ومنحها لخصومه زعماء الحزب الأرستقراطي، وكان من أبرزهم في ذلك الوقت أرسيتد الذي طالما ذكرنا اسمه وشخصية أخرى جديدة ظهرت إلى جانبه ثم حلت محله بعد ذلك في زعامة هذا الحزب، هي شخصية الشاب الأرستقراطي سيمون بن مليتاد بطل ماراتون. وكانت هذه الشخصيات الثلاث عبارة عن ثالوث يوجه شؤون الدولة ويدير دفتها في هذه الحقبة من التاريخ.
تتغلب هاتان الشخصيتان الأرستقراطيتان، أرستيد وسيمون، في عالم السياسة الأثينية بقدر ما تتواري شخصية تيموستوكل ويأفل نجمه، وتتفق هاتان الشخصيتان على السياسة الخارجية وهي تقضي بالانصراف إلى شؤون حلف ديلوس والاهتمام بأمره حتى يكمل تنظيمه فيستطيع حينئذ أن يحقق الغرض الذي من أجله أسس وهو الدفاع عن اليونان في بحر إيجه وفي غرب آسيا الصغرى ضد الفرس، وهما لا يترددان، في سبيل تنفيذ هذه السياسة عن الاتفاق مع إسبرطة وتقسيم مناطق النفوذ معها؛ فلها البر ولأثينا البحر. أما تيموستوكل فيقول بغير هذا، يقول بتوجيه الاهتمام إلى حلف ديلوس ولكن على أن يكون هذا الحلف هو القوة المسيطرة وحدها في بلاد اليونان جميعاً، فيجب أن تكون لأثينا السيادة في جميع أجزاء العالم اليوناني، وهو يعلم تمام العلم أنه لا يستطيع تنفيذ هذه السياسة وإسبرطة قائمة على رأس حلفها، لذلك نادى بضرورة الاتفاق مع الفرس حتى يكون لأثينا الغلبة والسيادة، وبذلك تغيرت سياسة تيموستوكل الخارجية تغيراً يكاد يكون تاماً بعد معركة سلامين. ألم نره ألد عدو للفرس وهو الشخص الذي كان روح المقاومة وبطل الاستقلال؟ ألم نره قد عمل على التوحيد بين اليونان جميعاً لصد الفرس وردهم عن البلاد؟ تغيرات إذن هذه السياسة، فلم هذا التغيير؟ الجواب على هذا السؤال بسيط لا يحتاج إلى كبير عناء، فتيموستوكل لا يفكر إلا في وطنه وفي مصلحة وطنه، ويكاد يكون هذا التفكير شاغله الأعظم، فهو يريد لأثينا الزعامة على بلاد اليونان كلها والسيادة في البر والبحر معاً، والآن وقد زال الخطر الفارسي لم يبق أمام وطنه إلا الخطر الإسبرطي، وقد اعتقد(434/33)
اعتقاداً جازماً لا يخامره الشك أن الفرس بعد هزيمتهم الساحقة، في معركة سلامين، قد أصبحوا أقل خطراً من قبل. لذلك وجه سياسته إلى الاتفاق معهم حتى يتفرغ لمحاربة إسبرطة، بخلاف الزعيمين السابقي الذكر، أرستيد وسيمون، فهما أرستقراطيان، تكاد تتفق ميولهما وتربيتهما مع الميول والتربية الإسبرطية، فنزعتهما أرستقراطية لا تختلف عن النزعة الإسبرطية في قليل ولا كثير. وقد كانت هذه السياسة هي سياسة الحزب الأرستقراطي طول القرن الخامس ق. م. أما تيموستوكل فهو ديمقراطي تختلف نزعاته عن نزعات إسبرطة، وتختلف ميول الحزب الديمقراطي عن ميول الدولة الإسبرطية، لذلك اصطدمت سياسة هذا الحزب بسياسة إسبرطة حتى كان ذلك من العوامل القوية التي دفعت أثينا إلى الحرب مع إسبرطة في النصف الثاني من القرن الخامس ق. م. وذلك في عهد بركليس.
(يتبع)
محمد الشحات أيوب(434/34)
جولة في أسرار الناس
(مهداة إلى الدكتور زكي مبارك)
للأستاذ م. دراج
حقاً لقد صدق الذي قال: (إن الإرادة الحازمة لا تعرف المستحيل) فمن ذا يصدق أني أكتب هذا المقال بعد انتصاف الليل بساعات قضيتها أرقاً أفكر في الناس والمجتمع وكيف أن الغش والكذب والمخادعة هي الأصناف الرائجة بل هي الوحيدة التي يتجر فيها تجار السياسة وسماسرة الأحزاب والمضاربون في سوق المنافع والفرص (الذهبية). كان رأسي مملوءاً بالخواطر المغلقة والصور تحتشد أمامي، والحقائق تندفع من وراء مخابئها تهتك أسرار مجرمي الجمعية التي أعيش ويعيش فيها ملاين من أبناء وطني مقيدين بأغلال الفقر الأسود الذي فرضه علينا دجالو السياسة والاجتماع والاقتصاد، حتى لم أعد أطيق البقاء في فراشي فنهضت أعالج ضوء مصباحي الخافت ففشلت في جعله صالحاً للكتابة فيه، وعدت أفتش عن قلم أسطر فيه خواطري اليقظة فلا أجد غير بقية لا تصلح، وليس لي مكتب أجلس إليه، وكلها عقبات كفيلة أن تثني رجلاً في مثل حالي عن الكتابة. فلست من المبرزين في رجال المجتمع حتى تتهافت الصحف على كتاباتي، ولا أنا ممن أوتوا حظاً من المال أذلل به عقبات النشر، وليس لي بين الصحفيين أصدقاء يهتمون بأفكاري حق الاهتمام، ومع ذلك أجد يدي قد امتدت إلى المصباح فوضعته قرب الوسادة، وظفري قد نبش القشرة الخشبية حتى ظهر سن القلم إذ لا سلاح لدي، ثم أنبطح على الفراش والورقة أمامي كما ينبطح الجندي في ساحة القتال. كل هذا من أجل من؟ أللناس أكتب أم لنفسي؟ وهل كان يجدر بي أن أكتب هذه المقدمة لو أنني كنت فيما أكتبه للناس مخلصاً؟ هكذا قلت لنفسي:
على أية حال لقد تبينت في نفسي رغبة خفية للكتابة، والناس أسرار. ألا ترى أننا نحب دائماً أن نسمع رأي الناس فينا؟ ومع ذلك نكره منهم النقد ولو كانوا في نقدهم محقين؟ بل أكثر من ذلك نحب أن نطلع على خبايا نفوسنا عند دعاة العلم بالغيب ممن يفتحون (الكتاب) ويضربون (الرمل) ويقرؤون في الكف الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً، ونحن نعلم أنهم يرجمون بالغيب؟ أليست كل هذه الشعوذات عناصر أكذوبة ضخمة جازت(434/35)
على عقول المفكرين في هذا المجتمع المريض؟ مر بخاطري ذلك الصحفي الذي يملأ صحيفته بالحديث عن نفسه وكيف قضى يومه بين زيارات وحفلات وسهرات، وعجبت كيف يفرض على الناس أن يهتموا بسهراته ومقابلاته وأحلامه؟ إن مثل هذا الصحفي يلقبونه أحياناً (صحافياً عبقرياً) لماذا؟ ألا إنه يعلم أن في وطنه آلاف المشكلات التي تستحق عنايته ككاتب يعبر عن آلام الشعب وأمانيه، ثم يصرفهم عن الجد بالهزل ويحول بينهم وبين المطالبة بحقوقه بأمثال هذه (الطرق الأمريكية)؟ وأتى دور المحامي الشهير الذي أعلن قريباً (أن العلاج الناجح لمثل هذا الوطن المنكوب بملايينه الجائعة العارية المريضة الجاهلة هي الاشتراكية، ونسى أنه من الأثرياء الذين لا يحسنون فهم الروح الاشتراكية، وأن الاشتراكية نفسها تأبى جمع المال بمثل هذه الوسائل بل وتحاربها أيضاً. ثم تقدمت صورة طبيب ملأ الجشع نفسه حتى لم يجد من العار أن يساوم المريض على فراش الخطر وأن يبهظ قدرته على الصرف بإطالة أسباب العلاج، غير مراع في ذلك حرمة المهنة ولا الضمير الإنساني.
هؤلاء الأطباء يدعون أنهم خدام الإنسانية! وتذكرت فجأة أني ركبت تراماً وسمعت بعض الذين أشقتهم أزمة الغلاء وعدت على قوتهم الضروري يقولون: ليت الذين ينصحوننا بالصبر والقناعة ويوصوننا بعدم الإسراف، يعلمون أن في بيوتنا جياعاً لم يتذوقوا الطعام. الطعام الذي ينصحوننا بالاقتصاد فيه) وهل خفف هؤلاء الناصحون من مظاهر ترفهم أو رقوا لحال من يعملون في مزارعهم أو قصورهم أو مصانعهم أو متاجرهم؟
الجواب دائما: لا ثم لا!!
هؤلاء الحكام والسياسيون يستطيعون في كل وقت أن يصنعوا شيئاً لهذا البلد، ومع ذلك لا يفعلون؟ إنهم حينما يرون كسب عطف الفلاح أو العامل بات أمراً جوهرياً لبقائهم لا ينفكون يتوددون إليه بشتى ألوان الوعود والأماني العذاب، حتى إذا تم لهم ما يريدون، نسوا أو تجاهلوا ما كان.
هل يمكن لمثل هذه الملايين البائسة أن تمنحهم ثقتها بعد أن ضيعوا عليهم ربع قرن من الزمان في منازعات حزبية شخصية غايتها اقتسام المنافع واقتسام المناصب والسلطان؟ وهل تغتفر لهم ضياع فرص قد يعز على المستقبل أن يجود بمثلها؟؟ هذا سؤال سترد عليه(434/36)
الأيام المقبلة.
كان في نيتي أن أستيقظ لأسرار الناس، وأطيل التأمل في حياة الجمعية التي تعيش فيها، ولكن بعد ما مضيت قليلاً عثرت على مفتاح هذه الأسرار فوجدت فيه الجشع المادي الذي لا حد له قد سيطر على عقول أفرادها فما يشفيها منه إلا طبيب ماهر جرئ يعرف موطن الداء ويعرف كيف يقضي عليه بالمصل المضاد. . . ثم ألقيت قلمي ونمت مع أفكاري جنباً لجنب!
م. دراج(434/37)
نفسية المحارب
للدكتور محمد حسني ولاية
قبل أن أخوض في هذا الموضوع أقول إن السادية هي النزعة إلى إيلام شخص آخر أو القضاء عليه، مصحوبة بشعور لذيذ. وهذا الألم إما أن يكون وليد عامل مادي كالضرب بالسوط، أو معنوي كالتوبيخ والاحتقار. أما الماسوشية فهي على النقيض من هذا، لأنها تنطوي على استعذاب العذاب والألم مادياً كان أو معنوياً.
إن الذي يدعو الإنسان إلى قتل أخيه الإنسان هو النزعة السادية المتحكمة في نفوس البشر جميعاً؛ وليست هذه النزعة غريبة عن نفوس النساء، بل هي مستقرة في أعماقهن بدليل ظهورها في بعض العصبيات، وأحياناً في اللاتي بلغن سن اليأس.
ويحمل كل إنسان - رجلاً كان أو امرأة - نزعة السادية متوازنة مع نزعة الماسوشية؛ ويُبقى الرجل جانباً كبيراً من ساديته في وعيه، فيتسلط على المرأة ويتحكم فيها، ويحاول التسلط على ضعفاء الرجال، والتغلب على صعوبات الحياة. على أنه يكبت في عقله اللاواعي (العقل الباطن) معظم النزعة الماسوشية.
ويحدث عكس هذا في المرأة، لأن وعيها يحملها على الخنوع والاستسلام لبقاء معظم النزعة الماسوشية فيه. وكثيراً ما تبرز النزعة السادية في المرأة عندما تصادف منافسة لها في حب الرجل فتعمد حينئذ إلى الانتقام من أحدهما أو كليهما.
تعني السادية أن يهدم الإنسان سواه ليخلو له الجو ويستأثر بالحياة. فهي نزعة مقترنة بالرغبة في الحياة والسيطرة. أما الماسوشية، فتعني أن يهدم الإنسان نفسه. فهي وثيقة الصلة بغريزة الموت، وتستقر غريزة الحياة في عقلنا الباطن جنباً إلى جنب غريزة الموت؛ ولهذا الجانب من التمثيل المعنوي جانب مادي يقابله، فغريزة الحياة تمثلها الغدد الجنسية التي تفرز العناصر الحيوية الأولى. أما غريزة الموت، فيمثلها الجسد الذي مآله إلى البلى!
ولا يلجأ الإنسان إلى عداء الإنسان إلا إذا أمعن في كبت النزعة الماسوشية، وأبرز في الوعي كل الطاقة النفسية المتعلقة بالسادية.
يؤدي العرف في أوقات السلم إلى أن يكبت الرجل شطراً من ساديته لينسجم مع المرأة(434/38)
والبيئة. أما في زمن الحرب فتتحكم السادية في العقل الواعي وحينئذ يتحرك الحيوان الرابض في الأعماق ليقضي على فريسته. وليس هذا الحيوان سوى الإنسان البدائي الذي ما زال متمتعاً بكامل قوته وعدته.
وحين تسير الجيوش لملاقاة العدو يتناسى كل جندي شخصيته ويعود إلى ماضيه الفطري ويعمل كما كان يعمل آباؤه الأولون. وهو في هذه الحالة يشعر بأنه ليس طوع نفسه، ولكنه رهن الإرادة البشرية الأزلية التي تسيطر على سرائرنا جميعاً. أما إذا أمعن الجندي في وعي ذاته - وشعر بأن شخصيته قائمة بذاتها لم تستطع روحه الاندماج مع الروح التي تقود زملاءه الجنود إلى التلاحم مع العدو.
ويصيب بعض الجنود مرض الهستريا أو القلق العصبي بتأثير الحرب؛ ففي الحالة الأولى قد يعتري الجندي شلل في إحدى ذراعيه أو كلتيهما، أو في إحدى رجليه أو كلتيهما، كما قد يغتابه العمى الهستيري بتأثير الغازات الخانقة مثلاً، أو الصمم بتأثير القنابل، وكل هذه الأعراض نفسية يمكن شفاؤها بالعلاج النفسي.
ويشعر المريض بالقلق العصبي بالخوف وخفقان القلب واهتزاز لأعضاء وغير ذلك، أما شفاؤه فليس بعسير.
وقد وجد أن بعض المصابين بمستهل جنون المراهقة أشد ثباتاً وأرسخ نفسية من بعض زملائهم لانطفاء انفعالاتهم وعواطفهم، فلم لا يلمون بالأخطار المحدقة بهم، ويسيرون في الصفوف كالبهم السائمة.
محمد حسني ولاية(434/39)
الصراع الأمريكي الياباني
للأديب محمد شاهين الجوهري
يتخذ الصراع الأوربي كل يوم مظهراً جديداً، وتطغي الحرب
الأوربية على كل ما عداها، فاشتداد وطأتها وسرعة تطوراتها
قد أكسباها خطورة، وحولا إليها اهتمام العالم وتفكيره.
وإلى جانب هذا الصراع نضال آخر قد اتصلت أسبابهما: ذلك هو النضال القائم بين أمريكا واليابان، وإنه وإن لم يكن قد دخل للآن في طور القتال إلا أنه على أشده. ووراء هذا النضال برنامج من التسلح لا يقف عند حد. فالأمتان تستبقان في هذا الميدان. وإذا عرفنا أنهما دولتان بحريتان يؤلف الأسطول خط دفاعهما الأول، فسيكون البحر مسرحاً فسيحاً لنضال عنيف بين الأسطوليين يرغم فيه القوي الأضعف على التخلي عن الميدان تاركاً له السيادة والسيطرة.
ولذا نجد جل اهتمام الدولتين وجهودهما مركزاً في تقوية بحريتهما، فكلتاهما تخصص الملايين لزيادة أسطولها وتقويته وجعله أكثر تفوقاً على خصمه. وليس أدل على هذا الاهتمام من أنه لم تكد تمضي ساعتان على توقيع الرئيس روزفلت اعتماد خمسة ملايين دولار لتعزيز البحرية الأمريكية، حتى أعلن القائمون بأمر التنفيذ أنه قد تم التعاقد مع الشركات التي ستتولى بناء السفن.
أخذت اليابان في السنوات الأخيرة تقفو آثار السياسة الأوربية وتتبع خطاها، واضعة نصب عينيها أن يكون لها من وراء كل أزمة أوربية ربح ومغنم. وأخذت أمريكا ترقب عن كثب تطورات السياسة الأوربية، مسترشدة بها في توجيه سياستها. وهكذا رأينا الدولتين تسيران حسب ما تمليه عليهما تلك السياسة، ولكن هناك تباين واضح بين السياستين.
فالولايات المتحدة دولة قد خلت سياستها من كل مطمع استعماري، ويهمها أن يسود السلام بقية الدول، حتى تجد فيها أسواقاً رابحة لتجارتها. وقد رأت أيضاً أن مبادئها التي طالما نادت بها في الحرب الكبرى الماضية كقواعد ثابتة للسلم لم يحققها رجال السياسة الأوربية،(434/40)
فضلاً عن أنها لم تسترد ما لها من الديون عند الدول التي اقترضت منها في الحرب الماضية. أضف إلى ذلك أن الشعب الأمريكي شعب قد أشبعته سياسة بلاده بمبادئ السلام، فاتجه بجهوده وتفكيره إلى ميادين العمل السلمية، فضرب بسهم رابح في نواحي النهضة المختلفة علمية كانت أم فنية؛ وساعده على ذلك ما تتمتع به بلاده من ثروة طبيعية ومالية. لذلك كانت سياستها بعيدة عن التوسع والاستعمار.
أما اليابان، فإمبراطورية حديثة النشأة. الاستعمار أهم عوامل نهضتها، كما أن صغر مساحتها بالنسبة لعدد سكانها أملى عليها ضرورة إيجاد مساحات جديدة لهذا العدو المتزايد. وإذا كانت أمريكا قد ارتضت مبدأ (أمريكا للأمريكيين)، فإن اليابان يعز عليها أن تجد في آسيا شعوباً غريبة عنها، فينادى ساستها كذلك أن (آسيا للآسيويين). ناهيك بأن اليابان لا تجد في بلادها كثير من الخامات التي تلزم صناعتها. لهذا رأيناها توجه سياستها إلى الناحية الاستعمارية. فإذا كانت هذه هي سياسة اليابان، فإنه لم تكد تخلق لها الحوادث الأوربية فرصة إلا اقتنصتها وخطت في سبيل تحقيق سياستها خطوات واسعة. ففي يونيو سنة 1940، حين انهارت المقاومة الفرنسية وبقيت بريطانيا بمعزل تواجه أشد الغارات الألمانية، كانت هذه - بلا شك - فرصة سانحة لليابان لتحقيق مآربها. فأظهرت لبريطانيا رغبتها في إقفال طريق بورما الذي يأتي منه المدد لجنود الجنرال الصيني شان كاي شيك، وطلبت منها أيضاً سحب جنودها من المدن الصينية؛ واتبعت في تنفيذ رغبتها العنف، واضطرت بريطانيا في ذلك الوقت أن تنزل على رغبتها، فأجابتها إلى ما طلبت. ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى عادت اليابان فطالبت الحكومة الفرنسية باحتلال بعض مناطق الهند الصينية والسماح لجيوشها بالمرور منها إلى الصين. وبعد مناوشات واصطدامات ومفاوضات خضعت الحكومة الفرنسية للمطالب اليابانية، فزحفت قوات اليابان إلى الهند الصينية لمهاجمة جنود الجنرال شاي كاي شيك في ميدان جديد، كما اتخذت بعض الوحدات اتجاهها نحو سيام فهددت بذلك القواعد الإنجليزية في سنغافورة، وكذلك جزر الهند الشرقية الهولندية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في استيراد المطاط والقصدير اعتماداً كبيراً، كما هددت جزائر الفليبين الواقعة تحت الحماية الأمريكية والتي لا تبعد عن الهند الصينية أكثر من ستمائة ميل.(434/41)
وفي سبتمبر سنة 1940 أمضت اليابان المحالفة العسكرية الثلاثية مع ألمانيا وإيطاليا، وينطوي هذا التحالف على أن تشترك الدول الثلاث المتحالفة في الحرب ضد أية دولة - ومنها الولايات المتحدة - ورمت اليابان من وراء ذلك إلى ضمان اشتراك ألمانيا وإيطاليا معها إذا اشتبكت في حرب مع الولايات المتحدة وفي أكتوبر سنة 1940 ألقى وزير خارجية اليابان بياناً أوضح فيه سياسة بلاده حيال الولايات المتحدة فقال: (إنني أوجه هذا التحدي إلى الولايات المتحدة، فإنها إذا رأت أن تؤثر الإقدام في عمى وتعصب على أن تعمل ما من شأنه إحداث تغيير في الحالة الراهنة في المحيط الهادي نستقدم على محاربتها)
تلك هي سياسة اليابان التي اتبعتها والخطط التي انتهجتها فما هو رأي الشعب الأمريكي حيال هذه السياسة؟
يمكننا تلخيص آراء الأمريكيين في رأيين:
أحدهما يرمي إلى إتباع سياسة سلمية في كل علاقة بين بلاده واليابان.
والرأي الآخر يرى أنه لا بد من مقاومة المطامع اليابانية ووقفها، بل القضاء عليها بالقوة قبل أن يتسع نطاقها وتطغى على أمريكا وتصبح أمام خطر يهدد كيانها ويصعب مغالبته. فعلى أمريكا أن تأخذ أهبتها لمقاومة هذا الخطر. وفي هذا يقول ليبمان الثقة الأمريكي (إن خير وسيلة للدفاع عن الجزر ليست مجرد حشد الأساطيل حول سواحلها لحراستها وارتقاب هجوم العدو، ولكن بمباغتته في عقر داره وتحطيم الموانئ التي يأتي منها الغزو وتأمين المسالك البحرية)
وبعد انهيار المقاومة الأوربية وسيطرة الدول الديكتاتورية على أوربا أخذ الرأي العام الأمريكي يميل إلى مساعدة الدول التي تناهض الديكتاتورية حتى ولو أدى ذلك إلى تدخل أمريكا الفعلي في الحرب. ويقول أصحاب هذا الرأي إنه ليس على الولايات المتحدة أن تتجاهل ما تقوم به اليابان في الشرق الأقصى، كما أنه ليس في الإمكان تهدئة اليابان وتسوية المشاكل القائمة تسوية سلمية ما لم تقبل أمريكا ما تمليه عليها اليابان.
فاليابان ترغب في أن تنفض أمريكا يدها من النزاع القائم بينها وبين الصين وأن تكف عنها المساعدة، وبمعنى آخر تتخلى أمريكا عن مبدأ حرية التجارة، وعلى ذلك تصبح الصين بمعزل عن المعونة الخارجية مما يسهل مهمة اليابان في القضاء عليها. ولكن كيف(434/42)
تنفذ الولايات المتحدة رغبة اليابان وتتركها تقضي على الصين - وهي بمثابة خط دفاعها الأول - ولذا ينادي أصحاب هذا الرأي بوجوب قطع التجارة مع اليابان، لأن اليابان تنفق ثمن ما تصدره من الحرير إلى الولايات المتحدة على جيوشها في الصين، فإذا ما قطعت التجارة عنها أصبحت اليابان عاجزة عن مواصلة هذه الحرب، كما يرون ضرورة تصدير المؤن والذخائر إلى الصين لتكون أقدر على الدفاع عن نفسها وإنهاك قوى اليابان. ويرون كذلك أن اليابان - إذا لم تقف الولايات المتحدة في وجهها - ستحتل جزر الهند الشرقية الهولندية؛ وعندئذ تقطع عن أمريكا ما تستورده من المطاط والقصدير وتملي عليها ما تشاء من الشروط في سبيل الحصول على حاجتها من هاتين المادتين. وهناك نقطة أخرى وهي أن الشعب في الولايات المتحدة ومن ورائه الشعوب الأمريكية اللاتينية يؤيد السياسة القائلة بمساعدة الصين؛ فإذا ما كفت الولايات المتحدة عن هذه المساعدة ثارت روح الاستياء في الرأي العام الأمريكي. كذلك إذا تركت الولايات المتحدة أمر جزر الفليبين التي تعتمد على حمايتها وتثق بها، فإن هذه الجزر ستكون بلا شك عرضة للغزو الياباني وهذا ما يسبب حنق الشعوب اللاتينية أيضاً وهو ما يخشاه رجال الحكم في الولايات المتحدة، وينقسم أنصار السياسة السلمية إلى فريقين: فريق يرى أن قوة اليابان وخطرها على الولايات المتحدة أمر مبالغ فيه، إذ أن اليابان منهمكة بكل قواها في الحرب الصينية وليس في مقدورها محاربة الولايات المتحدة أو تهديدها تهديداً فعالاً؛ فليس على أمريكا أن تشغل نفسها بمشاكل الشرق الأقصى إذ يمكنها أن تستعيض عن المطاط الذي تستورده من جزر الهند الهولندية الشرقية بمطاط صناعي؛ ويمكنها أيضاً استيراد ما تحتاجه من القصدير من أمريكا الجنوبية كما أن كلتا الدولتين سوق رابحة للأخرى ليس من المصلحة الاستغناء عنه.
ويرى الفريق الآخر أن المحالفة العسكرية الثلاثية بين اليابان وألمانيا وإيطاليا قد وضعت أمريكا أمام مشكلة الحرب في المحيطين الهادي والأطلنطي؛ وليست أمريكا الآن على استعداد لهذه الحرب حتى يتم بناء أسطولها الجديد. لذلك يرون وجوب حل المشاكل القائمة بين الولايات المتحدة واليابان حلاً سلمياً والعمل على تركيز جهود الأسطول الأمريكي في المحيط الأطلنطي ضد ألمانيا وإيطاليا.(434/43)
ويقول ليبمان: (ليس البحر وحده ضماناً ضد الغزو، فإن الجزر البريطانية التي لا تبعد سوى عشرين ميلاً من أوربا لم تتعرض للغزو منذ مئات السنين، بينما تجد أمريكا التي تبعد عن أوربا بآلاف الأميال عرضة لكثير من غزوات الأوربيين. إذن فليس البحر هو الذي يحمي بريطانيا أو أمريكا وإنما تحميها القوة التي تسيطر على هذا البحر)
لذا نجد أمريكا واليابان يخصان الأسطول بأكبر نصيب من ميزانية الحرب لبناء قطع حربية جديدة تضاف إلى أساطيلهما.
ويظهر لنا البيان الآتي صورة واضحة عن قوة الأسطوليين
الولايات المتحدة
اليابان
النوع
ما تملكه الآن
ما تشرع في بنائه
المجموع
ما تملكه الآن
ما تشرع في بنائه
المجموع
بارجة
15
17
32
10
4
14
حاملة طائرات
6(434/44)
12
18
6
2
8
طراد
37
48
85
44
6
50
مدمرة
197
171
368
مدمرات
135 وقوارب
طوربيد
10
145
غواصة
103
82
185(434/45)
69
13
82
المجموع
358
330
688
264
35
299
وهنا يجدر بنا إجراء مقارنة بسيطة بين الأسطوليين: فالبوارج الأمريكية أقل سرعة من مثيلاتها اليابانية، ولكن مدافعها أقوى وأبعد مدى؛ وتفوق حاملات الطائرات والطرادات والمدمرات الأمريكية مثيلاتها اليابانية في القوة والسرعة والحجم، وبالأسطول الياباني قوارب طوربيد ولا بد أن تكون البحرية الأمريكية قد عملت لها حساباً، وبجانب تقوية الأسطول ترى الولايات المتحدة في الدول المناهضة للديكتاتورية خطاً رئيسياً للدفاع عنها وعن مصالحها. لذا أسرعت بتقديم كل مساعدة ممكنة لهذه الدول، لأنه إذا انهارت بريطانيا أصبحت اليابان حرة في توجيه ضرباتها في الشرق الأقصى، وأنه ما دامت بريطانيا تحارب، فسوف تبقى المصالح الأمريكية بعيدة عن أي خطر أو تهديد، كما أن استمرار الحرب الصينية معناه جعل اليابان في موقف لا يساعدها على مناهضة أمريكا في الشرق الأقصى، أو تقديم أية معونة فعالة لألمانيا أو إيطاليا من شأنها إضعاف بريطانيا التي تعمل الولايات المتحدة جادة على إبقائها، بل زيادة قوتها.
ولتنفيذ هذه السياسة أصدر الرئيس روزفلت أمره بحظر تصدير الحديد إلى اليابان. ويجب أن نذكر أنه قبل أن يصدر الرئيس هذا الأمر كان قد وافق على اعتماد مبلغ 25 , 000 , 000 ريال لحكومة الجنرال شان كاي شيك، وكان الغرض من هذا القرض في الظاهر شراء بعض المواد الخام من الصين، وحقيقياً مضاعفة جهود المقاومة الصينية ضد اليابان،(434/46)
كما طلبت الولايات المتحدة من بريطانيا إعادة فتح طريق بورما، حتى يمكن توصل سيل الإمدادات إلى الصين.
ودأبت الولايات المتحدة على مد روسيا بأدوات الحرب اللازمة حتى تتمكن من تقديم مساعدتها للصين عن طريق روسيا ولتساعد روسيا أيضاً في حربها ضد الدول الديكتاتورية. ولا تألو الولايات المتحدة جهداً في سبيل تلك المساعدة؛ وليس أدل على هذا مما اتخذه الرئيس روزفلت والمستر تشرشل من قرارات في اجتماع المحيط، ووصول مندوب الرئيس روزفلت الخاص إلى مؤتمر الحلفاء بموسكو.
وهناك بعض اقتراحات ترى الولايات المتحدة الأخذ بها إذا جد ما يدعو لها وهي إرسال سفن حربية أمريكية إلى قاعدة سنغافورة وبعض القواعد الأسترالية. ويرى الخبراء الفنيون أن اتخاذ الأساطيل المشتركة لهذه القواعد سيقضي على كل محاولة تقوم بها اليابان للاستيلاء على جزر الهند الشرقية الهولندية إذ أن وجود ثلاثة أساطيل مشتركة - الأمريكي والبريطاني والهولندي - يجعل اليابان في حذر، وخصوصاً وإن على الأسطول الياباني عبء ضرب الحصار على السواحل الصينية وتموين الجيش الياباني بالصين. وإذا ما عملت أمريكا بهذا الاقتراح فإنها ستنقل نقط الدفاع البحرية الرئيسية للولايات المتحدة من جزر هاواي إلى سنغافورة التي تبعد عن هاواي بمقدار 6. 000 ميل، وهذا ولا شك سيسهل مهمة الأسطول الأمريكي في حماية جزر الفليبين واتخاذها قاعدة لإصلاح السفن وتضمن له حماية جزر الهند الشرقية الهولندية.
ولكن تعترض هذا الاقتراح عقبات منها أن ذلك قد يكلف الأمريكيين ثمناً أغلى مما يستفيدونه من هذه الجزر، إذ عليهم أن ينفقوا ملايين الدولارات على أسطول يخوض غمار معارك بحرية تقع على هذا البعد الشاسع من مراكز البحرية الأمريكية الرئيسية في المحيط الهادي.
تلك هي الخطوات التي قطعتها كلتا الدولتين في هذا الصراع وهو كما ترى صراع قد اتصلت أسبابه بالصراع الأوربي، صراع في أجلى معانيه بين الديمقراطية والديكتاتورية.
محمد شاهين الجوهري
معهد الصحافة العالي بالجامعة الأمريكية(434/47)
أغنية الحب!
للشاعر (هايني)
للأستاذ علي محمود طه
يا رِفاقي غنت الفرحة ' في كل مكان!
إن هذا زمن ' الحب، فضِجُّوا بالأغاني!
ارفعوا الأقداح ملأى، واشربوا نَخْبَ الحِسان
فالربيع السَّمْحُ يدعوكم إلى أكرم حان!
الربيع المرِحُ الجذلان يختال فَخورا
إنه الحسن الذي يملأ بالحب الصدورا
كيف لا نقطف منه الثمر الحلو النضيرا؟
أنت يأتيها الشمس املئي الآفاق نورا!
يا رفاقي قد دعانا زمن الحب فهيا
أطلعَ الروضُ جَني الكرمةِ والزهرَ النَّديَّا
اقطفوا الأزهار منه واعصروا الكَرْمَ الجنَّيا
يا رِفاقي قد دعانا زمن الحب فهيا!. . .
علي محمود طه(434/49)
مضى أمسى. . .
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
مضَى أمسي بأحلامي ... فمنْ يخلُقُ لي أمسى
وغاضَ مَعينُ أوهامي ... فمن يَرْوي صَدى حسي
مُنىً كَمْ أفعمتْ جامي ... بهَنَّ، ذهْبن أشتاتا
ورحن بسحر أيامي ... وما عَودٌ لما فاتا
وفي قلبي مآتُمهُ ... على أمسِ الذي ماتا
وقد دَرَسَتْ معالمُهُ ... فهل ترجعُ؟ هيهاتا
ويومي راح هادِمُهُ ... يهيبُ بيَ: انظري لغدِ
غدٌ خفيتْ معالمه ... فدعني، ما غدي بيدي
غدي في حُجُبِ الغيبِ ... فلا تكشفْ ليَ الحجْبا
يثيرُ الروْعَ في قلبي ... تَوَهُّمُ أن أرى الغيبا
أخاف أخاف أن يُرْبى ... غدي جرعهَ إتْعاسي
وما أُسْقيتُه حسبي ... فنحِّ صُبابةَ الكأس
أخافُ خفَّيةَ الأقدارْ ... وما أَجْرَى ليَ القلمُ
وهذا الفلكَ الدوَّارْ ... وفيه التيهُ والعدمُ
كؤوسٌ للقضاءِ تُدارْ ... على الشَّرْب وهمْ لاهون
لئن عدموا لهنَّ خُمارْ ... فآذنْهمْ، غداً سيكون
نفضتُ يديَّ من حُلُمِ ... نعمتُ به إلى حينِ
طوتهُ مجاهلُ العَدَمِ ... وعدت أتخسر مغبونِ
وكم أفعمتُهُ بدمي ... أقَرَّبُ من دمي زُلفَى
عسى يبقى، فَوَا ندمى ... تُخُطِّفَ من يدِي خطفا
لكمْ تصبو له نفسي ... وكم أشتاقُ أطيافَهْ
تجي وتروحُ في حسّي ... وضاََء الحسنِ رفّافة
تلاشَي بعدهُ أُنسي ... وأٌزهِقَ إثْرَهُ روحي(434/50)
فما أُصبحُ أو أُمسي ... سوى أنفاس مذبوحِ
(نابلس)
فدوى طوقان(434/51)
مذبح الحب. . .
للأديب محمد عبد السلام كفافي
باتت به الناسُ أَسْرَى وهي أحرارُ ... وحَفَّهُ من دَمِ العُشَّاقِ أَنْهارُ
يخاله من يراه جنةً عَجَباً ... لكنَّه للذي يرتادُه ناَرُ!
قُيُدُه من صَميم السحر قد صُنِعَتْ ... والوجدُ سكينُه والحسنُ عقَّارُ
يا مَذْبَحَاً لم يكُنْ إلا لَدَي خلَدِي ... له بِناَءٌ عَلاَ حَاطَتْه أسْوَارُ
بُسْتاَنُه ناَضِرٌ ضاَفيِ الجمالِ به ... ماءٌ وظلٌّ وأنسامٌ وأزِهارُ
لم يَسْقِه مَطَرُ لكنَّما هَطَلَتْ ... عليه من أَدْمُع العُشَّاقِ أمْطَارُ
ولم يعَطَّرْهُ زَهرُ فوق أَغْصُنِه ... لكنَّه بعهودِ الحبَ مِعْطَارُ
وما شَدَا فيه طَيْرٌ إنما سَجَعَتْ ... عليه من أَنْفُسِ العُشَّاقِ أطياَرُ
أَضَحتْ وقد أُطلِقَتْ من سجنها ولها ... في الحبِّ وصلٌ وفي الجنَّاتِ أوْكاَرُ
من عهدِ آدمَ قد شِّيدتَ وانفتلتْ ... تُعْلِيِ بناََءك أَجْياَلٌ وأدهارُ
فكنْتَ بيتاً صغيراً ثم صِرْتَ وقد ... شِيدَتْ على صَفْحَةِ الدُّنْيا لك الدارُ
كم من قتيلٍ بلا ذنبٍ أرقتَ له ... دماً وكم ذلَّ في ناديك جَبَّارُ
وكم ببابك تنصبُّ الدموعُ وكمْ ... تُهدَى إليك أغاريدٌ وأشعارُ
وكم تُقَامُ صلاةُ فيك خاشعةٌ ... تُتْلَى بها من كتابِ الحبِّ أسطارُ
أسديتَ للفنَّ آلاءً مخلّدَةً ... تَرْوِى عُلاَهاَ على الأيام آثار
كم قد أَذَعْتَ حديثاً في الورى عجباً ... شدا به الشعر أو غَنَّتْهُ أوتارُ
وكم تماثيلَ تجلوها وكم صُوَرٍ ... تَلَقَّت الوحيَ فيها عنك أفكارُ
يا مذبحاً يتراَءى للعيون وما ... يَبِينُ منه لِعَقْلِ الناس أسرارُ
حدِّثْ عن الزمن الخالي فكم طُوِيَتْ ... به من الوَجدِ في ناديك أَعْمَارُ
ولي ذَوُوها ولكن لا تزال لهم ... ذكرى على الدهر لا تَفنَى وَإكْباَرُ
صدقُ الوفاء وإن أوْدى بصاحبه ... حديثُهُ خالد في الكون سَّيارُ
محمد عبد السلام كفافي(434/52)
البريد الأدبي
وفاة الآنسة (مي)
في يوم الأحد التاسع عشر من هذا الشهر استوفت الكاتبة الكبيرة (مي) أنفاسها في مستشفى (المعادي) وكانت قد نقلت إليه على أثر إغماء غشيها ثلاثة أيام وهي في بيتها لا يعلم بها أحد، حتى فطن إلى ذلك بواب المنزل فأبلغ أمرها إلى الشرطة. والسنوات الأخيرة من حياة (مي) كانت مأساة يرتاع لها الضمير ويلتاع القلب. وقد أشارت الرسالة إلى بعض فصولها في أعدادها السابقة.
والآنسة (مي) تنتمي إلى أسرة زيادة من قضاء كسروان في لبنان، وقد ولدت هي بالناصرة حيث كان يعمل والدها المرحوم إلياس زيادة، وتلقت علومها الابتدائية بمدرسة عين طورة، ثم جاء بها والدها إلى مصر فاستكملت ثقافتها وتميزت بالذهن البارع والذوق السليم، والمشاركة في سائر العلوم، وحذقها للغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والأسبانية. ثم أخذت تنشر فيض قريحتها الخصبة في المحروسة ومجلة الزهور والمقتطف والهلال والأهرام والسياسة والرسالة؛ وغذت المكتبة العربية بطائفة من الكتب الممتعة موضوعة ومنقولة. ومنذ بضع سنوات توفى والدها ثم والدتها فظلت بعدهما حزينة وحيدة، ثم مالت إلى العزلة وانقطعت عن الكتابة والتأليف. ثم أصابها مرض نفسي ساعد على ضعف أعصابها وانحلال قواها، فنقلوها إلى لبنان تستشفي فيه، حتى إذا أحست روح العافية رجعت إلى مصر فألقت محاضرة في الجامعة الأمريكية أعادت إلى الذاكرة وقفاتها على المنابر. ثم عادت صحتها فساءت في الأيام الأخيرة حتى توفاها الله. وفي عدد قادم ستقول الرسالة في الفقيدة الكريمة كلمة الإنصاف.
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
كنت أحب أن أعفى نفسي من دراسة الكتب التي قررتها وزارة المعارف في مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية، بعد الذي عانيت من المتاعب في دراسة الكتب التي قررتها الوزارة في السنة الماضية، وإنما يتعبني هذا النوع من الدراسة لأنه يوجب النزاهة المطلقة في إصدار الأحكام الأدبية، وليس هذا بالشيء الهين، فأكثر أصحاب هذه الكتب أحياء، وقد تكون بيني وبين فريق منهم تراث وأحقاد، وتخليص النفس من الهوى مطلبٌ شاق، ولن(434/53)
أستطيع القول بأني مبرأ من الأهواء.
ولكن الرغبة الكريمة التي أبداها بعض كبار المربين من أمثال الأستاذ أحمد نجيب هاشم ناظر مدرسة فاروق الأول الثانوية، والأستاذ سامي عاشور ناظر مدرسة شبرا الثانوية، والأستاذ حبيب إسكندر مدير مدارس التوفيق القبطية، هذه الرغبة الكريمة قوّت عزيمتي وأعانتني على صد هوى النفس في معاملة بعض خصومي من رجال الأدب الحديث، فأنا ماض بعون الله في درس الكتب المقررة لمسابقة هذه السنة بالنزاهة التي التزمتها في السنة الماضية، لأن مقامي في نقد هذه الكتب مقام المدرس، والمدرس لا يجوز له أن يواجه تلاميذه بغير الصدق، وإن كان في الصدق ما يجرح هواه.
وقد أرسلت الوزارة منشوراً بالكتب المقررة إلى جميع المدارس الأميرية والأهلية والأجنبية، فلا موجب للنص عليها في هذه الكلمة الوجيزة. وهل يفوت المدرسين الأوائل أن يبلغوها إلى جميع الصفوف؟ إنما يهمني أن أنص على أن كتاب (المنتخبات) لأستاذنا أحمد لطفي السيد باشا مقرر تحريرياً على جميع المتسابقين، وليس عندي ما أقوله في هذا الكتاب بعد الذي قلته في العدد 388 من مجلة (الرسالة)، ويستطيع الطلبة أن يجدوه في مكتبات المدارس الأميرية والمكتبات العمومية.
فإلى العدد المقبل، وسأبدأ بتشريح كتاب (الأخلاق عند الغزالي) فلي بمؤلفه صلة شخصية، وإن كنت أخشى أن يفسد النقد ما بيني وبين المؤلف، وهل جاملتُ صديقاً حتى أجامل هذا الصديق.
زكي مبارك
1 - شكر ووعد
قرأتُ ما تفضّل بكتابته الأستاذ محمد عبد الغني حسن، في العدد 426 من الرسالة الغراء، فشكرتُ لحضرته وافر أدبه وحسن ظنه بي. وأود أن أذكر الآن، أنني بعثت اليوم إلى هذه المجلة بمقال يحتوي على ما أمكنني الوقوف عليه من ترجمة جميل تخلة المدور. فعساي قمت ببعض الواجب نحو رجلٍ خدم الآداب العربية خدمة جليلة.
أما طلبه الكتابة في (قصور سامرا)، فذاك بحثٌ وفّيناه حقه من العناية في بعض الملحقات(434/54)
التي أضفناها إلى كتاب (الديارات) للشابشتي، ذاك الكتاب الذي نرجو من الله أن يوفقنا لنشره بالطبع في وقت نرجو أن يكون قريباً.
2 - كتاب الشعور بالعور
بينما كنت أقلب فهرس المخطوطات العربية المصونة في خزانة كتب برلين، وقع نظري على ذكر نسخة من كتاب (الشعور بالعور) لعلامة عصره صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 764 للهجرة. وهذه النسخة برقم 9867 من قائمة أهلوردت فتذكرت حينئذ أنني قرأت نبذاً منشورة في مجلة الرسالة. ولما رجعت إليها ألفيتها خمساً، كتبها ثلاثة أفاضل في شأن هذا الكتاب ونسخه المعروفة. ويؤخذ من الفهرس المشار إليه أن نسخة برلين تقوم في (112) صفحة متوسطة، في كل منها 27 سطراً، وأنها كتبت قبل نحو من مائتي سنة وبذلك، تكون النسخ المعروفة لهذا الكتاب ثلاثاً، وهي:
1 - نسخة المغفور له أحمد زكي باشا، المصورة عن مخطوط في بعض خزائن استانبول.
2 - نسخة الخزانة الخالدية في بيت المقدس، وتاريخها سنة 841 هـ.
3 - نسخة برلين، وهي التي ألمعنا إليها في هذه الكلمة
(بغداد)
كوركيس عواد
تأبين الأستاذ يوسف أسعد
أقام شعراء المنصورة وأدباؤها في الأسبوع الماضي حفلة تأبين بنادي الأرز للأستاذ يوسف أسعد الشاعر الذي توفى في الشهر الماضي. وقد كانت هذه الحفلة صورة لوفاء الشعراء والأدباء في الدقهلية نحو شاعر هتف بأعذب الشعر في جميع المناسبات القومية والاجتماعية والخيرية، وكان له أقوى الأثر في تشجيع النهضة الأدبية بالدقهلية.
وقد ولد المرحوم يوسف أسعد في لبنان، وأتم علومه بمدارسها، واشتغل في أول أمره مدرساً لعلوم البلاغة في المدرسة الوطنية اللبنانية؛ ثم اشترك في تحرير مجلة الحقيقة التي كان يصدرها المرحوم نعيم بك صوايا بلبنان؛ ثم هاجر إلى مصر، واختار المنصورة داراً، واشتغل بالتجارة والزراعة، فنجح فيهما؛ إلا أن ذلك لم يصرفه عن قرض الشعر ومعالجة(434/55)
الأدب، وقد كان أميل إلى الحكم والمواعظ، وله في هذا المعنى كتاب قيم اسمه (رأس الحكمة مخافة الله). رحمه الله رحمة واسعة، وألهم أهله الصبر عليه، وعوض أمته الخير من فقده.
(المنصورة)
علي عبد الله
الأسود بن قنان
ورد هذا الاسم في كتاب مسهب بليغ بين النثر والشعر، للأمير أبي عبد الله بن الأحمر الغرناطي، بعث به إلى سلطان فاس متوسلاً مستغيثاً متوجعاً من بني الأسبان ومناكرهم! وهو من إنشاء الشاعر الناثر أبي عبد الله محمد ابن عبد الله العربي العقيلي، وقد سماه (الروض العاطر الأنفاض، في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس)
وفي ثنايا الكتاب يقول مادحاً السلطان المذكور: (. . . أعز جاراً من أبي دُوَاد، وأحمي أنفاً من الحارث بن عُباد. . . إن أغاث ملهوفاً فما الأسود بن قنان يذكر، الخ)
فمن هو الأسود بن قنان؟
يقول الأساتذة الإجلاء (السقا والإيباري وشلبي) الذين قاموا بضبط وتحقيق كتاب (أزهار الرياض في أخبار عياض) تعليقاً على هذا الاسم في الهامش: لم نجد شيئا عن الأسود ابن قنان هذا في المظان التي رجعنا إليها.
وللإخوان الكرام كل العذر، فالأسود بن قنان لم يسعده الحظ بالشهرة مع ما أوتيه من فتوة وأربحية وبأس ونجدة.
وقد عناني أن أعرف هذا الرجل الهمام الذي وصفه العقيلي بأكرم خلة يتصف بها إنسان: وهي إغاثة الملهوف! وخيل إلىّ أنني مررت بهذا الاسم فيما قرأت وإن غاب عني المصدر، حتى كنت ذات ليلة أتصفح (ديوان المعاني لأبي هلال العسكري) فبعثرت به مصادفة في فصل المديح من كتاب المبالغة.
قال أبو هلال رواية عن أبي الحسن البرمكي عن محمد ابن ناجية الرصغاني، قال: كنت أحد من وقعت عليهم التهمة أيام الواقعة بمال مصر، فطلبني السلطان طلباً شديداً، حتى(434/56)
ضاقت علىّ الأرض برجها! فخرجت إلى البلاد مرتاداً رجلاً عزيزاً منيع الدار أعوذ به وأنزل عليه، حتى انتهيت إلى بني شيبان بن ثعلبة، فدفعت إلى بيت مشرف بظهر رابية منيعة، وإلى جانبه فرس مربوط ورمح مركوز يلمع سنانه، فنزلت عن فرسي وتقدمت فسلمت على أهل الخباء، فرد على نساء من وراء السجف، يرمقنني من خلل الستور بعيون كعيون أخشاف الظباء! فقالت إحداهن:
اطمئن يا حضري، فقلت: وكيف يطمئن المطلوب أو يأمن المرعوب! وقلما ينجو من السلطان طالبه، والخوف غالبه دون أن يأوي إلى جبل يعصمه، أو معقل يمنعه. فقالت: يا حضري، لقد ترجم لسانك عن قلب صغير وذنب كبير، قد نزلت بفناء بيت لا يضام فيه أحد، ولا يجوع فيه كبد، ما دام لهذا الحي سَبد أو لبَد. هذا بيت الأسود بن قنان، أخواله كلب، وأعمامه شيبان، صعلوك الحي في ماله، وسيدهم في فعاله، لا ينازع ولا يدافع، له الجوار وموقد النار وطلب الثار، وبهذا وصفته أمامة بنت الجلاح الكلبية حيث تقول:
إذا شئت أن تلقي فتى لو وزنته ... بكل مَعَدِّيٍَّ وكل يماني
وفي بهمُ حلماً وجوداً وسؤدداً ... وبأسا فهذا الأسود بن قنان
فتى كالفتاة البكر يصفر وجهه ... كأن تلالي وجههِ القمرَان
أغرّ أبرْ ابنيْ نزارٍ ويعرُب ... وأوثقهم عقداً بكل لسان
وأوفاهمُ عهداً وأطولهم يداً ... وأعلاهمُ فعلاً بكل مكان
وأضربهم بالسيف من دون جاره ... وأطعنهم من دونه بسنان
كأن العطايا والمنايا بكفه ... سحابان مقرونان مؤتلفان
فقلت: الآن ذهبت عني الوحشة، وسكنت الروعة، فأنَّى لي به؟! قالت: يا جارية، اخرجي فنادي مولاك، فخرجت الجارية فما لبثت إلا هنيهة حتى جاءت وهو معها في جمع من بني عمه، فرأيت غلاماً حسناً قد أخضر شاربه، واختط عارضه، وخشن جانبه. فقال: أي المنعمين علينا أنت؟ فبادرت المرأة فقالت: يا أبا مرهف، هذا رجل نبتْ به أوطانه، وأزعجه سلطانه، وأوحشه زمانه، وقد أحب جوارك، ورغب في ذمتك، وقد ضمِنا له ما يضمنه لمثله مثلك! فقال: بلَّ الله فاك! قال: فأخذ بيدي وجلس وجلست؛ ثم قال: يا بني أبي وذوي رحمي، أشهدكم أن هذا الرجل في ذمتي وجواري، فمن أراده فقد أرادني، ومن كاده(434/57)
فقد كادني، وما يلزمني من أمره في حال إلا ويلزمكم مثله: فليسمع الرجل منكم ما يسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه نفسه. قال: فما رأيت جواباً قط أحسن من جوابهم؛ إذ قالوا بأجمعهم ما هي أول منة منَنتَ بها علينا، ولا أول يد بيضاء طَوَّقتناها، ومازال أبوك قلبك في بناء الشرف لنا ودفع الذم عنا، فهذه أنفسنا وأموالنا بين يديك!
ثم ضرب لي قبة إلى جانب بيته، فلم أزل عزيزاً منيعاً حتى صنع لي السلطان ما أملت فانصرفت إلى أهلي.
إذاً فالأسود بن قنان من شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب ابن علي بن بكر بن وائل من ربيعه.
علي الجندي(434/58)
العدد 435 - بتاريخ: 03 - 11 - 1941(/)
مي
للأستاذ عباس محمود العقاد
كنت يوماً بمكتب صحيفة (المحروسة) فلقيت وأنا خارج منه صاحبها الأستاذ الياس زيادة والد الآنسة (مي) رحمها الله وكان من عادته إذ لقيني أن يخاطبني باسم الأديب حسين فتوح، وإذا لقي الأستاذ فتوحا خاطبه باسمي ومشى معه أو معي مسافة يصحح فيها الاسم ويتلطف بالاعتذار ويتناول بعض الأحاديث العامة. . .
وجرى الحديث إلى مؤلفات الآنسة فقلت: إنها جديرة بان تفخر بها. إنها أعظم كاتبة في العربية
قال: ولك أن تقول: أعظم كاتب
يريد أن المفاضلة والتفضيل قد يجريان بينها وبين الكاتب ولا يقتصر على الكاتبات. فقلت مزكياً شهادته: ليس زهو الأب وحده بالذي يملي عليك هذه الشهادة. إن كثيرين غيرك ليسبقونك إليها
وكان الرجل على حق في فخره وتقديره. فمثل الآنسة (مي) من يفخر بها الآباء وغير الآباء من أبناء العربية، ومنزلتها في الثقافة وخدمة الرأي منزلة فضلى بين الكتاب والكواتب، وإن كنت قد أردت أنها أعظم كاتبات العربية جميعاً منذ عرفت لغتنا الكاتبات، ولم أرد أنها أعظم الكاتبات في عصرنا هذا دون غيره.
وما تتحدث به ممتع كالذي تكتبه بعد روية وتحضير، فقد وهبت ملكة الحديث في طلاوة ورشاقة وجلاء، ووهبت ما هو أدل على القدرة من ملكة الحديث - ونعني به ملكة التوجيه وإدارة الأحاديث بين الجلساء المختلفين في الرأي والمزاج والمقام - فيكون في مجلسها عشرة: منهم الوزير والموظف الصغير، ومنهم المحافظ والمغالي بالتجديد، ومنهم المرح الثرثار والوقور المتزمت؛ فإذا دار الحديث بنهم أخذ كل منهم حصته على سنة المساواة والكرامة، وانفسح مجال القول لرأيه وللرأي الذي ينقضه ويشتد في نقضه، وأنتظم كل ذلك في رفق ومودة ولباقة، ولم يشعر أحد بتوجيهها وهي تنقل الأحاديث من متكلم إلى متكلم، ومن موضوع إلى موضوع، كأنها تتوجه بغير موجه وتنتقل بغير ناقل، وتلك غاية البراعة في هذا المقام.(435/1)
بقيت لها هذه الملكة في أشد أيام السقم والسآمة، فلم يكن سامعها يحس فرقاً بين (مي) في إبان عافيتها و (مي) في ساعات الضنى والإعياء حين يستطرد الكلام إلى الأدب أو إلى التاريخ أإلى معارض الآراء. ولم أسمع منها قط في معرض من هذه المعارض إلا ما هو خليق بالإصغاء والتدوين.
وكانت لها فطنة للضحك تحي المساجلة وتزين الحوار، ولكن فطنها للمواقف المضحكة كانت أدق من فطنتها للنكتة واشتراكها فيها، وكانت كبيرة الإعجاب بفكاهة المصريين التي تسميها (النغاشة) أو القافية التي لا تعذر ولا ترحم!
بحث بعض أساطين الشرقيين بعد الثورة الوطنية في توحيد الزي الملائم للبلاد الحارة، وكان أحمد شفيق باشا صاحب الحوليات والمذكرات المشهورة رئيساً لجماعة الرابطة الشرقية وحريصاً على إشاعة الزي الموحد بين الأمم العربية وأمم الشرق الأدنى عامة، ولفرط حرصه على هذا لم ينتظر إقناع الناس ولبس الزي الذي ارتضاه ثم مشى به في طرقات العاصمة إلى محطتها مؤثراً المشي على الركوب ليراه السابلة في تلك الطرقات الحافلة.
وكان يوم ثلاثاء ونحن في مجلس الآنسة مي والزوار كثيرون وأقبل بعض الفضلاء يبتسم كمن يغالب ضحكة جامحة. فسألته: مم الضحك؟ فقال: كنت اللحظة أعبر بار اللواء فناداني أمين واصف بك وسألني: أرأيت شفيق باشا في زيه الجديد؟ والله لقد حسبته مسجوناً مسوقاً إلى محطة العاصمة لتسفيره إلى الليمان!!
هي تعرف شفيق باشا وتعرف أمين بك، وتعرف أن الأول رئيس الثاني في جماعة الرابطة الشرقية، ومع هذا لم يرحمه حين جاء في طريق القافية!
فلا أنسى كيف غلبت ضحكا لهذه المفارقة (المصرية) وهذا التشبيه العابث، واندفعنا جميعاً نضحك وهي تضحك حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وحتى قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بحيائه المعروف: ما بالنا أيها الأخوان نضحك هذا الضحك وننسى وقار المجلس؟
فهتف به الأستاذ خليل مطران مداعباً: اضحك اضحك يا أخي! من الذي يجد الضحك ويفرط فيه؟
وكانت سهرة ضاحكة من سلامها إلى وداعها، وكانت (مي) في تلك الليلة كأحسن ما كانت(435/2)
بشاشة وأنساً وغبطة وإقبالاً على الحديث والمسامرة. . . رحمها الله. ما رأيتها بعد ذلك في صورة آنس من تلك الصورة، وتلك البشاشة كلها، وذلك الذكاء كله الآن في التراب، بعد سنوات مسحت فيها النضرة، ورانت الغمة، ونضب معين الأمل والغبطة، وطال الألم والعذاب!
ألا ما أسخف الحياة!
لقد كان مصابها بأمها بعد أبيها في أشهر قلائل صدمة محطمة زلزلت كل ما بقى في جنانها من يقين وسلوى.
لكنها كانت قبل ذلك قاسية على نفسها كثيرة الانطواء على دخيلتها. وكان يخيل إلى أن احترمها المفرط خصلة عميقة في سريرتها لازمتها من ريعان شبابها، لأنها كانت قليلة الأمن والطمأنينة إلى الناس، وكانت على دماثتها لا تدع الحواجز بينهم وبينها، ولا تفتأ وراء سور من الحيطة والكتمان
وكنت أشفق من فرط احترامها وكلفتها؛ فقلت لها يوماً مجترئاً على مصارحتها: أنا على رأيك يا صديقتي في أن الناس لا يؤمنون، ولكني لست على رأيك في نفع الحذر وجدوى الاحتراس. بل عندي أن عناء الاحتراس أضر من كل عناء يصيبنا به ترك الحذر وقلة المبالاة. فلا تبالي ولا تحترسي وانطلقي في حياتك فذلك أخف الضررين
قالت: كأنك تعيد علي ما قاله الأستاذ داود بركات
قلت: وماذا قال!
فقصت علي حديثاً جرى بينهما في السفينة وهما عائدان من أوربا، وكانت في السفينة سهرة راقصة والليل رائق والبحر ساج والطرب غالب على المسافرين. ورآها الأستاذ داود منزوية في ركن من الأركان كأنها تأبى أن تشاركهم أو تشارك الطبيعة في فرصة الصفاء. فناداها كالزاجر المندد: ما بالك تعكفين على نفسك عكوف العجائز؟ تعالي أرقصي وأطربي مع هؤلاء الفتيات والفتيان فمنهم من هو أكبر منك وكلهم يسبقونك في مجال السرور
قلت: وبماذا أجبته؟
قالت: تضايقت منه!(435/3)
ثم أومأت إلي منذرة باسمة وقالت وهي تقتضب الحديث: فإن أردت أن أتضايق منك فعد إلى نصيحتك ونصيحته. . . وإياك أن تعو!
وكنا نتبادل الرأي كثيراً ونختلف كثيراً ولا نستغرب هذا الخلاف ولا نكف عن تبادل الآراء؛ لأن الخلاف بين كل أنثى وفيه لطبعها وكل رجل وفي لطبعه أمر من البداهة بمكان. فهي تنظر بعين حواء إلى حقائق الدنيا وهو ينظر بعين آدم، وكلاهما مخلص في خلافه ومستفيد
على أنها كانت ترى في اللغة العربية واللهجة العامية مثل ما أراه، وكانت على تربيتها الأوربية وأحاطتها بخمس لغات أجنبية تغار على عربيتها غيرة البداوة، فلا تجاري الذين يميلون إلى مجافاة الفصحى وتبديل التهجئة والكتابة وتذهب في هذا مذهباً قريباً من مذهب المحافظين المتشددين
وأسمها (مي) اختصار لأسم (ماري) باختيار أول حروفه الميم وآخرها الياء، ولكنها أحبت الاسم لعربيته لا لاختصاره، فان اسم ماري نفسه ليس بالاسم الطويل ولا الكثير الحروف
تذاكر الأدباء في مجلسها يوماً مناقب رجل من أعظم رجالات المصريين فشاركتهم إعجابهم به وثناءهم عليه، واستأذنت بعد ذلك أن تلومه أمامهم في أمر صغير
قالت: كنت في الجامعة المصرية فقدمني إليه الأستاذ لطفي السيد وتفضل فأطرى كتاباتي العربية والإفرنجية بما شاء له فضله وتشجيعه
ثم قالت: فلا أدري لماذا نسى الزعيم العظيم أنني عربية وأنني كاتبة عربية وأختار أن يخاطبني بالفرنسية ويصر على مخاطبتي بها مع إجابتي له بالعربية على كل سؤال
وبدا عليها حقاً أنها غضبت لعربيتها من أن يخاطبها مصري عظيم بغير لغته ولغتها، وهي هي التي تتقن خمس لغات وتكتب بكل لغة كتابة يرضاها القراء من أبنائها. ولقد تكون الواحدة من بناتنا وما تحسن لغة واحدة كلاماً فضلاً عن الكتابة، ثم لا تزال ترطن بها في البيت والطريق مع أبناء جنسها كأنها لا تفهم لغة غيرها.
وواجب لي في عنق العربية أن تغار على أدبها كغيرة مي على نسبتها إليها. فما عرفت العربية كاتبة أفضل من مي واقدر وأجلى، وليس فضل الندرة هنا بأقل من فضل الإحسان والإتقان.(435/4)
حياها الله في ذكراها
عباس محمود العقاد
-(435/5)
11 - أومن بالإنسان
للأستاذ عبد المنعم خلاف
آلهة وحيوانات - عمل الطبيعة في تكوين الإنسان الواحد - أزهرت الأشجار وأدركت الثمار - مدينة خالدة ذات سلطان عجيب وشامل - جئنا لنحيا لا لنموت - الحياة بالفكر في المجاهل والمعامل - عبقرية المادة وعبقرية الروح - الذكاء البطر الجموح - إلى أحضان الأمم الكبرى.
إذا جردنا الإنسان مما أسبغته عليه الحياة المدنية من أفانينها وأنواعها وأشكالها ظهر لنا أن البون بعيداً جداً بين الإنسان الذي أخرجته الطبيعة، وهذا الإنسان الذي غيرته الصناعة وتعقيد الفكر. وظهر لنا بأن حياته الصناعية عالم مستقل منفصل خلقه هو. ولكنه عالم غير خالد ولا متوالد إلا باطراد تقدم الإنسان. بخلاف مخلوقات الله في الطبيعة فإنها أبدية دائمة تعمر بها الطبيعة.
وكلما فكرت في الفرق العظيم بين حياة رجل على الفطرة وبين حياة رجل ألماني أو إنكليزي أو أمريكي وعقدت موازنة بينهما المأكل والملبس والملهى والمركب والمعمل والإنتاج والفكر والإحاطة بآفاق الدنيا والتسلط على الطبيعة ظهر لي أن الأول يكاد يكون في صفوف نوع آخر غير الإنسان، وأن الثاني ينقصه الروح والعدل ليكون الإنسان المنشود البار بوصايا الله؛ لأنه هو الذي أحسن الأخذ عنه وخلفه في الماديات خلافة واسعة ونمت على يده الحياة وتنوعت وتشققت مجاريها وتوسعت. . .
ولا يجوز عقلاً أو شرعاً أن يعطى الأول الحياة وعزتها، وأن يتسلط على الثاني ما دام كل منهما على حالته. كما لا يجوز لحيوان أن يسخر إنسانا
وكلما استعرضت معارف الإنسان المدني المدونة في كتبه وصحفه وألواحه وأرضه وآثاره أدركت مبلغ ما حمله من أمانات الحياة. وأسرار الدنيا ذات الصمت والعمل.
ولا شك أن الإنسان العادي الذي يقرأ صحيفة يومية يحمل ذهنه من قضايا العالم وأخباره في الصباح والمساء ما لم يكن في حسبان أحد من السابقين ووجدانه. . .
ولا شك كذلك أن هذا كله قد ترك أثره الواسع الشامل في تكوين الذهن الإنساني الحالي وتكييف أعصابه وإحساسه بالحياة، غير ما كان عليه الناس في زمن المواصلات والثقافات(435/6)
المحدودة.
إن الأقدار تصنع عقل الإنسان الحديث وقلبه صناعة تشترك فيها كل معارف الحياة العصرية.
ومن الأعمال العظيمة التي تقوم بها الطبيعة الآن عملها في تكوين الإنسان الواحد الخاضع لمؤثرات الواحدة. ونحن الذين يقع علينا تأثير أعمالها العظيمة ونعيش في غيبوبة عن خطواتها بنا لا يدرك منا هذا التأثير إلا الراصدون المسجلون الذين تجعلهم الأقدار مخصصين لرصد خطوات الحياة وتسجيل ظواهرها. وهؤلاء يكادون يكونون نادين عن حبال الشبكة التي تلف غيرهم من أبناء الحياة.
لقد تركزت المعلومات فصارت القارات كالقرى. . . وملايين الجنود كأصابع اليد. . . والدبابات كالنعال. . . والطائرات كالعصافير. . . وأخبار العالم كله كأخبار الحي الواحد. . .!
وهكذا تتركز الحياة وتتلخص في فكر الإنسان وتختزل صورها العظيمة في أرقام وحروف. . .
هذا العصر جدير أن يسمى (عصر الفوران والغليان) - على سبيل التشبيه بسطح ماء في وعاء على نار - فقد لبث سطح الحياة ساكناً في عصورها السالفة لا يتحرك إلا حركات موضعية. كما يلبث سطح الماء أول ما يوقد عليه في النار. حتى إذا ما وصلت حرارته إلى درجة الغليان هدر وفار وأشتد وقذف وتبخر وتحول. . .
إن عوامل الحرارة كانت تحته من قديم، ولكنها لم تصل معه إلى درجة الإنضاج والحركة السريعة والتحويل إلا أخيراً. وكذلك عصر الإنسانية الحالي هو عصر ظهور كوامن أسرارها وأسرار الطبيعة ظهوراً شديداً متلاحقاً.
وقد انكشفت حيوات جميع الناس للناس؛ فعلموا أنواعهم ولغاتهم وأديانهم ومذاهبهم في الحياة.
وقد كانوا ضائعين مغمورين تائهين كأسرة مفرقة فرقها حادث. . . ثم جمعتهم الظروف مرة ثانية. . .
أني أتخيل صورة الدنيا في عقول ساكنيها الأولين، وصورتها الآن في عقول بنيها(435/7)
المثقفين، فيصيبنا دهش مشوب بفرح وبهجة وشكر لله على تسديده الإنسان إلى غاية ابتدأت تنكشف وجوهها.
وكان الأنبياء والحكماء القدماء وحدهم هم المدركين وجهات الحياة. وكانوا في الناس وما يكون البصير بين عميان، والأب الكبير بين صبيان، والراعي بين قطعان. وكان قليل من الناس هم الذين يدركون ما يشيرون إليه. ولكن الآن صار العلم والدين والإدراك الصحيح شيئاً مشاعاً كالهواء والماء، تقاربت فيه المعتقدات والآراء.
أجل، هذا زمن حصاد جهود الإنسانية؛ فقد أزهرت الأزهار وأدركت الثمار، وظهر الحقل مستوى السوق مستغلظ الأعوام، قد أينعت فيه عُلب الأسرار وحان قطافها!!
انظر في بقاع الأرض جميعها تجد إنسانية تفتح عيونها وتستيقظ من غفلاتها لتدرك الحياة الحديثة وتشترك فيها وتتلاقى مع غيرها في خدمتها. وقد زال الانبهام والغموض اللذان كانت تحسمها عقول الإنسانية والمتوسطة في ظواهر الحياة. وصار الإنسان معتمداً على نفسه وحسابها الدقيق وأخذها بأساليب الطبيعة في الإنتاج والاختراع، وترك الاعتماد على الأماني، فضاقت دائرة الاعتماد على الأقدار. . .
ولنتلفت إلى الماضي كثيراً لندرك مدى ما كسبناه وحصلناه من محصولات الحياة كإنسانية واحدة وضع كل شعب وكل حضارة لبنة في بنائها، حتى خرجت هذه الحضارة العالمية المشتركة التي أقحمت كل قطر وكل مدينة في الأرض، وصارت كقدر الله الذي لا مرد له ولا مفر منه.
إنها حضارة باقية خالدة لن تبيد ولن تفنى ولن ترتد! إذ أن بذورها ألقيت في كل مكان ونبتت فيه. فلئن ذهبت أوربا إلى الخراب والدمار لسوف تبقى أمريكا. . . ولئن ذهبتا معاً لسوف يحمل المشعل أمم الشرق وتلك الأمم المنثورة في أرض الله وجزر المحيطات وغيرهم ممن اقتنعوا بأن هذه المدنية هي نبوة الطبيعة ذات المعجزات الدائمة التي لا مفر من الإيمان بها والعمل لها وأن هذا العصر هو أوان حصاد الغلال وجني القطاف التي زرعها وتعهدها الأقدمون، وزادت كل أمة في ميراثها حتى صار فيها من كل قطر وردٌ ومن كل أمة مدد ورفدٌ.
إن هذه مدنية فرضت نفسها فرضاً على الناس جميعاً. فرضت آلامها وشرورها كما(435/8)
فرضت إسعادها وخيراتها وعلومها، وصار الناس لا يستطيعون منها فراراً بعد ما دخلت عليهم أقطارهم قسراً واقتداراً.
هي قدر لازم لا فكاك منه كأنها الرياح والأمطار والأشعة ومما يؤكد أنها خالدة مؤبدة انتشارها في كل مكان وليست كالمدنيات السالفة الموضعية ذات العصبية القومية. لأنها قامت على العلم الذي لا تتناقض حقائقه بتعدد الأماكن والأجناس، بل تتلاءم وتتوافق بتوافق قوانين الطبيعة الواحدة
وكانت المدنيات السابقة تجارب وجذوراً متشعبة لجذع عظيم هو هذه المدنية الحالية
ولم يحدث في الماضي أن صبغت مدنية الناس جميعاً كما فعلت هذه المدنية، فخضع لها الموحد والوثني والملحد والمؤمن والزنجي والإسكيمي والشرقي والغربي
ولم يحدث أن وجدت ميادين كثيرة مشتركة بين الناس جميعاً كما وجدت ميادين النشاط العلمي والآلي والصناعي والسياسي والأدبي في رحاب هذه المدنية.
ولم يحدث أن اشتبكت مصالح الناس جميعاً كما اشتبكت الآن بفعل السرعة وسهولة الانتقال وتبادل المنافع وتشعب الاحتياجات.
ولم يحدث أن درست ثقافة واحدة في مدارس الأمم جميعاً كما درست هذه الثقافة العصرية.
فأي مكان نجا من سلطان مدنية الزمان؟
أي طريق لم تجس خلاله سيارة؟ وأي جو لم تخفق فيه الطيارة؟ وأي بلد لم يستصبح بنور الكهرباء؟
إن هذه المدنية تحيط بالإنسان في كل أفق من آفاق حياته. وإني استعرض الآن كل ما يحيط بي وأنا أكتب فأجد جميع ما تقع عليه عيني قد اشتركت فيه آلاف العمليات الإنسانية المعقدة. وقد صار إحساسي بها كإحساسي بضرورات حياتي. وأكاد لا أرى شيئاً خالصاً من يد الطبيعة وحدها إلا جسمي. . . وحتى هو لم يسلم من هندسة الحلاق و (رتوشه)!
ويمكنك أن تجرد الأرض مم فعله الإنسان فيها وما عقده وركبه، لتدرك مدى الحياة الأرضية من غيره ومدى العالم الذي أحدثه هو. . . وإذا ألقيت نظرة على شارع في نيويورك أو لندن أو القاهرة فإنه يروعك أن ترى ما في مخازنه ومناظره وآثار الأيدي التي عملت فيه، حتى لا تستطيع بعض الأذهان أن تتخيل الدنيا خالية منه من طول الألفة(435/9)
وطول الغفلة عن التفكير في مبادئ الحياة. . .
طوفوا في شوارعكم أيها الناس بقلب ذاكر للطبيعة مدرك لمباديها لتعرفوا مقدار ما بينكم وبينها ومقدار قوتكم الابتداعية فتتلفتوا لأنفسكم متعجبين محترمين محافظين عليها وعلى قواها الفكرية والإنتاجية من الضياع والذهول والغفلات!
إن أفراح الحياة تغمر قلبي حين أطوف بجسمي في الشوارع العظيمة، أو حين تطوف بي الحياة في دور السينما، فأرى عجائب ما استحدثه الإنسان في عوالم المواد والمعاني. . .
ولست أزهد في رؤية الحياة المادية وتقصي دقائقها، لأن كل دقيقة منها ترسل في قلبي دقيقة من التعجب والإيمان. . .
ما جئنا للحياة لنموت ونستحضر فلسفة الموت من أول يوم، والقبر ليس نهاية بل بداية مرحلة تالية. . . فعلى الذين يجعلون القبور نصب أعينهم فيهونوا من أجلها كل عظيم ولو كان الصحة أو العلم أو التفاؤل، أن يعلموا أنهم جاءوا ليحيوا ويحسوا الحياة عميقة فيما خلق الله من شيء، وينتفعوا به انتفاع الحلال والعقل والحفظ. . .
ومن الكفر أن نترك الأجسام فريسة للجراثيم الفاتكة والآفات وعوامل الشؤم انتظاراً للموت الأكبر. . . فيدب فيها منذ ولادتنا
كذلك يجب أن يكون إيمان الرجل المتمدن. . . إيمان البصير الواثق بأن عمل النفس البشرية في المادة باب إلى الإيمان لا الكفر كما يتوهم الأغبياء البلداء الأغرار!
إني لا أعيش في نفسي وحدها، ولكني أعيش في نفوس بني الدنيا جميعاً، لأرى الحياة بعيونهم من آفاقهم، حتى أخرج ومعي الكثير من أسرار الحياة في القلوب والعقول. . .
وأنصح لأصحاب الإيمان التقليدي أن يستحدثوا في قلوبهم ونظراتهم ما أستحدث، ليعرفوا أي لذة وأي إيمان مضاعف يغمر قلوبهم. . .
وأنصح لأصحاب النظرة المادية والذهول عن المعاني، أن يستحضروا أرواحهم وراء كل نظرة وكل عمل وكل علم. . . فإن هذا هو الوضع الحقيقي لحياة الفكر والاستعمال الحق للروح وقوى الجسم. . .
ولنعش بأفكارنا وأرواحنا دائماً، سواء أكنا في غابات خط الاستواء، حيث الطبيعة بكر غير مفضوضة لم يطمثها إنس ولا جان. . . أم في مصانع (فورد) بنيويورك، حيث يدور(435/10)
الفكر مع الحديد في ضجة وتعقيد وقدرة!
الغربيون قدموا لنا عبقرية المادة، فلنقدم لهم عبقرية الروح. . . فلنخدم أرواحهم كما خدموا أجسامنا. . .!
إنهم استغنوا بذكائهم عما وراء الطبيعة، وقد كفهم ذكاؤهم تدبير أمورهم كلها فيما يخيل إليهم مع أن الواقع أنهم في شبكة الأقدار العليا والتدبير الشامل لحياة الأرض. والرجل الذكي غني بالحيل وتجدد الأفكار. والغني يبعث دائما على الطغيان. ومن هنا أتى الغربيون ودخلت عليهم نكبات الحياة لأنهم اعتمدوا على غنى ذكائهم وحده.
وحين يستغني الطفل بذكائه وقدرته عن ثدي أمه ورعايتها، ويعلو مستواه البدني والعقلي عن مستواه، فذلك عهد ابتداء عقوقه إياها إذا لم يكن ذا ذخيرة موفورة من الإدراك والحب والرحمة والأدب، وما دام ينسى أنه قطعة قدت من جسمها وقلبها، وأنها الوشيجة الوثيقة بينه وبين أرومة الحياة والطبيعة.
وكذلك ينسى الإنسان الذكي عجزه أمام قهر صاحب الطبيعة ويستغني بذكائه عن الاستمداد منه والاستيحاء منها فيصير مخلوقاً يكاد يكون ذا صلة بينه وبين ما في الطبيعة من موجودات تسير طائعة بالإلهام والتوجيه.
فهل نترك الغربيين يذهبون بأرواحنا وأرواحهم في أودية بعيدة عن الرحمة والعدالة والأشواق إلى المجهول والبحث عن الله ذي الجلال؟!
أنتركها ونتركهم للحديد البليد القاسي يطبعها بطابعه، ويوحي إليها ببأسه سياسة البطش والطغيان، ويشغلها بضجته المنكرة عن همسات القلوب وأصوات الضمائر؟
إننا إن تركناهم وتبعناهم على الخير والشر فسوف نكون فرائسهم وجزر سيوفهم وطحين طواحينهم الحديدية الحمراء!
فلنذكرهم بمبادئ الطبيعة أمنا وأمهم، تلك المبادئ التي فيها من منطق الوجدان أكثر ما فيها من الذكاء الجامح وقوة الاختيار من غير ضابط من هدى الطبيعة.
وإن الطبيعة لتذكر أبنائها دائماً بوصايا الحق والعدل كما تذكر الأم البسيطة أبنائها الأذكياء بوصاياها وعواطفها التي بنت عليها عشها. فمهما اختلفت أفكار الناس وأخلاقهم فإنهم يتوحدون حين يقفون بين يدي الطبيعة ويشعرون بشعور واحد فيه صدق الفطرة واعتدالها.(435/11)
ومبادئ الأمومة وجوها وبساطتها وعدم تكلفها، والحنين إليها والشوق إلى مهدها يجب ألا تنسى؛ لكي يعيش الإنسان باراً بريئاً عامر القلب بالعواطف الشريفة ذات التأثير الكريم في خدمة الحياة!
وكما يوصف الرجل الذي يهجر أمه بالعقوق واللؤم مهما كانت هي بسيطة جاهلة، ومهما كان هو فائق العقل واسع العلم عريض الجاه، كذلك يوصف الرجل بالعقوق حين يهجر أحضان الأم الكبرى الطبيعة، أوحين يؤذي أو يهمل اخوته منها!
عبد المنعم محمد خلاف(435/12)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
(الأخلاق عند الغزالي)
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - الكتاب والمؤلف - اليوم المشهود - انتقال القلب من
مكان إلى مكان - الروح السائد في الكتاب - العناصر
الرئيسية - الكفر والأيمان - كلمة تنفع شبان الجيل الجديد. ..
تمهيد:
أنا أشعر بأن مقال اليوم لن يخلو من ضعف، لأني أكتبه وأنا كاره، والإجادة لا تتاح إلا لمن يكتب بشغف وشوق، وإنما أقبل كارهاً إلى مقال اليوم لأنه متصل بأحد مؤلفاتي، وأنا لا أحسن وصف هذه المؤلفات إلا في المواقف التي تمد النفس بموجبات الزهو والخيلاء، ولا شيء من ذلك في هذا الوقت، لأن فورة الهجوم على كتاب (الأخلاق عند الغزالي) قد خمدت منذ أعوام، بعد أن شغلت الناس وشغلوني بأبحاث بعيدة عن موضوع هذا الكتاب
ولكن، ما الذي يدعو إلى هذا المقال وحالي كما وصفت؟ يدعو إليه أن الكتاب مقرر لمسابقة الأدب العربي، ولا بد من معاونة طلبة السنة التوجيهية على إدراك بعض ما فيه من مقاصد وأغراض، على نحو ما صنعت في السنة الماضية، وعلى نحو ما سأصنع في السنة الحاضرة، في درس الكتب المقررة للمسابقة بين أولئك الطلاب.
ولو أنني وجدت من ينوب عني في الكلام عن كتابي، لأعفيت نفسي من هذا الواجب المزعج، فلم يبق إلا أن أتكلم عن كتابي كما أتكلم عن كتب الناس. . . وهل في الدنيا شريعة تفرض علي أن أنصف الناس وأظلم نفسي؟
وليكن مفهوماً أني سأنظر إلى كتابي بعين المحب، فحسبي وحسبه ما عانينا من الظلم والاضطهاد. ألم يرفض جماعة من علماء العراق مصافحتي بحجة أني آذيت الغزالي؟ ألم يقل جماعة من علماء مصر بأني وجهت أقوال الغزالي إلى غير ما كان يريد؟ ألم يقترح(435/13)
الأستاذ جاد المولي بك أن ينص في محضر الامتحان على أن اللجنة غير مسؤولة عما في الكتاب من آراء، وإنما مُنح مؤلفه إجازة الدكتوراه جزاء ما بذله من الاجتهاد في استنباط تلك الآراء؟
لن أذكر كتابي بغير الجميل، وإن كنت أعلم الناس بما فيه من عيوب هي في نظري من غرائب الجمال. وهل يعاب عليه غير أقباس من الحيوية لا ينجو منها شاب كالذي كنت في سنة 1924؟
ردوني إلى ما كنت عليه من شراسة وحمق في ذلك العهد، وخذوا ما أملك من ثروة وصيت، فيوم واحد من شبابي أطيب وأنضر من أطايب الوجود
الكتاب والمؤلف:
يقع هذا الكتاب في أكثر من أربعمائة صفحة بالقطع المتوسط، وثمنه خمسة عشر قرشاً، أما النسخة المجلدة فتباع بعشرين، فأرجو المكتبة التجارية أن تراعي هذا السعر، فلا ترهق التلاميذ، لأن أكثرهم أفقر مني
وقد قدم هذا الكتاب لنيل الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة المصرية سنة 1924، وكانت لجنة الامتحان مؤلفة من حضرات الأساتذة الأكابر: منصور فهمي، وأحمد ضيف، ومحمد جاد المولي، وعبد الوهاب النجار، وأحمد عبده خير الدين؛ وقد انتقل النجار وخير الدين إلى جوار الله، فإلى روحيهما في دار الخلود أقدم أصدق التحية وأطيب الثناء
واسم المؤلف محمد زكي عبد السلام مبارك، وكان فيما سمعت شابا يحاول الوصول إلى الحق، وطريق الحق كثير الأشواك والعقبات، فلم يصل إلا بعد أن أدمى قدميه، إن صح أن الله أراد أن يكون من الواصلين
ويظهر أن المؤلف كان يعاني ثورة روحية وعقلية عند تأليف هذا الكتاب، وهو نفسه حدثني أنه صاحب الغزالي في مؤلفاته نحو خمس سنين، فأسره الغزالي على نحو ما يصنع بمن يواجهون نوره الوهاج، ورأى المؤلف أن تأليف كتاب في (الأخلاق عند الغزالي) لا يتيسر إلا بعد النجاة من أسر الغزالي، فجمع قواه وكسر باب الأسر، ليتنسم أرواح الحرية الفكرية، وليلقي الغزالي لقاء الند للند، إن كان للغزالي أنداد
وفي مدى ثلاث سنين استطاع ذلك الشاب أن يكتب رسالة للدكتوراه في الفلسفة عن(435/14)
(الأخلاق عند الغزالي)، وهي رسالة شرقت وغربت، بحق أو بغير حق، وأهتم بها الدكتور سنوك هوجرنيه، فنشر في الثناء عليها بحثاً باللغة الهولندية كان طليعة التنويه بالمؤلف في بيئات المستشرقين
اليوم المشهود
هو اليوم الذي نوقش فيه المؤلف بجلسة علنية في الجامعة المصرية، فقد كان بين الحاضرين جماعة من أساتذة الأزهر الشريف، على رأسهم الأستاذ الجليل عبد المجيد اللبان شيخنا وشيخ أشياخنا وصاحب الفضل على كثير من العلماء، وقد طاب للشيخ اللبان في ذلك اليوم أن يعترض من وقت إلى وقت بأسلوب يحرج الممتحن ويحرج لجنة الامتحان، واقتفى أثره المرحوم الشيخ محمد الإبياري فاعترض بعبارات حملت الدكتور منصور فهمي على أن يعلن أن الجمهور لا يصح له التدخل في شؤون هي من حق لجنة الامتحان
وانتقلت الثورة من الجمهور إلى أساتذة الجامعة من غير لجنة الامتحان، فتقدم معالي الأستاذ حلمي باشا عيسى وأسر في أذن الدكتور منصور فهمي أن الدكتور طه حسين يريد أن يوجه ثلاثة أسئلة إلى زكي مبارك، فأعلن الدكتور منصور أن لأساتذة الجامعة وحدهم أن يتدخلوا في الامتحان، وهو كذلك يعطي الكلمة للدكتور طه حسين. . . والله الحفيظ!
وكانت معركة لم أنتصر فيها إلا بأعجوبة، فقد كان الدكتور طه هزمني قبل ذلك في امتحانات الليسانس مرتين!
ثم كانت النتيجة أن يفوز الطالب بعد امتحان دام نحو ثلاثة ساعات فيصير دكتورا في الآداب بدرجة (جيد جداً) من الجامعة المصرية
انتقال القلب من مكان إلى مكان
ورأى الأستاذ خليل بك ثابت أن يرسل مندوباً يشهد الامتحان ويحدث قراء المقطم عما وقع فيه من جدال وصيال، وقد وقع اختياره على المرحوم حسن حسين، وكان أديباً له بدوات، فلخص معركة الامتحان بأسلوب صورني فيه بصورة الثائر على التقاليد الدينية، فانبرى لمجادلتي على صفحات المقطم عالمان جليلان، أحدهما الشيخ أحمد مكي، طيب الله ثراه،(435/15)
وثانيهما أستاذي في أكثر ما تلقيت من العلوم الدينية وهو الشيخ يوسف الدجوي، ولم أستطع الرد على هذين الأستاذين الجليلين - وكان يشرفني أن أجاريهما في ميدان النضال - لأني علمت من إدارة الجامعة عن طريق الأستاذ سامي راغب أن مساعد السكرتير العام بوزارة المعارف وهو الأستاذ محمود فهمي النقراشي طلب من الأستاذين جاد المولى وخير الدين أن يقدما تقريراً عن امتحان زكي مبارك في الدكتوراه، ولأن الدكتور طه والدكتور منصور نصحاني بالسكوت عما أثار امتحاني من جدال، وهي نصيحة سجلها الدكتور طه في جريدة السياسة وهو ينقد كتاب (مدامع العشاق) في أوائل سنة 1925
وأقول أن قلبي انتقل من مكان إلى مكان بسب هجوم الشيخ أحمد مكي والشيخ يوسف الدجوي، فما كنت أنتظر من هذين الأستاذين أن يثيرا عجاجة يهتاج بها الجمهور، وتلتفت إليها وزارة المعارف
ولم يصح عندي أن هجوم الشيخ مكي والشيخ الدجوي يستند إلى الحق، فأسررتها في نفسي، وقلت أن رجال الدين لم يكونوا دائما ملهمين، وذلك هو السبب في أني أجازيهم ظلماً بظلم وإجحافاً بإجحاف، من حين إلى حين
ولكن لا بأس فقد استطاع كتاب (الأخلاق عند الغزالي) أن يقاوم هجمات الناقدين عدداً من السنين إلى أن تعرض له ناقد لا يرحم المؤلف، وأن كان يحمل اسم المؤلف، ففي اليوم الرابع من أبريل سنة 1937 وقف طالب يؤدي امتحان الدكتوراه في جلسة علنية بالجامعة المصرية. وكان أكبر همه أن ينقض آراء الطالب الذي وقف هذه الوقفة في الخامس عشر من مايو سنة 1924
فماذا صنع؟ أثبت في كتاب (التصوف الإسلامي) أنه ظلم الغزالي في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) والحكم على النفس من مظاهر القدرة على مغالبة الأهواء
روح الكتاب
وقد حاولت مرات كثيرة أن أرجع إلى هذا الكتاب بالتغيير والتبديل لأقدمه بصورة جديدة إلى عشاق الدراسات الأخلاقية، ولكنه يأسرني كلما نظرت فيه، لأني الفته في أوقات كنت فيها ثائر القلب والعقل على فهم القدماء للأخلاق، وهي ثورة لم أنج من شرها إلى اليوم، وقد أسايرها وتسايرني إلى آخر أيامي. وكيف يهدأ من يروعه أن يرى في رجال الدين من(435/16)
يعرفون خريطة الحياة الأخروية ويجهلون خريطة الحياة الدنيوية؟
إن كتاب (الأخلاق عند الغزالي) لم يكن إلا دعوة صريحة إلى التشكيك في أصول الأخلاق الموروثة عن القدماء، والمؤلف يقسم الفضائل إلى قسمين: فضائل سلبية وفضائل إيجابية، ثم يقرر أن الغزالي وجه اكثر اهتمامه إلى الفضائل السلبية (ولم يعن بشرح الفضائل الإيجابية كالشجاعة والإقدام والحرص وما إلى ذلك مما يحمل المرء على حفظ ما يملك، والسعي لنيل ما لا يجد، فإنه لا يكفي أن يسلم الرجل من الآفات النفسية، بل يجب أن يزود بكل مقومات الحياة. وخير للمرء أن يوصم برذائل القوة من أن يتحلى بفضائل الضعف، فإن الضعف شر كله، ولكن اكثر الناس لا يفقهون)
وقد عاب المؤلف على رجال الدين أن ينسحبوا من الميدان السياسي في الأوقات التي يفرض فيها الجهاد، فطوق الغزالي بطوق من حديد حين سجل عليه أنه لم يؤدي واجبه في التحريض على مقاومة الحملات الصليبية، مع أنه (حجة السلام) ومع أن صوته كان مسموعاً في اكثر الأقطار الإسلامية.
واثبت المؤلف في لواحق الكتاب مقالا نشره في المقطم بتاريخ 4 يونية سنة 1934 أيد فيه القول بأن الدين الإسلامي دين فتح وامتلاك، وهو مقال كتبه في الرد على من ناوشوه من العلماء وفيه يقول:
(الظاهر أن حضرات العلماء فهموا من الفتح التخريب والاعتداء على الشعوب. كلا، يا هؤلاء! الدين الإسلامي دين فتح، رضيتم أم كرهتم، وللفتح آداب وشروط سنها الدين الحنيف، وأنتم حين تنفرون من كلمة (الفتح) إنما تجارون الأجانب الذين يتوددون إليكم بوصف الإسلام بالقناعة والرضا بالقليل، وهذا خطأ سراح، فالدين الإسلامي ابعد الأديان عن الزهادة وأبغضها للخمول، ولا حرج على الإسلام في أن يرغب أتباعه في امتلاك ناصية العالم، فإن هذا أمل نبيل، ولم يحدثنا التاريخ عن أمة قوية أو ملة قوية وضعت حدا لمطامعها في الحياة، وإنما ترغب الأمم الضعيفة أو الملل الضعيفة على أن تحدد آمالها وأطماعها بضيق الحدود)
وهذه الفقرة توضح بعض اتجاهات المؤلف في تفسير الأغراض الصحيحة للدين الإسلامي.(435/17)
وأنكر المؤلف على الغزالي أن يتعلق بأهداب الآداب السلبية التي دعا إليها الإنجيل، وفي ذلك يقول:
(أن الآداب التي وضعها الإنجيل غير طبيعية، على معنى أنه لا يمكن أن يسكن إليها بطبيعته أحد من الناس، فالحكمة الإنجيلية التي تقول: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) حكمة غير معقولة لا يقرها لها عرف ولا يدعو إليها قانون. . . والحكمة المسيحية التي تقول: (من سخرك ميلا فامش معه ميلين) حكمة غير ممكنة القبول، ومن المستحيل أن تجد مسيحيا يدير لك خدك الأيسر حين تضربه على خده الأيمن، أما المسيحي الذي يتبعك ميلين حين تسخره ميلاً فهو نادر الوجود)
ثم يقول المؤلف بعد كلام مفصل في نقد الأخلاق المسيحية: (أليس من الغريب أن يصدق الغزالي أن عيسى يقول: (من أخذ رداءك فأعطه إزارك) ومن الذي يرضى من المسلمين أو النصارى أن يتأدب بهذا الأدب الغريب؟)
وينفي المؤلف عن نفسه تهمة التحامل على المسيح فيقول: (ونحن بهذه الكلمات لا ننكر نبوة عيسى عليه السلام، وإنما نرجح أن أتباعه جنوا على شريعته بما زوروا باسمه من الأحاديث، وهذه جناية كثيرة الأمثال في تواريخ الشرائع، فإن الإسلام مع تواتر سنده الأول وهو القرآن لم يعدم من أصحاب الغفلة وأصحاب الأغراض من زوروا الأحاديث باسم النبي حتى كادوا يقضون على ما للإسلام من قوة الحق وروعة الجمال. . . ونحن كذلك لا ننكر أن المسيحية تدعو إلى الزهد، ولكنا نرجح أنها كانت تدعو إلى الزهد بقدر ما تفل من حدة الناس وتقلل من جشعهم وطمعهم، أما الدعوة إلى الفرار من طيبات ما أحل الله فهي دعوة بعيدة الوقوع من الأنبياء والمرسلين)
هذا الروح السائد في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) الذي يعطفني عليه، ويصرفني عن التعرض له بالحذف والإيصال، مع أني رجعت عن بعض الآراء المدونة فيه حين ألفت كتاب (التصوف الإسلامي) وبين الكتابين أعوام تنقل فيها عقلي من أفق إلى آفاق.
والمهم هو أن ينظر طلبة السنة التوجيهية إلى المعضلات المبثوثة في هذا الكتاب بالعين التي نظر فيها المؤلف، ولهم أن يثوروا على المؤلف كما ثار على نفسه في كتاب (التصوف الإسلامي) إن اتسع وقتهم للبحث والاستقصاء.(435/18)
وأهم من هذا أن يمتحنوا ما في هذين الكتابين من آراء فلسفية، ليشعروا لجنة الامتحان بأنهم انتقلوا من الدرس والاستيعاب إلى النقد والتحقيق، وليس هذا بكثير على شبان هم بأذن الله طلائع الجيل الجديد.
العناصر الرئيسية
في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) أربعة عشر باباً، وفي كل باب عدة فصول، ومن مواد هذا الكتاب تتضح ألوان كثيرة من التفكير الفلسفي عند العقول الإسلامية، وتظهر عبقرية الغزالي في نضارة وإشراق.
وأسلوب الكتاب يغلب عليه الحذر والتهيّب وقد يصل إلى الرمز والإيماء، لأن المؤلف كان يعاني رقابة عنيفة، هي رقابة اللجنة المكلفة بالنظر في صلاحيته لامتحان الدكتوراه، وإن كان من واجب المؤلف نحو نفسه أن يعلن أن تلك اللجنة لم تحذف منه غير فقرتين اثنتين، ولم تشر بغير زيادة كلمات معدودة تحدد المراد من بعض الأغراض
وكان شاع منذ أعوام أن كتاب (الأخلاق عند الغزالي) من تأليف الدكتور منصور فهمي، وهي إشاعة تشرفني وترفع من قدري، فأنا تلميذ هذا المفكر الجليل، ولو قضيت العمر في الثناء عليه لما وفيته بعض حقه في تعليمي وتثقيفي؛ ولكن كتاب (الأخلاق عند الغزالي) كتابي لا كتابه، بشهادة ما فيه من غطرسة واستعلاء، وأستاذنا الدكتور منصور آية في التواضع المقبول
وكان يجب أن ألخص ما في الكتاب من أبواب وفصول ليسهل درسه على المتسابقين، ولكني نظرت فرأيته في غاية من الوضوح والجلاء، فلم يبقى إلا أن أنص على ما يجب درسه بعناية والتفات:
في الباب الأول فصول تصور عصر الغزالي بإيجاز وتصف المدائن التي عرفها الغزالي، وسيسأل الطلبة عن محتويات هذا الباب
وفي الباب الثاني فصول عن أسرة الغزالي ومولده ونشأته وحياته الروحية، ومبلغ فهمه للحياة، وسيسأل الطلبة عما حصلوه من عناصر هذا الباب
والباب الثالث متعب، لأنه خاص بالينابيع التي استسقى منها الغزالي آراءه الفلسفية، ولا بد للطلبة من مذاكرة أساتذتهم في الاهتداء إلى تلك الينابيع(435/19)
وفي الأبواب التالية يكون الكلام في صميم المبادئ الأخلاقية بنظرتين مختلفتين: نظرة الغزالي ونظرة المؤلف، ومن واجب الطلبة أن يمتحنوا هاتين النظرتين بفهم وذوق، ليقيموا الدليل على ما يملكون من أصالة الفكر ورجاحة العقل
فإذا كان الباب التاسع رأينا المؤلف يحاسب الغزالي على آراءه في العلوم والفنون وفي التربية والتعليم، وهو باب سيسأل الطلبة عما فيه من آراء، لأنه وثيق الصلة بالموازنة بين العقل القديم والعقل الجديد
وفي الباب العاشر يتكلم المؤلف عن الواجبات الفردية والاجتماعية، ويقع هذا الباب في أكثر من خمسين صفحة، ويكفي الطالب أن يدرس منه عشر صفحات، ليواجه لجنة الامتحان وهو على شيء من التحصيل
وفي الباب الحادي عشر يطول الكلام عن تأثير الغزالي في عصره وما تلاه من العصور، وللطالب أن يقرأ من هذا الباب ما يشاء ولكن عليه أن يدرس الصفحتين 361و362
وفي الباب الثاني عشر كلام عن أنصار الغزالي وخصومه، وهو موضع اعتراض، فقد قيل أن المؤلف أوجز في الكلام عن أنصار الغزالي مع أنه تحدث عن خصومه بإطناب، فعليك أن تعتذر عن المؤلف بلطف!!
أما الباب الثالث عشر فهو في الموازنة بين الغزالي والفلاسفة المحدثين، وفيه فصل مهم جداً عن الموازنة بين الغزالي وديكارت ولن تعفيك لجنة الامتحان من هذا الفصل، لأنه من عيون الكتاب، ولأن التأمل فيه قد يجذبك إلى الدراسات الفلسفية
وفي الباب الرابع عشر تجد (آراء علماء العصر في الغزالي) من أمثال الأساتذة: منصور فهمي، علي عبد الرزاق، يوسف الدجوي، محمد جاد المولي، عبد العزيز جاويش، الكونت دى جالارزا، علي العناني، عبد الوهاب النجار، حسين والي، عبد الباقي سرور، أحمد أمين
فإن استطعت أن تقرأ الكتاب كله قراءة الفهم أولاً، وقراءة النقد ثانياً، فستظفر بالجائزة الأولى، وسيصافحك وزير المعارف مصافحة الود والإعجاب
الكفر والإيمان
في الموازنة بين الغزالي وكارليل تقع صحائف أراها من النفائس وقد تكون أصدق ما(435/20)
جري به قلمي، وهي من صفحة 389 إلى صفحة 399، ولا أستطيع تلخيص تلك الصفحات في هذا المجال، طلباً للنجاة من الدخول في معارك نفضت من غبارها يدي، فقد راضتني الأيام بعد الجموح، وانضممت كارهاً إلى العصابة التي تقول بأن الرياء سيد الأخلاق!
هذه الصفحات تنفعك في الامتحان، لأنها تشهد بأنك وصلت إلى الأسرار المطوية في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) وذلك هو الغرض المنشود، ولكنها ستضرك وستؤذيك، لأنها ستفرض عليك أن تزن (المسئولية الأخلاقية) بميزان جديد وأنت في غنى عن هذه المتاعب الثقال!
كلمة تنفع شباب الجيل الجديد
قد يكون فيكم من يتوهم أن اللجنة التي تحتكمون إليها في مسابقة الأدب العربي يسرها أن تراكم أبواقاً تحكي ضلالات المجتمع في فهم الأدب والأخلاق، هيهات ثم هيهات، فستؤلف تلك اللجنة من رجال وزارة المعارف ورجال كلية الآداب، فأفهموهم بلسان الحال ولسان المقال أنكم طلائع الجيل الجديد، وأنكم جديرون بما لهم فيكم من آمال
وبالنيابة عن اللجنة أوصيكم بدرس ما يطيب لكم من مواد الكتب المقررة للامتحان الشفوي، على شرط أن تعلنوا اللجنة بذلك، وعلى شرط أن يكون لكم في التعقيب إلى المؤلفين آراء تجعلكم من أرباب الفكر الأصيل
ليس المهم أن تقرءوا الكتاب من الألف إلى الياء، ولكن المهم أن تدركوا سريرة المؤلف، وأن تحاسبوه بنزاهة وإخلاص
أنتم في السنة التوجيهية إلى كليات الجامعة المصرية فأفهموا لجنة الامتحان أنكم انتقلتم من التحصيل إلى التفكير، فالتفكير هو الغرض المنشود
وسنتكلم في الأسبوع المقبل عن (إبراهيم الكاتب)؛ فإلى اللقاء
زكي مبارك(435/21)
كيف يكتب التأريخ
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
- 6 -
نقد الأصول
تعيين شخصية المؤلف وتحديد زمان ومكان التدوين
إذا ما ثبت للباحث أن الأصل أو المصدر التاريخي صحيح وغير مزيف فليس معنى ذلك أن المعلومات الواردة به ذات قيمة تاريخية كبيرة. ولا بد من نقد الأصل التاريخي من نواح أخرى. وبعض الأصول تحمل أسم مؤلفها وزمان ومكان تدوينها، والبعض الآخر الذي يكون عليه طابع الصحة وعدم التزييف يغفل بعض أو كل هذه النواحي، فينقص ذلك من قيمتها التاريخية. فكيف يقدر الباحث قيمة الأصل التاريخي وهو يجهل اسم المؤلف وشخصيته وعلاقته بالحوادث التي كتب عنها؟ هل شهدها بنفسه أم سمعها ونقلها عن الغير؟ ومتى دونها؟ هل دونها أثناء وقوع الحوادث أم بعدها بزمن طويل؟ وفي أي مكان تم ذلك التدوين؟ هل كان في مكان وقوع الحدث أم في جهة بعيدة عنها؟ من الضروري جداً معرفة كل هذه النواحي بقدر المستطاع. فكيف السبيل إلى تحقيق كل ذلك؟
إن معرفة اسم وشخصية كاتب الأصل التاريخي مسألة هامة لأن قيمة المعلومات التاريخية التي يوردها ترتبط كل الارتباط بشخصية الكاتب وبمدى فهمه للحوادث وبكل الظروف التي تحيط به على وجه العموم. فالمعلومات التي يدونها الأمير أو الحاكم تختلف عن المعلومات التي يسطرها السياسي أو صاحب المهنة أو الجندي أو رجل الشعب. وكاتب الأصل التاريخي، سواء كان شاهد عيان أو اعتمد على غيره من شهود العيان، يعتبر الواسطة التي يصل المؤرخ عن طريقها إلى الوقائع التاريخية. فإذا كان الكاتب شخصاً صادقاً عدلاً بعيداً عن الأهواء بقدر المستطاع كانت معلوماته صحيحة بصفة عامة، والعكس صحيح أيضاً. وعلى ذلك تتضح أهمية البحث لمعرفة أكبر قسط ممكن من المعلومات عن كتاب الأصل أو الوثيقة التاريخية. وفي هذه الناحية كغيرها من نواحي نقد(435/22)
الأصول التاريخية الأخرى، يصبح عمل المؤرخ شبيهاً بعمل القاضي، والقاضي يمتاز بأن شهود الحوادث أحياء أمامه بالحق أو بالكذب ينطقون، ولكن المؤرخ عليه أن ينتقل من الحاضر إلى الماضي بالعقل والنقد والخيال، وأحياناً تضيع عبثاً جهود المؤرخ لمعرفة اسم وشخصية كاتب الأصل التاريخي فيظل مجهولاً، وأحياناً أخرى لا يمكن للمؤرخ إلا أن يجمع بعض المعلومات القليلة عنه، ونلاحظ أن وضع اسم شخص على أصل أو مصدر تاريخي لا يفيد دائماً أنه كاتبه كما فهمنا ذلك من عوامل الدس والانتحال. وإذا عثر الباحث على الأصل التاريخي المخطوط أمكن في أحوال كثيرة التعرف على شخص الكاتب أو الاقتراب منه على الأقل، بدراسة الخط ونوع الورق والحبر واللغة والأسلوب والمصطلحات الخاصة بعهد تاريخي معين وبدراسة المعلومات التاريخية الواردة به
وإنه ليختلط الأمر أحياناً على الباحث في التاريخ فيخطئ في نسبة الأصل التاريخي إلى كاتبه الحقيقي. ومن الأمثلة إلى ذلك ما ذكره الأب بولس قرالي أنه عند حضور علي باشا أمير البحر التركي إلى المياه السورية لفض النزاع القائم بين فخر الدين أمير لبنان ويوسف سيفا صاحب طرابلس في يوليو سنة 1619، أرسل الأمير فخر الدين رسالة إلى الباشا التركي يعتذر فيها عن الحضور إليه بنفسه. ويقول الأب قرالي أن الأستاذ اسكندر المعلوف قد أورد ترجمة هذه الرسالة باللغة العربية في كتابه عن الأمير فخر الدين. والأستاذ المعلوف يعتبر أن هذه الرسالة قد صدرت عن فخر الدين ولكنه يتشكك في تاريخ إصدارها ولا يمكنه أن يحدد ذلك ويذكر الأستاذ المعلوف أنه قد نقلها عن ريكو والوقع إن هذه الرسالة ليست لفخر الدين. والمؤلفان كنوللس وريكو قد أخذا معلوماتهما عن هذه الفترة عن كتاب مينادوى الرحالة الإيطالي المعاصر الذي زار سوريا ولبنان أثناء حملة إبراهيم باشا لإخضاع الدروز في 1585. ومينادوى يورد نص هذه الرسالة باللغة الإيطالية، ويقول أن ابن معن قد أرسلها إلى إبراهيم باشا في يوليو 1585. ولقد نقل كنوللس هذه الرسالة عن مينادوى إلى اللغة الإنكليزية. ولا يحدد مينادوى ولا كنوللس (وريكو) من هو المقصود بابن معن. على أنه لا يمكن أن يقصد بابن معن في ذلك المقام الأمير فخر الدين، لأنه كان إذ ذاك غلاماً صغيراً، والمقصود بابن معن، هو قرقماز بن معن والد فخر الدين، وليس فخر الدين نفسه. والذي حاول إبراهيم باشا أن يحمله للقدوم عليه للغدر به. وبالبديهة(435/23)
لا يمكن أن تكون هذه الرسالة قد صدرت عن الأمير فخر الدين إلى الباشا التركي في 1919. لأن كتاب مينادوى الذي يتضمن أقدم نص معروف عن هذه الرسالة قد طبع في البندقية في 1594.
ومن الأمثلة التي توضح طريقة إثبات شخصية كاتب الأصل التاريخي أن الباحث في التاريخ قد يجد خطابا باللغة الإيطالية مدونا في باريس بتاريخ 29 يونيو 1789 وموجه إلى حكومة على رأسها مجلس شيوخ، ولكن بدون تحديد تلك الحكومة وبدون تعيين الكتاب. وفحص هذا الكتاب يدل على أن كاتبه هو أحد السفراء الإيطاليين في فرنسا. فمن هو ذلك السفير؟ وإلى أي حكومة أرسل خطابه؟ الحكومة الإيطالية الوحيدة التي كانت على رأسها مجلس الشيوخ في 1789 هي جمهورية البندقية. فالخطاب إذاً قد كتبه سفير البندقية في فرنسا إلى حكومته. فمن هو؟ البحث في سجلات أرشيف البندقية يدل على أن سفير البندقية في باريس في ذلك العهد كان أنتوينو كابللو.
وقد يحتوي الأصل التاريخي على معلومات عن حوادث رآها شاهد عيان بنفسه أو على معلومات سمع بها ونقلها عن الغير. فينبغي أن يحدد الباحث على وجه الدقة أجزاء الأصل التي دونها الكاتب بناء على ما شهده بنفسه، ويعتبر إذاً أصلا من الطبقة الأولى، وكذلك يحدد أجزاء الأصل التي اعتمد الكاتب في تسجيلها على الغير، وتعتبر أصلا من الطبقة الثانية، مع تحديد مصدر هذا النوع الأخير من المعلومات إذا أمكن ذلك. من الأمثلة التي توضح ذلك ما ذكره (كاميل ديمولان) في بعض ما كتبه عن المشاهدة التي حدثت بين مندوب الملك لويس السادس عشر وبين ميرابو أثناء اجتماع مجلس طبقات الأمة في 23 يونيو سنة 1789. والباحث يعرف من التاريخ أن ذلك الاجتماع لم يكن حضوره مباحاً للجمهور، وكاميل ديمولان لم يكن عضو في مجلس طبقات الأمة؛ وعلى ذلك فأن ديمولان لم يسمع بنفسه ما قال ميرابو لمندوب الملك. فكلامه عن هذه المشاهدة أخذه عن طريق السماع، فيعتبر أصلا من الطبقة الثانية. وإنما وصف ديمولان لما شهده خارج الاجتماع من قدوم الملك أو احتشاد الجماهير يعتبر أصلاً من الطبقة الأولى
وفي بعض الأحوال يجد الباحث كتاباً طبع في باريس في 1890 مثلا. ومن المحتمل أن يكون مؤلفه قد نقله بنصه عن مؤلف سابق وضعه في 1850 بدون أن يشير إلى ذلك.(435/24)
فالمسؤول عن المعلومات الواردة هو الكاتب الأول السابق. وصحيح أن السطو على كتابة الغير والنقل منها بغير حساب قد نقص الآن، وبمنعه القانون أحياناً؛ ولكن كثير ما يجد الباحث أن من الأصول والوثائق ما هي إلا عبارة عن نقل حرفي لأصول ووثائق سابقة، سواء قصد الناقل السرقة وانتحال المعلومات لنفسه أو جمعها لأنها تهمه وتفيده. فعلى الباحث في التاريخ أن يتعقب الكاتب الأصلي؛ وإنه لمن أهم المسائل في هذه الناحية من النقد معرفة المصادر أو الوثائق التي اخذ عنها ذلك الأصل التاريخي. ومن الأمثلة على ذلك أن الباحث قد يعثر على مجموعة من الكتابات عن المصادمات البحرية بين العثمانيين والتسكان في القرنين السادس والسابع عشر جمعها أحد المهتمين بإبراز بطولة التسكان وهو بستيانو بالبياني، ولكن بدون تحديد المصدر التي اخذ عنها. والبحث في سجلات أرشيف فلورنسا التاريخي يوضح أن بالبياني قد أقتبس مثلا من أقوال بعض رجال الحملات البحرية التسكانية بقيادة الفارس فرنشسكو دل مونتي والأميرال أنجرامي في الشرق الأدنى وفي شمال أفريقيا في 1607
وقد يجد الباحث أحياناً مجموعات من الأصول والوثائق تتناول بحث نقطة معينة، فينبغي إذا جمعهاً وترتيبها وتقسيمها إلى مجموعات على حسب التقارب والاختلاف في المعلومات الواردة، وقد يكون التقارب شديداً جداً أو قد يوجد اختلاف بين هذه الأصول والوثائق مثل الاقتصار والاجتزاء في مواضع، والإطالة وإعطاء تفصيلات ومسائل جديدة في مواضع أخرى. وقد توجد علاقة بين هذه الأصول التاريخية في ناحية النقل والاقتباس عن مصدر أساسي واحد. فعلى الباحث دراسة هذه الأوجه كلها لمعرفة الشخص أو الأشخاص الذين كتبوا في هذه النواحي المتشابهة والمختلفة لتقدير ووزن أقوال كل منهم، وسنعود إلى ذلك عند بحث ناحية أخرى من نواحي نقد الأصول التاريخية
وقد يكون الأصل التاريخي من عمل أكثر من مؤلف واحد. فالكثير من الأصول تدخل عليه إضافات وزيادات وتعليقات في مواضع مختلفة، ثم تطبع ويعتبر الأصل وما أضيف إليه كأنه من وضع كتاب واحد. إلا إنه من الممكن بدراسة هذا الأصل كشف الحقيقة؛ وإذا وجد الأصل المخطوط أصبح من السهل تمييز الأصل من الإضافات والزيادات. أما إذا ضاع الأصل المخطوط ولم يبقى أمام الباحث إلا المطبوع أصبحت المسالة اكثر صعوبة، إلا أنه(435/25)
يمكن بالدراسة الوصول إلى نتائج معقولة. فيدرس الباحث اللغة: هل هي واحدة أم متغيرة، والأسلوب هل هو واحد أم متغير، وهل تسود الكتاب فكرة واحدة وروح واحدة، وإلا توجد خلافات ومتناقضات وفجوات في تسلسل الأفكار؟ وإذا كان الكاتب الذي أضاف في موضع أو أكثر من النص الأصلي واضح الشخصية أمكن تمييزه، وإلا يبقى مجهولاً لدى الباحث في التاريخ.
ولنعرض لمثال حققه الدكتور أسد رستم؛ فإنه قد عثر على مخطوطة صغيرة تتناول أخبار الدولة المصرية العلوية في سورية في زمن إبراهيم باشا، وكانت غفلاً من اسم المؤلف. ووجد الدكتور رستم إنها ليست تاريخاً واحداً، وإنما هي ثلاثة تواريخ فقسمها إلى (ا. ب. ج)؛ ولاحظ أن هذه الأقسام لا تعطي حوادث متسلسلة، ولا يبدأ قسم منها حيث ينتهي سابقه، وأن الحوادث تتكرر في أقسامه الثلاثة، ولاحظ أيضاً أن (ا، ج) يستعملان التاريخ الهجري، بينما (ب) يتخذ التاريخ المسيحي، ووجد أن (ج) أكبر الأقسام، وأن أخباره تتعلق بحوادث لبنان مع إعطاء تفصيلات شخصية ديرانية محلية عن دير القمر وبيت الدين. فرجح الدكتور رستم أن كاتب (ج) شخص لبناني ديراني، أو أقام بدير القمر على الأقل. فقصد الدكتور رستم إلى المكتبة البطريركية في بكركي، وفحص أوراق 1831 - 1841، وبعد الدراسة الطويلة عثر على رسائل مكتوبة بنفس الخط الموجود في (ج)، وبنفس اللغة واللهجة، وعليها إمضاء القس أنطون الحلبي. فاتجه الدكتور رستم إلى بطريك الموارنة ماري الياس حويك، وعرف منه أن القس أنطون كان من المقربين للأمير بشير الشهابي، وأنه سكن بيت الدين، وأنه كتب عن أحكام الأمير بشير، وعن حروب إبراهيم باشا في سورية، وأن أغلب ما كتبه قد أحرق أثناء حوادث الصدام بين المسيحيين والدروز في 1845. وإذاً، فالقس أنطون الحلي هو مؤلف المخطوطة (ج)
وليس يكفي أن نعرف اسم المؤلف فقط إذا كان مجهولاً؛ والغرض من معرفة الاسم هو معرفة شخصية وصفات الكاتب لأن ذلك سيكون له قسط كبير في تقدير قيمة المعلومات التي ترد في الأصل أو المصدر التاريخي. فلا بد من أن يجمع الباحث كل المعلومات الممكنة عن شخصية كاتب الأصل التاريخي. وأحياناً يمكن للباحث أن يجمع معلومات عن شخصية المؤلف من بعض كتب التراجم؛ أو يجمع معلوماته عن الكاتب من الأصل(435/26)
التاريخي الذي دونه. فمثلاً الكتابة المؤرخة في 24 يونيو 1789 عن بعض حوادث الثورة الفرنسية في باريس وفرساي يفهم الباحث من لغتها وأسلوبها وطريقة عرضها ومعلوماتها أن كاتبها شخص مثقف، وأنه شاب قوي الجسم يمكنه أن ينتقل من باريس إلى فرساي أثناء المطر المنهمر، ويدرك الباحث أنه شخص متحمس جرئ ثوري، يتكلم بصراحة ويقرر أن ممثلي الشعب لا يخافون الموت، ويعلم الباحث أيضاً أن الكاتب كان مهتماً بالحوادث التي شهدها لدقة وصفها وحسن التعبير عنها. ولا ريب فأن هذه الوصاف تنطبق على (كاميل ديمولان) الذي كتب عن تلك الحوادث.
والمسالة التالية في هذه الناحية من النقد هي معرفة زمن تدوين ذلك الأصل التاريخي. فالأصل أو الوثيقة قد تكون صحيحة، وكاتبها قد يكون من الأشخاص الذين يتحرون الصدق والبعد عن الهوى، ومع ذلك فقد ينقص من قيمتها بعد الزمن بين وقوع الحادث ورؤيته وبين تدوين أخباره. فالذاكرة تخون الإنسان، ويفوت الكاتب حوادث وتفاصيل خاصة كلما بعد به العهد عن زمن وقوع الحادث مهما كانت رغبته في قول الصدق ومهما حاول استرجاع وقائع الزمن الماضي. فإذا كان الكاتب لم يحدد تاريخ تدوين الأصل التاريخي، فكيف يستطيع الباحث أن يحدد ذلك ولو بالتقريب؟ في بعض الأحيان يمكن دراسة المحتويات وضع حدين لمبدأ ونهاية الأصل؛ أي أنه يعين التاريخ الذي لا يمكن أن تكون الحوادث قد وقعت قبله والتاريخ الذي لا يمكن أن تكون هذه الحوادث قد وقعت بعده. ولتحديد ذلك ينبغي أن يكون الباحث صاحب ثقافة تاريخية واسعة تتعلق بالعصر الذي يدرسه. ولا بد أن تكون الوثيقة أو الأصل قد دون بعد آخر حادث ورد به؛ ولكن من الجائز أن يكون التدوين قد حدث بعد ذلك بزمن قصير أو طويل. وإذا فرضنا أن كتاب سفير البندقية في باريس لم يكن مؤرخا، فأنه يمكن معرفة تاريخ كتابته بدراسة محتوياته. فالحوادث التي ذكرها السفير هي حوادث يونيو 1789؛ وآخرها حادث ذكره هو اجتماع مجلس طبقات الأمة في 27 يونيو 1789؛ وعلى ذلك فلا بد أن السفير قد دون كتابه بعد ذلك الحادث مباشرة وقبل أن يقع حادث آخر مهم. والمجلس اجتمع بعد ذلك في 30 يونيو؛ فيكون السفير إذاً قد كتب خطابه إلى مجلس شيوخ البندقية في 28 أو 29 يونيو 1789.
ثم يواجه الباحث في التاريخ مسألة أخرى هي مسألة تعيين مكان تدوين الأصل التاريخي؛(435/27)
وهي مرتبطة كل الارتباط بما سبق. وسواء كان النص الموجود أمام الباحث أصلا تاريخياً من الطبقة الأولى أو أصلا تاريخياً من الطبقة الثانية فلا بد من معرفة مكان تدوينه. فهل دون شاهد العيان الحوادث في مكان وقوعها أو في مكان بعيده عنه؟ أو هل أخذ معلوماته عن أشخاص شهدوا الحوادث بأنفسهم، وأين كان ذلك؟ وهل كان التدوين في مكان وظروف تجعل كاتب الأصل التاريخي قادراً على تصوير الوقائع تصويراً صحيحاً، أم أن التدوين قد حدث في مكان بعيد واعتمد الكاتب على الذاكرة والخيال في سرد الواقع؟ المعلومات التاريخية التي ترد في الأصل قد تحدد مكان التدوين في بعض الأحيان. أو قد يمكن معرفة ذلك في المعلومات العامة عن الكاتب. فمثلا بابي كتب مذكراته في ربيع 1792. ونعرف من التاريخ أن بابي كان في ذلك الوقت مقيماً في نانت. وإذاً فهو قد كتب مذكراته في نانت وليس في باريس مسرح الحوادث التي كتب عنها
(يتلى)
حسن عثمان(435/28)
ثورة علي أبن سينا
أو عقيلة (الأركانا)
للدكتور جواد علي
لقد كان صاحب هذه الثورة ومؤجج نارها طبيب سويسري وفيلسوف أوربي عاش في مدينة (باذل) عاصمة العلم في المقاطعات السويسرية الألمانية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر للميلاد. طبيب كانت له نفس تواقة على التنقل من مدينة أوربية إلى مدينة أوربية أخرى، ومن جامعة أوربية إلى جامعة أوربية أخرى في سبيل طلب العلم والحقيقة؛ في سبيل إدراك كنه الإنسان وسر هذا الكون وعظمته.
ولكنه كان حيث هبط في أرض أو حل في مدينة يجد الكتب اللاتينية العويصة المترجمة عن العربية أو عن اليونانية تحتل المكان الأسمى في عالم علم ذلك الزمان؛ ويجد الأطباء والعلماء يتجادلون في أبحاثهم وفق القواعد المنطقية المترجمة عن العربية أو اليونانية رأساً. يدونون آراءهم في الكون والإنسان وفق ما جاء في كتاب أبن سينا ولا سيما كتاب (القانون في الطب) وكتب أرسطو وجالينوس. لم يكونوا يحكمون عقولهم، أو يستخدمون التجارب في أبحاثهم، أو يجيلون النظر في الأفق البعيد. وهذا ما ساءه جداً ودفعه إلى إعلان عصيانه وتمرده على كتب العرب واليونان معاً.
وقد عرف ذلك الطبيب الفيلسوف باسم الطبيب المتنقل (بارسلس)؛ أما أسمه الحقيقي فكان يتركب في الواقع من بضعة أسماء ضمت بعضها إلى بعض على عادة ذلك الوقت كان يدعى أورويلس ثيوقراستس بارسلس بومباستس فون هوهنسهايم
دعي بالطبيب المتنقل لأنه كان مشغوفاً بالأسفار محباً للتنقل من محل إلى محل ومن مكان إلى مكان. ولقد كون فيه هذا الميل عقلاً يختلف جداً في طراز تفكيره وأسلوب اشتغاله عن طراز تفكير واشتغال عقول علماء ذلك الوقت. جمع في أنسجته وخلاياه خلاصة الثقافات الأوربية المختلفة والنزعات الثورية التي بعثتها النهضة الأوربية على القديم البالي، وخلاصة النزعات العملية التي بعثتها التجارب العلمية التي بدأ يقوم بها علماء الطب والطبيعة في ذلك الحين. فشك في مقدرة كتب أبن سينا الطبية والفلسفية، وزلزل إيمانه بمقدرة كتب أرسطو أو أبقراط أو جالينوس على إنعاش حياة الإنسان من الناحيتين(435/29)
الروحية والمادية. ونادى في المجتمعات العلمية وعلى رؤوس الأشهاد أن عصر أبن سينا واليونان يجب أن يزول، وأن أياماً جديدة يجب أن تحل محل تلك الأيام
كانت فلسفة أبن سينا فلسفة هادئة؛ وكذلك كانت فلسفة حكماء اليونان لم يكن فيها ما يبعث على المجازفات والمغامرات والبحث عن الأسرار ومجاهل الأرض. بينما كانت أوربا تتمخض عن حركة جديدة، هي حركة تسخير العلم في خدمة الإنسان والاستفادة من الطبيعة في سبيل رفاهية أبن آدم. كانت كلمة (الأركانا) من أبرز الكلمات وأحلاها في قاموس علم ذلك الزمان. وكلمة أركانا تدل على معان جمة عميقة تدل على المادة السرية التي يمكن بواسطتها تحويل أي معدن خسيس إلى معدن ثمين. ولا يستغرب صدور هذا الميل المادي الجشع من إنسان ذلك الوقت. فقد قلب القرن الخامس عشر العالم رأساً على عقب. كدس الذهب والفضة في بلاط ملوك البرتغال والأسبان، وحرم الشعوب الأوربية الأخرى من مصادر القوة والثروة. ووجد حملة سر (الأركانا) في قصور الأمراء وملوك أوربا مرتزقاً حسناً جداً. كانوا يجوبون عواصم أوربا ليعرضوا على ساداتها آخر ما وصل إليه علمهم عن هذه الكلمة السحرية معشوقة الأغنياء. وكان أبرعهم وأشهرهم الذي تمكن بواسطة بضاعته في علم (السيمياء) وطلاقة لسانه، من السيطرة على عقل الأمير (فردريك) أمير ورتمبرك في عام 1597 م ومن ابتزاز أموال الأمير بلا حساب، لتحويل النحاس إلى المعدن الثمين الذهب. وقد سطر لنا عصر بارسلس عشرات وعشرات أمثال هذا العالم السيميائي الشاطر.
كانت (الأركانا) رمز عقلية الجيل الجديد، ذلك الجيل الذي سخر من عقلية من تقدمه، لأنها في نظرة عقلية قديمة آسنة ذات تفكير قديم. كانت تؤمن بالخرافات وبزخارف القول وما جاء في الأساطير. وما الأركانا في نظره سوى ثورة جديدة على العصور القديمة وعلى ما أنتجته تلك العصور.
ولكن الجديد في عقلية الأركانا حقا هو ثورة الفرد على الطبيعة وثورة الإنسان النشيط على الإنسان المتزن الهادئ، ثورة الجرمانية على العربية واللاتينية.
ولكي يبرهن ذلك الإنسان الجديد على انه إنسان جديد في كل شيء. إنسان عملي حرفي أرادته وتفكيره فرق بين علوم الأوائل وعلوم الأواخر، بين علوم الأجيال التي سبقت القرن(435/30)
الخامس عشر وبين علوم الأجيال التي ظهرت بعد هذا القرن. سمي علم السحر القديم مثلا (علم السحر الأسود) فميزه عن علم السحر الجديد الذي ابتدعه وسماه (علم السحر الأبيض). وعلم السحر الأبيض في نظر إنسان ذلك الوقت علم جديد عملي مجرد من الأباطيل والخرافات؛ وقد ضمن هذا لإنسان على القدماء حتى في مصدر العلم فقال: إن مصدر علمه السماء، أما مصدر علم القدماء فكانت الأرض.
ومادام مصدر السحر الأبيض السماء، فلم لا تكون للأجرام السماوية ذاتها يد في مقدرات الإنسان؟ آمن إنسان الأركانا بفعل البروج والأفلاك في مستقبل الإنسان، ولكنه لم يؤمن كما آمن الأولون. نعم آمن بقدرة البروج والأفلاك، وأيقن بأهمية ليتمكن بواسطة أسرار هذا العلم من معاكسة تأثيرات في السماء، وليسخر قوى البروج الخلفية في صالح الإنسان. أما الإنسان الأول، فقد آمن بها إيمان رجل مستسلم للمشيئة والأقدار يرجو رضا القوى الخفية لتجلب عليه السعادة والرفاهية.
رأينا تأثير السماء على الإنسان، فلم لا يكون للأرض نفس هذا التأثير على الإنسان؟ نعم، للأرض إذا أثر هام على سكان الأرض، وللإنسان إذاً أن يبتدع علماً يقاوم تأثير هذه الأرض، بل للأرض نفس الأثر، حتى على ما في بطون الأرض، فإذا ما تمكن الإنسان من اكتشاف سر هذه الأرض، فإذا ما تمكن الإنسان من اكتشاف سر هذا الأثر، تمكن من إيجاد هذا العلاج الناجح لمقاومة تأثير الأرض. وقد بحث الإنسان عن المادة السرية التي يمكن بواسطتها تحويل المعادن الخسيسة إلى معدن نفيس، وتلك المادة المطلوبة السرية هي حجر الحكماء أو الفلاسفة كما كانوا يطلقون عليها في القرن الخامس عشر للميلاد تؤثر على حياة الإنسان مجموعة قوى أخرى على رأسها (روح الإله العالية) التي تخللت جميع أجزاء هذا الكون، وحلت في كل شيء، فأصبح الكون هو السكون؛ وما الإنسان في نظر بارسلس سوى (العالم الأصغر) الذي هو صورة مصغرة (للعالم الأكبر)
وقد أسبغ صاحبنا على نظريته هذه ثوباً من أثواب الحلولية التي ترد في الصوفية الإسلامية أيضاً ولقد كان لها صدى بعيد في أنحاء أوربا، أثرت على أفكار فلاسفة الطليان والألمان والإنكليز وغيرهم أمثال كيور دانو وكامبنيلا وتيليزيو وروينشلين وبرونوميلنشوتن وأكريبافون نيتيسهايم وهرمان لوتسه الفيلسوف الألماني الشهير(435/31)
(1817 - 1881 م) في القرن التاسع عشر للميلاد قال بارسلس وفي العالم الأصغر وهو الإنسان قوى بنائية روحية تقاوم الأرواح الخبيثة التي تكون في الخارج وتساعد على بناء الجسم ودوام اتصاله بالعالم الأكبر، وما العالمين سوى وحدة واحدة لا تتجزأ لذلك، فأنا للعالم والعالم أنا وقد سمى هذه المادة من كلمة اليونانية ومعناها المادة الأساسية أو الأساس. وكان الفيلسوف اليوناني أنا كسمندد قد استعملها لتدل على هذا المعنى والعلم الذي يبحث في هذه المادة هو أشرف العلوم؛ وحيث أن الطب هو العلم الباحث عنها، لذلك كان علم الطب هو أشرف العلوم طراً وقد شرفه حتى على علم اللاهوت.
ومن واجب الطبيب تنظيف هذه المادة مما قد يتعلق بها من الأرواح الخبيثة وذلك بواسطة العقاقير والأدوية المفيدة. وقد حضر الطبيب الفيلسوف قائمة بأسماء العقاقير والمشروبات المعدنية والأدوية السرية التي تنفع لمقاومة الأمراض النفسية والجسمية معاً. وما الأمراض في نظره سوى صراع بين ال وبين الأرواح الخبيثة والقوى الخارجية المحيطة بالإنسان
وبقدرة هذه العقاقير والمواد السحرية يستطيع الطبيب الذي هو اقرب مخلوق إلى الله من تنظيف الروح والجسد من السادران ومن رفع مستوى البشرية إلى مصاف الأرواح السماوية العليا، وبذلك يتم الاتصال بين (العقل الأول) أو (الروح) وبين العقل الثاني وهو الإنسان. ولذلك لهذه الفلسفة شهرة عظيمة بين رجال المتصرفة من الأوربيين ولا سيما الألمان منهم، فظهر حلاجهم وهو يعقوب وظهر فالنتين وأيكل وظهر أمثال لهذين المتصوفين ينادون بالفناء والاتحادية.
وبعد أن أتم بارسلس وضع قائمة عقاقيره السحرية أجج في ليلة عيد الغفران من عام 1517 ناراً عظيمة في حفل رهيب وتقدم في موكب يتبعه تلاميذه والمعجبون بآرائه يحمل بيديه (إنجيل الأطباء) وهو كتاب (القانون في الطب) لابن سينا (لوثر الأطباء) كما كانت أوربا تسميه وبعد خطبة وحفلة دينية مؤثرة ندد فيها بآراء ابن سينا وزعماء الطب من العرب اليونان، ألقى بكتاب القانون في النار معلنا بذلك دخول أوربا في عصر تفكيري جديد. ولكنه قوبل من الناس بازدراء عظيم واضطرت بلدية المدينة إلى إخراجه من المدينة (باذل) لتجاسره على كرمة أعظم طبيب عرفته العصور.
اجتمعت في بارسلس سذاجة القدماء وتفكير المحدثين. كان زمانه زمان انتقال فطبعه(435/32)
بطابعه الخاص. وجد المحدثون في زماننا فيه رمزاً من رموز التفكير العنيف والإنسانية الفعالة. وعلى الأخص الكتاب الأوربيين منهم. وجد فيه ألفريد دوزنبرك رجلاً أوربياً أعلن حرب الجرمانية على السامية واللاتينية؛ لذلك أسست جمعية أطلقت على نفسها اسم جمعية بارسلس قامت بنشر رسائله ومؤلفاته لأبناء القرن العشرين
جواد علي(435/33)
2 - الصحافة والدولة
تأليف الصحفي العالمي ويكهام اسفيد
للأستاذ زين العابدين جمعة
المحامي
أما بالإضافة إلى إيطاليا فمجرد النظر في (الكتاب السنوي للصحافة الإيطالية) وفي صفحاته التي تربي على الألف صفحة كاف لأن تتكشف معه الحقيقة عن أمر تلك العبودية التي انتظمت الصحافة الفاشية فأمست خاضعة لها. ولقد كانت كبريات الصحف الإيطالية مثل صحيفة (الكورييري دلاسيرا) التي تصدر من ميلان وصحيفة (الاستمبا) التي تطبع في ثورين - وحسبنا منها هاتان الصحيفتان - تنافس أعظم الصحف في أوربا وتناهضها قبل أن تبتدع الفاشية نظاماً. بينما كان الصحفيون الإيطاليون ينعمون في كتاباتهم بنصيب من الألمعية وبراعة الأسلوب ورقة العبارة لا يطاولهم فيه أحد
ولقد انتهى أمرهم اليوم إلى أن نظموا في سلك (النقابات) والجمعيات الرسمية وأمسوا وهم لا يستطيعون أن يؤدوا عملهم ما لم تدون أسماؤهم في سجل المهنة، ليكون ذلك شاهداً على استقامة رأيهم وسلامة عقيدتهم في النظام الفاشي. ولقد حددت مركزهم تلك الأوامر (الملكية) المعقدة تعقيداً لا حد له، وصيرتهم موظفين مؤتمرين بأوامر تلك الفئة الوحيدة التي تحكم الدولة. ولقد تلقى الصحفيين الإيطاليون درساً قاسياً عرفوا منه ما ينتهي إليه التمرد على الفاشية من مصير وخيم. فقد رأوا أنبل الناس نفساً واوفرهم استقامة بين ظهرانيهم يضربون بتلك الهراوة الفاشية ضرباً مبرحاً، وقد يكون مميتا - كما كان من أمر (جيوفاني أمندولا) - أو يحكم عليهم بمدد طويلة في الأشغال الشاقة، أو يرسلون إلى معسكرات ضاقت بمن سيقوا إليها أو زجوا فيها، أو يوضعون تحت مراقبة البوليس في الحالات الأخف وزناً وفي المخالفات الأقل خطورة وحتى أولئك الذين أمكنهم أن يهربوا من إيطاليا كالمرحوم (كارلو روزلي) وقد أدركوا أنهم لم يكونوا بمنجى من أن تصل إليهم أيدي المجرمين ومدى السفاحين.
لذلك نجد في الفصل الذي عنوانه: (روح الصحافة الفاشية وكيانها) - المذيل بعبارة عهد(435/34)
موسوليني كعنوان إضافي - من الكتاب السنوي للصحافة الإيطالية موضوعاً اقتبس منه ما يأتي:
(ووقتما ابتدعت الفاشية نظاماً للدولة، واختفت من الميدان الصحف المعارضة بعبارتها القارصة وأسلوبها اللاذع؛ ووقتما اهتدت إلى صوابها الصحف الناقمة الخارجة - تلك الصحف التي ذاعت ثقافتها العقلية التقليدية وكان لزاماً أن تحترم على الأقل ما بقيت لها ألقابها القديمة - فقد أحس الجمهور لوقت ما بشعور من الحيرة والارتباك ليس من الأمانة أن ينكر. إذا كان مما يتواتر على ألسنة الناس قولهم: (أيسعنا أن نقرر أن الحكومة لم تعد تخطئ، وأن الدولة دائما على صواب؟؟
- وذلك لأن الجمهور الساذج غير المثقف يختلط عليه أمر (الحكومة) و (الدولة) فيخالهم شيئين مختلفين مع أنهما اليوم وحدة لا تتجزأ لها ذاتيتها وخاصيتها. ومراعاة للأمانة والحق يجب أن نقرر أيضاً - ما دام الدوتشي نفسه قد قرره - أن طبع الصحافة بالطابع الفاشي لم يكن بالأمر الغريب المنار بل كان أمراً شاقاً ومنهجاً صعباً) ثم يحدثنا الكتاب السنوي إلى ذلك قائلاً: (ولكن أيسع أحداً اليوم أن يخبرنا عما إذا كانت الصحف هي التي تكون الرأي، أو كان الرأي هو الذي يكون الصحف؟؟) ثم يضيف إلى ذلك:
(والصحف تارة تتقدم الأسلوب الثوري وتارة أخرى تكون لاحقة له عندما يجري قلب أوضاع المجتمع في سبيل المدنية الحديثة انقلاباً جوهرياً، تلك المدنية التي جددت أسلوب النظم العامة والخاصة ووظيفتها، في شعوب أوربية عظيمة كإيطاليا وألمانيا. ففي هاتين الأمتين نجد الصحافة اليومية وقد تميزت عن سائر الصحف الأخرى في باقي أمم الأرض تميزاً واضحاً)
فما هو هذا الشيء الذي يميز الصحافة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية عن غيرها من صحف العالم؟؟ هنا يتولى (الكتاب السنوي) شرح هذا الفارق المميز فيقول:
(أن الفاشية التي كانت النتاج البكر بين حركات التجديد في أوربا كانت حرباً صليبية كبرى لتحرير الروح الإيطالي. . فهل كانت رجعة إلى الفطرة الأولى؟؟ نعم، ولكنها في الواقع مفتتح ثورة فعالة من شأنها أن تعيد إلى الشعب في غداة ثورة تاريخية عظمى نوعاً من العيش الفذ والحياة البكر). ثم يقول (الكتاب الثانوي) أيضاً:(435/35)
أن الصحافة الفاشية قد بعثت شباب إيطاليا بعثاً جديداً ووضعت أمام عينيه - وقد أجادت الاختيار واحترزت من أمره - حقائق لها قيمتها التاريخية لا مجرد أخبار مشوشة مضطربة. وما برحنا على حال لا يضايقها أن نقرر أن الصحافة قد أتمت رسالتها تحت لواء النظام الفاشي، ذلك النظام الذي وضع الصحافة في الصف الأول ومنحها قيادة نبيلة؛ الأمر الذي اصبح معه خضوع الصحف (لرأي الدولة) وهو من نوع استسلام الجندي المخلص لا من نوع تلك العبودية المفروضة على تابع أحسن إليه. و (رأي الدولة) هذا قد ورد ذكره وعرف في المجلد الثامن من كتاب (كتابات وأقوال بنتو موسليني) إذ جاء به (إن رأس الحكمة الفاشية هو إدراك معنى (الدولة) ومعرفة جوهرها وفهم أعمالها والإلمام بأغراضها ومراميها. فإذا كان من مقتضيات الفاشية أن تكون الدولة مطلقة التصرف فذلك من جهة تلك الصلات التي تربط الأفراد والجماعات بالدولة وتربط الدولة بهم. ولا يباح للأفراد والجماعات الحق في التفكير وتكوين الرأي إلا إلى الحد الذي لا يتعدى نطاق ما اختطته الدولة. والحكومة الحرة لا تدبر أمر أعمال المجتمع وتصرفاته ولا تنهض بتقويم نتاجه المادي والروحي بل يقتصر أمرها على مجرد تسجيل النتائج؛ بينما نجد الحكومة الفاشية ولها ما اختصت به من إدراكها لهذه المسائل ومن اختيارها لما تختاره منها ومن مشيئتها فيها ولهذا السبب لقبولها بالحكومة (الأدبية). . .)
انتهينا فيما تقدم - وبعبارة صريحة - من عرض المميزات والفوارق الأساسية بين وظيفة الصحافة في الحكومة الاستبدادية ووظيفتها في الأمم الحرة التي ما زالت حرية الأفراد فيها وهي تعد أمراً طيباً في ذاته؛ ولو كان المبدأ القائل بأنه: (في سبيل الفاشية يجب أن تكون الحكومة حكومة مطلقة) هو مبدأ إيطالي الأصل والنزعة، لساغ أن يتقبله العقل الإيطالي وأن يتحمل ما ينطوي عليه من أعباء الممارسة الفعلية لمسألة هي من أهم مسائل النظام الاجتماعي والسياسي. ومهما كان من التناسق والتلازم في أفكار موسوليني السياسية، فهي مأخوذة - على وجه أو وجهين - من آراء (هيجل) الفيلسوف الألماني الذي صيغت آراؤه عن الدولة - ولاسيما الدولة البروسية - في قالب صعب لأكثر من عصر مضى؛ ولم يكن ما تلقاه (فردريك أنجلز)، (كارل ماركس) من آراء (هيجل)؛ وما أوحى به إليهما فيما انتهيا إليه من نظر عن الدولة الشيوعية بالشيء القليل، وعن (ماركس)، (إنجليز) تلقى (جورج(435/36)
سوريل) رسول النقابية في فرنسا أول ما تلقاه من مبادئ العنف النقابي كوسيلة للانقلاب السياسي والاجتماعي قبل أن يتعقبها إلى منهلها في فلسفة (هيجل)، وينهل من هذا النبع المسموم؛ وعن (سوربل) تلقى (موسليني) بدوره هذه المبادئ الضارة والنهج الوبيل
فلقد صرح (هيجل) آنئذ في كتابه المعروف (بفلسفة التاريخ) بأن الدولة هي أسلوب فعال مطلق، وتجسيد لفكرة (أي تجسيد الحقيقة الماثلة وراء الظواهر). وعنده أن تلك الكائنات الحية التي تعيش تحت ظلال هذا الأسلوب من الحق المطلق، ليس لها من الحق في الاعتبارات المستقلة بأكثر أو بأقل مما للخلية بالإضافة إلى الهيكل البشري؛ وهو يقول: (إن الدولة هي أسمى فكرة وأجل وحي وأنبل خاطر، يغمر الحياة ويعيش على وجه الأرض)، لأن: (جماع ما للكائن الحي من قيمة وجماع ما ينعم به من الحقائق الروحية، إنما يتهيأ له فقط ويأتيه عن طريق الدولة)؛ يضاف إلى ذلك أن الدولة غاية في نفسها وشيء قائم بذاته، وهي الغاية القصوى التي يسمو حقها الأعلى على حق الفرد الذي ينطوي أسمى واجباته في أن يكون فرداً في الدولة
وهذه التعاليم هي من نوع التوفيق بين وجهة النظر الحرة ووجهة النظر المسيحية على حقيقتها في الحياة. إذ كلا النظرين يجعل لشخصية الإنسان قيمة عظمى. تلك الشخصية التي يعدها المذهب الحر العنصر الأولي الذي لا غنى عنه في مجتمع مكلف حر من الكائنات الإنسانية. بينما تنظر إليها العقيدة المسيحية كمستودع للنفس الخالدة. والصحافة الحرة قد هيئت لأن تنهض فور الوقت بواجبها نحو الحرية الاجتماعية والسياسية إذ تكون لسانها الناطق وحارسها الأمين. إلا أن الأمر يختلف عن ذلك تحت نير تلك النظم السياسية التي تعامل الفرد كمجرد تابع خاضع في كل شيء لإرادة حكومة مطلقة تعبر عنها أوامر حاكم مستبد حيث لا تصادف الصحافة الحرة ولا الصحفيون الأحرار أي عدالة أو ضمان
ولكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد إذ تصل إلى الأعماق من فلسفة الصحافة ذاتها. ففي الأمم الحرة ليس من شأن الصافة، لا يمكن أن يكون من شأنها ومن شأن ما يسمى أحياناً (بمسئولية) الصحفي، أن تكون مجرد صدى يردد ما يجري على لسان الحكومة من رأي. أو تعني بالتزام ذلك الصمت الذي يأخذ رجال السياسة أنفسهم به، أو يجري في عقيدتهم أنه من مقتضيات المراكز التي يشغلونها. والصحف المستقلة إن أيدت الساسة في خططهم(435/37)
وكانت لهم سنداً في الاحتفاظ بمراكزهم فهي إنما تمنحهم هذا العون طليقة مختارة وعن عقيدة شخصية قوامها أن هؤلاء الساسة يخدمون مصالح المجتمع جهد طاقتهم
ولقد بين (روبرت لو) (اللورد شربوك فيما بعد) الفارق بين واجبات الصحافة الحرة وواجبات السياسة بياناً علمياً صائباً في المقالين الافتتاحيين الخالدين اللذين حررهما لصحيفة (التيمس) في6، 7 فبراير عام 1852 وقتما كان (ديلان) ينهض برئاسة التحرير فيها
ففي شهر ديسمبر من عام 1851 قام (لويس نابليون) بحركة غير مشروعة كان من أمرها أن وثب إلى كرسي الإمبراطورية في فرنسا فنصب نفسه إمبراطوراً للدولة التي كان يتولى رئاسة الجمهورية فيها. وكان من أمر اللورد (بلمرستون) الذي كان يتولى وزارة الخارجية في ذلك الوقت من وزارة (رسل) أن أقر بالنيابة عن بريطانيا العظمى هذا الأمر الواقع من غير أن يراجع زملاءه في ذلك ويبادلهم الرأي ومن غير أن يخطر الملكة به. وأذ ذاك قامت قيامة صحيفة (التيمس) وآذنته هو و (لويس نابليون) بحرب شعواء جاهدتهما بها وناهضتهما فيها. ولقد بلغ من قسوة هذا النضال العنيف وما صيغ به من عبارة قارصة وأسلوب لاذع أن (ضاق لويس نابليون به صدراً) وثارت ثائرته عليه، وأن غضب له من شايعه من الوزراء البريطانيين وحاولوا أن يفلتوا من حملاتها بتكميم فمها. إلا أنه لم يكن من أمر إقرار (بلمرستون) لذلك الانقلاب الغير مشروع والذي كانت له اليد الطولي فيه إلا أن انتهى بعزله، إذ احتجت الملكة احتجاجاً حازماً على ما كان من خطل نهجه، وأبى عليه رئيس الوزارة قبول معاذيره أو إقراره على حججه. واختير فعلاً (لورد جرانفيل) خلفاً له ووزيراً للخارجية من وزارة رسل. وعقب ذلك بحولي الشهرين سقطت وزارة رسل بأجمعها. وتحين الفرصة (اللورد دربي) الذي خلف (لورد جون رسل) في رئاسة الوزارة. فما أن واتته - بمناسبة ما ثار وقتئذ من نقاش وما ألقى من خطب رداً على خطاب العرش - إلا أنحى إلى صحيفة التيمس بالملائمة وقبح منها ما كان من سفور النقد وصراحة العبارة زاعماً: (أنه إذا كان من حق الصحافة البريطانية في هذه الأيام أن تطمح لأن تقاسم الساسة سلطانهم، أفلا يحق عليها أيضاً أن تقاسمهم مسئولياتهم؟؟)
ولما كان (ديلان) صحفياً مستقلاً يعرف لحرية الرأي حقها وخطرها، فقد أحس من نفسه(435/38)
برغبة ملحة في ألا يدع هذه النظرية تمر من غير تحقيق وتمحيص ومن غير أن يظهر وجه الصواب منها، فأوحى إلى (روبرت لو) أن يفندها، وأن يبين للناس المبادئ التي تنظم كلا الأمرين حرية الصحافة وواجبات الصحفي في المجتمع الحر. ولقد نهض (لو) بهذه المحاجة برأي حازم وبصيرة نافذة؛ وإذ أخذ في مناهضة تلك المزاعم ومناقشة هذه القضية المنطقية التي أثارها (لورد دربي) بما زعمه من أن الصحافة التي تطمح في أن تشاطر الساسة سلطانهم يكون لزاما عليها أيضاً أن تشاطرهم مسئولياتهم، كتب في عدد التيمس الصادر في اليوم السادس من شهر فبراير عام 1852 المقال الآتي:
إذا كان الطرف الأول من هذه القضية ثابتاً مقرراً فلا جرم أن الطرف الثاني يتبعه في هذا الثبوت بداهة. ونحن من بين الناس جميعاً أقلهم ميلاً لأن نضع من شأن ما نهض به من عمل خطير أو ننكر ما يقع علينا من مسئوليات وما ننعم به من سلطان نستمده من قوة الشعب وثقة الجمهور. إلا أنه لا يسعنا مهما يتهيأ لنا من أمر هذا السلطان سواء أكان عظيماً أم صغيراً أن نقرر أن من مقتضياته أن نشاطر رجال السياسة أعمالهم، أو أن هذا السلطان مقيد بمثل ما يتقيد به وزراء التاج من قيود العمل والزمن. وبمثل ما يلازمهم من واجب ومسؤولية، فكل من هذين السلطانين متميز عن الآخر تمام التمييز في مقتضياته وواجباته. وهما على العموم أمران مستقلان، وأحياناً شيئان متعارضان يسيران على خطين متوازيين فلا يتقابلان، والصحافة تعبث بحريتها وتقيدها وتحد من نشاطها إثر تلك اللحظة التي تقبل فيها أن تشغل مركز المسود من السيد، وأن تنزل منزلة التابع من المتبوع؛ وهي إن عنيت بتأدية واجباتها باستقلال صحيح تام؛ وبالتالي بما يتطلبه منها جماع المصلحة العامة، لما وسعها أن تهادن رجال الساعة من الساسة أو تحالفهم، أو أن تخضع مالها من شأن خالد ونفع متواصل لما يتهيأ لأية حكومة من سلطان موقوت ونفوذ سرعان ما يزول عنها أو تزول عنه
(البقية في العدد القادم)
زين العابدين جمعة(435/39)
11 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تعليم البنات
قلما يتعلم البنات القراءة والكتابة. وكذلك لا يتممن الصلاة حتى بنات الطبقة الراقية. ويستخدم بعض الأغنياء (شيخة) لتزور الحريم يومياً فتعلم بناتهم وجواريهم إقامة الصلاة وتلاوة بعض سور من القرآن. وقد تعلمهن القراءة والكتابة، إلا أن هذا، حتى لنساء الطبقات الراقية، شيء كالذي يندر أن يتم. وهناك عدة مدارس تعلم فيها البنات الخياطة والتطريز الخ. ولكن إذا سمحت الظروف يعهد بالبنات إلى (معلمة) تعلمهن تلك الأشغال في منازلهن
الفصل الرابع
الحكومة
قاست مصر - هذه السنوات الأخيرة - تقلبات سياسية عظيمة، وزالت تبعيتها للباب العالي إلا قليلاً. وقد استقبل حاكمها الحالي محمد علي تقريباً، بعد أن أباد الغز أو المماليك الدين شاركوا أسلافه الحكم؛ إلا أنه أعلن ولاءه للسلطان، وأصبح يؤدي الخراج للأستانة كما هي العادة. ثم إنه خضع لأحكام القرآن الأساسية والسنة. وهو - خلافاً لذلك - يتميع بسليطة لا حد لها. فهو يستطيع أن يقضي على أي فرد من رعاياه بالموت دون محاكمة أو تعيين سبب. وكفاه أن يحرك يده حركة أفقية بسيطة ليتضمن ذلك حكم الإعدام. ولكن يجب ألا يفهم من كلامي أنني ألمح بميله إلى سفك الدماء بلا موجب. أن من طبع هذا الوالي الصرامة الحازمة لا القسوة الشريرة. وقد دفعه طموحه المطلق إلى جميع الأعمال، فكان يجلب لنفسه المدح تارة أو الملامة تارة أخرى. ويجد في قلعة العاصمة مجلس للقضاء(435/40)
يسمى (الديوان الخديوي)، يرأسه في غياب الباشا نائبه (الكخيا) حبيب أفندي. ويبت رئيس الديوان الخديوي في الأمور التي تخرج عن اختصاص القاضي أو التي تكون واضحة بحيث لا تحتاج إلى الرجوع إلى القاضي أو أي مجلس آخر.
وقد أقيمت في أنحاء العاصمة دور كثيرة للشرطة، في كل منها بلوك نظام أي فرق منظمة. ويسمى الشرطي (قلق) أو (قراقول). ويقبض على من يهتم بالسرقة أو السطو الخ ويقاد إلى دار الشرطة الرئيسي في الموسكي حيث يسكن أغلب الفرنج. وبعد أن تثبت التهمة كتابة يقاد المتهم إلى (الضابط) إي رئيس شرطة العاصمة. وبعد أن يسمع الضابط القضية يرسل المتهم للمحاكمة أمام الديوان الخديوي. وعندما ينكر المتهم الجريمة الموجهة إليه، ولم يكن هناك دليل على الإدانة، يجلد ليحمل على الاعتراف بجريمته. وحينئذ، إن لم يكن قبلاً، يعترف المتهم بالجريمة إذا كانت طبيعتها لا تعرضه لعقوبة شديدة. ويعترف اللص عادة بعد هذا التعذيب بقوله: (إن الشيطان أغراني ففعلت) وعقوبة المجرمين يرتبها نظام مستبد ولكنه لطيف حكيم. ويكون عادة بإلزامهم للقيام ببعض الأشغال العمومية مقابل قوت قليل، مثل نقل القمامة وحفر القنوات الخ. وقد يجند الشبان الأقوياء متى كانت التهمة طفيفة. ويستحق محمد علي على استخدامه المجرمين لإصلاح البلد وتحسينه المدح الذي كان وقفاً على سابا كون الفاتح الحبشي وملك مصر الذي يقال إنه أدخل هذا النظام؛ إلا أن الباشا كان شديداً في معاقبة الجرائم التي ترتكب ضد شخصه فالإعدام هو العقوبة العادية في أحوال كهذه
وهناك عدة مجالس دنيا لإدارة شؤون الأقاليم المختلفة، وأهمها: أولاً. (مجلس المشورة) ويقال أيضاً (مجلس المشورة الملكية) تمييزاً له عن المجالس الأخرى. ويختار الباشا أعضاء هذا المجلس والمجالس المشابهة الأخرى ممن يتحلون بمواهب أو صفات أخرى. ولذلك تخضع جميع قراراتهم لأرادته ورغباته؛ وهم آلته ورهن إشارته، ويكونون لجنة تشرف على إدارة البلد العامة وشؤون الباشا التجارية والزراعية. وتعرض العرائض الموجهة إلى الباشا أو إلى ديوانه المتعلقة بالمصالح الخاصة أو بشؤون الحكومة على أعضاء المجلس وتخضع لتقديرهم وحكمهم، إلا إذا وقعت في اختصاص المجالس الأخرى المذكورة فيما بعد. ثانياً (مجلس الجهادية) أو (مجلس المشورة العسكرية) واسمه يدل على(435/41)
مدى اختصاصه. ثالثاً مجلس (الترسخانة) أو البحرية. رابعاً (ديوان التجار) وقد أنشئ هذا المجلس الذي يتكون أعضاءه من تجار مختلفي البلد والدين تحت رئاسة (الشاه بندر) لينظر في بعض الأحوال الناشئة عن المعاملات التجارية الحديثة مما لم ينص عليه في القرآن أو السنة
ويتولى قاضي القاهرة القضاء في مصر لمدة سنة واحدة ثم يرجع عند انتهائها إلى الآستانة. وجرت العادة أن يقوم القاضي من القاهرة مع قافلة الحج الكبيرة إلى مكة فيقضي واجبات الحج ويبقى في المدينة المقدسة سنة واحدة، وفي المدينة المنورة سنة أخرى يقضي بين الناس. ويشتري القاضي منصبه بالممارسة من الحكومة التي لا تقيم أي اعتبار لمواهبه. غير أنه يجب أن يكون ذا علم ولو قليلاً، وأن يكون عثمانياً حنفي المذهب. وقلما يجيد القضاة اللغة العربية لأن معرفتها لا تلزمهم. ولا يكاد القاضي في القاهرة يعمل شيئاً غير التصديق على حكم (نائبه) الذي ينظر في أغلب العادية والذي يختاره القاضي من علماء استنبول، أو التصديق على قرار (المفتي) الحنفي الذي يقيم دائماً في القاهرة ويصدر فتواه في القضايا الصعبة، ولكن النائب على الأكثر قليل المعرفة باللغة المصرية العامية
ولذلك يجب على القاضي في القاهرة، حيث يتكلم أغلب المتقاضين العربية، أن يضع غاية ثقته في (الباش ترجمان)؛ ومنصب هذا دائم، ومن ثم فهو يعرف أنظمة المحكمة، وخاصة نظام الرشوة، وهو على أتم استعداد لأن يلقن هذا النظام لكل من يستجد من القضاء والنواب. وقد يكون القاضي جاهلاً بالشرع جهلاً غليظاً في كثير من تفاصيله، وقد حدثت عدة أمثلة من هذا النوع، ولكن يجب أن يكون النائب بارعاً في الشرع علماً وعملاً
وعندما يرفع الشخص قضية يذهب إلى المحكمة ويطلب من الباش رسول أن يرسل (رسولاً) ليحضر الخصم، ويتناول الرسول قرشاً أو قرشين يقسمهما مناصفة بينه وبين رئيسه على انفراد. ويحضر المدعي والمدعى عليه في بهو المحكمة الكبير: وهو غرفة كبيرة تواجه فناء فسيحاً، ولها واجهة مكشوفة بها صف من الأعمدة والعقود، ويجلس فيها كتبه يسمى الواحد منهم (شاهداً) وعمله أن يصغي إلى أقوال الطرفين في القضية ويدونها، ورئيسهم الباش كاتب، ثم يقصد المدعي أي وأحد من هؤلاء الكتبة ويقرر أمامه ظروف القضية. . . فيثبتها الشاهد كتابة، ويتناول جعلاً قدره قرش أو أكثر، ثم بعد ذلك يصدر(435/42)
حكمه إذا كانت القضية لا قيمة لها والمدعى عليه يعترف بعدالتها، إلا قدم الطرفين إلى النائب في غرفة داخلية. وبعد أن يسمع النائب القضية يأمر المدعي أن يستصدر من فتوى من مفتى الحنفية الذي يتناول جعلاً يندر أن يقل عن عشرة قروش، ويزيد غالباً على مائة قرش أو مائتين، ويصدر النائب حكمه في القضايا التافهة منفرداً وبأقل تعب. أما القضايا المهمة أو المعقدة فأنها تنظر في غرفة القاضي الخاصة أمام القاضي نفسه والنائب ومفتي الحنفية الذي يستدعي للفصل فيها بفتوى؛ وقد تزيد القضية صعوبة أو أهمية، فيستدعي بعض علماء القاهرة؛ وبعد أن يصفى المفتي إلى القضية يصدر حكمه كتابة، فيصدق القاضي عليه ويختم الورقة بختمه، وهذا كل ما عليه أن يعمله في أي قضية. ويستطيع المتهم أن يبرئ نفسه باليمين إذا لم يقدم المدعى شهوداً، فيضع يده اليمنى على القرآن ويقول: بالله العظيم ثلاث مرات، مردفاً: وبما يحتويه هذا من كلام الله. ويجب أن يكون الشاهد عدلاً أو يزعم أنه كذلك، وألا تكون له مصلحة في القضية. ويلزم لكل دعوى شاهدان على الأقل أو رجل وامرأتان، ويجب أن يزكي الشاهدين شخصان آخران. وشهادة الكافر على السلم لا تجوز شرعاً في حالة العقوبة الشديدة. والشهادة لصالح الابن أو الحفيد أو الأب أو الجد لا تقبل كذلك شهادة الأرقاء، ولا يستطيع السيد أن يشهد لصالح عبده.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(435/43)
رسالة الشعر
إلى. . .؟!
(للشاعر المجهول)
تحدثتَ بالهتَّاف أنك حاضرٌ ... لإيناسِ روُحي بعد بِضْع دقائقِ
فكيف ترى عيشي يطولُ فأجتنِي ... على شغَفي أرواح تلك الشقائق
ألوفٌ من الأحلام طافتْ فداعبتْ ... فؤادَ أسيرٍ ظامئ الروحِ وامق
فما صحَّ حُلمٌ في هواك ولا انتهتْ ... على اليأس مَوْجاتُ الدموع الدوافق
أأنتَ برغم الصد والدَّل قادمٌ ... لإسعاد مشتاقِ وإنجاد عاشق؟
أمثلك تسديه الحياةُ إلى فتىً ... مَرِيد الهوى والشوقِ وَعْرِ الخلائق؟
وكيف أرى داري على ضِيق ساحها ... تحيط بديَّان الشموس الشوارق؟
سألقاك - هل ألقاك؟ - في ثوب ضَيْغَمٍ ... يرى الرفق بالغزلان إحدى البوائق
تعالَ تجدْني جذوةً من صبابةٍ ... تسَّعرُ في صدرٍ مَشوقٍ وشائِق
لِنجواكَ أستبقي شبابي فعاطِني ... كؤوس الهوى قبل ابيضاضِ المفارق
وأعْزِزْ فؤاداً لو أردتَ جعلتَهُ ... أعزَّ من الشَّغواءِ في رأس شاهق
لقد مالت الدنيا وجافتْ وجانَبَتْ ... فكُنْ مُنِقذي من جَورها المتلاحق
إذا كنت لي يوماً ولو بعض ساعةٍ ... تجودُ بها جُود الحبيب الموافق
فسوف أري الدنيا على سوءِ بغيها ... أطالب من لَهْوِ الشبابِ الغُرَانِق
دقائِقُ كالأعوام طالتْ ولم تَجَئْ ... حَماك إله الحبِّ من كُلِّ عائِق
سيَقتُلني شوقي إليك فهل أرى ... خيالك عند الموت وهو مُعا نِقي
أُحُّبك حُبَّ القلب للوَحْيِ فالْقَنِي ... ولو لحظةً يَنقُذْ الغيب بارقي
شَبَبْتَ بقلبي ثورةً لم تُعانِها ... جوانِحُ مَشغوفٍ ولا صدرُ حانق
وصيَّرتَنِي لا صرتَ مِثليَ عِبرةً ... لِكلِّ أَلوفِ الروح جَمِّ العلائق
فحَتَّى متى أحنو عليك ولم أكنْ ... بحفظك للميثاق يوماً بواثق
أُحِبُّك حُبَّ العَين للنور فاهدني ... إلى الصبر عن لُقياك إن كنت صادقي
وهل أبصر الرابون من عُصبة الهوى ... نظيرَكَ في أوهامهم والحقائق؟(435/44)
لكَ المجدُ بينَ الحالتين فولِّنى ... قضاَء الأسى بين القلوب الصوادق
أُحِبُّك حُبّاً لو تمثِّلتَ وَقْدَهُ ... لأمسيتَ في كربِ من الْحُزن ساحق
إلى الله أشكو ما أعانيه من جوّى ... هو الدهرُ يَرمي بالصروف الصواعق
إلى خالق الأرواح أشكو بَليَّتي ... برُوحٍ غَدورٍ في الغرام وماذِق
تؤرِّقني أطيافُ ذكراهُ سُحرةً ... بَروْعٍ كأهوال الخطوب الطوارق
فما الذنبُ؟ ما ذنبي وما كنتُ في الهوى ... سِوَى شاعرٍ للصدقِ في الحبِّ خالقِ
ستُطوَى أحابيلُ الملاح وتنطفي ... على الدهر نيرانُ الشُّجون الَمواحِق
ويبَقَى نَشِيدي في هواكَ وثيقةً ... تُسَجِّلُ أحلامَ القلوب الخوافق
(الشاعر المجهول)(435/45)
البريد الأدبي
المحتسب في الإسلام
نشرت مجلة الجمعية الصحية المصرية في عدد من أعدادها الأخيرة مقالاً قيماً للدكتور فريد بك حلمي المفتش بوزارة الصحة عن نظام التفتيش على المأكولات والاشتراطات الصحية في العهد الفاطمي معتمداً في بحثه على كتاب (معالم القربة في أحكام الحسبة) لمؤلفه محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الأخن، أثبت فيه أن المحتسب كان يقوم في هذا العهد بوظيفة مفتش مأكولات ومعاون صحة ومفتش موازين ومفتش بيطري، وبالجملة يعتبر من رجال الضبطية القضائية؛ وكانت الاشتراطات التي يفرضها المحتسب على المحلات لا تقل دقة عن اشتراطات وزارة الصحة اليوم إن لم تفقها، وللتدليل على ذلك نذكر بعض ما يخص الجزارين قال:
(لا يجر الجزار شاة برجلها جراً عنيفاً، ولا يذبح بسكين كالة لأن في ذلك تعذيب للحيوان، ولا يشرع في السلخ بعد الذبح حتى تبرد الشاة وتخرج منها الروح. وينهي الأبخر عن النفخ في الشاة عند السلخ لأن نكهته تغير اللحم وتزفره، ويمنع المحتسب القصابون من الذبح على أبواب دكاكينهم فإنهم يلوثون الطريق بالدم والروث، وهذا منكر يجب المنع منه، وأن يفردوا لحوم المعز عن لحوم الضأن، وينقطوا لحم المعز بالزعفران ليتميز عن غيره وتكون أذناب المعز معلقة على لحومها إلى آخر البيع ولا يخلط لحم الذكر بالأنثى)
هذا جزء بسيط مما يقوم به المحتسب، ومثل ذلك كان يفرض على كافة الحرف والصناعات.
وكان المحتسب يدخل في صميم الصناعة بشكل يعجب به أبن القرن العشرين لمعرفته بطرق الغش التي تخفى على الكثيرين، والتي لا تمسها شروط وزارة الصحة إلا عن بعد. ومن شروط الحسبة والمحتسب أن يكون مواظباً على سنن رسول الله (صلعم)، وأن يكون عفيفاً عن أموال الناس، ووظيفته أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأن يقصد بقوله وفعله وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته الخ.
(كوم حماده)
كامل يوسف(435/46)
أصل كلمة النفط
أرى أن كلمة النفط عبرية الأصل، وتنطق في العبرية نفتً وقد وردت في التوراة في مواضع مختلفة بمعنى التقطير أو القطر أو القطرات، وهو المعنى الأصلي الذي أخذ منه اسم زيت البترول (نفت) لعلاقة التقطير أو القطر في كلٍ
ففي الآية الثالثة من الإصحاح الخامس من كتاب الأمثال (لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلاً (نفت) وفمها أنعم من الزيت). وفي الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الرابع والعشرين من الكتاب نفسه (يا بني كل عسلاً لأنه لذيذ وقطره (نفت) حلو في فمك)
وفي الآية الثالثة عشرة من المزمور التاسع عشر نجد (وأحلى من العسل وقطر (نفت) الشهد)
والأمثال والمزامير من أقدم كتب التوراة. ولا أذكر أنني عثرت في الأدب الجاهلي أو الإسلامي على كلمة نفط أو نفت فمن المرجح إذا أن تكون الكلمة عبرية الأصل دخلت إلى العربية بعد الفتح الإسلامي. هذا إلى أن كلمة (نفت) أو نفط مستعملة في الفارسية الحديثة والقديمة. وأذكر أنني قرأتها في الشهاهنامة الفارسية، وإن كنت لا أستطيع الآن وهنا أن أنص على موضعها لعدم المرجع
(بخت الرضا. سودان)
عبد العزيز عبد المجيد
في نقد الأصول
ذكرني الدكتور حسن عثمان في بحثه - نقد الأصول - الذي هو فصل من بحوثه القيمات التي ينشرها في (الرسالة الزهراء) تحت عنوان (كيف يكتب التاريخ) ذكرني ذلك بما كنت قرأته في ترجمة الخطيب البغدادي المؤرخ العظيم، فإنه لما رجع من مكة، إلى بغداد تقرب من رئيس الرؤساء أبي القاسم بن مسلمة وزير القائم بأمر الله، وكان قد أظهر بعض اليهود كتاباً وادعى انه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة وأنه خط على رضى الله عنه؛ فعرضه رئيس الرؤساء على أبي بكر(435/47)
الخطيب فقال: هذا مزور، فقيل له من أين لك ذلك؟ قال في الكتاب شهادة معاوية أبن أبي سفيان ومعاوية أسلم يوم الفتح وخيبر كانت في سنة سبع؛ وفيه شهادة سعد بن معاذ وكان قد مات يوم الخندق في سنة خمس. فاستحسن ذلك منه
محمد أبو البهاء
في الخوارج
كتب الأستاذان الصعيدي والأفغاني (في الأعداد 422، 23، 31) في تحقيق نسبة كلمة في الخوارج إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى سيدنا علي بن أبي طالب. وسأل الأستاذ الصعيدي عن المصدر الذي نسب هذا القول إلى علي، وأجاب الأستاذ الأفغاني بأنه (العقد الفريد)
وإليك رواية تؤيد أن الخبر من كلام سيدنا علي وردت في قديم المصادر ووثيقها. قال الهيثم بن عدي حدثنا إسماعيل بن خالد عن علقمة بن عامر قال: سئل علي أهل النهروان أمشركون هم؟ فقال من الشرك فورا، قيل أمنافقون؟ قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، فقيل فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا. فهذا ما أورده أبن جرير الطبري وغيره في هذا المقام. أنظر (البداية والنهاية لأبن كثير) ج7 ص289 و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد الهيثمي) ج6 باب في الخوارج، باب في أهل النهروان
أحمد صفوان
حق الضيافة
طلع علينا العدد (430) من (الرسالة) وهو يحمل مقالاً قيماً للأستاذ - علي الطنطاوي - عن (حق الضيافة) وقد رأيت هذا المقال الممتع ثورة على أخلاقنا ونقدا لتقاليدنا وصورة من صميم الحياة المصرية فكشف الستار عن داء عضال في المجتمع يجب استئصاله؛ وهذا لا يتنافى مع الشهامة والكرامة، فقد اتخذت الضيافة في هذه الأيام وسيلة للمضايفة ومجالاً للتسلية والمسامرة وضياعاً للمصالح. وما أحوج مصر الحديثة التي أصبحت في احتياج إلى اتجاهات جديدة أن تجد من حملة أقلامها وقادة الرأي فيها مثل هذه الشجاعة(435/48)
فيورثون على هذه التقاليد التي تضر ولا تنفع. فإلى الأمام يا أستاذ - الطنطاوي - وأكثر من هذه الأبحاث ففيها ترقية للذوق الشرقي وتهذيب للأخلاق وسعادة للمجتمع والله موفقك ومبارك غايتك.
محمد أحمد عمر
عبر كذا. . .
رداً على الأستاذ الكبير (أ. ع) أقول:
كنت احتججت ببيت سواد بن قارب
فشمّرت عن ذيلي الإزار وأرقلت ... بي الدعلبُ الوجناء عبر السباسب
وقلت في الحاشية: (ولعل من الإنصاف أن أقول: يمكن تخريج الشاهد على غير ما استشهدت له بجعل عبر صفة للناقة الخ) ومن ثم يرى القارئ أني لم أوجب أحد الرأيين، وأني أجزتهما ولكني - في هذا الشاهد - رجحت العبر بمعنى العبور، على أن يكون مصدراً مراداً به أسم الفاعل
ولكن الأستاذ (أ. ع) يحتم في رده أن تكون صفة ثالثة للناقة لا غير. ويرى أن الشاعر في مقام تعديد محاسن ناقته وما فيها من مزايا، فهو يصفها بالفتاء والقوة، وبأنها قادرة على شق السباسب الخ. . .
ورداً على ذلك أقول: لا يتعين في هذا الشاهد قصر المقام على تعديد محاسن الناقة، فإن في قوله (الذعلب) وهي الناقة السريعة، و (الوجناء) وهي القوية الشديدة، كما في اللسان ما يغني عن الوصف بأنها (عبر سباسب) وهو معنى لا يغاير سابقيه كثيراً
ويؤيدني فيما أذهب إليه ورود البيت في بعض الروايات على معنى الظرفية لا الوصفية. ففي السيرة الحلبية ج1 ص267:
فشمرت من ذيل الإزار ووسَّطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب
وكذلك الرواية في (سفينة الراغب ص638) نقلاً عن (أنوار الربيع في أنواع البديع)
وليس معنى هذا أنني أؤيد استعمالها ظرفاً، ولكني لا أزال أرى أنها مصدر وقع موقع أسم الفاعل. فقد خرج من حسابنا ما ساقه الأستاذ من الأدلة على أنها ليست ظرفاً، فهو رأى لم(435/49)
أقل به.
ونرجع إلى التخريج الذي رأيته، وجهد الأستاذ أن يفنده، فقال: إن المصدر لا يقع حالاً إلا إذا كان نكرة، و (عبر السباسب) معرفة بالإضافة، وأبطل بهذا - في زعمه - تخريجي
وأقول: إن الأستاذ لم يتبين رأيي على وجهه الصحيح، إذ توهم أني أرى (عبرا) مصدراً أريد به الحال، ولم أقل هذا، وإنما قلت: إنه مصدر وضع موضع أسم الفاعل، فهو عبر معنى عابر، كما في قوله تعالى: (إن أصبح ماؤكم غوراً)، أي غائراً؛ ورجل عدل، أي عادل. . .
وسواء وقوع هذا المصدر بعد ذلك حالاً أو خبراً أو فاعلاً الخ فذلك راجع إلى السياق. . . فقد أصبحت القضية الآن: هل يشترط تنكير المصدر إذا وقع موقع أسم الفاعل، بصرف النظر عن كونه حالاً أو غير حالاً؟
لم يقل أحد هذا، فأنت تقول: (قاضيكم العدل)، أي العادل، (وأنصفني عدلكم)، أي عادلكم. فأنت ترى أني أنص على أن كلمة (عبر حال) - حتى يشترط تنكيرها - وإنما نصصت على أنها مصدر بمعنى فاعل، وكونها (حالاً) أمر اقتضاه سياق الكلام في الجمل التي ساقها الأستاذ وساعد عليه أن المصدر سيفقد تعريفه بعد التقدير، وسيصير المضاف إليه مفعولاً، وذلك في قولك: (عابرة الاطلنطي)؛ فليس ثم ما يمنع من أن يكون المصدر (حالاً) بعد أن فقد تعريفه
وبعد. . . فأني أنشد الحقيقة. . . وعلى الأستاذ أن يقنعني - إن استطاع - فأسلم له ومني عليه التحية
(بني سويف)
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة الابتدائية
حول كلمة (عبر)
سيدي الأستاذ الكبير (الزيات)
سلام الله عليك. قرأت بإعجاب كبير ما دبجته براعة الأستاذ الكبير (أ. ع) خاصاً باستعمال(435/50)
كلمة (عبر) ظرفاً وبيان وجه الخطأ في ذلك. وإنا نوافق الأستاذ الكبير على كل ما أورده في كلمته القيمة؛ أم إدعاء الأستاذ محمد محمود رضوان صحة استعمال (عبر) ظرفاً واستشهاده على ذلك بقول سواد بن قارب:
فشمرت عن ذيل الإزار، وأرقلت ... بيَ الدعدب الوجناء عبر السباسب
فهو إدعاء باطل من وجهين:
الأول: احتمال كون (عبر) صفة للناقة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال
الثاني: فساد المعنى يجعل (عبر) ظرفاً بمعنى بعد؛ لأنه لا معنى لإرقال الناقة بعد قطع السباسب والانتهاء إلى غايتها وعندي أنه يصح أن تكون (عبر) في هذا البيت مصدراً مفعولاً لأجله، ويكون المعنى أن الناقة أرقلت لعبر السباسب أي لعبورها. وهو معنى صحيح مناسب لا غبار عليه
هذا، وللأستاذ الكبير إعجابي الكبير بأبحاثه اللغوية الممتعة. والسلام عليكم ورحمة الله
إبراهيم محمد نجا
الصباح الأدبي في دمشق
أصدر فريق من أبناء دمشق الناهضين صحيفة أدبية راقية باسم (الصباح) ولم يشأ القائمون بهذا المشروع أن يكتفوا بالشبان من الأدباء، بل اتفقوا مع فريق من أكابر الأدباء والأدبيات في البلاد العربية، كي يغذوا (الصباح) بثمرات أقلامهم الناضجة، وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة:
محمد كرد علي، شفيق جبري، خليل مردم بك، عبد القادر المغربي، محمد البزم، ميشيل عفلق، فؤاد الشائب، صلاح الدين المحايري، زكي المحاسني، وداد سكاكيني، فلك طرزي، وغيرهم.
ومما لا نرتاب فيه أبدا أن (الصباح) ستكون كما ظهر من عددها الأول مرآة صادقة للأدب الجديد الناهض في سورية.
ع. ع(435/51)
العدد 436 - بتاريخ: 10 - 11 - 1941(/)
تعقيب على رأيين
في الغناء والموسيقى بمصر
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
في مصر بصيص من العلم والفن مشى بنوره الأقلون، وبان لبعضهم حقائق واقعة في وطنهم، مانعة من إصلاح الفاسد وتيسير الرقي، فمالوا طبعاً إلى كشفها لقومهم بشتى الأساليب في سبيل المصلحة العامة. ومن هؤلاء أحيانا من يخص الغناء والموسيقى ببعض ما يكتب.
هذا موضوع قد يتناوله كتاب تدفعهم إلى البحث فيه مصالح خاصة، أو أهواء ليست في شيء من غرض الإصلاح، أو مقرونة بقصده، فيسيئون إلى أمتهم، أو يكون ضرر صنيعهم أكبر من نفعه. أما دعاة الإصلاح الصادقون فلا غرض لهم سواه؛ وهم لا يوجهون نقدهم إلى أشخاص معينين، بل يكشفون حقائق طور من الأطوار أدت إليه عوامل عامة أحدثت هذه الحال الشاملة التي لا يلام عليها الأفراد من مؤلفي الأغاني والملحنين والمغنين والموسيقيين.
على أن المعلمين والمثقفين، المتفوقين من أهل الفن، يلام الواحد منهم إذا هو وقف من كلام النقاد على حال فنه الحقيقية السيئة، فلم يجتهد في إنقاذه منها بما في وسعه ولو كان مقصوداً بنقد، أو واهما ذلك: لأن كل محب لفنِّه ليس يبالي إلا بما يرفع من شأن الفن. والإصلاح آت، وإن كان مما لا يتحقق في لحظة. وأغلب الظن أن الذين يمهدون طرقه، أو تتاح لهم فيها فتوح، سوف يظهرون من هذا الفريق؛ ولا يعادل انتصار على ناقدٍ لذة مسابق يسبق إلى مثل هذا الفوز وينال شرفه.
ثم إن أولئك الدعاة ينظرون إلى المستنيرين المخلصين لفنونهم ويأملون الآن منهم أن يؤمنوا أولاً بحقائق عيوبها، وأن يدركوا أن إزالة هذه العيوب يزيد الناجحين منهم نجاحا: فإن هذا الإيمان وهذا الإدراك هما مفتاح لباب الإصلاح. ولذا كان من النافع أن تتعرف آراؤهم فيما يلاحظ على الغناء والموسيقى بمصر.
أبدي شاعر نابه، عميق العاطفة، عذب الأسلوب، رأيه في هذا الموضوع بمقال جاء فيه أنه رأي، في سنة 1925، ما يهدد الأخلاق من شيوع (الأغاني المكشوفة) فدخل مضمار(436/1)
النظم للغناء؛ وبث في الزجل (روح الشعر من الطهر والعفة)؛ وأدخل في نظمه (من أبحر الشعر ومجازاته ما وسع دائرته، وفتح للملحنين أبوابا كثيرة)؛ فتناولت الأغاني (أبواباً جديدة من الغزل البريء، كان أهم عناصره الأمل والوفاء، والذكرى والتضحية، وما إلى هذا من صفات الحب الروحاني).
صدق. وهو جدير بالشكر على نزعته الفاضلة إلى الإصلاح. غير أن الوفاء والتضحية، والذكرى والأمل، أشياء قد توجد عند محب عزيز أبي، وعند محب ذليل دني؛ وما وفاء هذا، مثلاً، كوفاء ذاك؛ وأساليب العبارات الصادرة عن الخصلة الواحدة في الاثنين، هي التي تصف لونها في كل منهما، لاختلافه باختلاف نفسيَّتيهما؛ فإن كان منظوم الشاعر الفاضل يمثل جله أو كله كلام المحب الأول، فإن منظوم غيره هو، في الأكثر، كلام الثاني وهو طاغ على الأغاني.
قال في المقال إن شعراء ناصروه في مذهبه فكانوا جميعاً أصحاب (المدرسة الحديثة). ولم تقتصر أغانيهم على الحب، (بل شملت أنواعاً من الوصف الرقيق في جمال الطبيعة)؛ وأنهم بأسرهم ينظمون للمسرح والسينما والحاكي والراديو، (وفي هذه الميادين مجال كبير للمعاني التي لا تذكر الحب)؛ وينظمون (تارة بالعربية الفصحى، وتارة بهذه العامية الفصحى).
صدق أيضاً. لكن كم من وصف الطبيعة في جملة ما يغنى؟ وهل جيد هذا الوصف بين أغانينا أوفر من رديئه؟ وهل أدرك المعاني الجيدة وغنى بها الملحن والمغني، وأداها كل منهما تأدية توافق المواقف المختلفة، وتشعر النفوس ببهجة الطبيعة؟ وكم نظم الناظمون للغناء من المعاني التي (لا تذكر الحب) في ذلك المجال الكبير بميادين المسرحيات وسواها؟ وما النسبة بين ما نظموا بالعربية الفصحى وبين ما نظموا بتلك العامية (الفصحى)؟ هذه الأسئلة أجاب عنها النقاد إجابة صحيحة بشهادة حال الغناء والموسيقى عندنا.
ومن كلامه: (القول بأن الغناء ينحدر في مصر فيه من القسوة شيء كثير، إذا قيس نتاج هذه السنين القليلة بعصور إسماعيل، وتوفيق، وعباس)؛ و (قد زال من قاموس الغناء ما كان في القديم من ذكر الدلع والخصر والكفل. . . والخمر ومجلسها، والنديم ودلاله)؛ و(436/2)
(انعدم من جو الغناء ذلك الغث المحدث، وليد الحرب والثورة)
أليس في هذا الكلام مبالغة إذا جرد منها انعكس معناه؟ فإن (جو الغناء) متسع لأكثر من جيد أغاني المجيدين من شعراء اليوم؛ وليس من كلامهم العف كل ما يغني، ولا أوفره؛ ولم ينعدم في الأغاني (ذلك الغث المحدَث) ولا ذكر الدلع والدلال. وقد يوصف يوصف جمال الإنسان بلا تمجن، كما يصوره المثال، وإنما العبرة بأسلوب الوصف. وكم يعبرون عن الشهوات الحسية بلهجة في اللحن وحركة في الغناء، فيأتي تعبيرهم الصوتي الماجن أبلغ من الكلمة الصريحة، ويثير غريزة الجمهور؛ وذكر الخمر والخصر خير من تمثيل الاستخذاء والذل.
والأهم أن تلك العصور كان، من الجهة الفنية، أرقى من غناء اليوم، إذ كان ملائماً لأغانيها، وأصدق بملاءمته تأدية لمعانيها، وأقرب إلى القلوب بصدقه وخلوه من التخليط المشوه للفن. وقد غنوا قصائد وتواشيح، وأدواراً سياسية، وعزفوا بشارف. ذلك عهد مضى عليه ربع قرن، وأصبح الغرب في مصر، وصاحت مصر في الغرب؛ وهي اليوم في عصر الجامعة، ومعاهد الموسيقى، والحاكي، والسنما، والراديو؛ ومع هذا كله فقد صرنا نؤدي الأغاني بخليط من الألحان كثيراً ما يتنافر فيه الترح والمرح، والشرقي والغربي، وبمزيج من أنغام معزف تضارب أنغام حناجر، في الغالب. ذلك بأننا تركنا الشعور والفهم وتبعنا السمع الضال والغريزة الجامحة والتقليد الأعمى. فليست الموازنة بين الماضي وبين هذا الحاضر في مصلحة نتاجه.
احتج، من غير موجب للتغني بالحب حيث قال: (كيف تخلو الأغاني من ذكر الحب، والله سبحانه وتعالى قد بنى الملك عليه وعمر. . . وليس في الوجود عاطفة أبعث للتضحية وأحيا للأمل، وأخلق للنبوغ من هذه العاطفة الكريمة)
ولكن أحداً من الناس نشر نقد له لم يقل بتجريد الأغاني من ذكر الحب، وإنما قالوا ألا يقصر الغناء عليه، وألا يقصر هو على العاشق الذليل البكاء: لأن حبه ليس من تلك (العاطفة الكريمة) في الإنسان السليم من الآفات النفسية والجسمية؛ وهو ضحية الاستهانة به، فبأي الأشياء يضحي بعد الكرامة؟ وأي أمل لميت الأحياء؟ وفي أي ميدان ينبغ راض بالخزي أو معجب بمثاله؟(436/3)
واحتج للشكوى والاستعطاف بقوله: (لم تخل أغانينا من الشكوى والاستعطاف، فهما في مرآة القلب أبداً؛ ولكنها شكوى الحافظ للعهد، الباقي على الود، وهي ناحية في دمنا نحن المصريين. . . ولقد ألفت أغاني كثيرة في البطولة، والوطنية، والأخلاق. . . ودخل في أناشيد. . . معان جليلة في العزة والاستقلال؛ ولكن الطلبة، والجند، والشعب، لم يرددوا منها كثيراً ولا قليلاً)؛ و (ردد الناس أكثر ما رددوا هذه الشكوى فطغت على بقية الأغاني واتهم الغناء عامة باللين والميوعة)
فكأن اعتراض النقاد على الأغاني من الشكوى والاستعطاف سببه هما في ذاتهما، وإنما المنكر هو ذلك الروح العليل الذي ينفث الذل فيهما، وهو طغيانهما طغياناً يتفشى معه الاستخذاء بالناس؛ فالاحتجاج لهما مناقض لمصلحة المصرين ومصلحة الفن.
وفي كم من الأغاني نجد (شكوى الحافظ للعهد، الباقي على الود)، ونجد استعطاف الإنسان الحر؟ أليس الأغلب أنهما شكوى حيوان أذل من كلب مضروب، واستعطاف هو الكدية الحقيرة؟ فأي الأخلاق هما مثاله! وحتى الأغنية البريئة من هذا العيب الشنيع قد يجرد اللحن والغناء شكواها واستعطافها من كل كرامة.
فالنقاد على حق في اتهامهم (الغناء عامة باللين والميوعة) لما طغى - كما قال بحق - على الأغاني من الشكوى الخانعة المائعة والاستعطاف الذليل، ولغير ذلك من عيوب الأغاني والتلحين والغناء جميعاً. وليس من الصواب أن يقال إن هذا الطغيان سببه ترديد الناس لتلك الشكوى، وإنما طغت الشكوى من الأغاني فجرفهم طوفانها. ولو كان أهل الفن قد انساقوا وراء الشعب لكان صنيعهم تجارة لا فناً كما يزعمون.
أما قوله: الشكوى (في دمنا نحن المصريين)، فهو كلام قد رجح فيه الشعر والإنشاء وعنى ظاهراً من الحال ولم يصب الحقيقة. وحسبنا أن نلاحظ أن هذا الشعب المصري بعينه يتحمس لأبي زيد وعنترة تحمساً يدل على أن سر ميله إلى الأغاني الشاكية الباكية هو غير ضعف قابليته للطرب من غناء المعاني القوية وللتغني بها، إن صح أن هذا الضعف فيه.
إن أغاني البطولة والعزة، والوطنية والاستقلال، إذا أخرجت بطابع التميع والتخنث في ألحانها وفي غنائها وموسيقاها، كان هذا التناقض البين فيها مضحكا إضحاك نشيد مشهور في مصر بهذه السخافة. وقد تعمد إظهار هذا التناقض كلوديس، الممثل الهزلي الفرنسي،(436/4)
في أغنية حربية غناها بلحن غرامي، فاستغرق النظارة في الضحك وصفقوا له أي تصفيق. وإذا أغانٍ من هذا القبيل سمعت باعتبارها جدية، كانت مدعاة للسخرية والاحتقار، فلا غرابة إذا مجتها الأسماع وعافتها الطباع، ولو جادت من كل وجه لتغني بها الناس.
ومن طريف الاحتجاج للأغاني التي يضعفها طغيان (الشكوى والاستعطاف) تعليله ضعفها - أو قلة الأغاني القوية - ليس بما (في دمنا نحن المصريين) فحسب، بل بطبيعة أصوات معازفنا أيضاً، مبرراً بذلك ضعف أغانينا وموسيقانا معاً، إذ قال: (كيف يقوم التخت بالإكثار من هذه الأغاني القوية وقد خلق من أنة العود وحنة الناي ورنة القانون؟)
الجواب أن هذه الآلات الأتانة الحنانة الرناتة، هي مع ذلك صيتة، منتهرة، نعارة، تخرج البشارف القوية المعاني، المطربة بما فيها من الشدة والرقة على أحسن تقويم، كما يجمع الافتنان البديع بين الغزل والحماسة لا بين الغزل والذل؛ تلك البشارف التي تتخيل موسيقاها معبرة بشدة في رقة عن حب، حب النفس العزيزة الأبية، تعبيراً بعيداً عن ذلك التناقض في كلام محارب يتهدد بصوت مغازل، أو في كلام جزل المعاني يغنيه صوت تلوثه نفس مخنثة، متضعضعة، أريدت على التحمس.
أو ليس لهذه المعازف أشباه مقاربة في الآلات الغربية لا تصم أغاني الغربيين بطابع الخور والمذلة؟؟ أليس هذا التخت هو الذي يقحم في غنائنا جملاً موسيقية قوية، أو أخلاطاً مسيخة من الأنغام الأجنبية لا توائم سياقه؛ وهو الذي يشرك بعض معازف الغربيين في تأدية ما نسرق من ألحانهم؟؟ فكيف نتوهم أن ضعف أغانينا وغنائنا سببه (أنه العود وحنة الناي ورنة القانون)؟ إنما الصحيح هو العكس. ولم لا نحاول تحسين معازف التخت واختراع غيرها في سبيل الإصلاح المنشود على كل حال؟؟
تلك الكلمة في التخت وما ورد في المقال من أن توسيع دائرة الزجل (فتح للملحنين أبواباً كثيرة) هما كل ما ذكر الشاعر على التلحين والموسيقى. والواقع أن النقاد قد نهبوا إلى عيوبهما جميعاً، وشمل نقدهم الغناء - أي فن المغني ذاته - بل إن الكاتب اللبق عارض النقد برمته، مبالغاً في الإيجاز، بقوله: إنه هو ومن ناصره في مذهبه من (شعراء هذه المدرسة الحديثة) ألفوا الأغاني (فانتشر غناء جديد وموسيقى جديدة كانت غريبة على الخاطر والسمع معاً - أول الأمر - ثم مال إليها الشعب فتغنى بها في كل مكان)(436/5)
إذا كان الشعب تغنى بها لأنها الشكوى التي في دمه فلم كانت غريبة على السمع والخاطر معاً أول الأمر؟؟ وإذا كان يتغنى بها لغير ذلك، أو لهذا وذاك، فباب الأمل مفتوح لمن يتوخى الإصلاح: لأن (المدرسة الحديثة) تقرر أن فنها قد غير ذوق الشعب في زمن قصير، أوله سنة 1925، حتى قبل ما كان غريباً على السمع والخاطر، فتغنى به الناس في كل مكان. وهذا تقرير يؤخذ منه أن ما في دماء المصريين من الشكوى، على قول صاحبه، لم يحل دون تذوق الموسيقى الجديدة التي خلطت الأوبرا بالجاز، وأن تغيير الذوق المصري في مدة وجيزة أمر ممكن. فلم يبق إلا أن نجعل التغيير إصلاحاً بدل الإفساد، ولو في زمن أطول.
بيد أن الإصلاح المنشود قد يمتد به الزمن امتداداً لا نهاية له إذا كانت الجهات التي يجب عليها أن تؤيده تميل - على العكس - إلى معارضته بمثل الصوت الرسمي الذي قرر أنه (يجب ألا ننسى اختلاف الأذواق وتباين وجهات النظر في التقدير عند البحث في جمال الصوت وسلامة الأغنية من العيوب التي يشكو منها بعض دعاة الإصلاح).
أي نظر وأي ذوق عناهما هذا الإيجاب؟ أي نظر، يا ترى، في مثل الفرق الواضح بين الليل والنهار، ونحن نتمنى أن يسمو بنا التعليم والتهذيب إلى أعلى مستويات الأمم الراقية في هذا العصر المنير؟! نرجو ألا يكون نظر العامة وأشباه العامة ممن تغرهم قشور من معارف لا يدركون ما وراءها من حقائق، نظر جماعات كأن أبصارهم لا تتصل بسوى أجسادها، فلا علاقة لها بأنبل ما في النفس الإنسانية من ملكات؛ أو نظر أفرادٍ ضئيل تهذيب مشاعرهم في الحياة، قليلٍ إطلاعهم على تحف من أنواع الفنون، تافهةٍ ثقافتهم الفنية، سقيمةٍ بهذا النقص آراؤهم في الغناء والموسيقى.
وأي ذوق بالله في العيوب التي يشكو منها بعض دعاة الإصلاح؟! أهو ذوق تلك الجماهير التي تغشى مجالس الغناء بإنصافها السفلى وحدها، فلا تستطيع أن تكبح جماح غرائزها إذا هي أحست من الصوت حركة تخنث أو همسة تأنث، فينطلق عنان حيوانيتها، وتضطرب أجسامها يمنة ويسرة في قيام وقعود وتلويح بالجوارح، ويعلو صغيرها وهذيانها استعادةً شاطة لما لا تفهم في الغناء سواه من دواعي الشبق؛ وقد تقطع بعجيجها وضجيجها أجمل الجمل الصوتية التي يتأنق بها المغني في إظهار افتنانه وقدرته، فتذهب مزايا هذه الجمل(436/6)
وتبقى الجماهير بثورتها البهيمية أشبه بتلك القبائل الهمجية في حفلاتها الهائجة المائجة، وذلك كله لا مثيل له في أمة راقية من عالم المدنية.
والأعجب أن المغنين لا يظهرون امتعاضاً من هذا الاعتداء الصارخ على فهم لعلهم يهذبون هؤلاء المستمعين، بل هم يسرون بعمل المعتدين، إذ يعتبرونه دليل الاستحسان لفنهم، وإنما هو استحسان لشيء مخجل في غير محله ووقته؛ ولو كان للفن في ذاته تقدير وحرمة عند تلك الجماهير، لأظهرت استحسانها بعد سماع الأغنية أو الجمل الممتازة في غنائها، كما يفعل المستمعون بأنصافهم العليا وحدها من أهل المدنية.
فمجمل كلام الشاعر الفاضل أن المدرسة الحديثة أبدلت الحب الروحاني بالحيواني في الأغاني، وضمنتها شتى المعاني، وقد فضل الأغاني الحديثة، بمقاصدها وعباراتها، على أغاني عهد مضى؛ وبرر ما فيها من الشكوى، وهي تفجع وهوان، ودافع عما يسمونه الموسيقى الجديدة ولم يبين ما هي، وما هي إلا تخليط شنيع.
وذلك كله يتعلق بالعرض من فنون الغناء والموسيقى، سواء أعد من الصفات المستحسنة أم العيوب المستهجنة. أما الذي يتعلق بالجوهر فهو الداء المفسد الوبيل، الموجب للنقد، المتأصل في تلك الفنون، وهو ما لم يذكر الشاعر ولم يشر إليه الصوت الرسمي بحرف.
ألا إن وجه النقد الباقي بحذافيره راجع إلى (ماهية الموسيقى والغناء الأصلية، أي الدلالة الصوتية على الأحاسيس والخواطر)، عائد إلى عيوب الائتلاف (بين معاني كلام الأغنية ومعاني لحنها وغنائه، ومعاني موسيقاها)؛ وهو منصب على جهلنا (أن اللحن الموسيقي إنشاء يجب ألا تتضارب الجمل الصوتية في سياقه) من (تخليط قديم مسيخ بمسروقات محرفة من الألحان والموسيقى الغربية، القديمة والحديثة، ومن أصوات الجاز)؛ وهو منبه على أننا لا نسلك سبيل الشرقيين القدماء، أو الغربيين المعاصرين لنا؛ في التغني بمختلف الأحاسيس في مواقف الحياة الإنسانية المحوطة بجمال الطبيعة، ومنبه أيضاً على أننا لا (نقلد الغرب فيما ارتقت إليه موسيقاه من التصوير. الذي عظم شأنه بالتحسين والابتكار في المعازف).
وقد قلت إن (الفنان يؤثر في بيئته وجمهوره وإن تأثر منهما، ومن هنا نصيبه في تهذيب ذوق الجمهور وإعلاء مثله الأعلى بقدر مواهبه وسحر فنه؛ ومن هنا تبعة الفنون الضالة(436/7)
ومسئولية أصحابها في إفساد الأذواق)؛ وإن في مصر (معاهد أهلية وحكومية للموسيقى يجب عليها أن تلتفت إلى حقيقة حال هذه الفنون عندنا وإلى ما يصلح من شأنها، فذلك خير لها من أن تظل على الأيام صوراً جوفاء خاوية، لا تصلح إلا لتمكين الفن السقيم الضعيف والمحافظة عليه)
لكن ذاع صوت رسمي كأنه يقول: (ليس في الإمكان أبدع مما كان!) فصدق القائل: (لما يصل رقينا إلى أن نشعر أن الغناء تربية للأمة)
محمد توحيد السلحدار(436/8)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
إبراهيم الكاتب
للدكتور زكي مبارك
(الكتاب والمؤلف - جناية المازني على موهبته الشعرية
وعلى أسلوبه في الإنشاء - ضاع المازني الشاعر فما مصير
المازني الكاتب؟ - المواهب تلاحق أصحابها ولو فروا منها
إلى شعاب الجبال - المازني الشهيد - من إبراهيم الكاتب؟ -
الحب في نظر وزارة المعارف.
الكتاب والمؤلف
يقع الكتاب في 384 صفحة بالقطع الصغيرة، وثمنه عشرة قروش، وهو يطلب من مكتبة عيسى الحلبي بالقرب من مسجد الحسين.
والمؤلف لا يحتاج إلى تعريف، فهو الأستاذ إبراهيم عبر القادر المازني أحد أقطاب الأدب الحديث.
ولكن شهرة المازني في مصر وفي سائر الأقطار العربية لا تعفينا من النص على خصائص ذاتية لم يعرفها القراء من قبل وإن كان المازني لم يترك مجالاً لمن يريد أن يتحدث عنه بإيجاز أو إطناب، فأشعاره ومقالاته تسجل ما فيه من محاسن وعيوب.
وهنا يحتاج الكلام إلى تقييد، فالمازني مغري بالسخرية من نفسه، وقد يتوهم من لا يفهم أنه لا يقول عن نفسه إلا الحق وذلك وهم فظيع، فهذا الرجل من أهل الجد الرزين، وله مبادئ أدبية وقومية يحرص عليها حرص الأبطال، وأقل ما يوصف به المازني أنه (رجل شهم) وهو من عناوين المروءة في هذه البلاد.
عرفت المازني معرفة أدبية لا شخصية في أعوام الحرب الماضية، وكان قد أخرج كتاباً في نقد (حافظ إبراهيم) وكان نقد حافظ في تلك الأيام يعد من شواهد التفوق. ثم زاد(436/9)
اهتمامي به حين سمعت أن حافظ إبراهيم كانت له يد في إخراج المازني من وزارة المعارف (وأنا هنا أحكي كلاماً قاضت به المجالس في ذلك العهد بغض النظر عما فيه من صحبة أو بطلان).
ثم جاءت فرصة رأيت فيها المازني وجهاً لوجه في سنة 1922 ولكن كيف؟
كان الأستاذ عبد القادر حمزة اشترك مع عبد اللطيف بك الصوفاني - رحمهما الله - في إخراج جريدة الأفكار بصورة تجمع بين مقاصد الوفد المصري ومبادئ الحزب الوطني، وكان عبد القادر ينظر إلي بارتياب لصلتي الوثيقة بالحزب الوطني، فكان يخفي عني أسماء المحررين الذين يساهمون في التحرير من بعيد، ومن هؤلاء كاتب تنشر له (الأفكار) سلسلة من المقالات الرائعة بعنوان (الإسناد المتداعية) فمن ذلك الكاتب؟ من ذلك الكاتب؟ ليتني أعرف!
وفي ذات يوم دخلت على الأستاذ عبد القادر حمزة أبلغه ملاحظات الصوفاني بك على بعض ما في (الإسناد المتداعية) من آراء فابتسم وقال: اسأل الأستاذ! فنظرت فرأيت المازني في حال تستوجب الرثاء، فقد كان دامي العينين، وكان كيانه يشهد بما يعاني من إعياء، وكذلك عرفت أن إبراهيم المازني هو صاحب (الإسناد المتداعية)
وبعد خمسة عشر عاما من ذلك التاريخ عرفت المازني خبراً يشبه هذا الخبر الغريب، وحياة هذا الرجل كلها غرائب.
كنا زميلين في تحرير جريدة البلاغ، ولم يكن بيننا ما يقع عادة بين الزملاء من التنافس المكبوت، فأسررت إليه مرة أن عندي موضوعاً أتهيب الكتابة فيه، لأنه قد يضايق فضيلة الشيخ المراغي، وهو إعلان الرسائل التي تنال بها العضوية في (جماعة كبار العلماء)، وبينت له أن من الواجب أن يكون حال تلك الرسائل شبيهاً بحال الرسائل التي تنال بها الدكتوراه من الجامعة المصرية، فهي تطبع وتنشر ليعرف الجمهور أن الجامعة لا تعطي الألقاب العلمية بدون استحقاق، فما الذي يمنع أن يكون الأمر كذلك مع (كبار العلماء)؟؟
وطرب الأستاذ المازني لهذه الفكرة وقال إنه سيذيعها بالنيابة عني، وكان مفهوماً أنه سيذيعها على صفحات (البلاغ) فماذا وقع؟
رأيتها منشورة بعد أيام في جريدة (الأهرام) بدون إمضاء فعرفت من جديد أن المازني(436/10)
بروحين أو أرواح، وعرفت أن الذي كان يراسل (الأفكار) وهو في (الأخبار) هو نفسه الذي يراسل (الأهرام) وهو في (البلاغ). ثم تعقبته فعرفت أن بينه وبين الأستاذ أنطون الجميل صلات، وأنه ينشر في (الأهرام) أشياء بدون إمضاء، رعاية لمكانه في (البلاغ).
جناية المازني. . .
لا يحتاج القارئ إلى معرفة الأسباب التي استوجبت أن يتحرر المازني من خدمة الحكومة المصرية، وكان منذ أكثر من ثلاثين سنة أستاذاً بالمدارس الثانوية. وكان الظن أن يصير من أقطاب وزارة المعارف، لو صبر على ما توجب الحياة الرسمية من تكاليف خفاف أو ثقال. . . لا يحتاج القارئ إلى معرفة تلك الأسباب، لأن المازني لا يصلح أبداً لحياة الهدوء والاطمئنان. ولو أجلسناه على كرسي الوزارة لخلع نفسه بعد لحظات، ليقول في الوزارة ما يشاء، وليغمز الرسميين كما يريد.
وقد اشتغل المازني بالتعليم في المدارس الأهلية، ولعله أنشأ لنفسه مدرسة لم تظفر بطول البقاء. ومن المؤكد عندي أن (الكاتب) هو الذي أضاع (المدرس)؛ فما كاد يرى بوارق النضال السياسي حتى اندفع إليه بقسوة وعنف، وكانت باكورة مقالاته السياسية ردا على المرحوم إسماعيل أباظة باشا. وكان هذا الرجل على جانب من القوة والعمق، وكان لا ينشر شيئاً إلا بعنوان: (بيان لا بد منه)، فرد عليه المازني في جريدة (النظام) بمقال عنوانه: (لا بد مما ليس منه بد)
ومضى المازني ينشر في الجرائد مقالات سياسية في تأييد الخطة الوفدية. وجاء (مشروع ملنر) وكان للصحفيين الوفديين في تأييده مجال - وكانت المعارضة في ذلك الوقت بيد الحزب الوطني - ثم ظهر مفاجأة مقالان في نقد ذلك المشروع لكاتبين وفديين، هما المازني والعقاد، فدعاني الأستاذ محمد الههياوي إلى التعليق على هذين المقالين. وكان رأيه أن ذلك صدع في بناء الهيئة الوفدية. ولكن شجاعة المازني والعقاد أوجبت أن أخصهما بكلمة ثناء.
وجاء الخلاف بين أمين الرافعي وسعد زغلول، فادفع المازني في الهجوم على الوفد. وكانت مقالاته غاية في القوة البيانية، وفي حرارة أخطر من الجمر المتوقد، بحيث لا يشك قارئ في أن (الكاتب) سيعادي الوفد إلى آخر الزمان، ولكن هذا (الكاتب) الذي يعادي الوفد(436/11)
علانية في جريدة الأخبار هو نفسه (الكاتب) الذي يزور جريدة الأفكار كل صباح ويقدم إليها في تأييد الوفد أشياء!؟
ويمر زمن قصير فنرى المازني يعطف على الجريدة الرسمية للحزب الوطني ويصادق الشيخ عبد العزيز جاويش. ثم يثبت فجأة فينتقل إلى حزب الاتحاد ويزامل الدكتور طه حسين في تحرير جريدة (الاتحاد)، مع انعطافات خفية يغمز بها هذا الحزب في جريدة (الأخبار). ثم ننظر فنراه مع الأحرار الدستوريين في صحبة الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير (السياسة)، ونلتفت فنراه انتقل إلى (البلاغ)، وبوصوله إلى (البلاغ) خطرت له فكرة الاستقرار الموقوت!؟
وفي أثناء هذه التنقلات السياسية كانت للمازني تنقلات أدبية، فكان يرسل إلى المجلات ما تقترح عليه. وقد أنشأ لنفسه مجلة كما كان أنشأ لنفسه مدرسة؛ ولكن المازني رجل ملول، وإنشاء مدرسة أو مجلة يحتاج إلى شمائل تبغض الملال.
ولم يقف المازني عند هذه المراحل من التنقل السريع، فخلق لقلبه وعقله مجالات كثيرة في الحجاز والشام والعراق، فهو من أعرف الناس بالتيارات الفكرية والسياسية في أكثر البلاد العربية.
أراني أطلت من غير طائل، فماذا أريد أن أقول؟
أريد أن أهوى بيدي على رأس المازني فأحطمه بلا ترفق، عقاباً على ما صنع بنفسه بلا ترفق!؟
كان المازني من أكابر الشعراء، وكان يستطيع أن يمد الشعر بقوة وذوقية تصل ما انقطع من لوامع هذا الفن الجميل.
ولكن المازني الذي (انشغل) بالكتابة في جميع الأوقات ولجميع الأحزاب لم يعد يجد الفرصة للغناء، ولا بد للشعر من غناء. والغناء يوجب الخلوة إلى النفس من حين إلى حين؛ ومتى يخلو إلى نفسه من يعاني ضجيج المجتمع السياسي في الصباح والمساء، ومن عود نفسه الأنس بالقيل والقال في الكبائر والصغائر من شؤون هذا المجتمع الصخاب؟
وهنا يظهر انخداع المازني أو خداعه، فهو لا يقول إنه مشغول بالكلام عن الغناء، وإنما يكابر فيزعم أنه لم يبق للشعر في الدنيا مكان، وأن الشعراء ليسوا إلا جماعة من الحمقى(436/12)
والمجانين!
وحول هذه القضية ثارت الخصومة بيني وبينه على صفحات البلاغ حين ظهر ديواني في سنة 1934، وهي خصومة مست قلب المازني، وكان من المحتمل أن تكون لها عواقب سود، ولكن الرجل تراجع حين عرف أن غضبه لم يقم على أساس.
وبعد أعوام حدثته بأني انصرفت عن الشعر فحملق في وجهي حملقة الغول وهو يصرخ: (أنت تبت! أنت تبت!)
وكذلك يرى المازني أن الانصراف عن الشعر توبة، وكأنه يجهل أنه أساء إلى وطنه إساءة ستجعله من أهل النار يوم يقوم الحساب، فضياع شاعر مثل المازني ليس إلا نكبة وطنية. لا جزاء الله إلا بما هو له أهل!
ضاع المازني الشاعر، فما مصير المازني الكاتب؟
بدأ المازني حياته النثرية بالطريقة الجاحظية، وهي تقوم على أساس الازدواج، وقد وفى المازني لهذه الطريقة أصدق الوفاء في أمد يزيد على عشر سنين، وكان عهده في رحاب هذه الطريقة أجمل عهوده الأدبية. فقد كان نموذجاً للكاتب الفنان، وكان بناء الجملة على سنان قلمه غاية في المتانة والجمال.
ثم جنى المازني على نفسه بالكتابة اليومية، ولكن كيف؟ يدخل الجريدة فيتحدث ويتحدث ثم يتحدث إلى أن يضيع الوقت وإلى أن تنفذ قواه، وفي آخر لحظة يكتب المقال المطلوب بأي أسلوب، وكذلك صار المازني يكتب كما يتحدث، وبين الكتابة والحديث مراحل طوال.
ثم ماذا؟ ثم ابتدع المازني طريقة جديدة هي كتابة أكثر مقالاته وقت إنشائها بالكتاب، فينشئ المقال على أصوات: طق طق، طق!!
هل فهمتم ما أريد؟
المازني اليوم لا يكتب كما نكتب بقلم ومداد وقرطاس، ليستطيع المحو والإثبات كما نستطيع، وإنما تدور أنامله على الكتاب بوحي من رأسه الموهوب؛ فيخرج المقال وهو كلام لا إنشاء.
فمن هاله أن يرى بناء الجملة عند المازني الجديد يخالف بناء الجملة عند المازني القديم فليذكر هذا التاريخ من حياة هذا الفنان.(436/13)
ولكن. . .
ولكن المواهب تلاحق أصحابها ولو فروا منها إلى شعاب الجبال، فالمازني أديب موهوب، وهو كتلة من العواطف والأحاسيس، ومواهب هذا الرجل لن تتركه بعافية، وسيظل المازني هو المازني، ولو انتقل من تسيطر مقالاته على الكتاب إلى تسطيرها على الهواء.
ولعل لله حكمة فيما صار المازني إليه، فهو الشاهد على أن الفطرة أفضل من الفن، وهل الفن إلا الصدق في النقل عن الطبع؟
المازني الجديد فنان بأسلوب جديد، وسيكون له مكان في تاريخ الأدب العربي، فسيقال حتما إنه عاون على حماية اللغة الفصيحة من عوادي الجمود.
لقد بدأ للأستاذ محمود تيمور أن يؤلف بعض الأقاصيص باللغة العامية ليغزو قلوب الطبقات الشعبية، فهل وصل إلى ما يريد؟
إن كتابة المازني - وهي غاية في إيثار الفصيح - أسهل وأوضح من كتابة تيمور العامية، ولو ترك مصير اللغة إلى من يخطبون ود العوام لصارت إلى البلبلة ثم الفناء.
والأستاذ محمود تيمور له يوم، وسنلقاه بعد قليل، فله فوق هذه المشرحة مكان.
المازني الشهيد
رأينا المازني في هذه الصفحات إنسانا يتنقل من أفق إلى آفاق. فهو مدرس أولاً، وشاعر ثانياً، وكاتب ثالثاً، ورأيناه يساير جميع المبادئ وجميع الأحزاب، فهل نعده من أهل الرياء؟
لا بد مما ليس منه بد.
لا بد من أن تقال في هذا الرجل كلمة الحق، فمن الإجرام أن نترك أدباءنا تحت حماية الأقاويل والأراجيف، وهم صوت مصر في الشرق.
المازني الذي عرفته رجل صادق إلى أبعد الحدود، صادق في البغض وصادق في الحب، صادق في الجد وصادق في المزاح.
كان صادقاً في تأييد الأحزاب التي أيدها بالقلم واللسان. كان وفدياً صادقاً وهو يؤيد الوفد المصري، وكان وطنياً صادقاً وهو يؤيد الحزب الوطني، وكذلك كان حاله مع الدستوريين(436/14)
والاتحاديين، ولو بدا له أن يعاون الشيطان لبلغ غاية الصدق في تأييد الشيطان!
هذا رجل يعيش بأعصابه واحساساته، وقد يكون لبلائه باحتراف القلم تأثير في تقلباته النفسية والوجدانية. وما ظنكم برجل يكتب كل يوم فيستنفذ ما يملك من بواعث القرار والهدوء؟
وأهجم على الغرض الذي أرمي إليه فأقول: هذا رجل جنى عليه قلمه، وجنى عليه إحساسه، فلم يعرف قيمة الصبر على الانحياز إلى إحدى الجهات، في زمن لا يعيش فيه المفكرون إلا بأسندة من العصبيات السياسية أو الاجتماعية.
وزارة المعارف نسيت المازني، فبينها وبين صحبته القديمة أعوام وأجيال
والأحزاب السياسية لا تذكر المازني، فقد تقطع ما بينه وبينها من أسباب.
لا يعرف المازني غير قرائه وهم أقوام لا حول لهم ولا طول، فإلى من يتوجه هذا الرجل إذا بدا له أن يقصف قلمه في ساعة ملال؟
الموظف الذي ينتفع بمرور الأيام في احتساء القهوة والتأشير على بعض الأوراق يواجه الشيخوخة وله معاش يضمن له الراحة والاطمئنان
والمتجرون في التراب يجمعون الألوف، وحدث ما شئت عن المتجرين في البهتان!
فما مصير (إبراهيم الكاتب) وقد قضى نحو أربعين سنة في صحبة القلم والقرطاس؟ ما مصيره وقد عادى الجميع في سبيل رسالته الأدبية؟
المازني حساس إلى الحد المزعج، وهو يغم حين يرى اسمه (إبراهيم) وضعت فيه ألف بعد الراء، فهو عند نفسه (إبرهيم) لا (إبراهيم) والجنون فنون!
وهذا الإحساس المرهف هو الذي صير هذا الكاتب إلى ما وصفنا في هذه الصفحات، فهل من الإسراف أن نطالب الدولة برعاية المصاير لمن يكونون في مثل حاله من العناء بحرفة الأدب والاكتواء بنار الكتابة كل يوم أو كل أسبوع في آماد طوال لا تصلح بعدها النفس لانتهاج مذهب جديد في الحياة المعايشة؟
إن الذين صدقوا في خدمة الأدب آحاد، لا عشرات ولا مئات، فهل تعجز الدولة عن تدبير معاش لأولئك الآحاد حين يطيب لهم أن يستريحوا من متاعب البيان؟
من إبراهيم الكاتب؟(436/15)
إبراهيم الكاتب قصة غرامية تفرعت إلى شجون وصفية واجتماعية، وقد تحدث المازني في المقدمة عما سلك من طرق التأليف، بإسهاب يغني عن النص على ما فيها من مقاصد وأغراض. إنما يجب النص على مسألتين سلك فيهما المازني مسلك التحريف ولا أقول التضليل!
أما المسألة فهي إصراره على أن إبراهيم الكاتب غير إبراهيم المازني، وحجته أن إبراهيم الكاتب يتلقى الحياة باحتفال، أما إبراهيم المازني فيتلقى الحياة بغير احتفال (؟!)
وأقول إني صحبت المازني أعواماً في جريدة البلاغ وأياماً في مدينة بغداد، فما رأيت أشد منه احتفالاً بالتوافه من شؤون الحياة، فهو يغضب ويثور لأوهى الأسباب، فكيف يكون حاله فيما يمس جوهر المنافع الحيوية؟
أما المسألة الثانية، فهي الصفحات المنقولة حرفيا عن كتاب (ابن الطبيعة)، ويقول المازني: إن هذا توارد خواطر لا سرقة أدبية؛ ويقول الأستاذ علي أدهم: إن المازني نقل هذه الصفحات متعمداً ليجد الشاهد - عند اللزوم - على أن توارد الخواطر هو الأصل فيما ينسب إليه من سرقات، وهل من المعقول أن يسرق الكاتب خمس صفحات؟!
وهنا نعرض فكاهة تستحق التسجيل:
كنا في جريدة (البلاغ) في الأسبوع الأول من قدوم السير (لامبسون)، وهو رجل فارع الطول، ورأت إحدى الجرائد الإنجليزية أن تنص على طوله، فنشرت جزءاً من صورته في الصفحة الأولى وقالت: إن البقية في الصفحة الثانية!!!
فقال المازني بغير وعي: ما الذي يمنع من سرقة هذا المعنى؟! واتهام المازني بالسرقات الأدبية معروف، ولكن هذا لا يغض من قدرته البيانية، فلعله أول مترجم في مصر يوهمك وهو يترجم أنه الكاتب الأصيل.
عند المازني عبارات كثيرة مجنحة بأخيلة أجنبية، ولكنها لا ترد في كلامه إلا وهي مطبوعة بإحساسه الخاص، فهو يستأسر للمعنى والصورة قبل أن يفكر في السرقة أو النقل. . . فهل تراني أحسنت الدفاع عنك يا صديقي؟
الحب في نظر وزارة المعارف(436/16)
قصة (إبراهيم الكاتب) قصة غرامية، وفيها ألوان من اضطرام العواطف والأحاسيس، فكيف جاز لوزارة المعارف أن تقررها لمسابقة الأدب العربي بين طلبة السنة التوجيهية، مع أن هذه الوزارة كان يؤذيها أن يكون في المحفوظات المقررة شيء من الغزل والتشبيب؟
تلك وجهة جديدة في وزارة المعارف، فهل نراها بمنجاة من الانحراف؟
ولكن، ماذا جنت وزارة المعارف في عهودها السوابق من إخفاء قصائد الحب عن التلاميذ؟ هل جعلتهم أقوى من تلاميذ إنجلترا وألمانيا، والحب عند هاتين الأمتين له في جميع النصوص الأدبية مكان؟
لوزارة المعارف عندنا صوت في إدارة الإذاعة اللاسلكية، فهل اعترضت على أغاني الحب؟؟ وكان لوزارة المعارف رأي في توجيه الفرق التمثيلية، فهل اعترضت على الروايات التي يقع فيها تقبيل وعناق؟؟
آن لوزارة المعارف أن تعرف أنه لا موجب للهرب من المطالب الروحية، وأن الحزم كل الحزم في أن تتولى هي تربية العواطف في صدور التلاميذ، لا أن تترك عواطفهم لرياضة الجهلة من السفهاء.
المحرم هو الإسفاف في تصوير الشهوات، أما تشريح عاطفة الحب باعتبارها عاطفة إنسانية، فهو غرض يوجبه التعليم والتثقيف.
وما قيمة الحرص على إخفاء الجمال مصوراً في قصيدة وجدانية، وهو يعرض كل لحظة في شوارع القاهرة، وقد يباع بلا ميزان؟
كونوا أساتذة التلاميذ في جميع الشئون، واحترسوا من تركهم تحت رحمة الأهواء، واعلموا أن شغف التلاميذ بالنظر في أحاديث الحب يرجع إلى إصراركم على القول بأنه حرام لا مباح، فقديماً قيل: كل ممنوع متبوع.
وسلام على إبراهيم - إبراهيم الكاتب - من صديقه الحميم:
زكي مبارك(436/17)
كليلة ودمنة
للدكتور عبد الوهاب عزام
(تتمة)
ص 195 س 15: (أرادوا إدخال النقص عليك في ملكك) قال الأستاذ: (كلمة النقص ركيكة في هذا المعرض لا يقولها مثل ابن المقفع وإنما هي النقض بالضاد المعجمة) ولست أرى في النقص هنا ركاكة. وما كان لي أن أغير الذي أمامي في أمر لا دليل فيه، وهذا دأبي في تصحيح الكتاب، ولو كان الأمر إلى اختياري لما اخترت إحدى الكلمتين ضربة لازب.
ص 200 س 9: (فإنها امرأة عاقلة لبيبة حريصة على الخير، سعيدة من الملكات ليس لها في النساء عديل) قال الأستاذ: (وكيف تكون سعيدة مع أن الملك أمر بقتلها الخ. . . ثم هو في معرض التنويه بخصالها، وليست السعادة خصلة أو خلقاً - الأخلاق والوجه: سديدة الرأي من الملكات التي ليس (في النساء عديل) وقال في الحاشية أنظر كليلة ودمنة طبع بولاق) - والجواب أنه ما كان لمصحح أمين أن يغير برأيه سعيدة من الملكات إلى سديدة الرأي من الملكات التي الخ. . . وطبعة بولاق وغيرها شواهد على ما جناه الناشرون المتصرفون بآرائهم في متن الكتاب. ومعنى سعادة الملكة هنا أنها مباركة ميمونة كان عهدها مع الملك عهد سعادة وغبطة
ص 208 س 11، 12 (الذي يصنع الطعام وينظفه لسيده) يرى الأستاذ أن الكلمة ينضجه حرفها الناسخ إلى ينظفه. وهو رأي سديد، وكان ينبغي أن يشار إلى هذا التعليق إن لم يجز تغيير المتن.
ص 210 س 5: (والجريء الجاهل المقدم على ما ليس له وإن أتلف نفسه ونفس غيره في طلب حاجة وشحه) قال صوابه ونجحه. وأرى أن الصواب شحه يعني حرصه على ما يطلب. وليس الشح الحرص على ما في اليد فقط بل منه الحرص على أخذ ما ليس في اليد وفي حديث ابن مسعود: والشح أن تأخذ مال أخيك بغير حقه. وفي حديث ابن عمر: إن كان شحك لا يحملك على أن تأخذ ما ليس لك فليس بشحك بأس.
ص 250 س 3: (فلما رأوا الأسد قد احتشد في طلب اللحم وغضب) وقال: أرى أنها احتد(436/18)
والحدة تقارن الغضب. أقول بل هي احتشد وكذلك وقعت في نسخة شيخو. واحتشد الإنسان في الأمر إذا اجتهد وبذل وسعه فيه.
ص 247س 4: (فما الذي يشبه كفك عن الدماء وتركك اللحم) قال: كلمة يشبه مقحمة، ولعلها زيادة من الممل للناسخ حين تردوه في الكلمة بعدها - وقد وقفت عند هذه الجملة حين التصحيح وهمت أن أضع مكانها ما في شيخو: (فما الذي يمسك كفك عن الدماء) ولكني وجدت في آخر الجملة (وتركك اللحم) وفي شيخو وترك اللحم وهذا لا يستقيم مع كلمة يمسك. ورأيتها في نسخة طبارة (فأي شيء يشبه كفك عن الدماء الخ. . .) فآثرت الإبقاء على ما في نسختنا. وكان يسيراً أن أغيرها كما غيرتها النسخ الأخرى. ومعنى الجملة: أي سيرة هذه التي لا نرى لها شبيهاً؟
271: 11 (بفضل قسمه لك وتابع نعمه عليك) قال: فعلى أي شيء عطف الفعل (تابع)؟ - رأي أن تصحح الجملة على وجوه مختلفة - وأرى أن في الجملة نظراً ولكن معناها بين، وتابع معطوف على قسمه والضمير في تابع يرجع إلى الله وليست جملة تابع وصفاً لفضل وإن كانت عطفاً على الوصف.
52: 2 (كالشعلة من النار التي يصونها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً) قال الأستاذ إنه وجدها في عيون الأخبار (يصوبها) أي يخفضها - وأقول: هو وجه حسن جيد ولكن لم يقع في نسخة من نسخ الكتاب فلم يتوجه الرأي إليه. وهو حري أن يؤخذ به، وللناقد الشكر.
276: 13 (ولم تجدي من الأسف والحزن على شبليك شيئاً إلا وقد كان من كنت تفعلين بأحبابه ما تفعلين يجد مثله أو أفضل منه) قال الأستاذ: وليس يقال حزن فلان حزناً أفضل من حزن فلان. . . والوجه أمثل الخ. ولا أرى هذا وجهاً. وقد بينت في التعليق أن الفضل معناه الزيادة. وعندي أن كلمة أفضل أقرب من أمثل في هذا السياق. وإن فسرت أمثل بأنها من مثل بمعنى نكل كما فسرها الناقد.
في التعليقات
جادل الناقد الفاضل في جمل رأيت أن بها أثراً من الفارسية، وقلت إن ابن المقفع لم يسلم من تأثير الفارسية حين الترجمة - وقد رأى الأستاذ أن لهذه الجمل أوجهاً في العربية الصحيحة. ولست أريد أن أتناول هذه الجمل بالتفصيل، وحسبي أن أقول: إن هذه الصيغ(436/19)
أشيع في الفارسية وأقرب إلى أساليبها، وقد ذكرتني بالفارسية حين قرأتها، ولعل الذي حفز الأستاذ إلى الجدال في هذه الجمل أنه يرى (ابن المقفع أيقظ من أن يؤثر في بيانه العربي الخالص هجنة فارسية، أو يلتاث في ترجمة هذه اللوثة). ولست أشاركه هذا الرأي، فلا ريب عندي أن أثر الفارسية يظهر أحياناً في أساليب ابن المقفع؛ وهو أمر يحتاج إلى تفصيل وتبيين، وعسى أن تتاح فرصة للكلام فيه.
وبعد، فقد آثرت الإيجاز في الرد على الناقد الأديب توفيراً للوقت وعلماً بأن قليلاً من القراء من يحمل نفسه على تتبع الجدال في جزئيات كهذه.
ثم للأستاذ عبد السلام الشكر بما قرأ وبحث ودقق ونقد. وقد دل نقده على علم وأدب، نسأل الله له منهما المزيد، كما نسأله أن يهدينا إلى السداد في الرأي والقول، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الوهاب عزام(436/20)
مملكة الشمس
أو
للدكتور جواد علي
من الفلاسفة من يأبى خيالهم إلا أن يسمو من عالم الأرض إلى عالم السماء؛ ومن هؤلاء الفيلسوف الإيطالي توماس كامبينيلا صاحب مملكة الشمس المملكة المثالية التي افترضها هذا الفيلسوف لتكون المملكة الفاضلة من بين الممالك البشرية والنموذج الأعلى لكل الممالك التي تصورها العقل البشري بلا نقص أو هنة من الهنات. كان هذا الفيلسوف من الطليان الحركين الذين كانت لهم روح لا تستقر على حال. لم تعجبه حياة الرهبنة والتقشف على شدة تعلقه بمبادئ الدومينيكان. ولم يقبل بأن يسجن الإنسان نفسه حراً مختاراً في قبعة ضيقة بين الأسوار والجدران باسم الرهبانية والدين. وقد دفعته هذه النزعة إلى الخروج على تقاليد جماعته وعلى الانضمام إلى زمرة السياسيين الثودويين الذين كانوا في مدينة نابولي يجاهرون ملك الأسبان بالعداء؛ فسجن مقيداً في محبس المدينة المظلم مدة ستة وعشرين عاماً ونصف، وعذب سبع مرات.
ومملكة الشمس التي أراد أن يقيمها هذا الفيلسوف مملكة تستند على الأسس والمبادئ الفلسفية التي تصورها أفلاطون في جمهوريته ودولته. ولكنه اختلف عن أفلاطون في شدة اعتنائه بالتنظيم، وبالجزئيات، وبتوزيع الأعمال على حكام هذه المملكة وعلى الأتباع، وقد اختلف في نظريته عن النظرية المثلية التي تصورها الفيلسوف الإنكليزي توماس موروس من ناحية مبدأ الحكم في هذه المملكة. فمملكة توماس موروس مملكة اشتراكية ديمقراطية النزعة تأخذ بمبدأ الانتخابات فيها، ولحرية القول والاعتقاد نصيب وافر. أما مملكة الفيلسوف الإيطالي فهي مملكة اشتراكية أيضاً ولكنها تمثل نظر العقلية الإيطالية إلى الحكم خير تمثيل. هي النموذج الصالح لنظر العقل الإيطالي إلى الحكم، لا محل فيها للحرية الفكرية ولا للعقيدة، ولا مجال فيها لإبداء الرأي أو الاعتراض. كل شيء يدبره الفلاسفة وهم الحكام. وكل شيء فيها قد نظم وقنن وضبط وعين حتى الأكل والشرب وساعات العمل وطراز الأنس والطرب.
يتصرف في شؤون مملكة الشمس حكيم ميتافيزيقي يدعى هوه أو سول انفرد من بين(436/21)
جميع رجال المملكة بالحكمة والعلم وحسن التصرف، فهو أعلم الناس وأحكمهم طراً. أحاط بكل شيء علماً فلا يعزب عنه في تدبير المملكة شيء. وتكاد تكون صفات هذا الرئيس الحكيم هي نفس صفات (الرئيس الفيلسوف) الذي اختاره الفارابي ليحكم (أهل المدينة الفاضلة) مع اختلاف في طريقة الحكم وتوزيع الأعمال، وإمكانية التطبيق سببه اختلاف نظام الحكم في بلاد الإسلام في عهد الفارابي عنه في مملكة أسبانيا وإيطاليا في عهد الفيلسوف كامبنيلا. ينظر الفارابي إلى الحكومة نظرة فلسفية أفلاطونية روحانية إسلامية مجردة بينما ينظر كامبينيلا إلى الحكومة بنظرة فلسفية مثالية عملية كأوليكية، تعكس لنا صورة العقل الإيطالي في عهد هذا الفيلسوف.
ويساعد الرئيس (سول) ثلاثة وزراء، هم بون وسن ومور اقتسموا شؤون المملكة كل حسب اختصاصه ونبوغه. وتعرفون بالناحية التي اختصوا بها تصرف رجل خبير قدير لا يجاريه في فنه أي شخص آخر من أشخاص هذه المملكة. وقد اختص الوزير (بون) من بين الوزراء بالشؤون الحربية وبمهمة الدفاع عن المملكة، ووظيفته أن يبذل كل ما في وسعه لصد هجمات أي معتد أثيم يريد بالمملكة سوءاً. وعلى كل مواطن في هذه المملكة كما في مملكة أفلاطون أن يساهم في الدفاع عن الوطن، يستوي في ذلك الرجل والمرأة، والمرأة لا تستثنى في هذه الحكومة من الجندية لأنها تساهم الرجل في شؤون الحياة. وهذه هي الفكرة التي صرع بها أفلاطون في جمهوريته.
أما الوزير سن فهو وزير معارف هذه المملكة إليه ترجع أمور تعليم الشعب وتثقيفه، وله واجبات كثيرة متفرعة فهو يشرف على تعليم الناس الفنون الحرة والفنون العلمية الآلية (أي الصناعات) وهو يشرف على تعليم سكان المملكة قواعد العلم وأسراره. وهو يشرف على تعليم سكان هذه المملكة جميع فنون العلم التي يحتاجها الإنسان في الحياة.
أما التعليم فهو إجباري عام يستوي في ذلك الذكر والإناث. خصص وزير المعارف لكل مدينة من مدن الشمس محلاً يدعى ليكون بمثابة مدرسة ذلك اليوم. والأوربيس بيكتس عبارة عن محل واسع عام أقيمت عليه سبعة جدر مربعة متساوية، جدار من هذه الجدر في الوسط، أما الجدر الآخر فتحيط به على صورة هالة. وقد زينت هذه الجدر بصور مختلفة التي تمثل سلسلة العلوم التي يحتاجها البشر وضعت بصورة منتظمة حسب تطور درجات(436/22)
العلم. وهنالك معلمون يوضحون للأطفال مغزى هذه الصور بصورة بسيطة سهلة لا تكلف فيها ولا إجهاد.
والتعليم في هذه المملكة من النوع المختلط، والمنهج من النوع الموحد، والكتاب الوحيد الذي يدرس في هذه المملكة هو كتاب (الحكمة) وقد ألفه كاميبنلا على طريقة فيثاغورس جمع بين دفتيه من كل فن شيئاً. ويؤكد الفيلسوف أن كتابه هذا هو من أسهل وأحسن ما كتب، وأن أسلوبه أزلي لا يتبدل، لذلك لا يمكن لأي طفل بلغ العاشرة من العمر مهما كانت مقدرته العقلية أن يرسب في امتحان الدولة أبداً. أما المواضيع النحوية واللغوية فلا مجال واسع لها في هذا الكتاب ولا في دوائر معارف مملكة الشمس؛ لأن التوسع في هذه الأبحاث يبعث على الجمود الفكري، وعلى توجيه العقل نحو التلاعب بالألفاظ وترك اللب وهو العقل. ولذلك نرى اللغوي يبذل كل جهوده في دراسة قشور الفكرة وهي الألفاظ فيحاول جهد طاقته تسخير الأفكار وسبكها حسب صناعته لتكون جملة من أحلى الجمل التي يستذوقها طبعه؛ ولكنها في الواقع من أسخف ما يكتبه إنسان.
لا يقتصر التعليم في هذه المدينة على الدروس النظرية، بل يحتم القانون على كل طالب من طلاب هذه المملكة الانخراط في معامل المدينة لإتقانه فنون الصناعة والحصول على معلومات عامة عنها؛ لا يستثنى من ذلك أي طالب من الطلاب. وبعد حصول الطالب على المعلومات الصناعية يساق إلى القرية إلى المزرعة النائية حيث تعرض عليه مختلف أنواع النباتات والحيوانات؛ ويعلم بنفس الوقت كيفية استغلال الأرض وتربية الماشية. ثم يساق بعد ذلك إلى الثكنات حيث يدرس الفنون الحربية وكيفية استعمال السلاح ليستوي في ذلك الذكور والإناث!
أما وزارة الوزير (مور) فهي من أخطر الوزارات الثلاث لأنها وزارة حساسة مهمة تتعلق بالجنس والمحافظة على الجنس. عليه أن تنظم العلاقات الجنسية وأن تسهر على إنتاج جنس قوي من أحسن الأجناس، وهي وزارة الحب ووزارة العلاقات الجنسية. فالرجال في هذه المملكة ملك مشاع للنساء، والنساء في هذه المملكة ملك مشاع للرجال. لا زواج ولا استئثار، كما لا زواج في جمهورية أفلاطون ولا استئثار. كل شيء عام. تقوم في هذه المملكة عاطفة الحب مقام عاطفة الزواج. لذلك كان أهم وظائف الوزير مور تنظيم هذا(436/23)
الحب حتى لا يؤدي إلى استئثار فردي وحتى لا يؤدي إلى حدوث مشاكل ونزاع بين الأفراد.
وعلى الوزير مور أن يهيئ لمملكة الشمس جيلاً منتخبا من أقوى العناصر البشرية وأجملها بنفس الوقت، كي يتمتع الإنسان بالسعادة والهناء؛ ولكي يتم ذلك، عليه أن يربي الأطفال تربية صحية، وأن يجهزهم بالطعام الكافي وبالملابس المقتضية. والملابس في هذه المملكة من النوع الموحد أيضاً، تلبس في الصيف والشتاء على حد سواء، ولا فرق في هذه المملكة أيضاً بين ملابس الرجل والنساء.
وإنك لا تجد في هذه المملكة أثراً للعائلة، كما لا تجد فيها أثراً للملكية الخاصة. كل شيء فيها عام، حتى الدين لا يستأثر فيه (الثالوث المقدس) رمز المسيحية بالنفوذ من بين مقدسات الإنسان. هكذا أراد (كامبينيلا) الراهب أن تكون مملكة المثلية على سطح الأرض على المثال الذي أراده أفلاطون، حتى في توزيع الأعمال وتقسيم الطبقات. وكذلك حلم الفارابي المسلم فأراد أن تكون مدينته مدينة مثلية فاضلة، لها ميزاتها من بين المدن المثلية. وكذلك أراد ابن طفيل أن تكون البشرية في عقلية حي بن يقظان. وكذلك فكر الشيخ الحلي في جزيرته الخضراء. بمثل هذا فكرت عقلية عشرات وعشرات من مفكري الإسلام.
لقد فشل أفلاطون حينما أراد أن يطبق ما تخيله عقله على سطح الأرض. وفشل الفيلسوف الإيطالي كاجنبيلا كذلك عندما أراد تطبيق مشروعه على سكان الأرض. هكذا يحلم فلاسفة البشر عن بشرية كاملة مثلى، ولكن أحلامهم تصطدم دائماً بحقيقة ثابتة تمثل فلسفة الواقع، وهي أن بين عالم الأحلام وبين عالم الحقائق بوناً يمثل بعد الأرض عن السماء. فآمن أيها القارئ بالواقع تعش سعيداً ما دامت لك حصة في هذه الحياة.
بغداد
جواد علي(436/24)
جميل نخلة المدَّور
(1862 - 1907)
للأستاذ كوركيس عواد
1 - كلمة في تراجم رجال العصر
ما زال الشيء المدون من تراجم رجال عصرنا ضئيل القدر. فالباحث يحار في أكثر الأحيان، ليقف على ترجمة هذا أو أخبار ذاك! لأن ما بأيدينا من هذه التراجم لا يتعدى العشرات! وأما أكثر العلماء والكتاب وغيرهم، فلا شأن لهم في تلك المدونات. إذ يأتي هؤلاء فيعملون ثم يذهبون إلى حيث يذهب الناس، ثم تندثر أخبارهم وتطمس معالمهم! ولو أحصينا كتب تراجم المحدثين لما تجاوزت العشرة على ما نظن. وهذا شيء زهيد، إذا ما قيس بالأسفار الموضوعة في تراجم الأقدمين. فللمؤلفين القدماء كتب لا تحصى في تراجم الرجال عامة، أو في تراجم طبقة أو فئة خاصة منهم. فأفردوا للأطباء مثلاً تراجم، وللوزراء تراجم، ومثل ذلك قل عن الأدباء والشعراء والنحاة والحكماء والمحدثين والفقهاء والحفاظ وغيرهم. بل إنك تجد تآليف خاصة بمدد من السنين: كتراجم رجال المائة السادسة أو السابعة أو الثامنة وهلم جرا؛ كما تلفى كتباً في تراجم من عاش في قطر ما أو بلدة ما، أو تراجم رجال المذاهب والفِرق، أو من تميز بصفة أو أصيب بعاهة، كالمعمرين والمتطفلين والعميان. أو غير ذلك من صنوف التراجم التي يطول بنا ذكرها. وإن تمادينا في تعداد ما صنفه الأقدمون في التراجم، وقسناه بقلة ما صنعه المحدثون فيها، وجدنا ما في أيدينا من هذا التآليف الأخيرة شيئاً نزراً، يسعف في بعض الأحوال، ويخيب آمالنا في أكثرها!
2 - سبب كتابة هذا المقال
والذي حملنا على كتابة هذا المقال، هو كلمة قلناها بشأن مقال ثمين عقده الأستاذ الفاضل محمد عبد الغني حسن في هذه المجلة بعنوان: (مدن الحضارات القديمة) ثم أجابه حضرته على كلمتنا المذكورة بعبارة رقيقة، دلت على سمو أدبه، وسعيه وراء الحقيقة أينما كانت. وقد طلب فيها أن أكتب ترجمة لجميل نخلة المدور. وما كدت أبدأ بذلك حتى وجدت(436/25)
الأستاذ أحمد صفوان يعقب بنبذة على كلام الأستاذ محمد عبد الغني حسن ويؤكد فيها طلبه.
وهاأنذا ألبي طلبهما بما في مكنتي وفاءً لحق كاتب راحل، خدم الأدب والتاريخ خدمة كبيرة. وقد استعنت في كتابة هذه الترجمة بمؤلفاته نفسها، وبالمراجع المختلفة التي بحث فيها عنه والله المستعان.
3 - ترجمة جميل نخلة المدور
1 - مولده
كانت ولادة جميل في بيروت سنة 1862، ببيت عرف حينذاك بالمجد والأدب. وقد أرخ الشيخ ناصيف اليازجي. أديب زمانه وكبير كتابه، مولد جميل، ببيتين من الشعر وهما
لنخلةَ قد أتى نجلٌ جميلٌ ... كما سُميْ فسَرَّ أباً وأُمَّا
دعوتُ فقلتُ بالتاريخ ينشو ... غلامٌ طاَبقَ الاسمَ المسَّمى
سنة 1862
2 - والده
أما والده فهو ميخائيل بن يوسف مدور، الذي ولد في بيروت سنة 1822. ثم دخل في مدرسة عين طورا فدرس اللغتين الفرنسية والإيطالية، فضلاً عن اللغة العربية التي برع فيها. ثم أخذ يتعاطى التجارة زمناً مع أخوته. وفي سنة 1852 اقترن بالسيدة روزا بنت نقولا صالحاني، وكانت سيدة فاضلة أديبة.
ولقد توغل ميخائيل في تاريخ الغرب، وأصاب بسهم وافر من آدابهم؛ فاختير عضواً في الجمعية الآسيوية الفرنسية بباريس، والجمعية العلمية السورية ببيروت، وكان صديقاً حميما للشيخ ناصيف اليازجي. ومما يذكر له بلسان الثناء والتقدير الذي هو أهل له، أنه في الوقت الذي كانت سوق العلم كاسدة، والإقبال على نشر الكتب يكاد يكون معدوماً في البلدان الشرقية قام فطبع على نفقته في سنة 1854 مقامات اليازجي المعروفة بـ (مجمع البحرين) كما سبق له أن طبع (مقامات الحريري) فأنشده الشيخ ناصيف قصيدة، منها هذان البيتان:
ملكت الفضل في شرع وعرف ... فليس على كمالك بعض خلف(436/26)
إذا عدَّت رجال العصر يوماً ... فإنك واحد بمقام ألف
وكان عوناً على إصدار أول جريدة عربية في بيروت، وهي (حديقة الأخبار) سنة 1858
وعين ترجماناً في قنصلية فرنسا ببيروت، لأنه كان يجيد الفرنسية إجادته العربية ولبث في هذا المنصب إلى آخر أيامه.
وكانت له خدمات علمية ووطنية عديدة، لا يسعنا استيفاؤها في هذا المقام.
وقد خلف أربعة أبناء اشتهر منهم اثنان في العلم والتأليف وهما نجيب وجميل صاحب الترجمة.
3 - شيء من حياة (جميل)
عرف (جميل) منذ صغره بالنباهة والذكاء وسلامة الذوق، وأوتي قريحة وقاد لا تخبو نارها بسلاسة عبارته، وبصيرة ناقدة لا يخفي شرارها بطلاوة نوادره وحسن فكاهته، وجدّاً يستسهل المتاعب، وثباتاً يغلب المصاعب. وقد أظهر براعة كوالده في تعلم العربية والفرنسية؛ فوضع في الأولى تصانيف ومقالات عديدة كما كان له من الثانية أكبر عون على توسيع آفاق فكره، ونقل بعض المؤلفات منها إلى لغة الضاد.
ولقد نالت مؤلفاته استحساناً من رجال عصره. فكتابه (حضارة الإسلام في دار السلام) الذي يأتي الكلام عليه في مكان آخر من هذا المقال، (قدِّره وأنزلهُ منزلةٌ رفيعة كما يستحق، كل من جودت باشا وزير المعارف العثمانية، وأحمد مختار باشا الغازي المعتمد السلطاني في مصر سابقاً، وغيرهما من مشاهير الرجال. وقد كافأه عليه حينئذ السلطان عبد الحميد بجائزة مالية تنشيطاً له على خدمة العلم).
وهذا العلامة جبر ضومط، أثنى على كتاب حضارة الإسلام المذكور ثناء عاطراً، فقال فيه إنه (كتابٌ لو وُزن بالدرر لرجحها!).
وذكر المؤرخ جورجي زيدان، في معرض كلامه على ما أداه جميل المدور للغة العربية، فقال إنه (خدم آداب هذا اللسان خدمة حسنة بذكرها له التاريخ ما بقيت اللغة العربية!).
وذكر إدورد فنديك في محتويات كتاب حضارة الإسلام أنها (مفيدة من حيث لغتها وآدابها ورونقها التاريخي) وزاد على ذلك قوله: (نحث كل شاب على اقتنائها).
وانتقل جميل إلى القاهرة، وتولى في آخر حياته فيها تحرير جريدة (المؤيد) وهي إحدى(436/27)
كبريات الصحف المصرية فأظهر من المقدرة الصحافية حينذاك ما يشهد له بطول الباع فيها.
وكان قد نشر مقالات عديدة في مجلة (المقتطف) ومجلة (الجنان) للمعلم بطرس البستاني وأبنائه من بعده.
وهنالك مناح مختلفة من حياته لم نتحققها، لأن جميع المراجع التي بأيدينا لم تشر إليها. من ذلك هل كان قد تزوج؟ وهل خلف أبناء؟ وفي أية سنة ارتحل إلى مصر؟ وما هي الدواعي إلى ذلك؟
4 - وفاته
وقد أدركته المنية في القاهرة في 24 وقيل في 26 كانون الثاني سنة 1907، وهو في عز كهولته، إذ لم يتجاوز آنذاك من العمر السادسة والأربعين! فمات بعيداً عن وطنه وذويه، مأسوفاً عليه من عارفيه ومقدري فضله. فرحمه الله رحمة واسعة.
(البقية في العدد القادم)
كوركيس عواد(436/28)
الخريف
'
لشاعر الحب والجمال (لامرتين)
أنشأ (لامرتين) هذه القصيدة في خريف عام 1819 في وقت
من أوقات التألم والقنوط، وهي حافلة بمرارة طريقة تصور
الصراع بين الميل الغريزي إبان الكابة، الذي يحبب الموت،
وبين الميل الغريزي إبان الانشراح، الذي يوحي الأسف على
الحياة!. . .
ويظهر أن الشاعر حين أنشأ هذه الأبيات كان يستذكر القصيدة المشهورة (سقوط أوراق للشاعر الفرنسي (ميلفوي
(المترجم)
سلاماً أيتها الغابات المكالة ببقية من اخضرار،
وأيتها الأوراق المصغرة فوق الأعشاب المبعثرة!
سلاماً أيتها الأيام الأخيرة الجميلة! إن حداد الطبيعة
يلائم الألم ويروق لأنظاري.
اتبعتُ بخطوة الحالم المسلك المنعزل؛
وأحب أن أرى بعدُ للمرة الأخيرة
هذه الشمس الشاحبة حيث يكاد ضوءها الضعيف
ينبعث إلى قدميَّ من خلال ظلمة الغابات.
نعم، في هذه الأيام من الخريف حيث تلفظ
الطبيعة النفس الأخير،
أجد في نظرتها المقنعة جاذبية وافرة.(436/29)
إنها وداع صديق. إنها ابتسامة أخيرة
من الشفاه التي سيطبقها الموت إلى الأبد.
هذا، وأنا على أهبة مغادرة أفق الحياة،
باكياً خيبة الأمل من أيامي الطويلة،
أتلفت ثانية، وبنظرة الحاسد
أرمي هذه النعم التي لم استمتع بها.
أيتها الأرض، أيتها الشمس، أيتها الأودية،
أيتها الطبيعة الجميلة الحلوة،
إنني مدين لكِ بعَبرةٍ على حواشي رمسي.
الهواء غزير الشذى، والضياء بالغ النقاء!
تبدو الشمس فائقة الجمال أمام ناظري المحتضر!
أريد الآن أن أُفرعُ حتى الثمالة
هذه الكأس الممتزجة بالسلسبيل وبالمرارة؛
عسى أن تكون هناك قطرة من شهد باقية
في قرارة هذا الكأس التي شربت منها الحياة!
فلربما كان المستقبل محتفظاً لي بعدُ
بعودة سعادة ضاع فيها الأمل!
ولربما كانت وسط الزحام نفسٌ جهلتها
ستفهم نفسي، وستلبيني!. . .
تسقط الزهرة واهبة عطرها للنسيم،
وهكذا يكون وداعها للحياة والشمس.
إنني أموت؛ وعندما تزهق نفسي
تعبق كنغمة حزينة رخيمة.
(الإسكندرية)
محمد أسعد ولاية(436/30)
الصحافة والدولة
تأليف الصحفي العالمي ويكهام اسنيد
للأستاذ زين ألعابدين جمعة
المحامي
(تتمة)
إن أول واجبات الصحافة هو أن تظفر بالأخبار الصحيحة عن مجريات الأمور في أقرب وقت مبكر. وأن تذيعها على الفور فتصبح وهي بين يدي الجمهور ملكا مشاعاً للأمة. أما رجال السياسة من الوزراء وغيرهم فانهم يجمعون أخبارهم في غير علانية وبطريقة سرية ويحتفظون في حيطة مضحكة حتى بأخبار اليوم إلى أن تتغلب يقظة الصحافة على حذر السياسة في ميدان النشر. وقوام حياة الصحافة منوط بما يتهيأ لها أن تظفر به في ميدان الإذاعة والنشر. ومهما كان شأن ما يذاع على الناس تحت لوائها فلسوف يصبح جزءاً من ثقافة زمننا وتاريخه. والصحافة وهي تؤدي رسالتها تحتكم كل يوم وإلى الأبد إلى سلطان العقول المنثورة في الرأي العام. وإذا كان لزاماً عليها أن تتعقب سير الحوادث وتسبق الزمن فتتنبأ بما سيكون من أمرها، فقد تعين عليها أن تقف عند مفترق الطريق بعين الحاضر والمستقبل وأن تبسط ميدانها ليمتد إلى أفاق العالم.
أما واجب السياسي فعلى النقيض من ذلك تماماً، إذ يحرص على أن يخفي عن عين الرأي العام المعارف التي ينظم بها أعماله ويكون منها أراءه. وهو يحتفظ برأيه في مجريات الحوادث، ويتباطأ في الإدلاء بها إلى أبعد وقت يتهيأ له لغة السياسة. وهو إذا ما رجح عقله ونبلت أغراضه يجعل نفسه على خدمة المصالح الحقيقية لبلاده، أو المصالح التي من شأنها أن تؤثر على بلاده تأثيرا مباشراً. وهو لا يخاطر فيتهور في حدسه وتصويره للمستقبل؛ وهو يركز في صفقاته جمع تلك القوى التي تحاول الصحافة أن تذيع أمرها على العالم. فواجب إحدى القوتين إذا هو أن تفصح وتتكلم، وواجب الأخرى أن تلازم وتتحرز. وإحداهما تبرر منهجها وتزكي صنيعها عن طريق التحليل والجدل، والأخرى تظفر بسلطانها بكفاية من اليقظة والعمل. وإحداهما توجه عنايتها في الغالب من أمرها إلى الحق(436/32)
والمصلحة، والثانية تتحدث إلى العقل وتخاطب العاطفة. والأولى تحوجها الضرورة إلى الحيطة والاحتراز. أما الثانية فمن ضروراتها أن تكون طليقة حرة.
يلخص لنا إذا من هذا التناقض بين النهجين أن ما يلقى على كل من هاتين القوتين من المسئولية هو من التنوع والاختلاف بمثل ما تنوعت أعمالهما واختلفت واجباتهما. وليس من عيب أعيب لنا معشر الصحفيين من أن ننكص على أعقابنا فلا نميط اللثام عن وجه الحقيقة لتظهر للناس بذاتها سافرة واضحة. وشأننا من الإفصاح والصدق لا يقل أثراً عما للهواء والنور من شأن في الحياة. فنحن مرتبطون بأن ندلي بالحقيقة كما نلمسها من غير أن نحسب للعواقب حساباً، وإلا ندع للظلم والاضطهاد سبيلاً ينفذان منه أو مأوى يسكننا إليه ويسلمان فيه. بل نناهضهما فور الوقت ونعرضهما على قضاء العالم. . . وإذا ما قاسم صاحب القلم العام رجل السياسة نفوذه إلى أية درجة كانت فإنه على الأقل يقاسمه من تلك الأغراض الشخصية التي تنظم شطراً كبيراً من السياسة الجارية. . . والصحفي حتى لو لم يهلل له حزب أو يظفر كفاحه بالنجاح في ما يوجهه إليه من كسب ولاء أو بسط سلطان؛ فتلك الآراء التي أذاعها ودافع عنها أو أنشأها إنشاء وابتدعها ابتداعاً - إن صح له مثل هذا التعبير - تسقط من يده في اللحظة التي يكتب لها النصر فيها حيث ينتهي أمرها بأن تأخذ مكانها بين الحقائق المقررة. والمسئولية التي يأخذ الصحفي بنصيبه منها هي في الحق قريبة الشبه بمسئولية رجل الاقتصاد أو المحاماة التي ليس من شأنه أن يخلق نظاماً يتناسب مع مقتضيات اليوم، بل شأنه أن يتقصى الحق وأن يصوغه في مبادئ ثابتة تنظم شئون الحياة.
لذلك كانت المسئولية الملقاة على عاتقنا أقل شأناً من المسئوليات التي يضطلع بها رجال السياسة؛ إذ تقدر بمقياس يختلف عن مقياس هؤلاء اختلافا تاماً. قوامه الاستقامة والواجب. . . والصحافة مدينة بواجبها الأول للمصالح العامة التي تمثلها، ولكن شأنها في ذلك لا يختلف عما لها من شأن وتأثير في قضية الحضارة في العالم أجمع. والصحافة البريطانية - وهي تشغل الآن هذه المكانة الفريدة في نوعها وسلطانها بما يهنأها من حرية صحيحة تامة - قد تبعث بمميزاتها عبثاً محزناً إذا ما أعوزتها الفطنة لإدراك ما هو لازم للمصلحة العامة في أوربا ولقد يتفق مع أغراض الساسة أن يلقوا قناعاً على تمثال الحرية. وأن(436/33)
يهمسوا بشيء من ذلك الأسلوب التقليدي الاصطلاحي الذي صبغ صياغة ماكرة لتبرير أخطائهم في الشئون الأجنبية. ذلك الأسلوب الذي أملته مخاوفهم ولم تمله عقائدهم. ولكنا في سبيل ما نطمع فيه من الإصلاح وما نصبو إليه من التأييد والنجاح نترقب ذلك اليوم الذي تبعث فيه الحريات المسلوبة في أوربا من مرقدها وتظفر بنصيبها من الحياة وتهيئ نفسها إلى بلوغ المستوى الذي نأمله ونتعلق به. وعلى أية دعامة - بعد ذلك كله - يسع ساسة إنجلترا أن يلتمسوا القوة والسيادة في وطنهم إذا ما تهددنا الضرر والأذى ما لم تكن تلك الدعامة مائلة فيما يتهيأ للشعب البريطاني من عزيمة مبصرة وحزم رشيد في الاضطلاع بالمبادئ التي ينهض على أساسها نظام حكومتنا واستقلالنا؟)
وقد لا يكون من الإسراف في التقدير أن يرى رجال الصحافة والسياسة في إنجلترا أن من واجبهم اليوم أن ينعموا النظر في أمر ذلك السؤال الأخير الذي وجهته صحيفة التيمس في عبارة حاسمة لست وثمانين سنة خلت. وما كان ليتهيأ لأشياء كثيرة في أوربا أن تسلك هذا السبيل المعوج الفاجع لو أن قادة الصحف في بريطانيا فطنوا لتلك المبادئ التي بسطنها صحيفة التيمس في ذلك الحين.
وإذ فرغت التيمس من عرض تلك المبادئ في مقالة واحدة من مقالاتها الافتتاحية فقد واصلت من اليوم التالي شرحها وتفصيلها لتبين على ضوئها حقيقة المصير الذي سبقت إليه فرنسا على يد لويس نابليون (تلك الحال التي تتفق الآن في أكثر من دلالة مع ما انتهى إليه الأمر في الشعبين الإيطالي والألماني).
وفي السابع من شهر فبراير عام 1852، كتبت التيمس ما يأتي:
(إن الغايات التي يجب على الصحيفة المتعلقة بحب وطنها حقاً والمتنورة أن تجعلها قيد النظر هي - كما نعتقد - عين غايات الوزير المتنور المحب لبلاده؛ ولكن المناهج التي ينهجها الصحفي والوزير في تحقيق هذا الغايات والقيود التي يعملان تحت سلطانها تختلف اختلافاً أصيلاً واسع المدى. فالسياسي في صفوف المعارضة يتعين عليه أن يتكلم كإنسان يعد نفسه لمنصب حكومي والسياسي في المنصب الحكومي يرى من واجبه أن يتكلم كإنسان أعد للعمل والنضال. والوعود العامة والوثائق الرسمية بالإضافة له أشياء خارجة عن التمحيص والجدل، إذ هي لديه مجرد مقياس لجس النبض والظفر بالثقة والتأييد. وإذ(436/34)
لا يعني بتمحيص المشاكل السياسية وتحقيقها عنايته بأن يتولى قيادة الشئون العامة، فلم يعد لزاما عليه أن يتقصى الحقيقة كشيء واجب لذاته. أما الصحافة، فهي من ناحية أخرى لا تشغل منصباً معيناً، وهي تفصح عما تنصرف إليه من مراميها بوسيلة واحدة هي وسيلة المنطق والحوار والجدل. وإذ كانت غير مقيدة بما تقيدت به السلطتان الإدارية والتنفيذية من الواجبات فقد جاز لها، بل ووجب عليها أن تخطو بإرادة حرة فوق هام تلك الأبحاث التي يتهيبها رجل السياسة ولا يجترئ على لمسها. . . وإذا كان واجب الحكومة أن تعامل الحكومات الأخرى باحترام شكلي وإن خبثت عناصرها واسودت صفحات أعمالها، فقد كان من حسن حظ الصحافة أنها لم تخضع لمثل هذه القيود، وأن يتهيأ لها من الأمر - وقد اجتمع الساسة يتبادلون عبارات الود ويشربون نخب المحبة والصداقة - أن تكشف الغطاء عن لب الحقيقة من أمرهم فيبرح الخفاء، وأن تعلن عن معايب الحاكم ومقاذره وإن له سطوة الحكم وبيده عصا السلطان.
فواجب الصحفي على هذا الوضع هو عين واجب المؤرخ، كلاهما يتقصى الحقيقة ويعلو اعتبارها لديه فوق كل اعتبار. وكلاهما يبذل قصارى جهده في تحقيق ما يعرضه على قرائه. فلا يعرض عليهم ما تنصرف إليه رغبة الحكومة مهما كان شأنها ومهما عظم سلطانها، بل الحق والحق الصراح. فإذا ما حاولنا إذن أن نخضع الصحفي والسياسي لقيود واحدة ولقواعد واحدة لكان معنى ذلك أن نجمع بين المتناقضين وأن نخلط بين شيئين اختلفا اختلافاً جوهرياً. وهو من الوجهة النظرية من الخطأ وسقم الرأي كشيء لم يسمع به أصلاً وغير متوقع الحصول من الوجهة الفعلية. فالصحافة لا تطمح - كما يقول (اللورد دربي) - في أن تظفر بسلطان الرجل السياسي. ولكنها تحتفظ لنفسها بهذا الاعتبار الذي طاب (اللورد دربي) أن يزعمه لها - ليعلنها بهذا الحكم الاستبدادي الجريء الصادر عن مزاج دموي - لأمور أكثر احتراماً وأعظم تقديراً من مجرد السلطان الآمر والقوة الغاشمة. . . ومع ذلك فنحن عندما ناقشنا السياسة الفرنسية لم تبدر منا بادرة قبيحة ولم نضرب على تلك النغمة الآثمة التي صاغ بها اللورد دربي خطبته. فنحن لم نقل أصلاً إن حكومات فرنسا تعاقبت في حلقات من اختلاس المنصب واغتصاب السلطان - سواء كان من هذا النوع أو من الآخر - في الستين سنة الأخيرة. فنكون إذن قد ناقضنا أنفسنا وقذفنا جيراننا.(436/35)
ونحن لو قررنا أن هذا الأسلوب من اغتصاب السلطان كان في مظهره أو نوعه نتاج الانتخاب الحر في الأمة. وأسوأ من ذلك لو أننا قررنا أن تلك السلطة غير المألوفة التي حصل عليها رئيس جمهورية فرنسا قد منحت له عن طريق ما ظهر من إجماع الرأي العام في فرنسا على اختياره. . . نقول لو أننا قررنا شيئاً من ذلك لكان في الواقع ما قررنا سبة للشرف الفرنسي ومعرة للقومية الفرنسية.
والحق أن أولئك الذين يقولون مثل تلك الأقوال أو يصدقونها يعاملون فرنسا الأبية الباسلة كما يعاملون جيشاً من العبيد فرض عليه أن يختار عاهله المخوف ليضع رأسه تحت أقدامه.
إننا لو وضعنا في المقال المتقدم اسم (موسوليني) أو (هتلر) بدلاً من (رئيس الجمهورية الفرنسية) لوجدنا أن ما قررته التيمس عام 1852 قد صار منطبقاً على تلك الحال التي انتهى إليها أمر الشعبين الإيطالي والألماني في هذا الربع الثاني من القرن العشرين. ونحن إذا قارنا بين لغة ما يتولى قيادة بلادنا من هذه الصحف اليومية العريقة في مناقشتها (للأعمال الطائشة) التي انتهت بذيوع الاستبداد في الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية بلغة التيمس عام 1852 لما انتهت بنا المقارنة إلى ما يشرف صحافة اليوم في إنجلترا أو يطمئننا على الثقة فيها. والغالب إن لم يكن هو الوضع الدائم من أمر أصحاب صحفنا الكبرى ورؤساء تحريرها أنهم قد استحوذ عليهم شيطان نظرية دربي القائلة بأنه (إذا ساغ للصحفي أن يطمح في أن يقاسم السياسي سلطانه فعليه أن يقاسمه أيضاً نصيبا من مسئولياته) وحسبوا سرابها ماء فضلوا السبيل اللهم إلا صحيفة أو صحيفتين من كبريات صحفنا اليومية. ولو كانت هذه النظرية مما يجعل الأخذ به أو يصح قبوله لما كان للصحف البريطانية من شفيع في التمرد على ذلك الطلب الذي بسطه لها الهر هتلر في شهري فبراير ومارس من عام 1938 القائل بأنه لدوام العلاقات الطيبة بين الحكومتين النازية والبريطانية يلزم الأخيرة أن تبسط سلطانها على الصحافة البريطانية فتمنعها من نشر الأخبار أو الآراء التي لا يرغب فيها عاهل ألمانيا. ولقد كان بوسع الصحافة البريطانية على العموم أن تنزل منزلاً كريماً وتشغل مركزاً متيناً يتهيأ لها فيهما أن تتأبى في عزة وأنفة قبول مثل هذه المقترحات التي انطوى عليها طلب الهر هتلر، وترفضها بالاحتقار(436/36)
اللائق بها لو لم تكن قد ضحت بحريتها في سبيل ذلك المنطق السقيم الذي أشرك الصحفي في مسئولية رجل السياسة.
إن واجب الصحافة الأول لينصرف نحو الشعب ونحو الشعب فقط، لا إلى أي وزير أو أية حكومة قد يتهيأ لها أن تشغل المنصب لوقت محدود. وهي لو فكرت أو عملت على خلاف مقتضى هذا الواجب لساقها ذلك إلى أن تقف في مفترق الطرق حيث تنحدر من أوج الاستقلال والحرية إلى الحضيض من الاستعباد الدكتاتوري.
إن ما أصبحنا نواجهه من شأن حيوي يتهدده الخطر، هو من صميم الفارق المميز بين النظر الحر والنظر الاستبدادي في الحياة السياسية. والمميز بين الحرية الشخصية المهيبة الجانب، التي ينعم بها أعضاء مجتمع حر ينظرون إلى (الدولة) باعتبارها مجموعاً كلياً للوظائف الإدارية العامة التي يوفدون لها الوزراء ويهيئون لها الإدارات التنفيذية - وما يراه النظر الاستبدادي الفاشي أو النازي في الدولة باعتبارها (قوة مطلقة) وغاية في نفسها ووكالة شبه مقدسة تنعم بها الحكومة التي يخضع، بل يجب أن يخضع لها المجتمع بجميع أعضائه وأفراده. وما إن تقبل وجهة النظر الاستبدادي في أمة من الأمم - حتى ولو كان هذا القبول على سبيل اللهو أو العبث - إلا واستتبع ذلك حتما أن تسترق الصحف استرقاقاً كلياً أو جزئياً، وعلى النقيض منذ لك يتوفر الضمان الوحيد الأكيد لحرية الصحافة متى نبذت النظر الاستبدادي في كلياته وجزئياته، ومتى عملت على تدعيم سلطان الشعب وجعل الأمة مصدر السلطات جميعا بحيث يعلو شأنها على كل اعتبار بين المواطنين الأحرار الذين يسعهم، وقد توافرت لهم المعرفة التامة بما جريات الأمور على يد صحافة رشيدة غير هيابة، أن يكون نصيبهم من الكفاية المرنة أوفر حظاً مما يحصلون عليه تحت لواء أية حكومة استبدادية مهما تهيأ لها من إطلاق اليد ونفوذ السلطان. وقد يخلص لنا ونحن نأسف له ونتوجع عليه أن رجال الصحافة والسياسة في بريطانيا هم على السواء بحاجة إلى أن يتعلموا مبادئ الفلسفة السياسية.
زين العابدين جمعة(436/37)
12 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
الحكومة - تابع الفصل الرابع
جرت العادة إلى وقت قريب أن يدفع الرسوم من يكسب القضية. أما الآن فيدفعها الطرف الآخر. والرسوم القضائية في قضايا بيع الأموال تكون 2 % من مجموع الأملاك، وفي قضايا الوصايا 4 %، إلا إذا كان الوارث قاصرا فيدفع 2 % أما القضاء في المسائل المتعلقة بملكية العقار فيكون رسمه 2 % إذا كانت قيمة العقار معلومة وإلا فيكون إيجار سنة. هذه هي الرسوم الشرعية؛ ولكن كثيراً ما يلزم المتقاضي بأكثر من القدر الواجب. ويحدد نائب القاضي مقدار الرسوم في غير الأحوال المتعلقة بالملكية. وهناك رسوم أخرى غير الرسوم القضائية يجب دفعها بعد الحكم. مثلاً، إذا كان الرسم القضائي مائتين أو ثلاثمائة قرش، وجب دفع قرشين تقريباً إلى الباشترجمان؛ ومثلهما للباش رسول وقرش للرسول أو لكل رسول قام بعمل.
وكثيراً ما تؤثر مكانة المتقاضين أو الرشوة في حكم القاضي. ويُرتشي النائب والمفتي على العموم، ثم يتناول القاضي نصيبه من النائب. وقد يحكم في القضية لصالح الطرف الذي يدفع أكثر من الآخر - وعلى الأخص - عندما تطول الخصومة. فصرامة العدل لا تتحقق دائماً لاستخدام المتقاضين الرشوة. والشهادة الزور. وقد يصب الوثوق بالمدى الهائل الذي وصلت إليه عادة الرشوة وشراء شهود الزور في المحاكم الإسلامية، وقد يقتضي ذلك أدلة قوية تستند إلى سلطة لا ريب فيها. وهاأنذا أورد مثل هذا الدليل بتلخيص دعوى نظرت من زمن غير بعيد قصها عليّ ناموس الشيخ المهدي وإمامه، وكان حينئذ مفتي القاهرة الأعلى (لكونه المفتي الأكبر لمذهب الحنفية)، وكانت الدعوى قد عرضت عليه بعد أن(436/38)
أصدر القاضي حكمه فيها.
توفى تاجر من تجار القاهرة عن أملاك قدرها ستة آلاف كيس، ولم يكن له وارث غير بنت واحدة. فلما سمع السيد محمد المحروقي الشاه بندر بهذا الحادث رشا فلاحاً عادياً كان بواباً لشيخ محترم وكان الناس يعرفون عائلته، ليدعي أنه ابن أخ المتوفى، ورفع الأمر إلى القضاء. ولما كانت الدعوى ذات أهمية عظيمة استدعى بعض أكابر علماء المدينة ليحكموا فيها. وكانوا جميعاً محل رشوة المحروقي أو تأثيره كما سيبين الآن. وأتى بشهود زور ليشهدوا بصدق ادعاء البواب، وبآخرين ليزكوا هؤلاء الشهود. فقضى القاضي بثلاثة آلاف كيس لابنة المتوفى، وبالنصف الآخر للبواب؛ وتناول المحروقي المبلغ المحكوم به بعد أن خصم منه ثلاثمائة قرش أعطاها البواب.
وكان المفتي الأكبر الشيخ المهدي غائباً عن القاهرة أثناء نظر الدعوى. فلما عاد بعد أيام توجهت ابنة التاجر المتوفى إلى منزله وقصت عليه أمرها متوصلة إليه أن ينصفها ومع أن المفتي اقتنع بما أصابها من جور ولم يشك في صدق ما نسبته إلى المحروقي في هذه القضية، فقد أخبرها أنه لا يستطيع نقض الحكم إذا لم يجد مخالفة في إجراءات الدعوى، وأنه سيطلع على الدعوى في سجل المحكمة. ثم أسرع إلى الباشا الذي كان للمفتي عنده حظوة كبيرة لعلمه واستقامته، وشكا إليه أن المحكمة قد أسقطت حرمتها بإفراطها في الظلم، وأن العلماء يقبلون شهادة الزور مهما كان أمرها واضحاً ساطعاً، وأنهم أصدروا أخيراً حكما أثناء غيابه أثار لغط المدينة وعجبها. فاستدعي الباشا القاضي وجميع العلماء الذين قضوا في الدعوى لمقابلة المفتي في القلعة. ولما اجتمعوا خاطبهم في شكوى المفتي كما لو كان الأمر صادراً منه. فظهر السخط عيهم لهذه التهمة وطلب القاضي أن يعرف علام تستند هذه التهمة. فأجابه الباشا إلى قرائن عامة، ولكنها تستند خاصة على القضية التي سلمت فيها المحكمة بادعاء بواب قرابة ووراثة لا يمكن الاعتقاد بحقه فيها. فأبان القاضي أنه أصدر الحكم تبعاً لإجماع العلماء الحاضرين حينئذ. فقال الباشا لنقرأ محضر الدعوى؛ فأنوا بالمحضر، فلما فرغوا من تلاوته قال القاضي بصوت جهوري ولهجة صلفة (وهكذا حكمت!) فصاح المفتي بصوت أعلى وأكثر سلطة (وكان حكمك زوراً) فشخصت الأنظار دهشة، آنا إلى المفتي، وآنا إلى الباشا، وآنا آخر إلى العلماء. وأدار القاضي والعلماء(436/39)
رؤوسهم، وأخذوا يعبثون بلحاهم؛ ثم صاح القاضي ضارباً صدره بيده: (أنا قاضي مصر أصدر حكماً زوراً؟) وصاح العلماء: (ونحن! نحن يا شيخ مهدي! نحن علماء الإسلام نقضي قضاء زوراً؟)، وقال المحروقي، وقد كان يحضر مجالس الباشا لما بينهما من معاملات تجارية، (يا شيخ مهدي احترم العلماء كما يحترمونك) فصاح المفتي (يا محروقي! هل لك شيء في هذا الأمر؟ صرح بنصيبك فيه وإلا فالزم السكوت. اذهب وتحدث في مجتمعات التجار ولا تسمح لنفسك مرة أخرى أن تنبس ببنت شفة في مجلس العلماء) فترك المحروقي القصر في الحال لأنه أدرك كيف ينتهي الأمر، وأن عليه أن يرتب أموره. وطالب العلماء المفتي بالدليل على بطلان قرارهم. فسحب المفتي من صدر قفطانه كتيباً في أحكام المواريث وقرأ عليهم: (لإثبات دعوى القرابة والوراثة يجب التحقق من اسم أبي المدعي وأمه وجده لأبيه ولأمه وجدته لأبيه ولأمه) ولم يكن شهود الزور معدين لإعطاء هذا البيان فكان هذا نقصاً في الشهادة ينقض الحكم. وجئ بالبواب أمام المجلس ولما أنكر القرية التي جعلوه محورها أمر الباشا أن يجلد بشدة؛ ولكن على الرغم من التعذيب الذي احتمله، لم يعترف إلا بأنه لم يتناول من الثلاثة آلاف كيس غير ثلاثمائة قرش. وفي أثناء ذلك ذهب المحروقي إلى سيد البواب وأخبره بما حدث في القلعة وما ينتظر ووضع بين يديه ثلاثة آلاف كيس ورجاء أن يذهب حالاً إلى المجلس ويسلم هذا المبلغ قائلاً أنه كان أمانة عنده من خادمه. وقد تم ذلك وأعيدت النقود إلى ابنة المتوفى.
وفي قضية أخرى سلط فيها باشا من الباشاوات (غير محمد علي) نفوذه على القاضي ومجلس العلماء حتى أصدروا حكماً مخالفاً للشريعة فعارضهم الشيخ المهدي بالطريقة نفسها. وهذا المفتي مثل نادر في النزاهة والاستقامة. وقد قال إنه لم يتناول على فتاويه أجراً. وقد توفى هذا الشيخ بعيد زيارتي الأولى لمصر. ويمكنني أن أسرد حوادث أخرى على ذيوع الرشوة في القضاء ولكن ما قدمته يكفي.
في القاهرة خمس محاكم دنيا. وفي بولاق ميناء القاهرة الرئيسي، محكمة؛ وفي مصر العتيقة، مينائها الجنوبي، محكمة أخرى. ويرأس كل محكمة من هذه المحاكم الصغيرة شاهد من المحكمة الكبرى نائباً عن كبير القضاة الذي يصادق على تصرفاته. وتحال على هذه المحاكم القضايا المتعلقة ببيع الأموال والوصايا والزواج والطلاق. فالقاضي يزوج اليتيمات(436/40)
القاصرات اللاتي ليس لهن أقارب بلغ يتولون الوصاية. والنساء كثيراً ما يلجأن إلى أحكام الشريعة لإجبار أزواجهن على الطلاق. ويوجد أيضاً في كل مدينة من مدن الريف قاض يكون على العموم من أهل البلد ولا يكون أبداً تركياً. وهو يقضي في جميع القضايا، أحياناً في حدود معرفته للشريعة، وعادة طبقاً لفتاوى المفتي. ويقوم القاضي في أكثر من قرية.
ولكل مذهب من المذاهب الأربعة (شيخ) أي رئيس ديني يختار من أعلم علماء المذهب، ويقيم بالقاهرة. ويؤلف شيخ الجامع الأزهر، وهو شافعي المذهب دائماً مع شيوخ المذاهب الأربعة والقاضي ونقيب الأشراف وغيرهم كثيرين مجلس العلماء الذي كان يثير الرهبة والاحترام في نفوس الحكام الترك والمماليك ويحد من طغيانهم؛ وقد فقدت الآن هذه الهيئة نفوذها على الحكومة إلا قليلاً. ويتحاكم الطرفان المتنازعان في الخصومات التافهة أمام شيوخ المذاهب غالباً، إذ أن كلا من هؤلاء هو مفتي مذهبه الأكبر، ومحل الاحترام العظيم والامتثال التام. كما أن الباشا كثيراً ما يعرض على هؤلاء الشيوخ القضايا الصعبة الخاصة بأحكام القرآن والسنة. ولكنه لا يرى دائماً رأيهم، مثل استشارته إياهم في شرعية التشريح للعلم، فلما أعلنوا أن التشريح يتنافى وأحكام الدين، قرر ممارسته لطلبة الطب المسلمين.
ويخضع حرس العاصمة للقيادة العسكرية أكثر من خضوعه للسلطة المدنية. وقد كان من سنوات قليلة تحت رياسة الوالي والضابط. إلا أنه منذ زيارتي الأولى لمصر ألغيت سيادة الأول. وكان واجب الرئيس أن يقبض على اللصوص وغيرهم من المجرمين. وكانت المومسات تحت ولايته. وكانت عنده قائمة بعددهن. وكان يفرض عليهن ضريبة. وكان يشرف أيضاً على سيرة النساء على العموم ويضيف من تتهم بفاحشة واحدة إلى قائمة المومسات وتفرض عليها الضريبة إلا إذا فضلت أن تتفادى هذا العار برشوة ذات اعتبار. وكان النظام المطرد، ولا زال، أن يلتزم شخص بجباية الضريبة من المومسات العازبات والمتزوجات على العموم. ولكن أولئك الأخريات قد يقتلن إذا لم يستطعن الخلاص بالرشوة أو بحيلة أخرى. ومثل هذه الإجراءات مع ذلك تخالف القانون من ناحيتين. فنص القانون أن كل من يتهم امرأة بالزنا أو ارتكاب الفاحشة دون أن يقدم أربعة شهود على الجريمة يجلد ثمانين جلدة. وينص على عقوبات أخرى غير فقد الاعتبار والغرامة توقع على من حكم عليها.(436/41)
(يتبع)
عدلي طاهر نور(436/42)
الشاطئ والحرب
ليالي الزورق
أيُّها الشاطئ قدْ طال بنا ... أمدُ البعدِ ولمَّا نلتقيِ
أينَ أيامٌ قضيناها هُنا ... مُشرقاتٍ من سناكَ المشرق
أتعودينَ معَ الصفوِ لَنا ... ضاحكاتِ يا ليالي الزورَق
نُبْصِرُ الدنيا على نورِ الهوى
أَيْنَعَتْ فيها الأماني من جديدْ
أمْ تولى كلُّ شيء وانطوَى
ذلك الماضي على ألاّ يَعُودْ
أينَ يا شاطئ أحبابي ومَن ... كنَّ للعينينِ أنْساً وسَنا
كم أتيناكَ بقلبٍ مُطْمَئِنْ ... وَمَرحنا في ظلالٍ مِن مُنى
أيُّنا أرْهَفَ أُذْناً للزَّمَنْ ... أيُّناَ مَلَّ التلاقي أيُّناَ
أناَ يا شاطئُ ظَمْآنُ إلى ... رقصاتِ الموجِ في ضوءِ القَمَرْ
ما سَلَتْ عيني ولا القلبُ سَلا ... أمسياتٍ حالياتٍ وَذِكَرْ
شدَّ ما ألْقاَهُ من دهري ألاَ ... ترجِعُ الأيام نُحيِي ما غَيَرْ
ونرى الدُّنيا على نورِ الهوى
أينعت فيها الأماني من جديد
أمْ تولى كل شيءِ وانطوى
ذلك الماضي على ألا يعود
طالَ يا شاطئُ قد طالَ بنا ... أمد البعد ولما نلتقي
أين أيام قضيناها هنا ... مشرقات من سناك المُشرق
أتعودين مع الصفو لنا ... ضاحكات يا ليالي الزورق
(الإسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن(436/43)
الكأس الأولى. . .
هَذِهِ كأسِي وَمَا أَعْجَبَ كأسِي!!
طفَرَتْ بِي مِنْ جَوَى يَوْمِي وَأَمْسِي
وَجَلَتُ عَالَمَ أَفْرَاحي وَأُنسِي
أَناَ أَفْدِيهاَ بِأَنفاَسِي وَنَفْسِي!
كُلَّماَ قَبَّلْتُ فاَهَا ... أَغْرَقَتْ نَفْسِي صَدَاهَا
فيِ عُبابٍ مِنْ سَنَاهَا ... شَعَّ مِنْ بَدْرٍ وَشَمْسِ
هِيَ في كَفِّي وَرُوحي وَنَشِيدِي
نَبْأَةٌ باَحَ بهاَ سِرُّ الوُجُودِ
عُصِرَتْ في سَجْوَةِ الدَّهْرِ اْلبَعِيدِ
مِنْ شِفاَهِ الغِيدِ أو وَرْدِ الُخْدُودِ!
رَقْرَقَتْ قَلْبِي المُعَنَّى ... فَصَبَا القَلْبُ وَحَنَّا
وَتَغَنَّى وَتَمَنَّى ... مَاضِيَ الُحْبِّ السَّعِيد
أَشُعَاعٌ في يَدِي أم قَطَرَاتُ؟
وَشَرَابٌ في فَمِي أم جَمَرَاتُ؟
وَلهِيبٌ في دَمِي أم نَزَوَاتُ؟
تِلْكَ كأسُ الخَمْرِ بَلْ تلْكَ الحَيَاةُ!
هِيَ وَالسَّاقِي لَدَيَّا ... كلَّمَا أَوْفَى عَلَيَّا
مَاسَ بِالكَأسِ وَحَيَّا ... سَكْرَةٌ بَلْ سَكَرَاتُ؟
أَناَ ظَمْآنُ وَكأسِي في فَمِي
أَتَغَنَّى بِالرُّضَابِ الشَّبَمِ
إنَّهُ رِيٌّ لِقَلبِي وَدَمِي
هَاتِهِ وَاعْطِفْ عَلَى كلِّ ظمِ
بِكؤوسِ الْبَاقِيَاتِ ... أَنْتَ حَسْبِي مِنْ حَيَاتي
هَاتِ مِمْ حُسْنِكَ هَاتِ ... لِفُؤَادِي المُلْهَم
أَنْتِ وَالْبَدْرُ وَآفاقُ الْفَضَاءِ(436/45)
وَالْهَوَى وَالشِّعْرُ في ظِلِّ الْمَسَاءِ
وَمُحَيَّاكَ وَكأسِي وَصَفائي
فِتَنٌ دَانَتْ خَيَالَ الشُّعَرَاءِ
كأسِيَ الأُولَى أعِيدِي ... رَجْعَ أَحْلاَمِي وَعِيدِي
وَصِلِينِي بِالْخُلُودِ ... وَبِأَسْبَابِ السَّماَءِ!
(كوم النور)
أحمد أحمد العجمي(436/46)
البريد الأدبي
طاغور في اللغة العربية
بعد أن نال الهندي الفيلسوف السر (رابندرانات طاغور) جائزة نوبل للآداب، وهو الشرقي الوحيد الذي نالها، اشتهر اسمه في الخافقين؛ فترجمت أكثر دواوينه وقصصه إلى سائر اللغات الحية، وكان نصيب العربية منها غير قليل. وهذا الذي ترجم عنه يفوق ما ترجم عن أديب آخر غريب عن اللغة العربية. وها نحن نذكر لك ما وقع بأيدينا من مؤلفاته مترجماً: (البيت والعالم) قصة ترجمها الأستاذ طانيوس عبده. (البستاني) ديوان شعر، ترجمة الأديب اللبناني وديع البستاني نظماً ونثراً. (الضحية وروايات وأبحاث أخرى) ترجمها صاحب (العصور) الأستاذ إسماعيل مظهر. (خالتي وقصص أخرى)، و (وكيل البريد وقصص أخرى) ترجمها الأديب الشاعر عبد اللطيف النشار؛ وترجم الأستاذ عبد المسيح وزير كتاب (الزورق الذهبي) ونشر بعض قطعه. وترجم الأستاذ كامل محمود حبيب أناشيد طاغور الخالدة (جيتا تجالي) التي نال بها الجائزة العالمية، ونشرها في السنة السادسة من هذه المجلة الزاهرة؛ وترجم هو أيضاً أحد دواوينه (البستاني) نثراً، ونشره أخيراً في مجلة المقتطف الغراء؛ وهناك رسالة عن حياته ومختارات من مؤلفاته، كتبها الأستاذ محيي الدين الخطيب. . . هذا عدا ما ترجم ونشر في صحف ومجلات الدنيا العربية، قبل وفاة شاعرنا الفيلسوف وبعدها وهو كثير.
(بغداد - الكرخ)
محمود العبطة
الإصلاح الاجتماعي والتعليم
نشرت السيدة منيرة ثابت مقالاً في أهرام 26 أكتوبر الماضي عن الإصلاح الاجتماعي والتعليم ذكرت فيه أنها ليست في حاجة لأن تذهب إلى الريف لترى وتلمس ما فيه من شقاء؛ لأنها ترى في القاهرة نفسها ما يدعى الأكباد. فهؤلاء تلاميذ يريدون الالتحاق ببعض المدارس الأولية والإلزامية (وهي من أحط أنواع التعليم في طريقتها العلمية والاجتماعية) فتسد في وجوههم الأبواب لأسباب واعية. ثم اقترحت على الوزارة إغلاق هذه المدارس(436/47)
وتعميم التعليم الابتدائي وجعله مجانياً، واستلت على تأخرنا بمجانية التعليم بجميع أنواعه في العراق.
ومن يقرأ هذا المقال يعتقد أن السيدة الكاتبة. لم تدرس مشكلة التعليم عندنا؛ لأنه لا يوجد في القاهرة ولا في أي بلد من بلاد الدولة مدرسة أولية أو إلزامية تسد بابها في وجوه التلاميذ لأسباب واهية أو غير واهية. والمشاهد أن المدارس تشكو من عدم إقبال التلاميذ عليها حتى اضطرت الوزارة أخيراً إلى تنفيذ قانون الإلزام، وتقديم الذين يمنعون أولادهم إلى المحاكمة. وفي كل مدرسة سجل خاص مستخرج من دفاتر الصحة بأسماء التلاميذ الذين بلغوا سن التعليم في منطقتها. والمدرسة هي التي تتولى طلب التلاميذ للتعليم، كما تتولى إدارة القرعة طلب الشبان للتجنيد. وإذا كانت السيدة الكاتبة في شك من هذا فأنا زعيم لها بإلحاق من تريد من التلاميذ - مهما بلغ عددهم - بالمدارس التي يرغبون الالتحاق بها.
ولا ريب في أنها جاوزت الحق حين ذكرت أن التعليم في المدارس الأولية والإلزامية من أحط أنواع التعليم: إذ ليس من المعقول أن تهون المدارس الأولية لأنها تعلم الأطفال أو يهون معلموها لأنهم يضعون الحجر الأول في بناء العقول، وعلماء التربية يرون أن مرحلة الطفولة من أهم مراحل التعليم، لا من أحطها كما ذكرت الكاتبة. على أن القائمين بالتعليم في مدارسنا الأولية والإلزامية من الرجال الذين تخصصوا في هذه المهمة. وطريقتهم تساير أحدث مبادئ التربية الفنية. ولا يدانيهم فيها غيرهم مهما بلغ شأنهم.
أما تعميم التعليم فلا سبيل إليه، لأن الوزارة لم تستطع تعميم التعليم الأولي إلا بعد عشرين سنة، وعلى أساس نصف يوم، ولو جعلته يوما كاملاً لاحتاجت إلى سبعة آلاف مدرسة وثلاثين ألف معلم، غير الموجود عندها.
فكيف تستطيع إذاً تعميم التعليم الابتدائي في الدولة كلها؟ ومن أين لها الرجال والمال؟
أما مجانية التعليم بأنواعه في العراق فسرها عدم الإقبال عليه وقد كان هذا حالنا في الجاهلية الأولى!
ويلوح لي بعد هذا أن اعتكاف السيدة الكاتبة في برجها العاجي الذي ذكرته في مقالها قد حجب عنها الكثير من الحقائق التي يعرفها عامة الناس.(436/48)
أما المشكلة الحقيقية فليست في عدم قبول التلاميذ في المدارس الإلزامية، وإنما هي في إطعام الفقراء منهم وكسوتهم، ومعالجة مرضاهم، فإذا استطاعت الوزارة تدبير حل لهذه المشكلة، فقد خطت في سبيل الإصلاح الاجتماعي خطوة موفقة.
(المنصورة)
علي عبد الله
العروبة في السودان:
سيدي. . .
قد سررنا وايم الله أن يكون الدكتور مبارك أحد المشتركين بكلمة في المهرجان الدبي بأم درمان - بل بدرس قيم في توحيد أواصر العروبة المتفرقة شيما وأحزاباً - فإن كلمته التي بعنوان (في الطريق إلى الوحدة العربية) قد كانت حديث المجالس الأدبية في كل ناد. . . وهنا قلما تجد شاباً متعلماً لا يقرأ (الرسالة) بنظام ويلم بما فيها من بحوث قيمة وكلمات جيدة وشعر رصين. . .
ثم إن الذي حدا بي لكتابة هذه الكلمة هو أن برسالته ما يلفت النظر: فإن السامع لها أو القارئ يشتم منها أن الأستاذ يعتقد أن العروبة في السودان لغة لا جنس. وللإيضاح ووضع الأمور في نصابها نقول: إن بالسودان أكثر من النصف من العرب العريقين في عروبتهم سواء في الجنس أو اللغة أو الدين؛ بل فيهم عدد هائل يتحدث بالعربية اليوم - وهم أميون - كما كان يتحدث بها العرب منذ قرون، ويعيشون على نمط معيشة العرب منذ أجيال. من هذا النوع القبائل الآتية: الكداهلة، الكبابيش، الشنابلة، الحمر، الرزيقات:
ولا يستطيع الدكتور أن يكتب عن السودان بصدق إلا بعد ما يزوره ويتحدث هنا في (كردفان) مع عربانه، فحينذاك يمكنه أن يضع السودان في المحل اللائق به في مركب العروبة.
أما كيف كان بالسودان أكثر من النصف من العرب الصرف وكيف نزحوا إلى السودان، ومتى كان ذلك؛ فإذا شاء الدكتور علم ذلك، فسيراه بجريدة (النيل) الغراء بقلم أحد الأدباء.
وله ولصديق السودان (الزيات) مني ومن كل سوداني سلام(436/49)
(الأبيض - سودان)
الفاتح النور(436/50)
العدد 437 - بتاريخ: 17 - 11 - 1941(/)
أدب اليوميات
للأستاذ عباس محمود العقاد
(1). . . هل تكتبون مذكرات يومية، أو هل في نيتكم كتابة مذكرات أو تدوين ترجمة لحياتكم الحافلة كما يفعل كتاب الغرب؟ وهل لا توافقونني على أن كتاباً كهذا تصفون فيه ما صادفكم من عقبات وما تغلبتم عليه من الصعوبات، وتقصون فيه ما لا يعرفه الكثيرون عن حياتكم الشخصية والأدبية والسياسية يكون درساً مفيداً لشبان هذا الجيل والأجيال المقبلة؟
(2) هل معنى عدم إقدامكم على الزواج إلى الآن أن الحياة الزوجية تقيد رجل الفكر أو تشغله عن أداء رسالته، أم أنكم لم تهتدوا إلى المرأة التي ترونها المثل الأعلى المفكر؟
(3) لكل إنسان أماني وآمال ومطالب، ومطالب من عاش لا تنتهي. . . وهي تختلف باختلاف الأحوال والأيام؛ ولكن ترى ما هي أعظم أمنية تتوقون إليها في الحياة؟
(الإسكندرية)
أحمد عبد اللطيف الحضراوي
بالمعهد البريطاني
هذه فقرات من رسالة وصلت إلي من الأديب صاحب الإمضاء المتقدم، وفي الجواب عن بعض أسئلته ما يصح أن يشترك فيه حضرات القراء، لأنه من موضوعات الكتابة العامة التي تطرق في الكتب والمجلات
وأول هذه الأسئلة سؤاله عن المذكرات اليومية وما أدونه منها الآن أو بعد حين
وجوابي عن هذا السؤال أنني بدأت حياتي الأدبية - منذ الدراسة الأولى - بكتابة المذكرات والتعليقات على ما أطالع وأشاهد في كل يوم، وإنني لم أنقطع عن هذه المذكرات إلا في السنوات الأخيرة التي لا تتجاوز خمس سنوات
فأول كتاب صدر لي هو (خلاصة اليومية) واسمه يدل عليه. فقد كان تلخيصاً لما أثبته في مذكراتي اليومية من الآراء والملاحظات والأصول التي أتناولها بالتوسع إذا خصصتها بالكتابة(437/1)
ثم ألفت كتابي (ساعات بين الكتب) وهو غير الكتاب الذي طبع بعد ذلك بهذا العنوان. فإنما كان الكتاب الأول تعليقات القراءات التي تفرغت لها وأنا مقيم في أيام الحرب الماضية بأسوان، ولم يكن مجموعة مقالات أو فصول نشرت في الصحف كالكتاب الذي يحمل الآن هذا العنوان
لكن المذكرات اليومية نوعان وليست بنوع واحد؛ فهذا الذي ذكرته مقصور على الفكر والقراءة كأنه فصول صغيرة أو موضوع متفرق في عدة صفحات، وهو النوع الذي أكثرت من الكتابة فيه، وعندي منه الآن مجموعة صالحة في انتظار الطبع كما هي، أو في انتظار التوحيد والتأليف، لأنها تصلح لهذا وذاك
أما النوع الآخر وهو المذكرات عن حوادث الحياة وعوارضها فلم اشرع في الكتابة فيه إلا مرة واحدة طالت بضعة شهور، ثم مزقت ما كتبت وأحرقته ولم أعد إلى تجربة الكتابة في هذا النوع مرة أخرى، ولعلي لا أعود
ولكني لا أحكم على أدب اليوميات كله بالتمزيق والإحراق من أجل أنني اضطررت إلى تمزيق ما كتبت وإحراقه؛ لأن أسبابي غير أسباب الآخرين، وموانعي غير موانعهم، والمحظورات التي أتقيها غير المحظورات التي يتقونها
فالواقع أنني من أرغب الناس في قراءة اليوميات والانتفاع بها، وهي في اعتقادي أنفع القراءات للمؤرخ والمستطلع لأحوال الأمم وسرائر النفوس، ولاسيما المكتوب منها بخلوص نية لا يشوبها التكلف والرياء، ومعظم كتاب اليوميات ممن يتوخون خلوص النية وصدق الرواية عندما يخلون إلى صفحاتهم الخفية، لأن المسألة عندهم (ظاهرة نفسية) أشبه بالتوجه إلى محراب الاعتراف وكأنهم يخففون أعباء ضمائرهم بإلقائها عنهم في صفحات مسجلة يرجعون إليها ويؤمنون بصدقها وأمانتها، كما يخفف الإنسان أعباء ضميره بالإفضاء إلى صديق أمين؛ فهم مسوقون إلى صدق الكتابة بهذا الشعور العجيب الذي لا يستريح إلى غير الأمانة، وفي هذه الراحة ضمان للقارئ أو ضمان للحقيقة أقوى من ضمان المحاسبة والبينات
ولليوميات أدب مستفيض في اللغات الأوربية عامة وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية، وهذا الأدب موضع دراسة المؤرخ والناقد النفساني، والفيلسوف، والباحث العلمي، وكل من(437/2)
تعنيه سير الجماعات والأفراد؛ يشتركون في دراسته وبحثه تارة لبيان الأسباب التي تدعو الناس في فترة خاصة من الزمن إلى تدوين مذكراتهم والعكوف على أسرار ضمائرهم بمعزل عن الجماهير وشوا غلهم العلنية، وتارة لتحقيق الوقائع واستكشاف دخائل الرجال، ويأتون في جميع هذه التعليلات والتخريجات بما يلذ الوقوف عليه ويفيد!
وما من كاتب يوميات في الحقيقة إلا وهو ظاهرة نفسية كثيرة البدوات والغرائب، كثيرة الجوانب التي تتعلق بها مباحث النفسانيين والحكماء. وقد أشرت إلى طرف من ذلك في مقدمتي للجزء الثالث من مذكرات أحمد شفيق باشا رحمه الله حيث قلت عن يوميات صمويل بيبيز أنها موضع الحيرة عند بعض النقاد، (فلا هم قادرون على أن يجزموا بأنه كتبها لنفسه، لأن الإنسان لا يكتب كل هذه المجلدات وكل هذه الحوادث ليطلع عليها وحده، ولا هم قادرون على الجزم بأنه كتبها للأجيال المقبلة، لأنه كشف فيها أسراراً عن سيرته وسيرة أقربائه، كان معروفاً انه يخفيها اشد الإخفاء ويود لو يتعقبها بالمحو والنسيان)
ثم ضربت لذلك أمثلة شتى منها أن مسألة من المسائل البيتية كدرته فأتلف جميع أوراقها وأسانيدها ثم عاد إلى مذكراته فدون فيها جميع تلك الأوراق والأسانيد بأقصى ما استطاع من إسهاب وتفصيل!
هذا هو العجب، وهذا هو موضع التأمل والدراسة، وهذا الذي يجعل اليوميات مرجعاً صادقاً لدارس الحوادث ودارس الأخلاق.
فآنا لا أدين أدب اليوميات كله لأنني احترقت يومياتي ولم يخطر لي أن أعيد التجربة مرة أخرى
وإنما يباعد بيني وبين كتابة اليوميات أمران كلاهما حقيق بالإثبات لأنهما أيضاً من ظواهر النفسيات وظواهر الفترة التي عشت فيها
وأول الأمرين إنني غير مطبوع على التوجه إلى محراب الأعتراف، لأنه ضرب من الاستغفار لا أستريح إليه، أو لأنني ادخر لنفسي خفاياها وأنزها عن البوح لأحد غير مستثن من ذلك إلا القليل
فالمسألة التي تلعج خاطري وتثير شعوري وتتسرب إلى أعماق ضميري ليس مصرفها عندي أن أسجلها كما هي أو أفضى بها إلى أذن سامع قريب، وإنما مصرفها أن اعبر عنها(437/3)
في الشعر والكتابة، وأن أعرضها للتحليل والتقليب على وجوه شتى. فإذا حللتها واستخرجت معناها فقد استرحت منها وفتحت مغالقها ولم يبق فيها عندي موضع للمعالجة والاستقصاء
ورب كارثة نفسية من المقيمات المعقدات تسكن كما يسكن البحر الهائج في لحظة واحدة ساعة انتهائي إلى مقطع الرأي فيها، أو ساعة علمي بما ينبغي أن أقابلها به من عمل. وهذا الذي ينوب في طبيعتي مناب الإفضاء والبوح وما أسميه التوجه إلى محراب الاعتراف
أما الأمر الثاني الذي دعاني إلى إحراق يومياتي فهو راجع إلى حوادث الفترة التي نعيش فيها لا إلى البواعث الخلقية
وخلاصة إنني دونت تلك اليوميات لأستعين بها على تاريخ الفترة وتحليل أخلاق رجالها. ثم رأيت في أثناء الثورة الوطنية وبعدها بقليل أن ملفقي التهم ومدبري المكائد يستعينون بأمثال هذه اليوميات على طبخ القضايا وإحراج الأبرياء، وظهر لي أن إثبات ملاحظاتي على رجال الفترة من العسر بمكان مع تعرض اليوميات للمصادرة والسؤال، فآثرت إحراقها أيام اشتداد المحكمات والمصادرات وأحرقت معها رسائل شتى وصوراً وأوراقاً لها في حياتي الخاصة اثر لا يزول، وفاتني بإحراق هذه وتلك نفع كبير في مراجعة الحوادث التاريخية وصيانة الذكريات النفيسة، ولكنه اقل من الضرر الذي كنت متعرضاً له ومعرضاً له غيري لو أبقيت عليها وحدث ما كنت أتوقعه بسبيلها
على أنني ودعت كتابة اليوميات ولكني لم أودع كتابة المذكرات أو كتابة ما يقول عنه الأديب صاحب الخطاب انه قصة من الحياة الشخصية والأدبية والسياسية تكون درساً مفيداً لشبان هذا الجيل والأجيال المقبلة
ففي نيتي وأمام ذهني كتاب كبيراً كسره على أجزاء منفصلة وأفرغ كل جزء منه لناحية مستقلة تتناول حياة الأديب وحياة الصحفي والنائب والسياسي معاً وحياة الإنسان في خاصته وعامته وحياة الباحث عن نفسه وكونه وإلهه وسائر ما يتصل بالعقيدة والسريرة الدينية
ويخيل إلى أنني لو فرغت سنة واحدة مكفي المؤونة استطعت أن أفرغ من أجزاء هذا الكتاب كلها بغير عناء كبير، لأن أصوله وموضوعاته قلما تحوجني إلى مراجعات تفصيلية(437/4)
بعيدة من الذاكرة والوجدان
تلك كلمتي الموجزة في اليوميات، وما كتبت منها وأنوي أن أكتب بعد حين
أما سؤال الزواج، فقد أجبت عنه في (الرسالة) جواباً يغني فيه الأجمال عن الإسهاب، وكل ما أزيده هنا أنني استغرب المصادفة التي ساقت ألي أربعة أسئلة في شأن الزواج خلال شهر رمضان، وان كان أحدهما لا يستغرب في وقت من الأوقات، لأنه مزمن يأتي من السيدة الوالدة على غير ميعاد! فهل شهر رمضان - وما يعقبه من أفراح الأعياد - هما المسئولان عن مصادفة الأسئلة الثلاثة الأخرى؟
وأما أمنيتي التي يسألني الأديب عنها سؤاله الأخير، فلعلها لا تشرح في ذيل هذا المقال، وأحرى بها أن تؤجل إلى مقال قريب، لأنني لا اطرق منها جانباً يخصني دون غيري؛ بل أطرق منها ما يصح أن يمتد إليه كل بحث وينظر فيه كل ناظر
عباس محمود العقاد(437/5)
12 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
التحرر من التاريخ - نحن غير البائدين - تلاميذنا أصبح
علما بالطبيعة من أرسطوا - العلوم والفنون ليست تحفاً تقتنى
منفصلة عن النفس - لابد من قلوب حديثة - من جرائر
التاريخ - الإنسان يصنع أقداره - استطراد إلى مشكلة القدر
- إلى المنتظرين بعثا من غير نفوسهم - الآن فقط وجد الحق
أدوات الدعوة لتصحيح الأفكار عن الحياة - عباب التاريخ
يجرف الطفولة النضرة مع الجيف القذرة! - لا مفر من عزل
الطفولة لتصحيح أفكارها - مناقضات بين ما في الشوارع وما
في الجامعات - صورة من دراستنا الحالية للتاريخ - طبائع
مدلسة ليست بنت زمانها - ما يستهلكه الخير وما يستهلكه
الشر - هل مضت الحاجة إلى دور الغرائز في خدمة الحياة؟
- حرب الآهة
طالما ألححت بقلمي على التاريخ: هذا الجار الهائل. . . هذا السد القوي. . . هذا السجن العتيد. . . لأحطمه وأنقذ نفسي من جوه المعتم الخانق!
وطالما قلت: ما دام هذا الماضي القاصر الجاهل المخرف الوحشي يحمله الإنسان في أوعيته وأعصابه إلى الحاضر، فهو دائماً في ضلالة القديم، كما يعيش حامل المكروبات الضارة دائماً في أمراض ونكسات.
والحقيقة التي يجب أن توضع نصب العيون الآن هي أن هذا الإنسان العصري هو غير(437/6)
الإنسان البائد بلا شك! هو غيره في علمه وإدراكه للطبيعة وتذليله لعقبات الحياة واضطلاعه بأدوات تحقيق الاحتياجات وتفتيحه لكنوز الأرزاق والأقوات
فكيف يرضى أن يحمل ذات قلبه القديم وغرائزه كما كانت وان يحمل غشاوات القرون الأولى ليعيش بها في عصر الانكشاف والظهور والقدرة الفائقة؟!
كيف يرضى من ملك زمام اليابس والبحر وذرع الأرض بالطول والعرض، ونبش كنوزها أن يعيش بأساليب الذي كان لا يعرف غير طريق القرية أو النجع أو الجزيرة التي يعيش فيها؟
إن تلاميذ المدارس الابتدائية اصح علماً عن الأرض والطبيعة من سقراط وكونفوشيوس وأرسطو وابن سينا والفارابي وغيرهم من حكماء القدماء؛ فكيف ترضى الإنسانية الحالية أن تعيش حياتها النفسية بأساليب جهلاء عصورهم؟!
إن التاريخ النفسي للحياة الإنسانية ينبغي أن يدرس بعين غريبة عنه ناقدة له في شك وارتياب. فما هو إلا سجل جهاد الناس في سبيل وصولهم إلى حقائق هذا العصر الحالي. فما يليق أن تؤخذ مرحلة من مراحله محطاً يطمئن الناس إليه بعقولهم؛ لأن مراحله السابقة كانت مراحل موضعية ضيقة خاصة بأمة ما من أممه. ولكن أمر أمم الناس الآن أمر جماعة توشك أن تتقارب أهدافها وتشتبك مصالحها وتشتجر اشتجاراً لا خلاص لفروعها منه أبت أم كرهت
هل من المعقول أن نلبس ملابس الحياة الحديثة على الأجساد ثم لا نغير ملابس النفس؟ أنكون قروداً وببغاوات تحكي قضايا العلم الطبيعي بألسنتها وظواهرها ولا تمثله قلوبها ونوازعها؟
هل يكفي من العلم أن يقتني في الحوافظ والذاكرات غير ممزوج ولا مدمج في الأعصاب والأحاسيس والانفعالات، بل يوضع في الرءوس كما توضع التحف والدمى على الرفوف والمناضد للزينة والخيلاء والبيع والشراء عند الحاجة؟
إني أرى العلم ينبغي له أن يكون في كياننا كالماء في أعواد الشجر الحي لا يقف تسربه إليه وتفريع حياته إلا إذا جف واحطب ومات. . . فلا شجر بدون ماء. . .
إن عملية عظيمة في داخل الحياة النفسية الإنسانية ننتظر إجرائها لبناء قلوب حديثة تتلاءم(437/7)
مع الأفكار الحديثة!
ومن آثار التاريخ في الحياة العصرية هذا الخلاف العنيف بين الأديان بعد ما سطعت شمس الله الواحد. . . وبعد ما أدرك العقل التناسق والانسجام والتوافق بين قوانين الطبيعة مما لا يمكن أن يكون إلا بإدارة يد واحدة!
ومن آثاره كذلك فيها أننا لا نزال نخضع لمنطق الأمم التي كانت تعيش متحاجذة في سدود وتخوم بين عقولها وأخلاقها ومرافقها، وتجعل الدنيا دنيوات، والإنسانية الواحدة أنواعاً متباعدة، وتجعل من اختلاف الأجناس والألوان واللغات اختلافاً أصيلاً جوهرياً بين الطبائع الإنسانية يبيح هذه العداوة الفاجرة المريرة المخربة للعمران، ويحمل على المبالغة في البطش والطغيان ونسيان الصفات المشتركة بين بني الإنسان
ومن آثاره كذلك أن اكثر الناس لم يدرك بعد مدى الانتقال العظيم والترقي السريع والتفاوت البعيد بين الحياة قبل القرن العشرين والحياة فيه؛ ولذلك لا يزالون يضمرون في أنفسهم اعتقادات متشائمة في الإنسان ومستقبله، ويدينون في الحياة بدين السخط وإطلاق الغرائز الخطرة والآراء التافهة التي يجعل الإنسان يعبر الحياة بدون أن يجتهد في ملء نفسه بأسرار التكوين، وفي إضافة كشف أو اختراع أو منفعة إلى ميراث الحياة الإنسانية. . . وليس هناك شيء اضر على الحياة الإنسانية من نزعة التشاؤم والتبرم والسخط على حاضر الإنسان ومستقبله!
ومن آثاره كذلك أننا رضينا أن نعيش أكثرنا جاهلا أمياً لا يفقه مبادئ العلم والحياة التي في رءوس العلماء مع أن نمو تلك الأسرار يتغير كل صباح ومساء. . . وكأننا بذلك وأدنا هؤلاء الأحياء ودفناهم كما كانت تفعل جاهلية العرب بموءودة الأجساد. . . وكان هذا الإهمال منا بمثابة فعل من رأى أهله يموتون ظمأ واحتراقاً، وهو على علم بمنبع ماء غزير يطفئ غلتهم ولوعتهم ويحي نفوسهم ولكنه لا يسعى إلى إنقاذهم. . .
ومن آثاره كذلك إننا نعيش في ذهول عما يحيط بحياة الإنسان الآن من كنوز تتفتح وأعاجيب تخترع، فترى الناشئ منا ينشأ بين القطارات والسيارات والطيارات والراديو والتليفون والغواصات والفونوغراف والفوتوغراف والسينما وغير أولئك، ثم يجهل أمرها وتركيبها ولا يدري عنها شيئاً ولا يكلف نفسه سؤال أحد عن نبئها العظيم. . . كأن ذلك(437/8)
شيء تافه أو أمر بدهي لا يحتاج إلى فكر شديد وتعجب بالغ!
ومن آثاره إننا برغم إدراكنا الآن كثرة الأقوات وكفاية الأرزاق كثرة وكفاية تشبعان حاجات الإنسانية جميعها لو وزعت توزيعاً معقولاً بدون احتكار وتحكم وإتلاف لجانب من المحصول في سبيل الاحتفاظ بالأسعار المرتفعة. . . لا نزال نطيع الجشع والطمع ونعصي دواعي العدالة والرأفة بالطبقة المحتاجة المجهودة!
ومن آثاره إننا لا نزال نغطي عجزنا وكسلنا بالاستسلام لما نسميه (الأقدار) مع أن مفتاح الأقدار بأيدينا، ومع إننا نرى إننا نصنع اغلب أقدارنا، ومع أن دائرة الإيمان بالأقدار في الدين لا تتعدى منطقة الصبر على المصائب والكوارث التي تأتي إلينا بدون حيلة أو خيرة منا، ومنطقة الرضا بما نحصل عليه بعد الجهاد. . .
وهنا مكان استطراد إلى مشكلة الأقدار لا بأس أن نرسل فيه بعض الحديث:
هناك أقدار نريد أن تتحقق، وهي أقدار الخير والسعادة، وهذه موقفنا منها يجب أن يكون كما يأتي:
أن نسعى جهدنا للتمهيد لتحقيقها بالأخذ بأسبابها التي تهدينا تجاربنا إلى أنها عوامل جالبات لما نسعى إليه. فإن تحقق ما نبغي فذاك، وإن لم يتحقق - وهذا قليل نادر - علمنا أن الإرادة العليا المسيطرة على وجودنا لها غاية غير غايتنا في تلك المسألة التي نسعى لتحقيقها. والإيمان بتلك الإرادة يقضي حينئذ بالإذعان والتسليم لقدرها العالي الذي لا حيلة معه
وهناك أقدار نريد إلا تتحقق، وهي أقدار الشر والشقاء، وهذه موقفنا منها يجب أن يكون كما يأتي:
أن نسعى جهدنا للتمهيد لدفعها بالأخذ بأسبابها التي تهدينا تجاربنا إلى أنها عوامل دافعات لما نخشاه ونتجنبه. فإن كان ما نبغي فذاك، وإن لم يكن كان علينا كذلك الإذعان والتسليم للإرادة العليا.
تلك هي المشكلة الأقدار في جانبيها. وفي كلا هذين الجانبين لرأينا أن على الإنسان أن يقدم جهده في التمهيد لها أو دفعها. فإذا وقف أمامها منتظراً مكتوف اليدين مشلول التفكير كان حرياً أن تأتي إليه أقدار الخير فلا ينتفع بها إذ لم يبذل لها جهداً من فكره أمله، وكان(437/9)
حرياً كذلك أن تنزل عليه أقدار الشر فلا يسعى لتخفيفها وان يجزع منها جزع الذي يظن انه كان في مقدوره أن يدفعها ولكنه قصر في ذلك، فيظل ملوما محسوراً. . .
والحياة العملية ذات البراهين البريئة من الجدليات توحي إلينا بل تحدثنا بكلمات مقروءة مسموعة بريئة من غموض الرمز والإيماء أن الذي ينتظر أقداره بدون أن يسعى لجلبها أو دفعها لن تكون حياته إلا كحياة ذلك البدوي ساكن الصحراء الذي لا يعمل عملاً لجلب الماء، وإنما هو ينتظر سقوطه عليه من السماء، وطبيعي ألا تكون آماله بيده، وأن يعيش حياته معرضاً لأخطار الظمأ والجفاف معلق القلب مهدد العيش يتجدد قلقه كل سنة لأنه لم يمسك من أسباب الحياة إلا بحبل بعيد هيهات أن يكون في يده دائماً. . .
وأنى تكون حياة هذا البدوي من حياة بدوي آخر سعى حتى اهتدى إلى ضفاف نهر تمسك منابعه بحوالب السحاب، وتحلب الماء إليه جارياً ميسوراً ليده وأفواه دوابه وقطعانه، ثم هو بعد ذلك يشق السواقي والقنوات ليصل منها الماء إلى كل بذرة بذرها؟!
لا شك أن كليهما اخذ من مصدر واحد، ولكن أحدهما حمل نفسه على العسرى، والآخر حملها على اليسرى. . . وشتان ما بينهما!
فلينهض الراقدون على آذانهم في الشرق الإسلامي مستسلمين في صغار لعوامل الشقاء والحرمان، حاسبين أن أحوالهم ضربة لازبة حتى يأتيهم آت من غير أنفسهم ينفخ في الصور، فإذا الأرض حولهم جيوش وجحافل، ومصانع ومعامل، ومعاهد ومعابد، وحقول وجنات وعيون، وإذا هم - بقدرة قادر! - آلهة في الأرض يحكمون!
لينهضوا وليحرروا أنفسهم من قيود التاريخ النفسي الذي انحدر إليهم من الجاهليات فهم يعيشون به في الماضي وإن كانت أجسادهم فلبس أثواب القرن العشرين. . .
ولتكن قوارع هذه الحرب أجراساً وأبواقاً تجمعهم وتدفعهم إلى السير مع قافلة سريعة المراكب، متلاطمة المواكب، غليظة الأثقال، حاشدة جبال الحديد والفولاذ، والقوى العارمة المجنونة التي يقول قائلها: (أنا القدر! أنا القدر! يا بني البشر!)
هل لنا أن نزعم أن الحق وصل إلى نفوس أكثر الناس فأدركوا صدقه وجماله ثم مع ذلك رفضوه، وحينئذ يحق لنا أن نتشاءم في مستقبل الإنسان؟
أؤكد انه لم يصل في عصر ما من عصور التاريخ إلا إلى القليل من الناس. والى الآن لم(437/10)
تقم دعوة إلى الحق الواضح في الطبيعة بدون أن توضع في طريقها أغشية وعقبات ومعوقات تحجبه وتمنع الناس من إدراكه
والآن، وقد تيسرت أدوات الدعوة وأدوات الإقناع وأدوات التربية يجب بدء دعوة. . .
وإن في الناس لخيراً كثيراً جداً أعظم مما يتضح من النسبة التي نجدها فيهم الآن. . .
والدليل على ذلك نجاح أمم الشمال في أوربا خلقياً، فقد أثرت فيهم التربية حتى أوشكت بلادهم أن تخلو من السجون والجرائم والخيانة حيث الثقة بالنفس الإنسانية وطيدة هناك
إن أدوات صحة النظر في الحياة واتجاهاتها موفورة الآن لأغلب سكان الأرض؛ ولكنهم مأخوذون عن ذلك بجرائر التاريخ. وكان من الواجب بعد العلم الغزير أن يوجد الفكر الهادئ والقلب الكبير الذي نضج وطاب؛ ولكن عباب التاريخ وسيوله لا تزال تجرف الطفولة والبذور مع الجيف والقش والغثاء. . . وتلقي الجميع إلى المصب الذي تلتقي فيه الأخلاط والضلالات التي تركها أبناء الجهلة الأولون. . .
فلا مفر من فصل البذور والطفولة وعزلها عن مجرى سيل التاريخ وإنشائها بأيد غير ملوثة إنشاء يرضى به هذا الزمان وعلومه وفنونه، ويؤهل الإنسانية لتلك الخلافة الواسعة المتعاونة في جهاد الطبيعة واستنزال بركاتها وثمراتها.
ولا مفر من تصحيح الفكرة عن الحياة وتوجيهها إلى الإيمان بها كمرحلة ممتعة أتاحها القدر لمن يخرج من العدم، فيجب صرفها في العمل والفرجة والاطلاع على ما يمكن الاطلاع عليه من آفاقها
ولا مفر من تحويل عبقرية الفكر إلى عبقرية القلب والخلق والجسم. فالعلم والفن يجب صقل النفس بهما وإشراب الجسم إياهما وإخراجه على مقتضاهما بحيث لا تتخلف حياة الجسم وقواه وحركاته عن المدى الذي وصل إليه الفكر. . . وبحيث لا يتخلف ما في الشارع والحقل عما في مدارس الفنون والعلوم والتجارة والزراعة وما إليها حتى تكون حياة الجماعة صورة ومظهراً صادقاً لحياة الجامعات والأندية الثقافية، ولا يكون في الأمة مفارقات ومتناقضات بين حياة الفكر وحياة الواقع.
ولا مفر من حمل كل إنسان على أن يدرك نفسه ويستغرق في التفكير في حياته وحياة الإنسانية ويتيقظ لتلك القوة والقدرة التي تتسلط بها الإنسانية على القوى العمياء الجبارة(437/11)
وتسخرها في خدمتها
وما الإنسان بدون يقظة للمعنى الفائق والروح السامي الذي في حياته إلا جسد يختلج ويضطرب في ذهول وبلادة، ويحيا هكذا حياة مغناطيسية آلية
ولكي ندرك جرائر التاريخ على العقول أثره في تدليس الحاضر وإفساده وتزوير النفوس سأعيد عليك حديث صورة لا تجهلها عن طرق دراسته على ألسنة العجائز وفي المدارس ومجالس القصص:
يتفتح عقل الناشئ منا فتلقنه عجائز بيته وشيوخ قومه ومعلمو مدرسته تاريخ قوميته وتاريخ الإنسانية بأغلاطه ونقائضه ومحاولات العصور القاصرة في فهم الحياة وجهاد الإنسانية في شق طريقها الأول بين الصخور والمتاهات والعقبات. فما يكاد عقل الناشيء يصل إلى دور الحكم والموازنة حتى يكون قد تطبع بما وعى وأصابه ثقل التخمة وحيرة الامتلاء والتبلبل
ذلك لأن التاريخ لا يدرس على أنه محاولات أولية من الإنسان فيها أخطاء كثيرة؛ فيجب الحكم عليها حكم دور الرشد على دور القصور؛ ولكنه يدرس وعليه طابع التقديس والإعجاب بالأقدمين والاعتزاز بهم في مغالاة وتعصب، وبخاصة تاريخ القوميات والجنسيات
وكان من كبرى نتائج ذلك أن عاش كثير من الماضي السيئ في الحاضر. بل وجدنا جماعات تفر من الحاضر لتعيش في الماضي وترى انه كان الحياة. .! وتمدح الناس بما فعلت الجدود وقالوا إنا على آثارهم مقتدون
فلم يفتح أبناء العصور المختلفة عيونهم على حياتهم في زمانهم بل فتحوها على الماضي وعاشوا به في الحاضر، وظهر اثر ذلك في الافتتان بهوامش الحياة والعكوف على دراسة سطوحها وترك دراسة أصول الحياة وعلومها الطبيعية والتجريبية التي تبقى لها نتائج دائمة تسلم إلى نتائج أخرى في سلم الترقي والتطور
وقد لاقى اكثر الناس الحياة بطباع مدلسة ليست بنت زمانها، وإنما هي بنت الماضي السحيق، وحملوا معهم في رحلة العصور خرافات ووثنيات وسخافات احتفظوا بها حتى في القرن العشرين، ووضعوها حواجز وعوائق في طريق الحياة الحديثة ذات المعجزات(437/12)
والنبوات الدائمة التي لا تحتمل جدلاً أو مخرقة!
وكان من نتائج ذلك أن وجد المصلحون في كل عصر ركاماً من الغباوات والجهالات توضع في طريق دعواتهم إلى الإصلاح والعلم وفتوح الذكاء ونور البصيرة. . .
ليس قبيحاً جداً بالطفل أن يعترك مع اخوته على شيء يريده لنفسه ويريدونه لأنفسهم، فيتصايحوا ويتضاربوا ويحطموا ما أمامهم؛ لأن الطفل يعيش بالغرائز، فهو أناني ضيق التفكير لا يدري أن أباه يملك الكثير، ولا يفهم فضيلة الإيثار إلا بعد التمييز والتدريب
ولكن ما بال الأمم التي رأت خيرات الله تملأ فجاج الأرض تتقاتل على البحر الزاخر والحقول الممرعة والجو الواسع؟ إن ذلك من أخلاق الطفولة وضيق آفاقها وتحكم الغرائز في حياتها، وهذه صفات وجدت لها في مخلفات التاريخ مبررات وحججاً وتأريثاً!
ومن العجائب انهم يدمرون ما يسعون إليه من الغنى والثروة حين تثور غرائزهم! وان الحقد والشر والطمع لتستنفذ وتهلك من مال الأمم الأثرة الجشعة، ومن بذلها الدم الفياض ما لا يمكن للخير والسلام والإحسان والتعاطف والتفاهم أن يستهلكه أو يستهلك عشر معاشره!!
ونظرة واحدة إلى النفقات اليومية للأمم المتحاربة الآن تكفي في البرهنة على هذا وعلى أن الإنسانية ما دامت مصروفة عن طاعة الحق والعدالة والحسنى، إلى تحكيم الغرائز الدنيا والانحدار في مجرى التاريخ، فسوف تظل هكذا تعمر لتدمر، وتعلم لتجهل، وتتقدم لتتأخر
وكأن المقصود بحياة الإنسان إذا استمر على هذا هو تحقيق مشتهيات الغرائز وإظهار عبقريات النفس البشرية في التخريب بعد التكوين: فهي طوراً تبني وتعيش في صفات البناء وأخلاقه، وطوراً تهدم وتعيش في أخلاق الهدم وصفاته، لتدرك معالم الضدين المتقابلين الأبديين: الخير والشر. . .
ولكن إن صح هذا كتعليل لحياة الشر في الماضي حين كانت الحياة محتاجة إلى دوافع الغرائز لتدريب الإنسان في طفولته على ما تهيئه له الأقدار في مستقبله ولحمله على الاقتحام والكشف وتفتيق الحيلة، وحين كانت نتائج ثورات غرائزه محدودة ضيقة لا تتعدى أضرارها إلى هدم أصول الحياة وتحطيم أسس الاجتماع ومخلفات الإنسانية ذات الحرمات والقيم التي لها اعتبارها، كما هي الحال الآن في نتائج هذه الحرب. . . فلن يصح الآن هذا(437/13)
التعليل بعد أن صار قتال الإنسان كقتال الآلهة لا كخصام الأطفال
وقتال الآلهة - لو كان هناك آلهة إلا الله - تخريب لأصول الحياة وسحق لبراعمها ومناطق نموها. وهم يعلمون بالطبع طرق التسلل إليها والإطباق عليها لأنهم فرضاً خالقوها وواضعو أسرارها. . .
فلنوحد الإنسانية بعد أن صار لها قوة الآلهة في التخريب، كما وحدنا الأرباب!
ولنعلن بأرواحها وأفكارها عن مستوى بنات الطين والتراب، من كل ذات ظفر وناب!
عبد المنعم محمد خلاف(437/14)
المغزل. والريف. ونفسي
إلى الشاعر التائه صاحب (أرواح شاردة) الصديق علي
محمود طه
للأستاذ راشد رستم
شردت من الحضر إلى الريف - وليس العجب أن يشرد المرء من الحضر إلى الريف - وإلا فأين معنى الشرود، وأين موطن الشرود، بل رأين الروح الشرود. . .
أما أنت يا صاحبي، فقد شردت من الريف إلى الحضر! ذلك إذا عددنا مصر، بنيلها العظيم، وزرعها النضير، وإنسانها الكريم، ريفاً وأي ريف، ثم حسبنا بلاد الغرب بمياهها المعدنية، ومدنها الفنية، ورهطها النشيط، حضراً وأي حضر. . .
فهل أنا موفق هنا معك، أم أني شرود كذلك في هذا الخيال وهذا التشبيه؟ على أنه كانت الأولى فإني منتصر، وإن كانت الثانية فلست أنت المنتصر. . .
ولكن خبرني، ما بالي أثير عليك غبار هذا الجدل وأنا في سكون البكور من صباح منير، وسط ريف هادئ بديع! لماذا هذا الجدل وأنا في جو نقي نظيف، حيث البساطة والسهولة والوضوح! في هذا الصباح البدري الذي لا تصيح فيه الديكة إلا لكي تدعو النيام إلى القيام، والذي تحمل فيه الطيور النطاطة تحيات النهار - وهذا أول النور وآخر الظلام!
هذا صباح الريف، سكون ولكن حياة. وهاهي الطبيعة، ناعسة تتمطى ولا تقوم. وأنا صاح قائم اذكر قول الشريف الرضي، رضى النفس، شارد الروح، وهو يقول:
وأكتم الصبح عنها وهي غافلة ... حتى تكلم عصفور على علم
وهأنذا أتحدث عن هذا الصباح الغريب، فقد كان صباحاً ساكناً، ثم ثار، ثم سكن. أثبت الحقيقة كما جاءت فيه - والحقيقة أصل لكل خيال - فقد جلست الساعة بعد هذا الشروق البهي، و (مغزلي) في يدي، وأنا في المكان من الصعيد السعيد البعيد. . .
وهذه هي الأرض تغمرها مياه النهر الكريم، تحفها سلسلة هذه الجبال الراسيات، يضم القوم بينهما هذا الوادي الأخضر السهل الفسيح الممتد
وإذ أنا في هذه الحال، هادئ النفس هادئ البال، إذا بالبلدة الناعسة، وهي تطرح عنها(437/15)
أطراف الليل، تستيقظ على صوت مزمار وطبل - جماعة يحجون إلى دير بالجبل بعيد - حتى إذا عادوا من نذرهم وقد مروا علينا بالطريق، صبحونا مبدرين مبكرين، ودخلوا القرية وافدين؛ حيونا بأصوات البشير، وتلقيناهم بأحسن تكريم، وتبادلنا وإياهم في ساعة هذا النهار المنعش الصبوح، صفاء قلوب في صفاء قلوب
ثم أداروا علينا من أنغامهم موسيقى ذات دوي بعيد وحنو قريب، فأخذت القوم نشوة اليقظة بعد فترة الرقاد الطويل، وتولتهم هزة الفرح، فراحوا وزامر الحي يزمرون ويطبلون، كما أنشئوا (يتحاطبون)، يحملون عصيهم في الفضاء، تدور بهم وهم بها دائرون، يبتعدون ثم يلتفون، وفي خفة يقفزون، ليس فيهم طالب ولا مطلوب، ولا غالب ولا مغلوب، إذ هم في لهو يمرحون، وأهل القرية من حولهم معجبون مبتهجون
حتى إذا تحول الطرب ودارت للرقص أنغامه، دارت في الساحة من الرجال أربابه، يتفكهون وإن كانوا به يتباهون؟
غير أن للخلخال رناته، وللخال المحجب ساعاته، وقد دق الطبل لبنات الحي دقاته، فنزلن إلى الساحة يخطرن وللقلب وقتها دقاته، وأثارت بنات الحي في الحي للرقص موجاته، فارتفعت في ميزان (الحرارة) شاراته، وازدحم الميدان واشتدت حماسا ته، فقد دارت بنات الحي في الميدان للرقص دوراته، وحمي الوطيس واشرأبت من الجمع هاماته؛ هؤلاء هن للدلال والوقف والعطف سيداته، وهؤلاء هن للف والميل والدوران رباته:
صان الإله رشيقةً مياسةً ... أربتْ على الغزلان في الجولان
ثم خلت الساحة من حسان راقصاته، إلا التي هي من بنات الحي أبين باناته. هيفاء هيفاء، تخطر فوق الثرى وكأنها تصعد في الجو إلى ثرياته، خفة ورشاقة وسناء؛ بينما تراها هناك. وهي أن حنت على المشيب أقبلت عليه ترعاه، فتجعله من فرط الرضا شباباً. . . فإذا تجنت على الشباب تحولت إليه تسبيه هياماً فتجعله هباء أو سراباً. . .
وكأني بها حمامة الصبح وهذا هو الصبح قد لاح، فهل تبعد يا أليف الهوى وهذا هو الإلف قد بان وسبحان الفتاح؟ تعال. تعال. خذ الخصر بيمناك، ودر بالساق مع الساق، ولا تقل أين المساق. إن للحياة مداها، وللروح في حب الرضا قرباها، ومناها، ونجواها. . .
وانظر الآن! هذه هي الخيل تجري في أعنتها وفق هواها، تدب دبيب السعد والخيلاء(437/16)
والخير معقود على نواصيها. وهؤلاء فرسانها لا يستطيعون لها كبحاً، فتفزع تدخل بهم الساحة مسرعة، كأنها تأبى إلا أن تأخذ نصيبها في موكب الصباح، ولكنها ترتد سريعة جامحة، كأنها من نيران أمامها خائفة، وما هي إلا ذات الخلخال، لا تزال في الساحة قائمة، لم تترك مكانها، فكيف إذن للخيالة أن تستبيح الميدان؟
لما أن رأتهم مندفعين، وقفت وقفتها تكشف فيها لهم عن القسي والسهام، فأدركوا ما قد يصيبهم من كبوات وغرام، وخافوا على أنفسهم وخيلهم من الذي والضرام، وهكذا ارتدوا خائفين وهم هم السادة الشجعان، من الخيالة والخيل والفرسان.
حتى إذا هدأ الروع، واستقر الفؤاد، عادوا بعدئذٍ إلى الساحة مطمئنين، بل كراماً نازلين، يدورون ويدورون، يلعبون (ويتفرسون)
والخيل تمزع مزعاً في أعنتها ... كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد
وللخيل صيحات وللفرسان صيحات
وهكذا بين جمال وجلال وكر وفر، وصهيل وتهليل، تسود البطولة أجواءنا، وتملك النعومة أرواحنا. . .
حتى إذا بلغت نشوة الفرح حدها، وضيافة الصبح سمتها، وأذن مؤذن الركب بالرحيل، وأخذ القوم يعودون في هدوء آسفين، ونحن من ورائهم كذلك آسفون؛ وخلا المكان، وانفض السكان، وإذا بي قد شردت من حالي دون أن أبرح مكاني، وإذا بي يشتد شأني دون أن اترك شأني، وإذا بي أرى مغزلي بجواري فألجأ إليه عنده خلاصي
وإني وقد آخذ مقامي من هذا الريف النظيف، أبدأ كل يوم فيه بما قد هويته صغيراً، ولا أزال أهواه كبيراً: (غزل) الصوف بهذا المغزل القديم المعروف؛ إذ أجد للفكر إذا ما شرد، وللنفس إذا ثارت، راحة وسكوناً مع دورات هذا المغزل الأنيق الرشيق العتيق
وإنك لتراه يتدلى في الفضاء دائراً دائراً، معلقاً في خيط رفيع دائماً؛ ينساب من بين أنامل ماهرة، قد تكون كذلك ناعمة، تجعله خيطاً رفيعاً ناعماً، تتجلى فيه دقة الصنعة إذا ما جعلته رفيعاً رفيعاً، متيناً متيناً
تراه محملاً مثقلاً، معلقاً في ذلك الخيط المتين الرفيع، كما يتعلق الهائمون الشاردون بالأمل في خيط منه وحيد رفيع(437/17)
يدور المنزل في الفضاء مثقلًا مثقلاً، كأنه النفس المثقلة بأنواع الهموم، تغزلها يد الأقدار، تلفها عليها في سكون ودوام، ثم تدور بها في طيات هذه الحياة
هذا المغزل الذي بين يدي، هو كهذه النفس التي بين جنبي، حملتها كبيرة صغيراً، ولا أزال أحملها كبيرة كبيراً
هذا المغزل بينما تراه خلياً حيناً، مثقلاً أحياناً، يدور في فضاء الله، كما تدور فيه هذه النفس ثائراً، هادئاً صابراً
هذا المغزل مهما كان عتيقاً عريقاً، فإنه متجدد دائماً، نظيف دائماً، رشيق دائماً. . .
(مزرعة كوم المنصورة)
راشد رستم(437/18)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
ديوان البارودي
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - نقد مقدمة هيكل باشا - نصيب البارودي من علوم
اللغة العربية - الخمريات والغراميات - الجديد في شعر
البارودي - التحكم في التاريخ - الطبيعة بين الصمت والنطق
- المستنيرون في عهد توفيق - تاريخ الشعر العربي -
المصريون في عهد البارودي - ما صنع البارودي في منفاه
تمهيد
المقرر للمسابقة هو الجزء الأول، طبع دار الكتب المصرية وشرح الأستاذين: علي الجارم بك، ومحمد شفيق معروف؛ وهو يطلب من مخازن وزارة المعارف ومن شهيرات المكاتب
وللشارحين كلمة يشكران فيها النقراشي باشا (لاهتمامه بإنجاز طبع الديوان)، وهيكل باشا (لتكرمه بكتابة التقديم) وجعفر والي باشا (لكبير معونته)، والسيد أشرف البارودي (لإمدادهما بأصول الديوان الخطية)
وكنت أحب أن يشيرا الشارحان إلى أن عناية وزارة المعارف بطبع دواوين الشعراء الذين رفعوا اسم مصر في العصر الحديث ترجع إلى العرابي باشا، فهو صاحب هذه الفكرة، وفي عهده ظهر ديوان حافظ إبراهيم سنة 1937
وكنت أحب أيضاً أن يشيرا إلى الظرف الذي كتب فيه التقديم، وقد تركه الدكتور هيكل باشا بدون تاريخ، لسبب توضحه الأسطر الآتية:
كانت وزارة المعارف إلى الدكتور هيكل في وزارة محمد محمود باشا الأخيرة، وفي تلك الأيام بدئ بطبع ديوان البارودي، وكان مفهوماً أن هيكل باشا سيكتب مقدمة الديوان؛ ثم استقالت وزارة محمد محمود باشا وتلتها وزارة علي ماهر باشا، وفي الوزارة الثانية كان(437/19)
النقراشي باشا وزير المعارف، فكتب إلى هيكل يدعوه إلى كتابة مقدمة الديوان، مع أن ظواهر الأحوال كانت تقول بان بين الرجلين شيئاً من الجفاء
ولو أشار الشارحان إلى هذه اللمحة الأدبية لكانت شاهداً جديداً على ما عند رجالنا من كرائم الآداب
وسكت الشارحان عن الشارح الأول، كما سكت عنه هيكل باشا، وفي الطبعات العلمية لا يجوز هذا الإهمال
ويستطيع طلبة السنة التوجيهية أن يسألوا أساتذتهم عن ذلك الشارح، إن كان يهمهم الاستقصاء
نقد مقدمة هيكل باشا
تقع هذه المقدمة في اكثر من ثلاثين صفحة بالقطع المتوسط، وقد كتبت في ساعات غلب فيها الصفاء، قد كان الدكتور هيكل في عزلة تشبه عزلة النساك بعد خروجه من المعارف، وكان يعاني الكلف بالخلوة إلى القلم بعد أن شغل عن الأنس به عدداً من الشهور الطوال
هي مقدمة جيدة جداً، وربما جاز القول بأنها أجود ما صدر عن الدكتور هيكل من الدراسات الأدبية، فقد نفذ إلى أعماق العبقرية البارودية، واستطاع في بعض النواحي أن يذيع سرها المكنون
وسيجيء في الامتحان التحريري سؤال أو أسئلة من هذه المقدمة، فمن الواجب أن نتناولها بالنقد الرفيق، لنساعد طلبة السنة التوجيهية على إدراك ما فيها من مقاصد وأغراض، فالنقد هو الذي يوجههم إلى فهم مدلولها الصحيح، وهو الذي يهديهم إلى مكانة البارودي في تاريخ الأدب الحديث
نصيب البارودي من علوم اللغة العربية
نص الدكتور هيكل باشا مرتين على أن البارودي كان يجهل النحو والصرف والعروض، والنص على هذا مرتين في المقدمة يشهد أن هيكل باشا لم يكن في هذا الحكم من المرتابين
فممن اخذ (حيثيات) هذا الحكم القاسي؟
أخذه عن الشيخ حسين المرصفي، فقد نص في (الوسيلة الأدبية) علة أن البارودي كان(437/20)
يجهل النحو والصرف والعروض؛ وكان يجب على الدكتور هيكل أن يذكر أن الشيخ المرصفي لم يقل هذا القول إلا في مقام الثناء على ما كان البارودي يملك من بوارق الفطرة والطبع، وإلا فمن العسير أن نصدق أن البارودي كان يجهل ما لا يجوز جهله من أصول النحو والصرف والعروض
ولكن أين الشواهد على علم البارودي بعلوم اللغة العربية؟ في الديوان رسالة مثبتة بالزنكوغراف، وهي رسالة لم يلتفت إليها الدكتور هيكل، ومنها أتخذ الشواهد على ضعف الحكم الذي نقله عن صاحب (الوسيلة الأدبية)
والى معاليه أسوق الحديث:
1 - في ص 43 جاء بخط البارودي في وصف ما عانى هو ورفاقه من هياج البحر:
(ومكثنا على ذلك ثلاثاً، لا نجد فيها غياثاً)
وعند تأمل الخط نجد أن الأصل (ثلاث) و (غياث)، وأن البارودي التفت إلى الخطأ النحوي فرسم ألفين فوق هاتين الكلمتين، وهذا يشهد بضعفه في النحو، ولكنه لا يشهد عليه بجهل النحو، بدليل هذا التصحيح
2 - وفي ص 46 نجد بخط البارودي:
(هيهات، ما كل شامة خالًا، ولا كل حلقة خلخالاً) وعند تأمل الخط نرى أن الأصل (خال) و (خلخال)، ونرى البارودي وضع ألفين فوق هاتين الكلمتين
والتصحيح في هذه المرة أدق، فهو في الشاهد السالف كان التفافاً إلى حكم الظرف وحكم المفعول في الأعراب، وهو في هذا الشاهد التفات إلى حكم (ما) الحجازية؛ وكان يسعه أن يعفي هاتين الكلمتين من التصحيح ليسير مع النحوي الذي يقول:
ومُهفهَفِ الأعطافٍ قلت له: انتسب ... فأجاب: ما قتلُ المحب حرامُ
والذي يفرق بين (ما) الحجازية و (ما) التميمية لا يوصم بجهل قواعد اللغة العربية
3 - وفي ص 49 نجد بخط البارودي:
(بل حسبت أن قطرات المزن، دموع أسالتها زفرات الحزن)!؟
وننظر إلى العين من دموع فنراها كانت (عاً) ثم أصارها البارودي (عٌ)
فما معنى ذلك؟ معنا انه توهمها أولاً مفعول (حسب) ثم أدرك أنها خبر (أن) والذي يجهل(437/21)
النحو لا يدرك هذا الفرق
4 - وفي الصفحة نفسها نجد البارودي يقول:
(الهم يا هادي الضلال في الليل المدلهم، وناصر الملهوفين في غمرة اليوم المسلهم)
وننظر فنجد البارودي محا كلمة (الملهوفين) واثبت كلمة (الهلاك) حرصاً على الازدواج، فنفهم انه كان يعرف علم البديع
5 - ومن هذا ما جاء في ص 50 حيث يقول:
(ما وعد إلا وأخلف، ولا سالم إلا وأتلف)
فقد محا (سالم) واثبت فوقها (أوعد) حرصاً على الجناس والطباق!
6 - وفي مقدمة الديوان يحدثنا البارودي عن (ذكر الشيء باسم غيره لمجاورته إياه) فنفهم انه كان يعرف أشياء من علم البيان
7 - ونص البارودي على قصائد فيها (لزوم ما لا يلزم)، فكيف يقع هذا من رجل يحكم عليه هيكل باشا بجهل القوافي؟ يضاف إلى هذا أحكامه على الشراء وهي تدل على بصره بالنقد الأدبي، وكذلك تدل استفادته من المعاجم على فهمه لأصول علم الصرف
وصفة القول أن البارودي كأن على بينة من علوم اللغة العربية، وان لم يصل إلى التفوق في تلك العلوم؛ فقد كان يعتمد على فيض الفطرة والطبع، وهما افضل أدوات الشعراء
الخمريات والغراميات
وطاب للدكتور هيكل باشا أن يؤكد أن البارودي لم يكن صادقاً في الخمريات والغراميات، وقد جزم بان قصائده في هذين الفنين لم تكن إلا محاكاة لأساليب القدماء
وهذا الحكم صواب من جانب وخطأ من جانب، فهو صحيح في الخمريات لأن أشعار البارودي في الخمر لا تخلو من ضعف، ولكن هذا الضعف لا يرجع إلى أن الخمر لم تذهب بعقل البارودي، كما يقول الدكتور هيكل، وإنما يرجع إلى أن وصف الخمر فن لا يحسنه جميع الشعراء وإن كانوا في حبها من الصادقين
أما غراميات البارودي فهي صدق في صدق، وأشعاره في العشق آية في الإفصاح عن صبوات القلوب، وقد تذكر بغراميات الشريف في بعض الأحيان
وما الموجب لأن نقول للبارودي (كذبت) حين يتحدث في أشعاره عن هواه، مع انه يقول(437/22)
في مقدمة الديوان:
(إنما هي أغراض حركتني، وإباء جمح بي، وغرام سال على قلبي)
أما أن كان الدكتور هيكل يريد تنزيه البارودي عن مآثم الفتيان، فلكلامه وجه مقبول، فقد كان البارودي رئيس الوزارة في بعض العهود، ويجب على الوزراء أن يعيشوا بلا قلوب
الجديد في شعر البارودي
ويقول الدكتور هيكل باشا إن الجديد الذي استدعى الإعجاب بشعر البارودي (هو نزوعه إلى تصوير الواقع كما هو في بساطة وسلاسة وقوة دون اعتماد على محسنات اللفظ البديعية)
ونقول إن هذا التصوير بعيد من أذهان من عاصروا البارودي وكانوا مولعين بالزخرف والبريق، وإذن يجب على الدكتور هيكل أن يتلمس رأياً غير هذا الرأي، وهو قد اهتدى إلى الصواب بعد ست عشرة صفحة فقال:
(إن هذا الشعر كان جديداً كله، كانت محاكاته الأقدمين جديدة، وكانت معارضته إياهم جديدة، وكانت رياضته القول على مثالهم جديدة)
فإذا أعيد طبع الديوان فليتفضل الدكتور هيكل يحذف الحكم الأول والاكتفاء بالحكم الثاني
التحكم في التاريخ
للبارودي قصيدة لامية قال فيها ما قال في التندي بالمصريين، وينص الديوان على أنها قيلت في عهد (إسماعيل) وكن الدكتور هيكل يعتسف فيحكم بأنها قيلت في عهد (توفيق)
فهل يملك الحق في نقل القصائد التاريخية من عهد إلى عهد؟
إن عصر إسماعيل كان مبعث نهضة بإجماع الآراء، وعصور النهضات لا تخلو من بواعث الحب والبغض، والحمد والملام، فكيف نستبعد صدور قصيدة ثائرة في عهد إسماعيل؟ وكيف عرف هيكل باشا أن البارودي لم يذق في عصر إسماعيل غير القرار والاطمئنان؟
لو أن الدكتور هيكل التفت إلى القصيدة التي أثبتها بيده في ذيل الصفحة الثالثة والعشرين لرجع عن ذلك الاعتساف، وهذه إشارة فيها كل البيان(437/23)
الطبيعة بين الصمت والنطق
وشاء الدكتور هيكل باشا أن يحكم بأن (البارودي إذ كان يسجل للصور في شعره لم يكن يسجلها في صمتها وسكينتها على ما يولع به عشاق الطبيعة الصامتة)
فما معنى هذا الكلام؟ ومتى صمتت الطبيعة في أوصاف الشعراء؟
لعله يريد أن يقول إن البارودي كان قوي الشعور بحيوية المناظر الطبيعية، وبما فيها من فاعلية وانفعال، فقصر به التعبير عن بلوغ ما يريد
المستنيرون في عهد توفيق
هم في نظر الدكتور هيكل باشا رجال الجيش، وقصر الاستنارة على رجال الجيش في ذلك العهد غير صحيح، فقد كان في مصر جماعات علمية وأدبية تفوق في الاستنارة رجال الجيش، والصواب وضع كلمة (السياسيين) في مكان (لمستنيرين) فقد كان رجال الجيش ساسة البلاد في ذلك الحين
تاريخ الشعر العربي
ويقول الدكتور هيكل إن الشعر العربي قضى ألف سنة في انحلال إلى أن بعثه البارودي، فمن اين جاء بهذا القول؟
أنحكم على ماضينا الأدبي هذا الحكم الظالم في سبيل إنصاف البارودي؟ ليرجع الدكتور هيكل إلى (مختارات البارودي) إن شاء، فإن فعل فسيعرف أن البارودي يرى غير ما يراه، فقد وصل اختياره إلى القرن السابع، وصح له أن يحكم بأن سبط ابن التعاويذي وهو من شعراء القرن السادس كان يتابع الشريف الرضي ويمشي على اثر مهيار الديلمي. والبارودي الذي اعترف بحياة الجزالة الشعرية في القرن السابع كان من شعراء القرن الثالث عشر، وعلى هذا تكون المدة التي انحل فيها الشعر نحو خمسة قرون، فكيف يجعلها الدكتور هيكل عشرة قرون ويوصي بإسقاطها من الحساب؟
يشفع للدكتور هيكل انه أراد المبالغة في التنويه بمقام البارودي، ولكن الإحسان إلى البارودي كان يتم بدون الإساءة إلى تاريخ الشعر العربي. فليتفضل بمراعاة هذا الجانب من مقدمته في الطبعة التالية، إيثاراً للعدل، فما كان في أحكامه الأدبية من الظالمين(437/24)
المصريون في عهد البارودي
حكم الدكتور هيكل بأنهم لم يكونوا يعرفون اللغة العربية، وإنما كانوا يتحدثون بلغة أخرى هي العامية
وهذا الكلام يحتاج إلى تحديد، فان كان يريد الخواص فهو مسرف، فقد كان هؤلاء في يقظة عقلية وروحية، بدليل ما تركوا من نفائس المؤلفات، وان كان يريد العوام فهم إلى اليوم يتكلمون العامية، ولم يستطع جهلهم أن يصد الخواص عن التحليق في أجواء الأدب الرفيع
البارودي في منفاه
اكتفى الدكتور هيكل بالنص على حنين البارودي إلى الوطن وهو في منفاه، وسكت عن مسألة مهمة جداً، وهي براعة البارودي في بعث (المدائح النبوية) بعد أن طال عليها الموت، ولهذه المسألة تفاصيل يضيق عنها هذا المجال
أما بعد فهذه ملاحظات لم يكن منها بد، لأن مقدمة الدكتور هيكل ستكون أساساً لدرس ديوان البارودي، ومن واجبنا أن ننبه المتسابقين إلى ما يوجه إليها من الاعتراض، ليكونوا على بينة من مكاسر ذلك البحث الدقيق
وقد بقيت مآخذ لا تستوجب المسارعة إلى التنبيه، ولعلها تدق عن أفهام طلبة السنة التوجيهية، أما محاسن المقدمة التي كتبها هيكل باشا فهي أظهر من أن تحتاج إلى بيان
لم يبق إلا النظر في المقرر للمسابقة من أشعار البارودي، فإلى الأسبوع المقبل
زكي مبارك(437/25)
البحر. . .
(البحر لا ينام وفي يقظة البحر تعزيه لروح لا تنام)
(جبران)
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
ضاقت نفس الشاعر بالأرض اليابسة التي تزدحم بالمدن، وتعج بالحركة، وتضيق بالتقاليد، وترهق بالأوضاع والمظاهر، فانطلق إلى الماء الفسيح، إلى البحر الطليق، يلتمس عوناً وملاذاً. وأقترب منه رويداً رويداً وهو يشخص ببصره إلى زرقته من بعيد، وصوت أمواجه المتلاطمة يعلوها الزبد يضرب في أذنيه، ورائحة البحر الملحة تملأ صدره، ورياحه تتخلل غصون الشجر، فتهتز وتتمايل، وتخرج منها أصوات تجاوب أصداء البحر. وأخذ الشاعر يطيل السير وحيداً على شاطئه دون أن تسمع صوت أقدامه، وهو ينظر مطرقاً إلى هذه الأمواج تصطفق ثم تنساب على الشاطئ. ويتأمل ويفكر ويحلم وينعم الطرف فيما هو قريب وفيما هو بعيد، إلى أن يضيع نظره فيما وراء الأفق، في رهبة وسكون
ثم يقطع تفكيره وسكونه أصوات حوله فيتلفت، فإذا به يرى أنماطاً من زبانية البشر، من عبيد الأرض، يهرعون إلى البحر لكي يطفئوا نيرانهم، ويطهروا نفوسهم من الآثام والخطايا. ويلمح الشاعر في ناحية قصية نفوساً هالعة وقلوباً دامية تصرخ من أعماقها في الظلام. . . فيسارع إليها ويدرك شكاتها لأول نظرة. . . فتثير في نفسه كل هذه الرؤى كوامن الشجن، وتهتز مشاعره، وتنهمر دموعه الملحة الساجيات غزيرة مختلطة بماء البحر المالح. ويحس البحر الواسع الرحيب هذه النيران، ويلمس تلك الخطايا والأشجان، فيقبلها ولا يلفظها. ويطهر الآثام، ويأسو الجراح
وترك الشاعر مكانه واعتلى ظهر سفين مطوفاً إزاء الشاطئ فشاهد صور اليابسة وألوانها. فهذه رمال وكثبان صفراء، تعلوا من بينها باسقات النخيل، وتنحسر عنها مياه البحر الزرقاء؛ وتلك جبال شاهقات تكللها الخضرة، وأخرى صخور جرداء شامخات توازن(437/26)
بارتفاعها عمق البحر؛ وأولئك هم الصيادون والغواصون يجمعون اللآلئ والمرجان والأصداف والأعشاب من كنوز البحر وعجائبه؛ وهاتيك الطيور البيضاء تهبط إلى سطح الماء تلتقط الأسماك كانا تشكو عصف البحر، فتعلو في جوف الطيور إلى الفضاء؛ وهذه الجزر وتلك الصخور المتناثرة تحيطها مياه البحر، وتتكسر حولها أواذيه، ويتصاعد، على جنباتها رشاش الماء الأبيض؛ وهنا ينبثق نور الفنار المتألق، يشق حجب الظلام الحالك، ويرسل شعاع الأمل وسط الضباب الكثيف
ويبتعد السفين صوب البحر قليلاً قليلاً حتى يختفي الشاطئ عن البصر، ويتهادى أياماً وليالي طوالاً والأفق كله ماء وبحر، تلونه أطياف الشمس وأعماق البحر؛ فهو أزرق داكن، وطوراً أغبر مصفر. ويمر السفين فوق جوف البحر. إن قاعه أرض وصخور ووديان وجبال وبراكين وقارات وعوالم ساكنة ومتحركة في أعماقه منذ الأزل. إنه عميق جداً. لا يصل الإنسان إلى قراره. ولا يعلم أحد كل ما طواه في صدره. ما الذي طواه بالأمس، وما الذي سيطويه في الغد.
إنه يحمل الأطفال من البشر فوق سطحه الفسيح في رفق وحنو. إنه يجول بهم ويستقبل الشمس إذ تبزغ في الصباح وترسل نورها فوق محيطه الواسع، وتغرب عند الأصيل وهي تودعه بأشعتها الأرجوانية. وفي الليل الصافي الساكن تتلألأ السماء بالنجوم البراقة، ويبدو القمر هلالاً ساطعاً خلال السحاب الخفيف، فتنعكس أشعته الفضية على صفحته اللامعة، والنسيم يلمس أمواجه المهتزة المتلاقية. إنه هادئ وادع أليف. إنه يطرب. إنه يبتسم وينشد ويترنم.
وفجأة يكفهر الجو، وتتلبد السماء بالسحب، ويومض البرق نذير العاصفة، وتشتد الريح، ويقصف الرعد مدوياً، ويدفع الإعصار أمواج البحر شاهقة تطاول السحاب، ثم تعود فتنكسر وتهوي على صفحته الصاخبة. إنه غاضب. إنه ثائر عنيف. إنه جبار. إنه يدوي بصوته الغاضب إلى عنان السماء. إنه رائع. إنه هائل جداً. إنه يطوح بالسفن فوق سطحه، ويقذفها عالية فوق أمواجه، ثم يهبط بها في لجته السحيقة. إنها ألاعيب تحمل طرزاً من الكائنات ترتدي أثواباً زرقاء وحمراء وصفراء. إنها دمى يمحو البحر ما بينها من قرون اليابس، ويذيب عنها خيلاء الأرض. وكلها تتساوى وتصغر وتتضاءل أمام(437/27)
جبروته. ويفرق واضحاً أمامها الحد بين الأمس المعلوم وبين الغد المجهول، فتتأرجح كلها بين الحياة والموت في لحظات رهيبة. . . ونبتون يطلق ضحكاته في الفضاء ساخراً!. . . ثم تنجلي العاصفة، وتسكن الريح، ويعود البحر هادئاً وادعاً أليفاً، ويداعب هذه الخلائق التي أرهقها غضبه وثوراته. . . وحينئذ تثوب النفوس إلى رشدها، وتعرف القلوب دناءة الأحقاد وصغارة المطامع، وتنقشع عن البصائر غشاوة الباطل وزور البهتان
أيها البحر العريق! يا أبا الأرض ويا أصل الوجود ويا معلم الإنسانية. . . أيها الحاجز بين القارات، أيها الواصل بين العوالم، يا من أجرت سحبك انهار الأرض، وأقامت أمطارك معالم المدنية. . . ويا من على سطحك جرت الفلك تحمل ثمار الحضارة. . . ويا من شهدت أعطافك جولات القراصنة، وسجلت أمواجك التحام الأساطيل. . . ويا من خشعت مياهك فأفسحت الطريق لبني إسرائيل ثم أطبقت على آل فرعون من القوم الظالمين. . .!
أيها البحر العظيم! لقد عبدك الأقدمون، ورسم أطيافك المصورون، وردد صدى أنغامك الشعراء والموسيقيون. . . انك هادئ صاف رائق. إنك ثائر عاصف عميق. إنك جميل أزرق. إنك مانع جامع. يقرأ الشاعر على صفحتك ما لا يسطره القلم، وما لا يقرأه الأميون من الناس. إنه ينصت إلى أساطيرك وقصصك. إنه يستلهم معانيك ووحيك، ويبهره جمالك وجلالك، فلا يطيق النظر إليك، ويغمض العينين دونك، وتشيع في نفسه رائحتك، وتمر في خياله ذكرياتك وصورك
حسن عثمان(437/28)
مواسم الأدب
للأستاذ كرم ملحم كرم
يوم لنا ويوم علينا. هذا حال الأدب؛ فلا بد فيه من يقظة وهجعة. والأدب وليد الحس، والحس تتفق له حيناً وثبات يصاول بها الفلك، ويدهمه حيناً سكون تغلب عليه فيه نومة. . . ضجعة الموت أهنأها!
فكأن للأدب مواسم يشع فيها ويكشف عن جبينه وقد دانت له مغلفات الوحي، وتفتحت عليه سموى الإلهام. كأنه يتقلب بين سعود ونحوس؛ فيضيء نجمة وقادة ليخبو كمصباح عطش إلى الزيت. فما إن تعصف به الغاشية حتى تذهب باليانع من أطايبه، والنامي من أغصانه؛ ويحييه غيث ندى فيتلألأ بسخاء، ويزكو بسماح، ويعلو أبداً فيطول عين لشمس وينفذ إليها ساطعاً منها على الدنيا، مالئاً كل زاوية وهجاً وسنى!
ولقد بحثت عن الأدب فما اهتديت إليه بغير أبواب الملوك، وانه ليجالس الملوك؛ يهشون له فيبش لهم، ويصدون عنه فيغمز بهم. فإن يهبوا له العطايا ينفحهم ببدائعه، وإن يمسكوها عنه وينتضوا في مقاتله سيفاً حديداً يناهضهم بلسان أمضى من القاطع الفتاك
وما هي عطاياهم تجاه بدائعه؟. . . عطاياهم تذوب ونفائسه تبقى؛ عطاياهم تذوب لا تنبت على الأيام، على حين أن نواجبه تفل من عزم الأبد، ولولاه، لولا ما يخلع عليهم من مديح، لتناست الأجيال المتعاقبة معظمهم؛ وحتى أهاجيه تمد آجالهم، فيصونهم الخلود، لكون الأدب تغنى بمآتيهم، أو أحسن النيل منهم وأبى على الزمن أن يبيد آيات سمت عن التلاشي والاضمحلال
بيد أن فضل الأدب على الملوك لا يمحو فضل الملوك على الأدب. فما بلغ الأدب أشده، بل هو لم يتنفس وتختلج فيه الحياة المطمئنة الوضيئة، لولا أن هؤلاء الملوك يغذونه بعطاياهم، وتوحي به مجالي الأبهة والجلال في معيشتهم وسكناهم. فالمهابة والندى من باعثات الوحي وحوافز البيان. فلا بد لمن تكمن فيه آيات البلاغة أن يحسسهما ويبوح بما يجيش في نفسه من إعجاب وإجلال. . .
فالتاج والصولجان ينطويان على عظمة ملموسة تفتق العاطفة على جمودها، وتستل من أعماق القلوب الكلام المجنح والمنطق الحلال. فيفيض الأديب الموهوب بالبيان الصافي،(437/29)
وينتزع المعاني من مخابئها؛ بل هو يغوص عليها في مظانها يجلو بها العقد النظيم ويدفعه أنيق الصياغة، ساطع الجبين!
وقد تندفع إليه هذه المعاني عفواً، دون ما كد ذهن ولا إجهاد نفس. فالعظمة المنبسطة أمامه بسلطانها وبهائها تبعث في لبه القوة على توليد كل معنى جليل ليعادل بنسخ بيانه المشهد السامي المتعة، المحفوف بالنعمة، المتوهج في عينيه
والملك الضليل نفسه لم يبلغ مكانته الشامخة في أدب الضاد لو لم يعش في أحضان ملوك، ويستنشق في بلاط أبيه شميم العزة، ويلمس بيديه فخامة السلطان. فأقبل إلى ساحة الأدب مثقلاً بفخفخة الملوك، وكان أدبه صدى هذه الفخفخة البعيدة اللمعان المجلببة بالنعمى، اللينة الجانب، المكينة البنيان
وامرؤ القيس، الملك الضليل، في طليعة موكب الأدباء في لغة الضاد. فما لقي الأدب بيانه المنشور في سوى بدائع ذلك الفتى وقد جمحت به العاطفة فانطلقت من كبده حافلة بالقول الشهي والصوغ المحكم الأداء. وتوالت من بعده السلسلة حلقة حلقة، وكلها تنم عن طيب أصحاب الجلالة، أو من يستوي في معاقلهم من أصحاب الجاه الوسيع، والظل المأنوس؟
ومن أنطلق بالأدب المصفى المتلمس، وابن أخته طرفة بن العبد، وابن كلثوم، وابن حلزة اليشكري سوى الملك عمرو بن هند؟. . . فإن هذه القافلة من أدباء العهد الجاهلي مدينة لابن هند في الإبداع في النظم والإنشاد. وأنى لابن كلثوم أن يسمعنا معلقته التياهة:
إلا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لولا عمرو بن هند الملك الأثيل المجد الأبلج المنتمي؟
وهذه الشعلة المتأججة في منظوم النابغة الذبياني، أين كنا نجدها لولا النعمان بن منذر، أبو قابوس؟. . . فالنابغة لم يسحب في أبياته وقوافيه ذيل الدل والإعجاب لولا هيبة السلطان وعاصمة الجليل:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ومثله لبيد. فالنعمان مهد له السبيل إلى النظم والإجادة وهو في سن تقصر عن البلوغ. فطعن في حضرة صاحب السلطان على الربيع بن زيادة العبسي طعنات دامية أزاله بها عن مكانته السامقة وقد صاح بالنعمان والربيع يؤاكله:(437/30)
مهلاً، أبيت اللعن، لا تأكل معه!
ولن ننسى ابن أبي سلمى، زهيراً، صاحب الحوليات القائل:
سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش ... ثمانين حولا، لا أبالك يسأمِ
فإن عليه لهرم بن سنان يدا في إفاضة النظم وفي تذيل المعاني الحسان:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
والأعشى. ماذا نقول في الأعشى المتكسب، جواب الآفاق؟
أما أقام بباب الأسود، أخي النعمان، يغالي في المدح ويسأل العطاء - واللهُّي تفتح اللهَّا؟
هذا في العهد الجاهلي. ولقد كان العهد الإسلامي في مستهله أمضى حافز على النظم والإبداع. فالدعوة الإسلامية بحاجة إلى من ينادي بها، ويذيع فضائلها، والخصوم يتألبون عليها. فانتصب المنافحة عنها حسان بن ثابت الأنصاري. واعتمده النبي العربي في الكفاح. وأسمعنا كعب يتيمته:
باتت سعاد فقلبي اليوم متبولُ. . .
وطاف الخطيئة بالأبواب يستندي ويستجدي. ومن أمسك عند يده هدده بقحمات لسانه؛ فأنجده في الجاهلية أبو سفيان، وأجزل له في الإسلام العطاء عمر بن الخطاب، فابتاع منه لسانه بثلاثة آلاف درهم لئلا يطلقه في سب المسلمين لا يخشى، ولا يتحامى فحش القول والتهشيم
ونبض العهد الأموي بالحياة، فإذا الأخطل يبدو ويقبل في أثره الفرزدق وجرير. ثلاثة معاول للهدم ودك المشمخرة. وبسط معاوية يده في استمالة الأدباء فكان للأدب في عهده موسم خصب وسوق نافقة. فكل من أحس في نفسه ميلاً إلى الأدب تبع ميله وماشى هواه. فالعهد بات عهد نظم وخطابة وإنشاء، يمدح الأدباء معاوية ويزيد ابنه فتمتلئ أيديهم بالعطايا النفيسة، ويغنم الخلفاء ويكسب الأدب!
ولم يعدم هؤلاء الأدباء ساعات للهو يبيحون فيها للنفس سجيتها وينطقون بما ينتفض في قلوبهم من عاطفة مشبوبة وهوى دفين. فيحدثنا الأخطل عن حبه للكأس واستماتته بابنة العنقود وينسب جرير بفاتنته أم عمرو وقد سلبته صفاء القلب؛ وتسبيه حور العيون، فما يتمالك أن يقول:(437/31)
يقتلن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
ويفضح الفرزدق فسقه في مقاله:
هما دلتاني من ثمانين قامة. . .
وهو هو القائل في زين العابدين، حفيد علي بن أبي طالب:
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد خُتموا
والقصيدة من اسمي المنظوم، وهي في المدح لا عديل لها، فمن أوحى بها؟. . . أبن بنت النبي، ملك من سلالة ملوك وإن هم ناموا في مطلع نهضتهم عن التاج والصولجان
وعظمة سحبان وائل، الخطيب البليغ اللسان، أين تجلت في أبهى جلالتها؟. . . أليس في بلاط معاوية الأول؟. . . وبيان عبد الحميد الكاتب أين سما؟ في بلاط الخليفة الجعدي، خاتمة الملوك الأمويين!
وزحزح العهد العباسي لثامه فإذا أبن المقفع في خدمة أعمام الخليفة، وإذا الخليفة العباسي الثاني يدعوه إليه ويكلفه نقل الكتب الأعجمية الذائعة الصيت إلى لغة الضاد. وهكذا نعمنا بكليلة ودمنة، أنقى مثال للأدب الوزين!
واتسع المجال في منتدى الخلفاء لكل ناظم وكاتب. فقام أبو دلامة وأبو معاذ الأعمى بشار بن برد، في بلاط المهدي.
واشتد الإقبال على الأدب. ولم يكن بيت المال في بغداد دون بيت المال في دمشق، فتألفت المدارس الأدبية، وبدا المنشئون في سطوة وهناءة. فالعباسيون شاءوا أن يبزوا الأمويين في العلم وبث الدعوة. وما خلا الجو للرشيد حتى أصبح أدب الضاد مشعل هدى، وكان قد أضاء في سمائه الخليل بن أحمد، وأبو نواس، وأبو العتاهية، والأصمعي، وأبو عبيدة، وسيبويه، والجاحظ، والكسائي. وجاء المأمون فإذا أوسع نهضة أدبية في لغة الضاد تتجلى. فما شهدت لغتنا عهداً فواحاً خصباً في الأدب والعلم كعهد المأمون!
وقبض المأمون فقامت دولة أخيه المعتصم. وفي كنف المعتصم لمع أبو تمام. وكان المتوكل فنبغ في رحابه الشاعر البحتري. وانتهى الموكب إلى المتنبي فتلظت مواهبه في حمى
الملوك، ولا سيما في بلاط سيف الدولة الحمداني(437/32)
وما شذ الأدب في الأندلس عن القاعدة. فعاش في ظلال الملوك وانطفأ بانطفاء الملوك، مثله في دمشق وبغداد. فما إن تنقضي الدولة حتى يأوي إلى المضجع. ولقد طال هجوعه نحواً من ستمائة سنة، فلم يتنفس بسوى انتظام اليازجي الأول في ديوان الأمير بشير الثاني حاكم لبنان
وكان قد بعث في وادي النيل في عهد محمد علي. وبلغ أوجه في دولة عباس حلمي. وقد زانه شوقي وحافظ وإبراهيم اليازجي ونجيب الحداد وولي الدين يكن ومصطفى لطفي المنفلوطي بأبهى حلل البيان. وإنه ليتهادى اليوم في خطوة متفيئاً دوحة أبناء محمد علي الباذخة. فكأنه يستطيب أبداً صحبة الملوك. فلا تقوم له قائمة في سوى جنابهم، ولا تتقد فيه العزيمة وتلتهب الحياة إلا وهو يجالسهم. فموسمه موسمهم، كأن دولتهم دولته، وكأن أبناءه أشباه لهم وأنداد!
(بيروت)
كرم ملحم كرم(437/33)
جميل نخلة المدور
1862 - 1907
للأستاذ كوركيس عواد
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
4 - مؤلفاته
الذي لم يقف على شيء من ترجمة المؤلف قد يظن أنه رجل عراقي، وهذا أمر متوقع! فإن جميل نخلة المدور، عني عناية خاصة بتاريخ العراق، وخدمه خدمة مشكورة يحفظها له التاريخ على مدى الأيام، ويقدرها له أبناء العربية حق قدرها، وعلى الأخص أبناء العراق منهم
فلقد قضى ردحاً من حياته في تدوين تاريخ العراق قبل العهد الإسلامي وبعده بكتابيه: (تاريخ بابل وأشور)، (حضارة الإسلام في دار السلام) اللذين سنخصهما بجزء من كلامنا في ما يلي من هذا المقال. ودونك لمحة عن كل مؤلفاته:
1 - تاريخ بابل وأشور
لا نغالي إذا قلنا إن (تاريخ بابل وأشور) هو أول كتاب ظهر من نوعه في اللغة العربية!
والذي نعهده، أنه لم تشهد العربية منذ صدوره حتى يومنا هذا سوى كتابين في هذا الباب: أحدهما (تاريخ كلدو وأثور) للعلامة المأسوف عليه السيد أدي شير. وثانيهما رسالة بعنوان: (مقالة في مملكة أثور) للعلامة البطريرك رحماني. ولم نهتد إلى غير هذه التصانيف الثلاثة باللغة العربية مما يتعلق بهذا الموضوع الواسع النطاق. مع أن الكتب الموضوعة فيه باللغات الإفرنجية تكاد لا تحصى لوفرتها!
على أن الجميل نخلة المدور فضل السبق في هذا الميدان، فقد نشر كتابه أولاً في مقالات ظهرت على التوالي في اثنين وعشرين جزءاً من المقتطف. ثم جمعت تلك المقالات في كتاب خاص طبع ببيروت في المطبعة الأميركية سنة 1879 في 62 صفحة. ثم جدد طبعه بمطبعة الفوائد ببيروت سنة 1893 في 128 صفحة
ولا نرى للتعريف بهذا الكتاب خيراً من أن نقتبس من مقدمته الفقرة التالية على لسان(437/34)
مؤلفها:
(. . . وألفت هذا الكتاب في تاريخ أشور وبابل، وقد جمعته من أشهر أقوال المؤلفين في هذا الأوان، مما وصلوا إلى تحقيقه بعد شهادة الاختبار والعيان، وقسمته إلى قسمين: أحدهما جغرافي يبين الحدود والمساحات، والآخر تاريخي ذكرت فيه ترجمة من اشتهر من ملوكهم وعظمائهم، وما اشتهر لهم من الفتوحات وعظائم الأعمال إلى حين انقضائهم. . .)
وهذا الكتاب (وقف عليه اللغوي الشيخ إبراهيم اليازجي فهذب عبارته وصحح مبانيه، فجاء نقيا من الكلف، بريئا من الكلف، قريب اللفظ على بعد مرامه)
وكم كنا نود، لو أشار المؤلف إلى المراجع التي استند إليها في تصنيف كتابه، التي نظنها كانت بالفرنسية، لإجادته هذه اللغة على ما أسلفنا الكلام عليه
وقد وقفنا منذ زمن على بحث للعلامة الأب أنستاس ماري الكرملي عنوانه: (سلوان الأسرى في إيوان كسرى)، فيه نظرات نقدية صائبة للأعلام الواردة في هذا الكتاب، وجهها بشيء من العنف، إلى مؤلف الكتاب، أو بالأحرى إلى مصححه اليازجي
ومهما يكن من أمر فان مباحث الكتاب أضحت في وقتنا هذا قديمة لا يركن إليها، نظراً إلى ما دخل هذا (التاريخ) من الحقائق الجديدة التي هي ولا مراء وليدة علم الآثار. ولا يخفى أن هذا العلم قد أحرز تقدماً مدهشاً في مختلف الميادين خلال هذه المدة التي أربت على الستين سنة! فإذا تركنا هذه الملاحظة جانباً وجدنا في الكتاب بعد ذلك دليلاً واضحاً على ما كان عليه ذلك العلم قبل أكثر من نصف قرن؟ وفي معرفة ذلك فائدة جليلة لمن يبغي دراسة تاريخ العلوم
2 - أتالا
صنف هذه القصة الخيالية الكاتب الفرنسي الشهير شاتوبريان سنة 1801 م باللغة الفرنسية وهي رواية انتزعها المؤلف من كتابه (عبقرية النصرانية)، ولم يكن يومئذ قد أكمله. والحادث الذي تدور عليه الرواية ورد في أميركا الشمالية، وذلك أن (شكتاس) أسره جيل من الناس كان عدوا لرفاقه فحكم عليه بالإحراق، وكانت (أتالا) ابنة الزعيم الأقوى للقبيلة المعادية، فعشقت الأسير وخلصته في الليل وفرت به إلى القفار. أما وصف المؤلف لم انتاب العشيقين من الخوف والأمل والحب ووخز الضمير الذي كان يعذب هذين الفارين(437/35)
الطاهرين، فمن القطع الأدبية الرائعة! ففي هذه القصة المؤثرة التي وصف فيها الغرام وصفاً بليغاً أوحى شاتوبريان إلى أوربة بعالم جديد. فقد ذكر البحيرات العظيمة والحراج الأبكار التي تغشى أميركة الشمالية، ثم انتقل إلى وصف قبائل هنودها وعاداتهم وأخلاقهم ومعتقداتهم، وبين ما بين الحياة الهمجية والحياة المدنية من التضاد، فزاد ذلك بما في الرواية من الإفادة
وقد نقلها جميل نخلة المدور إلى العربية، وطبعها في بيروت سنة 1882م
والذي نعرفه أن لهذه الرواية ثلاث ترجمات عربية اقدمهن للخوري عيسى بترو الأورشليمي الرومي، ومن هذه الترجمة نسخة خطية في خزانة باريس الوطنية 3680، والثانية لجميل نخلة المدور، والثالثة لفرح أنطون، وقد طبعت هذه الأخيرة في نيويورك سنة 1908 في 8 + 48 صفحة
3 - التاريخ القديم
هذا الكتاب مختصر في التاريخ، لم يعلم مؤلفه الذي جمع مواده من مراجع مختلفة، مبتدئاً به بسنة 4963 قبل الميلاد، ومنتهياً به بسنة 395 للميلاد، وقد رتبه على مقدمة وثلاثة كتب ينطوي كل منها على فصول، وسار فيه بحسب السنين
نقله جميل نخلة المدور إلى العربية، وطبعه في بيروت سنة 1895 في 356 صفحة
4 - حضارة الإسلام في دار السلام
هذا هو أسمى مؤلفات جميل نخلة المدور، وأعظمها شأناً، والقطب الذي تدور عليه شهرته. فقد ألفه بطريقة ربما لم يسبقه إليها أحد في اللغة العربية اشتغل في تصنيفه زهاء العشر سنوات. فقد نشر منه فصلاً في المقتطف سنة 1880 بعنوان (البصرة في خلافة المنصور). فوطأ محرر المقتطف حينذاك لهذا الفصل بالكلمة التالية:
(هذه النبذة من كتاب قد باشر تأليفه الشاب اللبيب جميل أفندي المدور. . . (إلى أن قال): فنطلب له تمام التوفيق إلى إنجاز هذا الكتاب الذي لا تحصى فوائده ولا تثمن فرائده)
ولم تظهر الطبعة الأولى لهذا الكتاب إلا في سنة 1889 م
وهنا ندع القول للمؤلف يفصح لنا عن الطريقة المثلى التي سلكها في تصنيف هذا الكتاب(437/36)
الخالد، قال في المقدمة:
(هذه رسائل، وضعت فيها عصراً من عصور الإسلام قد أشرق به نور العلم، وجرت فيه أعمال عظيمة قام بها رجال كبراء ملئوا العالم بآثار جمالهم، وجعلت الكلام فيها لرحالة (فارسي) طوَّفته معظم البلدان الإسلامية في المائة الثانية للهجرة وطوقته مناصب الدولة برعاية البرامكة إلى أن نكبهم الرشيد. . .)
فالكتاب رسائل تبلغ العشر عداً، كتبها الرحالة الفارسي الخياني من سنة 156 إلى سنة 187 للهجرة؛ وقد سطر الأولى وهو في النهروان سنة 156، والثامنة وهو في بحر تونس سنة 186، والتاسعة وهو في المشاعر المباركة سنة 186 أيضاً. أما الرسائل السبع الباقيات فقد كتبها وهو في بغداد
وقد لخصه من خمسة وثمانين تصنيفاً تعد بحق من أسمى المؤلفات العربية القديمة الباحثة في علوم الدين واللغة والبلدان والأخبار والأدب وغير ذلك. وما لابد من ذكره هو أنه لم يدون حقيقة أو يسطر قضية إلا اسندها في الحاشية إلى المرجع الذي أخذها عنه، وأشار إلى الصفحة في كل مرة ينقل من هاتيك المؤلفات الخمسة والثمانين التي ألمعنا إليها. وفي هذا من المشقة ما لا يدركه إلا الذين عانوا مثل هذا التلخيص في كتاباتهم
ومن يطالع هذا الكتاب، يدرك أن الغرض من وضعه إظهار طرف من مآثر العرب ومفاخر الإسلام أيام هارون الرشيد والبرامكة. فهو يكشف للقارئ ما كان عليه القوم من علوم وآداب وعادات ومتاجر في بغداد وغيرها من البلدان. أضف إلى ذلك انه موضوع على منوال رحلة لرحالة متفقه بالعلوم والآداب المعروفة في ذلك الزمن، فهو يصف المدن والمعابد والمشاهد والمباني والسفن والموانئ وهيئات الملوك والوزراء والعلماء والشعراء والمغنين وغيرهم من الرجال، ويبين ما كانت عليه طباعهم وميولهم وأفعالهم كما وصفهم الواصفون من أبناء زمانهم المعاصرين لهم
وفي الكتاب، من الفكاهات والنوادر والأخبار المحققة والآراء الصائبة، ما تقر به العين وترتاح إليه النفس، لأنه جاء فيها بألفاظ مستعذبة وعبارات بليغة
فهذه المزايا أهابت - على ما نظن - بوزارة المعارف المصرية الجليلة إلى طبعه وجعله كتاباً للمطالعة، ولنعم ما فعلت!(437/37)
وقد أبدى أحد الكتاب ارتياباً في صحة نسبة هذا الكتاب إلى جميل المدور، فقال: (. . . وكان الشيخ إبراهيم اليازجي يصحح له (أي يصحح لجميل) ما يكتبه، وفي أصحابهما من يرى أن حضارة الإسلام لليازجي، وأنه نحله جميلاً في أيام إدقاع الأول وإثراء الثاني!)
غير أننا لا نميل إلى هذا الرأي، ولا نرى فيه ما يحملنا على تصديقه، لأن كتاباً ينفق من العمر في تأليفه نحو من عشر سنوات مما لا يجوز أن ينحل، خاصة وأن الشيخ إبراهيم اليازجي لم يكن بتلك الدرجة من الفاقة التي تدفعه إلى مثل هذا البذل العظيم!
5 - خاتمة
هذه هي مؤلفاته المطبوعة التي بوسع القارئ أن يرجع إليها إن شاء. ولديه تآليف غيرها لم تطبع، ولم نقف على شيء من أمرها سوى ما ذكره العلامة الأب شيخو من أن لجميل (في بيت أهله مخطوطات متفرقة أدبية وتاريخية وروائية)
ومما ورد في نهاية مقدمة كتاب حضارة الإسلام في دار السلام قوله:
(. . . وقد عقدت النية، إجابة لرغبة علماء المسلمين، ممن تفضلوا باستحسان هذا الكتاب، على متابعة سرد التاريخ الإسلامي في شكل هذه السلسلة من الروايات، وتنسيقها في مثل هذا السمط من درر الآيات البينات. . .)
والذي يؤسف له أن تلك النية الحسنة لم تتحقق. ولا نرى السبب في ذلك إلا اشتغاله بأمر الصحافة، أو إلى أن يد المنون امتدت إليه فأخترمته! ونحن واثقون من أن أمنيته لو كانت قد حرت مجرى التنفيذ لكنا نتمتع اليوم بذخائر كنز ثمين من الكتب ونرفل في جنة من الأدب فيها من كل فاكهة زوجان.
(بغداد)
كوركيس عواد(437/38)
شخصيات تاريخية
5 - تيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
قضى تيموستوكل البقية الباقية من حياته وهو يعمل على تنفيذ
هذه السياسة، ويكاد يكون هو الوحيد الذي سار في هذا
الطريق، فهو لا يألو جهداً إلا بذله للنكاية بالعدو اللدود وهو
إسبرطة، ولن الشعب الأثيني تخلى عنه ولم يسايره، إذ داخلته
الشكوك من ناحية، فخشي خطره واصبح يعتقد أن له مأرباً في
تنفيذ هذه السياسة، لذلك كان وحده دون معين ولا نصير في
هذه الفترة الأخيرة من حياته وهي الواقعة بين معركة سلامين
ومماته (من 480 في 464363 تقريباً)
قضى تيموستوكل هذه الفترة شريداً طريداً حتى لم نعد نسمع
عنه كثيراً، بحيث تكاد تكون هذه الحقبة من تاريخ حياته
غامضة، هي غامضة لقلة الوثائق التي تتكلم عنه وبالرغم من
هذه القلة نستطيع أن نتنسم الأخبار من بين السطور التي
كتبت عنها والتي توجد لدينا، فهذه الوثائق لا تتحدث عنه إلا
في فترات متقطعة، ولكنها على ندرتها، ثمينة جداً لأنها(437/39)
تخبرنا عن تيموستوكل الشيخ لا يختلف عن تيموستوكل
الشاب. ألا يزال هو هو، كله حركة ونشاط، لا يعتريه اليأس
ولا يفل من عزمه عظم المهمة التي ناط نفسه بالقيام بها، فهو
لا يحجم عن الانتقال من مكان إلى مكان للدس ضد إسبرطة
والإيقاع بها أيما استطاع لذلك سبيلاً، فنراه حيناً في أرجوس
يعمل على قلب نظام الحكم الأوليجاركي وإقامة النظام
الديمقراطي مكانه، وحيناً آخر في دولتي إيليد وأركاديا. وهو
في كل البلاد يقوض من أسس النظام الأوليجاركي الذي يؤيد
الدولة الإسبرطية ويشجع قيام النظام الديمقراطي لكي تكون
عوناً للدولة الاثينية، وفي سبيل ذلك نراه لا يتردد عن اشق
المهام، كتأليف اتحاد من المدن الأركادية لمحاربة إسبرطة،
وينجح في هذه المهمة ولكن إسبرطة له بالمرصاد إذ تتمكن
من إلحاق الهزيمة بهذا الاتحاد الأركادي وتتغلب عليه في
موقعة ديبايا (عام472471ن. م)، فتفتح عينا تيموستوكل
ويرى بوضوح كامل أن إسبرطة ما زالت قوية على بأس
عظيم بحيث تستطيع التغلب على أعدائها، فيحاول أن يسلك
سبيلاً آخر، إذ يسعى، بعد هذا الفشل الذريع، إلى النيل منها(437/40)
داخل حدودها وذلك بتقويض دعائم نظام حكومتها وإثارة
المستائين ضدها من سكانها مثل البيرييك والهيلوث. ولتنفيذ
هذه السياسة نجده يتقرب من شخص آخر يشبهه في المغامرة
والجرأة وهو الملك الإسبرطي بوزايناس؛ ونجح في التفاهم
معه على التآمر ضد الحكومة القائمة، ويعمل الاثنان للاتفاق
مع ملك الفرس، ولكن المشرفين على الحكومة الإسبرطية
وفقوا في الكشف عن هذه المؤامرة والقبض على بوزايناس،
وقد ثبت لديهم أن تيموستوكل اشترك مع بوزايناس في التآمر
ضد دولتهم، فطلبوا إلى أثينا معاقبته، وتلبي أثينا هذا الرجاء
وتستدعيه من حيث كان يقيم. ويدلنا هذا على مبلغ كراهيته
من الشعب الأثيني حينذاك، ولكنه لم يأبه لهذا الاستدعاء ولم
يحفل به، بل ظل في الخارج، ونحن لا نعرف في أي مكان
كان يقيم في ذلك الحين؛ ولكن كل ما نعرفه هو انه كان يهرب
من مكان إلى آخر خوفاً من أن يقبض عليه ويحمل إلى أثينا
فتفتك به إجابة لرغبة إسبرطة؛ أخذ ينتقل من بلد إلى بلد حتى
ألقى به عصا التسيار إلى بلد عدو من أعدائه هو أديمبتوس
ملك (المولوس) في شمال غرب اليونان، وقد كان عداء هذا(437/41)
الملك لتيموستوكل شديداً جداً. ولكنه استقبله وأضافه بالرغم
من هذه العداوة الشديدة وهذا البغضاء المستحكم؛ لأن عادات
الضيافة عند اليونان كانت قوية لا تبيح للشخص أن يطرد
ضيفه ولو كان من ألد أعدائه؛ بل ولم يقبل هذا الملك أن
يسلمه إلى أعدائه، وذهب إلى ابعد من هذا فشجعه على الهرب
ونظم له الوسيلة وجهزه بكل ما يحتاج إليه من وسائل السفر،
فتمكن له الذهاب إلى (بيدنا) في مقدونيا، ومنها يركب السفينة
قاصداً آسيا لملاقاة ملك الفرس، ولكن زوبعة تهب على
السفينة فتغيرها عن وجهتها حتى تصل إلى جزيرة تاكسوس
في بحر إيجة فيحاول قبطانها الرجوع به إلى أثينا، ولكنه ما
زال وراءه بالوعود الخلابة الجميلة حتى حمله على أن يتوجه
به نحو مقصده، ووصلت السفينة آمنة سالمة إلى شواطئ آسيا
الصغرى. وهناك نزل منها في هذه البلاد. وطئت أقدامه
أرض (إيفيز)، فهل تظن أنه أخلد إلى الهدوء بعد ذلك؟ وكيف
السبيل إلى هذا ولا وطن له الآن يتعلق به، ولا أرض يدافع
عنها، بل هو شريد طريد؟ من اجل هذا صمم على مقابلة ملك
الفرس ليرى ماذا هو فاعل به - وهنا يختلف المؤرخون في(437/42)
شخص الملك الذي قابله تيموستوكل، فيقول المؤرخ توسيديد
أنه وصل إلى عاصمة الفرس حينما اعتلى أرتاجزرسيس
العرش، ويقول المؤرخ فايناس ويوافقه على هذا الرأي
بلاثارخوس إنه قدم نفسه ليوجزرسيس الذي طالما حاربه لا
لأرياجزرسيس - وهذا الخلاف بسيط لا يمنع الحقيقة الواقعة
وهي أنه ذهب إلى عاصمة الفرس وقابل عاهل الفرس أيا
كانت شخصية هذا العاهل؛ وأن هذا قد أغدق عليه النعم
والعطايا وخلع عليه كثيراً من الهدايا وعينه والياً على بعض
المدن التي أخذ يسوسها حتى قضى نحبه وهو في المنفى بعيداً
عن وطنه وأرض آبائه وأجداده
هنا يختلف المؤرخون أيضاً في الطريقة التي مات فيها. فمنهم من يقول بأن ملك الفرس كلفه بقادة حمله لمحاربة الأثينيين في مصر، ولكنه رفض أن يخون وطنه لعدم استطاعته تلبية مولاه وسيده. ومنهم من يقول بأنه مات ميتة طبيعية في عاصمة ولايته ببلدة (ماجنيزيا) في شمال آسيا الصغرى بعد مرض لم يمهله كثيراً
ألا ترى إذن إلى خاتمة حياة هذا البطل العظيم، كيف انتهت على هذا النحو من المذلة والعار بعد أن كان قد وصل إلى قمة المجد وذروة الرفعة والسلطان؟ ألا ترى أن هذا من شأن العظماء، لا تسير حياتهم على وتيرة واحدة وإنما يعتريها الرفعة والانحطاط؛ فأنت لا يمكنك بعد ذلك أن تظن أن تيموستوكل قد خان وطنه، إذ لم يصل إلينا شيء يثبت أنه قام بعمل ألحق الضرر ببلاده، بل استمر مخلصاً لها وفياً أميناً، حتى أنه يرفض الذهاب في حملة إلى مصر لمحاربة أبناء وطنه، كما ذهب بعض المؤرخين مثل سبتزيمبروث فهو(437/43)
وإن كان لجأ آخر الأمر إلى ملك الفرس فإنما كان ذلك اضطراراً منه، لأنه رأى وطنه يطارده في كل مكان راغباً الفتك به، فتخلص من هذا وهرب حيث قابل ملك الفرس الذي أغدق عليه النعم والعطايا، وشأنه في هذا لا يختلف عن شأن غيره من كبار اليونان الذين كانوا يضطرون إلى خدمة ملك الفرس حينما يرون بلادهم تنصرف عنهم وتسحب ثقتها منهم، ونحن بعد هذا لا نستطيع أن نعتبر التجاءه إلى الفرس خيانة منه لبني قومه، وإنما كان ذلك لرغبته في الحياة والإبقاء عليها. وكيف السبيل إلى كسب العيش ووطنه قد نفاه وشرده حتى أصبح لا يجد مكاناً يلتجئ إليه عند اليونان على سعة بلادهم وامتداد أطرافها. وقد يلومه بعض الناس على هذا الالتجاء إلى ملك الفرس ولا يبرئونه من تهمة خيانة وطنه، إذ لو كان بريئاً حقاً من هذه التهمة لقدم نفسه إلى المحاكم وهي تفصل في ذلك حتى ترجع الحق إلى نصابه، ولكن غاب عن هذا الفريق أنه لم تكن توجد محاكم في أثينا بالمعنى المعروف لدينا في الوقت الحاضر، وإنما كان الفصل في قضايا الخيانة العظمى راجعاً إلى الشعب وحده، ونحن نعلم ما كان عليه الشعب الأثيني من تهور واندفاع حينما تعرض عليه القضايا السياسية التي تتطاحن فيها المصالح وتتنازع عليها الأحزاب؛ كلا! لم يكن ذلك في استطاعة تيموستوكل ولم يكن هذا الالتجاء إلى ملك الفرس خيانة بالمعنى الصحيح، فهو يعتبر من غير شك خطأ ولكن لهذا الخطأ أسبابه ومبرراته التي تجعلنا لا نغلو في الحكم عليه. وكيف نغلو في الحكم على تيموستوكل وكلنا إعجاب بما قام به من أعمال يعجز عن القيام بها كثير من أفراد البشر؟ ألم يتعهد بلاده في وقت الخطر ويعدها خير إعداد للمعركة الفاصلة؟ ألم يحرز لها نصراً حاسماً أبعد عنها الخطر الفارسي إلى زمن طويل؟ ألم يكن هو من الأشخاص الرئيسيين الذين شجعوا على تكوين حلف ديلوس ونحن نعرف أن هذا الحلف تطور فيما بعد حتى أصبح إمبراطورية تعرف في التاريخ القديم بالإمبراطورية الأثينية البحرية؟ ألم يعمل بعد ذلك على التأسيس والإصلاح وإزالة الخرائب والأنقاض ببناء الأسوار وإقامة التحصينات، حتى أصبحت أثينا ومعها بيريه قلب بلاد اليونان بل ومركز الحضارة اليونانية حتى قال عنها بركليس (إنها أصبحت مدرسة اليونان جميعاً)؟ ألم يؤسس لأثينا هذا الأسطول البحري العظيم الذي جعلها دولة بحرية بعد أن كانت دولة برية والذي كان العماد الذي تعتمد عليه الإمبراطورية الأثينية؟ قام(437/44)
تيموستوكل بهذه الأعمال الجليلة لأنه كان يضع مصلحة قومه في المكان الأول من اعتباره فيتناسى شخصه ومطامعه ويتجاهل حتى تنكر له قومه وبنو وطنه. كان إذن تيموستوكل من بناة مجد أثينا في القرن الخامس حتى يدعونا هذا إلى أن نضعه في صف كبار الآثينين، فهو لا يكاد يقل شأناً وأهمية عن زعيم آخر من زعماء الديمقراطية، وهو بركليس، وإن كان الناس قد أطلقوا على القرن الخامس عصر بركليس وأفردوا بركليس بهذه التسمية، فإننا نرى أنه يحق لتيموستوكل أن يدعى لنفسه شيئاً من هذا الفخر والمجد فيطالب بأن يسمى هذا القرن عصر تيموستوكل وبركليس معاً.
محمد الشحات أيوب(437/45)
13 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
الحكومة - تابع الفصل الرابع
سبقت الإشارة إلى عمل الضباط، وهو الآن رئيس الشرطة. أما مخبروه الذين لا تميزهم ميزة، فينتشرون في أحياء العاصمة ويختلطون بالناس في المقاهي وكلهم عيون وآذان - وأغلبهم لصوص عفي عنهم - وهم يرافقون الحرس في دورته الليلية خلال شوارع القاهرة. ولا يسمح لأحد غير العمى بالتجول في الخارج بلا مصباح أو أي نور بعد غروب الشمس بحوالي ساعة ونصف. وقلما ترى سائراً بعد ساعتين أو ثلاث. ولا يكاد الليل ينتصف حتى تمر في العاصمة جميعها فلا تقابل أكثر من عشرة أشخاص أو عشرين خلا المراقبين والحراس وبوابي الحارات والدروب. وعندما يمر عابر سبيل يناديه الحارس بالتركية: (من هذا؟) فيرد المار بالعربية: (ابن بلد!) والحارس الخاص كذلك يصيح: (وحد الله) أو (وحد) فقط! فيجيبه السائر: (لا إله إلا الله). ولا يختلف النصارى عن المسلمين في هذا القول، فهم يفهمون التوحيد فهماً مختلفاً. والمفروض أن اللص أو من يشرع في مخالفة القانون لا يجرؤ على النطق بهذه الكلمات. وبعض الأشخاص يجيبون الحارس بصوت مرتفع: (لا إله إلا الله محمد رسول الله). ويستخدم الحارس الخاص لحراسة الأسواق والأحياء ليلاً، وهم يحملون (نبوتاً) ولا يحملون مصباحاً
والعادة أن يتجول الضابط، أو أغا الشرطة، في شوارع القاهرة. ويرافقه غالباً السياف والشعلجي، أي حامل الشعلة المستعملة ألي الآن. وهذه الشعلة تشتعل حال إضرامها فلا يصعد لهبها إلا حين تحرك في الهواء، عندما تضرم فجأة في الخارج. وهكذا تؤدي عمل مصابيحنا المعتمة. وقد يوضع على الطرف المشتعل إناء صغير أو جرة أو يغطى بشيء(437/46)
آخر حين لا تلزم الإنارة. ويقال أن اللصوص كثيراً ما يشعرون بالشعلة في الوقت المناسب فيتفادون مقابلة حاملها. وعقوبة من يقابله الشرطي بلا نور هي الضرب. وقلما يحاول المقاومة أو الهرب. وكان لرئيس الشرطة سلطة مطلقة في ضرب عنق أي مجرم أو مذنب بلا محاكمة حتى ولو كان القانون لا يعاقبه بالإعدام. وكذلك كان له مرؤوسون كما سترى بعد. وقد ندر في السنوات الأخيرة مباشرة هذه السلطة. وأعتقد أنه لم يعد يسمح لهم بذلك الآن. ويقوم أعوان الضابط بدورتهم الليلية مع الجنود لأنهم أحسن معرفة منهم بمخابئ اللصوص والأشرار ومناهجهم. ويندر أن يباشر الضابط نفسه سلطة تخرج عن حد القرع أو الجلد.
كثيراً ما يتخذ رؤساء الشرطة وسائل غريبة مثل التي نراها في بعض قصص ألف ليلة وليلة لاكتشاف المجرم. وأذكر هنا حادثاً لا يختلف في صحته أحد على سبيل المثال. وسأرويه بالطريقة التي سمعتها: قصد ذات يوم رجل مسكين أغا الشرطة وقال له: يا سيدي، أقبلت إلي اليوم امرأة وقالت لي: خذ هذا القرص ودعه في حيازتك وقتاً وأقرضني خمسمائة قرش. فأخذته منها، يا سيدي، وأعطيتها الخمسمائة قرش وانصرفت. وبعد انصرافها قلت لنفسي: لأنظر إلى هذا القرص، وتأملته فإذا هو من النحاس الأصفر، فلطمت وجهي وقلت: سأذهب إلى الأغا وأقص عليه قصتي عسى أن يحقق هذه المسألة ويوضحها، فليس هناك غيرك من يستطيع مساعدتي في هذه القضية. فقال له الأغا: أصغ إلى ما أقوله لك يا رجل. أنقل ما في دكانك ولا تترك فيه شيئاً ثم أقفله، وبكر في الذهاب صباح اليوم التالي، وبعد أن تفتح دكانك صح قائلاً: يا حسرتاه على أموالي! ثم خذ في يديك مدرتين وأضرب نفسك بهما وصح: يا أسفا على أموال الناس! فإذا سألك أحد: ماذا حدث فقل له: ضاعت أموال الناس، فقدت رهناً كان عندي لامرأة، لو كان ملكي لما انتحبت هكذا. هذا كفيل بأن يكشف لنا الأمر. ووعد الرجل بتنفيذ ما طلب منه، فنقل كل ما في دكانه. وفي بكرة اليوم التالي ذهب إلى دكانه وفتحه وأخذ يصيح: يا ويلاه على أموال الناس، وأخذ مدرتين وضرب نفسه بهما وجعل يدور في أنحاء المدينة صارخاً: يا حسرتاه على أموال الناس! ضاع رهن لامرأة كان عندي، لو كان ملكي لما أهمني. فسمعت المرأة التي رهنت القرص صياحه وتبينت أنه الرجل الذي خدعته، فقالت لنفسها: اذهبي وارفعي(437/47)
دعوى عليه، وذهبت إلى دكانه راكبة حماراً لتكسب نفسها أهمية وقدراً؛ وقالت له: يا رجل، أعطني ما لي عندك؛ فأجابها: ضاع، فصاحت: قطع الله لسانك! هل أضعت مالي؟ لأذهبن إلى الأغا ولأخبرنه بذلك، فقال لها: أذهبي! وذهبت إلى الأغا وسردت شكواها، فبعث الأغا في طلب الرجل. فلما جاء قال للمشتكية: مالك عنده؟ فأجابته: قرص من الذهب البندقي الأحمر، فقال الأغا: يا امرأة، عندي هنا قرص ذهبي أود أن أريك إياه، فقالت: أرينيه، يا سيدي، فأنني أعرف قرصي. فحل منديلاً وأخذ منه القرص الذي رهنته، وقال: انظري. . . فنظرت إليه وعرفته. . . فطأطأت رأسها. وقال الأغا: ارفعي رأسك وأخبريني أين نقود هذا الرجل؟ فأجابت: يا سيدي، إنها في بيتي. فأرسل معها إلى المنزل السياف مجرداً من سيفه، وعادت بكيس فيه النقود، وأعيدت الخمسمائة قرش إلى صاحبها. ثم أمر الأغا السياف بأخذ المرأة إلى الرميلة، وهي مكان فسيح مكشوف اسفل القلعة، ليقطع رأسها هناك ونفذ الأمر!
أما أسواق القاهرة والموازين والمكاييل، فتخضع لمراقبة المحتسب، وهو يجوس من حين لآخر خلال المدينة، يتقدمه عامل يحمل قسطاطاً كبيراً، ويتبعه الجلادون والخدم. وهو يمر على الدكاكين والأسواق واحداً واحداً، وأحياناً يتفقد واحداً هنا وواحداً هناك، فيفحص الميزان والأوزان والأكيال، كما يستفهم عن أثمان المؤن من مأكولات وغيرها. وكثيراً ما يستوقف خادماً ما يقابله صدفة في الطريق حاملاً مأكولات قد اشتراها، فيسأله عن ثمنها ووزنها. فإذا تبين له أن البائع استعمل موازين أو مكاييل مغشوشة، أو طفف الميزان أو زاد على سعر السوق، انزل به العقوبة في الحال. والعقوبة العامة هي الضرب أو الجلد. ورأيت مرة رجلاً تنفذ عليه عقوبة مختلفة لبيعه خبزاً ناقص الوزن: خرم أنفه وعلقت فيه كعكه بطول الشبر وبسمك عرض الإصبع، وجرد من ثيابه إلا قطعة من الكتان حول صلبه، وشد، وذراعاه خلفه وقدماه فوق قاعدة صغيرة، إلى قضبان شباك من شبابيك جامع الأشرفية في أهم شوارع المدينة، وبقي كذلك حوالي ثلاث ساعات معرضاً لأنظار الجمهور المحتشد وأشعة الشمس المحرقة
وكان ممن عين محتسباً - بعيد قدومي الأول إلى مصر - رجل كردي أسمه مصطفى كاشف، تولى سلطته بأقسى الطرق، فكان يقطع شحمة الأذن أو طرفها لجرم مهما صغر(437/48)
ولغير جرم. وفي مرة قابل رجلاً شيخاً يقود حميراً محملة بطيخاًفأشار المحتسب إلى واحدة من أكبرها حجماً وسأل عن ثمنها. فأمسك العجوز شحمة أذنه وقال: اقطعها يا سيدي! فأعاد عليه المحتسب السؤال مرة بعد مرة فكان الجواب واحداً. فاغتاظ المحتسب ولكنه لم يتمالك أن ضحك، وقال: (هل أنت مجنون أو أصم)؟؟ فأجاب العجوز: (لا، لست مجنوناً ولا أصم، ولكني أعرف إنني إذا قلت ثمن البطيخة عشرة فضة فستقول: (اقطع أذنه). وإذا قلت خمسة فضة أو فضة واحدة فستقول: (اقطع أذنه). لذلك اختصرت الأمر وقلت اقطعها ودعني أتبع طريقي). ولم ينجه إلا ما في تهكمه المفاجئ من فكاهة
كان قطع الأذن هو العقوبة العادية التي يوقعها هذا المحتسب، ولكنه اتبع أحياناً طرقاً مختلفة، فقد عاقب جزاراً باع لحماً ينقص عن الوزن الحقيقي أوقية ونصفاً بقطع هذا القدر من ظهره. أمر بتجريد بائع كنافة حصل على زيادة في الثمن تافهة من ثيابه ووضعه على الصينية النحاسية المستديرة حيث تسوى الكنافة وتركه كذلك حتى احترق احتراقاً رهيباً. وكان يعاقب الجزارين بوضع كلابة في أنوفهم يغلق بها قطعة من اللحم. وفي ذات يوم قابل هذا المحتسب رجلاً حاملاً صندوقاً كبيراً صفت فيه قلل فخارية من سمنود وهو يبيعها بوصفها من قنا؛ فأمر أتباعه أن يكسروا القلل على رأسه واحدة واحدة. وكان يظهر طغيانه خارج ولايته؛ ففي ذات مرة خطر له أن يرسل حصانه إلى الحمام، وطلب من صاحب حمام أن يعد العدة لاستقباله والعناية بتحميته وتنعيم جلده. فثقل على صاحب الحمام هذا الأمر العجيب وخاطر بأن قال أن أرضية الحمام من الرخام، وقد ينزلق لجواد فيقع؛ وقد يصاب ببرد عند خروجه، فيحسن لذلك نقل ماء الحمام إلى الإسطبل حيث تباشر عملية الحمام. فقال مصطفى كاشف: (أنى أرى السبب غير ذلك. أنت لا تريد أن يذهب جوادي إلى حمامك). بعض خدمه أن يطرحوه أرضاً ويضربوه بالعصي حتى يأمرهم بالكف. ولم يأمرهم بالكف حتى مات المسكين
ولسنوات قليلة خلت كانت العادة أن يسعى بين يدي المحتسب عند طوافه بالمدينة لفحص الموازين والمكاييل، رجل معه ميزان أكبر حجماً من الميزان المستعمل. ويقال إن قب هذا الميزان كان أنبوبة مجوفة بها زئبق، فكان حامل الميزان يستطيع إذا عرف الذين رشوا سيده أن يرجح إحدى الكفتين بسهولة(437/49)
ويشرف على الأسواق العامة المستخدمون المكلفون بمراقبة تجارة الباشا وصناعاته المختلفة. ووظيفتهم كوظيفة المحتسب سواء بسواء. وقد اشتهر بعضهم بارتكاب أرذل أنواع البغي والقسوة. وكان أحدهم ويسمى علي بك (ناظر القماش) إذا وجد أحداً يملك نولاً خاصاً أو صادفه يبيع ما نسجه، يشده في قطعة من هذا النسيج يغمسها في الزيت والقار ثم يعلقه هكذا على فرع شجرة ويوقد فيه النار، فأباد الكثير بهذه الطريقة الوحشية. وقد مات هو نفسه حرقاً في جم غفير أثناء انفجار مخزن بارود بمنحدر القلعة الشمالي سنة 1824. وقال صديقي الذي حدثني عن فظائع هذا الوحش: (عندما نقلتجثته لدفنها صلى عليها الشيخ العروسي شيخ الجامع الأزهر يومئذ في مسجد الحسين، وكنت أقوم بالتبليغ خلف الإمام، فلما نطق الشيخ بالدعاء ساد السكوت بين الحاضرين الكثيرين؛ ومضى الشيخ يقول: وكان من الصالحين، فلم يسمع لأحد صوت، فارتبك الشيخ وقال بصوت خافت: ليرحمه الله، ثم قال صديقي مواصلاً حديثه: الآن نستطيع أن نؤكد أن مصير هذا الرجل الملعون إلى جهنم، ومع ذلك لا تزال زوجته تقيم له ختمة في منزلها، وتوقد له كل ليلة شمعتين في مسجد الحسين!)
ولكل حي من أحياء العاصمة شيخ يسمى (شيخ الحارة)، وهو يباشر سلطته للمحافظة على النظام ولفض صغير المشاكل بين السكان ولطرد من يعكر صفو الجيران. وتنقسم العاصمة إلى ثمانية أقسام يرأس كلا منها شيخ يسمى (شيخ النمن)
وكذلك كان لكل طائفة من الطوائف التجارية والصناعية المختلفة في العاصمة وفي غيرها من المدن الكبيرة شيخ يحكم في المنازعات المتعلقة بهذه التجارة أو الحرفة، ويصدق على قبول الأعضاء الجدد
كذلك يخضع خدم القاهرة لإمرة شيوخهم. ويستخدم الخدم بواسطة هؤلاء الشيوخ إذ يشهدون لهم بحسن السلوك مقابل قرشين أو ثلاثة. فإذا ارتكب الخادم سرقة يلزم الشيخ بتعويض السيد، ولو لم يحصل على المال المسروق
واللصوص أيضاً، منذ سنوات قليلة اتخذوا كبيراً منهم شيخاً عليهم، وكثيراً ما كان هذا الشيخ يطالب بالبحث عن المسروقات وتقديم المجرمين لمحاكمة؛ وكان على العموم يقوم بذلك. ومما يستحق الذكر أن هذا النظام العجيب كان سائداً في عهد المصريين القدماء(437/50)
(يتبع)
عدلي طاهر نور(437/51)
رسَالة الشِّعر
الطير المهاجر
للشاعر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد
علّمتني مواسمُ الروض أن الط ... ير َشتى: مهاجِرٌ ومقيم
أتراني لا أسمع الطير إلا ... في رياضي معشِّشاً لا َيريم؟
رُبَّ شادٍ في هجرة يتغنى ... وعليه السلام والتسليم
من جَنوب إلى شمال، وحيناً ... من شمال إلى جنوب يحوم
فله حين يستقلْ وداع ... وله حين يُقبل التكريم
خذ من الطير كل يوم جديدا ... فسواءٌ جديده والقديم
كم مُوَلٍ وصفوُه لا يولى ... ومقيمٍ وصَفْوُه لا يقيم
عباس محمود العقاد(437/52)
أريد. . .
للأديب أحمد عبد المجيد الغزالي
جف الغدير! فمن للظامئ الصادي؟ ... وصوْح العود تحت الهاتف الشادي
ومات زهر الربى لا الطير تندبه ... ولا الشعاع عليه رائح غاد
حتى الزهور يغول الدهر نضرتها ... لكل ناضرة من دهرها عاد
غاضت منابع شعري وهي زاخرة ... وغام أفقي. أما من بارق هاد؟
طال السري وطريقي شائك حلك ... ولم يغني جديداً ذلك الحادي
أريد لي عالماً يختال (حاضره) ... على شوارد هذا العالم (البادي)
أريد دنيا جديد الوحي يغمرها ... فأستفيق على شدوي وإنشادي
أريدُ أن تسكبي الأنغام في خلدي ... شيعتُ أمسي فهلاَّ تبعثين غدي؟
مالي وقيثارة شُدَّت على خشبٍ ... وأنت قيثارة شُدتْ على كبدي؟
جفَّ النشيدُ على أوتارها فغدتْ ... بكماَء لا تحتفي بالطائر الغَرِد!
طوقتها حانياً، أبكي لياليَها ... كما بكى والدٌ بَرٌّ على ولد
فهدْهِدي أنت أحلامي بأغنية ... تنساب من نْبِعك الجاري من الأبد
وجدِّدي عهدَها الماضي فإِن عرضت ... ذكرى أناشيدها في الحب فاتئدي
أنا الذي نهِلتْ روحي أغانيَها ... كما ستنهلُ في أيامك الْجُددِ
أريد يا جدولي الساري بأوهامي ... أن تستبد بآمالي وآلامي
بالأمس يا جدولي والروض يضحك لي ... نديت من عذبك السلسال أحلامي
واخترت من ورق الأزهار لي صحفاً ... بيضاً ومن هذه الأغصان أقلامي
واليوم يا جدولي لا الروض يضحك لي ... ولا مياهك تروي غلة الضامي
ظمئت يا جدولي والجرح في كبدي ... فهل لمائك يأسو جرها الدامي؟
قد كان شطك لي أنساً وعافية ... فكنت أقوى على دهري وأيامي
فما لأنسى به غاضت منابعه ... ولم تعد ثرة تجري بألهامي
أريد يا كرم، ماء غير رقراق ... فقد برمت بهمس الكأس والساقي
سقيت يا كرم كأسي وهي مترعة ... على شعاع سرى في الكأس براق(437/53)
ثملت يا كرم حتى غفت نشوتها ... وعفت صمتي على كأسي وإطراقي
مل الندامى خداع الكأس صائحة ... على صباح بنور الفجر دفاق
تميل أعناقهم والكأس دائرة ... حتى كأن الطلا تعويذة الراقي!
ألفت يا كرم تلك الخمر صافية ... كما ألفت يراعاتي وأوراقي
يا كرم، ما صار خير الخمر أقدمها ... إن كان ثم جديد فالهوى باق
أريد يا زهرات الروض أنفاساً ... غير التي عرَّفتني الورد والآسا
ما عدت أستروح الأنسام عاطرة ... ريانة النفح تنسي القلب ما قاسا
نسيت بالروض أياماً لنا سلفت ... كان الندى خمرتي والوردة الكاسا
أشدو بشعري مع الأطيار صادحة ... وقد أقمنا على الغدران أعراسا
فالزهر يبسم رفافاً لفرحتنا ... والغصن يختال تحت الزهر مياساً
رغبت يا زهرات الروض عن أرج ... قد كان يملؤني وهما ووسواسا
فضي جيوبك يا زهرات عن أرج ... ما بات يشعل في الوجدان إحساسا
أريد يا طير تغريداً كتغريدي ... وأن تردده في الدوح ترديدي
ما للأغاني تغنيها فأسمعها ... فلا تطامن من همي وتسهيدي
سئمت يا طير ألحاناً شدوت بها ... بين الرياحين أو فوق العناقيد
إن كان عندك لحن غير ما صدحت ... به رباك، فوقعه على عودي
لو كنت كالطير في الأجواء منطلقاً ... لأنشد الطير للدنيا أناشيدي
وبات يمتعه فني وجدّته ... فلن يكون لي فني وتجديدي
يا ويح للطير، لازالت هواتفه ... تردد اللحن من أيام داود
أريد يا ليل، إن رتلت آياتي ... أن لا تخفف أشجاني وآهاتي
دعني لظلمتك الدكناء أقبسها ... نوراً يضيء حنايا دهري العاتي
شقيت يا ليل بالأضواء تغمرني ... فتوقظ الألم الغافي بأناتي
قد كنت يا ليل تسليني إذا عصفت ... بي الأماني في كيد وإعنات
أما سمعت بعادي الدهر فزعني ... وفوق مسرحه غنى لمأساتي
يا ليل أين السكون العبقري مضى ... وخلف القلب مشبوب الصبابات(437/54)
هذا السكون الذي استوحيته كلمي ... ما باله لم يعد وحياً لأبياتي؟
أريد يا بدر نجوى غير نجواكا ... قد كان يسعدني في الليل مسراكا
أنداء نورك كانت بلسما عجبا ... للحب ما صنعت - يا بدر - يمناكا
دنياك دنيا هوى والشعر عشت بها ... اجني بها الزهر، حتى زهرها شاكا
وما سلمت بدنيا الناس من نكد ... قد ضقت ذرعاً بدنياهم ودنياكا
تساقط النور أسلاكا كأن به ... سرا، يساقطه يا بدر مثواكا
أضأت للناس حتى أظلموا ومضوا ... يسخرونك أشرارا وفتاكا
ماذا عليك، إذا أرسلتها حمما ... تنقض يا بدر أجراماً وأفلاكا
أريد يا فجر إلا يشرق النور ... وأن يلف شعاع الصبح ديجور
وأن نظل هجوعاً في مراقدنا ... فلا يؤرقنا في الروض عصفور
ولا تجاوبه في الأفق ساجعة ... مسحورة إلفها بالأفق مسحور
لو كان طير الربى يدري مهازلنا ... يا فجر، ما شاقه شدو وتصفير
هم روعوه بشر زاحموه به ... في الجو، فالطير في دنياه مقهو
ألطير، سل عنه أذن الروض مرهفة ... يجبك زهر على الخلجان منثور
والقوم سل عنهم الحرب التي وقدوا ... يجبك أتونها بالنار مسعور
أريد يا أيها الماشي على النار ... أن تستفيق على صيحات أشعاري
تدب يا عالمي فوق اللظى عجلاً ... غداً ستمضي برب الدار والدار
للنيل في عنقي حق سأبذله ... في قذف قنبلة أو عزف قيثار
النيل إن رامه باغ به طمع ... رمى بجيش من الأشبال جرار
النيل في كنف الأشبال حوزته ... وهم على رصد للطامع الضاري
جروا على مائه والفلك سامرهم ... يداعبون خيال الكوكب الساري
آنا الهزاز الذي غنى لسامرهم ... غداً أغني وطير النيل سماري
احمد عبد المجيد الغزالي(437/55)
البريد الأدبي
اقتراح مرفوع إلى جماعة كبار العلماء
رفع حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس جماعة كبار العلماء اقتراحاً جليل الفائدة، مبارك الآثار، يتصل بتنظيم جهود الجماعة وتوفير إنتاجها؛ وقد نظرت إلى الجماعة الموقرة في هذا الاقتراح بجلستها المنعقدة في اليوم الخامس عشر من شوال سنة 1360 ثم قررت تأليف لجنة من بعض أعضائها لبحثه وتدبير طريق تنفيذه برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم
ويسرنا أن نسجل هذا الاقتراح الهام على صفحات الرسالة، لأنه دليل على اتجاه حسن طالما رجوناه ودعونا إليه
وهذا نص الاقتراح:
(إن هيئة كبار العلماء ركن مهم من أركان الإصلاح في الأزهر، بل الذروة التي يجب بلوغها منه ليعود إليه أولئك الفقهاء المحققون، والمحدثون الثقاة، والمفسرون المطلعون، واللغويون البلغاء، والمؤرخون الصادقون، وأهل الصلاح والتقى
(إن هيئة كبار العلماء هي التي يرجى منها أن تكون تاج الجامعة الأزهرية، ومن أهلها أن يكونوا أساطين العلم وحفاظ الشريعة، ومقومي لغة القرآن لتركن الضمائر الواجفة إلى علمهم، وتهدأ النفوس الراجفة بهديهم وإرشادهم، وتطمئن قلوب المؤمنين لقيامهم حفاظاً لليقين، وحراساً على شريعة النبي الأمين)
بهذه العبارات الواضحة حددت لجنة إصلاح الأزهر المؤلفة في سنة 1910 من المغفور لهما عبد الخالق ثروت باشا وأحمد فتحي زغلول باشا، وصاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا أطال الله بقاءه، الغرض من جماعة كبار العلماء، وآمال الأمة الإسلامية فيها
ولم تزل الأمة الإسلامية ناظرة إلى هذه الجماعة الموقرة، ترقب منها أن تكون مصدر خير لها في دينها ودنياها. ترقب منها أن تعمل على إعلاء كلمة الله، ونشر ثقافة الإسلام وحياطتها بما يقويها، ويدفع عنها غائلة المعتدين. ترقب منها أن ترشدها إلى أحكام الدين النقية مما خالطها من شوائب الابتداع في عقائدها وعباداتها ونظمها ومعاملاتها(437/56)
وإني أقترح تحقيقاً لهذه الآمال الجسام أن يؤلف لجماعة كبار العلماء مكتب علمي دائم، وأن يجعل لهذا الكتب مكان معين معروف شأن كل هيئة رسمية أو غير رسمية من الهيئات التي تعمل لأغراض خاصة
أما مهمة هذا المكتب بعد إنشائه فهي ما يأتي:
(ا) معرفة ما تهاجم به الأديان عامة، والدين الإسلامي خاصة في عصرنا الحاضر، والرد عليه رداً كافياً مقنعاً بأسلوب ملائم لطريقة البحث الحديث
(ب) بحث ما يحصل فيه الاختلاف بين علماء العصر من جهة أنه بدعة يجب تركها أو ليس كذلك، ووضع الأصول الكفيلة بتمييز ما هو بدعة مما ليس بدعة، والعمل على نشر كل ذلك ليرجع إليه الناس، وتنقطع به أسباب الفتنة والنزاع بين المسلمين
وقد سبق للأزهر في عهد فضيلة الأستاذ الأكبر شيخه الحالي أن فكر في تأليف لجنة مشتركة من الأزهر ووزارة الأوقاف مهمتها القيام بهذه الناحية، وألفت اللجنة فعلاً برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ إبراهيم حمروش عضوجماعة كبار العلماء، وسارت اللجنة في عملها شوطاً بعيداً قاربت به الغاية
(ج) العمل على وضع مؤلف يحتوي على بيان ما في كتب التفسير المتداولة من الإسرائيليات التي دست على التفسير وأخذها الناس على أنها من معاني القرآن، والتي لا يدل على صحتها نقل ولا يؤيدها عقل، وهذا يشبه ما قام به رجال الحديث من تجريد الأحاديث الموضوعة في كتب خاصة يرجع إليها الناس
(د) إصدار الفتاوى في الاستفتاءات التي ترد من المسلمين في جميع الأقطار إلى مشيخة الجامع الأزهر
وقد فكرت مشيخة الأزهر الجليلة الحالية في هذا الشأن منذ سنة 1936 وألفت لجنة برياسة أحد أعضاء جماعة كبار العلماء هو المغفور له فضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي - طيب الله ثراه - ثم أسندت رياستها من بعده إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الجامع الأزهر وعضو جماعة كبار العلماء
(هـ) بحث المعاملات التي جدت وتجد في العصر الحاضر من جهة حكم الشريعة فيها حتى يظهر الناس سعة صدر هذه الشريعة، وقدرتها على تلبية حاجات الناس في مختلف(437/57)
العصور
(و): تنظيم طرق الوعظ والإرشاد والاتصال بالهيئات المعدة لذلك كوزارة الشئون الاجتماعية والجمعيات الإسلامية في مختلف الأقطار
وقد نصت على هذه الناحية لجنة الإصلاح التي أشرنا إليها سابقاً بقولها:
(ومنها - تريد هيئة كبار العلماء - تتألف لجنة تنسيق الوعظ والإرشاد ووضع قواعده)
كما عني بها قانون تنظيم الجامع الأزهر الذي وضع في عهد فضيلة الأستاذ الأكبر شيخه الحالي إذ يقول في المادة السادسة عشر منه ما نصه:
(مادة 16: تضع جماعة كبار العلماء نظام الدعوة والإرشاد وتصدره إلى الجهة المختصة لتنفيذه)
(ز): التنقيب عن الكتب المفيدة في مختلف العلوم والعمل على أحيائها وإخراجها إخراجاً علمياً متقناً
والأزهر أجدر الهيئات وأقدرها على الاضطلاع بهذا العمل والوصول به إلى ما يرجى له من النجاح
(ح): الإشراف على مجلة الأزهر والعمل على توجيهها في طريق تخدم به الحركة الفكرية الإسلامية، وتبرز به ثقافة الكليات الثلاث
هذا هو اقتراحي أضعه أمانة أمام جماعة كبار العلماء للنظر فيه بما أعتقد أنه جدير به من العناية والاهتمام، حتى يتم إقراره وتنفيذه
والله يتولانا جميعاً بهدايته وتوفيقه
محمد شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء
ووكيل كلية الشريعة
مؤتمر الأدباء في لندن
عقد في لندن المؤتمر الدولي للعقائد، والغرض من هذا المؤتمر الذي يرأسه السير فرنسيس يونجهزبند هو نشر روح الأخاء بين بني البشر من طريق الأديان والتفاهم المتبادل بين(437/58)
مختلف العقائد
وقد أذيع أن في النية إرسال كتب ورسالات إلى زعماء الأديان غير المسيحية يطلب إليهم فيها إبداء موافقتهم على المبدأ الذي حوته قواعد السلام الخمس التي وضعها البابا منذ سنتين
وقد أرسلت كتب إلى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي شيخ الجامع الأزهر في القاهرة، والى الزعماء الدينيين في بلاد العرب وتركيا والشرق الأوسط عامة، والى المسلمين والهنود والبوذيين في الهند وبورما والشرق الأقصى
وقد حضر الشيخ حافظ وهبه وزير المملكة السعودية المفوض في لندن اجتماع المؤتمر في الأسبوع الماضي، وخطب في نهاية الاجتماع الأستاذ يوسف على الذي كان في وقت ما مندوباً عن الهند في عصبة الأمم والعميد السابق للكلية الإسلامية في لاهور، فتحدث عن قواعد السلام التي يتوخاها مؤتمر الأديان المختلفة
وعقب ارفضاض الاجتماع أفضى السير فرنسيس يونجهزبند إلى مندوب وكالة الأنباء العربية بحديث قال فيه: (لقد تلقيت من فضيلة الشيخ المراغي مرتين ترحيباً صادقاً بفكرة المؤتمر وتحبيذاً طيباً لعقده، ونحن عل يقين من تأييده التام لفكرة التفاهم بين مختلف العقائد وتآزرها للوقوف في وجه العدوان القائم عليها جميعاً. ويقيني أن فضيلته هو أحد الذين يقدرون القيمة الروحية قبل أي شيء سواها)
وبهذه الناسبة نذكر أن قواعد السلام الخمس التي ألمعت إليها تلك الرسائل هي: 1 - حق الأمم جميعاً في أن تعيش معاًتحت ظل السلام 2 - الاتفاق المتبادل على نزع السلاح 3 - توافر الوسائل المذللة لمراجعة المعاهدات التي تحوي مساساً أو ظلماً في حق أي شعب من الشعوب 4 - الاعتراف بحقوق جميع الأقليات 5 - ضرورة توفر حسن النية إذا أريد حقاً التراضي على سلام مقيم
وفاة موريس ليبلان
توفي الكاتب الفرنسي موريس ليبلان المشهور بقصصه عن أرسين لوبين في مدينة بربينيان
وقد ولد هذا الكاتب في سنة 1864 فيكون قد توفي عن 77 عاماً؛ وهو أول الكتاب(437/59)
الفرنسيين الذين اختصوا بكتابة الروايات البوليسية. وقد اشتهر بابتداعه شخصية أرسين لوبين بطل رواياته. ومما يجدر ذكره أن الحكومة الفرنسية عينت موريس ليبلان في اللجنة التي عهد إليها تحقيق قضية ستافيسكي المعروفة، وحادث مقتل المستشار برنس. ومن مؤلفاته: أرسين لوبين اللص الظريف، أرسين لوبين ضد شرلوك هولمز، المثلث الذهبي، جرائم أرسين لوبين الثلاث، أنياب النمر. . . الخ(437/60)
العدد 438 - بتاريخ: 24 - 11 - 1941(/)
لا تقولوا أين الكتاب
وقولوا أين القادة. . .!
أو كلما كظمت الأنفاس روائح الشر، وكرَبت النفوس غواشي الفساد، ذهل الناس عن مرسلي الريح ومثيري القتام وقالوا أين الكتّاب؟ هل الكاتب إلا نذير؟ وهل على الكتّاب غير البلاغ؟ لقد كتبوا حتى أوشك المداد أن ينفد، خطبوا حتى كاد الريق أن يجف؛ ولكن أكثر العامة لا يقرءون، وأكثر الخاصة لا يفهمون. ومتى أغنى القول عن الفعل، وجَزَى الرأي عن العزيمة؟
إن من أقبح ما يعاب علينا وعلى أمم الشرق أننا لم نعرف من أدوات السياسة ووسائل الإصلاح غير الكلام والكتابة؛ فسياستنا خطب، وإدارتنا تقارير، ومناهجنا وعود. ولو كان الشعب قارئاً لرجونا من وراء الكتابة صلاح النفس في الفرد وسمو الروح في الجماعة؛ ولكن الأمية لا تزال بفضل وزارة المعارف حجاباً مستوراً بين عيون الناس ونور الحق. فماذا عسى يصنع الكتّاب وليس لهم من الأمر شيء؟ هل يصنعون إلا أن يفتحوا بأسنان أقلامهم أجفان المتعلمين لتثب إلى عيونهم صورُ العيوب فيدركوها؟ وهم قد فعلوا ذلك ولم يألوا: فعلوه في الكتب والصحف، وفي المدارس والمسارح، حتى لم يبق في هؤلاء الذين تقسموا الحكم، وتوزعوا السلطان، وتنازعوا القيادة، من لم يحفظ صور الفساد ووجوه الصلاح عن ظهر قلب! ولكن الله الذي آتى زعماءنا ملكة الكلام لم يؤتهم ملكة العمل! فهم يستطيعون أن يقولوا ما قال الكتاب، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعل القادة. ومصداق ذلك أنك تراهم في أندية الأحزاب، وفوق مقاعد النواب، وبين أعمدة الصحف، يكشفون عن مواضع النقص، ويشيرون إلى مواقع الكمال، فيفتون في كل مسألة فتوى العالم، ويُدْلون في كل معضلة برأي الخبير، ويعترضون على كل أمر اعتراض اليقظ؛ فإذا وليناهم الحكم وخلينا بينهم وبين العمل، التاث عليهم الأمر، وبرَّح بهم التطبيق، وأصبح جهدهم مصروفاً إلى مناقضة القول بالقول، ومعارضة الرأي بالرأي؛ كأنما تبوءوا مقاعد الحكم ليردوا وهم وزراء ورؤساء، على ما انتقدوه وهم كتاب وخطباء!
من من الزعماء يجهل أن الأمة لا تزال متخلفة في الخلق والمعرفة والحضارة عن أدنى أمم الأرض المعدودة قرناً من الزمان؛ فحياتها بدائية، وأخلاقها همجية، ونظمها ارتجالية،(438/1)
ومعيشة الزراع والصناع فيها أقرب إلى معيشة البهيم، منها إلى معيشة الإنسان الكريم؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكن اشتغالهم بسفساف الأمور، وخسيس المطامع، ودنيء الشهوات، صرفهم عن النظر في شؤون الناس وأحوال المجتمع، فلا يذكرون الشعب إلا يوم يقوم الانتخاب، وتصطرع الأحزاب، ويحتاج كل طماع إلى سلالم من أكتاف المساكين يصعد فيها إلى النيابة والحكم.
ومن من الأغنياء يجهل أن الفقر في مصر ضرب من الرق يذل النفوس، ويقتل المواهب، ويشكك المرزوء به في العدل والحق؛ فهو يسكن ليستكين، ولكنه قد يثور ليثأر؟
كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؟ وهم مقتنعون بأن علة هذا الفقر هي أكلهم الحق الذي جعله الله في أموالهم للفقير؛ ولكن العلم وحده لا يبسط الأنامل الكزّة، ولا يهز النفوس الشحيحة!
ومن من العلماء يجهل أن دين الله صالح لكل جيل من الناس ولكل حين من الدهر؛ فهو ثابت بحقيقته ثبوت الخالق، ولكنه متطور بطبيعته تطور المخلوق. كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم أغلقوا على عقولهم باب الاجتهاد فظلوا في دنيا الماضين، يذهبون ما ذهبوا، ويقرءون ما كتبوا، ويجذبون ركب الإنسانية إلى الوراء ثلاثة عشر قرناً ليأخذ من ساكني القبور جواز المرور!
ومن من الموظفين يجهل أن الأمة هي أسرته الكبرى، وأن الوطن هو بيته الأكبر؛ فالعمل الذي يقف أمامه في شأن من الشؤون هو أخوه؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم في الكثير الغالب يتحاملون على ضمائرهم فيخضعونها لسلطان الكبر والأثرة، فيرفعون أقدارهم على أقدار الناس، ويضعون المنفعة الخاصة فوق المنفعة العامة!
ومن من التجار يجهل أن الحرام لا يزكو، وأن الغبن لا يحلُ، وأن الحكرة لا تجوز؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم في سبيل الثراء الدنيء يتعامون عن بؤس الفقير، ويتصامون عن صوت الضمير، ويهتبلون فرص الحرب ليعصروا الذهب والفضة من دماء القتلى ودموع لأيامي وعَرَق العَمَلة!
الواقع الذي لا مريه فيه أن أمم الشرق لا يعوزها إدراك النقص ولا عرفان الواجب؛ إنما(438/2)
يعوزها الرجل الذي يطبق علمها على العمل، ويوحد رأيها على الحق، ويجري خلقها على الرجولة، ويجمع شتاتها على الطريق. فهل لصديقي العشماوي بك أن يوافقني على أن مصر اليوم لا تحتاج إلى (عليّ) بلسانه الحكيم، وإنما تحتاج إلى (عمر) بدرَّته الحازمة؟
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(438/3)
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
2 - ديوان البارودي
للدكتور زكي مبارك
الذاتية البارودية: ما رواه الكاظمي وما رواه النقراشي -
منابع الشاعرية البارودية: الشقاء بالحب، والشقاء بالمجد،
والشقاء بالناس - وصف الحرب الروسية - البارودي في
منفاه - جنازة البارودي: هل حملت على مدفع؟ وهل ودعها
رجال الجيش؟. . .
في الكلمة الماضية نصصنا على بعض الملامح من شخصية البارودي، في سياق الكلام عن المقدمة التي كتبها الدكتور هيكل باشا للديوان. واليوم ننص على ملامح جديدة تعين الطلبة على إدراك الشمائل النفسية والذوقية لذلك الفارس الفنان.
فمن هو البارودي في شخصيته الذاتية؟
لم يتفق لي أن أهتمَّ بمعرفة ذاتية البارودي من الذين عاصروه وكان ذلك في الإمكان، فقد كانت لي صلات مع الشاعرَين العظيمين: شوقي وحافظ؛ وكنت أستطيع أن أعرف منهما أشياء لو أني التفتّ إلى هذه الناحية. . . على أن الالتفات إلى هذه الناحية لم يكن كل ما ضاع مني، فقد كان في نيتي أن أسأل (شوقي) عن تفسير الإشارة التي مرَّت في كلمته الوجيزة وهو يقِّدم كتاب الدكتور محمد صبري (أدب وتاريخ)، فقد قال كلاماً يشهد بأن للثورة العرابية أسراراً أخطر من أن تذاع، ثم مضت الأيام والسنون، ومات (شوقي) قبل أن أسأله عن المراد بذلك التلميح.
ومع هذا، فقد أراد القدَر أن تساق إليَّ أخبار البارودي بدون أن أتجشم عناء الاستخبار، بفضل السهرات التي قضيتها مع الشاعر عبد المحسن الكاظمي في أعوامه الأخيرة، وكان من جيراني، وكنت أغتنم الأنس بحديثه كلما سمحت الظروف.
ومن أحاديث الكاظمي عرفت أن المروءة المصرية تمثلت لعينيه في شخصيتين كريمتين:(438/4)
الأولى شخصية محمد عبده، والثانية شخصية محمود سامي؛ ولا أريد في هذا المقام أن أذكر ما كان بين الشيخ محمد عبده والشيخ عبد المحسن الكاظمي، فقد فصّله الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا أجمل تفصيل في أبحاث يعرفها جمهور القراء، وأنا أبغض الحديث المعاد.
أما حديث الكاظمي عن البارودي، فهو عجب من العجب. كان البارودي على ألسنة أصحابه يتمتع بلقب (الأمير)، ويقول الكاظمي: إن البارودي كان (أميراً) في جميع شمائله الذاتية. وقد أكد الكاظمي هذا المعنى في أحاديثه معي عشرات المرات، وما كان اسم البارودي يجري على لسانه إلا ظهرت على وجهه إمارات الحزن الوجيع، وقد سألته مرة عن سر هذه الحال فقال:
كنت أسكن في حارة (قِرمز) بحي الجمالية، وكان مسكني بغرفة صغيرة فوق سطح البيت، وكان السُّلَّم مهدّم الدرجات وبدون درابزين، وكان البارودي يرى من أدب (الإمارة) أن يردَّ الزيارة لكل غريب؛ وكنت يومئذ من الغرباء، فقد كنت حديث العهد بالقدوم من العراق. وفي إحدى الزيارات تخوّف البارودي من ذلك السلم لضعف بصره، فاعتمد بيده على الحائط، فنفذ مسمار في كمه، فمزقه أشنع تمزيق، وما ذكرت ذلك الحادث إلا تألمت لما كان يعاني (الأمير) في سبيل الوفاء!
ومن هذا الخبر البسيط نعرف كيف كان البارودي في شمائله الذاتية، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان مفتوناً بالمجد أعنف الفتون، وأن الأريحية المصرية كانت ملء برديه، عرفنا أنه كان بطبيعة نفسه من الأمراء بغض النظر عن مجده الموروث.
وهنا يتسع المجال لنادرة ذوقية تعد من الصور الشعرية، وهي نادرة حدثني بها الأستاذ الكبير محمود فهمي النقراشي باشا في سنة 1931، وقال:
كان البارودي يعرف مصيره بعد انهزام الجيش المصري في موقعة (التل الكبير) فاستدعى أحد أصدقائه من أعيان مديرية الغربية وأخبره أن في خزائنه كثيراً من الذخائر الذهبية، وأنه يخشى أن تصير تلك الذخائر من غنائم المنتصرين، ثم فوق بصره إلى ذلك الصديق وقال: هذه الذخائر وديعتي عندك، فإن نفاني الإنجليز ومتَّ في منفاي فهي لك مال حلال، وإن أرادت الأقدار أن أرجع إلى مصر حياً بعد النفي فالنصف لي والنصف لك.(438/5)
وبعد سبعة عشر عاماً عاد البارودي من منفاه، وطلب نصيبه من تلك الذخائر الذهبية، فأنكرها ذلك الصديق، وأظهر استغرابه من أن تكون للبارودي عنده ودائع، وقد خرج من مصر وهو حَرِيب سليب (؟!)
واتفق أن يمرض ذلك الصديق الغادر بعد شهور قصار مرض الموت، فتجشم الشيخ محمد عبده مشقة الانتقال إليه ليفهمه أن (الدنيا لا تغني عن الآخرة) وأن من واجبه أن يردّ بعض تلك الديون ليلقى الله وهو خفيف الأوزار، فجادت نفس ذلك المحتَضر بعشرة آلاف وهو ينتظر أن يقبلها البارودي مع الحمد والثناء (؟!)
وجاء الشيخ محمد عبده إلى البارودي بصرَّة ثقيلة فيها عشرة آلاف من الجنيهات المصرية، وهو يرجو أن يكون في تلك الصرة عزاءٌ للبارودي عن بلواه بذلك العقوق
فماذا وقع؟ نظر البارودي إلى الصرة نظر الليث الشبعان إلى الثمر المعطوب، وصاح: (لن آخذ درهما من هذه الألوف، ويجب أن ترد حالاً إلى سارقها قبل أن يموت، لتكوى بها جنوبه وهو مرموس، وله الويل إن وقع بصري عليه يوم الحساب أمام الواحد الديان)
هنا تنتهي رواية النقراشي باشا، وقد بقى من الرواية فصل، فما هو ذلك الفصل؟
حدثني من عرفوا الشيخ محمد عبده أنه كان يضفي بره وعطفه على من يقرأ في حضرته بيتاً من الشعر بفهم وإدراك؛ فكيف يكون حاله وهو يشهد هذه الصورة الشعرية؟
من المؤكد أن الشيخ محمد عبده قد طرب لإيمان البارودي، وعظمة البارودي، وإباء البارودي. ومن المؤكد أن هذه الواقعة أقنعته بأن مصر لا تزال بعافية، وأنها ستكون إلى الأبد من أكرم المنابت لأحرار الرجال
أكتب هذا وأنا أذكر أن هيكل باشا قال في تقديم الديوان أن البارودي (وُلد بمصر) فبأي مكان من (مصر) وُلد هذا الفارس الشاعر؟ وفي أي مكان مات؟
في شارع (غيط العدة) بالقاهرة دار تسمى (سراي البارودي) وهي سراي عبثت بها مصلحة التنظيم ففعلت بها الأفاعيل، ولم يبق منها غير جانب هو اليوم (مخزن) لبعض المتجرين في توافه الأشياء
فإن لم يكن البارودي وُلد في تلك الدار ففيها أبت يده أن تتسلم عشرة آلاف من الجنيهات لغرض تعجز عن وصفه ألوف القصائد والأقاصيص. ومن واجب (مصلحة الآثار العربية)(438/6)
أن تستبقي أطلال تلك الدار يوم تفهم أن الأدب له قدسية تفوق قدسية التاريخ
إن الفرنسيين أبقوا على منزل مضعضع الأركان بشارع سان جرمان في باريس، لأنه مولد شاعرهم (ميسَّيه)، وإلى ذلك المنزل يحج عشاق الأدب الفرنسي. فهل يعرف شبان مصر أين يقع منزل شاعرنا البارودي في القاهرة، وأين تقع دار هواه في حلوان؟
إلى الله المشتكي من ضياع الأدب في هذه البلاد، ومنه نستمدَّ العون على ما يعاني الأدب من ثرثرة أهل البغي والعقوق!
منابع الشاعرية البارودية
الشعر فيض من الشعور بحقائق الوجود، وهي حقائق يحسها الناس بمقدار، ويحسها الشاعر بقوة لا تتاح إلا لمن كان في مثل روحه المتوقد وخياله الوثاب
والذي ينظر في أشعار البارودي يجده أحس الحياة أعنف الإحساس، ويراه انطبعَ على الشعور بما فيها من شهدٍ وصاب
وأقوى باعث عند البارودي هو الفُتُوّة، فوجهه يشهد وآثاره تشهد بأنه كان من أكابر الفتيان
وفتوة البارودي فتوة أصيلة تأخذ وَقودها من القلب والروح، فهي التي أشقته بالحب، وأشقته بالمجد، وأشقته بالناس
تنظر إلى البارودي المحب فترى فتىً فاتك الصبوات في قدسية وجلال، فتفهم أن الحب شريعة وجدانية لا يتردد الفتى في اعتناقها ولو كان رئيس الوزراء. فالحب عند البارودي ليس نزوة شباب يُطلب منها المتاب، وإنما هو جذوة روحية تصل صاحبها بسرائر الوجود، وترفعه إلى أوج الخلود
هل قرأت أشعاره في الحنين إلى روضة المقياس؟
وهل تذكر أنه أول شاعر في العهد الحديث تغنى بصبوات القلوب على شواطئ النيل؟
وهل تعرف أنه صدَح بتلك الأغاني في أوقات كان فيها الغَزَل فناً لا يليق بعظماء الرجال؟
إن البارودي مجّد الفتوة المصرية بتلك الأغاريد، وجعل لمصر مكاناً في ضمير الوجود، فما تطرب الأريحية الإنسانية لأكرم ولا أشرف من التغني بأوطار الأرواح في مثل معاهد الجيزة والروضة وحلوان، وهي معاهد جهلها الشعراء، ونَدَر فيهم من يعرف وجوهها الصِّباح(438/7)
وفي أي عصر هتف البارودي بتلك الأغاريد؟
في العصر الذي كان فيه بدء كتب الشعر بالبسملة موضع خلاف بين جمهور المؤلفين
ثم ننظر فنرى الشاعر بمطالع الأقمار على شواطئ النيل قد امتشق السيف ليواجه الحرب في كريت، أو ليخوض البلاء في فجاج الأراضي الروسية، وهو في هذه الموقعة أو تلك لا ينسى مواقع هواه في ملاعب الجيزة والروضة وحلوان
إن حائية البارودي في وصف الحرب الروسية لو تُرجمت اليوم ووُزْعت على جنود الروس والألمان لرأوها من الأعاجيب، وفيها يقول:
لعمري لقد طال النوى وتقاذفت ... مهامه دون الملتَقى ومطاوحُ
وأصبحت في أرض يحارُ بها القطا ... وتَرهبها الجِنان وهي سوارح
بعيدة أقطار الدياميم لو عدا ... سُلَيْكٌ بها شأواً قضى وهو رازح
تصيح بها الأصداء في غَسَق الدجى ... صياح الثكالى هيجتها النوائح
تردّت بسمُّور الغمام جبالها ... وماجت بتيَّار السيول البطائح
فأنجادها للكاسرات معاقلٌ ... وأغوارها للعاسلات مسارح
مهالك يَنسى المرء فيها خليله ... ويندرُ عن سوم العلا من ينافح
فلا جوْ إلا سمهريّ وقاضبٌ ... ولا أرض إلا شمْريُّ وسابح
ترانا بها كالأسد ترصد غارةً ... يطير بها فتقٌ من الصبح لامح
مدافعنا نصب العدا ومُشاتُنا ... قيامٌ تليها الصافنات الفوارح
ثلاثة أصناف تقيهنَّ ساقةٌ ... صياح العدا إن صاح بالشر صائح
فلست ترى إلا كماةً بواسلاً ... وجُرداً تخوض الموت وهي ضوابح
نغير على الأبطال والصبح باسمٌ ... ونأوي إلى الأدغال والليل جانح
بكى صاحبي لما رأى الحرب أقبلتْ ... بأبنائها واليوم أغبر كالح
ولم يك مبكاه لخوفٍ وإنما ... توهمَّ أني في الكريهة طائح
فقال: اتئد قبل الصيال ولا تكن ... لنفسك حرباً إنني لك ناصح
ألم ترى معقود الدخان كأنما ... على عاتق الجوزاء منه سرائح
وقد نشأت للحرب مزنة قسطل ... لها مستهل ? بالمنية راشح(438/8)
فلا رأيَ إلا أن تكون بنجوة ... فإنك مقصود المكانة واضح
فقلت: تعلّم إنما هي خطة ... يطول بها مجدٌ وتخشَى فضائح
فما كل ما ترجو من الأمر ناجعٌ ... ولا كل ما تخشى من الخطب فادح
فهذه الحائية من عيون الشعر العربي، ولو سمعها أبو فراس لسجد لها سجود الإعجاب، فما عرفت اللغة العربية من الشعراء الفرسان افحل من البارودي وأبي فراس
وللبارودي في الحرب الروسية قصيدة أخرى هي الدالية، ولكن أي قصيدة؟ تلك أقباس لا تصدرُ إلا عن روح مَرِيد، من أرواح الفتيان الصناديد، وفيها يخاطب أحبابه في مصر فيقول:
نأت بيَ عنكم غربةٌ وتجهّمتْ ... بوجهيَ أيام خلائقُها نُكدُ
أدور بعيني لا أرى غير أمةٍ ... من الروس بالبلقان يخطئها العدُ
جواثٍ على هام الجبال لغارةٍ ... يطير بها ضوء الصباح إذا يبدو
إذا نحن سرنا صرَّح الشر باسمه ... وصاح القنا بالموت واستقتل الجند
فأنت ترى بين الفريقين كبَّةً ... يحدث فيها نفسه البطل الجعد
على الأرض منها بالدماء جداولٌ ... وفوق سراة النجم من نقعها لِبد
إذا اشتبكوا أو راجعوا الزحف خلتهم ... بحوراً توالى بينها الجزر والمدُ
تشلّهمُ شلَّ العِطاش ونت بها ... مراغمة السُّقيا وماطلها الورد
فهم بين مقتول طريح هارب ... طليح ومأسور يجاذبه القِد
نروح إلى الشورى إذا أقبل الدجى ... ونغدو عليهم بالمنايا إذا نغدو
ونقع كلج البحر خضت غماره ... ولا معقل إلا المناسل والجرد
صبرت له والموت يحمّر تارةً ... وينغل طوراً في العجاج فيسود
فما كنت إلا الليث أنهضه الطوى ... وما كنت إلا السيف فارقه الغمد
صئول وللأبطال همس من الونى ... ضروب وقلب القرن في صدره يعدو
فما مهجة إلا ورمحي ضميرها ... ولا لَبَّة إلا وسيفي لها عِقد
وما كل ساغ بالغ سُؤل نفسه ... ولا كل طلاَّب يصاحبه الرشد
إذا القلب لم ينصرك في كل موطن ... فما السيف إلا آلة حملها إدُّ(438/9)
وقد تحدث في هذه الدالية، كما تحدث في الحائية، عن شوقه إلى مصر ولياليها البيض بروح لم يتحدث بمثله أحد من الشعراء الذين سبقوه إلى الحديث عن معاهد الوجد بهذه البلاد
ثم يقضي القَدَر في مصير البارودي بما قضاه، فيشترك في الثورة العرابية، وتقع أحداث وخطوب تنقل وطنه من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود، ويلتفت فيرى دنياه خلت من الرمح والسيف، ولم يبق إلا أن يعيش في جحيم النفي والاغتراب بلا ظفر ولا ناب
لم يكن للبارودي نية في الثورة العرابية، فنحن نرجح أنه اشترك فيها بلا قلب، ولو كان من جناتها لصار التاريخ غير التاريخ فقد كان من مغاوير الأبطال، وكان يستطيع أن يرد المكروه عن بلاده لو آمن بما آمن به العرابيون، وكان يستطيع على الأقل أن يظفر بالاستشهاد في ميادين الجهاد
ومعنى هذا الكلام أن البارودي كان يملك التنصل من تبعة الثورة العرابية ليسلم من التأذي بعواقبها السود، ولكن فتوته أبت عليه أن يقف ذلك الموقف البغيض. فشارك إخوانه في البأساء، واستسلم لحكم القضاء، في سبيل الوفاء
نُفيَ البارودي إلى سرنديب وهو في يأس من المعاد. فقد كانت الظروف الدولية تنطق بأن لا أمل في تغيير مركز مصر السياسي، وكانت الأخبار توافيه بأن مصر ضعيفة الرجاء في زحزحة الاحتلال.
وفي تلك المدة كانت أحوال أهله في مصر تنتقل من ظلمات إلى ظلمات لغياب راعيها الأمين، فكان روحه ينتقل من جحيم إلى جحيم.
هل رأيت الأسد المأثور في حديقة الحيوان، ولاحظت أنه يزأر من وقت إلى وقت ليسري عن نفسه بالزئير مع اليأس من الحرية؟
كذلك كان البارودي، فما ترك الشعر الحماسي في أعسر أوقات الضيق والكرب؛ ولا سمحت نفسه بأن يتوب من الغطرسة والاستعلاء
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش ... بها بطلاً يحمي الحقيقة شدُّهُ
وإني امرؤ لا أستكين لصولة ... وإن شد ساقي دون مسعاي قده
ويطول بلاء البارودي في منفاه، ويستيئس من الأمجاد الحربية، فيقبل على الأمجاد الأدبية(438/10)