المعز ويرحل معه إلى مصر ويصف هذه الرحلة في بعض شعره) لقد ظلمه وتجنى عليه، فالرجل لم يرحل مع المعز إلى مصر ولكنه رحل من الأندلس إلى عدوة المغرب فلقى جوهرا القائد، ثم علم به المعز فقربه وأجرى عليه العطايا؛ ثم رحل المعز إلى مصر فشيعه ابن هانئ ورجع إلى المغرب لأخذ عياله، ثم مات قبل أن يلحق بالمعز. ولما بلغه خبر موته أسف وقال: (كنا نريد أن نفاخر به شعراء الشرق فبل يقدر لنا ذلك).
ومع هذا فقد كان لرحلة ابن هانئ إلى المغرب أثرها في شعره، وقد وصف أسطول المعز وصفاً رائعاً بقصيدته المشهورة:
أما والجواري المنشآت التي سَرَتْ ... لقد ظاهرتْها عدةٌ وعديدُ
وبعد ففي مقال الأستاذ محمد عبد الغني بعض هنات في التعبير واللغة نرى لزاماً علينا أن نشير إليها، ولاسيما أنه من المولعين بتعقب أمثالها.
فهو أولاً، يقول عن الرحالين من قريش إلى اليمن والشام: (وسنسميهم رحالين تجاوزاً)، مع أن الله تعالى يقول: (رحلة الشتاء والصيف) فهل سماهم القرآن رحالين تجاوزاً؟
وهو ثانياً يروي بيت الأعشى هكذا:
وشاهدنا الجُلّ والياسمين والمسمعات بأقصابها
وأظن الرواية الصحيحة للبيت (بقصابها) لا (بأقصابها)، وقد جاء في الأساس: (ونفخ في القصابة: في المزمار، ورأيت القُصاب ينفخون في القُصاب: أي الزمارين ينفخون في المزامير، جمع قاصب الخ). أما الأقصاب فهي الأمعاء.
وقد روي البيت كما ذكرت العالم التونسي الجليل الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام المالكي في تونس، في بحثه النفيس (المترادف في اللغة العربية) المنشور بالجزء الرابع من مجلة المجمع اللغوي.
وهو ثالثاً. . . استعمل في مقاله (ساهم) بمعنى (شارك) أو (كان له نصيب)، والمساهمة هي المقارعة من (القرعة) كما في قوله تعالى في قصة يونس (فساهم فكان من المدحضين) وكان يصيب لو قال: (أسهم) أو (سَهّم).
وقد نبه على هذا الخطأ أستاذنا الجليل العوامري بك. ولا حجة للدكتور زكي مبارك في رده لأنه يستشهد بكلام المتأخرين، ويرضى بأن يخطئ مع الشريف الرضي.(412/32)
وهو رابعاً يقول: (ويعد كتابه الثاني أوفى مرجع عن بلاد الهند، وأملأ كتب الأسفار تعريفاً بها).
والشذوذ كل الشذوذ في (أملأ)، لأن أفعل التفضيل - كفعل التعجب - لا يصاغ من الخماسي (امتلأ) على وزن أفعل. ولا يُقال إنه مصوغ من مَلأ، لأنه كان عليه حينئذ أن يقول: (ويُعَد المؤلف أملأ المؤلفين لكتابه تعريفاً بالأسفار) لا أن يسند الملء للكتاب.
نعم، إن الأشموني في شرحه على الألفية وابن هشام في أوضح المسالك ذكرا من الشذوذ قولهم: (ما أملأه للقربة) مصوغاً من امتلأ؛ وهذا وهمٌ منهما لأنه لا شذوذ حينئذ في العبارة، إذ هو مصوغ من ملأ. . . والمعنى جيد.
وقد اعتذر لهما الصبان بأن الشذوذ يكون حين يقال: (ما أملأ القربة)، كعبارة الأستاذ عبد الغني
فهل يقوم هذا اعتذاراً له؟
وهو خامساً يقول: (وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب، إلا أنها لم تكن منتجة. . . الخ).
وأنا لا أعلق على هذه العبارة إلا بأن أتحدى الأستاذ بأن يُعربها ويبين لنا جواب إذاً ويخرِّج هذا الاستثناء.
ومني إليه التحية.
(حدائق القبة)
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية(412/33)
من وراء المنظار
في الترام أيضاً. . .!
لعل هذه ثالث مرة أكتب فيها عما وقع عليه منظاري في الترام مما
يصور أخلاق بعض الناس في مجتمعنا الواسع، والترام لا تنس أيها
القارئ مجتمع له خطره. وإن عجبت لهذا التعبير فأخطر ببالك مبلغ ما
تمتلئ به طيلة النهار وساعات من الليل تلك المركبة من أنماط الناس
مرات كثيرة متتابعة.
وما اتخذت موضعاً لي يوماً بين هؤلاء الناس إلا وقع منظاري على ما لا أحب أن يقع عليه، ولو أني رحت أحدثك كل يوم بما أرى لجئتك كل يوم بالطريف، بل ولحملتك على أن تستزيدني إن سكت.
وماذا عسى أن أعرض عليك اليوم مما شاهدت والمجال لا يتسع له كله وليس فيه ما أحب أن أدعه، وما أعرض عليك ما أعرض محبة في نشر ما يعاب وإنما أشهر بما يعاب بغية القضاء عليه. . .
هذان يافعان من أبناء مدارسنا يكلم كلاهما صاحبه وكأنه يتعمد أن يسمع الراكبين جميعاً، وليت العيب قاصراً على ما يحدث كلاهما من ضجة مكروهة، بل إنهما ليتحدثان في غير تحفظ عن أمور أحسب أن الحديث فيها مما يوجب الخجل لو جرى بينهما على انفراد، دع عنك ما ينعت به كل منهما صاحبه من الألفاظ التي نستطيع صدورها من السوقة إذا عظمت بينهم جلبة المزاح، أو إذا استحرَّ بينهم بالأيدي والألسن القتال. . . وما أرى على وجه من هذين الوجهين أي شعور بأنهما تقع عليهما أعين الناس.
ودع هذين إلى ذلك الذي يتحدث إلى جيرانه عن إحدى القضايا فيذكر أسماء معروفة ويعقب على كل أسم بما يشاء له أدبه من قاذع السباب في غير تحرج ولا مبالاة.
ثم ما فصيلة هذا (الإنسان) الذي جعل يحملق في فتاة أمامه من بنات المدارس لا يكاد يتحول نظره عنها وإنما يتحرك بصره إذ يتحرك صاعداً من طرفي قدميها إلى قمة رأسها فيستقر بعض الوقت في مواضع معينة، ثم يهبط إلى أسفل من جديد متوقفاً عند كواضع(412/34)
الاستقرار حتى يعود إلى حيث بدأ ليصعد من جديد، وهكذا دواليك دون أن يفطن هذا الأفندي إلى ما يكاد يزهق روحها من ضيق وارتباك.
وما هذا الذي راح يقضم اللب ويلقي بقشره في سرعة فيقع على ملابس من هم حوله في غير وعي منه كأنما يفعل ذلك في حجرته الخاصة؛ فإذا فرغ ما في يده دسها في جيب سرواله فعادت ممتلئة، ودار فكاه فألقيا بالقشر تباعاً كأنهما تلك الآلة التي تفصل القمح حبه عن تبنه في الأجران.
وماذا يريد ذلك (البارد) الذي يطيل النظر إلى ملابس من هم أمامه، كأنما يتفرج على معروضات الأزياء في إحدى (الفترينات). يفحص ببصره أربطة الرقبة والقمصان والحلل ولا يتحول بعينيه عنك مهما أبديت له بنظراتك من دهش أو استنكار!!
على أن هؤلاء جميعاً أهون شراً وأقل خطورة من ذلك الذي جلس في طرف المقعد إلى اليسار وأخذ يبصق كل بضع ثوان بصقة لا يبالي على أنف من ولا على عين من وقع رشاشها العذب الذي ينثره الهواء على من خلفه، كأنما يتحتم على راكب الترام أن يلبس قناعاً من الأقنعة الواقية. . .
ومثل ذلك الظريف هذا الذي يتحرك لينزل فيطأ بنعله وجه نعلك، أو يفزع بيده طربوشك فما تدري إلا وقد طار عن رأسك، أو يتحاشى الانزلاق إذ يقرب من السلم فتستقر لطمة منه على عينيك أو خدك أو أنفك بحيث لو سددها إليك من يتعمد ذلك - لا قدر الله - ما جاءت محكمة كما تجيء من يد ذلك الذي يمر بك أثناء نزوله من الترام، وإنه ليقع منه ذلك فلا يلتفت إليك بكلمة اعتذار أو بنظرة أسف! وسبحان الذي سوى الجبلات.
ودع عنك غير من ذكر (المتشعبطين) على السلم والمتحاربين مع (الكمساري) من أجل مليم مشكوك في أمره، أو على الأكثر من أجل قرش زائف، دع عنك هؤلاء فالأمر محصور بينهم وبين (الكمساري) إلا إذا نفخ هذا في زمارته فأوقف الترام وأخذ الجميع بذنب صفيق أو صفيقين.
أقسم لك أن ذلك كله حدث في الترام في وقت معاً، فإن لم تصدقني بعد هذا القسم فليس لدي شك في أنك لم تركب هذه المركبة.
الخفيف(412/35)
تدخل الدولة في الإصلاح
واجب لا مناص منه
للأستاذ علي توفيق حجاج
تناول الدكتور زكي مبارك في مقاله الطويل: (الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع) المنشور بعدد (الرسالة) 408 مسائل متنوعة الألوان مختلفة المذاهب، وتصدى فيها للرد على بعض الكتاب؛ وقد لفت نظري ذلك الخلط القريب في وجهات النظر، وأدهشني أن أرى الدكتور زكي يدعو إلى الفوضى في الوقت الذي فيه يدعو إلى الإصلاح؛ وقد استخلصت من مقاله الطويل آراءه الآتية بنصها، حيث يقول:
أولاً: (وأنا أرى أن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع وأرى من الواجب أن توجه الجهود الصادقة إلى إصلاح الفرد، لأن المجتمع يتكون من الأفراد).
ثانياً: (المنحطون هم الذين ينتظرون من الحكومة كل شيء، فهي عندهم مسؤولة عن صيانة المرافق، وتدبير جميع المنافع، وإبعاد جميع المخاطر، وإصلاح جميع الأحوال).
ثالثاً: (عيب الفرد هو اعتماده على المجتمع واحتماؤه بالقوانين فقد شلت من الإنسان مواهب كثيرة منذ اليوم الذي اطمأن فيه إلى أنه له عصبية تنصره وحكومة تحميه. . . وأنا أدعو إلى اعتصام الفرد بنفسه، قبل اعتصامه بعدالة الحكومة وحصانة المجتمع).
هذه هي خلاصة ما يقرره الدكتور زكي مبارك في مقاله.
أنا أرى:
وأنا أرى أننا جميعاً متفقون مع الدكتور في أن (الفرد هو
الحجر الأول في بناء المجتمع)؛ ولكن ما هي تلك الجهود
الصادقة التي يجب أن توجه إلى إصلاح الفرد؟. . . أليست
هي المشروعات الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم الحكومة
(الدولة) بتنفيذها لرفع مستوى حياة الشعب ومعيشته؟ خذ لذلك(412/37)
مثلاً قيام الحكومة بإصلاح الأراضي البور - في شمال الدلتا
وغيرها - وتوزيعها على صغار الملاك رغبة في التوسع في
الملكيات الصغيرة والنهوض بمستوى صغار الزراع والعمال
الزراعيين؛ وقد حدثتنا الإحصائيات الرسمية للدولة المصرية
في سنة 1938 أن عدد ملاك الأراضي الزراعية في المملكة
المصرية هو 2. 444. 181 مالكاً، منهم 1. 716. 707
يملك فداناً فأقل، و567. 806 يملك من فدان إلى خمسة أفدنة،
ونسبة هؤلاء الملاك إلى مجموع الملاك في الدولة هو 593
%، ومتوسط ما يملكه الواحد منهم 20 قيراطاً فقط، وأن
الملاك الذين يملكون خمسة أفدنة فأكثر هم 159. 667،
ونسبتهم إلى عدد الملاك 56 %، فهل يعقل يا دكتور أن مالكاً
لفدان واحد، بملكته أن يقوم بتربية أبنائه وخلق جيل جديد
يتفق مع نهضة البلاد؟ هذا هو شأن الملاك، فما بالك بمن لا
يمتلكون شيئاً!؟
لقد اتخذت فرنسا وغيرها من دول أوربا إجراءات مختلفة للإنعاش الاقتصادي، خصوصاً ما كان متصلاً منها بالزراع وصغار الملاك، والعمال الزراعيين، والطبقات الفقيرة. ومما يذكر أن حكومة فرنسا وضعت في سنة 1938 نظاماً أطلقت عليه اسم: الإقطاعيات الزراعية للمعاش، وأصدرت به قانون 24 مايو سنة 1938، واستفاد من هذا النظام جميع العمال الزراعيين، بل جميع المشتغلين بالزراعة.(412/38)
إن حصر الإجراءات والوسائل التي اتخذتها الدولة للعناية برفع مستوى الشعوب من الناحية الاقتصادية والاجتماعية يتطلب مجلات ضخمة، ولا يمكن لمجلة قيمة (كالرسالة)، أن تشغل وقت قرائها بسرد طويل - قد يمله بعضهم - ولكني على سبيل الإشارات، قد ضربت هذين المثالين:
الحكومات هي أم الشعب الذي يجب أن ترعاه، بل المسؤولة عن توجيهه، وتوجيه أفراده، وصيانة المرافق، وتدبير جميع المنافع، وإبعاد جميع المخاطر، وإصلاح جميع (الأحوال).
والعيب كل العيب يا دكتور على الفرد الذي لا يعتمد على احتمائه بقوانين الدولة التي تصدرها لتنظيم العلاقات المختلفة بين الأفراد والجماعات، بين أصحاب الأعمال والعمال، بين الملاك والمستأجرين، بين التاجر وعملائه، بين الموظف ووظيفته إلى آخره.
بل (لقد شلت مواهب كثيرة) بسبب عدم تشجيع الدولة لها، وتقدمت وارتقت مواهب المفكرين والمخترعين الذين أولتهم الدولة عنايتها، وشجعتهم بمختلف الوسائل، كالتعيين في الوظائف العامة، ومنح المكافآت، والامتيازات وما إلى ذلك.
والواقع أن الأعمال التي اطمئن عمالها إلى مستقبلهم، قد ارتقت وتقدمت تقدماً باهراً، بسبب رعاية الدولة لعمالها ووضعها تشريعاً روعي فيه مصلحة الطرفين، أي مصلحة العامل وأصحاب الاعمال، وضماناً للعدالة التي يجب أن تحتل المكان الأول في المعاملة.
أما (احتماء الفرد بنفسه) وأن النفس لأمارة بالسوء، فهو الفوضى بعينها، ولو كان الأمر كذلك لما أرسل الله مبشراً ونذيراً، وسنت الشرائع السماوية، ولما فكر العلماء في وضع القوانين واللوائح التي تحد من طمع الإنسان وجشعه، وحب الذات، (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).
ولذلك أرجو أن يرجع الدكتور عن رأيه وأن يقرر معي، كما قررا العقل والناموس الطبيعي. أن يعتمد الفرد على (الدولة)، وأن يوجه عنايته دائماً للتعاون معها في سبيل الإصلاح خصوصاً بعد أن أصبح مبدأ تدخل الدولة من المبادئ المحتومة التطبيق، ما دام قائماً على أساس التضامن الاجتماعي والعدالة في توزيع الضرائب.
تدخل الدولة
إن تدخل الدولة في أحوال المجتمع والأفراد أصبح أمراً لازماً لا مناص منه منذ زمن بعيد،(412/39)
ولقد اضطرت الدول لفرض مختلف أنواع الضرائب كي تتمكن من القيام بأعباء مسؤولية التدخل وتكاليفه، وقد قسم علماء الاقتصاد والقانون هذا التدخل إلى الأقسام الآتية:
أولاً - التدخل الوطني: ' وهو تدخل الدولة في التجارة الخارجية أو الدولية حماية للإنتاج الأهلي إذ لابد للدولة من العمل على تنظيم القوى الإنتاجية للجماعة، وتنشيط الإنتاج وتشجيعه في مختلف نواحيه حتى يتم بذلك تكوين المجتمع أو الأمة، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق الحماية الجمركية مثلاً للواردات. وقد تدخلت حكومة مصر في هذه الناحية عندما رغبت رفع مستوى الصناعات المحلية وتشجيعها، والاستغناء جهد الطاقة عن الواردات الأجنبية. فقررت فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات من المنسوجات الأجنبية وغيرها خصوصاً وأن الصناعات المصرية كانت في دور النشوء، ولا يمكنها أن تتحمل المنافسة الأجنبية، ولابد أن يتناول التدخل الوطني الحماية الجمركية وجميع نواحي الصناعة والزراعة والتجارة.
ثانياً - التدخل الاجتماعي: ' الغرض منه تدخل الدولة لتحسين حالة العمال ورفع مستوى معيشتهم، خصوصاً من ناحية محاربة نظام المنافسة الحرة الذي يدفع بالمنتجين إلى محاولة العمل على تخفيض نفقة الإنتاج بتخفيض أجور العمال واستعمال الأيدي الرخيصة، واستخدام النساء والأطفال.
ولما كان مركز العامل دائماً يكون ضعيفاً أمام صاحب العمل، والقوى المتنازعة غير متكافئة، فلابد من تدخل الدولة لحماية الضعيف، ولابد من سن تشريع صناعي، وتحديد ساعات العمل، ووضع نظام الأجور والإعانات والمكافآت في جميع الأحوال سواء في أحوال المرض والشيخوخة والبطالة، وتعميم نظم التأمين الاجتماعي.
وقد تدخلت الحكومات على اختلاف ألوانها: دكتاتورية كانت أو ديمقراطية في جميع نواحي النشاط.
وشرعت مصر في هذه النهضة فعمدت إلى سن تشريع إصابات (العمل)، وقانون عقد العمل، وتشغيل الأحداث، والتأمين الاجتماعي، والتأمين ضد البطالة وغير ذلك.
وفيما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي لابد من العمل على إفساح المجال للعوامل الأخلاقية والدينية في الجماعة، بمعنى أنه لابد من إخضاع الفرد لقانون أخلاقي وسلطة عليا هي(412/40)
سلطة رئيس العائلة في المنزل، وصاحب العمل في المصنع، والدولة في مختلف الشؤون.
ثالثاً - التدخل الاقتصادي: ' وهو تدخل الدولة في الإنتاج، بأن تحل مكان الفرد في بعض فروع الإنتاج وبذا ينشأ الاحتكار العام، فتتولى الدولة أو البلديات أعمال السكك الحديدية والبريد والمناجم، وذلك دون تغيير في نظام الجماعة الحاضرة، فتنشأ بجانب الملكية الفردية ملكية الدولة لبعض الفروع.
وقد تطور تدخل الدولة الاقتصادي، فأصبحت الدولة تعتبر جميع نواحيها الاقتصادية وحدة اقتصادية مكونة من مجموع قوى إنتاجية تتعاون وتتضافر وتتضامن فيما بينها بحيث يستفيد الشعب من هذه القوى، ويحصل على كل ما يكون في استطاعته إنتاجه بنفسه لنفسه، ويقل اعتماده على غيره، أو بمعنى إيجاد سيطرة اقتصادية، مع الاعتراف بوجود روابط اقتصادية دولية، بشرط حماية الإنتاج المحلي الأهلي. وهذا التدخل يسمى أيضاً بنظام الاقتصاد وقد جرت عليه تقريباً جميع الحكومات على اختلافها، ويرجع تاريخ تطبيقه الحديث في مصر إلى عهد محمد علي باشا الكبير، وما زالت حكومة مصر تتخذ إجراءات من وقت لآخر في سبيل حماية الإنتاج المحلي، وبحث ودراسة وسائل تصريفه.
وقد ثبت أن تدخل الدولة غرضه الأول تنظيم جميع المرافق وإيجاد تناسق في جميع الدول.
وسائل تدخل الدولة
تتدخل الدولة لحماية الأفراد بسن القوانين - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - ويكون فيما يتعلق بتدخلها في الإنتاج، أولاً: بصفتها مشرعاً لتنظيم وتشجيع المنشآت الخاصة، ويكون تدخلاً غير مباشر. ثانياً: بصفتها صاحب عمل ويكون تدخلاً مباشراً. ويكون ذلك بوضع قواعد عامة وشروط معينة لابد للمنشآت من إتباعها.
هذه يا دكتور بعض المبادئ العامة لتدخل الدولة مع إشارة موجزة كل الإيجاز إلى بعض وسائل تطبيق التدخل. وقد شعرت بلادنا وحكومتها نفسها وبرلماننا بأننا أمة في حاجة ملحة للإصلاح، ولا يكون ذلك إلا عن طريق تدخل الحكومة. وإليك نص ما جاء في الصفحة الثالثة من تقرير لجنة المالية بمجلس النواب عن سنة 1940 - سنة 1941.
(ولن تتحقق العدالة الاجتماعية ويرتفع مستوى الحياة العامة لطائفة كبيرة من أبناء هذا(412/41)
الوطن، تئن تحت أثقال الفقر والمرض والجهل، إلا باتجاه الجهود متكافئة، إلى علاج هذه الأدواء الثلاثة، والعمل على خلق طبقة من صغار الملاك، تحيا حياة إنسانية في المستوى الأدنى الذي تراه البلدان المتمدينة أقل ما يجب أن يبلغه واحد من أبنائها).
لابد وأن يكون الدكتور الفاضل زكي مبارك قد رجع عن رأيه بعد هذا البيان الموجز، وأن يقرر أنه لابد من اعتماد الفرد على الدولة واحتمائه بقوانينها.
علي توفيق حجاج(412/42)
رسالة الشعر
لو تكلم الفلاح. . .
للأستاذ محمود الخفيف
شَبَّابَتِي جَفَّتْ عَلَيْهَا الشِّفاه ... وَلحْنُهَا مَا هَزَّ قَوْمِي بُكاهْ
بَكَيْتُ لا سَلْوَةَ غَيْرَ البُكا ... حَتَّى البُكا قدْ مَاتَ حَوْلِي صَدَاهْ
نَشأتُ فِي الشَّوكِ سَقيِمَ البَدَنْ ... وَالشَّوُكُ لي حَتَّى ارْتِدَائِي الكَفَنْ
يا وَيْلَتَا مَاذا جَنَتْهُ يَدِي ... يَدِي بَنَتْ فَوْقَ التُّرابِ الْحَيَاهْ
يَا لَيْتَ فَأسِي لَمْ تجِلْهَا يَدِي ... أو لَيْتَنِي يَا قَوْمُ لَمْ أُولدِ!
أَشْقَى لِيَبْنِي بِشَقائِي الْغِنَي ... واْلَجَاهَ، بانٍ، كَمْ رَمَتْنِي يَدَاهْ
أعيشُ من عَجْمَائهِ أَوْضَعَا ... يَا لَيْتَ لي مِنْ فِكْرِهِ مَوْضِعَا
للِثَّورِ ضِعْفٌ إنْ ذَكَرتُ الذِي ... أُعْطَاهُ أجْراً سَاَء شَرْعُ الطُّغاهْ!
حِمَارُهُ في سُرُجٍ من حَريرْ ... وَبَيْنَنَا في الرِزْقِ فَرْقٌ كَبيرْ
وَكلْبُهُ، لو أنَّ بَعْضََ الذِي ... يَحْظى بهِ حَظِّي جَهِلتُ الشَّكاهْ
ضَنيتُ حتى مَا عَرَفْتُ الضَّنَى ... وَاْلمَوْتُُ طِبِّي بعدَ طولِ العَنَا
يا قَوْمُ إني جِئْتُ من آدَمِ ... ما لِي بهذا الكَوْنِ جَدٌ سِوَاهْ
شَقِيتُ حَتى قدْ جَهلْتُ الشقَاءْ ... وَبَغَّضَ اليَأسُ لِقلبِي الرَّجَاءْ
كَمْ لُذْتُ بالآمَالِ حَتَّى غَدَتْ ... بَعْضَ عَذَابي الَيْومَ وَا حَسْرتاهْ!
أَلِمْتُ حتَّى قدْ رَثيَ لي الألَمْ ... وَأشفَقَ السُّقمُ وَحَارَ العَدَمْ
لَمْ يُبْقِ مِنِّي غَيْرَ طَيْفِ الْبِلَى ... عَيْشي وَمَالِي حِيلَةٌ فِي سِوَاهْ
لا هُوَ مُحْيينِي وَلا قَاتِلِي ... مَنْ ذا يُزِيحُ الْعَيْشَ عَنْ كاهِلي؟
مِنْ مَوْلِدِ الشَّمْسِ إلى مَوْتِها ... كَدحٌ وما غَيْرُ الرَّدى مُنْتهاهْ
وفي لَظَى الشَّمْسِ وَقُرِّ الشِّتاءْ ... ما كانَ لي غَيْرَ قَمِيصي وِقَاءْ
وَقُوتِيَ الخُبْزُ، يَمِيناً لَئِنْ ... يُلقَي لِكلبٍ مُترَفٍ لازْدَرَاهْ
لِغَيْرِيَ النِّيلُ جَرَى كَوْثَراً ... وَلِي جَرَى من عِيشَتي أَكدَرَا
مِنْ طِيِنهِ الذّائِبِ أرْوِى الظّماَ ... وَقدْ رَوَي مَاءُ جَبيني ثَرَاهْ!(412/43)
آوِي إلى كُوخِي ذلِيلَ الخُطي ... وَلَيْسَ فِي كُوخِيَ غَيْرُ الأسَى
هَذا بَراهُ السُّقمُ حَتَّى بَدَا ... طْيفاً وَذا دَاءُ الكلَى مَا دَهَاهْ
وَلَيْسَ لِي وَيْلاهُ مِنْ رَاحِمِ ... وَهَلْ أُرَجِّي البِرَّ مِنْ ظالمِي؟
يَنْظُرُ لي إنْ مَرَّ بي نَظَرةً ... كأنَّني في الحَقلِ بَعْضُ الشِّبَاهْ!
يَا بَانِياً هَذا الثَّرَاَء العَمَمْ ... بَنَيْتَ بِالاشْلاءِ هَذا الهرَمْ
أَقُولُ إِمَّا بِتُّ في مَضْجَعِي ... طاوِي الحَشَا: تَبَّتْ يَدَا مَنْ بَنَاهْ
يا سَامِراً أغرَاهُ حُلْوَ السَّمَرْ ... يا لاَ عِباً بِالمالِ حتَّى السَّحَرْ
يا وَالِغاً في الكأْسِ هَذا دَمِي، ... هَلاَّ ذَكَرْتَ الكأْس كيْفَ احْتَوَاهْ
مَا قَلَّ مِنْ هَذا الّذي تُتْلِفُ ... يُسْعِدُني إن كُنْتَ لا تَعْرِفُ
حرَمْتَنِي مَا فَرَضَ اللهُ لِي ... إِصْلَ لظَاهُ يومَ تُكوَى الْجِباهْ
الخفيف(412/44)
البريد الأدبي
السنوسيون والمذهب المالكي
كان لي حظ الاطلاع على ما كتب الأستاذان جعفر والعيساوي عن السنوسيين، ويظهر أن الأستاذ جعفر قد استند في تقديره بُعد السنوسيين عن المالكية بما قد حصل من ثورة بعض من حسبوا أنهم علماء على السنوسيين. فقد قرأت في مطالعاتي أخيراً في كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية للمرحوم الأستاذ الإمام الطبعة الثانية في (صفحة 112) تحت عنوان (الإسلام اليوم، أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام) ما يلي: (. . . لكن أليس من العلماء المسلمين اليوم أعداء للعلوم العقلية. . .؟ ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي (والد السنوسي صاحب (الجغبوب) كتب كتاباً في أحوال الفقه زاد في بعض مسائل على أصول المالكية، وجاء في كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، وقد يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين؛ فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية رحمه الله تعالى، وكان المقدم في علماء الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب الشيخ السنوسي ليطعنه، لأنه خرق حرمة الدين، واتبع سبيلاً غير سبيل المؤمنين. . . وإنما الذي نجى السنوسي من الطعنة ونجى الشيخ من سوء المغبة وارتكاب الجريمة باسم الشريعة، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ المالكي.) آه
وأظن أن في كلام الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده ما يحدد قرب السنوسيين لا بعدهم عن الإسلام.
محمد فخري مهنا
الخطة النازية في الحرب
إن الخطط التي اعتمدتها النازية في هذه الحرب قد عدلت كثيراً من الخطط الحربية القديمة، حتى أصبح من ذكريات الماضي الرأي القائل بأن على المدفعية أن تمهد السبيل للمشاة، وعلى قوافل المؤن والذخر أن ترافق الجيش.
فبناء على خطة الألمان الجديدة يجب على قاذفات القنابل أن تبتدئ أولاً بضرب الأهداف الحربية في بلاد العدو بدلاً من المدفعية البعيدة المرمى التي كانت تقوم بهذه المهمة في(412/45)
الحرب الماضية. وبعد أن تلقي هذه الطائرات الجبارة محمولها من القذائف الكبيرة، تمطر برصاص مدافعها الرشاشة جنود العدو، وتتلوها أسراب من الطائرات الخفيفة تحمل قذائف صغيرة وقنابل محرقة وهي تمثل دور الفرسان قديماً؛ ثم يبتدئ هجوم الدبابات الضخمة من ذوات الستين طناً، وتسير إلى جانبها الفرق الآلية، ولا يتقدم المشاة إلا بعد تمهيد الطريق وتنظيف الساحة من العدو.
ولكل فئة من رجال الهوابط مهمة: فمهمة الفئة التي تتألف من خمس طائرات أن تهبط في مكان معين، حيث تنتظرها عصابة من الطابور الخامس؛ والتي تتألف من أربع طائرات أن تهبط لنسف الجسور أو لتخريب السكك الحديدية ونحو ذلك؛ والتي تتألف من ثلاث طائرات أن تستولي على مستودعات النفط والمؤن، والتي تتألف من طائرتين أن تعطل المطارات. أما التي تتألف من طائرة واحدة، فتحمل مهندسين وخبراء فنيين لدرس الطرقات وطبيعة الأنهار وأمثالها. وكل ذلك يتم بنظام دقيق يشبه نظام الساعة.
جنود الهوابط (الباراشوت)
منذ سنة 1935 ابتدأت ألمانيا بتأليف فرق الهوابط وتمرين رجالها على هذه الطريقة الحربية الجديدة التي تقتضي مهارة كبيرة وتمريناً طويلاً، لأن الخطر الذي يهدد الهابط ليس في الجوبل عند وصوله إلى الأرض، إذ تنكسر رجله، أو تصدع على الأقل فلا يعود يستطيع أن يقوم بمهمته، وكل هابط يحمل بندقية رشاشة خفيفة ودراجة وكمية من الذخيرة، وعليه أن يحسن جيداً لغة البلاد التي يهبط فيها.
كان الألمان في الحرب الماضية ينشئون وراء خطوطهم مثالاً تاماً من خنادق الحلفاء ويمرنون جنودهم على طريقة مهاجمتها، وهكذا فعلوا في الحرب الحاضرة، فصنعوا بدلاً من الخنادق نموذجاً من البلدان التي نووا اجتياحها تتراوح مساحته بين أربعة وخمسة أمتار، وأثبتوا فيه الطرقات والأشجار والبيوت والأقنية والأنهار وغيرها، فيعكف جنود الهوابط على درسها حتى إذا حانت ساعة العمل قاموا بمهامهم بكل دقة.
ولا يبلغ جنود الهوابط أهدافهم بدون مساعدة رجال الطابور الخامس، وهذا ما دل عليه اجتياح نروج. وفي هولندا هاجم الهابطون الألمان مطاراً وهم متنكرون بالملابس الهولندية فلم يستطيع الهولنديون أن يميزوا بين الأصيل والدخيل. وفي بلجيكا سقط هابط ألماني(412/46)
على سقف بيت في وسط المدينة واختفى فجأة فاحتشد الناس حول البيت وطوقت الشرطة الحي برمته، وطفقت تفتش كل المساكن دون أن تعثر على رسول هتلر. ومر ساعتئذ بين الجمهور كاهن يدل مظهره على ورع، فقال أحدهم مازحاً: (من يدري؟ لعل هذا الكاهن هو نفسه ذلك الهابط الألماني!) وما كاد ينتهي من كلامه حتى رأوا عربة مسرعة تقف فجأة فيدخلها الكاهن ثم تتابع سيرها، فلحق بها رجال الشرطة وقبضوا على الكاهن وهو يصرخ: (إن في ألمانيا 20 ألف هابط، وكلهم مستعدون لبذل حياتهم من أجل زعيمنا هتلر!).
وقبض في هولندا على هابطين من الألمان كانوا متنكرين بأزياء مختلفة وشارات عسكرية منوعة من بلجيكية وهولندية وفرنسية وإنجليزية.
جبل طارق
يقع جبل طارق في طرف شبه جزيرة متصلة بالأرض الأسبانية ويدعى طرف أوربا، مساحة منطقته خمسة كيلو مترات يعيش فيها نحو 18 ألفاً.
ينسب اسمه إلى طارق بن زياد الذي فتح أسبانيا عام 711، وبقي في حوزة العرب حتى انتزعه منهم أولونسي دي أركوس عام 1462.
وفي عام 1704 احتلَّ البريطانيون جبل طارق وثبتوا فيه ضد هجمات الأسبان وحصارهم الطويل. ولما فتحت قناة السويس ازدادت أهميته الحربية، لأنه يشرف على المضيق الذي يصل المحيط الأطلسي بالبحر المتوسط.
وليس في منطقة الجبل ماء للشرب فيضطر سكانها إلى جمع ماء المطر وخزنه. وللإنجليز خزانات تسع أربعين مليون لتر.
ولا خوف على الحامية العسكرية والأهالي من الحملات الجوية، لأنهم يختبئون في الملاجئ الصخرية التي حفرت في الجبل في أثناء حصاره من 1779 إلى 1783.
قال الأسباني فلوريدا بانكا عام 1783: (إن جبل طارق شوكة في جنب أسبانيا، ولن تجمع الشعبين الأسباني والإنجليزي صداقة حقيقية ما لم تنزع هذه الشوكة).
هتلر واليهود(412/47)
بعث المراسل الاسوجي سلفيج إلى (ذي داي) الأمريكية بالمعلومات التالية:
(إن الألغام المغناطيسية التي علق عليها الألمان الآمال الكبيرة في بداءة الحرب قد اخترعها في أواخر الحرب الماضية بعض علماء الكيمياء من يهود ألمانيا وقدموا إلى أركان الحرب الألمانية يومئذ سر اختراعهم فاحتفظت به وضمته إلى الوثائق السرية في وزارة الحرب الألمانية. ولما سيطر النازيون على ألمانيا كشفوا ذلك السر في جملة ما كشفوه وابتدءوا قبل نشوب الحرب الحالية يصنعون مقادير كبيرة من تلك الألغام. ولكن مصيرها كان الإخفاق لأن مخترعيها وأمثالهم من اليهود كانوا قد طردوا من ألمانيا ولجئوا إلى إنكلترا حيث عكفوا على اختراع الوسائل للوقاية منها.
إن النازيين عرفوا - ولكن بعد فوات الوقت - أن البيض ينقطع بعد قتل الدجاجة؛ ولكنهم لم يقتلوا الدجاجة بل رموها في يد العدو. وقد أدركوا خطأهم بعد وقوع الحرب، وعندما شعروا بحاجتهم إليها. ولهذا أوفدوا بعض دهاتهم إلى كل الأنحاء الأوربية لاسترضاء رجال العلم والاختصاص من أولئك المطرودين لكي يعودوا إلى ألمانيا ولكنهم أخفقوا. وقد تمكنوا في البرتغال من إقناع 233 طريداً كلهم من العلماء والأطباء والاختصاصيين بعد ما أغروهم بالوعود وأكدوا لهم أن اضطهاد اليهود في ألمانيا قد بطل، وأنه في كل المعامل الألمانية قد ألصقت نشرات تنوه بنبالة العنصر اليهودي وبتحدره من أصل شريف، وأعدوا لهم مركباً أسبانياً ينقلهم إلى أسوج ومنها إلى ألمانيا؛ ولكن عمال إنكلترا السربين وزعماء الجالية الإسرائيلية في البرتغال أفسدوا هذه الخطة. وسافر المركب، إلا أنه اتجه إلى ناحية من نواحي الباسفيكي بدلاً من أن يتجه إلى أسوج!
كان في معامل كروب قبل أن يستولي هتلر على الحكم نحو عشرين ألف ميكانيكي يهودي؛ أما اليوم فلا يبلغ عددهم الخمسين؛ وقد جلب الألمان ثلاثين ألف عامل إيطالي ليحلوا محل أولئك المطرودين. غير أن مناخ ألمانيا الشمالية لم يلائم العمال الإيطاليين فعاد أكثرهم إلى وطنه.
إن مختبرات إنكلترا الفنية ملأى اليوم برجال الاختصاص من اليهود المطرودين؛ والذي أعلمه أن في مدينة واحدة بإنكلترا 165 شخصاً من يهود النمسا والتشيك وألمانيا وبينهم علماء مشهورون واختصاصيون من الطراز الأول يعرفون جيداً كل أسرار الصناعة(412/48)
الألمانية.
(العصبة)
ازدهار الفكر وبطش المسيطر
ربما كان من الأسباب التي جعلت بعض الأساتذة ينكرون ازدهار الفكر في عهد الأمان والاستقرار - أي عهد انتظام أمور الدولة وقوة حكومتها واتساع نطاق تجارتها - أن الحكومات القوية في تلك العهود كان يخشى بطشها بالفكر، لكنا إذا رجعنا إلى التاريخ، وجدنا أن الفكر في تلك العهود كان يستفحل ويستفرخ وينمو نمو النبات في المنطقة الخصبة الحارة، فلم يؤثر فيه ذلك البطش مهما اشتد بأس الحكومات، فكان نموه أشبه بنمو نبات البردي في مناقع النيل قرب منبعه، فإذا قطع بعضه، عوضت سرعة النمو وغزارته أكثر مما قطع. على أن تلك الحكومات القوية، كثيراً ما كانت ترعى المفكرين برعايتها، فإذا عادت مفكراً كانت المعاداة بسبت وشاية شخصية أو عداوة سياسية، أو تظاهر بإبراء الذمة أمام الجمهور المعادي له.
وهذه كانت حالات مفردة يعوض نمو الفكر الغزير في تلك العهود عما يكون فيها من فقد. على أن كثيراً من الحكام ذوي البأس والشدة كانوا يفاخر بعضهم بعضاً برعاية العلماء والمفكرين والفلاسفة، حتى صارت تلك الرعاية عدوى أشبه بعدوى أزياء الثياب، وقلما يستطيع أحد أن يتخلف عن الزي الشائع في الثياب إذا كان يريد الظهور، فكانت رعاية صاحب البطش وعنايته بالمفكرين إما لأنه كان حاكماً مثقفاً، وبعض هؤلاء الحكام كانوا على شيء كثير من الثقافة، وإما لأنه رأى الثقافة زياً يتباهى به فكان صنيع هذا كصنيع الأثرياء الجهال الذين أغنتهم الحرب الكبرى الماضية في أوربا، فقد كانوا يجمعون الكتب والصور والآثار العلمية والفنية، فينتفع بها غيرهم وإن لم ينتفعوا بها. وكل هذه الأسباب المختلفة توضح أسباب نمو الفكر في عهود الأمان والاستقرار والحكومات القوية الباطشة. وإذا تدبرنا حقائق التاريخ، وجدنا أن بطش الحكام بالفكر قلما كان ينجح إلا إذا كان هذا البطش بالفكر مبدأ وطنياً شعبياً، كما حدث في أسبانيا بعد سقوط دولة العرب فيها وقيام دولة الأسبان المسيحية، فلم يكن البطش بالفكر في عهد شارل الخامس وفيليب الثاني خطة(412/49)
الحاكم وحده، وإنما كان يريده الشعب كخطة وطنية دينية، وهذا كان سبب تدهور أسبانيا. أما عهود الفوضى، فكما أن الحكام فيه أضعف من أن يبطشوا بالفكر، فهم كانوا أيضاً أضعف من أن يحموه، وفي تلك العهود يكون كل ذي عصبية صغيرة صائلاً باطشاً فينشأ اضمحلال الفكر. أنظر إلى عهد النزاع بين الوالي العثماني وسناجق المماليك، وبين كل أمير وأمير؛ وانظر إلى عهد الفوضى في تاريخ مصر القديم بعد الأسرة السادسة وبعد الأسرة الثانية عشرة.
(ع. س)
مؤلف كتاب سحر العيون
قرأت في بعض أعداد (الثقافة) فصلاً دبجته براعة الأستاذ أحمد أمين بك يدور حول ما جاء في كتاب (سحر العيون) من بحوث وتقسيمات.
وقد ظن الأستاذ أن مؤلف هذا الكتاب مصري استناداً على ما ورد في الكتاب المذكور من أمثال عامية مصرية وغيرها.
وأنا أقول: إن مؤلف هذا الكتاب دمشقي لا مصري، وهو من أدباء القرن التاسع الهجري عاش حوالي سنة 842؛ والدليل على ذلك ما ورد في الكتاب المذكور:
قول المؤلف (ص 298): بلدينا العلاي العيثاني الدمشقي موالياً (الأبيات)
وقوله (ص 303): بلدينا الشيخ عبد الله الارموي الدمشقي
وقوله (ص 308): نقلت من خط القاضي زين الدين عبد الرحمن بن الخراط (وهذه الأسرة دمشقية مشهورة).
وقوله (ص 312): أنشدني المرحوم الجناب العالي سري الدين بن الذهبي من أعيان كتاب الإنشاء الشريف بدمشق في غلام نشابي (الأبيات).
وقوله (ص 316): الرشيد عبد الرحمن بن بدر النابلسي وفاته في سنة تسع عشرة وستمائة، ودفن بتربة باب الصغير، (وهذا المدفن مشهور في دمشق).
هذا، وقد ورد في الكتاب المذكور عدد غير قليل من الأسماء الدالة على أسر دمشقية شهيرة: كالعطار والسبكي والخراط والنابلسي وغيرها.(412/50)
أرجو إثبات هذه الملاحظات ولكم الشكر.
(دمشق)
يحيى الشهابي
من الشعر المنسي لحافظ
بعث المرحوم حافظ بك إبراهيم إلى صديقه الشاعر الناثر مصطفى صادق الرافعي طيب الله ثراه بهذه الأبيات:
قد قرأنا نظيمكم فرأينا ... حكمة كهلة وشعراً فتيّا
وتلونا نثيركم فشهدنا ... كاتباً بارع اليُراع سَريّا
خاطر يسبق العيون إلى القلب ... ويطوي منازل البرق طيّا
ومعانٍ كأنها الروح في الصيف ... تهزَّ النفوس هزَّ الحُميّا
من بنات المحار يصبو إليها ... تاج كسرى وتشتهيها الثُّريّا
إيه يا رافعيَّ أحسنت حتى ... لا أرى محسناً بجنبك شيِّا
أنت والله شاعر حضريٌّ ... إن عددناك شاعراً بدويّا
عبد القادر محمود الدسوقي
دخول أل على غير
لم يوجد في معاجم اللغة العربية ولا في كتب النحو ما يؤخذ منه جواز دخول (أل) على كلمة غير. وقد قال الصبان في باب الإضافة صفحة 162 ج 2 ما نصه: (ونقل الشنواني عن السيد أنه صرح في حواشي الكشاف بأن غيراً لا تدخل عليها (أل) إلا في كلام المولدين). وتوضيح ذلك أن العلماء طراً نصوا على أن غيراً اسم ملازم للإضافة في المعنى، ولا يقطع عنها إلا إن فهم المعنى وتقدمت عليها ليس مثل قبضت عشرة ليس غير. ويجوز ليس غيراً وليس غير. فالأول على البناء، والثاني على أنها معربة؛ ويجوز ليس غيرها بالإضافة اللفظية. أنظر الصبان والتوضيح والمغني وقاموس المحيط. وهناك قول بأن غيراً يقل إبهامها إذا وقعت بين ضدين مثل قوله تعالى: (أنعمت عليهم غير(412/51)
المغضوب عليهم). ويقال: رأيت الصعب غير الهين. ومررت بالكريم غير البخيل.
والشائع الذائع في كلام العرب أن غير حين تستعمل تكون متوغلة في الإبهام. والشأن في مثلها ألا يتعرف بأي معرف؛ غير أن بعض أمثلة من كلام العرب ورد فيها دخول (أل) على كلمة غير حيث يريدون بذلك غيراً معيناً، فهي بهذا قد خرجت من أصلها فبقي قولنا بأن (أل) لا تدخل على غير سليماً حيث تكون متوغلة في الإبهام، وذلك مثل: جاء اليوم غيرك، هذا الغير تناول معي طعام الغداء.
أحمد حلمي الغداء
بجريدة الوفد المصري(412/52)
الكتب
كتب قيمة
في تاريخ الأخلاق، الرسالة للإمام الشافعي، إمتاع الأسماع
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
في تاريخ الأخلاق
يعجبني من الأستاذ الشيخ محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين توفره على العلم وإكبابه على الدرس وشغفه بالمطالعة، وهو يجمع إلى ذلك حركة المصلح المجدد وحظوة العاقل المتزن. وقد ذكره أستاذنا الجليل الزيات مع جماعة من شباب الأزهر العلماء الذين يرجى الخير فيهم وتعلق الآمال عليهم. وفي السيد الزيات فراسة لا تخطيء واستكناه لا يكذب.
وقد أخرج الأستاذ كتاباً (في تاريخ الأخلاق) لم يمل فيه إلى أن يكون جمعاً صرفاً، وإنما هو دراسات صغيرة مختصرة لتطور مسائل هذا العلم وتعدد مذاهبه والموازنة بين مذهب ومذهب، وفكرة وفكرة.
وليس عجيباً أن يقف اليوم شيخ من شيوخ الأزهر، يعرض المسائل الأخلاقية المتصلة بالفلسفة في القديم والحديث، وفي الشرق والغرب، فيبسطها بسطاً ويصورها تصويراً يدلان على الفهم والهضم، لا على الحفظ (والصم).
ليس عجيباً ذلك، فقد تغيرت اليوم طريقة الأزهر في العلم وتغيرت نظرته إلى الحياة، وسبيله إلى المعرفة؛ وأصبحنا نقرأ لفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت وكيل كلية الشريعة بحثاً في (القرآن والمسلمين) يحمل مع خلوص النية، وصدق الطوية جرأة في الدعوة، ومرارة في النقد، واستقامة في القصد. وصرنا نقرأ للأستاذ العالم الشيخ محمد محمد المدني مقالاً (في الإسلام بين السلف والخلف) فنرى فيه الغيرة على الدين، والوضاحة في العقيدة، والشجاعة في قوله الحق، من غير خوف من تأويل مؤول.
الحق أن في الأزهر نهضة تستمد عناصرها من حُرية شيوخه ويقظة علمائه، يقظة يودعون بها إغفاءة العهد القديم.(412/53)
الرسالة للإمام الشافعي
الرسالة للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي كتاب يقع في 670 صفحة من القطع الكبير، قام بتحقيقه وشرحه الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي. وجرى في ذلك مجرى لم يقف عند الشرح والتحقيق، بل اقتضى إخراج ذلك الكتاب على الصورة الكاملة التي خرج عليها جهداً متصلاً، وصبراً طويلاً، وبصيرة في الفقه الإسلامي، وإحاطة بالتشريع، وذوقاً في الأدب، وأصالة في اللغة، وتمكناً في التاريخ.
والحق أني ما قلبت صفحة من ذلك الكتاب إلا عجبت من صبر الأستاذ على البحث، وسرعة تقصيه للمسائل، وتتبعه للأصول، وكثرة رجوعه للمظان وغير المظان، مما دل على اطلاع واسع وإلمام تام.
وقد يكون إخراج كتاب قديم عملاً هيناً، وأمراً غير إدٍّ عند من لا يرقبون أمانة العلم، ولا يخشون حرمة الحق. وغرضهم من ذلك أن يطاعوا على السوق بعمل عملوه، ولو كان ناقصاً غير كامل، ومعيباً غير سالم.
أما الأستاذ الشيخ أحمد شاكر فبعيد من ذلك كله؛ فإذا عمل فلله، وإذا حقق فللعلم، وإذا أكب فهو موف على الغاية ومشرف على النهاية، لا يثنيه عن ذلك صعوبة بحث أو إعنات درس.
ويظهر في الكتاب مزية الإخراج العلمي الحديث. ففي الأول: مقدمة وافية عن الرسالة وقيمتها وقيمة الشافعي، ونسخ الكتاب المخطوطة والمطبوعة، وأصل الربيع صاحب الشافعي وكاتب رسالته، ووصف النسخة التي رجع إليها الشارح وذكر أصحابها، ووصف نسخة ابن جماعة. ويلي المقدمة باب السماعات التي رتبها الشارح وحذف المكرر منها، ووضع لها فهرساً مرتباً على حروف المعجم.
ويلي ذلك الرسالة وقد زينت بحواش مفيدة وتعليقات طيبة؛ ويلي ذلك جريدة المراجع التي استعان بها الشارح ورجع إليها، وتمتاز عن كل ما رأينا من جرائد المراجع بحسن تنسيقها وذكر أجزاء الكتاب، واسم المؤلف ووفاته، وتاريخ طبع الكتاب ومكان طبعه.
ويمتاز هذا الكتاب بكثرة مفاتيحه التي تسهل على القارئ الرجوع إليه في أوجز وقت، كما أن فيه فهرساً للفوائد اللغوية التي استنبطت من استعمالات الشافعي؛ وإن كنت لا أذهب مع(412/54)
فضيلة الشارح فيما رأى من وجوه لا أردها إلى علم الشافعي وجنحه إلى الضعيف من الأقوال والرديء من اللغات، ولكني أردها إلى خطأ في النسخ، ولو حاول فضيلته أن يبريء الكتاب من الخطأ.
إمتاع الأسماع
إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع:
المقريزي هو مؤلف هذا الكتاب، والأستاذ محمود محمد شاكر هو مصححه وشارحه، والسيدة قوت القلوب الدمرداشية هي القائمة بنفقات طبعه، ولجنة التأليف والترجمة والنشر هي المشرفة على إخراجه. فالكتاب مجدود من كل ناحية، ومحظوظ من كل وجه.
وقد تفضل الأستاذ أحمد أمين بك عميد كلية الآداب بتقديم الكتاب في بضعة أسطر لم تخرج عن أن تكون شكراً للسيدة المتبرعة، ولم يعودنا الأستاذ الكبير هذا الاختصار في التقديم، والإيجاز في التصدير.
وحبذا لو كان حدثنا عن الكتاب وقيمته بين كتب السيرة للمتأخرين وطريقة المقريزي فيه؛ والنسخ المخطوطة والمطبوعة لهذا الكتاب، والأصل الذي رجع إليه شارحه، كما عودنا حضرته ذلك في الكتب التي تولى القيام عليها وأحسن التعهد لها.
وللأستاذ محمود محمد شاكر فضل تصحيح هذا الكتاب القيم ومراجعته على الأصل تارة، وعلى أصول الحديث والتاريخ تارة أخرى، وهو فضل يتجلى في الهوامش الكثيرة التي لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة، والتي تدل على موفور اطلاع وواسع قراءة ومصفى ذوق عرف عن شاكر الأديب اللبيب.
وليأذن لي الأخ الفاضل مصحح إمتاع الأسماع وشارحه بإبداء الملحوظات الآتية:
1 - في صفحة 222 كلام على هيئة الرجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل في الخندق يوم الوقعة ونصه كما ورد في الإمتاع:
اللهم لولا أنت ما اهتدَينا ... ولا تصَدَّقنا ولا صلينا
فأنزلنْ سكينةً علينا ... وثبِّت الأقدام إن لاقَينا
وزاد صديقنا الشارح البيت الآتي عن البخاري ج 5 ص 110
إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبَيْنا(412/55)
والأستاذ شاكر وعروضي؛ فكيف فاته أن صواب البيت الأول:
(لا هُمَّ لولا أنت ما اهتدينا) ونداء اسم الجلالة بهذا الشكل وارد في كتب العرب. وكيف فاته أن البيت الثالث صوابه هكذا:
(إن الأُلى لقد بغوا علينا) أو (إن الذين قد بغوا علينا) ليستقيم الوزن الرجزي الذي كثيراً ما سمع عن رسول الله في الغزوات كقوله:
هل أنتِ ألا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيتِ
2 - في صفحة 224 (وما منهم ألا ابن خمس عشرة سنة) بكسرة على السين في خمس وهو خطأ مطبعي.
3 - وفي الصفحة نفسها (وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف) برفع ثلاثة والصحيح نصبها.
4 - في صفحة 248 (رفاعة بن سموأل) وقد حذف ألف ابن مع وقوعها في أول السطر، والصحيح إثباتها جرياً على المشهور من قواعد الإملاء. وقد كرر هذا الوهم نفسه في صفحة 250 - إلا أنه تجُنِّب في بقية الصفحات.
5 - في صفحة 297 (فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخُفضهم). والضمة على الخاء لا محل لها هنا والصواب جعلها فتحة.
6 - في الصفحة 329 (واستشهد بخيبر خمسةُ عشر رجلاً) بضمة على التاء المربوطة من خمسة والصواب فتحها لبناء هذا العدد على فتح الجزأين.
7 - في صفحة 401 (من هو زان) وقد زادها الشارح للبيان. ولعلها (هوزان).
وبعد: فهذه هنوات لا تقلل من قيمة المجهود الذي بذله الأخ الكريم الأستاذ محمود شاكر في إمتاع الأسماع. ولعلها وردت ليصح قول القائل:
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقِّيه من العين
محمد عبد الغني حسن(412/56)
العدد 413 - بتاريخ: 02 - 06 - 1941(/)
المال
للأستاذ عباس محمود العقاد
قال الدكتور زكي مبارك في حديثه عن الفقر والغنى، ولا نهاية لحديث الفقر والغنى، ولا الفقر والغنى ينتهيان من الدنيا:
(. . . لن أقول كلمة في الوارثين بحجة أنهم يرزقون بلا كد ولا اجتهاد، فلو عطل نظام الميراث لإنعدم النشاط الإنساني بعض الانعدام، ولآثر الناس جميعاً أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم. ولو قلنا الحق كل الحق لصرحنا بأن الميراث هو أجمل نظام عرفته الإنسانية، فهو الشاهد على أن الجهاد في طلب الرزق لا يضيع، وأنه قد يصل إلى الأعقاب وأعقاب الأعقاب، وذلك أقوى حافز لتأريث عزائم الرجال)
ورأيي في الميراث أنه حق وعدل، وأن المذاهب الاجتماعية، التي تحرمه تجور على الآباء والأبناء، ولا تتحرى سنن الطبيعة فيما جرت عليه بين جميع الأحياء، لأن المجتمع لا يستطيع أن يحول بين الأب وبين توريث أبنائه ما اشتمل عليه من عيوب الخلق والفكر ومن دمامة الوجه وشوه الجسم وضعف التركيب؛ فليس من العدل أن يحول بينه وبين توريثهم الخير أو نصيباً من الخير، وإن كان عدلاً أن تفرض للمجتمع حصة وافية من ذلك النصيب
كذلك تجري الطبيعة على سنة الوراثة في جميع السلالات، وهي سنة أعرق من المجتمعات الإنسانية وغير الإنسانية، ولم تنشأ عبثاً ليلغيها الإنسان كل الإلغاء بقانون أو نظام
لكنني أخالف الدكتور في قوله إن الميراث لو عطل (لآثر الناس جميعاً أن تكون مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم. . .)
فإن طلب المال كطلب العلم فطرة لا تتوقف على التوريث ولا على ما يعقبه الآباء للأبناء، وقد يهمل الإنسان رزقه ورزق أبنائه ليتابع الدرس ويتقصى مسألة من مسائل العلم والمعرفة، وهو على يقين أنه لن يخلف لأبنائه زاداً من علومه ودروسه إلا ما يخلف المعلمون للمتعلمين، وقد يفوتهم منه حتى هذا النصيب
وبين طلاب المال من بلغ أرذل العمر وليس له عقب ولا هو ممن يبسطون الكف بالإنفاق(413/1)
فيخشى نفاد ماله الكثير، ومنهم من لو بسط يده بالإنفاق عشرات السنين لما خشي على ماله النفاد
أعرف رجلاً له نظراء كثيرون كان يملك القصور ويدخر الأموال في المصارف، وله معاش لا ينقطع من خزانة الحكومة، وهو مع هذا يبخل على نفسه بالقليل ويعيش معيشة الفقراء، ويراه الحوذية في الطريق فيهربون منه لأنه يأبى أن ينقدهم الأجر إلا على حساب ما تعود قبل أربعين أو خمسين سنة يوم كان للمليم سعر القرش في هذه الأيام. وأعجب العجب أن هذا الرجل الشحيح كان مجدوداً في أوراق المصارف التي يناط بها النصيب فكان يربح جوائزها الأولى من حين إلى حين. وحدث مرة أن وكيله تسلم جائزة من هذه الجوائز وأخر إيداعها المصرف الذي يعاملونه بضعة أيام، فلما راجع الغني الشحيح حسابه قطع أرباح الجائزة في هذه الأيام القليلة من مرتب الوكيل المسكين، وهو شيء يبذله من يربح مثل هذه الجائزة هبة لمن يحمل إليه بشارتها ولا يندم عليه
ولم يكن لهذا الرجل عقب ولا كان له مطمع في العيش الطويل بعد السن التي ارتفع اليها، ولكنه يطلب المال لأن طلب المال شهوة لا يشترط أن تتعلق بالإنفاق والتوريث
ولو نظر الناس إلى الواقع في أمر الورثة لما حرصوا على ترك المال بعدهم للأبناء والأحفاد؛ فإن أبناء الفقراء الذين عاشوا في الدنيا عيشة راضية بغير ميراث يبلغون أضعاف الوارثين عدة سواء ورثوا الكثير أو القليل، وأن الذين أشقاهم الميراث لا يقلون عن الذين سعدوا به وحفظوه أو زادوا عليه، وأن الذين يموتون وهم خائفون من تبديد أبنائهم لثروتهم أكثر جداً من الذين يموتون وهم مطمئنون إلى حسن التصرف ودوام الحال
كان العلامة يعقوب صروف طيب الله ثراه يوصيني كلما لقيته أن أدخر وأن أحسب حساب المال والثراء، وكأنه أنس مني التواني في الإصغاء إلى هذه النصيحة فروي لي حديثاً جرى بينه وبين تاجر من كبار التجار السوريين العصاميين رآه مشغول البال معنى بما يخشاه على ثروته وأبنائه بعد موته من تقسيم وبوار. قال: وهكذا الدنيا دواليك بين جيل عصامي يجمع، وجيل عظامي يضيع ما جمعه الآباء، ويأتي بالمعذرة لمن يتركون الأبناء فقراء ناشطين في طلب الجاه والثراء
قال العلامة صروف: ومنذ أيام طرق علينا الباب أبناء صاحب من أصحابنا مات فجأة(413/2)
وليس في الدار ما يشيعونه به إلى لحده؛ وكان هذا الصاحب مفراحاً، يأكل ما يشتهي، ويلبس الفاخر من الثياب، ويطعم أبنائه أحسن مطعم، ويكسوهم أجل كسوة، ويقضي سهراته بينهم ضاحكاً متهللاً على صينية من الحلوى أو الفاكهة، وهو لا يشغل باله لحظة بما يكون، ولا يبالي بعد موته ما يأكلون ويشربون. فأي الأبوين أسعد؟ وأي الأبناء أحظى بحسن المصير؟
وهذا السؤال الذي سأله الدكتور صروف سيظل أبد الزمان مسؤولاً يجيبه من يشاء كما يشاء؛ ولكنه جواب لن يجعل المفراح مشغولاً بتوريث أبنائه، ولا المشغول بتوريث الأبناء مفراحاً ينعم بالحاضر ولا يعني نفسه بالغيب المجهول.
فخديعةٌ من خدائع النفس أن تعلل حرصها على المال بحب الأبناء، ولو كان حبٌ مانعاً أن ينفق الإنسان كل ما عنده لكان حبه لنفسه وخوفه على غده أحرى أن يمنعه ويقبض يديه، ولكنها خديعة النفس كما نقول تتراءى لها في مختلف الذرائع والتعلات.
إنما تفسِّر أعمال الإنسان بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات. وإذا قيل لنا إن فلاناً يجمع المال لأنه يخاف عاقبة الفقر، قلنا: ولماذا يخاف هذه العاقبة التي لا يخافها غيره!! إنه لا يخالف غيره إلا لاختلاف البواعث النفسية دون الاختلاف في الغايات التي قد يتفقون عليها من جانب التأمل والتفكير.
المال يطلبه الإنسان لباعث قبل أن يطلبه لغاية، ومن بواعث طلبه الخوف والمنافسة والطموح وحب الكسب للكسب كما يفرح اللاعب بالرهان الذي ليس من ورائه طائل، وهنا موضع التحذير للمصلحين الذين يعالجون مسألة الغنى والفقر على أساس الأرقام والقواعد الاقتصادية ويغفلون علاجها على أساس الشعور والبواعث النفسية. فأنت إذا أعطيت الفارس قصبة السبق قبل دخوله الميدان لم ترحه ولم تعطه ما يريد؛ وإذا منعت المتنافسين أن يتنافسوا لأنك ضمنت الرزق لأبنائهم أو ضمنت الأمان لهم في عقباهم لم تستأصل أسباب التنافس ولم تعطهم الحياة التي جعلتهم يتنافسون.
إنما الواجب أن ندع الناس يطلبون المال كما يطلبون العلم أو يطلبون الجاه أو يطلبون السرور أو يطلبون الفرص النادرة والمقاحم المجهولة، وليس علينا أن نسألهم لماذا يطلبونه، وإنما علينا أن نمنعهم إنفاقه فيما يضير الآخرين، فغاية ما يحق للمجتمع في هذا(413/3)
الصدد أن يحرم الغش والجور وتخويل أناس بغير حق ما يحرمه غيرهم من العاملين.
كان أوليفر لودج عالماً رياضياً من الطراز الأول، وكانت له بحوث مشهورة في مخاطبة الأرواح وما وراء المادة، وربما انصرف أحياناً من الرياضيات والروحيات إلى المباحث الاجتماعية وشؤون الثروة والسياسة، ولكنه كان يأتي فيها إذا انصرف إليها بمقطع الرأي وفصل الخطاب، لأنه بعيد من الهوى والتشيع لهذا المذهب أو ذاك. . . فمن نصائحه في هذا الباب أن تتولى الدولة مراقبة المال كما تتولى مراقبة السلاح، لأن الخطر من سوء استخدام المال لا يقل عن الخطر من سوء استخدام السلاح، وربما ظهرت جريمة السلاح بعد اقترافها بقليل ولقي صاحبها من الجزاء ما فيه عبرة لغيره؛ أما جريمة المال فقد ينقضي العمر وهي خافية؛ وقد يقترفها أناس بعيدون من الشبهات لأنهم ليسوا من حثالة الخلق الذين يعتدون بالخناجر والمسدسات.
فإذا وجبت مراقبة المال في أيدي المسيطرين به على سواد الناس، فمن الواجب أن تكون الرقابة على النحو الذي قصد إليه الرياضي الكبير، ولا سيما في العصر الذي أصبح المال فيه مرادفاً لمعنى الثقة والائتمان. فلا يجوز في هذا العصر أن توضع الثقة الاجتماعية في أيدي أناس يعبثون بها جهرة أو خفية، ولا يجوز إذا هي وضعت في بعض الأيدي أن تترك هملاً بغير رقابة أو حيطة أو بغير علم بما تتجه إليه وتجري فيه.
وهنا نسأل: ما هي حدود الرقابة الاجتماعية على سيطرة الأموال في أيدي الأفراد أو الجماعات التي تسوس أموال الأفراد؟
وجواب هذا السؤال أن الرقابة الوحيدة الممنوعة هي الرقابة التي تشل الدوافع النفسية والبواعث الحيوية وتخرجها في نظامها مخرج الجهود الآلية والأرقام الحسابية، فإن المجتمع الإنساني لن يكسب شيئاً من تنظيمه النفوس تنظيم الآلات التي تتحرك بأمر وتسكن بأمر ولا تتخطى ما يرسم لها من الخطوط والغايات.
فللمجتمع أن يراقب المال وأن يأخذ نصيبه منه للمصلحة الاجتماعية التي يشترك فيها الأغنياء والفقراء، ولكن ليس للمجتمع أن يمسخ الطبيعة ويجور على حركات النفوس وبواعث الحياة، لأنه يتعرض بالقوانين لأمر لم تخلقه القوانين، ويأخذ ما ليس في وسعه أن يرده أو يعوضه بمثله.(413/4)
عباس محمود العقاد(413/5)
أشعار ابن النحاس
للدكتور زكي مبارك
حياة أبن النحاس - الحياة بلا عمل تحجب الأديب عن فهم الجوانب الجدية من الحياة - تأثير الأفيون في هدم أبن النحاس، وكان في صباه أجمل ما رأت العيون - أشعاره في البكاء على جماله الذاهب - أيامه في دمشق والقاهرة والمدينة - قصائده الباقيات - أشعاره في (شرب الدخان) - شعوره بالمعاني المنقولة عن القدماء
1 - فَتحُ الله بن النحاس شاعرٌ نشأ في حلب في أواخر القرن العاشر أو أوائل القرن الحادي عشر، فقد سكتت المصادر عن العام الذي وُلد فيه، واكتفت بالنص على أنه مات بالمدينة ليلة الخميس ثاني عشر صَفر من شهور سنة اثنتين وخمسين ألف.
2 - وسكتت المصادر أيضاً عن حياته العملية، فلم نعرف كيف كان يعيش، ولكنا فهمنا من سياق القول أنه أقام مدة في حلب، ومدة في دمشق، ومدة في القاهر، ومدة في المدينة؛ فعرفنا أنه شاعر لم تكن تربطه ببلده أو غير بلده رابطة معاشية، ولذلك تأثيرٌ في صبغ وجوده بصبغة الرجل الهائم في بيداء الوجود.
3 - والواقع أن هذه الحال كانت مألوفة في حيوات الشعراء، ولكن ابن النحاس فيما يظهر أسرف في اعتزال الناس والبعد عن طلب المعاش، لينجو بنفسه من آثام الخلق، وليعفي كاهله من حمل أثقال العيش المنظم، وهي أثقال لا يتصدى لحملها غير أقوياء الرجال، ولهذا رأيناه يتزيا بزيِّ الزهاد ويعيش عيش الدراويش من الفقراء مع الترفع عن قبول الإحسان؛ فقد كانت لهذا الرجل فِطرة سليمة تصده صداً عن المكسب الرخيص، وتسوقه إلى صف المتعففين من أتباع التصوف الصحيح.
4 - فكيف كانت البداية وكيف كانت النهاية لهذا الشاعر الرقيق؟
كان ابن النحاس في صباه غاية في روعة الجمال، وكانت صباحة وجهه أعجوبة الأعاجيب؛ فكان معاصروه يتوهمون أنه لم يُخلق إلا ليكون دُمية في قصر، أو زهرة في بستان، ولكنه صان نفسه عن مواطن الشبهات، فاعتزل الناس ليسلم شبابه وجماله من إفك القال والقيل في زمن لا يسلم فيه أهل الجمال من بغي الأقاويل والأراجيف.
نجا ابن النحاس من شر معاصريه فصار مثالاً للجمال المصون، ولكنه لم ينج من شر(413/6)
نفسه، والنفس في بعض الأحيان أعدى الأعداء!
فماذا صنع بنفسه، أو ماذا صنعت به نفسه، حتى نزل من الشرف إلى الحضيض؟
أقبل ابن النحاس على تعاطي (الكيف)، والكيف الذي كان يتعاطاه هو (الأفيون)، وقد هده الأفيون في شهور أو أعوام، فأمسى جماله طللاً من الأطلال، ولم يكن يحسب لجهله وغفلته أن الجمال دولةٌ تدول.
فإن رأيتم شاعراً يبكي شبابه الذي ضاع، فاعرفوا أن ابن النحاس كاد يتفرد بالبكاء على الجمال الذي ضاع، وما أضاع جمال هذا الشاعر غير الابتلاء بكيف الافيون، وهو كيف أتى على بناء هذا الشاب الجميل من الأساس، ولننظر كيف يقول:
من يدخل الأفيون بيت لهاتهِ ... فليلق بين يديه نقد حياته
وإذا سمعتم بامرئ شرب الردى ... عزّوه بعد حياته بمماته
ما شأنه وحشاه يؤوى أرقماً ... لا يستفيق الدهرَ من وثباته
وهذا الشاعر الذي يرى الأفيون ثعباناً لا تنقطع وثباته الفواتك على الأحشاء هو الشاعر الذي رثي صباه فقال في تصوير ماضيه لعهد الجمال، يوم كان في مثل عمر البدر، ويوم كانت لفتاته لفتات الظبي بين أزهار الرياض:
ونراه إن عبث النسيم بقدِّه ... ينقدَّ شروى الغصن في حركاته
وإذا مشى تيهاً على عشاقه ... تتفطر الآجال من خطراته
يرنو فيفعل ما يشاء كأنما ... مَلكُ المنية صال من لحظاته
حُسْنٌ ولا كيفٌ يخالط ذاته ... والآن صار الكيف بعض صفاته
والكيف حقدٌ إن تشبث بامرئ ... لم يَبْق للرائين غير سِماته
وهو الشاعر الذي أرخ جماله الذاهب فقال:
سقى المزنُ أقواماً بوعساء رامةٍ ... لقد قُطِّعتْ بيني وبينهم السُّبْلُ
وحيا زماناً كلما جئت طارقاً ... سليمي أجابتني إلى وصلها جُمل
تودّ ولا أصبو وتوفى ولا أفى ... وأنأى ولا تنأى وأسلو ولا تسلو
إذِ الغُصنُ غصٌ والشباب بمائه ... وجيد الرضا من كل نائبةٍ عطل
ومن خشية النار التي فوق وجنتي ... تقاصرَ أن يدنو بعارضيَ النمل(413/7)
فهل يرى أن نار وجنته أخافت نمال الشعر حيناً من الزمان فظل أمرد، أسيل الخدين، إلى أن ابتلته المقادير بالأفيون فأمسى جماله تاريخاً من التواريخ
والجمال حلة نفيسة يرفعها الله عمن يجهل قدرها الرفيع، وكذلك كان حظ الشاعر الذي أضاعه الجهل بنعمة الله عليه فلم يؤد زكاة الجمال، وهي الابتعاد عما يوهن الجسم ويشل الروح.
ثم ماذا؟ ثم رحل الشاعر عن الوطن الذي نشأ فيه وهو حلب، بعد أن فضحه الافيون، الافيون الذي أصار جماله رسماً من الرسوم وطللاً من الأطلال.
5 - وإلى أين؟ إلى دمشق، وهي مدينة سمعت باسمه قبل أن يحل ساحتها الفيحاء، فأقام بها ما أقام بين أيام بيض وأيام سود؛ فقد كان فقيراً لا يتبلغ بغير ما يجود به أهل الأدب، وكانوا في أغلب أحوالهم فقراء.
ومن دمشق انتقل إلى القاهرة فاتصل بالسادة البكرية، وكانوا كراماً أجاويد، لا يشعر بينهم بالغربة رجلٌ أديب، وكانت حفاوتهم بالأدباء الوافدين من الشام مضرب الأمثال.
ويظهر أن أيام ابن النحاس بالقاهرة لم تخل من رخاء، فقد اتصل بالقضاة والأعيان، واتصل به الأمل المعسول فمدح سنجق منفلوط، ومعنى ذلك أنه عرف كيف ينتفع بوداد المصريين، وكانوا في ذلك العهد يرعون حقوق الغرباء من أهل الأدب والبيان.
ثم امتدت السن بالشاعر الذي كان له ماض في الجمال فرأى أن ينتقل إلى المدينة ليعيش عيش المجاورين، وهو عيش يليق بمن يلبس ثوب الحداد على جماله الذاهب ذهاب البرق اللامع في أجواز السماء.
وفي المدينة مات، وقد دفن في بقيع الفرقد، بجوار الأكابر من رجال الأدب والدين، فعليه رحمة الله، وألف سلام على روحه الجميل!!
6 - ولكن أين مكان ابن النحاس بين الشعراء؟
لا تظنوه شاعراً من طبقة أبي تمام أو البحتري أو المتنبي أو الشريف الرضي، فبينه وبين أمثال هؤلاء مسافات أعرض من الصحراء.
ولكنه شاعر من طبقة ابن زريق، وما عاش ابن زريق إلا بقصيدة واحدة هي العينية التي سارت مسير الأمثال.(413/8)
وكذلك عاش ابن النحاس بقصيدة أو قصيدتين، ومن لم يعرف ابن النحاس في معانيه القلائل وهي نوادر فليس بأهل للانتساب إلى دوحة الأدب الرفيع.
والذي يجهل ابن زريق وابن النحاس لا يقل حمقاً عن الذي يجهل ابن النبيه صاحب هذا البيت
إذا نشرتْ ذوائبه عليه ... حسبتَ الماء رفَّ عليه ظِلُّ
فما فرائد ابن النحاس؟
الفريدة الأولى هي الحائية
بات ساجي الطرف والشوق يُلحُّ ... والدجا إن يَمض جُنحٌ يأت جُنحُ
يقدح النجم لعيني شرراً ... ولزند الشوق في الأحشاء قدح
لست أشكو حرب جفني والكرى ... لم يكن بيني وبين الدمع صلح
إنما حال المحبين البكا ... أيُّ فضل لسحاب لا يسُّح
يا نداماي وأيام الصبا ... هل لنا رجع وهل للعمر فسْح
صبَّحتك المزن يا دار اللوى ... كان لي فيك خلاعات وشطح
حيث لي شغلٌ بأجفان الظبا ... ولقلبي مرهمٌ منها وجرح
كل عيش ينقضي ما لم يكن ... مع مليح ما لذاك العيش مِلح
وبذات الطلح لي من عالج ... وقفة أذكرها ما اخضل طلح
يوم منا الركب بالركب التقى ... وقضى حاجته الشوق الملح
لا أذمُّ العِيسَ، للعيس يدٌ ... فلا تلاقينا وللأسفار نجح
قرَّبتْ مِنا فماً نحو فمٍ ... واعتنقنا فالتقى كشحٌ وكشح
وتزودتْ الشذى من مرشف ... بفمي منه إلى ذا اليوم نفح
وتعاهدنا على كأس اللمى ... إنني ما دمت حياً لست أصحو
يا ترى هل عند من قد ظعنوا ... إن عيشي بعدهم كدٌ وكدح؟
كنت في قرْح النوى فانتدبت ... من مشيبي كربة أخرى وقرح
كم أداوي! القلب قلت حيلتي ... كلما داويت جرحاً سال جرح
ولكَمْ أدعو وما لي سامعٌ ... فكأني عندما أدعو أُبَحُّ(413/9)
وأنفاسه في هذه الحائية تذكر بأنفاسه في الحائية الثانية
تذكر السفح فانهلت سوافحه ... وليس يخفاك ما تخفى جوانحه
صدع الهوى يا عذولي غير ملتئم ... يدريه بالبان من أشجاه صادحه
فهذه القصيدة من ذخائر الأدب العربي ولا ينكر قيمتها إلا غافل أو جهول، وهي مقدودة من روح الشاعر، وليس فيها بيت إلا وهو صورة من أقباس وجده المشبوب.
وهل في الدنيا أديب عربي لا يحفظ هذا البيت:
كم أداوي القلب قلَّتْ حيلتي ... كلما داويت جرحاً سال جرح
أما الفريدة الثانية فهي العينية
رأى اللوم من كل الجهات فراعه ... فلا تنكروا إعراضهُ وامتناعهُ
ولا تسألوني عن فؤادي فإنني ... علمتُ يقيناُ أنه قد أضاعه
له الله ظبياً كل شيء يَرُوعهُ ... ويا ليت عندي ما يزيل ارتياعه
ويا ليته لو كان من أول الهوى ... أطاع عذولي واكتفينا نزاعه
فما راشنا بالسوء إلا لسانُهُ ... وما خرب الدنيا سوى ما أشاعه
فأصبح من أهوى على فيه قُفلة ... يُكتم خوف الشامتين انفجاعه
وآلى على أن لا أقيم بأرضه ... واحرمني يومَ الفراق وداعه
فرحت وسيري خطوة والتفاتة ... إلى فائت منه أُرجى ارتجاعه
ذرعت الفلا شرقاً وغرباً لأجله ... وصيرت أخفاف المطيِّ ذراعه
فلم يبق بَرٌ ما طويت بساطه ... ولم يبق بحرٌ ما رفعت شراعه
كأني ضميرٌ كنت في خاطر النوى ... أحس به واشي السُّرى فأذاعه
أخلاي من دار الهوى زارها الحيا ... ومد إليها صالح الغيث باعه
يعيشكم عوجوا على من أضاعني ... وحيوه عني ثم حيوا رباعه
وقولوا فلان أوحشتنا نِكاتهُ ... وما كان أحلى شعره وابتداعه
فتىً كان كالبنيان حولك واقفاً ... فليتك بالحسنى طلبت اندفاعه
أبحت العدا سمعاً فلا كانت العدا ... متى وجدوا خرقاً أحبوا اتساعه
فكنت كذي عبدٍ هو الرجل والعصا ... تجنَّى بلا ذنب عليه فباعه(413/10)
لكل هوىً واش فإن ضُعضع الهوى ... فلا تلم الواشي ولم من أطاعه
وقولوا رأينا من حمدتَ افتراقه ... ولم ترنا من لم تذم اجتماعه
وما كنتما إلا يراعاً وكاتباً ... فملَّ وألقى في التراب يراعه
فإن أطرق الغضبان أو خط في الثرى ... فقولوا فقد ألقى إليكم سماعه
وبالله كفوا إن تمادى فإنه ... رقيق حواشي الطبع أخشى انصداعه
وإن نصب الشكوى عليَّ فسابقوا ... وقولوا: نعم، نشكو إليك طباعه
وإن رام سبي فاحدثوا لي معايباً ... وسباً بليغاً تحسنون اختراعه
وهنوا رقيبي بالرقاد فطالما ... جعلت على جمر السهاد اضطجاعه
ولا تحسدوا وداين يومين عنده ... فإن حبيبي تعلمون خداعه
ودوروا على حكم الغرام فإنه ... قضى لظاه أن تهين سباعه
ضعيف الهوى من بات يشكو زمانه ... وأضعف منه من يرجِّى اصطناعه
ولو علم المشتاق عقبى اتصاله ... لآثر بين العاشقين انقطاعه
ومن طلب الأحباب حرصاً على البقا ... فما رام بين الناس إلا ضياعه
فهذه القصيدة من آيات الشعر العربي. ومن غرائبها هذا البيت:
لكل هوى واشٍ فإن ضُعضِع الهوى ... فلا تلم الواشي ولُمْ من أطاعه
وهذا البيت:
ولو علم المشتاق عقبى اتصاله ... لآثر بين العاشقين انقطاعهُ
والقصيدة في جملتها روحٌ مضرَّج بالدم، وإن بدت للغافل في صورة الحديث المعاد
7 - وتجيء بعد ذلك مقتطفات من شعره الرقيق؛ ولكن أين تلك المقتطفات؟
كنت أرجو أن أجد شواهد كثيرة على شاعرية ابن النحاس مما انتثر في أثناء قصائده من الأبيات الفرائد؛ ثم صَعُب عليَّ تحقيق ما رجوت؛ فقد راجعتُ الديوان مرات ومرات ولم أظفر بما أريد.
فهل يكون من الخير أن أشير إلى أن له بيتين في (الدُّخان) لا يزال معناهما على ألسنة الناس في مصر إلى هذا العهد؟ ابن النحاس يقول:
وأرى التولع بالدخان وشربه ... عوناً لكامن لوعة الأحشاء(413/11)
فأُديم ذلك خوف إظهار الجوى ... وأشوبه بتنفس الصُّعَداء
وهو معنى لطيف، فهو يستر بدخان التبغ دخان القلب، حتى لا يفتضح بين الرقباء.
وقد يداوي ناراً بنار، كأن يقول:
عكفت على شرب الخان وفي الحشا ... لهيب جوىً فازددت جمراً على جمر
وقلت أداوي نار قلبي بمثلها ... (كما يتداوى شارب الخمر بالخمر)
وكان التدخين في تلك الأيام مما يعاب؛ فقد كان مفهوماً عند أهل مصر أنه من أهواء العبيد. ولهذا شواهد قد نرجع إلى سردها بعد حين!
8 - أين شاعرية ابن النحاس بعد الحائية والعينية؟ أين؟ أين؟
لم يرضني شعر ابن النحاس من الوجهة الفنية، ولكني مع ذلك أجده شاعراً في جميع معانيه، وإن كان أكثرها منقولاً عن الشعراء القدماء؛ فهو في رأيي يعني ما يقول، وإن ضعُف عن مقارعة الفحول.
تلك ومضة من الشاعرية تألقت حيناً ثم خَبَتْ، كما تألق جمال صاحبها لحظة ثم خبا، وقد حقت في هذا الشاعر كلمته في مصيره فأصبح تاريخاً من التواريخ، وهل من القليل أن يمسي الرجل وله تاريخ؟!
9 - على أن من الظلم أن نحكم بأن ابن النحاس لم يجد في غير الحائية والعينية، وكيف وهو صاحب هذا القصيد:
عطف الغصنُ الرطيبُ ... وتلافانا الحبيب
أضمر الدهر لنا الصُّل ... ح فلم يبق غُضوب
زار والعرَف له من ... نفسَ الصبح هبوب
يظهِر البث وأولى ... منه بالبث الكئيبُ
كل عضوٍ منه في الحس ... ن عن الوجه ينوب
أيَّ عضو تسرح الألحا ... ظ فيه وتؤوب
أنا والقلبُ إذا لا ... حَ سليبٌ وكسيبُ
بأبي جَنة وصلٍ ... منه ما فيها لغوب
بات يدعوني بها طو ... راً وطوراً يستجيب(413/12)
والمنى نقلٌ ومن ند ... ماننا كأسٌ وكوب
أيها العشاق محزو ... نُ الهوى مني طرُوبُ
أيَّ وقتٍ ليس تنشقُّ ... قلوبٌ وجيوبُ
إنما يمرح بي في ... لجة العشق لعوبُ
والذي يهجر في الحبِّ ... للاحيه نسيب
ما على مَن سرهُ الوص ... لُ إذا غِيظَ الرقيب
رنة القوس لرامي ... ها وللغير النُّدوب
حسراتي هي دمعي ... ولها قلبي قليبُ
ليس لي مالٌ ولكن ... ذَهبٌ قولي صبيبُ
من بني جنسي ولكني ... مع الغزلان ذيبُ
كلَّ يومٍ لي صلاحٌ ... بخلاعاتٍ مشوبُ
ومتى أمكنت الفر ... صة أجني وأتوب
في الهوى صح اجتهادي ... فأنا المحظي المصيب
هذه حالي وأحوا ... لُ بني العشق ضروب
وقد نجد لابن النحاس أطايب كثيرة إذا سايرناه بتلطف وترفق، فليكتف القارئ بهذه اللمحات، فإن المقام لا يسمح بالإطناب.
زكي مبارك(413/13)
في الاجتماع اللغوي
اللهجات العامية الحديثة
تجردها من الإعراب
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
- 3 -
تمتاز اللغة العربية بأنها أوسع أخواتها السامية جميعاً وأدقها في قواعد الصرف والنحو.
فمن مميزاتها الصرفية أن الأصل الواحد يتوارد عليه مئات من المعاني بدون أن يقتضي ذلك أكثر من تغيير في حركات أصواته الأصلية نفسها مع زيادة بعض أصوات عليها أو بدون زيادة، وأن كل ذلك يجري وفق قواعد مضبوطة دقيقة نادرة الشذوذ (عَلم، علِمنا. . . يَعلم، نعلم. . . إعْلم، إعلمي. . . أعلم، نعلَم. . . عَلّم، نُعلِّم. . . تَعلّم. . . تَعالَم. . . عُلم، يُعلَم. . . عِلمٌ، علم، علامة، علوم، أعلام، علامات، عالم، عليم، علامة، علماء، عالِمون. . . متعلِّم، متعلّم، معلَم، معلّم، معلِّم، معلوم، عالَم، عالَمون. . . الخ). ولم تصل أية لغة سامية أخرى في هذه الناحية إلى هذا الشأو. . . ومن ذلك أيضاً نظام جمع التكسير الذي لا تشاركها فيه إلا أختها الجنوبيتان (اليمنية القديمة والحبشية)؛ فقد توسعت هي في استخدامه توسعاً كبيراً، حتى أصبح للمفرد الواحد فيها عدة جموع من هذا النوع
ومن مميزاتها النحوية تلك القواعد الدقيقة التي اشتهرت باسم قواعد الإعراب، والتي يتمثل معظمها في أصوات مد قصيرة تلحق أواخر الكلمات لتدل على وظيفة الكلمة في العبارة وعلاقتها بما عداها من عناصر الجملة. وهذا النظام لا يوجد له نظير في أية أخت من أخواتها السامية، اللهم إلا بعض آثار ضئيلة بدائية في العبرية والآرامية والحبشية.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه القواعد المتشعبة الدقيقة، وخاصة قواعد الإعراب، لم تكن مراعاة إلا في لغة الآداب شعرها وخطابتها ونثرها؛ أما لهجات الحديث فكانت من أقدم عصورها غير معربة، أو على الأقل لم يكن لقواعد الإعراب فيها ما كان لها في لغة الآداب من شأن، واستدل على رأيه هذا بأدلة كثيرة أهمها دليلان:(413/14)
أحدهما دليل لغوي يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدد دراسته، وهو أن جميع اللهجات العامية المتشعبة عن العربية والتي تستخدم الآن في الحجاز ومصر والعراق والشام وبلاد المغرب مجردة من الإعراب كما ذكرنا ذلك في المقال الأخير. فلو كانت لهجات المحادثة العربية القديمة معربة لا تنقل شيء من نظامها هذا إلى جميع اللهجات أو إلى بعضها.
وثانيهما دليل منطقي عقلي وهو أن قواعد هذا شأنها في التشعب والدقة وصعوبة التطبيق وما تتطلبه من الانتباه وملاحظة عناصر الجملة وعلاقتها بعضها ببعض، لا يعقل أنها كانت مراعاة في لهجات الحديث؛ لأن لهجات الحديث تتوخى في العادة السهولة واليسر وتلجأ إلى أقرب الطرق للتعبير.
بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فزعم أن هذه القواعد لم تكن مراعاة في لهجات الحديث ولا في لغة الكتابة، وإنما خلقها النحاة خلقاً قاصدين بذلك تزويد اللغة العربية بنظم شبيه بنظم اللغة الإغريقية حتى يكمل نقصها في نظرهم وتسمو إلى مصاف اللغات الراقية، ويعتمد هؤلاء في تأييد هذا المذهب على نفس الدليلين اللذين اعتمد عليهما الفريق الأول مع توجيههما وجهة تتفق مع ما يذهبون إليه. وعلى دليل ثالث خلاصته أن قواعد هذا شأنها تشعباً ودقة لا يعقل أن تكون قد نشأت من تلقاء نفسها؛ ولا يمكن لعقليات ساذجة كعقليات العرب في عصورهم الأولى أن تقوى على خلقها. فهي تحمل آثار الصنعة الدقيقة المحكمة، ويبدو عليها طابع من عقلية المدارس النحوية التي ظهرت في العهود الإسلامية بالبصرة والكوفة وما إليهما.
وقد تبين فساد هذين المذهبين لجميع المحققين من الباحثين؛ حتى لأكثرهم تحاملاً على الساميين، وأشدهم ولوعاً بالانتقاص من حضارتهم ولغاتهم كالأستاذ رينان الفرنسي. واليك طرفاً من الأدلة التي لا تدع مجالاً للشك في فسادهما:
1 - إن عدم وجود هذه القواعد في اللهجات العامية الحاضرة، لا ينهض دليلاً على أنها لم تكن موجودة في العربية الأولى، فقد انتاب أصوات اللغة العربية وقواعدها في هذه اللهجات كثير من صنوف التغيير والانحراف، وخضعت لقوانين التطور في مفرداتها وأوزانها ودلالاتها، فبعدت بعداً كبيراً عن أصلها، كما تقدم بيان ذلك بتفصيل في المقالين السابقين.(413/15)
2 - وليس بغريب أن تتفق اللهجات العامية جميعاً في التجرد من علامات الإعراب، فقد خضعت لقانون من قوانين التطور الصوتي، وهو (ضعف الأصوات الأخيرة في الكلمة وانقراضها)، وهو قانون عام قد خضعت له جميع اللغات الإنسانية في تطورها؛ فما كان يمكن أن تفلت منه لهجة من اللهجات العامية المتشعبة عن العربية، كما تقدم الكلام عن ذلك في المقالين السابقين.
3 - على أنه قد بقي في اللهجات العامية الحاضرة كثير من آثار الإعراب وخاصة الإعراب بالحروف، فيقال مثلاً في عامية المصريين وغيرهم (أبوك وَّأخوك)، لا (أبك) و (أخك)؛ وينطق بجمع المذكر السالم مع الياء والنون (الطيبين، المؤمنين الخ. . .)؛ وفي معظم لهجات العراق في العصر الحاضر ينطق بالأفعال الخمسة مثبتة فيها نون الإعراب: (يمشون، تمشين، تمشون. . .)؛ وروى كثير من الباحثين أن آثار الإعراب بالحركات لا تزال باقية في لهجات بعض القبائل الحجازية في العصر الحاضر.
4 - يستفاد من كثير من كتب التاريخ، وخاصة كتب أبي الفداء أن بعض علامات الإعراب ظلت باقية في بعض لهجات المحادثة المتشعبة عن العربية حتى أواخر العصور الوسطى.
5 - إن دقة القواعد وتشعبها لا يدل مطلقاً على أنها مخترعة اختراعاً. فاليونانية واللاتينية مثلاً في العصور القديمة والألمانية في العصر الحاضر، يشتمل كل منها على قواعد لا تقل في دقتها وتشعبها عن قواعد اللغة العربية، ولم يؤثر هذا في انتقالها من جيل إلى جيل عن طريق التقليد، ولا في مراعاتها في الحديث، ولم يقل أحد أنها من خلق علماء القواعد.
6 - أن خلق القواعد خلقاً محاولة لا يتصورها العقل، ولم يحدث لها نظير في التاريخ، ولا يمكن أن يفكر فيها عاقل أو يتصور نجاحها؛ فمن الواضح أن قواعد اللغة ليست من الأمور التي تخترع أو تفرض على الناس، بل تنشأ من تلقاء نفسها وتتكون بالتدريج.
7 - إن علماء القواعد العربية لم يكونوا على علم باللغة اليونانية وقواعدها، ولم تكن لهم صلة ما بعلماء القواعد من الإغريق. هذا إلى أن قواعد اللغة العربية تختلف في طبيعتها ومناهجها اختلافاً جوهرياً عن قواعد اللغة اليونانية. فلو كانت قواعد العربية قد اخترعت على غرار القواعد اليونانية كما يزعمون لجاءت متفقة معها، أو على الأقل مشبهة لها في(413/16)
أصولها ومناهجها.
8 - يدلنا التاريخ أن علماء البصرة والكوفة كانوا يلاحظون المحادثة العربية في أصح مظاهرها ويستنبطون قواعدهم من هذه الملاحظة؛ وأنهم كانوا لا يدخرون وسعاً في دقة الملاحظة واتخاذ وسائل الحيطة؛ حتى أنهم ما كانوا يثقون بأهل الحضر لفساد لغتهم، ولا بالقبائل التي احتكت ألسنتها بلغات أجنبية كلخم وجذام وقضاعة وغسان وأياد وبكر وأزدعمان وأهل اليمن؛ وأنهم كانوا يبذلون في سبيل ذلك من وقتهم وجهودهم شيئاً كثيراً، فكانوا يرحلون إلى الأعراب في باديتهم ويقضون عندهم الشهور بل السنين؛ وعلماء هذا شأنهم دقة واحتياطاً وإخلاصاً للعلم لا يعقل أن يتواطئوا جميعاً على مثل هذا الإفك المبين.
9 - وإذا أمكن أن نتصور أن علماء القواعد تواطئوا جميعاً على ذلك، فإنه لا يمكن أن نتصور أنه تواطأ معهم عليه جميع العلماء من معاصريهم، فأجمعوا كلمتهم ألا يذكر أحد منهم شيئاً ما عن هذا الاختراع الغريب. ولا يعقل أن يقبل معاصروهم هذه القواعد على أنها ممثلة لقواعد اللغة ويحتذونها في كتاباتهم؛ اللهم إلا إذا كان علماء البصرة والكوفة قد سحروا عقول الناس واسترهبوهم وأنسوهم معارفهم عن لغتهم وتاريخها، فجعلوهم يعتقدون أن ما جاءوا به من الإفك ممثل لفصيح هذه اللغة.
10 - إن النقوش التي كشفت حديثاً في شمال الحجاز بمنطقة تيماء والحجر والعلا لتدلنا أقطع دلالة على أن الإعراب كان مستخدماً في (العربية البائدة) نفسها، فبعض العلامات الإعرابية قد رمز إليه في هذه النقوش بحروف ملحقة في آخر الكلمة ((صنعه كعبو) (وهرب مزحجو). . . الخ)
11 - لم تنفرد اللغة العربية من بين أخواتها السامية انفراداً كاملاً بنظام الإعراب، فلهذا النظام آثار في اللغات الحبشية السامية، وخاصة في الجفرية والأمهرية. صحيح أن هذه الآثار محدودة ضئيلة، وأنها تختلف اختلافاً غير يسير عن نظام الإعراب في اللغة العربية؛ ولكن وجود أثر لهذا النظام في لغة سامية لا تزال لغة حديث إلى الوقت الحاضر، كاللغة الأمهرية مهما كان هذا الأثر ضئيلاً - وعلى أي صورة كانت أوضاعه - لدليل قاطع على أنه منحدر من الأصل السامي الأول وليس من خلق النحاة
12 - تقوم أوزان الشعر العربي وقواعده الموسيقية على ملاحظة نظام الإعراب في(413/17)
المفردات، فبدون إعراب الكلمات تختل أوزان هذا الشعر وتضطرب موسيقاه. ومما لاشك فيه أن هذه الأوزان سابقة لعلماء البصرة والكوفة، وأن شعراً عربياً كثيراً قد قيل على غرارها من قبل الإسلام ومن بعده قبل أن يُخلق هؤلاء العلماء. فإنكار هذا الشعر لا سبيل إليه. ولا يمكن أن يكون قد أُلِّف غير معرب الكلمات؛ لأن عدم إعرابها يترتب عليه اضطراب أوزانه واختلال موسيقاه
13 - وأقوى من هذا كله في الدلالة على فساد هذا المذهب تواتر القرآن الكريم ووصوله إلينا معرب الكلمات
14 - وإن في رسم المصحف العثماني نفسه، مع تجرده من الأعجام والشكل، لدليلاً على فساد هذا المذهب. وذلك أن المصحف العثماني يرمز إلى كثير من علامات الإعراب بالحروف (المؤمنون، المؤمنين. . .)، وعلامة إعراب المنصوب المنون (رسولاً، شهيداً، حسيباً، بصيراً. . .) وهلم جراً. ولا شك أن المصحف العثماني قد دُوِّن في عصر سابق بأمد غير قصير لعهد علماء البصرة والكوفة الذي تنسب إليهم هذه المذاهب الفاسدة اختراع قواعد الإعراب.
فنظام الإعراب عنصر أساسي من عناصر اللغة العربية؛ وقد اشتملت عليه منذ أقدم عهودها. وكل ما عمله علماء القواعد حياله هو أنهم استخلصوا مناهجه استخلاصاً من القرآن والحديث وكلام الفصحاء من العرب ورتبوها، وصاغوها في صورة قواعد وقوانين. ثم أخذ هذا النظام ينقرض شيئاً فشيئاً من اللهجات العامية تحت تأثير العوامل السابق ذكرها في المقالين السابقين، حتى لم يبق له في هذه اللهجات إلا آثار ضئيلة.
غير أنه لا يسعنا أن ننكر أن قواعد الإعراب لم يكن لها قديماً في لهجات الحديث ما كان لها في لغة الأدب من شأن. وذلك أن طائفة كبيرة من هذه القواعد لا تظهر وظائفها وتمس الحاجة إليها إلا في مسائل التفكير المنظم المسلسل، والمعاني المرتبة الدقيقة التي يندر أن تعالج في لغات التخاطب العادي. وهكذا الشأن في جميع لغات العالم؛ فكثير من قواعد الفرنسية مثلاً يندر أن يحتاج إليها في المحادثات العادية. وفضلاً عن ذلك فقد نقل إلينا المؤرخون الثقات أن ألسنة العرب كانت عرضة للزلل في هذه القواعد منذ العصر الإسلامي، بل قبل ذلك العصر وأن هذا اللحن لم يكن مقصوراً على عامتهم، بل كان يقع(413/18)
من الخاصة والخلفاء والمحدثين، وأئمة الفقهاء أنفسهم. ويظهر أن هذا اللحن كان يقع منهم حتى في تلاوة كتاب الله؛ فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعربوا القرآن). وهذا يدل على أنه سمع بعض الناس في عصره يقرؤه ملحوناً.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور الآداب من جامعة السربون(413/19)
في اختلاط الجنسين
للأستاذ محمود محمود بسيوني
ألقى أستاذنا صاحب العزة الدكتور منصور بك فهمي قنبلة جديدة في الميدان الاجتماعي تنبه على صوتها الكتاب والمفكرون والمهتمون بالشؤون الاجتماعية في مصر. تحدث عن اختلاط الجنسين في مصر وكان سريعاً حازماً جريئاً في إبداء رأيه، وفي إنكار الاختلاط بصورته الحاضرة، وقد ألقى شعاعاً مضيئاً أنار به السبيل إلى ذلك الهدف الاجتماعي الخطير. وهكذا حفزني وشجعني على أن أرفع صوتي أنا الآخر معلناً انضمام صوت الشباب إلى صوت الشيوخ. وقد يبدو هذا غريباً، فالشباب معروف بميله للفرح والسرور واللهو والعبث ولكني لا أكتمكم أني استمتعت بأنواع كثيرة من لهو الشباب وقد كان ذلك درساً طيباً اغتنمت فرصة اليوم لأن أعيده على مسامع إخواني الشباب ولكني أنبه الغافلين من الجيل الذي تقدمني إلى سوء نتيجة إهمالهم بعض الأمور الاجتماعية.
حينما نحارب الاختلاط اليوم إنما نحارب الرذيلة والفساد محافظة على كيان أمتنا العزيزة ودينها الإسلامي القويم، وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه خير وطننا وإعلاء شأن ديننا.
ولنحاول أول كل شيء أن نفهم العلاقة الطبيعية بين المرأة والرجل، فهما يكونان معاً الأسرة، والأسرة هي الوحدة التي يتكون من كثيرها المجتمع؛ إذن فالرجل والمرأة لازمان معاً لحفظ كيان المجتمع، ولا غنى لأحدهما عن الآخر لاستمرار الحياة الاجتماعية، وما دامت المسألة تقوم على التعاون بين الرجل والمرأة فلا بد من انسجام وظائفهما من الوجهة العامة أي من حيث أن الرجل رجل وأن المرأة امرأة. فقد زودت الطبيعة كلا منهما بفضائل وميزات خاصة يكمل بعضها بعضاً، وهكذا كان لكل منهما عمل خاص وأسلوب خاص في تأدية وظيفته في الحياة، ولكن هذه الوظائف كما قلنا يكمل بعضها الآخر. وهكذا كان الرجل في حاجة طبيعية إلى المرأة لكي تبادله التشجيع والمساعدة على القيام بأعمالهما على خير الوجوه، وينقسم اتصال المرأة بالرجل إلى نوعين: اتصال فردي خاص، وهو اتصال الرجل بزوجة فقط وذلك لحفظ النوع؛ ثم اتصال اجتماعي، وهو اتصال الرجال في مجموعهم بالنساء في مجموعهن وهو ما يعبر عنه بالاختلاط وهو موضوع حديثنا الليلة.
وقبل أن نبدأ في علاج الموضوع نحب أن نذكر أن المرأة عنصر له خطره العظيم؛ فإذا(413/20)
أسئ استخدام هذا العنصر في الحياة الاجتماعية فقد تكون النتائج قتالة فتاكة. وهذا الاعتبار يجب أن يراعى حين يصدر الإنسان حكمه على فائدة الاختلاط أو ضرره فإن ذلك يلقي على المسألة ضوءاً جديداً ويكشف عن معانيها إلى حد كبير، والسبب في خطورة المرأة هو تكوينها الطبيعي خلقاً وخلقاً. فهي بما فيها من جمال وفتنة وإغراء وبما لروحها من دلال ورقة وعذوبة تؤثر في قلوب الرجال تأثيراً شديداً كثيراً ما يحول دفة حياتهم خاصة كانت أو عامة. وقد عرف الفرنسيون أثر المرأة فكلما صادفتهم مشكلة غامضة قالوا قبل كل شيء (فتش عن المرأة) ولما كان عمل الرجل في الحياة بحسب تقاليدنا المصرية أبعد أثراً وأعظم شأناً. فعمله دائماً يتصل بالمجتمع كله؛ بينما المرأة وفاق هذه التقاليد اتصالها بفرد واحد أو أفراد قليلين. على أن ترك هذه التقاليد وتوسيع الاختلاط للمرأة بعامة الرجال لابد أن يحدث أثره في المجتمع لأنه لم يعد لهذا الاختلاط وفقاً لماضينا المعروف.
يظن بعض الناس أن الاختلاط مظهر من مظاهر المدنية والتقدم الإنساني في الوقت الحاضر، وأنه يعود على المرأة وعلى الرجل أيضاً بفوائد لا يستطيعان أن يجنيانها إذا كان كل منهما بمعزل عن الآخر. فهم يتوهمون أن هذا الاختلاط يسير بهما في طريق التقدم من حيث الثقافة ومن حيث الإحساس ومن حيث أشياء أخرى يزعمون أنهم يفهمونها! ثم هم يبنون هذا الزعم على أن الاختلاط حق من حقوق المرأة يجب أن تستعمله وتفيد منه، وأن المرأة باشتراكها مع الرجل في حياته العامة إنما هو تنفيذ لحق الحرية الذي أوجدته النظم الاجتماعية الحديثة، ولكنهم أسرفوا في استغلال هذا الحق واستعمال هذه الحرية. فانقلبت الآية وأصبح تقدمهم تأخراً ومدنيتهم همجية.
بدأت المرأة بفكرة السفور ونزع الحجاب. وكأنها كانت في معقل وانطلقت بعد أن كانت لا تحلم بالخروج؛ فأسرفت في نزع الحجاب إسرافاً شديداً إذ أصبحت سافرة الوجه أولاً، ثم سافرة الوجه والرأس، وأضافت بعد ذلك قليلاً قليلاً سفور الذراعين والساقين والصدر؛ ثم تلفتت مع ذلك إلى تغيير الزي وتكييفه بما يتناسب مع ما تريد أن تبرزه من محاسن جسمها. ثم أتقنت ألوان التزين والتجمل واندفعت في كل هذا اندفاعاً كبيراً، ودفعت في سبيل ذلك كل ما تملك من مال وذكاء؛ واحتملت مشقة وعذاباً؛ ثم شاءت أن تعرض جمالها وتجملها فخرجت إلى الأماكن العامة من شوارع ومقاه وأندية. وراحت تتسابق مع مثيلاتها(413/21)
في هذا المضمار، فأصبحت تلك الأماكن معارض يتبارين فيه لإظهار مقدرتهم على الفتنة والإغراء. وخرج الرجال بطبيعة الحال يستمتعون بهذه المظاهر الجديدة الخلابة، فكانوا يلقون كلمات الإعجاب في آذان النساء سواء أكانوا في ذلك مخلصين أم منافقين؛ ولكنها كلمات تروق النساء وتأخذ بمجامع قلوبهن على كل حال.
فكرت المرأة في أنه من العبث أن تتجمل هكذا للشوارع فقط، وفكر الرجل في أن يستمتع هو الآخر بهذه الفتنة، فأخذ كل منهما يسعى إلى الاستمتاع: المرأة بتجملها وتدللها، والرجل بما ينجذب إليه من هذا التجمل وهذا الدلال. وأخذت النشوة كل من الفريقين، وأعمتهم الشهوة فاستحلوا ما حرم، واستباحوا كل ممنوع، فانتحلوا أسباباً وخلقوا أساليب. وتستروا باسم المدنية والتقدم لتنفيذ أغراضهم، واندفعوا في تيار حياة الاختلاط البراقة فشربوا السم في برشامة.
وهكذا أصبحت ترى المرأة بشكلها الجديد ترتاد دور الخيالة وأندية السباق والمراهنات، وحدها تارة أو مصحوبة أخرى بأصدقاء من الجنس الآخر اتخذتهم دون اعتبار لما بين الجنسين من فوارق. تراها تحتضن رجالها واحداً بعد واحد، وتراقصهم وتحتسي معهم الخمر. فالفتاة الصغيرة لا يقوى أبوها على ردها، لأن المدنية تتطلب منه ذلك؛ والزوجة الصغيرة لا يقوى زوجها على منعها، لأنه هو الآخر يفعل ذلك؛ فالمدنية تتطلب هذا، والأم القديمة تعلمت هي الأخرى، فخلبتها المدنية الحديثة، فاشتركت في هذا. فعلت المرأة كل ذلك وأكثر من ذلك غير عابئة بدين ولا خلق، وهي تظن أن هذه هي الحياة كما يجب أن تكون، وزكاها في ذلك جماعة من المخبولين العابثين الذين يسوقونها ويسخرونها لشهواتهم ولذاتهم ويتركونها بعد ذلك محتقرة مزدراة. اندفعت إذن المرأة في مدنيتها المزعومة وحريتها الموهوبة، فعم الفساد والشر.
وخلاصة القول أن المرأة بما اتبعته من ضروب التبذل غيرت معالم أنوثتها فبدلت جمالها الطبيعي الذي وهبها الله إياه وأحلت محله بعض النقوش والأصباغ، ففسد ذوقها في فهم الجمال وأفسدت ذوق الرجال أيضاً، فضاع جزء كبير من قيمة أنوثتها الطبيعية، وفقدت الرقة والسحر الحقيقيين. فبإسرافها في إبراز محاسنها أضعفت إلى حد كبير سطوتها على قلوب الرجال وعواطفهم. والأمر في الواقع يخضع كذلك لقانون العرض والطلب. فلكثرة(413/22)
المرأة في ميادين الرجال، ولكثرة ما تبديه من محاسنها وزينتها انخفض سعرها وقل طلبها.
والذي لاشك فيه أن الاحتجاب أو نصف الاحتجاب يثير في النفس - وهي فضيلة بطبعها - الرغبة القوية وحب الاستطلاع؛ فبعد أن كان الرجل يطلب المرأة - وهي بعيدة عنه - ليستمتع بأنوثتها المستترة في خجلها وحيائها ووقارها، أصبح يكره تبذلها ويمقت جرأتها، فهو لا يفكر فيها إلا كأداة لسروره وعبثه.
كذلك نجم عن الاختلاط السيئ أن فقدت المرأة كثيراً من المعاني السامية: كالأمانة والشرف والعفة والقناعة، فانحطت وهبطت بالرجل إلى منزلة الحيوان.
وإننا إذا نظرنا إلى حياة الأسرة بعد الاختلاط فأول ما يبدو لنا هو تلك المسألة العويصة التي أصبحت مشكلة المشاكل الاجتماعية وهي مسألة الزواج. فإن الرجل بعد الذي رآه في المرأة من استهتار وتهتك أصبح يعتقد أنها لم تعد صالحة للحياة الزوجية؛ فأعرض عن الزواج وجعل يستعيض عنه بالمتعة الوقتية التي سهلتها له المرأة ووفرتها له كل التوفير.
على أن الذين يقبلون على الزواج ينقسمون إلى فريقين؛ فمنهم من هو محافظ غيور على شرفه وكرامته، وهذا الصنف تصبح حياته كالآتي: المرأة تريد التبذل والاختلاط، وتريد التحرر من القيود والأغلال على حد تعبيرها؛ والرجل يغار عليها ويشعل الشك فؤاده وجوانحه فلا يطيق صبراً على هذه الحياة فيثور ويفور ويهدد ويتوعد وتصبح حياته جحيماً لا يطاق. فإما أن ينتهي الأمر إلى الطلاق وهو ويل لو تعلمون عظيم؛ وإما أن ينتهي والعياذ بالله إلى مأساة محزنة لا استدراك لها فتنهدم أركان الأسرة الجديدة.
أما الفريق الآخر من الأزواج فهم الذين يتركون الأمور كما تسيرها الظروف والأهواء، فيلقون الحبل على الغارب متكلفين الهدوء والبرود، لا يسألون زوجاتهم أينهن وماذا يفعلن. وذلك إما لضعفهن الاخلاقي، وإما ليأسهم من وجود ما هو خير من حالهم. والنتيجة دمار وخراب. فإن المرأة حينئذ تتمادى في عبثها وفي فسادها، وينخرط هو في سبيل الرذيلة والشر إلى أن يحدث أحد الأمرين: إما ألا يطيق أحد الزوجين صبراً فينفجر مرة واحدة، فإذا بالزواج رماد تذروه الرياح؛ وإما أن يدب العطب في الحياة الزوجية لخلوها من العناصر الشريفة الظاهرة التي تصونها من العفن فتصير نوعاً من الهمجية الإباحية التي لا نستطيع أن نسميها حياة بالمعنى الذي تقبله الحضارة الحقة والإنسانية الرفيعة.(413/23)
وإذا ألقينا نظرة عامة على بيت الزوجية في وقتنا هذا نستطيع أن نطمس آثار الاختلاط هكذا: تنقطع المرأة عن تأدية وظيفتها كسيدة وهي التي جعلت لتلزم بيتها كي تنفث فيه من روحها وأنوثتها فتدعو ملائكة السعادة لترفرف بأجنحتها على تلك الجنة. جعلت الآن تكثر من التغيب في الخارج. فحالات الاختلاط الجديدة ومقتضياته تشغلها بعيداً عن بيتها؛ فهي دائماً في زيارة صديقاتها وأصدقائها والاجتماع بهم في كل وقت وفي كل مكان؛ فإذا بها لا تعرف شيئاً عن نظافة بيتها ونظامه وترتيبه، ولا تعرف شيئاً عن مأكلها ومشربها، ولا تعرف شيئاً عما يتطلبه البيت من إصلاح خلل أو إكمال نقص، ولا تعرف شيئاً عما هو أهم من ذلك كله وهو تربية أطفالها. أما زوجها فهو آخر من تفكر في أن تعنى بهم، وهي التي جاءت من أجله ومن أجله فقط: تؤنسه في وحدته، وتشاركه الحياة وتمتعه بما لديها من صفات منحها الله إياها.
كل ذلك لأنها خرجت عن الحياة التي خلقت لها، فخرجت بذلك هي وزوجها من الجنة؛ وأخرجها تجنيها عن البيت واندفاعها في الاختلاط وفي حياة الشوارع. فهل هذه إذن حياة المدنية وهل هذا هو الرقي، وهل هذه هي نتيجة العلم والثقافة؟ المضحك أن تسمى ثقافة وهي أبعد ما تكون عما يطابق العقل والمنطق. ليست الثقافة والحضارة والتقدم أن تتقن المرأة الكلام بالفرنسية والإنجليزية لا لشيء إلا للفرنجة وتكلف الأرستقراطية واتخاذها وسيلة للرقاعة والتهتك. ليست الثقافة والحضارة والتقدم أن تغشى المرأة المنتديات والمجتمعات، وأن تتقن فن المقابلات والتشريفات بعد إتقانها لفن البهرجة والزينات. الثقافة الحقة والحضارة الحقة والتقدم الحق هو أن تعرف المرأة واجبها نحو بيتها ونحو الحياة النافعة، وأن تتقن فنونها التي خلقت لها لتعيش مطمئنة سعيدة ولتشيد أسس حياة هادئة هي عنوان التقدم والرقي المستمر.
ورحم الله قاسم أمين! فلو كان حياً لاستنكر أسلوب المرأة في تنفيذ تعاليمه، فما كان قصد قاسم أمين إلا أن يحرر المرأة من العبودية القديمة حين كان الرجل يجعل المرأة عبداً يشترى ويسخر في تنفيذ رغباته وإشباع شهواته. لقد أراد قاسم أمين أن يخلص المرأة من ظلم خاطئ، فأساءت المرأة فهم الغرض الذي قصد إليه وتعثرت في الطريق الذي أشار به فضلت السبيل وتمادت في ضلالها. فنحن إذ نرفع صوتنا اليوم إنما نحسن إليه ذكرى قاسم(413/24)
أمين ونخلص للمرأة نفسها فنظرها على طريق الحق ونهديها إلى السبيل القويم.
(البقية في العدد القادم)
محمود محمود بسيوني(413/25)
الطابور الخامس الألماني
الطابور الخامس! لفظتان تنطويان على كل معاني الإرهاب والقسوة والفظاظة والغدر والخيانة، وتعيد إلى الأذهان تلك المآسي التي كان يمثلها ديوان التفتيش في القرون المتوسطة.
الطابور الخامس هو الخطر العصري الذي يهدد المدنية الحاضرة والأمم الديمقراطية والشرائع الحرة التي كتبت بدماء الألوف من أحرار البشر، بل هي عصابة هائلة تبثها الحكومة النازية في كل أنحاء العالم لتلقي الفساد وتذرع الفتن، وتنخر كيان الأمم بأساليب شريرة لم يعهدها العالم المتمدن؛ فالنازية والطابور الخامس اسمان مترادفان لمسمى واحد.
كان هدف هتلر في أول أمره أن يستولي على الحكم في ألمانيا ويعدم كل الأحزاب السياسية الألمانية (وكان عددها يومئذ 36 حزباً) التي لا تعتنق المبادئ النازية. وكانت النازية قبل أن يسيطر هتلر على ألمانيا حزباً سياسياً عادياً اعتمدت لبلوغ مأربها خطتين: القوة والدعاية، فطفقت تنفيذاً للخطة الأولى تتسلح سراً وتعدُّ عُدتها لليوم المنتظر، وأنشأت تنفيذاً للخطة الأولى (معهداً) كبيراً للدعاية والتمويه والتضليل، ثم لتخريج طلاب الغدر والخيانة والفتك، وهم المعروفون اليوم بأعضاء الطابور الخامس.
قسم هتلر بعد ما استتب له الأمر أنصاره ورجال حزيه إلى فئات ثلاث: الأولى مؤلفة من أنصاره وأصدقائه الخلص الذين يعرفون أفكاره وغاياته الخفية، وهم: هيس، جورينج، جوبلز، هملر، ستريشر، بُهل، فون ريبنتروب، داره، روزنبرج. والثانية مؤلفة من أشخاص لا يعرفون إلا شيئاً من أفكاره وخططه، ولكنهم مرشحون للانضمام إلى الفئة الأولى. والثالثة مؤلفة من رجال مصلحة التقصي الألمانية، ومن عصابة (الجستابو) التي يديرها (هملر). وليس في الفئات الثلاث إلا عدد ضئيل من ذوي المراتب العالية في الجيش.
ولكل من هذه الفئات مهمة خاصة؛ فمهمة الفئة الأولى إنشاء مذهب جنسي أساسه تفوق الجنس الجرماني الآري على سائر الأجناس البشرية لنبل أصله وشرف محتده، وتأليف ألمانيا الكبيرة التي يجب أن تسود العالم. ومهمة الفئة الثانية تنفيذ خطط الأولى في ألمانيا وخارجها بالدعاية والجاسوسية وغيرهما من الأساليب التي يكل عنها الوصف، كأن توهم أحياناً أنها ناقمة على النازية لكي تقف على الرأي العام فيها وتعرف البيئات التي(413/26)
تناهضها. ومهمة الفئة الثالثة الاستكشاف وتمهيد السبيل للفئة الثانية، فهي أشبه شيء بفرق الكشافة في الجيش
أما الجستابو فهي العصابة السرية الهائلة التي يديرها (انريك هملر) وتضم ستين ألف رجل وعشرة آلاف امرأة في ألمانيا، وخمسة آلاف رجل وأربعة آلاف امرأة في البلدان الأجنبية. وفي الجستابو دائرة خاصة مهمتها تزوير الوثائق والجوازات والمراسلات الدولية والأوراق المالية الأجنبية وغيرها. ومن الوثائق المزورة تلك التي أعلنها فون ريبنتروب واتخذها حجة لكي يبرئ اجتياح دولته للبلدان الصغيرة، وما هي في الحقيقة إلا وثائق مزورة مصنوعة في تلك الدائرة.
مكتب ريبنتروب
هو دائرة مستقلة تعمل تحت إشراف فون ريبنتروب أولاً وهتلر ثانياً. تجمع كل المعلومات غير الحربية عن البلدان الأجنبية ورؤسائها وساستها وأصحاب النفوذ فيها، وتُعنى بمعتقدات تلك البلدان الدينية وأحزابها وطرق معيشتها حتى بمسائلها العائلية. ومن هذه المعلومات تستقى مصلحة التقصي الألمانية وتستهدى بها. وعمال مكتب ريبنتروب هم في معظمهم من الأشخاص الذين تقلبوا في المناصب العالية وشغلوا مراكز سياسية هامة في السفارات ونحوها، وبينهم عدد من النساء اللواتي يعملن أيضاً في دائرة الجستابو.
وزارة الدعاية
يرأس هذه الوزارة الدكتور (جوزف جوبلز) ومن مهامها التسلط على الرأي العام الألماني، وحمل الدول على اقتباس المبادئ النازية وإخضاعها لنفوذ ألمانيا الاقتصادي. وفي هذه الوزارة الدوائر الآتية: الدعاية الداخلية، الدعاية الخارجية، الراديو، الصحافة، السينما، المسرح، الآداب والفنون. وفيها قوائم بأسماء كل المؤسسات في العالم، وقد قسمت إلى مراتب وعرفت بالأوصاف الآتية: (حلفاء)، (ميالون)، (قابلون للاستمالة)، (أعداء). وقائمة الأعداء ترسل رأساً إلى دائرة الجستابو.
مدرسة الطابور الخامس
في سنة 1908 أنشأت في ألمانيا مؤسسة غايتها بث الروح الألمانية في أبناء الألمان(413/27)
المولودين في البلدان الأجنبية لكي يحافظوا على جرمانيتهم. وفي سنة 1921 استعانت الحكومة الألمانية بهذه المؤسسة لكي تجدد عزيمة رعاياها، وقد وهنت بعد نكبة ألمانيا في الحرب الماضية، وتثير في الأحياء منهم خارج وطنهم العصبية الجرمانية، وتحول دون إدغامهم في البيئات الأجنبية. ولما قبض النازيون على زمام الحكم في ألمانيا وجدوا في سجل هذه المؤسسة أن , 803 , 000 ألماني يعيشون خارج الحدود الألمانية، منهم 75 في المائة تربطهم العاطفة العصبية ارتباطاً متيناً بأمهم ألمانيا، والفضل في ذلك عائد إلى مساعي المؤسسة المذكورة التي تعرف اليوم باسم الطابور الخامس الألماني.
وينتخب أعضاء الطابور الخامس من رجال ونساء ذوي جدارة وثقافة ودهاء وحيلة، وكثيرون منهم يحسنون كتابة وتكلماً عدة لغات أجنبية، ومنهم سياسيون ومهندسون وكيميائيون وعسكريون واختصاصيون بفروع العلم. وتختلف مهامهم وطرق أعمالهم باختلاف البلدان التي يوفدون إليها. أما الهدف فواحد، وهو خدمة المصلحة الألمانية بأي الوسائل، لأن الغاية في شريعتهم تبرر الواسطة. وكانت دعايتهم في البلدان الأجنبية قبل الحرب تضرب خاصة على وترين: خطر الشيوعية ومكافحتها، ومصادرة اليهود المرابين الدساسين؛ فاستهووا بالدعاية الأولى كل خصوم الشيوعية ومقبحي مبادئها، واستمالوا بالثانية كل العمال الذين يرون في اليهود صورة الرأسمالية عدوتهم الكبرى.
ونشط في هذه الحرب رجال الطابور الخامس المنبثون في كل العالم، وعلى الأخص في البلدان الديمقراطية، فقاموا بمهامهم الشاقة، غير عابئين بالأخطار التي تهددهم في كل لحظة، فكانوا من العوامل الأولية التي مكنت الألمان من اكتساح عدة بلدان بتلك السهول الغريبة؛ وقد تحقق العالم اليوم أن أولئك الألمان الذين (نفتهم) الحكومة النازية لنقمتهم على الوضع النازي، أو لكونهم يهوداً، أو لتزوجهم يهوديات، ما كانوا في الحقيقة إلا من أعضاء الطابور الخامس، وقد خرجوا من ألمانيا بجوازات مزورة مصنوعة في دائرة التزوير بالجستابو. وقد حصنتهم الدول الديمقراطية وعطفت عليهم حتى كشف لها الواقع أنها ما حصنت إلا ثعابين قتالة كانت تنفث السم في جسمها وهي غافلة عنها بعامل الشفقة والإحسان.
وكان أولئك (المضطهدون) يتسربون في كل مكان ومجتمع ويخالطون الجماعات الناقمة(413/28)
على النازية، لكي يطلعوا على أفكارها وحركاتها ونياتها، ويرسلون بها تقارير إلى الحكومة النازية (مضطهدتهم).
أما مهام الطابور الخامس العام فتنقسم إلى أربعة أهداف: الأول دعاية سياسية وثقافية. الثاني تمرين عسكري. الثالث تجسس اقتصادي. الرابع تجسس صناعي، كحمل العمال في البلدان الأجنبية على الإضراب أو تدمير المصانع. والدعاية الفكرية يقوم مبدأها على إظهار تفوق الجنس الآري، وهذا مثال منها نشر في الولايات المتحدة: (إن الولايات المتحدة ما بلغت درجتها الحاضرة من الثقافة والعمران لولا امتزاج العنصر الجرماني في مستوطنيها الأولين). فالطابور الخامس إن هو إلا شكل جديد للجاسوسية، ولكنها تفوق كل أنواع الجاسوسية المعروفة بجرائمها الهائلة وغدرها الشنيع وأساليبها الفظيعة.
إن أمضى سلاح استخدمته ألمانيا لاكتساح نروج هو الطابور الخامس، وقد ذكرت الكاتبة النروجية الشهيرة (سيجريداوندست) في ما روته عن مأساة وطنها ما يأتي:
(كان علينا ألا نتكل على حيادنا وأن نتسلح استعداداً للطوارئ. إننا قلما اكترثنا للطابور الخامس الألماني، فجر علينا إهمالنا محنتنا الحاضرة، إذ في ظلال السنوات الأخيرة كان كثيرون من شبان الألمان يأتوننا زائرين ويتوغلون في بلادنا دارسين طبيعة أرضنا، راسمين مواقعها الحربية وطرقها ومعابرها وكل ما يهمهم منها. وعلى الجملة كانوا يعرفون نروج أكثر من سكانها الأصليين).
وفي رأي النازيين أنهم ذوو حق شرعي في كل بلاد يقيمون فيها. يدل على ذلك ما وجد في ولايات البرازيل الجنوبية، وفي شمال الأرجنتين من الألواح التي تحمل الكلمات التالية: (هذه الأرض جزء من ألمانيا)
(العصبة)(413/29)
وا شقيقاه!!
للآنسة الفاضلة فدوى طوقان
(في الساعة التاسعة من مساء الجمعة الثالث من شهر مايو
1941. خبا السراج الذي كان يسكب النور في جوانب نفسي
ويهديني إلى سبل الحق والخير والجمال لقد ذهب شقيقي
إبراهيم وخلف لي حسرة الأبد.)
(فدوى طوقان)
و (الرسالة) تقدم إلى الآنسة الفاضلة أجمل العزاء، وتشاطرها
ما أظهرت من العواطف الصادقة في هذا الرثاء.
وا شقيقاه، ما أجلَّ مصابي ... كيف أوْدَى الرَّدى بزين الشبابِ
كيف جفَّ الغصن الرطيب وأضحى ... يا لقلبي موسداً في الترابِ
وا شقيقاه، مالَ في عمر الورد ... غضيرَ الصِّبَى نضيرَ الإهابِ
أين مني أخي؟ ليَ الله! ما خلاّ ... هـ عني؟ ما عاقه عن جوابي؟
سلبتني الأيام بهجة عيشي ... يوم ولَّى وحطَّمتْ أعصابي
وأعاضتْ قلبي من النور ناراً ... ليس تخبو على مدى الأحقابِ
ليت شعري أخي لفقدك أشجَى ... أم لطفليك أم لحظي الكابي
أمْ لأمْ الطفلين لوّعها الثكلُ ... فباتت في حسرة واكتئابِ
دمعها من عصارة القلب، والهْفى ... على قلبها الجريح المذابِ
ودَّعتْ بعدك المباهج وآلاف ... راح واستقبلتْ مقيم العذابِ
لهفَ نفسي على نضير صباها ... ينزوي في الأسى وسود الثيابِ
حرَّ قلبي لجعفر وعريبٍ ... إذ هما يرقبان يوم الإيابِ
كلما استشعروا إليك حنيناً ... هاج في الصدر من طويل الغيابِ(413/30)
هتفا باسمكَ الحبيبِ وباتا ... رهن همٍ ووحشة وارتقابِ
أوحشتْ بعدك المجالس والأسما ... ر وارفضَّ مجمع الأحبابِ
وانطوى الأنس إذ طوتكَ الليالي ... عن نفوس الأتراب والأصحابِ
كنت ريْحانها فغُيِّبْتَ عنها ... في صعيد قفر الجناب ببابِ
حسرتا للخلائق الزُّهْر تُطوى، ... للمزايا وللسجايا العِذابِ
ليت شعري ما عالمٌ صِرتَ فيه ... عن عيون الأحياء خلف حجابِ؟
أهوَ شط الأمان للنفس بعد ال ... خوض في مزبدات طامي العُبابِ
أترى فيه راحة من عناءٍ ... وقراراً من حيرة واضطرابِ
يا شقيقي حدّث، أتنضبُ في ... هـ النفس من كل رغبة وطِلابِ
هل نفضتَ اليدين من نشوة الأح ... لام والشعر والمنى والرغابِ
هل طرحتَ الآلام عنك وكم ... عانيتَ منها مَضاً وطول اصطحابِ
قد سقتك الحياة في العسر واليسر=بكأسين من شهادٍ وصابِ
وبلوْتَ الصحاب في السر والجهر ... فمن بين خالص ومحابي
أقصر اليوم صاحب وعدوٌ ... وَوَهَتْ بينكم عرى الأسبابِ
حسراتي عليكَ ما تنقضي ... لا، ولن ينتهي عليك انتحابي
ويعزّون فيك يا صِنْوَ نفسي ... أيَّ شيء فيه العزا عن مصابي
ما عزائي أخي وقد كنتَ حظاً ... من حظوظي وكنت من آرابي
كنتَ أَزْرِي، إنْ ضِقْتُ بالهم والكر ... ب جَلوْتَ الأسى وفرَّجْتَ ما بي
فإِلى من أشكو إذا حزَبتْني ... طارقات الهموم والأوصابِ
يا شقيقي مهِّدْ لجنبي مكاناً ... وارتقبني فإِنني في الرِّكابِ
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(413/31)
ألقاب الشرف والتعظيم
عند العرب
للأب أنستاس ماري الكرملي
- 4 -
9 - القيصر
هذه الكلمة واضحة الأصل اللاتيني وهو وكثيراً ما ينقل الحرف إلى القاف العربية أو الكاف، والحرف إلى السين أو الصاد العربيتين. وأما قول القلقشندي في صبح الأعشى (5: 482): (وأصل هذه اللفظة في اللغة الرومية (جاشر) بجيم وشين معجمة فعربتها العرب (قيصر)) فغير صحيح البتة؛ لأن (القيصر) بهذا التعريب أقدم من تعريبها بصورة (جاشر) فهذه بالنسبة إلى تلك محدثة، وقد قيل أو يقال اليوم (جُيْزر) وتلفظ بالأحرف الإفرنجية العصرية. وأما الرومان الأقدمون فكانوا يقولون والسين تلفظ سيناً صريحة لا زاياً كما يلفظونها اليوم، إذا وقعت بين حرفين مليلين. وكذلك كان الرومان يقولون في أول الأمر (بيسو) لا (بيزو) ولا (بيشو). وكانوا يقولون (ألياقيم) لا (الياجيم) ولا (الياشيم) ولا (الياسيم). وأما قولهم اليوم (ألياجيم) بالجيم المعقودة، فمحدث بالنسبة إلى قولهم القديم (ألياقيم) أو (ألياكيم).
وأما متى أبدلوا اللفظ الواحد من اللفظ الآخر، فحدث رويداً رويداً، ومن شخص نافذ الكلمة إلى شخص دونه، ومن بلد إلى بلد حتى عم اليوم البلاد الإيطالية كلها. وأما علماء ألمانيا فيعودون إلى لفظ كافاً حينما وقعت بدون أدنى تغيير، فيقولون (كيكرو) ولا يقولون (شيشرو) ولا (جيجرو) ولا (سيسرو)
ومن الغريب أن العرب تَبعتْ لفظ الرومان في عصرهم، فكان اللفظ القديم (قيصر) ثم صار (شيزر)، فقالوا: (قلعة شيزر) ولم يقولوا: (قلعة قيصر) وهي والآن صاروا يقولون (جيزر) ولفظها القلقشندي (جاشر) وهو لفظ لا ينطق به أحد، لأنه كثيراً ما يصحف الألفاظ الأعجمية فيجعل سينهم شيناً معجمة، ويجعل الجيم المثلثة المعقودة جيماً عربية أو جيماً مصرية. وكل ذلك خطأ.(413/32)
وقال القلقشندي بعد ذلك: (ولها (أي لكلمة قيصر) في لغتهم معنيان: أحدهما الشعر، والثاني الشيء المشقوق) اهـ
قلنا: اللفظة التي تدل على شعر الرأس عند الرومان هي (قيْصر يَسْ) (قَيْصر) كما توهمه القلقشندي. فيحتمل أن يكون السبب لتسمية (قيصر) هو ما يقوله، نقلاً عمن سمع عنه
وقال القلقشندي بعد ذلك: (واختلف في أول من تلقب بهذا اللقب منهم: فقيل أغانيوش أول ملوك الطبقة الثانية منهم. سمي بذلك لأن أمه ماتت وهو حمل في بطنها فشق جوفها وأخرج فأطلق عليه هذا اللفظ، أخذاً من معنى الشق؛ ثم صار علماً على كل من ملكهم بعده. وقيل أول من لقِّب بذلك يوليوش الذي ملك بعد أغانيوش المذكور. وقيل أول من لقب به أغشطش. واختلف في سبب تسميته بذلك، فقيل: لأن أمه ماتت وهو في جوفها فشق عنه وأخرج، كما تقدم القول في أغانيوش. وقيل لأنه ولد وله شعر تام فلقب بذلك، أخذاً من معنى الشعر كما تقدم. ولم يزل هذا اللقب جارياً على ملوكهم إلى أن كان منهم هرقل الذي كتب إليه النبي صلى الله علي وسلم)
قلنا: إن الذي عندنا أن قيصراً سمي كذلك من معنى الشعر لا من معنى البقر (أي شق البطن)، لأن أول من سمي بقيصر لم يكن خشعة (أي مُخرجاً من بطن أمه ببقره). بل كان مولوداً وعلى رأسه شعر، وهو أكتافيوس أو أكتابيوس. هذا فضلاً عن أنه كان خشعة لسماه السلف (خشعة) لأن هذه الكلمة معروفة عندهم، وما كانوا سموه (قيصراً)
10 - الأطربون
قال في تاج العروس في مادة (طرب): والأطربون: البطريق. كذا في شرح أمالي القالي. وحكي عن ابن قتيبة: أنه رجل رومي. وذكر الجواليقي. وقال ابن سيدة: هو الرئيس من الروم. وقال ابن جني في حاشيته: هي خماسية كعضرفوط فعلى هذا وضعه النون والهمزة، والصواب: أن وزنه أفعلون من الطرب. وهذا موضع ذكره استدركه شيخنا) انتهى
قلنا: الاطربون غير البطريق، وكان في أول أمره: حاكم القبيلة، ثم جعل حاكماً على الجند فحاكماً عليهم مع سلطة هيباط. ولو اتخذ عبارة اللسان لكان أحسن. فقد قال ابن مكرم:(413/33)
(الاطربون: من رؤساء الروم وقيل: المقدم في الحرب، وقال عبد الله بن سبره الحرشي:
فإن يكن أطربون الروم قطَّعها، ... فإن فيها بحمد الله منتفعا
قال ابن جني: هي خماسية كعضرفوط) اهـ
قلنا: وأما ما حكي عن ابن قتيبة أنه رجل رومي، فليس من الموضوعات، فقد كان رجل اسمه (اطربونو) وكان الدوج السابع عشر للبندقية توفي سنة 912
وأما قولهم هو الرئيس من الروم؛ فكلام لا يحصل منه شيء. فالرؤساء طبقات. وهناك رؤساء مدنيون وعسكريون وروحانيون وأصحاب مهن إلى ما شابهها. فقولهم هو الرئيس من الروم كلام مبهم؛ والأحسن ألا يذكر مثل هذا التعريف الخالي من حلية تحليه
وقول ابن جني أنه خماسي هو القول الحق الذي لا ريب فيه
وأما قول الشارح: أن وزنه أفعلون من الطرب، فالقسم الأول من عبارته صحيح، أي أن وزنه أفعلون. وأما القسم الثاني أنه من الطرب، فهو الخطأ بعينه، لأن الكلمة ليست عربية بل هي رومية (لاتينية) ومعناها في الأصل: حاكم القبيلة كما قلنا. وهل يعقل أن الرومان يسمون رئيساً من رؤسائهم المدنيين باسم عربي؟ فهذا لا يعقل. فموضع ذكره إذن في (أط ر ب ون)، لأن جميع أحرف الكلمة الدخيلة أصول كما اتفق عليه جمهرة اللغويين بلا شاذ واحد
11 - الفرناس
12 - البرنس
وهو البدء عند العرب؛ والفرسان تعريب فرن (س) ا (ب) س ونقل الحرف الإفرنجي إلى الفاء أو الباء، أشهر من أن يذكر. وكان حق السلف أن يقولوا فيها (فرنكابس) لكنها ثقيلة وليس لها وزن عربي فخففوها وحملوها على مركب عربي ليرحب بها أهل الذوق السليم. ولم يذكر أحد أنها معربة. وهي في لغة الرومان تفيد (الأول في قومه)
والظاهر أن بني عدنان لم يعرفوا معناها حق المعرفة لأسباب، منها:
أنهم ذكروها في مادة (ف ر س) اعتقاداً منهم أنها عربية النجار
أنهم ذكروا لها معاني قاربوا فيها الحقيقة لكنهم لم يصيبوها، فقد شرحوها بقولهم: (الفرناس(413/34)
كفرصاد: رئيس الدهاقين أو الفري. عن ابن خالويه. . . والأسد الضاري، وقيل الغليظ الرقبة.
وقال ابن خالويه: سمي الأسد فرناساً، لأنه رئيس السباع، ونونه زائدة عند سيبويه، كالفُرَانس بالضم. والفرناس أيضاً: الشديد الشجاع من الرجال، شبه الأسد. قال النضر في كتاب الجود والكرم: والفِرْنَوس كفِرْدَوْس من أسماء الأسد. حكاه ابن جني وهو بناء لم يحكه سيبويه، وأسد فرانس كفرناس فُعائل، وهو مما شذ من أبنية الكتاب) أهـ
فالكلمة إذن عرِّبت على صور مختلفة، واختلاف اللغات آت من عجمة اللفظة، وسمى العرب الأسد (فرانس) و (فرناس) و (فرنوس) لأنه الأول بين السباع كما قال ابن خالويه، وكما يقول الفرنسيون:
وكتاب العرب نسوا ما عربه السلف فنقلوا اللفظة الإفرنجية بلا أدنى تغيير في عهد العباسيين، فسموا الفرناس (برنس) نقلاً عن الفرنسية والذين نقلوا هذا اللفظ بهذه الصورة هم جميع المؤرخين الذين دونوا الوقائع في القرون الوسطى. وإذا عذرنا الجميع من هذا التعريب الحديث فلا نعذر ابن شداد قاضي حلب صاحب كتاب النوادر السلطانية، في المحاسن اليوسفية، فقد قال في حوادث سنة 586 هـ (1190 م): (إن البرنس صاحب إنطاكية، خرج بعسكره نحو القرايا الإسلامية) أهـ
فنستنتج من هذا: أن العرب كانوا يتصرفون في اللفظة الواحدة على مناح شتى، اعتماداً على ما يسمعونه في عصرهم وبلادهم لا على ما نقله أجدادهم، ولا على ما يرونه مدوناً في دواوين من تقدمهم من السلف، بل يعتمدون على لغة الأقوام الذين يطوون بساط أيامهم بين ظهرانيهم. فإذا سلمنا بهذا، عذرنا ابن شداد نفسه لجريه على هذا المنحى من صنع الناطقين بالضاد.
وهل تعلم ما كان اسم البرنس عند بني مُضر في أقدم الزمان؟ كانوا يسمونه (البدء) أي الأول وهو معنى البرنس الأجنبية. والدليل على ذلك ما ذكره ابن خلدون في كتابه العبر، وديوان المبتدأ والخبر (2: 263 من طبعة بولاق): (ولما هلك عمرو ابن عدي، ولي بعده على العرب، وسائر مَنْ ببادية العراق، والحجاز، والجزيرة، امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، ويقال له (البدء)، وهو أول من تنصَّر من ملوك آل نصر، وعمال الفرس) اهـ،(413/35)
وكانت وفاته في نحو سنة 338 للميلاد. فالبدء إذن قديمة بمعنى البرنس
وكلام ابن خلدون هذا مقتبس من تاريخ الطبري (1: 833 وما يليها): (وكان من عمال سابور بن أردشير، وهرمز بن سابور، وبهرام بن سابور، بعد مهلك عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة على فُرَجِ العرب من ربيعة، ومُضَر، وسائر من ببادية العراق، والحجاز، والجزيرة يومئذ، ابنٌ لعمرو بن عدي، يقال له (امرؤ القيس البدءُ)، وهو أول من تنصَّر من ملوك آل نصر بن ربيعه، وعمال ملوك الفرس. وعاش فيما ذكر هشام بن محمد، مملكا في عمله، مائة سنة وأربع عشرة سنة) اهـ.
وفي التاج: (البَدءُ: السيد الأول في السيادة. والثُنيان الذي يليه في السُؤدْدَ. قال أوس بن معري السعدي:
(ثنياننا إن أتاهم كان (بدئهم) ... و (بدئهم) أن أتانا كان ثُنْيانا) اهـ
فلم يبق شك في أن (البدء) يقابل البرنس عند الإفرنج والثنيان يقابل الدُوق عندهم.
(له صلة)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد للغة العربية(413/36)
من أشجان الربيع
حبي. . .!
للأديب إبراهيم محمد نجا
ذاك حبي أيها القلب على المَرج البديعِ
سدَّد الدهر إليه، ورماه في الضلوع
بينما كان يغني فوق هاتيك الربوع
فجثت من حوله الغربان تبكي في خشوع
ونسيم الفجر غشَّاه بأكفان الدموع
عجباً! كيف يموت الحب في فصل الربيع؟
فابك يا قلبي فما الدمع سوى ... سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى ... ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
يمرح الناس كما شاءوا على العشب الرفيفِ
ويغنون مع الطير على نقر الدفوف
الصِّبا الباسم، للحب، وللنور اللطيف
للربيع الطلق، للأحلام، للزهر المَشُوف
وأنا وحديَ - يا ويلاه! - ذو قلب لهيف
كل أيامي تفشتها كآبات الخريف
فابك يا قلبي فما الدمع سوى ... سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى ... ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
هاهمُ العشاق يمشون إلى وادي الغرامِ
مثلما تمشي إلى الجدول أسراب الحمام
نشوة الحب سرت في دمهم مثل الضرام
والأماني البيض غنَّت لهُم فوق الغمام
وأنا من يأسيَ المُرِّدفين في الرجام
حائر لا أعرف الصفو ولا طيب المقام(413/37)
فابك يا قلبي فما الدمع سوى ... سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى ... ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
يا ربيع الحب! أين الحب؟ يا نبع الرجاءِ
أنا ظمآنُ!. . . وفي نبعك رِيٌ للظماء
أنا حيرانُ!. . . وفي فجرك أطياف الضياء
أنا سأمانُ!. . . وفي نايك أفراح السماء
لست أدري أربيعي أنت، أم أنت شتائي؟
لم أجد فيك لقلبي غير هّمٍ وشقاء
فابك يا قلبي فما الدمع سوى ... سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى ... ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
ليتني كالطائر الغرِّيد في تلك النواحي
ليتني كالزهرة البيضاء في نور الصباح
ليتني كالجدول الرقراق في تلك البطاح
ليتني كاللحن، كالطَّل على ثغر الأقاحي
ليتني! أوَّاهُ مما في فؤادي من جراح
فُجِّرت منها دموعي، وأغانيُّ نُواحي
فابك يا قلبي فما الدمع سوى ... سلوة المحزون أضناه النوى!
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى ... ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
أيها الوردُ، جميلٌ أنت، لكني حزينُ
أيها الأفق، رحيبٌ أنت، لكني سجين
أيها النورُ، رطيبٌ أنت، لكني دفين
حطم الدهر جناحي، وبرت جسمي السنون
ومشى اليأس على قلبي، وغشَّتني الشجون
فحياتي كلها بلوى، وشكوى، وأنين
فابك يا قلبي فما الدمع سوى ... سلوة المحزون أضناه النوى!(413/38)
رُب صادٍ شرب الدمع ارتوى ... ودموعٍ أطفأت نار الجوى!
إبراهيم محمد نجا(413/39)
رسالة العلم
حول أبعاد الحيز
آلة الوقت
(إلى أستاذي الفاضل جردان أهدي هذه الفصول)
للأستاذ خليل السالم
لا أريد بتلخيص هذا الكتاب تعريف القراء بالكاتب العبقري ويلز، فويلز ليس غريباً عنهم. لقد سمعوا المحاضرين يتحدثون عنه بكل تجلة واحترام، وقرءوا الكتاب يستقون من نبعه الصافي آراء ثاقبة في علم الاجتماع وفي علم التاريخ وحول مستقبل الإنسانية، وترجم له كثير من الروايات البديعة التي كان فيها نسيج وحده. ولو أنني قصدت ذلك لأصاب مقالي الفشل، لأن عبقرية ويلز المحيطة لا تبدو جلية واضحة في مقال قصير، ولا يعبر عنها تلخيص كتاب أصدق تعبير.
أريد بهذا العرض الموجز أن يكون مقدمة مناسبة للبحث (حول أبعاد الحيز) وهو بحث قيم في فلسفة الرياضيات يجدر بكل مثقف أن يطلع عليه، وبودي أن أطلع عليه قراء العربية بواسطة الرسالة الغراء إن اتسع صدرها لمثل هذه الأبحاث.
ولسنا في حاجة للقول أن ظهور هذا الكتاب منذ زمن بعيد أي نحو سنة 1888 لا يغض من قيمته، فالآثار الخالدة لا تعرف الزمن ولا تقف روعتها عند ما تهرم أو يبلغ عمرها سناً بعينها، وآلة الوقت طليعة موفقة لروايات أتحف بها ويلز قراء العالم أجمع، وهذه الروايات تتميز أول ما تتميز بالفكرة العلمية في بوتقة الأدب الحي والخيال الرائع والتصوير الصادق. ولا أكتم أن تبيين هذه الفكرة العلمية في آلة الوقت هو رائدي أولاً وآخراً.
نحن في أمسية صاحية، وقد جلس مخترع (آلة الوقت) بين نفر من صحبه ينعمون بدفء الغرفة وإشعاع الخمر في كاساتها ويتناوبون الحديث فنسمع أول ما نسمع مخترع (آلة(413/40)
الوقت) ينعى على العالم قبوله بعض الآراء الخاطئة دون تحقيق أو تمحيص، ويذكر على سبيل المثال الهندسة الإقليدسية؛ فهي لا تدرس في المدارس بالطريقة المثلى ولا تفهم على الوجه الصحيح، وإلا فكيف نؤمن بوجود مكتب أو أي جسم إذا كان له طول وعرض وسمك فقط؟ أنستطيع القول أن هذا المكتب موجود إذا لم يشغل حيزاً ولو لحظة قصيرة من الزمان؟
ويستمر في حديثه قائلاً: من الواضح أن لكل جسم امتداداً في أربعة أبعاد: الطول والعرض والعلو (السماكة أو العمق) والاستدامة الزمنية وهذا البعد الرابع (الزمن) لا يختلف عن الأبعاد الثلاثة في شيء سوى أن وعينا يتحرك معه فلا نشعر به كبعد رابع يمكن أن نتحرك فيه. وإني لأعجب كيف يجد بعضهم في فكرة البعد الرابع الهجنة والغرابة. لا أكتمكم أنني كنت من المشتغلين إلى أجل غير قصير بهندسة الأبعاد الأربعة وتوصلت إلى نتائج غريبة: هذه صورة رجل في الثالثة ثم في الثامنة ثم في الخامسة عشرة ثم في السابعة عشرة ثم في الثالثة والعشرين وهكذا. وهذه الصور تمثل في ثلاثة أبعاد كيانه الرباعي الأبعاد الذي لا يتغير ولا يتبدل. انظروا أيضاً هذا الخط البياني، إنه يرمز إلى قراءات البارومتر في فترات متقطعة من الزمان. لقد كان البارومتر مرتفعاً في الصباح ثم انخفض قليلاً عند الظهر ثم عاد إلى الصعود ثم عاد إلى الهبوط وهو في كل هذا يرسم خطاً بيانياً الزمن بعد فيه.
وقد ابتدأ رجال العلم يلمسون هذه الحقائق، فمنذ أجل قصير سمعت أحدهم يتحدث عن الزمن كبعد رابع بمثل هذا التأكيد.
وهنا يعترض أحد الجلوس وهو طبيب: (إذا كان الزمن بعداً كأي أبعاد الفضاء فلم لا نستطيع أن نتحرك فيه كما نتحرك في الفضاء وننتقل فيه كما ننتقل من مكان إلى آخر؟).
وهنا نرى صاحبنا تلتمع عيناه ونسمعه يجيبه تعلو الابتسامة شفتيه: (سؤال وجيه. ولكن قبل أن نحاول الإجابة عليه نريد أن نتحقق من الحقيقة التي يتضمنها كأنها حقيقة مفهومة بداهة. هل حقيقة نستطيع أن نتحرك في الفضاء بسهولة؟ أنا متأكد أن هذا صحيح في بعدين فقط؛ أما البعد الثالث (العلو) فيشذ عن هذا الحكم. وأنى لنا أن نفلت من سنة الجاذبية؟ إننا محصورون ضمن جدران المكان لا نتمتع فيه إلا بقدر ضئيل من الحرية(413/41)
والانطلاق، وحريتنا هذه تعتمد على ما تسنى لنا المرتفعات والجبال في الأرض، أو قوتنا في القفز العالي، أو آلات الطيران كالمناطيد مثلاً).
ويقاطعه الطبيب أيضاً: (إذا كنا كما تقول محصورون حقيقة ضمن نطاق المكان فلا شك أن سجننا في الزمان أضيق حدوداً وأكثر قيوداً، فأنت لا تستطيع بأي جهد مهما كان عظيماً أن تتخلص من اللحظة الحاضرة).
ويجيب صاحب الاختراع مسرعاً: لا. هذا هو الخطأ بعينه؛ وهو خطأ درجت عليه الإنسانية من قديم الأزمان منذ عرفت معنى الأبعاد. فنحن نستطيع أن نفك قيود الزمان، أو وجودنا العقلي الذي لا يتأثر بالأبعاد المكانية يتحرك في البعد الزماني بسرعة متناسقة من المهد إلى اللحد كما يسقط في البعد الثالث جسم على بعد عدة أميال من الأرض. ثم نحن نستطيع أن نستعيد من الذكريات ما نشاء فنسترجع الماضي ونتحرك في الزمان. وإذا كانت الآلات الطائرة قد سهلت مهمة الانطلاق في البعد الثالث فلماذا لا يتسنى هذا في البعد الرابع؟ أرجو ألا تعجبوا كثيراً أو تستهجنوا أن تكون هذه الفكرة الأخيرة قد شغلت دماغي مدة طويلة. إن هدفاً غامضاً كان يسير أبحاثي ويتجه بها نحو وضع تصميم آلة تتحرك في الوقت.
وبالرغم من رجاء صاحبنا يقاطعه صحبه بعلامات التعجب والدهشة والاستنكار والسخرية، ولكنه لا يلبث أن يخفف من حدتهم عندما يخبرهم بكل ثقة واطمئنان أن أبحاثه قد أثمرت، وأن جهود عامين متتاليين قد وصلت بالآلة إلى درجة الكمال. وليتحققوا من ذلك بأنفسهم يصمم أن يجرب التجربة الأولى تحت سمعهم وبصرهم.
ويذهب إلى مختبره ليعود بعد دقائق معدودة يحمل في يده آلة صغيرة دقيقة الصنع تشبه ساعة الجيب كثيراً، ويضعها على المنضدة أمامه، ثم يشير إلى زرين إذا ضغط أحدهما تندفع الآلة في الزمن، وإذا ضغط الثاني انعكست الحركة. ويطلب من أحدهم - وهو عالم نفساني - أن يضغط الزر بنفسه. ولا تستطيع أن تتصور مقدار العجب الذي تملكهم عندما حامت الآلة قليلاً كنسمة عاصفة فوق رؤوسهم، ثم اختفت ولم تترك خلفها أثراً.
لم يكن للآلة من سبيل لأن تغادر الغرفة، وهي لم تبق فيها، فلا شك إذاً أنها سافرت عن طريق البعد الرابع، وهو بعد عمودي على المتعامدات الثلاثة المألوفة، ولابد أن يكون(413/42)
الزمان هذا البعد الرابع كما فهمنا سابقاً.
إذا كانت الآلة قد تحركت بسرعة تساوي سرعة الزمن، فهي تبقى دائماً في الحاضر. أما إذا كانت قد تحركت بسرعة تفوق سرعة الزمن، فتكون قد اندفعت في المستقبل. أما إذا كانت سرعتها أقل من سرعة الزمن، فإنها قد عادت إلى الماضي. هذه ثلاثة احتمالات نفي أحدها وهو الأول، لأن الآلة لم تبق في الحاضر، ولم يكن لدى صاحب الاقتراح طريقة يفصل بها بين الاحتمالين الآخرين، إلا أنه يقول لصاحبه: إن راكب الآلة يستطيع أن يتحقق من ذلك بنفسه. وإذا ما سألوا كيف ذلك أجابهم أن تلك الآلة الصغيرة لم تكن إلا أنموذجاً للآلة التي سيمتطيها عند رحلته في آفاق الزمان. وينتقل بهم إلى مختبره يريهم تلك الآلة، ثم ينفض الاجتماع على أن يعودوا في الأسبوع القادم لإجراء التجربة على الآلة الكبرى.
نحن في مساء الخميس التالي، وقد جلس الرفاق ينتظرون على أحر من الجمر مخترع (آلة الوقت) الذي تأخر على غير عادة ويقررون أن يقضوا الوقت في تناول طعام العشاء، ويتناقلون في هذه الأثناء حديثاً متقطعاً قلقاً، ينبئ عما في نفوسهم من الشوق الملح لمجيء صاحب الاختراع.
لا تسل عن مقدار فرحهم ودهشتهم في آن واحد عندما فتح الباب بكل هدوء وسكون ودخل صاحب الاختراع شاحب الوجه مغبر الثياب، دامي الأقدام، كأنه عاد من سفر بعيد عانى فيه ما عانى (السندباد) من ألوان العذاب والشقاء في جميع رحلاته. وتحار الأسئلة على وجوههم فلا يعبأ بها، ويعمد إلى كأس مما بين أيديهم من الشراب فيكرعها حتى آخر قطرة، وكأنه استعاد بعض حيويته ونشاطه، يخبرهم أنه ذاهب إلى الحمام، ويرجوهم أن يتركوا له قطعة لحم، فهو يخشى على معدته أن تهضم نفسها لفرط ما بلغ منه الجوع. . . ويعود بعد هنيهة موفور النشاط يقص عليهم خبره مشترطاً ألا يقاطعه أحدهم أو أن يضطره للجدل والنقاش اللذين لا يحتملهما جسمه المجهد المضني. قال صاحبنا:
(لقد قدر لبعضكم أن يروا يوم الخميس الفائت (آلة الوقت) وهي في طور العداد والتركيب، وفي صباح اليوم فقط قدر لآلة الوقت الأولى أن تتنسم أولى نسمة من نسمات الحياة وأن تدخل في العمل؛ فقد ألقيت عليها نظرة فاحصة أخيرة، وسكبت بعض نقاط الزيت بين(413/43)
أجزائها وامتطيت صهوتها. وضعت يدي اليمنى على الزر الأول ويدي اليسرى على الزر الثاني، وكان في نيتي أن أقوم بالتجربة بنفسي وأتحقق من عمل اختراعي. بقيت غير قليل بين إقدام وإحجام حتى جمعت كل ما في نفسي من عزم، فضغطت الزر الأول، وما راعني إلا أن أرى الساعة تتقدم، كأن عقرب الساعات فيها هو عقرب الثواني، ورأيت أحدهم يتحرك كأنه عقاب الجو ينقض على فريسته. وعندما ضغطت الزر إلى نهايته، رأيت الشمس تسبح في الفضاء بسرعة غريبة. . . والليل والنهار يذهبان ويجيئان في لمحة خاطفة، وكان تتابعهما مما يؤذي عيني. . . ورأيت القمر يتحول بين عشية وضحاها من هلال إلى بدر إلى هلال. . . وهكذا وجدت أنني قد قذفت نفسي في أعماق المستقبل، ولم يخطر ببالي أن أضغط الزر الثاني لأعكس الحركة، فقد
شغل استكناه المجهول وكشف حجبه وهتك ستائره كل خاطري، ووددت أن أعرف التطورات الجديدة التي طرأت على الإنسانية، وأين وصلت هذه في تقدمها العجيب. إلا أنه في الوقت نفسه كان خاطر يزعجني، فربما أحاول إيقاف آلتي فلا تعنو لإرادتي وتستمر في سرعتها، أو أن تصطدم بمادة في الفضاء تتحطم عليها، وعندئذ نفلت أنا وهي من حدود الأبعاد ونلقى بكل عنف في أعماق المجهول، لذا قررت أن أقف في هذه المخاطرة عند حد، فأوقفت آلتي ونزلت أرضاً غريبة لم أتصورها يوماً حتى في أحلامي وأوهامي، ويخيل لي إلي أن التقاويم كانت لسنة (802701) واخترت مكاناً هادئاً وضعت فيه آلتي وأخذت معي مفتاح الحركة وذهبت أتجول لأتعرف مناطق الحياة في هذا العالم الجديد).
يحدثنا ويلز بعدئذ على لسان بطله عن العالم في المستقبل فيرى أن الإنسانية لن تنتصر في التربية الخلقية والتعاون العلمي، وإنما تنتصر بعلم ناضج لا على الطبيعة فقط، بل على أخيها الإنسان أيضاً. في ذلك العالم الجديد تفرقة وتباين واسعان بين العامل وصاحب المال، فالمجتمع منقسم إلى فريقين: فريق يعيش فوق الأرض يمثل أرستقراطية متعجرفة وهو قد آثر الدعة واللين وعمت بين أفراده الاشتراكية فأمحت الفروق حتى بين الجنسين وأصبحت الأرض له حديقة غناء ملأى بالأزهار والرياحين، فليس ما يشغل باله سوى تبادل الحب والتنعم بطيبات المأكل واللعب الهادئ والاستحمام في الأنهار والتمتع بالنوم المريح؛ وفريق ثان يعيش تحت الأرض يدير أعمال الصناعة ويمد الإنسان الأعلى(413/44)
بضرورياته وكمالياته، ولا يخرج هذا الفريق من كهوفه إلا ليلاً، فأصبح النور يؤذي عينه؛ ولذا كان سلاح البطل الوحيد الذي يتقي به شر تلك المملكة المظلمة هو عود الثقاب يشعله فتهرب منه تلك المخلوقات الحقيرة كما تهرب الخفافيش من وهج الشمس الساطعة.
وقد ارتقى الطب في العالم الجديد ارتقاء مثالياً فلم يعد يخشى شر الأوبئة بعد، وعم الأمن سائر أرجائه مما بعث في النفوس الضعف والارتخاء والكسل.
ويشعر المسافر أن الشقة بينه وبين عالم ذلك العصر الذهبي أكثر اتساعاً من الشقة التي تفصل أبناء لندن عن زنوج أفريقيا. ولذا يجد من الصعب جداً أن يشرح لرفاقه مظاهر التقدم والحضارة شرحاً وافياً. ترى ماذا يستطيع زنجي نزل لندن وشاهد ابتكارات العلم فيها أن يصف لقومه إذا ما رغب التحدث عنها؟
ولا أحب أنا أن أطيل في الوصف الذي حدث به المسافر، فالإيجاز هنا يقلل من روعة الخيال وسموه؛ وأفضل أن يعود القارئ إلى الكتاب فيتمتع بالجو الذي يخلقه ويلز ويطلع على آرائه المبنية على الفكرة العميقة والنظر الثاقب؛ وتقدر هذه الآراء حق قدرها إذا علمنا أنه قدم اقتراح لأن يصبح ويلز (نبي العرش) كما أن هناك (شاعر العرش). وذلك لكثرة ما حدث ويلز عن مستقبل العوالم القادمة، ولكثرة ما أصاب في كثير من تنبؤاته.
وقبل أن ينتهي المسافر من قصته الشائقة التي تذكر برحلة (جعفر) في بلاد (ليليبت) يخاطب رفاقه بصوت هادئ رزين: (لا أتوقع أن تصدقوا كل أقوالي، غير أني أترك لكم أن تظنوا بي ما شئتم من الظنون. اعتبروها كذبة أو نبوءة، قولوا إنها حلم أو تأمل لمصير الإنسانية، وإنني عندما أحاول تأكيد صحتها إنما أفعل ذلك لأزيد في لذة القصة وجمالها؛ ولنفرض أنها رواية فماذا ترون فيها؟).
هذا ملخص موجز لكتاب آلة الوقت، وبودي أن أنبه إلى أن هذه الفكرة العلمية - الزمان بعد رابع - التي زين بها ويلز جيد روايته كانت قبساً مشعاً استنار به ناموس النسبية، ذلك الناموس الذي يعد بجدارة أقصى ما توصل إليه العقل البشري من الكمال في التحليل الرياضي الطبيعي. هل الزمن حقيقة بعد رابع؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في البحث القادم.
(الجامعة الأمريكية - بيروت)(413/45)
خليل السالم(413/46)
البريد الأدبي
كيف يرى الأستاذ المراغي الإصلاح ولا ينفذه
نشكر للأستاذ الجليل صاحب مجلة الرسالة عنايته بإصلاح الأزهر، لأنا نعتقد أن عنايته بهذا الإصلاح ستكون من أكبر العوامل في تحقيقه، لما للرسالة من المكانة بين الناس عموماً، وبين الأزهريين خصوصاً.
وقد طلب الأستاذ الجليل من الكتاب أن يشرحوا الحوائل التي تعترض هذا الإصلاح، وتمنع الأستاذ المراغي من تنفيذ ما وضعه في ولايته الأولى على الأزهر، وهاأنذا أبين في إيجاز تلك الحوائل.
فإصلاح الأزهر على الوجه الذي يريده الأستاذ المراغي وغيره من المصلحين، يقتضي أن نفتح باب الاجتهاد في علومنا كلها، وفتح باب الاجتهاد في تلك العلوم يقضي على الكتب التي تدرس فيها من مئات السنين، والقضاء على تلك الكتب يقتضي خلق أزهر جديد، ويقضي على الأزهر القائم الآن، وهنا تعمل غريزة حب البقاء عملها، وتقف المصالح في سبيل الإصلاح، وهي مصالح الكثرة الغالبة في الأزهر، لأن أنصار الإصلاح بيننا قلة لا تذكر. وقد أراد الأستاذ المراغي أن ينفذ ذلك الإصلاح في ولايته الاولى، فوقفت تلك الكثرة في سبيله، وألجأته إلى ترك منصبه، فلم يشأ في هذه المرة إلا أن يلاين تلك الكثرة، ويتغاضى عن تنفيذ الإصلاح الذي يراه، حتى تتهيأ له الأسباب، فانصرفت النفوس عن الإصلاح تبعاً لانصرافه عنه، وصارت تعنى بأمور أخرى من الوظائف وما إليها، حتى استفحل الداء، وأعضل أمر الدواء.
ورأيي أن هذا الإصلاح لا يمكن تنفيذه بدون معونة الحكومة، فهي التي نفذت بالقوة أولى الخطوات فيه، وهي التي تستطيع بقوتها أن تنفذ هذه الخطوة الأخيرة منه.
(عالم)
تيسير الكتابة العربية
درست لجنة الأصول في مجمع فؤاد الأول للغة العربية مختلف المقترحات التي قدمت إليها في شأن تيسير الكتابة العربية وإدخال الشكل في صلب الحروف تخلصاً من الخطأ(413/47)
في الضبط وتسهيلاً للكتابة المشكولة في المطابع. وفي مقدمة المقترحات التي عنيت بها اللجنة مقترح للأستاذ علي الجارم بك، وقد نظرته في جلسات متعددة، وأدخلت عليه بعض التعديلات، وينتظر أن يعرض قريباً في صورته النهائية مذكرة لتطبيقه مكتوبة بالقواعد المرسومة فيه، فإذا أقرته اللجنة أدرج في برنامج الاجتماع المقبل لمجلس المجمع.
مأساة الفقهاء في عهد إسماعيل
أشار أحد الكتاب الأفاضل في مقال له بالعدد (411) إلى هذه الواقعة إشارة عابرة. وأحسب أن كثيراً من ناشئة هذا الجيل - وأنا منهم - يجهلون كل الجهل وقائع هذه المأساة على قرب عهدها في تاريخنا المديد شأن كثير من حادثات هذا الوطن جهلتها أو تجاهلتها كتب التاريخ الحديثة التي بين أيدينا.
فهلا تفضل أحد علماء الأزهر الأفاضل الذين يكتبون في (الرسالة) فحدثنا حديث هذه المأساة. . . وإنا له لشاكرون. . .
(المنصورة)
عبد الفتاح حسين عطية
دخول أل على غير
ذكرتني الكلمة التي كتبها الأديب أحمد حلمي العباسي في العدد 412 من الرسالة عن دخول أل على غير، ببحث كنت نشرته في جريدة الأهرام منذ عامين في هذا الموضوع، خرجت منه يومئذ - مؤيداً بمعاجم اللغة وكتب النحو - بعدم جواز دخول أل عليها لأنها متوغلة في الإبهام لا تتعرف.
ثم نشب على صفحات الأهرام جدال عنيف حول هذا البحث ولكنه لم ينته إلى رأي حاسم؛ وكانت شواغل الامتحان وشواغل العيش.
ولقد تبين لي في أثناء مطالعاتي طَوال تلك المدة أن ذلك الرأي لا يخلو من تعسف، ذلك أني وجدت أكثر المؤلفين القدامى في اللغة والأدب ينصون في كتبهم على أنها كلمة مبهمة لا تدخل عليها أل؛ ثم أراهم يقعون فيما منعوه وهذا غريب. فالأشموني والصبان وابن هشام والأمير وأصحاب شروح التلخيص وغيرهم يذكرون (الغير) عشرات المرات مع أن(413/48)
منهم من نصَّ على تخطئتها.
وليست (غير) وحدها التي حرمت أل؛ بل كذلك (كل) و (بعض)؛ والمؤلفون يعرِّفونهما في كتبهم.
ثم رأيت ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ينص على أن ذلك لا يجوز؛ ولكنه يبيح لنفسه استعماله في مواطن خاصة فيقول: (وقد استعملتُ في كثير مما يتعلق بكلام المتكلمين والحكماء خاصة ألفاظ القوم مع علمي بأن العربية لا تجيزها نحو قولهم الكل والبعض والصفات الذاتية والجسمانيات ونحو ذلك مما لا يخفى على من له أدنى أنس بالأدب، ولكنا استهجنَّا تبديل ألفاظهم، فمن كلم قوماً كلمهم باصطلاحهم) اهـ. وتلك حجة تؤيد الدكتور زكي مبارك في بعض ما يذهب إليه من آراء في اللغة. . .
ثم أراد الله أن أهتدي - في كتاب من كتب الفقه - إلى تعليل لإدخال (أل) على هذه الكلمات، والحق أنه تعليل طريف اطمأنت له نفسي، وقرت به عيني.
كنت أقرأ في (باب الحج عن الغير) في حاشية ابن عابدين فوجدت طَلِبتي عفواً. وهاأنذا أنقل ما وجدت إلى القراء. قال ج 2 ص 242: (اعترض في الفتح بأن إدخال أل على غير غير واقع على وجه الصحة، بل هو ملزوم الإضافة
لكن قال بعض أئمة النحاة: منع قول دخول الألف واللام على غير وكل وبعض وقالوا: هذه كما لا تتعرف بالإضافة لا تتعرف بالألف واللام. وعندي أنها تدخل عليها فيقال (فعل الغير كذا) (والكل خير من البعض). وهذا لأن الألف واللام هنا ليست للتعريف ولكنها المعاقبة للإضافة، لأنه قد نص أن غيراً تتعرف بالإضافة في بعض المواقع، ثم إن الغير قد يحمل على الضد، والكل على الجملة، والبعض على الجزء، فيصلح دخول الألف واللام عليه أيضاً من هذا الوجه؛ يعني أنها تتعرف على طريقة حمل النظير على النظير، فإن الغير نظير الضد والكل نظير الجملة والبعض نظير الجزء، وحمل النظير على النظير سائغ شائع في لسان العرب كحمل الضد على الضد كما لا يخفى على من تتبع كلامهم. وقد نص العلامة الزمخشري على وقوع هذين الجملتين وشيوعهما في لسانهم في الكشاف. أفاده ابن كمال) اهـ
قلت: في هذا مقنع وغناء، فقل (الغير) حيث تشاء.(413/49)
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
إمتاع الأسماع
قرأت - في الرسالة عدد 412 - كلمة الأخ الصديق الأستاذ محمد عبد الغني حسن عن كتاب (إمتاع الأسماع) الذي ألفه المقريزي، وكان له شرف تصحيحه وشرحه، وإني لأشكر للأخ الكريم ثناءه وحسن ظنه بأخيه. جزاه الله عني أفضل الجزاء.
وقد استدرك الأخ الأستاذ بعض ما فاتني من الخطأ، فله الشكر على اهتمامه وحسن تهَدِّيه ويقظة عينيه، وإن صحَّ لي أن أقول شيئاً تعقيباً على استدراك الأستاذ، فلست أزيد على أن التصحيح المطبعي صناعة وفن قبل أن يكون علماً ودراية، وكل ما استدركه - إلا الفقرة الأولى يدخل في باب تصحيح الأخطاء المطبعية، فالأخيرة منها مثلاً، وهي: (من هوزان) ص 401 مذكورة في هذا الوجه نفسه مرات كثيرة على الصواب (هوازن) بتقديم الألف على الزاي - لا كما جاءت في تصحيح الأستاذ نفسه (هوزان) كما في الإمتاع!! -، ولكن تنبُّه الأستاذ إلى مثل هذه الأخطاء يدل على دقة وبصر، وأنه يحسن التصحيح المطبعي وذلك لما جُبِل عليه من الهدوء والوداعة.
وأما الفقرة الأولى من استدراكه، وهي التي جاء فيها تعقيبه على هذا الرجز: ص 222
(اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
إن الألي قد بغوْا علينا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله: إن صواب الأول: (لا هُمِّ لولا أنت ما اهتدينا) وإن صواب الأخير: (إن الأليَ لقد بغوا علينا)، ثم تعجبه من أن يفوتني ذلك الاختلال في وزن الرجز، وأنا شاعر وعروضيٌ!! فإني أبرأ إليه من نسبة العروض، فطالما أفسد العروض ما بيني وبين أصحابي من الشعراء، وليس الأمس ببعيد.
ورواية الأول: (اللهم لولا أنت ما اهتدينا)، هي الواردة في الأصل، وفي البخاري وفي مسلم (شرح النووي ج 12 ص 166)، وفي أكثر كتب التاريخ والسير والحديث. وقد جاءت الرواية التي ذكرها الأستاذ في كتاب الطبقات الكبير لابن سعد ج 2 ص 51،(413/50)
وجاءت رواية أخرى: (والله لولا أنت ما اهتدينا) في مسلم (شرح النووي) ج 12 ص 170 و171، وقال النووي في ذكر الرواية الأولى ج 12 ص 166 ما نصه: (كذا الرواية) قالوا: وصوابه في الوزن (لا هم)، أو (تا لله)، أو (والله لولا أنت) كما في الحديث الآخر: (فوالله لولا الله. . .).
ورواية الأخير: (إن الألي قد بغوا علينا) هي الواردة في الأصل أيضاً، وفي البخاري في مواضع، وفي مسلم ج 12 ص 171، وفي أكثر كتب السيرة والتاريخ والحديث. وجاء في مسلم ج 12 ص 170: (والمشركون قد بغوا علينا)، وفي ص 171 منه ما نصه: (وربما قال (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم): إن الملا قد بَغَوْا علينا)، وهي في اختلال الوزن كالرواية الأولى التي أثبتناها. ومثلها في ذلك أيضاً رواية من روى: (إن الأعادي بغوا علينا).
وقد نص شراح كتب السير، وشراح البخاري، على أن هذا الرجز ليس يَتَّزن (أنظر العينى ج 14 ص 132، وابن حجر ج 7 ص 308)، ولم يصححوه أو يبدلوه إلى ما يتزنُ، مما جاء في الروايات الأُخر، كالذي ذكر الأستاذ (إن الألي قد بغوا علينا)، وهي رواية ابن سعد ج 2 ص 51.
فإذا كان أصحاب العلم والدراية والبصر بالرواية لم يفعلوا ما أرادني الأستاذ على أن أفعله - من حيث أني عَرُوضي كما يقول! - فلي العذر تابعاً لهم، مقتدياً بهم، حريصاً على ألا أبدِّل أو أحرف ما اتفق عليه الأصل الذي أطبع عنه، والروايات المتعددة التي جاءت في أصح الكتب إسناداً أو رواية وتحريراً بعد كتاب الله.
هذا، والكلام عن مثل هذا الرَّجَز - وما يقع في بعض أوزانه من الاختلال والاضطراب - يفضي إلى القول في المواضع التي كان يُنشَدُ فيها، وكيف يكون إنشادُه؟ ولِمَ يُتجاوز فيه عن الوزن؟ ولو نظر الأستاذ الشاعر إلى صلة هذا الرَّجَز بما كان من الصحابة في حفر الخندق، وحملهم التراب في المكاتل، وسيرهم مصعِّدين ومصوِّبين. متوافقين في الإنشاد يمدُّون به أصواتهم مختلطة مرتفعةً، لعَلِم عِلْمَ ذلك، ولكفانا مؤونة الجري وراء العروض، أهو يتزن أو لا يتزن؟ حتى يبلغ بنا ذلك إلى تبديل الروايات وتحريفها، وقد جاءت عمن كان أعلم منا بالشعر والعروض.(413/51)
وأخيراً، أشكر للأستاذ هذه الهمة التي دفعته إلى النظر والتنقيب، والبحث والتنقير؛ وأثني عليه بما هو له أهل، وأسأله أن يتغمَّد خطأ أخيه بما أعرفه من نبله وعلمه وفضله والسلام
محمود محمد شاكر
ابرهيم طوقان!
ألقى إليَّ بريد فلسطين صباح الثلاثاء الماضي رسالة من نابلس، وجَّهتها (لجنة تأبين الشاعر الأديب المرحوم إبرهيم طوقان). . .
وإنه لمما يضاعف الحزن على الفقيد الشاب والإحساس بشدة المصاب فيه، ألا يَذيع نعيُه إلا مع الدعوة لتأبينه، وقد كان من المنزلة بين شعراء العربية وأدبائها بحيث يحس فقدَه كل من تربطه به صلةٌ من الود أو صلةٌ من الأدب في مختلف أقطار العربية.
وما أريد أن يُذهلني مصابي فيه عن توجيه العتب إلى أصدقائه وخاصته في فلسطين: كيف فاتهم أن يَنعوه يوم نعوه إلى أدباء مصر، وهو كان أقرب صلة وأدنى منزلة، وله فيهم عشرات من الأصدقاء الأوفياء يعرفون فضله ويُعجبون بأدبه؟
ألا إن الخطب في إبرهيم ليس خطب أسرته وأهله ولا خطب أصدقائه في نابلس وفلسطين، ولكنه خطبُ كل أديب عربي تذوق من شعره، أو اطلع على نتائج رويته وبحثه، أو استمع إلى صوته في المذياع من محطة القدس العربية. . .
ولكنه قد مات، واخترمته المنون في نضرة الصبا وعنفوان الشباب، وهذا ناعيه ينعاه. . . فماذا على أصدقائه بعد؟
لقد عاش إبراهيم حياته عزوفاً عن الشهرة، بعيداً عن الفخر والادعاء؛ فما عرفه حق العرفان إلا طائفة قليلة من قراء العربية وإن كان في حقيقته بالمنزلة التي لا يتسامى فلانٌ وفلان من ذوي الألقاب الأدبية. وإن له على أصدقائه اليوم لحقاً يقتضيه الأدب ويقتضيه الوفاء: أن يذيعوا ما يعرفون من فضله وينشروا ما طواه من أدبه؛ وإنه لجدير بأطيب الذكرى وأحسن الثناء!
وهاأنذا أعتمد على كرم صديقي الأستاذ الزيات، فأدعو من يشاء من خاصة الفقيد وأهله وذوي ودِّه، أن يبعثوا إلى الرسالة بما يريدون أن يعرف الأدباء عن طوقان الشاعر المحقق(413/52)
الأديب، وإن في صدر الرسالة لسعة لمن يشاء أن يسجل آية من آيات الوفاء للشاعر الشاب الذي وهب حياته للعربية ومات في ميدان الجهاد!
أما الدعوة لتأبينه وضجة الحرب تبتلع الأصوات، وترد الألسنة في الأفواه، فدعوة إلى غير نتيجة وعمل ليس فيه غناء!
وعزاءً إلى أسرة الفقيد وأصدقائه، والى فلسطين الصابرة المأجورة
محمد سعيد العريان
إلى علماء الإسلام
يا أحق الناس بالحلم وأولاهم بسعة الصدر، هبوا لي بعض وقتكم وانزلوا لأتفاهم معكم، فإن كنتم على صواب تعلمت منكم واعتذرت لكم، وإن كنت محقاً فارجعوا إلى الصواب مأجورين مشكورين!
أرى الإقبال على الأزهر الشريف والمعاهد الدينية في ازدياد مستمر، وأجد المتخرجين منها كثيرين كثرة ملحوظة؛ فأسأل النفس لم يفني كل هؤلاء الطلبة ربيع حياتهم في الجلوس إلى المعلمين واستذكار الدروس، لينالوا شهادة لا يوظف بها إلا القليلون، أم ليظهروا على الناس بعلمهم ويفرضوا عليهم احترامهم، أم ليلزم كل منهم صومعة ويعبد الله بعيداً عن الدنيا ومن فيها.
إن كانت هذه هي الغاية فما لهذا يعمل ذو عقل، وما لهذا يصح لإنسان أن يعيش عالة على أهله نصف عمره أو يزيد؛ وقد كان الأفضل أن يستثمر شبابه في زراعة أو صناعة أو أي عمل فيفيد ويستفيد.
لم تتعلموا إذن لشيء من هذا ولكن لقصد أشرف وغرض أنبل؛ تتعلمون لتعملوا، ولتعلموا الناس فيعملوا
إن كان ذلك كذلك فالواقع لا يقره، والمشاهد ينكره ولا يؤيده؛ فليس هناك منكم إلا فئة أقل من الضئيلة تحاول ذلك بطريقة عتيقة تكاد لا تتغير، وما أثمرت ولن تثمر أبداً.
انظروا إلى عددكم تخفكم كثرتكم، وفتشوا عما أفادت الأمة منكم، ثم أجيبوني: هل نحن في بلد إسلامي به مثل هذا الجيش من العلماء.(413/53)
ألا فاعلموا أن بعد الموت حساباً، وأنكم ستسألون يومئذ عما فعلتم بعلمكم.
الدين صحيح مدعم بالحجج القاهرة والبراهين القاطعة، وعقول الناس مهيأة لتلقيه متى حسنت طريقة تلقينه. فهلا قمتم من رقادكم، وأفقتم من غفوتكم، وجمعتم صفوفكم، وتدارستم أمركم بينكم، ثم استنبطتم وسائل جديدة للدعاية لدينكم، ثم ألفتم لجاناً وجمعيات وعلمتموه للناس وحببتموه إليهم.
لا تحصروا نشاطكم في وعظ من بالمساجد، فلا يؤمها إلا الصالحون أو المتشبهون بالصالحين.
علموا الناس حيث وجدتموهم. علموهم في دور الملاهي والصور المتحركة والمقاهي والحانات والمنتديات والمتنزهات. عظوهم في الشوارع والأزقة والمآتم والأفراح. عظوهم في الصحف والكتب والمجلات والمذياع وعلى الشاشة البيضاء.
لا تقولوا لهم إن الله أمر بقطع يد السارق، وقتل القاتل، ورجم الزاني، ولا تقولوا لهم أدوا الصلاة في أوقاتها، وأخرجوا زكاة أموالكم، وصوموا وحجوا؛ ولكن بينوا لهم الحكمة في كل شيء، واشرحوا لهم الضرر في إتيان ما نهوا عنه والفائدة في اتباع ما أمروا به، وعرفوهم ما يلاقيه المتدين من انشراح صدر وجميل عزاء ونعومة بال.
صفوا لهم الرجل الكامل (الأسبور والجنتلمان)، وقارنوا بينهما وبين متخلق بأخلاق القرآن، وأروهم الفروق بينهم، واشرحوا لهم أن الدين لا يتنافى مع المدنية الحقة إن لم يكن أصلها ومبدعها.
جزيرة ميت عقبة - إمبابه
مصطفى جوهر(413/54)
العدد 414 - بتاريخ: 09 - 06 - 1941(/)
حول مشكلة الزواج
إلى السيدة (ليلى)
لم تَعْدِي الصواب يا سيدتي حين قلت في كتابك الرقيق المدْرَج في
مقالك البليغ: إن لكل من الشباب والشواب معايب ومطالب قد تعاونت
على خلق مشكلة الزواج؛ ولكن السبب المباشر والمصدر الأول هو
المادة
وتصديقاً لقولك أسوق إليك قصة سمعتها من بطلها الدكتور (م. ش). والدكتور (م. ش) يا سيدتي فتى سَوىً الخَلق كامل الثقافة، يملك البصر والسمع بروعة منظره وبراعة حديثه. نشأ في بيت من أوساط البيوت، ولكنه تعلم في أوربا، وتقدم في الوظيفة، فنحا منحى الأوربيين في العيش، وسَمتَ سمْت الأرستقراطيين في المظهر؛ فهو يلبس كما يلبسون، ويجلس حيث يجلسون، ويلح بالسرف على مرتبه الكافي حتى يضيق بشهواته فيتمزق عند منتصف الشهر، ثم يكون في النصف الآخر حميلة على والديه
حسبك يا سيدتي من وصفه هذا، فإني لأخشى أن يُكشَف فيُعرف؛ ومعرفته تجر إلى معرفة الفتاتين اللتين ضحى بهما لهواه؛ وإذا علمت أسرتاهما أنهما ذُكرتا في موضع العبرة، كان ذلك أشد على نفوسهما من ألم المصيبة:
قال الدكتور ذات مساء بلهجة المقترف المعترف النادم ونحن نتناقل الحديث عن جنسك الذي لا يفتُر عنه الحديث ولا يُمل: كنت مصروفاً عن الزواج لأني لم أجد في نفسي حاجة إليه ولا في رأيي فائدة منه. إن كان يطلب للمتعة الطبيعية فقد يسرتها المرأة الطليقة؛ وإن كان يطلب للراحة المنزلية فقد هيأتها الأسرة الشفيقة؛ وما دام الأنس بالمرأة والأسرة موفوراً، فعلام يُحتمل عنت الزوجة وهم الولد وتكاليف البيت؟ ولكن سَرفي وترفي وقلة مرتبي وضيق ثروة أبي، نبهتني إلى أن الزواج يطلب لأمر ثالث: هو الثروة. فرغبت إلى أمي أن تستعين بالأقارب والصواحب والخواطب على أن تجد لي (بغلة العشر)، فقلَّبن على عيني أشتاتاً من العبقريات الحسان يملكن كل شيء إلا ما أريده، حتى وصلتني إحدى الخاطبات بفتاة قالت إنها أكثر مما أطلب. ثم خلى أهلها بينها وبيني، فتلاقت عينانا، ثم(414/1)
فكرانا، ثم قلبانا، فما أنكرت منها خلقاً، ولا ذممت لها صحبة: ملاحة شرقية تغترق البصر، وثقافة عصرية ترضي العقل، ورشاقة رياضية تملك النفس، وشهوة جامحة لعيش المترفين تصور لها بالألوان السحرية أي قصر ستسكن، وأي حلة ستلبس، وأي سيارة ستركب، وأي حفلة ستقيم، وأي أسرة ستدير؛ فرأيت في رغباتها وحياتها صورة رغباتي ونمط حياتي، كأنما خلقها الله رضاً لهواي وتحقيقاً لمناي وتماماً لنفسي. ثم توثقت بيننا على جلوات الربيع وخلواته عرى المحبة، فتساقينا كؤوس الهوى في كل حديقة وعلى كل نهر، وأخذنا نهدهد حبنا الوليد على أناشيد الأمل انتظاراً ليومنا الموعود وعيشنا المرتقب!
على أن وحدة الخلق وجُمعة الأمل وألفة الهوى لم تُنسني السؤال عن المحبوب الأول والمطلوب الأول وهو المال. ولشد ما كانت خيبتي حين تكشَّف لي غناها عن دَين فادح لا ضمان له، ورياء فاضح لا حيلة فيه. حينئذ تغير النظر وتبدل الرأي واختلف الغرض، وأصبحت الخطيبة الحبيبة كعشرات الأوانس اللائى عقدتُ بهن أسبابي، وأذقتهن ضلال نفسي وعبث شبابي. إذن فما معنى أن أجمع بين طمعي وطموحها، ثم لا أملك لي ولا لها تحقيق أمل ولا قضاء نَهْمة؟
مشيت معها مشي الشباب المعروف أعدُها وأمنّيها، والخواطب الموعودات يغشين الدور ويقتحمن الخدور باحثات عن الثراء الضخم في أي فتاة كانت؛ حتى اهتدين إلى ابنة المرحوم (م. باشا) وكان من الأغنياء المذكورين، فلا مساغ للشك في ثروته، ولا وجه للسؤال عن ملكه. وكان العجب أن تظل ابنته مغمورة حتى تكشف عنها الخاطبة، ولكن أعجب العجب أن يشترط أهلها عقد الزواج من غير رؤية، وتعجيل يوم الزفاف من غير مهلة. وكان لا يعنيني أن أسأل الخاطبة عن حِلية الخطيبة، فإنها إن تكن جميلة ظفرت بالحسْنيين، وإن تكن دميمة كان لها معي بحكم زواجها بيت، ولي مع غيرها بفضل ثروتها ألف بيت!
وفي الحق أني تمثلتها حين دخلت بها كومة عالية من اللحم والشحم أضفوا عليها أفواف الوشي وشفوف الحرير، وفي ذروة الكومة نتأ رأس كرأس أبي الهول طوقوا أسفله بالذهب، وتوجوا أعلاه باللؤلؤ. ولا تسل عن الذراعين والساقين فإنهن قوائم فيل أو أساطين هيكل! ولكنها على بدانتها - شهد الله - خفيفة الظل عذبة الروح. وحسبي منها ألا(414/2)
تكون هُولةً تُقذي العين وتؤذي النفس في الساعات القليلة التي ألمُّ بالبيت فيها
أطلقتْ يدي في ثروتها، على الرغم من معارضة أسرتها، فعشت عيش الأمراء السفهاء أنفق باليدين على خليلاتي ونداماي وهي تنظر وتغضي، وتسمع وتسكت، كأنما وازنت بين جمالهن وجمالها، وقارنت بين حالي وحالها، فلم يسعها غير الرضا بهذا النصيب. وكنت قد خدعت خطيبتي الأولى عن نفسها بقوة النقود والوعود فخضعت لي خضوع المنومَّة. ثم ركض بي في طريق الغواية فرس الهوى الجموح، وخلفت في غبار النسيان حليلة يذيبها فقدُ زوجها ومالها فتموت، وخليلةً يدلهها ضياع أملها وشرفها فتُجن!. . .
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الأبصار. ما كان حديثاً يُفترى؛ ولكنه الواقع يا سيدتي يثبت لك أن المال إذا جُعل غاية الزواج كان شقاء لمن وجدته ولمن فقدته على السواء. فهل سمعت حديثاً كهذا الحديث، أو رأيت خبيثاً كهذا الخبيث؟؟
احمد حسن الزيات(414/3)
الإسلام والعلاقات الدولية
للأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
(عقدت رابطة الإصلاح الاجتماعي مؤتمراً في شهر أبريل الماضي عالج فيه الخطباء مسائل شتى عن الإسلام والإصلاح الاجتماعي، وكان من بحوثه القيمة هذا البحث الممتع للفقيه الكبير الأستاذ محمود شلتوت وكيل كلية الشريعة، وهو نوع جديد من البحث الفقهي يسهل على الناس تناوله، ويبين لهم بعض كنوز الفقه الإسلامي وما فيه من قواعد يظن كثير من الناس أنه لم يعرض لها)
مقدمة
كان العالم - قبيل الدعوة الإسلامية - يتخبط في ظلمات داجية من الشرك والوثنية، والجهل والعصبية، والظلم والاستبداد كانت الظاهرة العامة التي تنتظم الوجود إذ ذاك هي الفساد في كل شيء: فساد في العقائد، فساد في الأخلاق، فساد في العلائق الاجتماعية، فساد في نظم الحكم والسياسة
كان الناس يعيشون في أسْر الأوهام والأباطيل والشبهات والعقائد الفاسدة. كانت الغرائز الحيوانية والطباع الوحشية مسيطرة على أخلاقهم وتصرفاتهم، بينما الصفات الإنسانية في غفلة وذهول
كانت علاقة الفرد بالفرد والأمة بالأمة تقوم على أساس الموازنة بين الضعف والقوة: يفتك الأقوياء بالمستضعفين، ويستلب القادرون حقوق العاجزين، ويستنزف الغالبون دماء المغلوبين.
كانت قاعدة السياسة بين الحاكمين والمحكومين هي شهوات الرؤساء ورغبات المسلطين: يتحكمون في الرقاب والأموال والأرواح والأعراض ما شاء لهم الهوى والغرض، وما أسعفتهم عوامل القوة والبطش والجبروت
من أجل ذلك قضت حكمة الله أن ينتشل العالم من حمأة هذا الفساد، وأن ينقذه من براثن هذه الفوضى، وأن يداويه من تلك الأمراض الفتاكة التي تفشت تفشي الوباء في جميع(414/4)
الأرجاء
وهكذا بزغت شمس الإسلام، فبددت ذلك الظلام
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)
عناصر الدعوة الإسلامية
تتلخص الدعوة الإسلامية مهما تشعبت فروعها في مبدأ واحد هو (دعوة العالم إلى الخير). فإذا أردنا أن نفصل في هذا المبدأ بعض التفصيل قسمناه إلى نواح ثلاث هي:
التوحيد، والمساواة، والعدل
1 - أصلح الإسلام بالتوحيد فساد العقيدة. فدعا الناس إلى احترام عقولهم بهجر ما كانوا عليه من الأوثان، معلناً أن للكون رباً عظيما، وإلهاً مدبراً حكيما، هو الجدير وحده بأن يعبد.
(لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير)
ولم يخرج بهذه الدعوة على أصل الفطرة وطبيعة الإنسانية، ولم يخالف بها ديناً من الأديان قبله
(فطرة الله التي فطر الناس عليها)
(شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذين أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)
2 - وقرر بالمساواة مبدأ الوحدة الإنسانية التي لا تعرف التفريق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين عنصر وعنصر
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا: إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)
3 - وقضى بمبدأ العدل على الظلم والتحكم والاستبداد، وأقربه الأمن والطمأنينة والرضا، ولم يفرق فيه بين قريب وبعيد، ولا بين عدو وصديق، ولا بين مؤمن وكافر:(414/5)
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)
على هذه الأسس بنى الإسلام سياسته الإصلاحية فيما بين المسلمين والمسلمين، وفيما بين المسلمين وغيرهم من الأمم المختلفة. والذي يهمنا في هذا البحث هو استخلاص القواعد التي وضعها الإسلام تنظيما للعلاقات الدولية: وذلك ينتظم:
1 - القواعد التي ينظم بها علاقته بالدول الأخرى
2 - القواعد التي ينظم بها علاقته بمن يعيشون في بلاده من غير المسلمين
العلاقة بالدول الأخرى
إن العلاقة بين المسلمين وغيرهم لا تخرج عن إحدى حالتين: إما حالة سلام ووئام، وإما حالة حرب وخصام. وفي ضوء ما تقدم نرى الإسلام ينظر إلى الحالة الأولى على أنها الحالة الطبيعية الأصلية، ولا يطلب من غير المسلمين فيها إلا أن يخلّوا بينه وبين ما يريد من الدعوة إلى مبادئه دون أن يضعوا في طريقه العقبات، أو يثيروا أمامه الفتن والمشكلات. ذلك بأن دعوته هي دعوة الحق والعقل والصلاح الرشاد؛ وأن العقول إذا خليت وشأنها ارتاحت إليها وآمنت بها عن طريق الاقتناع والرضا، لا عن طريق الإلجاء والقهر
(أُدْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (لا إكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغي)
(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين!)
وهكذا يقرر القرآن أن الدعوة إلى الله لا يكون طريقها الإلجاء والقهر؛ وإنما يكون طريقها الحجة والبرهان. ولو تركه الناس يسري بحجته وبرهانه، وخلوا بينه وبين العقول، ولم يضعوا في طريقه العراقيل، لما سفكت قطرة واحدة من الدم في سبيل الله، ولغزت دعوته العقول، ونفذت إلى القلوب
والإسلام يسلك في هذه الدعوة السلمية الاقناعية كل طريق تواضع عليه الناس في دعوتهم إلى المبادئ ودفاعهم عنها، وبيانهم لمزاياها: من خطب في المجتمعات، ومن كتب يرسلها إلى الملوك والرؤساء، ومن وفود يتلقاهم ويحسن وفادتهم، ويبين لهم ما يدعو إليه(414/6)
وفي ظل هذه السلم يترك الناس في شتى معاملاتهم إلى طبيعتهم وما يرون أن يسيروا عليه من نظم: يتركهم يتعاملون ويتبادلون المنافع ويتعاونون ويختلطون، لا يقيدهم في ذلك بقيد إلا ما تقتضيه طبيعة الشريعة بالنسبة للمسلمين من حظر أنواع من التعامل والعلاقات كالربا وزواج الكتابي من المسلمة، وزواج المسلم ممن لا تدين بدين سماوي ونحو ذلك
ولا يحظر الإسلام على المسلمين أن ينشئوا بينهم وبين غيرهم من العلاقات ما يرونه مصلحة لهم وعوناً على حياتهم في شئون التجارة والصناعة والسياسة والعلم والثقافة: ينظمون ذلك على الوجه الذي يتبين صلاحه، والذي تقضي به سنن الاجتماع الفطرية، والذي لا يتعارض مع دستورهم الخاص
وقد وضع القرآن الكريم أساس الدستور لهذه العلاقة السلمية إذ يقول:
(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين)
فهذه الآية تبيح للمسلمين أن ينشئوا ما شاءوا من العلاقات بينهم وبين الذين لم يعتدوا عليهم في الدين أو الوطن، بل تجيز أن تصل هذه العلاقات إلى حد البر بهم والإحسان إليهم
هذه هي الحالة الأولى: حالة السلم والوئام؛ أما الحالة الثانية: حالة الحرب والخصام، فقد نظر الإسلام إليها من نواح متعددة:
1 - نظر إلى الحرب في ذاتها كأمر تدعو إليه طبيعة الاجتماع البشري، فلم يحاول أن ينكرها، ولا أن يعارض مقتضيات الفطَر فيها، ولكنه اعترف بها كوسيلة لا بد منها لدفع العدوان، وتقليم أظافر الطغيان، وكبح جماح المفسدين:
اعترف بها لأنه يعلم أن طبيعة البشر وسنة الاجتماع كثيراً ما تفضيان إلى التنازع، والبغي، والتنكر للحق، والاعتداء على الحريات، والفتنة في الدين. والإسلام شريعة عملية إصلاحية لا تغمض عن الواقع، ولا تسترسل وراء الخيال. ولو لم يقرر الإسلام الحرب ويعترف بها لتكون وسيلة من وسائل المقاومة ودفع العدوان، وإزالة العقبات من طريقة دعوته إلى الخير العام، لقضت عوامل الشر والفساد التي تؤازرها دائماً قوى الطغيان والعناد على هذه الدعوة وهي في مهدها، ولحرمت الإنسانية أن تجتني ثمراتها الطيبة في معاشها ومعادها(414/7)
وإن القرآن ليرشد إلى هذا المعنى واضحاً إذ يقول:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين) (ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً)
تلك هي نظرة الإسلام إلى الحرب من حيث تقريرها والحكم بمشروعيتها
2 - وقد نظر الإسلام كذلك إلى أسبابها الداعية إليها نظرة تتفق وغايته من الصلاح العام والمساواة بين الناس والسير فيهم على سنن العدل والرحمة، فلم يبح امتشاق الحسام بدافع الرغبة في الفتح والاستعمار؛ ولم يرض عن حروب العسف والظلم والاضطهاد التي كانت وما زالت تثيرها عوامل الجشع والطمع والاستغلال، ورغبة التسلط على الضعفاء، واستنزاف الموارد، والتضييق على عباد الله. واعتبر كل حرب في هذه الدائرة حرب ظلم واعتداء لا يليق صدورها من أمة تحترم الإنسانية وتعرف لها حقها، وبذلك حصر الحرب في أسبابها المعقولة، وضيق في دائرتها تضييقاً يتناسب مع كونها ضرورة من الضرورات!
وهذه الأسباب هي:
(ا) دفع الظلم والعدوان
(ب) إقرار حرية التدين
(ج) الدفاع عن الأوطان
وإن القرآن ليرشد إلى ذلك في عدة مواضع إذ يقول:
(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)
وأساس الدستور العام في ذلك قوله تعالى:
(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوْهم. ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)(414/8)
3 - وقد وضع الإسلام بعد ذلك للحرب نفسها نظاماً تشريعياً مفصلاً قوامه العدل والرحمة واحترام الحقوق الغيرة على الإنسانية وهذا النظام منه ما يسبق الحرب، ومنه ما يكون في أثنائها، ومنه ما يكون في نهايتها
(البقية في العدد الآتي)
محمود شلتوت(414/9)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
حرية الرأي في القديم والحديث - التضامن الأدبي - المال والبنون - الباقيات الصالحات من الشمائل الإنسانية - لا تنزعجوا - تهديد طريف!
حرية الرأي
كنت قلت: إن الناس في عصر الظلمات كانوا يجهرون بآراء لا نستطيع روايتها في هذا الجيل، فهل يكون معنى ذلك أن القدماء كانوا أشجع؟ وهل يكون معناه أنهم كانوا أبصر بمذاهب النفوس، وأقدر على تصريف الآراء؟
الواقع أن أرباب الفكر في هذا العصر أكثر نفاذاً إلى الدقائق، وأعرف بشؤون المجتمع، وأهدى إلى أسرار المشكلات والمعضلات، بفضل ما أتيح لهم من وسائل الفهم والإدراك
فكيف يتفق أن يكون المحصول الفكري في هذا الجيل أقل من أمثاله فيما سلف من الأجيال؟ أو كيف جاز أن يمرّ محصولنا الفكري بدون ضجيج يوقظ غافيات العقول؟
يرجع السبب فيما أرجَّح إلى ظاهرتين تتصل أولاهما بالقارئ وتتصل الثانية بالكاتب، وفي تفصيل ذلك أقول:
كان القراء قديماً من الخواصّ، أو خواصّ الخواصّ، بسبب شيوع الأمية، وبسبب غلاء المؤلفات، أو ندرتها في بعض الأحايين، فقد قضى ابن خلدون عمره وهو يتشوف إلى الاطلاع على جزء من كتاب الأغاني، ولعله مات قبل أن يظفر بما يريد. وحدثنا صاحب (الطراز) أنه عجز كل العجز عن الوصول إلى مؤلفات عبد القاهر الجرجاني في البلاغة، مع أنه كان على جانب من الغنى والجاه، وعلى اتصال بجماعة من الأمراء في مختلف الحواضر الإسلامية وعرفنا فيما قرأنا أن بعض الباحثين كان يقصد مناسك الحج لينادي علناً في عرفات عن رغبته في اقتناء كتاب لم يستطع الوصول إليه برغم ما بذل في سبيله من عناء
هذا يؤكد أن القراء قديماً كانوا من الخواص، أو خواص الخواص، وذلك هو السر في عدم تهيُّب المفكرين من إعلان ما يجول بصدورهم من آراء وأهواء، فقد كان المفكر يحادث قراءه كما يحادث أصفياءه، لثقته بأنهم فئة ممتازة تفهم عنه ما يريد بلا تزيد ولا تحريف،(414/10)
وذلك أيضاً هو السر في أن تعابير القدماء تغلب عليها الصراحة، ويَسود فيها الصدق، وقد تُوصَم بالعُرْي في بعض الأحيان
ولا كذلك القراء في هذا العصر، فهم يُعدّون بالألوف وألوف الألوف، فمن العسير أن يكونوا جميعاً من الخواص، وربما جاز القول بأن جمهرتهم من العوامّ، أو عوامّ الخواصْ، وهذه الحال تفرض على المفكر أن يحتاط في عرض ما يجول بصدره من آراء وأهواء، وذلك هو السبب في تعابير أهل العصر تعوزها الصراحة، ويقل فيها الصدق، ولا تخرج سافرة أو عارية، كبعض تعابير القدماء، وإنما تخرج ملفوفة في أثواب من الرمز والإيماء والتلميح، إن لم يحملها الإسراف في حب السلامة على التدثر بأثواب من المداهنة والمصانعة والرياء
فإن رأيتم جماعة من المفكرين يدورون حول أغراضهم في تردد وتهيب وإشفاق فاعرفوا أنهم يصانعون قراءهم (الألباء) واذكروا أنهم لا يملكون من حرية التعبير غير أطياف، وإن قيل وقيل بأنهم يعيشون في القرن العشرين!
وهل كان التفاوت بين طبقات القراء هو كل ما يعوق الفكر في هذا الجيل؟
هنا يجئ القول بالفرق بين حال الكاتب في هذا العصر وحال الكاتب في العصور الماضية
فالكاتب قديماً كان في أغلب أحواله رجلاً قليل التأثر بضجيج المجتمع، لأن آراءه لم تكن تصل إلا إلى جمهور ضئيل يُعد أفراده بالعشرات أو بالمئات، ولأنه لم يكن يفكر إلا قليلاً في التطلع إلى المناصب التي تفتقر إلى ثقة المجتمع؛ فأكثر المفكرين القدماء لم يكونوا رجال سياسة ولا رجال أعمال، فقد كان فيهم جماعات يعيشون في عزلة رهبانية ولا يهمهم غير التعبير عن أغراضهم بحرية وصراحة وجلاء، ولم يتعرض منهم للأذى والقتل غير من طاب لهم أن يواجهوا مشكلات السياسة أو معضلات الدين
أما الكاتب هذه الأيام فله حال وأحوال
هو أولاً رجل يخاطب الألوف وألوف الألوف، وفيهم أذكياء وأغبياء وأعداء وأصدقاء، وهو عن مراعاة أهوائهم مسئول وهو ثانياً رجل يهمه أن يتمتع بحقوقه المدنية، وقد يتسامى إلى كبار المناصب، وذلك يوجب الحرص على مسالمة المجتمع في أكثر الشؤون
الكاتب في هذه الأيام يعرف جيداً أنه يعيش تحت رقابة عنيفة من الدولة ومن المجتمع،(414/11)
وهو مقهور على مراعاة تلك الرقابة ما دام يتطلع إلى بعض المناصب العالية، وهي مناصب لا تمنحها الدولة إلا لمن يرضى عنهم المجتمع، وهنا يكون الخطر على حرية الفكر والرأي، ويكون الجحود لما وهب الله الناس من قلوب وعقول
التضامن الأدبي
وبعد عرض هذه الصورة التي تمثل ما صرنا إليه نوجَّه الأسئلة الآتية:
هل من مصلحة مصر - ولها الزعامة الأدبية في الشرق العربي والإسلامي - أن يشعر المفكرون من أبنائها بأنْ لا سبيل إلى الظفر بما تؤهلهم له مواهبهم من كبار المناصب إلا بمصانعة الدولة ومصانعة المجتمع؟
وهل من الخير لمصر أن تكون مناصبها العلمية والأدبية وقفاً على من يملكون أكبر نصيب من القدرة على إخفاء ما يثور في صدورهم من آراء وأهواء؟
وهل من الممكن أن يزدهر الأدب العربي وهو مصدودٌ عن الترجمة الصحيحة للأزمات التي تضطرم في صدور أهل هذا الجيل؟
وكيف تقوى لغتنا على منافسة اللغات الحية وهي أداة ضعيفة بسبب الكَبْت المفروض على قادة الفكر وحَمَلة الأقلام؟
نترك الدولة ونترك المجتمع إلى أن تفهم الدولة ويفهم المجتمع أن حرية الفكر والرأي هي المزية التي يُفضَّل بها الشعوب على بعض، ونسأل رجال الفكر والرأي عن واجبهم في حماية الأقلام والعقول، وما سألناهم هذا السؤال إلا ونحن نعرف أنهم آخر من يتقدمون لحماية الفكر والرأي من عدوان المخادعين والمرائين
ومعاذ الأدب أن أُنكر أن الأدباء يتعاونون ويتساندون من وقت إلى وقت، ولكني مع ذلك أشعر بأن التضامن الأدبي غير موجود بمعناه الصحيح
وكيف أطمئن إلى وجود التضامن الأدبي وأنا أعرف أن الأديب لا يجد من ينصره إذا تنكرت له الدولة أو تنكر له المجتمع؟
الأديب لا يعيش عيشاً مقبولاً في مصر إلا إذا راض نفسه على شمائل ينفر منها الذوق في أكثر الأحيان، كأن يعلن أنه راضٍ عن كل ما اتفق عليه العُرف من عادات وتقاليد، وكأن يتبرأ من كل من يتعرض لنقد الشرائع والقوانين(414/12)
لا يعيش الأديب في مصر إلا إذا تخلق بأخلاق فلان. وفلان هذا رجل عاقل إلى أبعد حدود العقل. هو رجل يواجه قومه بما يحبون، فيدعوهم إلى السلم إن جنحوا للسلم، ويدعوهم إلى الحرب إن مالوا إلى الحرب؛ وهو يساير أهواءهم بخضوع لا نظير له ولا مثيل، وكأنه حمل مشدود إلى ظواعن القطيع!
ولفلان هذا زملاء يشاطرونه التمتع بنعمة (العقل) ولن يتقدم الأدب على أيديهم خطوة واحدة، لأن الأدب لا يحيا إلا في جو الحرية الفكرية والوجدانية؛ ولأن الأدب لا يعترف بوجود المرائين، ولو جُنّ الدهر فخلع عليهم أثواب الغنى والأمان.
الأدب ينتظر ثورة وجدانية وروحية وعقلية ليعلن حقه في الوجود
الأدب يطمع في أن يكون أداة التعبير عما في هذا العصر من أوهام وأحلام وحقائق وأباطيل، فيرج الأذهان والعقول بأقوى وأعنف مما يصنع الزلزال
الأدب يريد أن يكون صوراً صوادق لما عند أهل العصر من فجور وعفاف وإلحاد وإيمان، ليشعر الناس بأن الأدب ليس زخرفاً من القول، وإنما هو بعث وإحياء
ولكن الأدب سيظل مقيداً مغلولاً إلى أن يعرف أهله قيمة التضامن الأدبي، فمتى يعرفون؟ ومتى نطمئن إلى أن حرية الرأي لها أنصار بين أعلام الفكر وأقطاب البيان؟
لو ضمنا عطف الأدباء بعضهم على بعض لزهدنا في رفق الدولة وعطف المجتمع، فنحن ننتظر أن تقوم للأدب دولة تعصم أبناءها من التعرض لأذى الجاهلين، وتغنيهم عن انتظار الرزق الحرام، وهو الرزق المجلوب بمصانعة أهل الغفلة والجمود
المال والبنون
كنت أنكر على علماء النحو أن يقولوا إن واو العطف لا تفيد الترتيب، وكانت حجتي أن البليغ يقدم الأهم على المهم حين يعطف بالواو، بدليل قول القرآن: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) فما قدَّم المال إلا لأنه آثر في زينة الحياة من البنين
ثم تذكرت هذه الحقيقة النحوية حين قرأت كلمة الأستاذ عباس العقاد في التعقيب على الكلمة التي نصصت فيها على حقوق الوارثين؛ فقد كنت قررت أن انعدام الميراث يشل العزائم الإنسانية، ويروض الناس على الاكتفاء بجمع ما يغنيهم يوماً بيوم
ويرى الأستاذ العقاد أن طلب المال كطلب العلم، فهو فطرة لا تتوقف على التوريث ولا(414/13)
على ما يعقبه الأدباء للأبناء وهذا الرأي حق، وقد تذكرت به الكلمة المنسوبة إلى الرسول (جائعان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال)، أو لعله قال: (منهومان)، فما أذكر بالضبط نص هذا الأثر النفيس
وصدَق الأستاذ العقاد فيما رواه من أحوال ناس ليس لهم أعقاب ولا يُخشى على أموالهم النفاذ لو بسطوا فيها الأكف بالإنفاق عشرات السنين
وأنا لم أبعد من الصدق حين قررت أن انعدام الميراث يشل العزائم الإنسانية، فأمامي أحوال كثيرة تشهد بأن الرجل تفتُر عزيمته في جمع المال حين يشعر بأن أملاكه قد تصير إلى غير من يحب من الأقربين، أو حين يرى أن أبناءه ليسوا من النجباء، وأن أملاكه قد تبدَّد بعد موته بقليل. وتلك أحوال يعرف منها الأستاذ العقاد مثل الذي أعرف، وهو نفسه قد نصّ على لون من لوعة الآباء حكاه له الدكتور يعقوب صرّوف
الذي يهمني هو رأي الأستاذ العقاد فيمن يجمعون المال ويحرصون عليه مع يقينهم بأنه لا وارث لهم غير من يتمنون لهم الموت من لئام الأسباط أو لئام الأقرباء
ما رأي الأستاذ العقاد في هؤلاء من الوجهة الأخلاقية؟
الجمهور يرى هؤلاء من الغافلين، وقد نُظمِت فيهم أشعار، وقيلت فيهم أمثال، وتعقَّبهم الناس بالغمز واللمز في جميع العصور وفي جميع البلاد
أما أنا، فأرى هؤلاء على جانب عظيم من قوة الإحساس بالوجود، وأراهم نماذج حسنة من الوجهة الخلُقية. . . ولكن كيف؟ وهل من السهل أن تنقض نظرية رحب بها الناس منذ مئات الأجيال؟
أخاطر مرة جديدة فأقول: إن حب المال دليلٌ على العافية الروحية، فما يحب المال غير الأصحاء، ولا يزهد في المال غير الأموات أو أشباه الأحياء
والمال يفرض على محبيه أن يكونوا من أهل النشاط والنظام والتدقيق، وتلك شمائل لا يتصف بها غير أهل العافية الروحية وإن أعوزَتهم العافية البدنية. أما الزاهدون في المال، فهم خلائق ضعاف لا يصلحون لدنيا ولا دين
والشخص الميت هو الذي لا يعرف قيمة المال، ولا يفهم - لأنه ميت - أن المال سناد الأحياء، وأنه شاهدٌ على أن أصحابه أدَّوا واجبهم في مصارعة أمواج الوجود(414/14)
وأنا أؤكد هذا القول بعنفٍ يصل إلى الإلحاح البغيض، لأني أرى أهل مصر في احتياج إلى من يدق ناقوس الخطر ليذكرهم بوجوب التأمل في هذه المعاني
أنا أكثرت من القول في هذه الشئون، حتى صح للدكتور إبراهيم ناجي أن يقول في إحدى المحاضرات بأن أدب زكي مبارك مستوحّى من غريزته في حب الحيازة والامتلاك
ولو كان هذا القول صدقاً في صدق، لبحثت عن أسلوب غير الأسلوب الذي ارتضيته في حياتي، وهو احتراف التعليم والتأليف، فمن المؤكد أن الأوقات التي أبذلها في خدمة الحياة الأدبية، كانت تجعلني أغنى الناس لو بذلتها في الاتجار بالتراب
الحياة خدعتْنا فزينت لنا احتراف التعليم والتأليف، فما الذي يوجب أن نطوي عن قومنا ما فطنّا إليه بعد فوات الوقت؟ نحن نرى أن جمع المال ليس بعيب، ونحن ندعو مواطنينا إلى الاعتصام بالمال، فقد قدمه الله على الاعتصام بالبنين
المفتونون بجمع المال هم في نظري أعرف الناس بقواعد الأخلاق!
وهل أخطأ أسلافنا حين قررّوا أن الغنيّ الشاكر أفضل من الفقير الصابر؟
الفقر كريه الطعم، قبيح اللون، فاقتلوه حيث ثَقِفتموه
الفقر فضيحة علنية. الفقر أكبر الذنوب، وأشنع العيوب
حاربوا الفقر، حاربوه، حاربوه، فهو أقدر البلايا على إذلال الرجال!
يقول المثل الفرنسي: (قل لي مَن تصاحب، أقل لك من أنت)
وأنا أقول: (قل لي ماذا تملك، أقل لك من أنت)
أقبح عيب يوصَم به الغني هو البخل، وأقبح عيب يوصَم به الفقير هو السؤال، وما أبعد الفرقَ بين البخل والسؤال!
هل يعرف الغافلون من الذين يشتموننا ظالمين أننا لم نَدْعُهم إلا إلى إكرام أنفسهم بالحرص على طلب الرزق الحلال؟
الذي لا ينفق عشر ساعات من كل يوم في طلب الرزق ليس بأهل للعيش
والذي لا يجعل من همه أن يعيش مستوراً ويموت مستوراً ليس بأهل للظفر بنعمة الكرامة الذاتية
والذي يعجز لفقره عن إنجاد إخوانه من وقت إلى وقت لا يجوز له التوهم بأنه من أحرار(414/15)
الرجال
الغِنَى أجمل مظهر من مظاهر الأخلاق، جعلنا الله جميعاً من الأغنياء!
الباقيات الصالحات من الشمائل الإنسانية
يذكر أخونا الزيات - حفظه الله ورعاه - أني أرسلت إليه كلمة سايرني خيالها في تجوالي بين الإسكندرية وأُسوان، وأنه طوى تلك الكلمة لأسباب لا يجهلها القراء؛ فهل أستطيع أن أسجل أن الإنسانية لا تزال فيها شمائل من الباقيات الصالحات؟
من شمائل الإنسانية في هذا العصر أن من الممكن أن تُعفَى بعض المدائن من أهوال الحرب، إذا شاء أهلوها أن يجعلوها في أمان من البلاء
ومن شمائل الإنسانية في هذا العصر أن يُعفَى (اتحاد البريد) من التعطيل، ولو وُجَّهتْ رسائله إلى ميادين الحروب
وبفضل هذه الشمائل الإنسانية حمل إلى البريدُ كتاباً من حضرة الأستاذ غالب المؤيد العظم، وهو يعلن رضاه عن مجلة الرسالة، وعن المقال الذي نشرته بعنوان: (الفرد هو الحجَر الأول في بناء المجتمع)
فإلى ذلك الأستاذ الفاضل أقدَّم أصدق التحيات، وأرجوه أن يعفيني من نشر قصيدته في الثناء على صاحب ذلك المقال وإن عاد السلام فسيكون لنا مع أصدقائنا في جميع البلاد العربية أحاديث وأحاديث
لا تنزعجوا
ظن القراء أني قد أطيع جماعة الثائرين فأنسحب من الميدان الأدبي، فكتب فريق منهم رسائل طريفة يدعونني فيها إلى الثبات في الميدان
وأجيب بأن أعز أصدقائي هم أولئك الثائرون، وأنا بثورتهم مزهوٌّ مختال، لأنها تشهد بأنهم يسايرونني بيقظة والتفات، فثورتهم ليست إلا فنَّا من فنون الإعجاب
والحق كل الحق أني لا أفكر أبداً في إيذاء قرائي بعرض ما قد ينكرون من المذاهب والآراء، وإنما أنا مسئول أمامهم عن التزام الصدق في جميع الأحوال ولو تعرضت لغضبهم المهتاج؛ وثورتهم علىَّ بسبب الصدق أخف وأهون من ثورتهم على بعض الناس(414/16)
بسبب الرياء
إن الكاتب الذي يرائي القراء ليس بأهل للحياة الأدبية، ومن الواجب أن نقول للقراء بصراحة إننا لا نستوحيهم ولا نستهديهم، حتى ننتظر ما يتفضلون به من حمد وثناء، وإن كان الحرص على منافعهم أول ما يشغلنا حين نمتشق القلم في سبيل الحق، وهل كان هوانا إلا فيضاً من هواهم، وإن غفل بعضهم عن حقائق ما نريد؟
وإذن فمن حق السيد ناصر الدين النشاشيبي أن يطمئن إلى أننا لن نخرج أبداً من الميدان الأدبي، ولن نأتمر أبداً بأوامر أهل الحقد والبغضاء
تهديد طريف
وبهذه المناسبة أذكر أن قارئاً لا أسميه هدد بالكتابة إلى الأستاذ الزيات ليبلغه آراء القراء في صاحب هذا الحديث!
وأقول إني تطوعت بتبليغ هذه الآراء إلى الأستاذ الزيات وإلى جميع القراء، فما الذي يراد من أمانتي أكثر من ذلك؟
أنا أشتهي أن أرى في الدنيا أقواماً يغضبون ويحقدون، فما تأخر الشرق إلا لعجزه عن الغضب والحقد، وهما من شواهد الحيوية في الغرائز والطباع
أغضبوا واحقدوا، ثم اغضبوا واحقدوا، غير باغين ولا عادين، وكونوا رجالاً يؤذيهم ما يكرهون فيثورون عليه ثورة الحليم العاقل الحصيف
اغضبوا واحقدوا، يا بني آدم من أهل مصر والشرق، ولا تنسوا أن الذي أملى عليكم دروس البغض والحقد هو الكاتب الذي يحبكم أصدق الحب:
زكي مبارك(414/17)
الحياة الزوجية في نظر الإسلام
للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي
- 2 -
خطبة الزواج
تحدثنا عن دعوة الإسلام إلى الزواج؛ لأنه الرباط الوثيق - أولاً - بين الأفراد في محيط الجماعات الصغيرة، ولأنه - ثانياً - الدعامة التي يرتكز عليها البِنَاء القومي في تكوين شعوب، وقبائل يعمر بها الكون، وتؤدي رسالة البشرية بما يجري على يدها من الإنشاء والإبداع والتعمير، وإبراز ما أودع الله في الكائنات من إمارات وجوده. وذلك هو مظهر الحياة الذي كان من أجله آدم خليفة في الأرض عن ربه، وكانت خلافته على هذا النحو إرثاً بين أعقابه إلى ما شاء الله
فإن يكن تكوين الجماعة القوية المنظمة هو الهدف الأهم الذي يرمي إليه الإسلام من وراء الحياة الزوجية، فمن شأن الإسلام أن يرشدنا إلى طريق الدخول في حوزة هذه الحياة، ومن شأنه أن يقيم لنا على جوانب هذه الطريق معالم لا يضل معها من استجاب للدعوة
ومن الحصافة - وقد فعل الإسلام - أن يأخذ المرء نفسه بالتبصر، والأناة، وتقدير الغاية، حتى إذا أقدم أقدم عن بينة لا يشوبها تردد، ولا يلاحقها ندم
وقد حدثنا الرواة أن الاتصال الزوجي على عهد الجاهلية كان على ضروب شتى، وكانت نظمهم في ذلك وليدة عرف قاصر مشوه، وأخلاطاً من عادات موروثة ملفقة؛ لذلك لم تخل وسائلهم في الحياة الزوجية من أنواع معيبة لا تكفل سلامة النسل من الدخالة، ولا تأتي بنظام للجماعة على النحو ولا قريباً من النحو الذي يتوخاه الإسلام
جاء الإسلام فعزف عما كان لدى الأعراب من الوسائل، وعفي عليها، إلا وسيلة واحدة فيها سمو بالمرأة عن الريبة، وسمو بالرجل عن الطيش والرعونة، وفيها صيانة للأسباب أي صيانة
تلك وسيلة الخطبة التي تدور حولها آي القرآن وأحاديث الرسول، وعليها جرى العمل بين سلف المسلمين، وبين الخلف الذين لم يمسسهم أفن الرأي وانحلال العقيدة، ولم ينزعوا إلى(414/18)
فوضى الجاهلية الأولى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
يقول الله تعالى: (الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات. . .) فهذا شق من آية كريمة، يحدثنا - على أنسب الوجوه في تفسيرها - بأن الخبيثات من النساء لا يستأهلن من الأزواج إلا الخبيثين، فمن كرمت نفسه من الرجال، وضن بمروءته عن مواطن الذلة والهوان فبعيد عليه أن يجنح إلى خبيثة ساقطة يتخذها زوجة له. وكذلك الخبيثون من الرجال لا يستحقون إلا خبائث النساء، فمن ربأت بها العزة، وامتزج بها الشمم، تحاشت أن تجعل نفسها فراشاً لرجل ساقط المروءة، وضيع النفس، هين الكرامة
فإذا ما بخل كل ذي كرامة من الجانبين بنفسه عن لوثة الاتصال بالخبيث - تهيأ له أن يكون مع من يدانيه شرفاً وطهراً، ويناسبه أدباً وخلقاً؛ وهذا ما تهتف به الآية في شقها الثاني، إذ يقول تعالى: (. . . والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات) ففي هذا الشق إشادة بالنساء الطيبات، وإغراء للرجال باختيارهن، وكذلك إشادة بالطيبين، وأَغراء للنساء الطيبات باختيارهم أزواجا
فنحن نرى من هذا السياق حثاً قوياً (لكل من الرجل والمرأة على التنزه عن اختيار الوضيع قريناً له، ونرى فيه حثاً قوياً على اختيار الطيب للزيجة، فكلا الزوجين مرآة تتمثل فيها صورة صاحبه) فلينظر المرء: على أي شكل يحب أن يراه الناس؟
ويقول تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة. . .) فهذا شق آخر من آية ثانية، فيها تجريح مقذع للزاني، حتى أنه في الغالب لا يرغب أن يتزوج إلا من كانت على شاكلته، أو كانت أفحش منه، وأبعد عن الإسلام إلى الشرك؛ فهو لا يألف من النساء كرائمهن العفيفات، إذ هو لا يبالي المعرة، ولا يراعي لنفسه ولا لذريته حرمة، مادام يتخذ الزواج وسيلة إلى قضاء لبانته الجنسية. . . وفي هذا تنفير لذات العفاف أن ترضى عمن عرف بالدعارة زوجاً لها، وإنما تتركه لزوجة من فصيلته الزواني أو المشركات إن استطاع، وتنتظر من الرجال من تشرف بشرفه وتحظى بالحياة معه معافاة في دينها وسمعتها. وكذلك الشأن في المرأة الزانية (. . . والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) فهي مُجرحَة مسخوطة، ومبتذلة مستهجنة؛ فما ينبغي لرجل عزيز على نفسه أن يرضاها، وإنما لها من يشاكلها نزعة وخلقاً، (وحرم ذلك على المؤمنين). الكاملين فلم يبق من سبيل إلا أن يتجه(414/19)
الرجل في خطبته إلى من تكون حرثاً نقياً له، وتربة طيبة لبذور نسله، وأن تتجه المرأة في خطيبها إلى النبل، أو كرم الطبع، ومحاسن الرجولة؛ ليكون البناء بهما قوياً متماسكا، فيسدا فراغاً في بناء الجماعة الكبرى - الأمة - ويكون لهما - بجانب ما يتوفر من هناءة وطيب حياة - فضل الاشتراك في تكملة الصفوف، وتكثير السواد بما ينجبان من ذرية كريمة المنبت
وهكذا ينصح النبي (ص) إلى الخاطب أن يأخذ بالحزم، ويتفرس في المخطوبة ما يفي برغباته: من شكلها ودينها وأصلها، وما إلى ذلك مما جبلت النفوس على التطلع إليه، ليتوفر الرضا، ويكون المرء بنجوة من نزعات الطمع وخوالج النفس التي تحقَّر ما لدية فيمد عينيه إلى غير ما يملك، ثم لا يكون من وراء ذلك إلا استعاضة لما في حوزته، واكتئابه لما حرم منه، وهو مخدوع بالأماني؛ والأمانيّ والأحلام تضليل
يقول النبي (ص): (إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها - زواجها - فليفعل)
وقال (ص) لرجل من أصحابه كان يخطب امرأة: (أنظرت إليها؟ قال: لا، قال (ص): أذهب فانظر إليها)
وقال (ص) لرجل آخر في شأن كهذا: (أذهب فانظر إليها؛ فإنه أحرى أن يوائم بينكما)
يعني - إذا رأيتها وأعجبتك كان ذلك أدعى لدوام الألفة بينكما. . . فإذا لم يستطع المرء أن ينظر، لمانع قام في سبيله، فمن السنة أن يبعث من النساء من تستوضح له شأن المخطوبة، وتتعرف له ما يعنيه من أمرها. وقد فعل النبي (ص) ذلك، إذ رغب في خطبة امرأة، وأحب أن يعلم عنها ما يرغبه فيها، أو يرغبه عنها؛ فأرسل إليها امرأة ثقة، وأمرها أن تنظر إلى قدميها، وتشم رائحتها. . . وإن يكن هذا حق الرجل في خطبة المرأة، فهو كذلك حق المرأة في اختيار الرجل زوجاً لها؛ لها أن تراه وتتفرس فيه ما يعجبها، ولهما أن يتحدثا ليقف كل منهما على ما يصاحبه من لباقة أو لكنة، ومن نشاط الذهن أو خموده. . . ولكن على أن يكون هذا الاختبار في غير خلوة، بل مع وجود محرم للمرأة. وإن تكرر هذا فليس فيه من حرج إلى أن تطمئن نفس كليهما، وللعرف شأنه في تحديد هذا الاختبار بالقدر الكافي(414/20)
وليس يدخل في ذلك أن يجتمع الرجل بالمرأة في جماعة من الرجل الأجانب، فإن الحراسة المقصودة من وجود المحرم معدومة؛ بل هذه من أشد أنواع الخلوة خطراً على حياة المرأة وعفتها؛ فضلاً عما يجره إليها من الريبة وسوء الأحدوثة
كما أنه لا يدخل في حدود الاختبار المباح أن يجتمع بالمرأة في حضرة عدد من النساء. فإن انفراد النساء برجل واحد يعد في الشرع من الخلوة المحظورة. ووجهة الإسلام واضحة في ذلك؛ فإن الأثر السيئ الذي ينشأ عن هذا الاجتماع لا يقف عند سمعة امرأة واحدة؛ بل يتطاير شرره إلى هذا العدد من النساء جميعاً.
والإسلام يدرأ الشر من أبعد طرقه، ويحتاط له في كثير من المبالغة، حفاظاً على السمعة، واستبقاء للشرف والكرامة، وخاصة فيما يتصل بالأعراض. ولما كانت أسباب الرغبة في المرأة كثيرة، وتختلف باختلاف نزعات الرجال وميولهم، بينها النبي (ص) أو بين أهمها وأولاها بالاعتبار فقال:
(تنكح المرأة - والنكاح في كل ما نذكره معناه الزواج - لمالها، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين ثرَبت يداك) فهذه أهم الأسباب التي ينبغي أن تدور حولها الرغبة في الزواج، وهي الأسباب التي ترى الناس يلتمسونها في الخطوبة؛ والنبي (ص) يُقرنا على اعتبار تلك المزايا. غير أنه لما كان الدين عند الناس في الموضع الأخير من تقديرهم، مع أنه خير ما يُرجى في الزوجة - أكد علينا النبي (ص) أن نفضل ذات الدين على غيرها، وأن نلتفت إلى الدين قبل سواه فيمن نريدها زوجة أمينة على الشرف، وعلى طهارة النسل، وأن نبني منها نسباً، ونتخذ منها صهراً
أكد علينا النبي (ص) أن نؤثر ذات الدين، ولو لم تكن ذات مال، ولا جمال بارع، ولا حسب، والحسب هم الأهل الطيبون، وقد بالغ في تأكيده حتى قال: ثربت يداك، وهذا دعاء بالفقر في أصل معناه، ولكنه غير مقصود وإنما يجري على لسان العرب في مقام التنبيه على أمر ذي بال، وهكذا أراد منه سيد العرب وأفصحهم (ص)؛ فإن اجتمعت هذه المزايا لزوج محظوظ فذلك فضل من الله يشكر، وإن اجتمع مع الدين بعضها فتلك نعمة لا تكفر. أما إذا ضاع الدين في المرأة فلا خير في مالها، ولا حسنها، ولا أهلها، وفي هذا ينطق الوحي على لسان الرسول (ص) فيقول: (لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن، ولا(414/21)
لمالهن فلعله يطغيهن، وأنكحوهن للدين. ولأَمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل)
يريد النبي (ص) أن حسن المرأة - من غير دين يكون سياجاً لها - يدفع بها إلى مهابط الرذيلة. ويريد أن مالها - من غير دين تتوقر به - يحملها على الطغيان وسوء العشرة. ويريد النبي (ص) أن امرأة سوداء خرقاء - يعني مخزومة الأذن على نحو ما كان معهوداً في الإماء المملوكات - أو خرقاء ناقصة العقل مع احتفاظها بالدين: أفضل ممن خسرت دينها وإن بلغت من المال والجمال والحسب فوق ما يشتهي الرجال من المطامع
وليس القصد من الدين أن تصلي المرأة وتصوم - مثلاً - وكفى ولو كانت سيئة الطباع؟ - لا - بل التي هذب الدين أخلاقها، وحفظ عليها حياءها، واستمدت من روحه وآدابه تربيتها، وإن ورثت هذا عن بيئتها وأهليها؛ حتى لا تكون مبتذلة جارحة لسمعته، ولا حمقاء متعبة في عشرته، ولا جشعة مستقلة لخيره، متلفتة إلى غيره
وفي حديث آخر ينصح النبي (ص) باجتناب خصال ثلاث وباجتناب من عرفت بها أو ببعضها من النساء فيقول: (لا تتزوج حنّانة، ولا أنانة ولا منانة)؛ والحنانة: التي عرف عنها أنها تسخط حياة زوجها، وتحن إلى عهدها قبل التزوج منه؛ والأنانة: التي عرفت بالأنين والشكوى مما بيدها أو من حظها، أو من صحتها؛ والمنانة: التي ترى لنفسها فضلاً تعتد به على الزوج. فواحدة من هذه النقائص تغض من راحة الزوج في عشرتها، وتخرج بها عن الإلف والامتزاج إلى الضغينة والشحناء واتساع الخلاف؛ وما لشيء من هذا يراد الزواج
وهكذا يطلب من الرجل أن يكون ذا دين، ويحث النبي على تفضيل المتدين على سواه، مع مراعاة الوسائل الأخرى التي ينشدها الإسلام في الزوج من خَلق وخلُق، ومن قدرة على الحياة الزوجية، ولياقة في الحسب
فيقول (ص): (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخُلقه فزوجوه. إلاّ تفصلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). يقصد النبي (ص) رعاية الدين والخلق، والتنفير من الأحمق والفاسق وإن اجتمعت فيهما أسباب القبول بعد هذين. وإلا كانت حياة نكدة بين الزوجين، وكان فساداً في نظام الأسر، وهدماً في بناء المجتمع، وشراً لا يقف عند حد، والدين - كما نوهنا من قبل - حريص على استئصال الشر من جذوره(414/22)
لم يكتف الإسلام بأن يطلب في الرجل دينه وخلقه، ولا بأن جعل للمرأة حق الرؤية كما جعله للرجل، بل أعطى للمخطوبة حرية أوسع من ذلك، ومكن لها أن تقبل في صراحة أو ترفض في شمم وإباء. فأمر النبي (ص) أن يؤخذ إذنها في الزوج قبل العقد له عليها، ومنع وليها أن يكرهها على من لم ترضه زوجاً لها إذا لم يكن كفئاً لها، وعلى ذلك جرى الفقه الإسلامي. . . ولقد جاءت فتاة إلى النبي (ص) فأخبرته أن أباها زوجها وهي كارهة لمن رضيه أبوها، فأحضر النبي (ص) أباها، وتبين منه صحة ما شكت منه الفتاة، فخيرها النبي (ص) في بقاء العقد أو بفسخه لها؟ فرضيت - بعد - بمن رضى أبوها
(لها بقية)
عبد اللطيف محمد السبكي
المدرس بكلية الشريعة(414/23)
من الأدب الفرنسي
صديقي موبَسَّان
للأستاذ محمد عبد الغني العطري
مما لا جدال فيه أن الصداقة ضرب من لوازم الحياة الضرورية التي يندر أن يستغني عنها إنسان. فهي كالغذاء للجسد أو العلاج للمريض. ولكل امرئ في هذا المجتمع صديق يأوي إليه في وقت الضيق، أو في ساعة السرور، فيقتسمان الفرح والترح، ويشتركان في السراء والضراء. والحياة دون صديق تبدو جافة قاتمة، لا أثر فيها للعواطف الروحية السامية التي تربط القلب بالقلب وتصل الروح بالروح.
هذا الضرب من الصداقة نجده بين عامة الناس، إذ لا بد لكل فرد من صديق. ولكن فريقاً من الناس في كل بلد وقطر، يصاحب الكتب ويصادق الأدباء، سواء منهم من كان في عالم الفناء الآجل، أو في عالم البقاء الأبدي. هذا الفريق يتألف من طبقة المتأدبين والأدباء، والكتاب والشعراء، ويضاف إلى هؤلاء طبقة القراء المولعين.
منذ سنوات عدة بدأت أشعر بميل شديد إلى أدب القصة، وأخذت أهيم بهذا الفن الجميل هُياماً عظيماً، فصرت ألتهم ما يقع بين يدي من روايات وأقاصيص، وأبحث عما في الصحف والمجلات الكبيرة من رائع القصص. وبينما كنت ذات يوم أقلَّب بصري في إحدى المجلات عثرت بقصة مترجمة عن كاتب لم أقرأ له شيئاً من قبل. فجلست أقرأ وأقرأ. . . فلما انتهيت وجدتُني في عاَلم جديد من أدب القصة لم أعرفه قبل ذلك اليوم، عالم كله سحر وعطر، وفن وجمال. وكنت أشعر وأنا أقرأ تلك القصة بأنها تتدفق بالذوق الفني الرائع، وأنها قطعة تفيض بألوان بارعة التنسيق من الحياة. ومكثت بعد ذلك برهة أستعيد حوادث القصة، وأسلوب عَرضها الأنيق، وحوارها الطريف؛ فما نهضت من مجلسي يومذاك إلا لأذهب إلى إحدى المكتبات وأقتني بعض أقاصيص هذا الكاتب، الذي لم يكن سوى (جي دي موبَسَّان)
منذ ذلك اليوم أصبح موباسان صديقاً لي حميماً، لا أجد له مؤلفاً إلا اشتريته، ولا يُكتب عنه(414/24)
شيء إلا قرأته، وهو يجزيني عن هذا الإخلاص خير الجزاء؛ ففي كل مرة أجلس إلى قصة من قصصه أو رواية من رواياته، يكشف لي عن نواح من فنه وعبقريته تزيد في حبي له وتضاعف من إعجابي به.
وإذا نحن حاولنا أن نكشف القناع عن سر عبقرية موبسان وفنه، لم نستطع أن نُرجع السبب إلا إلى أمرين اثنين: الأول نبوغ فطري واستعداد طبيعي. والثاني تتلمذه على الروائي العظيم (غوستاف فلوبير) مدة سبع سنوات، لَّقنه في خلالها أصول الفن الحديث وقواعده العلمية الصحيحة، حتى أن موبسان كتب بعد ذلك يقول: (لقد اشتغلت مع فلوبير سبع سنوات لم أنشر خلالها سطراً. وفي هذه السنوات السبع أعطاني معلومات أدبية لم أحصل عليها بعد أربعين عاماً من التجارب)
والحق أن تتلمذ موبسان على فلوبير طوال هذه الأعوام صقل مواهبه وسدد خطاه، وراضه على التأمل الطويل والتفكير الكثير في سبيل الفن وحده. وكان فلوبير خلال ذلك يأخذ بيد تلميذه في طريق السمو والإبداع، ويقدم له خالص النصح، وكان يقول له: (ليست الموهبة إلا صبراً طويلاً. إنها تقتضي تأملاً كافياً لكل ما يراد التعبير عنه، مع كثير من الانتباه، كي نصل إلى وصف منظر لم يره أحد ولم يصفه. لا يزال في كل مكان أشياء لم تُكشف بعد؛ والسبب في ذلك أننا معتادون عدم استعمال نظرنا الخاص في التفكير والتأمل، إلا ممزوجاً بما قاله الأقدمون. إن في أصغر شيء وأقله قيمة قليلاً من المجهول، فلنبحث عنه. ولكي نصف مثلاً ناراً تتأجج أو شجرة في سهل، يجب علينا أن نطيل الوقوف أمام تلك النار أو هذه الشجرة حتى نستطيع أن نخرج إلى الناس بوصف لا يشبه أي وصف لأية شجرة أو أية نار، بهذا يستطيع الكاتب أن يكون مبتكراً مجدداً)
ويقول موبسان معلقاً على ذلك:
(وعند ما بسط فلوبير أمامي هذه الحقيقة التي تقول إنه لا يوجد في الكون كله ذرتان من الرمل، أو ذبابتان أو يدان أو أنفان متشابهين كل التشابه. أخذ يجبرني على التعبير في بضع جمل عن كائن أو شيء يميزه بوضوح من كل كائن وكل شيء من النوع ذاته والجنس نفسه)
ولقد قسا صاحب (مدام بوفاري) على تلميذه قسوة شديدة فكان موبسان يكتب خلال تلمذته(414/25)
عليه كثيراً من الأقاصيص والروايات، وينظم كثيراً من الأشعار، ثم يعرضها على أستاذه فكان هذا يظهر له أغلاطه ويبسط له نقده ثم يُقدَّم له النصح ويتلف ما كتبه التلميذ، وكانت هذه القسوة من أكبر العوامل في خلق عبقرية موبسان. إذ أنها كانت تدفعه إلى الإبداع والتجويد، ولو كانت على غيره لقتلت مواهبه وقضت عليه القضاء الأخير، ولكن النبوغ يقحم كل عقبة، والعبقرية تجتاز كل الصعاب. وظهر بعد ذلك موبسان في عالم الأدب متسلحاً بكل ما يتطلبه فن القصة الرفيع من خيال واسع، وموهبة فذة، وعبقرية لا تبارى، وكانت أولى ثماره في الأدب قصة دعاها (كرة الشحم) كتبها بمناسبة حرب السبعين وفيها ينتصر للعنصر الفرنسي على العنصر الجرماني ويظهر تفوقه عليه. وقد فازت قصة موبسان هذه على خمس من القصص كتبها في الموضوع نفسه: أميل زولا وكّيار وهويسمن وآلكسي وهانّيك. حتى أن فلوبير الذي لم يكن يرضى في بادئ الأمر عن نتاج موبسان الأدبي كتب يقول عنها: (إنها تحفة رائعة جداً في إنشائها وتهكمها ودقة ملاحظاتها)
ثم أخذ موبسَّان يطل على الناس بنتاجه القصصي الرفيع الذي جمع كل ما في الحياة من مشاهد وصور يمر بها الإنسان العادي فلا يجد بها ما يهزه أو يثير مشاعره، ولكن القصصي المبدع يرى فيها خير مادة يغذي بها فنه ويستمد منها قصصه، وما هي إلا أعوام خمسة عشر حتى استطاع موبسان أن يقدم للناس ثماني عشرة مجموعة من الأقاصيص في كل مجموعة منها نحو من خمس عشرة قصة. كل ذلك عدا سبع روايات كبيرة وثلاث مسرحيات وثلاثة كتب في السياحة ومجموعة من الشعر
ولسنا نعجب لغزارة هذا النتاج الأدبي وكثرته، ولكننا نعجب للسرعة والبراعة والقوة التي أبداها موبسان في مؤلفاته عامة وأقاصيصه خاصة حتى لقد سُمي بحق (زعيم الأقصوصة الأكبر)
أما ترى معي أيها القارئ أن موبسان كتب ما يقارب الثلاثمائة أقصوصة وقلما نجد بينها واحدة تمت بصلة إلى غيرها من أقاصيصه؟ أما ترى أن أقاصيصه مختلفة الأشكال متباينة الألوان لا تربطها إلى بعضها سوى رابطة واحدة هي رابطة الفن؟
لقد توفرت لموبسان جميع العناصر الفنية والأدبية التي تؤهله لأن يكون الزعيم الأقصوصي الأول، فزخرت مواهبه بالصور الفنية والقطع الساحرة، فأخرجها ألواحاً رائعة(414/26)
التلوين بارعة التنسيق يتمشى خلال سطورها الفن وينسجم، وتلتمع بين ثناياها العبقرية وتضيء. ليس من العجيب بعد ذلك إذا علمنا أن الروائي الفرنسي الكبير ألكسندر دوماس كتب إلى موبسان يقول، دون تملق أو مصانعة: (إنك أنت الكاتب الوحيد الذي أنتظر كتبه برغبة ملحة وصبر نافد)
كان موبسان فناناً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وفيلسوفاً في نظر كثير من الكتاب. أما أنه فنان فهذا أمر ما اختلف ولن يختلف فيه اثنان، لأن فنه يتجلى بأوضح معانيه في جميع أقاصيصه دون استثناء. ولنأخذ أية قصة شئنا من قصصه ولننظر فيها نظرة نافذة فاحصة فماذا نجد يا ترى؟
إننا نراه يقدم لنا صوراً ومشاهد من الحياة الواقعية، كثيراً ما نراها في عصرنا هذا في الحياة العملية. نراه يقدمها لنا في كثير من السهولة والبساطة والوضوح؛ ويظهر لنا أبطاله في صور وألواح هي غاية في الدقة والروعة والإبداع، صور تميزهم من كل أبطال آخرين، في أية قصة أخرى، لأي كاتب كان، وذلك تطبيقاً لوصية أستاذه فلوبير؛ كل ذلك دون أن ينسى أن ينطقهم بلغة الوسط الذي يعيشون فيه، والمهنة التي يزاولونها. وحينئذ تنسى أنك تقرأ قصة لموبسان، وتحسب نفسك أمام مشهد حقيقي تراه بناظريك، وتسمعه بأذنيك. فإذا ما بلغت القصة نهايتَها، وصحوْتَ من الحُلم الجميل الذي هيأه لك الكاتب، عجبت لاقتداره ودقة ملاحظته وعلو كعبه في التصور والتحليل. وهو منذ السطر الأول الذي يخطه في قصته، حتى السطر الأخير منها، يحاول بنجاح أن تكون رشيقة أنيقة، متسلسلة الحوادث دون تكرار، رائعة المفاجأة دون مغالاة أو ابتعاد عن الواقع
وموبسان يحب الحقيقة والواقع كل الحب، والدليل على ذلك أنه نسج أقاصيصه ورواياته متبعاً في ذلك المذهب الواقعي ولم يحد عنه إلا في أواخر حياته الأدبية. والمذهب الواقعي في نظر أكثر الكتَّاب العالميين هو أقصى غاية الفن، لذلك نرى (أميل فاجيه) يقول في دراسته عن (بلزاك): (من الجدير بالملاحظة حقاً أنه إذا كان المذهب الواقعي هو أقصى غاية الفن، فليس أصعب من أن يكون المرء واقعياً). وبالرغم من ذلك، فقد كان (موبسان) في الطبقة الأولى من الكتاب الواقعيين. وكان يصور المجتمع الفرنسي - ولا سيما الباريسي منه - بأمانة وإخلاص؛ وكان يرتاد البيوت المشبوهة وينغمس فيها حتى النهاية،(414/27)
ثم يصورها لنا بما لا يكاد يختلف عن الحقيقة في شيء، بعد أن يكسوها حُللاً من فنه، وأثواباً من عبقريته. وكثيراً ما يُطوّف في الأحياء والأمكنة البعيدة، ويستلهم من غريب مشاهداته وعجيب مصادفاته مادة غزيرة لقصصه
وقد يصور في قصصه البائسين والفقراء، والتاعسين والأشقياء، وغيرهم ممن طحنتهم الحياة بالهموم وغمرتهم بالآلام. ولكنه في هذه الصور يُخفي الشفقة والرحمة ويبدو قاسيَ القلب متحجر الفؤاد، لا يحاول أن يستدر الدمع بمناظر البؤس، ولا يستنزل الرحمة بصور الشقاء، ولا يصغي إلا إلى صوتٍ واحد هو صوت الفن. ومن هنا قال الناقدون بانعدام الطابع الإنساني في قصصه، وهو في ذلك على نقيض تام مع (ألفونس دوديه)، فهذا يحاول أن يُشعر القارئ بالألم والحزن في جميع أقاصيصه ورواياته. فنراه يبكي ويستبكي حزناً على الأشقياء والمتألمين. بينما نرى ذاك كصانع التماثيل الفنان، لا يهمه وهو ينحت تمثاله سوى الفن والإبداع، لذا يضرب بأوائله أينما شاء وحيثما قضى الفن، لا يدري أآلم بضربه أم لم يؤلم، ولكنه يعرف حق المعرفة أأصاب في نحته أم أخطأ
وفي رأينا أن الحق هنا في جانب (موبسان)، لأنه يَعرِض قصصه دون أي تعليق، فهو يرينا صورة البائس دون أن يقول: (هاكم هذا البائس! ارحموه أيها الناس وأشفقوا عليه)؛ بل نراه يقول من طرف خفي: (هاكم قصة هذا البائس! فأشفقوا أو لا تشفقوا). وعلى القارئ وحده أن يكون ذا حس مرهف وشعور دقيق، فيرحم من يستحق الرحمة ويقسو على من لا يستحقها. ولنأخذ مثالاً بسيطاً على ذلك: في إحدى أقاصيصه المسماة (والد سيمون)، يصور لنا فتاة خطبها رجل فاستسلمت له قبل الزفاف. . . ثم هجرها الخطيب، ووضعت منه بعد مدة طفلها غير الشرعي، ونشأ الطفل بعد ذلك يحف به العار دون أن يكون له في ذلك ذنب أو إثم. وهنا يظهر موبسان في قسوته المزعومة على الأشقياء والبائسين، إذ أنه لا يكتب في قصته كلها كلمة واحدة تبعث في نفسك الشفقة على هذا الطفل البريء، أو تثير في كوامنك الرحمة لتلك الفتاة المظلومة؛ بل يشير إلى خجل المرأة من الناس واعتزالها إياهم، ويصور لك ذلّ الطفل وعذابه واضطهاد رفاقه له، لأنه على حد زعمهم (ليس له أب). ثم يصفه لنا وهو على وشك الانتحار بعد أن شبع رفاقه من السخرية به وإسماعه لواذع الكلام. . . ولا يُخلَّص الفتاة وطفلها من العار والموت سوى(414/28)
رجل شهم يتزوج من الأم ويتبنى الطفل
هذه قسوة موبسان المزعومة على الإنسانية، وهي قسوة - إن صحت عليها هذه التسمية - في موضعها؛ لأن الفن الصحيح الخالص البعيد عن الضعف الإنساني كثيراً ما يقضي بذلك
قلت: إن موبسان فيلسوف، وفلسفته لا تخلو من آراء طريفة فيما يتعلق بالمرأة، والحياة خاصة. أما رأيه في المرأة فهو قاس شديد القسوة؛ وهو يمت بأوثق صلة إلى رأي أبي العلاء المعري في العربية، ورأي (مارسيل بريفو) بالفرنسية. فكلاهما يقول مع موبسان بأن المرأة مخلوق غادر قلما يخلص أو يعف، وهي في نظرهم أداة فتنة وفساد. وليس للمرأة من شاغل - في نظر موبسان وبريفو - إلا إشباع رغباتها وميولها التي ليست سوى نار تتأجج ولهيب يستعر
المرأة. . . إن موبسان يحبها من كل قلبه، ولكنه لا يحبها زوجة وإنما يريدها خليلة؛ لأنه يندر وجود المرأة المخلصة في العالم؛ وما دامت كذلك فهي لا تصلح إلا لإشباع الشهوات
وأما الحياة فله فيها فلسفة خاصة. فهو يرى (أنها سخافة ومعاناة وآلام فقط، وليس فيها ما يشوق ويبهج)
ويغلب على ظننا أن هذا الرأي لم يأخذ به موبسان إلا في أواخر حياته، أي عندما تناوشته الأدواء وتكاثرت على جسمه العلل؛ فداخله اليأس والقنوط. لأنه كان قبل ذلك زير غوانٍ لا يرتوي، وكان مدمناً على الشراب والمخدرات، مقبلاً على الحياة، متمتعاً بكل لذائذها، غارقاً في مفاسدها. وهذه كلها أشياء (تشوق وتبهج) لا يأتيها من كان يائساً من الحياة محتقراً لها معرضاً عنها. ويلتقي موبسان ثانية مع المعري في رأيه في الحياة ولكن الأول يطعن فيها وهو مقبل عليها يتمتع بلذائذها، بينما الآخر يكره الحياة ويعيش بعيداً عنها وعن جميع لذائذها
وعلى أي حال فقد اشتد يأس كاتبنا من الحياة وزاد كرهه لها عندما تقلبت عليه الأمراض، وانتهت به إلى أسوأ عاقبة، وأعني بذلك الجنون. . . نعم، لقد جُنَّ في أواخر حياته وكان السبب في ذلك شدة إخلاصه لأدبه وفنه، واعتقاده بأنه ميت لا محالة، بينما كانت نفسه لا تزال تزخر بشتى الصور الفنية التي يود أن ينسجها أقاصيص رائعة الحسن موفورة الجمال. فكان لتنفيذ هذه الرغبة يعمل في يومه مدة ثماني عشرة ساعة - كما يقول روبير(414/29)
مونتيه في كتابه عن أسباب جنون موبسان - واضطر الرجل إلى إجهاد ذهنه إجهاداً متواصلاً في سبيل تنفيذ مشروعه ونسج أقاصيصه التي خشي أن يأتي عليها الموت فتدفن معه في اللحد وهي أجِنَّة لم تولد. ولما أدركه الجنون المطبق صار يرى الناس أبطال قصصه الذين صنعهم خياله وصورهم يراعه. وأخذ يسيء إلى من رسمه بقلمه شريراً منهم، فاضطر ذووه إلى نقله إلى مصح للأمراض العقلية، ولكنه أعيد بعد مدة إلى باريس حيث قضى وهو في قمة المجد وأوج الصبا وأبعد الصيت. مات موبسان فأنكره قومه في مماته كما أنكروه في حياته، ولم ينتبهوا إلى فنه الرائع وعبقريته الفذة إلا في الأعوام الأخيرة حيث احتفلت فرنسة بتخليد ذكراه عام 1925، وأقامت له في مسقط رأسه تمثالاً يليق بعبقريته ونبوغه
هذه صفحة موجزة من أدب الرجل الذي عاش ومات من أجل أدبه وفنه، والذي جعلت منه صديقاً لي وفياً. فهل ثمة من يلوم على إكباري لهذا الصديق الذي عانقته إلهة الفن وهدهدته، ثم سقته من كأس الخلود والبقاء، وجعلت منه كاتباً عبقرياً تباهي به القرون وتفخر به الأجيال
(دمشق)
عبد الغني العطري(414/30)
أمل يضيع
للسيدة الفاضلة (ليلى)
إلى العذراء التي طال عليها الانتظار، وظلت مجهولة كزهرة الصحارى والقفار. إلى الحزينة الصامتة تسائل نفسها: متى وأيان، أهدي كلمتي وأقدم تعزيتي
(ليلى)
يا لؤلؤتي اللامعة، يا درتي الغالية، يا زنبقتي الناضرة الناصعة، مضت الشهور والأعوام، وأنت قابعة في انتظار. ما الذنب ذنبك، ولكنه أبوك الفقير، لا هو موظف كبير، ولا صاحب جاه خطير، لقد طغت المادة على الرجولة فأضعفتها، وعلى الأخلاق فأفسدتها، فتعامت العيون عن الجوهر المكنون، وتهافت الشباب المتسكع على أبواب الغنى واليسار يطلبون يد الفتاة التي يعيشون على هامش حياة أبيها متفاخرين، وعلى صبابة من ماله متهالكين. يحز في قلبي وتملأه الحسرة أن ينطفئ في نفسك نور الأمل، وينهار صرح الأماني، وأن تخبو نظرتك المتألقة، وتفيض ابتسامتك المشرقة، ويختفي الفرح الذي يملأ قلبك، والمرح الذي يشع في نفسك، والروح الهانئة الحالمة تصبح حيرى متألمة. هاهن أخوات لك أخريات ينمو بهن الشباب كما تنمو الأزهار في المنبت الطيب والتربة الجيدة يشتد، عودهن ويقوى ينتظرن انتظارك ويحلمن أحلامك، والمستقبل أما مكن مظلم غامض، وعجلة الحياة تدور بغير ما هوادة ولا رحمة، والقلوب الحزينة مطوية على الأمل الضائع كما يطوى القبر على عزيز غال، والعبرة محبوسة لا تفيض، والشفاه لا تنبس بأنة ولا شكوى، والعاطفة مكبوتة في سجن التقاليد. إنه ليؤلمك أن تكوني عالة على ذويك، وعبئاً على أمك وأبيك. ما توقعنا لك خيبة الأمل، وإلا أعددناك لحياة الشقاء والعمل
يا بنيتي الحبيبة، لم يكن ينقصك عقل ولا ذكاء موفور، لك الحسن والرواء، ثقفناك على قدر ما وسع جهدنا، وحبوناك بعطفنا وحناننا، ورعيناك بالأعين والقلوب، وأتحفناك بكل ما تسمح الجيوب، ولم نترك فيك خلقاً إلا قومناه، ولا اعوجاجاً إلا أصلحناه، حتى ملأت البيت علينا بالبهجة والسرور، وغدوت زينة المجتمع والخدور. والآن يعتورك الملل تضيقين بنا ونضيق بك، وما هو ذنبنا أو ذنبك، إنها المادة التي طغت على الرجولة فأضعفتها، ولا على الأخلاق فأفسدتها. وأبوك موظف صغير، لا هو بالغني ولا بالكبير. لقد تغير العصر(414/31)
والجيل، وضاعت وصايا القرآن والإنجيل. كان جدودك السابقون يبحثون لأولادهم عن المنبت الطيب والأساس المتين، وتتصاهر العائلات وسداها السمعة الطيبة ولحمتها البيت الكريم. والآن يا فتاتي لا الخلق الجميل، ولا العقل الرصين، ولا كفايتك في إدارة البيت، ولا ثقافتك لتكوني من خيرة الأمهات، وأمانتك لتكوني أطهر الزوجات، ولا سمو روحك وجمال نفسك، بمزكيتك لدى الرجل ما دمت لست غنية، ولا أبوك صاحب ضيعة (وأبعدية)، وعلى هذا يظل الشبان متقاعدين، عابثين أو منتظرين، وعلى مقربة منهم وفي متناول أيديهم السعادة والنعيم، وما هي بمضمونة في زيف الجاه الباطل، أو موجودة في استجداء العرض الزائل، وليس في ارتواء الحب الآثم غير الخسران، والجري وراء المعصية غير إطاعة الشيطان. أعجب للرجل يهرب من التبعة كالسائحة الضالة؛ لا تعرف لها راع من رعية، ينتظر حتى يفوته الشباب ويجدب أيما إجداب، وهكذا يظل ينغمس في أحضان الفسق والدعارة الشيوعية. ما دامت لا توجد الزوجة الغنية. حقاً لقد طغت المادة أي طغيان، وتُنوسي الواجب أي نسيان، فعزاءٌ للعذارى في خدورهن، ونصيحتي أن تعملن ولا تنتظرن، وربما تجدن من يتزوجكن من شباب الجيل الحاضر لتقمن بالنفقة عليه؛ ورحم الله. ماضي الرجولة وأيام أمهاتكم وجداتكم ولا فخر بعد ذلك للرجال
(ليلى)(414/32)
في اختلاط الجنسين
للأستاذ محمود محمد بسيوني
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولما كان ما نراه اليوم من فساد ناتجاً عن سوء فهم الناس لمعنى الاختلاط فلندرس إذن الاختلاط ولنفهمه بمعناه الحقيقي. الإنسان مدني بطبعه، أي أنه لا يمكن أن يعيش منعزلاً؛ فلا بد من التعاون الحقيقي بين أفراد الإنسان بوجه عام. فإن اختلاف القوى البدنية والعقلية يحتم احتياج كل إنسان إلى الآخر لإكمال ما به من نقص، ولكي يتعاون الجميع على الحياة في أمن وهدوء. والحياة كثيرة الشعب متعددة الفروع بحيث أن كل فرد لا بد أن يقوم بعمله كاملاً من ناحية اختصاصه. ومن هذا نرى أن الرجل لازم للمرأة، وأن المرأة لازمة للرجل، أي أن الاتصال بين الرجل والمرأة لازم لا لحفظ النوع فقط؛ وإنما كذلك للتعاون على شؤون الحياة، أو بمعنى آخر نستطيع أن نقوله أن الاختلاط أمر لا بد منه، ولكن متى يكون هذا الاختلاط وما حدوده؟
الاختلاط ممكن في الحدود الطبيعية أي حيث تتطلبه شؤون الحياة. وهو لا يكون حينئذ خطراً لانصراف الفكر إلى المهام الجدية التي تطلبها الاختلاط، ولانعدام الجو الذي يولد التفكير السيئ. فالرجل الذي يذهب ليشتري شيئاً تحسن المرأة صنعته أو تجارته، لا يتوفر لديه ما يبعث على التفكير السيء؛ والمريض في المستشفى محتاج إلى رقة المرأة وحنانها، فلا ضرر من اتصال الرجل بالمرأة في مثل هذه الحالة، حيث لا مجال للتفكير السيئ. والرجل الذي يتلقى فناً خاصاً تحذقه امرأة لا بأس عليه من اختلاطه بها كذلك. وكل هذا هو ما نقصده به الاختلاط الطبيعي الذي تتطلبه شؤون الحياة وتوزيع العمل بين الرجل والمرأة كما فهمته تلك المرأة القروية على حقيقته. فهي تخالط الرجل في الحقل إذا دعت إلى ذلك الشؤون الزراعية، كما تخالطه في السوق إذا دعت إلى ذلك حاجة البيع والشراء. ولكن هؤلاء الذين تختلط بهم في الحقل وفي السوق تحتجب عنهم في المنزل لأنها في هذه الحالة لا تجد مبرراً طبيعياً لاختلاطها بالرجال، وعلى ذلك نستطيع أن نقرر في غير تحرج أن تلك القروية قد أدركت بفطرتها السليمة وظيفتها الحقيقية أكثر مما فهمتها تلك الفتاة الحضرية التي تدعي العلم والفلسفة(414/33)
على أن هناك مجالات أخرى قد يبدو فيها الاختلاط أمراً ضرورياً كالحفلات الخاصة وما شابهها. وخير الأمور في مثل هذه الأحوال هو أن يقتصر الاختلاط على الأهل والأقارب والأصهار ومن إليهم ممن توجد بينهم صلة قوية وثقة تامة؛ فحينئذ أظن أن خطر الاختلاط يبتعد كثيراً ويكاد ينعدم، وبخاصة إذا روعي الواجب حيال هذا الاختلاط من احتشام المرأة ومراعاتها له في حدود الوقار والحياء. وإني لا أفهم مطلقاً أي معنى لأن يدعو إنسان في بيته رجالاً ونساءً لا يعرف بعضهم بعضاً ويزعم لنفسه بأنه يقدم التعارف بينهم. فهذا النوع من الاختلاط هو الذي لا نقره مطلقاً. فمنه تقع الحوادث والكوارث. فإن المرأة بطبيعتها ضعيفة سريعة الانقياد؛ ثم إنه من الممكن أن يندس بين الرجال من ليس منهم من الجهة الخلقية الجديرة بالرجولة. فكثيراً ما تلقى وحوشاً إنسانية في زي الرجال. وفي وجود هؤلاء خطر شديد. فقد تلتقي المرأة برجل تتوسم فيه محاسن خاصة وفضائل ظاهرية قد تميزه على زوجها إن كانت متزوجة، أو توهمها بأن فيه المثل الذي تنشده إن لم تكن متزوجة، فإذا بها تنقاد له وتقع في شركه وتتمادى في علاقتها به؛ ثم تنكشف الحقيقة فجأة وتقع الكارثة كما هو معروف.
لقد قلنا إن الاختلاط ممكن في الحدود التي تستلزمها الطبيعة ولا تتنافى في شيء مع الدين والأخلاق، وهي حدود لا تعوق الحرية ولا تؤثر على التقدم والرقي؛ إنما هي حدود تكفي لأن يعيش الإنسان هادئاً مطمئناً سالكاً الطريق الذي خلق له. أما الاختلاط على الصورة الحاضرة فهو خطأ كل الخطأ، وإنما هو تقليد أعمى لا يجوز الأخذ به بتاتاً. وقد قال الفيلسوف إن لكل بلاد جوها وعاداتها وتقاليدها وموقعها الجغرافي مما يخلق لها ظروفاً خاصة قد لا تتناسب مع ظروف البلد الآخر. وهذه النظرية الصحيحة إذا طبقت في موضوعنا هذا نستطيع أن نصل بوساطتها إلى أن الاختلاط وإن أمكن توسيع نطاقه في أوربا (على أن أوربا هي الأخرى قد نالها منه ما نالها من شر وضر) قد يكون مقبولا إلى حد ما، لأن جو البلاد وطبيعة أهلها الباردة؛ ثم عاداتها وتقاليدها قد تجيز الاختلاط دون ضرر كبير. أما في الشرق حيث الجو حار وطبيعة السكان حارة أيضاً، سريعة التأثر والثوران، وحيث تقاليد الناس المتوارثة لا تجيز هذا الاختلاط؛ فإنه من الخطر حقاً أن ننقل اختلاط أوربا إلى مصر، فسيبقى الغرب غرباً وسيبقى الشرق شرقاً إلى نهاية الحياة(414/34)
أما ما يقول به البعض من أن المرأة إذا كانت شريفة بطبعها واثقة بنفسها، موثوقاً بها، فهي تستطيع أن تبقى طاهرة مطهرة، حصينة محصنة، تحت أي ظرف أو ضد أي ظرف من ظروف الإغراء والسقوط، فهذا شيء من الصعب التسليم به، فمن الخطأ أن توفر لإنسان أسباب الشر وتغريه بها وتحببه إليها مع علمك بأنه ضعيف أمام سطوة الشيطان، ثم تزعم أنه يستطيع التغلب عليها؛ وقد قالت حكمة القدماء أن الوقاية خير من العلاج
وقد قال البعض أيضاً أن العلم والثقافة يقيان المرأة شر السقوط. ولكنا لا نستطيع أيضاً أن نسلم بهذا؛ فإننا قد رأينا المتعلمين والمتعلمات هم الذين يبدءون بفكرة الاختلاط ويسرفون في الحرية التي يهيئها لهم علمهم وثقافتهم فيغرون بذلك طائفة أخرى أكثر منهم عدداً وأقوى منهم أثراً، ولكنها أقل علماً وفهماً. هؤلاء هم أنصار المتعلمين والمتعلمات الذين لا يقدرون الأمور كما يجب أن تقدر، ولا يفهمون الحرية كما يجب أن تفهم، فيعتقدون أن الأمر عبث ولهو لا أكثر ولا أقل، فيندفعون وراء عقولهم الضعيفة وقلوبهم المستسلمة ويصبحون الخطر الأعظم. أما المتعلمون الذين ينفعهم علمهم ويقيهم شر السوء فهم الذين بلغوا من العلم شأواً بعيداً. أما الذين لم يصيبوا منه مثل هذا القدر فإنه يتسرب إلى اعتقادهم أن العلم يعطيهم شيئاً من الحرية وشيئاً من التفكير في الأمور من نواحيها السهلة الضعيفة فيتناسون ما فيها من قيود شديدة، وبهذا يصبحون مستهترين إلى حد ما. فخير إذا أن نترك الأفكار الصالحة تسيطر على العقول والنفوس على شكل تقاليد وعادات تتوارثها الأجيال، فلا تجرؤ على مهاجمتها. وخير للمرأة إذن ألا تسرف في الاستنتاجات من الفلسفة والعلم، وإنما يجب أن يكون علمها في الشؤون التي خلقت لها وهي فنون البيت وشؤون الأسرة، وأن تكتفي فيما عدا ذلك بما تشير به تعاليم الدين وتقاليد البلاد. فليتجنب الجميع منابع الشر، وليبتعدوا عن مسبباته درءاً للخطر، وبخاصة أنه ليس هناك ما يستوجب الاقتراب منه
وإنما نحمل المرأة أكثر التبعة نظراً لأنها تعلم حق العلم أن مسعاها غير مسعى الرجل فهي سريعة التأثر كالزهرة اليانعة إذ لمستها الأيدي الكثيرة ذبلت وتناثرت أوراقها وديست بالأقدام، بينما حال الرجل ومسعاه قليل التأثر. فلو أن المرأة لم تقدم نفسها إلى الرجل ولم تسهل له سبيل الاتصال بها ولم تستمع إلى إغرائه وغوايته لما جرأ هو على الاستخفاف(414/35)
بها واستغلال مخالطتها بالسوء. على أن ذلك لا يبرئ الرجل من التبعة واللوم، فإن صفات الرجولة توجب عليه أن يكون قوياً شهماً مترفعاً عن أساليب الخداع والغش التي يتبعها لإيقاع المرأة في الشرك وهي الضعيفة أمام سلطانه. فكان الواجب أن يرد المرأة إلى سبيل الجد والهداية. فلو أنه استغل رجولته وشهامته في عدم الاندفاع في الاختلاط وفي عدم تشجيعه له، لانعدمت الأسباب التي نتج عنها الاختلاط السيئ ولما شكونا مما نشكو منه الآن
وكل ما نريده اليوم هو أن نستجيب إلى النداء العظيم الذي وجهه صاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك حيث حثنا على أن نتعاون جميعاً على تنظيم حياتنا الاجتماعية تنظيما جديداً يتناسب مع تقدمنا ومدنيتنا الحقيقية لا المزعومة. وأن نطهر تلك الحياة مما فيها من آثام وشرور قبل أن يستفحل أمرها ويستعصي استئصالها، فواجب كل فرد أن يضع في رأسه أنه مكلف أخلاقياً بأن يساهم في مكافحته للفساد والشر وفي هداية الناس إلى الطريق المستقيم وفي اظهارهم على ما في ذمتهم وما في تقاليدهم من معان سامية ومن تعاليم رفيعة تضمن لهم أمنهم وسعادتهم. فليقم كل منا بأكبر قسط يمكنه أداؤه في دائرته: في منزله أولاً وفي البيئة المحيطة به ثانياً. كذلك نستجيب إلى نداء الأستاذ الدكتور فندعو إلى تأليف جماعات تعمل متضامنة على مكافحة الأمراض الاجتماعية الناتجة عن الاختلاط. ونحن نتمنى أن تتسع هذه الخطوة بأن تساهم الصحافة بقسط أوفر، بأن تكتم أخبار الاجتماعات المختلطة الخاوية، وأخبار الحفلات التي تخلو من كل ما يهم المصلحة العامة وأن تمتنع عن ذكر كل ما يتنافى مع تعاليم الدين وتقاليد البلاد. لعل هذه العقوبة الأدبية ترد الغاوين عن غيهم والمستهترين عن استهتارهم، فلا يلقى مقلدوهم وأنصارهم أي تشجيع إلى أن تموت بالتدريج كل فكرة فاسدة حتى ينصلح حال المرأة ويحسن ظنها وفهمها لمبادئ قاسم أمين فتنفذ آراءه وتعاليمه كما كان يريدها وكما يريدها المصلحون والله أسأل أن يلهمنا التوفيق والسداد.
محمود محمود بسيوني(414/36)
بين الأدب والتاريخ
مدن الحضارات في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لكل حضارة قديمة أو حديثة مدنية كبيرة يستقر فيها السلطان، وتتمثل فيها الإدارة والسياسة، والصدارة والرياسة؛ وتتجه إليها الأنظار، ترى فيها المثل، وتجد فيها القدوة، وتأخذ عنها الأساليب. ولقد كتبتُ في إحدى المجلات الأسبوعية بحثاً عن بعض هذه المدن القديمة، واليوم أنقل المجال إلى (الرسالة) الغراء، جاعلاً حديث اليوم عن بيزنطة عاصمة المسيحية الأولى؛ ودمشق وبغداد العاصمتين الكبيرتين للإسلام
ولقد سميت بيزنطة بعد إنشائها بزمن بالقسطنطينية وخفقت عليها في عصور متعاقبة: أعلام الوثنية وألوية المسيحية وراية الإسلام. وبقية إلى اليوم تحت الراية الأخيرة منذ أن فتحها السلطان محمد الفاتح في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي.
أسس هذه المدينة المستعمرون الأولون من الإغريق في سنة 667 قبل الميلاد، وقد ظلت قرابة ستة قرون ونصف قرن وهي حاضرة كبرى للوثنية. وفي عصر قسطنطين الأول إمبراطور الرومان، انتقلت عاصمة الإمبراطوريات إلى بيزنطة، التي أسميت من ذلك الحين بالقسطنطينية نسبة إليه. وكان ذلك في الثلث الأول من القرن الرابع الميلادي.
ولقد أخذ نجمها منذ ذلك اليوم يصعد ويزداد ألقاً في سماء التاريخ. فأقام فيها قسطنطين كثيراً من المنشآت العامة والمباني الضخمة، وشيد (تيودور) حولها سوراً منيعاً جعلها عزيزة المنال بعيدة المطلب؛ وأصبحت عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وزخرت بالعلماء والحكماء والفلاسفة، وامتلأت بالمدارس ودور الكتب، واتسعت رقعتها من يوم إلى يوم بضاحية تمدّ، أو دسكرة تبنى، أو طريق يعبّد.
وظلت القسطنطينية بعد ذلك قرابة عشرة قرون، توالت عليها خلالها سعود الأيام ونحوسها، وتتابعت عليها الحظوظ شقيها وسعيدها، وهي في ذلك ما بين خفض ورفع وجزر ومد، إلى أن سقطت في أيدي الأتراك سنة 1453م، وأصبحت بانتقال الخلافة الإسلامية من مصر إليها عاصمة الممالك الإسلامية وقبلة الأمم المحمدية تتجه إليها في الشدة والرخاء. وكان للباب العالي في تلك الأزمان مقام لا يدانيه مقام، وسلطان ما بعده(414/37)
سلطان
وتمتاز تلك المدينة بموقعها الفريد على البوسفور، وامتدادها في شبه جزيرة على بحر مرمرة، وإشراف خليج القرن الذهبي عليها من الشمال. كما تمتاز بأسواقها التجارية التي تعد من أبدع أسواق العالم، وبمجموعة من المساجد الجميلة المبنية على طراز تركي أخذت عنه طائفة من مساجد القاهرة التركية كمسجد محمد على باشا
وأشهر تلك المساجد جامع (أبا صوفيا)، وقد كان كنيسة قبل الفتح العثماني، ولكن قرع النواقيس فيه انقلب إلى تسبيحات المؤذن، وتهليلات المكبر، معلنة اسم الله العظيم، يتجاوب في آفاق المدينة الساحرة التي طالما فتنت السلطان الفاتح وأخذت عليه تفكيره وخالطت أحلامه وخواطره؛ حتى تمت له الأمنية وتحققت الأحلام. ودخلها يوم الفتح - كما تقول الروايات التاريخية - حافي القدمين بادي الخشوع، شاكراً لله على ما وهب، مصلياً فيها أول صلاة للمغرب
وشاء الله بهذا الفتح أن تصبح المدينة عاصمة الإسلام، وإذا بالأباطرة العظام يستبدلون بخلفاء أعظم وسلاطين أمنع دولة وأعز صولة. ثم يخاف العلماء والحكماء فيها على مصائرهم ويشفقون على أنفسهم، ولا يؤمنون المقام تحت ظل الأتراك وفي كنف الحكم الجديد، فيفرون ويهجرون المدينة المسلمة والعاصمة المسلمة ويحملون معهم تعاليم اليونان وثقافة الرومان وينشرونها في أوربا فتكون طلائع النهضة المباركة والحركة الجديدة التي تعرف في التاريخ باسم
وفي القرن الثامن الميلادي ظهرت في الشرق العربي المسلم مدينة جديدة ليست في مضارب الصحراء ومجاهل البيداء كمكة والمدينة ولكنها في الشام حيث كانت حضارة الفينيقيين تزدحم وتتكاثر على الشاطئ الشرقي لبحر الروم (البحر الأبيض المتوسط). تلك المدينة هي (دمشق) حاضرة الدولة الأموية، ومقر الخلافة الإسلامية، ومركز القيادة التي تفرعت منه الحملات وانسابت منه المغازي إلى أقطار بعيدة، وجهات سحيقة لتوسيع رقعة المملكة الإسلامية
ودمشق قبل الإسلام قديمة قدم الدهر، ترجع إلى أيام إبراهيم عليه السلام. فلما دخلها الإسلام غير من حالها وبدل من أمورها. ولما انتقلت إليها الخلافة الأموية، أصبح لها(414/38)
الشأن والمركز والمحل والموضع يفد إليها الشعراء على الخلفاء طلباً للعطاء فيقول جرير
فإني قد رأيت عليّ فرضاً ... زيارتي الخليفة وامتداحي
ويعلل زوجته (أم حزرة) بالغنى بعد رحلته إلى دمشق ووفوده على الخليفة بقوله:
سأمتاح البحور فجنبيني ... أداة اللوم وانتظري امتياحي
وكان معاوية أول خلفاء بني أمية يسكن غوطة دمشق، وهي - كما يقول جغرافيو العرب - إحدى نزه الدنيا ومعاوية - على ما زعم الرحالة اليعقوبي - أول من بنى وشيد البناء، وسخر الناس في بناءه
وكانت أغلب بيوت دمشق في أول الفتح تبنى من المدر: أي اللبن والطين؛ ولكنهم عادوا فبنوها بالحجر لما روى أن عمر أبن الخطاب نهى أصحابه بدمشق عن استعمال اللبن في البناء. وكان للسابقين من الصحابة في دمشق قصور كثيرة، أو دور عامرة منتشرة في أنحائها كدار خالد بن الوليد، ودار أبي عبيدة عامر بن الجراح، ودار العباس بن مرداس. ودار عمرو بن العاص وغيرهم؛ وبنيت كذلك مساجد ملحقة بالبيوت يتجاوب فوق مآذنها التكبير باسم الله الكبير
وأنا لندرك من الأبيات التي قالتها ميسون زوج معاوية الفرق بين بيوت البادية ودور الحضر. فقد أبت هذه السيدة أن تعيش في قصر معاوية العظيم أو (المنيف) على حد تعبيرها، ورضيت أن تسكن في كوخ صغير أو بيت من الشعر في البادية. وقالت في ذلك أبياتاً معروفة منها:
لبيت تخفق الأرياح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
وكانت دار معاوية بدمشق تسمى الخضراء لقبّة خضراء نصبت عليها. بناها بالمدر أولاً فسخر منها جماعة من الروم فأعاد بناءها بالحجر. ومن عجائب الأقدار أن تصبح هذه الدار اليوم في حي من أحقر أحياء المدينة، وهو حي مصيفة الخضراء
وللأستاذ العالم الجليل عيسى اسكندر المعلوف كتاب كبير مخطوط أسمه (حضارة دمشق وآثارها) ذكر فيه فصلاً عن دور الخلفاء الأمويين في دمشق، ونشرت خلاصة هذا الفصل في مجلة (دمشق) الأدبية العلمية التي يحررها جماعة من أهل الفضل والعلم في القطر الشقيق (جزء خامس. سنة ثانية. عدد شهر أيار سنة 1941(414/39)
وكان الوليد بن عبد الملك يحب البناء ويعشق العمارة - والناس على دين ملوكهم - فبنيت في عهده القصور وشيدت الدور وزيدت في المساجد زيادات، وأضيفت إليها ملحقات. وسهلت الطرق، وحفرت الترع، ويذكر السيد العلامة الكبير محمد كرد علي الدمشقي في كتابه (خطط الشام) أن الوليد أول من أمر بعمل (بيمارستانات) تعالج فيها المرضى
وإلى الوليد يرجع الفضل في بناء الجامع الأموي والمسجد الأقصى، ولقد أنفق على بنائه خراج الشام لمدة عامين على إحدى الروايات التاريخية، وأنفق في سبيل تشييده وزخرفته وتذهيبه ومرمرته (صبغه بالمرمر) وتفصيصه ورفع قبته، وإقامة عمده الكثير من المال، والوافر من الجهد، وفن ريازته (عمارته) ليس إسلامياً محضاً، ولا يونانياً صرفاً ولكنه خليط من هذا وذاك
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن(414/40)
رسالة الشعر
من ظلال البعث!
راهبتي الشقَّية. . .
(إلى التي أعبد فيها عذاب الزمن وقداسة الروح)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
رَمَى بِناَ المَقْدُورْ ... فيِ عَالَمٍ مَهْجُورْ
إلاّ مِنَ العُشْبِ
وَأَنْتِ. . . وَالْحُبَّ!
وَاللَّيْلُ فيِ الشُّطْآنْ ... كَرَاهِبٍ نَعْسَانْ
غَنّتْ عَلَيْهِ اَلجانْ ... تَمِيمَةَ النَّسْيَانْ
فَذَابَتِ الأَكْوَانْ ... وَالنَّاسُ، وَالأَزْمَانْ
فِي خَاطِر نَشْوَانْ ... لَمْ يَسْرِ فيِ وِجْدَانْ
وَلاَ سَقَى إنسان ... مِمَّا سَقَى قَلْبي. . .
مِنْ خَمْرَةِ اْلعُشْبِ
وَأَنْتِ. . . وَالْحُبَّ!
جَاَءتْ بِكِ الأَقْدَارْ ... مَذْعُورَةَ الأَسْرَارْ!
دَهْرِيَّةَ الأسْتاَرْ ... خَمْرِيَّةَ الأَنْوَارْ. . .
شُقَّي حِجَابَ النَّارْ ... لَخِافِقٍ جَبَّارْ
مِنْ سِحْرِكِ الْقَهَّارْ ... أَبْكيَ رُؤَى الأَسْحَارْ
بِالسُّهْدِ وَالأَفْكارْ ... وَذاَبَ كالَغْيبِ
فيِ خاطر الْعُشْبِ
وَأَنْتِ. . . وَالحُبَّ!
رَمَى بِناَ الْمَقْدُورْ ... فيِ عَالَمٍ مَهْجُورْ
سَاقَ الْهَوَى الْمَفْطُورْ ... فيِ زَوْرَقٍ مَذْعُورْ(414/41)
يَجْرِي بِهِ الدَّيْجُورْ ... لِمَعْبَدٍ مَسْحُورْ
فَّجَرْتِ فِيهِ النُّورْ ... لِهالِكِ مَقْبُورْ
أَوْدَى بِهِ التَّفْكيِرْ ... فَجاَء يَا رَبَّي. . .
يَحْيَا مِنَ الْعُشْبِ
وَمِنْكِ. . . وَالُحبَّ!
رَبَّاه! ما ذَنْبي؟!
محمود حسن إسماعيل(414/42)
أكذوبة السلوان
للأستاذ سيد قطب
(بعد عام أحس في نفسه بالسلوان، وأحس بمغاليق نفسه تتفتح للجمال. ولكنه تنبه إلى أن كل نموذج جميل يتفتح له قلبه فيه شبه أوسمة من الجمال الذي حسب نفسه قد سلاه؛ وإذا هو يهفو إلى الماضي والماضي وحده دون سواه!)
الآن أعلمُ أنّ كلَّ خواطري ... تهفو إليك كرفرفاتِ الطائرِ
ما كان سُلواني سوى أكذوبةٍ ... خُدِعَتْ بها نفسي خديعةَ شاعر
بينَ الشغَّافِ وفي منُايَ وفي دمي ... ألقاكِ هاجسةً وبين سرائري
أنساكِ؟ كيف وأنتِ بين جوانحي ... شِطْرِي الجميلُ وأنت وحيُ خواطري؟
أنساكِ والآمالُ والذكرى معاً ... موصولةٌ بكِ في صميمِ مشاعري؟
وإذا هفوتُ إلى الجمالِ فإنما ... أَهْوَى مِثالَكِ في الجَمالِ العابرِ
أنْسَاكِ إذ أَنْسَى حياتيَ كلها ... فإذاَ حييتُ فأنتِ أوّلُ خاطر
نبضَ الربيعُ فكنتِ أول نابض ... في خاطري يهفو وأوّلَ زائر
وهفوتُ للماضي الذي قد أودَعَتْ ... نفسي لديه رغائبي وذخائري
أنا ذلك الماضي الذي لا ينقضي ... أنا ذلك الماضي يعيشُ بحاضري!
(حلوان)
سيد قطب(414/43)
رسالة العلم
حول أبعاد الحيز
هل الزمن بعد رابع؟
(إلى أستاذي جردان أهدي هذه الفصول)
للأستاذ خليل السالم
- 2 -
قال أرسطو طاليس في أحد كتبه للخط الهندسي مقدار في بعد واحد وللمستوي في بعدين وللحجم في ثلاثة أبعاد، وبعد هذه لا نجد تحويلاً كما نجد تحويلاً من الخط إلى المستوي أو من المستوي إلى الحجم. وبنى إقليدس هندسته التي اعتمدت عليها أكثر العلوم التي تمت إلى الرياضيات بصلة على هذه الفكرة، وهي أن أبعاد أي جسم أو أبعاد المكان ثلاثة ولا يمكن أن تزيد، ولذا كان من العجيب حقاً أن يقول العلماء - بعد قرون طويلة أخص ما يميزها إيمان بالأبعاد الثلاثة فقط - بالبعد الرابع الذي لا يقبله حس أو تصور. ونحاول في هذه العجالة التعقيب على هذا الرأي الذي قال به أول من قال الكاتب الفيلسوف ويلز في كتابه (آلة الوقت)، الذي أتينا على تلخيصه في المقال السابق
لا تزال مشكلة البعد الرابع، مثار البحث والجدل بين أقطاب العلم والفلسفة. فبينا نرى الأستاذ بيران من الجمعية الملكية يسخر من بدعة البعد الرابع سواء كان هذا الزمان أو غيره من أبعاد المكان، وينعى على تلك المقالات التي تؤيد هذه الفكرة خلوها من الدقة العلمية والتمحيص الواعي، نرى (أنشتين) وأتباعه يتبنون الفكرة ويجعلونها أساساً قوياً في بناء ناموس النسبية، واستطاعوا بذلك أن يفسروا كثيراً من الظواهر الطبيعية التي وقف أمامها مبدأ (نيوتون) في الجاذبية حائراً عاجزاً. ونرى كذلك فريقاً من فلاسفة الرياضيات لهم قيمتهم وشهرتهم العلميتان، يؤمنون بالبعد الرابع والخامس والسادس إلى ما لا نهاية، ويرفضون أن يكون المكان ثلاثي الأبعاد فقط كما عرفت الأجيال السابقة في قرون طويلة وكما نتعلم نحن الآن. (لعل لنا عودة لشرح هذا الرأي الأخير)(414/44)
عرف (لاجرانح) الرياضي الفرنسي المشهور علم الحيل (الميكانيكا) بأنه هندسة رباعية الأبعاد - الزمن بعدها الرابع - فإن أي جسم متحرك يتحدد موقعه في الكون بأربعة متغيرات على أن هذا التعريف لم يلفت أنظار العلماء كما فعلت رواية (آلة الزمن) وما أخال القارئ إلا ذاكراً جملة صاحب الاختراع إذ يقول: (واضح أن لكل جسم امتداداً في أربعة أبعاد: الطول والعرض والسمك والاستدامة الزمانية). فوجود جسم يحتم أن يستمر لحظة من الزمان مهما كانت قصيرة. أما إذا لم يستغرق وجوده جزءاً من الزمان فهو غير موجود حتما، ولكن هل يعني شرط وجود الجسم في الزمان أن الزمان بعد رابع كأبعاد المكان؟ نجد الجواب عند بعض العلماء، أو بالأحرى عند أكثرهم إيجاباً. يقول (برجسون) الفيلسوف الفرنسي المتوفى حديثاً في كتابه (الزمن والإرادة الحرة): (وهكذا فإن الزمن يكتسب شكلا وهمياً لوسط متجانس يربطه مع المكان رابطة التواقت، وهذه يمكن تعريفها بأنها تقاطع الزمان والمكان (مهما كان معنى هذا))
ومنذ سنة 1909 ادعى منفوسكي الرياضي الألماني - وهو من أعلام هذا البحث - أنه محا الفاصل بين الزمان والمكان، وأن الزمان والمكان منفصلين عدم، ليس لكل منهما أي حظ من الحقيقة؛ أما حقيقتهما فهي الاندماج في وحدة (الزمان) كاندماج الماء في الماء الملح، وهذا الاندماج يعتمد في النسبية على معادلات رياضية قد لا تلذ إلا نفراً قليلاً من القراء، ولذا نغفلها عارضين للمشكلة من وجهتها البسيطة السهلة. ولكنا سنتساءل هل هذا الاندماج صحيح؟ هل يرمز إلى شيء واقعي في العالم الخارجي أو أنه مجرد خيال رياضي له ميزة جديرة بالاعتبار هي أنه يفسر بعض الظواهر التي أعجزت العلماء منذ طويل؟ وإذا كان الزمان واقعياً فهل نستطيع أن نفصل الزمن عنه كبعد رابع له خصائص الأبعاد الثلاثة ننتقل فيه في الواقع كما انتقل بطل ويلز في الخيال؟
يحسن قبل أن نحاول الإجابة على هذه الأسئلة أن نشرح نظرتنا إلى المكان والزمان. لنفرض أننا نتصور جسما في الفضاء فأول ما يتميز به تصورنا هذا الجسم هو وجوده في مكان ثلاثي الأبعاد. ولعلنا لا نحتاج إلى القول إن هذا المكان موجود ما وجد فيه ذلك الجسم. ففضاء لا تشغله مادة عدم. والعدم لا يتناوله تفكيرنا في شيء قليل أو كثير. إذا وجود المكان مكتسب من وجود المادة، ووجود المادة لا يقبله العقل إلا في ثلاثة أبعاد. ولقد(414/45)
يظن بعضهم أنه يمكن تصور شيء على بعدين فقط كرسم على ورقة مثلاً، والواقع ينفي هذا الظن لأن الفضاء يحيط بالرسم من الأعلى والأسفل ومن اليمين والشمال ومن جميع الجهات. إذاً نحن لم نتصور المادة إلا في ثلاثة أبعاد. وإذا تساءلنا لماذا نجد هذه الخاصة في تصورنا، وجدنا عند المنطق المحض جوابين:
الأول أن تكون هذه الخاصة نفسها صفة لازمة للعالم الخارجي حولنا: أي أنه ثلاثي الأبعاد؛ وهذا التعليل لا يتعدى قولنا: إن المكان ثلاثي الأبعاد لأنه ثلاثي الأبعاد. والجواب الثاني وهو أكثر إقناعاً: أن العقل البشري اكتسب هذه الخاصة في تطوره منذ القدم. على أن هذا الاكتساب لا يعني أن فكرتنا عن المكان هي قسطاس الحق، فربما نكون قد اكتسبنا وجهة نظر ضيقة محدودة، وكان يمكن أن نتصور الكون في أربعة أو خمسة أبعاد، وبذلك نكون ككثير من الناس عاشوا في سفح جبل ولم يتسلقوه في يوم من الأيام فبقي الجبل بالنسبة إليهم كلوحة ساكنة
وقبولنا نظرية الاكتساب يعني أننا نؤمن بأن حالة الإنسان الفسيولوجية والسيكلوجية كانت العامل الفعال في اكتساب هذه الخاصة؛ ولذا ذهب بعضهم إلى أن في جسم الإنسان جهازاً يعد الزمن يحسب علينا كل ثانية تمر بنا، حتى إذا ما اكتشف في جسم الإنسان تيار كهربائي يسري بانتظام طول الحياة، قالوا إن هذا التيار هو ذلك الجهاز. على أن هذه الفكرة لم تثبت علمياً لأن الإنسان يفقد الإحساس بالزمن وهو تحت تأثير المخدر. إن فكرة الزمن هي فكرة توالي الحوادث حادثة تتلو أخرى، وكل حادثة تترك في النفس أثراً؛ وتتوالى الحوادث وتتوالى الانفعالات النفسية تبعاً لهذه الحوادث. ولما كانت هذه الانفعالات النفسية غير عكسية دائماً كان الرجوع إلى الماضي عسيراً. وترى السبب النسبي أن وجود الزمان مشتق من وجود الحركة، كما أن وجود المكان مشتق من وجود المادة؛ والحركة تعبير منفصل عن الحوادث؛ فليست ساعاتنا التي تقيس الزمن إلا حركة مستمرة، والأرض التي تعد أكبر الساعات بالنسبة لعالمنا إنما تقيس الزمن بحركتها المستمرة المنتظمة حول الشمس. وعلى هذا فحيث لا حركة لا يوجد زمن. والبعد الرابع في النسبية ليس هو الوقت مستقلاً عن أي شيء آخر، وإنما هو الوقت الذي يدخل في المعادلة السهلة: المسافة، السرعة، الزمن، الجذر التربيعي لمجموع مربعات الأبعاد الثلاثة(414/46)
وإليك بعض الأدلة التي نتأكد فيها من اندماج الزمان بالمكان.
فنحن عندما ننظر - على طول بعد واحد - أحد النجوم فليس ما نراه هو صورة النجم في وقت الرصد، وإنما نراه كما كانت قبل وقت الرصد بزمن هو الوقت الذي استغرقه الشعاع الضوئي حتى يقطع المسافة بين مصدر النور وآلات الرصد. وإذا علمنا أن شعاعة النور (من السدم اللولبية مثلاً) تحتاج حتى تصل إلى نظامنا الشمسي مليوناً من السنين، أدركنا مقدار تدخل الزمن في البعد المكاني، وعرفنا أيضاً قدر المسافة التي نستطيع أن نرى فيها من الماضي؛ وربما بتحسن الآلات وبناء مراقب أكبر حجما نستطيع أن نرى نجوماً أبعد من هذه بكثير؛ وعندها يزيد مقدار ما نستطيع أن نراه من الماضي. من هذا يتبين أننا نستطيع أن نتحرك في البعد الرابع الزمني كما نتحرك في البعد المكاني، ويخيل إلي أن العلم لا ينكر إمكانية رؤية المستقبل، فلو تصورنا أن لدينا طائرة مسرعة تفوق سرعة الزمن فعندئذ نفلت من قيود الزمن ونرى المستقبل. أما أن يتسنى لنا التعرف إلى الإنسان في المستقبل فهذا محال، لأن وجود إنسان المستقبل يعتمد على وجود إنسان الحاضر الذي لا يدوم إلا إلى أجل قصير، ولأن رؤيتنا الأشياء تتطلب أن نكون أحياء نحس ونفكر
إذا تحركنا بسرعة النور فإننا نرى صورة واحدة للعالم لا تتغير ولا تلين؛ ذلك لأن الزمن يمر بنا بسرعة النور، ولذلك لا نستطيع أن نتحقق ما يحدث لأجسامنا إذا قدر لنا أن نطير بسرعة النور النسبية تقول إن أي جسم تبلغ سرعته سرعة النور يصير إلى العدم طبقاً لناموس انكماش فتز جيرلد
نعتبر الزمن بعداً رابعاً لأننا نستطيع أن نقيسه بوحدات تماثل الوحدات التي نقيس بها الأبعاد المكانية، فالثانية تعادل (186000) ميل وهذا الرقم هو سرعة النور في الثانية. ونعتبره بعداً رابعاً، لأنه متعامد مع المتعامدات الديكارتية الثلاثة، وقد أثبتت التجارب هذه الحقيقة؛ فتجربة ميكلصن - مورلي - التي كانت أساس النسبية والتي قصد بها أن يعرف الفرق بين سرعة النور في اتجاهين متضادين: الأول اتجاه سرعة الأرض والآخر عكس هذا الاتجاه، ولما لم نجد أي فرق كما أثبتت التجارب المتوالية، فيجب أن نحكم أن سرعة النور وهي وحدة الزمن كما قلنا سابقاً يجب أن تكون في اتجاه عامودي لسرعة الأرض التي هي بالنسبة لنا تعبير عن المتعامدات الثلاثة الديكارتية(414/47)
ويزيد في إيمان العلماء بالزمن كبعد رابع تفسير الظواهر الطبيعية تفسيراً سهلاً وبسيطاً. ولما كانت غاية العلم في شتى مراحله وأطواره السهولة والبساطة، فيجب علينا أن نقبل النظرية. ويرى بعضهم أن الإنسانية في مجرى تطورها ستستطيع مع تقدم العلم واتساع الخيال وأثر التطور في التصور أن تحس وتعي هذا الاندماج بين الزمان والمكان في وحدة الزمان؛ إلا أن هذا لا يبدو قريب الحدوث أو ممكن الحدوث على الإطلاق
جواب سؤالنا الذي صدرنا به هذا المقال يعتمد إذا على معنى البعد في ذهن السائل، فإذا كان يعني هل يشبه الزمان المكان من كل وجهات النظر، وهل نستطيع أن نتحرك فيه بكل حرية كما نتحرك في الأبعاد الأخرى فسيكون الجواب نفياً، وسيبقى نفياً ما دام الإنسان إنساناً يحس بأنامله ويرى بعينيه ويشعر بالفرق بين الماضي والمستقبل. وفي نظرية النسبية نفسها لا يزال هناك بعض الفروق بين الزمان وأبعاد المكان كاعتبار الزمان خيالياً لانضوائه على الجذر التربيعي للوحدة السالبة. أما إذا عنى السائل هل في الإمكان خلع الزمان والمكان على الأجسام والحوادث واستخدامها كوسائل لربط هذه الحوادث والأجسام الطبيعية بعضها ببعض فيكون الجواب إيجاباً، لأننا نستطيع أن نختار هياكل الإسناد كما نشاء خصوصاً التي تعود علينا بأكبر قسط من السهولة والوضوح
وسنشرح في مقال تال خصائص كونٍ رباعي الأبعاد سواء كان هذا البعد الرابع زماناً أو مكاناً، ففي هذى الخصائص طرافة يجدر بالقراء أن يطلعوا عليها.
(بيروت - الجامعة الأمريكية)
خليل السالم(414/48)
البريد الأدبي
نصوص من الشرائع المصرية القديمة
في شتاء عام 1938، كانت بعثة الكشف عن الآثار المصرية القديمة بجامعة فؤاد الأول، تقوم بأعمال الحفر والتنقيب في تونة الجبل (هرموبوليس غرب) فعثرت على ملف من ورق البردي طوله متران وعرضه 25 سنتيمتراً داخل (قادوس) من الفخار كسر جزؤه الأعلى، وكان من المحتمل أن هذا الملف يؤلف قسما من مجموعة قوانين مدنية وجنائية، كانت محفوظة في عدة قواديس أقفلت قفلاً محكما
ومنذ حوالي عام ونصف عام عهد إلى الدكتور جرجس متى من جامعة فؤاد الأول بترجمة هذا الملف الذي كان مكتوباً بالخط الديموطيقي، فتبين من ترجمته أن للملف أهمية كبرى في تاريخ القوانين والتشريع، إذ أنه يحوي مجموعة عظيمة من القوانين المدنية، وخاصة ما يتعلق بالمالك والمؤجر وشؤون الهبة والميراث، وحقوق الانتفاع والتسجيل. وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يكشف الحفر عن نصوص تتعلق بالتشريع المصري الذي كثيراً ما ورد ذكره في نصوص الآثار المصرية، وشاد بعدالته كتاب اليونان والمؤرخون القدماء
ومما يجدر بالذكر لهذه المناسبة أن القواديس التي كانت فيها مجموعة القوانين المدنية والجنائية توجد في مبنى صغير شيد باللبن (الطوب الأخضر)، وهو يقوم الآن تجاه معبد توت والدهليز الثالث؛ وكانت هذه المجموعة تحت رعاية كهنة توت يرجعون إليها كلما دعت الحاجة. ثم حدث أن احتل هذه الأمكنة في العصر الأول قبل ميلاد المسيح طوائف من النساك الذين سئموا الحياة فهربوا من المدن إلى أماكن منعزلة، وألقوا بما عثروا عليه فيها من الآثار جانباً، ولهذا وجد الملف الثمين المتقدم ذكره ملقى على الأرض قريباً من الجدار الغربي للمبنى
وقد كان هذا الملف مثار المناقشة بين أعضاء المجمع العلمي المصري في الاجتماع الذي عقد بداره في الأسبوع الماضي
حول الرحلات العربية
أشكر لحضرة الفاضل الأديب الأستاذ محمد محمود رضوان مقاله رداً على مقالي (الرحلات العربية)، فقد أتى فيه بما يكمل ما فاتني، وتفضل فدلني على نوع من الرحلات(414/49)
في طلب العلم أرجو أن تتم لنا قراءته وتحصل لنا معه الفائدة في كتابه الذي يشتغل الآن بتأليفه عن المسلمين والتربية
ولقد اعترض الأستاذ الفاضل على روايتي لبيت الأعشى:
وشاهدنا الجل والياسمين والمسمعات بأقصابها وذكر أن الرواية الصحيحة (بُقصابها) لا (بأقصابها)، والحق أن كلتا الروايتين صحيحة؛ فإلأقصاب جمع قصب بفتحتين وهي جمع قصبة الغناء كما جاء في المخصص لابن سيده. وأظن - إذا لم تخني الذاكرة - أنني أخذت روايتي عن كتاب (شعراء النصرانية) للأب لويس شيخو اليسوعي، ولا أدري عمن أخذها هذا. أما الأقصاب بمعنى الأمعاء، فهو معنى آخر للكلمة ليس هذا موضعه
ولقد سميت الراحلين من قريش إلى اليمن والشام (رحّالين تجاوزاً)، لأنهم ليسوا رحّالين بالمعنى العلمي الذي نعرفه الآن ولم يكونوا: كابن جبير وابن خرداذبة والمسعودي والمقدسي وابن بطوطة. والقرآن لم يسمّهم رحالين كما يذكر الأستاذ رضوان؟ ولكن سمي عملهم رحلة أي نقلة
أما استعمالي لأفعل التفضيل (أملأ) من الفعل الخماسي (امتلأ)، فهو استعمال صحيح لا غبار عليه؛ وقد وجدت له نظيراً في اللغة؛ فالعرب يقولون؛ (هذا الكتاب أخصر من ذاك)؛ وكان الأولى - قياساً - أن يقولوا: (هذا الكتاب أكثر اختصاراً من ذاك). فهذا الاستعمالان شاذان حقاً في نظر النحويين - والأستاذ جد عليم بسخافاتهم في كثير من المواضع - ولكنهما صحيحان لورود الاستعمال عليهما من قديم
أما العبارة التي يتحداني الأستاذ أن أعربها وأبين له جواب شرطها، فإني أسأله أن يقدرّ الجواب بما يشاء، ليتضح له صحة الاستثناء، وعليه التحية والسلام
محمد عبد الغني حسن
إلى الأديب إبراهيم نجا
ورد في قصيدة الأديب إبراهيم نجا المنشورة بالعدد 413 من الرسالة هذه الأبيات:
أيها الورد جميل أنت ... لكني حَزينُ
أيها الأُفق رحيب أنت ... لكني سَجين(414/50)
أيها النورْ رطيب أنت ... لكني دَفين
حطم الدهر جناحي ... وبرتْ جسمي السنون
وقد ضبط الشاعر القافية (حزين) بالرفع كما ترى
قلت: إن الصواب واحد من إثنين:
1 - إما أن تضبط القوافي كلها بالسكون
2 - وإما أن يقول (السنينُ) بدلاً من (السنونُ)
وقد يبدو هذا غريباً بادي الرأي، ولكنك حين تمعن الفكر يتبين لك صحة ما أقول. . . حقيقة أن الرفع مطّرد في قوافي الأبيات الثلاثة الأولى ولا غبار عليه، ولكنه شذّ في البيت الأخير لأن رفع (السنون) الملحقة بجمع المذكر السالم بالواو يدل على أن الشاعر أعربها إعراب جمع المذكر السالم وهو المشهور، وإذن فقد وجب عليه ضبط النون بالفتحة كما تقول (المسلمونَ)، وكما يقول الله تعالى: (كم لبثتم في الأرض عدد سنينَ) (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنينَ) (قال تزرعون سبع سنينَ)
أما إن أراد الشاعر ضبط النون بالضم فعليه فعليه أن يعرب الكلمة الظاهرة على النون مع لزوم الياء كقول الشاعر:
دعاني من نجدٍ فإن سنينه ... لعبْن بنا شيباً وشيّبننا مردا
وفي الحديث: (اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسنين يوسف) في إحدى الروايتين
وبعد. فإنه يحق للدكتور زكي مبارك أن يقول للأديب نجا:
(كما يدين الفتى يدان)
وإلى الأب أنستاس
في مقالك القيم الأخير (ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب)
قلت: (وفي التاج، البدء: السيد الأول في السيادة، والثُّنيان الذي يليه في السؤدَد)
وأقول: ليس بين يديّ الآن (التاج) لأرى ضبط (السؤدد) أهو كما نقلت أم لا؛ ولكني أعرف عن أساتذتي في دار العلوم أن هذه الكلمة إذا هُمِزتْ ضمَّت الدال الأولى فتقول: (السؤددُ)، وإذا لم تهمَز فتحت هذه الدال فتقول: (السُؤَدد). أما (السؤدَد) بالهمز وفتح الدال فلا(414/51)
وعلى ذكر أن البدء معناه السيد أذكر بيتاً يستشهد به النحاة في باب الجوازم وهو:
فجئت قبورهم بدءاً ولمَّا ... فناديت القبور فلم يجِبْنَه
أي ولما أكن بدءاً قبل ذلك أي سيداً
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
المرحوم إبراهيم طوقان في العراق
حظيت بزمالة الراحل الكريم في دار المعلمين الريفية بالرستمية من ضواحي بغداد - وقد كان قبل هذا العام في إذاعة القدس، ولكن نفسه الكبيرة ضاقت بها فمكث معنا قرابة نهاية العام الدراسي الحالي، بعد جهد حميد بذله لطلابه؛ ولكن جسمه النحيل الذي يحمل هذه النفس العالية والروح الشاعرية لم يحتمل عناء الدرس، فانقطع عن المدرسة وعاد، ثم انقطع وعاد، ولكن المرض غالبه، ففضل الاستقالة والعودة إلى (نابلس)
عاش معنا سبعة أشهر كان فيها مثال الأخ الكامل والصديق الوفي. كان حلو الحديث جميل المعاشرة عذب السمر، تجلس معه فلا تحب ترك مجلسه؛ يغمرك بما تطلب منه من شعر جذاب يملك على النفس مشاعرها، من شعره وشعر شوقي وحافظ والجارم وعلي محمود طه وكان معجباً به لأن شعر طه كان يفيض على البلاد العربية، وقد كان الفقيد حدباً على العرب والعربية، وكثيراً ما كان يحدثني عن شعراء مصر وأن كثيراً منهم لا يهتم بغير ذكر مصر ورجال مصر وآلام مصر وآمالها، فحملني رجاءه إلى شعراء مصر الإجلاء أن يعنوا بالشرق العربي حتى يكون الشعر المصري النفيس الغالي ترنيمة المواطن العربية جميعها. لأن الجميع ينظر إلى مصر وشعرائها وكتابها نظرة الإمامة والتبجيل والقداسة وما كنت أعتقد هذا الرجاء سيصبح يوماً ما وصية الراحل الكريم لشعراء مصر الأكرمين. ولقد كان كثير الاهتمام بمصر وأخبارها السياسية والأدبية، ولا غرابة في ذلك، فقد حدثني بأنه تربطه بمصر رابطة الأصل والنسب
مات طوقان؛ وهو عزيز على دولة الأدب، عزيز على زملائه وطلابه.
وإن الكلام في نواحي عظمة طوقان، وكرم نفسه وعلو همته، وعراقة محتده، لا تسعه هذه(414/52)
العجالة. فأكِلْ إلى الزملاء العارفين قدره توفيته، وعند الله حسن جزائه في جنات الخلد جزاء الصديقين والشهداء والصالحين
السيد إبراهيم سالم
بطن الشاعر. . .
(بطن الشاعر) هذه كلمة أشبه بالألغاز والأحاجي، ظلت أستوضحها - بيني وبين نفسي - وأستلهم الله تفسيرها، فلم أجد ما يشفي الغلة، اللهم إلا ما يتخبط فيه الفكر ويتعثر معه الخيال. . .
وربما قلت - في بعض الأحايين - إذا أردت التاريخ لها أنها ظهرت يوم كانت الفلسفة مبغضة محاربة. فلما خاف الفتى من الفلاسفة أن يموت من عثرة لسانه، أغمض وأغرب، وعمَّى وألغز، وأغلق وأبهم، لِيَنْجُوَ بجلده، ويخلصَ نفسه إن اشتد عليه النكير، أو تجهّمت له أعين الجلاّد. وأغلب الظن أن هذه الكلمة يوم (ماتت) لم تشأ إلا أن تترك لها ذَنباً يلعب فيما يسمى بغرابة اللفظ وغموض المعنى. وقد كان المتنبي يلذ له أن ينام ملء جفونه عن أوابد شعره، في الوقت الذي يسهر معاصروه في شرحه، ويختصمون في بيان منزلته.
وهكذا يحكي عن بعض المؤلفين القدامى، أصحاب الشروح والحواشي والتقارير. . . فقد كان الواحد منهم يروقه أن يتخبط الناس في كلامه، ويقبلوه على وجوهه المختلفة، ويزيدوا على عبارته، أو ينقصوا منها، ليستقيم المعنى ويظهر المراد، فإن لم تتطاحن فيه الأفهام، وتختلف العقول، وتتضارب الآراء، فهو كتاب ميت، أو مؤلف لا قيمة له. . .
وكان أخوف ما يخافه الإمام الشيخ (محمد عبده) أن يتصَّدى أحد بالكتابة على مؤلفاته، نراه يستعيذ بالله من هذا ويتبرأ منه، وقد حدا به إلى ذلك أنه رأى الكتب - في عهده - لا ترمي إلى المعنى الخالص، والبيان الصراح، ولكنها تتلوى وتتخبط، وترمي إلى التعقيد والإبهام. . . وربما كان فينا من أدرك هذا - في الأزهر - حين كان الأستاذ أو التلميذ في الدرس، يمر بالعبارة من العلم، أو الجملة من الكتاب، فإذا رأى أنه مر بها مرور الكرام، وعبرها عبوراً سهلاً، اتهم فهمه، وأساء الظن بعقله، واستكبر على نفسه أن يعلق المعنى بخاطره - عفواً - دون تكلف أو معاناة، فعاد يرجع الضمير إلى مرجع آخر، أو يورد(414/53)
الشبه والاعتراضات، ليرى هل يسلم له الفهم، ويخلص المعنى، أم تحيط به الأشواك والعقابيل. . . لأنه يعلم - حق العلم - أن صاحب الكتاب كدح فيه ذهنه، وأتعب نفسه، وأضاع من وقته الجم الكثير وأن تأليفاً كهذا لا يمر به قارئ إلا على جسر من التعب، وطريق أدق من الصراط. . . وبعض الناس يحيط الإغلاق ببيانه ولسانه. . . فهو كاتباً أشبه به محدثاً، بطنه كظهره، وظهره كبطنه. . . لا يضيرك أن تقول المعنى في بطنه أو ظهره. . . كأنما هم عالة على البيان، أو زائدة في بني الإنسان!!!
إبراهيم علي أبو الخشب(414/54)
العدد 415 - بتاريخ: 16 - 06 - 1941(/)
الزوجة المثلى
للأستاذ عباس محمود العقاد
وصلت إليَّ محاضرة العالم الفاضل الدكتور عبد المعطي خيال عميد كلية الحقوق بالإسكندرية في موضوع (الزوجة المثلى)، وهي المحاضرة التي اقترحتها عليه وزارة الشئون الاجتماعية، وأذاعها الأستاذ في منتصف الشهر الماضي، وفيها يقول ما فحواه أن الآفة كلها هي: (حرص الشباب على المادة، وجريه وراء الكسب، وحطه من القيم التي خلفها السلف الصالح ومن قواعد الأخلاق التي كانت مقررة عندهم، واكتفاؤه بالعجل من اللذات)
وظهر العدد الماضي من (الرسالة) وفيه مقال صديقنا الأستاذ الزيات الذي يعقب به على خطاب السيدة (ليلى)، وما رأته من أن السبب المباشر والمصدر الأول لمشكلة الزواج هو المادة، وكان ختام مقالة: (إن المال إذا جعل غاية للزواج كان شقاء لمن وجدته ولمن فقدته على السواء. . .)
وعندي أن المادة هي آفة العصر الحديث كله، وفي عداد مشاكله للكبرى مشكلة الزواج. فالناس لا يتهالكون على المادة ولا على اللذة العاجلة إلا إذا قل إيمانهم بالحياة. ومن ثم يغلب الشح على الشيخ والضعفاء، كما يغلب على الشعوب التي ضاعت من أيديها السيادة وقيم الحياة العليا. فكل تهالك على المادة إنما هو بديل من الحياة الصحيحة، أومن الثقة بنفاسة الحياة، وكأنما يقول الإنسان لنفسه: علام الصبر والانتظار والإرجاء وأي ضمان لك من الأخلاق والعواطف وهى هباء؟ إنما ضمانك الوحيد المادة التي في يديك، والمنفعة التي تسوق غيرك إليك، وكل ما عدا ذلك لا يجدي شيئاً عليك
لكن الزواج مشكلة كبرى، ولو خلص الناس من آفات العصر ومشكلاته، ومن ولع الشباب بمآربه ولذاته
الزواج مشكلة لأنه يحاول التفوق بين نقائض كثيرة في الطبيعة الإنسانية، ولا يقتصر أمره على التوفيق بين فردين فمن الناس من يضن أن الزوجة المثلى هي المرأة المثلى؛ وهذا في اعتقادنا خطأ ظاهر يكتشف بقليل من الروية
لأن المرأة المثلى من شأن الطبيعة(415/1)
أما الزوجة المثلى فمن شأن المجتمع والآداب الإنسانية حسبما تتعاقب بها الأزمان
وقد تكون المرأة أنثى طبيعية من الطراز الأول في تكوين الأنوثة؛ وليس من الملازم بعد هذا أن تكون زوجة من الطراز الأول في معاشرتها لزوجها وفي أمومتها أو في رعايتها للآداب وقيودها
وقد تكون المرأة زوجة مثلى في البيت والأمة، ومع الزوج والولد، ولا يلزم من ذلك أن تبلغ فيها الأنوثة الطبيعية تمامها
وتنجلي هذه الحقيقة بعض الجلاء إذا تذكرنا أن الحيوان فيه إناث مثليات في عرف الطبيعة، وليس فيه زوجات مثليات على النحو الذي يتطلبه الإنسان
وهنا مشكلة ليست بالهينة من مشكلات الزوج، لأنها مشكلة التفوق بين ما توحيه طبيعة الأنثى، وبين ما تمليه آداب
المجتمعات، وهما شيئان لا يتفقان كل الاتفاق
ويفهم بعض الناس أن الزوجة المثلى هي التي ترضي الرجل، وان الزوج الأمثل هو الذي يرضي المرأة
وهذا خطأ آخر من أخطاء الآراء في هذا الموضوع، ويكفي أن نسأل: ما هو غرض الزواج، ليكون الجواب تصحيحاً سريعاً لهذا الخطاء المشهور
الزواج مقصود لأنه وظيفة اجتماعية ونزعة إنسانية، ويصح أن يتم أداء هذه الوظيفة بمضايقة الزوجين معاً أو بمضايقة
زوج واحد منهما، كما يصح أن يتم أداؤها بما يرضي أحدهما أو كليهما، فلا غرابة من أجل هذا أن تبر الزوجة المثلى بعهد الزواج وهى لا ترضي الرجل كل الإرضاء في كل حين، وأن يبر الزوج الأمثل بذلك العهد وهو مكره على إغضاب حليلته التي يتوخى لها الإرضاء والإيناس
وهنا مشكلة ليست بالهينة كذلك من مشكلات الزواج، لأنها مشكلة التوفيق بين الهوى والواجب، أو بين النظر القريب والنظر البعيد، وهي المشكلة الخالدة في حياة الإنسان
ومن المشكلات في هذا الباب أن الزوج الأمثل لامرأة لا يلزم أن يصبح زوجاً أمثل لامرأة أخرى. فالرجل في الأربعين زوج أمثل لامرأة في حدود الثلاثين، والرجل الذي فيه صلابة(415/2)
زوج أمثل للمرأة التي فيها شكاسة، والرجل الحليم المئتد زوج أمثل للمرأة المتعجلة الرعناء، ولكنهم يختلفون ولا يتوافقون هذا التوافق، فإذا هم أسوأ الأمثلة للأزواج وأقلهم أملاً في الرفاء والوفاء
والبيت مشكلة المشاكل في العصر الحديث
ففي العصور الماضية كانت المسافة قريبة جداً بين العالم البيتي والعالم الخارجي، وكانت الملاهي الخارجية أشبه شيء بملاهي المنادر في البيوت مع قليل من التوسع والتعميم. فلم يكن من العسير أن تتفق معيشة الأسرة ومعيشة المحافل الساهرة، ولو كانت محافل لهو وانطلاق
أما اليوم، فالمسافة بعيدة جداً بين عالم البيت والعالم الخارج، لان المناظر التي يراها الساهر في العالم الخارج لا يراها في
بيته ولو كان من أهل السعة واليسار، وإنما نشأ هذا عن اختراع الآلات التي تعمل للألوف وألوف الألوف ولا تقصر
عملها على جماعات من الناس يعدون بالعشرات كما كانت محافل اللهو في العصر القديم. وليس من المعقول أن تنفق الشركات مليون ريال على منظر سينما يدار في مندرة أو بهو أو قصر كبير بضع ساعات؛ ولا نعرف اختراعاً من هذه الاختراعات يوافق الحياة البيتية غير المذياع الذي يسهل اقتناؤه في الصغير والكبير في البيوت، وهو وحده لا يغني عن سائر ألا فانين التي تتنوع في محافل السهرات
فالبيت في العصر الحديث مهدد الأساس، ولا وقاية له من هذا التهديد إلا الإقلال من العواصم الكبرى وتشجيع الإقامة في الريف، وإلا تربية الذوق المستقل الذي يصعب انغماسه في غمرة الجماهير، وتربية الإرادة الفردية التي يهمها أن تنطوي على نفسها حيناً بعد حين، ويعجبها أن تنعم بالعشرة الأخوية بين الصحب المتفاهمين والأقارب المتعاونين، فوق إعجابها بضجة السواد وزحام القطيع
وليس ما نذكره هنا حلولاً لمشكلة الزواج ولا علاجاً حاسماً لآفات العصر الحديث، ولكنه محاولة لفهم المشاكل على حقيقتها لاغني عنها وعن أمثالها قبل الرجاء في علاج ناجح؛ إذ كل علاج لا يسبقه الفهم الصحيح يقع على غير الداء، وقد يضاعف الأذى من الشفاء(415/3)
إلا أننا نعتقد أن الحلول جميعاً لن تخلي الزواج من عقدة مؤرَّبة باقية على الزمن كله، لأنها قائمة على طبيعة في النفس الإنسانية لا يرجى لها تبديل كبير
تلك العقدة هي غرابة الأسرار الجنسية التي تدفع بالرجل إلى اختيار المرأة، وتدفع بالمرأة إلى اختيار الرجل. فليس لزماً أن يحب الرجل امرأة تستحق حبه، أو تصلحه وتصلح أبناءه، أو تجد فيه مزية كالمزية التي يجدها فيها؛ بل يتفق كثيراً أن يترك المرأة التي تسعده ويتعلق بالمرأة التي تشقيه، ويتفق كثيراً أن يهواها للأسباب التي توجب عليه احتواءها والإعراض عنها. وشأن المرأة في هذه الخليقة أعجب من شأن الرجل وأنأى عن الرشد ودواعي الاختيار المميز البصير؛ فإن إخلاصها لمن يستحق منها الإخلاص اندر من إخلاصها لمن يفسدونها ويسيئون إليها، وهي خليقة لها أسرار اعمق من عرف المجتمع وآداب الزواج وأواصر الأهل والأسر، وليس بالميسور مع بقائها في الطباع خلو الزواج من المشكلات
ولكن الطبيعة تهدينا إلى بعض الأسرار كما تخفى عنا كثيراً من الأسرار، وحسبنا أن نقتدي بها في أساليبها لننتهي إلى شيء في هذا الباب خير من لاشيء. فإن أساليبها في علاقة الجنسين تجري في نهجين مطردين لا يختلفان بين الإنسان وسائر الحيوان وإن اختلفت في الحيوان بعض المظاهر والغايات
أول هذين النهجين هو مزج الواجب بالسرور، فلا يخدم الإنسان النوع بإدامة النسل أو بالإصلاح والإرشاد إلا وفي خدمته سرور له يقويه على واجبه ويغريه باحتماله
وثاني هذين النهجين (التوريط) الذي يقيد الإنسان حين يربد الإفلات فلا يقدر على الإفلات، لأن مصاعب النجاة من الحالة التي يعانيها أكبر من مصاعب الصبر عليها بعد وقوعه فيها. وخير الأمثلة على ذلك كفالة الأبناء ومتابعة السعي في سبيل المجد من مرحلة إلى مرحلة، وقد كان الساعي فيه يحسب أنه مستريح بعد المرحلة الأولى
وتلك هداية لا يعدم الفائدة من يتوخاها في علاج جميع المشكلات
عباس محمود العقاد(415/4)
الإسلام والعلاقات الدولية
للأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
- 2 -
(1) النظام الذي يسبق الحرب
يقرر الإسلام أنه لا يصح بدء الحرب إلا بعد أن تتحقق روح العداء للمسلمين، وأنه يجب على المسلمين إذا تحققوا من ذلك أن يبلغوهم الدعوة
وشبيه بهذا ما يسمى في العرف الدولي الحاضر بالإنذار النهائي.
وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأحد قواده: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث)
وقد قال الفقهاء: (إننا بهذه الدعوة نعلمهم أننا لا نقاتلهم على اخذ أموالهم وسبي عيالهم، فربما يجيبون إلى المقصود من غير قتال، وقتالهم قبل الدعوة إثم يستوجب غضب الله
(ب) النظام الذي يكون في أثناء الحرب
لا يريد الإسلام من الحرب تنكيلاً ولا تخريباً، ولا يرضى للناس أن ينسوا فيها واجب الإنسانية من الرفق والرحمة ورعاية العدل والخوف من الله
وإنه ليأخذ المسلمين في أثناء الحرب بآداب لو رعتها الأمم لخففت من ويلات البشرية وضمدت من جراحها
وقد يكون من الملائم لنا في هذه الظروف التي جنّ فيها جنون العالم، وانفتحت فيها على الناس أبواب من الجحيم الذي صنعه الناس لأنفسهم، وأنفقوا فيه جهودهم وأموالهم وأفلاذ أكبادهم؛ قد يكون من الملائم أن نذكر شيئاً من تلك الآداب الإسلامية للحرب، ليعلم الناس أن هذا الدين دين الرحمة والرفق والعدل والصلاح:
1 - فالإسلام لا يجيز قتل المرأة ولا الصبي ولا الشيخ الفاني ولا المقعد ولا الأعمى ولا المعتوه؛ ولا يجيز قتل أصحاب الصوامع ولا الزراع ولا الصناع الذين لا يقاتلون
2 - ولا يجيز المثلة ولا التحريق ولا قطع الأشجار ولا هدم البنيان إلا إذا بدأ بذلك العدو(415/5)
نزولاً على مبدأ المعاملة بالمثل (وجزاء سيئة سيئة مثلها)
3 - ولا يجوز الإجهاز على الجرحى ولا التحريق بالنار
وفي وصايا صلى الله عليه وسلم لأحد قواده: (لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا كبيراً هرماً، ولا تقطع شجراً مثمراً، ولا تخرب عامراً، ولا تعقرن شاة إلا لمأكله، ولا تفرقن نخلاً ولا تحرقه (وإن النار لا يعذب بها إلا الله)
ومن المأثور عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقتلوا الذرية في الحرب. فقالوا: يا رسول الله: أليسوا أولاد المشركين؟ فقال: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟)
4 - ويقرر الإسلام - تمشياً مع مبدئه من محاربة غير المحاربين من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة والمدنيين - أنه لا يجوز تجويع الأمة المحاربة ولا منع المواد الضرورية للحياة عنها، وإن كان يبيح ذلك بالنسبة للجيش المحارب
5 - ومن نظم الإسلام في أثناء الحرب الدالة على السماحة انه يبيح لأفراد وجماعات من الدولة أن تتصل بالمسلمين وتدخل في ديارهم، وتقيم فيها بعض الزمن وتزاول بها أنواعاً من المعاملات التجارية وغيرها في عصمة شيء يعرف في التشريح الإسلامي باسم الأمان
ويقرر به عصمة المستأمنين، ويوجب على المسلمين حمايتهم في أنفسهم وفي أموالهم ما داموا في ديار الإسلام. بل يذهب في التسهيل عليهم إلى حد بعيد: ذلك أنه يمنحهم أنواعاً من الامتيازات، ويعفيهم من بعض ما ينفذه على المسلمين من أحكام، ولا يؤاخذهم إلا على الجرائم التي تهدد أمن الدولة وسلامتها، أو يكون فيها اعتداء على المسلمين ومن في حكمهم
وقد توسع الإسلام في هذا الباب توسعاً عظيما: فجعل لأفراد المسلمين حق إعطاء ذلك الأمان يسعى بذمتهم أدناهم، ولم يشترط في ذلك إلا ما يضمن على المسلمين سلامتهم كالتأكد من أنه ليس للمستأمنين قوة ولا متعة، ولا يبدو عليهم مظاهر الركون إلى الفتنة أو التجسس على المسلمين. وليس معنى هذا أن الإسلام ينسى حق الإمام المهيمن على شئون المسلمين، بل جعل له بمقتضى هيمنته العامة وتقديره لوجود المصلحة إبطال أي آمان لم يصادف محله، أو لم يستوف شروطه، كما له أن يقيد آمان الأفراد ويمنع إقدامهم عليه
والأصل في هذا المبدأ الذي فيه روح السماحة على نحو لا يعرف له مثال حتى في الأمم المتحضرة الآن قوله تعالى:(415/6)
(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه)
والإسلام يبيح بهذا الأمان تبادل التجارة بين المسلمين والمحاربين، وتبادل المنافع الأخرى والثقافة وسائر الأعمال
وهو لا يقيد المسلمين في ذلك إلا بان يحتاطوا لأنفسهم ودينهم ودولتهم، ولذلك يحرم عليهم أن يبيعوا السلاح والذخيرة والخيل والعتاد الحربي إلى أعدائهم
وهو في الوقت نفسه يهيئ بهذا الأمان فرصة للمستأمنين تمكنهم من تفهم حقيقة الإسلام وإدراك أغراضه عن كثب. ولقد كان للإسلام من ذلك وسيلة قوية لنشر دعوته وإيصال كلمة الله إلى كثير من الأقاليم النائية من غير حرب ولا قتال
ويقرر الفقهاء (انه يجيب على الإمام - إذا وقت للمستأمن مدة - إلا يجعل المدة قليلة كالشهر والشهرين، فإن في ذلك إلحاق العسر به خصوصاً إذا كان له معاملات يحتاج في اقتضائها إلى زمان طويل)
6 - ومن تقاليد الإسلام في أثناء الحرب رعاية الرسل الذين يقومون بالسفارة بينه وبين المحاربين وشدة الحرص على سلامتهم وتكريمهم والمحافظة عليهم حتى يعودوا إلى مأمنهم، ورفض الاحتفاظ بهم ولو خلعوا أنفسهم من قومهم، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم شواهد كثيرة على ذلك من أروعها ما يرويه أبو رافع إذ يقول:
بعثتني قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فوقع الإسلام في قلبي فرأيت إلا أعود إليهم. فقلت يا رسول الله: لا أرجع إليهم. فقال: إنني لا أخيس بالعهد ولا أحتبس البرد. ارجع إليهم، فأن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع إلينا
7 - ومن تشريع الإسلام في أثناء الحرب قاعدة معاملة الأسرى. أمر بالإحسان إليهم، وعدم مسهم بأذى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسير: احسنوا إساره. وقال اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه
وقد حث القرآن الكريم على تكريم الأسرى عامة، وجعل ذلك من البر الذي هو علامة الإيمان فقال جل شأنه في التمدح بصفات المؤمنين:
(ويطعمون الطعام عل حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً)(415/7)
وخير الإمام بين إطلاقهم من غير مقابل، وفدائهم على حسب ما يرى من المصلحة. وقد من النبي صلى الله عليه وسلم وفادى بالمال وبتعليم الأسارى أبناء المسلمين الكتابة. أما استرقاقه صلى الله عليه وسلم أو إباحته للاسترقاق فقد كان مجاراة لحالة اجتماعية سائدة في الأمم إذ ذاك. ولم يكن على وجه التشريع العام. وإنما التشريع العام في ذلك هو قوله تعالى: (فإما مَنًّا بعدُ وإما فداء)
وأن في التشريع القرآني للأسرى على هذا النحو مع تصرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلى أن الإسلام يمنح الحاكم من الحقوق في ظروف خاصة ما يستطيع به علاج المشكلات الواقعة من غير أن يكون ذلك تشريعاً عاماً يسري حكمه على جميع الأزمان
8 - وكما شرع الإسلام معاملة الأسرى على أساس من الرأفة والرحمة شرّع للغنائم على أساس من العدل والمساواة فقرر حق تملكها لمن حازها من المتحاربين المسلمين وغيرهم في ذلك سواء
(البقية في العدد القادم)
محمود شلتوت(415/8)
عبد القادر حمزة باشا
للدكتور زكي مبارك
منذ عامين مات الشاعر محمد الهراوي فغلبني الدمع بقوة وعنف، على قلة ما تدمع العين لفراق الراحلين من المعارف والأصحاب، وإنما كان ذلك لإيماني بأن الهراوي صديق لا تغيره الأيام ولا الليالي، فهو ثروة ضاعت من يدي إلى آخر الزمان
وفي هذه الأيام مات الكاتب عبد القادر حمزة فعرفت من جديد كيف تكون غزارة الدمع حين يموت الصديق، وكان عبد القادر صديقاً لا نظير له ولا مثيل، كان أخُّا نقي القلب، عذب الروح؛ وكان مثالاً نادراً في حفظ الوداد بالمحضر والمغيب. كان دنيا باسمة من الاخوَّة الروحية. كان كنزاً نزعتْه الأقدار من يدي، فأنا لفراقه مخزون إلى آخر الزمان
لم أفكر مرة واحدة في الانتفاع بجاه عبد القادر حمزة باشا، وكان رجلاً مسموع الكلمة عند من يملكون تصريف الأمور، وإنما زهدت في الانتفاع بجاهه لأصون ما بيني وبينه من الوداد عن شوائب المنافع الدنيوية، وإن كان انتفاع الصديق بجاه الصديق أمراً لا يغض من أقدار الرجال
كانت صداقة عبد القادر حمزة جوهراً من أكرم الجواهر. كانت ذخيرة يدّخرها الحر لزمانه، فما يبالي أين تقع الحوادث، ما دام عبد القادر بخير وعافية. وهل أنسى أنى لم أكن أبالي حوادث الأيام لأني كنت أعرف محفوظ في جريدة البلاغ لأرجع إليه حين أشاء؟
هل أنسى أنى أملك نحو عشرين خطاباً دَّبجها بيده صديقُ كريم يعزُّ القلم والبيان؟
هل أنسى أن الصداقة التي جمعت بيني وبينه لم تكن إلا نتيجة لعداوة أثرتها في وجهه بصدق وإخلاص، وكان رحمه الله من أهل الصدق والإخلاص؟
لاحظتُ مرة انه لا يستريح لبعض ما أكتب في جريدة البلاغ وكانت تناصر الوفد المصري وأنا أناصر الحزب الوطني، فكتبت إليه أستعفيه من الاشتراك في تحرير البلاغ، بحجة أنى لا استبيح الانتفاع بخزينة ليس مبدؤها من مبدئي ولا هواها من هواي، فكتب إليّ رحمة الله يقول:
(أكتب ما تشاء، وخزينة البلاغ تحت تصرفك)
فإن راجعتم (البلاغ) لذلك العهد ورأيتم فيه أشياء لا تنسجم مع سياسة (البلاغ) فاعرفوا أنها(415/9)
من قلمي، القلم الذي تمرد على صاحب (البلاغ) ليظفر بمودة صاحب (البلاغ) وكان الصدق أعظم وسيلة لغزو ذلك القلب الأمين
لن ينقضي خزني لفراق عبد القادر، ولن أنسى جميلة أبداً
ولو أن قلمي استطاع الاستشهاد بجميع ما قال الشعراء في الرثاء، لما كان في ذلك ما يصور فجيعتي في (الصديق الذي وصل جناحي، وراش سهى) على حد التعبير الذي قدمت به إليه كتاب (ذكريات باريس)
صحبت عبد القادر نحو خمسة عشر عاماً، فلم أره إلا جذوةً من الأقباس الروحية. ولو أني قضيت هذه المدة مع عدو لتحول إلى صديق، فكيف تروننا صرنا - وقد قضينا هذه المدة في إخاء وصفاء؟ كيف تروننا صرنا وقد كان التعاون الصادق أساساً لما بيني من وداد؟
كان عبد القادر في أعوامه الخيرة يعتب على أشد العتب، لأني لا أمر بداره للسؤال عنه وهو مريض، وكنت اعرف كيف أٌعتِبُه فأقول: سألت عنك في (البلاغ)، وأنا لا اعرف لك داراً غير دار (البلاغ)
فمن يعزّ بني وقد ضاع حظي في عيادة ذلك العليل النبيل؟
من يعزيني ولم اسمع بموت عبد القادر إلا بعد أن فضَّ مأتمه فلم اشترك في حمل نعشه ولم أٌقبّل أن يوارَى التراب؟
من يعزيني في أخٍ كان لي وكنت له عوناً على الشدائد والخطوب؟
التفتٌّ مرة، فلم أر غيره في سنة 1928؛ والتفتَ مرة، فلم ير غيري في سنة 1931، فإلي من التفتُ إذا دجت الخطوب وبيني وبين عبد القادرُ بعدُ ما بين الأحياء والأموات؟!
مات عبد القادر، مات أخي، فمن يعزيني؟
مات الرجل الذي لا يكذب ولا يغدر ولا يخون
مات الرجل الذي شهد خصومه بأن موته كان نكبة وطنية مات عبد القادر، مات أخي، فمن يعزيني؟
لو كان شق الجيوب من شمائل هذا العصر لشققت جيوبي، فلم يبق إلا أن اشق قلبي حزناً على عبد القادر، وإنه بذلك لخليق. وهل من الكثير أن يصر عني الحزن وقد فقدت صديقاً كان أعظم الذخائر في دنياي؟(415/10)
وهل فقد الناس مثل من فقدت في قديمٍ أو حديث؟
دلوني على صديق في مثل أخلاق عبد القادر، ليخلفّ عتبي على الأقدار التي أطفأت نوره الوهاج ولم يعد الثالثة والستين؟
دلوني على صديق لا يثور عليَّ ولا أثور عليه، وأن أسرفت الحوادث في إفساد ما بين الأصفياء
أمِثلك يموت، يا عبد القادر، وكان روحك بشير الخلود؟
نعاك الناعون وبكاك الباكون، يا عبد القادر، وأنا وحدي أحمل من رزئك الأثقال، لأني أول وآخر من ظفر بثقتك الغالية ولأنك أول وآخر من وثقت بهم بلا تحفظ ولا احتراس
ما أحرّ وجدي لفراقك، يا أخي وصديقي
وما أشقاني لبُعدك، يا أصدق من عرفت بين أحرار الرجال
أخي وصديقي:
أظلم نفسي وأظلم الحق إذا قلت بأن الدنيا لم تعرف رجلاً في مثل شمائلك، ولكني أظلم نفسي وأظلم الحق إذا قلت بأني عرفت في حياتي صديقاً أنفع منك، وكنت وحدك الرجل الذي أقنعني بأن للصداقة مكاناً بين أطايب الوجود
أنا حزين لفراقك، يا عبد القادر، حزين، حزين،
وإن امتد الأجل، فسوف أجزيك وفاءً بوفاء، وإخلاصاً بإخلاص.
أما بعد فما أحب أن يشغلني بكاء هذا الصديق عن شرح بعض الشمائل التي صار بها رجلاً يضر وينفع، ففي ذلك توجيه يستفيد به الناشئون من أبناء هذا الجيل
عرفت عبد القادر أول مرة - معرفة أدبية لا شخصية - عن طريق ما كان يكتب في (الأهالي) سنة 1919 وكانت جريدة صغيرة الحجم، ولكن أسلوبه في تحريرها كان يجعل منها جريدة قوية لا يستغني عنها من يحص على غذاء العقل والوجدان
ثم كانت (الأهالي) سميري وأنيسي في وحشة الاعتقال، لأنها كانت تساير جريدة (الأمة) لسان الحزب الوطني في ذلك الوقت، ومن لم ير كفاح (الأهالي) و (الأمة) في محاربة (مشروع ملنر) فليس من حقه أن يتوهم أنه شهد صيال الأقلام في خدمة القضية المصرية
كانت هاتان الجريدتان تصدران في الإسكندرية، وكان المعتقل الذي صرنا إليه بعد معتقل(415/11)
قصر النيل يقع بضاحية (سيدي بشر) وكان قبل وصولنا إليه معموراً بجماعة من أسرى الألمان في الحرب الماضية
في تلك المدة فُتِنْتُ فتنة شديدة بالمحصول الذي يصدُر عن (الأمة) و (الأهالي)؛ فكان الجدل لا ينقطع بيني وبين إخواني من المعتقلين حول ذلك المحصول الجزيل، لأن المعتقلين كانوا ينقسمون إلى معسكرين: معسكر الحزب الوطني ومعسكر الوفد المصري
فلما قضى الله بانتهاء كرب الاعتقال كان أول همي أن ازور الأستاذ محمد الههياوي رئيس تحرير (الأمة) والأستاذ عبد القادر حمزة رئيس تحرير (الأهالي)
وفي جريدة الأمة لقيت فقيد الوطنية عبد اللطيف الصوفاني بك فحّياني والدمع في عينيه، وقدّم إليّ خمسة جنيهات لأقضي بها في الإسكندرية أياماً أنسى بها متاعب الاعتقال، فما دخلت الإسكندرية أول مرة إلا في سيارة مقفلة من سيارات الجيش الإنجليزي وفي ظلمات الليل
ومضت إلى جريدة الأهالي فرأيت فيها الأستاذ عبد القادر حمزة، ورأيت في صحبته رجلاً بساماً هو الأستاذ محمد أبو العزّ، وفتّىً عبوساً هو الأستاذ أحمد سعيد
وفي أوائل سنة 1921 دعاني الصوفاني بك لرياسة تحرير جريدة (الأفكار) وكنت من محرريها قبل الاعتقال، فبذلت ما بذلت من الجهود في تأييد الحزب الوطني ومقاومة الوفد المصري؛ ولكن الأقدار لم تمهلني في رياسة تحرير الأفكار
غير عام وبعض عام. فقد اتفق الصوفاني بك مع الأستاذ عبد القادر حمزة اتفاقاً بأن تصبح الجريدة (وطنية وفدية) واشترط الأستاذ عبد القادر شروطاً كان أهمها أن يكون حرّ التصرف في اختيار المحررين. واشترط الصوفاني بك أن يكون للحزب الوطني محرر يعتمد في رعاية ما يهم الحزب من دقائق الشؤون، وكان ذلك المحرر هو زكي مبارك. وَقبِل عبد القادر هذا الشرط وفي نفسه أشياء، ومن اجل هذا لم يسمح بأن أنشر في الأفكار غير مباحث أدبية لا تقدِّم ولا تؤخر في السياسة الحزبية!!
ثم فوجئ عبد القادر بأن لي نشاطاً صحفياً يغيب عن عينه الواعية، وهو مقالات كنت أرسلها إلى جريدة (الأمة) بإمضاءات مختلفات؛ فأدرك أن لا أمل في أن أسير كما يسير، وأني لو وجدت مسدساً لصوبته بلا ترفق إلى سعد زغلول!(415/12)
عندئذٍ بدا لعبد القادر أنه يصاحب شابّاً له أهداف، فوثق بي، وأخذ يحاول تبديد ما بيني وبين الوفد من بغضاء، وتلطف فدعاني إلى الاشتراك في تحرير البلاغ عند ظهوره في أوائل سنة 1923. ولكن رفضت بحجة أن هواي لن يزال مع الحزب الوطني
ولكن عبد القادر لم ينسى؛ فكان يدعوني من وقت إلى وقت لتحرير بعض المباحث الأدبية والاجتماعية. ثم دعاني إلى الاشتراك في تحرير (البلاغ الأسبوعي)؛ ثم رأى أن أكون مراسل البلاغ في باريس حين مضيت لطلب العلم في السوربون، ثم وصلت به الثقة إلى أبعد الحدود، فدعاني لرياسة تحرير البلاغ في سنة 1931
فمن أراد أن يعرف بعض الشمائل التي رفعت عبد القادر حمزة فليذكر أنه كان يحترم أصحاب المبادئ ولو كانوا من خصومه الألداء، فالعنف الذي وقع بيني وبينه كان سبب تآخينا وتصافينا، ومن أجل هذا كان ينشر مقالاتي بلا مراجعة ولو عارضت سياسة (البلاغ)
وهنا نادرة تستحق التسجيل، لما فيها من الدلالة على قوته الخلقية!
في سنة 1937 تعرّض البلاغ لأزمة مالية قضت بتخفيض مرتبات المحررين وإعفاء من يجوز عنهم الاستغناء، ونظرت فرأيت أن مرتبي لم يخصم منه شيء، فكنت أتغافل عن طلبه، ولكن إدارة البلاغ كانت تلاحقني فترسله إليّ بدون تسويف
وقدّرتُ في نفسي أن عبد القادر يستبقيني بالرغم من تلك الأزمة المالية، فأطعت أصدقائي من الوفديين ونقلت صحيفتي الأدبية إلى جريدة (المصري) وكان بينها وبين (البلاغ) ضغائن وحُقود. ولما سألني عبد القادر عن السبب أجبت بأني لا أرى رأيه في نشر ما كان ينشر من (فضائح الوثائق) ولم أذكر السبب الصحيح وهو رغبتي في إعفاء البلاغ من مرتبي فقد كنت أخشى أن أجرح عزة نفسي لو اقترحت العمل بالمجان، وكذلك ظلمت نفسي لأكرم صديقي بدون أن ادله على حقيقة ما أريد
وتحدث الناس بأن زكي مبارك عق صاحب البلاغ. فهل التفت صاحب البلاغ إلى أحاديث الناس؟
هيهات. فما تغيّر عبد القادر ولا تبدَّل، وإنما ظل أخاً وفياً إلى أبعد حدود الأخوة والوفاء
من يعزيني فيك يا عبد القادر، ومن يواسيني وقد غاب عني وجهك الجميل؟(415/13)
ثم ماذا؟
ثم كان عبد القادر رجلاً يستعد للدهر والأيام اكمل استعداد. كان يدرك أن الرجل لا ينجح إلا إذا تسلح بقوة العزيمة وقوة النفس. فكان يقضى ليله ونهاره في تدبير وسائل الحياة لجريدة البلاغ. وقد حدثني مرة انه يحب أن يعيش صحفياً ويموت صحفياً، وأنه يشتهي أن ينقل لأبنائه هذا الميراث، ولم يحس أحد مدلول كلمة (المستقبل) بقدر إحساس هذا الفقيد النبيل.
عاش عبد القادر في متاعب جسام ثقال. فقد كان يعادي بعنف، ويصادق بعنف، ومن أجل هذا كانت حياته سلسلة من الآلام والآمال، والعواطف العنيفة تزلزل بنيان الجسد فتسوق إليه الموت قبل أٌوان الموت
وكان عبد القادر على قوته الصحفية يحترم حياة التأليف، لأنه أبقى على الزمان، فكان يقضي أوقات فراغه وهي قليلة في استقصاء حوادث التاريخ، ولو قال قائل بان عبد القادر هو أصدق مؤرخي مصر في القديم والحديث لما اتهمه أحد بالمبالغة والإغراق
وكان عبد القادر يحب أن تكون جريدته مَعرِضاً لجميع الآراء، فعلى صفحات البلاغ أثيرت مشكلات ومعضلات هي أقوى وأصدق ما صدر عن العقول والقلوب، وفي ميدان البلاغ تصاول المئات من أقطاب الفكر والبيان
وكان عبد القادر حر العقل، فلم يتذوق في حياته طعم البهلوانات لشعبية، ولم يفهم إلا أنه مسؤول أمام العقل، ومن هنا كانت جريدته أصدق صحيفة صانت النضال السياسي من أوضار التبذل والإسفاف
قالت جريدة المصري وهي خصم شريف:
(فقدنا زميلاً نصاوله إذا اختلفنا، ونناضله إذا احتدم النزاع)
وأقول إن النضال العف النزيه سوف يستوحش لغياب عبد القادر، وسوف يذكر خصومه أنهم فقدوا رجلاً كانت خصومته من علائم التشريف
أن جريدة المصري تكافح كفاح الأبطال في إعزاز الصحافة المصرية، فهل يدري صاحبها ومحرروها أن صاحب البلاغ كان السابق إلى رفع قواعد هذا البناء؟
ذهبت جريدة المؤيد، وبقى (بار المؤيد)(415/14)
وذهبت جريدة اللواء، وبقى (بار اللواء)
فهل نضمن بعد اليوم أن يبقى (المصري) و (البلاغ) شاهديْن على قوة العقلية المصرية في البلاد المفطورة على حب الخلود؟
ثم أما بعد فأنا اشعر بأني لم أوفْ عبد القادر بعض ما يستحق من صادق الرثاء، لأني واجهت الموضوع وأنا في حزن يبلبل الروح، ويقلقل البيان
ولن يكون هذا آخر العهد يا عبد القادر، فسوف أشغل نفسي بتأريخ مواهبك السامية. بعد أن تذهب كروب الحرب ويلتفت الناس عن أكابر الرجال
زكي مبارك(415/15)
عهد. . . وعهد
مقارنة وتعليل
للأستاذ محمد محمد المدني
لا أقارن بين عهد الأستاذ الأكبر المراغي، وعهد الأستاذ الأكبر الظواهري، فإني امرؤ مراغي بروحه وقلبه وقلمه، أخشى أن يؤثر ذلك في حكمي فأحيد عن الإنصاف!
ولكني أقارن بين عهد وعهد كلاهما للأستاذ الأكبر المراغي، وتلك مقارنة مأمونة النتيجة على كل حال، فسيرجع إليه فضل أحد العهدين مهما اخذ على الآخر
العهد الأول
إني أعود بذاكرتي إلى العهد الأول للأستاذ الأكبر المراغي فأرى روحاً طيبة ترفرف في أجواء الأزهر: هي روح المصلح الأمين الذي وضعت فيه الأمة ثقتها، وعلق عليه المفكرون آمالهم. هي روح المصلح الجريء الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يصرفه عما يرى من الإصلاح اعتبار من الاعتبارات، هي روح المصلح الغيور على دعوته، المدافع عنها دفاع الأسد الهصور يكتسح العقبات، ويقتلع العراقيل، ولا يفري فرية أحد! هي روح قوية غلابة متوثبة إلى الإصلاح، غيورة عليه، صريحة في أمره؛ تقهر العقبات ولا تقهرها العقبات، وتتحكم في العيوب ولا تتحكم فها العيوب!
هي روح جريئة تثير في الأزهر معركة إصلاحية جامعة حامية الوطيس هي أشبه بثورة عنيفة على الفساد في أي لون من ألوانه: على الجمود والكسل، على الجهل والتقليد، على الجحود والكفران، على الرجعية البالية العتيقة التي تتعصب على الحق، وتنفر من حكم العقل، وتعيش في ظل الأوهام
تولى الأستاذ الأكبر المراغي مشيخة الأزهر للمرة الأولى ولم قد داخل الأزهرين، ولا عاش في جوهم، ولا ابتلى بأساليبهم؛ ولكنه كان مع ذلك بصيراً بعيوب الأزهر وطرق إصلاحه كالطبيب الحاذق يعرف الداء ويصف الدواء
فما هو إلا أن ألقيت إليه مقاليده حتى مضى قدماً في طريق الإصلاح، لا يلوي على أحد، ولا يبطئ به شيء، بل كان له في ذلك نشاط عظيم، جعله يسبق القوانين أحياناً فينفذ(415/16)
مشروعاته قبل أن تصدر
ولقد رج الأزهر يومئذ رجة عنيفة هي الرجة التي تصاحب دائماً عهود الثورة، وتغري المصلحين بالمضي في طريقها غير ناكصين، ومن يتتبع خطواته في الإصلاح يجدها خطوات واسعة وموفقة يرجع إليها الفضل من غير شك في كثير مما يتمتع به الأزهر الآن من خير؛ فقد أعد قانون الأزهر الذي يسير عليه الآن، وأعد مشروع بناء كلياته ومعاهده ومكتبته ومساكن طلابه على نمط سيكون به للأزهر أن شاء الله مدينة جامعية محترمة، وأنشأ قسم الوعظ والإرشاد ففتح بذلك للأزهر وللأمة وللدين ألواناً من الخير والصلاح ليس ينكرها أحد، ووضع أساساً جيداً لمجلة راقية - فيما كان يرجو - تصدر باسم الأزهر، فتنشر بين الناس ثقافته، وتعلن في مشكلات الحياة رأيه، وتهدي الأمة إلى أقوم السبل في دينها ودنياها، وأدخل في مناهج التعليم في الأزهر علوماً وكتباً ما كان الأزهريون من قبل يعرفونها، ورسم في كل ناحية من نواحي الإصلاح خطة جامعة جريئة؛ ونجح إلى حد ما في إصلاح نفوس الأزهريين، وفي كبح جماح العناصر الفاسدة المقاومة لفكرة الإصلاح، وفي توجيه المستعدين إلى العمل نحو النشاط والإنتاج!
وابتدأ الحظ السعيد يبسم للأزهر، وشهد التاريخ كيف أخذت هذه الجامعة الكبرى بأسباب النهوض والتقدم، ودلفت إلى طريق المجد والعظمة وآمن الناس بان للأزهر وجوداً، وبأن في الأزهر حياة!
ولكن الزمان لم يلبث أن استدار وتجهم، كأنما نَفِس هذه السعادةَ أن ترف على الأزهر ضلالها، فإذا الشيخ الأكبر يترك منصبه ولما يزل غرسه محتاجاً إلى التعهد والرعاية: خرج يومئذ من الأزهر خروجاً مفاجئاً لم يكن الناس يتوقعونه ولكنهم عرفوا فيما بعد أسبابه. وليس صحيحاً ما ذكره (عالم) في الرسالة من أن كثرة الأزهريين هي التي وقفت في سبيله وألجأته إلى ترك منصبه؛ فكلنا يعرف الأسباب الحقيقية التي من اجلها ترك الأستاذ الأكبر منصبه العظيم؛ وكلنا يعرف أن الأزهريين كبارهم وصغارهم ضلت أعناقهم له خاضعين ما دام في الأزهر، حتى إذا اعتزل منصبه نعب عليه قوم وتصايحوا، وأفحشوا من بعد في القول وجاءوا بإفك عظيم!
العهد الثاني(415/17)
عاد الأستاذ الأكبر المراغي إلى منصبه بعد الثورة الأزهرية المعروفة، وترقب الناس جميعاً أن يتم من آيات الإصلاح ما بدأ، وان تعود إلى الأزهر روح (المراغية) القوية التي كانوا يعهدونها من قبل، وان تتلاحق في كتاب الأزهر الخالد - بعد مقدمته التي كتبها في عهده الأول - فصول مشرقة الصفحات، واضحة الأغراض، سليمة الأساليب والمعاني، ولكن الأيام توالت، والشهور تتابعت، والأعوام تلاحقت، ولو شئت لقلت أن حالة من الانتكاس قد أصابت الأزهر، وأن ريحاً من رياح الفناء توشك أن تهب عليه فتعصف به، ولكني لا أحب أن أقول ذلك، وإنما احب أن التزم القصد في التعبير فأقول: أن الناس لم يروا من الإمام ما كانوا يرقبون
هذه هي الحركة الفكرية في الأزهر قد سكنت ريحها، وخبت جذوتها، وما زال الأزهر عاكفاً على كتبه يدور بها حول نفسه، ويفني فبها زهرة شبابه، وينقطع بها عن الناس، فليس له اشتراك ذو قيمة في التشريع العملي للبلاد، وليس له صلة محترمة بأوساط العلم والثقافة، وليس له نشاط في إخراج كتب علمية أو أدبية كما يخرج الناس، وليس لمجلته أي اثر في توجيه العقول والأفكار، وإن كان لها في تشجيع الخرافات والأوهام!
وهذه هي الحركة الدراسية في الأزهر، تشكو من تهاون الرؤساء وطغيان الطلاب، وعدم قراءة المقررات، وضعف المستوى العلمي ضعفاً يشغل البال، ويغلق الأفكار
فما هو السر في ذلك كله؟
إن الذي يلي شئون الأزهر رجل مؤمن بفكرته إيماناً يداخل قلبه ويخالط نفسه، ويملك عليه جميع مشاعره: فهو حين يخطب يدعو إلى الإصلاح، وحين يكتب يدعو إلى الإصلاح، وحين يدرس يدعو إلى الإصلاح، وحين يجلس إلى الناس يدعو إلى الإصلاح، أليس في كل هذا دليل على أن فكرة الإصلاح قد تغلغلت في نفسه وأثرت في تفكيره، ونطقت لسانه، وجرت قلمه، وانه حينما يدعو لها، ويحض عليها، إنما يلبي هُتافاً من نفسه، ووحياً من قلبه
ثم هو رجل لا يوزن وزانه في العلم والفقه وجودة النظر، له في ذلك بحث ومذكرات وآراء وقوانين وتوجيهات حقيق على تاريخ اعلم أن يخلدها، فليس كهؤلاء الدعاة الخلاة، أفئدتهم هواء وصيحاتهم أصوات طبول جوفاء!
ثم هو رجل في يده سلطان الأزهر، وتحت أمرته كل شيء فيه، وللأزهر استقلال يغبط(415/18)
عليه لم تصل إلى مثله جامعة حديثة. وليس في الأزهريين بحمد الله من يستطيع إذا جد الجد أن يقف على قدميه ليناوئ حركة الإصلاح!
وهو بعد هذا كله رجل ذو جاه ومنزلة بين الناس، يتمتع بين أولي الأمر وأصحاب السلطان بما لن يتمتع به أحد سواء من رجال الإصلاح: فالحكومة تحترمه، والشعب يقدره، ورجال العلم والفكر يحبونه، وولى الأمر - حفظه الله - يتوج هذا كله بعطفه ورعايته وتكريمه، ويفد إليه في دروسه يحيط به رجال دولته وأفذاذ أمته!
فماذا بقى بعد ذلك ليعطل الإصلاح، ويحول بين هذا الرجل العظيم وبين مُتَبوَّ إفي التاريخ عظيم؟!
ترجع العوامل التي تحول بين الأستاذ الأكبر وبين تنفيذُ برنامج الإصلاح الذي وضعه إلى نواح ثلاث:
1 - طبيعة الأزهر
2 - أحوال الطلاب
3 - السياسة العامة في الإدارة
وليس من الخير أن نفصل كل هذه العوامل عل هذا المنبر العام، ولكننا نكتفي بالإجمال رعاية لمقتضيات الأحوال
1 - طبيعة الأزهر
هناك نوع من الأعمال يكفي لكي ينجح المراء فيه أن يرجع إلى نفسه، ويعتمد على ما يبذله شخصياً من جهود، فالمؤلف
يستطيع أن يعكف على مراجعه، وينقطع إلى بحوثه وتأملاته، ويبذل من فكره وعقله ما يستطيع أن يبذل، فينتهي به الأمر إلى أن ينتج، أو يسير في طريق الإنتاج شوطاً يتناسب مع عمله وجهوده.
وهناك من الأعمال ما لابد فيه من تعاون، ولا تكفي فيه عبقرية العبقري، ولا جهد المجتهد، فالمعلم لا يستطيع أن يفيد بعلمه كل تلميذ، وإنما يفيد التلميذ القابل للتعلم، المستعد للفهم، الآخذ بالأسباب!
ومهمة المصلح كمهمة القائد من النوع الثاني، فكما أن القائد مهما كان شجاعاً عبقرياً(415/19)
محنكا، لا ينجح في خططه إلا إذا أسعفه جيش له صفات ممتازة واستعداد حسن يكفلان تنفيذ خطته على الوجه الأكمل. كذلك لا ينجح المصلح في إصلاحه إلا إذا كانت البيئة التي يعمل في دائرتها مستعدة لتلقي تعاليمه، غير متأبية بطبعها عليها.
والأستاذ الأكبر المراغي مصلح قد وضع خطط الإصلاح فأحسن وضعها، ولكن طبيعة الأزهر تحتاج في علاجها إلى الصبر ومثابرة وحسن تأت وسعة حيلة، كما تحتاج إلى انتهاز الفرص، وبث الدعاوة للأفكار الصالحة، وخلق القدوة وضرب المثل وتشجيع العاملين ومكافئة المنتجين. وكل ذلك يفعله الأستاذ الأكبر إلا تشجيع العاملين ومكافئة المنتجين: فهو حين يدرس يضرب للأزهريين بدراسته أحسن الامثال، ويعلمهم كيف يكون الإخلاص للعلم والاعتماد على الدليل والبرهان، ووزن النظريات العلمية بقيمتها الذاتية، لا بمنزلة أصحابها والقائلين بها؛ وهو يحسن الدعوة إلى مبادئ الإصلاح وينتهز لها الفرص؛ وهو يصابر الأزهريين ويحتال لهم، ولكنه لا يعمل شيئاً يشعر به العامل أنه راض عنه، يشعر به المهمل أنه راض عنه، ويشعر به أنه غاضب عليه. فالأزهري الذي يعمل ليله ونهاره ويقوم بواجبه خير قيام، كالأزهري النائم الغافل الذي يعمل لإرضاء الرسميات وحفظ المظاهر فقط، بل ربما كان للثاني من سنه أو من وسائله الخاصة ما يدفعه إلى الأمام دفعاً يسبق به العاملين. وقد كان من نتائج ذلك أن خيم الكسل في كثير من النواحي وقتل النشاط، وفترت حياة الأزهر العملية فتوراً صار مضرب الأمثال!
2 - أحوال الطلاب
عاد الأستاذ الأكبر إلى منصبه في ظروف يعرفها الذيِن يتابعون حركة الأزهر؛ وقد أوحت هذه الظروف إلى طلاب الأزهر والمعاهد الدينية أن لهم يداً في عودة الأستاذ الأكبر إلى منصبه، لأنهم نادوا به، وأضربوا من أجله، وشردوا في سبيل ذلك وأوذوا، فهم إذن جديرون بأن يصيبوا حظهم من المكافأة، وجديرون بأن تغمض العين عنهم إذ يتخففون من وطأة النظام ويحاولون الإفلات من هيمنة الرؤساء والأساتذة؛ وقد سارت سياسة الأزهر بالنسبة إليهم فعلاً في طريق من شأنها أن تشجعهم على هذا الفهم وتؤكدهُ لهم، فقد ألغوا أن يطلبوا فيجابوا إلى ما يطلبون، وأن يذنبوا فيغفر لهم ما يذنبون، وأن يعاقبوا ثمَ تقبل فيهم شفاعةُ الشافعينَ، واستباحوا أن يذهبوا إلى الإدارة العامة في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ متخطينَ(415/20)
رؤسائهم المباشرينَ، فتراهم يقتحمونَ مكاتبها، ويشغلونَ موظفيها، ويدخلونَ عليهم من أقطارها، ويتنادون في أبهائها صاخبين لهم ضجيجٌ وعجيجٌ!
ومن الأنصاف أن نذكر أن هذه الحالة ليست خاصة بالأزهر وحده، وإنما هيَ حالة تصطلي بنيرانها المدارس المصرية جميعاً. فكلنا يعرف كيفَ تدخلت السياسة الحزبيةَ في نظمِ التربيةِ والتعليمِ والامتحانات تدخلاً يراد به التقرب إلى الطلاب وكسب تأييدهم، وكيفَ انبثت الفوضى في كلِ شيءٍ، وطغت على كلِ شيءٍ، فليسَ الأزهر وحدهُ هوِ المسؤول عن هذا العامل، ولا ينبغي أن يحمل عبؤه عليه من دون معاهد التعليم جميعاً، ولكننا فيما يظهر قد سبقنا غيرنا في هذهِ الناحيةِ وبرزنا فيها تبريزاً حتى أصبنا منها بطعنات في الصميمِ أساءت إلى النظامِ، والإدارةِ والعلمِ والكتبِ والمقرراتِ والامتحانات، وإلى المستوى العلمي والخلقي إساءة فظيعة، تحتاجُ إلى العمل السريع، وإلى الحزم الصادق، والعزائم المتكاتفة، إن كان لنا في بقاء الأزهر حاجةً!
3 - السياسة العامة
أرجو أن يسمح لي فضيلة الأستاذ الأكبر بأن أتوجه إليه في هذهِ الناحيةِ بشيءٍ منَ الصراحةِ، فأن فضيلتهُ يريدُ أن يسوسَ الأزهر سياسة قوامها إرضاء العناصر المختلفةِ فيهِ، وإرضاء العناصر المختلفة في الأزهر أمرٌ بعيد المنال أن لم يكن مستحيلاً، فإن المرء لا يجد بيئةً منَ البيئاتِ قد تفاوتت في التفكيرِ حظاً ولوناً وطابعاً كالبيئةِ الأزهريةِ، والمصلح لا بد أن يكون جريئاً في إصلاحه، صريحاً في مداواةِ العللِ والأمراض، وكلنا يعرف أن في الأزهر قوماً مؤمنينَ بالإصلاحِ، وقوماً به كافرين، وعنهُ معوقينَ، كما أن فيه قوماً لم يتعودوا أن يأمنوا بشيءٍ أو يكفروا بشيء، فإذا كانَ من سياسة المصلح أن يستعين بخصومِ الإصلاحِ، أو بالذينَ لا يدركونَ أغراضهُ، ولا ينبعثونَ بطبيعةِ نفوسهم في طريقه، أو لا تمكنهم أحوالهم وسنهم وتربيتهم من تطبيقهِ، فإن الإصلاح من غير شكٍ فاشل، وأن الجهود التي تبذل في سبيله، والأموال التي تنفق عليه، ضائعة!
لا ينبغي أن تسيطر ظروف السن والأقدمية والأمر الواقع على كلِ شيء في الأزهر، فيظل التعيين في المناصبِ الكبرى وقفاً على الذين كلوا من شدةِ الإعياءِ، عن حملِ الأعباءِ
لا ينبغي أن يغفل عند تعيينِ جماعةِ كبارِ العلماء ما بقى مغفلاً حتى الآن من رعايةِ النشاطِ(415/21)
العلمي والقدرة على الإنتاجِ والعملِ وإقناعِ الناسِ بوجودِ الأزهر؛ فقد كانَ، الناس يعتقدونَ، وحق لهم أن يعتقدوا، أن عضوية هذهِ الجماعةِ مكافأةً على طول العمرِ، وتعويض للقعدة والضعفاءِ، لا على الإنتاج والتأثير في حياة الأمة
لا ينبغي أن نستعين بالذين لا يؤمنون بإصلاح ولا يبدون بمبادئ ولا يحفلون بمثل عليا، وليس لهم في الأزهر رسالة إلا التخزيل عن النهوض، والتعويق عن التقدم، بينما المتشبعون بالأفكار الإصلاحية القادرون على تحقيق مبادئها مبعدون عن تولي الأعمال الهامة لاعتبارات لا يصح أن يقام لها وزن في نظر المصلح.
لا ينبغي أن يدخل في توزيع الأعمال أن يندب فلان من اجل فلان، وأن يقصى فلان من اجل فلان، وأن يجتهد في تمثيل البلاد والأقاليم في كل عمل من الأعمال كأنها لجان عصبة الأمم!
لا ينبغي أن نرضى في الواقع المخجل في مجلة كمجلة الأزهر اجمع الناس على فساد إدارتها، وضعف مستواها، وانحرافها عن الطريق القويم الذي تقتضيه طبيعة رسالتها، وأنها أصبحت طريقاً من طرق التكسب والتعيش وفتح البيوت، وهي مع ذلك محمية من أن تقع على عيوبها عين فضيلة الأستاذ الأكبر، ومن أن تصل الشكوى منها إلى مسامعه بوسائل يعتقد الناس أنها لا ترضيه!
لا ينبغي أن يكون في الأزهر أمرؤ يضع الأستاذ الأكبر فيه ثقته، ثم يعبث معتمداً على هذه الثقه بأمانة العلم أو العمل أو الإدارة أو النظام؛ فإنه لا يسيء بذلك إلى نفسه فقط ولكنه يسيء أيضاً إلى من ائتمنه ووضع فيه ثقته!
سيدي الأستاذ الأكبر:
معذرة فقد استرسل القلم، يملي عليه قلب لك مخلص وعلى عهدك غيور. فغض الطرف عما عسى أن يكون من الإسراف، لما تنطوي عليه النفس من الإخلاص، ولا تسمع فيّ وشاية الواشين ولا كيد الكائدين!
وفقك الله إلى ما يحبه لك اخلص محبيك
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(415/22)
ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب
للأب أنستاس ماري الكرملي
- 5 -
13 - الدقس وهو الدِحْيةَ
الدقس وهو أيضاً: الدقوس والقدوس والعطوس والدعوس والدوقس. وكلها تعريب , قال الصاغاني: الدقس: الملك؛ وقال الأزهري: الدقوس، كصبور: الذي يستقدم في الحروب والغمرات كالقدوس (التاج)
وعندنا أن العرب كتبوها في أول الأمر: دقس كقفل ودُوقس بضم فواو وقاف ساكنتين فسين لتحقيق اللفظ الرومي أو الروماني الأصل. ثم وقع فيها القلب والإبدال، كما وقعا في كثير من الألفاظ المعربة، بل في العربية نفسها، فصارت: دقوس وقدوس. ولما كان بعضهم يقلب القاف عيناً، صيّروا قاف دقوس عيناً، فقالوا: دعوس كما قالوا القرناس والعرناس والقسوس والعسوس والنقل والنمل، وفرق بين القوم وفرَّع، أي حجز إلى نظائرها
وإما عطوس، فهو مقلوب دعوس، بجعل الدال طاءً من باب تفخيم الحروف كما قالوا: مد الحرف ومطه، ترياق ودرياق وطرياق (عن الجمهرة لابن دريد). اختدفة واختطفه (التاج) والدقس باللاتينية دليل القوم ورئيس الجيش وقائده ومقدم القوم والأمير والملك على حد ما قاله العرب. وكل ذلك من باب التوسع
وجاء في التاج في مادة (د ع س): (في النواد: رجل دعوس، عطوس، قدوس، دقوس: أي مقدام في الغمرات والحروب؛ وحرفه الصاغاني فقال: (في العمل) بدل (في الغمرات) آه
قلنا: لا تخريف عند الصاغاني، لأن الدقوس على ما نقلناه لك عن كلام الرومان هو دليل القوم في أي شيء كان في الغمرات والحروب، كما في الإهمال والمبرات. فاحفظه
والظاهر أن كتبة عهد الخلفاء لم يعرفوا أن سلفهم عربوا الكلمة بالأوجه التي ذكرناها، كما جهلها حملة الأقلام في عصرنا هذا. إما سَفَرة عهدنا فانهم سموه (دوق) أي بقاف في الآخر. وأما العرب الخلص فقد سموه (الثنيان)، كما مر الكلام عليه في (البدء)
وأما أرباب اليراع في عصر الخلفاء، فعرفوه بالدوك بكاف في الآخر. قال أبو شامة في(415/24)
كتاب الروضتين، في صفحة 183 من طبعة باريس: (وكان فيهم مائة كند، وثمانمائة من الخيالة المعروفين وملك عكاء، والدوك، (وهو يريد به يومئذ دوك النمسة)، واللوكات، نائب الباب، ومن الرّجالة ما لا يحصى) آه. أما دوك البندقية، المسمى عند الإفرنج دوج فسماه العرب (دوك) أو (دوج)؛ كما فرق الإفرنج بين الواحد والاخر، مخصصين (الدوج)، بمن يكون للبندقية، إلا أن القلقشندي كتب الدوج بالكاف وصرح بأنها بالجيم كجيم الفرنسية المعروفة بالكاف المشوبة بالجيم، أو الكاف المعقودة، أو الجيم المعقودة. وهذه عبارته (صبح الأعشى 5: 485): (كل ملك منهم (من ملوك البندقية) يسمونه دوك، بالكاف المشوبة بالجيم، فيقال (دوك البندقية)، وهذا اللقب جارٍ على ملوكهم إلى آخر الوقت) آه.
فانظر - حرسك الله - إلى كم صورة من الصور انتقلت كلمة اللاتينية، فإنها بَدَتْ لك بأثواب مختلفة؛ منها: دُقس، ودَوْقس. ودُقوس. وقَدُوس. ودَعُوس. وعَطُوس. ودوق. ودوك. ودوج. ولعل ثم غيرها ونحن نجهلها إذ رأينا بعض المعربين عن الإنكليزية في عهدنا هذا يقولون (ديوك)، و (ديوق) لأن الإنكليز ينطقون بها كذلك. فهذه إذاً إحدى عشرة لغة، فتدبر!
على أن أبناء مُضر، لو كانوا واقفين على كلام من تقدمهم من اللغويين البصراء، لما احتاجوا إلى كل ذلك، لأن عربيتها الصحيحة والقديمة هي - ما عدى (الثنيان) - (الدِّحيَة) بكسر الأول وأصلها (دحي)، فعل بمعنى فاعل وفي الآخر تاء المبالغة وهو من دحي الإبل وغيرها أي ساقها. وهب تشبه في نجارها الكلمة المشتقة من بمعنى ساق، فالحرف والحرف وإن كان في مواطن أخر= (ق) أو (ك)؛ إنما هنا=ح. كما قالوا في حْيفا وفي حران أو وفي حرْتك (أي صغير) وفي حليم إلى نظائرها. ولا يعلم هل (دحي) أو (دحا) سبقت اللاتينية، أم الرومية سبقت الضادية. وفعل هنا بمعنى فاعل: كندّ وتبْع؛ وخلف بمعنى نادّ وتابع وخالف.
إما أن الداحية هو بمعنى الدوق اللاتينية فواضح من كلام الشارح. قال في تركيب (د. ح. ي): الدحية بالكسر: رئيس الجند ومقدمهم، أو الرئيس مطلقاً في لغة اليمن (كذا) كما في الروض للسهيلي. وقال أبو عمرو: اصل هذه الكلمة السيد بالفارسية (كذا)، وكأنه من دحا يدحوه: إذا بسطه ومهده لأن الرئيس له البسط والتمهيد. وقلب الواو فيه ياءً نضير قلبها في(415/25)
فتية وصبية. قلت (أي الشارح): فإذاً صواب ذكره في دحا دحواً. وفي الحديث يدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألف دحية، مع كل دحية سبعون ألف ملك) آه كلام الشارح
قلنا: وكل ذلك موافق لما ذكره اللغويون اللاتين للكلمة فليست الدِحْيَة إذن من لغة اليمن، ولا من الفارسية فهي عربية محضة، وهي تشبه مقلوبها (حدا يَحدو) يقال: حدا الإبل ساقها، وحدت الريح السحاب: ساقته. ولاشك في أن (حدا) مقلوب (دحا) أو (دحي). لأن (دحا) موجودة في العبرية والإرَمية، بخلاف (حَدا). ووجود (دحا) في اللغات الثلاث الساميات القديمات: العبرية، والعربية، والإرمية، أدل دليل على أن اللاتين هم الذين اخذوا لفضتهم من الساميين، منذ اقدم الأزمنة، لو جاز لنا هذا القول
14 - المركيس
15 - الَمْرزُبَان
لم تعرب المركيس في قديم الزمن، إنما عربت في عهد العباسيين، لأنها نشأت في عهدهم؛ وكثيراً ما وردت في كتب المؤرخين، كقول ابن الأثير في سنة 83 هـ: (واتفق أن إنساناً من الفرنج الذين داخل البحرية يقال له (المركيس) آه.
وفي أغلب النسخ ورد: المركيش بالشين المعجمة. وقد كثر ورود هذا اللقب في جميع كتب التاريخ في عهد الصليبيين؛ حتى أننا لا نرى حاجة إلى الاستشهاد بها. على أن بعض المعربين النقلة في عصرنا هذا يذكرونها بصورة مركيز، وماركيز، وماركيس (راجع المعاجم الفرنسية العربية). وفي معجم نجاري بك الفرنسي العربي: (ماركي) وهو لفظها الفرنسي: وسمى مؤنثها (ماركيزة)؛ وكان عليه أن يقول: (ماركيز) جرياً على لفظها الفرنسي أيضاً. أو كان يحسن به أن يقول في المذكر: (ماركيز) ليصح له أن يقول في المؤنث (ما ركيزة). والذين نقلوا الكلمة عن الإنكليزية قالوا: ماركويس ومركيز (راجع معجم بادجر الإنكليزي العربي). فهذه سبع لغات لحف واحد أعجمي. وأحسنها مركيس بسين مهملة في الآخر، لقدمها وقربها من اصلها وخفة لفظها
والمركيس مشتقة من ومعناها التخم، والحط، والثغر، والفرجة. فكان لمركيس رجلاً عسكرياً قائماً على حفظ الثغر، ثم نقل إلى لقب شرف. وهذا اللقب الإفرنجي، يقابل اللقب(415/26)
الفارسي (مَرْزُبان)، بفتح الميم، وإسكان الراء وضم الزاي وفتح الباء الموحدة التحتية، يليها ألف فنون.
والكلمة مركبة من (مرْزَ) وهو حد المملكة وثغرها. ومن (بان) أي حافظ. ومحصلها (حافظ الثغر) كالمركيس سواء بسواء
ومن الغريب أن القاموس والتاج يذكرانها في (رزب)، وكان الأفضل أن تذكر فيه (مرز) أو في (م رزب أن) لأنها تعتبر مركبة من صدر وعجز، أي من (مرز) و (بان) أو تعتبر كلمة واحدة وجميع أحرفها أصولاً، لأنها أعجمية، وقد صرحوا مراراً لا تحصى أن أحرف الأعجمي كلها أصول. قال القاموس والتاج في (رزب):
(المرزبة كمرحلة رياسة الفرس). تقول: فلان على مرزبة كذا. وله مرزبة كذا كما تقول: له دهقنة كذا. (وهو مرزبانهم بضم الزاي): رئيسهم، تكلموا به قديماً. كذا في شفاء الغليل. وفي الحديث: أتيت الحيرة فرايتهم يسجدون لمرزبانِ لهم. هو بضم الزاي وهو الفرس الشجاع المقدم على القوم دون الملك، وهو معرَّب (ج مرازبة) وفي لسان العرب: وأما المرازب من الفرس، فمعرب. وقال ابن بري: حُكى عن الأصمعي أنه يقال: الرئيس من العجم: مَرْزُبان ومَرْزُبان بالراء والزاي وانشد في المعجم لبعض الشعراء:
الدارُ دَارَانِ: إيوان وغمدان ... والملكُ ملكان: ساسان وقحطان
والأرض فارس والإقليم بابل والْ ... إسلام مكة والدنيا خراسان
إلى أن قال:
قد رتب الناس جمُّ في مراتبهم ... فمرزبانٌ وبطريق وظرخانُ
وقال المسعودي في التنبيه والإشراف (ص 103 من طبعة الإفرنج): (فإما المرزبان، فهو صاحب الثغر، لان (المرْز) هو الثغر بلغتهم، و (بان): القيم. وكانت المرازبة أربعة: للمشرق والمغرب والشمال والجنوب كل واحد على ربع المملكة)
وأما اللغويون المحدثون، فذكروا المرزبان في (مرز) أيضاً فهم كالشاء، وقد قيل في المثل يا شاة أين تذهبين؟ قالت: أُجَزْ مع المجزوزين؛ أو كالقرار وقد قيل فيها: نزْو الفرار استجهل الفُرار
(له صلة)(415/27)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع الأول للغة العربية
ذكريات السنين الخمس(415/28)
عبد القادر حمزة باشا
للأستاذ محمود الشرقاوي
في قرب الساعة الحادية عشر من صباح يوم الاثنين 4 يونيو لسنة 1934 قدم إلى حيث كنا نشتغل بتحرير صحيفة أدبية أحد السعاة في جريدة (البلاغ) وطلب إلي أن أتوجه لملاقاة الأستاذ عبد القادر حمزة؛ وفي مساء ذلك اليوم لقيت لأول مرة ذلك الرجل الذي أحببته وأكبرته. وبدأت
عملي محرراً في (البلاغ) خمس سنين
كنت قبل هذا التاريخ لا يفوتني شيء مما يكتبة عبد القادر حمزة. وكنت أجد في قرأته مثل ما يجد الشارب الذوَّاق من كأس خمر معتق؛ فلما اتصلت بيني وبينه الأسباب وخالطته بالعمل والعشرة زاد حبي له وزدت إعجاباً بشخصه
إما عبد القادر حمزة الكاتب والسياسي والمؤرخ، وعبد القادر حمزة المجاهد الصادق الجهاد في سبيل مصر والحركة الوطنية والدستور، وعبد القادر حمزة الخصم السياسي، فذلك كله ليس من شأني أن اكتب عنه اليوم لقراء (الرسالة)؛ فقد كتب فيه وسيكتب كثيرون غيري. وسيكب التاريخ عن هذا كله كلمة الحق
إما أنا فساكتب شيئاُ من ذكريات تلك السنين الخمس التي قضيتها في صحبة عبد القادر حمزة باشا صاحب (البلاغ)
كان أستاذنا عبد القادر رجلاً أمْيز ما ينفرد به من الخلق: الطيبة والتواضع وبساطة النفس والعناد ثم الانكفاف عن الناس وعفة القلم واللسان
في صبّاح يوم من صيف إحدى السنوات القريبة أراد المرحوم عبد القادر باشا أن يزور رجلاً من كبار رجال الدولة في ذلك العهد. وكان عملي في (البلاغ) يجعلني من ألصق الناس بذلك الرجل، فناداني الأستاذ عبد القادر وطلب أن أرافقه في زيارة ذلك العظيم ليشكره على أمر ما
فلما أخذنا أماكن جلوسنا في سيارة الأستاذ بدأت أحدثه عن ذلك العظيم، فقال إنه لا يعرفه إلا أقل المعرفة، وأنه لم يجتمع به سوى مرات قليلة في مناسبات مكتفياً بالتحية من بعيد، فتعجبت مما قال! كيف لا يعرف الأستاذ عبد القادر حمزة وهو من ابرز رجال المجتمع(415/29)
المصري ذلك الرجل الكبير من رجال الدولة. . .!؟ وكان له في ذلك الحين شأن عظيم حتى في الأمور السياسية التي يشتغل بها صاحب البلاغ؛ ولكن هكذا كان عبد القادر حمزة قليل الأصدقاء قليل الخلطة بالناس منكفاً عنهم بما يستطيع
وفي ذلك الوقت نفسه كانت الخصومة السياسية عل اشد عنفوانها بين البلاغ وبين حكومة يؤيدها صاحب المقام الرفيع النحاس باشا. وكانت صحف الوفد في ذلك الحين تذكر اسم عبد القادر حمزة مقترناً باسم ذلك العظيم الذي كنا نقصد زيارته، وأنهما يجتمعان في قصر عظيم آخر كان اسمه في ذلك الوقت ابرز الأسماء في ميدان السياسة المصرية المعارضة للنحاس باشا، وكان من كبار رجال القصر. فقلت للأستاذ عبد القادر: ولكن صحف الوفد تقول انك تجتمع مع هلك العظيم في قصر فلان لتدبير المؤامرات لحكومة النحاس باشا. فأجاب الأستاذ بهدوئه العظيم: دعهم يقولون
ثم عرفت بعد ذلك أنه كان صادقاً حين قال إنه لا يعرف ذلك العظيم ولم يجلس إليه قبل تلك الزيارة
وكان الأستاذ عبد القادر حمزة رجل كفاح وجلد، عظيم الثقة بنفسه إلى حد عجيب
بعد هذا التاريخ بسنتين كان ذلك الصراع الهائل الجبار الذي سيبقى خالداً في تاريخ الصحافة المصرية، وخالداً في تاريخ السياسة المصرية كلها، ذلك الصراع الذي قام به عبد القادر حمزة وحده مواجهاً به ومتحدياً أقوى حكومة استندت إلى قوة الرأي العام المصري والى قوة البرلمان وإلى عزة النجاح في مفاوضة الإنكليز وتوقيع معاهدة معهم، والى إلغاء الامتيازات الأجنبية وأنها سيطرتها. وكان عبد القادر حمزة يبدو لنا في ذلك الحين - وأنا أحد الذين عملوا معه في ذلك الصراع - كان يبدو لنا كمن يريد أن يمسك بأصابعه الخمس جبلاً شامخاً راسخاً صلداً فيفتته ويجعل منه تراباً منهلاً
ولكن عبد القادر حمزة ظل يكافح في كل يوم وحدهُ حتى نخر الجبل الشامخ الراسخ، ولم تهنْ عزيمتهُ يوماً، ولم يفقد ثقتهُ بنفسه على الرغم ما لقي في ذلك من موئسات كانت تهد عزمُ الجليد في أيام ذلك الصراع العجيب، كان يهيئ حملاتهُ الصحفية ويرقبها بفكر منظمْ لا يستطيع أن يهيئهُ سواه
وكانت إحدى حملاته تلك تقوم على وثائق تثبت سوء اختيار الوزارة القائمة إذ ذاك لتوزيع(415/30)
الرتب والألقاب الملكية؛ وكلفني الحصول الحصول على وثيقة تثبت أن واحداً من الذين نالوا رتب التشريف إذ ذاك من أصحاب السلوك السيئ. واستطعت أن أنقل إليه الصيغة الرسمية لتلك الوثيقة من حفظي وقدمتها إليه وهو لا يكاد يصدقْ. ومرت الأيام والأسابيع ولمْ يبدأ حملته تلكْ ولم ينشر وثيقتي أو يشر إليها، حتى ظننتُ أنهُ لمْ يعتمد على ثقتي
ولكنهُ بعد وقت طويل بدأ بنشر وثائق تلكَ الحملة بعدَ أن هيأها فكرة المنظم العجيب؛ وكانت وثيقتي واحدة من نظريات كثيرات جعل منها عبد القادر حمزة من أعظم ما قام به صحفي في مصر: براعة وقوة وتوفيقاً
وهو في كل هذا الصراع القاتل لمْ ينس مرة واحدة عفة قلمه ولسانه في الخصومة. لا أذكر أني سمعتُ منه في ألد خصومه أعنف من هذهِ الكمة: (هؤلاءِ ناس مضللون!)
كان محرر (السينما والمسرح) في (البلاغ) في إحدى تلك السنين شاباً قليل الخبرة، ولو أنهُ طاهر النفس. فكتب عن إحدى الممثلات المصريات كلمة ذات وجهين أحدهما قبيح؛ وتحدثت هي في ذلك بالتلفون إلى عبد القادر باشا، وبعد لحظة دعا ذلكَ المحرر عندهُ، وعنفهُ أشد التعنيف، وأمر بفصله من (البلاغ) وكان كثيراً ما يفعل ذلك معهُ ومع غيره ثمْ يعفو، ولكنهُ في هذهِ المرة لم يقبل فيه شفاعة شافع. ولم ير العاملون مع عبد القادر حمزة أنه غضب من شئ بمثل ما غضب في ذاك.
وكان من صفات عبد القادر حمزة أنهُ عنيف في حبه عنيف في بغضه، وذلك شأن صاحب القلب العظيم
ذلك الصراع الذي أشرت إليه بينه وبين خصومه في السياسة والحكم دام سنتين لقي فيها عبد القادر حمزة من العنت والجبروت ما يوهن عزائمْ جيش من الرجال الصامدين؛ وكان هو من بين تلك الزعازع كالأشم الراسخ، لا تنال منهُ الرياح ولا الأعاصير، ولا يزيده العنت إلا عناداً. كنا نراه في (البلاغ) يزلزلُ أقدامَ خصومه في كلِ يومٍ. ثم هو يسير إلى حجرته صامتاً ويجلس إلى مكتبه صامتاً، ويكتب ويراجع ويصحح صامتاً، ويعود للعمل في المساء معنا صامتاً، كأن هذهِ القيامة القائمة في مصر ليست منه ولا بسببه؛ وكان في أشد الأيام حلوكة وسواداً لا بني يقول: نحن قريبون من النصر. ولست أنسى ضحى ذلك اليوم وقد انتهى فيه صراع عبد القادر حمزة إلى نجاح فريد، وقد صعد ذلك الرجل الوقور(415/31)
على درج (البلاغ) متهلل الوجه غير صامت. بل كان يعلن إلى كل من يلاقيه في صوت قوى: لقد اقبل (. . . .). . .!
ولا يزال في وعي صوت عبد القادر حمزة إذ ذاك أحس فيهِ قوى الغلب والنصر بعد كفاح طويل وبعد صبر طويل. ذلك قلب الرجل الذي قوي في بغضه قوي في حبه، وذلك هو كان في بغضه!
أما عبد القادر حمزة في حبه، فذلك شئ عجيب
في صيف سنة 1938 وكانَ المرحوم عبد القادر باشا مسافراً إلى أوربا، وكنتُ إذ ذاك في الإسكندرية؛ فذهبت لوداعه على الباخرة محمد علي الكبير. وبقيت معهُ على ظهرها حتى أوشكت على الرحيل. ونظرت إلى وجه أستاذنا العظيم في تلك اللحظة القاسية - لحظة الوداع - وكان إلى جانبه أحد أولاده وقد وقف ينظر وكأنه يبكي، إلى أولاده الآخَر ومودعيه على الميناء. فلما أوشكت الباخرة أن تسير، سمعته يميل على ولده يقول: (انزل يا محمود وروَّح مع اخوتك من الشمس)
وبعد قليل نزل ولده ونزلت. وقد أحسست في ذلك الوقت أنهُ ما كان مشفقاً على ولده من حرقة الشمس وحدها؛ بل كان مشفقاً عليهم وعلى نفسه حرقة تلك اللحظة القاسية - لحظة الوداع - فقد كان عبد القادر حمزة حين تحركت محمد علي الكبير منحرفة إلى البحر وقد أخرج الركب أيديهم ومناديلهم يشيرون بها إلى مودعيهم وأحبائهم. كان عبد القادر حمزة أسرعهم جميعاً إلى التواري وأقلهم إشارة وحركة
لقد كان يشفق على نفسه أن يطيل ساعة الوداع، وقد كان قبل ذلك بقليل يسلّم على ولده ويدهُ ترتعش ولا يكاد يبين من لفظه صوت
أما ذلك اليوم الذي ماتتْ فيه ابنته سعاد؛ وأما تلك الساعة التي ذهبنا فيها معه فيها نواريها التراب، حين نزل معها إلى فجوة القبر وانحاز إلى ركن منه مظلم رطيب، وأما حينَ هو يبكي كطفل ورأسهُ بين يديه لا يريد أن يترك ابنتهُ، على رغم أنه يغالب حزنه العظيم ونحن معهُ فلا يستطيع. أما ذلك اليوم وهذهِ الساعة من حزن عبد القادر حمزة وعصيانهُ أن يصعد من قبر فتاته وقد وسدت في الترابْ.
أما هذا وذاك فشئ لا أنساه ولا أستطيع أن أكتب فيه(415/32)
وفي شتاء سنة 1938 - 1939 - انسللت من تحرير البلاغ مخاصماً وفارقت أستاذي عبد القادر لأسباب ليست من العمل ولا من المال، ولكنها أجلًّ عندي من العمل والمال.
وقد ظللت وسأظل أذكر عبد القادر حمزة فقد أحببته على الغيب والشهادة
رحمه الله وأجمل أعزاءنا فيه وصبر جميل
محمود الشرقاوي(415/33)
الفقيد العزيز
للأستاذ علي شوقي
خلعتُ رداَء الشباب الْجَديدْ ... وأُلبِستُ تاجَ المشيب النضيدْ
وأصبحتُ نضواً مهيض الجناح ... وقد كنت آوى لركن شديد
وما شاب رأسي ولكنه ... ضَحَى ظلُّ الشباب المديد
فقل لعذولي مضت وانقضت ... ليالي التصابي وتلك العهود
وإني فقدت الشباب العزيز ... ألا رحم الله ذاك الفقيد
وعدتُ من الحب خلو الفؤاد ... ما كنت أحسب إني أعود
وحطمتّ كأسي وأُنسِيت أُنسي ... فلا اللهو لهو ولا الغيد غيد
وقطّعتُ باليأس حبل الرجاء ... وألقيت عنيَ تلك القيود
فما يستبينيَ سحرُ العيون ... ولا يطّبينيَ وردُ الخدود
وقلت لجفني هَناك المنامُ ... فيا طالما كنت تشكو الهجود
وقلت لقلبي اغتبط بالسلوِّ ... فهذا الذي كنت منه تحيد
وجنًّبت نفسي خداع المنى ... وتغرير شيطانهن الْمَريد
وكنتُ امرأ مولعاً بالجمال ... إذا ما انقضت صبوة أستعيد
على أنني كنت ذاك الوفيَّ ... الشريفَ الأبيَّ الأليفِ الودود
ولم آت بائقةً في الغرام ... تسلُّ علىًّ لسان الحسود
وذلك أني صحبت الليالي ... فأوحين لي سر هذا الوجود
وعلمننَي كل ما ينبغي ... لمن يبتغي طول عيش رغيد
كما أنني قد خبرت الأنام ... وما رست إيعادهم والوعود
فما راقني العهد من صاحب ... ولا راعني من عدّو وعيد
وبتُّ من الناس في راحة ... سواء قريبهم والبعيد
أعيشُ كما عاش ليثُ الشَّري ... وحيداً وهل ذلّ ليثٌ وحيد
يروح ويغدو على قُوته ... ويكفيه من قوته ما يصيد
أسيرَ الحياة طريدَ الممات ... ألا فأعجبوا للأسير الطريد(415/34)
وما لامرئ لذة في حياة ... إذا آذنت ناره بالخمود
فلا يستخفن عبَء الحياة ... فعبء الحياة ثقيل يؤود
وإن قد زيد في عمره ... فآية نقصانه أن يزيد
ولولا تكاليف هذى الحياة ... لما سئم العيشَ فيها لبيد
علي شوقي(415/35)
نيابة بعض حروف الجر عن بعض
للأستاذ الكبير (ا. ع)
كان لكلمة الشاعر الكبير الأستاذ محمد محمد عبد الغني حسن (بالعدد 409 من الرسالة) أثر بالغ في نفسي، لأدبها الجم، وإنصافها للحق
ولقد حمدت هذه الكلمة التعقيبية على أن أتاحت لي موضوعاً تمنيت أن أكتب فيه، موضوعاً كثرت فيه وقفاتي في مجالس التعليم، لما كنت أرى من إهماله وسوء فهمه وتشويه الغرض منه
هذا الموضوع هو (نيابة بعض حروف الجر عن بعض).
قال الأستاذ:
(أما قول الأستاذ الفاضل: أن الفعل (تفيأ) يتعدّى بالباء، أو بنفسه كما صنع أبو تمام، ولا يتعدّى باللام، كما جاء في قصيدة (ميلاد نبيَّ)، فهو قول نقبله على العين والرأس ولكني أضيف إليه أن تعدية هذا الفعل باللام ليست خطأ؛ فحروف الجر ينوب بعضها عن البعض.)
هكذا أطلق الأستاذ هذا الحكم من كل قيد، فيتوهم من هذا الإطلاق أن كل حرف من حروف الجر يجوز أن ينوب عن أي حرف آخر منها. وهو ما لم يقل به أحد من النحويين القدماء أو المحدثين. ولا يمكن أن يعتقده الأستاذ أو يقول به. وإنما هي عبارة شاعت على الألسنة، وتناقلها الناس منذ بعيد من غير تأمل أو بحث
فلهذا أردت أن أوضح المقام بعض التوضيح، وأن أكشف عن أسسه العامة وقواعده. ولستُ أدعي أني أُضيف إليه جديداً؛ فقد بسطه العلماء بسطاً، وأفاضوا فيه إفاضة ليس وراءها من مزيد، وإن كانوا قد أثاروا في خلافهم ومناقشاتهم عجاجاً استبهم وراءه بعض الحقائق أو أشكل
لما تدارس العلماء كتاب الله والشعر القديم، منذ فجر النهضة العلمية الإسلامية، فطنوا لأن بعض الأفعال والمشتقات التي تتعدى ببعض حروف الجر، تؤدي معنى غير معناها الوضعي فعكفوا على تعليل ذلك، انقسموا جماعات وأشهرهم البصريون والكوفيون فالبصريون يقولونَ: (1) إما يتضمن العامل معنى عامل آخر يتعدى بذلك الحرف، كما في(415/36)
قوله تعالى: (وأحسن بي إذ أخرجني من السجن). فالفعل (أحسن) لا يتعدى بالباء، فضَّمن معنى (لطف)؛ (2) وإما بأن الحرف الذي تعّدى به العامل قد استعير لمعنى الحرف الذي كان ينبغي أن يتعدى به - استعارة تبعية - وذلك كقول طرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تُلاقني ... إلى ذروة البيت الكريم المصَّمد
فقد استعيرت (إلى) لمعنى (في)، إذ أن (تلاقني) لا يتعدى بالي؛ (3) وإما بالشذوذ، إن لم يأت التضمين في العامل بشروطه أو الاستعارة في الحرف بشروطها. فليرجع القارئ إلى هذه الشروط في كتب البلاغة إن شاء
فأنت قد رأيت أنه لا نيابة لحرف أنه عن حرف عند البصريين، فليس للحرف معنى وضعي عندهم إلا معنى واحد
وللتضمين قياسي على المختار من أقوال العلماء وعلى ما قرره (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) - وكذا الاستعارة في الحرف. فلنا إذا أن نترخص فيهما، وأن نراعي منهما في كلامنا من نظم أو نثر ما نشاء
وأما الكوفيون فيقولون: إن بعض حروف الجر ينوب عن بعض بطريق الوضع: أي إن الحرف موضوع لأكثر من معنى واحد، فهو مشترك وضعاً بين جميع ما ورد له من المعاني؛ فبعضها يكثر استعماله، وبعضها يقل. . فيوهم وضع ذي المعنى القليل الاستعمال موضع الكثير أن هناك معنيين اشتمل عليهما العامل: فلا تجوز عندهم في الحرف. وإنما هي نيابة محضة
وهاك مثالاً موضحاً: فقد عدّ ابن هشام للباء أربعة عشر معنى، منها الاستعلاء، قال: (نحو: (منْ إن تأمَنْه بِقنطار)، بدليل: (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل.))
فالعرب - على رأي الكوفيين - قد وضعوا (على) والباء لمعنى الاستعلاء. غير أنه في (على) أكثر دوراناً منه في الباء.
فاعتبرت (على) أصلاً في هذا المعنى، واعتبرت الباء نائبة عنها، وإن كانت أصيلة فيه. فتأمنه بقنطار، أي عليه.
ولكن من يتتبع الكتب التي توسعت في الكلام على (نيابة بعض حروف الجر عن بعض)، - ولا سيما المغني - يجد فيها عراكاً عنيفاً حول الشواهد التي جئ بها لذلك؛ فهو بين آخذ(415/37)
ورد، وجذب ودفع. فهذا يسلم بنيابة الحرف في مثال، وهذا يتأوله فيخرجه عنها بضروب من الحجاج والفلسفة النحوية. فسقطت بذلك في هذا المعترك طائفة ليست بالقليلة من الشواهد، كانت - لو أنها ظلت سالمة - تكون قوة لقياسية هذا الباب.
ولو أني أنشأت أضرب الأمثلة لذلك من هذه الكتب، لخرجت عما أنا بسبيله. ومن طريف مما يقال هنا أن سيبويه لم يعترف للباء إلا بمعنى واحد هو الإلصاق، وخرَّج عليه كل ما عدَّدوه من المعاني. وقال ابن عصفور: لو صحْ مجيء (إلى) بمعنى (في) لجاز: زيد إلى الكوفة
فأنت ترى كيف ضاقت بذلك دائرة النيابة في حروف الجر حتى كانت من النوادر. وقد عبر ابن هشام عن هذا المعنى في (مغني اللبيب)، في باب (التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين، والصواب خلافها). قال: (منها) قولهم: ينوب بعض حروف الجر عن بعض؛ وهذا أيضاً مما يتداولونه ويستدلون به. وتصحيحه بإدخال (قد) على قولهم: (ينوب). وحينئذ فيتعذر استدلالهم به؛ إذ كل موضع ادعوا فيه ذلك، يقال لهم فيه: لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة. ولو صح قولهم لجاز أن يقال: مررت في زيد، ودخلت من عمرو، وكتبت إلى القلم
فنيابة حرف من حروف الجر عن آخر عند الكوفيين ليست معبدة السبل، كما قد يُظَنَّ بادئ الرأي فإنه؛ يجب لقياسيتها ألا تَنْبو عن الذوق العربي وأساليبه في التعبير، وأن يكون الحرف النائب قد جاء بمعنى الحرف المنوب عنه وضعاً كما قد فهمت مما مر بك.
والآن فلنعد إلى بيت الأستاذ الذي كان مبعث هذا النقاش وقد رأيت أنه أجاب عن اعتراض على تعدية (يتفيئوا) باللام بأنه ليس خطأ. . . الخ. ويظهر انه اعتبر اللام نائبة عن الباء ولم أر فيما لديَّ من المراجع أن اللام تنوب عن الباء ولكنهم قالوا بنيابتها عن (في) كما في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)، وكقوله: (لا يجلبها لوقتها إلا هو) وكما في قولهم: (مضى لسبيله)
فعلى اعتبار أن اللام في البيت نائب عن (في) لم يخطئ الأستاذ في تعبيره مهتدياً بسليقته السليمة، وإن لم يَقصد هذه النيابة عند إنشاء البيت
هذا ما أمكن إيجازه من هذا الموضوع الذي ارجوا أن أكون قد وفقت للكشف عن وجه(415/38)
الصواب فيه
(ا. ع)(415/39)
رسَالَة الشِّعر
مُوسيقَى تائهة. . .!
(نانا. . .)
(مهداة إلى الروح المتمرد الحزين الذي حملت أليَّ الريح
نجواه منذ ليال،. . . ولا ادري متى يعود!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
الَّليلُ يَا (نَانَا) ... وَالرِّيحُ يا (نَانَا)
سِرَّانِ مِن قَلبِي. . .
أَقْبَلْتُ حَيْرَانَا ... وَعُدْتُ حَيْرَانَا
مِنْ شَاطئِ الْغَيْبِ
الَّلْيلُ نَادَانِي ... مِنْ عَالَمٍ ثَانِ
وَقَال: يَا فَاني ... هَيَّجْتَ أَحْزَاني. . .
إِن كُنْتَ ظَمْآنَا
أَقبِلْ لِدُنْيَانَا
وَاتْبَعْ خُطا (نَانَا)
وَاسْمَعْ صَدَى (نَانَا)
فَاللهُ سَوِّانَا ... لِلشِّعرِ وَاُلْحبِّ. . .
واللهُ غَنَّانَا ... أُنْشُودَةَ اُلْحبِّ. . .
. . . الَّليْلُ يا (نانَا) ... وَالرَّيحُ يا (نَانَا)
سِرَّانِ مِنْ قَلْبي. . .
وَالرَّيحُ فِي السَّفْحِ ... هَبَّتْ عَلَى جُرْحِي. . .
وَرَقْرَقَتْ نَوحِي ... شِعْراً عَلَى الدَّوْحِ. . .
كالرُّوحِ وَلْهانَا(415/40)
كاَلْخمْرِ سَكْرَانَا
كالطَّيْرِ غَنَّانَا
وَقَالَ: يا (نَانَا)
إِنْي مِنَ الْغَيْبِ ... حُمِّلْتُ مِنْ رَبِّي
لِلُمدْنِفِ الصَّبِّ=أُنْشُودَةَ اُلحبِّ
الَّليْلُ يَا (نَانَا) ... وَالرِّيحُ يا (نَانَا)
سِرَّانِ من قَلبِي
أَقْبَلْتُ حَيْرَاَنا كاْلجُرحِ أسْيَانَا
كالَّليلِ دَجْوَاَنا ... كالرِّيحِ إِرْنانَا
وَعُدْتُ يَا (نانا)
هَيْمانَ. . . حَيْرَاَنا
لِشَاطِئِ الحُبِّ!!
محمود حسن إسماعيل(415/41)
رسالة العلم
حول أبعاد الحيز
كون رباعي الأبعاد
(إلى أستاذي جوداق أهدي هذهِ الفصول)
للأستاذ خليل سالم
- 3 -
أبَّنا في المقال السابق بعض الخصائص التي يلتقي عندها الزمان والمكان، والتي سمحت لنا أن نعتبر الأول بعداً رابعاً، وسنحاول هنا أن نذكر أهم خصائص كون ذي أربعة أبعاد، سواء كان هذا البعد الرابع زماناً أو مكاناً. ورب من يستغرب كيف يمكن أن يكون المكان ذا أربعة أو خمسة أبعاد إلى ما لا نهاية من الأبعاد. فنحن لا ننتهي من بدعة الزمان كبعد رابع، تلك البدعة التي لا يقبلها الحس والتصور، حتى تأتينا بدعة أكبر هجنة وغرابة، هي أن يكون المكان كثير الأبعاد. على أنني لا أقصد أن أتحول عن خطتي لأشرح هذهِ الفكرة الجديدة، فربما نحاول في فرصة قريبة تبسيطها وعرضها على القراء إلا أنني أُعطي المثال البسيط التالي لأزيل قليلاً من حيرة القارئ. فهو يتعلم مهما بلغ ضآلة ثقافته الرياضية أن النقطة الهندسية إذا تحركت رسمت خطاً هندسياً طوله المسافة التي تحركتها تلك النقطة، وهذا الخط المستقيم ذو بعدٍ واحد، لأن للنقطة مجال حرية الحركة في اتجاهٍ واحد فقط، وإذا تحرك هذا الخط الهندسي في اتجاه علوي على طوله بعداً يساوي طوله نتج المربع، وهو مستواً ذو بعدين، لأن النقطة تجد مجال الحركة واسعاً أمامها في اتجاهين، أو لأن مكان النقطة يتعين ببعدين اثنين عن أضلاع مربع، وإذا تحرك المربع في اتجاه علوي لمستوى مسافة تعادل طول ضلعه نتج المكعب، وهو حجم ذو ثلاثة أبعاد. يقف تصورنا عند هذا الحد. أما التحليل الرياضي، فلا يقف هنا، فبنفس الطريقة المنطقية السالفة، نتصور المكعب متحركاً في اتجاه عمودي على متعامداته الثلاثة مسافة تساوي ضلعه فينتج فوق المكعب ذو أربعة أبعاد، وإذا تحرك هذا نتج فوق المكعب ذو خمسة(415/42)
أبعاد، والعملية تتسع لعدد لا متناه من التكرار
ولعل القارئ يذكر إننا نحول القوة الأولى (س) إلى خط مستقيم، والقوة الثانية (س 2) إلى مربع، والقوة الثالثة (س 3) إلى مكعب، فيجب أن يستمر القياس إلى (س 4) فنحولها إلى جسمٍ في أربعة أبعاد وإلى (س ن) فنحولها إلى جسم عدد أبعاده (ن). ولا أرى من الضروري أن أعيد ما ذكرت في البحث السابق من أن تصور مثل هذهِ الأجسام مستحيل.
على أن الدكتور كايزر وهو علم من أعلام فلسفة الرياضيات يقول: إذا لم يكن لهذه الأجسام وجود في البصيرة فلها وجود في التفكير، وإذا لم يكن في الحس فهو قي العقل، وإذا لم يكن في المادة فهو في الفكر، وهو لا يكتفي بهذا فيقول في كتابه لقد أقنعني التأمل بأن حيزاً أبعاده أربعة أو أكثر له من خصائص الوجود مثل ما للفضاء الهندسي العادي
وقبل أن نعرض لتلك الخصائص نود ذكر بعض الظواهر الطبيعية التي أستخدم في تفسيرها البعد الرابع وكان أسهل مما تبناه العلماء من تعاليل وفرضوه من فروض. ولا أراني في حاجة للقول بأن نظرية النسبية التي فسرت أكثر الظواهر الطبيعية المعقدة العويصة لا تدخل ضمن نطاق هذا الشرح
هناك نوعان من حامض الطرطريك (ك 14 يد 10 أ9) يشبه أحدهما الآخر كأنه صورته في المرآة ويتحول أحد هذين النوعين إلى نوع الآخر دون حدوث تفاعل كيماوي يفسر هذا التحول بأنه تحرك نوع واحد في البعد الرابع في اتجاهين متضادين
ونجد نفس الظاهرة في سكر العنب (دكسترو ك6 يد 12 أ6) وسكر الفواكه (ليفيلوز ك6 يد 12 أ6) وهما نوعان من السكر موجودان في العسل متشابهان في التركيب الكيماوي ولكن أحدهما معكوس الآخر إذا ما فحص تحت الضوء المستقطب وإذا تصورنا تحرك ذراتهما في البعد الرابع أمكننا أن نعلل سبب اختلافهما
ومن العجب حقاً أن نجد نفس الظاهرة في نوع من الحلازين فبضعها ملتو إلى اليمين والبعض الآخر ملتو إلى اليسار كأن أحد النوعين صورة في المرآة للنوع الآخر. ليس هذا فحسب وإنما تبدي عصارة كل منها ما يبديه نوعاً من السكر من أن أحد العصارتين تظهر تحت الضوء المستقطب عكس الصورة الأخرى وقد أشار هنتون وهو من المشتغلين بمثل(415/43)
هذه الأبحاث أن التيار الكهربائي يمكن شرحه كتموجات في البعد الرابع
والآن ما هي أهم خصائص كون ذي أربعة أبعاد؟
هناك ثلاث خصائص رئيسية:
1 - إذا تحرك جسم ذو أربعة أبعاد فإن قطعه الذي يبدو لعالم ثلاثي الأبعاد يتغير في الجسم والشكل وهذه ظاهرة (انكماش فتزجيرلد)، وقد عمد العلماء إلى تعليل هذهِ الظاهرة بأنها كهارب المادة إذا تحركت بسرعة كبيرة في الفضاء تتمغنط فيجذب بعض بعضاً، وينتج عن هذا الجذب التقلص والانكماش طبقاً لقانون فتزجيرلد الذي ذكرناه في البحث الماضي
2 - يجب أن يتسنى لجسم أن يدخل مكاناً مغلقاً عن طريق البعد الرابع دون أن يمس أضلاعه المكان الثلاثة كما يتسنى أن تضع نقطة في مربع دون أن تمس أضلاعه. ومن هذا يتبين أنه لو استطاع اللصوص مثلاً أن يتحركوا في البعد الرابع لما غنت الصناديق الحديدية فتيلاً، لأنه يمكن سحب الأموال والجواهر المخزونة دون فتح الصناديق. وكذلك يستطيع شرب زجاجة الكازوزة دون فتحها، وتأكل البيضة دون كسر قشرتها، ويمكن لنقطة في مركز الكرة أن تتركها دون أن تمس سطح الكرة. ولا تزيد العقد في البعد الرابع عن نشطات. وتسقط حلقات سلسلة فولاذية منفصلة عن بعضها من تلقاء نفسها. والأحجام المتشابهة يمكن توجيهها بحيث ينطبق بعضها على بعض تمام الانطباق في البعد الرابع: فالجانب الأيمن يصبح الجانب الأيسر، كأنه صورة في المرآة، نستطيع في البعد الرابع أن نجد خمس نقاط متساوية الأبعاد عن بعضها. الدوران في مستوى حول نقطة، وفي الفضاء حول خط، وفي كون رباعي الأبعاد حول مستوى
كما يمكن أن يحصل هذا في عالمنا لولا قانون حفظ الطاقة والكتلة؛ على أننا نستطيع أن نقول أن هذا يمكن أن يحدث في عالمنا ولكنه لا يحدث
3 - يجب أن نستطيع رؤية داخل الأشياء مهما بلغت سماكتها وكثافتها عن طريق البعد الرابع، كما نستطيع رؤية داخل مربع بالأشراف عليه من أعلى، على أن هذا لا يحدث في عالمنا، ويقدم أدنغتون تعليلاً بسيطاً لعدم الحدوث. لما كان عالمنا رباعي الأبعاد - لا حاجة بي إلى القول أن أدنغتون من أنصار ناموس النسبية - فلكي يصح القياس يجب أن(415/44)
نشرف على الجسم الجامد من كون خماسي الأبعاد حتى نستطيع أن نراه؛ لأن أبعاد الجسم المرئي يجب أن تكون أقل يبعد واحد من أبعاد الكون الذي نراه فيه
لا أُحب أن أترك البحث دون أن أشير إلى ناحية طريفة في الموضوع تتعلق بإيمان بعضهم بالخلود والأبدية كانغماس في البعد الرابع، فنحن نسير مع الزمن حتى إذا ألم بنا عارض وقف سيرنا هذا وتأخرنا في الماضي؛ وتأخرنا هذا هو الموت؛ ولا يعني هذا الموت أننا نسير إلى العدم وإنما نبقى في البعد الرابع أحياء أحراراً، ولذا كان البعد الرابع الطريق الذي تظهر به الأرواح لعالمنا، وكان البعد الرابع التفسير الذي تمسك فيه المشتغلون بالروحانيات وانتقال الأفكار وعلم الغيب والتصوف. وإذا كان هناك رجل يجب أن يلام على انتشار مثل هذه الأفكار فهو زولنر وكان أستاذ علم الفلك الطبيعي في ليبنرج. ففي السنتين 1877، 1878 نزل الوسيط الأمريكي سيلد إنكلترا وتنقل في أنحاء القارة الأوربية يعرض أعماله السحرية العجيبة، يدخل الأجسام بعضها ببعض ويعقد ويحل عقداً في سلسلة ليس لها من نهاية. والخلاصة أنه كان يسحر الجمهور ويدهشه بألاعيبه. وقد قدر لزولنر هذا أن يجلس مع ستيد نحو ثلاثين جلسة خرج منها معتقداً أقوى الاعتقاد أننا نعيش في عالم مغمور في كون رباعي الأبعاد، وأن البعد الرابع مسكن الأرواح التي تظهر بين حين وآخر وتؤثر في حياة سكان الأرض
وقد بلغ من زولنر الوهم حتى صرح أنه في إحدى الجلسات (صافح صديقاً من ذلك العالم الآخر)
على أن السلطات لم تترك ستيد حراً فقد أُلقي عليه القبض في إنكلترا وحكم عليه بالإعدام، إلا أن زولنر أبى إلا أن يرى ستيد بريئاً (وقد قضى ضحية جهل القضاة والمتهمين) ولقد كان زولنر كاتباً بليغاً، فلا عجب أن وجدت آراؤه انتشاراً واسعاً، ولا عجب أن آمن به الكثيرون.
(الجامعة الأمريكية - بيروت)
خليل السالم(415/45)
البريد الأدبي
عبد القادر حمزة باشا في ذمة الله
في الساعة السادسة من يوم الجمعة السادس من شهر يونيه سنة 1941 خلا مكان عميد الصحافة وفقيد الأدب الأستاذ عبد القادر حمزة باشا وهو في الثالثة والستين من عمره الحافل الخصب. (وخلا مكانه) تعبير صادق عن وفاة صاحب البلاغ؛ فأن الأخلاق والمواهب التي كونته قلما تجتمع إلا للأحد بن الذين يتعاقبون في الحياة على فترات بعيدة. ولقد بلغ ما بلغ من رفيع المنزلة وبُعد الصوت بحسن استعداده وطول اجتهاده فلم يتكئ في جهاده المادي أو الأدبي على سند من أُسرة أو ثروة أو وظيفة؛ وهو في ذلك أحد الأفذاذ الذين شقوا طريقهم الوعر بسن القلم؛ وقلمه في يده كان كالمبضع في يد الجراح الماهر: لا يشق إلا بتقدير، ولا يقطع إلا بقدر. ولم يتميز من الأساليب الصحفية غير أسلوبه وأسلوب لطفي السيد باشا من قبل: تميزا بالإيجاز والإشراق والطلاوة والمنطق، وبرئاً مما تجره الصحافة على كاتبها من ضرورة الثرثرة واللغو
عالج المرحوم عبد القادر باشا المحاماة في مقتبل عمره، ثم دفعته الظروف بطبيعة ميله الفطري إلى الصحافة فبرز فيها، تبريزاً لا يتهيأ إلا لأصحاب الملكات القوية؛ وكان مما ساعد على هذا التبريز طريقته الواضحة في الجدل، ومذهبه العفيف في النقد، ونظرته الثاقبة في الأدب، ورجولته العنيدة في الخصومة. وكان للفقيد الكريم مشاركة في أنواع الأدب ولا سيما في التاريخ والترجمة. ولسنا اليوم بصدد الكلام عن مكانته في الأدب وأثره في السياسة؛ إنما هي إشارة تدل على عظم المصاب فيه وصعوبة العزاء عنه. برد الله أثره بالرحمة، وعوض منه أسرته وأمته خير العوض
لقد نفذ الأستاذ المراغي الإصلاح
تعرض (عالم) في (الرسالة) الغراء لما حسب أنه (الحوائل) التي اعترضت سبيل الإصلاح الأزهري على النحو الذي وضحه الأستاذ الإمام المراغي في مذكرته القيمة الجليلة القدر التي أنتجها في عهد ولايته الأولى على الأزهر
وما من شك في أن (الحوائل) التي سجلها صاحب الفضيلة (العالم) في كلمته حقيقة أن تثير الدهش والعجب، لأنه فهم من منهاج الأستاذ الأكبر في الإصلاح أنه قضاء مبرم على كتب(415/46)
الأزهر وتراثه الثقافي جميعاً، على حين يفهم كل أحد أن فكرة (الاجتهاد) التي يدعوا إليها الأكبر ليست هي القضاء على (جميع) ما تضمه كتب الأزهر بين دفتيها، وإنما هي ترمى إلى (تنقية) هذه الكتب وتصفيتها وتجويد عرضها من ناحية الأسلوب ومن نواح أخرى لا ينكرها المتدين المتعمق متى أخذها بالتفكير الدقيق. ولقد فعل الأستاذ الأمام المراغي في ذلك كثيراً فلم ينكر عليه أحد ما فعل، وإنما أيده الأزهريون القدامى والمحدثون فيما اضطلع به من التجديد الذي استمد مادته من كتاب الله وسنة نبيه الكريم، في موضوع الطلاق، وفي موضوع الهبة والتوريث؛ وإنما أيده أُولئك وأُولئك في منهاجه الحكيم المحكم الدقيق الذي عرفه له العالم الإسلامي في تفسيره لطائفة من سور القرآن الكريم
والأستاذ الأكبر حين ظفر بكل هذا التأييد في إنتاجه الذي هو إصلاح بالغ، إنما وضع الأساس لأمثال صاحب الفضيلة (العالم) الكاتب حتى ينهجوا نهجه، وحتى ينفقوا أوقاتهم كلها في السير على منواله، فإصلاحه من هذه الناحية حقيقة لقيت وجودها تحت الشمس وهو في عهده الآن في الأزهر لم يلان كثرة الأزهريون ولا قلتهم، لسبب بسيط، هو أن إصلاحه ماض في طريقة بالخطوة الوئيدة، ماض إلى هدفه بالرمية السديدة، أما العناية الأزهرية بالوظائف وما إليها، فهذه حكاية أقحمها العالم الجليل على موضوع لا صلة له بالبحث الذي نحن بصدده، لا من قريب ولا من بعيد، ونحسب أن الرد يكون طريفاً حقاً لو تفضل العالم الكاتب وقال لنا من يكون؟
(القاهرة)
كمال عبد الآخر
رسالة الأزهر
للأزهر رسالة واضحة كل الوضوح، كما أنها ثقيلة لا ينهض بها إلا رجال أكفاء قد وهبوا أنفسهم لله ووقفوا حياتهم على أمتهم.
وحسبنا لنعرف هذه الرسالة أن ننظر إلى رجال الدين المسيحي وتوازن بينما يعملون وما يعمله رجال الدين الإسلامي لنرجع من هذه الموازنة والكرب يكاد يقتلنا على تقصير رجال الدين الإسلامي وإهمالهم وضعفهم ونقصهم(415/47)
إعداد رجال الدين المسيحي
لأجل أن يصير الشاب المسيحي قسيساً لابد له أن يدرس دراسة طويلة شاقة، وان يزود بألوان من المعارف لا يضفر بها غيره ممن يعدون أنفسهم لأي نوع من الحرف الدقيقة الخطيرة، كالطب والقضاء والهندسة وغير ذلك - ويؤخذ بضروب من الرياضة البدنية والروحية، ويصقل صقلاً يجعله بعد ذلك متميزاً عن غيره صالحاً لأداء مهمته الشاقة احسن أداء. تقضي مدة دراسته تحت حراسة يقظة ورقابة دقيقة ورعاية كريمة وإرشاد متواصل وتوجيه سامي وتدريب شاق ورياضة طويلة، حتى يصير رجلاً نموذجياً في جسمه وعقله وخلقه وذوقه وعاداته وأكله وشربه ونومه وغير ذلك من كل ما يدخل تحت النقد والتكوين فأين هذا مما يلقى طلاب الأزهر من الإهمال والتضييع
1 - مناهج قد ازدحمت بكل معاد ثقيل لا فائدة منه
2 - سنة دراسية يضيع اكثر من نصفها في العطلات
3 - يترك الطلبة يسكنون في مساكن غير صحية وفي أحياء قذرة ويتعرضون إلى أفأت خلقية وجسمية ومتاعب معاشية وأضرار لا يجهلها أحد ممن عرف الأزهر والأزهريين
4 - نقص كبير في المناهج
رسالة المتخرجين في الأزهر
والآن فلنوازن بين ما يعمله رجال الدين المسيحي وبينما يعمله التخرج في الأزهر: رجل الدين المسيحي يتخرج فيجد أمامه عملاً جليلاً ثقيلاً يحتاج إلى مثل أعمار النسور وهمة الجن ودأب النمل: يشتغل راعياً في الكنيسة، فيدرس الحي الذي يعمل فيه دراسة دقيقة شاملة، ويتصل بكل ما فيه من أبناء ملته، ويكون وسيلة التعارف والتأليف بينهم، وهو في كل ذلك محتفظ بكرامته مكانته، وذلك لما توفر عنده من اللباقة والإخلاص، ويعمل على تأسيس جمعيات عملية لا قولية تقوم بجمع الصدقات وتأسيس المدارس وإقامة المشافي والصلح بين المتخاصمين والتأليف بين الزوجين، وهو في كل ذلك الرأس المدبر واليد العاملة والقلب الخافق الحي، ولن يفشل في أي مشروع يحاوله أبداً لان الإخلاص سائقه والعزم حليفه والله رائده؛ فنجد الكنيسة إذا ما استقرت في مكان ما صارت مركز هداية(415/48)
وإرشاد وعمران ووفاق ويسر لأبنائها الملتفين حولها جميعاً، والفضل في كل ذلك لرجل الدين الذي اعد لهذا العمل إعداداً حسناً، تجده حركة دائبة لا يستقر ولا يهدأ؛ إذا رأيته أشفقت عليه من كثرة العمل وطول الإجهاد فهو آناً عند مريض يعوده، أو عند فقير يحمل له صدقة أخذها في السر من غنى، أو عند غنى يعظه برفق ويغريه على نفع أبناء ملته، أو عند أسرة يوفق بين أفرادها. يؤسسون المدارس الكبرى والمعاهد العليا والكليات العظمى، ويجمعون لها التبرعات غير يائسين ولا متضجرين، ويقيمونها صروحاً شاهقة، ويعدون أبناء ملتهم لحياة ناجحة، فيزودونهم بالثقافات المختلفة الدينية والعمرانية التي تؤهلهم للنجاح في الحياة؛ وطف بمصر لترى معاهدهم لم تجذب إليها أبناء المسيحيين فقط، بل جذبت أيضاً أبناء المسلمين، لما شوهد على متخرجيها من دلائل النجح والتهذيب والتميُّز، وهذه معاهد الآباء اليسوعيين (الجزويت) والاخوة المسيحيين (الفرير)، والراهبات وغيرها مما لا تخلو منه مدينة في مصر والشرق فأين هذا من مسجدنا وعالمنا وإمامنا. لا داعي للموازنة بعد ذلك فسنخرج بنتيجة محزنة
لقد قضى أستاذنا الزيات صدر شبابه أستاذاً بالمدارس الدينية المسيحية، وحبذا لو تناول وصفها بقلمه الساحر وناشد الأزهريين أن يتعلموا من هؤلاء الرجال المخلصين خدمة دينهم ومعرفة رسالتهم في الحياة؛ وعلى ضوء هذه الرسالة توضع المناهج ويؤسس الأزهر من جديد
زكي غانم
ليس هذا هو الطريق إلى الإصلاح
أضنانا السير والسرى ولم نقطع أرضاً ولم نقض مأربا. أردنا أن نصل إلى نقطة ما فجعلناها مركز الدائرة ودرنا حولها في محيط ثابت. لنا الله فقد جاهدنا فأجهدنا أنفسنا ولم نتقدم من غايتنا باعاً أو ذراعاً، وأغلب الضن أننا سنعاود الكرة مرات إن طوعاً وإن كرهاً. سنمشي على أرجلنا أو على أيدينا أو على أربع، وسنزحف على بطوننا، وسنطير في الهواء أو نغوص في الماء؛ ولكننا لن ننحرف عن محيط الدائرة، ولن تتغير النتيجة أبداً
تعبنا وأضعنا الجهد هباء، لأن هذا ليس هو الطريق، ولأن هذه ليست هي الوسيلة(415/49)
أردتم فيما أردتم تعليم الفلاح وتحسين صحته وتنظيم حياته ورفع مستواه، ووددتم منع البطالة والقضاء على الجرائم والاستجداء والخمر والميسر والإعراض عن الزواج والطلاق وتخنث الشبان وتهتك النساء وتبرجهن، وحاولتم مكافحة الأمراض السرية والعلنية، وبنيتم مطاعم وحمامات ومغاسل للشعب؛ ثم شرعتم في كسوة أقدام الفقراء بالأحذية، وستشرعون في إقامة منشأة لهم
أردتم ما لا حصر له من الإصلاح ولم توفقوا التوفيق المرتجى في أحدها، وذا أنكرتم ذلك فهاتوا برهانكم وإذا كنتم تقرون قولي فتعالوا نبحث العلة ونفهم المسببات.
إنكم مسلمون لأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام. وإنكم تعلمون أن القران من عند الله ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنه لم يحرف، وإنه صالح لكل الأزمنة ولم ينزل كتاب بعده.
ثم إنكم تسلمون أنه مهما سمى تفكير الإنسان وتدبيره، ومهما صح حكمه على الأشياء فلن يصل إلى درجة خالقه ولم يرقى لمرتبته في العلم
إذاً فالقوانين التي نسنها لا يمكن بأية حال أن تكون اصلح من تلك التي وضعها لنا الله، فإذا أسلمتم بهذا أيضاً ولا أخالكم إلا مسلمين، أفليس من حسن التميز أن نجرب السير على قوانين الله ولو لمدة محدودة كما سرنا على غيرها أعواماً من غير طائل؟
أن هذا لا يكلفنا كثيراً، ولا يتطلب إلا أن تجند وزارة الشؤون الاجتماعية ذلك الجيش من علماء الأزهر الشريف والمعاهد الدينية ليقوموا بما فرض الله عليهم. ليعلموا الناس دينهم وليفهموهم مثلاً أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر وأنها افضل أنواع الرياضة البدنية، وليبينوا لهم الحكمة في نظامها وكيفية أدائها وعدد ركعاتها وتحديد أوقاتها ليعرفوهم أخلاق الرسول صلوات الله عليه وأخلاق الصحابة والتابعين، وليفهموهم حقوق الرجل على زوجه والمرأة على بعلها، وأن اكره الحلال عند الله الطلاق، وليشرحوا لهم أن بعض الذنوب لا يكفرها إلا السعي على الرزق، وجزاء المستجدي في الدنيا والآخرة، وما يلاقيه السكران في يومه وغده.
ثم نفذوا فيهم أحكام الدين بعد ذلك ولا تأخذكم بهم رحمة. ولا تعتقدوا أن أحكام الله قاسية فهو ارحم بكم منكم، فقطع يد السارق في حقيقتها أخف بكثير من سرقة يعقبها سجن،(415/50)
فسرقة يتبعها سجن، فسرقة يتلوها سجن، فسرقة في أثرها سجن؛ وهكذا دواليك. إنكم بعد ذلك لن تجدوا مجرماً ولا شارب خمر ولا لاعب ميسر ولا داعياً لفجور، ثم إنكم لن تلقوا مستجدياً ولا عاطلاً ثم إنكم بعد ذلك ستجدون الجميع في صحة تامة وهناء متصل وتآخ أكيد.
(جزيرة ميت عتبة - امبابة)
مصطفى إسماعيل جوهر
مكتبة الحرم الشريف النبوي العامة
أسست حكومة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز الأول مكتبة عظيمة في الحرم الشريف أسمتها (مكتبة الحرم الشريف النبوي العامة بالمدينة المنورة): جمعت فيها شتات الكتب المفرقة في مستودعات الحرم النبوي والمحكمة الشرعية الكبرى وكتب طوسون احمد باشا وغيرها. وقدم لها جلالة الملك عبد العزيز الأول جميع مطبوعاته النفيسة، كما تفضل فأمر بصنع عشر خزائن للكتب. وقدم لها الشيخ عبد الكريم المصري الأزهري ستة صناديق تحتوي على ثمان مائة مجلد. وساهم في تأسيسها بإهداء الكتب إليها سعادة السيد محمد بدوي بك المنصوري الأزهري
وسعادة الشيخ محمد سرور صبان وغيرهم.
وأعفت الحكومة السنية بريد المكتبة من الرسوم في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية كلها. وفي المكتبة الآن كتب في التفسير والحديث والتوحيد والتجويد والقراءات العشر والفقه الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والأدب والتاريخ والشعر وعلم الأصول والمصطلح وغير ذلك باللغات العربية والفارسية والهندية والتركية
وقد بلغ عدد المجلدات الموجودة الآن زهاء ثلاثة آلاف مجلد. وفي المكتبة قسم الصحافة للمجلات والجرائد العامة التي تهدي إليها
وفي المكتبة قسم مكتبة التلميذ لإعارة بعض الكتب العلمية للتلاميذ الفقراء على نظام مكتبة الأزهر الشريف في مصر وقد وردت لهذا القسم بعض المؤلفات المدرسية من مؤلفيها(415/51)
وغيرهم. وقد سر من هذا القسم الدكتور محمد عبد الغني عزام مفتش صحة مركز المنصورة بالديار المصرية فقدم لإدارة المكتبة مقداراً من النقود لشراء بعض الكتب العلمية النافعة المفيدة لهذا القسم. وفي المكتبة ورشة تجليد فنية لتجليد كتبها المحتاجة للتجليد. وقد أهدى بعض أهل الخير لهذه الورشة بعض الآلات والأدوات
وقد عينت الحكومة السنية العربية السعودية الأستاذ أحمد يس الخياري الأزهري من علماء الحرم الشريف النبوي وقراءه ومدير مدرسة التجويد والقراءات بالمدينة المنورة مديراً لهذه المكتبة العلمية العامة مستقلاً في جميع أعمالها الداخلية والخارجية
والمكتبة الآن في حاجة إلى التشجيع مادياً بالنقود وأدبياً بالكتب والرسائل والمجلات والجرائد والخزائن والآلات والأدوات والأثاث من أفراد العالم الإسلامي. لأنها في داخل الحرم النبوي ومنسوبة إليه وعائدة أليه. والمخابرة في كل ما يخصها تكون باسم مديرها. والله يتولى التوفيق
مدير مكتبة الحرم النبوي الشريف العامة
تحذير ورجاء
يعلن كمال مصطفى مؤلف كتاب (الصحافة والأدب في مائة يوم)، أن بعض الأشخاص قد اختلسوا كثيراً من نسخ الكتاب وبددوها وعمد أحدهم إلى تغيير الاسم ووضع بدله اسم (علي ماهر باشا المثل الأعلى للوطنية والصحافة والأدب) واتخذ هذا سبيلاً للنصب والاحتيال، وتتولى النيابة التحقيق الآن
فيرجو المؤلف كل من يقدم إليه الكتاب بالاسم المنتحل (علي ماهر باشا المثل الأعلى. . .) أو بأي اسم آخر، أو بالاسم الأصلي: (الصحافة والأدب في مائة يوم)، وغير مختوم بخاتم المؤلف أن يتفضل بالاتصال به في وزارة الداخلية وأن يمتنع عن دفع الثمن وله عظيم الشكر(415/52)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(415/53)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(415/54)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(415/55)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(415/56)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(415/57)
العدد 416 - بتاريخ: 23 - 06 - 1941(/)
بمناسبة المهاجرين من منكوبي الغارات
الفقراء
قصيدة لفكتور هوجو
(مهداة إلى السادة: يوسف كمال والبدراوي وقوت القلوب)
- 1 -
الليل مُرخي السدول؛ والكوخ ظاهر الإملاق، ولكنه محكم الإغلاق.
كان المسكن يغشاه الظلام، ولكنك تحس شيئاً فيه يضيء خلال هذه العتمة
على حائطه علق الصياد شباكه؛ وفي أحد ركنيه من الداخل تلمع بعض المواعين الحقيرة على صندوق الخبز؛ وفي الركن الآخر يقوم سرير كبير قد انسدلت عليه أستاره الطويلة
وعلى مقربة منه حشية مفروشة على د كتين باليتين، وخمسة أطفال صغار كعش من أعشاش الأرواح قد رقدوا عليها
وكان في الموقد العالي بقية من الضرم تلقي ضوءها الأحمر على السقف القاتم، وبجانب السرير امرأة وضعت جبينها على حافته وهي جاثية تصلي وفي صدرها نجيّة وعلى وجهها شحوب
تلك كانت الأم، وهي وحدها في الكوخ؛ ومن وراء هذا الكوخ المظلم المحروم، زفرات البحر المزبد المشئوم، يرسلها سوداء في السماء والهواء، وفي الضباب والصخور
- 2 -
كان الزوج يعمل في البحر؛ وكان منذ طفولته بحاراً كُتب عليه أن يلقى الحظوظ السود في أهول المعارك. فهو في المطر الواكف، وفي الهواء العاصف، محتوم عليه أن يخرج إلى الصيد لأن أطفاله يتضاغون من الجوع. . .!
يخرج في المساء إذا مد الماء وغمر سلالم الجسر، ثم يقود وحده سفينته ذات الشرع الأربعة، وتبقى الزوجة في البيت تخيط شراعاً، أو ترتق شبكة، أو تهيئ شصاً؛ وتراقب(416/1)
في غضون ذلك القدر وهي تغلي على الكانون بحساء السمك. حتى إذا طاف الكرى بأطفالها الخمسة اتجهت هي إلى الله تصلي وتضرع!
غاب الرجل وحده في ظلمات الليل، وفي لجج المحيط، والأمواج المتجددة تغالبه وتصرعه، والخطوب المترصدة تجذبه وتدفعه
أيهذا العمل الكادح ما أقساك! الظلام شديد الحلك، والجو قارس البرد، والمكان الصالح للصيد لا يكون إلا في مصادم البحر بين الأمواج الرّعن والهوى السحيقة، فترى على مجاهل المحيط الواسع هذا المكان المتنقل المتدلل على هوى السمك ذي الزعانف الفضية، يضيق فيكون بمقدار النقطة، ثم يتسع فيكون في ضعف الغرفة؛ والصياد مقضي عليه أن يجهد جهده، فيحسب حساب المد والهواء، ويوفق بين أفاعيل السماء والماء، ليهتدي في ظلام الليل وفي ضباب ديسمبر إلى هذه النقطة المتنقلة في هذه الصحراء المتحركة!
الأمواج على طول الشاطئ تنساب انسياب الأفاعي الخضر، والهاوية تدور وتدوّم وتدّوي فتصطك أعضاء السفينة من الرعب، وتئن أدواتها من الهلع، والصياد في أحضان البحر المجنون يفكر في زوجه جاني، وزوجه جاني على البعد تناديه وتناجيه وهي تبكي، فتتلاقى أفكارهما في الظلام، وأفكار العشاق طيور قدسية أبراجها القلوب
- 3 -
كانت جاني تصلي وطير النّورس بصوته الأصحل الساخر يزعجها، وموج البحر بهديره المتكسر الصاخب يرعبها، وأشتات الأطياف تمر بخاطرها فتقلقها. كانت تتمثل ذلك المحيط العجاج والملاح المحمول على ثبجه الغاضب، وترى هذه الساعة الحائطية الباردة تنبض في علبتها كما ينبض الدم في عروقه، فتُساقطُ الأيام والفصول والأعوام في خفاء الغيب قطرة فقطرة؛ وكل نبضة من نبضاتها تفتح لأسراب النفوس: صقورها وحمائمها المهود من جهة، واللحود من جهة أخرى
كانت تفكر في هذا الفقر المدقع الذي قضى على أطفالها أن يمشوا حفاة في القيظ والزمهرير، وأن يعوزهم خبز القمح فيتبلغوا بخبز الشعير!
رباه! إن الهواء يفهق كالكير، والشاطئ يصوت كالسندان، وكأني أرى صور السماء، تتطاير في الزوبعة السوداء، كما تتطاير زوابع الشرر في دخان الموقد(416/2)
هذا هو الوقت الذي ينتصف فيه الليل على الراقص المرح وهو يقصف هيمان بين ضحكات القلوب ومتع الأعين
وهذا هو الوقت الذي ينتصف فيه الليل على قاطع من قطاع الطرق عجيب، ينتقب بالظلام والمطر، ويتصدى لملاح مسكين يرتعد من البرد فيحطمه على الصخرة الهائلة التي تظهر فجأة؛ فيشعر المسكين - والموت يقطع َزويله وعويله - أن السفينة تنشق لتغوص، وأن اللجة تنفتح لتبلع؛ ثم يلمح في خاطره وهو يهوي في غيابة الفناء ولجة الماء ذكرى الحلقة الحديدية في رصيف المرفأ المشمس!
فزّعت هذه الرؤى العابسة قلب جاني فاضطربت اضطراب ليلها، واستكانت لجزعها وويلها، فلم ينفس عنها غير البكاء
- 4 -
لله ما أشقاكن يا نساء الصيادين! إن مما يروع النفس ويلوع الفؤاد أن تقول كل منكن لنفسها: (إن أبي وحبيبي وأخي وولدي وكل عزيز عليّ هم جميعاً في ذمة هذا المضطرب العظيم؛ وإن القدر قد أباح للبحر الأهوج أن يعبث بهذه الرؤوس منذ كان المرء صبياً يتعلم، إلى أن يصير زوجاً يتزعم؛ وإنهم في هذه الساعة قد يحزبهم الأمر، ويكربهم الهم، فلا يدرون أين يسيرون، وهم لا يملكون لمقارعة هذه البحار اللجية التي لا قاع لها، وهذه اللجج المظلمة التي لا نجم فوقها، إلا قطعة من الخشب ومزقة من النسيج! فإذا ما اعتلج في صدرها الهم، هبت مذعورة تجري خلال الصخور وهي تسأل الأمواج ضارعة: (رديهم عليّ!!. . .)
ولكن وا أسفاه! ماذا عسى أن يرد البحر الذي لا يبرح في تقلب واضطراب، على الفكر الذي لا ينفك في تشتت واكتئاب؟
كانت (جاني) أشد هماً وغماً من ترائبها جميعاً؛ لأن زوجها وحيد في جوف هذا الليل الشديد وتحت هذا الكفن الأسود؛ وأطفاله لا يزالون صغاراً فلا وزر له فيهم ولا عون!
أيتها الأم! إنك تقولين اليوم وأنت ترين أباهم وحيداً: ليتهم كانوا كباراً! ولكنك ستقولين غداّ عندما ترينهم يذهبون مع الأب: ليتهم كانوا صغاراً!)
- 5 -(416/3)
أخذت (جاني) مصباحها ورداءها وذهبت ترى: هل عاد الزوج، وهل سكن البحر، وهل أشرق الصبح، وهل ومض النور في سارية الإشارة؟
هاهي ذي تسرع الخطى في الطريق، ولكن هواء الصبح لم يهب، وضياء الفجر لم يلح. وكانت السماء تمطر؛ ولا تجد أشد ظلاماً من مطر الصباح! كأنما كان النهار يضطرب مخافة أن يوجد، وكأنما كان الفجر يبكي كالطفل ساعة يولد!
وعلى حين فجأة لاح لعينيها وهما تتحسسان الطريق كوخ واهي الدعائم قاتم الأعماق فلا نور ولا نار. له باب لا يستقر من الريح، وعليه سقف لا يسكن من القلق، ومن فوقه تعبث الريح الصرصر بهشيم من القش الأصفر الكريه المنظر؛ فقالت (جاني): (عجيب! ما لي لم أفكر في هذه الأرملة الفقيرة التي عثر عليها زوجي ذات يوم وهي وحدها تكابد غصص المرض؟! لا بد أن أعود لأنظر ما حالها!)
قرعت جاني الباب وتسمعت فلم يجبها أحد. فقالت لنفسها وهي تنتفض من البرد: (لا تزال مريضة؛ وأولادها، لا ريب، يقاسون سوء التغذية! لم يبق للمسكينة غير طفلين!) ثم طرقت الباب ثانية ونادت: يا جارتي! يا جارتي! فلم يرد عليها أحد.
فقالت جاني: لقد أثقلها النوم فلا لابد من تكرار الطرق ومعاودة النداء. ولكن الباب في هذه اللحظة أدركته نفحة من عناية الله فانفتح من ذات نفسه!
- 6 -
دخلت جاني الكوخ المظلم الصامت ونور مصباحها يسعى بين يديها، فوجدت سقفه كالغربال لا يمسك المطر، ورأت في صدره امرأة هامدة لا نبض بها ولا حس! قدماها عاريتان، وعيناها مظلمتان، وهيئتها فظيعة. كانت هذه هي الأم المرحة التي قضت حياتها الأولى في بهجة وقوة، فلم تزل الأيام والآلام تعُركها وتريحها وتيريها حتى لم يبق منها غير هذا الهيكل. كانت إحدى ذراعيها قد تدلت على جانب الفراش الخشن، وكان فمها المغفور ينبعث منه الرعب بعد أن لفظ الروح وهي تصيح صيحة الموت إذا سمع نداء الأبد
وعلى مقربة من سرير الميتة كان طفلان ذكر وأنثى ينامان باسمين في مهد واحد. وكانت(416/4)
الأم حين أحست دبيب المنية قد وضعت معطفها على قدميهما، وثوبها على جسميهما، حتى يحسا الدفء في الساعة التي تسري في جثمانها برودة الموت!
- 7 -
كان الطفلان ينامان ملء الجفون في مهدهما النابي القلق؛ وكان المطر يهدر خارج الكوخ هدير السيل، والسقف العتيق يُساقط الحين بعد الحين على جبين الميتة قطرة، فتسيل على خدها الشاحب فتكون عَبرة؛ وكان الموج يصلصل كناقوس الخطر، والميتة تتسمع في الظلام والسكون في هيئة الأبله؛ لأن الجسم متى فارقته الروح بدت عليه حال الباحث عنها. وكأنك تسمع هذا الحوار بين الفم الذابل والعين الحزينة:
تقول العين للفم: ماذا صنعت بزفراتك؟
ويقول الفم للعين: وماذا صنعتِ أنتِ بنظراتك؟
وا أسفاه! عيشوا أيها الناس وأحبوا، وارقصوا، واضحكوا، واقطفوا الزهور، وارشفوا الغور، واحرقوا القلوب، وأفرغوا الكؤوس، فإن الله قد جعل مآل كل لذة إلى القبر، كما جعل مآل كل نهر إلى البحر!
- 8 -
ماذا صنعت جاني عند الأرملة الميتة؟ ماذا تحمل تحت ردائها الضافي وهي تمشي؟ لماذا يخفق قلبها وتسرع خطاها؟ لماذا تعدو في الطريق ولا تجرؤ أن تلتفت؟ أي شيء في الظلام خفية على السرير؟ ليت شعري ماذا سرقت جاني؟
- 9 -
عادت جاني بما تحمل إلى بيتها، ثم وضعت كرسياً بجانب السرير وجلست عليه ساهمة الوجه كأنما تعاني وخز الضمير. ثم ضاق ذرعها بما تجد فألقت جبينها على حافة السرير وأخذت تغمغم بهذه الكلمات المتقطعة:
وا حسرتاه عليك يا زوجي المسكين! رباه! ماذا عسى أن يقول؟ ألا يكفيه ما يحمل من الهم؟ وهل فضل كدحه المرهق عن قوت أطفاله الصغار حتى أثقل كاهله بهذا العبء الجديد؟ أهو هذا؟ كلا! لا شيء. لئن ضربني زوجي لأقولن له: حسناً فعلت(416/5)
أهو هذا؟ كلا! حسن! إن الباب يتحرك كأن إنساناً دخل، ولكن لا
رباه! مالي أصبحت الآن أخشى عودة زوجي؟
ثم اعتراها الوجوم فظلت ساهمة تغوص في الهم كما يغوص الغريق في اللجة؛ ثم فقدت الشعور بالدنيا فلم تسمع في الخارج حركة ولا ضجة
انفتح الباب فجأة فانسكب في الكوخ شعاع أبيض، ثم لاح الصياد على العتبة يجر شبكته وهي تقطر من البلل ويقول بلهجة المبتهج: تلك مهنة البحر!
- 10 -
رأت جاني زوجها فهتفت به وعانقته عناق الحبيب. وكان الزوج في أثناء ذلك جذلان يقول: هأنذا يا امرأتي! ثم ينعكس على جبينه الذي يضيئه نور الكانون، قلبه المسرور الطيب الذي يضيئه حب جاني
- كيف كان الجو؟ - كان قاسياً. وكيف كان الصيد؟
- كان سيئاً! ومع ذلك أجدني قد وجدت السرور والراحة حين قبلتك!
لقد خرقت شباكي ولم أصد شيئاً! ما كان أهول ذلك الجو! لقد كان يخيل إليّ أن الشيطان ينفخ في الهواء، وأن السفينة المضطربة توشك أن ترقد في الماء!
- وأنت ماذا صنعت في هذا الجو القاسي؟
فاستقلت الرعدة جاني وقالت:
- أنا؟ لا شيء. لقد كنت أخيط كالعادة؛ وكنت أسمع البحر يزمجر كالرعد فتدركني روعة شديدة
- أجل إن الشتاء شديد؛ ولكن الزمن كله في حياتنا سواء! ثم قالت جاني وهي تضطرب اضطراب من فعل شرا:
- إن جارتنا الأرملة قد ماتت. ولعل موتها كان في عشية الأمس بعد أن خرجت أنت. لقد تركت طفلين صغيرين: غليوم ومادلين. ذاك يحبو ولا يمشي، وتلك تغمغم ولا تبين. لشد ما كابدت هذه المرأة الصالحة برحاء الهم والفقر!
فلما سمع الرجل هذا الخبر اتخذ هيئة الجد ورمى بقبعته المبللة في كسر الكوخ ثم قال وهو يحك بأظفاره جلدة رأسه:(416/6)
- يا للشيطان! إن لنا خمسة أطفال فهل يصبحون سبعة؟ إننا في هذا الفصل الشديد نقضي بعض أيامنا على الحساء فماذا نصنع؟ ليس الذنب ذنبي؛ إنما هي مشيئة الله. إن من الحوادث ما يحار في تعليله الفكر. لماذا حرم الله هذين الطفلين أمهما وهما في هذه السن وهذه الحاجة؟ لا جَرَم أن أعمال الله لحكمة، ولكنها كثيراً ما تخفى على غير البصير
اذهبي يا جاني فأتي بهما. إني لأخشى أن يستيقظا فيستشعرا الخوف من وجودهما وحيدين مع الميتة
أبقي بهما يا جاني نخلطهما بأبنائنا، ونشركهما في سرائنا، وأنا واثق أن الله سبحانه وتعالى سيرزقنا من حيث لا نحتسب، ويبارك صيدنا فنكتسب أكثر مما كنا نكتسب
ماذا بك يا جاني! أهذا يغضبك؟ ما لك لا تسرعين إلى تنفيذ رغبتي كالعادة!
فلم يكن جواب جاني إلا أن كشفت الستار وقالت متهللة:
(هاهما ذان!!)
أحمد حسن الزيات(416/7)
الإسلام والعلاقات الدولية
للأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
(تتمة)
(جـ) - وسائل إنهاء الحرب
إن الإسلام شديد الحرص على تحقيق السلم والطمأنينة للعالم فهو يطلب إلى المسلمين أن يدخلوا في السلم كافة ولا يتبعوا خطوات الشيطان؛ ويقول لرسوله الكريم: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)
(ا) وهو يصل إلى ذلك من طريق المفاوضات كما هي العادة الطبيعية فيتقبل فيه وساطة الرسل وسفارة السفراء من غير أن يتكلف لذلك رسوماً خاصة تؤدي إلى التعقيد أو تثير الإشكال.
(ب) ولا تختص المعاهدات في نظر الإسلام بإنهاء حالة الحرب. ولكنه يقرر أنواعاً من المعاهدات على حسب ما تقضي به الظروف التي يترك للمسلمين تقديرها والعمل بما توحي به في حالتي السلم والحرب
1 - فهو ينشئ المعاهدات إبقاء على حالة السلم الأصلي وحفظاً له من أن يخدش
ومن ذلك ما عاهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب لأول عهده بالمدينة وقد كانت هذه المعاهدة أول حجر في بناء الدولة الإسلامية، كما كانت أول علاقة سياسية ينشئها الإسلام ويعترف فيها بحرية العقيدة وحرية الرأي، ويحفظ بها على المسلمين أمنهم وسلامتهم وحرمة حياتهم ومدينتهم
2 - وينشئ المعاهدات للتحالف الحربي بينه وبين غير المسلمين، ويرشد إلى هذا النوع من المعاهدات قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ستصالحون الروم صلحاً تغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم). وقد وقع للمسلمين كثير من هذا النوع من المعاهدات في ذكرياتهم الماضية، وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً وفاء بعهد خزاعة الذي حصل يوم الحديبية.(416/8)
3 - وينشئ المعاهدات لإنهاء الحرب إنهاء مؤقتاً، وهي المعروفة باسم الهدنة أو الموادعة، وذلك كما حصل في معاهدة الحديبية ولإنهائها إنهاء دائماً، وذلك كما حصل مع أهل نجران على أن يكونوا تحت حماية المسلمين في مقابلة ارتضوها
4 - وهناك نوع آخر من المعاهدات يترك فيه للدولة المعاهدة استقلالها الداخلي تحت ظل من السيادة كما فعل معاوية رضي الله عنه في عهده للأرمن. فقد ترك لهم حريتهم في بلادهم وأن يعينوا أمراءهم وقضاتهم ورؤساءهم، ويحتفظوا بتقاليدهم الدينية والعسكرية
(جـ) والإسلام يترك للمسلمين تقدير المصلحة في كل نوع من هذه المعاهدات ولا يقيدهم في ذلك بشيء إلا بشرط واحد: هو ألا تمس المعاهدة قانونه الأساسي ولا تتعارض مع شريعته العامة.
والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، وشبيه بهذا ما تقوله الدول من أن المعاهدات التي لا تتفق مع الدستور باطله
ولا يستخدم الإسلام ذلك الشرط لمصلحة المسلمين فقط. وإنما يطبقه لمصلحة أهل العهد أنفسهم، ومن هنا يقول الفقهاء: (لو طلب ملك عهد الذمة على أن يترك وما يحكم به أهل مملكته من القتل والظلم والفساد، فلا يصح في الإسلام أن يجاب إلى ذلك، لأن التقرير على الظلم مع قدرة المنع منه حرام)
(د) والإسلام يبيح للمسلمين عند الضرورة أن ينزلوا عن بعض حقوقهم، أو يصالحوا غيرهم على أن يبذلوا له مالاً طلباً لخير يرونه فيما بعد، واتقاء لشر يخافونه على أنفسهم. ولنا في صلح الحديبية أوضح مثال على سماحة الإسلام ومرونته في سبيل الحصول على السلام
(هـ) ومما يتصل بمعاهدات الصلح تقرير الإسلام لمبدأ الجزية وليست الجزية - كما يتصورها بعض الناس - بدلاً عن إسلامهم أو عن دمائهم، وإنما هي علامة على خضوعهم، وكفهم عن الفتنة واعتراض سبيل الدعوة، ومعونة تهيئ لهم الاشتراك في مصالح الدولة، والارتفاق بما يرتفق به المسلمون. يقابلها من جانب المسلمين فوق ذلك حمايتهم من الاعتداء عليهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم
وقد جاء في كتاب الخراج للإمام أبي يوسف أن أبا عبيدة بعدما صالح أهل الشام وجبى(416/9)
منهم الجزية والخراج بلغه أن الروم قد جمعوا للمسلمين جموعاً لا قبل لهم بها. فكتب إلى أمراء المدن المصالحة: (أن ردوا على أهل الذمة ما جبيتم منهم من جزية وقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد شرطتم علينا أن نمنعكم؛ إنا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن على الشرط وما كتب بيننا وبينكم إن نصرنا الله)
ولهذا لم ينس الإسلام فيها واجب المروءة والرحمة. فهو لا يجيز أن توضع على امرأة ولا صبي ولا ضعيف عاجز عن الكسب، ولا على الرهبان الذين لا يخالطون الناس
(و) هذا والإسلام يحتم على المسلمين أن تكون سياستهم في العهود على وجه عام مبنية على التراضي وحب السلام وإقرار الأمن والعدالة. وهو يمقت العهود التي يكون أساسها القهر والغلبة وتحكيم القوة ويمقت الخداع والخيانة في العهود. ويصف الناقضين للعهد بأنهم شر الدواب عند الله. ويأمر بالاشتداد على الخائنين الذين لا يرقبون إلاً ولا ذمة. ويوجب أن يكون نبذ العهد إذا جد ما يقتضيه على سواء بينه وبين الخصوم. بل يوجب تمكين العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته
وفي ذلك يقول الكمال بن الهمام، وهو بصدد قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين)
(إنه لا يكفي مجرد إعلانهم بل لابد من مضي مدة يتمكن فيها ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته. ولا يجوز للمسلمين أن يغيروا على شيء من أطرافهم قبل مضي تلك المدة)
ويجمل بنا في هذا المقام أن نسوق آية من الكتاب الكريم هي بحق دستور الإسلام في الوفاء بالعهود. قال تعالى:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة)
(ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم)(416/10)
وقد بلغ من حرص الإسلام على الوفاء بالعهود أنه لم يبح للمسلمين أن ينصروا إخوانهم المقيمين في بلاد أعدائهم. الذين لم يهاجروا منها - على المعاهدين وفي ذلك يقول القرآن الكريم في سورة الأنفال
والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)
هذه صورة مصغرة لأهم القواعد التي نظم بها الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم من الدول
معاملة الدولة الإسلامية لمن يعيش في بلادها من غير
المسلمين
كما نظم الإسلام العلاقات الدولية العامة على الأسس التي أوضحنا. وضع أساساً صالحاً لتنظيم معاملة غير المسلمين الذين يقيمون في بلاد الإسلام
يقوم ذلك الأساس على ما يأتي:
1 - اشتراكهم مع المسلمين في الحقوق والواجبات العامة
2 - تركهم وما يدينون من غير تحكم في عقائدهم ولا في كنائسهم ولا في رسومهم وطقوس عباداتهم ما دامت على وجه لا يفتن المسلمين في دينهم
3 - جواز الرجوع بهم في مسائلهم الخاصة إلى حاكم منهم، وأن يحكم الحاكم المسلم بينهم بمقتضى ما يدينون به
4 - الإحسان إليهم في الروابط الاجتماعية العامة على حدود ما بين المسلمين بعضهم مع بعض
وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصايا كثيرة في حسن معاملتهم والتوصية بهم
موازنة
هذه هي القواعد التي ينظم بها الإسلام العلاقات الدولية عامة كانت أم خاصة
وضع أساسها القرآن وبينتها السنة. وشرحها عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده. ثم تناولها التابعون وفقهاء المسلمين فأعملوا فيها الرأي والتخريج شأنهم في الشريعة كلها حتى اتسع نطاقها لتنظيم كل ما يجد من مظاهر العلاقات على وجه يحقق(416/11)
النفع العام والسلام الشامل
وضع الإسلام هذه القواعد وعرفها علماؤه وفقهاؤه في وقت كانت فيه دول الحضارة الغابرة تتعثر في عادات جافة لا تعرف للإنسانية حقاً ولا تقيم للعدالة والسلام وزناً. ثم تلتها دول الحضارة الناشئة فأخذت تخطو في آثار الحضارة الغابرة حتى أسس فقيه هولندي في القرن السابع عشر ما سماه القانون الدولي الحديث ووضعه على مبادئ القانون الطبيعي الذي يرفض القانونيون الآن الاعتماد عليه كقانون له احترام القوانين. ولقد حاول العالم أن يضمن السلام في عصرنا الحاضر بالرجوع إلى هيئات دولية محكمة ولكن المجازر البشرية الدائرة الآن في أقاليم الأرض تنطق بالفشل الذريع الذي أصاب العالم في الوصول إلى غايته
فأين هذا من قواعد الإسلام الصريحة العادلة. وأين لهم ضمان كضمان الإسلام إذ يجعل هذه القوانين أحكاماً تكليفية دينية لا يسع المسلمين بمقتضى تدينهم إلا أن يرعوها حق رعايتها ويعملوا على تنفيذها وتحقيقها سواء فيما يختص بهم أم بغيرهم. فهذا وذاك شرع الله الذي لا مناص من النزول عليه والعمل بمقتضاه من غير تفرقة بين مسلم وغير مسلم. ويقول فيه (ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم) (أن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وأن كثيراً من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)
اقتراح
يذكرني مؤتمر رابطة الإصلاح الاجتماعي في عرضه هذه الموضوعات على بساط البحث - بمؤتمر القانون الدولي المقارن الذي عقد في سنة 1937 بمدينة لاهاي وقد مثلت فيه الشريعة الإسلامية بموضوعين عظيمين: علاقة الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني. والمسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية
وقد ظفرت الشريعة في هذا المؤتمر الأوربي بقرارات أهمها: أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة وأنها صالحة لمجاراة التطور الحديث. وقد أوصى المؤتمرون هيئة المؤتمر بأن تعني في أدواره المقبلة أشد العناية بمسائل التشريع الإسلامي. وأن تدعو إلى الاشتراك(416/12)
في أعماله ودراساته أكبر عدد ممكن من أقطار المسلمين
وأني لأنتهز هذه الفرصة فأقترح على مؤتمر رابطة الإصلاح الاجتماعي المصري المسلم أن يعمل منذ الآن على إعداد العدة لإقامة مؤتمر عالمي تكون مهمته استخراج القواعد الشرعية التي تتخذ أساساً لتقنين شرعي - يظهر به جلال هذه الشريعة وحسن ضمانها لمصالح الناس مهما تقدمت حياتهم وتطورت حضارتهم.
هذا هو اقتراحي أتوجه به من هذا المنبر إلى جميع رجال الفكر في مصر والشرق - أتوجه به إلى ملوك الإسلام وفي مقدمتهم حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم الغيور على دينه الحريص على شريعته.
أتوجه به إلى علماء الشريعة وعلى رأسهم عالمان عظيمان من أفذاذ علماء الإسلام لهما تاريخ مشهود في التخريج الفقهي والتطور التشريعي الإسلامي: الأستاذ الأكبر والمفتي الأكبر
أتوجه به إلى رجال الحقوق ومن خرجت من رجال القانون الحريصين على خدمة شريعتهم وإعلاء شأنها بين القوانين الحديثة أتوجه به إلى هؤلاء جميعاً واحملهم إياه أمانة يسألون عنها أمام الأبناء والأحفاد ويسألون عنها أمام الله والرسول (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. . .)
محمود شلتوت(416/13)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
امتحان جديد - فلان وفلان - محصول (الرسالة) - أقسمت
بالخمر والنساء - الإفراج عن ديوان (سبط ابن التعاويذي -
الصلات الأدبية بين مصر والسودان - الأستاذ محمد فريد أبو
حديد - لا تنسوا أندية السودان
امتحان جديد
ومن المحنة جاء الامتحان، كما جاء الابتلاء من البلاء!
وقد امتُحِنت مصر في هذه الأيام بضروب من الخوف والجوع بسبب الغارات الجوية، فما الذي أعددناه لنخرج من هذه المحنة بسلام؟
السياسة الرسمية للسياسيين الرسميين، أما السياسة القومية فمُلقاة على عواتقنا، إن كنا أهلاً للظفر بثقة الوطن الغالي، فما واجبنا اليوم وقد وجدت شؤون لا يباح معها لعب ولا مزاح؟
قيل إن الذين هاجروا من الإسكندرية سبعون ألفاً أو يزيدون، فإلى أين تتوجه تلك الألوف؟
ندع الحكومة تدبر من هذه الشؤون ما تستطيع، ثم نلتفت إلى أغنيائنا فنقول:
هذه فرصة سنحت لشكر الله على نعمة الغنى والعافية، والأمان، فماذا عندكم من فنون الشكر والحمد والثناء على واهب الغنى والعافية والأمان؟
إن كان الله ابتلى فريقاً من الفقراء بتعريضهم للخوف والجوع فقد ابتلى جماعات الأغنياء بتعريضهم للشح والبخل في أوقات لا يبخل فيها غنيُ بماله إلا وقد عرض نفسه لغضب صاحب العزة والجبروت
قلت خمسين مرة: (إن الأمم بأغنيائها) ولمثل هذه الأيام الفواجع أعددنا أغنيائنا، ليزدادوا قوة إلى قوة، فما ينمي الخيرات والثمرات غير الجود بها في أوقات البلاء
هذا يوم الامتحان، وهو امتحان يؤديه أغنياؤنا طائعين لا كارهين، فما نحب أن يكون عليهم رقيب غير ضمائرهم، ولا نقبل أن تتدخل الحكومة لحملهم على البر والإفضال(416/14)
فيضيع المعنى الشعري الجميل، الذي يمثل رفق الأغنياء بالمهاجرين الفقراء، عن طيب نفس وبلا انتظار لأمرٍ يصدر من هنا أو هناك!
أغنياؤنا اليوم مدعوّون لوليمة روحية لا تتاح في كل يوم، فأمامهم فرصة للشعور بمعاني جديدة لم يشعروا بمثلها من قبلُ، الشعور بمعاني الكرم والإيثار والإفضال، وهي معانِ أشهى وأطيب من الأنس بالمال المكنوز في أوثق الحصون
فالبائس الذي يكرمونه اليوم، ليس صُعلوكاً يتسول حتى يملكوا كف أيديهم عن الإحسان إليه، وإنما هو أخُ مواطن صدته الظروف القواهر عم مواصلة عمله في مدينة معرضة لعدوان الباغين على الحق وعلى الإنسانية
وهذا المواطن المصدود عن طلب الرزق يستطيع أن يؤدي خدمة تنفعه وتنفعكم إذا أردتم أن يدفع ثمن القوت والإيواء.
نحن لا ندعوكم إلى تدليل المهاجرين حتى ينسوا أن الدنيا دار كفاح ونضال، وإنما ندعوكم إلى تيسير وسائل الرزق الحلال لمن يستطيعون أن يعملوا بلا إجهاد ولا إرهاق
أما الذين لا يصلحون للعمل من الأطفال والعجائز، فهم غيوث تساق إليكم، وما أسعد من تواتيه الظروف على تربية طفل يتيم، أو إسعاد عجوز فقد من يعوله من أهل وأبناء!
جربوا هذه الألوان من طعوم الحياة، يا أبناء هذه البلاد جربوها ثم حدثوني عما وجدتم من شهي المذاق
سبعون ألفاً يبدَّدون كما يبدَّد العِقد المنظوم؛ ثم لا يلتفت إليهم أحد من الأغنياء التفاتة الرفق والعطف والإشفاق؟
فلأي يوم ادخرنا أغنياءنا، إن لم نكن ادخرناهم لمثل هذا اليوم؟
الرفق باليتامى لا يمر بلا جزاء، والإشفاق على المنكوبين لا يفوت بلا ثواب، وإن الله لينظر إلى ما تعاملون به أولئك وهؤلاء، فما أنتم صانعون؟
سيخرج المحاربون بمغانم جديدة أقلُها القدرة على تعديل صحائف التاريخ
فما غنائمنا في هذه الحرب؟
ما غنائمنا إن لم نفز بفتح جديد هو تفجير ينابيع العطف والتآخي في الصدور المصرية؟
وما قيمة الحياة إن لم نذق فيها من طعوم الرغد غير الشبع والريّ في عزلة عن بلايا(416/15)
المجتمع؟
ما قيمة الحياة إن لم نثق بأننا أهل لإغاثة الملهوفين حين يعتسف البلاء؟
رحمة الله على أيامنا السوالف، ثم رحمة الله على ليالينا الخوالي!!
كنا أجود من الغيث حين نسمع بنكبة حلت بشعب من الشعوب، ولو ضَعُفت بيننا وبينه الأواصر والصلات، ألم يتوجع شعراؤنا الكبار للزلازل التي وقعت في بلاد الطليان وبلاد اليابان؟
ألم نؤلف اللجان لمنكوبي الحرب الفلندية؟
فما سكوتنا اليوم والنكبة حلت بسكان الإسكندرية وطن الفتوة والجمال؟
كان مصطفى كامل يقول: الإسكندرية معقل الحزب الوطني
وكان سعد زغلول يقول: الإسكندرية معقل الوفد المصري.
وكذلك كانت الإسكندرية مدينة مدّللة يتودد إليها جميع الأحزاب، فما حالها اليوم في أنفس الزعماء؟
الإسكندرية - مدينتنا البحرية الجميلة - تعاني عذاب التشريد ونحن صامتون صمت الأموات!
الإسكندرية - عروس الماء - التي دانت جميع شعرائنا وكتابنا تنظر اليوم إلى من يواسيها بكلمة رثاء، وإلى من ينظر إلى أبنائها نظرة إشفاق
وإلى من يتوجه أبناؤها المشرَّدون؟ إلى أين؟
أيتوجهون إلى الريف وأهل الريف في أغلب أحوالهم فقراء؟
دعوا هذا الحل، فهو لا ينفع بشيء، واسمعوا كلمة الحق:
يجب أن يكتتب القادرون من الأمة بمبالغ تتفاوت بتفاوت القدرة المالية، ثم يكون ما يُجمع من الاكتتاب ذخيرة تُدبر بها وسائل العيش المقبول لأولئك المنكوبين، على شرط أن يعيشوا من كسب أيديهم في الحدود التي تسمح لهم بالتسبب والارتزاق، وليس ذلك بالأمر المستحيل
وما سبعون ألفاً حين توزّع همومهم على ستة عشر مليوناً؟
أتريدون أن أقول مرة ثانية إنه عدد بلا محصول؟(416/16)
أغنياءنا، أغنياءنا، أين انتم، أين أنتم؟
إنكم تهربون من منازل التكريم والتشريف، وإلا فكيف جاز ألا يزيد بركم بمنكوبي الغارات عن بضعة آلاف؟
أخرجوا من دنياكم في سبيل المنكوبين من مواطنيكم، لتظفروا بزاد نفيس من رضا الله الذي تفضل فأسبغ عليكم أثواب الغنى والعافية والأمان
أخرجوا من دنياكم، لتعودوا إليها أعزاء، فالله لا ينسى ولن ينسى من يخرج من دنياه لمواساة المكروبين
الله عز شأنه يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)
فهل علمتم أن هنالك وعداً أرحب من هذا الوعد؟
هو قول الله عز شأنه: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)
وما عسى أن يكون الإنفاق في سبيل الله إن لم يكن في مواساة من دعوناهم لحفظ الحياة في أجمل المدائن، ثم نكبهم الدهر اللئيم بما أراد؟
أليس من الكرب الماحق أن تدعونا الكوارث إلى استدرار العطف على المنكوبين من أهل الإسكندرية وكانوا أشجع الناس وأسعد الناس؟
لو كنا نملك من أمورنا ما نريد لأقمنا قبوراً من الياقوت لمن عدا عليهم الموت من أهل الإسكندرية، فما كانوا إلا ذخيرة من أكرم ذخائر الوطن الغالي، فكيف نضن بالعطف على أحيائهم المنكوبين بالغارات، وكان آباؤهم وأجدادهم أمل الوطن في حماية ذلك الثغر الجميل؟
إسكندرية!! إسكندرية!!
إليك أقدم تحيتي وعزائي!
فلان وفلان
من عادتي أن أنوه بما يقوله فيَّ أعدائي، وأن أسكت عما يقوله في أصدقائي، رغبة في السلامة من آصار التكبر والازدهاء
ولو أني أطعت الأستاذ الزيات لكان لي مع أصدقائي حال غير هذه الحال، فهو يدعوني من(416/17)
وقت إلى وقت لتلخيص رسائل قرائي، ولكن أعتذر لتحقيق المعنى الذي أشرت أليه، وهو السلامة من التكبر والازدهاء
فهل أستطيع اليوم أن أقول إني شعرت بالرهبة حين قرأت خطاب الأديب (رضوان العوادلي)؟ وهل أملك التصريح بأن خطاب الأديب (أحمد العجمي) أوقعني في زلزال، وكأنه خطاب الأديب (شلتوت) أو خطاب الأديب (أنور الحلبي)؟
إن لقرائي فضلاً لن أنساه، فهم يحببون إلي الدنيا والوجود، وهم يسوقونني سوقاً إلى الاعتزاز بسنان القلم وسلطان البيان
ولكن لي عليهم حقاً يفوق حقوقهم عليّ، وهو دعوتهم إلى أن تكون لهم غاية وطنية وروحية فإني أرى لهم قدرة على التعبير الجميل، وتلك موهبة يعز علينا أن تضيع
هل يذكرون أني حدثتهم مرة بأني لم أشرب فنجان قهوة في غير داري قبل أن أظفر بإجازة الدكتوراه وقبل أن أبلغ الثلاثين؟
شبابكم، شبابكم، يا قرائي، من أبناء الجيل الجديد
إحذروا، ثم إحذروا، أن تضيع من دمائكم قطرة في غير الواجب
وتذكروا، ثم تذكروا، أنكم خلفاؤنا في الحياة الأدبية والفلسفية
واعرفوا، ثم اعرفوا، أن المجد الأدبي لا يُنال بالأماني، وإنما يُنال بالجهاد الشاقّ، فكونوا عندما نريد لكم من كرائم الآمال، ثم تيقنوا أن الدنيا لكم إذا واجهتموها بعزائم المجاهدين الصادقين
كتب الله لكم عافية البدن، وطهارة القلب، وسلامة الروح
محصول (الرسالة)
بين الموظفين برياسة مجلس الوزراء أديب يتخير الأطايب من محصول (الرسالة) ثم يدونه في دفتر خاص، وقد لاحظت أنه لا يتخير إلا الفقرات الموسومة بالرصانة والرنين، وفي هذه الكلمة أوجه نظره إلى أن الكلام قد يصل إلى أوج القوة وإن لم يظهر أن صاحبه قد احتفل بالأسلوب
ومن أمثلة ذلك قول الأستاذ محمود الشرقاوي في وصف شمائل صاحب البلاغ:
(كان محرر السينما والمسرح بالبلاغ في إحدى السنين شاَّباً قليل الخبرة، ولو أنه طاهر(416/18)
النفس، فكتب عن إحدى الممثلات المصريات كلمة ذات وجهين أحدهما قبيح، وتحدثت هي في ذلك بالتليفون إلى عبد القادر باشا، وبعد لحظة دعا ذلك المحرر عنده وعنّفه أشد التعنيف، وأمر بفصله من (البلاغ) وكان كثيراً ما يفعل ذلك معه ومع غيره ثم يعفو، ولكنه في هذه المرة لم يقبل فيه شفاعة شافع، ولم يرى العاملون مع عبد القادر حمزة أنه غضب من شيء بمثل ما غضب في ذاك)
فهذه الفقرة بسيطة جدا، ولكنها قوية جداً، بفضل قوة المعنى الذي انطوت عليه إظهار الغضب على من يستبيحون غمز الأعراض
ولم يتسع وقت الأستاذ الزيات لرثاء عبد القادر حمزة في إحدى افتتاحياته التي يحتفل بتجويدها كل الاحتفال، فكتب في البريد الأدبي كلمة قصيرة، ولكن تلك الكلمة على قِصرها أدت الواجب في توديع صاحب البلاغ أجمل أداء، وأكاد أحسبها لخصت تاريخ صاحب البلاغ أبرع تلخيص
والمهم هو تذكير أصدقاء الرسالة بواجب فكرت فيه مرات كثيرة ثم صرفتني عنه الشواغل، وهو تعقّب كل عدد بالنص على ما فيه من دقائق تفوت بعض القراء
لو قام بهذا الواجب أحد أصدقاء الرسالة لنص على العذوبة في قول الشاعر محمود حسن إسماعيل
الليلُ ناداني ... من عالمٍ ثانِ
وقال: يا فاني ... هيّجت أحزاني
فهذا والله من نفيس الكلام، كما كان يعبّر محمد بن داوود طيّب الله ثرَاه!
أقسمت بالخمر والنساء
كان الأستاذ (محمد لطفي جمعة) قال في كلمة نشرها بجريدة الدستور: إن الشاعر علي محمود طه أول من أقسم بالخمر والنساء حين يقول:
أقسمت بالخمر والنساءِ ... ومجلس الشعر والغناءِ
وهذا حق، ولكن فات الأستاذ لطفي جمعة أن ينص على أسماء بعض الشعراء الذين سرقوا هذا المعنى من شاعرنا المهندس ليبيّن فضله في إذاعة المبتكرات من المعاني الشعرية
ولو أنه وفىّ هذا البحث بعض حقه لأشار إلى أن سبط ابن التعاويذي المتوفى سنة 584(416/19)
في بغداد كان من بين الذين سرقوا معنى الشاعر علي محمود طه، فقد رأيته يقول:
أما وحقِّ المُدام صِرفاً ... يخجلُ من لونها الشقيقُ
وكلِّ هيفاَء ذاتِ دَلٍ ... يقتُلني قدُّها الرَّشيقُ
يشكو إلى رِدفها المعبَّا ... من جورِه خصرُها الدقيق
للصبِّ من وردِ وجنتيها ... وِرْدٌ ومن ثغرها رحيق
إلى آخر ذلك القسم الطريف
وهذه خدمة أكرِم بها صديقي شاعر (الجندول) أعزَّه الحبُّ ورعاه!
الإفراج عن ديوان السبط
وبهذه المناسبة أقول: إن الظروف سمحت بالإفراج عن ديوان (سبط ابن التعاويذي)، فقد كان معتقلاً في (مكتبة هندية) ثم اشترته (المكتبة التجارية) فهو اليوم في متناول من يشتاق إليه من عشاق الشعر البليغ
ولكن كيف وقع ذلك الاعتقال؟
كان الديوان قد نشر بعناية المستشرق مَرجُليوث؛ ثم مرَّت عليه أعوام وهو محبوس، لأسباب لا نعرف سرها الصحيح!
فإلى مرجليوث في قبره نوجِّه صادق الثناء على ذلك الجهد المحمود.
الصلات الأدبية بين مصر والسودان
أنست القاهرة بوجوه الأساتذة الاماجد حسن مأمون، وعبد العزيز عبد المجيد ومحي الدين عبد الحميد، وهم يلهجون بالثناء على ما رأوا عند عرب السودان من أريحية ومروءة وإخلاص. وقد عرفنا أن إقامتهم هناك من أطيب الفرص في حياتهم العلمية والأدبية؛ فأهل السودان أهل جِد، ولا يلقى بينهم أهل العلم إلا أكرم الرعاية والترحيب. وقد شعرتُ بالسرور يغمر قلبي حين حدثوني أن الحياة الأدبية هناك تفوق ما نتصوره بمراحل طوال، ولا غرابة في ذلك: فالصلات الأدبية بين شطرَي الوادي تعين على تحقيق ما نرجوه لأهل السودان من التفوق في الأدب والبيان
وقد انتفعت بمعارف الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد عن الحياة في السودان، وهي معارف(416/20)
صدرت عن قلبٍ يحب أولئك الرجال حب الشقيق للشقيق
محمد فريد أبو حديد
وفي هذه الأيام ترد الأخبار بأن الأستاذ محمد فريد أبو حديد استُقبِلَ بحفاوةٍ عظيمة في الأندية الأدبية بالخرطوم، وأنه دُعِي لإلقاء طائفة من المحاضرات، ومن المؤكد أنه ظفر من إخواننا هنالك بالإعجاب، بفضل ما يملك من صفاء الفكر وجمال الأداء، وإنه لأهل لما لَقِيَ من جميل الترحيب
ومن طريف ما وفق إليه أنه حمل خمس مجموعات من مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر وأهداها إلى الأندية الأدبية في الخرطوم. والذي يعرف مطبوعات هذه اللجنة يدرك قيمة الفرح الذي قوبلت به تلك النفائس
فهل أستطيع أن أرجو أستاذنا مدير دار الكتب المصرية أن يتذكر أندية السودان حين يُهدي مطبوعات دار الكتب إلى الأندية الأدبية والعلمية؟
وهل يتفضل معالي وزير المعارف فيشير بإهداء أندية السودان طائفة من مطبوعات المجمع اللغوي ومطبوعات كلية الآداب؟
زكي مبارك(416/21)
في الاجتماع اللغوي
اللهجات العامية الحديثة
ضيق متنها وقلة مترادفاتها
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
- 4 -
من أهم ما تمتاز به العربية أنها أوسع أخواتها السامية ثروة في أصول الكلمات والمفردات. فهي تشتمل على جميع الأصول التي تشتمل عليها أخواتها السامية أو على معظمها، وتزيد عنها بأصول كثيرة احتفظت بها من اللسان السامي الأول، ولا يوجد لها نظير في أية أخت من أخواتها. هذا إلى أنه قد تجمع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة اسمها وفعلها وحرفها، ومن المترادفات في الأسماء والصفات والأفعال. . . ما لم يتجمع مثله للغة سامية أخرى، بل ما يندر وجود مثله في لغة من لغات العام. فقد جمع للأسد خمسمائة اسم، وللثعبان مائتا اسم؛ وكتب الفيروزابادي صاحب القاموس المحيط كتاب في أسماء العسل؛ فذكر له أكثر من ثمانين اسماً، وقرر مع ذلك أنه لم يستوعبها جميعاً. ويرى الفيروزابادي أنه يوجد للسيف في العربية ألف اسم على الأقل؛ ويقرر آخرون أنه يوجد أكثر من أربعمائة اسم للداهية؛ ويوجد لكل من المطر والريح والنور والظلام والناقة والحجر والماء والبئر أسماء كثيرة تبلغ عشرين في بعضها وتصل إلى ثلثمائة في بعضها الآخر. وقد جمع الأستاذ دو هامر المفردات العربية المتصلة بالجمل وشئونه، فوصلت إلى أكثر من خمسة آلاف وستمائة وأربعة وأربعين. وكذلك الشأن في الأوصاف: فلكل من الطويل والقصير والكريم والبخيل والشجاع والجبان. . . في اللغة العربية عشرات من الألفاظ
وفي ذلك تختلف العربية الفصحى اختلافاً كبيراً عن اللهجات العامية الحديثة المتشعبة عنها. فمتون هذه اللهجات ضيقة كل الضيق لا تكاد تشتمل على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي، وتكاد تكون مجردة من المترادفات، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في إحدى مقالاتنا السابقة(416/22)
وقد كان هذا أحد الأسباب التي حملت بعض الباحثين على أن يقف حيال مفردات اللغة العربية موقف الشك الذي وقفه آخرون حيال قواعدها. فزعم أنه لا يبعد أن يكون جامعو المعاجم قد خلقوا كثيراً من هذه المفردات خلقاً لحاجات في نفوسهم
وفساد هذا الرأي لا يكاد يحتاج إلى بيان
فلهجات المحادثة في جميع الأمم تقتصر في العادة على الضروري وتنفر من الكمالي، وتنأى عن مظاهر الترف في المترادفات وما إلى ذلك. ولذلك تتسع دائماً هوة الخلاف بينها وبين اللغة الفصحى في هذه الناحية فليست العربية فذة في هذا الباب، بل تشترك معها فيه جميع (لغات الآداب) أو (اللغات الفصحى) وإليك مثلاً اللغة الفرنسية الفصحى، أو لغة الكتابة، واللغة الفرنسية المستحدثة في التخاطب العادي، فالفرق بينهما في المفردات لا يكاد يقل عن الفرق بين العربية الفصحى واللهجات العامية الحديثة المتفرعة منها
أما جامعو المعاجم فيدلنا التاريخ وتدلنا آثارهم على شدة حرصهم على تحري الحق. فقد استخلصوا معظم ما اشتملت عليه معاجمهم من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أحاديث الرسول عليه السلام، والآثار العربية في العصر الجاهلي والعصور الإسلامية الأولى، واستخلصوا بعضه من العرب المعاصرين لهم. وكانوا شديدي الحيطة في هذه الناحية إلى حد الإفراط. فكانوا يتحاشون الأخذ عمن تشوب عربيته أية شائبة. ولذلك كانوا لا يكادون يأخذون إلا عن عرب البادية لفصاحة ألسنتهم، وبعد لهجاتهم عن التأثر باللغات الأعجمية، وعزلتهم وقلة احتكاكهم بغيرهم. فكانوا يترقبون مجيء أعراب البادية إلى المدن في التجارة أو غيرها. . . فيستمعون إلى حديثهم ويناقشونهم في مختلف شئون اللغة، ويدونون من فورهم كل ما يهديهم إليه هذا الحديث وترشدهم إليه هذه المناقشة بصدد مفردات اللغة ودلالتها ووجوه استخدامها. وكانوا يتبعون أحياناً ما يسميه علماء اللغة بطريقة (الملاحظة السلبية) فيرحلون إلى البادية ويقضون فيها بين ظهراني الأعراب الأشهر بل السنين، يعاشرونهم ويستمعون إليهم في أحاديثهم الطبيعية، ويدونون ما يقفون عليه في هذا السبيل، وفي ذلك يقول أبو نصر الفارابي في كتابه: (الألفاظ والحروف): والذين عنهم نقلت اللغة العربية من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه(416/23)
لم يؤخذ عن حضري قط، ولا من لخم وجذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرءون العبرية، ولا من تغلب لمجاورتهم للروم، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزدعمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين لأهل فارس والهند، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم لأهل الحبشة والهند، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة وثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن من المعنيين وغيرهم وقربهم من الجاليات اليمنية، ولا من حواضر الحجاز لأن ألسنة أهلها كانت قد فسدت حينئذ لإمتزاجهم بأمم كثيرة، ويقول ابن خلدون (وكانت لغة قريش أفصح اللغات وأحرصها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتها، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزامة وبني كناية وغطفان وبني أسد وبني تميم. فأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة لمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية)
وما اتخذوه من وسائل الحيطة حيال القبائل والأمكنة اتخذوه حيال الأزمنة والعصور. فلم يأخذوا إلا عن العصور التي كان فيها اللسان العربي سليماً لم يصبه بعد تبلبل أعجمي ولا انحراف عن أوضاع اللغة الفصحى. ولذلك لم يأخذوا إلا عن عرب الجاهلية والإسلام إلى أواسط القرن الثاني الهجري بالنسبة إلى فصحاء الإحضار، وإلى أوائل الرابع بالنسبة إلى فصحاء البادية؛ وسموا هذه العصور (عصور الاحتجاج). وأهملوا ما عداها مبالغة في الدقة وحرصاً على تحري وجوه الصدق واليقين.
أما الأسباب الحقيقية لكثرة المفردات والمترادفات إلى الحد الذي وصفناه فيرجع أهمها إلى الأمور الآتية:
1 - أن طول احتكاك لغة قريش باللهجات العربية الأخرى قد نقل إليها طائفة كبيرة من مفردات هذه اللهجات. ولم تقف لغة قريش في اقتباسها هذا عند الأمور التي كانت تعوزها، بل انتقل إليها كذلك من هذه اللهجات كثير من المفردات والصيغ التي لم تكن في حاجة إليها لوجود نظائرها في متنها الأصلي؛ فغزرت من جراء ذلك مفرداتها وكثرت فيها المترادفات في الأسماء والأوصاف والصيغ، وأصبحت الحالة التي انتهت إليها أشبه شيء(416/24)
ببحيرة امتزج بمياهها الأصلية مياه أخرى انحدرت إليها من جداول كثيرة. وإلى هذا يشير ابن جني في كتابه الخصائص إذ يقول: (وكما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن يكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هنا وهناك)، ويشير إليه كذلك ابن فارس في كتابه الصاحبي إذ يقول: (فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها؛ فإذا أتتهم الوفود من العرب يتخيرون من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائفهم التي طبعوا عليها).
2 - إن جامعي المعاجم لم يأخذوا عن قريش وحدها، بل أخذوا كذلك عن قبائل أخرى كثيرة؛ ومن المقرر أن لهجات المحادثة كانت تختلف في بعض مظاهر المفردات باختلاف القبائل حتى بعد تغلب لغة قريش على سائر ألسنة العرب. وكان من جراء ذلك أن اشتملت المعاجم على مفردات لم تكن مستخدمة في لغة قريش ويوجد لمعظمها مترادفات في متن هذه اللغة الأصلي وفيما انتقل إليها من غيرها، فزاد هذا من نطاق المفردات والمترادفات في المعاجم سعة على سعة
3 - إن جامعي المعاجم، لشدة حرصهم على تقييد كل شيء دونوا كلمات كثيرة كانت مهجورة في الاستعمال ومستبدلاً بها مفردات أخرى. فكثرت من جراء ذلك في المعاجم مفردات اللغة ومترادفاتها
4 - إن كثيراً من الكلمات التي تذكرها المعاجم على أنها مرادفة في معانيها لكلمات أخرى غير موضوعة في الأصل لهذه المعاني، بل مستخدمة فيها استخداماً مجازياً
5 - إن الأسماء الكثيرة التي يذكرونها للشيء الواحد ليست جميعها في الواقع أسماء، بل معظمها صفات مستخدمة استخدام الأسماء. فكثير من الأسماء المترادفة كانت في الأصل نعوتاً لأحوال المسمى الواحد، ثم تنوسيت هذه الأحوال بالتدريج وتجردت مدلولات هذه النعوت مما كان بينها من فوارق وغلبت عليها الاسمية. فالخطار والحطام والباسل والأصيد. . . من أسماء الأسد يدل كل منها في الأصل على وصف خاص مغاير لما يدل عليه الآخر، وكذلك ما يعد من أسماء السيف: كالمصمم والهندي والحسام والعضب والقاطع. . . وهلم جرا(416/25)
6 - إن كثيراً من الألفاظ التي تبدو مترادفة هي في الواقع غير مترادفة، بل يدل كل منها على حالة خاصة تختلف بعض الاختلاف عن الحالة التي يدل عليها غيره؛ وإليك مثلاً: رمق ولحظ ولمح وحدج وشفن ورنا. . . وما إلى ذلك من الألفاظ التي تدل على النظر؛ فإن كل منها يعبر عن حالة خاصة للنظر تختلف عن الحالات التي تدل عليها الألفاظ الأخرى. فرمق يدل على النظر بمجامع العين؛ ولحظ عن النظر من جانب الأذن؛ وحدجه معناه رماه ببصره مع حدة؛ وشفن يدل على نظر المتعجب أو الكاره؛ ورنا يفيد إدامة النظر في سكون. . . وهلم جرا
هذا، ومع ما كان يتخذه جامعوا المعاجم من وسائل الحيطة والحرص على تحري الصواب، فقد اندس في معاجمهم كثير من المفردات المولدة والمشكوك في عربيتها، وحرفت فيها كلمات كثيرة عن أوضاعها الصحيحة. ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة أهمها سببان:
(أحدهما) أن بعض الأشعار التي أخذوا عنها قد ثبت فيما بعد أنها موضوعة. فلا يبعد أن يكون بعض مفرداتها من اختراع الواضعين
(وثانيهما) أنهم كانوا أحياناً يأخذون عن الكتب والصحف. فحدث من جراء ذلك تحريف في كثير من الكلمات التي نقلوها. لأن الرسم في عصورهم كان مجرداً من الإعجام والشكل. فكان من الممكن أحياناً قراءة الكلمة الواحدة على عدة وجوه
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(416/26)
رسالة. . .
(للناقد الأزهري)
في أوائل القرن الهجري الحاضر كان يقيم في باريس جماعة من التلاميذ المسلمين الذين نزحوا من بلادهم لأجل العلم والتثقف، وكان يقيم بها أيضاً عالم مسلم من أهل الجزائر اسمه (سليمان بن علي)
توجه هؤلاء التلاميذ المسلمون إلى هذا العالم الجزائري المسلم يسألونه عن حكم لبس قلنسوة النصارى (البرنيطة) ويذكرون أن أحوال باريس تضطرهم إلى لبسها، لأنهم كلما مروا في شوارع باريس بلباسهم، توقف الناس عن يمين وشمال، وصاروا ينظرون إليهم متعجبين، ولأنهم يريدون أن يمنعوا عيونهم من ضرر البرد القارس في هذه البلاد. . . الخ
درس الشيخ هذا السؤال، ووضع في الجواب عنه رسالة مفصلة سماها (أجوبة الحيارى، عن حكم قلنسوة النصارى) أباح فيها لبس البرنيطة وأيد بما وسعه أن يؤيده به على طريقة فقهية سائغة
أفزع ذلك عالماً كبيراً من علماء الأزهر في ذلك الحين هو المرحوم الشيخ محمد عليش مفتي السادة المالكية فكتب رسالة في الرد على هذا العالم الجزائري تناوله فيها بألوان من الإقذاع والتسفيه، ووصمه بالجهل، والقصور، والتهجم على الشريعة، والخروج على إجماع المسلمين. . . الخ
وهذه نصوص من الرسالة (العليشية) نضعها أمام القراء،
قال الشيخ بعد الديباجة:
1 - (أقول: يأهل الذكاء تعجبوا ممن كان عيبه مستوراً، ففضح نفسه، ونادى به عليها بين الناس وصير عيبه مشهوراً، وبيان ذلك أنه تقرر في شريعة الإسلام أن السفر لأرض العدو للتجارة جرُحة في الشهادة، ومخل بالعدالة، فضلاً عن توطنها وطول الإقامة بها، وهذا الرجل (يقصد الشيخ الجزائري) كان مجهولاً مستوراً فعرف بنفسه بأنه من علماء المسلمين خرج عن حد الشريعة وتهتك، ولم يبال بالجرحة في شهادته، ولا باختلال عدالته، واختر مساكنة الكافرين في ديارهم، وزهد في مساكنة المسلمين وفسيح بلادهم. فيالها من فضيحة، وما أفظعها من وقيحة! ولم يشعر بها من شدة حماقته وكثافة جهله، وشدة غباوته. . .)(416/27)
2 - (يأهل الذكاء تعجبوا ممن كان عيبه مستوراً فأبى إلا إشاعته وصيرورته مشهوراً، وبيان ذلك أن قوله (أتوا من بلادهم لأجل التعلم) فيه اعتراف بالجهل بما يطلب تعلمه وما لا يطلب، وذلك أنه قد تقرر في شريعة المسلمين أن المطلوب تعلمه من أقسام العلم العلوم الشرعية وآلاتها وهي علوم العربية، وما زاد على ذلك لا يطلب تعلمه، بل ينهى عنه. ومن المعلوم أن النصارى لا يعلمون شيئاً من العلوم الشرعية، ولا من آلاتها بالكلية، وأن غالب علومهم راجع إلى الحياكة والقبانة والحجامة وهي من أخس الحرف بين المسلمين. وقد تقرر في شريعتهم أنها تخل بالعدالة. وهل كذب الرب جل جلاله في قوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من الحياة وهم عن الآخرة هم غافلون) وصدقت أنت في زعمك يا مفتون؟ فما أقبح حالك! وما أفظع مقالك)
3 - (إن قوله: امتداد القلنسوة يمنع عيونهم من ضرر البرد فيه فضيحة عظيمة، ومثقبة وخيمة، إذ لم يلتفت لمنع الامتداد المذكور من السجود للملك المعبود!)
4 - (وقد بقيت عليك وعليهم ورطة الإقامة في بلاد الكفار بالاختيار حيث لا جمعة ولا جماعة ولا أذان ولا إقامة ولا شعيرة من شعائر الإسلام، ومحل عبادة الأصنام والأوثان والصلبان؛ كيف يرضي بذلك من في قلبه إيمان؟ لا سيما وهو معرض للموت في كل نَفَس وأوان، وقبورهم حفر من النار، فكيف يختار المؤمن دفنه بها؟ فاخلعوا فوراً زي الكافرين، وهاجروا لبلاد المسلمين إن كنتم مؤمنين)
5 - (وقوله لم يرد تحريمها لا في كتاب ولا في السنة ولا في أقوال الأئمة فيه نداء على نفسه بالجهل والقصور، إذ قد دل الكتاب على تحريمها بقوله: (واسجدوا)، وبقوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) وبغير ذلك من الآيات؛ ومعلوم أنها مانعة من السجود، ودلت السنة على ذلك في قوله: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء. الحديث؛ وانعقد الإجماع على تحريمها ولا بد من استناده لكتاب أو سنة، وهو معصوم عن الخطأ كما هو معلوم؟ كيف يجوّز أحد من المسلمين لبسها وهو كفر إجماعاً أو على قول؟!)
6 - وقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية ضيقة الكمين، فضيحة فاضحة، لأن الجبة الذكورة لم يختص بها الكفار ولم تصر شعاراً لهم. . . وكيف تتجاسر يا أحمق يا مفتون يا غبي على نسبة لبس ملبوس النصارى الذي صار زياً لهم وعلامة(416/28)
على ذلهم وإهانتهم وكفرهم، إلا أشرف الخلق ومنبع الدين الحق، فأي فضيحة أفضح من هذه الفضيحة، وأي شنيعة أشنع من هذه الشنيعة، يا أعمى البصيرة، ويا خبيث السريرة؟ شقيت شقاوة لا تسعد بعدها أبداً، وصار دمك مهدوراً، والسعي في سفكه واجباً مشكوراً)
7 - وختم الشيخ رده بهذه النتيجة بعد كلام طويل:
(إنه تقرر في شريعة المسلمين أن حكم هؤلاء أمرهم بالتوبة والرجوع إلى دينهم، والتزيي بزي المسلمين. وإمهالهم لذلك ثلاثة أيام، فإن فعلوا ذلك قبلت توبتهم، وخلى سبيلهم؛ وإن تمت الأيام الثلاثة ولم يتوبوا، قطعت رقابهم بالسيف، ولا يغسلون، ولا يصلى عليهم لموتهم على الكفر. . . والسلام على من اتبع الهدى حامداً لمن نور قلب المؤمنين بالإيمان. . .)
هذه هي الرسالة العليشية، ولكل قارئ أن يحكم عليها بما يشاء، وأن ينقد أسلوبها في البحث، ولغتها في الحوار، وأدبها في المناظرة، على أن يقدر ظروف العصر الذي كتبت فيه، ونوع الثقافة التي كانت تسيطر على أهل العلم يومئذ؛ فإن كثيراً من تلك الأحوال، قد هذبه الزمان، وأصلحته الأيام
وأهم ما في الرسالة في نظري مما ينبغي أن تستخلص منه العبرة، هو محاولة المؤلف في جد واهتمام تكفير بعض المؤمنين أو تفسيقهم لأنهم أخذوا برأي لا يوافق رأيه، ولا يتمشى فيما يحسب مع رأي جمهور المسلمين!
وهذه النزعة إلى التكفير أو التفسيق بما لا كفر فيه ولا فسوق ما تزال سائدة في جو الأزهر، وقد انبثت عدواها على يديه في كثير من أنحاء مصر والشرق، فمنكر الوسيلة والتوسل كافر عند فلان، ومنكر سحر النبي صلى الله عليه وسلم كافر عند فلان، والذي لا يتلقى بالقبول كل ما يروون من المعجزات والكرامات شاك مكذب، والذي يدعو إلى تهذيب العقائد مما ألم بها من خرافات وأوهام لا يعرفها الإسلام ضال مضل، والذي ينهى عن الإحداث في الدين والابتداع في العبادات متهجم على الشريعة، منكر لما تلقته الأمة بالقبول!
تجد هذا كله إلى الآن، وتجد العامة في أقاليم مصر وأقطار الشرق يتعاركون فيه ويختصمون عليه، ثم يتجهون إلى علماء الأزهر بأسئلتهم: ما قولكم دام فضلكم في رجل(416/29)
أنكر كذا أو حكم بكذا؟ أهو مؤمن أم كافر، أتطلق عليه امرأته أم تبقى في عصمته؟ فإذا جاءهم ما أرادوا من فتوى شهروه في أيديهم سلاحاً ماضياً فتاكا في وجوه خصومهم ومجادليهم، وأثاروا به حولهم من أسباب الشغب والفتنة ما الله به عليم وليس هذا فقط! بل إن العلماء الكبار ليتجهون أحياناً إلى جماعتهم الموقرة، فيسألونها في عناية واهتمام: ما قول سادتنا أعلام الأمة جماعة كبار العلماء فيمن قال. . . كذا وكذا أو ناصر كتاباً فيه كذا وكذا من الأحاديث الموهمة خلاف ما يرى جمهور المسلمين بأن أشرف على طبعه وقدم له: هل يكفر أو يغسق أو لا ولا؟
يرد مثل هذا السؤال على (الجماعة) من أحد أعضائها، فتهتم به، وتجتمع له، وتؤلف له اللجان، وتبحثه المرة بعد المرة، وتعكف عليه كثر من عام: كل ذلك من أجل كتاب قديم نشره رجل من العلماء مع اعتراف الجميع بأن ما ورد فيه من الروايات والأحاديث قد ورد في غيره من كتب التفسير والحديث!
ففيم كل هذا؟ وأي مصلحة للإسلام والمسلمين ترجى من ورائه؟ ولماذا؟ ولماذا لم يُحكم فيما مضى، ولم تحكموا أنتم، بكفر المؤلف أو فسقه، حتى تأتوا اليوم فتتساءلوا: هل كفر الناشر أو فسق؟ تعقدون لذلك الجلسات، وترجعون فيه إلى المراجع، وتؤلفون من أجله اللجان!
اللهم إن هذه نزعة لا يسرنا أن تسود الأزهر، ولا أن تشجعها جماعة كبار علمائه. فإذا كان القديم في زمن (عليش) قد احتمل ذلك أو شرح به صدراً، فإن الجديد في زمن (المراغي) قد مله واجتواه وضاق به ذرعاً!
(الناقد الأزهري)(416/30)
الحياة الزوجية
في نظر الإسلام
للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي
- 3 -
خطبة الزواج
إذا كان الزوج كفئاً لائقاً ورضيته الفتاة، فليس للولي أن يعضُلها (يمنعها من التزوج به)، وإن فعل ذلك سقط حقه في الولاية عليها، وانتقل الحق إلى من يليه من عَصَبتِها، (ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) أي لا تمنعوهن ذلك؟ فهاتان حالتان لا يملك الولي أن يقهر المخطوبة فيهما على غير ما تريد:
1 - غير كفء يخطبها وهي ترفضه
2 - كفء يخطبها وهي فيه راغبة
وهناك حالة ثالثة، للاجتهاد فيها مجال، وللعلماء فيها مقال ومقال؛ هي: خاطب كفء لائق، ولكن المخطوبة ترفضه وتأباه؛ ففريق يرى قولها مسموعاً، وحقها ناهضاً، ما دامت رشيدة تعرف ما يطيب ويخبث من شئونها، وتدرك خيرها من شرها؛ وفريق يذهب إلى هذا الرأي كذلك إن كانت المخطوبة ثَيباً، أما إن كانت بكراً فليس لها أن ترفض من يراه الأب صالحاً وكفئاً، وإنما تستأذن فيه، عملاً بظاهر حديث الرسول: (تستأذن البكر، وتستأمر الشيب)، ويرون أن أباها أعرف منها بصالحها، فمن حقه إجبارها
وعلى الإجمال الذي يعفينا من التطويل، فإن الإسلام ينشد لكل من الزوجين رفيقاً ساراً، ويبتغي لكل منهما حياة مأمونة المكاره، ويلتمس من وراء ذلك نسلاً كريماً، وأمة ماجدة عريقة في الطهر والعفاف ومكارم الأخلاق
ويجمع هذه الأغراض كلها قول النبي (ص): (إياكم وخضراء الدِّمن): يحذرنا من المرأة الجميلة الشكل، القبيحة الأصل والأخلاق، ويشبهها بالدوحة الخضراء الندية تنبت في الدِّمن - وهي القاذورات ومطارح الزبالة - فإن يكن لها نصيب من حسن الرواء، وفرط البهاء، فبئس ما وراء هذا المنظر من شناعة المخبر(416/31)
ويجمعها كذلك قول النبي (ص): (تخيروا لنُطفكم فإن العِرق دساس) فهذه حكمته البالغة في نصيحة الزوجين والأولياء في حسن الاختيار قبل التوثيق والارتباط - وعلى المرء أن يسعى إلى الخير جهده - غير أن الناس في شأن الخطبة على أمور متناقضة؛ أكثرهم بأهل الجاهلية أشبه، وقليل منهم الراشدون؛ ففريق يتوسعون إلى الاختلاط، والخلوة، وما يدنو من هذين أو يعظم، ثم قد تكون النتيجة إفلات الأمل من أيديهم من حيث بالغوا في الحرص عليه، فلا يبقى لهم سوى الندم على ما فرطوا والخزي اللاصق بهم مما جنوا ما عاشوا.
وفريق يتحجر رأيهم وتجمد عقولهم فلا يمكنون الخاطب والمخطوبة من حقهما المشروع، وقد يتم الأمر ويكون أحد العشيرين على غير ما يرضى صاحبه، فتكون الحياة بينهما شقاء لا نعرف له نهاية، وسجناً لا يدريان له غاية
وفريق ثالث يسوقون الفتاة سوقاً إلى شخص ماجن أو رجل متهدم البنية يخطو إلى مقره الأخير، فيبدون لها من المحاسن ما ترجو هي بعضه، ولا يكون الأمر كذلك، وإنما هي رغبتهم في ماله، أو طمعهم في جاهه؛ وهذا نوع فاحش من التضليل، وشر لون من ألوان الغش؛ والنبي (ص) يقول: (من غشنا فليس منا)
فحسب هؤلاء أن النبي أبعدهم عن الإسلام، وإن الإسلام منهم بريء
أدب العشرة بين الزوجين
ما كان الإسلام ليُغفل علاقة الزوجين أن يدعمها ويدرأ عنها عوادي الخلف والجفوة، بعد أن دعاهما إلى الانضمام وهيأ لكل منهما سبيل اختيار صاحبه للمرافقة الدائمة في اجتياز هذه الحياة
بل وضع الإسلام منهاجاً مزدوجاً من أدب العشرة، وحتم على كل منهما أن يأخذ بالجانب الذي يتصل به من هذا المنهاج نحو صاحبه
وبعد أن حمّلهما الإسلام تلك الأمانة، أهاب بهما - مع مَن أهاب به من كل طرفين بينهما صلة - أن يرعاياها حق رعايتها؛ فهو يقف بهما أمام الحديث المقدس: (أنا ثالث الشريكين إذا لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان أحدهما صاحبه نزعت البركة من بينهما)
وعلى ضوء هذا الحديث تكون الحياة الزوجية لكل منهما طيبة مريئة، وتكون الشركة بينهما مثمرة مباركة، وإلا كانت صلتهما في الدنيا هماَّ ناصباً، وشقاء متعباً؛ ثم هي في(416/32)
الآخرة مأثم مأخوذ به من يقترفه، وعهد مسؤول عنه من خان فيه
(ا) أدب الزوج
يقول الله سبحانه للأزواج في شأن زوجاتهم: (وعاشروهن بمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)، فالقرآن يعطف قلب الرجل على زوجه، ويعلمه أن العشرة بالمعروف أمر يحتمه الدين إن لم تنهض به مروءة ولم تدفع إليه عاطفة
حتى إذا ما فترت جذوة الحب، وهدأت وقدة الاشتياق، وبدأ يلتوي عنها زهادة فيها أو طموحاً إلى سواها؛ فمن الحزم ألا يغلو في الصدود عنها، وألا يسرف في متابعة هواه، وأن يلتمس الخير من جانبها، فربما كانت - على سلوته عنها - مصدر نعمائه، وملتقى أمله ورجائه، وكثيراً ما تعزف النفس عن شيء ويجعل الله فيه خيراً كثيراً
كذلك يأمر الله أن يبسط الزوج كفه بالإنفاق على الزوجة غير مسرف ولا مجهود، بل على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)، فليس جائزاً للواجد أن يبخل، ولا مطلوباً من المعسر أن يتكلف، وإلا تصدع البناء بجموح المرأة إذا استفزها الزوج بشحه وتقتيره؛ وكم ترامي إلى الأسماع من سوء القالة بسبب شح الزوج، وعدم قيامه على رعاية الزوجة فيما تقتضيه العشرة. . .
فلإسلام حينما يطلب إلى الأزواج أن تسخو أيديهم على الزوجات، لا يرمي إلى شهوة الطعام والشراب وحدها، وإنما يتجه إلى شيء لا يعدله شيء، وإلى الاحتفاظ بنفيس دونه كل نفيس؛ ذلك هو العفاف مصوناً مما يشوبه، مضنوناً به أن تنال منه المساومات وتستغل فيه الحاجة
وفوق هذا الحض على كفاية الزوجة، يحظر علينا الإسلام أن يطمع الرجل في مال زوجته، أو يحتال في استرداد ما أعطاها من صداق؛ ويقول القرآن في ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) ويقول: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) ففي هاتين الآيتين يمنع الإسلام أن يقتنص الرجل مال المرأة كرهاً، على نحو ما كان شائعاً في الجاهلية، ويمنع أن يعضلها الرجل - يضايقها بنوع من أنواع الإساءة - ليستدرجها إلى ترضيته بشيء من مالها، أو لترد إليه بعض ما أعطاها. ويأمر الإسلام أن يدفع الزوج إلى الزوجة ما تستحقه من الصداقة نحلة:(416/33)
- خالصاً من شوائب النقص والتلكؤ في الوفاء - وليس يحل للرجل إلا ما رضيت به نفسها طائعة سمحة، فقد يطيب لها أن تجامله أو ترغب في معونته (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً). ونحن إذ نرى الإسلام يتحرى الاحتفاظ بحقوق الزوجة في مثل هذه الآيات، لا يعزب عن خواطرنا أنه كذلك يستبقي للرجل كرامته، ويؤيد ماله على الزوجة من الهيمنة، وأن زوجاً يتَناسى مكانة الرجولة، ويبتاع بها شيئاً من حطام الزوجة، لهادم بيده بناء الأسرة، وواضع نفسه حيث لا ترضى طبيعة الرجولة ولا تطمئن الكرامة إلى حراسته لأنوثة الزوجة
وإلى جانب ما ذكر القرآن من أدب الزوج، جاءت سنة النبي (ص) بالكثير من وصايا الأزواج، فيقول (ص): (استوصوا بالنساء خيراً، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتموهن بكلمة الله). ويقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). ويقول: (أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)
فالزوجة في اعتبار الإسلام أمانة عند الرجل، وهو مسئول عن الأمانة في غير هوادة أمام الله، والمرأة مخلوقة من ضلع، وهو أعوج بطبعه، فلا بد أن يكون بالزوجة بعض القصور، فمن شاءها تامة المواهب، وطمع في كمال النضج منها، فإنما يطمع في محال لم تتهيأ له طبيعة المرأة
وإن حاول الرجل تقويم المعوج منها كسَرها، وكسرها هو الطلاق، فليرتفق بها ما استطاع، لئلا يذهب تعديلها إلى كسرها بالطلاق، والطلاق مكروه عند الله، وإن كان جائزاً شرعاً
والنبي (ص) يصرفنا عن التعرض لذلك بقوله: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)
فالمرأة على أي حال بحاجة إلى الصبر على ما يمكن احتماله منها؛ ومن شرف الرجولة أن يكون الزوج سمحاً لا غضوباً، وبساماً لا قطوباً، وأن يكون محسناً معها في كل آن، وصاحب اليد عليها في كل شيء؛ واليد العليا خير من اليد السفلى كما يقول الرسول
(ب) أدب الزوجة
أما أدب الزوجة مع الزوج فيتمثل واضحاً في قول النبي (ص): (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). . . فانظر إلى هذا البيان الجامع الحق، تر(416/34)
أن فضل الرجل على زوجته يقتضيها في نظر الإسلام أن تتأدب معه إلى غاية من الأدب هي أقرب منزلة إلى العبادة؛ ولو كان السجود مشروعاً لغير الله سبحانه لكان لزاماً على الزوجة لزوجها، فإن لم يكن هذا فليكن ما يدنو منه من الأدب المشروع، حتى ليخبرنا النبي (ص) بأن من لم تتسم بهذه السمة لا حظ لها فيما تأتي به من القربى إلى الله، وإن كدّت في العمل وضاعفت في المسعى والجهود، فيقول (ص): (ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى) فليس لمن سخطها الزوج سبيل إلى الله سوى عدولها عن مغاضبة زوجها والتماسها مرضاته، وإلا فعذاب الآخرة يترصدها، ونعيمها غير ممدود إليها إلا بعد لأي وهوان
وفي هذا يقول الرسول (ص) (. . . ورأيت النار، فلم أر منظراً - يعني لم ير ما يسر - ورأيت أكثر أهلها النساء. قال الصحابة: ولمَ يا رسول الله؟ قال (ص): بكفرهن! قالوا: أيكفرن بالله؟ قال (ص): بكفرهن العشير - الزوج - وبكفرهن الإحسان: لو أحسنت إلى إحداهن الهدر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط!)
وفي هذا تنبيه للنساء إلى عيب شائع في الكثرة منهن، هو عدم اعترافها بفضل الزوج، حتى لو أنه غمرها بفضله، ومكن لها من عطائه وبره، ثم صادفت منه أمراً هيناً لا يعجبها، أنكرت ماله من حسنات سابقات؛ وإن القرآن ليعطف قلوب النساء على الرجال كما عطف قلوب الرجال عليهن، فهو يرجع بالمرأة إلى القناعة والرضا عما يستطيعه الزوج من النفقة، ويعدها بتفريج ما قد تحس به من ضيق، فيقول تعالى: (. . . ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسراً)، ففي هذا مواساة لمن قدر عليه رزقه كما أسلفنا، وفيه توجيه للمرأة: ألا ترهق الرجل بما لا يطيقه، مخافة أن يثقله العبء، وتعجزه الحيلة، فضيق بالحياة الزوجية، ويتصدع البناء
والقرآن يصارح الزوجة أكثر من ذلك بما للرجل من فضل، وبالسبب الذي كان من أجله ذلك الفضل عليها، فيقول: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)
فالرجل هو القوام - المهيمن - على زوجته، وصاحب الأمر معها في حدود ما شرع الله،(416/35)
لما امتاز به غالباً من حصافة ونضج، ولما ينفق من ماله ويلتزم لها من الحاجيات والمصالح، وكذلك يقول القرآن: (وللرجال عليهن درجة)، يعني للأزواج سلطة ورياسة، ولهم الأمر والنهي بمقتضى ذلك، فما ينبغي أن تأبى الخضوع له، وتتخطى حدودها معه، وعليها أن تمد إليه يد الطاعة، وتستمد الرأي من جانبه، ما دام غير متحيف ولا متجانف، لئلا تُعرّض الحياة بينهما لطوارئ الفساد والانحلال
وخلاصة ما يرجى من الزوجة تحدث بها النبي في إيجاز، إذ قال له سائل: أي النساء خير يا رسول الله؟ فأجابه: (التي تسره إن نظر، وتطيعه إن أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها - أو وماله - بما يكره)
ومن هذا الذي تحدثنا به ورويناه، يتبين للناس ما ينبغي أن يراعوه من نظام الحياة الزوجية، من آداب العشرة بين الزوجين، ولو أن الأمر هنا على ما يقتضيه النظام الإسلامي، لما سمعنا تلك الشكايات الصارخة تتردد على ألسنة الرجال من بعض النساء، وتنحدر بها مدامع النساء من قسوة بعض الرجال، والله يعلم المفسد من المصلح، ويعلم المنصف وغير المنصف
وسيجزي الله الذين أساءوا بما عملوا، وسيجزي الذين أحسنوا بالحسنى
(لها بقية)
عبد اللطيف محمد السبكي
المدرس بكلية الشريعة(416/36)
للحق والتاريخ
عبد القادر حمزة باشا
وقفة قصيرة بهامش أدبه الحي
كيف كان ينقل كنوز اللغات المختلفة إلى العربية
للأستاذ محمد السوادي
تحدثت إلى قرائي في جريدة (البلاغ) بعددها الصادر في اليوم الثامن من يونية الحالي عن بعض ما عرفت في (عبد القادر حمزة بين محرريه، وعبد القادر حمزة بين ذويه، وعبد القادر حمزة بين الجلال والحنان والدمع الغزير)
وأوثر أن يكون حديثي إلى قراء (الرسالة) حديثاً أدبياً يلائم أمزجتهم، ويوائم بينها وبين شعوري بالرغبة في حديث لا نهاية له في سيرة الرجل الذي تعلمت منه قارئاً ناشئاً، وأخذت عنه كاتباً شاباً، وقويت صلتي به في أثناء اشتغاله بطبع كتابه التاريخي الأخير، وعلى حين غفلة استرد هذه اليد مني ليتوارى عني، صاعداً بالروح إلى السماوات العلا حيث الحقيقة الكبرى التي ظل يبحث عنها طوال نصف قرن قضاه ضيفاً على الأرض.
وليس في نيتي أن أرسم لك صورة من أدبه - وإن كنت لا أنكر أن في نيتي العودة إلى رسم هذه الصورة على صفحات (الرسالة) نفسها - وإنما أريد اليوم أن أقف على (هامش أدب عبد القادر حمزة)، كما وقف هو على (هامش تاريخ مصر القديم)، فأسوق إليك لوناً من الروح الذي كان يحدوه وهو يفكر تفكيراً أدبياً، ثم يهديه وهو يسجل ثمار هذا التفكير:
على هامش ترجمته
ولكي تعرف كيف كان عبد القادر حمزة يترجم إلى العربية بعض كنوز اللغات المختلفة، فيبدع إبداعاً وفق فيه بين الأمانة الممكنة والسلاسة التي عرف بها، ثم ينفرد أخيراً بخاصة إخضاع الكلمات للمعاني التي يريدها، وخاصة صوغ العبارات التي تؤدي بقوة تماسكها وبساطة مفرداتها نفس المعاني. . . لكي تعرف بعض سر هذه الحقيقة، ينبغي أن تعرف رأي الفقيد في الترجمة، فإذا عرفت مدى تهيبه ضخامة المهمة الملقاة على عاتق المترجم،(416/37)
فإنك قادر مدى الجهود التي كان يحرص على بذلها وهو يترجم، وكاشف سر القوة التي جعلت منه مترجماً لا يجارَى ولا يقلد!
وهذا الرأي - رأيه في الترجمة - مثبت في أحد فصول المجلد الثاني الذي كان يشتغل بطبعه في الشهور الأخيرة وقضى قبل أن يفرغ منه، وشفيعي في إثبات هذا الرأي أو استعارته من كتاب تحت الطبع بغير إذن من أبناء الفقيد، ثقتي بأن هؤلاء الأبناء لا يغلَبون (شكلية) كهذه على وفاء أريد أداءه لتاريخ الفقيد الأديب، ولتاريخ الأدب في ذاته، وشعوري بأن روح الفقيد راضية في عليائها عن صنيعي هذا
رأيه في الترجمة
عرض الفقيد في أحد فصول كتابه للأدب في مصر القديمة فأثبت وجوده وأثبت له الجودة، ثم أسف على (أن المثقفين منا يعرفون إلى جانب الأدب العربي: الأدب الإنجليزي، والأدب الفرنسي، والأدب الألماني، والأدب الإيطالي، ومنا من يعرفون حتى الأدب الفارسي، وحتى الأدب اليوناني القديم؛ ولكننا لم نُعن إلى الآن بمعرفة أدبنا المصري القديم)
وبعد أن دلل على ضرورة هذا الأدب لنا قال:
(ولا يطمع القراء في أن أنقل إليهم ما أنقله من هذا الأدب في بلاغته الأصلية، فإن المترجمين يعرفون أن شعر شكسبير الإنجليزي، أو راسين الفرنسي، أو جيته الألماني، تُفقدَه الترجمة كثيراً من بلاغته؛ ومثل ذلك شعر امرئ القيس أو أي شعر عربي آخر إذا نقل إلى لغة أوروبية؛ وهذا لأن الشعر أو النثر الفني الذي يسمى أدباً يتكونان من عنصرين: أحدهما الفكرة، والثاني الصياغة؛ واجتماع هذين العنصرين هو الذي يبعث في النفس أثراً خاصاً وموسيقى خاصة، والترجمة تنقل الفكرة ولا تنقل الصياغة، فكأنها تنقل الهيكل العظمي دون اللحم والدم. وهذا يقال في أدب عصري، أو في أدب لم يمض عليه غير بضع مئات من السنين؛ أما الأدب الذي مضت عليه خمسة آلاف سنة، أو ثلاثة آلاف على الأقل، فيجب أن يقال فيه إلى جانب ذلك إنه ابن بيئة تختلف عن البيئات التي يعرفها العالم الآن، وقد وجد في ظل عقلية واعتقادات وتقاليد وعادات لم يبق لها وجود وقل من يعرفها ومن المسلم به أن الأدب يكتسب كثيراً من العقلية والاعتقادات والتقاليد والعادات(416/38)
التي يعيش فيها، بل هو لا يكون أدباً حياً إلا إذا امتزج بها وكان وحياً منها؛ ولهذا السبب يكون نقل الأدب المصري القديم الآن الى اللغة العربية تجريداً له من هذه العناصر كلها فوق تجريده من الصياغة وموسيقاها؛ ولهذا السبب نفسه سترانا محتاجين في كثير من الأحيان الى إعطاء بيانات وتعليقات ننقل بها القارئ - على قدر استطاعتنا وفي حدود دراستنا - الى العصور التي قيل فيها ما نعربه لهم من القطع الأدبية)
جلال المهمة
هذا هو رأي عبد القادر حمزة في الترجمة؛ فما الذي نخرج به من هذا الرأي لنلتقي بعبد القادر حمزة المترجم؟
نخرج من هذا الرأي بالنتائج الآتية:
أولاً - يرى الفقيد أن الترجمة تنقل الفكرة ولا تنقل الصياغة
ثانياً - إن الفكرة أشبه بالهيكل العظمي، وإن الصياغة أشبه باللحم والدم؛ فالترجمة ليست إلا تجريداً للنتاج من اللحم والدم
ثالثاً - إن الترجمة تتطلب فهماً للنتاج المنقول، والفهم يتطلب دراسة الزمن الذي قيل فيه هذا النتاج، والبيئة التي وجد فيها القائل، والعقلية التي أصدر عنها، والتقاليد والعادات والاعتقادات التي أثرت فيه فتأثر بها
رابعاً - إن الأدب لا يكون حياً إلا إذا امتزج بهذه العوامل وكان وحياً منها
وضع الفقيد هذه القوانين الأربعة أمامه حين هم بالنقل عن الأدب المصري القديم، ثم رأى فيها سبباً يجعل هذا النقل بمثابة تجريد للمنقول من هذه العناصر، أو من اللحم والدم. . . فلماذا إذاً أقدم على النقل، وهل نقل إلينا هياكل عظيمة تحقق النذير الذي أنذرنا به وخوفنا منه؟
كلا. . . وإنما أعطانا (بيانات وتعليقات) نقلنا بها إلى العصور التي قيل فيها ما عربه لنا؛ وتواضع فقال إن هذه البيانات والتعليقات هي على قدر ما في استطاعته وفي حدود دراسته
وشيء أجل قدراً قام به ولم يشر إليه، هو توفره قبل النقل على دراسة العقلية والعادات والتقاليد والاعتقادات التي كانت سائدة في تلك العصور، والتي سبق أن أشار إليها، ثم لم يدر مدى التوفيق الذي أحرزه، وخشي أن يكون هذا التوفر غير كاف، وهذا التعمق غير(416/39)
بالغ به الأعماق، فقال إنه محتاج الى إعطائنا بيانات وتعليقات، في حين أن هذه البيانات والتعليقات إنما أفادت في تهيئتنا لاستقبال نتاج هذه الآباد، وأطلقت حولنا من بخور القدم ما خالط أنفاسنا، فعشنا في الجو الفرعوني ونحن نطالع نتاج تلك العصور؛ أما الترجمة - ترجمة النصوص أو الأصول - فقد جرى في هيكلها كثير من الدم القديم، ورأينا بعين المخيلة لحمها مقروناً بهذا الدم الغزير، وشعرنا بالحياة تدب في الهيكل، وبالمنقول أدباً حياً نقله الفقيد فأحسن نقله. وهذه النتيجة التي تكاد تكون لوناً من الإعجاز لم تكن بسبب البيانات والتعليقات وحدها، بل كانت وحياً من فهم الفقيد عقلية تلك العصور، وإدراكه الكثير من عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم
نماذج وأمثلة وأسانيد
ولكي ترسخ هذه الحقائق في أذهان القراء الذين يبحثون وراء الأسانيد لكل حقيقة يتصدون لها، أرى لزاماً علي أن أقدم إليهم أمثلة للبيانات والتعليقات، ونماذج من القطع الأدبية التي ترجمها الفقيد في مجلده الثاني الذي أرقب صدوره في القريب بكثير من التشوق والمصابرة
أراد الفقيد أن يترجم بعض القصائد والأغاني، فعرضت له كلمة (أخت) وكلمة (أخ)، فرأى أن يقدم بياناً لهذه التسمية، فلما قدم البيان وجده منطوياً على ما يتصل بالفكرة الخاطئة التي أرساها المؤرخون في الأذهان، فنمت واستقرت بفعل التكرار وعلى الأزمان، فكرة أن الأخت كانت تتزوج من أخيها، فرأى الفقيد أن يكون له تعليق على البيان يجلو غامض الفكرة الخاطئة؛ ومن هنا جاءت عنايته بالبيانات والتعليقات، وجاء دور التعليق على الفكرة الشائعة؛ فقال رحمه الله:
(وهنا استطرد قليلاً فأقول: إن إباحة زواج الأخت بأخيها كانت معروفة في الأسر المالكة لسببين: أولهما الحرص على الدم الشمسي، أي الدم الملكي، والثاني: أن حق البنت المولودة من أب هو ملك وأم هي ملكة في وراثة العرش، كان أقوى من حق الابن المولود من أب هو ملك وأم ليست ملكة، بحيث كانت الأخت في حالة كهذه هي التي تعتبر وريثة شرعية للعرش دون أخيها، ولهذا كان يقترن بها ليكون حقه في العرش شرعياً
(كان هذا هو المعروف في الأسر المالكة، أما في غيرها من عامة الشعب فلم تكن الحاجة(416/40)
ماسة الى الحرص على دم شمسي، ولا إلى وراثة عرش، ولذلك يرى بعض العلماء أن القول بإباحة زواج الأخت من أخيها بين أفراد الشعب يجب أن يبقى محل تحفظ إلى أن تقوم عليه أدلة كافية، لأن جميع الحالات التي عرف إلى الآن أن أختاً تزوجت فيها بأخيها، هي حالات خاصة بالأسر المالكة)
أما وقد عرفت الآن مبعث تسمية (الحبيبة) و (الحبيب) بكلمتي (الأخت) و (الأخ) فالفقيد يقدم إليك صورة من غزل أحد الشعراء يشكوا إعراض أخته عنه وصدها له، ثم يفكر في ألوان من الحيل عسى أن يظفر برؤيتها، فيقول:
(سأرقد في سريري متمارضاً
(فيعودني جيراني
(وتعودني أختي معهم
(وتضحك أختي من أطبائي
(لأنها تعرف دخيلة مرضي!)
ويطيب للفقيد أن يقف بعد كل بضعة سطور ليقارن أو ليفاضل بين الأدب فيما قبل خمسة آلاف سنة والأدب الحديث في مختلف اللغات، بل الأدب العربي الذي درسناه، فليفتك إلى أن تمني الحبيب أن تزوره حبيبته إذا رقد في سريره مريضاً أو متمارضاً شائع في عز الشعر العربي، كقول الشاعر:
ماذا عليكِ إذا خُبِّرْتِني دِنفا ... رهن المنية يوماً أن تزوريني
. . . وإلى أن جهل الأطباء بمرض الحب شائع أيضاً كقول
قيس بن ذريح:
عيدَ قيس من حب لبنى ولبنى ... داء قيس والحب داء شديد
وإذا عادني العوائد يوماً ... قالت العين: لا أرى من أريد!
ليت لبنى تعودني ثم أَقضي ... إنها لا تعود فيمن يعود
ويمضي فقيدنا بشاعرنا المصري وتمنياته أن يكون الخاتم الذي تلبسه الحبيبة (الأخت) في إصبعها، أو إكليل الزهر الذي يطوق عنقها ويداعب صدرها، وهو لا يتردد في أن يسقيها - لو استطاع - شراب الحب ليحملها على أن تفتح بابها قليلاً وتسمح له برؤيتها، وحين لا(416/41)
يجد فائدة من كل هذا يتجه وجهة أخرى ليركب النيل إلى حيث الإله بتاح صاحب (الوجه الجميل) في ممفيس، ليتضرع إليه أن يهيئ له رؤية أخته. وقبل أن يشرع الفقيد في الترجمة يهيئ لك جوها ويعقد الصلة بينك وبين هذا المحب، ويعرفك أنه من أهل طيبة؛ فهو إذاً ركب النيل إلى ممفيس يكون (نازلاً) من مصر العليا، ويكون في نزوله سائراً مع التيار، وهذا أدعى إلى الإسراع، لأن السفن لم تكن تعتمد في ذلك الوقت إلا على الشراع أو المجذاف
وبعد أن يضنى الفقيد نفسه فيعقد أواصر هذه الصداقة بينك وبين ذلك الجو القديم، يمضي بك إلى سطور أخرى ينقلها إليك على هذا كله، لتقرأ منها قول الشاعر:
(سأركب النيل نازلاً مع التيار
(وسأمضي مسرعاً
(وباقة من الريحان على كتفي
(وسأصل إلى مدينة عنخ تاوى (أي ممفيس)
(وهناك أقول للإله بتاح رب العدل:
(هيئ لي أن أرى الليلة أختي!
(أن النهر لخمر
(وأن بتاح لَنَابه
(وأن سخمت (هي آلهة الانتقام أو الحرب) لبرديه
(وأن إنريت (معبود كان في سمنود الحالية) لبرعومه
(وأن نفرتوم (ابن الإله بتاح) لأزهاره
(وفتحت ذراعيها لي
(شعرت كأن أزكى روائح بلاد العرب تغمرني
(ثم إذا افترت شفتا أختي
(وأدنتهما مني وقبلتني
(فذلك لي هو السكر من غير مسكر)
هذا نموذج من أدق النماذج، لأن العقائد فيه خالطت العرف وتصاعدت روائحها إلى أنف(416/42)
القارئ المعاصر.
وإلى هنا أقف راجياً أن أواصل هذا الحديث في القريب، بل راجياً أن أصل بينه وبين مواجهة (عبد القادر حمزة الأديب) في بضع حلقات تتألف منها سلسلة دراسات (مركزة)، فما أردت بهذا المقال (تركيزاً)، وإنما أردت أن أثير اهتمام الأدباء برجل مجده الناس كاتباً سياسياً لا ند له في مصر ولا نظير، وجلوه أديباً من طراز معين، أديباً مثرياً طائل الثراء في طرائقه الخاصة، في التفكير وفي الأسلوب، وفي الترجمة وفي الإنشاء
نعم، هي وقفة بهامش أدبه، فإلى اللقاء عند هذا الأدب
وليرحم الله عبد القادر حمزة، فلسوف يسمو ويزداد سمواً كلما تقادم العهد ومضت الأيام على وفاته
لقد كان تاريخاً، فمن حق الجيل دراسة هذا التاريخ
محمد السوادي(416/43)
الإسكندرية بعد الفاجعة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
يا كُنتَ مصطاف ريفيٍ ومربعه ... يا ثغرُ في جنبات الريف تصطاف؟!
مهاجرون على الأنصار قد نزلوا ... كِلاَ الفريقين رحبُ الساح مِضْياف
يا ضاحك السن ما للعين دامعة ... في الصبر أجر وللرحمن أَلطاف
أم القرى حمدت من قَبلُ هجرتَها ... واستنَّ للخَلَفِ الباقين أسلاف
لعلَّ في تاركي دور محطمة ... ملاذ أمن لمن ضلوا ومن خافوا
لعل في الصبية الباكين أهْلَهمُ ... نصلاً له من خطوب اليُتم إرهاف
لعل في دَمِنا الزاكي زكاة مُنىً ... عِرقُ الأمانيِّ في الأوداج نزَّاف
ما حزَّ في مهجتي خطب ألم بها ... كالعجز عن صد من ضلوا ومن حافوا
كأنني مفرد في الثغر مرتهن ... بتُربِه ولصوت الموت إِرجاف
ما راعني فيه ما انقضَّتْ صواعقه ... بل راعني أن خلا في الصيف مصطاف
هذى الديار فأين الواعدون بها ... لم يبق إلا سَمادِيرٌ وأطياف
(أضحت خلاء وأضحي أهلها احتملوا) ... قف يا لساني فبعض القول إسفاف
لم يُخنِ دهر عليها - لا ولا أبداً ... ما مثل اكنافها في الدهر اكناف
ألْفان تُملى على الدنيا محاسنها ... وسوف تشهد آلافٌ وآلاف
عبد اللطيف النشار(416/44)
أغنية البلبل. . .
للأديب محمود السيد شعبان
طاَفَ في قَلْبي نَشِيدٌ ... بالمُنَى يَمْلأُ نَفْسِي!
وَأَنَا اليَائِسُ يَا بُلبُلُ ... مَا يَهدَأُ يَأسِي
هَذِهِ كأسِي!. . . فَهَلْ=يُرْضِيكَ أنْ تَفْرَغَ كأسِي؟
لاَ غَدي يَضْحَكُ لي فِيهَا ... وَلاَ يَرْجِعُ أَمْسِي!
أَيُّهَا البُلبُلُ!. . . إنّي ... ظاَمئٌ فَارْوِ لهاتِي
هَاتِ لِي مَا شِئْتَ ... يَا سَاحِرُ مِنْ لَحنِكَ هَاتِ
وَأدِرْ كأسَكَ بالحُبِّ ... لِتَحيَا فِيهِ ذَاتي
سَوفَ يَفَني الجَسَدُ ... البَالِي وَتبَقَى صَبَوَاتي!
أَيُّها البُلبُلُ. . . خُذْ أُغْ ... رُودَةَ العُشَّاقِ عَنِّي!
وَتَعَلَّم كَيفَ تَحيَا ... لِلهَوَى العُذْريِّ منِّي
عُشهَا في القَلبِ مَهجور ... رٌ. . . وَلَكِنِّي أُغَنِّي!
وَأَنَا الشاعِرُ يَا ... بُلبُل دُنْيَاه التَّمَنِّي!
في مَغَانِي الحُسْنِ يَا ... بُلبُلُ هانَحْنُ التَقَيْناَ!
مَا عَلَيْنَا إِنْ مَلأناَ ... الكَوْنَ سِحْراً مَا عَلَيْناَ؟
الهْوَى مِلكُ صِبَاناَ ... والصِّبَى مِلءُ يَدَيْناَ!
فَدَعِ الألْحَانَ يَا ... بُلبُلُ تَرْوِى شَفَتَيْناَ!
الهَوي ياَ عَابِدَ الالْ ... حَانِ كأسِي وَشَرَابي!
وَالمُنَي يَا عَاشِقَ الأوْ ... هَامِ هَمِّي وَعَذَابي!
وَأنَا. . . في مَوْكِبِ الحِرْ ... مَانِ وَدَّعْتُ رِغَابي!
المُنَى حُلمُ فُؤَاَدِي ... وَالأسَى لَحنُ شَبَابي!
كُلُّ صَداَّحٍ عَلَى الأيْ ... كِ ِيُحَيِّيِهِ حَبِيبُ!
وَأنَا بَينَ الوَرَى في ... هَذِهِ الدُّنيَا غَرِيبُ
لَيْتَهَا يَا بُلبُلي يَوْ ... ماً لِنَجْوَايَ تُجِيبُ!(416/45)
ذَهَبَ العُمرُ. . . وَمَالِي ... مِنْ لَيَالِيها نَصِيبُ!
أَنَا يا بُلبُلُ في دُنْـ ... يايَ أحْلاَمُ شَرِيدِ
أَنَا لَحنٌ حَائرٌ بَيْ ... نَ سَمَاواتٍ وَبِيِد!
أَنَا مِعْنيً مِنْ شَقَا ... ءِ الرُّوحِ فِي قَلْبٍ سعِيِدِ!
اللَّظَى مَهدُ فُؤَادِي ... وَالصَّدَى وَحيُ نَشِيِدي!
غُرْبَتي طاَلَتْ عَنِ الرُّو ... حِ. . . فَرُدِّيني لِنَفسِي!
لَمْ يَعُدْ يُنْشِدُ قِيثَا ... رِي وَلاَ تَضْحَكُ كأسي
أَنَا مِنْ بَعْدكَ ضَيَّعـ ... تُ سُدًى يَوْمي وَأَمْسِي
وَغَدِى؟. . . ضَلَّتْ إِليْ ... هِ النَّفسُ في ظُلمَةِ يَأسي
قُبلَةٌ حَيْرَى عَلَى ثَغْ ... رِي تُناَدي شَفَتَيْهَا!
مِلؤُهَا شَوقٌ وَلكنْ ... أَيْنَ مَنْ يَحْنُو عَليَها؟؟
وَيَدٌ كلُّ مُنَاهَا ... رَقدَةٌ بَينَ يَدَيهَا!
أَنَا يَا بُلبُلُ مِنها ... قَبَسٌ حَنَّ إِليها!
نَحنُ يَا بُلبُلُ كأَسَا ... نِ مِنَ الحُبِّ مُلِئنَا!
نَحنُ سِرَّانِ جَرِيحاَ ... نِ التقَيْنَا فَهَنِئْنَا!
نَحنُ لحناَنِ حَبِيبا ... نِ إِلى مَهدِكَ جئْنَا!
الغَرَامُ العَفُّ مَا ... شِئْتَ مِنَ الدُّنَيا وَشِئنَا!
بَارِكِي وَحْدَةَ صَدَّاحٍ ... أَمَانِيهِ شَقَاءُ!
كلّما أَضْنَاهُ يَأسٌ ... عَادَهُ مِنكِ رَجَاءُ!
وَخُذِيِهِ مِلَء دُنياكِ ... نَشِيداً يَا سَمَاءُ!
هُوَ في الحبِّ فَنَاءٌ ... وَمِنَ الحبِّ بَقَاءُ!
هَاهُنَا مَعبَدُ حُسْن ... لَمْ يُفَارِقَهُ سَنَاهُ
التَقَتْ فِيهِ صُدُورٌ ... وَارْتَوَتْ فِيهِ شِفَاهُ!
وَتَلاَقَى عِندَهُ العُشَّا ... قُ. . . كلُّ وَهَوَهُ!
فَتَعَالَىْ يَا هُدَى رُو ... حِي نَكُنْ نَحنُ حُلاَهُ!(416/46)
هَاهُنَا أَيْكُ أَغَا ... رِيدٍ وَأَعْشَاشُ قُلُوبِ!
ما أَرَى فِيها سِوَى إِل ... فَينِ كالَّلحِنِ الطّرُوبِ
هَاتِ لِي زاَدِي مِنَ ... الحُسنِ وَقيِثاَرِي وَكُوبي
إِنْ يَكُنْ حُبُّكِ ذَنْباً ... فأنَا أَهْوَى ذُنُوبي!
هَاهُنَا هَيكَلُ حَبٍ ... للِمُصَلِّينَ مُبَاحُ!
سَجَدَتْ فِيهِ جِبَاهٌ ... وَالتَقَتْ فِيهِ جِرَاحُ!
إِن أَلحانَكَ يَا بُلبُلُ ... للِعُشَّاقِ رَاحُ!
فَعَلى رِسْلِكَ. . . قَدْ طَا ... شَ بِهِمْ مِنكَ مِرَاحُ
هَاهُنَا. . . كم نَعِمَ القل ... بُ بأَحْلاَمِ اللِّقَاءِ!
يَا لَياَلِيِهاَ!. . . لَقَد طَا ... لَ عَلَى الدُّنْيَا شقَائي!
أَنَا مَنْ خَلَّفْتُ لِلْحِرْ ... مَانِ أَوهَامِي وَرائي
وَذَوَتْ في نَفْسِيَ ... الحيْرى أَغارِيدُ هَنَائي!
يَا فَتَاتي!. . . كَيفَ يُرْض ... يكِ شَقَائي ياَ فَتَاتي؟
في دَمِي شَوقٌ يُناَدِ ... يكِ: تَعاَلَيْ يا حَياتي
أناَ فِي مِحْرَابِكِ الطاّ ... هِرِ طَالتْ بي صَلاَتي
فَدَعِيني سَاعَةً فِيهِ ... أُبَارِك صَبَوَاتي!
هَذِهِ قيثَارَةُ الحُبِّ ... تُغنِّي في يَمِيني!
فَدَعيني أُطرِبْ الدُّن ... يَا بِنَجْواكِ. . . دَعيني
وَأَنا النَّاسكُ يَا رُو ... حِي وَنُسكِي فِيكِ دِيني
صَلَوَاتِي بَعضُ أَشْوَا ... قي وَأَوْرَادِي حَنِينِي
أَنا أُغرودَةُ أَيَّا ... مِي وَقيثارَةُ عَصرِي
أَنا وَحْدِي شَاعرُ الحبِّ ... وَمَنْ للِحُبِّ غَيرِي؟
تَنفِدُ الدُّنيِا وَلا يَنْ ... فَدُ يَا حَسْناءُ شِعْري
وَيَجفُّ الزّهرُ إنْ عَا ... شَ وَلا يَذُبلُ زَهْري
أَناَ لِلأَشوَاقِ يا ... أُنشُودَةَ الرُّوحِ وَقُودُ!(416/47)
شاعِرٌ أَحْيتْهُ في ... دُنيَا الأمَانيِّ وُعُودُ!
أَبَداً نَحْوَاهُ أَلحانٌ ... وَدَعْوَاهُ سُجُودُ
هُوَ إنْ غِبتِ فَنَاءٌ ... وَإذَا عُدتِ وُجُودُ!
يَا حَيَاةَ القَلْبِ!. . . قَدْ طاَ ... لَ إلى سَعْدِي حَنِينِي
وَأَناَ وَحْدِي!. . . فَإنْ شِئْ ... تِ إلى حُبِّي خُذِيني
هَذِهِ دُنْيايَ! مَالي ... في الأسَى ضَاعَتْ سِنِيني؟
سَئِمَتْ رُوحِي مُنَاهَا ... فَإذا مِتُّ اذكُرِيني!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان(416/48)
البريد الأدبي
حول إصلاح الأزهر
ظهر في العدد (415) من مجلة (الرسالة) الغراء كلمتان في إصلاح الأزهر: إحداهما لفضيلة الأستاذ المدني، والثانية لفضيلة الأستاذ عبد الآخر. فأما الكلمة الثانية، فيرى كاتبها أن فضيلة الأستاذ المراغي نفذ الإصلاح الذي وضعه، وذلك بتنقية الكتب الأزهرية وتهذيبها وتحسين طريقة عرضها والكتب الأزهرية لا تزال على حالها، وكلنا يعرف أن الفساد متغلغل فيها بحيث لا يفيد في علاجه تنقية ولا تحسين عرض. وأما مسألة انصرافنا إلى الوظائف وما إليها، ففضيلة الأستاذ عبد الآخر أدرى الناس بها، وفضيلته يعرف (مسألة العرائض) التي كادت تقضي على عهد الإصلاح لولا لطف الله تعالى
وأما كلمة الأستاذ المدني، فهي متفقة مع كلمتي الأولى كل الاتفاق، وإن حاول الأستاذ المدني أن يهون من أمر الرجعيين المعارضين للإصلاح. وعجيب أن يهون من أمرهم ولهم في كل وقت ثورات عنيفة على كل من يحاول تجديداً في بعض الأحكام، أو يريد فتح ذلك الباب المغلق على الاجتهاد من قريب أو بعيد، وهم إذا قاموا بتلك الثورات يقوم وراءهم جنود مجندة من العامة وأشباه العامة، ويقف طالب الإصلاح وحده لا معين ولا نصير. ولو كان أولئك الرجعيون يعتمدون في ثورتهم على الدليل لهان الأمر، ولكنهم لا يعتمدون في ذلك إلا على التكفير ولا يفكرون إلا في محاربة ما يعتمد عليه طالب الإصلاح من وسائل العيش، وقد رأى الأستاذ المدني كل هذا ببصره، وسمعه بأذنه، ولمسه بيده، فكيف يهون بعد هذا من أمره؟
(عالم)
بين عبد القادر حمزة والعقاد
قرأت في العدد الفائت من (الرسالة) كلمة للأستاذ محمود الشرقاوي عن المغفور له الأستاذ عبد القادر حمزة باشا
وأنا موافقة على كل ما ذكر للفقيد الكبير من خلال طيبات لمستها كما لمسها في أثناء اشتغالي معه في البلاغ من سنة 1928 إلى سنة 1931؛ وفي خلال السنوات السابقة(416/49)
واللاحقة لهذا العهد وكنت فيها جميعاً على صلة طيبة بالراحل الكريم. . .
وقد بعثتني هذه الصلة العزيزة إلى رثائه شعراً على صفحات البلاغ وأنا في سرير المريض ممنوع من الجهد والتفكير؛ إلا أن ذكر حقوق الراحلين لا يجوز أن يحملها على غمط حقوق الأحياء وطمسها أمام التاريخ، فالظلم ظلم للموتى وللأحياء سواء. . .
يقول الأستاذ الشرقاوي في موضع من كلمته القيمة: (ذلك الصراع الذي قام به عبد القادر حمزة وحده مواجهاً به ومتحدياً أقوى حكومة. . .). ثم يقول في موضع آخر: (ولكن عبد القادر حمزة ظل يكافح في كل يوم وحده حتى نخر الجبل الشامخ الراسخ. . .)
وكلمة (وحده) هي الكلمة التي تجاوزت حد الحق، فالراحل الكريم قد صنع في هذا الكفاح الذي يشير إليه الأستاذ ما يصنع أصحاب الرأي الأبطال، وقد كلل جهاده بنجاح سيخلده تاريخ مصر السياسي وتاريخ الرأي والعقيدة؛ ولكن يجب أن نذكر أن هناك قلماً آخر صنع الأعاجيب في هذا النضال وعلى صفحات البلاغ أيضاً وفي نفس هذه الأيام ذلك هو قلم العقاد الجبار
بل لقد كان ذلك القلم هو أول قلم حمله صاحبه في وجه (ديكتاتورية الرأي) قبل أن يأخذ البلاغ موقفه في جانب المعارضة الصريحة أيام وزارة نسيم باشا، وفي وقت لم يكن أحد - غير العقاد - يجرؤ على اتخاذ هذا الموقف المخيف في جريدة روز اليوسف اليومية.
أما اجتماع القلمين على صفحات البلاغ بعد هذا بعام فقد وضع النهاية التي انتهت إليها المأساة. ولست أدري: أن كنت اليوم بعد انقضاء هذه الأيام بخيرها وشرها في حل من نشر شيء من أسباب التمهيد لاجتماعهما لم يعلم به كلاهما
كان العقاد قد ترك البلاغ وفي نفسه شيء زادته حوادث وقعت بعد خروجه، كما جعلت شيئاً في نفس صاحب البلاغ.
وكنت أرى أن المعارضة لا تجتمع لها قوتها كاملة حتى يجتمع هذان القلمان في ميدان: هذا قلم يحطم ويزلزل كالصواعق والأعاصير، وذلك يجادل ويحاور ويجمع الحجج الدامغة والأسانيد المفحمة ويسدد الضربة في الصميم.
وفي يوم كنت عند العقاد فقلت:. . . (ولم لا ترجع الآن إلى البلاغ؟) قال بكبريائه الشامخة المعهودة: (وهل أنا الذي تُطلب مني العودة؟) قلت: (إن صلتي بصاحب البلاغ تسمح لي(416/50)
أن أصنع شيئاً) فقال بحدة وكان قد لان عند السؤال الأول: لا. لا تصنع. فمهما كانت صلتك بصاحب البلاغ فإن صلتك بي أقوى. وسيقال: إن العَرض جاء من جانب أحد أصدقائه)!
وانصرفت وفي نفسي أن الموقف يحتم اجتماع القلمين وأن لا بد لهما من الاجتماع؛ وبقى أن أتفادى غضب العقاد
فتركت أياماً قليلة تنقضي وزرت الراحل الكبير في جريدة البلاغ في المساء حيث تكون في مأمن من مشاغل العمل
ودار الحديث عن المعارضة ووجوب تنظيمها وتوجيهها، وانسللت من هذا إلى أن أقول: (ولكن هناك قوة معطلة عن العمل وهذا وقتها) فقال: (تعني الأستاذ العقاد؟) قلت: (نعم) قال: (ولماذا لا يعود؟ أن البلاغ وكره القديم!) قلت: ولكنك يا سيدي تعرف العقاد وتعرف أنه مغضب من البلاغ ولا بد من شيء من جانب البلاغ) قال - رحمه الله - (إنك صديقه وأنت واحد كذلك من أسرة البلاغ وأنت مفوض مني في قول ما تقول للأستاذ وفي صنع ما تراه باسمي).
وتذكرت - حينئذ ما سيلقاني به العقاد وما سيظنه بي من الظنون، وخفت أن تفسد الحيلة وأبديت هذه المخاوف للرجل العظيم، فابتسم وقال: (وهو كذلك، دعني أتصرف) وتصرف بالفعل، واجتمع القلم الجبار والقلم الرصين على صفحات البلاغ.
ذلك طرف من التاريخ أذكره، وصورة ذلك العهد حية ماثلة في نفسي وفي نفس كل من تتبعوا ذلك الصراع العجيب في تلك الأيام
سيد قطب
نيابة بعض الحروف عن بعض
جاء في ختام الكلمة القيمة الموجزة للباحث المتمكن الأستاذ (أ. ع) ما يأتي:
(ولم أر فيما لدي من المراجع أن اللام تنوب عن الباء، ولكنهم قالوا بنيابتها عن (في). . .)
وأقول: إنها جاءت نائبة عن الباء في قول أبي تمام من قصيدته السينية المشهورة بمدح(416/51)
أحمد بن المعتصم:
إن الذي خلق الخلائق قاتها ... أقواتها لتصرف الأحراس
قال الشراح: اللام بمعنى الباء، والأحراس جمع حرس كدهر وزناً ومعنى
نعم إن أبا تمام من الشعراء المحدثين الذين لا يحتج بشعرهم، ولكنه كان عالماً ضليعاً، وراوية غزير المحفوظ؛ فلا أقل من أن نستأنس بقوله كما استأنس به الأستاذ الكبير (ا. ع) في تعدية الفعل (تفيأ) بنفسه. وأبو تمام أهل لهذه الثقة.
علي الجندي
خطأ فقهي في مجلة الأزهر
في الجزء الأخير من مجلة الأزهر مقال بتوقيع مديرها الأستاذ محمد فريد وجدي، يقول في السطر الأول منه ما نصه:
(في السنة السادسة من الهجرة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه يريد العمرة، والعمرة هي الطواف بالبيت في غير وقت الحج. . . الخ)
والخطأ في الجملة الأخيرة ظاهر، فإن العمرة ليست هي الطواف بالبيت فقط. وليست في غير وقت الحج فقط، والأستاذ المدير وإن يكن غير أزهري أجل من أن يقع في مثل هذا الخطأ، ولعل مجلة الأزهر تعني في عددها المقبل بتصحيحه
(م. . .)
حول مكتبة الحرم النبوي الشريف
بالعدد 415 نشرتم كلمة شاملة عن مكتبة الحرم النبوي الشريف بقلم مديرها الأستاذ أحمد يس الخياري. وقد ذكرتني كلمته برسالة بُلغتها وأمانة حملتها ولما أؤدها فألفيت في تفضلكم بالنشر أنسب فرصة لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة. وأكبر الظن أنكم مشاطريّ فضل الأداء. والمساعد في الخير شريك فيه.
كنت في هذا العام 1359هـ مشرفاً على البعثة الأزهرية للحج والزيارة، وكانت لي عناية خاصة بالبحث عن مدى الثقافة العامة في الحجاز ممثلة في مكتباته ولا سيما الحرمين الشريفين، فلم يرعني إلا أنها مكتبات ينقصها كثير من الكتب المختلفة، وكثير من النظم(416/52)
المتنوعة في حسن العرض وتيسير النفع وجمال الموقع؛ ولذا لا يعرفها إلا قليل من الخاصة ولا ينتفع بها إلا أقل من القليل.
هذه مكتبة الحرم المكي لا تزيد فيما أظن على ألف مجلد في علوم محدودة. وهذه مكتبة الحرم النبوي لا تزيد على ثلاثة آلاف مجلد، وهي على قلتها خير مكتبات الحجاز نظاماً وأكثرها نفعاً وذلك بفضل جلالة ملك الحجاز وحكومته وبهمة مديرها العامل النشيط. وقد كلفني أن أناشد أهل الغيرة على الحرمين وبخاصة فضيلة الأستاذ الأكبر، وحضرة صاحب العزة مدير (دار الكتب الملكية) أن يساعدوا في تكوينها وتغذيتها بمختلف العلوم والمعارف ولا سيما كتب التاريخ والأدب والعلوم الحديثة والمجلات الدينية والأدبية والفهارس المتنوعة.
وعلى مقربة من الحرم النبوي الشريف مكتبة هادئة؛ ظريفة في بنائها ونظامها أسسها شيخ الإسلام عارف حكمت سنة 1270هـ في عهد السلطان عبد المجيد وتحتوي على عشرة آلاف مجلد تقريباً أكثرها مخطوط وكثير منها نادر؛ وقد رأيت فيها كتاب الأوائل للعسكري وقد نسخ سنة 395هـ وكتاب المسافات وصور الأقاليم لابن سهل البلخي ونسخ سنة 309هـ وهو من خزانة العباسيين
وفي الحجاز مكتبات مدرسية وفردية لا بأس بها نذكر منها مكتبة دار العلوم الشرعية بالمدينة المنورة وهي مدرسة ناهضة تقوم على تبرعات الهند وتدرس القرآن الكريم وقسطاً من العلوم العربية والشرعية وتجمع إلى دراسة العلوم تعليم الصناعات المختلفة، ومكتبة دار الحديث لمديرها شيخ الحرم المكي، ومكتبة يشرف عليها قاضي القضاة وكلتاهما بالحرم المكي الشريف، ومكتبة السيد نصيف بجُدّة ومنزله مثابة العلماء والباحثين. وقد تفضل أصحابها فأهدوا إليّ طائفة من الكتب القيمة
ومجمل القول أن مكتبات الحجاز العامة في أشد الحاجة الى معونة الغير والمخلصين. وفي هذا بلاغ.
طه محمد الساكت
المدرس بمعهد القاهرة(416/53)
العدد 417 - بتاريخ: 30 - 06 - 1941(/)
في الزواج
للأستاذ عباس محمود العقاد
بعد القصص الغرامي أو قصص الحوادث الأخاذة، لا أحسب أن الجمهرة الغالبة من القراء يهتمون بموضوع عام كاهتمامهم بالموضوعات الاجتماعية التي لها مساس بالرزق أو مساس بالعلاقات بين الجنسين، وعلى رأس هذه الموضوعات الحب والزواج؛ لأن الأمر في هذه الموضوعات وما إليها لا يقتصر على الأفكار المجردة أو البحوث الأفلاطونية التي يشتغل بها الدارسون وأصحاب النظر والتأمل دون غيرهم، ولكنه يشمل المسائل اليومية التي تعرض لكل إنسان في حياته الخاصة، وينتقل إلى المحسوسات التي لا محيد عنها لمفكر ولا غير مفكر، والتي يعيش المرء مائة سنة وهو خلو من التفكير في شأن من الشؤون المجردة، ولكنه لن يخلو من معاناتها والانغماس فيها بحال
لهذا عرضتني الكتابة في موضوع الزواج لكثير من الطرائف التي تصلح للفكاهة كما تصلح للدرس والعناية. ومنها أنني سئلت لماذا لم أتزوج؟ وسئلت هل من حرج على المصرية المسلمة أن ترضى الزواج بالأجنبي الذي يحبها ويدين بالإسلام لأجلها؟ وسئلت: ما هو الفرق بين المرأة التي يرتضيها الرجل حليلة والمرأة التي يرتضيها خليلة؟ وهل معنى هذا الفرق أن الحليلات مفضلات على الخليلات، أو أن الخليلات مفضلات على الحليلات؟ وأيهما أصعب وأندر: شروط الحليلة أو شروط الخليلة؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة التي خيل إلي وأنا أتلقاها بالتليفون أو بالبريد، أنني أثرت خلية من النحل على غير عمد، وأنني أنا الجاني على نفسي بما أثرت!
أما من سألني لماذا لم أتزوج فكان جوابي له أن الزواج قيد، وأنني عشت حياتي كلها في مخاطرة لا غنى لصاحبها عن الطلاقة والحرية، وأنني بعد هذا وذاك أقول ما قاله الخليل بن أحمد حين سئل في قرض الشعر، فأجاب: إن الذي يرضاه من الشعر لا يجيئه، وأن الذي يجيئه منه لا يرضاه!
وأما المصرية المسلمة التي يبني بها الأجنبي المسلم فلا حرج عليها فيما أعلم. ولست أنا من المتشددين في منع السلالات الإنسانية أن تمتزج على السنة المرضية. بل قد مضى لي زمان كنت أصف فيه لقاح الجنس المصري والأجناس القوية علاجاً من داء الركود(417/1)
والضوىَ
وأما الفرق بين شروط الحليلة وشروط الخليلة فالتمثيل هنا أجدى من الإفاضة في التحليل: الفرق بينهما كالفرق بين شروط البيت وشروط الفندق، أو كالفرق بين مطالب الإقامة ومطالب السياحة، أو كالفرق بين دوافع الطبيعة وروابط الهيئة الاجتماعية، أو كالفرق بين الواجب والهوى وبين الدرس والقصيدة. . . ومن لم يفهم الفرق بينهما من هذا التمثيل، فما هو بفاهمه من الإفاضة في التحليل
على أنني تلقيت من الأسئلة في موضوع الزواج ما هو أقرب إلى الجديات والشؤون الجوهرية، ومنها السؤال عما يزعمه الزاعمون قسوة من الشريعة أو العرف على المرأة الخائنة، وإجحافاً منها في التمييز بين حقوق الرجال وحقوق النساء
ورأيي أنا أن المرأة أسعد حظاً في مسألة الخيانة من الرجل بحكم الطبيعة التي لا حيلة لأحد فيها. فمن الإنصاف أن يكون الرجل أسعد حظاً في مسألة الخيانة بحكم العرف والشريعة
فالرجل يخون المرأة التي يحبها، ولكنه لا ينسب إليها ولداً من غيرها، ولا يستطيع أن يخدعها في صدق أمومتها لأبنائها، وهذا ضمان عظيم لا يظفر الرجل بنصيب منه بالغاً ما بلغ حرصه واطمئنانه. ولكن المرأة تسلط على الرجل عذاباً لا عذاب مثله، أو غفلة لا غفلة مثلها، كلما خانته وجاءته بولد من غيره وهو منسوب إليه، وكل جور من العرف أو القانون في التمييز بين الجنسين، فإنه لرحمة الرحمات بالقياس إلى هذه المزية التي ضمنتها المرأة ضماناً لا يتطاول إليه عرف ولا قانون
كذلك يحق للمرأة أن تلوم الطبيعة قبل أن تلوم الشريعة في التمييز بين حقوق الرجال والنساء، أو بين حقوق الذكور والإناث.
فالمرأة إذا حملت لم تحمل مرة أخرى في بطن واحد، ولكن الرجل ينسل مئات المرات وهي ولا تنسل إلا هذه المرة الواحدة. فليس من الطبيعي إذن أن يطالب الرجل بالوفاء الجسدي الذي تطالب به المرأة، وليس هذا من مقتضيات حفظ النوع ولا من مقتضيات تركيب البنية الجسدية
ويحق للمرأة أن تلوم الطبيعة قبل أن تلوم الشريعة في ناحية أخرى من نواحي التفرقة بين(417/2)
الجنسين، وهي شيخوختها وفقدانها المزية الجنسية قبل أن يفقدها الرجل بعشرات السنين، لأن الولادة تجهدها وتضنيها وتجور على محاسنها وقواها
على أن الطبيعة قد عوضتها عن هذا أنها تستغرق في الجنس وتستغرق في الحب وتستغرق في الأمومة، فهي تأخذ في أربعين سنة من نصيب الشواغل الجنسية وشواغل النسل ما ليس يأخذ رجل في ثمانين، لانصرافه إلى ما عدا ذلك من فروض الحياة.
وبحث آخر قد حركته الأسئلة التي أثارتها كتابتي عن موضوع الزواج، وهو تشجيع الزواج بالقوانين أو بفرض الضرائب على العزاب
وعندي أنه رأى خاطئ من شتى الوجوه، لأنه يستبقي عيوب الزواج التي ينبغي أن تزول، ولعلها لا تزول إلا بالإعراض عن الزواج في بعض الأحوال
مثال ذلك عيب المغالاة بالمهور، فلو أن القوانين أكرهت الناس على الزواج لبقى هذا العيب ولم يشعر أحد بضرورة العدول عنه كما شعر الأكثرون في مصر من جراء الإعراض عن مرهقات الزواج وفي مقدمتها المهور. ولقد بلغ من شعورهم به أن بعض الموسرين جعلوا من أنفسهم قدوة للفقراء بالإقلال من قيمة المهر حتى نزلوا به إلى دراهم لا تتم الدينار
ومثال ذلك عيب الإغراق في الحجاب والتهاون في تزويد الشابات بمحاسن التعليم والتجميل التي ترّغب فيهن الشبان. فلولا الإعراض عن الزواج حيناً لما التفت أحد إلى هذا العيب، ولوجب على الشاب أن يتزوج بحكم القانون لا بحكم التفضيل والاستحسان. وهل يجيء التفضيل والاستحسان إلا من التنافس في الفضائل والحسنات؟ وهل يجيء التنافس في الفضائل والحسنات إذا أكره الناس على الزواج وكان الباعث لهم إليه أنهم يفرون من وطأة الضرائب وفرائض الإلزام؟
ومثال العيوب التي يبقيها التشجيع على الزواج بالدوافع المصطنعة والزواجر القانونية عيب العرف الذي تتبعه الفتيات في تفضيل شاب على شاب وصناعة على صناعة
فالقانون يفرض الضريبة على الشاب الذي لم يتزوج ولا يفرض مثلها على الفتاة التي ترفض هذا الفتى لأنه تاجر وليس بموظف، أو ترفض فتى غيره لأنه موظف وليس بضابط، أو ترفض فتى آخر لأنه سيقيم في الأقاليم ولا ينوي الإقامة في العواصم، وليس(417/3)
هذا من العدل في التشريع، ولا هو من مصلحة الفتيات أو مصلحة الزواج.
والأولى بالشرائع أن تعني بأمرين هما خير من العناية بالإكراه على الزواج، إذا كان الغرض من الإكراه على الزواج زيادة النسل وقلة الفساد:
الأولى بالشرائع أن تعني (أولاً) بتصحيح أجسام المولودين وتصحيح أجسام الآباء والأمهات قبل الزواج
فلو أن ألفاً من المرضى والعجزة والفاشلين تزوجوا ورزقوا البنين والبنات لما كان هذا مانعاً أن يموت معظم المولودين في سن الطفولة، وأن يعيش من يعيش بعد ذلك أفشل مما عاش الآباء والأمهات
وخير من هذا أن تُتَحرى الصحة في طلاب الزواج، وأن تتحرى التربية التي تصون حياة الأطفال من عبث الجهل والإهمال والأولى بالشرائع أن تعنى (ثانياً) بتبغيض الناس في الفساد لا بمجرد الحجر عليهم وهم يشتهونه ويقبلون عليه
ٍوإنما يصبح الفساد بغيضاً إذا كانت الاستقامة أطيب منه وأمتع وأدنى إلى الأنفس والأيدي، ولن يكون الأمر على هذه الصفة إذا كانت الأخلاق المفروضة على الناس أخلاقاً غير معقولة ولا مستندة إلى سند غير التقليد والاستمرار، ولن يكون الأمر على هذه الصفة إذا كانت بطالة الأغنياء وعوز الفقراء دافعين ملحين إلى الترف وبيع الأعراض، ولن يكون الأمر على هذه الصفة إذا كان فساد الأزواج كفساد العزاب، ولم يكن الزواج وحده عصمة لذويه على اختيار أو على اضطرار
وبعد فقد كتبنا عن الزواج مقالاً بعد مقال؛ فهل نستطيع أن نكتب في هذه المسألة الاجتماعية الإنسانية على الأسلوب الذي كتب به برتراند رسل الإنجليزي، وليون بلوم الفرنسي، وغيرهما من كتاب أوربا الوسطى؟
أما أنا فأستطيع!
وأما الشك كل الشك فهو في استطاعة كثير من القراء الشرقيين أن يستمعوا لآراء كتلك الآراء، ولو ليخالفوها أو يتبينوا ما فيها من الأخطاء!
عباس محمود العقاد(417/4)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
كلام ينفع! - فائدة تاريخية - أساطير الأولين - اختراع
الأحاديث - محاربة الوثنية - الحصار الفني في الإسلام -
إلى معالي وزير الأوقاف - أجيبوا، يا أصدقاء الرسالة -
الأجاج - بلد الأستاذ أحمد أمين - بين الرسالة والثقافة - أيام
وأيام - يوم البعث
كلام ينفع!
لقيني بعض الأصدقاء وهو منزعج أشد الانزعاج، فقلت: ماذا بك؟ فأجاب: صديقي فلان كان يلقاني في كل يوم؛ ثم انقطعت عني أخباره منذ أيام، وأنا أخشى عليه كوارث هذه الأوقات السود
فقلت: هل كان يحاول الانتفاع بجاهك في شأن من الشؤون؟
فقال: وما الموجب لهذا السؤال؟
فقلت: إن كان ذلك فلا تضجر ولا تنزعج، ولا تتوهم أن سيارة داسته، أو أن قنبلة سقطت عليه، وإنما يجب أن تسر وتفرح، لأن انقطاعه عنك ليس إلا أمارة على أن تعبك في خدمته قد وصل به إلى ما يريد، فاستغنى عن التودد إليك!
فقال: أكذلك يكون إخوان هذا الزمان؟
فقلت: كذلك كان الإخوان من قديم الزمان، وسيكونون كذلك إلى آخر الزمان!
فقال: ولكني مع ذلك مشتاق إليه أشد الاشتياق
فقلت: صبراً ثم صبراً، فستشبع من رؤيته يوم يحتاج إليك، وسيحتاج ثم يحتاج، لأن الله كتب الفقر على من ينكرون الجميل
فائدة تاريخية(417/5)
كان العرب يؤرخون بواقعة الفيل، قبل أن يؤرَخوا بهجرة الرسول، فكيف كانوا يؤرخون قبل هلاك أصحاب الفيل؟
أرَّخ الدميري هجوم أبرهة على الكعبة بأنه كان في أول المحرم سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين
فهل يتفضل أحد كتاب (الرسالة) بتحقيق هذا التاريخ؟
المعروف جيداً أن العرب قبل الإسلام قد اختلفوا في التوقيت، وذلك يشهد بتأثرهم للحركة العلمية عند المصريين والكلدانيين، فهل يمكن الوصول إلى معرفة ما كانوا عليه في التأريخ قبل أن ترج أذهانهم واقعة الفيل؟
والمعروف أيضاً أن العرب قبل الإسلام كانت لهم صلات قوية أو ضعيفة بأمم ذلك العهد، وجرتهم تلك الصلات إلى وقائع لا تمر بدون ضجيج تتناقله الأجيال، وإن مرت بدون تدوين يحدد مواقعها من التأريخ
على أنه ليس من المستغرب أن يكون العرب أرَّخوا بموت ذي القرنين، فقد كان له في أذهانهم صورة صخَّابة ضجَّاجة، ولولا ذلك لسكت عنه القرآن، لأن القرآن لم يذكر من حوادث التاريخ إلا ما كان له في أذهان العرب وجود برَّاق، ليتم الغرض من الاعتبار المنشود.
أساطير الأولين
و (أساطير الأولين) كلمة قرآنية يحكمها القرآن عن العرب الذين يطيب لهم أن يشككوا فيما رواه من أخبار القدماء
وهذه الكلمة تشهد بأن جمهور العرب في تلك الأيام كان يملك ملامح من صور النقد الأدبي، فقد كانوا بشهادة القرآن يقسمون الأخبار إلى قسمين: صحيح ومدخول، وكان من سياستهم في مقاومة الدعوة الإسلامية أن يضيفوا أخبار القرآن إلى القسم المدخول فيجعلوها من أساطير الأولين. وما صدَق من عاندوا القرآن، ولكن إصرارهم على مقاومته بهذا الأسلوب يشهد بما كانوا عليه من مكر ودهاء، وهما من صور الذكاء
اختراع الأحاديث(417/6)
والذي يراجع كتب التفسير وكتب الأخبار يعجب للثروة الأدبية التي سايرت قَصَص القرآن، وهي ثروة لم تورث كلها عن عرب الجاهلية، وإنما ابتدعها فريق من الجاهليين وفريق من الإسلاميين، وهي في جملتها شاهد على براعة العرب في ابتداع الأسمار والأحاديث
ولو اهتمّ كاتب بتلفيق ما اخترع العرب من الأقاصيص المتصلة بالسور القرآنية لكان لنا من ذلك (إلياذة) عربية تفوق الإلياذة اليونانية، وتشهد بأن العرب لا يقلون عن اليونان في سعة التصور وقوة الخيال
فمتى يوجد ذلك الكتاب، ومتى نرجع لماضينا فنعرف ما كان فيه من تصاوير وتهاويل، ليضعف الوهم القائل بأن نصيب العرب من التخيّل قليل؟
محاربة الوثنية
ولكن ما الذي دعا العرب إلى وقف تلك الحركة الفنية، بحيث يُظَنَّ أنهم أقل الأمم عنايةً بزخرفة الأخبار المتصلة بالدين؟
يرجع ذلك إلى تأثرهم بالقرآن في محاربة الوثنية، وهذه الدعوة السليمة في جوهرها كانت السبب في صرف كثير من الأمم الإسلامية عن الزخارف الأدبية والفنية، لأن الزخرف الأدبي والفني لا يقوم إلا على التلوين والتزيين، وذلك ممنوع في نظر رجال الدين، لأنهم يرون الافتنان في زخرفة الأخبار الدينية أمراً لا يليق، فقد يسوق الناس إلى الوثنية من حيث لا يشعرون
الحصار الفني في الإسلام
ما معنى هذا التعبير الغريب؟
أنا مُقبل على عرض مسألة فنية كان لها تأثير في تضييق نطاق الدعوة الإسلامية، وما أحب أن يتهمني أحد بسوء النية، فلي غرض شريف أرجو به من الله الثواب
ماذا أريد أن أقول؟
أقول بصراحة إن الإصرار على تجريد المبادئ الإسلامية من الزخارف الفنية كان له تأثير في عرقلة الدعوة الإسلامية، لأن الذين حَّرموا التصوير وقاوموا الأساطير نسوا أن في(417/7)
الدنيا ملايين لا تقاد لأية فكرة دينية إلا إن كانت موشَّاة بالزخرف والخيال!
ولهذا السبب ضاعت الفرصة في إسلام الأمة الروسية، حين فكرت في اعتناق إحدى الديانات السماوية، منذ بضع مئات السنين
ظلت روسيا على عقائدها الوثنية إلى ما بعد ظهور الإسلام بأزمان طوال، ثم بدا لها أن توازن بين المسجد والكنيسة، فها لها أن ترى المسجد محروما من البريق والرّواء، وراعها أن ترى الكنيسة تحفة من الفن المرصّع بغرائب الخيال
وسألت روسيا بعض علماء المسلمين عن قواعد الإسلام فكان أول ما سمعت هو القول بتحريم الخمر، مع أن نبيّ الإسلام لم يحرم الخمر إلا بتلطف واستدراج
وكذلك كانت غفلة الدعاة عن سياسة القول سبباً في منع الإسلام من دخول البلاد الروسية، كما كانت خشونة المساجد من أسباب الانصراف عن هذا الدين الحنيف
وأقول أيضاً: إن الحكمة في تجريد المساجد من الزخرف كان لها مكان في بداية الدعوة الإسلامية، فما مكانها اليوم ولم يبق أثر للخوف من رجعة الوثنية؟
يجب أن يكون لمساجدنا نصيب وافِ من الزخارف الفنية، ويجب أن تكون على جانب عظيم من الرونق والبهاء، ويجب أن نشعر بأن جمالها يذكّر بجمال الفردوس، لتكون الواحة التي نأنس إليها عند الفرار من هجير الشقاء في طلب المعاش
ما هذا الأزهر القفر الموحش؟
ألا تمتد إليه يد فتنقله من حال إلى أحوال؟
وما جامع عمرو في بلائه بالدنيا والزمان، وهو أول مسجد أقيم في هذه البلاد؟
وما هذه الخرائب المنثورة في الحواضر والدساكر على أنها مساجد؟
أفيقوا من غفلتكم، يا دعاة التقشف المدسوس على الدين، وتذكروا مرة واحدة أن تجميل المساجد من أبواب الاقتصاد، لأنه يغني الناس عن تبديد أموالهم في المشارب والقهوات، وبأي حق تكون بيوتكم أجمل من بيوت الله، إلا أن تكون نياتكم أقيمت فوق خرائب وأطلال؟
إلى معالي وزير الأوقاف
وهو اليوم رجل بارع الأدب، وافر الذوق، متين الدين، وكأنه صورة من محمد عبده أو(417/8)
عبد العزيز جاويش، إلى الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا أوجه القول:
في هذه الأيام - ولعل هذا من وحي خاطرك - أخذت وزارة الأوقاف تتأنق في بناية العمارات المرصدة للاستغلال، فلم يَعُد (بيت الوقف) كالذي كان في ذهن حافظ إبراهيم وهو يداعب صديقه حفني ناصف، وإنما صار (بيت الوقف) بِنيَّة تنافس بِنيّة (الجراند أوتيل) في باريس، وصار طلاب المنافع عن طريق العمارات الشواهق يخشون منافسة وزارة الأوقاف
فهل ترى من الخروج على عنجهية بعض المشايخ أن يكون في كل حاضرة مسجد أو مسجدان أو مساجد على أحدث طراز من التأنق في الزخارف الفنية؟
أنت فرصة من فرص السوانح، يا مصطفى باشا، فلن تكون وزارة الأوقاف إلى رجل مثلك في كل وقت، فبادر إلى تجميل بيوت الله، ليزيدك الله جمالاً إلى جمال، وكمالاً إلى كمال، وليكون أسلوبك في الإصلاح، شبيهاً بأسلوبك في الإفصاح
أجيبوا، يا أصدقاء الرسالة
لنا صديق من رجال الأدب يحاول أن يحتكم الى العقل في جميع المشكلات، فما مشكلة اليوم عند هذا الصديق؟
هو يوازن بين الاحتلال والاستقلال، ومن رأيه أن الاستقلال وسيلة لا غاية، فإذا تمت نعمة الرخاء مع الاحتلال فلا موجب لوجع الدماغ في طلب الاستقلال
وأنا أنتظر آراء أصدقاء الرسالة في هذا الرأي الطريف لأنه بالتأكيد من الآراء التي تساور مَنْ مناهم الألمان بنعمة العافية في ظلال الاحتلال!
الأجاج
أشرت في أحد الأحاديث إلى الأجاج، فما الأجاج؟
هو نوع من السمك الجيد، وكان يوجد بالبحيرات المصرية ثم انقرض، ولكن كيف انقرض؟
كان الصيادون لجشعهم، لا لجهلهم، يضيقون عيون الشباك ليجترفوه بالمئات، فكان من أثر هذا الجشع أن انقرض ذلك النوع من السمك النفيس(417/9)
حدثني بهذا الأستاذ عبده حسن الزيات تأييداً لما كنت أقول من أن الفقر سبَبَهُ الخيانة لا الجهل. وهل يجهل أحد أوجه الضر والنفع حتى نقول إن الفقراء يُعذَرون لأنهم جهلاء؟ وهل كان جميع الأغنياء من المزوِّدين بعلم الاقتصاد وعلم تدبير المعاش؟
مازلت أذكر ضحكة الشيخ عبد الباقي سرور، رحمه الله، وقد تلقينا في جريدة الأفكار سنة 1919 شكاية للصيادين من إصرار الحكومة على تضييق عيون شباك الصيد!
كنا نظن عمل الحكومة تعسفاً في تعسف، ولم نكن ندري أن الثروة المصرية تحتاج إلى حرّاس أمناء، ولو كانت مصادر تلك الثروة في أعماق البحيرات
واستطرد الأستاذ عبده حسن الزيات فقال: حضر أحد النواب المقربين إلى سعادة الأستاذ الجليل محمود فهمي النقراشي باشا ومعه وفد من الصيادين المطالبين بتضييق عيون الشباك، وكان النقراشي باشا يومئذ وزير الداخلية، فغضب وقال: (ألا يعرف حضرة النائب المحترم أن هؤلاء الصيادين يريدون أن نعينهم على قطع ما منّ الله به عليهم من مصادر الرزق؟ إن منفعة الصياد في أن تكبر الأسماك، ليبيع بالواحدة لا بالقُفة، وليصبح الصيد من أنواع الفروسية، فما موجب الجشع في تضييق عيون الشباك)
مصر أمة بحرية، ومع ذلك لا توجد عند أهلها النزعة البحرية في الأدب والبيان، إذا استثنينا القصائد والرسائل التي أوحتها الشواطئ منذ أعوام قِلال
أفلا يكون من أسباب انعدام الأدب البحري عند أهل مصر حرمانهم من السمك الجيد في النيل والبحرين والبحيرات؟
بأي حق يجوز أن يقضي المصري سنة بدون أن يرى وفرة الأسماك في الأسواق؟ أليس ذلك برهاناً على أننا لا نجيد الصيانة لثروتنا الأهلية؟
كانت أسماك مصر حديث القدماء من المؤرخين فأين هي اليوم؟
إن أبناء مصر أبادوا التماسيح من مياه النيل، فكيف يبقون على الأسماك؟!
بلد أحمد أمين
جاء في (المنصورة) - وهي المجلة التي تصدرها مدرسة المنصورة الثانوية - أن الأستاذ أحمد أمين منصوريُّ المنبت، وأقول إن الأستاذ أحمد أمين نفسه حدثني أن آباءه من المنوفية، وإن تحلى بالتواضع فلم يدّع أنه من سنتريس(417/10)
ولم يكن يهمني أن يُزيف نسب أحمد أمين إلى المنوفية، ولكن مقاله عن (غاية العالم) أقنعني بأنه موهوب، ولا بأس بإضافته إلى المنوفية، وإن كان في مقاله عبارات سمعت مثلها في تمهيد الدكتور إبراهيم ناجي لبحثه عن (نفسية المرأة) مع فارق بسيط: هو أن الدكتور ناجي أشار إلى المصدر الذي نقل عنه وأن الأستاذ أحمد أمين لم ير موجباً لذلك، فدلنا من جديد على حسن هضمه لما يقرأ من آراء الباحثين، بحيث ينسى أنه ينقل عن هذا المفكر أو ذاك
بين الرسالة والثقافة
تلطف الأستاذ محمد فريد أبو حديد فنقل تحية أدباء السودان إلى مبارك والزيات، وحدثنا أن الخطباء الذين أثنوا على جهوده الأدبية كانوا يقولون إنه من كتًاب (الرسالة) وأن ذلك وقع من نفسه موقع الارتياح، فقد سره أن تكون (الرسالة) على ألسنة جميع الناس في ذلك القطر الشقيق
وأقول إن مجلة الثقافة أخلفت الظن الجميل بعض الإخلاف، فقد كنا نرجو أن تكون أقوى من مجلة الرسالة، وأن تفتح باباً من المنافسة تنتعش به الحياة الأدبية، ويتسع به المجال أمام الشادين من أبناء الجيل الجديد
والحق أن طغيان (الرسالة) على (الثقافة) يسر المتطلعين إلى تقدم العلوم والآداب والفنون، لأنه يشهد بأن القراء في البلاد العربية قد وصلوا إلى غاية من النضج يصعب معها الأمل في إرضائهم بالجهد القليل، و (الرسالة) تبذل جهداً لا تبذله (الثقافة) وإن استندت (الثقافة) إلى علماء من (كل صنف) كما نوه بذلك الأستاذ أحمد أمين
أنا أرجو أن تهتم (الثقافة) اهتماماً جدياً بتخيّر موضوعاتها، وأن تعنَى عناية خاصة بتخير الشعر الذي تنشره؛ فقد يتوهم الناس في بعض الأقطار العربية أن الشعر في مصر لم تبق له موازين يُعرف بها الراجح من المرجوح
والحرص على منفعة (الثقافة) هو الذي أباح أن نوجه إليها هذا النقد الرفيق، مع الاعتراف بما تقدم من الوَقود الجزل لنار الأفكار والعقول
متى يجيء اليوم الذي نرى فيه خمسين مجلة من أمثال (الرسالة) و (الثقافة) بالخصائص التي عُرفت عن هاتين المجلتين، في التسامي إلى أدب القول وإعزاز البيان؟(417/11)
الله عز شأنه هو المرجو لتحقيق هذا الأمل الجميل
أيام وأيام
وقعت غارتان على الإسكندرية في ليلة واحدة، ومع ذلك لم يُصب غير بضعة أشخاص، فكيف وقعت هذه المعجزة بعد انقضاء عهد المعجزات؟
يرجع السبب إلى أن الغارتين وقعتا في أحياء هجرها أهلوها فراراً من شراسة الخطوب، فما أقسى الدهر الذي يحكم بأن يرى أهل الإسكندرية أن الحياة أفضل من الموت؟
لو كان بيننا وبين الألمان حرب، لكان من المستحيل أن يترك أهل الإسكندرية بلدهم الجميل قبل أن يجعلوه مقابر للباغين والمعتدين، ولكن الظروف الدميمة قضت بأن يعيش الإسكندريون مجردين من السلاح، وما أشقى من يعيش بلا سلاح في أيام لا يأتمر أهلها بغير البغي والعدوان!
هل تنتفع مصر بهذا الدرس؟ ومتى؟ وكيف؟
إن بلاء مصر بزعمائها سيطول، ويطول، ويطول، فمتى يَعقِلون؟
يوم البعث
وأنا مع هذا لا أيأس، ولن أيأس ما دام دم الفتوّة المصرية والفتوة العربية والفتوة الإسلامية، يجري في عروق الفتيان من أهل مصر والشرق
يجب أن نفهم جيداً أن القوات الأوربية صائرة إلى الفناء، لأنها تجاوزت حدود الله، ولأنها تستبيح قتل الأبرياء، ليتم لها ما تريد من إعزاز شرائع الشياطين
(ألمانيا فوق الجميع)!
ذلك مطلع النشيد الألماني، وهو نذير بما سيصير إليه الألمان، فما تغطرست أمة إلا ابتلاها الله بالذل وسلَّط عليها الضعفاء
اعتقد فراعين مصر أنهم سلالة الشمس وأبناء السماء، فأدال الله منهم وعرَّض أحفادهم وأسباطهم لعوادي الاستعمار والاحتلال.
واعتقد الرومان أنهم سادة الناس، فأباد ملكهم بلا إمهال.
واعتقد العرب أن أُرومتهم أشرف من جميع الأرومات، فكتب الله عليهم التخلف، وجعل(417/12)
نصر الإسلام بأيد غير أيديهم لأنهم خانوا عهد زعيمهم الأكبر، ولم يفهموا أن الإسلام دين مبادئ لا دين أجناس
فما مصير ألمانيا وهي تعتقد أنها فوق الجميع؟
إن هذه العقيدة ستأنى على بنيان ألمانيا من الأساس، فستؤلب عليها الشعوب، وستخلق لها أعداءً لا يعرف عددهم غير من تفرد بالعزة والجبروت
(ألمانيا فوق الجميع) و (ألمانيا فوق الجميع) ثم (ألمانيا فوق الجميع)!
ولهذا المعنى وحده ستصير (ألمانيا تحت الجميع)؛ وإن عشنا فسنرى، وإن عشتم فسترون، فما أذل الأفراد والشعوب غير الاعتصام بالسيطرة والاستعلاء
لو كان (لهتلر) مستشار أمين لدله على أن الرجولة ليست في البطش الأحمق، وإنما الرجولة أن تحارب من تسلَّح بمثل سلاحك، أما إيذاء مدينة مجردة من السلاح، فهو عمل لا يقوم به رجل يتوهم أن أمته فوق الجميع
أما بعد، فهذا يوم البعث، وسأعيش بإذن الله إلى أن أرى الأنوار تنتصف من الظلمات، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون)، وعند الله جزاء المخلصين الأمناء
زكي مبارك(417/13)
جيل وجيل
للأستاذ محمود البشبيشي
- 2 -
(كان هذا المقال قد فقد بيننا وبين البريد فنشرنا الثالث قبله؛
فلما وجدناه نشرناه وسننشر المقال الرابع بعده)
التأمل فن الفنون - فلسفة التأمل - هل يكون الحب رائد
ضلال؟ - صلة الروح بين سائر الأشياء - الرذائل تضعف
التأمل، والمغالاة في الفضائل تفسده - مسلك الشكوى وبكاء
الآمال في أدب الشباب - غلبة الغزل في شعرهم وهل من
المستطاع توازنها مع سائر الأغراض؟.
. . . ومن الأفكار أفكار تنفخ في الألفاظ أرواحاً، فتخلقها آراء حية، لا تعترف بقيود الفناء، لأنها من جوهر الروح، ولا يعتريها الضعف في التعبير عن وجودها، لأن كل كلمة فيها قوة روحية، ومن هذه الأفكار والآراء ما دار بيني وبين ولدنا الأديب (حسين) في المقال السابق، حيث انتهينا إلى أن التأمل أساس الحياة تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، وإن قوة الأجيال بقوة الروح والفكر فيها، وقادنا الحديث إلى أدب الآباء وأدب الأبناء. بدأنا بشيء من الفلسفة، وخلصنا من أوعارها وأوعاثها إلى رياض الأدب، وسنبدأ اليوم كما بدأنا، وسننتهي كما انتهينا. . .!
- أنا معك يا بني في أن التأمل أساس الحياة، ولا يسعني إلا أن أدعو القوم إلى سبيله الصحيح، وأهيب بهم أن تأملوا في الحياة وأحوالها، تبسم لكم زهورها، وتتساقط تحت أقدامكم ثمراتها، وتسمعوا أنشودة السعادة والنصر في بسمة الصبح وجلوة المساء! ويحس كل فرد نعمتها فيعمل على زيادتها وتعمل هي أيضاً، لأن الحياة ككل شيء تعطي بمقدار ما تأخذ! وحقيق بالعاقل أن يتأمل مشكلاته ويقلبها على رأى يعقد عليه القلب، ويسن عليه(417/14)
الأمر، فلا يرمي إلا عن قوس عقيدة راسخة، والرجل الصادق في تأمله من كان الإيمان أعلق بقلبه من الشك، والطفرة آثر عنده من التردد، والحقيقة أشهى إليه من الظواهر الكواذب، والمغالبة في سبيل الحق آنس له من الاستكانة في أرض الهجود!
- هذا حق يا ولدي، فإن التأمل فن للفنون، تترعرع في ظلاله كل فنون الحياة من سرور وحزن وحب وتقدير، وهل يجيء السرور إلا بعد الشعور باللذة والنشوة التي يكتشفها الإحساس بعد قليل من التأمل في نتائج العمل الذي نشعر نحوه بالسرور؟ وفن الحزن أيضاً. فنحن لا نشعر بالحزن والألم من شيء إلا بعد التأمل في مداه وسبر غوره وما يخلفه من أثر، ثم ما هو أكثر من ذلك. فنحن قد نستمر في الحزن ونسايره ولو ذهب المؤثر، لأننا نتأمل ونطيل التأمل؛ وفن التقدير والاعتراف بالفضل، لا شك أن التأمل أساسهما إذ كيف نحكم على شيء بالجودة إذا لم نتأمله! وفن الحب، وهل هناك حب لم يلهبه التأمل؟ إن الإنسان في حبه يتأمل بكل حواسه، بعينه وشعوره وقلبه
- قد بينت يا بني خطر التأمل، فهل نسيت أن التأمل كأساس للحياة بتأثر بالميول والعواطف كالحب والكراهية والطمع والغيرة، تلك العواطف العمياء الضاربة في الضلال
- ماذا أسمع؟ كيف يكون الحب رائد ضلال؟ كيف يكون أيها الوالد الكريم، وهو العاطفة الروحية السماوية التي تربط الإنسان بخالقه، والتي تولد مع الوليد فيميل إلى والده وأقاربه بطبيعة الحب الروحي فيه، والتي نلمسها في الحيوان قوية واضحة، وهو الذي لا يدرك ولا يفكر تفكيراً يصح أن ينطبق عليه حقيقة التفكير بكل معانيه. وكيف تكون الروح عمياء! إننا إذا نظرنا إلى حيوانين من فصيلتين مختلفتين، ورأينا
كان على يوسف يدعو لرأي سياسي؛ وكذلك كان عبد القادر حمزة، فعمدا كلاهما إلى أن يصلا إلى قلوب الجماهير في يُسر لا تكلف فيه، فتوخيا سهولة العبارة، وجانبا النابي من الألفاظ، والمستصعب من التراكيب، كما جانبا الزخرف والتعمل والتفصح، فجاء الأسلوبان من السهل الممتنع حقاً.
على أن الرجلين نبتا في عصرين مختلفين كل الاختلاف: فلم تكن الكتابة - كما أشرنا آنفاً - قد نهضت بعد في عصر علي يوسف، بل كانت تحبو إلى النهوض. فليس غريباً إذاً ألا تخلو مقالاته - على ما فيها من حياة وقوة - من زلاًت لغوية وتركيبية، وأن يتداخلها(417/15)
أحياناً شيء من ضعف التأليف، نلحظه دائماً في كتابات ذلك العصر.
ولا كذلك عبد القادر حمزة: فقد نشأ في بيئة غير تلك، وعصر نُبهت فيه العربية، ونضجت الأقلام، حتى إن مصر لتُباهي فيه بكتاب هم بلا شك من مفاخر العربية.
هذه إلمامة عامة مجملة. وتفصيلها يقتضي بحثاً طويلاً، ودراسة مسهبة لهؤلاء الرجال وأزمانهم وثقافتهم، ثم كتاباتهم، وكيف كانت أولاً، وكيف تطورت، وعوامل كل أولئك ونتاجه. ولا شك أن تاريخ الأدب الحديث سيقول في ذلك كله قوله الفصل.
(ا. ع)
إلى الأستاذ محمود شلتوت
ورد في مقالكم القيم (الإسلام والعلاقات الدولية) العدد 415 من الرسالة الغراء عن أسرى الحرب في الإسلام ما يلي: وخير الإمام بين إطلاقهم من غير مقابل وفدائهم على حسب ما يرى من المصلحة. وقد منَّ صلى الله عليه وسلم وفادى بالمال وبتعليم الأسارى أبناء المسلمين الكتابة. أما استرقاقه صلى الله عليه وسلم أو إباحته للاسترقاق فقد كان مجاراة لحالة اجتماعية سائدة في الأمم إذ ذاك ولم يكن على وجه التشريع العام، وإنما التشريع العام في ذلك قوله تعالى: (فإما مَنَّا بعد وإما فداء)
فهل لنا يا سيدي الأستاذ أن نفهم من ذلك أن الرق في الإسلام من قبيل الأحكام التي تزول بزوال أسبابها ومقتضياتها كتركه صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح بالناس معللاً هذا الترك بقوله: إني خشيت أن تفرض عليكم. حتى إذا ما أكملت الشريعة وفصلت الأحكام وانتقل النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى وزالت خشية فرضيتها جمع عمر بن الخطاب الناس عليها وقال: نعم البدعة هذه؟
وكذلك ما ذهب إليه كثير من فقهاء السلف والخلف من إسقاط المؤلفة قلوبهم من سهم الزكاة مع أن الآية بظاهرها قد جعلت لهم نصيباً مفروضاً منها؛ قال تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) الآية 60 من سورة التوبة، وقالوا إن إعطاءهم هذا السهم إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام إذ ذاك في قلة وضعف. وقد زال ذلك بظهور الإسلام وإعزازه واستغنائه عن تأليف القلوب لدخولها فيه(417/16)
أو كف أذيتها عنه. ولهذا فإن الخلفاء الراشدين لم يعطوهم شيئاً. وقال عمر إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وقد اشتد في رده للأقرع ابن حابس المجاشي وعيينة بن حصن الفزازي في خلافة الصديق رضي الله عنه وقال لهما: اذهبا واجهدا جهدكما، لأرعى الله لكما إن رعيتما. لقد تألفكما رسول الله والإسلام قليل
وقد تغيرت اليوم الأوضاع الاجتماعية للأمم وأصبح الرق السائد في الأمس يكاد أن يتواضع الناس اليوم على أنه إضرار وجريرة كبرى. فهل لنا يا سيدي الأستاذ في مجاراة هذه الحالة السائدة اليوم أن نمنع الرق في الشريعة الإسلامية كما منعنا سهم المؤلفة لزوال المقتضيات والأسباب؟
وتقبلوا فائق التحية والاحترام
محمد كامل الحمامي
نزيل القاهرة
تصحيح مثل
قرأ البلاغيون في بعض الكتب من ضمن الأمثال قول القائل: (النحو في الكلام كالملح في الطعام) وهو قول كما ترى فاسد خاطىء، فأتعبوا أنفسكم في نقده وتشريحه، وإيراد التأويلات المختلفة لتصحيحه وتسويغه؛ فقال الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح) ما نصه: (وإذا علم أن وجه الشبه هو ما يشترك فيه الطرفان - يعني المشبه والمشبه به - علم فساد جعله في القول القائل: (النحو في الكلام كالملح في الطعام) كون القليل مصلحاً والكثير مفسداً، لأن القلة والكثرة إنما يتصور جريانهما في الملح، وذلك بأن يجعل منه في الطعام القدر المصلح أو أكثر منه دون النحو، فإنه إذا كان من حكمه رفع الفاعل ونصب المفعول مثلاً، فإن وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه، وانتفى الفساد عنه، وصار منتفعا ًبه في فهم المراد منه، وإلا لم يحصل وكان فاسداً لا ينتفع به. فالوجه فيه هو كون الاستعمال مصلحاً والإهمال مفسداً لاشتراكهما في ذلك. . .)
والحق أنني لم أسترح إلى قبول هذا التوجيه الذي ذكره الخطيب لتصحيح المثل، وبقيت منه على علة؛ وبينما كنت أقرأ في كتاب (نفائس المجالس السلطانية) الذي نشره الدكتور(417/17)
عبد الوهاب عزام ضمن كتابه الأخير (مجالس السلطان الغوري)؛ إذا بي أقف على تحريف في المثل السابق، وأعلم أن صحته كما جاء في الصفحة الثامنة والستين من كتاب النفائس المذكور إذ وردت فيه هذه العبارة:
قال بعض الحكماء: الهزل في الكلام كالملح في الطعام!
ومن اليسير على القارئ أن يدرك جمال المعنى في قول ذلك الحكيم: (الهزل في الكلام كالملح في الطعام) فإن الكلام إذا خلا من الهزل المباح المحمول كان جافاً ثقيلاً، وكانت النفوس أسرع إلى النفور منه والعزوف عنه، وقد كان النبي صلوات الله عليه يمزح أحياناً؛ وإن كان لبلاغته وتمكنه وعصمته لا يقول في مزاحه إلا حقاً. وإذا زاد الهزل في الكلام كان ذلك أدعى إلى الإفحاش فيه، والخروج به إلى المجانة والهذر. ولعل مما يستأنس به لذلك قول الرسول الكريم: (كثرة الضحك تميت القلوب) وقوله ما معناه: (كثرة المزاح تسقط الهيبة). وبذلك يتضح أن التشبيه - بعد التصحيح السابق - قد استكمل شرائطه، وصار له من الجمال والدقة ما له.
فليُرح البلاغيون أنفسهم، وليستبدلوا كلمة (النحو) بكلمة (الهزل) فيستقيم لهم المثل، وفوق كل ذي علم عليم.
(البجلات)
أحمد الشرباصي(417/18)
القصص
سمبرايدم
عن الإنجليزية
للأستاذ فوزي الشتوي
كان الجراح (بكتل) رحيماً على غير عادته، برغم حادثة بسيطة، أو بعبارة أدق برغم إهمال بسيط حدث في الليلة الماضية، فأدى إلى وفاة رجل كان ينتظر له الشفاء. وكان الرجل من أولئك البحارة الكثيرين، إلا أن وفاته أقلقت كبير الممرضين منذ الصباح. ولم يكن سبب قلقه وفاة الرجل، فهو يعرف الجراح (بكتل) في مثل هذه المسائل، ولكن جزعه كان يرجع إلى نجاح العملية الجراحية برغم دقتها وخطورتها، وبهذا انتقل أمر شفاء المريض من يد الجراح إلى يد الممرض وإلى العناية بأمر العلاج؛ ولكن الرجل مات، بدون سبب سوى إهمال بسيط، ولكنه سبب كاف لإثارة سخط الجراح (بكتل) وسبب كاف لإسماع كبير الممرضين قوارص الكلام، ثم إرسال موجة من الاضطراب بين صفوف جميع الممرضين والممرضات لمدة 24 ساعة كاملة
وعلى رغم هذا كله كان الجراح (بكتل) رحيماً على غير عادته، فعند ما أخطره كبير الممرضين وهو يرتجف رعباً بوفاة الرجل الفجائية لم تنفرج شفتاه عن كلمة تقريع أو لوم، وظلتا مضمومتين فانسابت منهما علامات الغضب بسكون لم يقطعه إلا سؤاله المستبشر عن صحة الرجل الآخر. ولم يصدق الممرض ما سمع فمن المستحيل أن يكون الدكتور سمع الموضوع فأعاد شرحه
ففقد الدكتور (بكتل) صبره وقال: فهمت. فهمت، وماذا جرى لسمبرايدم، هل هو مستعد لمغادرة المستشفى؟
- نعم يا سيدي وهم يساعدونه الآن على ارتداء ملابسه. قال كبير الممرضين مكملاً تقريره مسروراً لأن السلام يستقر بين جدران المستشفى:
فلم يكن للأرواح عند الدكتور (بكتل) من قيمة، وكان فقدها أحد حوادث المهنة التي لا مفر منها؛ أما الحالات وخصوصاً الحالات الغريبة، فقد كانت كل شيء لديه. ولهذا عوضه شفاء(417/19)
سمبر ايدم عن وفاة البحار
أطلق الناس على الدكتور (بكتل) اسم الجزار. أما زملاءه فكانوا يعتقدون أنه لم يقبض على مبضع الجراح رجل أجراً ولا أكفأ منه. لم يكن رجلاً خيالياً ولا عاطفياً، بل كانت طبيعته علمية مضبوطة وصادقة. لم يكن الرجال في عرفه سوى ودائع لا شخصية لها ولا قيمة، إلا أن أمره كان يختلف في الحالات الغريبة، فكلما كان الرجل محطماً، وكلما قل الأمل في شفائه زادت أهميته في عيني الدكتور بكتل، فهو يتخلى عن شاعر الملك إذا كانت حادثته عادية ليعني بأمر متشرد تحدى جميع قوانين الحياة ورفض أن يموت
وهكذا كانت الحال في حالة سمبر ايدم. لم تجذب الدكتور بكتل غرابة أطوار سمبر ايدم ولا صمته، ولم يحاول إزاحة الستار عن مأساة غرابه كما حاول الصحافيون إثارة الناس دون جدوى في صحف الأحد. لم يثر شيء من هذا اهتمام الدكتور بكتل، وإنما أثار اهتمامه أن رقبة سمبر ايدم قطعت، وفي هذه النقطة وحدها تركزت كل لذته، فقد قطعت من الأذن إلى الأذن، وما كان جراح واحد من ألف ليرى بارقة أمل في شفائه، ولكنه بفضل عربات الإسعاف السريعة وبفضل الدكتور بكتل عاد مرة أخرى إلى الحياة التي حاول أن يتركها
وعندما عرضت الحالة على مساعدي الجراح بكتل هزوا رؤوسهم وقالوا محال، فقد أصيبت الحنجرة والقصبة الهوائية والعنق بأضرار بالغة فضلاً عن كمية الدماء الكبيرة التي نزفت. وبناء على هذه النتيجة جرب الجراح بكتل عدة وسائل، وأجرى عدة عمليات جعلت زملاءه برغم تضلعهم في الفن يقفون مشدوهين وأكثر من هذا أن الرجل شفى
وهكذا مر اليوم في المستشفى بسلام دون أن يسوده الاضطراب والذعر نتيجة لتقرير كبير الممرضين. فقد كان من الأمور السارة أن يغادره في ذلك اليوم سمبر ايدم صحيحاً معافى، بل إن جثة الطفل الذي صدمه الترام فعجنتها لم تؤثر على المرح السائد ولم ترسل موجه الأسف العادية
وأثارت قضية سمبر ايدم إعجاب كثيرين، وأثارت كثيراً من اللغط؛ فقد وجد في أحد منازل الإحسان مقطوع الرقبة والدم ينزف منها فتساقطت نقطة على الغرفة السفلي فدب الذعر في صفوف سكانها؛ وكان من الواضح أنه فعل فعلته وهو واقف ورأسه منحنِ إلى الأمام(417/20)
حتى يظل نظره موجهاً إلى صورة موضوعة على طاولة، ومسندة إلى شمعدان، فأتاح هذا الوضع للجراح بكتل أن يتم معجزته. فلو تغير الوضع وكان انحناء الرأس إلى الخلف، لتمددت الأوعية العنقية وتم الانتحار على خير ما يرام، ولفقد الجراح بكتل لذة تنفيذ أعجوبته
ومضى سمبر ايدم طول مدة عودته إلى الحياة في المستشفى دون أن ينبس بكلمة؛ حتى ضابط البوليس لم يظفر من شفتيه بأية معلومات أو تفاصيل. ولم يعثر على إنسان واحد عرفه أو تحدث إليه؛ فقد كان ظاهرة غريبة شاذة. دلت ملابسه على أنه من أحط طبقات العمال، ولكن يديه دلتا على يدي رجل مهذب. وفحصت ملابسه قطعة قطعة فلم يعثروا فيها على ورقة واحدة أو دليل واحد يدل على ماضيه أو مركزه الاجتماعي، فلم يكن لديهم إلا الصورة الفوتغرافية
أما المرأة التي كانت تنظر من خلال الصورة فكانت بديعة صافية الجمال تلتقي عيناها بعيني المحدق فيها. وعبثاً بحث المخبرون السريون عن اسم مصورها؛ فقد كانت من تصوير أحد الهواة. وفي أحد الزوايا ظهر خط نسائي دقيق كتب (سمبر ايدم، سمبر الأمين) باللاتينية؛ وكما يذكر كثيرون كان وجهها من الوجوه التي لا ينساها الإنسان أبداً. نشرت صورتها في عدة جرائد رئيسية؛ ولكن مثل هذا الإجراء لم يظهر دليلاً جديداً وإن أثار فضول الجمهور ووفر المجال أمام الصحفيين للفروض والتخمينات
واشتهر المنتحر المنقَذ باسم سمبر ايدم لزوار المستشفى وفي العالم أجمع؛ فهو لم يحاول تغيير هذا الاسم. وتعب الصحفيون ورجال البوليس والممرضون في استطلاع أمره، ولكن شفتاه لم تنفرجا عن كلمة واحدة رغم بريق عينيه الذي كان يدل على أن أذنيه سمعتا وأن عقله أدرك ما وجه إليه من أسئلة. وأخيراً أهملوه وبقى له اسم سمبر ايدم
إلا أن الغموض الهائل والغرام العنيف لم يكن له معنى عند الجراح بكتل عندما استدعى مريضه إلى مكتبه، فهذا الرجل في عرفه هو الأعجوبة التي تمت على يديه فعمل فيه ما اعتبره فن الجراحة مستحيلاً، دون أن يهتم باسم الرجل أو ماضيه، بل كان من المحتمل ألا يطلب رؤيته مرة ثانية، ولكنه في هذه اللحظة كان كفنان يحدق في المخلوق الذي أوجده. فقد أراد أن يرى صنع يديه وعقله للمرة الأخيرة(417/21)
واحتفظ سمبر ايدم بصمته؛ وكان يبدو عليه السرور لمبارحته المستشفى دون أن يفوز منه الجراح بكلمة، وإن كان في الواقع لم يهتم بصمته أو بكلامه، وكل ما عمل أن اختبر رقبة المريض بدقة، فتحسس أثر التحام الجرح البشع الطويل متمهلاً كأنه أب يحنو على ولده. ولم يكن المنظر مريحاً، إذ كان يمثل خطاً يلف حول الرقبة ويختفي تحت الأذنين كما لو كان صاحب هذه الرقبة خارجاً من تحت حبل المشنقة
وصبر سمبر ايدم على هذا الاختبار كأنه أسد سجين، فكل رغبته أن يختفي عن أعين الناس. وأخيراً قال الجراح بكتل وهو يضع يده على كتف الرجل ويختلس نظرة أخيرة إلى صنع يديه:
- حسن! لن أحجزك. ولكن دعني أقدم إليك نصيحة صغيرة: عندما تحاول قطع رقبتك مرة ثانية ارفع ذقنك ولا تلقها إلى الأمام ثم اذبح نفسك كبقرة
ولمعت عينا سمبر ايدم علامة على أنه سمع وفهم؛ وبعد لحظة كان باب المستشفى يغلق خلفه
كان ذلك اليوم أحد أيام الجراح بكتل المليئة بالعمل، فلم يتح له أن يشعل سيجاره الكبير إلا بعد أن أوشك العصر أن ينتهي. وكان آخر حادث عرض عليه حادث رجل يجمع الخرق كسرت إحدى عظام كتفه. تخلص منه بسرعة وجذب نفساً طويلاً من سيجاره وأوشك أن يغادر طاولته، وما كادت رائحة الدخان وأشكاله البيضاء تنتشر في جو الغرفة حتى سمع صوت جرس إحدى سيارات الإسعاف السريعة يطن في أذنيه منبعثاً من نافذة الغرفة المطلة على الشارع، وتبعها دخول نقالة تحمل إنساناً جديداً
ووضع الجراح بكتل سيجاره في مكان أمين وقال: (ضعه على المشرحة. ماذا حدث؟)
فقال أحد حاملي النقالة: (حادث انتحار بقطع الرقبة في زقاق مورجان، وأعتقد أن الأمل ضعيف وأنه مات تقريباً)
(حسن سأراه على أية حال)
ومال الطبيب الجراح على الرجل في اللحظة التي اهتز فيها جسمه هزته الأخيرة وأسلم الروح. وما كاد كبير الممرضين يراه حتى قال: (إنه سمبر ايدم! عاد مرة ثانية)
فقال الجراح: (نعم ولكنه رحل. ولا فائدة هذه المرة فقد أتقن التنفيذ. نفذ نصيحتي حرفياً.(417/22)
خذه إلى معرض الموتى)
ووضع سيجاره بين شفتيه ثم أعاد إشعاله وقال لكبير الممرضين من ثنايا الدخان المتصاعد: (هذا يعادل الرجل الذي فقدته أنت في الليلة الماضية، فنحن متساويان الآن
فوزي الشتوي(417/23)
العدد 418 - بتاريخ: 07 - 07 - 1941(/)
من طرائف الأزهر القديم
من البكاء إلى الضحك!
لا تزال طوائر المنون تحلق في سماء الإسكندرية فترسل الصواعق
والشهب على أهلها الغافين في أكناف الأمان، فتدك المنازل، وتطحن
الأجساد، وتخسف الطرق، وتقذف الرعب في قلوب الناجين فيخرجون
من دورهم هائمين على وجوههم، في مدارج السهول ومسالك الحقول
وأزقة القرى، حتى إذا ارفض عنهم الهلع واستقر بهم الفرار، نظروا
في أنفسهم، فإذا هم على أرصفة المحطات، أو على حواشي الطرقات،
أو تحت أفياء الجدُر، في ملابس النوم، أو في مباذل البيت، لا يملكون
ما يمسك الرمق ولا ما يستر الجسم، ثم نظروا إلى من معهم، فإذا
زوجة تصحب غريباً وهي تظنه بعلها، وأم تحمل مخدة وهي تحسبها
طفلها، وولد ينادي أمه فلا يجاب، ووالد ينشد أسرته فلا يجد. وحينئذ
ينجلي الذهول، ويتضح الخطب، وتعيد الذاكرة إلى المشاعر تهاويل
المنايا السود في هوادي الليل المقمر، فيذكرون انقضاض القنابل على
المدينة، وانهيار المنازل على الناس، فيعاودهم الفرق فيذهلون، ثم
يساورهم القلق فيرحلون، وهم لا يدرون أين ينزلون، ولا من أين
يأكلون، والناعمون على سرر الذهب وحشايا الديباج ينظرون إليهم
كما ينظرون إلى أسرى الطليان في طريقهم إلى المعتقل، أو يسمعون
بهم كما يسمعون بجرحى الألمان في طريقهم إلى الموت!
أربعمائة ألف أو يزيدون أخرجهم القدر القاهر من ديارهم وأموالهم، ثم تركهم عاجزين في ذمة الوطنية والإنسانية. وإذا علمت أن الوطنية في عرفنا لفظ لا يذكر إلا في دعاية لحزب(418/1)
يريد أن يحكم أو لنائب يريد أن يُنتخب، وأن الإنسانية في رأينا معنى لا يفهم إلا في عمل تحته شهرة أو وراءه لقب، أدركت السبب في وقوف بني قارون من المنكوبين موقف تماثيل المسرح من المأساة!
إذن لم يبق للمهاجرين إلا أكواخ الفقراء، وعتبات الأولياء، وهبات الحكومة. فأما مواساة الفقراء لهم فحق وأما معونة الحكومة إياهم فيقين، وأما ضيافة الأولياء فبقيت كضيافة الأغنياء موضع الشك!
كتب إلينا مهاجر أديب بطنطا يقول: (أيأسني الأمراء والأغنياء من رزق الله، فلجأت بعيالي إلى مقام سيدي أحمد البدوي في الغربية، فلم ألق منه ما لقي اللاجئون إلى مزارع جناكليس في البحيرة، فهل التوسل بالأولياء عبث، والالتجاء إليهم في الخطوب باطل؟. . .)
أنا يا سيدي المهاجر أعلم الدين، والحمد لله، علم الفقيه المجتهد، ولكني لا أزعم لنفسي درجة الإفتاء، على أن بين يدي الآن شيئاً يشبه الفتوى صدر عن أحد مفتي الديار المصرية في عهد مضى، أقدمه إليك لعل فيه بعض الغناء، في موضوع هذا الاستفتاء!
وقع في نفس المفتي أن شيخ الأزهر إذ ذاك سمى هو وحزبه بين الخديو وبينه حتى أفسدوا حاله عنده، فاستعدى عليهم سيدي أحمد البدوي بقصيدة رفعها إلى مقصورته الشريفة، بعد أن قدم لها هذه المقدمة الطريفة. ودونك المقدمة والقصيدة: (التجاء واستنجاد، برجل الفتوة طويل النجاد، وإمام الأولياء، وسراج الأصفياء، الغوث الأوحد، سيدي وولي نعمتي البدوي أحمد، دامت إمداداته، وعمت في الدارين بركاته
آمين آمين لا أَرضي بواحدةٍ ... حتى أضم إليها ألف آمينا)
أيرضيك يا غَوث الورى وإمامهم ... غَبينة أهل الحق والحق ظاهر
تعدى لئيم القوم واشتد بغيه ... وجاء بكل الحقد وهو يجاهر
أتى بالمعاصي مُعْلناً وهو يدعي ... مكانة دين قيم، وهو فاجر
وساعده حزب على شكله سعوا ... بكل فساد أوضحته الكبائر
فَضّلوا جميعاً عن طريق رشادنا ... وأزهرنا منهم غَدا وهو صاغر
فجئنا حماكم نرفع الأمر سيدي ... ونطلب دينَ الله والله ناصِر(418/2)
وأنتم إمام الأولياء ولا مِرَا ... وأنت غياث الملتجى وهو حائر
إذا كان يا مولاي أزهر ديننا ... تدور عليه في الضلال الدوائر
فأين يكون الدين يا سيد الورى ... وأين يكون العدل والعدل عاطر
فها قد بسطنا بعض شأن يزيده ... وثم أمور قد حوتها الضمائر
فمنها دخول في البقا وهداية ... لأقوم طرق الله وهي المفاخر
وصحة جسم للذين أحبهم ... كذلك لي في العز والعمر وافر
ونصر على الأعدا وجاه مؤبد ... وفوز مبين دائماً يتقاطر
وتيسير ما أرجوه من كل مطلب ... وسُكنى جنانِ الخلد حيث الأكابر
ورؤية خير الخلق جهراً بسرعة ... فها قد مضى عمري وقل التناصر
فقل يا طويل الباع هاقد أجبتكم ... لكل الذي ترجون والله جابر
وصلَّ على المختار ربي مسلماً ... كذا آله ما قام بالذكر ذاكر
كتبه عبد الإحسان الواقف بالباب،
الراجي سرعة الجواب:
. . . . . . . . . . . .
مفتي الديار المصرية
فأنت ترى أن فضيلة المفتي غفر الله له لم يقنع باستعداء السيد البدوي (سيد الورى) على خصومة، وإنما دفعه الطمع في فضله إلى أن يسأله الهداية، وطول العمر، وصحة الجسم له ولمن يحب، والنصر على الأعداء، والجاه المؤبد، وتيسير كل مطلب، ودخول الجنة، ورؤية النبي جهرة. . . فإذا كان سيدي أحمد البدوي قد استطاع أن يستجيب هذه الرّغاب، فليس أسهل عليه من أن يمن عليك برغيف وجلباب. ولكني أفهم من أسلوب استفتائك أنك ستقول: سبحانك ربي! هذا شرك عظيم. ولعلك تمعن في إنكارك فتزعم أن ما أصاب الإسلام من قبح القالة، وما حل بالمسلمين من سوء الحالة، إنما يرجع إلى ما ران على القلوب والعقول من أمثال الرسالة العليشية، والقصيدة الصدفية. ولكني أعيذك بالله أن تسرع في الحكم فتخطيء الصواب. والخير لي ولك أن تعلن سؤالك إلى العلماء وتنتظر(418/3)
الجواب
أحمد حسن الزيات(418/4)
أبو المظفر الأبيوردي
شاعر العرب
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
ذكرت من قبل كاتباً من كتّاب اللغتين العربية والفارسية اسمه رشيد الدين الوطواط، وبينت أنه عربي قرشي من ذرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجعلته مثلاً لاختلاط الأمم الإسلامية بعضها ببعض، كما جعلته مثلاً لامتزاج الأدبين العربي والفارسي في نفوس كثير من الفرس والعرب الذين استوطنوا بلاد فارس
وهذا موضوع واسع؛ فما زالت بلاد الفرس تعد من مواطن الأدب العربي منذ جمعت أخوة الإسلام العرب والفرس وإن اختلفت الأحوال على مر الزمان
ومن الشعراء الذين نبغوا بتلك الديار وهم ينتمون إلى بيوت الخلافة، الشاعران: المأموني والواثقي، وهما من ذرية المأمون بن الرشيد والواثق بالله بن المعتصم. ومنهم أبو المظفر محمد بن أبي العباس الأبيوردي
فأما نسبته فإلى أبيورد، وهي بلدة بخراسان في شماليهّا الشرقي، وتعد اليوم في التركستان الروسية. وهو من قرية من قرى أبيورد اسمها كوقن على ستة فراسخ منها، بناها عبد الله ابن طاهر في خلافة المأمون؛ وقد ذكرها في شعره فهو يقول عن الشام:
وتلك دار ورثناها معاويةٌ ... لكن كوقن ألقانا بها الزمن
وأما نسبه فينتهي إلى أبي سفيان بن حرب، بينهما ستة عشر أباً. وكان يتلقب المعاويّ انتساباً إلى معاوية الأصغر وهو الجد التاسع من أجداده. وقد تلقب في شعره بالأمويّ والمعاويّ، وأكثر من الافتخار بهذه النسبة في شعره كقوله:
خذي قصبات السبق عني فما لها ... من الحيّ غيرَ ابن المعاويّ حائز
وروى ابن خلكان أن الأبيوردي كتب رقعة إلى الخليفة المستظهر بالله وعلى رأسها (الخادم المعاوي) فكره الخليفة مكاتبته بذلك فكشط الميم من المعاوي فصار (الخادم العاوي)
- 2 -(418/5)
والأبيوردي من شعراء القرن الخامس الهجري توفي سنة 507 ولكن ابن خلكان يقول: وكانت وفاة الأبيوردي المذكور بين الظهر والعصر يوم الخميس لعشرين من ربيع الأول سنة سبع وخمسين وخمسمائة بأصبهان مسموماً وصُلى عليه في الجامع العتيق بها رحمه الله تعالى
وهذا التاريخ الذي ذكره ابن خلكان والذي يظهر فيه التدقيق بذكر اليوم والساعة أدى إلى تضليل كثير من الناس في تاريخ الأبيودري. وقد وقع الغلط في كلمة خمسين. فوفاته كانت سنة سبع وخمسمائة لا سبع وخمسين وخمسمائة
وفي حوادث سنة 507 ذكر ابن الأثير وأبو الفداء وفاته. وكذلك أرخها بهذه السنة ياقوت الحموي في معجم البلدان
ثم له مدائح كثيرة في الخليفة المقتدي بالله المتوفى سنة 487 وما أحسبه مدح المقتدي إلا بعد أن أمضى شطراً من شبابه في خراسان ثم رحل إلى العراق. فبعيد جداً أن يعيش بعد المقتدي أكثر من سبعين سنة. وقد مدح أيضاً الوزير نظام الملك المتوفى سنة 486
- 3 -
لم يقتصر فضل الأبيوردي على إجادة الشعر؛ فقد كان واسع العلم بفنون كثيرة. روى ابن خلكان عن أبي زكريا بن قغده صاحب تاريخ أصبهان قوله في الأبيوردي:
(فخر الرؤساء، أفضل الدولة، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، يتصرف في فنون جمة من العلوم، عارف بأنساب العرب، فصيح الكلام، حاذق في تصنيف الكتب، وافر العقل، كامل الفضل، فريد دهره، وحيد عصره)
وروى ابن خلكان كذلك أن المقدس صاحب كتاب الأنساب ذكره في ترجمة المعاويّ وقال: (إنه كان أوحد زمانه في علوم عديدة؛ وقد أوردنا عنه في غير موضع من هذا الكتاب أشياء)
وقد نبه إلى هذا الغلط من قبل الصديق الأديب عباس إقبال في كلمة أرسلها إلىّ حينما دعا الأستاذ علي الطنطاوي إلى الاحتفال بمرور ثمانمائة عام على وفاة الشاعر ونشرتها في الرسالة(418/6)
وكان يكتب في نسبة المعاويّ. وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
وقال ابن خلكان: (وكان من أخبر الناس بعلم الأنساب نقل عنه الحفّاظ الإثبات الثقات) ثم قال في آخر ترجمته:
(وله تصانيف كثيرة مفيدة منها تاريخ أبيورد، وكتاب المختلف والمؤتلف، وطبقات كل فن، وما اختلف وائتلف في أنساب العرب. وله في اللغة مصنفات كثيرة لم يسبق إلى مثلها. وكان حسن السيرة جميل الأثر له معاملة صحيحة)
هذا ما ذكره ابن خلكان وليس بين أيدينا اليوم مؤلف من هذه المؤلفات
- 4 -
ولسنا نعرف من أخبار الشاعر وأسرته إلا نبذاً متفرقة في الديوان. نجد في الديوان مِدَحاً في أبيه تدل على أنه من الكتاب وأنه ذو مكانة وجاه. ومدحة في عمه تدل على أنه من الخطباء. ولعله كان خطيب الجمعة في بعض البلاد، وهو منصب له مكانة في التاريخ الإسلامي. ونجده يمدح بعض الوزراء من أسرته ويمدح بعض بني عمه وهكذا. ونجد في الديوان قصائد في مدح بعض أخواله من سروات العجم. ويدل الديوان على رحلات الأبيوردي في أرجاء فارس وفي العراق والبلاد العربية. وكان الرجل طموحاً عيوفاً فلم يسكن إلى جانب من الأرض، وهو يقول في قصيدته التي هجا فيها فريبرز ملك شروان:
فقلت أين المحصلون ومن ... ينشر قوماً طوتهم الحقب؟
وقد أخلق الفضل بالعراق وفي ... فارس لما اضمحلت الرتب
والشام أقوى وطالما عهدت ... لفارس النظم حلبةً حلبُ
فكيف يشتد صلب قاصدها ... مادام للكفر حولها صُلب
وأي سوق تسوق فائدة ... قيامها يوم تعرض الخطب
وقد عرض عليه بعض الوزراء الكتابة فأبى وقال:
خليلي إن العمر ودعت شرخه ... وما في مشيبي تلاف لفارط
ألم تعلما أني أنست لعطلة ... مخافة أن أبلى بخدمة ساقط
فلا تدعواني للكتابة إنها ... طماعة راج في مخيلة قانط(418/7)
ينافسني فيها رعاع تهادنوا ... على دَخن ما بين راض وساخط
وأنكرت الأقلام منهم أناملاً ... مهيأة أطرافها للمشارط
لئن قدمتهم عصبة خانها النهي ... فهل ساقط لم يحظ يوماً بلاقط؟
وأي فتى ما بين بُرْدى قابض ... عن الشر كفيه وللخير باسط
وينبئنا الديوان بما كان بينه وبين الخلفاء العباسيين من مودة، فله مدائح كثيرة في الخليفتين المقتدي والمستظهر يشيد فيها بمجد العباسيين، ويبالغ في مدحهم، ويذكر قرابته إليهم، يقول في مدح المقتدي:
أسير وأسرى للمعالي وما بها ... لطالبها إلا لديك لحوق
وقد ولدتني عصبة ضم جدهم ... وجد بي ساقي الحجيج عروق
ونجده في قصيدة يطلب من المستظهر داراً تقيه برد الشتاء يقول:
فهذه شتوة ألقت كلاكلها ... حتى استبد بصفو العيشة الكدر
ومنزلي أبلت الأيام جدَّته ... فشفني المبليان الهم والسهر
وللفؤاد وجيب في جوانبه ... كما يهز الجناح الطائر الحذِر
تحكي عناق محب من يَهيم به ... إذا تعانقن في أرجائه الجدُر
ولن تقيم به نفس فتألفه ... إذ ليس للعين في أقطاره سفر
والسقف يبكي بأجفان المشوق إذا ... أرسي به هَزِمُ الأطباء منهمر
وما سرى البرق والظلماء عاكفة ... إلا وفي القلب من نيرانه شرر
وابن المعاويّ يهوى أن يكون له ... مغنى ببغداد لا تخشى به الغِيِر
مثوى يدافع عن كتبي - وأكثرها ... فيه مديحك - أن يغتالها المطر
كذلك نعرف من الديوان أنه فارق العراق كارهاً، وأن جماعة هنالك منهم وزير للخليفة قد أساءوا إليه. فلما أرسل إليه الخليفة يعاتبه على مفارقة بغداد أجاب بقصيدة فيها هذه الأبيات:
بغداد أيتها المطى فواصلي ... عَنَقاً تئن له القلاص الضمّر
إني وحق المستجَن بطَيبة ... كلف بها، وإلى ذَراها أصوَر
وكأنني مما تسوّله المنى، ... والدار نازحة، إليها أنظر(418/8)
إلى أن يقول:
فصددت عنها إذنبابي معشري ... وبغى علي من الأراذل معشر
من كل ملتحف بما يصم الفتى ... يؤذي فيظلم أو يخون ويغدر
فنفضت منه يدي مخافة كيده ... إن الكريم على الأذى لا يصبر
ثم يكتب من أصبهان إلى بعض أصدقائه بمدينة السلام يعرب عن حنينه إليها:
تحن إلى ماء الصراة ركائبي ... وصحبي بشطي زنَّروذ حلول
أشواقا وأجوازُ المهامه بيننا ... يطيح وجيف دونها وذميل
ألا ليت شعري هل أراني بغبطة ... أبيت على أرجائها وأقيل
هواء كأيام الهوى لا يغبَّه ... نسيم كلحظ الغانيات عليل
إلى أن يقول:
فقل لأخلائي ببغداد هل بكم ... سُلوّ فعندي رنة وعويل
يرنحني ذكراكم فكأنما ... تميل بي الصهباء حيث أميل
لئن قصُرت أيام أنسى بقربكم ... فلَيلى على نأي المزار طويل
- 5 -
ويبين في شعر الأبيوردي اعتداده بنفسه واعتزازه بنسبه، وإباؤه وكبرياؤه وعفته، مع طموحه وبعد آماله. وقد قال عنه ابن منده الذي ذكرناه آنفاً: (وكان فيه تيه وكبر وعزة نفس. وكان إذا صلى يقول: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها) أقول وهي دعوة عجيبة لا أحسب صاحبها يقنع بملك بني أمية الذي امتد من السند إلى المحيط وجبال البرانس
وفخر الأبيوردي بعربيته وأمويته يلقاه قارئ الديوان تصريحاً وكناية في مواضع كثيرة يقول:
أنا ابن الأكرمين أباً وأماً ... وهم خير الورى عماً وخالاً
إلى أن يقول:
وهم فتحوا البلاد بباترات ... كأن على أغرنَّها نمالا
ولولاهم لما درت بفَيء ... ولا أرعى بها العرب الفصالا
وقد علم القبائل أن قومي ... أعزهم وأكرمهم فعالا(418/9)
وأصرحهم إذا انتسبوا أصولاً ... وأعظمهم إذا وهبوا سجالا
مضوا وأزال ملكهم الليالي ... وأيَّةُ دولة أمِنت زوالا؟
وقال أيضا:
وقالت سليمى إذ رأتني لتربها ... وراقهما وجه أغر مهيب:
أظن الفتى من عبد شمس فإن يكن ... أبوه أبا سفيان فهو نجيب
أرى وجهه طلقاً يضيء جبينه ... وأحسب أن الصدر منه رحيب
سليه يكلّمنا فإن اختياله ... على ما به من خَلةّ لعجيب
فقلت: غلام من أمية شاحب ... بأرضكما نائي المزار غريب
وقال في شعر الصبى:
قالت لصحبي سراً إذرأت فرسي ... من الذي يتعدي مهره خببا؟
فقال أعلَمهم بي: إن والده ... من كان يجهد أخلاف العلى حلبا
وذا غلام بعيد صيته وله ... فصاحة وفَعال زيَّن الحسبا
وظل ينشدها شعري ويطربها ... حتى رأته بذيل الليل منتقبا
فودعته وقالت يا أخا مضر ... هذا لعمري غلام يعجب العربا
(البقية في العدد القادم)
عبد الوهاب عزام(418/10)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
أثواب الخطباء - لفتة أندلسية - تأثير البيئة - الوزراء
الأدباء - الدكتور طه حسين - النزعة الكلبية - صديقي فلان
- كيف نحب الريف - برج بابل - بريد العراق - العقد
الفريد - هل تصلح هذه الأيام لأغاريد الوجد والحنين؟
أثواب الخطباء
صح عندي بعد الاستئناس بمصادر كثيرة أن مسوح الرهبان كان لها تأثير في الوضع الذي صارت إليه أثواب الصوفية، لأن الترهب والتصوف قريبان جداً من الناحية الروحية، بغض النظر عن اختلاف الدين
ثم بقي النظر في اللون المختار لأثواب الرهبان وهو السواد، فهل تأثر به أحد من المسلمين؟ وهل كان السواد من علائم الرزانة في أوقات الاهتمام بعظائم الشؤون؟
وجدت شاهداً صريحاً في إيثار الخطباء للثياب السود، وهو ما أنشد المقدسي على لسان غراب البين، أبعده الله:
أنوح على ذهاب العمر مني ... وحقٌ أن أنوح وأن أنادي
وأندب كلما عاينت راكباً ... حدا بهمُ لوشْك البين حادي
يعنفني الجهول إذا رآني ... وقد ألبست أثواب الحداد
فقلت له اتعظ بلسان حالي ... فإني قد نصحتك باجتهاد
وهاأنا كالخطيب وليس بدعاً ... على الخطباء أثواب السواد
ومعنى هذا أن الغراب لبس السواد لأنه وقف وقفة الخطيب، فهل يكون هذا التقليد رجعة إلى الأثواب الرهبانية، وكانت تحاك من الشعر الأسود؟
وعمن أخذ الرهبان لون السواد؟
أخذوه من رهبة الليل، فسواد الظلام يشيع في النفس معاني الانقباض والاستيحاش. ومن(418/11)
أجل ذلك كان السواد شعار المحزونين
لفتة أندلسية
وبهذه المناسبة أذكر بيتين يشهدان بأن أهل الأندلس كانوا في الحداد يلبسون البياض لا السواد، فقد قال أحد الشعراء:
يقولون البياضُ لباسُ حزنٍ ... بأندلسٍ وذاك من الصواب
ألم ترني لبست بياض شيبي ... لأني قد حزنت على شبابي
تأثير البيئة
وأذكر بهذه المناسبة أيضاً أن الذين زاروا الأندلس من أهل المشرق كان فيهم من دهش حين رأى بعض القضاة يجلسون للحكم بين الناس ورءوسهم عارية، ولم يفهم أن هذا من تأثير البيئة، فأهل أوربا ينزعون أغطية الرءوس في المواقف الجدية، وبهم تأثر العرب في الأندلس، فكان من قضاتهم من ينزع عمامته عند الجلوس للحكم بين الناس
ولكن عمن أخذ الشيخ (فلان) خلع العمامة والاكتفاء بالطاقية في إحدى المحاكم الشرعية؟
أبق عمامتك على رأسك، يا شيخ فلان، فقد حدثني من أثق بروايته أن المحتكمات إليك من الملاح لا يرين ما تراه من ذلك التظرف (المقبول) وفيهن من ترى أن الطاقية لا تصلح غطاء لرءوس رجال الشرع الشريف!
وغفل المقَّري صاحب نفح الطيب عن تأثير البيئة حين نص على أن أهل الأندلس تفردوا بشرب الخمر على قارعة الطريق، وأقول إن هذا من تأثير البيئة الأوربية، وليس شاهداً على استخفاف أهل الأندلس بواجب التستر عند اقتراف المحرَّمات
الوزراء الأدباء
يظهر أني رجلٌ متعب، كما يقول الدكتور طه حسين، فلي في كل يوم مشكلات مع أصحاب الرأي والبيان، ولن يكون للمتاعب التي أسوقها إليهم وإلى نفسي حدود
وكلمة اليوم أوحاها تعيين معالي الأستاذ دسوقي أباظة وزيراً للشئون الاجتماعية، وهو أديب كبير كانت له صولات في جرائد الحزب الوطني، فما الذي ينتظر الأدب من معاليه وقد صار قوة تنفيذية تقدم وتؤخر في شؤون الدولة والمجتمع؟ تولّى المناصب الوزارية في(418/12)
الأعوام الأخيرة رجال من كبار الأدباء، من أمثال مصطفى عبد الرزاق ومحمد حسين هيكل ومحمد علي علوبة وأحمد نجيب الهلالي وإبراهيم عبد الهادي وعبد القوي أحمد ومحمود فهمي النقراشي، فماذا استفاد الأدب من هؤلاء الوزراء الأدباء؟
سيجيبون بأنهم لم يقدموا إساءة لأي أديب
وأجيب بأن سكوتهم عن تشجيع الأدب ليس إلا صورة من صور الإيذاء
هل تصدّقون أن بعض هؤلاء الوزراء لم يكن يلقى أحداً من الأدباء إلا وعلى جبينه عبارة تقول: ابعدوا عني!!
وهل تصدقون أن معالي لأديب العظيم هيكل باشا لم يتلقّ كتاب التصوف الإسلامي يوم أهديته إليه إلا بعبارة: كل كتاب وأنت طيب!
كل كتاب وأنا طيب، يا معالي الوزير المؤلف؟
ومتى يتسع العُمر ويسمح الزمان بأن أؤلف كتاباً مثل كتاب التصوف الإسلامي؟
وإذا لم يظفر المؤلفون بتشجيع الوزراء الذين يعرفون متاعب التأليف، ففي أيّ عهد تنتظر كلمة اللطف وقد أقذينا عيوننا تحت أضواء المصابيح؟
لقد بُحَّ صوتي في الدعوة إلى اعتراف الدولة بالقيم الأدبية فلم يسمع سامع ولم يستجب مجيب، وظل الأدباء مشرَّدين لا يعرفهم غير الحظ الضائع في بلاد لم يرها شاعرنا حافظ (دار الأديب) مع أنها فيما نحب أن يقال أول مهد للعلوم والآداب والفنون.
إن هؤلاء الوزراء نفعهم الأدب أجزل النفع، فمتى ينتفع بهم الأدب؟ ومتى يظهر أنهم لم ينسوا التفكير في أن يدنوه كما دانهم؟ ومتى نسمع أن الحياة الأدبية تنتعش وتزدهر بفضل الوزراء الأدباء، كما كانت الحال في عهود أسلافنا الاماجد بالمشرق والمغرب؟
الدكتور طه حسين
في أخبار الجرائد أن الدكتور طه حسين بك لم يذهب إلى مكتبة بوزارة المعارف منذ أيام. ويظهر من الخطاب الذي نشره في جريدة البلاغ أن ناساً كانوا يحبون أن يواجه الأمور بمداورة وتلبيس!
وأقول إن كفاية الدكتور طه لا تحتاج إلى برهان، ولكنه سيندم طويلاً (وطويلاً جداً) على الفرصة التي أضاعها على نفسه قبل أن تستفحل أزمة الورق، فقد نبهته مرات كثيرة إلى(418/13)
أن مراقبة الثقافة العامة لن يكون لها وجود ملحوظ إلا إذا أُسندت بطائفة من المطبوعات الجياد، وأشرت عليه بأن يسارع فيقتني لمراقبة الثقافة ذخيرة من ورق الطبع قبل أن يرتفع ثمنه وقبل أن ينفد من الأسواق
وهو اليوم يترك مراقبة الثقافة العامة بلا أثر ظاهر يذكره الناس، فإن رجع إليها فليغير من مسلكه في تناول الأشياء، فقد كان يفهم أن الاقتراحات والفروض هي كل شيء في الدلالة على مواهب الرجال
والأمل كبير في أن يرجع الدكتور طه لعمله بوزارة المعارف وأن يتدارك ما فاته من تحقيق المشروعات الجدية في الترجمة والتأليف، فظهور كتاب أو كتابين أنفع من ألف اقتراح واقتراح؟
النزعة الكلبية
يلقاك بعض المعارف في الطريق فيسألك عن وجهتك، ولا يستريح إلا حين يعرف أين تريد وماذا تريد، كأنه من الأوصياء عليك!
ويدخل أحد الأصدقاء بيتك فيبالغ في التعرف إلى ما فيه من حجرات وغرفات، ولا يهدأ إلا بعد أن يعرف من دخائل بيتك كل شيء، كأنه مسئول أمام بعض الجهات عن تقديم تقرير مفصَّل عن حياتك المنزلية!!
ويرى بعض الناس أن من حقه أن يعرف مرتبك بالقرش والمليم، وأن يعرف كيف تنفق ذلك المرتب، وماذا تدّخر من بواقيه الطفيفة، ولأي غرض تدّخر ما ادخرت!!
ومن الأصدقاء من يسأل عن أثاث بيتك ليعرف الأثمان، ثم يناقشك في الجزئيات كأنه ابن نجّار أو حدّاد أو سمسار، والعياذ بالأدب والذوق!
ومنهم من يسألك عن أملاكك في الريف ليعرف ما تملك من قراريط أو فدادين، وكأنه (خاطبة) ستجلب خاطباً لأختك أو ابنتك!
وفي هؤلاء من يسألك عن الربح الذي تجنيه من مقالاتك ومؤلفاتك. وفيهم من يسألك عن أثمان أثوابك ونعالك، كأنه ابن بزاَّز أو حذَّاء!!
فكيف تقع هذه المزعجات من بعض الناس وأكثرهم على شيء من الذكاء؟
الجواب سهل، وهو أن في بعض الناس نزعة كلبية، والكلب حين يدخل بيتاً لا يترك فيه(418/14)
بقعة بدون أن يشمها بشرهٍ فظيع ممقوت!
فيا بني آدم، إياكم ثم إياكم من التخلق بأخلاق الكلاب!
صديقي فلان
أما صديقي فلان فهو غاية في الأدب والذوق: يدخل بيتك فيجلس حيث تحب أن يجلس، ولا يمتد بصره إلى اختبار ما في البيت من أثاث ورياش، ولا يسأل أبداً عن ربة البيت إلا أن يتلطف زوجها فيدعوها للتسليم عليه، مع أنها قد تكون من بنات الأعمام أو الأخوال؛ وإذا قُدَّم إليه طعام أقبل عليه بشهية، كأنه أطيب ما رأى من ألوان الطعام، ولو كان ممعوداً لا يأكل إلا بمقدار وفي وقت محدود، وإذا حضر الأطفال لتحيته تلقّاهم بما تحبّون، ولا يسألهم عن دروسهم إلا بأسلوب يمكّنهم دائماً من الجواب، ليأنسوا به وليُدخل على قلوبهم قبساً من نور التشجيع. وإذا عُرِض عليه خلاف سوَّاه بلطف ورفق، لتكون زيارته مرحلة من مراحل التاريخ السعيد. وإذا دخلت عليه صبية دعا لها بالخير وتحدّث عن صاحبتها بأدب ولطف. وإذا رأى أن الذرية أكثرها بنات كان من واجبه أن يصرّح بأن لله حكمة في ذلك، فمن الخير للإنسانية أن تكثر البنات في المغرس الشريف. وإذا رأى عجوزاً واساه وأعلن أن الرجل لا يصل إلى الشيخوخة إلا وهو بذرة قوية لا تهددها عواصف المشيب. وإذا رأى مريضاً بشّره بقرب العافية، وأعلن أن مرضه من العوارض الوقتية، وأنه يعرف مئات كانوا في مثل حاله ثم صاروا في مثل عافية الفرس الجموح. وإذا اعتذر أهل البيت عن مظاهر البساطة في تكوين الأثاث كان عليه أن يقول إن هذا من أدب المعاش، وإن الإفراط في الزخرف ليس من أدب العقلاء. وإذا رأى البيت على جانب من الزينة والبهجة والنضرة كان عليه أن يعلن إعجابه بما ترى عيناه، وأن يصرح بأن أهل البيت لم يريدوا إلا إعلان الحمد والثناء على المنعم الوهاب
فما رأيكم في أخلاق هذا الصديق؟؟
لقد عرفت أنه ما دخل بيتاً ورأى فيه شيئاً غير جميل، ولا صحب صديقاً وسأل عن أخباره المطوية، ولا سمع في صديق كلمة سوء، ولا استباح التعقب لمسالك المعارف والأصحاب، ولا كان من همه أن يتخذ الأصدقاء دريئة يدفع بها عاديات الكوارث والخطوب
صديقي هذا يرى للصداقة قدسية منزهة عن شوائب المنافع، وإن كان لا يضيع فرصة(418/15)
يملك فيها القدرة على نفع الصديق!!
ما رأيكم في أخلاق هذا الصديق؟؟
أنا أرى هذه الشمائل غاية في الكمال والجمال، وأرى التحلي بها واجباً على من يهمه الظفر بثقة المجتمع. ولو شئت لقلت إن الإكثار من الصلاة والصيام لا يغني عن التحلي بهذه الصفات، لأنها أصدق في الدلالة على صفاء القلب وطهارة الروح، ولأن التحلي بها لا يكون إلا بعد رياضات عنيفة تُقهر فيها نزعات النفوس والأهواء
كيف نحب الريف
تفضل الدكتور عبد الرحمن عمر فدعاني لتناول الغداء في داره بالريف، فعرفت كيف يطيب له أن يهجر مصر الجديدة أياماً وأسابيع، وعرفت كيف استطاع الأستاذ الجليل عبد العزيز فهمي باشا أن يجعل مقامه المختار في الريف
الدار الجميلة هي التي تجعل القرية أحب إلينا من المدينة، فجمّلوا بيوتكم في الريف لتشتاقوا إليه، ولتذيعوا بين أهليكم ذوق الأناقة في بناء البيوت، فأكبر عيوب مصر هو حرمان ريفها الجميل من التأنق في بناء البيوت
وبعض الناس يتوهمون أنه لا يجوز للرجل أن يقيم داراً جميلة في الريف إلا إذا كان له أملاك واسعة في الريف، وأقول إن الدار الجميلة هي في ذاتها ملك نفيس، فلا تنسوا هذا المعنى، ولا يفتكم أن تكونوا من أصحاب المنازل في الريف وإن لم تكن لكم فيع أملاك
برج بابل
كان في مقال (برج بابل) الذي نشرته (الرسالة) منذ أسابيع إشارات إلى ما قد يحلّ بالإسكندرية، فهتف الأستاذ عبد اللطيف النشار يقول:
كذَبتْ (بابل) فيما زعمتْ ... لن يصيبَ (الثغر) شٌّر أبداً
ثم عاد فأبدى أسفه لتحقق النبوءة البابلية
وأقول: ليت تلك النبوءة كانت من كواذب الأوهام والظنون، فما رأينا من تحققها غير الكرب والويل!
ثم يخاطبني النشار فيقول:(418/16)
عهدتُك لا يخيفك ما يُخيفُ ... فهل يحظَى برؤيتك المصيفُ
وأقول: إني لا أملك الصدوف عن هوى الإسكندرية، وسألقاكم بها في هذا الصيف، ولو بَغَى العدو واستطال، فأنا لم أشبع من الإسكندرية أيام الأمن، وهي أقل طيباً من أيام الخوف
ثم يقول النشار: علمت أنك نقلت كتبك إلى سنتريس، فأنت الجدير إذن برثاء مكتبة الإسكندرية الثالثة، فهل تجيز:
لا تذكر اليوم (يوليوساً) ولا (عُمَرا) ... عِلمُ القرون الخوالي مر واندثرا
وانظر لمكتبة الثغر التي صُعقت ... فلا كتاباً ترى فيها ولا حجرا
وأقول: إني لم أكن أعرف أن مكتبة الإسكندرية أصابتها الغارات الأخيرة، فإن كان ذلك فمن حقي أن أسجل أن أعداء الإسكندرية يعرفون في كل عصر أن ثروتها الصحيحة في تراث الأفكار والعقول، فهم يجعلون (المكتبة) أعظم الأهداف وما شأن (عمر) في هذه القضية، وقد قامت البراهين على أن اتهامه بإحراق مكتبة الإسكندرية لم يكن إلا إشاعة روجها أعداء العرب والمسلمين؟
بريد العراق
تلقيت اليوم رسالة من العراق، ونظرت في التاريخ فرأيتها قطعت الطريق في شهرين وثلاثة أيام، فمتى يرجع العهد الذي كان يسمح بأن يصل بريد العراق في أقل من يومين؟
كان بريد العراق كله جوياً وبخمسة عشر مليما، فمتى يعود ذلك العهد؟ متى يعود؟
وكان محصول المجلات المصرية حديث الناس في جميع الأندية العراقية، فأين حديثهم اليوم وقد جدت خطوب تبلبل الأرواح والقلوب؟
ليتني أعرف ما صار إليه أصدقائي في تلك البلاد. فما أظلمَ ليلٌ ولا أشرق صباح إلا وأنا بأخبارهم مشغول. وهل كانت لوعة الشريف الرضي أقسى من لوعتي حيث قال:
ومن حَذَرٍ لا أسأل الركب عنكمُ ... وأعلاقُ وجدي باقياتٌ كما هيا
ومن يسأل الركبان عن كل غائبٍ ... فلا يدّ أن يَلقَى بشيراً وناعيا
فهل يتفضل أصدقائي هناك فيعفوني من كرب هذا السؤال؟
أجيبوا، يا أصدقائي، أجيبوا، فلي عليكم لهفة لا يطفئها غير اليقين بأنكم في سلام وأمان(418/17)
العقد الفريد
ظهرت الطبعة الجديدة من (العقد الفريد) بتحقيق الأستاذ محمد سعيد العريان، وفي الرونق لطيف تُهنَّأ عليه (المكتبة التجارية) التي لم يَعُقها غلاء الورق عن الإنفاق على طبعه بسخاء
ومن القليل جداً أن ننوّه بمجهود الأستاذ العريان في تحقيق هذا الكتاب، فله مجهودات كثيرة لم تأخذ حقها من الثناء، فنوجّه إلى هذه الطبعة نظر (الأستاذ الليل) والأستاذ (ا. ع) فعندهما من الوقت ما يسمح بالنظر في نصوص هذا الكتاب بأسلوبهما الجيد في التحقيق
كنت نسيت
في الحِوار الذي دار بين الأستاذ محمود البشبيشي وابنه النجيب حسين إشارة إلى أني كنت أكتب في الوجدانيات، فمتى كان ذلك؟ ذكَّروني فقد نسيت!
أنا أكتب في الوجدانيات؟ أنا؟
لعل ذلك كان قبل أن تصير الدنيا إلى ما صارت إليه من الرعب والخوف والانزعاج
إن البشبيشي وابنه يقيمان في بلدٍ أمين هو المنصورة العصماء، وأنا أقيم في بلدٍ مهدَّد بالغارات الجوية، إلا أن يلطُف الله بما فيه من كنوز السحر والفتون
والحق أني لم انس واجبي في التشوف إلى مطالع الأقمار ومشاوق الشموس، ولكن أين من يسمع في هذه الأيام أغاريد الوجد والحنين؟!
زكي مبارك(418/18)
أنّة وزفير
للسيدة الفاضلة (ليلى)
(إلى أرواح الشهداء والضحايا، وإلى المنكوبين، وإلى أولي
الرحمة من أغنيائنا الموسرين، كلمة من قلب حزين، بل إني
أخاطب الشعب كله، لنساهم في الأجر العظيم. لنمسح على
رؤوس اليتامى، ولنضمد جروح الثكالى والأيامي، ولنساعد
المهاجرين المشردين، والله من ورائنا رزاق معين)
(ليلى)
إن كارثة الإسكندرية من الحوادث الدامية التي تمس شغاف القلب وتغلغل آلامها في النفس. هي فاجعة الجميع وحسرة الوطن وصرخة الإنسانية. هي العذاب المر والظلم المبين والصاعقة بغير موعد ولا إنذار. هي الخوف والفزع، والرعب والهلع. هي النار تندلع والهوة تبتلع. هي النحيب والعويل، ودماء الأبرياء تسيل. هي الهول والوحشية. هي أَنات وجراح، وبكاء ونواح. هي ثكل ويتم وفقر وعُدم. هي ذل وتشتيت وضياع وتبديد. هي قسوة ما فوقها قسوة، ونكبة ما بعدها نكبة. ولئن بكينا فما جدوى البكاء؟ ولئن أشفقنا فما ثمرة الإشفاق؟ من ذا الذي لم يشفق ولم يتألم؟ كلنا واله متحسر؛ ولكن ليست المساهمة في الرثاء والبكاء، وإنما هي مساعدة فعلية لهؤلاء الضحايا الأبرياء. أشعروهم بالرحمة، وليعاونهم كل امرئ بما يستطيع. كم من بيوت كبيرة تسع العشرات! وكم نساء شريدات حائرات! أطفال في نعيم، وأطفال في جحيم. بطون مكتظة بألوان الطعام، وأخرى خاوية من الجوع لا تنام. ذل فوق ذل وحسرات تتبعها حسرات. . . آه لليتيم: فقد الأب الحاني الرحيم. وا حسرتاه للأرملة تنوح من قلب حزين: فقدت الموئل والعائل، واستقبلت الشقاء والهوان، في كنفها أطفال يطالبونها بالقوت والحنان، ستواجه حاجة العيش الملحة. ستريق ماء الوجه وتستنفد كل إحساسها في سبيلهم. وا رحمة للعجوز الثكلى، ادخرت ولدها للأيام وكان كل أملها وسند شيخوختها، فذهب من يدها وغدا حلماً من الأحلامً! ولو كان هماً(418/19)
واحداً لاحتُمل، ولكن الكارثة عامة، والفاجعة طامة: أنه ولد وأولاد وآباء وأمهات، بيوت وأموال طغى عليها الدمار، فهرع أهلها فزِعين لاجئين يطلبون رحمة المحسنين المتصدقين
أيها السادة الأغنياء، رحمة بالتعساء الأشقياء! إنهم إخوانكم في الدين والوطن. حمّ القضاء، فما استطاعوا له رداً. فوجئوا بالدويّ والزئير، فإذا هم أشلاء تطير. صرخوا يسترحمون القضاء، فنفذ فيمن نفذ فيهم القضاء، وهوت الدور بساكنيها وهم في غمرة الذعر والذهول، وتطايرت الشظايا تهرأ اللحم وتنزف الدم، والآلام القاسية تتجاوب أصداؤها من حنايا الأجسام. ومن قدر له النجاة انطوى على نفسه لوعة وحسرة: فقد فقدَ العزيز والنفيس والتالد والطريف، هي في الحق كارثة يعجز القلم عن وصفها
فهل تقر أعيننا وتهدأ مضاجعنا؟ وهل نشعر بالطمأنينة والسعادة، وتتوفر لنا الغبطة والهناءة، وصراخ المنكوبين واصلٌ آذاننا، وبكاء الحيارى المشردين ماثل أمامنا؟! كيف نرقد على وثير الفراش ومِن إخواننا من يفترش الأرض؟ كيف ننعم بأطايب الأكل والشراب، وغيرنا يشقى بالجوع والخراب!
أيتها القلوب تفجري بالرحمة، أيتها الأيادي الكريمة فيضي بالإحسان!
لقد تمنوا الموت على حياة رخيصة عليهم بعد الأحباء، لقد تمنوه خشية البؤس والإملاق. مَن أحق بالرحمة من مجروح الجسم والفؤاد لا يجد آسيا لجسمه ولا مواسيا لقلبه؟ ما احرنا وقد وقانا الله شر ما ناله بألا نتوانى في مساعدته ولا نجحم عن إعانته! أنه القرض الحسن يضاعفه لنا الله ويدرأ عنا به الشرور.
إن البر هو الطائر الميمون إلى الجنة، به تغفر الذنوب وتمحى السيئات. رب لماذا قدرت على هذا البلد الآمن أن يحل به هذا الشقاء؟ إن شعبه قانع يملك هذه القطعة الصغيرة من أرضك. إنه بلد مضياف تنزله كافة الشعوب على الرحب والسعة يقاسمون أهله أرزاقه، ويستحلون نطاقه، بل يقاسمونه قسمة ضيزى: لهم الغنم وعليه الغرم
رباه! إلى متى يحلم الخالق ويطغى المخلوق؟
ألست أنت سبحانك جبار الأرض والسماء؟ أتترك من يعبث في الأرض فساداً، ويقول تكبراً وعناداً: أنا القهار الأعلى. رب رحمة بالبلاد والعباد، فأنت مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء. لتكن رحمتك أو يحل الميعاد، فقد ذهب السلام من الأرض وتناحرت وحوش(418/20)
الإنسانية وتكالبت على المال والعتاد. وهذا جبار طاغية وآخرون طغاة يريدون أن يرثوا الأرض ومن عليها، وللأرض وارث واحد بالمرصاد. اللهم ارحم الفقير والأجير واليتيم والأسير، وادفع عنا شر هذه الحرب الضروس. اللهم اهد الخلق لما فيه الخير والسلام. اللهم خفف عن الحزانى حزنهم، وعن المهاجرين بؤسهم، وعوضهم خيراً عن يتمهم وثكلهم وبيوتهم ومالهم، إنك أنت الرحمن الرحيم، كتبت على نفسك الرحمة، ووعدت بالخير عبادك المتصدقين، والله ولي الجميع
(ليلى)(418/21)
في الاجتماع اللغوي
اللهجات العامية الحديثة
طوائفها ومبلغ بعد كل منها عن الفصحى
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
- 5 -
لم يصل إلينا عن هذه اللهجات قبل القرن التاسع عشر إلا معلومات ضئيلة، بعضها مستقى من إشارات جاءت في ثنايا كتب القواعد والأدب، وبعضها من أغانيّ شعبية وردت في مقدمة ابن خلدون وتاريخه، وبعضها من كتب ألفت بلغة بين العامية والعربية الفصحى، ككتاب (ألف ليلة وليلة)
ولم يعن العلماء بدراسة هذه اللهجات دراسة جدية إلا منذ القرن التاسع عشر. وقد قسموها إلى خمس مجموعات تشتمل كل مجموعة منها على لهجات متقاربة في أصواتها ومفرداتها وأساليبها وقواعدها، ومتفقة في المؤثرات التي خضعت لها في تطورها: إحداها مجموعة اللهجات الحجازية - النجدية (وتشمل لهجات الحجاز ونجد واليمن)؛ وثانيتها مجموعة اللهجات السورية (وتشمل جميع اللهجات العربية المستخدمة في سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن)؛ وثالثتها مجموعة اللهجات العراقية (وتشمل جميع اللهجات العربية المستخدمة في بلاد العراق)؛ ورابعتها مجموعة اللهجات المصرية؛ وخامسها مجموعة اللهجات المغربية (وتشمل جميع اللهجات العربية المستخدمة في شمال أفريقيا)
وتشتمل كل مجموعة من هذه المجوعات على طائفة كبيرة من اللهجات؛ وتنقسم كل لهجة إلى عدة فروع؛ وينشعب كل فرع إلى شعب كثيرة تختلف باختلاف البلاد التي تستخدمه. وإليك مثلاً مجموعة اللهجات المصرية: فهي تنقسم إلى مئات من اللهجات، وكل لهجة من هذه اللهجات تنقسم إلى عدة فروع وشعب، تختلف باختلاف البلاد الناطقة بها؛ حتى أنك لتجد بين القريتين المتجاورتين المنتميتين إلى لهجة واحدة خلافًا واضحاً في كثير من مظاهر الصوت والمفردات والتراكيب والأساليب(418/22)
ومع كثرة وجوه الخلاف بين هذه المجموعات الخمس، فإن المتكلمين بإحداها يستطيعون، مع شيء من الانتباه، أن يفهموا كثيراً من حديث أهل المجموعات الأخرى، لاتفاقها في معظم أصول المفردات وفي القواعد الأساسية ومنحي الأساليب.
وأدنى هذه المجموعات إلى العربية الفصحى مجموعتا اللهجات الحجازية والمصرية. أما اللهجات فلنشأتها في المواطن الأصلية للعربية الفصحى، ولأن معظم أهل الحجاز ونجد ينتمون إلى عناصر عربية خالصة. وأما اللهجات المصرية فلأن صراع العربية مع اللسان القطبي الذي كان يتكلم به أهل مصر قبل الفتح العربي لم يكن عنيفاً ولم تلق في أثنائه اللغة العربية مقاومة ذات بال؛ ومن المقرر أن اللغة التي يتم لها الغلب بدون كبير مقاومة تخرج من صراعها أقرب ما يكون إلى حالتها التي كانت عليها من قبل. هذا إلى أن معظم أهل مصر منحدر من عشائر عربية الأصل.
وأبعد هذه المجموعات عن العربية الفصحى المجموعتان العراقية المغربية. أما العراقية فلشدة تأثرها بالآرامية والفارسية والتركية والكردية، حتى إن قسما كبيراً من مفرداتها وبعض قواعدها غير عربي الأصل؛ ولذلك يجد المصري مثلاً صعوبة كبيرة في فهم حديث العراقي. وأما المغربية فهي أبعد اللهجات العامية جميعاً عن العربية الفصحى. ويرجع السبب في ذلك إلى شدة تأثرها باللهجات البربرية التي كان يتكلم بها معظم السكان قبل الفتح العربي. فقد انحرفت من جرَّاء ذلك انحرافاً كبيراً عن أصولها الأولى في الأصوات والمفردات وأساليب النطق وفي قواعد نفسها
ولهجات البدو في جميع هذه البلاد أفصح كثيراً من لهجات الحضر، وأقل منها في الكلمات الدخيلة، وأدنى منها إلى العربية الفصحى. ولذلك نرى أن لهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر وخاصة العشائر التي لم تبعد كثيراً عن حالتها البدوية القديمة، أفصح كثيراً من لهجات المصريين، وأكثر منها احتفاظاً بالأصوات العربية، وأدق منها في إخراج الحروف من مخارجها. فهي لا تزال محتفظة بأصوات الذال والثاء والظاء التي انقرضت من اللهجات المصرية؛ وأوزان كلماتها أقرب ما يكون إلى الأوزان العربية الصحيحة، ويندر أن نعثر فيها على مفرد غير عربي الأصل
ولهجات القرى في جميع هذه المناطق أفصح من لهجات المدن وأقل منها في الكلمات(418/23)
الدخيلة، وأدنى منها إلى العربية الفصحى. ويرجع السبب في ذلك إلى ميل سكان القرى إلى المحافظة وقلة احتكاكهم بالأجانب
وعلى الرغم من تعدد لهجات المحادثة في هذه الأمم على الصورة التي وصفناها، فإن لغة الآداب والكتابة فيها واحدة؛ وهي تمثل في جملتها اللغة القرشية التي نزل بها القرآن. ولكنها قد تطورت في تفاصيلها تطوراً كبيراً تحت تأثير عوامل كثيرة من أهمها ما يلي:
1 - اقتباس مفردات إفرنجية بعد تعريبها للتعبير عن مخترعات أو آلات حديثة، أو مصطلحات علمية، أو نظريات، أو مبادئ اجتماعية، أو أحزاب سياسية. . . وهلم جرا
2 - ترجمة كثير من المفردات الإفرنجية الدالة على معان خاصة تتصل بمصطلحات العلوم والفلسفة والآداب. . . وما إلى ذلك؛ إلى مفردات عربية كانت تستعمل من قبل في معان عامة. فتجردت هذه المفردات من معانيها العامة القديمة وأصبحت مقصورة على هذه المدلولات الاصطلاحية
3 - التأثر بأساليب اللغات الإفرنجية ومناهج تعبيرها وطرق استدلالها في المؤلفات العلمية والقصصية والأدبية وفي الصحف والمجلات. . .
4 - اقتباس كثير من أخيلة هذه اللغات وتشبيهاتها وحكمها وأمثالها. . . وما إلى ذلك
5 - إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات القديمة المهجورة. فكثيراً ما لجأ الكتاب في البلاد العربية إلى هذه الوسيلة للتعبير عن معان لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً، أو لمجرد الرغبة في الإغراب أوفي الترفع عن المفردات التي لاكتها الألسنة كثيراً. وبكثرة الاستعمال بعثت هذه المفردات خلقاً جديداً، وزال ما كان فيها من غرابة، واندمجت في المتداول المألوف
اللهجة المالطية
تكلمت مالطة في العصور القديمة وفاتحة العصور الوسطى لغات كثيرة من أشهرها الفينيقية والبونية (القرطاجية). وهكذا شأن جميع البلاد الصغيرة المستضعفة التي ينتمي أهلها إلى عدة شعوب وتقع أرضها في طريق الغزاة والفاتحين، فتصبح دولة بينهم، ويحول ذلك كله دون أن يكون لها كيان وطني مستقر، أو قومية واضحة. فجميع البلاد التي من هذا القبيل لا تستقر على لغة واحدة، بل تتغير في الغالب لهجتها مع تغير الدولة المسيطرة(418/24)
عليها، وينال ألسنتها كثير من مظاهر التبلبل لكثرة ما ينتقل إليها من لهجات، وما يعتور نطقها من أساليب
وآخر لغة انتقلت إلى مالطة كانت اللغة العربية متمثلة في لهجة من اللهجات العامية المغربية السائدة في شمال أفريقيا. غير أن هذه اللهجة قد أحيطت بظروف تختلف كل الاختلاف عن الظروف التي أحاطت بسائر اللهجات العربية الأخرى؛ فسلكت في تطورها منهجاً يختلف كذلك كل الاختلاف عن منهج أخواتها، وذلك أن انعزالها عن العالم العربي وانتشارها في بلد مسيحي، وكثرة احتكاكها باللغة الإيطالية المجاورة لها، وخضوع مالطة لحكم الإنجليز، وكثرة من يفد إليها ويمّر بها من الأجانب، وانتماء هؤلاء الأجانب إلى شعوب مختلفة وتكلمهم شتى اللغات. . . كل ذلك قد وسّع من هوة الخلاف بينها وبين اللهجات العربية الأخرى، فبعدت عنها بعداً كبيراً، وفقدت كثيراً من مقوماتها، وتأثرت بطائفة كبيرة من اللغات الأوربية وخاصة الإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية، وانتقلت إليها مجموعة كبيرة من مفردات هذه اللغات، وامتزجت هذه العناصر الدخيلة بالعناصر الأصيلة كل الامتزاج، فتألف من مجموع ذلك كله مخلوق عجيب في عالم اللغات، حتى أن الكلمة الواحدة فيها لتتألف أحياناً من أصلين أحدهما عربي والآخر أعجمي ((ليبيرانا) أي نجّنا أو خلصنا، فهي مؤلفة من الفعل الفرنسي بمعنى حرر أو خلص، والضمير العربي لجماعة المتكلمين)؛ ويندر أن تعثر على مثل هذا الخلط في أية لغة أخرى من لغات العالم
ولا يزال اللسان المالطي، على الرغم من هذا كله، محتفظاً بكثير من خصائص اللهجات المغربية التي انشعبت عنها. ومن أظهر ما بقي فيه من هذه الخصائص طريقة إمالة الألف المتوسطة في معظم الكلمات (فكلمة (باب) مثلاً ينطق بها في مالطة بإمالة الألف على طريقة اللهجات المغربية
واللهجة المالطية هي اللهجة العربية الفذة التي ارتقت إلى مصاف لغات الكتابة. وقد تم لها ذلك في القرن التاسع عشر. فمنذ ذلك العهد تطبع بها الكتب والصحف والمجلات وتدون بها الرسائل، وبالجملة تستخدم في جميع الأغراض التي تستخدم فيها لغات الكتابة وهي كذلك اللهجة العربية الفذة التي تدون بحروف لاتينية.(418/25)
ولا تكاد تستخدم هذه اللهجة إلا في القرى؛ أما المدن المالطية فمعظم الحديث يجري فيها بالإيطالية أو الإنجليزية
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(418/26)
من وحي الحرب
جيل وجيل
للأستاذ محمود البشبيشي
- 4 -
فساد منطق الحياة اليوم - في الاستقرار يقظة للقلم - دوافع
الحرب وأسرارها - الغرائز والحرب - جهل الإنسان الأول
بحقيقة الغرائز - فساد الغرائز اليوم - أثر الطمع والحقد
والأثرة في فسادها
. . . اللهم إن الإنسانية قد ضلت وهي لضلالها تخبط في تيهاء، وتخفق اكثر ما تفوز، وكأنما فاضت حيوانيتها الكامنة فجفأت ما فيها من صفات كلها ضلال وكلها شرور!!
اللهم إن حقيقة الأشياء تقاس اليوم بالكمية لا بالكيفية؛ وقد انعكس منطق الحياة فأصبح مسيخاً قائماً على أسس من الشهوات والأغراض
اللهم إن الأطماع قدغلبت، والجحدود قد طغى، والظلم قد أسفر، والضلال قد اختال واضطربت موازين الحياة!!
لعمري لو أمكن أن تمسخ صورة مشوهة بطبيعتها لما أمكن أن تكون أقبح مما صارت إليه صور الإنسانية في هذه الأيام العجاف!!
متى يتجلى على الإنسانية بدر الإخاء، ويسطع في كل قلب شعاع الصفاء، ويعم الشرقي والغربي جوّ من الرحمة يصل القوي بالضعيف، والضعيف بالقوي، صلةً لا تُشعر هذا بقوته ولا ذاك بضعفه!!
فما يُطرب الكاتب الإنساني شيء ما يُطربه انتشار مبادئ السلام الروحي، لا السلام المقيد برموز وألفاظ، السلام المسطور في القلوب، لا السلام المحفوظ في أوراق! وكما يُحب أن يصول ويجول في ميادين الاضطراب الاجتماعي ليستشعر لذة واجب المصلح السديد الرأي، يُحب أن يخبر الناس عن كثب ومخالطة في ظل السلام والاستقرار لتغزر تجاريبه(418/27)
وتصدق أغراضه. . .
أما بعد فحديثنا يتصل كل الاتصال بالحرب وجو الحرب، ويساير أحوالها ويلابسها أصدق ملابسة، وواجب الكاتب الحق أن يكون لسان الحياة الناطق بما يضطرب فيها. وخير الأفكار ما كان في جوهره وليد الحوادث. وحقيق بمن يحمل القلم وهو أشرف سلاح أن يشرعه في وجه المدلهمات يحللها، وينشر لقومه ما يبصرهم بما في الاتجاهات المختلفة من الضّرِ والشّين، ويقفهم على ما فيها من النفع والزّين
. . . كنت قلت في أول نقاشي مع ولدنا الأديب (حسين) إن الناس لم يفرطوا في أمور دنياهم والإنسانية والروابط الدينية، إلا منذ أن فرطوا في شخصيتهم وأخلاقهم، فأصبحوا لا يحكمهم شعور حي، ولا يقيد شرورهم رحمة. . . ورأى هو أن السبب فساد التأمل واختلاطه بحب الذات، فأصبح الإنسان لا يرى الشيء حسناً إلا إذا كان له نصيب من حسنة!
وقادنا الحديث إلى ذكر الحرب ولكنا لم نتناول يومئذ منبهم أسرارها بالتشريح، وكأنما تركنا الأمر إلى عودة، وقد عدنا له فما حديث الحرب بيني وبينه؟
قلت: ما السر في الحرب وما الدافع إليها؟ وكيف تظل قيودها تطوق الإنسان إلى اليوم، وقد سار به الزمن وسار معه من طفرة إلى طفرات في الرقي العملي والنظري؟ وكيف يعجز اليوم عن حل مشكلاته فلا يجد سبيلاً غير التدمير والتخريب؟
لقد قيل إن المعرفة تكفل السلام بسمو الفكر، والترفع عن الدنيا، والتطهر من أدناس الوحشية والهمجية، وانتشار مبدأ الإنسانية. . . فهل تحقق كل هذا؟ وما ينفض العالم يده من غبار حرب ضروس، إلا ليخوض في أوعاث وأوعار حرب عاصفة، تغمر السماء بالموت الطائر، وتكتسح الأرض بالموت الزاحف!!
لقد قيل إن المدينة تصلح فساد الحياة، وتثقف أودها، وتصل أطراف الإنسانية فتقوم! فهل عرفنا سوى أن المدنية تقدم في تقويض البناء، وتقطيع الأواصر؟ فما السر في هذا الاضطراب؟ وما مدى أثر المدنية والتقدم فيه؟
قال: لعل السر من قديم هو طبيعة المغالبة في سبيل البقاء، فالإنسان بما اجتمع فيه من غرائز تقربه من الحيوان مسوق إلى استغلالها فيما جُعلت له، وخاصة حين تفرض عليه(418/28)
قيود الحياة استعمالها، وعندما تتهيأ له أسباب يقظتها؛ فهناك غريزة المقاتلة قد تغلغلت في نفسه كما تغلغلت في الحيوان، وهو في حاجة إليها لمدافعة الشرور والخوض في مَرابط الهَلَكَة والسعي وراء ما يحفظ نوعه، وهو في كل ذلك مدفوع بدافع حب البقاء، والكفاح في سبيله، تُسيره غريزة فيطيعها - إذن هو يحارب يا بني، أو يميل إلى الحرب بدافع (غريزة المقاتلة) حباً في البقاء والذود عن حقوقه، ورغبة في الاعتزاز بوجوده في الحياة وشعوره بهذا الوجود، فهل يكون ذلك مبرراً للحروب وأهوالها؟ نقف أمامه موقف الاقتناع بأنه أمر غريزي فطرت عليه النفوس، فلا سبيل للخلاص من قيوده! وهل إذا وضح أنها لون من ألوان البقاء يجوز أن نتغاضى عن أهوالها وشرورها، ولا نحاول تشريح أسبابها والنظر إليها كمرض اجتماعي له علل ونتائج؟
- ذلك أمر آخر، فهي كغريزة جدير بنا أن نتأمل حقيقتها بين سائر الغرائز التي تتصل بها، فليس من شك عندي أن غريزة المقاتلة وجدت لحكمة جديرة بالاعتبار، وليس من شك في أن الحياة وما بها من هلكات وما يحف بها من مخوفات جديرة بان تتحصن لها الأحياء بمثل هذه الغريزة. . . وإنما يكون ذلك بقدر محدود يجيء من بعده الخير المنتظر، الخير الذي يصيب المجموع ولا يقتصر على الفرد، الخير الذي تطهر من أدناس الأنانية والأغراض، وخلص منها خلوص الحقيقة من شباك الباطل. وقياساً على هذه الصورة الكاملة لها، أرى أن حرب اليوم قد خرجت عن النطاق المعقول لغريزة المقاتلة، وأصبحت فناً فريداً من فنون الفساد الذي لحق أسس الحياة باضطراب العقل وضلال التأمل، وما تولد منهما من نظم تقود إلى الدمار وتدفع إلى الأثرة القبيحة
إذن وضح أن الحرب في صورتها الفطرية التي تدفع إلى حب البقاء وحفظ النوع من غير اعتداء على الحقوق وليدة غريزة المقاتلة. . . ولكن حرب اليوم صورة لفساد تلك الغريزة
وقد يكون من أسباب الحرب ودوافعها غريزة (حب الاقتناء)، وليس بعجيب أن تكون سبباً من أسبابها، فمن الواضح الجلي أن الإنسان قد درج منذ نشأته على السعي وراء الرغبة الجامحة في اقتناء كل ما يرى؛ يدفعه إلى ذلك حبه لنفسه وطمعه في الانفراد بالمنفعة. ويظهر أثر تلك الغريزة قوياً عنيفاً في عهود الطفولة أيضاً كما كان في عهود الإنسان المظلمة، وكما هو في بعض المجتمعات التي بقيت على فطرتها وظلام غرائزها؛ ولكن أثر(418/29)
الغريزة يكون أكثر وضوحاً في عهد الطفولة حيث ينظر الطفل إلى كل شيء نظرة الطامع فيه. ولعل ذلك يرجع إلى ضيق مدى تأمله وبصره بالأمور، أو تجرده من معنى الخير العام الذي لا يشتد أثره إلا بعد طول رياضة وعظيم دراية وبلوغ لتمام العقلية العامة!. . .
- ومن عجب يا ولدي أن الإنسان مع معرفته اليوم للخير العام وتشدقه بجليل منافعه، تراه منساقاً إلى طاعة هذه الغريزة بل الخضوع لها خضوعاً غلب على قلبه وعقله فأفسد معنى الخير فيها كما أفسد معنى الخير في غريزة المقاتلة، فما السر في ذلك؟ وكيف يصبح حاله وقد أدرك سرها؟
السر عندي. . . أن هناك بعض صفات كامنة في النفس، تغلف هذه الغريزة بغلاف يفسدها، فهناك الطمع والحسد والحقد والغيرة العمياء، تجعل من هذه الغريزة قوة قاهرة، وتفرض سلطانها على كل تصرفات الإنسان، فيندفع في سبيل رغباتها، وقد يخرج عن حدود الخلق ويتخطى الخير العام، ولكنه لا يستطيع سوى إرضاء تلك الغريزة الجامحة. . .
ومن هنا يكون الاعتداء على حقوق غيره، وابتزاز ما ليس من حقه، واختراع الأسباب والعلل لهذا الاعتداء وذلك الابتزاز!
- وثمة غريزة أخرى يا بني قد يكون لها الأثر الكبير في الحروب والميل إليها؛ وهي غريزة الهدم والتدمير، فإن الإنسان مشدود إلى مظاهر هذه الغريزة من يوم ميلاده، ولكنها أكثر وضوحاً عن الطفل لأنه لا يميز بين العمل ونتائجه، فهو فاقد للقياس السليم، لأن الحقائق لا توزن عنده إلا بميزان عاطفة الطفولة التي لا يهمها سوى إرضاء صاحبها على أية صورة كانت بالهدم أو البناء!!
وهي أيضاً موجودة في المجتمعات التي ظلت على فطرتها العمياء، وقد كانت من قبل في العهود المظلمة؛ ولكن إذا جاز أن يتصف بها الطفل لضيق تأمله أو انعدامه، فما يجوز أن تعلق بالرجل الكامل، فما السر في سيطرتها اليوم على العقل البشري؟
السر هو أن بجوار هذه الغريزة غريزة أخرى تشعلها كلما أصابها خمود، هي غريزة السيطرة، فصاحب هذه الغريزة يميل إلى فرض سلطانه على غيره، بل إلى فرض ميوله ومعتقداته. ولعل تضارب المذاهب المختلفة من ديمقراطية ونازية وفاشية وشيوعية(418/30)
وصورة صادقة لهذه الغريزة؛ وصاحب غريزة السيطرة يفعل كل شيء في سبيلها؛ فإذا وجد من يعترضه تنمر وظهرت فيه غريزة الهدم والتدمير في أشد صورها، رغبة في قهر هذا المعترض! وإذا وجد من استكان له وخضع، لم يقنع بذلك بل دفعه هذا إلى التمادي في بسط سيطرته. . . وإن الحرب لمشتعلة حتما حيثما ظهرت هذه الغريزة وما يلابسها
ظهر إذن أن الحرب قد تكون وليدة غريزة المقاتلة كما بينا ووليدة غريزة الاقتناء والامتلاك كما أسلفنا، وأن من أسبابها غريزة الهدم والتدمير كما وضح أن حقيقة المقاتلة والاقتناء حقيقة تقتضيها أسباب الحياة ولكن في حدود الخير العام، كما ظهر أن فسادها واختلاطهما بالأثرة والحسد والطمع والغيرة جعلهما صورة فاسدة من صور الحرب اليوم!
- بقي شيء واحد يا والدي وهو كيف نفسر أسباب الحرب في العهود المظلمة وفي عهدنا الحاضر؟ وهل هناك اختلاف كبير بينهما؟
أما السبب فهو يرجع كما بينا إلى الغرائز السابقة في العهدين، ولكني أعتقد أن الحرب كانت في العهود المظلمة وليدة جهل العقول بحقيقة الخير في الغرائز الفطرية، وأنها اليوم وليدة فساد هذه الغرائز!!
وجماع القول في ذلك أن تصرفات الإنسان في عهوده المظلمة بقيت كما هي في بعض المجتمعات التي تعيش على الفطرة
ثم إن جهله بغرائزه في تلك الأحوال يشبه كثيراً ضلالة الغريب في فهمها أيام الطفولة! فقد أعشت الأبصار في العهود الأولى ظلمة الغريزة، حيث لم يكن في وسع الإنسان الانتفاع باّللمح الباِصِر من التجاريب، وكذلك الأمر في عهد الطفولة والمجتمعات المتأخرة! ولم يك همه في أيامه المظلمة غير ابتزاز ما اختزن دونه، والنظر إلى الأشياء بعين الفرد، وعين الطمع، فقد كان يومئذ أغلَف القلب لا تنفذ إليه أسرار معاني الخير من غريزة المقاتلة، وحب الاقتناء، وكذلك الأمر في الطفولة والمجتمعات المتأخرة. . .
هذا مكانه من غرائزه أيام جهالته وتأخره وطفولته! فأين هو منها اليوم؟ وقد رقى سلماً أطلعه مطالع النور والمعرفة، وذهب في التقدم مذاهب الجن. . .! لا يبالي ولا يستوحش، يزعم أنه على بصيرة من نفسه، ويقين من أمره، وإنه إلى بلوغ أعظم المثل العليا لمنتظر راج. . .(418/31)
أين هو اليوم من غرائزه؟ هل أدرك مُنبهمها؟ أم ظل على حيرته الأولى؟!
إنه اليوم عليم بأسرارها خبير! ولكن علمه قد أضله، وخبرته قد أعمته! لأنه جعل الأطماع مقصداً، والأغراض هدفاً، ووزن الأمور بميزان الفرد فضل السبيل، وهو من ضلاله يضرب في تيهاء مظلمة
أجل، لقد صاول وداور وناوص حتى فك قيود استغلاق غرائزه، ولكنه قد بذل ويبذل وسعه في إفسادها!. وهكذا انقلب الأمر من جهل إلى معرفة أفسدتها الأطماع والأغراض الشخصية. . .
وهكذا أستطيع الآن أن أقرر أن الحرب كانت قديماً وليدة الجهل بأسرار الخير الكامنة في الغرائز، وأنها اليوم قد أصبحت وليدة فساد هذه الغرائز!
أما بعد فهذا حديث الحرب صُب في قوالب من فنون الحديث بيني وبين ولدنا الأديب (حسين) أول ما يبْدَهك منه أقباس الفكر الفلسفي القائم على قوة التصوير والحِجاج، وأشهد أني، وإن كنت لا أميل دائماً إلى خوض أوعار الفلسفة وأوعاثها إلا في خلواتي الفكرية الخاصة، قد اضطررت اضطراراً إلى مكابدة صعابها على صفحات الرسالة إرضاء لميول ولدي الفلسفية، ونزعاته الفكرية العميقة الطيبة الغراس، المأمونة الغاية.
محمود البشبيشي(418/32)
مدن الحضارات في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
- 3 -
ولقد زار بغداد في القرن الثامن الهجري الرحالة ابن بطوطة ووصف ما كانت عليه في وقته فذكر الجسرين ومرور الناس عليهما في نزهة متصلة، وذكر عدة مساجدها التي يخطب فيها وتقام فيها الجمعة، وعدتها أحد عشر مسجداً. أما المساجد الأخرى فكانت كثيرة. ووصف حماماتها المطلوة بالقار فيخيل إلى الناظر أنها مرصوفة بالرخام الأسود. وذكر جانبي بغداد الشرقي والغربي، وقبور الخلفاء العباسيين بالرصافة وعلى كل قبر منها اسم صاحبه
وزارها قبل سقوطها في يد التتار الرحالة المشهور ابن جبير الأندلسي، إلا أنه رآها على أسوأ حال وأقبح مصير، وكانت لا تزال كما يقول بنص عبارته: (حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الأمامية القرشية). فرآها (كالطلل الدارس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين)
وفي القوت الذي كانت تزدهر فيه بغداد بحضارة عربية واسعة، وثقافة إسلامية كبيرة، كانت تزدهر حاضرة إسلامية أخرى بألوان من الحضارات، وتتجه إليها الأنظار من كل صوب، ويفد إليها الشعراء والأدباء والعلماء حتى لتكاد تنافس بغداد في المحل، وتزاحمها في الموضع والقدر. . . تلك الحاضرة هي (القاهرة)
والقاهرة مدينة الفواطم، وضع أساسها جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله في 17 شعبان سنة 358 هـ. بعد أن تم استيلاؤه على الفسطاط. وكان في القاهرة في ذلك الحين طريق عام يختط وسطها من باب زويلة جنوباً. وبنى حولها السور المشهور. وكانت تقع المقس إلى الغرب وتمتد إلى النيل، وظلت ميناء القاهرة إلى أن تحول مجرى النهر في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، فانتقلت إلى بولاق
ومن القاهرة أخذت الدعوة الفاطمية تزداد وتكثر وتتخذ مدى واسعاً. وسُكت النقود باسم الخليفة الفاطمي، ونقش عليها (باسم مولاي المعز). وفي مسجد عمرو دعي للمذهب(418/33)
الفاطمي من على منبر الجامع. وخطب في يوم 19 شعبان سنة 358 هـ هبة الله بن أحمد خليفة إمام مسجد عمرو. ودعي أيضاً في جامع ابن طولون للخليفة الفاطمي في يوم جمعة من ربيع الآخر سنة 359 هـ؛ ثم دعي في الجامع الأزهر بعد بنائه، وكان الدعاء فيه في السابع من رمضان سنة 361 هـ، وبعد ذلك دعي في مسجد الحاكم
وكان في القاهرة (مكتبة القصر) التي ذكرها المقريزي وأبو شامة وغيرهما. وقد قال فيها أبو شامة (يقال إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت في القاهرة في القصر). وكانت هذه المكتبة تحوي النادر من الكتب. وذكر المقريزي صاحب الخطط أنها كانت في المارستان العتيق وفيها أكثر من مائتي ألف مجلد
ولم تكن تلك هي المكتبة الوحيدة في القاهرة، فقد عرف عن الفاطميين حبهم للعلم وتشجيعهم للأدب وإكثارهم من إنشاء المكتبات. ولقد أنشأ الحاكم بأمر الله (دار الحكمة) وهي أشبه بجماعة علمية، وألحق بها مكتبة تسمى (دار العلم)
وكان هناك مكتبات خاصة للأفراد، تتسع وتعظم تبعاً لمقدرتهم؛ ومكتبة ابن كلس الوزير المشهور أحق ما يذكر في هذا المقام. وكان ابن كلس هذا مجدوداً في النعمة، واسعاً في الثروة، وكان له دار يجتمع فيها عنده القراء والأئمة، والغلمان والحاشية، وفيها ميضأة منظمة وثماني غرف للنوم، وديوانه الخاص الذي أسماه (العزيزية) تيمنا باسم العزيز الفاطمي. ولما كان ابن كلس يهودياً وأسلم، كان لليهود دالةٌ في عهده، بل كان لهم شأن كما يذكر المؤرخون. ولقد أثارت محاباتهم شعور الاستياء عند المسلمين؛ فقد رأوا لهم الكلمة والنفوذ، والمنزلة والجاه، والقربى والشفاعة (لأسباب صهرية) ورأوا المسلمين بعيدين من كل خير، مُنأيْن عن كل منزلة، فحرك هذا بعض الشعراء بالكلام؛ فقال الرضى بن البواب:
يهود هذا الزمان قد بلغوا ... غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهُم ... ومنهم المستشار والملك
يأهل مصر إني نصحت لكم ... تهودَّوا، قد تهود الفلك!!
وكان الغنى في أيام الفاطميين شاملاً، والثروة واسعة، وأغلب هذه الثروة بالطبع في أيدي الخلفاء وأبنائهم. وكان للمعز لدين الله وبنتيه ثروة تحتاج إلى أربعين رطلاً من الشمع(418/34)
لختمها
ولقد زار مصر في عهد المستنصر الفاطمي سائح فارسي مشهور هو ناصر خسرو، وكان ذلك في عام سنة 439 هـ. فوصف ما شاهده ورآه في كتابه (سفرنامه)، وقد أضفى على مشاهده ألواناً من الخيال الذي أوتي منه حظاً كبيراً فقد كان الرجل شاعراً وأديباً، وهو يذكر أن القصر الفاطمي كان فيه ثلاثون ألف جارية، واثنا عشر بهواً، وعشرة أبواب، وألف حارس. ويصف دور القاهرة في ذلك الزمان بأنها (محكمة البناء مبنية بالحجر لا باللبن، يفصل بعضها عن بعض حدائق بهيجة)
كانت القاهرة طيلة حكم الفاطميين مصونة محفوظة لهم ولأولادهم وحرمهم وخواصهم والمقدمين من جنودهم؛ ولكنها في عهد الأيوبيين تغيرت حالها من الصيانة إلى الابتذال، وتدلت أمورها من الخواص إلى العوام، يسكنها الجمهور، وأصبحت دور الفواطم ذوات الحدائق الغُنّ حارات وشوارع ومسالك وأزقة؛ وعمر حَّي القلعة، وحافتا الخليج الكبير، وما دار على الحسينية. وظلت مصر والقاهرة تتسعان حتى صارتا بلداً واحداً يشتمل على: (البساتين، المناظر، القصور، الدور، الرباع، القياسر، الأسواق، الفنادق، الخانات، الحمامات، الشوارع، الأزقة، الدروب، الخطط، الحارات، الأحكار، المساجد، الجوامع، الزوايا، الربط، المشاهد، المدارس، الترب، الحوانيت، المطابخ، الشون، البرك، الخلجان، الجزائر، الرياض، المتنزهات). المقريزي ج2
وظلت القاهرة كذلك إلى أن حدث الفناء الكبير في سنة تسع وأربعين وسبعمائة فخرب كثير من هذه المواضع، وتبع ذلك خراب صعيد مصر وجلاء أهله عنه. وقد أدرك هذه الخرائب والأطلال المقريزي وأشار إليها في خططه
ويظهر أن بعضاً من المؤرخين كانوا يتحاملون على القاهرة لحاجة في نفوسهم، فلا ينصفونها إذا وصفوا، ولا يقدرونها إذا تكلموا. وقد يجسَّمون في المعايب، ويهوَّلون فيها المثالب. ومن هؤلاء أبو الحسن علي بن رضوان الطبيب، فقد نقدها نقداً مراً؛ وذكر كثرة الأوساخ والأقذار فيها، وكثرة العفونة في مياهها؛ ثم ذكر نظام (المجاري العامة) فيها وما يجره على السكان من عفونة ووباء. والحق أن ابن رضوان نظر إلى القاهرة نظرة الطبيب الصحي أو (مفتش الصحة)، فغلا في نقدها وأسرف في ذمها.(418/35)
ومن الذين لم تعجبهم القاهرة ابن سعيد صاحب كتاب: (المعرب في حلى المغرب)، فقد سمع عنها كثيراً، فلما رآها استكثر الأخبار عنها وقال بنص عبارته: (هذه المدينة اسمها أعظم منها. وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين)
وما أشبه هؤلاء المتحاملين من العرب المتجنين على مصر بالمتحاملين اليوم من الفرنجة عليها! فهم ينكرون منها كل منظر حسن ومشهد جميل، ويسجلون عليها غير ذلك
استمع إلى ابن سعيد هذا وهو يصف القاهرة في تحامله وتجنيه: (ولقد عاينت يوماً وزير الدولة وبين يديه أمراء الدولة وهو في موكب جليل، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين، ووقف الوزير، وعظم الازدحام، وكان في موضع طباخين، والدخان في وجه الوزير وعلى ثيابه، وقد كاد يهلك المشاة وكدت أهلك في جملتهم. وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال، والمباني عليها من قصب وطين) انتهى. على أن شيئاً واحداً لا تنساه القاهرة للفاطميين، وهو الحفلات الكثيرة المختلفة التي كانوا يقيمونها في الجمعة والأعياد والولائم والمناظر وليالي الوقود التي تسبق أول ومنتصف رجب وشعبان وحفلات توديع الحملات الحربية التي سجلها كثير من شعراء ذلك العصر وخاصة عمارة اليمنى شاعر الفواطم المشهور.
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن(418/36)
الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر
للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر
اطلعت باهتمام على المناقشات المختلفة العنيفة التي دارت رحاها في الصحف، وبخاصة مجلة (الرسالة) الغراء، حول الإصلاح الاجتماعي في مصر والوضع الصحيح له. ولست أبالغ إذا قلت إن معظم الكتاب النابهين الذين أداروا تلك المناقشات - مع احترامي الشديد لهم، وتقديري العميق لنبل مشاعرهم وسمو أهدافهم - كانوا ينظرون إلى مشاكلنا الاجتماعية من زواياها الأدبية والوجدانية والمثالية الحالمة، مما يجعل كلامهم وأفكارهم أدنى إلى الفلسفة والأدب منه إلى الاجتماع أو (الطب الاجتماعي). وفي اعتقادي أن تناول المشاكل الاجتماعية بهذه الطريقة غير موصل حتماً إلى الغرض المطلوب، وهو تبرئة المجتمع المريض من علله وأسقامه. بل لست أبالغ - أيضا - إذا قررت أن تلك الطريقة تبلبل أفكار الشعب، وتشوش أمانيه، وتهيج خواطره، لأنها لا تضع إصبعها على مكمن الداء الحقيقي ولا تصف الدواء. وما سمعنا يوماً، ولا أظننا سنسمع أن مريضاً - والمعضلات الاجتماعية أمراض نفسية حقيقية - شفي بقصيدة عصماء، أو بمقال بليغ!
وبهذه المناسبة أذكر أن (الطب الاجتماعي) فن حديث له أصول وقواعد ودراسات فنية منظمة كسائر الفنون
ومشاكلنا الاجتماعية قديمة ومعقدة إلى حد محزن. ويخطئ الذين يظنون أن (الفقر) وحده هو أساس كل هذه المشاكل فيخصّونه بالمقالات الطويلة المسهبة، والأبحاث المستفيضة الدسمة؛ فالفقر نتيجة لعلل اجتماعية أخرى وليس سبباً. وعليه يجب أن نوجّه أنظارنا وجهودنا إلى جذور هذه المعضلة الاجتماعية لا أن نكتفي بقصقصة أطرافها، وتشذيب حوافها المدببة. وقيل إن مشاكلنا الاجتماعية الكبيرة تكوَّن مثلثاً متساوي الاضلاع، مؤلفاً من الفقر، والجهل، والمرض. وتفاعل هذه المشاكل الثلاث الحية ينتج عصير الشقاء الذي تتجرعه الأغلبية الساحقة من سكان هذه البلاد. وفي يقيني أن مشاكلنا الحقيقة أربع وليست ثلاثاً، إذ يجب أن تضاف إليها مشكلة الانحلال الخلقي المتفاقمة يوماً بعد يوم. فإذا نظرنا إلى هذه المشاكل الاجتماعية الأربع مجتمعة كنا أقرب إلى الصواب
وإذا كنت قد ذكرت أن الفقر نتيجة لا سبباً فهو ليس كذلك في كل الأحوال؛ فكما أن الجهل(418/37)
يورث الفقر والمرض، فإن الفقر يمنع التعلم والصحة. ولهذا يجمل بنا أن نقول إن تلك المشاكل متفاعلة تفاعلاً مستمراً كالمواد الكيميائية، وليست قريبة من بعضها فحسب
ولنتحدث الآن بإيجاز عن صلة بعض هذه المشاكل ببعض، ونبين مدى تفاعلها المستمر الفوار
الفقر
جاء في الإحصائيات الرسمية لسنة 1938 أن عدد ملاك الأراضي الزراعية من المصريين هو 2. 438. 3. 3 شخصاً يملكون 5. 403. 534 فداناً بالتفصيل الآتي:
1 - 1. 673. 576 شخصاً يملك كل منهم فداناً فأقل. ويبلغ مجموع المساحات التي يملكونها 688. 600 فداناً
2 - 564. 700 شخصاً يملك الواحد منهم من فدان إلى خمسة. ويبلغ مجموع المساحات التي يملكونها 1. 148. 019 فداناً
3 - 84. 617 شخصاً يملك كل منهم خمسة فدانين إلى عشرة أفدنة. ويملكون جميعاً 561. 348 فداناً
4 - 61. 442 شخصاً يملك الواحد منهم من عشرة فدادين إلى خمسين. ويملكون جميعاً 1. 185. 362 فداناً
5 - وكبار الملاك، وهم من يملكون أكثر من خمسين فداناً وعددهم لا يتجاوز 12. 420 شخصاً يبلغ مجموع المساحات التي يملكونها 2. 253. 853 فداناً!!
وإذا تدبرنا هذه الأرقام وجدنا:
أولاً: أن صغار الملاك ونسبتهم العددية 93. 5 % يملكون 18 % فقط من الأراضي المزروعة في مصر
ثانياً: إن كبار الملاك ونسبتهم العددية 12 % يملكون حوالي
45 % منها
ولا نظن أن بلداً من بلاد العالم المتمدين اختل فيه توازن الملكية إلى هذا الحد!
ولو أردنا معرفة نوع الأعمال والحرف التي يزاولها مواطنونا المساكين المحرومون من(418/38)
نعمة (الطين)، وعددهم حوالي ال 13 مليوناً من الأنفس فلنعلم أن 3 يشتغلون أجراء في أراضي كبار الملاك (أي عبيداً وأرقاء!). وهناك 569000 شخص في حرف غير منتجة
ومن المعلوم أن العامل الزراعي الذي لا يتجاوز متوسط أجره اليومي الثلاثة قروش، له أسرة تتألف من زوج وأولاد. وقد تضم عدا هؤلاء زوجة أخرى، أو أباً، أو أماً، أو أختاً صغيرة، أو أرملاً. . . أو أولئك جميعا!!
ويخطئ من يعتقدون أن أغنياءنا الذين نشكو مّر الشكوى من تضخم ثرواتهم على حساب الفلاح المسكين. . . ينتجون في البلاد من الرخاء ما يساوي هذا الاختلال الاقتصادي، والجرم الاجتماعي، فإن هؤلاء الأثرياء قد كفر معظمهم بنعمة الله فغرقوا في بحر من الترف والميوعة والتبذل والسفه ليس له من قرار، حتى أوسعوا أملاكهم ديوناً ورهوناً، وسلّطوا عليها بنوكاً أجنبية لا ترحم
ومصر لم تستفد كثيراً من النهضة الصناعية التي قامت بين ربوعها. فهذه الشركات الأجنبية المنبثة في طول البلاد وعرضها تحتكر مرافقنا العامة التي هي شرايين الحياة، احتكارا قانونياً أو فعلياً. فقد بلغت رؤوس أموال الشركات الموجودة في مصر حوالي 88 مليوناً من الجنيهات ليس فيها أكثر من خمسة ملايين لمصريين حقيقيين!!
وليس من المنتظر أن تتحسن هذه الحالة المحزنة كثيراً ما دام الشعب المصري شعباً غير صناعي، وتظل الثروة العقارية الزراعية - وهي حجر الزاوية في ثروتنا القومية - لا تنمو بنسبة نمو عدد السكان، فإن هذه النسبة كانت في القرن الماضي 45: 5 %
ولعل هذه العجالة تعطي صورة واضحة لما عليه الشعب المصري من فقر تجري به الأمثال
والفقر بوجه عام هو نقص الكفاية الضرورية من الطعام والملبس والمسكن وما إلى ذلك من حاجات معيشية لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها: أي الهبوط عن الحد الأدنى لهذه الضرورات. وكلما أمعن الشعب في الحضارة ارتفع مستوى المعيشة فيه، وزادت تلك المطالب والضرورات الحيوية. ومعنى ذلك أن للفقر - ككل شيء معلوم بالتجربة والبديهية - حداً يجب ألا يجاوزه حتى لا تجني الدولة على نفسها، وتتفكك عرى شعبها. فالفقر غير المألوف إذن هو مظهر من مظاهر سوء التنظيم الاجتماعي. والتنظيم الاجتماعي من شأن(418/39)
الدولة وحدها. فهي التي تكفل سريان نواميس العمران، وتضمن تنسيق نشاط الأفراد بحيث لا يعتدي نشاط أحدهم أو رزقه على نشاط الآخر أو رزقه. ويمكن أن نشبّه مهمة الدولة في هذا الصدد بمهمة (البوليس الاجتماعي)!! وتقصير الدولة في تأدية هذه المهمة جريمة لا تغتفر؛ جريمة خالدة لا ينساها الجيل الحاضر ولا الأجيال القادمة التي نترك لها تركة مثقلة بأكثر من نصيبها من عبء العمران والحضارة!
وسوء التنظيم الاجتماعي الذي يتمخض عنه الفقر له صور متعددة؛ فللفقر أسباب علمية أدلى بها علماء الاجتماع على مر العصور
فإلى ما قُبل القرن التاسع عشر أيام كانت الأمم تعتمد في معاشها على الزراعة وحدها جهر (مالتوس) بنظريته المشهورة في السكان، منذراً بقرب وقوع مجاعة عالمية، لأن زيادة السكان أسرع من زيادة الثروة الزراعية. أي أن الأرض سوف لا تكفي غلتها جميع سكانها
وقد فقدت هذه النظرية قيمتها في القرن التاسع عشر عند ما تقدمت الصناعة، وتغلب الإنسان على كثير من عقبات الطبيعة مما أدى إلى استنباط موارد جمة للرزق
على أن الفقر ظل مع ذلك طابع الحياة الاجتماعية الرئيسي في معظم الأمم - ولو إلى حد ما - مما أدى إلى ثورات فكرية لا نهاية لها. وقد وضع له علماء الاجتماع نوعين رئيسيين من الأسباب:
أولاً: الأسباب الشخصية:
أي الأسباب التي تتعلق بشخص بعينه، وسواء أكان في مكنته التغلب عليها أم لم يكن، وهي:
(المرض، الشيخوخة، الترمل، الحداثة، الطيش وضعف العقلية، قلة الحيلة، الكسل، الإسراف، الجهل، البطالة، موت العائل. . . الخ)
وقيل: إن هذه الأسباب تعادل 30 % من جملة أسباب الفقر
ثانياً: الأسباب الخارجية:
أي الأسباب العامة التي تخرج عن طوق الشخص وإرادته المحدودة، وهي:
(زيادة السكان بنسبة أكبر من زيادة الثروة الرئيسية في البلاد، البطالة العامة بسبب زيادة الإنتاج على الاستهلاك، عدم استغلال الموارد الطبيعية، انحطاط المستوى الفكري للشعب،(418/40)
تدهور المستوى الصحي، فساد الأخلاق الشعبية، الاستهتار العام، عدم تنظيم وسائل الإحسان، اختلال توازن الملكية الزراعية العقارية. اتساع هوة التفاوت بين الثروات.
ولعله يبدو من ذلك كله للأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك أن (الفقر المصري) علة اجتماعية لا فردية ولا أخلاقية فطرية في الشعب المصري، كما أراد حضرته أن يصورها
وفي مقال قادم سنتناول إن شاء الله علاقة الفقر بالجهل والمرض والانحلال الخلقي العام
محمد عبد الرحيم عنبر
بوزارة الشئون الاجتماعية(418/41)
أغنية روسية
للأستاذ علي محمود طه
لا نجمَ، لا مصباحْ ... يلمعُ في السهلِ
قد نامتْ الأرواحْ ... مقرورةَ الظلَّ
مطمورةَ الأشباحْ ... في مهدِها الثلجي
إلا شعاعاً لاحْ ... يخفُق في وهْجِ
الحارسُ السهرانْ ... قد فتَّح البُرجا
سيُنشدُ النّيرانْ ... أغنية الفلجا
واللهبُ السكرانْ ... يرقصُ في نارِهْ
والنغمُ الفرحانْ ... يلهو بقيثارِهْ
أطلقتَ إنشادي ... يا من تغنَيّني
قيثارُك الشادي ... حُلو الأرانينِ
يدعو لميعادي ... الليلَ والأحلامْ
يا حارسَ الوادي ... قد باحت الأنغامْ
. . . . . . . . . ... . . . . . . . . .
إنّ الفتى الممِراحْ ... قد أغلقَ البابا
واللهبُ الوَضّاحْ ... من خلفِهِ غابا
لا نجمَ، لا مصباحَ ... يلمعُ من بُعدِ
لا صوت، لا أشباح ... إني هنا وحدي
يا أملَ العُمرِ
يا حُلُمَ العذراءْ
يا توأم الفجرِ
يا ابن الصبا الوضّاءْ
يا مَلكَ الحُلْبّ
إني لكَ الليلهْ(418/42)
فاطبع على قلبي
أو شَفتيِ قُبلهْ
علي محمود طه(418/43)
دوحة الحب. . .
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
يا حبيبي! هلَّل البلبلُ للنورِ وغنَّى
أي معنى من معاني الحسن غنى، أي معنى
أيقظَ الأزهارَ في الروضِ فراحت تتثنى
تنهلُ الأقداحَ من خمرِ الندى ... في ظلالٍ من صفاءٍ ونعيم
وترى الدنيا ضلالاً وهُدى ... يُسكر الألباب مرآها الوسيمْ
هاهي الشمسُ رنت للكونِ من عرش السماءِ
فبدا الكون كما نهوى غريقاً في الضياءِ
فاض بالفتنةِ والسحر وأنوار الرجاء
ردَّد الجدولُ أنغامَ الهوى ... لغناءِ الطير في هام الغصون
آه يا هاجرُ لو ذقت الجوى ... شدَّ ما ألقاهُ من نارِ الحنين!
ذلك الروض وهذا الجدولُ الحالم يدري
يا أخا الروحِ ويا دنيايَ مَن أعنى بشعري
ناءَ بالهم الذي يلقاه لو تعلم صدري
ما ابتسامُ الكونِ إلا لمحةٌ ... من سنا عينيك فاضت بالحياهْ
فتنة أنت لعمري فتنة ... فُتِنَ العقلُ بدنياها وتاه
دوحةُ الحب تنادينا لقد حنتْ إلينا
ما علينا لو جنينا الصفو فيها؟ وما علينا
في يدينا فرحة العمر فعجلْ في يدينا
كل ما يرجوه قلبٌ آمل ... في نعيم العيش من صفو حبيب
إنما دنياك ظلٌّ زائل ... سوف يَذوَي ثم يمضي عن قريب
(الإسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن(418/44)
أحياء الإسكندرية
للأستاذ عبد اللطيف النشار
شوارعَ الثغر ما الزحامُ ... طيفٌ تولَّى به منامُ
أو أملٌ الغيوب يُرْجى ... إذا يرجع الأمن والسلام
لا شيء لا شيء في ذُراها ... ِللِهِ سبحانَهُ الدوام
يا قلبُ كم فيك من معانٍ ... ترُوعُ لو أمكن الكلام
عبد اللطيف النشار(418/46)
حلم. . .!
للأديب عمر أبو قوس
الشهب من قدم ... ترنو إلى البحر
تسبح عن بعدٍ ... في مائه الغَمر
والبحر إذ يصبو ... يصبو إلى البدر
أمواجه تُرغى ... من لوعة الهجر
حتى إذا أعيت ... نامت على الصخر
والريح كم راحت ... تبحث عن وكر
أنفاسها الحرَّى ... يلهثنَ في القفر
والفجر إذا يصحو ... من سِنة الغمض
لا يفتح العين ... إلاّ على روض
يملؤه شوقاً ... بالطول والعرض
من أحمر يبدو ... في أثر مُبْيض
ووردة هامت ... بالزنبق الغض
أبعدها منه ... رفض على رفض
ما ضرَّ لو يدنو ... بعضيَ من بعضي
(حلب)
عمر أبو قوس(418/47)
البريد الأدبي
تعقيب على خبر
لفت أحد الأصدقاء نظري إلى أن الدكتور زكي مبارك قد ذكر اسمي
في فقرة من تلك الفقرات التي يكتبها كل أسبوع مما يسميه (الحديث ذو
شجون)، فقرأت ما كتب الدكتور فإذا به قد أقحم في مقاله ذكر الثقافة
والرسالة كأنه يغري بينهما، أو كأنه يريد أن يفهم قراءه أن هاتين
الصحيفتين الأدبيتين تتنازعان وتتخاصمان. ولقد كنت من قبل أكتب
في الرسالة، وأنا اليوم أكتب في الثقافة، ولا أعرف بينهما غير ما
يكون بين صحيفتين تحاول كل منهما أن تؤدي واجبها نحو الأدب على
طريقتها
وعجبت أن يكون للدكتور زكي مبارك مثل هذه القدرة على الابتكار في مثل حديثه هذه المرة؛ فإن الأمر لم يزد على أني سمعت من بعض الأصدقاء في السودان أن الأستاذ الزيات قد اعتزم زيارة ذلك القطر الشقيق وأنهم يرحبون بزيارته، فأثنيت على الأستاذ بما علمت، وأردت أن أحمل إليه هذه التحية فلم أجده بالقاهرة، ولقيني الدكتور زكي مبارك عفواً فحملته هذه التحية إليه فإذا به ينسج من هذه القصة القصيرة حديثه العجيب.
رد الدكتور تحيتي بما تهيأ له من القول في أسلوبه الصاخب فكان أسوأ رد على التحية
وأما الموازنة بين الثقافة والرسالة فما ينبغي لنا معشر الكتاب فيهما أن نتحدث عنها، والحكم فيما يكتب الكتاب إنما يرجع إلى القراء في أقطار الأرض. وإذا كان الدكتور يريد أن يسدي نصحا فليجعل كل همه في خدمة الرسالة الغراء، فهذا دين في عنقه للصحيفة التي توسع صدرها لما يكتب دون غيرها ممن لا يوليه مثل هذه الثقة. وإذا كان لنا أن نبيح لنفسنا ما أباح لنفسه من حق إسداء النصيحة فإنا نرجو أن يعني بأسلوبه في الكتابة، وأن يتخير الموضوعات الجديرة بوقت قرائه، وأن يرفع مستوى كتابته إلى ما يتطلبه العصر الحاضر من أدب القول وجمال الأسلوب والبناء الإنشائي والتعمق في التفكير، وأن يحاول(418/48)
أن يخفض من صوته ويقصد إلى معناه
ونحن إذ نسدي إليه هذه النصيحة لا تقصد إلا خيره وخير الأدب إذا كان يعني حقاً برأي العالم العربي في أدب مصر
مصر
محمود فريد أبو حديد
محصول (الرسالة)
إلى صديقي الدكتور مبارك:
من النافع للمتأدب أن يتخير الأطايب في محصول (الرسالة) ويدونه في دفتر خاص، كما يفعل صاحبك الموظف برياسة مجلس الوزراء.
ونافعة أيضاً إهابتك بأصدقاء (الرسالة) أن يتعقبوا كل عدد بالنص على ما فيه من دقائق تفوت بعض القراء
والأنفع من هذا وذاك - في رأيي - أن يتناول الناقد مواضيع (الرسالة) كلها فيميز بين الغث والسمين، ويشير إلى الفج والناضج، ويدل على النافع والحسن، كما تفعل المجلات الأوربية الراقية، ولأن القارئ في حاجة ماسة إلى من يدله ويهديه ويجرعه أطايب (المحصول) الأدبي تجريعاً
وأزعم أن لا كبير فرق بين صحيفة دورية يشترك في تحريرها طائفة من الكتاب، وبين كتاب ينفرد في تأليفه وتصنيفه كاتب واحد، وقد جرت العادة عند النقاد أن يتناولوا الكتاب ومؤلفه ويسكتوا عن الصحيفة الدورية
فطنت لهذا التقصير من جانبنا، فاقترحت على صديقنا الزيات أن أتناول بالنقد مجلاتنا المحترمة: المقتطف والهلال، والثقافة (والرسالة)، لأنها أخلق بالنقد من كثير من مؤلفات ما نكاد نقرأ بضع صفحات منها حتى نطرحها جانباً
أتعرف يا مبارك بماذا أجاب صديقنا الزيات وقد استحسن الفكرة ورحب بها؟
قال: كاتبان لا يصلحان لهذا الضرب من النقد: أنت والدكتور مبارك، لأنكما لا ترفقان في النقد ولا ترحمان. وهل من دليل أسطع من أنكما غير محبوبين من المؤلفين؟؟!!(418/49)
ولست بناقل إليك تتمة حديث صديقنا الزيات عن النقد والنقاد، لأني اعرف أنك لا ترضى مثلي عن الليونة وما تحتها من معان تشل الروح الأدبي ولا تسمو به إلى الأوج
ولا أخالك إلا معتقداً مثلي بأن مجابهة التيارات الأدبية واقتحامها خير من مجاراتها والتحايل عليها، ولكن. . .
أجل، ولكن العبرة بالنشر والناشر، لا بالتمرد والثورة!
حبيب الزحلاوي
من جديد
من التعبيرات التي ترسبت حديثاً إلى لغتنا، فتداولها الكتاب من غير تمحيص، ولا وزْن لصحتها اللغوية، ولا لصلاحيتها لأن تندمج في الأساليب الفصيحة وتغدو جزءاً منها
ولم تكن هذه العبارة شائعة بيننا قبل نحو عشر سنين، على ما اذكر؛ وكنت أراها أولاً في بعض القصص والمجلات والجرائد. ثم سرت في أحاديث الناس واستظرفوها وتملحوا بها
وما كنت قط أتوهم أن تصل يوماً إلى أقلام البلغاء، حتى رأيتها في قصيدة لشاعر معاصر من شعرائنا البارزين الذين يحتفلون في جزالة الأسلوب أيما احتفال، وحتى استعملها العلامة الدكتور زكي مبارك في مقاله في العدد 417 من (الرسالة)، حيث قال: (. . . مع فارق بسيط هو أن الدكتور أشار إلى المصدر الذي نقل عنه، وأن الأستاذ. . . لم ير موجباَ لذلك، فدلنا (من جديد) على حسن هضمه لما يقرأ من آراء الباحثين)
ولقد جهدت في أن أخرِّج هذا التركيب - في مختلف أوضاعه - تخريجاً سائغاً، فلم أوفق. ذلك أن (جديد) ملحوظ فيها أن تكون صفة موصوف محذوف. فما هو هذا الموصوف؟ قد يكون التقدير - في عبارة الدكتور -: (من وقت جديد)، أو (من شيء جديد)، أو (من أمر جديد) مثلاً. ولكن كيفما قدرنا هذا الموصوف ألفينا الكلام - كما ترى - غثاً لا معنى له
والواقع أن هذا التعبير ترجمة الكلمة الإنجليزية أو - على ما أعلم - ترجمها من لا يتحرون الصحة، أو من ليس لهم من علمهم ما به يتحرونها. فاقتبسه الناس وأغرموا به - كغيره من التراكيب الإفرنجية الكثيرة التي شوهتها الترجمة السقيمة - على غير رؤية أو إنعام نظر(418/50)
أفلا يرى معي حضرة الدكتور أنه يجدر بنا أن نحارب هذه الطفيليات في لغتنا وأن نقضي عليها قبل أن يستشري فيها شرها؟
(ا. ع)
فتوى واستفتاء
1 - في حاشية فجر الإسلام ما نصه (وجرينا هنا على ما قاله ابن القيم الجوزية) وهذا خطأ بين يقع فيه كثير من المؤلفين والناشرين، وبخاصة ناشرو كتب شمس الدين محمد أبي بكر. وإنما هو ابن القيِّم أو ابن قيِّم الجوزية؛ وشتان ما بين الوصف والإضافة. والجوزية مدرسة للحنابلة بدمشق أنشأها محي الدين ابن جمال الدين بن الجوزي وإليه نسبت. وذكر الأستاذ محمد كرد علي في كتابه خطط الشام أن الجوزية كانت إحدى مدارس عشر للحنابلة، وأنها كانت في عهده محكمة شرعية، ثم جعلتها جمعية الإسعاف الخيري مدرسة للأيتام، ثم حرقت في الثورة
وابن قيم الجوزية هذا - قد توفي سنة 751 هـ - غير شيخ الوعاظ غير مدافع، جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ. قيل أن شجرة جوز كانت في بيت جده جعفر فنسب إليها. وقيل إنه منسوب إلى محلّة بالبصرة تسمي محلة الجوز
2 - وقريب من هذا الخطأ - وإن تكلف بعض الكتاب تصحيحه - قولهم: (القصر العيني) وإنما هو قصر العيني بالإضافة إلى الأمير الشهابي أحمد بن عبد الرحيم بن البدر العيني نسبة إلى (عين تاب) على ثلاثة مراحل من (حلب)
3 - جاء في الوسيط في ترجمة ابن خِلِّكان - ما نصه: (وتوفي والده وهو ابن سنتين) الخ وجاء في ترجمته في المفصل ما نصه: (وكان أبوه مدرساً بالمدرسة المظفرية بإربل، فأخذ عليه مبادئ العلم) الخ وبدهي ما بين الروايتين من التناقض. اللهم إلا أن يكون صاحب الترجمة من أرباب الخوارق!
ولا يفوتنا - مقرين الحق في نصابه - أن نذكر أن الذي نبهنا إلى هذا الخلاف هو تلميذنا الأديب محمد حرب، وأننا لم نجد جواباً إلا أن نرجح رواية المفصل ريثما نستفتي الرسالة.(418/51)
4 - تقرر في كتب النحو أنه لا يجمع من الصفات جمع مذكر سالماً ما استوى فيه المذكر والمؤنث كوقور، وصبور، وجريح. فمن الخطأ البين إِذاً ما ذاع وشاع من جمع الخاصة فضلاً عن العامة - غيوراً على غيورين. وإلى القراء فتوى المصباح والقاموس في جمع هذا الوصف، لكثرة دورانه على الألسنة
غار يغار غيراً وغيْرة وغاراً فهو غيور وغيران والمرأة غيور أيضاً وغيرى، وجمع غيور غير كرسول ورسل، وجمع غيران وغيري وغيارى بالضم والفتح وأجدر بنا أن نكون غيرا على لغة القرآن الكريم
5 - النحويون قاطبة - عدا الفراء وابن مالك - على أنه إذا اجتمع شرط وقسم ولم يتقدمها ما يحتاج إلى خبر - كان الجواب للسابق منهما، وأجابوا عن قول الشاعر:
لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً ... أصمْ في نهار القيظ للشمس بادياً
بأنه ضرورة أو اللام زائدة لا موطئة للقسم. وقد اجتمع الرأي على أنه يسوغ للشاعر ما لا يجوز للناثر
ولقد بحثت جاهداً عن شاهد واحد من لا نثر فأعياني البحث. أفليس من أخطاء الخاصة إذاً - بله العامة - ما نقرؤه وما نسمعه من قولهم: لئن كان كذا فإن الأمر كذا وكذا؟ وإن تعجب فعجب أن يخطئوا الصواب ويذيعوا الخطأ. وبعد فهل يتفضل الباحثون باستنباط مثال واحد من منثور العرب نعتمد عليه في تصحيح مثل هذا التركيب الذائع لئن فعلوا إني لهم شاكر
طه محمد الساكت
المدرس بمعهد القاهرة
عجوز وعجوزة
قال الأستاذ وحيد في (أهرام) 16641 يقال للشيخ عجوز
وللشيخة عجوز وعجوزة.
وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: (قالت يا وَيْلَتي أألد وأنا عجوز، وهذا بعلي شيخاً) سورة(418/52)
هود
وقال أيضاً: (فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم) سورة الذاريات. وفي القاموس: (والعجوز الشيخ والشيخة، ولا تقل عجوزة أو هي لُغيةٌ رديئة)
وفي مختار الصحاح: (والعجوز المرأة الكبيرة، ولا تقل عجوزة، والعامة تقوله اهـ.
محمد حنفي الآقدمي
جماعة الأدب الحر
تألفت بالمنصورة جمعية أدبية باسم (جماعة الأدب الحر) من أهم أغراضها خدمة الأدب ورفع مستوى الإقليم الثقافي، وإبراز الشخصية المصرية واضحة في الأدب، وذلك بإقامة المحاضرات والمناظرات ونشر الأبحاث، والعناية بنواحي النشاط الفني والأدبي، وهي تدعو كل المشتغلين بنواحي الأدب من أبناء هذا الإقليم إلى المساهمة معها في أداء رسالتها هذه
تصويب:
جاء في ص (852) من العدد (417) من (الرسالة): والصواب
وجاء في الصفحة نفسها: فإنما ذلك لإجازتها. والصواب: فإنما ذلك لو جازتها
(ا. ع)(418/53)
القصص
القيء. . .
للأستاذ نجيب محفوظ
كان سعادة سعيد باشا كامل يقول كثيراً لخاصته إن رجلاً مثله ألفت نفسه العمل والنشاط، لأحرى أن تقعده حياة المعاش مقاعد المرضى المنهوكين. وصدقت نبوءته، فما كاد يحال على المعاش حتى سارع إليه ذبول الشيخوخة واعتوره الإعياء والخمول، ولذلك فإنه حين أصيب بالأنفلونزا لم يعمد كعادته إلى قهرها بالعناد والإيحاء الطيب والمثابرة، ولكنه رقد على فراش المرض عشرين يوماً قانعاً من لذيذ المأكل والمشرب بعصير البرتقال وماء الليمون. على أنه في فترة النقه اعتاض عن تصبره لذة لم يكن له عهد بها؛ كان الصيام قد صفى بطنه وطهر قلبه وأسكت نوازع جسده الصارخة، وطرد أشباح نفسه المفزعة، فأضاء عقله بسنا نور بهيج، واستنارت بصيرته بالصفاء والتجلي، وتبدت له الأمور على غير ما كان يرى، تراءت له الدنيا كومة من تراب، وكأنه يعتلي قمة السماء التي تظلها، وانكشفت له الحقيقة بغير قناع، فكأنما انجلت غشاوة الغرور عن ناظريه، فأحس أن بنفسه كنزاً يغنيه عن الدنيا وما فيها، وشعر بالسلام والطمأنينة يتدفقان من ينابيع صدره فذاق سعادة الجنان، وما كان ليفيق منهما لولا أن كرّ به الخيال إلى الوراء يتيه في غياهب الماضي وينبش قبور المنطوي من الزمان وينشر الرمم والعظام من الذكريات. . . كيف اختار أن يدعو الماضي ليتطفل على سعادته الراهنة؟ كيف رضي أن يغفل عن لذة الصفاء ليعاني ضراوة الأفكار؟ في الحق أنه لم يرغب في ذلك مختاراً، ولا راضياً ولكنه وجد الذكريات تطرق باب قلبه بإلحاح وعناد وعنف فلم يملك إلا أن يفتح لها كارهاً وأن يستقبلها ساخطاً متبرماً وأن يجترها بتقزز ونفور. ولم تكن المرة الأولى التي تزوره فيها ولكنها لم تكن تبدو له مخيفة ولا محزنة، أما في ساعة الصفو والتجلي فقد آلمته وأحزنته لأنه استقبلها بقلبه الجديد
رجع به الخيال إلى عهد كان سعيد أفندي كامل كاتباً بالأرشيف في الدرجة الثامنة المخفضة؛ وكان يقيم في منزل قديم بعطفة الجلاد بباب الشعرية، يعاني الأمرين من بساطة حاله وكثرة تبعاته وطموح قلبه وتعالي همته. وكان يقول لنفسه دائماً إن الله وهبه ذكاء(418/54)
عالياً ولكن حظه السيئ ران عليه فصد أو خبا؛ ولكنه كان معروفاً بين الجيران لجمال زوجته الحسناء، وكانت أمينة من أصل تركي عاجية البشرة سوداء الشعر والعينين فاتنة القسمات فكان يدعوها أهل الحي بالأميرة وكانوا يضربون بجمالها المثل
وفي يوم من الأيام صدر قرار وزاري بنقله إلى أسيوط؛ فأسقط في يده، لأنه كان يعول والديه وأخوة صغاراً ولا يقوم مرتبه بالإنفاق على بيتين؛ وبدا له - في يأسه - أن يوجه زوجه إلى قصر (سليمان باشا سليمان) السكرتير العام لوزارته لتستعطف أمه أو زوجه لكي يبقيه الباشا في الإدارة العامة بالقاهرة؛ وراقت الفكرة لأميرة عطفة الجلاد بباب الشعرية فذهبت إلى قصر الباشا وسألت عن أم الباشا فقيل لها إنها ماتت من عهد طويل معه، فسألت عن زوجه فقيل لها إن الباشا أعزب، فأوشك أن يلحقها القنوط وأن تهم بالعودة من حيث أتت، ولكن صادف ذلك خروج الباشا من قصره، فاستوقف بصره منظر السيدة الجميلة التي تحادث البواب، فسأله عنها، فاستجمعت الشابة شجاعتها الموزعة وحدثت الباشا عما جاءت من اجله؛ ورق الباشا لجمالها فدعاها إلى صالون الاستقبال واستمع إلى شكاتها باهتمام وشغف. كانت تنظر عيناه أكثر مما تسمع أذناه، وكان كلفاً بالحسان ينسى في مجلسهن دينه ودنياه، فتحلب ريقه واحترق صدره، وابتسم لها ابتسامة حلوة وربت على منكبها بحنو وقال لها
- سأنظر في طلبك بعين العطف يا حسناء
وكانت أمينة قادرة على قراءة العيون فتولتها الدهشة ونظرت للباشا نظرة ملؤها الشك والارتياب ففتنته النظرة؛ فمد يده - كما تعود وكما ألف - فعبث بذقنها الصغيرة فقطبت جبينها وجفلت منه. فلم يدركه اليأس وما كان يدركه اليأس أبداً وقال لها برقة
- كلانا له رجاء عند صاحبه فاقضي رجائي أقض رجاءك
وعادت المرأة إلى زوجها وقصت عليه ما لقيت من الباشا فانزعج الشاب انزعاجاً كبيراً، وأرادت أمينة أن تشاركه عواطفه فبكت وإن لم تخل من زهو وفخار، وأزمع الشاب يأساً وقال لنفسه: (ليكن سفر، والأمر لله). ولكن في صباح اليوم الثاني استدعاه مدير الأرشيف فذهب إليه مبلبل النفس مضطرب القلب يظن أنه مبلغه أمر النقل لينفذه، ولكن الرجل قال له: (مبارك يا سعيد أفندي لقد ألغي أمر نقلك). فشكره الرجل متحيراً وهم بالرجوع، ولكن(418/55)
المدير قال له: (ومبارك أيضاً فقد رشحت لوظيفة من الدرجة السابعة بمكتب السكرتير العام)
آه كم رنت الدرجة السابعة في أذنيه رنيناً بديعاً. . . لقد اضطرب وغضب وسخط وتحير وتردد وقارن ووازن، ولكن رنين الدرجة ابتلع كل صوت حتى صوت ضميره وعفته، وتيقظت أطماعه وجمح طموحه فاستسلم. وكانت أمينة التركية الجميلة ذات غرور وطموح أيضاً فاتفقا على أن السوأة شيء يدارى، أما الفرصة المؤتية فشيء لا يعوض. . . وهويا معاً. . .
وعزم على ألا تكون تضحيته عبثاً، فدرس في بيته حتى حصل على ليسانس الحقوق ورقى سكرتيراً للسكرتير العام؛ وما زال يصعد مدارج الرقي مستعيناً بهمته وذكائه وجمال زوجه. فلما اختير سليمان باشا سليمان وزيراً جعله مدير مكتبه، وقامت زوجه بنشر الدعوة له في الأوساط العالية وقدمته إلى كبار الرجال، فتبوأ بفضلها مركز السكرتير العام، وصار سعيد باشا كامل، وصارت هي حرم الباشا المصون. . . وكان قد تعود المهانة كما يتعود الأنف الرائحة النتنة. . . وفي يوم من الأيام أعلن الباشا أنه مسافر إلى بور سعيد في رحلة تفتيشية تستغرق عشرة أيام. وبلغ المدينة وشرع في العمل بما عرف عنه من النشاط وعلو الهمة ولكن اعتوره تعب فجائي اضطر معه إلى قطع رحلته والعودة إلى القاهرة، وانتهى إلى قصره مع المساء، وكانت عودة غير متوقعة، فاستقبله البواب بدهشة لم تخف عن عينيه على ندرة اندهاش النوبيين، والتقى الباشا بالسفرجي في الردهة التحتانية، فتولى الرجل الانزعاج ولم يستطع أن يخفي تأثره، فغضب الباشا وسأله: (أين الهانم؟) ولم يجب الرجل كأنه لم يسمع، فقال له بحدة: (أين الهانم يا أحمق؟)، فارتعب الخادم وقال بتلعثم: (فوق يا سعادة الباشا. . . فوق)، فصعد السلم الخشبي المفروش بالبساط الأحمر المخملي وهو يتساءل: ماذا هنالك!؟ وبلغ الصالة في ثوان، فرأى وصيفة زوجه تنسق باقة زهر ناضرة. . . فلما رأته حملقت في وجهه بذهول وجمدت عن الحركة لحظة كأنها فارة جذبت عيناها إلى عينيي هرْ. . . ثم هرعت إلى حجرة النوم ونقرت على بابها المغلق وهي تقول: سيدتي. . . الباشا هنا. . . فساوره القلق والاضطراب ودنا من الباب ووضع يده على الأكرة وهو يعجب كيف لم تسارع الهانم إلى فتح الباب واستقباله، ثم أدارها فلم(418/56)
ينفتح الباب، فالتفت ناحية الوصيفة فلم ير لها أثراً، فنقر الباب وهو يقول بصوت متهدج:
- يا هانم. . . لماذا تغلقين الباب؟
فلم ترد جواباً، فأدنى رأسه من الباب فسمع حركة وصوت اصطدام شيء صلب بالأرض. . . فاهتاجه الغضب. . . فضرب الباب بعصاه وصاح بحدة قائلاً:
- يا هانم. . . ألا تسمعينني. . . أمينة هانم. . .
ثم مضى يدفع الباب بعنف، فسمع صوت الهانم تقول:
- انتظر من فضلك في المكتبة حتى ألحق بك!
فقال بحدة: افتحي الباب
فردت عليه بهدوء وإصرار: انتظرني في المكتبة من فضلك
- هذا سلوك غريب. . . ما هذه الحركة بداخل الحجرة؟
- اذهب إلى المكتبة من فضلك
- لن أتنحى عن الباب حتى يفتح لي
فسكتت المرأة هنيهة ثم قالت بحدة وغضب:
- معي شخص ينبغي أن يخرج بسلام
وخذلته أعضاؤه المنهوكة فأحس خوراً، وذهولاً، وجموداً ثقيلاً ران على قلبه وتنفسه، ولبث دقائق لا يبدي حراكاً، ثم مضى بخطى ثقيلة إلى المكتبة وارتمى على مقعد ترتعش يداه من الانفعال والحنق، وقال بصوت كالمختنق: (يا عجبا. . . إنها لا تكلف نفسها مؤونة التستر على فضيحتها فالخدم يعلمون بغير ريب. . .)، واهتاجه الغضب ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً، وما كانت إرادته تقدر على أن تصطدم بإرادتها بحال، فتصاعد غضبه دخاناً كتم على أنفاسه وسد مسالك صدره. . . وقال بلهجة هسترية: (هل يكون هذا المنتهك حرمة فراشي إلا تلميذاً شريراً أو متعطلاً متسكعاً؟!) وانتظر أن تلحق به فلم تفعل؛ فقام مرة أخرى وقصد إلى حجرة النوم يسير بخطى مضطربة فوجدها جالسة على الشيزلنج منكسة الرأس، فلما أحست به بادرته قائلة:
- إني أغادر البيت في الحال إذا كان هذا يروقك
فلوح بعصاه غاضباً وقال بحنق:(418/57)
- ما هذه الفضائح. . . ما هذه القذارة؟
وأصابت العصا ساقها دون قصد منه. فرفعت إليه بصرها وحدجته بنظرة باردة قاسية كان لها في نفسه وقع شديد وقالت له:
- أتضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب؟!
لقد كانت تلك الكلمة أليمة موجعة، ولكن ذكراها التي تعاوده الآن أنكى وأمرّ
وشعر عند ذلك بغمز موجع في صدره، فاتكأ على يديه الضعيفتين وهمَّ جالساً في الفراش وكسر مخدة واستند عليها متنهداً من الأعماق، وبدأ كالمستغيث من أفكاره، ولكن ذاكرته لم ترحمه ولم ترق لحاله فاستحضرت أمام ناظريه حادثة أخرى ليست دون سابقتها بشاعة وقبحاً. . . وكان ذلك وهو في أوج مجده الحكومي وكان يترأس حفلة بمدرسة الجيزة الثانوية فألقى كلمة استقبلت بالتصفيق والتقدير ووزع الجوائز على المتفوقين وغادر المنصة مودعاً من كبار الموظفين إلى سيارته وانطلقت به السيارة، وقد أخذ الظلام يغشى الطرق والحقول؛ وعند منعطف الطريق انبرى له شاب - ولعله كان تلميذاً - وصاح بأعلى صوته: (كيف تضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب) وعرته رجفة شديدة، وتشنج جسمه فلم يلتفت نحو القاذف الخبيث وشعر بانهيار وتفكك، فتفصد جبينه عرقاً بارداً ثم إلى دمه، وعجب كيف ذاعت هذه الجملة الآثمة حتى بلغت هذا الشاب. لقد غدا قصره مورداً لفضائح غير مستورة ينهل منها المتطوعون لإذاعة المخازي. على أنه كان في تلك الأيام قوياً مستهتراً يهضم ضميره القتيل الفضائح بغير مبالاة فهدأ روعه وقال باستهانة وحنق: (قولوا ما يحلو لكم قوله - فسأظل - وأنوفكم في الرغام، السيد المطاع والرئيس المرتجى. أما الآن في ظل النقه والطهارة فقد امتعض وحزن وشعر بالذكريات تصليه لهباً جهنمياً. . .
ودخلت عند ذاك أمينة فسألته برقة: (كيف حالك يا باشا)؛ ثم جلست على مقعد وثير، فنظر إليها بعينيه الذابلتين نظرة غريبة لم تفهم معناها الحقيقي؛ وعجب الرجل كيف تحافظ على حسنها وشبابها حتى ليخال الناظر إليها أنها في منتصف عمرها، مع أنه لا يكبرها بأكثر من ثمانية أعوام. . . ثم قال لنفسه دهشاً: (رباه. . . كأني كلما زدت عاماً نقصت عاماً. . . فمتى تذبل وتذوي وتجفل من النظر إلى المرآة؟؟)(418/58)
نجيب محفوظ(418/59)
العدد 419 - بتاريخ: 14 - 07 - 1941(/)
عبر من سيرة
للأستاذ عباس محمود العقاد
(بدرفسكي) موسيقي عظيم وإنسان عظيم، وليس الموسيقى ببالغ أوج العظمة في فنه حتى أوج العظمة الإنسانية في أفق من آفاقها العليا، وإن خيل إلى الأكثرين منا أن الموسيقى طرب، وأن الطرب لهو، وأن اللهو والعظمة لا يتفقان
كان (بدرفسكي) عظيماً لأنه كان أكبر من جميع تلك الأشياء التي يتصاغر لها الناس: كان أكبر من المال ومن المنصب ومن الأثرة ومن المتعة الرخيصة، وكاد أن يكبر على غواية الفن لولا أنه من الفن قد استمد الكبرياء والعظمة، فلا يهجره فترة يسيرة إلا بقوة منه، كما يهجر المرء حياته أحياناً بقوة من دوافع تلك الحياة
وللعظمة مقاييس شتى
وبدرفسكي عظيم بأكثر من مقياس واحد: عظيم بهذا الذي ذكرناه، وعظيم بإعطائه كل شيء حقه على قدر لا يستطيعه أوساط الناس، وعظيم لأنه قادر على العمل العظيم في غير ناحية واحدة. فلم ينحصر في موسيقاه ولا في دعوته الوطنية ولا في غزواته السياسية، ولم يجاوز في كل عمل من هذه الأعمال الكبار حده المقدور
أبلغ العالم شكاة أمته بصوت الموسيقى، فكان داعية فن وداعية وطن. ثم ترك المناصب ليثوب إلى فنه بعد أن صنع ما كان في وسعه أن يصنع، ولم يبق من سب لبقائه في مناصب الدولة إلا التعلق بها والاستخذاء لغوايتها، وليس هو بالذي يتعلق بهذه الفتنة أو يستخذى لهذه الغواية
وجمع الذهب: أكداس الذهب، ثم فرق في خدمة القضية البولونية ما لو احتفظ به لكان أغنى من ملوك المال وأقدر من حكام الأمم
واشتدت به العصبية الوطنية غاية اشتدادها، ولكنه حين وهي الجوائز للنابغين في ضروب الموسيقى وهبها عالمية لكل مجيد وكل مأمول من أبناء القارة الجديدة
ففيه لكل من الوطن والعالم والغنى نصيب بمقدار، وبين يديه هو ميزان ذلك المقدار
ومقياس آخر من مقاييس العظمة فيه أنه جند جيشاً وساس دولة ووجه الدول الأخريات توجيهاً لم يحلم به حالم من أبناء وطنه، ولكنه لم يكن من الحالمين وهو أجدر أبناء بولونيا(419/1)
بالإمامة في عالم الأحلام
ومن يدري ماذا كان يجري في القارة الأوربية لو استمع أبناء قومه لنصحه واتبعوا هداه في العلاقة بينهم وبين جيرتهم من الروس. . . فلعل الذي كان يجري يومئذ غير الذي جرى الآن، وخير مما جرى أو سيجري بعد الآن!
بدرفسكي رجل عظيم لأنه موسيقي عظيم
وهذا شيء ينبغي أن نفهمه نحن الشرقيين خاصة لأننا أحوج إلى فهمه من جملة العالمين
نحن الشرقيين لا نفهم ما الدنيا وما الحياة في الدنيا حتى نفهم ما التعبير عن الحياة، ونفهم أن الفنون أرفع وأجمل ما وهب الإنسان من وسائل التعبير عن حياته بل عن حياتيه: الحياة الظاهرة التي لا خفاء بها، والحياة الباطنة التي ما خلت قط ولن تخلو يوماً من خفاء
فليست الأصداء الموسيقية لغواً من لغو البطالة، ولا هي بذيل من ذيول الفراش أو ذيول السرير، ولا هي بتسلية للأذن تستطيبها كما يستطاب السجع الموزون والرنين المنغوم
كلا. ليست الأصداء الموسيقية كذلك، وليست الحياة شيئاً إن كانت الأصداء الموسيقية كذلك
نعم ليست الحياة شيئاً إن لم يكن لها تعبير، وليست هي شيئاً إن كان كل التعبير عنها لغواً أو تسلية أو متعة فراش
ومن السهل أن تزدري الرجل الذي يبتذل فنه لشهوة غيره، وليس من السهل أن تزدري الرجل الذي يعبر لك عن حياتك ويفتح لك من مغالقها ما عسى أن يحتجب عنك؛ فإنما هو واهب حياة وليس بواهب شهوة أو تسلية أو فضول
لهذا يلتقي الموسيقي العظيم والرجل العظيم في إنسان واحد. ولهذا نحسب بدرفسكي آية من آيات عصره، لأنه استرعى النظرة الجدية منهم حين أسندوا إليه رياسة الوزارة في قومه. وما كانت رياسة الوزارة علواً يرتفع إليه بعد أن رفعته العبقرية، ولا صوتاً مسموعاً في جانب من جوانب الأرض بعد أن سمع صوته في كل جانب منها، وإنما كانت ولاية الموسيقى لرياسة الوزارة دليلاً على النظرة الجدية التي ينظرون بها إلى فنه، أو ينظرون بها إلى الحياة والتعبير عن الحياة
ولو سئل أحد لم يكن بدرفسكي رجلاً عظيماً لما خطر له أن يقول: إنه كان عظيما لأنه تولى رياسة الوزارة البولونية في عهد من العهود، ولكنه يقول إنه كان عظيما لأنه كان(419/2)
أهلاً للجد وأهلاً للاضطلاع بالأمانة. ولا تناقض بين هذا وبين عزفه على البيان، واختراعه الجديد من الألحان، بل هذا حجة له على صدق العظمة فيه، واقتداره على كل ما يقتدر عليه العظيم
الحياة تأثير وتعبير. وماذا بعد هذين؟ بل ماذا في التأثير نفسه إن لم يتممه التعبير؟
فالعبقرية التي تتمم الحياة وتعطيها معناها ليست بالمنزلة الهينة بين منازل الإنسانية، وليست بالنافلة بين النوافل ولا باللغو الذي يكون أو لا يكون على حد سواء
قلت في ذكرى من ذكريات الموسيقار المصري النابغة سيد درويش إن (الأمة الكاملة عجزت مع هذا عن قضاء حق الرجل الفرد فمات بينها وهي تتعلم أنها أصيبت من فقده بمصيبة قومية، ولم تبال حكومتها أن تشترك في تشييع جنازته وإحياء ذكره كما تبالي بتشييع جنازات الموتى الذين ماتوا يوم ولدوا والمشيعين الذين شيعتهم بطون أمهاتهم إلى قبر واسع من هذه الدنيا يفسدون من أجوائها ما ليست تفسده العظام النخرات والجثث الباليات. . . أنقول مع هذا؟ بل ما لنا لا نقول إن الرجل قد أهمل في حياته وبعد مماته ذلك الإهمال القبيح لأجل هذا؟ أو ليست آدابنا هي تلك آداب هذا الشرق الجامد الذليل الذي تعاورته الرزايا وران عليه الطغيان؟ أو ليست آداب هذا الشرق المسكين تعلمنا أن العزيز العظيم من يسيء إلى الناس، وأن المهين الحقير من يتوخى لهم الرضى ويوطئ لهم أسباب السرور؟ أو ليس من شرع الاستبداد وسنن آدابه أن يكون الرجل عظيما لأنه يطغى ويكسر النفوس ويحنى الظهور ويعفر الوجوه؟ أو ليس هذا أعظم ما رأينا من العظمة في هذا الشرق الآفل منذ علم أبناؤه أنهم صغراء حقراء، فلن يكون الذي يتقدم إليهم بالرضى والسرور إلا أصغر منهم صغراً وأحقر منهم حقارة؟ بلى، وا أسفاه! إن دغائن الاستبداد ما برحت عالقة فينا بدخيلة السرائر، ننفضها فلا تنتفض إلا ذرة بعد ذرة، ونزن المنفوض منها فإذا هو لا يزيد في الهباء ولا ينقص راكد ذلك التراث. . .)
وقد مضت قرابة عشرين سنة بعد وفاة سيد درويش ونحن لم نتقدم خطوة في هذا المضمار. فلا تزال الأصداء الموسيقية ذيلاً من ذيول الفراش عند جمهرة السامعين. . . أتشك في ذلك؟ استمع إليهم وهم يصرخون ويزعقون بين لمحة وأخرى، ثم حاول أن توفق بين هذا النشوز الصادع وبين شعور السامع بانسجام الأنغام وائتلاف المعاني والأوزان. إن(419/3)
التوفيق بينهما لمستحيل، ولكن لا صعوبة في التوفيق بين هياج الحس المستثار بتصور الشهرة وبين هذه الثورة الناشزة في الحناجر والأيدي والأقدام. فهم على مقربة من الفراش في صورته الحيوانية المريضة؛ ثم هم لا يستمعون ما يبعدهم عنه أو يحولهم إلى فكرة غير التفكير فيه. وعليهم بعض الوزر على الموسيقيين والمطربين وعلى الماضي الذي خلف لهم ذلك التراث بقية الوزر التي لا ندري متى يدركها النفاد!
وبيننا وبين الخلاص من هذه البلية عقبتان: أولاهما أننا نحسب الفنون لهو بطالة. وثانيتهما أن اللهو في عرفنا إسفاف وضيع يعيره الإنسان فضول وقته، ولعل وقته كله فضول
من يصدقني من هؤلاء إذ أقول له إن الموسيقى جد رفيع وشاغل مقدس وليس به ظل ولا مجانة؟
لا أحد
فلنقل لهم إذن أن بدرفسكي الموسيقي تولى رياسة الوزارة في وطنه وتولى قبل ذلك زعامة قومه باعترافهم واعتراف الغرب كله، فإنهم ليصدقون إذن وهم حائرون أن الموسيقى جد والأمر لله!
ثم إنهم ليصرخون بعد ذلك ويزعقون كلما رجعوا إلى (التخت) الذي هو عندهم دهليز الفراش، ولا فضل له عليه!
عباس محمود العقاد(419/4)
أبو المظفر الأبيوردي
شاعر العرب في القرن الخامس
للدكتور عبد الوهاب عزام
(تتمة)
- 6 -
فخر الأبيوردي بأمويته واعتز بها، ولكن عصبيته لبني أمية لم تورطه في العداوة التي أثارتها الفتن بين الأمويين والهاشميين، فهو يفخر ببني عبد مناف جميعاً لا يفرق بين هاشم وأمية كما يفخر بقرشيته وعربيته ويمدح العباسيين وبذكر مآثرهم، وإذا تحدث عن الصحابة وفى الخلفاء حقهم من الثناء والإجلال كما يتحدث المسلم الذي لم تخالط نفسه أهواء العصبية
يقول في مدح المستظهر بالله:
يا خير من بشرت بعد النبي به ... عدنانُ وادَّرعت عِزَّا به مضر
أحيا بك بالله ما كانت تُدلُّ به ... عُلى قريش ومنها السادة الغرر
لك الوقار من الصدِّيق تكنفه ... مهابةٌ كان محبَّوا بها عمر
وجود عثمان والآفاق شاحبة ... ونجدة من علىَّ والقنا كِسر
وعِلمُ جدك عبد الله شِيب به ... دهاؤه أعيا الوارد الصدر
ثم يذكر الخلفاء العباسيين إلى المعتصم
ويقول في قصيدة يمدح فيها الرسول والخلفاء الراشدين:
وكلّ صحبك أهوى فالهدى معهم ... وغَرب من أبغض الأخيار مفلول
وأقتدى بضجيعيك اقتداء أبي ... كلاهما دَمُ مَن عاداه مطلول
ومن كعثمان جوداً والسماح له ... عبء على كاهل العلياء محمول
وأين مثل عليّ في بسالته ... بمأزق من يّردْه فهو مقتول
إني لأعذل من لم يُصِفهم مِقة ... والناس صنفان: معذور ومعذول
ونجده في قصيدة أخرى يفخر بالأمويين والعباسيين والعرب كلهم(419/5)
- 7 -
كان الأبيوردي شاعر العرب في القرن الخامس كما كان المتنبي شاعرهم في القرن الرابع؛ فشعره ينطق بإباء العرب وعزتهم، ويعرب عن طباعهم وأخلاقهم، ويتحدث بمآثرهم ومفاخرهم، ويمدح كثيراً من رؤسائهم، ويرثى لحالهم في عصره ويأنف ألاً ينالوا حقهم. وهو كثير الحنين إلى بلاد العرب، نزاع إلى البداوة تشبها بهم
والفرق بين أبي الطيب المتنبي وأبي المظفر الأبيوردي أن الأبيوردي أكثر قصداً في فخره وثورته وتحدثه عن مطامعه؛ على أن له أصلاً في الملك يجعل كلامه أقرب إلى القبول وأدنى إلى التصديق
وكذلك يتشابه الشاعران العظيمان في العزوف عن الدنايا، والترفع عما فخر به الشعراء من معاقرة الخمر والاسترسال في الشهوات
ولا يعوز قارئ ديوان الأبيوردي الدليل على هذه الأخلاق والنزعات؛ يقول في اعتداده بنفسه:
وإني إذا أنكرتني البلاد ... وشِيبَ رضا أهلها بالغضب
لكالضيغم الورد كاد الهوان ... يَدبّ إلى غابه فاغْترَبَ
فشيدتُ مجداً رسا أصله ... أمتَّ إليه بأمْ وأب
ولم أنظم الشِّعر عجباً به ... ولم أمتدح أحداً عن أرب
ولا هزني طمعٌ للقريض ... ولكنه ترجمان الأدب
ويقول:
وما أنا ممنْ يملأ الهول صدرَه ... وإن عضه ريب الزمان فأوجعا
إذا غسلت العار عني لم أُبَل ... نداء زعيم الحي أو نعى
والأبيوردي لا يرضى بعيشته، ولا يسكن إلى حاله، ولكنه يأنف أن يسف إلى المطمع الدون، ويستكبر أن تضرعه الحاجة إلى الذل، بل يرى الدنيا كلها أصغر من أن تذل لها نفوس الأحرار. يقول:
قضت وطراً مّني الليالي فلم أبح ... بشكوى ولم يدنس عليّ قميص
أغالي بعرضي والنوائب تعتري ... وغيري يبيع العرض وهو رخيص(419/6)
وقد علمتْ عليا كنانة أنني ... على ما يزين الأكرمين حريص
فظهري بأعباء الخصاصة مثقل ... وبطني من زاد اللئام خميص
ويقول:
وإني لأقري النائبات عزائماً ... تروض بالدهر شامس
وأحقر دنيا تسترقُّ لها الطلى ... مطامع لحظي دونها متشاوس
تجافيت عنها وهي خود غريرة ... فهل أبتغيها وهي شمطاء عانس؟
أغالي بعرضي في الخصاصة، والمنى ... تراودني عن بيعه، وأماكس
وأصدى إذا ما أعقب الريَّ ذلة ... وأزجر عيسى وهي هِيم خوامس
ولي مقلة وحشية لا تروقها ... نفائس تحويها خسائس
ويمثل في أبيات أخرى ما يتنازع نفس الأبي الذي بدلت أحواله غير الزمان:
ولما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيام قليل رخاؤها
وكان إلينا في السرور ابتسامها ... فصار في الهموم بكاؤها
أصيبت بنا فاستعبرت وضلوعها ... على مثل وخز السمهري انطواؤها
ولو علمت ماذا تعانيه بعدنا ... لما شمنت جهلاً بنا سفهاؤها
إلى أن يقول:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... لنا رغبة أو رهبة عظماؤها
وجاست بنا الجرد العتاق خلالها ... سواكبَ من لباتهن دماؤها
فصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما أردنا نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها
وأنفة الأبيوردي وعفته لا ترضيانه بأدنى العيش، فهو طماح إلى العلى، ساع لها، مغامر من أجلها:
رأت أميمة أطماري وناظرُها ... يعوم في الدمع منهلاً بوادره
وما درت أن في أثنائها رجلاً ... ترخى على الأسد الضاري غدائره
أغرَّ في ملتقى أوداجه صيَد ... حمر مناصله، بيض عشائره
إن رث بردي فليس السيف محتفلا ... بالغمد وهو وميض الغرب باتره(419/7)
وهو يرى نفسه كفء المعالي التي يطمح إليها، وأهلاً لها بنسبه وهمته:
الله درى فكم أسمو إلى أمد ... والدهر في ناظريه دونه شَوَس
أبغي عُلًى رامها جدي فأدركها ... وكان في غمرة الهيجاء ينغمس
فأي أروعَ مني نبهت هممي ... وأي شأو من العلياء ألتمس
ويقول:
سأحمل أعباء الخطوب فطالما ... تماشت على ألاين الجمال القناعس
وأنتظر العقبى وإن بعُد المدى ... وأرقب ضوء الفجر والليل دامس
فلله دري حين توقظ همتي ... مساورة الأشجان والنجم ناعس
هذه الأنفة وهذا الإباء وهذا الطموح وهذه الكبرياء التي أوحت إليه أنه دون مكانته، وأن عليه أن يطلب مكانة تليق به وبآبائه، أكثرت حديثه عن مباشرة الخطوب وركوب الأهوال في سبيلها والمحاربة من أجلها، يقول:
تقول ابنة السعدي وهي تلومني ... أمالك عن الدار الهوان رحيل؟
فإن عناء المستنيم إلى الأذى ... بحيث يذل الأكرمون طويل
وعندك محبوك السراة مطهم ... وفي الكف مطرور الشباة صقيل
فثب وثبة فيها المنايا أو المنى ... فكل محب للحياة ذليل
وقال:
سواي يجرَّ هفوته التظَّني ... ويرخى عَقد حبْوته التمني
ويُلبس جيدَه أطواقَ نعمى ... تشف وراءها أغلال مَنّ
إذا ما سامه اللؤماء ضيماً ... تمرَّغ في الأذى ظهراً لبطن
وظل نديم عاطية وروض ... وبات صريع باطية ودن
وأشعر قلبه فَرَق المنايا ... وأودع سمعه نغم المغنى
وصلصلةُ اللجام لدىّ أحرى ... بعز في مباءته مُبِنْ
إلى أن يقول:
وهاأنا أوسع الثقلين صدراً ... ولكن الزمان يضيق عنَّي
ويقول:(419/8)
يا صاحبي خذا للسير أهبته ... فغيرنا بمناخ السوء يحتبس
أترقدان وفرع الصبح منتشر ... عليكما وذَماء الليل مختلَس
إن تجهلا ما يناجيني الحِفاظ به ... فالرمح يعلم ما أبغيه والفرس
سخط البيوردي وتحدثه بالثورة كانا نتيجة إبائه وطموحه وإنكاره المنزلة التي نشأ فيها كما كانا من سخطه للعرب واستنكافه أن تنزع المقاليد من أيديهم، وتوكل الأمور إلى غيرهم. فالنعرة العربية بينه في شعره، والأنفة للعرب مكررة في قصائده. قال في قصيدة يمدح فيها أبا الغمر المرواني أحد أقاربه:
دهر تذَأبّ من أبنائه نقَد ... وأُوطئت عربٌ أعقاب أعلاج
وأينع الهام لكن نام قاطفها ... فمن لها بزياد أو بحجاج؟
وكم أهبنا إليها بالملوك فلم ... نظفر بأروع للغماء فراج
وأنت يا ابن أبي الغمر الأغر لها ... فقل لذود أضاعوا رعيها: عاج
وألقح الرأي ينتج حادثاً جللاً ... إن الحوامل قد همت بإخداج
وإن كويت فأنضج غير متئد ... لا نفع للكي إلا بعد إنضاج
إلى أن يقول:
متى أراها تثير النقع عابسة ... تردِى بكل طليق الوجه مبلاج
ولاَّج بابٍ أناخ الخطب كلكله ... به ومن غمرات الموت خرَّاج
في غلمة كضواري الأسد أحنقها ... زأر العدى دون غابات وأحراج. الخ
وله قصيدة يمدح بها بعض الوزراء من أسرته أولها:
من رام عزا بغير السيف لم ينل ... فاركب شبا الهندوانيات والأسل
ويقول فيها:
وخالفت هاشماً في ملكها عُصَب ... صاروا ملوكا وكانوا أرذل الخول
حنِّت إليهم ظبي الأسياف ظامئة ... حتى أبت صحبةَ الأجفان والخلل. . . الخ
ويقول في مدح أبي الشداد العقيلي يشكو حال العرب ويحرضه على أن يطلب لهم المكانة الجديرة بهم:
فإيه أبا الشداد إن وراءنا ... أحاديث تروى بعدنا في المعاشر(419/9)
فمن بخِرْق ثائر فوق سابح ... تردَّى بإعصار من النقع ثائر
إذا حفزته هزة الروع خلته ... على الطِّرف صقراً فوق فتخاء كاسر
أترضى وما للعُرب غيرَك ملجأٌ ... توسدّهم رملىّ زرود وحاجر؟
بهم ظمأ أدمى الجوانج بَرحُه ... وذموا إلى الشعري احتدام الهواجر
وأما إعجابه بأخرق العرب وحنينه إلى ديارهم في مدحه وغزله فيذكران بأبي الطيب المتنبي. فهو يحن إلى البداوة ويتغزل بالبدويات، وإذا تحدث عن أمانيه وأعوانه فالمثل الأعلى عنده فتيان العرب
يقول في قصيدة يمدح بها المستظهر بالله:
معي كل فضاض الرداء سَمَيْدع ... أصاحب منه في الوقائع أروعا
غذته رُبَى نجد فشبَّ كأنه ... شبَا مشرفيّ يقطر السم منقعا
يُريح، إذا ارتج الندىّ بمنطق، ... كلاماً كأن الشيح منه تضوعا
ويُروى أنابيب الرماح بمأزق ... يظل غداةَ الروع بالدمُ مترَعا. . . الخ
ويقول في قصيدة يمدح بها أحد رؤساء العرب:
وترويك في قبس حياض تُظلها ... ذوابل في أيدي ليوث خوادر
بنو عربيات تحوط ذمارها ... كماة كأنضاء السيوف البواتر
ويقول في مدح سيف الدولة صدقة دبيس:
له عمة لوثاء تفتر عن نهى ... علمنا بها أن العمائم تيجان
وحنينه إلى البداوة وعاداتها يتبين في مثل قوله:
وأسرى بعيس كالأهلة فوقها ... وجوه من الأقمار أبهى وأبهر
ويعجبني نفح العَرار ورّبما ... شمخت بعريني وقد فاح عنبر
ويخدش غمدي بالحمى صفحة الثرى ... إذا جرَّ من أذياله المتحضر
فما العيش إلا الضب يحرشه الفتى ... وورد بمستن اليرابيع أكدر
بحيث يلف المرءُ أطنابَ بيته ... على العز والكومُ المراسيل تنحر
ويغشى ذراه حين يعتم للقرى ... ويسمو إليه الطارق المتنوّر
هذا طرف من أخبار هذا الشاعر العربي الأموي العظيم. ولعل المتأدبين من شباب العرب(419/10)
يجدون في شعره متعة النفوس الكريمة، وشحذ الهمم الطامحة، ونمطاً من الكلم البليغ، اتفق على تجويده اللفظ والمعنى. ولعل الفرصة تتاح لبحث مفصل جامع في أدب هذا الشاعر
عبد الوهاب عزام(419/11)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
أحزان الإسكندريين توجه الفكر إلى نظرة فلسفية - بين
الاحتلال والاستقلال - الاحتقلال - الألعبان - عمود ونصف
- غرائب التعابير - الكاتب العمومي - شيطنة أدبية - هل
في الأدب ديكتاتورية؟ - بعض ما يجهل الشبان - صيد
الحوت في بحر الشمال! - كلمة صريحة - إلى الأستاذ (فريد
أبو حديد).
أحزان الإسكندريين
وهذا خطاب جديد من الأستاذ عبد الطيف النشار، وهو يدعوني إلى أداء دين الإسكندرية شعراً، كما أديته نثرا؛ ثم يهتف:
نبكي لغِرناطةٍ حزناً ولم نرها ... فكيف بالثغر يذوي تحت أعيننا
يزول يوماً فيوماً من محاسنه ... ما كان ملء الليالي بهجة وسنا
وأجيب بأن من العسير علي أن أوجه خيالي إلى فواجع الإسكندرية، فما أدمت التفكير في نكبتها لحظات إلا شعرت بدوار عنيف يزلزل إحساسي بالوجود
والأستاذ النشار يروي في خطابه حديث اليوناني الذي رأى بعيني رأسه رجلاً في جبة خضراء يخرج من قبر (أبي الدرداء) ويعتنق الطوربيد؛ ثم يضعه في فناء المحافظة، ويأمره بان لا ينفجر. (وهو الطوربيد الذي لم ينفجر في دار المحافظة على بعد ثلاثة أمتار من قبر أبي الدرداء، وقد وجد الطوربيد ملفوفاً في باراشوت أخضر اللون)
ثم يقول الأستاذ النشار في هامش الخطاب:
(فاتني أن أؤكد لك أن شعور العامة أنه يوم ديني من كبار المواسم لظهور كرامة فيه لأبي الدرداء الذي قتله البرد كراهية منه للنار، هو يحمي الإسكندرية من الاحتراق) وأقول: إني(419/12)
لا أعرف بالضبط أين دُفن أبو الدرداء، ولا أعرف المكان الذي تحتله هذه (الرواية) بين الجد والمزاح، ولكني مع هذا لا أستبعد أن يكون للأموات أياد في مصاير الأحياء؛ فقد حبرت أكثر من سبعين صفحة من صفحات (التصوف الإسلامي) في تأييد نظرية (وحدة الوجود). ولم يبق عندي شك في أن الوجود كله مربوط برباط وثيق من الكهرباء، بحيث لا تنتقل ورقة من الخضرة إلى الذبول، ولا يتحول جسد من الحياة إلى الموت، بدون أثير في الوحدة الوجودية، وإن غفل عن ذلك من يكتفون بما تقع عليه الحواس
وإذن فمن حق الإسكندرية أن تستنجد بأرواح أبنائها البررة والفجرة من أقدم عهودها إلى اليوم. ومن حقها أن تثق بأن كريها لن يطول، لأنه ليس إلا مرحلة قصيرة من مراحل الوحدة الوجودية وهي تنتقل باستمرار من وضع إلى وضع بدون أن يظهر أنها تفرق بين السعود والنحوس
ثم ماذا؟ ثم أقول لا موت في هذا الوجود، فليس فيه موجود غير حي، ولو كان هباء تذروه الرياح، فما كانت الحياة إلا عرضاً من أعراض الوجود، لنه في ذاته آصل من الحياة ومن الموت
ولهذه الفكرة الفلسفية تفاصيل لا يتسع لها هذا الحديث
بين الاحتلال والاستقلال
دعونا أصدقاء الرسالة إلى الموازنة بين حالتين من أحوال الشعوب: هما حال الاحتلال وحال الاستقلال، فكيف أجابوا؟ كان جواب الأديب (م. ف. م) أن عهد الاحتلال في مصر كان أفضل من عهد الاستقلال، ولكن كيف؟
كانت جداول (المناوبات) تنفذ بدقة في عهد الاحتلال، وكان التلاميذ أكثر التفاتاً إلى الدروس، وكان الزعماء أقوى وأقدر على النضال الشريف
وأقول إن هذه الشواهد لم تقنعني بأن الاحتلال أفضل من الاستقلال؛ فجداول المناوبات لا تحتاج في مراعاتها إلى عناء، وأنا مستعد لنقل جميع شكاياته إلى وزير الأشغال
أما انصراف بعض التلاميذ عن الدروس فله أسباب غير الاستقلال. وأما قوة الزعماء في عهد الاحتلال فلا ترجع لمزية أساسية من مزايا الاحتلال، وإنما هي فورة طبيعية يؤرثها الشوق إلى الاستقلال(419/13)
ويقول هذا الأديب: (الاستقلال حلو ولذيذ، ولكن. . .)
وأقول إن الاستقلال لا يوصف بأنه حلو ولذيذ أيها الفلاح الأديب، وإنما يوصف الاستقلال بأنه متعب وشاق، لأنه يفرض على جميع أبناء الأمة أن يكونوا رجالاً أقوياء، وأمناء، والتسلح بالقوة والأمانة لا ينال بغير جهاد عنيف
أما الأديب أحمد فيقول: إن صورة العبد الآمن في حمى سيده هي صورة الشعب الذي ينعم بالرغد تحت ظل الاحتلال، ثم يقول إن الاستقلال ليس وسيلة وإنما هو غاية من أبعد الغايات في الحياة
وأنا أنتظر آراء أصدقاء (الرسالة) في هذا الموضوع الدقيق على شرط أن يتركوا العبارات الخطابية، لأني أحب أن يتضح هذا الأمر بأساليب تغرس الإيمان الوثيق، مع الترحيب بالآراء التي أيدها (فلاح التوفيقية) لأن أمثال هذه الآراء تتيح فرصاً كثيرة لتبديد الشبهات التي توجه إلى عهد الاستقلال
الاحتقلال
ليست هذه كلمة الأستاذ إسعاف النشاشيبي ولا كلمة المرحوم أحمد زكي باشا، وإنما هي كلمة اللغوي المحقق الأستاذ محمد وحيد الأيوبي
الألعبان
وما دام الحديث ذو شجون فأنا أذكر نادرة تمثل أخطار الأقلام في هذه البلاد، وتبين أن عداوة الشعراء في العصر القديم ليست أخطر من عداوة الكتاب في العصر الحديث. . . والكاتب في زماننا أقدر من الشاعر على الإيذاء: لأن حرية التعبير تخلق له آفاقاً لا يصل إليها الشاعر المحبوس في قفص القوافي والأوزان، ولأن للكاتب مجالات لا يجري فيها الشاعر، وإن بالغ في التلطف والاحتيال
وكان الأستاذ وحيد الأيوبي يعادي الزعيم سعد زغلول، وكان يكتب في قدحه عبارات لذاعة تحت عنوان (الأُلعبان) أشهرها العبارة الآتية:
(ألآن، وبعد فوات الأوان، يتكلم عن السودان؟ أما أُلعبان!!!) وقد رأت (دار الهلال) أن تصدر مجلة فكاهية باسم (الألعبان) فرفضت وزارة الداخلية بحجة أن في هذا الاسم(419/14)
تعريضاً بالزعيم سعد زغلول، وسمحت بأن يحول الاسم من وضع إلى وضع فيصير (الفكاهة) لا (الألعبان)
أليس هذا دليلاً على أن الكاتب خلف الشاعر في إيذاء الرجال؟
اتقوا شر الكتاب ولا تخاطبوهم إلا باحتراس، فهم شعراء هذا الزمان!
عمود ونصف!
كانت أطول مقالة للأستاذ عبد القادر حمزة لا تزيد عن عمود ونصف، إلا أن ظرف قاهر يوجب الترسل الفياض
أكتب هذا بمناسبة خطاب أرسله إلى الأستاذ حافظ محمود سكرتير لجنة الاحتفال بتأبين صاحب البلاغ؛ ومنه علمت أن الوقت لا يتسع لكلمتي في رثاء ذلك الصديق الغالي
ولو كانت لجنة الاحتفال تعلم الغيب لعرفت أن كلمتي في رثاء عبد القادر حمزة لم تكن تزيد عن عمود ونصف، اقتداء بصاحب البلاغ في اكتفائه بعمود ونصف، وتوجيهاً لمن يفوتهم أن بعض المقامات تجعل الإيجاز أبلغ من الإطناب انظروا، ثم انظروا، أن عواقب المخلصين؟
كنت وحدي الصديق لصاحب البلاغ في كثير من العهود، وأنا اليوم لا أجد فرصة أتحدث فيها عنه بما أشاء، لأن الموت صرف عنه العداوات الوقتية؛ فأصبح أصدقاؤه يعدون بالألوف وألوف الألوف، بحيث يتعذر علي أصدق محبيه أن يودعه بكلمة رثاء في حفل مشهود
ما أسعدني بما صرت إليه يا أخي وصديقي!
لقد كنت أخشى أن تلاحقك العداوات فلا يقوم بتأبينك رجل غيري
ولكن نحن في مصر، يا أخي وصديقي، مصر التي تحفظ الجميل لأبنائها الأوفياء وإن تظاهرت حيناً بالتنكر لمجدهم الأصيل
غرائب التعابير
إن قلت: (كان المرحوم مصطفى يطالب بالجلاء، كانت (المرحوم) كلمة خفيفة في الترحم على رجل من نوادر الزعماء، وإنما ينبغي أن تقول: (كان المغفور له مصطفى كامل. . .)(419/15)
وإن قلت: (كان مصطفى رحمه الله يرى. . .) كانت عبارة (رحمه الله) عبارة جميلة. وإن قلت: (كان مصطفى كامل غفر الله له يرى. . .) كان في عبارة (غفر الله له) تعريض! فالوصف يخالف العبارة المأخوذ عنها في القيمة الأدبية، بلا موجب معقول، وإنما كان ذلك لأن التعابير لا تأخذ قوتها من المنطق في جميع الأحيان، وإنما تخضع للعرف وهو الذي يكون الإحساس
الكاتب العمومي
وحين دعى السنيور ميكلانج جويدي للتدريس في الجامعة المصرية سنة 1927 كان عليه ذوقياً أن يقول في المحاضرة الافتتاحية كلمة ثناء على مدير الجامعة والسكرتير العام، ولم يلتفت إلى اللقب الأخير من الوجهة الاصطلاحية، وإنما ترجمه عن الفرنسية فجعله (الكاتب العمومي) فضحك الجمهور، وخرج علي بك عمر رحمه الله، وهو ساخط على (ذوق) المستشرقين!
وكان علي بك عمر هو السكرتير العام للجامعة المصرية في ذلك الحين
شيطنة أدبية!
كنت قلت: إن مجلة الثقافة لا تدقق في اختيار ما تنشر من الأشعار؛ فاعترض أديب لا أسميه بأن مجلة الرسالة تقع في مثل هذا الخطأ بنشر أشعار محمود حسن إسماعيل!! والاعتراض غير مقبول، مع الاعتراف بما فيه من طرافة الشيطنة الأدبية
هل في الأدب ديكتاتورية؟
يصر الأديب عزت حماد منصور على القول بأن في مصر ديكتاتورية أدبية، وبأن الأدباء الشباب يعانون عداء من الأدباء الكهول، ثم يعجب من أن تتاح الفرصة لظهور بعض الشبان دون بعض، كالذي تصنع (الرسالة) في نشر مقالات هذا الأديب، وإغفال مقالات ذلك الأديب، بلا حدود واضحة تبين سبب النشر وسبب الإغفال
وأجيب بأن من الصعب أن أصدق أن لمجلة الرسالة نية في تقديم فريق على فريق، وإنما يرجع الأمر كله إلى (سياسة القول) فالأديب الشاب قد يتوهم أن له أن يقول ما شاء، متى شاء، بدون أن يلاحظ أن للكلام مقامات لا يدركها غير كبار العقول، وهذا هو السر في(419/16)
إغفال أكثر مقالات الشبان
وأنا أعرض الموضوعات الآتية:
1 - النص على غلطة جوهرية فيما تنشر (الرسالة) لكتابها المعروفين
2 - قديم اقتراح مبتكر لم نشره الجرائد فيما يجب لإغاثة المهاجرين
3 - إعداد بحث في تاريخ المدائن التي تعاني أهوال الحرب
4 - كلمة وجيزة عن الألفاظ التي حرفتها الجرائد أيام الثورة العراقية، مثل (باكوبا) و (فالوجا) في مكان: (بعقوبة) و (الفلوجة)
5 - كلمة في نقد أسئلة امتحان المسابقة لترقية التعليم الثانوي
6 - كلمة في التعقيب على أحاديث رئيس الوزراء بأسلوب بريء من التحامل والإسفاف
7 - مقال موجز (عن خط ستالين)
8 - كلمة عن الأماكن التي سميت باسم (ماجينو) في القاهرة قبل أن يستولي عليه الألمان
9 - قصيدة في الترحم على (قطار البحر) وأيامه البيض
10 - قصيدة في التوجع للمكاره التي تعانيها سورية ولبنان وقد أصبحتا ميادين حروب لثلاثة جيوش
11 - خبر أدبي لا تعرفه اللجنة التي ألفت لتأبين صاحب (البلاغ)
12 - أقصوصة تصور سخرية الإسكندرية من غرور المعتدين
13 - كلمة عن نوادر المخطوطات في مكتبة الإسكندرية لنسارع بنقلها إلى مكان أمين
14 - مقال وجيز تحدد به الأغراض الصحيحة لوزارة الشؤون الاجتماعية
15 - كلمة صريحة في الأسباب التي دعت إلى انصراف فريق من الشبان عن الزواج
16 - دعوة الجامعة إلى إنشاء قاعة للمحاضرات فيقلب مدينة القاهرة
أما بعد فأنا أقرر للمرة الأولى بعد الألف أن الأدب من صور الحياة، فافهموا عصركم وتأثروه، يا أبناء هذا الجيل، ليكون في أدبكم قوة وروح، ولا تصنعوا ما صنع الأديب الذي سخر منه صاحب مجلة (منبر الشرق) وقد توهم ذلك الأديب أن الكلام في اليأس والترحيب بالموت يقبل من جميع الناس وفي جميع الأحايين
بعض ما يجهل الشبان(419/17)
والشبان يتوهمون أن الكتاب المشاهير لا يرد لهم قول، وهذا خطأ فظيع، فلأولئك المشاهير مقالات يطوونها آسفين، إلى أن تسمح بنشرها الظروف
قضيت عامين كاملين في تعقب (إسكندرية أبي الفتح) ولم أر فرصة لنشر هذا البحث، لأن الأستاذ إسعاف النشاشيبي سكت عنه بعد أن تعرض له في مجلة (الرسالة) منذ ثلاث سنين
الشبان وصيد الحوت
حدثنا الأستاذ أنطون بك الجميل قال:
(كان لأحد الأدباء مقال مؤجل في جريدة الأهرام، واشتط هذا الأديب في السؤال عن مصير ذلك المقال، فقلت إن الجريدة مشغولة بقضية المؤامرات، فقال: إن موضوع مقالة أهم من تلك القضية، فقلت وما الموضوع؟ فأجاب: صيد الحوت في بحر الشمال!)
ومن المؤكد ن هذه قصة خيالية من مبتكرات رئيس تحرير الأهرام، وإن أقسم على صحتها بأغلظ الإيمان
ولكن لهذه القصة أشباه ونظائر تقع في كل يوم، فأكثر أدباء الشباب يصيدون الحوت في بحر الشمال، ولو صادوه في أيام الهجوم على النرويج لكان كلامهم فيه من ألطف ما تنشر الجرائد والمجلات
ولكنهم مع الأسف يصيدون في غير أوقات الصيد
إلى الأستاذ فريد أبو حديد
صديقي العزيز
قراء (الرسالة) يذكرون - إن كنت نسيت - أني وجهت إليك تحية خالصة بمناسبة سفرك إلى السودان، وهي تحية لم أرد بها التودد إليك، وإنما أردت بها إكرامك وإعزازك، على نحو ما أصنع في التنويه بمواطني الفضلاء حين يمضون لأداء بعض الواجبات في أحد البلاد العربية أو الإسلامية
فما الواجب للكلمة الجافية التي ندت عن قلمك في مخاطبتي؟ وكيف تصنع بنفسك هذا الصنيع فتنفر أحد محبيك بدون أن تفكر في عواقب ذلك، وقد أصلحت الأيام ما كان بيني وبينك؟ هل يؤذيك أن أثير المنافسة بين (الرسالة) والثقافة، وأنت تعرف أن المنافسة من(419/18)
أقوى الأسباب في إذكاء العزائم والعقول؟ وهل تنسى أن المنافسة بي هاتين المجلتين واقعة بالفعل وأن زملاءك في مجلة الثقافة يحسبون لها ألف حساب، ويتقون نارها بالصبر الجميل؟ وهل تنكر فضل هذه المنافسة عليك وقد أخرجتك من وقارك فقلت ما قلت في صديق لك يكن يسرك أن يثور بينك وبينه خلاف؟
ثم تنكر علي أن أوجه نصيحة إلى كتاب (الثقافة) مع أنكم استفتيتم قراءكم سنة كاملة ليدلوكم على سنن الصواب في الترجمة والإنشاء!
وشاء لك الذوق أن تدعوني إلى الحرص على جمال الأسلوب فكانت هذه الدعوة دليل الوهم بأنك صرت كاتباً له أسلوب؛ والوهم يصنع بأصحابه ما يشاء
وتلطفت فقلت: (لفت نظري أحد الأصدقاء إلى أن الدكتور زكي مبارك ذكر اسمي في شجون حديثه) فهل يكون معنى ذلك أنك لا تقرأ بنفسك، وإنما ترفع الأخبار إليك في جذاذات، كما ترفع إلى بعض المقامات؟ تواضع قليلاً، يا أستاذ فريد، ليفتح الله عليك!
وتقول إني لقيتك عفواً فحملتني تحية أهل السودان إلى الأستاذ الزيات، وأقول إني لقيتك عمداً لا عفواً لأهنئك بسلامة العودة، ولأقبس بعض ما طبعت تلك الزيارة على وجهك من نور وصفاء!
أما بعد فأنا غير نادم على التحية التي وجهتها إليك، لأني لم أكن أنتظر منك أي جزاء، ولأني أرجو أن أتحفك بمثلها في مناسبة ثانية، إن أراد الله أن يجعلك أهلاً لكرائم التحيات، ولعله يريد!
زكي مبارك(419/19)
دمشق. . .
لأستاذ علي الطنطاوي
(دمشق!). . . وهل توصف دمشق؟ هل تصور الجنة لمن لم يرها؟ من يصفها وهي دنيا من أحلام الحب وأمجاد البطولة وروائع الخلود؟ من يكتب عنها (وهي من جنات الخلد الباقية) بقلم من أقلام الأرض فان؟
دمشق: التي يحضنها الجبل الأشم الرابض بين الصخر والشجر، المترفع عن الأرض ترفع البطولة العبقرية، الخاضع أمام السماء خضوع الإيمان الصادق. . . دمشق التي تعانقها الغوطة، الأم الرؤوم الساهرة أبداً، تصغي إلى مناجاة السواقي الهائمة في مرابع الفتنة، وقهقة الجداول المنتشية من رحيق بردى، الراكضة دائماً نحو مطلع الشمس، تخوض الليل إليها لتسبقها في طلوعها؛ وهمس الزيتون الشيخ الذي شيبته أحداث الدهر فطفق يفكر فيما رأى في حياته الطويلة وما سمع، ويتلو على نفسه آيات حكمته؛ وأغاني الحور الطروب الذي ألهاه عبث الشباب ولهو الفتوة عن التأمل والتبصر، فقضى العمر ساحباً ذيل المجون مائساً عجبا وتيها، خاطراً على أكتاف السواقي وعلى جنبات المسارب ليغازل الغيد الحسان من نبات المشمش والرمان، ويميل عليها ليقطف في الربيع وردة من خدها، أو ثمرة من قلائد نحرها، ثم يرتد عنها يخاف أن تلمحه عيون الجوز الشواخص، والجوز ملك الغوطة جالس هناك بجلاله وكبريائه، ولا جلال ملك تحت تاجه، وعاهل فوق عرشه
دمشق: التي تحرسها (الربوة) ذات (الشاذروان)، وهي خاشعة في محرابها الصخري تسبح الله وتحمده على أن أعطاها نصف الجمال حين قسم في بقاع الأرض كلها النصف الثاني. . . وما الربوة إلا حلم ممتع غامض يغمر قلب رائيه بأجمل العواطف التي عرفها قلب بشري فيذكر كل إنسان بليالي حبه وساعات سعادته، ثم يتصرم الحلم ويستحيل إلى ذكرى حلوة لا تمحوها الأحداث ولا تطغى عليها سيول الذكريات. . . الربوة: لحن من ألحان السماء ألقته مرة واحدة في أذن الأرض. . . الربوة هي الربوة لمن يعرفها وكفى! دمشق من أقدم مدن الأرض وأكبرها سناً وأرسخها في الحضارة قدماً. كانت مدينة عامرة قبل أن تولد بغداد والقاهرة وباريس ولندن، وقبل أن تنشأ الأهرام وينحت من الصخر وجه أبي(419/20)
الهول، وبقيت مدينة عامرة بعد ما مات أترابها واندثرت منهن الآثار، وفيها تراكم تراث الأعصار، وإلى أهلها اليوم انتقلت مزايا كل من سكنها في سالف الدهر، ففي نفوسهم من السجايا مثل ما في أرضها من آثار التمدن وبقايا الماضي طبقات بعضها فوق بعض. . . فالحضارة تجري في عروقهم مع الدماء، وهم ورثتها وحاملو رايتها، وهي فيهم طبع وسجية؛ ولقد تكون في غيرهم تطبعاً وتكلفاً، فأي مدينة جمع الله لها من جمال الفتوة وجلال الشيخوخة كالذي جمع لدمشق؟
وأصعد جبل دمشق حتى تبلغ قبة النصر (التي بناها برقوق سنة 877 للهجرة ذكرى انتصاره على سوار بك). ثم انظر وخبرني هل تعرف مدينة يجتمع منها في منظر واحد مثل ما يجتمع من دمشق للواقف عند قبة النصر؟ أنظر تر البلد كله ما يغيب عنك منه شيء: هاهنا قلب المدينة وفيه الجامع الذي لا نظير له على وجه الأرض - لا أستثني ولا أبالغ - وقبة النسر تعلو هامته كتاج الملك، بل كعمامة الشيخ، وهاهي ذي مناراتها التي تعد مائة وسبعين منارة، منها عشرون من أعظم منارات العالم الإسلامي، قد افتن بناتها في هندستها ونقشها، فاختلفت منها الأشكال واتفقت في العظمة والجلال، لا كمآذن بغداد التي لا يختلف شيء منها عن شيء، فإذا أبصرت منها واحدة، فكأنما أبصرتها جميعاً. . . يحف بذلك كله الغوطة الواسعة التي تبدو للناظر كأنها بحر من الخضرة قد نثرت فيها القرى التي تنيف على الأربعين عدا، أكبرها (دوما) ذات الكروم، (وداريا) التي تفاخر بعينها كل أرض فيها عنب، (وحرستا) بلد الزيتون ومنبت الإمام محمد صاحب أبي حنيفة، (وجرمانا) وهي حديقة ورد، وكفرسوسية، وكفربطنا، والأشرفية، وصحنايا، والمآذن وهي ماثلة خلال الأشجار، ووراء الغوطة سهول المزة عن اليمين، وسهل القابون عن الشمال، وبطاح من الأمام، وسهول تمتد إلى الأفق، حيث تغيب الجبال البعيدة في ضباب الصباح، ووهج الظهيرة، وصفرة الطفل، وسواد الليل. . .
إنك تشمل هذا كله بنظرة منك واحدة وأنت قائم مكانك، فأين يا صديقي القارئ ترى مثل هذا؟
وبردى؟ لما قدم شاعر العرب عاصمة العرب ومر على بردى وهو يمشي بين قصر أمية ودار البلدية مشية العاجز الهرم، قال له صاحبه مستقلاً بردى مستخفاً به: أهذا الذي ملأت(419/21)
الدنيا مدحاً له؟ يظن صاحب شوقي أن النهر بكثرة مائة وبعد ضفتيه. ما درى أن بردى هو الذي يجري في الوادي زاخراً متوثباً نشيطاً لا الذي يجري في (المرجة) متهافتاً كليلاً، وأنه هو الذي أطعم دمشق الخبز، وهو الذي زرع بساتين الغوطة، وهو الذي أنار دمشق بالكهرباء وسير فيها وفي غوطتها (الترام)، وهو الذي لا تضيع قطرة منه واحدة على حين تمر دجلة على بغداد مر الكرام، تقرأ عليها السلام. . . ثم تحمل خيرها كله لتلقيه في البحر، لا تمنح بغداد منه إلا ما تأخذه بالمضخات والنواعير التي لا تسير إلا بمال. فمن رأى مثل بردى (في بره بأرضه وكثرة خيراته) نهراً؟ من ذاق أطيب من مائه؟ من أبصر أجمل من واديه؟. . .
لقد علم أبناءه الولع بالخضرة والظلال، وحبب إليهم أفانين الجمال، فصارت (السيران) من مقومات الحياة في دمشق لا تحيى أسرة إلا بها، ولا تستغني عنها، فهي لهم كالغذاء، فهل يستغنى عن الغذاء؟ هل يمكن أن يجيء يوم صائف من أيام الشتاء فتبقى دمشقية أو يبقى دمشقي في بيته لا يؤم (المهاجرين)، حيث يجتمع الشعاف والصخور وفي ظلال الآس الرجال والنساء على طهر وعفاف، وتدور أكواب الشاي (الأخضر) خمر المسلمين، وتنطلق بالغناء الساحر أوتار الحناجر وتجري خيول السبق في ساحة الجريد؛ ثم جاء وقت الصلاة قاموا إليها فلا ترى إلا جماعات وأئمة، ثم ينفض اجتماعهم عن طرب وفروسية وعبادة، وتلك هي المثل العليا لأهل الشام
وهل تمر أمسية من أمسيات الصيف على دمشقي قاعد في دكانه أو قابع في بيته؟ تعال انظر جماعاتهم في قهوات (شارع بغداد) وفي كل قهوة مؤذنها (إي والله) وإمامها. وعلى ضفاف بردى عند (صدر الباز) وفي (الميزان) أجمل موضع في دمشق، وأمامهم سماورات الشاي الصفر الرشيقة، وفي كل حلقة مغنيها، وليس مثل الشاميين في الولع بالغناء، فلا ينفرد الرجل بنفسه إلا غنى لها؛ فالفلاح وهو نازل من قريته مع الفجر يغني، والحوذي وهو يسوق عربته إلى (جسر تورا) أو إلى (كيوان) يغني، وأجير الخباز وهو يحمل المعجن على رأسه يغني، ونداء الباعة كله غناء وشعر. . .
قف ساعة على ظهر الطريق واسمع ما ينادي به الباعة تر عجباً لا شبيه له في البلاد؛ قصائد من الشعر غير أنها مرسلة القوافي، وطرائف من الغناء غير أنها محلولة القيود،(419/22)
تمشي إلى القلوب طليقة حرة لا تسمى شيئاً باسمه؛ وإنما هي مجازات وكنايات، عجب منها بعض من كتب عن دمشق من سياح الإفرنج فتساءل في كتاب له عما نظم للباعة هذه الأشعار الرقاق! وتعال استمع هذا البائع وهو يتغنى بصوت يقطر عذوبة وحناناً (يا غزل البنات، يا ما غزلوك في الليالي، يا غزل البنات) ويضغط على (الليالي) ويمد (البنات)، هل يستطيع قارئ أن يؤشر يحرز ماذا يبيع هذا المنادي! لا لن أقول فتعالوا إلى دمشق لتأكلوا غزل البنات. . . وهذا بائع يهتف بكلمة واحدة لا يزيد عليها (الله الدايم) هل يقنع في حسابك أنه يبيع (الخس)، وأن (يا مهون يا كريم) نداء بائع (الكعك) عند الصباح، وأن من الباعة من ينادي بالحكم الغوالي كهذا الذي ينادي: (ويل لك يا ابن الزنا يا خاين) فيفهم الناس أنه بائع (الترخون)
أولا يشجيك ويثير سواكن أشجانك بائع العنب حين تدنو أواخره فينادي بصوت حزين (هدوا خيامك وراحت أيامك. ما بقى في الكرم غير الحطب يا عنب، ودع والوداع لسنة يا عنب) ألا تحس كأنه يودع حبيباً له عزيزاً عليه؟ وبائع العسل (أي الشمندر) وقد أوقد ناره في الصباح البارد، ووضع (حلته) وصفف رؤوس الشمندار الأحمر ونادى في أيام الشتاء (بردان! تعال صوبي بردان. . . أنا بياع العسل) ألا يجيب إليك أكل العسل؛ واسمع العجائب في نداء بائع الملفوف (اليخنا): (يخنا واطبخ، والجارية بتنفخ، والعبد عَ الباب، بِقلْع الكلاب) وبائع الحمص المسلوق (البليلة): (بليلة بلبلوك، وسبع جوار خدموك، يا بليلة)، وبائع الزعرور (أبيض أحمر يا زعبوب؛ تمر محنى يا زعبوب، البزر يا زعبوب)، واستمع إلى الشعر والخيال في نداء بائع الجرادق (يا ما رماك الهوا، وقلبي انكوى، يا ناعم). وبائع التين (دابل وعلى دبالك يا عيون الحبيب، ومن دباله يمشي لحله)؛ وبائع الباذنجان (أسود ومن سواده هرب الناطور) ألا تعجبك صورة الناطورة وقد هرب من سواد الباذنجان؟
وهذا كله كان من ولع الشاميين بالغناء وإقبالهم عليه حتى انعقد إجماع فقهاء الذوق فيهم على أنه يصيح اجتماع أو سمر إلا بالغناء؛ وإذا سها عنه ساه، فكفارته إطعام عشرة أصدقاء صدر كنافة شامية، أو صدر (كل واشكر) أو غير ذلك من الحلويات التي لا يخالف أحد في أن دمشق أبرع مدينة في صنعها. واسألوا محل (أسدية) في القاهرة، ومطعم(419/23)
الفردوس في بغداد، واذكروني بالخير، فإن الدال على الخير كفاعله
والدمشقيون أكرم الناس، وأشدهم عطفاً على الغريب، وحباً له، فهم يؤثرونه على الأهل والولد؛ ومدينتهم من أنظف المدن لتدفق مائها وكثرة أنهارها، ووصولها إلى الأحياء كلها ودخولها البرك في الدور، حتى لا يخلو حي من نهر. فنهر (يزيد) يسقى الصالحية، و (تورا) يسقى العقيبة وسوق صاروجا، و (باناس) يسقى، القيمرية، و (قنوات) يسقى حي القنوات، وقد أخذت مياه عين الفيجة (وهي أصفى العيون وأعذبها تنبع من جبل على عشرين كيلاً من دمشق) فسيرت مياهها في بطون حتى أبلغت دمشق فأدخلت دورها، فشرب منها الناس أعذب ماء وأبرده. والشاميون مولعون بالنظافة والطهارة، حتى أنه ليعد من أكبر عيوب المرأة ألا تغسل أرض دارها كل يوم مرة أو مرتين بالماء غسلاً وتمسح جدرانه وزجاجه، على رحب الدور الشامية، واتساع صحونها، وكثرة مرمرها ورخامها. وادخل المساجد تر بلاطها يلمع كالمريا، ويحبب الصلاة إلى من ليس من أهلها. وعرج على المطاعم تبصر الأطعمة مصفوفة أمامك في القدور الصغار النظاف بأناقة تجيع الشبعان، ونظافة تطمئن إليها نفس الموسوس. أما ألوان الطعام في الشام فلا يضاهيها شيء في غيرها، وما أكل الغريب في دمشق حلواً ولا حامضاً ولا حاراً ولا بارداً إلا استطابة على طعام بلده، وما استطاب الشامي في غير بلده طعاماً قط. ومن خير مطاعم مصر والعراق، وألذها طعاماً وأحسنها نظاماً، ما كان صاحبه شامياً أو كان على مذهب أهل الشام. ثم إن خدم المطاعم والقائمين عليها طيعون أذكياء، وهم يدركون باللمحة السريعة، ويفهم بالإشارة الخفية.
ودمشق أرخص بلاد الله وفيها النعيم المقيم ولا تخلو من ثمر قط لا في الصيف ولا في الشتاء. أما جودة ثمارها فأشهر من أن تذكر؛ وفيها من العنب ما يزيد على خمسين نوعاً، ومن المشمش تسعة أنواع، ومن التين قريب من ذلك، ومن الدراق والكمثرى والتوت الشامي والجوز واللوز ما لا يوجد مثله في غيرها
والدمشقيون أهل براعة في الصناعة وعندهم من المعامل الكبيرة معمل للإسمنت عظيم (في دمر ظاهر دمشق) ومعمل للأقمار (الكونسروه) لا نظير لما يصنعه. ومعمل للدباغة كبير، ومعمل للجوخ، ومعامل كثيرة لا تحصى للمنسوجات القطنية والصوفية والحريرية(419/24)
والجوارب (والكرافات)، ومعمل للزجاج، ومعامل صنعت أكثر من أنواع الأدوية وحكم الأطباء بجودة ما تصنعه، ومعامل لأنواع السكاكر والمربيات (والشوكولاته). وفي دمشق مدرستان للعلم الديني فيهما أكثر من خمسمائة طالب متعمم فضلاً عن الصغار، ومدرسة للطب تدرس العلوم كلها بالعربية؛ ولأساتذتها فضل كبير على ما وضع من المصطلحات العلمية في لغة العرب. وفيها مدرسة للحقوق العربية. وفيها أنشئ أول مجمع علمي عربي صحيح. وفي الشام كثير من الآثار الباقية من القرون الخالية: كالقلعة والسور، والمدارس، والمارستانات، والمساجد القديمة، والربط والخانات، ولكل من ذلك حديث طويل وتاريخ حافل، ولكن الإدلاء الجاهلين لا يعرفونها ولا يدلون السياح عليها. وفيها مدافن كثيرين من أعلام الإسلام في السياسة والعلم والأدب والتصوف. وفي مكتبتها الظاهرية نوادر المخطوطات، حتى أنها لتعد أغنى الخزائن الإسلامية فريدة. ودمشق ذاخرة بالعلماء في كل فن وعلم
وليس للعروبة مثل دمشق موئلاً وملاذاً، وليس في المسلمين مثل أهلها تمسكاً بالدين وإقامة لشعائره، فمساجدها ممتلئة أبداً؛ فيها كل شاب متأنق تراه فتحسبه من شراب مياه التايمس أو السين، وهو مسلم حقاً، مؤمن صدقاً، ناشئ في طاعة الله؛ ومساجد بلاد العرب إن امتلأت فبالشيوخ والشيب!
والمنكرات في دمشق مقموعة وأهلها الأذلاء. وللعلماء العقلاء المخلصين منزلة عند أهل دمشق ليس لأحد من أبناء الدنيا مثلها. والسفور في نساء الشام قليل نادر، والاحتشام والستر عام شامل. وأهل الشام كالماء لهم في الرضا رقته وسيلانه، وفي الغضب شدته وطغيانه، بل كان لهم من البركان فوراته وثوراته
وبعد فأي مزاياك يا دمشق أذكر، وإلى أي معاهدك أشتاق، وأيها أحن إلى حسنه وأهيم بجماله، وفيك الدين وأنت الدنيا، وعندك الجمال وعندك الجلال، وأنت ديار المجد وأنت ديار الوجد، جمعت عظمة الماضي وروعة الحاضر، وسيكون لك المستقبل. . . المستقبل لك يا دمشق، عشت وعاش بنوك والسلام عليك ممن غربته عنك وأنكرته، وأشقيته بالوفاء حين أسعدت بالغدر الغادرين
علي الطنطاوي(419/25)
من دموع عذراء
العبير النائح
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
إِنَّي أَرَاكِ كَزَهْرَةٍ ... في الْغابِ نَائحَةِ الْعَبِيرْ
مَذْعُورَةِ الأكمامِ بَيْ ... نَ خُطَا السَّمائِمِ والهجيِرْ
عَذراءُ يَتَّمَهَا الْخَري ... فُ فلا ظِلالَ ولا غَديرْ
سَكَنَتْ كَطَيْفَ مُعَذَّبٍ ... وَهَفَتْ كآهَةِ مُسْتَجِيرْ
وَدَنَا الظَّلاَمُ فَلَفَّهَا ... في ثَوْبِ مَحْزُونٍ كَسِيرْ
فَكأَنَّهَا في لْيلهِ ... سِرٌّ يُغَلِّفُهُ الضمِيرْ
وَكَأَنَّهَا في فَجْرِهِ ... حُلمٌ يَطِيرُ وَلا يَطِيرْ. . .
ياَ لْيتَني كُنْتُ الظِّلاَلْ
أَوْ كُنْتُ يَنْبُوعَ التِّلاَلْ
لَسَكَبْتُ عُمْرِيَ في الرِّمالْ
رُوحًا يُرَفْرِفُ كالْخَيَالْ
يَسْقيكِ مِنْ شَفَةِ الرَّبي ... ع رَحِيقَ فِتْنَتِكِ النضِيرْ
وَيُحيِلُ مَهْدَكِ جَنَّةً ... لِلْحُبِّ وَالهة الأَثِيرْ
أَنَا في رُباَهَا نَسْمَةٌ ... بِسِوَى ضِفَافِكِ لا تَسِيرْ!
أَنَا في ثَرَاَها جَدْوَلٌ ... لِصِبَاكِ رَقْرَاقٌ نَميرْ!
أَنَا في شَذَاهَا نَفْحَةٌ ... عِطْرُ الْخُلودِ بها أَسِيرْ!
أَنَا في سَماها كَوْكَبٌ ... في بُرْجِهِ بكِ يَسْتَنِيرْ!
أَنَا في هَوَاهَا قُبْلَةٌ ... حَرَّى مُخَلَّدَةُ السَّعيرْ
سَتَظَلُّ في شَفَتَيْكِ لا ... تَرْوَي إلى اليَوْم الأخيرْ
محمود حسن إسماعيل(419/27)
من حديث الثغر الحزين
للأستاذ عماد الدين عبد الحميد
في مثل هذه الأيام من كل صيف مضى، كان الناس - أو قل كان من الناس من تسمح لهم مقدرتهم وأوقاتهم بقضاء اشهر أو أسابيع أو أيام مع عروس البحر الأبيض كما يدعونه - يرون الإسكندرية، وقد بدت عروسا سعيدة في اكمل زينة أبهى منظر
كان هؤلاء يلجئون أليها، هاربين من حرارة الصيف لا يطيقونها، يرجون عندها معاني الراحة والاطمئنان، وينشدون فيها الهناءة والسعادة. فتتلقاهم الإسكندرية مرحبة بهم، مكرمة لهم، باذلة كل جهد لتكون عند حسن ظنهم بها، غير مترددة في أن تظهر أمامهم - أو بهم - في صورة من الحرية المرحة أو السرور المطلق، نازعة عنها قيود التقاليد الموروثة، متحملة كثيرا من أنواع النقد اللاذع، يتقاذفها كخظم هائج لا كموجها الهادئ. . . حين تسرف في إكرامهم، ولكن في ألوان المتعة الساخرة الساحرة!
كانوا يلجئون إليها في مثل هذه الأيام من كل صيف، يقاسمونها ما وهبها الله من نعمة الطبيعة، ويشاركونها فيما منحتها الطبيعة من سحر، ولا أنكر انهم كانوا يعطونها شيئا ما مما أعطتهم الأيام، ولكنهم كانوا أخيرا يتركونها إلى حيث يعودون جميعا، وقد بقيت وحدها حتى الصيف التالي رمزا للعبث كما يراها بعض من الناس، أو صورة لأمنية سعيدة في خيال بعض آخر لم تحقق له الأيام رجاءه من القدرة على أن يكون من روادها السعداء
يعودون، لتستقبل جماعة منهم العمل، ولتستقبل جماعة أخرى أنواعا جديدة من لذة الشتاء، وتبقى أذهان هؤلاء وأولئك ثملة برحلة الصيف، سكرى بذكرياتها، تستمد من تلك الذكريات الجميلة عونا على قضاء الأيام حتى تستقبلهم الإسكندرية مرة أخرى، طروبا ساخرة
اشهدوا الإسكندرية كرقصة مرحة صاخبة يأخذ كل قادر منها بنصيب، ثم لا يهدأ إلا ليأخذ منها بنصيب جديد. . . واسمعوها كأغنية عذبة طويلة من مطرب موهوب محبوب، لا تكاد تنتهي حتى يرجو السامعون لو أعيدت من جديد. . . وحتى بعد أن قضى على أنوارها الباهرة بان تلبث ثوبا من الزرقة القاتمة منذ سنين. اسمعوها في الليل كقطعة موسيقية صامتة تلعبها أنامل عازف ماهر على أوتار القلوب!(419/28)
اشهدوها واسمعوها كذلك، ثم انظروها وقد لبست في هذا الصيف ثوب الحداد على شهداء أعزاء. . . واسمعوها، اسمعوا منها تلك الأغنية العذبة، وقد تبدلت فجأة، فإذا هي عويل وبكاء. . . وأنصتوا لموسيقاها الصاخبة، وقد أضحت لحنا حزينا خافتا بين الأطلال. . .
اسألوا هؤلاء الذين كانوا بالأمس يسعون إليها هربا من حرارة الجو. . . ماذا قدم لها اليوم حين سعت إليهم هربا من جحيم الشيطان!
اسألوا هؤلاء ماذا قدموا من خير - وهم قادرون - للأمهات الحزينات فقدن العائل وفقدن الأبناء!
اسألوهم ماذا قدموا من عون لليتامى، وقد هاموا على وجوههم حائرين، ضلوا سبيل الحياة!
اسألوهم ماذا قدموا من مالهم لمن صار محروما!
اسألوهم ماذا قدموا من مقدرتهم لمن اصبح عاجزا!
اسألوهم ماذا قدموا من قوتهم وصحتهم لمن صار ضعيفا عليلا!
اسألوهم ماذا قدموا من خبزهم للجياع، وماذا قدموا من كسائهم للعرايا. . . وماذا قدموا من دورهم للمشردين!
بل سلوهم ماذا قدموا من كلمة مواساة لهؤلاء، علها أن تخفف شيئا من وقع المصاب!
ترى هل يجيبون. . .؟ يقينا انهم لا يجدون الجواب!
فكم منهم ذكر الإسكندرية في محنتها بشيء؟ بأي شيء ذكروها هذا البعض القليل الذي ذكر. . .؟!
أيتها الدنيا: انك لغادرة خادعة!
فليست هذه مقدرتهم التي عرفناها في ميادين اللهو واللذة والمتعة الفاجرة. . . وليست هذه وجاهتهم التي عرفناها في قصورهم وحيث يحيون!
وأنت أيتها الإسكندرية: انهم لم يحبوك في يوم من الأيام. . . ولكنهم احبوا لذتهم ولهوهم، واحبوا عندك الظهور والكبرياء!
انهم لم يعطوك، حين كانوا يعطونك كل صيف مما وهبتهم الأيام، لرغبتهم في أن ينالك شيء من خيرهم، ولكنهم لو استطاعوا لأخذوا كل ما لديك لأنفسهم. واذهبي أنت مع الريح!(419/29)
أيتها الإسكندرية، اغضبي من اليوم عليهم. اغضبي غضبة لا تعرف الهوادة ولا تعرف اللين، فليسوا جديرين بعطف منك ولا وفاء! ولتغضب مصر جميعا لغضبة الإسكندرية، لتغضب. . . فأنا نحب الخير ونحترم مثلهم، ولسنا عبيد الألقاب، ولسنا قطيعا في مزرعة الوجهاء.
إن للفقراء حقا مشروعا في رقاب الأغنياء. طلبوه اليوم منهم فأنكره هؤلاء. . . فليذهب كل ما كان لهم في نفوسنا من حب، وليذهب كل ما كان لهم فيها من تقدير. . .
ولتبق نكبة الإسكندرية ماثلة في أذهاننا دائما، لتذكرنا بأن للإنسان حقوقا طبيعية في المجموع الذي يعيش فيه.
تتمثل هذه الحقوق - أول ما تتمثل - في أننا يجب أن نسعى إلى حياة معتدلة، فيها رخاء لنا جميعا، وتحصين لنا جميعا. فلا تعيش طائفة جاحدة منا عيشة فائقة الثراء. . . وتحيا أخرى حياة الأغنام!
أيها العاجزون المحتاجون المنكوبون، لا تفكر طويلاً في عطف القادرين. . . أيها الفقراء، لا تثقوا كثيرا في قلوب الأغنياء. . . فلا يعرف الألم إلا من قاساه في يوم من الأيام. . .
(حلوان)
عماد الدين عبد الحميد(419/30)
الله!. . .
لشاعر الحب والجمال لامرتين
بقلم الأستاذ محمد أسعد ولاية
(لما وجه لامرتين هذه الأبيات إلى (لامنيه) كان يومذاك على اتصال به منذ أمد قريب حيث استهواه الباب الأول من بحث ديني في (النكران) عام (1817)، فأنشأها خلال رحلة قام بها علي جواد بين باريس وديجون في الأيام الأولى من مايو عام (1819). وهذه القصيدة التي ترتبط بنوع تعليمي تكاد تشتمل على أروع أبيات تحدد وتصف القدرة الإلهية، وينذر أن يستند الشعر الفلسفي إلى إلهام متقد إلى هذا الحد)
(إلى الراهب ف. د. لامنيه)
نعم، إن روحي لتبتهج بالتحلل من قيودها:
طارحة عِبْء البؤس البشري،
تاركةً حواسي تهيم في هذا العالم، عالم الأشباح،
حيث أصعد إلى عالم الأرواح بدون عناء.
هنالك أطأ تحت أقدامي هذا العالم المنظور،
وأرتع حراً في ساحات الخفاء.
إنَّ روحي لتضيق في سجنها الرحب،
إنني في حاجة إلى مقر لا أُفٌقَ له
كقطرة ماءُ صُبَّتْ في المحيط،
يستغرق الخُلدُ في كنفه تفكيري،
هنالك ملكة الفضاء والخلود
وهي تجرؤ على استكناه الزمن والعام اللانهائي
تقترب من العدم، وتطوف في الوجود
وتعرف من الله الجوهر الغامض.(419/31)
بيد أنني حينما أريد تصوير ما أشهر به
تتلاشى جميع العبارات كمجهودات فاشلة،
تعتقد روحي أنها تتحدث ولساني متلعثم،
يصفع الهواء عشرين صفعة خيال تفكيري.
لقد خلق الله للأرواح لغتين مختلفتين:
في نبرتين تاريخيتين إحداهما في الهواء،
وهذه اللغة المحدودة معروفة للناس
وهي تفي باحتياجات المنفي الذي نحن فيه
وتتكيف طبقاً للضربات القاتلة من تقلبات القدر،
فتبدل مع الأجواء أو تذهب مع الزمن.
أما اللغة الخالدة الأخرى النبيلة الجامعة اللانهائية؟
فهي اللغة الموهوبة بجماع الذكاء:
ولم تكن قط نبرة مائتة تذهب هباءً مع الهواء
إنها تعبير حي يُسمعُ في القلب:
فهي تُسمعُ وتُشرحُ وُيتحدثُ بها مع النفس،
وهذه اللغة الشعورية تخلب وتضيء وتلهب
وليس للنفس لكي تُعبِّر عن خَطَراتها الملتهبة
سوى تنفس الصعداء والحماس والوثوب.
هذه هي لغة السماء التي تنطق به الصلاة،
ولغة المحبة المفعمة بالحنان في الحياة الدنيا
في المناطق الطاهرة حيث أحب أن أطير،
يبعثني الحماس أيضاً على كشف أسرارها.
هو وحده سراجي في هذه الليلة الظلماء،
وهو الذي يفسر لي العالم أحسن ما يفسره العقل.
تعال إذن! إنه دليلي، وأريد أن أخدمك.(419/32)
على أجنحتها النارية تعال واختطف!
هاهو ظل العالم قد أمحى عن أعيننا.
إننا نهجر الزمن ونجول في الفضاء:
وفي نظام الحقيقة الأبدي، هانحن أولاء وجهاً لوجه أمام الحقيقة!
وهذا الكوكب الفرد، الذي لا زوال له ولا فجر،
إنه الله، هو رب كل شئ، الذي يقدس نفسه!
كل شيء من فضله: الكون والزمن،
ومن وجوده الخالد، جميع العناصر الصافية.
اللانهاية مداه، والأبدية عمره،
النهار نظرته، والعالم ظله.
جميع الوجود يبقى تحت ظل يده
فالكائنات الطافية على أمواج الأبدية التي تجري من فيضه،
كنهر يتغذى من هذا المنبع الذي لا ينضب له معين،
يختفي في ويؤول إلى الفناء، بينما كل شيء يبتدئ.
إن صنعه الكامل إلي لا حد له مثله،
يمجد حين يوجد، اليد التي صنعته:
يحشد الخلق في الخلد بين زفرة وأخرى،
فهو إذا شاء قال: كن فيكون.
كل شيء منه وإليه
إرادته المقدسة هي شريعته الإلهية
ولكن هذه الإرادة التي لا ظلَّ لها ولا خوَر،
هي في وقت واحد: القدرة والإرادة والعدل والحكمة.
كل ما عساه أن يكون يجري فق إرادته
وكذلك العدم ينهض بمقدار:
الذكاء والحب والقوة والجمال والشباب،(419/33)
هو قادر على منحها بلا انقطاع دون أن ينضب له معين.
وهو يغمر العدم بنعمة القيمة
وأقرب علامات وجوده أنه يستطيع أن يخلق آلهة!
ولكن هؤلاء الآلهة من صنع يده، والأبناء من قدرته،
من شأنهم أن يبرهنوا على وجوده الخالد،
وهم يميلون بطبعهم إلى الإقرار بوجود خالقهم.
إليه مرجعهم جميعاً وهو وحده الكافي!
هذا هو الله الذي تعبده جميع النفوس،
والذي دان له (إبراهيم)، واهتدت إليه بصيرة (فيثاغورس)
وأشاد بذكره (سقراط)، ولمس وجوده (أفلاطون).
هذا الإله الذي أظهر الكون للعقل حقيقة،
والذي تنتظره العدالة، ويرجو لطفه الشقاء،
والذي دعا إليه عيسى فوق الأرض!
ولم يعد من أثر للإله الذي تصنعه يد الإنسان،
ذلك الإله الذي عبر عنه النفاق الخاطئ،
ذلك الإله الذي شوهت حقيقته يد الكهنة الزائفين،
والذي كان يعبده أسلافنا السذَّج وهم يرتعدون
إنه وحيد. إنه واحد، إنه عادل، إنه حميد
ترى الأرض صنعه، وتعرف السماء اسمه!
سعيد من يعرفه، وأسعد منه من يعبده!
هو الذي، بينما الناس في جحود أو إنكار،
يظل وحده في مصاف مصابيح الليل القانتة،
ينهض في المحراب حيث يجتذبه الإيمان؛
ويلهج بالمحبة والشكران،
ويحرق روحه كالبخور في حضرته!(419/34)
ولكن لكي تصعد إليه أنفسنا المحطمة
يجب أن تمنح أعلى قوتها وفضيلتها.
ينبغي أن نطير إلى السماء على أجنحة من اللهب،
فالرغبة والحب هما جناح الروح
آه لِمَ لَمْ أولد في مستهل الخليقة البشرية؟
حين لم تكد تنتشر من بين يديه،
قريباً من الله قرباً زمنياً، وأكثر قرباً بالطهر،
حيث تناجيه الخلائق، وتسير في حضرته!
لِمَ لمْ أر العالَم منذ بزوغ شمسه الأولى!
لقد كان كل شيء يحدثه عنك، وكنت أنت نفسك تناجيه،
وقد كان الوجود يلهج بجلالك المقدس،
وكانت الطبيعة الخارجة من أيدي الخالق،
تنشر بكل المعاني اسم منشئها:
هذا الاسم الذي حجب منذ أجيال سحيقة،
فإذا به يتلألأ في روعة أكثر بريقاً فوق مبتدعاتك:
ولم يَتَطّلعْ الإنسان فيما مضى إلا إليك،
فكان يدعو ربه، وكنت تقول: (أنا هو)
لقد تفضلت فتعهدت بمناجاتك تعليمه زمناً طويلاً كما يتعبَّد الطفل،
وبعد زمن طويل اقتضت مشيئتك أن تهديه سواء السبيل
وقد تجّلت له عظمتك مرة،
في أودية سِنّار،
في حرج عُرَيْب بصحراء سينا،
أو على قمة الجبل المقدس
حيث أملي موسى على العبريين شرعيته الجليلة!
وهؤلاء أبناء يعقوب أول مواليد البشر،(419/35)
ظلوا يتلقون المن من يديك أربعين عاماً،
وكنت توقظ نفوسهم بآيتك الحية،
وكنت توحي أمام أعينهم بلغة المعجزات،
وعندما نسوك، تنزلت ملائكتك
وأعادت إلى قلوبهم الحائرة ذكراك.
ولكن أخيراً، كنهر بُعد عن منبعه،
ذهبت هذه الذكرى الصافية في سبيلها،
ومن هذا الكوكب القديم أخبا ليل الزمان المظلم المناطقَِ المضيئة تدريجياً.
لقد أمسكت عن المناجاة، فالنسيان ويد الأجيال
غفلا عن هذا الاسم العظيم الذي تتسم به بدائعك،
ولقد أضعف مرور الأجيال الإيمان،
ووضع الإنسان الشك بين العام وبينك.
نعم، هذا العالم يا مولاي قد أصابه الهرم بالنسبة لعظمتك،
لقد نسىَ اسمك وأثرك وذكراك
ولكي نستعيدها يجب علينا أن نمتطي من جديد نهر الأيام موجة فموجة.
أيتها الطبيعة، أيها الفلك! عبثاً تراكما العين.
وا أسفاه بدون أن يرى الإنسان الله يمجد المعبد،
إنه يرى وعبثاً يتتبع آلاف الشموس،
التي تجري في صحاري السماوات جرياناً عجيباً،
إنه لم بعد يعترف باليد التي تحركها.
معجزة أبدية لم تعد معجزة.
إنها تسطع في الغد كما كانت تسطع بالأمس!
من يدري أين تبتدئ طريقها الجليل؟
من يدري إذا كان هذا السراج (الإيمان) الذي يتلألأ ويثمر قام للمرة الأولى في العالم؟
إن آباءنا لم يشهدوا قط سطوع دورته الأولى،(419/36)
والأيام الخالية لا يعرف لها أول قط.
عبثاً توحي عنايتك الإلهية
تجليك في هذه التطورات العظيمة على العالم المعنوي،
إن من تدابيرك أن ينتقل صولجان الملك عبثاً
بين البشر من يد إلى أخرى،
إن أعيننا التي ألفت تقلبها،
قد جعلت من العظمة عادة فاترة،
وكم شهدت الأجيال
كثيراً من تقلبات القدر الذكرى!
لقد قَدُمَ الدورُ، والإنسان الجامد في غفلة
أيقظنا أيها الإله العظيم، أوْح وبدَّل العالم،
أسمع العدَم كلمتك المثمرة
لقد آن الأوان، فانهض وتجاوز هذا الهدوء الطويل
اخلق عالماً آخر من هذا الفضاء الآخر.
إن أعيننا الغافلة لتفتقر إلى مشاهد أخرى
وإنَّ نفوسنا الشاردة لتحتاج إلى معجزات أخرى
بدل نظام السماوات التي لم تعد تحدثنا!
واقذف بشمس أخرى لأعيننا الحائرة
حطم هذا القصر القديم غير الجدير بعظمتك،
أقبل، وتجل أنت - أنت سبحانك - واحملنا على أن نؤمن
ولكن ربما قبل الأوان حيث في صحاري السماوات
ستكف الشمس عن إنارة الوجود
ومن هذه الشمس المعنوية (الأيمان) قد انكسف الضوء.
وسيكف رويداً رويداً عن إنارة التفكير،
واليوم الذي سيغدو فيه هذا الصباح محطما(419/37)
سيُغمس العالم في ليل أبدي!
إذن أنت ستحطم ما خلقت.
وهذا الحطام المنهار سيردد عنك جيلا بعد جيل:
(إنني الوحيد! وكل ما عداني لا يستطيع الدوام! فالإنسان الذي ينقطع عن الإيمان، ينقطع
عن البقاء!)
(الإسكندرية)
محمد أسعد ولاية(419/38)
للحق والتاريخ
2 - عبد القادر حمزة باشا
وما ذكره عنه الذاكرون في حفلة التأبين
((قومية) بحثه وراء (الحقيقة) في التاريخ المصري القديم. .)
للأستاذ محمد السوادي
احتفل أهل الرأي وذوو المكانة وأبناء الفكر في عاصمة مصر بتأبين الفقيد من أيام، فرددت جنبات القاعة الثقافية التذكارية في الجامعة الأمريكية مواهب الراحل ومناقبه، جرت نثراُ على ألسنة هيكل ومنصور فهمي وأباظة وآخرين، وجرت شعراً على ألسنة العقاد ومطران ومحرم وآخرين
ومن الرابع عشر من هذا الشهر تحتفل أسرة الفقيد بإحياء ليلة الأربعين، فيذكر الذاكرون أن أربعين يوماً مرت على آخر عهد لمصر بابنها (الممتاز) الذي وقف عليها ما أوتي من جهود، وسخر في سبيلها ما آتاه الله من فضل وفن ومميزات رقت به إلى مستوى فريد ومقام ملحوظ وأحب بدوري أن أختار هاتين الملائمتين - التأبين والأربعين - لأثير ناحية من أدب الفقيد تمشي وما ذكره الذاكرون من الشعراء والناثرين، فقد ذكروا الخدمات التي أداها عبد القادر حمزة التي أحبها فعاش لها، مصر الحديثة في جهاده السياسي والصحفي والأدبي، ومصر القديمة التي بعثها بعثاً رائعاً في كتابه (على هامش التاريخ المصري القديم). هذه الناحية التي احب اليوم أن أغزوها أو أجلوها هي (قومية البحث عند عبد القادر حمزة وراء الحقيقة في التاريخ المصري القديم)
وأحب أيضاً أن أسجل أسفي على فقر مصر الحديثة من ناحية المؤسسات العلمية التي تفزع إليها الأمم النهضة لقدر القيم العلمية لجهود الأفراد قدرها الحق؛ ولو أن مصر كانت مثرية في هذه الناحية ثراء الأمريكيين والأوربيين، لهبت هذه المؤسسات إثر وفاة العظيم تتناول مخلفاته بالبحث ولرأينا الجمعيات التاريخية تتوفر على الجانب التاريخي منها فتجلوه. المحاضرون من أعضاء المؤسسة بمحاضراتهم، والباحثون بالكتب التي يصدرونها بسطاً لهذه الجهود وتأييداً أو تفنيداً، أما وقصارى جهدنا أن يجتمع بعض الناهضين -(419/39)
واجتماعهم مشكور لهم ومحمود - لتأبين العظيم الراحل، فقصور من ناحية النهضة العلمية خاصة والفكرية عامة يثير الأسف، ويبيح للناقد أن يلقي المسؤولية على الدولة ورجال الفكر أنفسهم
وهذه الناحية التي وقع عليها اختياري لتكون موضوع مقالي، هي الناحية التي كنت أود لو كانت من نصيب أساتذة النقد والتاريخ في إحدى المؤسسات العلمية، لأنها ناحية لها من الجلال والقيم ما ينوء به كاهلي وتنوء به جهودي
ولكني سأحاول:
و (القومية) في البحث، نقص من ناحية وكمال من ناحية: نقص من ناحية (الحقيقة) العلمية والتاريخية، لأنها - أي القومية - لون من ألوان التعصب يجافي أهداف الباحث وراء (الحقيقة) في ذاتها ولذاتها، وكمال من ناحية (الوطنية) التي تطالبنا بتغليب الصالح الوطني في الغاية والشعور العاطفي في التحليل على إدراك هذه الغاية
وإذن (القومية) ليست لها قيمة ثابتة، وإنما تختلف قيمتها باختلاف وجهة النظر إليها
و (الحقيقة) نفسها لها ميزاتها ولها مساوئها، أما الميزات تنحصر في القداسة التي تحوط الباحث، وفي الجمال الذي يحيط اللثام عنه يوم يدرك هذه (الحقيقة)، وفي الجلال الذي يشعر به يوم يرى نفسه وقد تجرد من كل تأثر شخصي أو عائلي أو قومي فأخذ مكانه فوق المستوى العادي وتطلعت الإنسانية المشوقة إلى الحقائق إلى حيث يقيم هذا الباحث داخل برجه العاجي. وأما مساوئ هذه الحقيقة فتنحصر في مرارتها وأثر هذه المرارة في الجماعة التي ينتمي إليها الباحث، وضرر هذه المرارة بالوطن أو بالأفراد أو الباحث نفسه. وحسبك أن تتصور نفسك الآن وقد جابهت أمتك حكومة وشعباً بالحقائق العارية فنشرت كتاباً ضمنته نقائصهم أفراداً وجماعة كما تعرفها أنت وكما أعرفها أنا، ثم تتصور نفسك وقد استاقك الجند إلى المحقق وزج بك المحقق في السجن، واستنكر تصرفك الرأي العام، واتهمك بالمروق من دين الوطنية كل وطني
من هذا ترى أن (القومية) نقص من بعض النواحي، و (الحقيقة) نفسها مريرة ولا أقول (نقص) من بعض النواحي، فإذا وجد الرجل إلي يجد في البحث وراء (الحقيقة) خالصة ليربح جلالها وليبرز جمالها وليساهم بهذا الجهد في الترقي الإنساني، ثم استطاع هذا(419/40)
الرجل أن يخرج بنتيجة (نظيفة سليمة) من الناحية العلمية ومؤدية إلى خدمة بلاده، ثم تبين أن (القومية) هي التي دفعت به من البداية إلى هذا ابحث الذي التزم فيه جادة الحق وصادق النهج، فمن حقه على بلاده أولاً وعلى الإنسانية ثانياً أن يأخذ مكانه بين الخالدين
وأنا مؤمن بأن عبد القادر حمزة كان (هذا الرجل). . . في كتابه الأخير
ويحضرني الآن لإيضاح الفكرة مثل أضربه لها من (القومية) في (الفلسفة الوطنية الاشتراكية) في (ألمانيا النازية) فقد وضع (روزنبرج) وغيره من فلاسفة العنصرية الآرية مجلدات ضخمة سخروا فيها العلم لإثبات أن الجنس الآري سيد هذه الدنيا، وأعداد (الرسالة) الفائتة تتضمن بحوثاً طلية في فلسفة هذه (الوطنية الاشتراكية) وكلها توهم بأن أصحابها إنما يبحثون وراء (الحقيقة) فهل يمكن القول بأن هذه البحوث من النوع الذي نعنيه بـ (قومية البحث وراء الحقيقة)؟
كلا. . . إنما حشد هؤلاء الفلاسفة (معلوماتهم) وجندوا (مواهبهم) لإخفاء وجه (الحقيقة) لا لاجتلائه، ولتسخير هذه (المواهب والمعلومات) في إلباس الباطل ثوب الحق، وفي استخدام الحد الثاني من سلاح المنطق، وفي ارتداء أزياء الفلاسفة وهم في حقيقتهم دعاة سياسيون، ولتضليل (الفكر) بإقناع (المفكرين) بصواب ما تذهب إليه (العنصرية الآرية)
هؤلاء هم أعداء (الحقيقة) وأعداء المعنى الذي نعنيه ونحن نقصد إلى أصدقاء (الحقيقة) ونرمي إلى التدليل على أن (عبد القادر حمزة) المصري أحد هؤلاء الأصدقاء
نريد أن ندلل الآن على ثلاثة أمور:
أولها: أن عبد القادر حمزة إنما أتجه إلى دراسة (التاريخ المصري القديم) بحثاً وراء (الحقيقة) في ذاتها ولذاتها كما اتجه (أبناء هذه الحقيقة) في مختلف العصور
ثانيهما: إن هذه الدراسة ملأنه - كمصري - زهوا بمصريته فكان هذا الشعور منه إيذاناً بالقومية التي حالفته في بحثه
ثالثها: أن عبد القادر حمزة (مؤلف كتاب على هامش التاريخ المصري القديم) قرن بين الحقيقة والقومية فجمع بينهما جمعاً عادلاً ولم يغلب القومية على الحقيقة وإنما وجد في إبراز هذه الحقيقة إثباتاً لهذه القومية ففعل
هذه هي الأمور الثلاثة التي أريد أن ادلل على صحتها لأخرج منها بنتيجة تعزز موضوع(419/41)
هذا البحث
ولأعد بالقاري إلى الكلمة التي قدم بها الفقيد للجزء الأول من كتابه لنستمع إليه وهو يقص علينا بداية شغفه بدراسة التاريخ المصري القديم فنرى أنه زار الأقصر في سنة 1924 ليشاهد قبر الملك (توت عنخ آمون) فزار قبور وادي الملوك والملكات والدير البحري ومعبد الكرنك ووقع في يده كتاب (طيبه للأستاذ كابار مدير معهد الآثار المصرية في بروكسل فقرأه فخيل إليه أن الآثار التي مر بها مرور الطير أخذت تتجسم وأن الحياة أخذت تدب فيها فحفزها إلى زيارة الأقصر مرة أخرى زيارة مشوق إلى الحقيقة وأصبح (يهمه أن يدرس ما فيها من الآثار وعدت من هذه الزيارة وقد ازددت شغفاً بمصر القديمة فأحسست رغبة قوية في زيارة المتحف المصري، مع أنني كنت قد زرته من قبل مرتين فجعلت أزوره من جديد زيارات كان لها في نفسي معنى جديد)
هكذا كانت البداية، بداية رجل شغفته آثار مصر القديمة حباً فرغب في دراستها، والبحث عن وجه (الحقيقة) فيها فمتى إذن انتقل به البحث إلى (القومية)، أو متى تسلطت على دراساته (قومية البحث)؟
يجيبك هو على هذا السؤال فيقول:
(وتكررت زيارتي للآثار وانكببت على المؤلفات التي وصفها علماء المصرولوجيا، فكنت كلما أوغلت فيها شعرت كأن مصر تكبر في عيني وكأني بذلك زهواً)
من هنا بدأت بذور القومية تنمو في نفس الرجل، ولكن هذا النمو في (البذور) يحتاج إلى كثير من (الماء) و (السماد) ليستقيم العمود ويبسق فارعاً في الفضاء. . . فما كان ماؤه وما كان سماده؟ كان لابد للرجل من (الغضب) ليكون (تعصب) ولتكون (حماسة) وليكون (إصرار) على إبراز فضائل مصر. . . وقد (غضب) الرجل الذي لا يغضب غضباً ظاهراً، واستبنا منه هذا الغضب من خلال قوله:
(وأخذتني الدهشة من أننا ونحن أبناء مصر هذه لا نعرف عنها هذا الذي يعرفه الأجانب، ولا نعجب بها هذا الإعجاب الذي يبذله لها الأجانب، ولا نغرم بمجدها وتقصى خفاياه هذا الإغرام الذي يقبل عليه ويرتاح له الأجانب)
من العبارات السابقة وضحت القومية؛ ولكن العبارة الأخيرة توضح حالة الاقتران بين(419/42)
(القومية) و (الحقيقة) أو مطالع هذا الاقتران، لأنه لم يقل أنه عجب - أو غضب - فحسب، ولكنه اعتزم البحث وراء هذا المجد و (تقصى خفاياه) والتقصي - علمياً - هو لباب البحث وراء (الحقيقة)
وبدأ الرجال يقرأ مختلف المؤلفات مرات ومرات، فكان يفهم في المرة الثانية ما يبهم عليه في الأولى، وينفذ في الثالثة إلى ما يغيب عنه في الثانية. وانقضت سنوات حتى اختمرت الدراسات في ذهن هذا (الباحث المنطقي المرتب)، وبدأت (النتائج) تطل من (المقدمات) على الصور الني انحاز بها ذهنه في استخلاص الحقائق. . . هذه الصور التي رددتها إلى عناصرها في بحث لي نشرته (الثقافة) الغراء
وبدأ الرجل تجربته الأولى بنشر فصول في (البلاغ) في سنة 1934، وتجربته الثانية بنشر فصول أخرى في سنة 1938 وأخيراً رأى أن يخرج كتابه الأخير
وهو لم يقل أنه أدى لتاريخ مصر القديم كل حقه، بل اعترف بأن هذا التاريخ بحر خضم ولم يسعه هذا الوصف إنشاء أو إسرافاً في الإنشاء كم ألفنا نحن الكتاب، بل عقب على الوصف بما يثبته فقال: (لأنه تاريخ أربعة آلاف سنة أو أكثر فليس يوفي حقه في كتاب ولا في كتب، وقد كتب فيه العلماء الأجانب بعد كشف اللغة المصرية في سنة 1822 م مئات من الكتب، وهم إلى اليوم كلما كتب واحد منهم وجد جديداً، وكلما ضربت فأسه في أديم مصر خرجت بجديد، فلا مناص من أن أكتفي في كتابي هذا بأطراف، وإذا أراد الله فسأتبع هذه الأطراف بأطراف وأطراف). ولكن الله لم يرد، فلا حول ولا قوة إلا بالله
وأدع الآن مهمة (التطبيق) إلى المقال الآتي إن شاء الله وأختم مقال اليوم بكلمة تثبت لك دافع الفقيد إلى الأخذ بالقومية في البحث بعد أن دفعته الآثار عن الحقيقة فيها
لاحظ الفقيد حقائق مريرة حفزته إلى البحث وراء الحقيقة أولاً وحملته على أن يقرن بينها وبين القومية أخيراً. . . ومن هذه الحقائق ما يأتي:
أولاً: لاحظ أن جميع المصريين يجهلون تاريخهم مع الأسف
ثانياً: أنهم لم يقرءوا منه وقت تحصيلهم العلم غير أشياء ضئيلة مبهمة
ثالثاً: أنهم لا يجدون بعد وقت التحصيل مؤلفات عربية في هذا التاريخ تجذبهم إليه
رابعاً: إنهم يعرفون عن اليابان في آسيا وكندا في أمريكا وعن إنجلترا أو عن فرنسا في(419/43)
ماضيها وحاضرها أكثر ما يعرفونه عن مصر (وبهذا تنقطع الصلة بين مصر القديمة ومصر الحديثة ويمتنع علينا أن نأخذ من أمسنا ليومنا وغدنا والإنسان الذي يعيش مقطوع الصلة بأمسه كالنبات ينمو ثم يموت، وكأنه لم يوجد)
خامساً: إن الناشئ في إنجلترا أو فرنسا أو في ألمانيا (ينشأ وتاريخ بلاده يسايره في كل سنة من سني تعليمه فلا يكاد يغادر مقاعد الدرس حتى تكون نفسه انطبعت بطابع ما في هذا التاريخ من عظمة وجمال. ومن هذا الانطباع يتولد حب خاص للوطن وتتولد رغبة في محاكاة أبطاله وينمو تبعاً لذلك الشعور بالقومية. . . الخ)
سادساً: إن الكتاب اليونانيين والرومانيين الذين زاروا مصر وكتبوا عنها في ما بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد شحنوا كتاباتهم بأشياء لم يفهموها فألبسوها لباس الغرابة والخرافة. مثلهم في ذلك كمثل الذين يزورون مصر الآن من الأجانب فيدعون عليها دعاوي لا وجود لها، وإن هذه الكتابات التي كتبها أمثال هيكاتي دي ميل وهيرودوت وسترابون وديودور الصقلي وكليمان الإسكندري وبلوتارك، كانت المرجع الوحيد لمعرفة مصر القديمة منذ ضاع سر اللغة المصرية إلى أن كشفه شامبوليون الشاب
وضع الفقيد أمامه هذه الملحوظات الست وخرج منها بأن (الحقيقة) ضائعة فيجب إيجادها، و (القومية) ضعيفة فيجب إنماؤها، أما (الحقيقة) فهي أن مدينة مصر لم تقم كما اعتقد المؤرخون الأجانب (على أساس من الخرافات والعقائد الفاسدة) بل قامت كما دلل هو (على أساس علمي وخلقي صحيح).
وإلى اللقاء حيث ندرس معاً (بالتطبيق) الطريق التي سلكها في البحث والنتائج التي خرج بها و (النظافة) العلمية التي حالفته في أثناء هذا البحث.
محمد السوادي(419/44)
على شاطئ الحياة
شاعر غريب. . .
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
رَائِدُ الليل خلْفَ وَهْم بَعيدِ ... وخيالٍ من الأماني عنيدٍ
وغريبٌ يرى الصباحَ غريباً ... في حياةٍ كلْيلهِ المعقودِ
وَلْوَلَ القيْدُ في يديه وصاحتْ ... في شَرَايينِهِ دِماءُ الشهيدِ
قلمٌ كان بسمةً في فمِ الدُّن ... ياَ فماتت على فمِ الغِرِّيدِ
أقفرتْ روحُه وغاصتْ معاني ... هِ وأمسى على الثَّرى فضلَ عُودِ
وبقايا حشاشةٍ تتلوَّى ... تحتَ حَرِّ الجوى وَبَرْدِ الوعودِ
جَفَّ حتى أنكرتُهُ وهو مِنِّي ... شَبَحُ الأمِّ من خيالِ الوليدِ
جَفَّ حتى أنكرتُهُ وهو مني ... صورةُ القُرب من فؤاد العَميدِ
آهِ من آهةٍ بقلب شريدٍ ... ضلَّ في ذلك المَتَاهِ الشريدِ
نحن في عاَلمٍ حُماداه أنا ... قد نسينا به معاني الوجودِ
أتكون القبور أضيق أم تِلْ ... كَ الفيافي لساهدٍ يَرْقُودِ؟
وارتقابُ الجحيم أم ذلك الرُّعْ ... بُ بحرٍ مُسَمَّمٍ محدود؟!
وعواءٌ الضِّباع بالليل أم جَرْ ... سُ الأفاعي مُصَلْصِلاً من بعيد
وجماهير من عقاربَ رُعْنٍ ... شائلاتٍ أذنابها كالبُنُودِ؟!
تَلسبُ الحيَّ والجمادَ كما اسْتَل ... هَمَ أعمى عصاه فوق الصَّعِيدِ
كل يومٍ لنا فنونُ دفاعٍ ... في نزاعٍ على البقاءِ الكسيدِ
تتبارى مع الطبيعة والأو ... هامِ والخوفِ والدجى والبيد
ظلماتٌ يَجْثُمْنَ خلفَ دَياج ... ورعودٌ يَجْأَرْنَ إثْرَ رُعُودِ
أين حربُ الأعصاب من هذه الحر ... بِ تلظَّتْ في ليلها الموعود
أعُواء المدافِع الشُّكْسِ أم زَأْ ... رُ غَضُوبٍ على الرُّبى شُحْدُودِ؟
يوقظُ الليلَ كله ويكاد الْ ... فَجْرُ يَنْشَقُّ في النُّجُودِ
وَسِمَامُ الغازات أم ذلك الصِّ ... لُّ بِقَرْنَيْهِ لابداً في الْحَريدِ(419/45)
آهِ من آهةٍ بقلب شريدٍ ... ضلَّ في ذلك المتاهِ الشريد
من أباح الشذا وكان حراماً ... وحشة الرَّوض أم بكاءُ الورودِ
والذي أَسْلَم العنادلَ للذلِّ ... هواها. . . أم كبرياءُ النشيد
لهف نفسي على ورود القوافي ... يذبل الوردُ في القِفار ويودى
خطراتٌ يَلمعْنَ في ذلك القَفْ ... رِ كماءِ في الصَّخرةِ الصَّيْخُودِ
حرَّ قلبي عليك يا مصر يا مَه ... بِطَ وَحْيِ ويا مَرادَ قصيدي
يا لياليَّ (بالْحُسَينِ) أعيدي ... بسمة الدهر واخطري من جديد
قد بكى النايُ في يد العازف النَّا ... ئي، وَأَنَّتْ أوتاره من بعيد
نحن في شاطئ الحياة حيارى ... قد أقمنا على ضِفافِ الوجودِ!
عنيبة (الدر)
طاهر محمد أبو فاشا(419/46)
حينما تغمضين عينيك
للأستاذ العوضي الوكيل
حينما تغمضين عينيك هاتي ... نِ على فتنةٍ وروعةِ سحرِ
ما الذي تشهدينَ في صفحةِ الآ ... فاقِ مما أدري وما لستُ أدري؟
هل تشيمين في الخيال فرادي ... س نشيدٍ معطَّرٍ بكِ نَضْرِ
هل تشيمين مهجتي تَتلقّا ... كِ وتهفو إلى سناكِ وتَسْري
أنا وحدي الذي يراك من الغي ... ب بِفكْرٍ يدقْ عن كل فِكر
فاشهدي هناك أنتهل الح ... ب وآوي مع المساء لوكْرِي
حينما تغمضين عينيك هاتي ... ن على فتنة وروعة سحر
تستجيبُ الشفاهُ جفنيك لثماً ... فكأني لثمتُ روحاً بِثغري
وأرى الحسنَ كيف يأسر نفسي ... ثم يُلْقِى الفَنَّ الجميلَ بِشِعْرِي
يا فتاةَ الأحلام لو لم أعاصِرْ ... كِ لأحسست باليبابِ بعَصْري
ولآنستُ في خيالي وجوداً ... لك يا بهجة الخيال لعمري!
ولأغمضت مقلتيَّ وشاهد ... تُ بعينيَّ ما يجنُّ ويُغْرى
العوضي الوكيل(419/47)
البريد الأدبي
جواب
يا سيدي الفاضل، قلتُ يقال للشيخ عجوز وللشيخة عجوز وعجوزة
يا سيدي قال الإمام ابن الأنباري: يقال عجوزة بالهاء لتحقيق التأنيث، وروى عن يونس أنه قال سمعت قول العرب عجوزة بالهاء.
(وحيد)
تعليم القراءة والكتابة
كان معالي وزير المعارف قد أصدر قراراً بتأليف لجنة لبحث كتب التهجي والمطالعة التي بأيدي المبتدئين في المعاهد المختلفة لمعرفة مدى فائدتها في تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة، ونقدها من جميع نواحيها، ووضع طريقة لتعليم التهجي والمطالعة تكون سهلة جذابة خالية من العيوب التي قد تنطوي عليها الطرق المتبعة الآن، ووضع كتب للتهجي والمطالعة العربية تفي بالغرض المقصود
وقد انتهت هذه اللجنة من وضع تفريرها، ورفعته إلى معالي وزير المعارف. وكان مما جاء في هذا التقرير أن كتب التهجي والمطالعة المستعملة الآن فيها بعض العيوب التي قد تعوق الطفل عن التقدم في القراءة والكتابة، وتحول بينه وبين الوصول إلى النتيجة المرغوبة في زمن وجيز
وقد اقترحت اللجنة اعتماد الأسس الآتية:
أولاً: تربية الحواس عند التلميذ وتقوية ملاحظته اللغوية، وذلك بالبدء بدروس المحادثة الشفوية على أن تدور حول ما يقع تحت حسه، مع ملاحظة أن يكون المنطق سليما قدر المستطاع
ثانياً: متى مرن الأطفال على نطق الكلمات وأصوات الحروف انتقل المعلم بهم إلى تعليم التهجي والكتابة والمطالعة بواسطة الطريقة الصوتية فيبدأ بأصوات الحروف التي تقسم إلى طوائف ومجموعات متشابهة، ولا تعطى دفعة واحدة، ويبدأ بالحروف التي لا تتصل بما بعدها، أو بالحروف المتجانسة في كتابتها(419/48)
ثالثاً: بعد تعليم الأطفال مجموعة من هذه الحروف تؤلف لهم منها كلمات سهلة واضحة، ثم جمل قصيرة
واقترحت اللجنة أيضاً تجريب الطريقة (الكلية) التي أجمع على استحسانها علماء النفس في الوقت الحاضر وأساسها أن العقل يدرك الأشياء على هيئة وحدات كلية ذات معنى، وأما إدراك تفاصيل هذه الوحدات فإنه يأتي متأخراً. وأوصت بأن يكون تجريب هذه الطريقة مبدئياً في روضة واحدة من رياض الأطفال
التأريخ عند العرب
طُلب الدكتور زكي مبارك أن يحقق أحد كتاب (الرسالة) تأريخ العرب قبل هلاك أصحاب الفيل، وقال: هل يمكن الوصول إلى معرفة ما كانوا عليه (أي العرب) في التأريخ قبل أن ترج أذهانهم واقعة الفيل؟
وقد بسط القول فيها المبحث العلامة المؤرخ شمس الدين السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) المطبوع بدمشق الشام سنة 1349 فنجتزئ بما يأتي منه:
أما التأريخ الجاهلي فقد روى ابن الجوزي من طريق عامر الشعبي قال لما كثر بنو آدم في الأرض وانتشروا وأرخوا من هبوط آدم فكان التاريخ إلى الطوفان، ثم إلى نار الخليل، ثم إلى زمان يوسف، ثم إلى خروج موسى من مصر ببني إسرائيل، ثم إلى زمان داود، ثم إلى زمان سليمان، ثم إلى زمان عيسى عليهم السلام وقد رواه محمد بن إسحاق ابن عباس
وفيه أقوال أخر: منها أنه كان من آدم إلى الطوفان، ثم إلى زمان نار الخليل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بناء البيت، ثم إلى معد بن عدنان، ثم إلى كعب بن لؤي، ثم من كعب إلى عام الفيل. قال الواقدي
وعن بعضهم: كان بنو إبراهيم يؤرخون من نار إبراهيم إلى بنيان البيت حين بناه إبراهيم وإسماعيل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت حتى تفرقوا فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد وفهد وجهينة بني زيد من تهامة، حتى مات كعب بن لؤي فأرخوا من موته إلى الفيل، ثم كان التأريخ من الفيل حتى أرخ عمر من الهجرة، وذلك في سنة ست عشرة أو سبع عشرة أو ثمان عشرة(419/49)
ومنها: أن حمير كانت تؤرخ بالتبابعة وغسان بالسند، وأهل صنعاء بظهور الحبشة على اليمن، ثم بغلبة الفرس. ثم أرخت بالأيام المشهورة: كحرب البسوس وداحس والغبراء وبيوم ذي قار والفجار ونحوه، وبين حرب البسوس ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم ستون سنة
أحمد صفوان
1 - لابن المقفع لا للخليل
ورد في مقال الزواج للأستاذ الكبير العقاد أن الخليل ابن أحمد أجاب وقد سئل في قرض الشعر: أن الذي يرضاه لا يجيئه، وأن الذي يجيئه منه لا يرضاه!
وقد قال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين (الجزء الأول ص 151) في سياق الحديث عن السر في تبريز الأديب في فن من فنون الأدب وتأخره في فن آخر: وكان عبد الحميد الأكبر وابن المقفع مع بلاغة أقلامهما وألسنتهما لا يستطيعان من الشعر إلا ما لا يذكر مثله. وقيل لابن المقفع في ذلك فقال: (الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه). وإني لأحس أن أستاذنا العقاد تطمئن نفسه إلى موافقة الجاحظ، ولأن يصدر هذا الكلام من أديب كبير وكاتب عظيم كابن المقفع أقرب إلى الذوق الأدبي من أن يصدر من إمام لغوي نحوي كالخليل
2 - شاعر وناقد
فيما دار بين الأستاذين الشاعرين من نقاش حول موضوع الرحلات العربية مسألتان نحويتان أرى الحق في جانب الأستاذ رضوان في الأولى، كما أراه في جانب الأستاذ عبد الغني في الأخرى، وإلى القارئ البيان:
1 - قال الأستاذ عبد الغني في مقاله الرحلات عن البيروتي (. . . ويعد كتابه الثاني - تاريخ الهند - أوفى مرجع عن بلاد الهند وأملأ كتب الأسفار تعريفاً بها)
وهذا تعبير شاذ لأن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه ولا تصح العبارة إذ صيغت (أملأ) إما من الخماسي، وإما من الثلاثي المبني للمجهول، لأن الكتاب مملوء لا ماليء، والمصوغ منهما شاذ كما هو معلوم من القواعد النحوية التي يجب العمل بها لأنها تستقر إلا بعد(419/50)
البحث واستقراء الكلام الصحيح. فالصواب ما قاله الأخ رضوان وهو: وبعد المؤلف أملا المؤلفين لكتابه تعريفاً بالأسفار. . .
2 - قال الأستاذ عبد الغني أيضاً: (وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب إلا أنها لم تكن منتجة بالنسبة للرحلات والأسفار). وقد طالبه زميله بإعرابها وبيان جواب إذا وتخريج الاستثناء. وإني أقول للزميل الفاضل: إن هذا التعبير صحيح وارد في كلام العرب، فجواب إذا الذي يبحث عنه ويشتاق إليه محذوف أغنت عنه جملة الاستثناء، وجملة أضافت. . . خبر كان، وأما جملة الاستثناء ففي محل نصب كما وضح ذلك ابن هشام في المغنى. ثم اسمع ما قال الخضري على ابن عقيل عند الكلام على قول ابن مالك (ومفرداً يأتي ويأتي جملة) - ص 93 - وتأمله يطمئن قلبك: (استشكل وقوع الاستدراك خبراً نحو: زيد وإن كثر ماله، لكنه بخيل، مع وروده في كلامهم، خرجه بعضهم على أنه خبر عن المبتدأ مقيداً بالغاية، وبعضهم قال الخبر محذوف والاستدراك منه).
وإلى الأستاذين الفاضلين تحيتي وتقديري.
3 - النحو في الكلام كالملح في الطعام
غمض على حضرة الأديب احمد الشرباصي هذا المثل المشهور رغم وجه الشبه واشكل عليه ما كتبه الخطيب القزويني في كتابه الإيضاح، فنسب الأديب المثل الى الخطأ والفساد ولم يرى المخرج من الحيرة إلا تحريفه عن الحكمة القائلة: الهزل في الكلام كالملح في الطعام. وأقول إن هذا المثل صحيح لا غبار على صحته لأن مراعاة قواعد النحو مصلحة للكلام لاشك في هذا، كما ان وضع الملح في الطعام مصلح له. فوجه الشبه - وهو الإصلاح بغض النظر عن القلة والكثرة - جلي واضح، وهذا هو نفسه قول الخطيب (فالوجه كون الاستعمال مصلحا والإهمال مفسدا) وهو وجه الشبه إلا المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه.
وأما الحكمة القائلة: الهزل في الكلام. . . فالوجه فيها هو التحسين والتمليح ولا يراد فيها الإصلاح (وإن كان ذلك من ضرورات التحسين) لأنه لا يشترط التشبيه ان يشترك طرفاه في كل أمر من أمورهما، فإذا شبهنا شخصا بالأسد لا نريد إلا الجراءة بصرف النظر عن(419/51)
غيرها من الصفات، وقس على ذلك مثلنا الذائع الصيت بين علماء البلاغ القدامى والسلام على سيدي الأخ ورحمه الله.
بداري علي بداري
مدرس اللغة العربية باسيوط الصناعية
تصويب:
ختم الدكتور زكي مبارك مقاله المنشور بالعدد (417) من (الرسالة) بقول الله تعالى: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون). والصواب: (ينقلبون) من غير سين
حول إبعاد الحيز:
تضمنت الفصول التي نشرتها لي (الرسالة) الغراء بعض الأخطاء التي لا يحسن السكوت عليها، ولذا نصلحها دفعا للبس ومحافظة على دقة العلم وأمانته:
أهديت الفصول إلى الأستاذ الفاضل منصور جرداق: (لا جردان ولا جوداق كما وردت خطا)
(ص 737 ع 1 س 18) سقطت كلمة (مصهورة من العبارة: وهذه الروايات تتميز اول ما تتميز بالفكرة العلمية (مصهورة) في بوتقة الأدب الحي. . .
(ص 741 ع 2 س 6) وردت كلمة (جعفر) وصوابها (جلفر) إشارة إلى: '
(ص767 ع 2 س 25) تصلح العبارة هكذا: أما حقيقتها فهي الاندماج في وحدة (الزمكان) كاندماج الماء والملح في الماء الملح
(ص 768 ع 2 س 2) وردت كلمتا السبب النسبي والصواب (النسبية) الناموس المشهور.
(ص 768 ع2 س 9) سقطت إشارات تفقد العبارة التالية معناها: المسافة=الزمن السرعة=الجذر التربيعي لمجموع مربعات الأبعاد الثلاثة.
(ص 768 ع2 س25) مسرعة خطأ وصوابها سرعتها
(ص 769 ع 1 س 3) تبدل علامة السلب (-) في قانون فتزجيرلد بعلامة المساواة (=)
(ص 769 ع 2 س2) وحدة (الزمكان) وليس الزمان
(ص795 ع1 س 17) وردت كلمة علوي وصوابها عمودي(419/52)
(ص 795 ع 2 س 16) اسم الكتاب هو:
(ص 795 ع 2 س 29) الصواب (دكستروز
(ص796 ع 1 س 2) ترجمة الضوء المستقطب هي:
(ص 797 ع 1) وردت كلمة ستيد مرتين ولا حاجة بي للقول إن صوابها (سليد) كما جاءت في مرة سابقة
هذا عدا بعض أخطاء بسيطة نغلفها لأنها ليست في صلب الموضوع والسلام.
خليل السالم(419/53)
القصص
الشارب
للقصصي الفرنسي جي دي موبسان
عزيزتي لوسيا:
لا جديد عندنا. نحن نقضي أوقاتنا في غرفة الاستقبال، نتلهى بالنظر إلى المطر وهو يتساقط، وحيث أنه يتعذر الخروج في هذه الأيام العابسة، فإننا نتسلى بتمثيل رواية هزلية، ولكن. . . ما أسخف الروايات التي أعدت لتمثل في الدور، كما وردت في القائمة الحالية!؟
إن كل ما فيها سمج، متكلف، غليظ!. . . ولا يقل فعل النكات التي تشتمل عليها عن فعل القنابل. إنها تحطم كل شيء مع إنه ليس فيها أدنى أثر لا للذكاء ولا للدعاية ولا للباقة!
حقاً إن رجال الأدب لا يعرفون شيئاً عن العالم! إنهم ليجهلون كل الجهل كيف نفكر وكيف نتكلم! فإذا أجزنا لهم أن يمقتوا عاداتنا ومواضعاتنا فلا يسعنا أن نجيز لهم أن يجهلوها. وهم إذا أرادوا التدليل على براعتهم وحذقهم لعبوا بالكلمات لعباً غريباً من شأنه أن يزيل غضون ثكنة بأسرها! وإذا أرادوا بعث السرور لجئوا إلى طائفة من النكات. . . لا أشك لحظة أنهم إنما جمعوها من الشارع. . . من تلك الحانات التي يدعونها (حانات الفنانين)، حيث تتكرر منذ خمسين عاماً ذات النكات، فتناقلها الطلاب ويتوارثونها. . .
اذن نحن نتسلى بتمثيل رواية هزلية، ولما كان تمثيلها يقتضي وجود سيدتين، فقد قبل زوجي أن يقوم بدور الخادم، ولذلك اضطر أن يحلق شاربه. وليس في استطاعتك يا عزيزتي (لوسيا) أن تتصوري مقدار التغير الذي طرأ على زوجي بعد حلق شاربه. . . إنني لا أكاد أعرف. . . لا ليلاً ولا نهاراً!
وإذا لم يترك شاربه ينمو من جديد، فالمرجح أنني لا أتردد في خيانته لشدة ما يبدو لي دميما بدون شارب!
والحقيقة أن الرجل لا يعد رجلاً بدون شارب! أنا لا أحب اللحية كثيراً لأنها تكاد تدل على الإهمال دائماً، أما الشارب. . . أوه الشارب! فإن وجه الرجل لا يستطيع الاستغناء عنه أبداً!
كلا! لا يمكنك أن تتصوري قط إلى أي درجة تبدو هذه الفرشاة الصغيرة من الشعر(419/54)
ضرورية للنظر. . . ولاسيما للعلاقات الزوجية!
ولقد عرضت لي في هذا الموضوع طائفة من الخواطر لا أجرؤ على التعبير عنها كتابة، برغم استعدادي التام لاطلاعك عليه شفاهياً بصوت خافض وبسرور وافر
إلا أنه قد يتعذر أحياناً العثور على كلمات تصلح للتعبير عن بعض الأشياء؛ وأكثر هذه الكلمات التي لا يمكن الاستعاضة عنها بغيرها تتخذ على القرطاس صوراً فضيةً لا أقوى معها على أن أخط شيئاً منها. . . ثم إن الموضوع نفسه من الدقة والصعوبة بحيث يتطلب لباقة شديدة لمعالجته بدون التعرض لخطر
وأخيراً ماذا يمكنني أن أفعل إذا كنت لا أقدر أن أجعلك تفهمينني جيداً؟
ولكن اجتهدي يا عزيزتي أن تقرئي السطور!
أجل. عندما أبصرت زوجي بدون شارب أيقنت للحال أنه يتعذر علي أن أحب ممثلاً أو مبشراً. . . حتى وإن كان الأب (ديدون) نفسه أوفر المبشرين جمالاً وأشدهم إغراء إذا كان حليق الشارب!
وعندما خلوت بزوجي كانت المصيبة أعظم!. . . أوه يا عزيزتي لوسيا لا تسمحي قط لرجل حليق الشارب أن يقبلك إذ لا يكون لقبلاته أدنى طعم!. . . مطلقاً!. . . مطلقاً!. . . فليس في قبلاته ذلك الفلفل. . . نعم إن الشارب هو فلفل القبلات وبهارها!
تخيلي رقاً جافاً أو رطباً يلامس خدك: هذه هي قبلة الرجل الذي يحلق شاربه. . . إنها بدون شك لا تساوي شيئاً!
وقد يخطر لك أن تسألينني: من أين يستمد الشارب إغراءه إذن؟ وهل تحسبينني أعرف ذلك؟
أول كل شيء الشارب دغدغة لذيذة جداً. . . تحسينه قبل الثغر، فيبعث في جسمك كله من قمة رأسك إلى أخمص قدميك رعشات سحرية تجتاحك كالتيار الكهربائي. . . فالشارب هو الذي يداعب البشرة، وهو الذي يجعلها ترتعش وتختلج، وهو الذي يبعث في الأعصاب ذلك التنميل العذب الذي يجعلك تتنهدين (آه)، كما تفعلين حين يهز جسمك برد قارس!
وعلى النحر! هل اتفق لك أن أحسست بالشارب يدغدغ نحرك؟ إن دغدغته هذه لتسكرك وتشنج أعصابك، وإنما لتنساب في ظهرك إلى أن تبلغ أطرافك، فتتلوين وتحركين أكتافك(419/55)
حركة خاصة، وتلقين رأسك إلقاءة خاصة أيضاً، وترغبين رغبة قوية في الفرار والبقاء معاً. . . إن قبلة كهذه لتستحق العبادة لشدة ما تبعثه من اللذة وما تحدثه من إثارة وتهيج
وعدا ذلك. . . حقاً إني لا أجرؤ على. . . إن الرجل الذي يحب زوجه يعرف كيف وأين يجد مواضع مختبئة ليدفن فيها قبلاته، مواضع لا تخطر للمرأة حتى عندما تخلو بنفسها. . . وهذه القبلات إذا لم يتقدمها شارب لا يبقى لها طعم، بل أنها لتغدو مخالفة للذوق والأدب!
ولك أن تفسري ذلك بما تشائين؛ أما أنا فأفسره هكذا: الثغر بدون شارب كالجسم بدون ثياب!. . . نعم، لا بد من الثياب، القليل منها إذا شئت، ولكن لا بد من بعضها
والخالق قد ستر بالشعر جميع مواضع الجسد التي يدفن الحب فيها؛ فالثغر الحليق إنما يبدو كينبوع عذب وسط غابة اقتلعت أشجارها
وهذا يذكرني بجملة لأحد رجال السياسة ما زالت تترد في ذاكرتي منذ ثلاثة أشهر؛ فقد قرأ على زوجي ذات مساء في إحدى الجرائد خطبة غريبة لوزير الزراعة السيد (ميلين)؛ ولست أدري إذا كان لا يزال إلى الآن في وظيفته أم حل غيره محله
لم أكن أستمع لزوجي، ولكن هذا الاسم (ميلين) لفت انتباهي؛ قد ذكرني - ولست أدري لماذا - بالحياة في يوهيميا، وخيل إلي أن الحديث يدور على إحدى العاملات المتأنقات؛ فأصخت بسمعي، وهكذا استطاعت بعض الكلمات أن تجد سبيلاً إلى رأسي
والسيد (ميلين) أدلى إلى أهالي إميان - فيما أظن - بالتصريح التالي الذي ما فتئت أبحث عن معناه: لا وطنية بدون زراعة! ولم أهتد إلى معنى هذه الجملة إلا في هذه اللحظة. . . وأنا كذلك أصرح بدوري: لا حب بدون شارب!
وقد يبدو ذلك مضحكا، حين يقال على هذه الصورة، أليس كذلك؟ لا حب بدون شارب!. . . لا وطنية بدون زراعة. . .! لقد كان السيد (ميلين) مصيباً في قوله هذا الذي لم أدرك معناه قبل هذه اللحظة. . .
والشارب ضروري من جهة أخرى، فهو الذي يحدد صورة الوجه فيجعله لطيفاً أو رقيقاً أو قاسياً أو مضحكا أو جريئاً
إن الرجل الذي يرخي لحيته إرخاءً تاماً، ويترك جميع شعره (يا لها من كلمة قبيحة!) على خديه، لا يمكن أن يكون في وجهه شيء من الرقة، لأن الشعر يخفي الملامح، وشكل الذقن(419/56)
والفكين يدل على أشياء كثيرة، ولكن قل من يفهمها
أما الرجل الذي يترك شاربه، فإنه يحتفظ بهيئته الحقيقية وبرقته في وقت واحد، وللشوارب أشكال متعددة تختلف عن بعضها اختلافاً عظيما، فهي تارة: معقصة، معقوفة، أنيقة. وهذا يبدو عليها أنها تحب النساء فوق وقبل كل شيء آخر!
وهي طوراً: مسننة، مهددة، حادة كالإبر. . . وهذه تميل للخمر والخيل والحرب!
وأخرى هي: غليظة، مترهلة، مفزعة. . . وهذه تخفي عادة طبعاً حسناً وطيبة عظيمة إلى درجة الضعف، ولطفاً لا يكاد يفرق عن الحياء والخجل
ثم أن ما أحبه أكثر من كل شيء في الشارب، إنه فرنسي وفرنسي بحت، فقد تحدر إلينا من أسلافنا الغالين وما انفك يتوارث حتى غدا سمة فارقة من سماتنا الوطنية
والشارب مهذار، شجاع، أنيق. . . فهو يرقص برشاقة في كأس النبيذ، ويعرف كيف يبتسم بظرف، بينا الفك الذي تستطيل لحيته، يبدو فظاً سمجاً في كل ما يأتيه من حركات!
وإليك حادثاً استنفذ جميع دموعي وجعلني أفتن بالشوارب على ثغور الرجال: حدث ذلك خلال الحرب الماضية، وكنت إذ ذاك فتاة صغيرة، واتفق ذات يوم أن جرت معركة شديدة على مقربة من قصر والدي، فأز الرصاص، وقصفت المدافع منذ الصباح، فلما هبط المساء دخل علينا قائد ألماني وأتخذ له مجلساً بيننا، ولم يلبث في اليوم التالي أن غادرنا. . . ثم جاء من أخبر والدي أن في الحقول كثيراُ من القتلى، فأمر بجمعهم وجلبهم للقيام بدفنهم
فجمعوهم ومددوهم على طرفي شارع الصنوبر من أوله لآخره، ولما بدأت تنبعث منها روائح كريهة أخذ الجنود يهيلون عليهم التراب في انتظار الانتهاء من تهيئة الحفرة الكبرى التي تتسع لهم جميعاً، وهكذا لم يعد في الإمكان رؤية شيء من جثثهم، ما عدى رؤوسهم التي كانت تبدو للناظر كأنها تنبت من الأرض صفراء مثلها بعيونها المقفلة و. . . .
فقد تملكتني رغبة قوية في أن أراهم، ولكني عندما أبصرت هذين الخطين الطويلين من الوجوه الفظيعة، شعرت كأنما أغمى علي. . . ثم رحت استعرض هذه الوجوه وأنا أحاول معرفة أصحابها
كانت بذلاتهم الرسمية مطمورة تحت أطباق الثرى، ومع ذلك فقد استطعت فجأة يا عزيزتي أن أعرف الفرنسيين من شواربهم!(419/57)
كان كثير منهم قد حلقوا لحاهم يوم المعركة كأنما أرادوا أن يكونوا أنيقين لآخر لحظة من حياتهم. . .! ولكن لحاهم قد عادت فنمت قليلاً، لأن اللحى تنمو - كما تعلمين - بعد الموت أيضاً. . . وكان يلوح على الآخرين إنهم لم يحلقوها منذ ثمانية أيام. . . ولكن كلهم كانوا يتميزون بوضوح تام بالشوارب الفرنسية الفخورة التي خيل إلي أنها تقول لي: أيتها الفتاة! احذري أن تخلطي بيني وبين صديقي: إني من مواطنيك!
وقد بكيت يا عزيزتي، أوه بكيت كثيراً، أكثر بكثير مما لو لم أعرف هؤلاء القتلى بهذه الطريقة. . .
لماذا قصصت عليك ذلك. . . لا شك أنني مخطئة. . . فقد بعثت هذه الذكرى في نفسي كآبة شديدة، جعلتني عاجزة عن الثرثرة أكثر مما فعلت؛ فإلى اللقاء يا عزيزتي لوسيا، إني أقبلك قبلات حارة، وليحيى الشارب!!!
(القدس)
إيزاك شموس(419/58)
العدد 420 - بتاريخ: 21 - 07 - 1941(/)
الشيخ محمد عبده
بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين
للأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي
عبد من عباد الله الذين اختصهم بمزيد فضله، ومنحهم من صفات الإنسانية الفاضلة ما امتازوا به عن أقرانهم في عصرهم وأمثالهم في عصور أخرى، واشرفوا على الناس يألمون لما عليه الناس من انحطاط علمي وخلقي وأدبي، ويحاولون استبدال أمم أخرى بهم؛ ورجل ممن رزقوا لذة المعرفة، وأفيض عليهم نور العلم الإلهي ففهموا أسرار الدين، وعرفوا السعادة الحق على وجهها، منحه الله قوة في الجسم والحواس، وبسطة في العلم، وعقلاً قوياًّ نفاذاً، وفطرة سليمة، وإلهاماً صادقاً، وشجاعة في الحق، وزراية على الباطل، وقلباً رحيما بالضعفاء والفقراء، وحباً للبذل والإحسان
نشأ الشيخ في عصر من العصور القاتمة، كل شيء فيه ممض مؤلم للنفس الحرة والفطرة الصادقة. فالأمم الإسلامية تنحدر علمياً وسياسياً واجتماعياً إلى أحط الدركات، وليس لطالب الحرية العقلية بينها متنفس، والدين يفهمه الناس على غير وجهه، واللغة العربية اختلطت بغيرها من لغات العجم، والزلفى إلى الله لها طرق لم يشرعها الله، والزلفى إلى الحكام لها طرق لا يرضاها ذو مروءة ذهب ريح المسلمين، وتفلَّت من أيديهم زمام الحياة العامة، وتداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على القصاع، وليسوا قلة بين الأمم، ولكنهم كغثاء السيل
ذهب يتعلم فتعلم كما يتعلم غيره: قواعد جافة ليس لها حياة تصلها بمنابعها من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، ولا بأصولها من لغة العرب وأساليبهم وأدبهم. وتعلم القواعد في مختصرات رضيها ذلك العصر المظلم لا تفهم إلا بشروح وحواش وصناعة خاصة، فلا اللغة العربية بمسعدة على إجادة النظم والنثر والكتابة والخطابة، ولا على فهم القرآن الكريم وفق الأساليب العربية؛ ولا الفقه بساد حاجة المجتمع وحاجة الحكومات والدول في التشريع والتنظيم؛ ولا دراسة الكلام والمنطق بموصلة إلى الاستدلال الصحيح الذي يطمئن إليه العقل ويقنع الخصم. المتحدث في الاجتهاد وتخير الأحكام لتطابق الأحكام حاجة العصر، ولتلائم أحوال الأمم وأحوال الأزمنة، مبتدع مخالف لما أجمع عليه المحققون. والداعي إلى(420/1)
سيرة السلف الصالح داع إلى مخالفة سيرة العلماء المبرزين. والداعي إلى كتب الأولين مقصر عن فهم كتب المحققين من المتأخرين. والمنادي بأن كتب الفقه وكتب التفسير وكتب الحديث ملئت بمعلومات خاطئة وبأوهام وقصص لفّقها من قبل علماءُ الإسرائيليات مخالف لما درج عليه صالحوا هذه الأمة وجهابذتها
عاش الشيخ في هذه البيئة العلمية ضيق الصدر مرير العيش. فمن من أصحاب الفطر الصادقة والنظر السليم يؤمن بالقرآن ويعتقد أن فيه هدياً وفيه شفاء، وأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للأمم كلها وللعصور كلها، يؤمن بأن هذه الدراسة الدينية والعربية تخرج للناس إماماً يهتدون بهديه، ويشفي أمراض المجتمع في علمه وخلقه ونظامه، ويضع له القوانين الصالحة والنظم اللائقة
عاش الشيخ في هذه البيئة يلتمس الوسيلة، وتطلب نفسه مخرجاً منه، وتتطلع إلى رجل يشفي صدره ويزيل قلق نفسه، ويشد أزره، ويبصره بالدين وبالحياة، وينضم رأيه إلى رأيه في أن هذا الذي يراه ليس هو الدين؛ وهذا الذي يعيش فيه الناس ليس هو الحياة؛ وهذا الذي يدرسه من الكتب ليس موصلاً إلى العلم الصحيح بل مبعداً عنه؛ وهذا الذي يتعارفه الناس في طرق الدراسة هو غير طرق الدراسة الصحيحة النافعة
مر بهذا الطور ثم أعطاه الله ما كانت تصبو إليه نفسه، فهبط إلى مصر جمال الدين الأفغاني، وهو رجل ثائر على النظم الموجودة جميعها: نظم الدراسة ونظم الحكومات؛ خبير بأحوال الدنيا وأحوال الأمم، عليم بأدوار التاريخ وما تقلبت عليه الأمم الإسلامية من أطوار، خبير بالتاريخ العلمي الإسلامي وبغيره من التواريخ، عالم بمذاهب الأمم ونحلها، عالم بالاستدلال وطرقه، بصير بالدعوة إلى الله سبحانه وبالدعوة إلى ما يريده من الآراء والمذاهب؛ يفقه أغراض الدين العامة، ويحترم العقل ويعرف له قدره، ويضع الرجال مواضعهم لا يعطيهم أكثر مما يستحقون
رجل يمت بصلة نسبية إلى صاحب الرسالة ويرى أن عليه ديناً لجده لا بد أن يؤديه. ذلك الدين هو وقف مواهبه جميعها على تبيين هذا الدين وإصلاح حال المسلمين. وجد الشيخ في السيد جمال الدين بغيته، ووجد ما يشبع نهمه ويشفي صدره ويزيل صدأ عقله ويشحذه، ويرد ذلك الجوهر صافياً نقياً لامعاً كما فطره الله، ثم يملؤه علماً ويقيناً وإيماناً ومعرفة(420/2)
ويعدهّ للإصلاح
أتم الشيخ دراسته، ولأمر ما أراد الله به كماله، هجر مصر لأسباب سياسية وطوّف في بعض بلاد الإسلام وبعض البلاد الغربية فأكتمل نضجه. ثم عاد واشتغل بالقضاء الأهلي وعرف أساليب القضاء الحديثة من منابعها فصار قديراً على الإصلاح في القضاء الشرعي كما هو قدير على الإصلاح العلمي وإصلاح نظم الدراسة
هيأت له الأسباب جميعها تولي إفتاء الديار المصرية وصار له شأن في إصلاح الأزهر بعضوية الإدارة فيه، وكانت مواهبه وجاهه وخبرته بالدولة ورجال الدولة مما جعله المسيطر على الإصلاح في الأزهر وصاحب النفوذ به
عرف الشيخ أن النفوذ والجاه ووضع النظم وما إلى ذلك لا يكوّن الرجال العاملين ولا العلماء المجددين، وأنه لا بد لهذا كله من أن يضاف إليه التعليم الصحيح وأن يتولاه بنفسه، فقرأ في الأزهر كتاباً قيما من كتب المنطق، وقرأ رسالة في التوحيد، وقرأ كتب الشيخ عبد القاهر في البلاغة وشرع يفسر كتاب الله.
كانت دروس الشيخ كالغيث. أما البلد الطيب فقد خرج نباته بإذن ربه؛ وأما البلد الخبيث فقد خرج نباته نكداً. وكانت دروسه مثلاً عالياً في طريقة الإلقاء والتفهيم وفي العبارات الفصيحة المتخيرة النافذة إلى القلوب. وكانت دائرة معارف يجد اللغوي فيها حاجته والفقيه رغبته والمتكلم بغيته. ويجد علماء الاجتماع فيها تطبيق آي القرآن على معارفهم، وكانت صرخاته المدوية منبهة للغافل ومحركة للجامد. وكانت عاصفة قوية هزت الأشجار الباسقة القوية فسقطت أوراقها الذابلة ثم أورقت. أما الشجيرات الضعيفة والحشائش الدنيئة فأفلتت منها ولم تنتفع بها
عاملان من أقوى العوامل وقفا في طريق الشيخ. عامل الحسد، وعامل البيئة. ومن المحال أن يوجد رجل كالشيخ في صفاته وعلمه لا يحسد. ولو أنه لم يحسد ولو أنه لم يرم بالكفر والضلال ولو أنه لم يشتد حسده ولم يقاوم أشد المقاومة بسبب الحسد لما كان شيئاً يتحدث عنه ولما كان رجلاً من رجال التاريخ وقديماً قال الإمام الغزالي: (استصغر من علماء الدين كل من بالكفر لا يعرف، وكل من بالضلال لا يوصف). والسلاح القاتل الذي يرمي به علماء الدين هو الكفر والزندقة، والمقتل الوحيد الذي يقصد بالسهام في علماء الدين هو(420/3)
العقيدة.
وأما البيئة فقد أشرت إليها من قبل ولا أبيح لنفسي أن أضرب الأمثال وأقيم الأدلة على أنها بيئة لم يكن من العدل أن ينتظر منها مناصرة الشيخ وقبول آرائه وطرائقه في الإصلاح الديني واللغوي وغير ذلك. ولم يكن من الحق أن يطمع الشيخ في مناصرتها إياه. وبخاصة أنه هاجمها هجوماً عنيفاً لا هوادة فيه وسفّه آراءها في أعز شيء لديها وهو العقيدة. وسبب ثالث له خطره وهو أن جهة ذات نفوذ أظهرت عدم الرضا عن الشيخ وساعدت خصومه. وان جهة ذات نفوذ آخر ساعدته وشدت أزره فظن القوم أنه رجل يريد إفساد الدين وإفساد العلم وإفساد الأزهر. ومن أشد مظاهر الحسد إذ ذاك أن عالماً من كبار العلماء كتب سلسلة مقالات في جريدة المؤيد يحرم فيها تعليم الحساب والجبر والهندسة والتاريخ في الأزهر لأن الشيخ كان أول المشيرين بتعليم هذه العلوم في الأزهر وكاد العناد يكون كفراً.
ذهب الشيخ إلى جوار ربه منذ ست وثلاثين سنة، وكان فضله مجحوداً، وكان يرمي بالكفر والزندقة. لكنه كلما ابتعد الناس عنه بالزمان اقتربوا من معرفته، وزاد المقرون له بالعلم والتقوى والإيمان والغيرة على الدين. والمقرون له بالإصلاح وبالذود عن الإسلام والمسلمين
مات الشيخ وبقيت طريقته في الإصلاح لم تمت، وبقيت آراؤه مدونة في الكتب ومرسومة في صدور تلاميذه المخلصين يورثونها الأبناء والأحفاد. إن ذلك المصباح لا يزال يسطع نوره ولا يزل نوره يمتد في آفاق البلاد الإسلامية وغيرها وسيتجلى للناس جميعهم عندما ينصفه التاريخ ويتقادم العهد أنه علم من أعلام الأمة ومجدد من مجددي الإسلام؛ وأنه أحد رجال السلف الصالح. تأخر ميلاده عن خير القرون لحكمة أرادها الله، فولد في القرن الثالث الهجري
ترك بذور الإصلاح للتعليم الديني وتعليم علوم العربية وبذور إصلاح القضاء الشرعي، وبذور إصلاح المجتمع الإسلامي والأمم الإسلامية. وليس في رجال تفسير كتاب الله من يضارع الشيخ أو يقاربه في تطبيق آي القرآن على سنن الاجتماع، وفي تصوير هدى القرآن، وفي فهم أغراض الدين العامة(420/4)
ودعته ليلة سفري إلى السودان لتولي قضاء مديرية دنقلة في نوفمبر سنة 1904، فسألني: هل معك رفقاء السفر؟ فقلت: نعم، بعض كتب آنس إليها وأستديم بها اتصالي بالعلم؛ فقال: أو معك كتاب الأحياء؟ فقلت: نعم؛ قال: الحمد لله، هذا كتاب لا يجوز لمسلم أن يسافر سفراً طويلاً دون أن يكون رفيقه؛ ثم قال لي: أنصحك أن تكون للناس مرشداً أكثر من أن تكون قاضياً، وإذا استطعت أن تحسم النزاع بين الناس بصلح فلا تعدل عنه إلى الحكم، فإن الأحكام سلاح يقطع العلاقات بين الأسر، والصلح دواء تلتئم به النفوس وتداوي به الجراح.
وداعبني مرة إثر خروجي من امتحان شهادة العالمية هل تعرف تعريف العلم؟ فقلت له نعم وكنت أحفظ إذ ذاك أكثر تعاريف العلم فسردت بعضها. فقال اسمع مني تعريفاً مفيداً العلم هو ما ينفعك وينفع الناس. ثم سأل: هل انتفع الناس بعلمك؟ قلت له لا. قال: إذاً أنت لست بعالم. فانفع الناس بعلمك لتكون عالماً
ولم يكن يفوته أن يذكر بالقرآن وأن يعتبر بالقرآن كلما ذكرت الحوادث وكلما جدت العبر، ولم يكن يفوته أن يشهر بالظالمين، وأن يثني على المخلصين العادلين. فقد كان يحب الحق أكثر مما يحب نفسه. عاش للعلم وعاش للدين وعاش للإسلام والمسلمين
رحمة الله ورضوانه عليه وعلى إخوانه الأئمة المهتدين
محمد مصطفى المراغي(420/5)
استقلال مصر
من الجهة التاريخية
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
روى مصريون أن زعيمين من ساستنا باحثا اللورد اللنبي وتدهيا له حتى ألان لمصر جناحه وتطوع لنصرة قضيتها. وزعم آخرون أن مصرياً غيرهما هو الذي حج اللورد حتى سلم بحق المصريين في الاستقلال، ووعد بان يقدم إلى حكومته اقتراحات إذا هي رفضتها استقال، وقد وفى بوعده الذي كان أشبه بحلم منه بالحقيقة الواقعة
وإذا كان في معرفة الحقيقة التاريخية فائدة فإنه يحسن بكل مصري وقف على شيء يتعلق باستقلال بلاده أن ينشر ما عرف، لكي تتضح تلك الحقيقة بأجمعها. ومن هذه القبيل ما يلي ذكره في سبيل المصلحة العامة
في أذيال الحرب الكبيرة الماضية - التي أتلفت الملايين من الأنفس والأموال وانتصر فيها الإنجليز وحلفاؤهم - اضطرت الجيوش البريطانية إلى الجلاء عن تفليس، وباطوم، وعشق آباد، وبخاري، وشمال إيران. ولما حلت الجنود الفرنسية في سورية محل القوات البريطانية لن تفي هذه القوات بحاجة الجيوش التي كان حشدها ضرورياً لقمع الثورات في تركيا،
وإيران، وكردستان والعراق، ولحماية المصالح البريطانية المتعلقة بمناطق البترول القوقازية والعراقية والإيرانية. وكان اللورد كتشنر يصرح بأنه لا يستطيع في أية حال أن يحمي بجيش الهند وحده منطقة في إيران أكبر من منطقة النفوذ التي عينها لإنجلترا الاتفاق الإنجليزي الروسي المعقود سنة 1907. أما المستر لويد جورج، رئيس الوزارة، فقد رأى أن اليونان تستطيع حراسة المصالح البريطانية في آسيا الصغرى، وأراد أن يكلف جيش الهند حفظ المصالح البريطانية الجديدة في الشرق. لذلك شكلت لجنة خاصة تحت رياسة اللورد اشر مهمتها أن تحل مسألة تعديل نظام الجيش الهندي وتكبيره، فأهملت هذه اللجنة قانوناً صدر سنة 1858 وفيه نص صريح على أن الجيش الهندي يجب أن يبقي في الهند، إذ ختمت أعمالها بقرار مضمونه أن هذا الجيش لم يبق في الإمكان اعتباره قوة محلية دائرة أعمالها محصورة داخل حدود الهند، بل يجب عده قسماً من جنود(420/6)
الإمبراطورية، مستعداً للخدمة في أية جهة من العالم
كانت الحرب العالمية قد وسعت دائرة أعمال ذلك الجيش فأكسبت سكان الهند - ولا سيما المسلمين الذين منهم صفوة الجنود الأهلية - حق إبداء رأيهم في تسوية السلم في الشرق. فلما نشر تقرير اللورد أشر، بعد أن أمضيت معاهدة سيفر، قامت في الهند ضجة غضب؛ ونشرت التيمس يومئذ في عددي 5 و6 من نوفمبر سنة 1920 كتاباً مطولاً من أغا خان نبه فيه أصدقاءه من البريطانيين إلى أن هذه السياسة لا تلائم العلاقات بين بريطانيا العظمى والهند، ونصح بالعدول عن احتلال مناطق البترول وبمساعدة القبائل العربية، مساعدة مالية، لتقوم هي في مقابل هذه المساعدة بحماية معامل البترول وأنابيبه. وقد وقع هذا الكتاب أحسن وقع لدى الرأي العام البريطاني، إذ كان في قلق من كثرة الخسارة في الرجال والمال للجيش القائم باحتلال كردستان والعراق وإيران، البالغ قرابة ألف جندي
هذا، وقد كانت المسألة العربية من جهة أخرى تستوقف نظر البريطانيين لأسباب منها: خلع الفرنسيين للملك فيصل، والحركة الوطنية في مصر، واستئناف المنافسة بين الحجاز ونجد. وقد تبين من تقريري اللجنة التي أرسلت إلى الهند ولجنة ملنر أنه يصعب تكبير الجيش الهندي بعيد الحرب، وأن من الحكمة أن تعدل حكومة لندن سياستها الشرقية. ثم لوحظ أن لكل من بريطانيا وأمريكا مصلحة في مسألة البترول، وأن الدولتين متجهتان إلى زيادة التسلح البحري - الذي يستلزم زيادة الإنفاق - وأن الحكومة البريطانية كانت قد وعدت العرب بمساعدتهم في طلب الاستقلال وصرَحت بموافقتها على مبادئ ولسن المشترطة للصلح
من أجل ذلك كله عقد بالقاهرة في آخر مارس سنة 1921 مؤتمر كبير تحت رياسة المستر ونستن تشرشل وزير المستعمرات يومئذ، حضره الكولونيل لورنس (وكان المستر تشرشل قد جعله وكيل وزارته لشؤون الشرق) وجميع البارزين في السياسة الشرقية الإنجليزية: المس جرترود بل، والمارشال اللنبي، والسير برسي كوكس، والسير هربرت صمويل، والسير جلبرت كلايتون، والكولونيل كورنواليس، وغيرهم، وكان الغرض من عقد هذا المؤتمر أن يحل مسألة إنقاص قوات الاحتلال في إيران، وكردستان، والعراق، ويحل مسألة مصر وبلاد العرب؛ وقد ختم أعماله بالقرارات التالي بيانها:(420/7)
1 - التسليم بضرورة تعديل تام للسياسة الإمبراطورية في البلاد العربية والشرق الأوسط.
2 - إهمال مبدأ الضم والحمايات.
3 - الاعتراف باستقلال الشعوب الشرقية، ومعاقدتها بمعاهدات تحالف.
4 - أن يجلس على عرش مصر ملك
5 - وضع دستور الهند.
6 - إجلاس الأمير فيصل على عرش العراق، وتولية الأمير عبد الله إمارة شرق الأردن.
7 - إيجاد طريق إمبراطوري جديد يعبر الصحراء بين فلسطين والعراق ويصل بور سعيد وحيفا ببغداد والبصرة؛ وتنشأ في مواضع مختارة منه محطات للطيارات والسيارات المصفحة تضمن حماية جميع المصالح
أفكانت حجج أولئك الساسة المصرين - التي سلَم اللورد اللنبي بصحتها - هي سبب مؤتمر القاهرة أم سبقت قرارات المؤتمر تلك الحجج فهيأت البريطانيين لذلك التسليم الذي أشبه الأحلام عندنا؟ وهل كفى تصريح 28 فبراير سنة 1922 ومعاهدة سنة 1936 لتحقيق استقلالنا، ولضمان المصالح البريطانية كلها، أم ضحت بريطانيا بشيء لتوثيق الصداقة بينها وبيننا؟
لست أدري، بل لعلي زدت المسألة غموضاً من حيث حاولت المشاركة في إيضاحها فذكرت بعض ما أعرف، وقد يوفق غيري لبيان أدق وأكمل
وحسبنا الآن ما ظهر من أننا حقاً مستقلون للأسباب التي حملت الإنجليز على تعديل سياستهم الإمبراطورية، وعلى الاعتراف باستقلال الشعوب الشرقية، في مؤتمرهم الذي عقدوه في عاصمتنا وما زال أمره خافياً - فيما أظن - على الأكثرين منا، والله أعلم
محمد توحيد السلحدار(420/8)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
خطر السياسة على مصاير العلماء - الحياد الأدبي - آداب
بعض الوعاظ - إلى فضيلة الشيخ المراغي - الشيخ عبد ربه
مفتاح - فجيعة لم يستعد لحملها القلب - لا ذنب لي قد قلت
للقوم استقوا - إلى فلان - إلى العلامة وحيد
خطر السياسة على مصاير العلماء
كان ابن خلدون يرى أن الاشتغال بالسياسة لا يليق بالعلماء، وأثر عن الشيخ محمد عبده أنه قال: لعن الله السياسة ومادة ساس يسوس!
فهل تكون السياسة عملاً تنكره الأخلاق أو يأباه الدين؟ وكيف والسياسي الرشيد يؤدي واجباً هو في بعض صوره من أشرف ما يدعو إليه الدين والأخلاق؟
إنما يكره اشتغال العلماء بالسياسة لأنها قد تصرف عنهم بعض القلوب، فلا يملكون الأبوة الروحية لجميع من يصلحون للانتفاع بما عندهم من ذخائر الحكم والآداب، والرجل العالم، هو بطبيعته مركزه أخو الجميع وأبو الجميع، والسياسة قد تجره إلى التحيز لفريق دون فريق، وإن بالغ في التحرز من شوائب الأهواء.
أكتب هذا وقد قرأت في جريدة (الكرخ) أن الجنسية العراقية نزعت من الأستاذ ساطع الحصري وأنه أمسى خارج الحدود!! وهو خبر جزعت له أشد الجزع، وإن لم يكن بيني وبين هذا الرجل من الصلات ما يوجب الانزعاج لما صار إليه من نفي وتشريد، إذا صح أن أهل العلماء يتعافون إلا إذا قامت بينهم روابط من الصداقة والوداد. . . ومن سياق ذلك الخبر عرفت كيف صار الأستاذ ساطع الحصري إلى هذا المصير المزعج فقد عد من المنحرفين عن الصواب في أيام الانقلاب. ومعنى ذلك أنه اشتغل بالسياسة فتعرض لما يتعرض له العلماء السياسيون في بعض الأحيان
إن أهل العراق قد يرون في الأستاذ ساطع الحصري غير ما أراه، وهم أدرى بما تتعرض(420/9)
له ديارهم من عواصف الخلاف، ولكن الأخوة الأدبية توجب أن نواسي هذا الباحث المتعمق بكلمة عطف، وهي أقل ما نملك في التوجع لمصيره الحزين
لو كان الغيب مما يطلع عليه الناس لرأى قوم أن يسجن الأستاذ ساطع الحصري في مكتبته فلا يشترك في السياسة من قرب أو من بعد، لينقطع لأداء رسالته السامية في التربية والأدب والتاريخ، فله في هذه النواحي أبحاث تضعه في الصف الأول بين كبار المفكرين في هذا الجيل
ولكن الانقلابات العنيفة قد تخرج العلماء من وقارهم المنشود، وتسوقهم إلى معاطب لا يسلم معها أديم، ولا ينفع في دفعها علاج
هذه عبرة جديدة تسوقها الأيام لمن ألقى السمع وهو شهيد
وإن رأسي ليدور كلما فكرت في مصاير العلماء الذين تبلبلهم الحوادث فلا يعرفون إلى أين يتوجهون، وقد أحاطت بهم القواصف والأنواء
كان أسلافنا يدعون إلى الاعتكاف عند هبوب الفتنة، وما كان أسلافنا جبناء، ولكنهم كانوا يعرفون أن الفتنة تخبط خبط العشواء فلا تفرق بين العاصي والمطيع، ولا تدري أين تقع أخفافها الهوج الثقال
وأنا مع هذا قوي الأمل في رجعة الحياة الطبيعية إلى ربوع العراق، ويومئذ يكون من السهل على الحكومة العراقية أن تسمح للأستاذ ساطع الحصري بالعودة إلى البلد الذي خدمه بصدق وأمانة وإخلاص، فلن تكون جنايته السياسية أعظم من كفايته العلمية، ولن يكون في أشنع أحواله مجتهداً أخطأه الصواب
الحياد الأدبي
كانت الجرائد الإنجليزية شغلت بالتنفير من الحياد، فكانت تدعو جميع الأمم إلى إعلان الحرب على الألمان، وكانت هذه الدعوة تقع من بعض الناس موقع الاستخفاف، لأنها في نظرهم لم تكن إلا وسيلة من وسائل التحريض على الأمة الألمانية، والتحريض لا يقبل في كل حين
ثم دارت الأيام بالنحس على المحايدين، فهم كل يوم في بلاء جديد، ولو أنهم خرجوا على الحياد منذ اليوم الذي سمعوا فيه النذير الأول، لقهروا الألمان على الانسحاب من أكثر(420/10)
الميادين وأذاقوهم الاستهانة بأقدار الشعوب
وفي دنيا المعارك القلمية مذهب دميم هو مذهب (الحياد الأدبي) ولهذا الحياد عواقب سود، لأنه قد ينتهي بأهل الفكر والرأي إلى إيثار السلامة من أراجيف العوام وأشباه الخواص، وإذا آثر المصلح السلامة فعلى الإصلاح العفاء
أقول هذا مناسبة خطاب وصل من أعالي النيل بقلم الأديب إبراهيم محمد إبراهيم، وهو يراني أحجمت عن المضي في شرح أسباب الفقر، مع أن الفقر علة تستحق الدرس والتشريح، وتستوجب التفاف جميع الأطباء
وأجيب بأن الذي يصدني هو (الحياد الأدبي) حياد الأدباء الذين يرون ما أراه في مشكلة الفقر والفقراء، ثم يعتصمون بالسكوت، طلباً للسلامة من أوضار التزيد والافتراء
أستطيع أن أسمي عشرين رجلاً من أصحاب المواهب، وقد هنئوني على القول بالمسئولية الفردية قبل المسئولية الاجتماعية، ومع ذلك لم يتقدم منهم رجل واحد بمقال يشعر الجمهور بأن الرأي الذي أعلنته يصلح للأخذ والرد، ويستحق عناية أهل الرأي والبيان
وفي مقابل ذلك وقف أنصار (الرياء الاجتماعي) متعاونين متساندين ليقولوا فيَّ ما يشاءون على صفحات بعض الجرائد والمجلات، حتى صح للأستاذ صالح جودت أن يتوجع لمصاير أهل الرأي في هذه البلاد
أنا أنظر فأرى أعدائي يزدادون من يوم إلى يوم، الأعداء المجاهرين، أما العداء المكاتمون، فهم أهل للصفح والغفران ولكن أين أنصاري؟
أنصاري هم قرائي، لا زملائي، وآه ثم آه من تخاذل الزملاء!
وأولئك القراء هم الجيش الذي نعتمد عليه بعد الله في نصر قضية الرأي الحر والقول الصريح، ولن يستطيع أحد أن يفسد ما بيني وبين قرائي، لأني اللسان الناطق بما يشتجر في صدورهم من أراء وأهواء، ولأنهم يؤمنون بأن الأدب لن يرتفع إلا إذا تحرر أهله من أغلال الأوهام والأضاليل
وما الموجب للرياء، وما ظفر المراءون بغير الخيبة والإخفاق؟
وما قيمة الدنيا حتى نطلب نعيمها بالتزلف إلى أبنائها الفانين؟
آداب بعض الوعاظ(420/11)
يجب أن يعرف من لا يعرف أن مجلة (الرسالة) مقررة لمكتبات المدارس الأميرية ومكتبات المعاهد الدينية، ومعنى ذلك أن الأستاذ الزيات ليس له مصلحة أدبية أو مادية في نشر شيء يخالف مبادئ الدين الحنيف، بغض النظر عن مكانته من الوجهة الدينية، فهو موضع الثقة من أكابر رجال الدين، وله أبحاث كريمة في لغة القرآن المجيد
إذا صح هذا - وهو صحيح صحيح - فكيف يستبيح جماعة من الوعاظ أن يسيئوا الظن بكل ما أكتب في مجلة الرسالة عن الدين الإسلامي؟ ومن أين يعرف هؤلاء الناس أن إيمانهم أقوى من إيماني، وتلك علاقة روحية لا يعلم سرها غير علام الغيوب؟
مجلة (الرسالة) تصدر في كل عام عدداً ممتازاً عن الهجرة النبوية، ويشاء الحظ (السيئ) أن أحرص - حين أكتب مقالة لأحد تلك الأعداد - على البعد من الأبحاث التي ابتذلتها الأقلام منذ أجيال وأجيال، لأن روح الإسلام نفسه تنهانا عن الأنس بالحديث المعاد، ثم تكون النتيجة أن تشغل المجلات الدينية بشتمي وتجريحي سنة كاملة بلا ترفق ولا استبقاء
ساقني إلى هذه الزفرة الأليمة ما كتبه أحد الوعاظ في مجلة دينية لا أسميها ولا أسميه، لئلا يغضب عليها وعليه أهل الفكر والرأي والوجدان
وما ذنبي عند هذا الواعظ حتى يشتمني بألفاظ لا يصح صدورها عن رجل يتصدر للدعوة إلى الدين؟.
أيراني كفرت حين أشرت بزخرفة المساجد لنرتاح إليها بعد قضاء النهار في طلب المعاش؟
أيراني كفرت حين قلت بأن الخوف من الوثنية لم يبق له مكان في هذا الزمان، حتى نراعي بعض ما راعاه الأسلاف القدماء؟
وبأي حق يصد رجل مسلم عن إعلان ما يراه في شئون الإسلام؟
ومتى جاز أن يكون في الإسلام صور جديدة لحيوات الأحبار والرهبان؟ سوف ترون مصايركم، يا جماعة الجانين على العقل باسم الدين
إلى فضيلة الشيخ المراغي
إليك - أيها الأستاذ الأكبر - أوجه الحديث فأقول:(420/12)
ما رأيك في الوعظ والواعظين؟
ما رأيك في جماعة لا يحدثون الناس إلا بغطرسة واستعلاء كأنهم ملكوا مفاتيح الجنة، وكأن رحمة الله لا تساق إلى مؤمن إلا بوحي من هواهم المطاع؟
ما رأيك في بعض هؤلاء وهم يعجزون عن كسب القوت إن رفعت عنهم رعاية الأزهر الشريف؟
إن الدين المسيحي يروض أبناءه على الإيمان بأن في القسيسين نفحة ربانية، ومع ذلك يتأدب القسيسون فيخاطبون أتباعهم خطاب الصديق للصديق، فما عجرفة الواعظ المسلم، والإسلام يدعو جميع أبنائه إلى مناجاة الله بلا وسيط؟
ومن هؤلاء الذين يوهمون الأمة بأن فيها طبقة من الملحدين مع أن محصول الفكر في مصر من الوجه الدينية لهذا العهد، لا يقاس إلى ما وصلت إليه أصغر الممالك في عهد ازدهار الحضارة الإسلامية؟
ومن المسلم الملحد في هذه الأيام حتى يجوز الإغضاء عن إفك بعض المعتدين؟
أنت المسئول - أيها الأستاذ الأكبر - عن تأديب هؤلاء فجرب فيهم سيفك أو عصاك، لينزجروا عن التحرش بالمفكرين من أهل الإيمان
كان يجوز في عهد غير عهدك أن تكون البهلوانية من شمائل بعض المنتسبين إلى الدين، فما عذرهم في التسلح بالبهلوانية وأنت هناك، وفيك من القوة الذاتية والدينية ما يقلم أظافر المرائين والمداجين؟
لا تبق على هؤلاء - أيها الأستاذ الأكبر - فهم حجة الأعداء على أن شمس الإسلام في كسوف. وسيبقى الإسلام على ضيائه برغم أولئك وهؤلاء
إن المخابيل من أعداء الحرية الفكرية هم الذين آذوا سلفك الشيخ محمد عبده، فلا تسمح لقرونهم بالنجوم، ولا تدعهم يحكمون على المؤمنين بالزور والبهتان
الإسلام ديننا نحن، لا دين هؤلاء، فنحن دعاته الأمناء في الشرق والغرب، وعنا يأخذ من يريدون الوصول إلى فهم أغراضه الصحاح، فمن طاب له أن يزعم أن الإسلام في مصر أصبح نزعة طائفية ينتسب إليها فريق ويصد عنها فريق، فهو مارق من القومية المصرية، وخليق بأن ينظر إليه الأستاذ الأكبر نظرة تأديب، لأن أمثال هؤلاء يستمدون قوتهم(420/13)
المعنوية من الأزهر، وهو من انحرافهم في عناء
الشيخ عبد ربه مفتاح
فجعت مصر منذ أعوام بوفاة رجل من أصحاب المروءات، هو الشيخ عبد ربه مفتاح، وكان شيخ الوعاظ، وإليه يرجع الفضل في تنظيم الوعظ الديني بالأقاليم، وكان له في ثورة سنة 1919 مجال
فماذا خلف هذا الرجل من الآراء؟
الجواب عند الذين دربهم على الوعظ والإرشاد، ولكني أذكر رأيا واحداً يصور حصافته العقلية، فقد كان يرى أن ينتفع الأزهر بمواهب المثقفين المتهمين برقة الدين، لأنه كان يعرف أن التهمة بالإلحاد لا تقوم في أغلب الأحوال على أساس، وإنما تكون فرية يذيعها أصحاب الأغراض، أو تأويلاً خاطئاً لكلام يحتمل التأويل، وكان من حججه أن الأزهر حين ينتفع بمواهب أولئك المثقفين قد يغرس فيهم الجاذبية الدينية، على فرض انهم ينفرون من الدين، أو يحولهم إلى أصدقاء يصعب عليهم التحامل على الأزهر الشريف
والحق أن الأزهريين الشبان يتمنون أن يرفع الحجاب المسدول بينهم وبين أقطاب الفكر الحديث، ليروا دنيا العقل في ثوبها الجديد، وليصح القول بأنهم عرفوا ما عند أشهر المثقفين من مذاهب وآراء
وهنا فكاهة مؤذية ولكنها طريفة: فقد اقترح فريق من طلبة كلية اللغة على فضيلة الأستاذ الشيخ المراغي أن يقوي كليتهم بأصحاب المواهب، ولو كانوا في جموح زكي مبارك وشطط طه حسين!!
أنا والدكتور طه من أصحاب المواهب، بشهادة كلية اللغة العربية؟
هو ذلك، فما يرفض الكرامة إلا لئيم!
أما القول بأننا من أهل الشطط والجموح فهو قول مردود فما عرفوا عنا فيما قرءوا وما سمعوا غير القول بحرية العقل وقدسية الدين
فجيعة لم يستعد لحملها القلب
هي فجيعتي في الشيخ (عبد الوهاب النجار)، أستاذي وصاحب الفضل علي في كثير من(420/14)
المواقف، والصديق الذي لم أر منه ما يسوء على كثرة ما عانيت من تغير الأصدقاء
كان الشيخ النجار يتأدب بالأثر الذي يقول: (أطلب العلم من المهد إلى اللحد) فلما دعي لتدريس التاريخ الإسلامي بالجامعة المصرية سنة 1918 أخذ يواظب مع الطلبة على دروس اللغة العبرية، وقد عرف منها اكثر مما عرفت، مع أنه لن يُسأل معي أمام لجنة الامتحان!
وحين شبت الثورة المصرية في سنة 1919 تفضل فدعاني ليحدثني أنه يريد أن يؤرخ أيام الثورة على طريقة (الجبرتي) بكتاب يسميه (الأيام الحمراء). ورجاني أن أقدم إليه أخبار الأزهر يوماً بيوم، وكان الأزهر ملتقى الوفود في تلك الأيام والذين نعوا الشيخ النجار في الجرائد اليومية وتحدثوا عن مؤلفاته نسوا الحديث عنها الكتاب، لأنه غير مطبوع، فليعرفوا أني أشرت إليه مرة في جريدة البلاغ، فاهتم الأستاذ عبد القادر حمزة بأمره وطلبه من الشيخ لنشره مسلسلاً على صفحات البلاغ. وقد نشر بالفعل منذ بضع سنين، فأكبر خدمة يؤديها أصدقاء الشيخ النجار لذكراه هي جمع تلك الصفحات في كتاب، لأنها أعظم وثيقة كتبها مؤرخ شاهد الحوادث في سنة 1919
لا ذنب لي. . .
لم تصلح الأيام ما في ذاكرتي من الشذوذ الفظيع: فهي ضعيفة كل الضعف فيما يتصل بالأرقام والأعلام، وهي قوية كل القوة فيما يتصل بالحوادث والمعاني؛ فأنا قد أتمثل حادثة بظروفها وأحوالها في غاية من التدقيق، كأني شهدتها بالأمس، ولكني أنسى اليوم الذي وقعت فيه، وقد أنسي العام والعهد؛ ففي أي يوم أو أي عام أو أي عهد وقع الحادث الذي أروى خبره في العبارات الآتية:
أنكر وزير المعارف في عهد سلف - وذاكرتي تزعم أنه مصطفى ماهر باشا - أنكر ذلك الوزير أن تكون (دار العلوم) مدرسة عالية، لأن طلابها لا يدرسون إحدى اللغات الأجنبية ولأنهم لا يجيدون غير تصريف افعوعل وافعنلل؛ وأنبني على ذلك أن ينكر حقوقهم في (تعديل الدرجات)
فماذا صنع الشيخ النجار في دفع ذلك التحامل البغيض؟
كتب سلسلة من المقالات في جريدة الأهرام تحت عنوان:(420/15)
(لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا) كتبها بإمضاء مستعار ليسلم من بطش الوزير، في أوقات لم يكن يجوز فيها لأحد الموظفين أن ينشر مقالاً في معارضة أحد الوزراء
وتحققت الغاية المنشودة من تلك المقالات، فتساوى أبناء (دار العلوم) مع أبناء (المعلمين العليا) في (تعديل الدرجات) بعد أن طال العهد بالتفريق بين هاتين الطبقتين من رجال التعليم
فأين من يذكر وفاء الشيخ النجار للمعهد الذي تخرج فيه، يوم تخلى عن نصرته أبناؤه الأوفياء؟
إلى فلان
قرأت خطابك فاستروحت نسائم الحرية حين شهدت غيرتك على الاستقلال، أنت تراه غاية معنوية، لا غاية نفعية، كما يتوهم بعض الناس
وليس المهم أن تستريح الأمم من الكفاح، لأن الكفاح هو أيضاً من الغايات، فما كانت الراحة إلا نذير الموت والفناء
إلى العلامة وحيد الأيوبي
قرأت جوابك، أيها السيد في مجلة الرسالة، وأنت ترى انه يقال للشيخ عجوز وللشيخة عجوز وعجوزة. وأقول إن الشيخة عجوزة فقط، ولا يجوز وصفها بعجوز في لغة هذا العهد، لأن اللغة صائرة إلى التقعيد وهو استنادها إلى قواعد وأصول في جميع الشؤون، بحيث ينقرض الشذوذ الذي يأخذ قوته من السماع
فأنا أقول: زوج وزوجة، وخادم وخادمة، وصبور وصبورة، وقتيل وقتيلة، وجريح وجريحة، وعجوز وعجوزة، لتوكيد التفريق بين المذكر والمؤنث، وهو غرض يقصده البلغاء
فإن احتججت بلغة القرآن فسألقاك بأدلة جديدة توهن ذلك الاحتجاج، بدون أن أخرج عن الأدب في الحديث عن لغة القرآن. وإن آزرك الأستاذ الكبير (ا. ع) فسيكون للأقلام مجال في تحرير مشكلة طال عليها الخلاف، وسنمد لغة العرب بزاد هي إليه في اشتياق، لأنه باب من الحرية في الأداء، ولأنه عون على التحديد والتعيين حين تختلف المعاني(420/16)
والأغراض، والسلام.
زكي مبارك(420/17)
في الاجتماع اللغوي
اللهجات العامية الحديثة
الرسم العربي: أثر اللهجات العامية في صعوبته
مظاهر نقصه ووسائل إصلاحه
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
- 6 -
لا ترمز حروف الهجاء في الرسم العربي إلا إلى الأصوات الساكنة (ونعني بها ما يقابل أصوات المد) وأصوات المد الطويلة (الألف والياء والواو). أما أصوات المد القصيرة فيرمز إليها بحركات يوضع بعضها فوق الحرف وبعضها تحته (كُتِبَ كَتَبَ. . .)
ولا تكاد تدون هذه الحركات في عصرنا الحاضر إلا في الكتب الأولية التي تستخدم في تعليم النشء مبادئ القراءة والكتابة. أما فيما عدا ذلك فقد جرت العادة غالباً أن تدون الكلمات في الكتابة والطبع عارية عن الشكل. ومن أجل ذلك أخذ بعض الباحثين على الرسم العربي بعض مآخذ من أهمها ما يلي:
1 - أنه لا يستطيع أحد أن يقرأ نصاً عربياً قراءة صحيحة ويشكل جميع حروفه شكلا صحيحاً إلا إذا كان ملماً بقواعد اللغة العربية وأوزان مفرداتها إلماماً تاماً، وفاهماً معنى ما يقرؤه. ويردد من يأخذ هذا المأخذ على الرسم العربي ما قاله قاسم أمين من أنه في معظم اللغات الأوربية يقرأ الناس قراءة صحيحة ما تقع عليه أبصارهم وتتخذ القراءة وسيلة للفهم: أما نحن فلا نستطيع أن نقرأ قراءة صحيحة إلا إذا فهمنا أولا ما نريد قراءته
2 - أن النص العربي الواحد عرضة لأن يقرأ قراءات متعددة بعيدة عن اللغة الفصحى. وذلك أنه قد حدث تناوب واسع النطاق في أصوات المد القصيرة (التي يرمز إليها بالفتحة والكسرة والضمة) في اللهجات العامية كما تقدم بيان ذلك في إحدى مقالاتنا السابقة؛ حتى أنا لا نكاد نجد كلمة باقية في هذه اللهجات على وزنها العربي الصحيح. وتختلف هذه(420/18)
الأوزان باختلاف اللهجات (خِسِر، خُسُر، يِعمِل، يِعمَل. . . الخ). فالنص العربي المجرد من الشكل عرضة لأن يقرأه أهل كل لهجة حسب منهج لهجتهم في وزن الكلمات
3 - أنه من المتعذر مع هذا الرسم قراءة أسماء الأعلام (أسماء الأمكنة والبلاد والبحار والجبال والأناس. . . الخ) قراءة صحيحة. ولذلك تضطر بعض المعاجم والمؤلفات إلى تهجي حروف الكلمات التي من هذا القبيل، والنص على حركة كل حرف منها؛ فتقول مثلاُ (صفين بكسر وتشديد الفاء المكسور)، (الغفاري بكسر الغين وتخفيف الفاء) وهلم جرا
وقد قدمت عدة اقتراحات لسد مواطن النقص السابق ذكرها
فتقدم بعضهم باقتراحات ساذجة هدامة لا تكاد تستحق عناء المناقشة. فمن ذلك استبدال الحروف اللاتينية ومنهج الرسم اللاتيني بالحروف العربية ومنهج الرسم العربي. ولا يقوم هذا الاقتراح إلا على مجرد الرغبة الآثمة في تقليد الغربيين؛ إذ ليس ثمة ما يدعو إلى اصطناع الحروف اللاتينية. وإن كان لا بد من السير على طريقة الرسم اللاتيني بصدد أصوات المد القصيرة، فلا يقتضينا ذلك أكثر من اختراع ثلاثة أحرف ترسم في صلب الكلمة بدل الفتحة والكسرة والضمة كما سنذكر ذلك في بعض الاقتراحات الآتية. وأكثر من هذا هدماً لكيان اللغة العربية ما ذهبت إليه طائفة في علاج الرسم، إذ اقترحت إلغاء الإعراب وإلزام السكون أواخر الكلمات، حتى تضيق مسافة الخلف بين رسم الكلمة ونطقها في اللهجات العامية المستخدمة في المحادثة، فتسهل على الناس القراءة، ويتخلص الرسم العربي من بعض عيوبه. وقد كفانا أستاذنا الجليل أحمد لطفي السيد باشا مئونة الرد على هذا الاقتراح بما عقب عليه في الشئون الاجتماعية إذ يقول: (وهذا الرأي مطعون فيه من وجهين: أما الأول فإنه لا يحل من المسألة إلا بعضها دون البعض الآخر؛ لأن ضبط حركات الحروف ليس ضرورياً في الإعراب فحسب، بل هو أشد ضرورة في بنية الكلمة. وهذا الضبط من جواهر اللغة؛ فإذا أهملنا الإعراب وأهملنا الشكل ولم نأت بطريقة تقوم مقامه ظل الناس يلفظون الكلمات على غير وجهها الصحيح كما هم الآن يفعلون. وأما الوجه الثاني فإن هذا في الرأي إهدار لصورة اللغة العربية وقضاء على أهم مميزاتها. وذلك مالا نظن أحداً يرضاه، خصوصاً متى أمكن تسهيل تعليم اللغة وشيوعها من غير الالتجاء إلى العبث بسلامتها ومميزاتها)(420/19)
واقترح بعضهم إدخال الشكل في بنية الكلمة حتى لا يتخطاه نظر القارئ؛ وذلك بان تخترع حروف للرمز إلى أصوات المد القصيرة (التي يرمز إليها الآن بالفتحة والكسرة والضمة)، وتدون هذه الحروف في صلب الكلمة في مواضعها. فلتدوين كلمة (كتب) مثلاً يرسم بعد كل من الكاف والتاء والباء الحرف الذي سيخترع للإشارة إلى ما تشير إليه الفتحة في رسمنا الحاضر. وهذا هو المنهج الذي يسير عليه الرسم الأوربي وينتصر لهذا الاقتراح عدد كبير من الباحثين على رأسهم أستاذنا الجليل أحمد لطفي السيد باشا.
واقترح آخرون أن يكون لكل حرف من حروف الهجاء العربي أربع صور مختلفة: صورة في حالة تحركه بالفتح؛ وأخرى في حالة تحركه بالكسر؛ وثالثة في حالة تحركه بالضم؛ ورابعة في حالة تسكينه. وهذا في مجمله هو المنهج الذي يسير عليه الرسم الحبشي.
وترى جماعة بالاكتفاء بالتزام الشكل في المطبوع والمكتوب حتى يستطيع كل فرد أن يقرأ ما يقع عليه نظره قراءة صحيحة
والذي أراه أن الصعوبة التي يشتمل عليها الرسم العربي لا يكاد يخلو من مثلها، بل مما هو أشد منها، أي نوع من أنواع الرسم. فاللبس الذي يحدثه أحياناً الرسم العربي ليس شيئاً مذكوراً بجانب اللبس الذي يحدثه الرسم الإنجليزي مثلاً، وخاصة في النطق بأصوات المد , , , , , , , , , ,. . فكثيراً ما يختلف النطق بالصوت الواحد من هذا النوع وغيره تبعاً لاختلاف الكلمات التي يرد فيها؛ حتى أنه يستطيع قراءة معظم الكلمات الإنجليزية قراءة صحيحة بمجرد النظر إلى حروفها؛ بل لا بد في ذلك أن يكون القارئ قد عرف نطق الكلمة من قبل عن طريق سماعها من إنجليزي. كما أنه لا يستطيع كتابتها كتابة صحيحة بمجرد سماعها؛ بل لا بد في ذلك أن يكون قد حفظ حروفها - من قبل عن ظهر قلب -. وفي الحق أن الرسم العربي ليعد من أكثر أنواع الرسم سهولة ودقة وضبطاً في القواعد ومطابقة للنطق
أما وجوه الإصلاح التي أشرنا إلى بعضها فيما تقدم فيظهر لنا أن ضررها أكبر من نفعها، فمعظمها يطيل رسم الكلمة أو يزيد من حروفها، وفي هذا إسراف في الوقت والمجهود والنفقات المادية وشؤون الطبع. . . وما إلى ذلك. هذا إلى أن كل تغيير جوهري يدخل على الرسم من شأنه أن يحول - عاجلاً أو آجلاً - بين الأجيال القادمة والانتفاع بالتراث(420/20)
العربي. حقاً إنه يمكن اتقاء ذلك بالالتجاء إلي إحدى محاولتين؛ ولكن كلتيهما توقع في صعوبة تزيد كثيراً عن الصعوبة التي تعمل على إزالتها. أما إحداهما فأن يتعلم كل فرد نوعين من الرسم العربي: الرسم القديم الذي يتيح له الانتفاع بنتاج الفكر العربي من النشأة إلى العصر الحاضر؛ والرسم الحديث الذي يقرأ به ما يدون بعد هذا الإصلاح ويستخدمه في كتابته، ولا يخفي ما يترتب على ذلك من الارتباك، وإطالة الزمن الذي تعلم فيه القراءة والكتابة، وانفرادنا من بين سائر الأمم بأعجوبة في ميادين الرسم والتعليم. وأما الأخرى فأن يعمد إلى جميع ما كتب أو طبع بالرسم العربي القديم فيعاد تدوينه وفق هذا الرسم الحديث، ولا يخفى أن مشروعاً هذا شأنه تنوء به الجهود الإنسانية وتعجز الخزائن عن تموينه على أن من اليسير اتقاء وجوه اللبس التي أشرنا إليها بدون الالتجاء إلى أي إصلاح من الإصلاحات الآنفة الذكر. فمن الممكن التغلب على هذه الصعوبة بالتزام شكل الكلمة التي من شأنها أن تثير اللبس عند أواسط المتعلمين إذا نزلت من غير شكل، أما الكلمات التي يدل السياق على شكلها، أو يكفي إلمام بمبادئ القواعد العربية للنطق بها على وجهها الصحيح، أو لا يمكن أن ينطق بها في صورة أخرى، فمن العبث الالتجاء فيها إلى الشكل
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس(420/21)
القيم الأخلاقية في الآداب الإنجليزية المعاصرة
للدكتور توماس جرينوود
أستاذ الفلسفة بجامعة لندن
لأجل أن نقف على وجهة النظر الأخلاقية في كتاب الإنجليز الحديثين يجب أن نعرف تلك الميول العامة التي دفعتهم إلى تلك الاتجاهات الجديدة وجعلتهم يثورون على نظم وتقاليد العصر الفكتوري. فإن عظمة الحكم الفكتوري قد انعكست في ذلك الإلهام الذي ألهم كتاب العصر ما كتبوا عن الفكرة العامة عن النظام والوجهة المنظمة للعالم، واحترام التقاليد، والخضوع للقانون الأخلاقي، واحترام الفضيلة والتسامي بها، وعدم ذكر الرذيلة إلا للتشهير بها، اللهم إلا بعض الكتاب الثائرين (كسوينبرن) الذي كان أوسع حرية في الأخذ بتلك الآراء. إن رسوخ الأخلاق في الآداب الفكتورية قد اختفى تماماً في الكتاب المعاصرين لأسباب منها الحرب العظمى، والنزعات العلمية والاجتماعية والاقتصادية الحديثة، وتدهور القيم الأخلاقية العامة، واتخاذ كل شيء شكلا جديداً
فكان (شو) و (ولز) كبار الرواد الذين سخروا من العصر الفكتوري وهدموا أسسه الأخلاقية. أن الضرر الذي لحق ذلك العصر من جراء هذين الكاتبين لا يوازن بتلك الأفكار الخيالية المثالية التي جاء بها ولز. وكان من آثار هذا الهدم العنيف أن ترك الجيل الجديد بدون مرشد، وأصبح يتعثر في سيره ويتخبط في عمائه واضطرابه. وهذا أوضح ما يكون في القصة. فعندنا نماذج خمسة من القصة: المخاطرات، ثم المواقف الغربية الشاذة (مع التناقض القوي بين الحوادث الحقيقية والمتخيلة)، ثم الاجتماعية والنفسية، ثم السير (وهنا يذكر الكاتب مثالاً لكل منها ليظهر كيف أن المؤلفين قد تأثروا بتلك الأسباب التي ذكرناها، وكيف أن القيم الأخلاقية قد أصبحت في عماء وفوضى). وهذا يظهر جلياً في قصص أولئك المؤلفين الذين كانوا أشد تأثراً بالنظريات النفسية الحديثة
وعندما يشير الكاتب باختصار إلى كتابات باري وولبول وبيريسفورد وبلا كوود وسنكلير وفيرجينا وولف وغيرهم يعرض لثلاثة من أشهر كتاب القصص وأبعدهم أثراً في الأدب الحديث وهم: جيمس جويس ولورنس وألدس هكسلي
ففي جويس نجد المسائل النفسية مشروحة على الطرق الحديثة، فهو يصف لنا بدقة فائقة(420/22)
التطورات النفسية لأبطاله. وهو لا يقيم وزناً كبيراً للحوادث فهي متساوية الأثر لديه. فالحياة في نظره ليست أكثر أهمية في مكان منها في مكان آخر؛ وهو يكشف لنا في قصته (أهالي دبلن) و (صورة الفنان كشاب) عن مقدرة فائقة واستعداد أدبي ممتاز. ولكن (يوليسيس) أعظم قصصه التي تظهر لنا بوضوح فوضى أخلاق أبطاله. ومع أنه يدعى أن حوادث قصته تصل بأبطاله الذين أوجدهم في هذه القصة، إلا أن الناس أميل إلى الاعتقاد أن مستر بلوم مثلاً شخصية مألوفة في الحياة الإنجليزية. وليس هناك فن أوضح لوصف كل الأفكار المريضة للرجل العربيد من أن يصف حوادث حدثت في حجرة الاستقبال أو على مائدة العمل. فالإنسان في نظره ليس فاضلاً، وهو من أجل هذا يجب أن يكبح أهواءه الدنيئة مستعيناً بذكائه وعقله
وجويس مع ذلك لا يدافع عن أخلاق أبطاله، فإن معالجته لفن القصة وأسلوبه القوي النشيط ومادته الغريزة، كل أولئك يساعد على إظهار أبطاله كما يريد أن يبرزهم لا أن تخفيهم أو تستر بعض عيوبهم. وهذا ما عمله لورنس، فإن كل كتاباته لا تدور حول الجنس فحسب (مع استثناء بعض قصصه الوصفية الجميلة) ولكنه يدافع عن آرائه في حرية الحب وغياب الروحية وازدراء القيم الأخلاقية والثورة على النظم الثابتة والتقاليد القديمة في العلاقات الجنسية والاجتماعية
وهنا ذكر الكاتب بعض مقتطفات من قصته (قوس قزح) مدللاً على صحة هذه الآراء
أما هكسلي فإن دفاعه عن آراء لورنس في حرية الأخلاق قد اتخذ شكلاً فلسفياً، فهو يحاول (قصداً) أن يظهر أن هذه الفوضى الأخلاقية هي النتيجة العقلية لتحليل النفس الحقيقية.
لقد تعرضنا في هذه الإلمامة النقدية للقيمة الدبية لكتابات أولئك المؤلفين؛ وهذه القيمة نفسها تعرض أخلاقهم إلى خطر عظيم، فقد وقع الكتاب الثلاثة في أزمات نفسية خاصة وليست شائعة عامة بين الناس. وعلى هذا فمن الخطأ أن نعتقد أن هؤلاء الكتاب على أي حال أو في أي صورة المظهر الأخلاقي الحقيقي للعقل الإنجليزي
وأخيراً أظهر الكاتب أنه بالرغم من تأثير أولئك الثائرين فإن الأدب الإنجليزي المعاصر لديه مؤلفون عديدون يدينون بالآراء القديمة؛ فهم محافظون على تقاليدهم الموروثة؛ أمثال: ميروث وجولزورث وبنت وكونراد وجيروم وتشسترتن؛ حتى هاردي يمكن أن يعتبر أنه(420/23)
أميل، أو أكثر إخلاصاً وأمانة إلى الأخلاق والتقاليد القديمة، التي هي من الأسباب الجوهرية في عظمة الشعب الإنجليزي.
نظمي خليل(420/24)
جيل وجيل
إلى أين يسير الإنسان!
للأستاذ محمود البشبيشي
- 5 -
التعليل الروحي قيد الشخصية - التعليل العملي مطلق للمجموع - الميول والعواطف العامة تعمم التعليل الروحي - والتأمل الخاص يخصصه - الحيوان والتجربة! - التعليل الروحي والعملي والفكر الأدبي
. . . نصل نقاشنا اليوم بصورة من اتجاهات ولدنا الأديب (حسين) الفلسفية، فلا سبيل إلى إرضاء هذه الفورة الفكرية إلا بتشريح خواطرها المتدفقة، تشريحاً لا تنزل صوره إلا بمنزلة اليقظات الحسية، والأقباس الفكرية اللماحة
وحديث اليوم نسيج وحده، وجدت في مسايرته نشوة الفكر الحر إذا انكشفت أمامه مخبآت الفكر الإنسانية. . . ورأيت من الخير أن أتابعه إلى أقصى حدود المتابعة، وأتنقل معه من شاطئ فكر إلى شاطئ فكر، لأسبر غور اليقظة الحسية والفكرية في عقل متوثب من عقول الجيل الجديد، ولأرى كيف يمكن عقد صلة بين حياتنا الفكرية وبيننا
ولقد رأيت الكثير وعلمت الكثير ودفعني هذا العلم والتأمل إلى مواصلة النقاش، ففيه نشوة روحية ولذة فكرية ونوع من التعبير جديد عامر بنفائس المعاني وكرائم الاتجاهات، لا يمله القارئ الراغب في التسلية، وتجد فيه العقول الراجحة الوزينة أطايب وأطايب
- لاشك يا بني أن الإنسان بما ركب فيه من أحاسيس ومشاعر، وما اختص به من عقل متأمل له القدرة على تفهم ما يدور حوله وما يضطرب في أيامه من تغيرات معنوية ومادية. . . ولا شك أن قدرته على تفهم دقائق الأسرار تختلف كل الاختلاف وتتفاوت كل التفاوت تبعاً لقدرة الفرد على التغلغل في ظلمات الفكر، والتأمل في بدياتها ونهايتها، وإدراك الصلة بين هذه البداية وتلك النهاية. . . ثم تبعاً للقدرة على التعليل والوصول إلى النتائج
وكما اختلف الإنسان في جوهر العقل كان اختلافه في كل ما يصدر عن العقل وما يترتب(420/25)
على نتائجه
- جميل هذا، ولكني أعتقد أن مظهر التعليل أهم مظاهر الفكر التي يقع بينها التفاوت، بل إني لأعتقد كل الاعتقاد أن للتعليل الخطر الأكبر في كل ما تقوم عليه الحياة الفكرية والعلمية، يظهر أثره في الشروع في العمل وفي حالة القيام به، ويبدو واضحاً فيما تتكشف عنه النتيجة. . .
ففي استطاعة كل إنسان أن يشعر بوجود ما يثير التفكير من موضوعات معنوية أو مادية، خاصة أو عامة، طبيعية أو غير طبيعية، ذلك لأن جوهر العقل المدرك مشترك في المجموع.
ولكن التفاوت قد يقع، بل لا بد أن يقع فيما وراء مرحلة الإدراك من تصرفات فكرية، كشعور الإنسان بإحساس خاص نحو موضوع اعتراضه، أو رغبته القائمة على هذا الشعور في سلوك مسلك خاص نحو هذا الموضوع؛ وكما وقع الاختلاف في مرحلة الإحساس الخاص والسلوك الخاص يحدث في القدرة على التعليل لأن هذه المرحلة تصل معاني الإحساس الخاص والسلوك الخاص يحدث في القدرة على التعليل لأن هذه المرحلة تصل معاني الإحساس بمعاني ووسائل السلوك
- حسن هذا يا بني، وجميل أن نتأمل (التعليل) تأملا أوسع نطاقاُ، ونحاول أن نستشف أسراره. . . عرفنا سر اختلافه فما هي صوره؟ وإلى أي مدى تتأثر الحياة بتلك الصور؟ ورأى مظهر من مظاهره أجدى على المجتمع؟
التعليل نوعان: تعليل روحي وتعليل عملي. أما الروحي، فهو وليد الفكر، يسير على ضوء أقباسه وتكون نتائجه صوراً فكرية أساسها التصور والتخيل؛ والعملي وهو في حقيقته صورة لتعليل روحي انطلقت من قيود التخيل والتصور ووجدت الوسيلة القادرة لتتجسد بالعمل أو بالقياس، ووسيلة الإتقان في العمل والصدق في القياس هي التجربة
- وعندي يا والدي أن التعليل الروحي قيد من قيود الشخصية! لأنه مختلف متفاوت، ومن اختلافه وتفاوته تتميز الشخصيات
فهذا رجل قاتم الروح، تخرج نظراته إلى الأشياء من ألوانها القاتمة، فما من فكرة له وعمل إلا وفيه صورة من صورها، وإنه لسالك السبيل حتى يصبح سمة يعرف بها ولون تتكون(420/26)
منه شخصيته، وباختلاف ألوان الروح تختلف الشخصية
ولما كان التعليل صورة من صور الروح والعقل، ومظهراً من مظاهر الشخصية، كان طبيعياً انه إذا اشتد وتمت له الغلبة على الشخصية نفسها، وعلى سائر مكوناتها، أو تخطى حدود التوازن بينه وبينها. . . انتقل بالإنسان من قيد الشخصية الفردية إلى أفق الإنسانية العامة. . . فإذا به قد صب في قوالب من صور المجتمع، واستطاع أن يغالب نوازع النفس الفردية بعد أن كان الحكم والغاية فيه للتصور والتخيل والذوق الخاص، لا للميول الاجتماعية والخير العام
- رأيتَ يا بني أن التعليل الروحي من مكونات الشخصية، وإنه في أول أمره يكون من سمات الفردية، فإذا تمت لها الغلبة على سائر مكونات الشخصية، انتقل بها من نطاق الفرد ومنافعه الخاصة إلى أفق المجموع ومنافعه العامة، هذا حق ولكن يحسن أن نجلي عنه قليلاً فنقول: إن التعليل الروحي إذا غلب عليه التأمل الخاص أصبح صاحبه محباً للأثرة؛ أما إذا مسه شعاع من أقباس الميول العامة والعواطف، كان طريقاً ممهداً إلى مسايرة منافع المجتمع الإنساني وملابسة تقلباته وتطوراته، أو كان سبيلاً إلى معارضة تلك المنافع ومحاربتها. . .!
فهذا رجل نبيل الروح تظهر روحه النبيلة في مظاهر تعليله، ويقف تأثيرها في أول الأمر أو في حالة التوازن بينها وبين شخصيته عند منفعته الخاصة. إما إذا قهر هذا التعليل الروحي النبيل سائر مكونات شخصيته جعل منه صحاب ميول اجتماعية إنسانية سامية؛ فهو بما فطر عليه من نبل يعمل على إسعاد المجتمع وتقويم أوده. . .
وذاك رجل غلفت روحه بالأثرة والطمع، وطغى ذلك على مذاهب تعليله؛
فهو يتخبط في ظلمات أثرة محدودة بأطماع مقيدة في أول أمره؛ ثم إذا تمت الغلبة لتعليله الروحي وقهرت شخصيته، انطلق انطلاق الطائر الحبيس تفتحت أمامه آفاق السماء، فراح ينتهب من هنا وهناك، ويحلق هنا وهناك، وكان في جميع أموره مقدماً منفعته، معارضاً الخير العام
- وأرى يا والدي أن التعليل العملي سبيل من سبل إسعاد المجتمع. فما كانت الآلات ووسائل العلاج المختلفة إلا وليدة تعليل عملي، تأمل في أحوال الكون، وقارن بين ما فات(420/27)
وما هو آت، وربط التجاريب القديمة بالنظرات الحديثة، ووقف عند كل ظاهرة من ظواهر الحياة وقفة الفكر العملي الذي لا يقنع بزاد التخيل، ولا يرضى بعتاد التصور!
ولقد كان الإنسان في فجر أيامه تيهان هائماً، وكان موقفه من مشكلات الأمور موقف العجز المطبق أو القدرة المقيدة تغيم الدهشة في رأسه إذا طوقته الحادثات، وتضطرب الحيرة في فكره إذا بدهته الملمات!
كل أعماله تنم عن نقص في التدبير، وكل تصرفاته تدل على قصور في التفكير، وما من طريق سلكه إلا هتك عن جهل بمغالبة الأمور
ولقد ظلت أموره إلى عهد غير بعيد مشدودة إلى ماضيه بقيود من المنافع الخاصة والنظرات الروحية! أما اليوم فقد تحول تحولاً كبيراً، وانقلب انقلاباً خطيراً. . .
أفلم يساير الزمن في تقلباته، ويلابس التقدم العقلي في تصرفاته؟ أو لم يناوص ويصاول حتى أدرك أسراراً لم يكن ليستشفها إلا الفطن الذي تحفزه فكرة وعقيدة؟!
ولقد ملك اليوم ناصية فكرة وعقيدة مهما يكن مكانها من الخير أو الشر فهي من علائم اليقظات الحسية! وجماع القول في تدرج الإنسان، ومسايرته للزمن، وملابسته للتقدم العقلي، إنه كان روحي التعليل فاصبح عملي التعليل، وانتقل من لا نهاية التخيل والتصور إلى حدود التجربة والعمل
وكان في انتقاله هذا إدراك لما لا يناله غوص التخيل وتحقيق لما لا يسبر غوره تغلغل التصور، ولم يعد الإنسان ذلك المكدود المجهد اللاغب المدلج الحائر
ولكن هذا التطور جلب شراً خطيراً كما حقق خيراً كثيراً
وأكبر الظن أن الإنسان سيظل مندفعاً في سبيل التعليل العملي وحده والتجربة خاصة، حتى يصل إلى غاية تنقلب فيها الأمور إلى أضدادها! وما ذلك ببعيد. وهل كانت هذه الحرب الضروس إلا صورة لفساد المذهب التجريبي العملي التعليل؟
تلك صور الإنسان، فما صور الحيوان؟ عندي أن الحيوان عملي التعليل يسير على ضوء التجربة وينهج نهج الخبرة السابقة، فكل أعماله غير الغريزية لا تكمل صورها إلا بالتكرار والتجربة ولذلك الاعتقاد عندي علل وأسباب
فهو محروم من التعليل الروحي الكامل المعاني، لحرمانه من صور العقل الكامل وهذا أمر(420/28)
لا يحتمل الجدل؛ ثم هو عاجز كل العجز عن ملائمة نفسه بالبيئة التي تحيط به، والقدرة على الملائمة من قواعد الحياة الثابتة، التي تقوم على ضوء أقباس العقل الكامل، وإشعاع التعليل الروحي!
ثم إني لألمس هذا القصور عن بلوغ مواطن التعليل الروحي عند الحيوان، حتى فيما يرتكز على غرائزه الثابتة؛ فهذا حيوان يأكل العشب الأخضر، تراه يلتهم ما أمامه بغير تأمل، فهو لا يميز بين الضار وغير الضار، لحرمانه من التعليل الروحي؛ ولكنه بالتكرار والتجربة، يستطيع أن يدرك أن هذا النوع الذي أصابه منه ضرر جدير أن يبتعد عنه، وهو حتى في هذه الحال بطيء الإدراك، بطيء الفهم لوسائل التكرار والتجربة، فلو غيرت ظروف البيئة الأولى لوقع فيما وقع فيه أولاً!
أما أثر التعليل الروحي في الأدب فيبدو واضحاً جلياً في خطرات النفوس الشاعرة، ونظرات القلوب الفنانة الساحرة، وإنه ليكون اكثر وضوحاً في نفاث الشعراء الغزليين، ونغمات الكتاب الوجدانيين، وفي كل أثر من أثار الفكر السابحة في سماء من الخيال المجنح الذي لا يعرف القيود، ولا يعترف بالحدود! ومثل هذا التعليل لا يقوم إلا على التصور والتخيل، فهو من شواهد اليقظة الروحية، ولكن أثره لا يمتد إلى آفاق التعليل العملي، القائم على التجربة والقياس، وإن كان أصحابه من الشعراء والكتاب يحلقون في سماء الخلود الفكري. فغاية التعليل الروحي تغلب عليه الشخصية وتكسوها الفردية. فالشاعر الوجداني إنما يُشرح خواطر قد انبعثت من تقلبه في غمرات من الآلام الخاصة، واضطرابه في طوارق من الأوجاع والأسقام، فأثاره مقيدة بقوة تأثير ما يضطرب في حياته
والشعراء والكتاب الذين ينهجون نهجاً وسطاً بين الروحي والعملي هم بناة صروح الحياة، فما كانت الإنسانية في حاجة إلا للثبت الذي يستطيع المجانسة بين قوة التعليل الروحي وانطلاقه وقوة التعليل العملي وقدرته، وخير المصلحين من جمع بين فلسفة الفكر وفلسفة العمل والتجربة
- رائع هذا يا ولدي ولكني أميل إلى جعل التعليل الروحي شديد الصلة بالشعر وسائر أنواع الفنون كالرسم والنحت والموسيقى، فما سمعت مرة قطعة موسيقية روحية إلا(420/29)
وأحسست بأنغام سماوية تكاد ترتفع بي من عالم الأرض إلى عالم السماء، وتطهرني من معاني التراب الحقيرة، وتكسوني معاني الروح التي لا تعرف الحدود. . .
ويا سحر الشعر الروحي الوجداني. . . يا سحره!
استمع إلى المعاني كيف تنطق وكيف تتراقص من سحر الفن ونور الروح وشفافية الوجدان! تأمل الألوان النفسية الساحرة تسطع من أزاهير قول الشريف الرضي:
أينعت بيننا المودة حتى ... جللتنا والزهر بالأوراق
نحن غصنان ضمنا عاطف الوج ... د جميعاً في الحب ضم النطاق
في جبين الزمان منك ومني ... غمرة كوكبية الائتلاق!
وتأمل قول القائل وقد فاض به الوجد:
أيامنا جدول والحب زورقنا ... هيهات يحفل بالأمواج ترتطم!
لا يدرك القلب ماضينا وحاضرنا ... وفي نعيم الهوى أيامنا عدم
نعيش في عالم ألوانه حُلُم ... في شارد من خيال الفن ترتسم
قد كان صفو الهوى دنيا منمقة ... وكان في بهجتينا الحب يبتسم
ولّى فيا لوعة ألقت بعاصفة ... على فؤاد ترامت حوله الظلم!
وانظر قول الشاعر:
حدثتني الرياض عن لفتاتك ... وحكت لي النجوم عن لمحاتك
وطيور الغدير بحت من الشدو (م) ... بلحن الجمال من صدحاتك
وسمعت الأمواج تهمس للشط (م) ... حديث المجنون عن قسماتك
وضمير الجمال جن من الوجد (م) ... وذاب الهوى على زهراتك
اذكريني يَعُدْ ضميري للنور (م) ... ويحيى الفؤاد في ذكرياتك!
ويا سحر قول الشاعر محمد عبد الخالق الجبار يصف الشباب:
أنغامه الأيام وقعها الهوى ... والصمت من أصدائها تغريد!
ملك على عرش المعاني جالس ... من حوله للساريات عبيد!
إطراقة التاريخ حول جبينه ... تكبيرة يجثوا لها داود!!
محمود البشبيشي(420/30)
النجوم تقرر مصير الحرب. . .!
وقع في يدنا تقويم قمري أخرجه السيد أمين الحسيني الفلكي في بدء العام الهجري الحاضر، وقد وردت به نبوءات عن الحرب، ويلاحظ القارئ أن كثيراً من هذه النبوءات قد صح
قال عن ألمانيا: أنه أمد حربها مع الديمقراطية سيطول وستزداد المعارك شدة، ولكن الأفلاك تقول إن قوتها بدأت في الانحطاط وأن هتلر لن يتمكن من تحقيق أمانيه في حكم العالم وانه سيسقط في مستقبل الأيام هو وشعبه، وإن بدا أنه سيظفر. فهناك شراك خطة ستكون السبب في سقوطه وستحدث ثورات في البلاد المحتلة. أما هتلر فسينقلب عليه أعضاء حزب النازي ويخونونه. وسيحاول في الصيف أن يغزو الجزر البريطانية ولكنه سيفشل لأن خطوط موصلاته ستقطع من البحر ولن يجد سبيلا للعودة وسيثور عليه أعداؤه من خلفه حتى يسقط وسيقتل في حادثة وبقتله تخضع ألمانيا وتنهزم
وقال عن إيطاليا: أن زعيمها سيفقد إمبراطوريته الأفريقية باستيلاء جيوش الحلفاء عليها وسيطلب مساعدة هتلر وقد يمده ببعض المساعدة ولكنها لن تؤدي إلى إنقاذ إمبراطوريته، وستضعف إيطاليا نفسها ويغرق أسطولها في معركة بحرية عظمى في البحر الأبيض بعيداً من السواحل وينتج عنها انهيار إيطاليا التام، وسيرسل هتلر إلى إيطاليا جنوداً ومهمات حربية ويسيطر على إيطاليا، ولكن لا يمر زمن طويل حتى تطرد ألمانيا من إيطاليا
وقال عن بريطانيا العظمى: إنها ستقضي على القوات الإيطالية في أفريقية وتحتل المستعمرات الإيطالية كما تدل الأحوال الفلكية على أن القوات البريطانية ستحرز انتصارات أخرى في الشرق الأوسط في هذه السنة. وسيكون هناك انتصار بحري عظيم في البحر الأبيض. أما في برقة فأن القوات الألمانية ستقع في شرك نصب لها بمهارة وستهزم شر هزيمة في الصحراء. أما في ألمانيا نفسها بعد فشل الغزو فسيحطم سلاح الطيران الملكي البريطاني المصانع الألمانية ويشل حركة الإنتاج الحربي ويقطع خطوط الموصلات
وقال عن الولايات المتحدة: أنها ستدخل الحرب ضد ألمانيا سنة 1942 وسيزداد العمل فيها هذا العام ويخصص جانب عظيم من إنتاجها الحربي والغذائي للدفاع عن الحرية الإنسانية وستمد الدول الديمقراطية بالمال مساعدة لها في نضالها وقال عن تركيا: إنها(420/32)
ستطمئن في هذه السنة لأن خوفها من روسيا سيزول وسيحاول هتلر أن يفسد التفاهم بين تركيا وبريطانيا، وسيحاول أن يرغمها على الانضمام إلى المحور ولكنه سيفشل.
فما رأي القارئ في مقدرة النجوم على التنبؤ؟ وهل يكون ما قررته النجوم هو فعلا مصير الحرب؟(420/33)
مدن الحضارات في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
- 4 -
كانت حفلات الفاطميين في القاهرة موصولة لا تنقطع العام كله. ولقد صورها المؤرخون المعاصرون صوراً تنقل إلينا حقائق كثيرة عنها، ومن هؤلاء المؤرخين أبو محمد الحسن ابن زولاق مؤرخ المعز لدين الله وصاحب سيرته، وابن الطوير الذي يأخذ المقريزي عنه كثيراً في خططه، والمسبحي صاحب التاريخ الكبير، وابن عبد الظاهر وغيرهم.
وكانت القاهرة في عهد الفواطم تزخر بالقصور الكثيرة والدور المختلفة. ومن القصور التي ورد ذكرها في كتب الخطط: القصران الكبير والصغير، والقصر اليافعي، وقصر الذهب، وقصر الأقيال، وقصر الظفر، وقصر الشجرة، وقصر الشوك، وقصر الزمرد، وقصر النسيم، وقصر الحريم، وقصر البحر
ومن الدور المشهورة عندهم دار الضيافة ودار الوزارة ودار الضرب ودار الذهب ودار الملك
ومن المناظر التي كثرت في عهدهم منظرة اللؤلؤة وكانت تقع على الخليج، ومنظرة الغزالة، ومنظرة المقس، ومنظرة الدكة، ومنظرة السكرة.
والقصر الكبير يسمى المعزي نسبة إلى المعز لأنه هو الذي أمر جوهراً ببنائه حينما زايل مع عسكره شمالي أفريقية إلى مصر. ويقول المقريزي إن هذا القصر من ترتيب المعز ورسمه، وإن جوهراً لم يكن في البناء والتعمير إلا منفذاً لتصميم مولاه. ويجد القارئ وصف هذا القصر وصفاً تفصيلياً في الخطط مما ليس هذا موضع الإفاضة فيه. إلا أن شيئاً واحداً يطيب ذكره في هذا الموضع، وهو مد السماط في شهر رمضان، وكيف كان يجتمع فيه قاضي القضاة والوزير والأمراء يأكلون الطعام الهنيء ويشربون الشراب المريء ويقدم إليهم الماء المبخر في كيزان الخزف.
وكان لعيد الفطر مثل هذا السماط ومثله في عيد النحر، وكانت القاهرة المعزية تشهد هذه الحفلات في فرح عظيم
ولا نجد أحلى في هذا المقام من تدوين أبيات من القصيدة التي رثى بها عُمارة اليمني(420/34)
الدولة الفاطمية، وودع مكارمها وأيامها وحفلاتها وعاداتها، وشيَّع فيها السن الجميلة التي استنوها لإحياء عيد أو إقامة شعيرة أو توديع جيش أو فتح خليج، فقال:
دار الضيافة كانت أنُس وافدكم ... واليوم أوحش من رسم على طلل
وفطرة الصوم إن أصفت مكارمكم ... تشكو من الدهر حيفا غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورث منها جديد عنهم وبلى
وموسم كان في كسر الخليج لكم ... يأتي تجملكم فيه على الجمل
وأول العام والعيدان كان لكم ... فيهم من وبل جود ليس بالوشل
والأرض تهتز في عيد الغدير بما ... يهتز ما بين قصريكم من الأسل
والخيل تعرض في وشى وفي شية ... مثل العرائس في حلى وفي حلل
ولا حملتم قوي الأضياف من سعة الْ ... أطباق إلا على الأعناق والعجل
وما خصصتم ببر أهل ملتكم ... حتى عممتم به الأمضى من الملل
وللجوامع من أحباسكم نعم ... لمن تصدر في علم وفي عمل
والقصيدة تجري كلها على هذا النسق من حسن السبك وجودة التصوير وصدق العاطفة وأثر الفجيعة والإحساس الأليم ويذكر المقزيزي أنه سبب هذه القصيدة قتل عمارة وتمحلت عليه الذنوب
لم يكن التصوير الفوتوغرافي قد ظهر في ذلك العهد ولو كان ذلك لبقيت لنا لوحات ومناظر تغني عن وصف القلم الذي كثيراَ ما يوجز فيجنح إلى الإخلال أو يطيل فيميل إلى المبالغة والإغراق ولو كان الرسم متقدماً في ذلك العهد، لسلمت لنا لوحات مصرية صادقة كتلك التي يصنعها الرسامون أمثال: محمود بك سعيد، واحمد بك راسم، وصبري، وعياد، وصباغ، وهلبرت التشيكوسلوفاكي المتمصر وغيرهم ممن يسجلون الحياة المصرية المعاصرة في لوحات ستبقى خالدة تمثل الفن من ناحية وتسجل تاريخ الخطط المصرية من ناحية أخرى
ولقد زار القاهرة في القرن الثامن الهجري الرحالة ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة، وكان سلطان مصر على عهد دخوله إليها الملك الناصر أبو الفتح محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي. وقد أثنى ابن بطوطة على الملك الناصر في خلال كتابه ثناء عظيما(420/35)
ووصفه بأنه: (صاحب السيرة الكريمة والفضائل العظيمة).
ولقي ابن بطوطة في القاهرة جماعة من الأمراء والفضلاء ذكرهم في رحلته، ووصف في خلال ذلك مجلس القاضي فخر الدين (وكان قبطياً ثم اسلم)، وكيف كانت تقضي عنده الحوائج، وتدرك لديه المطالب
وقد ترك لنا ابن بطوطة في رحلته وصفاً مختصراً ممتعاً ليوم المحمل في القاهرة، وهو يرينا صورة لما كان يجري في هذه العاصمة القديمة في عصر المماليك الذي جاء بعد عصر الفواطم.
وكان هذا اليوم يوماً مشهوداً، يركب فيه القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمحتسب، ومعهم الفقهاء، والرؤساء وأصحاب السلطان وأرباب الدولة وأهل الوجاهة، ويقصدون باب القلعة دار الملك الناصر (سلطان مصر في عهد المؤرخ)، فيخرج إليهم المحمل على جمل وأمامه أمير الحج المعين لمرافقة المحمل في تلك السنة ومع الأمير عسكره وأتباعه والسقاءون على جمالهم، ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء، ثم يطوفون بالمحمل في أنحاء القاهرة ومصر وأمامهم المنشدون ينشدون والحداة يحدون. . . وعندئذ ينبعث في قلوب الناظرين شوق إلى الحج وتهيج عزماتهم وتتحرك بواعثهم لقضاء الفريضة الموقوتة والعبادة المكتوبة.
ومن دواعي الأسف أن ابن بطوطة لم يترك لقلمه العنان في وصف القاهرة وما كانت عليه يوم وفوده عليها، وإنما اكتفى من ذلك بالنظرة العابرة، واللحظة الخاطفة، ولو قد فعل لترك لنا وصفاً طويلاً وصورة جميلة لنواح كثيرة من القاهرة كأسواقها ودورها وقصورها ومجامعها ومحافلها، ومساجدها ومدارسها، وشوارعها وحواريها، وقناطرها وجسورها، ولعل الناحية التخطيطية لم تكن تعنيه كما عنت المقريزي وعلي باشا مبارك من بعده.
أما ابن إياس صاحب التاريخ المشهور ومؤرخ مصر الإسلامية في آخر عصر المماليك وأول العصر التركي فقد وصف القاهرة في عصره وصفاً لا يخلو من فائدة
ومن الحفلات التي وصفها ابن إياس في كتابه المشهور حفلة المولد النبوي الشريف فهو يذكر أن السلطان الغوري أقام الخيمة العظيمة التي صنعها الأشرف قايتباي - وبلغت تكاليفها ستة وثلاثين ألف دينار - وقد صنعت من قماش مختلف الألوان واشترك في(420/36)
نصبها بالحوش ثلاثمائة رجل من النواتية، ونصبت خارج الخيمة أحواض من الجلد قد ملئت ماء مسكراً، وجلس السلطان في الخيمة وحوله الأتابكي (رئيس الجند) والأمراء المقدمون والقضاة الأربعة والوجهاء من أهل القاهرة والقراء والعلماء ومد السماط الحافل بكل هنيء مريء
وفي أيام نيابة طومان باي عن الغوري، احتفل بوفاء النيل وكسر السد. فنزل الأمير لهذه الغاية في سفينة كبيرة، وتوجه إلى المقياس وعاين زيادة النيل وقدرها، وتم الاحتفال في سرور عاد بعده الأمير إلى مقره في موكب حافل عظيم
وتذكرنا حوادث إخلاء المناطق الخطرة في الإسكندرية اليوم بسبب الغارات الطائشة عليها، بحادث إخلاء حيّ (بركة الرطلي) من سكانه، والفرق بين الحادثين كبير، إلا أن النتيجة كانت واحدة وهي وحشة كل من الحيين وفرار الناس عنهما. ولم يذكر ابن أياس السبب الذي حدا بالأمير (طومان باي) إلى تحريم السكن في بركة الرطلي والمسطاحي، ولا لماذا تشدد الأمير في إخلاء هذين الحيين حتى صارا موحشين، وغَدَوا بلقعين لا يسكن إليهما ساكن، ولا يطمئن إليها ناظر، ولا تتحرك فيها من الأنس نسائم. ولقد خسر بذلك أصحاب الدور أموالاً كثيرة، وأصبحت بيوتهم خاوية خالية. ولقد صَّور الشيخ بدر الزيتوني هذه الصورة الموحشة في شعر يقول فيه:
وأضحت بيوت الجسر خالية فلا ... لصاحبها سكنى ولا واحد يكرى
وقد أصبحت تلك القصور خوالياً ... فيا وحشة السكان من كل ذي قصر
على بركة الرطلي نوحوا وعددوا ... لما حل فيها من نكال ومن خسر
رعى الله أياماً نقضت يطيبها ... ونحن بمصر في أمان وفي بشر
وكان الدوادار الكبير هو الذي ... أشار بهذا المنع بالنهي والأمر
وغفر الله لهذا الشاعر فشعره أصدق صورة لما وصل إليه الشعر العربي في عصر المماليك من ركة وسخف وضعف
على أنه يؤخذ على أياس أيضاً - كما أخذ على غيره من المؤرخين - أنه لم يتعرض لوصف القاهرة في عهده في تفصيل. ولعله كان مثل الكثيرين من المؤرخين لا يهتم إلا بالناحية السياسية أو العسكرية من تاريخه. أما ناحية الوصف والتخطيط فقد تركها لغيره(420/37)
ممن يهتمون بأمثال هذه المباحث. ولكن لسوء الحظ لا نعلم فيما بين أيدينا من مراجع وصفاً للقاهرة في عهد ابن أياس. ولو قد تأخر الزمن بالمقريزي حتى شاهد مصر العثمانية لكان لنا من مادته في الخطط فيض غزير وتدخل القاهرة بعد ذلك في دور جديد، وتودع عهد المماليك لتستقبل عهد الأتراك. ويظهر أن هؤلاء خربوا كثيراً من معالمهما، وليس لدي الآن وأنا أكتب هذه الكلمة نص تاريخي قاطع للتدليل على ما أقول؛ ولكن بيتين للشاعر بدر الدين الزيتوني المعاصر للفتح العثماني يشتم القارئ منهما رائحة التخريب والذبول فيما كان قائماً فيها من آثار
وقد يكون الشاعر بدر الدين الزيتوني جنح إلى المبالغة في بيتيه كما يصنع الشعراء غالباً في اكثر ما يصفون. إلا أنه كلام يلقى ظلاً من الحق على ما ذهب إليه فيقول:
نبكي على مصر وسكانها ... قد خربت أركانها العامرة
وأصبحت بالذل مقهورة ... من بعدما كانت هي القاهرة
فقوله خربت أركانها العامرة لم يكن ضرورة من ضرورات القافية التجأ إليها، ولكن يلوح لنا أنه كلام فيه من الحق كثير وإذا كان العصر التركي قد اتسم بالغموض في كثير من حوادثه، إلا أن بعض المؤرخين من المصريين وبعض الرحالين من الأجانب قد وصفوا مصر في هذه الفترة الطويلة المظلمة. وابن أياس والجبرتي مرجعان مهمان لذلك العصر
وممن زار القاهرة في ذلك العصر القس (ريتشارد بوكوك) في سنة 1737م وترك كتابه الضخم (وصف الشرق وبلاد أخرى). وكتب قبله (دي ما بيه) قنصل فرنسا في مصر كتاباً عن أحوال مصر في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر الميلادي
أما القاهرة في عهد محمد علي فقد وصفها المستشرق (لاين) في أحد كتابيه المشهورين، ووصف آداب أهلها وعاداتهم ولباسهم وطعامهم وشرابهم وبعض أغانيهم التي كان يقرؤها علينا تحت ظلال شجرة الكافور على نيل المنصورة قارئ أديب فيستمع إليها الأستاذان الجليلان: أحمد حسن الزيات والشيخ محمود زناتي وكاتب هذه الكلمات في لذة ومتاع عظيم
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن(420/38)
ذكرى قاص عراقي
للسيدة الفاضلة وداد سكاكيني
في الأدب الآم وفيه هموم وأشجان، ولقد تكون صفحاته السود مطوية منسية، حتى تنشرها الذكرى ويبعثها الحنين. من هذه الذكريات ما يهيج في نفسي كلما اطلعت على مقال يصور أدب العراق واتجاهه الحديث؛ ففي تلك الصفحات التي طواها الزمان ولفها النسيان، ذكرى قاص عراقي كان له أثر محمود في تجديد الأدب وبعث القصة على ضفاف دجلة حيث فتحت عينيها (ألف ليلة وليلة) أسطورة الشرق وسحر بغداد
منذ أعوام قريبة أخذت طلائع البعث والتحرر في العراق الجديد تنبثق من أرجائه الراقية وأجوائه الطافحة؛ هنالك ازدهرت معاهد الثقافة، وراجت أسواق الأدب؛ فرأينا بين الرافدين وفي بلد الرشيد والمأمون، كتاباً يعالجون فن القصة أسوة بأدباء العرب المحدثين الذين توفروا أيامنا على هذا اللون الطريف في آدابنا، وكأن النهضة العلمية التي تجددت في ذلك القطر الشقيق، وتمازج الثقافات في آفاته التليدة، ووقوف أولئك الكتاب على عناية أدباء الغرب بالفن القصصي دون غيره من فنون الأدب؛ كل ذلك حفز الشباب العراقي المثقف وحملة الأقلام الموهوبين منهم إلى إنشاء القصص والاستمتاع بما اشتملت عليه من دقة وصف وعمق تحليل وصدق تصوير؛ وكان ممن أدلى دلوه يومئذ في هذه الينابيع الثرارة أديب مطبوع هو المرحوم محمود أحمد السيد الذي يعرفه قراء الرسالة بما نشر فيها من آثاره، فقد كتب قصصاً عراقية الميسم، منوعة الألوان كانت مرآة لبلاده في عهد أحداثها الجسام، وكان كتابه (في ساع من الزمن) آخر أثر جاء به هذا القاص قبل أن يجود بنفسه الأخير؛ فلما نشر هذا الكتاب طلب إلي أن أنقده على صفحات (الحديث) الحلبية، فأقدمت على تلبيته خالصة النية للأدب، مظهرة محاسن الكتاب مشيرة إلى ما فيه من هنات؛ ولكني لم ألبث أن دعوت على قلمي الذي كان عفاً عنيفاً بنقده، إذ علمت أن ذلك القاص البغدادي عز عليه ما كتبت وآذته صراحتي فصد عنها، ورد علي بما لمست منه أنه تحمل نقدي لقصصه على مضض، فخسرت رضاه وأدى الأمر بيننا لي مناقرة فاشلة وجدل عقيم. وليس ما وقع بيننا بعجيب، فنحن قوم لم نتعود أن نتقبل النقد النزيه بقبول حسن، وأن نعبأ بمقالاته وفائدته وما يؤول إليه الأثر المنقود. وحسبك برهاناً أن ترى(420/40)
الناس في شرقنا اصطلحوا في شئون النقد على المصانعة والرياء، وأمعنوا في التحيز والمداراة، فلا نقد عندنا يمحص الحقائق، ولا مساجلات تؤرث الأفكار والآراء
من أجل ذلك غاب عنا النقد الحر الصريح، ولم يتزحزح أدبنا عن التقليد والترديد إلا قليلاً. وأحسب أن نقادنا الأكفاء الذين كفوا أقلامهم عن الخوض في هذا السبيل إيثاراُ للمودة والسلامة قد أساءوا شر مساءة، فلولا صمتهم وزهادتهم في النقد لما تجرأ الأدعياء والطفيليون على كبار الأدباء لينهشوا الأشخاص دون الآثار وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وأن إسفافهم هذا من أصول النقد الحديث
إننا قوم لم نتعود أن نحق الحق ونزهق الباطل، وإنما درجنا على أن نماري مراءً ظاهراً. وكثيراً ما جَّر نقد الأدب في كل بلاد العرب إلى خصومة وتنابذ فرَّقا بين الأصحاب وأوغرا الصدور بالأحقاد. ولقد كان بيني وبين شاعرة مصرية معاصرة آصرة أدب وولاء، فلما نقدت ديوانها إجابة لسؤلها، قطعت عني رسائلها اللطاف، فأسفت لما وقع، ولكن قلمي يؤوب ولا يتوب
ما لي ولهذا الاسترسال في قول كاد يلهبني عن (ذكرى قاص عراقي) كانت له مشاركة في توجيه الأدب الحديث في العراق. وأنا بعد أن كادت ترم تجاليد هذا القاص في ثراها، ووالله ما ادري، أعلى ضفاف النيل حيث ذهب يستطب ويستشفى، أم على ضفاف دجلة وفي ظلال النخيل حيث رأى النور، أبعث ذكراه وادعوا أهله وقومه إلى تمجيده وتخليده، والكشف عما في آثاره من جوهر دفين؟
كان يرحمه الله يرى كتابيه: (الطلائع)، (جلال خالد) تجربة ضئيلة في مضمار الأدب الجديد في بلاده، بل محاولات أولى في فن القصة الذي كان يتمنى على الزمان أن يقيض له التفرغ لأصوله والبراعة فيه. وقد أهدى مؤلفيه إلى فتية في العراق، إلى أشباله الأباة الذين كان يرى في وثباتهم تحقيق الآمال.
أما رواياته وأقاصيصه فقد لقيت الثناء والتقدير من أدباء العرب كالأستاذة: أحمد حسن الزيات وأحمد أمين ومحمود تيمور وسامي الكيالي، وغيرهم؛ ومن بعض المستشرقين أمثال: كراتشكوفسكي وب. جوزي وهـ. ركب ور. ك طومسن صاحب مجلة العراق في أكسفورد، وكنت من أصدق قرائه وأصحابه إعجاباً بها وتنويهاً بطرافتها وروعتها(420/41)
وكانت مقالاته وبحوثه تتسم بالرأي السديد والأسلوب المبين ويفيض على جنباتها شعور صادق ولمحات شتى تشير إلى مثل الحياة العليا التي يريدها لقومه وبلاده. ولو لم يدركه الموت في عنفوان شبابه لترك للأدب ميراثاً خصيباً لا تبلى جدته. وحسبه فضلاً أنه ساهم في فن القصة العراقية قبل أن يشيع هذا الفن في سورية ولبنان، وسعى مع أنداده أنصار المدرسة الحديثة إلى تعزيز الحياة الأدبية في بغداد، وكتب خواطر وفصولاً في النقد والاجتماع، وترجم عن التركية التي أتقنها قصصاً نشر بعضها ورجا أن يجمعها في سفر مطبوع. على أن أكثر ما كتب هذا القاص مبعثر في تضاعيف الصحف والمجلات العربية في مصر والشام والعراق فحبذا لو يتسنى جمع شواردها في كتاب
ما أشقى حظ الأديب من أهل دنياه! ففي غابر العصور كان يقول ابن الرومي: لهفي على الدنيا. . . ورهن المحبسين كان يولول من أم دفر، وهكذا في جديد الدهر يموت الأديب فيتحسس الناس مجاثم نبوغه بعد مماته ويهبون لتمجيد ذكراه. وما أحراهم لو فعلوا ذلك في حياته فقدروه قدره وكرَّموه بما كان يزيده بسطة في أدبه وتحليقاً بفنه. وقد يكون بين عاثري الجدود من الأدباء من لا يأبه لفقده عارفوه، كالذي وقع للأديب العراقي محمود السيد، إذ لم أعرف صحيفة أدبية في بلادنا عددت مآثره إلا مجلة (الرسالة) في مصر، فقد نعته لقرائها ورثته بكلمة وجيزة. وكان المرتجى من صاحب (الحديث) في حلب وهو الوفي لإخوانه الأدباء أن يختصه بمقالة على الأقل في مجلته التي سكب الفقيد كثيراً من المداد على بحوثه وقصصه فيها
فيا أسف الآداب والشباب لفقدهما هذا العصامي الذي حمل باكورة القصة في مرابع الرشيد! ويا فتية العراق المناجيد، ويا صحبه الأكرمين، من أولى منكم بإثارة ذكراه، وأنتم الذين أحبكم وأهدى إليكم ما خطت براعته قبل أن تغتمض عيناه؟
لم يكن محمود أحمد السيد مغمور الصيت ولا مجهولاً لدى قراء العرب، وإنما عاش كأزاهير الليمون في الربيع تتشقق أكمامها عن الحياة ويفوح منها الأريج، ثم لا تلبث أن تذوي وتتساقط تاركة في الأفانين ثمراً مختلفاً ألوانه طيباً مذاقه
هكذا أفل شباب هذا القاص البغدادي الذي حرم دنيا تضيّفها تاركاً آثاره التي تشف عن أدب نضير مطبوع بمياسم العراق(420/42)
(دمشق)
وداد سكاكيني(420/43)
الزاد الأخير
للأستاذ سيد قطب
زوّديني من الرجاء الأصيلِ ... مُشرِقاً فيكِ في المحّيا الجميلِ
أنت كنزٌ من الطّلاقةِ والبش ... رِ ودنيا من السَّنىَ المعسول
خِفّةُ الطير وانطلاقُ الأماني ... بعضُ ما فيك واندفاقُ السّيول
وهجٌ يبهر النفوسَ ويُذِكي ... خفقاتِ القلوب عند المثول
ذَخَرَتْكِ الحياةُ كنزَ حياةٍ ... ورصيداً لما لها المبذول!
زوّديني لَكَادَ ينفدُ زادي ... في صراعٍ مع الحياة طويلِ
كاد يخبو المصباحُ إلا بصيصاً ... فاسكبي الزيتَ في بقايا الفَتِيلِ
كنتُ كالجذوةِ المشعّة نوراً ... وهي اليوم في طريقِ الأفول
فيكِ زاد يقُوتنُا ويَقِينَا ... عثراتِ الطريق بين التّلول
أنتِ لا غيرُكِ القديرة أن تُذْ ... كِي حياة بخاطري وميولي
حين ألقاكِ يغمرُ البشْرُ نفسي ... برجاءٍ مُشَعْشَعٍ موصلِ
وأرى عبئِ الثقيلَ خفيفاً ... وأرى ناهضاً بعبئ الثقيل
وكأني استشعرتُ رَوْحَ شبابي ... وَرَجَعْتُ الزمانَ صعبَ القفول
فأعيدي إلىَّ ماضِيَ عمري ... واغمريه بالبشر والتَّأميل
واطلعي في قفار نفسي حياةً ... وإذا مَا دَجَا عَالَميِ أَو ْمِضِى لِي
(حلوان)
سيد قطب(420/44)
مدينة بلا نساء. . .
الإسكندرية والهجرة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
يا بلدة أمست بلا نساء ... منبوذة من رحمة السماء
أين التفات الأم للأبناء ... أندى على القلب من الأنداء
حنوّ حان بيَّن الوفاء ... ورقة في غير ما رياء؟
أين ابتسامات على استحياء ... وأخريات جمة السخاء
والواعدات دونَ ما وفاء ... يخلطن مُرَّ اليأس بالرجاء
مختلفات الخلق والأزياء ... لكل مرئيّ فتون راء
ودانيات ودهنَّ ناء ... أبعد في القرب من السماء
بواعث الحسرة والعزاء ... وخالقات الهمة الشماء
وجالبات الشَّر والشحناء ... خلوت يا ثغر من النساء
فما الذي فيك من السراء ... وما الذي فيك من الضراء
لا صوت يغري السمع بالإصغاء ... ما صبر أيوب على البلاء
كصبر أهل البلدة البيضاء ... يا لكِ من تسمية هوجاء
لون ثياب الحزن للآباء ... نحن بني الأندلس الفيحاء
تشهد ما قدَّر للأبناء ... وراثة عن سالف الآباء
صدقت يا سخرية القضاء ... قد صُبّحت بغارة شعواء
وغارة تأتي مع المساء ... وفي أذى الهجرة من أرزاء
فوق الذي نشهد من بأساء ... هل عودة لعهدها الوضّاء
يوم ينار النور في الأجواء ... يوم يشيع الأنس في الأرجاء
يا بلدة المنارة الزهراء ... ومضرب الأمثال بالآلاء
حتام إسراؤك في الظلماء؟ ... رحماك بي يا خالق السماء!
عبد اللطيف النشار(420/45)
البريد الأدبي
1 - لابن المقفع لا للخليل
صوب الأستاذ بداري اعتماداً على رواية الجاحظ نسبة هذه الجملة إلى ابن المقفع: (الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه) يعني الشعر. وكان الأستاذ الكبير العقاد نسبها إلى الخليل في بعض مقالاته
وأقول: إن ذلك لا يمنع من صحة نسبتها للخليل مع تغاير في الألفاظ. جاء في الجزء الثالث من العقد: قيل للخليل: مالك لا تقول الشعر؟ قال: (الذي أريده لا أجده، والذي أجده منه لا أريده) فالمعنى والصياغة متحدان في الجملتين، ولعل الاختلاف في اللفظ راجع إلى تصرف النقلة: وأروِى للأصمعي قوله في هذا المعنى: (يأباني جيدهُ وآبي رديئه)
وقد رأى الأستاذ بداري أن الذوق الأدبي يرجح صدور هذه الجملة عن ابن المقفع لا عن الخليل، لأن أول أديب كبير وكاتب عظيم، والثاني إمام لغوي نحوي. وعندي أن هذه العلة التي ساقها الأستاذ حجة عليه لا له
ذلك أن هذه الجملة وما شابهها وردت للتدليل على شيئين:
أولهما: أن ترديد النظر في الشعر والرواية له والإكثار من حفظه، لا تكفي وحدها لخلق الشاعر، بل لا بد له قبل ذلك من الملكة الموهوبة والطبيعة المواتية. قال ابن عبد ربه: كان الخليل ابن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتاً، وكذلك الأصمعي
وثانيهما: أن قرض الشعر والنفوذ إلى أسراره والتفطن لمواضع الجمال فيه، لا يُنال بحفظ متن اللغة ودراسة العروض والقوافي وعلوم البلاغة. قال ابن رشيق في العمدة: أن أهل صناعة الشعر أبصر من العلماء بآلته: من نحو وغريب ومثل وخبر وما أشبه ذلك، ولو كانوا دونهم درجات فكيف إذا قاربوهم أو كانوا منهم بسبب. قيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم به؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله؛
وأنشد:
وقد يقرض الشعر البكئ لسانه ... وتعي القوافي المرَء وهو أديب
وقال الأصمعي:
أبي الشعر إلا أن يفيء رديئه ... على، ويأبى منه ما كان محكما(420/47)
فيا ليتني إذ لم أُجد حوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت مفحما
وفي ديوان الصبابة: أن ابن دقيق العيد قال لابن سيد الناس: قل لعلماء المعاني والبيان والبديع: أتحسنون أن تقولوا مثل قول المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفه لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فإن قالوا لك: لا. فقل إي فائدة فيما تصنعون. (يريد: أن العمل غير العلم)
فواضح أن الغرض من الجملة السابقة المنسوبة للخليل وابن المقفع: بيان أن الشعر لا يملك بالرواية ودراسة العلوم وجمع اللغة، وإلا لكان الأصمعي والمفضل وإضرابهما أشعر خلق الله! بل لما كان أحد أولى من الخليل بالشعر وهو واضع العروض نظام الشعر وسلك القافية! ونسبتها إلى الخليل أولى من نسبتها إلى ابن المقفع حتى تقوم الحجة على أن اللغة والنحو والصرف والعروض وسائر العلوم اللسانية وما يتصل بها - وهي من سمات الخليل البارزة - لا تجعل غير الشاعر شاعراً. وأما ابن المقفع فكان أديباً كاتباً كما قال الأستاذ، لا راوية ولا عالماً بالمعنى الاصطلاحي، فالتمثيل به في هذا السبيل لا يكون ظاهراً ظهوره في الخليل، لأن الكتابة والشعر يفيضان من نبع واحد، والعلم شيء وراء ذلك
وإذا صح ورود هذه الكلمة عن ابن المقفع فلا يفهم منها أنه لا يحسن قول الشعر، فالحق أن له شعراً جيداً - وإن كان قليلاً - ومعروف أن مقطعات الكتاب أرق وأعذب من شعر الشعراء الخلص، ولكن المراد أن الشعر لا يواتيه كما يواتيه النثر، فقصر همه على ما هو أجدى عليه
2 - النحو في الكلام كالملح في الطعام
وردت هذه الحكمة بلفظها في كتب كثيرة، والغرض منها مشابهة النحو للملح في الإصلاح، وهو معنى ناصع لا غبار عليه، وقد تعالمه الناس وتلقوه بالتسليم والقبول خلفاً عن سلف، حتى لقد بلغ من ذيوعه أن العامة في الصعيد يسمون الملح: (المصلح) فلا داعي لأن ينكره الأديب الشرباصي أو يخطئه.
وأما الرواية الأخرى: الهزل في الكلام كالملح في الطعام فلا بأس بها، وورودها لا يفيد عدم ورود الأولى، ويكون وجّه الشبه هنا القلة لا التحسين والتلميح كما ذهب إليه الأستاذ(420/48)
البداري
وقد نظم أحد الشعراء هذه الحكمة على الرواية الثانية مع وضع المزح موضع الهزل، فجاء اللفظ أرق وأعفّ. قال:
أفد طبعَك المكدودَ بالجِدّ راحةً ... يجمّ، وعلّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما يُعطَى الطّعامُ من الملح
علي الجندي
نظرات بين المجلات
1 - روى الأستاذ الكريم الدكتور عبد الوهاب عزام في العدد 418 من الرسالة في أثناء دراسته الحافلة بجليل الفوائد عن الشاعر الأبيوردي - روى البيت التالي هكذا:
وقد أخلق الفضل بالعراق وفي ... فارسَ لما اضمحلت الرتب
والبيت على هذه الرواية غير موزون ولا يستقيم إلا بإحدى اثنتين: إما أن تحذف الواو التي في أوله فيصير هكذا:
قد أخلق الفضل. . . الخ وإما أن تحذف كلمة (قد) وتبقى الواو التي قبلها ويصبح البيت هكذا:
وأخْلق الفضل بالعراق وفي ... فارس لما اضمحلت الرتب
2 - يقول الدكتور الفاضل زكي مبارك في العدد 418 من الرسالة (لقد ُبحَّ صوتي في الدعوة إلى اعتراف الدولة بالقيم الأدبية) ويضبط الفعل بُح بضمة على الباء، والذي أعرفه عن هذا الفعل أن الواجب لغة أن يقال بَحَّ صوتُه بفتح الباء كما نصْ على ذلك الفيروزابادي والجوهري وأبو بكر الرازي في مختاره، وقد يستذر الدكتور كعادته بالذوق في المسائل اللغوية، وهو عذر لو أخذنا به على علاَّته في اللغة باب الفوضى. على أن في الفعل بَح بفتح الباء لطفاً ورقة لا يوجدان في حالة الضم التي لا نعرف - على قدر ما نعلم - ما يؤيدها في اللغة
3 - في العدد 130 من الثقافة الغراء دراسة أدبية طيبة، والدارس الأستاذ جمال الدين الشيال والمدروس الشاعر الشاب تاج الملوك بوري بن الملك الصالح نجم الدين الأيوبي(420/49)
والشعر الذي جاء في خلال هذه الدراسة كله كريم صحيح، إلا بيتاً واحداً ذكره الأستاذ هكذا:
هذه المعجزات ليست لظبي ... إنما هذه فعال (عيسى) المسيح
وكلمة عيسى زائدة في البيت
4 - مقالات العالم الفاضل الدكتور علي عبد الواحد وافي (في الاجتماع اللغوي): تدل على تمكن في البحث وتوفر على الدرس، وفيها غذاء علمي كبير، وهي فوق ذلك لا ترهق القارئ ولا تملّه. . . وحبذا لو أطال الكلام على اللهجات التي تفرعت من العربية، وذكر المستشرقين الذين ألفوا كتباً في قواعد العامية، فذلك موضوع على اتساعه لا يضيق به علم الأستاذ الكبير.
محمد عبد الغني حسن
عبد القادر حمزة وقومية بحثه وراء الحقيقة
أرجو - بعد التحية - أن تأذنوا لي في تصويب واقعة أخطأت في تحديد زمنها؛ إذ قلت في مقالي الذي تفضلت (الرسالة) الغراء بنشره بعددها الفائت: (إن أهل الرأي في مصر احتفلوا (بتأبين الفقيد من أيام)، وأن أسرة الفقيد تحتفل في الرابع عشر من هذا الشهر بإحياء ليلة الأربعين، وإني (أحب بدوري أن اختار هاتين الملائمتين - التأبين والأربعين - لأثير ناحية من أدب الفقيد))
ووجه الخطأ واضح في قولي إن أهل الرأي (احتفلوا بتأبين الفقيد من أيام)، ومرد هذا الخطأ إلى أن لجنة الاحتفال كانت قد أزمعت إقامته في يوم الخميس (10 يوليه)؛ ثم عادت فحددت له يوم الخميس (17 يوليه)، ولما كنت قد كتبت مقالي قبل يوم الخميس الأسبق وكان عدد (الرسالة) يصدره بعده، قد وقعت في هذا الخطأ الذي لا بد أن يكون قراء (الرسالة) قد فطنوا إليه من تلقاء أنفسهم
وإلى أن أكتب مقالي التالي الذي وعدت بكتابته أرجو - مرة أخرى - أن تأذنوا في تصويب أخطاء (مطبعية) وقعت في مقال الأسبوع الفائت نفسه
ففي السطر السادس من المقال جاء: (ومن الرابع عشر من هذا الشهر) والصواب: (وفي(420/50)
الرابع عشر. . .). وفي السطر السابع عشر من النهر الأول من صفحة 904 جاء: (وفي الجمال الذي يحيط اللثام عنه. . .). والصواب: (وفي الجمال الذي يميط. . .). وفي السطر العشرين من النهر الثاني صفحة 905 جاء: (على الصور التي انحاز بها ذهنه. . .) والصواب: (على الصور التي انماز. . .)
محمد السوادي(420/51)
القصص
ثمن السعادة
للأستاذ نجيب محفوظ
دخل الأستاذ الحجرة التي قاده إليها الخادم فلم يلق تلميذه الصغير في انتظاره كمألوف عادته، فجلس على كرسيه يقلب عينيه في الصور المعلقة على حيطان الحجرة، وكانت المرة الأولى التي ينتظر فيها تلميذه منذ جيء به ليدرس له لعشرة أيام خلت، وأوشك أن يدعو الخادم حين سمع وقع أقدام خفيفة ورأى الغلام مقبلاً عليه يتأبط كتبه وكراسته، فحدجه بنظرة تعنيف ولكن راعه أن يرى عينيه محمرتين من البكاء وذقته الصغير يرتعش من التأثر فسأله باهتمام: (مالك؟)
وكان السؤال أثار مكظوم شجون الغلام فاندفعت الدموع إلى مآقيه وهو ينتحب:
- تيزة. . . ضربتني. وتشاجرت مع بابا وما زالا يتشاجران فسأله باقتضاب (من تيزة هذه؟)
(امرأة بابا)
فدلته هاتان الكلمتان على معان كثيرة بغير حاجة إلى مزيد من السؤال. على أن الغلام تطوع من نفسه فسرد قصته الصغيرة الحزينة على مدرسه. قال: إن والدته ماتت لعهد ولادته وأن أباه تزوج من تيزة بعد ذلك بعام أو عامين، وأنه يعيش بمفرده تحت رعايتها بعد أن تزوج أخواته الأربع في الأعوام الثمانية التي أعقبت وفاة الأم، وأن أسباب الخلاف لا تنتهي بين تيزة وأبيه، فلن يزالا يصطدمان ويشتجران، وأقسم أن الحق دائماً مع أبيه، وأنه لا يشتبك معها حتى يضطر إلى ذلك اضطراراً، ثم لا يبث أن يكف عنها يائساً قانطاً، فلا تسكت هي عن الغضب والحنق والسباب. وأصغى المدرس إلى تلميذه بغير اهتمام ظاهر، وواساه بكلمة تافهة، ثم تناول الكراسة وبدأ عمله، ولم يطرقا الحديث مرة أخرى ولا عادا إليه فيما أعقب ذلك من الأيام، حتى كانت ساعة درس فاقتحمت عليهما الغرفة بغير استئذان شابة حسناء في ريعان الشباب، فوضع الأستاذ الكتاب على المكتب وقام واقفاً في تأدب واحترام وألقى على الزائرة نظرة حيية، فراعه ما رأى - لا من حسنها وشبابها فحسب - ولكن من انطلاقها على سجينها وعدم تكلفها، الأمر الذي أخرجها - بغير قصد(420/52)
طبعاً - عن الاحتشام، فكانت ترتدي (روب دي شامبر) من نسج رقيق يكشف عن ذراعيها ونصفي ساقيها وأعلى الصدر، وكان الأستاذ يظن أنه لا يجوز لشابة أن تبدو هكذا لعيني رجل غريب، ولذك غلبه الارتباك والاستحياء، وحدس أنها إحدى أخوات تلميذه المتزوجات، وتأكد حدسه حين رآها تمد يدها في رفق إلى ذقن توتو تداعبه، ثم جلست باطمئنان تجاه المدرس وهي تخاطبه قائلة: تفضل بالجلوس. . . هل يعجبك عمل توتو! فجلس أنيس وهو يقول: (توتو مجتهد، وقد تقدم في هذين الأسبوعين في الأجرومية والمطالعة، ولا ينقصه إلا المثابرة على حفظ الكلمات)
فابتسمت ابتسامة حلوة وطلبت إليه أن يستمر في عمله، فعلم أنها ترغب في أن تشهد درسه، فلم ير بداً من متابعة الدرس متلعثماً برماً، واختلس منها نظرة فوجدها تنظر إليه بإمعان، فاعتقد أنها تتابع كلامه، فوجه انتباهه إلى ما يقول ليخرج صحيحاً عذباً. وفي مرة أخرى وقع نظره على جيب الروب وقد انفرج عن أعلى الصدر فزاغ بصره وارتد في اضطراب وذعر ولم تمكث الشابة طويلاً فحيته وانصرفت، فشيعها بنظرة غريبة وقال لتوتو مستفهماً: أهي أختك؟
فهز الغلام رأسه سلباً وقال بجفاء: (تيزة) فتملكت الشاب الدهشة وتساءل متعجباً (تيزة؟!) فنظر الغلام إليه بإنكار وقال: (نعم). فتمالك أعصابه ولم ينبس بكلمة، ولكنه لبث مشغولاً دائم التفكير، وفي أثناء عودته إلى مسكنه بشارع ماهر بالجيزة استدعى صورة والد توتو - كما رآه يوم قدم إليه - ببدنه المترهل وكرشه الكبير ورأسه الصغير المستدير الأصلع، قد علا المشيب قذاله وقلق المنظار على أنفه الغليظ المجدور، ثم تمتم قائلاً: (الآن فهمت كل شيء. . . فرضوان بك حكمدار في المعاش جاوز الستين، وزوجه لا تعدو الرابعة والعشرين، وتوتو غلام بائس تضافرت عليه أسباب التنغيص الظاهرة والخفية. . . ولكن لماذا تلطفت بالغلام أمامي؟!). ولم يعتور أفكاره سوء، لأن أنيس كان طالباً ريفياً - كان طالباً وإن كان أستاذاً لتوتو - طاهر النفس، على أنه تأثر بحسنها وشبابها وخلاعتها غاية التأثر
وفي الدرس التالي لم يكد يطمئن إلى مقعده أمام تلميذه حتى كانت (تيزة) ثالثتهما؛ وكانت كما رآها أول مرة، جميلة خليعة متبذلة في ثوبها، ولم تلازم مكانها طوال الوقت، فكانت(420/53)
تخرج لبعض الشؤون ثم تعود إلى جلستها. وفي مرة عادت فجلست إلى جانبه دون أن يبدو عليها أنها تعمدت ذلك، فخال أنيس أن ساقها - لدنوها - تلامس ساقه. وعند انصرافه سلمت عليه باليد، فراح يضوع من كفه أريج معطر، ومضى مبلبل لفكر تضطرم في وجدانه يقظة عاطفية حارة، وما زال مشغول البال يحاول أن يتفهم محاضراته عبثاُ حتى ضرب مكتبه بقبضة يده وصاح جزعاً مكروباً: (لا احسبني إلا مجنوناً أو مسحوراً)
وفيما أعقب ذلك من أيام كان يذهب إلى بيت رضوان بك شغفاً بها قبل كل شيء، وأحس أن تفضلها بحضور درسه هو السعادة الحقيقية التي تبذلها له الدنيا جميعاً، فاستلذها واستطابها وجن بها جنوناً. وجعلت الشابة الفاتنة تودد إليه، وتعرض لعينيه المشغوفتين محاسنها العارية، وتداعبه بنظرات من عينيها حلوة فاتنة، أو لفتات من لحظها فاتكة. والشاب يذهل عما حوله بسرعة جنونية. وذهب يوماً إلى بيت الحكمدار فوجد الشابة في الحجرة دون الغلام، فسأل عنه وهو لا يحفل به في باطنه. فقالت له المرأة: (ذهب مع والده إلى شقيقته في الزمالك لأنها مريضة). فأحس خيبة وحنقاً لأنه سيضطر إلى مغادرة البيت، وقام واقفاً كئيباً، فسألته: (إلى أين؟). فأشار إلى الباب وقال (سأعود من حيث أتيت). فصوبت إلى عينيه نظرة ملتهبة وتمتمت بجرأة وهي تهز رأسها الصغير (كلا. . .) فخفق قلبه وتدافعت أنفاسه ووقف حيالها كالمسحور المذهول. . . ثم تبعها على الأثر لا يلوي على شيء
وتخلفت بعد ذلك عن حضور درسه، ولكنها سمَّت له الأيام التي يستطيع أن يلقاها فيا في أمن من الرقباء. فاندفع في سبيله كمياه الشلال الجارفة في فورة عاطفة مشبوبة تصم الآذان وتعمى البصر وتغرق هواجس انفس، مستكيناً لنوازع شهوته وجنونه. وإنه ليغادر بيتها ذات أصيل من أصائل الحب إذ لاحت منه التفاتة بغير قصد إلى شرفة البيت المطلة على الطريق، فرأى مشهداً تجمد له الدم في عروقه، وتصلب شعر رأسه من الهول، فتعثر وأوشك أن يقع على وجهه، وهرع إلى الإفريز تحت الشرفة كأنما يداري نفسه؛ وتقدم في خطى مضطربة لاهثاً حتى بلغ منعطف الطريق، وأراد أن يستوثق مما رأى فصوب بصره في خوف وإشفاق نحو الشرفة، فرأى عند مدخلها رضوان بك برأسه الأصلع المستدير يجلس مطمئناً إلى كرسيه في جلباب فضفاض يطالع جريدة ويهش الذباب عن(420/54)
وجهه بمذبة. . فأيس من تكذيب عينيه، ولهث قائلاً بفزع لا يوصف: (رباه إنه هو هو. . . نعم هو في جلباب البيت فكيف كان ذلك. . .؟ هل عاد إلى البيت أثناء وجوده مع زوجه. . .؟ فكيف لم يشعرا به؟ ولماذا لم يقصد إلى حجرة نومه ليبدل ثيابه؟ أم أنه كان في البيت قبل ذهابه هو إليه؟ فكيف استقبلته المرأة باطمئنان؟ أو كيف لا تعلم بوجود زوجها في البيت؟ بل كيف لم يشعر به رب البيت مع أنه غادر المخدع في خطى مطمئنة غير محاذرة؟. . . رباه. . .! لقد نجا من شر فادح. . . وداخله إحساس الذي يستيقظ بغتة فيجد أنه قد اجتاز سوراً شاهق العلو في نومه. . . وتخايلت لعينيه أشباح الإثم والجريمة والسجن، فعزم على أن يضرب بغرامه عرض الحائط متعظاً بالهاوية التي أوشك أن يتردى فيها. ولكنه لبث يذهب لإعطاء دروسه للغلام توتو، وكان يعاني الآم قلبه وجموح عواطفه، ولكن المرأة لم تمهله حتى يتناسى ويتعزى، فعادت إلى اقتحام حجرة الدرس عليه وسألته بعينيها في عتاب وكدر. . . وحين انتهاء الدرس تبعته إلى الباب الخارجي وسألته بحدة: (لماذا لا تأتي؟). . . فقص عليها همساً ما رأته عيناه آخر مرة، ونظر في وجهها ليمتحن أثر كلامه، فها له ألا يرى الانزعاج الذي كان يتوقع، وسمعها تقول بلهجتها الغاضبة: (كذبتك عيناك. . .)، فأكد لها أن ما رآه حق بغير ريب، فاستهانت بتأكيده وقالت له: إنها ستنتظره وترى ما هو فاعل. . . فأبدى لها مخاوفه. . . فقالت وقد نفد صبرها: (أنت مخطئ واهم، فتعال ولا تتعب نفسك بالنظر إلى الشرفة. . . تعال ولا تخف. . .)، فوعدها بالعودة لكي يتخلص من إلحاحها ثم انطلق على نية ألا يعاود ذلك البيت إلى الأبد. . .
ولبث على ذلك أسبوعاً كاملاً. وفي مساء يوم الجمعة، وكان في الشقة - التي يشاركه فيها بعض الأقران - بمفرده، سمع طرقاً على الباب، فمضى إليه وفتحه، فرأى أمامه رضوان بك بجسمه المترهل متوكئاً على عصاه ذات المقبض العاجي. فسرت في جسده رعدة شديدة زلزلت قلبه زلزالاً عنيفاً، ووثب إلى ذهنه خاطر سريع: أن امرأة ربما وشت به كذباً عند زوجها لتكيد له، وأنه جاء للتأديب والانتقام. . . فاستولى عليه اليأس والقنوط، وصعد في وجه الرجل نظرة ارتياع ليقرأ ما تدل عليه إمارات وجهه وما ينذر به حضوره، فرآه هادئاَ مبتسماً كأنما جاء لسلام لا لقتال. ومد يده بالسلام، فمد الشاب يده، ولما يفق من دهشته. . .(420/55)
ثم تنحى عن الباب وهو يقول مزدرداً ريقه: تفضل بالدخول يا سيدي. . . فدخل البك وهو يتحدث قائلاً: إنه لا داعي للجلوس لأنه على عجل، وأنه جاء ليسأل عن صحته وعما إعتاقه عن متابعة دروسه. . . فاعتذر أنيس بأن موعد امتحانه اقترب وأنه في حاجة إلى كل دقيقة من وقته. . . ولكن البك لم يقتنع بحجته ورفض أن يقبل عذره، وطلب إليه برقة ألا يحرم توتو من دروسه. فعاود الشاب الاعتذار، وكر الرجل إلى الإلحاح، ثم أدنى رأسه من أنيس وقال له: لابد من حضورك. . . فهذا ضروري جداً لتوتو. . . تعال حينما تشاء وكيفما تشاء. . . لابد من حضورك، فهذا ضروري جداً. . . وكان لا يحول بصره عن الشاب، فوجد في نظرته ونبرات صوته ما أثار فضوله ودهشته. . . أما الشيخ، فصمت لحظة متردداً، ثم استدرك قائلاً: (هذا ضروري لتوتو ولسعادتي ولسعادة الأسرة. . . بل لسعادتنا جميعاً. . . فأصغ لي، لابد من حضورك. . .)
واحتقن وجهه بالدم، وارتعشت شفته السفلى وذقنه كالطفل إذا أوشك أن يفحم في البكاء ثم تحول عنه. . . ومضى دون أن ينتظر موافقة الشاب، ولبث هذا في مكانه متفكراً مذهولاً تتجاذبه شتى العواطف. . .
وكان الأسبوع الذي أعقب هذه الزيارة معترك أزمة نفسية عميقة أخذت بتلابيب أنيس، فتقاذفته الغرائز والشهوات، وتجاذبته نوازع اللذة ومغريات السلامة والطمأنينة، وكان ذا عزيمة قوية وسريرة طاهرة وقلب تقي، فآثر السلامة. فلما أن استدار الأسبوع أحس قواه تتماسك وتشتد، فأطرى إرادته وجعل يتناسى بين رضوان بك السيئ الحظ وزوجه الحسناء القلقة الغضوب ويودع ذاك العهد زاوية من زوايا الذكريات الغريبة المنسية. . .
وانتصف مايو، فقصد أنيس يوماً إلى الكلية ليسأل عن موعد ظهور نتيجة الامتحان. ولما بلغت به قدماه باب مقهى المثلث، شعر بإنسان يعترض سبيله بعصاه كالمداعب، فرفع رأسه إليه فرأى رضوان بك يغادر المقهى يسبقه أحد أصدقائه إلى سيارة تنتظر على كثب، فارتبك ورفع يده بالتحية، فالتقت يداهما، وابتسم البك ثم سأله عن حاله، وتحدث معه قليلاً دون أن يعرج إلى الذكريات القديمة. وحين هم بمفارقته غير لهجته وقال بصوت دل على الضراعة والمضض: (أيها الشاب. . . إياك والسخرية من الناس أو الهزء بالبؤساء، فأنت تجهل الدور الذي تعده لك الأقدار غداً. واذكر أن أغرب تصرفات الإنسان لا تعوزها(420/56)
أسباب تبررها؛ فصن لسانك عن الأذى وحاول ما استطعت أن تتعظ بما يصادفك من العبر - كتب الله حظاً سعيداً. . .) ورفع يده بالسلام وسار في طريقه منتصب القامة يدل مظهره على أنه رجل عسكري بغير جدال.
نجيب محفوظ(420/57)
العدد 421 - بتاريخ: 28 - 07 - 1941(/)
قديس الوطنية المصرية
للأستاذ عباس محمود العقاد
عرفت الوطنية المصرية زعماء مختلفين منذ الثورة العرابية، ولكنها لم تعرف منهم أحداً أحق من (محمد فريد) صاحب هذه السيرة بلقب القديس الوطني، لان العقيدة الوطنية لها قديسوها كالعقيدة الدينية على ما نعلم؛ وأخص ما للقداسة من صفات هي الأيمان والمفاداة والسماحة وخلوص الضمير.
وقد اجتمعت هذه الصفات لمحمد فريد اجتماعاً لا يمارى فيه أحد، فهو في محراب الوطنية المصرية من الزعماء القديسين لا مراء.
كان فداؤه رحمه الله فداء لا غبار عليه ولا شبهة فيه: ترك الوظيفة في العهد الذي كان الناس فيه يعجبون لتارك الوظيفة ولا يعجبون للمنتحر تارك الحياة. ولم يتركها طمعاً فيما هو أكبر منها، لأنه كان يقود حركة بينها وبين اقرب مراحل النجاح سنون وسنون، ولم يكن يجهل بُعد الشقة ولا بعد الرجاء الذي كان يرتجيه.
ولم يطلب المال وهو ينزل إلى معترك السياسة، فقد كان المال موفوراً بين يديه، وقد أضاعه كله غير نادم عليه وهو في منتصف الطريق.
ولم يطلب الألقاب والمظاهر، فقد اغضب الذين يمنحونها في مصر والأستانة: اغضب الخديو بحملته على سياسة الوفاق وإصراره على الدستور، وأغضب السلطان العثماني بإصراره على استقلال مصر والمناداة (بمصر للمصريين)
وحرم نفسه الراحة وهو في وطنه، كما حرم نفسه الراحة وهو غريب عنه، فكان جماعة (تركيا الفتاة) يناوئونه ويضايقونه لأنه أبى في الحرب العظمى أن سيتبدل احتلالاً باحتلال، وصارحهم إن مصر لا ترضى لنفسها مكان الولاية العثمانية على أي نحو من الأنحاء
وبلغ الذروة العليا من المفاداة حين واجه الموت البطيء أنفة منه أن يواجه التسليم ولو مع السكوت؛ فقد ثقل عليه الداء في أوربا وعلم إن الجو المصري انفع الأجواء له والشتاء مقبلة، وضائقة العالم بعد الحرب محكمة، وليس اثقل من مرض وغربة وفاقة وشتاء بعد صحة ودعة ويسار وقدرة على التنقل بين الأجواء، فآثر التلف البطيء الذي لا تخفى غائلته ولا تخفى عقباه، على أن يشتري السلامة بعودة فيها خضوع وتسليم.(421/1)
قال الأستاذ الرافعي في مقدمة كتابه عن محمد فريد إن الأمة (لم تقدره حق قدره ولا عرفت له عظيم منزلته).
وهذا ويا للأسف صحيح؛ لأن الصفة الكبرى التي امتاز بها هذا القديس الوطني هي الصفة الكبرى التي نجهلها نحن المصريين أو نحن الشرقيين على التعميم، وهي الصفة الكبرى التي لا نصدقها إن لمسناها ولمسنا آثارها، لأنها أشبه عندنا بغرائب الأساطير وخوارق الطبيعة: وهي المفاداة الخالصة مع الإيمان الثابت. فقد يلام الرجل على هذه الصفة العلوية لأنها تلتبس علينا بالتفريط؛ وقد يحمد على الحرص واقتناء المنافع، ولا يحمد على تضييع منفعة أو نسيان أثره حريصة، لان المفاداة شذوذ لم نألفه طويلاً في عادات المجتمع ولا في عادات الأفراد.
وما من شيء في اعتقادنا هو أجدى على المصريين والشرقيين من كتاب يؤكد صفة المفاداة ويثبت وجودها في رجل معروف السيرة معروف الأعمال مستقيم الخلق كمحمد فريد لم يشتهر بنزوات أهل الشذوذ ولا ببدوات التفرد والاستثناء
فإن الشك في وجود المفاداة يغلق المسالك بين السنة المصلحين الغيورين وأسماع السواد والناشئين: انهم لا يصدقون غيرة المصلح الذي يعمل لفكرة يحققها أو مثل عال يجرى وراءه، وان صدقوا منه هذه الغيرة نظروا إليها نظرتهم إلى طبيعة غريبة ليست منهم وليسوا هم منها، فلا وجه لإقتدائهم بها ومجاراتهم لأصحابها؛ إذ ليس من عادة الإنسان أن يصغي إلى من يحلهم منه محل الغرباء المخالفين لسنته في حياته، وإنما يصغي إلى من يمشون معه على سنة واحدة، وينتفي بينهم وبينه شعور الاستغراب والاستبعاد!
وهذه ولا ريب إحدى فوائد الكتاب الذي كتبه الأستاذ الرافعي في سيرة هذا الرجل الكبير.
على إننا نحب أن نستدرك هنا استدراكا له موضعه وله موجبة فيما يكتب بيننا عن القداسة والقديسين
فقد تعودنا أن تجور صفات القداسة على الصفات الدنيوية حتى خيل إلى أناس منا أن وصف القداسة يجرد الإنسان من وصف العمل الدنيوي أو المدارك الواقعية التي يحتاج إليها الساسة وزعماء النهضات القومية.
فان فهم أحد من وصفنا فريداً بالقداسة أنه لم يكن يدرك السياسة العملية إدراكها الصحيح(421/2)
فهو مخطئ أيما خطأ، وجاهل بحق الرجل أيما جهالة.
فقد كان فريد على نقيض ذلك أوسع أقرانه علماً بالسياسة العالمية وأوسعهم نظرة إلى العلاقة بين شؤون الوطنية وشؤون الدول والحكومات في العصر الحاضر.
فلم يكن من أصحاب النخوة المحصورة أو الحماسة الضيقة التي تحسبها العصبية بين حيطان بلادها فلا تعدوها إلى غيرها، ولكنه كان يضرب بنظره شرقاً وغرباً ليتابع الأحوال قديما وحديثا متابعة العليم بما بين أطوار العالم ومصير أمته، وبما بين الحركات الإنسانية والحركات القومية من اتصال وتبادل في التأثير. ومن مقالاته قبل خمسين سنة مقالة عن المواصلات البرقية في العالم، وسياحة الرحالة (سفن هدين) في أواسط أسيا، وإنجلترا واسيا بأفريقيا، والإنجليز في غرب أفريقيا، والروسيا في مملكة كوريا، ومطامع أوربا في الصين، ورئاسة جمهورية الولايات المتحدة؛ وأشباه هذه الموضوعات التي لم تكن بينها وبين الحركة الوطنية المصرية صلة قريبة في رأي الأكثرين من كتاب ذلك الجيل والذي اذكره أنا من ذكرياتي الخاصة أنني أفدت من فريد المؤرخ قبل أن أفيد من فريد الزعيم، وأنني قرأت تأريخه للدولة العثمانية قبل أن اقرأ له مقالة سياسية، وقلب أن يتفرغ للدعوة الوطنية ويشتغل بها ذلك الاشتغال الذي صرفه عن التأليف.
وسمعت بعض الأدباء يقول وقد وقع في أيدينا كتاب من كتبه التاريخية: ألم يكن انفع لمصر أن يمضي هذا الباحث المنقب في الشوط الذي بدأه بتاريخ محمد علي، وتاريخ الدولة العثمانية، وتاريخ الرومان، وما إلى هذه المباحث التي لا يزال فراغها محسوساً في المكتبة العربية؟
فوافق الأديب أناس وخالفه أناس، وكان كاتب هذه السطور من مخالفيه ولا أزال من مخالفيه، لان فريداً قد اخرج لنا في القداسة الوطنية طرازاً منقطع النظير، ولم نخسر مع هذا طرازه في عالم البحث والتأليف، وربما كان اصدق ما يقال في سير العظماء (أن الخيرة في الواقع)، خلافاً لما يتمنون لانفسهم، وخلافاً لما تمناه لهم الأصدقاء، وهي قولة مأثورة تنطبق على سير الحاملين فيما نرى، كما تنطبق على سير النابهين.
ولقد كتب فريد صفحات طوالاً في تاريخ القسطنطينية لم يكن عسيراً على من دونه علماً وخلقاً أن يكتبوها أو يكتبوا أمثالها، أما الصفحة التي كتبها لنفسه في القسطنطينية أيام(421/3)
الحرب العظمى فإحدى صفحات قلائل في سجل البطولة لا يكتبها ألا فريد ومن وهبوا ما وهبه فريد من فضيلة الصدق والمفاداة، وهم قليلون
ومثل لنفسك رجلاً منقطعاً عن بلده، منقطعاً عن موارده، ليس له جند ولا مال، وليس له ملجأ يحميه من أصحاب الجند والمال هناك، وأينما دار ببصره لم يجد حوله ما يثبته ويملي له في رأيه، بل وجد العوائق والمحظورات شتى تفت في عضده وتثنيه، وتؤيسه من عاقبة جهوده وأمانيه. . . والدنيا حرب والقول ما قال العسكريون والدولة مشغولة كلها بالحملة على مصر أو على الولاية التي ستعود إلى مكانها القديم من الدولة العثمانية، وهذا الرجل في عزلته وبين ثلاثة أو أربعة ممن يسيرون على نهجه يقفون في وجه هذا السيل الجارف ليصدوه بكلمة هي أقسى ما يسمع من قائل في تلك الأيام، وهي أن مصر للمصريين وليست للعثمانيين ولا لغيرهم من الفاتحين. . .
هذه صفحة فريد في القسطنطينية
وليس في تاريخ بني عثمان ولا تاريخ دولة من الدولات ما هو أولى بالتسجيل والتمجيد من هذه الصفحة التي كتبها بوحي لا يستوحيه مؤرخو الأبطال، بل يستوحيه دونهم أبطال المؤرخين
وشاء القدر أن يبوء هو بفخارها وألا يبوء خصومه إلا بصغارها وعارها. فأولئك الذين عارضوه وعاندوه وأكرهوه على اللياذ منهم بآفاق أوربا وهي أضيق عليه من سم الخياط. . . أولئك المعارضون والمعاندون هل عارضوه وعاندوه إيثاراً لتركيا أو إيثاراً لمصر أو إيثاراً للحرية والحضارة الإنسانية؟
. . . كلا. بل كان هذا وزيراً منافساً لأمير مصر فهو يغتنم الفرصة السانحة لشفاء الضغن وإحياء التراث، وكان هذا قائداً طموحاً فهو يتخذ من دولته ومن مصر معها مطية لطموحه؛ وكان هذا وذاك وغيرهما مصريين يقسمون بينهم مناصب الحكم في الولاية العثمانية المنظورة!! وكان فريد وحده أو فريد ومعه تلميذان أو ثلاثة من مريديه يعملون للحق ويخلصون للدولة العثمانية إخلاصهم للامة المصرية
وهذه إحدى الصفحات التي كانت تفوتنا لو قضى فريد حياته في تاريخ الأبطال، ولم يقضها بطلاً يرتجل هذه العظات والأمثال(421/4)
وستنصف مصر فريداً يوم تنصف نفسها وتستحق الإنصاف من أقدارها. أما اليوم فكل ميدان فيها يتسع لتمثال فريد فهو ميدان يتسع للتنبيه والمؤاخذة، ويتسع لكلام كثير.
عباس محمود العقاد(421/5)
المأموني الشاعر
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
ذكرت من قبل طرفاً من أخبار أبي المظفر الأبيوردي الشاعر القرشي الأموي وسميته (شاعر العرب في القرن الخامس) إذ كان يعرب عن أخلاق العرب وعاداتهم، ويبين عن آمالهم وآلامهم.
واذكر في هذا المقال شاعراً آخر من بني الخلفاء عرف باسم المأموني، ينتهي نسبه إلى الخليفة المأمون بن الرشيد رضي الله عنهما.
وأقدم قبل الحديث عن هذا الشاعر أن ما نعرفه عن أخباره مأخوذ عن الثعالبي صاحب يتيمة الدهر. وإنما يروي الثعالبي أخبار هذا المأموني في الري ونيسابور وبخارى، اي في خراسان وما وراء النهر. ويحدثنا هذا المؤلف الكبير عن شاعر آخر من بني الخلفاء يسمى الواثقي، من بني الواثق بن المعتصم ابن الرشيد، ويروى من أنبائه في تلك الأقطار أيضاً. ويخبرنا انه كان ببخارى إذ ذاك جماعة من بني الخلفاء العباسيين تجري عليهم الأرزاق، منهم: ابن المهدي وابن المستكفي. وإن قارئ هذه الأخبار ليعجب ويتساءل لماذا يذهب بنو الخلفاء إلى خراسان وما وراء النهر في طلب الرزق؟ وأن جاز أن يضطر إلى هذه الرحلة أبناء الخلفاء الذين بعد الزمن بينهم وبين الخلفاء من آبائهم كأبناء المهدي والمأمون والواثق، فكيف أدركت الضرورة ابن المستكفي وقد لبث المستكفي في الخلافة إلى سنة 334، فما مضى نصف قرن من خلافته إلى الزمن الذي يحدثنا بأخباره الثعالبي؟
ومرد هذا في رأيي إلى أمرين: الأول أن استيلاء البوبهيين على العراق عام 334 - وهي السنة التي خلع فيها المستكفي، وبأيديهم خلع - ذهب بهيبة الخلفاء وثروتهم، وأورث أبنائهم الفقر العاجل، وكان بنو بويه يتشيعون ولا يؤمنون بخلافة العباسيين
والثاني أن بني الخلفاء كانوا يلقون حفاوة وإكراماً في تلك البلاد، وان أمراء السامانيين ووزرائهم كانوا يمنحونهم من التعظيم والبر ما يحبب إليهم ركوب الأسفار البعيدة إلى تلك الديار النائية؛ والسامانيون كانوا يدينون بالطاعة لبني العباس ويؤمنون بخلافتهم
- 2 -(421/6)
وأما المأموني فيحدثنا عنه الثعالبي أنه فارق وطنه بغداد وهو حدث إلى مدينة الري، فامتدح الصاحب بن عباد بقصائد أعجبته فأكرم مثواه وقربه. يقول الثعالبي: (فدبت عقارب الحسد بين ندماء الصاحب وشعرائه، وطفقوا يركبون الصعب والذلول في رميه بالأباطيل، ويتقولون عليه اقبح الأقاويل، فطوراً ينسبونه إلى الدعوة في بني العباس، ومرة يصفونه بالغلو في النصب واعتقاده تكفير الشيعة والمعتزلة، وتارة ينحلونه هجاء في الصاحب يعرب عن فحش القدح، ويحلفون على انتحال ما اصدر من شعر في المدح، حتى تكامل لديهم إسقاط منزلته لديه، وتكدر ماؤه عنده عليه. وفي ذلك يقول قصيدة يستأذنه فيها للرحيل:
فكنت يوسفَ، والأسباط هم وأبا ... الأسباط أنت ودعواهم دماً كذبا
وعصبة بات فيها الغيظ متقداً ... إذ شدت لي فوق أعناق العدا رتُبا
أرى مآربكم في نظم قافية ... وما أرى لي في غير العلى أرباً
فارق المأموني الري إلى نيسابور، وفيها حينئذ أبو بكر الخوارزمي الكاتب المعروف، فأشار عليه الخوارزمي بإنشاء قصيدة في الشيخ أبي منصور كثير بن احمد يسأله فيها تقرير حاله عند صاحب الجيش أبي الحسن بن سيمجور - وبنو سيمجور من ولاة الدولة السامانية وقوادها - فأنشأ المأموني القصيدة وابلغها الخوارزمي الشيخ كثيراً، وحسنها لديه وأثنى على هذا الشاعر الشاب. فوقعت القصيدة ممن أهديت إليه موقعاً حسناً، وفي هذه القصيدة يقول:
إلى الله أشكو مُنًى في الحشى ... تضُمن جنبايَ منها سعيراً
تُفارق بي كل يوم خليلاً ... وتفجع بي كل يوم عشيرا
فإن تسألانِيَ يا صاح ... بي نص السُرى تجداني خبيرا
ففي كل يوم تراني الركا ... بُ أفارق ربعاً واحتل كورا
إذا سرت عن صاحبي قلتُ عُ ... دَّ لعَودي السنين وخل الشهورا
أراني ابن عشرين أو دونها ... وقد طبّق الأرض شعري مسيرا
إذا قلت قافية لم تزل ... تجوب السهول وتطوى الوعورا
ولو كان يفخر ميت بحي ... لكان أبي هاشمٌ بي فخورا(421/7)
ولو كنت أخطب ما استحق ... لما كنت أخطب ألا السريرا
ولو سرتُ صاحت ملوك البلا ... د بين يدَيَّ النفير النفيرا
ولكنني مكتف باليسير ... إذا سهّل الله ذاك اليسيرا
ويتبين في هذه القصيدة نشوة الشباب، وفخر الشاعر بآبائه واستحقاقه الملك كما تتبين قناعته ورضاه باليسير، وما طموحه وقناعته ألا من التناقض بين الانتساب إلى المأمون والمدح والعطاء.
أنهى الشيخ كثير أمر هذا الشاب العباسي الشاعر إلى صاحب الجيش.
يقول الثعالبي: (فلما وقف على صورة حاله أنهاها إلى صاحب الجيش فاستدعاه. وحين وصل إليه، استقبله بخطوات مشاها اليه، وبالغ في إعظامه وابلغ في إكرامه. ثم خيره بين المقام بنيسابور وبين الانحدار إلى الحضرة ببخارى - يعني عاصمة الدولة السامانية - فاختار الخروج فوصله وزوده من الكتب إلى وزير الوقت وغيره من الأركان)
رحل الشاعر الشاب عن نيسابور ميمما بخارى فابلغه إليها سفر طويل شاق؛ وكأنه يصف هذا السفر في أول قصيدة أنشأها في بخارى مادحاً أحد رؤسائها أبا الحسين عبد الله بن احمد:
وليل كأني فيه إنسان ناظر ... يقلب في الأفاق جفنيه داميا
إذا ما أمالتني به نشوة الكرى ... تمايل في كفي المثقف صاحيا
وأمّا طما لُجّ المنى بين أضلعي ... تعسَّفت لجا من دجى الليل طاميا
فأمسى شجا في ظلمة الليل دالجا ... وأضحى قذى في مقلة الصبح غاديا
أحسن أبو الحسين وفاده ابن المأمون، وبلغ الغاية في إكرامه. يقول الثعالبي:
(فتقبله بكلتا اليدين واعجب منه بفتى من أولاد الخلافة يملأ العين جمالاً والقلب كمالاً)
وواصل صلاته، وخلع عليه، وألحقه في الرزق السلطاني بمن كان هناك من أولاد الخلفاء: كابن المهدي وابن المستكفي وغيرهما. وتتابع الوزراء على إكرامه، فكان كلما دالت الدولة لوزير نافس من تقدمه في الحفاوة والبر به
يقول الثعالبي: (وجعل كل منهم يربى على من تقدمه في الإحسان إليه، وإدرار الرزق عليه، وإخراج الخلع السلطانية والحملانات بمراكب الذهب، حتى حسن حاله، وتلاحق(421/8)
ماله، وظهرت مروءته). وكان هو لا يألو في شكر أياديهم بقصائد يكافئ فيها نعمهم، فلبث في بخارى حقبة مغتبطاً راضياً
ومن قصيدة له في مدح ابن عزيز أحد وزراء بخارى:
أعبدَ الله لا خُيرتُ بيتاً ... مدى الأيام ألا في علاكا
فكم لك من يد قلدتنيها ... فلست أرى لها عني فكاكا
ولو حَمّلتَ ما حَملتَنيه ... شَمامِ لما استطاع به حراكا
وقد ألبستني أثواب عزَّ ... وقد أَوطأتَ أخمصىَ السَّماكا
فحسبك من عُليً أعليت كعبي ... برفعكه، فقد بلغ السَكاكا
قال أبو منصور الثعالبي: (رأيت المأموني ببخارى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وعاشرت منه فاضلاً ملء ثوبه، وذاكرت أديباً شاعراً بحقه وصدقه، وسمعت منه قطعة من شعره، ونقلت أكثره من خطه: وكان يسمو بهمته إلى الخلافة، ويمني نفسه قصد بغداد في جيوش تنظم إليه من خراسان لفتحها، فاقتطعته المنية دون الأمنية. ولما فارقته لم تطل به الأيام بعدي حتى اعتل علة الاستسقاء، وانتقل إلى جوار ربه، ولم يكن بلغ الأربعين. وذلك في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة).
ويصدق الثعالبي فيما حدث عن همة هذا الفتى وبُعد أمله وطمعه في الخلافة، شعر له ينطق عن هذه الهمة وهذا الأمل، ويعرب عن ثقة الرجل بنفسه واعتداده بها. يقول في قصيدة أنشأها في بخارى:
أنا بين أحشاء الليالي نار ... هي لي دخان والنجوم شرار
فمتى جلا فجر القضاء ظلامها ... صليِتْ بي الأقطار والأمصار
بي تحلم الدنيا وبالخبر الذي ... لي منه بين ضلوعها أسرار
فبكل مملكة عليَّ تلهُّف ... وبكل معركة إلي أوار
يا أهلُ ما شَّطت برحلي رحلة ... ألا لتسفر عني الأسفار
لي في ضمير الدهر سر كامن ... لا بد أن تستله الأقدار
- 3 -
وأما شعر المأموني فوسط لا يسمو إلى الذروة ألا قليلاً. وقد اثبت صاحب اليتيمة له قصائد(421/9)
قليلة وقطعاً كثيرة أكثرها في وصف الأزهار والفواكه والأواني والأطعمة. وقد صدرها المؤلف بقوله: (وهذا ما اخترته من شعره في الأوصاف والتشبيهات التي لم يسبق إلى أكثرها).
فأما قصائده فمنها قصيدة في مدح الصاحب إسماعيل بن عباد مطلعها:
يا ربع لو كنت دمعاً فيك منسكباً ... قضيت نحبي، ولم اقض الذي وجبا
لا ينكرون ربعك البالي بلى جسدي ... فقد شربت بكأس الحب ما شربا
ولو أفضت دموعي حسب واجبها ... أفضت من كل عضو مَدْمعاً سرَبا
عهدي بعهدك للذات مرتبعاً ... فقد غدا لفؤادي السحب منتحبا
وهذه أبيات تذكر بقصيدة المتنبي التي أولها:
دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا ... من حقه وشفى أنَّي ولا كربا؟
وكأنه أراد بمطلعه مناقضة مطلع المتنبي. ومحاكاة المتنبي في الوزن والقافية تظهر في قصائد أخرى. وكان المتنبي شاعر القرن الرابع، وقد ولد المأموني في أواخر حياة أبي الطيب، والزمان يدوي بذكره ويصدق قوله:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
وللمأموني قصيدة أخرى يمدح بها أحد وزراء بخارى أولها:
سيخلُف جفني مخلفات الغمائم ... على ما مضى من عمري المتقادم
بأرض رواق العز فيها مطنَّب ... على هاشم بين السُّهى والنعائم
يدين لمن فيها بنو الأرض كلهم ... وتعنو لهم صيدُ الملوك الأعاظم
ويهماَء لا يخطو بها الوهم خطوة ... تعسَّفتها بالمرقلات الرواسم
وقد نشرت أيدي الدجى من سمائها ... رداء عروس نّقطت بالدراهم
فخلنا نجوماً في السماء أسِنَّة ... مذّهبة ما بين بيض صوارم
وأظنه حاول فيها محاكاة أبي الطيب في قصيدته التي مدح بها ابن طغج:
أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم ... علمت بما بي بين تلك المعالم
وأخرى من قصائده في مدح أبي نصر أحد وزراء بخارى ووصف دار بناها، أولها:
قد وجدنا خُطى الكلام فِساحاً ... فجعلنا النسيب فيك امتداحا(421/10)
وهو مطلع يذكر بقول أبي الطيب:
وقد وجدت مجال القول ذا سعة ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل
ومما وصف به الدار:
بَهوها يملأ العيون بهاء ... صَحنها يملأ الصدور انشراحا
شِيدُها فضة، وقرمدها تِبْ ... ر قد امتيح من نداك امتياحا
وثراها من عنبر شيب بالمس ... ك فإن هبَّت الصِّبا فيه فاحا
كل ناد منها قد اتشح الفر ... شُ بثوب الربيع فيه اتشاحا
صبغة من دم القلوب فمن أب ... صره اهتز صبوة وارتياحا
ما بكاء الرياض بالطل إلا ... خجلاً من رياضها وافتضاحا
شابه النقشُ فرشها مثل ما ... شابه ولدانها دُماها الصباحا
وكأن الستور قد نشر الطا ... وس منها في كل باب جناحا
وكأن الجامات فيها شموس ... أطلعتها ذٌرى القباب صباحا
هذا حديث فتى من بني الخلافة بعيد الهمة طماح، وشاعر من الشعراء الأمراء الذين تشرق أقوالهم في جوانب الأدب العربي ذكراً للهمم العربية والأدب والبلاغة، أدب النفس واللفظ، وبلاغة الأفعال والأقوال.
عبد الوهاب عزام(421/11)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
ليسمع مدير الجامعة ووزير المعارف - فرنسي يستمصر
فيستغرب - الشيخ حسين علي - إلى بعض النواب
والصحفيين - منارة أبي العباس
ليسمع مدير الجامعة ووزير المعارف
كنت شغلت نفسي عدداً من السنين بالدعوة إلى جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع كليات الجامعة المصرية، وانتهزت فرصة اشتراكي في المؤتمرات التي تعقدها (الجمعية الطبية)، فجعلتها مواسم لبث هذه الدعوة بين المشتغلين بالعلوم من أبناء الأمم العربية، وما زالت ألح حتى مللت وأمللت، فانصرفت عن نشر تلك الدعوة وأنا آسف حزين
واليوم أطلع على عبارة تستحق التفات مدير الجامعة ووزير المعارف، فقد جاء في النشرة التي أصدرتها الجامعة العبرية بالقدس أن جميع الدروس في تلك الجامعة تلقى باللغة العبرية ما عدا بعض دروس اللغات
فما معنى ذلك؟
معناه أن اليهود يرون لغتهم قديرة على التعبير عن جميع المعاني في مختلف الأغراض، وإنهم يرون من القومية أن يدرسوا آداب اللغات الأجنبية باللغة العبرية، مع استثناء طفيف يوجبه الحرص على التعمق في بعض اللغات
فكيف تعجز لغة العرب عما قدرت عليه لغة اليهود؟
إن اللغة العبرية لم تكن يوماً لغة علم ومدنية على نحو ما كانت اللغة العربية، فكيف استطاع اليهود أن يخلقوا من لغتهم أداة صالحة لدرس مقومات التمدن الحديث، بعد أن ظلت في غيابات السجن عشرات الأجيال؟
الجواب حاضر، ولكن أين من يسمع؟
والجواب أن اللغات لا تقوم بنفسها، وإنما يقوم بها أهلوها الجواب أن اللغات من صنع الناس، وإن كانت في بعض صورها من مواريث التاريخ، فما كان يجب على العرب في(421/12)
العصور الخوالي أن يبتكروا أدوات التعبير عن شؤون لم يشهدوها ولم يعرفوها، وإنما يجب علينا أن نعبر عما شهدنا وعرفنا، كما عبروا عما شهدوا وعرفوا، لنستطيع القول بأننا أهل للإنشاء والإبداع، وكان أسلافنا من أكابر المنشئين والمبدعين
كان يجب على لغة العرب - كما يتوهم أهل الغفلة - أن تحيط بكل شيء، وإلا فهي جديرة بما يصبون عليها من عذابا العقوق!
فهل كان الأمر كذلك في لغات الإنجليز والفرنسيين والألمان، حتى نطالب لغة العرب بخلق المستحيل؟
لغات العالم والمدنية في هذا العصر كانت فقيرة ثم أغناها أهلوها بالنحت والاشتقاق والاقتباس، فمتى نصنع كما صنع الأحياء من أبناء هذا الزمان؟
أكبر هموم علمائنا اللغويين أن يعترضوا على نيابة حرف عن حرف، وأن يقول قائلهم: إن للعرب كيت ولا تعرف زيت، وأن يثوروا على أي تعبير لا يجدون له شواهد في لأقوال القدماء، كأن من الحرام أن يكون لنا في اللغة حق الاجتهاد، وهو حق لم يحرم على أبناء البوادي، ولو كانوا من أكلة الضباب واليرابيع!
اليهود لهم لغة يدرسون بها جميع العلوم؟؟؟
هو ذلك، لأن اليهود يريدون أن يقيموا الدليل على أنهم أحياء
ولو جاز أن يفتن قوم بأوربا ولغاتها، لكان اليهود أولى بذلك الفتون، لأن لهم طلائع في جميع البلاد الأوربية، فممن أخذنا نحن فتنة الخضوع الأحمق للغات الأجنبية، ولنا وجود أدبي واجتماعي لم تفلح في زعزعته الكوارث والخطوب؟
نستطيع بدون صعوبة ولا عناء أن نجعل لغة العرب لسان العلم والمدنية في الشرق، فنزاحم بها ألسنة الأجانب، ونستبقي أعمار أبنائنا فلا نضيع في (رطانات) لا ينتفع بها منهم غير آحاد
وأنا لم أبتكر القول بجناية اللغات الأجنبية في تعويق مواهب الشبان المصريين، فقد أعلن الأستاذ محمد بك حسين هذا الرأي في خطبة ألقاها بالمنصورة في السنة الماضية، وكانت حجته أن الشبان يقضون أطيب أعمارهم في دراسة اللغات، وهي دراسة لم تنتقل من الحفظ إلى الفهم، حتى تعود أذهانهم بالصقل والتهذيب(421/13)
ولكن ما الذي نصنع ونحن في احتياج إلى معرفة اللغات الأجنبية، لنتصل بالتيارات العلمية في العصر الحديث
نكون طائفة خاصة تكون مهمتها الاشتغال بالترجمة لنغني اللغة العربية بإمداد جديدة في ميادين العلم والطب والاقتصاد والتشريع، وعندئذ تنفعل اللغة العربية بتلك الإمداد، وتصبح مورداً غنياً بآثار الأفكار والعقول، فيمكن الاجتهاد في ميادين كثيرة عن طريق اللغة العربية، كما اتفق المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري أن ينتفع بالمترجمات، فصار يفكر على الأساليب الحديثة في التفكير بدون أن يتصل بإحدى اللغات الأجنبية، وبدون أن يتتلمذ لأحد من الأجانب، وله أبحاث تؤيد ما نقول منها بحثه المشهور في اصطلاحات الكيمياء.
فرنسي يستمصر فيستغرب
في هذه الفقرة أسوق حديثاً يشهد بما تصنع العزائم الصوادق في تذليل الصعاب:
كانت البعثة المدنية الفرنسية رأت أن تقصر مهمة مدارسها في مصر على إعداد تلاميذها للبكالوريا الفرنسية، إلا مدرسة واحدة هي الكلية الفرنسية بالظاهر، فقد رأت البعثة أن يعد تلاميذها للبكالوريا المصرية من القسم الفرنسي
ومدير هذه المدرسة هو المسيو مارسيل بونان، وقد أقام في مصر أكثر من عشرين سنة فلم يعرف من اللغة العربية غير ألفاظ معدودات، مثل مدرسة وقهوة وفراش!! وكان المنطق يوجب أن يجعل أبنه من تلاميذ الليسيه ليفوز بالبكالوريا الفرنسية بدون عناء، ولكن الرجل أصر على أن يجعل ابنه تلميذاً في مدرسته ليفوز بالبكالوريا المصرية مع صعوبة اللغة العربية على شاب لغته الفرنسية ودروسه بالفرنسية وحديثه في البيت بالفرنسية
وظل الشاب يتعثر من عام إلى عام في امتحان البكالوريا المصرية، وكان مفروضاً على من كان في مثل حاله بحكم النظام الجديد أن يؤدي امتحان اللغة العربية في مقررات أربع سنين، وذلك عبء ثقيل!
ونصحت للمسيو بونان مرات كثيرة أن يعدل منهج أبنه في الدراسة فلم يقبل، وكان جوابه أنه يريد أن يمحو الخرافة التي تقول بأن التفوق في اللغة العربية مستحيل على الأجانب!
وأخيراً، وبعد جهاد عنيف، نجح الشاب جاك بونان في امتحان الثقافة العامة بتفوق، فهو أول فرنسي يزاحم الطلبة المصريين في الامتحانات العمومية(421/14)
بقيت خطوة واحدة، هي أن يعرف هذا الشاب أن حي الظاهر في رعاية سيدي عبد الوهاب الشعراني، فمتى يصلي معي الجمعة في مسجد الشعراني؟
أسلم تسلم، يا جاك؟!
الشيخ حسين علي
ما فجع رجل بأبيه إلا تجدد جزعي لفجيعتي بأبي، فما استطعت دخول البيت الذي مات فيه إلى اليوم، ولا تمثلت وجهه الأصبح إلا غلبني البكاء
من أجل هذا رأيت الحزن يعصر قلبي حين قرأت في الجرائد أن الدكتور طه حسين فقد أباه، ورثه الله عمر أبيه، ومنّ عليه بالصبر الجميل!
أبو الدكتور طه هو الشيخ حسين علي، وكان رجلاً في غاية من اللوذعية والأريحية، وإن لم يظفر من الألقاب بما يحفظ له مكانة بين رجال التاريخ
وقد أكد عندي فكرة الوراثة العقلية والروحية؛ فقد كان عقله على جانب من الرجاحة، وكان روحه على جانب من الصفاء.
قضى الشيخ حسين حياته في عملٍ بسيط بإحدى قرى الصعيد، ولكن بعده عن الحياة الفكرية في العاصمة لم يحل بينه وبين الاتصال بما كان يجد من تطورات الآداب والفنون، فكان يحدثك عن المدنية الحديثة بأسلوب يقنعك بأنه من أبناء الجيل الجديد، على بُعد بلده من التأثر بأفكار الجيل الجديد.
كان الشافعي يقول: (الحر من راعى وداد لحظة)، وقد واددت هذا الرجل لحظتين، فمن واجبي إن اذرف عليه دمعتين
والى الدكتور طه وأخوته أقدم أصدق العزاء.
إلى بعض النواب والصحفيين
يطيب لجماعة من النواب والصحفيين أن يتحدثوا عن مصر بعبارات لا تخلوا من ازدراء واستخفاف، وقد تصل إلى الطعن والتجريح في بعض الأحيان، وأنا انظر إلى هؤلاء نظر الإشفاق، لأن أقوالهم تشهد بأن فهمهم للمجتمع المصري فهم ضعيف، ولأنهم نشئوا في أوقات لم تخرج فيها طرائق الوعظ عن البكاء والأستبكاء.(421/15)
وأضرب المثل بقول الأستاذ الشيخ محمد دراز وهو يهدد في مجلس النواب:
(أصبحت هذه البلاد لا هي بالبلاد الدينية، ولا هي بالبلاد اللادينية، ولا هي بالبلد الشرقي، ولا هي بالبلد الغربي، وذلك ظاهر في كل مظاهرها، ليس في الزي فقط، ولكن في الثقافة والخلق وكل ما يتصل بحياتنا الخلقية والاجتماعية)
وهذا النائب هو أيضاً مفتش الوعظ والإرشاد بالديار المصرية، فان كان صادقاً فالأمة في بلاء، وألا فهو نفسه بلاء، والله الحفيظ!
كان الظن برجل مستنير مثل الشيخ محمد عبد اللطيف دراز أن يدرك أنه لا يجوز الجهر بمثل هذا الكلام في مجلس النواب، لأنه طعن صريح في الأمة المصرية، ولأنه كلام أجوف لا طائل تحته ولا غناء
ولكن ما ذنبه وهو يتوهم أن رجال الدين يجب عليهم أن يصرخوا في كل وقت، وأن يشهدوا بأن أبناء اليوم ليسوا إلا شر خلف لخير سلف، وأن سعادة الدارين لن تكون إلا من نصيب من يعيشون بقلوب لا تحس روح المدنية في القرن العشرين؟
هذا الواعظ مسئول عن تغيير منهجه في الوعظ، وألا كانت عظاته أقاويل مشئومة لا تُدخل البشاشة الدينية إلى صدور المؤمنين
وقد استراح الأستاذ علي الغاياتي إلى صرخات الأستاذ محمد دراز فعلق عليها في مجلته منبر (الشرق) بعبارات هي غاية في الإيذاء، فقد قرر أن أكثرنا مسلمون جغرافيا فقط، وأن الواقع لا يقر لكثير منا بوطنية ولا بمصرية!
وماضي الأستاذ علي الغاياتي يصدنا صداً عن محاسبته على هذا الجور البغيض، فلم يبق إلا أن نرجوه أن يترفق في الحكم على أمته وأن ينظر إليها بمنظار لا يحجب عنه ما فيها من نضارة وإشراق.
وإن أراد المنطق فليسمع:
لقد أراد السخرية من زعامة مصر الأدبية والدينية، وكانت حجته إننا عجزنا عن توحيد كلمتنا والذود عن حمانا
أما توحيد الكلمة فهو مطلب براق ولكن انعدامه لا يؤذينا في شيء، لأن الخلاف من أقوى مظاهر الحيوية في الشعوب، ونحن نختلف أقل مما يجب، ويا ويلنا إذا لم نختلف!(421/16)
وأما عجزنا عن الذود عن حمانا، فلا يرجع إلى جبن أو استخذاء، وإنما يرجع إلى ظروف يعرف الأستاذ منها أضعاف ما أعرف، وما مر يوم بدون أن يجاهد المصريون ليكون لهم جيش قادر على دفع العدوان بالعدوان
وأذن فسخريتك ضرب من الشماتة وأنت تجهل!
وما أظلم من يشمت بأمة لم يكن نكولها عن الحرب إلا إشفاقا على بنيها من الفناء، وذلك مصير من يواجه الحرب بلا استعداد.
أليس من الإثم الموبق أن تقول: إن الشعب قد فقد شخصيته وبات عالة على الأمم والشعوب؟
الشعب المصري لن يفقد شخصيته أبداً، ولن يبيت عالةً على أحد، فاتق الله في أمتك، أيها الرجل المفضال، وأحذر من العودة إلى مثل هذا التجني المقيت، فقد نستطيع القول بأن القلوب الصحاح ليست من المرض في أمان
ولفضيلة الشيخ دراز أن يسمع هذا النذير، إن أراد!
منارة أبي العباس
من أعظم الأعمال التي قامت بها وزارة الأوقاف تجميل مسجد أبي العباس المرسي بالإسكندرية، فله منارة ستصير علم الهداية للسفن الضوال بعد انتهاء الحرب، وستكون بشيراً لكل قادم بأنه يفد على مدينة إسلامية.
وإذا تذكرنا أن أبا العباس كان من أعلام الصوفية، وأن لقبه (المرسي) سُمي به ألوف وألوف من أبناء الأمة المصرية كان من السهل أن ندرك كيف خصته وزارة الأوقاف بذلك الالتفاف!
ولكن بعض الوعاظ الذين آذاهم أن نقول بوجوب زخرفة المساجد ردوا علينا في إحدى مجلاتهم بان مسجد أبي العباس بلغت تكاليفه نحو المئتين من ألوف الجنيهات، ولو انفق ذلك المبلغ في إعداد طائرات لوقى الإسكندرية من أخطار الغارات الجوية!
وهذا كلام معقول، ولكنه كلام العوام الذين يرتدون ثياب الخواص.
وكيف تكون الحال لو عم هذا المنطق (المعقول) فدعونا الحكومة إلى إلغاء ميزانية المعاهد الدينية لنشتري بها طيارات ودبابات؟(421/17)
وكيف تكون الحال لو عم هذا المنطق (المعقول جداً) فقلنا أن الأمة لا تحتاج إلى وعاظ بقدر ما تحتاج إلى جنود، وإن من الواجب أن نأخذ مرتبات الوعاظ لننفقها في إعداد الجنود؟
وإذا تم هذا، أو بعض هذا، فما مصير من يأكلون العيش باسم الدين، وهتلر - رضي الله عنه أو غضب عليه - يقول: هذا عصر دبابات لا عصر ديانات؟ حدثوني كيف تصنعون، إذا عم هذا المنطق (المعقول) فأنا أعرف مصايركم إذا احتكمت الدنيا إلى هذا الميزان المخلول؟
كان يكفي أن تقولوا إن زخرفة المساجد ليست من تقاليد الدين الإسلامي، أما دخولكم في شعاب تحتاج إلى دليل من الفكر والمنطق فهو المأزق الذي أرجو أن تخرجوا منه سالمين، إن كانت السلامة من نصيب من يواجه الشمس بعين رمداء
زكي مبارك(421/18)
للتاريخ لا للأدب
كارثة دمشق
للأستاذ علي الطنطاوي
(يا أيها العرب: إن أجبتم دمشق، فافهموا هذا الفصل بعقول جيوبكم، بعد أن تفهموه بعقول رؤسكم، واعلموا أن القليل إلى القليل كثير، والله يجزي والناس تشكر، والساعي في الخير كفاعل الخير، والصديق عند الضيق.)
- 1 -
عادت إلينا الرسالة بعد طول الغياب فيا أهلاً بها نجية النفس وسميرة الفؤاد، ويا مرحباً بمعادها - ويا ليتها تعود معها تلك العهود، حين كانت أقلامنا تجري طليقة من القيود - لم تصبغ بالدم ولم تجعل مدادها من سواد البارود. . . ويا ليت أني حين أكتب اليوم أقدر على اجتناب أحاديث الكوارث والهموم، فلا أقص على القراء أخبارها، وأصف آثارها، فأزيدهم كرباً على كربهم. وحسب الرجل اليوم همه، وما بلد إلا وفيه ما يغمه. . . وما تجمل بنا الشكوى، لولا أنها إلى أخ حبيب. ومن للأخ في الضيق غير أخيه؟ ومن للشام إلا مصر والعراق؟ ومن لمصر إلا العراق والشام، ومن تجمعه بها أخوة الجذم واللسان والإسلام؟ وكيف السكوت وما حل بدمشق ينطق بوصف هوله الجماد لو كان ينطق الجماد، وتفيض له أعين الصخر، لو بكى الصخر لذي مصاب. . .
- 2 -
كنا نذكر الحرب التي مضت وما حملت إلينا من الجوع والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، وكيف كان الشعب يموت جوعاً لأن التجار الفجار قد احتكروا خبزه، فذهب من الناس من ذهب، لتمتلئ صناديق المحتكرين بالذهب، ثم لا يجد الأموات قبراً لأن الحرب لم تبق من الرجال من يقدر على حفر قبر. نذكر هذا كله ثم ننظر إلى هذه الحرب فنراها سلاماً علينا وأمناً لم نجع فيها ولم نعر، ولم تنل منا منالاً اللهم إلا ما نالت بأظافر التجار وأنيابهم، إذ جعلوا الواحد من ثمن الأشياء عشراً، وربما بلغوا ببعض الأثمان مائة ضعف. وما قلت السلع ولا تبدلت، ولكنه الطمع والجشع ورقة الدين وضعف الخلق!(421/19)
واستمر مرير الحرب، وانتشرت نارها ونحن لا نعرف مكانها إلا على السماع، وجعلت تطيف بلهبها بنا، وتدنو منا، فأمتد لسانها إلى مصر فجزعنا وأشفقنا وكنا مع المصريين بقلوبنا وألسنتنا، وما نملك لعمري إلا الألسنة والقلوب، ثم دنت منا فبلغ لهيبها العراق، فأقبلنا على العراق بقلوبنا وما جانبت مصر ولا تولت عنها تلك القلوب، ثم أصبحنا ذات يوم على صوت الراد (الراديو) يقول إن الحرب في (الكسوة) على أبواب دمشق، فنظرنا شطر القبلة فلم نجد على جبل (المائع) أثراً لحرب، فكذبنا وأنكرنا، فقال العارفون إن المعركة وراء هذا الجبال. وأكدوا ذلك ولكنا لبثنا مكذبين، فلم تكن إلا ليال حتى بدت في الأفق القبلي من دمشق ومضات المدافع وسمعنا أصواتها فصدقنا ما قال الراد، وأيقنا أن قد بلغتنا الحرب، ولكنا لم نكبرها ولم يصبنا الذعر منها، إذ لم تمسسنا نارها، ولا أحسسنا أوارها، ثم دنت منا النار، وانطلقت المدافع الثقال من قلاع (المزة) و (قاسيون)، فاهتزت لها دمشق ولكن أفئدة أهلها لم تهتز، فانطلقوا يؤمون (المهاجرين) يشرفون منها على المعركة وهي دانية منهم وأصواتها في آذانهم، وشظاياها عن أيمانهم وشمائلهم. وانهم لفي إشرافهم هذا، واجتماعهم في المهاجرين، عشية يوم الجمعة 20 يونية، يتحدثون في عرض الجيش المهاجم على المقاتلين في دمشق كف أذاهم عنها، وتركها (مكشوفة) كيلا تعبث بمحاسنها أيدي الحرب، فتجعل عامرها يبابا، وقصورها تلال؛، وكيف أبى المقاتلون فعرضوا دمشق بإبائهم للأذى، وما يعنيهم أذاها، ولا تهدم لهم (إذا هي تخربت) دار يفجعون في زوج ولا ولد! وكانت المعركة مشتدة هذه العشية، وكان الناس مزدحمين ينظرون بجهنم قد فتحت أبوابها وإذا القنابل قد ضلت طريقها فإذا هي تساقط على (المهاجرين) أجمل أحياء دمشق وأبهاها، فطار الفزع بألباب الناس، وكانت ساعة الهول التي يستعاذ بالله منها، وصار الناس كحالهم يوم القيامة، حين يجد المرء ما يشغله عن أخيه وزوجه وبنيه؛ فخلفوا الدور مفتحة الأبواب، واستلموا منافذ الطرق، مهاجرين إلى (الشام) يعتصمون بالاموي، ويقيمون في جواره بعيدين عن مواقع القنابل التي تحمل الموت والدمار. فلا ترى على الطرق إلا الناس مسرعين بوجوه شاحبة، وأعضاء من الخوف مضطربة. وربما خرجت المسلمة المخدرة مكشوفة الوجه، والمدافع تنطلق، والقنابل تتتالى وتتعاقب، كالغيث إذا انهمر. . . وكان أمر لا يوصف!(421/20)
- 3 -
ثم انسحب جيش، ودخل دمشق جيش، وأعلن استقلال سورية، وانتهت الحرب، فتنفس الناس الصعداء، وتذوقوا لذة الأمن بعد الخوف، ومن كان لجأ من الخوف إلى دمشق من سكان القرى المرزأة المروعة الذين أكلت الحرب دورهم وغلاتهم سكان: (الكسوة، والباردة، والأشرفية، وصحنايا، وسبنية، وسبينات، والقدم، وغيرها) من قرى الغوطة التي كانت تنعم بالأنس والدعة في ظلال الأشجار، فصارت صحراء قاحلة، لا شجرة فيها ولا دار. وديرا يا قرية العنب الديراني الذي تباهي دمشق المدن بلونه وطعمه ونبل حبته وجلال عناقيده واتساع كرومه؛ وجارتها المزة (جيزة دمشق) وأجمل ضواحيها، استعدوا للرحيل إلى دورهم ومساكنهم. . . يحسب المساكين أنها لا تزال لهم مساكن، ما دروا أن من هذه القرى ما لم يبق منه إلا أطلال ورسوم. . . وانطلق الدمشقيون الذين واسوهم في مصيبتهم، وآووهم في منازلهم يودعونهم بالحفلات والولائم. . . فاشتعلت الأحياء التي تحف بالأموي نوراً، وابتسمت سروراً: (القيمرية الكلاسة، وباب السلام، وباب البريد، وسيدي عامود)، حتى ليحسبها الرائي ترقص طرباً، وما بها لو حققت من طرب. وفيم الطرب؟ ولكن مواساة للمنكوبين، وتطييباً لقلوبهم، وإظهاراً للرضا بانطفاء نار الحرب، وحمداً لله على ما لطف وسلم، فكانت ليلة الأربعاء (25 يونية)، كأنها من ليالي الأعياد. . .
وكان أسبق الأحياء في هذا المضمار (الكلاسة)، هذا الحي الرابض بين الحرمين الأقدسين: مسجد بني أمية الجامع، ومدفن البطل صلاح الدين (آخذ الدنيا ومعطيها)، كأنما سرى في أهله روح من روح صلاح الدين، فظهرت على أيدي أهله مدهشات الشهامة والكرم، حتى لقد آوى رجل منهم واحد سبع أسر في داره، وأولاهم من بشاشة وجهه وفضل ماله ومسكنه ما لا يمتد إلى اكثر منه جهد مثله. . .
- 4 -
نام الناس هذه الليلة التي حسبوها من ليالي الأعياد آمنين لا يخافون الحرب وقد انطفأت نارها، ينتظرون بآمالهم الغد القريب ليحمل إليهم السلام والرخاء. فلما كانت الساعة الرابعة(421/21)
(إلا ربعاً)، ومآذن دمشق المائة والسبعون تصدح (بالتراحيم) الأخيرة، ولم يبق دون الفجر إلا قليل، والليل ساكن سكون السحر الفاتن العميق. . . وإذا برجة لا توصف قلقت البيوت فذهبت بها وجاءت كأنها الزلزال العظيم، لولا أنها اقترنت بصوت أفاق منه الناس، وإن أجلدهم ليضطرب في فراشه اضطراب السمكة خرجت من الماء، ثم أعقبتها رجتان، ثم جاءت رجة أنست الناس الأوليات فحاروا وذهبت المفاجأة بألباب ذوي اللب منهم وخرجوا من بيوتهم يتراكضون، وما لأحدهم وجهة ولا مقصد. . . ثم انجلت الحال، فإذا هي طيارة لا يدري أحد موردها ولا مصدرها. . . ألقت قنبلتها الأولى على أكواخ في مزرعة عند (جسرتورا) فيها ثلاث أسر في كل أسرة منها أكثر من عشرة أشخاص، فأبادت الجميع، وما ثمة مطار ولا ثكنة ولا شيء مما يصح ان يكون لقنابل الطائرات هدفاً، وألقت الثانية على (باب السلام) من أسفل (الجزيرة) فهدمت أربع عشرة داراً (لا شقة)، والثالثة وقعت على الكلاسة فأبادت الحي كله؛ ولو زاحت عن موقعها عشرة أمتار من هنا أو هناك، لطارت بمأذنة العروس أو بقبر صلاح الدين، ورمت الأخيرة في الحي الجديد في (سيدي عامود)، الذي لم يكد يبنى بعد خرابه، حتى حمل إليه الدمار في الثانية من حمله في الأولى، وما في كل ما دمرت الطائرة ولا في جواره ولا قريباً منه شيء من المصانع والمواقع العسكرية البتة
وقع ذلك كله في أقل من خمسين ثانية، لم يمتد إلا ريثما اجتازت الطيارة من أول المدينة القديمة إلى آخرها، ثم توارت في الظلام كما خرجت من الظلام. . .
- 5 -
أسرعت مع من أسرع إلى مطرح القنابل وبدأت من (سيدي عامود) فإذا القنبلة قد سقطت في وسط الطريق في ميدان صغير يتقاطع فيه شارعان، فاحتفرت حفرة هائلة، وتطايرت قطعها وشظاياها، فأصابت أربع عمارات جديدة مترعة بالسلع التجارية القيمة فضعضعتها وهدت أركانها وأدخلت بعضها في بعض، وأبادت كل ما كان من سلعة ومتاع، وأفقرت أسراً الله اعلم بعددها، وحطمت القنبلة كل زجاج الحي، وقتلت رجلاً وامرأتين - وذهبت من بعد إلى (الكلاسة) فإذا هذا الحي الآمن بأمان المسجد، القائم في حمى صلاح الدين، قد غدا تلاً واحداً كالقبر العظيم كأنه لم يكن منذ ساعات يبسم للحياة ويبسم له المجد، وكأنه لم(421/22)
يكن منزل الكرام الصيد المحسنين. . . وكان الناس مزدحمين يعملون مساحيهم في هذه الأنقاض فيكشفون عما تتفطر لهوله القلوب، ويلقون من غرائب الحياة ومآسيها ما يخجل أكبر القصاص ويدفعه إلى حطم القلب، والنساء يولولن يسألن عن زوج ضائع أو ولد مفقود ويقعن على أرجل الكشافة والفعلة وأصحاب المساحي يسألنهم الإسراع بالكشف عمن افتقدن من أقربائهن، ومنهن من تقبل على التراب تنبش بيديها وهي تعد الدقائق والثواني تتصور الموت جاثماً على صدر من تحب، فإذا رأت أنها لم تصل إلى شيء وهالها الأمر، جن جنونها فأقبلت تلطم وجهها وتشد شعرها. والرجال. . . لم يكن الرجال بأجلد من النساء
وكيف يتجلد الرجل ويصبر وحبيبه تحت الأنقاض وكلما مرت لحظة دنا من الموت باعاً، كيف يصبر وهو يظن أن في يده حياته، وكيف يعيش من بعده إذا توهم أنه هو الذي قتله بتقاعسه عن إسعاده؟
إن الذي رأيت في الكلاسة من الفواجع والمآسي لا يقدر على وصفه لسان ولا قلم، والحفارون خلال ذلك يخرجون جثة من هنا وجثة من هناك، فينادون عليها ليعرفها من يعرفها. ولقد وجدوا جثثاً مشوهة لم يعرف أصحابها، ووجدوا ساعداً مبتوراً لم يدر من صاحبه. . . وهذه امرأة حديثها عجب من العجب؛ فقد كانت تنام بين ولديها فلما سمعت الرجفة نهضت وكل عرق منها يرتجف كأنه ريشة في مهب الريح فوجدت الظلام من حولها دامساً طامساً، فمدت يديها تتلمس ولديها فوقعت على الرضيع ولم تقع على الأخر، فتحسست مكانه فإذا يدها على جذع من الخشب وسط تراب منها، فنهضت كالمجنونة فاصطدم رأسها بشيء قريب حسبته السقف فازداد جنونها ولم تدر أهي في يقظة أم في حلم، فأخذت بيد ابنتها التي ما ينقطع بكاؤها وقبعت في فراغ وجدته. وكان ينتهي إلى سمعها صدى طرقات بعيدة كأنها آتية من قرار سبع آبار، ثم رأت حين ألفت عيناها الظلمة، كأنما هي في مغارة من مغارات الجن لا باب لها ولا كوة، ثم أنها من ضيقها كالقفص، فأقبلت تضرب بيديها ورأسها، والتراب يتساقط عليها حتى وجدت بصيصاً من النور، وازداد صوت الطرق وضوحاً في أذنيها، وتسرب إليها الهواء بعد أن كادت تختنق، فأغمي عليها ولم تفق إلا في المستشفى ورضيعها إلى جنبها، وولدها الآخر وزوجها تحت(421/23)
الأنقاض.
وهذا هو الأستاذ المصور (أ. . .) يفتش عن ولده الحبيب، وقد جحظت عيناه من الذعر، وتبدلت حاله، وصار لون خديه كقشرة الليمون، وهو يستحث الحفارين، ويضرب بيديه التراب. . . هنا ابنه، ولده الحبيب! يا أيها الآباء! جاء به من المهاجرين يوم الروع ليودعه المكان الآمن عند جدار المسجد، عند قبر صلاح الدين. ومرت ثلاث ساعات كانت عليه وعلى المشاهدين كأنها ثلاثة عصور؛ ثم انكشف الردم عن نصف غرفة وإذا الولد فيها وهو حي، لكن ذراعه تحت الردم، وهو يصرخ: أبي، ارفعني، ارفعني يا أبي. فلما سمع الأب صوته وثب إليه يعانقه وهو يبكي، وكل عين ثمة تبكي. . . ولكن كيف يرفعه وفوق ذراعه كل تراب؟ وأقبلوا ينقلون التراب والولد يصيح صياحاً جعل أباه يفكر بإنقاذه ولو بقطع يده، أسمعتم؟ وانهم لفي ذلك وإذا بجذع يهوي على رأس الصبي فيقتله حالاً.
وهاهنا طفل رضيع يجدونه حياً يمتص من ثدي أمه الميتة. حقائق لو كانت خيالاً لكانت من أغرب الخيال
ولما انصرفت من (الكلاسة) أخذ بيدي صديق لي وأنا لا ابصر من الأسى والحزن طريقي فقال: إن ما رأيت ليس بشيء. إن أحببت أن تنظر إلى أفظع عدوان وأشقى ضحية وأروع مشهد، فتعال معي إلى باب السلام، فلقد أخرج منه إلى الآن (الضحى) سبعة وعشرون قتيلاً، فنترت يدي منه ولم أجب!
- 6 -
وانجلت الغارة عن ثمانية وعشرين منزلاً أضحت خرائب وتلالاً وواحد وسبعين قتيلاً. ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال، ونحو خمسين جريحاً لا يكاد يعيش منهم أحد، ما قتل هؤلاء في المعركة الحمراء ولا سالت نفوسهم على ظُبي الأسنة، وشفرات السيوف. . . ولو واجههم العدو في حومة الوغى لوجدهم فرسانها وسادتها، ولكنه أخذهم غدراً وعدا عليهم وهم آمنون في فرشهم فأخذ الرجل من جنب زوجته وولده، أو قتلهم جميعاً لم يتورع عن قتل النساء، ولا عن ذبح الذراري، ولم يكسر عليهم الأبواب ويدخل دخول الغاصب القوي، ولكنه مر في السدفة الحالكة مرور اللص الجبان، فراغ عن مواطن الجندية ومنازل الكماة لأنه ليس من أكفائهم، وتخير هذه البقع الآمنة حول بيت الله فصب عليها كل ما في(421/24)
النفوس الشريرة من خسة ودناءة، ولعله أراد بنيرانه بيت الله، أو لعله أراد بها قبر السيد الذي علم قومه كيف يكون النبل
فيا رحمة الله على النبل وأهله، وسلام على هذه الأرواح الطاهرة، وعلى الظالمين لعنة الله
علي الطنطاوي(421/25)
صفحة من كتاب
(مرارة اليُتم)
(مهداة إلى الصديق المفجوع بوالده)
للأستاذ شكري فيصل
- 1 -
حين مددت يدي أمس إلى ساعي البريد لم أدر سر هذه الخفقة العنيفة التي اضطرمت بها جوانحي فانتفضت معها انتفاضة المذعور، ووجدت في نفسي ألواناً من الأحاسيس لم أتمالك أن أسكن إليها، أو أطمئن معها، أو أدرك سر التأثير فيها. . . فلقد فاضت بين جنبي لاهبة مستعرة، فإذا أنا أصلى بلهبها، وأكوى بلفحها، وإذا كياني كله جمرة متقدة في أتون من اللظى والنار
ولم يكن ذلك من عادتي في شيء. . . لشد ما كنت أضحك للساعي وأطرب له. . . ولشد ما كنت ألقاه أقبل عليه وأدنو منه. . . لقد كنت ألقاه بالأمل الطروب الذي ينساب ابتسامة عريضة، وتحية مرحة، ولقاء حلواً. . . وكنت أرقب موعده، وانتظر مقدمه، وأعد له الساعات؛ فليس احب ألي من الساعة التي تصافح فيها يداي هذه (الرسائل)، أنسم فيها عبير الوطن، وأنعم بدنيا الاهل، وتتسق لي الذكريات اللطاف، وأعيش في هذا العالم الندي: نشوان بالرؤى الحالمة، ثملاً بالأماني الناعمات.
ولكن كان لي في أمس شأن آخر. . . لم تتفتح شفتاي عن التحية الحلوة، ولم تنطلق في دنياي البسمة الطروب، ولم تشع في وجهي قسمات الأمل. كان كل شيء في نفسي يهتز ويضطرب كأنما كان ينشر في السماء الصافية أمواه السحاب وأمواج الضباب، وكأنما يبعث في العالم الهادئ الآهات الصاخبة والنفثات الغاضبة. وكانت تطيف بي طوائف كابية معتمة لا أتبين معها وجه النور، ولا ظلمة الغسق؛ ولا أدري لها عبق الأمل أو مرارة الواقعات، ولا أحس أهي نذر الشر أو بشارات الخير!
وحين أخذت أنزع هذا الغلاف الرقيق لم أدر أين أبتدأ منه. كنت كلما أمسكت بطرف منه توليت عنه إلى طرف آخر؛ فإذا الكتاب يضطرب بين يدي، وإذا أنا أدور معه كالخابط في(421/26)
الليلة الظلماء لا يدري أين يضع قدمه لأنه يخشى أن تزل به
. . . لكأني كنت أخادع نفسي فلا أفجؤها بالآهة الحرى والدمع الهتون.
- 2 -
وأخذت اقرأ من هنا وهناك لم أبتدئ مع الكلمات الأولى كما يفعل الناس، لأني لم أك أملك الإرادة الهادئة والطبع المتزن. ولكنما كنت أعدو وراء الكلمات وأمضي في ثنايا الأسطر، لألقى الشر وأجد خبر المصيبة
إن الفراشة الوادعة ليست هي وحدها التي تسعى إلى النور لتلقي حتفها فيه، ولكننا في ساعات المصيبة أشبه بهذه الفراشات؛ غير أننا نتداعى في قبور الظلمة ومسارب الكهوف لتلتهمنا الآلام الفواجع
- 3 -
لقد عرفت في كتب صاحبي أناقة الصورة وجمال المظهر؛ وكنت أجد فيها مرح الطفولة وعبث الصبا؛ وكانت تنشر لعيني ذكريات الماضي وأصداء السنين. لطالما هدأت إلى ظلالها الوارفات بعد الطواف البعيد! كانت أشبه بالزهرة الفواحة التي تتفتح عنها نفس يهزها الأمل، ويحدوها الرجاء، وتزدهر من أمامها مسالك الحياة. . . ولكنها اليوم شيء آخر، لقد عصفت بها العاتيات فعرتها من الجمال الضافي، وسطت عليها لفحات النار فذهبت بروائها الزاهي. . . لم يعد كتاب صاحبي إلا الهشيم الذي تذروه الرياح الهائجة: تلطمه بالمصيبة، وتصدمه بالفجيعة، وتنال منه بالحزن
وفي طرف منه جمدت عيناي ويبست أطرافي. كان يهتز في يدي كما تهتز الأوراق البالية في أعقاب الشجرة الضخمة، فتسمع لها حشرجة الروح، وانين الاحتضار. . . لكأن كلمة الموت التي طرقت مسمعي فيه، قد ملأت كل كياني، فإذا أنا وهذه الدنيا من حولي هامد همود الجثة. . . صامت صمت الموت. . . موحش أيحاش القبر.
- 4 -
يا للمساكين الذين تنالهم الدنيا بأحزانها السود، وتنشب مخالبها الحادة في أجسادهم الطرية الرخوة. . . إنهم لم يستكملوا بعدُ ريعان الفتوة وزهرة العمر وربيع الشباب، ولكن الحياة(421/27)
تريدهم على أن يجدوا الربيع القاحل، والزهر الآفل، والريعان الماحل. . . إنها لتريدهم على الحزن، ولتضطرهم إلى البكاء حين تضحك السماء وتبتسم الأرض. . . لا تبالي هذه القلوب الساذجة الضاحكة، ولا تأبه لهذه النفوس الخيرة النبيلة، ولا يعنيها أن تلطم باليتم فتياناً عرفوا الحياة نعيماً وأملاً وجنة
يا ويح اليتيم. . . كان بالأمس ينشأ في أيام من الورد والسوسن، وفي أجواء من العطر والزهر، وفي دُنى من النعيم والسحر؛ ولكنه اليوم يغمض لهول المصيبة عينيه، ويصم أذنيه، ويطرق برأسه. فإذا أفاق وأصغى ونظر فلن يجد إلا الصحراء والظلماء والبأساء؛ لأن الدنيا عدت على عالمه الهانئ فذهبت بعطره وسحره، وعقت على جناته الناعمة فذهبت بورده وزهره، ودفنت عرائسه المائسات في قتام العاصفة، وتركت له أغصان الأسى ينثرها بيده على الهيكل الحبيب والقبر الخصيب
- 5 -
لم أعد أستطيع أن اقرأ، لأن الدموع التي كانت تتقرح عنها جفوني غشت عيني، فإذا أنا أهيم في أودية مرعبة من الحسرة الممضة والألم العميق
وإني لألمح صديقي فما أملك أن أطيل النظر إليه والتأمل فيه. لقد عرته الدنيا من نعمة الأبوة، كما تعرى الزهرة الناشئة من أوراقها الخضر؛ فما يملك أن يرد عن نفسه المكاره العاديات.
لشد ما يبعث الأسى هذا اليتم المفاجئ في الليالي السود، ينتزع النعمة الرافلة، ويتعقب الهناء الوارف، ويبدد الحلم السعيد، ويسوق هؤلاء المساكين الفتيان وهم في غضارة الصبا وطراوة الشباب، إلى دنيا من الهموم والكآبات
ولكن لا عليكم أيها الشباب الذين يفقدون آبائهم في أحلى ساعات العمر وأجمل أوقات الحياة، ويتطلعون حولهم فلا يجدون القلب الذي ينهلون منه، والساعد الذين يتكئون عليه، والصدر الذي يدفنون وجوههم فيه، لأن الآلام المبكرة ليست إلا السحاب الجون يفيض أمطاراً ومياهاً ليغسل الأدران، ويطهر الأجواء، ويصفي النفوس
(القاهرة)(421/28)
شكري فيصل(421/29)
الوحدة العربية ووحدة اللغة
للأستاذ يوسف كمال حتاتة
استمر حكم العرب في الأندلس ثمانية قرون من عام الفتح (سنة 91هـ) إلى العام الذي سقطت فيه غرناطة سنة 897 هـ)
وكانت في الأندلس سبعمائة مكتبة عامة يرتادها الناس لدراسة أنواع العلوم وبينها مكتبة قرطبة التي كانت تحوي نصف مليون كتاب.
فلما دالت الأيام وأُخرج العرب من ديارهم أحرق أعداؤهم الكتب التي ألفوها وبقيت البلاد ترسف في قيود الجهل وأصبحت كلمة كتاب إحدى الجرائم التي ينبغي الحذر منها، وظلت مدريد - عاصمة الحكم الذي خلف حكم العرب - لا تضم مكتبة عامة واحدة إلى القرن الثامن عشر الميلادي
في هذه الفترة كان المتحدث عن نظريات نيوتن وأبن رشد يساق إلى محكمة التفتيش فتحكم عليه بالموت بعد التعذيب، والتعذيب هو قطع الأرجل والأذرع في شريعة القساوسة؛ أما الموت فهو إلقاء المحكوم عليهم في التنانير المسجورة
في زمن عبد الرحمن الناصر لدين الله كان المبشرون يقفون أمام جامع قرطبة الكبير ويخطبون داعين الناس إلى اعتناق الدين المسيحي في أثناء اجتماع المسلمين لصلاة الجمعة، وكان الخليفة يسمعهم فلا يقول لهم كلمة ولا يأمر رجال شرطته باعتراضهم أو الوقوف في طريقهم
هذا في الأندلس؛ أما في بغداد فقد وضع الرشيد جميع المدارس في مملكته تحت رقابة يوحنا بن ماسويه الشهير، وكان الإشراف على أمور التعليم في الدولة العباسية يفوض تارة إلى النسطوريين وطوراً إلى اليهود
وكان جيورجيس الجنديسابوري طبيباً للمنصور، وقد علت منزلته عنده، وسبب ذلك أنه كانت له زوجة عجوز لا تشتهى فأشفق عليه المنصور وأرسل إليه ثلاث جوار حسان فردهن وقال: (إن ديني لا يسمح لي أن أتزوج غير زوجتي ما دامت حية) فأعلى المنصور مكانته وقدمه حتى على وزرائه. ولما مرض أمر المنصور بنقله إلى دار العامة وخرج إليه ماشياً يسأل عن صحته فأستأذنه الطبيب في الرجوع إلى بلده ليدفن مع آبائه(421/30)
فعرض عليه الإسلام ليدخل الجنة فقال له:
رضيت أن أكون مع آبائي في الجنة أو في النار
فهش له المنصور وبش وأمر بتجهيزه ووصله بعشرة آلاف دينار، وهو المنصور المشهور بالإمساك وكزازة اليد
على أن هلا كوخان الوثني قد أمر بإلقاء الكتب العربية في نهر دجلة، فقضى على مدينة بني العباس بعد تقويض عرش خلافتهم التي استمرت من سنة 132هـ إلى سنة 656 هـ
فأنت ترى أن هلا كوخان التتري الوثني لم يعمد لتقويض بنيان الدين الإسلامي، ولكنه أراد القضاء على لغة العرب ومدينتهم في العراق، وحذا حذوه قساوسة الأسبان في الأندلس الشهيدة، لان الأمة تحيا وتموت بحياة لغتها وموتها. أما كتاب الله وسنة نبيه، فإن هلا كوخان التتري الوثني وقساوسة الأسبان الذين هدوا هديه في الأندلس كانوا يعلمون أن المصاحف وكتب الحديث قد انتشرت في جميع المشارق والمغارب في بلاد فارس وفي الهند وبلاد الجزيرة العربية وجاوة وبخارى وما إليها.
عندما ضمت ولاية الألزاس إلى ألمانيا بعد حرب السبعين الأخيرة، قام أحد المدرسين الفرنسيين في تلك المنطقة الشهيدة إذ ذاك بين تلاميذه وقال لهم: إن درسي هذا هو آخر الدروس التي ألقيها عليكم. فإذا أردتم أن تحتفظوا بفرنسا في قلوبكم، فلا تفرطوا في لغتها
والوحدة العربية التي استشهد الحسين بن علي رافع علمها في سبيل الذود عنها وأضاع ماله وتاجه، هذه الوحدة التي يسعى لها العرب وعلى رأسهم صاحب السمو الأمير عبد الإله حفيد الحسين، لا يقدر العرب على الوصول إليها - على الرغم من الجهود المبعثرة التي يبذلها أصحاب الزعامات الزائفة الذين يشبهون الذباب الملوث في الإناء الطاهر - إلا إذا وحدنا لغة الجرائد والمجلات، ليفهم ابن العراق وابن اليمن والحجاز ونجد وفلسطين ودمشق ما يكتبه ابن مصر.
لو عرف الرجل الذي ناطوا به قتل اللغة العربية في مصر وحكموه في وزارة المعارف المصرية من عام 1891 إلى عام 1919 أن جماعة من تجار الأدب الزائف والثقافة العرجاء، سيصدرون هذه المجلات التي يكتبونها بلغة طمطمانية، لا تمت إلى العربية(421/31)
الصحيحة بصلة ويحشونها بمقالات لا صلة لها بالأدب ولا بالتاريخ ولا يعلم من العلوم الحديثة ولا القديمة، لبرأ ذمته من جناية قتل اللغة العربية في مصر وتخلص من لعنة التاريخ الأبدية، لأن هذه المجلات قد قضت على اللغة العربية وهبطت بها إلى أقصى دركات الحضيض فخدمت الاستعمار وقضت على الوحدة وعلى الأخلاق
وهذه الكتب التي تدرس في المدارس التابعة لوزارة المعارف ما قول صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا فيما حوته من الأغلاط اللغوية والتاريخية، فقد أحصيت في أحدها ثلاثمائة غلطة لغوية وتاريخية تكاد تخرج الكتاب من حظيرة الكتب التي يشرف على انتخابها عدد من العلماء، وعلى رأسهم هيكل باشا المشهور بغيرته على لغة الضاد ومحاولته إحيائها بعد موتها
وأني لا أتحدى أحداً إذا طلبت إلى معاليه الرجوع إلى سجلات مخزن كتب وزارة المعارف في زمن إدارة (المستر دجلاس دنلوب) ورؤية أسماء الكتب التي أمر ببيعها بالقنطار فبيعت بأبخس من ثمن الورق قبل الطبع؛ إنه إذا فعل فسيرى بين هذه المجلدات التي بيعت بالقناطير عدداً كبيراً من الكتب اللغوية القيمة مثل: القاموس ولسان العرب وصحاح الجوهري، ومن الكتب النحوية التي لا يوجد نظيرها من المؤلفات الحديثة في مكاتب مصر ولا بين كتب التدريس
وهذا معناه أن يد هلا كوخان أو يد عضو محاكم التفتيش قد حاربت ثقافة مصر من سنة 1891 إلى سنة 1919، فإذا كان العرب يريدون الاحتفاظ بمجدهم، فإن الواجب يحتم عليهم حفظ لغتهم، وهذا لا يتم إلا بنبذ المجلات الموبوءة، والاعتناء بتصحيح لغة كتب التدريس
كان صاحب الجلالة المغفور له علي الأول ملك الحجاز السابق ووالد صاحب السمو الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق اليوم يقيم في حي الكرادة على ضفة نهر دجلة في مدينة دار السلام، وكنت أيمم قصره في كل يوم فأرفع إلى جلالته خلاصة الجرائد العربية والتركية وأحمل بعضها معي لإعادة قراءتها عند عودتي في المساء. وفي أحد الأيام قرأ أحد أصدقائي جريدة هزلية تصدر في مصر ودسها في الجرائد التي تأبطتها ودخلت على الملك الوديع فوجدته منفرداً في بهو الاستقبال.(421/32)
وبعد حديث قصير أمرني بقراءة مقال لي قد نشرته جريدة العراق في ذلك اليوم فقرأته. وفي هذه الأثناء انتثرت الجرائد التي أحضرتها بسبب الهواء المتسرب في النافذة المفتوحة وسقطت على الارض، وكنت قد وضعتها على مقعد بالقرب من جلالته، فرأى الجريدة الهزلية وسألني عن مصدرها وخطتها، وأخذت في قراءة أحد فصولها، فأتممت قراءته وشرعت في قراءة فصل آخر، وتراءى لنا صاحب السمو الأمير عبد الإله فأومأ أليَّ جلالته بطرفه فأخفيت الجريدة وغيرنا مجرى الحديث. وعرف الأمير الفتى أنه قد فَجَأنا في خلوتنا فسلم وودع ولم يزد على قوله لكاتب هذه المقال: جئت للسلام عليك وقد قرأت مقالتك اليوم في جريدة العراق فاسمح لي بالانصراف لأني ذاهب إلى المدرسة.
وبقيت مع جلالة والده فقال لي بعد انصراف ولده وهو يشيع سيارته بنظراته من نافذة القصر:
- لقد فطنت لما أشرت به إليك، لأني لا اقرأ ولا أريد أن يقرأ عبد الإله الجرائد والمجلات التي تنهش الأعراض؛ وهذه هي المرة الأولى التي منيت فيها برؤية جريدة من هذا النوع
فقلت لجلالته: إن هذه الجريدة قد دست في جرائدي ولم أرها إلا بعد شروعي في القراءة، ولو عثرت عليها قبل دخولي من باب القصر لحرقتها وذريت رمادها في الهواء، لان هذا النوع من الجرائد لا فرق بينه وبين جراثيم الأمراض الوبائية.
ومضى جلالته في حديثه فقال:
- يقول لك عبد الإله إنه قد قرأ مقالتك في جريدة العراق وقد رمى بقوله عصفورين بحجر، فقد أذنت له في قراءة الجرائد التي تنشر مقالاتك لا غيرها، لأنك لا تتعثر في الأغلاط اللغوية ولا تدنس قلمك بالهجر من الألفاظ التي تجرح العواطف ولا تغلظ لمناظرك في القول، وهذا ما حدا بي إلى النصح لعبد الإله بقراءة ما تكتبه في الصحف وما تختاره له من الكتب.
فقلت لجلالته: أن المتنبي حكيم العرب وشاعر الأجيال يقول يا صاحب الجلالة:
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد
ويقول أرسطا طاليس إن الفضائل ليست طبيعية فينا، وإلا عجزنا عن تغيير طبائعنا؛ فالعادة لا تستطيع أن تغير ما هو فطري، مثلُ ذلك مَثلُ الحجر الذي يهوى بطبيعته إلى(421/33)
اسفل فإنه لا يمكن أن يتعود الصعود ولو حاول به المرء ذلك ألف مرة؛ وكذلك النار فطرتها الصعود بلهبها ولا يمكن أن تتجه إلى أسفل؛ وليس في الوجود جسم واحد يمكن أن يفقد خاصته التي تلقاها من الفطرة ليستبدل بها عادة غيرها.
والأمير عبد الإله كريم الطرفين هاشمي الأبوين لم أره مرة مازحاً ولا عابثاً. ولقد تقدم إليَّ يوماً في طلب كتاب قراءة ليتفكه به في أوقات فراغه فبحثت في خاطري وتخيرت لسموه كتاب كليلة ودمنة وأحضرت له نسخة من الطبعة التي صححها الشيخ خليل اليازجي لخلوها من الأغلاط اللغوية. وبعد قراءة بعض فصولها قال لي: إنه يميل إلى مطالعة الكتب الأدبية واللغوية والتاريخية فأحضرت لسموه شرح ديوان أبي الطيب وفقه اللغة وسر العربية للثعالبي وحاولت أن أُردمهما بكتاب أدب الكاتب لمؤلفه أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة.
بيد أني أردت تمحيص أدب الكاتب لأعرف هل هو من سقط المتاع، أو من البضاعة التي تساوي ما سيبذله الأمير من وقته الثمين فرأيت صاحب أدب الكاتب يقول: (ومن ذلك القافلة يذهب الناس إلى أنها الرفقة في السفر ذاهبة كانت أو راجعة، وليس كذلك إنما القافلة الراجعة يقال قفلت فهي قافلة، وقفل الجند من مبعثهم أي رجعوا، ولا يقال لمن خرج إلى مكة من العراق قافلة حتى يصدروا)
والقاموس يقول: (والقافلة الرفقة القفال والمبتدئة في السفر تفاؤلاً بالرجوع)
ويقول في (باب ما لا ينصرف) وما كان منها على ثلاثة أحرف (يريد ما كان من الأسماء) وأوسطه ساكن فإن شئت صرفته وأن شئت لا تصرفه. قال الله عز وجل: (أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين) وقال تعالى: (اهبطوا مصراً) انتهى قول ابن قتيبة. وهذان المثلان يثبتان أن ابن قتيبة يجهل أسرار اللغة العربية، فالقاموس يقول المصر الكورة، والكورة هي المدينة، فقوله في الآية لبني إسرائيل الخارجين من مصر في طريقهم إلى بيت المقدس (أدخلوا مصراً) معناه أدخلوا إحدى المدن؛ وقوله تعالى في الآية (99) من سورة يوسف عليه السلام (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) يريد به مدينة مصر عاصمة وادي النيل واسمها هنا ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة؛ أما في الآية الأولى فإن العلتين قد زالتا فلا علمية ولا عجمة والاسم في قوله تعالى:(421/34)
(اهبطوا مصراً) عربي نكرة ولكنه علم أعجمي في سورة يوسف؛ وعليه فإن ابن قتيبة قد اخطأ في التمثيل ولو تمثل باسم غير هذه الاسم مثل (هند) و (دعد) لأصاب لأن العلم الثلاثي الساكن الوسط يجوز فيه المنع والصرف إذا كان غير أعجمي ولا منقول؛ أما مصر في الآية الواردة في سورة يوسف فإن فيها العجمة والعلمية.
ويقول ابن قتيبة ويقال: (شتان) ما هما بنصب النون، ولا يقال شتان ما بينهما! والقاموس يقول: (وشتان بينهما بفتح النون وما هما وما بينهما وما عمرو وأخوه أي بعد ما بينهما) ويقول ابن قتيبة في أدب الكاتب: (ورجل منهوم من الطعام ولا يقال نهم) والقاموس يقول: (نهم ونهيم ومنهوم)، وفي أدب الكاتب أغلاط لا أضيع الوقت بذكرها
ويسرني أن سمو الأمير قد ذكر لي سبب رغبته عن قراءة كتاب كليلة ودمنة فقال: لقد برمت بما فيه من القصص المتشابكة والإطالة المملة على الرغم من جزالة ألفاظه وسلامة عباراته ورقة أسلوب كاتبه وبلاغة إنشائه الذي هو من نوع السهل الممتنع.
وآن وقت الغداء فتغدينا وودعت جلالته وانصرفت.
يوسف كمال حتاتة
عضو المجمع العلمي بوزارة المعارف في الآستانة سابقاً(421/35)
فن تيمور
للسيدة الفاضلة وداد سكاكيني
كان الفن القصصي في نهضة أدبنا الجديد أطيب ما أثمر وأينع في إنتاج الأدباء المحدثين؛ ولا ريب في أن القاص المصري المشهور محمود تيمور كان سباقاً لمغارس القصة ومجانيها، ولا يزال في طليعة أدبائها الذين توفروا على إنشائها وممارستها على ضوء القواعد التي اجمع على مراعاتها قادة الأدب وأهل الفن.
إن في قصص تيمور دنيا العالم الذي يعيش فيه، فقد سبر هذا الأديب أغوار الحياة ومعايش الصعاليك والشذاذ، وارتفع إلى قمة الحياة فعرف أهل السرف والترف وما يدور في دنياهم الطافرة من سعادة وشقاء. وإنك لترى في صنعه المتقن مدينة من القصص، فيها صور الصروح شامخة الهامات متلألئة الثريات، وفيها تماثيل الأكواخ مفروشة بهلاهل الحصير تترجح في ظلماتها سرج مختنقة الأضواء
ومن يقرأ تيمور في قصصه الحديثة يجدها متنوعة الألوان، محيطة بمعالم الإنسانية التي تحمل مياسم الشرقيين العرب، فلم تبق إقليمية محلية مقتصرة على طابع واحد، وإنما أخذ فن مؤلفها ينمو ويتطور ويتجه صوب النفس الإنسانية، غائصاً على أسرارها مستجلياً خفاياها. وإنك لتراه أيضاً يلقي النور في بعض أقاصيصه على كثير من مشاكل العصر ومعضلات المجتمع، وكأن آثاره المنوعة عاصمة من عواصم الفن، شيدها تيمور بك على ضفاف النيل، لم يسمع بها خوفو ولا حوتها طيبة. وإن من الكتب ما يبقى على وجه الزمان أكثر من المدن المشيدة بالحجارة والحديد. فليكن كلامي على آخر إنتاجه (مكتوب على الجبين) ففي هذا الكتاب اكتمل الفن واستقام الأسلوب
بدأ القاص كتابه بمقال حافل عن فن كتابة القصة أو كيف يعالج القاص كتابة قصة فنية؛ فبين في فاتحة كلمته أن الموهبة والقواعد أمران لا بد منهما للقصصي كالشاعرية وصحة النظم للشاعر. وهنا طفق يفيض في أصول القصة ومميزاتها التي تبصر القصصي وترشده إلى أسرار الإبداع، ثم عرض لأنواع هذا الفن وأسمائه من ناحية الأسلوب والموضوع، وما يدلان عليه في أدب الفرنجة، وانتهى إلى بسط العناصر التي إذا جرى عليها القاص برزت قصته ناطقة بالحياة منطبقة على أوضاعها وأطوارها، فجاءت هذه(421/36)
المقدمة درساً قيماً في فن القصة يجدر أن يلم به كل من أوتي الموهبة التي تعده لمعالجة هذا الفن.
لا تثريب على (الشيخ غيث) فلقد مهدت له أم حسن سبيل الغواية والمعصية، وكأني أشهده الساعة وهو يداعب بأصابعه لحيته المستديرة، ويستمع للحوار الذي دار بينه وبين زوجه السليطة اللسان المتشاجرة مع الجيران؛ حتى إذا سافرت هذه للريف وقف الشيطان بينه وبين خادمته جليلة التي أخذته بنظرتها الغاوية، فاحتلت منطق تفكيره، وجعلته يفسر آي القرآن كما شاء هواه؛ ففي هذه الأقصوصة ترى رجل الدين الذي يتصنع الوقار والتقوى، ولا يلبث أن يهوى في قرار سحيق من الخطيئات.
وإني لأتساءل: ما حال (بسمة اللبنانية) بعد أن هامت على وجهها، فهي مذ حلت في فندق الشمال من لبنان خفت إليه مواكب الطرب، ولمعت فيه الأعين بالجذل، وفاضت الوجوه بالمرح. لكن ذلك الفتى الفنان الذي حل بالفندق على حين غفلة سلب بغنائه لبها وصهر بحبه نفسها، فأحال خفتها رزانة وضحكها بكاء حتى كان مآلها الاختفاء
هكذا تتعاقب في ذهني صور هذه المجموعة التي اشتملت على أربع عشرة قصة، فأحدث عنها كأنني رأيت أبطالها وعرفتهم، لأن المؤلف قد استمد حوادثهم من الواقع الذي هو ملء سمعه وبصره، وأفاض على تلك الحوادث من تهاويل الخيال دون كلفة ولا ابتذال، فلم تصطدم بما يخالف العرف والذوق، ولا ندت عن العادات والشرائع، وإنما كانت المثال الحق للقصة الحديثة. على أن ما يلفت النظر ويسترعي الإعجاب في هذه المجموعة ظاهرة فيها جديدة لم أكن لأراها فيما سبق من آثار الأستاذ تيمور بك؛ تلك هي صقال الإنشاء، وبراعة السبك في الأسلوب، والطرافة في الأداء والحوار، وهذا يفسر استماع القاص الموهوب صاحب المجموعة لبعض الناقدين، إذ كانوا يرون في أسلوبه وهناً يعدونه غضاضة في فنه، فصح عنده أن سمو الآثار الأدبية والفنية لا يقوم على المعاني وحدها، وإنما يعوزه المباني المرصوصة الجميلة؛ فما خلد الكتاب إلا أساليبهم، ولا جرم أن الأديب الذي لا يتقدم ولا يتجدد يكون غير مبدع، لان من سنة الإبداع التطور والتحرر من كل ما يعوق الفن عن التحليق، ويطرف الأدب بجدة القرائح ورصانة التعبير
إن أدبنا الجديد مدين للقاص المطبوع محمود تيمور ولأنداده أعلام القصة في بلاد العرب(421/37)
بهذه النهضة الأدبية التي ما زالت مشرقة الأسارير، وضاحة المعالم على الرغم من توالي الخطوب وجهامة الزمان
وداد سكاكيني(421/38)
كبرياء!. . .
للأستاذ صالح جودت
أجَلْ أنتِ فاتنة، إنما ... أرى عزة النفس لي أفتنا
وإنْ كان عندكِ سحر الجمال ... فسحر الرجولة عندي أنا
وإنْ كثرتْ في هواكِ القلوبُ ... فذلك من بعض ما عندَنا
وإن غرّوركِ بحلو الشباب ... فإِنّ الشباب قريب الفنا
وعينيكِ، والخصَلِ الحالكات ... كأني بها خُلقتْ مَوْهنا
وحمرةِ خدّيكِ في سُمرةٍ ... كحلو النبيذ رقيق الجنَى
يحبكِ قلبي، ولكنه ... يخاف العواقبَ إن أَعلنا
فيكتم عنكِ شؤونَ الهوى ... ويُظهر غير الذي أبْطنا
وأنتِ المنى، غير أني امرؤٌ ... يذلل للكبرياء المنى
ويكره في الحب بذلَ الدموع ... وبسط الخضوع وفرطَ الضنى
إذا المرءُ هان على نفسه ... يكون على غيرها أهْوَنا
وذلُّ الرجال لوجه الجمال ... كذلّ الضمير لوجه الغني
وأني امرؤٌ حررته الحياة ... فكيف ترومين أن يُسْجَنا
وهذا الدلال وهذا الضلال ... حبيبا الشقاء عَدُوَّا ألهنا
فلا تجعلي من غرور الأنو ... ثة باباً يسدُّ الهوى بيننا
صالح جودت(421/39)
ليالي القاهرة
الميعاد الضائع
للدكتور إبراهيم ناجي
ياَ مَنْ طَوَاها الَّليْلُ في ظَلْمائِهِ ... رُوحاً مُفَزَّعَةً عَلَى بَيْدَائِهِ
تَتَلَفَّتِينَ ألَيَّ في أَنْحَائِهِ ... لَهَفَ الفُؤَادِ عَلَى الْغَرِيبِ التَّائِهِ!
إِنْ تَظْمَئ لِيَ كمْ ظَمِئْتُ إِليْكِ ... جَمَعَ الوَفاءُ شَقِيَّةً وَشَقِيّا
ياَ مُنْيَتِي قَسَتِ الْحَيَاةُ عَلَيْكِ ... وَجَرَتْ مَقادِرُها الْجِسَامُ عَلَيّا!
إنِّي الْتَفَتُّ إلى مَكانِكِ وَالْمُنَى ... شُلَّتْ وَقلبِي لاَ يَطِيقُ حَرَاكا
فَصَرَخْتُ ياَ أَسَفا لَقَدْ كانَتْ هُنا ... لمَ عَاقَنِي الْقَدَرُ الْخَئُونُ هُنَاكا!
عَبَسَتْ وَسَوَّدتِ السَّماءُ ظِلالَها ... فَكأَنَّ عُقْباَناً تَحُطُّ رِحالَها
وَكَأنَّ أَطْوادَ السَّحابِ حِيالَها ... أَرسَتْ عَلَى الكَتِفِ الصَّغِيرِ ثِقالَها
تَسْتَصْرخِينَ لَكِ السَّماَء وقَدْ خَبَتْ ... وَطَوتْ بَشاشَة كُلِّ نَجْمٍ مُشْرِق
إِنْ خْلتهِاَ اسْتَمَعتْ إِليْكِ وَقَارَبَتْ ... أَلفَيْتهِا صَارَتْ كلَحْدٍ ضَيّقَ
ياَ مَنْ هَربْتِ مِنَ الْقَضَاءِ وصَرفِهِ ... عَجَباً لِهاَرِبةٍ تَلُوذُ بهاَرِبِ!
إِمَّا هَوَي نَجْمٌ وَمَالَ لِضَعْفِهِ ... أَبْصَرتِ حَظَّكِ في الشُّعَاع الْغَارب
أَسَفاً عَليْكِ وَأَنْتِ روحٌ حائرُ ... وَالكَونُ أَسْرارٌ يَضيقُ بها الحِجى
تَجْتَازُ عَابرَةٌ وَيُسْرِعُ عَابرُ ... وَتمُرُّ أشْبَاحٌ يُوَارِيها الدُّجَى
في وَجْنَتَيْكِ تَوَهُّجٌ وَضِرَامُ ... وَبمُقْلتيْكِ مَدَامِعٌ وَذُهُولُ
وَكَذَا نمُرُّ بِمِثْلكِ الأيامُ ... مَجْهُولةً وَعَذَابُهَا مَجْهُولُ
وَليْتِ قبْلَ لِقاَئِناَ يَا جَنَّتِي ... لَمْ تَظْفَرِي مِنِّي بِقَوْلٍ مُسْعِدِ
وَكَعَادةِ الْحَظِّ الشّقِّي وَعَادَتي ... أَقبَلْتُ بَعْدَ ذَهَابِ نَجْمِي الأوحَد
تَتَعَاقَبُ الأقْدَارُ وَهْيَ مُسِيئَةٌ ... كَمْ عَقَّناَ لَيْلٌ وَخَانَ نَهَارُ!
وَكأَنما هَذَا الْفَضَاءُ خَطِيئَةٌ! ... وَكأنّ هَمْسَ نَسِيِمهِ اسْتِغْفَارُ
وَكأَنهُ أَحْزَانُ قَوْمٍ ساروا ... هَذِى مآتِمُهُمْ وَثَمَّ ظِلالُها
عَفَتِ الْقُصُورُ وَظَلتِ الأسْوَارُ ... كَمَناَحَةٍ جَمُدَتْ وَذَا تِمْثاَلُها!(421/40)
غامَ السَّوَادُ عَلَى وُجُوهِ الدُّورِ ... وَسَرَى إِليَّ نَحِيبُهَا وَالأدْمُعُ
وَكأنّني فِي شاَطِئ مَهْجُورِ ... قَدْ فَارَقَتْه سَفِينَةٌ لا تَرْجِعُ
حَملَتْ لناَ أمَلاً فلَمَّا وَدَّعَتْ ... لَمْ يَبْقَ بَعدَ رَحِيِلها لِلنَّاظِرِ
إلاّ خَيَالُ سَعَادَةٍ قَدْ أَقْلَعَتْ ... وَوَدَاعُ أَحْبَابٍ وَدَمْعُ مُسَافِر
إبراهيم ناجي(421/41)
إلى روح شقيقي إبراهيم
يا قبره!. . .
للآنسة الفاضلة فدوى طوقان
يا قبرَه، قُدَّستَ من قبرِ ... باهَيْتُ فيه منازلَ البدرِ
يا قبرَه، بالله ما فعلتْ ... أيدي البِلى بشبابه النضرِ
تلك البشاشة يا لرونقها ... هل غَيَّضَتْ في الترب والعَفْر
تلك الخلال ولستُ احصرها ... تالله قد جَلَّتْ عن الحصْرِ
لهفي، أباتتْ في التراب لَقًى ... يَفْنَى؟ معاذ خلاله الغُرِّ
أني لأسْتَنْشِي لها عَبَقاً ... في الخافقيْنِ معطَّرَ النَّشْر
أوَّاه لو تدري بمن ظفِرتْ ... أيدي البِلى! أوَّاه لو تدري!
ما بهجةُ الدنيا وزينتُها ... وأخي رهينُ صفائح القبر؟
وأطولَ أحزاني على سندٍ ... أعْدَدْتُهُ لنوائب الدَّهر
الموتُ مال به وخلَّفني ... لتفجُّعِ أشْقَى به عُمْري
كمدي أراه قاتلي، وإذا ... أنا لم أمُتْ كمداً فما عذري
ما بالُ ذكركَ بات لي شجناً ... يهتاجُني يا طيِّبَ الذكر
عهدي به بَرْداً على كَبِدي، ... اسفي، أيغدو لَذْعَةَ الجمر
ولقد أرومُ القولَ فيكَ ولي ... بحرٌ يمدُّ - أخي - بلا جزر
لكنني، والحزنُ معترضٌ ... سُدَّتْ عليَّ مسارح الفكر
الشعر صوَّحَ روضُه أسفاً ... وبكتْ عليكَ عرائسُ الشعر
يا طالما حَلِيَتْ ترائِبُهَا ... بالدُّرِّ منك ومونقِ الزهر
واليوم، لا حَلْيٌ يزِّينها ... إلا لآلي الدمع إذْ يجري
مالي بدار الأنس - يا سَكني - ... انْسٌ وأنتَ بموحشٍ قَفْرِ
خلفتها دنيا تضيقُ على ... غرض الأبيِّ وغاية الحرِّ
تُسدى إلى غير الكرام يداً ... وعلى الكرام تعود بالخسر
سأظلُّ طول العمر رهن جوًى ... يغدو - أخي - ويروح في صدري(421/42)
ولقد يعزِّيني على حَزَني ... أني، وان أُجِّلْتُ، في الإثرِ
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(421/43)
رسالة العلم
السيجارة. . .
للأستاذ أحمد علي الشحات
في ظل الدخان المتصاعد من السيجارة كم من أفكار قد سبحت وأعصاب قد هدأت وأحلام قد صورت وأماني قد بعثت: هذه الدخينة وما حوت كانت في مبدأ الأمر ورقة من نبات اسمه نيكوتيانه وسمي بذلك نسبة لاسم السفير الفرنسي في أسبانيا جان نيكوت الذي أدخل التبغ إلى فرنسا لأول مرة كهدية للملكة كاترين دي مديشي، والتبغ يتبع من وجهة التقسيم النباتي العائلة الباذنجانية التي تحوي نباتات أخرى ذات أهمية مثل الطماطم والبطاطس والداتورة والسكران، وللأخيرين أهمية طبية في علاج الأمراض الصدرية التشنجية. وبهذه المناسبة نذكر أن السكران المصري أجود أنواعه في العالم، ولذلك يصدر إلى أوربا، كما أن نبات البلادونا الذي يستخرج منه الأتروبين المستعمل طبياً لتوسيع حدقة العيون من أقارب التبغ إذ يتبع نفس العائلة المذكورة
وقد كانت الأرض الأولى التي نبت عليها التبغ واستعمل في التدخين هي أمريكا إذ وجدت غلايين في قبور أمريكية ترجع إلى ما قبل التاريخ، ومن أمريكا نقله إلى أسبانيا فرنسسكو فرناند مبعوث فيليب الثاني لدراسة حاصلات المكسيك عام 1558.
وكلمة التبغ يرادفها بالأجنبية والأصل الذي أخذت عنه هذه الكلمة غير معروف تماماً؛ فقد تكون قد أخذت عن اسم جزيرة توباجو إحدى جزر الهند الغربية، أو عن توباسكو في خليج المكسيك، أو عن اسم أداة وجد الأسبان أن الأمريكيين يستعملونها في التدخين، وهي عبارة عن أنبوبة تنتهي إلى فرعين تشبه حرف اسمها وكانوا يضعون الفرعين على فتحتي الأنف ويستنشقون منهما الدخان، وهذا هو المصدر المرجح. ومما يؤسف له أن تكون مصر من اكثر الدول استعمالاً للدخان؛ فلقد جاء في إحدى الإحصائيات أن متوسط نصيب الفرد في الدولة من الدخان بالأرطال كما يأتي:
الولايات المتحدة 5. 92
بريطانيا العظمى وايرلندا 2. 95
بلجيكا 4. 9(421/44)
فرنسا 2. 9
مصر 4. 06
إيطاليا 2. 35
وقد يطرأ على ذهن القارئ أنه علاجاً، لهذه الحالة، تباح زراعة الدخان في مصر خصوصاً، وقد سبق أن كان يزرع إلى أن حرمت زراعته عام 1890، ولقد فكرت الهيئات المختلفة في ذلك وقامت وزارة الزراعة بتجربة زراعته في مناطق مختلفة، ولكن كان الناتج دائماً رديء النوع، فإذا قيل انه سيكون رخيص الثمن ويقبل الجمهور عليه، فمعنى ذلك أن الحكومة ستحرم من دخل كبير في الجمرك. فإذا قيل فلتفرض الحكومة على زراعته ضريبة عالية تعوض بها ما تفقده من الجمرك، كان الجواب انه بذلك سيرتفع ثمنه إلى أن يقارب الأصناف المستوردة من الخارج - وهي أجود منه نوعاً - فسيفضلها المستهلك، فإلى أن نستطيع استنبات أنواع جيدة ستظل الحال على ما هي عليه
ويتراوح طول نبات التبغ ما بين ست أو تسع أقدام، والأوراق منظمة على الساق بالتبادل، وليست لها أعناق فيما عدا الأوراق السفلى، فقد تكون لها أعناق قصيرة، وتغطي الساق والأوراق شعيرات ناعمة ذات غدد، وسطح النبات لزج لخروج إفرازات سائلة، وينتهي الساق إلى أزهار لونها قرنفلي أو وردي وحبوب الثمار لونها بني وصغيرة جداً، حتى أن النبات الواحد قد ينتج منه مليون؛ وللأرض التي يزرع فيها الدخان تأثير كبير على لونه. فالأرض الطفلية الرطبة تنتج دخاناً لونه قاتماً: أحمر أو بني، والأرض الرملية تنتج دخاناً أصفر اللون، أو أحمر زاهياً ذا أوراق رقيقة، وكما حرم الدخان في أراضينا حرمت زراعته كذلك في أسبانيا، مع أنها أول بلد - كما ذكرنا - نقلت زراعته إليه من موطنه الأصلي (أمريكا)، ومن أسبانيا ادخل إلى فرنسا وإيطاليا عام 1560، وادخل في ظن الناس آنئذ أن له فوائد طبية هائلة، حتى كانوا يسمونه أي العشب الصحي، وسموه أيضاً أي التبغ الإلهي، كما سموه أيضاً أي عشب نيكوتيانا المقدس. ويفهم مما سبق شدة ولع الناس بالتبغ، حتى انتشر التدخين انتشاراً عظيماً هال من بيدهم الأمر من ملوك وباباوات وسلاطين وحكومات. فأصدرت نشرات تبين مدى الضرر من التدخين، وفرضت ضرائب باهظة، حتى أن إنجلترا رفعت الضريبة من بنسين على الرطل إلى ستة شلنات وعشرة(421/45)
بنسات، وقصرت زراعته على مساحة ضئيلة، ولكن الناس لم يكفوا عن التدخين، فلم تجد الحكومة الإنجليزية مناصاً من إصدار منشور يحرم زراعته تحريماً باتاً في إنجلترا وايرلندا؛ وبعد بضعة أعوام رفع الحظر على الأخيرة، ولكن سرعان ما أعيد ثانية، وكان ذلك عام 1831، إلى أن رفع الحظر عن إنجلترا وايرلندا عام 1910.
وهو يزرع الآن في الولايات المتحدة، وكوبا، والمكسيك، والبرازيل، وبارجواي، وجزر الهند الهولاندية، وبورنيو الشمالية، واستراليا، والهند، والصين، وبورما، والفيليبين، وإيران، والترنسفال، وروديسيا، واليونان، وتركيا، وهنغاريا، وألمانيا، وروسيا، وفرنسا، وهولاندة.
وتبذر بذوره في فبراير ومارس وأبريل في مشتل، على أن تكون التربة قد طهرت من آثار الحشرات بان تحرق عليها بعض المواد، فإذا ظهرت البادرة أحيطت بغلالات رقيقة، ويحافظ عليها من الريح، حتى إذا ما اكتمل طول النبات ست بوصات نقل إلى الحقل، وذلك في الفترة ما بين أبريل ويونية، ويكون بعد كل نبات عما يجاوره قدم ونصف إلى ثلاثة أقدام في صفوف بين كل صف وتاليه ثلاثة أو أربعة أقدام، ويتم نضج النبات حين يعلو الورقة اصفرار في اللون بعد أن كانت خضراء زاهية، كما تصبح هشة سهلة التكسر إذا أحنيت، ثم تجفف الأوراق صناعياً، وعملية التجفيف هذه تحتاج إلى دقة ملاحظة في درجات الحرارة المختلفة التي تتعرض لها الأوراق فيحوطها أولا جو تضبط حرارته فيما بين 80 و90 درجة بالمقياس الفهرنهيتي، أي بما يعادل 26. 6 - 33. 3 تقريباً بالمقياس المئوي، وذلك لمدة تتراوح ما بين 18 - 36 ساعة، ثم تزداد درجة الحرارة بفرق 5 - 10 درجات فهرنهيتية كل ساعتين إلى أن تصل إلى درجة 120ف ثم تثبت. أما السيقان فترفع حرارتها بعد ذلك إلى 160 - 175ف بفرق قدره 5 - 10 درجات كل ساعة، وتستغرق مثل هذه العملية ثلاثة أيام. وأما في الأقطار الشرقية كالهند وسيلان حيث الجو دافئ فيكتفي في التجفيف بحرارة الشمس الطبيعية، وفي التجفيف الصناعي لا بد من رفع درجات الحرارة بانتظام وهدوء حتى يحتفظ النبات باللون والنكهة المطلوبة؛ ثم تكبس الأوراق في صناديق أو تكوم في حفر دافئة رطبة، ويضغط عليها يومياً لمدة عشرة أيام، ويوالى الضغط بعد ذلك في فترات أطول لمدة ثلاثة شهور. فتحدث في هذه الفترة عملية(421/46)
اختمار، وتتخذ الأوراق شكل التبغ المعروف، ويكون في الأوراق في هذه المدة رائحة الكحول ويصبح لونها داكناً لامعاً
وللسماد المستعمل في زراعة الدخان تأثير هام في شكل الأوراق، فالسماد الذي يحوي نسبة عالية من الأزوت أو الفوسفات ينتج أوراقاً سميكة؛ بينما السماد الذي يحوي البوتاسيوم ينتج أوراقا ناعمة ذات نكهة طيبة، إلا أن نمو النبات يكون بطيئاً، والأوراق الخضراء في النبات تحوي نسبة عالية من الماء من 80 - 90 ? بينما الورقة حين تصبح معروضة للبيع في السوق تحوي 12 - 14 ?.
والمادة الكيميائية التي يمتاز بها التبغ هي مادة النكوتين وهي مادة شبه قلوية سامة، تختلف نسبتها باختلاف أصناف النبات، في نبات المساس أو شجرة الجرش أقل من 1 ? بينما في التبغ الناتج من جنوب أفريقية تتراوح بين 3 - 5 ? بينما في نبات الدخان البلدي تكون أعلى من ذلك. كذلك تختلف هذه النسبة باختلاف سمك الورقة، فكلما غلظت كانت النسبة أعلى.
كذلك كلما دكن اللون وكلما ارتفع موقع الورقة على الساق، أو كلما كثر الأزوت في السماد، ووجد أنه كلما زادت نسبة النيكوتين ضعفت قوة الرائحة الملموسة في التبغ، وفي الدخان المتصاعد من التبغ وجدت كذلك النوشادر، وأول أكسيد الكربون، وسينور الأيدروجين، والأخيران من الغازات السامة، وكبريتور الإيدروجين، وحامض البوتريك، ومواد كيميائية أخرى لا ضرورة للاستطراد في ذكرها، وأما غاز أول أكسيد الكربون السام فتختلف نسبته باختلاف سرعة الاحتراق، ففي الدخان المتصاعد من السيجارة تتراوح نسبته بين 6 - 8 ? بينما في دخان الغليون ما بين 7 و - 14 و1 ?، وفي السيجار من 6 - 8 ?، كما تختلف نسبة الرماد المتخلف فهي اقلها في تبغ السجائر بينما هي أعلاها في الرماد المتخلف من السيجار والرماد يحتوي على عناصر مختلفة منها: البوتاسيوم، والكالسيوم، والمنجنيز، والحديد، والألومنيوم، والصوديوم ومواد كبريتية وفوسفورية، وهذه العناصر مرتبة ترتيباً تنازلياً حسب نسبتها، وقد يضاف إلى التبغ مواد تكسبه طعماً مقبولاً مثل السكر والعسل والجليسرين والصمغ ونبات السوس أو ربه.
أحمد علي الشحات(421/47)
البريد الأدبي
جواب
جوابي عن قول الأديب الأمثل الأستاذ زكي مبارك هاهو ذا:
يا سيدي الصديق، قال تعالى: (أنا أنزلناه قرآناً عربياً)، وجاءت الكلمة (عجوز) للشيخة في التنزيل العزيز، كما تعلم.
وإن في علمك يا سيدي الأستاذ الكبير قول الشاعر:
عجوز علتْها كبْرة في ملاحةٍ ... أقاتلتي يا للرجال عجوز
ونحن نتبع (اللسان العربي) يا صديقي لا نبدع لغة
زادك الله بسطة وأزكى لك الخير
(وحيد)
إلى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي
قرأت مقالك العظيم بالعدد (420) من مجلة الرسالة الغراء؛ فكان آية من آيات تلك المجلة الكريمة علينا، العاملة على إصلاح الأزهر وإعادة مجده السالف. وقد ملأني ذلك المقال أملاً في الإصلاح بعد يأس، وأفعمني رجاء فيه بعد قنوط؛ ولكني رجعت إلى نفسي بعد ذلك الأمل فقلت: أي ربي، هذا القائد فأين الجنود؟ وهذا رسول الإصلاح فأين الأصحاب والحواريون؟ وهذا الداعي إلى النهوض فأين المجيبون؟
بني المعاهد هبوا طال نومكم ... قد هيْأ الله هذا المصلح البطلا
ولقد وقفت يا سيدي كثيراً عند قولك عن الأستاذ الإمام: وتعلم القواعد في مختصرات رضيها ذلك العصر المظلم، لا تفهم إلا بشروح وحواش وصناعة خاصة. فقلت في نفسي: كيف ينظر أستاذنا المراغي إلى تلك المختصرات وشروحها وحواشيها تلك النظرة؟ وكيف يذكر العصر الذي رضيها باسم العصر المظلم؟ ثم يرضى بعد هذا أن تبقى في عهده الكريم كما كانت في ذلك العصر، إذ لا تزال لها المكانة الأولى في الأزهر، ولا تزال علومنا لا تدرس إلا فيها، ولا تزال قواعدها لا تؤخذ إلا منها
يا سيدي الأستاذ الأكبر إن تلك المختصرات وحواشيها وشروحها هي علة العلل في فساد(421/49)
التعليم بالأزهر، وهي مصدر ذلك الجمود الذي حارب الأستاذ الإمام، وحال بينه وبين الوصول بالأزهر إلى الإصلاح المنشود، ثم يحول الآن بينك وبين الوصول إلى ذلك الإصلاح، وإن الفرصة سانحة بوجودك على رأس الأزهر للقضاء على تلك المختصرات وشروحها وحواشيها، وبين يديك طائفة صالحة من العلماء، تنتظر منك أن تدعو فتجيب، وأن تقول: حي على العمل فنعمل؛ ولا يمضي عليها إلا زمن قليل حتى تظهر لك بدل تلك المختصرات الميتة المظلمة كتباً حية مشرقة، تسري فيها روح الاجتهاد، وتظهر عليها آثار التجديد، وتخرج لك من الأزهر العلماء المجددين، والأئمة المجتهدين.
فهل لك يا سيدي الأستاذ الأكبر أن تبدأ بتلك الدعوة، وهل لك أن تصل بين تلك الطائفة وأمنيتها في العمل؟
عبد المتعال الصعيدي
في اللغة:
كان العلامة الدكتور زكي مبارك قد عدّى (حرم) بمن في بعض قصائده. فاعترض عليه بعض أدباء الشرق. فدافع عن هذه التعدية (بأنه قد يرى المعنى في بعض الأحايين لا يؤدي تأدية صحيحة إلا إذا عبر عنه بتلك الصورة)
وهو دفاع غير مقنع كما ترى
فكتبت في العدد 405 من (الرسالة) أقول: (إن الفعل (حرم) يتعدى بمن أيضاً، وعندي شاهد لذلك عثرت عليه في بعض مطالعاتي للاغاني)
وبينما كنت أجيل الطرف أمس في كناشتي، إذ أنا أمام هذا الشاهد، وهو للعباس بن الأحنف، قال:
أُحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون مَنْ عشقوا
صِرت كأني ذُبالة نُصبتْ ... تضئ للناس وهي تحترق
ثم قلبت صفحات الكناشة، فلمحت مما كنت اختزنته فيها من (الأغاني)، تعبيرين يستوقفان النظر، لما أنهما كانا يظنان من توليد العامة في مصر أو في غيرهما من الشرق العربي.
وقد آثرت أن اعرضهما، كلاً في نصه الذي ورد فيه، ليستبين المعنى، ويتضح المقام:(421/50)
1 - اخبرني عمي، قال: حدثنا الكراني. . . قال: انشد جرير قول عمر بن أبي ربيعة:
سائلاً الربع. . . الأبيات
فقال جرير: (إن هذا الذي (ندور عليه) فأخطأناه وأصابه هذا القرشي)
فتدور عليه: نبحث عنه لنصل اليه، وهو نفس تعبير الناس عن هذا المعنى الآن، غير أنهم يضعفون عين الفعل.
2 - غنى إبراهيم الموصلي الرشيد صوتاً، فأمر له بألف دينار. فلما كان بعد سنين، خطر ببال اسحق ذلك الصوت، وذكر قصته، فغناه إياه؛ فقال الرشيد: (قد أخذ ثمنه أبوك مرة، فلا تطمع)؛ فقال اسحق: (فعجبت من قوله، ثم قلت له: يا سيدي، قد أخذ أبي منك مائتي ألف درهم، ما رأيتك ذكرت منها غير هذا الألف، (على بختي أنا. . .)
فهل كنت تظن أن هذه العبارة - على ابتذالها الآن - مما كان يتكلم به إسحاق ابن إبراهيم الموصلي الجليل القدر في حضرة الرشيد؟
(أ. ع)
1 - حول السواد
سأل الدكتور زكي مبارك في العدد الثامن عشر بعد المائة الرابعة من الرسالة: (هل كان السواد من علائم الرزانة في أوقات الاهتمام بعظائم الأمور. . .؟)
وأقول: إن الثياب السود كان لها شأن في الدهر الغابر أيام بني العباس (أنظر أول من لبس السواد: محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر)، وكان الناس يلبسونها إذا دخلوا على الخلفاء وكانوا في موكب واحتفال: شأنهم اليوم فيما يشاكل تلك الرسوم.
قال التنوخي في (نشوار المحاضرة): (حدث أبا الحسن ابن الفرات قال: فدخلنا في الليلة التي ولي فيها العباس بن الحسن الوزارة بعد موت القاسم بن عبيد الله. فتشاغل الحسن بتقليب ثياب السواد وقد جاءوه بها ليختار منها ما يقطع له فيلبسه من غد في دخوله إلى الخليفة، وكان الرسم إذ ذاك ألا يصل أحد إلى الخليفة في يوم موكب إلا بسواد. . .) 8 - 91
وقال أيضاً: (. . . فإذا كان يوم موكب كانت الأقبية كلها سواداً، وإذا كان غير موكب(421/51)
فربما كانت بياضاً، وفي الأكثر من السواد) 8 - 12 (نشوار المحاضرة. مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق)
وكانت الخلفاء والشعراء تلبس السواد، والشواهد كثيرة منها ما قاله التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة): (حدث عبيد الله بن عبد الله قال: كنت مع الرشيد بطوس لما ثقلت علته فجلس يوماً وعليه جبة خز سوداء، وفوقها دراعة خز اسود. . . وقلنسوة طويلة وعمامة خز سوداء) 2 - 53
وقال الجاحظ في (البيان والتبيين): (وكانت الشعراء تلبس الوشي والمقطعات والإرادية السود) 3 - 78
وكانوا يتخذون العمامة من خز اسود. ذكر الجاحظ في (أخلاق الملوك) أن إبراهيم بن المهدي دخل على احمد بن أبي دؤاد وعليه مبطنة ملونة من احسن ثوب في الأرض وقد أعتم على رأسه رصافية بعمامة خز سوداء. لها طرفان يتدليان خلفه وأمامه، وفي يده عكازة آبنوس ملوح بذهب وفي إصبعه فص ياقوت. . .) 48
قال (أحمد زكي باشا): (والرصافية هيئة عمة على قلنسوة خاصة بالخليفة أو ولي عهده وذكر (بن خلكان) في (وفيات الأعيان) عند ترجمة (جعفر البرمكي) أن أكابر بني العباس كان لهم الحق باتخذاها أيضاً)
ويقول الدكتور مبارك: إن السواد اتخذ شعاراً للحزن لما يشيع في النفس من انقباض واستيحاش فِلمَ اتخذ أهل الأندلس البياض شعاراً، وهو يشيع في النفس الانشراح والصفاء؟
2 - أوهام لغوية
جاء في مقال الأستاذ محمد عبد الغني حسن.
أ - (كانت القاهرة طيلة حكم الفاطميين. . .) استعمل (طيلة) بمعنى (طول). وهي من أوهام الكتاب وليست بشيء. في (اللسان) (أطال الله طيلته أي عمره)، والصواب (طول وطوال) فتقول (كانت القاهرة طول حكم الفاطميين وطواله) وفي (الصحاح) و (الأساس) (والطوال بالفتح من قولك لا أكلمه طوال الدهر وطول الدهر بمعنى. . . هـ.
ب - وقال صاحب (الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي) (تشوش أمانيه) ولم يسمع هذا الحرف في كلام فصيح صحيح. قال صاحب القاموس: (والتشويش والمشوش والتشوش(421/52)
كلها لحن. ووهم الجوهري. والصواب: التهويش والمهوش والتهوش. . .) وانظر الزمخشري أيضاً.
ووقال (سوف لا تكفي غلتها. . .) وهذا خطأ شائع عند المبتدئين والمتأدبين يستعملون (سوف لا) للنفي في المستقبل ولم يسمع هذا عن العرب. ولكنهم قالوا (لن) بدلاً عنها. فتقول (لن تكفي غلتها) (ولن افعل كذا. . .)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
بين العزوبة والزواج
قرأنا المقال الذي دبجته براعة الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في الزواج، فوقع من أنفسنا موقعاً حسناً. ولما كان الشيء بالشيء يذكر فنرجو الأستاذ النابغة أن يسمح لنا أن نضيف إلى مقاله القيم رأياً نذكر إننا مررنا به في إحدى مطالعاتنا إلى عهد قريب.
يقول صاحب الرأي - واعتقادي انه طبيب مشهور - بأن الإحصائيات بسنين متوالية قد أثبتت إثباتاً حاسماً بأن نسبة عدد الوفيات بين المتزوجين أقل بكثير من نسبة عدد الوفيات بين العزاب في العام الواحد. ويستنتج - بعد أن يعرض جدولاً بإحصائياته - أن العزوبة متلفة للحياة اكثر مما تتلفها مهنة مجهدة مضنية. أو أكثر من مسكن قدر له أن يلقي بكل عنف في أقل الأماكن محافظة على الشروط الصحية. وبالرغم من أن للإحصائيات بعض الأخطاء، فإننا نستطيع أن نقول بكل اطمئنان (إن الحياة تكون أسعد جداً برفيق). وأن ما يمكن أن تتضمنه هذه الإحصائيات من الصحة يجب أن يكون حافزاً قوياً على الزواج. فإنه لمن السهل جداً أن يجد الباحث في حياة المتزوج أسباباً كثيرة تبعده عن المفاسد والأمراض وكل ما ينهك قواه وبالنتيجة يطيل في عمره ويمد أجل سعادته. فهلا يشعر العزاب بيننا بأن الحياة جديرة بأن نحياها بسرور فيقبلوا على الزواج مسرعين؟
هذا ما نرجوه مخلصين والسلام.
(الحصن - شرق الأردن)
خليل السالم(421/53)
حول اللهجات العامية
أشكر للكاتب الألمعي الأستاذ محمد عبد الغني حسن ما وجهه إلي وإلى مقالاتي (في الاجتماع اللغوي) من عبارات الحمد والثناء؛ وقد وددت لو ألبي رغبته الكريمة، فأطيل الكلام على اللهجات العامية التي تفرعت من العربية، وأذكر ما كتبه المستشرقون في قواعد كل منها، لولا خشيتي أن بحوثاً دقيقة كهذه قد تجرد مقالاتي مما وصفها به من أنها (لا ترهق القارئ ولا تمله)
وسأعرض لهذه البحوث وما إليها في كتاب لي في (فقه اللغة)، وهو الآن تحت الطبع، وآمل أن أفرغ منه قريباً إن شاء الله
علي عبد الواحد وافي
(الزاد الأخير)
قرأت في العدد الفائت (420) من (الرسالة) الغراء قصيدة بالعنوان المتقدم للأستاذ سيد قطب جاء في نهايتها:
واطلعي في قفار نفسي حياةً ... وإِذا ما دجا عالَمي أو مِضى لي
والشطر الثاني من البيت مكسور، ويكون صحيحاً لو أنه قال:
واطلعي في قفار نفسي حياةً ... وإِذا اسوَدَّ عالَمي أوْ مِضى لي
(القاهرة)
عبد الرحمن الخميسي(421/54)
القصص
في وزارة الخارجية
عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
أكثر من بقي إلى اليوم من أصدقاء (ألفونس لاكور) لم يروه إلا في أخريات أيامه. وقد كان ألفونس منذ ثورة 1748 إلى أن قتل في حرب القرم في العام التالي يقضي كل أيامه في مشرب (كافيه دي بروفنس) في شارع (ريوسان هورنيه) حيث لا يجالسه ولا يحادثه أحد، لأن القصص التي كان يرويها هذا السياسي القديم مما لا يستطيع تصديقه إنسان. فإذا ما جلست إليه وسمعته يبعد ويشتط عن مدى ما تتصور أنه الحقيقة. . .
انتهزت أول فرصة لتحتج بها وتترك مجلسه، لكنني قد قرأت مذكرات خاصة لبعض السياسيين، فلم أستغرب ما نقلوه ألي من أخبار هذا السياسي القديم، فذهبت إليه وسمعته يتحدث عن مدة وجوده في مصر تحت قيادة كليبر، وكان مما قاله:
(لقد تركت مصر على أثر قتل هذا القائد. ولست اكتم عنك أني كنت أوثر البقاء فيها، وكنت أريد اعتناق الإسلام؛ وكان أول ما لفتني إليه وحببني فيه إباحته تعدد الزوجات، ولولا تحريمه الخمر ومجادلتي مع المفتي في شأنها مجادلة أقنعته بأنني لن اترك شربها لو أسلمت لأعلن المفتي إسلامي من زمن بعيد. فلما توفي الجنرال (كليبر) وجعلوا المسيو (منو) رئيساً لي، عولت على الاستقالة والإقامة في لندن حيث لا اشتغل بشيء غير ترجمة ما وقع عليه اختياري من الكتب الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن. وكان المسيو أوتو سفير فرنسا في لندن يمهد للصلح بين إنكلترا وفرنسا بعد حرب استمرت عشرة اعوام، ولست احب التحدث عن كفايتي، ولكني أؤكد لك أن هذا السفير استعان بي، فأديت له خدمات جليلة: ذهبت معه إلى لندن مستقيلاً من الجيش، فكانت اسعد أيامي تلك التي قضيتها في لندن أترجم كتب الإسلام وأسعى في توطيد السلم بين الدولتين.
ولقد كادت تقضي على السفير وعلى أعوانه كثرة أعمالهم، لان الرجل الذي كنا نفاوضه من اصلب الرجال وهو وليم بت، وليس من السهل على ست دول مجتمعة أن تعامل رجلاً(421/55)
كهذا، فكيف ونحن نفاوضه في صلح بعد حرب استمرت أعواماً عشرة؟
وكانت أعمالنا مساومة على أخذ أرض مقابل أرض والتنازل عن جزيرة في مقابل شبه جزيرة. وهل إذا فعلنا ذلك في فينيس تفعلون ذلك في سيراليونا؟ وهل إذا أعطينا مصر للسلطان، تعطوننا مدينة الكاب التي أخذتموها من حلفائنا الهولانديين؟
وفي يوم من الأيام عاد إلينا السفير متعباً منهوك القوى فأجلسناه واجتمعنا حوله وبعد أن تمالك قواه قال: (لقد كان أهم لعبة يريد أن يلعبها ضدنا الإنكليز خاصة بمركز مصر، وقد وجدت انه لا يزعجهم شيء كما يزعجهم وجودنا فيها لأنهم يخشون أن يجعلها نابليون قاعدة للهجوم على الهند، ولذلك كنا كلما توقف وليم بت في أمر من الأمور قلنا له: (إذا كان الأمر كذلك فنحن لا نستطيع أن نخلي مصر) فنراه في الحال قد رجع إلى صوابه، وبسبب مصر نلنا شروطاً باهرة في الصلح مع الإنكليز والحق إننا لم نخش الأساطيل والجيوش الإنكليزية وإنما نخشى دهاءهم السياسي، ويختلف الإنكليز عنا في نقطة هامة هي أننا إذا حصلنا على جزء من الممتلكات فيما وراء البحار جلسنا مطمئنين في باريس ودبرنا التسهيلات التي نستطيع بها إخضاع ذلك الجزء لنا ونحن في أماكننا جاثمون. أما الإنكليزي فيحمل زوجته وأبناءه ويذهب إلى ذلك الجزء كائناً ما كان وصفه محاولاً جعله كأية بقعة من بلاد الإنكليز.
وأخيراً تم التفاهم على شروط المعاهدة وهنأت المسيو أوتو على نجاحه وكان شديد الفرح بذلك النجاح فلم يجلس مطمئناً إلينا بل أخذ يجري من غرفة إلى غرفة وهو يضحك ضحكاً عالياً وأنا جالس في ركن من غرفة الاستقبال انظر إليه كلما مر من أمامي. وفي وسط السهرة جاءت رسالة على يد رسول من باريس فنظر إليها السفير ولم يفتح فمه بحرف، بل خانته قوته ووقع على الأرض فجريت نحوه فاجتمعنا حوله وحملناه فنام على النمرقة وكان شكله يدل على أنه قد مات لولا أن نبضه كان لا يزال يدل على حياته.
والواقع أني اكره الفضول ولكن لما رأيت الإغماء على السفير لم استطع منع نفسي من النظر إلى الرسالة التي سببت ذلك فكدت اصعق أنا أيضاً عندما قرأتها. لكنه لم يغم علي، بل جلست في ركن من القاعة وأخذت ابكي. وهذه الرسالة تدل على أن جيوشنا أخلت مصر. وكانت المعاهدة لم توقع بعد ولا بد إذن من فسخها لأن الإنكليز ما عادوا في حاجة(421/56)
إلى إخراجنا منها. لكننا فرنسيون فلا نهزم بسهولة. والإنكليز يظلموننا حين يرون أن إظهارنا للعواطف التي يستطيعون كتمانها يدل على إننا ضعفاء.
بعد قليل أفاق المسيو أوتو وقال: (ترى يا مسيو ألفونس أن هذا الإنكليزي وليم بت سيضحك مني عندما أطلب إليه توقيع المعاهدة). فخطر ببالي خاطر فجأني وقلت: (تشجع! كيف نجزم بان الإنكليز وصل إليهم هذا الخبر؟ ربما استطعنا الحصول على توقيعهم على المعاهدة قبل أن يعلموا بهذا الخبر)
فقفز المسيو أوتو من مكانه ومد نحوي ذراعيه وعانقني وقال: (لقد أنقذتني يا مسيو ألفونس! إن الخبر وصل إلى باريس عن طريق طولون، وسيصل متأخراً إلى إنكلترا عن طريق جبل طارق؛ فإذا نحن احتفظنا بالسر أمكننا الحصول على توقيعهم على المعاهدة
ولست أستطيع أن اصف حالتنا في اليوم التالي؛ فقد كانت ساعاته تمر بطيئة، حتى لقد انتقل المسيو أوتو من الشباب إلى الشيخوخة في ذلك اليوم. ولم أطق الصبر على الانتظار، فخرجت من المنزل مرتاداً كل طريق مقتحماً كل مكان. ولكنني لم اسمع أي خبر. ولما جاءت الساعة الثامنة وهي موعد توقيع المعاهدة اقترحت على المسيو أوتو أن يشرب زجاجة من الخمر قبل أن يذهب، لأني خشيت أن يستدل الإنكليز على الحقيقة من اصفرار وجهه واضطراب يده. ثم ركبت معه عربة من عربات السفارة، وكانت الخمر قد أنعشت قواه، فلما وصلنا إلى باب وزارة الخارجية بقيت في العربة ونزل وقلت له: (إذا تم التوقيع فاعطني إشارة. والى ذلك الحين سأمنع وصول أية رسالة إلى الوزير الإنكليزي)، فصافحني ووعدني بأن يدني شمعة من النافذة حتى أراها من الطريق، ثم تركت العربة تعود ووقفت قرب الوزارة فرأيت العربات مقبلة، وقلت في نفسي: لو جاء رسول من رئيس الوزارة إلى وزير الخارجية فإني أمنعه ولو بقتله، فان آلافاً من الجنود قد ماتت لتكسب مجد الحرب. وماذا إن شنقت وانتصرت بلادي. . .؟
ثم خطر ببالي خاطر فدعوت حوذياً وأعطيته جنيهاً وقلت له: (إذا ركبت عربتك مع أي إنسان فلا تتلق الأوامر منه بل مني، وأنزلني في شارع هاري ولا تترك الذي معي إلا في نادي ويتر في بروتون، وسأعطيك جنيهاً أخر)
فوافق الحوذي. وبعد دقائق جاء رسول وهم بدخول الوزارة فأمسكت بذراعه وقلت: (هل(421/57)
أنت رسول إلى وزير الخارجية؟)
قال: (نعم). فقلت: (تعال معي فهو الآن عند السفير الفرنسي)
وكان كلامي بلهجة تأكيد لم يتردد الرسول في تصديقها. وركب معي في عربة الحوذي الذي اتفقت معه. ولكن السائق جرى بنا في الطريق الذي أرشدته إليه وهو يختلف عن الطريق المؤدي إلى السفارة. فصاح الراكب معي بالحوذي أن يقف وقال إن في الأمر حيلة. ومنعته فاستغاث فكتمت أنفاسه فجلس هادئاً وأردت أن أطمئنه فقلت: (أني رجل شريف مثله، وان الأمر مراهنة فقط).
قال: (مراهنة! ألا تعلم أني أؤدي عمل الحكومة؟ أن عملك يستوجب العقاب)
فقلت: (هذا هو موضوع المراهنة)
قال: (إذاً فأنت مجنون)
عند ذلك نظرت إلى ساعتي فوجدت موعد التوقيع قد فات ولم أجد ضرورة للاستمرار في الخطة، فأوقفت العربة ونزلت راكضاً تاركاً من فيها تحت رحمة الحوذي. وركبت عربة أخرى إلى دار السفارة. ومن منعطف في الطريق راقبت ذلك الرسول يقبل نحوها. وبعد دقائق نزل المسيو أوتو فرحاً مستبشراً وقال لي أنه تم توقيع المعاهدة. ولكن بعد التوقيع وصلت رسالة إلى الوزير الإنكليزي بأن الفرنسيين أخلوا مصر. فقال ذلك الوزير أنه لو تقدمت الرسالة دقيقة لما أمكن توقيع المعاهدة، ولكن أمرها خرج من يده.
فهنأت السفير بانتصاره، وعدت وفكرت في أن مصادفات صغيرة كتأخير الخبر لحظة أو تقديمه لحظة يكون لها تأثير في مصائر الدول وأحوال السياسة العالمية. فآمنت بالقضاء والقدر ولم أعد أسخر من اعتقاد الشرقيين بهما. وعكفت بعد ذلك بأيمان صادق على استئناف ترجمة القران وسائر الكتب الإسلامية.
عبد اللطيف النشار(421/58)
العدد 422 - بتاريخ: 04 - 08 - 1941(/)
حول التعليم الالزامي
جنود مجهولون. . .
في ميدان الجهاد الثقافي مجهولون لا يشكرهم شاكر، ولا يكاد يذكرهم ذاكر: أولئك هم فرق الأساس الذين يمهدون الأرض للدفاع، ويُعدون الجيش للعمل، ويهيئون الشعب للنهوض. وهم الذين يعيشون على عشرات القروش وينفقون من ومضات أرواحهم ونبضات قلوبهم وذخائر قواهم، مايضمن للقادة يوم النصر أكاليل الغار وألقاب الفخار وأكياس الذهب. فإذا فشلت الخطط وطاشت المعارك ربأ الناس بالقادة عن التهم، ورموا هؤلاء المجهودين المجحودين بنقص الكفاية وسوء الدُّرية.
هؤلاء الجنود المجهولون هم المعلمون الإلزاميون! كتب الله عليهم جهاد الأمية ونشر المعرفة بين الطبقات الفقيرة بالقدر الذي يساعد الإنسان على استكمال حظه من العلم الضروري، فأبلى هؤلاء الجنود الصابرون أحسن البلاء في معركة الأمية خمسة عشر عاماً؛ ثم أسفر هذا العراك الطويل الثقيل عن بقاء هذه الأمية منيعة الحصون شديدة البأس؛ كأنما كانت رحا هذه الحرب تدور على فراغ!.
دهش الكتاب والنواب لهذه النتيجة الموئسة، وراحوا كدأيهم يلتمسون العلل في إداد المعلم الإلزامي وكفايته وخبرته، ولو هداهم النظر الصادق لالتمسوها في فساد الخطط وسوء التوجيه واضطراب النظام وانبهام الغرض.
ما ذنب المعلم إذا أخفق نظام لم يضعه، ومنهاج لم يَشْرَعه، وكتاب لم يؤلفه؟ هل هو إلا جندي كسائر الجنود يكون أداة للنصر أو للهزيمة على حسب ما يصدر عن القيادة من حكمة أو أفن؟.
لقد فشل التعليم الثانوي فشلاً تضرب به الأمثال للعبرة؛ فهل يجوز في منطق العقل أن تخرج من حسابه الخبراء والمراقبين والمفتشين واللجان والتقارير والتجارب؛ ثم نحصر علته في المعلمين وهم من حيث الخبرة والمران بنجوة عن الشك؟.
نحن لا نزعم أن المعلمين منزهون عن صفة النقص، ولا مبرأون من تبعة الفشل، فإنهم ناس كسائر الناس، فيهم الضعيف بفطرته والقاصر في أداته؛ ولكنا نزعم أن نصيبهم من إخفاق التعليم أقل الأنصبة، وأن حظ الإلزاميين من هذا النصيب أضعف الحظوظ. ولو(422/1)
جاز لنا أن نوازن بين طوائف المعلمين في الاستعداد والاجتهاد لجاء الإلزاميون في أصحاب الكفة الراجحة؛ ذلك لأنهم بحكم تنشئتهم وإعدادهم يشعرون بالضعف والتخلف، فهم لا ينفكون يستفيدون ويستزيدون ما أمكنتهم الوسيلة والقدرة. ومن النادر أن تجد معلماً إلزامياً لا يقتني الكتاب المفيد ولا يشترك في المجلة النافعة. وأشهد أن ثمانين في المائة منهم مشتركون في ((الرسالة))، وإنهم ليقتطعون بدل اشتراكها من قوتهم النزرْ؛ ولكنك تجد الكثرة الكاثرة من حملة الشهادات والمذبات من المعلمين الثانويين والجامعيين لا يقرأون غير الكتب المقررة وما يتصل بها من قريب، ثم لا يجدون في أنفسهم حاجة إلى مطالعة كتاب أو قراءة مجلة.
المعلم الإلزامي والطالب الأزهري هما الشعاع المنبعث من نور الدين والعلم إلى القرية، ولولاهما لتدجى على القرى ظلام من الضلال والجهل لا يمتد فيه بصر ولا بصيرة. ذلك لأنهما يمايشان سواد الشعب وعامته من الزراع والصناع، فيوقظان فيهم العقل، ويحييان الضمير، ويعقدان الصلة الاجتماعية بين حياة المدينة وحياة القرية. ولو كان للتوفيق كرسي في الحكومة لاتخذوا من التعليم الإلزامي وحدة ثقافية تبرئ الفلاحين أطفالاً ورجالاً من الجهالة والمرض. كان من الممكن أن تعتمد وزارة المعارف على المعلمين الإلزاميين في تعليم الأطفال بالنهار، وأن تعتمد وزارة الشؤون الاجتماعية عليهم في تعليم الرجال بالليل؛ وإذن لا تنقضي بضعة أعوام حتى لاتجد في بلد الأميين والحفاة مَنْ ليس في يده كتاب ولا في رجله نعل. ولكن وزارة المعارف وضعت المعلم الإلزامي تحت الدرجة الأولى من السلم ثم نظرت إلى أعلى وتركته يكابد العمل الكثير بالأجر القليل: فهو يعطي ثمانية وأربعين درساً في الأسبوع، ويأخذ أربعة جنيهات أو خمسة في الشهر؛ وهو مع ذلك موضع البركة في تبكير الزواج وتكثير النسل، وعبدُ الثقافة بنشدان المعرفة وإدمان القراءة. فبالله ربك كيف يحسن عمله هذا البائس ونهاره مكدودٌ بعمل المدرسة وليله مجهودٌ بهم البيت؟ وكيف يقضي حياته هذا المسكين ومظهره مظهر الأمير وعمله عمل الأسير وأجره أجر الخادم؟ على أن أعجب ما في الأمر أن يؤدي عمله كاملاً على الوجه الذي رسم له، ويقضي حياته كريمة على النحو الذي يليق به، ويكمل نفسه بالاطلاع والدرس حتى نبه من أفراده كثيرون في التعليم والصحافة والآداب!.(422/2)
ذلك ما صنعت به وزارة المعارف أو وزارة الداخلية لا أدري؛ أما وزارة الشؤون الاجتماعية فلا تزال في ظلام الحيرة تتحسس بيديها المعوقتين طريق الإصلاح. ولقد دللناها في بضع مقالات كتبناها، على طريق الاستفادة من المعلم الإلزامي في محاربة الجهالة، فأبت إلا أن تحارب الأمية بنفسها فأصدرت مجل، وأن تصلح فساد المجتمع برأيها فحشدت الأطفال المتشردين في مزارع (السرو) الأميرية، ثم سلطت عليهم قسوة الجند وشدة النظام فاستفحل في نفوسهم الشر، وعصف في رؤوسهم التمرد، وتسللوا لواذاً في البلاد، حتى لم يبق من الأطفال الأربعمائة إلا أربعون يكلفون الحكومة من الجهد والنفقة مالا رادّة فيه ولا عوض منه.
كنا نود أن نجيل رأي في مشكلة التعليم الإلزامي ليستضيء أولو الأمر بخبرة المحنكين من الكتاب، ولكنا نعتقد أن الرأي في هذا الموضوع لا يصيب إلا إذا كان التعليم في مختلف درجاته وغاياته سياسة واضحة تنفذ، ونظام مستقر يتَّبع. فبحسبنا اليوم أن تعطف وزارة المعارف على هؤلاء الجنود المجهولين الذين عملوا وأحسنوا؛ وإنهم ليستطيعون أن يزيدونا عملاً وإحساناً، إذا أولاهم معالي الوزير جزاء وشكراناً.
((المنصورة))
احمد حسن الزيات(422/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بعض ما علمتني الأيام - الشيخ عباس الجمل - فكاهة سياسية - كاريكاتور طريف - جناية الكتابة على الشعر والخطابة - كيف نعامل رجال الوعظ والارشاد.
بعض ما علمتني الأيام
تلقيت عن الأيام دروساً تفوق العدّ والإحصاء، وإن كنت قليل الانتفاع بتلك الدروس. . . وهل ينتفع جميع الناس بما يتعلمون؟ لو كان ذلك لصرتُ أحكم الحكماء، فلي من الدهر في كل يوم درسٌ جديد، مع الوعي الصحيح لما أسمع من دروس الزمان.
ولكني مع ذلك انتفعت بدرسٍ واحد، وأحب أن ينتفع به قرائي، فما هذا الدرس؟.
هو الخوف الشديد من أحاديث المجالس، فأنا لا أتكلم أبداً في الشؤون الدينية أو السياسية أو الاجتماعية حين أقابل الناس أو حين أزور الأندية في بعض الأحايين، لأني أعرف أن التزيد والتحريف صارا من عيوب بني آدم في هذه الأيام، ولا يجوز ائتمان مخلوقات هذا العصر على مكنون الأفكار والآراء، لأن حظهم من صدق الرواية صار غاية في الغثائة والهزال.
وذلك هو السر في إقلالي من غشيان الأندية والاتصال بالناس، حتى جاز اتهامي بالنقرة من بني آدم وإيثار العزلة والانفراد، مع أني في حقيقة الأمر رجلٌ ألوف، ولا أختار العزلة إلا طلباً للسلامة مع التزايد والافتراء.
فما العبرة من هذا الدرس؟ وما الذي أنصح به قرائي؟
أنا أرى أن نخاطب الناس عن طريق الجرائد والمجلات، أو عن طريق المؤلفات، فلا نعلن رأياً إلا وهو نص مكتوب بعجز عن تحريفه المفترون، وإلا فمن حق كل مخلوق أن يتزيد علينا كيف شاء.
إن النصوص المكتوبة لا تسلم من تحريف المغرضين، فكيف يسلم الكلام المرسل في أحد المجالس وفيها أوشاب لا تعيش إلا من الإفك والإرجاف؟.
إن التحريف الذي ابتُليتْ به آرائي المدوَّنة في مقالاتي ومؤلفاتي قد آذاني، فكيف يكون حالي لو أرسلت نفسي على سجيتها وحدثت الناس بما أراه في الأدب والحياة؟.(422/4)
من الجريمة أن نحدّث الناس في شؤون يُخاف عليها من التحريف، ومن الجريمة أن يكون اللسان وحده أداة التعبير وهو لا يرسل غير لفظٍ وصفة القدماء بأنه عَرَضٌ سيَّال؟.
يجب أن يكون القلم أداة التعبير في دقائق الشؤون، لأنه يحدد أغراضنا تحديداً يمكن الاحتكامم إليه عند اشتجار الخلاف.
أَقِلّوا من أحاديث المجالس، يا قرائي، لتسلموا من أكاذيب المفترين، فما وثق أحد بالناس في غير حذر ولا احتراس إلا سقوه الصاب والعلقم، وأكرهوه على الوقوع في الخطيئة الدميمة وهي اليأس من الثقة بإخوان الزمان.
ما الموجب للثرثرة في الأندية والمجالس وعندنا من الجرائد والمجلات ما يتسع لنشر ما نريد من الأفكار والآراء؟.
إرحموا أنفسكم من أوزار التحريف لما يصدُر عنكم، واعرفوا جيداً أن المبادئ لا تخدَم بالقيل والقال بين أجواف الجُدران، وإنما تخدَم المبادئ بالقول الصريح الذي يعجز عن تحريفه أصحاب الأغراض المِراض.
ثم ماذا؟.
ثم أوصيكم بأن تكونوا رقباء على أنفسكم، فلا تقولوا في السر ما تعجزون عن نشره في العلانية، وما أوصيكم إلا بما أوصي به نفسي، فأنا لا أقول كلمة في مجلسٍ خاصْ إلا إذا عرفت أني أملك نشرها على الجمهور بلا تهيب ولا إشفاق، ولو شئت لقلت بدون أن يكذّبني أحد المكابرين. إن لساني في غاية من التلطف والترافق، وإن اشتهر قلمي بالشطط والجموح، وما كان ذلك كذلك إلا لأني أكره المواربة وأبغض الاستخفاء، وما حقد عليَّ حاقدٌ إلا بما قلت فيه بكلام منشور في الجرائد والمجلات يملك الرد عليه حين يشاء. أما إيذاء الناس في السر فلا أستطيعه أبداً لأن الله تباركت أسماؤه عصمني من رذيلة الاغتياب، فله الحمد وعليه الثناء.
الشيخ عباس الجمل
من أفظع الشواهد على أن أدباء مصر لا يعطف بعضهم على بعض، ولا يبكي أحدهم لكربة أخيه، ولا يسأل عنه حين يغيب، ولا يلتفت إليه إلا حين يسمع عَرَضاً أنه صار إلى بؤس أو نعيم. . . من افظع الشواهد على انعدام خلة الوفاء بين الأدباء المصريين أنهم لم(422/5)
يسمعوا أن الأستاذ عباس الجمل يعاني علة دامية - سينجو منها بإذن الله - وأنه كان يجب عليهم أن يواسوه في جميع الجرائد والمجلات بما يدفع عنه العلة والعناء؛ فقد يكون في الكلمة الطيبة ما يزوَّد الجسم بقوة المناعة ويقلّم أظفار الداء. ولكن أين من يفهم هذه المعاني؟!.
فجعُ الشيخ بغَرَق ابنه (طاهر) وهو يقارع أمواج البحرين في دمياط فما تحركت يراعة أديب لمواساته في ذلك الرزء الجليل!.
وبُتِرتْ ساق الشيخ عباس منذ أسابيع، فما بكى شاعر، لا تأثر كاتب لمصيبة الأديب الذي كانت مشيته في شوارع القاهرة أرشق من مشية الأسد المختال!.
عباس الجمل في أحزان وكروب منذ خمس سنين، فأين الكاتب الذي واساه؟ وأين الشاعر الذي جعل بلاءه بالزمان موضوعاً لنشيدٍ جميل يصوِّر بلاء الرجال بالزمان!!.
شفاك الله يا صديقي، وشفي من أجلك كل عليل!!.
فكاهة سياسية
كان الحزب السعدي دعا إلى إعلان الحرب على الطليان والألمان، وهي الدعوة التي استوجبت إلقاء أطول خطبة سياسية في العهد الجديد، وهي خطبة الدكتور أحمد ماهر باشا في مجلس النواب، فقد استغرقت ست ساعات، على نحو ما كانت تستغرق خطب سُبحان وهو يَهْدر بين السِّماطَين!.
ولكن أنصار الحزب السعدي ليسوا جميعاً أعضاء في مجلس النواب، فكان الخطيب يشرح لسائر الأنصار وجاهة القول بإعلان الحرب، فكان الخطيب المختار هو الشيخ عباس الجمل. . . وما كاد الشيخ يعتلي الخطابة، حتى عوَت صَفارة الإنذار فأجَّل خطبته إلى أسبوع مُقبل، ودار الأسبوع وجاء الشيخ يُلقي خطبته، فعوَت صَفارة الإنذار من جديد!.
وهنا قالت جريدة المصري: سترى كيف تُلاحقك الغارات يا شيخ عباس!.
فأجابت جريدة الدستور: إن صحّ هذا النذير، ففي مصر طابور خامس!.
كاريكاتور ظريف
نبغت الصحف المصرية في إبداع الصور الكاريكاتورية برغم ما يقع فيها أحياناً من(422/6)
سخافات؛ ومن أبدع ما رأيت صورة نشرتها مجلة (الشعلة) لميزان يحمله رجل معصوب العينين باسم (الرأي العام)، وقد رجحت كفة الوفديين على السعديين، فابتهج النحاس باشا وقال: مارأيك يا ماهر باشا؟.
فأجاب الدكتور ماهر: وما قيمة هذا الميزان وحامله رجلٌ من حزبك؟!.
وإذا كان الرأي العام من حزب الوفد فقد انحل الإشكال!.
في مصر اليوم أدبٌ سياسيّ، فأين من يقيِّد الأوابد من ذلك الأدب الطريف؟.
جناية الكتابة على الشعر والخطابة
هي سجعة ذكرتني بالحوار المعروف:
- أجمل السجع، ما خف على السمع.
- مثل ماذا؟.
- مثل هذا!.
ولكن كيف تجني الكتابة، على الشعر والخطابة؟.
تأمل هذا التمهيد:
إذا كان عند أحد جيرانك طفل أخرس فلا تسمح لأطفالك بأن يلعبوا مع ذلك الطفل، لأن طريقته في التفاهم ستروضهم على التعبير بالإشارات، وعندئذ يقل فيهم الشوق إلى التعبير بالكلام، فيحرمون أفضل النطق وهو أظهر الخصائص الإنسانية.
وإذا رأيت الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يطيل القول في انصرافه عن قرض الشعر فلا تصدق أنه حرم الشاعرية، وإنما يرجع زهده في الشعر إلى أنه أكثر من التعبير عن أغراضه بالإشارة، ففترت رغبته في التعبير بالقصيد، والمواهب يجني بعضها على بعض.
وأقوى البراهين عندي على أن الشريف الرضي ليس المنشئ لكتاب (نهج البلاغة) هو إمعان الشريف في التعبير عن أغراضه بالشعر، فديوانه من حيث الكم يزيد عن ديوان المتنبي بألوف من الأبيات الجياد، وما أثر من الرسائل النثرية للشريف لا يشهد بأنه كان يشتهي التعبير عن ذات نفسه بالإنشاء.
وكما تجني الكتابة على الشاعر تجني على الخطيب: لأن أعظم أسباب الإجادة في احد هذه(422/7)
الفنون هو الشوق إلى التعبير بإحدى أدوات هذه الفنون، ومتى عبّر المفكر عن نفسه بالكتابة فقدَ الرغبة في التعبير بطريقة ثانية وثالثة فصار أزهد الناس في مقامات الخطباء والشعراء.
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد الاعتذار عن نفسي، فقد عاب على قوم أن أنصرف عن الشعر والخطابة، وعدوني في هذين الفنين من المتخلفين، ولم أكن كذلك فيما سلف من الأيام، فلي ديوان شعر، وكنت في الثورة المصرية من أعلام الخطباء، ولم أزهد في هذين الفنين إلا بعد اشتغالي بالتدريس والكتابة والتأليف، فألِفْتُ التعبير بأسلوب يغاير أسلوب الشاعر وأسلوب الخطيب.
وإذن فما هذا التحدي الذي يواجهني به جماعة من أدباء الإسكندرية؟.
قال قائل منهم: إن الرجل الذي ودع بغداد بقصيدة بلغت 111 بيت هو الرجل الذي بخل على الإسكندرية الجريحة ببيت من الشعر أو بيتين!؟.
هو ذلك يا نَدامي (الثغر الجميل).
ولو أني فكرتُ في مواساة الإسكندرية بالشعر قبل أن أواسيها بالنثر لأطلت فيها القصيد، ولكني عبرت عن أحزاني بالإنشاء، فلم يبق لقرض الشعر محال. . . ألم أقل لكم: إن المواهب يجني بعضها على بعض؟.
وهل كان النثر الفني إلا شعراً تحرر من القوافي والأوزان؟.
قولوا ما شئتم، فلن تهمني الألقاب الأدبية، وإنما يهمني أن أصدق فيما يصدر عن قلمي، بغض النظر عن نوع الأداء.
كيف نعامل رجال الوعظ والارشاد
إلى الباحث المفضال (ا. ا) أوجه القول:
جاء في خطابك أن واعظ مركز. . . . . آنذاك بغير حق أمام أهل قريتك، وفي بيت الله بعد صلاة الجمعة، بألفاظ لا يليق صدورها عن الوعاظ.
وفهمت من خطابك أن النزاع نشأ من الخلاف حول مسألة لم تتفق فيها أقوال الفقهاء.
ومن حقي أن أوجه إليك هذه الأسئلة:(422/8)
هل ترى من الخير أن نطالب الوعاظ بالخوض في الدقائق الفقيهة أمام جماهير لا يصح تعريضها لمشكلات تلك الدقائق؟.
وهل ترى أن الوعاظ يعيَّنون لإرشاد من يكون في مثل علمك واطلاعك؟.
انظر في هذه الأسئلة جيداً لتعفيني من نشر الكلمة التي تريد أن أوجهها باسمك إلى علماء الأزهر الشريف، فما أحب أن أشجعك على مجادلة الوعاظ، وهم قومٌ لا تباح لهم مجادلة الناس، وإلا كثرت الشُّبه وانعدام الصفاء بين أهالي البلاد.
وأنا بعد هذا أوصي نفسي وأوصيك بالنظر في باب الرياء من كتاب الإحياء، فإني أخشى أن نقع في مهلكات، باسم الغيرة على الدين، وهوَى النفس له مسالك لا يفطن لها الرجال إلا في أندر الأحيان.
لَطَفَ الله بي وبك، وهداني وهداك.
زكي مبارك(422/9)
من أدب المدرسة
أستاذ
للأستاذ علي الطنطاوي
لما بلغنا قرية (صاربتا) كان الصبح يتنفس، فطرقنا أول باب لقيناه، فلما فتح لنا واحتوانا (المنزل) المعد للضيفان، سقطنا من الكلال والإعياء كالقتلى، فلم نلبث أن غرقنا في لجة الكرى. ولا عجب أنيبلغ منا التعب هذا المبلغ وقد سرنا الليل كله على الأقدام نصعد جبلاً ثم نهبط وادياً ثم نتسلق الصخر. حتى أدركنا هذه القرية التي فرت من العمران، وتغلغلت في الأودية المقفرة من لبنان الشرقي حتى وجدت هذه الذروة التي لا يضارعها شيء في عزلتها وعلوها وضياعها بين الأرض والسماء فاستقرت عليها.
ولما أفقنا ورأينا احتفاء القوم بنا، وعجبهم من سُرانا إليهم وقدومنا عليهم، سألناهم وضربنا معهم في شعاب الأحاديث، فعلمنا أنه لم ينزل بلدهم (أعني أنه لم يصعد إليها. . .) غريب عنها قبلنا، وكانوا يكلموننا على تخوف وحذر، فلما انتسبنا إليهم، وعرفناهم بنفوسنا داخلهم شيء من الاطمئنان. غير أنهم لم يكونوا يجيبون عن أسئلتنا وإنما يحيلونها على الأستاذ. . .) ورأيتهم يذكرون الأستاذ كما تذكر الرعية الملك المحبوب، تبرق عيونهم حباً، وتخشع أصواتهم احتراماً، فكنت أعجب أن يكون لمعلم القرية، وهو لعمري أستاذهم مثل هذه المنزلة، وعهدنا بمعلمي القرى أن الجندي أكبر في عيون الفلاحين منهم. وقلت: ألا تدعون لنا هذه الأستاذ المحترم حتى نراه؟ فلما سمعوا هذه الكلمة اضطربوا وتلفتوا يتبادلون النظرات، وعراهم مثل ما يعرو المؤمنين سمعوا كلمة الكفر. وكانت سكتة طالت، فأعدت السؤال، فقال صاحب المنزل وهو يبذل أكبر الجهد حتى يمسك غضبه فلا يؤذي ضيفه: إن الأستاذ يزار ولا يزور. فلما سمعت ذلك اطمأننت وقلت: لا بأس، إنا نتشرف بزيارته، ولو علمت عادته ما سألتكم دعوته، فقوموا بنا إليه. فقاموا وقد سرى عنهم بعض الذي وجدوا، ومشينا نصعد في طرقات القرية الضيقة الملتوية، وأنا أتصور هذا (الأستاذ) بعين الوهم فلا أراه إلا مثل من عرفت من معلمي الصبيان، غير أن له فيما يبدو دهاء ومكراً، مَخرَق بهما على الفلاحين وموه عليهم حتى حسبوه شيئاً وما هو بشيء.
حتى إذا بلغنا ذروة الجبل وجدنا عليها بيتاً هو أعلى بيت في القرية و (العين) أسفل منه،(422/10)
وحوله حديقة لطيفة، فدخلنا البيت فإذا فيه فرش نظيف، وأثاث من أثاث المدن، وخزانة كتب بالقرب منها مكتب صغير عليه أوراق وأقلام، وكتاب مفتوح عرفت من نظرة واحدة أ، هـ (الإحياء) للغزالي، ف والله ما أظن أني عجبت من شيء عجبي منه. ولبثنا هنية؛ ثم دخل علينا شيخ أبيض الحية، قد وضع على كتفيه عباءة ستر بها ثوباً من ثياب التفضل أبيض نظيفاً، فرحب بنا بلهجة فصيحة وانطلق يحدثنا. أما الفلاحون فقد جلسوا عند الباب لم يقتربوا من الشيخ إجلالاً له، وسكنوا كأن على رؤوسهم الطير.
كان الشيخ يتكلم وكنت أحدّ النظر إليه وأكدّ ذهني لأذكر أي رأيت هذا الوجه. فلما طال ذلك مني ولحظة قال: مالك يا بني؟ قلت: أظن أني أعرفك يا سيدي. فضحك وقال: وأنا أعرفك يا بني، أما كنت في المدرسة التجارية سنة 1918؟ فتأملته ورأيت كأني رجعت طفلاً أنظر من وراء ثلاث وعشرين سنة إلى أستاذي الجليل الشيخ (عبد الواسع)، فلم أملك أن صحت: أستاذي! ووقعت على يديه أقبلهما، وأقبل يمسح على ظهري ويقبل جبيني، وقد استعبر كل من حضر.
أستاذي الذي ترك المدرسة وأحيل إلى المعاش منذ عشرين عاما، وانقطعت أخباره عنا وحسبناه مات، لا يزال حياً؟ ويقيم في قرية (صاربتا) الضائعة بين السماء والأرض! إن هذا لعجب.
قلت وقد سكن المجلس بعد أن حركته هذه المفاجأة الغريبة: وكيف عرفتني ياسيدي الأستاذ، وقد غيرتني الأيام؟ قال: ما تغيرت عليّ، ولقد ذكرتك من أول نظرة. ألم تكن في الصف الخامس حينما انتهت الحرب، وخرج الأتراك من الشام ليدخلها الشريف؟ ألم تكن في المقعد الأول حيال الشباك، وإلى جانبك (سرِّى) أين هو (سرى) الآن؟ قلت: لا أدري ياسيدي، ولم ألقه أبداً بعد تلك السنة. قال الشيخ مترفقاً ناصحاً بلهجته التي كان يخاطبني بها وأنا صغير (لم أنسها) قال: ولم يا بنيّ؟ لماذا لا تصل إخوان المدرسة؟ أما علمتك الحياة أن صداقة المدرسة خير صداقة وأمتنها؟ أصلحك الله يا ولدي.
وأطرق الشيخ يفكر، ثم قال: هل علمت يا ولدي أن المعلم يتمنى ألا يكبر تلاميذه أبداً، وأنه لا يتصورهم إلا كما عرفهم أول مرة ولو صاروا رجالاً؟ أنا لا أرى فيك الآن إلاَّ ذلك الصبي الذي كان في المقهد الأول حيال الشباك. فقدر المحنة التي يصاب بها المعلم حين(422/11)
يرأسه أحد تلاميذه. أتعرف عدنان؟.
قلت: ومن عدنان؟ قال: لا. لم يكن معكم، هو أصغر منكم. عدنان هذا كان من أصغر تلاميذي وأحبهم إليّ. لقد جعلته الأيام ناظر المدرسة التي كنت فيها، فتصوره وهو يدعوني إليه ويستقبلني قاعداً، ويأمرني بأمره. ولقد نالني مرة بسوء لأني لم أوفه ما يراه حقه من الاحترام. وكيف أحترمه يا ولدي وأنا لا أقدر أن أرى على كرسيه إلا عدنان الطفل ذا الشعر الذهبي؟ كيف أحترمه؟ أأحترم ولدي! سامحه الله. سامحه الله لقد آلمني. وآذاني.
إن المعلم يحس بوخزة في كبده إذا أعرض عنه تلاميذه أو أنكروا أو ترفعوا عليه. كأن أولئك الأطفال هم الذين ترفعوا عليه. لا يعلم المسكين أن الطفل لا يبقى أبد الدهر طفلاً. . . لا. لا يتخيل ذلك أبداً. . .
وسكت الشيخ قليلاً ثم رجع يقول: وكنت ترفع أصبعك دائماً، أرأيت؟ أني لم أنسك. وكيف ينسى المعلم تلاميذه وهم بعض ذكرياته، والذكريات هي الحياة.
ثم سألني: وماذا تشتغل أنت الآن؟ فضحكت وقلت: معلم.
قال: آه. . . مسكين. . . لماذا اخترت هذه المهنة يا ولدي؟ قلت: أني سأتركها يا سيدي؛ قال: وتظن أنك تستطيع؟ إن تلاميذي الذي أحببتهم ومنحتهم قلبي، قد أنكروني. . . لم أعد أخطر لهم على بال. لم يزرني منهم أحد. . . لقد رأيت منهم ألوان الجحود، ولكني لا أزال أحبهم، وأتمنى لو أستطيع أن أضمهم إلى صدري. . . آه. . . كم يتألم الأب إذا رأى ولده يعرض عنه وينكره ويمر كأنه لا يعرفه؟ لم ألق منهم خيراً ومع ذلك فأنا أحب أن أنشئ غيرهم، وأن أصب البقية الباقية من روحي وحياتي في نفوس أطفال جدد، أعلم أنهم لن يكونوا خيراً من أولئك، ولكن هذه هي آفة المهنة. . . إنها مهنة ليس فيها إلا الألم. . . ولكن صاحبه يستمرئه ويجزع لفقده كصاحب (الكوكائين) يأخذه وهو يأخذ حياته، فإذا افتقده حنّ إليه. . . أليس هذا من الغرائب؟.
إني أمر على مدرسة القرية، فأسمع الطلاب يرددون درساً، أو يرتلون أنشودة، فيخفق قلبي في صدري، وأحسد هذا المعلم الذي أخذ مني أولادي. . . لا تعجب يا ولدي. . . سل الفلاح الذي يشق الأرض ويغرس فيها البذر وينتظر النبتة الضعيفة. . . فإذا ظهرت تعهدها بالسقي والعناية، وقاس طولها يوماً بعد يوم، فلا تنمو أنملة إلا وضع في هذه الأنملة(422/12)
أمله ورجاءه وخوفه وإشفاقه وأحاطها بعواطفه، وصب فيها من ماء حياته. . . حتى إذا نما النبت واستطال، وظلته غصونه، وتدلى من حوله زهرة، وأينع ثمره، اضطر إلى بيعه. . . فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى يراه في يد غير يده. . . سَلْهُ كم يتألم ويشقى، ويتقطع القلب منه حسرات كلما تنظر إلى هذه الأشجار، وذكر ماله فيها من ذِكَر وما أنفق عليها من أصباحة وأماسيه، ومن حبه وأماني نفسه. . . وإنها لأشجار. . . جمادات لا تعقل. . . فكيف بي وقد ربيت بشراً ثم أعرضوا عني ونسوا عواطفي وحبي. . . وما نسيتهم ولا أقلعت عن حبهم؟.
وما كان لي يا ولدي أن أزعجك بحديثي لولا أني أنفّس به عن نفسي. إنني أعيش وحيداً في هذه القرية المعتزلة لا أدري كيف أزجي الباقي من أيام حياتي. إني أشكو الملل، ولا أطيق النوم، فلا أجد إلا النجم أراقبه وذكرياتي أناجيها. وكثيراً ما تثقل عليَّ هذه الذكريات، حتى لأُضلَّ قلبي بين حاضر لا متعة فيه وماض لا رجعة له. . .
لا، يا ولدي، لا تحرص على هذه المهنة. اتركها إن استطعت فهي محنة لا مهنة. هي ممات بطيء لا حياة. إن المعلم هو الشهيد المجهول الذي يعيش ويموت ولا يدري به أحد، ولا يذكره الناس إلا ليضحكوا من نوادره وحماقاته.
وعدنا من المشية نسلك تلك الأودية، ونتسلق تلك الصخور عائدين من (صاربتا) ولا يزال حديث أستاذي يدوي في أذني، فأحس به في هذه البرية الساكنة قوياً مجلجلاً، ولكن الناس لا يسمعونه، وإن هم سمعوه لم يحبوا أن يفهموه!
علي الطنطاوي(422/13)
بين إنكارين
في قسمة غنائم حنين
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
راق بعض إخواننا من أفاضل العلماء ما ذكرته في إنمار ذي الخويصرة التميمي على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين وأعجبه إرجاعي ذلك الإنكار إلى جمود ذي الخويصرة، وأنه يرى الوقوف في الدين عند حدود القواعد، ولا يرى الأخذ في ذلك بشيء من التساهل، وقد أداه هذا التنطع في الدين إلى ذلك الإنكار الفاضح، وكان من النبي صلى الله عليه وسلم أ، أعرض عنه في ازدراء، وتركه في ذلك الجهل الفاضح الذي لا يقبل الدواء، لأنه من الجهل المركب وهو شر أنواع الجهل، وصاحبه لا يفيد فيه العلاج أصلاً.
وقد كان هناك إنكار آخر من الأنصار على قسمة غنائم حنين، وهو أدل على ما راق ذلك العالم الفاضل من أن الجمود على القواعد ليس من الدين في شيء، وأنه لا قيمة لمنطق الألفاظ إذا اعترضه منطق الحوادث، لأن منطق الألفاظ يسهل تذليله لمنطق الحوادث بشيء من التصرف في دلالتها، أما منطق الحوادث فصريح لا يقبل تأويلاً، ويأبى إلا أن يخضع له منطق الألفاظ.
وكان إنكار الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى قومه من غنائم حنين ما أعطى ولم يعطهم، فوجدوا في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة - وهي القول الردئ - وقال بعضهم: إن هذا لهو العجب: يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! وفي رواية أخرى: إن هذا لعجب، إن سيوفنا تقطر من دماء قريش، وإن غنائمنا ترد عليهم. وقال آخرون منهم: إذا كانت شديدة ندعي إليها، ويعطي الغنيمة غيرنا!.
وقال حسان بن ثابت في ذلك:
دع عنك شماَء إذ كانت مودتها ... نزراً وشرُّ وصال الواصل النزرُ
وائت الرسول فقل يا خير مُؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عُدّدَ البشرُ
علام تدعي سُلمٌ وهي نازحةٌ ... قدَّامَ قوم هم آوواْ وهم نصروا
سماهمُ الله أنصاراً بنصرهمُ ... دين الهدى وعوان الحرب تستعر(422/14)
نجالد الناس لا نُبقي على أحد ... ولا نضيِّع ما توحي به السوَر
كما رددنا ببدر دون ما طلبوا ... أهلَ النفاق وفينا ينزل الظفرُ
ونحن جندك يوم النَّعف من أُحُد ... إذ حزَّبت بَطراً أحزابها مُضرُ
فما ونيْنا وما خمْنا وما خبروا ... منا عثاراً وكل الناس قد عثروا
وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإنكار من أصحابه الأنصار، فلم يهمه أمر الألفاظ التي بلغته، ولم يبحث عن دلالتها على الشك في رسالته أو عدم دلالتها عليه، ولم ينظر إلى ما تقضي به قاعدة الإنكار عليه من كفر أو نفاق، بل نسي ذلك كله ولم يعبأ به ولم ينظر إلا إلى ماضي الأنصار الحافل بالجهاد في نصر الدين، ولم يذكر إلا أنهم آووه وآثروه وأصحابه على أنفسهم حين هاجروا إليهم، وبذلوا دماءهم وأموالهم حتى تم له ما تم من النصر على قومه وغيرهم، وليس من حسن السياسة أن يؤخذ الصاحب بزلة لا تذكر بجانب حسناته، وليس من الإنصاف أن يحاسب على الألفاظ إذا كانت أفعاله توجب الإغضاء عنها، وتدل على أنه لا يقصد ما فيها من دلالة على كفر أو نفاق. ولا شك أن من لا يراعي مثل هذا في سياسة أصحاه تختل عليه أموره، وتضطرب أحواله، وينظر فلا يجد له صاحباً ولا نصيراً.
وهكذا آثر النبي صلى الله عليه وسلم ما يقضي به حسن السياسة من أخذ أنصاره باللين، والتغافل عما صدر عنهم من تلك القالة. وقد دخل عليه سعد بن عبادة الأنصاري يبلغه شكوى قومه، فقال له: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لمِاَ صنعت في هذا القَيءْ الذي أصبت: قسَّمْتَ في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فخرج سعد فجمع الأنصار له، فلما حضروا قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجدةٌ وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمَنُّ وأفضل. ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المنُّ والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم(422/15)
فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: أتينا مكذَّبا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجِدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. أللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله سماً وحظَّاً.
فلله هذه السياسة البارعة التي يتواضع فيها النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار هذا التواضع، ويقوم فيهم كأنهم فرد منهم، فيوازن بين ما قدمه لهم من حسنات، وما قدموه له من حسنات، ويجعل ما قدموه له مثل ما قدمه لهم أو أرجح منه، ثم يذكر لهم عظيم حظهم إذا عادوا به في رحالهم، وعاد الناس بما أخذوه من تلك الغنائم، فيقتلع من نفوسهم كل أثر لتلك الموجدة، ويجعلهم يبكون ندماً عليها أو فرحاً بعظيم حظهم.
ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمد على قواعد الدين ورسومه كما نجمد اليوم، لم يأخذ الأنصار بتلك السياسة البارعة بل وقف يؤنبهم على تلك القالة، ويذكر أن الإصرار عليها كفر ونفاق في الدين، وأنهم إن لم يتوبوا منها حل عليهم عذاب الله وحبط ما قدموه من حسنات في الإسلام.
ولكن مثل هذا لا يشقى النفوس العاتبة، ولا ينال به رضا الأصحاب عند عتابهم، وإنما يكسب رضاهم بافغضاء عن زلاتهم، وأخذهم بالرغبة واللين، لا بالرهبة والوعيد. وها نحن أولاد اليوم نأخذ الناس في ديننا بالتشديد والوعيد، ولا نأخذهم بالرغبة وحسن السياسة، ونقف جامدين أمام النصوص وألفاظها، ونغالي في الأخذ بالقواعد غير متأثرين بالظروف التي تحيط بها. ولا شك أن هذه مغالاة في الغيرة على الدين تضر ولا تنفع، وتنفر الناس منه ولا تجذبهم إليه، وققد خسرنا بها كثيراً ممن كان يمكن أخذهم بالرغبة وحسن السياسة. ومن الواجب أن نقلع عن هذا الجمود، وأن نأخذ الناس إذا زلوا بتلك السياسة التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم.
عبد المتعال الصعيدي(422/16)
5 - مدن الحضارات في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
يعتبر عصر الأسرة العلوية فاتحة عصر جديد في تاريخ القاهرة التي دارت عليها من الزمان أحوال من النحس والسعد، كما هو الشأن دائماً في كل بلد تنوشه الخطوط وتتقاذفه الأقدار.
ولقد طبعت القاهرة في عهد هذه الأسرة بطابع خاص مع احتفاظها بجلال القدم وروعة الماضي، وأفاضت عليها مآثر هذا البيت حللاً رائعة التقي في أثنائها الماضي بالحاضر والقديم بالحديث والشرق بالغرب، فبدت القاهرة بلداً شرقياً جميلاً يخلب اللب ويلفت النظر. وتهاوي إليها الععلماء وأهل الفنون والرحالون يمتعون النظر بمحاسن جمالها، أو يسرحون الطرف في رباعها المملوءة بروعة التاريخ وقدسية الماضي، ويجدون في آثارها القائمة وأعلامها الباقية ومعابدها وهيا كلها مجالاً للدرس وميداناً للبحث ومراداً للهو. فوصل إليها في شهر أكتوبر سنة 1806 - أي في أوائل حكم محمد علي باشا - الأديب الفرنسي المشهور (شاتوبريان) صاحب القصص الرائع والأسلوب المحكم.
قضى هذا الكاتب العظيم أياماً في مدينة رشيد، ثم وفد إلى القاهرة، فاستقبله نجل الوالي الكبير، ولقي في رحاب مصر وظلال الأهرام وعَبْرى النيل، ما جعله يتغنى دائماً بهذه الرحلة السعيدة.
وزار القاهرة في ذلك الحين ايضاً الكونت (دي فوربان) والكونت ماركيلوس؛ وسجل أولهما في كتابه وصفاً ممتعاً لمصر عامة والقاهرة خاصة، وحظي الاثنان بعطف الوالي عليهما وميله إليهما وإهدائهما بالهدايا الثمينة والعطايا الكريمة. وممن زار القاهرة في ذلك الحين الضابط الفرنسي الكبير مارمون وشامبوليون المؤرخ الكبير وصاحب اليد الطولي في حل طلاسم الكتابة الهير غليفية، وجوزيف ميشو المؤرخ، ودوزا الرسام الصناع المصور الحاذق.
وليس عجيباً أن تزخر القاهرة في ذلك الحين بطائفة من أكابر العلماء وأعلامهم، فقد كان الوالي يحسن ضيافتهم ويرحب بهم ويستعين بعلمهم، وبحثهم على فتح آفاق جديدة في النهضة المصرية التي حمل لواءها، ورفع بناءها.(422/18)
ودبت الحيات في القاهرة من جديد، وودعت عهد الفتن التي سادتها حيناً من الدهر، واستقر فيها الأمر واستقام الحكم، وبدأت عناية الوالي تنصرف إلى البناء والتعمير، والإصلاح والتجديد، فبنى مسجد محمد علي بالقلعة على نسق تركي بديع، وأصلح مسجد عمرو بن العاص بمصر العتيقة، وجدد مسجد السيدة زينب وأصلحت أجزاؤه المتهدمة وزخرفت جدرانه وزينت أركانها بالنقوش البديعة، وصلى فيه الوالي صلاة الجمعة يوم 14 ربيع الآخر سنة 1217هـ.
وشهدت القاهرة في عهد تلك الأسرة أفراحاً ومعالم تذكر بأفراح الفواطم ولياليهم الخوالد، وكانت أضواء الثريات تنعكس ليلاً على بركة الأزبكية، وتتراءى النجوم في جوانبها فيخال الرائي أن سماء ركبت فيها. وأقيمت السواري وركبت القناديل، ونصبت المصابيح، وأديرت المطابخ، واستمر اللهو في القاهرة أياماً. واجتمع اللاعبون والراقصون والمغنون وأصحاب الفردة والمضحكون يبعثون إلى النفوس ألواناً من السرور.
وكان مهرجان الزفاف - كما تذكر كتب التاريخ - شيئاً عجيباً، وازدحمت قنطرة الموسكي وباب الخلق ودرب الجماميز، والصليبة والسروجية والجمالية والأزبكية بآلاف من الناس ومئات من العربات.
حدث ذلك في عهد محمد علي باشا، وحدث بصورة أروع في عهد اسماعيل حينما تزوج أبناؤه الثلاثة. ولقد ظلت القاهرة في فرح كامل مدة أربعين يوماً لما تهدأ لها عين، ولم يسكن لها طرف، ولم يخبُ فيها ضوء. . . وكانت الموائد موصولة غير مقطوعة؛ وأصناف الطعام تروح وتغدو على المدعوين فيجدون تنوعاً ولذة، وغصت الساحات الرحاب والعرصات الفساح بالفرق الغنائية، فهذا (الحمولي وتخته)، وذلك (الدمياطي وجوقته). واشترك في هذه الحفلات الغني والفقير، والصغير والكبير، والأمير غير الأمير. ففي داخل القصر لهو ولعب، وفي خارج القصر فرح وطرب، وفي الشوارع زحام بالمناكب، وفي شرفات المنازل أجسام مشرفة ورؤوس مطلة، وفي النيل قوراب ومراكب غصت بالراكبين.
ولا شك أن هذه الصورة الجملية التي لم نراها رأي العين تذكرنا بأفراح القاهرة في قرن الفاروق، فقد رأيناها وقد لبست أبهى حلة وأكمل زينة، وزيَّنتها ثريات الكهرباء، وسطعت(422/19)
فوق دورها الأنوار الساطعة والأضواء اللامعة، وبدا قصر عابدين وكأنه قبس من نور، أو قطعة هائلة من البلور؛ وامتدت أقواس النصر هنا وهناك وقد جللتها الأنوار، وكللتها الأزهار، وازدحمت القاهرة بالوافدين إليها على قُطُر تنهب الأرض وتطوي الفضاء، وكان في كل بقعة فرح، وفي كل رقعة سور.
وفي عهد هذه الأسرة اختطت في القاهرة شوارع جديدة، وأنشئت أحياء حديثة. ففتح شارع السكة الجديدة، وشارع الموسكي، ومُهِّد الطريق بين القاهرة وبولاق، وفتح شارع محمد علي فتحاً جديداً أزيلت بسببه بيوت قذرة، وحارات ضيقة، ومنعطفات مظلمة. وكذلك كان حال شارعي الفجالة وشبرا. وأقيمت على حفاف هذه الشوارع بيوت عالية وقصور كبيرة لا تزال بعض بقاياها إلى اليوم. وبهذه الحركة الإنشائية خلقت القاهرة خلقاً جديداً، وقضى على كثير من مبانيها الخربة، وخرائبها القذرة، وبركها المنبثة في داخلها، وأقيم على أنقاض ذلك كله شوارع واسعة طويلة، وبيوت أخذت تجاري التقدم العلمي وتماشي التطور الهندسي حتى وصلت إلى ما نشاهده اليوم من قصور عالية رفعت لمخترق السماء سموكها، وكادت تلامس الجوزاء قممها، حتى كأن البحتري كان يعني كل قصر منها بقوله:
ذُعر الحَمام وقد ترنم فوقه ... من منظر خطر المزلة هائل
وأخذت مكانة القاهرة تعظم وشهرتها تتسع، حتى زاد إقبال الملوك والأمراء عليها، وكثرت رحلة العلماء والأدباء إليها. فزارها في عهد إسماعيل - غيرَ من شهدوا حفلة افتتاح قناة السويس - السلطان عبد العزيز الخليفة العثماني سنة 1863 وتجد وصفاً ممتعاً لزيارته في كتاب نفحات تاريخية لعزيز بك خانكي؛ كما زارها: (فلوبير)، و (تيوفيل جوتييه)، و (رينان)، و (شارل إدمون)، و (سولسي)، و (إدمون أبوت) صاحب كتاب (أحمد الفلاح) وكثير غيرهم.
وجمِّات ميادين القاهرة في عهد تلك الأسرة بالتماثيل المقامة تخليداً لذكرى الأبطال والعظماء؛ فأقيم في الميدان المعروف اليوم بميدان الملكة فريدة تمثال البطل الفاتح إبراهيم باشا، الذي نقل بعد الثورة العرابية إلى موضعه الحالي بميدان الأوبرا. وأخذت فكرة إقامة هذه التماثيل تزداد وتتسعكل يوم، حتى رأينا منها إلى اليوم تمثال لاظ أو إلى في الميدان المنسوب إليه، وتمثال سليمان باشا الفرنساوي، وتمثال سعد زغلول عند نهاية جسر الخديو(422/20)
إسماعيل (قصر النيل سابقاً)، وتمثال مصطفى باشا كامل الزعيم الوطني في الميدان الذي ينسب إليه اليوم، والذي كان يعرف قبلاً بميدان (سوارس).
وشهدت القاهرة منذ ذلك العهد روحاً علمية لم تشهدها حتى في أيام الفاطميين. فأنشئت الجمعيات العلمية المتعددة كالجمعية الجغرافية التي رأسها الدكتور (شوينفرت) الألماني، وجمعية المعارف التي وضعت تحت رعايتها الأمير توفيق باشا ورياسة عارف باشا لنشر الكتب والقيام على طبعها ترويجاً للثقافة ونشراً للعلم والأدب.
وتبع ذلك سيل فياض من الجمعيات العلمية ذوات النشاط الملحوظ في عهد الملك فؤاد، وهي جمعيات كان جلالته يتولاها بكثير من رعايته وتشجيعه حتى اتخذت طابعاً علمياً، وكان لها مكان وقدم راسخة بين الجمعيات الأوربية المختلفة.
وأنشئت الجامعة المصرية وأخذت تحتضن رويداً رويداً المداوس العالية التي كانت في القاهرة حينئذ حتى ضمت إليها واصبحت كليات تابعة لها ومتفرعة منها إلا بعض معاهد ظلت - لعوامل خاصة - محتفظة باستقلالها أو تبعيتها لوزارة المعارف كدار العلوم وكلية البوليس.
واصبحت الجامعة المصرية قبلة أنظار كثير من أبناء الشرق يولون وجوههم شطرها استغناء بها عن جامعات أوربا. وحفلت تلك الجامعة الفتية بكثير من العلماء الأجانب الذين نشروا فيها علمهم ووسعوا فيها دوائر بحثهم حتى خرج جبل جديد يختلف في مناحي بحثه ودرسه عن الأجيال القديمة.
واصبحت القاهرة اليوم حاضرة إسلامية كبيرة لا تقل عن كثير من حواضر اليوم في تخطيطها وآثارها ومبانيها الشاهقة وشوارعها وجسورها ورياضها وملاهيها.
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن(422/21)
للحق والتاريخ
عبد القادر حمزة باشا
كلمة أخيرة عنه
(وعن (قومة) بحثه وراء (الحقيقة) في التاريخ المصري
القديم)
للأستاذ محمد السوادي
كلمة!!
دللت في مقالي الذي تفضلت (الرسالة) الغراء بنشره في (العدد 419) على أن عبد القادر حمزة إنما اتجه إلى دراسة (التاريخ المصري القديم) بحثاً وراء (الحقيقة) في ذاتها ولذاتها، وأن هذه الدراسة ملأنه - كمصري - زهواً بمصريته فكان هذا الشعور منه إيذاناً (بالقومية) التي حالفته في بحثه، وأن عبد القادر حمزة مؤلف كتاب (على هامش التاريخ المصري القديم) قرن بين (الحقيقة) إثباتاً (للقومية) ففعل.
وأثبت في مقالي الملحوظات الست - أو الحقائق المريرة - التي وضعها الرجل أمامه وخرجمنها بأن (الحقيقة) ضائعة فيجب إيجادها، و (القومية) ضعيفة فيجب إنماؤها. أما (الحقيقة) فهي أن مدينة مصر لم تقم كما اعتقد المؤرخون الأجانب (على أساس من الخرافات والعقائد الفاسدة)، بل قامت كما دلل هو (على أساس علمي وخلقي صحيح).
هذه هي خلاصة المقال الذي اختتمته بوعد مني لك أن ألتقي بك لندرس معاً (بالتطبيق) الطريق التي سلكها في البحث، والنتائج التي خرج بها، و (النظافة) العلمية التي حالفته في هذا البحث.
وأحب أن أضيف إلى ذلك الوعد (كلمة) لا بد منها كما يقولون، أحب أن أقول إن هذا (التطبيق) بالمعنى الذي أفهمه من هذه الكلمة يسوقنا إلى دراسة مستفيضة بدا لي أن أرحبُها إلى وقت يحفظ على (كرامتي) و (براءتي) بعد إذ ترامي إلى أن بعض خصوم البراءة، يزعمون أني إنما أنشر هذه الفصول ابتغاء مرضاة جريدة (البلاغ) التي أعمل فيها. وليس(422/22)
يسوءني أن تنشط الشياطين السود في أشباه الرجال لتسرد على مسمعي قائمة طويلة من الإفك، ما دمت مطمئناً إلى قدرة القراء على التفريق بين الصدق والكذب في أي اتهام يوجه إلى؛ ولكني إزاء اتهام كهذا لا أملك له دفعاً، وفي مجتمع تقوم الصلات بين جمرة بنية على النفاق، ويجد مثل هئذا الاتهام سبيله إلى بعض الأذهان، لايسعني إلا أن أجعل من هذا المقال خاتمة للبحث. ويعزز هذا العزم مني سبب آخر بل أسباب أخر. . . ليس من اللياقة أن أميط اللثام عنها اليوم؛ فإلى غد. . . إلى الغد المجهول الذي لا أدري متى يعلم!! وفيه - إن علم - أقوم ببعض ما يجب علي لهذا العظيم الراحل.
تاريخ ولكن
ولأعد الآن إلى (تطبيق) متواضع محدود لناحية واحدة يصح الوقوف عندها.
أدرك الرجل أنه مقدم على (تاريخ)، وهو لم يكن يوماً (مؤرخاً) ولكن الدراسات التي قام بها أهلته لهذا الإقدام، بل أنارت له السبيل إلى تصويب أخطاء المؤرخين العالميين، وإلى تفنيد الأباطيل التي أذاعها المغرضون منهم؛ فماذا يصنع؟.
رأي - كما يرى كل عالم زاد علمه فزاد تواضعه - أن يسمى جهوده (على هامش التاريخ المصري القديم)، فلما تمت له التسمية واطمأن إليها وأنس بها، وصارح الأخصاء من الأصدقاء بهذا الشعور، ونشر فصولاً ضمن هذا (النطاق الحر)، كف فجأة عن مواصلة النسر، وعاد يواصل الدراسة في صمت، لأن (فكرة جديدة) نبتت في ذهنه وحددت له (اتجاهاً جديداً) في بحثه. فما هو هذا الاتجاه؟.
هو أن يجمع بين (الحقيقة) كمؤرخ و (القومية في البحث) كمصري، ما دام المجال قد انفسح أمامه، ولم يعد مقيداً بالتاريخ في صميمه، بعد إذ أذاع أن كل جهوده ستكون وقفات (على هامش هذا التاريخ)، فضلاً عن أن هذا اللون من البحث يحمل طابع الأخذ والرد، وبحكم المنطق في رقاب الوقائع، ويخرج من المقدمات بنتائج، فيجيء البحث أدنى إلى العراك العميق الهادئ. . . عليه من طلاوة المنطق طابع، وله من ذات الحقيقة جمال. . . فيدرسه رجال (الحقيقة) على أنه (تاريخ)، ويدرسه أبناء الجيل بنفس الروح الذي يطالعون به جدلاً بديعاً أو قصة رائعة. . . فتنساب إلى أذهانهم حقائق مجلوة من تاريخ بلادهم، ويتغلغل إلى أعماقهم حب لهذا التاريخ يغدو على الأيام إعزازاً لهذا البلد، فتزكوا الوطنية(422/23)
فيهم، وينمو الشعور بحق بلادهم عليهم، فيصبح هذا النتاج (إنسانياً) من حيث (الحقيقة) و (وطنياً) من حيث (قومية البحث) وراء هذه (الحقيقة).
كانت هذه هي (الفكرة) التي حددت له (الاتجاه)، فاطمأن إلى أن للبحث هدفاً يهون دونه كل شقاء، وكانت هذه هي (الفكرة) التي استطعت أن أخرج بها من أحاديثي الكثيرة معه، وإن كنت - لوجه الحق - أقرر أنه لم يحددها بهذا الوضوح، لأنه كان يأنف أن يشعرك بأنه يقصد إلى مدح نفسه أو الثناء على جهده.
الجوهر
اختمرت (الفكرة) إذن وتحد (الهدف)، فكيف يدرك المؤلف هدفه، أو ماهي الوسائل التي تمكن له من إدراكه؟.
لم يصارحني بها، ولكني كتابه في جزأيه - ما طبع منها وما هو تحت الطبع - ناطق بهذه الوسائل التي أستطيع أن ألخصها لك فيما يأتي:
أولاً: حدد مدار البحث كما قلت لك بالتدليل على أن المدينة المصرية قامت على أساس علمي وخلقي صحيح، وحدد الحقيقة التي يحب أن يثبتها التدليل على أن المدينة الحديثة وما سبقها من مختلف المدنيات، وفي طليعتها المدنية اليونانية، إنما هي (سير مطرد) لمدينة مصر وأقباس مستمدة من نهضة المصريين؛ ثم حدد النتيجة التي يحب أن يبلغها التدليل على أن هذا العالم القائم الذي يتطاحن بسلاح التضليل، ونتيه فيه العنصرية الآرية من ناحية، والديمقراطية السياسية من ناحية أخرى، إنما يغفل عمداً الحقيقة الكبرى، وهي أن لا آرية هنا ولا ديمقراطية، وإنما هناك (مصرية) أمدتهم جميعاً بالفضل الذي يتنازعونه، وإذا صح أن للأصيل فضل المباهاة، فمن حقنا وحدنا أن نباهي بمصريتنا.
ثالثاً: آثر عبد القادر حمزة أن يختار من بين موضوعات هذا التاريخ القديم موضوعات بالذات، يركز فيها الجهود ويستخلص منها النتائج كما سيجيء في التطبيق.
رابعاً: رأى أن يكون نهجه علمياً إزاء المؤرخين، ومنطقياً إزاء القراء، ففي النهج يذكر الرواية التي ساقها المؤرخون الأجانب بأسانيدها، ثم يذكر المراجع ويحدد الكتاب ويعين الصفحات، ثم يعود إلى التفنيد ويضيف إلى الأسانيد كل سند جديد وفقت إليه الكشوف، ثم يخرج بالنتيجة وضاحة الجبين لا سبيل معها إلى دعاة الشك بعد أن انبلج منها صبح(422/24)
اليقين. . .
أمثلة للتطبيق
وإليك الآن بعض الأمثلة التي تحقق لك (التطبيق المتواضع) الذي وعدت به:
أراد أن يخلص ذهن قرائه مما علق بها أيام الدراسة من خرافات اختلقها المؤرخون الأجانب فاعترفنا بها كحقائق وحشونا بها البرامج فذكر قارئه بادئ ذي بدء بأن الكتابات التي تركها لنا الكتاب اليونانيون والرومانيون كانت الرجع الوحيد لمعرفة مصر القديمة منذ ضاع سر اللغة المصرية إلى أن كشفه شامبوليون الشاب أي مدى أربعة عشر قرناً؛ وهؤلاء الكتاب الذين زاروا مصر وكتبوا عنها في ما بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد شحنوا كتاباتهم بأشياء لم يفهموها فألبسوها لباس الغرابة والخرافة، مثلهم في ذلك كمثل الذين يزورون مصر الآن من الأجانب فيدعون عليها دعاوي لا وجود لها لأنهم لم يفهموا ما شاهدوه، أو لأنهم يريدون أن يثيروا دهشة قرائهم بما يقعونه من المبالغات.
وهذا كلام يفهمه القارئ الحديث الذي كان يرى الشركات الأمريكية والأوربية تجيء إلى مصر قبل الحرب فلا تلتقط لأفلامها غير صور الطبقات في حي (زينهم) و (عشش الترجمان) بل تستأجر من الدهماء فقراء يطلب إليهم التزني بالطراطير وما إليها لتوهم الشركات شعوب الغرب بأن مصر لاتزال تتخبط في مثل هذه الأزياء.
يفهم القارئ الحديث هذا النحو من المنطق فهل قنع عبد القادر حمزة بهذا التدليل وترك المؤرخ أو المحقق يطالبه بالدليل؟ كلا. وإنما تناول أقوال شيخ أولئك الكتاب والمؤرخين - هيرودوت - ونقلها بأمانة، ثم دلل على فسادها. وحسبك منها أن أذكر لك بعضها في سطور:
أبان لك المؤلف أن هيرودوت نقل عن موظف مصري في معبد (المعبودة نيت) في ما الحجز أن النيل يولد بين (سيين) و (ابلفنتين) - وهذه كانت تجاور أسوان - وأن شطراً من مائه يجري إلى مصر والشطر الآخر إلى النوبة، وأن هذا الزعم كان يعقده المصريون، ثم دلل عبد القادر على أن هذا القول ليس سوى خرافة ما كانت تستحق أن يثبتها هيرودوت في كتابه بعد أن قال هو نفسه: (إنه يميل إلى الظن بأن ذلك الموظف الذي نقل(422/25)
عنه هذا القول كان يمزح. (وقال المؤلف إن المصرين (الذين كانت سيين وابلفنتين من مدنهم كانوا يوقنون من غير شك أن النيل لا يجري شطر منه إلى مصر وشطر منه إلى النوبة، بل يأتي من النوبة جارياً إلى مصر. وقد أرسل المصريون قوافلهم التجارية وحملاتهم العسكرية وسفنهم التجارية والحربية إلى النوبة وإلى ما وراء النوبة منذ الدولة القديمة. . . فهم إذن ركبوا النيل إلى ما وراء الشلال الرابع. . . فالادعاء عليهم بأنهم كانوا يعتقدون أنه يولد عند أسوان هو ادعاء زور، والاعتماد فيه على حديث قال هيرودوت إنه سمعه من موظف مصري هو اعتماد على سند ساقط)).
ثم لم يشأ المؤلف أن يقول له قائل: (ولماذا تتجاهل أن بعض المؤرخين تأولوا هذه الرواية، فقالوا إنها كانت اعتقاداً للمصريين قبل أن يفتحوا النوبة، ويركبوا النيل إلى ما وراء الشلال الرابع). بل أثبت عبد القادر هذا التأويل، ورد عليه بأن هيرودوت لم يقدم إلى مصر إلا في مختم الحضارة المصرية. أي بعد أن كان المصريون قد فتحوا النوبة في عصر الدولة القدية فالموظف الذي نقل عنه لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً أو مخرفاً، وهيرودوت لا يدل بنقله هذا التخريف إلا على أنه كان يلتقط ما يقال له بغير احتياط ولا تمحيص.
ثم نقل المؤلف عن هيرودوت قوله إنه وصل في تجواله إلى بلفنتين وقوله: (فما أكتبه وصفاً لمصر إلى هذه المدينة رأيته بعيني) ثم قطع عبد القادر بأن هيرودوت كاذب) لأنه لو كان قد وصل إليها وشاهد مجرى النيل عندها لعلم أنه ليس له مجريان متعارضان أحدهما يتجه إلى صمر والثاني إلى النوبة).
ولم يشأ المؤلف أن يدع هيرودوت (الكذب) في هذه الرواية كذاباً على طول الخط وبسوء نية، بل راح يلتمس له المعاذير ويقلب الأمر على مختلف وجوهه، حتى اهتدى - أي المؤلف - إلى الأناشيد التي وجدت منقوشة على الأهرام موجهة إلى النيل وفيها:
(لقد انتفحت الصخرتان وظهر المعبود. إن المعبود يضع يده على جسمه (يريد أنه يضع يده على أرض مصر)). ورجح عبد القادر أن تكون هذه الخرافة قد انبعثت من هذا النشيد، لأن الصخرتين قائمتان عند ابلفنتين. ورجح أن يكون غرض الشاعر أن النيل يدخل حدود مصر عند هاتين الصخرتين؛ فكأنه يولد عندهما بالنسبة لها وهو تعبير شعري جائز،(422/26)
والمصريون كانوا مشغوفين بالمجاز، أما إذا قلنا إن الشاعر لم يرد معنى مجازياً فهو على كل حال قال بأن النيل يظهر من بين صخرتين، ولم يقل إن شطراً منه يجري إلى مصر وشطراً إلى النوبة. والعلماء اتفقوا على أن نقوش الأهرام تسجل أساطير كانت عامة المصريين تعتقدها فيما قبل التاريخ يوم كانت المدينة المصرية تحبو كالطفل.
ملحوظات
هذه خلاصة متواضعة لنقطة تافهة وردت عرضاً ضمن كتاب هيرودوت، فما بالك إذا عدت إليها في الكتاب وقرأت أسانيدها ولمست مدى الاهتمام الذي أخذها به المؤلف ليقضي عليها؟ ثم ما بالك حين تتبعه في تناوله الحقائق الكبرى. ألم تلاحظ معي أن للمؤلف (ضمير المؤرخ) يمشي جنباً إلى جنب مع (حماسة القومية) في الذود عن المصرية، حتى لقد راح يلتمس العذر للمؤرخ اليوناني إرضاء للضمير العلمي، فإذا وجد له سنداً خيل إليه أنه راجح أثبته؛ فإذا أثبت التفنيد أنه مرجوح قضى عليه ثم ترك لقارئه الحكم على رواية هيرودوت.
ثم ماقيمة مسألة تافهة كهذه يعني بها هذه العناية؟
القيمة أنك - بها وبأخواتها التي تلتها - تعرف أقوال هؤلاء المؤرخين وقيمتها، فتظهر ذهنك من الإيمان الخاطئ بالتاريخ الذي درسته تلميذاً وشاباً وكهلاً وشيخاً لتستقل معه بحوثه الكبرى وراء الحقيقة الخاصة بالتاريخ المصري القديم.
ومن هذا (التطبيق المتواضع) ترى أن الرجل لم يكن يثبت حرفاً - بله البحث - من غير أن يرمي به إلى نتيجة. وقد ترى الكلمة مثبتة في مقدمة الكتاب للعودة إليها في خاتمته.
ميزة
وكان للمؤلف ضمن الميزات ميزة لا يسعني إغفالها على الرغم من ضيق النطاق واعتزامي اختتام البحوث، ميزة العودة إلى الحق شأن العالم الثبت، وميزة مسايرة أحدث البحوث وآخر الكشوف بحيث إذا عثر على كشف يصوب نتيجة بلغها قبلاً عاد فصارحك بخطأه وأرشدك إلى الكشف الذي هداه إلى الصواب.
وفي الجزء الأول مجالان للتطبيق أرجو أن تعود إليهما: أحدهما في صفحة 223 تحت(422/27)
عنوان (ملحق للتقويم المصري) ضمنه نصوصاً اهتدى بعد أن فرغ من طبع الكتاب إلى أنها عثر عليها أخيراً ودلت على أن الكهنة ورجال الحكومة كانوا يدونون أيام المواسم الزراعية طبقاً للتقويم وأمام كل واحد منها اليوم المعادل له طبقاً لدورة الشعرى اليمانية: (الامر الكانوبي) الذي أصدره بطليموس الثالث بتعديل التقويم على أساس إضافة يوم كل أربع سنوات إلى الخمسة الأيام الإضافية.
والآخر في ص227 وهو تصحيح خطأ وقع فيه في قوله: إن من المباحث التي بحثها برستيد أنه حفر في مدخل الدلتا حتى وصل إلى عمق 20 متراً أو 30 فوجد أن الإنسان الذي عاش حيث وجدت تلك الجمجمة وتلك الأواني والقوالب يرجع إلى 16 ألف سنة مضت. فقال عبد القادر إن هنا أسماً سقط وكان يجب أنيذكر لأن صاحبه هو الذي حفر مدخل الدلتا وهو هو شوينفورت، وأما برستيد فقد درس نتائج هذا الحفر وحسب طبقات الطمى التي يكسو بها النيل أرض الدلتا كل سنة فوجد أن الإنسان الذي عاش حيث وجدت الجمجمة يرجع إلى 16 ألف سنة مضت.
كلمة أخيرة
ها هو ذا (التطبيق المتواضع) انصب على موضوع واحد ومنه رأيت أن (التطبيق الدراسي المشبع) يقتضي كتاباً ضخماً أو فصولاً يستغرق نشرها عامين، فاعذرني - إزاء القيل والقال الذي ألمعت إليه - إذا أنا أعفيت نفسي من هذه المهمة المضنية التي أخذت بها نفسي عن طواعية ولوجه الوفاء، وأرجأنها إلى وقت يحفظ على الكرامة ولا يدع سبيلاً للمطاعن الرخيصة في العمل المحمود.
وقد ألتقى بك بين الحين والحين؛ على صفحات (الرسالة) الغراء ولكن في أحاديث أدبية أخرى بعد أن أثارت بحوثي الأخيرة شهية التحدث إليك. فإلى لقاء قريب.
محمد السوادي(422/28)
الضمير الفردي والضمير الاجتماعي
للأستاذ جريس القسوس
إذا جاز لنا العبث بعلوم الاجتماع والنفس والأخلاق استطعنا أن نقسم الضمير إلى نوعين: (ضمير فردي وضمير اجتماعي)؛ ولا يتضح معنى ذلك إلا بكلمة سابقة في تعريف الفضيلة والرذيلة اللتين هما قسطاسا الضمير، بل مقررْتا وجوده. إذ كيف يجوز أن يقال بأن لزيد ضميراً حياً أو ضميراً ميتاً إذا لم يربط ذلك الضمير بفضائل أو برذائل؟.
لكل فئة أو جماعة أو طائفة من البشر قواعد وأنظمة وعادات جرت عليها وتمشت بموجبها عهوداً طويلة، لا تحيد عنها قيد شعرة إلا بقوة جبارة عاتية تفوق قوة تلك الطائفة؛ فإذا حادت جرت على الأنظمة الجديدة وتمسكت بها تمسك المستميت، ودعمتها ودافعت عنها دفاعها عن النظم التي تحولت عنها في بدء الأمر تحت تأثير القوة، كغاندي مثلاً، يحاول جهده أن يزحزح الطائفة الهندوسية عما جرت عليه من شعور سيء نحو جماعة الأنجاس. وسبب تمسك أي طائفة بنوع خاص من التقليد أو العرف والعادة، هو إدراكها بالتجربة والاختبار أن هذا النوع - دون غيره - يفيض على أكثرية مجموع أعضائها أجزل النعم وأتم البركات. . . نعمة وبركة يشترك فيها الفرد والجماعة معاً، إلا في حالات نادرة خاصة، حيث تنتفع الجماعة من أمر لا ينتفع منه الفرد إن لم يكن يخسر.
هذه التقاليد والعادات التي اختارتها الجماعة وأدركت نظرياً وعملياً أنها نافعة للأكثرية الساحقة من مجموع أفرادها نفعاً يغشى على أبصار أعضائها، لا أفرادها، فلا يرون فيها ضراً ولا شراً بل نفعاً وخيراً هي الفضيلة. أقول: أعضاؤها لا أفرادها، لأن العضو يفكر ويقوم في كثير من الأحيان بأمور لا تستند إلى العقل والمنطق تحت تأثير الجماعة التي لا تختلف في عقليتها الاجتماعية عن عقلية الطفل. ويتجلى ذلك في تصوير شكسبير للرعاع في يوليوس قيصر؛ فهم ينساقون ويندفعون كالصبيان اندفاعين متناقضين تارة تحت تأثير السحر البياني الذي يتدفق من لسان بروتس، وتارة مأخوذين ببيان أنطونيوس وعباراته العاطفية الشديدة. لكن الفرد يستقل في عقليته في كثير من الأحيان، فيقوم بأمور لا غبار عليها من حيث منطقها واستنادها إلى العقل.
أما خروج الجماعة عن القواعد والأحكام فهو الرذيلة والإثم، وعاقبته العذاب الأليم في(422/29)
الدنيا وفي الآخرة. ولهذا لا يستغرب أن ترى فضيلة عند فئة رذيلة عند أخرى والعكس بالعكس. كمذهب العري نعرفه رذيلة وعند أهله فضيلة.
لكن هناك قواعد وأحكاماً وعادات أجمع العالم على الجري عليها إجماعاً استقلالياً أو تقليداً، فهذه فضائل عالمية كونية عرفت منذ انبثاق الخليقة أنها فضائل كالصدق والعدل والتواضع والإحسان. هذه الفضائل كما شرحتها ترتسم في نفس الفرد وتنطبع في ذهنه بالتقليد والتلقين؛ ولا يورث منها إلا الميل لها، لأن ما يكتسب لا يورث. فيجد المرء نفسه في حظيرة الجماعة وتحت سلطتها وتأثيرها لا يستطيع أن يقوم بعمل مناف لما تمشت عليه، أو يفكر أو يقول مالا يروق في نظر الجماعة، ولا يشعر بالأثر إلى تجنب الرذيلة ويدفعه إلى عمل الفضيلة قبل إتيانها ويقرن العمل بالتشجيع على الإتمام ويلحقه بالطمأنينة واللذة النفسية - هذا الصوت هو ما نسميه بالضمير - الضمير الاجتماعي لأنه ليس إلا صدى لجلجلة القيود والأصفاد التي ترسف بها الجماعة. ويصح أن تسمى ما يقابل هذه القوة من قوة عنيفة مضادة سكبت في النفس البشرية مع القوة الأخرى ورافقتها في الحياة جنباً إلى جنب: هذه القوة يصح أن تسمى بالوسواس، وهو المذكور في قول الله تعالى: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس).
هذا هو الضمير الاجتماعي - بل هذا هو الضمير المطلق كما نعرفه عادة وتعرفه جمهرة العلماء؛ لكنني عرفته بالاجتماعي على اعتبار وجود ضمير آخر غير هذا الضمير؛ وهو الذي اصطلحت على تسميته بالضمير بالضمير الفردي المطلق، ذلك لأن الفرد قد لا يرتبط ارتباطاً عقلياً حراً مجرداً بما ترتبط به الجماعة من خير أو شر، فيستوي عنده خيرها وشرها، رذيلتها وفضيلتها، ويصبح طليقاً من هذه القيود الاجتماعية، لا يتأثر بما تتأثر به الجماعة من جميل أو قبيح تأثيراً تقليدياً غير منطقي. لأنه لم يتهيأ لبشر من الناس أن يميز الحدّ الفاصل بين الخير المطلق والشر المطلق غير الأنبياء. هذا الفرد - إن وُجد - عرفته الجماعة بميت الضمير - من حيث علاقته بها. وما كان في الحقيقة إلا حيّ الضمير - ذلك الضمير الروحي المستقل الذي قرّ في نفسه وركب في طبعه منذ أن عرف الحياة. وهو لا يختلف عن الضمير الاجتماعي من حيث أنه قوة مؤنبة، خفية عميقة في النفس. إلا(422/30)
أن إدراكاته تختلف في كثير من الأحيان عن إدراكات الضمير الاجتماعي في أنها أرهف وأبعد وأدق وآصل. ذاك يقاس بفضائل خارجة عن النفس فرضت عليها فرضاً، فأصبحت كأنها جزء منها؛ ولكن مدركات الضمير الفردي من جمال وبرّ وصلاح خلقت مع الإنسان منذ الأزل، إلا أنها مطموسة بالمادة. فبذرة هذا الضمير الفردي في كل نفس، فإذا زاولها الفرد بالرياضة العنيفة، وتعهدها بالصقل والتهذيب والتجريد، فجلى عنها الأصداء، وأزال كل ما علق بها من أقذار المادة، نمت وازدهرت وجاءت بثمار روحية سامية، واستطاعت إذ ذاك التحليق في غير جوّ المرئيات الهيوليات. وبذا يصبح هذا الضمير الفردي المطلق بمثابة ذوق مهذب راق، تقاس به الأعمال والأطوار، ويدرك بالفطرة السامية والضمير الإلهي ما هو خير وما هو شرْ. وصاحب هذا الضمير فوق أصحاب الضمير الاجتماعي أو الإحساس التقليدي المزيف، فهو يعرف الله مباشرة، ولكن أولئك لا يعرفونه إلا بالواسطة.
(شرق الأردن)
جريس القسوس(422/31)
وحي الحرب
على مسيل الدماء. . .
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
قَالَتْ سَكَتَّ وَمَا عَهِدْتُكَ ساكِتَا ... أَنَا ما عَرَفْتُكَ في الحوادِثِ صَامتَا
وَغَدَوْتَ صَوْناً في المسامعِ خافتا ... أَتُرَاكَ تَنْدُبُ من شَبابكَ فائِتَا؟
فَأَجبْتُهَا
وَالقلبُ مَحْطومُ الرَّجاءْ
كَيْفَ الْغ ناء مَعَ الدِّماءْ؟
مَا بَيْنَ أَنَّاتِ الأَلَمْ
فَوْقَ الضَّحايا والرِّممْ؟!
قَالَتْ مَلأتَ الأرضَ شِعراً صَادِقَا ... وَسَكَبْتَ في الأَسمَاعِ لَخْناً دافِقاً
وَالآنَ. . . تُمْعِنُ في رُقَادِكَ غَارِقَا ... وَسَكَتَّ حتى لا لأَظنَّك نَاطِقاً. . .
فأَجبْتُهَا
وَالْقَلْبُ تَفْجَعُهُ الْكرُوبْ
وَالأرضُ يَحْرِقُهَا اللَّهِيبْ
وَالنَّاسُ تَحْصُدُهَا الْحُروبْ
كَيْفَ الْغِنَاءُ مَعَ الدِّماءْ
وَالأرضُ أَجْدَرُ بالبُكاءْ؟!
قَالتْ تَعَالَ معي إلى الشطِّ البعيدْ ... لا النَّارُ تُزْعِجُنَا وَلاَ جَرْسُ الْحَدِيدْ
فَهُنَاكَ ظِلُّ الأمْنِ مُنبَسِطٌ مَدِيدْ ... وَهُنَاكَ تُسْمِعُنِي أَنَاشِيدَ الْخُلودْ
فَأَجبْتُهَا
وَالنَّارُ تَلْمَعُ والسُّيوفْ
والصفُّ تَتْبَعُهُ الصُّفوفْ
كيف الفِرارُ من الْحُتوفْ
والبحرُ خُضِّبَ بالدِّماءْ(422/32)
وَالأرْضُ تَصْرُخُ والسَّمَاءْ؟!
قَالَتْ مَتَى سُحُبُ الوَغَى تَتَقَشَّع ... وَمَتَى يَذُوبُ من الوُجودِ المِدْفَعُ؟
وَمَتَى حَمَامُ السِّلمِ يَوْماَ يَسْجَعُ ... وَمَتَى القُلُوبُ عَلَى المحَّبةِ تُجْمَعُ؟
فَأَجبْتُها
واللَّفْظُ يُمْسِكُهُ الحياءْ
والْقَلْبُ مُنْكَسِرُ الرَّجاءْ
هَيْهَات لاَ يُرْجَى شِفَاءْ
ما بالنُّفُوسِ من الْعَِاءْ!
فالحربُ في الإنْسَانِ دَاءْ
(وَالْحَرْبُ تَعْمَلُ لِلْفَنَاءْ ... كاَلْحَرْبِ تَعْمَلُ لِلْبَقَاءْ)
محمد عبد الغني حسن(422/33)
أصابع على معزف
للأستاذ العوضي الوكيل
كلما أرسلتْ أصابِعُك اللحـ ... ن رقيقاً كالشعرِ في روح شاعِرْ
خِلتُ أني سبحتُ في عالم القد ... س وجدْفت بالرُّؤى والخواطر
وتمنيْتُ أن تسيل على كفْـ ... يكِ روحي كاللحن ريَّانَ عاطرْ
العوضي الوكيل(422/34)
هتاف من الماضي
أو في ظلال الأقصر
للأستاذ عماد الدين عبد الحميد
(هذه مقطوعة غنائية أطلعني عليها صاحبها الأديب في حياء وتردد واستطلاع!
فوجدتها - كأغنية - تستطيع أن تقف شامخة بين نظيراتها وأحببت أن أقدمها للرسالة.
وإذا قد لها أن تخرج ألحاناً وغناء فأرجو أن يكون حظها من التلحين والأداء خيراً من حظ مثيلاتها. وأن تخرج فيجو مصري لا في (سوق فارسية) ولا في (معبد صيني). وأن تسلم كذلك من روح الميوعة والتطريب التي يشقى بها الغناء وتفسد الأذواق)
سيد قطب
جَرت الفلكُ بركبِ الأملِ ... تسمع الدنيا نشيد القبلِ
كلما مرْت بنبعِ الأزلِ ... شدت الأطيارُ لحن الغزلِ
أيها السْاري إلى الفجر بنا ... تتهادى بشراعٍ من منى
هاك خمر النيل تجري فاسقنا ... واملأ غناَء حَوْلنا
مرْ بنا كم مار في هذا المكان ... موكبُ النيل رهيباً بالحسان
ومضىَ يختالُ في عرسِ الزمانِ ... بين عزفٍ وشراب وأغانِ
كم جميلٍ قد طوى النيلُ وسارا ... ها هنا قبَّل النيلُ عذاري
كنَّ يَلْقَيْنك يا نيلُ حيارى ... ثملاتِ بين نشوى وسكارى
ملْ بنا نحو ظلالِ الأقصرِ ... في تهاد يا لسحر المنظر
لَيتنا نقضي نصيب العمر ... ها هنا بين ظلال الأثر
حين تبدو سابحات كالجبالِ ... في محيطٍ من صخورٍ ورمالِ
لا ترى غير خيالٍ لجمالِ ... وخلودٍ لوجودٍ وزوالِ
قف بنا نتل كتاب الأقدمين ... سادة الأيام بين العالمينْ
ونحيّى في الثرى مجدَ السنينْ ... في جلالٍ وخشوعٍ وسكونْ
ها هنا قد عاش فرعونُ هنا ... ها هنا قد ساد خوفو ومِنا(422/35)
ها هنا كل بعيدٍ قد دنا ... وجثا كلُّ عظيمٍ وانحنى!
هات ياهيكل وحيَ العبر ... شاخصاتٍ بين هذى الصُّور
ليتنا نقضي نصيب العمر ... هها هنا بين ظلال الأثر
عماد الدين عبد الحميد(422/36)
مدينة تدمر
للأديب مصطفى بعيو الطرابلسي
(في يوم 14 يوليو انتهت حملة الحلفاء في سورية بعد قتال استمر حوالي ستة أسابيع في تلك البلاد الشقيقة بين قوات الحلفاء من جهة وقوات قيشي من جهة أخرى، ولقد قام مطار تدمر في هذه الحملة بدور خطير، وتكرر ذكر هذه المدينة على صفحات الجرائد. فوفاء لتاريخ هذه المدينة وماضيها المجيد أكتب هذه السطور)
في وسط بادية الشام وجنوب خط عرض 35 شمالاً، وغرب خط طول 40 شرقاً، تقع مدينة تدمر ذات المطار الحربي في الوقت الحاضر والتاريخ المجيد في العصور الماضية، إذ كانت تسمى باليونانية بالميرا أي مدينة النخل، وباللغة العبرية (تمر) بإقحام الدال فيها، وهذا اللفظ يرادف كلمة (النخل). وقد ذكر المتنبي هذه المدينة في شعره، ولكنه اشتق اسمها من الدمار حيث نراه يقول في مدح سيف الدولة الذي تغلب على بعض قبائل العرب عبد مدينة تدمر:
وليس بغير تدمر مستغاثٌ ... وتدمر كاسمها لهمُ دمارُ
على أن الرخين لا يأخذون بهذا الرأي، ويرجحون أن قول المتنبي هذا من باب الاستقاق البديعي ذكره على طريقة الجناسَ، ويجمعون على أن سيدنا سليمان هو الذي قام بتأسيسها، ولهم في ذلك أدلة يذكرونها، ومنها شهادة الكتاب المقدس في سفر أخبار الأيام الثاني وسفر الملوك الثالث، إذ قال الكتاب عن سليمان: (فبنى سليمان جازر. . . وتدمر في أرض البرية).
ومنها أن ليهود يتناقلون أباً عن جد قصة بناء سيدنا سليمان لها، هذا فضلاً عن أن المؤرخ الشهير يوسف اليهودي قد روى هذا في كتاب العاديات اليهودية، وهو أحد مصادر التاريخ الإسرائيلي. ثم إن العرب اتفقوا على هذا الرأي ولا سيما سكان البادية، بل نراهم يزيدون على ذلك ويزعمون أن الجن هم الذين بنوا مدينة تدمر لسليمان، ومما يؤيد هذا الرأي قول النابغة الذبياني، نحن نعلم مكانته بين شعراء الجاهلية:
إلا سليمان إذ قال الإله لهُ ... قم في البرية فاحددها عن الفَنَدِ
وخبِّر الجن أني قد أمرتهمُ ... يبنون تدمر بالصُّفاح والعمدِ(422/37)
وإذا كان المؤرخون قد اتفقوا على بناء سيدنا سلميان لها فقد اختلفوا في سبب بنائها، ولكن أغلبيتهم أجمعت على رغبة سيدنا سلميان في أن يجعل منها مربطاً لتجارة رعاياه، أو كما جاء في الكتاب المقدس إحدى (مدن الخزن).
هذه المدينة التي ازدهرت أيامها في عهد سليمان كعادة المدن الجديدة في أول إنشائها لم تلبث أن تدهورت بعد وفاة منشئها وأصبحت خاملة الذكر حق أوائل النصرانية، حتى أن هيرودوت أبا التاريخ القديم لميذكر في تاريخه، مع أنه قد زار معظم البلاد الشرقية الهامة في عصره والمحيط بالبحر الأبيض المتوسط. وكذلك لا نجد لها ذكراً في أخبار فتوح الإسكندرية فضلاً عن أن العالم الجغرافي (استرابون) لم يذكرها مع إلمامه بمعرفة الأنحاء الشرقية. كل هذه الشواهد تؤيد ما آلت إليه حالة تدمر من تدهور وخمول وهي التي كانت عامرة في أول عهدها لما اشتهرت به من غزارة مياهها، إذ كانت تجري فيها عدة أنهار لم يبق منها سوى جدول أو جدولين؛ أما عيونها المعدنية التي اشتهرت بها منذ القدم، فقد نضت.
وقد عثر الأثريون على كتابة نبطية قديمة في شمال جزيرة العرب ترجع إلى القرن السادس ق. م. تصف مدينة تدمر بأنها فندق متسع الأرجاء في بادية الشام، وهذا دليل على مركزها التجاري العظيم في سابق الأزمان وتأييد لما ذهب إليه بعض المؤرخين في تعليل سبب بنائها.
على تلك المدة التي اضمحلت فيها مدينة تدمر ما كانت إلا فترة استجمام سرعان ما عاد إليها نشاطها بعد ذلك، واستردت شهرتها من جديد، واسترجعت سلطانها القديم في التجارة على أثر انهيار الدولة السلوقية وكثرة الولايات المستقلة في شمال بلاد العرب والعراق التي اتخذت التجارة مهنة لها، فكانت القوافل تسير إلى بطرة وغزة وتدمر فأصبحت منذ ذلك العهد مدينة خطيرة وأخذت تتقدم عمرانياً، وأصبحت تجارة أوربا وآسيا في أوائل المسيحية في قبضة يدها. تمر بها تجارة بلاد العرب من ذهب وعطور ولآلئ البحرين وتوابل الهند وهي في طريقها إلى روما، فعرف الرومان قيمة مركزها التجاري فاستمالوها إليهم ثم ما لبثوا أن ضموها إلى أقاليمهم الشرقية وأحاطوها بالحميات العسكرية، كما حصنوا الطريق الذي يصلا بنهر الفرات لحماية تجارتهم وتأمينها من غارات القبائل.(422/38)
ومن الآثار التي عثر عليها الأثريون والتي ترجع إلى سنة 137م مرسوم أصدره مجلس شيوخ المدينة لحسم الفتن التي قامت بين النجار ومأموري الخزانة من أجل المكوس وارتفاعها إذ كانت البضائع الصادرة أو الواردة تجبي عليها ضريبة ثابتة ثم ضريبة أخرى تختلف باختلاف قيمة البضائع ومقدارها، وقد عرفنا من هذه النقوش أيضاً نوع التجارة التي كانت تمر بمدينة تدمر وهي بالإضافة للأنواع السابقة عبارة عن دقيق وزيوت عطرية وغلال وأثمار يابسة وملح من ممالح تدمر الكثيرة في ذلك العهد مما جعل لأهلها شهرة خاصة في قيادة القوافل التجارية عبر الصحراء لحسن خبرتهم بالطرق ولاستعدادهم لمقاومة أعمال قطاع الطرق. فلا عجب بعد ذلك أن شابهت تدمر البندقية فيالعصور الوسطى من حيث المركز التجاري. وكانت تدمر تحتفظ لنفسها بنصيب من دخلها السنوي بعد أن تؤدي إلى روما الجزية المفروضة عليها.
هذا كل ما يمكن أن يقال باختصار عن تجارة تدمر في أزهي عصورها. وقد تكلم في هذه الناحية بتوسع كل من الأستاذ (تولدكة)، (ساخَوْ)، (دي قوكويه). وعرفنا من النقوس السابقة الذكر أنه كان لتدمر مجلس وطني يسن القوانين ويتألف من رئيس وكانت وعدد من الأعضاء. وكانت السلطة التنفيذية في عهده شيخين وديوان يتكون من عشرة حكام. أما السلطة القضائية فكانت من اختصاص بعض الوكلاء.
أما لغتها الرسمية اللغة اليونانية كما هي العادة في جميع الممالك الرومانية الشرقيى؛ ولكن أهلها كانت لهم لهجة خاصة هي الهجة الآرامية وهي قريبة من السريانية. ويقال إن المسيح عليه السلام قد تكلم بها، ولكن هذا لم يثبت بعد. على أن الخط التدميري إلى الآن لا يعرف المؤرخون صورته حق المعرفة في القرون السابقة للمسيحية، لأن جميع الكتابات والرسوم التر عثر عليها حتى الآن ينحصر تاريخها فيما بين القرنين الأول والرابع المسيحيين، وأقدم هذه الكتابات لا تتعدى السنة التاسعة قبل المسيح. ويؤكد المؤرخون أن تدمر قد اقتبست صورة حروفها من الفينيقيين.
اختلف المؤرخون في تحديد السنة التي خضعت فيها تدمر لحكم الرومان ولكنهم أجمعوا على أنها لم تتبع روما قبل سنة 36م، وعلى الرغم من خضوعها لروما كانت تتمتع ببعض الحقوق المدنية، ومنحت امتيازاً خاصاً يخولها السيادة على جميع البلاد والمجاورة لها. ثم(422/39)
تطورت العلاقة بين تدمر وروما إلى شبه محالفة لا سيما بعد أن أخذ أمر بني ساسان يستفحل وهم الأعداء الألداء لوما وبأطرتها.
ثم انتهي الأمر في تدمر بقيام رجل من أبنائها يتمنى إلى بني السميدع ويلقب يأذينة، تمكن من إلان سلطانه على تدمر وخضاع قومه، واتخذ له لقباً ملكياً في سنة 250م، ولكني سرعان ما أقلق هذا العمل بال الأمبراطور الروماني واستطاع أن يتخلص منه بقتله؛ ولكن سلالته استطاعت أن تحتفظ بعرشها وعملت على تحسين علاقتها مع روما، بل نرى أذينة الثاني يحارب الفرس إلى جانب الروم مما كان له أحسن الأثر في نفوس الرومانيين. ولكن أذينه الثاني لم يعمر طويلاً إذ اغتاله ابن أخيه لحقده عليه، وتولت إدارة شئون البلاد زوجته الزباء وصية على ابنها الكبير (وهبلات) ونجحت في إدارة شئون الدولة وقامت بأعمال جليلة وعملت على تعمير البلاد. وما زالت آثارها باقية تخلد اسمها؛ مع أن الاهالي يخلطون بينها وبين ما فعلته (زبيدة) زوجة هارون الرشيد ومن الصعب تعقب أخبار هذه الملكة في سطور لكثرتها وقد نشر الأستاذ فريد أبو حديد قصة تاريخها في مجلة الثقافة.
ومما يلفت النظر أنه على الرغم من شهرةهذه الملكة فإن الغموض يحيط بتاريخها، فنجد مثلاً مؤرخي العرب ينسبون إليها قصة مع أحد ملوك الحيرة، وقد أورد لها ملخصاً المسعودي في كتابه مروج الذهب ولكن بعض المستشرقين وعلى رأسهم الأب سبستيان رنزفال اليسوعي يشك في صحة هذه القصة.
توترت العلاقات السياسية بين زينب ملكة تدمر وروما وانتهى الأمر بأسرها بعد حرب شاقة وتدمير المدينة مما دفع أهلها للقيام لأخذ ثأرها؛ ولكن القائد الروماني (أورليانس) قابل هذه الحركة بتهديم المدينة. وهكذا تدهور حال المدينة وأخنى عليها الدهر إلى أن جاء بنو غسان فاتخذها بعضهم منزلاً له وبقيت على حالتها المتأخرة حتى فتحها المسلمون في سنة 634م عندما مر بها خالد بن الوليد في حملته إلى سوريا.
مصطفى بعيو الطرابلسي
كلية الآداب. اسكندرية(422/40)
البريد الأدبي
واالد الملوك الأيوبيين
أنقل ميدان الكلام عن الملك ووالد الملوك نجم الدين بن أيوب إلى مجلة (الرسالة) الغراء، لأنني أصلحت على صفحاتها شعراً رواه الأستاذ جمال الدين الشيال عن الشاعر بوري أخي السلطان صلاح الدين الأيوبي.
ولقد ذكرت في كلمتي الأولى في (الرسالة) أن بوري هو (ابن الملك الصالح نجم الدين الأيوبي) فعد الأستاذ الشيال ذلك مني (خطأ رئيسياً هاماً)، ووهم - سامحه الله - أنني خلطت بين والد صلاح الدين وبين الملك الصالح نجم الدين حفيد العادل وأحد الذين حكموا مصر في العهد الأيوبي.
وليس في تلقيبي نجم الدين بن أيوب (بالملك الصالح) خطأٌ يدعو الأستاذ الشيال إلى تصحيحه في مجلة (الثقافة) الغراء؛ ولمأكن في هذا التلقيب حائداً عما اعتاده مؤرخو العصر الأيوبي من تلقيب طائفة من أمراء هذا البيت بالملوك، مع أنهم لم يكونوا ملوكاً (ولم يحكموا مصر). فالعماد الأصبهاني مؤرخ صلاح الدين وصاحب كتاب (الفتح القسي في الفتح القدسي) يلقب الأمير أسد الدين شيركوه (بالملك المجاهد، الجواد الماجد) (ص235 طبعة الموسوعات)؛ ويلقب أيضاً سيف الدين أخا صلاح الدين الأيوبي (بالملك العادل) قبل أن يصير إليه ملك مصر: (أنظر ص227 من الفتح في الكلام على وقعة أرسوف).
ويلقب تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أخي صلاح الدين (بالملك المظفر)، مع أنه مات في حكم صلاح الدين ولم يكن له، ولا يمكن أن يكون له حكم مصر: (أنظر ص290 من المصدر المذكور).
ومن هذا يتضح أن تلقيب نجم الدين بن أيوب بالملك الصالح صحيح لا غبار عليه وقد وصفه أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي صاحب النجوم الزاهرة بالأمير: (أنظر الجزء السادس) والسبب في تلقيبه بالصالح أنه كان محباً للصالحين، كما يذكر أبو المحاسن (ص67 ج6).
والحق أنني بعد ذلك كله لم أر وجهاً لاعتراض الأخ الأستاذ جمال الدين الشيال على هذا(422/41)
اللقب الذي لقب به نجم الدين الملك وأبو الملوك، وهو اللقب الذي كان يخلع في ذلك العهد على أمراء البيت الأيوبي غير الملوك.
(المنصورة)
محمد عبد الغني حسن
آثار الحضارة المصرية في نيجيريا العليا
نشرت إحدى المجلات العلمية في لوزان نبأ جاء فيه أن بعض المكتشفين عثروا في منطقة نيجيريا العليا على مجموعة من الفيروز الأزرق الذي كان يحتفظ الصناع من قدماء المصريين بسره.
ومما قالته المجلة أن هذه المجموعة من لآلئ الزجاج الأزرق، لابد أ، تكون أتت من مصر، لأن قدماء المصريين كانوا رسل الحضارة، وأول من أنشأوا المراكز التجارية، وأدخلوا الحرف في المناطق التي تقع على ضفاف بحيرة تشاور والبلاد التي يرويها نهر النيجر وفي السنغال. بل إن أولئك المصريين القدماء كانوا أول من أدخلوا في هذه البلاد عن طريق دارفور و (واداي) الحيوانات الداجنة، ولاسيما الحمير كما أنهم مارسو فيها فن البناء الفرعوني.
في اللغة
1 - دعا الأستاذ طه محمد الساكت الباحثين إلى استنباط مثال واحد من منثور العرب - بعد أن بحث جاهداً عن شاهد واحد فأعياه البحث - تقدم فيه القسم على الشرط والجواب فيه للشرط، على خلاف القاعدة النحوية المشهورة أن يكون الجواب للمتقدم.
وأجيب دعوة الأستاذ فأقول: إن لدي شواهد كثيرة لما يريد وقعت لي في أثناء قراءتي وعنيت بتدوينها وإن لم تكن بين يدي أو في الطاقة الحصول عليها الآن؛ ولكني أذكر واحداً منها يحضرني، وقع لي في الجزء الأول من العقد الفريد من كلام لعمر بن الخطاب قاله لمعاوية بن أبي سفيان حين قدم عمر على معاوية بالشام. قال معاوية: (فإن أمرتني بذلك أقمت عليه وإن نهيتني عنه انتهيت). فقال عمر: (لئن كان الذي تقول حقاً فإنه رأي أريب، وإن كان باطلاً فانها خدعة أديب).(422/42)
قلت: ورد الخبر هكذا في جميع طبعات العقد حتى الطبعة الحديثة التي أخرجتها لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ شهور، (ج1 ص16).
وهكذا ورد أيضاً في طبعة المكتبة التجارية التي صدرت منذ شهرين وحققها الأستاذ محمد سعيد العريان.
فان لم يكن محرفاً - وما أكثر التحريف في العقد - فهو الشاهد المسكت للأستاذ الساكت.
2 - من القواعد أفعل التفضيل المشهورة أنه إذا كان محلي بأل امتنع أن يؤتى بعده بالمفضل عليه مجروراً بمن، فلا يصح أن يقال: (أنا الأكثر منك مالاً).
ولما رأيت أكثر أدبائنا وأشدهم تدقيقاً وتحرياً للصواب في اللغة يقعون في هذا الخطأ أو فزت إلى التنبيه عليه. ومن أمثلة الخطأ فيه ماجاء أخيراً في كلمة الأستاذ حبيب الزحلاوي (محصول الرسالة) المنشورة بالعدد 418 من الرسالة قال: (والأنفع من هذا وذاك الخ)، وما جاء من مقال الأستاذ العقاد (القدوة والإصلاح) بالعدد 377 قال: (دنيا صاخبة هي العوض الأنفس من كل ما يفوته من الأنس بالمجتمعات) إن كان يريد أن كل ما يفوته هو المفضل عليه. أما إن جعل الجار والمجرور متعلقاً بالعوض - ولست أظنه يريده - فلا خطأ. ومنه أيضاً ما جرى على لسان الشيخ البشري كثيراً في الجزء الثاني من كتابه (المختار) حيث قال: (الأقل من القليل). . . والسلام على من اتبع الهدى.
(بني سويف)
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
الحسبة في الاسلام
نشر الأستاذ محمود الشرقاوي في العدد 417 من (مجلة الرسالة) كلمة عن التسعيرة الجبرية في الأندلس تحت عنوان: (من حضارة الإسلام في الأندلس). ولعل في الكلمة الآتية زيادة فائدة في الموضوع.
علم الاحتساب علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها، حيث إجرؤها على القانون العدل بحيث يتم التراضي بين المعاملين، وعن(422/43)
سياسة العباد بتهي المنكر وأمر المعروف.
أما المحتسب فله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم. وكثير من الأمور الدينية هو مشترك بين ولاة الأمور، فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه. فعلى المحتسب أن يأمر العاملة بالصلوات الخمس في مواقيتها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس، ويتعاهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرط منهم فيما يجب من حقوق الإمامة أو خرج عن الأذان المشروع ألزمه بذلك، واستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب والحكم وكل مطاع يعين على ذلك.
ويأمر المحتسب بصدق الحديث وبأداء الامانات وينهي عن المنكرات من الكذب والخيانة ما يدخل في ذلك من تطفيف الميزان والمكيال والغش في الصناعات والبياعات ونحو ذلك.
وله أن يكره الباعة على بيع ماعندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل. وله أن يجبر أهل الصناعات على ما يحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية، ويقدر أجرة المثل فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك، ولا يمكن الصائع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العامل. وهذا من التسعير الواجب.
وأما صفة ذلك (أي التسعير) فينبغي للامام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهار على صدقهم فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا، وإذا امتنعوا عن بيع ما يجب عليهم بيعه عوقبوا.
أحمد صفوان
مصطلحات المجمع اللغوي
كان المجمع اللغوي ينشر في مجلته السنوية ما أقره من المصطلحات العلمية والفنية أثناء موسم الانعقاد؛ وقد رؤي أن تفرق هذه المصطلحات في مختلف أجزاء المجلة، واختلاطها بغيرها من الأبحاث والدراسات، لاييسر على الباحثين سبيل الرجوع إليها عند الحاجة، فتقرر أن تجرد جميع المصطلحات التي وضعها المجمع خلال أدوار انعقاده الماضية قبل النظام الجديد، وأن تطبع في كتاب مستقل يكون قريب التناول للمؤلفين والمدرسين(422/44)
والراغبين في البحث والدراسةذ. وقد أعد هذا الكتاب للطبع في المطبعة الأميرية، وتبلغ مصطلحاته نحو ثلاثة آلاف في علوم الأحياءذ والطب والحرارة والكهربا واللاسلكي، وفورع الرياضة والعمارة والموسيقى والتاريخ، وأدوات الشؤون العامة، إلى غير ذلك من ضروب العلوم والفنون والآداب. وينتظر أن يخرج هذا الكتاب من المطبعة في سبتمر المقبل.
إلى الدكتور علي عبد الواحد وافي من السودان
أتتبع باهتمام القيمة (في الاجتماع اللغوي) على صفحات (الرسالة) الزاخرة. . . وفي حديثك أخيراً عن الهجات العامية الحديثة استوقفتني عبارتك: (وأدنى هذه المجموعات إلى العربية الفصحى مجموعتا اللهجات الحجازية المصرية). . . استوقفني هذه العبارة، وكان بودي أن أكتب إليك هذا في حينها، ولكن الانهماك المتواصل في سبيل العيش لم يسمح لي بذلك.
فإن كنت تقصد بتلك العبارة أن اللهجة المصرية هي لهجة وادي النيل الذي يشمل مصر والسودان، وهذا ما أستبعده وأشك فيه، لأنها ليست هذه هي أولى المرات التي يُهمل فيها السودان ويسقط سهواً وعمداً من حساب الشرق والعرب. . . إن كنت تعني بها ما قدمت، فذاك، وإلا فلتعلم ياأستاذي الفاضل أن بالسودان - وخصوصاً أواسطه - لهجة هي من أدنى اللهجات إلى العربية الفصحى إن لم تكن أدناها جميعاً.
ولست في حاجة لسرد الأدلة والبراهين لإثبات هذه الحقيقة ولكن لك أن تبحث وراءها، ولك في الكثير من قادة الفكر المصري الذين زاروا السودان خلال السنوات الأخيرة أكبر مصدر ومرجع.
وبهذه المناسبة أتمنى أن تساعدني ظروفي السيئة لأتحف أستاذينا الكبيرين المبارك والزيات بمختارات من أدبنا القومي ليلمسا فيه الذوق العربي الصحيح مجسماً؛ وليستنشقا منه عبير العربية المتغلغلة في النفوس. أسأل الله أن يوفقني ويوفق معي الكثير من أبناء هذا القطر البررة هنا وهناك للقيام بهذه المهمة وإسداء هذا الجميل إليهما، حتى إذا ما زارا هذا القطر المظلوم تذوقاً بسهولة ما يقدمه إليهما من أدب قومي رفيع.
أحمد المبارك عيسى(422/45)
تعقيب
جاء في ص (867) من العدد (418) من (الرسالة) في حديث للدكتور علي عبد الواحد وافي عن (اللهجات العامية الحديثة)، ومنه عن اللهجات غير العربية التي يتكلم بها بعض الطوائف في سوريا، وهي اللغة المتحدرة من الآرامية، وأن ثلاث قرى هي: معلولة، صدنايا، يبرود. وهي التي يتكلم أهلها هذه اللغة.
والمعروف أن القرى الثلاثة المقصودة في حديث الدكتور هي: معلولة - جَبْعِدين - بحْفَا، وهي واقعة في الشمال الشرقي عن دمشق.
فهل لحضرة الدكتور أينير معرفتنا عن سبب الخطأ الوارد في حديثه عن تسميته هذه القرى، وله منا خالص الشكر المشفوع بالاحترام.
جودة مرعشلي
استدراك
في العدد 417 من الرسالة الغراء مقال في غزوة حنين، جاء في آخره ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخوارج: (أكفارٌ هم؟) فقال: (من الكفر فروا) قيل: (أمنافقون هم؟) فقال: (إن المنافقين لايذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله كثيراً) قيل: (فما هم) قال: (فتنتة غشيتهم).
والصواب أن المسؤول الذي أجاب هذه الأجوبة عن الخوارج هو علي بن أبي طالب لا النبي صلى الله عليه وسلم. وفي أيام علي خرج الخوارج في العراق، وكانت سيرة على في مقاتليه من أصحاب الجمل وصفين والخوارج سيرة إنصاف وإغدار واعتراف بحق ولم بك رضي الله عنه يبخس أحداً شيئه صديقاً كان أم عدواً.
(دمشق)
سعيد الأفغاني(422/46)
القصص
الرجل المكروه
عن الانجليزية
للأستاذ عبد اللطيف النشار
وقف على غير انتظار في وسط الجمع وكان صامتاً وكانوا صامتين، ويظهر أنهم يشعروا ببدخوله، فابتسم ثم جرْ كرسياً وجلس على مقربة من صاحبة المنزل، فلما نظرت إليه قالت: (ما أغرب تصرفاتك! هل مشيت كل المسافة بين بروم هيل وبين المنزل في هذه الشمس؟).
فهز رأسه بالايجاب دون أن يتكلم، وقد كان غريب التصرفات كما وصفته مسز ألينورا بونيتون التي أمرت على أثر مجيئه بالشاي والتفتت إليه وقد كان مجيئه بغير دعوة وجلوسه بغير استئذان.
ودار الحديث بينهم متجاهلين جوده فشرب الشاي في صمت وهو شاعر بهذا التجاهل ولكنه لم ينسحب من المجلس ولم يهم بالانسحاب.
وقالت اللادي مارتين لصاحبة المنزل: (ما أغرب هذا الرجل ياعزيزتي ألينورا! أهو نموذج لأهل جيراتكم؟ لقد كنت أظن أهل هذا الوسط راقين!).
فهزت مسز ألينورا كتفها وقالت: (لا يعلم إلا الله من هو وماذا يريد، وليس فينا من يحبه غير زوجي، وأنت تعرفين أنه يسر من كل شيء غير عادي).
فقالت الزائرة: (ولكن من أين أتى؟ هل هو جار؟).
قالت: ألينورا: (اسمه ليندهام وهو يسكن في كوخ على بعد بضعة أميال، وليس لدي أي إنسان فكرة عن شخصيته ولا عن الجهة التي جاء منها، وهو يقضي معظم أوقاته في المشي في الطريق وفي غزو المنازل).
قالت اللادي مارتين: (يظهر من هيئته أنه راق وأنه غريب الأطوار).
فاختلست مسز بوينتون نظرة من المستر ليندهام وقد كان في ثياب شديدة القدم ولحية مقصوصة على غير نظام ورباط رقبته منحرف، ولكن في هويته علائم التهذيب وصوته الهادئ الرصين يفتن سامعيه.(422/47)
وعادت الزائرة إلى الكلام فسألت صاحبة المنزل: (لماذا يأتي هذا الرجل هنا؟).
فأجابتها ألينورا: (لا أعرف سبب مجيئه خصوصاً مع غياب زوجي عن المنزل، ولا أحد يلاطفه هنا لا يكاد يكلم أحداً، وهو يكثر من المشي تحت الدار. وقد قابلته في إحدى الليالي فرأيته يكلم نفسه بصوت منخفض ولم تكن المسافة بيني وبينه أكثر من متر، ولكنه لم يلاحظني وقد خفت منه كما أخاف من الموت).
قالت الزائرة: (إن زوجك رجل طيب يالألينورا؛ وعلى ذكر زوجك أخبريني ماذا تم في القضية؟).
فقالت صاحبة المنزل: (إنه ذهب ليقابل المحامين، ويظهر أنهم لم يحصلوا على رد من السير جيرفاس؛ ويظهر أنهم لايعرفون مكانه).
فنظرت اللادي مرتين من خلال النافذة وقالت: (أرجو ألا تخسروا القضية فإن هذه الجهة من أحسن الأماكن في الإقليم) ونظرت ألينورا من خلال النافذة أيضاً إلى المنظر الذي أطلعت عليه اللادي وقالت: (إخال أنني أسمع صوت عربة مقبلة) ثم وقفت وخرجت من الغرفة. وبعد قليل عادت وأعلنت قدوم الأميرة فوقف جميع الضيوف إلا الزائر غير المرغوب فيه. ونظرت ألينورا إلى هذا الرجل الذي لايحبه إنسان نظرة مقت وانتظر الجميع أن يكون لدى الرجل من حسن الذوق ما يحمله على مغادرة المنزل قبل أن تأتي الأميرة.
على أنه لما أقبلت الأميرة وقف ودار بعينيه في الفضاء، وكان بادياً على الأميرة التعب ولكن تعبها لم يؤثر على جمالها الرائع. وفي فترة التعارف وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام ليندهام الذي لم تعن مسز بوينتون بتقديمه إلى الأميرة فقدم هو نفسه إليها قال: (هل تسمحين يا صاحبة السمو بأن أذكرك بإسمي؟ أنا ريتشارد ليندهام وأرجو ألا تكوني نسيتني).
فمدت إليه يدها وقالت بصوت عذب: (إن الإنسان لا ينسى أقدم أصدقائه. وإني مسرورة جداً برؤيتك يا مستر ليندهام).
وجيء بالشاي، ثم دخلت الأميرة قاعة أخرى وطلبت من صاحبة المنزل أن تدعو إليها المستر ليندهام لأنها تريد محادثته.(422/48)
قالت مسز بوينتون: (ليندهام ياصاحبة السمو؟!).
وكانت لهجتها شديدة الدلالة على الاستغراب، ولكن الأميرة كررت أنها تريد محادثته، فذهبت إليه صاحبة المنزل وقالت بغير ما اعتادته من لهجة في مخاطبته: (إن الأميرة تريد أن تراه؛ فقام متباطئاً ولم يبد عليه شيء من الاستغراب، ولا أظهر شيئاً من الاهتمام وقال: (اسبقيني وسأتبعك).
أغلق الباب وكانت الأميرة في حالة غير عادية: فعيناها مغرورقتان بالدموع وقالت: (لقد ظفرت بك في النهاية ولن تستطيع أن تفلت مني. تعال الآن).
فتناول كفها ورفع يدها إلى شفته؛ وتغيرت هيئته ففارقه مظهر الخشونة المعتاد، وأصبحت نظراته وصوته كصوت الطفل ونظراته وقال: (ياعزيزتي جبربيل، هل لا تزالين مؤمنة؟ ألم تنفقدي ثقتك؟). فقالت: (كلا. كلا. ولا لحظة واحدة).
قال: (الحمد لله).
ثم انقضت لحظات في صمت، وبعد ذلك قالت: (ألا تزال باسمك المستعار؟) فقال: ليس لي اسم سواه.
قالت: ولكنك في انكلترا ولم تتركها إلى غيرها. فقال بلهجته التهكمية القديمة: ليس أغرب من ذلك.
قالت: (لقد تغير كل شيء فلم أتبين أين كنت)؛ فمشى نحو النافذة وقال: (لقد كان إطلاق الرصاصة من هذا المكان وكان أكثر من عشرة أشخاص مستعدين للشهادة بأنه لم يكن يقيم هنا أحد غيري).
قالت الأميرة: يظهر يا جيرفاس أنك هنا لغرض خاص، فقال: وأنت؟.
قالت: لغرض أيضاً. . . فقل لي: هل تسلمت خطاباً؟.
فقال: نعم، وهو السبب في مجيئ من النمسا. . . انظر وعرضت عليه خطاباً، فرمقه بنظرة ثم قال: هو كخطابي تماماً، ويعلم الله أن هذا في منتهى الغرابة. . . ولكن الذين على وشك الموت كثيراً ما يقولون الحقيقة!.
وكان في هذه الأثناء يفحص الحائط وفي يده سكين يضرب بها في مكان بعد مكان ويتسع الصوت. . . وكانت الأميرة تراقب حركته وهي واقفة وراء ظهره، وقال: ليس هنا أي(422/49)
دليل يساعدنا.
قالت: لقد اختفى جزء مهم من أركان القضية. . . أين هو الرجل الذي أخفي مطلق الرصاص؟.
فهز رأسه وقال: لقد كان من الغباوة ألا أفكر في المكان من قبل، ولقد اختفى جزء من القضية كما تقولون، ولكن الجزء الآخر لا يزال باقياً. . .
وأشارت إلى شيء ملقي على الأرض، فتناوله وقال: هذا دفتر مذكرات. . . ففتحت الصحيفة الأخيرة منه وصاحت:
- ماهذا يا جيرفاس؟.
فهز كتفه وقال: هذا ما ليس يعلمه إلا الله.
وحاول أن يقرأ الأسطر التي أشارت إليها، ولكنه صاح بدوره: إقرائي أنت. . . فإنني لا أستطيع.
فاختطفت الدفتر من يده واقتربت من النور. . .
ظل الرجل الذي لا يحبه إنسان. . . الرجل الذي تعده صاحبة المنزل فضولياً. . . ظل مع الأميرة نحو ساعة، وكانت صاحبة المنزل ومن معها يتحدثن في هذه الأثناء. . .
وقد نالت الأميرة رتبتها بالزواج من أمير، وهي من أسرة قديمة، ولكنها قبل الزواج كانت فقيرة، ويشاع أنها كانت مربية في بعض البيوت. . .
وفي عهد هذه القصة كان الأمير متوفى منذ عام، تاركا لها ثروة كبيرة، وكان مركزها في المجتمع موطداً بالرغم من إشاعات السوء التي كان يشيمها عنها بعض الناس.
وقد سئمت مسز (بوينتون) من تكرار القول لزائريها أنها لا تعرف (ليندهام)، وأنه جاء من حيث لا يعرف إنسان، وأن زوجها المستر (آرثر) قد اهتم بشأنه، ولكنها كانت مرتابة منه منذ البداية. . . وبينما هي لا تزال كذلك تضرب على هذه النغمة، إذ دخلت الأميرة ومعها المستر (ليندهام) كما هو معروف بهذا الاسم بين الزائرين، أو السير (ليندهام) كما هو معروف بهذا الاسم بين الزائرين، أو السير (جيرفاس) هو اسمه الحقيقي، وقالت الأميرة: لقد رأيت الغرف التي أعددتها لضيافتي، ولكن يظهر أن إحداها لها تاريخ، فهل صحيح أن السير (نولز فلتون) قتل برصاصة أطلقت عليه من نافذة غرفة الجلوس؟!.(422/50)
ظهر شيء من الاضطراب على وجه صاحبة المنزل وقالت:
- نعم، ولكن هذا من سنوات عديدة، وكنت أظن أن كل إنسان نسي ذلك، وأظنك يا صاحبة السمو لا تخافين من الأشباح. . .
فابتسمت الأميرة وقالت: لقد رأيت الآن واحداً من هذه الأشباح. . .
وكان السامعون يتحدثون فيما ينهم ويتساءلون عما تتحدث عنه الأميرة. وقد بدت علائم الاعتمام. وقالت الأميرة: نريد أن تحدثينا يامسز بوينتون عن تلك الجريمة. لقد قتل السير نوليس وهو يمشي على الشرفة. وكانت الإصابة من مجهول، فهل عرف شيء عن سرها؟.
فقالت مسز بوينتون: أما في المحاكم فلا، وأما بصفة قاطعة بين الناس فلا. ولكن القرائن ضده أنه بالرغم من أن التهمة لم توجه إليه فإنه غادر البلاد هارباً ولم يعرف له مكان.
قالت الأميرة: لم يكن بينهما خصومة معروفة، ولكن شاع بعد الحادث وبعد سفر جيرفاس أن بينهما سوء تفاهم، إلا أنه لحسن حظ جيرفاس لم تقل كلمة في هذا الصدد في التحقيق.
قالت الأميرة: ولكن هل عرف شيء من أسباب سوء التفاهم؟ فهزت مسز بوينتون كتفها وقالت: يقال إنه كانت هناك مريبة لأولاد اللادي موري أخت الشقيقين، وكان كلاهما عاشقاً لها، وأن جيرفاس قتل أخاه مدفوعاً بدافع الغيرة. ويرجح أن الرصاصة خرجت من غرفة السير جيرفاس. وقد بقي السير جيرفاس في انكلترا بعد وقوع الجريمة ببضعة شهور، ثم سافر وأملي ألا يعود، لأنه إن عاد فسنظطر إلى إخلاء هذا المنزل له وهو خير مكان يوافقنا.
فابتسمت الأميرة وابتسم المستر ليندهام، وقالت الأولى: ولكن ما رأيك في أنالسير جيرفاس قد عاد وأنه جالس بجانبي الآن؟.
فقالت مسز بوينتون وقد بدت عليها علائم الدهشة والانزعاج: المستر ليندهام؟.
فأححنى الرجل رأسه وقال: إنني أعتذر على انتحالي اسماً مستعاراً، ولكن كان لدي أسباب هامة تضطرني إلى زيارة الأماكن المجاورة، وأنتم تدركون عذري إذا لم أستطع الظهور باسمي الحقيقي. وإن غياب ثمانية أعوام وإرسال اللحية لجديران بتغيير الهوية.
قالت مسز بوينتون: ولكن الأميرة عرفتك عند ما رأتك.(422/51)
فقال: نعم.
وقالت الأميرة: ربما كنتم قد سمعتم بأنني قضيت عامين مربية قبل زواجي من الأمير برليتز، ولكن الذي لا تعرفونه على ما أظن هو أنني كنت مربية في نفس هذا المنزل. وربما أدهشكم أن السير جيرفاس الذي يتهم بأنه قتل أخاه قبل من أجلي لم يكلمني أية كلمة قبل الآن.
ساد الصمت وقد كانت القرائن كلها قوية ضد جيرفاس والأميرة. ولكن لم تظهر على واحد منهما أدلة الإجرام. واستأنفت الأميرة الكلام فقالت: (وقد استكشفنا أن في الغرفة التي كنت أقيم فيها مكاناً سرياً في الحائط بينها وبين الغرفة المجاورة؛ وهذا المكان هو المخبأ الذي أطلقت منه الرصاصة.
وقالت: إنه وصل إليها بالنمسا وإلى السير جيرفاس في الاسكا خطابات من مجهول فاضطرا إلى المجيء وإلى دخول المنزل للبحث عن هذا المكان السري. وقالت: إن استكشافهما كان خطيراً. ثم اطلعت صاحبة المنزل على دفتر المذكرات وقالت: إنه دفتر مذكرات السير جوليس لترانج وصيف السير نوليس فيلتون، وهو يعترف بأن كتمانه الحقيقة يكاد يصيبه بالجنون، ويظهر أنه كان قريباً جداً من الجنون لما كتب هذه المذكرة. وهذا نصها فاقرئيها!.
فقرأت مسز بوينيون:
(سبتمبر - لا أستطيع الاحتمال فوق ذلك. إنها كانت تغض النظر عني لأني وصيف ولا تعني بغير السيد، وقد قتلته وألصقت التهمة بالسير جيرفاس).
وقرأت مسز بوينتون بعد ذلك الخطاب الذي وصل إلى الأميرة والخطاب الذي وصل إلى السير جيرفاس فوجدتهما بخط واحد، وهو نفسه خط صاحب المذكرة. وقد روى في الخطابين أنه في المستشفى في حالة الاحتضار.
فقالت: (هذه أنباء غريبة، ولكن أخشى ألا أستطيع تجديد عقد الإيجار).
فابتسم السير وقال: (هذا يتوقف على رغبة الأميرة).
عبد اللطيف النشار(422/52)
العدد 423 - بتاريخ: 11 - 08 - 1941(/)
الرحمة قوة
للأستاذ عباس محمود العقاد
(. . . وبعد فإنني أحد دارسيك، ومن طليعة المعجبين بغزارة علمك وقوة أدبك وسموه، ووفرة إنتاجك وتنوعه، لهذا لا احسبني متطفلاً إذا ما سألتك سؤالاً في موضوع طالما فكرت فيه، وهو: أصحيح ما يقال إن الرحمة من أخلاق الضعفاء، وإنها أبعد الصفات عن الأقوياء، وإن الإنسان كلما ازداد قوة ازداد قسوة؟. . . فهل تتفضل يا سيدي بالإجابة على سؤالي هذا على صفحات مجلة الرسالة الغراء لأنني من المدمنين قراءتها؟ ولك مني جزيل الشكر سلفاً. . .)
بغداد - شارع الرشيد
عبد الكريم جواد المحامي
وجوابي على سؤال الأستاذ الفاضل أن الرحمة قوة وليست بضعف، لأن الرحيم يعطي من فيض نفسه من يحتاجون إلى رحمة، ولا تملك النفس فيضاً تعطيه إلا وهي ممتلئة تستغني عن جزء من ذخيرتها لإسعاف غيرها. وليس هذا من شيمة الضعفاء.
والرحمة كلاءة ورعاية، ومن يكلأ غيره ويرعاه فليس هو بالضعيف.
وينبغي أن نرجع إلى الطبيعة، لنعلم ما هو طبيعي.
ينبغي أن نرجع إلى الطبيعة لنعلم الخلق الأصيل والخلق الذي هو عاهة طارئة أو نقص كمين.
والطبيعة تقول لنا إن الرحمة ركن من أركانها في أداء غرض من أهم أغراضها، بل هو أهم أغراضها على الإطلاق، وهو حفظ النوع وتجديده، وتعهد الأبناء الصغار إلى يوم استغنائهم عن معونة الأولياء الكبار.
فكل والد رحيم بغير اختياره: رحيم باختيار الخالق الذي خلقه وسخره لحفظ نوعه.
وكيف يقال إن الطبيعة تعتمد على الضعف في طلب البقاء؟ أو تعتمد على الضعف في غريزة أصيلة يوشك أن يتلاقى فيها الإنسان وسائر الأحياء، ممن صعد ولو قليلاً على سلم الارتقاء؟.(423/1)
لو قلنا إن القسوة عجز وليست بقوة لما أخطأنا الدليل على ذلك من طبائع الأحياء التي عهدت فيها الضراوة وخلت طبائعها من الرحمة وما يماثلها.
فإن الوحوش المشهورة بالقسوة لا تعرف وسيلة غير البطش والضراوة لتحصيل العيش ومكافحة الأعداء، وكل بطش فهو إلى القوة الآلية أقرب منه إلى الخصال النفسية والملكات العقلية. فالفرق يسير بين صدمة الحجر وضربة الوحش من هياجه، فهي - أي القسوة - أدنى الوسائل التي لا وسيلة دونها، ثم تترقى وسائل الأحياء درجة بعد درجة حتى يكون استغناؤها عن القسوة بمقدار ارتقائها في تلك الدرجات.
ومن ثم يصح أن يقال إن القسوة عجز وفقدان وسيلة، وإنها من البدائيات التي يوشك أن تلحق بالآلة والجماد.
فالإنسان يقسو لأنه عاجز عن الرحمة، ولا يناقض قولنا هذا قول المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعله لا يظلم
فإن بيت المتنبي معناه أن الظلم أيسر الوسائل وأقربها: أيسرها لمن لا يتيسر له ما هو أصعب منها. وهذا هو بعينه ما نذهب إليه حين نقول إن القادر على الصعب لا يهبط إلى ما دونه، وإن القادر على الرحمة مستغنِ عن التقتيل والتخويف.
إن الماء لا يحتاج إلى تدبير وإتقان لينحدر من الأعلى إلى الأسفل.
ذلك هو أيسر الطرق أمامه وأقربها إليه؛ ولكنه محتاج إلى التدبير والإتقان ليصعد من الأسفل إلى الأعلى.
فالظلم كانحدار الماء قريب؛ والرحمة كارتفاع الماء صعب ولكنه أدل على الاقتدار.
ومن آيات الطبيعة التي نستفيدها منها في هذا المعنى أن الرحمة تزداد في الأحياء كلما ازداد الشبه بينها وبين الإنسان في الغريزة الاجتماعية.
فالرحمة معروفة بين الحيوانات الاجتماعية في العلاقة بين والدها ومولودها، وفي العلاقات بين الفرد منها وسار أفرادها، وفي العلامات بينها وبين الآدميين.
ومؤدي هذا أن الرحمة وغريزة الاجتماع متلازمتان، فكيف تكون مرضاً وهي أصل من أصول الأخلاق الاجتماعية؟ وكيف يتركب في البنية ما هو مرض أو انحراف مناقض لأساس التكوين؟(423/2)
على أننا خلقاء أن نميز بين الرحمة وبين الاضطراب الجسدي الذي يعجز صاحبه عن احتمال المؤلمات والمشقات، فيخور ويبكي حين يرى ما يؤلم أو يتعرض لما يشق عليه. وليس من الضروري مع هذا أن يرحم المتألم أو يعينه أو ينفعه بعطفه، وإنما هو عجز عن احتمال الآلام المشهودة كالعجز عن احتمال الهواء والاضطلاع بالمتاعب، وبين الرحمة وهذا النقص بون بعيد.
إن المرأة الهستيرية التي يغشى عليها حين ترى جريحاً يتألم، ليست بأرحم لذلك الجريح من الطبيب الذي يفتح جراحه ويزيده ألماً على ألمه
فالذين يزعمون أن الرحمة ضعف أو مرض، إنما يلتبس عليهم الأمر بين هذه الحالة الهستيرية التي هي ضعف، وبين الرحمة التي هي قوة، لأنها حماية لضعف الآخرين.
وإن الرجل الذي يبطش بالضعفاء لأقوى من الضعفاء؛ ولكن أقوى منه وأرجل منه وأرفع منه ذلك الرجل الذي يغلب الأقوياء لينقذ الضعفاء من أيديهم، ويريهم قوة أكبر من قوتهم، لأنها لا تكتفي بالقسوة على الضعيف، ولا تحجم عن زجر القوى، وزجره أحوج إلى القوة وأدل على الاستغناء.
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعوّل في الدنيا على رجل
نعم، وأرجل منه من يعول كل الرجال عليه، ومن يبسط جناحيه على كل من حواليه.
وآية أخرى من آيات الطبيعة في هذا المعنى أنك لا تجد مزدرياً بالرحمة إلا وهو محتاج إلى رحمة الرحماء.
(فردريك نيتشه): رسول القسوة وأكبر الناعين على الرحمة في العصور الحديثة، قد عاش سنوات ولا سند له في الحياة غير رحمة امرأة عجوز، وهي أمه!
وروى عن الوزير ابن الزيات أنه كان يقول: إن الرحمة خور في الطبيعة. فلما نكب وعذب بالتنور الذي كان يعذب به الناس إذا به يرثي لنفسه ويستدعي الرثاء لها ويجري في ضعفه أمثولة لمن يسترحمون الأقوياء والضعفاء، و (لم يزل - كما جاء في الطبري - أياماً في حبسه مطلقاً، ثم أمر بتقييده فقيد وامتنع عن الطعام، وكان لا يذوق شيئاً. وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. . . وكان قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد يا أبن عبد الملك! لم تقنعك النعمة والدواب الفُرْهُ، والدار(423/3)
النظيفة، والكسوة الفاخرة، وأنت في عافية، حتى طلبت الوزارة! ذق ما عملت بنفسك. . .)
ومن شوهد عليهم من القساة أنهم كانوا أصلب من ذلك عوداً وأخشن مساً وأقرب إلى التمرد والعتو والأنفة من الشكوى فكثيراً ما يكون تمردهم ضرباً من التخبط، أو عرضاً من أعراض التشنج، أو ثورة عصبية هي مرض لا شك فيه كمرض الخنوع والولع بالشكاية وإن اختلف مظهرهما كاختلاف النقيضين.
فالذي نراه من المشاهدات الطبيعة أن القسوة هي العجز والمرض والنقصان، وأن الرحمة هي القدرة والفضل والزيادة.
فالرحيم عنده ما يكفيه ويزيد على كفايته حتى يكفي غيره ويتناوله بالعناية والحماية!
والقاسي عنده من القوة ما يغلب به الضعيف، فهو في الدرجة التالية من الضعف ليس دونه في مراتب القوة إلا فاقد القوة والعاجز عن كبحها.
وهذا بلا ريب غير قسوة الرحمة التي يقول فيها حكيم الشعر العربي:
وقسا ليزدجروا ومن يك حازماً ... فليقس أحياناً على من يرحم
فالرحيم الذي يقسو هنا لينفع بقسوته من لا تنفعهم رحمته، إنما هو أرحم وأقدر على الرحمة، لأن رحمته لا تغلبه ولا تقوده غير واع ولا متدبر حتى يصنع باسم الرحمة ما هو نقيضها أو ما هو قسوة معيبة فيما تنتهي إليه من الإيذاء.
وكفى بالرحمة أنها فتح إنساني في عالم الحياة، ترقى إليها الإنسان وحده بين المخلوقات الحية، وشابهته فيها بمقدار ما صعدت بهم الطبيعة في مرتقاه.
عباس محمود العقاد(423/4)
كيف يكتب التاريخ؟
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
- 1 -
مقدمة
الشرق القريب - ومصر على وجه الخصوص - حديث العهد جداً بدراسة موضوع طريقة البحث التاريخي وكتابة التاريخ بالمعنى العلمي الحديث؛ وكلية الآداب بالقاهرة تكاد تبدأ هذا النوع من الدرس الذي أرجو أن يتسع ويطبق عملياً في المستقبل القريب. وفي صيف 1939 أصدر صديقي الدكتور أسد رستم كتاب (مصطلح التاريخ) نتيجة خبرته في تدريس طريقة البحث التاريخي سنوات عديدة في جامعة بيروت الأمريكية. وابتداءً من نوفمبر 1940، أخذ الدكتور محمد مصطفى زيادة الأستاذ المساعد لتاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب بالقاهرة ينشر سلسلة من المقالات بمجلة (الثقافة) عن صناعة التاريخ في مصر، فرأيت أن أساهم أيضاً - بعد أن فتحت لي (الرسالة) صدرها الرحيب - بنشر بعض مقالات عن هذا الموضوع، لاحتمال تقديمه بعض النفع للراغبين في دراسة وكتابة التاريخ. ولإعطاء القارئ فكرة عن طريقة كتابة المؤلفات التاريخية التي يتداولها؛ والتاريخ لا يدرس عفواً، ولا يكتب اعتباطاً؛ وإنما يدرس لأغراض وفوائد، ولا بد لكتابته من استعداد خاص ودراية وخبرة بطريقة البحث التاريخي.
ولماذا نحاول الوصول إلى الحقيقة التاريخية؟ وما الذي نستفيده من دراسة التاريخ؟ لكي نصل إلى نتيجة معقولة، فلنبحث أولاً فيما هو التاريخ؛ فكلمة تاريخ مستمدة من اليونانية بمعنى بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي تسجيل حوادث الإنسان منذ ظهر في الوجود، ومنذ بدأ يترك آثاره ومخلفاته على الصخر وعلى الأرض، حتى الوقت الحاضر. ونحن إذا تصفحنا أي كتاب عام عن تاريخ العالم، نجد أنه يتناول أوجه النشاط الإنساني المتنوعة في الزمن الماضي، فيشرح حوادث الحروب ومشاكل السياسة ومسائل الدين والفن والاقتصاد. . . وهو يحاول بذلك أن يعطي صورة للمجتمع الإنساني في حالة حركة مستمرة؛ وهي(423/5)
حركة لا تتكرر ولا تعيد نفسها على نفس المنوال وفي نفس الظروف التي حدثت بها في فترة سابقة. نعم إنه قد تقع حوادث متشابهة، ولكن تشابهها لا يمكن أن يكون مطلقاً؛ والإنسان يجب أن يعرف تاريخه ككائن اجتماعي، فينبغي أن يعرف تاريخ تطوره وتاريخ آثاره في الزمن الماضي. وينبغي أن يدرس العوامل التي أدت إلى حدوث الغارات والحروب، وما لابس ذلك، وما خلفته من آثار؛ وأن يتبع مثلاً حركة الكشف الجغرافي في أواخر القرن الخامس عشر، وما ترتب عليها من تغيير طريق التجارة العالمي، وما ارتبط بذلك من هبوط سلطنة المماليك وجمهورية البندقية، وارتفاع شأن دول غرب أوربا كالبرتغال وهولندا وإنجلترا؛ وأن يدرس الأسباب التي أوجدت نوعاً جديداً من الأدب أو الفن وما إلى ذلك من أوجه النشاط الإنساني ومقومات الحضارة.
وحوادث التاريخ هي من صنع الإنسان في ظروف معينة؛ فينبغي أن يقرأ الإنسان وأن يدرس هذا التاريخ؛ فالعلاقة وطيدة بين حياة الإنسان وبين القرون والعصُر الماضية. ولا يمكن للإنسان أن يفهم نفسه وأن يفهم الحاضر بدون الماضي؛ ومعرفة الماضي تكسبه خبرة السنين الطويلة؛ والتأمل في الماضي يبعد الإنسان عن شخصه، فيرى مالا يراه في نفسه بسهولة من مزايا وأخطاء الغير؛ ويجعله ذلك أقدر على فهم نفسه وأقدر على حسن التصرف في الحاضر وفي المستقبل. ولكي ندرك أهمية معرفة الماضي ووجوب دراسة التاريخ، فلنفرض أننا استطعنا بوسيلة ما أن نقطع صلتنا بالماضي نهائياً، وأن نحرق دور الكتب وأن ندمر كل أثار العمران الراهنة، وأن ننسى أنفسنا؛ فماذا تكون عليه حال الإنسان وحال الحضارة؟ لا بد للإنسان في هذه الحالة من أن يعود ليبدأ من جديد ما كان قد بدأه منذ آلاف السنين من أوجه النشاط المختلفة لكي يصل إلى النقطة التي قطع فيها صلته بماضيه التاريخي، أو إلى ما يقاربها. فماضي الشعوب وماضي الإنسان حافل بشتى الصور، وهو عزيز عليه في كل أدواره، سواء عهود المجد والقوة، أو فترات المحن والكوارث؛ والأقوام الذين لا ماضي لهم ليسوا من شعوب الأرض المتحضرة. ومتى اقتنعنا بوجوب معرفة التاريخ والاستفادة منه، فينبغي إذاً أن يكتب هذا التاريخ، ويجب أن يتخصص لكتابته بعض الناس من أصحاب الاستعداد.
وليس كل من يحاول أن يكتب التاريخ يصبح مؤرخاً. فالمؤرخ ينبغي أن تتحقق فيه(423/6)
الصفات اللازمة لكل من يشتغل بالعلم. ومن بين هذه الصفات أن يكون محباً للعمل جَلداً صبوراً فلا تمنعه وعورة البحث ولا المصاعب والعقبات مهما كان نوعها عن مواصلة البحث، ولا توقفه ندرة المصادر، ولا يصرفه عن عمله غموض الحقائق التاريخية واختلاطها، فيقضي الشهور والسنوات وهو يعمل ويرتحل من بلد إلى آخر بحثاً عن الحقيقة. ويلزم المؤرخ أن تكون له ملكة النقد، فلا يقبل أي كلام، ولا يصدق أية وثيقة إلا بعد الدرس والاستقراء، فيأخذ الصدق والحق ويطرح ما دون ذلك. والمؤرخ لابد أن يكون مخلصاً أميناً شجاعاً، فلا يكذب ولا ينتحل ولا ينافق، ولا يخفي الحقائق التي قد لا يعرفها غيره في بعض الأحيان، والتي قد لا ترضيه أو لا ترضي قومه؛ فإنه لا رقيب عليه غير ضميره. والمؤرخ ينبغي أن يكون بعيداً عن حب الشهرة، وألا يحفل بالكسب وبالألقاب وبالجاه؛ فإن الحقيقة التاريخية التي قد يكشف عنها تعدل كل ذلك أو تزيد. والمؤرخ ينبغي أن يكون قوي الشخصية، فيستطيع أن يكون آراءه بناء على الواقع التاريخي، ويعرضها علينا، فنلمس شخصيته خلال السطور. والمؤرخ ينبغي أن يكون صاحب إحساس وعاطفة وتسامح وخيال؛ فيدرك آراء الغير ونوازع الآخرين، ويحس ما جاش بصدور الناس من شتى العواطف، ويفهم الدوافع التي حركتهم في اتخاذ سلوك معين في الزمن الماضي، ويشارك رجال الأمس مواقفهم في ساعات التاريخ الفاصلة، في فترات الانقلاب، وفي عهود المقاومة العنيفة، وفي ظروف النجاح والفشل؛ لأن المؤرخ المجيد يجد في كل هذه الحوادث صدى نفسه، فتتجلى فيه روح العلم والفن، ويبعث التاريخ حياً، ويحيا في التاريخ، ويعيش للتاريخ.
وإذاً فما هو الطريق الذي نتبعه لكتابة التاريخ؟ وما هي طريقة البحث التاريخي؟ طريقة البحث التاريخي عبارة عن العملية والمراحل التي يصل خلالها الباحث إلى الحقيقة التاريخية، بجمع الأصول والمصادر، ودراستها ونقدها، واستخلاص الحقائق وتنظيمها وعرضها عرضاً تاريخياً معقولاً. إنما نلاحظ بأنه ليس المقصود بالحقيقة التاريخية إمكان الوصول إلى معلومات صحيحة على الإطلاق؛ فالحقيقة المطلقة غير مستطاع الوصول إليها فيما يتعلق بالوقت الحاضر فضلاً عن الماضي، لظروف مختلفة كالأغراض والمصالح، أو لضياع الأدلة وانطماس الآثار. فالحقيقة التي يصل إليها الباحث في التاريخ(423/7)
صحيحة نسبياً، وكلما زادت نسبة الصدق وكبر عنصر الحقيقة أصبح التاريخ تاريخاً بالمعنى الصحيح.
وإن من يدرس العلوم الطبيعية يستطيع أن يشاهد بنفسه التغيرات والتحولات التي تصيب المادة في معمل التجارب. إنما دارس التاريخ لا يستطيع أن يضع الحوادث أمامه في بوتقة التجارب؛ ولابد له من وسائل أخرى تؤدي به إلى الغرض. فينبغي أن تتوفر لديه الأصول والمصادر التي يستخرج منها الحقائق التاريخية. وهذه المصادر عبارة عن آثار ومخلفات الإنسان، وهي على أنواع مختلفة؛ فمن ذلك بقايا جسم الإنسان نفسه، وملابسه وطعامه ومساكنه وأسلحته وأدواته التي كان يستخدمها أثناء حياته، ونقوشه على الأحجار وكتبه المخطوطة والمطبوعة، وصوره ورسومه وتماثيله ومبانيه، ولغته وآدابه وقوانينه وعاداته وتقاليده. وآثار الإنسان كلها تحمل بين طياتها أسرار الحوادث وخفايا التاريخ؛ وهي تظل أبداً صامتة لا تبوح بأسرارها، إلى أن يتمكن الإنسان بالدراسة الطويلة، وبالتأمل العميق من أن يحملها على النطق، وعلى التعبير عن أسرارها وخفاياها. وينبغي ألا يفوتنا أن بعض آثار الإنسان تشيد للمبالغة وللتعظيم، مثل أقواس النصر التي أقامها نابليون في بعض الولايات الألمانية، والتي لا تدل على أنه قد أصبح سيد أوربا على الدوام، أو المدالية التي ضربها تذكاراً لنزوله إنجلترا، مع أن ذلك لم يحدث تاريخاً؛ فهذه المدالية ستبقى كذكرى لأمل لم يتحقق. أو تمثال الرجل الذي يقتل الأسد، مع أن ذلك لم يحدث إلا نادراً، والعكس هو الشائع. ولو استطاع الأسد أن يصنع تمثالاً لفتكه بالإنسان لصحّ الوضع. وأحياناً قد يعثر الباحث في التاريخ على وثائق مزيفة ومنتحلة، سواء بقصد الدعاية أو الدفاع عن فكرة معينة أو من أجل الشهرة أو للاتجار والكسب. وعلى ذلك ينبغي أن تدرس آثار الإنسان بروح النقد والحذر.
وتتحد قيمة التاريخ المكتوب بناء على بعض الأسس العامة. فأولاً نوع المادة التي استقى منها الباحث معلوماته، هل هي أصول أو هل هي نقوش قديمة معاصرة، وثبت صحة معلوماتها، أو هل هي وثائق ومراسلات سياسية مستخرجة من دور الأرشيف وثبت أنها غير مزيفة وأن معلوماتها صحيحة، أم أن المادة التي جمعها الباحث مستمدة من مجرد مراجع ثانوية ليست لها قيمة كبيرة. وثانياً قدرة الباحث على نقد ما تحت يده من الأصول(423/8)
والمصادر. ويختلف الباحثون في النقد وفي استخلاص الحقائق على حسب اختلافهم في الفهم والتفسير والاستنباط. وأحياناً يضع الباحثون في التاريخ افتراضات مختلفة لمحاولة فهم حركة تاريخية مهمة مثل حركة النهضة في إيطاليا أو الثورة الفرنسية. وأحياناً يختلف الباحثون في تقدير معنى الحوادث من ناحية السياسة أو الخلق. وأحياناً يكتبون متأثرين بروح العصر السائدة مثل حركة الانقلاب الصناعي أو نمو الديموقراطية في أوربا؛ إنما كل هذه الاختلافات ضرورية لأنها تقدم آراء ووجهات نظر مختلفة عن عصر معين؛ وهي تعطي للتاريخ الحركة والحياة، وتجعل البحث التاريخي مستمراً بنشاط. وعلى العكس، عدم الاختلاف بسبب الجمود والركود. وثالثاً مطابقة التاريخ للواقع، وبعده عن التمييز والأهواء والنوازع المختلفة؛ فلا تعتبر تاريخاً صحيحاً الكتابة التي يطعن فيها مسيحي على المسلمين في زمن الحروب الصليبية؛ أو العكس، فالكتابة التي تخدم غرضاً معيناً قد تعتبر تاريخاً لنوع من التفكير أو النوازع الإنسانية، وإنما لا يمكن أن يعتبر ما جاء بها معبراً عن الحقيقة التاريخية بالنسبة لما تناولته من الموضوعات.
وبمعنى آخر يمكننا أن نقول إن قيمة التاريخ المكتوب تتحدد بناء على ملكات الباحث في التاريخ واستعداده، وبناء على مدى ثقافته، وعلى درجة إلمامه بطريقة البحث التاريخي. وكثير من كتب التاريخ تعتبر من أمتع ثمرات العقول، لنضوج عقلية المؤرخ، وخبرته الوطيدة، ونجاحه في إعطاء وحدة جامعة واضحة، بعكس الكثير من كتب التاريخ أيضاً التي يكتبها من لا يفهم التاريخ، ومن لا يملك ملكة النقد؛ فلا تزيد عن مجرد معلومات موضوعة بين دفتي كتاب. ومثل هذه الكتب غير جديرة بأسمائها، وهي قد لا تساوي الورق الذي طبعت عليه.
(يتلى)
حسن عثمان(423/9)
بمناسبة الغارات الجوية على الإسكندرية:
دار الوجد والمجد
للدكتور زكي مبارك
(لو عاش (شوقي) إلى أن شهد ما تعاني الإسكندرية من
كوارث وخطوب لواساها بأطايب الشعر البليغ. فإلى روحه في
دار الخلود أهدي هذا القصيدة)
زكي مبارك
بأهلِ إسكندريةَ بعضُ ما بي ... من الأحزانِ للثغر المصاب
أَدارَ هَوايَ ما قلبي بناسٍ ... هُيامي فوق أثباجِ العُباب
وهل يَنسى أخو كرمٍ وعهد ... رحيق الراحَ يُمزجُ بالرُّضاب؟
فإن تكن الكوارثُ آثماتٍ ... صببْن عليك أسواطَ العذاب
فلن ينسى لك التاريخُ عهداً ... ضحوكَ الوجه مرهوب الجناب
حَمَاكِ اللهُ يا دارَ التنادي ... إلى الهيجاءِ أو دارَ التصابي
ألم تمرح بساحتك الجوازي ... لوَاعبَ في حمى الأُسْد الغِضاب
ألم تُلقىْ مع الأقدار يوماً ... كتائب من لحاظ أو حراب؟
وكيف يطيبُ للدنيا وُجودٌ ... إذا هُدّدتِ ظلماً بالخراب؟
وأين تجولُ أفراسُ المعالي؟ ... وأين تصول أحلامُ الشباب؟
عروسَ البحر، والدنيا سفينٌ ... تروَّع بالقواصف والضباب
أعندَك أن دارَ المجِد تنجو ... على الأيام من كُرَب الصَّعاب؟
أعندَك أن في الدنيا رياضاً ... تصان من الأفاعي والذباب؟
عروسَ البحر، ما هذى الرزايا ... تصب على بنيك بلا حساب؟
أكنت جنيت، والدنيا مجالٌ ... لمفروض الثواب أو العقاب؟
جمالكِ فاتنٌ، والحسن ذنبٌ ... لأهل الحسن في شرع الذئاب(423/10)
فما شكواكِ من ظلماَء طالت ... وتلك جناية المجِد اللباب؟
عروسَ البحر، يا مهوى فتوني ... ويا مَغْنى أمانيَّ العِذَاب
عُقلتُ بأرضك العزَّاء عاماً ... فكان أعز عام في شبابي
دخلتُك عانياً في أسر ليل ... أصمِّ القلب زنجيِّ الإهاب
فأقبلَ نورك الروحيْ يسرِي ... إلى أرواحنا من كلِّ باب
رأى العقْالُ أن نحيا أسارى ... حياةَ السيف في سُدَف القِراب
فلا ندري لوجه البحر لوناً ... سوى الموهومِ من لمع السراب
ولا نقْتات من زاد الأماني ... سوى المظنون من يوم المآب
فهل سمعَ الشقيّ بما أفاَءتْ ... علينا إسكندرية من ثواب؟
هَديرُ البحر كان يعجّ عمداً ... ليطربنا على بُعْد المثاب
وحَب الرمل صار لنا مهاداً ... مُطرَّزة بأزهارِ الروابي
فأمسى الاعتقال على اجتواه ... رخيَّ القيد مأنوس الرِّحاب
عروس البحر، حدَّتني شهودٌ ... بأن الشط صارَ إلى تباب
فلا غيْداءُ تخطرُ في حِماهُ ... كرقص البدر من خلف السحاب
ولا صَبٌّ خَتُورُ العهد يمشي ... على جَنباته مَشْىَ الحُباب
ولا صهبْاء يحْسُوها بنوهُ ... وقد قُبستْ من الذهب المذاب
إذا طافتْ بهم هاموا فخفُّوا ... لَمِقبول المجانة والدِّعاب
وأَمْسواْ والكواِكب في عُلاها ... لهم أسلابُ فتكٍ وانتهاب
سُلافٌ صانها (باكوسُ) عما ... يشوبُ الراحَ من إثمِ وعاب
ألمْ يثقل على حُكماءِ قومي ... وقد عاقَرتها وِزْرُ اغتيابي؟
أمير الشطِّ كنتُ فأين عهدي ... يرْعى الحسن في الشطِّ العُجاب
وأينَ رِمَالهُ مني وكانتْ ... مناسِكَ صَبْوتي في كلِّ (آب)
إليها كان حَجِّي واعتماري ... وفيها كان خَتْلي وآْختِلابي
فكيف أَذوقُ للصبَّوات طعماً ... وعن عَرَفاتها طال احتجابي؟
ندامَي البحرِ، سوف أعود يوماً ... لأُطفئ ما بقلبي من لؤاب(423/11)
نشيدي في التصوف كان لحناً ... نقلتُ صداه عن قصف العباب
سوايَ يرى الوجود إن اجتلاه ... سطوراً ثاوِياتِ في كتاب
ويجْلوه لوِجْدَاني ورُوحِي ... إذا ما شئتُ إظلالُ السحاب
وهل كانت حياة الناس إلا ... قلائد صاغها رَبُّ الرَّباب
عشقتُ البحرَ والصحراَء عشقاً ... بهِ طال اندفاعي وانجذابي
أُطِلْ على الفضاء فتزْدَهيني ... رِحابٌ غارقاتٌ في رِحاب
وأنظُر للوجودِ فلا أراهُ ... سوى خمر تعاقَر أو رُضاب
إخلائي هناكَ، حدِّثوني ... حديث (الثغر) وانتظروا إيابي
أَفوقَ رُبوعه غامتْ سماءٌ ... مؤَججةٌ بأقباسِ اللهُّاب
وما القومُ الذين عَدَوْا عليه ... كعدوان الذباب على الشراب؟
أكانوا جِنَّة صُمَّا فعاثوا ... به عَيْثَ الأراقم بالوِطاب
أكان (النسر) في التحليق أدْنى ... إلى الإسفاف من ذاك (الغراب)؟
وما الألمانُ إلا قومُ بَغْيٍ ... أثيمِ الجِدْ مذمومِ القِطاب
نِطاحٌ كله سفهٌ ولؤْمٌ ... ولو كَرِه المصانِع والمحابي
أحقٌ أن نادى (الثغر) أقوى ... وأقفر من أحاديث الصحاب؟
فلا (النشارُ) يسأل غير صاحٍ ... ولا (شيبوب) يحلم بالجواب؟
(وأبو شادي) أفاقَ، فَمن بَشيري ... برَجْعِ الأمْنِ للثغر المَهاب
وكيف يَعيشُ روُحٌ كان أُنسىَ ... وإنْ ألِفَ اْللجاجةَ في الغِضاب؟
أُكاتِمُ حبهُ قلبي وأَمضي ... فأُعلنُ بُغضه عند العتاب
هو الدنيا: وقد جُنتْ فصاغت ... رحيقَ هواه من شهد وصاب
بأهل إسكندرية بعضُ ما بي ... من الأحزان للثغر المُصاب
سمعتُ حديثَ نكبتهم فأمسى ... فؤادي في انصداعٍ وانشعاب
ملائك من أديم الخلد صيغوا ... لِيوْم الوْجِد أو يوم الغلاب
أعزّ البحرُ أنفسهم فعزوا ... فهم قوم اعتلاء واصطخاب
هُمُ الحراسُ للوطن المفدّى ... من العادينَ أشباه القُلاب(423/12)
فكيف تبددوا وأدال منهمْ ... مديل البأس من وكر العُقاب
تُساق إليهم الأقوات، هلاّ ... تساق إليهم عُددُ الحراب
أغيثوهمْ بِسَيْفٍ لا بزاد ... فهم خلف القساوة الصلاب
أمِدوهم، إذا شئتم، بجيش ... وَقاح الوجه منزوعِ النقاب
فما حَفظ الديارَ سوى حسامِ ... به ظَمأٌ إلى يوم الضِّراب
أجب (عبد القوي) وأنت شهم ... صريحٌ لا يُداورُ في الجواب
أأنت ترى (المخابئ) واقيات ... وهُنْ أذل من غار الضّباب؟
وما شرفُ الفتى وقد استنامتْ ... جوانحهُ إلى مثوى الهوابي
لنا ماضٍ نَسيناهُ فِضعْنا ... ضَياعَ التبر في جوف التراب
لقد كنّا، وكنا، ثم كنا ... أَداة الفتك من ظُفر وناب
ركزنا الرعبَ في مهج الضواري ... فكيف تروزنا مهجُ الذئاب؟
لوادينا القوىّ عَنتْ وُجوهٌ ... عززن بالانتساب والاكتساب
ألمْ ندفِنْ بِوادينا قُرُوماً ... أرادوا الشرب من أمواه (حابي)
فكيف نكولنًا عن ردع قوم ... لئام البغي منكودي الإصاب
هُمُ ظنوا الكناية زاد يوم ... كظن النمل في نسف الهضاب
فإن فازوا فسوف نكون منهم ... مكان البحر من لهب الضوابي
وسوف نظل نحن - كما فُطرنا - ... أباةَ الضّيمِ أحرار الرقاب
عركنا الدهر جيلاً بعد جيل ... وكابَدْنا الألوف من الصعاب
فما هُنْا على الأقدار يوماً ... ولا أمستْ بوارقنا نوابي
ألم نشرقْ على الشرق المعنّى ... فندافع عنه آصار الضباب؟
بنا وثقتْ شُعوب لم تواجهْ ... بروق الغرب إلا في ارتياب
بنا استهدت بصائرُ لم نرُضها ... خداعاً بالمواعيد الكِذاب
كدَأُبِكمُ وقد مرنَتْ نُهاكمْ ... على ستر الخيانةِ بالخلابِ
أكان العلمُ في عالي سناه ... ذريعةَ الاستراق والاستلاب
أروني. مِنَّه أسلفتُموها ... بلا نهبٍ يرادُ ولا اغتصاب(423/13)
طلائعً كان عْلمُكُم ليومٍ ... يهونُ بجنبهِ يومُ الحساب
ولم يكُ علمُنا إلا نظيراً ... لضوءِ الشمس يزهد في الثواب
أأنتمْ تُفتَنون بما ملكتمْ ... من العدد النذيرةِ بالخراب
ولا نُزهي بآراء صِحاح ... هي المنشود من فصل الخطاب
فإن تخْلد مآثِرنا وتسلم ... على التاريخ من شُبَه المعَاب
فذاك لأنها آثار قومٍ ... كرام الروح أطهارِ الإهاب
لنا الخلدُ الذي لن ترزقوهُ ... ولو أوتِيتمُ ملك السحاب
فخبُّوا في المطامع كف شئتمْ ... وخوضوا القاتمات من العقاب
ورُودوا الأرض في شرقٍ وغربِ ... بكبِر الليث أو زهوِ الغراب
وصولوا آثمين بنار حرْبٍ ... تحيلُ المزهرات إلى يَباب
فسوف تُروْنَ بعد مدىً قصيرٍ ... فرائسَ للمحاقِ وللذهاب
بأهل إسكندرية بعض ما بي ... من الأحزان للثغر المصاب
أَتِلكَ قيامةٌ قامتْ فدكّتْ ... حصون البأس من تلك الطوابي؟
فمن كهلٍ سديد الرأي يُمسي ... لوقعِ الهولِ مفقودَ الصواب
ومن رَشِأ تُصيِّرُهُ الرَّزايا ... وقِيذَ الشيب في شرخ الشباب
ومن عذراَء يلفظها حمِاها ... فنخرجُ للبلاءِ بلا نقاب
قوارع لم تقعْ إلا بأرضٍ ... يقارعُ أهلها وقدَ الحرابِ
فما آثامُ أهلِ (الثغر) حتى ... يُشنَّ عليهمُ ويلُ العذاب؟
مضت زُمرٌ إلى الأرياف منهم ... مُضى الأُسْد من غاب لغاب
فكيف استقبلوا - بعد ارتقاه - ... جشيبَ العيش في تلك الشعاب؟
أمِن بعد الحسايا ناعمات ... يكون بساطهم متن التراب؟
إلى جلواتهم في الصيف كانت ... تزفُّ أطايبُ الحسن اللُّباب
وفي داراتهم كان التنادي ... إلى الصبَّوات في الشط الرغاب
فكيف مضواْ حيارَى لم يثوبوا ... إلى زادٍ يعدُّ ولا ثياب؟
وكيف غدواْ بهذا الصيف صرعْى ... لمشئوم الشتاتِ والاغتراب؟(423/14)
كذاك العيشُ بؤس بعد لين ... وشهدٌ يستقي من بعد صاب
ومن عشق السلافة في صفاها ... أحب لحبها رنق الصُّباب
عروسَ البحر، نسرف إن رأينا ... حياتك في المزاح وفي اِّللعاب
وكيف وفي معاهدك الخوالي ... تسابقت العقول إلى الوثاب؟
بكل محلة وبكل أرض ... مآثر منكِ طيبة النصاب
وما روما وأثينا إذا ما ... تبارى الفاخرون بالانتساب؟
منار العقل كنت بلا امتراء ... ونار القلب كنت بلا ارتياب
بكى التاريخ من عهد لعهد ... مصاب العلم في (دار الكتاب)
فهل كانت بدائعها لقوم ... أجانب عن مرابعك الرحابِ؟
بَناِك أسكندَرٌ فيما بَناهُ ... كذلك قِيلَ رَجماً بالمغاِب
ولو أَصغى أُلو الألباب يوماً ... لَهِمس الوحي في تلك الرَّوابي
لآمَنَ فِتيةٌ منهم برأْي ... يَخالُك صادقاً (بِكر العُباب)
وهل (فِينوسُ) عندَ مُرِّبيها ... سوى (راقودَ) في أحلام (حابي)؟
لِ (كيمي) أنت يا دار التنادي ... إلى الهيجاءِ أو دارَ التصابي
لِ (كيِمي) أنت من أيام نوح ... توارثك أينم عن خير آب
مَضى عهدُ القياصر في انزعاج ... بأرضِ إسكندرية وانقلاب
بلادٌ لم تكن إلا مُجالاً ... لِمشبُوب الصِّيال والاحتراب
بجمّر الثورة الحمراءِ يُغذَى ... بَنوها لا بزاد أو شراب
وجاَء الفتحُ فانقادوا لقومٍ ... مساكنهم بصهوات العراب
هوَ الإسلامُ طَهّرهم فأضحواْ ... كماءِ المزْن في شُعَب اللِّصاب
فهل يَدري المؤرخُ كيف صاروا ... طلائعَ للجهادِ وللغلاِب؟
عليهمْ عول الإسلامُ فيما ... أرادَ من المغاربة الصِّلاب
فأموا الغربَ يحرسهم تقاهم ... وقد مشت الملائك في الركاب
وحلوا عادلين به كراماً ... حلول الغيث بالبقع الجداب
فلما أنْ هوت شمس المعالي ... بأندلسٍ ولاذتْ بالحجاب(423/15)
تقاطر أهلها يبغون حصناً ... يقيهم شر أيام التباب
إلى جفن الحمى بالثغر عادوا ... كما عاد الجراز إلى القراب
أتاريخاً يحبِّره قصيدي ... لماضي (الثغر) في عهد الشباب؟
وما الشمس المضيئة إن حكتها ... لرائيها خيوط من لعاب؟
عليك إسكندرية أَجّ حزني ... فطار تجلدي وهوى صوابي
إذا فكرت فيك غلت دمائي ... وآذن جمر حقدي بالتهاب
ألا سيف أجرده وأمضي ... لأدفع عنك عادية الذئاب؟
ألا جيش قوي البطش ضار ... يضيق عداك أكواب العذاب؟
سأصمت كارهاً، والصمت حيناً ... يعدّ من البراعة في الجواب
زكي مبارك(423/16)
من الأدب الحضرمي
ابن شهاب العلوي
للأستاذ علي عبود العلوي
(السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي شخصية بارزة في سماء الأدب الحضري تألق نجمها من أواخر القرن الثالث عشر الهجري إلى أوائل العقد الخامس من الرابع عشر.
وقد تزعم الحركة الأدبية بحضرموت وهو لم يتجاوز العقد الثاني من العمر ونهض بحضرموت في عالم الأدب بعد أن كان حظها من النهوض فيه قليلاً.
ولئن تغلبت عليه الناحية العلمية فاستأثرت منه بالتفكير وقطعت من حياته جزءاً عظيماً في التأليف، وأرغمته أن يترك لنا ذخيرة في العلم وثروة كبيرة جليلة المقدار تقارب الثلاثين مؤلفاً، فأشهد أنه فوق هذا كان الأديب بالطبع، والأدب سلوته الوحيدة وثروته التي لا تنفذ، ورأس ماله العظيم.
ولو وجد في بيئة شاعرة لكان منه أديب كبير تفاخر به العالم.
قرأت ديوانه منذ ثلاث سنوات وعلقت عليه مذكرات يصح أن يستقل بها كتاب خاص وهذه الكلمة من إحدى فصوله.
زار ابن شهاب مصر والعالم العربي والإسلامي عام 1303هـ وألهمه جو مصر بست عشرة قصيدة.
ولد الشهاب العلوي بحضرموت سنة 1262 هـ وتوفي بحيدر
آباد دكهن بالهند في 29121922 الموافق 1051341هـ.
البيئة المحافظة وحياة الشاعر:
قضي الأمر ولآت مفر أن ينشأ شاعرنا في البيئة المحافظة وهو شاعر. والشاعرية ثورة نفسية تطمح لتحطيم القيود، وتجنح إلى إرضاء النفس واتساع العاطفة، وتميل إلى التغني بمحاسن الجمال، وتخفق أجنحتها حينما ترى الوسامة والصباحة في القد السمهري تخطر في كوكبنا الأرضي، كالنجوم تتلألأ في السماء!(423/17)
ولكن يحول دون ورود مناهل هذه الرياض ذات الأريج المنعش ما سنته أحلام الفلاسفة وفرضته الأديان وأقره العرف واصطلحت عليه الإنسانية منذ عصورها الأولى فورثته لنا أجيالها القديمة حتى صار من الأسس المقررة التي لا يمكن الخروج عليها دون أن تثور ثائرة الرأي العام وتقوم بصخبها العظيم تجاه النفوس الحساسة الرقيقة.
ولئن كانت في هذه الثورة نوازع إنسانية كثيرة جديرة بالإكبار والإعجاب، فإن فيها من الشطط والإجحاف بحقوق العالم الروحي شيئاً كثيراً، لا سيما وأن المجتمع الحضرمي كغيره من مجتمعات بني الدنيا، قد أضافوا إلى القيود التي يرتضيها العقل والدين والعلم قيوداً أخرى لا تمت إلى الإصلاح بشيء.
اللهم إلا إن كان جانب الإصلاح فيها ضئيلاً. وعلى كل فلن يقاس بالجانب العظيم الذي فقدناه من جراء كتم العواطف عند ذوي الإحساس المرهف، القادرين على التعبير عما تجيش به نفوسهم.
وإذا كانت هذه الأوبئة الطفيلية تتهادى بها الأمم، وتنتقل منها ولو إلى قطر بعيد كحضرموت قلْ من يقصده بالزيارة من بين الأقطار العربية والإسلامية بله الأقطار الأجنبية.
فإن حضرموت فوق ما سرى إليها من العدوى بيئة عربية إسلامية صوفية، بلغت المثل الأعلى في تطبيق القول بالعمل، حتى كأنها المعنية بقول الشاعر:
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهمُ من جميع الناس إنسانا
في هذه البيئة نشأ شاعرنا الشهاب العلوي، وجاشت نفسه بالشعر وهو في سن المراهقة، فتغنى وأغنى الشعب الحضرمي بالشعر الغنائي الوجداني، وذاعت شهرته في النوادي الحضرية، وفي المجتمع الحضرمي على اختلاف طبقاته، لأنه كان يقول الشعر وهو في هذه السن المبكرة بلغة حضرموت الدارجة، وبأوزانها الشعرية مما يدعونه بالشعر الحميني، أي غير الشعر المعرب ذي الأوزان العروضية الخليلية
والشعر الحميني قد يكون مرسل القافية كما يكون رباعياً، وأحياناً ثنائياً بلا نغم مردد، وإما نائياً بالنغم المردد.
فاضت نفس شاعرنا بالشعر الحميني وملأت به الجو الحضرمي ولكنها بعد ذلك سمت إلى(423/18)
أن تساهم في النصيب العربي الخالد، وأن ترد المنهل الكبير منه، وأن تشاطر في المثل السامي الذي اتخذته العروبة لها نبراساً تستضيء به معالمها الشعرية.
وليس من الصعب على نفس شاعرة بطبيعتها ألا تهتدي إلى ينابيعه العذبة، ولكن من الصعب علينا نحن أن نتبين تاريخ الدور الذي جنحت إليه نفس شاعرنا بالضبط، لأن ديوانه قد خلا من إثبات أشعاره وهو في دور العقد الثاني وأوائل العقد الثالث؛ وكل ما نعرفه عن مقدرته الشعرية في هذا الدور تلك الأرجوزة التي نظمها في علم الفرائض، وضمنها كل ما يحتويه الفن إجابة لاقتراح أحد مشائخه عليه، والتي يقول في مطلعها:
لله حمدي وارث الأرض المتين ... ومن عليها وهو خير الوارثين
وفي ختامها يقول:
فاصفح وأصلح ما بها من الغلط ... فقد أتى: من ذا الذي ما ساء قط
وعذر من لم يبلغ العشرينا ... يقبل عند الناس اجمعينا
أو قصيدته التي امتدح بها شريف مكة الشريف عبد الله باشا ابن عون الحسيني وعمره إذ ذاك 24 سنة، قال:
حي الحيا حياً به حلت سُعا ... ومنازلاً خطرت بهن وأربعا
وهمت على الوادي الذي سكنت به ... ديم تغادره أنيقاً ممرءا
وسقى العهاد معاهداً بسفوحها ... تختال جارات الصفا والمدعى
ديم أو انس صيدهن محرم ... ليظلْن في تلك المحاجر رتَّعا
سود الذوائب والجلابب والعيون ... القاتلات متيما ومولعا
من كل غانية بلطف حديثها ... ودلالها تذر الفؤادْ مقطعا
يا ظبية البطحاء مهلاً إنني ... بهواك ذو كلف سقيما موجعا
هل تسعفين فداً لحسنك مهجتي ... بالوصل ذا شغف يفيض الأدمعا
واقضي لبانته لديك وزحزحي ... عن وجهك الحسن الصبيح البرقعا
حاشا لحسنك أن يكون محرماً ... ولمثل وصلك أن يكون ممنعا
تيهي فإنك في الحسان مليكة ... يأتين نحو حماك شعثاً خضعا
وتمايلي بحلي محاسنك التي ... لم تتركي لسواك فيها مطعما(423/19)
وتبختري جذلاً فقد جاوزت من ... جمع المفاخر والمكارم أجمعا
قمر البطاح خليفة الحرمين مو ... لانا أبا شرف الشريف الأروعا
إلى آخر ما قال
ومن الظلم ألا أشير إشارة إجمالية إلى أن ابن شهاب في هذا العهد لا يزال يتوثب للصعود، ولكنه مكبل بقيود الصنعة الزائفة:
حي الحيا حياً به حلت سعا ... ومنازلاً خطرت بهن وأربعا
أو سود الذوائب. . . الذي مصدره التقليد المحض أو الإعجاب بما قال أبو الطيب:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلي والمطايا والجلابيب
والفتى الناهض لا بد أن يتحرر يوماً ما وأن يصبح حراً طليقاً ليتغنى بالشعر كما توخي به العاطفة، لا كما تريده الصناعة الزائفة. وفي الفصل الذي يتضمن الكلام على الأدوار التي اجتازت بها شاعرية شيخ حضرموت سترى ذلك.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد ذكر عن أهل الجيل الماضي بأنهم كانوا لا يرون الشعر إلا مغالبة لسانية، ومساجلة كلامية، ولباقة منطق، وسرعة جواب وارتجال.
وكذلك قدر لأبن شهاب أن يدخل في شراك هذه الأحبولة الضيقة، فإن الشريف عبد الله ارتاب في أن تكون القصيدة لشاعر حضرموت، وظن أنها مقولة على لسانه؛ لا سيما وقد شايعه على هذا الرأي أحد ندمائه، إذ أسر إليه في المجلس بذلك فاقترح الشريف على شاعرنا أن يجيز البيت الآتي ليختبر بذلك قريحته:
صفي الوقت لا أبناء الزنا ... ولمن يحسن ضرباً وغنى
ولا مناص لابن شهاب من أن يقيم الدليل على شاعريته فيقول:
وبنو الدهر كما قد مال ما ... لوا إلى من كان منهم ذا غنى
قل أن يوجد منهم منصف ... أنا قد جبت القرى والمدنا
وبلوت الناس طراً فإذا ... أكثر الناس أرقاء الدنا
جانبوا الصدق الذي من قاله ... بان إبريزاً إذا ما أمتحنا
عزفت أنفسهم عن كل من ... كان من أهل المثاني والثنا(423/20)
وغدوا لم يرفعوا رأساً بمن ... لهم الآداب كانت ديدنا
ذلك ذوق عصر نربأ بأنفسنا اليوم أن نقفو إثره أو نتبع خطواته. وما أدري مقدار صحة الرواية التي نصت على الحكاية المذكورة، وإن كنت أعرف أنها دليل على انحطاط الذوق الأدبي والاجتماعي.
يا ترى ماذا أريد أن أقول؟!
أظنني أريد أن أقول: إن للسيد ابن شهاب كثيراً من الشعر الوجداني الذي ماجت به عاطفة الشباب ودفعته به خصوبة النفس اليقظة الشاعرة التي يستهويها الجمال، والتغني بمشاعر القلب والوجدان، ولكن ظروف البيئة المثقفة بالروح الصوفية هي التي حرمتنا الاستفادة من شعر الغناء والوجدان.
ومن ناحية أخرى فإن العزلة التي استهوت حضرموت والتي لا تزال تستهويها إلى اليوم وصيرتها بمعزل بعيد عن الأخذ بوسائل النهوض وتنمية المعارف والثقافة، هي التي هيأت الفرصة. لأن ينكص ابن شهاب في آخر عمره عن نشر آثاره التي تحمل سورة الصبا ومطارح الفتون والفتوة.
ولو كانت لنا إذ ذاك مجلة أدبية أو صحفية سياسية أو اجتماعية لما أمكن شاعرنا أن يتنازل عن بنات أفكاره؛ ولأنه لو فعل لاستطعنا الوصول إلى أشعاره بلا أقل كلفة ولا عناء.
ولا تزال ترن في أذني سورة القصيدة التي أنشدني إياها حفيد الشاعر الأديب السيد حسن بن عمر الشاطري العلوي وذلك منذ سنوات وأنا بجاوة.
نعم لا أزال أذكرها لاستحساني إياها إذ ذاك وهي من الأشعار التي لم تثبت في ديوانه.
وإذا كنت على ذكري لإعجابي بالقصيدة فإني لا أعرف الأسباب التي حالت بيني وطلب نسخة منها من صديقي الأديب لاحتفظ بها مع المذكرات التي جمعتها في تاريخ حضرموت.
لا أريد أن أحجم عن أن أُبين الغرض المقصود من ذلك.
إْن السيد ابن شهاب كما ذكرت في جملة التعريف به أكبر شخصية تزعمت النهضة الأدبية في عصره الحضرمي. ومن كانت له هذه المكانة السامية جدير بأن تعطينا المعلومات(423/21)
الكافية عنه من كل الجهات، وأن نتعرف إليه وهو في سن الصبا كما نتعرف إليه وهو يافع وفتى وكهل لأن التعرف به هو التعرف إلى الأدب الحضرمي في الصميم.
ودراسة الأدب الحضرمي هي دراسة البيئة الحضرمية بما لها من مكانة علمية وأدبية وما فيها من عادات وأخلاق وميول ومشارب واصطلاحات وروح فكرية وصوفية.
وهذه كلها قيم تاريخية جديرة باعتبارها في المكان الأول في تاريخ حضرموت الأدبي، والبيئة المحافظة تقيس الآداب والفنون بمعيار علم الأخلاق.
علي عبود العلوي(423/22)
من تراثنا الأدبي
ما ألّف عن النساء
للأستاذ صلاح الدين المنجد
سمرنا ليلة عند صاحب لنا أديب، فنقضنا الأحاديث نقضاً، ثم ملنا إلى ذكر النساء وأخبارهن، والعرب وآرائها فيهن؛ وكان في المجلس متأدب فجّ العلم، أخذ اللغة عن الأعاجم وتخرّج على طرائقهم ونهج مناهجهم، ونحا في تفكيره منحى لا استقامة فيه. فذهب إلى استخفاف العرب بالنساء، وادعى أنهم لم يحفلوهن ولم يخصوهن بالتآليف، أو يفردوا لهن التصانيف؛ ودعم زعمه هذا بأقوال باردة لبعض المستشرقين.
وقد أردت تتبع هذا الزعم بالرد. . . لتبيان طرافة جهل هذه الفئة، وضيق علمها، وأفَن رأيها، وسخف دعواها؛ واستقرأت تراث الإسلام والعرب الزاهر، فإذا فيه تآليف حسان وتصانيف ملاح خصّوها بالنساء، وجلْوا فيها عن أسرار خفيّات وأخبار مكنونات، ولم يدعوا أمراً أدركوا صلته بهن إلا تكلموا عليه وبحثوا فيه.
وليت أن هذا التراث العربي كان قد سلم. . . إذن لرأينا من أخبار النساء كل معجب مطرب. . . ولوجدنا فيه سيرهن وأحاديثهن وأسرارهن منذ الجاهلية حتى عصور الانحطاط:
1 - فقد ألف عنهن في الجاهلية كتب كثيرة، منها: كتاب (الموءودات) لهشام بن محمد. . . بن الكلبي النسابة الأخباري، وكتاب (المعروفات من نساء قريش) له أيضاً، وكتاب (المردفات من قريش) ألفه علي بن محمد المدائني المحدث المتكلم، وكتاب (بقايا قريش في الجاهلية) ألفه الهيثم بن عدي الراوية الأديب الأخباري. . . وغيرهما.
2 - ثم خصوا نساء النبي وأمهاته بالرضاع وبناته بعدد من الكتب لا يُحصى، منها: كتاب (أمهات النبي) للمدائني الذي مر ذكره، وكتاب (أزواج النبي) لمحمد بن عمر المعروف بابن القوطية، وكان نحوياً لغوياً أديباً شاعراً، وكتاب (أزواج النبي) لابن الكلبي. . . وآخر مثله للواقدي محمد بن عمرو المؤرخ الإخباري، ثم كتاب (بنات النبي وأزواجه)، لأحمد الرقي الراوية الحفظة الثقة ذي التآليف الكثيرة.
3 - وتكلموا على نساء المسلمين ممن أوتي الشهرة والمُلك في كتب شتى. منها كتاب(423/23)
(أمهات السبعة من قريش) لمحمد بن حبيب، وكان من علماء بغداد ومهرة مؤدبيها وكتاب (أمهات الخلفاء) لابن الكلبي. وكتاب (من تزوج من نساء الخلفاء) للمدائني. . . وغيرها.
4 - ثم ألفوا في أخبار النساء كتباً كثيرة، تعرضوا فيها إلى أحوالهن ومعايشهن وطبائعهن وما يعجبن به أو يصدقن عنه وما قيل فيهن وروى عنهن. فقد ألف الجاحظ كتاباً أفرده على النساء وما يتصل بهن، وألف الهيثم بن عدي (كتاب النساء)، وصنّف هارون بن علي المنجم الأديب الشاعر الرواية النديم كتابه في (أخبار النساء)، وألف المدائني كتاباً في (أخبار النساء) أيضاً. وكان للرقي كتاب في النساء، ولإبراهيم ابن القاسم الكاتب القيرواني الشاعر الرقيق كتاب (النساء) قال عنه ياقوت (إنه كبير). ولابن قتيبة العالم المؤرخ الأديب كتاب (النساء)، وعمر بن خلف بن المرزبان كتاب (النساء والغزل).
5 - ثم ألفوا في الموضوعات الدقيقة الخاصة بهن، فأبانوا عن أحوالهن الدينية في كتب مختلفة منها كتاب (الحيض) للقاسم بن سلام (أمام أهل عصره في كل فن من العلم) كما ذكر ياقوت. وكتاب (العدّة) و (الرضاع) و (الطلاق) و (الشغار) لمحمد بن إدريس الشافعي.
6 - وقد أفردوا للتزيّن والتجمّل والتحلّي كتباً كثيرة، ذلك لأنها أمور ذات شأن عند النساء؛ فألف أحمد بن سعد أبو الحسين، الكاتب الشاعر كتاب (الثياب والحلي)، وصنف أحمد بن فارس اللغوي كتاباً مثله. وجمع الرقي أصول (الزينة) و (التزين) في كتابين. وألف إسحاق بن إبراهيم الموصلي وغيره كتباً في (الرقص والزفن). ولم يقنعوا بذلك بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فألف علي بن محمد الظاهري الميكالي الأديب المفاكه كتاب (فخر المشط على المرآة).
7 - ورأوا أن الظرف أحلى خصائص المرأة، فألف محمد بن أحمد أبو الطيب النحوي وكان من أهل الأدب، كتاب (المتطرفات). وألف أحمد بن أبي طاهر أحد البلغاء الشعراء الرواة كتاباً مثله؛ وصنف الرقي كتاب: (المحبوبات والمكروهات). وكان للمفجع الشاعر الشيعي كتاب: (عرائس المجالس). وكان هذا شاعراً حلواً. قال عنه الثعالبي: (شعره قليل ولكنه كثير الحلاوة). ثم ألفوا فيما يجب أن تكون عليه النساء، وشروط عشرتهن من الرفق والرحمة والقسوة والغلظة، ومن ذلك كتاب الشافعي في (عشرة النساء).(423/24)
8 - ولم يغفلوا عن حياة النساء الخاصة في دورهن وصلتهن بأزواجهن، فألف الشافعي كتاب (أخلاق الزوجين)، والمدائني كتاب (من هجاها زوجها)، و (من شكت زوجها)، و (من مُيّل عنها زوجها)، و (من قتل عنها زوجها)، و (من نهيت عن تزويج رجل فتزوجته). وألف خالد بن طليق الرواية النسابة كتاب (المتزوجات).
9 - ثم تطرفوا فألفوا في علاقة الرجل الجنسية بزوجة. . . وهذه التآليف وافرة ولا جدوى في التنويه بها.
10 - ثم ذهبوا إلى أبعد من هذا فخصوا الشذوذ الجنسي عند المرأة بكتب وتآليف منها: كتاب (السحق)، وكتاب (البغاء)، وكتاب (برحان وحباحب)، وهو في أخبار النساء والباه. . . ألفها محمد بن حسان النملي أحد الكتاب الأدباء في عهد المعتصم. ومنها كتاب (السحاقات والبغائين) لمحمد بن اسحق الصميري أبو العنبس وكان أديباً مليحاً وهجاء لاذعاً.
ولقد خص ابن النديم مسرداً لأسماء الكتب التي ألفت في (الحبائب المتطرفات) ككتاب (ريحانة وقرنفل)، وكتاب (رقية وخديجة)، وكتاب (سكينة والرباب)، وكتاب (سلمى وسعاد). . . وغيرها.
11 - وكما ألفوا في أخبار السواقط وذوات الشذوذ، فقد ألفوا في الشواعر والنابهات والعواقل؛ فهناك كتاب (أشعار النساء) لمحمد بن عمران المرزباني الرواية الإخباري، وكتاب (العواقل) لابن الكلبي. . . وغير ذلك.
12 - ولقد عنوا أيضاً بأخبار القينات والجواري والمغنيات والمسيمعات والنوائح وأمهات الأولاد، فكتب الجاحظ كتاباً عن (القيان)، وألف إسحاق بن إبراهيم الموصلي كتاباً مثله. وكان للمدائني كتاب في (القينات)، وآخر في (المغنيات) وثالث في (أخبار عزة الميلاء)، ورابع في (قيان الحجاز)، وخامس في (قيان مكة). وان لأبي الفرج الأصباهني صاحب الأغاني كتاب في (الإماء الشواعر)، وللمفجع الشاعر الشيعي كتاب في (أشعار الجواري) ولأحمد بن مطرف القاضي المصري كتاب في (النوائح).
وألف الطبري المحدث الفقيه كتاب أمهات الأولاد، وألف الشافعي كتاب (عتق أمهات الأولاد).(423/25)
13 - ونضيف إلى ذلك فصولاً كثيرة مبعثرة في كتب الأدب خصت بالنساء وأخبارهن وصفاتهن وأحوالهن، كالعقد الفريد لابن عبد ربه، ونهاية الأرب للنويري، وربيع الأبرار للزمخشري، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وغير ذلك. . .
تلك جريدة بأسماء الكتب التي ألفت عن النساء وأحاط بها علمي؛ ولعل هناك كتباً كثيرة غفلت عنها فلم أذكرها ولم أعلم بها.
أفبعد ذلك كله - وإن قلْ - تقولون إن العرب لم يحفلوا بالنساء ولم يؤلفوا في أخبارهن. . .؟
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(423/26)
زخرفة المساجد
للأستاذ الشيخ سيد رجب
كان الدكتور زكي مبارك قد كتب في بعض أعداد (الرسالة) القريبة كلمة من (شجون حديثه) يدعو بها إلى زخرفة المساجد وتنميقها، ذاهباً إلى أن هذا مما يرفه عن النفس بعد مشاغل العمل، ويهدئ الخاطر، ويلهم الروح، ويرغب في المساجد، ويعين على العبادة! وذاهلاً - وهو مؤلف (التصوف الإسلامي) وإن كنا لم نره - عن أن العبادة الحق إنما تنبعث من نبع الإيمان في القلب، ومن مثابة الهداية في النفس، وتستلهم الروح لا المادة، وتتجه بحقيقتها المعنوية إلى السماء لا إلى الأرض. وهذه حقائق لا ينفع لإيجادها، ولا يغني في التسبب لها، أن نملأ الأرض - لا المساجد وحدها - بما يقترحه الدكتور من دُمى وتماثيل وتهاويل وتصاوير! بل إن كل أولئك لن يكون - إن وجد - إلا مشغلة للحس والوجدان والعقل، وصارفاً للنفس، في موقفها الرهيب العظيم عما يجب أن تفرغ له من استغراق وتأمل ومناجاة. وهذا بعض ما من أجله صرحت النصوص الدينية بالنهي عن زخرفة المساجد وتنميقها.
ذهل الدكتور عن كل هذا، وأخذ - وهو الرجل الأزهري رغم صبغته الجديدة - بما لا ينبغي أن يؤخذ مثله به، ولا أن يغلط في حقيقته! فلما قام فقيه في المسألة يرجعه إلى الصواب، وإرشاده للحق، استنكف ذلك وكبر عليه، وأخذته العزة بنفسه، فلم يرض لها أن تخطئ، ولم يرض لها - إن هي أخطأت - أن يردها عن الخطأ ناصح من المسلمين! والكلمة التي كتبت في الرد عليه بغير توقيع، وفي مجلة لا شأن للوعظ والوعاظ بها؛ ولكن هذا لم يكن من مصلحة الدكتور أن يفكر فيه، وليس من شأنه أن يعرفه، فإنه عسى أن يفسد عليه ما قصد، وهو لا يقصد إلا الأزهر والأزهريين.
وعلى هذه النية وهذا الأساس هاجم الدكتور الأزهر في أشخاص الوعاظ، وأقحم ذكرى الرجل الفاضل والمؤمن البار المرحوم الشيخ عبد ربه مفتاح في حديثه، وعرض نفسه وعلمه وثقافته وفكره الحر الطليق على شباب الأزهر عامة، وكلية اللغة العربية خاصة، وسمي الدكتور ذلك كله (زخرف المساجد).
بيد أن الدكتور قد عرض في كلمته الأولى، في (الرسالة) الصادرة بتاريخ (26 من جمادى(423/27)
الآخرة سنة 1360) لما تعود هو وأمثاله أن يلوذوا بحصنه كلما حز بهم الأمر في ميدان من ميادين الخلق والعلم والدين، وهو المناداة بحرية الفكر، واصطناع الصراخ والعويل على ما يحاول رجال الدين الرجعيون الجامدون من حجر على العقل، وتكبيل للرأي، ومناوأة لهذه الحرية!! وتلك ناحية لا نحب أن يخلو حديثنا من الكلام فيها، إحقاقاً للحق، وإرشاداً للصواب، وحرصاً على فائدة من تعوزه هذه الفائدة من القراء.
وفي (الرسالة) التالية، الصادرة بتاريخ (4 من رجب) عرض الدكتور لحضرة النائب المحترم مفتش الوعظ، فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف دراز من أجل كلمة ألقاها في مجلس النواب، وهذه أيضاً لا نحب أن نتركها حتى نحاسب الدكتور عليها.
حرية الفكر:
يظن بعض الناس أن الحرية هي التحلل من كل حرمة، والانطلاق من كل قيد، والخوض ما وسع المرء أن يخوض في كل ما يسنح لخاطره ويستهوي نفسه! فإن بصرهم ناصح بالصواب، أو ذاد عن حقه المعتدي عليه ذو حق، هب أولئك الناس في وجهه، يدقون طبول الحرب للدفاع عن الحرية المهضومة والفكر المقيد، جاهلين أن حرية الناس - إلا من العبودية لخالقهم جل جلاله - هي أول عقيدة دعا إليها الرسل والأنبياء، وأول مبدأ قام من أجله ذلك الصراع الطويل الهائل في تاريخ البشرية بين الحق والباطل والسماء والأرض. وهل قدس كتاب أو شريعة أو أمة، ما قدس القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وسلف الإسلام الصالح، من هذه الحرية والدفاع عنها وتحقيقها في النفوس وتقريرها بين الناس؟ ومَن أولى بأن يعرف هذا للكتاب والسنة وسلف الإسلام من أعلام الملة وجنود الدعوة ورجال الدين؟؟
ولكنها الحرية بمعناها الحق، وفي هيئتها التي برأها الله على سنته من الوزن والتقدير والإحكام، ومراعاة العدل والحق في كل ما يبرأ وما يبدع، فلا يتجاوز خلق حده، ولا يخرج عن طوقه، ولا يطغى شيء على شيء في وجوده وكنهه، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
هذه الحرية الموزونة المقدرة التي لا تجهل ولا تظلم ولا تطغي، هي الحرية التي يقرها ناموس الوجود ويعرفها العقل ويدعو إليها الدين؛ وهي الحرية التي يطلبها الناس ويهيمون(423/28)
بها ويتفانون في الدفاع عنها، لأنهم يرون فيها قوام وجودهم وصلاح حياتهم، وهو بعض ما من أجله أعزها الله ومكن لها تمكيناً، فجعلها فطرة النفس وصبغة الخلق وحقيقة التوحيد.
فهل سمع بهذا أو عرفه من قبل أولئك الذين يكثرون من تصنع الغيرة على الحرية والدفاع عنها، ليبرروا بها كل مخزاة، ويدرعوا بها عند كل طغيان؟!
هل علم هؤلاء - وهم لا يقفون الحرية إلا حيث تناوئ الدين والخلق وتقاليد الإسلام - أنهم بهذا يسيئون إليها ولا يحسنون، ويهدمونها من حيث لا يشعرون؟!
إن علماء الدين - يا قوم - لا يمكن أن يكونوا أعداء الحرية، لأن الحرية من صميم الدين، ولكنهم أعداء الفوضى وأول هادميها، وهذا واجبهم الذي لن يتخلوا عنه مهما لاقوا في سبيله من أذى واعتداء.
الرياء الاجتماعي
طالما وصف الدكتور زكي مبارك مخالفيه في الرأي بهذا الوصف، وعلى الأخص أثناء مناقضتهم إياه في مسألة الأغنياء والفقراء، وأسباب الفقر وأسباب الغنى، مع أنهم كانوا يستمسكون بحق معروف لم نر لهم فيه مخالفاً من القراء، وكان هو يدافع عن شاذ من الرأي لم يوافقه عليه أحد؛ وقد ظل سادراً حتى أرسل إليه القراء يخيرونه بين اختفائه من الميدان الأدبي، أو سكوته عن هذا الباطل؟ فهل يسمح الدكتور أن نستعير منه هذا الوصف لنصف به تصنعه الدفاع عن مصر والإشفاق عليها من تلك النصيحة المخلصة التي أسداها فضيلة الأستاذ الشيخ دراز مفتش الوعظ إلى الأمة والحكومة في مجلس النواب؟! إننا لا نجد وصفاً أصدق منه لموقفك هذا يا دكتور. أيكون الأستاذ دراز متحاملاً على مصر وطاعناً فيها، ومقرراً غير الحق حين يقول بلسان العالم المصلح والنائب الغيور، ناصحاً أمته داعياً إلى الإصلاح فيها: (أصبحت هذه البلاد لا هي بالبلاد الدينية، ولا هي بالبلاد اللادينية، ولا هي بالبلد الشرقي، ولا هي بالبلد الغربي؛ وذلك ظاهر في كل مظاهرها، ليس في الزي فقط، ولكن في الثقافة والخلق وكل ما يتصل بحياتنا الخلقية والاجتماعية) - ولا يكون الدكتور مرائياً في موقفه حين يرد هذا القول ويماري في الواقع الذي يشهد له ويؤيده، ويقر الباطل والفساد في الأمة، متظاهراً بالدفاع المريب عنها، والإشفاق المصطنع على سمعتها الدينية والأدبية؟(423/29)
فهل نأخذ من هذا أن الدكتور يقر ذلك الاختلاف والتناقض في ثقافة الأمة وقوميتها وأصول اجتماعها وتعدد شرائعها وأزيائها، وغير هذا مما أجمع المتصدون للإصلاح الاجتماعي على أنه شر ما نكبت به البلاد من بلاء يجب دفعه والتخلص منه أم ماذا يريد؟
أما بعد، فإن من أبدَى صفحته للحق هلك، ولقد أراد الدكتور زكي مبارك أن يدفع عن نفسه ما حسبه من بعض الناس عدواناً عليه فلم يستطع هذا إلا بأن يتعدى هو على نفسه مرتين: مرة بمجافاته الحق، وأخرى بمحاولته النَّيل من جماعة كبيرة كريمة كعلماء الوعظ والإرشاد؛ وما منهم إلا يملك ما يملك الدكتور من قلم ولسان. فما أكثر في الناس من يسئ لنفسه حين يريد أن يحسن إليها، أكان ذلك دفاعاً عن نفسه، أم كان توريطاً لها في مأزق آخر تكون فيه أكثر ملامة وأثقل حملاً وأشد حاجة للدفاع؟ وهل صان الدكتور بذلك أنفه الذي قام حامياً له، أم حقق عليه المثل العربي الحكيم: (رب حام لأنفه وهو جادعة)؟
نسأل الله أن يجنبنا مزالق الأقلام، وفتنة اللسان والجنان، وأن يعصمنا من خطل الرأي وضلال الهوى، وأن يهدينا بفضله سواء السبيل.
السيد رجب
واعظ القاهرة(423/30)
إلى الأستاذ الزيات
محنة التعليم الإلزامي
للأستاذ علي عبد الله
كانت كلمتك يا سيدي عن هؤلاء الجنود المجهولين، نفحة من نفحاتك المباركة، ونظرة من نظراتك الصادقة، أنصفت بها هؤلاء المظلومين المكدودين، وذكرتهم حين لم يذكرهم ذاكر، وقلت فيهم قالة الحق في وقت بخلت عليهم فيه الوزارة بما يسد الرمق، وحرمهم الناس حتى من كلمة طيبة ونظرة رحيمة!.
وأشهد لقد وجدوا في كلامك عنهم ورأيك فيهم أحسن العزاء؛ وإن لهم فيه لغنية إذا بخلت الوزارة بالجزاء. وقد يجد المظلوم برد الراحة في كلام من يرثي له أو يعطف عليه.
وأشد ما أدهشني من كلمتك أنها كانت على إيجازها أصدق وأوفى ما كتب في هذا الموضوع منذ عرفته البلاد إلى اليوم؛ فصورت العيوب والعلل، وفرقت بين الجوهر والعرض، ووازنت بين الماهية والكيفية، وحددت المسؤولية ووضعتها في موضعها؛ وعرفت من أمر هذا النوع من التعليم ما لم يعرفه القائمون بأمره، ولو عرفوا بعض ما عرفت لوجدوا إلى الصواب رسولاً، ولاتخذوا مع هذا الرسول سبيلاً. . .
ومن ألطف ما رأيته أني مررت بمعلم يقرأ على بعض إخوانه ما كتبته (الرسالة) عنهم؛ ولم يكن يقرأ من المجلة، وإنما كان يقرأ من ذاكرته، إذ كان قد حفظ المقال من شدة كلفه به؛ وما انتهى من القراءة حتى انصرف إلى إخوانه يقول لهم: والله لو لم أكن معلماً إلزامياً لوددت أن أكون ذلك المعلم اليوم! ولو لم أكن مظلوماً لتمنيت أن أكون مظلوماً، لأن ما كتبه صاحب الرسالة أشهى عندي وأحب إلي من أن تنصفني الوزارة أو ينصفني الناس. وإن من الخير لي أن أكون مع هؤلاء المجهولين الذين ذكرتهم الرسالة بالخير، من أن أكون مع المترفين المجدودين الذين غمرتهم الحكومة بالمال. . .
إنك يا سيدي لم تدع لأحد بعد مقالك أن يقول شيئاً؛ ولكني أحب أن أؤيد ما ذكرته عن هؤلاء الجنود المكافحين، بما يدل على أنك كنت ملهماً تستشف الحقائق من وراء أستار الغيب!!
فمن ذلك أن أولياء الأمر أسرفوا في غبن هؤلاء المعلمين فخفضوا من مرتبهم جنيهاً كاملاً،(423/31)
وأصبح المعلم الجديد يتقاضى ثلاثة جنيهات بدلاً من أربعة؛ ثم جعلوا العلاوة الدورية نصف جنيه كل ثلاث سنوات. وزعمت الوزارة بهذا أنها استجابت لرغباتهم وحسَّنت حالهم ووضعت لهم نظاماً للعلاوات: مع أن الجنيه الذي استقطع من رواتبهم الضئيلة أصبح لا ينال إلا بعد قضاء ست سنوات في الكفاح والشقاء. . .
وأنا أعرف معلمين قضوا في خدمة هذا التعليم أكثر من خمسة عشر عاماً، ورافقوه وهو طفل في مهده وما تزال مرتباتهم أقل من خمسة جنيهات. وكان هؤلاء لا يعولون إلا أنفسهم؛ ولكنهم أصبحوا بعد هذه المدة الطويلة في عائلات يزيد أفراد كل منها على العشرة
أقول هذا وأنا أعلم أن في رجال التعليم الأولي من يبلغ مرتبه عشرة جنيهات وخمسة عشرة وتسعة عشر، وعلة ذلك لا ترجع إلى تفاوت في الكفاية أو زيادة في العمل أو امتياز بالأقدمية؛ وإنما ترجع إلى ارتباك نظام التعليم الأولي وتعدد أنواعه ومدارسه وبرامجه ونظمه. فهناك مدارس أولية تابعة للوزارة، وأخرى تابعة لسكة الحديد، وثالثة تابعة لمجالس المديريات؛ ثم هناك شيء اسمه التعليم الأولي الراقي، والتعليم الأولي القديم، ومشروع التعليم الأولي، ثم التعليم الإلزامي، ومع أن الجميع يعلمون الأطفال ولا يزيد بعضهم على بعض شيئاً في العمل، فإن مرتباتهم تختلف كل الاختلاف حسب أسماء المدارس التي يعملون فيها. وقد أجازت الوزارة أخيراً أن ينتقل المعلمون من مدارسهم إلى المدارس الأخرى التي ليست من درجتها ولا من نوعها، واحتفظت لكل معلم بمرتبه ودرجته؛ وبذلك أصبح في المدرسة الواحدة من يتقاضى أربعة جنيهات ومن يتقاضى ثمانية. وقد يكون الأول أقدم من الثاني، كما قد يزيد مرتب المعلم على مرتب الرئيس.
ومن غريب الأمور أن الوزارة قد أسرفت في التجني على رجال التعليم الإلزامي، فأصدرت منشوراً عاماً استبدلت فيه اسم المكاتب بالمدارس، وحرمت فيه على كل معلم أن يزعم لنفسه أنه مدرس في مدرسة، وإنما يجب أن يكون معلماً في مكتب عام. والمفهوم من هذا أنها استكثرت على هؤلاء البؤساء حتى الأسماء وتعمدت تحقيرهم، بينما هي أسلمت إليهم فلذات أكباد الأمة لإعداد الجيل الجديد منها.
أما قبل تنفيذ قانون الإلزام، فقد شقي المعلمون بمحنة لم يسمع بمثلها الناس، وهي أن المعلمين الإلزاميين كانوا يكلفون بالمرور على بيوت الفلاحين وحقولهم في القرى،(423/32)
لمطاردة التلاميذ والقبض عليهم وإحضارهم إلى المدارس. . . فمن استطاع أن يملأ فصله فهو في أمن من العقوبة؛ أما الذي تنهاه كرامته عن التعرض لأذى الفلاحين وعدوانهم فهو مغضوب عليه، وقد يعرضه هذا للفصل من الخدمة
ومن بواعث الأسى أن أحد مديري الدقهلية الأسبقين دخل عليه معلم إلزامي في مظهر أنيق وسمات وسيمة، يرفع إليه ظلامة من الظلامات، فظنه الباشا واحداً من الكبراء في البلد، فأكرمه واحتفى به، ولكنه عرف آخر الأمر أنه من الإلزاميين فشتمه وطرده، وأقسم أن يجرد جميع المعلمين من هذه الملابس التي يظهرون فيها بمظهر أهل النعمة؛ وبر الباشا بقسمه وساعده مفتشو المعارف اتقاء بطشه!
وصدرت الأوامر إلى جميع قوات البوليس والمباحث والخفر والعمد في البلاد بالتفتيش على المعلمين في المدارس والتبليغ عمن يوجد منهم غير متلبس بعمامة أو لابس قفطاناً. . .
ولم يكن للمفتشين من عمل في تلك الأيام إلا التفتيش على الجبب والقفاطين، لا على التربية والتعليم؛ وأصبح لبس العمامة عند الباشا من مؤهلات الترقية وزيادة المرتب، فلم يكن يرد لمعمم حاجة!
أقول هذا وأنا مشفق من أن أذكر كل ما أعرف، ولو شفيت نفسي بذكر الحقيقة المؤلمة، لأبكيت الناس وأضحكتهم، وأظهرت لهم أن التعليم الإلزامي إنما شقي بقادته وسادته، أولئك الذين يعيشون فيه وهم عنه غرباء، ويلقون المسئولية على المعلمين وهم منها أبرياء
(المنصورة)
علي عبد الله(423/33)
من رسائل الصيف
الدار المقدسة
(مهداة إلى الإنسان الشاعر. .)
للأستاذ عبد الحميد يونس
أخي إبراهيم. . .
قرأتُ فيما قرأت أن هُناك مرآة مسحورة لا ترى فيها نفسك في لحظة من لحظات حاضرك أو فترة من فترات مستقبلك، ولكنك تشاهد فيها شخصك في برهة واحدة تختارها من ماضيك.
وأنا الآن أتمنى كالأطفال أن أحصل على هذه المرآة، وأن أركب في هذا السبيل ما يركب أبطال الأساطير من أهوال، فإن عبور البحر أهون من عبور الزمن إلى الوراء، وملاقاة المجهول آلم من ملاقاة المعلوم، واستعادة الذي كان معك ثم ضاع، أشهى من حصولك على مالا ترتقبه مما هو آت!. . .
ودعني أسائل نفسي وقد تحققت أمنية العثور على هذه المرآة (أي لحظة من لحظات ماضي أريد؟). . . هي هذه الومضة من ومضات صباي وقد ذهبت إلى بيتنا الجديد، فلم أنظر إليه إلا بعد أن تمليت من البناء المواجه له ذي النوافذ الشبيهة بنوافذ المساجد، وكنت أعلم أنه مقام صاحب النظرات والعبرات
هذه الدار أيها الصديق أنفقت ما يقرب من خُمس قرن خلعتُ فيها صباي وسلختُ شبابي؛ دخلتها تسابقني آمال عذاب، وخرجت منها بذكريات أعذب!
وما أظنك نسيت البرج الذي كان يشبه أبراج المنائر حيث كنت أبشر بالطريقة الإشراقية التي تعلو على الناس وإن لم تنفصل عنهم؛ وحيث خيَّلت إلي نفسي القدرة على مطاردة الأوهام والوساوس والكشف عن الترهات والأباطيل؛ وحيث ظننتني أستطيع هداية الضالين، ولو كانوا من القرصان والمهربين؛ وحيث رأيتني أحارب إله الظلام، فلا أكاد أصرعه حتى أراه يتسلل من الناحية الأخرى!
أو نسيت الغرفة الجرداء التي كنت أستقبل فيها وفود العكر زمراً تعقبها زمر، وأفراداً في(423/34)
إثر أفراد، والتي كنت أمثل فيها خاشعاً بين يدي الأنبياء والأولياء والقديسين؟ وكيف تنساها وقد وسعت جمهورية أفلاطون وطوبى مور وجزيرة مكدوجال؟
أما المقصورة، فأنت لا تذكرها، لأنها كانت المكان الحرام الذي مارست فيه فن الحياة، ومهدت للقصائد التي هجت بها نفسي ولم تنفرج عنها شفتاي أو يسجلها قلمي. . . وجمعت فيها بين الملائكة والشياطين، ولقيت فيها (ليليت) وبناتها، وتاييس في انطلاقها وفي توبتها، وأفروديت في خلابتها؛ وسمعت فيها أعذب اللثغات وأشهى الضحكات وأعمق الزفرات. . .! هنا، أيها الصديق، عجنت تجاربي، واختزنت ذكرياتي، وحبست أوهامي. . .! هنا أديت فرائض الشاعر وشعائر الحكيم!
والخزانة الصغيرة التي كانت وكأنها (باب جحا) لا تكاد تطلب منها شيئاً حتى تراه؟. . . الخزانة الصغيرة النفيسة التي لم يكن خادمها موكلا بغذاء البطون، وإنما كان مختصاً بغذاء العقول والقلوب؟. . . لقد أخذتها معي، فبطل السحر، وبقيت الصحائف والرفوف!
وأنت ألم تجلس معي تحت هذا المصباح؟ أنا موجود وأنت موجود، والمصباح كذلك موجود؛ ولكن (التغير) صيرني شخصاً آخر، وحولك إلى غيرك، ونور المصباح في عيوننا الآن ليس كما كان بالأمس!
واليوم أقتلع من هذه الدار المقدسة اقتلاعاً، فكم رددت جدرانها صلواتي، وسمعت ابتهالاتي، ووعت حكمتي، وحفظت قصائدي! وكم انشقت سقوفها عن طيف، وانفرجت نوافذها عن خيال، وانفتحت أبوابها حتى لعدو!
ألا قل لهذه الدار المقدسة ألا تبوح بأسرار وجداني إلا لصاحب وجدان، وألا تطلع أحداً على خزائن تجاربي إلا إذا كان من زمرة الإشراقيين، وألا تفتح كنوز ذكرياتي إلا لمن يصلح للقيام على البرج والمقصورة والمحراب!
ألا قل لهذه الدار المقدسة إنني ما غادرتها قالياً، ولا تركتها راضياً، وإنني مررت بها سأقف وأستوقف، وكلما ذكرتها سأبكي وأستبكي؛ وإنني - لولا التجمل - لفعلت ساعة الرحيل ما يفعل العجائز في الأضرحة، فقبلت المقابض والجدران!
وهكذا تراني أيها الأخ إذا حصلت على تلك المرآة لا أقنع من ماضي بلحظة واحدة، وإنما أريده كله لا أنقص منه حتى ساعات الألم!(423/35)
بل وهكذا تراني إذا حصلت على هذه المرآة وتحققت رغبتي فرأيت ماضي كله لا أقنع بالمشاهد والنظر، فالفرق بينك وبين صورتك كبيرة، والفرق بين تذكرك لماضيك وبين أن تعيش ماضيك أكبر وأكبر. . .
(طبق الأصل)
(حمدي)
عبد الحميد يونس(423/36)
البريد الأدبي
الشيخ عباس
أويت إلى مرقدي حين الظهيرة فلمحت العدد الأخير من مجلة الرسالة فأخذته آنس بمطالعة عناوينه إلى أن يُريح عليّ النوم راحتي وجمامي، ووقع بصري على حديث أخي الدكتور زكي ذي الشجون والأشجان فسارعت إلى الفصل الذي عنوانه: (الشيخ عباس الجمل) أرجو أن أطلع فيه على بشرى أو فكاهة أو دعابة فقرأت ما روّعني وعزب بسروري وراحتي وأقض مضجعي قرأت قول الدكتور وهو يعنى على أدباء مصر تجافيهم: (فجع الشيخ عباس الجمل بغرق ابنه طاهر وهو يقارع أمواج البحر في دمياط فما تحركت يراعة أديب لمواساته في ذلك الرزء الجليل)
(وبترت ساق الشيخ عباس منذ أسابيع فما بكى شاعر ولا تأثر كاتب لمصيبة الأديب) الخ
فأما المصيبة الأولى فقد عرفتها من قبل وراعني نبؤها وأنا في اسطنبول منذ أربع سنين؛ وأما المصيبة الأخيرة فما عرفت نبأها الفاجع إلا من كلام الدكتور زكي وقد وقعت من نفسي وقلبي موقعاً مفظعاً أليماً
وإذا بي أجلس واجماً تسير بي الذكَر في عالم من مصائب الماضي والحاضر، وتسرح بيَ الفكَر فيما أصاب الرجال الكبائر من أحداث وأرزاء، فذكرت فيما ذكرت عقبة بن أبي وقاص حينما قطعت رجله في الموقعة يوم صفين فلبث يقاتل مرتجزاً:
الفحل يحمي شوكه معقولاً
وتذكرت هذا الفارس العربي عبد الله بن شبرة الجُرَشي وكانت يده قطعت في موقعة فلطاس إحدى وقائع الروم فقال يرثيها في أبيات أولها:
ويل أم جار غداة الروع فارقني ... أهْونْ عليْ به إذ بان فانقطعا
يميني يديْ غدت مني مفارقة ... لم استطع يوم فلطاس لها تبعا
ثم إذا بي أسير إلى خزانة كتبي ألتمس عروة بن الزبير لأقرأ ما قال حين أصيب برجله، وأتأسى بما عزاه به أصحابه، وذكرت قول أحد المعزين له: (يا أبا محمد والله ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا أكثرك: عقلك وعلمك) وطلبت بقية هذا الكلام في مظانه فلم أهتد إليه، ولكني وجدت في ابن خلكان خبر عروة حين صبر لقطع رجله لا(423/37)
يتحرك ولا يتأوه ووجدت فيه هذه الكلمة:
وكان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال له: (والله ما بك حاجة إلى المشي ولا أرب في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنة؛ وقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء، من علمك ورأيك نفعك الله وإيانا به. والله ولي ثوابك، والضمين بحسبك)
يا أخانا العباس! إن لك في أرزاء الرجال وخطوب الزمان أسوة وعبرة؛ وإن لك من دينك وعقلك وعلمك ما يغنيك أن تساق إليك الأسى والمواعظ. وإنا لنعرفك كبيراً أبياً عزيزاً، وإنا لنرجو أن نجدك اليوم أكبر وآبى وأعز من أن يضعضعك خطب، أو يبهظك رزء. وأنك لتعلم أن الحر الأبي يسير في هذه الحياة صابراً على لأوائها، مستكبراً على أرزائها مشى الجمل الثقال بالحمل الثقيل لا يرزح ولا يرزم ولا يعيا ولا يقف دون غايته
يا أخانا العباس! إن لك من دينك وعقلك وعلمك وأدبك ما يؤنسك بالصبر والرضا، ويوطن نفسك للحادثة وإن جلت، والخطب وإن فدح، وإن لك من إبائك وشممك ما يربأ بك أن تضيق بالرزء الشديد، وتطأطأ للنازلة الجليلة
والله يجعل هذا آخر محنك، ونهاية بلائك ويبقيك لآلك وإخوانك موفور العقل والعلم، معافى في نفسك وبدنك وأسرتك
وأما الأخ الدكتور زكي فقد صدق حين نعى على الإخوان تقاطعهم وغفلة بعضهم عن بعض. وإنَّا يا أخي زكي - ولا تؤاخذني بهذا التشبيه - لنسير من مشاغل هذه الحياة جليلها وسفسافها في مثل طريق الساقية أو مدار الساقية: حركة دائبة في مضطرَب متشابه ضيق، لو سارت فيه الدابة أبد الدهر ما خرجت منه وإن توهمت - وهي محجوبة العينين - أنها أبعدت المسير، وتناءى ما بين مبدئها ومنتهاها. ولست أدري إلام تشغلنا الشواغل عما هو أعظم من التقاء أخ بأخ، وتفقد صديق صديقاً، ومذاكرة أديب مثله؛ وفي أولئك من قضاء الحق ومتعة النفس وربح العقل وفقه الأمور، مالا نجد وإن حرصنا في هذه الحركة العاجلة التي كادت تسلب الإنسان عقله وإرادته.
عبد الوهاب عزام
حول اللهجات العامية(423/38)
يقصد علماء اللغة بكلمة (اللهجات المصرية) ما يشمل اللهجات العربية المستخدمة في السودان، فليس السودان جزءاً لا يتجزأ من مصر في نظر علماء الجغرافيا وأساطين القانون وعدول السياسة فحسب، بل هو كذلك أيضاً في نظر علماء اللغات
ولذلك لم أر ضرورة لأن أخصه بالذكر في مقالي عن طوائف اللهجات العامية، بل رأيت أن عطفه على مصر، كما يفعل الغربيون، قد يسئ إلى الحقيقة فيشعر بأنه بلد آخر منفصل عنها.
فليفرح إذن روع الأستاذ أحمد المبارك عيسى. فما كان لمثلي، وأنا من مواليد السودان ومن أكثر الناس إيماناً بوحدة وادي النيل، أن أغفل أمر هذا البلد الأمين.
وإنا لنرتقب بذاهب الصبر أن تواتي الظروف حضرة الأستاذ المبارك فيتحفنا على صفحات (الرسالة) بما وعد به من مختارات في الأدب القومي للسوادن، ويزيدنا بذلك يقيناً أن اللهجات المصرية كافة من أقرب اللهجات العامية إلى العربية الفصحى.
أشكر للأستاذ جودة مرعشلي بدمشق تصحيحه لما ورد سهواً في مقالي بصدد أسماء بعض القرى السورية التي لا يزال أهلها يتكلمون بلهجة منحدرة من الآرامية الغربية.
علي عبد الواحد وافي
هل نستفيد مما نقرأ؟
المعروف في اللغة أن فعولاً لا بمعنى فاعل مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، وأن ما يستوي فيه المذكر والمؤنث لا يجمع جمع مذكر سالماً مثل: صبور وفخور وغيور.
وأذكر أني قرأت مقالاً منذ شهور للكاتب الكبير الأستاذ العقاد بالرسالة جمع فيه غيوراً على غيورين، وهو خطأ كما ترى.
ثم حدث أن الأستاذ السباعي بيومي جمع فخوراً على فخورين في مقال له بالعدد 401 من الرسالة رداً على الدكتور زكي مبارك فتنبه أحد القراء لهذه الغلطة وأشار إليها في الرسالة بعد ذلك.
وحدث أيضاً أن الأديب طه الساكت كتب منذ أسابيع كلمة مسهبة في الرسالة عن هذه القاعدة، وذكر الشواهد لها، ودعا الكتاب إلى مراعاتها.(423/39)
وأخيراً رأينا الأستاذ العقاد يقول في العدد 411 من الرسالة:
(فإن الشك في وجود المغاداة يغلق المسالك بين ألسنة المصلحين الغيورين).
ولا شك أن إصرار الأستاذ الكبير العقاد على هذا الجمع لهذا الكلمة - وهو عضو مجمعنا اللغوي - يدلنا على أن له رأياً فيها يخالف ما أجمع عليه نحاة البصرة.
فهل يتفضل الأستاذ ببيان رأيه على صفحات الرسالة فنكون من الشاكرين؟
(بني سويف)
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
فتوى واستفتاء
1 - تحت هذا العنوان في عدد (الرسالة) 318 أفتيت واستفتيت الأدباء والباحثين في بعض المباحث الأدبية، وعرضت لهم ما بين روايتي الوسيط والمفصل من التناقض في ترجمة ابن خلكان، ثم استبان لي صواب رواية الوسيط ومنشأ خطأ المفصل على الرغم من أني كنت أستبعد أن يقع مؤلفوه الأماثل في مثل هذا الخطأ؛ وإلى القراء البيان:
قال ابن خلكان نفسه: ومولدي يوم الخميس بعد صلاة العصر حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستمائة بمدينة إربل بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين رحمهما الله.
وقال هو نفسه في ترجمة أبي الفضل أحمد بن كمال الدين:
وتولى التدريس بمدرسة الملك المعظم بعد والدي رحمه الله تعالى، وكان وصوله إليها من الموصل في أوائل شوال سنة عشرة وستمائة؛ وكانت وفاة الوالد ليلة الاثنين الثاني والعشرين من شعبان من السنة المذكورة، وكنت أحضر درسه وأنا صغير، وما سمعت أحداً يلقي الدروس مثله.
ومن هذا يظهر جلياً أنه أخذ مبادئ العلم عن شيخه أبي الفضل، لا عن والده كما قال أصحاب المفصل، ومنشأ الخطأ أنهم رجعوا ضمير (درسه) إلى الوالد وغفلوا عن المترجم له وحق لمن استفتى ثم أفتى بعد عمر أن يقول: بيدي لا بيد عمرو(423/40)
2 - نقرأ في كتب السيرة أن للنبي صلى الله عليه وسلم خصائص؛ ونطالع في كتب الأدب كثيراً من خصائص اللغة العربية؛ ونسمع بكتاب الخصائص لابن جني - وإن لم يره إلا قليل - فما مفرد هذا لجمع؟ أمرضتني كتب اللغة، ولم تسعفني، ثم رأيت أقرب الموارد يقول: (والخاصة الذي تخصه لنفسك. . . والخاصيّة نسبة إلى الخاصة ج خاصيات وخصائص على غير القياس)، وفي أثناء مطالعتي في (المواهب اللدنية) ألقيته يقول: (وقد ذكر بعض العلماء أنه صلى الله عليه وسلم أوتي ثلاثة آلاف معجزة وخصيصية) فما قول السيد وحيد؛ والأستاذ الكبير (ا. ع)؟
3 - نبه كثير من الباحثين على خطأ الافتعال من قَطَف وعابوا (المقتطف) علماً على المجلة المعروفة؛ فما رأيهم في قصيدة النابغة الشيباني الفائيّة وفيها يقول:
تَسبي القلوب بوجه لا كفاء له ... كالبدر تم جمالاً حين ينتصف
تحت الخمار لها جَثْل تُعكِّفه ... مثل العثاكيل سودا حين تقتطف
وبعد فكثير من مفردات اللغة العربية حائر بين المخطئين والمصوبين، فهل يضع المجمع اللغوي الملكي حدَّا لهذه الفوضى؟
طه محمد الساكت
المدرس بمعهد القاهرة
حول استدراك في غزوة حنين
ذكر الأستاذ الفاضل سعيد الأفغاني في العدد (422) من مجلة الرسالة الغراء استدراكاً على مقالي الأول في غزوة حنين؛ وقد جاء فيه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي سئل عن الخوارج (أكفار هم)؟ فقال: (من الكفر فروا) قيل: (أمنافقون هم)؟ فقال: (إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً). قيل (فما هم)؟ قال: (فتنة غشيتهم).
وكنت أحب أن يذكر الأستاذ سعيد الأفغاني المصدر الذي نسب فيه ذلك إلى علي بن أبي طالب، لأن هذا قد يفيد في تحقيق نسبة ذلك القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرت، أو إلى علي بن أبي طالب كما ذكر هو؛ فأما المصدر الذي نقلت عنه نسبة ذلك إلى(423/41)
النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو كتاب إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون المعروف بالسيرة الحلبية، وهو تأليف نور الدين علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي القاهري الشافعي المتوفى سنة 1044هـ. وقد جاء ذلك في الجزء الثالث (ص140) من النسخة المطبوعة بمطبعة محمد علي صبيح بمصر
ولا شك أن صدور ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع صدوره بعده من علي بن أبي طالب، والقطع بالصواب في مثل ذلك كما قطع الأستاذ سعيد الأفغاني لا ضرورة إليه، لأن صدوره محتمل من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وليس هناك ما يمنع صحة نسبته إليه على سبيل القطع
عبد المتعال الصعيدي
القصر العيني
في العدد (418) من الرسالة الغراء ذكر الأستاذ طه الساكت خطأ الكثيرين في تسمية ابن قيم الجوزية ثم قال: (وقريب من هذا الخطأ - وإن تكلف بعض الكتاب تصحيحه - قولهم (القصر العيني)، وإنما هو قصر العيني بالإضافة إلى الأمير الشهابي أحمد بن عبد الرحيم بن البدر العيني نسبة إلى (عين تاب) على ثلاث مراحل من حلب) أ. هـ.
والواقع أنني كتبت في العام الماضي عن هذا التصحيح في مجلتي (منبر الشرق) و (الصباح) الغراوين، ولكني عدتُ فوجدت أن قولهم (القصر العيني) صحيح لا غبار عليه ولا تكلف فيه، وذلك لأن قولنا (قصر العيني) من باب الإضافة، وقولنا (القصر العيني) من باب النسب، والصلة وثيقة بين الإضافة والنسب، حتى لقد كتب الشيخ (الأشموني) في كتابه عنوانَ (النسب) ثم قال: (هذا هو الأعرف في ترجمة هذا الباب، ويُسمى أيضاً باب الإضافة، وقد سمَّاه سيبويه بالتسميتين. . .).
فقل (قصر العيني) وقل (القصر العيني) ولا تضيِّق على نفسك، فلغة الضاد أفسح مجالاً وأرحب صدراً، ولنا في لهجاتها ورواياتها وأقوال أهليها متسع ومستراد!
(البجلات)
أحمد الشرباصي(423/42)
القصص
مفترق الطرق
للأستاذ نجيب محفوظ
زماننا عاثر الحظ أو نحن به عاثرو الحظ. فأينما تول وجهك تسمع تنهد شكوى أو تر تجهم كدر. ولن تعدم قائلاً يقول إن هذا الزمان أضيق رزقاً وأنضب حياء وأفسد خلقاً وأقل سعادة وأنساً من الزمان الماضي، ويجوز أن نكون لزماننا ظالمين، وأننا نتحامل عليه لا لعيب اختص به دون غيره من الأزمنة، ولكن تبرماً بقساوة الحياة وفراراً من جفاف الواقع ولياذاً بظلام الماضي الذي يشبه ظلام المستقبل بعث أمل وطب آلام. ومهما يكن من أمر هذا السخط فما من شك في أن جلال أفندي رغيب كان على حق في شكواه التي يرددها بغير انقطاع. كان مراجع حسابات في وزارة المعارف وفي السادسة والأربعين من عمره، قد وسع الله له في إحدى زينتي الحياة الدنيا وقتر عليه في الأخرى، فرزق ستة أبناء يسعون ما بين حجر الأم والسنة الرابعة الثانوية. وأما مرتبه فسبعة عشر جنيهاً، فناء بأثقال العيش ومتاعب الحياة، وقصمت ظهره المصاريف المدرسية. وكان كثيراً ما يقول متبرماً حانقاً كلما آن موعد قسط أو اقترب موسم من المواسم: (رجل مثلي - أب لستة ذكور، اثنين في المدرسة الثانوية، واثنين في المدرسة الابتدائية، وواحد في المدرسة الأولية، وواحد في البيت، غير زوجة وأم، ولا تراه الوزارة حقيقاً بإعفاء واحد من أبنائه من المصاريف. . . فمتى إذا تجوز المجانية!. . ولمن تجوز؟). وكان كغالبية أهل هذا البلد يائساً من العدالة قانطاً من الخير، يعتقد اعتقاداً كالإيمان الراسخ أنهما لا يصيبان إلا المجدودين من ذوي القربى والأصهار والأصدقاء، فرأى أن ليس أمامه سوى الكفاح الشاق، ومعاناة الشدة عاماً بعد عام، والتصبر على مرارة الحياة
ولبث على حاله لا يطمع في رجاء حتى تولى وزارة المعارف معالي حامد بك شامل، فطرق أذنيه اسم الوزير الجديد، وجذبت عينيه صورته المنشورة في الصحف، فومض في أفقه المظلم بارق أمل جديد، وانتعشت نفسه برجاء لا عهد له به، وقال لنفسه: (ينبغي أن أقابله. . . وأن أشكو إليه. . . هل يرفض رجائي؟. . . لا أظن)، وقصد يوماً إلى سكرتير الوزير وكتب حاجته على رقعة ليوصلها إليه، فمضى الشاب بها وتركه في حالة من القلق(423/44)
والإشفاق لا توصف؛ وعاد مسرعاً يقول لجلال أفندي: (معالي الباشا مشغول جداً اليوم فلتتفضل بالمجيء ضحى الغد)، فعاد إلى حجرته مسرعاً واجداً متألماً، وكان ألف طوال مدة خدمته خيلاء الرؤساء وانتهار المديرين، ولكن انشغال الوزير آلمه أكثر من أي شيء، وجعل يتساءل: ترى هل يذكرني؟. . . ولم يكن شيء، ليصده عن هذا الباب، فذهب ضحى الغد كما قال له السكرتير وانتظر طويلاً حتى قال له الشاب: (تفضل)، فقام مسرعاً خافق الفؤاد، وفتح له الباب المحروس فاجتازه إلى الحجرة ذات السجاجيد والزخارف، ونظر إلى صدر المكان فرأى معالي الباشا كما يدعونه يطالع في شيء بين يديه، فلما أن شعر بوجوده رفع إليه عينيه ومد له يده وعلى فمه شبه ابتسامة وقال:
- أهو أنت!. . لقد اشتبه علي الاسم. . . أو ما تزال حياً؟
فسر جلال للمداعبة الأخيرة واطمأنت نفسه وقال بخضوع وإجلال:
- نعم يا صاحب المعالي ما أزال أكابد حظي في الدنيا
فنظر إليه نظرة استفهام، ومال إلى الوراء قليلاً وهو يتمتم: (أفندم)، فقال جلال:
- يا معالي الباشا قصدت إلى معاليك لأشكو إليك ما أشكوه من عنت الدهر وشقاء الأيام. لي أسرة كبيرة وأبناء كثيرون ومرتبي صغير، ولست طامعاً في علاوة أو درجة، ولكني أضرع إلى معاليكم أن تعفى ابنين لي في مدرسة شبرا الثانوية من المصروفات
- الاثنين معاً؟!
- نعم يا معالي الوزير؛ إن آمالي مشرقة بمعاليكم، لقد جاوزت معاليكم عهداً طويلاً من سني الدراسة، وينبغي لمن حظي بذاك الجوار أن يربو حظه على حظوظ الناس جميعاً، خاصة إذا علمتم أن لي غيرهما أربعة آخرين، فقال له الوزير باقتضاب:
- قدم لي مذكرة
وكان الرجل محتاطاً لذلك، فأخرج من جيبه التماساً أعده لهذه الساعة وقدمه إلى الوزير، فجرت عليه عيناه بسرعة، ثم أمسك قلمه ووقع عليه بكلمة، وقال للرجل:
- اطمئن. . .
فانحنى جلال أفندي تحية، فتكرم الآخر بمد يده له، ثم غادر الحجرة مغتبطاً مثلج الصدر. ولكنه ما كاد يعود إلى مكتبه بالوزارة، حتى قال لنفسه متعجباً: لم يتغير (حامد شامل)(423/45)
البتة، ولا تقدم به العمر، وكأنه في ريعان الشباب. . . هل يصدق إنسان أن كلينا ابن خمس وأربعين؟. . . تا لله إني لأبدو لعين الناظر في سن والده!. . . وقضى وقته يفكر في الوزير، في حاضره وماضيه، وفي صلته القديمة به. . . ثم اضطجع بعد تناول غدائه في بيته، وأشعل سيجارة، واستسلم إلى أحلام الذكريات. . . فألوت به إلى عهود الماضي المنطوي. . . إلى الوقت الذي كان يجلس فيه إلى يسار التلميذ (حامد شامل) على مقعد واحد، لا يكاد يفرق بينهما فارق جوهري. . . وكان التلميذ (حامد شامل) يلفت الأنظار إليه ببياض بشرته واحمرار شعره، وبملازمة عبد متهدم طويل يرتدي بدلة سوداء له في الطريق إلى المدرسة وفي طريق العودة، يتبعه كالظل إذا مشى، ويطمئن إلى مكانه إلى جانب حوذي العربة إذا ركب، ولذلك كان يحلو لرفاقه أن يداعبوه فدعوه (حامد اغا)، على أنه عجب غاية العجب كيف كانت المنافسة تحتد بينه وبين وزير اليوم وتلميذ الأمس كأنهما أخوا حظ واحد. . . والأعجب من هذا أنهما جريا معاً وراء تلك العاطفة - التي تهيج الجد والنشاط ولا تتسامى عن المرارة والألم - منذ أول عهد تجاورهما؛ وكانا في كفاحهما كأنهما يعيشان منفردين في فصل واحد، فكانت الغاية التي يهدف إليها كل منهما أن يتفوق على قرينه بغير مبالاة الآخرين. وعلى الرغم من استعانة حامد بالدروس الخصوصية يتلقاها على أنبه مدرسي المدرسة، فقد كانت الغلبة بينهما سجالاً، وكانت كفة جلال الراجحة. . . وكانا في ملعب كرة القدم مثلهما في الفصل لا يريحان ولا يستريحان. وكان كلاهما يزعم أنه أحق من صاحبه بقلب الدفاع. فكان مدرس الألعاب يعاقب بينهما فيه، حتى بدا تفوق جلال للجميع فاستأثر به، فكان آخر عهد الآخر بلعب الكرة. يا لله!. . . كانا يستبقان كأنما الدنيا تضيق عنهما معاً، وكأنما كان مستقبلهما ينذر بحرب مستعرة تشمل ميادينها الجد واللعب والإدارة والوزارة. فكيف شالت كفته بعد ذلك؟؟ كيف سقط من عيون الغربال وضاع في الحثالة؟. . . كيف صار رفيقا المقعد الواحد أحدهما وزيراً والآخر مراجعاً بالحسابات ينوء صدره بآلام الحاضر ووساوس المستقبل!
ثم تمتم قائلاً وهو يطفئ سيجارته ويرمي بالعقب إلى المنفضة: تا الله ما يستحق أن يكون وزيراً ولا وكيل وزارة ولا شيئاً من هذا، وخشي أن يكون متجنياً عليه أو مائلاً مع عواطفه القديمة فتساءل باهتمام وجد كأنما يزمع كتابة ترجمة له كيف اعتلى كرسي(423/46)
الوزارة؟. . . لقد انفصلا في نهاية الدراسة الثانوية فاضطر هو لأسباب إذا ذكرها جرت المرارة في فمه، إلى الانقطاع عن الدراسة والتحق صاحبه بمدرسة الحقوق، ثم حصل على الليسانس، وكان أبوه محمد باشا شامل وزيراً للحقانية فعينه سكرتيراً له في الدرجة الخامسة، فكانت القفزة الموفقة الأولى. وقرأ بعد ذلك في الصحف أنه اختير لبعثة في فرنسا لا يعلم كم أمضى بها ولا ما حصل عليه فيها من الإجازات، ولكن كثيرين يعلمون بزواجه بعد ذلك بسنوات من كريمة المرحوم حامد باشا حامد الذي تولى الوزارة مرات، فارتقى فجأة إلى الدرجة الثالثة مديراً لإدارة التشريع، وانقطعت عنه أخباره فترة وجيزة حتى علم بتوليته مديرية أسوان، ثم بترقيته محافظا ًللقنال بعد ذلك بقليل، ثم باختياره وزيراً للمعارف، ومضى على توليته الوزارة أسابيع والمجلات لا تكف عن الإشادة بمواهبه القانونية ومقدرته الإدارية ومشروعاته عن إصلاح التعليم، وكاد جلال أفندي أن يصدق ما يقال لولا أنه قرأ مقالاً عن تفوق الوزير في عهد الدراسة - في العلم والرياضة البدنية معاً - وكيف أن مفتشاً من مفتشي الوزارة تنبأ له على أثر مناقشته بأنه سيكون يوماً وزيراً، فأغرق الرجل في الضحك، وقال ساخراً: (الآن فهمت سر المواهب القانونية والإدارية!)
وتنهد جلال أفندي رغيب وتمتم قائلاً: (دنيا!)، وأراد أن يريح نفسه من أفكاره فتناول مجلة يقلب صفحاتها المصورة؛ والظاهر أن ذكريات الوزير كانت تأبى أن تفارقه، فرأى صفحة من المجلة مخصصة للوزير تتوسطها صورة كبيرة؛ ما إن بصر بها حتى صاح في دهشة وغرابة (رباه هذه صورة فصلنا القديم) وألقى عليها نظرة سريعة فثبت بصره على صورته وكان يقف في الصف الأول وراء المدرسين مباشرة إلى يمين الوزير ينظر إلى عدسة المصور في ابتسام وثقة؛ وكان الوزير كالعابس وعلى حاجبه الأيمن ذبابة، فضحك جلال طويلاً وذكر قصة الذبابة، وقد كانت في الأصل من نصيبه هو وتنبه لها والمصور يهم بالتقاط الصورة فهشها بسرعة فطارت عنه إلى حاجب قرينه وحطت عليه؛ وقد أحس أسفاً لذبة الذبابة فلعلها كانت ذبابة الحظ السعيد سكنت إلى وجه الوزير المدخر؛ ورنا إلى الصورة بعينين حالمتين فهامت روحه في آفاق الماضي حتى شعر بأن روح الطفولة تحل فيه مرة أخرى، وأن شعيرات قذاله البيضاء تسود، وتجاعيد جبينه وما حول فمه تلين،(423/47)
ونظرة عينيه تصفو وترق، ويمسح على ما فيها من هم وبلبال. . . أحس قلبه يخفق مرة أخرى بالأمل والطمأنينة، وجرى بصره على الوجوه الصغيرة وهو يتساءل: ترى كيف صار هؤلاء جميعاً؟. . . وعاين أول صورة في الصف الأخير فعرف صاحبها بوضوح غريب، وذكر اسمه (عبد الملك حنا)، وذكر كيف كانت تنتابه نوبات الصرع في الفصل حتى انقطع عن المدرسة. . . أما بقية الصف فتذكر وجوههم وغابت عنه أسماؤهم ومصايرهم؛ وعرف في الصف الثاني وجهاً كأنما تركه بالأمس؛ كان ابناً لأحد كبار المستشارين فكان يتمتع لذلك بنفوذ وصوله فيحييه الناظر إذا بصر به، ويلاطفه المدرسون، وقد علم فيما بعد أنه عين وكيلاً للنيابة وترقى قاضياً، ولعله يتأثر الآن خطى أبيه الكبير. أما من يليه من الصغار فجلهم من المغمورين وبعضهم معه في المعارف وهو يعرفهم حق المعرفة، وأما آخر هذا الصف - الذي ينظر إلى المصور بتحد غريب ويشبك ذراعيه على صدره - فكان من أشقياء التلاميذ المولعين بالشجار والتصادم، وقد طرد من المدرسة لاعتدائه على أحد المدرسين. ومن العجيب أنه احترف فيما بعد (البلطجة)، وطاف بالسجن مرات. وألقى نظرة أخيرة على الوجوه الأخرى فلم يعرف عنها شيئاً إلا الدكتور المعروف (حنا عبد السيد)، وإلا هذا الذي يتوسط الصف الأول، كان أنبغ التلاميذ جميعاً، وكان أول الابتدائية ثم أول البكالوريا والتحق بمدرسة الحقوق كبير الهمة سخي المواهب، ولكنه أصيب أول عهده بها بداء اصدر فاضطر بعامين ترك المدرسة والكف عن التحصيل، واشتغل بعد ذلك بعامين كاتباً في الصحة. . . فلا يقل حظه شذوذاً عن حظ الوزير نفسه.
نال كل منهم نصيبه وخضع لحكم حظه وسعيه. كانت تجمع بينهم جدران واحدة، لا يكاد يتميز وراءها إنسان إلا بجده وخلقه، ففرقت بينهم الحياة، فرفعت وخفضت، وأحيت وأماتت، وأذاقت الفقر، ومتعت بكرسي الوزارة، وكل بما قسم له غير راض ولا قانع. . .
ونظر جلال أفندي عند ذاك في الساعة فوجدها تدور في الرابعة، فعلم أن موعد الصغار آن واقترب، وإنهم عما قليل يملئون البيت حياة وقلبه نوراً، فرمى بالمجلة بعيداً وطرد من عقله الوسواس ليستقبلهم أجمل استقبال، وقال لنفسه متعزياً:
- من الخطأ أن يفكر الإنسان في شئون الناس ما دام هذا لا يورث إلا الضيق، وحسبي أن(423/48)
معاليه قال لي: (اطمئن)
نجيب محفوظ(423/49)
العدد 424 - بتاريخ: 18 - 08 - 1941(/)
تحت ظلال الكافورة
من أحاديث القهوة
- 1 -
المنصورة بلد الطبيعة الساحرة والطبع الشاعر هي الآن مصيف ومهجر
هي مصيف، لأن موقعها على ملتقى النهر الصغير والنهر الكبير جعلها كرأس البر على ملتقى النيل والبحر؛ والفرق بينهما أن (رأس البر) رمله من رمال الصحراء، والمنصورة روضة من رياض الجنة. وهي مهجر، لأن بعدها عن الأهداف الحربية والثغور البحرية صرف عنها لحظات المغيرين والغِيَر
ومن جملة المصطافين بها والمهاجرين إليها تتألف في القهوات والندوات جماعات في الأدب والسياسة والتجارة واللهو والفضول ترتسم من مجموعها صورة مقاربة لمجتمعنا العام تصلح للتأمل والدرس. ومن جعل الله ديدنه وصف ما يبصر، وتسجيل ما يسمع، لا يملك أن يشاهد هذا العالم الصغير دون أن يعرض بعض أحاديثه للبحث، وبعض حوادثه للنظر
تتفيأ القهوة التي نجلس فيها الدوح الباسق والشجر الوريف بين شارع الكرنيش وشاطئ النيل. فهي تنظر عن اليمين فترى في الطريق أخلاطاً من الأجناس أكثرها الإغريق، وأنماطاً من اللباس أغربها القلانس، وصوراً من الحسن أبدعها الأوانس، وهُوَلاً من القبح أشنعها المتسولون والباعة. وتنظر عن الشمال فترى في النهر زوارق العبور تنساب حابسة في شُرُعها طلق الهواء، أو ضاربة بمجاديفها وجه الماء، وشباك الصيد يطرحها الصيادون في المكان الضحل فلا تصيب إلا صغار الحصى أو شَبار السمك، وخواطف الطير تحلق فوق الصائد فتخطف ما ثار أو تأخذ ما ترك
يندو إلى هذه القهوة طوائف من الناس ألفت بينهم وحدة الحرفة أو مصافقة المودة أو مبادلة المنفعة: فهنا المعلمون قد تكوفوا على بعض المناضد القاصية، يجادلون بالصوت الجهير في الحرب والأخبار، أو يخوضون في حديث المفتشين والنظار، ومذباتهم التقليدية تتحرك آلياً في أيديهم فتذود الغبار عن الثياب والذباب عن الأوجه. وهناك التجار يتعاقب على مناضدهم الوسطى شُكول من السماسرة والمنتجين فيقيمون في حدودهم الضيقة سوقاً(424/1)
تصطرع فيها طباع المتسوقين من الإغراء والإباء، والصخب والغضب، والمشادة والملاينة، والمسارَّة والمسايرة، ثم ينجلي الأمر عن صفقة من الشعير أو الرز. وهنالك في أقصى الشرق مناضد بُسطت عليها أغطية من القماش المفوَّف وقد أحاط بها عقائل من حسان الروم يفسرهن شباب منهن، قد أنقذهم من نار الحرب سلام النيل، وأفرغ عليهم وضاءةَ النعيم خير مصر، وضمن لهم عيش الأمان سماحة المصريين؛ فهم يتساقون أقداح الزبيب، ويتناقلون أحاديث الأنس، ويتطارحون أضاحيك الحياة، كأن شعبهم لم يذل ووطنهم لم يحتل ومَلكهم لم يشرَّد!
وفي خلال هذه الزمر ترى شاعراً وسنان الحركة نشوان الحس يقرأ على صفحة النهر الوردية أشعار الطبيعة، أو طارئاً من ضخام القرويين لم يطق صبراً على عبث النسيم فنام على كرسيه أثقل النوم، وغط في نومه أقبح الغطيط. وعلى حفافي القهوة ومماشيها تتهافت أفناءٌ من ذباب البشر يقولون إنهم من رعايا وزارة الشؤون الاجتماعية، فيهم المعتوه المخيف، والمريض المعدي، والشيخ المتهدم، والشمطاء الخاوية، والناشئ الضرير، وكلهم يسأل بإلحاف، أو يبيع بسماجة، أو يحتال في سخف!
وتحت الدوحة الكبرى وفي مكان لا يكاد يتغير تجلس جماعتنا طرفي النهار وزلفاً من الليل. وهذه الجماعة من تأليف الحب وحده. تقارب في أفرادها الذوق والرأي والهوى فتمكنت بينهم الألفة، واستكمل بعضهم من بعض ما نقص من عوامل أنسه ومباهج نفسه. واحسبني لا أعدو الحق إذا قلت إنها كثيراً ما تشقق الحديث في شجون من الأدب والتاريخ، وفنون من السياسة والنقد، وشؤون من التجديد والإصلاح، إذا هي سجلت في الرسالة على إيحاء الخاطر وإملاء الطبع كانت نوعاً من الإنتاج الأدبي له قيمته وأثره. ولعلني أستطيع أن أنقل إليك الحين بعد الحين مقطعات من هذه الأحاديث تجد فيها لوناً طريفاً من ألوان المعرفة
واسطة عقد الجماعة رجلان كل منهما طراز وحده في مناقلة الحديث ومبادهة الرأي: أحدهما الأستاذ توحيد السلحدار، والآخر الأستاذ الزناتي. أما صديقنا السلحدار فكنز مدفون لم يشأ الله أن يعرف: نفس كريمة لا تخلق إلا في ملك، وحس مرهف لا يكون إلا لشاعر، وذوق سليم لا يوهب إلا لفنان، ورأي حصيف لا يختمر إلا في حكيم، وثقافة شاملة لا(424/2)
تجتمع إلا لعالم، وخبرة واسعة لا تتهيأ إلا لأريب. درس الأستاذ توحيد وقرأ، ثم رحل وشاهد، ثم ذاق وجرب، ثم عايش النبلاء بحكم نشأته، ولابس الدهماء بحكم وظيفته، وأعانه على الإفادة من كل أولئك أسرة غنية ويد سخية ونفس طُلَعة. فأنت لا تكاد تبدأ الحديث أو تلقى السؤال في ناحية من نواحي الأدب أو الفن أو السياسة أو التاريخ أو الطب أو الطعام أو الشراب أو اللهو إلا بادرك بقول تظنه لصوابه تفكير يومه، أو بادهك بجواب تحسبه لسداده اطّلاع ساعته
وأما أخونا الزناتي فحديثٌ حسن المنطق عذب الأسلوب جامع لطائفة مختارة من أخبار العلماء والأدباء ورجال الحكم، شهدها بنفسه، أو سمعها من أبيه، أو قرأها في مخطوط من نوادره؛ ومن هذه الأخبار ما لا تجده في كتاب ولا تسمعه من أحد. وللزناتي تطلَّع الجبرتي وملاحظته، فهو يستقصي أطراف الخبر، ويستوعب أحوال الأشخاص، ثم يخزن ذلك في حافظة واعية ليؤديه متى شاء لا يند منه حرف ولا وصف. ولقد أقترح أحد الأصدقاء على الأستاذ توحيد أن يُطرف قراء (الرسالة) بأحاديث (من جانب الذاكرة)، وعلى الأستاذ الزناتي أن يمتعهم بنوادر (من فيض الحافظة)؛ فعسى أن ينزل الأستاذان على مقترح الصديق، وان يعجلا إلى القراء الظِّماء بهذا الرحيق!
(المنصورة)
احمد حسن الزيات(424/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
فرصة ذهبية لاختبار العزائم والأخلاق - قسم اللغة العربية
بكلية الآداب - أدفع الثمن يا جاحد - الموت في الرؤيا حياة
- إلى جيراني أوجه القول - تحية عراقية.
فرصة. . .
هي فرصة ذهبية لاختبار العزائم والأخلاق فاغتنموها قبل أن تفوت
وما تلك الفرصة؟ هي فرصة التنبه الشديد الذي يلازم النفوس والعقول عند اشتداد المكاره والمحرجات. ولا موجب للتذكير بما نعاني في هذه الأيام (البيض) وإنما الواجب هو التذكير بالقيمة الصحيحة لأمثال هذه الأيام في تأريث المشاعر والقلوب، فهي عندي أصلح الأيام للنضال في الميادين الأدبية والاجتماعية - بغض النظر عن الميادين السياسية - والرجل الذي يتبلد في هذه الأيام بحيث يقضي أوقاته في مضغ الحديث المعاد، هو رجل لا يصلح لشيء، وهو بمسلكه البليد يشهد على نفسه بفتور العزيمة وضعف الأخلاق
حين يأتي النذير بأن العالم معرض للدمار والهلاك - لا قدر الله ولا سمح! - ينقسم الناس إلى فريقين: فريق يسارع إلى انتهاب اللذات ليأخذ منها حظه قبل أن يموت، وفريق يستبق لي الأعمال الجدية ليواجه الموت وهو على أشرف حال، فإلى أي الفريقين تميلون، يا قرائي؟
كونوا كيف شئتم، ولكن المهم هو تذكيركم بأن الساعة من هذه الأيام قد تساوي سنوات بفضل ما فيها من التنبه والتيقظ، وبفضل ما تصنع في إرهاف عزائمنا وقلوبنا، وتلك فرص لا تسنح في كل يوم، فاغتنموها قبل أن تفوت، ثم اغتنموها قبل أن تفوت
لو كنا في حرب لدعوت نفسي ودعوتكم إلى الاستشهاد في سبيل الوطن الغالي، ولكن مصر لم تقرر إعلان الحرب، فلم يبق إلا أن ننتفع بالفرصة التي أتيحت بسبب تعرضنا لأخطار الحرب، بلا بغى منا ولا عدوان
والفرصة هي تلك اليقظة العقلية والروحية، اليقظة التي محت جميع الغفوات، وصيرت(424/4)
أعصابنا في وقدة الجمر الوهاج
لا يجوز أن تنقضي هذه الأيام بلا محصول نفيس يرفع رءوسنا بين كرام الشعوب، ولا يجوز أن نقف موقف المنتظرين لما تسفر عنه الأغداء الآتية، وهي أغداء مجهولة الألوان، ولا ينتظرها إلا أهل الغفلة والخمود
لا يجوز أن تقل أوقات العمل عن عشر ساعات من كل يوم، بالنسبة للضعفاء. أما الأقوياء فمن واجبهم أن ينتفعوا بجميع الأوقات ولو قهرتهم الغارات على اللجوء إلى ظلمات السراديب
هي فرصة للتخلص من الأمراض النفسية والروحية، فاغتنموها قبل أن تفوت
هل سمعتم بجهنم - أعاذكم الله من حر جهنم -؟
يقيم الآثم مدة في جهنم عقاباً على ما أجترح من السيئات، ولو أصغيت لوحي النزعة الصوفية لقلت: يقيم الآثم مدة في جهنم ليتطهر من الأوضار النفسية والروحية بحيث يصلح لمجاورة سكان الفردوس
ومكاره الحرب ليست عقاباً على أثام جناها المصريون - وهم نماذج في الرفق والتسامح - وإنما هي مِحن مطهِّرة سنقطف ثمارها بعد حين
والإقبال على الأعمال بشغف وشوق هو الذي يقصر أمد ذلك الامتحان، فأقيموا الدليل على الصلاحية لحياة البِر والمجد، ليرفع الله عنكم آصار الخوف، وليُذهب عنكم أوجال هذه الأيام
إن اللاهين واللاعبين لا يستحقون الحياة، فمن حق الأقدار أن تسلب منهم هذه النعمة حين تشاء
أما الذين يبذلون حياتهم في الأعمال الجدية صابرين مُصابرين، فلهم في الحياة شرف الكرامة، ولهم بعد الموت شرف الخلود
في كلية الآداب
قيل وقيل إن قسم اللغة العربية بكلية الآداب صائر إلى الزوال، مع أنه كان النواة لدوحة الجامعة المصرية؛ فما أغرب ما تصنع التقلبات بمصاير الشخصيات المعنوية في هذه البلاد!(424/5)
ويقال إن فكرة توحيد المعاهد التي تصوغ مدرسي اللغة العربية هي السبب في إلغاء ذلك القسم، فما تستطيع الدولة أن تحتمل الإنفاق على ثلاثة معاهد توصل إلى غرض واحد!
هو ذلك، يا مَن أقمتم البرهان على تبحركم في علم الاقتصاد! ولكن هل يوجد في الدنيا كلية آداب ليس بها قسم خاص بآداب اللغة القومية؟
لكم أن تنشئوا معهداً يتخرج فيه مدرسو اللغة العربية على المنهاج الذي تنشدون. . . أما اعتداؤكم على قسم اللغة العربية بكلية الآداب فهو جناية لا يُقدم على اقترافها رجل حصيف
وقد سمعت - وما أشنع هذا الذي سمعت - أن أساتذة كلية الآداب رحبوا بذلك الاقتراح اللطيف! (يشهد بذلك خطاب تلقيته من أحد المتخرجين في كلية الآداب، وإن كان بغير إمضاء، كأن صاحبه يخاف عواقب الجهر بالرأي الصحيح) أما بعد فهذه تجربة جديدة لأساتذة كلية الآداب، فإن أُلغي ذلك القسم وهم شهود فسيعرف القلم كيف يجزيهم أحسن الجزاء
كان يقال: إن من عيوب عهد الاحتلال أنه لم ير التعليم إلا وسيلة للتوظف، فكانت مكيدة لقتل المواهب المصرية
فأين أذناك، لأُسمعك صوت الحق، يا عهد الاستقلال؟!
وأين اليمين؟ أين اليمين؟ أي والله، فقد أقسمنا على الوفاء لكلية الآداب، وهي اليوم بلا ناصر ولا معين، فأين أبناؤها الأوفياء؟ كان الظن أن لا يلغى كرسي واحد من كراسي تلك الكلية، ولو كان خاصاً بدرس لغة الزنوج، فكيف يلغى قسم اللغة العربية؟ تلك أمور يحار فيها اللبيب
أدفع الثمن يا جاحد!
هذا مدرس (من شرق الأردن) كتب إليّ خطاباً بلغت كلماته 1500 بالتقريب، وإنما قدرت الكلمات لسبب سيعرفه بعد لحظات
وذنبي عند هذا المدرس أنني لم أف بما وعدت من بسط القول عن الحياة الأدبية في العراق، فقد سكتُّ بعد بضع مقالات. . . فهل غاب عنه أن الدنيا وقعت فيها أكدار صرفت القلم عما أعتزم المضي فيه، وأن من تلك الأكدار انقطاع البريد بين مصر والعراق؟؟ وما قيمة الكتابة عن الأدب العراقي وكان أهله في شغل بما عرف الناس، إلا ذلك المدرس(424/6)
الأديب؟!
انتظر، فقد نصل ما أنقطع بعد أسابيع
ثم أرجع إلى بيت القصيد فأقول: أن هذا المدرس أتعب نفسه بمناوشتي وهو يعتقد بأني لن أنشر خطابه في الرسالة ولن أرد عليه، فمن أين عرف أني أبخل عليه بالنشر والرد، إن اتسعت صفحات (الرسالة) لما يريد؟
لو فكر قليلاً لعرف أن من الخير للحياة الأدبية أن يكون فيها كاتب يثير بعض القراء إلى الحد الذي يسمح بأن ينفعل فيكتب مئات الكلمات باهتمام واحتفال: فكتابة 1500 كلمة في ساعة غضب توقظ العقل والذوق، وتروض الكاتب على الاصطلاء بنار الفكر والوجدان
وما قال أحد أنه يبغضني ويحقد على إلا اطمأننت إلى تبليغ رسالتي الأدبية، فأنا أخلق الفرص خلقاً لإذكاء نار الغضب والحقد في القلوب التي طال عهدها بالغفوة والخمود. . . وهذا الغاضب الحاقد لا يعرف كيف انشرح صدري لما صدر عن قلمه من غضب وحقد، فذلك شاهد جديد على أن جهودي الأدبية لن تضيع
إن هذا المدرس لا يعرف كيف خدمته حين أثرت عواطفه الغافية، وحين قهرته على الفزع إلى القلم والمداد والقرطاس، وحين فرضت عليه أن يقول ما يقول بألفاظ خفاف أو ثِقال!
ادفع الثمن، يا جاحد، ليرفع الله عنك أصر الجحود!
الموت في الرؤيا حياة
الأديب الفاضل السيد (كاشف) الذي كتب إلينا من (أعالي النيل) رأى في منامه حلماً أزعجه أشد الإزعاج، وكيف لا ينزعج وقد رأى أن أعظم أحبابه الروحيين قد مات؟
وأجيب بأن الموت في الرؤيا حياة، فله أن يطمئن كل الاطمئنان
والطريف في هذه الرؤيا أن الميت هو صاحب (النثر الفني) وأن السيدة التي كانت تبكي خلف نعشه اسمها (ليلى) وهذا الأديب يرجوني أن أفسر له هذا الحلم المزعج ليذهب خوفه وأساه. . .
ومن غريب المصادفات أن أقرأ في جريدة الدستور قبل أن أتسلم خطاب هذا الأديب بلحظة قصيرة كلمة مترجمة عن جندي ياباني، وهي:
(حلمت ليلة أمس أني فقدت أبي، وقد أخبرني أحد رفاقي أن هذا الحلم فأل حسن)(424/7)
والقول بأن الموت في الرؤيا حياة هو قول ابن سيرين، فاتفاقه مع العقيدة اليابانية دليل على ارتباط الأمم الشرقية بعضها ببعض في كثير من المعاني والآراء
أما بكاء (ليلى) خلف نعشي فهو شاهد على اعتزازي بمودة أهل العراق فهم أنصاري الأوفياء. أعزني الله بودهم الوثيق
إلى جيراني أوجه القول
لا تظنوا أن أعماركم سيضيع منها شيء أن أقللتم من الجزع وقت النذير بغارة جوية، ولا تتوهموا أن الأعداء عندهم من الذخائر ما يكفي لتقويض جميع البيوت، ولا يخطر في بالكم أن جنود السوء ستقصدكم بالذات، فهم يجهلون مواقع أرواحكم بالنهار وبالليل، ولعلهم يجهلون مواقع أرواحهم من وثبات القضاء
تلك كروب ستنجلي وستنكشف بعد أمد قصير أو طويل، ثم تعود الحياة إلى ما كانت عليه من الرخاء والصفاء
العاقبة للصابرين، يا جيراني، فلا تزعجوني بما أسمع من إمارات القلق والخوف، وقد أويت إلى سرداب البيت لادون بعض الملاحظات في أمان من اعتراض البوليس لا من اعتراض الموت، فالأعمال بيد الله يتصرف فيها كيف شاء
أكتب هذا وأنتم هرج ومرج، كأن صفارة الإنذار هي النفخ في الصور، وكأن الدنيا على شفا الزوال!
يكفي أن تراعوا نصائح وزارة الوقاية، تأدباً مع النظام، لا تخوفاً من الموت، ولتصنع الأقدار بعد ذلك ما تريد
لن يترك أحد من عمره دقيقة واحدة، ولو عرض صدره لقواذف الموت، فما جزعكم من كوارث لن تصيب إلا من كتبت عليه في سريرة الوجود؟
ثقوا، يا جيراني بأنكم باقون، إلى أن تنتهي الحرب بسلام، وثقوا بأن الاستهانة بالخطوب تفل أنياب الخطوب، واعرفوا جيداً أن الحياة لا توهب إلا لمن تصغر في نفسه قيمة الموت
ما هذا؟ تلك قهقهة عنيفة يصل دويها إلى اذني، وهي الإمارة على أنكم أصحاء النفوس والقلوب. جزاكم الوطن عن تلك القهقهة احسن الجزاء
تحية عراقية(424/8)
في صدر جريدة (الأحوال) البغدادية تحية موجهة إلى مجلة (الرسالة) بإمضاء (رفيع)، وقد وضعت التحية في إطار جميل يصور بعض مواقع السحر في بغداد
فماذا نصنع في رد تلك التحية؟
نقدم إلى قرائنا الأخبار الآتية:
أولاً - لم ألاحظ فيما يصل من جرائد ومجلات أمثال (الأحوال، الأخبار، والكرخ، والحضارة، وصوت الحق) أن العراق كان وقع في كروب بسبب الحرب؛ فالعراق هو هو، وروحه المعنوية لا يزال قوياً سليماً، اهتمام هذه الصحف بشؤون التعليم والاقتصاد لم ينله أي ضعف، فهي لا تلتفت إلى الماضي لتجتر ما وقع فيه من لاواء، وإنما توجه جهودها إلى المستقبل بعزيمة ومضاء، وكذلك يفعل عقلاء الرجال
ثانياً - وزارة الدفاع الوطني هناك تنشر الإعلانات من وقت إلى وقت في دعوة الشبان إلى الإقبال على الجندية، وهي ترغبهم بشتى الوسائل كان تقول أن مرتباتهم في أيام الدراسة بمختلف المدارس العسكرية ستكون على هذا الوصف أو ذاك، وأن حالتهم بعد التخرج ستكون على هذه القاعدة أو تلك، وأعظم وسيلة في نظر وزارة الدفاع هي تذكير أولئك الشبان بأنهم سيكونون حماة البلاد، وهذا روح يدل على الشعور بقوة الذاتية، ويبشر بمستقبل مرموق، حقق الله الآمال!
ثالثاً - في جميع النشرات التي تصدرها وزارة الدفاع نجد العبارة الآتية:
(يجب أن يكون الطالب عراقياً، وليس متجنساً)
ومن هذه العبارة نفهم أن الاتجاه الجديد في العراق يوجب أن يكون الجنود والضباط والقواد من دم عراقي سليم، ولهذا الاتجاه الجديد أسباب لا تخفي على أولي الألباب
زكي مبارك(424/9)
كيف يكتب التاريخ
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
- 2 -
العلوم المساعدة
المقبل على دراسة التاريخ وكتابته ينبغي أن يعلم من أو الأمر أنه مقبل على عمل شاق يتطلب الجهد والتضحية والصبر الطويل، وأنه تلزمه دراسة عميقة وتحصيل جدي. وأنواع المعرفة الإنسانية متداخلة متشابكة فيما بينها؛ ولا يمكن أن يدرس علم معين مستقلاً بذاته عن باقي العلوم الأخرى. فمثلاً لا يستطيع الإنسان أن يفهم القرآن بدون أن يعرف اللغة العربية وعلم القراآت والفقه. . . وكذلك دراسة التاريخ متصلة بأنواع مختلفة من المعرفة الإنسانية. وكاتب التاريخ ينبغ أن يكون واسع الثقافة عارفاً بالعلوم المتصلة مباشرة بدراسة وكتابة التاريخ. ويمكن أن تسمى أنواع المعرفة اللازمة للمؤرخ بالعلوم المساعدة؛ وهي تختلف باختلاف العصر الذي يرغب الكتابة عنه؛ فالعلوم المساعدة اللازمة لمن يكتب في تاريخ اليونان القديم تختلف عن العلوم المساعدة الضرورية لمن يكتب في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية
ومعرفة اللغات من أهم العلوم المساعدة الضرورية للراغب في كتابة التاريخ. فلابد أولاً من معرفة اللغة الأصلية للعصر التاريخي المرغوب الكتابة عنه، لأن التراجم التي تكفي للثقافة العامة لا تكفي المؤرخ للتغلغل في تاريخ ذلك العصر، فالراغب في الكتابة عن تاريخ اليونان القديم لابد له من معرفة اللغة اليونانية القديمة. ومن يرغب الكتابة عن تاريخ العصور الوسطى في الغرب يلزمه معرفة اللغة اللاتينية التي كانت سائدة في تلك العصور. والراغب في الكتابة عن تاريخ إيطاليا من الضروري له أن يعرف اللغة الإيطالية. وأهمية اللغات لا تكون بدرجة واحدة بالنسبة للعصور التاريخية المختلفة. فمثلاً الراغب في الكتابة عن الثورة الفرنسية ليس من الضروري أن يعرف اللاتينية، ومن الأفضل أن يصرف جهده لتعلم لغة أوربية حديثة؛ ولكن اللاتينية ضرورية لمن يرغب في(424/10)
دراسة تاريخ الكنيسة حتى في العصر الحديث. وعلى كل فإنه كلما تعددت اللغات القديمة أو الحديثة التي يلم بها الباحث في التاريخ اتسع أمامه أفق البحث والاستقصاء. فأي باحث في التاريخ ينبغي أن يعرف اللغات الأصلية، قديمة أو حديثة، المتعلقة بالعصر الذي يدرسه كالهيرغليفية واليونانية واللاتينية والعبرية والعربية والفارسية والتركية لكي يستطيع أن يرجع بنفسه إلى الأصول التاريخية الأولى؛ وكذلك ينبغي أن يعرف اللغات الأوربية الحديثة الشائعة الاستعمال وهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وإن قصر في معرفة بعضها ينبغي أن يسد هذا النقص، وذلك لكي يقرأ المؤلفات التي تصدر بهذه اللغات عن العصر الذي يدرسه. وقد تبدو مسألة تعلم اللغات عسيرة، وقد تجعل أشجع الناس يتردد في الإقدام عليها؛ ولكنها دراسة لابد منها لمن يرغب جدياً في كتابة التاريخ، ويحسن أن يبدأ الراغب في كتابة التاريخ دراسة اللغات الضرورية أثناء وجوده بالمعاهد النظامية؛ ولكن لا داعي لأن يدرس عدة لغات في وقت واحد. وليس هناك ما يمنع الباحث من دراسة أية لغة جديدة في أي وقت من حياته؛ ودراسة سنتين في إحدى اللغات الجديدة على الباحث كافية كأساس مبدئي، يستمر بعدها في المزيد. ويا حبذا لو أمكنه قضاء بعض الزمن في بلد تلك اللغة الجديدة
ومن العلوم المساعدة الأساسية لكتابة التاريخ علم قراءة الخطوط وقراءة أنواع الخطوط تدرس بعناية في جامعات الغرب. وتوجد أنواع مختلفة من الخطوط الغربية والشرقية تبقي كالطلاسم حتى يتعلمها الباحث ويتدرب على قراءتها. ودراسة هذه الخطوط توفر عليه الوقت وتجنبه الوقوع في الخطأ فيما لو ترك المسألة لمجرد التعلم بالتمرين؛ وأحياناً توجد وثائق كتبها سفراء وقناصل الدول إلى حكوماتهم بالشفرة، وذلك لإخفاء معلوماتها عمن يحتمل أن تقع في يده من الاعداء؛ فينبغي تعلم فك هذه الشفرة بواسطة المفتاح الخاص بها إن وجد في دار الأرشيف التي يعمل فيها دارس التاريخ. ويوجد بالأرشيف الواحد أكثر من مفتاح واحد على حسب الحالة، ومفاتيح الأرشيف تختلف من بلد إلى آخر. فمفاتيح أرشيف الفاتيكان تخالف نظيرها في فلورنسا أو فينا أو باريس أو مدريد. وعلم قراءة الخطوط ضروري جداً لدراسة فروع مختلفة من التاريخ مثل تاريخ مصر القديم، وتاريخ اليونان والرومان، وتاريخ العصور الوسطى، والتاريخ الحديث، حتى أوائل القرن السابع عشر،(424/11)
بالنسبة لدور الأرشيف في أوربا، وبعد ذلك العهد تصبح الخطوط واضحة مقروءة. والخط العربي مثلاً كتب بأشكال مختلفة، فمنه: الطومار والنسخي والرقعة، وقراءتها تحتاج إلى تعلم وتمرين؛ ولقد وضع بعض القدماء والمحدثين في الشرق والغرب بحوثاً في قراءة الخطوط العربية. وفي الشرق الأدنى العثماني كتبت الوثائق التركية بعدة خطوط مثل الخط الديواني وخط القيرمة، وقراءتهما تحتاج إلى تعليم خاص. ومجموعات وثائق دار المحفوظات المصرية بالقلعة تحتوي آلاف الوثائق عن تاريخ مصر المالي والإداري في العهد العثماني وفي عهد محمد علي وخلفائه. وكلها مكتوب باللغة التركية وبخط القيرمة؛ وكذلك توجد مجموعات من الوثائق بهذا الخط في سورية وتركيا. وستظل معلوماتنا عن هذه القرون الطويلة قاصرة وناقصة وقابلة للتعديل حتى يتعلم الباحثون قراءة خط القيرمة، ويتمكنوا من دراسة هذه الكنوز التاريخية على مدى عدة أجيال
ويتصل بدراسة الخطوط علم الدبلومات فيتعلم الباحث لغة ومصطلحات وثائق العصر الذي يدرسه، وأنواع الورق والحبر الخاص بها، لكي يستطيع أن يعرف صحة الوثيقة أو بطلانها. ويلزم الباحث أن يعرف بعض نواحي علم الكيمياء لكي يستعين بذلك على فحص هذه الوثائق بنفسه إذا اقتضى آلام؛ ثم يأتي علم النومات أي علم النقود والمسكوكات. فالعملة والأنواط التي تحمل صور الملوك أو ذكرى حوادث تاريخية معينة، عليها سنو ضربها تفيد في دراسة التاريخ، فنعرف منها حقائق عن حكم الملوك وعن مدى انتشار التجارة وعن تاريخ الفنون
والجغرافيا من العلوم المساعدة الضرورية لدراسة وكتابة التاريخ؛ والارتباط وثيق بين التاريخ والجغرافيا. فالأرض هي المسرح الذي حدثت عليه وقائع التاريخ، والظواهر الجغرافية المختلفة لها أكبر الأثر في الإنسان والتاريخ. فالسهول والجبال والصحاري والوديان والأنهار والبحار والمناخ وأنواع الرياح والثروة الطبيعية والموقع الجغرافي تؤثر كلها على تكوين الإنسان وعلى نوع حياته وعلى نوع الحضارة وعلى حوادث التاريخ. فلدرس تاريخ مصر مثلاً لابد من معرفة أثر ظروفها الجغرافية في التاريخ المصري. فموقع مصر بين الشرق والغرب قد جعلها تجمع ثروة طائلة لمرور التجارة العالمية بأراضيها في العصور الوسطى؛ وموقعها الجغرافي جعلها تقف أمام أوربا أثناء الحروب(424/12)
الصليبية. وظروف الجزر البريطانية الجغرافية قد منعت أوربا عن التدخل في شؤونها. وفي الوقت نفسه جعلتها تسيطر على البحار وتتدخل في الشؤون الأوربية في أوقات مختلفة. وأحيانا تتدخل العوامل الجغرافية تدخلاً حاسماً في تغيير مجرى التاريخ. فالعواصف والأنواء قد ساعدت الأسطول الإنجليزي على التغلب على الأرمادا الإسبانية في 1588. وشتاء الروسيا كان من العوامل التي أدت إلى فشل حملة نابليون في 1812. فلابد من الإحاطة بكل هذه الظروف لفهم التاريخ. والتاريخ والجغرافيا متلازمان ولا يمكن استغناء الواحد منهما عن الآخر
والأدب من العلوم المساعدة لفهم وكتابة التاريخ. فدراسة الأدب بصفة عامة توسع عقل الإنسان وتجعله أقدر على الفهم. ولابد للراغب في كتابة التاريخ من أن يتذوق الشعر لكي يفهم ملكة الخلق والابتكار. ويلزمه أن يقرأ القصص الأدبي لكي يتعلم فن عرض الموضوع وإبراز الحوادث المهمة وبحث الشخصيات، ووضع التفاصيل في المكان الملائم وإثارة انتباه القارئ، ويحسن أيضاً دراسة بعض كتب النقد الأدبي لأن هذا يساعد على نقد التاريخ. ودراسة الآثار العقلية لأمة ما أمر ضروري جداً لفهم تاريخ هذه الأمة. فمعرفة الأدب اليوناني ضرورية لكتابة تاريخ اليونان؛ والإلمام بالأدب الإيطالي لازم لكتابة تاريخ إيطاليا؛ ودرس الأدب الإنجليزي مهم لفهم تاريخ إنجلترا
ويتصل بدراسة الأدب الفنون المرتبطة بالشعب أو بالعصر الذي يرغب الباحث الكتابة عنه، مثل فنون النحت والتصوير والعمارة والموسيقى. فمن يرغب في دراسة تاريخ اليونان القديم لابد له من أن يدرس تطور الفن اليوناني القديم. ومن يرغب الكتابة عن تاريخ النهضة في إيطاليا يلزمه أن يدرس تطور الفن الإيطالي في عصر النهضة. ويمكن جمع ثقافة فنية عامة بدراسة الصور والرسوم في بعض المؤلفات العامة. ويا حبذا لو أمكن الباحث أن يدرس أهم آثار الفن اليوناني أو الإيطالي في متاحف اليونان وإيطاليا، ويعيش بعض الزمن في ذلك الجو الفني الخالص بين روائع فنون التصوير والنحت والموسيقى. ولا ريب فان الفنون خلاصة العواطف الإنسانية، تعبر أصدق تعبير عن روح العصر، والتأثر بها يجعل الباحث أقدر على فهم التاريخ وكتابته
ومن المسائل الأساسية لمن يرغب في كتابة التاريخ أن يعلم ما عرفه العالم عن التاريخ(424/13)
قبل أن يكتب التاريخ. فينبغي أن يقرأ بعض أثار كبار المؤرخين السابقين مثل: هيرودوت وتوسيديد وليفي وماكيافيللي وفيكو وجبون وفولتير. . . وأن يقرأ بعض المؤلفات الحديثة عن التاريخ عامة، وعن العصر الذي يرغب في الكتابة عنه خاصة. فيلم بثقافة تاريخية عامة، كما يعرف الطرق التي اتبعها الأقدمون والمحدثون في بحث وكتابة التاريخ
ومن المفيد أيضاً أن يلم الباحث في التاريخ بطائفة أخرى من العلوم المساعدة. فيلزمه أن يعرف شيئاً عن المنطق وتقسيم العلوم لكي يفهم موضع التاريخ من بقية العلوم الأخرى، كما ينبغي أن يدرس فلسفة التاريخ فيعرف أراء بعض الكتاب مثل: برجسون وكروتشي. وهو محتاج أيضاً لأن يعرف مسائل عامة عن علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والمالية والقانون والنظريات السياسية، والرياضة والفلك في بعض الأحيان، لأنه قد تعرض للباحث كل أو بعض هذه المسائل، فلابد من أن يكون ملماً بها، وإذا لم يكن يعرف بعض هذه النواحي، فيمكنه تحصيلها بسهولة
وأخيراً من الضروري جداً ألا يبقى الباحث في التاريخ في بلد واحد وفي دائرة محصورة؛ بل يلزمه السفر والارتحال إلى بلدان مختلفة، لا من أجل البحث التاريخي في ذاته فقط، بل لكي يرى أفاقاً جديدة، ويكسب خبرة بالناس وبالأوساط المختلفة. ومن الضروري أن يقضي زمناً في البلد الذي يدرس تاريخه. والأفضل أن يبدأ الباحث سفره بعد أن ينهي تعليمه الجامعي في بلده الأصلي، وبعد أن يقطع شوطاً في الدرس، وبعد أن يتعين له العصر الذي يرغب الكتابة عنه؛ فيسافر وقد تزود بأسلحة نافعة وبدأ طريق البحث العلمي، فيمضي في الدرس والكشف عن الحقائق التاريخية، ويزور الأماكن المختلفة، ويدرس ويتأمل؛ والنفس العالية لا تشعر بأنها غريبة في أي مكان
وهذا كله ملخص عن العلوم المساعدة وعن الأعداد اللازم لمن يتصدى لكتابة التاريخ. وليس المقصود بذلك التوسع في كل هذه النواحي لذاتها؛ فان هذا غير مستطاع. وإنما يكفي المعرفة العامة بقراءة بعض الكتب. وقد تزيد المعرفة في نواحي معينة من هذه العلوم المساعدة، على حسب طبيعة العصر الذي يرغب الباحث في دراسته والكتابة عنه. وقد يبدو من العسير جمع هذه الثقافة العامة؛ ولكن تخصيص حوالي ست سنوات أو سبع، تفعل عجائب، وتكفي للوصول إلى مستوى مناسب، يزداد بالتدريج. وروح العلم الصحيح لا(424/14)
تعرف العقبات؛ والإخلاص والصبر يصلان بالباحث إلى الغرض في أغلب الأحيان.
(يتلى)
حسن عثمان(424/15)
الشِعْر
للأستاذ بنيامين خليل
كثيراً ما قامت موازنات بين الشعر والتصوير؛ فقد قال (سيمونيدس) (الشعر تصوير ناطق، والتصوير شعر صامت). وقال (كوزن): (الشعر أول فن من الفنون الجميلة، لأنه يمثل غير المحدود خير تمثيل). وقال أيضاً: (ولو أن الفنون - إلى حد ما - بعضها بمعزل عن البعض الآخَر، فإن فناً منها قد انتفع بموارد جميع الفنون، ألا وهو الشعر. فمن الكلمات يستطيع صاحب القريض أن يصوغ صورة، أو ينحت تمثالاً، أو يحاكي المهندس المعماري في تشييد المباني. وفي مقدور الشعر أن يجمع بين عذوبة اللفظ والموسيقى. ففي الشعر كما يقولون تتلاقى جميع الفنون).
إن قصيدة عصماء معرض من الصور. ومما لا جدال فيه أن التصوير والنحت يعطياننا - عن شيء لم نره من قبل - صورة أكثر وضوحاً من أي قول أو وصف؛ ولكن إذا ما وقع الشيء تحت أنظارنا - تنعكس الآية - فنرى ثمة أموراً كثيرة يبرزها الشاعر أمامنا، وقد كنا لا نراها قبلاً في الشيء ذاته من تلقاء أنفسنا؛ فالفني هو الذي يصنع الأشياء واضحة كل الوضوح، أما الشاعر فهو الذي يخلق الأحداث والمعاني.
الشاعر العبقري مهبط الوحي والإلهام، ولذا نرى له حاسة فائقة لإدراك الجمال، وله مشاعر أدق من مشاعر معظم الرجال، مشاعر مضبوطة ضبطاً محكماً. قد يكون المرء شاعراً ولو لم يدرس شيئاً عن علم العروض؛ أما من يكتب شعراً رديئاً، أو حقير، فهو ليس بشاعر. لا يحيا الشعر ويدوم طويلاً إلا إذا كان شعراً حياً، إذ أن ما يصدر عن العقل والعاطفة ينسكب في القلب.
إن الشعراء والكتاب الذين يعدون في الطبقة الثانية سرعان ما تنقرض ذكراهم، ويتقلص ذكرهم، ويتوارى في زوايا النسيان؛ أما العباقرة منهم فأثرهم خالد إلى الأبد. ألم يعمر شعر حوالي 2500 سنة دون أن يفقد حرفاً من حروفه، أو مقطعاً من مقاطعه، على حين نرى قصوراً شاهقة وقلاعاً حصينة قد دمرت واتى عليها العفاء؟ أجل لا يتسنى لنا أن نحصل على تماثيل كورش والإسكندر قيصر، أو على صورهم الحقيقية، لأن الصور الأصلية لا تدوم، وما ينقل عنها تنقصه الحياة وتعوزه الحقيقة. أما الصور الذهنية لعبقرية الرجال(424/16)
وعلمهم، فتبقى في الكتب بعيدة عن عبث الزمن متجددة في كل حين، وليس من الصواب أن نسميها صوراً لأنها تتوالد وتلقي بذورها في عقول الناس فتثير في الأجيال المتعاقبة أحداثاً وأراء لا حد لها
إذا كان اختراع السفينة فكرة نبيلة. . . تلكم السفينة التي تنقل الثروة والمتاجر من مكان إلى أخر، وتصل البلاد المتنائية بعضها ببعض فتتبادل محصولاتها - فما أحرانا أن نعظم الآداب التي تحاكي السفن في كونها تمخر عباب البحار، ولكنها بحار الزمن المترامية الأطراف، فتربط العصور المتوغلة في القدم، فينتفع كل عصر بحكمة العصور الأخرى وثقافتها واختراعاتها!
يحتاج الشاعر إلى مؤهلات كثيرة. يقول (كوزن) (من الذي وضع تصميم هذه القصيدة الغفل؟ وما الذي البسها الحياة والبهاء؟ الحب. وما الذي ارشد العقل والحب؟ الإرادة). ومن المسلم به أن لكل من الرجال قسطاً من الخيال، أما المحب والشاعر فمن الخيال قد خلقا كلاهما
إن عين الشعر ترنو في سمو وجلال، وتسبح من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء؛ بينما خيال الشاعر يتصور الأشياء غير المنظورة، نرى براعته تصوغها في قالب فني جميل، تعين للعدم مكاناً وتعطيه اسماً
يقول (شيشرون) الخطيب الروماني الشهير في خطبته عن (اركياس): (أليس هذا الرجل جديراً بحبي، جديراً باعجابي، جديراً بكل ما أستطيع من وسائل دفاعي عنه؟ أننا قد تعلمنا عن اكثر الناس حكمة أن التربية والتعليم والمران تكسب المرء تفوقاً في أي فرع من فروع العلم غير الشعر. أما الشاعر فقد صاغته الطبيعة وأيقظته القوى العقلية، وأوحى إليه بما نسميه روح الإله نفسه). يقول أفلاطون: (الشعراء أبناء الإلهة ومترجموهم)
يرفع الشعر الحجاب عن جمال العالم، ويبسط على الأشياء المألوفة فيضاً من النور وهالة من الخيال. أن من يحب الشعر حباً حقيقياً لا يعجز عن إحراز قسط وافر من السرور بمظاهر الطبيعة التي لا يرى فيها محبوها إلا جمالاً، ولا يسمعون منها إلا أنغاما موسيقية. على أن الطبيعة - مع ما فيها من أنهار عذبة، وأشجار مثمرة، وازاهير أرجة عطرة - لم تبرز الأرض في حلة أبهى واجمل مما وصفها به الشعراء(424/17)
نرى الشاعر ينقلنا من المدينة التي تنعقد فوقها سحب الدخان بطريقة ساحرة - ينقلنا من جو ملبد بالدخان إلى الهواء الطلق، إلى الشمس الساطعة، إلى حفيف أشجار الغابات، إلى خرير المياه، إلى تلاطم الأمواج بالرمال - ويساعدنا الشاعر على نسيان هموم العيش ومتاعب الحياة كأننا مستغرقون في حلم من لذيذ الأحلام
يجب أن يكون الشاعر ذا معرفة لا بالطبيعة الإنسانية فحسب، بل بالطبيعة بأكملها اكثر مما يتصف به غيره من الرجال. اخبرنا (كراب روبنسون) أن رجلاً أستأذن في مشاهدة حجرة مكتب (وردسورث) فأجابته الخادم قائلة: (هذه حجرة مكتب سيدي، ولكنه يقوم بالدرس في الحقول)
ولنقدر الشعر حق قدره يجب ألا ننظر فيه نظرة سطحية، أو نقراه على عجل، أو نطالعه لكي نتكلم أو نكتب عنه، بل يجب أن يركز الإنسان عقله في وضعه الصحيح
أن كنوز الشعر التي لا تحصى في متناول كل منا؛ فقد يكون خير الكتب ارخصها، إذ بثمن كوب من الجعة أو قليل من تبغ، نستطع أن نشتري أحد مؤلفات شكسبير أو ملتون، أو عدداً من الكتب يفيد الإنسان من مطالعتها طيلة العام
وفي تعرف فائدة الشعر، لا نقصر نظرنا على أثره في الماضي أو الحاضر فحسب، يقول مستر ولم يقم ثمة من هو أحق بالكلام عن الشعر منه: أن مستقبل الشعر عظيم، فالفكرة في نظمه هي كل شيء، وما عدا ذلك فهو ضرب من الغرور. ففي الفكرة تمتزج العاطفة والشاعرية، فتصبح الفكرة حقيقة. إن أقوى عنصر في الدين في أيامنا هذه هو الجانب الشعري غير المحس فيه
قد سمي الشعر بحق: سجل اسعد الأوقات وخيرها لخير العقول وأكثرها هناءة. . . الشعر ضوء الحياة، بل هو نفس صورة الحياة، معبراً عنها بصدق أبدي. . . الشعر يخلد كل ما هو خير، وكل ما كان أية في الإبداع والجمال. . . وانه يزيل عن بصيرتنا الداخلية غشاوة الابتذال التي تخفي عنا عجائب الكون! ما الشعراء إلا مرايا لتلك الظلال الكبيرة التي يلقيها المستقبل على حاضرنا
وفي الواقع أن الشعر يطيل الحياة: انه يخلق لنا الوقت إذا قيس الوقت بتتابع الأفكار لا بعدد الدقائق. . . والشعر هو روح المعرفة لا يحده زمان ولا مكان بل يعيش في روح(424/18)
الإنسان. . . فأي مديح خير من أن يقال: أن الحياة يجب ن تكون شعراً مصوغاً في قالب عملي فني جميل
ترجمة بنيامين خليل
مدرس الآداب
بالأقباط الثانوية بالمنيا(424/19)
الحروب الصليبية
ماهيتها، تطورها، نتائجها
للأستاذ ر. التميمي
كان مركز البابوية ومقامها قد أنحط كثيراً في أثناء القرن العاشر واصبح موضوع نزاع الأحزاب في رومة؛ واعتلى عرشها أناس لا خلق لهم كانوا سبباً في تشويه سمعتها الدينية فسقطت أهميتها في نظر المسيحيين. وحينما اعتلى عرش الإمبراطورية هنري الثالث اهتم بأمر البابوية وعزم على النهوض بها فعين لها رجالاً من ذوي الكفاءة والمقدرة؛ وهكذا بدأ الباباوات يستعيدون مكانتهم التي كانوا قد أضاعوها خلال القرن العاشر واخذوا يعملون على إصلاح المساوئ وإعادة المجد البابوي
وأشهر من قام بهذه المهمة الصعبة هو هيلد براند الذي ارتقى عرش البابوية باسم غريغوري السابع، فقد نظم شؤون الكنيسة تنظيماً محكماً وقضى على الفوضى فيها وجمع السلطة الدينية في يده وحكم على رجال الدين كبيرهم وصغيرهم أن يخضعوا له دون اخذ ورد. هكذا مهد السبيل لخليفته أربان الثاني الذي رأى بعين البصيرة أن الظروف أضحت مواتية ليقوم بأكبر عمل يعلى به مجد النصرانية وهو إشهار الحروب الصليبية على المسلمين وتخليص الأراضي المقدسة من أيدهم. ولقد اتفق أن هاجمت الجيوش السلجوقية الإمبراطورية البيزنطية وهددتها في عقر دارها فهرع الإمبراطور ألكس يطلب النجدة من البابا أربان الثاني؛ فلما تلقى هذا تلك الاستغاثة رآها فرصة سانحة لبسط سلطان الكنيسة الكاثوليكية على سائر أنحاء العالم النصراني في الشرق والغرب فلبى النداء وقرر السير في ترتيب حملة صليبية كبرى
لقد كان أربان الثاني في قراره هذا يستند على ما كان للكنيسة من قوة ونفوذ في الأوساط المسيحية، إذ أن النصارى يومئذ كانوا لشدة جهلهم يقترفون آثاماً كبيرة ويحملون أنفسهم أوزاراً كثيرة، ولم يكن أمامهم لرفع تلك الأوزار إلا القيام بالأعمال الصالحة كالحج والصوم وتعذيب الجسم والتقشف في الملبس والمأكل، وكان الحج أهم هذه الأعمال وأكثرها ثواباً. أما القتال في سبيل تخليص بلاد ذلك الحج فهو في نظرهم أهم عمل يقوم به إنسان لأنه يرضي به ضميره ويقدم أعظم تضحية للعالم النصراني الذي ينتمي إليه(424/20)
لقد انتبه البابا أربان الثاني إلى هذه الحالة النفسية فتشجع في إشهار الحرب وزاد في نشاطه وجود طائفة من الأمراء، ولا سيما النرمنديين منهم سمعوا بكنوز الشرق وسلطان ملوكه وأمرائه العظيم فطمعوا فيهما، وتمنوا لو أُتيحت لهم الظروف ليكونوا سادة في ذلك الشرق الساحر مثل أولئك الذين ينعمون بأموال وافرة وجاه عظيم وسلطان مطلق
وصادف أن قحطاً شديداً اجتاح القسم الغربي من قارة أوربا وسبب مجاعة وفقراً وموتاً ولا سيما في فرنسا حيث أهلك الحرث والنسل ومات مئات الألوف من الناس وخربت القرى وأقفرت المزارع فبات بسبب ذلك كله معظم سواد الشعب في أشد حالات البؤس والشقاء، فلما نادى منادى الحرب الصليبية أقبل أولئك الجياع إقبالاً هائلاً عليها أملاً في العثور على أقواتهم اليومية، وهم بعملهم هذا يمتثلون أوامر الكنيسة التي كانوا يخشون بأسها وعقابها من جهة، ويحاربون في سبيل تخليص الأرض المقدسة من أيدي المسلمين من جهة أخرى
والحقيقة إن هذه الحروب لم تكن إلا مظهراً من مظاهر التعصب الديني قامت به البابوية في القرون الوسطى ضد العالم الإسلامي. ولقد أثارها البابوات وقذفوا بفرسان الغرب وأُمرائه إلى ساحات القتال في الشرق ليحققوا منافع مادية لصالح الكنيسة ولقد اشترك فيها الملك والأمير والفارس والراجل والنبيل والوضيع والناسك والسارق والراهب والقاتل والتقي والفاجر وكل منهم كان يرمي إلى غاية في نفسه؛ فهذا يريد ملكاً أو إمارة، وذاك يسعى لاكتساب مغنم، وذلك للاغتراف من كنوز الشرق الثمينة. أما السواد الأعظم فقد كان على جهله المطبق لا يريد من وراء تضحياته إلا رضا الكنيسة وتأمين حياة أخروية سعيدة
وهكذا تحركت تلك الجماهير الغفيرة من الغرب إلى الشرق، فكانت حينما تصل إلى البلاد الإسلامية تنقض عليها انقضاض الحيوانات المفترسة فتقتل الناس وتهدم القرى وتحرق ما تجده أمامها من أشجار وزرع ونباتات، وهي بعملها هذا تعتقد أنها تؤدي أقدس واجب تتحمله، وكان الرهبان يشجعون فيهم هذه العقيدة ويستزيدونهم قتلاً ونهباً وتنكيلاً بالمسلمين وزحفت الحملة الأولى بخيلها ورجلها وشبابها وصبيانها ونسائها وحيوانها قاصدة فلسطين مؤتمة بطيور الإوز ومواشي الماعز، وهي عادة حافظ عليها الجرمان من حياتهم الوثنية حين كانوا يقدسون كثيراً من الحيوانات بينها الإوز والماعز، ويتبركون بها؛ فلما زحفوا نحو الشرق مشوا وراءها يلتمسون منها النجاح والظفر، وحينما اجتازت الحملة آسيا(424/21)
الصغرى تعرضت لأشد أنواع المحنة والفاقة والعطش، وكان السلاجقة ينقضون عليهم ويحصدون منهم الألوف حتى لم يبق من تلك الجماهير الزاحفة إلا عدد صغير أمكنه الوصول إلى الديار السورية بعد أن كان عددهم يربو على نصف المليون
وحين وصلت الحملة الأولى كان سوء الحظ ملازماً لسوريا بسبب حكامها السلاجقة وهم من السذاجة بمكان، وكان يحارب بعضهم بعضاً فلم يلتفتوا إلى الخطر الصليبي الذي دهم البلاد. وقد أدت هذه الغفلة التي لا تفتقر إلى ضعف الجبهة الإسلامية ضعفاً لا يمكن وصفه إلا إذا تذكرنا تلك الهزيمة الشنعاء التي منى بها كربوغا صاحب الموصل أمام مدينة إنطاكية، فلقد كان يقود جيشاً عظيماً فيه أكثر من مائتي ألف محارب بعددهم وأقواتهم الكاملة، ومع ذلك فقد أنهزم أمام هياكل بشربة صليبية مزقتهم الفاقة وأهلكهم الجوع وحصدتهم الأمراض السارية، فسجل كربوغا بحماقته صفحة في التاريخ كلها خزي وعار
ولقد كان لهذه الهزيمة نتائج خطيرة جداً؛ فالصليبي الذي أنهكه التعب وأهلكه الجوع أخذ يتقوى بسرعة عجيبة ويستصغر من شأن المسلم الذي دبت فيه عوامل الضعف والخور فولى مدبراً ولم يعقب تاركاً البلاد لأشد أنواع الاعتساف والظلم
هكذا استصغر الصليبيون شأن المسلمين واحتقروا قوتهم المفككة وهزءوا بجبهتهم المتصدعة، فاخذوا المتصدعة، فاخذوا يتنقلون من مدينة إلى أخرى، ولا جيش يقف في وجههم، إلا صوتاً ضعيفاً أرتفع من الخليفة الفاطمي بمصر يكلفهم الكف عن اكتساح المدن السورية، ويعرض عليهم صلحاً شريفاً إلا أن هذا الصوت تبدد بين قعقعة السيوف وهدير الجماهير المسيحية المتحمسة. وهكذا وصلت حملة الأمراء الأولى إلى فلسطين وملكت بيت المقدس. وحين دخلوا المدينة أراقوا دماء المسلمين أنهارا، ولجأ اليهود إلى معبدهم فأحرقوه، فماتوا وسط اللهيب. وفي خلال ثلاثة أيام قتلوا سبعين ألف مسلم، ولم يرعوا للشيوخ وقار سنهم، ولا للأطفال حرمة صغرهم، ولا للنساء ضعفهن؛ وهكذا برهنوا على همجية مستنكرة وقلوب متحجرة، لا تجد لها مثيلاً إلا عند أجدادهم القبائل المتبربرة أيام اكتساحهم الإمبراطورية الرومانية
وبعد الحملة الثانية التي انتهت بفشل ليس بعده فشل، رأى منظمو الحملات الصليبية المتاعب والأخطار الجسمية التي لاقاها الصليبيون في أسفارهم البرية السابقة، فعدلوا عنها(424/22)
واستبدلوا بها أسفاراً بحرية أفادت الموانئ الطليانية فوائد جمة، لأن بحارتها أخذوا ينقلون على مراكبهم الجماهير لقاء أُجرة طيبة
لقد كانت وطأة الفرسان الصليبيين شديدة بسبب أسلحتهم ودروعهم وتروسهم وبسبب تمرنهم الطويل على أنواع القتال والمبارزة، فإذا ما خاض أولئك الفرسان حرباً أو موقعة فترت همتهم وضعفت شوكتهم واخذوا يشكون من حرارة الطقس ومن شدة بأس المحاربين المسلمين. وكانوا ينتهزون أول فرصة ليعودوا إلى بلادهم تاركين الفكرة الصليبية بين يدي أولئك الأمراء ذوي المطامع ورجال الدين الذين انتدبهم البابا لينفذوا أوامره ويشتركوا في وضع الخطط الصليبية والإقطاعية مختلفة
لقد ملك الصليبيون شواطئ سورية مع بيت المقدس والبلاد الفلسطينية ومقاطعة الكرك عبر الأردن وأنشئوا فيها مملكة بالقدس وإمارات ثلاثاً لاتينية إقطاعية في كل من طرابلس وإنطاكية والرها؛ ثم رحل معظم المحاربين إلى ديارهم ولم يبق منهم ألا آلاف قليلة مسلحة أخذت على عاتقها أمر الدفاع عن تلك الإمارات؛ وهؤلاء المدافعون هم أولئك الفرسان الذين ارتبطت منافعهم ومصالحهم بمستقبل البلاد الجديدة اللاتينية. وفي تلك الآونة ألف فريق من الرهبان الفرسان وهيئات دينية عسكرية وظيفتها خدمة الفرنج من الوجهة الصحية وتقديم المساعدات الحربية للدفاع عنهم وعن ممتلكاتهم وهذه الهيئات هي الهيكليون أو الداوية والاسبتاليون والتيوتونيون.
ومما تقدم يفهم أنه كان من السهل جداً على أي أمير مسلم يعرف واجباته ويقدر حرج موقف خصومه أن ينقض بجيش مدرب على أولئك الغرباء وأن يقذف بهم إلى لجج اليم ويخلص البلاد من أحكامهم الجائرة وقوانينهم القاسية؛ إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل إلا بعد مضي نحو نصف قرن على امتلاك اللاتين للشطوط السورية.
وأول من تنبه إلى موقف الفرنج الضعيف هو عماد الدين زنكي صاحب الموصل حينئذ، فلقد شهر عليهم حرباً شعواء ظل لهيبها مستعراً نحو خمسين سنة، خاض غمارها هو نفسه مع جيشه المدرب بضع سنين، ثم مات مقتولاً، فخلفه في الجهاد ابنه نور الدين محمود ومن بعده صلاح الدين الأيوبي وانتهت هذه الحرب بظفر صلاح الدين الكبير وامتلاكه بيت المقدس.(424/23)
لقد قام صلاح الدين بالمهمة التي تلقاها من سيده وأستاذه نور الدين محمود فأداها على أحسن وجه بعد أن انقض على الجيش الفرنجي في معركة حطين (صيف سنة 1187) وسحقه سحقاً، ثم استرد البلاد من أيديهم الواحدة تلو الأخرى، واسترد بيت المقدس، فدخلها صلحاً وعامل الفرنج بمنتهى التسامح والشفقة والرحمة، فكان مثالاً ممتازاً للحاكم العادل والقائد الظافر المتصف بالشهامة والمروءة؛ وكأنه بتسامحه ومروءته وشهامته يريد أن يلقي درساً في الأخلاق العالية والشفقة والرحمة على أولئك السفاكين والقتلة الذين ذبحوا سبعين ألف مسلم ذبح الخراف حين احتلوا المدينة المقدسة
ولقد كان في نيته وفي مكنته أن يطهر البلاد منهم نهائياً، لو لم تغتله المنية قبل الأوان، فترك مهمة التطهير النهائي إلى خلفائه من بعده
على أن الجهاد الذي أستأنفه خلفاء صلاح الدين ظل قائماً نحو عصر كامل آخر، وذلك لأن ذلك الجهاد لم يكن متصل الحلقات بل كانت تنتابه فترات يتقاتل ويتطاحن خلالها الأمراء والسلاطين المسلمون.
فقد تخاصم الملك العادل مع أولاد أخيه صلاح الدين وتقاتل سائر الأمراء الأيوبين، فكان لنزاعهم الأثر السيئ في نفوس المسلمين، إذ ضعفت همتهم وانحطت شوكتهم وقلَّت قيمتهم، وهذا ما مكن الفرنج من إطالة الإقامة والحكم في إمارتهم اللاتينية الهزيلة. على أن التقاتل هذا لم يكن يقتصر على الحكام المسلمين، بل تناول أيضاً أمراء الفرنج في إمارتهم، فكان يشتد بين الفرنسيس والإنكليز والألمان، وبين البنادقة وتجار جنوة، وبين رهبان طائفتي الداوية والإسبتالية. وفي ببعض الأحيان كان ينقلب ذلك الخلاف إلى حرب طاحنة تذهب فيها الأرواح الصليبية بلا حساب
والفرنج الذين كانوا يأتون حديثاً إلى الأرض المقدسة كانوا يختلفون مع إخوانهم القدماء من اللاتين المقيمين في هذه البلاد وذلك بسبب الفروق البارزة في عادات وتقاليد كل من الفريقين. فالمشارقة منهم مضى عليهم اكثر من عصر وهم يعيشون في ديار الشرق ويقلدون الشرقيين في مأكلهم ومشربهم ومسكنهم؛ وصاروا ينظرون إلى مسلمي سوريا نظرة الجار إلى جاره، فيتعاقدون معهم، ويبادلونهم السلع، ويراعون حقوقهم وعهودهم، وذلك بخلاف حملات الفرسان التي كانت تدهم البلاد بخيلها ورجلها وتعصبه الذميم وقوتها(424/24)
المتناهية، فقد كان رجالها يجهلون الإسلام والمسلمين ولا يعرفون عنهم إلا أموراً وآراء خاطئة ومشوهة؛ فإذا ما دهموا بلداً لهم وقرية انقضوا عليها انقضاض الباشق على فريسته، وهكذا كان الخلاف يشتد بين فريقي اللاتين القدماء والجدد، وكان يرمي بعضهم بعضاً بأشنع التهم؛ فقد كان الغربيون يقولون مثلاً إن المشارقة خونة لا عهد لهم ولا ذمة، يصادقون المسلمين أعداء النصرانية ويتعاقدون معهم؛ أما المشارقة وهم الذين صقلت طباعهم وتهذبت أخلاقهم وهدأت ثورة تعصب الذميم عندهم بفضل مجاورتهم للشرقيين، فقد كانوا يرون في فرسان الحملات المتتابعة شراسة في الطبع وغلظة في الخلق مع قوة متزايدة وجشع في سفك الدماء وميل غريزي للنهب والسلب، فكانوا لذلك يحتقرونهم ويخشون بأسهم
ولقد بحث الفارس المسلم والأديب المعاصر أسامة بن منقذ الكناني الشيزري في مذكراته (كتاب الاعتبار) عن اختباراته الشخصية في عادات الإفرنج الصليبيين فقال ليس عند الإفرنج شيء من النخوة والغيرة، وهم يعالجون مرضاهم بطرق ابتدائية، ويحاكمون المذنبين منهم بأساليب غبية عجيبة، وكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنج يكون أجفى أخلاقاً من الذين تبلدوا وعاشروا المسلمين. ثم يذكر أنه نفذ صاحباً له إلى إنطاكية في شغل، وكان بها الرئيس تادرس بن الصفي - وهو يقصد يئودوروس صوفيانوس - وكان بينهما صداقة، فقال هذا لصاحب أُسامة الموفد إلى إنطاكية يوما: (قد دعاني صديق لي من الإفرنج: تجئ معي حتى ترى زيهم)، فمضى المسلم إلى دار فارس من الفرسان العتق الذين خرجوا في أول خروج الإفرنج، وقد اعتفى من الديوان والخدمة، وله بانطاكية ملك يعيش منه، فأحضر مائدة حسنة وطعاماً في غاية النظافة والجودة ورأى المسلم موقفاً عن الأكل فقال له:
(كل طيب النفس فأنا ما آكل من طعام الإفرنج ولي طباخات مصريات ما آكل إلا من طبيخهن ولا يدخل داري لحم خنزير)
فأكل المسلم وهو محترز ثم انصرف
(فلسطين)
ر. التميمي(424/25)
سنة. . .
للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد
سَنةٌ مرَّت ولا كلَّ السنين
بين صيف من هوانا وشتاء
وربيع كلما غام أضاء
والضحى والليل حيناً بعد حين
سنةٌ كان لها نجم فريد
غمر الشمس وغطَّى القمرا
ومشى في حسنه منتصرا
كل برج تحته برج سعيد
إن يكن لي في سناء رقباء
فالذي أرصده لم يرصدوه
والذي أَنشده لم يَنشدوه
والذي هاموا به عندي هباء
سنةٌ مرت على روض الغرام
أنبتت فيه فنون الشجر
من رياحينَ وغرسٍ مثمر
وسل الأرواح ما أزكى الطعام
يومها الأول وافى ودنا
فانس أيامك في ساعاته
واجمع الصافيَ من لذَّاته
جرعةً، واطرَب عليها زمنا
جرعة نجمع فيها سكرَ عامْ
إن شربناها فقد تشربُنا
أو سكبناها فقد تسكبنا(424/27)
في الهوى روحين في كأسِ وئام
جدد الذكرى وقرِّب لي العِيان
فهما يا صاحبي بين يديّْ
حضرا الساعة يا صاح لديَّ
ربة الذكرى وذكراها قران
هات لي الذكرى أراها وتراني
غضةً ملموسة في راحتيْ
حلوة معسولة في شفتيْ
جنةً تنبت في كل أوان
جنتي لا حيَّةُ تخرجني
ابداً منها ولا أحياؤها
لا ولا إبليس أو حواؤها
أنا فيها خالد كالزمن
أنا منها وهي مني في الضمير
فإذا فارقتها بالنظر
لم يفارقها ضميري عُمُري
وله العصمة من مس السعير
سنةٌ كان لها نجم فريد
هات منها أيها النجم وهات
سنةّ ثانيةً بل سنوات
ولنا منك مزيد المستزيد
أنت يا نجم معيدٌ ما تشاء
لا السموات ولا داراتها
غُنيةٌ عنك ولا أوقاتها
أنت ميقات وشمس وسماء(424/28)
أنت تدنيها سماء زَلفا
تنسج الوقت لنا منفردين
لا مشاعا كنسيج النيِّرين
بل لنا طوع يدينا وكفى
عباس محمود العقاد(424/29)
أخبار سلم الخاسر
للأستاذ حسن خطاب الوكيل
هو سلم بن عمرو مولى بني تيم بن مرة ثم مولى آبى بكر الصديق رضى الله عنه. وكان من سبب تسميته بالخاسر انه ورث عن أبيه مالاً كثيراً - مائة ألف درهم - أنفقها كلها في طلب الشعر والأدب والموسيقى. كما انه ورث مصحفا من أبيه كان لجده من قبل فباعه واشترى بثمنه طنبورا، لذلك لقبه بعض أهله وجيرانه بالخاسر وقالوا انفق ماله على ما لا ينفعه. فأسرها سلم في نفسه ولم يبدها لهم. ومضى في سبيله يجد في طلب الشعر وراويه، والأدب وذويه، حتى حاز قصب السبق وصار علما من أعلامه، وشاعراً مطبوعاً متصرفاً في فنون الشعر، ورواية لبشار ابن برد أستاذه. وعنه أخذ، ومن بحره اغترف. ومدح الملوك والأمراء، وتحدى الشعراء. ومن محاسن الصدف انه مدح المهدي العباسي بقصيدة فأعجب بها وأمر له بمائة ألف درهم، وكان المهدي على علم بسبب تسمية بالخاسر، فقال خذ هذا المال وكذب به جيرانك؛ فجاءهم سلم بالمال وقال لهم هذه المائة ألف درهم التي أنفقتها وربحت الأدب. فأنا إذاً سلم الرابح لا سلم الخاسر
وحدث أن أستاذه بشار بن برد بعثه إلى عمر بن العلاء بقصيدة مدحه بها التي يقول فيها:
إذا نبهتك صعاب الأمور ... فنبه لها عمراً ثم نم
فلما جاءه سلم بها وأنشده إياها أمر عمر بن العلاء بمائة ألف درهم لبشار بن برد؛ فلما رأى سلم المال الموهوب لأستاذه بشار تحركت نفسه وتلمظت شفتاه إلى نيل جائزة له أيضاً. فقال لعمر بن العلاء إن خادمك - يعني نفسه - قد قال في طريقه إليك قصيدة فيك. فقلل له عمر - فإنك لهناك - فأجابه سلم. تسمع ثم تحكم، فقال عمر هات فأنشد قوله:
قد عزني الداء فمالي دواء ... مما ألاقي من حسان النساء
قلب صحيح كنت أسطو به ... أصبح من سلمى بداء عَياء
أنفاسها مسك وفي طرفها ... سحر ومالي غيرها من دواء
إلى أن قال:
كم كربة قد مسني ضرها ... ناديت فيها عمر بن العلاء
فاعجب بها عمر وأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت عطية سنية لم تخطر له ببال(424/30)
وكان من خبره انه حدث بينه وبين أستاذه بشار فتور وانقطاع بسبب انه اخذ معنى لبيت من شعر بشار وصاغه في بيت له قضى به على بيت بشار وسارت بحديثة الركبان، واصل البيت من قصيدة لبشار:
لا خير في العيش أن دُمنا كذا أبدًا ... لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج
قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم ... ما في التلاقي ولا في غيره حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فعمد سلم الخاسر إلى البيت الثالث وصاغه هكذا:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
فبينما بشار بن برد في منزله إذ دخل عليه أبو معاذ النميري فقال له: لقد قال سلم الخاسر بيتاً من الشعر هو أحسن وأخف على الألسن من بيتك، فقال له بشار وما هو؟ أنشدنيه. فأنشده قول سلم:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
فقال بشار: سار والله بقيت سلم وخمل بيتنا. وكان كذلك إذ لهج الناس بيت سلم وصار مثلاً من الأمثال السائرة؛ أما بيت بشار فلم يتمثل به احد؛ فغضب بشار من سلم وحلف ألا يدخل عنده ولا يفيده ولا ينفعه ما دام حياً. فلما علم سلم بذلك وطال عليه جفاء أستاذه شق عليه ذلك فاستشفع إليه بكل صديق له، وكل من يثقل عليه رده، فكلموه فيه؛ فبعد اللتيا والتي قال بشار: ادخلوه إلي، فاستدناه فلما كلمه قال: إيه يا سلم! من الذي يقول: من راقب الناس لم يظفر بحاجته. . . الخ. قال سلم: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداك. فقال بشار: فمن الذي يقول:
من راقب الناس مات غماُ ... وفاز باللذة الجسور
قال سلم تلميذك وخريجك وعبدك يا أبا معاذ
فاجتذبه بشار إليه وقنعه بمخصرة كانت بيده ثلاثاً وقال له:
يا فاسق!؟ أتجيء إلى معنى قد سهرت له عيني، وتعب فيه فكري، وسبقت الناس اليه، فتسرقه ثم تختصره لفظاً تقربه لتزري علي وتذهب ببيتي؟ فحلف له سلم ألا يعود لشيء مما يكرهه وينكره منه، فرق له ورضى عنه(424/31)
ومن طريف ما حدث لسلم الخاسر أن أبا العتاهية حقد على سلم وحسده على ما يناله من الخطوة والجوائز عند الملوك والأمراء فأرسل إليه ببيتين من الشعر يرميه فيهما بالحرص وهما:
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تصير إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى الزوال
فلما قراهما سلم غضب من أبى العتاهية وقال: ويلي على الجرار ابن الفاعلة الزنديق! زعم أنى حريص وقد كنز البِدر وهو يطلب المزيد، وأنا في ثربي هذين لا املك غيرهما، ولما سرى عنه كتب إليه هذه الأبيات:
ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزِّهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقاً ... أضحى وأمسى بيته المسجد
ورفض الدنيا ولم يلقها ... ولم يكن يسعى ويسترفد
فخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد
الرزق مقسوم على من ترى ... يناله الأبيض والأسود
كل يوفي رزقه كاملا ... من كف عن جهد ومن يجهد
هذا فصل في الكلام قد ساق إليه البيان عن بعض أخبار سلم الخاسر تفكهه للقراء، ولنتخذ دليلاً ثانياً وحجة ناصعة في الآيبات أن الجزء الحادي والعشرين من كتاب الأغاني هو من الأغاني، وسبق أن قدمنا في حجتنا بقصة إسحاق الموصلي وغلامه زياد، وإنها لم تذكر ألا في الجزء الحادي والعشرين منه واقرها ابن منظور في مختصر (الأخبار والتهاني)، فكذا هنا قصة مسلم الخاسر مع أهله وجيرانه، وسبب تسميته لم تذكر إلا في الجزء الحادي والعشرين من الكتاب، وهي بطبيعة الحال جاءت في مختصر الأغاني (حرف السين)، ولولا ذهاب المخطوطات إلى المخابئ لأتينا بالنص كما هو مدون في محله، والله يهدي السبيل
حسن خطاب الوكيل(424/32)
المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
تأليف المستشرق الإنجليزي ادوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
مقدمة المؤلف - القاهرة سنة 1835
في زيارة سابقة للقاهرة قصدت بها - على الأخص - دراسة اللغة العربية في أشهر مدرسة، جعلت اكثر همي ملاحظة شمائل المصريين المسلمين وعاداتهم؛ وسرعان ما أدركت بعد معاشرة هذا الشعب سنتين ونصف سنة أن كل ما أمكنني الحصول عليه سابقا من الأخبار المتعلقة بهم، لا يكفي ليكون ذا فائدة كبيرة لمن يدرس الأدب العربي، أو ليقضي حاجة القارئ العادي. لذلك رغبت في تدوين الملاحظات عن أشهر عاداتهم لاستزيد لنفسي من جهة، ولأستطيع أن أزيد في معرفة مواطني بالطبقات المتحضرة لامة من أهم أمم العالم من جهة أخرى، وذلك برسم صورة مفصلة عن سكان أكبر مدينة عربية. إلا أن زيارتي الأولى لم تكف لبلوغ هذا الغرض مع متابعة دروسي الأخرى، فصرفت النية عن نشر ما قيدته عن المصريين المحدثين. وبعد خمس سنوات من عودتي إلى إنجلترا عُرِضت هذه المذكرات على بعض أعضاء من لجنة جمعية نشر المعارف المفيدة استحسنوها وأوعزوا إلى اللجنة أن تعني بموضوعاتها، وطرافة بعض محتوياتها، فعهدت إلى تكملتها ثم طبعها. وقد كان ذلك حافزاً لي على قبول النصيحة ومتابعة العمل. وفي أقرب فرصة عدت ثانية إلى مصر. وبعد أن أقمت أكثر من سنة في عاصمة ذلك البلد، ورحلت نصف سنة في الوجه القبلي، أتممت - بقدر ما استطعت - العمل الذي تعهدت به
قد يقال إن القارئ الإنجليزي استفاد من كتاب الدكتور رَسِل عن أهل حلب وصفاً صادقاً لشمائل العرب وعاداتهم؛ ولا أحب أن أصم أمانتي الكتابية التي أدعيها بمحاولة التقليل من المزايا الحقيقية لهذا الكتاب القيم؛ ولكن يجب أن أؤكد أن الكتاب في مجموعه قد وصف العادات التركية أكثر مما وصف العادات العربية، وأن المؤلف الأصلي وأخاه الذي ندين له بالطبعة المزيدة المنقحة، لم يكونا يعرفان اللغة العربية معرفة كافية لإنعام النظر في بعض(424/33)
ما يقتضي وضع الكتاب معالجته من الموضوعات المهمة، ولم يكن منصبهما المعروف في حلب ولا شعورهما الوطني يسمحان لهما أن يتنكرا هذا التنكر الضروري الذي يمكنهما من إيلاف الكثير المهم من الحفلات الدينية، والأفكار الاجتماعية، والأساطير الشعبية، التي قاما بوصفها. فنقص الملاحظة هو الخطأ الوحيد الذي استطعت أن أكشف عنه في كتابهما العلمي الجليل
أما ظروفي فكانت غير ذلك. فقبل قدومي الأول إلى هذا البلد شدوت شيئاً من العلم بلغة العرب وآدابهم. وكنت أستطيع - بعد سنة من قدومي - أن أتحدث إلى الشعب الذي كنت أعيش بين أفراده في شيء من السهولة. وقد عايشت صفة خاصة مسلمين من جميع الطبقات؛ وأخذت أخذهم في الحياة العامة. وكنت أصرح دائماً أنني أوافقهم على آرائهم كلما سمح بذلك ضميري اكتساباً صداقتهم وإخلاصهم؛ وفي أحوال كثيرة أخرى أمسكت عن مخالفتهم في الرأي، بقدر ما امتنعت عن أي عمل ينفرون منه. فأمسكت عما يحرمه دينهم من الطعام والشراب، وتركت ما لا يألفونه من العادات والأساليب: كاستعمال الشوك والسكاكين. واستطعت بفضل ألفتي لحفلاتهم الدينية العامة أن أشاهد أعيادهم وطقوسهم، من غير أن أثير الشك في أنني أجنبي لا يحق له التدخل في شؤونهم. وبينما كان العامة يظنونني تركياً - من ملابسي التي وجدتها أكثر ملاءمة لي - كان أصدقائي يعرفون طبعاً أنني إنجليزي. ولكني ألزمتهم أن يعاملوني معاملة المسلم باعترافي مختاراً بأثر العناية الإلهية في ظهور الإسلام وانتشاره، وبإقراري، عندما أسأل، باعتقادي في المسيح طبقاً لما جاء في القرآن من أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه. وهكذا حسُن رأيهم فيَّ وقويت ثقتهم بي، ولكن إلى حد لم يغنني على مجابهة بعض الصعاب. والمسلمون يكرهون أن يبوحوا بشيء يتعلق بدينهم أو بأساطيرهم للذين يشتبهون في أنهم يخالفونهم في العاطفة؛ لكنهم لا يأبون الكلام في هذه الموضوعات مع من يعتقدون أن بينه وبينهم معرفة وألفة. لذلك كنت اعمد إلى سؤال الذين هم اكثر تساهلا واقل علما لأحمل الذين هم أوسع معرفة وأضيق صدرا على الكلام في المسائل التي أريدها. وبهذه الطريقة نجحت في التغلب على ترددهم. وكان لي أستاذان للعربية وآدابها، وللدين الإسلامي وفقهه، يدرسان لي بانتظام وباجر. وكنت أسالهما عما اشك فيه لأحقق ما سمعته في أحاديثي مع أصدقائي، أو أصححه(424/34)
أو أضيف أليه. وأحيانا كنت اتصل بالسلطات العليا، وكان من دواعي غبطتي أن اعد بين أصدقائي في هذه المدينة بعض رجال بلغوا شأواً بعيداً في المعارف الشرقية
وربما يفيد القارئ أن اعرفه بأحد معلمي اللذين أشرت أليهما أنفا، وان أبين له في الوقت نفسه كيف كان كغيره من مواطنيه ينظر ألي: ذلك هو الشيخ احمد (أو السيد احمد، لأنه من طبقة (الأشراف) الكثيرة العدد: أي من سلالة النبي) وكانت سنه تربى على الأربعين باعترافه، ولكن يبدو عليه أنه يناهز الخمسين. وكانت سحنته وخليقته تستحقان الذكر: كان ربعة إلى القصر، وكان أصهب اللحية قد وشعها لمشيب. ويظهر أن العور قد أصابه منذ سنوات عديدة. وهو يكحل عينيه في المناسبات الخاصة ولا سيما في عيدي الفطر والأضحى. والكحل قلما يستعمله غير النساء. وهو لا يفتخر بانتمائه إلى الرسول فحسب، بل يتمدح كذلك بانتسابه إلى الولي المشهور الشعراوي. وبشرته الصافية تؤيد ادعاءه أن أجداده عاشوا منذ أجيال في مناطق أفريقيا الشمالية الغربية. وكان يعيش على ميراث قليل مع اتجاره في الكتب. وكان يزورني كل ليلة تقريباً لينتفع من مهنته من ناحية، وليجتمع بي، أو ليتحدث ألي للتدخين وشرب القهوة من ناحية أخرى
وكان قبل احترافه تجارة الكتب وراثةً عن أبيه، قد قضى بضع سنوات لم يحترف فيها غير الذكر في الحفلات الصوفية. والذكر عبارة عن جماعة يقفون مترنحين يرددون اسم الله وصفاته الخ. وهو لا يزال إلى اليوم يقوم بهذا العمل. وكان حينئذ درويشاً في الطريقة السعدية، وأهل هذه الطريقة معروفون على الأخص بأكل الثعابين الحية. ويقال انه كان واحداً من آكلي الثعابين، ولكنه لم يقصر نفسه على أكل يهضم بمثل هذه السهولة. ففي ذات ليلة بينما كان فريق من أهل طريقته في حفل حضره شيخهم، اعترت صديقي جذبة، فخطف زجاجة طويلة كانت تحيط بقنديل موضوع على الأرض واكل جزءاً كبيرا منها. . . فدهش الشيخ والدراويش الآخرون، نعوا عليه خروجه على نظم الطريقة، لان أكل الزجاج لم يكن من الكرامات التي كان يسمح لهم بأظهرها. ثم طردوه في الحال، فدخل في الطريقة الأحمدية. ولما كان أهل هذه الطريقة هم أيضاً لا يأكلون الزجاج، فقد عزم على ألا يعود إلى فعلته مرة أخرى. . . غير انه بعد ذلك بقليل أخذته هذه الجذبة في اجتماع بعض الأخوان من أهل الطريقة وفي حضرة كثير من رجال الطريقة السعدية، فوثب على(424/35)
شمعدان وقبض على مصباح من مصابيحه الزجاجية الصغيرة، فابتلع نصفه وشرب ما فيه من الزيت والماء. فقادوه إلى شيخه ليعزره على هذا التعدي، ولكنه اقسم ألا يعود إلى أكل الزجاج أبداً، فعفا عنه وأبقاه في الطريقة. وعلى الرغم من حلفه اليمين لم يلبث أن عاد إلى ديدنه من أكل الزجاج. وقد حاول أحد الحاضرين من الأخوان أن يقلده فنشبت قطعة كبيرة من الزجاج بين لسانه وسقف حلقه، وقد شق على صديقي أحمد استخراجها. فأعيد ثانية إلى شيخه، ولما لامه على الحنث بقسمه والرجوع في توبته أجاب بهدوء: أتوب مرة أخرى. وما أحسن التوبة، لان الله قال في كتابه العزيز: (إن الله يحب التوابين) فصاح الشيخ مغتاظاً: أتجرؤ على هذا التصرف ثم تستشهد بالقرآن أمامي؟) ثم أمر بعد هذا التوبيخ أن يسجن عشرة أيام. ثم طلب منه القسم مرة أخرى على أن يمتنع عن أكل الزجاج وبهذا سمح له بالبقاء في الطريقة الاحمدية؛ وقد حرص على أن يبر بقسمه هذه المرة
وقد قص على هذه الوقائع من كان مكلفا بمراقبته من الأخوان ثم اعترف لي هو بعد ذلك بحقيقتها
وقد عرفت الشيخ أحمد قانعاً بزوجة واحدة من زمن طويل؛ إلا أنه سمح لنفسه الآن بزوجة أخرى استمرت تعيش في منزل أهلها. ومع ذلك فقد أهتم بأن يؤكد لي أنه ليس من الغنى بحيث يرفض الكسوة السنوية التي أهديها إليه. وفي زيارتي الثانية لمنزله أثناء إقامتي الحالية في هذا المكان حضرت أمه لدى باب الغرفة التي كنت جالساً فيها معه، تشكو إليّ سوء عمله باتخاذه زوجة جديدة. وكانت تشير بيديها من خلال الباب بالحركة اللائقة ليكون لكلامها تأثير؛ أو لعلها كانت تريد أن تظهر جمال راحة اليد وأطراف البنان المخضوبة بالحناء الرطبة. إلا أنها كانت تستر شخصها، فأخذت تناشد شعوري بقوة وتقول:
(يا أفندي! إني أضع نفسي تحت رحمتك! أقبل قدميك! لا أمل عندي إلا في الله وفيك)
فقلت لها: (ما هذا الكلام يا سيدتي؟ أي مصيبة أصابتك؟ وماذا أستطيع أن أصنع لك؟ أخبريني)
فاستمرت تقول: ابني هذا، ابني احمد، شخص لا قيمة له. له زوجة طيبة، عاش معها سعيداً على بركة الله ستة عشر عاماً. وهاهو الآن يهملها ويهملني ويتخذ زوجة أخرى(424/36)
صغيرة السن قليلة الحياء. . . وهو يبدد نقوده على هذه القردة وعلى غيرها من أمثالها، وينفق على أبيها وأمها وأعمامها وأخيها وأولاد أخيها، ولا اعلم من عداهم، ثم يقصر في حقنا - أنا وزوجته الأولى - ولا يوفر لنا الراحة التي تعودناها من قبل. . . والنبي! ورأسك الغالي! إنني أقول الحق. . اقبل قدميك أرجوك أن تلح في تطليق زوجته الجديدة. . .
وكان الرجل المسكين أثناء مخاطبة أمه لي من وراء الباب ينظر بغباء، وما كادت تذهب حتى وعد بتحقيق رغباتها. . . ثم قال: على أن المسالة صعبة، فقد كنت متعوداً أن أنام أحياناً في منزل شقيق البنت التي تزوجتها أخيراً، وهو يشتغل كاتباً عند عباس باشا. . . ومنذ اكثر من سنة، أرسل عباس باشا في طلبي وقال: سمعت انك تنام غالبا في منزل كاتبي محمد. . . لماذا تفعل هذا؟ إلا تعلم أن هذا غير لائق وفي المنزل نساء؟. . .
فقلت: سأتزوج من أخته. . .
فسألني الباشا: إذاً لماذا لم تتزوجها من قبل؟
- لان سنها تسع سنوات فقط!
- هل عقد العقد؟
- لا. . .
- ولم لا؟
- ليس في قدرتي الآن دفع المهر
- وما مقدار المهر؟
- تسعون قرشاً. فقال الباشا
- هاك إذاً النقود. . . وليعقد العقد حالاً
فهكذا تراني إنني اضطررت إلى التزوج من البنت، وأخشى أن يغضب الباشا إذا طلقتها؛ ولكني سأتصرف تصرفاً يجعل أخاها يشدد في طلب الطلاق، ويومئذ أعود ثانية إلى عيش السلام والهدوء. وهذا مثل طيب للراحة التي ينعم بها من يتزوج اثنتين!
ومنذ وقت قريب عرض علي نسخة من القران لأشتريها، وظن من الضروري أن يلقي ألي بعض المعاذير. وقد لاحظ إنني من طول ما الفت طقوس المسلمين اقر ضمناً إنني(424/37)
واحد منهم، وان من الواجب عليه أن يعتبرني احسن اعتبار، وانه يفعل ذلك مطمئن النفس، ولأنه يعلم أن اعتقادي علانية بالإسلام يغضب علي مليكي، وانه لأجل ذلك لا يمكنني أن افعل هنا وقال لي: (انك تحييني بقولك: السلام عليك. لذلك أكون أثماً لو قلت انك كافر، لان الله عز اسمه قال: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً). ثم أضاف إلى ذلك قوله: (وعلى هذا ليس حراماً أن أضع بين يديك القران الكريم. ولكن من مواطنيك من يأخذه بيده القذرة، بل ويجلس عليه وأنا استغفر الله من مثل هذا الكلام واستبعد أن نفعل هذا وأنت والحمد لله تعرف انه: (لا يمسه ألا المطهرون) وتراعيه. وفي مرة أخرى باع نسخة من القران بناء على طلبي لمواطن لي؛ وفي أثناء انعقاد الصفقة دخل الغرفة إنسان، فانزعج مواطني وأسرع فوضع الكتاب على المقعد وخبأه بجزء من ملابسه، فاخجل هذا العمل الكتبي، وظن أن صديقي جلس على الكتاب، وانه يفعل هذا احتقارا له؛ فلم يخف باعتقاده أن الله سيعاقبه اشد عقاب على هذا البيع الحرام؛ وكان هناك شيء واحد صعب علي أن أقنعه بعمله أثناء زيارتي السابقة لهذا البلد؛ وهو أن يذهب معي في وقت خاص إلى مسجد الحسين - وهو المدفن المشهور لراس الحسين - واقدس المساجد في العاصمة المصرية. وبعد ظهر يوم من أيام رمضان كنت امشي وإياه أمام أحد أبواب هذا الجامع، وكان ساعتئذ يغص بالأتراك وكثير من سكان المدينة العظماء بين الحشد. . فظننت أنها مناسبة طيبة لأشاهده من كثب، وطلبت من رفيقي الدخول معي فرفض بحزم خوفاً من أن يعرف إنني إنجليزي، وكان من الممكن أن يثير ذلك غضب المتعصبين من الأتراك الموجودين هناك فاعرض نفسي إلى بعض الأذى. فدخلت وحدي وبقى هو بالباب يتبعني بعينه الوحيدة متعجباً من جراتي؛ فلما راني عارفاً بالأساليب العادية: أطوف حول الستر البرنزي المحيط بالضريح، وأقوم بأوضاع الصلاة المنتظمة، دخل وأقام صلاته بجانبي
وأود بعد سرد هذه الحكايات أن اذكر أن أخلاق أصدقائي الآخرين لا يلاحظ عليها مثل هذا الشذوذ. وكان استقبالي لضيوفي لا يخرج عن عادات الضيافة الشرقية المألوفة. كنت اقدم إليهم الشبك والقهوة وأدعوهم إلى مشاركتي الغداء أو العشاء. وقد كتبت الكثير من أخبارهم بالعربية بإملائهم ثم ترجمتها إلى الإنجليزية ونشرتها في هذه الصفحات(424/38)
والمقصد الأول من وضع هذا الكتاب هو تمحيص الأشياء وتحقيق الحوادث؛ فلم أضح بالحقيقة في سبيل تجميل القصة أما الصور التي نشرت فيه فقد رسمتها للشرح لا للزينة.
(يتبع)
عدلي طاهر نور(424/39)
حول التعليم الإلزامي
هؤلاء الجنود المجهولون
للأستاذ محمد كامل حتة
إلى الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
ليس عجيباً أن يجري قلمك في قضية المعلم الإلزامي بما جرى به من البيان الرائع والدفاع المحكم والحجة البالغة؛ فأن هذا القلم الذي وقفته على نصرة الحق في جميع صوره وقضاياه خليق بان يكون له في هذه القضية بلاء يزلزل جوانب البغي، ويفضح مسارب الهوى، ويسفر عن أوجه الحق وضيئة ساطعة!
أن قضية المعلم الإلزامي، هي في الواقع ومع النظر الدقيق، ليست ألا قضية الأجيال المقبلة التي تتكون على يديه وتنطبع على غراره. وليس من اليسير أن نتصور حياة هذه الأجيال ومظاهر وجودها شيئاً منفصلاً عن حياة هذا المعلم الإلزامي ومظاهر وجوده. ومن هنا كان الوضع الحاضر للمعلم الإلزامي جريمة في حق الشعب الذي تتصايح الدعوات في كل مكان بالحرص على مستقبله والرغبة في إنصافه وإسعاده. وكان المقياس الصادق للوطنية في مصر ما يبذل في سبيل المعلم الإلزامي من جهود مخلصة، تهيئ له النهوض بأعبائه الثقال في مكافحة الجهل والفقر والمرض والانحلال، وتنشئة الأجيال القادمة على الصورة التي تتحقق بها معاني الوجود ومقومات الحياة. . .
أما أن يضيق على المعلم الإلزامي في الرزق، حتى لا يكاد يقيم أوده ويستمر مظهره ويلحق بقافلته؛ ثم يحمل من الأعباء الثقال عملاً مرهقاً وحساباً عسيراً وتقديراً مجحفاً، ثم تتكأكأ عليه التهم الجائرة والدعايات النكراء، فتلك إساءات مؤذية، أهون مظاهرها أن تصيب أشخاص المعلمين الإلزاميين وأسرهم، وأخطر حقائقها أنها تصيب الشعب في آماله ومستقبل أجياله؛ لأن هذه الأجيال لن تكون إلا صورة مضطربة من هذه الحياة الشقية التي يحياها أولئك المعلمون، مهما حبرت وزارة الشئون الاجتماعية في مجلتها من الصحائف، ومهما افتنت في وضع البرامج الأخاذة والمشروعات الموشاة، ومهما تباكى أدعياء الإصلاح غيرة على مستقبل هذا الشعب البائس المحروم!
ولعل من الحقائق المؤلمة أن التراث الذي أورثتنا إياه القرون المتعاقبة على مصر قد(424/40)
وضع المعلم الإلزامي في مركز دقيق جعله هدفاً لكثير من الأفراد والجماعات، ترى في وجود هذا المعلم وفي طبيعة عمله خطراً تخشى مغبته على كثير من الأوضاع التي يرزح الشعب تحت أثقالها، ولا حياة لهؤلاء الأفراد والجماعات إلا في ظل هذه الأوضاع الجائرة؛ ومن هنا كانت الحملات على المعلم الإلزامي في كثير من الأحيان حملات مغرضة، تلبس ثوب الحق وهي من صميم الباطل، وتتظاهر بالإصلاح وهي ترمي إلى الهدم؛ وقد انساق في هذا التيار الجارف كثيرون عن حسن قصد وبراءة ضمير، من غير أن يفطنوا إلى هذه البواعث الخفية ومن غير أن يبذلوا في سبيل الإصلاح ما ينبغي من جهود. . .
ومن الأمور التي تستوقف النظر وتدعو إلى التفكير الطويل أن في وزارة المعارف ثلاثة رجال بأيديهم مقاليد الأمر في هذه الوزارة التي تتولى شؤون التعليم الإلزامي، وكلهم قد أبلى في بحث هذه المشكلة البلاء العظيم، واستطاع أن يلمس مواطن الداء ويقرر وسائل العلاج، وأن تكون له آراء جديرة بالتنفيذ لإصلاح حال المعلم الإلزامي الذي يتوقف على صلاح حاله صلاح المجتمع الذي يعيش فيه، ومع هذا فإن تلك الآراء القيمة التي سجلها هيكل وطه والسنهوري في صحائف الكتب والمجلات، لم يكن حظها على أيدي أصحابها وقد مكنتهم الأقدار من العمل والتنفيذ، أكثر من حظ ما يسطره كاتب مثلي قد تعوزه القدرة على إعلان رأيه، قبل أن تعوزه القدرة على تحقيق الرأي الذي يريد!
إني لأشفق على مشكلة التعليم الإلزامي في وزارة المعارف إذا لم تحل في عهد هؤلاء الثلاثة الذين ارتبطوا بمناهج قويمة في الإصلاح، وإلا فهل من اليسير أن تجود الأيام بمجموعة كهذه، اجتمعت على الرأي المتحد والعبء المشترك والقدرة المتاحة لتحقيق الآمال؟
(القاهرة)
محمد كامل حتة(424/41)
ليالي القاهرة
الكأس. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
لاَ تَبْكِهَا ذَهّبَتْ وَمَاتَ هَواهَا ... في القَلْبِ مُتَّسَعٌ غَداً لِسِواهَا
أحْبَبْتَهَا وَطَوَيْتَ صَفْحَتَهَا وكم ... قَرَأَ اللَّبِيبُ صَحِيفَةَ وَطَواهَا
يَا شَاطِئَ الأَحْزَانِ كم مِنْ مَوجَةٍ ... هَبْهَا ارْتِطَامَةَ مَوْجَةٍ وَصَدَاها
تِلْكَ الوَليدَةُ لم تَطُلْ بُشْرَاهَا ... لَمَّا تَكَدْ تَطَأُ الثَّرَى قَدَمَاهَا
زَفَّ الصَّبَاحُ إلى الرِّمَالِ نِدَاءهَا ... وَسَرَى النَّسِيمُ عَشِيَّةً فَنَعَاهَا
هَاتِ اسْقِنِي وَاشْرَبْ عَلَى سِرِّ الأَسَى ... وَعَلَى صُبَابَةِ مُهْجَةٍ وَجَوَاهَا!
مَهْلاً ندِيمِي كَيْفَ يَنسَى حُبِّهَا ... مَنْ ينْشُدُ السَّلوى عَلَى ذِكْرَاهَا
مَازِلْتَ تَسْقِينِي لِتُنْسِينِي الْجَوى ... حَتَّى نَسِيتُ فَما ادَّكَرْتُ سواهَا
كانَتْ لَنَا كأْسٌ وكانَتْ قِصَّةٌ ... هَذا الحُبَابُ أَعَادَهَا وَرَوَاهَا
كأْسِي وَشَمْسُ هَوايَ، والسَّاقي الذي ... عَصَرَ الشُّعَاعَ لِمُهْجَتِي وَسَقَاهَا
الآنَ غَشَّاهَا الضَّبَابُ وَهَاأَنَا ... خَلْفَ المَدَامعِ وَالْهُمُومِ أَرَاهَا
غَالَ الْفَنَاءُ حُبَابَهَا وَضَبَابَهَا ... وَتَبَخَّرَتْ أَحْلاَمُهَا وَرُؤَاهَا!
إبراهيم ناجي(424/42)
من الشعر الرمزي
في مفرق الطريق
للأستاذ سيد قطب
بين نفسين من النفوس الكثيرة التي تعيش في الإنسان الواحد
متفرقة في بعض الأحيان. دار هذا الحوار. . . فأما إحداهما
فتتعلق بماض عزيز لا رجعة له ولا أمل فيه، وأما الأخرى
فتنزع إلى العزاء بالتطلع إلى جديد:
أَنتَ أوغلتَ في الظلام طويلا ... فمتى يا رفيقُ تبغي القُفولا؟
شدَّ ما آدَنَا التخبط في الليل ... وخِفْنا ظلامَه المدخولا!
ورأيْنا الأوهامَ تبدو شُخوصا ... ورأينا الشخوصَ تبدو هَيُولَى
وَخَبَرْنا فلم نُفِدْ باختبار ... وسخرنا مما خبرنا طويلا
يا رفيقي. إذا قَدِرْتَ فأوِّبْ ... إن هذا الظلام يُضني العقولا
أنا أخشى الضياَء أُبصر فيه ... ذكرياتي تبدَّلت تبديلا
أنا أخشى النهارَ يكشف عني ... كلَّ وَهْمٍ أرودهُ تعليلا
أنا يا صاحبي أُشِيحُ بوجهي ... أن أرى عهدنا تَرَدَّى قتيلا
أنا يا صاحبي أُدافعُ عقلي ... أن يَرُودَ اليقينَ جهماً ثقيلا
الظلام الظلام أروحُ للقلب ... ولو كان لا يريح العقولا!
يا رفيقُ. الحياةُ أسمى وأغلى ... أن تُقَضَّى كذاك وَهْماً ضئيلا
يا رفيقُ. الحياة أقصرُ عهداً ... أن تُضَحَّي ساعاتها تَخْييلا
أُبْ من الظُّلْمَةِ الحبيبةِ واهجرْ ... كلَّ ما كان في الحياة الأولى
وَتَطَلْعْ إلى جمالٍ جديدٍ ... أَفلَمْ تَلْقَ في الحياةِ جميلا؟
عِشْ بما قد وُهِبْتَهُ من حياة ... مُسْتَثَارَ الإحساس نهماً عجولاً
آه يا صاحبي. أتجهلُ أني ... أفقدُ الدارَ إن فقدتُ الطلولا(424/43)
ذاك عهدٌ أنفقتُ فيه رصيدي ... كلّهُ لم أُبَقِّ منه قليلا
أتراني أجدِّدُ الذّخرَ والعمرُ ... مُوَلٍِّ والجهدُ أمسى هزيلا؟
أنا باقٍ هنا فإن شئتَ دعني ... ورُدِ الكونَ حافلا مأهولا
أنا باقٍ هنا أرودُ طُلولي ... لم أعُدْ بعدُ أستطيبُ القفولا!
(حلوان)
سيد قطب(424/44)
البريد الأدبي
من سوء الترجمة أيضاً. . .
تكلمت في العدد 418 من الرسالة على قولهم (من جديد) وأوضحت أن هذا التركيب مما جناه جهلة المترجمين، وان كتابنا وبلغاءنا قبلوه من غير تفكير ولا بحث، فوشج بلغتنا، وعاد مما لا يستطاع استئصاله منها - كغيره من الطفيليات التي أغارت عليها - ألا بطويل جهاد وكبير عناء
ثم تذكرت بعد أن كتبت تلك الكلمة أني كنت قد قيدت في كناشتي طائفة مما فشا بيننا من أمثلة سوء الترجمة. فعدت أليها، وتخيرت منها ما ارجوا أن أوفق لنشره في هذه المجلة كلما ساعفت الفرصة
فمن ذلك استعمال (عَبْر) (مصدر عبر النهر وغيره: إذا قطعه إلى الجانب الأخر) ترجمة للكلمة الإنجليزية يجعلوها في نسج الكلام ظرفاً - كما يصنع الإنجليز بكلمتهم - فأخرجوها عن معناها ووضعها اللغوي بلا مسوغ مطلقاً
وكثير ما نراها هكذا في البرقيات والتعليقات الحربية، وفي وصف الغارات والحركات العسكرية، وفي الخطب السياسية وغير ذلك
وأني مورد لهذا الاستعمال الخاطئ ثلاثة أمثلة قبستها من الصحف، ليتضح بها المقام
1 - ومن زمن قريب ادعت اليابان لنفسها حق مرور قواتها (عبر) شمال الهند الصينية
2 - وسنواصل كل شهر قذف. . . بالقنابل الشديدة الانفجار كلما فرغت مصانعنا من إخراج طائراتنا الضخمة، أو جاءت إلى هنا (عبر) الأطلنطي
3 - لهذا وصلوا بين باكو وباطوم (عبر) القوقاز بأنابيب
(فظرفية) (عبر) المفتعلة واضحة في هذه المقتبسات، يدل عليها متعلق (الظرف) في كل
وقد يسبق إلى الوهم أن هذا العبث مما يمكن تخريجه على وجه صحيح: كأن يحمل مثلاً على حذف عامل المصدر
ولكن قليلاً من التأمل فيما أسلفت من الأمثلة وفي غيرها يذهب بهذا الوهم. على ان قواعد حذف عامل المصدر وأمثلته مبسوطة مفصلة في موضعها. وليس هذا مما يدخل منها في باب أو يمت له بصلة(424/45)
(ا. ع)
أخبار تهم الأدباء
1 - مضت أسابيع وأسابيع ولم نقرا شيئاً من روائع الأستاذ إسعاف النشاشيبي، ونحن نرجو أن يكون بعافية، فهو من أعاظم الباحثين في هذا الجيل
2 - الفائزون من شعراء العراق في المسابقة الشعرية التي أقامتها محطة لندن للإذاعة العربية هم بالترتيب حضرات السادة: عبد الرحمن البناء، جميل احمد الكاظمي، ومصطفى كامل يأسين وقد وزعت عليهم الجوائز في حفلة أقامها السفير البريطاني في بغداد
3 - والفائزون من شعراء مصر ثلاثة، كان ثانيهم السيد حسن القاياتي، وقد تألم من هذه المنزلة (الثانوية) فان تفضل أحد الموظفين بمحطة الإذاعة المصرية وقدم ألينا أصول القصائد الثلاث فقد نقيم ميزاناً ينصف السيد القاياتي بعض الإنصاف وإن كان يؤذي لجنة التحكيم بعض الإيذاء!
4 - من بين الذين فازوا بعضوية (جماعة كبار العلماء) اثنان من أدباء اللغة العربية؛ وهما الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد عرفة، ومعنى ذلك أن الأدب يزاحم بمنكب ضخم في بيئات العلماء
5 - لم يفصل وزير المعارف في استقالة الدكتور طه حسين، ويقال انه سيعين في مجلس الشيوخ، فان صح هذا النبأ كان فوز للسلطة الأدبية، وذلك بان التعيين في مجلس الشيوخ كانت تراعي فيه اعتبارات لم يكن للأدب فيها مكان
6 - حان الوقت لتقييد أوابد الفصاحة البرلمانية، فقد وقعت في الأسبوع الماضي محاورات في مجلس الشيوخ ومجلس النواب تشهد بأن الفصاحة البرلمانية قد وصلت إلى ابعد حدود التفوق، وسيأتي يوم تباع فيه مضابط البرلمان في المكاتب كما تباع أطايب المؤلفات!
زكي مبارك
وفاة طاغور
توفي الدكتور رابندرانات طاغور شاعر الهند وحكيمها في اليوم السابع من شهر أغسطس، وقد نعته إلى العالم شركة روتر بما يأتي:(424/46)
كان السير رابندرانات طاغور الذي أعلنت الآن وفاته في مقدمة المحبوبين في العالم وفي الهند وقد نال جائزة نوبل في الآداب وألقى محاضرات هبرت في جامعات اكسفورد سنة 1930
ولد في 6 مايو سنة 1861 وتلقى تعليماً خاصاً في القرية التي ولد فيها قبل أن يقيم في كلكتا. ولما بلغ الرابعة والعشرين ذهب إلى الريف ليتولى إدارة مزارع والده، وهناك بدا الكتابة لأول مرة. ومن ذلك الوقت كتب نحو ستين ديواناً من الشعر وعدة مؤلفات نثرية منها روايات وقصص صغيرة ومقالات فلسفية وروايات تمثيلية. وكان السير رابندرانات فضلاً عن نظمه الشعر وكتابته النثر مؤلفاً موسيقياً، فقد نظم اكثر من ثلاثة آلاف أغنية
وفي سنة 939 تلقى في عيد ميلاده الخامس والسبعين رسائل التهنئة من جميع أنحاء العالم وكلها إشادة بفضله كشاعر وروائي وقصصي ومفكر سياسي ومصلح اجتماعي وأستاذ ديني.
وفي سنة 1901 أسس مدرسة في سانتينكتان تحولت فيما بعد إلى معهد علمي دولي يسمى - فسفا بهاراتي - وكان هذا عمله في حياته
وقد اشتهر أيضاً بأنه سائح عظيم، فانه زار إنجلترا في سنة 912 حيث نقل بعض مؤلفاته البنغالية إلى اللغة الإنجليزية، وساح في أوربا مراراً، وكذلك في اليابان وروسيا السوفيتية والصين والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وإيران وكندا ومصر والعراق
ولما بلغ 63 عاماً شرع فجأة يشتغل بالتصوير بالألوان، وقد أقيم معرض لصوره بلندن في ديسمبر سنة 1983 وكانت هذه الصور خيالية غريبة، أي ما يدور بعقل الشاعر مرسوماً على الورق
وأقيمت لصوره معارض أخرى في برمنجهام وموسكو وبرلين ومونيخ وباريس ونيويورك
وقد مرض السير طاغور فجأة مرضاً خطراً بالحمرة في صيف سنة 937 ولكنه شفي منه. وبعد ذلك كان لغزو اليابان للصين أثر شديد في نفسه؛ وفي أكتوبر سنة 937 أذاع رسالة لاسلكية على مواطنيه الهنود - استنكر فيها وحشية الحربين اليابانيين في معاملتهم للصين
وبعث إلى يوتي ناجوشي الشاعر الياباني تعنيفاً أدبياً مؤلماً بسبب ضرب اليابانيين(424/47)
للصينيين غير المحاربين بالقنابل
ولما بلغ الثمانين من عمره منحته جامعة أكسفورد درجة دكتوراه في الآداب. وقد منحه إياها السير موريس جوير كبير قضاة الهند في اجتماع خاص عقدته لهذا الغرض جامعة اكسفورد في قرية سانتينكتان بالبنغال. . .
وكان لسير رابندرانات طاغور هيئة وقورة خارقة للعادة، فكان كبير الجسم عظيم الرأس، فضي الشعر قد سال على جانبي رأسه في خصائل كثيفة. وكان جميل الوجه ذا لحية بيضاء طويلة وكان يبدو في أرديته الطويلة الواسعة كأنه أحد الروحانيين
وكان ذا صوت جميل وقوة لا تقاوم في الكلام، وكان كلامه يشع الهدوء والسكينة والخير
ولم ير في معظم الأحوال إلا مع الأطفال سواء أكانوا هنوداً أم بريطانيين أم صينيين أم يابانيين؛ فقد كان الأطفال يخضعون في الحال لقوته الجذابة وحبه لهم.
قصص مسرحية للأطفال
القصص من أنفع الوسائل لتهذيب النفوس، وتلقين الناشئين اللغة الصحيحة، ورياضتهم على البيان؛ ومن الممكن أن تكون عوناً للمدرسين على تدرس الحقائق التاريخية في غير عسر، وطريقاً لإتقان فنَّي الإلقاء والتمثيل، وداعية لتآلف التلاميذ وتقوية أواصر المودة بينهم لما تشتمل عليه من حوار مسرحي يصحبه شيء من الحرية التي تخرج بالتلاميذ عن نطاق التعليم الجاف.
ولقد تلوت مؤلف الأستاذ (محمد يوسف المحجوب) فوجدته مبعثاً لسرور القارئ، شاهداً بفضل المؤلف، ولا شك أنه فتح جديد في تدريس القصص المدرسية؛ فهو مصوغ في أسلوب شعري منسجم النغمات، سهل العبارة، متين النسج، برئ من الغرابة والتعقيد، سليم من المحاورات العنيفة التي تسوق الأطفال سوقاً إلى حب اللجاج والمهاترة.
والقصص مشتملة على أغراض نبيلة، فمنها ما يدعو إلى مكارم الأخلاق كقصة (على البحيرة)، وما يربي العاطفة الوطنية وينمي المعارف التاريخية كقصة (قناطر محمد علي) وقصة (فتح مصر). هذا إلى ما يزيد شوق القارئ ويبعث السرور في نفوس الناشئين من جمال الطبع، والعناية بضبط الحروف، وتجميل القصص بالصور المتقنة التي تربي الخيال والذوق السليم.(424/48)
ولا غرابة في ذلك فالمؤلف معروف برقة العاطفة، ولطف الحس، وهو - كما قال الأستاذ الكبير محمد علي مصطفى في مقدمة الكتاب - (يمتاز بأنه معلم فيه مهارة وحذق، وبأنه خَبَر الأطفال وعرف ميلهم، وبأنه درس هذه القصص لتلاميذه فأحبوها وشغفوا بها، واستزادوه منها).
(المنصورة)
محمود البشبيشي(424/49)
القصص
البيت الهادئ
كتبت في القطار النازح عن الإسكندرية
للأستاذ سعد محمود دوارة
هاهو ذا القطار تتسارع دقاته كأنها خفقات قلب كبير. . . وهاهي ذي أعمدة التلغراف تتلاحق كأن بينها سباقاً لا نهاية له. . . وهاهو الثغر الحبيب يختفي وراء الأفق البعيد
القطار مزدحم بالكتل البشرية وكتل المتاع. الناس وجوههم مكفهرة مغبرة، نظراتهم حزينة قلقة. لقد هجروا ديارهم فارين من الموت الذي كان يحوم فوق رؤوسهم، لا حديث لهم إلا ما أصابهم من نقص في الأموال والأرزاق والأرواح.
أمامي سيدة تبكي بكاء صامتاً. . . تركت زوجها الذي لم يستطع اللحاق بالقطار؛ ولقد حاولت أن تعود إليه، ولكن أنى لها أن تتحرك بين هذه الجموع المحتشدة. إنها لا تعرف أين تذهب ولا كيف تعيش وهي لا تملك سوى الثوب الذي لا يكاد يستر جسدها
أما هذه الفتاة الهيفاء التي تجلس بجانبي شاحبة كأنها تمثال من الشمع، فهي خطيبتي وفتاة أحلامي (عايدة)
لقد كانت في يوم من الأيام زهرة نضرة تستقبل أشعة الشمس الذهبية وتميل مع النسيم الرخاء. . . ولكنها الآن بعد أن حطمت قلبها يد القدر القاسية، تبدو واجمة. . . وقد نفرت مني كأن قلبها لم يخفق في يوم من الأيام بحبي. . . وإذا التقت عيناي بعينيها نظرت إلي نظرة عتاب شديدة ثم أخفت وجهها كي لا أرى دموعها المنهمرة
في تلك الليلة المشؤومة، كنت أنا وعايدة في إحدى دور السينما حين سمعنا زمارات الإنذار ترسل نعيبها الحزين؛ وتسابق المتفرجون إلى الخروج يلتجئون إلى أقرب مخبأ، وأخذ كل يتحسس طريقه في الظلام. . .
. . . وأخيراً وجدنا مكاناً ضيقاً في أحد المخابئ. . . كان الجو خانقاً، والكآبة غاشية على كل وجه، وكان السواد الأعظم من الناس بملابس النوم. . . وابتدأت المدافع تدوي متعاقبة. . . وتعالت أصوات الدعاء من كل جانب. . . ومن حين إلى آخر كنا نسمع صفير القنابل(424/50)
وهي تشق طريقها في الهواء متجهة إلى الأرض، فتحبس الأنفاس ويخيم على المكان هدوء كهدوء القبور. . . ثم نحس بالأرض تهتز تحت أقدامنا، ونسمع صوت الانفجار مصحوباً بصوت تناثر الزجاج. . .
وتبرعت (عايدة) بزجاجة عطرها تمررها بين الناس. . . كانت تبدي شجاعة نادرة، وكانت تواسي النساء قائلة: إن القنابل لا تقذف إلا على الأهداف الحربية، وإننا جميعاً في سلام!
وبعد ساعات - خيل إلينا أنها سنوات - سمعنا الزمارات تعلن انتهاء الغارة. . . فاندفع الناس خارج المخبأ لاستنشاق الهواء الطلق. . .
كانت الشوارع مضاءة بأشعة القمر الفضية، وكانت قطع الزجاج المتناثر تتلألأ ببريق غريب. . . وخرج الناس من كل جانب فامتلأت بهم الطرقات. . . كل يريد أن يطمئن على ذويه وأقاربه!
وشاهدنا ونحن نشق طريقنا بين الأكتاف بيوتاً تهدمت، وبيوتاً لا تزال تتهدم. . . كما شهدنا عربات صغيرة محملة بالمتاع وبالناس متجهة نحو محطة السكة الحديدية. . . كأن أصحابها لا يطيقون الإقامة في هذه المدينة لحظة أخرى بعد أن رأوا الموت بينهم. . . ومعهم!
وأخيراً. . . وبعد مجهود عنيف، بلغنا الشارع الذي تقيم فيه (عايدة) مع أمها وأختها الطفلة. . . كان الزحام شديداً بدرجة غير عادية، وكان عمال الإنقاذ والإسعاف يحاولون صد تيار الجموع المحتشدة. . .!
ولم أشعر إلا و (عايدة) قد تركتني واندفعت بين الزحام حتى غابت عن ناظري، كما تغيب قطعة الحرير البيضاء بين عتمة الأمواج المتلاطمة. . .
أخذت أناديها. . . ولكن صوتي كان يختفي بين همهمة الجمهور، وبين الصراخ والنحيب. . .
وأشرفت على مكان أستطيع منه أن أرى بيت (عايدة). . . لم أكد أصدق عيني. . . ذلك البيت الذي كان يشق الفضاء قد صار أثراً بعد عين، وقد تصاعدت في مكانه سحب من الغبار الأبيض الكثيف. . .!(424/51)
ورأيت (عايدة) تحاول أن تتملص عن أيدي رجال الإنقاذ الذين منعوها. . . من الاقتراب. . . من الأنقاض. . .
حاولت أن أصل إليها وأقنعها أن محاولتها هي الجنون بعينه، ولكن دون جدوى، فقد كان تيار الجمهور الجارف يدفعني إلى الوراء
وغابت عايدة عن ناظري لحظات، وعندما رأيتها ثانية كانت فوق الأنقاض، ولا أدري كيف وصلت إلى هناك. . . كانت ترفع قطع الحجارة المحطمة وبقايا الأثاث المتهالك. وكانت تفعل ذلك بقوة عجيبة لم أكن أعهدها في ساعدها البض ويديها النحيفتين الناعمتين. . . وقد انسدل شعرها الفاحم فوق وجهها حتى أخفاه
وحاولت أن أثنيها عن محاولتها الجنونية، فقد كانت هناك بضعة جدران تريد أن تنقض. ولكن أنى لها أن تسمع صوتي الضعيف. .؟
وفي هذه اللحظة سمعنا زمارة الإنذار ترسل نعيبها وكأنه نعيب غراب سوء،، وساد الهرج واندفع الناس كأنهم قطيع من البقر الوحشي نحو المخابئ
وبذلت جهود الجبابرة حتى وصلت إلى عايدة وكانت مكبة على عملها كأنها لم تسمع شيئاً. . . أفهمتها أن بقائها مستحيل، ولكنها لم تقتنع، بل أخذت تردد في صوت حزين: (دعني أنقذهم. . . دعني أنقذهم)
واضطررت إزاء إصرارها أن أقسو عليها بعض القسوة، فحملتها بين ساعدي كطفلة صغيرة، ولكنها قبل أن تغادر المكان كانت قد استخلصت من بين الأنقاض دمية صغيرة. كانت دمية أختها!
وقضينا ليلة مضنية. . . وعندما خرجنا من المخابئ كان الشفق الوردي ظاهراً في الأفق معلناً قدوم يوم جديد
وحملت عايدة مغمى عليها إلى منزلي
وهناك استطعت بمساعدة خادمتي العجوز - وهي الشخص الوحيد الذي يعيش معي - أن أسعف عايدة. وبعد مدة ليست قصيرة أفاقت
كان جفناها ذابلين وقد أحيطت عيناها بهالتين من الزرقة الداكنة. وكانت أصابعها لا زالت ممسكة بدمية أختها الطفلة(424/52)
كانت تتكلم بهدوء غريب وهي تغالب دموعها التي حفرت لها مجرى فوق وجنتيها الشاحبتين. . . ولا زالت كلماتها ترن في أذني وتتكرر في سرعة متزايدة
قالت إنه كان في إمكانها أن تنتشل أختها وأمها من بين الأنقاض لولا حملي إياها عنوة إلى المخبأ
حاولت جهدي أن أفهمها أن هذا كان مستحيلاً، وأنني خفت أن يسقط عليها جدار أو تنهار من تحتها الأنقاض فأفقد بموتها آمالي ولا يبقى لي سوى الاحزان، ولكنها كانت في حالة غير عادية. . . وكانت فكرة إمكان إنقاذ أهلها تتملكها وتلح عليها. وانتابتها بعد ذلك حالة ذهول هي أشبه بالإغماء، فلم تعارض حين شققنا طريقنا نحو محطة السكة الحديدية
لا زال القطار تتسارع دقاته، ومن حين إلى آخر يرسل أنيناً حاداً كأنه يشارك الناس أحزانهم وأنينهم
لقد صرنا في قلب الريف! الخضرة تلفنا من كل جانب. ما أروع اللون الأخضر؟!. . . إنه يهدئ الأعصاب ويحيي في النفس حب الحياة
الجو دافئ، وكأن ركاب القطار قد أنهكهم التعب فخيم السكون على المكان. أما عايدة فقد مال رأسها الرائع فوق كتفي، وهبت نسمات الأصيل الدافئة تطيح بخصلات من شعرها الثائر إلى وجهي فينقل ألي شذى عاطراً
لا زالت آيات الحزن مرتسمة على وجهك أيتها الحبيبة. . . وإني لأشاركك هذا الحزن؛ فقد كانت أمك تعوضني بعطفها وحنانها مما حُرمته منذ زمن طويل
أما أختك الصغيرة، فقد كانت عصفورة مرحة، ولا زالت صورتها مطبوعة فوق مخيلتي وهي تندفع نحوي وتدس يديها الصغيرتين في جيوبي باحثة عن الحلوى. . . ثم تأبى أن تفارقني حتى تنام فأحملها برفق إلى مخدعها. . .
نحن ذاهبون إلى أختي التي تسكن الريف. . .
إن لها ابنة صغيرة تشبه أختك. . . وستجدين هناك عطفاً وحناناً وستغفرين لي ذنبي!
سنبقى هناك حتى تنقشع تلك الغمامة التي تحجب سماء بلدتنا الحبيبة. . . ثم نعود إليها
وإني لأتخيل يوم عودتنا. . . سيكون القطار الذي نركبه مزدحماً. . . ولكن السعادة ستحل على وجوه المسافرين محل التعاسة التي نراها الآن مرتسمة على وجوههم. . . وإن(424/53)
صورة البيت الذي سنقيم فيه في الإسكندرية لمطبوعة فوق مخيلتي حتى لأكاد أراها. . . هو بيت هادئ تحيط به من كل جانب حديقة صغيرة خضراء. . .
أما هؤلاء الذين أحزننا فقدهم وأبكانا، فإني موقن أن لهم الآن بيتاً هادئاً.
سعد دوارة(424/54)
العدد 425 - بتاريخ: 25 - 08 - 1941(/)
شئ واحد!
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان الضابط المصري (أحمس) الذي ارتفع إلى عرش الفراعنة في القرن السادس قبل الميلاد معروفاً في صباه بالمزح والمجون، وكان عربيداً لا يسلم من دعاباته زملائه ولا رؤساؤه ولا أصحاب القداسة من أحبار زمانه. فلما استوى على عرش بلاده نسي أصحابه أنه فرعون مصر وذكروا أنه الضابط العربيد، ثم جروا في معاشرته على السنة التي ألفوها يوم كانوا أنداداً في الرتبة وإخواناً في اللهو والمجانة، فصبر قليلاً على هذه المعاشرة التي لا يصبر عليها الملوك، ثم ضاق ذرعاً بها وبأصحابه وأزمع أن ينهرهم بالعظة والتمثيل، قبل أن ينهرهم بالسطوة والتنكيل؛ وقيل فيما قيل من أساطيره الكثيرة أنه أتى بإناء من الفضة تغسل فيه الأيدي فأتخذ منه تمثالاً لرب من الأرباب المعبودة في زمانه. ثم نصب التمثال في مدخل القصر حيث يراه القوم أول ما يرون عند دخوله، فما عبروه حتى خروا له ساجدين
وظهر لهم أحمس وهم يسجدون للتمثال فقال لهم: أتعلمون مم صنع هذا التمثال الذي حييتموه بالسجود؟ إنه من ذلك الإناء الذي كنتم في الوليمة الماضية تغسلون فيه أيديكم وتبصقون فيه من مضمضة أفواهكم. فمن منكم يجرؤ اليوم أن يبصق عليه أو يصيبه غسالة الأيدي؟ من فعل ذلك فجزاؤه الموت والعار، وان كان معدنه اليوم كمعدنه أمس في سوق البيع والشراء وفطن الضباط لما أراد، وعلموا أن أحمس الفرعون غير أحمس الضابط العربيد، فسجدوا حيث كانوا بالأمس يلقون الرشاش من غسالة الأفواه!
والمقصود من عظة (أحمس) أن الشيء الواحد قد يختلف في قيمته اختلاف الصورة حتى يهان ويبتذل في صورة، ويصان ويعبد في صورة أخرى
ولكننا نتجاوز ما أراده أحمس في هذه العظة لنقول: أن الشيء الواحد في الصورة الواحدة يختلف اختلاف التقدير والنظر حتى يهان ويبتذل عند أُناس ويصان ويعبد عند آخرون، بل حتى يكون له عند الإنسان الواحد شانان متفاوتان
وهذا تمثال أحمس نكتف به ولا تنتقل إلى غيره لنعرف كيف يختلف قدره باختلاف النظر إليه(425/1)
فالصائغ الفنان يعطيه في تقويمه قيمة التحفة الجميلة التي لا تحسب بالدراهم والدنانير
والبخيل المتصيد للمال يغليه بمقدار ما يبذله فيه طلاب اقتنائه من عشاق الفن أو عباد هذه الأرباب
وعابد الوثن يتمرغ بين يديه
ومنكر الوثن يمرغه هو في التراب، وقد يعدو ذلك إلى تحطيمه وتحريم النظر إليه في صيغته المعبودة
وتاجر الفضة يحيله إلى الميزان، وصاحب الضرورة يبيعه بأبخس الأثمان، وحارسه يمنع الغبار أن يصل أليه لأنه يمنع رزقه وعقيدته وحماه
وهو مع هذا شئ واحد في صورة واحدة
فهل هو في الحق شئ واحد أو جملة أشياء؟
كنا على المائدة نخوض في حديث من هذا المعنى رهطاً من الأخوان الأدباء ورجال الفن والثقافة
فقال أحدنا: أن صديقنا فلاناً لتستهويه تلك الفتاة التي كانت تتهالك على من دونه فضلاً وعلماً ومكانة فلا تظفر منه بأكثر من اللهو بها أو الأعراض عنها؛ فما باله لا يرعوي؟ ألا يهديه أو يرده إلى صوابه ناصح أمين؟
قلت: وهل الفتاة التي استهوت صديقنا هي الفتاة التي استهواها من هو دونه في فضله ومقامه؟
قالوا: نعم. هي فلانة!
قلت: أعلم أنها هي فلانة، ولكني أحسب مع هذا أن تلك الفتاة هي غير هذه الفتاة
وكان أمامنا على المائدة صحفة من البط المطبوخ، فمضيت أقول: ألا أحدثكم بلغة الأماثيل فيما نتناوله الآن من الطعام ونحن مستطردون فيما بدأناه آنفاً من حديث العظات الرمزية؟
كان أربعة في جيرة واحدة من أحياء المدينة: متسول ولص ورجل كادح لرزقه وصائد من هواة الرياضة
فقال المتسول لزميل له وقد عبر به اللص في قيوده مسوقاً إلى سجنه: أنظر إلى ذلك الأحمق!. . . سطا على حظيرة البط ليلة أمس فتيقظ له الحارس وأوشك أن يرديه(425/2)
برصاصة لأنه طمع في بطة أو بطتين! وهاهو ذا يساق إلى السجن حيث يصوم عن أمثال هذه الطعوم. أفما كان خيراً له أن يصنع كما صنعت أمس وقد شممت رائحة البط المطبوخ في منزل ذلك الصائد فما طرقت الباب حتى ناولوني صحفة أكلتها هانئاً بها غير جاهد في شرائها ولا سرقتها ولا صيدها ولا طبخها ولا اقتناء صحائفها؟ فأين غابت عنه حكمة القناعة وهي أقرب إليه من ذلك الخظار، ومما وراءه من الحبس والعار؟!
قال زميله: وما ظنك بالصائد الذي أكلت البط المطبوخ من بيته؟ أليس هو أحمق من اللص في طلب البط الذي يجود به مطبوخاً ولا ينال منه أكثر مما تنال؟ فعلام السفر من هنا إلى البحيرات النائية؟ وعلام شراء السلاح والعدو بين الماء والعراء؟ وعلام صيد الأسراب وبطة واحدة تكفيه، ولعله يجود بها على سائليه؟
وأصغى إليهما الرجل الكادح لرزقه فقال: الحمد لله على ما وفقني له من القصد والسداد: دريهمات معدوادت تغنيني عن نفقة الصياد وعن ذل السؤال وعن غشيان السجون
فمن من هؤلاء الأربعة على صواب! ولو أخذنا بالظاهر لكان الصائد المتعب أحمق الأربعة، ولو أخذنا بالحقيقة لكان دونهم جميعاً هو صاحب السهم الربيح والعقل الرجيح، لان البطة عنده ليست هي البطة التي يسرقها اللص، أو يستعطيها المتسول، أو يشتريها الشاري من السوق، ولكنها شئ يستحق أن يجهد له بالسفر والنصب وتعلم الرماية وبذل المال في السلاح، وهي كذلك شئ غير الذي ظفر به المتسول من بيته مطبوخاً بغير ثمن. فلا وجه للمبادلة ولا للمقابلة ين الشيئين
وهكذا يجوز أن تكون الفتاة التي استهوت صديقنا غير الفتاة التي تؤكل رخيصة على موائد منافسيه، فإنما العبرة ما يشعر به هو وما يشعر به هؤلاء، وليست العبرة بوحدة الأسماء والأجسام.
وليس الشيء الواحد بشيء واحد على هذا التقدير
تلك حقيقة ينساها معظم الناس وهي داخلة في كل عمل من أعمالهم اليومية، معترضة في كل خطوة من خطوات الحياة فالصنف الواحد من الخضر يشتريه اثنان في يوم واحد من سوق واحد بثمن واحد، فيؤكل على مائدة أحدهما كأنه من طعام أهل الجنة، ويؤكل على مائدة الأخر كأنه السم الزعاف(425/3)
والكتاب الواحد يطالعه القارئان فيستفيد أحدهما منه ما لا يقدر بمال، ويخرج الآخر من قراءته ولم يأخذ منه ما يساوي ثمن ورقه
والمكان الواحد يقصده زائران فيرجع أحدهما بالصحة والمعرفة والثروة، ويرجع الآخر منه بالمرض والضلال والإفلاسوقد تفتحت عيناي على هذه الحقيقة منذ أيام الطفولة، فشهدت في بلدتي التي نشأت فيها التقاء الحضارات القديمة - والحديثة، والتقاء الأمم من غربية وشرقية؛ وكان يزور أسوان في الشتاء ألوف السائحين منهم الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والألماني والنمسوي، وأبناء الأمم الأوربية كافة، فكانت أوروبا عندي على اجتماعها في كلمة واحدة صوراً مختلفات لا تتفق في مشارب ولا أطوار ولا عادات
وكنت أسمع العجب من اختلاف الآراء في سن يعجب فيها الإنسان من كل مشهود ومسموع، فلا أعجب ولا أحار أن عجبت، لكثرة ما تعودت من نقائض الأفهام والأحكام
زار أسوان أمير إنجليزي كبير، فخرج في الظهيرة إلى حيث يلعب (التنس) مع فئة من صغار الموظفين والضباط، وشهدت مجلس والدي في المساء وأنا معجب بالأمير الحر الظريف، فما سمعت تأففاً من شيوخ المجلس كالتأفف الذي سمعته منهم تلك الليلة، وهم يعيبون على الأمير لعبه (أولاً) ونزوله في اللعب إلى مرتبة الصغار من الموظفين (ثانياً)، وخلعه ملابس الإمارة ليظهر في لباس العامة (ثالثاً)، وما شئت من مآخذ شتى: رابعاً وخامساً وسادساً إلى غير انتهاء
وكان (العقلاء) يضحكون من هؤلاء الأوربيين الذين يبلون أحذيتهم أو ينضون مطاياهم في الجبال ليرجعوا منها بكيس ملآن حجارة وحصيات تلقى في عرض الطريق، وكنت أرى هذه الحجارة في متحف المدرسة، فأحسبها كنزاً من الكنوز المكنونة، أو أحسبها على أقل تقدير لها موضوع درس ممتع مفيد
وكان المنقبون في الآثار القديمة من عامة الناس يهزءون بالعلماء الذين يعطونهم الذهب ويأخذون منهم خرقة بالية أو حلية مكسورة أو ورقة ممزقة، وكنت أسمع في دروس التاريخ كل أسبوع أن هؤلاء العلماء رابحون مفلحون، وأن الخاسر الحقيق بالاستهزاء هم أولئك الجهلاء المستهزئون
وازددت علماً بالدنيا وبنيها، فكأنما اجتمعت الزيادة كلها في توكيد هذه الحقيقة الجامعة(425/4)
وخلاصتها بلغة الحرب والتسعيرة والغلاء: أن ليس لعروض الدنيا تسعيرة واحدة، وأن ما يصدق من ذلك على العروض والأشياء، أحرى أن يصدق على الأحياء وعلى الرجال والنساء
عباس محمود العقاد(425/5)
بمناسبة الذكرى الرابعة عشرة
قصائد الشعراء في تأبين سعد
للدكتور زكي مبارك
- 1 -
في مثل هذه الأيام من سنة 1927 فُجعت مصر وفاة الزعيم سعد زغلول، والتفتت الأمم العربية إلى هذه الفجيعة الدامية، فنُظِمت القصائد الجياد في الحزن لوفاة ذلك الزعيم العظيم، نظمها شعراء فضلاء من الحجاز واليمن والمغرب والشام والعراق؛ وكان من أجود المراثي التي صدرت عن شعراء الأمم الشقيقة قول الأستاذ بشارة الخوري شاعر لبنان:
قالوا دهتْ مصرَ دهياءٌ فقلتُ لهم ... هل غُيّض النيل؟ أم هل زُلزل الهرم؟
قالوا أشدُّ وأدهى، قُلتُ ويحكمُ ... إذن فقد مات سعدٌ وانطوى العلمُ
لِمْ لا تقولون إن العُرْبَ قاطبةً ... تيتَّموا، كان زغلولٌ أباً لهمُ
وما نريد في هذه الدراسات الوجيزة أن تحدث عما تفضل به شعراء الأمم العربية من المواساة الكريمة لوادي النيل، فذلك يوجب أن نستعد لأبحاث طوال لا يسمح بها الزمن الضنين، فلم يبق إلا أن نتحدث عن القصائد التي نظمها أكابر شعراء مصر من أمثال: شوقي وحافظ والعقاد والجارم ومطران
حفلة التأبين
أقيمت تلك الحفلة التاريخية في اليوم السابع من أكتوبر سنة 1927 بعد انقضاء الأربعين لوفاة سعد زغلول، وكان الخطباء والشعراء على هذا الترتيب: مصطفى النحاس، عبد الخالق ثروت، محمد محمود، حسن نبيه المصري، حافظ إبراهيم، عبد الحميد سعيد، فكرية حسني، مكرم عبيد، احمد شوقي، نسيم اصيبعة، عباس محمود العقاد، حسين رشدي، بهي الدين بركات
جو الحفلة
ومن هذه الأسماء نلاحظ جو الحفلة روعيت فيه الصبغة القومية العربية، فقد تكلم محمد محمود عن حزب الأحرار الدستوريين، وتكلم محمد سعيد عن الحزب الوطني، وتكلمت(425/6)
فكرية حسني عن السيدات، وتكلم نسيم اصيبعة عن سورية.
دموع ثروت
وكانت الحوادث قضت بأن يصفو ما بين سعد وثروت بعد طول الخصام والعداء، فلما وقف عبد الخالق ثروت لرثاء سعد زغلول، نظر إلى صورة الصديق الفقيد، فغلبه الحزن وأجهش بالبكاء. . . فترك المنبر، وقدم خطبته للأُستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي، فأتمها بالنيابة عن ذلك الخطيب المحزون
برقية نسيم
وفي تلك الحفلة أُلقيت برقية نسيم باشا، رئيس الديوان الملكي حينذاك، وفيها يقول:
(أُشاطركم الأسى وأُقاسمكم الشعور في تبين الفقيد العظيم، أسبغ الله عليه ثوب الرحمة والرضوان، وإني أستوهبكم عذراً: إذ ليس ميسوراً لي حضور الحفلة اليوم)
وإنما نصصت على هذه البرقية لأن جريدة (البلاغ) أشارت إلى أنها لفتت أنظار الحاضرين، ولبيان هذه الإشارة شرح يطول
إن تاريخنا السياسي الحديث فيه أسرار وغرائب وأعاجيب، فأين الباحث الذي يميط اللثام عن العبقرية المصرية في ميادين الجدل السياسي؟
إن طلبة الدكتوراه بكلية الآداب يشغلون أنفسهم بإعداد الرسائل عن مشكلات العصور الخوالي في الأدب والسياسة والاجتماع، فمتى يتجهون إلى درس المشكلات الأدبية والسياسية والاجتماعية في العصر الحديث؟
سارعوا إلى درس هذا العصر قبل أن تضيع الوثائق، وقبل أن يموت الشهود، فقد يصعب عليكم درسه يوم يصبح ظنوناً في ظنون!
قصيدة شوقي
نشرت في صدر (الأهرام) مع تمهيد نظمه من قلم المرحوم صادق عنبر، وهو يقول في ذلك التمهيد:
(هذه هي القصيدة التي تنزلت من سماء العبقرية وحياً يسيل نور الحكمة على أبياته، ويتجلى الإعجاز في حالية آياته، وتتعرف فيه مواضع سجداته. . . أبدعها شاعر العصر(425/7)
(شوقي) في تأبين زعيم الشرق (سعد) وأودعها صورتين متقابلتين إحداهما صورة الحياة التي تعجز الموت، والأخرى صورة الموت الذي يعجز الحياة، منتزعاً من الحياة والموت معاً أصدق ما فيهما من العظات، وأجل ما فيهما من العبر والمثلات. وإنك لتجد فيما بين ذلك روحاً من الحكمة الكهلة ترف على بيت من أبياتها كما تدرج نسمة من الصبا في الخميلة النضرة الفيحاء. وقد تمثلت في هذا الشعر عاطفة شوقي المشبوبة وعظمة سعد الخالدة. وناهيك من خلدين تلاقيا، وسحرين تظاهرا)
جو القصيدة
لم أكن في مصر يوم مات سعد، وإنما كنت في باريس، فلا أعرف أين كان شوقي يوم مات سعد، فهل كان بمصر؟ في القصيدة ما يشهد بذلك، كان يقول:
قلتُ والنعش بسعدٍ مائلُ ... فيه آمالْ بلادٍ ومُناها
وفيها مع ذلك أبيات تشهد بأنه كان يصطاف في البلاد السورية، كان يقول:
سائلوا (زحلة) عن أعراسها ... هل مشى الناعي عليها فمحاها
عطل المصطافَ من سُمّاره ... وجلا عن ضفة الوادي دُماها
فتَّح الأبوابَ ليلاً دَيرُها ... وإلى الناقوس قامت بيعتاها
صدَع البرقُ الدُّجا تنشرُه ... أرض سوريَّا وتطويه سماها
يحمل الأنباء تسري موهِناً ... كعوادي الثكل في حرِّ سراها
عرض الشك لها فاضطربت ... تطأ الآذان همساً والشفاها
قلت يا قوم اجمعوا أحلامكم ... كلُّ نفس في ورِيديْها رداها
فهذه الأبيات صريحة في أن الشاعر كان في سورية حين مات سعد؛ فكيف جاز له أن يخاطب النعش ولم يكن من المشيِّعين؟
إنما صنع ذلك ليتسق له هذا الحوار الجميل:
يا عدوّ القيد لم يلمح له ... شبحاً في خطةٍ إلا أباها
لا يَضقْ ذرعُك بالقيد الذي ... حزّ في سوق الأوالي وبَرَاها
يا رفاتاً مثل ريحان الضحى ... كللتْ عَدْنٌ به هام رباها
وبقايا هيكلٍ من كرمٍ ... وحياة أترع الأرض حَياها(425/8)
ودّعَ العدلُ بها أعلامَهُ ... وبكت أنظمة الشورى صواها
حَضنَتْ نعشَك والتفت به ... راية كنت من الذل فِداها
ضمَّت الصدر الذي قد ضمها ... وتلقّى السهم عنها فوقاها
عَجبي منها ومن قائدها ... كيف يحمي الأعزل الشيخ حماها
وهنا يظهر روح القصيدة، فالشاعر يتحدث عن القيد وعدو القيد، ويذكر الراية التي احتضنت نعش سعد، بعبارة لطيفة تعد من أدق العبارات، إذ جعل الراية تحس نار الفجيعة، وتشعر بفقد القائد الذي كان يحمي حماها، وإن جردته الأقدار من السلاح
عيون القصيدة
وفي هذه القصيدة أبيات روائع، منها قوله في فجيعة مصر بدفن سعد:
ما دَرَت مصر بدفنٍ صبِّحت ... أم على البعث أفاقت من كَراها
صَرختْ تحسبها بنت الشَّرى ... طلبت من مخلب الموت أباها
وقوله في جزع مصر لفقد الخطيب الذي أسكرها بسحر بيانه حيناً من الزمان:
طافت الكأس بساقي أُمةٍ ... من رحيق الوطنيات سقاها
عطلّت آذانُها من وتَرٍ ... ساحر رنّ مليَّا فشجاها
أُرغُنٌ هام به وجدانها ... وأَذانٌ عشقتْهُ أُذناها
كلَّ يومٍ خطبةٌ روحيةٌ ... كالمزامير وأنغام لٌغاها
دّلهتْ مصراً ولو أن بها ... فلواتٍ دلهَّت وحش فلاها
وقوله في مصاير الأحياء:
زورقٌ في الدمع يطفو أبداً ... عرف الضّفة إلا ما تلاها
تهلع الثكلى على آثاره ... فإذا خفْ بها يوماً شفاها
وقوله في فضل سعد على الثورة وجعلها خير ما ترك من الذرية:
ولدَ الثورة سعدٌ حُرةً ... بحياتي ماجدٌ حُرٌّ نماها
ما تمّنى غيرها نسلاً ومَن ... يلد الزهراء يزهد في سواها
رَقدَ الثائرُ إلا ثوْرةً ... في سبيل الحق لم تخمد جذاها
قد تولاها صبياً فكوتْ ... راحتَيْه وفتياً فرعاها(425/9)
أعلمتم بعد موسى من يدٍ ... قذفت في وجه فرعون عصاها
وَطئتْ ناديَهُ صارخةً ... شاه وجهُ الرِّق يا قوم وشاها
وقوله في أخلاق سعد:
أين من عينيّ نفسٌ حرةٌ ... كنت بالأمس بعينيّ أراها
روعة النادي إذا جدَّت فإن ... مَزحتْ لم يذهب المزح بهاها
يظفر العذر بأقصى سخطها ... وينال الود غايات رضاها
ولها صبرٌ على حسَّادها ... يشبه الصفح وحلمٌ عن عِداها
لست أنسى صفحة ضاحكة ... تأخذ النفس وتجري في هواها
وحديثاً كروايات الهوى ... جدَّ للصبِّ حنينٌ فرواها
وقناة صَعْدَة لو وُهبتْ ... للسماك الأعزل اختال وتاها
تلك عيون هذه الشوقيات، وما زاد فهو معان يكررها شوقي في أكثر مراثيه، وإن كانت تجل عن الابتذال
قصيدة حافظ
ابتدأ حافظ قصيدته بما أَلِف الشعراء من الحديث عن تأثر الوجود لفقد العظماء، فسأل الليل: هل شهد المصاب ورأى كيف ينصبَّ في النفوس؟ ثم دعاه إلى تبليغ المشرقين غياب الرئيس، مع نعيه للنِّيرات لتلبس عليه ثوب الحداد؛ ثم توجع لغياب سعد عن الحفل فقال:
أين سعدٌ فذاك أول حفل ... غاب عن صدره وعاف الخطايا
لم يعوِّد جنودَهُ يوم خطب ... أن ينادَى فلا يردّ الجوابا
علّ أمراً قد عاقهُ، علّ سقما ... قد عراه، لقد أطال الغيابا
أيْ جنود الرئيس نادوا جهاراً ... فإذا لم يُجب فشقُّوا الثيابا
ثم وازن بين بلية فلسطين بالزلزال وبلية مصر بموت سعد. فقال:
قل لمن بات في فلسطين يبكي ... إن زلزالنا أجلَّ مصابا
قد دُهيتم في دوركم ودُهينا ... في نفوس أبين إلا احتسابا
ففقدتم على الحوادث جَفناً ... وفقدنا المهنَّد القرضابا(425/10)
سلّهُ ربُّهُ زماناً فأبْلى ... ثم ناداه ربهُ فأجابا
قدرٌ شاء أن يزلزل مصراً ... فتغالى فزلزل الألبابا
وجعل حمل النعش على المدافع دليلاً على أنه أضخم من أن تحمله الرقاب:
خرجتْ أمةٌ تشيِّع نعشاً ... قد حوَى أمة وبحراً عُبابا
حملوه على المدافع لما ... أعجزَ الهامَ حمله والرقابا
وأتخذ تعزية (التَّيمس) شاهداً على عظمة سعد فقال:
ساقت التيمس العزاء إلينا ... وتوخّت في مدحك الإسهابا
لم يَنٌح جازعٌ عليك كما نا ... حتْ ولا أطنب المحبُّ وحابَى
واعتراف (التايمز) يا سعد مقيا ... سٌ لما نال نِيلنا وأصابا
وغُرة هذه القصيدة هي الأبيات التي ينص فيها حافظ إبراهيم على أن روح الثورة لن يموت بموت سعد، وأن الأمة لن تُصَدْ عن الغاية بوعد أو وعيد:
ليت سعداً أقام حتى يرانا ... كيف نُعلي على الأساس القبابا
قد كشفنا بهَديْه كل خافٍ ... وحسبنا لكل شئ حسابا
حُجَجٌ المبطلين تمضي سراعاً ... مثل ما تطلِع الكؤوس الحُبابا
حين قال (انتهيت) قلنا بدأنا ... نحمل العبء وحدنا والصعابا
فاحجبوا الشمس واحبسوا الروح عنا ... وامنعونا طعامنا والشرابا
واستشِفّوا يقيننا رغم ما نلقاه هل تلمحون فيه إرتيابا
قد ملكتم فَمَ السبيل علينا ... وفتحتمْ لكل شعواء بابا
وأَتيتم بالحائمات ترَامَى ... تحمل الموت جاثماً والخرابا
وملأتم جوانب النيل وعداً ... ووعيداً ورحمةً وعذابا
هل ظفرتم منا بقلبٍ أبّيٍ ... أو رأيتم منا إليكم مَثابا
لا تقولوا (خلا العرين) ففيه ... ألف ليث إذا العرين أهابا
فاجمعوا كيدكم وروموا حِماهُ ... إن عند العرين أسداً غضابا
فهذه الأبيات هي خير ما في قصيدة حافظ، وقد خلت من معانيها قصيدة شوقي، وكان حافظ كثير الالتفات إلى المعاني التي ألف الزأر بها قبل عهد الاستقلال(425/11)
ثم تحدث عن أخلاق سعد فقال:
تقتلُ الدسّ بالصراحة قتلاً ... وتُسِّقى منافق القوم صابا
وترى الصدق والصراحة دِيناً ... لا يراه المخالفون صوابا
تعشق الجوْ صافيَ اللون صحواً ... والمضّلون يعشقون الضبابا
أنت أوردتنا من الماء عذباً ... وأراهم قد أوردونا السرابا
وعطف على أيامه مع سعد في (بساتين بركات) فقال:
نمْ هنيئاً فقد سهرت طويلاً ... وسئمت السقام والأوصابا
كم شكوتَ السهاد لي يوم كنا ... في (البساتين) نستعيد الشبابا
ننهب اللهو غافلين وكنا ... نحسب الدهر قد أناب وتابا
فإذا الرزء كان منا بمرحىً ... وإذا حائم الردى كان قابا
أما بعد فهذه ملامح من قصيدة شوقي وقصيدة حافظ في تأبين سعد، وسنتكلم في المقال المقبل عن قصائد العقاد والجارم ومطران والله وليُّ التوفيق
زكي مبارك(425/12)
نظرات في التربية
اللعب وأثره في حياة الطفل
للأستاذ رفعة الحنبلي
لكل إنسان في هذه الحياة أهداف يرمي إليها، لكنهم قلما يشتركون في هذه الأهداف؛ إلا أن هنالك غاية واحدة يشترك البشر كلهم فيها. هذه الغاية هي السعادة.
إن هذه الغاية التي عرفها علماء النفس (بعامل اللذة) تكيف أعمال الإنسان، وتتحكم في تصرفاته، وتدفعه إلى سلوك السبل التي توصله إليها فتمهد له حياة مرحة وعيشة رخية
وفي الواقع أن هذه اللذة قد تختلف باختلاف البيئة والوسط وقد تتباين بتباين الجنس والعمر، فاللذة التي تنساق إليها الفتاة أو المرأة هي غير اللذة التي يتجه إليها الفتى أو الرجل، كما أن لذة الأطفال هي غير لذة المراهق والشيخ
بيد أن البيئة والوسط لهما أثرهما في توجيه هذه اللذة وتكييفها حسب النظم الاجتماعية والقوانين الأخلاقية، والطرق التربوية التي يعيش الفرد في كنفها ويتفيأ ظلها؛ ولذة الطفل تتمركز في لعبه المختلفة الأنواع، فهي أولى رغائبه، وقبلة أنظاره، ومحط آماله، وهدف أحلامه
والتربية الحديثة تقوم على تهيئة الوليد للمستقبل، أي أنها تؤهله للحياة، والتأهل للحياة إنما يكون في الاهتمام بميوله، ومعرفة غريزته، وتعهد حاجاته في دور طفولته الذي هو وقت نموه وتقدمه، لذا كان من أقدس الواجبات على المرء أن يهتم بهذه المرحلة من حياة الوليد، وما تفتقر إليه من عناية
وما العناية إلا تهيئة أجواء من الحياة، تسمح للوليد بالنمو الطبيعي في الجسم والعقل والخلق، ولا يتوقف هذا النمو على ما يكتنفه من العوامل التربوية والاجتماعية، وما يحف به من العناصر التهذيبية والأخلاقية وحسب، بل يتوقف على ترك قوى الأطفال وغرائزهم وميولهم في جو حر طليق لا يقيده نظام ولا تحده إرادة؛ والطبيعة هي الجو الطليق للطفل، توجب عليه أن يعيش عيشة الأطفال، وتلزمه أن يحيا حياتهم، وتحمله على أن يلعب لعبهم، من تلقاء نفسه، وبكامل حريته، كما تتطلب مصلحته، وتقتضي غريزته
فالطفولة هي أهم الأدوار التي يمر بها الإنسان إذ تكون طبيعة الوليد سريعة الانفعال شديدة(425/13)
التأثر بما يعرض في دائرة حسه، والتي يتأهب عقل الطفل فيها لقبول المؤثرات التي تمتزج في مزاجه الرخص، فتبعث فيه صفات تختلف قوة وضعفاً تبعاً لتلك المؤثرات
إن العوامل التي لها الأثر العميق في تربية الوليد وتهذيبه كثيرة، والعناصر التي لها النصيب الأوفر في تنشئته تنشئة تتلاءم مع غاية الحياة وفيرة؛ على أن اللعب هو أهم تلك العوامل والعناصر في حياته، فاللعب إنما هو استعداد للحياة كما يقول العلامة (كروس). وقد ذهب المربي الكبير (فرويل) - وهو أول من أبتكر روضات الأطفال - إلى أبعد مما ذهب إليه زميله فهو يقول: (من خطل الرأي وعقم الفكر، أن ننظر إلى اللعب كشيء لا وزن له ولا قيمة؛ ولكن من حسن الرأي وبعد النظر، أن ننظر إلى اللعب كعامل له حيويته ومؤثراته وغايته. إن لعب الأطفال لأشبه بالبراعم لحياة الإنسان، فإن كانت هادئة أو مضطربة، ونشيطة أو خاملة، خصبة أو مالحة، مفعمة بالسعادة أو مغمورة بالألم، وتحمل رمز السلام أو صدى الحرب، كل هذه تتصل اتصالاً وثيقاً باللعب التي تغمر الطفل مدة طفولته)
ولابد لنا من أن نعرض نظريات اللعب المتعددة التي أختلف علماء النفس في أمرها وتفاوتت بحوثهم فيها، ليقف الإنسان على عواملها ودوافعها
ذهب بعضهم إلى أن اللعب ليس إلا ظاهرة من ظواهر الراحة، أو بعبارة أخرى ليس اللعب إلا فترة من الوقت يأخذ الجسم فيها قسطه من الراحة، والفكر حظه من الهدوء؛ ولا يسع المرء إلا أن يتساءل لماذا يطيب اللعب للإنسان، بعد أن يكون تعباً منهوك القوى، متوتر الأعصاب، اكثر مما تطيب له الراحة؟ ألا نشاهد الأطفال يرغبون في اللعب ويلتمسون فور نهوضهم من فراشهم؟ والحيوان ألا تراه يلعب من الصباح حتى المساء دون أن يقوم بعمل ما؟
وراح يزعم البعض وعلى رأسهم (شيلر) - وناصره بعد ذلك الفيلسوف الإنجليزي الكبير (سبنسر) - أن اللعب يمثل فيضان القوة الزائدة في الطفل؛ ويعلل ذلك أن القوى الحيوية تزداد عنده ازدياداً كبيراً في وقت لا يمكنه أن يصرفها إلى أي عمل ذي أهمية، فتتكتل هذه القوى، وتنساب إلى الشعب التي تكونت - فيما مضى من الأيام - في الجهاز العصبي، فتحدث في الطفل فيضاناً يدفعه إلى اللعب.(425/14)
ولا ريب أن تكتل هذه القوى الفياضة بدفع الطفل إلى اللعب، ويساعده على التبسط به، ولكننا نجد أحياناً بعضاً من الأولاد - على الرغم من التعب الذي يستولي عليهم من جراء أعمالهم - لا يزالون يلعبون لعبهم حتى إلى وقت إغفائهم! وقد نشاهد أيضاً أن بعض المرضى من الأولاد، يفزعون إلى ألاعيبهم، يلعبن بها ويعبثون، قبل إبلالهم من مرضهم وحتى قبل استكمالهم قواهم ونشاطهم!
ويرد (ستانلي هول) أسباب اللعب إلى عوامل وراثية بعيدة خلفتها الأجيال الماضية. فيقول: إن اللعب ليس الأقوى بدائية للأنسال السالفة ورثها الطفل وأحتفظ بها. وهذا الرأي يطابق ما ذهب إليه (هيكل) من أن الطفل يمثل في لعبه ما مر على الإنسان من الأدوار في نشوئه
وما اللعب في نظر (هول) إلا عبارة عن ارتياض ضروري لإخفاء بعض الوظائف التي أصبحت عديمة الفائدة؛ فالهدف الذي أراده من نظريته هذه هو أن اللعب ليس وسيلة للقضاء على هذه الوظائف وتكييفها وإعدادها لقبول حياة جديدة
على إن أهم تلك النظريات التي فازت بإعجاب قسم كبير من علماء النفس هي نظرية (التدريب الإعدادي) ? وأول من فكر فيه وتعمق في دراستها العالم الكبير عام 1896 في كتابه (ألعاب الحيوان)
أراد هذا العالم أن يتجه في درس اللعب إلى ناحية جديدة - بعد أن لمس عقم نظريات زملائه - فولى وجهه شطر الناحية البيولوجية من بحثه ليقف على دقائقها وليعرف كنه أسرارها. ولقد وفق (كروس) في نظريته هذه توفيقاً كبيراً، حتى أنه أدرك القوى العقلية وتفهم اضطراباتها، لا عند الإنسان فحسب، بل عند الحيوان أيضاً
ولو أردنا أن نبحث، على ضوء هذه النظرية القوى الفعالة للعب، لوجدناه يختلف جد الاختلاف في جماعة الإنسان، ويتباين بتباين أنواع الحيوان. فالهرة الصغيرة تقبع في ركن من أركان الحجرة، منبسطة اليدين، مغمضة العينين، مرهفة السمع، حتى إذا ما اهتزت أمامها ورقة ما أو سحبت من أمامها، تراها قفزت عليها قفزة سريعة، وداعبتها بيديها فترة من الزمن، ثم مزقتها بأنيابها، فكأنها بعملها هذا تستعد للحياة وتهيئ نفسها للقفز على فريستها في المستقبل. والجدي الذي يمارس النطاح منذ صغره يعد نفسه للحياة التي عرفت(425/15)
عنه، فلكل حيوان غريزة خاصة به، أتته عن طريق الوراثة البعيدة أو القريبة من الفصيلة التي ينتسب إليها، فتظهر هذه الغريزة واضحة جلية - وان كانت في بدئها ضعيفة إلى حد ما - منذ النشأة الأولى
وقد تتفاوت مدة نمو هذه الغرائز في الحيوان بتفاوت درجته في سلم الحياة، فالحيوانات الدنيا تحتاج إلى مدة أكثر مما تحتاجه الحيوانات العليا، لاستكمال نمو غرائزها واستيفاء قوتها؛ وقلما نجد غريزة في حيوان آخر، فالهرة تقفز على الورقة إذا ما اهتزت أو تحركت، ولكنه يتأهب للنطاح حالاً إذا وجد أمامه جدياً آخر؛ فالهرة تجهل النطاح، كما أن الجدي يجهل القفز، لأن لكل منهما غريزته الخاصة به
كذلك نرى للإنسان غرائز بقدر ما لديه من أنواع اللعب: فغريزة للصيد، وثانية للقتال، وأخرى للمداعبة وغيرها. . . على أن هذه الغرائز الموروثة لا يكتمل نموها ولا تستوفي حيويها إلا باكتساب واقتباس جديدين؛ ولن يفوز الإنسان بهذين العنصرين الهامين إلا بعد ممارسة اللعب الذي من شأنه أن يعد المرء للحياة الصحيحة. لذا وجب على الإنسان - وهو أكثر الحيوان طفولة - أن يلعب، ويلعب كثيراً سنين عديدة، كي يمسي فيها بعد إنساناً جديراً بالحياة؛ إذ أن اللعب، في الواقع، يروض بعض قواه الفعالة، ويروض معها بعض وظائف أعضائه، ويسمو هذا الترويض بالإنسان إلى ما يصبو إليه من أهداف سامية وغايات نبيلة
هذه هي أهم تلك النظريات التي أشبعها علماء النفس درساً وبحثاً، ولا بد لنا من الرجوع إلى البحث عن أثر الألعاب في حياة الإنسان بعد أن أتينا على ذكر عواملها المتعددة
والواقع أن اللعب لا يعني الراحة ولا التسلية؛ وإنما هو عمل حيوي للإنسان، له الأثر الأكبر في حياته، كما أن له خصائص بيولوجية، تسهل على المرء سبل التقدم، وتمهد له طريق الحياة
فالرغبة في اللعب إنما تنبثق من الغريزة الكامنة فيه، فيختار من الألعاب ما يتفق وميوله ورغباته وتساعده على بلوغ هدفه. على إن هذه الرغائب وهذه الميول تتنوع بتنوع العوامل الاجتماعية والخصائص الفردية، إذ تعبر عما يختلج في نفسه من هذه الخصائص وتفصح عن نفسيته بأجلى مظاهرها(425/16)
وأخذت التربية الحديثة تواجه هذه الميول وتتعهد هذه الخصائص، فتوجهها إلى النواحي الاجتماعية والأعمال الإنسانية التي قد يقوم بها المرء في المستقبل
يقول (فرويل): (ليس للمشرف على الوليد إلا أن يوجه تصرفاته، منذ نعومة أظفاره، في الوقت الذي يرتع ويلعب بين ألاعيبه الكثيرة، إلى معرفة خصائصها، وأن يظهر له أثرها في نفسيته وخلقه) وهي إلى ذلك تمتاز بأنها العامل الأقوى في نموه العقلي والجسدي
فالأبحاث التي قام بها العلامة الفرنسي أكدت لنا أن هنالك اتصالاً وثيقاً بين النمو الجسدي والنمو العقلي، أو بالأحرى بين صحة الجسم ونزوة العقل ووثبة الفكر. لذلك نرى أن الألعاب التي يتهالك عليها الطفل، في بدء حياته، والتي يختلف إليها بين آونة وأخرى تساعده على هذا النمو الذي أشار إليه (بينه) والذي يلازمه طول حياته الأولى؛ فالاعتناء بالألعاب هو وسيلة لتحسين العقل والجسم معاً
يحتاج الوليد، في الواقع، إلى كثير من اللعب، فالقوانين المدرسية التي تحتم عليه الصمت والجمود، لا تتلاءم مع حياته، وما يتطلبه من حرية، وما ينشده من استقلال. لذلك أدرك (فرويل) أن المعهد ليس هو البيئة الخاصة التي تلائم الوليد، لأنها تقيد حريته وتفقده حيوية وتخمد نشاطه. وهذا ما حداه إلى إنشاء روضات الأطفال يلعبون ويغنون ويرقصون في جو حر طليق يتعهدهم كما يتعهد البستاني نبات روضته
فالنظم المدرسية الحديثة حتمت على المربين تعهد الأطفال تعهداً كلياً، وإغراءهم على اللعب بالألاعيب وبشتى الوسائل، وترغيبهم فيها بمختلف العوامل، مما حداهم إلى وضع مقادير وفيرة من الألاعيب الجميلة بين أيديهم، يختلفون إليها برغبة وشوق، ويتصرفون بها بحرية تامة. والطفل لن يكون طفلاً إذا لم يفزع بين حين وآخر إلى اللعب لأن طبيعته تقتضي ذلك
وقد يثير منظر هذه الألعاب فضول الطفل، فيدفعه إلى تفهم أسرارها والوقوف على دقائقها، وما يحيط بها من إبهام وغموض، فيتفتح عقله على آفاق جديدة، وتنكشف نفسه على أجواء ظريفة، ويتقوى جسمه وتتصلب أعضائه، فينعم بالعقل النير، ويتمتع بالجسم القوي، ويتزود بالمعرفة الواسعة
لذا وجب على المربي أن يُذْكي غريزة اللعب في نفس الولد، ويستحث رغباته، ويلهب(425/17)
فضوله للاستقراء عن خصائص هذه اللعب والوقوف على ماهيتها، لأن هذا الاستقراء هو في الواقع من أهم العوامل التي لها الأثر الأكبر في إيقاظ القوى الفكرية فيه، ورفع مستواه الأدبي والعقلي والخلقي؛ بل يجب على المربي ألا يهمل رغبات الطفل - التي هي خلجات نفسية وقتية - وألا يتجاهل فضوله الذي يرتبط إلى حد ما بالبيئة والوسط والعمر. فالإهمال يورثه قلة المعرفة، والتجاهل يخمد فيه الدافع النفسي للعمل الذي من شأنه أن يرسم لنا خطوط نفسيته ويبين ما يجول في خاطره
هذا إلى أن التربية الجسمية والخلقية والعقلية تتصل اتصالاً مباشراً بالألعاب التي يتسلى بها الأطفال؛ وقد تختلف هذه الألعاب باختلاف حداثتهم، وقد تتباين بتباين عواملها، إلا أن الهدف الأسمى والغاية المثلى منها هي تربية الوليد تربية سامية صحيحة.
فاللعب يرمي إلى إنماء الجسم وتقوية البدن، وإلى غرس الفضيلة في النفس، وتزويد العقل بشتى المعارف والعلوم، فصفاء القلب، وجمال الأدب، وطيب الخلق، وإظهار التعاطف، وإبراز العادات الحسنة، وتقوية الميول الاجتماعية، وجميل المعاملة، وحسن المعاشرة، وحب الإنسانية، إنما تكتسب عن طريق الألعاب
ولما كان الوليد يميل بطبيعته إلى العمل ويندفع بغريزته إليه - واللعب أول مظهر من مظاهر العمل - كان الهدف التربية الحديثة أن تصاغ أعمال التربية الأولى في صور الألاعيب، معدة لتصريف غرائز الطفل وتوجيه ميوله ورغائبه توجيهاًيعود عليه بالنفع في مستقبل حياته، فاللعب إذاً هو بمثابة وسيلة هامة لتكوين الطفل تكويناً أدبياً. فليست (الحركات والألاعيب التي يأتيها الطفل، يقصد إشباع الرغبات، وسد أطماع النفوس وحسب، ولكنها مختارة لغايات تهذيبية وأخلاقية وأدبية).
ولما كانت التربية تبتدئ عملها منذ الدقيقة الأولى التي يبصر الطفل فيها النور، والتي تتمشى جنباً إلى جنب مع الطفولة، وتستمر معه طوال حياته، وجب أن تعاون التربية الطبيعة على الوصول به إلى الغاية المقدرة له، ويتوقف نجاح نشأة الطفل على قوة بدء التربية. لذا كانت العناية بالتربية الأولى في دور الطفولة التي هي أهم أدوار الحياة، تفوق كل عناية، وهذا ما عاناه في قوله: إن التربية تبتدي منذ المهد
وماذا يراد بالتربية الأولى؟. . . أليست هي التي ترمي إلى (إنماء قوى الأطفال الجسمية،(425/18)
وتمرين حواسهم وإيقاظ مداركهم، وحملهم على تعرف مظاهر الطبيعة حولهم، ووقفهم على أسرار الاجتماع، والتعاون على الأعمال، وتوجيه نفوسهم إلى النافع في الحياة؟)
أليست هي التي ترمي إلى إنماء الجسم وإيقاظ العقل وإحياء القلب؟ أليست هي التي تحتم جعل أساليب التعليم سائغة شائقة، تبعث في نفس الوليد الغبطة، وتنفخ فيه أسباب المرح، وتملأ قلبه بهجة وسعادة؟. . .
ليس اللعب في نظر المربين إلا وسيلة للتربية الأولى التي شأنها أن تؤدب النفس، وتهذب الخلق، وتقوم الطباع، وتوجه الغرائز. وما اللعب إلا العامل الأقوى في تهيئة تلك الأجواء التي تتطلبها التربية، وتلك الآفاق التي ترغب في إحاطة الوليد بها؛ فاللعب من أهم الأحداث في حياته - إن لم يكن أهمها - لأن من خصائصها التهذيب والتأديب والتثقيف، فضلاً عن تفتح النفس لألوان من المعرفة، وانفساحها لصنوف المؤثرات والأحاسيس، وتهيؤها للحياة المقبلة
وهو إلى ذلك - أي اللعب - يمثل دوراً اجتماعياً من الطراز الأول في الهيئة الاجتماعية. وإذا ما رجعنا إلى رأي العالم، كار نجده يقول: إن الألعاب لها الأثر الكبير في إنماء شعور التكتل عند الفرد، وهذا التكتل له الشأن الخطير في حياة الإنسان وفي رفع المجتمع البشري. وقد ذهب هذا العالم الكبير إلى أبعد من هذا الحد، فزعم أن كثيراً من الألعاب تساعد المرء على التخلص من بعض الغرائز الموروثة غير الاجتماعية والتي يتضرر المرء منها، إن هي بقيت متأصلة فيه
غير أن هذا التخلص لا يراد به سوى التسامي بهذه الغرائز وتوجيهها توجيهاً سامياً، فالانفعالات في الوليد أوجدوا لها علاجاً اجتماعياً أطلقوا عليه (التسلية النفسية) التي تتسامى بغرائزه غير الاجتماعية، وقت انفعالها إلى النواحي الاجتماعية كتربية الحيوان وتعهد الأزهار وغيرها
وقد تأثر العلم قديماً ولم يزل يتأثر حتى الآن، بالألعاب التي يتلهى بها الإنسان، وبفضل هذه الألعاب اكتشفت أول خصائص الكهرباء، وظهرت الدراجة، وحلت بعض المعضلات وتمتع العالم بشتى الاختراعات ومختلف الاكتشافات
إن الألعاب التي يلعبها المرء والملاهي التي يلهو بها هي عوامل لها الأثر في ترقيته(425/19)
وتكوين خلقه وميوله وتحديد وجهة نظره في الحياة، فهي عوامل في تربيته يؤثر فيه أثراً مستمراً، فتشكل أخلاقه وعقله من يوم يحل في هذا العالم إلى يوم يغادره) فهي وسيلة لتأديب نفسه وتهذيب خلقه وتنمية ذوقه
وإذا ما غمرنا الطفل بالألعاب الكثيرة ووسائل اللهو فكأننا غمرناه في بيئة هي أسبقها إلى التربية الحقة، وأدناها غاية منالبيئات الأخرى.
(بيروت)
رفعة الحنبل(425/20)
كليلة ودمنة
نقد وتعليق
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
(كتاب دهريّ الصَّنعة، متقادم الميلاد) أفرغت فيه حكم الدنيا ومواعظ الأجيال، وكان عجباً عاجباً وأدباً خالداً!!
وكان اختيار مطبعة المعارف لهذا السِّفر الجليل أن يكون تذكاراً لعيدها الخمسيني - اختياراً موفّقاً كل التوفيق، فبرهنت بذلك أنها تحسن هذا الأمر وتجيده
وأما الرجل الذي وكِلَ إليه الاضطلاع بعبء نشر الكتاب وتحقيق مواضع الشُّبه فيه والحكم عليها، فرجل هَدَّكَ مِنْ رجل! فالدكتور عبد الوهاب عزام قطب من أقطاب الثقافة العربية كما هو من الثقافة الفارسية. فكان بذلك خير من يتصدّى لمثل (كلية ودمنة)، لينشره على الناس في هذا الثوب الرائع الفائق، وليجهد نفسه فيه هذا الإجهاد المثمر الطيب
وإني لأبادر فأهنئ الأستاذ عزام تهنئة صادقة، لِمَا أحيا (كلية ودمنة) على نحو يغتبط له ابن المقفع في مثواه، ويغتبط له أيضاً ذلك الجندي المجهول الذي صنع للناس هذا الكتاب في أصله الهندي، ثم تركه يسير في الدنيا كريماً عزيزاً، تتهاداه اللغات، وتتنازعه اللهجات، ويغتبط له كذلك أنصار الأدب العربي في المشرقين والمغربين
كما أزجي تهنئتي إلى رجال مطبعة المعارف، ومنوِّهاً بهذا الفن العجيب الذي أبرز الكتاب تحفة تاريخية ناطقة. وان كان للنشر أدب خاص، فهذا الكتاب منه قطعة أدبية عالية؛ وإن للألواح الثلاثة عشر التي رسمها المصور (رومان ستريكالفسكي) لأثراً كبيراً في إحداث هذا الجو الفني البهيج
وقد صنع الأستاذ عزام لهذا الكتاب مقدمة بلغت من النفاسة مبلغاً، وحوت من الفوائد الكثير؛ فهو قد عرض لتاريخ الكتاب، وبين أن النسخة العربية (أصل لكل ما في اللغات الأخرى، حاشا الترجمة السريانية الأولى، فقد فُقِد الأصل الفهلوي الذي أخذت عنه الترجمة العربية، وفُقد بعض الأصل الهندي الذي أخذت عنه الترجمة الفهلوية واضطرت بعضه، فصارت النسخة العربية أُمَّا يرجع إليها من يريد إحداث ترجمة أو تصحيح ترجمة قديمة، بل يرجع إليها من يريد جمع الأصل الهندي وتصحيحه)(425/21)
ثم تحدَّث عن طبعات الكتاب، فذكر:
1 - طبعة المستشرق دي ساسي الذي كانت طبعته أصلاً من أصول الطبعات المصرية الكثيرة؛ وهي نسخة ملفقة من عدة نسخ
2 - ثم طبعتي اليازجي وطبارة، وهما ملفقتان من طبعة دي ساسي ومخطوطات ومصورات أخرى
3 - ثم طبعة شيخو، وهي أول طبعة في اللغة العربية تقدم للقراء نصَّاً كاملاً غير ملفق من كتاب (كليلة ودمنة) وأصلها مخطوط سنة 739هـ؛ وقد طبعه شيخو كما هو لم يصحح أغلاطه ولم يوضح غامضه، ليكون أمام المستشرقين صالحاً للمقارنة والنقد
ثم تحدث عن النسخة التي نقلت عنها الطبعة الحديثة، وهي في مكتبة أيا صوفيا باسطنبول كتبت سنة 618هـ، فهي أقدم من كل المخطوطات التي وصفها المستشرقون، وأقدم من نسخة شيخو المكتوبة سنة 739
وهذه النسخة مفعمة بالتحريف والتصحيف والإسقاط وخطأ الرسم؛ وتستطيع أن تعد في النموذج المصور من الصفحة الأولى فقط نحو اثني عشر تحريفاً وتصحيفاً
وهذا يدل على مقدار الجهد الهائل الذي بذله الأستاذ عزام في تحقيق هذه النسخة وتقريبها إلى السلامة
ونحن في هذا الصدد نأخذ على الأستاذ أنه لم يتوخ في هذه الناحية ما يقتضيه النشر العلمي من إثبات الأصل والتنبيه عليه؛ فقد يكون للقارئ وجه في التصحيح غير الذي ارتضى. نعم، إن الأستاذ قد أثبت بعض كلمات الأصل في التعليقات التي ألحقها بالكتاب، لكنها من القلة بحيث لا تغني شيئاً في معرفة أصل الكتاب والوقوف عليه
وأمامنا جهود المستشرقين ناطقة بمدى تقديرهم لهذه الناحية التاريخية الفنية، فلا تكاد تجد كتاباً نشروه إلا وقد أثبتوا أصله أو أصوله إن كان ذا نسخ مختلفة
وكتاب مثل كتابنا هذا، لَبسَ من جلال التاريخ ما لَبس، جدير بما ذكرت من وجوب بيان أصله للرجوع إليه، ووجوب مقارنة نسخه بعضها ببعض
ولغة أبن المقفع في (كليلة ودمنة) لغة عالية، تعلو على المتأدب والأديب أيضاً، فهي محتاجة إلى توضيح وتقييد وبيان. فكان من المستحسن أن يصنع الأستاذ لها شرحاً أو(425/22)
معجماً يلحقه بنهاية الكتاب، كما فعل من قبلُ الخوري نعمة الله الأسمر، حينما نشر ترجمة ابن الهبارية لكليلة ودمنة، مع أن لغة هذا النظم في مستوَى ترجمة ابن المقفع
على أن الأستاذ قد أحسن صنعاً بما حقق من الأعلام الفارسية والهندية، مما يشهد له بتمام البراعة في ذلك
قرأت نسخة الأستاذ عزام، ونعمت - كما نعم غيري - بما فيها من دقة وجمال، فطالعني فيها خير كثير ومقدرة فنية عظيمة، كما ظهرت لي بعض هنات أحببت أن أنبه عليها، وبدا لي بعض الرأي في عبارات الكتاب، فآثرت أن أنشره راجياً أن يباعدني العَنتُ، ويفارقني التكلف، وأن يسعفني في ذلك الحق
1 - في الضبط اللغوي
1 - ص 36س 6: (كالعظم المتعرِّق) بكسر الراء، صوابه: (المتعرَّق) بفتح الراء المشددة. يقال عرق العظم يعرقه عرقاً، وتعرقه، واعترقه: أكل ما عليه من اللحم
2 - 81: 5، 6: (ولكن النفس الواحدة يفتدي بها أهلُ البيت، وأهل البيت تفتدِي بهم القبيلة، والقبيلة يفتدي بها المصر). الوجه: (يُفتَدَى) و (تفتَدَى) بالبناء للمجهول فيهما. فأهل البيت، وكذا القبيلة والمصر لا يفعلِون الافتداء، وإنما يفعل بهم ذلك غيرهم فهم مفتَدون. ومن ذلك ما قال كعب بن سعد الغنوي:
فلو كان حيٌّ يُفتَدى لفديتُه ... بما لم تكن عنه النفوس تطيب
3 - 87: 6: (ولا تغتر إليه)، ولا يقال (اغتر إليه) بل (اغتر به). على أن جو العبارة يؤذن بأن صحتها: (ولا تقترب إليه) فليس فيما سبقها من الكلام ما يشعر بأن (شنزبة) قد يتعرض للاغترار أو يقع فيه
4 - 91: 12: (وندفن بقيتها مكاناً حريزاً). وهذه عبارة غير صحيحة. والصواب: (في مكان حريز) فإن الفعل (دفن) لا يتعدى إلى ثان إلا بالحرف (في). وليس هذا أيضاً من المواضع التي يكون فيها لفظ (مكان) ظرفاً من الظروف المكانية؛ فإناسم المكان الصالح للظرفية إما أن يشتق من حدث بمعنى الاستقرار والكون في مكان، أولاً. والثاني لا ينتصب على الظرفية إلا بالفعل الذي ينتصب به على الظرفية المختص من المكان كدخلت ونزلت وسكنت. وذلك نحو المضرب والمقتل والمأكل والمشرب(425/23)
والأول (ومنه لفظ مكان) إنما ينصبه على الظرفية أمران: أحدهما الفعل المشتق مما اشتق منه اسم المكان نحو قمت مقامه، وجلست مجلسه، وأويت مأواهُ؛ وثانيهما كل ما فيه معنى الاستقرار وإن لم يشتق مما اشتق منه، نحو قعدت موضعك، ومكان زيد، وجلست منزلَ فلان، ونمت مبيته، وأقمت مشتاه. وما ليس فيه معنى الاستقرار لا ينصبه، فلا يقال كتبت الكتاب مكانك وقتلته مكان القراءة، وشتمتك منزل فلان
وليس (الدفن) من الاستقرار في شئ، فلا ينصب لفظ (المكان) على الظرفية المكانية
وقد جاء في نسخة بولاق ص49: (وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة، فهو مكان حريز)
5 - 95: 13 (وبلاء يضيَّع عند من لا شكر له) البلاء هنا بمعنى الإنعام. وفي ترجمة ابن الهبّارية ص95:
ما أضيع النعمة عند الكافر ... وأقبح الخّلة عند الهاجر
وبين اللغويين خلاف في أن يكن البلاء بمعنى الإنعام؛ فقال بعضهم: (الإبلاء: الإنعام. والبلاء: الأشقاء والإتعاس).
أما الإبلاء بمعنى الإنعام فلا خلاف فيه. ومنه قول زهير
رأى الَّله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
أي صنع بهما خير الصنيع. والحق أن الإنعام إنما هو الإبلاء لا البلاء. ومنه الحديث: (من أُبلي فذكر فقد شكر) وحديث كعب بن مالك: (ما علمت أحداً أبلاه الله خيراً مما أبلاني)
وقد احتج من زعم أن (البلاء) يكون أيضاً بمعنى الإنعام بقوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) وقوله: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) ورُدّ عليه بأن البلاء في الآية الأولى بمعنى الاختبار لا الإنعام. وكذلك (بلوكم) أريد بها: (نختبركم) وجاء في نسخة بولاق ص51: (وحِباء يصطنع عند من لا شكر له). والحباء، بالكسر: العطاء
6 - 221: 15: (ولكن إيش الفائدة فيها) بكسر الهمزة، وهذا ضبط عامي؛ والصواب: (أَيْشِ) بفتح الهمزة وتنوين الشين المكسورة، واصلها: (أيِّ شئٍ؟) خفِّفت بحذف الياء الثانية من (أيِّ) وحذف همزة (شئ) بعد أن نقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، ثم أعلَّت إعلال المنقوص. ونحوها في ذلك (َوْيُلمِّهِ)، واصلها: (ويلٌ لأمّه)، حذفت لام (ويل) وهمزة (أُمّ).(425/24)
قال المتنخل الهذلي:
ويلمه رجلاً تأتي به غبناً ... إذا تجرَّد لا خال ولا بخلُ
وقال ذو الرمّة:
ويْلمَّها روحةً والريحُ مُعصفةٌ ... والغيث مرتجزٌ والليل مقترب
وقال علقمة بن عبدة:
ويلم أيام الشباب معيشةً ... مع الكثر يُعطاه الفتى المتلف النَّدي
قال ابن السِّيد في الاقتضاب: (حذف لام ويل وهمزة أُمّ، كما قالوا أيشٍ لك، يريدون: أي شئ؟). وقال الخفاجي في شفاء الغليل: (أيش بمعنى أي شئ خفف منه. نص عليه ابن السيد في شرح أدب الكاتب، وصرحوا بأنه سمع من العرب. وقال بعض الأئمة: جنِّبونا أيش؛ فذهب إلى أنها مولدة. وقول الشريف في حواشي الرضى أنها كلمة مستقلة بمعنى أي شئ وليست مخففة منها، ليس بشيء. ووقع في شعر قديم أنشدوه في السير:
من آل قحطان وآل أيش)
قال السهيلي في تفسيره: (وأما آل أيش فيحتمل أن تكون قبيلة من الجن المؤمنين ينتسبون إلى أيش. فإن يكن هذا وإلا فله معنى في المدح غريب. تقول فلان أيش هو وابن أيش! ومعناه: أي شئ عظيم؛ فكأنه أراد من آل قحطان ومن المهاجرين الذين يقال فيهم مثل هذا، كما تقول: هم وما هم! وزيد وما زيد، وأي شئ زيد! وأيش في معنى أي شئ كما يقال ويلمه في معنى ويل أمه، على الحذف وكثرة الاستعمال. وهذا كما قال هو: في جيش وأي جيش!)
(له بقية)
عبد السلام محمد هارون(425/25)
الحروب الصليبية
للأستاذ ر. التميمي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
تطورات الحركة الصليبية
لقد كانت الغاية الأولى من اشتهار الحرب الصليبية امتلاك الأرض المقدسة وجعلها خاضعة لحكم مسيحي؛ فلما ظهر قواد كبار في الشرق الإسلامي أمثال: نور الدين وصلاح الدين، ورأوا مملكة اللاتين لم تنشأ في الشرق إلا بسبب تخاذل المسلمين وتفرقهم، أخذوا يستعدون لمطاردتهم والقضاء عليهم وهيأوا لذلك جيوشاً مدربة تطورت على أثرها الحركة الصليبية ودب الضعف في جنباتها وفي نفوس منظميها وقوادها.
ولقد تطرق إليها الفشل أيضاً حينما أخذ البابوات يقاتلون آل هوهن شتاوفن وينازعونهم الحكم في جنوب إيطاليا وشمالها، فتجزأت قواتهم وانصرف الجانب الأكبر من عملهم وتفكيرهم إلى إضعاف قوة مسيحية كان عليهم أن يوجهوها إلى تعزيزالفكرة الصليبية إذا أرادوا استمرارها. ويقول بعض المؤرخين إن لأطماع الجمهوريات الطليانية دخلاً كبيراً في التطورات التي طرأت على الفكرة الصليبية، إذ أن البنادقة كانوا السبب الأكبر في توجيه الحملة الرابعة إلى القسطنطينية وسائر ممتلكات البيزنطيين بدلاً من فلسطين وهم الذين كانوا يختلفون لأسباب مادية مع تجار جنوا فيضعفون باختلافهم الجبهة المسيحية. وقد أباحوا لأنفسهم التقرب من بعض ملوك المسلمين وأمرائهم، فعقدوا مثلاً معاهدة مع الملك الكامل بينما كان العالم الغربي يستعد للحملة الصليبية الخامسة.
لقد تكرر حادث عقد المعاهدات مع المسلمين أكثر من مرة، فعقدها كل من ملوك صقلية والأراغون وجمهورية جنوا قبيل سقوط عكا النهائي في يد سلطان مصر. كل ذلك أضعف الروح الصليبية وحور اتجاهها وخفف كثيراً من حدتها.
أضف إلى كل ما تقدم النزاع الشديد الذي كان قائماً بين رهبان طائفتي الداوية والاسبتالية وانصراف كل فريق إلى الحط من كرامة الآخر واتهامه بأفظع التهم تأميناً لمنافع مادية ليس لها أية علاقة بمجد الصليب والحركة الصليبية.(425/26)
ويفهم مما تقدم أن الحركة الصليبية قد باءت بالفشل التام بعد أن انتقلت القدس نهائياً إلى أيد إسلامية مع سائر البلاد الفلسطينية، ثم تلا ذلك سقوط عكا وطرابلس وإنطاكية وهي آخر الحصون اللاتينية وطرد آخر صليبي من الديار الشامية في أواخر القرن الثالث عشر. وبهذا السقوط وذلك الطرد ختم الفصل الأخير من الحركة الصليبية التي كانت ألفت لغاية نصرانية كبرى أقامت العالم الغربي وأقعدته وانتقل بسببها مئات الألوف من الفرسان والأمراء وسائر المحاربين إلى ساحات القتال في الشرق، ومنهم من قضى نحبه، وفيهم من حكم أو أصبح ذا سلطان وإمرة بعد إن كان في وطنه الفقير مفلساً لا يملك شروي نقير؛ والجانب الأكبر عاد إلى موطنه يجر ذيول الخسران وعار الهزيمة. ومجمل القول أن الحركة تطورت وباءت بالفشل حين تغيرت غايات المشرفين عليها والمنظمين لها؛ فباباوات القرن الثاني عشر الذين كانوا يتمتعون بسلطان منقطع النظير كانوا وطدوا العزم على امتلاك القدس فاستعلوا سلطانهم وسؤددهم وقذفوا بالجماهير السذج نحو الشرق حيث امتلكوا ما أرادوا. أما بابوات القرن الرابع عشر فلقد كانوا على اختلاف دائم مع ملوك ذلك العصر الذين أخذوا يشعرون بقوتهم وينكرون على السلطة الدينية تدخلها في شؤونهم الداخلية والسياسية؛ وقد بلغ بأولئك الملوك وفي مقدمتهم فيليب الرابع ملك فرنسا وإدورد الأول ملك إنكلترا أن رفضوا أوامر البابا وتغاضوا عن تهديداته؛ وكان النزاع يدور حول فرض الضرائب على رجال الدين بعد أن كانوا معفين منها؛ وكانت الكنيسة ترفض ذلك مدعية أن أرض الكنيسة موقوفة لخدمة الله فلا يصح أن يؤخذ عنها ضرائب. أما الملوك فانهم كانوا في أشد الحاجة للمال بسبب كثرة نفقاتهم؛ لذلك طمعوا في ممتلكات رجال الدين الواسعة ورغبوا في فرض ضرائب عليها؛ وفي ظروف كهذه ليس من المعقول أن يكون أمل في تجديد حملات صليبية على نمط الحملات السابقة
ومع كل ما تقدم فكر بعضهم عقب سقوط القدس وسائر الإمارات اللاتينية نهائياً في أيدي المسلمين، وفي تأليف حملة صليبية جديدة، والسعي في إحلال التفاهم محل التنابذ والتحاسد بين رهبان الداوية والاسبتالية. وقد كان فكر في هذا الأمر في مجمع ليون المنعقد سنة 1245، وتقرر القيام به أيضاً في مؤتمر فينا الديني سنة 1311؛ على أن رغبته في التوفيق بين هؤلاء الرهبان لم تتحقق وانتهى الأمر بأن قضى على هيأة الداوية وصادر(425/27)
ملك فرنسا فيليب الرابع أملاكها وأموالها بعد أن تقاسمها مع البابا. أما رغبة تأليف حملة صليبية جديدة فلم يلتفت إليها حينئذ سوى بطرس الأول ملك قبرص الذي كان يحكم في أواسط القرن الرابع عشر؛ فلقد أنشأ جمعية دعاها جمعية السيف وغايتها تخليص القدس، ثم أرسل وفداً إلى غربي أوربا قام بالتبشير والدعاية لتأليف حملة صليبية جديدة فلم ينجح، فأرسل بطرس أسطولاً اعتدى على شطوط سوريا ومصر وعاد للجزيرة غانماً. وحين مات بطرس هذا أوصى بوجوب متابعة الدعاية لحملة صليبية. اعتباراً من سنة 1230 ارتدت الحركة الصليبية حلة جديدة لم تعرف من قبل، فبينما كان الصليبيون حتى الآن يهاجمون كلما سنحت الظروف بلاد الإسلام في الشرق وأهمها سوريا ومصر، وانقلبوا الآن إلى مدافعين، وأضحى خصمهم الأتراك العثمانيين بدل العرب والأكراد والأتراك من سلاجقة ومماليك. . .
لقد جاء الأتراك العثمانيون إلى أوربا الشرقية سنة 1308م بعد أن أنشئوا ملكا واسعاً لهم في آسيا الصغرى في فجر القرن الرابع عشر وبنوا مجدهم وسطوتهم الحربية بجيش مدرب ومجهز أحسن تجهيز دعوه بجيش الإنكشارية (الينيشرية) وعناها الجيش الجديد، فأخذوا يهاجمون به البيزنطيين ويتغلبون عليهم، ويدمرون لهم الحصن بعد الحصن، ويقهرون الجيش تلو الجيش، حتى باتوا على مقربة من عاصمتهم. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى هاجموا فرسان الاسبتالية في رودس وآل لوزينيان في قبرص؛ فذعر العالم المسيحي لهذا الخطر الإسلامي الجديد، وهب البابوات ينفضون عنهم غبار الخمول والمسكنة؛ ويحاولون تجديد جبهة صليبية قوية تقف في وجه أولئك الأتراك الأقوياء، وظلوا يثابرون على حشد الجهود تلو الجهود، وأخذ الناس بالنعرة الدينية إلى أن وصلوا فعلاً إلى تأليف حملة قوية البنادقة والقبارصة وفرسان الاسبتالية وكلهم باتوا مهددين؛ فجاءوا بأسطولهم المتحد وامتلكوا مرفأ أزمير سنة 1344؛ إلا أن هذا الظفر لم يكن ليؤثر في نشاط الأتراك وتقدمهم فلقد واصلوا نجاحهم في البلقان وامتلكوا مدينة فيليبية البلغارية؛ وعلى أثر ذلك جاءت حملة صليبية واشتبكت مع جيش السلطان بايزيد الأول فانكسرت شر كسرة
وفي سنة 1439 تألفت حملة صليبية أخرى من المجريين والبولونيين تحت رياسة قائد(425/28)
ترانسيلواني ممتاز يدعى يوحنا هنياد وحاربت السلطان بايزيد الثاني وتغلبت عليه؛ إلا أنها لم تلبث أن غلبت على أمرها، فكانت هذه آخر حملة جردتها أوربا المسيحية على الأتراك المسلمين.
وفي سنة 1453 ملك الأتراك مدينة القسطنطينية، وبامتلاكها قضوا نهائياً على الإمبراطورية البيزنطينية. وعلى أثر ذلك قام البابا بيوس الثاني ونشر داية واسعة النطاق لحملة صليبية وقاد طائفة من المحاربين نداءه إلى مدينة أنكونا الطليانية، وكان يريد أن يزحف بها على البلقان ليقاتل الأتراك؛ إلا أن أفراد الحملة انفضوا من حوله فحزن البابا لتلك النهاية ومات متأثراً غاضباً.
وبعد ذلك لم نسمع بحملات تحمل اسم الصليبية وانتقلت مهمة منازلة الأتراك المسلمين إلى مُلوك أوربا الحديثة وإلى جيوشها المنظمة
وقبل الانتهاء من هذا الفصل لابد لنا من القول بأن الحركة الديموقراطية قد أثَّرت كثيراً في عقول الناس وفي طريقة التفكير الأوربي بالمسلمين؛ فبينما كان هم الباباوات وسائر رجال الدين ومن ورائهم الملوك والأمراء والفرسان والعامة خلالالقرون الوسطى هو القضاء التام على الديانة الإسلامية وامتلاك بلاد المسلمين أخذت الأحوال تتبدل منذ عهد اليقظة إلى أن حل القرن الثامن عشر، فظهر فيه حكماء وفلاسفة بشروا بحرية الأديان وبمبادئ التسامح والتساهل وظلوا في تبشيرهم حتى أثروا في عقول فريق ليس بقليل من الناس المثقفين، فصاروا ينظرون إلى الشرقيين لا بمنظار للتعصب الذميم والحقد الكامن بل بصفتهم أحد أركان هذه الهيأة البشرية التي ساهمت في إقامة صروح المدنية على ممر الأجيال والعصور
ومبادئ التساهل هذه قد انتشرت انتشاراً واسعاً خلال القرنين التاسع عشر والعشرين فاقترب بسببها الشرقي من الغربي أكثر من قبل، ولعبت المصالح المادية الدور الأول في إقامة العلاقات الودية بين الطرفين، وصار الغربي يتودد في كثير من الأحيان إلى الشرقي دون أن ينظر إلى دينه، ويخلص في تودده؛ على أن هذا لا يمنعنا من التنبيه إلى ما يكتبه بعض المؤرخين المغرضين وهم مازالوا يحرصون كل الحرص على مبادئ التعصب والحقد التي سادت دنياهم منذ العصور الوسطى المظلمة، وقد تجد من هؤلاء من ينفث(425/29)
سمومه في صحف ومجلات محترمة أوربية وأميركية وتراه يحمل حملات شعواء على العرب مثلاً ولا ذنب لهم في نظره إلا لأنهم مسلمون وهو لا يحب الإسلام ولا المسلمين، ويريد أن يرى في الحرب العالمية السابقة حرباً صليبية انتهت بظفر الصليبيين على الهلال ودخول البلاد المقدسة تحت الحكم الإنكليزي
نتائج الحروب الصليبية
من المناسب أن ننظر إلى الحركة الصليبية كجزء أو فصل من تاريخ البشرية، لا كعمل أريد به تنصير الشعوب الشرقية؛ وتأريخ هذا الفصل صعب جداً، لأنك بينما تجد بعض المؤرخين يذهبون إلى أن معظم التطورات الاجتماعية العالمية قد نشأت عن الحروب الصليبية، يقول آخرون خلاف ذلك فلا يهتمون أبداً بتلك الحروب الاهتمام الذي تستحقه
على أن من الإنصاف أن نقول ونقرر بأن اضمحلال عهد الإقطاع وظهور المدن الحرة وبشائر عهد اليقظة، حتى والاكتشافات البحرية، كل أولئك يمكن إرجاعه إلى حد ما إلى الحركة الصليبية
ففي أوائل القرن الحادي عشر كان الأشراف والفرسان أول من لبى نداء البابا، وخرج منهم عدد كبير إلى الشرق قتل أكثرهم، وأقام آخرون في الأراضي المقدسة، فقل بذلك عدد الأشراف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن إعداد الحملات الصليبية قد اضطر هؤلاء إلى بيع أملاكهم كلها أو بعضها كما اضطرهم إلى تحرير أرقائهم مقابل مبالغ دفعوها إليهم، وقد أقام أولئك العتقاء في المدن واشتغلوا بالصناعة والتجارة , فزادت أهمية المدن وظهرت فيها طبقة جديدة هي الطبقة الوسطى المؤلفة من أولئك الذين حرروا أنفسهم بما دفعوه لسادتهم النبلاء. ولقد استطاعت هذه المدن بفضل جد أبنائها من أرباب الصناعة والتجارة أن تشتري هي أيضاً حريتها من الأشراف ذوي السيادة عليها وتكتفي بحماية الملك أو الإمبراطور
وأما بوادر النهضة واليقظة فقد ظهرت حين اتصل نصارى الغرب بمسلمي الشرق وأخذوا عنهم ما سمعوه من أغان وأحاديث واطلعوا على تاريخ البلاد الآسيوية وجغرافيتها وهي التي أيقظت العالم الغربي من سباته العميق وجمعت كلمته على عمل مشترك بعد أن كانت الفردية فيها مستحكمة العرى وكانت الفكرة القومية كلمة لا معنى لها، فكان الباريزي مثلاً(425/30)
ينظر إلى ابن مرسيليا نظرة إلى الألماني الأجنبي عنه أو الإنكليزي، وذلك لأن الطرق لم تكن معبدة ووسائل التنقل نادرة صعبة، فكان الناس لا يعرفون إلا من جاورهم من السكان، فلما ضمتهم الحروب الصليبية تحت لواء واحد تعارف أبناء الأمة الواحدة وتآلفوا. ثم أيقظت هذه الحروب بين النصارى فكرة الدفاع عن مبدأ مشترك مقدس وهذا ما كان يقوم في العصور الوسطى مقام المبادئ المشتركة التي تربط جيلنا المتحضر مثل نظرية الحرية المدنية والسياسية وتقرير المصير واحترام العهود والمواثيق
ومن نتائج الحروب الصليبية قيام فريق من الملوك الأوربيين بجمع الضرائب الثابتة من رعاياهم، فقد باشر بجمعها لويس السابع ملك فرنسا فتبعه هنري الثاني ملك إنكلترا، ثم جبيت ضريبة صلاح الدين في معظم العالم الغربي سنة 1188 ولم تقتصر الضرائب هذه على الأهلين بل تناولت أيضاً رجال الكنيسة وذلك بقرار استحصله البابا أينوسن الثالث في مجمع لاتيران الديني سنة 1215 على أن تنفق تلك الضرائب على الحروب الصليبية
وحينما جاء الفرنج ساحات الحرب في الشرق لم يفكروا في تنصير المسلمين بادئ بدء، فلما مضى عليهم نحو عصر استيقظوا من غفلتهم، وكأنهم أرادوا أن يتلافوا ما فاتهم بالتبشير بالدين المسيحي ودعوة الشرقيين إلى التنصر فقاموا قومة واحدة وعلى رأسهم البابا، وأخذوا يبعثون إلى ديار الشرق وإلى قبائل التتارية مبشرين انتشروا في جميع البلاد الواقعة بين عكا والإمارات اللاتينية الشامية من جهة، وسد الصين من جهة أخرى؛ وكان النصارى مع الباباوات يعلقون آمالاً كبيرة على تنصير التتار. فلما حكم هؤلاء تيمورلنك قضى على فكرة التبشير وحمل أبناء قومه على اعتناق الديانة الإسلامية
وقد نقل الفرنج من سوريا أموراً كثيرة إلى بلادهم. فالفرسان منهم أخذوا عن العرب القوس والطبل والبيرق والرمح. وقد كانت في مبدئها عربية أخذها الفرنج عن فرسان العرب الذين كانوا يغيرون على بلادهم خلال العصرين الثامن والتاسع. ويقول سديو المؤرخ الفرنسي: (إن خلال الفروسية الأندلسية وشمائلها الرقيقة كانت مستقى أخذت منه الفروسية النصرانية الكثير من خلالها ورسومها). ويقول فياردو: (إن الفروسية وكل نظمها التي عرفت في الأمم النصرانية كانت مزدهرة عند الأندلسيين أيام الناصر والحكم والحاجب المنصور، وكانت الأندلس في ذلك العصر كعبة يقصدها فرسان النصرانية من(425/31)
كل صوت بعهد سلام وحماية من الخلفاء ليعقدوا المباريات مع فرسان الإسلام. وقد بلغت الفروسية العربية أسمى درجاتها وذروة ازدهارها في مملكة غرناطة التي تفيض تاريخها بأخبار السادة والأمجاد شهامتهم ووفائهم
فالألعاب الفروسية أصلها سباق الجريد المعروف عند العرب، والمبارزة، وما يتبعها من آداب اجتماعية، مثل تقديم المساعدة للمرأة والولد والشيخ العاجز، والوفاء بالوعد، والتجمل بمبادئ الرجولة، والمروءة، والكرم، كل أولئك أشياء معروفة عند العرب الذين كانت طبيعة بلادهم وحياتهم الاجتماعية في صحرائهم المترامية الأطراف وشدة عنايتهم بضروب الفروسية تحملهم على الاعتماد على السواعد المفتولة في بلوغ ما يصبون إليه من صفات الرجولة أكثر من اعتمادهم على شئ آخر. كما نقل الفرنج إلى بلادهم بعض المحصولات النباتية كالسمسم والمشمش والبطيخ والذرة والليمون والشمام والقطن والسكر.
هذا عدا أشياء وأمور وعادات شرقية كثيرة انتقلت إليهم عن طريق الأندلس وصقلية. كل ذلك يبرهن على مبلغ التأثير الكبير للحروب الصليبية في حياة الأمم الاجتماعية في الديار الغربية
(فلسطين)
ر. التميمي(425/32)
2 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
مقدمة الكتاب
البلد ومناخه - العاصمة - المنازل - السكان
من المشاهد أن أكثر الخصائص لشمائل أمةٍ وعاداتها وأخلاقها، إنما يرجع إلى الخصائص الطبيعية لإقليم هذه الأمة. فخصائص الإقليم المصري تؤثر ولا شك في أحوال المصريين الأخلاقية والاجتماعية، وهي لذلك تقتضينا كلمة إيضاحية نجمل فيها الآثار العامة؛ أما الآثار الخاصة، فستتجلى في الفصول الآتية من هذا الكتاب
يجري النيل في وادي مصر العليا الشديد الضيق الكثير الريح بين صحراوين جبليتين رمليتين، حتى يجتاز سهول مصر السفلى؛ وهو في مجراه تكتنفه في كل مكان، ما خلا مواضع قليلة منه، حقول زراعية تكونت من غرينه؛ وهذه المناطق الزراعية ليست مستوية كل الاستواء لانخفاضها عند الصحراء وارتفاعها قليلاً عند النهر؛ يتخللها غابات من النخل وسلاسل من القرى، وتقطعها ترع عديدة
تصل أمطار الصيف الغزيرة التي تقع في الحبشة وما جاورها من البلاد أرض مصر حول الانتقال الصيفي؛ وعند الاعتدال الخريفي يبلغ النهر أقصى فيضانه، فيُترع النهيرات والقنوات التي تروي الحقول، ويغمر بقاعاً واسعة من الأرض الصالحة للزراعة، ثم يهبط تدريجياً حتى يعود سيرته الأولى. ويحمل النيل معه، وعلى الأخص في وقت الفيضان الغِرْين (الطمى) الذي يجرفه من البلاد الجبلية حيث ينبع، فيوزع في كل سنة هذا الغرين الوفر على الحقول المنبسطة على جانبيه، بالفيضانالطبيعي أو بالري الصناعي؛ بينما يرتفع مجراه من تراكم هذا الغِرْين بدرجة مساوية لارتفاع الحقول. ويعتمد المصريون جميعاً على نهرهم في خصب الأرض، لأن المطر ظاهرة نادرة جداً في بلادهم، ما عدا البلاد الواقعة على سواحل البحر المتوسط. ولما كانت الفصول منتظمة كل الانتظام، فان(425/33)
الفلاح يمكنه أن يرتب العمل الواجب إنجازه بكل دقة. وعمل الفلاح على الجملة سهل، ولكن رفع المياه للري شاق متعب!
ومناخ مصر - في معظم السنة - ملائم للصحة إلى درجة تستحق الذكر. غير أن الأبخرة المتصاعدة من الأرض بعد الفيضان تجعل أواخر الخريف أقل ملائمة للصحة، فهي تسبب الرمد والديسنطاريا وبعض أمراض أخرى تكون أكثر شيوعاً في الخريف منها في الفصول الأخرى. وتهب فجأة رياح جنوبية حارة تدوم ثلاثة أيام في وقت الخماسين التي تدوم على وجه التقريب خمسين يوماً تبدأ في شهر أبريل وتنتهي في آخر مايو؛ وتلك الرياح يندر أن ترتفع منها الحرارة فوق 95 درجة فاهرنهايت في الوجه البحري، أو 105 درجة في الوجه القبلي؛ إلا أنها تكرُب الأنفاس وتضيق الصدور. وفي الصيف يفد الطاعون إلى مصر، ويكون أشد خطراً في مدة الخماسين. ومصر معرضة أيضاً في الربيع وفي الصيف لريح السموم وهي أشد وطأة من رياح الخماسين، ولكنها أقصر مدة، إذ يندر أن تدوم أكثر من ربع ساعة أن عشرين دقيقة؛ وهي تهب عامة من الجنوب الشرقي حاملة معها سحباً من الغبار والرمال. وتتراوح الحرارة في منتصف الشتاء بعد الظهر في الوجه البحري بين الخمسين والستين درجة في الظل. أما في أشد الفصول فتتراوح بين التسعين والمائة درجة. ويزيد على ذلك حوالي عشر درجات في مناطق الصعيد الجنوبية. على أن حرارة الصيف مهما بلغت شدتها قلما تضايق النفس، لأن النسيم الشمالي يلطفها، ولأن المناخ شديد الجفاف. إلا أن هناك مصدراً كبيراً للضيق يسببه ذلك الجفاف، وهو كثرة الغبار. وهناك أوبئة أخرى تقلل كثيراً من الراحة التي ينعم بها المصريون وضيوفهم في هذا المناخ البهيج. ويكثر الذباب في الربيع والصيف والخريف كثرة مزعجة أثناء النهار. وأما في الليل فينتشر البعوض انتشاراً يقض المضاجع ما لم يتقه النائم بالكلة. ويملأ البق أثناء الفصل الحار كل المنازل ذات الأثاث الخشبي. ولا يمكن تجنب القمل في أي فصل، ولكن من السهل التخلص منه. أما البراغيث فتكثر في الشتاء كثرة مزعجة
ومناخ الصعيد أكثر ملأئمة للصحة من الريف وإن كان أشد حرارة. وقلما ينتشر الطاعون فيما وراء القاهرة. وهو أكثر انتشاراً في مناطق المستنقعات القريبة من البحر المتوسط. وفي أثناء السنين العشر الأخيرة، قبل زيارتي الثانية لمصر، لم تحدث غير إصابات قليلة(425/34)
جداً، إلا في الأقاليم السابقة الذكر؛ وهذه لم يكن الوباء فيها شديداً، لأن البلاد تحسن صرف مياهها، وأدخلت فيها نظم المحاجر الصحية لمنع دخول هذا المرض من بلاد أخرى أو لوقفه. والرمد أكثر انتشاراً في الوجه البحري منه في الأقاليم الجنوبية. وهو يحدث عامة من العرق؛ ولكن ضرره يتفاقم من الغبار ومن أسباب كثيرة أخرى. وقلما يستفحل خطر هذا المرض إذا أسرع المرضى في استعمال الدواء، ولكن كثيراً من الوطنيين لجهلهم طريقة العلاج، أو لإصرارهم على تفويض الأمر للقدر، يفقدون البصر كله أو بعضه
وكثيراً ما سألني السائلون هل في مصر معمرون؟ ومن المحقق أن قليلاً من أهل هذا البلد مَن يبلغ السن العالية؛ ولكن من النادر أن يبلغ المرء هذه السن في بلدنا دون أن يصاب مراراً بمرض مميت لولا عناية الطب التي لا ينالها إلا النزر القليل في مصر. وحرارة الصيف تنهك الجسم ولكنها تدفع المصريين إلى الإفراط في الملذات الشهوانية. وخصوبة الأرض تولد الكسل، فيكتفي المصري بالقوت القليل، وهذه الكفاية يحصل عليها بأدنى سعي وأقل مشقة
والعاصمة المصرية الحديثة التي يشغل الحديث عن سكانها أكثر صفحات هذا الكتاب، تسمى الآن (مَصر) أو باللفظ الأفصح (مِصر)؛ ولكنها كانت تسمى من قبل القاهرة فصفحها الأوربيون إلى (كايرو). وموقعها عند مدخل الصعيد في منتصف المسافة بين النيل وسلسلة المقطم الشرقية، وبينها وبين النهر بقعة صالحة للزراعة في أكثر أجزائها. ويزيد عرضها على ميل في المناطق الشمالية (حيث يقع ميناء بولاق)، ولكنها في الجنوب أقل من نصف ميل. ومساحة العاصمة تبلغ تقريباً ثلاثة أميال مربعة. وقد أُحصى عدد سكانها أثناء زيارتي الثانية فبلغ زهاء مائتين وأربعين ألفاً؛ وقد زاد هذا العدد بعد ذلك كثيراً بسبب إنقاص عدد الجيش ولأسباب أخرى. والقاهرة محاطة بسور تقفل أبوابه ليلاً، وتشرف عليها قلعة كبيرة تقع في زاوية من المدينة بالقرب من الجبل، وشوارعها ليست مبلطة وأكثرها ضيق غير منتظم، وهي أحرى بأن تسمى أزقة
وتبدو القاهرة للأجنبي العابر في شوارعها ضيقة جداً تغص بالسكان؛ ولكن الحال تختلف في نظر من يشرف على المدينة من سطح منزل أو مأذنة مسجد. وأكبر الشوارع يكون فيه عادة صف من الحوانيت على كل جانب، وفوق الحوانيت غرف لا تتصل بها، وقلما تكون(425/35)
مشغولة بمستأجري الدكاكين وتوجد على أيمان الشوارع الكبيرة وعلى شمائلها دروب وحارات، وأغلب الدروب طرق مزدحمة لكل منها بوابة من الخشب كبيرة على مدخليها تقفل ليلاً، ويحرسها بواب من الداخل يفتح لكل من يطلب الدخول. أما الحارات فغالباً ما تتكون من عطفات صغيرة لها مدخل عام واحد ذو بوابة تقفل كذلك ليلاً، ولكن أكثرها يشقها درب من أولها إلى آخرها
ولابد لي من وصف دور العاصمة، وهذه الصورة التي أمامك تعطيك فكرة عامة عن خارج تلك المنازل. وتبنى الجدران الأساسية في الطابق الأول خارجاً وداخلاً من الحجر الجيري الناعم، يقطعونه من الجبال المجاورة. وعندما يقطع الحجر يكون سطحه ذا لون ضارب إلى الصفرة الخفيفة، ولكن لونه سريعاً ما يقتم. وتلون خطوط الواجهة أحياناً بالحمرة والبياض على التعاقب خصوصاً في المباني الكبيرة كما هو الحال في أكثر المساجد
ويشيد البناء العلوي بالآجر، ويغطى بالكلس أحياناً، وهو ذو واجهة تبرز حوالي قدمين، يقوم على كوابيل أو دعائم؛ والآجر لبن محروق ذو لون أحمر قاتم. ويتكون الملاط من طين بنسبة النصف، وكلس بنسبة الربع، والباقي من رماد التبن والسقط. لذلك تبدو الجدران غير المغشاة بالكلس قذرة اللون كما لو كانت مبنية باللبن. ويغطى سطح المنزل بالكلس، ويكون عادة من غير سور
ويبين الرسم رقم 2 الأسلوب المعماري (الأكثر ذيوعاً) لمدخل المنزل القاهري. فالباب كثيراً ما يزين على هذه الطريقة المصورة، فيصبغ القسم الذي فيه الكتابة والأقسام الأخرى المتشابهة الشكل بلون أحمر يحده حد أبيض، بينما تلون بقية الباب باللون الأخضر. وأما عبارة (هو الخلاق الباقي) التي سنشرح موضوعها عند الكلام على خرافات المصريين فترى على أبواب كثيرة. وهي تنقش عادة بحروف سوداء أو بيضاء. وقلما تصبغ الأبواب ما عدا أبواب البيوت العظيمة. ويكون لها على العموم سماعة من الحديد وضبة من الخشب، وعلى جانب الباب درجتان من الحجر للركوب
(يتبع)
عدلي طاهر نور(425/36)
الإنجليز والعمل
(نقلا عن مجلة الشهر الفرنسية)
للأستاذ مصطفى كامل
يضرب المثل بالبرود الإنجليزي، ولكن النشاط الإنجليزي لا يقل ذيوعاً عنه. وكثيراً ما كان الشعب الإنجليزي في رأي الأجانب قليل الاكتراث، بطيئاً في التصميم، مفضلاً الاحتفاظ الشديد بعمله وراحته وعاداته اليومية على كل شئ آخر. مع أن هذا الشعب نفسه قد أدهش العالم مراراً بجلده في المشاق وإصراره الخارق وموارده المادية والأدبية التي لا تنفد، والتي يستخدمها في العمل بمجرد شروعه فيه. أخذ بعض الذين عيل صبرهم على الإنجليز أنهم يعبئوا بتوغل الألمان واستفزازهم في أوائل هذه الحرب؛ ولكن العالم كله اليوم يتحقق من إرادة هذه الحكومة وهذا الشعب التي لا تنثني أمام أية تضحية، وفي عدم ادخار أي مجهود لوضع نهاية لتهديد الريخ الثالث للأمم الشرقية ولمجموع العالم المتمدن. فكيف نوفق بين هذين النوعين من الوقائع؟ سنوضح أنهما غير متناقضين إلا في الظاهر
فلو أننا تأملنا الشعب الإنجليزي إبان العمل لأدركنا سر تصرفه في وقت الراحة. فاللغز هو أن العمل عنصر طبيعي للنفس الإنجليزية، فلا حاجة إلى كلمات بيانية، أو حركات خطابية لحثه على العمل. إذ أن النفس الإنجليزية لا تستطيع أن تتصور حياة بدونه، فالتصرف والعمل لهذه النفس ضرورة حيوية وليس نظاماً، ولهذا لم يكن النشاط المتوالي الذي يفيض منها مكتسباً أو زائفاً أو وقتياً؛ ولم يكن الهدوء والراحة في نظر الإنجليزي غير نتائجه المفيدة المرغوبة. ويجب الاعتراف بأن للإنجليزي سيطرة لا تجارى في العمل تعطيه مع غريزة الاستمرار والتضامن في الجهود، قوةً تجعل منه أثمن حليف وأنفع صديق
الصدارة في العمل
وليس أدل على أن الإنجليز شعب عمل من نفس اللغة التي خلقوها لاستعمالهم؛ فليست توجد لغة أوربية أخرى يهيمن (الفعل عليها بهذه الدرجة - أعني التعبير عن الحركة والفعل والنشاط - كما أنه لا توجد لغة لها مثل قدرتها على التعبير الدقيق عن النظام والأمر، وفي تصوير ما فعل أو ما يتعلق بما يفعل، يمثل هذا الإيجاز والوضوح(425/38)
ولكل مراتب الحركة والعمل (فعل) في الإنجليزية ينطبق عليها تماماً بغير ضرورة إلى استعمال ظرف أو أي تعبير للتحديد أو الإيضاح. وفعل يرفس وهو مثل من آلاف الأمثلة التي تزخر بها اللغة الإنجليزية، ليس له مثيل في أية لغة أوربية، كما أن الفعل في الإنجليزية يتغلغل في الجملة بأكملها، فيبرز جرسها ويحدد وزنها
والذي تفصح عنه اللغة الإنجليزية ببراعة هو دقائق تكوين الذكاء الإنجليزي الذي تبدو الفكرة في ثناياه كأنها لم تخلق إلا للاستعداد للعمل والترحيب به وجعله سائغاً. وقد ذكر سلفادور دي مادرياجا عن هذا الموضوع في كتابه (الإنجليز والفرنسيون والأسبان) آراء في منتهى السداد والدقة، قال:
(إن الذكاء الإنجليزي في الدرجة الأولى من القوة، ويبلغ أقصاه أثناء العمل وعندما يكون الإنتاج العملي محط النظر، ولكنه لا يتكلف المشقة من أجل تصرفات لا تجدي، وهذا هو أحد أسباب الشهرة السيئة التي نسبْت إليه؛ كما أن هناك سبباً آخر، فذكاء الإنجليزي، وهو أقل تخصصاً في الأمور الذهنية، كأنه ذائب في جميع أنحاء جسمه؛ وهذا ما يفسر بطئه في التحرك، فإنه لا يكفي أن يحشد التهيج الخارجي قوى المخ وحده بل جميع الجهاز العصبي أيضاً، كما أن الإدراك لا يتم بالمخ وحده ولكن بجميع الجهاز العصبي كذلك. ولهذا كانت الآلة العقلية في الإنجليزي أكثر تعقيداً وثقلاً وبطئاً للبدء في العمل)
وهذه الفكرة التي تركزت في العمل من تلقاء نفسها تتضح في مذهب المنفعة الغريزي الذي نجد الأدلة العديدة عليه في تاريخ إنجلترا، والذي يفسر كثيراً من الأمور في عادات الإنجليز، فالإنجليزي يتجه قُدماً نحو العمل عندما يتعلق الأمر بالتصرف مهما كانت الوسيلة. ومن السهل عليه أن يقنع بالضروري، ويكون لديه كل ما لم يفد مباشرة في الغرض الذي تكفل ببلوغه فائضاً عديم الجدوى، ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن العمل يقوم بطريقة تدل على التسرع والشدة والعسف، بل على العكس، فإن عادة الإنجليزي في التصرف وفهمه للحياة في ظلال العمل تعلمه أن يتصرف بهدوء وتؤدة، وتخول له أن يشعر بالراحة وهو في أوج العمل، وأن يدخل في حسابه على قدر المستطاع أوقاتاً للاستجمام والراحة
والإنجليزي لا يستسلم للاهتياج بسرعة، ولا للاندفاع إلى العمل بغير أن ينضجه تماماً في(425/39)
ذهنه، فهو بطئ في التحرك، ولكنه عندما تستولي عليه فورة العمل لا يقفه شئ، فإنه عندما يتصرف يؤدي عمله بكل جوارحه وقلبه. وكيف لا يكون كذلك وهو في أثناء العمل يشعر أنه كالسمكة في الماء لا تشعر وهي في الماء بالحاجة إلى العنف لتسبح، ولهذا لم يكن في النشاط الإنجليزي أثر من الضيق أو الوهن، بل تصحبه الابتسامة والراحة
وإننا نجد في بعض رسائل الشاعر الروسي تيوتشيف بتاريخ 25 يونيو 1855 قوله: (أما عن العدو - ويقصد الأسطول الإنجليزي في حرب القرم - فقد تبادلت الرسل بين الفريقين هذه الأيام، ولقد كان بين الطلبات السخيفة التي طلبت منا، طلب في غاية الغرابة، هو أن نمنحهم ركناً صغيراً في أرض محايدة ليستطيع رجال أسطولهم أن يتصرفوا إلى لعبتهم المحبوبة (الكريكيت)).
صحيح إن حرب 1855 لا تشبه الحرب في 1939، ولكن الخلق الإنجليزي لم يتغير تغيراً محسوساً، ومع ذلك فإن طلب البحارة الإنجليزي لم يكن سخيفا كما ظن تيوتشيف، لأن التدريب الرياضي جزء من نظام التعليم الذي خلق طراز رجلالعمل الإنجليزي السكسوني
غريزة التضامن
وهناك مظهر أساسي آخر للنفس الإنجليزية، هو غريزة التضامن التي تسود العاطفة الشديدة للمنفعة المشتركة والعمل المشترك؛ فإن النفس الإنجليزية ممتلئة أكثر من أية نفس أخرى بهذه العاطفة. فالتضامن للإنجليزي، سواء أكان مقصوراً على أعضاء الجماعة الصغيرة أم كان يشمل الوطن كله، ليس شئ معنوياً أو مثلاً أعلى للأخلاق أو الاجتماع، وإنما هو حقيقة واضحة مادية، بل هو ضرورة يشعر بالحاجة إليها، وكل أمة جديرة بهذا الاسم تتآزر في الخطر إذا داهمها من الخارج، ولكن ذلك يكون عن اقتناع بالضرورة إليه؛ أما في إنجلترا، فإن الذي نراه في مثل هذه الحالات هو غريزة غير واعية، ولو أنها سليمة الإدراك، وهي تشبه من بعض الوجوه الغريزة التي تثير أعضاء فريق الكريكيت عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الشرف الرياضي لقرية أو مدرسة. وقد أصبحت التقاليد والتعليم طبيعة ثانية، فانه في الخلايا الاجتماعية الصغيرة وفي الحياة اليومية تتكون على التحقيق الغريزة التي يمكن أن توحد، عندما تسنح الفرصة، بين جميع إنجلترا، وكل الإمبراطورية،(425/40)
بل بين جميع العالم السكسوني الإنجليزي
وغريزة التضامن مصدر للنظام الاختياري الذي لا يشبه النظام الفرنسي ولا للنظام الألماني من باب أولى، فإن الألماني يخضع لأمر، والفرنسي يخضع لمبدأ، والإنجليزي يخضع لنفسه، لغريزته، لرغبة الحياة في المجموع، وهي رغبة طبيعية لديه بمقدار الرغبة في الحياة. النظام الألماني رق اختياري، والنظام الفرنسي خضوع الإرادة للآراء الواضحة البينة؛ أما النظام الإنجليزي فهو فيض غريزة خاصة بكل إنجليزي، وهو وثيق الصلة بفكرة الخدمة: الخدمة التي يؤديها الإنسان طواعية إلى قريبه، لا الخدمة التي يؤديها الشخص إلى متبوعة. وكلمة موظف تترجم في الإنجليزية (بالخادم المدني)، فان لفكرة الخدمة الاجتماعية عند الإنجليزي معنى يشبه المعاني الدينية. ومن الواجبات الرئيسية على رجال الدين الانجليكانيين والبروتستنت في إنجلترا غرس الخدمة الاجتماعية، ومكافحة البؤس والأماكن غير الصحية، وتنظيم الإحسان العام ومقاومة البطالة، وتعويد الإنسان أن يكون نافعاً على أية صورة وبأية وسيلة؛ ولكن ذلك غير مقصور على الكنائس والقسس فحسب، ولكن التعاون الاختياري منتشر بين جميع الطبقات وفي جميع ولايات المملكة المتحدة، وفي مجموع العالم الإنجلوسكسوني
ولتفهم غريزة التضامن الإنجليزية يجب التنويه على الأخص بأنه تضامن إيجابي في العمل، وليس عاطفة سلبية بتحمل المسؤولية المشتركة مما يمكن أن نجدها كذلك في الشعوب الأخرى، فأن الصدارة في العمل تتأكد في هذا الميدان كما تتأكد في مجال الاستمرار التاريخي، في التقاليد الحية. ففي اللحظة التي يهدد الخطر بلاده فيها، وتكون الضرورة إلى العمل المشترك لا محيص عنها، يتجه الإنجليزي بكليته نهائياً إلى تقليده وإلى جماعته، وعندئذ تبلغ عبقريته الفردية أقصى قوتها وتتكشف عن كافة مواردها
إن أهم ما يريد الإنجليزي قوله يقوله في صوت خافت، فإذا كان قلقاً بدا أكثر صمتاً وهدوءاً من قبل، حتى إذا هدد الخطر جميع الذين معه يدرك أن الصمت لم يعد يكفي، وأنه يجب عمل شئ آخر يسهل إنجاز أثقل الواجبات؛ وكلما ازداد الخطر بدت على وجوه المارة في لندن علائم الأنس واللطف
لقد تكلم الناس كثيراً عن قوة بريطانيا المادية وقوة بحريتها وطيرانها، ولكن الذي يفوق هذا(425/41)